بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
وَبِه نستعين
الْحَمد لله الْملك الْعَظِيم الأول الآخر الْقَدِيم باعث نبيه مُحَمَّد مبرهنا طَرِيق التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم وداعيا إِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقيم فَبلغ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرسَالَة على التَّعْمِيم ونهج لمن تبعه الدّين القويم فَوَجَبَ على الكافة تَصْدِيقه وَالْقِيَام بِوَاجِب الصَّلَاة عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيم فَلهُ الْحَمد حمدا يخرج عَن دَرك الإحصاء ويرغم بِهِ أنف من جحد وَعصى وَصلى الله على نبيه الْمُصْطَفى صَلَاة أستأنس بهَا حِين وَحْشَة الْقُبُور وأتميز بهَا فِي الدَّاريْنِ عَن أهل الويل وَالثُّبُور وعَلى جَمِيع إخوانه من النبييين وَالْمُرْسلِينَ وَآل كل والصحب أَجْمَعِينَ
أما بعد لما كَانَ علم التَّارِيخ من الْعُلُوم المفيدة والقلائد الفريدة موصلا علم السّلف إِلَى من خلف مُمَيّزا لِذَوي الْهِدَايَة عَن أهل الصلف يُعِيد ذكر الْأَعْصَار بعد ذهابها وينبه على خطئها من صوابها ويجدد أَخْبَارهَا وآثارها ويميز أخيارها من أشرارها وحالها عَن أحارها فبه يَسْتَفِيد الآخر عقول الأول وَبِه يتَمَيَّز أهل الاسْتقَامَة عَن أهل الزلل ثمَّ يحمد بِهِ النَّاظر اللبيب قَصده وَبِه يعرف أَبَانَا آدم وَمن بعده وَإِن تَأَخّر عَنْهُم وَطَالَ عَهده ثمَّ لولاه لجهلت الْأَنْسَاب واندرست الأحساب وَلم تفرق بَين الجهلة وَذَوي الْأَلْبَاب وَلما عرف من الْمُتَقَدِّمين فضل فَاضل على مفضول وَلَا ميز بَين سَائل ومسؤول ولولاه حَقًا مَاتَت الدول وَلم يصل إِلَيْنَا من أَخْبَار الماضين غير الْأَقَل وَفِي ذكر أَخْبَار الْمُتَقَدِّمين من الإفادة مَا شهد بِهِ نطق الْقُرْآن(1/59)
وَفِي قَوْله تَعَالَى وكل نقص عَلَيْك من أنباء الرُّسُل مَا نثبت بِهِ فُؤَادك ثمَّ قد ذكر بعض أَئِمَّة التَّفْسِير فِي قَوْله تَعَالَى {وَاجعَل لي لِسَان صدق فِي الآخرين} أَن مَعْنَاهُ اجْعَل لي جاها وَحسن صيت فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة يبْقى أَثَره إِلَى يَوْم الدّين وَطَرِيق دوَام ذَلِك إِنَّمَا يكون من قبل التَّارِيخ
وَذكر بعض الْعلمَاء الْمُحَقِّقين أَن الله أنزل فِي التَّوْرَاة سفرا من أسفارها مُفردا متضمنا أَحْوَال الْأُمَم السالفة ومدد أعمارها وَبَيَان أنسابها فَلَمَّا كَانَ كَذَلِك وَثَبت فِي ذهني ذَلِك ووقفت على مَا أوردهُ أَعْيَان الْأَئِمَّة وعلماء الْأمة مِمَّا رَوَوْهُ عَن الْمُخْتَار وقدوة الْأَطْهَار من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِيمَان يمَان وَالْفِقْه يمَان وَالْحكمَة يَمَانِية أوردهُ أَحْمد بن حَنْبَل فِي مُسْنده وَالْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه يَقُول أَتَاكُم أهل الْيمن أَلين قلوبا وأرق أَفْئِدَة الْفِقْه يمَان وَالْحكمَة يَمَانِية
وَذكر مُسلم فِي صَحِيحه أَنه قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَ أهل الْيمن هم أرق أَفْئِدَة الْإِيمَان يمَان وَالْفِقْه يمَان وَالْحكمَة يَمَانِية
ذكر بعض الْعلمَاء أَن الْغَرَض بالْخبر الْمَذْكُور الثَّنَاء على أهل الْيمن لإسراعهم إِلَى الْإِيمَان وَحسن قبولهم لَهُ من غير حَاجَة إِلَى عَسْكَر وَلَا قتال
وَذكر ابْن أبي الصَّيف فِي كِتَابه الميمون المتضمن لبَعض فضل أهل الْيمن أَن القَاضِي أَبَا عبد الله الْحُسَيْن بن عَليّ الصَّيْمَرِيّ ذكر فِي أَخْبَار الإِمَام أَبى حنيفَة وفضائله بِسَنَد إِلَى ابْن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَاكُم أهل الْيمن هم أرق قلوبا وألين أَفْئِدَة يُرِيد أَقوام أَن يضعوهم ويأبى الله إِلَّا أَن يرفعهم
وَذكر الرَّازِيّ الْآتِي ذكره بكتابه عَن كَعْب الْأَحْبَار أَنه أدْرك من عشيرته من(1/60)
لَقِي سطحيا وَخَبره أعقاب من لَقِي شقا أَنَّهُمَا سئلا عَن كثير من أَخْبَار الْيمن فأخبرا بأحداث تكون فِيهَا
مِنْهَا أَنَّهُمَا قَالَا بِالْيمن ثَمَانِي بقاع مِنْهَا أَربع مقدسات أَو قَالَا مرحومات وَأَرْبع محرومات أَو قَالَا مشئومات وَثَمَانِية كنوز فالبقاع المرحومات مرامعين وَبِه الْكَثِيب الْأَبْيَض وَهُوَ رِبَاط يخرج إِلَيْهِ النَّاس إِلَى عصرنا هَذَا والجند ومأرب وزبيد
وَالْبِقَاع المحرومات أَو المشئومات ختا الْجَبَل الْأَشْهب سيد جبال النَّار قطب الْيمن إِذا سكن سكنت الْيمن يكون فِيهِ زلازل وَفِي جوَار فوهته دارت سِتّ عشرَة وقْعَة وَتظهر فِيهِ النَّار والخراب وتعوي فِيهِ الذئاب ثمَّ تعمر فِيهِ الدّور وتشيد فِيهِ الْقُصُور ويؤهل فَيكون مصرا من أَمْصَار الْمَنْصُور ويسير بَين يَدَيْهِ رجل من أَهله كَأَن بِهِ رَاجِلا بَين يَدَيْهِ حافيا متذللا لَهُ مسارعا إِلَى طَاعَته نَافِذا فِي أمره وتذل بِهِ الْجبَال من السهول وَيكون أشهر مَا بِالْيمن
وَالثَّانيَِة من المحرومات أَزَال وَالثَّالِثَة تهَامَة وَالرَّابِعَة المعافر قَالَ وَقَالَ ابْن يَعْقُوب وَأما الَّذِي كنت أسمعهُ من شُيُوخ الصنعانيين وعلمائهم ان الملعونات نَجْرَان وصعده وأثافت وضهر ويكلا وَذكر عجائب كَثِيرَة لَيست من ملازم الْكتاب فَمن أرادها نظرها(1/61)
وَكنت بِحَمْد الله امْرَءًا مِنْهُم مولدا ومنشأ وانضاف إِلَى ذَلِك مَا هُوَ مَعْلُوم من حب الوطن عِنْد الملا ومتعارف بَين الفضلا وَله يَقُول ابْن الرُّومِي شعرًا ... وَمَا الشوق للأوطان من أجل طيبها ... وَلَا شرف فِيهَا وَفضل مقَام
وَلكنه فِي النَّفس طبع لأَجله ... يُجَادِل فِي تفضيلها ويحامي
وَمن ثمَّ يهوى الطِّفْل فِي النَّفس أمه ... ويأبى سواهَا وَهِي ذَات وشام
وَمن غربَة يبكي الْجَنِين إِذا بدا ... وَقد كَانَ فِي ضيق وفرط ظلام ... فَأَحْبَبْت حِينَئِذٍ وضع كتاب أجمع فِيهِ غَالب علمائه وأذكر مَعَ ذكر كل مَا ثَبت من حَاله مولدا ونعتا ووفاة بعد أَن أضم إِلَى ذَلِك إِشَارَة من اعْتقد أَن إِشَارَته حكم وطاعته غنم فاعتمدت ذَلِك متقربا بِالْإِشَارَةِ وراجيا من الله الْإِعَانَة
ثمَّ عرض لي أَن مَتى عرض مَعَ ذكر أحد من الْعلمَاء ذكر أحد من الْأَعْيَان ذكرت من حَاله مَا لَاق ثمَّ أضفت إِلَى ذَلِك طرفا من أَخْبَار الْمُلُوك وَجَعَلته مُخْتَصرا أُرِيد بذلك جعل الْكتاب جَامعا لذكر الْفَرِيقَيْنِ ورؤساء الدَّاريْنِ
وبدأت بالعلماء لقَوْله تَعَالَى {وَالْمَلَائِكَة وأولو الْعلم} وَثَبت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين وأحببت أَن أقدم نبذة من الْأَخْبَار دَالَّة على فضل الْعلمَاء والملوك
فَمن الدَّلِيل على فضل الْعلمَاء مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه بِسَنَدِهِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من سلك طَرِيقا يلْتَمس فِيهِ علما سلك الله عز وَجل بِهِ طَرِيقا إِلَى الْجنَّة وَأَن الْمَلَائِكَة لتَضَع أَجْنِحَتهَا رضَا لطَالب الْعلم وَأَن الْعَالم يسْتَغْفر لَهُ من فِي السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض حَتَّى الْحيتَان فِي جَوف المَاء
ولفضل الْعَالم على العابد كفضل الْقَمَر على الْكَوَاكِب وَأَن الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء لم يورثوا دِينَارا وَلَا درهما وَإِنَّمَا ورثوا الْعلم فَمن أَخذ بِهِ أَخذ بحظ وافر
قَالَ الْخطابِيّ فِي معالمه فِي معنى وضع الْمَلَائِكَة أَجْنِحَتهَا لأهل الْعلم ثَلَاثَة(1/62)
أَقْوَال أَحدهَا التَّوَاضُع والخشوع تَعْظِيمًا لَهُ وتوقيرا لعلمه كَمَا قَالَ تَعَالَى {واخفض لَهما جنَاح الذل من الرَّحْمَة} وَقيل وضع الْجنَاح مَعْنَاهُ الْكَفّ عَن الطيران وَألْحق بالعالم جليسه لاستماع الذّكر مِنْهُ كَمَا جَاءَ فِي خبر آخر مَا من قوم يَجْلِسُونَ مجْلِس ذكر إِلَّا غشيتهم الرَّحْمَة وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَة
قيل لعطاء بن أبي رَبَاح مَا مجَالِس الذّكر فَقَالَ هِيَ الَّتِي تعرف بهَا كَيفَ تَأْكُل وَكَيف تشرب وَكَيف تنْكح وَكَيف تبيع وَكَيف تبْتَاع وَكَيف تقيم فَرَائض الله عَلَيْك وَسنَن نبيه وَمَتى جَوَازهَا ووجوبها أَلا ترى أَن الله تَعَالَى يَقُول {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} إِذْ لَا يسْأَل الْجَاهِل عَن أمره الَّذِي لَا يُعلمهُ غير من يُعلمهُ فَنزلت هَذِه الْآيَة على أَن أهل الذّكر هم الْعلمَاء
وَالْقَوْل الثَّالِث أَن معنى فرش الْجنَاح ليحمل الطَّالِب عَلَيْهِ ليبلغه وطره وَيقرب عَلَيْهِ الْبعيد من مقْصده كَمَا شَاهد ذَلِك جمع من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين وَنقل لنا نقلا متواترا كَمَا سنذكر ذَلِك فِي ذكر الْحَافِظ العرشاني إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَقَوله وَإِن الْعَالم يسْتَغْفر لَهُ من فِي السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض حَتَّى الْحيتَان فِي جَوف المَاء فَكَانَ اسْتِغْفَار أهل السَّمَاء لما لَهُم على ألسن الْعلمَاء من الذّكر بجميل الْأَفْعَال واعتقاد التَّفْضِيل لَهُم والتبجيل وتمييز مقربهم عَن غَيرهم وأمد الأَرْض لما لَهُم على ألسن الْعلمَاء من التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم وَالْمُسْتَحب وَالْمَكْرُوه فِي الْآدَمِيّين وَمن طَرِيق ذَلِك أمره لَهُم بِحُقُوق من ولوا أمره بِملك أَو اسْتِحْقَاق وَكَيف صفة ذَلِك وَأما الثَّوَاب لفَاعِله وَالْعِقَاب لتاركه ثمَّ تعريفهم للمستباح مِنْهَا أكولا وحمولا وحلوبا وركوبا وَمَا الَّذِي يجمع ذَلِك كَالْإِبِلِ وَمَا لَا يجمعه ثمَّ تعريفهم بِمَا يحل وَبِمَا لَا يحل وَكَيف بَيَان تَحْلِيله من تَحْرِيمه وَمن قبيل هَذِه الْحيتَان وَذكر الشَّارِع ذَلِك مُبَالغَة واستقصاء واستغراقا إِذْ هم المرشدون إِلَى الْمصلحَة فِي بَابهَا والموصون بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا وَأَن لَا تعَارض عَبَثا وَلذَلِك ألهمت محبتهم وَالِاسْتِغْفَار لَهُم كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر وَالْأَحَادِيث الدَّالَّة على فضل الْعلم وَأَهله يطول ذكرهَا(1/63)
وَيذكر الْعلمَاء عَن عَليّ كرم الله وَجهه أَنه قَالَ الْعلم ثَلَاثَة أحرف الْعين من عليين وَاللَّام من اللطف وَالْمِيم من الْملك فَيبلغ بِصَاحِبِهِ أَعلَى الدَّرَجَات من العليين والزلفى بهَا إِلَى اللطف فِي الدَّاريْنِ وَالْملك فيهمَا
وَعَن بعض الْعلمَاء الْعلم نزهة الْقُلُوب وَالْأَدب تحفة الْأَلْبَاب وَأحسن مَا وعى الْمَرْء فِي عمره علم يلْبسهُ للزِّينَة فِي العاجل وينتج عَنهُ سَعَادَة الآجل
وانقضى ذكر مَا أسلفته من الْآثَار فِي فضل الْعلم وَأَهله
وَأُرِيد اتِّبَاع ذَلِك بِمثلِهِ فِي فضل الْمُلُوك وَهُوَ آثَار مِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السُّلْطَان ظلّ الله فِي أرضه يأوي إِلَيْهِ كل ملهوف
قَالَ الحريري فِي درة الغواص مَعْنَاهُ ظله السابغ على عباده المسبل على بِلَاده وَقَالَ بعض الْعلمَاء الدّين بِالْملكِ يقوى وَالْملك بِالدّينِ يبْقى وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ عُثْمَان بقوله أَن الله ليزع بالسلطان مَا لَا يَزع بِالْقُرْآنِ وَمن قبيل ذَلِك قَول ابْن الْمُبَارك الْجَمَاعَة حَبل الله فَاعْتَصمُوا مِنْهُ بعروته الوثقى ... الله يدْفع بالسلطان معضلة ... عَن ديننَا رَحْمَة مِنْهُ ودنيانا
لَوْلَا الشَّرِيعَة لم تأمن لنا سبل ... وَكَانَ أضعفنا نهبا لأقوانا ... ثمَّ قد ذكر الْعلمَاء لذَلِك أَعنِي فضل الْعلمَاء من الْمُلُوك آثارا يطول سردها ويسمج شرحها يعرفهَا الْعَارِف وَلَيْسَ غرضي بِوَضْع مَا وضعت من ذَلِك إِلَّا التَّنْبِيه والإذكار لِذَوي الْأَبْصَار ثمَّ تَعْرِيف النَّاظر أَن لَيْسَ غرضي بِذكر الْعلمَاء أخص الْمُحَقِّقين مِنْهُم والمتسمين من أهل الْفَهم فيهم إِذْ ذَاك ينْدر فِي كل جيل لَكِن مرادي غَالِبا ذكر الْفُقَهَاء وَمن رَأس مِنْهُم ودرس وبالصواب أفتى وَهدى إِذْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ الْعلم مَدِينَة(1/64)
لَهَا بَابَانِ أَحدهمَا للدراية وَالْآخر للرواية فغرضي أَن أذكر أهل الْبَابَيْنِ الدِّرَايَة وَالرِّوَايَة لَا من حقق الْعلم وأكمل شُرُوطه وتميز أهل زَمَانه وأوانه بل كَمَا فعل ذَلِك من سبقني من المصنفين لذَلِك المطيلين مِنْهُم والمقصرين وَلَو أَرَادَ أحد حصر تصنيفه بِذكر من أكمل الْعلم معرفَة لعجز
فَإِن ذَلِك أَمر لَا يَنْتَهِي وَالله يَقُول {وَفَوق كل ذِي علم عليم}
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ فَوق كل عَالم أعلم مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى الله مفيض مَا يَشَاء من علمه على من اخْتصَّ من خلقه وَمن ذَلِك مَا رُوِيَ عَن عَليّ كرم الله وَجهه أَنه قَالَ الْعلم أَكثر من أَن يحفظ فَخُذُوا عَن كل عَالم محاسنه
وَمَا رُوِيَ عَن جَعْفَر بن الْأَشَج أَنه قَالَ الْعلم كَالْمَالِ مَتى كَانَ بيد الْإِنْسَان مِنْهُ شَيْء سمي مُوسِرًا وَكَذَا من حوى شَيْئا من الْعلم سمي عَالما وَكَذَلِكَ يحوي الْإِنْسَان مَالا كثيرا فَلَا يُزَاد على اسْم الْيَسَار كَمَا أَن الْعَالم وَإِن كثر علمه لَا يُزَاد على الْعَالم لَكِن يتميزان بالأفضلية فَيُقَال أغْنى من فلَان كَمَا يُقَال أعلم مِنْهُ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى أَشَارَ الْقَائِل بقوله ... من النَّاس من يدعى الإِمَام حَقِيقَة ... ويدعى كثير بِالْإِمَامِ مجَازًا
وَلَكِن مَتى يخفى الصَّباح إِذا بدا ... وَحل عَن اللَّيْل البهيم طرازا ... ثمَّ قد يَقُول جَاهِل أَو متجاهل مَا الْفَائِدَة الْحَاصِلَة فِي ذكر من أوردته وقص قصَص من توخيته فأجبت الأول بِالسَّلَامِ وَالْآخر أَن فِي ذَلِك فائدتين إِحْدَاهمَا مَا ذكرت أَولا من ذكر الْقُرْآن للأنبياء وأممهم والقرون الْمَاضِيَة وَمن تَبِعَهُمْ وَالْأُخْرَى أَن الْمُتَأَخر مَتى وقف على خبر من تقدمه من الْفُضَلَاء أَو سمع كَيفَ تشميرهم وإقبالهم على الْعلم وَطَلَبه تاقت نَفسه إِلَى الِاقْتِدَاء بهم والانسلاك فِي سلكهم وَالتَّحْقِيق(1/65)
لتفضيلهم وتجميلهم وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ إِمَام الطريقتين أَبُو الْقَاسِم الْجُنَيْد يَقُول الْأَرْوَاح جنود مجندة من جنود الله يخفى بهَا من قُلُوب العارفين ويصفو بهَا أسرار المريدين فقد يحث الصَّالح الجبان إِلَى المعركة فرسَان الطعان ويهيج الْحَادِي أشواق القوافل وَإِن كَانَ عَن معنى مَا يَأْتِي بِهِ غافل
وَذكر فِي صفة الصفوة عَن سُفْيَان الثَّوْريّ أَنه قَالَ جَلَست يَوْمًا أحدث فِي حَلقَة فِيهَا سعيد بن السَّائِب الطَّائِفِي فَجعل يبكي حَتَّى رَحمته ثمَّ قلت مَا يبكيك فَقَالَ يَا سُفْيَان إِذا سَمِعت ذكر أهل الْخَيْر وَذكر فعالهم وجدت نَفسِي عَنْهُم بمعزل وَسُئِلَ الْجُنَيْد هَل على كَلَامه الأول دَلِيل قَالَ نعم قَول الله تَعَالَى وكلا نقص عَلَيْك من أنباء الرُّسُل مَا نثبت بِهِ فُؤَادك فَإِذا كَانَ تثبيت فُؤَاده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأخبار الرُّسُل فَكيف بِمن عداهُ وَمَتى ذكرت الْفُقَهَاء وَالْأَئِمَّة المتبصرين أوردت مَعَ كل مَا صَحَّ لدي لَهُ من منقبة أَو نعت يحسن إِيرَاده وَإِن لم يكن أَهلا لذَلِك كَانَ إعراضي عَنهُ كَافِيا وَإِلَيْهِ يَقُول ... ولربما كَانَ السُّكُوت عَن الْجَواب جَوَابا
مَعَ أَن المؤرخين قد شحنوا كتبهمْ بِذكر الْعلمَاء وتاريخهم حَتَّى قَالَ المَسْعُودِيّ عَن جمَاعَة مِنْهُم ذكرتهم لنقلهم السّنَن وحاجة أهل الْعلم وَأَصْحَاب الْآثَار إِلَى تَحْقِيق أَحْوَالهم لأخذهم الْعلم عَنْهُم والاستعانة بهم فِي دينهم ودنياهم(1/66)
وَأَرْجُو أَن الله قد عصمني عَن أَن أرتكب فِي كتابي هَذَا هَوَاء وأميز أحد مِمَّن ذكرته إتباع هَوَاء وأعده من جملَة الملاء وَلَيْسَ لذَلِك أَهلا بل أذكر الْفَقِيه بِمَا ثَبت لَهُ من تَارِيخ أبدأ فِي أول ذكره بميلاده وأختم ذَلِك بوفاته ثمَّ فِي أثْنَاء ذَلِك مَا صَحَّ لي من نعوت ثمَّ مَتى ولي أحد مِنْهُم قَضَاء وَسَار السِّيرَة المرضية قلت محن هَذَا بِالْقضَاءِ وَإِن لم أقل ولي الْقَضَاء سنة كَذَا من قبل فلَان
وَاعْلَم أَنِّي أخذت أَخْبَار الْمُتَقَدِّمين غَالِبا من أحد كتب ثَلَاثَة أكملها فِي ذكر الْعلمَاء وتواريخهم كتاب الْفَقِيه أبي حَفْص عمر بن عَليّ بن سَمُرَة إِذْ ذكر غَالب الْفُقَهَاء بِالْيمن مُنْذُ ظهر بِهِ الْإِسْلَام إِلَى بضع وَثَمَانِينَ وخمسمئة ثمَّ يُقَارِبه كتاب أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد الرَّازِيّ أصلا والصنانعي بَلَدا وَهُوَ كتاب يُوجد كثيرا بأيدي النَّاس يَقُول فِي تَرْجَمَة كل نُسْخَة الْجُزْء الثَّالِث من تَارِيخ الرَّازِيّ ثمَّ يذكر فِي غَالب نُسْخَة مَا لَا يُوجد فِي النّسخ الْأُخْرَى وَبحث جمع كثير من أَعْيَان الْيمن عَن تَحْصِيل النُّسْخَة بكمالها فَلم يَجدوا غير الْجُزْء الْمَذْكُور وَبلغ فِيهِ إِلَى سِتِّينَ وأربعمئة تَقْرِيبًا وحقق فِيهِ جمَاعَة من أهل الْيمن غالبهم من صنعاء والجند وَأورد لَهُم من الْآثَار كثيرا وحقق من أَحْوَالهم
بِخِلَاف مَا ذكره ابْن سَمُرَة ثمَّ إِنِّي تتبعت كِتَابه فَرَأَيْت مَا يدل على كَمَال مُصَنفه ونزاهته عَمَّا ينْسب إِلَيْهِ أهل ناحيته من الاعتزال وَالْقَوْل بِخِلَاف مَا صَحَّ عِنْد أهل الطول فقد طالعت كِتَابه الْمَذْكُور مرَارًا ونقلت مِنْهُ إِلَى كتابي هَذَا أَخْبَارًا وأخبارا
ثمَّ يُقَارِبه تَارِيخ صنعاء لِابْنِ جرير الصَّنْعَانِيّ الزُّهْرِيّ واسْمه إِسْحَاق بن يحيى بن جرير ينتسب إِلَى الْأسود بن عَوْف أخي عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَهُوَ كتاب لطيف الحجم بِهِ فَوَائِد جمة ثمَّ يُقَارِبه تَارِيخ عمَارَة الموسوم بالمفيد فِي أَخْبَار صنعاء وزبيد ثمَّ تَدْعُو الْحَاجة إِلَى ذكر أحد لَيْسَ من الْيمن فَأَخذه فِي الْغَالِب عَن(1/67)
كتاب القَاضِي أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن خلكان الْمَعْرُوف بوفيات الْأَعْيَان إِذْ لم يذكر من الْيمن غيراليسير وَكَانَ قَاضِي قُضَاة الشَّام مُعظما عِنْد الْعَزِيز ثمَّ عزل فِي أَيَّام قلاوون الصَّالِحِي لحَدث كَانَ مِنْهُ وَكتابه على الِانْقِطَاع نَحْو ثَمَانِينَ سنه وستمئة ثمَّ من بضع ثَمَانِينَ وستمئة إِلَى وقتي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسبعمئة إِنَّمَا أخذت الْغَالِب عَن أهل بَيت مِمَّن أَدْرَكته أَو أدْركْت من أدْركهُ مَعَ أَنِّي لم أقصد فِي ذكر أحد رِيَاء وَلَا أطريته مِمَّا يسْتَحق من ثَنَاء وَالله عَليّ فِي ذَلِك من أكبر الشُّهَدَاء وَلم أحبر على جمع ذَلِك إِلَى رَجَاء حُصُول أجر من الله وثواب وَمن أهل الْإِسْلَام دُعَاء مستجاب أَو ثَنَاء مستطاب ثمَّ تبركا باقتداء أكَابِر من سلك من هَذَا المسلك وَذكروا فِي فضلاء زمانهم وَمن تقدمهم أَقْوَامًا يغلب على الظَّن أَن فِي من تَأَخّر جمَاعَة يفضلون عَلَيْهِم أَو على كثير مِنْهُم بِالْعلمِ وَرُبمَا تحقق ذَلِك فِي كثير ثمَّ قبولا لإشارة شَيْخي أبي الْحسن الأصبحي وَهُوَ الَّذِي ذكرت أَولا أَن إِشَارَته فِي حَقي حكم وطاعته غنم مَعَ تعويلي على أَن مطالع كتابي هَذَا يكون معي عِنْد تَحْقِيقه لزلل كَمَا قَالَ تَعَالَى {وليعفوا وليصفحوا أَلا تحبون أَن يغْفر الله لكم} وَليكن كَمَا قَالَ الأول ... ويغضي عَن الْأَشْيَاء يعلم كنهها ... إِلَى أَن يَقُول النَّاس لَيْسَ بعالم
وَمَا ذَاك من جهل بِهِ غير أَنه ... يجر على الزلات ذيل المكارم ... ثمَّ مَتى تحقق خللا فليصلحه بعد تحوط فَإِنِّي قد أخذت مَا أوردت من مظان جَيِّدَة ورحلت من الْجند فِي طلب ذَلِك إِلَى نواح بعيدَة ثمَّ يعرض مَعَ ذكر أحد من الْعلمَاء ذكر أحد من الْأَعْيَان فأورد من ذكره مَا يشفي النَّفس ويزيل اللّبْس على حسب الطَّاقَة وَمَعَ ذَلِك فالأغراض فِي ذَلِك تبلغ أغراضا مُخْتَلفَة فقد من يُرِيد تَارِيخ(1/68)
الْعلمَاء وَقد يُرِيد الْمُلُوك وَقد يُرِيد الْأَعْيَان والميل إِلَى الِاخْتِصَار بِقدر الِاسْتِطَاعَة
ثمَّ استفتح ذَلِك بِحَمْد الله جَاعل لُحُوم الْعلمَاء مُحرمَة لأهل السَّفه والشقاء فأعوذ بِهِ من حسد الحاسدين وَاعْتِرَاض المعاندين ثمَّ الصَّلَاة على خير الْأَنْبِيَاء وَجَمِيع أخوانه مِنْهُم وَآل كل والصحب على الِاسْتِقْصَاء
وَرَأَيْت أَن أولى مَا استفتح بِهِ الْكتاب ذكره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ هُوَ الْموصل عَن الله الْعلم بِمَا أخبر فابتدأت حِينَئِذٍ بنسبه ثمَّ مولده ثمَّ مَا تحققته من أَحْوَاله بداية وَنِهَايَة على شَرط الإيجاز والاختصار فِيهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ بِهِ سلكنا الطَّرِيق وَحصل لكل مُسلم التَّوْفِيق ولولاه لم يكن فِي الْأمة عَالم اسْتحْسنَ وَلَا جرى ذكره فِي كتاب وَلَا بعده من الصَّوَاب
وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم كنيته بِولد لَهُ من خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا جَاءَهُ قبل الْإِسْلَام مُحَمَّد بن عبد الله
مُحَمَّد اسْم عَرَبِيّ يَسْتَعْمِلهُ الْعَرَب فِي الْمُسْتَغْرق للمحامد وَسمي بذلك لِأَن أمه رَأَتْ فِي الْمَنَام قَائِلا يَقُول لَهَا إِنَّك حملت بِسَيِّد هَذِه الْأمة يكون مُسْتَغْرقا لجَمِيع المحامد فَسَمِّيهِ مُحَمَّدًا وَأما أَبوهُ فَقيل كَانَ اسْمه عبد الدَّار وَقيل عبد قصي فَلَمَّا فدي من الذّبْح سَمَّاهُ أَبُو عبد الله وَهُوَ أحد الذبيحين الَّذِي جَاءَ فِي بعض الْأَخْبَار عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنا ابْن الذبيحين عَنى أَبَاهُ وجده إِسْمَاعِيل وَهُوَ ابْن عبد الْمطلب وَيُقَال لَهُ شيبَة الْحَمد أَي شيبَة الثَّنَاء إِذْ ولد وبرأسه شيبَة ابْن هَاشم واسْمه عَمْرو وَسمي هاشما لِكَثْرَة مَا كَانَ يطعم قومه قَالَ ... عَمْرو الَّذِي هشم الثَّرِيد لِقَوْمِهِ ... وَرِجَال مَكَّة مسنتون عجاف ... وَهُوَ ابْن عبد منَاف واسْمه الْمُغيرَة بن قصي سمي قصيا لِأَن أمه تزوجت فِي غير أَهله فَخرجت بِهِ مَعهَا صَغِيرا فَلَمَّا كبر عَاد بَلَده فرأس بهَا وَجمع بيُوت قُرَيْش وَلذَلِك كَانَ يُسمى مجمع بن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب بن فهر بن مَالك بن النَّضر بن كنَانَة وَهَذَا النَّضر هُوَ قُرَيْش فَمن كَانَ من وَلَده فَهُوَ قرشي وَسمي بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ ذَا غَلَبَة وقهر من القرش حَيَوَان فِي الْبَحْر لِأَن لَهُ قهرا على غَيره وَقيل لتجارته ويساره وتصغيره محبَّة وَسميت قُرَيْش الحمس أَيْضا قيل لتشددها فِي الدّين خَاصَّة وَقيل لتشددها فِيهِ وَفِي غَيره وَقيل من الحمسة وَهِي الْحُرْمَة فَكَانَ يُقَال لَهُم أهل(1/69)
الحمسة أَي أهل الْحُرْمَة
وَقَالَ الْخطابِيّ سُئِلَ بعض الْعلمَاء لم كَانَت قُرَيْش أفضل الْعَرَب وَهِي قَبيلَة من مُضر فَقَالَ لِأَن دارها لم يزل منسكا لحج النَّاس وموسما لَهُم وموردا لقَضَاء نسكهم وَكَانُوا لَا يزالون يتأملون أَحْوَال الواردين ويراعونها يختارون أحسن مَا يشاهدونه ويتكلمون بِأَحْسَن مَا يسمعونه من لغتهم ويتخلقون بِأَحْسَن مَا يرَوْنَ من شمائلهم فبذلك وَهُوَ حسن الِاخْتِيَار الَّذِي هُوَ ثَمَرَة الْعقل صَارُوا أفضل الْعَرَب ثمَّ قَالَ لما بعث الله نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُم تمت لَهُم بِهِ الْفَضِيلَة وكملت بِهِ السِّيَادَة وَإِنَّمَا صَار دَارهم حرما لِأَن الله تَعَالَى لما قَالَ للسماوات وَالْأَرْض {ائتيا طَوْعًا أَو كرها قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} كَانَ الْمُجيب لَهُ بذلك من الأَرْض مَوضِع الْكَعْبَة وَمن السَّمَاء مَا قابله فَلذَلِك جعل فِيهِ الْبَيْت الْمَعْمُور وَهَذَا كَلَام دخيل والْحَدِيث شجون
نعود إِلَى بَقِيَّة النّسَب وكنانة هُوَ ابْن خُزَيْمَة بن مدركة واسْمه عَامر بن الْيَأْس بِفَتْح الْهمزَة ضد الرَّجَاء وَقيل بخفضها مُوَافقَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان النّسَب إِلَى هُنَا لَا يمتري فِيهِ أحد وَمَا جَاوز ذَلِك من النسابين من قَالَ بِهِ وهم جمَاعَة ابتدأت مِنْهُم بِالْإِمَامِ السُّهيْلي لجلالة قدره وشهرة مَعْرفَته فَقَالَ عدنان بن مقوم بِفَتْح الْوَاو وخفضها بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نبت بن إِسْمَاعِيل الذَّبِيح الثَّانِي على رَأْي جمَاعَة كثيرين وَاخْتَارَ السُّهيْلي أَن الْعَرَب كلهَا من ولد إِسْمَاعِيل الذَّبِيح قَالَ إِذْ هم بَنو نبت وَبَنُو أَيمن ابْني إِسْمَاعِيل فالعدنانية بَنو نبت والقحطانية بَنو أَيمن
وَقيل قيدر بن نبت بن إِسْمَاعِيل وَلَوْلَا الْميل إِلَى الِاخْتِصَار لشرحت مَا شَرحه السُّهيْلي فِي هَذَا الْمَكَان وَإِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم وَمَعْنَاهُ أَب رَحِيم ولتحقق ذَلِك فِيهِ جعله وَامْرَأَته سارة كافلي أَطْفَال الْمُؤمنِينَ الَّذين يموتون صغَارًا ابْن تارخ وَهُوَ أزر بن ناحور بن ساروح بن راغوا بن فالخ وَقيل فالغ وَمَعْنَاهُ القسام لِأَنَّهُ قسم الأَرْض بَين أَهلهَا ابْن عَابِر وَقيل عبير بياء مثناة من تَحت بدل(1/70)
الْألف بن سالخ وَمَعْنَاهُ الْوَكِيل بن أرفخشد وَمَعْنَاهُ مِصْبَاح مضيء ابْن سَام بن نوح واسْمه عبد الْغفار وَسُميَّة نوحًا لِكَثْرَة نواحه على نَفسه لتَقْصِيره فِي طاعه ربه وَهُوَ ابْن لامك بِفَتْح الْمِيم وَقيل بِكَسْرِهَا ابْن متوشلخ بالشين الْمُعْجَمَة وَقيل بِالْمُهْمَلَةِ وَاللَّام مَفْتُوحَة وَقيل بخفضها والخا مُعْجمَة وَتَفْسِيره مَاتَ الرَّسُول إِذْ مَاتَ أَبوهُ وَهُوَ فِي بطن أمه بن أَخْنُوخ وَقيل خنوخ بِحَذْف الْألف وخاءين معجمتين بَينهمَا نون مَضْمُومَة ثمَّ وَاو وَهُوَ إِدْرِيس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أول نَبِي خطّ بالقلم وَأعْطِي النُّبُوَّة بن يرد بن مهليل وَقيل مهلايل وَمَعْنَاهُ الممدوح وَفِي أَيَّامه ظَهرت عبَادَة الْأَصْنَام ابْن قينان بِأَلف بَين النونين وَقيل بحذفه وَمَعْنَاهُ المستوى ابْن نائش وَقيل أنوش وَمَعْنَاهُ الصَّادِق بن شِيث وَمَعْنَاهُ عَطِيَّة الله بن آدم سمي بِهِ لِأَنَّهُ خلق من أَدِيم الأَرْض وكنيته عبد المليك أَبُو الْبشر وَقيل أَبُو مُحَمَّد يعنون بِهِ نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ السُّهيْلي وَذكر الطَّبَرِيّ بَين عَابِر وشالخ أَبَا سَمَّاهُ قينان وَأَن الله لم يذكرهُ فِي التَّوْرَاة لِأَنَّهُ كَانَ ساحرا وانقضى ذكر مَا أردناه من النّسَب وَلم يبْق غير ذكر الْأَحْوَال والنعوت بِأَلْفَاظ موجزة فولد يَوْم الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من ربيع الأول وَقيل غير ذَلِك وَكَانَ بعد هَلَاك أَصْحَاب الْفِيل بِخَمْسِينَ لَيْلَة ولد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مختونا مَسْرُورا فأعجب جده عبد الْمطلب ذَلِك وَقَالَ ليَكُون لِابْني هَذَا شَأْن عَظِيم وَاخْتلف هَل كَانَ أَبوهُ إِذْ ذَاك بَاقِيا أم لَا فَقيل لَا وَقيل نعم عَاشَ شَهْرَيْن بعد وِلَادَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقيل سنة وَأجْمع المؤرخون أَنه لم يبلغ الثَّلَاث إِلَّا وَقد عدم وَكَانَت أمه تَقول أتيت حِين حملت بِهِ فَقيل لي إِنَّك حملت بِسَيِّد هَذِه الْأمة فَمَتَى وَقع على الأَرْض فَقولِي أُعِيذهُ بِالْوَاحِدِ من شَرّ كل حَاسِد ثمَّ سميه مُحَمَّدًا قَالَت فوَاللَّه مَا رَأَيْت حملا قطّ كَانَ أخف وأيسر ولادَة مِنْهُ
وَلَقَد وَقع وَاضِعا يَدَيْهِ على الأَرْض رَافعا رَأسه إِلَى السَّمَاء فَظهر بميلاده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من العلامات والبشارات مَا يفوق الْعد كَثْرَة وتبادرت الْكُهَّان إِلَى مَكَّة وَاتَّفَقُوا مَعَ عُلَمَاء الْيَهُود على إعدامه فَأَعْجَزَهُمْ الله ثمَّ أول مُرْضِعَة أَرْضَعَتْه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمة ثويبة مولاة لِعَمِّهِ أبي لَهب وَكَانَت قد أرضعت قبله عَمه حَمْزَة ثمَّ أم أَيمن الحبشية(1/71)
وَهِي أم أُسَامَة بن زيد وَكَانَت مولاة لِأَبِيهِ عبد الْمطلب أعْتقهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَزوجهَا زيد بن حَارِثَة ثمَّ حليمة وَقيل إِن حليمة أَرْضَعَتْه قبل أم أَيمن ثمَّ لما صَار ابْن سِتّ سِنِين ذهبت بِهِ أمه إِلَى يثرب تزيره أخوال جده عبد الْمطلب من بني النجار ثمَّ لما صَارَت بالأبواء عَائِدَة توفيت هُنَالك وَقد زارها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَام الْفَتْح هُنَالك وَالْخَبَر مَذْكُور فِي الْمُهَذّب وَغَيره
فَلَمَّا بلغ الْخَبَر جده عبد الْمطلب أَمر أم أَيمن الْمُرضعَة لَهُ أَن تذْهب من مَكَّة فِي طلبه فَخرجت وَجَاءَت بِهِ فَكَانَ يبره ويكرمه حَتَّى أَن كَانَ أَعْمَامه ليحسدونه على ذَلِك فَيَقُول لَيَكُونن لَهُ شَأْن عَظِيم
فَلَمَّا صَار ابْن ثَمَانِي سِنِين توفّي جده وَقد أوصى بِهِ إِلَى عَمه أبي طَالب لكَونه شَقِيق أَبِيه عبد الله
ثمَّ خرج بِهِ عَمه وَهُوَ ابْن تسع نَحْو الشَّام فَمروا ببحيرى الراهب وَهُوَ بباءين موحدتين مخفوضة ثمَّ مَفْتُوحَة ثمَّ حاء مُهْملَة بعْدهَا يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ رَاء ضَبطنَا ذَلِك على سَمَاعنَا وَسمعت جمَاعَة يصحفونه فأضافهم وَلم يكن قبل ذَلِك يضيفهم وَأوصى أَبَا طَالب بحفظه وحذره عَلَيْهِ من الْيَهُود فَدخل ذَلِك فِي نفس أبي طَالب حَتَّى أَنه لم يكد يكمل سَفَره وَعَاد بِهِ مسرعا إِلَى مَكَّة وَلم يزل بهَا حَتَّى بلغ خمْسا وَعشْرين سنة فَتزَوج خَدِيجَة بنت خويلد من أَبِيهَا وَقيل من عَمها وَأصْدقهَا عشْرين بكرَة فَولدت قبل الْإِسْلَام الْقَاسِم وَبِه كَانَ يكنى وَزَيْنَب ورقية وَأم كُلْثُوم ورقية الْكُبْرَى وَبعد الْإِسْلَام عبد الله والطاهر وَالطّيب وَفَاطِمَة فَهَلَك البنون صغَارًا وَأدْركت الْبَنَات الْإِسْلَام فَحسن فِيهِنَّ وَلم يَأْتِ لَهُ من غَيرهَا ولد غير إِبْرَاهِيم فَإِنَّهُ من جَارِيَة تسمى مَارِيَة بنت شَمْعُون أهداها لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُقَوْقس واسْمه جريج بن مينا كَذَا ذكره(1/72)
السُّهيْلي وَلم يَعش إِبْرَاهِيم غير سنة وَعشرَة أشهر وَثَمَانِية أَيَّام
ثمَّ نرْجِع إِلَى ذكر أَحْوَاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلما بلغ خمْسا وَثَلَاثِينَ سنة من عمره بنت قُرَيْش الْكَعْبَة وحكمته أَن يرفع الرُّكْن إِلَى مَوْضِعه فَلَمَّا كملت لَهُ أَرْبَعُونَ سنة ابتدئ بِالْوَحْي مناما لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة وَقيل لعشر خلون من ربيع الأول وَاسْتمرّ الْوَحْي مناما سِتَّة أشهر وَلما كَانَ فِي رَمَضَان أَتَاهُ جِبْرِيل بِالْوَحْي يقظة وَلذَلِك قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرُّؤْيَا الصادقة جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من النُّبُوَّة وَأَرَادَ أَن أَعْوَام نبوته إِذا قسمت على سِتَّة أشهر كَانَت سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا إِذْ هِيَ على الصَّحِيح ثَلَاث وَعِشْرُونَ سنة فَلَمَّا أَتَاهُ جِبْرِيل يقظة أخبر بذلك خَدِيجَة فآمنت وصدقت وَهِي أول النِّسَاء إسلاما وَكَانَت امْرَأَة صدق وصاحبة حق وَكَانَ إِذا جاءها مُكَذبا صدقته أَو مؤذى هونت عَلَيْهِ وَأسلم أَبُو بكر الصّديق وَعلي بن أبي طَالب وَزيد بن حَارِثَة هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة أول من آمن من هَذِه الْأمة بِاتِّفَاق مَعَ اخْتِلَاف فِي السَّابِق مِنْهُم وَوجه بعض الْعلمَاء لذَلِك بِأَن خَدِيجَة أول النِّسَاء إسلاما وَأَبُو بكر أول الرِّجَال وَعلي أول الفتيان وَزيد أول الموَالِي وَلما أسلم أَبُو بكر خبر بِإِسْلَامِهِ ودعا إِلَيْهِ فَأسلم بِإِسْلَامِهِ سِتَّة نفر خَمْسَة من الْعشْرَة وهم عُثْمَان وَالزُّبَيْر وَعبد الرَّحْمَن وَسعد وَطَلْحَة وَالسَّادِس خباب بن الْأَرَت وَأقَام صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه مخفون الْإِسْلَام مترددون فِي إِظْهَاره ثَلَاث سِنِين حَتَّى نزل قَوْله تَعَالَى {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمر} الْآيَة فنابذ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قومه وجانبهم فعادوه وَقَامَ بنصرته عَمه أَبُو طَالب وذب عَنهُ وَجعل الْمُشْركُونَ يُؤْذونَ أَصْحَابه ويعذبون من قدرُوا عَلَيْهِ مِنْهُم ويفتنونه عَن دينه
وَلما بلغُوا ثَمَانِينَ رجلا وَرَأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا هم فِيهِ من أذية الْمُشْركين أَمرهم بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَة فَهَاجَرَ مِنْهُم اثْنَان وَثَمَانُونَ رجلا اخْتلف هَل كَانَ عمار بن يَاسر فيهم ثمَّ بعد ذَلِك أسلم حَمْزَة وَعمر بن الْخطاب فَامْتنعَ بهما من بَقِي بِمَكَّة من الْمُسلمين ثمَّ فِي سنة سِتّ كتبت الصَّحِيفَة على بني هَاشم وَمن دخل مَعَهم من بني الْمطلب وَخرج مِنْهُم أَبُو لَهب ثمَّ سلط الله عَلَيْهَا الأرضة فأتلفتها ثمَّ فِي سنة عشر توفيت خَدِيجَة بنت خويلد وعمرها سِتّ وَخَمْسُونَ سنة برمضان ثمَّ أَبُو طَالب بعْدهَا بِثَلَاث وَهُوَ ابْن سِتّ وَثَمَانِينَ وَقيل تسعين فكثرت أذية الْمُشْركين لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يجد من يصد عَنهُ كَأبي طَالب وَلَا يهون عَلَيْهِ ويسكنه كخديجة رَضِي الله عَنْهَا(1/73)
فَخرج فِي سنة إِحْدَى عشرَة من النُّبُوَّة إِلَى الطَّائِف يلْتَمس النَّصْر من ثَقِيف فَلم يلق بهم خيرا فَعَاد مَكَّة وَبَات بوادي نَخْلَة ثمَّ قَامَ أثْنَاء اللَّيْل يُصَلِّي جهارا بِالْقُرْآنِ فَمر بِهِ النَّفر الَّذِي قصّ الله خبرهم فِي سُورَة {قل أُوحِي}
قَالَ الرَّازِيّ وَكَانُوا من قَرْيَة بِالْيمن تعرف بنصيبين وَفِي رَجَب من سنة اثْنَتَيْ عشرَة كَانَ الأسرى فِيهِ هدى من هدى وطرد من طرد
وَكَانَ يعرض نَفسه فِي المواسم وَيَقُول من يؤويني من ينصرني حَتَّى أبلغ كَلَام رَبِّي فَإِن قُريْشًا منعتني من تبليغه
ثمَّ هَاجر أَبُو بكر إِلَى الْيمن فَدخل صنعاء فلقي بهَا ابْن الدغنة وَهُوَ يَوْمئِذٍ سيد القارة فَقَالَ أَيْن تُرِيدُ يَا أَبَا بكر قَالَ أخرجني قومِي فَأُرِيد أسيح فِي الأَرْض وأعبد رَبِّي فَقَالَ لَهُ إِن مثلك لَا يخرج وَلَا يخرج بِفَتْح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَضم الرَّاء فِي الأولى وبضم الْيَاء وَفتح الرَّاء مَا لم يسم فَاعله فِي الثَّانِيَة لِأَنَّك تكسب الْمَعْدُوم وَتصل الرَّحِم وَتحمل الْكل وتقري الضَّيْف وَتعين على النوائب فَارْجِع واعبد رَبك ببلدك وَأَنا جَار لَك فَعَاد وَأقَام معززا مكرما ثمَّ تقدم سِتَّة نفر من الْأَنْصَار يُرِيدُونَ حلف قُرَيْش على قَومهمْ فَبلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدومهم فوصلهم وَعرض عَلَيْهِم الْإِسْلَام وتلا الْقُرْآن فأسلموا وسألوه أَن يبْعَث مَعَهم معلما فَبعث مُصعب بن عُمَيْر بن هَاشم بن عبد منَاف فَكَانَ أول من قدم الْمَدِينَة من الْمُسلمين من مَكَّة ويعد أول الْمُهَاجِرين ثمَّ إِنَّه جَاءَ الْمَوْسِم وَقد فَشَا الْإِسْلَام فيهم وَأسلم جمَاعَة فلقي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْعقبَةِ مِنْهُم(1/74)
اثْنَي عشر رجلا فأسلموا وَبَايَعُوهُ بيعَة النِّسَاء وعادوا فَيُقَال إِنَّمَا رَاح مُصعب مَعَ هَؤُلَاءِ وَالله أعلم وَلما قدم مُصعب صَار يجمعهُمْ على الصَّلَاة وَقِرَاءَة الْقُرْآن فَأسلم على يَده خلق كثير مِنْهُم أسيد بن حضير وَسعد بن معَاذ وَفَشَا الْإِسْلَام بِيَثْرِب
وَلما كَانَ الْمَوْسِم سنة اثْنَتَيْ عشرَة حج مِنْهُم جمع كثير وواجهوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْعقبَة فِي أواسط أَيَّام التَّشْرِيق وهم إِذْ ذَاك ثَلَاثَة وَسَبْعُونَ رجلا وَامْرَأَتَانِ فَبَايعُوهُ مبايعة الْحَرْب ثمَّ لما عَادوا أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بَقِي مَعَه بِمَكَّة من أَصْحَابه بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهِم فَهَاجرُوا وَلم يبْق بِمَكَّة غير أبي بكر وَعلي فَإِن الله حماهما بِمَا حمى بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ هَاجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهُ أَبُو بكر وعامر بن فهَيْرَة مَوْلَاهُ بِالْفَاءِ وَابْن أريقط دليلهما فَقدما قبَاء ظهيرة يَوْم الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من ربيع الأول من ثَلَاث عشرَة من النُّبُوَّة وَمن ذَلِك جعل التَّارِيخ بسنته عمر فِي خِلَافَته وَكَانَ التَّارِيخ قبله بِمَوْت الْفِيل وهلاك أَصْحَابه ثمَّ قبله بِمَوْت قصي بن كلاب وَلما ولي عمر الْخلَافَة أَمر النَّاس بالتاريخ من الْهِجْرَة فَكَانَت من أوامره الْمُبَارَكَة
ولبث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقباء ثَلَاثَة أَيَّام وَخرج فِي الرَّابِع يَوْم الْجُمُعَة إِلَى الْمَدِينَة بعد أَن أسس مَسْجِد قبَاء وَقدم عَلَيْهِ فِيهَا عبد الله بن سَلام وَأسلم وَحسن إِسْلَامه وَهُوَ أحد بني قينقاع بِضَم النُّون وَفتحهَا مَعَ فتح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَفتح الْقَاف بعد النُّون الْمُخْتَلف فِيهَا ثمَّ ألف ثمَّ عين مُهْملَة وأدركته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجُمُعَة فِي بني سَالم بن عَوْف فصلى مَعَهم وَذَلِكَ بالموضع الَّذِي اتخذ مَسْجِدا بوادي رانونا ثمَّ ركب نَاقَته حَتَّى أَتَى دَار بني النجار(1/75)
أخوال جده فبركت نَاقَته بِموضع بِالْقربِ من بَيت أبي أَيُّوب فَترك رَحْله فِي بَيته بَيْنَمَا بنى مَسْجِدا حَيْثُ بَركت نَاقَته ثمَّ بنيت مساكنه وَدخل بعائشة وأرئي عبد الله بن زيد مَعَ جمَاعَة الْأَذَان وَهَذَا نِسْبَة حَاله من ميلاده إِلَى سنته الَّتِي هَاجر فِيهَا وَبَقِيَّة أَحْوَاله فِي الْمَدِينَة مَعْرُوفَة متحققة يُؤْخَذ كثيرا نقلا وسطرا وَلما كَانَ فِي سنة تسع حج حجَّته الْمَشْهُورَة بِحجَّة الْوَدَاع وَحجَّة الْبَلَاغ لم يشْهد لَهُ غَيرهَا بعد الْهِجْرَة وَلَا يعلم كم حج قبلهَا
ثمَّ فِي مستهل ربيع الأول من سنة عشر بعث صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَيْشًا إِلَى الشَّام وَأمر عَلَيْهِم أُسَامَة بن زيد فَأخذُوا بالتجهيز وَمرض صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرضه الَّذِي توفّي فِيهِ والجيش إِذْ ذَاك لم يخرج
قَالَ الرَّازِيّ المؤرخ بِإِسْنَاد أوردهُ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّه قَالَ نصرت بِالرُّعْبِ وَأعْطيت جَوَامِع الْكَلَام وخيرت بَين الْبَقَاء وَأبْصر مَا يفتح الله على أمتِي وَبَين التَّعْجِيل فاخترت التَّعْجِيل وَنزل عقب ذَلِك سُورَة الضُّحَى وَإِذا جَاءَ نصر الله بكمالهما
وَتُوفِّي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَانِي عشر ربيع الأول على تَمام عشر من الْهِجْرَة لَيْسَ لَهُ فِي رَأسه عشرُون شَعْرَة بَيْضَاء إِذا مَشى تقلع كَأَنَّمَا ينحط من صبب أَي يمشي بِقُوَّة والصبب الحدور ثمَّ بَايع بعض النَّاس وَقيل كلهم فِي ذَلِك الْيَوْم لأبي بكر وَلم يتَأَخَّر أحد عَن الْيَوْم الثَّانِي
وَكَانَ لَهُ يَوْم توفّي تسع نسْوَة عَائِشَة وَحَفْصَة وَأم حَبِيبَة وَأم سَلمَة وَسَوْدَة وَزَيْنَب ومَيْمُونَة وَجُوَيْرِية وَصفِيَّة بنت حييّ
وَجُمْلَة من تزوج بِهن ثَلَاث عشرَة أولهنَّ خَدِيجَة ثمَّ الْمَذْكُورَات والحادية عشرَة زَيْنَب بنت خُزَيْمَة مَاتَت فِي حَيَاته وَكَانَت تسمى أم الْمَسَاكِين لشفقتها عَلَيْهِم وَعقد بِاثْنَتَيْنِ وَلم يدْخل بهما
وَقد ذكر فِي سَبَب ذَلِك وَهل كن أَكثر من ثَلَاث عشرَة أم لَا فِيهِ خلاف يطول شَرحه وغالب أصدقهن أربعمئة(1/76)
دِرْهَم إِلَّا خَدِيجَة وَأم زَيْنَب أصدق خَدِيجَة مَا ذَكرْنَاهُ عِنْد عقدهَا وَأم زَيْنَب وَهِي الواهبة نَفسهَا عِنْد بعض المؤرخين وَقيل هِيَ غَيرهَا أصدقهَا فراشا حشْوَة لِيف وَقَدحًا وصفحة ومجشة وَهِي الرَّحَى وانقضى ذكر مَا استحسنته من أَحْوَاله
وَأحب تعقيبه بِطرف من شمائله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ دَائِم الْبشر حسن الْخلق لين الْجَانِب لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غليظ وَلَا صخاب وَلَا فحاش وَلَا غياب وَلَا مزاح يتغافل عَمَّا لَا يَشْتَهِي قد ترك نَفسه من ثَلَاث المراء والإكثار وَمَا لَا يعنيه
وَترك النَّاس من ثَلَاث لَا يذم أحدا وَلَا يغيبه وَلَا يطْلب عَوْرَته
وَلَا يتَكَلَّم إِلَّا بِمَا يَرْجُو ثَوَابه
وَكَانَ إِذا تكلم أطرق جُلَسَاؤُهُ وَإِذا سكت تكلمُوا لَا يتنازعون عِنْده يضْحك مِمَّا يَضْحَكُونَ ويتعجب مِمَّا يتعجبون مِنْهُ
يصبر على الْغَرِيب فِي مَنْطِقه ومساءلته جمع لَهُ الْعلم والحلم وَالصَّبْر
أَخذ بِأَرْبَع الْحق ليقتدى بِهِ وَترك الْقَبِيح لينهى عَنهُ واجتهاد الرَّأْي فِيمَا يصلح أمته وَالْقِيَام بِمَا يجمع لَهُ خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
وَكَانَ يَبْتَدِئ من لقِيه بِالسَّلَامِ وَيعود أَصْحَابه كَمَا يعودونه ويشيعهم كَمَا يشيعونه ويعتنقهم كَمَا يعتنقونه وَيقبل وُجُوههم كَمَا يقبلُونَ وَجهه ويفديهم بِأَبِيهِ وَأمه كَمَا يفدونه وَرُبمَا زار عمَّة وَخَالَة إفضالا مِنْهُ عَلَيْهِمَا فِي كل شَيْء وَيسْعَى إِلَى كل مكرمَة وَكَانَ يتفقد أَصْحَابه وَيسْأل عَن غائبهم
فَإِن كَانَ مَرِيضا عَاده ودعا لَهُ
وَمن مَاتَ اسْترْجع فِي حَقه وترحم عَلَيْهِ ودعا لَهُ
وَمن تخوف مِنْهُ قَالَ لَعَلَّ أَبَا فلَان أَخذ علينا فِي شَيْء أَو رأى منا تقصيرا انْطَلقُوا بِنَا إِلَيْهِ
ثمَّ يَأْتِيهِ منزله ويستطيب قلبه
وَمَتى دَعَاهُ مُسلم(1/77)
قَالَ لبيْك حرا كَانَ أَو عبدا صَغِيرا أَو كَبِيرا ذكر كَانَ أَو أُنْثَى
وَإِن دَعَاهُ مُشْرك قَالَ لَهُ مَا تشَاء نعْمَة الله كَمَا قَالَ {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة للْعَالمين}
قيل لَهُ وَهُوَ نَازل على قوم يُرِيد حربهم وَقد أجهدوه هلا لعنتهم فَقَالَ إِنَّمَا بعثت رَحْمَة للْعَالمين
لم أبْعث لعانا
وَنَحْو ذَلِك مَا رُوِيَ عَن خباب بن الْأَرَت أَنه قَالَ لما اشْتَدَّ بِنَا أَذَى الْمُشْركين بِمَكَّة وَكَانَ كثير منا بَين مفتون وَبَين معذب ومؤذي أتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ مُتَوَسِّد إزَاره فِي ظلّ الْكَعْبَة فشكوت عَلَيْهِ مَا نَحن فِيهِ وَقلت يَا رَسُول الله أَلا تَدْعُو الله لنا فَقعدَ وَهُوَ محمر الْوَجْه وَقَالَ إِن من كَانَ قبلكُمْ يمشط بِأَمْشَاط الْحَدِيد حَتَّى يذهب مَا دون عِظَامه من لحم وَعصب ليرْجع عَن دينه فَلَا يرجع وَيُوضَع الْمِنْشَار على مفرق رَأسه فينشق نِصْفَيْنِ مَا يصرفهُ ذَلِك عَن دينه وليتمن الله هَذَا الْأَمر حَتَّى يسير الرَّاكِب من صنعاء إِلَى حضر موت لَا يخَاف إِلَّا الله تَعَالَى أَو الذِّئْب على غنمه
أورد هَذَا الْخَبَر الرَّازِيّ فِي تَارِيخه فِي بَاب مَا ذكر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صنعاء
وَكَانَت غَزَوَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سبعا وَعشْرين غَزْوَة حصل الْقِتَال فِي تسع مِنْهُنَّ بدر وَأحد وَالْخَنْدَق وَقُرَيْظَة والمصطلق وخيبر وَالْفَتْح وحنين والطائف
وسراياه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اثْنَان وَثَلَاثُونَ سَرِيَّة وَقيل تسع وَثَلَاثُونَ
وَلما اتّفق الْمُسلمُونَ على خلَافَة أبي بكر وبيعته كَانَ أول شَيْء اشْتغل بِهِ النَّاس تجهيز رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فغسلوه بِقَمِيصِهِ يصبون عَلَيْهِ المَاء ثمَّ اخْتلفُوا فِي أَيْن يدْفن فَقَالَ الصّديق إِنِّي سَمِعت رَسُول الله يَقُول مَا قبض نَبِي إِلَّا دفن حَيْثُ قبض ثمَّ استدعى أَبَا طَلْحَة رجل من أهل الْمَدِينَة وطوى لَهُ الْفراش الَّذِي توفّي عَلَيْهِ رَسُول(1/78)
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمره أَن يحْفر مَكَانَهُ كَمَا يحْفر لأهل الْمَدِينَة قبرا ملحودا وَذَلِكَ فِي الزاوية الْقَرِيبَة من بَيت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَكَانَت قد قَالَت لأَبِيهَا قبل ذَلِك بِمدَّة إِنِّي رَأَيْت ثَلَاثَة أقمار سقطوا فِي حُجْرَتي وغابوا فِي أرْضهَا فَمَا تَأْوِيل ذَلِك قَالَ يدْفن فِي حجرتك ثَلَاث أفطاب خير أهل الأَرْض فَلَمَّا دفن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهَا أَبُو بكر هَذَا أحد أقمارك وَهُوَ خَيرهمْ وَهَذَا آخر مَا أسلفته من أخباره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متبركا وموجزا
ثمَّ لم يبْق غير الشُّرُوع بِذكر الْعلمَاء بِالْيمن فَأَحْبَبْت تصدير ذَلِك بِمن دخله من فُقَهَاء الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم الَّذين شهد لَهُم بالفقه وَأثْنى عَلَيْهِم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُم أَبُو بكر الصّديق وَعبد الله بن عُثْمَان بن عَامر بن كَعْب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كَعْب بن غَالب يجْتَمع مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مرّة بن كَعْب
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق أَجمعت الْأمة على تَقْدِيمه للخلافة بعد النَّبِي وَلَا يقدم إِلَّا إِمَام عَالم وَكَانَ يُفْتِي بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يقدم على الْفتيا بِحَضْرَتِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ عظم الْقدر وجلالة الْمحل إِلَّا الموثوق بِعِلْمِهِ والمتحقق لفضله
وَقد ذكرت فِيمَا تقدم دُخُوله صنعاء ورجوعه بجوار ابْن الدغنة كَمَا مضى توفّي على الْحَالة المرضية سنة ثَلَاث عشرَة وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة خِلَافَته سنتَانِ وَأشهر
ثمَّ عَليّ بن أبي طَالب وَاسم أبي طَالب عبد منَاف بن عبد الْمطلب وَبَقِيَّة النّسَب مُحَقّق فِي ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل حَاكما ومفقها كَانَ يَقُول لما بَعَثَنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْيمن قلت يَا رَسُول الله أتبعثني الْيمن وَأَنا شَاب وهم كهول وَلَا علم لي بِالْقضَاءِ قَالَ انْطلق فَإِن الله سيهدي قَلْبك وَيثبت لسَانك وَقيل قَالَ اللَّهُمَّ اهد قلبه فَلَمَّا صرت بِالْيمن وحكمت بَين أَهله لم أتعايا فِي حكم قطّ ببركة دُعَائِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ نُزُوله على أم سعيد بنت بزرج امْرَأَة داذوية أَمِير الْفرس بعد باذان لِأَنَّهُ كَانَ ابْن أَخِيه(1/79)
فاستخلفه حِين نزل بِهِ الْمَوْت وَقد كَانَ أسلم وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله من ذكره فِي الْمُلُوك مَا يَلِيق وَكَانَ من وصل من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا يصل إِلَى داذويه فينزله عِنْد هَذِه الْمَرْأَة فَذكر المؤرخون لأخبار الْيمن أَنَّهَا أول من أسلم من أهل صنعاء وَقَرَأَ الْقُرْآن فَيُقَال إِن عليا كرم الله وَجهه لبث بِصَنْعَاء أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَدخل أَمَاكِن من الْيمن مِنْهَا عدن أبين وعدن لاعة من بِلَاد حجَّة قد خربَتْ مُنْذُ زمن طَوِيل وَمِنْهَا ظهر مَنْصُور الْيمن بالدعوة للعبيديين وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك إِن شَاءَ الله فِي مَوْضِعه وَدخل عَليّ مرّة أُخْرَى فِي أَيَّام أبي بكر وتأمره وَكَانَ من أجلاء فُقَهَاء الصَّحَابَة وَكفى شَاهدا لَهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنا مَدِينَة الْعلم وَعلي بَابهَا
وَكَانَ ابْن عَبَّاس يَقُول أعطي عَليّ تِسْعَة أعشار الْعلم وَأَنه لأعْلم بالعشر الْبَاقِي
وَكَانَت وَفَاته جريحا من جِرَاحَة جرحه بهَا ابْن ملجم لَيْلَة الْجُمُعَة سحرًا لسبع عشرَة لَيْلَة مَضَت من شهر رَمَضَان الْكَائِن فِي سنة أَرْبَعِينَ وَقد بلغ عمره ثَمَانِي وَخمسين سنة وَقيل ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سنة
وَاخْتلف فِي مَوضِع دَفنه فَذهب كثير إِلَى أَنه دفن بقصر الْإِمَارَة بِالْكُوفَةِ وغيب قَبره وَقيل بِموضع يُقَال لَهُ الغريين وَقيل إِن ابْنه الْحسن حمله يُرِيد بِهِ الْمَدِينَة ليدفنه هُنَالك فَلَمَّا صَار خَارج الْكُوفَة لَيْلًا وَأَرَادَ نَقله سرا أَقبلت ريح وظلمة مَعَ رذاذ أذهل النَّاقة فَلم يعلم أَيْن تَوَجَّهت وَظهر فِي أثْنَاء المئة السَّادِسَة من الْهِجْرَة قبر بِموضع بِالْقربِ من الْكُوفَة على مَا قيل وَاسم الْموضع النجف فشهر أَنه قَبره كرم الله وَجهه وَتحقّق ذَلِك أَنه مَا أَتَاهُ مبتلى إِلَّا عوفي سَوَاء كَانَ بِهِ عاهة أَو لَهُ حَاجَة فتزول وتقضى
ثمَّ أَبُو عُبَيْدَة عَامر بن الْجراح بن هِلَال بن أهيب بن ضبة بن الْحَارِث بن فهر(1/80)
يجْتَمع مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ بَعثه إِلَى نَجْرَان إِذْ سَأَلَهُ أهل نَجْرَان وهم إِذْ ذَاك نَصَارَى أَن يبْعَث مَعَهم بعض أَصْحَابه ليحكم بَينهم فِي أَشْيَاء اشتجروا عَلَيْهَا فَقَالَ لَهُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَأَبْعَثَن مَعكُمْ أَمينا مَأْمُونا فَاسْتَبْشَرَ بذلك أكَابِر الصَّحَابَة حَتَّى قَالَ عمر مَا أَحْبَبْت الْإِمَارَة إِلَّا يَوْمئِذٍ ثمَّ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُم يَا أَبَا عُبَيْدَة فَلَمَّا قَامَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكل أمة أَمِين وَهَذَا أَمِين هَذِه الْأمة ثمَّ أمره بِالْمَسِيرِ مَعَهم وَالْحكم بَينهم فَفعل وَخرج فِي جند الشَّام فَتوفي بوادي الْأُرْدُن فِي طاعون عمواس سنة ثَمَانِي عشرَة وَدفن هُوَ ومعاذ بن جبل بِموضع وَاحِد
وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة من خَواص أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأخيارهم من الْعشْرَة الَّذين شهد لَهُم بِالْجنَّةِ وَقد دخل مَعَهم جمَاعَة مَعَ عَليّ وَبَعْضهمْ مَعَ معَاذ أَيْضا وَمُتَفَرِّقِينَ لَكِن المُرَاد ذكر الْعلمَاء مِنْهُم ثمَّ بعث صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأَنْصَار أَبَا عبد الرَّحْمَن معَاذ بن جبل بن عَمْرو بن أَوْس بن عَابِد بن عدي بن كَعْب الْأنْصَارِيّ الخزرجي كَانَ جميل الْوَجْه براق الثنايا وَجهه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رببيع الأول من سنة تسع وَقيل غير ذَلِك ثمَّ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتب إِلَى مُلُوك حمير وَإِلَى السكاسك وهم أهل مخلاف الْجند وَكَانَت رياستهم إِذْ ذَاك لقوم مِنْهُم يُقَال لَهُم بَنو الْأسود ووصاهم بإعانته على بِنَاء مَسْجِد الْجند ووعد من أَعَانَهُ على ذَلِك خيرا كثيرا
هَكَذَا نَقله المعنيون بذلك وَكَانَ معَاذ يَقُول لما خرجت من الْمَدِينَة شيعني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قَالَ يَا معَاذ إِذا قدمت عَلَيْهِم الْيمن فاحتكموا إِلَيْك فَبِمَ تحكم بَينهم قلت بِكِتَاب الله قَالَ فَإِن لم تَجِد(1/81)
قلت بِسنة رَسُول الله فَإِن لم تَجِد قلت أجتهد رَأْيِي فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي وفْق رَسُول رَسُول الله ثمَّ قَالَ يَا معَاذ إِذا قدمت عَلَيْهِم فزين الْإِسْلَام بعدلك وحلمك وصفحك وعفوك وَحسن خلقك فَإِن النَّاس ناظرون إِلَيْك وقائلون خيرة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يرى لَك سقطة يستريب بهَا أحد فِي حلمك وعدلك وعلمك فَإِن الرُّسُل من الْمُرْسلين وَيَا معَاذ أوصيك بتقوى الله عز وَجل وَصدق الحَدِيث ووفاء الْعَهْد وَأَدَاء الْأَمَانَة وَترك الْخِيَانَة وَرَحْمَة الْيَتِيم وَحفظ الْجَار وكظم الغيظ ولين الْكَلَام وبذل السَّلَام وَلُزُوم الإِمَام والتفقه بِالْقُرْآنِ وَحب الْآخِرَة والجزع من الْحساب وَقصر الأمل وَحسن الْعَمَل وأنهاك أَن تَشْتُم مُسلما أَو تصدق كَاذِبًا أَو تكذب صَادِقا أَو تَعْصِي إِمَامًا عادلا وَأَن تفْسد فِي الأَرْض يَا معَاذ اذكر الله عِنْد كل شجر وَحجر وأحدث لكل ذَنْب تَوْبَة السِّرّ بالسر وَالْعَلَانِيَة بالعلانية وَيسر وَلَا تعسر وَبشر وَلَا تنفر وستقدم على قوم أهل كتاب يَسْأَلُونَك عَن مَفَاتِيح الْجنَّة فَقل شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ
ثمَّ لما وَدعنِي بَكَيْت فَقَالَ مَا يبكيك فَقلت أبْكِي لفراقك بِأبي وَأمي أَنْت فَقَالَ لَا تبك فَإِن الْبكاء فتْنَة
فَذكرُوا أَن معَاذًا قدم الْجند فِي جُمَادَى الْآخِرَة وأوصل كتاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى بني الْأسود وَقد كَانُوا أَسْلمُوا ثمَّ إِنَّهُم اجْتَمعُوا فِي أول جُمُعَة من رَجَب وخطبهم وَفِيهِمْ جمع من الْيَهُود فَسَأَلُوهُ عَن مَفَاتِيح الْجنَّة فَقَالَ صدق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مفاتيحها شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ فَقَالُوا عجبنا من إصابتك الْجَواب وقولك صدق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُم إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخْبرنِي بسؤالكم هَذَا وَكَانَ قَوْله لَهُم سَببا لإسلام من تَأَخّر من الْيَهُود وَكَانَ ذَلِك فِي محفل عَظِيم قد اجْتمع فِيهِ النَّاس من أَمَاكِن شَتَّى وَمن ثمَّ ألف النَّاس إتْيَان الْجند فِي أول جُمُعَة من رَجَب يصلونَ بهَا الصَّلَاة الْمَشْهُورَة ويشاهد فِي تِلْكَ اللَّيْلَة بَرَكَات وَلَا تكَاد تَخْلُو لَيْلَة الْجُمُعَة الأولى من رَجَب أَو يَوْم خميسها من مطر هَذَا غَالب الزَّمن
وَكَانَ معَاذ يتَرَدَّد بَين مخلافي الْجند وحضرموت وَعنهُ أَخذ جمَاعَة من أَهلهَا وصحبوه وتفقهوا بِهِ وَخَرجُوا مَعَه الْحجاز ثمَّ الشَّام وَكَانَ عَمْرو بن مَيْمُون الأودي من خَواص أَصْحَابه فروى عَنهُ أَنه قدم علينا معَاذ من عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَرِيق الشحر(1/82)
رَافعا صَوته بالتهليل وَالتَّكْبِير وَكَانَ حسن الصَّوْت فألقيت عَلَيْهِ محبتي فصحبته وَلم أفارقه حَتَّى حثوت عَلَيْهِ التُّرَاب بِالشَّام وَقَالَ صلى معَاذ بِالنَّاسِ صَلَاة الصُّبْح وَذَلِكَ بِالْيمن وَقَرَأَ سُورَة النِّسَاء فَلَمَّا تَلا قَوْله تَعَالَى {وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} قَالَ رجل من خَلفه قرت عين أم إِبْرَاهِيم وَهُوَ مَعْدُود من أكابرالصحابة وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَقه معَاذ أعلم أمتِي بالحلال وَالْحرَام
وَلما خطب عمر بالجابية قَالَ من أَرَادَ الْفِقْه فليأت معَاذًا وَكَانَ الصَّحَابَة مَتى تحدثُوا وَهُوَ فيهم نظرُوا إِلَيْهِ هَيْبَة لَهُ
وَلما حضرت عمر الْوَفَاة قَالَ لَو كَانَ معَاذ حَيا لَاسْتَخْلَفْته فَإِن سَأَلَني الله تَعَالَى عَن ذَلِك قلت سَمِعت نبيك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن الله يَبْعَثهُ يَوْم الْقِيَامَة لَهُ رتوة بَين أَيدي الْعلمَاء وَلَو لم يكن من فقهه إِلَّا مَا رَوَاهُ الرَّازِيّ عَنهُ وَهُوَ أَنه كَانَ بِمَجْلِس عمر بن الْخطاب من جملَة جمَاعَة كثيرين إِذْ رفع رجل امْرَأَته وَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ غبت عَن هَذِه زَوْجَتي سنتَيْن ثمَّ جِئْت وَهِي حَامِل فَاسْتَشَارَ عمر برجمها فَقَالَ لَهُ معَاذ إِن كَانَ لَك عَلَيْهَا سَبِيل فَمَا لَك على مَا فِي بَطنهَا من سَبِيل دعها حَتَّى تضع فَلَمَّا وضعت بعد أَيَّام عرف زَوجهَا شبهه بِالْوَلَدِ وَقَالَ ابْني وَرب الْكَعْبَة إِذْ وَلدته جفرا لَهُ سنتَانِ فَقَالَ عمر حِينَئِذٍ عجز النِّسَاء أَن يلدن كمعاذ لَوْلَا معَاذ لهلك عمر
وَقَالَ لأهل الْيمن يُوشك أَن تعرفوا فِيكُم أهل الْجنَّة من أهل النَّار وَيَمُوت فِيكُم الْمَيِّت فيثنى عَلَيْهِ بِخَير فَهُوَ من أهل الْجنَّة وَيَمُوت الْمَيِّت فيثنى عَلَيْهِ بشر فَهُوَ من أهل النَّار وَكَانَ يَقُول السُّلْطَان ذِئْب ابْن آدم كذئب الْغنم يَأْخُذ الشاردة والناخبة والقاصية فَعَلَيْكُم بِالْجَمَاعَة والمساجد(1/83)
شهد معَاذ بيعَة الْعقبَة الْكُبْرَى وبدرا وَهُوَ ابْن عشْرين سنة وَتُوفِّي فِي طاعون عمواس سنة ثَمَانِي عشرَة وَقد بلغ عمره ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سنة
وَيُقَال إِن عِيسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رفع إِلَى السَّمَاء وَهُوَ بِهَذِهِ السن وَأخْبر الثِّقَة أَنه وجد بوادي الْأُرْدُن من أَرض الشَّام قبَّة فِيهَا قبران لَهُ وَلأبي عُبَيْدَة مَكْتُوب على كل قبر اسْم صَاحبه وَنسبه وتاريخه وَكَانَ أَصْحَابه لما توفّي دخلُوا الْعرَاق وصحبوا ابْن مَسْعُود لمؤاخاة كَانَت بَينهمَا وَكَانُوا هم المقدمين بِالْكُوفَةِ على فَتْوَى الْحَلَال وَالْحرَام وتنفيذ الْأَحْكَام وَكَانَ معظمهم من النخع حَتَّى كَانَ بعض أكَابِر التَّابِعين يَقُول إِنِّي لأعرف سمت معَاذ فِي أذواء النخع
فَمِمَّنْ صَحبه من أهل الْيمن واشتهر بِالْعلمِ وَالْعَمَل جمَاعَة مِنْهُم عَمْرو بن مَيْمُون الأودي الْمُقدم ذكره فأصله من حضر موت وَقيل من الدثينة كَانَ معدودا من الْأَوْلِيَاء والعباد ذكره أَبُو نعيم فِي الْحِلْية وَابْن الْجَوْزِيّ فِي صفة الصفوة وَقَالَ إِنَّه حج مئة حجَّة مَا بَين عمْرَة وَحجَّة وَكَانَ يَقُول مَا سرني أَن أَمْرِي يَوْم الْقِيَامَة إِلَى أَبَوي أسْند عَن معَاذ وَعمر وَعلي وَابْن مَسْعُود وَأبي أَيُّوب وَأبي مَسْعُود وَعقبَة بن عَمْرو وَعبد الله بن عمر وَأبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس فِي آخَرين وَكَانَت وَفَاته غَالِبا فِي الْكُوفَة سنة أَربع وَقيل سنة خمس وَسبعين وَمِنْهُم الْأسود بن يزِيد بن قيس بن عبد الله وَكَانَ يكنى أَبَا عَمْرو وَقَالَ فِي صفة الصفوة كَانَ يخْتم الْقُرْآن فِي كل لَيْلَتَيْنِ(1/84)
من رَمَضَان ويختمه فِي كل سِتّ من غَيره وَحج ثَمَانِينَ حجَّة مَا بَين عمْرَة وَحجَّة وَكَانَ يجْهد نَفسه بِالصَّوْمِ حَتَّى يخضر جسده ويصفر فَيَقُول لَهُ عَمه عَلْقَمَة بن قيس لم تعذب هَذَا الْجَسَد فَيَقُول إِن الْأَمر جد إِن الْأَمر جد
وَكَانَ يُقَال انْتهى الزّهْد إِلَى ثَمَانِيَة فيعد هَذَا مِنْهُم فَلَمَّا احْتضرَ بَكَى فَقيل لَهُ مِم تجزع فَقَالَ وَمن أَحَق بذلك مني وَالله لَو أتيت بالمغفرة من الله عز وَجل لأهمني الْحيَاء مِنْهُ مِمَّا قد صنعت إِن الرجل ليَكُون بَينه وَبَين الرجل الذَّنب الصَّغِير فيعفو عَنهُ فَلَا يزَال مستحيا مِنْهُ هَذَا فعل من ذهبت إِحْدَى عَيْنَيْهِ من الصَّوْم وَمَا كَانَ إِلَّا رَاهِبًا من الرهبان وَكَانَ لَا يزَال صَائِما
أسْند عَن معَاذ وَأبي بكر وَعمر وَعلي وَابْن مَسْعُود وَأبي مُوسَى وسلمان الْفَارِسِي وَعَائِشَة وَلم يرو عَن عُثْمَان شَيْئا وَفَاته كَانَت بِالْكُوفَةِ سنة خَمْسَة وَسبعين
وَمِنْهُم عَمْرو بن شُرَحْبِيل كنيته أَبُو ميسرَة وَنسبه فِي هَمدَان قَالَ بعض السّلف مَا رَأَيْت همدانيا أحب إِلَيّ أَن أكون فِي مسلاخه من أبي ميسرَة قيل وَلَا مَسْرُوق قَالَ وَلَا مَسْرُوق وَكَانَ يَقُول لَيْت أَنِّي لم أكن شَيْئا قطّ
أسْند عَن معَاذ وَعمر وَابْن مَسْعُود وخباب بن الْأَرَت وَغَيرهم وَلم أجد لَهُ تَارِيخا وَمِنْهُم شُرَيْح بن الْحَارِث بن قيس القَاضِي كنيته أَبُو أُميَّة وَهُوَ بالشين الْمُعْجَمَة مَضْمُومَة وَالرَّاء مَفْتُوحَة ثمَّ الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت سَاكِنة ثمَّ حاء مُهْملَة كَانَ كَبِير الْقدر معدودا فِي عُلَمَاء التَّابِعين ولاه عمر قَضَاء الْكُوفَة فَلم يزل على ذَلِك إِلَى زمن زِيَاد بن أَبِيه ثمَّ استقاله عَنهُ فأقاله بعد أَن استشاره بِمن يحل مَكَانَهُ فَأَشَارَ بِأبي(1/85)
بردة بن أبي مُوسَى وَكَانَ يَقُول سَيعْلَمُ الظَّالِمُونَ حَظّ من يعصوا إِن الظَّالِم يتنظر الْعقَاب والمظلوم ينْتَظر النَّصْر
قَالَ ابْن سِيرِين سَمِعت شريحا يحلف بِاللَّه مَا ترك عِنْده شَيْئا لله فَوجدَ فَقده ثمَّ قَالَ وَلَا أرَاهُ حلف إِلَّا على علم وَقضى على رجل بِإِقْرَارِهِ فَقَالَ قضيت عَليّ بِغَيْر بَيِّنَة فَقَالَ أَخْبرنِي بذلك ابْن أُخْت خَالك وَقَالَ لَهُ ابْن لَهُ إِن بيني وَبَين قوم خُصُومَة فَانْظُر فِي قصتي فَإِن كَانَ الْحق لي خاصمتهم وَإِلَّا تَركتهم
ثمَّ قصّ عَلَيْهِ الْقِصَّة فَقَالَ لَهُ انْطلق فخاصمهم فَانْطَلق وخاصمهم ورافعهم إِلَى أَبِيه فَقضى عَلَيْهِ فَلَمَّا صَار بِالْبَيْتِ عاتبه ابْنه وَقَالَ لَو لم أتقدم إِلَيْك لم ألمك لقد فضحتني
فَقَالَ لَهُ وَالله يَا بني لأَنْت أحب إِلَيّ من ملك الأَرْض وَمِنْهُم وَالله أعز عَليّ مِنْك إِنَّنِي خشيت إِن أَخْبَرتك أَن الْقَضَاء عَلَيْك فتذهب فتصالحهم وَيذْهب بعض حَقهم
وَقَالَ الشّعبِيّ شهِدت شريحا وَقد أَتَتْهُ امْرَأَة تخاصم رجلا فَأرْسلت عينيها بالبكاء فَقلت يَا أَبَا أُميَّة مَا أظنها إِلَّا مظلومة فَقَالَ يَا شعبي إِن أخوة يُوسُف جَاءُوا أباهم عشَاء يَبْكُونَ وافتقد يَوْمًا ابْنا لَهُ فَبعث فِي طلبه فجيء بِهِ فَقَالَ لموصله أَيْن أصبته فَقَالَ يهارش الْكلاب فَقَالَ لِابْنِهِ صليت فَقَالَ فَأرْسلهُ إِلَى الْمُؤَدب وَقَالَ لرَسُوله قل للمؤدب شعرًا ... ترك الصَّلَاة لأكلب يسْعَى لَهَا ... طلب الهراش مَعَ الغواة النحس
فَإِذا أَتَاك فعرضنه بملامة ... وعظه موعظة الصَّبِي الْكيس ...(1/86)
.. وَإِذا هَمَمْت بضربه فبدرة ... وَإِذا ضربت بهَا ثَلَاثًا فاحبس
وَاعْلَم بأنك مَا أتيت فنفسه ... مَعَ مَا تجرعني أعز الْأَنْفس ... وَحكى أَنه خرج يَوْمًا من عِنْد زِيَاد بن أبي فَلَقِيَهُ رجل وَقَالَ لَهُ كبر سنك ودق عظمك وارتشى ابْنك فَرجع إِلَى زِيَاد فَأخْبرهُ فَسَأَلَهُ عَن قَائِل ذَلِك قَالَ لَا أعرفهُ فاعفني قَالَ لَا أعفيك حَتَّى تُشِير عَليّ بِرَجُل أجعله مَكَانك فَقَالَ عَلَيْك بِأبي بردة فاستدعاه زِيَاد وولاه الْقَضَاء وَتُوفِّي سنة سِتّ وَقيل ثَمَان وَسبعين بعد أَن بلغ عمره مئة سنة وثماني سِنِين
أسْند عَن معَاذ وَعلي وَعمر وَغَيرهم
وَمِنْهُم مَسْرُوق بن الأجدع بن مَالك يكنى أَبَا عَائِشَة همداني سرق وَهُوَ صَغِير ثمَّ وجد فَسُمي مسروقا أسلم أَبوهُ وَلَقي مَسْرُوق عمر بن الْخطاب فَقَالَ لَهُ مَا اسْمك قَالَ مَسْرُوق بن الأجدع
وَوَجَدته مضبوطا بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة بِخَط من يعْتَمد ضَبطه فَقَالَ لَهُ عمر إِن الأجدع شَيْطَان أَنْت عبد الرَّحْمَن فَثَبت عَلَيْهِ وَكَانَ مَسْرُوق من أكَابِر التَّابِعين وأفراد الزاهدين كَانَ يَقُول بِحَسب الْمَرْء من الْجَهْل أَن يعجب بِعَمَلِهِ وَحسب الْمُؤمن من الْعلم أَن يخْشَى الله وَقَالَ إِذا بلغ أحدكُم أَرْبَعِينَ سنة فليأخذ حذره من الله عز وَجل وَحج فَلم ينم إِلَّا سَاجِدا حَتَّى رَجَعَ قلت فَإِن قَالَ قَائِل بِأخذ قَول الشَّافِعِي إِنَّه لم ينم لم يكن بِهِ بَأْس فَإِن على قَول الشَّافِعِي الْقَدِيم من نَام فِي شَيْء من أَحْوَال الصَّلَاة كَانَ بِمَنْزِلَة من لم ينم فَلَا ينْتَقض وضوؤه وَلما وجد مِنْهُ شدَّة الِاجْتِهَاد فِي الْعِبَادَة قيل لَهُ لَو أَنَّك قصرت عَن الْكَلَام على بعض مَا تصنع فَقَالَ وَالله لَو أَتَانِي آتٍ فَأَخْبرنِي أَن الله لَا يُعَذِّبنِي لاجتهدت فِي الْعِبَادَة قيل لَهُ فَكيف ذَلِك قَالَ حَتَّى(1/87)
تعذرني نَفسِي إِن دخلت جَهَنَّم لَا ألومها أما بلغك قَوْله تَعَالَى فَلَا أقسم بِالنَّفسِ اللوامة إِنَّمَا لاموا أنفسهم حِين صَارُوا إِلَى جَهَنَّم واعتنقتهم الزَّبَانِيَة وحيل بَينهم وَبَين مَا يشتهون وانقطعت عَنْهُم الْأَمَانِي وَرفعت عَنْهُم الرَّحْمَة وَأَقْبل كل امْرِئ مِنْهُم يلوم نَفسه قَالَ إِنِّي أحسن مَا أكون ظنا حِين يَقُول الْخَادِم لَيْسَ فِي قلب الْبَيْت قفيز وَلَا دِرْهَم وَقَالَ إِن الْمَرْء لحقيق أَن يكون لَهُ مجَالِس يَخْلُو فِيهَا ويتذكر ذنُوبه ويستغفر مِنْهَا مَاتَ بِالْكُوفَةِ سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ إِسْنَاده عَن معَاذ وَعمر وَعلي وَابْن مَسْعُود وخباب وَأبي وَزيد بن ثَابت والمغيرة وَعبد الله بن عمر وَعَائِشَة
وَقد صحب معَاذًا غير هَؤُلَاءِ من أهل الْيمن غير أَن هَؤُلَاءِ جماهيرهم والمفتون مِنْهُم وَصَحبه مُنَبّه بن كَامِل وَالِد وهب وَقد أطلت الْكَلَام فِي ذكر معَاذ وَأَصْحَابه اليمنيين وَحِينَئِذٍ أشرع بِذكر أهل طبقته أَيْضا فهم جمَاعَة مِنْهُم أَبُو مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ معدودا فِي فُقَهَاء الصَّحَابَة أَصله من الْيمن من وَادي زبيد وَفِي الْوَادي أَرض تعرف بِهِ إِلَى الْآن
وَهُوَ أحد من بَعثه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مفقها لأهل الْيمن وَلما خدعه عَمْرو بن الْعَاصِ نزل شعبًا بِمَكَّة فِيهِ شَيْء من الْقُبُور يعرف بشعب أبي الدّرّ وَقَالَ أجاور قوما لَا يغدرون وَلم يزل حَتَّى توفّي فِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وَقيل سنة خمسين وَقيل توفّي بِالْكُوفَةِ
وانقضى ذكر الْفُقَهَاء من الصَّحَابَة الَّذين دخلُوا الْيمن وَمن طبقتهم جمَاعَة أدركوا زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يجتمعوا بِهِ وَأَسْلمُوا وصاروا عُلَمَاء بأخذهم عَن الصَّحَابَة وعاملين مِنْهُم أويس بن عَامر بن جُزْء بن مَالك بن عَمْرو بن سعد بن عَمْرو بن حوران بن عصوان بن قرن بن ردمان بن وَائِل بن الْغَوْث بن جيدان بن قطن بن عريب بن زُهَيْر بن أَيمن بن الهميسع بن حمير وَفِي اسْم أَبِيه وَنسبه اخْتِلَاف هَذَا أَصَحه عِنْد أهل الْيمن وجده قرن بِفَتْح الْقَاف وَالرَّاء بطن من مُرَاد وَهُوَ قرن بن ردمان بن نَاجِية(1/88)
وَيُقَال إِن مُرَاد اسْمه زيد بن مَالك بن أدد بن يشجب بن يعرب بن زيد بن كهلان بن سبأ هَكَذَا ذكره النواوي فِي شرح مُسلم وَهَذَا وَإِن لم يكن من أصل شرطنا مِمَّن رَأس ودرس فَهُوَ مِمَّن رَأس بِمَعْرِِفَة الله وَقدس وَكَانَ يَقْصِدهُ الصَّحَابَة لكنه يكره الشُّهْرَة وَلم يمنعهُ من الْوُصُول إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحَيَاة غير أَنه كَانَت لَهُ وَالِدَة هُوَ بر بهَا وَكَانَ يكره فراقها خشيَة أَن يعقها
ثَبت بأسانيد متواترة فِي الْكتب الصِّحَاح أَن عمر بن الْخطاب كَانَ إِذا أَتَت عَلَيْهِ أَمْدَاد أهل الْيمن قَالَ لَهُم هَل فِيكُم أويس بن عَامر حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ
قَالَ أَنْت أويس قَالَ نعم
قَالَ هَل لَك وَالِدَة قَالَ نعم
قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول يَأْتِي إِلَيْكُم أويس بن عَامر مَعَ أَمْدَاد أهل الْيمن من مُرَاد ثمَّ من قرن كَانَ بِهِ برص فبرئ مِنْهُ إِلَّا مَوضِع دِرْهَم لَهُ وَالِدَة هُوَ بهَا بر لَو أقسم على الله عز وَجل لَأَبَره فَإِن اسْتَطَعْت يَا عمر أَن يسْتَغْفر لَك فافعل فَاسْتَغْفر لي فَاسْتَغْفر لَهُ ثمَّ قَالَ لَهُ أَيْن تُرِيدُ قَالَ الْكُوفَة
قَالَ أَلا أكتب لَك إِلَى عاملها أستوصيه بك قَالَ لِأَن أكون فِي غبر النَّاس أحب إِلَيّ ثمَّ سَافر فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَام الْمقبل حج رجل من أَشْرَافهم فوافقه عمر فَسَأَلَهُ عَن أويس كَيفَ تَركه قَالَ رث الثِّيَاب قَلِيل الْمَتَاع فَقَالَ عمر سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول يَأْتِي عَلَيْكُم أويس بن عَامر مَعَ أَمْدَاد أهل الْيمن من مُرَاد ثمَّ من قرن كَانَ بِهِ برص فبرئ مِنْهُ إِلَّا مَوضِع دِرْهَم لَهُ وَالِدَة هُوَ بهَا بر لَو أقسم على الله لَأَبَره فَإِن اسْتَطَعْت أَن يسْتَغْفر لَك فافعل فَلَمَّا قدم الرجل الْكُوفَة أَتَى أويسا وَقَالَ اسْتغْفر لي فَقَالَ لَهُ أَنْت أحدث عهد بسفر صَالح فَاسْتَغْفر لي ألقيت عمر نعم
فَاسْتَغْفر لَهُ ثمَّ فطن لَهُ النَّاس فَصَارَ يكثر التواري مِنْهُم والتغيب وكساه بَعضهم كسَاء فَكَانَ إِذا رَآهُ إِنْسَان قَالَ من أَيْن لأويس هَذَا الكساء قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي صفة الصفوة انْفَرد بِإِخْرَاج هَذَا الحَدِيث مُسلم وَأورد ابْن(1/89)
الْجَوْزِيّ فِيهَا من مناقبه كثيرا من ذَلِك قصَّته مَعَ هرم بن حَيَّان وَهِي طَوِيلَة غير أَن مِنْهَا أَن هرم لما بلغه قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يدْخل الْجنَّة بشفاعة أويس مثل ربيعَة وَمُضر قَالَ قدمت الْكُوفَة فِي طلبه فَوَجَدته جَالِسا على شاطئ الْفُرَات نصف النَّهَار يتَوَضَّأ فعرفته بالنعت الَّذِي نعت لي وَإِذا بِهِ رجل نحيل آدم شَدِيد الأدمة محلوق الرَّأْس مهيب المنظر فَسلمت عَلَيْهِ فَرد وَنظر إِلَيّ فمددت يَدي لأصافحه فَأبى فَقلت رَحِمك الله يَا أويس وَغفر لَك كَيفَ أَنْت ثمَّ خنقتني الْعبْرَة من حبي لَهُ ورقتي لما رَأَيْت من حَاله حَتَّى بَكَيْت وَبكى
ثمَّ قَالَ وَأَنت حياك الله يَا هرم بن حَيَّان كَيفَ أَنْت يَا أخي من دلك عَليّ قلت الله
قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله سُبْحَانَ الله رَبنَا إِن كَانَ وعد رَبنَا لمفعولا فَقلت من أَيْن عرفت اسْمِي وَاسم أبي وَمَا رَأَيْتُك قبل الْيَوْم وَلَا رَأَيْتنِي قَالَ أنبأني الْعَلِيم الْخَبِير عرف روحي روحك حِين كلمت نَفسِي نَفسك إِن الْمُؤمنِينَ يعرف بَعضهم بَعْضًا ويتحابون بِروح الله وَإِن لم يلتقوا وَإِن ناءت بهم الدَّار وَتَفَرَّقَتْ بهم الْمنَازل فَقلت لم لم تُحَدِّثنِي رَحِمك الله عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِنِّي لم أدْرك رَسُول الله وَلم يكن لي مَعَه صُحْبَة بِأبي هُوَ وَأمي وَلَكِنِّي قد رَأَيْت رجَالًا رَأَوْهُ وَلست أحب أَن أفتح على نَفسِي هَذَا الْبَاب لَا أكون مُحدثا وَلَا مفتيا وَلَا قَاصا فِي نَفسِي شغل عَن النَّاس ثمَّ كَانَ بَينهمَا حَدِيث يطول شَرحه من جملَته أَنه أخبر هرم بِمَوْت عمر قَالَ لَهُ هرم إِن عمر لم يمت قَالَ بلَى نعاه إِلَيّ رَبِّي عز وَجل ونعى إِلَيّ نَفسِي ثمَّ دَعَاني وأوصاني أَن لَا أُفَارِق الْجَمَاعَة وَقَالَ إِن فَارَقْتهمْ فَارَقت دينك وَأَنت لَا تعلم وَدخلت النَّار ثمَّ قَالَ لَا أَرَاك بعد الْيَوْم فَإِنِّي أكره الشُّهْرَة والوحدة أحب إِلَيّ لِأَنِّي كثير الْغم مَا دمت مَعَ هَؤُلَاءِ النَّاس حَتَّى لَا يسْأَل عني وَلَا يطلبني أحد وَأعلم أَنَّك مني على بَال وَإِن لم أرك وترني واذكرني وادع لي فَإِنِّي سأدعو لَك وأذكرك إِن شَاءَ الله فَانْطَلق أَنْت هَاهُنَا حَتَّى آخذ أَنا هَاهُنَا فحرصت على أَن أَمْشِي مَعَه سَاعَة فَأبى عَليّ ففارقته أبْكِي ويبكي وَجعلت أنظر إِلَيْهِ حَتَّى دخل بعض السكَك ثمَّ كنت أسأَل عَنهُ بعد ذَلِك فَلم أجد مخبرا وَمَا أَتَت عَليّ جُمُعَة إِلَّا ورأيته فِي مَنَامِي مرّة أَو مرَّتَيْنِ وَأسْندَ ابْن الْجَوْزِيّ بِكِتَاب الصفوة إِلَى أَسِير بن جَابر أَنه قَالَ كَانَ أويس إِذا حدث(1/90)
يَقع حَدِيثه فِي قُلُوبنَا موقعا مَا يَقع حَدِيث غَيره مثله وَأسْندَ أَيْضا عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ مر رجل من مُرَاد على أويس الْقَرنِي فَقَالَ لَهُ كَيفَ أَصبَحت قَالَ أَحْمد الله عز وَجل قَالَ كَيفَ الزَّمَان عَلَيْك قَالَ كَيفَ هُوَ على رجل إِن أصبح ظن أَنه لَا يُمْسِي وَإِن أَمْسَى ظن أَنه لَا يصبح فمبشر بِالْجنَّةِ أَو بالنَّار يَا أَخا مُرَاد إِن الْمَوْت وَذكره لم يتْرك لمُؤْمِن فَرحا وَإِن علمه بِحُقُوق الله لم يتْرك لَهُ فضَّة وَلَا ذَهَبا وَإِن قِيَامه لله بِالْحَقِّ لم يتْرك لَهُ صديقا
وَأسْندَ أَيْضا إِلَى عمر بن الْأَصْبَغ أَنه قَالَ لم يمْنَع أويسا عَن الْقدوم إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا مَا كَانَ من بره بِأُمِّهِ فقد بَان لَك بِمَا ذَكرْنَاهُ هُنَا صِحَة مَا تقدم من أَنه لم يتَأَخَّر عَن الالتقاء بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا مَا كَانَ من بره بِأُمِّهِ
ثمَّ إِنَّه كَانَ عَالما غير أَنه كَانَ كَمَا قَالَ لهرم لَا أحب أَن أكون قَاصا وَلَا مُحدثا وَلَا مفتيا رَغْبَة فِي الخمول وميلا عَن الشُّهْرَة
وَأسْندَ ابْن الْجَوْزِيّ أَيْضا عَن النَّضر بن إِسْمَاعِيل أَنه قَالَ كَانَ أويس يلتقط الْكسر من الْمَزَابِل فيغسلها وَيَأْكُل بَعْضهَا وَيتَصَدَّق بِبَعْضِهَا وَيَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي أبرئ إِلَيْك من كل كبد جَائِع وَلما هم بالفراق لهرم قَالَ لَهُ أوصني قَالَ يَا هرم توسد الْمَوْت إِذا نمت واجعله نصب عَيْنك مَتى قُمْت وادع الله أَن يصلح قَلْبك ونيتك وَلنْ تعالج شَيْئا أَشد عَلَيْك مِنْهُمَا بَينا قَلْبك مقبل إِذْ هُوَ مُدبر وَبينا هُوَ مُدبر إِذْ هُوَ مقبل وَلَا تنظر فِي صغر الْمعْصِيَة وَلَكِن انْظُر إِلَى عَظمَة غضب الله
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ كَانَ أويس مَشْغُولًا بِالْعبَادَة عَن الرِّوَايَة غير أَنه قد أرسل الحَدِيث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْفَظُونِي فِي أَصْحَابِي فَإِن من أَشْرَاط السَّاعَة أَن يلعن آخر هَذِه الْأمة أَولهَا وَعند ذَلِك يَقع المقت على الأَرْض وَأَهْلهَا فَمن أدْرك ذَلِك فليضع سَيْفه على عَاتِقه ثمَّ ليلق ربه عز وَجل شَهِيدا فَإِن لم يفعل فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه
وَكَانَت وَفَاته على الشَّهَادَة يَوْم صفّين فِي أَصْحَاب عَليّ كرم الله وَجهه فِي(1/91)
شهور سبع وَثَلَاثِينَ وَقَالَ الْحَافِظ عبد الْحق فِي مشتبه النِّسْبَة إِنَّه أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل وجوده وَشهد مَعَ عَليّ صفّين وَكَانَ من خِيَار النَّاس وَقيل إِنَّه توفّي فِي زمن عمر وَالْأول أصح بِدَلِيل يَوْم هرم أَنه نعى إِلَيّ رَبِّي عمر
وَمِنْهُم كَعْب بن ماتع عرف بكعب الْأَحْبَار من حمير نسبا وَفِي الدّين يَهُودِيّا قَالَ نشوان فِي شمس الْعُلُوم كَانَ من عُلَمَاء التَّابِعين من حمير ثمَّ من آل ذِي رعين وَهُوَ من المخضرمين بخاء مُعْجمَة مَفْتُوحَة وضاد مُعْجمَة سَاكِنة ثمَّ رَاء مخفوضة ثمَّ مِيم بعْدهَا يَاء وَنون قَالَ ابْن خلكان وَقد سمع بِالْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء وأصل ذَلِك يُطلق على من أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام ثمَّ كثر اسْتِعْمَاله فِيمَن أدْرك دولتين خرج كَعْب من الْيمن يُرِيد الْمَدِينَة ويتحقق أَحْوَال الْإِسْلَام فَقَدمهَا زمن عمر فَعلم صِحَة الْإِسْلَام بعلامات يعرفهَا وَأسلم ثمَّ خرج إِلَى الشَّام فِي إِسْلَامه خلاف مَا ذَكرْنَاهُ وَهُوَ وهم مِنْهُ إِذْ حدث مَا ذكرته هُنَا من كتب الْحَافِظ المقبول نقلهم كَأبي نعيم صَاحب الْحِلْية وَابْن الْجَوْزِيّ فِي صفة الصفوة والواقدي مطعون فِي رِوَايَته
وَمِنْهُم مُنَبّه بن كَامِل وَالِد وهب الْآتِي ذكره صحب معَاذًا وَقد عددته من أَصْحَابه
وَمِنْهُم عبد الرَّحْمَن بن بزرج كَانَ كَبِير الْقدر شهير الذّكر كَانَ من توفيقه أَيَّام الْجَاهِلِيَّة أَنه كَانَ يدْخل فِي جمَاعَة من فتيَان صنعاء على ابْنة باذام رَئِيس الْفرس وَكلهمْ يسْجد لَهَا دونه فَكَانَت تضربه لذَلِك ثمَّ لما جَاءَ الْإِسْلَام كَانَ من أحْسنهم لَهُ تعرفا وأقرئهم لكتاب الله وأقومهم بحقوقه وَلَقَد كَانَ أهل صنعاء يعْجبُونَ مِنْهُ وَمن اجْتِهَاده وَأُخْته أم سعيد ابْنة بزرج الَّتِي كَانَ ينزل عِنْدهَا أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ(1/92)
جد قوم بِصَنْعَاء يعْرفُونَ ببني الشيعي قَالَه الرَّازِيّ مِنْهُم صَاحب الدعْوَة للفاطميين بالمغرب وَأَخُوهُ النُّعْمَان أسلم وَهُوَ ابْن ثَلَاثِينَ سنة وَعمر طَويلا تسعين سنة فِي الْإِسْلَام سَأَلَهُ عبد الْملك قَالَ أَيْن كنت يَوْم قتل الْكذَّاب قَالَ احتملت أُمِّي على عنقِي حَتَّى أدخلتها قصر غمدان مَعَ المتفرجين فَقَالَ عبد الْملك حِينَئِذٍ لرجل
ثمَّ صَار الْعلم إِلَى طبقَة ثَانِيَة من عُلَمَاء الْيمن
مِنْهُم أَبُو عبد الرَّحْمَن طَاوُوس بن أبي حنيفَة كيسَان وَقيل ذكْوَان ولقب بطاووس لِأَنَّهُ كَانَ طَاوُوس قراء وفتيا من أَصْحَاب عَليّ وَابْن عَبَّاس وَأجْمع الْحفاظ كَابْن الْجَوْزِيّ والحافظ أبي نعيم والرازي وَغَيرهم أَنه كَانَ مَسْكَنه الْجند حَتَّى قَالَ بَعضهم الْجند بِفَتْح الْجِيم وَالنُّون من مخاليف الْيمن مولده فِي خلَافَة أبي بكر
قَالَ الرَّازِيّ سُئِلَ ابْنه عبد الله مِمَّن أَنْتُم فَإِنَّهُ بلغنَا أَنكُمْ إِلَى هَمدَان فَقَالَ لَا وَلَكِن إِلَى خولان وَإِنَّمَا تزوج جد طَاوُوس مولاة لآل هَوْذَة الحميريين فسموا موَالِي لَهُم وَلَيْسوا بموال وَقد أورد جمَاعَة من الْفُضَلَاء من أَخْبَار طَاوُوس نبذا وَلَكِن عولت من ذَلِك على مَا رَوَاهُ الرَّازِيّ فَإِنَّهُ أخبر بِأَهْل الْيمن إِذْ هُوَ مِنْهُم مولدا ومنشأ وَقد تقدم ذكره(1/93)
قَالَ كَانَ طَاوُوس فَقِيها زاهدا ورعا مُحدثا عابدا ناسكا أدْرك خمسين من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحَيْثُ صحبهم وَأخذ عَنْهُم مِنْهُم عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر ومعاذ بن جبل وَأَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح وَزيد بن ثَابت وَأَبُو هرير ومعظم أَخذه عَن الْأَوَّلين قيل لِعبيد الله بن أبي زيد مَعَ من كنت تدخل على ابْن عَبَّاس فَقَالَ مَعَ عطا والعامة قيل لَهُ فطاووس قَالَ أيهات كَانَ ذَلِك يدْخل مَعَ الْخَواص وَكَانَ عَمْرو بن دِينَار الْآتِي ذكره إِذا ذكر عِنْده طَاوُوس يَقُول مَا رَأَيْت مثله
وروى عَنهُ جمَاعَة من التَّابِعين كمجاهد وَعَطَاء وَعَمْرو بن دِينَار وَابْن الزبير وَابْن الْمُنْكَدر وَابْن مُنَبّه وَالزهْرِيّ مَعَ جمع غَيرهم لَا يُحصونَ كَثْرَة
وَمن رِوَايَته المستحسنة مَا قَالَه الرَّازِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول سَمِعت جَابر بن عبد الله ومعاذ بن جبل وَأَبا عُبَيْدَة بن الْجراح يَقُولُونَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن يخرج الرجل من بَيته صَلَاة الْغَدَاة فيجلس فِي مَجْلِسه يعلم الغلمان السكينَة وَالْوَقار وَحسن الْأَدَب أحب إِلَى الله من أَن يعبده مئتي خريف لَا يسْخط الله عَلَيْهِ وَعرضت هَذَا الْخَبَر على بعض الْفُقَهَاء فَقَالَ لي انْظُر إِلَى أدب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الْخَبَر كَيفَ لم ينْسب إِلَى الْمعلم غير تَعْلِيم السكينَة وَالْوَقار وَحسن الْأَدَب تأدبا مَعَ الله إِذْ قَالَ الله {الرَّحْمَن علم الْقُرْآن} قَامَ طَاوُوس بِقَضَاء مخلافي الْجند وَصَنْعَاء وَكَانَ يخْتَلف بَينهمَا وَله فِي صنعاء مَسْجِد يعرف بِهِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُقيم بِهِ أَيَّام لبثه بِصَنْعَاء وَلذَلِك يتَوَهَّم جمَاعَة أَن بَلَده صنعاء وَكَانَ ابْن عَبَّاس إِذا سُئِلَ عَنهُ قَالَ ذَلِك عَالم الْيمن
وَكَانَ وُلَاة الْيمن يعولون فِي أُمُورهم الدِّينِيَّة على قَوْله وَذَلِكَ عَن وصاة من مواليهم غَالِبا فَإِنَّهُ قد كَانَ شهرفي الْبَلَد أَنه إِمَام وقته وفقيه مصره وَكَانَ مَتى قيل لَهُ(1/94)
أمؤمن أَنْت يَقُول آمَنت بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله لَا يزِيد وَكَانَ يَقُول اجتنبوا القَوْل فِي الْقدر فَإِن الْمُتَكَلِّمين فِيهِ لَا بُد من بَيَان مَا يَقُولَانِ بِمَا يتكلمان بِغَيْر علم
خرج ذَات يَوْم من مَدِينَة الْجند يُرِيد أَرضًا لَهُ فَمشى مَعَه رجل يُرِيد الْبركَة فنعق غراب فَقَالَ الرجل على طَرِيق الْعَادة والزجر خير خير فَغَضب طَاوُوس وَقَالَ أَي خير عِنْد هَذَا أَو شَرّ يَا جَاهِل لَا تصحبني وَلَا تسر معي
وَذكر ابْن الْجَوْزِيّ فِي صفة الصفوة أَنه صلى الْغَدَاة بِوضُوء الْعشَاء أَرْبَعِينَ سنة وَقَالَ لَقِي عِيسَى ابْن مَرْيَم إِبْلِيس فَقَالَ يَا عِيسَى أما تعلم أَنه لن يصيبك إِلَّا مَا قد قدر عَلَيْك قَالَ نعم قَالَ ارق ذرْوَة هَذَا الْجَبَل فَترد مِنْهُ ثمَّ انْظُر هَل تعيش أم لَا فَقَالَ عِيسَى أوما علمت أَن الله تَعَالَى يَقُول لَا يجربني عَبدِي فَإِنِّي أفعل مَا أَشَاء وَكَانَ يَقُول من السّنة أَن يوقر أَرْبَعَة الْوَالِد والعالم وَذُو شيبَة وَالسُّلْطَان
وَكَانَ يكره الْبَقَاء على الْقُبُور والتغوط عِنْدهَا وَيَقُول لَا تَتَّخِذُوا قُبُور إخْوَانكُمْ حشانا قلت الحشان جمع حش كحش وحشان وَقَالَ معنى قَوْله تَعَالَى {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} التثبيت فِي الدُّنْيَا لَا إِلَه إِلَّا الله وَفِي الْآخِرَة عِنْد المساءلة فِي الْقَبْر وَقَالَ أهل الْجنَّة ينْكحُونَ وَلَا يمنون لَيْسَ بهَا مني
وَقَالَ أعطي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْجِمَاع قُوَّة خَمْسَة وَأَرْبَعين وَقَالَ لعطاء بن أبي رَبَاح يَا عَطاء لَا تتركن حَاجَتك لمن يغلق دُونك أبوابه وَيجْعَل عَلَيْهَا حجابه وَلَكِن أنزلهَا بِمن بَابه لَك مَفْتُوح إِلَى يَوْم الْقِيَامَة أَمرك أَن تَدْعُو لَهُ بدعوة ضمن لَك أَن يستجيب لَك
وَذكر ابْنه عبد الله وَهُوَ أحد أَئِمَّة الْيمن أَيْضا أَن أَبَاهُ تصدق بأرضه أَو بِبَعْضِهَا على فُقَرَاء أَهله وَإِن لم يكن فيهم فَقير فعلى الْمَسَاكِين من غَيرهم ثمَّ شكّ فِي حسن ذَلِك فَاجْتمع بِحجر المدري وَكَانَ عَالما من أَصْحَاب عَليّ كرم الله وَجهه وَسَيَأْتِي ذكره وَسَأَلَهُ فَقَالَ فعلت حسنا إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَن تصرف صدقته على فُقَرَاء أَهله وَقَالَ كَانَ أبي إِذا سُئِلَ عَن صَحَابِيّ أورد من فَضله حَتَّى يَقُول سامعه هَذَا لَا يعرف إِلَّا هَذَا
وَله مسانيد ومراسيل فَمن مراسيله قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إيَّاكُمْ وَالْخُرُوج بعد هدأة اللَّيْل فَإِن لله دوابا يبثها فِي الأَرْض تفعل مَا تُؤمر فَإِذا سمع أحدكُم نهاق الْحمير أَو نباح الْكلاب فليستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم فَإِنَّهُم يرَوْنَ مَا لَا ترَوْنَ
وَمِنْهَا إِذا ذكر(1/95)
أَصْحَابِي فأمسكوا وَإِذا ذكر الْقدر فأمسكوا وَإِذا ذكر النُّجُوم فأمسكوا وَمِنْهَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو كَانَ لدي مثل أحد ذَهَبا لأحببت أَن لَا تمر بِي ثَلَاث وَعِنْدِي مِنْهُ إِلَّا مَا أرصده لدين
وَمِنْهَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرَّحِم شُعْبَة من الرحمان تَجِيء يَوْم الْقِيَامَة تَتَكَلَّم بِلِسَان طلق فَمن أشارت إِلَيْهِ بوصل وَصله الله وَمن أشارت إِلَيْهِ بِقطع قطعه الله
وَقَالَ كَانَ ابْن عَبَّاس مَتى سُئِلَ عَن رجل طلق امْرَأَته ثَلَاثًا يَقُول لَو اتَّقى فَاعل ذَلِك لَكَانَ جعل الله لَهُ مخرجا
قَالَ وَسُئِلَ أَيْضا عَن إتْيَان الْمَرْأَة من الدبر فَقَالَ هَذَا سُؤال عَن الْكفْر وَكَانَ مُعظما فِي أهل زَمَانه
حكى أَنه اجْتمع بِمَكَّة بِجَمَاعَة من الْعلمَاء كالحسن الْبَصْرِيّ وَعَمْرو بن دِينَار وَمَكْحُول الشَّامي وَسليمَان بن مُحَمَّد الضَّحَّاك وَكَانُوا حِينَئِذٍ بِمَسْجِد الْخيف بمنى فتذاكروا الْقدر حَتَّى ارْتَفَعت أَصْوَاتهم وَكثر لغطهم فَقَالَ طَاوُوس وَكَانَ فيهم رَضِيا وَقَالَ أَنْصتُوا أخْبركُم مَا سَمِعت فأنصتوا فَقَالَ سَمِعت أَبَا الدَّرْدَاء يخبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله افْترض عَلَيْكُم فَرَائض فَلَا تضيعوها وحد لكم حدودا فَلَا تعتدوها ونهاكم عَن أَشْيَاء فَلَا تنتهكوها وَسكت عَن أَشْيَاء من غير نِسْيَان فَلَا تتكلفوها رَحْمَة بكم من ربكُم فاقبلوها تَقول مَا قَالَ رَبنَا عز وَجل وَنَبِينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأُمُور كلهَا بيد الله وَمن عِنْد الله مصدرها وَإِلَيْهِ مرجعها لَيْسَ للْعَبد فِيهَا تَفْوِيض وَلَا مَشِيئَة فَقَامَ الْقَوْم وهم راضون بِكَلَامِهِ
وَقعد إِلَيْهِ أَيُّوب بن سُلَيْمَان بن عبد الْملك وَأَبوهُ إِذْ ذَاك خَليفَة فَلم يحتفل بِهِ بل قَامَ نافرا فَقيل لَهُ جلس إِلَيْك ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ فَلم تلْتَفت إِلَيْهِ فَقَالَ أردْت أَن أعلمهُ أَن لله عبادا يزهدون بِهِ وبأبيه وَبِمَا فِي أَيْديهم
وَكَانَ من أَشد النَّاس ورعا وتنزها عَن مَا فِي أَيدي الْمُلُوك وَغَيرهم
وَكَانَ يكره الْأُمَرَاء ويحذر صحبتهم وَلَا يرى بِجَوَاز الصَّلَاة خَلفهم وَلَا يقبل لَهُم عَطاء وَلَا(1/96)
يشرب من الْمِيَاه الَّتِي أحدثتها الْمُلُوك بِمَكَّة وطرقاتها حَتَّى أَن بغلته هوت للشُّرْب من بَعْضهَا فَمنعهَا وكبحها باللجام
وَقد أورد الْغَزالِيّ فِي الْإِحْيَاء والرازي قصَّة عَجِيبَة لَهُ مَعَ هِشَام بن عبد الْملك شهرتها تغني عَن ذكرهَا وَقَالَ فِي صفة الصفوة دخل طَاوُوس ووهب على مُحَمَّد بن يُوسُف أخي الْحجَّاج وَهُوَ إِذْ ذَاك أَمِير أَمِير الْمُؤمنِينَ فأجل طاووسا وبجله وَأَقْعَدَهُ على كرْسِي ثمَّ قَالَ يَا غُلَام هَلُمَّ بالطيلسان فألقه على أبي عبد الرَّحْمَن فجَاء بِهِ فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ فَجعل يُحَرك كَتفيهِ حَتَّى أَلْقَاهُ فَتبين الْغَضَب فِي وَجه الْأَمِير ثمَّ لما خرجا قَالَ لَهُ وهب وَالله إِن كنت لغنيا أَن تغضبه علينا لَو أخذت الطليسان فَبِعْته وَأعْطيت ثمنه الْمَسَاكِين فَقَالَ نعم لَوْلَا أَخَاف أَن يُقَال من بعدِي أَخذه طَاوُوس فَلَا يصنع فِيهِ مَا أصنع لفَعَلت
وَأمر لَهُ مُحَمَّد أَيْضا بِشَيْء من المَال وَقَالَ للرسول إِن أَخذه مِنْك فلك مني كَذَا فَلَمَّا وصل الرَّسُول إِلَيْهِ قَالَ يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن إِن الْأَمِير قد وصلك بِمَال وخصك بجعلة من وَجه حَلَال فَقَالَ لَا حَاجَة لي بِهِ أعده إِلَيْهِ
فغافله الرجل ثمَّ تَركه بكوة فِي الْبَيْت من غير علم مِنْهُ وَلَا من غَيره ثمَّ عَاد الرَّسُول فَأخْبر الْأَمِير أَن المَال صَار إِلَى طَاوُوس فَأعْطَاهُ مَا شَرط
ثمَّ بعد ذَلِك بِمدَّة بلغ الْأَمِير أَن طَاوُوس تكلم فِي حَقه كلَاما غير مرضِي فَغَاظَهُ ذَلِك فَطلب الرَّسُول الَّذِي بَعثه بِالْمَالِ وَقَالَ اذْهَبْ إِلَى طَاوُوس واطلب مِنْهُ المَال الَّذِي بَعَثْتُك بِهِ إِلَيْهِ فوصل إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ فَقَالَ لَا علم لي أَيْن تركته قَالَ بِهَذِهِ الكوة
قَالَ انْظُر بهَا فَنظر وَإِذا بالعنكبوت قد بنت عَلَيْهِ(1/97)
لم يشْعر بِهِ أحد فَأَخذه وَأَعَادَهُ للأمير
وَكَانَ إِذا صلى الْعَصْر مَعَ أَصْحَابه استقبلوا جَمِيعًا الْقبْلَة وابتهلوا بِالدُّعَاءِ وَالذكر وَلم يكلموا أحدا
وَدخل يَوْمًا على مَرِيض يعودهُ فَقَالَ لَهُ الْمَرِيض ادْع لي قَالَ ادْع أَنْت لنَفسك فَإِنَّهُ يُجيب الْمُضْطَر إِذا دَعَاهُ
وَقَالَ إِن الْمَوْتَى يلبثُونَ فِي قُبُورهم سبعا وَلذَلِك كَانُوا يستحبون أَن يطعم عَن الْمَيِّت تِلْكَ الْأَيَّام وَكَانَ كثير الْحَج حَتَّى كَانَ يُقَال إِنَّه حج أَرْبَعِينَ سنة
وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة يَوْم التَّرويَة عقب خُرُوجه من عِنْد هِشَام سنة سِتّ ومئة وَحضر هِشَام جنَازَته وَالصَّلَاة عَلَيْهِ وَلما حَضرته الْوَفَاة أوصى إِلَى ابْنه فَقَالَ مَتى وَضَعتنِي فِي اللَّحْد ونصبت عَليّ اللَّبن وَلم يبْق غير يسير انظرني فَإِن وجدتني فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون وَإِن لم تجدني فاحمد الله
فَفعل ابْنه ذَلِك فَلم يعرف الْحَال إِلَّا بتهلل وَجهه وَبلغ عمره بضعا وَتِسْعين سنة
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله وهب بن مُنَبّه بن كَامِل بن سنسخ بسينين مهملتين مفتوحتين بَينهمَا نون سَاكِنة ثمَّ خاء مُعْجمَة بعد السِّين الْآخِرَة وَمَعْنَاهُ بلغَة الْفرس الأسوارى أَي الْأَمِير كالبطريق عِنْد الرّوم والقيل عِنْد الْعَرَب وَقد ذكر الرَّازِيّ نسبه إِلَى مُلُوك الْفرس الْمُتَقَدِّمين
ثمَّ قَالَ هُوَ أحد أَبنَاء الْفرس الَّذين قدمُوا مَعَ سيف بن ذِي يزن وَكَانَ جده أحد الأكاسرة وَأما أَبوهُ فَهُوَ من أَصْحَاب معَاذ وَقد ذكرته وَكَانَت أمه من ذِي الْخَلِيل الْحِمْيَرِي وَكَانَت تَقول كلَاما بالحميرية مَعْنَاهُ رَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَنِّي ولدت ابْنا من ذهب فأوله أَبوهُ وعبره أَنَّهَا تَلد ولدا عَظِيم الشَّأْن ومولده ومنشأه صنعاء وَقد نسب إِلَى ذمار وَهُوَ خطأ وميلاده سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَقيل سنة ثَلَاثِينَ وَأورد الرَّازِيّ فِي كِتَابه بِسَنَدِهِ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اضْطجع ذَات يَوْم بحجرة عَائِشَة فمرت بِهِ سَحَابَة فَقَالَ يَا عَائِشَة أَتَدْرِينَ أَيْن تُرِيدُ هَذِه السحابة فَقَالَ الله وَرَسُوله أعلم
قَالَ موضعا بِالْيمن يُقَال لَهُ صنعاء يكون فِيهِ وهب يهب الله لَهُ الْحِكْمَة
وَفِي رِوَايَة يؤتيه الله(1/98)
الْحِكْمَة وَفِي أُخْرَى ثلث الْحِكْمَة
قَالَ الرَّازِيّ وروى عبَادَة بن الصَّامِت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ يكون فِي أمتِي رجلَانِ يُقَال لأَحَدهمَا وهب يهب الله لَهُ الْحِكْمَة وَالْآخر غيلَان فتْنَة على أمتِي أَشد من فتْنَة الشَّيْطَان فَكَانَ غيلَان أول من تكلم بِالْقدرِ
وَكَانَ وهب فَقِيها فصيحا مصقعا بليغا فِي الخطابة والفصاحة وَالْمَوْعِظَة لَا يُبَارى وَلَا يجارى لَقِي عشرَة من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَأخذ عَن جَابر والنعمان الأنصاريين وَأبي هُرَيْرَة وَأخذ عَن طَاوُوس وَمُحَمّد بن الْحَنَفِيَّة وَعبد الله بن الزبير وغالب أَخذه عَن ابْن عَبَّاس وَكَانَ يَقُول صَحِبت ابْن عَبَّاس قبل أَن يصاب ببصره ثَلَاث عشرَة سنة وَبعد أَن أُصِيب بِهِ وَإِنِّي مَعَه ذَات يَوْم بِمَكَّة إِذْ قَالَ لي يَا ابْن مُنَبّه قدني إِلَى مجْلِس المراء كَانَ قوم يَجْلِسُونَ بَين بَاب بني جمح إِلَى الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ يَتَكَلَّمُونَ بالجبر وَالْقدر فقدته إِلَيْهِم فَلَمَّا وقف عَلَيْهِم سلم فَردُّوا عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ قَالُوا أَلا تجْلِس رَحِمك الله فَقَالَ وَالله مَا أَنا بجالس إِلَيْكُم أما تعلمُونَ أَن لله عبادا أسكتتهم خشيَة الله من غير عي وَأَنَّهُمْ لَهُم الفصحاء واللطفاء والنجباء الْأَوْلِيَاء إِذا ذكرُوا عَظمَة الله طاشت عُقُولهمْ وَإِذا أشفقوا بِمَا دروا إِلَى الله الْأَعْمَال الزاكية ثمَّ سكت فَقلت لَهُم إِنِّي قَرَأت شَيْئا من السّنة لعد كتب من كتب الله الَّتِي أنزلهَا الله على أنبيائه من السَّمَاء اثْنَيْنِ وَتِسْعين كتابا مِنْهَا اثْنَان وَسَبْعُونَ من الْكَنَائِس وَعِشْرُونَ فِي أَيدي النَّاس لَا يعلمهَا إِلَّا الْقَلِيل وَوجدت فِي جَمِيعهَا أَن من أضَاف إِلَى نَفسه شَيْئا من الْمَشِيئَة(1/99)
فقد كفر وَلَقَد شاركت النَّاس فِي علمهمْ وَعلمت كثيرا مِمَّا لم يعلمُوا وَوجدت أعلم النَّاس بِهَذَا الْأَمر الَّذِي تمترون بِهِ أسكتهم عَنهُ وَرَأَيْت أجهلهم بِهِ أنطقهم وَوجدت النَّاظر فِيهِ كالناظر فِي شُعَاع الشَّمْس كلما ازْدَادَ فِيهَا تأملا ازْدَادَ فِيهَا تحيرا وَكَانَ النَّاس إِذْ ذَاك قد أفاضوا فِي ذكر الْقدر وَقد قَرَأت كتب عبد الله بن سَلام وَكتب كَعْب الْأَحْبَار وقرأت التَّوْرَاة فَوجدت فِيهَا أَنا الله خَالق الْخَيْر ومقدره وطوبى لمن قدرته على يَدَيْهِ وَأَنا خَالق الشَّرّ ومقدره فويل لمن قدرته على يَدَيْهِ من خلقي وقرأت الْإِنْجِيل فَوَجَدته كَذَلِك حج سنة مئة وَحج فِيهَا جمع من الْعلمَاء فيهم الْحسن الْبَصْرِيّ وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَغَيرهمَا فَاجْتمعُوا جَمِيعًا إِلَى مَوضِع بِالْحرم وتذاكروا الْعلم ثمَّ أَرَادوا ذكر الْقدر فَقطع عَلَيْهِم وهب الْكَلَام واستفتح فِي ذكر الْحَمد وَالثنَاء وَلم يزل متكلما بذلك حَتَّى طلع الْفجْر وافترقوا وَلم يخوضوا فِي شَيْء
وَحج مرّة فَلَمَّا صَار بِمَكَّة وَقد اجْتمع فِي الحجيج جمَاعَة من الْعلمَاء فَصنعَ لَهُم عَطاء بن أبي رَبَاح طَعَاما فِي منزله ودعاهم إِلَيْهِ فَلَمَّا أَمْسوا وَكَانَ فيهم الْحسن أَيْضا وَعِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس فَتكلم الْحسن وَغَيره فِي وصف الله وعظمته وجلاله ثمَّ قَالَ لوهب تكلم فَأخذ يتَكَلَّم فِي تَعْظِيم الرب وتنزيهه ثمَّ لم يزل كَذَلِك حَتَّى قَامُوا لصَلَاة الصُّبْح وَلم يحل وهب حبوته فَقَالَ لَهُ عِكْرِمَة يَا أَبَا عبد الله كَانَ لنا فِي أَنْفُسنَا قدر فصغرته عندنَا وَجَاء رجل فَقَالَ إِنِّي سَمِعت فلَانا يشتمك فَغَضب وَقَالَ مَا وجد الشَّيْطَان إِلَيّ رَسُولا غَيْرك
ثمَّ إِن الرجل الْمَنْقُول عَنهُ أَتَى عقب ذَلِك وَسلم عَلَيْهِ وأكرمه وَمد يَده وَصَافحهُ وَأَجْلسهُ إِلَى جنبه وَقَالَ الْإِيمَان عُرْيَان لِبَاسه التَّقْوَى وزينته الحيا وجماله الْفِقْه
وَكَانَ يؤم النَّاس بِقِيَام رَمَضَان ويوتر بهم فَإِذا رفع رَأسه قنت فَيَقُول اللَّهُمَّ رَبنَا لَك الْحَمد الدَّائِم السرمد حمدا لَا يُحْصِيه الْعدَد وَلَا يقطعهُ الْأَبَد كَمَا يَنْبَغِي لَك أَن تحمد وكما أَنْت لَهُ أهل وكما هُوَ لَك علينا ثمَّ يرفع النَّاس أَصْوَاتهم بِالدُّعَاءِ فَلَا يسمع مَا يَقُول وَكَانَ يرفع يَدَيْهِ حِين التَّكْبِير للرُّكُوع وَحين الرّفْع مِنْهُ وَلَا يفعل ذَلِك فِي(1/100)
السُّجُود وَكَانَ الْقُرَّاء من أهل صنعاء إِنَّمَا يقرأون عَلَيْهِ وَكَانُوا حِين يَنْصَرِفُونَ عَن الْجَامِع بعد عصر الْجُمُعَة يقصدونه إِلَى دَاره وَهِي بِالْقربِ من الْجَامِع وَكَانَ الْخُشُوع عَلَيْهِم ظَاهرا وَأثر السُّجُود فِي وُجُوههم فَإِذا أَتَوا دَاره وجدوه قَاعِدا فيسلمون عَلَيْهِ ويقعدون إِلَى جنبه
وَلما وصل كتاب الْحجَّاج إِلَى أَخِيه يَأْمُرهُ فِيهِ أَن يقْرَأ الْعلم على أعلم من يجده فِي صنعاء سَأَلَ عَن ذَلِك فَقيل لَهُ وهب فَأرْسل إِلَيْهِ فَلَمَّا أَتَاهُ أعلمهُ بِكِتَاب أَخِيه ثمَّ شرع يقْرَأ عَلَيْهِ وَقَالَ افْتقدَ النَّاس بِالْمَوْعِظَةِ وخوفهم سطوة الله ونقمته فَكَانَ يفعل ذَلِك ثمَّ إِن مُحَمَّد بن يُوسُف أشرك مَعَه عبد الرَّحْمَن بن يزِيد فَكَانَا يتعاقبان ذَلِك من وعظ صباحا أعقبه الآخر عشَاء ثمَّ إِن وهب استعفى من ذَلِك فأعفي
وَكَانَ مَعَ علمه عابدا يُقَال أَقَامَ أَرْبَعِينَ سنة أَو عشْرين يُصَلِّي الصُّبْح بِوضُوء الْعشَاء وَلَقي عَطاء الْخُرَاسَانِي فَقَالَ يَا عَطاء أخْبرت عَنْك أَنَّك تحمل علمك إِلَى أَبْوَاب الْمُلُوك وَأَبْنَاء الدُّنْيَا وَيحك يَا عَطاء تَأتي بَاب من يغلق عَنْك بَابه وَيظْهر لَك فقره ويواري عَنْك غناهُ وَتَدَع من يفتح لَك بَابه وَيظْهر لَك غناهُ وَيَقُول ادعني استجب لَك وَيحك يَا عَطاء أَرض بالدون من الدُّنْيَا مَعَ الْحِكْمَة وَلَا ترض بالدون من الْحِكْمَة مَعَ الدُّنْيَا وَيحك يَا عَطاء إِن كَانَ يُغْنِيك مَا يَكْفِيك فَإِن أدنى مَا فِي الدُّنْيَا يَكْفِيك وَيحك يَا عَطاء إِنَّمَا بَطْنك بَحر من البحور وواد من الأودية وَلَيْسَ يملأه إِلَّا التُّرَاب
وَقَالَ إِن فِي الألواح الَّتِي قَالَ الله تَعَالَى وكتبنا لَهُ فِي الألواح من كل شَيْء يَا مُوسَى اعبدني وَلَا تشرك معي شَيْئا من أهل السَّمَاء وَلَا من أهل الأَرْض فَإِنَّهُم خلقي كلهم وَإِنِّي إِذا أشركت بِي غضِبت وَإِذا غضِبت لعنت واللعنة مني تدْرك الْوَلَد الرَّابِع وَإِذا أَطَعْت رضيت وَإِذا رضيت باركت وَالْبركَة تدْرك الْأمة بعد الْأمة وَقَالَ الصَّدَقَة تدفع ميتَة السوء وتزيد فِي الْعُمر وتزيد فِي المَال وَذكر أهل النُّجُوم يَوْمًا وَقَالَ إِن(1/101)
ضلالتهم لقديمة أوحى الله إِلَى نَبِي اسْمه شُعَيْب كَانَ قومه يتعاطون معرفَة النُّجُوم وَإِدْرَاك المغيبات مر قَوْمك فيسألوا كهانهم وَأهل النُّجُوم فيهم عَن أَمر أُرِيد إحداثه فليخبروني مَا هُوَ فَسَأَلَهُمْ شُعَيْب عَن ذَلِك فَلم يأتوه بِعلم فَقَالَ يَا رب أَنْت أعلم أَنهم لم يهتدوا إِلَى مَا أَمرتنِي بِهِ فَتصدق عَليّ بتعريفه فَقَالَ إِنِّي أُرِيد أَن أَحول الْملك فِي الأذلاء وَالْحكمَة فِي أهل الْجفَاء وأحول الأحلام فِي الْفَدادِين وأبعث أعمى فِي عُمْيَان وَأُمِّيًّا فِي أُمِّيين وَأنزل عَلَيْهِ السكينَة وأؤيده بالحكمة بِحَيْثُ لَو يمر سراج لم يطفئه أَو على قصب الرعراع لم يسمع لَهُ صَوت وَقَالَ الْإِيمَان قَائِد وَالْعَمَل سائق وَالنَّفس بَينهمَا حرون فَإِذا قاد الْقَائِد وَلم يسق السَّائِق اتبعته النَّفس طَوْعًا وَكرها وطاب الْعَمَل وَسُئِلَ عَمَّا يَقُول بعد الطَّعَام فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي أكرمنا وحملنا فِي الْبر وَالْبَحْر ورزقنا من الطَّيِّبَات وفضلنا على كثير مِمَّن خلق تَفْضِيلًا وَقَالَ مَكْتُوب فِي التَّوْرَاة من لم يدار عيشه مَاتَ قبل أَجله وَقَالَ فِي التَّوْرَاة الْأَعْمَى ميت وَالْفَقِير ميت واستشاره رجل فِي رجلَيْنِ خطبا ابْنَته وَقَالَ إِن أَحدهمَا من الموَالِي وَهُوَ ذُو مَال وَالْآخر من هَمدَان لكنه فَقير فَقَالَ لَهُ وهب زوج الْهَمدَانِي فَإِن الْأَمْوَال عوار تذْهب وتجيء والأحساب لَا تذْهب فَانْطَلق الرجل وأزوج الْهَمدَانِي وَكَانَ يَقُول فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا قَلِيل مِنْهُم} مَا كَانَ أقل من الْعشْرَة فَهُوَ قَلِيل وَكَانَ إِذا دخل مَكَّة أَيَّام ابْن الزبير يُكرمهُ ويبجله ويجله وَإِذا دخل عَلَيْهِ فِي مَجْلِسه قَامَ لَهُ وَأَجْلسهُ مَعَه على سَرِيره لَا يفعل ذَلِك لأحد غَيره حَتَّى كَانَ رُؤَسَاء قُرَيْش وَمن يحضرهُ يحسدونه على ذَلِك ثمَّ إِن بعض أَعْيَان قُرَيْش طمح بتخجيل وهب بِأَن يكلمهُ بِشَيْء فِي مجْلِس ابْن الزبير لَا يُطيق الْجَواب عَنهُ فَقَالَ لَهُ أَيْن أمكُم وَكَانَ وهب لَا لحية لَهُ وَمعنى السُّؤَال إِنَّمَا أَنْت شَبيه بِالنسَاء فتساءل عَمَّا يسْأَل عَنهُ النِّسَاء فَأَجَابَهُ وهب مسرعا أمنا هَاجَرت وَأسْلمت مَعَ سُلَيْمَان لله رب الْعَالمين وَلَكِن أخبرنَا أَيْن أمكُم فَسكت الْقرشِي فَقَالَ قل فِي جيدها حَبل من مسد فَقَالَ ابْن الزبير للقرشي هَذَا وهب بن مُنَبّه سيد(1/102)
قومه مَا كَانَ لَك بِكَلَامِهِ من حَاجَة
وامتحن وهب بِالْقضَاءِ فَكَانَ أَصْحَابه يَقُولُونَ لَهُ كنت تخبرنا أَبَا عبد الله بالرؤيا ترَاهَا فَلَا تلبث أَن تكون كَمَا أخبرتنا وَلم نجدك الْيَوْم كَذَلِك فَقَالَ وهب ذهب عني ذَلِك مُنْذُ وليت الْقَضَاء وَكَانَ نقش خَاتمه أصمت تسلم وَأحسن تغنم
وَأما حكاياته فكثيرة لَا تكَاد تحصى وَكَانَت وَفَاته بِصَنْعَاء سنة عشر وَقيل أَربع عشرَة ومئة وَهُوَ ابْن ثَمَانِينَ سنة وَله ولدان ذكرهمَا الرَّازِيّ يرويان عَنهُ وَعَن غَيره وهما عبد الله وَعبد الرَّحْمَن وَقَالَ الرَّازِيّ وجدت بِخَط القَاضِي هِشَام بن يُوسُف حَدثنَا عبد الرحمن بن وهب بن مُنَبّه عَن ابيه قَالَ كتب عمر بن عبد الْعَزِيز فِي رجل من أهل صنعاء بلغه أَنه انْتَفَى من وَلَده أَن يلْحق بِهِ وَأَن يسجن حَتَّى يكون هُوَ الَّذِي يُخرجهُ يَعْنِي الْوَلَد وَأَن يذكر بِهِ فِي الاشتهار وَكتب أَيْضا فِي رجل قتل عبدا أَن يغرم ثمنه ويسجن فَلَا يُرْسل حَتَّى يَأْمر بِإِطْلَاقِهِ وَأَن يذكر بِهِ قلت كَأَنَّهُ يُشِير فِي الأولى أَن يكنى بِالْوَلَدِ الَّذِي انْتَفَى مِنْهُ وَالثَّانيَِة يُسمى بِقَاتِل العَبْد وَنَحْوه وَالله أعلم قَالَ وَكتب أَيْضا فِي رجل أغار مَعَ قوم فَقتلُوا رجلا وعقروا دوابا أَن يضمن الْحَدِيد حَتَّى يحكم الله فِيهِ وَأَن يقْضِي مِنْهُ أَمْوَالهم أَثمَان مَا أَصَابُوا من عقر تِلْكَ الدَّوَابّ
وَأما رِوَايَة عبد الله فَإِنَّهُ قَالَ سَافَرت إِلَى مَكَّة أول حجَّة حججتها فَأمرنِي أبي بِالْمُتْعَةِ فَلَمَّا قدمت مَكَّة اجْتمعت بعطاء بن أبي رَبَاح فَذكرت ذَلِك لَهُ فَقَالَ أصَاب أَبوك وَرِوَايَته عَن أبي خَليفَة وَمَعْقِل أغزرهم حَدِيثا سَيَأْتِي مَعَ ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَة إخْوَة هم همام ثمَّ معقل ثمَّ غيلَان الْمَعْدُودين فِي رُوَاة الصَّحِيحَيْنِ(1/103)
همام كنيته أَبُو قدامَة وَكَانَ يُقَال إِنَّه أكبر من وهب صحب الزُّهْرِيّ وَله عَنهُ رِوَايَات جمة مِنْهَا قَالَ سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول لَيْسَ أحد أَكثر حَدِيثا مني عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير ابْن عمر لِأَنَّهُ كَانَ يكْتب وَأَنا لَا أكتب وَذكر عَنهُ القَاضِي هِشَام بن يُوسُف الْآتِي ذكره قَالَ حَدثنَا معقل بن همام بن مُنَبّه قَالَ كَانَت حجرات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مطلات على مَسْجده فَبينا عمر أَيَّام خِلَافَته فِي الْمَسْجِد إِذْ دخل أَعْرَابِي وَالنَّاس حول عمر وَحَفْصَة أم الْمُؤمنِينَ تنظر من حُجْرَتهَا من وَرَاء ستر فرأت الْأَعرَابِي قد عمد إِلَى الْحلقَة وَسلم على عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بإمرة الْمُؤمنِينَ وَذَلِكَ لما رأى من تميزه بالبزة على سَائِر من حضر فَقَالَ لَهُ ابْن عَوْف هَذَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَشَارَ إِلَى عمر ثمَّ كَانَ من الْعَادة أَن عمر إِذا صلى الْعشَاء وَأَرَادَ الِانْصِرَاف إِلَى بَيته يمر بِأَبْوَاب أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ وَيسلم عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا مر تِلْكَ اللَّيْلَة بِبَاب حَفْصَة ابْنَته وَسلم قَالَت يَا أَبَت رَأَيْت أَن أذكر لَك شَيْئا فَلَا تضعه إِلَّا على النصح قَالَ وَمَا ذَاك يَا بنية قَالَت رَأَيْت أَعْرَابِيًا دخل الْمَسْجِد وَشهر ابْن عَوْف بِالسَّلَامِ وَإِنِّي رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يلبس أحسن مَا يقدر عَلَيْهِ وَإِن الله قد فتح عَلَيْك فَإِن رَأَيْت أَن تلبس لباسا حسنا فَإِنَّهُ أبهى لَك فَقَالَ يَا بنية مَا فِي قَوْلك بَأْس وَلَكِن كنت أَنا وصاحباي على طَرِيق ووعدتهما الْمنزل وأخشى إِن سلكت غير طريقهما أَن لَا أوافي منزلهما
وَكَانَ قوم من أهل صنعاء لَهُم أَرض فِي الْبَادِيَة يزدرعونها ثمَّ إِنَّهُم انتقلوا عَن صنعاء ميلًا إِلَى خفَّة المؤونة فِي الْبَادِيَة فَبلغ معقلا ذَلِك فكرهه ثمَّ إِنَّهُم مروا بِهِ يَوْمًا وَهُوَ على بَاب دَاره قَاعِدا فناداهم فَأتوهُ فَقَالَ سكنتم الْبَادِيَة فَقَالُوا نعم يَا أَبَا قدامَة قَالَ قُلْتُمْ لبيتنا وماشيتنا وحطبنا وَمَا نحتاج عَلَيْهِ سهلا قَالُوا نعم قَالَ لَا تَفعلُوا لَا تدعوا الْقَرار فَإِنِّي سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يخبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من سكن الْقَرار سَاق الله إِلَيْهِ رزق الْقَرار وَمن سكن الْبَادِيَة سَاق الله إِلَيْهِ رزق الْبَادِيَة
وَقَالَ لقِيت ابْن عمر فَسَأَلته عَن النَّبِيذ قلت يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن هَذَا الشَّرَاب مَا تَقول فِيهِ قَالَ كل مُسكر حرَام قلت فَإِن شربت الْخمر فَلم أسكر قَالَ أُفٍّ أُفٍّ مَا بَال الْخمر وَغَضب فتركته حَتَّى انبسط وأسفر وَجهه وَحدث من كَانَ حوله ثمَّ قلت لَهُ يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن إِنَّك بَقِيَّة من قد عرفت وَقد يَأْتِي الرَّاكِب فيسألك عَن الشَّيْء وَيَأْخُذ من(1/104)
قبلك بِتِلْكَ الْكَلِمَة يضْرب بهَا فِي الْآفَاق يَقُول قَالَ ابْن عمر كَذَا وَكَذَا فَقَالَ أعراقي أَنْت قلت لَا قَالَ فَمِمَّنْ قلت من الْيمن قَالَ أما الْخمر فَحَرَام لَا سَبِيل إِلَيْهَا وَأما مَا سواهَا من الْأَشْرِبَة فَكل مُسكر حرَام
وَكَانَت وَفَاته بِصَنْعَاء أَيْضا سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ ومئة وَهُوَ آخر إخْوَته موتا إِذْ أَوَّلهمْ وهب ثمَّ معقل ثمَّ غيلَان
وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عَطاء بن أبي رَبَاح ضَبطه بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ ألف وحاء مُهْملَة واسْمه طَاهِر من موَالِي بني جمح مولده بالجند سنة سبع وَعشْرين وَنَشَأ بِمَكَّة وتفقه بهَا قَالَ ابْن جريج كَانَ الْمَسْجِد لعطاء فراشا عشْرين سنة وتفقه بِجَمَاعَة من الصَّحَابَة أشهرهم ابْن عَبَّاس وَقد ذكرت قَوْله كنت أَدخل على ابْن عَبَّاس مَعَ الْعَامَّة وَكَانَ لمعقل ولد اسْمه عبد الصَّمد كثير الرِّوَايَة عَن عَمه وهب من ذَلِك أَنه قَالَ سَمِعت عمي وهبا يَقُول قَالَ الله فِي بعض كتبه إِن مني الْخَيْر وأقدره لخير عبَادي فطوبى لمن قدرته لَهُ وَإِن مني الشَّرّ وَأَنا أقدره لشر عبَادي فويل لمن قدرته لَهُ وَقد جمعت وهبا وَأَهله فِي مَكَان وَاحِد
وَقدمه الرَّازِيّ على وهب وَكَانَ بِهِ شلل وعرج ثمَّ عمى وَكَانَ من أعلم النَّاس بالمناسك وَكَانَ جليل الْقدر شهير الذّكر حج سُلَيْمَان بن عبد الْملك وَمَعَهُ ابْنَانِ لَهُ فَلَمَّا قدما مَكَّة أَتَوْهُ فِي بعض الْأَيَّام فوجدوه قَائِما يُصَلِّي فقعدوا فِي انْتِظَاره حَتَّى فرغ من صلَاته ثمَّ جعلُوا يسألونه عَن الْمَنَاسِك وَهُوَ يُجِيبهُمْ غير مُخْتَلف وَلَا هائب فَلَمَّا فرغ سُؤَالهمْ حول وَجهه عَنْهُم فَقَامَ سُلَيْمَان وَأمر ابنيه بِالْقيامِ فَلَمَّا ولوا عَنهُ قَالَ لابْنَيْهِ يَا ابْني لَا تنيا فِي طلب الْعلم فَإِنِّي لَا أنسى ذلنا بَين يَدي هَذَا العَبْد الْأسود
وَإِلَيْهِ انْتَهَت الْفتيا فِي مَكَّة بعد ابْن عَبَّاس بِحَيْثُ كَانَ فِي زمن بني أُميَّة يأمرون(1/105)
فِي الحجيج أَلا يُفْتِي النَّاس إِلَّا عَطاء فَإِن لم فعبد الله بن أبي نجيح وَلما بلغه قَول الشَّاعِر ... سل الْمُفْتِي الْمَكِّيّ هَل فِي تزاور ... وضمة مشتاق الْفُؤَاد جنَاح
فَقَالَ معَاذ الله أَن يذهب التقى ... تلاصق أكباد بِهن جراح ... قَالَ وَالله مَا قلت ذَلِك وَكَانَ يحب الصَّلَاة مَعَ الْجَمَاعَة على كل حَال وَيَقُول بَلغنِي عَن ابْن مَسْعُود قَالَ سَيكون عُمَّال لَا يصلونَ الصَّلَاة لمواقيتها فَإِذا فعلوا ذَلِك فصلوها لمواقيتها فَقيل لَهُ هَل لَا تَنْتَهِي إِلَى قَول ابْن مَسْعُود قَالَ الْجَمَاعَة أحب إِلَيّ مَا لم يفت الْوَقْت وَكَانَ بَعْدَمَا كبر إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة قَرَأَ فِيهَا بِقدر مئتي آيَة وَمَا تَزُول قدماه عَن موضعهما بحركة وَلَا غَيرهَا
وَسُئِلَ عَن قوم يشْهدُونَ على النَّاس بالشرك وَالْكفْر فَأنْكر ذَلِك وَقَالَ للسَّائِل أَنا أَقرَأ عَلَيْك نعت الْمُؤمنِينَ ثمَّ نعت الْكَافرين ثمَّ نعت الْمُنَافِقين ثمَّ قَرَأَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {الم ذَلِك الْكتاب لَا ريب فِيهِ هدى لِلْمُتقين} حَتَّى بلغ قَوْله {عَذَاب أَلِيم}
وَقَالَ إِن من كَانَ قبلكُمْ كَانَ يكره فضول الْكَلَام وَمَتى تكلم بِغَيْر كتاب الله أَو أَمر بِمَعْرُوف أَو نهى عَن مُنكر أَو حَاجَة فِي إصْلَاح دينه ودنياه مِمَّا لَا بُد لَهُ مِنْهَا عد ذَلِك فضولا أتنكرون {إِن عَلَيْكُم لحافظين كراما كاتبين} وَإِن عَن الْيَمين وَعَن الشمَال قعيد مَا يلفظ من قَول إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب عتيد أما يستحي أحدكُم وَقد نشرت عَلَيْهِ صَحِيفَته الَّتِي قد أمْلى صدر نَهَاره أَكثر مَا فِيهَا لَيْسَ من أَمر دينه وَلَا دُنْيَاهُ(1/106)
وَذكر الرَّازِيّ بِسَنَد مُتَّصِل إِلَى مُحَمَّد بن الْمُحْتَرَم أَنه قَالَ سَمِعت الْحسن الْبَصْرِيّ يَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث من كن فِيهِ فَهُوَ مُنَافِق وَإِن صَامَ وَصلى وَزعم أَنه مُسلم من إِذا حدث كذب وَإِذا وعد أخلف وَإِذا أؤتمن خَان قَالَ ابْن الْمُحْتَرَم فَقلت لِلْحسنِ يَا أَبَا سعيد لَو كَانَ عَليّ لرجل دين وَسَأَلته وَخفت أَن يحبسني بِهِ فَأهْلك فوعدته بِهِ إِلَى أجل وَلم أقضه بِهِ أفأكون بذلك منافقا أم لَا قَالَ هَكَذَا جَاءَ الحَدِيث أَن ابْن عمر ذكر أَن أَبَاهُ لما حَضرته الْوَفَاة قَالَ زوجوا فلَانا فَإِنِّي وعدته أَن أزَوجهُ لَا ألْقى الله بِثلث النِّفَاق قلت يَا أَبَا سعيد وَيكون ثلث الرجل منافقا وثلثاه مُؤمنا قَالَ هَكَذَا جَاءَ الحَدِيث قَالَ ابْن الْمُحْتَرَم فَلَمَّا حججْت لقِيت عَطاء بن أبي رَبَاح فَأَخْبَرته بِمَا سَمِعت من الْحسن وَمَا راجعته بِهِ فَقَالَ لي عَطاء أعجزت أَن تَقول لَهُ أَخْبرنِي عَن أخوة يُوسُف ألم يعدوا أباهم فخلفوه وحدثوه فكذبوا وءأتمنهم فخانوه أفمنافقون هم ألم يَكُونُوا أَنْبيَاء وأبوهم نَبِي وجدهم نَبِي قلت لَهُ يَا أَبَا مُحَمَّد حَدثنِي بِأَصْل هَذَا الْخَبَر خَاصَّة الَّذين حدثوه فَكَذبُوهُ وءأتمنهم فخانوه ووعدوه أَن يخرجُوا مَعَه فِي الْغَزْو فأخلفوه
خرج أَبُو سُفْيَان من مَكَّة فَنزل جِبْرِيل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ إِن أَبَا سُفْيَان قد جَاءَ من مَوضِع كَذَا فاخرجوا إِلَيْهِ واكتموا فَسمع ذَلِك بعض الْمُنَافِقين فَبعث إِلَى أبي سُفْيَان يُخبرهُ ويحذره فَإِذا أتيت الْحسن فأقرئه(1/107)
مني السَّلَام وَأخْبرهُ بِأَصْل الحَدِيث وَبِمَا قلت لَك قَالَ ابْن الْمُحْتَرَم فَلَمَّا قدمت على الْحسن أخْبرته الْخَبَر وَقلت لَهُ إِن أَخَاك عَطاء يُقْرِئك السَّلَام وَيَقُول لَك كَذَا وَكَذَا فَأخذ بيَدي وشالها وَقَالَ يَا أهل الْعرَاق أعجزتم أَن تَكُونُوا مثل هَذَا سمع مني حَدِيثا فَلم يقبله حَتَّى استنبط أَصله
صدق عَطاء هَكَذَا الحَدِيث هُوَ فِي الْمُنَافِقين خَاصَّة قلت وَفِي قَول الْحسن صدق عَطاء هَكَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن الْحسن كَانَ عَالما ان الْخَبَر كَمَا قَالَ عَطاء فِي الْمُنَافِقين خَاصَّة
وَيحمل كَلَام الْحسن فِي الأولى على أَنه أَرَادَ التنفير عَن الْخِصَال وَقد فعل ذَلِك جمَاعَة من الْعلمَاء فِي الصَّحَابَة وَغَيرهم
وَمِمَّا يُؤَيّد ذَلِك أَيْضا مَا ذكره الثَّعْلَبِيّ فِي تَفْسِيره بِسَنَدِهِ إِلَى مقَاتل أَنه قَالَ كنت بسمرقند فَقَرَأت حَدِيث الْمُقْرِئ يَعْنِي هَذَا الْخَبَر الْمَذْكُور فنازعني عزمي فِيهِ وَخفت على نَفسِي وعَلى جَمِيع النَّاس فَأتيت بُخَارى وَسَأَلت جَمِيع علمائها فَلم أجد فرجا فَأتيت مرو فَسَأَلت كَذَلِك فَلم أجد فرجا فَأتيت نيسابور وَسَأَلت فَلم أجد فرجا ثمَّ بَلغنِي أَن شهر بن حَوْشَب بجرجان فَأَتَيْته وَعرضت عَلَيْهِ قصتي فَقَالَ لي أَنا مُنْذُ سَمِعت هَذَا الْخَبَر كالحبة على المقلى فَعَلَيْك بِابْن جُبَير فَإِنَّهُ بِالريِّ فَأتيت الرّيّ وَعرضت على سعيد الْخَبَر فَقَالَ أَنا كَذَلِك مُنْذُ سَمِعت هَذَا الْخَبَر كالحبة على(1/108)
المقلى فَعَلَيْك بالْحسنِ الْبَصْرِيّ فارتحلت الْبَصْرَة وأتيت الْحسن وقصصت عَلَيْهِ الْخَبَر وَمَا جرى لي مَعَ من تقدم من الْعلمَاء فَقَالَ رحم الله شهرا وسعيدا بلغهما نصف الْخَبَر وَلم يبلغهما النّصْف الآخر وَذَلِكَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قَالَ هَذَا الْخَبَر شغل قُلُوب النَّاس أَصْحَابه وهابوا أَن يسألوه فَأتوا فَاطِمَة ابْنَته وَذكروا لَهَا شغل قُلُوبهم بالْخبر فَأَتَت فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأخبرته بذلك فَأمر سلمَان فَنَادَى الصَّلَاة جَامِعَة وَصعد الْمِنْبَر ثمَّ قَالَ أَيهَا النَّاس إِنِّي كنت قلت لكم ثَلَاث من كن فِيهِ فَهُوَ مُنَافِق الْخَبَر وَلم أعنكم لَهُ إِنَّمَا عنيت بهَا الْمُنَافِقين أما قولي إِذا حدث كذب فَإِن الْمُنَافِقين أَتَوْنِي وَقَالُوا وَالله إِن إيمَاننَا كإيمانك وتصديق قُلُوبنَا كتصديق قَلْبك فَأنْزل الله فِي ذَلِك {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ} إِلَى {الْكَاذِبُونَ} وَأما قولي إِذا أؤتمن خَان فَإِن الْأَمَانَة الصَّلَاة وَالدّين كُله أَمَانَة قَالَ الله إِن الْمُنَافِقين يخادعون الله وَهُوَ خادعهم وَإِذا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كسَالَى يراءون النَّاس وَلَا يذكرُونَ الله إِلَّا قَلِيلا وَفِيهِمْ قَالَ الله تَعَالَى {فويل للمصلين} وَأما قولي إِذا وعد أخلف فَإِن ثَعْلَبَة بن حَاطِب أَتَانِي وَقَالَ إِنِّي مولع بالسائمة ولي غنيمات فَادع الله أَن يُبَارك لي فِيهِنَّ فعلي عهد الله لَئِن بَارك لي فِيهِنَّ لأصدقن ولأكونن من الصَّالِحين فدعوت الله فَنمت وزادت حَتَّى ضَاقَتْ عَنْهَا الفجاج فَسَأَلته الصَّدَقَة فَأبى عَليّ وبخل بهَا فَأنْزل الله فِيهِ {وَمِنْهُم من عَاهَدَ الله} الْآيَة إِلَى قَوْله {بِمَا أخْلفُوا الله مَا وعدوه وَبِمَا كَانُوا يكذبُون} فَسرِّي عَن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتصدقوا بِمَال عَظِيم وَهَذَا الْخَبَر فِي الْكتاب من قبيل كَون الحَدِيث شجون وَفِيه فرج لمن كَانَ وقف على الْخَبَر أَو سَمعه وَلم يعرف السَّبَب(1/109)
وَقَالَ عَطاء سَمِعت ابْن عَبَّاس يَقُول فِي قَوْله تَعَالَى {وَقُولُوا للنَّاس حسنا} دخل فِي ذَلِك الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ وَكَانَ لعطاء مصحف لطيف إِذا قَرَأَ بِهِ حمله على يَدَيْهِ وَلَا يَضَعهُ على فَخذيهِ وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة سنة أَربع عشرَة وَقيل خمس عشرَة ومئة وَقد بلغ عمره ثمانيا وَثَمَانِينَ سنة
وَمِنْهُم حجر بن قيس المدري نِسْبَة إِلَى قَرْيَة مدرات وَهِي على نصف مرحلة من الْجند من جِهَة قبليها وَهِي بِفَتْح الْمِيم وَالدَّال الْمُهْملَة وَالرَّاء ثمَّ ألف ثمَّ تَاء مثناة من فَوق صحب حجر هَذَا عليا كرم الله وَجهه وَعرف بِصُحْبَتِهِ وَله عَنهُ رِوَايَات وَلَا يعرف إِلَّا بِصُحْبَة عَليّ إِذْ تفقه بِهِ وَصَحبه غَالب زَمَانه وَكَانَ طَاوُوس يُرَاجِعهُ فِي الْمسَائِل الَّتِي يتشكك بهَا
وَقد ذكرت قَول ابْنه فِي الْوَقْف الَّذِي وَقفه وَأَنه لم يطب نفسا بِهِ حَتَّى أفتاه بحبسه
وَذكر الْحَافِظ أَبُو نعيم بِسَنَد إِلَيْهِ أَن عليا قَالَ لَهُ يَوْمًا كنت بك يَا حجر إِذا أمرت بلعني فَقَالَ أَو كَائِن ذَلِك قَالَ نعم قلت فَكيف أصنع قَالَ العني وَلَا تَبرأ مني فَلَمَّا كَانَت ولَايَة مُحَمَّد بن يُوسُف لمخلافي الْجند وَصَنْعَاء وَحجر إِذْ ذَاك خطيب بِإِحْدَى البلدين صعد فِي بعض الْجمع الْمِنْبَر ثمَّ خطب فَلَمَّا فرغ من الْخطْبَة وَمُحَمّد بن يُوسُف إِذْ ذَاك حَاضر ناداه لَا تنزل حَتَّى تلعن عليا فَتَلَكَّأَ لَحْظَة وَذكر قَول عَليّ فَرفع صَوته وَقَالَ إِن الْأَمِير مُحَمَّد بن يُوسُف أَمرنِي أَن ألعن عليا فالعنوه لَعنه الله وتفرق أهل الْمَسْجِد وَتَفَرَّقُوا شغر بغر كَرَاهِيَة لذَلِك إِلَّا مَا كَانَ من شيخ فَإِنَّهُ فهمها وَقَالَ لَعنه الله وَكَانَ ذَلِك على مِنْبَر صنعاء وَقيل على مِنْبَر الْجند وَهُوَ الَّذِي(1/110)
حَقَّقَهُ الْحَافِظ العرشاني رَحمَه الله
وَالْقَوْل الأول أحب إِلَيّ لكَرَاهَة أَن يكون الْجند شهر بهَا أحد من السّلف مَعَ أَن الْيمن أجمع لم يشهر بهَا ذَلِك مُنْذُ أول الْإِسْلَام إِلَى عصرنا سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسبعمئة إِذْ برأَ الله الْيمن ونزهها عَن أَمر غلب على كثير من بِلَاد الْإِسْلَام وَهُوَ الرِّدَّة
لما توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ارْتَدَّت الْعَرَب إِلَّا مَا كَانَ من أهل مَكَّة وَالْمَدينَة وَصَنْعَاء والجند وغالب الْيمن وارتد قوم من أهل السوَاد حوالي الْمَدِينَة وهم الَّذين قَاتلهم الصّديق وَبَعض طغام نواحي صنعاء وعادوا من غير قتال وَلم يذكر عَن أحد مِنْهُم أَنه أحْوج إِلَى قتال وَلَا كلف وَالِي مصره شَيْئا مِمَّا كلفه عرب الْحجاز بل إِنَّه قد ذكر أَن قوما من كِنْدَة فِي طرف حَضرمَوْت ارْتَدُّوا وتحصنوا بحصن يُقَال لَهُ النُّجَيْر وَكَانَ واليهم لبيد بن زِيَاد البياضي ثمَّ الْأنْصَارِيّ من عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَحصل بَينه وَبينهمْ شقَاق وَخَرجُوا بِهِ عَن حد طَاعَته فَكتب إِلَى أبي بكر ينتصره فأمده بِجَمَاعَة مِنْهُم عِكْرِمَة بن أبي جهل وَأَبُو سُفْيَان بن حَرْب وَجَمَاعَة غَيرهم
وَأما الْيمن فَكَانَ بهَا معَاذ بن جبل توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يحك عَنهُ خلاف بَينه وَبَين أَهلهَا وَلَا جَمِيع مخاليفها وَلَو كَانَ لظهر كَمَا فِي غَيرهَا
وَأما صنعاء فَكَانَ بهَا يعلى بن أُميَّة فَحصل بَينه وَبَين عرب السوَاد تنَازع ثمَّ عَادوا إِلَى طَاعَته كَمَا هُوَ مَشْهُور فِي كتب التَّارِيخ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعه بل أردْت تَنْزِيه هذَيْن المخلافين صنعاء والجند عَن الرِّدَّة واحتياج الْوُلَاة فِيهَا إِلَى حروب(1/111)
وعساكر وَلم يحك حُدُوث شَيْء فِي هذَيْن المخلافين من ذَلِك إِلَّا مَا كَانَ فِي بعض نواحي صنعاء كَمَا قدمنَا ذكره
وَأما سبّ السّلف فَلم يعرف إِلَّا مَا كَانَ فِي بعض نواحي صنعاء على زمن الصليحيين فِي مَوضِع اختطوه كجبلة ومواضع حراز لَا صنعاء والجند وَمَا يشابههما كزبيد وعدن إِذْ تغلب على أَهلهَا عدم السب والمبتدع يضيع بَينهم وَلَا يُطيق إِظْهَار بدعته
وَكَانَ السب على عهد بني أُميَّة لعَلي وَآله وَقد اسْتعْمل على مَنَابِر الشَّام وَالْعراق ومصر عدَّة سِنِين حَتَّى كَانَت خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز فأسقطه وَجعل مَكَانَهُ {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وإيتاء ذِي الْقُرْبَى} فَلم يزل مُسْتَعْملا إِلَى عصرنا وَنعم السّنة سنّ فَهَذَا مَا كَانَ من حَال الْيمن فِي ذكر السّلف الصَّالح نفع الله بهم وَهَذَا الْكَلَام كُله دخيل لَيْسَ من غرضنا بل هُوَ ذكر فَضِيلَة أهل الْيمن وتنزيه لَهُم مِمَّا هُوَ قدح فِي من فعل ذَلِك
وَنَرْجِع إِلَى تَتِمَّة ذكر حجر
ذكر الْمُزنِيّ فِي مُخْتَصره أَن الشَّافِعِي قَالَ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن طَاوُوس عَن حجر المدري يَعْنِي هَذَا عَن زيد بن ثَابت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه جعل الْعمريّ للْوَارِث فَسَأَلت شَيْخي أَبَا الْحسن الأصبحي عَن حجر فَأَخْبرنِي أَنه الْمَذْكُور أَولا وَأَنه مِمَّن صحب عليا وَلم أتحقق لَهُ تَارِيخا وَلَا وقفت عَلَيْهِ بل أوردت مَا ذكرته من أَحْوَاله من كتب شَتَّى فَيعلم أَنه كَانَ مَوْجُودا زمن مُحَمَّد بن يُوسُف الثَّقَفِيّ
وَمِنْهُم الْمُغيرَة بن حَكِيم الصَّنْعَانِيّ الأبناوي مَعْدُود فِي فضلاء صنعاء أَخذ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم عمر وَأَبُو هُرَيْرَة وَغَيرهمَا وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي صفة الصفوة(1/112)
وَقَالَ سَافر الْمُغيرَة من صنعاء إِلَى مَكَّة خمسين سفرا حافيا محرما صَائِما لَا يتْرك التَّهَجُّد وَقت السحر بل كَانَ إِذا هُوَ سَائِر فِي الْقَافِلَة فَارقهَا وَأَقْبل يُصَلِّي حَتَّى يطلع الْفجْر ثمَّ يُصَلِّي الصُّبْح ثمَّ يلْحق بالقافلة حَيْثُ كَانَت وَكَانَ يخْتم فِي كل يَوْم الْقُرْآن يقْرَأ بعد صَلَاة الصُّبْح من الْبَقَرَة إِلَى هود ثمَّ من قبل الزَّوَال إِلَى الْعَصْر يقْرَأ من هود إِلَى الْحَج ثمَّ يتم الختمة من الْمغرب إِلَى الْعشَاء
وَمِنْهُم أَبُو رشدين حَنش بن عبد الله الصَّنْعَانِيّ بَلَدا يُقَال أَصله من بكر وَائِل وَأمه من الْأَبْنَاء وَلذَلِك يظنّ أَنه أبناوي وَلَيْسَ كَذَلِك عده مُسلم فِي تَابِعِيّ الْجند وعده البُخَارِيّ فِي أهل صنعاء وَكَذَلِكَ عبد الْغَنِيّ نسبه إِلَى صنعاء فَقَالَ الصَّنْعَانِيّ الْمصْرِيّ لِأَنَّهُ صَار إِلَى مصر فِي آخر عمره لِأَنَّهُ كَانَ نَائِبا لِابْنِ الزبير على صنعاء فَأسر فِيهَا وَأتي بِهِ الْحجَّاج إِلَى مَكَّة مُقَيّدا فَوجه بِهِ إِلَى عبد الْملك فَلَمَّا وَصله أطلقهُ فانتجع مصر وَلم يزل بهَا حَتَّى توفّي
قَالَ الْوَاقِدِيّ وَقيل إِنَّه انْتقل من مصر إِلَى الأندلس فَنزل مِنْهَا مَدِينَة سرقسطة وَأسسَ جَامعهَا وَمَات فِيهَا فَقِيرا عِنْد بَابهَا الغربي الْمَعْرُوف بِبَاب الْيَهُود صحب عليا وَابْن عَبَّاس وَأقَام مَعَ عَليّ فِي الْكُوفَة ثمَّ ولاه ابْن الزبير مخلاف صنعاء فَأَقَامَ واليا أَرْبَعَة أشهر وَقتل ابْن الزبير وَوصل نواب الْحجَّاج فَكَانَ مِنْهُم إِلَيْهِ مَا قدمنَا
وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عَمْرو بن دِينَار مولى باذان الْفَارِسِي أَمِير الْفرس وَقد ذكرت طرفا من حَاله وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي الْمُلُوك إِن شَاءَ الله مولده صنعاء لبضع وَأَرْبَعين من الْهِجْرَة ثمَّ نَشأ بِمَكَّة وتفقه بهَا على ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَجَابِر بن عبد الله وَجَابِر بن زيد وَمن التَّابِعين بطاووس وَالزهْرِيّ وَابْن جُبَير وَعنهُ أَخذ ابْن عُيَيْنَة وَابْن جريج وَغَيرهمَا قيل لعطاء بن أبي رَبَاح بِمن تَأْمُرنَا بعْدك قَالَ بِعَمْرو بن دِينَار وَقَالَ طَاوُوس لِابْنِهِ إِذا قدمت مَكَّة فجالس عَمْرو بن دِينَار فَإِن أُذُنه قمع للْعُلَمَاء وَقيل(1/113)
لإياس بن مُعَاوِيَة أَي أهل مَكَّة رَأَيْت أفقه قَالَ أسوأهم خلقا عَمْرو بن دِينَار
توفّي غَالِبا بِمَكَّة سنة سِتّ وَعشْرين وَقيل سنة سبع وَقيل سنة أَربع وَعشْرين ومئة بلغ عمره ثَمَانِينَ سنة
ثمَّ صَار الْعلم إِلَى طبقَة أُخْرَى
مِنْهُم عبد الرَّحْمَن بن يزِيد الصَّنْعَانِيّ وَيُقَال لَهُ الأبناوي لِأَنَّهُ كَانَ من أهل فَارس القادمين مَعَ سيف بن ذِي يزن ذكره الرَّازِيّ وَأثْنى عَلَيْهِ فَقَالَ كَانَ فَاضلا زاهدا وَهُوَ الَّذِي ذكرت أَولا أَن مُحَمَّد بن يُوسُف جعله مَعَ وهب واعظا وَكَانَ إِذا غَابَ إِمَام الْجَامِع خَلفه على الصَّلَاة بِالنَّاسِ
أسْند عَن ابْن عمر وَأورد التِّرْمِذِيّ عَنهُ فِي سنَنه عدَّة أَحَادِيث مِنْهَا مَا رَوَاهُ الرَّازِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى التِّرْمِذِيّ وَبِسَنَد التِّرْمِذِيّ إِلَى هَذَا عبد الرَّحْمَن عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من سره أَن ينظر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فليقرأ {إِذا الشَّمْس كورت} و {إِذا السَّمَاء انشقت} و {إِذا السَّمَاء انفطرت} وَقَالَ أَيْضا قَالَ لي ابْن عمر يَا أَخا الأنباء إِن سُورَة الْجُمُعَة نزلت فِينَا وَفِيكُمْ فِي قتلكم الْكذَّاب ثمَّ قَرَأَ مِنْهَا إِلَى قَوْله وَآخَرين مِنْهُم لم يلْحقُوا بهم وَأخذ عَنهُ القَاضِي هِشَام الْآتِي ذكره وَغَيره من أهل صنعاء وَغَيرهم
وَمِنْهُم عُثْمَان بن يزدويه أدْرك أنس بن مَالك وَكَانَ يَقُول قدمت الْمَدِينَة وَعمر بن عبد الْعَزِيز واليها فَصليت الصُّبْح خَلفه ومعنا أنس بن مَالك فِيمَن صلى خَلفه فَلَمَّا انْقَضتْ الصَّلَاة قَالَ أنس مَا رَأَيْت أحد أشبه بِصَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هَذَا الْفَتى وَأَشَارَ إِلَى عمر قَالَ وَرَأَيْت أنسا عَلَيْهِ ثَوْبَان ممشقان وَبِه وضح وَكَانَ القَاضِي هِشَام يَقُول حَدثنِي عُثْمَان بن يزدويه قَالَ قدمت الْمَدِينَة وَعمر واليها وَذكر الحَدِيث الأول برمتِهِ فَقيل للْقَاضِي هِشَام كَيفَ كَانَت صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ نَحْو(1/114)
من صَلَاتي فحزرنا رُكُوعه وَسُجُوده فَوجدَ من فعل القَاضِي وَأحد بِقدر عشر تسبيحات
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن ماجان حج مَعَ أَبِيه وَهُوَ غُلَام فَرَأى ابْن عمر وَجَابِر بن عبد الله وَأنس بن مَالك وَقَالَ حجت أم سَلمَة زوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا الهودج وَكُنَّا معاشر الصغار ندور حوله وَهِي فِيهِ
وَمِنْهُم مرْثَد بن شُرَحْبِيل أدْرك ابْن عمر وَابْن الزبير وَحضر عمَارَة بن الزبير الْكَعْبَة فَقيل لَهُ مَا حمل ابْن الزبير على خراب الْكَعْبَة وعمارتها فَقَالَ لما جَاءَ الْحصين بن نمير من وقْعَة الْحرَّة بِالْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّة وَبهَا ابْن الزبير عائذا وَقَالَ أصانع فَرمى الْحصين مَكَّة بالمنجنيق وَكَانَت تقع بِالْكَعْبَةِ حَتَّى أضعفت الْبناء وَجَاء خبر يزِيد وَمَوته فارتفع الْحصين بعسكره وَقد أثر المنجنيق بِالْكَعْبَةِ تَأْثِيرا ظَاهرا ثمَّ خلت مَكَّة لِابْنِ الزبير عَن الْمُعَارضَة فعزم على عمارتها عمَارَة مقتنة وَقَالَ أَدخل الْحجر فِيهَا حِين أبنيها ثمَّ لما جد عزمه أحضر سبعين مكبرا من قُرَيْش واستشهدهم فَشَهِدُوا أَنهم سمعُوا عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا تحدث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَوْلَا حَدَاثَة عهد قَوْمك بالشرك لأعدت هَذَا الْبَيْت على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل هَل تدرين لم قصروا عَنْهَا قلت لَا قَالَ قصرت علهيم النَّفَقَة قلت وَسبب قصرهَا عدم الْحَلَال إِذْ لما عزموا على بنائها قبل مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخمْس سِنِين وَقد صَار ابْن خمس وَثَلَاثِينَ سنة كَمَا قدمنَا فِي ذكره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَعَاهَدُوا أَن لَا يدخلُوا فِي عمارتها مهر بغي وَلَا(1/115)
زنى فَلذَلِك عدموا مَا يتممونها بِهِ وَلَوْلَا خشيَة الإطالة لذكرت من ذَلِك الْحَقِيقَة وَأَصله وَلَيْسَ هُوَ أَيْضا من ملازم الْكتاب فنورده وَلَكِن الحَدِيث شجون
ثمَّ أَخذ ابْن الزبير فِي إخرابها والكشف عَن أساسها حَتَّى وَقع على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم وأظهرها للنَّاس فَكَانَت عجبا من الْعجب مشتبكة بَعْضهَا فِي بعض وَتركهَا ابْن الزبير أَيَّامًا مكشوفة ليشهدها النَّاس ويتعجبوا مِنْهَا وَكَانَ الرجل إِذا حرك من نَاحيَة ركنا اهتزت نَاحيَة الرُّكْن الآخر ثمَّ قَالَ اطْلُبُوا من الْعَرَب من يبنيه فَلم يُوجد ثمَّ قَالَ اسْتَعِينُوا بِأَهْل فَارس فَإِنَّهُم ولد إِبْرَاهِيم وَلنْ يرفعهُ إِلَّا وَلَده ثمَّ بنى الْكَعْبَة على الْقَوَاعِد وَجعل لَهَا بَابَيْنِ لاصقين بِالْأَرْضِ شرقيا وغربيا فَكَانَت كَذَلِك حَتَّى غَزَاهَا الْحجَّاج وأخربها وَقتل ابْن الزبير ثمَّ أَعَادَهَا على مَا كَانَت قُرَيْش بنتهَا أَولا
وَمِنْهُم كثير بن أبي الزفاف أدْرك ابْن عمر كَانَ عبد الرَّزَّاق الْفَقِيه الْآتِي ذكره يَقُول سَمِعت حَمَّاد بن سعيد يحدث عَن كثير أَنه قَالَ كنت وصاحبا لي بمنى يَوْم النَّفر فجاءنا رجل وَقَالَ رَأَيْت الْآن ابْن عمر يَرْمِي الْجَمْرَة فَقلت لصاحبي اذْهَبْ بِنَا إِلَيْهِ نَسْأَلهُ فَانْطَلَقْنَا فوجدناه قد فرغ من رمي الْجَمْرَة وأنيخت لَهُ رَاحِلَته وَقد وضع رجله بالغرز وَأخذ بوسط الرحل ليركب فَقَالَ لَهُ صَاحِبي واسْمه قيس إِنَّا أخبرنَا عَنْك فَجِئْنَا لنَنْظُر إِلَيْك ونسألك فَإنَّك قد رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورجونا بركتك وَلَو كنت على غير هَذَا الْحَال لسألناك فَنزع رجله من الغرز وَيَده من الرحل وَقَالَ سل عَمَّا شِئْت قَالَ مَا تَقول فِي رجل اخْتلف إِلَى هَذَا الْبَيْت نَحوا من أَرْبَعِينَ سنة وَإِذا قدم على أَهله وجدهم قد صَنَعُوا لَهُ من هَذَا النَّبِيذ شَيْئا فَإِن شرب مِنْهُ سكرو إِن مزجه بِالْمَاءِ لم يضرّهُ فَقَالَ لَهُ ابْن عمر أدن مني فَلَمَّا دنا مِنْهُ دفع فِي صَدره حَتَّى وَقع فِي الأَرْض وَقَالَ أَنْت مِمَّن لَا حج لَك وَلَا كَرَامَة فَقَالَ مَا سَأَلتك إِلَّا عَن نَفسِي وَالله لَا أَذُوق مِنْهُ قَطْرَة أبدا
وَاعْلَم أَن من ذكر حجر المدري إِلَى هَذَا أَخَذته من كتاب الرَّازِيّ خَاصَّة وَمن هُنَا إِلَى آخر الْكتاب من المئة الْخَامِسَة إِنَّمَا أَخَذته عَن الْجَمِيع أهل الْكتب الْمَذْكُورين أَولا(1/116)
وَمِنْهُم أَبُو خَليفَة القارىء أَخذ الْقُرْآن عَن عَليّ كرم الله وَجهه وَأسْندَ عَنهُ أَخْبَارًا مِنْهَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله رَفِيق يحب الرِّفْق وَيُعْطِي على الرِّفْق مَا لَا يُعْطي على العنف وَعَن هَذَا أَخذ جمَاعَة بِصَنْعَاء الْقُرْآن
وَمِنْهُم عبد الله بن وهب الْمُقدم ذكره مَعَ أَبِيه
وَمِنْهُم هاني الدويري مولى عُثْمَان بن عَفَّان وَله عَنهُ رِوَايَة
وَمِنْهُم الضَّحَّاك بن فَيْرُوز الديلمي أول من ولي لمعاوية الْيمن وَكَانَ مُجْتَهدا قَالَ مؤذنه رَاشد بن أبي الْحَرِيش مَا أتيت الضَّحَّاك أؤذنه الصَّلَاة فِي النَّاس إِلَّا وجدته مستعدا
أسْند عَن أبي هُرَيْرَة وَغَيره وَأَبوهُ قدم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأسلم وَحسن إِسْلَامه
وَمِنْهُم صَفْوَان بن يعلى بن أبي عبيد يعرف أَبوهُ بيعلى بن أُميَّة أحد وُلَاة صنعاء صدر الْإِسْلَام وَسَيَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله فِي الْوُلَاة وَله ولأبيه رِوَايَات دخلت فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا
أسْند عَن أَبِيه وَغَيره وَقد أَخذ عَنهُ أَيْضا عَطاء بن أبي رَبَاح
وَمِنْهُم سعيد بن عبد الله بن عَاقل عرف بالأعرج كَانَ معينا ليعلى بِإِشَارَة عمر
وَحكي أَنه قدم على عمر فَلَمَّا سلم سَأَلَهُ عمر أَيْن تُرِيدُ قَالَ الْعرَاق
قَالَ ارْجع إِلَى صَاحبك يعلى فَإِن عملا صَالحا بِحَق جِهَاد وَإِذا صَدقْتُمْ الْمَاشِيَة فَلَا تعينُوا الْحَسَنَة وَلَا ترزأوا بهَا صَاحبهَا وأقسموها أَثلَاثًا ويختار صَاحب الْغنم ثلثا واختاروا الصَّدَقَة من الثُّلثَيْنِ الباقيين قَالَ فَقبلت من عمر وعدت إِلَى صنعاء وَبعثت إِلَى مَعُونَة يعلى واعتمدنا مَا قَالَ عمر وَمَتى اجْتمع مَعنا شَيْء فرقناه فِي مَوْضِعه على فقرائه ثمَّ نرْجِع وَلَيْسَ مَعنا إِلَّا أسواطنا(1/117)
وَمِنْهُم الْوَلِيد بن السوري أدْرك أنس بن مَالك وَقَالَ قدمت الْمَدِينَة وَصليت خلف عمر بن عبد الْعَزِيز وَهُوَ إِذْ ذَاك واليها فصلى صَلَاة خَفِيفَة فَلَمَّا فرغ قَالَ لي رجل إِلَى جَنْبي مَا أشبه صَلَاة هَذَا بِصَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخذت بِثَوْبِهِ وَقلت من أَنْت الَّذِي أدْركْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أنس بن مَالك قَالَ فحزرت لبث عمر فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود فَوَجَدته بِقدر مَا يسبح كل وَاحِد منا عشر تسبيحات قلت وَهَذَا مُوَافق لما رَوَاهُ عُثْمَان بن يزدويه لِأَن مخرجهما وَاحِد ونهايتهما متفقة
وَمِنْهُم زِيَاد بن جيل أدْرك ابْن الزبير وَقَالَ سمعته يَقُول سَمِعت خَالَتِي عَائِشَة تَقول قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْلَا حَدِيث عهد قَوْمك بالشرك لرددت الْكَعْبَة على أساس إِبْرَاهِيم فَإِن للحجر من الْكَعْبَة أذرعا فَلَمَّا كَانَ الْعَام الَّذِي أخربها فِيهِ الْحصين وجند الشَّام ثمَّ لما عَادوا وجد ابْن الزبير إِلَى بنائها سَبِيلا ظَاهرا فَأمر بكشف الْقَوَاعِد فَوجدَ ربض الْكَعْبَة صخرا مثل البخت فحركوا صَخْرَة فبرقت بارقة فَقَالَ دَعُوهَا كَمَا هِيَ ثمَّ وجد لوح مَكْتُوب بالعبراني فَاسْتَحْضر لَهُ جمَاعَة من أَحْبَار الْيَهُود وأحلفهم بِاللَّه ليصدقنه وَلَا يكتمونه مِمَّا فِيهِ شَيْئا ثمَّ ناولهم إِيَّاه فَقَالُوا إِن فِيهِ مَكْتُوبًا أَنا الله ذُو بكة صنعتها بيَدي يَوْم صنعت الشَّمْس وَالْقَمَر حففتها بسبعة أَمْلَاك حَقًا وَجعلت رزقها يَأْتِيهَا من طرق شَتَّى باركت لَهُم فِي المَاء وَاللَّحم أَنا الله ذُو بكة خلقت الرَّحِم وَجعلت فِيهَا سَبْعَة من اسْمِي من وَصلهَا وصلته وَمن قطعهَا أبنته خلقت الْخَيْر وَالشَّر فطوبى لمن خلقت الْخَيْر على يَدَيْهِ وويل لمن خلقت الشَّرّ على يَدَيْهِ
وَقَالَ زِيَاد سَمِعت ابْن الزبير قَرَأَ فَاتِحَة الْكتاب فَقَالَ اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط من أَنْعَمت عَلَيْهِم
وَزِيَاد هَذَا هُوَ الَّذِي ذكر أصيل الْقَتِيل فِي خلَافَة عمر بِصَنْعَاء على مَا سَيَأْتِي بَيَانه فِي ذكر الْخُلَفَاء وَمَا لَاق من الْحَوَادِث فِي أيامهم إِن شَاءَ الله(1/118)
وَمِنْهُم فنج بن دحرج بِضَم الْفَاء وَفتح النُّون وَسُكُون الْجِيم ثمَّ فتح الدَّال وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء ثمَّ جِيم الْفَارِسِي من الْأَبْنَاء ذكره الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ فِي المؤتلف والمختلف قَالَ وَلَا نَظِير لَهُ فِي الْأَسْمَاء
أسْند الْحَافِظ فِي كِتَابه إِلَى عبد الله بن وهب بن مُنَبّه مقدم الذّكر أَنه أخبر عَن أَبِيه عَن فنج هَذَا أَنه قَالَ كنت أعمل بالدينباذ وأعالج فِيهَا فَلَمَّا قدم يعلى بن مُنَبّه أَمِيرا على صنعاء جَاءَ مَعَه رجال فَجَاءَنِي ذَات يَوْم رجل مِنْهُم وَأَنا أصرف المَاء فِي الزَّرْع وَكَانَ فِي كمه جوز فَجَلَسَ على ساقية من المَاء وَهُوَ يكسر من ذَلِك الْجَوْز وَجعل يخرج الْجَوْز من كمه ويأكله حَبَّة فحبة بعد كسرهَا ثمَّ ناداني يَا فَارسي هَلُمَّ فدنوت مِنْهُ فَقَالَ يَا فنج أتأذن لي أَن أغرس من هَذَا الْجَوْز على هَذَا المَاء فَقلت وَمَا نفعي بذلك قَالَ إِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول من نصب شَجَرَة وصبر على حفظهَا وَالْقِيَام عَلَيْهَا حَتَّى تثمر كَانَ لَهُ بِكُل مَا يصاب من ثَمَرهَا صَدَقَة عِنْد الله فَقلت لَهُ أَنْت سَمِعت ذَلِك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ نعم يَا فنج أَنا أضمنها لله عز وَجل ثمَّ غرس جوزة وَسَار
وَقَالَ الرَّاوِي لما أورد الْخَبَر أَن الغارس الْمخبر هُوَ وبر بن يحنس قَالَ فنج أول من غرس الْجَوْز بِصَنْعَاء
قَالَ الْحَافِظ وَأَخْبرنِي الرَّاوِي أَنَّهَا تُؤْكَل إِلَى الْآن بِصَنْعَاء وَقد أخرت هَذَا وَهُوَ من أَعْيَان الطَّبَقَة الأولى وَلكنه غير ذِي شهرة بِالْعلمِ والإسناد إِنَّمَا يعرف لَهُ هَذَا الْخَبَر
ثمَّ صَار الْعلم فِي طبقَة غير من تقدم ذكره
مِنْهُم عبد الله بن الْفَقِيه طَاوُوس الْمُقدم ذكره أول طبقَة التَّابِعين كَانَ إِمَامًا كَبِيرا وقصده النَّاس للْعلم(1/119)
قَالَ معمر الْآتِي ذكره لما عزمت على دُخُول الْيمن متجردا لطلب الْعلم قَالَ لي أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ إِن كنت راحلا فَإلَى عبد الله بن طَاوُوس أَو فَالْزَمْ تجارتك وَكَانَ مَعَ فقهه عالي الهمة كَبِير الْقدر لما توفى أَبوهُ وَعَلِيهِ دين فبادر إِلَى بيع تركته بِثمن وَغير ثمن على غَرَض الْقَضَاء عَن أَبِيه بعجل فَقيل لَهُ لَو انتظرت الْغُرَمَاء حَتَّى تبيع الْأَشْيَاء بأثمانها وَرُبمَا حصلت الزِّيَادَة فَقَالَ لَا أفعل وَأَبُو عبد الله مَحْبُوس عَن منزله فِي الْجنَّة
قَالَ الرَّازِيّ وَلم أر فَقِيها كَابْن طَاوُوس قيل وَلَا هِشَام بن عُرْوَة قَالَ لم يكن مثله وَتُوفِّي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ ومئة
وَكَانَ لَهُ ابْنَانِ فقيهان هما طَاوُوس وَمُحَمّد لم أَقف على شئ من أحوالهما غير أَنَّهُمَا كَانَا يذكران بالفقه وَقد عرض مَعَ ذكر أَبِيهِمَا ذكر رجلَيْنِ من الْفُضَلَاء هما معمر وَأَيوب فمعمر يَأْتِي ذكره وَأَيوب هُوَ أَيُّوب بن أبي تَمِيمَة السّخْتِيَانِيّ لقبه أَبُو بكر من موَالِي قضاعة كَانَ الْحسن الْبَصْرِيّ يَقُول فِي حَقه أَيُّوب سيد شباب الْبَصْرَة وَقَالَ هِشَام بن عُرْوَة مَا رَأَيْت فِي الْبَصْرَة مثل السّخْتِيَانِيّ وَقَالَ شُعْبَة أَيُّوب سيد الْفُقَهَاء أَخذ عَنهُ مَالك وَالثَّوْري توفى سنة 131 هـ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ ومئة
وَمِنْهُم حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان تفقه بطاووس وَمِنْهُم عبد الله بن عِيسَى عده الْحَافِظ فِي أهل الْجند وَمن الْجند عمر بن مُسلم الجندي
وَمِنْهُم سماك بن الْفضل الْخَولَانِيّ وَقيل الشهابي وَهُوَ الَّذِي تصدى لجواب فتيا الْوَلِيد بن يزِيد بن عبد الْملك حِين وَردت الْيمن وَهُوَ أَن الْوَلِيد لما كَانَ ولي(1/120)
عهد أَبِيه بعد عَمه هِشَام قَالَ لامْرَأَته وَكَانَت ابْنة خَالِد بن أسيد مَا رَأَيْت أحسن مِنْك قَالَت لَو رَأَيْت أُخْتِي لرأيت أحسن مني فَقَالَ أرينيها قَالَت أَخَاف تتركني وتتزوجها فَقَالَ إِن تَزَوَّجتهَا فَهِيَ طَالِق فظنت أَنَّهَا تحرم بذلك وأرته إِيَّاهَا فَلَمَّا رَآهَا شغف بهَا فَخَطَبَهَا من أَبِيهَا بعد أَن طلق أُخْتهَا فَقَالَ أَتُرِيدُ أَن تكون فحلا لبناتي فَلَمَّا صَار الْأَمر إِلَى الْوَلِيد رغب خَالِد فِي زواجته وَاسْتعْمل من فاتحه فِي ذَلِك فَكتب الْوَلِيد إِلَى عَامله فِي الْيمن وَهُوَ إِذْ ذَاك خَاله مَرْوَان بن مُحَمَّد بن يُوسُف ابْن أخي الْحجَّاج يُخبرهُ بِيَمِينِهِ ويأمره باستفتاء الْفُقَهَاء بِالْيمن فحين وصل الْكتاب جمع الْمُفْتِينَ من أهل الْيمن مِنْهُم هَذَا سماك وَعبد الله بن طَاوُوس وَإِسْمَاعِيل بن سروس الصَّنْعَانِيّ وخلاد بن عبد الرَّحْمَن وَعبد الله بن سعيد ثمَّ أخْبرهُم بِكِتَاب الْوَلِيد وسؤاله فابتدر سماك وَقَالَ أَيهَا الْأَمِير إِنَّمَا النِّكَاح عقد يعْقد ثمَّ يحل بِالطَّلَاق وَإِن هَذَا حلف قبل أَن يعْقد فَلَا يتَعَلَّق بذلك تَحْرِيم وَأجْمع مَعَه الْفُقَهَاء الْبَاقُونَ على ذَلِك فأعجب مَرْوَان ذَلِك وَقَالَ لسماك قد وليتك الْقَضَاء ثمَّ كتب إِلَى الْوَلِيد يُخبرهُ أَن القَاضِي قبلي قَالَ كَذَا وَكَذَا فحين وصل كِتَابه إِلَى الْوَلِيد استدعى خَالِد بن أسيد وَأَوْقفهُ عَلَيْهِ فَأَجَابَهُ وأزوجه وَلم أتحقق لَهُ وَلَا لفقهاء الْملَّة الْمَذْكُورين تَارِيخا وَأما ابْن طَاوُوس فقد ذكرته أَولا بل تعرف نهايتهم بِزَمَان الْوَلِيد بن يزِيد إِذا كَانَ فِي بعض سنة خمس وَعشْرين إِلَى بعض سنة سِتّ وَعشْرين ومئة إِذْ كَانَت ولَايَته سنة وشهرين
وَمِنْهُم عَمْرو بن عبيد حيرد إِمَام أهل صنعاء أدْرك ابْن الزبير وَصلى خَلفه وَلما قدم ابْن جريج صنعاء أَخذ عَنهُ وَكَانَ من أَصْحَابه إِبْرَاهِيم بن خَالِد(1/121)
أحد عباد صنعاء ومؤذنها
حُكيَ أَنه صلى الْعشَاء وَأخذ فِي الْعِبَادَة حَتَّى طلع الْفجْر وَصلى الصُّبْح بِوضُوء الْعشَاء وَرجل يرمقه من أول اللَّيْل فَلَمَّا طلعت الشَّمْس جَاءَ الرجل الَّذِي بَات يرمقه فَسلم عَلَيْهِ وَقَالَ لم لَا نمت البارحة قَالَ وجعلتني بَالا قَالَ نعم قَالَ فَإِنِّي رمقت ابْن دريه صلى الْعَتَمَة ثمَّ أوتر فَرفع يَدَيْهِ نَحْو السَّمَاء وشخص ببصره فَلم يزل كَذَلِك حَتَّى طلع الصُّبْح بِوضُوء الْعَتَمَة وَكَانَ لَهُ ولد اسْمه عَليّ يَأْتِي ذكره فِي أَصْحَاب معمر وَمِنْهُم مُحَمَّد بن سميع عده الإِمَام أَحْمد فِي تَابِعِيّ الْيمن وَلم ينْسبهُ إِلَى مخلاف مِنْهَا
وَمِنْهُم سُلَيْمَان بن دَاوُود بن قيس أَخذ الْعلم عَن الْقَاسِم بن عبد الْوَاحِد الْمَكِّيّ وَطَلْحَة بن عَمْرو وَهُوَ أحد أَشْيَاخ الْفَقِيه عبد الرَّزَّاق الْآتِي ذكره
وَكَانَ يفضل بِمَعْرِِفَة الْكتب على وهب وَهُوَ عِنْد أهل صنعاء بِمَنْزِلَة وهب وَهَمَّام بن نَافِع
وَمِنْهُم عريف بن إِبْرَاهِيم الصَّنْعَانِيّ وَالنضْر بن كثير يروي عَن طَاوُوس وَسماك بن الْوَلِيد الجيشاني قَالَ ابْن سَمُرَة وَمِمَّنْ عده الدَّارَقُطْنِيّ من أهل الْيمن طَاوُوس وَزَمعَة بن صَالح وَعبد الله بن عِيسَى مقدم الذّكر وَعبيد بن بحير بن ريسان الْآتِي ذكره بِأَبِيهِ فِي الْوُلَاة وَسَلام ابْن وهب وتلميذه زيد بن الْمُبَارك الصَّنْعَانِيّ وعَلى بن عبد الحميد أَخذ عَن طَاوُوس وَأخذ عَنهُ ابْن جريج وَقَالَ مِمَّن(1/122)
نقل عَنهُ الْفِقْه والْحَدِيث قبل ظُهُور مَذْهَب الشَّافِعِي مُحَمَّد بن يُوسُف الجذامي روى عَنهُ أَبُو سعيد الجندي مَا رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن عمرَان الْبَصْرِيّ مَا رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن الْحسن من فقه أبي حنيفَة
وانقضى ذكر من حَقَّقَهُ الرَّازِيّ وَابْن سَمُرَة من فُقَهَاء الْيمن فِي الطَّبَقَة الأولى ثمَّ الثَّانِيَة ثمَّ الثَّالِثَة ثمَّ صَار الْعلم فِي دَرَجَة رَابِعَة إِمَام أَهلهَا أَبُو عُرْوَة معمر بن رَاشد مولده الْبَصْرَة سنة ثَلَاث وَتِسْعين وبتاريخه ولد مَالك وَالثَّوْري وَكَانَ تَاجِرًا وَهُوَ يرى النَّاس يعظمون الْحسن الْبَصْرِيّ
وَلما توفّي الْحسن عظم أَسف النَّاس عَلَيْهِ فغبطه معمر على ذَلِك وَسَأَلَ عَن سَببه فَقيل كَونه عَالما فَانْتدبَ لطلب الْعلم وجد فِيهِ وَترك التِّجَارَة وَكَانَ الْعلم فِي الْيمن أشهر من سواهُ وَقد ذكرت قَول أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ لَهُ فِي ذكر ابْن طَاوُوس
فَلَمَّا قدم الْيمن أَخذ عَن ابْن طَاوُوس وَغَيره كهشام بن عُرْوَة وَقَتَادَة وَإِلَيْهِ قدم السُّفْيانَانِ الثَّوْريّ وَابْن عُيَيْنَة وَابْن الْمُبَارك وَغَيرهم وَعنهُ أَخذ جمَاعَة من الْعلمَاء مِنْهُم عبد الرَّزَّاق وَالْقَاضِي هِشَام وَله كتاب فِي السّنَن مُفِيد يقرب مأخذه وَوَضعه من الْمُوَطَّأ وَمن سنَن أبي قُرَّة وَهُوَ أقدم مِنْهُمَا وَكَانَ سُفْيَان الثَّوْريّ يَقُول فُقَهَاء الْعَرَب سِتَّة أفقه السِّتَّة ثَلَاثَة أفقه الثَّلَاثَة معمر
وَكَانَ معمر لُزُوما للسّنة نفورا عَن الْبِدْعَة لَا يرى السَّيْف على أهل الْقبْلَة وَذكر الرَّازِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن يُوسُف بن زِيَاد أَنه قَالَ لعبد الرَّزَّاق من الْقَائِل لمعمر وَأَنْتُم فِي صرح الْمَسْجِد يَا أَبَا عُرْوَة إِن النَّاس يَقُولُونَ إِنَّك تصلي خلف هَذَا الظَّالِم يعنون ابْن زَائِدَة وَلَا تَعْتَد بهَا فَقَالَ أَنْت رجل صنعاني يَنْبَغِي لَك أَولا أَن تعرف مذهبي(1/123)
إِنِّي مَا أحب أَن لي ملْء هَذَا الْمَسْجِد ذَهَبا يخرج من شرفاته وتفوتني صَلَاة الْجَمَاعَة قَالَ مُؤَلفه غفر الله لَهُ قَوْله أَنْت رجل صنعاني خرج من معمر على طَرِيق الْإِنْكَار كَمَا قَالَت أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة لامْرَأَة سَأَلتهَا مَا بَال الْحَائِض تُؤمر بِقَضَاء الصَّوْم وَلَا تُؤمر بِقَضَاء الصَّلَاة أحرورية إنت نسبتها إِلَى بلد ظهر مِنْهَا الْخَوَارِج وَمن عاداتهم الصدْق فِي السُّؤَال والإيغال فِي الْمقَال وَكَذَلِكَ صنعاء أول بلد فِي الْيمن أنكر أَهلهَا الصَّلَاة خلف الظلمَة وَأَن من صلى خلف أحد مِنْهُم أعَاد ثَانِيَة وَذَلِكَ الْغَالِب فِيهَا وَفِي نَوَاحِيهَا مُنْذُ أول الْإِسْلَام إِلَى عصرنا سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسبعمئة وَذَلِكَ أَنهم فِي الْغَالِب لَا يحْضرُون للصَّلَاة وَلَا يأتمون إِلَّا بِمن يتحققون نزاهته عَن الْمعاصِي والنجاسات
وَالْمذهب الْحق الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّة الْإِسْلَام أَن الْمُسلم لَهُ معرفَة الْأَحْكَام فِي جَوَاز الصَّلَاة خلف من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله إِلَّا مَا حُكيَ عَن طَاوُوس وَقد مضى وَوَافَقَهُ على ذَلِك أَئِمَّة الزيدية وَمن قَالَ بقَوْلهمْ وَهُوَ قَول غَالب أهل صنعاء ونواحيها وَقد يخرج من الْبَلَد قَلِيل أما الشَّافِعِيَّة وهم الَّذين يَجْتَمعُونَ للصَّلَاة بالجامع وإسماعيلية وَكَانُوا يَقُولُونَ لكل عَالم هفوة وهفوة طَاوُوس عدم استجازة الصَّلَاة خلف الظلمَة
وَكَانَت مُدَّة إِقَامَة معمر بِصَنْعَاء عشْرين سنة وَتُوفِّي فِيهَا برمضان سنة ثَلَاث وَخمسين ومئة بذلك أخبر إِبْرَاهِيم بن خَالِد الْمُؤَذّن بِجَامِع صنعاء وَقَالَ صليت عَلَيْهِ وَله ثَمَان وَخَمْسُونَ سنة
قَالَ الكاشغري قَالَ مُحَمَّد بن بسطَام وَكَانَ من أفاضل(1/124)
النَّاس رَأَيْت معمرا وَشهِدت جنَازَته وَأعرف قَبره فِي الحقل بخزيمة مَقْبرَة صنعاء وَهُوَ أول من قبر هُنَاكَ فَسَأَلته أَن يذهب معي ليرينيه فَذهب وَأَنا مَعَه وأوقفني بمَكَان دارس على قرب من مَسْجِد عَليّ بن أبي بكر الَّذِي يصلى فِيهِ على الْمَوْتَى المقبورين فِي الْمقْبرَة
وَأهل الْعرَاق يَزْعمُونَ أَن معمرا مَفْقُود وَلَيْسَ كَذَلِك وَقد عرض ذكر الْحسن الْبَصْرِيّ والسفيانان
وَالْحسن هُوَ أَبُو سعيد الْحسن بن أبي الْحسن بن يسَار الْبَصْرِيّ بِالْوَلَاءِ ولد لِسنتَيْنِ بَقِيَتَا من خلَافَة عمر وَكَانَت أمه خادمة لأم سَلمَة زوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا ولد عِنْدهَا أخرجته إِلَى عمر فَدَعَا لَهُ وَقَالَ اللَّهُمَّ فقهه فِي الدّين وحببه إِلَى النَّاس وَكَانَت أمه مَتى راحت تقضي لسيدتها حَاجَة وَبكى جعلت ثديها فِي فَمه تشغله بذلك حَتَّى تَأتي أمه وَرُبمَا درت عَلَيْهِ وَكَانَ النَّاس يرَوْنَ أَن سَبَب بركته من ذَلِك وَكَانَ أنس كثيرا مَا يسْأَل عَن أَمر فَيَقُول اسألوا مَوْلَانَا الْحسن فَإِنَّهُ سمع وَسَمعنَا وَحفظ ونسينا وَكَانَ قَتَادَة الْعَدوي يَقُول الزموا هَذَا الشَّيْخ وَيُشِير إِلَيْهِ فَمَا رَأَيْت أحد أشبه رَأيا بعمر مِنْهُ وَقَالَ أَبُو بردة الْأَشْعَرِيّ وَقد ذكرت أَصْحَاب عمر فَمَا رَأَيْت أحدا أشبههم كَهَذا الشَّيْخ يَعْنِي الْحسن وَقَالَ عَليّ بن زيد أدْركْت عُرْوَة بن الزبير وَسَعِيد بن الْمسيب وَيحيى بن جعدة وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وسالما وَآخَرين فَلم أر مثله فيهم وَلَو أَن الْحسن أدْرك أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ رجل لاحتاجوا إِلَى رَأْيه رأى ابْن سِيرِين كَأَن الجوزاء تقدّمت الثريا فَقَالَ يَمُوت الْحسن وأموت بعده وَهُوَ أشرف مني فَكَانَ كَمَا قَالَ وَكَانَت وَفَاته بِالْبَصْرَةِ سنة عشر ومئة وَهُوَ ابْن ثَمَان وَثَمَانِينَ سنة وَسَيَأْتِي ذكر السُّفْيانَانِ وَمِنْهُم أَبُو خُلَيْد مُحَمَّد بن ماجان وَيعرف(1/125)
بِصَاحِب معمر وصهره إِذْ تزوج معمر أُخْته أَخذ الْقِرَاءَة عَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء حِين قدم صنعاء فَارًّا من الْحجَّاج وَأحب إِيرَاد نبذه من أَحْوَال أبي عَمْرو فَهُوَ أَبُو عَمْرو أختلف فِي اسْمه فَقيل زبان وَقيل الْعُرْيَان وَقيل يحيى وَقيل كنيته أَبُو عمار بن عبد الله بن الْحصين بن الْحَارِث بن جلهم بن خزاعى التَّمِيمِي نسبا كَانَ عَمه عَاملا للحجاج فصادره فهرب وَدخل صنعاء وعدن وَقَالَ كنت لَيْلَة مفكرا فِي حَالي مَعَ الْحجَّاج إِذْ سَمِعت منشدا ... رُبمَا تجزع النُّفُوس من الْأَمر لَهُ فُرْجَة كحل العقال
ثمَّ توفّي عقيب ذَلِك بِالْكُوفَةِ سنة أَربع وَخمسين ومئة
وَمِنْهُم عبد الله بن كثير الْمقري مولى عبد الله بن السَّائِب المَخْزُومِي وَكَانَت قِرَاءَته على مُجَاهِد بن جُبَير أبي الْحجَّاج بِأَخْذِهِ عَن ابْن عَبَّاس وَهُوَ أقدم الْقُرَّاء السَّبْعَة وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة بعد أَن قَامَ بهَا دهرا وقراءته الْغَالِبَة على أَهلهَا وَذَلِكَ سنة سِتّ وَعشرَة وَقيل بعد عشْرين ومئة
وَمِنْهُم رَبَاح بن زيد كَانَ ذَا فضل وَدين وَمَعْرِفَة للْقِرَاءَة سجن بَصَره آخر عمره فَكَانَ لَا يزَال وَاضِعا رَأسه على رُكْبَتَيْهِ فَإِذا دخل عَلَيْهِ أحد وَسلم رفع رَأسه إِلَيْهِ وَفتح عَيْنَيْهِ ورد عَلَيْهِ ثمَّ أعَاد رَأسه إِلَى رُكْبَتَيْهِ(1/126)
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عمر بن مقسم أدْرك أَصْحَاب وهب وَأخذ عَنْهُم وَكَانَ إِمَامًا فِي الْقِرَاءَة
وَمِنْهُم أَبُو الْأَشْعَث شرَاحِيل بن شُرَحْبِيل بن كُلَيْب بن أزدشير من الْأَبْنَاء نزل أخيرا دمشق وَمَات بهَا وعده الْحَاكِم فِي تَابِعِيّ الْيمن من نَقله الْآثَار
وَمِنْهُم عَطاء بن مركيوذ وَضبط مركيوذ بِفَتْح الْمِيم وَقيل بخفضها وَسُكُون الرَّاء وَضم الْكَاف وَالْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَسُكُون الْوَاو ثمَّ ذال مُعْجمَة أَيْضا
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي طبقاته هُوَ أول من جمع الْقُرْآن يَعْنِي من أهل الْيمن وَأما الرَّازِيّ فَقَالَ أول من جمع الْقُرْآن بِصَنْعَاء أَبُو شرِيف العابد واسْمه عبد الله بن بريد كَانَ عابدا محققا وَكَانَ معاصرا لوهب بن مُنَبّه روى الرَّازِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنهُ أَنه قَالَ رَأَيْت لَيْلَة الْقدر مرَّتَيْنِ مرّة بِمَسْجِد صنعاء وَأُخْرَى بِمَكَّة
فَقيل لَهُ أَي لَيْلَة رَأَيْتهَا فَقَالَ لَيْلَة ثَلَاث وَعشْرين من الْعَام الأول وَفِي الثَّانِي لَيْلَة أَربع وَعشْرين فَقيل أَي سَاعَة من اللَّيْل فَقَالَ فِي الثُّلُث الْأَوْسَط قيل كَيفَ رَأَيْتهَا قَالَ رَأَيْت السَّمَاء منفرجة وَدخل عَلَيْهِ سامك وَلم يكن بِدُونِهِ فِي الْعِبَادَة فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقَالَ لَهُ أَبُو شرِيف أحَدثك بِشَيْء إِن قُمْت من مرضِي هَذَا فَلَا أحب أَن تذكره وَإِن مت فافعل مَا شِئْت خطر ببالي ذكر الْحور الْعين وَسَأَلت الله أَن يزوجني مِنْهُنَّ وَكنت مغطيا رَأْسِي فَكشفت عَنهُ فَإِذا عِنْد وِسَادَتِي مِنْهُنَّ وَاحِدَة فكلمتني وكلمتها(1/127)
قَالَ الرَّازِيّ وَرَأى رجل من أهل صنعاء ملكَيْنِ قد نزلا من السَّمَاء على صنعاء خَاصَّة فَقَالَ أَحدهمَا للْآخر أُرِيد أخسف بِهَذِهِ الْبَلدة فَقَالَ وَكَيف تخسف بهَا وَبهَا أَبُو شرِيف ووهب بن مُنَبّه
وَمِنْهُم زِيَاد سميركوش أَي قصير الْأذن عده مُسلم فِي تَابِعِيّ الْيمن
وَمِنْهُم إِسْمَاعِيل بن شروس لَقِي أَصْحَاب ابْن عَبَّاس كوهب وَعَطَاء وَعِكْرِمَة ثمَّ صَار الْعلم إِلَى طبقَة خَامِسَة يَنْبَغِي أَن نبدأ من أَهلهَا بِالْإِمَامِ المرحول إِلَيْهِ من الْآفَاق وَهُوَ أَبُو بكر عبد الرَّزَّاق بن همام بن نَافِع الْحِمْيَرِي بِالْوَلَاءِ قَالَ الرَّازِيّ هُوَ مولى المغيثيين وهم قوم يسكنون بَلَدا يُقَال لَهَا دروان من مخلاف ذمار ينسبون إِلَى ذِي مغيث بن ذِي الثوجم الْأَوْزَاعِيّ ثمَّ الْهَمدَانِي مولده سنة سِتّ وَعشْرين ومئة تفقه بِمَعْمَر وَأخذ عَن همام بن مُنَبّه وَعَن عبد الله بن عِيسَى الجندي مقدم الذّكر وسُفْيَان الثَّوْريّ وَابْن جريج وَأدْركَ ابْن طَاوُوس وَهُوَ ابْن عشر سِنِين فَيُقَال إِنَّه أَخذ عَنهُ وَإِلَيْهِ قدم ابْن رَاهَوَيْه وَأحمد بن حَنْبَل وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَيحيى بن معِين قَالَ الْحَافِظ فِي حَقه لم يرحل إِلَى أحد بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي طلب الْعلم كَمَا رَحل إِلَى عبد الرَّزَّاق وَله تصنيف أَخذه عَنهُ الإِمَام أَيْضا وَأحمد وَهُوَ مَوْجُود بِبَغْدَاد من(1/128)
الْحَنَابِلَة وَله تارخ أَيْضا أَخذه عَنهُ الإِمَام أَيْضا وَأَخذه غَيره عدَّة مفرقات وَهُوَ أحد أَئِمَّة الْأَمْصَار الْمَعْدُودين توفّي بِصَنْعَاء غَالِبا سنة اثْنَتَيْ عشرَة ومئتين
وَقد عرض مَعَ ذكره جمَاعَة من أَعْيَان النَّاس الْعلمَاء فأذكر من أَحْوَالهم بعض مَا صَحَّ مَعَ ذكر تواريخهم فَمنهمْ همام وسُفْيَان وَابْن جريج أحد من أَخذ عَنْهُم
فسفيان هُوَ أَبُو عبد الله سُفْيَان بن شُعْبَة بن مَسْرُوق بن حبيب بن رَافع بن عبد الله بن موهبة بن منقذ بن نصر بن الحكم بن الْحُوَيْرِث بن مَالك بن ملكان بن ثَوْر بن عبد مَنَاة الثَّوْريّ نِسْبَة إِلَى جده هَذَا ثَوْر
مولده سنة خمس وَقيل سبع وَسِتِّينَ من الْهِجْرَة مَعْدُود من أكَابِر الْأَئِمَّة من أهل الْأَمْصَار على الْعُمُوم وَمن أهل الْكُوفَة على الْخُصُوص وَيُقَال لَهُ الْكُوفِي أَيْضا لِأَنَّهَا بِلَاده ومنشأه أجمع النَّاس على دينه وورعه وزهده وثقته وَهُوَ أحد الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين
قَالَ ابْن عُيَيْنَة مَا رَأَيْت رجلا أعلم بالحلال وَالْحرَام من سُفْيَان وَيُقَال إِن الشَّيْخ الْجُنَيْد كَانَ على مذْهبه وَالأَصَح أَنه كَانَ على مَذْهَب أبي ثَوْر وَقَالَ ابْن الْمُبَارك لَا نعلم على وَجه الأَرْض أعلم من سُفْيَان الثَّوْريّ وَكَانَ رَأس النَّاس فِي زَمَانه وَقَبله الشّعبِيّ وَقَبله ابْن عَبَّاس وَقَبله عمر
وَمُسْنَده عَن أبي إِسْحَاق السبيعِي وَالْأَعْمَش وَمن فِي طبقتهما وَسمع مِنْهُ الْأَوْزَاعِيّ وَابْن جريج وَمُحَمّد بن إِسْحَاق وَمَالك
وَتلك الطَّبَقَة وَكَانَت وَفَاته بِالْبَصْرَةِ متواريا عَن السُّلْطَان وَذَلِكَ سنة إِحْدَى(1/129)
وَسِتِّينَ ومئة فِي خلَافَة الْمهْدي دخل فِي أَيَّام تواريه على جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق فَقَالَ لَهُ يَا سُفْيَان أَيْن تدخل وَالسُّلْطَان يطلبك وَنحن نتوقاه قَالَ حَدثنِي حَتَّى أخرج عَنْك قَالَ حَدثنِي أبي عَن جدي قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أنعم الله عَلَيْهِ فليشكر الله وَمن استبطأ الرزق فليستغفر الله وَمن أحزنه أَمر فليكثر من لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم وَدفن عشَاء رَحمَه الله وَلم يعقب وَالثَّوْري بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَبعدهَا وَاو سَاكِنة ثمَّ رَاء ثمَّ يَاء نِسْبَة إِلَى بطن من تَمِيم وَثمّ ثوري آخر إِلَى بطن من بطُون هَمدَان
وَأما ابْن جريج فَهُوَ أَبُو الْوَلِيد عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج الْقرشِي بِالْوَلَاءِ الْمَكِّيّ وجريج بِضَم الْجِيم وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ جِيم أَيْضا وَكَانَ عبدا لآل أم حبيب بنت جُبَير
مولده سنة ثَمَانِينَ لِلْهِجْرَةِ وَكَانَ معدودا فِي أَعْيَان عُلَمَاء مَكَّة وَيُقَال إِنَّه أول من صنف الْكتب فِي الْإِسْلَام قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق ابْن جريج مَا دون هَذَا الْعلم تدويني أحد جالست عَمْرو بن دِينَار بَعْدَمَا فرغت من عَطاء سبع سِنِين وَقَالَ لم يغلبني أحد على يسَار عَطاء عشْرين سنة قيل فَمَا مَنعك من يَمِينه قَالَ كَانَت قُرَيْش تغلبني عَلَيْهِ وَدخل أَيْضا الْيمن كسفيان ووفد على ابْن زَائِدَة فَأكْرمه وَأحسن إِلَيْهِ وَكَانَت وَفَاته سنة خمس وَخمسين ومئة
وَأما همام فقد سبق ذكره فِي أول طبقته(1/130)
وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ وقصده إِلَى صنعاء جمَاعَة مِنْهُم أَبُو عبد الله أَحْمد بن مُحَمَّد بن حَنْبَل بن هِلَال بن أَسد بن إِدْرِيس بن عبد الله بن حَيَّان بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت مشدودة ثمَّ ألف ثمَّ نون بن عبد الله بن سِنَان الشَّيْبَانِيّ نِسْبَة إِلَى جده هَذَا الْمَرْوِيّ الأَصْل خرجت بِهِ أمه حَامِلا بِهِ من مرو فولدته بِبَغْدَاد فِي أحد الربيعين من سنة أَربع وَسِتِّينَ ومئة وبلغه عَن إِبْرَاهِيم بن أبان الْآتِي ذكره فِي عدن فضل فقصده فَلم يجده كَمَا قيل فَقَالَ فِي سَبِيل الله الدريهمات الَّتِي أنفقناها فِي السّفر إِلَى إِبْرَاهِيم ثمَّ قدم إِلَى عبد الرَّزَّاق فِي صنعاء فَأخذ عَنهُ وَأقَام عِنْده مُدَّة وَسُئِلَ عَنهُ عبد الرَّزَّاق فَقَالَ مَا رَأَيْت أفقه مِنْهُ وَلَا أورع مِنْهُ بَلغنِي أَن نَفَقَته نفدت وَأَنه أكرى نَفسه من الحمالين حَتَّى قدم صنعاء فَأخذت عشرَة دَنَانِير وخلوت بِهِ وَقلت لَهُ إِنَّه لَا يجْتَمع عندنَا الدَّنَانِير وَقد وجدت مَعَ النِّسَاء عشرَة دَنَانِير فَخذهَا أنفقها فَإِنِّي أَرْجُو أَن لَا تنفد حَتَّى قد تهَيَّأ غَيرهَا فَتَبَسَّمَ وَقَالَ يَا أَبَا بكر لَو قبلت شَيْئا من النَّاس قبلت مِنْك
وَأخذ عَن عبد الْملك الذمارِي وَقَالَ سَأَلته أَيْن بلد طَاوُوس فَقَالَ هُوَ من أهل الْجند وَكَانَ ذَا علم شهير وَفقه كثير أحد أَعْيَان الْإِسْلَام وفضلاء الْأَنَام وَكتابه الْمسند وَمَا جمع فِيهِ من الْأَحَادِيث الَّتِي لم تتفق لغيره يدلان على تميزه على سَائِر الْفُقَهَاء والمحدثين وَذكروا أَنه يحفظ ألف ألف حَدِيث
وَلما قدم الشَّافِعِي بَغْدَاد صَحبه واختص بِهِ وَلما خرج من بَغْدَاد سُئِلَ عَن من خَلفه فِيهَا فَقَالَ مَا خلفت بهَا أتقى وَلَا أفقه من ابْن حَنْبَل
ودعي إِلَى القَوْل بِخلق الْقُرْآن فَامْتنعَ وَحبس وَضرب لَا يزِيدهُ ذَلِك إِلَى ثبوتا على نفي الْخلق عَنهُ وَكَانَ حسن الْوَجْه ربعَة يختضب بِالْحِنَّاءِ خضابا لَيْسَ بالقاني فِي لحيته شَعرَات سود
أَخذ عَنهُ جمَاعَة من أَمْثَال مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ وَمُسلم وَلم يكن لَهُ فِي آخر عمره نَظِير فِي سَعَة الْعلم ودقة الْعَمَل إِلَى أَن توفّي نَهَار الْجُمُعَة لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة بقيت من ربيع الآخر سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين ومئتين(1/131)
وَلما قبض صَاح النَّاس وعلت أَصْوَاتهم بالبكاء حَتَّى كَأَن الدُّنْيَا ارتجت وَلم يبْق أحد فِي جَانِبي بَغْدَاد إِلَّا حضر قبرانه غير أهل مَسْجِد الْحَارِث بن أَسد المحاسبي فهجروه على ذَلِك دهرا وحزر من حضر جنَازَته للصَّلَاة من الرِّجَال فَكَانُوا ثمانمئة ألف من النِّسَاء سِتِّينَ ألفا وَأسلم إِذْ ذَاك عشرُون ألفا من يَهُودِيّ وَنَصْرَانِي ومجوسي وَرَآهُ بعد ذَلِك من كَانَ يَصْحَبهُ وَعَلِيهِ حلتان خضراوان وعَلى رَأسه تَاج من نور وَهُوَ يتبختر فِي مشيته فَقَالَ يَا سَيِّدي مَا هَذِه المشية الَّتِي لم أكن أعرفهَا فِيك فَقَالَ الإِمَام مشْيَة الخدام فِي دَار السَّلَام إِن رَبِّي حاسبني يَسِيرا وحباني وقربني وأبلغني النّظر وتوجني بِهَذَا التَّاج وَقَالَ يَا أَحْمد هَذَا تَاج الْوَقار توجتك بِهِ لِقَوْلِك بِالْقُرْآنِ كَلَامي غير مَخْلُوق
وَمِنْهُم ابْن رَاهَوَيْه أَبُو يَعْقُوب إِسْحَاق بن أبي الْحسن إِبْرَاهِيم بن مخلد بن إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي الْمروزِي مولده أحد شهور سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَقيل سنة سِتّ وَسِتِّينَ ومئة
وراهويه لقب لِأَبِيهِ إِذْ ولد بطرِيق مَكَّة وَالطَّرِيق بِالْفَارِسِيَّةِ رَاه وويه بِمَعْنى وجد بِالطَّرِيقِ وَضَبطه بِفَتْح الرَّاء ثمَّ ألف ثمَّ هَاء سَاكِنة وواو مَفْتُوحَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت ثمَّ هَاء سَاكِنة وَقيل غَيره وَهَذَا أشهر ومخلد بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح اللَّام وَبعدهَا دَال مُهْملَة والحنظلي نِسْبَة إِلَى حَنْظَلَة بن مَالك إِلَى فَخذ من تَمِيم والمروزي نِسْبَة إِلَى مَدِينَة عَظِيمَة بخراسان تعرف بمرو الشاهجان إِذْ هُنَاكَ مَدِينَة أُخْرَى تسمى مروروذ إِذْ بنيت على نهر فَإِن النَّهر بلغَة الْفرس الروذ والشاهجان زوج الْملك لِأَن الْملك الَّذِي بناها كَانَ مغرما بهَا فسميت بِهِ خرج من هَاتين المدينتين جمَاعَة من أَعْيَان الْعلمَاء فَلذَلِك أَحْبَبْت بيانهما وَقدر(1/132)
الْمسَافَة بَينهمَا أَرْبَعُونَ فرسخا فالنسبة إِلَى مرو الشاهجان مروزي وَإِلَى مرو الروذ مروروذي لغَرَض الْفرق فَإِذا اجتمعتا قيل المروان وَذكر فِي الشّعْر كثيرا من ذَلِك قَول الأخطل حِين دخل على يزِيد بن الْمُهلب وَهُوَ فِي أسر الْحجَّاج ... أَبَا خَالِد ضَاقَتْ خُرَاسَان بعدكم ... وَقَالَ ذَوُو الْحَاجَات أَيْن يزِيد
فَلَا قطرت بالمرو بعْدك قَطْرَة ... وَلَا أَخْضَر بالمروين بعْدك عود
فَمَا لسرير بعد ملكك بهجة ... وَلَا لجواد بعد جودك جود ...(1/133)
قَالَ ابْن خلكان كَانَ ابْن رَاهَوَيْه أحد أَئِمَّة الْإِسْلَام عده الدَّارَقُطْنِيّ فِيمَن روى عَن الشَّافِعِي وعده الْبَيْهَقِيّ فِي أَصْحَابه وَكَانَ قد نَاظر الشَّافِعِي ثمَّ اعْترف بفضله فنسخ كتبه وَجمع مصنفاته بِمصْر وَكَانَ من أعرف النَّاس بِالْحَدِيثِ حَتَّى قيل كَانَ يحفظ سبعين ألف حَدِيث وَمَا سمع شَيْئا قطّ إِلَّا حفظه وَلَا حفظ شَيْئا قطّ فنسيه
سكن بنيسابور فِي آخر عمره فَتوفي بهَا لَيْلَة النّصْف من شعْبَان سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ ومئتين
وَمِنْهُم عَليّ بن عبد الله بن جَعْفَر الْمَدِينِيّ وَهُوَ مَعْدُود فِي أَصْحَاب الإِمَام الشَّافِعِي كتب عَن الشَّافِعِي كتاب الرسَالَة وَحمله إِلَى عبد الرَّحْمَن بن الْمهْدي فأعجب بِهِ
نرْجِع حِينَئِذٍ إِلَى ذكر عُلَمَاء الْيمن الْمَوْجُودين فِي طبقَة عبد الرَّزَّاق فَمن أهل الْجند مُحَمَّد بن خَالِد وَهُوَ أحد شُيُوخ الشَّافِعِي وروى عَنهُ مَا رَوَاهُ عَن أبان بن صَالح عَن الْحسن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يزْدَاد الْأَمر إِلَّا شدَّة وَلَا الدُّنْيَا إِلَّا إدبارا وَلَا النَّاس إِلَّا شحا وَلَا تقوم السَّاعَة إِلَّا على شرار النَّاس وَلَا مهْدي إِلَّا عِيسَى بن مَرْيَم
قَالَ ابْن سَمُرَة روى هَذَا الْخَبَر عَن الشَّافِعِي يُونُس بن عبد الْأَعْلَى أحد أَصْحَابه وَلِهَذَا خرجه الْقُضَاعِي فِي كتاب الشهَاب وَكَانَ بعض الْفُقَهَاء يسْتَدلّ على أَن الشَّافِعِي دخل الْجند كَمَا دخل صنعاء بروايته عَن هَذَا مُحَمَّد بن خَالِد
وَمِنْهُم يحيى بن وثاب الجندي أدْرك طَاوُوس وحَنْظَلَة وَغَيرهمَا وَمن صنعاء(1/134)
عبد الله بن صَالح بن أبي غَسَّان الْكُوفِي سكن صنعاء إِلَى أَن توفّي بهَا وعد من فضلائها وَكَانَ مجيدا للْقِرَاءَة بِحرف حَمْزَة لَيْسَ بَينه وَبَينه غير رجلَيْنِ وَكَانَ يقْرَأ أَيْضا بِحرف عَاصِم وَكَانَ نَسِيج وَحده عبَادَة وفضلا وتعليما للخير
خرج من صنعاء إِلَى سعوان لبَعض حَوَائِجه فرصده راصد فَإِذا بِهِ لم يتَوَضَّأ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة غير مرّة وَقت الظّهْر وَكَانَ يقرىء النَّاس سنة أَربع ومئتين وروى عَن عبد الحميد بن مَرْوَان بن سَالم عَن عبد الْملك بن أبي سُلَيْمَان عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ أول مَا يجازى بِهِ العَبْد الْمُؤمن بعد مَوته أَن يغْفر لجَمِيع من شيع جنَازَته وَكَانَ يجيد الْقِرَاءَة بالطريقين الْمَذْكُورين
وَمن أهل عدن جمَاعَة مِنْهُم أَبُو مَرْوَان الحكم بن أبان بن عَفَّان بن الحكم بن عُثْمَان الْعَدنِي أدْرك ابْن طَاوُوس بالجند فَأخذ عَنهُ وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي صفة الصفوة وَقَالَ كَانَ مشيخة يعْتَبر قَوْلهم يَقُولُونَ كَانَ الحكم بن أبان سيد أهل الْيمن وَكَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فَإِذا غَلبه النّوم ألْقى بِنَفسِهِ فِي الْبَحْر وَقَالَ أسبح لله عز وَجل مَعَ الْحيتَان وَأسْندَ عَن عِكْرِمَة وَغَيره وامتحن بِقَضَاء عدن وَكَانَ مَشْهُورا بِالْكَرمِ
ومسجده الَّذِي كَانَ يقف فِيهِ من عدن هُوَ مَسْجِد أَبِيه الَّذِي يعرف عِنْد أهل عدن بِمَسْجِد أبان وَهُوَ أحد مَسَاجِد عدن الْمَشْهُورَة بِالْبركَةِ واستجابة الدُّعَاء فِي نجاح الْحَوَائِج وَبِه أَقَامَ الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل حِين قدم للأخذ عَن ولد هَذَا الْآتِي ذكره
وَمِنْهُم أَخُوهُ المكبر بن أبان وَكَانَ حَال قدوم الإِمَام أَحْمد إِلَى عدن مَوْجُودا فَلَمَّا لم يجد إِبْرَاهِيم ابْن أَخِيه كَمَا بلغه قَالَ لهَذَا فِي سَبِيل الله الدريهمات الَّتِي أنفقناها إِلَى ابْن أَخِيك
وَمِنْهُم ابْن أَخِيه إِبْرَاهِيم بن الْفَقِيه الحكم مقدم الذّكر وَهُوَ الَّذِي قدم إِلَيْهِ(1/135)
الإِمَام أَحْمد على السماع فَلم يجده كَمَا قيل وَقد ذكرت ذَلِك فِيمَا مضى وَكَانَ قدومه إِلَيْهِ لبضع وَتِسْعين ومئة
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنِي كَانَ إِمَامًا فَاضلا كثير الْحَج حج سِتِّينَ حجَّة مَاشِيا على قَدَمَيْهِ
أَخذ عَنهُ مُسلم بن الْحجَّاج وَالتِّرْمِذِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَخرج عَنهُ مُسلم عدَّة أَحَادِيث فِي صَحِيحه وَهُوَ أجل شُيُوخ الْمفضل الجندي الْآتِي ذكره مَعَ جمع من الْيمن وَغَيرهم
وَهَذَا ذكر من عرض ذكره مَعَ هَذَا الْفَقِيه أَوَّلهمْ مُسلم فَهُوَ مُسلم بن الْحجَّاج الْقشيرِي كَانَ إِمَامًا فِي الحَدِيث شَيْخه البُخَارِيّ وَلم يثبت مَعَه فِي المحنة غَيره توفّي يَوْم الْإِثْنَيْنِ لخمس بَقينَ من رَجَب سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ ومئتين وَقد بلغ عمره خمْسا وَخمسين سنة
وَأما التِّرْمِذِيّ فَكَانَت وَفَاته برجب سنة سبع وَسبعين ومئتين وَقيل سنة خمس وَسبعين ومئتين وَلم يذكر الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق غَيره وَالدَّارَقُطْنِيّ بِبَغْدَاد توفّي بهَا فِي ذِي الْقعدَة سنة خمس وَثَمَانِينَ ومئتين ومولده سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ
وَمِنْهُم أَيمن بن نابل عده الْحَاكِم فِي أهل الْيمن سكن مَكَّة وَأدْركَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد أحد فُقَهَاء الْإِسْلَام السَّبْعَة الَّذين يَقُول فيهم(1/136)
.. أَلا كل من لَا يَقْتَدِي بأئمة ... فقسمته ضيزى عَن الْحق خَارجه
فخذهم عبيد الله عُرْوَة قاسما ... سعيدا سليمانا أَبَا بكر خَارجه ... وَقد تطلع نفس الْمطَالع إِلَى مَا شرطناه فِي غَالب الْكتاب من ذكر من عرض ذكره من الْأَعْيَان فأذكرهم على تَرْتِيب الْبَيْت الأول فأولهم عبيد الله كنيته أَبُو عبد الله واسْمه عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود الْهُذلِيّ عبد الله بن مَسْعُود الصَّحَابِيّ عَم أَبِيه عبد الله كَانَ إِمَامًا كَبِيرا ذَا فنون كَثِيرَة قَالَ بَعضهم أعلم من رَأَيْت سعيد بن الْمسيب وأغزرهم عُرْوَة وَلَا تعجز من عبيد الله بحرا إِلَّا وجدته كَانَت وَفَاته سنة اثْنَتَيْنِ ومئة وَقيل غير ذَلِك
وَأما عُرْوَة فَهُوَ أَبُو عبد الله عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام مولده سنة سِتّ وَعشْرين قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز مَا أحد أعلم من عُرْوَة وَقَالَ الزُّهْرِيّ عُرْوَة بَحر لَا تكدره الدلاء توفّي سنة أَربع وَتِسْعين
وَأما الْقَاسِم فَهُوَ أَبُو مُحَمَّد الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق خَليفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ مَالك كَانَ الْقَاسِم من فُقَهَاء هَذِه الْأمة توفّي سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ ومئة وَقيل سنة ثَمَانِي ومئة وَقد بلغ عمره سبعين سنة أَو اثْنَتَيْنِ وَسبعين
وَأما سعيد فَهُوَ أَبُو مُحَمَّد سعيد بن الْمسيب بن حزن بن أبي وهب المَخْزُومِي ولد لِسنتَيْنِ مضتا من خلَافَة عمر أَخذ عَن زيد بن ثَابت وجالس ابْن عَبَّاس وَابْن عَمْرو سعد بن أبي وَقاص وَدخل على عَائِشَة وَأم سَلمَة وَسمع عُثْمَان وعليا وَأخذ رِوَايَته المسندة عَن أبي هُرَيْرَة إِذْ تزوج ابْنَته وَقَالَ الْقَاسِم مقدم الذّكر هُوَ أعلمنَا وَسَيِّدنَا وَتُوفِّي بِالْمَدِينَةِ سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ أَو أَربع وَتِسْعين وَكَانَ يُقَال لهَذِهِ السّنة سنة الْفُقَهَاء لِكَثْرَة من مَاتَ بهَا مِنْهُم
وَأما سُلَيْمَان فَهُوَ أَبُو أَيُّوب سُلَيْمَان بن يسَار مولى مَيْمُونَة بنت الْحَارِث زوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأسْندَ عَن ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة وَأم سَلمَة وروى عَنهُ الزُّهْرِيّ وَجَمَاعَة من الأكابر وَكَانَ المستفتي مَتى أَتَى سعيد بن الْمسيب قَالَ لَهُ اذْهَبْ إِلَى سُلَيْمَان بن يسَار فَإِنَّهُ أعلم من بَقِي الْيَوْم
كَانَت وَفَاته سنة مئة وَقيل سنة سبع ومئة(1/137)
وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسبعين سنة
وَأما أَبُو بكر فَهُوَ أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي واسْمه كنيته ولد فِي خلَافَة عمر وَكَانَ يُسمى براهب قُرَيْش لعظم عِبَادَته ونظافة هَيئته وَكَانَت وَفَاته سنة أَربع وَسبعين
وَأما خَارِجَة فَهُوَ أَبُو زيد خَارِجَة بن زيد بن ثَابت الْأنْصَارِيّ الصَّحَابِيّ أَعنِي أَبَاهُ وَكَانَ خَارِجَة جليل الْقدر أدْرك زمن عُثْمَان بن عَفَّان ولد فِي السّنة الَّتِي مَاتَ فِيهَا وَقَالَ رَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَنِّي بنيت سبعين دَرَجَة فَلَمَّا فرغت مِنْهَا تدهورت وَهَذِه السّنة لي سَبْعُونَ سنة قد أكملتها قَالَ فَمَاتَ فِيهَا
وروى عَنهُ الزُّهْرِيّ ووفاته سنة تسع وَتِسْعين وَقيل مئة
هَؤُلَاءِ جملَة الْفُقَهَاء لَوْلَا كَثْرَة حَاجَة فُقَهَاء الْأمة إِلَى معرفتهم لما ذكرتهم وَحِينَئِذٍ نرْجِع إِلَى ذكر فُقَهَاء الْيمن فَمنهمْ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يُوسُف بن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد بن داذويه الأبناوي ولي قَضَاء صنعاء من قبل الْمَنْصُور وَكَانَ فَقِيها فَاضلا توفّي سنة ثَلَاث وَخمسين وَقيل إِحْدَى وَخمسين ومئة
وَمِنْهُم عبد الْملك بن عبد الرَّحْمَن الأبناوي ثمَّ الذمارِي نِسْبَة إِلَى ذمار مَدِينَة على بعد مرحلَتَيْنِ من صنعاء وَهِي بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَالْمِيم ثمَّ ألف ثمَّ رَاء ولي الْقَضَاء من إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن جَعْفَر الطَّالِبِيُّ حِين غلب على صنعاء ثمَّ لما قدم ابْن ماهان من قبل الْمَأْمُون نقل إِلَيْهِ أَن هَذَا عبد الْملك يكرههُ ويميل إِلَى الطَّالِبِيُّ فَقتله يَوْم الْجُمُعَة فِي شهر رَمَضَان سنة مئتين وألقاه قَتِيلا على وَجه الأَرْض ثَلَاثَة أَيَّام لم يدْفن ثمَّ دفن بعد ذَلِك وَقد أَخذ عَنهُ الإِمَام أَحْمد وَهُوَ الَّذِي سَأَلَهُ عَن بلد طَاوُوس وَقد مضى ذكر ذَلِك
وَمِنْهُم هِشَام بن يُوسُف الأبناوي يعرف بِالْقَاضِي أدْرك معمرا وَأخذ عَن عبد الرَّزَّاق وَعَن ابْن جريج مقدم الذّكر وَأخذ عَن عبد الله بن وهب بن مُنَبّه وَهُوَ أحد(1/138)
شُيُوخ الإِمَام الشَّافِعِي فِي الْيمن وَله فِي الصَّحِيحَيْنِ عدَّة أَحَادِيث وَأخذ عَنهُ يحيى بن معِين ولي قَضَاء صنعاء لمُحَمد بن خَالِد حِين قدم نَائِبا من قبل الرشيد وَذَلِكَ لنيف وَثَمَانِينَ ومئة وَلم أجد لَهُ تَارِيخا بل زَمَانه مَأْخُوذ من زمن الْبَرْمَكِي وَكَانَ لَهُ ابْن إسمه عبد الرَّحْمَن يعد فِي أهل الِاجْتِهَاد ذكره ابْن حزم المغربي وَكَانَ أَبوهُ هِشَام يؤم النَّاس مَعَ الْقَضَاء أَيْضا ومؤذنه عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن خَالِد الْمَذْكُور أَقَامَ مُؤذنًا سبعين سنة
فَمن عَجِيب مَا جرى أَن النَّاس بِصَنْعَاء أَقَامُوا شَهْرَيْن فاقدين للشمس لَا يعْرفُونَ الْأَوْقَات إِلَّا بِأَذَان هَذَا عَليّ بن إِبْرَاهِيم وَكَانَ يعرفهَا بالوظائف حَتَّى كَانَ هِشَام يَقُول مَا أحد بِصَنْعَاء إِلَّا وَلِهَذَا عَلَيْهِ فضل إِذْ هُوَ السَّبَب لسُقُوط الْفَرْض عَمَّن سَمعه وَمن عَجِيب مَا جرى لَهُ أَنه لما حَضرته الْوَفَاة أوصى أَن يبْنى لحده بِلَبن قد أعده فِي الْبَيْت فَخَلا بِهِ بعض أَصْحَابه وَسَأَلَهُ فَقَالَ كنت إِذا عدت من الْخدمَة للجامع بسطت نطعا ونفضت ثِيَابِي عَلَيْهِ فَمَا اجْتمع من تُرَاب جمعته حَتَّى كثر فَضربت مِنْهُ هَذَا اللَّبن وَصَحب مَعَ هَذَا معمرا وَيُقَال لَهُ صَاحب معمر
وَمِنْهُم أَيُّوب أَيُّوب مطرف بن مَازِن الْكِنَانِي بِالْوَلَاءِ وَقيل الْقَيْسِي أَيْضا بِالْوَلَاءِ وَضَبطه بِضَم الْمِيم وَفتح الطَّاء الْمُهْملَة وخفض الرَّاء مَعَ التَّشْدِيد ثمَّ فَاء بعْدهَا
حدث عَن ابْن جريج الْمُقدم ذكره وَغَيره وروى عَنهُ الإِمَام الشَّافِعِي حَيْثُ قَالَ رَأَيْت بعض حكام الْآفَاق يحلف على الْمُصحف وَقَالَ حَاجِب سُلَيْمَان كَانَ مطرف رجلا(1/139)
صَالحا وَله عَنى بقوله قد كَانَ من حكام الْآفَاق يسْتَحْلف على الْمُصحف وَذَلِكَ عِنْدِي حسن وولايته للْقَضَاء أول مرّة من قبل رجل يُقَال لَهُ ابْن إِسْحَاق كَانَ نَائِبا لعَلي بن سُلَيْمَان بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس وَذَلِكَ لنيف وَسِتِّينَ ومئة ثمَّ عزل بِهِشَام ثمَّ أَعَادَهُ حَمَّاد ثمَّ عَزله وَأعَاد هشاما وَتُوفِّي الْمطرف بمنبج وَقيل بالرقة فِي آخر أَيَّام الرشيد سنة إِحْدَى وَتِسْعين ومئة
وَمِنْهُم أَبُو قُرَّة مُوسَى بن طَارق الزبيدِيّ نِسْبَة إِلَى الْمَدِينَة الْمَشْهُورَة فِي الْيمن كَانَ إِمَامًا كَامِلا لمعْرِفَة السّنَن والْآثَار وَكتابه فِيهَا يدل على ذَلِك وَهُوَ يروي عَن مَالك وَأبي حنيفَة والسفيانين وَمعمر وَابْن جريج وَلم يكن أهل الْيمن يعولون فِي معرفَة الْآثَار إِلَّا عَلَيْهِ وَذَلِكَ قبل دُخُول الْكتب الْمَشْهُورَة وعَلى سنَن معمر
وَحصل لي من سنَن أبي قُرَّة كتاب يعجب لضبطه وتحقيقه قد قرىء على ابْن أبي ميسرَة بِجَامِع بلدي الْجند وَله عدَّة مصنفات غير السّنَن الْمَذْكُورَة مِنْهَا كتاب فِي الْفِقْه انتزعه من فقه مَالك وَأبي حنيفَة وَمعمر وَابْن جريج
وَكَانَ يكثر التَّرَدُّد بَين بَلَده وعدن والجند ولحج وَله بِكُل مِنْهَا أَصْحَاب نقلوا عَنهُ السّنَن وشهروا بِصُحْبَتِهِ يَأْتِي ذكر من تحققته
وَمن مسنداته عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من سره أَن ينجيه الله من كريات يَوْم الْقِيَامَة فلينفس عَن مُعسر أَو ليَدع أدْرك نَافِعًا القارىء فَأخذ عَنهُ الْقِرَاءَة وَكَانَ صَاحبه عَليّ بن زِيَاد الْآتِي ذكره يَقُول رَأَيْت أَبَا قُرَّة طول مَا صحبته يُصَلِّي الضُّحَى أَربع رَكْعَات وَقد ينْسب إِلَى الْجند وَالْأول أصح
وَكَانَت وَفَاته بزبيد سنة ثَلَاث ومئتين وَقد عرض مَعَ ذكره ذكر جمَاعَة من أَعْيَان(1/140)
الْعلمَاء مِنْهُم أَبُو حنيفَة النُّعْمَان بن ثَابت بن زوطا بن ماه مولى تيم الله بن ثَعْلَبَة مولده سنة ثَمَانِينَ تفقه بحماد بن أبي سُلَيْمَان الْأَشْعَرِيّ بِالْوَلَاءِ قَالَ الشَّافِعِي سُئِلَ مَالك هَل رَأَيْت أَبَا حنيفَة قَالَ نعم رَأَيْت رجلا لَو كلمك فِي هَذِه السارية وَأَرَادَ أَن يَجْعَلهَا ذَهَبا لقام بحجته
وَقَالَ الشَّافِعِي من أَرَادَ التبحر فِي الْفِقْه فَهُوَ عِيَال على أبي حنيفَة ولوزم على الْقَضَاء فَامْتنعَ مرَارًا حَتَّى قيل إِنَّه مَاتَ فِي الْحَبْس بعد الضَّرْب وَهُوَ شَدِيد الِامْتِنَاع ووفاته بِبَغْدَاد سنة خمسين ومئة بعد أَن بلغ عمره سبعين سنة
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مَالك بن أنس بن مَالك بن أبي عَامر بن عَمْرو بن الْحَارِث بن غيمان بن جثيل بن عَمْرو بن الْحَارِث وَهُوَ ذُو أصبح الَّذِي ينْسب إِلَيْهِ الأصابح وَلَوْلَا خشيَة الإطالة لذكرت الْآبَاء أَكثر من ذَلِك لَكِن قد حقق ابْن أبي الصَّيف فِي مُخْتَصر مَجْمُوع أَنْسَاب الْأَئِمَّة فليبحث عَنهُ من أَرَادَهُ الأصبحي مولده سنة خمس وَتِسْعين من الْهِجْرَة أَخذ الْعلم عَن ربيعَة الرَّأْي قَالَ مَالك قل رجل أخذت عَنهُ الْعلم مَاتَ حَتَّى جَاءَنِي واستفتاني
قَالَ الشَّافِعِي قَالَ لي مُحَمَّد بن الْحسن أَيهمْ أعلم صاحبنا أم صَاحبكُم يَعْنِي أَبَا حنيفَة وَمَالك فَقلت اللَّهُمَّ صَاحبكُم فَقلت ناشدتك الله من أعلم بِالْقُرْآنِ صاحبنا أَو صَاحبكُم فَقَالَ اللَّهُمَّ صَاحبكُم فَقلت ناشدتك الله من أعلم(1/141)
بِالسنةِ صاحبنا أم صَاحبكُم فَقَالَ اللَّهُمَّ صَاحبكُم قَالَ قلت لم يبْق إِلَّا الْقيَاس وَهُوَ لَا يكون إِلَّا على هَذِه الْأَشْيَاء وَفَاته سنة تسع وَسبعين ومئة
قَالَ فِي عُلُوم الحَدِيث قبل الثَّمَانِينَ سنة ذكر ذَلِك لتحقيق الْآحَاد والأعشار لِئَلَّا يشْتَبه بالسبع
وَلما كَانَ هَذَا أَبُو قُرَّة من أَئِمَّة الحَدِيث فِي الطَّبَقَة الْمُتَقَدّمَة مِنْهُم أَحْبَبْت إِيرَاد من لم يكن عرض ذكره مِنْهُم فقد مضى ذكر مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ فِي ذكر مُحَمَّد بن يحيى الْعَدنِي وَإِمَام الْجَمِيع أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ مولده يَوْم الْجُمُعَة بَين الظّهْر وَالْعصر وَذَلِكَ لثلاث عشرَة لَيْلَة خلت من شَوَّال سنة أَربع وَتِسْعين ومئة وَظهر مِنْهُ القَوْل بِخلق الْقُرْآن وَكَونه عبارَة فَانْقَلَبَ عَنهُ النَّاس وهموا بِهِ حَتَّى هرب عَن الْبَلَد وَمَات بقرية من قرى سمر قند تعرف بخرتنك بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة المضمومة ثمَّ رَاء سَاكِنة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون النُّون ثمَّ كَاف وَذَلِكَ يَوْم السبت مستهل شَوَّال سنة سِتّ وَخمسين ومئتين واشتمل صَحِيحه على سَبْعَة آلَاف حَدِيث وستمئة ونيف
وَأما النَّسَائِيّ فَتوفي سنة ثَلَاث وثلاثمئة
وَأما أَبُو دَاوُد فَهُوَ سُلَيْمَان بن الْأَشْعَث بن إِسْحَاق بن بشير بن شَدَّاد بن عَمْرو بن عمرَان الْأَزْدِيّ السجسْتانِي
مولده سنة اثْنَتَيْنِ ومئتين أحد حفاظ الحَدِيث وَلما جمع كِتَابه الْمَشْهُور بسننه وَفِيه أَرْبَعَة آلَاف حَدِيث وثمانمئة عرضه على الإِمَام أَحْمد فاستجاده وَاسْتَحْسنهُ وعده الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد من جملَة الْفُقَهَاء
وَكَانَت وَفَاته بِالْبَصْرَةِ فِي شَوَّال سنة خمس وَسبعين ومئتين وَقيل لَهُ السجسْتانِي نِسْبَة بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَالْجِيم وَسُكُون السِّين الثَّانِيَة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَبعد الْألف نِسْبَة إِلَى سجستان الإقليم الْكَبِير وَقيل إِلَى سجستان أَو(1/142)
سجستانة قَرْيَة بِالْبَصْرَةِ قَالَ ابْن خلكان وَقد بيّنت لَك فِي هَذَا الْمَكَان ذكر الْغَالِب من أَئِمَّة الحَدِيث
وَقد رَأَيْت بعض المتعصبين على الشَّافِعِي يَقُول لم يَأْخُذ أحد من أَئِمَّة الحَدِيث عَن الشَّافِعِي مَعَ كَونهم أدركوه وَذَلِكَ مِنْهُ سَهْو ظَاهر فَإِن البُخَارِيّ كَانَ يَوْم موت الشَّافِعِي فِي الْعَاشِرَة من السنين فَكيف يُمكن مثل هَذَا الْخُرُوج عَن بَلَده لَا سِيمَا لطلب الْعلم وَمُسلم تَابع لَهُ وَأَبُو دَاوُود ابْن سنتَيْن وَلذَلِك رووا جَمِيعًا عَن الإِمَام أَحْمد إِذْ أدركوا كثيرا من زَمَانه
وَحِينَئِذٍ أرجع إِلَى ذكر عُلَمَاء الْيمن وَمِنْهُم مُحَمَّد بن كثير الصَّنْعَانِيّ قَالَ أَبُو دَاوُود حَدثنَا أَحْمد بن إِبْرَاهِيم عَن مُحَمَّد بن كثير يَعْنِي هَذَا عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا وطئ أحدكُم الْأَذَى بخفه فَإِن التُّرَاب لَهُ طهُور
ثمَّ صَار الْعلم إِلَى طبقَة أُخْرَى فِي جمَاعَة مِنْهُم أَبُو يَعْقُوب إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن عباد بن سمْعَان الدبرِي نِسْبَة إِلَى قَرْيَة تعرف بدبرة بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَالرَّاء وَسُكُون الْهَاء وَهِي على نصف مرحلة من صنعاء وَله كَانَ يَعْنِي الْحَادِي فِي طريقها ... لَا بُد من صنعا وَإِن طَال السّفر ... لطيبها وَالشَّيْخ فِيهَا من دبر ... أَخذ عَن عبد الرَّزَّاق جَامع معمر وَكَانَ مَوْجُودا سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين ومئتين(1/143)
وَيُقَال إِنَّه عمر حَتَّى عَاشَ طَويلا وَكَانَ بَعضهم يَقُول هُوَ الَّذِي حكى الشَّافِعِي أَنه كَانَ يقْرَأ الحَدِيث على شيخ بِالْيمن فَدخل عَلَيْهِ خَمْسَة كهول الْخَبَر الْمَشْهُور بَين الْفُقَهَاء المتداول فِي كتبهمْ وَلم أتحقق تَارِيخه
وَمِنْهُم أَبُو حنيفَة ابْن الْفَقِيه سماك بن الْفضل الشهابي مقدم الذّكر وَأَنه صَاحب الْفتيا للوليد بن يزِيد على لِسَان خَاله مَرْوَان كَمَا قدمنَا
كَانَ هَذَا أَبُو حنيفَة من أَعْيَان الْعلمَاء روى عَنهُ الشَّافِعِي فَقَالَ أَبُو حنيفَة بن سماك بن الْفضل الشهابي حَدثنَا ابْن أبي ذيب عَن المَقْبُري عَن ابْن أبي شُرَيْح الكعبي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ عَام الْفَتْح من قتل لَهُ قَتِيل فَهُوَ بِخَير النظرين إِن أحب فَلهُ الْعقل وَإِن أحب فَلهُ الْقود قَالَ أَبُو حنيفَة فَقلت لِابْنِ أبي ذيب أتأخذ بِهَذَا يَا أَبَا الْحَرْث فَضرب على صَدْرِي وَصَاح عَليّ صياحا كثيرا ونال مني ثمَّ قَالَ أحَدثك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتقول لي أتأخذ بِهِ نعم آخذ بِهِ وَذَلِكَ الْفَرْض عَليّ وعَلى من سَمعه إِن الله تبَارك وَتَعَالَى اخْتَار مُحَمَّدًا من النَّاس فهداهم بِهِ وعَلى يَدَيْهِ وَاخْتَارَ لَهُم مَا اخْتَار لَهُ وعَلى لِسَانه فعلى الْخلق أَن يتبعوه طائعين أَو داخرين لَا مخرج لمُسلم عَن ذَلِك الرسَالَة الجديدة فِي بَاب قبُول خبر الْوَاحِد
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى الصَّنْعَانِيّ روى عَنهُ التِّرْمِذِيّ حَدِيث عَائِشَة وَأَن(1/144)
النَّبِي لم ينزل الأبطح إِلَّا لِأَنَّهُ كَانَ أسمح لِخُرُوجِهِ وعده التِّرْمِذِيّ بصريا إِذْ كَانَ يرتحل إِلَى الْبَصْرَة
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله الصَّنْعَانِيّ روى عَنهُ التِّرْمِذِيّ مَا أسْندهُ إِلَى جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن الْعمرَة أَهِي وَاجِبَة فَقَالَ لَا وَإِن تعتمر فَهُوَ أفضل
وَمِمَّنْ ذكرهم الأندلسيون جمَاعَة مِنْهُم مُوسَى بن مُحَمَّد الْكشِّي قَاضِي زبيد وَيحيى بن عبد الله بن كُلَيْب قَاضِي صنعاء أَيَّام بني يعفر توفّي بالمحرم سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وثلثمئة وَأَبُو الْقَاسِم عبد الْأَعْلَى بن مُحَمَّد بن عباد بن الْحسن البوسي من بَيت بوس يروي عَن الدبرِي وَهَارُون بن أَحْمد بن مُحَمَّد من علقان الْقرْيَة الْمَشْهُورَة ذَات السُّوق من وَادي السحول بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَاللَّام وَالْقَاف ثمَّ ألف وَنون على وزن تَثْنِيَة فعل مَفْتُوح الْفَاء وَالْعين خرج مِنْهَا جمَاعَة من الْفُضَلَاء يَأْتِي إِن شَاءَ الله ذكر المتحقق مِنْهُم وربيع بن سُلَيْمَان من الْجند
وَمن عدن قاضيها شَيبَان بن عبد الله وَأَبُو الْحسن الْمُغيرَة بن عَمْرو بن الْوَلِيد التَّاجِر عَن أبي سعيد الجندي سنَن أبي قُرَّة
ثمَّ صَار الْعلم إِلَى طبقَة أُخْرَى فِي صدر المئة الثَّالِثَة(1/145)
مِنْهُم أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الرعرعي اللحجي فالرعرعي نِسْبَة إِلَى قَرْيَة تعرف بالرعارع بِفَتْح الرَّاء بعد الْألف وَلَام ثمَّ الْعين الْمُهْملَة ثمَّ ألف ثمَّ خفض الرَّاء ثمَّ عين مُهْملَة أَيْضا إِحْدَى قرى مخلاف لحج بِفَتْح اللَّام وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة ثمَّ جِيم خرج مِنْهَا وَمن مخلافها جمَاعَة من الْأَعْيَان يَأْتِي ذكر المتحقق مِنْهُم إِن شَاءَ الله
كَانَ هَذَا إِبْرَاهِيم تربا لأبي قُرَّة لكنه دونه شهرة وَكَانَ لَهُ ابْن يذكر بِالْعلمِ والورع وَلَكِن أَبَاهُ أشهر مِنْهُ وَكِلَاهُمَا مَعْدُود فِي الأخيار الْأَبْرَار وَكَانَا معظمين عِنْد أهل مخلافهما وَغَيره لم يكد يعرف لأَحَدهمَا صبوة وَلَقَد ذكر أَن امْرَأَة من الحسان تعرضت لأَحَدهمَا فحدرت درعها تُرِيدُ فتنته فَأَعْرض عَنْهَا وَقَالَ ... لَا تحدري درعك إِنِّي رعرعي ... إِن كنت من أَجلي حدرت فادرعي ... وَعَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الْمُقدم ذكره أَخذ على ابْن زِيَاد الْآتِي ذكره
وَمِنْهُم عَليّ بن زِيَاد الْكِنَانِي وَالْمَعْرُوف بِصُحْبَة أبي قُرَّة الْمُقدم الذّكر بِحَيْثُ كَانَ لَا يعرف حَتَّى يُقَال عَليّ بن زِيَاد صَاحب أبي قُرَّة مولده على رَأس سِتِّينَ ومئة ومسكنه قَرْيَة من مخلاف لحج تعرف بالهذابي بِفَتْح الْهَاء والذال الْمُعْجَمَة ثمَّ ألف ثمَّ بَاء مُوَحدَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة أَخذ عَن أبي قُرَّة وَعَن أَحْمد الرعرعي وَهُوَ الَّذِي قَالَ رَأَيْت أَبَا قُرَّة طول مَا صحبته يُصَلِّي الضُّحَى أَربع رَكْعَات وَكَانَ صَاحب كرامات شهيرة ذكر أَن وَادي لحج انْقَطع فِي بعض السنين وللفقيه أَرض فِي علية وَإِذا بسحابة أَقبلت فصبت على أَرض الْفَقِيه مَا أرواها كعادة الْوَادي مُخْتَصًّا بهَا ثمَّ فِي عقيب ذَلِك قدم رجل غَرِيب يسْأَل عَن الْفَقِيه فأرشد إِلَيْهِ فَجعل يُبَالغ فِي التَّبَرُّك بِهِ وسؤال الدُّعَاء حَتَّى أنكر عَلَيْهِ ذَلِك فَسئلَ عَن السَّبَب فَقَالَ إِنِّي فِي الْبَلَد الْفُلَانِيَّة وَإِذ بِي أنظر سَحَابَة تسير وَخَلفهَا قَائِلا يَقُول اذهبي إِلَى لحج من أَرض الْيمن فاسقي مِنْهَا أَرض الْفَقِيه الزيَادي فَعلم أَن سَبَب شرب أَرض الْفَقِيه ذَلِك وَهِي أَرض(1/146)
تعرف إِلَى عصرنا بالجرب وَلم تزل محررة عَن الْخراج حَتَّى كَانَ فِي أَيَّام الْملك المظفر حصل من المتصرفين عناد فَعمل عَلَيْهَا خراج ففر بعض ذُرِّيَّة هَذَا الْفَقِيه إِلَى الإِمَام ابْن عجيل الْآتِي ذكره فَأخْبرهُ بِمَا جرى فَكتب إِلَى المظفر يفِيدهُ عَن ذَلِك ويخبره أَن هَذِه الأَرْض لم تزل محررة لرجل كَبِير الْقدر من أكَابِر الْعلمَاء والصلحاء وَكَانَ مَقْبُول القَوْل عِنْد غَالب الْمُسلمين فَأمر المظفر أَن تكْتب لَهُم مُسَامَحَة فَهِيَ بأيدي ذُريَّته إِلَى عصرنا مَا جَاءَ ملك ووقف عَلَيْهَا إِلَّا أجازها وَذَلِكَ ببركة إِشَارَة الإِمَام ابْن عجيل وَكَانَت إِشَارَته لمعرفته بِفضل هَذَا الرجل وَلَا يعرف الْفضل إِلَّا أَهله
وَلَقَد كَانَ بعض الْفُقَهَاء من أهل لحج مِمَّن قَرَأَ على الإِمَام ابْن عجيل نفع الله بِهِ يسكن بِنَاء أبه العلياء وَكَانَ مشهودا لَهُ بالفقه وَالصَّلَاح يعرف يسير وَسَيَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الْمُتَأَخِّرين إِذا حصل عَلَيْهِ كرب آلمه يَقُول لأَصْحَابه اذْهَبُوا بِنَا نحرث أَرض الْفَقِيه الزيَادي فَيخرج مَعَه من يُوَافقهُ وَهِي منتزحة عَن قريته فِي صَعِيد الْبَلَد تعرف بالجرب بخفض الْجِيم بعد الْألف وَلَام ثمَّ رَاء سَاكِنة بعد الْجِيم ثمَّ بَاء مُوَحدَة وَكَانَت وَفَاة عَليّ بن زِيَاد بقريته الْمَذْكُورَة سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَقيل أَرْبَعِينَ ومئتين بعد أَن جَاوز ثَمَانِينَ سنة
وَمِنْهُم عَليّ بن مُحَمَّد بن أَحْمد يرجع إِلَى ذِي تبع ثمَّ إِلَى ذِي هَمدَان أحد أذواء حمير والتباعيون كَذَلِك وَقد يغلط بهم من يغلط وينسبهم إِلَى ذِي هَمدَان وَلَيْسَ بِشَيْء وَإِنَّمَا كَانَ جدهم ملكا على هَمدَان فَقيل لَهُ ذُو هَمدَان لصَاحب ملكهم وَكَانَ هَذَا عَليّ مِمَّن أدْرك الإِمَام مَالك بن أنس وَأخذ عَنهُ وَعنهُ انْتَشَر مذْهبه فِي الْيمن على مَا قيل وَمن ذُريَّته فُقَهَاء وصاب الَّذين يعْرفُونَ بالتباعيين مِنْهُم جمَاعَة بوادي قيعة من أَعمال السانة ثمَّ بِبِلَاد ظفران مِنْهُم جمَاعَة عدوا فِي أَصْحَاب الشَّيْخ(1/147)
يحيى وَمِنْهُم مؤلف شرح اللمع الْمَعْرُوف بمُوسَى الوصابي
وَمِنْه أَبُو حمة مُحَمَّد بن يُوسُف الزبيدِيّ شهر بِصُحْبَة أبي قُرَّة فِي زبيد الْمَدِينَة الْمَذْكُورَة بِالْيمن وَعنهُ أَخذ الْحَافِظ أَبُو سعيد الجندي الْآتِي ذكره سنَن شَيْخه أبي قُرَّة وَقد ذكره الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ وَذكر شَيْخه نسبتهما تَارَة إِلَى زبيد وَتارَة إِلَى الْجند وَمن الْجند جمَاعَة مِنْهُم صَامت بن معَاذ وَعمر بن مُسلم
وَمِنْهُم أَبُو سعيد الْمفضل بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْمفضل بن سعيد بن الْفَقِيه عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ رَأس تَابِعِيّ الْكُوفَة وَكَانَ هَذَا أَبُو سعيد معدودا فِي الْحفاظ والثقات وَذكره ابْن أبي الصَّيف أَيْضا فِي بَاب من بِالْيمن من الْأَئِمَّة الثِّقَات الْمَشْهُورين من التَّابِعين وَأَبْنَائِهِمْ مِمَّن يجمع حَدِيثهمْ للْحِفْظ والمذاكرة والتبرك بهم وبذكرهم شرقا وغربا مِمَّن ذكرهم الْحَاكِم النَّيْسَابُورِي فِي كتاب معرفَة عُلُوم الحَدِيث عد جمَاعَة مِنْهُم حجر بن قيس المدري وَالضَّحَّاك بن فَيْرُوز الديلمي ثمَّ قَالَ وَمن غير هَذَا الْكتاب الْمفضل الجندي صَاحب فَضَائِل مَكَّة وَأَبُو حمة مُحَمَّد بن يُوسُف من سفرحه
وللفضل مصنفات فِي الْآثَار مِنْهَا فَضَائِل مَكَّة وَرِوَايَته عَن مُحَمَّد بن يحيى الْعَدنِي وَعَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن الْعَبَّاس ابْن عَم الإِمَام الشَّافِعِي وروى عَنهُ مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْآجُرِيّ عدَّة أَحَادِيث ضمنهَا مصنفاته وَهُوَ رَاوِي الْخَبَر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كَون مَسْجِد الْجند رَابِعا وَطَرِيقه فِي ذَلِك
قَالَ حَدثنَا صَامت بن معَاذ(1/148)
الجندي عَن الْمثنى بن الصَّباح عَن عَمْرو بن شُعَيْب بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ عَن أَبِيه عَن جده عبد الله بن عَمْرو أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تشد الرّحال إِلَى أَرْبَعَة مَسَاجِد الْمَسْجِد الْحَرَام ومسجدي هَذَا وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى وَمَسْجِد الْجند قَالَ الْحَافِظ عبد الْملك بن أبي ميسرَة لَيْسَ فِي رُوَاته كَذَّاب وَلَا مَتْرُوك وَبَعض الْفُقَهَاء يَقُول لَا يَنْبَغِي رد الْخَبَر لوجوه مِنْهَا أَنه من خبر الْوَاحِد ومذهبنا القَوْل بِهِ قَالَ الْأَصْحَاب لَا يرد يعنون خبر الْوَاحِد لانفراده بِمَا أرْسلهُ غَيره أَو رفع مَا وَقفه غَيره أَو لإيراد زِيَادَة لم ينقلها غَيره وَمن رده لذَلِك فقد أَخطَأ وَقد صرح بذلك الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق بذلك فِي لمعه ثمَّ إِن الْغَزالِيّ قَالَ لَا يجوز منع مُرِيد الارتحال إِلَى غير الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة على الْأَصَح
وَلَوْلَا خشيَة الإطالة لذكرت بعض فَضَائِل الْمَسْجِد الَّتِي شاهدتها أَو شَاهدهَا الثِّقَات وَلم أَقف لأبي سعيد على تَارِيخ بداية وَلَا نِهَايَة بل غَالب ظَنِّي وجوده كَانَ فِي صدر المئة الثَّالِثَة وَمِمَّنْ قدم الْيمن بِهَذَا التَّارِيخ وعد من أَهلهَا وأعقب فِيهَا عقبا مُبَارَكًا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن هَارُون التغلبي قدم لقَضَاء الْيمن صُحْبَة ابْن زِيَاد حِين قدم من قبل الْمَأْمُون وَلم تزل ذُريَّته يتوارثون الْقَضَاء حَتَّى أزالهم ابْن مهْدي أثنى عَلَيْهِم عمَارَة وَقَالَ لم يزل فيهم فَقِيه مبرز وخطيب مصقع وشاعر مفلق وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله ذكر المتحقق اسْتِحْقَاقه للذّكر
وَفِي المئة الثَّالِثَة ظهر مَذْهَب الإِمَام الشَّافِعِي فِي الْيمن وغالب من سَيَأْتِي ذكره إِنَّمَا هم أهل مذْهبه(1/149)
وَلما كَانَ كَذَلِك رَأَيْت أَن الأولى الْبِدَايَة بِذكرِهِ وَهُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن الْعَبَّاس بن عُثْمَان بن شَافِع بن السَّائِب بن عبيد بن عبد يزِيد بن هَاشم بن الْمطلب بن عبد منَاف يجْتَمع مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عبد منَاف وَذكر أَن شافعا لَقِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ غُلَام مترعرع والسائب كَانَ حَامِل راية بني هَاشم يَوْم بدر وَأسر يَوْمئِذٍ ثمَّ فدى نَفسه ثمَّ أسلم فَقيل لَهُ هلا أسلمت قبل الْفِدَاء لتسلم مِنْهُ فَقَالَ مَا كنت لأحرم الْمُسلمين رزقا سَاقه الله إِلَيْهِم وَأما نسبه من قبل أمه فَإِنَّهَا فَاطِمَة بنت عبد الله بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب وَلم يدْرك الشَّافِعِي أَبَاهُ إمنما تولى كفَالَته جده أَبُو أمه وَهُوَ الَّذِي حضه على طلب الْعلم فارتحل بِهِ الْبِلَاد لذَلِك مَعَ أَنه مَعْدُود فِي أهل الْيمن لوجوه مِنْهَا مَا أجمع الْفُقَهَاء عَلَيْهِ من عدَّة فِي المكيين وَمَكَّة يمنية بِلَا خلاف ثمَّ ذكر أَنه ولد بِالْيمن كَمَا سَيَأْتِي
قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَإِن شهر ميلاده بغزة فَهِيَ يمنية لنزول بطُون الْيمن فِيهَا حِين افتتحها الْمُسلمُونَ وَقَالَ فِي معرفَة السّنَن والْآثَار الشَّافِعِي أولى النَّاس لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفِقْه يمَان وَالْحكمَة يَمَانِية
ومولده غَزَّة وَإِن كَانَت من الأَرْض المقدسة فعدادها فِي الْيمن لنزول بطُون أهل الْيمن بهَا ومنشأة بِمَكَّة وَالْمَدينَة وهما يمنيتان
قَالَ ابْن خلكان يُقَال إِن أم الشَّافِعِي لما حملت بِهِ رَأَتْ كَأَن المُشْتَرِي خرج من فرجهَا وارتفع ثمَّ وَقع بِمصْر ثمَّ تشظت فَوَقع فِي كل بَلْدَة شظية فَأول المعبرون ذَلِك بِأَنَّهُ يخرج مِنْهَا ولد عَالم يخْتَص علمه بِمصْر أَولا ثمَّ يتفرق فِي الْبلدَانِ مولده سنة خمسين ومئة فَلبث مَعَ أمه حَيْثُ ولد على الْخلاف فِي أَي مَوضِع هُوَ ثمَّ أقدمته مَكَّة لِئَلَّا يضيع نسبه وَاخْتلف فِي مَوضِع ميلاده فَقيل غَزَّة وَهُوَ الْأَصَح وَبِه قطع(1/150)
ابْن الصّباغ فِي شامله وَنقل إِلَى عسقلان وَهُوَ صَغِير لذَلِك توهم بعض من عني بِجمع أخباره أَنه ولد بعسقلان وَقيل ولد بِالْيمن وَذَلِكَ أَن لغته كَانَت تناسب لُغَة الْيمن لِأَنَّهُ ولد بغزة وَأهل الْيمن إِذْ ذَاك نزُول بهَا وَلما بلغ عمره سنتَيْن وصلت بِهِ أمه مَكَّة فَقَرَأَ بهَا الْقُرْآن وَحفظه لسبع سِنِين من عمره وَحفظ الْمُوَطَّأ لعشر
أَخذ الْقُرْآن عَن أَصْحَاب عبد الله بن كثير الْمُقدم الذّكر هَكَذَا ذكره فِي صفة الصفوة وَذكر فِيهَا أَيْضا عَن الإِمَام أَحْمد أَنه جَاءَ فِي الْخَبَر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله يبْعَث على رَأس كل مئة سنة من يصحح فِي هَذِه الْأمة دينهَا فَكَانَ فِي المئة الأولى عمر بن عبد الْعَزِيز وتلاه فِي الثَّانِيَة الشَّافِعِي
وَكَانَ تفقهه فِي مَكَّة بِجَمَاعَة هم سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَمُسلم بن خَالِد الزنْجِي ثمَّ ارتحل إِلَى مَالك بِيَثْرِب فَأخذ عَنهُ الْمُوَطَّأ حفظا محققا وَكَانَ يَقُول أَقمت مَعَ مَالك ثَمَانِيَة أشهر مَا يعلم أجانب النَّاس أَيّنَا الضَّيْف لشدَّة مَا كَانَ يظْهر من الْأنس
وَعبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ ثمَّ دخل الْيمن لأوّل مرّة مَعَ جده عبد الله بن الْحسن لَا غَرَض لَهُ غير طلب الْعلم أَخذ عَن هِشَام بن يُوسُف الأبناوي وَأبي حنيفَة بن الْفَقِيه سماك مقدم الذّكر ومطرف بن مَازِن والدبري على إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
ثمَّ ارتحل إِلَى الْعرَاق فَأخذ عَن مُحَمَّد بن الْحسن واستعار مِنْهُ كتب أبي حنيفَة وَهُوَ إِذْ ذَاك يسكن الْكُوفَة ثمَّ دخل بَغْدَاد فولى الرشيد قَضَاء الْيمن لمصعب بن عبد الله فَكَانَ الشَّافِعِي بِصُحْبَتِهِ فَسَأَلَهُ أَن يخرج إِلَى الْيمن لما يتَحَقَّق من فقره وانقطاعه فَخرج مَعَه فَلَمَّا صَار بِالْيمن استنابه على قَضَاء نَجْرَان فَحكم أحكاما محررة وَصَارَ لَهُ ذكر بِالْيمن حسده مطرف بن مَازِن الْمَذْكُور أَولا فَكتب إِلَى الرشيد إِن أردْت(1/151)
الْيمن يثبت لَك فَأخْرج عَنهُ مُحَمَّد بن إِدْرِيس فَكتب الرشيد إِلَى نَائِبه حَمَّاد الْبَرْبَرِي أَن يصدره إِلَيْهِ فصدره وَبعث بِهِ فَلَمَّا قدم بلغه أَنه قد غلط عَلَيْهِ فِي الْأَمر إِلَى الرشيد وَقيل لَهُ هَذَا من أَصْحَاب عبد الله بن الْحسن لَا يرى الْخلَافَة إِلَّا فِي الطالبيين وَهُوَ الْقَائِل ... يَا رَاكِبًا قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاصد خيفها والناهض
سحرًا إِذا فاض الحجيج إِلَى منى ... فيضا كَمَا التطم الْفُرَات الفائض
وَإِذا جرت بطحاؤها بهضابها ... جَاءَت بِأُخْرَى مثلهَا كالعارض
قُم ثمَّ نَاد يَا بني لمُحَمد ... ووصيه وابنيه لست بباغض
إِن كَانَ رفضا حب آل مُحَمَّد ... فليشهد الثَّقَلَان أَنِّي رَافِضِي ... قَالَ الشَّافِعِي وَوَافَقَ قدومي إِلَى الرشيد اسْتِيلَاء مُحَمَّد بن الْحسن وَأبي يُوسُف عَلَيْهِ فَلَمَّا ذكرت عِنْده بحضرتهما رُبمَا لامني لمعرفتهما الْمُتَقَدّمَة وَذَلِكَ حسدا على مَا تحققاه مني فَلَمَّا أدخلت على الرشيد وَأَنا مثقل بالحديد وهما عِنْده كلمني فَقلت لَا يَتَأَتَّى لي الْكَلَام مَعَ شغل باطني بثقل الْحَدِيد فَأمر بفكه ثمَّ كَانَ لي مَعَه ومعهما أَقْوَال كَثِيرَة واجتهادي على النجَاة واجتهدا على إسقاطي وتحقيري فِي عين الرشيد عَن معرفَة شَيْء من الْعلم وسألني مُحَمَّد بن الْحسن عَن عدَّة مسَائِل ووفقني الله فِي جوابها وَسَأَلته عَن عشر مسَائِل أجَاب بِخمْس وَانْقطع عَن الْبَاقِي فأمرالرشيد بجر رجله فَذكرت مَا كَانَ بيني وَبَينه من الْأنس فِي الْكُوفَة فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا رَأَيْت سجينا أفقه مِنْهُ ثمَّ جعلت أثني عَلَيْهِ فَعلم الرشيد مرادي فَأمر بِتَخْلِيَتِهِ وخلع علينا جَمِيعًا وَحمل كلا منا على مركوب وخصني بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم
وَقَالَ نقلة سيرته فَلم يصل منزله بِشَيْء مِنْهَا إِذْ فرقها فِي طَرِيقه فَلَمَّا بلغ الرشيد عظم عِنْده(1/152)
وَأمر لَهُ بالإعاضة عَنْهَا ثمَّ أَقَامَ بِبَغْدَاد مُدَّة فقيد بهَا كتبه الْقَدِيمَة وَكَانَ كثير الذّكر للسَّفر فعوتب فِي ذَلِك فَقَالَ لمعاتبه ... تغرب عَن الأوطان فِي طلب الْعلَا ... وسافر فَفِي الْأَسْفَار خمس فَوَائِد
تفرج هم واكتساب معيشة ... وَعلم وآداب وصحبة ماجد
فَإِن قيل فِي الْأَسْفَار قل وغربة ... وَقطع فياف وارتكاب شَدَائِد
فموت الْفَتى خير لَهُ من مقَامه ... بدار هوان بَين واش وحاسد ... وَعُوتِبَ على كَثْرَة التنقل فِي الْبلدَانِ فَقَالَ شعرًا ... رِزْقِي تشَتت فِي الْبِلَاد وإنني ... أسعى لجمع شتاته وأطوف
فكأنني قلم بأنمل كَاتب ... وَكَأن رِزْقِي فِي الْبِلَاد حُرُوف ... ثمَّ عزم على الترحل إِلَى مصر فَقَالَ فِي ذَلِك ... أرى نَفسِي تتوق إِلَى مصر ... وَمن دونهَا أَرض المهامه والقفر
فَلَا أَدْرِي أللفوز والغنى ... أساق إِلَيْهَا أم أساق إِلَى الْقَبْر ... وَكَانَ يُقَال الشَّافِعِي شَاعِر غلب عَلَيْهِ الْفِقْه قلت بل شرفت نَفسه عَلَيْهِ وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ بِشَيْء من شعره يَقُول ... وَلَوْلَا الشّعْر بالعلماء يزري ... لَكُنْت الْيَوْم أشعر من لبيد ... ثمَّ سَافر فَدخل مصر سنة تسع وَتِسْعين ومئة فَأدْرك بهَا السِّت نفيسة وَالنَّاس إِذْ ذَاك يحْضرُون مِنْهَا مَجْلِسا ويروون عَنْهَا الحَدِيث من وَرَاء ستر فَحَضَرَ الشَّافِعِي مجلسها وَأخذ عَنْهَا فَهِيَ مَعْدُودَة فِي شُيُوخه وَسَيَأْتِي ذكرهَا فيهم إِن شَاءَ الله
قَالَ ابْن خلكان قد اتّفق الْعلمَاء قاطبة من أهل الْفِقْه وَالْأُصُول والنحو اللُّغَة وَغير ذَلِك على ثِقَة الشَّافِعِي وأمانته وعدالته وزهده وورعه ونزاهة عرضه وعفة نسبه وَصِحَّة حَسبه وَحسن سيرته وعلو قدره أَخذ عَنهُ الْأَصْمَعِي مَعَ جلالة قدره شعر(1/153)
الهذليين وَقَالَ لَهُ شَيْخه مُسلم بن خَالِد أول اخْتِلَاطه وقراءته عَلَيْهِ من أَيْن أَنْت يَا فَتى قَالَ من أهل مَكَّة قَالَ أَيْن مَنْزِلك بهَا قَالَ شعب الْخيف
قَالَ من أَي قَبيلَة أَنْت قَالَ من ولد عبد منَاف قَالَ بخ بخ لقد شرفك الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
وَقَالَ لما قدمت إِلَى مَالك وحفظت الْمُوَطَّأ قَالَ إِن يكن أحد يفلح فَهَذَا الْغُلَام
وَقَالَ الْحميدِي سَمِعت مُسلم بن خَالِد الزنْجِي يَقُول للشَّافِعِيّ وَأَنت يَا أَبَا عبد الله فقد آن لَك وَالله أَن تُفْتِي وَالشَّافِعِيّ إِذْ ذَاك ابْن خمس عشرَة سنة
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل مَا عرفت نَاسخ الحَدِيث ومنسوخه حَتَّى جالست الشَّافِعِي
وَقَالَ مَا حمل أحد محبرة إِلَّا وَكَانَ الشَّافِعِي عَلَيْهِ فضل وَمِنْه
قَالَ ابْن خلكان وَغَيره كَانَ الشَّافِعِي أول من تكلم فِي أصُول الْفِقْه وَهُوَ الَّذِي استنبطه
وَقَالَ الزَّعْفَرَانِي كَانَ أهل الحَدِيث نياما حَتَّى جَاءَ الشَّافِعِي أيقظهم فتيقظوا
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد مَا رَأَيْت أحدا أتبع للسّنة من الشَّافِعِي وَلَقَد قَالَ لَهُ بعض حاضري مَجْلِسه يَوْمًا وَقد روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أتأخذ بِهِ يَا أَبَا عبد الله فَغَضب وَقَالَ أَتَقول لي آخذ بِهِ وَذَلِكَ الْفَرْض عَليّ وعَلى كل مُسلم أَتَرَى فِي وسطي زنارا أَتَرَى فِي مُشْركًا ثمَّ قَالَ مَا أَتَى عَن الله وَرَسُوله قبلناه وَمَا أَتَت بِهِ الصقاعبة ضربنا بِهِ أقفيتهم وَلَقَد قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم الحَجبي يَوْمًا وَكَانَ من أَعْيَان دولة الرشيد مَا رَأَيْت مطلبيا يقدم أَبَا بكر وَعمر على عَليّ غَيْرك فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِي يَا هَذَا إِن عليا ابْن عمي وَأَبُو جد خَالِي وَأَنا من عبد منَاف وَأَنت من عبد الدَّار وَلَو كَانَ هَذَا المعتقد صَوَابا أَو مكرمَة لسبقتك إِلَيْهِ
قَالَ ابْن خلكان وَللشَّافِعِيّ مَنَاقِب كَثِيرَة وضع الْعلمَاء مِنْهَا مجلدات واشتهر(1/154)
من المصنفات فِي مناقبه وأحواله نَحْو ثَلَاثَة عشر مصنفا من ذَلِك لداود الظَّاهِرِيّ مُصَنف هُوَ مجلدان قلت وَرَأَيْت للفخر الرَّازِيّ مجلدا ضمنه ذَلِك أَيْضا وللزمخشري جَار الله مُصَنف اخْتصَّ بشرح أَلْفَاظ صدرت عَنهُ سَمَّاهُ شافي العي من كَلَام الشَّافِعِي
وَذكر الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق أَن رجلا وقف على مجْلِس أبي ثَوْر وَقَالَ لَهُ أصلحك الله سَمِعت يَقُول قولا عَظِيما قَالَ أَبُو ثَوْر مَا هُوَ قَالَ إِن الشَّافِعِي أفقه من الثَّوْريّ فَقَالَ أَبُو ثَوْر أَنْت سمعته يَقُول ذَلِك قَالَ نعم ثمَّ ولى الرجل فَقَالَ أَبُو ثَوْر هَذَا استنكر أَن يَقُول الشَّافِعِي أفقه من الثَّوْريّ وَهُوَ عِنْدِي أفقه من الثَّوْريّ وَالنَّخَعِيّ وَلم يكن مُحَمَّد بن الْحسن يعظم أحدا من أهل الْعلم تَعْظِيمه للشَّافِعِيّ وَقد جَاءَهُ يَوْمًا فوافاه قد ركب فحين رَآهُ مُحَمَّد نزل واستقبله وَأخذ بِيَدِهِ ودخلا الْمنزل وَلم يفترقا غَالب يومهما وَلم يكد يَأْذَن لأحد فِي الدُّخُول عَلَيْهِمَا وَقَالَ أحد أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل رَأَيْت أَحْمد فِي الْحرم عِنْد الشَّافِعِي فَقلت لَهُ يَا أَبَا عبد الله هَذَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة فِي نَاحيَة الْمَسْجِد يحدث فَقَالَ إِن هَذَا يفوت وَذَاكَ لَا يفوت قَالَ وَقلت لَهُ مرّة يَا أَبَا عبد الله تتْرك حَدِيث سُفْيَان وعلوه وتمشي خلف بغلة هَذَا الْفَتى وَقد سمع مِنْهُ فَقَالَ لَو عرفت لقعدت من الْجَانِب الآخر إِن علم سُفْيَان إِن فَاتَنِي بعلو أَدْرَكته بنزول وَإِن عقل هَذَا الشَّاب إِن فَاتَنِي لم أدْركهُ لعلو وَلَا نزُول وَقَالَ الْكَرَابِيسِي مَا كُنَّا نَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا السّنة والأولون كَذَلِك حَتَّى سمع من الشَّافِعِي الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع فجزاه الله عَن الْمُسلمين خيرا وَقَالَ يُونُس كَانَ الشَّافِعِي يضع كتابا من غدْوَة إِلَى الظّهْر من حفظه من غير أَن يكون بِيَدِهِ أصل وَقَالَ الرّبيع كَانَ الشَّافِعِي إِذا حدث كَأَنَّمَا يقْرَأ سُورَة من الْقُرْآن(1/155)
وَكَانَ أول من تكلم فِي الْأُصُول وَفتح على النَّاس بَابه وَكَانَ يكره الْخَوْض فِي علم الْكَلَام وَيَقُول رَأْيِي فِي أَصْحَاب الْكَلَام أَن يضْربُوا بالحديد وَيُطَاف بهم على الْجمال فِي العشائر والبلدان ويصاح عَلَيْهِم هَذَا جَزَاء من ترك كتاب الله وَسنة نبيه
وَعدل إِلَى آراء الرِّجَال وَقَالَ لِابْنِهِ أبي عُثْمَان يَوْمًا يَا بني وَالله لَو علمت أَن المَاء الْبَارِد يثلم من ديني شَيْئا لما شربت إِلَّا الْحَار وَقَالَ للربيع عَلَيْك بالزهد فَإِن الزّهْد على الزّهْد أحسن من الْحلِيّ على الناهد
وَقَالَ حَرْمَلَة سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول رَأَيْت أَبَا حنيفَة فِي الْمَنَام يَقُول مَالِي وَلَك يَا شَافِعِيّ مَالِي وَلَك يَا شَافِعِيّ وَكَانَ مَعَ كَمَاله فِي علم الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس وَالْفِقْه إِمَامًا فِي علم الْأَدَب وناهيك بِأخذ الْأَصْمَعِي عَنهُ شَاهدا وَله شعر رائق غالبه حِكْمَة من ذَلِك مَا أنشدنيه الصَّدْر الرئيس مُحي الدّين يحيى بن عبد اللَّطِيف الربعِي التكريتي بثغر عدن سنة ثَمَانِي عشرَة وسبعمئة وَقد محنت بحسبة الثغر فِي هَذِه السّنة لعول وَعدم طول وَمَا كَانَ كَذَلِك أحسن الله الْعَاقِبَة وَله الْحَمد على ذَلِك قَالَ من الشّعْر الْمَنْسُوب إِلَى الإِمَام الشَّافِعِي ... قيمَة الْمَرْء فَضله عِنْد ذِي الْفضل ... وَمَا فِي يَدَيْهِ عِنْد الرعاع
فَإِذا مَا حويت مَالا وعلما ... كنت عين الزَّمَان بِالْإِجْمَاع
وَإِذا مِنْهُمَا غَدَوْت خليا ... رحت فِي النَّاس من أخس الْمَتَاع ... وَمن ذَلِك مَا أنشدنيه فِي المعتقد لَهُ أَيْضا يُنَاسب الأبيات الْمُتَقَدّمَة ... أَنا شيعي لآل الْمُصْطَفى ... غير أَنِّي لَا أرى سبّ السّلف
مذهبي الْإِجْمَاع فِي الدّين وَمن ... حفظ الْإِجْمَاع لَا يخْشَى التّلف ... وَأَخْبرنِي وَالِدي يُوسُف بن يَعْقُوب رَحمَه الله قَالَ قدم علينا بعض الْفُقَهَاء المعتبرين وَذكره لي غير أَن النسْيَان طَرَأَ
قَالَ رأى الشَّافِعِي من بعض أهل زَمَانه احتقارا لَهُ على رثَّة ملبسه فأنشده ... عَليّ ثِيَاب دون قيمتاه الْفلس ... وفيهن نفس دون قيمتهَا الْأنس ...(1/156)
.. فثوبك شمس تَحت أذياله الدجى ... وثوبي ليل تَحت أذياله الشَّمْس ... وَمن ذَلِك مَا أنشدنيه شَيْخي أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد الأصبحي الْآتِي ذكره قَالَ ثَبت عَنهُ بطرِيق صَحِيح بيتان فِي الْمَنْع عَن أكل التُّرَاب هما ... لَا تَأْكُل الطين مُعْتَقدًا مذهبي ... فقد صد عَنهُ حَدِيث النَّبِي
من الطين رَبِّي برا آدما ... وآكله آكل للْأَب ... وَمِنْه أَيْضا مَا قَالَه يُخَاطب والدته حِين عزم على الارتحال فِي طلب الْعلم ... أَقُول لَهَا والعيس تحدج للنوى ... أعدي لفقدي مَا اسْتَطَعْت من الصَّبْر
سأنفق ريعان الشبيبة آنِفا ... على طلب العلياء أَو طلب الْأجر
أَلَيْسَ من الخسران أَن لياليا ... تمر بِلَا نفع وتحسب من عمري ... وَمِنْه مَا وجدته بِخَط الْفَقِيه سُلَيْمَان الجندي الْآتِي ذكره أَنه قَالَ قَالَ الشَّافِعِي ... إِذا الْمَرْء أولاك الهوان فأوله ... هوانا وَإِن كَانَت قَرِيبا أواصره
وَإِن كنت لم تقدر على أَن تهينه ... فَدَعْهُ إِلَى الْيَوْم الَّذِي أَنْت قادره ... وَمن الشّعْر الْمَنْسُوب إِلَيْهِ فِي النَّفس ... كدكد النَّفس إِن أَحْبَبْت أَن تصبح حرا
... واقطع الآمال عَن جود بني آدم طرا
... لَا تقل ذَا مكسب يزري ففضل النَّاس أزرى
... أَنْت مَا اسْتَغْنَيْت عَن غَيْرك أَعلَى النَّاس قدرا
وَمن شعره فِي الزّهْد ... أأنعم عَيْشًا بَعْدَمَا حل عارضي ... طوالع شيب لَيْسَ يُغني خضابها
إِذا أسود لون الْمَرْء وأبيض شعره ... تنغص من أَيَّامه مستطابها
وغرة عمر الْمَرْء قبل مشيبه ... وَقد فنيت نفس تولى شبابها
فدع فضلات للأمور فَإِنَّهَا ... حرَام على نفس التقي ارتكابها
وَلَا تمشين فِي منْكب الأَرْض فاخرا ... فعما قَلِيل يحتويك ترابها
وَآت زَكَاة الجاه وَاعْلَم بِأَنَّهَا ... كَمثل زَكَاة المَال تمّ نصابها ...(1/157)
.. وَأحسن إِلَى الْأَحْرَار تملك رقابهم ... فَخير تِجَارَات الْكِرَام اكتسابها
وَلم يذقْ الدُّنْيَا فَإِنِّي طعمتها ... وسيق إِلَيْنَا عذبها وعذابها
وَلم أرها إِلَّا غرُورًا وباطلا ... كَمَا لَاحَ فِي ظهر الفلاة سرابها
وَمَا هِيَ إِلَّا جيفة مستحيلة ... عَلَيْهَا كلاب همهن اجتذابها
فَإِن تجتنبها كنت سلما لأَهْلهَا ... وَإِن تجتذبها نازعتك كلابها
فطوبى لنَفْسي أوطنت قَعْر دارها ... مغلقة الْأَبْوَاب مرخى حجابها ... وللزمخشري كتاب ذكر فِيهِ أَنه قيل للشَّافِعِيّ فِي صَبِيحَة كَيفَ أَصبَحت قَالَ مَا حَال من أصبح يَطْلُبهُ ثَمَانِيَة الرب بكتابه وَالنَّبِيّ بسنته وَأهل بَيته بالقوت وَالنَّفس بالشهوات والشيطان بِالْمَعَاصِي وَملك الْمَوْت بِقَبض الرّوح والحفظة بِمَا ينْطق والدهر بصروفه وَذكر صَاحب الْأَرْبَعين الطائية بِإِسْنَادِهِ إِلَى الْمُزنِيّ قَالَ دخلت على الشَّافِعِي فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقلت كَيفَ أَصبَحت يَا أَبَا عبد الله قَالَ أَصبَحت من الدُّنْيَا راحلا ولإخواني مفارقا ولسوء أفعالي ملاقيا ولكأس الْمنية شاربا وعَلى الله عز وَجل واردا فوَاللَّه مَا أَدْرِي أروحي إِلَى الْجنَّة تصير فأهنيها أم إِلَى النَّار فأعزيها ثمَّ بَكَى وَأنْشد شعرًا ... وَلما قسا قلبِي وَضَاقَتْ مذاهبي ... جعلت رجائي نَحْو عفوك سلما
تعاظمني ذَنبي فَلَمَّا قرنته ... بعفوك رَبِّي كَانَ عفوك أعظما
فَمَا زلت ذَا عَفْو عَن الذَّنب لم تزل ... تجود بِعَفْو منَّة وتكرما
فلولاك لم يغو بإبليس عَالم ... فَكيف وَقد أغوى صفيك آدما ... وَكَانَت وَفَاته بِمصْر لَيْلَة الْجُمُعَة بعد أَن صلى الْعشَاء آخر لَيْلَة من رَجَب سنة أَربع ومئتين وَدفن يَوْم الْجُمُعَة بعد الْعَصْر بعد أَن دخلت جنَازَته على السِّت نفيسة فصلت عَلَيْهِ بِنَفسِهَا وَإِنَّمَا أخر دَفنه لِأَنَّهُ أوصى أَن لَا يدْفن حَتَّى تَبرأ ذمَّته من الدّين الَّذِي عَلَيْهِ فَفعل ذَلِك بِهِ وَلم يدْخل قَبره وَعَلِيهِ دِرْهَم يعلم
وَحكي فِي صفة الصفوة عَن الرّبيع بن سُلَيْمَان أَنه قَالَ كُنَّا جُلُوسًا فِي حَلقَة الشَّافِعِي قريب دَفنه فَوقف بِنَا أَعْرَابِي وَسلم ثمَّ قَالَ أَيْن قمر هَذِه الْحلقَة بل(1/158)
شمسها قُلْنَا توفّي فَبكى بكاء شَدِيدا وَقَالَ رَحمَه الله وَغفر لَهُ فَلَقَد كَانَ يفتح ببيانه منغلق الْحجَّة ويسد على خَصمه وَاضح المحجة وَيغسل من الْعَار وُجُوهًا مسودة ويوسع بِالرَّأْيِ أبوابا منسدة ثمَّ مضى وَتَركنَا نعجب من حسن أَلْفَاظه
وَقَالَ الرّبيع الْمرَادِي بِالْوَلَاءِ الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله رَأَيْت الشَّافِعِي بعد مَوته فَقلت مَا فعل الله بك فَقَالَ أَنا فِي الفردوس الْأَعْلَى قلت بِمَ ذَاك قَالَ بِكِتَاب صنفته وسميته الرسَالَة الجديدة قَالَ ورأيته مرّة ثَانِيَة فَقلت مَا صنع الله بك قَالَ أجلسني على كرْسِي من ذهب ونثر عَليّ اللُّؤْلُؤ الرطب
وَوصل بعض أهل الْمَعَالِي تربته فَاسْتعْمل صُورَة مركب من النّحاس علقها عِنْد رَأس الْقَبْر فَكَانَ كثير من النَّاس يعجب لذَلِك وَيسْأل عَن فَائِدَة ذَلِك حَتَّى وصل بعض نظرائه فَسئلَ عَن الْمَعْنى فَقَالَ شعرًا ... أَتَيْنَا لقبر الشَّافِعِي نزوره ... وجدنَا بِهِ فلكا وَلَيْسَ بِهِ بَحر
فَقُلْنَا تَعَالَى الله هَذَا إِشَارَة ... تنبىء أَن الْبَحْر قد ضمه الْقَبْر ... وَوصل أَصْحَابه البغداديون لزيارة تربته والعزاء بِهِ إِلَى أَصْحَابه المصريين ثمَّ لم أَرَادوا الِانْصِرَاف وقفُوا على تربته وَقَالَ بَعضهم بَيْتَيْنِ فِي الْمَعْنى ... قد أَتَيْنَاك يَا ابْن إِدْرِيس ... وزرناك من بِلَاد الْعرَاق
وقرأنا عَلَيْك مَا قد حفظنا ... من كَلَام الْمُهَيْمِن الخلاق ... وَقد انْقَضى ذكر اللَّائِق من أَحْوَال الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ لم يبْق إِلَّا ذكر من عرض ذكره مَعَه من الْأَعْيَان فابدأ حِينَئِذٍ بِذكر شُيُوخه أَوَّلهمْ المكيون مِنْهُم أَبُو مُحَمَّد سُفْيَان بن عُيَيْنَة بن أبي عمرَان مَيْمُون الْهِلَالِي بِالْوَلَاءِ قَالَ ابْن خلكان وَإِنَّمَا كَانَ مولى لامْرَأَة من بني هِلَال رَهْط مَيْمُونَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْنِي مَيْمُونَة قَالَ وَكَانَ من عُمَّال خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي فَلَمَّا عزل وَطلب عماله هرب ابْن عمرَان إِلَى(1/159)
مَكَّة فنزلها وَهُوَ من أهل الْكُوفَة ومولد سُفْيَان بهَا منتصف شعْبَان سنة سبع ومئة وعد من أهل مَكَّة لنشوئه بهَا كَمَا فعل بعطاء بن أبي رَبَاح وَقد ذكره الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الرَّازِيّ فِي بعض نسخ طبقاته وَلم يؤرخه بل قَالَ قَالَ الشَّافِعِي مَا رَأَيْت أفقه من سُفْيَان وأسكت عَن الْفتيا مِنْهُ
وَقَالَ ابْن خلكان وَكَانَ إِمَامًا عَالما ثبتا حجَّة زاهدا ورعا مجمعا على صِحَة حَدِيثه وَرِوَايَته حج سبعين حجَّة وروى عَن الزُّهْرِيّ وَأبي إِسْحَاق السبيعِي
وَمن غَرِيب مَا جرى لَهُ أَنه خرج إِلَى جمع من طلبة الْعلم يُرِيدُونَ الْأَخْذ عَنهُ وَهُوَ إِذْ ذَاك متضجر لأمر عرض لَهُ فَقَالَ لَهُم أَلَيْسَ من الشَّقَاء أَن أكون جالست ضَمرَة بن سعيد وجالس أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ وجالست عَمْرو بن دِينَار وجالس ابْن عمر وجالست الزُّهْرِيّ وجالس أنس بن مَالك وَعدد على هَذَا جمعا ثمَّ قَالَ وَأَنا أجالسكم الْآن فَقَالَ لَهُ حدث فِي الْمجْلس انتصفت يَا أَبَا مُحَمَّد قَالَ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَقَالَ وَالله لشقاء أَصْحَاب رَسُول الله بك أَشد من شقائك بِنَا فَأَطْرَقَ قَلِيلا ثمَّ أنْشد ... خل جنبيك لرامي ... وامض عَنهُ بِسَلام
مت بداء الصمت خير ... لَك من دَاء الْكَلَام ... ثمَّ تفرق النَّاس وهم يتحدثون برجاحة الْحَدث وَهُوَ يحيى بن الأكثم الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَلم يزل بِمَكَّة حَتَّى توفّي بهَا آخر يَوْم من جُمَادَى الْآخِرَة وَقيل مستهل رَجَب سنة ثَمَان وَتِسْعين ومئة وَدفن بالحجون جبل بِأَعْلَى مَكَّة قبر فِيهِ عدَّة من النَّاس وَهُوَ بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَضم الْجِيم وَسُكُون الْوَاو ثمَّ نون
وَمِنْهُم مُسلم بن خَالِد بن سعيد الزنْجِي قيل لَهُ ذَلِك لحمرة كَانَت فِيهِ تفقه بِابْن جريج وَإِلَيْهِ انْتَهَت رياسة الْفتيا وَكَانَت وَفَاته سنة تسع وَسبعين ومئة وَقيل سنة ثَمَانِينَ وَأما شَيْخه ابْن جريج فقد مضى ذكره مَعَ عبد الرَّزَّاق فلينظره من أَرَادَهُ(1/160)
وَأما شُيُوخه بِالْمَدِينَةِ فأولهم أَبُو عبد الله مَالك بن أنس وَقد مضى ذكره عقب ذكر أبي حنيفَة وَأبي قُرَّة ثمَّ أَبُو عبد الله عبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ أَخذ عَن المكيين والمدنيين وَلم أتحقق من نَعته شَيْئا
وَأما شُيُوخه بِالْيمن فقد ذكرت مِنْهُم عِنْد ذكره فِيمَا مضى كمحمد بن خَالِد الجندي وَالْقَاضِي هِشَام وَغَيرهمَا وَأما بِمصْر فالست الطاهرة نفيسة بنت الْحسن بن زيد بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب
قَالَ ابْن خلكان قدمت السِّت مصر مَعَ السَّيِّد إِسْحَاق بن جَعْفَر الصَّادِق وَقيل قدمت مَعَ أَبِيهَا وَلأَهل مصر بهَا اعْتِقَاد عَظِيم وَكَانَت وفاتها بِشَهْر رَمَضَان من سنة ثَمَان ومئتين وَأَرَادَ زَوجهَا أَن ينقلها إِلَى مَدِينَة يثرب فَتعلق بِهِ المصريون وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ أَن يقبرها مَعَهم للتبرك فأجابهم ودفنها بِالدَّار الَّتِي كَانَت تسكنها عِنْد الْمشَاهد بَين الْقَاهِرَة ومصر وقبرها مَشْهُور يزار كثيرا ويستجاب عِنْده الدُّعَاء
انْقَضى ذكر شُيُوخ الإِمَام وَلم يبْق إِلَّا الْبِدَايَة بِذكر التَّارِيخ وَهُوَ الأَصْل أهل المئة الثَّالِثَة بالمتأخرين إِلَى مُضِيّ الْكتاب كَمَا هُوَ شرطنا وَأَجْعَل بدايتهم بأصحاب الإِمَام فأختم بعد مُضِيّ الْفُقَهَاء بِذكر الْوُلَاة إِلَى عصرنا اختصارا وتيسيرا
فَاعْلَم أَطَالَ الله بقاك أَن جَمِيع الْيمن قد أسلم أَهله وَهُوَ إِذْ ذَاك على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعَة مخاليف مخلاف عك وَهِي تهَامَة خَاصَّة ثمَّ الْجند ثمَّ صنعاء ثمَّ حضر موت مَا مخلاف مِنْهُنَّ إِلَّا لم يمت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى قد أسلم أَهله وَقد صَار عَلَيْهِم من قبله وُلَاة وعمالا فَارْتَد بعض أهل حضر موت كَانَ عَلَيْهِم زِيَاد بن لبيد البياضي كَمَا قد مضى بَيَان ذَلِك
وَأما سَائِر المخاليف فَلم يذكر عَن أحد مِنْهُم ردة وَكَذَلِكَ أَقَامَ كل وَاحِد من الْعمَّال فِي عمله مَا شَاءَ الله ثمَّ قدم من قدم على أبي بكر اخْتِيَارا كمعاذ بن جبل وَكَانَ ملك صنعاء بيد الْفرس وحمير بن سيف بن ذِي يزن إِذْ(1/161)
كَانَ قد هلك فالفرس الْمُلُوك وحمير المدبرون للبلاد والسائقون للخراج والدافعون للْفَسَاد وَكَانَ بَين الْفرس وَبَين هَمدَان عهود ومواثيق وَكَانَ بَينهم فِي ذَلِك مكتب
قَالَ الرَّازِيّ كَانَت الْعَرَب تكْتب فِي صدر كتبهَا بِاسْمِك اللَّهُمَّ وتكتب فَارس باسم ولي الرَّحْمَة وَالْهدى فَلَمَّا أَرَادوا كتب كتاب الْحلف جمعُوا فَقَالَ بِاسْمِك اللَّهُمَّ ولي الرَّحْمَة وَالْهدى
هَذَا كتاب مَا أَجمعت عَلَيْهِ هَمدَان وَفَارِس بِالْيمن بِمحضر الْمَرْزُبَان باذان بن ساسان ومشاهدة للرئيسين عَمْرو بن الْحَارِث وَعَمْرو بن يزِيد من بكيل وحاشد وَرَضي من حضر وكفالة بَعضهم لبَعض عَمَّن غَابَ من الْحَيَّيْنِ جَمِيعًا
إِنَّا تحالفنا جَمِيعًا على عهد الله وميثاقه واجتماع الْهوى واتفاقه وقتال الْمُخَالف وفراقه على أَن كل وَاحِد من الْحَيَّيْنِ جَمِيعًا فِيمَا عقد وحالف إِن نكث أَو خَالف عَمَّا عقد وَشد ووكد فَعَلَيهِ الْعَهْد من الله المكرر الوثيق الْمُؤَكّد الشَّديد أَبَد الْأَبَد لأبد لَا يبيد مَا دَامَ وَالِد وَولد لَا يزَال عهدا مؤكدا مَا أظلت السَّمَاء وأقلت الغبراء وَجرى المَاء وَنزل الْمَطَر وأخضر الشّجر وَأكل الثَّمر وَبَقِي الْبشر وَمَا بَقِي فِي الْبحار رنق وَفِي الْأَشْجَار ورق وَفِي الْأَيَّام رَمق وَمَا ثبتَتْ الرواسِي الشامخات فِي موَاضعهَا وَظَهَرت النُّجُوم السابحات فِي مطالعها عهدا تؤكده العهود بِعقد مُحكم مبرم شَدِيد لَا يضمحل أمره وَلَا ينْبذ خَبره
ثمَّ جعل ذَلِك نسختين وَاحِدَة مَعَ هَمدَان وَالْأُخْرَى مَعَ فَارس وَلم تزل الْفرس مؤالفة لهمدان حَتَّى لَو قيل إِن ذَلِك مُسْتَمر إِلَى عصرنا لم يكد الْعقل يُنكره
فَلَمَّا قَامَ الْإِسْلَام وَبعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نوابه إِلَى الْيمن فَلم يخْتَلف أَن المعبوث إِلَى مخلاف الْجند هُوَ معَاذ بن جبل الْأنْصَارِيّ وَلم يزل فِي الْجند حَتَّى كَانَت خلَافَة أبي بكر فَكتب إِلَيْهِ يَسْتَأْذِنهُ بالقدوم عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ سَائِر الْعمَّال كتبُوا فَكتب إِلَيْهِم الصّديق أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعثكم لما بعثكم لَهُ من شَأْنه فَمن أحب أَن(1/162)
يقف فِي عمله فليقف وَمن أحب أَن يعود فليعد بعد أَن يخلف صَالحا فاستخلف معَاذ على الْجند عبد الله بن أبي ربيعَة المَخْزُومِي وَاخْتلف المؤرخون فِيمَن كَانَ نَائِبا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على صنعاء فَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ ابْن جرير الصَّنْعَانِيّ أَنه أبان بن سعيد بن الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس وَهُوَ أحد من قيل إِنَّه بنى جَامع صنعاء وَقد قيل أَقْوَال غير ذَلِك فَلَمَّا قدم كتاب الصّديق إِلَى أبان يخيره بَين الْوُقُوف وَبَين الِاسْتِخْلَاف وَالْعود فاستخلف يعلى بن أبي عبيد بن الْحَارِث بن بكر بن زيد التَّمِيمِي وَيُقَال لَهُ يعلى بن منية نِسْبَة إِلَى أمه كَانَ مَعَ أبان فِي ولَايَته وَكَانَ من حلفاء قُرَيْش ثمَّ من حلفاء بني نَوْفَل بن عبد منَاف فَلم يزل يعلى على صنعاء ومخاليفها حَتَّى قتل عُثْمَان وَسَيَأْتِي ذكر مَا كَانَ مِنْهُ فِي خلَافَة عمر
وَبعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى خولان خَالِد بن عَامر من بني أُميَّة فَلم يسلمُوا فَقَاتلهُمْ وسبى مِنْهُم ثمَّ سَار إِلَى حُضُور فأسلموا فَبنى لَهُم مَسْجِدا وَهُوَ مَسْجِد مَشْهُور من الْمَسَاجِد المعدودة بِالْيمن
وَبعث خَالِد بن الْوَلِيد إِلَى تهَامَة وَبعث إِلَى حَضرمَوْت المُهَاجر بن أبي أُميَّة وَزِيَاد بن لبيد فَارْتَد جمع من أهل تهَامَة وَخرج عَنْهُم خَالِد بن الْوَلِيد بعد أَن(1/163)
أصلحوا فغزا الْيَمَامَة الْغَزْوَة الْمَشْهُورَة الَّتِي قتل بهَا مُسَيْلمَة الْكذَّاب وَسَائِر الْعمَّال لم يبرحوا من عَمَلهم حَتَّى توفوا عَلَيْهِ وَبِه كَانَ مبدأ خلَافَة الصّديق يَوْم توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الِاثْنَيْنِ ثَانِي شهر ربيع الأول وعَلى وَفَاة عشر من الْهِجْرَة وَقد مضى بَيَان بيعَة الْمُسلمين لَهُ وَأَنَّهَا كَانَت فِي الْيَوْم الأول
وَمن عَجِيب مَا حدث أَيَّام خلَافَة الصّديق بِالْيمن أَنه حصل مطر عَظِيم فأبرز عَن بَاب مغلق وَظن النَّاس أَنه كنز وهابوا فَتحه دون مشاروة الْخَلِيفَة فَكَتَبُوا إِلَى أبي بكر يعلمونه بذلك فَعَاد جَوَابه إِلَى عَامل الْبَلَد أَن لَا يتْرك أحدا يقرب الْموضع حَتَّى يقدم أمناؤه ثمَّ لما قدم الْأُمَنَاء فتحُوا الْبَاب فَإِذا هُوَ على مغارة فَدَخَلُوهَا وَإِذا بهَا سَرِير عَلَيْهِ رجل فَوْقه سَبْعُونَ حلَّة منسوجة بِالذَّهَب وَبِيَدِهِ الْيُمْنَى لوح فِيهِ مَكْتُوب ... إِذا خَان الْأَمِير وكاتباه ... وقاضي الأَرْض داهن بِالْقضَاءِ
فويل ثمَّ ويل ثمَّ ويل ... لقَاضِي الأَرْض من قَاضِي السَّمَاء ... وَفِي كَفه الْأَيْسَر خَاتم عَلَيْهِ مَكْتُوب {وَمَا وجدنَا لأكثرهم من عهد وَإِن وجدنَا أَكْثَرهم لفاسقين}
وَعند رَأسه مَكْتُوب ... يَا لائمي فِي هجرهم جَاهِلا ... عُذْري منقوش على خَاتمِي ... ثمَّ سيف أَشد خضرَة من البقلة مَكْتُوب عَلَيْهِ هَذَا سيف هود بن عَاد بن إرم
وَهَذَا أعجب مَا جرى فِي الْيمن بأيام أبي بكر وَلم يزل الْيمن بيد الْأُمَرَاء الْمُتَقَدِّمين مذ خِلَافَته حَتَّى كَانَت وَفَاته يَوْم الْجُمُعَة لسبع بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث عشرَة وَكَانَ آخر كَلَام سمع مِنْهُ رب توفني مُسلما وألحقني بالصالحين
وَكَانَ رزقه من بَيت المَال كل(1/164)
عَام ثلاثمئة دِينَار بعد أَن بلغ عمره ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سنة وخلافته سنتَانِ وَثَلَاثَة أشهر وَأحد عشر يَوْمًا وغسلته امْرَأَته أَسمَاء بنت عُمَيْس بِوَصِيَّة مِنْهُ ثمَّ دفن مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحجرة عَائِشَة
وَجعل رَأسه بِإِزَاءِ كتف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ الْقَمَر الثَّانِي المدفون تَصْدِيقًا لرؤيا أم الْمُؤمنِينَ الْمُتَقَدّم ذكرهَا
ثمَّ ولي أَمر الْأمة بعده أَبُو حَفْص عمر بن الْخطاب بن نفَيْل بن عبد الْعُزَّى بن رَبَاح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب يجْتَمع مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر فِي كَعْب بن لؤَي اسْتَخْلَفَهُ أَبُو بكر فَقَامَ بِأَمْر الْأمة أتم قيام وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ أول من سمي أَمِير الْمُؤمنِينَ فأبقى عُمَّال الْيمن على حَالهم لم يُغير على أحد مِنْهُم غير يعلى بن أُميَّة صَاحب صنعاء فَإِنَّهُ أشخصه عَن صنعاء مرَّتَيْنِ وَوصل الْمَدِينَة
سَبَب الأولى أَن أَخا ليعلى أَو بعض أَهله اشْترى فرسا لرجل بِاثْنَيْ عشر ألف دِرْهَم وَلم يوفه الثّمن فَذهب إِلَى عمر وشكا ذَلِك فاستدعاه وحاقق بَينهمَا ثمَّ عَاد من فوره إِذْ لم يتَوَجَّه عَلَيْهِ حق
وَالثَّانيَِة أَن رجلا من أهل حفاش قتل ابْنا لآخر فوصل إِلَى يعلى فَأخْبرهُ فاستدعى الْقَاتِل وَسَأَلَهُ هَل قتل ولد الشاكي فاعترف بذلك فَأخذ يعلى سَيْفا وَسلمهُ إِلَى أبي الْمَقْتُول وَقَالَ اذْهَبْ فاقتله كَمَا قتل ولدك ثمَّ إِنَّه ضربه ضربات مُتعَدِّدَة فَوَقع مغشيا عَلَيْهِ وَلم يشك أَنه مَاتَ فَأَخذه أَهله وَأَرَادُوا دَفنه فوجدوا فِيهِ عرقا يَتَحَرَّك فَذَهَبُوا بِهِ الْبَيْت ولاطفوه بالأدوية فتعافى فَبينا هُوَ ذَات يَوْم يرْعَى الْغنم إِذْ مر بِهِ أَبُو الْمَقْتُول فَعرفهُ فَذهب إِلَى يعلى فَأخْبرهُ فاستدعاه يعلى فاستخبره فَوجدَ فِيهِ جراحات كَثِيرَة فَأمر يعلى من قدر أروشها فبلغت الدِّيَة فَقَالَ يعلى لأبي الْمَقْتُول إِمَّا أَن تدفع الدِّيَة ونقتله أَو تخليصه فَقَالَ أُرِيد قَتله وَمَا فعلته بِهِ يكون هدرا فَلم يساعده يعلى على ذَلِك فَقدم إِلَى عمر وشكا إِلَيْهِ من يعلى وَقَالَ حَال بيني وَبَين قَاتل وَلَدي فَبعث عمر الْمُغيرَة بن شُعْبَة على صنعاء واستدعى يعلى(1/165)
فَلَمَّا دخل الْمُغيرَة صنعاء أَسَاءَ إِلَى يعلى وَأخرجه إِلَى عمر بِوَجْه لَا يَلِيق فَلَمَّا قدم يعلى والمقتول وَلَده أَن يتحاققا فَقَالَ عَليّ كرم الله وَجهه إِن يعلى لفقيه وَقَالَ عمر إِنَّك لقاض ثمَّ لبث بِالْمَدِينَةِ سنتَيْن
وَسَأَلَ عمر عَن قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا} وَقلت قد أمنا فَقَالَ عمر عجبت مِمَّا عجبت مِنْهُ فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك فَقَالَ صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم فاقبلوا صدقته ثمَّ إِن عمر أعَاد يعلى على عمله فَلَمَّا قدم صنعاء أحسن إِلَى الْمُغيرَة وجهزه إِلَى عمر أحسن جهاز فَكَانَ الْمُغيرَة يَقُول عِنْد ذكره يعلى خير مني حِين ولي وَحين عزل
وَفِي أَيَّام يعلى كَانَت قصَّة أصيل وَهِي مَا أوردهُ الرَّازِيّ بكتابه بِسَنَد حذفته اختصارا وَذَلِكَ أَن رجلا من أهل صنعاء غَابَ عَن امْرَأَة لَهُ اسْمهَا زَيْنَب وَترك مَعهَا ابْنا لَهُ من غَيرهَا اسْمه أصيل صبي فِي سنّ التَّمْيِيز وَكَانَت فاسقة وَلها سَبْعَة أخلاء فَصَارَت تتبرم من الصَّبِي أَن يفضحهم وَقَالَت لخلانها إِن هَذَا الصَّبِي فاضحنا لَا محَالة وَلست آمِنَة أَن يفضحني وَإِيَّاكُم ثمَّ حسنت لَهُم قَتله وَلم تزل بهم حَتَّى دخلُوا عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِم فخنقوه حَتَّى مَاتَ ثمَّ حملوه فألقوه ببئر الديبانادى وَهِي بوسط غمدان خلف بِئْر سَام بن نوح قَالَ الرَّازِيّ وَهِي فِي عصرنا خراب وعصره فِي المئة الْخَامِسَة ثمَّ إِن الْمَرْأَة أظهرت بعد ذَلِك فقد الصَّبِي وَجعلت تَدور شوارع صنعاء راكبة على حمَار وَهِي تَقول اللَّهُمَّ لَا تخف عَليّ من قتل أصيلا ثمَّ اتَّصل الْعلم بيعلى وَأَن صَبيا فقد لَا يعلم خَبره فشق بِهِ ذَلِك وساءه ثمَّ صعد الْمِنْبَر فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ انْظُرُوا هَل تُحِسُّونَ لهَذَا الصَّبِي خَبرا أَو يذكر لكم فَلم يجبهُ أحد بِشَيْء ثمَّ بعد أَيَّام مر رجل من أهل صنعاء بالبئر فَظهر لَهُ مِنْهَا ريح مُنْتِنَة وذباب أَخْضَر يطلع من الْبِئْر وَيرجع فِيهَا فغلب على ظَنّه وجود الْغُلَام بالبئر فَذهب إِلَى يعلى وَقَالَ أظنني قد قدرت على طلبتك أَيهَا الْأَمِير ثمَّ أخبرهُ بِمَا وجد فِي الْبِئْر فبادر يعلى وَركب من فوره حَتَّى وقف بِرَأْس الْبِئْر وَمَعَهُ جمع من الحفدة وَأهل الْبَلَد وَمن جُمْلَتهمْ(1/166)
بعض القتلة فَقَالَ أدلوني أنظر مَا فِي الْبِئْر وأكشف الْخَبَر فَربط بحبال وَأنزل فَلَمَّا صَار بِالْقربِ من المَاء وجد الصَّبِي قد نبذه المَاء وَهُوَ على وَجه المَاء فغيبه فِي جرف من جروف الْبِئْر ثمَّ صَاح أطلعوني فَإِنِّي لم أجد شَيْئا فَأطلع فَقَالَ النَّاس لَهُ إِنَّك لما ضربت المَاء وحركته اشتدت الرَّائِحَة وَكثر صعُود الذُّبَاب فَقَالَ رجل آخر أدلوني مَكَانَهُ فحين قَالَ ذَلِك أخذت الأول رعدة شَدِيدَة فاستوثقوا بِهِ فأدلوا الثَّانِي فَلَمَّا صَار بِالْمَاءِ تبع الرَّائِحَة فَوجدَ الصَّبِي بِغَار وَعَلِيهِ أثر التقليب فشده بالحبل وَأمر بجره فَأطلع أَولا وطلع الصَّبِي الْهَالِك فَلَمَّا ظهر الصَّبِي وَرَآهُ الْمنزل الأول اشتدت رعدته وَهَذَا من قبيل قَوْلهم فِي الْمثل كَاد الْمُرِيب أَن يَقُول خذوني فَأخذ يعلى عَلَيْهِ بالتهديد فاعترف أَنه قَتله من جملَة سَبْعَة وَأَن سَبَب ذَلِك زَوْجَة أَبِيه فطلبوا جَمِيعًا فَلَمَّا حصلوا سجنوا وَجعلت الْمَرْأَة بمعزل عَنْهُم وَكتب يعلى إِلَى عمر يسْأَله الحكم فيهم فحين وصل الْكتاب إِلَى عمر استحضر جمَاعَة من فُقَهَاء الصَّحَابَة وَعرض عَلَيْهِم كتاب يعلى واستشارهم وَقَالَ إِنِّي أرى بقتل الرِّجَال وَالْمَرْأَة غير أَنِّي أردْت لَا ينفذ ذَلِك إِلَّا بعد مشورة مِنْكُم فصوبوا رَأْيه حَتَّى قَالَ عَليّ كرم الله وَجهه رَأَيْت صَوَابا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَرَأَيْت لَو أَن جمَاعَة اشْتَركُوا فِي سَرقَة جزور سرق كل وَاحِد مِنْهُم عضوا أَكنت قاطعهم بذلك قَالَ نعم قَالَ فَهَؤُلَاءِ كَذَلِك فقوي عزم عمر وَكتب إِلَى يعلى بذلك ثمَّ قَالَ لَو تمالأ أهل صنعاء على قَتله لقتلتهم بِهِ فحين وصل الْكتاب إِلَى يعلى بَادر فَقتل الرِّجَال وَالْمَرْأَة وَقد اسْتشْهد كثير من مصنفي الْفِقْه على جَوَاز قتل الْجَمَاعَة بِالْوَاحِدِ لهَذَا الْخَبَر
ثمَّ بعد ذَلِك أَن موَالِي ليعلى ضربوا رجلا حَتَّى أحدث فِي ثِيَابه فَذهب الرجل إِلَى عمر واشتكى إِلَيْهِ فَكتب عمر إِلَى يعلى أَن يَأْتِيهِ مَاشِيا على قَدَمَيْهِ فَخرج من صنعاء كَذَلِك حَتَّى إِذا صَار على مراحل مِنْهَا لقِيه كتاب عُثْمَان بن عَفَّان يبقيه على عمله ويخبره بوفاة عمر فَعَاد يعلى إِلَى صنعاء وَعمل فرحة
وَأما ابْن أبي ربيعَة فَلم أسمع لَهُ خَبرا يستظرف غير مَا ذكر الرَّازِيّ فَذكر بعض الْفُقَهَاء أَنه بعث إِلَى عمر ظرفا بِهِ شَيْء من الغالية فوصل إِلَى عمر وَعِنْده(1/167)
جمَاعَة من الصَّحَابَة فاستخرج مَا فِيهِ وضمخ بِهِ من حَضَره من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَقيل دهنهم بِهِ
قَالَ الرَّازِيّ فَذكر بعض الْفُقَهَاء أَن فِي فعل عمر ذَلِك ثَلَاث فَوَائِد مِنْهَا قبُول الْهَدِيَّة والادهان بالغالية وطهارة الْمسك إِذْ هُوَ الْغَالِب فِي جوانحها وَمن محَاسِن عمر رَضِي الله عَنهُ مَا ذكر طَاوُوس أَنه قَالَ للنَّاس وهم حوله أَرَأَيْتُم إِذا اسْتعْملت عَلَيْكُم خير من أعلمهُ ثمَّ أوصيته بِالْعَدْلِ فِيكُم أَتَرَوْنَ قضيت مَا عَليّ قَالُوا نعم قَالَ لَا حَتَّى أطالعه وأفتقده فِي عمله هَل هُوَ كَمَا أَمرته أم لَا
وَقَالَ لَهُ حُذَيْفَة بن الْيَمَان اسْتعْملت الْفجار على رِقَاب أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يفعل ذَلِك من قبلك فَقَالَ أستعين بجلد الْفَاجِر وَإِن عرفت فجوره ثمَّ أباشر عمله بنفسي فَقَالَ حُذَيْفَة أخْشَى أَن يوليهم من يَأْتِي بعْدك احتجاجا بك ثمَّ لَا يباشرهم وَفعل عمر مَعَ يعلى دَلِيل على مَا ذكره من الافتقاد
وَكَانَ عمر أول من سمي أَمِير الْمُؤمنِينَ سَمَّاهُ بِهِ عَمْرو بن الْعَاصِ فاشمأز مِنْهُ فَقَالَ لَهُ أَلسنا الْمُؤمنِينَ وَأَنت أميرنا قَالَ بلَى ثمَّ سكت فَمن هُنَالك سمي كل قَائِم بِالْأَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ وَكَانَ أول من دون الدَّوَاوِين وجند الأجناد وَعرف العرفاء وَوضع الْجِزْيَة وَنفى الْمُشْركين عَن جَزِيرَة الْعَرَب
وَلما أَرَادَ وضع الدِّيوَان جمع أكَابِر الصَّحَابَة واستشارهم فوافقوه ثمَّ سَأَلَهُمْ بِمن تكون الْبِدَايَة فَقَالُوا بك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَا الْأَمر لرَسُول الله وَنحن نوابه فِي أمته أبدأ برهطه الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب ثمَّ فرض للْعَبَّاس فِي كل عَام سِتَّة آلَاف دِرْهَم ثمَّ لعلى نَحوه وَفرض لِلْحسنِ وَالْحُسَيْن خَمْسَة آلَاف دِرْهَم وَقَالَ ألحقهما بأبيهما لمكانهما من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ فرض لكل مُهَاجِرِي خَمْسَة آلَاف وَلكُل أَنْصَارِي أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم ثمَّ جعل(1/168)
نَفسه وَأَهله فِي الْبَيْت الثَّامِن وَكَانَ إِذا أَخذ أحد مِنْهُ رزقا لَهُ بَارك الله لَك فِيهِ هَذَا مَا وَعدك الله فِي الدُّنْيَا وَمَا ادخر لَك فِي الْآخِرَة أفضل ثمَّ يَتْلُو وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لنبوئنهم فِي الدُّنْيَا حَسَنَة ولأجر الْآخِرَة أكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ وَفرض لكل امْرَأَة من أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ اثْنَي عشر ألف دِرْهَم مَا خلا صَفِيَّة ابْنة حَيّ النَّضْرِية وَجُوَيْرِية ابْنة الْحَارِث الْمُصْطَلِقِيَّة فَإِنَّهُ جعل لكل وَاحِدَة مِنْهُمَا سِتَّة آلَاف وَكَانَ مَتى قيل لَهُ جَزَاك الله عَن الْإِسْلَام خيرا قَالَ بل جزى الله عني الْإِسْلَام خيرا
وَكَانَ طَعَامه من أقرب الْأَطْعِمَة لَا يغالي فِيهِ وَقد يُعَاتب على ذَلِك فَيَقُول أخْشَى أَن أكون من الَّذين قَالَ الله فيهم {أَذهَبْتُم طَيِّبَاتكُمْ فِي حَيَاتكُم الدُّنْيَا} وَلَوْلَا ذَلِك لأمرت بجدي سمين فيطبخ بِاللَّبنِ وَكَانَ فِي آخر عمره كثير الرَّغْبَة عَن الدُّنْيَا يَدْعُو بالوفاة قبل انصرام أمره وَخُرُوج الْخَوَارِج عَلَيْهِ
وَمن ذَلِك مَا رُوِيَ عَن ابْن الْمسيب أَنه حج فِي آخر سنة
فَلَمَّا نزل بطحاء مَكَّة جمع شَيْئا من بطائحها شبه الدكة ثمَّ بسط عَلَيْهَا رِدَاءَهُ ثمَّ اضْطجع وَرفع يَدَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ كبر سني ورق عظمي وضعفت قوتي وخشيت الانتشار من رعيتي فاقبضني إِلَيْك غير عَاجز وَلَا مضيع ثمَّ قدم الْمَدِينَة فَمَا انْقَضى الشَّهْر حَتَّى توفّي
قَالَ ابْن عَبَّاس لما تكَرر عَليّ سَماع عمر بِطَلَب الْوَفَاة قلت لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أكثرت الدُّعَاء بِالْمَوْتِ حَتَّى حسبت أَن يكون ذَلِك أسهل عِنْد نُزُوله فَمَاذَا مللت من قَوْمك وهم مَعَك إِمَّا تعين صَالحا أَو تقيم مائلا فَقَالَ إِنِّي قَائِل لَك قولا وَهُوَ إِلَيْك فَقلت لَهُ يعدوني قَالَ كَيفَ لَا أحب فراقهم وَفِيهِمْ نَاس كل فاتح فاها للهوة من(1/169)
الدُّنْيَا إِمَّا بِحَق لَا يتَوَجَّه أَو بباطل لَا يَنَالهُ وَلَوْلَا أَن أسأَل عَنْكُم لهربت مِنْكُم وأصبحت الأَرْض مني بَلَاقِع ومضيت لشأني
وَلما جرحه العلج وَأدْخل إِلَى منزله اجْتمع النَّاس عِنْده وَجعلُوا يثنون عَلَيْهِ بِالْخَيرِ فَقَالَ هَؤُلَاءِ بَين رَاغِب وراهب وَلما قيل لَهُ اسْتخْلف قَالَ لَا أتحمل أَمركُم حَيا وَمَيتًا وددت الكفاف لَا عَليّ وَلَا لي وَلما قَالَ لَهُ الطَّبِيب أوص أَمر ابْنَته حَفْصَة إِلَى عَائِشَة تسألها الْإِذْن فِي دَفنه مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصَاحبه فَأَذنت ثمَّ لما أَيقَن بِالْمَوْتِ أَمر ابْنه عبد الله أَيْضا إِلَى عَائِشَة يستوثق مِنْهَا بِالْإِذْنِ فَأَذنت ثمَّ جعل أَمر الْمُسلمين شُورَى فِي سِتَّة نفر من الْعشْرَة الَّذين شهد لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْجنَّةِ وهم عُثْمَان وَعلي وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَسعد وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَأخرج ابْن عَمه سعيدا رَضِي الله عَنْهُم وَلم يكن بَقِي من الْعشْرَة غَيرهم وَأمر صهيبا الرُّومِي أَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ إِلَى أَن يتفقوا على إِمَام لَهُم ثمَّ توفّي سلخ الْحجَّة سنة ثَلَاث وَعشْرين وعمره خمس وَخَمْسُونَ سنة وَقيل ثَلَاث وَسِتُّونَ سنة وَمُدَّة خِلَافَته عشر سِنِين وَسِتَّة أشهر وَسَبْعَة أَيَّام ثمَّ دفن مَعَ صَاحِبيهِ وَجعل رَأسه بِإِزَاءِ كتف أبي بكر وَكَانَ هُوَ الْقَمَر الثَّالِث فِي رُؤْيا عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا
وَفِي اجْتِمَاعهم قَالَ حسان بن ثَابت ... ثَلَاثَة برزوا لسبقهم ... فِي نَصرهم لرَبهم إِذا بروا
عاشوا بِلَا فرقة حياتهم ... ثمَّ الْتَقَوْا فِي الْمَمَات إِذْ قبروا
فَلَيْسَ من مُسلم لَهُ بصر ... يُنكر فضلا لَهُم إِذا ذكرُوا ... ثمَّ اتّفقت كلمة أهل الشورى على اسْتِخْلَاف عُثْمَان بن عَفَّان بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس بن عبد منَاف فأبقى الْعمَّال على حَالهم وَلم يزل عُمَّال الْيمن خُصُوصا يعلى وَابْن أبي ربيعَة بمخلافي الْجند وَصَنْعَاء(1/170)
فَكَانَ أول شَيْء فعله مِمَّا يُنكره النَّاس بِخِلَاف مَا كَانَ الشَّيْخَانِ عَلَيْهِ صُعُوده من الْمِنْبَر وقعوده فِيهِ على الْمرقاة الَّتِي كَانَ يقْعد عَلَيْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ أَن مِنْبَر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ثَلَاث درج يقف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الثَّالِثَة مِنْهُنَّ فَلَمَّا قَامَ أَبُو بكر وقف على الثَّانِيَة وَقَالَ لَا يراني الله وَاقِفًا موقف نبيه ثمَّ لما ولي عمر وقف على الأولى وَقَالَ لَا يراني أَهلا لموقف أبي بكر فَلَمَّا ولي عُثْمَان صعد على الثَّالِثَة وَقَالَ مَا بِهَذَا من بَأْس فحدقه النَّاس بِأَبْصَارِهِمْ فارتج عَلَيْهِ الْكَلَام فَقَالَ إِنَّكُم إِلَى إِمَام فعال أحْوج مِنْكُم إِلَى إِمَام قَوَّال
وَكَانَ طلوعه ذَلِك عقيب مبايعة الْمُسلمين لَهُ ثَالِث الْمحرم وَقيل رابعه سنة أَربع وَعشْرين وَاسْتمرّ إِلَى سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ لم يسْلك هُوَ وَلَا أحد من نوابه غير طَرِيق الشَّيْخَيْنِ ثمَّ حصل من عماله فِي مصر وَالْعراق مَا أوجب الطعْن عَلَيْهِ وَخُرُوج الْخَوَارِج إِلَيْهِ من أنحاء شَتَّى وَلم يزَالُوا كَذَلِك إِلَى أَن قتل يَوْم الْجُمُعَة صَابِرًا محتسبا صَائِما بعد أَن حوصر أَرْبَعِينَ يَوْمًا لم يبد مِنْهُ كلمة يكون فِيهَا لمبتدع حجَّة وَلَقَد قيل لَهُ وَهُوَ مَحْصُور مَا الَّذِي تَأْمُرنَا بِهِ إِن كَانَ بك كَون فَقَالَ انْظُرُوا مَا اجْتمعت عَلَيْهِ أمة مُحَمَّد فكونوا عَلَيْهِ فَإِنَّهَا لَا تَجْتَمِع على ضَلَالَة حَتَّى قتل قتلة كَابْن آدم حِين قَالَ لِأَخِيهِ {لَئِن بسطت إِلَيّ يدك لتقتلني مَا أَنا بباسط يَدي إِلَيْك لأقتلك إِنِّي أَخَاف الله رب الْعَالمين} وَقد كَانَ رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِلْكَ اللَّيْلَة فَقَالَ يَا عُثْمَان أفطر عندنَا فَلَمَّا أصبح قَالَ لعبيده المحيطين ببيته من أغمد سَيْفه فَهُوَ حر فأغمدوا سيوفهم فجد الْخَوَارِج عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ لثلاث خلون من الْحجَّة سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَقيل كَانَ قَتله أَيَّام التَّشْرِيق بعد أَن حوصر أَرْبَعِينَ يَوْمًا
وَاخْتلف فِي عمره فَقيل اثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ سنة وَأشهر وَقيل ثَمَانِي وَثَمَانُونَ سنة وَقيل تسع وَثَمَانُونَ وَقيل تسعون سنة(1/171)
ثمَّ اسْتخْلف خَاتم الْخُلَفَاء أَبُو الْحسن عَليّ بن أبي طَالب بن عبد الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف فحين سمع عَاملا الْيمن يعلى وَابْن أبي ربيعَة بقتل عُثْمَان خافا على نفسيهما فَخَرَجَا مُجْتَمعين حَتَّى قدما مَكَّة سَالِمين فوجدا بهَا عَائِشَة وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَقد اتَّفقُوا على خُرُوج الْعرَاق للطلب بِدَم عُثْمَان فأهدى يعلى لعَائِشَة جملا يُقَال لَهُ عَسْكَر وَبِه يعرف الْيَوْم الْمَشْهُور بِيَوْم الْجمل
وَبعث عَليّ على الْيمن عبيد الله بن الْعَبَّاس على صنعاء وَسَعِيد بن سعد الْأنْصَارِيّ على الْجند فَلبث ابْن عَبَّاس بِصَنْعَاء أَرْبَعِينَ شهرا ثمَّ إِن مُعَاوِيَة وَجه بشر بن أَرْطَأَة العامري الْيمن بِأَلف فَارس وَأمره بِطَلَب دم عُثْمَان فحين بلغ ذَلِك الْعلم إِلَى صنعاء جمع ابْن عَبَّاس أهل صنعاء وخطبهم وحضهم على الْقِتَال وَهُوَ يُرِيد الْأَبْنَاء إِذْ هم حِينَئِذٍ رَأس النَّاس فَقَالَ لَهُ فَيْرُوز الديلمي مَا عندنَا قتال فاستر شَأْنك فَحِينَئِذٍ أيس من نَصرهم واستخلف عَمْرو بن أراكة الثَّقَفِيّ ثمَّ ترك وَلدين لَهُ مَعَ أم سعيد ابْنة بزرج الَّتِي تقدم ذكرهَا أَن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ كل قادم مِنْهُم إِلَى صنعاء ينزل بَيتهَا إِذْ كَانَت امْرَأَة داذويه أَمِير الْفرس يَوْمئِذٍ وَهِي أول امْرَأَة قَرَأت الْقُرْآن بِصَنْعَاء وصلت الصَّلَاة وَهِي أُخْت الرجلَيْن الْمَذْكُورين أَولا النُّعْمَان وَعبد الرَّحْمَن
فَلَمَّا قدم ابْن أَرْطَأَة صنعاء وَقد خرج عَنْهَا ابْن عَبَّاس لاحقا بعلي استدعى بالولدين وَكَانَ الْكَبِير ابْن عشر سِنِين وَالصَّغِير ابْن ثَمَان وَفِي اسمهما خلاف فَقيل الْحسن وَالْحُسَيْن وَقيل عبد الرَّحْمَن وَقثم بِضَم الْقَاف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة ثمَّ مِيم فَلَمَّا حضرا إِلَى بسر أَمر بِقَتْلِهِمَا فَقَالَا لَهُ يَا عَم وَمَا ذنبنا فَقَالَ الْخَبيث ذكوا ابْني أخي فَاخْرُج إِلَى بَاب المصرع وذبحا وَقتل عَمْرو بن أراكة الثَّالِث وَقتل اثْنَيْنِ وَسبعين(1/172)
من الْأَبْنَاء كَانُوا قد شفعوا إِلَيْهِ فِي الطفلين فَحصل للأبناء فِي ذَلِك مَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سل سيف الْبَغي ضرب بِهِ وَمن أعَان ظَالِما أغري بِهِ فَإِنَّهُم أعانوا بشرا على ظلمه
وَكَانَ بشر يُقَال لَهُ بسر بن أَرْطَأَة العامري نِسْبَة إِلَى عَامر بن لؤَي بن غَالب بن فهر بن مَالك أول جَبَّار دخل الْيمن وعسف أَهله واستحل الْحَرَام ولاقى من ذَلِك قتل الشهيدين كثير وَقد قتل من ذَلِك أمما لَا تحصر وعاث فِي الْيمن حَتَّى بلغ الْبَحْر بَحر عدن وقبر الطفلين مَشْهُور بِصَنْعَاء فِي مَسْجِد يعرف بِمَسْجِد الشهيدين يزار ويستنجح من الله فِيهِ الْحَاجَات وَلما بلغ عليا كرم الله وَجهه دُخُول بسر الْيمن جهز ألفي فَارس من الْكُوفَة وَمثلهَا من الْبَصْرَة وَجعل على الْجَمِيع جَارِيَة بن قدامَة السَّعْدِيّ وَأمره بِدُخُول الْيمن ومتابعة بسر حَيْثُ كَانَ ومطالبته بِمَا أحدث فِي الْيمن من قتل أَو فَسَاد فَلَمَّا دخل جَارِيَة الْيمن تهرب بسر وتفرق أَصْحَابه ثمَّ إِن جمَاعَة من الْيمن وَغَيره كَانُوا قد وافقوا بشرا على رَأْيه فلزمهم وَنكل بهم وَقتل من اسْتحق الْقَتْل مِنْهُم ثمَّ عَاد مَكَّة فحين دَخلهَا بلغه موت عَليّ كرم الله وَجهه فَأخذ الْبيعَة على أَصْحَابه وَأهل مَكَّة بالبيعة لمن بَايع لَهُ أَصْحَاب عَليّ وَلم يمت عَليّ حَتَّى قد سمع مِنْهُ الْكَرَاهَة للبقاء كَمَا سمع عَن عمر
قَالَ الْخطابِيّ فِي كتاب الْعُزْلَة بِسَنَد إِلَى ابْن سِيرِين قَالَ قَالَ عُبَيْدَة سَمِعت عليا كرم كرم الله وَجهه يَقُول فِي خطبَته اللَّهُمَّ إِنِّي قد سئمتهم وسئموني ومللتهم وملوني فأرحني مِنْهُم وأرحهم مني مَا يمْنَع أشقاها أَن يخضبها بِدَم وَوضع يَده على لحيته وَمعنى قَوْله كرم الله وَجهه مَا يمْنَع أشقاها الْكَلَام إِلَى آخِره فِيهِ بَيَان قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أَشْقَى لأخربن من يخضب هَذِه وَأَشَارَ إِلَى لحية عَليّ من هَذِه وَأَشَارَ إِلَى قرينته وَكَانَ الْيمن وَالْعراق والحجاز وخراسان تَحت طوع عَليّ يسْتَخْلف عَلَيْهِم من يَشَاء(1/173)
وَكَانَت وَفَاته كرم الله وَجهه شَهِيدا من ضَرْبَة ضربه ابْن ملجم وَهُوَ فِي الصَّلَاة محرم بِجَامِع الْكُوفَة وَذَلِكَ لسبع عشرَة لَيْلَة خلت من رَمَضَان سنة أَرْبَعِينَ من الْهِجْرَة وَبلغ عمره ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سنة وَقبل ثمانيا وَخمسين سنة وَصلى عَلَيْهِ ابْنه الْحسن وَكَانَت خِلَافَته أَربع سِنِين وَثَمَانِية أشهر وَقد ذكرت مَوضِع دَفنه فِيمَا مضى وَختم الله بِهِ الْخلَافَة كَمَا ختم النُّبُوَّة بِمُحَمد
وَمن ذَلِك قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخلَافَة ثَلَاثُونَ عَاما فَكَانَ آخر قيام عَليّ آخر الثَّلَاثِينَ وَقيل بَقِي مِنْهَا أشهر أَخذهَا الْحسن كرم الله وَجهه ثمَّ خلع نَفسه ميلًا إِلَى حقن دِمَاء الْمُسلمين
وَكَيْفِيَّة ذَلِك أَن مُعَاوِيَة لما قَصده إِلَى الْكُوفَة بِجَيْش عَظِيم من الشَّام ومصر وَخرج إِلَيْهِ الْحسن بِجَيْش لم يكن بِدُونِ جَيْشه فَلَمَّا رأى الْحسن كَثْرَة الجيشين خشِي على الْمُسلمين أَن يتفانوا فَنَادَى بِأَعْلَى صَوته يَا مُعَاوِيَة الله الله بِأمة مُحَمَّد لَا تفنهم على طلب الدِّينَا
إِن كَانَ هَذَا الْأَمر لَك فَمَا يَنْبَغِي لي أَن أنازعك فِيهِ وَإِن كَانَ لي فقد آثرتك بِهِ إبْقَاء على الْمُسلمين وحقنا لدمائهم فَقَالَ الْمُغيرَة حِينَئِذٍ لقد سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن ابْني هَذَا سيد وسيصلح الله بِهِ بَين فئتين عظيمتين من الْمُؤمنِينَ
فَخلع الْحسن نَفسه وَبَايع لمعاوية وَذَلِكَ بعد أَن أَقَامَ سَبْعَة أشهر واثني عشر يَوْمًا وَكَانَت هَذِه الْمدَّة هِيَ الْبَقِيَّة من الثَّلَاثِينَ الَّتِي عناها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله الْخلَافَة ثَلَاثُونَ عَاما ثمَّ يكون بعد ذَلِك الْملك
وَقد عرض مَعَ ذكر عَليّ كرم الله وَجهه ذكر عبيد الله بن الْعَبَّاس وَهُوَ ابْن عَمه وَأحد الصَّحَابَة وَله عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رِوَايَات وَكَانَ أكبر من أَخِيه عبد الله الْمُفَسّر بِسنتَيْنِ كَانَت وَفَاته بِالْمَدِينَةِ سنة سبع وَثَمَانِينَ
ثمَّ صَار الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة فاستناب عُثْمَان بن عَفَّان الثَّقَفِيّ فَلبث مُدَّة ثمَّ عَزله بأَخيه عتبَة بن أبي سُفْيَان وَجمع لَهُ ولَايَة المخلافين صنعاء والجند فَلبث فِي الْيمن سنتي وَلحق بأَخيه فاستخلف فَيْرُوز الديلمي بِصَنْعَاء وبالجند قيس الْكَاتِب(1/174)
وبتلك الْمدَّة مَاتَ فَيْرُوز على الْعَمَل ثمَّ بعث مُعَاوِيَة مَكَان أَخِيه النُّعْمَان بن بشير الْأنْصَارِيّ فَأَقَامَ بِالْيمن سنة ثمَّ عَزله ببشير بن سعيد الْأَعْرَج الَّذِي تقدم ذكر انتصابه
كَانَ معينا ليعلى زمن عمر ثمَّ عَزله بِرَجُل من أهل الْجند يُقَال لَهُ سعيد بن داذويه فَأَقَامَ واليا تِسْعَة أشهر وَمَات عَقبهَا فَبعث مُعَاوِيَة على صنعاء الضَّحَّاك بن فَيْرُوز الْمُقدم ذكره فِي عداد الْفُقَهَاء وَلم أعلم من كَانَ نَائِبه على مخلاف الْجند
ثمَّ كَانَت وَفَاة مُعَاوِيَة وَالضَّحَّاك وَال على المخلافين برجب الْكَائِن فِي سنة سِتِّينَ وَقد بلغ عمره ثمانيا وَسبعين سنة
وَكَانَ ألزم النَّاس لِلْبيعَةِ لِابْنِهِ يزِيد فَبَايعُوا طَوْعًا وَكرها فَبعث على الْيمن بحير بن ريسان الْحِمْيَرِي أحد كرام الْوُلَاة وَكَانَت ولَايَته ضمانا ضمنهَا من يزِيد بِمَال يحملهُ فِي كل سنة مَا بقيت ليزِيد ولَايَة وَكَانَ رجلا جوادا يأنف أَن يسْأَل شَيْئا قَلِيلا وَرُبمَا عاقب سائله حَتَّى أَن رجلا قَصده من الْحجاز وامتدحه بِشعر مِنْهُ ... بحير بن ريسان الَّذِي سَاد حميرا ... ونائله مثل الْفُرَات غزير
وَإِنِّي لأرجو من بحير وليدة ... وَذَاكَ من الْحر الْكَرِيم كثير ... فَغَضب عَلَيْهِ بحير وَقَالَ ترحل إِلَيّ من الْحجاز لَا ترجو إِلَّا وليدة لأؤدبنك ثمَّ أَمر بِهِ فَضرب أسواطا وَبعث لَهُ بِعشر ولائد وَأحسن جائزته
ثمَّ إِن الْحُسَيْن استدعاه أهل الْكُوفَة من الْمَدِينَة فَلَمَّا صَار بِالْقربِ مِنْهَا قدمهَا عبيد الله بن زِيَاد بِجَيْش وَغلب على الْمَدِينَة وَأخرج الْعَسْكَر فِي طلبه فَقتل الْحُسَيْن فِي عَاشر الْمحرم سنة أَربع وَسِتِّينَ وقصته ثَانِيَة مصائب الْمُسلمين إِذْ أَولهَا قتل عُثْمَان وَذَلِكَ أَن الْمُسلمين استضيموا فِي قَتلهمَا عَلَانيَة
قَالَه ابْن حزم وَقَامَ ابْن(1/175)
الزبير فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ لمضي ثَلَاثَة أشهر مِنْهَا واسْمه عبد الله وكنيته أَبُو بكر وَكَانَ فِي أَيَّام يزِيد تَخْلِيط كثير وَلم يكن من الْحُسَيْن وَلَا من ابْن الزبير هَذَا بيعَة فَقتل الْحُسَيْن كَمَا قدمنَا وغزا الْمَدِينَة فَقتل بهَا خلقا كثير من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار حَتَّى لم يكد يبْقى بهَا أحد مِنْهُم وَهِي تسمى غَزْوَة يَوْم الْحرَّة وَكَانَت ثَالِثَة من وقائع الْإِسْلَام وخرومه لِأَن أفاضل الْمُسلمين وَبَقِيَّة الصَّحَابَة وأخيار التَّابِعين رَضِي الله عَنْهُم قتلوا ذَلِك الْيَوْم فِي الْحَرْب صبرا وظلما وعدوانا وجالت الْخَيل فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وراثت وبالت فِي الرَّوْضَة بَين الْقَبْر والمنبر وَلم تصل جمَاعَة فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِلْكَ الْأَيَّام وَلَا كَانَ بِهِ أحد حاشا ابْن الْمسيب فَإِنَّهُ لم يُفَارق الْمَسْجِد وَلَوْلَا شَهَادَة مَرْوَان بن الحكم وَعَمْرو بن عُثْمَان لَهُ أَنه مَجْنُون عِنْد مقدم الْجَيْش وَهُوَ مجرم بن عقبَة لقَتله وَبَايع مجرم الْمُسَمّى مُسلم النَّاس ليزِيد على أَنهم عبيد لَهُ إِن شَاءَ بَاعَ وَإِن شَاءَ أعتق وَذكر لَهُ بَعضهم أَنه يُبَايع على كتاب الله وَسنة رَسُوله فَأمر بقتْله صبرا ونهبت الْمَدِينَة ثَلَاثَة أَيَّام وَمَات مجرم بعد أَن خرج من الْمَدِينَة بأيام وَمَات يزِيد بعد ذَلِك بِأَقَلّ من ثَلَاثَة أشهر وأزيد من شَهْرَيْن وَذَلِكَ فِي نصف ربيع الأول سنة أَربع وَسِتِّينَ مدَّته ثَلَاث سِنِين وَثَلَاث أشهر
وَقد صَار الْأَمر لِابْنِ الزبير بالحجاز واليمن وخراسان على بيعَة ابْن الزبير حاشا شرذمة من الْأَعْرَاب بالأردن فَوجه إِلَيْهِم ابْن الزبير مَرْوَان بن الحكم
فَلَمَّا ورد الْأُرْدُن خلع ابْن الزبير فَكَانَ أول من شقّ عَصا الْمُسلمين بِلَا تَأْوِيل وَلَا شُبْهَة وَبَايَعَهُ أهل الْأُرْدُن وَخرج على ابْن الزبير وَقتل النُّعْمَان بن بشير أول مَوْلُود فِي الْإِسْلَام من الْأَنْصَار صَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحمص وتغلب على مصر وَالشَّام فَمَاتَ بعد عشرَة أشهر من ولَايَته فَقَامَ ابْنه عبد الْملك مقَامه وَبقيت فتْنَة حَتَّى قوي أمره وَبعث الْحجَّاج لِابْنِ الزبير فحاصره وَرمى الْبَيْت بِالْحِجَارَةِ والمنجنيق فَقتل ابْن الزبير بِالْمَسْجِدِ(1/176)
الْحَرَام وَكَانَ ذَلِك رَابِع خرم فِي الْإِسْلَام ومصائبه لِأَن الْمُسلمين استضيموا بقتْله وصلبه مُنَكسًا وَكَانَت ولَايَته تِسْعَة أَعْوَام وشهرين وَنصفا
وَقد ذكرت من كَانَ واليا لليمن أَيَّام يزِيد وَلما صَار الْأَمر لِابْنِ الزبير كَانَ أول وَال ولاه أَن بعث بعهده للضحاك بن فَيْرُوز مقدم الذّكر فَلبث سنة ثمَّ عَزله بِعَبْد الله بن عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد فَلبث مُدَّة ثمَّ عَزله بِعَبْد الله بن الْمطلب بن أبي ودَاعَة السَّهْمِي فَلبث سنة وَثَمَانِية أشهر ثمَّ عَزله بأَخيه خَالِد بن الزبير فَلبث مُدَّة ثمَّ عَزله بمغيث بن ذِي الثوجم الْأَوْزَاعِيّ الَّذِي تقدم ذكره أَنه قيل أَنه مولى لوالد عبد الرَّزَّاق الْفَقِيه فَلبث خَمْسَة أشهر ثمَّ عزل بحنش بن عبد الله الْفَقِيه الْمُقدم الذّكر فَلبث مُدَّة ثمَّ عزل بقيس بن يزِيد السَّعْدِيّ التَّمِيمِي فَلبث سَبْعَة أشهر ثمَّ عَزله بِأبي النجُود مولى عُثْمَان بن عَفَّان فَمَكثَ خَمْسَة أشهر ثمَّ أُعِيد الضَّحَّاك الَّذِي ذكرت أَولا ولَايَته فَمَكثَ سِتَّة أشهر ثمَّ عزل بخلاد بن السَّائِب الْأنْصَارِيّ ثمَّ عزل بِأبي النجُود وَفِي أَيَّامه قدمت الحرورية إِلَى صنعاء وَذَلِكَ سنة إِحْدَى وَسبعين فاضطرب أَمر الْيمن وَلم يزل مضطربا حَتَّى قتل ابْن الزبير كَمَا قدمنَا سنة ثَلَاث وَسبعين
ثمَّ اسْتَقل عبد الْملك بِالْملكِ وَحين استولى الْحجَّاج على مَكَّة بقتل ابْن الزبير بعث على صنعاء أَخَاهُ مُحَمَّد بن يُوسُف وعَلى الْجند وَاقد بن سَلمَة الثَّقَفِيّ وعَلى حَضرمَوْت الحكم بن أَيُّوب الثَّقَفِيّ فأقاموا جَمِيعًا على ذَلِك سنة ثمَّ عزل وَاقد وَجمع المخلافين لِأَخِيهِ فَلم يزل عَلَيْهِمَا إِلَى أَن توفّي ثمَّ توفّي عبد الْملك فِي شَوَّال سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَكَانَت مُدَّة استيلائه على الْيمن ثَلَاث عشرَة سنة وَأَرْبَعَة أشهر فِي غالبها نَائِبه عَلَيْهَا أَخُو الْحجَّاج
ثمَّ قَامَ بعد ذَلِك ابْنه الْوَلِيد وَذَلِكَ بِعَهْد لَهُ من أَبِيه وَكَانَ يقظا فِي أُمُور دينه ودنياه وَهُوَ الَّذِي بنى جَامع دمشق الَّذِي أجمع أهل الْمعرفَة أَنه لم يعرف لَهُ نَظِير فِي الْمشرق وَلَا فِي الْمغرب ونسبته إِلَى بني أُميَّة(1/177)
وَكَانَ يَصُوم يَوْم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس وَهُوَ أول من صامهما من مُلُوك الْإِسْلَام وَأول من أحدث المارستانات وَأول من أجْرى الطَّعَام فِي الْمَسَاجِد لَا سِيمَا فِي رَمَضَان وَهُوَ الَّذِي فسح بالحرمين وَفِي أَيَّامه هلك الْحجَّاج فعلى هَذِه لَهُ مَنَاقِب تعد فِي أَيَّامه رَحمَه الله وَغفر لَهُ
وَتُوفِّي الْوَلِيد منتصف جُمَادَى الأولى فِي سنة سِتّ وَتِسْعين مدَّته تسع سِنِين وَسِتَّة أشهر
وَقَامَ بِأَمْر النَّاس بعده أَخُوهُ سُلَيْمَان بطرِيق الْوَصِيَّة من أَبِيه أَيْضا فَاسْتعْمل على الْيمن عُرْوَة بن مُحَمَّد السَّعْدِيّ فَلبث مُدَّة بَقَاء سُلَيْمَان فِي الْملك وَهُوَ عامان وَتِسْعَة أشهر وَخَمْسَة أَيَّام ثمَّ اسْتخْلف ابْن عَمه عمر بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان بن الحكم الْمَذْكُور أَولا وَأمه ابْنة عَاصِم بن عمر بن الْخطاب ولي باستخلاف سُلَيْمَان وَهُوَ أحد مُلُوك الْإِسْلَام الْمَعْدُودين المقتدى بهم فِي الْعدْل وَحسن السِّيرَة وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر والتواضع وَالْعلم
قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي سُئِلَ عَن أهل صفّين مَا تَقول فيهم فَقَالَ تِلْكَ دِمَاء طهر الله يَدي مِنْهَا فَلَا أخضب لساني بهَا وَكَانَ ملكه قَوِيا من غير عنف لينًا من غير ضعف فَلم يُغير على عُرْوَة ولَايَته بِالْيمن
وَمن عَجِيب مَا حُكيَ أَنه قدم عَلَيْهِ نعيم بن سَلامَة الْحِمْيَرِي وَكَانَ أحد أَعْيَان الْيمن فَقَالَ لَهُ يَا نعيم قَوْمك الَّذين قَالُوا {رَبنَا باعد بَين أسفارنا وظلموا أنفسهم} فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَوْمك أَشد جهلا بعث الله إِلَيْهِم نَبيا قد عرفُوا صدقه وأمانته فَقَالُوا {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء} هلا قَالُوا فاهدنا لَهُ فَتَبَسَّمَ عمر
قَالَ ابْن حزم وَفضل عمر بن عبد الْعَزِيز أشهر من أَن يتَكَلَّف ذكره وَتُوفِّي عمر نَهَار الْجُمُعَة لخمس بَقينَ من رَجَب سنة إِحْدَى ومئة مُدَّة ملكه سنتَانِ وَأَرْبَعَة أشهر وَخَمْسَة أَيَّام وسنه تسع وَثَلَاثُونَ سنة وَلم يكن نَائِب فِي الْيمن غير عُرْوَة كَمَا(1/178)
قدمنَا أَنه كَانَ نَائِب سُلَيْمَان ثمَّ قَامَ بِالْأَمر يزِيد بن عبد الْملك بِعَهْد سُلَيْمَان لَهُ بعد عمر فاستناب يزِيد على الْيمن مَسْعُود بن عَوْف الْكَلْبِيّ فَلم يزل إِلَى أَن توفّي يزِيد لَيْلَة الْجُمُعَة لأَرْبَع بَقينَ من شعْبَان سنة خمس ومئة مُدَّة ولَايَته أَربع سِنِين وَشهر وَاحِد
ثمَّ قَامَ بِالْأَمر بعده أَخُوهُ هِشَام فَأمر مسعودا على الْيمن سنة من ولَايَته ثمَّ عَزله بِيُوسُف بن عمر الثَّقَفِيّ فَلبث على المخاليف الثَّلَاثَة حَضرمَوْت وَصَنْعَاء والجند ثَلَاث عشرَة سنة واستقضى على صنعاء الغطريف بن الضَّحَّاك بن فَيْرُوز الديلمي الْمُقدم ذكر أَبِيه فِي الْفُقَهَاء والعمال وجده فِي الْعمَّال
ثمَّ لما كَانَ فِي سنة عشْرين ومئة وَصله كتاب هِشَام يَأْمُرهُ بِأَن يسْتَخْلف وَلَده على الْيمن ويتقدم الْعرَاق لقبض خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي أَمِير الْعرَاق يَوْمئِذٍ وَيكون مَكَانَهُ حَتَّى يَأْتِيهِ أمره فَفعل يُوسُف ذَلِك وَترك ابْنه الصَّلْت مَكَانَهُ فَلبث خمس سِنِين إِلَى أَن توفّي هِشَام لسبع خلون من ربيع الأول الْكَائِن فِي سنة خمس وَعشْرين ومئة وَمُدَّة ملكه تِسْعَة عشر عَاما
ثمَّ ولي بعده ابْن أَخِيه الْوَلِيد بن يزِيد باستخلاف لَهُ من أَبِيه بعد عَمه فَبعث على الْيمن خَاله مَرْوَان بن مُحَمَّد بن يُوسُف الثَّقَفِيّ ابْن أخي الْحجَّاج فَلم يزل بِالْيمن مُدَّة الْوَلِيد وَإِلَيْهِ قدمت الْفتيا الْمَذْكُورَة أَولا الْمَجْمُوع لَهَا الْفُقَهَاء وَكَانَ من أَشد بني أُميَّة جبروتا وعسفا وظلما
وَذكر أَنه تفاءل يَوْمًا بالمصحف فَخرج فأله {واستفتحوا وخاب كل جَبَّار عنيد} فَأَخذه وَجعله بِرَأْس رمح ثمَّ رَمَاه بالنشاب وَأنْشد شعرًا مِنْهُ قَوْله ... أتوعد كل جَبَّار عنيد ... فها أَنا ذَاك جَبَّار عنيد
إِذا وافيت رَبك يَوْم حشر ... فَقل يارب حرقني الْوَلِيد ... ثمَّ لما تفرق ورق الْمُصحف من شدَّة الرَّمْي جمعهَا وأحرقها وَله مخاز يطول(1/179)
شرحها ذكر مَا أوردناه يدل على أَنه فَوق مَا حُكيَ عَنهُ
وَكَانَت وَفَاته مقتولا لأجل الْمُنْكَرَات الَّتِي كَانَ يَأْتِيهَا قَتله ابْن عَمه يزِيد بن الْوَلِيد بن عبد الْملك يَوْم الْخَمِيس لثلاث بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَعشْرين ومئة مدَّته سنة وشهران
ثمَّ قَامَ بِالْأَمر بعده قَاتله يزِيد بن الْوَلِيد أثنى عَلَيْهِ ابْن حزم قَالَ كَانَ فَاضلا قَامَ مُنْكرا للْمُنكر غير أَنه نقص الْجند عطاءهم فَسُمي يزِيد النَّاقِص وَلما قَامَ اسْتخْلف على الْيمن الضَّحَّاك بن وَائِل السكْسكِي واستقضى يحيى بن شُرَحْبِيل بن أَبْرَهَة
وَذكر أَنه كَانَ أول ملك فِي الْإِسْلَام نفى الْقَضَاء وَالْقدر على الْمُعْتَزلَة وَكَانَت وَفَاته بِالْحجَّةِ سنة سِتّ وَعشْرين ومئة مدَّته سِتَّة أشهر
ثمَّ قَامَ بِالْأَمر من بعده أَخُوهُ إِبْرَاهِيم بن الْوَلِيد فَلبث ثَلَاثَة أشهر وَلم يتم لَهُ أَمر فَخلع نَفسه وَبَايع لمروان بن مُحَمَّد بن مَرْوَان بن الحكم الْمُقدم ذكره فَبعث مَرْوَان مَكَان الضَّحَّاك عُرْوَة فَأَقَامَ تِسْعَة أشهر بِتَمَامِهَا
ثمَّ انْقَضتْ دولة بني أُميَّة وَذَلِكَ بقتل مَرْوَان ببوصير من أَرض مصر لَيْلَة الْجُمُعَة لثلاث عشرَة خلت من ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ ومئة مدَّته خمس سِنِين وَشهر
قَالَ ابْن حزم وَكَانَت دولة بني أُميَّة على علاتها دولة عَرَبِيَّة لم يتخذوا مِنْهَا قَاعِدَة وَلَا أَكْثرُوا من احتجان الْأَمْوَال وَلَا بِنَاء الْقُصُور وَلَا استعلوا على الْمُسلمين أَن(1/180)
يخاطبوهم أَو يكاتبوهم بالعبودية والمولوية وَلَا بتقبيل الأَرْض والأرجل وَالْأَيْدِي إِنَّمَا كَانَ غرضهم الطَّاعَة الصَّحِيحَة من التَّوْلِيَة والعزل فِي أقاصي الْبِلَاد وأدانيها
ثمَّ انْتقل الْأَمر إِلَى بني الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب كَانَت دولتهم أَعْجَمِيَّة سَقَطت مِنْهَا دواوين الْعَرَب وغلبت عجم خُرَاسَان على الْأَمر وَعَاد ملكا محققا كسرويا غير أَنهم لم يعلنوا سبّ الصَّحَابَة بِخِلَاف مَا فعل بَنو أُميَّة إِذْ كانو يستعملون لعن عَليّ حَتَّى جَاءَ عمر بن عبد الْعَزِيز فَقطع ذَلِك وأكده يزِيد بن الْوَلِيد
وَأول قَائِم من العباسيين أَبُو الْعَبَّاس السفاح واسْمه عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَكَانَت بيعَته إِلَى يَده بِالْكُوفَةِ فِي شهر الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ ومئة فَبعث على الْحجاز واليمن عَمه دَاوُد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس فَأَقَامَ بِمَكَّة وَبعث على الْيمن عمر بن عبد الْمجِيد بن عبد الرَّحْمَن بن زيد بن الْخطاب الْعَدوي وَهُوَ أول من قدم الْيمن نَائِبا للعباسيين وَلما أَقَامَ بِصَنْعَاء بوب جَامعهَا وَلم يكن لَهُ بَاب
وَكَانَ السفاح كَرِيمًا حَلِيمًا بارا بأَهْله وصُولا لرحمه ثمَّ توفّي عَمه دَاوُد بعد مُضِيّ خَمْسَة أشهر من قدوم ابْن عبد الْمجِيد صنعاء فَبعث أَبُو الْعَبَّاس السفاح على الْيمن مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد بن عبد المدان فَقَدمهَا فِي رَجَب سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ ومئة فَأَقَامَ بِصَنْعَاء وَبعث أَخَاهُ إِلَى ثغر عدن فَسَاءَتْ سيرة الْكل مِنْهُم فأحدث بِصَنْعَاء قبائح كَثِيرَة مِنْهَا أَنه هم بإحراق المجذومين وَأمر أَن يجمع لَهُم الْحَطب وَقَالَ لَو كَانَ بهم خير مَا أوقع الله بهم الجذام فَمَرض أَيَّامًا يسيرَة وَمَات قبل أَن يحدث بهم شَيْئا وَمَات أَخُوهُ بعدن يُقَال كَانَ مَوْتهمَا بِيَوْم وَاحِد فَكتب أهل صنعاء إِلَى أَخِيه بعدن يعلمونه وَكتب أهل عدن إِلَى أَخِيه بِصَنْعَاء يخبرونه وَسَار الرسولان فَالْتَقَيَا وتحادثا وَخبر كل وَاحِد صَاحبه بِمَا جَاءَ من الْعلم فناول رَسُول صنعاء رَسُول عدن كتبه وَأخذ مِنْهُ كتبه(1/181)
الَّتِي جَاءَ بهَا ثمَّ قفل كل وَاحِد مِنْهُمَا بكتب صَاحبه فحين علم خبرهما السفاح بعث مكانهما عبد الله بن مَالك الْحَارِثِيّ فَمَكثَ أَرْبَعَة أشهر ثمَّ عَزله بعلي بن الرّبيع بن عبد الله بن عبد المدان ابْن أخي الْمَذْكُور أَولا فَلبث إِلَى أَن توفّي السفاح بِأحد أَيَّام التَّشْرِيق من سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ ومئة مدَّته أَربع سِنِين وَثَمَانِية أشهر
ثمَّ قَامَ بِالْأَمر أَخُوهُ أَبُو جَعْفَر عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بِوَصِيَّة من أَخِيه ونازعه عَمه عبد الله بن عَليّ مُنَازعَة أفضت إِلَى حروب كَبِيرَة وَبَايَعَهُ على ذَلِك جمع كثير وَشهد لَهُ جمَاعَة أَن السفاح شَرط لَهُ ولَايَة الْأَمر بعده إِن خرج لقِتَال مَرْوَان وَأَنه خرج وَتَوَلَّى قتل مَرْوَان ثمَّ لم يزل الْمَنْصُور يخادعه ويلاطفه حَتَّى حصل بِيَدِهِ على ذمام وعهوده مكينة فَلَمَّا حصل بِيَدِهِ سجنه فِي بَيت بني أساسه على ملح وَأطلق المَاء حوله فَسقط فَمَاتَ هديما وَقتل أَبَا مُسلم الْخُرَاسَانِي الْقَائِم بالدولة العباسية
وَكَانَ بَخِيلًا مبخلا فظا غليظا على الْأمة وعَلى أَهله أَشد وَهُوَ أول من أوقع الشَّرّ بَين الطالبيين والعباسيين وَقتل من الطالبيين جمعا كثيرا وَكَانَ حسودا وَهُوَ أول من ولي الْقَضَاء بِنَفسِهِ لم يكله إِلَى أحد غَيره وَأول من قرب المنجمين وَأول من ترجمت لَهُ الْكتب من الفارسية إِلَى الْعَرَبيَّة ككتاب كليلة ودمنة وَكتاب السَّنَد هِنْد وَكتب أرسطا طاليس وَسَائِر كتب الفلسفة من اليونانية والرومية والفارسية والسريانية وَفِي أَيَّامه وضع مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْمَكِّيّ كتب الْمَغَازِي وَالسير وأخبار مُبْتَدأ الْخلق وَلم تكن قبل ذَلِك مَجْمُوعَة وَبنى بَغْدَاد وَجعلهَا دَار ملك وَلم يصر إِلَيْهِ الْأَمر إِلَّا وَقد نظر فِي الْعُلُوم وتتبع الْمذَاهب وارتاض فِي الآراء وَكتب الحَدِيث وَفِي أَيَّامه كثرت رِوَايَات النَّاس واتسعت علومهم
هَذَا جملَة مَا لَاق ذكره من أَحْوَاله مُلَخصا مَنْقُولًا من التواريخ(1/182)
ثمَّ نرْجِع حِينَئِذٍ إِلَى ذكر ولَايَته بِالْيمن فَقَامَ بِالْأَمر وَإِلَيْهِ من أَخِيه عَليّ بن الرّبيع عَزله بأَخيه عبد الله فَمَكثَ أَربع سِنِين وَنصفا ثمَّ عَاد الْعرَاق واستخلف ابْنه فَمَكثَ سنّ وَثلث سنة ثمَّ عزل بمعن بن زَائِدَة
وَلما كَانَ من أَعْيَان الْكِرَام أَحْبَبْت رفع نسبه وإيراد بعض مَا لَاق من أَحْوَاله فَهُوَ معن بن زَائِدَة بن مطر بن شريك بن عَامر بن همام بن مرّة الربعِي الشَّيْبَانِيّ قدم صنعاء واليا لمخلافها ومخلاف الْجند فَبعث أَخَاهُ وَقيل ابْن عَمه واليا على الْجند فسكن قَرْيَة من قراها الخارجية قد صَارَت خرابا وَكَانَت تعرف بالزريبة قبلي الذنبتين قَرْيَة هِيَ على ربع مرحلة من الْجند من جِهَة الْقبْلَة وَضبط الزريبة بزاي مَفْتُوحَة مُشَدّدَة بعد الْألف وَاللَّام ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ بَاء مُوَحدَة مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء والذنبتين مِنْهَا جمَاعَة من أَعْيَان الْفُقَهَاء فَسَاءَتْ سيرة خَليفَة معن على أهل مخلاف الْجند بِحَيْثُ شَاءَ مِنْهُم الحليلة واحتقرهم وَصَارَ مُولَعا بإذلالهم
من جملَة مَا ذكر عَنهُ أَنه كَانَت لَا تزف امْرَأَة إِلَى بَعْلهَا حَتَّى تعرض عَلَيْهِ وَرُبمَا وَقع بهَا فأوقعه الله مَعَ من يَقُول بقول ابْن كُلْثُوم ... مَتى كُنَّا لأمك مقتوينا
يُخَاطب عَمْرو بن هِنْد فَقتله
فحين بلغ معن ذَلِك غزا الْجند نَوَاحِيهَا وأخرب الْقرْيَة الْمَذْكُورَة الَّتِي قتل بهَا وَهِي على ذَلِك خراب إِلَى عصرنا وَقتل من أهل الْقرْيَة نَحْو الْأَلفَيْنِ وَكَانَ إِذا(1/183)
خُوطِبَ بالكف عَن الْقَتْل قَالَ لَا أكف حَتَّى أقتل أَلفَيْنِ ثمَّ ينشد ... إِذا تمت الألفان كَادَت حرارة ... على الصَّدْر من ذكرى سُلَيْمَان تبرد ... وَلم يكن لَهُ مَا يذم بِهِ غير هَذِه الْغُزَاة وَقتل من قتل بهَا وَلم يقنع بذلك حَتَّى غور مياها كَانَت بقاع الْجند مِنْهَا المَاء الْمَوْجُود فِي مَحَارِث اليهاقر وَغَيره وَمِنْهَا أَنه ألزم النَّاس لبس الثِّيَاب المصبغة بالنيل وَترك شُعُورهمْ منشورة فَصَارَ ذَلِك لَهُم عَادَة حَتَّى صَارُوا يعدونه جمالا وزينة لعدم عَهدهم بذلك ومعرفتهم لَهُ وَكَانَ أحد شجعان الْعَرَب وفتاكيها ويعد من المخضرمين أدْرك الدولة الأموية وَقَاتل وَرَأس فِيهَا ثمَّ أدْرك الدولة العباسية فقاتل فِيهَا قتالا عَظِيما
ويحكى من كرمه أَخْبَار يطول شرحها مَا خيب أمل من أمله وَلَا علم بِدُخُول أحد من الْأَعْيَان صنعاء وَلم يَقْصِدهُ إِلَّا أنف من ذَلِك وَرُبمَا عاقب فَاعله وَدخل سُفْيَان الثَّوْريّ صنعاء فِي أَيَّامه فَوَجَدَهُ خَارِجا عَن صنعاء وَقد علم حَاله وَأَنه علم قصد دُخُول الْيمن دون قَصده فساءه ذَلِك فَسلم عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَيْن تُرِيدُ فَقَالَ لَهُ دين أثقلني فقصدتك فأسف أَن لَا يكون أدْركهُ بِصَنْعَاء ثمَّ كتب لَهُ إِلَى ابْنه زَائِدَة بِأَلف دِينَار فَأخذ سُفْيَان الصَّك وَدخل صنعاء وَقضى حَاجته بهَا ثمَّ خرج وَلم يجْتَمع بزائدة وَلَا قدم معن من سَفَره حَتَّى قد خرج سُفْيَان عَن صنعاء وَحين دخل سَأَلَ وَلَده عَنهُ فَقَالَ لم أره وَلَا الْخط الَّذِي كتبت لَهُ فَقَالَ معن خدعني سُفْيَان
وَبعد سِتّ سِنِين من إِقَامَته بِالْيمن كتب إِلَيْهِ الْمَنْصُور باستخلاف وَلَده بِالْيمن والوصول إِلَيْهِ فَفعل ذَلِك وَحين قدم عَلَيْهِ وَجهه إِلَى خُرَاسَان لقِتَال الْخَوَارِج بهَا فَلبث فِيهَا ثَلَاث سِنِين وَابْنه بِالْيمن كَذَلِك ثمَّ قتل بخراسان سنة أَربع وَخمسين ومئة فَحِينَئِذٍ بعث الْمَنْصُور الْحجَّاج بن مَنْصُور على الْيمن فَأَقَامَ مديدة ثمَّ عزل بالفرات بن سَالم الْعَبْسِي فَلبث ثَلَاث سِنِين ثمَّ عزل بِيَزِيد بن مَنْصُور فَلبث خمس سِنِين وَمَات الْمَنْصُور قَاصِدا الْحَج فِي شهر ذِي الْحجَّة الْكَائِن فِي سنة ثَمَان وَخمسين ومئة فِي بِئْر(1/184)
مَيْمُون على مقربة من مَكَّة وَدفن هُنَالك
ومدته اثْنَتَانِ وَعشْرين سنة
ثمَّ ولي الْأَمر بعده ابْنه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله الملقب بالمهدي باستخلاف أَبِيه لَهُ فَأقر خَاله بن يزِيد بن مَنْصُور سنة ثمَّ كتب إِلَيْهِ أَن يَسْتَنِيب عَن الْيمن وَيقدم مَكَّة ليقيم الْحَج للنَّاس فاستخلف عبد الْخَالِق بن مُحَمَّد الشهابي وَخرج إِلَى مَكَّة فِي شَوَّال سنة تسع وَخمسين ومئة فَأَقَامَ الْحَج ثمَّ توفّي فِي منتصف الْحجَّة فَبعث الْمهْدي مَكَانَهُ رجا بن سَلام بن روح بن زنباع الحذامي فَلبث بِالْيمن سنة ثمَّ عزل بعلي بن سُلَيْمَان فَلبث سنة وَخَمْسَة أشهر واستناب وَاسع بن عصمَة وقفل إِلَى بَغْدَاد فَلبث نَائِبه أحد عشر شهرا ثمَّ عزل بِعَبْد الله بن سُلَيْمَان فَلبث سَبْعَة أشهر ثمَّ عزل بمنصور بن يزِيد بن مَنْصُور الْحِمْيَرِي فَمَكثَ سنة ثمَّ عزل بِسُلَيْمَان بن يزِيد بن عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان الْحَارِثِيّ فَمَكثَ سنة وَعشرَة أشهر ثمَّ توفّي الْمهْدي فِي الْمحرم أول سنة تسع وَسِتِّينَ ومئة بعد أَن اسْتخْلف ابْنه الْهَادِي وَكَانَت ولَايَته عشر سِنِين وشهرا فَقَامَ الْهَادِي واستخلف على الْيمن عبد الله بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الزَّيْنَبِي فَمَكثَ سنة ثمَّ عزل بإبراهيم فَلبث أَرْبَعَة أشهر وَتُوفِّي الْهَادِي فَجْأَة منتصف ربيع الأول سنة سبعين ومئة ومدته عَام وشهران
ثمَّ قَامَ بعده أَخُوهُ هَارُون الملقب الرشيد باستخلاف أَبِيه لَهُ كَمَا قدمنَا فَبعث على الْيمن الغطريف بن عَطاء وَكَانَ ابْن خَاله فَلبث بهَا ثَلَاث سِنِين وَسَبْعَة أشهر ثمَّ خرج مِنْهَا بعد أَن اسْتخْلف عباد بن مُحَمَّد الشهابي فَبعث الرشيد مَكَانَهُ الرّبيع بن(1/185)
عبد الله بن عبد المدان الْحَارِثِيّ فَمَكثَ سنة
وَفِي أَيَّامه حصل الثَّلج بِصَنْعَاء وَلم يكن حصل من قبل ذَلِك ثمَّ عزل بعاصم بن عُيَيْنَة الغساني فَلبث فِيهِ سنة ثمَّ عزل بِأَيُّوب بن جَعْفَر بن سُلَيْمَان بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس فَلبث سنة ثمَّ ولي الرّبيع الْمَذْكُور أَولا وَجعل مَعَه الْعَبَّاس بن سعيد فلبثا سنتَيْن ثمَّ عزلا بِمُحَمد بن إِبْرَاهِيم الْهَاشِمِي ثمَّ عزل بولده الْعَبَّاس بن مُحَمَّد فَسَاءَتْ سيرته وقبحت آثاره فَشَكَاهُ النَّاس وَحج الرشيد تِلْكَ السّنة فَشَكَاهُ أهل الْيمن إِلَيْهِ بِمَكَّة فَعَزله بعد سِتَّة أشهر بِعَبْد الله بن مُصعب بن ثَابت بن عبد الله بن الزبير بن الْعَوام فَلبث سنة ثمَّ عزل بِأَحْمَد بن إِسْمَاعِيل بن عَليّ بن عبد الله بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة فَلبث سنة كَانَ فِيهَا تَخْلِيط عَظِيم بِالْيمن ثمَّ عزل بِمُحَمد بن خَالِد بن برمك أخي يحيى بن خَالِد بن برمك فَقدم صنعاء فِي جُمَادَى سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَكَانَ يسكن منكث أَيَّام جباية الْخراج وَإِلَيْهِ مخلاف صنعاء والجند فَكَانَ من أخير الْوُلَاة القادمين الْيمن عدلا ورفقا وَحسن سيرة وعدالة فِي الرّعية مرضية وَكَانَ يحب بَقَاء الذّكر وَالثنَاء على طَرِيق أَهله وَلأَجل فعلهم فَقَالَ فيهم الشَّاعِر ... إِن البرامكة الَّذين تعلمُوا ... كرم النُّفُوس وعلموه الناسا ... وببركة أفعالهم تِلْكَ ختم لَهُم بِالشَّهَادَةِ وأحدث هَذَا مُحَمَّد فِي صنعاء أَن جر الغيل إِلَيْهَا الَّذِي يعرف بالبرمكي قدم ميمه على بائه مجَاز لَهُ من بَاب التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير ثمَّ لما فرغ من عِمَارَته جمع أهل صنعاء وَأقسم لَهُم الْإِيمَان الْمُغَلَّظَة أَنه لم(1/186)
يصرف فِي جَرّه شَيْئا من مَال السُّلْطَان وَلَا من مَال حرَام وَلَا شُبْهَة ثمَّ وَقفه على الْمُسلمين وببركة ذَلِك هُوَ مُسْتَمر إِلَى عصرنا سنة أَربع وَعشْرين وسبعمئة
وَبنى مَسْجِدا بِصَنْعَاء عِنْد سوق اللسانين قَالَ الرَّازِيّ أَدْرَكته خرابا قَالَ كَانَ هَذَا مُحَمَّد بن خَالِد كثير الصَّدَقَة فِي جَمِيع أَحْوَاله بِحَيْثُ أَنه كَانَ إِذا ركب حمل الدَّرَاهِم فِي كمه وكل من سَأَلَ شَيْئا أناله وَكَانَ فِي إصْلَاح الطَّرِيق إِلَى مَكَّة أَمَان وَعمارَة وَكَانَ شَدِيد التفقد على الرّعية
يحْكى أَنه خرج يَوْمًا إِلَى سَواد صنعاء فَوَافى أَهله وَعَلِيهِ ثِيَاب الصُّوف الْأسود الَّتِي تسمى شمالا وظنهم سؤالا فَقَالَ لخدمه تصدقوا على هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِين فَقيل لَهُ هَؤُلَاءِ الرّعية الَّذين تَأْخُذ مِنْهُم الْأَمْوَال فَقَالَ مَا يَنْبَغِي أَن يُؤْخَذ مِنْهُم شَيْء ثمَّ إِنَّهُم بطروا وأرادو الْخُرُوج عَلَيْهِ
وَأما أهل تهَامَة خُصُوصا عك فَخَرجُوا عَن طَاعَته فَكتب إِلَى الرشيد يشكوهم فَبعث مَكَانَهُ مَوْلَاهُ حَمَّاد الْبَرْبَرِي وَقَالَ لَهُ أسمعني أصوات أهل الْيمن فَلَمَّا قدم عاملهم بالعسف والجبروت وَقتل من رُؤَسَائِهِمْ جمَاعَة وشرد جمعا فِي الْبِلَاد حَتَّى دانوا وأطاعوا بالخراج الْمُعْتَاد وَزِيَادَة عَلَيْهِ مَا أَرَادَهُ وَأمنت الطّرق فِي أَيَّامه أَمَانًا لم يكد يعْهَد مثله حَتَّى أَن الجلب كَانَ يسير من الْيَمَامَة إِلَى صنعاء لَا يَخْشونَ عاسفا وَمن جُمْلَتهمْ يصلونَ بالأغنام فِي عنق كل شَاة مخلاة مَمْلُوءَة تَمرا فتبتاع بالرخص وأخصب الْيمن فِي أَيَّامه خصبا لم يعْهَد ورخصت الأسعار غير أَن النَّاس تعبت مِنْهُ من شدَّة العسف فَلَمَّا حج مِنْهُم من حج شكوه إِلَى الرشيد فِي بعض حجاته فَلم يشكهم وأغلظوا على الرشيد الْكَلَام فَلم يجبهم حَتَّى أَنهم قَالُوا إِن كَانَ لَك بحماد طَاقَة فاعزله عَنَّا فَلم يلتف وَلم يزل حَمَّاد على الْيمن حَتَّى توفّي الرشيد وَذَلِكَ مستهل جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَتِسْعين ومئة
فَقَامَ بِالْأَمر بعده ابْنه الْأمين مُحَمَّد باستخلافه لَهُ فَلبث حَمَّاد على الْيمن سنة(1/187)
بعد موت الرشيد ثمَّ عَزله الْأمين بِمُحَمد بن عبد الله بن مَالك الْخُزَاعِيّ فَلَمَّا قدم الْيمن صادر عُمَّال حَمَّاد وَأخذ مِنْهُم أَمْوَالًا وَحسنت سيرته بالرعية وأحبه أهل الْيمن وَبعد سنة عَزله الْأمين بِمُحَمد بن سعيد بن السَّرْح فَلبث ثَلَاث سِنِين ثمَّ عزل بجرير بن يزِيد بن جرير بن عبد الله البَجلِيّ الصَّحَابِيّ وَفِي أَيَّامه قدم طَاهِر بن الْحُسَيْن بَغْدَاد من الْمَأْمُون فَقتل الْأمين فِي الْمحرم سنة ثَمَان وَتِسْعين ومئة وَوجه إِلَى الْيمن نَائِبا عَن الْمَأْمُون يزِيد بن جرير بن يزِيد بن خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي فقبحت سيرته بِالْيمن فَبلغ ذَلِك الْمَأْمُون فَكتب إِلَى عمر بن إِبْرَاهِيم بن وَاقد بن مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب بِولَايَة الْيمن وَهُوَ إِذْ ذَاك يسكن مَعَ أَخْوَاله بني أرحب بِظَاهِر بلد هَمدَان وهم بطن مِنْهُم
قَالَ ابْن جرير وهم يعْرفُونَ بالسلمانيين فحين بلغه الْكتاب دخل صنعاء وَقبض على يزِيد وصادره بِمَال جزيل وسجنه فَمَاتَ فِي السجْن عقيب ذَلِك
وَلما تمت لَهُ سنة فِي الْولَايَة عَزله الْمَأْمُون بإسحق بن مُوسَى بن عِيسَى بن مُوسَى بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس فَلبث سنة ثمَّ استناب ابْن عَم لَهُ اسْمه الْقَاسِم بن إِسْمَاعِيل وَسَار إِلَى مَكَّة حِين بلغه خُرُوج المبيضة قائدهم إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب وَهُوَ أول طالبي أَقَامَ الْحَج سنة اثْنَتَيْنِ ومئتين وتغلب على مَكَّة وَكَانَ سفاكا للدماء وَقتل خلقا(1/188)
من المكيين وَغَيرهم حَتَّى قَالَ المَسْعُودِيّ كَانَ إِبْرَاهِيم هَذَا مِمَّن سعى فِي الأَرْض الْفساد وَكَانَت إِقَامَته بِمَكَّة على شبه اللائذ وكل مَا قدم سفر من بلد بايعهم لنَفسِهِ وَمن أَبى قَتله فتخشى الْمَأْمُون يَوْمئِذٍ مُحَمَّد بن ماهان الْمُقدم ذكره أَنه قتل عبد الْملك الْفَقِيه الذمارِي فحاربه إِبْرَاهِيم حروبا كَثِيرَة كَانَت الْعَاقِبَة فِيهَا لإِبْرَاهِيم بِحَيْثُ أسر ابْن ماهان قَالَ ابْن جرير وَكَانَ مبلغ ولَايَة ابْن ماهان لليمن سنتَيْن وَسَبْعَة أشهر وَسِتَّة أَيَّام وَأقَام بِالْيمن وَلم يزل بِهِ يخْطب لِلْمَأْمُونِ وَيظْهر الطَّاعَة حَتَّى كَانَ سنة ثَلَاث عشرَة ومئتين قدم أَحْمد بن عبد الحميد مولى الْمَأْمُون فَلبث سنة بِصَنْعَاء ثمَّ نزل الْجند وَكَانَ إِبْرَاهِيم بن أبي جَعْفَر ذِي الْمثلَة المناخي قد تغلب على جبل ثومان وَهُوَ رجل من أَوْلَاد ذِي الْمثلَة الْحِمْيَرِي ثمَّ من ولد ذِي مناخ وَمن ذُريَّته قوم تقاة إِلَى عصرنا يعْرفُونَ بالسلاطين سلاطين قياض بَيت عز قديم وكرم عميم وتغلب مَعَ ثومان على جبل ريمة الْمَعْرُوف بريمة المناخي نِسْبَة إِلَى جده وهوبفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْمِيم ثمَّ ألف وَنون كَأَنَّهُ تَثْنِيَة ثوم وتغلب على غَالب مخلاف جَعْفَر وَكَانَ هَذَا يذكر بالجبروت والعسف فَلَمَّا قدم ابْن عبد الحميد صنعاء ودانت لَهُ وَكَانَ إِلَيْهِ مخلاف الْجند نزل الْجند وعزم على حَرْب المناخي فقصده إِلَى بَلَده بعسكر(1/189)
جرار فحين تورطوا بِلَاده وَهِي وعرة باغتهم الْحَرْب فكسرهم وَقَتله مَعَ عدَّة من عسكره وَذَلِكَ لست بَقينَ من شعْبَان سنة أَربع عشرَة ومئتين ثمَّ هرب ابْن أُخْت لَهُ إِلَى صنعاء فِيمَن سلم من الْعَسْكَر ولبث هَذَا إِبْرَاهِيم إِلَى أَن دخل رَمَضَان وغزا الْجند فنهبها وأخرب غالبها واحترم الْجَامِع وَمن دخله لم يتَعَرَّض لَهُ كَمَا فعل ابْن مهْدي على مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله
فَذكر الرَّازِيّ أَنه استضاف إِلَى الْمَسْجِد قوم عُمْيَان وَضعف وَأَغْلقُوا عَلَيْهِم أبوابه وَمَعَهُمْ منيحة عنز فَلَمَّا كَانَ ذَات لَيْلَة إِذْ رَأَوْا رجلا مستضيئا فَلَمَّا أَخذ العنز وَمسح ظهرهَا وقربها من حَوْض مَاء فَسَقَاهَا فَحملت ثمَّ وضعت توأمين ثمَّ صَارَت إِلَى السّلف فَهِيَ أفضل الْبِلَاد معزى إِلَى وقتنا وَحين بلغ الْخَبَر الْمَأْمُون بعث إِلَى الْيمن إِسْحَاق بن مُوسَى الْمَذْكُور أَولا فَقدم صنعاء سنة خمس عشرَة ومئتين فَأَقَامَ بهَا سنة وَتُوفِّي بعد أَن اسْتخْلف وَلَده فَلم يكد يصفو لَهُ الْيمن وَحصل بَينه وَبَين أهل صنعاء شقَاق أفْضى إِلَى قتال قتل بِهِ جمَاعَة من أهل صنعاء ثمَّ انهزم إِلَى ذمار فَعَزله الْمَأْمُون بِعَبْد الله بن عبيد الله بن الْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب فَقدم فِي الْمحرم سنة سبع عشرَة فَلم يزل بِهِ إِلَى ثَمَانِي عشرَة ومئتين فِي رَجَب مِنْهَا فَمَاتَ الْمَأْمُون فِيهِ وَاسْتمرّ عبد الله إِلَى شَوَّال
وَقد قَامَ بِالْأَمر بعد الْمَأْمُون أَخُوهُ المعتصم وَذَلِكَ بالعهد من أَبِيهِم الرشيد ثمَّ اسْتخْلف على الْيمن عباد بن الْغمر بن عباد الشهابي فَلبث سنة عشْرين ومئتين ثمَّ عَزله بِعَبْد الرَّحِيم بن جَعْفَر بن سُلَيْمَان بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس فَلبث إِلَى سنة خمس وَعشْرين ومئتين ثمَّ عزل بِجَعْفَر بن دِينَار مولى المعتصم ثمَّ عزل بإيتاخ مَوْلَاهُ(1/190)
أَيْضا فَلبث يَسِيرا ثمَّ كَانَت وَفَاة المعتصم بربيع الأول سنة سِتّ وَعشْرين ومئتين ومدته ثَمَانِي سِنِين ثمَّ قَامَ ابْنه الواثق فتظاهر بالْقَوْل بِخلق الْقُرْآن ودعا النَّاس إِلَيْهِ وَكَانَ الْقَائِم بالحجاج فِيهِ وَالدُّعَاء إِلَيْهِ ابْن أبي دؤاد وعاقب الواثق على القَوْل بِعَدَمِ خلق الْقُرْآن جمعا كثيرا فعزل إيتاخ بِجَعْفَر بن دِينَار مولى المعتصم فَقدم صنعاء وَقد ظهر يعفر بن عبد الرَّحْمَن فِي أَيَّام إيتاخ فحاربه مرَارًا وَحصل الصُّلْح بَينهمَا ثمَّ وصل خبر الواثق وَكَانَت وَفَاته لست بَقينَ من ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ ومئتين مدَّته خمس سِنِين وَتِسْعَة أشهر وَثَلَاثَة عشر يَوْمًا
وَاخْتلف هَل مَاتَ على القَوْل بِخلق الْقُرْآن أم لَا فَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ الْأَكْثَر أَنه مَاتَ على ذَلِك
ثمَّ قَامَ بِالْأَمر بعده أَخُوهُ المتَوَكل أَبُو الْفضل جَعْفَر بن مُحَمَّد فَنهى النَّاس عَن الْخَوْض فِي علم الْكَلَام وَترك الْكَلَام فِي خلق الْقُرْآن وتعدى ذَلِك إِلَى النَّهْي عَن الْخلف والجدل حَتَّى فِي النَّحْو حسما للمادة وَأقر الْيمن مَعَ جَعْفَر مولى أَبِيه أَيَّامًا ثمَّ بعث حمير بن الْحَارِث فَلم يتم لَهُ أَمر مَعَ يعفر بل حاربه وَقَوي عَلَيْهِ حَتَّى عَاد الْعرَاق هَارِبا وَاسْتولى يعفر على صنعاء والجند ومخاليفهما
هَذَا ذكر مَا كَانَ فِي مخلافي صنعاء والجند دون مخلاف تهَامَة فَإِنَّهُ فِي سنة أَربع ومئتين استولى عَلَيْهِ آل زِيَاد وَكَانَ من خبرهم فِيمَا ذكر عمَارَة الفرضي الْمَذْكُور أَنه(1/191)
قدم على الْمَأْمُون كتاب من عَامله بِالْيمن وَذَلِكَ سنة اثْنَتَيْنِ ومئتين يُخبرهُ بِخُرُوج الأشاعر وعك فِي تهَامَة فَقَالَ الْمَأْمُون لوزيره الْفضل بن سهل انْظُر لنا من نوجه إِلَى الْيمن يسد خللها فَأثْنى على ثَلَاثَة رجال قد وشي إِلَيْهِ بهم وهم بِقَتْلِهِم ثمَّ عَفا عَنْهُم
وَبَيَان ذَلِك أَنهم لما حَضَرُوا مَجْلِسه بتاريخ سنة تسع وَتِسْعين ومئة استخبر كلا عَن اسْمه وَنسبه فانتسب أحدهم إِلَى عبيد الله بن زِيَاد بن أَبِيه وَالْآخر إِلَى سُلَيْمَان بن هِشَام بن عبد الْملك وَالثَّالِث إِلَى تغلب وَقَالَ اسْمِي مُحَمَّد بن هَارُون فَبكى الْمَأْمُون وَقَالَ وأنى لي بِمُحَمد بن هَارُون يَعْنِي أَخَاهُ الْأمين وَقَالَ للمنتسب إِلَى سُلَيْمَان بن هِشَام بن عبد الْملك يَا هَذَا إِن عبد الله بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس ضرب عنق سُلَيْمَان وأعناق ولديه فِي سَاعَة وَاحِدَة فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنا من ولد سُلَيْمَان كَانَ جدي صَغِيرا يَوْمئِذٍ لم يدْرك وَمنا قوم فِي أفناء النَّاس بِالْبَصْرَةِ فَقَالَ الْمَأْمُون يقتل الأمويان ويعفى عَن التغلبي برا لاسمه وَاسم أَبِيه فَقَالَ ابْن زِيَاد مَا أكذب النَّاس يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ لَهُ وَكَيف ذَلِك قَالَ يَزْعمُونَ أَنَّك حَلِيم كثير الْعَفو متورع عَن سفك الدِّمَاء فَإِن كنت تَقْتُلنَا على ذنوبنا فَلم نخرج لَك عَن طَاعَة وَلم نفارق عَن بيعتك رَأْي الْجَمَاعَة وَإِن كنت تَقْتُلنَا على جنايات بني أُميَّة فِيكُم فَالله تَعَالَى يَقُول {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} فَاسْتحْسن الْمَأْمُون كَلَامه وَعَفا عَنْهُم جَمِيعًا وَأمر وزيره بضمهم إِلَيْهِ حَتَّى يطلبهم مِنْهُ
فَلَمَّا ورد كتاب عَامل الْيمن الْمُقدم ذكره فَأمر الْمَأْمُون وزيره بِمَا قدمنَا من(1/192)
طلب سداد خلل الْيمن وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورين وَقَالَ يكون ابْن زِيَاد أَمِيرا وَابْن هِشَام وزيرا والتغلبي قَاضِيا فَالْتَفت الْمَأْمُون إِلَى قَوْله وَاعْتَمدهُ فاستحضرهم الْمَأْمُون وَكتب بِمَا ذكر لَهُ الْوَزير
فَابْن زِيَاد جد بني زِيَاد الْمُلُوك وَابْن هِشَام جد الوزراء الَّذين مِنْهُم الْوَزير خلف بن أبي الطَّاهِر أحد وزراء الْحَبَشَة موَالِي بني زِيَاد وَسَيَأْتِي ذكره والتغلبي جد الْقُضَاة المعروفين ببني عقامة سَيَأْتِي ذكرهم إِن شَاءَ الله
وَكَانَ من جملَة وَصَايَا الْمَأْمُون لِابْنِ زِيَاد أَن أمره بإحداث مَدِينَة بِالْيمن تكون فِي بِلَاد الأشاعر بوادي زبيد فَقدم الْيمن بعد الْحَج فِي سنة ثَلَاث ومئتين وأطاعته عرب الْيمن كَافَّة سهلهم وجبلهم واختط مَدِينَة زبيد فِي سنة أَربع ومئتين امتثالا لأمر الْمَأْمُون وَكَانَ يغلب على وَادي زبيد ورمع الْعَرَب الَّذين يعْرفُونَ بالأشاعر قوم أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ الصَّحَابِيّ
ولهذين الواديين بركَة ظَاهِرَة ذكر أَن سَببهَا دَعْوَة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ ابْن الجون فِي شرح الْخمر طاشية زبيد بِفَتْح الزَّاي وخفض الْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ يَاء سَاكِنة مثناة ثمَّ دَال مُهْملَة اسْم وَاد بِالْيمن للأشعريين إِلَيْهِ تنْسب الْمَدِينَة فَيُقَال مَدِينَة زبيد لِأَنَّهَا من أراضيه
قَالَ فِي كتاب ابْن الْكَلْبِيّ قَالَ حدث إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الدبرِي عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر قَالَ بَلغنِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قدم عَلَيْهِ الأشعريون قَالَ لَهُم من(1/193)
أَيْن جئْتُمْ قَالُوا من زبيد قَالَ بَارك الله فِي زبيد قَالُوا وَفِي رمع قَالَ بَارك الله فِي زبيد قَالُوا وَفِي رمع قَالَ بَارك الله فِي زبيد قَالَهَا فِي زبيد ثَلَاثًا وَفِي رمع مرّة وَاحِدَة
فَهَذِهِ بركَة عَظِيمَة فِي زبيد وَقد تقدم فِي خطْبَة الْكتاب مَا ذكره الرَّازِيّ وَأَنَّهَا إِحْدَى الْبِقَاع المرحومات والمقدسات فِي الْيمن
وَلما اسْتَقر أَمر ابْن زِيَاد وهابه أهل الْيمن وأطاعوه بعد حروب جرت بَينه وَبينهمْ وَكَانَ هُوَ الْغَالِب فِي جَمِيعهَا دخل بِطَاعَتِهِ بَنو يعفر أهل صنعاء وحملوا إِلَيْهِ الْخراج وَقد ذكرت مَا كَانَ فِي الْجبَال حَتَّى قدم حمير وَأَنه لم يتم لَهُ أَمر من جِهَة المتَوَكل(1/194)
فارغة(1/195)
فارغة(1/196)
وهروبه وَأَن المتَوَكل قتل عقب ذَلِك وَهُوَ لثلاث خلون من شَوَّال سنة سبع وَأَرْبَعين(1/197)
ومئتين مدَّته أَربع عشرَة سنة وَتِسْعَة أشهر وَأَنه قدم من جِهَة المتَوَكل وهروبه وَأَن المتَوَكل قتل عقب ذَلِك وَهُوَ لثلاث خلون من شَوَّال سنة تسع وَأَرْبَعين ومئتين مدَّته أَربع عشرَة سنة وَتِسْعَة أشهر وَتِسْعَة أَيَّام ثمَّ قَامَ بِالْأَمر ابْنه مُحَمَّد الْمُنْتَصر وَهُوَ الَّذِي دس على قتل أَبِيه فَلم تطل مدَّته بل توفّي بعد سِتَّة أشهر من قِيَامه بربيع الأول سنة ثَمَانِي وَأَرْبَعين ومئتين ثمَّ قَامَ بِالْأَمر ابْن عَمه أَحْمد بن مُحَمَّد بن المعتصم الملقب بالمستعين فولي ثَلَاث سِنِين إِلَى أَن قتل فِي شعْبَان سنة خمس وَخمسين ومئتين مدَّته ثَلَاث سِنِين وَسَبْعَة أشهر
ثمَّ قَامَ بِالْأَمر بعده خير العباسيين أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْمُهْتَدي بن الواثق الْمَذْكُور أَولا فَكَانَ خير خلفاء بني الْعَبَّاس سيرة حَتَّى أَن كثيرا من الْعلمَاء يعدونه خَليفَة لحسن سيرته وَجَمِيل طَرِيقَته وَكَانَ كثير الِاقْتِدَاء بسيرة عمر بن عبد الْعَزِيز وَيَقُول لأَهله وخواصه دَعونِي يَا بني الْعَبَّاس أكون فِيكُم كعمر بن عبد الْعَزِيز فِي بني أُميَّة وَلم يسكن بَغْدَاد بل مَدِينَة سر من رأى
وَأخرج عَنْهَا المغنين والمغنيات وَقَالَ لَا يجاورني فِيهَا من تحققت فِيهِ مَعْصِيّة لله ثمَّ بَاعَ مَا فِي خَزَائِن الْمُلُوك من آلَات اللَّهْو والطرب وَكَانَ لَا يَأْخُذ من بَيت المَال إِلَّا مَا لَا بُد لَهُ مِنْهُ ولولدين لَهُ وأخباره مستقصاة فِي التواريخ وَلم تطل مدَّته بل قتل بالشهر الْحَادِي عشر من خِلَافَته وَذَلِكَ فِي رَجَب سنة سِتّ وَخمسين ومئتين
وَفِي أَيَّامه ظهر صَاحب الزنج وَكَانَ من فساق الْخَوَارِج يَدعِي أَنه علوي وَلم يُوجد لذَلِك صِحَة بل ثَبت أَنه عجمي من صناع الرّيّ ذكر ذَلِك صَاحب زهر الْآدَاب(1/198)
ثمَّ لما قتل الْمُهْتَدي قَامَ بِالْأَمر بعده الْمُعْتَمد على الله أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن المتَوَكل فَلبث ثَلَاثًا وَعشْرين سنة فِي أَثْنَائِهَا جرد أَخَاهُ الْمُوفق لقِتَال صَاحب الزنج
قَالَ المؤرخون وَكَانَ من أَخبث الْخَوَارِج مشتتا للْمُسلمين واستحل دِمَاءَهُمْ وَكَانَ يُنَادي على الْمَرْأَة فِي محطته باسمها ونسبها وَرُبمَا كَانَت شريفة فتباع بالبخس وَبِهَذَا بَان عدم شرفه وَبحث عَن نسبه فَلم يُوجد لَهُ فِي العلويين صِحَة وَكَانَت فتنته مُخْتَصَّة بِالْبَصْرَةِ وَلم يزل الْمُوفق يحاربه حَتَّى قَتله فِي صفر سنة سبعين ومئتين مدَّته أَربع عشرَة سنة وَهُوَ من أَشد مدد الْخَوَارِج وَلَوْلَا أَن خَبره دخيل لذكرت مِنْهُ كثيرا لكنه لَيْسَ خَارِجا بِالْيمن فَلم أجد إِدْخَاله فِي أخباره حسنا وَإِنَّمَا ذكرت مَا ذكرت ليعلم زَمَانه ومكانه وقبح مَا جبل عَلَيْهِ
وَحين اتَّصل قيام الْمُعْتَمد بِالْيمن قَامَ ابْن يعفر وَأخذ الْبيعَة لَهُ وَأخرج وُلَاة الْمُلُوك قبله من صنعاء وتابع الْخطْبَة للمعتمد فحين بلغ الْمُعْتَمد ذَلِك كتب إِلَيْهِ بنيابته على صنعاء فغلب على صنعاء والجند وحضرموت وَهُوَ مَعَ ذَلِك يوالي ابْن زِيَاد وَيحمل إِلَيْهِ الْخَوَارِج وَيُوجد أَنه نَائِب عَنهُ لعلمه بعجزه على مقاومته
وَكَانَ قدوم كتاب الْمُعْتَمد عَلَيْهِ سنة تسع وَخمسين ومئتين فِي الْمحرم وَفِي أَيَّامه(1/199)
حصل بِصَنْعَاء سيل عَظِيم يعرف بسيل يعمد وأخرب فِيهَا دورا كَثِيرَة وَاحْتمل أَمْوَالًا وعالما لَا تكَاد تحصى وَخرج مُحَمَّد بن يعفر عقيب ذَلِك إِلَى مَكَّة حَاجا بعد أَن اسْتخْلف ابْنه إِبْرَاهِيم ثمَّ لما عَاد من مَكَّة بنى جَامع صنعاء على الْحَال الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ الْآن وَأَن ذَلِك سنة خمس وَسِتِّينَ ومئتين هَكَذَا ذكره القَاضِي سري بن إِبْرَاهِيم الْآتِي ذكره فِي الْفُقَهَاء إِن شَاءَ الله أَن هَذَا وجد مَكْتُوبًا بألواح قريبَة من سقف الْجَامِع بنجر النجار وَأَن بعض الْوُلَاة حسد ابْن يعفر على بَقَاء ذكره وَأَرَادَ محوه وعني بِهِ فَلم يقدر على ذَلِك لصلابة الْخشب الَّذِي نقر بِهِ
ثمَّ كَانَت وَفَاة الْمُعْتَمد وَقتل مُحَمَّد بن يعفر قَتله ابْنه إِبْرَاهِيم وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي تَارِيخه قتل إِبْرَاهِيم أَبَاهُ وَعَمه وَابْن عَمه وجدته أم أَبِيه فَقيل كَانَت وَفَاة الْمُعْتَمد قبل قَتله بِسِتَّة أشهر وَقيل بل كَانَ مُوَافقا لتاريخ وَاحِد وَالأَصَح أَن الْمُعْتَمد توفّي بعد قَتله بِسِتَّة أشهر وَكَانَ قَتله لَيْلَة الْجُمُعَة لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من الْمحرم سنة تسع وَسبعين ومئتين ووفاة الْمُعْتَمد لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من رَجَب سنة تسع وَسبعين ومئتين مدَّته ثَلَاث وَعشْرين سنة
ثمَّ قَامَ بِالْأَمر المعتضد وَهُوَ ابْن أخي الْمُعْتَمد اسْمه أَحْمد بن أبي أَحْمد بن(1/200)
المتَوَكل لقبه أَبُو الْعَبَّاس وَكَانَ يغلب عَلَيْهِ الجبروت وَمَال إِلَى التَّشَيُّع وَأظْهر محبَّة الطالبيين وإكرامهم فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ كنت مرّة فِي مجْلِس أبي فَرَأَيْت فِي الْمَنَام عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه فَسَأَلته عَن حَالي فبشرني بِالْخرُوجِ ثمَّ قَالَ أيا أَحْمد إِن هَذَا الْأَمر صائر إِلَيْك فاستوص بأولادي خيرا فَقلت سمعا وَطَاعَة لَك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ
وَلم تزل صنعاء مَعَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد يعفر وَهُوَ يهادن ابْن زِيَاد وَابْن زِيَاد قد اتخذ مَدِينَة زبيد دَار ملك وَلم تطل مُدَّة إِبْرَاهِيم ثمَّ هلك وَقَامَ بعده ابْنه أسعد وَلم يكن فيهم شَيْء من الْبِدْعَة أَعنِي آل يعفر
وَفِي أَيَّامه ظَهرت القرامطة عَليّ بن الْفضل بِبَلَد يافع وَمَنْصُور بن حسن يعرف بمنصور الْيمن فَحِينَئِذٍ أذكر نبذة من أحوالهما على مَا ذكره الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مَالك بن أبي الْقَبَائِل أحد فُقَهَاء الْيمن وعلماء السّنة وَكَانَ مِمَّن دخل فِي مَذْهَبهمَا أَيَّام الصليحي وَتحقّق أصل مَذْهَبهمَا فَلَمَّا تحقق فَسَاده رَجَعَ عَنهُ وَعمل رِسَالَة مَشْهُورَة يخبر بِأَصْل مَذْهَبهم وَيبين عوارهم ويحذر من الاغترار بهم فَقَالَ كَانَ عَليّ بن الْفضل من عرب يُقَال لَهُم الأجدون ينسبون إِلَى ذِي جدن وَكَانَ شِيعِيًّا على مَذْهَب الاثْنَي عشرِيَّة فحج مَكَّة ثمَّ خرج مَعَ ركب الْعرَاق يُرِيد زِيَارَة مشْهد الْحُسَيْن فَلَمَّا وَصله جعل يولول ويصيح يَقُول لَيْت من حضرك يَا ابْن رَسُول الله حِين جَاءَك جَيش الفجرة وَمَيْمُون القداح(1/201)
ملازم للضريح وَمَعَهُ وَلَده عبيد يَخْدمه فحين رَأيا ابْن الْفضل على تِلْكَ الْحَال طَمَعا فِي اصطياده ثمَّ خلا بِهِ مَيْمُون وعرفه أَنه لَا بُد لوَلَده عبيد من دولة تقوم ويتوارثها بنوه لَكِن لَا بتكون حَتَّى تكون بدايتها فِي الْيمن على يَد بعض دعاته فَقَالَ لَهُ ابْن فضل ذَلِك يُمكن فِي الْيمن والناموس جَائِز عَلَيْهِم فَأمره بالتثبت وَالْوُقُوف حَتَّى ينظر فِي الْأَمر وَكَانَ مَيْمُون فِي الأَصْل يَهُودِيّا قد حسد الْإِسْلَام واغتار على دينه فَلم يجد حِيلَة غير العكوف على تربة الْحُسَيْن بكربلاء وَإِظْهَار الْإِسْلَام وَأَصله من سليمَة مَدِينَة فِي الشَّام وانتسب إِلَى العلويين وَأَكْثَرهم يُنكر صِحَة نسبه وَالله أعلم
وَقطع ابْن مَالك بِأَنَّهُ يَهُودِيّ وَصَحبه رجل من كربلاء يعرف بمنصور بن حسن بن زَاذَان بن حَوْشَب بن الْفرج بن الْمُبَارك من ولد عقيل بن أبي طَالب
كَانَ جده زَاذَان اثْنَي عشري الْمذَاهب أحد أَعْيَان الْكُوفَة وَسكن أَوْلَاده على تربة الْحُسَيْن فحين قدم مَيْمُون تفرس بمنصور النجابة والرياسة فاستماله وَصَحبه وَكَانَت لَهُ دنيا يستمد بهَا وَكَانَ ذَا علم بالفلك فَأدْرك أَن لَهُ دولة وَأَنه يكون أحد الدعاة إِلَى وَلَده فَلَمَّا قدم ابْن الْفضل وَصَحبه رأى أَنه قد تمّ لَهُ المُرَاد وَأَن ابْن الْفضل من أهل الْيمن خَبِير بِهِ وبأهله فَقَالَ مَيْمُون لمنصور يَا أَبَا الْقَاسِم إِن الدّين يمَان والكعبة يَمَانِية والركن يمَان وكل أَمر يكون مبتدأه من الْيمن فَهُوَ ثَابت لثُبُوت نجمه وَقد رَأَيْت أَن تخرج أَنْت وصاحبنا عَليّ بن فضل إِلَى الْيمن وَتَدعُوا لوَلَدي فسيكون لَكمَا بهَا شَأْن وسلطان وَكَانَ مَنْصُور قد عرف من مَيْمُون إصابات كَثِيرَة فَأَجَابَهُ إِلَى مَا دَعَا فَجمع بَينه وَبَين عَليّ بن فضل وَعَاهد بَينهمَا وَأوصى كلا مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ خيرا قَالَ مَنْصُور لما عزم مَيْمُون على إرسالنا إِلَى الْيمن أَوْصَانِي بوصايا مِنْهَا أنني مَتى دخلت الْيمن سترت أَمْرِي حَتَّى أبلغ غرضي وَقَالَ لي الله الله مرَّتَيْنِ صَاحبك يَعْنِي عَليّ بن فضل احفظه وَأحسن إِلَيْهِ وَأمره بِحسن السِّيرَة فَإِنَّهُ شَاب وَلَا آمن عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ لِابْنِ فضل الله الله أوصيك بصاحبك خيرا وقره واعرف حَقه ولاتخرج عَن أمره فَإِنَّهُ أعرف مِنْك ومني وَإِن عصيته لم ترشد ثمَّ وَدعنَا وَخَرجْنَا مَعَ الْحَاج حَتَّى أَتَيْنَا(1/202)
مَكَّة فحججنا ثمَّ سرنا مَعَ حَاج الْيمن حَتَّى جِئْنَا غلافقة ثمَّ تواصينا بِأَن لَا ينسى أحد منا صَاحبه وَلَا يَنْقَطِع خَبره عَنهُ ثمَّ سرت حَتَّى قدمت الْجند وَهِي إِذْ ذَاك بيد الْجَعْفَرِي قد تغلب عَلَيْهَا وانتزعها من ابْن يعفر وَكَانَ الشَّيْخ قد قَالَ لي إياك أَن تبتدئ بِشَيْء من أَمرك إِلَّا فِي بلد يُقَال لَهَا عدن لاعة فَإِنَّهَا الْبَلَد الَّذِي يتم بِهِ ناموسك وتنال غرضك فِيهَا فَلم أعرفهَا فقصدت عدن أبين وَسَأَلت عَن عدن لاعة فَقيل إِنَّهَا بِجِهَة حجَّة فَسَأَلت عَن من يقدم من أَهلهَا فأرشدت إِلَى جمَاعَة قدمُوا لغَرَض التِّجَارَة وَاجْتمعت بهم وصحبتهم وتطلعت عَلَيْهِم حَتَّى أحبوني وَقلت أَنا رجل من أهل الْعلم بَلغنِي أَن لكم بَلَدا جبلا وَأُرِيد صحبتكم إِلَيْهِ فرحبوا وأهلوا ثمَّ لما أَرَادوا السّفر خرجت من جُمْلَتهمْ وَكنت فِي أثْنَاء الطَّرِيق أتحفهم بالأخبار وأحثهم على الصَّلَاة وَكَانُوا يأتمون بِي فحين دخلت لاعة سُئِلت عَن الْمَدِينَة فِيهَا فأرشدت إِلَيْهَا فأتيتها ولزمت بعض مساجدها وَأَقْبَلت على الْعِبَادَة حَتَّى مَال إِلَيّ جمع من النَّاس فَلَمَّا علمت أَن قد استحكمت محبتي فِي قُلُوبهم أَخْبَرتهم أَنِّي قدمت عَلَيْهِم دَاعيا للمهدي الَّذِي بشر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فحالفت جمعا مِنْهُم على الْقيام وَصَارَ يُؤْتى لي بِالزَّكَاةِ فَلَمَّا اجْتمع عِنْدِي مِنْهَا شَيْء كثير قلت إِنَّه يَنْبَغِي أَن يكون لي معقل تحفظ بِهِ هَذِه الزَّكَاة وَيكون بَيت مَال الْمُسلمين فبنيت عين محرم وَهُوَ حصن كَانَ لقوم يعْرفُونَ ببني العرجاء ونقلت إِلَيْهِ مَا كَانَ تحصل عِنْدِي من طَعَام ودراهم فحين صرت إِلَيْهِ بِمَا معي وَقد عاهدني خمسمئة رجل على النُّصْرَة صعدوا معي الْحصن بِمَا مَعَهم من مَال وَأَوْلَاد فأظهرت حِينَئِذٍ الدعْوَة إِلَى عبيد الله الْمهْدي بن الشَّيْخ مَيْمُون(1/203)
وَمَال إِلَى موافقتي خلق ناشر ثمَّ لما أَخذ جبل مسور وَاسْتعْمل الطبول والرايات بِحَيْثُ كَانَ لَهُ ثَلَاثُونَ طبلا إِذا أقبل إِلَى مَكَان سَمِعت إِلَى مَسَافَة بعيدَة وَكَانَ للحوالي حصن بجبل مسور لَهُ بِهِ وَال انتزعه مِنْهُ ثمَّ حِين علم استقامة أمره كتب إِلَى مَيْمُون يُخبرهُ بِقِيَام أمره وظهوره على من عانده وَبعث لَهُ بِهَدَايَا وتحف جليلة وَذَلِكَ سنة تسعين ومئتين فحين بلغه الْأَمر ووصلت الْهَدَايَا قَالَ لوَلَده عبيد هَذِه دولتك قد قَامَت لَكِن لَا أحب ظُهُورهَا إِلَّا من الْمغرب ثمَّ بعث أَبَا عبد الله الْحُسَيْن بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الْمَعْرُوف بالشيعي الصَّنْعَانِيّ إِلَى الْمغرب وَأمره بِدُخُول إفريقية وسياسة أَهلهَا واستمالتهم إِلَى طَاعَة وَلَده عبيد فَقدم الْمغرب حسب أمره وَكَانَ من رجال الْعَالم الَّذِي يضْرب بهم الْمثل فِي السياسة فَلم يستحكم أمره إِلَّا فِي سنة سِتّ وَتِسْعين ومئتين فَكتب إِلَى الْمهْدي يُخبرهُ بِقِيَام الْأَمر وَطَاعَة النَّاس لَهُ ويأمره بالقدوم إِلَيْهِ فبادر عبيد الملقب بالمهدي وَقدم إفريقية وَقد كَانَ الشيعي غلب على ملكهَا وَصَارَ بِيَدِهِ فحين قدم الْمهْدي سلمه إِلَيْهِ فندمه وذمه أَخُوهُ وَقَالَ لَهُ بئس مَا صنعت بِيَدِك ملك تسلمه لغيرك وَجعل يُكَرر عَلَيْهِ ذَلِك حَتَّى أثر عِنْده وهم أَن يغدر بالمهدي وبلغه ذَلِك فاستشعر مِنْهُ ودس عَلَيْهِ من قَتله وَقتل أَخَاهُ فِي سَاعَة وَاحِدَة منتصف جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَتِسْعين ومئتين
وَهَذَا عبيد الله الملقب بالمهدي هُوَ جد مُلُوك الْمغرب ثمَّ مصر فَابْن خلكان يَقُول فِي نسبهم العبيديين نِسْبَة إِلَى هَذَا عبيد وناس يسمونهم العلويين على صِحَة(1/204)
دَعوَاهُم وَالله أعلم بِالصَّوَابِ
فَهَذِهِ نبذة ثَبت فِيهَا بداية حَال مَذْهَب القرامطة فِي الْيمن وَحَال مَنْصُور الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ وَكَانَ مَنْصُور ملكا مُسَددًا
وَأما ابْن فضل فَسَيَأْتِي من ذكره مَا يبين حَاله فقد مضى نسبه وأصل بَلَده فقد ذكر من نقل سيرته أَنه لما فَارق منصورا من غلافقة كَمَا قدمنَا ذكره طلع الْجَبَل وَدخل الْجند ثمَّ خرج عَنْهَا إِلَى أبين وَهِي إِذْ ذَاك بيد رجل من الأصابح يُقَال لَهُ مُحَمَّد بن أبي الْعلَا ثمَّ خرج عَنْهَا إِلَى بلد يافع فَلَقِيَهُمْ رعاعا فَجعل يتعبد فِي بطُون الأودية ويأتونه بِالطَّعَامِ فَلَا يَأْكُل مِنْهُ إلااليسير لمن تحقق حَاله فَأُعْجِبُوا بِهِ وهم يسكنون برؤوس الْجبَال فَسَأَلُوهُ أَن يسكن مَعَهم فَلم يكد يُجِيبهُمْ إِلَّا بعد مُدَّة حَتَّى ألحوا عَلَيْهِ فَذكر لَهُم أَنه مَا يمنعهُ من مساكنتهم إِلَّا عدم امتثالهم الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَشرب الْخُمُور والتظاهر بِالْفُجُورِ فَحَلَفُوا لَهُ على الطَّاعَة وَأَن لَا يخالفوه بِمَا أَمر فَوَعَدَهُمْ خيرا وصاروا يجمعُونَ لَهُ زكواتهم حَتَّى اجْتمع لَهُ شَيْء جيد ثمَّ إِنَّه قصد أبين فَقتل صَاحبهَا واستباحها وَأخذ أَمْوَالًا جليلة ثمَّ قصد المذيخرة بلد الْجَعْفَرِي وَكَانَت مَدِينَة عَظِيمَة بجبل ريمة فحاربه مرَارًا وَكَانَت الدائرة لَهُ فَقتله واستباح بَلَده وسبى الْحَرِيم وَقد ذكر ابْن مَالك ذَلِك برسالته على أكمل وَجه وَلَيْسَ هُوَ من ملازم الْكتاب فنأتي بِهِ وَلما صَار بالمذيخرة أَعْجَبته فأظهر بهَا مذْهبه وَجعلهَا دَار ملكه ثمَّ ادّعى النُّبُوَّة وَأحل لأَصْحَابه شرب الْخمر وَنِكَاح الْبَنَات وَالْأَخَوَات ثمَّ دخل الْجند فِي موسمها(1/205)
أول خَمِيس من رَجَب فَصَعدَ الْمِنْبَر وَقَالَ الأبيات الْمَشْهُورَة ... خذي الدُّف يَا هَذِه والعبي ... وغني هزاريك ثمَّ اطربي
تولى نَبِي بني هَاشم ... وَهَذَا نَبِي بني يعرب
لكل نَبِي مضى شرعة ... وهاتي شَرِيعَة هَذَا النَّبِي
فقد حط عَنَّا فروض الصَّلَاة ... وَحط الصّيام فَلم نتعب
إِذا النَّاس صلوا فَلَا تنهضي ... وَإِن صُومُوا فكلي واشربي
وَلَا تطلبي السَّعْي عِنْد الصَّفَا ... وَلَا زورة الْقَبْر فِي يثرب
وَلَا تمنعي نَفسك المعرسين ... من الْأَقْرَبين مَعَ الْأَجْنَبِيّ
فَبِمَ ذَا حللت لهَذَا الْغَرِيب ... وصرت مُحرمَة للْأَب
أَلَيْسَ الْغِرَاس لمن ربه ... وأسقاه فِي الزَّمن المجدب
وَمَا الْخمر إِلَّا كَمَاء السَّمَاء ... مَحل فقدست من مَذْهَب ... ثمَّ لما استقام أمره وَغلب على مخلاف جَعْفَر والجند عزم على غَزْو صنعاء وَبهَا يَوْمئِذٍ أسعد بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن يعفر فَمر بذمار وَأخذ حصن هران وَدخل واليه وغالب من مَعَه فِيهِ بِالْمذهبِ وَلحق بَقِيَّتهمْ بِأَسْعَد ابْن أبي يعفر
وَلما سمع أسعد بِكَثْرَة جيوشه خرج من صنعاء هَارِبا ودخلها ابْن فضل يَوْم الْخَمِيس لثلاث مضين من رَمَضَان سنة سبع وَتِسْعين ومئتين فَنزل الْجَامِع وَحصل(1/206)
بقدومه مطر عَظِيم فَأمر بسد الميازيب الَّتِي للجامع وأطلع النِّسَاء اللَّاتِي سبين من صنعاء وَغَيرهَا وطلع المنارة وَجعلُوا يلقونهن إِلَى المَاء متكشفات عاريات فَمن أَعْجَبته اجتذبها إِلَى المنارة وافتضها حَتَّى قيل إِنَّه افتض عدَّة من البكور وَأثر ذَلِك المَاء وتحقنه على السّقف حَتَّى يُوجد أثر ذَلِك إِلَى الْيَوْم ذكره القَاضِي السّري الْآتِي ذكره
ثمَّ إِنَّه حلق رَأسه فحلق مَعَه مُوَافقَة مئة ألف نفس وَأمر بإخراب دَار ابْن عَنْبَسَة ظن أَنه يجد بهَا دَفِينا فَلم يجد غير عشرَة آلَاف دِينَار وَكَانَ ابْن عَنْبَسَة من أَعْيَان أهل صنعاء خرج مَعَ أسعد حِين خرج فَلَمَّا بلغه إخراب بَيته أَخَذته بَطْنه وَمَات وَحين بلغ منصورا دُخُول ابْن فضل صنعاء سره ذَلِك وتجهز حَتَّى جَاءَهُ واجتمعا وَفَرح كل بِصَاحِبِهِ
ثمَّ خرج ابْن فضل إِلَى حراز ثمَّ نزل المهجم فَأَخذهَا وَسَار إِلَى الكدرى فَأَخذهَا أَيْضا ثمَّ قصد زبيد فهرب صَاحبهَا وَهِي يَوْمئِذٍ بيد أبي الْجَيْش إِسْحَق بن(1/207)
إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْوَاصِل من بَغْدَاد فَقيل هرب وَقيل قَاتل فَقتله ابْن الْفضل واستباح زبيد وسبى الْحَرِيم
وَذكر نقلة الْأَخْبَار أَنه أَخذ مِنْهَا نَحْو أَرْبَعَة آلَاف بكر سوى الْجَوَارِي ثمَّ خرج مِنْهَا يُرِيد المذيخرة على طَرِيق الْمِيزَاب جبل شَرْقي زبيد فَلَمَّا صَار بعسكره فِي مَوضِع يُسمى الملاحيط أَو المناحض أَمر صائحه فصاح على الْعَسْكَر بالنزول فَلَمَّا نزلُوا ناداهم بالاجتماع فَاجْتمعُوا إِلَيْهِ وحضروا لَدَيْهِ فَقَالَ لَهُم لقد علمْتُم إِنَّمَا خَرجْتُمْ للْجِهَاد فِي سَبِيل الله وَقد غَنِمْتُم من نسَاء الْحصيب مَا لَا يخفى وَلست آمنهن عَلَيْكُم أَن يَفْتِنكُم ويشغلنكم عَن الْجِهَاد فليذبح كل رجل مِنْكُم من صَار مَعَه مِنْهُنَّ فَفَعَلُوا ذَلِك فَصَارَ الدَّم فِي ذَلِك أَثَره سِنِين كَثِيرَة وَلذَلِك سمي الملاحيط المشاحيط
ثمَّ توجه إِلَى المذيخرة فَلَمَّا صَار بهَا أَمر بِقطع الطّرق لَا سِيمَا طَرِيق الْحَج وَقَالَ حجُّوا الجرف موضعا بِالْقربِ من المذيخرة واعتمروا التالبي وَهُوَ وَاد بِالْقربِ من الجرف(1/208)
وَلما علم ابْن فضل أَنه قد استحكم لَهُ أَمر الْيمن خلع طَاعَة عبيد بن مَيْمُون الَّذِي كَانَ يظْهر أَنه دَاع إِلَيْهِ ثمَّ كَاتب صَاحبه منصورا بذلك فَعَاد جَوَابه إِلَيْهِ يعاتبه وَيَقُول لَهُ كَيفَ تخلع من لم تنَلْ خيرا إِلَّا بِهِ وببركة الدُّعَاء إِلَيْهِ فَمَا تذكر مَا بَيْنك وَبَينه من عهود وَمَا أَخذ علينا جَمِيعًا من الْوَصِيَّة على الِاتِّفَاق وَعدم الِافْتِرَاق فَلم يلْتَفت إِلَيْهِ بل كتب إِلَيْهِ ثَانِيًا يُخبرهُ وَيَقُول لَهُ إِن لي بِأبي سعيد الجنابي أُسْوَة إِذْ قد دَعَا إِلَى نَفسه وَأَنت إِذا لم تنزل إِلَى طَاعَتي وَتدْخل بإجابتي نابذتك الْحَرْب فَلَمَّا ورد كِتَابه إِلَى مَنْصُور بذلك غلب على ظَنّه صِحَّته وطلع جبل مسور وَأخذ بتحصينه وَقَالَ إِنَّمَا حصنت هَذَا الْجَبَل من هَذَا الطاغية وَأَمْثَاله
وَلَقَد عرفت الشَّرّ بِوَجْهِهِ حِين اجْتَمَعنَا بِصَنْعَاء ثمَّ إِن ابْن فضل بعد مديدة من تصديره الْكتاب تجهز إِلَى غَزْو مَنْصُور وانتدب لذَلِك عشرَة آلَاف رجل من الْمَعْدُودين فِي عسكره وَسَار من المذيخرة حَتَّى دخل شبام فَحصل بَينه وَبَين عَسْكَر مَنْصُور حَرْب وتكرر ذَلِك وَدخل ابْن فضل بلد لاعة وَصعد جبل الجميمة بِالْجِيم الْمَفْتُوحَة وَهُوَ جبل فائش على الْقرب من مسور وَهُوَ لقوم يُقَال لَهُم بَنو المنتاب فَأَقَامَ بِهِ ثَمَانِيَة أشهر يحاصر منصورا فَلم يدْرك مِنْهُ طائلا وشق بِهِ الْوُقُوف وَعلم مَنْصُور بذلك فراسله بِالصُّلْحِ فَقَالَ ابْن فضل لَا أفعل إِلَّا أَن ترسل إِلَيّ ولدك يقف معي على الطَّاعَة وَإِلَّا فَلَا يسمع بِأَنِّي رحت بِغَيْر قَضَاء حَاجَة ويشيع عِنْد الْعَالم أَنِّي تركته تفضلا لَا عَجزا فَفعل مَنْصُور ذَلِك وَتقدم مَعَه بعض أَوْلَاد مَنْصُور ثمَّ إِن ابْن فضل طوقه بطوق من ذهب وانهمك بالمذيخرة على تَحْلِيل مُحرمَات الشَّرِيعَة وَإِبَاحَة محظوراتها وَعمل بهَا دَارا وَاسِعَة يجمع فِيهَا(1/209)
غَالب أهل مذْهبه نسَاء ورجالا متزينين متطيبين ويوقد بَينهم الشمع سَاعَة ويتحادثون فِيهَا بأطيب الحَدِيث وأطربه ثمَّ يطفأ الشمع وَيَضَع كل مِنْهُم يَده على امْرَأَة فَلَا يتْرك الْوُقُوع عَلَيْهَا وَإِن كَانَت من ذَوَات مَحَارمه وَقد تقع مَعَ أحدهم مَا لَا تعجبه إِمَّا بِعَجُوزٍ أَو غَيرهَا فيريد التفلت مِنْهَا فَلَا تكَاد تعذره
فقد حكى ابْن مَالك أَن رجلا من الْقَوْم وَقعت يَده على عَجُوز كَبِيرَة محدودية فحين تحقق حَالهَا أَرَادَ التفلت مِنْهَا فَقَالَت لَهُ دوبد من ذِي حكم الْأَمِير ودو بِالدَّال الْمُهْملَة فِي لُغَة بعض اليمنيين بِمَعْنى لَا فَكَأَنَّهَا قَالَت لَا بُد من ذِي حكم الْأَمِير وَذُو بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة بِمَعْنى الَّذِي كَأَنَّهَا قَالَت لَا بُد من الَّذِي حكم بِهِ الْأَمِير يَعْنِي ابْن فضل وَهَذِه مخزية عَظِيمَة شاعت عَنهُ وَحَتَّى عَمت جَمِيع من انتسب إِلَى السمعلة وَهُوَ شَيْء لم يتَحَقَّق عَن أحد غَيره وَلَقَد سَأَلت جمعا من الَّذين يتَحَقَّق مِنْهُم الْمَذْهَب فأنكروا ذَلِك ورأيتهم مُجْمِعِينَ على أَن ابْن فضل زنديق وَأَن مَنْصُور من أَعْيَان مَذْهَبهم وأخيارهم وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي تقرر فِي ذهني
وَكَانَ ابْن فضل لما طابت لَهُ المذيخرة وَجعلهَا دَار إِقَامَة استناب على صنعاء أسعد بن أبي يعفر الْمُقدم ذكره استنابه مَكَانَهُ إِلَّا أَنه لم يثبت أَن أسعد اجْتمع بِهِ بل كَانَ حذرا من غدره فَأَقَامَ أسعد بِصَنْعَاء نَائِبا لَهُ وَهُوَ يود أَن يَأْخُذ بثأر الْمُسلمين مِنْهُ وَهُوَ أَيْضا حذر متيقظ وَكَانَ لَا يكَاد يسْتَقرّ بِصَنْعَاء خشيَة غَازِيَة من ابْن فضل أَو هجمة
قَالَ ابْن جرير وَكَانَ عنوان كتب ابْن فضل إِلَى أسعد من باسط الأَرْض وداحيها ومزلزل الْجبَال ومرسيها عَليّ بن الْفضل إِلَى عَبده أسعد بن أبي يعفر وَكفى بِهَذَا الْكَلَام دَلِيلا على كفره فنسأل الله الْعِصْمَة(1/210)
وَفِي أثْنَاء نِيَابَة أسعد قدم غَرِيب يزْعم أَنه شرِيف بغدادي فصحب أسعد وَأنس بِهِ وَقيل أَن قدومه كَانَ بإرسال من صَاحب بَغْدَاد لما بلغه من قوم ابْن فضل ليعْمَل الْحِيلَة فِي قَتله فَلبث عِنْد أسعد مُدَّة وَكَانَ جراحيا ماهرا بصناعة الْأَدْوِيَة بَصيرًا بِفَتْح الْعُرُوق ومداواة الأجرحة وَسقي الْأَشْرِبَة النافعة وَلما رأى شدَّة خوف أسعد لِابْنِ فضل قَالَ إِنِّي عزمت على أَن أهب بنفسي لله تصدقا على الْمُسلمين لأريحهم من هَذَا الطاغية فعاهدني إِن أَنا عدت إِلَيْك على أَن تقاسمني مَا يصير إِلَيْك من الْملك فَأَجَابَهُ أسعد إِلَى مَا سَأَلَ فتجهز الْغَرِيب وَخرج من عِنْد أسعد وَهُوَ إِذْ ذَاك مُقيم بالجوف بِبَلَد هَمدَان على تخوف من ابْن فضل فَسَار الْغَرِيب حَتَّى قدم المذيخرة فخالط وُجُوه الدولة وكبراءها وَفتح لَهُم الْعُرُوق وسقاهم الْأَدْوِيَة النافعة وَأَعْطَاهُمْ المعجونات فَرفعُوا ذكره إِلَى ابْن فضل وأثنوا عَلَيْهِ عِنْده ووصفوه بِمَا فِيهِ من الصَّنْعَة وَقيل لَهُ إِنَّه لَا يصلح إِلَّا لمثلك فَلَمَّا كَانَ ذَات يَوْم أحب الافتصاد فبحث عَنهُ وَطَلَبه فجيء لَهُ بِهِ فحين وَصله الطَّالِب عمد إِلَى سم فعمله بِشعرِهِ فِي مقدم رَأسه وَكَانَ ذَا شعر كثير ثمَّ لما دخل عَلَيْهِ أمره أَن يتجرد من ثِيَابه ويلبس غَيرهَا من ثِيَاب كَانَت عِنْد ابْن فضل ثمَّ أمره بالدنو مِنْهُ ليفصده فَفعل وَقعد بَين يَدَيْهِ ثمَّ أخرج المفصد وأمتصه تَنْزِيها لَهُ من السم ثمَّ مَسحه بِرَأْسِهِ فِي مَوضِع السم فعلق بِهِ بعض السم ثمَّ فصده بالأكحل وربطه وَخرج من فوره وَحمل هداده على حمَار لَهُ وَخرج من المذيخرة مبادرا إِلَى أسعد بن أبي يعفر وَلما قعد ابْن فضل سَاعَة أحس بالسم وَعلم أَنه قد أكيد على يَد الفاصد فَأمر بِطَلَبِهِ فَلم يُوجد فازداد تَيَقنا وَأمر أَن يلْحق حَيْثُ كَانَ وَيُؤْتى بِهِ فَخرج العساكر فِي طلبه بنواح شَتَّى حَتَّى أدْركهُ بَعضهم بوادي(1/211)
السحول عِنْد الْمَسْجِد الْمَعْرُوف بقينان فَلم يلْتَزم بل مَانع على نَفسه حَتَّى قتل وقبره هُنَالك وَهُوَ مَسْجِد جَامع لَهُ مَنَارَة يزار ويتبرك بِهِ دَخلته فِي الْمحرم أول سنة سِتّ وَتِسْعين وستمئة
وَتُوفِّي ابْن فضل عقب ذَلِك لَيْلَة الْخَمِيس منتصف ربيع الآخر سنة ثَلَاث وثلاثمئة وَكَانَت مُدَّة امتحان الْمُسلمين بِملكه سبع عشرَة سنة
وَلما علم أسعد بوفاته فَرح وَكَذَلِكَ جَمِيع أهل الْيمن فرحوا فَرحا شَدِيدا ثمَّ كاتبوا أسعد أَن يَغْزُو المذيخرة ويستأصل شأفة القرامطة فأجابهم إِلَى ذَلِك وتجهز بعسكر جرار من صنعاء ونواحيها ثمَّ لما صَار بمخلاف جَعْفَر اجْتمع إِلَيْهِ أَهله ثمَّ أهل الْجند والمعافر والتقت العساكر إِلَى المذيخرة وَكَانَ قد خلف ابْن فضل ولد لَهُ يعرف بالفأفاء لفأفأة كَانَت بِهِ فحصر أسعد المذيخرة بِمن مَعَه من النَّاس وَكَانَت محطته بجبل ثومان الَّذِي تقدم ذكره عِنْد ذكر الْجَعْفَرِي الَّذِي يعرف الْآن بجبل خولان لِأَن بِهِ عربا مِنْهُم يعْرفُونَ ببني البعم فَلم يزل العساكر فِيهِ وكل مَا خرج لَهُم عَسْكَر من المذيخرة كسرهم الْمُسلمُونَ وتتابع ذَلِك مرّة على مرّة حَتَّى ذلوا وخضعوا ثمَّ نصب أسعد على الْمَدِينَة المنجنيقات فهدم غَالب دُورهمْ ودخلها قهرا ثمَّ قتل ابْن فضل وَجَمِيع من ظفر بِهِ من خواصه وَأَهله وَمن دخل مذْهبه وسبى بَنَاته وَكن ثَلَاثًا اصْطفى أسعد مِنْهُنَّ وَاحِدَة اسْمهَا معَاذَة ثمَّ وَهبهَا لِابْنِ أَخِيه قحطان فَولدت لَهُ عبد الله بن قحطان الْآتِي ذكره والاثنتان صارتا إِلَى رعين
وَكَانَت مُدَّة حِصَار الْمُسلمين وأسعد للمذيخرة سنة كَامِلَة قيل إِنَّه لم ينْزع فِيهَا أسعد درعه وَلم يزل مُتَقَلِّدًا لسيفه وانقطعت دولة القرامطة من مخلاف جَعْفَر وَلم تزل(1/212)
المذيخرة خرابا مُنْذُ ذَلِك إِلَى عصرنا
وَأما مَنْصُور فَهُوَ على الْحَال الْمُتَقَدّم لكنه كَانَ رَئِيسا لبيبا يحب المباقاة لم يبرح فِي جِهَة لاعة حَتَّى توفّي قبل ابْن فضل سنة اثْنَتَيْنِ وثلثمئة بعد أَن أوصى ولدا لَهُ اسْمه الْحسن ورجلا آخر من أَصْحَابه اسْمه عبد الله بن الْعَبَّاس الشاوري كَانَ خصيصا بِهِ وَكَانَ قد أرْسلهُ إِلَى الْمهْدي برسالة وهدية وَصَارَ عِنْد الْمهْدي مِنْهُ صُورَة وَمَعْرِفَة وَذَلِكَ أَن منصورا لما أحس بِالْمَوْتِ جمع بَينهمَا وَقَالَ أوصيكما بِهَذَا الْأَمر فاحفظاه وَلَا تقطعا دَعْوَة بني عبيد بن مَيْمُون فَنحْن غرس من غروسهم وَلَوْلَا مَا دَعونَا إِلَيْهِ من طاعتهم لم يتم لنا مُرَاد وَعَلَيْكُم بمكاتبة إمامنا الْمهْدي فَلَا تقطعا أمرا فِي مشاروته فَإِن هَذَا الْأَمر لم آخذه بِكَثْرَة مَال وَلَا رجال وَلم أصل هَذِه الْبِلَاد إِلَّا بعصا وَبَلغت مَا لم يخف ببركة الْمهْدي الَّذِي بشر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَقُول ذَلِك فِي مَلأ من النَّاس ثمَّ لما توفّي مَنْصُور كتب وَصِيّه الشاوري إِلَى الْمهْدي وَهُوَ مُقيم بالمهدية لم يبرح يُخبرهُ بوفاة مَنْصُور وَترك أمرالدعوة مرجى حَتَّى يرد أمره وَأعلم الْمهْدي بِأَنَّهُ يقوم بِأَمْر الدعْوَة قيَاما شافيا وافيا دون أَوْلَاد مَنْصُور وَبعث بِالْكتاب مَعَ بعض أَوْلَاد مَنْصُور فَسَار بِهِ حَتَّى قدم المهدية وَدفع الْكتاب إِلَى الْمهْدي فَلَمَّا قَرَأَهُ وَكَانَ قد عرف الشاوري من وَقت قدم عَلَيْهِ برسالة مَنْصُور وَأَنه مكمل الدعْوَة وخشي عجز أَوْلَاد للشاوري بالاستقلال وَعَاد ولد مَنْصُور خائبا فَعَاد الْبِلَاد وَهُوَ مُضْمر الشَّرّ فأوصل جَوَاب الْمهْدي إِلَى الشاوري وَصَارَ هُوَ وأخوته يواصلونه وَهُوَ يكرمهم ويبجلهم وَلَا يحجب أحدا مِنْهُم بل يدْخلُونَ مَتى شَاءُوا من غير حَاجِب ثمَّ إِن الَّذِي وصل من الْمهْدي دخل عَلَيْهِ فِي بعض الغفلات فَقتله وَاسْتولى على الْبِلَاد
وَلما صَار مستوليا جمع الرعايا من أنحاء بَلَده وأشهدهم أَنه قد خرج إِلَى مَذْهَب(1/213)
السّنة وَترك مَذْهَب أَبِيه فأعجب النَّاس ذَلِك وأحبوا ودانوا لَهُ فَدخل عَلَيْهِ أَخ لَهُ اسْمه جَعْفَر فَنَهَاهُ عَمَّا فعل وقبحه عَلَيْهِ فَلم يلْتَفت إِلَيْهِ وَخرج عَنهُ مغضبا وَقصد الْمهْدي إِلَى القيروان فَوَجَدَهُ قد توفّي وَقَامَ بعده ابْنه الْقَائِم وَذَلِكَ سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وثلثمئة أَعنِي موت الْمهْدي وَقيام الْقَائِم فَلبث ابْن مَنْصُور عِنْده ثمَّ إِن أَخَاهُ قتل أهل مَذْهَب أَبِيه وشردهم حَتَّى لم يبْق حوله إِلَّا من لَا يعرف وَبَقِي فِي الْبَلَد جمَاعَة قَلِيلُونَ يكاتبون بني عبيد بن مَيْمُون إِلَى القيروان ثمَّ إِن ابْن مَنْصُور خرج من مسور إِلَى عين محرم الْمَذْكُورَة أَولا وكاتبه رجل من بني العرجى سلاطين تِلْكَ النَّاحِيَة واستخلف الَّذِي ينْسب مسور إِلَيْهِ فَيُقَال مسور المنتاب فَلَمَّا صَار بِعَين محرم وثب عَلَيْهِ ابْن العرجي فَقتله وَحين سمع ابْن عبد الحميد ذَلِك أخرج من بَقِي مَعَه بمسور من أهل مَنْصُور وَحرمه إِلَى جبل أعشب فَوَثَبَ النَّاس عَلَيْهِم ينهبون ويسلبون وَيقْتلُونَ ثمَّ حصل بَين ابْن العرجى وَابْن عبد الحميد اتِّفَاق واقتسما الْبِلَاد وَرجع ابْن عبد الحميد عَن مَذْهَب مَنْصُور وابتنى جَامعا وَعمل منبرا وتابع الْخطْبَة لبني الْعَبَّاس وَجعل يتتبع القرامطة حَيْثُ سمع بهم حَتَّى أفناهم وَلم يبْق مِنْهُم غير شريذمة قَليلَة بِنَاحِيَة مسور كاتمين أَمرهم مقيمين ناموسهم بِرَجُل يُقَال لَهُ ابْن رَحِيم وَمَات ابْن عبد الحميد وَقَامَ بعده ابْنه المنتاب وَكَانَ ابْن رَحِيم حازما لَا يكَاد يعرف أَيْن قراره خوفًا أَن يغتاله المنتاب أَو غَيره من أهل السّنة وَهُوَ مَعَ ذَلِك يُكَاتب أَوْلَاد الْمهْدي إِلَى القيروان وَإِلَى مصر(1/214)
وَفِي أَيَّامه قدم الْمعز بن الْقَائِم بن الْمهْدي من القيروان إِلَى مصر وابتنى الْقَاهِرَة وَجعلهَا دَار إِقَامَته ثمَّ لما دنت وَفَاته اسْتخْلف على أهل مذْهبه رجلا مِنْهُم يُقَال لَهُ يُوسُف بن الْأَشَج ثمَّ توفّي وَولي الْأَمر يَوْمئِذٍ الْحَاكِم فَكَانَ ابْن الْأَشَج يَدْعُو إِلَيْهِ ويبايع لَهُ سرا حَتَّى دنت وَفَاته واستخلف رجلا يُقَال لَهُ سُلَيْمَان بن عبد الله الزواحي من ضلع شبام وَكَانَ ذَا مَال جزيل يُدَارِي بِهِ وَيدْفَع عَن أهل مذْهبه وَكلما هم أحد من النَّاس بقتْله يَقُول لَهُ أَنا رجل من الْمُسلمين أَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله كَيفَ يحل لكم سفك دمي وَأخذ مَالِي فيمسكون عَنهُ وَلما دنت وَفَاته اسْتخْلف عَليّ بن مُحَمَّد الصليحي وَأَصله من الأخروج سبع من أَسْبَاع حراز
هَذَا مَا لَاق ذكره من الْمُلُوك من أول الْإِسْلَام إِلَى نَيف وثلثمائة
ثمَّ بعد ذَلِك نعود إِلَى أَخْبَار الْفُقَهَاء مَا قدمنَا من المئتين وَالثَّلَاث الْمَاضِيَة وَكَانَ مُعظم مَا ذكرت أهل عناية وتوفر على طلب علم الْأَحْكَام وَفقه كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِجْمَاع الْعلمَاء وَاخْتِلَافهمْ وَالِاحْتِيَاط لأَنْفُسِهِمْ فِيمَا يدينون الله رَبهم وَقل مَا فَاتَنِي من أهل هَذِه الصّفة كَانَ مَوْجُودا بِالْيمن فِي الْمدَّة الْمَاضِيَة وَفِي الْمُسْتَقْبلَة بِحَمْد الله وأنتهي بذلك إِلَى فُقَهَاء زَمَاننَا وأستوعبهم
ثمَّ أذكر بعد ذَلِك الْمُلُوك الْمُتَأَخِّرين من ذَلِك إِلَى عصرنا كَمَا ذكرت من كَانَ فِي المئتين وَالثَّلَاث الْمُتَقَدّمَة
وَاعْلَم أَن المئة الرَّابِعَة كَانَت فقهاؤها أعيانا(1/215)
مِنْهُم أَبُو سعيد الْمفضل بن مُحَمَّد الجندي الْمُقدم ذكره لِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودا فِي آخرالمئة الثَّالِثَة وَصدر المئة الرَّابِعَة وَذَلِكَ سنة سبع وَثَلَاثِينَ وثلثمائة وَلأَجل وجوده فِي آخر المئة الثَّالِثَة وَعدم تحققي لوُجُوده فِي المئة الرَّابِعَة ذكرته أَولا ثمَّ رَأَيْت بِخَط الْفَقِيه ابْن أبي ميسرَة مَا تحقق وجوده بالتاريخ الَّذِي ذكرته آنِفا
وَمِنْهُم أَبُو الْحسن الْمُغيرَة بن عَمْرو بن الْوَلِيد الْعَدنِي أَخذ بِمَكَّة سنَن أبي قُرَّة عَن أبي سعيد الْمفضل الجندي مقدم الذّكر وَذَلِكَ سنة خمس وَسِتِّينَ وثلثمائة وَكَانَ هَذَا يعرف بالتاجر فَيُقَال الْمُغيرَة الْعَدنِي التَّاجِر
وَفِي هَذِه المئة أَعنِي الرَّابِعَة دخل مَذْهَب الشَّافِعِي الْيمن وانتشر فأبدأ بِمن ذكر أَنه نشره فِي الْجبَال وَمِنْهُم مُوسَى بن عمرَان بن مُحَمَّد الخداشي ثمَّ السكْسكِي أَصله من المعافر ثمَّ كَانَ يخْتَلف إِلَى الْجند ومخلاف جَعْفَر وَرُبمَا أَقَامَ بقرية الملحمة الْآتِي ضَبطهَا عِنْد ذكر وَلَده وفقهاؤها المعروفون ببني مَضْمُون من ذُريَّته وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك إنْشَاء الله تَعَالَى وَعنهُ أَخذ جمَاعَة من المعافر والجند ومخلاف جَعْفَر وَلم أكد أَقف لَهُ على تَحْقِيق تَارِيخه
ثمَّ صَار الْعلم يُؤْخَذ عَن جمَاعَة أهل طبقَة مُتَأَخِّرَة
مِنْهُم أَبُو الْخطاب عبد الْوَهَّاب بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عبد الله الْعَدنِي لِأَنَّهُ ولي قَضَاء عدن وَإِلَّا فأصله من أبين من قَرْيَة الطرية بهَا وجده عَنْبَسَة النُّون فِيهِ سَاكِنة مُقَدّمَة على الْبَاء الْمُوَحدَة بِقَضَاء عدن وَكَانَ من الروَاة الْمَعْدُودين
وجدت فِيمَا قرأته بِخَط ابْن أبي ميسرَة سندا مُتَّصِلا إِلَى هَذَا أبي الْخطاب أَنه قَالَ رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النّوم وَأَنا بقرية الطرية من أبين لَيْلَة الْخَمِيس سَابِع رَمَضَان(1/216)
سنة خمس عشرَة وأربعمئة كَأَنَّهُ جَالس فِي بَيت لَا أعرفهُ على شَيْء مُرْتَفع شبه الدكة وناس جُلُوس دونه قَلِيلا فَدخلت عَلَيْهِ ودنوت مِنْهُ وَقلت لَهُ يَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْك إِنَّه قد اقْترب أَجلي وَأُرِيد مِنْك أَن تلبس قَمِيصِي هَذَا لآمر بتكفيني فِيهِ بعد الْمَوْت فَعَسَى الله أَن يقيني بِهِ حر جَهَنَّم فَرَأَيْت الْقَمِيص على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ لم أره ثمَّ قَامَ رَسُول الله إِلَى مَوضِع آخر وَرَأَيْت صَدره مكشوفا لَا قَمِيص عَلَيْهِ فدنوت مِنْهُ وعانقته وعانقني وألزقت صَدْرِي إِلَى صَدره حَتَّى حسست خشونة شعر صَدره بصدري وَجعلت فمي إِلَى فَمه وهممت أسأله يبزق فِي فمي وَقلت لَهُ سل الله أَن يجمع بيني وَبَيْنك فِي الرفيق الْأَعْلَى وَهُوَ مَعَ ذَلِك يضمني إِلَى صَدره ويجيبني إِلَى مَا أسأله وَيَدْعُو لي وَأَنا أضمه إِلَى صَدْرِي ثمَّ قَامَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى مَوضِع آخر وَقَعَدت بَين يَدَيْهِ وَأَقْبل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَليّ يعرض لي بِشَيْء أهبه لامْرَأَة كَانَت بَين يَدَيْهِ وَقت دخولي عَلَيْهِ فَنَظَرت إِلَيْهَا وَفتحت صرارا كَانَت بثوبي فَقلت لَهُ وَالله يَا رَسُول الله مَا معي إِلَّا هَذَا وَوجدت بالصرا دينارين مطوقين ودريهمات نَحْو عشْرين لم أعدهَا وسلمت ذَلِك إِلَيْهِ وانتهيت
وَكنت قد رَأَيْته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد الْقيام الأول وَلبس الْقَمِيص قد تنَاول من مَوضِع آخر منديلا مدرحاد منقشا مطرزا بأحمر فَقلت فِي نَفسِي كَأَنَّهُ يُرِيد أَن يرد عَليّ الْقَمِيص ويهب لي المنديل ثمَّ مضى إِلَى الْموضع الثَّانِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَزَقَنِي الله شَفَاعَته وَلَا حرمني النّظر إِلَيْهِ فِي الْآخِرَة بمنه وَكَرمه وَقد تركت الْقَمِيص وأوصيتهم يكفنوني بِهِ
قَالَ الشِّيرَازِيّ وَهُوَ الَّذِي روى الْخَبَر عَن هَذَا أبي الْخطاب وَقد سألناه إِخْرَاج الْقَمِيص فَأخْرجهُ ولبسناه وأعطانا مِنْهُ شَيْئا
قَالَ الشِّيرَازِيّ وَسمعت مِنْهُ أَيْضا قَالَ رَأَيْت كَأَنِّي دخلت دَارا فَلَقِيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِما تَحت الدَّار بَين ثَانِي حَانُوت وَمَعَهُ جمَاعَة أعرف بَعضهم وهم قيام لقِيَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ بالموضع سراج موقد فَقلت يَا رَسُول الله قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى {إِن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ} وروينا عَنْك أَنَّك قلت ادخرت(1/217)
شَفَاعَتِي لمن يعْمل الْكَبَائِر من أمتِي فَإِذا كَانَ الله قد سامحنا فِي الصَّغِيرَة وشفعت لنا أَنْت فِي الْكَبِيرَة فَنحْن إِذا نرجو من الله الرَّحْمَة فَقَالَ لي كَذَا هُوَ قَالَ الشِّيرَازِيّ أَيْضا وسمعته يَقُول مرّة رَأَيْت فِي تَفْسِير النقاش عَن حميد عَن أنس قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة تَحت الْعَرْش فِي ظلّ الله يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظله قلت من هم يَا رَسُول الله قَالَ من فرج عَن مكروب من أمتِي وَأَحْيَا سنتي وَأكْثر الصَّلَاة عَليّ
وَأَخذه لسنن أبي قُرَّة عَن الْمُغيرَة الْعَدنِي مقدم الذّكر وَكَانَت وَفَاته تَقْرِيبًا نَحْو الْعشْرين وأربعمئة
وَمن نَاحيَة الْجند قَرْيَة تسمى الصردف هِيَ شرقيها تَحت الْجَبَل الْمَعْرُوف بسورق بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَإِسْكَان الْوَاو بعْدهَا رَاء مَفْتُوحَة وقاف والصردف بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة الْمُشَدّدَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الدَّال الْمُهْملَة ثمَّ فَاء مُوَحدَة وَهِي إِحْدَى الْقرى الْمُبَارَكَة بِكَثْرَة الْفُقَهَاء فِيمَا تقدم وَبهَا إِلَى الْآن مَسْجِد جَامع مشهود لَهُ بِالْبركَةِ وَفِي جنبه الشَّرْقِي من خَارجه قبر الْفَقِيه عبد الله بن زيد العريقي صَاحب الْمُهَذّب الَّذِي صنفه فِي الْفِقْه صرف عَنهُ الْقَوْلَيْنِ والوجهين ويقاربه قبر الْفَقِيه إِسْحَاق الصردفي الْآتِي ذكرهمَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى غربي الْمَسْجِد الْمَذْكُور فِي الْجَبَل الْمُقَابل للقرية وَالْمَسْجِد
قَالَ ابْن سَمُرَة وَكَانَ بالقرية الْمَذْكُورَة وَهِي على ثلث مرحلة من مَدِينَة الْجند جمَاعَة فُقَهَاء متقدمون يعْرفُونَ بآل زرقان وزرقان بطن من مُرَاد من مشهورهم أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عَليّ الزّرْقَانِيّ كَانَ فَقِيها كَبِيرا رحالا فِي طلب الْعلم وَكَانَت لَهُ أراض كَثِيرَة مِنْهَا فِي قريته الْمَذْكُورَة وَمِنْهَا فِي معشار الْجند وَمِنْهَا فِي(1/218)
الشعبانية وَهِي عزلة كَبِيرَة ضَبطهَا بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ ألف وخفض النُّون وَفتح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ هَاء سَاكِنة وَهُوَ صقع كَبِير ينْسب الْآن إِلَى حصن تعز
وارتحل هَذَا الْفَقِيه إِلَى مَكَّة سنة ثَلَاث وَخمسين فَسمع فِيهَا عَن الأسيوطي عَن الطَّحَاوِيّ عَن الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي وَسمع فِي رحلته أَيْضا عَن أبي الْعَبَّاس الْكِنْدِيّ وَلما قدم أَبُو زيد الْمروزِي إِلَى ذمار من أَرض الْيمن ارتحل هَذَا الْفَقِيه إِلَيْهِ فَأخذ عَنهُ صَحِيح البُخَارِيّ وَأخذ عَن هَذَا جمَاعَة أَعنِي الْفَقِيه عبد الله فَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ الْقَاسِم بن مُحَمَّد الْقرشِي الْآتِي ذكره وَكَانَ من الْأَئِمَّة الْمَعْدُودين فِي الْيمن وَهُوَ من الْمُتَقَدِّمين فِي نشر مَذْهَب الشَّافِعِي وَهَذَا جملَة مَا استطعته من ذكر أَحْوَاله
وَقد عرض مَعَ ذكره جمَاعَة من الْأَعْيَان أَحْبَبْت بَيَان اللَّائِق مِمَّا صَحَّ لدي من أخبارهم
أما أَبُو زيد الْمروزِي فَلم يعرف بذلك أَعنِي الْإِسْلَام غير مُحَمَّد بن أَحْمد عبد الله الْمروزِي صَاحب أبي إِسْحَاق ذكره الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي طبقاته وَقَالَ كَانَ حَافِظًا للْمَذْهَب حسن النّظر فِيهِ مَشْهُورا بالزهد وَعنهُ أَخذ فُقَهَاء مرو
وَمِنْهُم الْقفال وَكَانَت وَفَاته بمرو سنة إِحْدَى وَسبعين وثلثمئة برجب(1/219)
وَمِنْهُم الأسيوطي وَهُوَ أَبُو عَليّ الْحسن بن الْخضر الأسيوطي بَلَدا تفقه بالطحاوي
وَمِنْهُم أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن مُحَمَّد بن سَلامَة بن عبد الْملك الْأَزْدِيّ نسبا الطَّحَاوِيّ بَلَدا نِسْبَة إِلَى بلد اسْمهَا طحا بِفَتْح الطَّاء والحاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَهِي بلد بصعيد مصر مولده سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَقيل سنة سبع وَعشْرين ومئتين وَهُوَ ابْن أُخْت الْمُزنِيّ وَكَانَ قد تفقه عَلَيْهِ بِمذهب الشَّافِعِي فَذكرُوا أَنه غضب عَلَيْهِ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ وَالله لَا أفلحت أَو لَا جَاءَ مِنْك شَيْء فَغَضب لذَلِك وانتقل إِلَى صُحْبَة أبي جَعْفَر بن أبي عمرَان الْحَنَفِيّ واشتغل عَلَيْهِ بمذهبه وَصَارَ صَدرا فِيهِ ورأسا ودرس وَإِلَيْهِ انْتَهَت رئاسة أَصْحَاب أبي حنيفَة بِمصْر وصنف فِي مَذْهَبهم كتبا مفيدة وَمَعَ ذَلِك كَانَ لَهُ شعر رائق مِنْهُ مَا كتبه جَوَابا لأبيات وَردت إِلَيْهِ وَهِي ... أَبَا جَعْفَر مَاذَا تَقول فَإِنَّهُ ... إِذا نابنا خطب عَلَيْك نعول
وَلَا تنكرن قولي وأبشر برحمة ... من الله فِي الْأَمر الَّذِي عَنهُ نسْأَل
أَفِي الْحبّ عَار لَا بل الْعَار تَركه ... وَهل من لحا أهل الصبابة يجهل
وَهل من مُبَاح فِيهِ قتل متيم ... يهاجره أحبابه ويواصل
فرأيك فِي رد الْجَواب فإنني ... بِمَا فِيهِ يقْضى أَيهَا الشَّيْخ أفعل ... فَأجَاب عَنهُ فِي ظهر الرقعة الْوَاصِلَة ... سأقضي قَضَاء فِي الَّذِي عَنهُ تسْأَل ... وَأحكم بَين العاشقين فأعدل
فديتك مَا فِي الْحبّ عَار عَلمته ... وَلَا الْعَار ترك الْحبّ إِن كنت تعقل
وَلكنه إِن مَاتَ فِي الْحبّ لم يكن ... لَهُ قَود عِنْدِي وَلَا مِنْهُ يعقل
وَمهما لحا فِي الْحبّ لَاحَ فَإِنَّهُ ... لعمرك عِنْدِي من ذَوي الْجَهْل أَجْهَل
ووصلك من تهوى وَإِن صد وَاجِب ... عَلَيْك كَذَا حكم المتيم يفعل
فَهَذَا جَوَاب فِيهِ عِنْدِي قناعة ... لما جِئْت عَنهُ أَيهَا الشَّيْخ تسْأَل ... وَأخذ عَنهُ جمَاعَة مَذْهَب الشَّافِعِي بِأَخْذِهِ لَهُ عَن خَاله وَإِن كَانَ قد شهر عَنهُ(1/220)
الْخُرُوج فقد ثَبت لنا عَن جمَاعَة من الصُّدُور أَنه كَانَ يدرس المذهبين مَعَ غَلَبَة أَحدهمَا عَلَيْهِ
وَلما صَار صَدرا لمَذْهَب أبي حنيفَة كَانَ يَقُول رحم الله أَبَا إِبْرَاهِيم يَعْنِي خَاله لَو كَانَ حَيا لكفر عَن يَمِينه يَعْنِي قَوْله وَالله لَا أفلحت وَقد مضى
قَالَ شَيخنَا رَحمَه الله مَا أرَاهُ كَانَ يكفر عَنْهَا لِأَنَّهُ لم يفلح إِذْ المعتقد أَنه انْتقل من الصَّوَاب إِلَى الْخَطَأ فَمن يعْتَقد فِيهِ ذَلِك لم تجب الْكَفَّارَة على عدم فلاحه وَكَانَت وَفَاته يَعْنِي الطَّحَاوِيّ بِأحد شهور سنة إِحْدَى وَعشْرين وثلثمئة
وَأما شيخ الطَّحَاوِيّ فِي الْمَذْهَب فَهُوَ أَبُو إِبْرَاهِيم إِسْمَاعِيل بن يحيى بن إِسْمَاعِيل بن عَمْرو بن إِسْحَاق الْمُزنِيّ نِسْبَة إِلَى قَبيلَة من الْعَرَب تسمى مزينة بِضَم الْمِيم وَفتح الزَّاي وَسُكُون الْيَاء مثناة من تَحت وَفتح النُّون ثمَّ هَاء وهم جمع كثير وأصل بَلَده مصر وَكَانَ إِمَام الشَّافِعِيَّة وأعرفهم بمذهبه وأنقلهم لأقواله وَكَانَ زاهدا ورعا محجاجا مُجْتَهدا غواصا على دقائق الْفِقْه عَالما بجلائله
قَالَ الْأنمَاطِي قَالَ الْمُزنِيّ أَنا مُنْذُ خمسين سنة أنظر فِي كتاب الرسَالَة للشَّافِعِيّ مَا نظرت فِيهِ مرّة إِلَّا اسْتَفَدْت مِنْهُ فَائِدَة لم أستفدها قبل ذَلِك وَكَانَ كثير الْعِبَادَة لُزُوما للسّنة من أعرف النَّاس بِإِرَادَة الشَّافِعِي وفيا بِحَيْثُ يقدم نَقله عَنهُ على كل نقل وَذَلِكَ لعدالته وتحقيقه لمذهبه وَعنهُ وَبِه انْتَشَر مذْهبه انتشارا كَامِلا قَالَ الشَّافِعِي فِي حق الْمُزنِيّ نَاصِر مذهبي وَله عدَّة مصنفات مِنْهَا الجامعان الصَّغِير وَالْكَبِير ومختصر الْمُخْتَصر والمنثور والمسائل الْمُعْتَبرَة وَالتَّرْغِيب فِي الْعلم وَكتاب الوثائق وَكَانَ فِي أثْنَاء تصنيفه فِي كِتَابه الْمُخْتَصر كلما فرغ مَسْأَلَة قَامَ إِلَى الْمِحْرَاب وَصلى رَكْعَتَيْنِ شكرا لله وانتفع النَّاس بِهَذَا الْمُخْتَصر انتفاعا لم يكن لَهُ نَظِير وَأقَام أهل مَذْهَب الشَّافِعِي عَلَيْهِ عاكفين وَله دارسين وَبِه مطالعين دهرا ثمَّ كَانُوا بَين شَارِح مطول ومختصر مقلل والجميع مِنْهُم معترف أَنه لم يدْرك من حقائقه غير(1/221)
الْيَسِير حَتَّى قَالَ الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس بن سُرَيج الْآتِي ذكره يخرج مُخْتَصر الْمُزنِيّ من الدُّنْيَا بكرا لم يفتض لِأَنَّهُ كَانَ من أعرف النَّاس بِهِ وَكَانَ لَا يُفَارق حمله وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ بقوله ... صديق فُؤَادِي مُنْذُ عشْرين حجَّة ... وصيقل ذهني والمفرج عَن همي ... وهما بيتان يأتيان فِي تَرْجَمَة ابْن سُرَيج
وَكَانَ هَذَا الْمُخْتَصر أول مُصَنف صنف فِي مَذْهَب الشَّافِعِي وَكَانَ الْمُزنِيّ شَدِيد الْوَرع ذكرُوا أَنه أَقَامَ دهرا لَا يشرب إِلَّا بكوز من نُحَاس وَسُئِلَ عَن سَببه فَقَالَ بَلغنِي أَنهم يخلطون بالطين سرجينا فَلم تطب نَفسِي بالشرب مِنْهُ لِأَن النَّار لَا تطهره وَكَانَ مَتى فَاتَتْهُ صَلَاة الْجَمَاعَة صلى مُنْفَردا خمْسا وَعشْرين صَلَاة مستدركا لفضل الْجَمَاعَة ومستشهدا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة الْجَمَاعَة أفضل من صَلَاة أحدكُم بِخمْس وَعشْرين دَرَجَة ومناقب الْمُزنِيّ أجل من أَن تحصى وَكَانَت وَفَاته بِمصْر سنة أَربع وَسِتِّينَ ومئتين وَدفن على قرب من تربة الشَّافِعِي
وَقد انْتهى بَيَان اتِّصَال هَذَا الْفَقِيه بِإِمَام الْمَذْهَب وَلم يبْق إِلَّا الْعود إِلَى تَتِمَّة الْفُقَهَاء
ثمَّ صَار الْعلم إِلَى طبقَة أُخْرَى مِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يحيى بن سراقَة العامري نسبا الْمعَافِرِي بَلَدا
ارتحل إِلَى الْعرَاق وَأخذ بهَا عَمَّن أَخذ عَن ابْن اللبان الْفَرَائِض وَكَانَ إِمَامًا فِيهَا وَله فِيهَا مصنفات وَأدْركَ الشَّيْخ أَبَا حَامِد الإسفرائيني وَأخذ عَنهُ وَله مصنفات فِي الْفِقْه مِنْهَا مُخْتَصر سَمَّاهُ بِمَا لَا يسع الْمُكَلف جَهله وَآخر سَمَّاهُ آدَاب الشَّاهِد وَمَا يثبت بِهِ الْحق على الجاحد وَبِه تفقه جمَاعَة من أهل الْيمن
مِنْهُم أَبُو الْفتُوح بن ملامس الْآتِي ذكره وَلم يكن يذكر الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي طبقاته من متأخري الْيمن غَيره أَعنِي ابْن سراقَة
وَقد عرض مَعَ ذكره رجلَانِ من الْأَعْيَان هما ابْن اللبان وَالشَّيْخ أَبُو حَامِد فَأَما ابْن اللبان فَهُوَ أَبُو الْحسن بن اللبان قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي حَقه كَانَ إِمَامًا فِي(1/222)
الْفَرَائِض وَالْفِقْه وَله مصنفات كَثِيرَة غالبها فِي الْفَرَائِض وَعنهُ أَخذ النَّاس فِي الْفَرَائِض فَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ أَبُو حَامِد بن أبي مُسلم الفرضي شيخ الْفَقِيه أبي حَامِد الإسفرائيني فِي الْفَرَائِض خَاصَّة وَابْن سراقَة وَأَبُو الْحسن أَحْمد بن مُحَمَّد بن يُوسُف الكازروني الَّذِي لم يكن فِي عصره أفرض مِنْهُ وَلَا أَحسب مِنْهُ وَكَانَ الشَّيْخ ابْن اللبان يَقُول لَيْسَ فِي الأَرْض فَرضِي إِلَّا من أَصْحَابِي أَو أَصْحَاب أَصْحَابِي أَو لَا يحسن شَيْئا وَلم يذكر الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق لَهُ تَارِيخا وَلَا تحققت من غَيره ذَلِك
وَأما الشَّيْخ أَبُو حَامِد فَهُوَ أَحْمد بن أبي الطَّاهِر مُحَمَّد بن أَحْمد الإسفرائيني مولده بِأحد شهور سنة أَربع وَأَرْبَعين وثلاثمئة بإسفرائين بَلْدَة من خُرَاسَان من نواحي نيسابور وإسفرائين بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء وَالرَّاء وَألف ثمَّ خفض الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ نون
قدم بَغْدَاد فِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وتفقه بهَا تفقها جيدا وَفِي سنة سبعين رَأس ودرس وَأفْتى وَإِلَيْهِ انْتَهَت رئاسة أَصْحَاب الشَّافِعِي وَكَانَ إِمَام عصره وأوحد مصره
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي حَقه إِلَيْهِ انْتَهَت رئاسة الدّين وَالدُّنْيَا بِبَغْدَاد وَكَانَت حلقته تجمع أَكثر من ثلثمئة متفقه وَله على الْمُخْتَصر تعاليق يحسن نظرها وطبق الأَرْض بالأصحاب وَله عدَّة مصنفات مِنْهَا التعليقة الْكُبْرَى ثمَّ الْبُسْتَان والرونق مختصران
قَالَ ابْن خلكان أجمع أهل عصره على تَقْدِيمه وتفضيله لجودة النّظر الفقهي حَتَّى قَالَ الْقَدُورِيّ أحد أَصْحَاب أبي حنيفَة الْمُتَأَخِّرين فِيمَا يُرَاجع بِهِ هُوَ وَبَعض الْفُقَهَاء الشَّيْخ أَبُو حَامِد عِنْدِي أفقه وَأنْظر من الشَّافِعِي
قَالَ جمَاعَة من الْأَصْحَاب الَّذين بَلغهُمْ قَول الْقَدُورِيّ إِنَّمَا قَالَ الْقَدُورِيّ مَا قَالَ تعصبا على الشَّافِعِي وَحسن اعْتِقَاده فِي الشَّيْخ أبي حَامِد فَإِن أَبَا حَامِد وَمن ناظره من الشَّافِعِي بِمَنْزِلَة كَمَا قَالَ الأول ... نزلُوا بِمَكَّة فِي قبائل نَوْفَل ... وَنزلت فِي الْبَيْدَاء أبعد منزل ...(1/223)
وَكَانَت وَفَاته بِبَغْدَاد لَيْلَة السبت لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من شَوَّال سنة سِتّ وأربعمئة فَدفن بداره ثمَّ نقل إِلَى مَقْبرَة بَاب جرب سنة عشر وأربعمئة
وَمِنْهُم أَبُو بكر بن المضرب سكن مَدِينَة زبيد وَكَانَ بهَا فُقَهَاء كَثِيرُونَ إِلَيْهِ ارتحل الْقَاسِم بن مُحَمَّد الْقرشِي من سهفنة كَمَا سَيَأْتِي وَأخذ الْفِقْه عَن رجل يُقَال لَهُ ابْن الْمثنى بِحَق أَخذه عَن الْمروزِي بِأَخْذِهِ عَن أبي إِسْحَاق الْمروزِي عَن ابْن سُرَيج عَن الْأنمَاطِي عَن الْمُزنِيّ وَالربيع كِلَاهُمَا عَن الشَّافِعِي
وَلما كَانَ ابْن المضرب شيخ الطَّبَقَة هُوَ وَالقَاسِم الْقرشِي أَحْبَبْت ذكر الْمُحَقق من أَحْوَاله وَبَيَان اتِّصَاله بِالْإِمَامِ كَمَا تقدم
وَأما ابْن الْمثنى فَلم أتحقق من أَحْوَاله شَيْئا
وَأما الْمروزِي فشيخه هُوَ أَبُو حَامِد أَحْمد بن عَامر بن بشر بن حَامِد الْمروزِي أحد عُلَمَاء الشَّافِعِيَّة صنف الْجَامِع فِي الْمَذْهَب وَشرح الْمُخْتَصر وصنف فِي أصُول الْفِقْه وَسكن الْبَصْرَة وَعنهُ أَخذ فقهاؤها ونسبته إِلَى مرو الروذ الْبَلَد الَّتِي تقدم ذكرهَا عِنْد ذكر ابْن رَاهَوَيْه حِين ذكرته فِي من قدم على عبد الرَّزَّاق وَكَانَت وَفَاته بِالْبَصْرَةِ سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وثلثمئة
وَأما شَيْخه أَبُو إِسْحَاق فَهُوَ إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن إِسْحَاق الْمروزِي كَانَ إِمَام عصره فِي الْفَتْوَى والتدريس وتفقه بِابْن سُرَيج كَمَا مضى وبرع فِي الْفِقْه
قَالَ ابْن خلكان فِي حَقه إِلَيْهِ انْتَهَت رئاسة الْفِقْه بالعراق بعد ابْن سُرَيج وصنف كتبا كَثِيرَة وَشرح مُخْتَصر الْمُزنِيّ بِبَغْدَاد وصنف فِي الْأُصُول وَعنهُ أَخذ الْأَئِمَّة وانتشر الْفِقْه عَن أَصْحَابه فِي الْبِلَاد وَمن أحسن مَا ذكر عَنهُ من الشّعْر أَنه سمع مِنْهُ من يَقُول ... لَا يغلون عَلَيْك الْحَمد فِي ثمن ... فَلَيْسَ حمدا وَإِن أثمنت بالغالي
الْحَمد يبْقى على الْأَيَّام مَا بقيت ... وَيذْهب الدَّهْر بِالْأَيَّامِ وَالْمَال ...(1/224)
وَخرج إِلَى مصر فِي آخر عمره فَتوفي بهَا لسبع خلون من رَجَب سنة أَرْبَعِينَ وثلثمئة وَدفن على قرب من تربة الشَّافِعِي
وَأما شَيْخه ابْن سُرَيج فَهُوَ أشهر أَئِمَّة الشَّافِعِيَّة ميلاده سنة ثَمَان وَقيل سبع وَأَرْبَعين ومئتين قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي حَقه كَانَ من عُظَمَاء الشافعيين وأئمة الْمُسلمين حَتَّى كَانَ يُقَال لَهُ الباز الْأَشْهب ولي الْقَضَاء بشيراز وَهُوَ أول من وليه من أَصْحَاب الشَّافِعِي حَتَّى كَانُوا يعاتبونه وَيَقُولُونَ لَهُ لم يكن هَذَا يعرف فِي أَصْحَاب الشَّافِعِي إِنَّمَا كَانَ الْقَضَاء فِي غَيرهم وَكَانَ يفضل على أكَابِر الْأَصْحَاب حَتَّى على الْمُزنِيّ وَكَانَ لَا يزَال حَامِلا لمختصر الْمُزنِيّ فِي كمه وَفِيه يَقُول ... صديق فُؤَادِي مُنْذُ عشْرين حجَّة ... وصيقل ذهني والمفرج عَن همي
عَزِيز على مثلي إِعَارَة مثله ... لما فِيهِ من علم لطيف وَمن فهم
جموع لأصناف الْعُلُوم بأسرها ... حقيق على أَن لَا يُفَارِقهُ كمي ... واشتملت فهرست مصنفاته تزيد على أربعمئة مُصَنف وَقَامَ بنصرة مَذْهَب الشَّافِعِي قيَاما مرضيا ورد على مخالفيه وناظرهم وَبَالغ فِي ذَلِك وَفرع على كتب مُحَمَّد بن الْحسن وَكَانَ مُعظم مناظرته لأبي بكر بن دَاوُد الظَّاهِرِيّ حُكيَ أَنه قَالَ لَهُ يَوْمًا وهما فِي المناظرة أبلعني ريقي فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس أبلعتك دجلة وَقَالَ لَهُ يَوْمًا أُكَلِّمك من الرجل فتجيبني من الرَّأْس فَقَالَ لَهُ هَكَذَا الْبَقر إِذا حفيت أظلافها دهنت قُرُونهَا
وَقَالَ لَهُ يَوْمًا أمهلني سَاعَة فَقَالَ أمهلتك إِلَى يَوْم السَّاعَة
وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد الْمُقدم ذكره يَقُول نَحن نجري مَعَ أبي الْعَبَّاس فِي ظواهر الْفِقْه دون دقائقه وَعَن ابْن سُرَيج أَخذ فُقَهَاء الْإِسْلَام وانتشر مَذْهَب الشَّافِعِي(1/225)
فِي جَمِيع الْآفَاق وافتقد قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله يبْعَث لهَذِهِ الْأمة على رَأس كل مئة من يجدد لَهَا معالم دينهَا
قَالَ ابْن خلكان فَكَانَ يُقَال فِي عصره إِن الله بعث عمر بن عبد الْعَزِيز على رَأس المئة من الْهِجْرَة فأظهر كل سنة وأمات كل بِدعَة وَمن الله على رَأس المئتين بِالْإِمَامِ الشَّافِعِي فأظهر السّنة وأخفى الْبِدْعَة وَمن الله تَعَالَى على رَأس الثلاثمائة بِأبي الْعَبَّاس بن سُرَيج فَقَوِيت بِهِ كل سنة وضعفت بِهِ كل بِدعَة وَذَلِكَ من ابْن خلكان إِشَارَة إِلَى الْخَبَر الْمُتَقَدّم
وَكَانَ لَهُ مَعَ فضائله نظم حسن هَكَذَا قَالَ ابْن خلكان وَكَانَت وَفَاته لخمس بَقينَ من جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وثلثمئة بِبَغْدَاد وَدفن بسويقة غَالب بالجانب الغربي بِالْقربِ من محلّة الكرخ وعمره سَبْعَة وَخَمْسُونَ سنة وَسِتَّة أشهر
وَحكي أَن سَبَب الْبركَة فِيهِ أَن جده سُرَيج كَانَ رجلا صَالحا اشْتهر بالصلاح الوافر وَكَانَ رجلا أعجميا لَا يعرف من الْعَرَبيَّة شَيْئا فَرَأى الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي مَنَامه وَكَانَ لَهُ مِنْهُ خطاب قَالَ لَهُ فِي الْأَخير يَا سُرَيج طلب كن فَقَالَ يَا خداي سر بسر قَالَهَا ثَلَاثًا وَهَذَا لفظ أعجمي مَعْنَاهُ بِالْعَرَبِيَّةِ يَا سُرَيج اطلب فَقَالَ يَا رب رَأس بِرَأْس كَمَا يُقَال رضيت أَن أخْلص رَأْسا بِرَأْس
وَأما شَيْخه الْأنمَاطِي فَهُوَ أَبُو الْقَاسِم عُثْمَان بن سعيد بن بشار الْأنمَاطِي نِسْبَة إِلَى الأنماط وَبَيْعهَا وَهِي الْبسط الَّتِي تفرش وَقيل اسْمه عبيد الله بن أَحْمد بن بشار قَالَه ابْن خلكان عَن أبي حَفْص عمر بن عَليّ المطوعي فِي كِتَابه الْمُهَذّب فِي ذكر أَئِمَّة الْمَذْهَب بعد أَن صدر كَلَامه بتسميته بعثمان تفقه بِمصْر على الْمُزنِيّ والمرادي
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق كَانَ هُوَ سَبَب نشاط النَّاس بِبَغْدَاد لتحفظ كتب مَذْهَب الشَّافِعِي والمثابرة عَلَيْهَا وَبِه تفقه ابْن سُرَيج وَكَانَ إِمَامًا مُبَارَكًا كَبِيرا وَكَانَت وَفَاته بِبَغْدَاد سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ ومئتين(1/226)
وَأما شيخاه الْمُزنِيّ وَالربيع فالمزني قد تقدم ذكره فِي طبقَة الزّرْقَانِيّ وَأما الرّبيع فَهُوَ أَبُو مُحَمَّد الرّبيع بن سُلَيْمَان بن عبد الْجَبَّار بن كَامِل الْمرَادِي بِالْوَلَاءِ الْمُؤَذّن الْمصْرِيّ صَاحب الإِمَام الشَّافِعِي وراوي أَكثر كتبه قَالَ الشَّافِعِي فِي حَقه الرّبيع راويتي وَقَالَ مَا أَخذ مني أحد مَا أَخذ مني الرّبيع
وَكَانَ يَقُول يَا ربيع لَو أمكنني أَن أطعمك الْعلم لأطعمتك وَقَالَ دخلت على الشَّافِعِي فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَعِنْده الْبُوَيْطِيّ والمزني وَابْن عبد الحكم فَنظر إِلَيْنَا ثمَّ قَالَ أما أَنْت يَا أَبَا يَعْقُوب يَعْنِي الْبُوَيْطِيّ فتموت فِي حديدك وَأما أَنْت يَا مزني فسيكون لَك فِي مصر هَنَات وهنات لتذكرن زَمَانا تكون فِيهِ أَقيس أهل زَمَانك وَأما أَنْت يَا ابْن عبد الحكم فنسترجع إِلَى مَذْهَب مَالك وَأما أَنْت يَا ربيع فَأَنت أنفعهم لي فِي نشر الْكتب فَلَمَّا مَاتَ صَار كل مِنْهُم إِلَى مَا قَالَه الشَّافِعِي حَتَّى كَأَنَّهُ ينظر إِلَى الْغَيْب من ستر رَقِيق
توفّي الرّبيع هَذَا بِمصْر يَوْم الِاثْنَيْنِ لعشر بَقينَ من شَوَّال سنة سبعين ومئتين وَقد شرك هَذَا فِي الاسمية وصحبة الشَّافِعِي ربيع آخر هُوَ أَبُو مُحَمَّد الرّبيع بن سُلَيْمَان بن دَاوُد الْأَعْرَج الْأَزْدِيّ بِالْوَلَاءِ نسبا الجيزي بَلَدا فاتفقا فِي الكنية والاسمية والأبوة وَاخْتلفَا بالأجداد تَسْمِيَة وَنسبَة كَمَا هُوَ مشَاهد فالجيزي نِسْبَة إِلَى الجيزة بِكَسْر الْجِيم وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَبعدهَا زَاي ثمَّ هَاء بَلْدَة قبالة مصر يفصل بَينهمَا عرض النّيل والأهرام الْبناء الْمَشْهُور فِي حَدهَا وَكَانَ الرّبيع هَذَا قَلِيل الرِّوَايَة عَن الشَّافِعِي وَجل رِوَايَته عَن عبد الله بن عبد الحكم وَكَانَ ثِقَة روى عَنهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فِي ذِي الْحجَّة سنة سِتّ وَخمسين(1/227)
ومئتين وَلم أورد ذكره إِلَّا لِأَنَّهُ كثيرا مَا يشْتَبه بِالربيعِ الْمرَادِي وَكنت مِمَّن يَقع عَلَيْهِ ذَلِك وَقد انْتهى اللَّائِق من الطَّبَقَة الثَّانِيَة من أهل الْيمن أَعنِي من الَّذين انْتَشَر عَنْهُم مَذْهَب الإِمَام الشَّافِعِي
وَمِمَّنْ قدم زبيد وَصَارَ لَهُم ذكر فِي الْعلم وذرية يشهرون بِهِ فِي طبقَة ابْن المضرب وَقَبله الْقُضَاة بَنو أبي عقامة فَأَما جدهم القادم فَهُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن هَارُون وَقد مضى بَيَان حَاله قبل ذكر الشَّافِعِي وَلَا أعلم مَا كَانَ مذْهبه وَإِن كنت قدمت ذكره فِي الطَّبَقَة وَلم أتحقق من كَانَ فِي طبقَة ابْن المضرب مِنْهُم من تحققت ذكر الْحسن وَجَمَاعَة يَأْتِي ذكرهم إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَإِن طبقَة الْحسن مُتَأَخِّرَة إِذْ كَانَ وجوده فِي آخر المئة الْخَامِسَة كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَمن المعافر عبد الْعَزِيز بن الربحي من حرازة قَرْيَة بالمعافر بِضَم الْحَاء وَفتح الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ ثمَّ ألف وَفتح الزَّاي ثمَّ هَاء سَاكِنة صحب أَبَا عمرَان الْمَذْكُور أَولا وتفقه بِهِ وَهُوَ أحد شُيُوخ الْقَاسِم أَخذ عَنهُ كتاب الْمُنْتَقى فِي سنة تسعين وثلثمئة
وَقد انْقَضى ذكر من تحققته أَهلا للذّكر لم يبْق إِلَّا الطَّبَقَة الثَّالِثَة من أهل مَذْهَب الإِمَام الشَّافِعِي
فأبدأ بِالْإِمَامِ المشتهر الْبركَة وَهُوَ الَّذِي عَمت بركته واشتهرت رئاسته أَبُو مُحَمَّد الْقَاسِم ابْن مُحَمَّد بن عبد الله الجُمَحِي الْقرشِي ثمَّ السهفني وَالنِّسْبَة الأولى ظَاهِرَة
وَأما الثَّانِيَة فنسبة إِلَى قَرْيَة السهفنة قبلي الْجند على ثلث مرحلة مِنْهَا بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء وَفتح الْفَاء وَالنُّون ثمَّ هَاء سَاكِنة وَفِي النَّاس من يحذف(1/228)
الْهَاء الأولى وَهِي مولد الْفَقِيه الْمَذْكُور إِذْ خرج أَهله من مَكَّة لاخْتِلَاف وَقع بَين مُلُوكهمْ فسكنوا الْقرْيَة الْمَذْكُورَة أَخذ فِي بدايته عَن عبد الله بن عَليّ الزّرْقَانِيّ ثمَّ انْتقل إِلَى زبيد فَأخذ عَن ابْن المضرب وَعَاد الْجَبَل فَأخذ عَن ابْن ربحي صَاحب حرازة الْمُقدم ذكره وتدير قريته سهفنة وَهِي إِحْدَى قرى الْجبَال الْمَقْصُودَة لطلب الْعلم من عصر هَذَا الرجل إِلَى عصرنا لم تكد تَخْلُو عَن فَقِيه مدرس وطلبة مجتهدين حَتَّى استولى عَلَيْهَا بعض الصعبيين فصرف وَقفهَا فِي غير وَجهه فصرف الله عَنهُ الْبركَة وَلم يبْق بهَا فَقِيه من أَهلهَا وَلَا غَيرهم لاستيلاء من لَا نظر لَهُ على مَا وقف لمدرس ودرسة فَلَمَّا صَار الْقَاسِم يدرس اشْتهر ذكره وَعلا قدره وقصده طلبة الْعلم من جَمِيع أنحاء الْيمن
قَالَ ابْن سَمُرَة قَصده الطّلبَة من صنعاء ونواحيها والجند ونواحيها وعدن وَأبين ولحج ونواحيها وَمن المعافر والسحول وأحاظة وَجَمَاعَة من نَاحيَة بَلَده من مخلاف جَعْفَر كوادي ظبا وشقب وبحرانه ونواحي هَذِه الْأَمَاكِن
وَكَانَ هَذَا الْقَاسِم من عُلَمَاء الْيمن وعظمائهم انْتَشَر عَنهُ الْمَذْهَب انتشارا كَامِلا وطبق الأَرْض بالأصحاب لم يكن لأحد فِي الْمُتَقَدِّمين من أهل الْيمن أَصْحَاب كأصحابه كَثْرَة وفضلا
من أعيانهم إِسْحَاق العشاري وَعبد الْملك بن أبي ميسرَة المعافريان وجعفر بن عبد الرَّحِيم من الظرافة وَعمر بن المصوع وَولده عبد الله وَأَبُو الْمَوْت من ذِي السفال وَأَيوب بن مُحَمَّد بن كديس من ظبأ وَإِبْرَاهِيم بن أبي عمرَان من الملحمة وأسعد بن خَلاد وَمُحَمّد بن سَالم الأشرقيان
وَلما أَرَادَ ابْن سَمُرَة إِفْرَاد ذكره قَالَ يَنْبَغِي أَن أبدأ بطبقة الإِمَام الَّذِي أيد الله بِهِ(1/229)
الْمُسلمين وعضد بِهِ الدّين الإِمَام الْعَارِف أبي مُحَمَّد الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَحج الْقَاسِم سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وثلثمئة فرافقه فِي سَفَره ذَلِك أَحْمد بن عبد الله الصعبي جد قُضَاة سهفنة فلقي بهَا أحد المراوزة فَأخذ عَنهُ وَعَن الْحُسَيْن بن جَعْفَر المراغي ثمَّ سألاه الْقدوم مَعَهُمَا إِلَى الْيمن وبذلا لَهُ الْقيام بِمَا يَحْتَاجهُ فأجابهما إِلَى ذَلِك وأخذا عَنهُ مُخْتَصر الْمُزنِيّ وسننه وَسنَن الرّبيع وَثمّ تواليف ألفها الْحُسَيْن فِي علم الْكَلَام مِنْهَا كتاب سَمَّاهُ السَّبْعَة الأحرف وَغَيره وَكَانَت وَفَاته بالقرية الْمَذْكُورَة سنة سبع وَثَلَاثِينَ وأربعمئة وقبر بمقبرتها الشرقية تَحت أكمة حَمْرَاء هُنَالك وهنالك قُبُور كَثِيرَة بِحَيْثُ لَا يكَاد يعرف قَبره لتقادم الزَّمَان وَالْمَسْجِد الَّذِي على المخلف من سهفنة إِلَى غيلها وَيعرف مَسْجِد قَاسم نِسْبَة إِلَيْهِ هَكَذَا سَمِعت جمَاعَة من قدماء الْقرْيَة
وَمِنْهَا أَحْمد بن عبد الله الصعبي رَفِيق الْقَاسِم فِي طَرِيق مَكَّة الْمُقدم ذكره توفّي تَقْرِيبًا على رَأس أربعمئة
وَمن مخلاف جَعْفَر ثمَّ من المشيرق جمَاعَة مِنْهُم بعزلة القرانات بَنو ملامس أَوَّلهمْ أَبُو الْفَتْح يحيى بن عِيسَى بن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن ملامس كَانَ من أَعْيَان الْعلمَاء وأكابر الْفُضَلَاء تفقه بِابْن سراقَة وبالمراغي الْمَذْكُورين أَولا ثمَّ حج وَأقَام بِمَكَّة أَربع سِنِين أَو نَحْوهَا شرح مُخْتَصر الْمُزنِيّ فِي إِقَامَته بذلك ذكر الْأَصْحَاب أَنه شرح مُفِيد وَهُوَ يُوجد بِالْيمن وَكَانَ ذَا مَال كثير تزوج فِي إِقَامَته بِمَكَّة سِتِّينَ امْرَأَة وَلما عزم ابْنه على الْحَج استأذنه فِي الْمُجَاورَة فَقَالَ لَهُ بِشَرْط أَنَّك مَتى أردْت النِّكَاح لَا تتَزَوَّج إِلَّا بكرا فإنني لَا آمن أَن تتَزَوَّج من كنت قد تَزَوَّجتهَا
حكى ابْن سَمُرَة أَنه قَالَ رَأَيْت بِمَكَّة الشَّيْخ أَبَا حَامِد الإسفرائيني وَعَلِيهِ ثِيَاب(1/230)
من ثِيَاب الْمُلُوك وَله مركب من مراكبهم وَالنَّاس تعظمه فَبَيْنَمَا هُوَ فِي الطّواف إِذْ سمع قَارِئًا يقْرَأ {تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض وَلَا فَسَادًا} الْآيَة فَبكى عِنْد ذَلِك وَقَالَ اللَّهُمَّ أما الْعُلُوّ فقد أردناه وَأما الْفساد فَلم نرده قَالَ ثمَّ حضرت مَعَه مجْلِس مذاكرته فَألْقى عَليّ سِتِّينَ مَسْأَلَة فأجبته عَن الْجَمِيع غير مكترث وَلَا مخيب بقولين عَن وَجْهَيْن وَلَا بِوَجْهَيْنِ عَن قَوْلَيْنِ ثمَّ استأذنته بالإلقاء عَلَيْهِ فَأذن لي فَكَانَ كثيرا مَا يجيبني بِمَسْأَلَة الْقَوْلَيْنِ بِوَجْهَيْنِ وَتارَة بِالنَّصِّ وَتارَة بِالنّظرِ ثمَّ لما علم أَنِّي استقصرت حفظه قَالَ لي مَا أَنْت إِلَّا ذكي فطن فاهم تصلح لطلب الْعلم فَهَل لَك أَن تروح معي بَغْدَاد وأجعلك ملقى مدرستي وأعز أَصْحَابِي عِنْدِي فَلم أَزْد على شكره فِي تَحْسِين قَوْله إجلالا للْعلم وَأَهله واعتذرت بِأَنِّي لم أخرج عَن بلدي بِهَذِهِ النِّيَّة وَكَانَت وَفَاة هَذَا الرجل بِبَلَدِهِ الْمَذْكُور بعد عشْرين وأربعمئة تَقْرِيبًا وتوارث ذُريَّته الْعلم مُدَّة وَلم يكد يعلم مِنْهُم أحد فِي عصرنا سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسبعمئة وَلَقَد بحثت عَن ذَلِك وَقت دخلت بَلَده سنة عشر وسبعمئة فَلم أجد وَلَا وجدت من يُحَقّق لي تربته لقدم الْعَهْد بِهِ وبذريته وكتبهم يُوجد الْبَعْض بأيدي ذُرِّيَّة الْهَيْثَم وَالْبَعْض مَعَ غَيرهم
والمشيرق على زنة مفيعل تَصْغِير مشرق بالشين الْمُعْجَمَة والقرانات صقع مِنْهُ بِضَم الْقَاف وَفتح الرَّاء ثمَّ ألف ثمَّ نون مَفْتُوحَة ثمَّ ألف ثمَّ تَاء مثناة من فَوق وَمن قَرْيَة السحي وَهِي أَيْضا من المشيرق بِفَتْح السِّين وخفض الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت
وَمِنْهُم جمَاعَة أَوَّلهمْ أَبُو سعيد الْهَيْثَم بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن المشيع عبد الله بن ناكور الكلَاعِي ثمَّ الْحِمْيَرِي من ولد أحاظة والمشيع بِضَم(1/231)
الْمِيم وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ عين مُهْملَة وناكور وزن فاعول مولده لثلاث عشرَة لَيْلَة خلت من الْمحرم سنة سبع وَسِتِّينَ وثلثمئة وتفقه بالمراغي وَكَانَ فَقِيها مَشْهُورا بِالْعلمِ وَله ذُرِّيَّة بورك بهَا مَا لم يُبَارك فِي غَيرهَا من ذَرَارِي الْفُقَهَاء لَا تكَاد تَخْلُو من فَقِيه يُفْتِي وحاكم يقْضِي ومدرس يقرىء وهم حكام بلدهم يتوارثون ذَلِك بَطنا بعد بطن وخلت الْقرْيَة الْمَذْكُورَة عَنْهُم من دهر طَوِيل لاخْتِلَاف عرب النَّاحِيَة فِيمَا بَينهم فانتقلوا إِلَى قَرْيَة تعرف بالحجفة ثمَّ سَار بَعضهم إِلَى مَوضِع آخر ابتنى فِيهِ مسكنا وَسَماهُ الجرينة فَالْأولى بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم وَفتح الْفَاء ثمَّ هَاء سَاكِنة وَالْأُخْرَى بِضَم الْجِيم وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَفتح النُّون ثمَّ هَاء وَلم أَقف لَهُ على تَارِيخ وَفَاته
وَمِمَّنْ ورد الْيمن وانتفع بِهِ فِيهَا وعد من أَهلهَا أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن جَعْفَر بن مُحَمَّد المراغي الَّذِي ذكرت أَولا أَنه قدم مَعَ الْقَاسِم بسؤال مِنْهُ إِلَى سهفنة وَأخذ عَنهُ جمَاعَة من الْأَصْحَاب وانتفعوا بِهِ وَحصل بَينه وَبَين ابْن سراقَة منافرة لكَلَام نقل بَينهمَا وَكَانَ متضلعا بالفقه والأصولين وَله كتاب فِي الْفِقْه سَمَّاهُ الْحُرُوف السَّبْعَة ضمنه الرَّد على الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم من أهل الْبدع وَله كتاب فِي الْفِقْه سَمَّاهُ التَّكْلِيف وَآخر مُخْتَصر سَمَّاهُ مَا لم يسع الْمُكَلف جَهله من علم الصَّلَاة ومختصر آخر يتَضَمَّن المعتقد وجدته وعلقته فَوَجَدته مُوَافق لمعتقد السّنة إِلَّا مَسْأَلَة راجعت فِيهَا بعض الأكابر لَعَلَّهَا أدخلت عَلَيْهِ فقد فعل أهل الضلال وأعداء السّنة ذَلِك مَعَه وَمَعَ كثير من الْفُضَلَاء فِي مصنفاتهم كَمَا فعل الشَّيْطَان فِي شَيْء من الْوَحْي حِين نزلت(1/232)
سُورَة {النَّجْم إِذا هوى} وَسكن آخر عمره بالوادي الْمَعْرُوف بوادي الْحَاجِب وَتُوفِّي بِإِحْدَى قريتين السُّرَّة أَو الفهنة وَكَانَ قد اشْترى بهَا أَرضًا كَثِيرَة وَلم أتحقق لَهُ تَارِيخا بل زَمَنه مَأْخُوذ من زمن الْقَاسِم وَابْن ملامس والهيثم فَإِنَّهُم تلاميذه فَاعْلَم ذَلِك
وَمن تهَامَة ثمَّ من قَرْيَة المعقر وَهِي قَرْيَة على وَادي ذؤال أحدثها الْحُسَيْن بن سَلامَة كَمَا سَيَأْتِي ذكره وَهِي بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْقَاف ثمَّ رَاء كَانَ فِيهَا جمَاعَة فُقَهَاء يعْرفُونَ بآل أبي الطلق ذكرهم عمَارَة فِي مفيده وَأثْنى عَلَيْهِم وَقَالَ هم بَيت علم وَصَلَاح وَرُوِيَ عَن رجل مِنْهُم اسْمه إِبْرَاهِيم وَقَالَ وَكَانَ وجودهم فِي آخر المئة الثَّالِثَة وَصدر الرَّابِعَة وَلم أتحقق مِنْهُم من يَنْبَغِي أَمر آخِره بل ذكر عمَارَة جمَاعَة مِمَّن ذكرته لاغير ثمَّ صَار الْعلم فِي طبقَة أُخْرَى وغالبها أَصْحَاب الْمَذْكُورين فِيمَن مضى فأعلاهم رُتْبَة وَأَكْثَرهم نشرا للْعلم أَصْحَاب الْقَاسِم
مِنْهُم أَبُو عبد الله جَعْفَر بن عبد الرَّحِيم المحابي وَقيل جَعْفَر بن أَحْمد بن(1/233)
مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم المحابي ثمَّ الكلَاعِي تفقه بالقاسم غَالِبا ثمَّ بِابْن ملامس وغالب شهرته بِالْأَخْذِ عَن الْقَاسِم وَكَانَ فَقِيها عَارِفًا محققا مبرهنا للنصوص نقالا لَهَا محققا مدققا مَسْكَنه قَرْيَة الظرافة قَرْيَة هِيَ شَرْقي الْقرْيَة الَّتِي تعرف بسهفنة الْمُقدم ذكرهَا وَهِي بِضَم الظَّاء الْمُعْجَمَة الْقَائِمَة وَفتح الرَّاء ثمَّ ألف وَفتح الْفَاء ثمَّ هَاء وَكَانَ مَعَ سَعَة علمه عابدا مَشْهُورا بالصلاح وَالْعلم وَشدَّة الْوَرع مَذْكُور وَكَانَ كثير التَّرَدُّد من بَلَده إِلَى مَدِينَة الْجند رَغْبَة فِي زِيَارَة مَسْجِدهَا ومراجعة علمائها والجند يَوْمئِذٍ بأيدي الكرنديين مُلُوك يَأْتِي ذكرهم وَكَانَ النَّائِب لَهُم فِيهَا رجل فِيهِ خير وَعبادَة يصحب الْفُقَهَاء ويحبهم وَكَانَ لَهُ بالفقه عقيدة جَيِّدَة فَلم يزل يتلطف بالفقيه ويسأله أَن يسكن مَعَه فِي الْجند وَيحسن لَهُ ذَلِك بِالْقربِ للنَّاس بالفتوى والتدريس والجند إِذْ ذَاك أعمر مَدِينَة بالجبال وأكثرها أَهلا وَلم يكن للفقيه إِذْ ذَاك أهل وَلم يكن لَهُ إِذْ ذَاك نظر فِي الْعلم وَهُوَ رَأس الْفُقَهَاء حِينَئِذٍ إِلَيْهِ تَنْتَهِي الْفَتْوَى فَلَمَّا كثر من الْوَالِي مُلَازمَة الْفَقِيه أَجَابَهُ بِشَرْط أَن لَا يكلفه الحكم وَشرط أَن لَا يَدعُوهُ إِلَى منزله وَإِن دَعَاهُ لم يكلفه إِلَى أكل الطَّعَام فالتزم الْوَالِي ذَلِك فَنزل الْفَقِيه إِلَى الْجند وسكنها فَذكر أَنه حدث للوالي حَادث أوجب دَعْوَة النَّاس إِلَى منزله فاستدعاهم والفقيه فِي جُمْلَتهمْ فَلَمَّا صَارُوا على الطَّعَام والفقيه مُمْسك يَده نَاوَلَهُ الْوَالِي موزة أَو قَالَ اثْنَتَيْنِ وَقَالَ يَا سَيِّدي الْفَقِيه هَذَا موز أهداه إِلَيّ فلَان لرجل يعرف بِالْحلِّ وتطيب نفس الْفَقِيه بِأَكْل طَعَامه فاستحياه الْفَقِيه وَأخذ الْحبَّة فَجعل مَا أمكن فِي فِيهِ ثمَّ خرج مبادرا موحدا أَن ثمَّ عذرا يُوجب الْخُرُوج وَلما صَار فِي الدهليز أخرج الْحبَّة من بَاطِنه ثمَّ صَار إِلَى بَيته وَلم يزل مُقيما بالجند إِلَى أَن قدم الصليحي سنة أَربع أَو خمس وَخمسين وأربعمئة فَلَمَّا صَار بدار الْملك فِيهَا دخل فُقَهَاء الْجند للسلام عَلَيْهِ والفقيه من جُمْلَتهمْ وَكَانَ قد استخبر عَنْهُم استخبارا محققا وَعرف حَال الْفَقِيه وَعلمه وصلاحه وَأَنه رَأس الْفُقَهَاء وَبِه يقتدون وَإِلَيْهِ ينتهون فَلَمَّا صَار الْفُقَهَاء عِنْده بحث عَن الْفَقِيه فَلَمَّا تحقق أمره قَالَ يَا فَقِيه الْقَضَاء مُتَعَيّن عَلَيْك ونريد مِنْك أَن تقبل فَقَالَ الْفَقِيه لَا أصلح لَهُ وَلَا يصلح لي أَو كَمَا قَالَ فَأَعْرض عَنهُ مغضبا حَيْثُ لم يقبل مِنْهُ واشتغل(1/234)
بِالْحَدِيثِ مَعَ بعض حاضري مَجْلِسه فبادر الْفَقِيه وَخرج مبادرا وَلم يعرج على شَيْء وَأخذ طَرِيق قريته مجدا فِي السّير ثمَّ إِن الصليحي سَأَلَ عَنهُ فَقيل إِنَّه خرج فَأمر بِطَلَبِهِ فَلم يُوجد فِي الْمَدِينَة فَأمر جمَاعَة يلحقونه إِلَى بَلَده وَأَن يقعوا بِهِ فَخرج جمَاعَة من السرعان فأدركوه على قرب الْقرْيَة وجدلوه بسيوفهم وضربوه بهَا فَلم تقطع بِهِ شَيْئا غير أه من شدَّة ألم الضَّرْب وتكرره وَقع على الأَرْض مغشيا عَلَيْهِ فبادروا الْعود لِئَلَّا يلحقهم أَو يراهم أحد وظنوا مَوته وَأخذُوا شَيْئا من ثِيَابه ليتوهم أَنهم حَرْب وَلما وصلوا إِلَى الصليحي أَخْبرُوهُ بِمَا فعلوا وَأَن سيوفهم لم تقطع بِهِ وَأَنَّهُمْ فارقوه مَيتا فَأَمرهمْ بكتم ذَلِك وَلم يزل الصليحي مُدَّة حَيَاته يعظم أمره ويحترمه وَيَقُول لَيْسَ فِي أهل السّنة مثله ويشفعه فِيمَن يشفع ويحترم أَصْحَابه ويعفي أراضهيم من الْخراج إحسانا وتألفا لباطن الْفَقِيه ولسائر الْفُقَهَاء وليظنوا بِهِ خيرا ثمَّ إِن بعض من حسب وجد الْفَقِيه مغشيا عَلَيْهِ فاصطاح بِالنَّاسِ فَأَسْرعُوا إجَابَته فوجدوا الْفَقِيه مغشيا عَلَيْهِ لما بِهِ فَحَمَلُوهُ إِلَى منزله ورشوه بِالْمَاءِ فأفاق فَسَأَلُوهُ عَن قَضيته فَقَالَ وَمَا هُوَ الْخَبَر فَقيل لَهُ إِنَّهُم ضربوك بسيوفهم فَلم تقطع فَمَا الَّذِي كنت تقْرَأ فَقَالَ كنت أَقرَأ سُورَة ياسين وَقيل إِن بعض من يخْتَص بالفقيه قَالَ لَهُ سَأَلتك بِاللَّه إِلَّا مَا أَخْبَرتنِي كَيفَ لم تقطع سيوفهم بك وَلم تألم فَقَالَ جَاءُونِي وَقد أَحرمت بِالصَّلَاةِ فَلم أشعر بفعلهم وَمن الله عَليّ بالعافية والسلامة
وَكَانَ لهَذَا الْفَقِيه مُصَنف يُسمى الْجَامِع وَهُوَ من الْكتب المعدودة من الْخلاف وَآخر يُسمى التَّقْرِيب وَكَانَت وَفَاته تَقْرِيبًا على رَأس سِتِّينَ وأربعمئة
وَمِنْهُم أَبُو يَعْقُوب إِسْحَاق العشاري أسمي بذلك لِأَنَّهُ كَانَ يُحَقّق عشرَة عُلُوم وَهُوَ مَعْدُود فِي أَصْحَاب الْقَاسِم أَيْضا وَقد مضى وَكَانَ يعرف بالمعافري إِذْ هِيَ بَلَده وَإِلَيْهِ انْتَهَت رئاسة الْفِقْه بهَا وَعنهُ أَخذ فقهاؤها(1/235)
وَمِنْهُم أَبُو حَفْص عمر بن إِسْحَاق بن المصوع من قَرْيَة تعرف بِذِي السفال على مرحلة من قبلي الْجند وعَلى نصفهَا من قبلي سهفنة الْقرْيَة الْمَذْكُورَة أَولا وَهِي إِحْدَى الْقرى الْمَذْكُورَات بالفقه خرج مِنْهَا جمَاعَة شهروا بالفقه الْمُحَقق وَالصَّلَاح الْكَامِل يَأْتِي ذكر المتحقق مِنْهُم وضبطها بذال مُعْجمَة مخفوضة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ سين مُشَدّدَة مُهْملَة مَضْمُومَة قبلهَا ألف وَلَام ثمَّ فتح الْفَاء ثمَّ ألف وَلَام وَقد يحذف بَعضهم لفظ ذِي كَانَ هَذَا كَبِير الْقدر شهير الذّكر مَعْرُوفا بِالْعلمِ وَالصَّلَاح وَكَانَ ذَا دنيا متسعة أَمْلَاك أراض وَغَيرهَا وَذكروا أَن غَالب الصوافي الْقَدِيمَة بِذِي السفال لَهُ وَإِنَّمَا صَارَت صوافي لما قتل وَلَده أَخا الْمفضل وللفقيه هَذَا مُصَنف فِي فروع الْفِقْه سَمَّاهُ الْمَذْهَب بِضَم الْمِيم وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وَفتح الْهَاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة نقل عَنهُ شَيْخي أَبُو الْحسن الأصبحي فِي تَصْحِيحه وَأخْبر الثِّقَة أَن الْفَقِيه الإِمَام أَحْمد بن مُوسَى بن عجيل كَانَ قل أَن يَأْتِيهِ أحد من أهل الْجبَال إِلَّا وَسُئِلَ عَن الْكتاب ووجوده وَله مُصَنف آخر سَمَّاهُ الْجَامِع
وَلما كَانَ فِي سنة ثَلَاث عشرَة وسبعمئة قدمت قريته وَأَنا إِذْ ذَاك أبالغ فِي الْبَحْث عَن أَخْبَار الْفُقَهَاء وأعلق مَا صَحَّ لي مِنْهَا وَلم يكن ابْن سَمُرَة ذكر لهَذَا تَارِيخا بداية وَلَا نِهَايَة فبحثت عَن ذَلِك فَقيل لي إِنَّه توفّي مُتَقَدما وَلَا يعرف لَهُ علم فَسَأَلت فَقِيه الْقرْيَة عَن قَبره لعَلي أتبارك بزيارته فَسَار بِي إِلَى مَوضِع شَبيه السدر وَقَالَ ذكر لنا المتقدمون من أهل الْبَلَد عَن أمثالهم أَن قَبره بِهَذَا الْمَكَان فقرأنا بَعْضنَا مَا يقرأه الزائرون ثمَّ جعلنَا ثَوَابه لَهُ ودعونا لأنفسنا وَلم يذكر ابْن سَمُرَة لَهُ وَلَا للفقيه جَعْفَر تَارِيخا بل ذكرت تَارِيخه من وجوده أَيَّام قدوم الصليحي الْجند وَهَذَا الْفَقِيه من أترابه(1/236)
وَمِنْهُم أَبُو الْخَيْر أَيُّوب بن مُحَمَّد بن كديس بِضَم الْكَاف وَفتح الدَّال وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ سين مُهْملَة مَسْكَنه قَرْيَة ظباء وَهِي مَا بَين ذِي السفال وسهفنة القريتين المذكورتين أَولا وَهِي إِلَى ذِي سفال أقرب وَهِي من الْقرى المعدودات فِي بِلَاد الْجبَال بِكَثْرَة الْفُقَهَاء وَهِي بَاقِيَة إِلَى الْآن بهَا جمَاعَة يسكنونها غير فُقَهَاء وَبهَا جَامع يقْصد للتبرك يُقَال إِنَّه بني على زمن عمر بن الْخطاب وبأمره وَفِيه جب للْمَاء من ذَلِك الزَّمن من رَغْبَة أهل الْقرْيَة فِيهِ ومحبتهم لَهُ بنوا عَلَيْهِ وقضضوه وَهُوَ مَسْجِد معتدل بِهِ مِنْبَر لطيف أَيْضا دَخلته مرَارًا لغَرَض الزِّيَادَة والتبرك وَإِجْمَاع أهل النَّاحِيَة على بركته وَكَانَ هَذَا الْفَقِيه رجلا صَالحا مُبَارَكًا ذَا إِسْنَاد عَال وَله على من قَصده من الطّلبَة إفضال وتفقه بالقاسم وَقد ذكر وَكَانَ يقْرَأ الْعلم ويقري الطَّعَام
وَلما حج أدْرك بِمَكَّة الْحَافِظ عبد بن أَحْمد الْهَرَوِيّ فَأخذ عَنهُ كثيرا من مسموعاته وَذَلِكَ سنة سبع وأربعمئة وَكَانَ يُنَادي فِي الْمَوْسِم لَهُ من أَرَادَ الْوَرق وَالْوَرق الأول بِفَتْح الرَّاء وَالثَّانِي بخفضها وَالسَّمَاع العالي فَعَلَيهِ بِأَيُّوب بن مُحَمَّد بن كديس إِلَى قلعة ظباء من أَرض الْيمن وَلَعَلَّ الْفَقِيه كَانَ يسكن القلعة وَهِي بِقرب قَرْيَة ظباء بِضَم الظَّاء الْقَائِمَة الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَذَلِكَ أَنَّهُمَا بمَكَان وَاحِد ومحارثهما وَاحِدَة
وَكَانَت وَفَاته تَقْرِيبًا على رَأس عشر وأربعمئة وَلم يُحَقّق ابْن سَمُرَة ذَلِك وَلَا غَيره وَمِنْهُم أَبُو الْمَوْت لم أتحقق من حَاله شَيْئا وَلَا تَسْمِيَته لِأَن ابْن سَمُرَة لم يسمه غير بِأبي الْمَوْت وَذكر أَنه لم يتَحَقَّق من نَعته شَيْئا وَذكر بعض من رَأَيْته قد علق شَيْئا من(1/237)
أَحْوَاله أَنه كَانَ فَقِيها مُحدثا وَقد عددته فِي أَصْحَاب الْقَاسِم وَمِمَّا وجدته فِي شَيْء من كتب الْفُقَهَاء بني مقبل الْآتِي ذكرهم إِن شَاءَ الله وَفِي نُسْخَة بلغ مِنْهَا مَا مِثَاله روى الشَّيْخ سَالم بن مهرام عَن أَحْمد بن عبد الْعَزِيز عَن الْفَقِيه أبي الْمَوْت يرفعهُ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الله تَعَالَى يَسْتَوْفِي حُقُوقه على يَد من لَا يسْتَحق الِاسْتِيفَاء للحقوق عِنْد عدم الْأَئِمَّة
قَالَ الْفَقِيه أَبُو الْمَوْت وَدَلِيل صِحَة الْخَبَر أَن أهل الْمشرق لما تركُوا الصَّلَاة سلط الله عَلَيْهِم الْقَتْل فِيمَا بَينهم وَهُوَ حد تَارِك الصَّلَاة بِدَلِيل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ترك الصَّلَاة حل قَتله وَأَن أهل جبال تهَامَة واليمن لما تركُوا الزَّكَاة سلط الله عَلَيْهِم سلاطين الْجور يَأْخُذُونَ أَمْوَالهم وَذَلِكَ حد تَارِك الزَّكَاة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي من غل الزَّكَاة فَإنَّا نأخذها وشطرا من مَاله قَالَ الْفَقِيه فَإِن قيل إِنَّمَا يتْرك الصَّلَاة وَالزَّكَاة بعض النَّاس فَلم عَم الْعقَاب قيل للسَّائِل عَن ذَلِك قد سُئِلَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنهُ فَقَالَ الرَّحْمَة تعم والسخط يعم أَلا ترى أَن عَاقِر النَّاقة وَاحِد والهالك بِذَنبِهِ أُمَم وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن الْفَقِيه عمر بن المصوع الْمُقدم الذّكر كَانَ فَقِيها فَاضلا تفقهه بِأَبِيهِ وَذكره ابْن سَمُرَة مَعَ أَبِيه وَكَانَ ذَا دنيا وَاسِعَة مَال ونشب وَكَانَ يواصل وَالِي التعكر لكَونه الْحَاكِم على بَلَده ذِي السفال وَهُوَ إِذْ ذَاك أَخُو الْمفضل بن أبي البركات الْمُسَمّى الْمَنْصُور وَكَانَت فِيهِ أَعنِي هَذَا الْفَقِيه بلاهة وسلامة صدر وَكَانَ الْوَالِي يأتمنه وَيَأْمُر البوابين لَا يمنعونه عَن الطُّلُوع مَتى شَاءَ وَلَا يحتجب عَنهُ لما اعْتقد فِيهِ من الْخَيْر فطوعت لَهُ نَفسه أَن يقتل الْوَالِي استبداد واستحلالا لكَونه على مَذْهَب الرَّفْض وَلم يشاور بذلك أحدا بل خيلت لَهُ نَفسه أَنه مَتى وجد المرتبون(1/238)
مِنْهُ المَال للجوامك أطاعوه على مَا يُرِيد فعامل سلاطا من عَادَته أَن يطلع الْحصن بالسليط ويبيعه على من فِيهِ أَن يطلع فِي بطاطه مَكَان السليط ذَهَبا وَفِضة مسكوكين فَلَمَّا صَار الْفَقِيه بالحصن والسلاط كَذَلِك خلى الْفَقِيه بالأمير فَقتله وَصَاح من طاق الدَّار بالسلاط يَأْكُل كَمَا يَأْكُل بانزعاج فارتاب أهل الْحصن من ذَلِك ودخلوا الدَّار فوجدوا الْأَمِير مقتولا فبادروا إِلَى قتل الْفَقِيه وإعلام المكرم بِمَا جرى فَجعل مَكَانَهُ أَخَاهُ الْمفضل فَغَضب أَمْوَال الْفَقِيه وبساتينه وَخرج بعض الْفُقَهَاء من ظباء ونخلان بِسَبَب تِلْكَ النّوبَة وَكَانَ ذَلِك تَقْرِيبًا على رَأس ثَمَانِينَ وأربعمئة
وَمِنْهُم أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن الْفَقِيه أبي عمرَان مُوسَى بن عمرَان الخداشي الْمُقدم ذكره وَأَنه أحد من نشر مَذْهَب الشَّافِعِي أول ظُهُوره وَسكن إبا والسحول ثمَّ تدير الملحمة وَهِي قَرْيَة بوادي السحول تَحت الْحصن الْمَعْرُوف بشواحط وضبطها بِفَتْح الْمِيم بعد ألف وَلَام وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَالْمِيم ثمَّ هَاء والشواحط بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَالْوَاو ثمَّ ألف وخفض الْحَاء ثمَّ طاء مهملتين وَلم يزل بهَا حَتَّى توفّي وَله بهَا عقب وَلم يزل فيهم الْفُقَهَاء والأخيار غَالِبا يَأْتِي ذكر المتحقق مِنْهُم إِن شَاءَ الله وقدمت هَذِه الْقرْيَة سنة ثَلَاث عشرَة وسبعمئة لَا غَرَض لي إِلَّا زِيَارَة تربة هَذَا(1/239)
الْفَقِيه وَمن قد بَلغنِي من أَهله فاجتمعت ببعضهم حِين صرت إِلَى الْقرْيَة وَسَأَلته أَن يريني شَيْئا من كتبهمْ لعَلي أجد فِيهَا شَيْئا من أخبارهم وآثارهم وَأَخْبرنِي أَن غالبها قد فَاتَ بالعارة والنهب وتقاسم الْوَرَثَة وَأَن الْبَاقِي يسير فَسَأَلته أَن يخرج إِلَيّ الْمَوْجُود فَأخْرج لي كتابا وجدت بِهِ ورقة قديمَة قد اضمحلت كتَابَتهَا وكادت تذْهب فتأملت ذَلِك وَإِذا بِهِ قد عد جمَاعَة من عُلَمَاء الْيمن الْمُتَكَلِّمين الْمُتَقَدِّمين وعد فيهم وأكد هَذَا عمرَان فَقَالَ فَقِيه من أَعلَى شُيُوخ الْيمن الَّذين ظهر عَنْهُم مَذْهَب الشَّافِعِي فِي ابْن عمرَان الْمعَافِرِي
قَالَ وَعنهُ أَخذ ابْنه إِبْرَاهِيم قلت وَهَذَا مَحْمُول على أَن الشَّيْخ الْحَافِظ مُوسَى طَال عمره وَأدْركَ وَلَده إِبْرَاهِيم وتفقه بِهِ وبالقاسم الَّذِي حقق ابْن سَمُرَة أَنه من أَصْحَابه وَلما حج إِبْرَاهِيم سمع بِمَكَّة مُخْتَصر الْمُزنِيّ على أبي رَجَاء مُحَمَّد بن حَامِد الْبَغْدَادِيّ وَقد تفقه بإبراهيم هَذَا جمَاعَة مِنْهُم يَعْقُوب البعداني وأسعد بن الْهَيْثَم وَغَيرهمَا
وَمِنْهُم أَبُو الْوَلِيد عبد الْملك بن مُحَمَّد بن أبي ميسرَة اليافعي سكن جبل الصلو وتفقه بالقاسم وَكَانَ إِمَامًا فِي الحَدِيث وثبتا فِي النَّقْل عَارِفًا بطرق الحَدِيث وَرُوَاته يعرف بالشيخ الْحَافِظ حج مَكَّة سنة إِحْدَى وَخمسين وأربعمئة فَأدْرك بهَا الشَّيْخ الْعَارِف سعد الريحباني وَأخذ عَنهُ وَعَن أبي عبد الله مُحَمَّد بن الْوَلِيد الْمَالِكِي العكي ثمَّ عَاد الْيمن وَكَانَ قد دخل عدن فلقي بهَا أَبَا بكر أَحْمد بن مُحَمَّد البردي فَأخذ عَنهُ الرسَالَة الجديدة للْإِمَام الشَّافِعِي وَإِلَيْهِ يَنْتَهِي سَمَاعنَا لَهَا وَذَلِكَ سنة سبع وَثَلَاثِينَ وأربعمئة وَكَانَ كثير الترحل إِلَى الْعلمَاء وَقد أَخذ عَن أَيُّوب بن مُحَمَّد بن كديس الظبائي أَيْضا كتاب الرَّقَائِق لعبد الله بن الْمُبَارك وَدخل عدن مرّة ثَانِيَة(1/240)
سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وأربعمئة فَأخذ بهَا عَن أبي عبد الله مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن مَنْصُور بن أبي الزَّعْفَرَانِي وَكَانَ يكثر التَّرَدُّد مَا بَين بَلَده والجؤة والجند وعدن وَله بِكُل مَدِينَة أَصْحَاب وشيوخ وَكَانَ أَكثر مقَامه بِمَدِينَة الجؤة بِضَم الْجِيم وهمزة على الْوَاو ومفتوحة ثمَّ هَاء وَهِي فِيمَا مضى من المدن المعدودة بِكَثْرَة الْبناء والعالم وسكنى الْمُلُوك وَظُهُور جمَاعَة من الْفُضَلَاء بهَا وَبهَا جَامع بِهِ مأذنة وَهِي على مرحلة من الْجند من جِهَة الْيمن تَحت جبل الْحصن الْمَشْهُور فِي الْيمن بحصن الدملوة الَّذِي هُوَ بَيت ذخائر الْمُلُوك ومالهم مُنْذُ زمن مُتَقَدم وَهُوَ بِضَم الدَّال الْمُهْملَة بعد ألف وَلَام وَسُكُون الْمِيم وَضم اللَّام وَفتح الْوَاو وَقد يَجْعَل مَكَانهَا همزَة ثمَّ هَاء وَكَانَ مُعظم إِقَامَة هَذَا الْحَافِظ بِهَذِهِ الْمَدِينَة لكَونهَا على قرب من بَلَده وَأخذ عَنهُ بجامعها عدَّة كتب وقصده الطّلبَة إِلَيْهَا لِأَنَّهُ انْتقل من جبل الصلو إِلَى بلد تعرف بالحاظنة بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة ثمَّ ألف وظاء مُعْجمَة مخفوضة وَنون مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء وَهِي صقع كَبِير يجمع قرى كَثِيرَة سكن الْفَقِيه الْمَذْكُور قَرْيَة مِنْهَا تعرف بالقرنين بقاف مَفْتُوحَة بعد ألف وَلَام ثمَّ رَاء سَاكِنة ثمَّ يَاء بَين نونين وَلم يزل الْفَقِيه بهَا حَتَّى توفّي وَبهَا قَبره وَكَانَ بعض مَشَايِخ بني البعداني من جبل بعدان كتب إِلَيْهِ يسْأَله أَن ينْتَقل إِلَيْهِ وبذل لَهُ الْإِكْرَام وَالْقِيَام بِحَالهِ أتم الْقيام فَلم يرغب فِي ذَلِك وجوب لَهُ جَوَابا من جملَته شعر مِنْهُ ... منزلي منزل رحيب أنيق ... فِيهِ لي من فواكه الصَّيف سوق ...(1/241)
ثمَّ شكر تفضل الشَّيْخ وعد مَا كتب إِلَيْهِ بِهِ إحسانا وَاعْتذر عَن الِانْتِقَال وَسكن الحاظنة حَتَّى توفّي وَكَانَت وَفَاته سنة ثَلَاث وَسبعين وأربعمئة ويزار قَبره من أنحاء شَتَّى ويتبرك بِهِ ويشم زَائِره رَائِحَة الْمسك وَأَخْبرنِي الثِّقَة أَنه يُوجد على قَبره كل لَيْلَة جُمُعَة طَائِر أَخْضَر
وَمن ذِي أشرق وَهِي قَرْيَة كَبِيرَة بالوادي الْمَعْرُوف بنخلان على نصف مرحلة من الْجند تَقْرِيبًا وَهِي أَيْضا من الْقرى الْمُبَارَكَة من الْيمن خرج مِنْهَا جمع من الْعلمَاء وضبطها ذِي ذال مُعْجمَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت ثمَّ همزَة مَفْتُوحَة ثمَّ شين مُعْجمَة سَاكِنة وَرَاء مخفوضة ثمَّ قَاف أول من ذكره ابْن سَمُرَة من أَهلهَا أسعد بن خَلاد تفقه بالقاسم أَيْضا وَكَانَ فَقِيها محققا زاهدا ورعا وَلم أتحقق لَهُ تَارِيخا بل هُوَ من طبقَة أَصْحَاب الْقَاسِم
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سَالم بن عبد الله بن مُحَمَّد بن سَالم بن يزِيد الشّعبِيّ وَقد يُقَال اليزيدي نِسْبَة إِلَى جده الْمَذْكُور وأصل بلد أَهله جبل ذبحان أحد معاشير الدملوة انْتقل إِلَى هَذِه الْقرْيَة وتديرها وَلَهُم بهَا عقب إِلَى الْآن يعْرفُونَ ببني الإِمَام بَيت صَلَاح وَعلم ميلاده شهر صفر الْكَائِن فِي سنة خمس وَتِسْعين وثلثمئة أثنى ابْن سَمُرَة على جمَاعَة مِنْهُم وَأول من ذكر مِنْهُم هَذَا وَهُوَ جدهم وَأَظنهُ أول من ولي للْإِمَام بِذِي أشرق بالجامع مِنْهُم وَذريته على ذَلِك إِلَى الْآن سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسبعمئة
قَالَ ابْن سَمُرَة حِين ذكره وَمِنْهُم الشَّيْخ مُحَمَّد بن سَالم تفقه بالقاسم وَأخذ عَنهُ(1/242)
أبي الْفتُوح بن ملامس سنَن التِّرْمِذِيّ وَذَلِكَ سنة عشْرين وأربعمئة بصفر الْكَائِن فِيهَا وَكَانَ رجلا خيرا زاهدا فَاضلا ورعا وَتُوفِّي بالقرية فِي رَمَضَان الْكَائِن فِي سنة سِتّ وَخمسين وأربعمئة
وَمِنْهُم أَحْمد بن عبد الله بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم السلالي ثمَّ الْكِنَانِي كَانَ من أتراب الْفَقِيه مُحَمَّد بن سَالم وأقرانه تفقه بِأبي الْفتُوح بن ملامس وأخيه أسعد صهر الْفَقِيه إِسْحَاق الصردفي زوج أُخْته وَابْنه عَليّ مِنْهَا وَيَأْتِي ذكرهمَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَمِنْهُم أَبُو بكر بن الْفَقِيه أَحْمد الصعبي السهفني الْمُقدم ذكره أَنه رَفِيق الْقَاسِم فِي سفر مَكَّة وأنهما قدما بالمراغي تفقه هَذَا بِأَبِيهِ وَرُبمَا قيل إِنَّه أَخذ عَن الْقَاسِم وَقد انْقَضتْ طبقَة أَصْحَاب الْفَقِيه الْقَاسِم وَمن ناظرهم
ثمَّ صَار الْعلم إِلَى طبقَة أُخْرَى مَعَ جمَاعَة وَمِنْهُم أَبُو سعيد بن خير بن الْفَقِيه يحيى بن ملامس مقدم الذّكر خير بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ رَاء تفقه بِأَبِيهِ الْمُقدم ذكره وَحج مَكَّة فَوجدَ بهَا جمعا من الْعلمَاء مِنْهُم الْحَافِظ أَبُو ذَر عبد بن أَحْمد الْهَرَوِيّ وَأَبُو بكر بن مُحَمَّد بن مَنْصُور الشهرزوري أحد شرَّاح الْمُخْتَصر وَأخذ عَن أبي ذَر البُخَارِيّ وَعلم الشهرزوري شَيْئا من الْفِقْه وَسنَن أبي دَاوُود وَلَقي أَيْضا أَحْمد بن مُحَمَّد الْبَزَّاز الْمَكِّيّ وَأخذ عَنهُ الشَّرِيعَة للآجري وَرجع بَلَده فَأخذ عَنهُ جمَاعَة بهَا جمع كَبِير
مِنْهُم أسعد بن زيد بن الْحسن ثمَّ أسعد بن الْهَيْثَم وَأَوْلَاده زيد وَعَمْرو الْآتِي ذكرهمَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَانَت وَفَاته بِبَلَدِهِ وبلد أَبِيه عزلة القرانات من مشيرق أحاظة سنة ثَمَانِينَ وأربعمئة
وَمِنْهُم أَبُو الغارات عَليّ بن مُحَمَّد بن الْعَبَّاس التباعي ثمَّ الْحِمْيَرِي مَسْكَنه(1/243)
علقان قَرْيَة قد تقدم ذكرهَا خرج مِنْهَا جمَاعَة من أَعْيَان الْفُضَلَاء متقدمين ومتأخرين وَكَانَ رَفِيق الْفَقِيه فِي الْأَخْذ للشريعة عَن الْبَزَّار بِمَكَّة يَرْوِيهَا عَن مصنفها مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْآجُرِيّ
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن الْفَقِيه أبي الْخَيْر أَيُّوب بن مُحَمَّد بن كديس مقدم الذّكر وَحج فَأدْرك الشهرزوري بِمَكَّة وَأخذ عَنهُ إِسْمَاعِيل بن المبلول الْآتِي ذكره غَرِيب أبي عبيد وَغَيره
وَمِنْهُم أَبُو الْعَتِيق أَبُو بكر بن الإِمَام جَعْفَر بن عبد الرَّحِيم المحابي الْمُقدم ذكره وَكَانَ فَقِيها جليل الْقدر شهير الذّكر محققا مدققا مستخرجا للنكت الغامضة والمعاني الرائقة إِلَيْهِ انْتَهَت رئاسة الْعلم بِالْيمن بتفقهه بِأَبِيهِ وَكَانَ يُقَال إِنَّه حَاز رُتْبَة الْقَاسِم شيخ أَبِيه فِي سَعَة الْعلم وصفاء الذِّهْن وسعة نشره وَعنهُ أَخذ زيد اليفاعي فِي بدايته وَزيد بن الْحسن وَجمع كثير لَا يكَاد الْحصْر يدركهم وَكَانَ ذَاكِرًا لكتب الْمَذْهَب نَاقِلا لَهَا يحفظ الْمَجْمُوع تصنيف أَبِيه ومجموع الْمحَامِلِي وَكَانَت لَهُ فِي كل سنة رحْلَة إِلَى زبيد يناظر بهَا الْحَنَفِيَّة ورأسهم يَوْمئِذٍ القَاضِي مُحَمَّد بن أبي عَوْف وَيُقَال ابْن عون أحد مصنفيهم وَله كتاب القَاضِي الْمَشْهُور عِنْدهم وَكَانَ الْفَقِيه أَبُو بكر يقطعهُ مرَارًا ويستظهر عَلَيْهِ بِقُوَّة حفظه وسعة نَقله
قَالَ ابْن سَمُرَة سَمِعت القَاضِي طَاهِر بن يحيى العمراني يخبر عَن أَبِيه يحيى بن أبي الْخَيْر يَقُول سَمِعت جمَاعَة من شيوخي يثنون على هَذَا الْفَقِيه وَيَقُولُونَ كَانَ حَافِظًا عَالما مستنبطا للْأَحْكَام(1/244)
قَالَ ابْن سَمُرَة وَكَانَ حَافِظًا رَئِيسا فِي الدّين وَالدُّنْيَا يصحب الْمُلُوك وَيقبل جوائزهم كجياش بن نجاح صَاحب زبيد الْآتِي ذكره فِي الْمُلُوك وَالْحُسَيْن بن الْمُغيرَة التبعي وَأحمد بن عبد الله الكرندي وَكَانَ الْمُلُوك المذكورون أهل سنة ومجانبة لما عَلَيْهِ الصليحيون وَغَيرهم من الْبِدْعَة وَكَانَ تدريسه وغالب سكناهُ فِي الْجند وتدريسه بجامعها الْمُبَارك وَكَانَ مَتى وَصله طَالب سَأَلَهُ عَن حَسبه وَنسبه فَإِن وجده ذَا أصل لَائِق أقرأه وَأمره بِالِاجْتِهَادِ وَإِن لم يكن ذَا أصل صرفه عَن الطّلب وَلم يقرئه وَكَانَت حلقته تجمع نَحْو خمسين أَو سِتِّينَ طَالبا لهَذَا السَّبَب وَكَانَ الْفَقِيه زيد يقرىء كل وَاصل حَتَّى كثر أَصْحَابه على مَا سَيَأْتِي بَيَانه وَكَانَت وَفَاته سنة خمسمئة
وَمِنْهُم أَبُو يَعْقُوب إِسْحَاق بن يُوسُف بن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن عبد الصَّمد الزّرْقَانِيّ ثمَّ الصردفي نِسْبَة إِلَى الْقرْيَة الْمَذْكُورَة عِنْد ذكرالفقيه عبد الله بن عَليّ الزّرْقَانِيّ فِي الطَّبَقَة الْمُتَقَدّمَة من أهل مَذْهَب الشَّافِعِي وَقد تقدم ضَبطهَا ومسافتها من الْجند وَأَصله من المعافر ثمَّ سكن الصردف وَكَانَ لَهُ بهَا وبقرية حكرمد بخفض الْحَاء وَالْكَاف ثمَّ رَاء سَاكِنة وخفض الْمِيم ثمَّ دَال مُهْملَة وَهِي بَين الصردف وحصن الظفر ثمَّ هِيَ من أَعماله أَيْضا وَله بهَا طين يزرعه تفقه بِجَعْفَر بن عبد الرَّحِيم وبإسحاق العشاري مقدمي الذّكر وَكَانَ فَقِيها فَاضلا محققا ذَا فنون غلب عَلَيْهِ مِنْهَا علم الْمَوَارِيث والحساب وَكتابه الَّذِي وَضعه فِيهَا يدل على سَعَة علمه ودقة فهمه وجودة تبريزه فِي ذَلِك وَفِي الدّور والوصايا والمساحة وَغير ذَلِك ومذ وجد كِتَابه لم يتفقه أحد من أهل الْيمن فِي شَيْء من الْفُنُون الْمَذْكُورَة إِلَّا مِنْهُ واعترف لمصنفه بِالْفَضْلِ كل عَارِف وَكَانَ أهل الْيمن قبل وجوده يتفقهون بالفنون الْمَذْكُورَة من كتب شَتَّى مِنْهَا كتاب أبي بَقِيَّة مُحَمَّد بن أَحْمد الفرضي وَلم يكن من أهل الْيمن فِيمَا ظَنَنْت كتابا سواهُ وبكتاب كِفَايَة الْمُبْتَدِي لِابْنِ سراقَة وبمصنفات لِابْنِ اللبان مقدم الذّكر وَقد ذكر جمَاعَة من الثِّقَات أَنه كَانَ يُقيم فِي سير كثيرا من الْأَيَّام وبجامعها(1/245)
وَيُقَال صنف كِتَابه الْكَافِي الَّذِي هُوَ كاسمه الْكَافِي وللقلوب من الْإِشْكَال شافي فِي الْجَامِع الْمَذْكُور وَمِنْه مسَائِل قد استبهمت على كثير من الْمُتَأَخِّرين شرحها من جملَة الْكتاب شَيخنَا الْفَقِيه صَالح بن عمر الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله فجزاهم الله عَن الْإِسْلَام خيرا وَكَانَ لَهُ أُخْت وابنتان فَتزوّجت الْأُخْت أسعد بن عبد الله السلالي الْمَذْكُور مَعَ أَخِيه أَحْمد فِيمَا مضى وأولدت لَهُ ابْنه عليا فَهَذَا الْفَقِيه خَاله وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك وَأما ابنتاه فاسم إِحْدَاهمَا ملكة وَهِي الَّتِي تزَوجهَا الإِمَام زيد بن عبد الله اليفاعي الْآتِي ذكره وَتزَوج الْأُخْرَى إِمَام جَامع الْجند حسان بن مُحَمَّد بن زيد بن عمر وَولده عبد الله وَسَيَأْتِي ذكره وَصَارَ إِلَيْهِ شَيْء من كتب جده
قَالَ ابْن سَمُرَة جرى للفقيه هَذَا ثَلَاث خِصَال مِنْهَا أَنه ضرب بميل حَدِيد فِي الْهِنْدِيّ حَتَّى أفناه وَمعنى أفناه أَنه لم يبْق من مَا يحسن الْوَاحِد يمسِكهُ بِهِ ليضْرب بِهِ وَمِنْهَا أَنه سقط فِي بِئْر جَامع الْجند الْمُسَمَّاة زَمْزَم وَهِي بِئْر قديمَة يبعد إِدْرَاك غورها فبودر بإلقاء الْحَبل إِلَيْهِ ليطلع عَلَيْهِ وَكَانَ سابحا مجيدا فَتعلق بالحبل وَنزع فَلَمَّا صَار بِرَأْس الْبِئْر انْقَطع بِهِ الْحَبل فَعَاد ثَانِيَة ثمَّ أدلي لَهُ ثَانِيًا فَنزع وَلما صَار بِرَأْس الْبِئْر انْقَطع أَيْضا وَعَاد الْبِئْر ثَالِثا ثمَّ أدلي الْحَبل ثَالِثا وأطلع وَمِنْهَا أَنه كَانَ يقْرَأ عَلَيْهِ شخص من الْجِنّ فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْده فِي حَلقَة الْقِرَاءَة إِذْ مر بهم صائد الأحناش فَقَالَ الجني للفقيه يَا سَيِّدي أُرِيد أتصور لهَذَا حنشا فَإِن هُوَ أمسكني فَلَا تَدعه يذهب بِي بل افتدني مِنْهُ فَنَهَاهُ الْفَقِيه فَلم ينْتَه ثمَّ تصور حنشا فَدَعَا أحد الطّلبَة المحنش وَأرَاهُ إِيَّاه وَقد صَار حنشا عَظِيما ملتصقا بخشبة فِي السّقف فحين رَآهُ أعجبه وَفتح ربعته وتلا مَا يعْتَاد تِلَاوَته من العزائم وَإِذا بالحنش قد انخرط إِلَى الربعة فبادر المحنش إِلَى إطباقها وَأَرَادَ الْخُرُوج فلازمه الْفَقِيه وَمن حضر وَقَالُوا هَذَا جَار للفقيه مُنْذُ زمن مُتَقَدم وَإِنَّمَا(1/246)
دعَاك ليختبر صدقك فتمنع فبذل لَهُ الْفَقِيه بعض شَيْء وَأجَاب بعد مداراة طَوِيلَة فَأَطْلقهُ فَغَاب عَن الْفَقِيه نَحْو خَمْسَة عشر يَوْمًا ثمَّ وصل إِلَى الْفَقِيه وَبِه ضعف ظَاهر وببدنه مَوَاضِع قد صَارَت كأحراق النَّار فَسَأَلَهُ عَن ذَلِك وحاله فَقَالَ لما دخل المحنش وتلا مَا تَلا وَترك الربعة قبالي رَأَيْت الْبَيْت كَأَنَّهُ امْتَلَأَ نَارا وَلَيْسَ لي خلاص غير الْوُقُوع فِي الربعة فألقيت نَفسِي إِلَيْهَا على كره وَهَذِه الأحراق من تِلْكَ النَّار وَلما أطلقني ورحت أَقمت مَرِيضا مُنْذُ ذَلِك إِلَى الْآن لم أكد أخرج فَقَالَ الْفَقِيه قد كنت نهيتك فَلم تمتثل
قَالَ ابْن سَمُرَة أَخْبرنِي الشَّيْخ عِيسَى بن عَامر العودري عَن أَبِيه وَكَانَ مِمَّن أدْرك الشَّيْخ بالصردف قَالَ خرج الشَّيْخ يَوْمًا إِلَى بعض مزارعه وَأمر الشَّرِيك بهَا أَن يجهش لَهُ شَيْئا فَبَيْنَمَا هُوَ يجمع الْحَطب إِذْ قبض عَلَيْهِ حَنش عَظِيم بفقار ظَهره ثمَّ اجتذبه إِلَى سرب فِي ضاحة هُنَالك والفقيه ينظر وَهُوَ يَقُول يَا فَقِيه يَا فَقِيه أَوْلَادِي وَلم يقدر الْفَقِيه لَهُ على فرج ثمَّ إِن السرب ضَاقَ عَن جثته فاقتسمه نِصْفَيْنِ وَمِنْهَا قَالَ ابْن سَمُرَة أَيْضا أَخْبرنِي الشَّيْخ مُحَمَّد بن مَنْصُور بن الْحُسَيْن العمراني بمصنعة سير أَن هَذَا الشَّيْخ إِسْحَاق خرج من سير إِلَى الصردف فلاقى لصوصا قد سرقوا ثورا وهم سائرون فَسَار مَعَهم وَلم يدر بقضيتهم فأحسوا بِالطَّلَبِ بعدهمْ فَقَالُوا للفقيه يَسُوق لَهُم وَاعْتَلُّوا بِبَعْض الْأُمُور فساق لَهُم وَتَفَرَّقُوا فَلحقه سرعَان النَّاس فَأخذُوا الثور وبطشوا بالفقيه لأَنهم جهلوه فَلَمَّا لحق الْعُقَلَاء منعُوا السُّفَهَاء عَن التَّعَرُّض إِلَيْهِ وسألوه الْخَبَر فَأخْبرهُم فَعَلمُوا صدقه فَأخذُوا الثور وتركوه بعد أَن اعتذروا عَمَّا فعل السُّفَهَاء مَعَه فَيكون مَجْمُوع مَا حصل عَلَيْهِ من الغرائب خمْسا
وَكَانَت وَفَاته بالقرية الَّتِي ينْسب إِلَيْهَا على رَأس خمسمئة وقبره مَشْهُور هُنَالك يَأْتِيهِ قصاد الزِّيَادَة وَقد زرته وَهُوَ على بعد من الصردف تَحت شَجَرَة قرض وَقد دخلت الْقرْيَة مُنْذُ زمن طَوِيل وَهِي(1/247)
على ذَلِك إِلَى عصرنا خَالِيَة من السكن
وَقد صَار الْعلم إِلَى طبقَة أُخْرَى فِي جمَاعَة بنواح شَتَّى مِنْهُم أهل ذِي أشرق
مِنْهُم عبد الله بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن سَالم مقدم الذّكر مولده رَجَب من سنة ثَلَاث وَعشْرين وأربعمئة تفقه بِأَبِيهِ وَكَانَ زاهدا ورعا وَغلب عَلَيْهِ علم الحَدِيث توفّي بِبَلَدِهِ يَوْم الْخَمِيس بربيع الأول من سنة سبع وَتِسْعين وأربعمئة
وَمِنْهُم إِسْمَاعِيل بن الْحسن الفائشي المبلول كَانَ فَقِيها عَارِفًا محققا وَهُوَ أحد أَشْيَاخ زيد بن الْحسن الفائشي
وَمِنْهُم الأديبان الفاضلان الْحسن بن أبي عباد وَابْن أَخِيه إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن أبي عباد إمامي النَّحْو فِي بِلَاد الْيمن فِي عصرهما وإليهما كَانَ أهل النَّحْو يرتحلون من الأنحاء وَكَانَا فاضلين صالحين ومختصرهما يدل عَلَيْهِمَا وعَلى فضلهما مَعَ زِيَادَة بركَة كَبِيرَة فِي مُخْتَصر الْحسن وَذَلِكَ أَن غَالب فُقَهَاء الْيمن وأنحائها كل مِنْهُم لَا يستفتح الِاشْتِغَال بصناعة النَّحْو إِلَّا بِهِ فيجد لَهُ بركَة مَعَ تساهل أَلْفَاظه واقتراب عباراته وَذكروا أَن سَبَب بركته أَنه أَلفه فِي الْحرم تجاه الْكَعْبَة وَكَانَ كلما فرغ بَابا مِنْهُ طَاف أسبوعا ودعا لقارئه وَكَانَ الْحسن إِذا تكلم بَين الْعَامَّة لَا يتَكَلَّف الْإِعْرَاب حَتَّى كَأَن من يعرف إِذا سَمعه على البديهة يَقُول مَا عرف هَذَا شَيْئا من النَّحْو وعاتبه بعض أَصْحَابه فِي ذَلِك فَأَجَابَهُ شعرًا ... لعمرك مَا اللّحن من شيمتي ... وَلَا أَنا من خطأ أَلحن
ولكنني قد عرفت لُغَات ... الرِّجَال أخاطب كلا بِمَا يحسن ... وَلابْن أَخِيه إِبْرَاهِيم مصنفات غير الْمُخْتَصر مِنْهَا تلقين المتعلم وَهُوَ كتاب مُفِيد ومختصر ذكر أَنه اخْتَصَرَهُ من كتاب سِيبَوَيْهٍ وَكَانَ وجودهما فِي آخر المئة الرَّابِعَة وَفِي أول الْخَامِسَة غَالِبا وَقد أَخذ الْفَقِيه عمر بن إِسْمَاعِيل عَن الْحسن مُخْتَصره وَسَيَأْتِي ذَلِك إِن شَاءَ الله(1/248)
وَمن الْجند جمَاعَة مِنْهُم يحيى بن عبد الْعَلِيم بن أبي بكر الْأَعْمَى أَصله من قَرْيَة بخدير الْأَعْلَى تعرف بحجرة بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْجِيم وَالرَّاء ثمَّ هَاء وَهِي من الْقرى الْمُبَارَكَة خرج مِنْهَا جمَاعَة من الْفُضَلَاء وَله بهَا قرَابَة يعْرفُونَ ببني الْأَعْمَى وَآل أبي ذرة وَضبط خدير بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وخفض الدَّال الْمُهْملَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ رَاء
وَأما يحيى هَذَا فَكَانَ فَقِيها أثنى عَلَيْهِ ابْن سَمُرَة وَسَماهُ الشَّيْخ الزَّاهِد وَهُوَ مِمَّن أَخذ عَن ابْن أبي ميسرَة مَعَ أَخِيه أبي الْفرج بِمَدِينَة الْجند أَخذ عَنهُ سنَن أبي قُرَّة بتاريخ سِتّ وَسبعين وأربعمئة وزميله فِي الْقِرَاءَة أَيْضا وَسَمَاع الرسَالَة الجديدة القَاضِي مُحَمَّد اليافعي وَالِد أبي بكر الْآتِي ذكرهمَا وَذَلِكَ بِجمع كثير من الْفُقَهَاء وَكَانَ يحيى إِمَامًا بِجَامِع الْجند وَولي بعض أمره من قبل الْمفضل وَولده عمر بن يحيى كَانَ فَاضلا وأزوج ابْنَته من القَاضِي مُحَمَّد اليافعي وَولده أَبُو بكر مِنْهَا
قَالَ ابْن سَمُرَة وَلَا أعرف لَهُ تَارِيخا
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم اليافعي أَخذ عَن ابْن أبي ميسرَة وَغَيره ولي قَضَاء الجؤة والجند وَقبل الْمفضل بن أبي البركات وَكَانَ معدودا من أَصْحَاب أبي بكر بن جَعْفَر أَيَّام أوقع الْمفضل بَينه وَبَين الْفَقِيه زيد مَا أوقع وَقد ذكرته
وَمِنْهُم مَالك بن حري الجندي وَولده إِبْرَاهِيم حضر سَماع سنَن أبي قُرَّة على ابْن أبي ميسرَة بِمَسْجِد الْجند سنة سِتّ وَتِسْعين وأربعمئة ونسخته للْكتاب صَارَت إِلَيّ وَعَلَيْهَا سَماع جمع من الْفُقَهَاء نفع الله بهم ومكتوب على النُّسْخَة بِخَطِّهِ مَا مِثَاله وَقفه مَالِكه ابْن حري الجندي على الْمُسلمين وَهُوَ الَّذِي ذكرت أَنه صَار إِلَيّ وَلم أجد لَهُ وَلَا لمُحَمد بن عبد الله تَارِيخا
وَمن المشيرق أَبُو عَليّ أسعد بن الْفَقِيه خير بن الإِمَام يحيى بن ملامس مقدمي(1/249)
الذّكر تفقه بِأَبِيهِ وَهُوَ أحد أَشْيَاخ الْحَافِظ العرشاني الْآتِي ذكره رَأَيْت بِخَطِّهِ يَقُول أَخْبرنِي أسعد بن خير يَعْنِي هَذَا من أصل كِتَابه فِي منزله بالقرانات من مشيرق أحاظه بجمادى الْآخِرَة سنة سِتّ عشرَة وخمسمئة وَقد أَخذ عَن أسعد هَذَا جمع كثير من نواحي شَتَّى وَكَانَت وَفَاته بمنزله الْمَذْكُور سنة سبع عشرَة وَقيل ثَمَانِي عشرَة وخمسمئة
وَمِنْهُم أسعد بن الْفَقِيه الْهَيْثَم مقدم الذّكر ولد أسعد يَوْم الِاثْنَيْنِ لخمس خلون من صفر سنة ثَلَاث وأربعمئة تفقه بإبراهيم بن أبي عمرَان وَأخذ عَن خير بن يحيى هُوَ وولداه زيد وَعَمْرو كتاب البُخَارِيّ وجدت ذَلِك بِخَطِّهِ إجَازَة لَهُم وَصُورَة مَا وجدت بِهِ بِجُزْء من البُخَارِيّ مَا مِثَاله سمع عَليّ هَذَا الْجُزْء من صَحِيح البُخَارِيّ الشَّيْخ الْفَقِيه أسعد بن الْهَيْثَم وولداه زيد وَعَمْرو وَكَانَ هَذَا أسعد أحد شُيُوخ زيد الفائشي وَتُوفِّي بقرية السحي حَيْثُ كَانَ مَسْكَنه ومسكن أَبِيه بتاريخ الثُّلَاثَاء بعد الْعَصْر لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من الْقعدَة سنة ثَمَانِي وَتِسْعين وأربعمئة
وَمِنْهُم ابْنه عَمْرو ومولده شهر الْحجَّة أحد شهور سنة ثَلَاث وَخمسين وأربعمئة تفقه بِأَبِيهِ وَقد تقدم مَعَه عَن خير بن يحيى وَهُوَ أحد فُقَهَاء الحجفة والجرينة إِذْ قد مضى ذكر سَبَب مصيرهما إِلَى هَاتين القريتين وَكَانَ لَهُ أَخ اسْمه زيد وَهُوَ الَّذِي ذكرت أَنه سمع مَعَ أَبِيه وأخيه على الْفَقِيه خير بن ملامس وبحثت هَل لَهُ عقب أم لَا فَقيل لَا عقب لَهُ وَكَانَت وَفَاة الْفَقِيه عَمْرو يَوْم الثُّلَاثَاء بعد الظّهْر لسبع خلون من رَجَب أحد شهور سنة سبع وَعشْرين وخمسمئة
وَمن جبل بعدان وَهُوَ أحد جبال الْيمن المعدودة ذَات الْمزَارِع والأنهار والعيون وَهُوَ على تَثْنِيَة بعد الَّذِي هُوَ ظرف مَكَان خرج مِنْهُ جمَاعَة من الْفُضَلَاء
مِنْهُم يَعْقُوب بن أَحْمد تفقه بإبراهيم بن أبي عمرَان أثنى عَلَيْهِمَا جَمِيعًا ابْن سَمُرَة ثَنَاء مرضيا فَقَالَ كَانَ إِبْرَاهِيم وتلميذه يَعْقُوب من أفاضل النَّاس وأخيار فقهائهم زهدا وعلما وَعَملا وَكَانَ غَالب تفقههم إِذْ ذَاك بمختصر الْمُزنِيّ وَشَرحه لِابْنِ ملامس مقدم الذّكر وبالإيضاح لأبي عَليّ الطَّبَرِيّ وَكَانَ يَعْقُوب هَذَا أحد أَشْيَاخ زيد الفائشي(1/250)
وَمِنْهُم عبد الله مُوسَى الآجلي تفقه بِبَعْض بني ملامس وَلم أتحقق لَهُ وَلَا لمن ذكر قبله تَارِيخا إِذْ لم يذكر ابْن سَمُرَة ذَلِك وَلَا لَهما ذُرِّيَّة تعرف فأسألهم كَمَا فعلت فِي الْغَيْر
وَمن وَادي السحول ثمَّ من الملحمة أَحْمد بن الْفَقِيه إِبْرَاهِيم بن أبي عمرَان تفقه بِأَبِيهِ وَمِنْهُم عبد الله بن يزِيد اللعفي نسبا الْحرَازِي بَلَدا وجده الَّذِي نسب إِلَيْهِ رجل من حراز المستحرزة اسْمه لعف بِضَم اللَّام وَسُكُون الْمُهْملَة ثمَّ فَاء وحراز بِفَتْح الْحَاء وَالرَّاء ثمَّ ألف ثمَّ زَاي صقع كَبِير من بِلَاد الْيمن خرج مِنْهُ جمع من الْأَعْيَان كَانَ عبد الله هَذَا كَامِل الْفضل بالفقه والقراءات وَالْأُصُول وجودة الْخط لَهُ تصانيف فِي أصُول الدّين على مُعْتَقد السّلف وتصانيف فِي علم الْقرَاءَات وَكَانَت بِهِ دعابة
حُكيَ أَنه دخل يَوْمًا مَسْجِد ابْن عراف بِذِي جبلة فَوجدَ بِهِ جمَاعَة من سلاطين الْعَرَب وَكَانَ قد أرسل إِلَى الْمفضل يسْأَله أَن يَأْذَن لَهُ فِي الدُّخُول عَلَيْهِ فَلَمَّا دخل على الْقَوْم الْمَسْجِد سلم عَلَيْهِم فَردُّوا عَلَيْهِ لَا كَمَا يَنْبَغِي بل على طَرِيق الاحتقار فَبَيْنَمَا هُوَ قَاعد إِذْ جَاءَهُ الرَّسُول يستدعيه إِلَى الْمفضل فَتَطلع عَلَيْهِ الْحَاضِرُونَ وَقَالَ لَهُ أحد السلاطين أَنْت فَقِيه فَقَالَ مجَاز فَقَالَ وَكَيف ذَلِك قَالَ كَمَا أَن السلاطين حَقِيقَة ومجاز الْحَقِيقَة كالمفضل بن أبي البركان وأسعد بن وَائِل وَالْمجَاز مثلكُمْ فاستحوا مِنْهُ وَكَانَت وَفَاته بعد خمسمئة بِيَسِير(1/251)
وَمن زبيد ثمَّ من فُقَهَاء بني عقامة أول من شهر مِنْهُم بعد جدهم القادم الْمَذْكُور أَولا أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن مُحَمَّد بن أبي عقامة بن الْحسن بن مُحَمَّد بن هَارُون الْوَاصِل بِالْقضَاءِ من بَغْدَاد صُحْبَة ابْن زِيَاد كَمَا قدمنَا
قَالَ ابْن سَمُرَة وَأهل هَذَا الْبَيْت يَعْنِي بني أبي عقامة أول من قدم وجهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم يَعْنِي فِي افْتِتَاح الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة وعنهم ظَهرت تصانيف مَذْهَب الشَّافِعِي وَكَانَ الْحسن الْمَذْكُور إِمَامًا فِي أَنْوَاع الْعلم شهير الذّكر بذلك وَإِلَيْهِ تنْسب الْخطب العقامية وَله شعر فائق وَترسل رائق وَله كتاب نَوَادِر مَذْهَب أبي حنيفَة الَّتِي يستشنعها أَصْحَاب الشَّافِعِي وَغَيرهم صَار كَمَا ذكرنَا درة شنع بهَا وَقَالَ مَا يلائم التشنيع وَقد صَار الْكتاب فِي الْيمن قَلِيل الْوُجُود لِأَن الْحَنَفِيَّة اجتهدت بتحصيله وإذهابه كَمَا فعل بَنو عقامة بمفيد جياش لِأَنَّهُ ثلم نسبهم
وللحسن مُصَنف سَمَّاهُ جَوَاهِر الْأَخْبَار وَله مُخْتَصر فِي علم الْفَرَائِض والحساب وَآخر سَمَّاهُ الملطف فِي علم المساحة وقصيدته النونية تدل على اتساع علومه وعلو همته أوردتها اسْتِدْلَالا على فَضله وتحقيقا لصدقه وَهِي ... إِذا لم تسد فِي ليَالِي الشَّبَاب ... فَلَا سدت مَا عِشْت من بعدهنه
وَهل جلّ عمرك إِلَّا الشَّبَاب ... فَخذ مِنْهُ حظا وَلَا تهدرنه ...(1/252)
.. إِذا مَا تحطم صدر الْقَنَاة ... فَلَا ترجون من الزج طعنه
فَلَا وَأبي مَا أضعت الشَّبَاب ... فخرمته تَحت ظلّ الأكنه
وَلَكِن سعيت لكسب الْعُلُوم ... كسعي أبي قبل فِي كسبهنه
فَأَبِنْ إِلَيّ نوافرهن ... كأوب الطُّيُور إِلَى وكرهنه
فَرَحَّبَ جناني حوالهن ... وَغرب لساني ذليق بهنه
إِذا مَا أجل فِي ميادينهن ... أجل يسرة ثمَّ شاما ويمنه
تحلى حداي سعاة الرِّجَال ... وَيقصر عَمَّن وَرَاء الأعنه
وَعَن فنن الْمجد ذوت الرِّجَال ... فاخلو وخيمت فِي كل فنه
فسل بِي إِذا الْقرن إِمَّا سَأَلت ... تقل سَائِر الْقَوْم لم ير قرنه
كَلَام إِذا أَنا أصدرته ... فكالمخذم العضب فَارق جفْنه
يسير مَعَ الشهب أَنى يسير ... وَقد ودت الشهب أَن لَو يكنه
فَلَو رام سحبان دَعَا غَيره ... مقَالا لألجمت فَاه بلكنه
فَهَل قد رَأَيْتُمْ فَتى قطّ مثلي ... لعشرين فَنًّا تفرغ ذهنه
وَمَا التيه شأني ولكنني ... أحدثكُم عَن إلهي بمنه
فقد قَالَ لي اشكروا وَلَا تكفرن ... وَحدث بصنعي وَلَا تكتمنه
وَقَالَ الرَّسُول أَنا ابْن الذبيحين ... وَخير الْبَريَّة هَديا وسنه ... وَمن شعره مَا ورد جَوَابا على المعري وَذَلِكَ حِين بلغه قَوْله ... وَلما رَأينَا آدما وفعاله ... وتزويجه ابنيه ببنتيه فِي الدنا
علمنَا بِأَن النَّاس من أصل زنية ... وَأَن جَمِيع النَّاس من عنصر الزِّنَا ... فَأَجَابَهُ ... لعمرك أما القَوْل فِيك فصادق ... وَتكذب فِي البَاقِينَ من شط أَو دنا
كَذَلِك إِقْرَار الْفَتى لَازم لَهُ ... وَفِي غَيره لَغْو بذا جَاءَ شرعنا ...(1/253)
وامتحن بِقَضَاء الْقُضَاة فِي أَيَّام الصليحيين ثمَّ مَعَ آل نجاح فَكَانَ أسعد بن شهَاب الْآتِي ذكره نَائِب الصليحي بتهامة يشكره ويثني عَلَيْهِ وَيَقُول أَقَامَ الْحسن عني أُمُور الشَّرِيعَة قيَاما يُؤمن عَيبه ويحمد غيبه فَإِذا كَانَ هَذَا ثَنَاء الضِّدّ المشاقق المعاند فِي الطَّرِيق وَالْمذهب فَكيف من سواهُ وَفِي مثل ذَلِك يَقُول الشَّاعِر ... وفضائل شهِدت بِهِ أعداؤه ... وَالْفضل مَا شهِدت بِهِ الْأَعْدَاء ... وَأثْنى عَلَيْهِ عمَارَة فِي مفيده وَإِن لم يُدْرِكهُ فقد أدْرك من حقق لَهُ مَا ذكر عَنهُ فِي مفيده وَمن شعره مَا أوردهُ ابْن العمك الْآتِي ذكره فِي طبقَة متأخري زَمَاننَا من أهل سِهَام فِي كِتَابه الَّذِي سَمَّاهُ الْكَامِل فِي الْعرُوض وَصِيغَة الشّعْر فِي بَاب شرح محَاسِن اللَّفْظ قَالَ وَمن ذَلِك قَول الْحسن بن أبي عقامة ... نَحن الَّذين متينة أوصالنا ... فِي الدّين لَا قطع الردى أوصالنا
هَذَا الَّذِي أوصى بِهِ جد لنا ... لمحا بمجد جدوده أوصى لنا ... فِي الْبَيْت الأول موضعان هما أوصالنا يَنْبَغِي أَن يعرف كَونهمَا اسْمَيْنِ لَا يكتبان إِلَّا بِالْألف وَفِي الثَّانِي أوصى مرَّتَيْنِ وهما فعلان يكتبان بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة من تَحت
وَكَانَ الْحسن يمِيل إِلَى الْحَبَشَة وَيرى أَنهم أولى بِالْملكِ من الصليحيين لسَبَب تبَاين الْمَذْهَب وَكَانَ أحد الْأَسْبَاب لعود الْملك إِلَى جياش بن نجاح فَكَانَ عِنْده مُعظما مبجلا يلقبه بمؤتمن الدّين فَعرض لجياش خطْبَة امْرَأَة من الفرسانيين أهل موزع فندبه لخطبتها فَتقدم إِلَى أَهلهَا وأعلمهم بالرسالة لَهُ فَأَجَابَهُ بعض وَتَأَخر عَنهُ بعض ثمَّ إِن بَعضهم سَأَلَهُ عَن جَوَاز ذَلِك وَقد بَينه وَبينهمْ ألفة عَظِيمَة من حَيْثُ إِنَّهُم يرجعُونَ فِي النّسَب إِلَى تغلب وَهُوَ كَذَلِك فَقَالَ إِذا لم ترض الْمَرْأَة والأولياء جَمِيعًا لم يَصح(1/254)
النِّكَاح فأصروا على الِامْتِنَاع ووثقوا بمشورته ثمَّ لما عَاد إِلَى جياش أخبرهُ بتمنعهم فَلم يزل جياش يستدرجهم ويرغبهم بِالْمَالِ حَتَّى أجابوا وأزوجوه فَلَمَّا زفت إِلَيْهِ الْمَرْأَة وَصَارَت مَعَه سَأَلَهَا عَن سَبَب التمنع فَأَخْبَرته بمقالة القَاضِي لَهُم فَحمل عَلَيْهِ فِي بَاطِنه حَتَّى أَنه قَتله ظلما وعدوانا وَذَلِكَ لبضع وَثَمَانِينَ وأربعمئة وَكَانَ ذَلِك تَصْدِيقًا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أعَان ظَالِما أغري بِهِ وَلَقَد أحسن ابْن القم فِي قَوْله يُخَاطب جياشا ... أَخْطَأت يَا جياش فِي قتل الْحسن ... فقأت وَالله بِهِ عين الزَّمن
وَلم يكن منطويا على دخن ... مبرأ من الفسوق والدرن
كَانَ جزاه حِين ولاك الْيمن ... قتلكه وَدَفنه بِلَا كفن
ولاك فِي السِّرّ مِنْهُ والعلن ... ملقبا لَهُ بالمؤتمن ... وَكَانَ جياش قد اتّصف بِالْعَدْلِ حِين صحب الْحسن وَعمل بقوله واقتدى بِفِعْلِهِ فَلَمَّا قَتله أنكر النَّاس مِنْهُ ذَلِك ونسبوه إِلَى الظُّلم وحذروا مِنْهُ كَابْن القم والوزير خلف وَغَيرهمَا وَصَارَ ابْن القم يكاتبه وينقم عَلَيْهِ بِمَا فعله بالْحسنِ وَمن ذَلِك ... تَفِر إِذا جر المكرم رمحه ... وتشجع فِي من لَيْسَ يحلي وَلَا يمري ... وَلم يزل بنوا أبي عقامة ينقمون على ابْن القم فِي هَذَا الْبَيْت وَيَقُولُونَ قتل صاحبنا أَهْون علينا من قَوْله لَا يحلي وَلَا يمري هَكَذَا ذكره عمَارَة وَمُرَاد ابْن القم أَن الْحسن كَانَ غير مُسْتَحقّ للْقَتْل لِأَن الْمُلُوك لَا تفتخر إِلَّا بقتل الأضداد والأنداد أما الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء فَغير لَائِق قَتلهمْ مَعَ الِاسْتِحْقَاق فَكيف بِعَدَمِهِ فَمَعْنَاه يَا جياش أَنْت عِنْدَمَا تسمع بمجئ المكرم تفزع وتفر وَإِنَّمَا تظهر شجاعتك فِيمَن لَا يقاتلك وَلَا يُقَاتل سواك وَلَا يضر وَلَا ينفع فِيمَا أَنْت بصدده عَن قيام الْملك ثمَّ إِن فِي أَيَّام جياش تعطل الحكم عَنْهُم وَلم يكد يُقيم جياش غير مُدَّة يسيرَة صنف فِي أَثْنَائِهَا مفيده وقدح فِي آل أبي عقامة وبالغوا لذَلِك فِي إعدامه وَلم يسمعوا مِنْهُ بنسخة إِلَّا اشتروها وأعدموها فَلذَلِك قل وجوده(1/255)
ثمَّ قَامَ بعد الْحسن برياسة الْقَضَاء أَبُو الْفتُوح وَسَيَأْتِي ذكره لَكِن جرت الْعَادة غَالِبا أَن مَتى عرض ذكر لأحد من الْأَعْيَان تثبت من حَاله مَا لَاق وَقد عرض مَعَ ذكر الْحسن ذكر المعري ثمَّ ذكر ابْن القم
فَأَما المعري فَهُوَ أَبُو الْعَلَاء أَحْمد بن عبد الله بن سُلَيْمَان التنوخي نسبا ثمَّ المعري بَلَدا والتنوخي نِسْبَة إِلَى تنوخ قَبيلَة من الْعَرَب بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَضم النُّون وَسُكُون الْوَاو ثمَّ خاء مُعْجمَة
قَالَ ابْن خلكان وَهُوَ اسْم لعدة قبائل اجْتَمعُوا قَدِيما فِي الْبَحْرين وتحالفوا على التناصر وَأَقَامُوا هُنَالك فسموا تنوخا من التنوخ وَهُوَ الْإِقَامَة وهم من نَصَارَى الْعَرَب الْمَذْكُورين فِي كتب الْفِقْه مَعَ بهرا وتغلب
وَأما المعري فنسبة إِلَى المعرة بلد صَغِيرَة فِي الشَّام على قرب من بلد حماة وشيرز فسكنها المعري فنسب إِلَيْهَا هَكَذَا كَلَام ابْن خلكان وميلاده يَوْم الْجُمُعَة عِنْد مغيب الشَّمْس لثلاث بَقينَ من ربيع الأول سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وثلاثمئة بالمعرة كَانَ إِمَامًا فِي اللُّغَة متضلعا فِي فنون شَتَّى وَله كتاب لُزُوم مَا لَا يلْزم وَهُوَ كتاب كَبِير يَقع فِي خَمْسَة أَجزَاء وَله سقط الزند ديوَان شَرحه أَيْضا وَسَماهُ ضوء السقط
قَالَ ابْن خلكان وَبَلغنِي أَن لَهُ كتابا سَمَّاهُ الأيك والغصون يُقَارب المئة جُزْء قَالَ وَكَانَ عَلامَة عصره عَنهُ أَخذ جمَاعَة مِنْهُم الْخَطِيب التبريزي وَأَبُو الْحسن عَليّ بن همام وَأَبُو الْقَاسِم عَليّ بن الْحُسَيْن التنوخي وَكَانَ أعمى وَسبب عماه من الجدري(1/256)
وَهُوَ فِي الرَّابِعَة من سني عمره غشي عينه الْيُمْنَى بَيَاض وَذَهَبت الْيُسْرَى جملَة وَدخل بَغْدَاد مرَّتَيْنِ مرّة فِي سنة ثَمَانِي وَسِتِّينَ وثلثمئة وَالْأُخْرَى فِي سنة تسع وَتِسْعين أَقَامَ فِي هَذَا الدُّخُول سنة وَسَبْعَة أشهر ثمَّ رَجَعَ المعرة فَلَزِمَ منزله وسمى نَفسه رهين المحبسين للُزُوم منزله وَذَهَاب بَصَره وَغلب عَلَيْهِ مُعْتَقد الْحُكَمَاء فَأَقَامَ خمْسا وَأَرْبَعين سنة لَا يَأْكُل اللَّحْم يُرِيد أَن لَا يَأْتِي أكله إِلَّا بِالذبْحِ وَهُوَ تَعْذِيب وَغير جَائِز التعذيب وَلَا الإيلام مُطلقًا فِي جَمِيع الْحَيَوَانَات وَعمل الشّعْر وَهُوَ ابْن إِحْدَى عشرَة سنة
قَالَ ابْن خلكان من شعره فِي اللُّزُوم ... لَا تَطْلُبن بِغَيْر حَظّ رُتْبَة ... قلم البليغ بِغَيْر حَظّ مغزل
سكن السما كَانَ السَّمَاء كِلَاهُمَا ... هَذَا لَهُ رمح وَهَذَا أعزل ... وَقد تقدم الذّكر أَنه كَانَ على مُعْتَقد الْأَطِبَّاء حُكيَ أَن الْوَزير أَبَا نصر أَحْمد بن يُوسُف دخل المعرة وَاجْتمعَ بِهِ فَشَكا إِلَيْهِ حَاله وَأَنه مُنْقَطع عَن النَّاس وهم لَا يَدعُونَهُ من أذاهم اتهمهم أَنهم يكفرونه فَقَالَ لَهُ الْوَزير مَا لَهُم وَلَك وَقد تركت لَهُم الدُّنْيَا والاخرة فَقَالَ أَبُو الْعَلَاء وَالْآخِرَة أَيْضا وَالْآخِرَة وَجعل يكررها ويتألم
إِن كثيرا من الْعلمَاء يَعْتَقِدُونَ مروقه عَن الدّين وَمَوته على ذَلِك وَمِنْهُم من يَقُول إِنَّه تَابَ قبل الْمَوْت ثمَّ قابلوا ذَلِك بَين قَائِل لصِحَّته وَقَائِل إِنَّه لم يكن إِلَّا خشيَة نفور النَّاس عَن قبرانه وشهود جنَازَته فَالله تَعَالَى يعصمنا من الْخَطَأ ويوفقنا لاستعطاء الْعَطاء وَاسْتدلَّ قَائِل ذَلِك بِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُ فِي مرض مَوته ثمَّ أوصى أَن يكْتب على قَبره مَا يُحَقّق(1/257)
أَن مَوته كَانَ على المعتقد الْمَذْكُور وَقت إحساسه بِالْمَوْتِ وَهُوَ بَيت شعر ... هَذَا جناه أبي عَليّ ... وَمَا جنيت على أحد ... قَالَ ابْن خلكان وَهَذَا إِشَارَة إِلَى معتقده فَإِن الْحُكَمَاء يَعْتَقِدُونَ ان الْوَلَد جِنَايَة الْوَالِد فَإِنَّهُ سَبَب وجوده وَخُرُوجه إِلَى هَذَا الْعَالم الَّذِي هُوَ بِهِ متعرض الْحَوَادِث والآفات وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث ربيع الأول سنة تسع وَأَرْبَعين وأربعمئة بالمعرة ورثاه تِلْمِيذه أَبُو الْحسن عَليّ بن همام بقوله إِشَارَة فِيهِ إِلَى مَا حكيناه عَنهُ ... إِن كنت لم ترق الدِّمَاء زهادة ... فَلَقَد أرقت الْيَوْم من جفني دَمًا
سيرت ذكرك فِي الْبِلَاد كَأَنَّهُ ... مسك فسامعه تضمخ أَو فَمَا
وَأرى الحجيج إِذا أردوا لَيْلَة ... ذكراك أخرج فديَة من أحرما ... وَأما ابْن القم الشَّاعِر الَّذِي كَانَ يُعَاتب جياشا فَهُوَ أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن عَليّ بن مُحَمَّد بن مَيْمُون بن القم كَانَ أَبوهُ صَاحب ديوَان الْخراج بتهامة وَيَأْتِي من ذكره مَا لَاق مَعَ ذكر الْمُلُوك إِن شَاءَ الله وأعيان دولتهم وَأما هَذَا حُسَيْن فمعدود من فضلاء الْيمن ورؤساء شعرائها وَكَانَ من المكثرين وَالشعرَاء المفلقين وَكَانَت لَهُ حظوة ومنزلة عِنْد الْمُلُوك لفضله وشعره بِحَيْثُ يقدمانه على مَا سواهُمَا فِي الْيمن خَاصَّة وَرُبمَا قيل فِي الشَّام
وَلما فزع من جياش نفر مِنْهُ إِلَى الدَّاعِي سبأ بن أَحْمد الصليحي وَأقَام مَعَه بحصن أشيح فَكَانَ مبجلا أثنى عَلَيْهِ الْفَقِيه عمَارَة ثَنَاء بليغا وَقَالَ ضرب على خطّ ابْن مقلة فحكاه وَكَانَ شَاعِرًا مترسلا وَلَو لم يكن لَهُ من الترسل إِلَّا الرسَالَة الْمَشْهُورَة الَّتِي كتبهَا إِلَى الدَّاعِي سبأ الْآتِي ذكره فِي الْمُلُوك والدعاة(1/258)
قَالَ عمَارَة كَانَ يكْتب عَن الْحرَّة الملكة السيدة إِلَى الديار المصرية والأقطار النازحة وَكَانَ من علو الهمة وسمو الْقدر فِيمَا يلْبسهُ ويمتطيه على غَايَة منفية وَجُمْلَة شريفة طريفة وَأسْندَ الْفَقِيه عمَارَة إِلَى بعض من حضر مَجْلِسا لَهُ مَعَ الدَّاعِي سبأ بن أَحْمد وَقد أَرَادَ الْقيام بَين يَدَيْهِ بِشعر فَمَنعه وَرمى لَهُ بمخدة وَأَقْعَدَهُ إِكْرَاما لَهُ وَرَفعه عَن الْحَاضِرين وَكَانُوا أعيانا ثمَّ لم يقتنع سبأ بذلك حَتَّى قَالَ لَهُ أَنْت يَا أَبَا عبد الله عندنَا كَمَا قَالَ أَبُو الطّيب المتنبي ... وفؤادي من الْمُلُوك وَإِن كَانَ ... لساني يرى من الشُّعَرَاء ... فَأَنْشد حِينَئِذٍ قَوْله ... وَلما مدحت الهبزري ابْن أَحْمد ... أَجَاد فكافاني على الْمَدْح بالمدح
فعوضني شعرًا بشعري وَزَادَنِي ... نوالا فَهَذَا رَأس مَالِي وَذَا ربحي
شققت إِلَيْهِ النَّاس حَتَّى رَأَيْته ... فَكنت كمن شقّ الظلام إِلَى الصُّبْح ... وَهَذَا من شعره فِي مدح الدَّاعِي سبأ وَمن محَاسِن شعره قَوْله فِي الرسَالَة إِلَيْهِ ... يُقيم الرِّجَال الموسرون بأرضهم ... وَيَرْمِي النَّوَى بالمقترين المراميا
وَمَا تركُوا أوطانهم عَن ملالة ... وَلَكِن حذارا من شمات الأعاديا ... وَله الشّعْر الْفَائِق والنثر الرَّائِق مِنْهُ مَا مدح بِهِ السُّلْطَان سبأ بن أَحْمد ... أَبَا حمير إِن الْمَعَالِي رخيصة ... وَلَو بذلت فِيهَا النُّفُوس الكرائم
وجدت مطارا يَا ابْن أَحْمد وَاسِعًا ... إِلَى غَرَض لَو ساعدتني القوادم
وَمَا أَنا إِلَّا السهْم لَو كَانَ رائش ... وَمَا أَنا إِلَّا النصل لَو كَانَ قَائِم
فَلَا تحتقر جفنا يبيت مسهدا ... ليدرك مَا يهوى وجفنك نَائِم
فَلَا عَار إِن جَار الزَّمَان وَأَهله ... إِذا لم تخنى همتي والعزائم
أَبى الْقلب إِلَّا حبكم وولاءكم ... وَإِن أنفت فِيهِ الأنوف الرواغم
تَأمل فكم مَال وهبت ونائل ... بذلت فَلم تثقل عَلَيْك المغارم ... وَمن شعره مَا كتبه على كأس فضَّة(1/259)
.. إِن فضلي على الزجاجة أَنِّي ... لَا أذيع الْأَسْرَار وَهِي تذيع
ذهب سَائل حواه لجين ... جامد إِن ذَا لشَيْء بديع ... قَالَ الْفَقِيه عمَارَة حَدثنِي الْفَقِيه أَبُو السُّعُود بن عَليّ الْحَنَفِيّ قَالَ حَدثنِي ابْن أبي الصَّباح أَنه لما دخل الْعرَاق وَحضر مجْلِس الْوَزير يَوْمئِذٍ وَعِنْده جمَاعَة يتذاكرون الشّعْر فَقَالَ لي هَل تحفظ شَيْئا لأحد من أهل الْيمن فَأَنْشَدته قَول ابْن القم من قصيدته ... اللَّيْل يعلم أَنِّي لست أرقده ... فَلَا يغرنك من قلبِي تجلده
فَإِن دمعي كصوب المزن أنشره ... وَإِن وجدي كحر النَّار أبرده
لي فِي هوادجكم قلب أضن بِهِ ... فسلموه وَإِلَّا قُمْت أنْشدهُ
وَبَان للنَّاس مَا قد كنت أكتمه ... من الْهوى وبدا مَا كنت أجحده ... وَكَانَ الْوَزير مُتكئا فَاسْتَوَى جَالِسا واستعادها مرَارًا ثمَّ بَعَثَنِي فِي الْمَوْسِم إِلَى مَكَّة فاشتريت لَهُ الدِّيوَان فَلَمَّا جِئْته بِهِ كَانَ من أقوى الذرائع إِلَى صحبته والانقطاع إِلَى جملَته ومناقب ابْن القم فِي الْفضل والأنفة على أَهله فِي النّسَب والصنعة كَثِيرَة وَكفى شَاهدا على ذَلِك مَا خَاطب بِهِ جياش حِين قتل القَاضِي الْحسن وَقد تقدم أَنه قَامَ برئاسة الْبَيْت بعد الْحسن ابْن عَمه القَاضِي الْأَجَل أَبُو الْفتُوح وَهُوَ ابْن أخي الْحسن وَله الذُّرِّيَّة الْكَثِيرَة الَّتِي تُوجد بقيتها بزبيد
قَالَ عمَارَة كَانَ أَبُو الْفتُوح أوحد عصره وَإِمَام مصره قَامَ بِالْعلمِ قيَاما كليا وصنف فِيهِ كتبا جليلة فِي الْفِقْه خَاصَّة وَمذهب الشَّافِعِي لم يتفقه أحد من أهل زبيد وَمن حولهَا فِي مَذْهَب الشَّافِعِي بعد وجودهَا إِلَّا مِنْهَا وَمِنْهَا كتاب التَّحْقِيق عَنهُ نقل صَاحب الْبَيَان عدَّة مسَائِل وَكفى لَهُ شَاهدا بِجَوَاز الْأَخْذ عَنهُ نقل صَاحب الْبَيَان إِلَى مُصَنفه الَّذِي انْتفع بِهِ كل إِنْسَان وَله مُخْتَصر فِي أَحْكَام الْجِنَايَات وَكَانَ تفقهه بِالْإِمَامِ أبي الْغَنَائِم عَن الشَّيْخ أبي حَامِد الْمُقدم الذّكر
قَالَ عمَارَة وَكَانَ أَبُو الْفتُوح لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم عَظِيم الْغَضَب فِيهِ مر بداره ابْن بجارة أحد فُقَهَاء الْحَنَفِيَّة الْآتِي ذكره وَقد انتشى من الشَّرَاب وَكَانَ رجلا مَاجِنًا يحذو طَرِيق أبي نواس فِي الخلاعة وَالشعر فَجعل يُغني بِصَوْت عَال وَذَلِكَ فِي ليل فصاح بِهِ القَاضِي إِلَى هَذَا الْحَد يَا حمَار وَلم يكن ثمَّ عون على الْبَاب وارتجل ابْن بجارة(1/260)
.. سَكَرَات تعتادني وخمار ... وانتشاء أعتاده ونعار
فملوم من قَالَ إِنِّي ملوم ... وحمار من قَالَ إِنِّي حمَار ... وَلم يذكر لَهُ عمَارَة تَارِيخا
وَمِنْهُم ابْنه أَبُو الْعِزّ عُثْمَان بن أبي الْفتُوح كَانَ فَقِيها مبرزا فَاضلا شَاعِرًا مفلقا سخيا محسنا إِلَى الشُّعَرَاء معدودا فِي ذَوي المروءات والإنسانيات
قَالَ عمَارَة وَكَانَ من المجيدين المكثرين يَعْنِي الشُّعَرَاء وَقد عده فيهم قَالَ وَولي من قبل أَبِيه قَضَاء الْبِلَاد المصاقبة لزبيد كحيس وفشال وَأخذ منصب الْقَضَاء بعده وَله شعر يزِيد على رقة النسيم ويستطاب كَمَا يستطاب التسنيم وَمِنْه قَوْله وَقد زار قُبُور أَهله فِي الْعرق الْمقْبرَة الْقبلية من زبيد وتعرف بمقابر بَاب سِهَام ... يَا صَاح قف بالعرق وَقْفَة معول ... وَانْزِلْ هُنَاكَ فثم أكْرم منزل
نزلت بِهِ الشم البواذخ بَعْدَمَا ... لحظتهم الجوزاء لَحْظَة أمثل
أخواي وَالْولد الْعَزِيز ووالدي ... يَا حطم رُمْحِي عِنْد ذَاك ومنصلي
هَل كَانَ فِي الْيمن الْمُبَارك قبلهم ... أحد يُقيم صغا الْكَلَام الأميل
حَتَّى أنار الله سدفة أَهله ... ببني عقامة بعد ليل أليل
... لَا خير فِي قَول امرىء متمدح ... لَكِن طغا قلمي وأفرط مقولي ... وَمن شعره فِي زُرَيْق الفاتكي الْوَزير الْآتِي ذكره ... نَفسِي إِلَيْك كَثِيرَة الأنفاس ... لَوْلَا مقاساة الزَّمَان القاسي ... وامتدحه الجليس أَبُو الْمَعَالِي حِين دخل الْيمن بقصائد كَثِيرَة من بَعْضهَا ... ابْني عقامة لست مقتصدا ... فِي وصفكم بالمدح مَا عِشْت ...(1/261)
.. علقت يَدي مِنْكُم بِحَبل فَتى ... مَا فِي مرائر وده أمت ... وَصَارَ الْعلم إِلَى طبقَة اخرى فَيَنْبَغِي الْبِدَايَة بِالْإِمَامِ الَّذِي عَمت بركته وَظَهَرت شهرته وَهُوَ أَبُو أُسَامَة زيد بن عبد الله بن جَعْفَر بن إِبْرَاهِيم اليفاعي بَلَدا وَهِي قَرْيَة بالمعافر تسمى يفاعة بِفَتْح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَالْفَاء ثمَّ ألف وَفتح الْعين الْمُهْملَة ثمَّ هَاء بعْدهَا أثنى عَلَيْهِ ابْن سَمُرَة ثَنَاء مرضيا فَقَالَ كَانَ من أَعْيَان عُيُون الْعلمَاء فِي الْيمن وأفراد شُيُوخ الزَّمن أستاذ الأستاذين وَشَيخ المصنفين زيد بن عبد الله تدير الْجند تفقه فِي بدايته بِابْن جَعْفَر مقدم الذّكر وبإسحاق الصردفي وَتزَوج بِإِحْدَى ابْنَتَيْهِ كَمَا قدمنَا وارتحل مَكَّة فَأخذ بهَا عَن الشَّيْخَيْنِ الْإِمَامَيْنِ الْحُسَيْن بن عَليّ الطَّبَرِيّ الشَّاشِي وَأبي نصر الْبَنْدَنِيجِيّ مصنفات الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ ثمَّ مصنفاتهما وَكَانَ من أَصْحَاب أبي إِسْحَاق ثمَّ عَاد إِلَى الْجند فَاجْتمع النَّاس إِلَيْهِ من نواح شَتَّى فقرأوا عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَن شَيْخه الإِمَام أَبُو بكر بن جَعْفَر فِي الْجند يدرس ويفتي فمالت قُلُوب النَّاس إِلَى هَذَا الْفَقِيه بِخِلَاف شَيْخه فَأخذُوا عَنهُ الْعلم وَكثر أَصْحَابه وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَنه كَانَ كلما وَصله طَالب أقرأه من غير بحث لَهُ عَن حسب أَو نسب وَالْإِمَام أَبُو بكر لَا يقرىء إِلَّا من تحقق حَسبه وَنسبه وصلاحه كَمَا قدمت ذَلِك فِي ذكره وَلَقَد سَأَلت بعض أهل الْمعرفَة عَن معنى ذَلِك فَقَالَ نظر الْفَقِيه أَبُو بكر إِلَى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تُؤْتوا الْحِكْمَة غير أَهلهَا فتظلموها وَذهب الْفَقِيه زيد إِلَى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يأتيكم أَقوام من أَطْرَاف الأَرْض يطْلبُونَ الْعلم فَاسْتَوْصُوا بهم خيرا وَلم يفرق بَين طَالب وطالب ثمَّ قَالَ وَقَول الْحُكَمَاء يمِيل إِلَى تَرْجِيح مَذْهَب الْفَقِيه أبي بكر إِذْ صَحَّ عَن بزرجمهر أَنه قَالَ لَا تعلمُوا أَوْلَاد السفلة الْعُلُوم فَإِنَّهُم مَتى علموها طالبوا معالي الْأُمُور فَإِن نالوها أولعوا بمذلة الْأَحْرَار كَمَا يرْوى ذَلِك فِي الْمشَاهد وَأَبَان ذَلِك عَن جمَاعَة لَوْلَا خشيَة(1/262)
الإطالة وَعدم كَون ذَلِك لَيْسَ من ملازم الْكتاب لذكرته كَمَا ذكر
وَكَانَت مدرسة الْفَقِيه عَن يَمِين الْمِنْبَر وَرُبمَا اتكأ وَقت التدريس على الْمِنْبَر وَكَانَ أَصْحَابه فَوق ثلثمئة متفقه فِي غَالب الْأَيَّام يقوم بإعالتهم قوتا وَكِسْوَة وَكَانُوا يملأون مَا بَين الْبَاب والمنبر كَثْرَة وَكَانَ الْفَقِيه أَبُو بكر شَيْخه يقرىء فِي الزاوية الَّتِي تَحت جِدَار بِئْر زَمْزَم وَكَانَ أَصْحَابه فِي غَالب الْأَحْوَال نَحْو خمسين طَالبا هَكَذَا ذكر بعض معلقي أخبارهم وَلم يزل ذَلِك من شَأْنهمْ حَتَّى تمت الْحِيلَة من الْمفضل فِي التَّفْرِيق بَينهم وَذَلِكَ أَنه مَاتَ ميت من أهل الْجند فَخرج الإِمَام زيد وَالْإِمَام أَبُو بكر بن جَعْفَر فِي أصحابهما يقبرون وَعَلِيهِ الثِّيَاب الْبيض لبس الحواريين والمفضل يَوْمئِذٍ بقصر الْجند فحانت مِنْهُ نظرة إِلَى الْمقْبرَة فَرَأى فِيهَا جمعا عَظِيما مبيضين فَسَأَلَ عَن ذَلِك فَقيل قبران ميت غَالب من حَضَره من الْفُقَهَاء فَعرض بذهنه مَا فعله ابْن المصوع مَعَ أَخِيه حَيْثُ قَتله وَقَالَ هَؤُلَاءِ يكفروننا وَلَا نَأْمَن خُرُوجهمْ علينا مَعَ الْقلَّة فَكيف مَعَ الْكَثْرَة ثمَّ قَالَ لحاضري مَجْلِسه انْظُرُوا كَيفَ تفرقون بَينهم وتدخلون الْبغضَاء عَلَيْهِم بِالْوَجْهِ اللَّطِيف فَجعلُوا يولون الْقَضَاء بعض أَصْحَاب الإِمَام زيد أَيَّامًا ويعزلونه وَيُوَلُّونَ مَكَانَهُ من أَصْحَاب الإِمَام أبي بكر بن جَعْفَر ثمَّ يولون إِمَامَة الْجَامِع كَذَلِك ثمَّ النّظر فِي أَمر الْمَسْجِد كَذَلِك حَتَّى ظهر السباب بَين الحزبين وَكَاد يكون بَين الْإِمَامَيْنِ فَعلم الإِمَام زيد ذَلِك فارتحل مُهَاجرا إِلَى مَكَّة
قَالَ ابْن سَمُرَة وَكَانَ الإِمَام زيد وقاضيه مُسلم بن الْفَقِيه أبي بكر بن أَحْمد بن عبد الله الصعبي الْمُقدم ذكره وولداه مُحَمَّد وأسعد وَإِمَام الْجَامِع الشَّيْخ حسان بن مُحَمَّد بن زيد بن عمر مَعَ أَتبَاع لَهُم كثير حزبا وَالْإِمَام أَبُو بكر وقاضيه مُحَمَّد بن عبد الله اليافعي وَإِمَام الْمَسْجِد الشَّيْخ يحيى بن عبد الْعَلِيم مَعَ جمَاعَة غَيرهم حزبا وَلما شاع ذَلِك عزم الْفَقِيه زيد على الارتحال خوف الْفِتْنَة وَالْمَشَقَّة على الْقَرِيب والبعيد من أَصْحَابه فكاتبه الْبعيد حَتَّى كتب إِلَيْهِ تِلْمِيذه الْفَقِيه الْعَالم يحيى بن مُحَمَّد بن أبي عمرَان من الملحمة الْآتِي ذكره إنْشَاء الله بقصيدة هِيَ هَذِه(1/263)
.. أَحييت ذكر الْعلم وَهُوَ يبيس ... وَقتلت جهلا والمقانب شوس
وهدمت ركن الزيغ وَهُوَ مشيد ... وعمرت آي الْخَيْر وَهِي دروس
وَجعلت بُنيان المكارم شامخا ... من بعد كَانَ وربعه مطموس
ونصرت حزب الْحق وَهِي كَتِيبَة ... وهزمت جَيش الْإِفْك وَهُوَ خَمِيس
ونشرت علم مُحَمَّد وأقمته ... وكذاك فَلْيَكُن الْعلَا القدموس
وَبسطت من علم الشَّرِيعَة وَاضحا ... فحيت بِهِ بعد الْمَمَات نفوس
وتداركت كَفاك كبو عثاره ... فانساب فِي حلل الْجمال يميس
وكسوت هَذَا الْعلم حلَّة زِينَة ... فَعَلَيهِ من حلل الْجمال لبوس
طلعت على ظلم الضَّلَالَة زهرَة ... من نوره فكأنهن شموس
وحملت لِلْإِسْلَامِ عبئا لم يكن ... أحد ينوء بِحمْلِهِ فيريس
لَو أَنهم قَامُوا وَأَنَّك قَاعد ... ساويتهم وَالسير مِنْك بسيس
هَذَا وَكَيف وَأَنت قُمْت بكلما ... عَنهُ ونوء الْقَوْم عَنْك جُلُوس
مَا النَّاس غَيْرك لَو عدمت لأصبحت ... من بعْدك الأذناب وَهِي رُؤُوس
ولذل ذُو فضل وَفضل نَاقص ... فِيمَا نرى فِي قومه ونقيس
فقت الورى بديانة وتكرم ... فازدان فِيك الْعلم والتدريس
أكْرم بهَا من رُتْبَة يمنية ... فِي النَّاس مَا سبأ وَمَا بلقيس
وَلَك الْحيَاء سجية مَشْهُورَة ... وَالْعلم خلق والسخاء جليس
وَالْفضل طبع والوجاهة عَادَة ... وَالصَّبْر فَهُوَ لَهُنَّ مغناطيس
أرخصت نفسا للأنام بذلتها ... ولقل مبذول يصان نَفِيس
وَإِذا فَتى فِي الله أفنى عمره ... فَلَقَد أَرَادَ صَلَاحه القدوس
والعمر ينْفد والأمور كَثِيرَة ... وَالنَّاس مِنْهُم سائس ومسوس
حسب امرىء فِي النَّاس طَاعَة ربه ... حَتَّى يذاق من الْحمام كؤوس
زيد بن عبد الله أَنْت إمامنا ... فِي عصرنا والعالم القسيس
كم نعْمَة أوليتنا مَشْهُورَة ... مَا الشَّمْس يخفي ضوءها الناموس ...(1/264)
.. قسما لما نسطيع شكرك عمرنا ... أبدا وَمَا تِلْكَ الْيَمين غموس
لَو دَامَ منا بكرَة وَعَشِيَّة ... لم يغن تبكير وَلَا تغليس
وَمَتى قنعنا بل يُرْجَى إِن يرى ... كل امرىء لَك فِي يَدَيْهِ مروس
وَالْكل أَن غرقوا فقد هَلَكُوا مَعًا ... منا وَآخر عِنْده مغموس
أوردتنا الْبَحْر الخضم فغامس ... وَإِذا يفوز بهلكهم إِبْلِيس
فتدارك الغرقى واستنقذهم ... بِالْعلمِ فَهُوَ لديننا جاسوس
وَالْعلم عمدتنا وأصل أمورنا ... وَعَلِيهِ يثبت للبنا التأسيس
وَالْكل غرسك غير أَن من الظما ... قد كَاد يهْلك غرسك المغروس
لَو عَايَنت عَيْنَاك أغصانا لَهُ ... فِيهِ النظارة ينثني وينوس
غنت بِهِ أطياره وتساقطت ... أثماره لَوْلَا اعتراه يبوس
لِرَحْمَتِهِ وسقيته مثعنجرا ... فلئن فعلت فَلَنْ يرَاهُ البوس
فلديك بَحر زاخر متغطمط ... طام وَردت عَلَيْهِ العيس
فلئن غفلت وَلم تذاركه فقد ... آل العناء لِأَنَّهُ مأيوس
وَسمعت قوما يهرجون بِرجلِهِ ... فَالْحق مَا قَالُوهُ أَو تهويس
إِن كَانَ ذَاك فَإِن أهل بِلَادنَا ... جَاءَتْهُم بعد السُّعُود نحوس
وتبدلوا من نَضرة ومسرة ... يَوْمًا لَهُ وَجه عَلَيْهِ عبوس
فلئن وطئن ركابكم فِي بَلْدَة ... سوى فخدي ذَلِك الموطوس
ولأسقين سما ذعافا ناقعا ... وَكَأن ساقي السم جالينوس
وَالروح إِن فَارَقت فَارق جِسْمه ... وَقفا عَلَيْك مدى الْحَيَاة حبيس
لَا تصغين لبائس ذكر النَّوَى ... فالشر أول أمره تيئيس
حاشاك من قتل النُّفُوس وغمطها ... فالقتل عِنْد الْعَالمين خسيس
وَالْقَوْل فِي قطع الْأَحِبَّة فَاسد ... والرأي فِي تنفيرهم منكوس
حَتَّى مَتى يَأْتِي الزَّمَان بمثلهم ... إِن الزَّمَان بمثلهم مفلوس
كم مِنْهُم حام لدين الله مَا ... فِي ذَاك توهيم وَلَا تلبيس
ذِي لبدتين غضنفر مبلغ ... عِنْد المصاع إِذا اقمطر وطيس ...(1/265)
.. فَإِذا أَتَى الأخوان صَار كَأَنَّهُ ... مِمَّا اعتراه من الْحيَاء عروس
قد صرت رَأس الْمُسلمين لدينهم ... وَلكُل قوم عُمْدَة وَرَئِيس
فَإِذا ارتحلت فَرُبمَا عَن دينهم ... مالوا وَقد عضت عَلَيْهِ ضروس
هَذَا مقَال من محب نَاصح ... مَا فِيهِ تنميق وَلَا تَدْلِيس
مثل النداء هُوَ الشعار لديننا ... وشعار دين سواكم الناقوس
واسلم وَدم فِي ألف ألف مَسَرَّة ... مَا غرد الْقمرِي والطاووس
ثمَّ الصَّلَاة على النَّبِي وَآله ... مهما تردد فِي الأنوف نفوس ... وَقد استكملت هَذِه القصيدة لحسن ألفاظها وعذوبة إيرادها وعدالة قَائِلهَا وَاسْتِحْقَاق من قيلت فِيهِ وَهِي من القصائد الطنانة بَين الْفُقَهَاء الَّذين رسخت أصولهم فِي الْفِقْه وخصوصا فِي الْجِهَة الأصابية واليحصبية والمشرقية وَهِي خَمْسَة وَخَمْسُونَ بَيْتا ثمَّ إِن الإِمَام زيد لما طَالَتْ عَلَيْهِ المشاققة ارتحل إِلَى مَكَّة حسما للمشاققة وَهِي الرحلة الثَّانِيَة فِي سنة خمسمئة فَلبث هُنَالك اثْنَتَيْ عشرَة سنة مَاتَ فِي أَثْنَائِهَا شيخاه الإمامان الطَّبَرِيّ والبندنيجي مقدما الذّكر فتعينت الْفَتْوَى على الإِمَام زيد والتدريس كَذَلِك إِذْ لم يكن بعدهمَا أكبر قدرا مِنْهُ فِي علمه وَعَمله
قَالَ ابْن سَمُرَة وَذَلِكَ أَنه كَانَ حَافِظًا نقالا كَانَ يحفظ ثلثمئة مَسْأَلَة فِي الْخلاف بأدلتها وعللها وَكَانَ فِي أثْنَاء إِقَامَته بِمَكَّة يَأْتِيهِ مغل أرضه من الْيمن موفرة فيقتات بَعْضهَا ويعامل ببقيتها حَتَّى يحصل لَهُ بِسَبَب ذَلِك مَال جزيل وَلم يزل مجللا مُعظما عِنْد المكيين وَغَيرهم حَتَّى حصلت فتْنَة بَين مُتَقَدِّمي مَكَّة وَبَين الطَّبَرِيّ بِسَبَب الْقَضَاء وَالْفَتْوَى وثار من ذَلِك شَيْء من أُمُور السلاطين وأهويتهم فتجهز الْفَقِيه عِنْد ذَلِك من مَكَّة نافرا حَتَّى لحق الْجند فَقَدمهَا سنة اثْنَتَيْ عشرَة وخمسمئة وَقيل ثَلَاث عشرَة وَكَانَ الْمفضل قد توفّي بعد خُرُوج الْفَقِيه بِنَحْوِ أَربع سِنِين وللا ذَلِك لم يرغب الْفَقِيه فِي عود الْجند وَلما تسامع النَّاس بمصير الإِمَام زيد فِي الْجند وصلوه من جَمِيع أنحاء الْيمن وَاشْتَغلُوا بِالْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ وَكَانَ الْفَقِيه أَبُو بكر بن جَعْفَر قد توفّي أَيْضا فَلم يبْق بِالْيمن من يقْصد للمعضلات وَحل المشكلات غير هَذَا الْفَقِيه فوصله طلبة الْعلم من عدن وَأبين ولحج وأنحائها ثمَّ من تهَامَة وَحضر موت وَمن الْجبَال المعافر والمخلاف ثمَّ تفقه بِهِ جمع من أهل الْجند نَوَاحِيهَا كسير وزبران وسهفنة ونخلان وَالسَّلَف(1/266)
وقياض وَمَا بلد من هَذِه الْبِلَاد إِلَّا وَله فِيهَا أَصْحَاب عرفُوا بِالْأَخْذِ عَنهُ
وَمن الْجند أَبُو بكر بن مُحَمَّد اليافعي وَغَيره وَمن ناحيتها عبد الله بن أَحْمد الزبراني وَيحيى بن أبي الْخَيْر من سير وَمُسلم بن أبي بكر من سهفنة وَعبد الله بن عُمَيْر العريقي وَيحيى بن مُحَمَّد من الملحمة صَاحب القصيدة الْمَذْكُورَة أَولا وَأَبُو حَامِد بن أبي بكر الأصبحي من الذنبتين وَلما صَار الْفَقِيه بالجند بَالغ فِي لُزُوم طَرِيق الخمول بِحَيْثُ كَانَ يدرس فِي بَيته فِي الْغَالِب ثمَّ مَتى صلى فِي الْجَامِع صلى بمؤخره وَكَانَ متورعا متنزها عَن صُحْبَة الْمُلُوك وخلطة الظلمَة وَقبُول جوائزهم بِحَيْثُ أجمع أهل زَمَانه على نزاهة عرضه وجودة علمه وَشدَّة ورعه أجمع على فَضله المؤالف والمخالف وَشهد لَهُ بِالْفَضْلِ كل عَارِف وَكَانَ مَعَ ذَلِك ذَا عبَادَة مِنْهَا أَنه كَانَ يخرج فِي كل لَيْلَة من منزله بعد هدوء اللَّيْل واشتغال النَّاس بحلاوة النّوم فَذكرُوا أَن بعض من بَات بِالْمَسْجِدِ رأى الْفَقِيه قد دخل الْمَسْجِد وَجعله بِبَالِهِ فَجعل يُصَلِّي مَا شَاءَ الله فِي الْمِحْرَاب ثمَّ خرج من الْمَسْجِد وَتَبعهُ الرجل فَلَمَّا صَار على الْبَاب أَعنِي بَاب الْمَدِينَة انْفَتح لَهُ فَخرج الْفَقِيه وَتَبعهُ الرجل مسرعا فَسَار الْفَقِيه حَتَّى صَار مَوضِع قَبره فَأحْرم وَجعل يتركع حَتَّى صعد الْمُؤَذّن المأذنة فأخف صلَاته وَعَاد الْمَدِينَة كَمَا خرج وَانْفَتح لَهُ بَابهَا ثمَّ بَاب الْمَسْجِد فَلَمَّا صلى الصُّبْح وَقعد يذكر الله وَالرجل فِي كل ذَلِك يراقبه من حَيْثُ لَا يشْعر ثمَّ دنا مِنْهُ وَقبل يَده وَأخْبرهُ بِمَا رَآهُ من الْأَمر فَقَالَ إِن أَحْبَبْت الصُّحْبَة فَلَا تخبر أحدا مَا دمنا فِي الْحَيَاة فَلم يخبر بذلك إِلَّا بعد وَفَاة الإِمَام رَحمَه الله وَكَانَ يخبر بِزِيَادَة غير مَا ذكرنَا لَكِن اقتصرنا على مَا تكَرر نَقله وَشهر خَبره
قَالَ ابْن سَمُرَة أَخْبرنِي الشَّيْخ مَنْصُور بن أَحْمد أَبُو تُرَاب العودري أَنه دخل مَدِينَة الْجند يُرِيد يسْأَل الْفَقِيه زيد بن عبد الله عَن مَسْأَلَة فَرضِيَّة قَالَ فَوجدت الْفَقِيه يقرىء أَصْحَابه بدهليز بَيته وَكَانَ صَغِير الْخلق فَلَمَّا رَأَيْته هِبته هَيْبَة عَظِيمَة واستكبرت مقَامه فغلطت فِي سُؤَالِي وتلجلجت فِي كَلَامي فآنسني الْفَقِيه بِكَلَامِهِ ورد عَليّ اللَّفْظ حَتَّى أنست وأقمت سُؤَالِي فحين عرفه جوب لي أبين جَوَاب ثمَّ لم يزل الْفَقِيه على الْحَال المرضي دينا وورعا حَتَّى توفّي بِأحد الربيعين الكائنين فِي سنة أَربع عشرَة وَقيل خمس عشرَة وَخَمْسمِائة فقبر بالمقبرة الغربية من مَدِينَة الْجند وتربته هُنَالك مَشْهُورَة لم أر فِي الْيمن تربة مثلهَا يَتَجَدَّد مَعْرفَتهَا وَيكثر زائرها
وَلَقَد يجد الزائر فِي نَفسه كَأَن(1/267)
هَذَا الإِمَام إِنَّمَا مَاتَ وَدفن عَن قريب وَله إِلَى وَقت وضعي لهَذَا الْكتاب آخر سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسبعمئة مئتا سنة وَسبع سِنِين فَلَا يكَاد أحد يَأْتِي تربته تَخْلُو عَن الزائر وَقل مَا قَصدهَا ذُو حَاجَة إِلَّا قضى الله حَاجته وَلَقَد أَخْبرنِي جمع لَا يُمكن تواطؤهم على الْكَذِب بأخبار يطول شرحها فِي ذَلِك
وَقد عرض لي مَعَ ذكر هَذَا الرجل نبذة من ذكر شَيْخه الطَّبَرِيّ والبندنيجي فَأَما الْبَنْدَنِيجِيّ فَإِنَّهُ لما قدم بمصنفات الشَّيْخ أبي إِسْحَاق صُورَة وَمعنى عكف النَّاس عَلَيْهِ وأخذوها عَنهُ وَمد ذَلِك إِلَى عصرنا لم يكد أحد يتفقه من غَيرهَا إِلَّا بعد التفقه مِنْهَا
ويروي فُقَهَاء الْيمن لَهَا فَضَائِل يطول تعدادها مِنْهَا مَا أخبرنيه الْفَقِيه أَبُو بكر بن الْفَقِيه أَحْمد بن الرَّسُول الأبيني الْآتِي ذكره أخبرنَا الْفَقِيه أَحْمد بن عمرَان أَنه كَانَ لَا يرى الْمُهَذّب طائلا وَيَقُول فقهه ظَاهر فَلَمَّا كَانَ ذَات لَيْلَة رأى فِي الْمَنَام رجلا فاتحا كتابا وَهُوَ يُشِير إِلَيْهِ أَن ينظر فِي الْكتاب قَالَ فَنَظَرت فَإِذا فِيهِ روى الْخَلِيل بن أَحْمد عَن عبد الْأَعْلَى بِسَنَدِهِ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من صلى عَليّ سبعين مرّة وَسَأَلَ الله بالمهذب ومؤلفه قضى الله لَهُ اثْنَتَيْنِ وَسبعين حَاجَة أدناه الْمَغْفِرَة وَمن أَمْثَال هَذِه الرِّوَايَة كثير
وَقد دخل الْيمن عدَّة مصنفات موجزة ومبسوطة لم يكد يحصل لَهَا من الْقبُول طائل وَلَا انْتفع بهَا النَّاس كَمَا انتفعوا بمصنفات الإِمَام أبي إِسْحَاق حَتَّى قَالَ لي بعض الْفُقَهَاء الْمُحَقِّقين من فُقَهَاء الْعَجم وَقد أَقَامَ فِي الْيمن مُدَّة وَوجد نقل أَهله وفتواهم ومناظراتهم إِنَّمَا هُوَ عَن كتب الشَّيْخ أبي إِسْحَاق وَمَتى نقل ناقل عَن غَيرهَا قل أَن يستجاد نَقله أَو يستكمل عقله ثمَّ شاركها فِي ذَلِك كتب الْغَزالِيّ مَعَ تَخْصِيص ثمَّ ولي كتب الشَّيْخ أبي إِسْحَاق فِي الْعُمُوم وَالتَّحْقِيق الْكتاب الْمُبَارك الْمُسَمّى بِالْبَيَانِ(1/268)
فمصنفات الشَّيْخ أبي إِسْحَاق هِيَ الْمُقدمَة وَمَعَهَا كتاب الْبَيَان إِذْ نحا نَحْوهَا وحقق تحقيقها وَوجد طريقها وَلم ترد مصنفات الْغَزالِيّ إِلَى الْيمن إِلَّا بعد وجود هَذِه المصنفات واستطارتها بَين الْفُقَهَاء وإقبال النَّاس عَلَيْهَا وَكَانَ أول من قدم بهَا الإِمَام زيد وَأخذت عَنهُ ثمَّ بعده أخذت عَن ابْن عبدويه الْآتِي ذكره
ثمَّ لما كَانَ الْأَمر كَذَلِك وَعرض ذكر الشَّيْخ أبي إِسْحَاق وتلميذيه الطَّبَرِيّ والبندنيجي مَعَ ذكر الشَّيْخ زيد اتجه بَيَان اللَّائِق من أَحْوَالهم إِذْ مِنْهُم إِلَى عصرنا لم يكد يتفقه أحد من أهل الْيمن بِغَيْر طريقهم وروايتهم لكتب شيخهم فرأت الْبِدَايَة بِذكر الشَّيْخ إِذْ هُوَ العنصر
فَهُوَ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن يُوسُف الشِّيرَازِيّ الفيروزاباذي مولده سنة ثَلَاث وَتِسْعين وثلثمائة بفيروزأباد
قَالَ ابْن خلكان وَهِي بَلْدَة بِفَارِس وَيُقَال هِيَ مَدِينَة جور نَقله عَن الْحَافِظ أبي سعيد السَّمْعَانِيّ فِي كِتَابه الْأَنْسَاب وضبطها بِكَسْر الْفَاء وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَضم الرَّاء الْمُهْملَة ثمَّ وَاو سَاكِنة ثمَّ زَاي مَفْتُوحَة ثمَّ ألف ثمَّ بَاء مُوَحدَة ثمَّ ألف ثمَّ ذال مُعْجمَة قدم بَغْدَاد بعد أَن تفقه بِبَلَدِهِ وَغَيرهَا بعض التفقه فَلَزِمَ مجْلِس أبي القَاضِي الطّيب الطَّبَرِيّ وَكَانَ بِهِ كَمَال تفقه وناب عَنهُ فِي مَجْلِسه ورتبه معيدا فِي حلقته وَلما بنى نظام الْملك مدرسته بِبَغْدَاد سَأَلَهُ أَن يتَوَلَّى تدريسها فَلم يفعل فولاها أَبَا نصر بن الصّباغ مُدَّة ثمَّ إِن الشَّيْخ أجَاب إِلَى توليتها فَلم يزل بهَا حَتَّى مَاتَ
قَالَ ابْن خلكان وَله التصانيف الْمُبَارَكَة المفيدة مِنْهَا الْمُهَذّب والتنبيه فِي الْفِقْه واللمع وَشَرحهَا فِي الْأُصُول والنكت والتبصرة فِي الْخلاف والمعونة فِي الجدل وَله الشّعْر الرَّائِق الْحسن مِنْهُ قَوْله ... سَأَلت النَّاس عَن خل وَفِي ... فَقَالُوا مَا إِلَى هَذَا سَبِيل
تمسك إِن ظَفرت بود حر ... فَإِن الْحر فِي الدُّنْيَا قَلِيل ... وَمِمَّا سمع من لَفظه متمثلا كثيرا ولمناقبه كتاب قد جمعت فِيهِ وَلَوْلَا الإطالة(1/269)
لذكرت طرفا جيدا مِنْهَا وَكَانَ فِي غَايَة من الْوَرع والتشدد فِي الدّين وعَلى الْجُمْلَة فمحاسنه أَكثر من أَن تحصر وَسمع من لَفظه ينشد ... يَا سائلي عني فَإِنِّي ... لأهل الْفضل كلهم غُلَام
أحبهم لأَنهم قَلِيل ... وَفِي الأنذال والسفل ازدحام ... وَهَذَانِ البيتان حِكْمَة يَنْبَغِي لأهل الْفضل حفظهما وروايتهما وَمن المسموع عَنهُ لغيره ... وَلما وقفنا بالصراة عَشِيَّة ... حيارى لتوديع ورد سَلام
وقفنا على رغم الحسود وكلنَا ... يفض على الأشواق كل ختام
وشوقني عِنْد الْوَدَاع عفافه ... فَلَمَّا رأى وجدي بِهِ وغرامي
تلثم مُرْتَابا بِفضل رِدَائه ... فَقلت هِلَال بعد بدر تَمام
فقبلته فَوق اللثام فَقَالَ لي ... هُوَ الْخمر إِلَّا أَنه بفدام ... وَمِنْه أَيْضا ... يَا عبد كم لَك من ذَنْب ومعصية ... إِن كنت ناسيها وَالله أحصاها
يَا عبد لَا بُد من يَوْم تقوم لَهُ ... ووقفة مِنْك تدمي الْقلب ذكرَاهَا
إِذا عرضت على نَفسِي تذكرها ... وساء ظَنِّي قلت أسْتَغْفر الله ... وَمِمَّا سمع من لَفظه إِلَى هُنَا أَخَذته من الْمُخْتَصر الَّذِي جمع فِي مناقبه وَمَا قبل ذَلِك أَخَذته من كتاب ابْن خلكان وَلم يزل على الْحَال المرضي حَتَّى توفّي لَيْلَة الْأَحَد بعد الْعشَاء حادي عشر من جُمَادَى الْآخِرَة الْكَائِن فِي سنة سِتّ وَسبعين وأربعمئة وَصلى عَلَيْهِ الْخَلِيفَة الْمُقْتَدِي بِأَمْر الله ثمَّ وزيره وقاضي الْقُضَاة وَجَمِيع الخدم بِبَاب الفردوس ثمَّ أخرج فصلى عَلَيْهِ صَاحبه أَبُو عبد الله الطَّبَرِيّ وَجَمِيع من فِي الْجَانِبَيْنِ وَدفن فِي حَائِط بُسْتَان ظفر بالجانب الشَّرْقِي بِبَاب أبزرورثاه جمَاعَة مِنْهُم أَبُو الْقَاسِم بن باقياء بقصيدة مِنْهَا قَوْله ... أجْرى المدامع بِالدَّمِ المهراق ... خطب أَقَامَ قِيَامَة الْآفَاق
مَا لليالي لَا تؤلف شملها ... بعد ابْن بجدتها أبي إِسْحَاق
إِن قيل مَاتَ فَلم يمت من ذكره ... حَيّ على مر اللَّيَالِي بَاقِي ...(1/270)
وَلما استولى الصليحي على ريمة المناخي وطرد أَهله عَنهُ خرج صَاحبه عَمْرو الْأَشْعَرِيّ من الْيمن وَلحق بِبَغْدَاد وَأدْركَ بهَا الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق فصحبه وأحبه وَوَافَقَ ذَلِك وَفَاة خَليفَة وقتهم وافتقر النَّاس إِلَى قيام خَليفَة آخر فاتفقوا على أَن الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق هُوَ الَّذِي يتَوَلَّى العقد للخليفة وَذَلِكَ سنة سبع وَسِتِّينَ وأربعمئة أَظُنهُ الْمُقْتَدِي على مَا أَظُنهُ ظَاهر بِرِوَايَة ابْن سَمُرَة عَنهُ فَلَمَّا رَضِي الْعلمَاء وأفاضل النَّاس بالشيخ أبي إِسْحَاق وَقد صعد الْمُخْتَار من بني الْعَبَّاس ذرْوَة الْمِنْبَر ووقف ينْتَظر صعُود الشَّيْخ إِلَيْهِ فَلَمَّا صَار بالمنبر سقط فَابْتَدَرَهُ الْخَلِيفَة وَالْعُلَمَاء وَكَانَ الْخَلِيفَة ضليعا فسبقهم إِلَيْهِ وأقامه وأصعده إِلَى رَأس الْمِنْبَر فَلَمَّا اسْتَوَى على رَأسه حمد لله وَصلى على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعقد الْخلَافَة فَلَمَّا فرغ قَالَ لَهُ الْخَلِيفَة هَل من حَاجَة قَالَ نعم أَخْبرنِي فلَان عَن فلَان مُسْندًا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ مَا من خَليفَة إِلَّا وَله دَعْوَة مجابة وَأُرِيد أَن تَدْعُو لي فَدَعَا لَهُ من فوره وَأمن الْحَاضِرُونَ
وَلِهَذَا عَمْرو الْأَشْعَرِيّ المناخي فِي الشَّيْخ أبي إِسْحَاق مدائح مِنْهَا قَوْله فِي بَعْضهَا ... وَلَقَد رضيت عَن زمَان وَإِن رمى ... قومِي بخطب ضعضع الأركانا
لما أَرَانِي طلعة الحبر الَّذِي ... أَحْيَا الْإِلَه بِعِلْمِهِ الأديانا
أزكى الورى دينا وَأكْرم شِيمَة ... وأمد فِي طلق الْعُلُوم عنانا
وَأَقل فِي الدُّنْيَا البصيرة رَغْبَة ... ولطالما قد أضنت الرهبانا
صدق الرَّسُول الطُّهْر فِي إطرائه ... أَبنَاء فَارس جهرة إعلانا
فِي كل عصر مِنْهُم علم بِهِ ... يُبْدِي الْإِلَه الرشد والتبيانا
مِنْهُم أَبُو إِسْحَاق مِصْبَاح الْهدى ... وشهاب نور كاشف الأدجانا
لله إِبْرَاهِيم أَي مُحَقّق ... صلت إِذْ رب البصيرة لانا
فتخاله من زهده ومخافة ... لله قد نظر الْمعَاد عيَانًا ... وَإِنَّمَا ذكرت الأبيات لِأَن ابْن سَمُرَة ذكرهَا وَلِأَن قَائِلهَا من أَعْيَان الْيمن وملوكهم
وَلما كَانَ كَمَال تفقهه بِالْقَاضِي أبي الطّيب اتجه أَيْضا بَيَان اللَّائِق من أَحْوَاله إِذْ هُوَ شيخ أهل الطَّبَقَة الْمُتَأَخِّرَة من أهل الْيمن وَقد قدمنَا بَيَان ذَلِك(1/271)
وَهُوَ أَبُو الطّيب طَاهِر بن عبد الله بن طَاهِر بن عمر الطبرستاني مولده سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وثلثمائة وَنسبَة الطَّبَرِيّ إِلَى طبرستان بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَالرَّاء ثمَّ سين سَاكِنة مُهْملَة ثمَّ فتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق ثمَّ ألف ثمَّ نون
قَالَ ابْن خلكان وَهِي ولَايَة كَبِيرَة تشْتَمل على بِلَاد كَثِيرَة خرج مِنْهَا جمَاعَة من الْعلمَاء وَالنِّسْبَة إِلَى طبرية الشَّام طبراني فَاعْلَم ذَلِك فَإِن كثيرا من النَّاس يغلط فِيهِ وَلذَلِك بَينته وَكَانَ تفقه القَاضِي أبي الطّيب فِي ابْتِدَائه بآمد على أبي عَليّ الزجاجي صَاحب أبي الْعَبَّاس بن الْقَاص ثمَّ على أبي سعيد الْإِسْمَاعِيلِيّ وعَلى أبي الْقَاسِم بن كج بجرجان ثمَّ ارتحل إِلَى نيسابور فَأدْرك أَبَا الْحسن الماسرخسي صَاحب أبي إِسْحَاق الْمروزِي الْمُتَقَدّم الذّكر فَلَزِمَ مَجْلِسه أَربع سِنِين ثمَّ انْتقل إِلَى بَغْدَاد فَأخذ بهَا عَن أبي مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد الْخَوَارِزْمِيّ صَاحب الداركي وَحضر مجْلِس الشَّيْخ أبي حَامِد الإسفرائيني وَلم يثبت أَنه أَخذ عَنهُ أثنى عَلَيْهِ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فَقَالَ لم أر فِيمَن رَأَيْت أكمل اجْتِهَادًا وَأَشد تَحْقِيقا وأجود نظرا فِي الْفِقْه مِنْهُ شرح الْمُخْتَصر وفروع ابْن الْحداد وصنف فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف وَالْأُصُول والجدل كتبا كَثِيرَة لَيْسَ لأحد مثلهَا عمر مئة سنة وسنتين لم يخْتل عقله وَلَا تغير فهمه يُفْتِي مَعَ الْفُقَهَاء ويستدرك عَلَيْهِم الْغَلَط وَيَقْضِي بمحاضرهم فيحضر المواكب فِي دَار الْخلَافَة وَلم يزل فِي ذَلِك حَتَّى توفّي يَوْم السبت لعشر بَقينَ من شهر ربيع الأول سنة خمسين وأربعمئة فِي بَغْدَاد وَدفن بمقبرة بَاب حَرْب
وَأما شُيُوخه الْمُقدم ذكرهم فَأَبُو عَليّ الزجاجي تفقه بِأبي الْعَبَّاس بن الْقَاص(1/272)
وَعنهُ أَخذ فُقَهَاء آمد وَلم يذكر أَبُو إِسْحَاق غير مَا ذكرت وتفقه الزجاجي بِأبي الْعَبَّاس أَحْمد بن أبي أَحْمد عرف بِابْن الْقَاص الطَّبَرِيّ بتفقهه بِابْن سُرَيج وَكَانَ من أَئِمَّة الْمَذْهَب صنف المصنفات البديعة الْمِفْتَاح وأدب الْقَضَاء والمواقيت وَالتَّلْخِيص الَّذِي شَرحه أَبُو عبد الله حسن الْإِسْمَاعِيلِيّ وَقَالَ تمثلت فِيهِ بقول الشَّاعِر ... عقم النِّسَاء فَمَا يلدن بِمثلِهِ ... إِن النِّسَاء بِمثلِهِ عقم ... وَعنهُ أَخذ فُقَهَاء طبرستان وَكَانَت وَفَاته بطرسوس
قَالَ ابْن خلكان كَانَ إِمَام وقته فِي طبرستان وَكَانَ يعظ النَّاس فَانْتهى فِي بعض أَسْفَاره إِلَى طرسوس وَعقد لَهُ مجْلِس وعظ وأدركته خشيَة وروعة من ذكر الله تَعَالَى فَخر مغشيا عَلَيْهِ ثمَّ توفّي عقب ذَلِك سنة خمس وَثَلَاثِينَ وثلثمائة وَعرف وَالِده بالقاص لِأَنَّهُ كَانَ يقص الْأَخْبَار والْآثَار وطرسوس الَّتِي توفّي بهَا قد مضى ضَبطه بَلْدَة بِفَتْح الطَّاء وَالرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَضم السِّين الْمُهْملَة ثمَّ وَاو سَاكِنة ثمَّ سين مُهْملَة وَشَيْخه ابْن سُرَيج قد مضى اللَّائِق من أَحْوَاله واتصاله بِالْإِمَامِ الشَّافِعِي
وَأما ابْن كج فَهُوَ القَاضِي الشَّهِيد أَبُو الْقَاسِم يُوسُف بن أَحْمد بن كج صَاحب أبي الْحسن ابْن القطاني حضر مجْلِس الداركي وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي حَقه كَانَ من أَئِمَّة أَصْحَابنَا جمع بَين رياسة الْفِقْه والفتيا وارتحل النَّاس إِلَيْهِ من الْآفَاق رَغْبَة فِي علمه وجودة فهمه وَله مصنفات كَثِيرَة قَتله العيارون بالدينور لَيْلَة سَابِع وَعشْرين رَمَضَان سنة خمس وأربعمئة وَشَيْخه ابْن الْقطَّان هُوَ أَبُو الْحسن أَحْمد بن مُحَمَّد عرف بِابْن الْقطَّان قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق هُوَ آخر من عَرفْنَاهُ من أَصْحَاب بن سُرَيج درس بِبَغْدَاد وَأخذ عَنهُ الْعلمَاء وَكَانَت وَفَاته سنة تسع وَخمسين وثلثمائة
وَأما الْإِسْمَاعِيلِيّ فَهُوَ أَبُو سعيد إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن الْعَبَّاس الْإِسْمَاعِيلِيّ الْمَشْهُور بذلك قَالَ الصاحب بن عباد فِي رِسَالَة كتبهَا إِلَيْهِ(1/273)
وَأما أَنْت أَيهَا الْفَقِيه أَبَا سعيد فَمن يراك حِين تدرس وتفتي وتحاضر وتروي وتكتب وتملي علم أَنَّك الحبر ابْن الحبر وَالْبَحْر ابْن الْبَحْر والضياء ابْن الْفجْر
ثمَّ ذكر مَعَه أَخَاهُ وأباه فَقَالَ رحم الله شيخكم الْأَكْبَر فَإِن الثَّنَاء عَلَيْهِ غنم وَالنِّسَاء بِمثلِهِ عقم فليفخر بكم أهل جرجان مَا سَالَ واديها وَأذن مناديها
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق قدم القَاضِي أَبُو الطّيب جرجان قَاصِدا لِأَبِيهِ فَمَاتَ قبل لِقَائِه فَأخذ عَن هَذَا بِحَق أَخذه عَن أَبِيه قَالَ وبأبيه تفقه فُقَهَاء جرجان ثمَّ أثنى عَلَيْهِ وَقَالَ جمع بَين الْفِقْه والْحَدِيث ورياسة الدّين وَالدُّنْيَا وصنف الصَّحِيح وَتُوفِّي سنة سِتّ وَتِسْعين وثلثمائة وَولده توفّي لنيف وَتِسْعين وثلثمائة
وَأما الماسرخسي فَهُوَ أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن عَليّ بن سهل الماسرخسي تفقه بِأبي إِسْحَاق الْمروزِي بتفقهه عَن ابْن سُرَيج وَقد مضى بَيَان ذَلِك وَكَانَ متقنا للْمَذْهَب درس بنيسابور وَعنهُ أَخذ فقهاؤها ومعظم تفقه القَاضِي أبي الطّيب بِهِ لزم مَجْلِسه أَربع سِنِين وَكَانَت وَفَاته سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وثلثمائة
وَأما الْخَوَارِزْمِيّ فَهُوَ شَيْخه بِبَغْدَاد وَهُوَ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْخَوَارِزْمِيّ الْبَانِي يرْوى بِالْبَاء الْمُوَحدَة وبالنون سمعناه كَذَلِك تفقه بالداركي أثنى عَلَيْهِ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق وَقَالَ فِي حَقه كَانَ فَقِيها شَاعِرًا أديبا مترسلا كَرِيمًا درس بِبَغْدَاد بعد شَيْخه الداركي وَتُوفِّي سنة ثَمَانِي وَسبعين وثلثمائة وَشَيْخه الإِمَام الداركي هُوَ أَبُو الْقَاسِم عبد الْعَزِيز بن عبد الله الداركي كَانَ فَقِيها فَاضلا تفقه بِأبي إِسْحَاق قد ذكرت أَن مُعظم طرق الْمروزِي عَنهُ وَإِلَيْهِ انْتهى التدريس بِبَغْدَاد وَعَلِيهِ تفقه الشَّيْخ أَبُو حَامِد الإسفرائيني وَقد مضى بَيَان طَرِيق الشَّيْخ أبي حَامِد واتصالها بِالْإِمَامِ الشَّافِعِي
ثمَّ نعود إِلَى بَيَان اتِّصَال الإِمَام زيد بن عبد الله بالشيخ أبي إِسْحَاق
قد ذكرت أَن مُعظم طرق أهل الْيمن فِي الْفِقْه خَاصَّة لَا يكَاد يتَجَاوَز هَذَا الرجل خَاصَّة فِي كتب الشَّيْخ أبي إِسْحَاق فاتجه بَيَان مَا ثَبت أَولا من ذكر شُيُوخه الموصلة لَهُ بالمصنف وهما الفقيهان الكبيران الطَّبَرِيّ والبندنيجي وَكَانَ الطَّبَرِيّ فِيمَا قيل أعلم الرجلَيْن لَكِن بِهِ ضيق خلق وَلذَلِك وَقل الْأَخْذ عَنهُ بِخِلَاف الْبَنْدَنِيجِيّ
والطبري هُوَ أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن عَليّ تفقه بالشيخ أبي إِسْحَاق وَكَانَ متسع الْعلم فَقِيها أصوليا نحويا لغويا وَهُوَ مُصَنف الْعُمْدَة فِي الْفِقْه ولي قَضَاء مَكَّة وَقيل بل(1/274)
وليه ابْنه إِبْرَاهِيم وَتُوفِّي على حَيَاة أَبِيه ثمَّ خَلفه أَبوهُ أَيَّامًا وَاعْتذر فعذر وَكَانَت وَفَاته بعد خَمْسمِائَة وَمن ذُريَّته أَبُو البركات بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن الْفَقِيه مقدم الذّكر ولي الْقَضَاء وَمِنْهُم جمَاعَة بِمَكَّة قَالَه ابْن سَمُرَة قَالَ وَمِنْهُم إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن الْفَقِيه أَيْضا حُسَيْن الْمَذْكُور وَكَانَ فَقِيها مجودا لَوْلَا أَنه اشْتغل بِالْعبَادَة مَعَ الصُّوفِيَّة لَكَانَ إِمَامًا فِي الْفِقْه وَالْخلاف
قَالَ ابْن سَمُرَة وَكَانَ الْفُقَهَاء يكْرهُونَ اشْتِغَال الْعَالم بِالْعبَادَة وَيَقُولُونَ أَنه فرار من الْعلم وَلَعَلَّ الطبريين الْمَوْجُودين الْآن بِمَكَّة من ذُريَّته
وَأما الْبَنْدَنِيجِيّ فَهُوَ أَبُو نصر هبة الله بن ثَابت الْبَنْدَنِيجِيّ نِسْبَة إِلَى بلد بِالْقربِ من الْبَصْرَة تسمى بندنيجين بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون النُّون وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وخفض النُّون ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة وَفتح الْجِيم ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ نون تفقه بالشيخ أبي إِسْحَق مقدم الذّكر كَمَا تقدم وَكَانَ سهل الْمُقَابلَة لين الْجَانِب صبورا على الإقراء لذَلِك كَانَ الْأَخْذ عَنهُ أَكثر من الْأَخْذ عَن الطَّبَرِيّ وَكَانَ بَينهمَا منافرة ثمَّ اصطلحا وَتُوفِّي قبل الطَّبَرِيّ وَكَانَ قد كف بَصَره وَلما توفّي حضر الصَّلَاة عَلَيْهِ الطَّبَرِيّ واليفاعي ووفاته على رَأس خَمْسمِائَة وَقد مضى بَيَان ذَلِك واتصال شيخهما بِالْإِمَامِ
نرْجِع إِلَى ذكر فُقَهَاء الْيمن من أهل طبقَة الشَّيْخ زيد بن عبد الله اليفاعي وهم جمَاعَة مِنْهُم مقبل بن مُحَمَّد بن زُهَيْر بن خلف الْهَمدَانِي تفقه فِي بدايته بِأبي بكر بن جَعْفَر مقدم الذّكر وَأخذ عَن ابْن أبي ميسرَة وارتحل إِلَى كرمان وتفقه بهَا على قطب الدّين وَجَمَاعَة من فقهائها ثمَّ عَاد الْيمن فسكن ذَا أشرق رَغْبَة فِي الْكتب الْمَوْقُوفَة بهَا إِذْ كَانَ قَلِيل الْكتب وَكَانَ فَقِيها زاهدا ورعا متقللا صواما قواما مَشْهُورا باستجابة الدُّعَاء وَسكن فِي آخر عمره قَرْيَة الدمنة شَرْقي ذِي أشرق وَهِي بخفض الدَّال الْمُهْملَة بعد ألف وَلَام ثمَّ سُكُون الْمِيم وَفتح النُّون ثمَّ هَاء سَاكِنة وَله مُخْتَصر حسن فِي الْفَرَائِض وَكَانَ شَيْخه الْفَقِيه أَبُو بكر بن جَعْفَر يَأْتِيهِ إِلَى الدمنة فيجد أَصْحَابه يقرأون(1/275)
عَلَيْهِ فيعجبه ذَلِك وَيَقُول صدق من سماك مُقبلا ويسأله الدُّعَاء ويحثه على الاسْتقَامَة على ذَلِك وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى توفّي بعد بُلُوغ خمسين سنة من الْعُمر وَكَانَت وَفَاته غَالِبا بعد خَمْسمِائَة سنة لم يتَزَوَّج فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ أَنا حر لَا أملك نَفسِي أحدا
وَمِنْهُم سَالم بن الْفَقِيه عبد الله بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن سَالم الْمُتَقَدّم الذّكر فِي أَصْحَاب الْقَاسِم وَولده عبد الله غلب تفقهه بِأَبِيهِ وَأخذ عَن ابْن أبي ميسرَة وَهَذَا سَالم هُوَ يعرف عِنْد أَهَالِيهمْ بسالم الْأَصْغَر وَهُوَ أحد شُيُوخ عمر بن إِسْمَاعِيل
توفّي بِذِي أشرق فِي شهر الْحجَّة آخر سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم عبد الله بن عبد الرَّزَّاق بن حسن بن أَزْهَر كَانَ من أتراب الْفَقِيه سَالم وزامله فِي الْقِرَاءَة عَليّ بن أبي ميسرَة ارتحلا إِلَيْهِ فَأخذ عَنهُ بجبل الصلو نَاسخ الْقُرْآن ومنسوخه للصفار وَذَلِكَ سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَ تفقه بِأبي بكر بن جَعْفَر كَانَ فَقِيها جليل الْقدر انْتَهَت إِلَيْهِ رياسة التدريس وَالْفَتْوَى فِي ذِي أشرق وتفقه بِهِ جمَاعَة مِنْهُم أَبُو بكر بن سَالم وَكَانَت وَفَاته بِذِي أشرق سنة ثَمَان وَعشْرين وَخَمْسمِائة بعد بُلُوغ عمره سِتا وَسِتِّينَ سنة
وَمن قَرْيَة العقيرة بِالْعينِ الْمُهْملَة بعد ألف وَلَام ثمَّ قَاف مُشَدّدَة مفتوحتان ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ رَاء مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء وَهِي قَرْيَة من معشار التعكر على نصف مرحلة من الْجند كَانَ بهَا فُقَهَاء متقدمون ومتأخرون يعودون إِلَى بطن من يافع يعْرفُونَ باليحويين أول من شهر مِنْهُم الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي الْأَغَر بن أبي الْقَاسِم بن عَوْف بن عنَاق اليحيوي ثمَّ اليافعي تفقه بِبَعْض بني عَلْقَمَة وَلَعَلَّه بعمر بن إِسْمَاعِيل بن عَلْقَمَة يُقَال حَبسه صَاحب حصن التعكر مُدَّة فَصَارَ(1/276)
السجْن كَأَنَّهُ مدرسة بِكَثْرَة الْقِرَاءَة وَالصَّلَاة وتفقه عَلَيْهِ جمَاعَة هُنَالك فَلَمَّا علم صَاحب الْحصن خشِي مِنْهُ فَأَطْلقهُ وَله مُصَنف فِي الْفُرُوع أودعهُ جملَة مستحسنة من الدُّرَر وَمن ذُريَّته الْفُقَهَاء اليحيويون الْآتِي ذكر من اسْتحق الذّكر مِنْهُم مَعَ أهل طبقته
وَمِنْه الوزراء صدر الدولة المؤيدية وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْجُمُعَة لأَرْبَع خلون من صفر الْكَائِن سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَلم يذكرهُ ابْن سَمُرَة وَإِنَّمَا كتبت إِلَى بعض الْفُقَهَاء فِي ناحيته من ذُريَّته أستخبره عَن من يحققه من أَصْحَابهم فَأَخْبرنِي بِهَذَا وَمَا ذكرته عَنهُ
وَمن بعدان إِبْرَاهِيم بن الْفَقِيه يَعْقُوب بن أَحْمد مقدم الذّكر تفقه بِأَبِيهِ وَكَانَ زاهدا ورعا ذكره ابْن سَمُرَة بذلك
وَمن قَرْيَة الملحمة وَقد ذكرت أَبُو الْخطاب عمر بن مُحَمَّد بن عمر بن الْفَقِيه أَحْمد بن الْفَقِيه إِبْرَاهِيم مقدم الذّكر كَانَ فَقِيها خيرا من ذُريَّته الْفُقَهَاء بَنو مَضْمُون المعروفون بفقهاء الملحمة
قَالَ الْحَافِظ العرشاني الْآتِي ذكره أَخْبرنِي شَيْخي يحيى بن مُحَمَّد عَن جده هَذَا عمر أَنه قَالَ كنت بِمَكَّة عَام كَذَا وَأَرْبَعمِائَة فَكنت يَوْمًا فِي الْحرم عِنْد القيلولة فِي شدَّة الْحر وَمَا فِي المطاف إِلَّا رجل أَو رجلَانِ وَإِذا بِرَجُل عَلَيْهِ طمران مُشْتَمل على رَأسه أقبل يسير رويدا حَتَّى قرب من الرُّكْن الْأسود وَلَا أعلم مَا يُرِيد وَأَنا أنظر إِلَيْهِ فَأخْرج من تَحْتَهُ معولا وَضرب الرُّكْن ضَرْبَة شَدِيد ة حَتَّى خفقه الخفقة الَّتِي فِيهِ ثمَّ رفع يَده يُرِيد يضْربهُ ثَانِيًا ليذهبه فَابْتَدَرَهُ رجل من أهل الْيمن ثمَّ من السكاسك كَانَ فِي الطّواف فطعنه بخنجر كَانَ مَعَه طعنة عَظِيمَة فأسقطه فَأقبل النَّاس من نواحي الْمَسْجِد لينظروه فوجدوه وَقد مَاتَ وَهُوَ رومي مَعَه معول عَظِيم قد حد ليقطع بِهِ الرُّكْن ثمَّ إِن النَّاس أَخْرجُوهُ من الْحرم وجمعوا لَهُ الْحَطب وأحرقوه بالنَّار وَلم أجد لَهُ تَارِيخا
وَمن المشيرق ثمَّ من بني ملامس الأخوان مُحَمَّد وَعلي ابْنا أسعد الْفَقِيه بن الْفَقِيه خير بن الإِمَام يحيى بن عِيسَى بن ملامس أخذا عَن أَبِيهِمَا وسمعا عَلَيْهِ البُخَارِيّ من جملَة جمَاعَة فمحمد سَمعه سنة خَمْسمِائَة وَعلي سَمعه من جملَة(1/277)
جمَاعَة بعلقان الْبَلَد الْمُقدم ذكره فِي مُدَّة آخرهَا جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة
وَمن وَادي ميتم بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق ثمَّ مِيم وَهُوَ وَاد كَبِير فِيهِ قرى كَثِيرَة ومزارع عَظِيمَة بِالْقربِ من مَدِينَة إب يسْقِي مَاؤُهُ وَادي لحج وَيُقَال إِنَّه سمي باسم رجل من مُلُوك حمير وَكَذَلِكَ غَالب الْيمن إِنَّمَا هِيَ مُسَمَّاة بهم كَانَ بالوادي من أهل الطَّبَقَة عبد الله بن يزِيد القسمي عرف بالميتمي كَانَ فَقِيها صَالحا زاهدا ورعا رأى لَيْلَة الْقدر فَسَأَلَ الله أَن يرزقه رزقا حَلَالا فرزقه نحلا وَبَارك فِيهِ بِحَيْثُ أَنه كَانَ يَبِيع من عسله وَولده جملَة مستكثرة
وَرُوِيَ أَنه سمع هَذَا الدُّعَاء فِي لَيْلَة الْجُمُعَة أَو فِي لَيَال ذكر عَنهُ فضل عَظِيم فِي أُمُور الدَّاريْنِ وَهُوَ اللَّهُمَّ منشىء الْخلق بِحِكْمَتِهِ وممسك السَّمَاوَات وَالْأَرْض أَن تَزُولَا بقدرته يَا من لَيْسَ لأوليته ابْتِدَاء وَلَا لآخرته انْتِهَاء يَا بديع السَّمَاوَات وَالْأَرْض يَا ذَا الْمَعْرُوف الَّذِي لَا يُنكر أَسأَلك بِأَن الرَّحْمَة فِيك مَوْجُودَة وَأَن الْمَغْفِرَة عنْدك معهودة يَا مولى كل قوي وَضَعِيف وَيَا غياث كل ملهوف يَا الله يَا رحمان ارْحَمْ غربتي فِي الْقَبْر وانقطاعي إِلَيْك
وَكَانَ الْفَقِيه يَسْتَعْمِلهُ فِي كل أَمر مُهِمّ فيفرجه الله وَكَانَت وَفَاته سنة سِتّ وَعشْرين وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم حَمْزَة بن مقبل بن سَلمَة كَانَ فَقِيها عَالما وَكَانَ قد يجْتَمع مَعَ الْفَقِيه مقبل مقدم الذّكر ذكرُوا أَنَّهُمَا اجْتمعَا بِمَكَّة وعَلى عَرَفَات فَكَانَ يسْأَل مقبل الدُّعَاء وَأَنه سُئِلَ بِعَرَفَات فَاسْتقْبل الْقبْلَة وَبسط يَدَيْهِ وَلم أعلم من أَي بلد هُوَ وَلَعَلَّه من الْجند ونواحيها
وَمِنْهُم أَبُو بكر بن عبد الله بن صبيح الأصبحي مَسْكَنه قَرْيَة الذنبتين كَانَ فَاضلا وَهُوَ مِمَّن أَخذ عَن ابْن أبي ميسرَة سنَن أبي قُرَّة بِمَسْجِد الْجند سنة سِتّ وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة(1/278)
وَمِمَّنْ قدم الْيمن وعد من علمائها فَانْتَفع بِهِ أَهلهَا فِي طبقَة الإِمَام أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبدويه المهروباني فعبدويه اسْم أعجمي نَحْو سِيبَوَيْهٍ ونفطويه وَهُوَ بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَالْوَاو وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ هَاء والمهروباني لَا أَدْرِي إِلَى مَا هَذِه النِّسْبَة هَل هِيَ إِلَى بلد أوجد وَهُوَ بميم مَفْتُوحَة بعد ألف وَلَام وَسُكُون الْهَاء وَضم الرَّاء وَيكون الْوَاو وَفتح الْبَاء ثمَّ ألف ثمَّ نون ثمَّ يَاء نِسْبَة سَأَلت عَن ذَلِك بعض من يَدعِي الْخِبْرَة فَقَالَ لَعَلَّه نسب إِلَى بلد بساحل الْبَصْرَة يُقَال لَهُ ماهروبان وبميم مَفْتُوحَة ثمَّ ألف وَفتح الْهَاء ثمَّ رَاء ثمَّ وَاو سَاكِنة ثمَّ بَاء مُوَحدَة مَفْتُوحَة ثمَّ ألف ثمَّ نون مولده سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَ دُخُوله الْيمن تَقْرِيبًا فِي آخر المئة الْخَامِسَة وَكَانَ قد تفقه بالشيخ أبي إِسْحَاق بِبَغْدَاد وَحدث فِي بعض الْأَسَانِيد أَنه كَانَ فَرَاغه لقِرَاءَة الْمُهَذّب على مُصَنفه ثَانِي عشر ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وَأول بلد ورده من الْيمن مَدِينَة عدن ثمَّ صَار إِلَى زبيد وَنزل الْمفضل بن أبي البركات إِلَيْهَا يُرِيد نصر بعض مُلُوك الْحَبَش على ابْن عَم لَهُ قد نازعه فَدخل الْمفضل زبيد بِجَيْش عَظِيم وانتهب للفقيه جملَة مستكثرة ثمَّ إِنَّه انْتقل بعد ذَلِك إِلَى جَزِيرَة بالبحر تعرف بكمران بِفَتْح الْكَاف وَالْمِيم وَالرَّاء ثمَّ ألف ثمَّ نون وَذَلِكَ سنة خمس وَخَمْسمِائة وَكَانَ ذَلِك بعد نهب زبيد بأشهر وَلم يكد يفلح الْمفضل بعد أَن نهب زبيد وَلَا عَاشَ غير شهر أَو نَحوه وَسَيَأْتِي تَارِيخ ذَلِك عِنْد ذكر أَيَّامه وَقد بَقِي مَعَه بَقِيَّة من المَال فَاشْترى جلابة وسفر موَالِي لَهُ إِلَى الْحَبَشَة والهند وَمَكَّة وعدن فعادوا غَانِمِينَ سَالِمين ثمَّ فتح الله عَلَيْهِ وَبَارك لَهُ فَبلغ مَاله سِتِّينَ ألف دِينَار وَكَانَ سكناهُ فِي الجزيرة من سنة خمس وَخَمْسمِائة إِلَى أَن توفّي بهَا على مَا يَأْتِي تَارِيخ ذَلِك وَلما اسْتَقر بكمران وشاع علمه قصد من أنحاء الْيمن بتهامتها ونجدها وَكَانَ الإِمَام اليفاعي إِذْ ذَاك بِمَكَّة مُقيما وَلَوْلَا ذَاك لم يَقْصِدهُ أَصْحَابه خَاصَّة وَكَانَ كريم النَّفس بَعيدا عَن اللّبْس فَمِمَّنْ وَصله من الْبِلَاد ثمَّ من نَاحيَة الْجند(1/279)
عبد الله بن أَحْمد الزبراني وَعبيد بن يحيى من سهفنة وَعمر بن عَليّ السلالي من ذِي أشرق وَيحيى بن مُحَمَّد من الملحمة وَزيد بن الْحسن من وحاظة وَمُحَمّد وَخير ابْنا أسعد بن الْهَيْثَم من المشيرق وَعِيسَى بن عبد الْملك الْمعَافِرِي وَمن أبين عمر وَعبد الله ابْنا عبد الْعَزِيز بن أبي قُرَّة وَعبد الله بن الْأَبَّار وراجح بن كهلان من زبيد وَمن ناحيتها ثمَّ من الهرمة عبد الله بن عِيسَى بن أَيمن وَمن نَاحيَة حيس حسن الشَّيْبَانِيّ مَسْكَنه الخوهة وَيحيى بن عَطِيَّة أَظُنهُ من نواحي المهجم وَاخْتلف أَصْحَابه هَل مُحَمَّد بن كنَانَة أدْركهُ وَأخذ عَنهُ أم لَا فالنقل الصَّحِيح أَنه لم يَأْخُذ إِلَّا عَن ابْن عَطِيَّة وعَلى الْجُمْلَة فأصحابه أَكثر من أَن يحصوا كَثْرَة لَكِن هَؤُلَاءِ فِي الْغَالِب هم أعيانهم وَكَانَ يقوم بكفاية المنقطعين من أَصْحَابه وَكَانَ متحريا فِي مطعمه بِحَيْثُ أَنه لَا يَأْكُل إِلَّا الْأرز الَّذِي يجلبه عبيده من بلد الْكفَّار وَكَانَ التُّجَّار وَغَيرهم يقصدونه إِلَى الجزيرة للتبرك وَرُبمَا جَاءُوا بِنذر للدرسة وَكَانَ بِقرب السَّاحِل الَّذِي تخلص مِنْهُ إِلَى الجزيرة رجل صوفي اسْمه مُحَمَّد بن يُوسُف بن أبي الْخلّ صحب الْفَقِيه وَأكْثر زيارته وَقَرَأَ عَلَيْهِ بعض التَّنْبِيه ثمَّ حصل بَينهمَا ألفة قَوِيَّة فأزوجه بابنة لَهُ فأولدت لَهُ ثَلَاثَة بَنِينَ هم عبد الله وَأحمد وَعبد الحميد وَلَهُم الذُّرِّيَّة الَّذين يعْرفُونَ بالفقهاء بني أبي الْخلّ يَأْتِي بَيَان ذَلِك عِنْد ذكرهم فِي طبقتهم إِن شَاءَ الله وامتحن هَذَا الْفَقِيه بالعمى ثمَّ رد إِلَيْهِ بَصَره
قَالَ الإِمَام سيف السّنة فِيمَا وجدته بِخَطِّهِ أَخْبرنِي الْفَقِيه عَبَّاس بن الْحسن بن بشر الشرعبي من مخلاف الشّرف وَكَانَ من أهل الدّيانَة والورع والصدق وَمِمَّنْ قَرَأَ عَليّ
كتاب الْغَرِيب
بِمَدِينَة إب فِي جُمَادَى الأولى من سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة قَالَ أَخْبرنِي الْفَقِيه أَبُو بكر الْحَرْبِيّ من الْمَحَلِّيَّة بِمحل عشمل من وَادي الكدرى
قَالَ كنت مِمَّن يقْرَأ على الشَّيْخ الإِمَام مُحَمَّد بن عبدويه بِجَزِيرَة كمران وَقد كف بَصَره فَجئْت مرّة من بلدي أَزورهُ فَدخلت المهجم فَوجدت بهَا طَبِيبا فَأَخْبَرته بِحَال الْفَقِيه وَسَأَلته السّير معي إِلَيْهِ ليعْمَل بمداواته وبذلت لَهُ على ذَلِك دِينَارا فَأَجَابَنِي(1/280)
وَخرج معي من المهجم ثمَّ ركبنَا الْبَحْر حَتَّى أَتَيْنَا الجزيرة فَجئْت الْفَقِيه فَسلمت عَلَيْهِ وأخبرته بقدومي بالطبيب وَقَالَ لَا بَأْس ثمَّ لما كَانَ فِي آخر الْيَوْم الَّذِي قدمنَا بِهِ دَعَا بِابْن ابْن لَهُ وَقَالَ اكْتُبْ ثمَّ أمْلى عَلَيْهِ شعرًا ... وَقَالُوا قد دهى عَيْنَيْك سوء ... فَلَو عالجته بالقدح زَالا
فَقلت الرب مختبري بِهَذَا ... فَإِن أَصْبِر أنل مِنْهُ النوالا
وَإِن أجزع حرمت الْأجر مِنْهُ ... وَكَانَ حصيصتي مِنْهُ الوبالا
وَإِنِّي صابر رَاض شكور ... وَلست مغيرا مَا قد أنالا
صَنِيع مليكنا حسن جميل ... وَلَيْسَ لصنعه شَيْء مِثَالا
وربي غير متصف بحيف ... تَعَالَى رَبنَا عَن ذَا تَعَالَى ... وَلما بلغ قَوْله وَإِنِّي صابر رَاض الْبَيْت رد الله عَلَيْهِ بَصَره وأضاء لَهُ الْمَسْجِد وعاين ابْن ابْنه وَهُوَ يكْتب وتكامل بَصَره بِفضل الله تَعَالَى فَقَالَ لي أعْط الطَّبِيب مَا شرطت لَهُ فقد حصل الشِّفَاء بِإِذن الله تَعَالَى لَا بمداواته وَأورد لَهُ ابْن سَمُرَة شعرًا من الْمُنَاجَاة ... لَيْتَني مت قبل ذَنبي فَإِنِّي ... كلما قلت قد قربت بَعدت
لَيْتَني عِنْدَمَا عصيتك رَبِّي ... لهواني على الرماد ذبحت
لَيْتَني عِنْدَمَا هَمَمْت بذنب ... بوقود الغضا حرقت ففت
يَا رَحِيم الْعباد طرا أَغِثْنِي ... وأجرني فإنني قد هَلَكت
يَا رَحِيم الْعباد إِن لم تُجِرْنِي ... فلنفسي إِذا خسرت خسرت
يَا رَحِيم الْعباد اجْعَل جوابي ... يَا عَبِيدِي قد رحمت رحمت
يَا رَحِيم الْعباد كن لي مجيبا ... لَا تخفني وَقل غفرت غفرت
يَا رَحِيم الْعباد ارْحَمْ خضوعي ... ونداي وَقل عَفَوْت عَفَوْت ... وَكَانَت وَفَاته بالجزيرة على الْحَال المرضي لَيْلَة الْخَمِيس لعشر خلون من ربيع الآخر سنة خمس وَعشْرين وَخَمْسمِائة بعد أَن بلغ عمره ثمانيا وَثَمَانِينَ سنة وقبر إِلَى جنب مَسْجده من جِهَة الْمشرق
وَكَانَ لَهُ ابْن اسْمه عبد الله فَقِيه عَالم بالفقه وَالْأُصُول حسن التَّصَرُّف فِي ذَلِك تفقه بِأَبِيهِ وَكَانَ من الْكِرَام يدان على الْمُرُوءَة ومواساة المحتاجين وَذَوي الِانْقِطَاع(1/281)
وَكَانَ مِمَّن يقْصد للامتياح وَكَانَ غَالب أوقاته مديونا حَتَّى مَاتَ وَعَلِيهِ دين عَظِيم لم يقضه غير وَلَده وَكَانَ مبلغه ألف دِينَار ورثاه تلميذ أَبِيه الْفَقِيه عمر السلالي بقصيدة كَبِيرَة مِنْهَا ... أَمن بعد عبد الله نجل مُحَمَّد ... يصون دموع الْعين من كَانَ مُسلما
وَقد غاض بَحر الْعلم مذ غَابَ شخصه ... وَلَكِن بحرالجود من بعده طمى
تضعضع بُنيان الْعُلُوم لفقده ... وَأصْبح وَجه الدّين أَرْبَد أقتما
غَدا كل نور فِي الجزيرة جَامِدا ... وَأصْبح ركن الْعلم ثمَّ مهدما
فيا منهلا يروي الْقُلُوب بورده ... شهِدت لقد أورثتها بعْدك الظما
فيا أَيهَا الشَّيْخ الإِمَام تصبرا ... وَإِن كنت أهْدى من سواك وأحلما
هُوَ الدَّهْر لَا يبْقى على حَالَة مَعًا ... يُدِير على أهليه بؤسا وأنعما
فحينا نرَاهُ باسر الْوَجْه عَابِسا ... وحينا نرَاهُ ضَاحِكا مُتَبَسِّمًا
فَمَا أبقت الدُّنْيَا مُطَاعًا مسودا ... وَلَا ملكا فِي السَّابِقين مكرما
فَأَيْنَ جديس أَيْن طسم وجرهم ... ألم تطمس الْأَيَّام طسما وجرهما
أما أهلكت عَاد وَمن كَانَ قبلهَا ... وَمن بعْدهَا من ذَا من الْقدر احتمى ... قَالَ ابْن سَمُرَة والمرثاة طَوِيلَة تزيد على خمسين بَيْتا لم يُورد مِنْهَا غير مَا أوردته وذكرته اسْتِشْهَادًا على فضل قَائِلهَا وَمن قيلت فِيهِ إِذْ الْقَائِل فَقِيه صَالح لَا يسْتَحل مدح من لَا يسْتَحق وَسَيَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله
وَمن أهل صنعاء أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد الرَّازِيّ صَاحب التَّارِيخ الْمَذْكُور فِي الْخطْبَة
كَانَ إِمَامًا عَارِفًا بالفقه والْحَدِيث مولده صنعاء لَكِن أَظن أَهله من الرّيّ فنسب إِلَيْهَا وَكَانَ فَقِيها سنيا وَكتابه يدل على ذَلِك وعَلى سَعَة نَقله وَكَمَال عقله
وَمن غَرِيب مَا أوردهُ عَن هاني مولى عُثْمَان بن عَفَّان بِسَنَد مُتَّصِل أَنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الْقَبْر أول منزل من منَازِل الْآخِرَة فَمن نجا مِنْهُ فَمَا بعده أيسر مِنْهُ وَمن لم ينج فَمَا بعده أشر قَالَ وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا فرغ من دفن الْمَيِّت قَالَ اسْتَغْفرُوا(1/282)
لصاحبكم واسألوا الله تَعَالَى لَهُ التثبيت فَإِنَّهُ الْآن يسْأَل قَالَ وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على وجوب تلقين الْمَيِّت إِذا ألحد بِالشَّهَادَتَيْنِ وحققت أَنه قَارب فِي تَارِيخه إِلَى آخرالمئة الْخَامِسَة
وَمِنْهُم مُسلم بن الْفَقِيه أبي بكر بن الْفَقِيه أَحْمد بن عبد الله الصعبي قد ذكرته أثْنَاء ذكرالإمام زيد أَنه كَانَ القَاضِي من أَصْحَابه وَهُوَ أحد شُيُوخ الإِمَام يحيى بن أبي الْخَيْر وارتحل إِلَيْهِ من الْجند بعد وَفَاة شَيْخه الإِمَام زيد فَوقف عِنْده بسهفنة وَأخذ عَنهُ كتابي المراغي المعروفين بالحروف السَّبْعَة وشيئا من الْكتب المسموعات وَكَانَ لَهُ ابْنَانِ هما مُحَمَّد وأسعد تفقها بأبيهما وَغَيره وَأخذ مُحَمَّد عَن ابْن أبي ميسرَة موطأ مَالك وَعنهُ أَخذ الْفَقِيه عبد الله بن يحيى الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله
ثمَّ صَار الْفِقْه إِلَى طبقَة أُخْرَى وغالب أَهلهَا من تلاميذ هذَيْن الْإِمَامَيْنِ اليفاعي وَابْن عبدويه وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمد بن أبي عبد الله الْهَمدَانِي نسبا والزبراني بَلَدا نِسْبَة إِلَى قَرْيَة من بادية الْجند يُقَال لَهَا زبران بِفَتْح الزَّاي وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَالرَّاء ثمَّ ألف وَنون وَهِي على أكمة مُرْتَفعَة من جِهَة يمن مغرب الْجند
أثنى ابْن سَمُرَة على هَذَا الْفَقِيه ثَنَاء كليا فَقَالَ حِين ذكر أَصْحَاب الْإِمَامَيْنِ من أعلاهم رُتْبَة وأكملهم طبقَة الإِمَام الْعَلامَة ثمَّ ذكره
قَالَ وَكَانَ فَقِيها فَاضلا وكما ذكر شهير الذّكر أَخذ فِي بدايته عَن أبي بكر بن جَعْفَر مقدم الذّكر ثمَّ كَانَ أول من لزم الدَّرْس على الإِمَام زيد وتفقه بِهِ وَلما علم كَمَاله وعدالته أذن لَهُ بالفتوى وَإِطْلَاق خطه عَن النَّوَازِل وَكَانَ يفضله على كَافَّة أَصْحَابه وَهُوَ أحد شُيُوخ صَاحب الْبَيَان وَلما هَاجر شَيْخه زيد بن عبد الله إِلَى مَكَّة ترافقا هُوَ والفقيه عبيد بن يحيى السهفني إِلَى تهَامَة فلحقا بِابْن عبدويه فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْمُهَذّب ومصنفه الْإِرْشَاد فِي أصُول الْفِقْه ثمَّ عادا إِلَى بلديهما وَلما عَاد الإِمَام زيد إِلَى(1/283)
الْجند لزم أَيْضا مَجْلِسه وَلم يُفَارِقهُ حَتَّى توفّي وَكَانَت وَفَاته بقرية زبران سنة ثَمَانِي عشرَة وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عُمَيْر العريقي تفقه باليفاعي وَلما حج أدْرك الْبَنْدَنِيجِيّ فَأخذ عَنهُ مُصَنفه الْمُعْتَمد فِي الْخلاف وَهُوَ شيخ الشَّيْخ يحيى بن أبي الْخَيْر فِيهِ وَكَانَ مَشْهُورا بالورع
وَمِنْهُم أَبُو حَامِد بن الْفَقِيه أبي بكر بن عبد الله بن صبيح الأصبحي مقدم الذّكر تفقه باليفاعي وَمِنْهُم زيد بن أسعد مَسْكَنه حَسَنَات
وَمِنْهُم مُوسَى بن عَليّ الصعبي سكن ذَا الْحفر من عزلة نعيمة فتح النُّون وخفض الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَفتح الْمِيم ثمَّ هَاء والحفر بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة بعد ألف وَلَام وَسُكُون الْفَاء ثمَّ الرَّاء ونعيمة عزلة مَشْهُورَة من مخلاف جَعْفَر وتعرف بنعيمة المسواد إِضَافَة إِلَى حصن عِنْدهَا يعرف بالمسواد بميم مخفوضة بعد ألف وَلَام ثمَّ سين سَاكِنة وواو مَفْتُوحَة ثمَّ ألف ودال مُهْملَة وَكَانَ من الْحُصُون المعدودة أخربه المظفر بن رَسُول سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة وَهُوَ على ذَلِك إِلَى الْآن سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة
وَهُوَ على الْقرب من مَدِينَة جبلة وَهَذَا الْكَلَام دخيل وَإِنَّمَا أوردته لِأَنِّي كنت أصحفه وأتوهم بتحقيقه وَكَانَ تفقه مُوسَى هَذَا الْمَذْكُور بالفقيه مقبل بن زُهَيْر
وَمن بلد أحاظة الأديبان الفاضلان الأخوان عِيسَى وَإِسْمَاعِيل ابْنا إِبْرَاهِيم الربعِي كَانَا إمامي وقتهما فِي الْأَدَب فعيسى رَأس الطَّبَقَة فِي اللُّغَة والمحقق لمشكلها وَكتابه الموسوم بنظام الْغَرِيب يدل على ذَلِك أَنه مجود فِي النَّقْل كَامِل(1/284)
فِي الْفضل وَعَلِيهِ يعول كثير من أهل الْيمن من وَقت وجوده إِلَى هَذَا الزَّمن من لَا يقرأه ويتكرر فِيهِ لَا يعده كثير من النَّاس لغويا وَقد أَخذه عَنهُ زيد بن الْحسن الفائشي وَكَانَت وَفَاته بِبَلَدِهِ سنة ثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة
وَأما أَخُوهُ إِسْمَاعِيل فَكَانَ مثله أَو يُقَارِبه فِي الْمعرفَة وَله القصيدة الْمَشْهُورَة بِقَيْد الأوابد وَله شعر حسن وَترسل مستحسن وَفَاته بعد أَخِيه بأيام
وَمِنْهُم أَبُو أَحْمد زيد بن الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن بن أَحْمد بن مَيْمُون بن عبد الله بن أبي أَيُّوب الفائشي ثمَّ الْحِمْيَرِي والفائشي نِسْبَة إِلَى ذِي فائش أحد أذواء حمير وَهُوَ بِالْفَاءِ بعد ذِي بذال مُعْجمَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت ثمَّ فَاء ثمَّ همزَة مخفوضة ثمَّ شين مُعْجمَة سَاكِنة نِسْبَة إِلَى وَاد يُقَال لَهُ الفائش واسْمه سَلامَة بن يزِيد بن مرّة بن عَمْرو بن عريب بن يريم بن مرْثَد بن حمير وَمن ذُريَّته الْقَبِيلَة الَّتِي تعرف فِي الْيمن بالأفيوش وهم جمع كَبِير أهل عز ومنعة وإياه عَنى ابْن خمرطاش حِين عدد الأذواء فَقَالَ ... وَمِنْهُم سَلامَة ذُو فائش ... من ملك الأقطار طرا واجتبى ... نرْجِع إِلَى ذكر الْفَقِيه إِذْ هَذَا الْكَلَام دخيل وَكَانَ مولده لَيْلَة الْجُمُعَة منتصف شَوَّال سنة ثَمَان وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَ رجلا عَارِفًا بعلوم شَتَّى مِنْهَا علم الْقرَاءَات بطرِيق أبي معشر فِي مَكَّة أَخذهَا عَنهُ وَأخذ عَن الْبَنْدَنِيجِيّ التَّبْصِرَة فِي علم الْكَلَام وَكَانَ يقرئها فِي مدرسته وَكَذَلِكَ الإِمَام زيد اليفاعي كَانَ يقرئها أَيْضا وَأخذ عَن ابْن عبدويه وَغَيره وَكَانَ يرتحل إِلَى الْعلمَاء فِي أماكنهم فَيَأْخُذ عَنْهُم وَكَانَ عَارِفًا بالدور والحساب وَالْأُصُول وَعلم الْكَلَام وَكَانَ كثير الْحَج وَرُبمَا جاور فَأخذ بِمَكَّة وَالْمَدينَة عَن من لقِيه فيهمَا من الْعلمَاء فَمن شُيُوخه فِيهَا الْبَنْدَنِيجِيّ وَأَبُو مخلد الطَّبَرِيّ وَإِمَام الْمقَام عبد الْملك بن أبي مُسلم النهاوندي(1/285)
وَأما شُيُوخه بِالْيمن فأولهم أسعد بن الْهَيْثَم وَخير بن يحيى المشيرقيان وَقد مضى بَيَان ذَلِك والصردفي بقرية سير وَأَبُو بكر بن جَعْفَر الظرافي وَيَعْقُوب بن أَحْمد البعداني وَفِي اللُّغَة عِيسَى بن إِبْرَاهِيم الربعِي ومقبل بن مُحَمَّد بن زُهَيْر وَإِسْمَاعِيل بن المبلول من ذِي أشرق ودمنتها وَأخذ عَن إِبْرَاهِيم بن أبي عباد النَّحْو وَأخذ اللُّغَة عَن الربعِي مؤلف النظام وَكَانَ جوالا فِي أنحاء الْيمن وَلذَلِك كثر علمه واتسع فَضله وجمعت خزانته من كتب الْعلم مَا يزِيد على خَمْسمِائَة كتاب وَكَانَ ورده كل لَيْلَة بِصَلَاتِهِ سبع الْقُرْآن وَله كتاب فِي الْفِقْه سَمَّاهُ التَّهْذِيب نقل عَنهُ شَيخنَا أَبُو الْحسن الأصبحي فِي معينه عدَّة تصاحيح ورأيته فِي المشيرق مَعَ ذُرِّيَّة الْفَقِيه الْهَيْثَم بمجلدين لطيفين وتفقه بِهِ جمع كَبِير مِنْهُم عمر بن عَلْقَمَة وَيحيى بن أبي الْخَيْر مَعَ جمع كَبِير لَا يكَاد يحصرهم الْعدَد وَذَلِكَ للين عريكته وكرم طَبِيعَته وَصَلَاح سُلْطَان بَلَده ومحبته للْعلم وَأَهله وَكَانَ يدرس بِجَامِع الجعامي قَرْيَة من وحاظة بِفَتْح الْجِيم وَالْعين الْمُهْملَة ثمَّ ألف ثمَّ مِيم ثمَّ يَاء مثناة من تَحت وَهِي قَرْيَة من معشار يفوز حصن قديم بِفَتْح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَضم الْفَاء ثمَّ وَاو ثمَّ زَاي وَله مَعَ كَمَال الْعلم أشعار مستحسنة مِنْهَا مَا ذكر أَن السُّلْطَان أسعد بن وَائِل عتب عَلَيْهِ فِي بعض الْأَحْوَال وَكَانَ قد ولاه حكم الشَّرِيعَة بأحاظة فَامْتنعَ فَقَالَ لَهُ الْقَضَاء مُتَعَيّن عَلَيْك فأصر على الِامْتِنَاع فَلَمَّا بلغ الْفَقِيه عتب السُّلْطَان ارتحل عَن الجعامي يُرِيد بَلَده الَّذِي خرج مِنْهَا وَهِي دمت وَبهَا قومه إِلَى الْآن وَكتب إِلَى السُّلْطَان مَا مِثَاله ... إِلَّا إِن لي مولى وَقد خلت أنني ... أُفَارِق طيب الْعَيْش حِين أفارقه
جفاني فأقصاني بعيد جفائه ... وصرت بلحظ من بعيد أسارقه
وأرقب عَقبي للوداد جميلَة ... وصبرا إِلَى أَن يرقع الْخرق فاتقة
وَمَا كَانَ سيري لاختيار فِرَاقه ... وَلكنه ميل إِلَى مَا يُوَافقهُ ...(1/286)
فحين وقف السُّلْطَان على الْكتاب أَمر برد الْفَقِيه من الطَّرِيق وَإِن كره وَقَالَ لَهُ حِين وصل يَا سَيِّدي الْفَقِيه أَنا أسْتَغْفر الله عَن عتابك وَلَك مني نصف ألف دِينَار وَأَرْض الموحار ودولة اللَّيْل من مَال المسوى فَقبل مِنْهُ الأَرْض وَلم تزل بِيَدِهِ وَيَد ذُريَّته حَتَّى انقرض أعيانهم وضعفوا وَكَانَ لَهُ أَوْلَاد ثَلَاثَة هم أَحْمد وَأَبُو الْقَاسِم وَعلي أَخذ عَنهُ فِي حَيَاته وَكَانَ يَقُول أَحْمد أقرأكم وَعلي أكتبكم وقاسم أفقهكم وَلم يزل هَذَا الإِمَام على الْحَال المرضي من الْقِرَاءَة والإقراء والقرى حَتَّى توفّي بالجعامي فِي شهر رَجَب من سنة تسعين وَخَمْسمِائة وَهُوَ ابْن تسعين سنة ثمَّ وَلَده على مَا يَأْتِي ذكره فِي أَصْحَاب الإِمَام يحيى بن أبي الْخَيْر إِذْ عده ابْن سَمُرَة فيهم
وَقد عرض مَعَ ذكره ذكر سُلْطَان بَلَده هُوَ أسعد بن وَائِل بن عِيسَى الوايلي ثمَّ الكلَاعِي من ولد ذِي الكلاع الْحِمْيَرِي أثنى عَلَيْهِ ابْن سَمُرَة وَقَالَ كَانَ هَذَا السُّلْطَان وَأَبوهُ سَالِمين من الابتداع يؤثرون مَذْهَب السّنة وَعمارَة الْمَسَاجِد ومحبة الْقُرَّاء وَالْعُلَمَاء والعباد ويعظمون السّلف الصَّالح ويتبركون بذكرهم ويهتدون بذكرهم وأفعالهم وَلذَلِك كَانَت أحاظة فِي ذَلِك الْوَقْت وَسَاعَة الأرزاق نضيرة الْبَسَاتِين والأسواق ببركة عبادها وَعدل سلطانها وَكَانَت عامرة الْمَسَاجِد كَامِلَة المصادر والموارد وَكَانَ السُّلْطَان وَائِل هُوَ الَّذِي بنى حصن يفوز وَذَلِكَ بعد قتل الصليحي وَهُوَ أحد من سلم من الْمُلُوك الَّذين حَضَرُوا قَتله على مَا سَيَأْتِي بَيَانه
وَكَانَت وَفَاة السُّلْطَان أسعد مقتولا فِي جُمَادَى الأولى سنة خمس عشرَة وَخَمْسمِائة وقبر بِجَامِع الجعامي وَقَالَ الْفَقِيه عمَارَة بَنو وَائِل من ولد ذِي الكلاع لَهُم رئاسة متأثلة قَالَ وَمِنْهُم أسعد بن وَائِل صَاحب الْكَرم العريض وَالثنَاء المستفيض يَعْنِي هَذَا الَّذِي عده ابْن سَمُرَة وَكَانَ ابْن سَمُرَة أثنى عَلَيْهِ الثَّنَاء المرضي ثمَّ عمَارَة كَذَلِك وَكَانَ محبا للفقهاء ومحسنا إِلَيْهِم اتجه ذكره فيهم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَرْء مَعَ من أحب وجد من المسودة الجيدة الْقَرِيبَة
وَنَرْجِع إِلَى ذكر الْفُقَهَاء فَمن ذِي أشرق أَبُو الْخطاب عمر بن عَليّ بن الْفَقِيه(1/287)
أسعد بن أَحْمد بن عبد الله بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم السلالي فقد مضى بعض ذكره مَعَ عَم أَبِيه عمر
وَذَلِكَ السلالي أول من ذكر فِي أول ذكر ذِي أشرق وَأَنه تفقه وتهذب بخاله الصردفي وَكَانَ عمر هَذَا مَشْهُورا بِالْعلمِ وَالْفِقْه وَرُبمَا زَادَت شهرته على أَبِيه وَعَمه وتفقه أَولا بِالْجَبَلِ على عبد الله بن عُمَيْر وَغَيره من فُقَهَاء الْجَبَل ثمَّ ارتحل تهَامَة وَقدم كمران فأكمل تفقهه بِابْن عبدويه وَأخذ عَنهُ أصُول الْفِقْه وَعَاد بَلَده فَأخذ عَنهُ النَّاس وَلما بلغه وَفَاة ابْن شَيْخه فِي الجزيرة رثاه بالقصيدة الَّتِي تقدم ذكر بَعْضهَا وَله غَيرهَا وَمِمَّنْ تفقه بِهِ عبد الله بن مَسْعُود وَعبد الرَّحْمَن بن يحيى الخليدي وأسعد بن إِبْرَاهِيم وَغَيرهم
وَكَانَت وَفَاته سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم يحيى بن عبد الله الْمليكِي من عرب يُقَال لَهُم الأملوك وَهُوَ قبيل كَبِير من مذْحج تفقه بِالْيمن وَكَانَ مَسْكَنه قَرْيَة وقير من الشوافي بِفَتْح الْوَاو وخفض الْقَاف وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ رَاء وَفِيه مَسْجِد مبارك عَلَيْهِ وقف يسْتَحقّهُ مدرس ودرسة تغير بأيام بني مُحَمَّد بن عمر وزراء الدولة المويدية لما أحدثوه فِي الْأَوْقَاف من نظر الدولة إِلَيْهَا وَلما حج أَخذ عَن الْبَنْدَنِيجِيّ التَّبْصِرَة فِي علم الْكَلَام وَغَيرهَا وَلما عَاد الْيمن أَخذهَا عَنهُ الإِمَام سيف السّنة وَهُوَ طريقنا إِلَى هَذَا المُصَنّف
وَمِنْهُم حُسَيْن بن الْفَقِيه عمر السلال مقدم الذّكر وَأَن أَبَاهُ هُوَ ابْن أُخْت الصردفي تفقهه بِأَبِيهِ عمر غَالِبا وَكَانَت وَفَاته بِإِحْدَى الربيعين من سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسبعين سنة(1/288)
وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن يحيى بن أبي الْهَيْثَم بن عبد السَّمِيع الصعبي ثمَّ الْعَنسِي بالنُّون نِسْبَة ثمَّ السهفني والسهفني بَلْدَة نِسْبَة إِلَى الْقرْيَة الْمَذْكُورَة وَيعرف بعبيد الله على طَرِيق التصغير لعبد الله كَانَ فَقِيها جَلِيلًا شهير الذّكر معدودا فِي أهل النّظر وَكَانَ الشَّيْخ يحيى بن أبي الْخَيْر يثني عَلَيْهِ وَيَقُول فِي حَقه عبد الله بن يحيى شيخ الشُّيُوخ تفقه باليفاعي ثمَّ لما غَابَ وَأقَام بِمَكَّة ارتحل هُوَ والزبراني كَمَا قدمنَا إِلَى ابْن عبدويه فأخذا عَنهُ وَلما عَاد بَلَده أَخذ عَن مُحَمَّد بن الْمُسلم بن أبي بكر الصعبي وَسَأَلَهُ القَاضِي مُسلم أَن يدرس لَهُ بسهفنة فامتثل وَكَانَ زاهدا ورعا متبحرا فِي الْفِقْه وأصوله وأصول الدّين وصنف كتاب التَّعْرِيف فِي الْفِقْه واحتراز الْمُهَذّب وَفِي أصُول الدّين كتابا سَمَّاهُ إِيضَاح الْبَيَان وَنور على مَذْهَب السّلف وَله عقيدة على منواله ذكر ذَلِك ابْن سَمُرَة قَالَ وَبِه تفقه جمَاعَة كَأبي مَسْعُود بن خيران من الملحمة وَمُحَمّد بن أَحْمد بن عَلْقَمَة من ذِي السفال وَسعد بن عبد الله البحري وَأحمد بن أسعد الكلالي من الشعبانية وَأحمد بن عبد الْملك التباعي من علقان وَعبد الله بن عَليّ قَاضِي ريمة مَعَ جمع لَا يكَاد يحصرهم عد لَكِن هَذَا ذكر أعيانهم وَكَانَ الْفَقِيه صَاحب كرامات منقولة مِنْهَا أَنه حصل بَين أهل قريته وَبَين بني مليك سباب وعداوة فغزا الأملوك سهفنة ونهبوها وَقتلُوا وجرحوا ثمَّ وَقع الْفَقِيه مَعَ قوم من جُمْلَتهمْ فَضَربهُ جمَاعَة مِنْهُم بِالسُّيُوفِ محدوبة فَلم تقطع شَيْئا فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ كنت أَقرَأ سُورَة يس وَقيل بل قَالَ كنت أَقرَأ هَذِه الْآيَات {وَلَا يؤوده حفظهما وَهُوَ الْعلي الْعَظِيم} {فَالله خير حَافِظًا وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ} {وحفظا من كل شَيْطَان مارد} وحفظا من كل شَيْطَان رجيم {وحفظا ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم} {إِن كل نفس لما عَلَيْهَا حَافظ} {إِن بَطش رَبك لشديد} إِلَى(1/289)
آخر السُّورَة وَهَذِه الرِّوَايَة أشهر وَكَانَ يَقُول إِنَّمَا عرفت فضل هَذِه الْآيَات بِيَوْم خرجت إِلَى الْبَريَّة مَعَ جمَاعَة فلقينا شَاة عجفاء مَعهَا ذِئْب يلاعبها وَلَا يَضرهَا فَدَنَوْنَا مِنْهَا فنفر الذِّئْب منا فتأملنا الشَّاة فَوَجَدنَا فِي بعنقها كتابا مربوطا فحللناه فَوَجَدنَا بِهِ هَذِه الْآيَات
وَكَانَ يَصْحَبهُ رجل من يافع ثمَّ من بني يحيى من أهل حرض اسْمه عَليّ بن زِيَاد كَانَ ذَا دنيا ومحبا للْعُلَمَاء وَكَانَ يقوم بِجَمِيعِ حوائج الْفَقِيه فِي الأعياد وَغَيرهَا بِحَيْثُ كَانَ الْفَقِيه لَا يحْتَاج مَعَه إِلَى شَيْء وَكَانَت وَفَاته فِي قريته الْمَذْكُورَة فِي شهور سنة ثَلَاث وَخَمْسمِائة بعد أَن بلغ عمره ثَمَانِي وَتِسْعين سنة وَقيل ثَمَانِينَ وَلَيْسَ بِشَيْء إِذْ ثَبت أَنه كَانَ يَقُول لأَصْحَابه إِن بلغت ثَمَانِينَ عملت لكم شكرانه فَمَاتَ وَلم يعْمل فَحَضَرَ قبرانه الشَّيْخ يحيى بن أبي الْخَيْر فِي جمع من أَصْحَابه وقبره بالمقبرة الْقبلية من قريته الَّتِي يمر بهَا الطالع ذِي السفال والتعكر وقبره يزار وَيَقُول أهل الْقرْيَة قَبره عِنْد قبر عبيد وَلَا يعْرفُونَ من عبيد وَقد زرته بِحَمْد الله مرَارًا
وَمِنْهُم أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن حمد بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْمِيم مَعَ فتحهَا ثمَّ دَال مُهْملَة كَانَ قَاضِيا بالمعافر وَلذَلِك يُقَال لَهُ الْمعَافِرِي
وَمِنْهُم أَبُو الْخطاب عمر بن إِسْمَاعِيل بن عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن يُوسُف بن عبد الله بن عَلْقَمَة الجماعي ثمَّ الْخَولَانِيّ من قوم يُقَال لَهُم بَنو جمَاعَة بِضَم الْجِيم وَفتح الْمِيم ثمَّ ألف وَفتح الْعين ثمَّ هَاء سَاكِنة مِنْهُم بَقِيَّة يسكنون على قرب من حصن المجمعة أحد حصون بلد الشوافي بشين مُشَدّدَة مُعْجمَة بعد ألف وَلَام ثمَّ فتح الْوَاو ثمَّ ألف ثمَّ خفض الْفَاء ثمَّ يَاء نِسْبَة يَاء النّسَب تفقه فِي بدايته بسالم(1/290)
الأشرقي مقدم الذّكر ثمَّ ترافق هُوَ وَالشَّيْخ يحيى بن أبي الْخَيْر إِلَى بلد وحاظة فأخذا عَن الإِمَام زيد بن الْحسن الْمُهَذّب وشيئا فِي الْأُصُول واللغة كغريب أبي عبيد ومختصر الْعين ونظام الْغَرِيب وَأدْركَ الْحسن بن أبي عباد فَأخذ عَنهُ مُخْتَصره ثمَّ لما عَاد هُوَ وَالشَّيْخ يحيى إِلَى بَلَده ذِي السفال قَرَأَ عَلَيْهِ الشَّيْخ يحيى كَافِي الصفار والجمل فِي النَّحْو وَأخذ عَنهُ جمع كثير مِنْهُم مُحَمَّد بن مُوسَى العمراني نَاسخ الْقُرْآن ومنسوخه للصفار وَأخذ عَنهُ أَبُو السُّعُود بن خيران مَعَاني الْقُرْآن للصفار وَالْمُعْتَمد للبندنيجي وَكَانَ مَشْهُورا بالصلاح وصحبة أبي الْعَبَّاس الْخضر بِحَيْثُ كَانَ يُوجد عِنْده فِي أثْنَاء ذَلِك ويمليه شَيْئا من ذَلِك وَالَّذِي حقق عَنهُ أَنه أملاه بَاب الْأَذَان وَقيل غَيره وبالأول أَخْبرنِي الْفَقِيه الصَّالح الْآتِي ذكره
وَلما انقرضت ذُريَّته وَبلغ السُّلْطَان سُلْطَان الْبَلَد وَهُوَ يَوْمئِذٍ المظفر يُوسُف بن عمر الْآتِي ذكره اشْترى الْكتاب بِثمن واف وَأَوْقفهُ بمدرسته الَّتِي أَنْشَأَهَا بمغربة تعز وَتُوفِّي بقريته ذِي السفال سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة وقبر بمقبرة فِي غربي الْقرْيَة وقبره يزار ويتبرك بِهِ وَقد زرته مرَارًا
وَمِنْهُم أَبُو الْفتُوح بن عُثْمَان بن أسعد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن مُوسَى بن عمرَان العمراني أول من شهر من بني عمرَان بالفقه وَهُوَ خَال الشَّيْخ يحيى وَأول من أَخذ عَنهُ كَافِي الصردفي بِحَق أَخذه لَهُ عَن مُصَنفه
وَمِنْهُم القَاضِي عَليّ بن مُحَمَّد بن شَيبَان أَخذ علم الْأَدَب عَن ابْن حمد مقدم الذّكر وَإِبْرَاهِيم بن عباد وَكَانَ فَاضلا
وَمِنْهُم إِبْرَاهِيم بن وليد كَانَ فَقِيها فَاضلا
وَمِنْهُم أَبُو الْحُسَيْن يحيى بن مُحَمَّد بن عمر بن الْفَقِيه أَحْمد بن الْفَقِيه إِبْرَاهِيم بن الْفَقِيه أبي عمرَان مقدمي الذّكر من قَرْيَة الملحمة مولده سنة سِتّ(1/291)
وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة وتفقه باليفاعي وَابْن عبدويه وبمقبل بن زُهَيْر وَأخذ عَن أسعد ابْن خير بن ملامس وَكَانَ فَقِيها كَبِيرا جليل الْقدر متضلعا من الْعُلُوم الْفِقْهِيَّة والحديثية والنحوية واللغوية وَله القصيدة الْمَشْهُورَة فِي الإِمَام زيد وَقد ذكرتها مَعَ ذكره وَكَانَ بِهِ مُعظم تفقهه وَعَلِيهِ تفقه جمَاعَة كَثِيرُونَ وَكَانَ ذَا عبَادَة وكرامات واشتهر عَنهُ أَنه كَانَ يقرىء الْجِنّ وَلما دخلت الملحمة سنة ثَلَاث عشرَة وَسَبْعمائة لغَرَض زِيَارَة تربته وترب أَهله والتبرك بآثارهم والفحص عَن أخبارهم اجْتمعت بِرَجُل من متفقهة أَهله أَخْبرنِي أَنه سمع متقدميهم ينقلون الخالف عَن السالف أَنه كَانَ إِذا تهور اللَّيْل خرج عَن الْقرْيَة إِلَى مَوضِع هُنَاكَ يعرف بعارضة الْمِيزَاب فيتوضأ بِمَاء هُنَالك ثمَّ يصله جمَاعَة من الْجِنّ فيقرأون عَلَيْهِ وَهُوَ أحد شُيُوخ الْحَافِظ العرشاني وَبِه تفقه مُحَمَّد بن سَالم وَعلي بن عِيسَى الأصبحيان وَأحمد بن إِبْرَاهِيم اليافعي مَعَ جمع غَيرهم
وَمن الشّعْر الْمَنْسُوب إِلَيْهِ أَن شَيْخه الإِمَام زيد اليفاعي لما عَاد من مَكَّة فِي الْمرة الأولى وَأَرَادَ الْعود إِلَيْهَا خشيَة الْفِتْنَة كَمَا قدمنَا قَالَ ... إِن الْعُيُون الَّتِي قرت بِرُؤْيَتِهِ ... كَادَت تعود سخينات لفرقته
وأنفسا أنست بِالْقربِ مِنْهُ فقد ... كَادَت تقطع حسرات لوحشته
لَوْلَا أعلل نَفسِي أَن فرقته ... لَا تستديم وَأَرْجُو يمن طلعته
عددت نَفسِي شقيا والرجاء بِمَا ... يقْضِي بتشتيت شَمل جمع ألفته
وَأَن يمن بِتَوْفِيق ومغفرة ... على الْجَمِيع وتسديد برحمته ... وَكَانَ وَفَاته بقريته سنة ثَمَان وَعشْرين وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم ابْن عَمه أَحْمد بن عبد الله بن عمر بن الْفَقِيه أَحْمد الْمَذْكُور أَولا يجْتَمع مَعَ يحيى مقدم الذّكر فِي جدهما عمر بن الْفَقِيه أَحْمد مولده سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة تفقه باليفاعي وبأبي بكر المحابي وبابن عبدويه وَهُوَ أكبر من يحيى لَكِن شهرة يحيى أَكثر من شهرته وَكَانَت وَفَاته سنة سِتّ وَعشْرين وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن حميد بن أبي الْحُسَيْن بن نمر بن عبد الله بن(1/292)
هِلَال بن أَحْمد بن نمر من بَيت رئاسة كَبِيرَة يعْرفُونَ بالسلاطين بني نمر وهم بطن من الركب وهم يعْرفُونَ بالزواقر وَالِده حميد بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ ذال مُهْملَة وَذَلِكَ تَصْغِير من سمى مُحَمَّد على اصْطِلَاح طَائِفَة من أهل الْيمن وجده أَبُو الْحُسَيْن مولده سنة ثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وبالغت فِي ضبط أَبِيه وجده إِذْ يَقع فيهمَا اللّبْس لَا سِيمَا فِي الْجد وَرُبمَا وجد فِي بعض نسخ الطَّبَقَات أبي الْخَيْر وأقمت أتردد فِي ذَلِك حَتَّى اجْتمعت بِبَعْض ذُريَّته فَأَخْبرُونِي بِصِحَّة ذَلِك وَذريته قُضَاة الموسكة وبلد قَومهمْ ونواحيها يَأْتِي مُسْتَحقّ الذّكر مِنْهُم وتفقه بزيد اليفاعي والفائشي وَلما حج أَخذ عَن أَحْمد الْمَكِّيّ وَعَن المقرىء الْحبرِي وَكَانَ فَقِيها زاهدا ورعا متنقلا
حُكيَ أَنه رأى فِي الْمَنَام لَيْلَة الْقدر فَلم يسْأَل الله شَيْئا غير الْجنَّة وَتَمام قوت سنته وعَلى قَبره شَجَرَة سدر يقطع مِنْهَا أهل العاهات ويغتسلون بذلك فِيمَن الله عَلَيْهِم بالعافية وَإِن قطع مِنْهَا أحد شَيْئا عَبَثا لم يكد يسلم من عاهة تصيبه وَكَانَت وَفَاته حَيْثُ كَانَ مَسْكَنه قَرْيَة تعرف بِذِي المليد من أَعمال قياض عزلة من أَعمال تعز وَضبط ذِي المليد بخفض الذَّال الْمُعْجَمَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت ثمَّ مِيم مَفْتُوحَة بعد ألف وَلَام ثمَّ لَام بعْدهَا سَاكِنة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت ومفتوحة ثمَّ دَال مُهْملَة وقياض بِضَم الْقَاف وَفتح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ ألف وضاد مُعْجمَة وَفَاته(1/293)
بشوال سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة وقبره هُنَالك مَشْهُور يقْصد للزِّيَادَة وَعند السِّدْرَة الْمَذْكُورَة أَولا
وَمِنْهُم أسعد بن أبي زيد التباعي أَخذ عَن يحيى بن عمر مقدم الذّكر
وَمِنْهُم أَبُو الْحُسَيْن يحيى بن أبي الْخَيْر بن سَالم بن أسعد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن مُوسَى بن عمرَان بن ربيعَة بن عبس بن زُهَيْر بن غَالب بن عبد الله بن عك بن عدنان ومولده قَرْيَة سيروزن طير قد تقدم ذكرهَا فِي سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ أَكثر من انْتَشَر الْعلم عَنهُ من أهل الطَّبَقَة تفقه فِي بدايته بخاله أبي الْفتُوح كَمَا قدمنَا أَخذ عَنهُ التَّنْبِيه وكافي الْفَرَائِض ثمَّ قَرَأَ التَّنْبِيه ثَانِيًا على مُوسَى الصعبي الْمُقدم ذكره ثمَّ قدم إِلَيْهِم سير الْفَقِيه عبد الله بن أَحْمد الزبراني باستدعاء من بعض مَشَايِخ قومه بني عمرَان وَأخذ عَنهُ الْمُهَذّب واللمع غيبا والملخص والإرشاد لِابْنِ عبدويه وَأعَاد عَلَيْهِ كَافِي الصردفي ثمَّ ترافق هُوَ وَالشَّيْخ الْفَقِيه عمر بن عَلْقَمَة إِلَى أحاظة كَمَا قدمنَا ذَلِك فِي ذكره فقرأا عَلَيْهِ الْمُهَذّب وتعليقة الشَّيْخ أبي إِسْحَاق فِي الْأُصُول والملخص وغريب أبي عبيد وَغير ذَلِك من مسَائِل الدّور وَالْخلاف ثمَّ لما عادا إِلَى ذِي السفال درسا مَا قرأاه ثمَّ أَخذ عَنهُ كَافِي الصفار والجمل فِي النَّحْو وَقَرَأَ الدّور مرّة ثَانِيَة على عمر بن بيش اللحجي وَيُقَال الأبيني وَلما دخلت الملحمة بالتاريخ الْمُتَقَدّم ووقفت على شَيْء من كتب فقهائها وجدت تعليقة بِخَط الْفَقِيه أبي الْخطاب عمر بن مُحَمَّد بن مَضْمُون مَا مِثَاله أَن الإِمَام يحيى بن أبي الْخَيْر تعلم الْقُرْآن وأكمل حفظه غيبا وَقَرَأَ الْمُهَذّب والتنبيه والفرائض وَلم يبلغ من الْعُمر غير ثَلَاث عشرَة سنة من مولده ثمَّ لما قدم الإِمَام اليفاعي من مَكَّة إِلَى الْجند وَقد صَار هَذَا الشَّيْخ يدرس وصل الْجند بِجمع من درسته فَأخذ عَنهُ الْمُهَذّب ثَالِثَة ثمَّ النكت ثمَّ توفّي وَهُوَ عِنْده فَلَمَّا انْقَضى المعزا طلع قَرْيَة سهفنة فَأخذ بهَا عَن القَاضِي مُسلم بن أبي بكر كتاب الْحُرُوف السَّبْعَة فِي علم الْكَلَام تأليف المراغي مقدم الذّكر وَنَقله من خطّ الْقَاسِم مقدم الذّكر ثمَّ انْتقل إِلَى ذِي أشرق سنة سبع عشرَة وَخَمْسمِائة وَأخذ عَنهُ سَالم الْأَصْغَر جَامع التِّرْمِذِيّ وبهذه السّنة تزوج أم وَلَده طَاهِر وَكَانَ قد تسرى قبلهَا(1/294)
بحبشية وفيهَا ابْتَدَأَ بمطالعة الشُّرُوح وَجمع مِنْهَا مَا يزِيد على الْمُهَذّب كتابا سَمَّاهُ الزَّوَائِد وَذَلِكَ أَنه كَانَ قد اسْتَشَارَ الإِمَام زيدا فِي أَي الشُّرُوح أَحَق بالمطالعة وَأجْمع لما شَذَّ عَن الْمُهَذّب لينسخه فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِجمع جَمِيع الشُّرُوح الْمَوْجُودَة ومطالعتها وانتزاع زوائدها على الْمُهَذّب فَفعل وَجمع الْكتاب الْمَذْكُور وَفرغ مِنْهُ سنة عشْرين وَخَمْسمِائة وَفِي عقيب ذَلِك حج وزار الضريح المشرف صلوَات الله على صَاحبه وَاجْتمعَ فِي مَكَّة بالفقيه الْوَاعِظ الْمَعْرُوف بالعثماني فجرت بَينهمَا مناظرات فِي شَيْء من الْفِقْه والأصولين وَكَانَ العثماني على مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ فِي المعتقد وَكَانَ الشَّيْخ يحفظ التَّبْصِرَة غيبا أَخذهَا عَن شَيْخه اليفاعي والفائشي وَكَانَا يقرئانها أصحابهما وأخذا بهَا عَن الْبَنْدَنِيجِيّ فناظر العثماني مرَارًا وَكَانَ الشَّيْخ يقطعهُ وَيُقِيم عَلَيْهِ الْحجَّة بقوله إِن المسموع الْمَفْهُوم لَيْسَ بِكَلَام الله بل عبارَة فيحتج عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى {إِن هَذَا الْقُرْآن يهدي للَّتِي هِيَ أقوم} وَيَقُول لَفْظَة هَذَا لَا يكون إِلَّا إِشَارَة إِلَى مَوْجُود عِنْد كَافَّة أهل اللُّغَة وَلَا يُوجد إِلَّا المسموع الْمَفْهُوم
وَلَقَد حُكيَ أَنَّهُمَا كَانَا يتناظران فِي المطاف فَمن شدَّة إفحام الشَّيْخ للعثماني يمسح جَبينه بِيَدِهِ من شدَّة الْعرق ثمَّ لما عَاد الشَّيْخ إِلَى الْيمن وَألف كتاب الْبَيَان أورد فِيهِ عدَّة مسَائِل عَن العثماني وَنقل عَنهُ كَذَلِك فِي تعليقاته وَذَلِكَ يدل على فضل العثماني وعدالته وَجَوَاز الْأَخْذ عَنهُ وَلَو كَانَ قد اعْتقد جرحه أَو فسقه كَمَا يرى جمَاعَة من الْجُهَّال يكفرون من خالفهم فِي المعتقد وَلَا يقبلُونَ نَقله لما نقل عَنهُ وَلَا قبل مِنْهُ
وَلما عَاد الشَّيْخ من مَكَّة استخرج كِتَابه الَّذِي أَلفه فِي الدّور من كتاب ابْن اللبان وَغَيره ثمَّ نظر فِي كتاب الزَّوَائِد الَّذِي كَانَ قد جمعه أَولا فَرَأى أَنه قد رتبه على شُرُوح الْمُزنِيّ ثمَّ أغفل عَنهُ الدّور وأقوال الْعلمَاء فطالع ذَلِك وراجعه ثمَّ لما كَانَ فِي سنة ثَمَان وَعشْرين ابْتَدَأَ بتصنيف الْبَيَان ورتبه على تَرْتِيب مَحْفُوظَة الْمُهَذّب وَكَانَ يَقُول لم أجمع الزَّوَائِد إِلَّا بعد أَن حفظت الْمُهَذّب غيبا وَقد ذكرت فِيمَا تقدم أَنه قَرَأَ الْمُهَذّب واللمع على الْفَقِيه عبد الله الزبراني وطالع الْمُهَذّب بعد ذَلِك وَقبل التصنيف(1/295)
أَرْبَعِينَ شرفا وَأكْثر وَكَانَ يطالع كل جُزْء مِنْهُ من وَاحِد وَأَرْبَعين جُزْءا فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة أَربع مَرَّات كل فصل على حِدة وَكَانَ إِذا قَرَأَ عَلَيْهِ المتفقه وَهُوَ يعلم فهمه بَين لَهُ احترازات الأقيسة وفوائدها ووجوه أُصُولهَا ثمَّ يبين لَهُ مَا الْعلَّة فِي اختصاصها بالتأصيل إِمَّا بِالنَّصِّ من طَرِيق الْكتاب وَالسّنة أَو بِتَسْلِيم الْمُخَالف حكم الْمَسْأَلَة وَمَتى كَانَ فِي عبارَة الْكتاب استغلاق أَو قصر فهم القارىء عَن ذكرهَا أبدلها بِعِبَارَة أُخْرَى حَتَّى يتصورها القارىء ويفحصها وينبه فِي كل مَسْأَلَة على خلاف مَالك وَأبي حنيفَة خَاصَّة وَقد يذكر مَعَهُمَا غَيرهمَا فِي بعض الْمسَائِل وَمَتى فرغ الطَّالِب من قِرَاءَة الدَّرْس أمره أَن ينظر فِي الْكتاب وَيُعِيد عَلَيْهِ درسه غيبا ويقصد بذلك ترغيبه وَكَانَ يفعل ذَلِك مَعَ من تحقق فهمه وَقُوَّة إشراكه الْمعَانِي وَأما غَيره فَلَا يزِيدهُ على الْجَواب عَمَّا سَأَلَ أَو رد غلط وتصحيف ثمَّ لما أكمل تصنيف الْبَيَان سَأَلَهُ تِلْمِيذه الْفَقِيه الصَّالح مُحَمَّد بن مُفْلِح الْحَضْرَمِيّ انتزاع مشكلات الْمُهَذّب وحلها فعل ذَلِك بكتابه الْمَشْهُور بمشكل الْمُهَذّب وَذَلِكَ آخر سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
وَكَانَ من سيرته أَنه إِذا مضى عَلَيْهِ وَقت من غير ذكر الله تَعَالَى أَو مذاكرة الْعلم حولق واستغفر وَقَالَ ضيعنا الْوَقْت وَكَانَ سهل الْأَخْلَاق لين الْجَانِب عَظِيم الهيبة عِنْد النَّاس ثمَّ حدث على قومه بسير خوف عَظِيم وحروب من الْعَرَب حَولهمْ فَخرج الشَّيْخ مِنْهَا إِلَى ذِي السفال فَلبث بهَا مُدَّة ثمَّ انْتقل إِلَى ذِي أشرق فَلبث بهَا سبع سِنِين وكسرا وَفِي الرَّابِعَة من السنين طلع فُقَهَاء تهَامَة إِلَيْهِ هاربين من ابْن الْمهْدي فأنسوا بِهِ وَأَقَامُوا عِنْده أَيَّامًا طَوِيلَة ميلًا إِلَى الجنسية وَكَونه رَأس الْفُقَهَاء بِالْإِجْمَاع من العيان ومناظرة أدَّت إِلَى تَكْفِير بَعضهم لبَعض والمنافرة بَينهم وَكَانَ الشَّيْخ رَحمَه الله لَا يُعجبهُ ذَلِك وَلَا يكَاد يَخُوض بِعلم الْكَلَام وَلَا يرتضي لأَصْحَابه من ذَلِك وَظهر من وَلَده طَاهِر الْميل والتظاهر بِخِلَاف المعتقد الَّذِي عَلَيْهِ وَالِده وغالب فُقَهَاء الْعَصْر من أهل الْجند خَاصَّة فشق ذَلِك على الشَّيْخ وهجر وَلَده هجرا شاقا وَكَانَ ذَلِك سنة أَربع وَخمسين وَخَمْسمِائة ثمَّ إِن طَاهِرا لم يطق على هجر أَبِيه وَلَا هجر الْفُقَهَاء بِذِي أشرق وَكَانَ سَبَب ذَلِك مَا تحققوه فِيهِ وَعلم أَن لَا زَوَال لذَلِك إِلَّا إِظْهَار التَّوْبَة والتبري عَمَّا كَانَ أظهره فَلم يزل يتلطف على وَالِده بذلك بإرسال من يقبل الشَّيْخ مِنْهُ فَقَالَ للرسول لَا أقبل مِنْهُ حَتَّى يطلع الْمِنْبَر بِمحضر الْفُقَهَاء ويعرض عَلَيْهِم عقيدته ويتبرأ(1/296)
مِمَّا سواهَا فَأجَاب إِلَى ذَلِك وَحضر فِي يَوْم الْجُمُعَة الْجَامِع وَصعد الْمِنْبَر وَكَانَ فصيحا مصقعا فَخَطب وَذكر عقيدته الَّتِي الْفُقَهَاء متفقون عَلَيْهَا وتبرأ مِمَّا سواهَا فحين فرغ من ذَلِك الْتفت الشَّيْخ إِلَى الْفُقَهَاء وهم حوله وَقَالَ هَل أنكر الإخوان من كَلَامه شَيْئا فَقَالُوا لَا وَفِي عقيب ذَلِك صنف
كتاب الِانْتِصَار
وَسبب تصنيفه مَا حدث من الْفُقَهَاء ثمَّ ظُهُور القَاضِي جَعْفَر المعتزلي ووصوله إبا واجتماعه بِسيف السّنة وقطعه لَهُ وَكَانَ بودهم نزُول الْيمن فَقيل لَهُ إِن نزلت لقِيت الْبَحْر الَّذِي تغرق فِيهِ يحيى بن أبي الْخَيْر فَعَاد الْقَهْقَرَى وَعَاد إِلَى حصن شواحط فَأمر الشَّيْخ يحيى إِلَيْهِ تِلْمِيذه الْفَقِيه عَليّ بن عبد الله الهرمي فَلحقه فِيهِ فناظره وقطعه فِي عدَّة مسَائِل رُبمَا أذكر من مناظرتهما مَا لَاق عِنْد ذكر الْفَقِيه عَليّ فَإِنَّهُ قد كَانَ قَرَأَ كتاب الِانْتِصَار فِي الرَّد على الْقَدَرِيَّة الأشرار على الشَّيْخ يحيى وَقد كَانَ بَالغ فِي الرَّد على الْمُعْتَزلَة بكتابه الْمَذْكُور وعَلى الأشعرية ففرح الْفُقَهَاء بِهِ عِنْد فَرَاغه وانتسخوه ودانوا الله بِهِ ثمَّ صنف غرائب الْوَسِيط وَاخْتصرَ إحْيَاء عُلُوم الدّين وَوصل الْحَافِظ العرشاني فِي تِلْكَ الْمدَّة إِلَى ذِي أشرق فَسمع الشَّيْخ عَلَيْهِ البُخَارِيّ وَسنَن أبي دَاوُد وَذَلِكَ بِقِرَاءَة الْفَقِيه أَحْمد بن إِسْمَاعِيل المأربي وَعبد الله بن عَمْرو التباعي وَسليمَان بن فتح بن مِفْتَاح وَولده طَاهِر ثمَّ انْتقل الشَّيْخ إِلَى ضراس نافرا عَمَّا شجر بَين الْفُقَهَاء أَولا وَأظْهر أَن سَبَب ذَلِك الْخَوْف من ابْن مهْدي فَلبث بهَا شهرا ثمَّ انْتقل إِلَى ذِي السفال ثمَّ توفّي بعد إِقَامَته بهَا سنة
وَلَقَد سَمِعت جمَاعَة أوثقهم الْفَقِيه صَالح بن عمر يذكرُونَ أَن الْفَقِيه لما عزم على قصد ذِي السفال متنقلا كتب إِلَى فقيهها وَهُوَ إِذْ ذَاك مُحَمَّد بن أَحْمد بن عمر بن عَلْقَمَة الْآتِي ذكره يَقُول لَهُ إِنِّي أُرِيد الِانْتِقَال إِلَيْكُم فَأرْسل جمَاعَة من أهل(1/297)
الْبَلَد يلقونني بأسياف إِلَى المسلاب مَوضِع خوف فِي الطَّرِيق وَقَالَ لَهُ بكتابه فمعي كتب وأخشى عَلَيْهَا فتْنَة الْحَرْب فَفعل الْفَقِيه ذَلِك وَذكروا أَيْضا أَنه أَعنِي الْفَقِيه مُحَمَّد بن أَحْمد رأى لَيْلَة قدوم الشَّيْخ عَلَيْهِم قَائِلا يَقُول لَهُ غَدا يقدم عَلَيْكُم معَاذ بن جبل فَلَمَّا أصبح الْفَقِيه وَأخْبر أَصْحَابه بمنامه وَقَالَ يقدم علينا الْيَوْم عَالم هَذِه الْأمة فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول معَاذ أعلم أمتِي بالحلال وَالْحرَام
وَكَانَت وظيفته أَن يقْرَأ كل لَيْلَة سبع الْقُرْآن بِالصَّلَاةِ وَكَانَ يحب طلبة الْعلم واجتماعهم وَيكرهُ الْخَوْض فِي علم الْكَلَام وَكفى لَهُ شَاهدا على الْفضل الَّذِي حواه تصنيف الْبَيَان الَّذِي انْتفع بِهِ الْإِنْس والجان واعترف بتحقيقه وتدقيقه كل إِنْسَان ويتوقل فِي بلد البيضان والسودان
وَلما قدم بعد بَغْدَاد جعل فِي أطباق الذَّهَب وطيف بِهِ مزفوفا ثمَّ لما قدم بِهِ بِخَط علوان قَالَ جمَاعَة من أهل الْعرَاق مَا كُنَّا نظن فِي الْيمن إِنْسَان حَتَّى قدم علينا الْبَيَان بِخَط علوان رضيه الْفُقَهَاء الْمُحَقِّقُونَ وانتفع بِهِ الطَّبَقَة المدرسون وَنقل عَنهُ المصنفون حَتَّى كَانَ كاسمه للشَّرْع تبيانا وللفقه بَيَانا أجَاب بِهِ عَن المعضلات وأوضح بِهِ المشكلات وَقسم بِهِ الْأَوْصَاف والاحترازات وَسمعت شَيْخي أَبَا الْحسن الأصبحي يَقُول مَا أشكلت عَليّ مَسْأَلَة فِي الْفِقْه وفتشت لَهَا الْبَيَان إِلَّا وجدت بِهِ بَيَانهَا ووضح لي تبيانها فجزاه الله عَن الْإِسْلَام خيرا وَلَقَد دخلت عَليّ مرّة أَيَّام درسي عَلَيْهِ وَهُوَ إِذْ ذَاك فِي أثْنَاء أجوبة عَن سوآلات سَأَلَهُ بهَا الْفَقِيه صَالح بن عمر وَهُوَ بَين يَدَيْهِ فَقَالَ الْبَيَان كتاب عَظِيم لَا أشفى مِنْهُ لنَفس الْفَقِيه وَنقل صَاحب الْعَزِيز وَصَاحب الرَّوْضَة عَنهُ مسَائِل جمة شاهدة لَهُ أَيْضا بالكمال كَمَا ذكرت وَكَيف لَا يكون كَذَلِك وَقد قَالَ بعض الْمُحَقِّقين أَنه انتخل الشُّرُوح المفيدة والأدلة السديدة والمسائل العتيدة والأقيسة الأكيدة وضمنها الْكتاب الْمَذْكُور مَعَ مَا أضَاف إِلَى ذَلِك من النكت الْحَسَنَة والعلل المستحسنة وَجمع فِيهِ بَين تَحْقِيق الْعِرَاقِيّين وتدقيق الخراسانيين بِحَيْثُ إِذا تَأمله الحاذق الْحَاضِر وكد فِيهِ الْفِكر والناظر وَسعه وَكَفاهُ وَاسْتغْنى بِهِ عَمَّا(1/298)
سواهُ فرحم الله ثراه وَبرد مضجعه ومثواه وَجعل الْجنَّة مَحَله ومأواه
وَكَانَ الإِمَام ابْن عجيل يَقُول لَوْلَا الْبَيَان مَا وسعني الْيمن وَكَانَت السيدة تجله وتعظم مَحَله وتأمر بوابها بذلك
حُكيَ أَن الْفَقِيه قدم إِلَى جبلة بشفاعة إِلَيْهَا بِسَبَب أَيْتَام كَانُوا تَحت يَده وعَلى أَرضهم جور فَوهبت ذَلِك للفقيه وكتبت للأيتام مُسَامَحَة جَارِيَة إِكْرَاما لقدوم الْفَقِيه
وَلما مدح الْفَقِيه النسابة أَحْمد بن مُحَمَّد الْأَشْعَرِيّ الشَّيْخ مُحَمَّد بن عَليّ بن مشعل بِشعر مَشْهُور جعل هَذَا الإِمَام من أعظم مناقبه وَأجل مفاخره الَّتِي يمدح بهَا وَكَانَ لَهُ مَعَ تجويد الْفِقْه تجويد الأصولين وَلَقَد اجْتمعت بِبَعْض الْفُقَهَاء مِمَّن لَهُ دراية بالأصول فأوقفني على أَبْيَات وَهُوَ يستعظمها وَيَقُول مَا كنت أَظن صَاحب الْبَيَان يعرف الْأُصُول هَذِه الْمعرفَة وأوقفني على ورقة فِيهَا هَذِه الأبيات ... أفعالنا عرض فِي جسم فاعلها ... وَالله يخلق مَا فِي الْجِسْم من عرض
إِذا تقرر هَذَا فِي نَظَائِره ... فَلَا اعْتِرَاض إِذن يبْقى لمعترض
وَمن ينازعنا فى ذَا وينكره ... فليأتنا بِدَلِيل غير منتقض
الْمَدْح والذم والإنعام مِنْهُ لنا ... على اخْتِيَار لنا فِي الْفِعْل وَالْعرض
لَا يسْتَحق عَلَيْهِ الزرق فِي صغر ... وَلَا ثَوابًا على كسب كَمَا الْعِوَض
لَا عذب الله إنْسَانا بِلَا عمل ... لَكَانَ عدلا كَمَا فِي الْمَوْت وَالْمَرَض
مَا لم يَشَأْ لم يكن من فَاعل أبدا ... وَأَن يرد كَون شَيْء فِي الْعباد قضي ... وَله شعر ينْسب إِلَيْهِ مِنْهُ قَوْله فِي وصف حَاله وزمانه وَأهل بَلَده ... إِلَى الله أَشْكُو وحشتي من مجَالِس ... أراجعه فِيمَا يلذ بِهِ فهمي
لِأَنِّي غَرِيب بَين سير وَأَهْلهَا ... وَإِن كَانَ فِيهَا أسرتي وَبَنُو عمي
وَلَيْسَ اغترابي عَنْهُم بيد النَّوَى ... وَلَكِن لما أبدوه من جفوة الْعلم
فقد كنت أَرْجُو أَن تكون سلالتي ... بِحِفْظ علومي فِي حَياتِي ذَوي عزم
فَثَبَّطَهُمْ عَن ذَاك حساد قَومهمْ ... وَمَا سمعُوا من كل ذِي حسد فدم
ستصبح يَا من غره قَول حَاسِد ... يَمُوت أَسِير الذل وَالْجهل واليتم ... وَلما دخلت قَرْيَة سير اجْتمعت بِبَعْض ذُريَّته فأوقفني على شَيْء من كتبه(1/299)
فَوجدت مُعَلّقا بدفة كتاب مَعُونَة الطلاب لفقه مَعَاني كتاب الشهَاب تأليف وَلَده طَاهِر وبخطه أَيْضا مَا مِثَاله وللوالد رَحمَه الله ... أَلَيْسَ الله خَالق كل جسم ... وأعراض الْعباد بِلَا مراء
وَمَا عرض يخص بذا وَلَكِن ... عُمُوما فِي الْجَمِيع على سَوَاء
فَهَل أفعالنا وَالْقَوْل فِيهَا ... سوى عرض يقوم بِلَا بَقَاء ... ثمَّ بعد ذَلِك الأبيات الْمُتَقَدّمَة قَالَ مُؤَلفه عَفا الله عَنهُ أَخذ الشَّيْخ هَذِه الأبيات فِيمَا أَظُنهُ من قَول الْخطابِيّ وَهُوَ قَوْله ... وَمَا غربَة الْإِنْسَان فِي شقة النَّوَى ... وَلكنهَا وَالله من عدم الشكل
وَإِنِّي غَرِيب بَين بست وَأَهْلهَا ... وَإِن كَانَ فِيهَا أسرتي وَبهَا أَهلِي ... وَمن الشّعْر الَّذِي أوردهُ ابْن سَمُرَة فِي مدح الشَّيْخ رَحمَه الله قَول بعض أهل عصره ... لله شيخ من بني عمرَان ... قد كَانَ شاد الْعلم بالأركان
يحيى لقد أَحْيَا الشَّرِيعَة هاديا ... بزوائد وغرائب وَبَيَان
هُوَ درة الْيمن الَّذِي مَا مثله ... من أول فِي عصرنا أَو ثَانِي ... وَكَانَت وَفَاته بقرية ذِي السفال مبطونا وَقد عد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المبطون شَهِيدا وَذَلِكَ بعد أَن اعتقلت لِسَانه لَيْلَتَيْنِ وَيَوْما وَمَتى جَاءَ وَقت الصَّلَاة سَأَلَ عَن ذَلِك بِالْإِشَارَةِ فَإِذا قيل لَهُ بِالْوَقْتِ صلى ثمَّ كَانَ لَا يزَال يُشِير بالتهليل يعرف ذَلِك مِنْهُ بِرَفْع مسبحته ويحركها ثمَّ توفّي فِي آخر لَيْلَة الْأَرْبَعَاء بعد طُلُوع الْفجْر سادس عشر ربيع الآخر سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة وقبر بجرب لَهُ بِالْقربِ من أرضه وقبره من الْقُبُور المعدودة للزيارة واستنجاز الْحَوَائِج والتوسل إِلَى الله بأصحابها وَقد زرته بِحَمْد الله مرَارًا
وَقد جرت الْعَادة غَالِبا مَتى عرض ذكر أحد من الْأَعْيَان ذكرت من ذكره مَا لَاق(1/300)
فقد عرض مَعَه ذكر رجلَيْنِ أَحدهمَا الْخطابِيّ وَالْآخر علوان
فَأَما الْخطابِيّ فَهُوَ الإِمَام أَبُو سُلَيْمَان حمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْخطاب قيل لَهُ الْخطابِيّ نِسْبَة إِلَى جده الْخطاب الْمَذْكُور أَولا قَالَه ابْن خلكان وَيعرف بالبستي نِسْبَة إِلَى بست بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة ثمَّ تَاء مثناة من فَوق وَهِي مَدِينَة بِبِلَاد كابل بَين هراة وغزنة كَانَ فَقِيها أديبا مُحدثا لَهُ التصانيف البديعة وَمِنْهَا غَرِيب الحَدِيث ومعالم السّنَن وَغَيرهمَا وَله أَبْيَات حكمِيَّة مِنْهَا مَا أوردته أَولا ثمَّ قَوْله ... شَرّ السبَاع العوادي دونه وزر ... وَالنَّاس شرهم مَا دونه وزر
كم معشر سلمُوا لم يؤذهم سبع ... وَمَا ترى بشرا لم يؤذه بشر ... وَقَوله ... فسامح وَلَا تستوف حَقك كُله ... وأبق فَلم يستقص قطّ كريم
وَلَا تغل فِي شَيْء من الْأَمر واقتصد ... كلا طرفِي قصد الْأُمُور سليم ... وَلما كَانَ من أَعْيَان الْمَذْهَب علما وشهرة وَعرض ذكره اتجه فِي بَيَان حَاله مَا لَاق وَكَانَت وَفَاته بربيع الأول سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وثلثمائة
قَالَ ابْن خلكان وَقد سمع فِي اسْمه بثبات الْهمزَة وَالصَّحِيح حذفهَا
وَأما علوان الَّذِي دخل الْبَيَان بِخَطِّهِ الْعرَاق حَتَّى قَالَ أَهله مَا قَالُوا أَولا وَكَانَ أَصله من بلد على قرب من رَأس نقِيل صيد يعرف بخاو بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة ثمَّ ألف وواو وَكَانَ كَاتب إنْشَاء الْملك المسعود بن الْكَامِل وَحكي أَنه سَافر مَعَه إِلَى حجَّة على بغلة فَحصل حَرْب ثمَّ كَانَ هَذَا علوان تَحت جبل فَانْقَطع من الْجَبَل كتف وَقع(1/301)
عَلَيْهِ وَهُوَ رَاكب بغلته فَكَانَ آخر الْعَهْد بهما وَكَانَ أَيَّام الْخدمَة يسكن المعافر بِموضع من نواحي جبل ذخر يعرف بِذِي الحنان جمع جنَّة بِالْجِيم وَالنُّون وَالْهَاء وَلم أَقف لَهُ على تَارِيخ وَولده أَحْمد بن علوان الصُّوفِي الْآتِي ذكره فِي أهل طبقته
وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عَليّ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْحَرْبِيّ مولده سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة أَخذ عَن ابْن شَيبَان وَابْن الْوَلِيد مقدمي الذّكر وَكَانَ فَقِيها شهير الذّكر وَلما اشْتغل الشَّيْخ يحيى بتصنيف الْبَيَان وَامْتنع بذلك عَن الْقُرَّاء واستشاره ابْن عَمه وصهره عُثْمَان بن أسعد بن عُثْمَان فِيمَن يذهب إِلَيْهِ من فُقَهَاء الْوَقْت وَيقْرَأ عَلَيْهِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِهَذَا عبد الله فارتحل إِلَيْهِ وَأخذ عَنهُ وتفقه بِهِ جمَاعَة
وَمِنْهُم عُثْمَان بن إِبْرَاهِيم الأبرهي غَالب سكناهُ الشعبانية وَله بهَا أَرض جَيِّدَة وَرُبمَا أَن دَار المضيف بِذِي عدينة إِنَّمَا غَالب أحجاره من دَار كَانَت هُنَاكَ
وَذَلِكَ أَن الْملك المظفر لما هم ببنيانه جعل يفكر بِموضع يَأْخُذ مِنْهُ الْأَحْجَار فَخرج يَوْمًا من تعز ليسير إِلَى جِهَة الشعبانية فَوجدَ دَارا كَبِيرَة قد صَارَت متهدمة فَسَالَ عَن مَالِكهَا فَقَالُوا إِنَّمَا تعرف ذَلِك عَجُوز بالقرية يزِيد عمرها على المئة سنة فاستدعي بهَا فَجَاءَت تتوكأ على عودين وسألها فَقَالَت لَا أكاد أعرف إِنَّمَا كَانُوا يَقُولُونَ هِيَ لقوم كَانُوا فُقَهَاء مِنْهُم بَاقٍ فِي الموسكة وباق بذخر على قرب من ذِي الْجنان فَلَمَّا عَاد السُّلْطَان إِلَى مستقره بحث عَن الْقَوْم فأحضروا وَاشْترى مِنْهُم الدَّار ثمَّ نقلت أحجاره على الْجمال فَبنى دَار المضيف بِذِي عدينة خَاصَّة بالأحجار وَأما الْأجر فَرُبمَا كَانَ من غَيرهَا وَله ذُرِّيَّة بِالْقربِ من وَادي زبيد فيهم بعض تفقه فِيمَا أَخْبرنِي من خالطهم ولعَبْد الله جدهم كتاب سَمَّاهُ الشُّرُوط من أحسن مَا وضع فِي ذَلِك نَافِع يُوجد بِالْيمن كثيرا وَكَانَت وَفَاته سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن مَسْعُود بن سَلمَة البريهي وَهُوَ فِي طبقَة الْفَقِيه يحيى الَّذين سمعُوا على أسعد بن خير فِي سنة خَمْسمِائَة بجمادى الأولى مِنْهَا(1/302)
كتاب البُخَارِيّ وَهُوَ وَالِد سيف السّنة الْآتِي ذكره
وَمِنْهُم سَالم بن حسن الزوقري من قوم الْفَقِيه مُحَمَّد بن حميد الْمُقدم ذكره تفقه بِابْن عبدويه وَعنهُ يروي الْفَقِيه عَليّ بن أَحْمد اليهاقري كتاب الْمُهَذّب كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله
وَمِنْهُم أَبُو الْحسن عَليّ بن أبي بكر بن حمير بن تبع بن يُوسُف بن فضل الفضلي نسبته إِلَى هَذَا الْمَذْكُور ثمَّ الْهَمدَانِي مولده سنة أَربع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة كَانَ غَالب فنه الحَدِيث بِحَيْثُ كَانَ يُمَيّز بَين صَحِيحه ومعلوله ومرسله وَمُسْنَده ومقطوعه ومعضله أثنى عَلَيْهِ ابْن سَمُرَة ثَنَاء مرضيا وَقَالَ هُوَ شيخ الْمُحدثين وعمدة المسترشدين غلب عَلَيْهِ علم الحَدِيث فَكَانَ بِهِ عَارِفًا كثير الرحلة فِي طلبه أَخذ عَن زيد بن الْحسن الفائشي بوحاظة وأسعد بن ملامس المشيرقي وَعَن يحيى بن عمر الملحمي وَعَن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان وَأبي بكر بن أَحْمد بن الْخَطِيب بريمة سَيَأْتِي ذكرهمَا إِن شَاءَ الله وَأخذ عَن القَاضِي مبارك بالجؤة وَسَيَأْتِي ذكره فِيمَن ذكره ابْن سَمُرَة فِي فصل الْقُضَاة من أحسن كتاب وضع مُخْتَصر فِي ذَلِك نقل الثِّقَات نقلا متواترا أَنه كَانَ يخرج غَالب أَيَّام طلبه كل يَوْم من منزله بعرشان فيصل وحاظة وَإِلَّا المشيرق فَيقْرَأ ثمَّ يعود قلا يبيت إِلَّا فِي بَيته وَبَين بَلَده وَبَين أحد الْمَوْضِعَيْنِ يَوْم للمجد وَذكروا أَنه كَانَ قد يطْمع بِهِ قوم من الْعَرَب فوقفوا لَهُ مرَارًا فَلَا يَدْرُونَ بِهِ حَتَّى يجاوزهم بمسافة لَا يَسْتَطِيعُونَ إِدْرَاكه بعْدهَا فَلَمَّا تكَرر ذَلِك مِنْهُم علمُوا أَنه مَحْجُوب محمي عَنْهُم فغيروا نيتهم ووقفوا لَهُ فَمر بهم فصافحوه وتبركوا بِهِ وسألوه أَن يُحِلهُمْ مِمَّا كَانُوا أضمروا لَهُ وَهَذَا يدل على صِحَة تَأْوِيل من قَالَ معنى قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الْمَلَائِكَة تضع أَجْنِحَتهَا لطَالب الْعلم رضى لَهُ وَأَن مَعْنَاهُ تحمله وتبلغه حَيْثُ مَا يأمله ويرومه إِعَانَة لَهُ على بعد الْمسَافَة
وَفِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة قدم مَدِينَة إب فَاجْتمع إِلَيْهِ بهَا جمع كثير رَأْسهمْ إِذْ ذَاك الإِمَام سيف السّنة فَأخذُوا عَنهُ وَكَانَ هُوَ القارىء وَحضر السماع(1/303)
جمَاعَة وَمِنْهُم سُلَيْمَان بن فتح وَغَيره وارتحل إِلَى عدن فَأخذ عَنهُ بهَا القَاضِي أَحْمد القريظي مَعَ جمع كثير من المغاربة والإسكندرانيين وَأهل عدن وَله كتاب الزلازل والأشراط اخذ عَنهُ جمع كثير مِنْهُم الشَّيْخ يحيى وَكَانَ يبجله ويجله وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ طَاهِر بن يحيى ومقبل الدثيني وَكَانَ الشَّيْخ يحيى يثني عَلَيْهِ وَيَقُول لَهُ لم أر أحفظ مِنْهُ وَلَا أعرف قيل لَهُ وَلَا بالعراق قَالَ مَا سَمِعت وَكَانَ يحفظ جملَة مستكثرة من الحَدِيث عَن ظهر غيب وَكَانَ راتبه فِي كل لَيْلَة جزأين من الْقُرْآن وَكَانَ يثردد مَا بَين بَلَده وإب والجند وعدن وَله بِكُل من هَذِه الْجِهَات وَأَصْحَاب فَكَانَ يقرىء بِجَامِع عرشان وَرُبمَا أَنه هُوَ الَّذِي أحدثه دَخلته مرَارًا فَوجدت بِهِ أنسا ظَاهرا وَعَلِيهِ جلالة فَعلمت أَن ذَلِك ببركة مَا كَانَ يُتْلَى فِيهِ من حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقصده أهل الحَدِيث من غَالب أنحاء الْيمن رَغْبَة فِي علمه وَدينه وورعه وأمانته وعلو إِسْنَاده ومعرفته وتواضعه وَكَانَ يكره الْخَوْض فِي علم الْكَلَام وَكَانَ من أَشد النَّاس مُحَافظَة على أَدَاء الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا
وَلَقَد قَالَ مَا فاتتني صَلَاة قطّ إِلَّا لعذر عَظِيم وَكَانَ يُصَلِّي فِي مرض مَوته قَائِما وَقَاعِدا وعَلى جنب وَكَانَ الْفَقِيه عَليّ بن أسعد من عنة يقْرَأ عَلَيْهِ الشَّرِيعَة للآجري مَعَ رجل آخر وَهُوَ فِي مرض مَوته فَكَانَ يغشى عَلَيْهِ ثمَّ يفِيق فيأمر القارىء بِإِعَادَة مَا قَرَأَ فِي حَال الْغَفْلَة ثمَّ لما فرغا من قِرَاءَة الْكتاب وَهُوَ إِذْ ذَاك قد عجز عَن الْكِتَابَة أَمر وَلَده أَحْمد أَن يكْتب لَهما السماع وَلما صَار بالنزع سَمعه جمَاعَة مِمَّن حضر من أَهله وَغَيرهم يَقُول لبيْك لبيْك فَقَالُوا لَهُ من تجيب قَالَ الله دَعَاني ارفعوني إِلَى الله ارفعوني إِلَى الله ارفعوني إِلَى السَّمَاء ثمَّ توفّي عقيب ذَلِك بقريته لعشر بَقينَ من الْقعدَة سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة وقبره غربي قبلي الْقرْيَة زرته بِحَمْد الله مرَارًا وَكَانَ لَهُ خَمْسَة أَوْلَاد تفقه مِنْهُم مُحَمَّد وَعبد الله شقيقان ثمَّ أَحْمد وَعمر
فَأَما مُحَمَّد فَكَانَ فَقِيها صَالحا ورعا وَلما ولي أَخُوهُ أَحْمد الْقَضَاء كَانَ يهجره وَلَا يدعس بساطه وَلَا يَأْكُل طَعَامه وعقبه بزبيد يعْرفُونَ ببني قَاضِي الرّفْعَة يتعانون الجندية والتعرز وَفِيهِمْ خير
وَأما عبد الله فَكَانَ فَقِيها لم أتحقق تَارِيخه وَلَا عقب لَهُ غير فَقِيه مَوْجُود الْآن(1/304)
بعرشان اسْمه عبد الله بن عبد الرَّحْمَن
توفّي مُحَمَّد وَأَخُوهُ عمر فِي شهر رَمَضَان سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة وَأما أَحْمد فَسَيَأْتِي ذكره فِي أهل طبقته وَذريته وذرية عمر هم الموجودون بجبلة وعرشان فِي عصرنا يعْرفُونَ بالقضاة وَخرج فيهم فُقَهَاء ومحدثون فِي الْأَكْثَر وهم من أبرك ذَرَارِي الْفُقَهَاء وقبلهم أهل الملحمة آل أبي عمرَان إِذْ هم من أول صدر المئة الرَّابِعَة وَآخر الثَّالِثَة ثمَّ إِلَى عصرنا لم يخل عَن فَقِيه ثمَّ من بعدهمْ ذُرِّيَّة الْهَيْثَم وَابْن ملامس المشيرقيين لَكِن ذُرِّيَّة بني ملامس قد انقرضت وذرية الْهَيْثَم بَقِي مِنْهَا بَقِيَّة
وَمن المشيرق عمر بن الْفَقِيه أسعد بن الْفَقِيه خير بن ملامس قد مضى ذكر آبَائِهِ تفقه عمر بِأَبِيهِ أسعد فَهُوَ من طبقَة الْحَافِظ الْمَذْكُور آنِفا وَبِه تفقه ابْنه عبد الله وَهُوَ آخر من حَقَّقَهُ ابْن سَمُرَة من ذُرِّيَّة ابْن ملامس
وَمن ريمة المناخي وَهُوَ جبل كَبِير سمي بذلك نِسْبَة إِلَى ذِي مناخ قوم من حمير يرجعُونَ إِلَى ذِي مناخ بِضَم الْمِيم وَفتح النُّون ثمَّ ألف ثمَّ خاء مُعْجمَة لما أَخذ الْجَبَل الصليحي من أَيْديهم شردهم وَقد مضى ذكر الرجل الَّذِي دخل مِنْهُم بَغْدَاد
وَصَحب الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق وامتدحه كَانَ بهَا جمَاعَة فضلاء متقدمون ومتأخرون والمتقدمون مِنْهُم بَنو الْخَطِيب كَانَ جدهم خَطِيبًا للصليحيين فنسبوا إِلَيْهِ وهم يعْرفُونَ بذلك إِلَى عصرنا ونسبتهم فِي الأعمور وأصلهم من أحاظة بلد وَاسِعَة تجمع قرى كَثِيرَة وَلَهُم هُنَاكَ قرَابَة
من متقدميهم عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان بن أَحْمد الْخَطِيب الَّذين ينسبون إِلَيْهِ وَعَمه أَبُو بكر بن أَحْمد الْخَطِيب هُوَ أَحْمد بن عبد الله كَانَ هَذَانِ الرّجلَانِ فقيهين فاضلين نزيهين أخذا عَن اللعفي مقدم الذّكر وَلما حجا أخذا بِمَكَّة عَن جمَاعَة بهَا وإليهما قدم الْحَافِظ العرشاني فَأخذ عَنْهُمَا وَكَانَ مسكنهما قَرْيَة شيعان بالشين الْمُعْجَمَة على وزن فعلان جمع فعلة وَلَا عقب لعبد الرَّحْمَن وَكَانَ بهَا عبد الله بن عَليّ الْحرَازِي وَالْقَاضِي أَحْمد بن أبي السُّعُود وَأَخُوهُ ذكر ابْن سَمُرَة جمَاعَة فِي فصل الْقُضَاة
وَمن وصاب عمرَان بن مُوسَى بن يُوسُف أَخذ عَن ابْن عبدويه وَبِه تفقه(1/305)
القَاضِي التسترِي أَخذ عَنهُ الْمُهَذّب
وَمن المشيرق خير بن عَمْرو بن عبد الرَّحْمَن تفقه بِابْن عبدويه أَيْضا وَعنهُ أَخذ جمَاعَة هَكَذَا ذكر ابْن سَمُرَة
وَمِنْهُم عِيسَى بن عبد الْملك الْمعَافِرِي أَخذ عَن ابْن عبدويه وعلق عَنهُ أَلْفَاظ الْمُهَذّب الْمُخْتَلف فِي سماعهَا
وَمِنْهُم أَبُو الْعَتِيق أَبُو بكر بن الْفَقِيه أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم اليافعي نسبا والجندي بَلَدا مولده سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة أثنى عَلَيْهِ عمَارَة ثَنَاء مرضيا وَكَانَ بِهِ عَارِفًا وَله مخالطا فَقَالَ عِنْد ذكره هُوَ قَاضِي قُضَاة الْيمن المنوط بِهِ أَحْكَام صنعاء وعدن وَزِير الدولتين الزريعية والوليدية تفقه باليفاعي وَأخذ علم الْأَدَب على النعماني والرشيد بن الزبير الأسواني وَكَانَ مزاملا للْإِمَام يحيى بن أبي الْخَيْر فِي بعض قِرَاءَته على شيخهما الإِمَام زيد وَكَانَ يَقُول بلغت عشْرين سنة وَأَنا لَا أكاد أقلد أحدا فِي مَسْأَلَة وَكَانَ مُسَددًا فِي أَحْكَامه وَمَتى تنَازع الخصمان فِي مَسْأَلَة قَالَ لَهما هاتوا جَوَاب القمرين أَو يَقُول مَا قَالَ القمران يَعْنِي عبيد بن يحيى بسهفنة وَيحيى بن أبي الْخَيْر وَكَانَ سخي النَّفس حسن الْأَخْلَاق مؤالفا للأصحاب عالي الهمة باذلا لجاهه وَمَاله فِي مَنَافِع الْإِسْلَام استوهب خراج أَرَاضِي الْفُقَهَاء فِي الأجناد خَاصَّة ثمَّ سُئِلَ التَّخْفِيف فِي ذَلِك من الْأَرَاضِي الَّتِي حول الْمَدِينَة فَجعل ذَلِك حَيْثُ يسمع الْأَذَان وببركته اسْتمرّ ذَلِك إِلَى عصرنا وَكَانَ من فضلاء الْإِسْلَام وأعيان الْأَنَام لَهُ مُخْتَصر فِي النَّحْو يعرف بالمفتاح من الْكتب المفيدة لأهل الْيمن
قَالَ عمَارَة فِي مفيده كَانَ القَاضِي أَبُو بكر الجندي مجيدا وَله بديهة لَا فضل فِي الروية عَلَيْهَا أَدْرَكته خصيصا بملكي الْيمن الْمَنْصُور بن الْمفضل والداعي مُحَمَّد بن سبأ وغالب ديوانه فِي مدحهما وَلَا سِيمَا مَنْصُور وَكَانَ حسن التأتي فِي الْمَقَاصِد سهلها جماعا لجواهر الْفُنُون خَطِيبًا مصقعا كَامِل الْفَضِيلَة وَكَانَ يرتجل الْخطْبَة من سَاعَته مَتى أرادها وديوانه مجلدان معتدلان وشعره حسن رائق يحتوي على جد القَوْل وهزله وَالرَّقِيق الجزل وَكَانَ نزها عَن الْحَسَد الَّذِي يبتلى بِهِ أَكثر مخالطي(1/306)
الْمُلُوك من الوزراء والرؤساء كَمَا هُوَ مشَاهد لَا يكادون يحبونَ أَن يجْرِي على أَيْديهم شَيْء من الْخَيْر إِلَّا النَّادِر وَهُوَ لَا حكم لَهُ وَرُبمَا أَن الْمُلُوك مَتى عملت خيرا سعوا فِي فَسَاده وتغييره لاسيما إِن عملوه بِغَيْر سعايتهم وإشارتهم وَرُبمَا حملهمْ ذَلِك على أُمُور نَعُوذ بِاللَّه مِنْهَا وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكر مَا كَانَ
وَكَانَ أمره عجيبا فِي عمره يَأْتِي ذكر اللَّائِق من ذَلِك وَولي الْقَضَاء فِي الْجند أَيَّام الْمفضل ثمَّ صَار قَاضِي الْقُضَاة من الْجند إِلَى صنعاء ثمَّ لما صَارَت الْبِلَاد لمُحَمد بن سبأ بالابتياع لَهَا أبقاه وَضم إِلَيْهِ الجؤة وعدن وَأبين ولحج ونواحيها فَصَارَ قَاضِي قُضَاة فِيهَا أجمع فَنزل عدن وَحكم بهَا وَعَاد الْجند واستخلف وَلَده وَلما قدم القَاضِي الرشيد بن الزبير من خلفاء مصر رَسُولا إِلَى مُحَمَّد بن سبأ وَاجْتمعَ بِهِ هَذَا أَبُو بكر ومازحه وَأنس بِهِ وَأحسن إِلَى الرشيد إحسانا تقر بِهِ الْعُيُون وينبىء عَلَيْهِ الْمكنون بِحَيْثُ أَن الرشيد لما عَاد إِلَى مصر وَسُئِلَ عَمَّن بِالْيمن من الْفُضَلَاء قَالَ بهَا جمَاعَة سيدهم أَبُو بكر اليافعي وَقَاه الله ورعاه وَكَانَ يخالط الْمُلُوك وَيكثر مجالستهم ومدحهم وبلغه أَن جمَاعَة عابوه على قَول الشّعْر وَقَالُوا لَيْسَ ذَلِك لائقا بِذِي الْفِقْه فَقَالَ فِي معنى ذَلِك ... كم حَاسِد لي فِي الْأَنَام وغابط ... على منطقي إِذْ كَانَ مَنْطِقه رخوا
يعيرني بالشعر قوم وَبَعْضهمْ ... يوبخني وَالْكل يخبط فِي عشوى
أَرَادوا بِهِ عيبي وَهل هُوَ نَاقص ... إِذا مَا جمعت الْفِقْه وَالشعر والنحوى
وأصبحت فِي علم الْعرُوض مجودا ... وَقدم قولي فِي الْحُكُومَة وَالْفَتْوَى
وَمَا كنت مداحا لنَفْسي وَإِنَّمَا ... لأجعل أكباد العدى بالغضا تكوى ... وَمن منثور كَلَامه فِي خطْبَة الدِّيوَان وَلَا يظنّ ظان أَن ذَلِك جهدي وكل مَا عِنْدِي بل هُنَاكَ همم تسمو إِلَى أرفع من الشّعْر رُتْبَة ومذاكرة بِعلم هُوَ أقدم مِنْهُ محبَّة وَأُمُور نيطت فِي عراها ورسخت لَا يرام قواها وَهَذِه صناعَة لَهَا من أفكاري الفضلات وَمن أوقاتي الغفلات فَإِلَيَّ مِنْهُمَا كإل السقب من بازل النعام وحظها مني كحظ الْمُوَافق من طيف الْمَنَام(1/307)
.. وَلَوْلَا مَا
تكلفنا اللَّيَالِي ... لطال القَوْل واتسع الروي
وَلَكِن القريض لَهُ معَان ... وَأَوْلَادهَا بِهِ الذّكر الْجَلِيّ ... ثمَّ لما كَانَ مُعظم شعره فِي مدح مَنْصُور بن الْمفضل الوليدي قَالَ يخاطبه ... وَلَو إِن للشكر شخصا يرى ... إِذا مَا تَأمله النَّاظر
لمثلت ذَلِك حَتَّى ترَاهُ ... فتعلم أَنِّي آمرؤ شَاكر ... وَلما توفيت السيدة وَصَارَ التعكر وَحب والأجناد وصبر وبلاد الْحُصُون إِلَى مَنْصُور بن الْمفضل كَانَ دَار ملكه جبلة وَله محبَّة بِهَذَا القَاضِي سَأَلَهُ أَن ينْتَقل من الْجند إِلَيْهِ لكَونه قَاضِي قُضَاة بِلَاده وَلم يقبل مِنْهُ عذرا فِي ذَلِك وجبلة إِذْ ذَاك إِنَّمَا يسكنهَا الرافضة وَأهل السّنة قَلِيل لَا يكادون يعْرفُونَ إِنَّمَا يَجْتَمعُونَ إِلَى الْمَسْجِد الَّذِي يعرف بِمَسْجِد السّنة وَلَا يعرف بهَا أحد من أَعْيَان الْفُقَهَاء وَأهل السّنة وَمَتى سكنها سَاكن مِنْهُم عيب عَلَيْهِ الْفُقَهَاء وَغَيرهم من أهل السّنة وعابوه وَرُبمَا نسبوه إِلَى الْخُرُوج عَن الْمَذْهَب وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك لِأَن بانيها عبد الله بن مُحَمَّد الصليحي أَخا عَليّ بن مُحَمَّد والمقتول مَعَه فِي المهجم على مَا سَيَأْتِي فَلم يكد يسكن مَعَه غير أهل مذْهبه فِي الْغَالِب وَإِنَّمَا سكن أهل السّنة بهَا فِي أَيَّام الغز وَلَيْسَ ذكر ذَلِك والإيغال فِي بَيَانه من ملازم الْكتاب
فَذكرُوا أَن القَاضِي أَبَا بكر لما انْتقل عَن الْجند مُوَافقا للسُّلْطَان وَأقَام مَعَه بجبلة كتب الْفَقِيه أَبُو الْفتُوح بن عبد الحميد الفائشي شعرًا يعتبه على ذَلِك ... لم تأت يَا هَذَا بِأَن تنهضا ... فِي النجد أَو فِي الْغَوْر أَو فِي الأضا
حللت فِي ذِي جبلة قَاضِيا ... فبئسها أَرضًا وَبئسَ القضا
تؤم بالطائفة الْمُلْحِدِينَ ... من بعد مَا كنت إِمَام الرِّضَا
بالجند الغراء إِمَامًا بِحَمْد ... الله بل صارمها المنتضا
سميك الصّديق فِي صدقه ... أثنى عَلَيْهِ الله والمرتضا
للشَّافِعِيّ قَولَانِ يَا يافعي ... فَقَوله الآخر لن ينقضا
وَأَنت ذُو فعلين فِيمَا ترى ... وفعلك الآخر قد أمرضا
إيها فَرخص عرضك الْمُنْتَقى ... من دنس أضحى لَهُ محرضا ...(1/308)
.. وَأظْهر التَّوْبَة تطمس بهَا ... مَا قبض الْقلب وَمَا غيضا ... فَأَجَابَهُ القَاضِي بِأَبْيَات وَقَالَ فِيهَا ... أهديت نصحا يَا أَخا فائش ... ونصحك المقبول والمرتضا
وَلَيْسَ عَن قَوْلك يَا أَبَا الْفتُوح ... حراجا أخرج عَنهُ أَو أرى معرضًا
تَأْتِيك أبياتي بِمَا يَنْبَغِي ... مني وتأسو قَلْبك الممرضا
وأنثني عَن مَا تكرهته ... إِن شَاءَ رَبِّي ذَاك أَو قيضا
لست مصرا مثل غَيْرِي وَلَا ... أَعُود إِلَّا مصلحا مَا مضى
هَذَا اعتقادي وبذا نيتي ... لَا بُد للمكروه أَن يرفضا
تَحِيَّة زارتك مني وَلَا ... عدمت نصحا مِنْك لي أبيضا ... ثمَّ لما لبث أَيَّامًا وَاعْتذر إِلَى مَنْصُور فِي سُكْنى جبلة ثمَّ تقدم الْجند فَلم يزل بهَا وَهُوَ يتَرَدَّد إِلَى مَنْصُور وَلما دخل عدن أَيَّام مُحَمَّد بن سبأ على الْقَضَاء كَمَا قدمنَا أَخذ عَنهُ جمَاعَة مِنْهُم القَاضِي أَحْمد بن عبد الله القريظي أَخذ عَنهُ المقامات للحريري والموطأ وَمن محَاسِن شعره مَا قَالَه وَقد فَارق أصحابا لَهُ بقرية يفرس من نواحي بلد جبا وضبطها بِفَتْح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَسُكُون الْفَاء وَضم الرَّاء وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وجبا بِفَتْح الْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ ألف بلد كَبِير خرج مِنْهَا جمَاعَة من الْفُقَهَاء وَهِي أكبر بِلَاد الْيمن فُقَهَاء ومتفقهين مِنْهُم من يَأْتِي إِن شَاءَ الله ذكر المتحقق مِنْهُم ... أستودع الله الَّذِي ودعا ... وَنحن للفرقة نبكي مَعًا
أسبل من أجفانه أدمعا ... لما رَآنِي مسبلا أدمعا
وَقَالَ لي عِنْد وداعي لَهُ ... مَا أعظم الْبَين وَمَا أوجعا ...(1/309)
.. مَا أَنْت بعدِي بالنوى صانع ... فَقلت لَا أقدر أَن أصنعا
مايصنع الصب الْمَعْنى إِذا ... فَارق إلفا غير أَن يجزعا
فارقتكم يَا سَاكِني يفرس ... ورحت وَالْقلب بكم مُولَعا
ناديت صبري يَوْم فارقتكم ... أجد للبين وَقد أزمعا
يَا صَبر عد يَا صَبر عد قَالَ لَا ... لبيْك لَا لبيْك يَا من دَعَا
وَالله لَا أرجع يَا غادرا ... فِي السّير بالأحباب أَو ترجعا
ولي فؤاد مُنْذُ فارقتكم ... يُمْسِي كئيبا مُولَعا موجعا
وَنَفس صب شهِدت أَنه ... مَا نقض الْعَهْد وَلَا ضيعا
ومقلة مهما تذكرتكم ... تذرف دمعا أَرْبعا أَرْبعا
وَلَيْسَ لي من حِيلَة كلما ... لجت بِي الأشواق إِلَّا الدعا
أسأَل من ألف مَا بَيْننَا ... وَقدر الْفرْقَة أَن يجمعا ... وَمن أحسن مَا أوردهُ فِي ديوانه مدحا لمنصور بن الْمفضل وَذكره إِيَّاه وَأَنه الْجَار لغيل الْجند من خنوة بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة مخفوضة وَنون سَاكِنة ثمَّ وَاو مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء سَاكِنة وَهُوَ غيل عَجِيب خُصُوصا طَرِيقه فَإِنَّهُ جعلهَا وسط الْجبَال وَقد بَين ذَلِك القَاضِي فِي شعره وَلم أعرف أَن الْمفضل هُوَ الْجَار لَهُ إِلَّا من شعر هَذَا القَاضِي وَقَالَ من قصيدة فِي مدحه فِيهَا ... كثرت يَا ابْن مفضل حسادي ... بصنائع أسديتها وأيادي
وأنلتني بنداك أَسبَاب الْغنى ... فبلغت أوطاري ونلت مرادي
وَفعلت لي مَا لَيْسَ يَفْعَله الْأَب الحاني ... على الْأَوْلَاد للأولاد
فِي كل يَوْم خلعة مَشْهُورَة ... كالروض تسخن أعين الأضداد
ومواهب عدد النُّجُوم فَلَو درت ... زهر النُّجُوم لَكِن من حسادي
وَأحب عِنْدِي من عطائك مَا بدا ... لي فِي ضميرك من صَحِيح وداد
فرضاك والود الَّذِي تبديه لي ... خير من الْإِعْطَاء والإرفاد
حسبي رضاك أعيش فِي الدُّنْيَا بِهِ ... فرضاك عِنْدِي من أجل عتادي
فلأشكرن على الَّذِي أوليتني ... شكر الرياض لمستهل عهاد ...(1/310)
.. وَأَصَح شكر مَا بدا من شَاكر ... فِي ربه إِثْر الصنيعة بَادِي ... وَمِنْهَا ... فَهُوَ الْجواد ابْن الْجواد وَهل ترى ... ولد الْجواد يكون غير جواد
وَأَبوهُ شاد المكرمات فَأَصْبَحت ... أعلامها فِي النَّاس كالأطواد
وَأَقل مكرمَة لَهُ وفضيلة ... إجراؤه للغيل فِي الأجناد
شقّ الْجبَال الشامخات فَأَصْبَحت ... وكأنما كَانَت ثعاب وهاد
فاليوم أصبح مَاء خنوة وَهِي ... فِي الْجند العزيزة منهل الوراد
فَخر الْمفضل فِي المفاخر كلهَا ... بِمَثَابَة الْأَرْوَاح فِي الأجساد ... وَفِي قَوْله شقّ الْجبَال الشامخات دَلِيل على أَن طَرِيقه مِمَّا لَا يتخيل الذِّهْن أَنَّهَا من أَعمال الْآدَمِيّين فَلَقَد أحسن الْمفضل وَأبقى لَهُ فِي المفاخر فخرا وَفِي الْحَسَنَات ذكرا ثمَّ كَانَ القَاضِي لَهُ مَكَارِم وحمية على أَبنَاء جنسه وَمن صَحبه يقوم بحوائج من قَصده وَكَانَ ذَا حمية وعصبية للْمَذْهَب طَرِيقَته تشبه طَريقَة القَاضِي يحيى بن أَكْثَم الْمَشْهُور الَّذِي يَأْتِي ذكره لَكِن صاحبنا هَذَا يزِيد عَلَيْهِ بإتقان الْأَدَب واشتهاره بِهِ واتساعه بفنونه وَابْن أَكْثَم يشهر بالفقه لَا غير وَمن شعره أَيْضا مَا قَالَه يتوسل بِهِ إِلَى الله بأسمائه وسور الْقُرْآن سُورَة سُورَة من أَوله إِلَى خاتمته وَذكر فِي أَولهَا مَعَاني حَسَنَة وَمَا قَرَأَهَا ذُو كرب إِلَّا فرج الله عَنهُ وَهِي هَذِه ... لَك الشُّكْر يَا من جلّ عَن غَايَة الشُّكْر ... وَلَو أَنه أربى على الرمل والقطر
لَك الشُّكْر يَا باري الْبَريَّة كلهَا ... ورازقها الأرزاق من حَيْثُ لَا تَدْرِي
لَك الشُّكْر وَالْحَمْد الَّذِي أَنْت أَهله ... مَلِيًّا على الْحَالين فِي الْعسر واليسر
فيا خَالِقًا سبعا طباقا وَمثلهَا ... من الأَرْض وَالْمَاء الْمعِين من الصخر
تكفلت بالأرزاق للطير فِي الهوا ... وللوحش فِي بر وللحوت فِي الْبَحْر
وميرتهم شَتَّى فَهَذَا مقتر ... عَلَيْهِ وَهَذَا فِي مكاسبه مثري
وقدرت آجال الْعباد فكلهم ... إِلَى غَايَة لَا علم فِيهَا لَهُ يجْرِي
وأسعدت من أسعدت بِالْخَيرِ وَالْهدى ... وأشقيت من أشقيت فِي الْغَيْب بالْكفْر
وَكنت عليما بالغيوب وَمَا بِهِ ... توسوسه نفس الموسوس فِي الصَّدْر
إلهي قسا قلبِي وَضَاقَتْ مذاهبي ... وأوبقني جهلي وأثقلني وزري ...(1/311)
.. وأصبحت ذَا غم خلا مِنْهُ مَا خلا ... مضاعا وَمَالِي بالمؤخر من خيري
مضى مَا مضى عني وَلَا علم لي بِهِ ... فَإِن فَاتَنِي الْبَاقِي فيا ضَيْعَة الْعُمر
زماني فِي سَهْو وَلَهو وغفلة ... وَمن خلف ظَهْري هول قاصمة الظّهْر
فإبليس وَالدُّنْيَا وَنَفْسِي والهوى ... فَكيف احتيالي والتخلص من أَمْرِي
وَكَيف ألذ الْعَيْش وَالْمَوْت طالبي ... وَلَا بُد بعد الْمَوْت من ضمة الْقَبْر
وَلَا بُد من يَوْم الْحساب وهوله ... وَيَا لَيْت شعري مَا جوابي وَمَا عُذْري
إِذا قيل لي اقْرَأ كتابك وَالَّذِي ... كدحت فقد أُوتِيتهُ بَين السطر
وَقد كتبت فِيهِ ذُنُوبِي وأحصيت ... عَليّ فَمن سر خَفِي وَمن جهر
وَقد قَامَت الأشهاد تشهد والورى ... حُفَاة عُرَاة شاخصون لَدَى الْحَشْر
وَقد حَارب الْفضل الْمفضل فِي القضا ... واذعرت الْأَرْوَاح فِيهِ أَيّمَا ذعر
وكل بِهِ من شدَّة الْخَوْف سكرة ... وَمن هول مَا قاسى وَلَيْسَ بِذِي سكر
وَقد فَازَ من أعْطى وَأحسن وَاتَّقَى ... وَصدق بِالْحُسْنَى وَيسر لليسر
إلهي أَسِير الذَّنب يَدْعُوك خَائفًا ... من الذَّنب فَامْنُنْ بالفكاك من الْأسر
بحقك يَا من لَا تخيب آملا ... وَيَا عَالما سري وَيَا كاشفا ضري
أجب دَعْوَتِي واغفر خَطَايَا فإنني ... مقرّ بِمَا قدمت من فَاحش النكر
وهب لي ذُنُوبِي واعف من قبح زلتي ... وَلَا تكشفن حَالي وَلَا تهتكن ستري
بعروتك الوثقى وأسمائك الَّتِي ... تعلمهَا مُوسَى الكليم من الْخضر
بِفَاتِحَة الْقُرْآن وَالسورَة الَّتِي ... تَلِيهَا وَمَا فِيهَا من النَّهْي وَالْأَمر
بِآيَة كرْسِي وَعزة قدرهَا ... ومعظم مَا أنزلت فِي مُحكم الذّكر
وَمَا قلته فِي آل عمرَان والنسا ... وتنزيه عِيسَى عَن مقَال ذَوي الْكفْر
ومائدة نزلتها حجَّة لَهُ ... فقابل مَا أولاه مَوْلَاهُ بالشكر
بِسُورَة أنعام وأعرافها وَمَا ... أبحت من الْأَنْفَال للطاهر الطُّهْر
وبالمجتبى والمصطفى فِي بَرَاءَة ... من الله وَهُوَ الْبر ذُو اللطف وَالْبر
وَيُونُس ذِي الْبلوى وَهود ويوسف ... ورعد وَإِبْرَاهِيم والنحل وَالْحجر
وَسُبْحَان من أسرى وكهف وَمَرْيَم ... وطه وَفضل الْأَنْبِيَاء وهم ذخري
وبالحج والأفلاح ألتمس الرضى ... وَنور وفرقان وفلقك للبحر ...(1/312)
.. وجامعة والنمل والقصص الَّذِي ... قصصت وَمَا فِي العنكبوت من الزّجر
وروم ولقمان وبالجرز الَّذِي ... تضَاعف أجرا لحاملها على الْأجر
بِسُورَة أحزاب وَذكر مُحَمَّد ... وَمَا كَانَ من نصر الْوَصِيّ على عَمْرو
وَذَات سباء وَالْحَمْد لله فاطر السَّمَاوَات ... م سُبْحَانَ الْقَدِير على الْفطر
وَيس وَالصَّافَّات صفا وزجرها ... وقعتكها بالتاليات وبالذكر
وص وتنزيل الْكتاب وغافر ... تبَارك من يهفو وَيَعْفُو على الْوزر
وَسجْدَة حم وَحُرْمَة فَضلهَا ... وحم عسق فَخر إِلَى فَخر
وزخرف وَالدُّخَان هَذَا وَهَذِه ... وجاثية فِي موقف ضيق وعر
بِسُورَة أحقاف وَفضل مُحَمَّد ... وبشراه بالغفران وَالْفَتْح والنصر
إِلَى حجرات ثمَّ قَاف وفضلها ... وبالذاريات الْجَارِيَات وَمَا تذري
وبالطور أَدْعُو الله والنجم عله ... يسدد من أَمْرِي ويشدد لي أزري
وباقتربت أَدْعُو الْقَرِيب من الدعا ... تَعَالَى وبالرحمن والصمد الْوتر
وواقعة ثمَّ الْحَدِيد وَسورَة ... الْجِدَال وَمَا تتلوه من سُورَة الْحَشْر
شفيعي إِلَى الرب الْوَدُود مَوَدَّة ... وصف كبنيان لَدَى الْكر والفر
وبالجمعة الزهراء وبالسورة الَّتِي ... يكذب بهَا أهل النِّفَاق ذَوُو الْغدر
وأدعوك رَبِّي بالتغابن رَاغِبًا ... وَمَا فِي طَلَاق من حَلَال وَمن حظر
وَمَا قلت فِي فضل الْمحرم أَنه ... لأَفْضَل من نجو السما وَبِه يسري
وَملك وَنون ثمَّ بالحاقة الَّتِي ... تحيق بِأَهْل الْكفْر والنكر وَالْمَكْر
وتبيان مَا بيّنت فِي سَأَلَ سَائل ... ونوح وَقل أُوحِي والمزمل والدثر
وَسورَة لَا أقسم وَسورَة هَل أَتَى ... صدقت على الْإِنْسَان حِين من الدَّهْر
وبالمرسلات العاصفات وشأنها ... وبالنبأ المقروء فِي البدو والحضر
وبالنازعات الناشطات ونشطها ... إِلَى عبس ثمَّ التكور والكدر
وبانفطرت والانشقاق وَذكر مَا ... مقت من التطفيف والكيل والخسر
وَفضل السما ذَات البروج وطارق ... وَسبح علام السرائر والجهر
بغاشية يَا رب يَا رب نجني ... وأسمائك الْحسنى ونورك وَالْفَجْر
وبالبلد المحجوج وَالشَّمْس وَالضُّحَى ... وليل إِذا يغشى وليل إِذا يسري
وبالقسم الْمكنون فِي سُورَة الضُّحَى ... وشرحك من خيرالنبيين للصدر ...(1/313)
.. وبالتين واقرأ باسم رَبك الَّذِي ... شرحت وَمَا أنزلت فِي لَيْلَة الْقدر
وَفِي لم يكن سر خَفِي وزلزلت ... لمن هُوَ ذُو لب لَبِيب وَذُو حجر
وبالعاديات الموريات وضبحها ... وقارعة ثمَّ التكاثر وَالْعصر
بِسُورَة هماز وبالفيل بعْدهَا ... لِإِيلَافِ فِيهَا وفر إِلَى الوفر
ومقتك دع الْيَتِيم وخاب من ... يدع يَتِيما خَابَ ذُو الدع والقهر
وتشريفك الْمُخْتَار مِنْك بكوثر ... وأشرف من يقْرَأ لديك وَمن يقري
وَسورَة قل يَا أَيهَا ثمَّ بعْدهَا ... إِذا جَاءَ نصر الله فاشكر لذِي النَّصْر
بتبت وَالْإِخْلَاص أخْلص سريرتي ... بتوحيد رب وَاحِد صَمد وتر
وبالفلق الْمَحْفُوظ يَا رب نجني ... من السحر والنفاث فِي عقد السحر
وبالناس رب النَّاس حظي من البلى ... وَمن شَرّ وسواس يوسوس فِي الصَّدْر
وَكن بِي حفيا يَوْم تقضي منيتي ... رؤوفا رحِيما فِي الْقِيَامَة والحشر
وَلَا تحرقن بالنَّار جسمي فَلَيْسَ لي ... على الْقَبْر صَبر لَا وَلَا أيسر الْحر
بِفَضْلِك يَا ذَا الْجُود جد لي بِنِعْمَة ... بِفَضْلِك يَا ذَا الْفضل أفضل على فقري
تعاليت يَا من لَا يُحِيط بوصفه ... صِفَات أخي وصف وَلَا شعر ذِي شعر
تعاليت يَا من لَيْسَ يُحْصى ثَنَاؤُهُ ... غَلطت وَلَا عشر العشير من الْعشْر
تَبَارَكت يَا من جلّ قدر جَلَاله ... وَعظم آيَاته عَن النّظم والنثر
لَك الْعِزّ والنعماء وَالْقُدْرَة الَّتِي ... يقصر عَن إِدْرَاكهَا فكر ذِي فكر ... تمت القصيدة وَهِي مباركة وَلذَلِك استوعبتها وعددها ثَلَاثَة وَثَمَانُونَ بَيْتا قل من قَرَأَهَا رَاغِب أَو رَاهِب إِلَّا حصل لَهُ مَقْصُوده وَكَانَت وَفَاة قَائِلهَا بِمَدِينَة الْجند مبطونا وَقد عد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المبطون شَهِيدا وَذَلِكَ لسبع عشرَة لَيْلَة خلت من رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَخَمْسمِائة
وَلما نعي إِلَى الإِمَام يحيى وَهُوَ بِذِي أشرق اسْترْجع ثمَّ قَالَ مَاتَت الْمُرُوءَة الْآن ثمَّ نزل الْجند وَحضر قبرانه فِي جمع كثير من أَصْحَابه
وَقد عرض مَعَ ذكره جمَاعَة من الْأَعْيَان مِنْهُم يحيى بن أَكْثَم والرشيد بن الزبير(1/314)
فأبدأ بِيَحْيَى لكَونه من أَعْيَان النَّاس علما وَعَملا ولتقدم زَمَانه وسلامته من الْبِدْعَة قَالَ ابْن خلكان فِي حَقه هُوَ أَبُو مُحَمَّد يحيى بن أَكْثَم بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْكَاف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَبعدهَا مِيم بن مُحَمَّد بن قطن بن سمْعَان بن مشينج التَّمِيمِي الأسيدي الْمروزِي من ولد أَكْثَم بن صَيْفِي التَّمِيمِي حَكِيم الْعَرَب والأسيدي الْمروزِي بِضَم الْهمزَة وَفتح السِّين الْمُهْملَة وخفض الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وتشديدها ثمَّ دَال مُهْملَة ثمَّ يَاء نِسْبَة إِلَى بطن من تَمِيم وَكَانَ سني الْمَذْهَب سليما من الْبِدْعَة وَكَانَ أحد أَعْلَام الدُّنْيَا سمع من ابْن الْمُبَارك وَابْن عُيَيْنَة وَغَيرهمَا وَرُبمَا قد ذكرت قصَّته مَعَ ابْن عُيَيْنَة حِين ذكرته وَكَانَ مِمَّن اشْتهر أمره وَعرف خَيره وَلم يسْتَتر عَن الصَّغِير وَالْكَبِير من النَّاس فَضله وَعلمه ورئاسته وسياسته لأَمره وَأمر أهل زَمَانه من الْخُلَفَاء والملوك وَاسع الْعلم بالفقه كثير الْأَدَب حسن الْعَارِضَة قَائِم بِكُل معضلة غلب على الْمَأْمُون حَتَّى لم يتقدمه أحد عِنْده من النَّاس جَمِيعًا وقلده قَضَاء الْقُضَاة وتدابير المملكة وَكَانَ أول ولَايَة تولاها الْبَصْرَة سنة اثْنَتَيْنِ ومئتين بعد إِسْمَاعِيل بن حَمَّاد بن الإِمَام أبي حنيفَة وَكَانَ يَقُول من قَالَ إِن الْقُرْآن مَخْلُوق استتيب فَإِن تَابَ وَإِلَّا ضربت عُنُقه
وَيُقَال كَانَ ليحيى هَذَا يَوْم فِي الْإِسْلَام وَلم يكن لأحد مثله وَالْعجب كَيفَ أسقط الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق ذكره من طبقاته وَكَانَت كتبه فِي الْفِقْه أجل كتب تَركهَا النَّاس لطولها وَله كتب فِي الْأُصُول كتاب أوردهُ عَن الْعِرَاقِيّين سَمَّاهُ التَّنْبِيه وَجرى بَينه وَبَين دَاوُد بن عَليّ الظَّاهِرِيّ مناظرات كَثِيرَة وَكَانَ من أدهى النَّاس وَأخْبرهمْ بالأمور سَأَلَهُ رجل وَهُوَ على الْقَضَاء فَقَالَ أصلح الله القَاضِي كم آكل فَقَالَ فَوق الْجُوع وَدون الشِّبَع فَقَالَ فكم أضْحك فَقَالَ حَتَّى يسفر وَجهك وَلَا يَعْلُو صَوْتك قَالَ فكم أبْكِي قَالَ لَا تمل الْبكاء من خشيَة الله قَالَ فكم أُخْفِي عَمَلي قَالَ مَا اسْتَطَعْت قَالَ فكم أظهر مِنْهُ قَالَ مَا يَقْتَدِي بك الْبر الْخَيْر ويؤمن عَلَيْك قَول النَّاس فَقَالَ سُبْحَانَ الله قَول فاطن وَعمل طَاعن
وَأما يَوْمه الَّذِي يعد لَهُ وَأَنه لم يكن لأحد مثله فَذكرُوا أَن الْمَأْمُون أَمر مناديا يُنَادي بِحل نِكَاح الْمُتْعَة فشق ذَلِك عَلَيْهِ فَقَالَ لمُحَمد بن(1/315)
مَنْصُور وَلأبي العينا إِذا كَانَ الْغَد فبكرا إِلَيْهِ يعْنى الْمَأْمُون فَإِن رَأَيْتُمَا لِلْقَوْلِ وَجها فقولا وَإِلَّا فاسكتا إِلَى أَن أَدخل قَالَ فَدَخَلْنَا على الْمَأْمُون فوجدناه يستاك وَيَقُول وَهُوَ مغتاظ متعتان كَانَتَا على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى عهد أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَأَنا أنهى عَنْهُمَا وَمن أَنْت يَا جعل حَتَّى تنْهى عَن مَا فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى عهد أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَأَوْمأ أَبُو العينا إِلَى مُحَمَّد بن مَنْصُور رجل يَقُول فِي عمر مَا يَقُول نكلمه نَحن وأمسكنا إِذْ بِيَحْيَى بن أَكْثَم فَجَلَسَ وَجَلَسْنَا فَقَالَ الْمَأْمُون لَهُ مَالِي أَرَاك متغيرا قَالَ لما حدث فِي الْإِسْلَام قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تحل الزِّنَا قَالَ الزِّنَا قَالَ نعم قَالَ وَكَيف ذَلِك فَقَالَ سَمِعت مناديك يُنَادي بِحل الْمُتْعَة وَهِي زنا قَالَ وَمن أَيْن قلت هَذَا قَالَ من كتاب الله عز وَجل وَحَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الله تَعَالَى {قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ} ثمَّ تَلا إِلَى حافظون ثمَّ إِلَى العادون يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ زَوْجَة الْمُتْعَة ملك يَمِين قَالَ لَا قَالَ فَهِيَ الزَّوْجَة الَّتِي عِنْد الله تَرث وتورث وَيلْحق الْوَلَد وَلها شرائطها قَالَ لَا قَالَ فقد صَار متجاوز هذَيْن من العادين وَهَذَا الزُّهْرِيّ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ روى عَن عبد الله وَالْحسن ابْني مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة عَن أَبِيهِمَا عَن عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه قَالَ أَمرنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أنادي بِالنَّهْي عَن الْمُتْعَة وتحريمها بعد أَن كَانَ أَمر بهَا قَالَ فَالْتَفت الْمَأْمُون إِلَيْنَا وَقَالَ أمحفوظ هَذَا من حَدِيث الزُّهْرِيّ قُلْنَا نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ رَوَاهُ جمَاعَة مِنْهُم مَالك فَقَالَ الْمَأْمُون أسْتَغْفر الله بَادرُوا بِتَحْرِيم الْمُتْعَة فبادروا إِلَى ذَلِك وَلم يكن لَهُ شَيْء يطعن بِهِ عَلَيْهِ غير أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا بخلطة الْمَأْمُون وَكَانَ ابْن حَنْبَل يجله ويؤثم من يَقُول فِيهِ(1/316)
شَيْئا قبيحا وينكر ذَلِك إنكارا شَدِيدا وَلم أتحقق تَارِيخه ولعلي أبحث عَنهُ فِي مظانه إِن شَاءَ الله مَعَ أَنه يدْرك من كَونه مَوْجُودا فِي زمن الْمَأْمُون
وَمن أحسن مَا يذكر من بديهته وَسُرْعَة إجَابَته بِالْجَوَابِ أَنه لما أَرَادَ الْمَأْمُون أَن يوليه قَضَاء الْبَصْرَة استحضره ثمَّ سَأَلَهُ عَن هَالك خلف ابْنَتَيْن وأبوين ثمَّ هَلَكت إِحْدَى الابنتين وخلفت زوجا وَهَؤُلَاء الْوَرَثَة فَقَالَ تبين أَمِير الْمُؤمنِينَ من الْمَيِّت فِي الأولى فَعلم الْمَأْمُون أَنه أصَاب وَهَذِه مَسْأَلَة يسميها الفرضيون بالمأمونية وَلما دخل الْبَصْرَة اجْتمع إِلَيْهِ فقهاؤها وَهُوَ إِذْ ذَاك ابْن ثَمَانِي عشرَة سنة فَقَالُوا مَا سنّ القَاضِي يُرِيدُونَ استصغاره فَقَالَ سنّ عتاب بن أسيد يَوْم ولاه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة ففهموا
وَأما الرشيد فَهُوَ أَبُو الْحُسَيْن أَحْمد ابْن عَليّ بن القَاضِي الرشيد أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن الْحسن بن الزبير الغساني الأسواني بَلَدا نِسْبَة إِلَى بلد بصعيد مصر يُقَال لَهَا أسوان بِضَم الْهمزَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو ثمَّ ألف ثمَّ نون وَقيل بِفَتْح الْهمزَة وَلَيْسَ بِشَيْء
قَالَ ابْن خلكان فِي حَقه كَانَ من أكابرالفضلاء وَذَوي الْفضل والنباهة والرئاسة صنف كتاب الْجنان ورياض الأذهان وَذكر فِيهِ جمَاعَة من مشاهير الْفُضَلَاء وَله ديوَان شعر وَكَانَ مجيدا فِي نثره ونظمه مِنْهُ مَا أوردهُ ابْن خلكان وَقَالَ هُوَ معنى لطيف غَرِيب ... وَترى المجرة فِي السَّمَاء كَأَنَّهَا ... تَسْقِي الرياض بجدول ملآن
لَو لم تكن نَهرا لما عامت بهَا ... أبدا نُجُوم الْحُوت والسرطان ...(1/317)
وَله من قصيدة ... وَمَالِي إِلَى مَاء سوى النّيل غلَّة ... وَلَو أَنه اسْتغْفر الله زَمْزَم ... قَالَ ابْن سَمُرَة لما قدم الْيمن اسْتَفَادَ عَلَيْهِ جمَاعَة من أَصْحَابنَا وَكَانَ عَالما بفنون شَتَّى قَالَ وَيُقَال إِن المقامة الحصيبية لَهُ وَهِي تدل على فضل وَاسع قَالَ ابْن خلكان ذكره الْحَافِظ أَبُو الطَّاهِر رَحمَه الله فِي بعض تعاليقه وَقَالَ ولي النّظر بثغر الْإسْكَنْدَريَّة بِغَيْر اخْتِيَاره سنة تسع وَخَمْسمِائة وَقتل ظلما وعدوانا فِي الْمحرم سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
ثمَّ نرْجِع إِلَى ذكر عُلَمَاء الْيمن فَمن أهل الطَّبَقَة أَبُو الْحسن أَحْمد بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن عبد الله بن سَلمَة بن يُوسُف بن إِسْمَاعِيل البريهي ثمَّ السكْسكِي ثمَّ الْكِنْدِيّ الْمَعْرُوف بَين فُقَهَاء الْيمن المعتبرين سيف السّنة أثنى عَلَيْهِ ابْن سَمُرَة ثَنَاء مرضيا وَقَالَ عِنْد ذكره وَمِنْهُم الإِمَام الأوحد سيف السّنة زين الحنبلية أَحْمد بن مُحَمَّد سكن إبا وأفضت إِلَيْهِ الرِّئَاسَة فِيهَا جمع بَين الزّهْد والورع وَالْفِقْه والْحَدِيث تفقه بِجَمَاعَة كثيرين غير ابْن سَمُرَة قد عده فِي أَصْحَاب الشَّيْخ يحيى بن أبي الْخَيْر وَلم يكن بعد الشَّيْخ للفقهاء صدر غَيره إِلَيْهِ يرجعُونَ وَعَلِيهِ فِي النَّوَازِل يعولون قَصده الطّلبَة من مَوَاضِع شَتَّى وانتفعوا بِهِ وَكَانَ عَارِفًا مَعَ الْفِقْه والْحَدِيث بالنحو واللغة والأصولين وَله كتب عدَّة فِي الْأُصُول يرد بهَا على الْمُعْتَزلَة والأشعرية وَكَانَ كَبِير الْقدر شهير الذّكر صَاحب كرامات عديدة وَكتب مفيدة من أحسن الْفُقَهَاء ضبطا للكتب وتحقيقا لَهَا وَهُوَ مِمَّن أَخذ عَن الإِمَام زيد اليفاعي وَعَن الشَّيْخ يحيى أَيْضا وَأخذ عَن الْحَافِظ العرشاني البُخَارِيّ كَمَا قدمنَا ذَلِك مَعَ ذكره وَلما كَانَ فِي بعض الْأَيَّام دخل رجل من الْمُحدثين الْجند وَأَنا إِذْ ذَاك صَغِير فَاجْتمع إِلَيْهِ فقهاؤها وسألوه أَن يسمعهم صَحِيح مُسلم فَقَالَ لَا نُسْخَة معي فَقيل لَهُ هُنَا نُسْخَة جَيِّدَة فطلبها وتصفحها وَأذن لَهُم بِالْقِرَاءَةِ فَكَانُوا إِذا مروا على شَيْء قد سَمعه بِخِلَاف مَا هُوَ مضبوط بالنسخة وَأَرَادُوا إصْلَاح مَا فِي النُّسْخَة عَن سَمَاعه قَالَ لَا تَفعلُوا فقد بَلغنِي أَن ضَابِط هَذِه النُّسْخَة كَانَ إِمَامًا كَبِيرا وَلم يضْبط إِلَّا عَن أَمر تحَققه وَكَانَت هَذِه النُّسْخَة نُسْخَة هَذَا الإِمَام سيف السّنة وَهِي إِلَى الْآن مَوْجُودَة بالجند بيد بعض ذُريَّته من جملَة كتبه الَّتِي وَقفهَا وَذَلِكَ أَنه(1/318)
وقف كتبا عديدة على الطّلبَة من خطه وَضَبطه يكْتب على كل كتاب مِنْهَا ... هَذَا الْكتاب لوجه الله مَوْقُوف ... منا إِلَى الطَّالِب السّني مَصْرُوف
مَا للأشاعرة الضلال فِي حسبي ... حق وَلَا للَّذي فِي الزيغ مَعْرُوف ... وبيتا آخر تركته من يتوق إِلَيْهِ نظره فِيهَا وَحج سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة فَقَرَأَ كتاب مُسلم على الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحُسَيْن بن عَليّ الْهَرَوِيّ إِمَام الْحَنَابِلَة بِالْحرم فَقَالَ فِي كتب السماع من اللَّفْظ مَا مِثَاله سمع عَليّ الشَّيْخ الإِمَام السَّيِّد الْفَقِيه الزَّاهِد العابد سيف السّنة أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد وأرخ ذَلِك أَنه كَانَ سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ فِي شهر الْمحرم وَوجدت بِالْكتاب أَيْضا مَا مِثَاله إجَازَة من الشَّيْخ عبد الله بن عمر بن أَحْمد بن الْحُسَيْن بن إِبْرَاهِيم الْوراق فَقَالَ فِيهَا أَيْضا مَا مِثَاله استخرت الله الْعلي الْعَظِيم وأجزت الشَّيْخ الإِمَام الْأَجَل السَّيِّد الْفَقِيه نَاصِر السّنة أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد ولأولاده الْكِرَام يحيى وَعِيسَى وَإِسْمَاعِيل وَمُحَمّد وَعلي أَن يرووا عني مسموعاتي وإجازاتي وأرخ كَون ذَلِك فِي الْحجَّة سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة ثمَّ لما عَاد إِلَى بَلَده أَقَامَ بهَا إِلَى رَجَب ثمَّ نزل الْجند فلازمه جمع كثير وسمعوا عَلَيْهِ
من أعيانهم إِبْرَاهِيم بن حديق وَمُحَمّد بن أَحْمد الْخَولَانِيّ وَأحمد وَمَنْصُور أَبنَاء مُحَمَّد بن مُوسَى العمرانيان وَفَاتَ مَنْصُور شَيْء من الْجُزْء الأول وإجازة لَهُ وَمُحَمّد بن كُلَيْب النمر الْخَولَانِيّ وَعبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مَرْوَان الْأمَوِي وَعبد الله بن مُحَمَّد بن زيد العريقي وَمُحَمّد بن سعيد المحابي وَأحمد بن مقبل الدثني وَأَبُو بكر بن يحيى بن إِسْحَاق الجبائي وأسعد بن عمر الأصبحي وَالْمُسلم بن عَليّ بن أسعد بن مُسلم الْعَنسِي ثمَّ الصعبي وَابْن عَمه مُحَمَّد بن مُوسَى بن عبد الله وَابْنه إِسْمَاعِيل وَيحيى بن عَليّ بن أبي بكر بن سَالم وَأحمد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن سَالم الشعبانيان وَمُحَمّد بن أسعد بن أبي الْخَيْر
اليافعي الجبائي وَمُحَمّد بن عمر بن جَعْفَر الكلَاعِي والأديب سلمَان بن عَليّ بن إِسْمَاعِيل الجنديان وَقَالَ بِخَطِّهِ فِي صدر السماع مَا مِثَاله سمع مني الْفُقَهَاء الأجلاء السَّادة الْفُضَلَاء مَالك الْكتاب يَعْنِي إِبْرَاهِيم(1/319)
الحديقي وَعطف الْمَذْكُورين عَلَيْهِ وَذَلِكَ برجب سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَبعد أَن كتب السَّنَد قَالَ أَيْضا سمع عَليّ جَمِيع الْكتاب الشَّرِيعَة سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة الْفَقِيه أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور أَولا وَسمع مَعَه جمع من الْفُقَهَاء الَّذين سمعُوا صَحِيح مُسلم غير عبد الله بن زيد وَأحمد بن مقبل وَمُحَمّد بن عَليّ المحابي وَسمع مَعَ الْمَذْكُورين عَليّ بن عبد الله بن حسركة السكْسكِي وَمُحَمّد بن إِدْرِيس الزَّيْلَعِيّ والمقرىء قَاسم بن مُحَمَّد والفقيه عبد الله بن أَيمن بن مُحَمَّد الْأمَوِي وَلما صَار فِي أثْنَاء الْقِرَاءَة بِجَامِع الْجند وَردت عَلَيْهِم مَسْأَلَة فِي رجل اقتطع مَال مُسلم وَحلف عَلَيْهِ أَو أَنه فعل شَيْئا وَحلف عَلَيْهِ أَنه لم يكن فعله فَأجَاب الإِمَام سيف السّنة أَنه لَا شَيْء على فَاعل ذَلِك غير الْكَفَّارَة وَوَافَقَهُ كَافَّة الْفُقَهَاء الْحَاضِرين غير مُحَمَّد بن أَحْمد الجماعي فَإِنَّهُ امْتنع وَقَالَ ابْن سَمُرَة فَلَمَّا كمل سماعهم كتب الْإِجَازَة لجميعهم غير مُحَمَّد بن أَحْمد الجماعي وَهَذَا نقل لم أره يَصح وَإِن صَحَّ فَكيف عده فِيمَن سمع وَأَجَازَهُ ثمَّ لَا يظنّ بِسيف السّنة أَنه بِخِلَافِهِ فِي مَسْأَلَة اجتهادية يمْتَنع من حق وَاجِب لأمر مُحْتَمل فقد ذهب مُحَمَّد بن أَحْمد إِلَى مَذْهَب مَالك وَأَرَادَ بذلك حسم مَادَّة المتجرئين على الْيَمين فقد فعل ابْن عَبَّاس ذَلِك إِذْ ثَبت أَن رجلا سَأَلَهُ هَل للْقَاتِل تَوْبَة فَقَالَ لَا ثمَّ أَتَاهُ آخر فَسئلَ كَذَلِك فَقَالَ نعم فَقيل لَهُ كَيفَ يخْتَلف جوابك فَقَالَ رَأَيْت فِي وَجه الأول الشَّرّ فَخَشِيت أَن أجرئه وَرَأَيْت فِي وَجه الثَّانِي النَّدَم فَخَشِيت أَن أقنطه فَيَنْبَغِي أَن يسْلك مُحَمَّد بن أَحْمد غير هَذَا المسلك
وَكَانَ الإِمَام سيف السّنة من عُظَمَاء عُلَمَاء الْمُسلمين وَأَصْحَابه أَكثر من نشر الْفِقْه بِنَاحِيَة المخلاف وَكَانُوا أعيانا
مِنْهُم مُحَمَّد بن مَضْمُون وَيحيى بن فضل وَأحمد بن مقبل وَأَبُو بكر بن يحيى ابْن إِسْحَاق وَعبد الله بن مُحَمَّد بن حميد وَعبد الله بن زيد وَحسن بن قعيش وَمُحَمّد بن عمر بن فليح وَابْن عَمه مُحَمَّد بن مُوسَى وَعبد الله بن مُحَمَّد من ذِي الْبَارِي وَبِالْجُمْلَةِ فأصحابه كَثِيرُونَ لَا يكَاد يدركهم الْحصْر وَكَانَ زاهدا ورعا صَاحب كرامات(1/320)
من أحسن مَا ذكر عَن ورعه أَن الشَّيْخ عَليّ ابْن الْمعلم كَانَ مُلْتَزما للمخلاف من مصابيح إِلَى ضَرْبَة عمر بِخَمْسِينَ ألف دِينَار فِي أَيَّام سيف الْإِسْلَام الْآتِي ذكره فصادر أَقْوَامًا على مَال وَأَرَادَ أَن يَشْتَرِي بِهِ شَيْئا من أَمْوَالهم ووافقوه على ذَلِك اتقاء سطوته فَلَمَّا وثق مِنْهُم بالإجابة استدعى أَعْيَان فُقَهَاء المخلاف إِلَى دَاره بِذِي جبلة وَقيل بغَيْرهَا ثمَّ لما اجْتمع النَّاس عمل لَهُم سماطا فَأَكَلُوا وَكَانَ الْفَقِيه من جُمْلَتهمْ ثمَّ لما حَضَرُوا للْبيع أمتنع الْفَقِيه من حُضُور بيعهم فَقَالَ لَهُ بعض الْفُقَهَاء مَتى خرجت تغير النظام فَوقف على كره ثمَّ لما سَأَلُوهُ أَن يكْتب على الْوَثِيقَة شَهَادَته امْتنع فَقيل لَهُ كَيفَ أكلت الطَّعَام وَلم تشهد فَقَالَ ثَبت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكل أَطْعِمَة الْكَفَرَة وَكَذَلِكَ أَصْحَابه وَسَأَلَ عَن الشَّهَادَة فَأَشَارَ إِلَى الشَّمْس وَقَالَ على مثلهَا فَأشْهد ثمَّ خرج فَقَالَ ابْن الْمعلم من هَذَا الْفَقِيه فَقيل لَهُ سيف السّنة فَقَالَ صدق من سَمَّاهُ بذلك وَكفى بذلك فضلا وَأما مَا ذكر من كراماته فكثير مِنْهَا مَا ثَبت بِنَقْل صَحِيح أَنه خرج يَوْمًا من بَيته إِلَى أَرض لَهُ يُرِيد ينظر الزَّرْع إِذْ رأى عجورة فِي أَسْفَلهَا عقد وأعلاها شجنان فِي كل شجن سنبلة فَعجب الْفَقِيه وَمد يَده يُرِيد أَخذهَا من أَسْفَلهَا فَوَقَعت يَده على الْأَيْسَر فانسلخ بِيَدِهِ فَتَأَمّله فَإِذا فِيهِ مَكْتُوب لَا إِلَه إِلَّا الله بِخَط بَين معجب قَالَ فعجبت من ذَلِك وَنظرت مُقَابِله من الْأُخْرَى وَإِذا فِيهِ مُحَمَّد رَسُول الله فَلم يُمكن إِلَّا كَسره وإيصاله إِلَى إب لأعجب مِنْهُ الدرسة والأهل وَالْأَصْحَاب فأوصله وتعجب النَّاس مِنْهُ وَكَانَ اشْتِغَاله بالتدريس وَمَعَ ذَلِك ينْسَخ الْكتب حَتَّى أَنه كَانَ ينْسَخ فِي كل عَام نُسْخَة بَيَان ونسخة الْمُهَذّب ونسخة كَافِي الصردفي وَرُبمَا التَّنْبِيه أَيْضا وَيَأْمُر بِالْجَمِيعِ إِلَى(1/321)
مَكَّة يبعن ويشترى لَهُ بأثمانهن ورق مصري أَو بغدادي وغالب كتبه من ذَلِك الْوَرق وَكَانَ لَهُ مَسْجِد صَغِير بِالْقربِ من بَيته يدرس فِيهِ وَقد أَقَامَ بجبلة أشهرا ودرس فِيهَا بِمَسْجِد السّنة وَله بِهِ كتب مَوْقُوفَة من ذَلِك الْوَقْت وَكَانَ مهما حصل لَهُ من كيلة الْمَسْجِد أَخذ بِهِ وَرقا وحبرا وَنسخ بِهِ كتبا ووقفها على الْمَسْجِد وَله مصنفات فِي الْأُصُول الدِّينِيَّة وَكَانَ يُنكر على من يُخَالف مَذْهَب السّلف ويعتقد خلاف مَذْهَبهم وَلما أظهر طَاهِر مَا أظهر من الْمُخَالفَة للفقهاء وَنقض التَّوْبَة الَّتِي كَانَ أظهرها أَيَّام أَبِيه وَقد مضى بَيَانهَا كثر إِظْهَاره لذَلِك أجمع الْفُقَهَاء على هجره وَالْإِنْكَار عَلَيْهِ مشافهة ومراسلة ومكاتبة وَكَانَ هَذَا من أعظمهم فِي ذَلِك ثمَّ القَاضِي مَسْعُود وَلِهَذَا فِي الرَّد عَلَيْهِ كتاب كَبِير وأخباره يطول ذكرهَا وَكَانَ مَعَ كَمَال الْعلم لَهُ فَتَاوَى نافعة تُوجد بيد كثير من الْفُقَهَاء وَكتبه الَّتِي وَقفهَا تزيد على المئة فقد مِنْهَا بَعْضهَا وَهِي بِمَدِينَة إب وَمِنْهَا بَقِيَّة بالجند وَهُوَ صَحِيح مُسلم وكافي الصردفي وَكتب على صَحِيح مُسلم بِخَطِّهِ مَا مِثَاله وَقفه أَحْمد بن مُحَمَّد بِجَمِيعِ الْكتب المنسوبة إِلَيْهِ من الحَدِيث وَالْأُصُول وَالْفُرُوع والفرائض وَالتَّفْسِير واللغة والنحو وَهِي ثَمَانُون كتابا على أهل السّنة يقدم فِيهَا من يُوجد فِيهِ الشُّرُوط الْمَذْكُورَة يعين ببيتيه اللَّذين ذكرت أَحدهمَا فِيمَا تقدم فِيهَا من يَأْخُذ فِيهِ وَتركت الآخر لشهرته وَعدم رضى كثير من الْأَشْخَاص بِهِ ثمَّ قَالَ من ذَلِك ذُريَّته أَي يتَقَدَّم من وجد فِيهِ شَرط الْبَيْتَيْنِ من ذُريَّته ونسله وبنيهم ونسلهم ثمَّ قراباته من عصباته أَي يتَقَدَّم من قراباته من عصباته فَمن خرج عَن الشَّرْط ببدعة أَو مَا يرد بِهِ الشَّهَادَة خرج من الْوَقْف فَإِن تَابَ عَاد اسْتِحْقَاقه وَلَا حق فِي الْوَقْف لمبتدع وَإِذا لم يبْق مُسْتَحقّ من نَسْله فَأهل السّنة فِيهَا سَوَاء أبدا مَا بقيت لعن الله من يتملكها أَو يملكهَا أَو يسْعَى فِي فَسَاد الْوَقْف أَو يكتمها وعَلى من يَسْتَحِقهَا أَن يعيرها من ينْتَفع بهَا إِذا سُئِلَ بِشَرْط الْحِفْظ كتبه أَحْمد بن مُحَمَّد تقبل الله مِنْهُ كَانَ الْوَقْف سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَلم يزل على الْحَال المرضي وامتحن بِقَضَاء السحول وَكَانَ يَسْتَنِيب فِيهِ ابْنه إِسْمَاعِيل وَمَا أحقه بقول الْحرَّة تقية فِي حق الْحَافِظ السلَفِي(1/322)
.. كَيفَ لي أَن أقبل الْيَوْم رجلا ... سلكت دهرها الطَّرِيق الحميدة ... وَكَانَ لَهُ مَعَ كَمَال الْعلم شعر رائق مِنْهُ قصيدة زهدية ... ألالص عَقْلِي للتشاغل سَارِق ... وَقد جَاءَنِي بالنعي فِي الْيَوْم طَارق ... وَمِنْه لما هدمت مَدِينَة إب ... خليلي من ذَا عيشه قبلنَا طابا ... فَلَا تجزعا إِن نَاب أَب الَّذِي نابا
فآدم فِي الفردوس مَا طَابَ عيشه ... وَلَا طَابَ فِي الدُّنْيَا وَإِن كَانَ قد تابا ... وَمِنْه مدح الْبَيَان الَّذِي نسخه وَوَقفه قَالَ فِي آخِره ... سقى الله يحيى سلسبيلا وَخَصه ... بقصر من الْيَاقُوت أَعلَى جنان
لتصنيفه هَذَا الْكتاب الَّذِي حوى ... تصانيف أهل الْفِقْه قاص ودان
وَسَماهُ بِالِاسْمِ الَّذِي هُوَ أَهله ... بَيَانا وَمَا فِي الأَرْض مثل بَيَان ... وَمِنْه ... يَا خَادِم الْجِسْم كم تسْعَى لخدمته ... لتطلب الرِّبْح فِيمَا فِيهِ خسران
أقبل على النَّفس فاستكمل فضائلها ... فَأَنت بِالنَّفسِ لَا بالجسم إِنْسَان ... وَكَانَت وَفَاته بِبَلَدِهِ فِي الثُّلُث الْأَخير من لَيْلَة الْجُمُعَة لعشر بَقينَ من الْقعدَة سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وقبر بِرُكْن مَسْجده من خَارجه وَلأَهل الْبَلَد وَغَيرهم بقبره مُعْتَقد عَظِيم فيتكررون لزيارته فِي غَالب أوقاتهم وَفِي يَوْم الْجُمُعَة خَاصَّة يَنْصَرِفُونَ بأجمعهم من الْجَامِع إِلَى تربته وَلما دفن وَعمل على قَبره أَحْجَار ليتبينه الزائر كتب على بَعْضهَا ... أيا قبر غَابَ الْفِقْه فِيك وَرُبمَا ... يكذب فِي هذي الْمقَالة جَاهِل ... وَقد اندرس ذَلِك لطول الزَّمَان وَكَانَت أَيَّامه من الْأَيَّام المباركات وتربته من(1/323)
الترب المقصودات لطلب الْخيرَات واندفاع المضرات زرتها بِحَمْد الله مرَارًا وَرَأَيْت من بركاتها آثارا
وَمِنْهُم بعدن وَلَيْسَ من أَهلهَا إِسْمَاعِيل بن عبد الْملك بن مَسْعُود الدينَوَرِي الْبَغْدَادِيّ كَانَ فَقِيها مُحدثا وَغلب عَلَيْهِ فن الحَدِيث وَأخذ عَنهُ جمَاعَة مِنْهُم القَاضِي أَحْمد القريظي وَكَانَ عابدا شهرت لَهُ كرامات كَثِيرَة وَصَحبه الْخضر وجد بِخَط الْفَقِيه سُفْيَان الأبيني مَا مِثَاله حدث المقرىء يُوسُف الصدائي وَكَانَ إِمَامًا لمَسْجِد هَذَا الْفَقِيه أَنه قَالَ لَهُ يَوْمًا يَا مقرىء أُرِيد أَن أريك آيَة من آيَات الله المحجوبة عَن كثير من النَّاس فَقَالَ نعم فَأمره بالدنو مِنْهُ فَلَمَّا دنا مِنْهُ مسح بِيَدِهِ على وَجهه وَقَالَ لَهُ ارْفَعْ بَصرك إِلَى السَّمَاء فَرفع فَرَأى آيَة الْكُرْسِيّ مَكْتُوبَة بِنور يكَاد يخطف الْأَبْصَار أَولهَا بالمشرق {الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم} وَآخِرهَا بالمغرب {الْعلي الْعَظِيم} وَقَالَ المقرىء بِهَذِهِ الشَّهَادَة اشْهَدُوا على شهادتي قَالَ وَسَأَلته يَعْنِي الْفَقِيه إِسْمَاعِيل هَل رَأَيْت الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام قطّ قَالَ نعم فَقلت لَهُ إِنِّي أقسم عَلَيْك بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِلَّا مَا عملت لي بِرُؤْيَتِهِ وَالنَّظَر إِلَيْهِ فَقَالَ إِذا وفْق الله وُصُوله سَأَلت لَك ذَلِك ثمَّ مكثنا مُدَّة يسيرَة وصلينا الْعشَاء لَيْلَة ثمَّ دخلت خلْوَة لي مُنْفَرِدَة فَقَرَأت مَا شَاءَ الله من الْقُرْآن وأقفلت عَليّ الْخلْوَة ثمَّ نمت فَبَيْنَمَا أَنا فِي أحسن النّوم إِذْ رَأَيْت بَاب شَمْطَاء تقطر مَاء وَهُوَ ينفضها بِيَدِهِ ثمَّ جَاءَ حَتَّى وقف عِنْد رَأْسِي وَسلم عَليّ ودعا لي بدعوات حفظت مِنْهَا وفقك الله وأرشدك وأصلحك وسددك أبشر فَإنَّك على الْحق والعقيدة الَّتِي قرأتها شَرِيعَة الْإِسْلَام وَدين الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فأبشر وَبشر كل من كَانَ على مَا أَنْت عَلَيْهِ أَنه على الْحق الْمُسْتَقيم وَالسّنة الَّتِي اصطفاها الله لِعِبَادِهِ الصَّالِحين وَأَن الْقُرْآن كَلَام الله تَعَالَى نزل على رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَوْت يسمع وحروف تكْتب وَمعنى يفهم على ذَلِك نحيا وَعَلِيهِ نموت وَعَلِيهِ نبعث هَذِه عقيدة الدّين تمسكوا بهَا ثمَّ وَدعنِي وَمضى وَعَاد سقف الْخلْوَة وبابها على حَالهَا فَيقدر إِنَّمَا يكون وسط الْبَيْت إِذا سَمِعت صَوت الْفَقِيه إِسْمَاعِيل يدق الْبَاب فأجبته فَقَالَ يَا مقرئ أَتَاك الرجل قلت يَا سَيِّدي الَّذِي رَأَيْته أَنْت فِي الْيَقَظَة رَأَيْته أَنا فِي الْمَنَام فَقَالَ لي أبشر فقد(1/324)
نلْت مَا لم ينل سواك ثمَّ قلت لَهُ من أَيْن جَاءَ فِي هَذِه اللَّيْلَة قَالَ أَخْبرنِي أَنه جَاءَ من عِنْد الْفَقِيه الزَّاهِد عمر بن إِسْمَاعِيل من ذِي السفال وَذكر أَنه أمْلى عَلَيْهِ من الْمُهَذّب من بَاب مَوَاقِيت الصَّلَاة قَالَ مُؤَلفه عَفا الله عَنهُ وَهَذَا يُؤَيّد مَا ذكرته عِنْد ذكر الْفَقِيه عمر فِيمَا تقدم وَأَنه كَانَ يصحب الْخضر ويملي عَلَيْهِ شَيْئا من الْمُهَذّب فِي أثْنَاء نسخه لَهُ
قَالَ المقرىء الصدائي وَكَانَ مُعظم رغبتي بالاجتماع بالخضر لأسأله عَن صِحَة المعتقد الَّذِي أَنا عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنِّي كنت قَرَأت التَّبْصِرَة رِوَايَة الزنجاني عَن عبد الْوَاحِد الشِّيرَازِيّ وَكتاب الشَّرِيعَة للآجري واعتقدت مَا فيهمَا ثمَّ كَانَ قد تطرقني تشويش فيهمَا من بعض الْمُخَالفين فَلَمَّا رَأَيْت مَا رَأَيْت فِي الْمَنَام تثبت فِي معتقدي وَعلمت أَنه الْحق
قَالَ الْفَقِيه الصَّالح سُفْيَان نفع الله بِهِ كَانَ هَذَا المقرىء رجلا فَاضلا بالقراءات وَالْفِقْه والنحو وَقد أَخْبرنِي أَنه مُنْذُ رأى فِي الْمَنَام كَانَ كثير المجانبة لمن يتهم باعتقاد خلاف مُعْتَقد الْكِتَابَيْنِ الْمَذْكُورين وَلَا يُمَيّز كَبِيرا وَلَا ذَا جاه لذَلِك وَلما هرب أهل زبيد خوفًا من ابْن مهْدي إِلَى عدن وسواها كَانَ من جملَة من وصل عدن الْفَقِيه حُسَيْن المقيبعي فوصل مرّة إِلَى بَاب المقرىء وَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَلم يَأْذَن لَهُ وَعَاد خائبا فَقيل للمقرىء مَا كَانَ يَنْبَغِي رد هَذَا الْفَقِيه من بابك فَلم يجب قَائِل ذَلِك فألح عَلَيْهِ جمَاعَة من خواصه بالسؤال عَن سَبَب رده وَرُبمَا أَقْسمُوا عَلَيْهِ ليخبرهم عَن ذَلِك فَقَالَ إِنِّي لما فرغت من كتاب التَّبْصِرَة قِرَاءَة متقنة ثمَّ قَرَأت بعده كتاب الشَّرِيعَة للآجري ومعتقدهما وَاحِد وتقرر عِنْدِي معتقدهما وَصِحَّته سَافَرت لِلْحَجِّ فرافقني فَقِيه من أهل تهَامَة وعادلني فِي محمل من السّير فَجعلنَا نتذاكر الْعلم وأنست نَفسِي إِلَيْهِ ثمَّ إِنَّا خضنا يَوْمًا فِي المعقتد فَمَا زَالَ بِي ذَلِك الْفَقِيه اللعين حَتَّى أفسد عَليّ مَا ثَبت عِنْدِي من المعتقد فَلَمَّا جَاءَ اللَّيْل ونمت رَأَيْت كَأَنِّي بواد مظلم وَبِه ملك رِجْلَاهُ بتخوم الأَرْض وَرَأسه فِي السَّمَاء وَهُوَ يَصِيح يَا معشر القرود يَا معشر القرود فَأقبل إِلَيْهِ قرود كَثِيرَة فَقَالَ لَهُم صكوا وَجه هَذَا المقرىء وَدبره وَقُولُوا يَا مُرْتَد يَا مُرْتَد فَجعلُوا يضْربُونَ وَجْهي ودبري كَمَا أَمرهم وَيَقُولُونَ مَا قَالَ لَهُم حَتَّى وجدت لضربهم ألما عَظِيما كَمَا لَو كَانَ باليقظة وَلم أنتبه حَتَّى تورم وَجْهي وَانْتَفَخَتْ عَيْنَايَ وَفِي يَدي جروح كَثِيرَة من أَيدي القردة فَعلمت أَن ذَلِك بِتَغَيُّر معتقدي إِذْ لم أحدث شَيْئا غَيره فَلَمَّا أَصبَحت أخذت هدادي واعتزلت عَن معادلي وعزمت على معاودة معتقدي فَلَمَّا نمت اللَّيْلَة الثَّانِيَة رَأَيْت ذَلِك الْملك بِعَيْنِه يَقُول يَا مقرىء اسْتَأْنف الْعَمَل فَإِن الله قد أحبط عَمَلك الْمَاضِي بِمَا حل فِي باطنك من رِوَايَة ذَلِك الملحد وَقبُول كَلَامه واستحسانه فنسأل الله الْعِصْمَة من عقيدة تخَالف العقيدة الَّتِي(1/325)
قرأتها وعلمتها وَأعلم كل من خالفها أَن لَهُ أَشد من هَذَا واعمل بِمَا قَالَ الله تَعَالَى فِيمَن كَانَ مثل حَالهم {وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا وَلَا تقم على قَبره} ثمَّ استيقظت وعاهدت الله على هجر كل من ينتسب إِلَى هَذِه الْمَذْهَب الَّذِي يجانب مَذْهَب السّلف
قَالَ الْفَقِيه سُفْيَان فعذر المقرىء من كَانَ عتب عَلَيْهِ فِي رد المقيبعي ثمَّ بعد أَيَّام التقى المقرىء مُنَاجَاة وَقد كَانَ بلغه الْخَبَر فَسلم ثمَّ حلف للمقرىء أَنه بَرِيء من المعتقد الَّذِي اتهمه بِهِ وَكَانَ وجود ذَلِك فِي عشر سِنِين وَخَمْسمِائة وَلم أتحقق لإسماعيل والصدائي تَارِيخا
وَمن أبين ثمَّ من الطرية عمر بن عبد الْعَزِيز بن أبي قُرَّة وَأَخُوهُ عبيد الله تفقها بِابْن عبدويه ومحن عمر بِالْقضَاءِ فِي بِلَاده وَتُوفِّي بالسرين عَائِدًا من الْحَج وَبِه تفقه مُحَمَّد بن سعيد بن معن القريظي الْآتِي ذكره وَكَانَ فَاضلا بالفقه وَالْأُصُول وَلَهُمَا أَخ يذكر بالفقه اسْمه أَبُو قُرَّة عبد الْعَزِيز وَتُوفِّي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَأما أَخَوَاهُ الْأَوَّلَانِ فَلم أكد أجد لَهما تَارِيخا قَالَ ابْن سَمُرَة وَمن لحج عَمْرو بن بيش قلت هُوَ بخفض الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ شين مُعْجمَة وَهُوَ أحد شُيُوخ الإِمَام يحيى بن أبي الْخَيْر وَقد ذكرته وَكَانَ صَالحا تقيا وبحثت من اجْتمعت بِهِ من أهل ناحيته فَقَالَ لَا يعرف ذَلِك فَسَأَلت أهل أبين فَقيل لي فِي مَقَابِر الْمحل قُبُور جمَاعَة يزارون ويعرفون بقبور الْفُقَهَاء بني بيش فغلب على ظَنِّي أَن ابْن سَمُرَة سَهَا بنسبتهم إِلَى لحج إِذْ لَو كَانُوا كَمَا قَالَ لم يخف وَيحْتَمل أَنه كَانَ مِنْهُم فِي كل جِهَة من يذكر
وَمن زبيد جمَاعَة مِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أبي الْقَاسِم بن حسن عرف بِابْن الْأَبَّار تفقه بِابْن عبدويه وَإِلَيْهِ انْتَهَت رئاسة التدريس وَالْفَتْوَى بزبيد وَكَانَ كَبِير الْقدر(1/326)
شهير الذّكر بِهِ تفقه جمع كثير من زبيد وَغَيرهَا وَحج فَأدْرك الْبَنْدَنِيجِيّ مقدم الذّكر بِمَكَّة فَأخذ عَنهُ ذكره عمَارَة فِي مفيده وَأثْنى عَلَيْهِ وَذكر أَنه تفقه عَلَيْهِ وَقَالَ وَكَانَ مُعظما عِنْد النَّاس وقف الشَّاعِر الْمَعْرُوف بالغرنوق وَقد اغتص مَجْلِسه بالزحام من الطّلبَة فَأحب أَن يقْعد بَينهم فَلم يجد فَأَنْشد يُخَاطب الْفَقِيه مرتجلا ... مجلسك الرحب من تزاحمه ... لَا يسع الْمَرْء فِيهِ مَقْعَده
كل على قدره ينَال فَذا ... يلقط مِنْهُ وَذَاكَ يحصده ... فَقَالَ الْفَقِيه أفرجوا لَهُ يقْعد فأفرجوا لَهُ فَقعدَ وَبِه تفقه جمع كثير مِنْهُم عبد الله بن عِيسَى الهرمي وَمُحَمّد بن عَطِيَّة وَغَيرهمَا فِيمَن لَا يُحْصى وَكَانَ لَهُ مَعَ كَمَال فَضله شعر مِنْهُ مَا رَأَيْته بِخَط شَيْخي أبي الْحسن الأصبحي يَقُول لِابْنِ الْأَبَّار فِي مدح ابْن الصّباغ وشامله وَهُوَ ... أَحْيَا الإِمَام أَبُو نصر بشامله ... علم ابْن إِدْرِيس ذِي الفخرين محتسبا
وأوضح الْحجَج اللَّاتِي إِذا قرعت ... سمع آمرىء قد شدا فِي علمه طَربا
إِذا تصَوره ذُو فطنة وذكا ... حوى علوما وَحَازَ الْعلم مكتسبا
وَصَارَ صَدرا إِذا مَا مُشكل نزلت ... سَمِعت مِنْهُ لَدَيْهَا منطقا عجبا
فَالله يجْزِيه بِالْحُسْنَى ويأجره ... فِيمَا ابتغاه وَيُعْطِيه الَّذِي طلبا ... وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مَنْصُور بن مُفْلِح الْوَزير الفاتكي أَعنِي أَبَاهُ وَلَعَلَّ يَأْتِي من ذكره مَا لَاق فِي أَعْيَان الدول وَأما مَنْصُور فَكَانَ فَقِيها ذَا فصاحة وصباحة وسماحة ذكره عمَارَة فِي مفيده وَقَالَ كَانَ النَّاس يَقُولُونَ لَو كَانَ مَنْصُور قرشيا لكملت فِيهِ شُرُوط الْخلَافَة وَكَانَت وَفَاته مقتولا ظلما وعدوانا سنة ثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة تَقْرِيبًا الْوَزير الَّذِي وزر بعد أَبِيه
وَمِنْهُم عُثْمَان بن الصفار وَمُحَمّد بن عَليّ السهامي كَانَا إمامين لَا سِيمَا فِي علم الْفَرَائِض والدور والجبر والمقابلة قَالَ عمَارَة كَانُوا يرَوْنَ أَن ابْن اللبان يَعْنِي الفرضي من أتباعهم فِي ذَلِك
وَمِنْهُم أَبُو عبد الرَّحْمَن الْحسن بن خلف بن الْحُسَيْن(1/327)
المقيبعي الَّذِي ذكرت أَنه وصل إِلَى الصدائي كَانَ فَقِيها فروعيا حديثيا لما دخل عدن خَائفًا من ابْن مهْدي أَخذ عَنهُ جمَاعَة مِنْهُم القَاضِي أَحْمد القريظي وَعلي بن عبد الله الْمليكِي وَغَيرهمَا وسافر بلد السودَان وزيلع وَعَاد إِلَى عدن فِي مركب عصفته الرّيح إِلَى سَاحل أنحاء بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون النُّون والحاء الْمُهْملَة مَفْتُوحَة ثمَّ ألف توفّي فِيهِ وقبر هُنَاكَ منتصف شَوَّال سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَمن باديتها عبد الله بن عِيسَى بن أَيمن الهرمي نِسْبَة إِلَى قَرْيَة تعرف بالهرمة على وزن الفعلة بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الْعين قَالَ ابْن سَمُرَة نسبهم إِلَى نزار وَأَصله من العماقي إِحْدَى قرى مَدِينَة الْجند وَكَانَ لَهُ بهَا قرَابَة انقرضوا بزماننا وَمن نَسْله جمَاعَة يسكنون بِهَذِهِ الْقرْيَة الْمَذْكُورَة من وَادي زبيد وينتسبون إِلَى بني أُميَّة
وَمِنْهُم مُوسَى وَأَبوهُ الْآتِي ذكرهمَا وليا قَضَاء زبيد من قبل بني عمرَان
أدْركْت مُوسَى حَاكما بزبيد
وَأما عبد الله هَذَا فَكَانَ فَقِيها صَالحا ورعا مرجو الدعْوَة وَأثْنى عَلَيْهِ ابْن سَمُرَة وَقَالَ أَصله من العماقي وَقَالَ من جلة الْفُقَهَاء عبد الله تفقه بِابْن الْأَبَّار غَالِبا وَرُبمَا قيل بِابْن عبدويه وَكَانَ تِلْمِيذه الْأَحْنَف الْآتِي ذكره أثنى عَلَيْهِ ثَنَاء بليغا وَقَالَ مَا رَأَيْت أحفظ للمهذب وَلَا أذكر مِنْهُ لَهُ وَلَا أورع وَكَانَ مَتى طعم عِنْد قوم قَالَ اللَّهُمَّ اعمر منزلهم بالتقوى ووسعه بالرزق وَيُقَال أَن ابْن مهْدي قَتله ظلما وَلما حج أَخذ عَن الشريف العثماني الْأَرْبَعين المقدسية بِأَخْذِهِ لَهَا عَن مؤلفها أبي نصر الْمَقْدِسِي وَله ولدان فاضلان تفقها بِهِ مُحَمَّد وَعلي وَسَيَأْتِي ذكرهمَا إِن شَاءَ الله وَأول من وصل مِنْهُم أَبُو حسان بكتب كَثِيرَة فسكن الخوهة فَكَانَ فَقِيها محققا مدققا رُبمَا ذكر لَهُ تصنيف وَخلف حُسَيْن مَعَ إِبْرَاهِيم ثَلَاثَة آخَرين عبد الله وفاتح وَعلي فعبد الله غلب عَلَيْهِ الشّعْر وَمَعْرِفَة أَخْبَار الْعَرَب حَتَّى كَانَ يَقُول مَا سَقَطت مقرعة أَيَّام الْجَاهِلِيَّة وَلَا قيل شعر إِلَّا وَأَنا أعرف قَائِله وَقد ذكرت فِي غير هَذَا الْموضع مَا أمكن وَأما فاتح فَكَانَ فَقِيها فِي ذُريَّته الْفُقَهَاء يَأْتِي ذكرهم إِن شَاءَ الله
وَمن الخوهة قَرْيَة بساحل حيس على وزن قيس والقرية فتح الْخَاء الْمُعْجَمَة وخفض الْوَاو وَفتح الْهَاء الأولى وَسُكُون الثَّانِيَة وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد الْحُسَيْن بن أبي بكر بن أبي حسان الشَّيْبَانِيّ مولده(1/328)
أول شهور سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ وَخَمْسمِائة تفقه بالهرمي وَأخذ عَن ابْن عبدويه من أول التَّنْبِيه إِلَى النِّكَاح وَهَذَا آخر من عَرفته أَخذ عَن ابْن عبدويه وَكَانَ فَاضلا بالفقه والْحَدِيث ومشكله على الْمُهَذّب يدل على ذَلِك وَكَانَ يتَرَدَّد مَا بَين بَلَده وعدن وزبيد وَعرض عَلَيْهِ قَضَاء زبيد أَيَّام توران شاه فَامْتنعَ ثمَّ عرضه عَلَيْهِ أَيَّام سيف الْإِسْلَام القَاضِي الْأَثِير فَامْتنعَ أَيْضا فَقَالَ لَهُ إِن لم تفعل فدلنا على من يصلح لذَلِك فدلهم على عبد الله بن مُحَمَّد العقامي فولاه الْأَثِير فَلم يزل على ذَلِك وَولده إِلَى أَن توفّي فِي صدر الدولة المظفرية
قَالَ ابْن سَمُرَة وَكَانَ يَعْنِي الشَّيْبَانِيّ لَهُ غزارة علم ومصنفات مفيدة غير الْمُشكل لزم مجْلِس الطويري سبع سِنِين وَكَانَ رَفِيقه فِي الرحلة مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْأَحْنَف اجْتمع بِهِ ابْن سَمُرَة فِي عدن سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَلَا أعرف لوفاته تَارِيخا وَتُوفِّي وَقد خلف ثَلَاثَة أَوْلَاد تفقهوا بِهِ
وَشهر مِنْهُم إِبْرَاهِيم عمر عمرا طَويلا حَتَّى أدْرك زمن المظفر وزاره بمنزله بالخوهة فبشره بِأَخْذِهِ للْملك وسامحه بأراضيه وأراضي أَهله ونخيلهم ذكر من حضر مجْلِس السُّلْطَان مَعَه أَنه ضرب على كتفه وَقَالَ الْملك لَك بِالسَّيْفِ لَا أَسد الدّين وَلَا فَخر الدّين وَلَا قطب الدّين وَكَانَ يصحب الْجِنّ ويقرأون عَلَيْهِ وَله مَعَهم أَخْبَار يتناقلها أهل قريته وَقد دَخَلتهَا وَأَنا مَرِيض فِي أحد شهور سنة تسع عشرَة وَسَبْعمائة وقبورهم متجاورة لم أستطع زيارتهم لما كَانَ بِي من الْمَرَض فَالله أَحْمد على كل حَال وَأَعُوذ بِهِ من حَال أهل النَّار
وَمن هَذِه الطَّبَقَة ثمَّ من أَصْحَاب الفقيهين الْمَذْكُورين اللَّذين خصصت هَذِه الطَّبَقَة بِتَقْدِيم أصحابهما وهما اليفاعي وَابْن عبدويه جمَاعَة مِنْهُم أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد بن عَليّ اليهاقري بياء مَفْتُوحَة بعد ألف وَلَام وهاء مَفْتُوحَة ثمَّ ألف ثمَّ قَاف مخفوضة ثمَّ رَاء وَهِي قَرْيَة غربي مَدِينَة الْجند إِحْدَى قراها الْمُعْتَمدَة الْقَدِيمَة قَالَ ابْن سَمُرَة تفقه بشيوخ الْجند وَوجدت سَنَد هـ بالمهذب وَأَنه قَرَأَهُ على الْفَقِيه سَالم بن حسن الزوقري مقدم الذّكر أثنى عَلَيْهِ ابْن سَمُرَة ثَنَاء كَامِلا وَقَالَ فِي التعليقة الَّتِي ذكر بهَا شُيُوخه فَقَالَ أَوَّلهمْ شَيْخي عَليّ بن أَحْمد مَسْكَنه اليهاقر بادية الْجند تفقه بشيوخ(1/329)
الْبَلَد كزيد بن عبد الله اليفاعي وَزيد الفائشي وَهُوَ أول من علقت عَنهُ فِي الْفِقْه وَلما حصل فِي الأجناد الْخَوْف من ابْن مهْدي انْتقل هَذَا الْفَقِيه إِلَى قَرْيَة الانصال من بلد العوادر فَتوفي بهَا سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة وقبره بمقبرة الكريف وَهُوَ آخر من حَقَّقَهُ ابْن سَمُرَة من أَصْحَاب اليفاعي قَالَ ابْن سَمُرَة وَفِي هَذِه السّنة دخل الْمهْدي بن عَليّ الْجند فَقتل بعض أَهلهَا وأحرق مَسْجِدهَا وَعَاد إِلَى زبيد فَمَاتَ وقبر بمشهدهم الْمَعْرُوف بزيارة الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس
وَمِنْهُم أسعد بن أبي بكر بن بلاوه الْجَعْدِي تفقه بِعَبْد الله الزبراني وَكَانَ يحضر حَلقَة الإِمَام اليفاعي بِمَدِينَة الْجند ومسكنه ذُو السمكر إِحْدَى قرى الْجند الْمُعْتَمدَة بِضَم الذَّال الْمُعْجَمَة وواو سَاكِنة وَفتح السِّين الْمُشَدّدَة بعد ألف وَلَام ثمَّ مِيم سَاكِنة وكاف مَفْتُوحَة ثمَّ رَاء وَابْن عَمه عمر بن أَحْمد بن بلاوه تفقه بشيوخ الْجند وَكَانَ هُوَ وَابْن عَمه تربين وَلم أجد لَهما تَارِيخا لَكِن عرفت أَنَّهُمَا من أهل الطَّبَقَة لكَون ابْن سَمُرَة عدهما فِي الَّذين كَانُوا يحْضرُون مجْلِس الشَّيْخ زيد اليفاعي وَلَهُمَا قرَابَة بقريبتهما الْمَذْكُورَة وذرية إِلَى الْآن وَرُبمَا جَاءَ فيهم مُسْتَحقّ للذّكر فأذكره إِن شَاءَ الله
وَمِنْهُم الأخوان عَليّ وَعبد الرَّحْمَن ابْنا الْفَقِيه يحيى بن عبد الْعَلِيم الْمُقدم ذكره أَخذ عَن الْحَافِظ العرشاني الْأَرْبَعين الآجرية فِي رَجَب سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَلَا أعلم تَارِيخ أَخِيه
وَمِنْهُم ابْن أخيهما عبد الله بن عمر بن الْفَقِيه يحيى بن عبد الْعَلِيم قَالَ ابْن سَمُرَة كَانَ فَقِيها زاهدا ورعا قَتله أهل الْفساد بقريتهم حجرَة الَّتِي تقدم ذكرهَا وَذَلِكَ بتاريخ سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن الْفَقِيه أَحْمد بن عبد الله بن أبي عمرَان مقدم الذّكر مولده سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة تفقه بِابْن عَم أَبِيه يحيى الْمُقدم ذكره(1/330)
وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد مقبل بن عُثْمَان بن مقبل بن عُثْمَان بن صنديد بن زيد بن أسعد العلهي نسبا إِلَى جد اسْمه عله بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَسُكُون الْهَاء وَإِلَيْهِ ينْسب جمَاعَة من دثينة وَلذَلِك يُقَال لَهُ الدثيني إِلَى صقع من الْيمن يعرف بدثينة بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وخفض الثَّاء الْمُثَلَّثَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ نون مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء سَاكِنة خرج هَذَا الْفَقِيه مِنْهَا فقصد بِلَاد الأعروق وَسكن مَعَهم فِي قَرْيَة الظفر وَكَانَ مَعَه دنيا فَتزَوج امْرَأَة مِنْهُم وَكَانَت بلدهم يغلب عَلَيْهَا البداوة وعَلى أَهلهَا الْجَهْل فانتقل عَنْهُم بامرأته
إِلَى ذِي أشرق فَلم يزل بهَا وأولدت لَهُ امْرَأَته وَلدين مُحَمَّد وَأحمد وَكَانَا قد تفقها بِبَلَدِهِ بعض تفقه وَلما طلع ذَا أشرق أَخذ عَن الْحَافِظ العرشاني وَغَيره ثمَّ فِي سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة حج وَمَعَهُ وَلَده مُحَمَّد فَلَمَّا عادا توفّي لثمان بَقينَ من الْحجَّة سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة وَتُوفِّي وَلَده مُحَمَّد بعده بِيَسِير وانتقل ابْنه الآخر أَحْمد إِلَى قَرْيَة عرج وتديرها وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك مَعَ ذكره إِن شَاءَ الله
وَمن تهَامَة أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن قُرَيْظَة عرف بالتهامي شهر بالفقه وَحسن التدريس وَهُوَ أحد شُيُوخ الْأَحْنَف بِكِتَاب الْوَسِيط وَلما هرب من زبيد إِلَى عدن لخوف ابْن مهْدي أَخذ عَنهُ بعده جمَاعَة مِنْهُم مُحَمَّد بن مُفْلِح وَمُحَمّد بن عِيسَى الميتمي كتاب الْوَسِيط وَقد ذكرته فِي حَلقَة ابْن الْأَبَّار كَمَا ذكره عمَارَة لَكِن هُنَا أوسع ذكرا
وَمِنْهُم أَبُو عمرَان مُوسَى بن مُحَمَّد الطويري نِسْبَة إِلَى قَرْيَة من قرى حيس تعرف بالطوير على تَصْغِير طير تفقه بِعَبْد الله الهرمي وَبِه تفقه السويريان مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا وَولده إِبْرَاهِيم والشيباني أَيْضا وَنسب آبَائِهِ فِي أصابح الذنبتين الْمُقدم ذكرهَا(1/331)
فِي قرى الْجند وَله احْتِرَاز الْمُهَذّب يشهر بِهِ وَكَانَ لَهُ ابْن فَقِيه اسْمه حسن
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل عرف بالأحنف لحنف كَانَ بِهِ مَسْكَنه قَرْيَة الصو من عزلة اللامية بوادي سِهَام مولده سنة تسع وَخَمْسمِائة وتفقه بالهرمي مقدم الذّكر وبالطويري أَيْضا وَكَانَ بَينه وَبَين مؤلف الْبَيَان مكاتبات فِيمَا يشكل عَلَيْهِمَا من الْفِقْه وَلما قَرَأَ على السهامي كتاب الْوَسِيط كَانَ السهامي يَقُول لَا أَدْرِي أَيّنَا انْتفع بِصَاحِبِهِ وَلما وضع شَيْخه الهرمي فِي السؤالات المشكلة فِي الْمُهَذّب وَلم يجب عَلَيْهَا أجَاب هُوَ عَلَيْهَا وسماها كتاب ثَمَرَة الْمُهَذّب وَكَانَ فَقِيها جليل الْقدر مَقْصُودا للزيارة ذكرُوا أَن الشَّيْخ أَبَا الْغَيْث ابْن جميل الصُّوفِي مر بقريته الْمَذْكُورَة فَلبث مَعَه بعض اللّّبْث ثمَّ ودعه فَقَرَأَ عَلَيْهِ بعض الطّلبَة بَاب صفة الصَّلَاة فَلَمَّا بلغ قَول الشَّيْخ فِي دُعَاء الاستفتاح حَنِيفا مُسلما قَالَ الْفَقِيه مَا معنى الحنيف فَقَالَ اتبع الشَّيْخ واسأله عَن ذَلِك وَكَانَ عَاده فَارقه فَتَبِعَهُ وَقَالَ يَا شيخ الْفَقِيه يسلم عَلَيْك وَيَقُول لَك مَا معنى الحنيف فِي استفتاح الصَّلَاة فَقَالَ هُوَ المائل عَن كل دين إِلَى دين الْإِسْلَام ثمَّ لما عَاد إِلَى الْفَقِيه وَأخْبرهُ كبر وَقَالَ لقد أُوتِيَ هَذَا الرجل أمرا عَظِيما وَتُوفِّي وَخلف ثَلَاثَة بَنِينَ أحدهم أَبُو بكر ذكره ابْن سَمُرَة وَكَانَ يترشح للْفَتْوَى ويتصدر للسؤال فِي أَيَّام أَبِيه والآخران أَخْبرنِي بهما بعض الخبراء وهما إِسْمَاعِيل وَعبد الله رَأْسا فِي الْفِقْه ودرسا فِيهِ وَلم أتحقق لأحد مِنْهُم تأريخا وَلَعَلَّ الله يَسُوقهُ
ثمَّ قد عرض لي مَعَ ذكره رجل من أَعْيَان الْأَعْيَان وأفراد الزَّمَان فَيَنْبَغِي أَن نذْكر من أَحْوَاله بعض مَا صَحَّ ونورد من أَقْوَاله مَا نستدل بِهِ على فَضله فَهُوَ أَبُو الْغَيْث بن جميل الملقب شمس الشموس وَهَذَا لقب عَليّ ملقب بِاسْتِحْقَاق وَكَانَ فِي بدايته يقطع الطَّرِيق فَذكرُوا أَن سَبَب تَوْبَته أَنه صعد شَجَرَة يُرِيد أَن ينظر إِلَى السّفر إِذا أقبل فَبينا هُوَ بِأَعْلَى الشَّجَرَة يتَأَمَّل الطَّرِيق إِذْ سمع قَائِلا يَقُول يَا صَاحب الْعين عَلَيْك عين فَكَأَنَّمَا وقر ذَلِك فِي قلبه فَنزل عَن الشَّجَرَة مستكين الْقلب وَنَفسه تنازعه فِي الْإِنَابَة فَلم يجد لذَلِك طَرِيقا غير الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بن عبد الْملك بن أَفْلح بزبيد فوصله وَعرض أمره عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَن يَأْخُذ عَلَيْهِ الْيَد فَأخذ عَلَيْهِ وألزمه الْخدمَة للزاوية فَأَقَامَ يخدمها بالحطب وَالْمَاء وَفِي بَيت الْخَلَاء دهرا ثمَّ كَانَ الشَّيْخ يتَبَيَّن مِنْهُ(1/332)
مخائل النجابة ثمَّ بعد ذَلِك تقدم إِلَى المراوعة إِلَى الشَّيْخ الأهدل فَأَقَامَ عِنْده أَيَّامًا هذبه بهَا تهذيبا مرضيا وَكَانَ يَقُول خرجت من ابْن أَفْلح لؤلؤة عجماء فثقفني الأهدل ثمَّ بعد ذَلِك طلع الْجبَال الشامية وَظهر لَهُ أَحْوَال خارقة حَتَّى مَال إِلَيْهِ عَالم عَظِيم من الْعَامَّة والرؤساء وَصَحب جمعا من الْفُقَهَاء ثمَّ لما قويت الزيدية بنواحي تِلْكَ الْبِلَاد لقِيَام عبد الله بن حَمْزَة أَو غَيره من أئمتهم نزل الشَّيْخ إِلَى تهَامَة وَنزل بنزوله الْفَقِيه عَليّ بن مَسْعُود الْآتِي ذكره فسكن الشَّيْخ مَعَ الْفَقِيه أَحْمد بَيت عَطاء من قريته على كره من أَهله وَلم يزل الشَّيْخ فِي بَيته حَتَّى توفّي وبلغه أَن الشَّيْخ مسموع القَوْل مَقْبُول الْإِشَارَة
وَمن عَجِيب مَا بلغ من خَبره أَن الشريف أَحْمد بن الْحُسَيْن القاسمي لما أَقَامَ بإمامة أهل مذْهبه وأطاعه غَالب الْبِلَاد يُقَال كتب إِلَيْهِ ابْن علوان الْآتِي ذكره فِي أهل جبا أما بعد فَإِنِّي أخْبرك أَنِّي ... جزت الصُّفُوف إِلَى الْحُرُوف إِلَى الهجا ... حَتَّى انْتَهَيْت مَرَاتِب الإبداع
لَا باسم ليلى أستعين على السرى ... كلا وَلَا ليلى تقل شراعي ... فَأَجَابَهُ أَبُو الْغَيْث بن جميل من الْفَقِير إِلَى الله تَعَالَى أبي الْغَيْث بن جميل غذي نعْمَة الله فِي مَحل الحضرة أما بعد فَإِنِّي أخْبرك أَنِّي ... تجلى لي الِاسْم الْقَدِيم باسمه ... فانشقت الْأَسْمَاء من أسمائي
وحباني الْملك الْمُهَيْمِن وارتضى ... فالأرض أرضي وَالسَّمَاء سمائي ... يَا ابْن علوان أَبَت المراهم الشافية أَن تقع على جرحك الْخَبيث حَتَّى تقدم(1/333)
مميزات العقاقير فخيل فِي ذهنه أَنه يكْتب للشَّيْخ كتابا يستعطفه وَمَتى مَال مَعَه فَأهل تهَامَة مائلون مَعَه فَكتب إِلَى الشَّيْخ كتابا صَدره بِالْآيَةِ يَا أهل الْكتاب تعالو إِلَى كلمة إِلَى آخر الْآيَة ثمَّ قَالَ الْقَصْد يَا شيخ الْإِجْمَاع على الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَالسَّلَام ثمَّ بعث بِالْكتاب مَعَ رجل من الشِّيعَة فَلَمَّا دخل على الشَّيْخ سلم وناوله الْكتاب فَقَالَ الشَّيْخ لبَعض أَصْحَابه اقْرَأ كتاب الشريف فقرأه فَلَمَّا فرغ قَالَ يَا غُلَام عَليّ بِدَوَاةٍ وَقِرْطَاس فَلَمَّا حضرا قَالَ اكْتُبْ {إِن ينصركم الله فَلَا غَالب لكم} إِلَى آخرهَا ثمَّ قَالَ اكْتُبْ الْحَمد لله فالق الإصباح ومرسل نسيم الرِّيَاح إِلَى فسحة مبدأ عَالم الأشباح وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيد الْأَنَام ومصباح الظلام وعَلى آله وَأَصْحَابه السَّادة الْكِرَام
أما بعد فقد وصلنا كتاب الشريف يَدْعُونَا إِلَى إجَابَته ولعمري أَنَّهَا طَرِيق سلكها الْأَولونَ وَأَقْبل عَلَيْهَا الْأَكْثَرُونَ غير أَنا نَقْرَأ مُنْذُ سمعنَا قَوْله تَعَالَى لَهُ دَعْوَة الْحق لم يبْق فِينَا متسع لإجابة الْخلق فَلَيْسَ لأحد يَد أَن يشهر سَيْفه على نَفسه وَأَن يفرط فِي يَوْمه بعد أمسه فَليعلم السَّيِّد قلَّة فراغنا لما رام وليبسط الْعذر وَالسَّلَام فَذكرُوا أَن الرَّسُول وقف مَعَ الشَّيْخ وَبعث بِكِتَاب الإِمَام رَسُولا وَكَانَ الشَّيْخ جليل الْقدر شهير الذّكر حكى صَاحب تربته أَنه كَانَ ذَا عبَادَة ومجاهدة قل وجود مثله بل لم يكد يُوجد نَظِيره وفضائله يعز إحصاؤها ويندر استقصاؤها وَإِنَّمَا ذكرته هُنَا لِأَن هَذَا أول مَوضِع عرض فِيهِ ذكره وَإِن كَانَ سيعرض ذَلِك فِي مَوَاضِع أُخْرَى وَمن كَلَامه قَوْله سكونك إِلَى مَا فِي يدك دَلِيل على قلَّة ثقتك بِاللَّه ورجوعك فِي حَال الشدَّة إِلَى المخلوقين دَلِيل على أَنَّك لَا تعرف الله وفرحك بالشَّيْء تناله من الدُّنْيَا دَلِيل على بعْدك من الله
وَقد ذكر أَن هَذَا من كَلَام أبي يزِيد أَو أحد نظرائه فَالله أعلم
فَيحْتَمل أَن الْكل قد قَالَ بِهِ على طَرِيق الاختراع لَكِن جَاءَ الآخر بِهِ من طَرِيق اتِّفَاق الخاطر مَعَ الخاطر كَمَا قد يَقع الْحَافِر على الْحَافِر وَيحْتَمل أَن الآخر قَالَه على سَبِيل التّبعِيَّة(1/334)
والوعظية وَلم يسْندهُ وَذَلِكَ يَفْعَله كثير من النَّاس فِي تمثيلاتهم
وَسُئِلَ رَحمَه الله عَن الْمُسْتَحق لاسم الصُّوفِي فَقَالَ هُوَ من صفا سره من الكدر وامتلأ قلبه من العبر وَانْقطع إِلَى الله عَن الْبشر واستوى عِنْده الذَّهَب والمدر وَسُئِلَ عَن ذَلِك مرّة أُخْرَى فَقَالَ الصُّوفِي من هُوَ بِعَهْد الله موفي وَمن دُعَائِهِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك يَا روح روح الرّوح
وَيَا لب لب اللب وَيَا قلب قلب الْقلب هَب لي قلبا أعيش بِهِ مَعَك فقد جعلت كل مَا هُوَ دُونك لِأَجلِك فاجعله لمن شِئْت من هَذِه الْجُمْلَة
رُوِيَ عَن الْفَقِيه إِسْمَاعِيل الْحَضْرَمِيّ الْآتِي ذكره أَنه قَالَ جرى بيني وَبَين بعض أَصْحَاب الشَّيْخ كَلَام من أَجله فَقلت لَهُ قد كَانَ الشَّيْخ يخطىء فِي بعض كَلَامه فِي الْمجَالِس فَقَالَ لَا وَأنكر عَليّ إنكارا شَدِيدا فَرَأَيْت الشَّيْخ بِاللَّيْلِ بعد الْعشَاء تمثلت لي صورته بعضه فَقَالَ بلَى أَخْطَأنَا كثيرا ووقعنا كثيرا وَلَكِن قبلت منا العزائم ومحيت عَنَّا الجرائم وساءني دَاء الْبدع الموصوفون بصبرهم إِلَّا من كَانَ فِيهِ أَربع خِصَال أَن يكون لله لَا لَهُ للنَّاس لَا لنَفسِهِ سالك طَريقَة وَاحِدَة هِيَ طَريقَة مُخَالفَة النَّفس متجها جِهَة وَاحِدَة هِيَ جِهَة الرب تبَارك الله رَبك ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام
ثمَّ قَالَ لي احذر بنيات الطَّرِيق فَإِنَّهُنَّ يلتمسن اللمحة والنظرة فَسئلَ الْفَقِيه عَن بنيات الطَّرِيق فَقَالَ هِيَ الكرامات الَّتِي تعرض للسالك فِي طَرِيقه مَتى لاحظها حجب عَن مَقْصُوده وَكَانَت وَفَاته على الْحَال المرضي عازفا عَن السماع مُنْذُ مُدَّة نَهَار الْأَرْبَعَاء لخمس بَقينَ من جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَخمسين وسِتمِائَة وَله تربه مَشْهُورَة جعل عَلَيْهَا ابْن خطلبا التَّاجِر قبَّة وصندوقا وَجعل خَلِيفَته فيروزا من أَصْحَاب الشَّيْخ مُحَمَّد بن أبي بكر الْحكمِي صَاحب عواجة الْآتِي ذكره
وَكَانَ كَبِير الْقدر سالكا الطَّرِيق الْكَامِل وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى توفّي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين بعد أَن اسْتخْلف ابْنه عليا فَتوفي سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وسِتمِائَة وخليفته ابْنه يُوسُف وَهُوَ على ذَلِك إِلَى عصرنا سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة وَفِي عصره هجم الرِّبَاط وخرقت حرمته وَأمْسك المتجورون من التربة غير أَن فَاعل ذَلِك لم يفلح بل سلط الله عَلَيْهِ جور السُّلْطَان
ثمَّ صَار الْفِقْه بعد من تقدم ذكرهم فِي جمَاعَة من أَصْحَاب الْمَذْكُورين ومعظمهم(1/335)
أَصْحَاب الإِمَام يحيى إِذْ النَّاظر إِذا نظر فِي أهل الطَّبَقَة رَآهُمْ كَمَا قَالَ ابْن اللبان لَيْسَ فِي الأَرْض فَرضِي إِلَّا من أَصْحَابِي وَأَصْحَاب أَصْحَابِي وَلَا يعرف شَيْئا كَذَلِك لم يكن فِي الطَّبَقَة وَمن بعْدهَا فَقِيه إِلَّا من أَصْحَابه وَأَصْحَاب أَصْحَابه أَو من يتَّصل بهم بالسند أَو لَا يعرف شَيْئا وَلما كَانَ كَذَلِك مَعَ كَونهم كَانُوا هم الْأَعْيَان فِي الْمُفْتِينَ والمدرسين والصدور فِي كل الْوَقْت والحين وَبَدَأَ ابْن سَمُرَة بهم فِي الطَّبَقَة هَذِه وَقَالَ معنى كَلَام ابْن اللبان فيهم فَيَنْبَغِي الْبِدَايَة مِنْهُم بأكثرهم شهرة وَهُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُوسَى بن الْحُسَيْن بن أسعد بن عبد الله يجْتَمع مَعَ شَيْخه فِي أسعد بن عبد الله وَبَقِيَّة نسبهما قد مضى ولد سنة تسع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَ أول من لزم مجْلِس الإِمَام يحيى ودرس عَلَيْهِ وَكَانَ ابتداؤه للْقِرَاءَة فِي سنة سبع عشرَة وَخَمْسمِائة وَقد أَخذ عَن عمر بن إِسْمَاعِيل وَكَانَ فَقِيها محققا مدققا عَارِفًا بفنون شَتَّى مِنْهَا الْفِقْه والنحو واللغة والْحَدِيث والأصولين والفرائض والحساب والدور وَكَانَ الشَّيْخ يحيى يثني عَلَيْهِ بجودة الْفِقْه وَنَقله وَيَقُول ذاكرت الْفَقِيه مُحَمَّد بن مُوسَى فِي الْجُزْء الأول وَأكْثر الثَّانِي من الْبَيَان غيبا فَوَجَدته حَافِظًا متقنا وَكَانَ نظيف الْفِقْه زاهدا عفيفا حسن الْأَخْلَاق متنزها عَن الشقاق مُلْتَزما سلوك عبَادَة الخلاق رَأس ودرس أَيَّام شَيْخه الإِمَام يحيى وَبِه تفقه جمَاعَة كَثِيرُونَ مِنْهُم ابناه حسان وَأحمد وَعلي بن هَارُون البرعي وَعبد الله بن أَحْمد الْجَعْدِي وأسعد بن مُحَمَّد المري وَمُحَمّد بن أبي بكر بن مفلت من آنامر وَعمر بن سَمُرَة هَؤُلَاءِ الَّذين تفقهوا بِهِ تفقها جيدا وَعرفُوا بِصُحْبَتِهِ واعترفوا بِالِانْتِفَاعِ بِهِ وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ أسعد بن مُحَمَّد من أروس بجبل الصلو
وَعبد الله بن عُثْمَان بن رَحِيم وَمُحَمّد بن يُوسُف وَابْنه أَبُو حَامِد من دمت وَلم يكن لأحد من فُقَهَاء الذُّرِّيَّة الْمُتَّصِلَة بالفقه من عصره إِلَى عصرنا مثله إِلَى وَقت وجودهم وَمِنْهُم قُضَاة الْجند وَالسَّلَف
وَذكر ابْن سَمُرَة مِنْهُم ابْنه أَحْمد وَقَالَ هُوَ القَاضِي فِي الْجند يَعْنِي فِي عصره وَله ابْن ثَالِث اسْمه مَنْصُور تأهل فِي أعروق الظفر وَمَات هُنَالك وَلَعَلَّ يَأْتِي من ذكره وَذكر أخوته مَا لَاق وَلم يكد يَنْقَطِع الْقَضَاء مِنْهُم إِلَّا فِي رَمَضَان سنة تسع وَتِسْعين وسِتمِائَة ببني مُحَمَّد بن عمر يَأْتِي بَيَان ذَلِك فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله وَكَانَت وَفَاة الْفَقِيه(1/336)
مُحَمَّد بن مُوسَى بمصنعه سير ضحوة نَهَار الْأَرْبَعَاء لثلاث عشرَة لَيْلَة خلت من شعْبَان الْكَائِن فِي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة بعد أَن بلغ عمره كعمر شَيْخه
وَمِنْهُم ابْنه أَبُو الطّيب طَاهِر بن يحيى مولده سنة ثَمَانِي عشرَة وَخَمْسمِائة تفقه بِأَبِيهِ وَكَانَ يثني عَلَيْهِ ثَنَاء كليا وَيَقُول طَاهِر فَقِيه شافي الذّكر لَكِن أخمل ذكره بلد السوء وَقَالَ بعض فُقَهَاء زَمَانه إِنَّمَا أخمل ذكره معارضته لمعتقد أَبِيه وَسَائِر فُقَهَاء زَمَانه وبلاده وَذَلِكَ قد مضى ذكره مَعَ ذكر أَبِيه لما كَانَ أظهر التَّوْبَة مِنْهُ فهجره الْفُقَهَاء فَلَمَّا تَعب من الْهِجْرَة والمراسلة بالأقاويل الشنيعة سَافر إِلَى مَكَّة وَأقَام بهَا مجاورا سنة أَو سنتَيْن فَأخذ بهَا الْعلم عَن القاطنين بِمَكَّة والواردين إِلَيْهَا فتضلع من الْعُلُوم تضلعا جيدا حَتَّى كَانَ يَقُول أَنا ابْن ثَمَانِيَة عشر علما وَكَانَ سَفَره إِلَى مَكَّة بأَهْله اللازمين من الْبَنَات والبنين ووصلته الإجازات من الشُّيُوخ فِي الْبلدَانِ ثمَّ حصلت بَين وُلَاة مَكَّة منافسات أوجبت عَلَيْهِ النفور وَالْخُرُوج من مَكَّة إِلَى بَلَده وَذَلِكَ أَيَّام عبد النَّبِي بن عَليّ بن مهْدي فَذكرُوا أَنه لما دنا من زبيد بلغ عبد النَّبِي الْخَبَر وَقيل لَهُ هَذَا فَقِيه الْجَبَل وَابْن فقيهه اللَّذَان عَلَيْهِمَا معول الشَّافِعِيَّة فطمع فِي إفحامه وعجزه عَن مناظرة فُقَهَاء مذْهبه إِذْ كَانَ على مَذْهَب أبي حنيفَة فَأمر من لقِيه إِلَى خَارج زبيد وَأدْخل عَلَيْهِ وَكَانَ ذَلِك يَوْم جُمُعَة فألزمه أَن يخْطب بالجامع فتمنع فَلم يعذرهُ فَيُقَال إِنَّه ارتجل خطْبَة عَجِيبَة غَرِيبَة وخطب وَكَانَ ظن عبد النَّبِي أَنه يعجز لكَونه إِثْر سفر وَلما انْقَضتْ الصَّلَاة جمع عبد النَّبِي بَينه وَبَين فَقِيه مَذْهَبهم الَّذِي يعرف بِمُحَمد بن أبي بكر بن المدحدح بِضَم الْمِيم وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الدَّال الْمُهْملَة ثمَّ حاء مُهْملَة فتناظرا فَقَطعه طَاهِر فِي عدَّة مسَائِل وَاسْتظْهر عَلَيْهِ بِقُوَّة حفظه واستحضاره لمسائل الْخلاف وأدلتها وَكَانَ ابْن المدحدح رَأس طبقَة الْحَنَفِيَّة إِذْ ذَاك فَلَمَّا وجده عبد النَّبِي كَامِلا ولاه قَضَاء مدينتي جبلة وإب ونواحيها يَسْتَنِيب من شَاءَ وَيحكم حَيْثُ شَاءَ وَكَانَت الْخطْبَة والمناظرة بِجَامِع بني مهْدي الْمَعْرُوف بالمشهد إِذْ قُبُور غالبهم فِيهِ وَلم يبْق مِنْهُ إِلَى عصرنا مَا يدل عَلَيْهِ غير المنارة الَّتِي تعرف بمنارة المشهد وَأَكْثَره خراب واندراس قبوره من كَون الْأَشْرَف بن المظفر كَانَ لَهُ دَار بِالْقربِ مِنْهُ فَجعله إصطبلا لدوابه وَكَانَ سَبَب ذَلِك اندراسه وَلم يزل مُتَوَلِّيًا للْقَضَاء فِي الْأَمَاكِن الْمَذْكُورَة إِلَى دُخُول سيف الْإِسْلَام ثمَّ حدث عَلَيْهِ مَا أوجب انْفِصَاله فانفصل وَله مصنفات فَمِنْهَا(1/337)
مَقَاصِد اللمع فِي أصُول الْفِقْه وحد الْفِكر بخفض الْفَاء وَفتح الْكَاف جمع فكرة ضمنه الرَّد على الْمُعْتَزلَة فِي نفي الْقدر وَكتاب مَنَاقِب الشَّافِعِي وَكتاب مَعُونَة الطلاب فِي مَعَاني كَلَام الشهَاب وَغير ذَلِك
وَفِي مدحه قَالَ بعض فُقَهَاء حضر موت من آل أبي الْحبّ ... أجل مَا العلى إِلَّا لسَيِّدهَا الحبر ... وَمَا الْعلم إِلَّا إِرْث آل أبي الْخَيْر ... تفقه بِهِ جمَاعَة مِنْهُم ابناه مُحَمَّد وأسعد وَغَيرهمَا وَأثْنى عَلَيْهِ ابْن سَمُرَة وعَلى مكارمه وَكَانَت وَفَاته بقرية سير لَيْلَة الْأَرْبَعَاء من إِحْدَى الربيعين من سنة سبع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَمِنْهُم ابْن عَمه وخال وَلَده عُثْمَان بن أسعد بن عُثْمَان بن أسعد ولد سنة أَربع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة كَانَ فَقِيها صَالحا عابدا يقوم كل لَيْلَة بِسبع من الْقُرْآن وَهُوَ أحد شُيُوخ ابْن سَمُرَة وَمِمَّنْ أثنى عَلَيْهِ وَأخذ عَن من أَخذ عَنهُ الْحَافِظ العرشاني توفّي بالمصنعة سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم ابْن عَمه أَيْضا مُسلم بن أسعد وَأَظنهُ أَخا لعُثْمَان الْمَذْكُور آنِفا وقف كتبا جليلة وَجعلهَا على يَد أَهله قَالَ ابْن سَمُرَة فَهُوَ إِذْ ذَاك بيد القَاضِي طَاهِر
وَمن الْجند عُثْمَان بن أبي رزام كَانَ فَقِيها فَاضلا وَعَلِيهِ تفقه ابْنه وَغَيره ولي بعض ذُريَّته قَضَاء الْجند لما صَار قَضَاء الْقَضَاء إِلَى أبي بكر بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُوسَى واسْمه عبد الرَّحْمَن
وَمِنْهُم الأخوان أَبُو عبد الله مُحَمَّد وَأَبُو مُحَمَّد عبد الله ابْنا سَالم بن زيد بن إِسْحَاق الأصبحيان نسبا البعدانيان بَلَدا فمحمد مولده سنة خمس وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة كَانَ فَقِيها فَاضلا وَهُوَ الْأَكْبَر تفقه بِيَحْيَى بن مُحَمَّد الْمُقدم ذكره فِي أَصْحَاب اليفاعي وَابْن عبدويه وَكَانَ فَقِيها فَاضلا جليل الْقدر شهير الذّكر بِهِ تفقه جمَاعَة وَمِنْهُم أَخُوهُ عبد الله وَفضل بن يحيى وَغَيرهمَا وَلما قدمت الملحمة بحثت عَن شَيْء من أخبارهما فَقيل كَانُوا يسكنون موضعا من جبل بعدان ثمَّ نزل هَذَانِ إِلَى الملحمة لأجل التفقه ومخالطة أَهله وَلم يَزَالَا بهَا حَتَّى توفيا فمحمد لزم مجْلِس التدريس بعد شَيْخه الْفَقِيه يحيى بن عمرَان رَحمَه الله وَكَانَ مُحَمَّد هَذَا نظيف الْفِقْه حسن الدّيانَة بِهِ تفقه جمَاعَة مِنْهُم أَخُوهُ عبد الله الَّذِي عده ابْن سَمُرَة فِي(1/338)
أَصْحَاب الشَّيْخ يحيى وَلذَلِك أوردتهما مَعًا إِذْ لم أستليق تَقْدِيم الْأَصْغَر على الْأَكْبَر والإسناد وذرية هذَيْن الفقيهين يسكنون فِي عصرنا بقرية على قرب من الملحمة تعرف بالعراهد بِعَين مُهْملَة مَفْتُوحَة بعد ألف وَلَام وَفتح الرَّاء ثمَّ ألف ثمَّ خفض الْهَاء ثمَّ دَال مُهْملَة يذكر عَن جمَاعَة فيهم الْخَيْر وَالدّين المتين وَكَانَت وَفَاته سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة
وَأما عبد الله فمولده سنة خمس وَخَمْسمِائة وتفقه بأَخيه وَأخذ عَن الإِمَام يحيى وَلذَلِك عده ابْن سَمُرَة فِي أَصْحَابه وتفقه أَيْضا بِيَحْيَى بن أبي عمرَان قَالَ ابْن سَمُرَة وَأكْثر أَخذه عَن أَخِيه الْفَقِيه الزَّاهِد مُحَمَّد بن سَالم وَكَانَ الْمدرس فِي الملحمة والمفتي فِيهَا مُدَّة حَيَاته
هَذَا كَلَامه وَبِه تفقه جمَاعَة مِنْهُم صهره تزوج على ابْنَته يحيى بن فضل وَاسم ابْنَته الَّتِي تزَوجهَا منيرة وَكَانَت من صالحي زمانها وَأَوْلَاده مِنْهَا الَّذين يعْرفُونَ بالفقهاء بني يحيى بن فضل خرج فيهم جمَاعَة عرفُوا بالفقه المتقن يَأْتِي ذكر المتحقق مِنْهُم وَكَانَت وَفَاته فِي شهر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَخَمْسمِائة تَقْرِيبًا وَمِنْهُم أَبُو السُّعُود بن خيران مولده سنة ثَمَانِي عشرَة وَخَمْسمِائة بقرية الملحمة أَخذ عَن الإِمَام يحيى وتفقه بِعَبْد الله بن يحيى الصعبي مِمَّا أَخذ عَن الإِمَام مُعْتَمد الْبَنْدَنِيجِيّ وغريب أبي عبيد ومختصر الْعين للحوافي وَكَانَ فَقِيها متفننا فِي فنون الْقرَاءَات وَالْفِقْه والنحو واللغة وَهُوَ أحد شُيُوخ ابْن سَمُرَة أَخذ عَنهُ الْمُعْتَمد بتاريخ سنة أَربع وَسبعين وَلم أعرف تَارِيخ وَفَاته
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عمر بن مُحَمَّد بن الْفَقِيه أَحْمد بن الْفَقِيه إِبْرَاهِيم بن الْفَقِيه أبي عمرَان مقدمي الذّكر مولده سنة خمس وَعشْرين وَخَمْسمِائة وَكَانَ فَقِيها فَاضلا متأدبا شَاعِرًا أورد ابْن سَمُرَة من شعره أبياتا مدح بهَا عبد النَّبِي بن مهْدي لم يُعجبنِي إيرادها لما كَانَ فِي ابْن مهْدي من عدم اسْتِحْقَاق الْمَدْح وَلَا سِيمَا بِمثل أَبْيَات الْفَقِيه لَكِن حمل الْفَقِيه على مدحه اتقاء شَره والرجاء لخيره فِي خراج أرضه وأرود لَهُ بَيْتَيْنِ قالهما حِين عز عَلَيْهِ وجود العفص بمدينتي إب وجبلة إِذْ مِنْهَا يَأْخُذ أهل ناحيته مَا شَاءُوا إِذْ(1/339)
هما مصراهما وَكَانَ مُرَاده نسخ إحْيَاء عُلُوم الدّين فَعمل الحبر من شجر هُنَالك يُقَال لَهُ الكلبلاب والبيتان هما ... قولا لأَب وَلِذِي جبلة ... إِن عدم العفص وشحابه
قد أنبت الله فِي شواحطنا ... بحرا غزيرا من كلبلابه ... وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عِيسَى بن سَالم الميتمي قد تقدم بَيَان هَذِه النِّسْبَة مولده سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَخَمْسمِائة تفقه بِأَهْل هَذِه الطَّبَقَة طبقَة الإِمَام يحيى وَمن كَانَ بهَا ثمَّ نزل عدن فَوجدَ الْفَقِيه المقيبعي فَأخذ عَنهُ وسيط الْغَزالِيّ كَمَا قدمنَا ثمَّ عَاد الْجَبَل فسكن الجبابي بجيم مَفْتُوحَة بعد ألف وَلَام ثمَّ بَاء مَفْتُوحَة مُوَحدَة ثمَّ ألف ثمَّ خفض الْبَاء ثمَّ يَاء كياء النّسَب مُدَّة ثَمَانِي عشرَة سنة وَهُوَ جبل على قرب من مَدِينَة جبلة من جِهَة ذِي عقيب ثمَّ استدعاه الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن أبي الْأمان إِلَى ذِي جبلة فوصلها ودرس لَهُ بمدرسة أحدثها بِمَدِينَة جبلة وَذَلِكَ فِي سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة
وَلما عرض ذكر ابْن أبي الْأمان وَكَانَ من محبي أهل الْفِقْه والمحسنين إِلَيْهِم وأعيان زَمَانه فاسمه قد مضى
وَكَانَ لَهُ دنيا ينيل مِنْهَا بنى مدرسة بجبلة وَكَانَ لَهُ بهَا دور كَثِيرَة وَلما حصل عَلَيْهِ فِي بعض الْأَوْقَات ضيم خرج عَن جبلة وَلحق بأبين فسكنها وَسكن قَرْيَة تعرف بالحسون وَله بهَا ذُرِّيَّة يسكنون الْمحل من أبين وَبَعض بعدن وَبَعض بِبَيْت حُسَيْن من قرى المهجم
نرْجِع إِلَى أَخْبَار الْفُقَهَاء وتتمة أَصْحَاب الإِمَام يحيى وَإِن كَانَ قد دخل مَعَهم جمَاعَة ينتسبون فِي التفقه إِلَى غَيره وَهُوَ من الأصابح لَكِن ابْن سَمُرَة رتب كَذَلِك ويأبى الله أَن يكمل على الْغَرَض إِلَّا كِتَابه فَمن تَأَخّر ذكره جمَاعَة مِنْهُم مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن مولده سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وتفقه بِالْإِمَامِ يحيى وَأخذ نظام الْغَرِيب عَن قَاسم بن زيد الفائشي
وتفقه بِهِ جمَاعَة مِنْهُم(1/340)
مُحَمَّد بن مَضْمُون وَغَيره وَمِنْهُم سُلَيْمَان بن فتح بن مِفْتَاح الصليحي بِالْوَلَاءِ كَانَ أَبوهُ من خواصي الملكة السيدة ابْنة أَحْمد ولته حصن التعكر لما استعادته من الَّذين أَخَذُوهُ على الْمفضل فغدر بِهِ بَنو الزر وأخذوه مِنْهُ بعد أَن كَانَ تغلب عَلَيْهِ ولد ابْنه سُلَيْمَان لنيف وَعشْرين وَخَمْسمِائة وتفقه بِالْإِمَامِ يحيى
وَلما فرغ من قِرَاءَة كتب الْفِقْه المسموعات قَرَأَ عَلَيْهِ مُخْتَصر الْعين وغريب الحَدِيث واللغة فَقَالَ لَهُ يَا سُلَيْمَان لقد أخذت من الْفِقْه مَا ينفع قلب عارفه سكن الشوافي ودرس فِيهَا بمدرسة أحدثها الشَّيْخ حسن بن عِيسَى بن عمر بن أبي النهى وَذَلِكَ فِي أَيَّام شَيْخه وتفقه بِهِ جمَاعَة من نواح شَتَّى
وَمِنْهُم عَليّ بن عمر الدباري وَأَبُو بكر بن يحيى بن فضل وَمُحَمّد بن أَحْمد الصعبي من سهفنة وَسَيَأْتِي ذكرهم إِن شَاءَ الله وَمِنْهُم عمر بن حمير بن عبد الحميد التباعي ثمَّ السحولي المخادري كَانَ من أَعْيَان الْفُقَهَاء وعبادهم وزهادهم وَكَانَ نظيف الْفِقْه كثير الْحَج وَرُبمَا أَقَامَ مجاورا فَأخذ عَن مُحَمَّد بن مُفْلِح العجيبي كتب الْغَزالِيّ الفروعية كالوسيط وَالْوَجِيز وجدنَا أَن آخر قِرَاءَته للوجيز يَوْم الْخَمِيس ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَلما فرغ من قِرَاءَة مصنفاته فِي الْفُرُوع فَقيل لَهُ نَقْرَأ مصنفاته فِي الْأُصُول وَقَالَ شعرًا ... أحب فروعه وألح فِيهَا ... وأكره مَا يصنف فِي الْأُصُول
لِأَن مقاله فِيهِ مقَال ... لأرباب الشَّرِيعَة والعقول
فلست بخائض مَا عِشْت فِيهَا ... لأسلم من خطيرات الدُّخُول
أدين أصُول أَحْمد طول عمري ... وَلست إِلَى سوى قلبِي يمِيل ... وَله كتب مَوْقُوفَة مِنْهَا الْبَيَان عَلَيْهِ سَمَاعه على المُصَنّف وإجازته بِهِ مِنْهُ وَلما دخلت قَرْيَة المخادر سَأَلت عَن تربته فَقيل إِنَّه مَاتَ بِمَكَّة فِي آخر المئة السَّادِسَة تَقْرِيبًا
وَمِنْهُم حُسَيْن بن عَليّ بن جسمر بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم ثمَّ رَاء سَاكِنة من دمت بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم ثمَّ تَاء مثناة من فَوق وَهُوَ صقع متسع يحتوي على قرى كَثِيرَة قبلي تعز على نصف مرحلة مِنْهَا تَقْرِيبًا(1/341)
كَانَ الإِمَام يحيى يثني عَلَيْهِ بالمعرفة وجودة الْحِفْظ وَهُوَ أحد أَشْيَاخ إِبْرَاهِيم بن أسعد الوزيري الْآتِي ذكره توفّي نَهَار الْجُمُعَة مستهل ربيع الآخر الْكَائِن فِي سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم الْفَقِيه بن جسمر وَأَخُوهُ أَبُو السُّعُود وَمُحَمّد بن حُسَيْن وَأَخُوهُ أَبُو بكر وَعبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّزَّاق وَولده عبد الرَّزَّاق وَمُحَمّد بن أَحْمد بن أبي عُثْمَان بن أسعد بن سَالم بن دُحَيْم وَابْنه عبد الله من أَصْحَاب الْفَقِيه مُحَمَّد بن مُوسَى وَهَؤُلَاء لم يَكُونُوا معدودين فِي أَصْحَاب الشَّيْخ يحيى إِنَّمَا ألحقتهم بِأَهْل بلدهم
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن مُفْلِح الْحَضْرَمِيّ كَانَ من خَواص أَصْحَابه وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِخطْبَة الْمُشكل حَيْثُ قَالَ سَأَلَني بعض من يعز عَليّ سُؤَاله ويعظم عِنْدِي قدره وحاله
وَمِنْهُم صهره أَبُو عبد الله عمر بن عبد الله بن سُلَيْمَان بن السّري من ريمة المناخي مولده سنة ثَلَاث وَخَمْسمِائة تفقه عَلَيْهِ ثمَّ أزَوجهُ ابْنة لَهُ فَمَاتَتْ عِنْده نفاسا فأزوجه أُخْرَى فَحملت أَيْضا فَلَمَّا دنا ولادها خشِي الْفَقِيه عَلَيْهَا الْمَوْت فَرَأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فبشره بخلاصها بِولد ذكر وَأمره أَن يُسَمِّيه مُحَمَّدًا الجسيم وَذَلِكَ سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة وَأخْبرهُ أَنَّهَا تضع بعده غُلَاما فليسمه إِسْمَاعِيل وَكَانَ ذَلِك سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة وَكَانَ فَقِيها ورعا زاهدا مُجْتَهدا فِي طلب الْعلم وَهُوَ مِمَّن حضر مجْلِس السماع مَعَ شَيْخه بِذِي أشرق حِين سمعُوا عَليّ الْحَافِظ العرشاني كَمَا تقدم بثر فاستشعر من ذَلِك وَوصل من بَلَده إِلَى ذِي جبلة قَاصِدا الطَّبِيب يُرِيد عرضه عَلَيْهِ فَلَمَّا بَات بِذِي جبلة أول لَيْلَة عَازِمًا على قصد الطَّبِيب فِي صبيحتها فَلَمَّا نَام رأى الْمَسِيح عِيسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ يَا روح الله امسح لي على وَجْهي وادع الله لي بالشفاء فَفعل الْمَسِيح ذَلِك فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ قَامَ للْوُضُوء فَلَمَّا أَمر يَده على وَجهه لم يجد شَيْئا من البثور الَّتِي يعهدها فَاسْتَبْشَرَ بالعافية وَحمد الله على ذَلِك وَصدق الرُّؤْيَا ثمَّ لما أصبح استدعى بالمرآة وَنظر فِيهَا فَلم ير فِي وَجهه بَأْسا بل رأى عَلَيْهِ أنوارا ساطعة فَعَاد إِلَى بَلَده قبل لِقَاء الْحَكِيم بلطف الْعَلِيم وَتُوفِّي بِمَكَّة سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة وَكَانَ لَهُ أَخ اسْمه سُلَيْمَان بن عبد الله كَانَ فَقِيها مقرئا زاهدا مولده سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَلم أجد لوفاته تَارِيخا وَمن نَاحيَة جبل عنة ثمَّ من أهل الصّفة جمَاعَة(1/342)
متقدمون ذكرهم ابْن سَمُرَة مِنْهُم عَليّ بن مُحَمَّد العريقي وَأحمد بن مُوسَى العريقي وَعلي بن الْحسن الْجَعْدِي هَؤُلَاءِ ألحقتهم مَعَ أَصْحَاب الإِمَام يحيى على طَرِيق التّبعِيَّة بِالْبَلَدِ على حكم الْجوَار وَلم يعدهم ابْن سَمُرَة مَعَهم
وَمِنْهُم أَحْمد بن إِسْمَاعِيل بن الْحُسَيْن الماربي سكن دلال وَكَانَ فَقِيها فَاضلا محققا إِلَيْهِ انْتَهَت رئاسة الْفَتْوَى بدلال وَهُوَ صقع يجمع قرى كَثِيرَة معظمها قَرْيَة تيثد خرج مِنْهَا جمَاعَة من الْفُضَلَاء ودلال بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَاللَّام وَألف ثمَّ لَام وتيثد بخفض التا الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت مَعَ همزَة وخفض الثَّاء الْمُثَلَّثَة ثمَّ دَال مُهْملَة وَهَذِه النَّاحِيَة تنْسب إِلَى جبل بعدان الْمُقدم الذّكر من مخلاف جَعْفَر قدمت هَذِه النَّاحِيَة سنة ثَلَاث عشرَة وَدخلت الْقرْيَة الْمَذْكُورَة فَلم أجد من يُحَقّق لي شَيْئا من حَال هَذَا الْفَقِيه بل أَخْبَار الْمُتَأَخِّرين على مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَإِنَّمَا أخذت ذكره من كتاب ابْن سَمُرَة وَمن النَّاحِيَة يحيى بن مُحَمَّد بن عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن مِسْكين مولده سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة تفقه بِالْإِمَامِ أَيْضا وَأخذ عَن غَيره
وَمِنْهَا مُسلم بن مَسْعُود وَالزُّبَيْر بن عَليّ بن أبي بكر من بني مهلا كَانَ مدرسا بتيثد وَعبد الله بن مُحَمَّد التهامي توفّي هُنَالك بعد سبعين وَخَمْسمِائة وَمن جبل بعدان ثمَّ من قَرْيَة جري بِفَتْح الْجِيم وخفض الرَّاء وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت سعيد بن مُحَمَّد وَمن السحول ثمَّ من قَرْيَة المخادر الأخوان عبد الله وَمُحَمّد ابْنا أسعد بن أبي زيد وَمُحَمّد بن إِبْرَاهِيم التباعيون تفقهوا بِالْإِمَامِ أَيْضا وَمن المشيرق أَبُو الْحسن عَليّ بن الإِمَام زيد بن الْحسن الفائشي كَانَ فَقِيها فَاضلا تفقه بِأَبِيهِ وكمل تفقهه بِالْإِمَامِ يحيى
يعد من أَصْحَابه وَذريته قُضَاة حرض مُنْذُ دهر إِلَى عصرنا وَذَلِكَ سنة أَربع وَعشْرين وَسَبْعمائة وَهُوَ الَّذِي ذكرت أَن أَبَاهُ كَانَ يَقُول لإخوانه عَليّ أكتبكم وَالْغَالِب أَن هَذَا كَانَ قبل كَمَال تفقهه وَخَلفه ابْن لَهُ وَهُوَ مُحَمَّد بن(1/343)
عَليّ عده ابْن سَمُرَة هُوَ وَابْن عَمه الْحسن بن الْقَاسِم الْفَقِيه مقدم الذّكر فِي فُقَهَاء وحاظة الْمُتَأَخِّرين وَمن وصاب أَحْمد ومُوسَى ابْنا يُوسُف بن مُوسَى بن يُوسُف بن مُوسَى بن عَليّ يعرف بالفقيه تباعي النّسَب حميري وَكَانَ على مَذْهَب مَالك وَيُقَال إِنَّه أدْرك مَالِكًا بِالْمَدِينَةِ وَأخذ عَنهُ وَهُوَ الَّذِي أَدخل إِلَى الْيمن مذْهبه ونشره فِيهِ وَقد ذكرته فِيمَا تقدم وَثَبت نسبه وَمِنْهَا عَامر بن عَليّ قَالَ ابْن سَمُرَة وَالثَّلَاثَة يَعْنِي مُوسَى وَأحمد وعامر موجودون فِي عصره بوصاب يفتون ويدرسون فَأَما أَحْمد فَهُوَ وَالِد مُوسَى شَارِح اللمع الْآتِي ذكره وَقد أَخذ عَن الْفَقِيه مُحَمَّد بن مُوسَى وَعبيد الصعبي بعد التفقه بِالْإِمَامِ يحيى وَهَذَا مُوسَى بن يُوسُف ويغلط بِهِ كثير وَيجْعَل مَكَانَهُ ابْن أَخِيه مُصَنف الشَّرْح وجدت ذَلِك بِإِجَازَة الأكابر أَنهم يَقُولُونَ عَن مُوسَى بن أَحْمد عَن الشَّيْخ يحيى وَذَلِكَ بِسَمَاع الْفُقَهَاء بني عجيل
وَبَلغنِي أَنه رُوجِعَ بَعضهم فِي ذَلِك فَقَالَ هَكَذَا وَجَدْنَاهُ وَلَيْسَ هَذَا إِنَّمَا قَابل كَانَ يجب إِصْلَاحه فَإِن مُوسَى بن أَحْمد لم يدْرك صَاحب الْبَيَان بل تفقه بالفقيه مَسْعُود بن عَليّ الْعَنسِي كَمَا سَيَأْتِي
وَلما قدمت وصاب فِي سنة عشْرين وَسَبْعمائة اجْتمعت بِبَعْض من ينْسب إِلَى هذَيْن الفقيهين وَله بعض دراية بالفقه وأخبار النَّاس فَقَالَ كَانَ مُوسَى أفقه من أَحْمد وَله تصنيف سَمَّاهُ الْهِدَايَة فِي أصُول الدّين وَكسر مقَالَة أهل الزيغ والملحدين وَله تصنيف آخر سَمَّاهُ التَّعْلِيق يتَضَمَّن مَعَاني الْمُهَذّب وكشف مكشلاته ودقائق احترازاته وَبِه تفقه أَخُوهُ أَبُو بكر وَكَانَ أَصْغَرهم وَكَانَ فَقِيها مقرئا وَكَانَت وَفَاته سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة وَلم ألق لمُوسَى وأخيه تَارِيخا وَمن جبل ريمة الأشابط وَهُوَ أحد جبال الْيمن المعدودة شَرْقي وَادي ذوال الْمَعْرُوف بِبَلَد عك ثمَّ المعازبة وَضبط ريمه بِفَتْح الرَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَفتح الْمِيم وهاء سَاكِنة وَضبط ذوال بِضَم الذَّال الْمُعْجَمَة وَفتح الْوَاو ثمَّ ألف ثمَّ لَام وَهُوَ أَيْضا أحد أَوديَة الْيمن المعدودة ومصره مَدِينَة القحمة بقاف مَفْتُوحَة بعد الْألف وَلَا م ثمَّ حاء سَاكِنة ثمَّ هَاء وَكَانَ بِهَذَا الْجَبَل من أَصْحَابه أَيْضا مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْعمريّ وَمن جبل تَيْس وَهُوَ الْجَبَل الْمَعْرُوف(1/344)
بالجهة الشرقية للمحالب الْمَدِينَة الْمَعْرُوفَة فِي مدن تهَامَة أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن جَعْفَر بن نزيل بِضَم النُّون وَفتح الزَّاي وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ لَام وَيعرف هُوَ وَقَومه ببني نزيل نِسْبَة إِلَى هَذَا الْجد وهم يرجعُونَ إِلَى الحكم بن سعد الْعَشِيرَة وَكَانَ هَذَا فَقِيها كَبِيرا تفقه بِالْإِمَامِ وَهُوَ أحد شُيُوخ عَليّ بن مَسْعُود الشاوري الْآتِي ذكره وَفِي قَرْيَة بني نزيل جمَاعَة فُقَهَاء أخيار يَأْتِي ذكر المتحقق مِنْهُم إِن شَاءَ الله
وَمن مخلاف شاور بِبَلَد حجَّة عبد الله بن أبي السُّعُود وَعلي بن مُسلم وَعلي بن مقبل قَالَ ابْن سَمُرَة وَهَؤُلَاء يسكنون بينون قلت وَهُوَ بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَضم النُّون وَسُكُون الْوَاو ثمَّ نون وشاور صَاحب المخلاف بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَألف بعْدهَا ثمَّ وَاو مخفوضة وَقيل مَفْتُوحَة ثمَّ رَاء وَهُوَ جد قَبيلَة كَبِيرَة يعْرفُونَ ببني شاور خرج مِنْهُم جمَاعَة من الْأَعْيَان فِي الْعلم وَغَيره وَرُبمَا يَأْتِي ذكر غالبهم إِن شَاءَ الله
وَمن تهَامَة من قَرْيَة الهرمة بوادي زبيد قد مضى ذكرهَا أَبُو الْحسن عَليّ بن الْفَقِيه عبد الله بن عِيسَى بن أَيمن بن الْحسن بن خَالِد بن عبد الله الْمُقدم ذكره وَقد مضى أَن ابْن سَمُرَة ذكر أَن نسبهم فِي نزار وذريتهم الموجودون بالهرمة ينسبون إِلَى بني أُميَّة تفقه بِأَبِيهِ ثمَّ طلع الْجبَال فقصد الشَّيْخ يحيى وَسَأَلَهُ أَن يسمعهُ الْبَيَان فَقَالَ لَا بل الْمُهَذّب فَقَرَأَ الْمُهَذّب فَكَانَ الشَّيْخ يبين لَهُ المشكلات من الْبَيَان حَتَّى فرغ من الْكِتَابَيْنِ وَتبين معانيهما ضمن قِرَاءَته للمهذب وَقَرَأَ كتاب الِانْتِصَار الَّذِي تقدم تصنيف الشَّيْخ ثمَّ أَخذ عَنهُ كتاب الْحُرُوف السَّبْعَة للمراغي وَكَانَ حاذقا بارعا لأدلة الْفِقْه بَصيرًا بدقائقها وأشكالها مبرهنا لإجمالها وَلما نزل القَاضِي جَعْفَر المعتزلي وَبلغ الشَّيْخ يحيى نُزُوله أَمر هَذَا الْفَقِيه أَن يَطْلُبهُ فِي إب ونواحيها ويناظره فَلَمَّا صَار إِلَى إب وجده قد ولى إِلَى شواحط فَوَجَدَهُ متعززا فِيهِ بالشيخ مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل المسكيني ومريدا للتلبيس عَلَيْهِ وعَلى غَيره من أهل الْحصن ونواحيه وَهُوَ(1/345)
حصن بِالْقربِ من قَرْيَة الملحمة بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْوَاو ثمَّ ألف ثمَّ خفض الْحَاء الْمُهْملَة ثمَّ طاء مُهْملَة وَهُوَ لعرب يعْرفُونَ ببني مِسْكين بَيت رياسة متأثلة وَخرج مِنْهُم جمَاعَة من الْفُضَلَاء أعيانا وَإِلَى هَذَا الْحصن أَشَارَ الْفَقِيه الْمَذْكُور أَولا بقوله قد أنبت الله فِي شواحطنا فَلَمَّا الْتحق الهرمي بالمعتزلي فِي الْحصن وَقيل إِنَّه أدْركهُ بإب وراجعه بعض مُرَاجعَة فَعلم المعتزل أَن لَا طَاقَة لَهُ بِهِ قَالَ الرَّاوِي ذكر القَاضِي جَعْفَر عَنهُ فَجعل يتلمس ثمَّ يَأْمر للفقيه عَليّ بكفاية الْحَال وَأَن يعرض عَن مناظرته وَكَانَ قد تفقه بِبَلَدِهِ صنعاء ونواحيها ثمَّ ارتحل الْعرَاق فتفقه أَيْضا هُنَالك وَعَاد بَلَده وَكَانَ يَقُول ناظرت عُلَمَاء الْعرَاق وأقمت عَلَيْهِم الْحجَج حَتَّى رددت جمَاعَة مِنْهُم عَن مذاهبهم وَيَقُول لأهل مذْهبه لَو نزلت الْيمن لرددت أَهله إِلَى مَذْهَب الاعتزال ثمَّ بعد ذَلِك نزل الْيمن عَازِمًا على مناظرة فقهائه فَلَمَّا صَار بإب وَاجْتمعَ بِالْإِمَامِ سيف السّنة ناظره فَقَطعه وَأسْقط حجَّته وَقيل لَهُ لَو نزلت عَن النقيل إِلَى ذِي أشرق للقيت بحرا تغرق فِيهِ وأمثالك يعنون يحيى بن أبي الْخَيْر فَلم يطق الْخُرُوج عَن إب وهم أهل السّنة بِهِ يضربونه فَخرج هَارِبا وَلحق بالحصن الْمَذْكُور فَلَمَّا اجْتمع بالفقيه عَليّ فِيهِ قَالَ الْفَقِيه عَليّ وَلما علم مَا أَنا عَلَيْهِ من الْقُدْرَة على مناظرته كَانَ يَأْمر لي بكفاية الْحَال وَأَن لَا أتعرض لمناظرته وَأَنا إِذْ ذَاك أود مناظرته لَكِن يَمْنعنِي عَنْهَا عدم الْحَاكِم برد الظَّالِم والمميز بَين الْقَائِم والنايم والمكلوم والسالم ثمَّ لما صَار بشواحط وَعلمت أَن صَاحبه متصف بِالصِّفَاتِ الْمُتَقَدّمَة لحقته من إب إِلَيْهِ فَوجدت المعتزلي قد كَاد يستميل الشَّيْخ صَاحبه وَأَهله وَجعل يدرس أَصْحَابه يحضرهم وَيَقُول لَوْلَا أَنِّي عَارِف لم أدرس مذهبي بِغَيْر بلدي مَعَ غير أهل مذهبي وَيَقُول لَهُم إِنِّي لم أرد نزُول الْيمن الْأَسْفَل وَلَو نزلته لم يتَأَخَّر عَن إجَابَتِي أحد فيتوهمون صدقه فَلَمَّا قدمت ارتاب من قدومي وتبلبل قلبه لما كَانَ قد أحسه مني بإب وَلما علم أنني إِنَّمَا لحقته لغَرَض المناظرة قوي عزمه وَقَالَ هَذَا رجل تهامي عَاجز عَن المناظرة فِي الْأُصُول لَا سِيمَا الدِّينِيَّة فَقلت لصَاحب الْحصن هَذَا رجل قد أرجف عَلَيْكُم بِالْبَاطِلِ وَجعله بالهذيان بِصُورَة الْحق قَالَ الشَّيْخ فَمَا الَّذِي تطلب قَالَ تجمع بَيْننَا ونتناظر بَين يَديك فَمن وجدته خرج عَن الْقَاعِدَة الَّتِي قعدناها كنت الْحَاكِم عَلَيْهِ بالإبطال فَأَجَابَنِي إِلَى ذَلِك وجمعنا عِنْده بِحُضُور أَصْحَابه وَجَمَاعَة أَهله وحشمه واستفتحنا المناظرة فِي خلق الْأَعْمَال وَأَن الله يَقُول {وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ} وَحين استفتحت المناظرة مِنْهُ سوء أدب فَقلت مَالك وَلِهَذَا الْكَلَام الَّذِي لَا يجمل وَلَا يَلِيق بِأَهْل الْعلم والمنتسبين إِلَيْهِ وَالْفُقَهَاء يَقُولُونَ سفه أحد الْخَصْمَيْنِ دَلِيل على قلَّة علمه وَضعف مَعْرفَته فَقَالَ لي سامحني(1/346)
فَقلت سامحك الله ثمَّ عَاد معي إِلَى الْمَسْأَلَة فَلم يخرج عَنْهَا حَتَّى انْقَطع فِي عدَّة مسَائِل ثمَّ سكت وَصَارَ يَتلون غَضبا فَلم أر أحدا من المنتسبين إِلَى الْفِقْه وَالْعلم والمناظرة أبلد مِنْهُ وَصَارَ مُنَكسًا رَأسه مطرقا وَأَصْحَابه كَذَلِك فحين رَأَيْت ذَلِك قلت لَهُ النَّصِيحَة فِي الدّين فَأَنا أعلم لَا تقبلهَا لَكِن خُذ مني نصيحة تنفعك فِي دنياك الله الله لَا تناظر وَلَا تحاج بعْدهَا فَقِيها جدليا فَإنَّك لَا تَدْرِي مَا الجدل وَقد كنت أَظُنك قَرَأت شَيْئا من كتب الْأُصُول والجدل محققا وَلَوْلَا ذَلِك لم أَتكَلّم مَعَك فِي شَيْء من ذَلِك وَالْعجب كَيفَ تكون بِهَذَا الْحَال وَتقدم بِلَاد الْعلمَاء والفضلاء وَتظهر مَقَالَتك وتظن تظفر بهم أَو تظهر عَلَيْهِم وَهَذَا حالك وَلم تبلغ غير إب فَكيف لَو نزلت إِلَى ذِي أشرق لوجدت بحرا تغرق فِي موجه وَإِذا عرفت قدر نَفسك وَمَا أرى أَنَّك كنت تخلص فَلَا تغتر بعْدهَا بمقالتك فرأيته وَقد طَار عقله وَظهر فزعه ثمَّ الْتفت إِلَى صَاحب الْحصن وَقَالَ يَا شيخ مُحَمَّد يُقَال لي هَذِه الْمقَالة بمجلسك فَقَالَ لَهُ إِن الله تَعَالَى يَقُول فِي الَّذين قَالُوا كمقالتك يظنون بِاللَّه غير الْحق ظن الْجَاهِلِيَّة يَقُولُونَ هَل لنا من الْأَمر من شَيْء قل إِن الْأَمر كُله لله ثمَّ تَلَوت إِلَى قَوْله تَعَالَى {إِن الله عليم بِذَات الصُّدُور} وَكفى وَالله بِآيَة من كتاب الله حجَّة عَلَيْكُم وَهِي قَوْله تَعَالَى {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة ويضل الله الظَّالِمين وَيفْعل الله مَا يَشَاء} وَقَالَ الله فِي مَوضِع آخر {يضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء} وَلَقَد قَالَ إِبْلِيس خيرا من مَقَالَتك أَنْت وَأهل مذهبك حَيْثُ قَالَ {رب بِمَا أغويتني} وَقَالَ نوح وَلَا ينفعكم نصحي إِن أردْت أَن أنصح لكم إِن الله يُرِيد أَن يغويكم فَصَارَ يسمع كَلَامي وَلم يجب جَوَابا فَضَحِك جمع من الْحَاضِرين حَتَّى استلقوا على أقفيتهم فأوردت عَلَيْهِ أَدِلَّة كَثِيرَة نَحوا مِمَّا ذَكرْنَاهُ فَقَالَ المعتزلي مَا رَأَيْت مثلك يحلف على مَا يَقُول فَقلت هَل سمعتني أَحْلف إِلَّا على ديني إِذا أَنا بِحَمْد الله على حَقِيقَة مِنْهُ وأشير عَلَيْك أَن لَا تحلف إِلَّا أَن تكون على يَقِين من عجز عَن الْحجَّة بعد دَعْوَاهَا ولي برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُسْوَة حَسَنَة حَيْثُ قَالَ الله ويستنبئونك أَحَق هُوَ قل إِي وربي إِنَّه الْحق أفتراه إِلَّا قد أمره بِالْحلف على دينه فزاده ذَلِك خرسا(1/347)
وبكما وعمى ثمَّ قَالَ لصَاحب الْحصن يَا شيخ مُحَمَّد سُبْحَانَ الله أنال هَذَا الْكَلَام مَعَك وَفِي مَنْزِلك فَلم يقل الشَّيْخ شَيْئا غير اصْفَرَّتْ الشَّمْس وضاق وَقت الصَّلَاة وَذَلِكَ بعد تعجب الْحَاضِرين وَضحك كثير مِنْهُم لما كَانَ يَدعِي عِنْدهم من عجز كل وَاحِد عَن مناظرته وتحققوا كذبه
ثمَّ إِنِّي قُمْت إِلَى صَلَاة الْعَصْر وصلينا مَعَ الشَّيْخ وَاعْتَزل المعتزلي بِأَصْحَابِهِ يُصَلِّي مُنْفَردا وَلما صرت بالملحمة سَأَلَني الْفُقَهَاء عَن كَيْفيَّة المناظرة فاستكتبوها وأمليتها عَلَيْهِم وَلما صَار إِلَى قَرْيَة العقيرة باستدعاء من أَهلهَا كتبُوا عَنهُ أَيْضا ذَلِك عَليّ مَا أملاهم وَمن بَعضهم نقلت ذَلِك الْمَعْنى غَالِبا وَلم يزل هَذَا الْفَقِيه بقرية العقيرة الْمُقدم ذكرهَا إِلَى أَن توفّي وَتوفيت والدته بهَا على رَأس سبعين وَخَمْسمِائة تَقْرِيبًا
وَقد عرض مَعَ ذكره ذكر الشَّيْخ مُحَمَّد بن أَحْمد المسكيني وَهُوَ رجل كَبِير الْقدر من قوم يعْرفُونَ ببني مِسْكين بَيت رئاسة مُتَقَدّمَة متأثلة وَكَانُوا يملكُونَ غَالب السحول ونواحي من بعدان وحصن شواحط وَتُوفِّي هَذَا مُحَمَّد ثمَّ خَلفه أَخُوهُ أَحْمد ثمَّ ابْنه سعيد فَلَزِمَهُ سيف الْإِسْلَام سَابِع وَعشْرين من شعْبَان سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة ثمَّ توفّي بعد أَن سلم الْحصن ثَانِي لُزُومه وَكَانَت وَفَاته بِذِي الْقعدَة سنة 588 ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم أَبُو الْحسن أَحْمد بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن عليان بن مُحَمَّد بن يحيى بن مُحَمَّد الربيعي ثمَّ الْمليكِي ثمَّ الرعيني ثمَّ الْحِمْيَرِي يعرف بالأكنيتي نِسْبَة إِلَى عزلة تعرف بإكنيت بخفض الْهمزَة وَسُكُون الْكَاف وخفض النُّون وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وخفض التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَهِي على قدر مرحلة من الْجند وَهَذَا الْمُنْتَشِر عَنهُ سَماع الْبَيَان بطرِيق الْفَقِيه عبد الله إِذْ أَخذ عَنهُ وَعلم بِهِ فِي صدر الدولة المظفرية فاستدعاه أعيانها ووزراؤها واستدعاه السُّلْطَان أَيْضا فَسَمعهُ عَلَيْهِ وَكَانَ مَوْجُودا إِلَى نَحْو عشْرين وسِتمِائَة وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْفَقِيه عبد الله سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك مَعَ ذكر الْفَقِيه عبد الله وَقد أَخذ الْبَيَان عَن هَذَا أَحْمد جمَاعَة أَيْضا مِنْهُم ابْنه سبأ وَابْن أَخِيه فضل بن عبد الرَّزَّاق بن عبد الله وَأخذ عَنْهُمَا أَيْضا لَكِن طَرِيق عبد الله طبقت الْيمن انتشارا وَلم أتحقق تَارِيخ مَوته لَكِن لم يَعش بعد سِتّ عشرَة مَا يُجَاوز الْعشْرين سنة بعد سِتّمائَة(1/348)
وَمن السُّرَّة مِمَّن عده ابْن سَمُرَة فِي أهل طبقته عبد الله بن أبي بكر قَالَ وَعبد الله بن فلَان من عرز بِفَتْح الْمُهْملَة وَالرَّاء وَسُكُون الزَّاي وَمن الظرافة الْقرْيَة الْمَذْكُورَة أَولا على ابْن سعيد المحابي وَمن الوزيرة فضل بن أبي بكر الأقطع وَعبد الله بن بسطَام من سلاطين بني نمر الَّذين مِنْهُم الْفَقِيه مُحَمَّد بن حميد
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن معمر الزوقري وَعبد الله بن مُسلم الكشيش وأسعد بن مَرْزُوق بن أسعد مَسْكَنه الصَّوْم وَأحمد بن أبي الْقَاسِم فَقِيه شَاعِر هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة لم يعدهم ابْن سَمُرَة فِي أَصْحَاب الشَّيْخ وعددتهم مَعَ أهل بلدهم
وَمن جبل عَنهُ مُحَمَّد بن أسعد مَسْكَنه سودان بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَالْوَاو ثمَّ دَال مُهْملَة مَفْتُوحَة ثمَّ ألف ثمَّ نون وَنسبه فِي حراز وَله بالناحية قرَابَة يعْرفُونَ ببني صَالح يتسمون بالفقه وينسبون إِلَى الصّلاح ويتولون أَحْكَام ناحيتهم وَرُبمَا عرض بعد ذكر أحد مِنْهُم وَكَانَ هَذَا مُحَمَّد فَقِيها فَاضلا قَرَأَ على الإِمَام يحيى الْمُهَذّب وَالْبَيَان
وَمِنْهُم عَليّ بن أَحْمد بن زيد المسابي ثمَّ الْحِمْيَرِي كَانَ فَقِيها فَاضلا وَله شعر رائق وَلما هم بمراجعة بَلَده ومفارقة شَيْخه الإِمَام يحيى قَالَ أبياتا فِي وداعه مِنْهَا ... أستودع الله فِي نخلان لي قمرا
هَذَا مَا ذكره ابْن سَمُرَة وَمِنْهُم أَبُو بكر بن الْفَقِيه عبد الله بن عبد الرَّزَّاق مقدم الذّكر فِي أهل ذِي أشرق مولده سنة اثْنَتَيْنِ وَقيل ثَلَاث وَعشْرين وَخَمْسمِائة تفقه بِالْإِمَامِ أَيْضا وبأبي بكر بن سَالم رويت لَهُ منزلَة فِي الْجنَّة وَكَانَت وَفَاته سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخَمْسمِائة وَمِنْهُم مَنْصُور بن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي ولي قَضَاء لحج من جِهَة عُثْمَان السهلي نَائِب شمس الدولة بعدن ونواحيها وَلم يزل هُنَاكَ قَاضِيا إِلَى سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة
وَمن السفال الْقرْيَة الْمَذْكُورَة أَولا جمَاعَة مِنْهُم سَالم بن الشعثمي اليافعي ضبط أَبِيه بالشين الْمُعْجَمَة بعد ألف وَلَام ثمَّ بعْدهَا عين مُهْملَة سَاكِنة وثاء مُثَلّثَة(1/349)
مَفْتُوحَة وَمِيم ثمَّ يَاء نسب لم أتحققه وَلَعَلَّه من إب وَأما اليافعي فَظَاهر بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة من تَحت قَبيلَة قد انتسب إِلَيْهَا قَاضِي الْجند وَغَيره خرج مِنْهَا عدَّة فضلاء وَهِي من قبائل الْيمن المعدودة
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْفَقِيه الصَّالح عمر بن إِسْمَاعِيل بن عَلْقَمَة مقدم الذّكر مولده سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وتفقه بِعَبْد الله بن يحيى الصعبي مقدم الذّكر وَقد أَخذ عَن الإِمَام يحيى أَيْضا وَعَن أَحْمد بن أسعد بن الْهَيْثَم وَإِلَيْهِ انْتَهَت خطابة بَلَده وإمامتها ورئاسة تدريسها وفتواها وَكَانَ جميل الْخلق مديد الْقَامَة بِحَيْثُ كَانَ بعض الْفُقَهَاء يَقُول مَا أشبهه بقول الشَّاعِر ... إِذا ضبط السّير مد سرادقا ... عَلَيْهِ من الله الإلهي مَضْرُوب ... حكى أَنه حصل على يَده مظْلمَة فنزلوا الْجند يَشكونَ إِلَى السُّلْطَان إِذْ كَانَ بهَا وَلم يعْذر الْفَقِيه عَن النُّزُول مَعَهم فَمروا بِبَعْض أزقتها عِنْد عَرَبِيّ فعل يتَأَمَّل الْفَقِيه ويتعجب من حسن خلقه وبهجته وكماله ثمَّ قَالَ مَا أَظن هَذَا الرجل خليقا إِلَّا من أكل الْبر وَاللَّحم وَشرب الْخمر فَسمع ذَلِك بعض من كَانَ مَعَ الْفَقِيه فَقَالَ للفقيه فَتَبَسَّمَ وَقَالَ وَالله مَا أعرف اسْم الْخمر إِلَّا من الْكتب وَقد ذكرت أَنه أحد من حضر سَماع صَحِيح مُسلم بِجَامِع الْجند على الإِمَام سيف السّنة ومخالفته لَهُ فِي الْجَواب وَكَانَ فَقِيها مبرزا نظيف الْفِقْه لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم وَفِي أَيَّامه جَاءَ الإِمَام يحيى ذُو السفال وتفقه بِهِ جمَاعَة وَمِنْهُم مُحَمَّد بن جديل وَمُحَمّد بن كُلَيْب البحري ثمَّ الْخَولَانِيّ كِلَاهُمَا من سهفنة وَأحمد بن عبد الله بن أسعد بن مُسلم القَاضِي مِنْهَا وَيَعْقُوب بن يُوسُف بن سحارة من حضر موت وَسكن المخادر وَكَانَت وَفَاته بالقرية الْمَذْكُورَة سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة وقبر بالمقبرة الغربية الَّتِي بهَا قبر أَبِيه زرته بِحَمْد الله مرَارًا وَبَين تربته وتربة أَبِيه تبَاعد قَلِيل فَليعلم ذَلِك
وَمِنْهُم عَليّ بن أبي بكر بن دَاوُد القريظي أَصله من لحج ثمَّ سكن زبيد وَبهَا توفّي سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وأظن هَذَا جد الْفَقِيه الْآتِي ذكره آخرا
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله بن مُفْلِح الْحَضْرَمِيّ كَانَ من كبار أَصْحَاب الإِمَام وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة فِي خطْبَة الْمُشكل حَيْثُ قَالَ سَأَلَني بعض من يعز عَليّ سُؤَاله ويعظم عِنْدِي قدره وحاله
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عبد الله الْحَضْرَمِيّ من تريم قَرْيَة قديمَة كَبِيرَة بحضر موت بتاء مثناة من فَوق مَفْتُوحَة وخفض الرَّاء ثمَّ يَاء مثناة من تَحت ثمَّ مِيم تفقه بِالْإِمَامِ وَأخذ(1/350)
عَنهُ الحَدِيث أَيْضا وَكَانَ كَامِل الْفضل تعلم الْفِقْه وَالْأَدب
وَمن نَاحيَة الْجند ثمَّ من قَرْيَة زبران أَبُو أُسَامَة زيد بن الْفَقِيه عبد الله بن أَحْمد الزبراني مقدم الذّكر مولده سنة سِتّ عشرَة وَخَمْسمِائة بِهِ تفقه جمَاعَة مِنْهُم عمر بن سَمُرَة مؤلف طَبَقَات أهل الْيمن وَمُحَمّد بن أَحْمد الصعبي وَأحمد بن مقبل الدثني
وَمِنْهُم عبد الله بن مَسْعُود وَكَانَ فَقِيها مجودا تفقه بالمليكي والسلالي وَأخذ عَن الإِمَام قَالَ ابْن سَمُرَة وَابْنه هُوَ أَبُو بكر هُوَ الْمدرس فِي هَذِه الْمدَّة بالجبابي تفقه بِمُحَمد وَعبد الله ابْني سَالم الأصبحيين مقدمي الذّكر وَمِنْهُم أَبُو الْعَتِيق أَبُو بكر بن الْفَقِيه سَالم الْأَصْغَر مقدم الذّكر
مولده شعْبَان سنة تسع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة بداية تفقه بِأَبِيهِ وبمقبل بن مُحَمَّد وَعبد الله بن عبد الرَّزَّاق وَهُوَ أحد أَشْيَاخ ابْن سَمُرَة أثنى عَلَيْهِ ثَنَاء مرضيا وَقَالَ وَكَانَ هَذَا زاهدا ورعا شَائِع الذّكر لذَلِك قدم السُّلْطَان توران شاه إِلَيْهِ ذَا أشرق زَائِرًا لَهُ إِذْ بلغه صَلَاحه فتبرك بِهِ واستسعد بِالنّظرِ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ الدُّعَاء فَدَعَا لَهُ بالصلاح وَهُوَ أحد شُيُوخ ابْن سَمُرَة أَيْضا وَأول شُيُوخ أبي بكر بن إِسْحَاق الجبائي توفّي لعشر بَقينَ من الْقعدَة سنة إِحْدَى وَسبعين وَخَمْسمِائة وقبره بالعدينة مَعَ قُبُور أَهله شَرْقي قبلي ذِي أشرق زرتهم مرَارًا
وَمِنْهُم ابْن أَخِيه أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن الْفَقِيه سَالم وَهُوَ ابْن بنت الإِمَام زيد اليفاعي مولده صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَخَمْسمِائة كَانَ فَقِيها خيرا وَهُوَ الَّذِي روى أَن مَال جده زيد الْمبلغ الْمَذْكُور أَولا مَعَ ذكره وَتُوفِّي لتسْع خلون من الْمحرم سنة خسمائة وثماني وَسبعين وَله أَخَوان أَحْمد وَعلي وأظنهما شقيقين ولد أَحْمد بشعبان سنة ثَمَان وَخَمْسمِائة وَولد عَليّ فِي الْمحرم سنة عشر وَخَمْسمِائة وَتُوفِّي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عبد الله مولده صفر سنة سبع وَعشْرين وَخَمْسمِائة انْتَهَت إِلَيْهِ رئاسة الْفَتْوَى بِذِي أشرق وَكَانَ مجودا توفّي فِي سنة تسعين وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم أَخُوهُ أسعد بن عبد الله مولده ربيع الأول سنة ثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَلَهُمَا أَخ اسْمه عَليّ لم أَجِدهُ فِي الْأَسْمَاء
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن الْفَقِيه أبي بكر بن الْفَقِيه سَالم يلقب بالضرغام مولده جُمَادَى الأخرة سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَكَانَ صَالحا تقيا وَله ذُرِّيَّة موجودون بالقرية إِلَى سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة وَكَانَت وَفَاته سنة سِتّ وَخمسين وَخَمْسمِائة(1/351)
وَمِنْهُم صنوه عَليّ بن الْفَقِيه أَبُو بكر بن الْفَقِيه سَالم مولده شبعان سنة سِتّ وَعشْرين وَخَمْسمِائة كَانَ فَقِيها فَاضلا تفقه بِهِ جمَاعَة مِنْهُم إِبْرَاهِيم بن حديق وَأَخُوهُ أَحْمد بن عَليّ وَعمر بن سَمُرَة وَغَيرهم وَتُوفِّي بجمادى الأولى سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة تفقه بأَخيه كَمَا مضى وَهُوَ آخر من ذكره ابْن سَمُرَة فِي بني الإِمَام
قَالَ توفّي أَحْمد سنة أَربع وَسبعين وَخَمْسمِائة
وَمن نَاحيَة المشيرق بِبِلَاد بني حُبَيْش جمَاعَة مِنْهُم عمر بن ربيع وَعمر بن أبي بكر بن أبي حبال وَمُحَمّد بن ثعالة بن مُسلم اليافعي وَعِيسَى بن مُفْلِح وَأحمد بن سلمَان الشبويان ينسبان إِلَى قَرْيَة تعرف بشبوة بِفَتْح الشين وَسُكُون الْبَاء وَفتح الْوَاو ثمَّ هَاء سَاكِنة وموفق بن مبارك من قَرْيَة ألخ بِضَم الْهمزَة وَسُكُون اللَّام ثمَّ خاء مُعْجمَة وَهِي بِجِهَة بلد بني حُبَيْش قَالَ ابْن سَمُرَة وَالثَّلَاثَة المذكورون آخر من لقيتهم بِجَامِع ألخ ينسخون كتاب الِانْتِصَار للْإِمَام يحيى وسألوني عَن مسَائِل فأجبتهم بِمَا وفْق الله تَعَالَى وَذَلِكَ سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَمن أَبنَاء عَمه مُحَمَّد الْحَضْرَمِيّ وَمِنْهُم أسعد بن مَسْرُوق بن فتح بن مِفْتَاح وَهُوَ ابْن أخي الْفَقِيه سُلَيْمَان بن فتح الْمُقدم ذكره قَالَ ابْن سَمُرَة سمع يَعْنِي أسعد بِقِرَاءَتِي التِّرْمِذِيّ على شَيْخي أبي بكر الإِمَام بِذِي أشرق وَذَلِكَ سنة سبعين وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم أَحْمد بن زيد بن عبد الله الخلقي الْهَمدَانِي وَأَبُو بكر بن سَالم الْحرَازِي
وَمِنْهُم أَحْمد بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن مُوسَى ولي قَضَاء الْجند ذكره ابْن سَمُرَة بذلك وَكَانَ آخر من ذكره ابْن سَمُرَة من بني عمرَان وَسَيَأْتِي ذكر انْتِقَال الْقَضَاء مِنْهُم إِلَى وَقت انقضائه عَنْهُم
وَمِنْهُم أَخُوهُ حسان بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن مُوسَى مولده سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة وَكَانَ فَقِيها درس بحصن الظفر لبَعض مَشَايِخ الأعروق وَبِه تفقه جمَاعَة مِنْهُم أَحْمد بن مقبل الدثني وَلم يفرده ابْن سَمُرَة بِذكر بل فِي معرض ذكر الْفَقِيه الْآتِي ذكره وَكَانَ لَهُ ابْن اسْمه عبد الله توفّي فِي بعدان تفقه وَذكر بذلك سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَهَذَا آخر من فهمت اسْتِحْقَاقه للذّكر من بني عمرَان من أهل الطَّبَقَة وانقضى ذكر من أوردهُ ابْن سَمُرَة وعد صاحبا للشَّيْخ يحيى بن أبي الْخَيْر وَبَقِي جمَاعَة فِي طبقتهم مِنْهُم سعيد بن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل المسكيني صَاحب حصن شواحط وَقت دُخُول سيف الْإِسْلَام الْيمن كَانَ فَقِيها فَاضلا أثنى عَلَيْهِ ابْن سَمُرَة وَقَالَ رويت عَنهُ كتاب النَّجْم بروايته لَهُ(1/352)
عَن مُصَنفه وَقَالَ أَخْبرنِي الْفَقِيه مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن الإِمَام يحيى بن أبي الْخَيْر أَنه قَالَ الشَّيْخ سعيد بن أَحْمد يصلح للْفَتْوَى وَكَانَ هَذَا سعيد حَال قدوم سيف الْإِسْلَام الْيمن مَالِكًا لحصن شواحط الْمُقدم ذكره فسلمه لسيف الْإِسْلَام بعد أَن قَبضه ثمَّ أَقَامَ بِبَعْض الْجِهَات حَتَّى توفّي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة بِذِي الْقعدَة
وَمِنْهُم أَبُو الْعَتِيق أَبُو بكر بن مُحَمَّد الْعَنسِي الوعلي فالعنسي نِسْبَة إِلَى فَخذ من مذْحج يُقَال لَهُم العنس بِالْعينِ وَالْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ سين مُهْملَة والوعلي نِسْبَة إِلَى قَرْيَة من بلد صهْبَان تعرف بوعل بِفَتْح الْوَاو وبخفض الْعين الْمُهْملَة ثمَّ لَام مسكنة الْقرْيَة الْمَذْكُورَة وَله بهَا إِلَى الْآن ذُرِّيَّة وَكَانَ فَاضلا متأدبا وَله اجْتِهَاد مرض وَشعر معجب وَكَانَ يُنكر على الْفُقَهَاء مَسْأَلَتَيْنِ هما عدم القَوْل بِطَلَاق التَّنَافِي وَصِحَّته ثمَّ الْحِيلَة فِي الزِّيَادَة على مَا يَأْخُذهُ الْمُقْتَرض كَمَا يَقُول أهل الْقَرْض الْحِيلَة فِي الزِّيَادَات طَرِيق الرِّبَا
وَكَانَ يَقُول فِي إِيقَاع الطَّلَاق على الْحَبْس هُوَ حِيلَة على رفع الطَّلَاق بعد وُقُوعه وَفِي الزِّيَادَة فِي البيع فَهِيَ حِيلَة على استحلال مَحْض الرِّبَا وَله فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ قصيدتان مشهورتان مِنْهُمَا فِي إِنْكَار التَّنَافِي قَوْله ... طَلَاق التَّنَافِي قد نفى الْحق ظَاهرا ... وَإِنِّي لَهُ وَالله يشْهد لي أنفًا
إِذا طلق الزَّوْج الْمُكَلف زوجه ... ثَلَاثًا وَلَيْسَ بمحجور عَلَيْهِ فقد أوفى
وَلَيْسَت حَلَالا دون تنْكح غَيره ... بِشَرْط كتاب الله مَا قلته خلفا
تصحح شَرط الله دون اشتراطكم ... وتنفيه نفيا ثمَّ تصرفه صرفا
فَكل اشْتِرَاط لَيْسَ فِي الشَّرْع بَاطِل ... وَشرط كتاب الله حق فَلَا يخفى
وَلَا يَنْتَفِي رفع الطَّلَاق بحيلة ... وحيلتكم فِيهِ أَحَق بِأَن تنفى
فأقسم مَا تحليلها بِطَلَاقِهَا ... هُوَ الْحق إِلَّا بَاطِل قسما حلفا
تحلونها فِيهِ وتحريمها بِهِ ... فَصَارَت بِمَا بَانَتْ محبسة وَقفا
فَأَيْنَ بقول الله وقف نِسَائِكُم ... وَتَصْحِيح مَا قُلْتُمْ فتعرفه عرفا
فَإِن لحكم الْحق فِيهِ أَدِلَّة ... وكل ابتداع مُحدث فِيهِ لَا يخفى
لَئِن كَانَ للتدقيق هَذَا فَتَركه ... من الْفَرْض وَالتَّحْقِيق وَالْمذهب الأصفى ...(1/353)
.. فكم من أنَاس دققوا فتزندقوا ... فصاروا بِهِ عَن علم فهم على الأشفى
فيا عمرا لَو قُلْتُمُوهَا بوقته ... لأثخن فِيكُم ثمَّ جاهدكم زحفا
أعوذ بربي من تكلّف حِيلَة ... وَترك كتاب نوره الدَّهْر لَا يطفا
أأطلب تربا للتيمم عَامِدًا ... وَعِنْدِي مَاء الْبَحْر أغرفه غرفا
فَأبْطل بهَا من حِيلَة مستحيلة ... وَأعظم بِحكم صَار من أجلكم حيفا
فأعظم بهَا من فتْنَة ومصيبة ... لَهَا تذرف العينان من دمعها ذرفا
تصحح فرعا وَهُوَ تَعْلِيق طَلْقَة ... وَيسْقط أصلا وَهُوَ شَرط لَهَا حتفا ... وَهِي طَوِيلَة على مَا ذكر ابْن سَمُرَة لَكِن أخذت مِنْهَا الْغَرَض الْمَقْصُود وَله قصيدة فِي بطلَان حِيلَة الرِّبَا أوردت مِنْهَا مَا ذكر ابْن سَمُرَة برمتِهِ مِنْهَا ... الْحق أضحى غَرِيبا لَيْسَ يفتقد ... وكل مَا قَالَه فِي النَّاس يضطهد
لَا يقبل النَّاس قَول الْحق من أحد ... حَتَّى يَمُوت ويفنى الْكبر والحسد
مَا كل قَول لأهل الْعلم منتفع ... كلا وَلَا كل فعل مِنْهُم زبد
هم هم خير من فِيهَا إِذا صلحوا ... وَشر دَاء من الأدواء إِن فسدوا
فَمنهمْ كل مَعْرُوف وصالحة ... وَمِنْهُم تفْسد الأقطار والبلد
مَا شقَّتْ أمة إِلَّا بشقوتهم ... يَوْمًا وَلَا سعدت إِلَّا إِذا سعدوا
أضحى الرِّبَا قد فَشَا من أجل حيلتهم ... فِي كل أَرض سوى أَرض بهَا فقدوا
وَالله حرم مَعْنَاهُ وباطنه ... وَمَا لَهُم فِيهِ برهَان وَلَا سَنَد
يَا بَائِعا ثَوْبه حَتَّى يعادله ... أَلَيْسَ يعلم ذَاك الْوَاحِد الصَّمد
سُبْحَانَهُ من حَلِيم بعد قدرته ... وعالم مَا أرادوه وَمَا قصدُوا
هَل قَالَ هَذَا رَسُول الله وَيحكم ... أَو قَالَ ذَلِك من أَصْحَابه أحد
أم غَابَ عَنْهُم دَقِيق الْعلم دونكم ... أم باكتساب حَلَال الرِّبْح قد زهدوا
وَالْعلم يُورث عَن رسل الْإِلَه كَمَا ... يحوز بِالْإِرْثِ مَال الْوَالِد الْوَلَد
عَمَّن رويت التَّنَافِي والربا وهما ... لكل مهلكة أَو بَاطِل عضد
من أجل أَيهمَا أقصي الْمحَال فَإِن ... جازا فَلَا بَاطِل من بعد ينْتَقد ...(1/354)
وَلم يرو ابْن سَمُرَة من شعره فِي هَذِه الْمَسْأَلَة غير هَذِه الأبيات وَذكر أَنَّهَا أَكثر من ذَلِك وَلما بلغ ذَلِك من قَوْله إِلَى الشَّيْخ عبد الله بن يحيى وَإِلَى الإِمَام يحيى شقّ عَلَيْهِمَا وغاظهما كَلَامه الْخَارِج عَن ميدان الْفِقْه وَأمر ابْنه طَاهِرا أَن يرد عَلَيْهِ كَلَامه فَرد عَلَيْهِ بِكِتَاب صنفه وَسَماهُ الِاحْتِجَاج الشافي بِالرَّدِّ على المعاند فِي طَلَاق التَّنَافِي
وسافر هَذَا الْفَقِيه إِلَى مَكَّة سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَصَحبه الشَّيْخ مُحَمَّد بن عُثْمَان بن الْحُسَيْن والفقيه حسان بن مُحَمَّد بن مُوسَى مقدم الذّكر وعادوا سَالِمين فَتوفي بقريته بوعل سنة 567 وَهَذَا مُحَمَّد عُثْمَان كَانَ من أَعْيَان زَمَانه على مَا قبل ورؤساء بني عمرَان صَاحب إطْعَام وإحسان على مَا قيل وَكَانَ للفقيه الْمَذْكُور ابْن اسْمه عَليّ توفّي بعد أَن تفقه وَكَانَ فَقِيها فَاضلا يَقُول الشّعْر أَيْضا توفّي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
وَمن الأنصال إِحْدَى قرى العوادر الْمُعْتَمدَة أَحْمد بن زيد بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عمر الْيَزنِي كَانَ مفتي نَاحيَة بَلَده تفقه بِالْإِمَامِ يحيى ووقف نُسْخَة بَيَان على يَد شَيْخه وَتُوفِّي بالقرية لم أتحقق لَهُ تَارِيخا وَخَلفه وَلَده لم يسمه ابْن سَمُرَة
وَمِنْهُم أَبُو الْخطاب عمر بن حُسَيْن بن أبي النهى كَانَ فَقِيها فرضيا حسابيا كَانَ مَسْكَنه إب وبجامعها كَانَت مدرسته وَكَانَ يَقُول بيني وَبَين مؤلف الْمُهَذّب رجلَانِ وبيني وَبَين مؤلف الْفَرَائِض رجلَانِ فَالَّذِي بيني وَبَين مؤلف الْمُهَذّب عمر بن عَليّ السلالي ثمَّ ابْن عبدويه وَالَّذِي بيني وَبَينه مؤلف الْمُهَذّب عمر بن يَعْقُوب وَغَيره الشَّك من النَّاقِل عَن عبد الله يَرْوِيهَا عَنهُ بِهَذَا السَّنَد وَلم يزل على الطَّرِيق المرضي إِلَى أَن توفّي لَيْلَة عيد الْفطر من سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَكَانَ لَهُ ابْن عَابِد اسْمه عَليّ مَوْصُوف بأنواع الْعِبَادَة مَشْهُور بالصلاح ذكر أَن سَبَب ذَلِك أَن أَبَاهُ كَانَ مَعَه امْرَأَة غير أم الْوَلَد وَكَانَت تكرههُ كَمَا هُوَ الْغَالِب فِي طبع الخالات وَكَانَت كثيرا مَا تكَرر على أَبِيه مِنْهُ مَا لَا يحسن وتحرضه ثمَّ إِنَّه خرج ذَات يَوْم يَأْتِي الْحَطب فَلَمَّا جَاءَ وَهُوَ جَائِع سَأَلَ خَالَته أَن تطعمه فَقَالَ القشير بالمشتو بِكَلَام جَاف(1/355)
فَأخذ حجرا ورجم المشتو حَتَّى كَسره وَأَبوهُ إِذْ ذَاك غَائِب عَن الْبَيْت وَخرج الصَّبِي فوصل أَبوهُ فَأَخْبَرته امْرَأَته بِمَا فعل وَلَده وَكَبرت عَلَيْهِ ذَلِك فشق عَلَيْهِ وَخرج مغضبا حَتَّى أَتَى الْجَامِع فَأمر الدرسة بِالطَّهَارَةِ والاجتماع فَلَمَّا اجْتَمعُوا أخْبرهُم بِمَا فعله وَلَده وَأَنه يُرِيد مِنْهُم قِرَاءَة يس وَالدُّعَاء بذهابه فَقَالَ لَهُ بَعضهم لَا يَا سيدنَا أَلا يكون الدُّعَاء لَهُ بالهداية أولى فاستصوب ذَلِك والحاضرون فقرأوا يس ودعوا لَهُ بذلك وَكَانَ سيدا كَبِيرا لزم مَقْصُورَة فِي جَامع إب وَاعْتَكف بهَا وَكَانَ غَالب أكله أصُول الْأَشْجَار يخرج لَهَا ويقتلعها ثمَّ ييبسها ويدقها ثمَّ يكون يستفها وَلم يزل على ذَلِك حَتَّى توفّي بعد أَن شهِدت لَهُ كرامات كَثِيرَة
وَمن أعجبها مَا أَخْبرنِي بِهِ شَيْخي القَاضِي أَحْمد بن عبد الله العرشاني إجَازَة حَدثنَا الْفَقِيه سُفْيَان بن أبي القبايل أخبرنَا القَاضِي عَليّ بن عمر أَو القَاضِي أَحْمد بن الشَّيْخ الْحَافِظ عَليّ بن أبي بكر العرشاني مقدم الذّكر عَن الإِمَام أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الصَّيف قَالَ كُنَّا ذَات يَوْم واقفين بِالْحرم إِذْ سمعنَا هاتفا من الْهوى يَقُول إِن لله وليا يُسمى عَليّ بن عمر فِي الإقليم الْأَخْضَر من مخلاف جَعْفَر مَاتَ فصلوا عَلَيْهِ فصلينا عَلَيْهِ ثمَّ أرخت ذَلِك حَتَّى قدم أهل المخلاف فسألتهم عَن من مَاتَ بذلك التَّارِيخ فَقَالُوا رجل يُقَال لَهُ عَليّ بن عمر من إب ثمَّ ذَكرُوهُ بِخَير ذكر فَعلمت أَنه المعني بالنداء وتربته من الترب الْمَشْهُورَة فِي الْبركَة واستجابة الدُّعَاء
وَمن عَجِيب بركتها مَا أَخْبرنِي بعض الثِّقَات من أهل الْعِنَايَة والبحث عَن أَحْوَال هَذَا الرجل وَأَمْثَاله أَنه كَانَ على قَبره شَجَرَة سدر يتبرك بهَا النَّاس وَيَأْخُذ أَصْحَاب الحموات من أوراقها يطلون بهَا رؤوسهم فيبرأون واستفاض ذَلِك فِي جِهَات كَثِيرَة حَتَّى كَانَ يُؤْتى لذَلِك من الْأَمَاكِن الْبَعِيدَة ويعتمد فِي الْأَمْرَاض الشَّدِيدَة وَمن عادات أهل إب فِي غَالب الأعياد أَن يحصل بَينهم وَبَين أهل باديتهم حروب كَثِيرَة كَمَا هُوَ مُتَحَقق فَلَا يألو من ظفر مِنْهُم بِصَاحِبِهِ غير مفكر بالأذية بقتل أَو غَيره فَحصل فِي بعض الأعياد حَرْب انتصر بهَا أهل الْبَادِيَة فَانْهَزَمَ أهل إب إِلَى الْبيُوت وَوصل أهل الْقرْيَة إِلَى قريتهم وَلم يطيقوا دُخُولهَا فَقَالَ بعض شياطينهم اذْهَبُوا بِنَا إِلَى هَذِه الشَّجَرَة(1/356)
الَّتِي يعبدونها ولنعقرها عَلَيْهِم فَلَا ينتفعوا بهَا فنهاهم الْعُقَلَاء وأسرع إِلَى ذَلِك الجهلاء فَضربُوا العلبة بفأس حَتَّى أوقعوها الأَرْض وَألقى الله بقلوب أهل الْمَدِينَة الْقُوَّة والأنفة فَخَرجُوا مُسْرِعين نحوهم فهزموهم هزيمَة شنيعة وَقتلُوا مِنْهُم جمعا أَوَّلهمْ عَاقِر الشَّجَرَة وَحين وَقع هبروه بِالسُّيُوفِ تهبيرا عَظِيما وتعرف هَذِه التربة بتربة من سمع النداء بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي الْحرم وَلم ير الْمُنَادِي
وَمِنْهُم أَبُو سعيد مَنْصُور بن عَليّ بن عبد الله بن إِسْمَاعِيل بن مِسْكين مولده صفر سنة سبع وَعشْرين وَخَمْسمِائة تفقه بِزَوْج والدته الْفَقِيه أَحْمد بن أبي بكر بن أَحْمد التباعي وَأما هَذَا فمولده ومنشأه نَاحيَة دلال بقرية تيثد الْمُقدم ذكرهمَا وقدمتهما سنة ثَلَاث عشرَة وَسَبْعمائة لغَرَض الزِّيَادَة والفحص عَن آثَار الأخيار فِيهَا وزيارة تربته فَلم أكد أجد أحدا من أهل الْعِنَايَة بذلك غير أَنه أخرج لي فَقِيه الْقرْيَة وَإِمَام الْجَامِع بهَا كتابا بِهِ أَخْبَار يسيرَة لم يكن بِهِ شَيْء من أَخْبَار هَذَا الْفَقِيه وَلَا ذكر لَهُ ابْن سَمُرَة تَارِيخا وَلَعَلَّه كَانَ حَيا بِزَمَانِهِ
وَمِنْهُم عبد الله بن الْفَقِيه يحيى بن مُحَمَّد الْمَذْكُور أَولا من أهل الملحمة وَفِي أَصْحَاب اليفاعي وَصَاحب الشّعْر الَّذِي مدح بِهِ شَيْخه زيد اليفاعي مولد عبد الله سنة ثَلَاث وَعشْرين وَخَمْسمِائة وتفقهه بتلميذ أَبِيه مُحَمَّد بن سَالم الأصبحي وَتُوفِّي سنة سِتّ وَخمسين وَخَمْسمِائة وَمِنْهُم أَبُو يحيى فضل بن أسعد بن جَعْفَر بن أبي سَالم الْمليكِي ثمَّ الْحِمْيَرِي قدم وَالِده أسعد من ردمان وَسكن موضعا من دلال وأولد ابْنه فضلا هُنَاكَ فِي شهر صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَخَمْسمِائة أثنى عَلَيْهِ ابْن سَمُرَة ثَنَاء مرضيا وَقَالَ هُوَ فَقِيه مجود ارتحل إِلَيْهِ الْأَصْحَاب رَغْبَة فِي علمه وَكَرمه وَابْنه يحيى سيأتى ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ ابْن سَمُرَة وَهَذَا فضل بن يحيى هُوَ مدرس الملحمة الْآن يَعْنِي فِي عصره وَذَلِكَ لنيف أَو بضع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة إِذْ لم أجد(1/357)
لِابْنِ سَمُرَة مَا يرشدني أَنه بلغ التسعين وَلما قدمت الملحمة بالتاريخ الْمُتَقَدّم لم ألق أحدا من ذُريَّته يسكنهَا وَإِنَّمَا يسكنون قريتين من جبل بعدان وهما على قرب من الملحمة وتعرف إِحْدَاهمَا بالنظارى وَالْأُخْرَى بالمحيب سَيَأْتِي ذكر من تديرهما مِنْهُم إِن كَانَ مُسْتَحقّا لَهُ وَقد دخلت القريتين للبحث عَمَّا أَنا أقصده فَأخْرج بعض ذُريَّته كتابا فِيهِ تَارِيخ جَمَاعَتهمْ فَأخذت مِنْهُ تَارِيخ من قد تحققت اسْتِحْقَاقه للذّكر فَذكر أَن وَفَاة يحيى هَذَا كَانَت بقرية الملحمة لعشر خلون من الْمحرم مستهل شهور سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَمِنْهُم أَحْمد بن أسعد وَولده عبد الله كَانَ جوالا فِي الْبِلَاد وغلبت عَلَيْهِ الْعِبَادَة وَكَانَا فاضلين بِالْقُرْآنِ وَغَيره
وَمن نواحي الْجند ثمَّ من سَوْدَة جمَاعَة مِنْهُم أَبُو عبد الله سلمَان بن أسعد بن مُحَمَّد الجدني ثمَّ الْحِمْيَرِي وَهُوَ فِي السماية إِلَى سلمَان الْفَارِسِي لَا إِلَى النَّبِي سُلَيْمَان صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحققت ذَلِك لِأَنِّي وجدت كثيرا من النَّاس يخطئون فِيهِ بِنسَب قومه إِلَى ذِي جدن أحد أذواء حمير
وَمِنْهُم جمَاعَة كَثِيرَة يسكنون فِي الْقرْبَة المكذورة وَمَا والاها من قرى النجاد وقرية الْفَقِيه بَاقِيَة إِلَى الْآن ضَبطهَا بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح الدَّال الْمُهْملَة ثمَّ هَاء سَاكِنة وَهِي قرى صقع يعرف بالنجاد بخفض النُّون الْمُشَدّدَة بعد ألف وَلَام وَفتح الْجِيم ثمَّ ألف ثمَّ دَال مُهْملَة وَهِي من مَدِينَة بلدي الْجند وَهِي على ثلث مرحلة فِيهَا غربي يَمِينهَا تفقه هَذَا الْفَقِيه بعلي بن أَحْمد اليهاقري الْمُقدم ذكره كَانَت قريته الْمَذْكُورَة قد يطْمع بهَا الْعَدو ويغزوهم الْعَرَب إِلَيْهَا وبمشرقها جبل منيع فَأَشَارَ الْفَقِيه على قومه وَأهل قريته بالانتقال إِلَى الْجَبَل والسكون بذروته وَكَانَ فَقِيها خيرا برا بالأصحاب وَهُوَ أول من انْتقل وَبنى بَيْتا فَتَبِعَهُ كثير من النَّاس وَسَكنُوا مَعَه وَسموا الْموضع قناذر بِضَم الْقَاف(1/358)
وَفتح النُّون ثمَّ ألف ثمَّ ذال مخفوضة ثمَّ رَاء وَكَانَت وَفَاته بهَا عَاشر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَخَمْسمِائة بعد أَن وقف كتبه أدْركْت بَعْضهَا وَقد تهدم بيد بعض ذُريَّته وَمِنْهُم بَقِيَّة تغلب عَلَيْهِم البداوة والعامية
وَمِنْهُم ابْن عَمه نسبا وتربه وخدنه أسعد بن سلمَان الجدني كَانَا متزاملين فِي الْقِرَاءَة على الْفَقِيه عَليّ بن أَحْمد اليهاقري وَكَانَ لشدَّة صفاء صحبتهما يظنّ أَنَّهُمَا أَخَوان وهما أَبنَاء عَم من جِهَة الْقبلية ومسكنهما قَرْيَة وَاحِدَة قرأا جَمِيعًا على الْفَقِيه أبي الْحسن اليهاقري هَكَذَا ذكره ابْن سَمُرَة وَلَا عقب لَهُ كَمَا لِابْنِ عَمه فَسَأَلت عَن ذَلِك فَقيل لي إِنَّه كَانَ يتعانى اسْتِخْدَام الْجِنّ واستحضارهم واصطلاح كثير من النَّاس إِن من يعاني ذَلِك لَا يعِيش لَهُ ولد فِي الْغَالِب وَلم أَقف لَهُ على تَارِيخ وَلَا ذكر ابْن سَمُرَة لَهُ وَلَا لِابْنِ عَمه تَارِيخا بل لما دخلت قريتهم وبحثت عَن شَيْء من أَحْوَالهم أُتِي لي بِشَيْء من بعض كتب الْفَقِيه سلمَان كَانَ مَعَ بعض ذُريَّته فَوجدت تَارِيخ الْفَقِيه سلمَان بِخَط قد كَانَ يضمحل
وَمن قَرْيَة العقيرة الْمُقدم ذكرهَا وضبطها أَبُو الْحسن عَليّ بن الْفَقِيه عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي الْأَغَر الْمُقدم ذكره تفقه بالهرمي كَمَا قد ذكرت أَولا كَذَا ذكر ابْن سَمُرَة وَبَعض أَهله يَقُول إِن مُعظم تفقهه أَولا بِأَبِيهِ ثمَّ ثَانِيًا بالفقيه عَليّ وَلم أتحقق تَارِيخه
وَمن الشعبانية صقع متسع فِيهِ قرى كَثِيرَة من أَعمال تعز الْبَلَد الَّذِي يديره الْملك المظفر بن رَسُول وَبَنوهُ إِلَى عصرنا وَقد تقدم ضَبطهَا مِنْهَا قَرْيَة مسكونة إِلَى الْآن سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة تعرف بكمران على قِيَاس شبه كمران كَانَ فِيهَا جمَاعَة مِنْهُم أَحْمد بن أسعد الكلالي ثمَّ الْحِمْيَرِي قيل لَهُ الكلالي نِسْبَة إِلَى ذِي كلال أحد أذواء حمير كَمَا قد تقدم ذكره غير مرّة وَكَانَ تفقهه بِعَبْد الله بن يحيى الصعبي غَالِبا وبعلي بن عبد الله الهرمي وَكَانَ فَاضلا بالفقه وَالْأُصُول وَعنهُ أَخذهَا القَاضِي الْكَامِل مَسْعُود الْعَنسِي وَكَانَ لَهُ بهَا أَخَوان هما عبد الله وَعلي وأظنهما تفقها بِهِ وَمِنْهُم(1/359)
أَحْمد بن الْفَقِيه عبد الله بن عَليّ الْحَرْبِيّ الْمُقدم ذكره وابناه مهْدي وَزيد كَانُوا فُقَهَاء لم أتحقق لأحد مِنْهُم تَارِيخا وَمن ذِي عدينه عَليّ بن أَحْمد بن إِسْحَاق تفقه بشيوخ تهَامَة وَمن تهَامَة ثمَّ من مخلاف السُّلَيْمَانِي نِسْبَة إِلَى الشرفاء بني سُلَيْمَان بَيت عز وكرم متأثل خرج من هَذَا المخلاف جمع من الْأَعْيَان من فُقَهَاء الطَّبَقَة فَمِمَّنْ تحققته أَبُو مُحَمَّد عمَارَة بن الْحسن بن عَليّ بن زَيْدَانَ بن أَحْمد الْحكمِي نسبا ثمَّ الْمذْحِجِي مولده فِي بضع عشرَة وَخَمْسمِائة تَقْرِيبًا
قَالَ ابْن خلكان وَذَلِكَ بوادي وساع فِي مَدِينَة تسمى مرطان خرج شَابًّا وَلحق بزبيد فِي طلب الْعلم فاشتغل على الْفَقِيه ابْن الْأَبَّار خَاصَّة وَأخذ عَن غَيره لكنه ذكر أَنه أَخذ عَنهُ مَذْهَب الشَّافِعِي وَذكر ذَلِك فِي مفيده وَكَانَ قد تعانى التِّجَارَة وبضاعته إِذْ ذَاك فِي الْأَدَب ضَعِيفَة وَكَانَ خُرُوجه من الْبَلَد الَّذِي ولد بِهِ لطلب الْعلم سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَحصل بِيَدِهِ شَيْء من الدُّنْيَا سَافر بِهِ إِلَى عدن مرِيدا للتِّجَارَة فَقَدمهَا وَبهَا الأديب الْفَاضِل أَبُو بكر بن مُحَمَّد العندي فَأكْرمه وَأمره بمدح الدَّاعِي مُحَمَّد بن سبأ وَهُوَ إِذْ ذَاك صَاحب الدعْوَة قَالَ عمَارَة فأعلمته أَنِّي لست بشاعر فَلم يزل يلازمني وَيحسن لي حَتَّى عملت قصيدا غير مرض فَأَعْرض الأديب عَنهُ وَعمل على لساني قصيدا مرضيا ذكر بِهِ الْمنَازل من زبيد إِلَى عدن وهنأ بِهِ الدَّاعِي مُحَمَّد بن سبأ بأعراسه بابنة الشَّيْخ بِلَال بِأَلْفَاظ خاصية كِتَابِيَّة ثمَّ تولى عني نشيدها بالمنظر وَأَنا حَاضر كالصنم لَا أنطق وَأخذ لي جَائِزَة من الدَّاعِي وبلال وطيبا وَاشْترى لي بضَاعَة من المَال الَّذِي كَانَ معي ثمَّ لما عزمت على السّفر قَالَ لي يَا هَذَا إِنَّك قد اتسمت عِنْد الْقَوْم بسمة شَاعِر فطالع كتب الْأَدَب وَلَا تجمد على الْفِقْه وَكَانَ ذَلِك سَبَب تعلمه لَهُ واشتغاله بالشعر وصحبة الْمُلُوك من ذَلِك الْوَقْت فَلَمَّا أكمل من الْأَدَب وَصَارَ عينا من أَعْيَان زَمَانه لم يزل مصاحبا للملوك آل زُرَيْع خَاصَّة وَلم يكد يشهر لَهُ شعر بِأحد من مُلُوك الْيمن غَيرهم ثمَّ صَار يترسل بَين صَاحب مَكَّة الشريف ابْن فليتة وَصَاحب مصر أحد العبيديين ثمَّ تدير مصر وسكنها وَصَحب مُلُوك الفاطميين وألزمه القَاضِي(1/360)
الْفَاضِل أَن يضع مجموعا متضمنا لأخبار جَزِيرَة الْيمن فعمله وَهُوَ الَّذِي يعرف بمفيد عمَارَة احْتِرَازًا من مُفِيد جياش وَله ديوَان شعر وَله شعر رَقِيق مونق وَله فِي ديوانه قصائد وأشعار كَثِيرَة يمتدح بهَا الفاطميين من أهل مصر وَجَمَاعَة من خَواص دولتهم كبني رزيك وشاور وَأُخْرَى يمدح بهَا آل زُرَيْع من أهل الْيمن وَجَمَاعَة من دولهم كالعندي وبلال وَبَعض آل بني عقامه وديوانه مَشْهُور وشعره متناقل من أحْسنه مَا قَالَه يرثي بِهِ الفاطميين ... لما رَأَيْت عراص الْقصر خَالِيَة ... عَن الأنيس وَمَا فِي الرّبع سَادَات
أيقنت أَنهم عَن ربعهم رحلوا ... وخلفوني وَفِي قلبِي حزازات
سَأَلت أبله قلبِي فِي السلو وَقد ... يُقَال للبله فِي الدُّنْيَا إصابات
فَقَالَ رَأْي ضَعِيف لَا يطاوعني ... كَيفَ السلو وَأهل الْقصر قد مَاتُوا
يَا رب إِن كَانَ لي فِي قربهم طمع ... عجل بذلك فللتسويف آفَات ... ثمَّ لم يقم بعد ذَلِك غير يسير حَتَّى شنق وَكَانُوا يَقُولُونَ ينعى على نَفسه باللحاق بهم وَكَانَ جيد الصُّحْبَة حسن الألفة وَمن شعره مَا أوردهُ ابْن خلكان قَالَ وَمن جملَة قصيدة مدح بهَا شاور ... ضجر الْحَدِيد من الْحَدِيد وشاور ... من نصر دين مُحَمَّد لم يضجر
حلف الزَّمَان ليَأْتِيَن بِمثلِهِ ... حنثت يَمِينك يَا زمَان فَكفر ... وَمِمَّا يدل على حسن وفائه أَنه لما انْقَضتْ أَيَّام بني رزيك فِي وزارة الفاطميين وأفضت إِلَى شاور وَجلسَ أول يَوْم فِي دست الوزارة وَحَوله جمَاعَة من أَصْحَابهم وَمِمَّنْ لَهُم عَلَيْهِ إِحْسَان وَقَعُوا فِي بني رزيك تقربا إِلَى شاور وَكَانُوا قد أَحْسنُوا إِلَى عمَارَة لم يهن ذَلِك عَلَيْهِ وَقَامَ وَأنْشد(1/361)
.. صحت بدولتك الْأَيَّام من سقم ... وَزَالَ مَا يشتكيه الدَّهْر من ألم
زَالَت ليَالِي بني رزيك وانصرمت ... وَالْحَمْد والذم فِيهَا غير منصرم
كَأَن صَالحهمْ يَوْمًا وعادلهم ... فِي صدر ذَا الدست لم يقْعد وَلم يقم
هم حركوها عَلَيْهِم وَهِي سَاكِنة ... وَالسّلم قد ينْبت الأوراق فِي السّلم
كُنَّا نظن وَبَعض الظَّن مأثمة ... بِأَن ذَلِك جمع غير مُنْهَزِم
فمذ وَقعت وُقُوع النسْر خَانَهُمْ ... من كَانَ مجتمعا من ذَلِك الرخم
وَلم يَكُونُوا عدوا ذل جَانِبه ... وَإِنَّمَا غرقوا فِي سيلك العرم
وَمَا قصدت بتعظيمي عداك سوى ... تَعْظِيم شَأْنك فاعذرني وَلَا تلم
وَلَو شكرت لياليهم مُحَافظَة ... لعهدهم لم يكن بالعهد من قدم
وَلَو فتحت فمي يَوْمًا بذمهم ... لم يرض فضلك إِلَّا أَن يسد فمي
وَالله يَأْمر بِالْإِحْسَانِ عارفة ... مِنْهُ وَينْهى عَن الْفَحْشَاء فِي الْكَلم ... فشكره شاور على وفائه لبني رزيك وَكَانَ عمَارَة يعرف عِنْد أهل زبيد بعمارة الفرضي وَعند أهل عدن وَالْجِبَال بالفقيه وَعند أهل مصر باليمني ثمَّ المصريون يَخْتَلِفُونَ هَل دخل بِمذهب الفاطميين أم لَا فَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ ابْن خلكان أَنه لم يدْخل بِمذهب الفاطميين بل مَاتَ على السّنة وَالَّذِي عَرفته من مشافهة أحد فضلائهم مِمَّن قدم الْيمن وَهُوَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن الْمُخْتَار الْآتِي ذكره فِيمَن قدم الْيمن وَقد جرى ذكر عمَارَة وَقلت لَهُ أثنى عَلَيْهِ ابْن خلكان وَذكر أَنه بذل لَهُ على الِانْتِقَال مَال فكره وَكَانَ متعصبا للسّنة فَقَالَ مَا هُوَ صَحِيح بل الْأَصَح أَنه دخل مَذْهَبهم وَهَذَا مَا صححته وَله مُصَنف سَمَّاهُ النكت العصرية فِي أَخْبَار وزارة الديار المصرية وَله الْمُفِيد فِي أَخْبَار صنعاء وزبيد وَقد أوردت مِنْهُ كثيرا فِي كتابي وَلما كَانَ بعد فنَاء الفاطميين يكثر ذكرهم والتآسي عَلَيْهِم وَالدُّعَاء على من كَانَ سَببا لهلاكهم وكل مَا هم بني أَيُّوب الْقَائِم مِنْهُم صَلَاح الدّين بأذيته على ذَلِك صد عَن القَاضِي الْفَاضِل حَتَّى كَانَ آخر قَول قَالَه فيهم يارب إِن كَانَ لي فِي قربهم طمع الأبيات الْمُتَقَدّمَة وَقبل هَذَا يَقُول مَا فِي الرّبع سَادَات(1/362)
وَكثر عَلَيْهِ عِنْد صَلَاح الدّين فَأمر بشنقه مَعَ جملَة جمَاعَة على رَأْيه فَسَأَلَهُمْ أَن يجيئوا بِهِ على بَاب القَاضِي الْفَاضِل فحين أحس الْفَاضِل بذلك أَمر بإغلاق بَاب دَاره فحين مروا وَرَأى الْبَاب مغلقا قَالَ مرتجلا ... عبد الرَّحِيم قد احتجب ... إِن الْخَلَاص من الْعجب ... ثمَّ أُتِي بِهِ إِلَى المشنقة فشنق بدرب يعرف بخرابة السود ثَانِي عشر رَمَضَان سنة تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة بِالْقَاهِرَةِ
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مَنْصُور الْجُنَيْد الفتوحي نسبا المشيرقي بَلَدا الصمعي فالنسبة إِلَى المشيرق قد تقدم ذكرهَا وصمع بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وخفض الْمِيم مَعَ التَّشْدِيد ثمَّ عين سَاكِنة مُهْملَة قَرْيَة قديمَة بهَا قرَابَة لهَذَا الْفَقِيه يتسمون بالفقه ويشهرون الصّلاح يَأْتِي ذكر المتحقق مِنْهُم إِن شَاءَ الله وَلم يذكر ابْن سَمُرَة مِنْهُم غَيره
والفتوحيون المنتسب إِلَيْهِم قوم من الأصابح يعْرفُونَ ببني أبي الْفتُوح يسكنون شعبًا من نواحي عَنهُ سَمِعت الثِّقَة يَقُول ذَلِك وَكَانَت وَفَاة الْفَقِيه قَافِلًا من الْحَج بالسرين سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَمن ذُريَّته جمَاعَة فُقَهَاء مِنْهُم الْفَقِيه شرف الدّين أَحْمد بن الْجُنَيْد صَاحب يحيى الْآتِي ذكره وَذكر من اسْتحق مِنْهُم على مَا أتحققه إِن شَاءَ الله ثمَّ صَار الْفِقْه مَوْجُودا بِجَمَاعَة مِنْهُم عبد الله بن الْمفضل بن عبد الْملك الصرحي
تفقه بالفقيه عَمْرو بن عبد الله وَولي قَضَاء ريمة وَتُوفِّي عَلَيْهِ سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَكَانَ لَهُ أَخ اسْمه عبد الرَّحْمَن ولي خطابة حرض انْتَهَت إِلَيْهِ رئاسة الْفِقْه بهَا
وَمِنْهُم سَالم بن مهْدي بن قحطان بن حمير بن حَوْشَب الأخضري أَظن مَسْكَنه ذَا عدينة تفقه بِأَهْل تهَامَة أَخذ الْمُهَذّب عَن رَاجِح بن كهلان عَن ابْن عبدويه وَهُوَ أحد شُيُوخ ابْن سَمُرَة وَتُوفِّي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم زِيَاد بن أسعد بن عَليّ الْخَولَانِيّ كَانَ فَقِيها فَاضلا مَسْكَنه وَادي شقب بشين مُعْجمَة ثمَّ قَاف ثمَّ بَاء مُوَحدَة على وزن فعل محرك الْقَاف استنابه القَاضِي(1/363)
عبد الْجَبَّار الْحَنَفِيّ مُتَوَلِّي الْقَضَاء لبني مهْدي على قَضَاء الْجند وَله تصنيف استخرجه من كتاب الْبَيَان سَمَّاهُ التَّخْصِيص وَكَانَت وَفَاته سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم أسعد بن يعفر بن سَالم بن عِيسَى العريقي تفقه بالحاشدي مقدم الذّكر وَحضر السماع على الْحَافِظ العرشاني بِذِي أشرق وَتُوفِّي لَيْلَة عيد الفطرسنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَقد بلغ عمره خمْسا وَسِتِّينَ سنة وتفقه بشيوخ ذِي أشرق
وَمِنْهُم الْفَقِيه أَحْمد بن السلالي مقدم الذّكر فِي أَصْحَاب ابْن عبدويه مولده على رَأس أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة وتفقه بشيوخ ذِي أشرق
وَمِنْهُم دعاس بن يزِيد بن إِسْمَاعِيل بن أبي الْخَيْر الأصبحي
وَمِنْهُم عليان بن مُحَمَّد الحاشدي أَخذ عَن زيد الفائشي وَإِلَيْهِ تَنْتَهِي طريقنا بِكِتَاب نظام الْغَرِيب
وَمن السفال الْقرْيَة الْمَذْكُورَة أَولا جمَاعَة مِنْهُم أَبُو الْحسن يحيى بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن أبي الْيَقظَان أَخذ عَن مُحَمَّد بن مُوسَى العمراني وَكَانَ يدرس بِالْمَسْجِدِ الْمَعْرُوف عِنْد أهل الْقرْيَة بِالْمَسْجِدِ الصَّغِير وَقد سَأَلَهُ بعض مَشَايِخ الأعروق أَن ينْتَقل إِلَيْهِ إِلَى الظفر ويدرس عِنْده فَفعل ذَلِك فَأَقَامَ عِنْده أَيَّامًا يدرس وتفقه بِهِ جمَاعَة مِنْهُم أَحْمد بن مقبل الدثيني بِبَلَدِهِ سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة وَكَانَ الشَّيْخ الَّذِي استدعاه من الأعروق هُوَ الشَّيْخ عبد الله بن عبد الْوَهَّاب العريقي وَالِد الشَّيْخ أَحْمد وَعمْرَان وَصَاحب العودرية وَكَانَت لَهُ ولقومه من الذنبتين بِرَأْس قاع الْجند إِلَى بِلَاد مقمح فَلَمَّا دخلت الغز هادنهم على قِطْعَة مَعْلُومَة محلهَا وَبَقِي بِيَدِهِ معشار السّلف
وَمِنْهُم عَليّ بن عِيسَى بن مُفْلِح بن الْمُبَارك الْمليكِي أصل بَلَده مَدِينَة إب الْمُقدم ذكرهَا ثمَّ تدير عدن وتفقه بهَا على القَاضِي أَحْمد بن عبد الله القريظي وعَلى(1/364)
الْفَقِيه المقيبعي حِين دَخلهَا كَمَا تقدم فَقِيها حَافِظًا عَارِفًا بالفقه والْحَدِيث وَالتَّفْسِير والفرائض وَله فِيهَا مُخْتَصر مُفِيد وَكَانَ زاهدا ورعا يترحل بَين بَلَده وعدن وجبا وَأخذ عَنهُ بهَا جمَاعَة مِنْهُم إِبْرَاهِيم بن حديق وَغَيره وَأَرَادُوا إكراهه أَيَّام سيف الْإِسْلَام على الْقَضَاء فِي عدن فَامْتنعَ وَخرج عَنْهَا فَأَقَامَ أَيَّامًا بالخبت وَلَحِقتهُ مشقة بذلك فَمَرض وَعَاد عدن فَتوفي عقب ذَلِك سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَهُوَ آخر من ذكره ابْن سَمُرَة قبل فصل الْقُضَاة
وَمِمَّنْ ذكره فِي فصل الْقُضَاة جمَاعَة من أهل الْجبَال يَنْبَغِي الْبِدَايَة مِنْهُم لمن كَانَ لَهُ فِي الْآبَاء سَابِقَة وهم جمَاعَة
وَمِنْهُم عبد الله بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن حميد الزوقري مقدم الذّكر فِي أَصْحَاب اليفاعي وَهَذَا عبد الله تفقه بِالْإِمَامِ سيف السّنة وَكَانَ فَقِيها حاذقا مُبَارَكًا وَله تردد بَين بَلَده والجؤة والدملوة وَهُوَ أحد شُيُوخ الإِمَام بن بطال وَصَحب الشَّيْخ جَوْهَر المعظمي ومسكنه حَيْثُ كَانَ مسكن أَبِيه وَبِه توفّي بربيع الأول سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَمن ذُرِّيَّة هَذَا الْفَقِيه قُضَاة الزواقر والموسكة ونواحيهم وَرُبمَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله ذكر من لَاق ذكره مِنْهُم
وَمِنْهُم أهل عرشان قد مضى ذكر الْحَافِظ وولديه وَأما وَلَده أَحْمد الَّذِي ولي الْقَضَاء فَذكره ابْن سَمُرَة فِي فصل الْقُضَاة فَهُوَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الإِمَام الْحَافِظ عَليّ بن أبي بكر وَقد مضى بَقِيَّة مَا لَاق من نسبه مولد أَحْمد سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة تفقه بِأَبِيهِ غَالِبا وَبِغَيْرِهِ وَولي الْقَضَاء بالجند من جِهَة أحد قُضَاة سهفنة إِذْ كَانَ إِلَيْهِ قَضَاء جبلة وَيُقَال كَانَ المشير بتوليته للفضاء القَاضِي عِيسَى وَكَانَ فَقِيها حاذقا مصقعا خَطِيبًا فَاضلا مؤرخا ذيل تَارِيخ الطَّبَرِيّ
وَله مُخْتَصر جمع فِيهِ من قدم الْيمن من الْفُضَلَاء أثنى عَلَيْهِ ابْن سَمُرَة ثَنَاء مرضيا وَلما حصل بَين سيف الْإِسْلَام وَبَين أثير الدّين مَا حصل وَخرج الْأَثِير من الْيمن وَكَانَ القَاضِي أَحْمد قد يحضر مجْلِس سيف الْإِسْلَام وَقَرَأَ عَلَيْهِ موطأ مَالك وَرَأَيْت إجَازَة سيف الْإِسْلَام من القَاضِي أَحْمد هَذَا فَلبث مُدَّة سنتَيْن حَتَّى تمّ لَهُ مَعَ القَاضِي مَسْعُود الْآتِي ذكره مَا نَقله الْخلف عَن السّلف وَهُوَ أَن القَاضِي مَسْعُود لما شهر بجودة الْفِقْه وانتهت إِلَيْهِ رئاسة الْفتيا حِينَئِذٍ حسده أهل عرشان كَمَا هُوَ الْعَادة فِي حكام الْوَقْت فَذكر جمَاعَة أَنه وصل رجل إِلَى(1/365)
بعض أهل عرشان بِمَسْأَلَة فجوب عَلَيْهَا جَوَابا خطأ فَأَخذهَا السَّائِل وَتقدم بهَا إِلَى القَاضِي مَسْعُود فَلَمَّا وقف عَلَيْهَا كتب بعد الْجَواب هَذَا الْمُجيب لَا يعرف شَيْئا وَذَلِكَ بمداد يعمله أهل الْيمن من الصَّبْر يمِيل لَونه إِلَى الْحمرَة فَعَاد الرجل بِالْمَسْأَلَة إِلَى عرشان فوقفوا على مَا كتب القَاضِي مَسْعُود وَهُوَ يَوْمئِذٍ يدرس بِذِي أشرق وأوقفوا عَلَيْهِ القَاضِي أَحْمد فحين وقف على ذَلِك لاحت لَهُ مكيدة القَاضِي مَسْعُود فأعجم الْمُجيب أَي جعلهَا خاء وياء وَنون الْبَاء الْمُوَحدَة ثاء مُثَلّثَة وَذَلِكَ بمداد لَونه أسود يُخَالف لون مَا كتب بِهِ القَاضِي مَسْعُود ثمَّ أَخذ الْمَسْأَلَة وَدخل على سيف الْإِسْلَام وَهُوَ إِذْ ذَاك مُقيم بجبلة بِالدَّار الْمَعْرُوفَة بدارالرزاق الَّذِي هُوَ فِي عصرنا مسبك لسكر الْأَمْلَاك السُّلْطَانِيَّة فَلَمَّا حضر مَجْلِسه وفاوضه الحَدِيث قَالَ يَا مَوْلَانَا ظهر رجل يَدعِي الْفِقْه وَصَارَ يحتقر الْفُقَهَاء ويسفه عَلَيْهِم ثمَّ لَا يقنع بِاللَّفْظِ حَتَّى يزِيد يفعل ذَلِك بالخط ثمَّ فتح الْمَسْأَلَة ووضعها بَين يَدَيْهِ فَلَمَّا قَرَأَ كَلَام القَاضِي مَسْعُود وَرَأى إعجابه عظم ذَلِك عَلَيْهِ وَأمر بِطَلَبِهِ فَطَلَبه من ضراس فَلَمَّا حضر مقَامه نبذ الورقة إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ الْجَواب الثَّانِي جوابك فَتَأَمّله القَاضِي مَسْعُود وَقَالَ سُبْحَانَ الله أَلا عقول تميز الْحُرُوف مَكْتُوبَة بِغَيْر مداد إعجامها والقبيح من الإعجام فَلْيتَأَمَّل السُّلْطَان ذَلِك فَأَعَادَ إِلَيْهِ الورقة فحين نظر السُّلْطَان فِيهَا أدْرك ذَلِك وَعلم صدق مَا قَالَ وَقد كَانَ تكَرر عِنْده أُمُور مَلَأت بَاطِنه على القَاضِي أَحْمد وَأَهله فحين استثبت أَنه كَاد القَاضِي مَسْعُود غلب ظَنّه صدق مَا كَانَ ينْقل عَنْهُم فَقَالَ يَا قَاضِي أَحْمد الزم بَيْتك وَأَنت يَا مَسْعُود قد وليتك الْقَضَاء فَخرج هَذَا مُتَوَلِّيًا وَهَذَا معزولا وَلم يزل على ذَلِك حَتَّى توفّي على مَا سَيَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله وَقيل إِنَّمَا كَانَ ذَلِك من الْمعز بن سيف الْإِسْلَام وللقاضي أَحْمد تذييل الْقُضَاعِي فِي التَّارِيخ وَله شرح الْخَطِيب ابْن نباتة وَله تَارِيخ الْيمن مُجَردا لم أَقف على شَيْء من ذَلِك إِلَّا عَن نقل ابْن سَمُرَة وَغَيره وَبعد وَفَاة مَسْعُود عَاد الْقَضَاء إِلَيْهِم ثمَّ عزل نَفسه وَجعله فِي وَلَده عَليّ وَتُوفِّي مُنْفَصِلا(1/366)
بِذِي جبلة يَوْم الِاثْنَيْنِ لعشر خلون من صفر سنة سبع وسِتمِائَة
وَمِنْهُم سري بن إِبْرَاهِيم بن أبي بكر بن عَليّ بن معَاذ بن مبارك بن تبع بن يُوسُف بن فضل العرشاني يجْتَمع مَعَ الْحَافِظ العرشاني فِي تبع بن يُوسُف كَانَ فَقِيها فَاضلا أصوليا وَله مصنفات فِي الْأُصُول على طَرِيق الْأَشْعَرِيّ ولي قَضَاء صنعاء وَفِي أَيَّامه بنى وردسار المنارتين بالجامع وَأَصْلحهُ وَبنى الْجَبانَة أَيْضا وسري هَذَا هُوَ الَّذِي بنى المطاهير وَالْبركَة بِجَامِع صنعاء وَلم يَكُونَا قبل ذَلِك وَكَانَ مُبْتَدأ بنائِهِ لذَلِك فِي شعْبَان سنة سِتّ وسِتمِائَة وَذكر أَنه أَعَانَهُ على ذَلِك وردسار وَأَنه الَّذِي حفر الْبِئْر وَعمل المجرى مِنْهَا إِلَى مطاهير صنعاء من مَاله لَا من مَال الْمَسْجِد وَأَن عمَارَة المطاهير من وقف الْمَسْجِد بشاهرة وَأَنَّهَا فرغت بجمادى الْآخِرَة سنة سبع وسِتمِائَة وَهُوَ أحد عدُول الْقُضَاة ذكر الْعَارِف بأيامه أَن سيرته فِيهِ كَانَت محمودة وَأَنه كَانَ عادلا بأحكامه وَله تذييل تَارِيخ الرَّازِيّ ونقلت مِنْهُ عدَّة فَوَائِد وَرَأَيْت شَيْئا من مصنفاته مَعَ أَهله وَمن كتبه عدَّة كتب مَوْقُوفَة هُنَاكَ وَذكر أَنه اشْترى أَرضًا فِيهَا شجر عِنَب ثمَّ حضر عِنْده خصمان اتجه على أَحدهمَا حَتَّى حكم بِهِ عَلَيْهِ ثمَّ إِن الْمَحْكُوم عَلَيْهِ وصل إِلَى بَيت القَاضِي لَيْلًا وناداه فَأَجَابَهُ فَقَالَ يَا سيدنَا أَنا فلَان وَمَعِي شريم لَهُ كَذَا وَكَذَا أسنه وَأُرِيد أَن أتقدم بِهِ إِلَى حظيرتك أقطعها مُكَافَأَة لحكمك عَليّ فَدَعَاهُ القَاضِي ولاطفه وَرُبمَا غرم لَهُ مَا حكم بِهِ عَلَيْهِ ثمَّ لما أصبح بَاعَ الأَرْض وَقَالَ لَا تصلح لحَاكم مزرعة وَكَانَت وَفَاته على الْقَضَاء بِصَنْعَاء سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة
وَمِنْهُم عَليّ ابْن القَاضِي أَحْمد الْمَذْكُور أَولا ولي قَضَاء عدن على حَيَاة أَبِيه وَكَانَ خيرا وَتزَوج بابنة الْفَقِيه طَاهِر وَأقَام بعد أَبِيه قَاضِيا مُدَّة ثمَّ انْعَزل عَن الْقَضَاء فسكن سيرا مَعَ امْرَأَته واستولدها ابْنه عبد الله وَهُوَ الَّذِي كَانَ سَببا لوصول الْفَقِيه أَحْمد وَمُحَمّد ابْني مَنْصُور الْجُنَيْد إِلَى عرشان
استدعاه ليقرىء وَلَده عبد الله الْفِقْه وَكَانَ يسمع الحَدِيث وَكَانَت وَفَاته بقرية سير فِي شهر رَجَب أحد شهور سنة خمس وَعشْرين(1/367)
وسِتمِائَة وَكَانَ قد بلغ عمره خمْسا وَسِتِّينَ سنة وَهُوَ آخر من ولى الْقَضَاء من ذُرِّيَّة الْحَافِظ
وَمِنْهُم ابْنه أَبُو مُحَمَّد عبد الله يعرف بِالْقَاضِي عبد الله بن عَليّ مولده لإحدى عشرَة لَيْلَة خلت من جُمَادَى الْآخِرَة لَيْلَة الْجُمُعَة عِنْد طُلُوع الْفجْر من سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة أمه ابْنة القَاضِي طَاهِر بن يحيى تفقه بالفقيه أَحْمد بن مُحَمَّد الْجُنَيْد ثمَّ تفقه بِسَعْد المَخْزُومِي وَأخذ عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْحَضْرَمِيّ وَعَن حسن بن رَاشد أَخذ الْبَيَان واللمع أَخذه عَن عمر بن عبد الله الْحرَازِي الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله فِي أهل جبلة وَكَانَ فَقِيها فَاضلا ذَاكِرًا للفقه وَكَانَ سليم الصَّدْر ذكر أَن الْملك المظفر حط مرّة على قرب من جبلة فَدَخلَهَا الْفَقِيه أَبُو بكر بن دعاس وَجعل يدْخل الْمدَارِس ويذاكر الْفُقَهَاء ليمتحنهم لمضادة الْمَذْهَب إِذْ كَانَ حنفيا فَذكر النَّاقِل أَنه دخل الْمدرسَة النجمية وَكَانَ هَذَا الْفَقِيه قَاعِدا بهَا فذاكره بعدة مسَائِل وَهُوَ يجِيبه عَنْهَا بِمَا يشفي النَّفس وَمَعَ ذَلِك فَهُوَ غير محتفل بِهِ وَلَا عَارِف لَهُ ثمَّ أقبل يسْأَله ويراجعه فاعترف لَهُ ابْن دعاس بجودة الْفِقْه وَقَالَ مَا كنت أَظن مثل هَذَا فِي الْجبَال ثمَّ لما حضر مقَام السُّلْطَان أخبرهُ بِهِ وَأَنه فَقِيه عَارِف وَكَانَ يُفْتِي أَيَّام قَضَاء مُحَمَّد بن يُوسُف اليحيوي فَلَمَّا تكَرر من مُحَمَّد بن يُوسُف مَا لَا يَلِيق بالقضاة كتب إِلَيْهِ أبياتا مِنْهَا ... أما تتقي ذَا الْعَرْش يَوْم حسابه ... أما ترعوي عَن موبقات العظائم
كَأَنَّك بالدنيا وَقد زَالَ ظلها ... وَيذْهب مَا فِيهَا كأضغاث حالم ... وَكَانَ يحب خمول الذّكر صبورا على التدريس عَارِفًا بطريقه شَدِيد الْغَضَب فِي ذَات نَفسه وَإِنَّمَا كَانَ يُنكر على القَاضِي مُحَمَّد بن يُوسُف لذَلِك وتفقه بِهِ جمَاعَة كَثِيرُونَ وَكَانَت وَفَاته يَوْم الِاثْنَيْنِ لخمس عشرَة لَيْلَة خلت من الْحجَّة سنة سِتّ وَسبعين وسِتمِائَة أدْرك الْفَقِيه أَحْمد بن مُحَمَّد الْجُنَيْد وَأخذ عَنهُ وَعَن غَيره بوالده وَحج مرَارًا فَأخذ عَن المقيمين بهَا والواردين إِلَيْهَا وَكَانَ ذَا مسموعات فِي إجازات من الشُّيُوخ وَغَيرهم من الأكابر ولي مِنْهُ إجَازَة عَامَّة وَكَانَ صبورا على الإقراء إِلَى أَن توفّي آخر جُمُعَة من محرم سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة ثمَّ خَلفه ابْنه مُحَمَّد وَكَانَ طَرِيقه طَرِيق أَبِيه إِلَى أَن توفّي بجمادى الْآخِرَة سنة إِحْدَى وَعشْرين وَسَبْعمائة
وَمِنْهُم أَبُو الْخطاب عمر بن أبي بكر بن عمر بن الشَّيْخ الْحَافِظ عَليّ بن أبي بكر مولده أحد جمادين من سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَكَانَ ذَا مسموعات وإجازات(1/368)
طَرِيقه طَرِيق ابْن عَمه أَحْمد وَكَانَ فِيهِ سخاء نفس يطعم الطَّعَام وَيكرم من قَصده من الْأَنَام بِحَيْثُ يستكثر ذَلِك على عَادَة أَصْحَابه وَكَانَ على ذَلِك حَتَّى توفّي سَابِع عشر شعْبَان سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة وَخَلفه ابْنه عبد الله وَكَانَ فَقِيها خيرا ذَا مَكَارِم أَخْلَاق على منوال أَبِيه حَتَّى توفّي صبح الِاثْنَيْنِ لثلاثين من جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى عشرَة وَسَبْعمائة بعد أَن بلغ عمره سِتا وَأَرْبَعين سنة وَخَلفه أَخ لَهُ اسْمه أَبُو بكر فَقِيه ذُو دين متصدر للوارد إِلَى عرشان يذكر بِالدّينِ وَمَكَارِم الْأَخْلَاق وَفِيهِمْ الْآن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن مَنْصُور بن الْفَقِيه الْحَافِظ عَليّ بن أبي بكر مولده رَجَب سنة خمسين وسِتمِائَة وتفقه بِابْن عَمه عبد الله بن عَليّ مقدم الذّكر وَأخذ مسموعات الْكتب عَن وَالِده أَحْمد وَأخذ الْفِقْه أَيْضا عَن عبيد بن أَحْمد صَاحب السهولة وَعَن صَالح بن عمر من السفال وَمُحَمّد بن أسعد بن الجميم من سهفنة وَهُوَ بَاقٍ إِلَى الْآن فِيهِ مُرُوءَة وَأنس لمن يصله وَهُوَ آخر فُقَهَاء ذُرِّيَّة الْحَافِظ
وَمِمَّنْ ذكر من أهل أبين جمَاعَة مِنْهُم نعيم بن مُحَمَّد الطريي نِسْبَة إِلَى قَرْيَة من قرى أبين تعرف بالطرية خرج مِنْهَا جمَاعَة من أَعْيَان الْعلمَاء والصلحاء هَذَا نعيم أحدهم كَانَ يُقَال لَهُ نعيم عشري الْيمن الناصب نَفسه لمن امتحن رزق نظرا جيدا فِي التَّعْبِير وَكَانَ يعرف عشرَة عُلُوم فَلذَلِك قيل عشري الْيمن وَسكن مَسْجِد الرِّبَاط وَكَانَت وَفَاته بعد سِتّمائَة تَقْرِيبًا
وَمِنْهُم عَليّ بن الْفَقِيه عمر بن عبد الْعَزِيز بن أبي قُرَّة الْمُقدم ذكره مَعَ أَصْحَاب ابْن عبدويه وَأثْنى ابْن سَمُرَة على وَلَده هَذَا وَقَالَ وَكَانَ حَافِظًا للتفسير عَارِفًا بِهِ واعظا على المنابر محققا لتعبير الرُّؤْيَا رأى بَعضهم الْفَقِيه نعيم بعد مَوته فَسَأَلَهُ عَن مَنَام فَقَالَ صرف التَّعْبِير عني إِلَى الْفَقِيه عَليّ بن عمر وَكَانَ مَقْبُول الْكَلِمَة عِنْد أهل بَلَده ذكر أَن سَبَب ذَلِك أَنه كَانَ مَعَ أَبِيه فِي السرين فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة قَالَ لَهُ يَا بني قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعْوَة الْمُسَافِر وَالْوَالِد لَا ترد وَأَنا وَالِد ومسافر ثمَّ دَعَا لَهُ فَأدْرك طرفا من الدُّنْيَا أَيَّام يَاسر بن بِلَال المحمدي ثمَّ خَلفه ابْنه مُحَمَّد
قَالَ ابْن سَمُرَة تفقه بشيخي أبي عبد الله مُحَمَّد بن مُوسَى العمراني قَالَ وَكَانَ(1/369)
خبيري وَمن أترابي أَيَّام الدَّرْس فِي مصنعة سير وَوليت بعده قَضَاء أبين من جِهَة القَاضِي الْأَثِير ونكحت زَوجته وَكَانَت وَفَاته بخنفر فِي ذِي الْقعدَة سنة تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة وقبره بالميدان
وَمِنْهُم مفتي الْحرم مُحَمَّد بن مُفْلِح بن أَحْمد العجيبي نسبا من قوم هُنَالك يعْرفُونَ بالعجيبيين قَامَ بِمَكَّة مُدَّة أَيَّام يدرس ويفتي وَإِلَيْهِ انْتهى ذَلِك فِي مَكَّة وَعنهُ أَخذ الْفَقِيه عمر التباعي وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة آخر المئة السَّادِسَة وانتقل ذَلِك إِلَى ابْن أبي الصَّيف
وَمِنْهُم أَبُو الْعَتِيق أَبُو بكر بن أَحْمد العندي نسبا الأبيني بَلَدا من قوم يسمون الأعنود مِنْهُم جمَاعَة يسكنون أبين ولحج وعدن أثنى عمَارَة على هَذَا الرجل ثَنَاء مرضيا وَلما جعله آخر من ذكر من الشُّعَرَاء اعتذر وَقَالَ وَمِنْهُم من جعلته فَارس الأعقاب وجمال مَا مضى وَمَا سَيَأْتِي من الأعقاب
الأديب الْفَاضِل فلَان بن فلَان ثمَّ قَالَ وَمَا من شِيمَة من شيم الإنسانية وفضيلة من فضائلها المكتسبة والنفسانية إِلَّا وَيجب أَن يفرد فِي جميل ذكرهَا تصنيف ويجرد فِي جواهرها تأليف ثمَّ قَالَ وَلَا أعرف قبله وَلَا بعده لن أصدق فِيهِ إِذا قلت أَنه لَيْسَ مثله ذُو دين حُصَيْن وعقل رصين وسؤدد عريض وكرم مستفيض وتواضع لَا يفِيض وَأما البلاغة فَهُوَ إمامها وَبِيَدِهِ زمامها وَأما خاطره فأهدى من النَّجْم الساري وأسلس من العذب الْجَارِي وَعبارَته لَا يعوقها حبس وَلَا يشوبها لبس مولده بلد أبين وَكَانَ أَبوهُ من أعيانها والمعدود من أهل الرَّأْي من أَهلهَا يَنْتَهِي النَّاس فِيهَا إِلَى رَأْيه وَكَانَ ابْنه هَذَا موفقا فِي صغره مُسَددًا فِي كبره
وَلَقَد حكى أَن معلمه كَانَ يُحِبهُ ويفضله على بَقِيَّة أترابه وَيَدْعُو لَهُ ثمَّ يَقُول وَالله ليخرجن هَذَا سيدا رَئِيسا فَيُقَال لَهُ من أَيْن علمت ذَلِك
فَيَقُول إِنِّي مَتى فسحت للصبيان على جاري الْعَادة فرحوا وذهبوا إِلَّا هُوَ فَإِنَّهُ يقْعد عِنْدِي وَكَانَ عمره حِينَئِذٍ عشر سنوات
قَالَ عمَارَة فَمَا أحقه بقول الشَّاعِر(1/370)
.. بلغت لعشر مَضَت من سنيك ... مَا يبلغ السَّيِّد الأشيب
فهمك فِيهَا جسام الْأُمُور ... وهم أُولَئِكَ أَن يلعبوا ... ثمَّ لما حفظ الْقُرْآن دخل مَدِينَة عدن فَقَرَأَ بهَا علم الْأَدَب وَالْفِقْه وَعلم الْحساب وَمهر فِي جَمِيع ذَلِك ونظم ونثر وَحَازَ فضلا وَاسِعًا وعلما نَافِعًا وعدن إِذْ ذَاك بيد الشَّيْخ بِلَال بن جرير المحمدي مولى السُّلْطَان الدَّاعِي مُحَمَّد بن سبأ بن مُحَمَّد وَكَانَ لَهُ كَاتب توفّي فِي تِلْكَ الْمدَّة والأديب هَذَا قد صَار يذكر بِالْفَضْلِ وَالدّين وَحين توفّي كَاتب بِلَال احْتَاجَ إِلَى طلب غَيره قَالَ عمَارَة فأرشده رائد السَّعَادَة إِلَى هَذَا الأديب فاستدعاه فحين حَضَره أعجبه جماله وسمته ثمَّ فاتحه بالْكلَام فازداد عجبه بِهِ وَعلم أَن الله قد أبدله بِأَفْضَل من كَاتبه الَّذِي ذهب ثمَّ ولاه كِتَابَة يَده وَلما عرف فَضله جعله بِمَنْزِلَة الْوَلَد والصاحب وَالْمُدبر لأموره بِحَيْثُ كَانَ لَا يقطع أمرا دون مُرَاجعَته وَلَقَد سمع مِنْهُ مرّة وَهُوَ يَقُول لَهُ حِين رَاجعه بِالْجَوَابِ لقوم قد وصلوا من نواح شَتَّى وَالْإِجَازَة لآخرين وفدوا يَا مولَايَ الأديب الدولة دولتك وَالْمَال مَالك فأجب وأثب كَيفَ شِئْت وَلمن شِئْت وَكتب مرّة إِلَى بِلَال أَيْضا يشفع لقوم مَا مِثَاله النَّاس سَبَب إِحْسَان الحضرة إِلَيّ وأنعامها عَليّ يَعْتَقِدُونَ أَنِّي عِنْدهَا أشفع وأنفع وَقد تشفع بِي إِلَيْك بِكَذَا فَعَاد جَوَاب بِلَال أَنْت يَا مولَايَ الْمَالِك وقدرك وَالله عِنْدِي أجل أَن تكون شَفِيعًا بل مَبْسُوط اللِّسَان وَالْيَد وَلَيْسَ على أَمرك أَمر
ثمَّ لما وقف الأديب على الْجَواب كتمه تواضعا وتحرزا عَن حسد من حول بِلَال قَالَ عمَارَة فوقفت عَلَيْهِ سرا فحين علم أَنِّي وقفت عَلَيْهِ أحلفني بِاللَّه يَمِينا مُغَلّظَة أَنِّي لَا أعلمت بِهِ أحدا من المكاثرين لِبلَال لَا من أهل السَّيْف وَلَا من أهل الْقَلَم فاعتمدت ذَلِك وَهَذَا من أدل دَلِيل على كَمَال عقله وَشدَّة تواضعه وَلَقَد كَانَ يُبَالغ فِي ذَلِك حَتَّى لَا يكَاد يعرف مَنْزِلَته من الشَّيْخ بِلَال إِلَّا لأفراد من الْخَواص وَكَانَ يجْتَهد على مُرَاعَاة بواطن المكاثرين لِبلَال وَكَانَ تَارِكًا للتظاهر بالجاه والمنصب قَالَ عمَارَة وَلَو لم يكن لهَذَا الْفَقِيه الأديب غير هَذِه الْخصْلَة لكَانَتْ كَافِيَة شافية مغنية عَمَّا سواهَا من المناقب إِذْ فِيهَا قهر النَّفس وصدها وَهُوَ الْجِهَاد الْأَكْبَر كَيفَ لَا وَله مَنَاقِب غَيرهَا كَثِيرَة مِنْهَا أَنه كَانَ مَتى سمع بقدوم قافلة إِلَى عدن لقيها إِلَى الْبَاب وَسَأَلَ عَمَّن فِيهَا من(1/371)
الْفُضَلَاء وَذَوي الْأَلْبَاب فَمَتَى ظفر بِوَاحِد مِنْهُم بَالغ فِي الْتِزَامه وَالسَّلَام عَلَيْهِ ولازمه أَن ينزل مَعَه إِمَّا فِي دَاره أَو بِقرب مِنْهُ ثمَّ يتَوَلَّى إكرامه وَقَضَاء حَوَائِجه من بيع أَو شِرَاء ويبذل فِي ذَلِك مَا لَاق من مَاله أَو جاهه ثمَّ إِن كَانَ مِمَّن يفد على الْمُلُوك تسبب لَهُ فِي الْوُصُول تسببا لائقا بِحَيْثُ يعود الْفَقِير غَنِيا والمقل مكثرا وَكَانَ هَذَا الْعَمَل مِنْهُ عَاما وَقد ذكرت مَعَ ذكر عمَارَة مَا فعله من عمل الشّعْر واستخراج الجوائز ومناقب هَذَا أَكثر من أَن تحصر وَبَعضهَا مَوْجُود فِي شعر عمَارَة الَّذِي جمع بِهِ شعراء الْيمن وكتابي هَذَا لَائِق لَهُ الِاخْتِصَار وَلَو لم يكن لَهُ من الدَّلِيل على عُمُوم خَيره إِلَّا أَن أهل زبيد لما طَال عَلَيْهِم الْبلَاء من ابْن مهْدي وَاشْتَدَّ خوفهم وَطَالَ حصارهم خرج مِنْهُم خلق كثير وركبوا الْبَحْر وقصدوا عدن فبذل هَذَا الرجل كرامته وجاهه لأعيانهم وأكابرهم وَمَاله وشفقته لفقرائهم وضعفائهم حَتَّى دمل كَلمهمْ وسد ثلمهم وَكَانَ مَتى حدث من فَاضل زل زلَّة مَعَ السُّلْطَان اجْتهد لَهُ فِي الْعذر عَنْهَا
حُكيَ أَن ابْن الطرائفي الْمَعْرُوف بِأبي طَالب قدم عدن ومدح الدَّاعِي مُحَمَّد بن سبأ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة بقصيدة لأبي الصَّلْت كَانَ مدح بهَا الْأَفْضَل بن أَمِير الجيوش أَولهَا ... نسجت غرائب مدحك التشبيبا ... وَكفى لَهُ غزلا لنا ونسيبا
وَأَنا الْغَرِيب زَمَانه ومكانه ... فَاجْعَلْ نوالك فِي الْغَرِيب غَرِيبا ... ثمَّ لما قدم الرشيد عدن أهْدى للداعي الدِّيوَان فَوجدَ القصيدة فَكتب إِلَى الأديب من الدملوة أَن يسير إِلَيْهِ قصيدة ابْن الطرائفي فَعلم الأديب أَنه قد أدْرك ابْن الطرائفي فكتبها بِخَطِّهِ وألحقها اعتذارا عَن ابْن الطرائفي من شعره من نَفسه
... هَذِه صفاتك يَا مكين وَإِن غَدا ... فِيمَن سواك مديحها مَغْصُوبًا
فَاغْفِر لمهديها إِلَيْك فَإِنَّهُ ... قد زَادهَا تشريف طيبك طيبا ... وَأما إجادته بطرِيق كِتَابَة الْإِنْشَاء فَذكر الْفَقِيه عمَارَة أَنه سمع الشَّيْخ أَبَا الْحجَّاج وَالْقَاضِي الجليس أَبَا الْمَعَالِي وهما يَوْمئِذٍ كَاتبا إنْشَاء الدولة العلوية يَقُولَانِ غير مرّة مُجْتَمعين ومفترقين لم يصل إِلَيْنَا مُكَاتبَة لأحد من الْآفَاق وَلَا رَأينَا لكتاب الشَّام وَالْعراق كمكاتبات ترد إِلَيْنَا من جَزِيرَة الْيمن إنْشَاء الأديب أبي بكر بن أَحْمد العندي فَإِن لَهَا(1/372)
بلاغة تشهد عذوبة مطبوعها بكرم ينبوعها وألفاظا تدل مَعَانِيهَا على فضل مغانيها
وَأما شرِيف همته وعظيم نزاهته فَإِنَّهُ لما تزوج ابْنة الشريف أبي الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الْعمريّ حمل إِلَيْهِ أهل عدن أَشْيَاء على اخْتِلَاف طبقاتهم يسمونه الطرح وَذَلِكَ عَادَة جَارِيَة لَهُم فَلَمَّا اجْتمع ذَلِك بداره عرض عَلَيْهِ فَأَعَادَ كل شَيْء إِلَى أَهله مَعَ زِيَادَة وشكر ثمَّ لما بلغ ذَلِك الشَّيْخ بِلَال والداعي مُحَمَّد بن سبأ استحسنا ذَلِك مِنْهُ وشكراه ودفعا إِلَيْهِ مثل الَّذِي رده وَله أشعار هِيَ أرق من النسيم وَأحلى من التسنيم مِنْهُ مَا يَكْتُبهُ أَعْيَان النَّاس فِي دُورهمْ وقصورهم فِي الْغَالِب وَهُوَ لما أمره الدَّاعِي مُحَمَّد بن سبأ أَن ينظم أبياتا ليكتبها فِي المنظر بعدن ... دَار تعظم بالمعظم شَأْنهَا ... وازداد عزا بالمكين مَكَانهَا ... وَهِي من جملَة أَبْيَات كَثِيرَة تركتهَا لشهرتها وامتحن فِي آخر عمره بكفاف بَصَره
قَالَ عمَارَة فحين بَلغنِي ذَلِك علمت أَن الزَّمَان قد سلب بصيرته حِين سلب بَصَره وَأَن الْأَيَّام طمست بذلك منهاج جمَالهَا وَأَطْفَأت سراج كمالها فَلَمَّا صَار مكفوف الْبَصَر أَحْيَاهُ الله بثمرة الْخَيْر الَّذِي كَانَ يغرسه وحرسه نَاظر الْإِحْسَان الَّذِي كَانَ يرعاه ويحرسه فتضاعفت عِنْد أهل الدولة وجاهته وتزايدت عِنْدهم رفعته ونباهته وَأَرَادَ الزَّمن أَن يخفضه فرفعه وَأَن يضرّهُ فنفعه وَمَا أحسن قَول عبد الله بن مُحَمَّد بن مَرْزُوق فِي مدحه لَهُ وَقد كف بَصَره ... يَا مدره الْيمن الَّذِي بمقاله ... بَين الورى قلم الزَّمَان خَطِيبًا
فغدا قدامَة ثمَّ غير مقدم ... وفصيح وَائِل بالمقال معيبا
يَا يوسفا علما وَحفظ أَمَانَة ... اعذر عَليّ بِأَن ترى يعقوبا ... وَحصل عَلَيْهِ الْعَمى فِي أَيَّام الدَّاعِي عمرَان بن الدَّاعِي مُحَمَّد بن سبأ الْآتِي ذكره فِي الْمُلُوك إِن شَاءَ الله تَعَالَى فتعب عَلَيْهِ أَشد تَعب وآلمه أَشد ألم وَكَانَ لَهُ فِيهِ مدائح قل أَن تسمح القرائح بِمِثْلِهَا مِنْهَا القصيدة الكافية الَّتِي أَولهَا ... حياك يَا عدن الحيا حياك ... وَجرى رضاب لماه فَوق لماك ...(1/373)
.. وافتر ثغر الرَّوْض فِيك مضاحكا ... بالبشر رونق ثغرك الضَّحَّاك
وعلام أستسقي لاحيا لَك بَعْدَمَا ... ضمن المكرم بالندى سقياك
وهمت مكارمه عَلَيْك فصافحت ... عَن كَفه معنى الْغِنَا مغناك
فليهنك الْفَخر الَّذِي أحرزته ... لولاه حَسبك مفخرا وَكَفاك
قرت عُيُون الْخلق لاستقراره ... بك فلتقر بِقُرْبِهِ عَيْنَاك
شرفت رباك بِهِ فقد ودت لنا ... زهر الْكَوَاكِب أَنَّهُنَّ رباك
متبوئا سامي حصونك طالعا ... مِنْهَا طُلُوع الْبَدْر فِي الأفلاك
بالتعكر المحروس أَو بالمنظر المأنوس ... يحمي فرقدا وَسماك
وَله الْحُصُون الشم إِلَّا أَنه ... يحلو لَهُ بك طالعا حصناك
والمسك نثر تُرَاب أَرْضك مذ غَدا ... بك قاطنا والدر من حصباك
وَكَأن بحرك جوده متدفقا ... لَو لم تخضه سرائر الأفلاك
لَا قدر للدنيا لَدَيْهِ كَأَنَّهُ ... فِي بذل زخرفها من النساك
أدنى مواهبه الألوف سريعة ... متفردا فِيهَا بِلَا إشراك
مَا اخْتصَّ فِي الدُّنْيَا سواهُ بفضلها ... ملك من البَاقِينَ والهلاك
فالجود مبتسم الثغور ببذله ... أبدا وَبَيت المَال مِنْهُ شَاك
من دوحة الشّرف الزريعي الَّتِي ... رسخت بِأَصْل فِي المخافر زاك ... وَهِي طَوِيلَة أوردهَا عمَارَة فِي ذكر الأديب وَهِي تنيف على أَرْبَعِينَ بَيْتا متداولة بَين أهل الْيمن فَذكرُوا أَنه لما أنشدها بِحَضْرَة السُّلْطَان عمرَان أجَازه عَلَيْهَا بِأَلف دِينَار وَاعْتذر إِلَيْهِ بِعُذْر يسلي الحزين ويستخف الرزين ثمَّ لم يرض ذَلِك حَتَّى أَمر مناديا يُنَادي من دخل دَار الأديب فَهُوَ آمن قصد بذلك إِظْهَار كرامته وَأَن مَنْزِلَته لم تنقص عِنْده بعمى وَلَا غَيره ثمَّ لم يضع ذَلِك عِنْد الأديب بل لما مَاتَ السُّلْطَان عمرَان طلاه الأديب بِمَا يشد جِسْمه ثمَّ احتمله إِلَى مَكَّة عَام سِتِّينَ وَخَمْسمِائة فقبره هُنَاكَ وَكَانَت وَفَاة الأديب بعدن سنة ثَمَان وَخَمْسمِائة تَقْرِيبًا
وَمن آثاره بعدن الْمَسْجِد الَّذِي يعرف بِمَسْجِد العندي وَهُوَ مَسْجِد السالك غير بناءه اسْتِيلَاء الظلمَة على الْوَقْف من قيام بني مُحَمَّد بن عمرَان فِي الدولة المؤيدية إِلَى عصرنا سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة(1/374)
وَمن لحج ثمَّ من قَرْيَة بِنَا أبه الْعليا واستثقل ذَلِك فسميت بمنيبة بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون النُّون وَفتح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة مَعَ تشديدها ثمَّ هَاء سَاكِنة وَسميت بِالِاسْمِ الأول لِأَن أول بانيها رجل من قُرَيْظَة يُقَال لَهُ أبه بِفَتْح الْهمزَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة مَعَ التَّشْدِيد وَسُكُون الْهَاء خرج من هَذِه الْقرْيَة جمَاعَة من الْفُضَلَاء يَأْتِي ذكر المتحقق مِنْهُم إِن شَاءَ الله
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سعيد بن معن القريظي ميلاده سنة تسع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة وتفقهه بعمر بن عبد الْعَزِيز الأبيني مقدم الذّكر وَكَانَ فَقِيها صَالحا مُحدثا وَغلب عَلَيْهِ علم الحَدِيث وَله مُخْتَصر إحْيَاء عُلُوم الدّين وَدخل عدن فَجمع كتب السّنَن وَألف مِنْهَا كتاب الْمُسْتَصْفى ثمَّ كتاب الْقَمَر على منوال الْكَوْكَب وَكتاب الْمُسْتَصْفى من الْكتب الْمُبَارَكَة المتداولة فِي الْيمن يعتمده الْفُقَهَاء والمحدثون ويتبرك بِهِ الْفُقَهَاء والأميون
وَلَقَد وجدت بِخَط الْفَقِيه الْعَالم مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْحَضْرَمِيّ نفع الله بِهِ مَا مِثَاله أَخْبرنِي الْفَقِيه فلَان رجل سَمَّاهُ من أهل سردد أَنه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَهُ اقْرَأ كتاب الْمُسْتَصْفى على جَدِيد وعَلى الْفَقِيه إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد الْحَضْرَمِيّ ثمَّ قَرَأَ عَلَيْهِ الْكتاب ثمَّ قَالَ الْفَقِيه وَهَذَا الْمَنَام يدل على بركَة المُصَنّف وفضله وَفضل الْبَلَد الَّذِي صنف فِيهِ
قَالَ ابْن سَمُرَة قيل إِنَّه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدَعَا لَهُ بالتثبيت
لقِيه بعدن وَوجدت بِخَط بعض أكَابِر الْفُقَهَاء الْمُتَقَدِّمين مَا مِثَاله سَمِعت الشريف أَبَا الْجَدِيد يَقُول ثَبت لي بطرِيق صَحِيح عَن الشَّيْخ ربيع صَاحب الرِّبَاط بِمَكَّة أَنه رأى فِي سنة سِتّ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ من قَرَأَ الْمُسْتَصْفى الَّذِي صنفه مُحَمَّد بن سعيد كَامِلا دخل الْجنَّة
وامتحن بِالْقضَاءِ وَكَانَ ورعا زاهدا وَله قرَابَة هُنَالك يعْرفُونَ بالقريظيين إِلَيْهِم خطابة الْقرْيَة ثمَّ خطابة قَرْيَة فَور وَلَهُم الْجَامِع بالقرية الْمَذْكُورَة وَوَقفه لَهُم وَنَظره إِلَيْهِم يتوارثون ذَلِك إِلَى عصرنا ويتأدون من غلَّة الْوَقْف بعمارة الْمَسْجِد وَالْأَرْض فَلذَلِك لم يطق أحد أَن يُغَيِّرهُ وَمن هم بذلك من الظلمَة شغل بشاغل يمنعهُ وَمن ذُريَّته القَاضِي مُحَمَّد بن عَليّ بن مياس الْآتِي ذكره بطرِيق يَأْتِي بَيَانهَا إِن شَاءَ الله وَمِنْه أَخذ القَاضِي عَليّ الْقَضَاء إِذْ هُوَ ابْن بنته وَكَانَ قد امتحن بِالْقضَاءِ وَولي(1/375)
بعده أَخُوهُ عَليّ بن سعيد وَكَانَت وَفَاته بالقرية نَهَار الْأَرْبَعَاء وَقت الظّهْر لست مضين من جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة وَمِنْهُم مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل
وَمن ذِي أشرق جمَاعَة مِنْهُم مَسْعُود بن عَليّ بن مَسْعُود بن عَليّ بن جَعْفَر بن الْحُسَيْن بن عبد الله بن عبد الْكَرِيم بن زَكَرِيَّا بن أَحْمد القري بِفَتْح الْقَاف وخفض الرَّاء ثمَّ يَاء نسبا ثمَّ الْعَنسِي بنُون سَاكِنة بَين عين وسين مهملتين نِسْبَة إِلَى قَبيلَة كَبِيرَة من مذْحج مولده سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة تفقه بِأَحْمَد بن أسعد الكلالي وبعمر بن حُسَيْن بن أبي النَّهْي وبعلي بن أبي بكر بن سَالم وَشرح لمع الشَّيْخ أبي إِسْحَاق بِكِتَاب سَمَّاهُ الْأَمْثَال أثنى عَلَيْهِ غَالب الْفُقَهَاء وتفقه بِهِ جمع كَبِير لَا يكَاد يحصر عدهم من أهل تهَامَة وَالْجِبَال فَمن الْجبَال صهره على ابْنَته عبد الله المأربي الْآتِي ذكرهم وَيحيى بن سَالم وَمُحَمّد بن عمر بن فليح من الْجند ومُوسَى بن أَحْمد الوصابي وَمُحَمّد بن أسعد وَالِد سُلَيْمَان الْجُنَيْد الْآتِي ذكرهم
وَمن تهَامَة عَليّ بن قَاسم الْحكمِي وَإِبْرَاهِيم بن عجيل وَغَيرهم وامتحن بِأَن جعل قَاضِي قُضَاة الْيمن وَسبب ذَلِك الْقِصَّة الَّتِي قدمنَا ذكرهَا مَعَ ذكر القَاضِي أَحْمد العرشاني وَكَانَ من أثبت الْقُضَاة وأورعهم وَمِمَّنْ سلك طريقهم المرضية واستناب بِجَمِيعِ الأنحاء من هُوَ صَالح للْقَضَاء بعد اجْتِهَاد عَن السُّؤَال عَن حَاله وَمَاله وَلم يكن فِيمَن ولي الْقَضَاء أفقه مِنْهُ مَعَ الْوَرع وَكَانَ لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم ذكر لي جمَاعَة من الْمُتَقَدِّمين بأسانيد صَحِيحَة متواترة أَن بعض التُّجَّار بَاعَ من بعض الْمُلُوك وَهُوَ الْملك الَّذِي ولاه الْقَضَاء بضَاعَة كَبِيرَة بِمَال جزيل ثمَّ صَار يمطله بِالْمَالِ مرّة على مرّة بِحَيْثُ قلق التَّاجِر وتأذى من ذَلِك
وَبلغ القَاضِي مَسْعُود وشكا إِلَيْهِ فَكتب إحضارا لَهُ يَقُول فِيهِ {إِنَّمَا كَانَ قَول الْمُؤمنِينَ إِذا دعوا إِلَى الله وَرَسُوله ليحكم بَينهم أَن يَقُولُوا سمعنَا وأطعنا} ليحضر فلَان بن فلَان إِلَى مجْلِس الشَّرْع الشريف بِذِي أشرق وَلَا يتَأَخَّر إِن كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ثمَّ أَمر بالإحضار عونا وَأمره أَن لَا يُسلمهُ إِلَّا بيد السُّلْطَان فَلَمَّا وقف السُّلْطَان على ذَلِك قَالَ نعم أُؤْمِن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر نعم أُؤْمِن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ثمَّ خرج من فوره فَركب دَابَّة من دَوَاب النّوبَة(1/376)
وَسَار إِلَى القَاضِي وَكَانَ على قرب مِنْهُ بِمَدِينَة يُقَال لَهَا المنصورة أحدثها فَلَمَّا وصل إِلَى القَاضِي وَقرب من مَجْلِسه بِحَيْثُ يرَاهُ وَيسمع كَلَامه قَالَ لَهُ بِرَفْع صَوت اتَّقِ الله وساو خصمك فَقَامَ التَّاجِر بِإِزَاءِ السُّلْطَان وَادّعى عَلَيْهِ بِالْمَالِ الثَّابِت لَهُ قبله فاعترف بذلك فَقَالَ التَّاجِر التَّسْلِيم أَو مُوجب الشَّرْع فَقيل للتاجر أَلا تصبر حَتَّى يصل السُّلْطَان دَاره ثمَّ يسلم لَك فَامْتنعَ وَقَالَ لَا أفارقه عَن هَذَا الْمَكَان حَتَّى أَقبض مَا هُوَ لي فبادر السُّلْطَان وَأمر من جَاءَهُ بِالْمَالِ وَالسُّلْطَان يَوْمئِذٍ مُقيم بِمَجْلِس قريب من مجْلِس القَاضِي فَلَمَّا وصل المَال فسلمه للتاجر وَأَبْرَأ ذمَّة السُّلْطَان فَحِينَئِذٍ قَامَ القَاضِي وَسلم على السُّلْطَان واعتنقه فَقبل السُّلْطَان بَين عَيْنَيْهِ وَقَالَ صدق من سماك كَمَال الدّين وَعَاد السُّلْطَان حَيْثُ كَانَ
وَمن غَرِيب مَا حُكيَ من ثقوب فطنته أَن امْرَأَة وصلته وَمَعَهَا ثَلَاثَة رجال فَادّعى أحدهم أَنَّهَا ابْنَته وَادّعى الآخر أَنَّهَا زَوجته وَادّعى الثَّالِث أَنَّهَا مملوكته وَادعت الْمَرْأَة أَنهم مماليكها وَأقَام كل وَاحِد مِنْهُم بينهة على صدق دَعْوَاهُ فَحكم لمن ادّعى الْبُنُوَّة أَنه تزوج بحرة وَهُوَ مَمْلُوك فأولدت حرَّة اشترت أَبَاهَا فَعتق عَلَيْهَا وَلمن ادّعى الزَّوْجِيَّة بِأَنَّهَا تزوجته وَهُوَ مَمْلُوك ثمَّ اشترته فانفسخ نِكَاحهَا وَبَقِي على الْملك وَلمن ادّعى ملكهَا تتعارض بينتها وبينته وسقوطهما على الْأَصَح من مَذْهَب الشَّافِعِي وَله مُخْتَصر رد بِهِ على طَاهِر بن يحيى حِين تظاهر بِمَا تظاهر من المعتقد بعد وَفَاة أَبِيه وَبَالغ فِيهِ بالإنكار عَلَيْهِ وَلم يزل فِي قَضَائِهِ موفقا حَتَّى توفّي سنة أَربع وسِتمِائَة بِذِي أشرق وَكَانَ لَهُ ولد اسْمه عمر توفّي بحياته بعد أَن تفقه
وَمِنْهُم الأخوان مُحَمَّد وأسعد ابْنا الْفَقِيه طَاهِر بن يحيى بن ابي الْخَيْر مولد مُحَمَّد سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة ولي قَضَاء عدن وَأخذ عَنهُ بهَا جمَاعَة سيرة ابْن هِشَام وَغَيرهَا وَهُوَ أحد طَرِيقين لنا بهَا لما ارتحل مَعَ أَبِيه مَكَّة وَأَخذهَا عَن جمَاعَة وَكَانَ أَخذه لَهَا عَن عمر بن عبد الحميد وَلم أتحقق لأحد مِنْهُمَا تَارِيخا
وَمِنْهُم أَبُو الْحسن عَليّ بن سَالم بن عيان بن فضل بن مَسْعُود العبيدي نسبا(1/377)
بِالْبَاء الْمُوَحدَة مخفوضة بعد عين مُهْملَة مَفْتُوحَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ دَال مُهْملَة ثمَّ يَاء نسب نِسْبَة إِلَى جد لَهُ بِبَلَد كَبِيرَة فِي الْيمن مِنْهُم نَاس يسكنون وَاديا يُقَال لَهُ وَادي عميد هَذَا مِنْهُم وَلذَلِك كَانَ يُقَال لَهُ العميدي لِأَنَّهُ كَانَ يسكن فِيهِ وَهُوَ على نصف مرحلة من الْجند وَضَبطه بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة ثمَّ مِيم مخفوضة ثمَّ يَاء سَاكِنة مثناة من تَحت ثمَّ دَال مُهْملَة على وزن فعيل كَانَ هَذَا الْفَقِيه يسكن قَرْيَة من الْوَادي الْمَذْكُور تعرف بالظفير بِظَاء قَائِمَة مُعْجمَة بعد ألف وَلَام ثمَّ فَاء مخفوضة ثمَّ يَاء مثناة سَاكِنة من تَحت ثمَّ رَاء وَله إِلَى الْآن بهَا ذُرِّيَّة يحترمون ويقدرون ببركته وَكَانَ فَقِيها صَالحا غلبت عَلَيْهِ الْعِبَادَة وَشهر بالصلاح واستجابة الدُّعَاء بِحَيْثُ كَانَ يقْصد من أنحاء الْيمن للتبرك وَطلب الدُّعَاء نفع الله بِهِ وَكَانَ إِذا قَامَ لورده بِاللَّيْلِ بغرفة من بَيته أنارت الغرفة حَتَّى كَأَنَّمَا يُوقد بهَا شمع فَيَأْتِي النَّاس إِلَى حول ذَلِك ويقفون وَيدعونَ الله بِمَا شَاءُوا فَلَا يلبثُونَ أَن يَجدوا أَمارَة الاستجابة وَأَخْبرنِي شَيْخي الإِمَام أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد الأصبحي نور الله مضجعه أَنه ثَبت لَهُ بِنَقْل صَحِيح أَن هَذَا الْفَقِيه كَانَ مَتى قَامَ لورده بِاللَّيْلِ أنار الْموضع حَتَّى يخال أَن الْفَقِيه يُوقد لَهُ شمع وَأَن بعض الْفُقَهَاء سمع بذلك فَقَالَ رُبمَا أَن يكون ذَلِك من الشَّيْطَان
ثمَّ وصل إِلَى الْفَقِيه على سَبَب الزِّيَارَة فَأكْرمه الْفَقِيه وبيته مَعَه ثمَّ جَاءَ من اللَّيْل وَقت الْورْد فَقَامَ الْفَقِيه لورده فأضاء الْبَيْت إضاءة عَظِيمَة ثمَّ إِن الْفَقِيه الضَّيْف لما رأى ذَلِك جعل يَتْلُو شَيْئا من الْقُرْآن ليبطل فعل الشَّيْطَان إِن كَانَ فَلم يَزْدَدْ إِلَّا إضاءة بِحَيْثُ أَنه رأى نملة تمشي على جِدَار الْبَيْت وَلم تُؤثر تِلَاوَته فَعلم أَن ذَلِك من فضل الله سُبْحَانَهُ فَاسْتَغْفر الله تَعَالَى واستطاب بَاطِن الْفَقِيه وَسَأَلَهُ أَن يسْتَغْفر لَهُ فَفعل ذَلِك
وَأَخْبرنِي الثِّقَة من أهل الْعلم وَالدّين أَنه ثَبت لَهُ عَن هَذَا الْفَقِيه أَن رجلا من أَصْحَابه كَانَ مَشْهُورا بالأمانة والديانة وَكَانَ النَّاس يودعونه أَمْوَالهم فَقدر الله أَن مَاتَ فَجْأَة فَلم يكد أهل الوداعات يتركون أحدا يقبره إِلَّا بِمَشَقَّة وهربت امْرَأَته وَولده وَلم يدريا مَا يفْعَلَانِ واستخفيا عِنْد بعض المعاريف ثمَّ إِن الْمَرْأَة ألهمت أَن ترسل وَلَدهَا إِلَى الْفَقِيه يُخبرهُ بِمَوْت أَبِيه صَاحبه وَأَنه مَاتَ فَجْأَة وَمَعَهُ ودائع كَثِيرَة للنَّاس دَفنهَا وَلم يطلع أحد عَلَيْهَا فَقَالَت لابنها يَا بني تقدم إِلَى الْفَقِيه وَأخْبرهُ بحالنا وَأَن أَبَاك كَانَت مَعَه(1/378)
ودائع للنَّاس وَأَنه مَاتَ فَجْأَة وَأَنه آذَانا أَهلهَا بِحَيْثُ لم نقدر نحضر قبرانه لذَلِك ولكثرة طلب النَّاس بِمَا هُوَ لَهُم فَلَمَّا قَالَت لولدها بذلك وَهُوَ شَاب جَاهِل قَالَ لَهَا وَمَا عَسى أَن يفعل لنا الْفَقِيه فَلم تزل تلاطفه وَقَالَت يَا وَلَدي الصالحون لَهُم من الله مَا شَاءُوا فافزع إِلَيْهِ لَعَلَّ الله يفرج عَنَّا برحيل النَّاس ثمَّ مخلف أَبِيك فأجابها على كره وَتقدم إِلَى الْفَقِيه فَلَمَّا وَصله أخبرهُ بِأَنَّهُ ابْن فلَان صَاحبه وَأَن صفة مَوته كَذَا وَكَذَا فَاسْتَرْجع الْفَقِيه وترحم عَلَيْهِ ثمَّ الْتقط حَصَاة بَيْضَاء من الأَرْض وَقَالَ للصَّبِيّ اعرف هَذِه يَا وَلَدي فَإِذا عدت فَادْخُلْ أَنْت ووالدتك الْبَيْت سرا فَحَيْثُ تَجِد هَذِه الْحَصَاة من الْبَيْت فاحفر ذَلِك الْموضع ثمَّ إِن الْفَقِيه رمى بهَا إِلَى نَاحيَة بَيت الرجل فَلم يُمكن الصَّبِي إِلَّا استودع الْفَقِيه وَعَاد إِلَى أمه وَهُوَ بَين مكذب ومصدق فَلَمَّا وَصلهَا أخْبرهَا الْأَمر الَّذِي كَانَ من الْفَقِيه فَقَالَت يَا بني قد عرفت من الْفَقِيه أمورا كَثِيرَة أعظم من هَذَا
ثمَّ لما كَانَ اللَّيْل تسللا ودخلا الْبَيْت سرا ومعهما مَا يحفران بِهِ ومصباح يستضيئون بِهِ فَلَمَّا صَارا بِموضع من الْبَيْت رَأَتْ الْمَرْأَة حَصَاة بَيْضَاء كَمَا وصف لَهَا ابْنهَا فالتقطتها وَقَالَت يَا بني تعرف الْحَصَاة الَّتِي أراكها الْفَقِيه قَالَ نعم فأرته إِيَّاهَا فَقَالَ هِيَ وَالله هَذِه فَأَقْبَلَا على حفر الْموضع الَّذِي كَانَت بِهِ فأخرجا مِنْهُ ظرفا كَبِيرا بِهِ وداعات النَّاس على كل ودَاعَة مَكْتُوب اسْم صَاحبهَا وَمَا كَانَ لَهُ لم يكْتب عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ سرجا بيتهما وباتا فِيهِ فَلَمَّا أصبح الصَّباح طلب الصَّبِي من كَانَ فِي الْقرْيَة من أهل الوداعة وَسَأَلَهُ عَن أَمارَة مَا هُوَ لَهُ فَقَالَ بهَا فَأعْطى ثمَّ وصل الْبَاقُونَ من الْبعد فَفَعَلُوا ذَلِك وَأخذُوا مَا هُوَ لَهُم
وَحصل من بعض فُقَهَاء زَمَانه تظاهر ببدعة فهجره جَمِيع الْفُقَهَاء وأنكروا كَونه مِنْهُم وحذروا النَّاس مِنْهُ فَصَارَ لَا يكَاد يبتدأ بِالسَّلَامِ وَلَا يرد عَلَيْهِ فِي الْغَالِب فَضَاقَ بِهِ الْحَال وَعلم أَن هَذَا الْفَقِيه رُبمَا يلتبس عَلَيْهِ بعض حَاله لِأَنَّهُ لَا خبْرَة لَهُ بالبدع وأصولها بل مُعظم اشْتِغَاله بِالْعبَادَة فوصله وَصَارَ يخالطه وَيظْهر لَهُ الود فَكتب إِلَيْهِ بعض الْفُقَهَاء يحذرهُ مِنْهُ وَيَقُول لَهُ هُوَ على غير السّنة فَلَا تحل صحبته فشق ذَلِك على الْفَقِيه وَسَأَلَ الله تَعَالَى أَن يرِيه صدق مَا قيل عَن الْفَقِيه المبتدع فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِك إِذْ سمع قَائِلا يَقُول اقْرَأ وَقَرَأَ الْقَائِل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ} إِلَى قَوْله {سَوَاء السَّبِيل} فَلَمَّا أصبح لم يكن لَهُ هم غير الاختفاء عَن(1/379)
الْفَقِيه والاعتذار عَن مواجهته حَتَّى كَانَ ذَلِك سَببا لرجوعه إِلَى مَذْهَب السّنة نقلت ذَلِك من خطّ الإِمَام سيف السّنة
وَمِمَّنْ انْتفع بِهَذَا الْفَقِيه سُفْيَان الأبيني الْآتِي ذكره وَذَلِكَ أَن والدته كَانَت من أهل بلد الْفَقِيه وَكَانَ وَالِده يَأْمَن الْفَقِيه فِي الذّهاب وَالرُّجُوع لطلب التِّجَارَة فَتزَوج من عِنْده وَرُبمَا ولدت سُفْيَان عِنْده وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك إِن شَاءَ الله فِي ذكره وقدمت قَرْيَة الظفير فِي شهر شعْبَان سنة عشْرين وَسَبْعمائة لغَرَض زِيَارَة ابْن بنته وَالْمَوْجُود من ذُريَّته وتربته وأبحث عَن اللَّائِق من أَحْوَاله فَوجدت الْمَوْجُودين من ذُريَّته الْغَالِب عَلَيْهِم العامية لَا يعْرفُونَ شَيْئا من تَارِيخ وَلَا سواهُ وَوجدت مَعَهم مُقَدّمَة بِخَط الطواشي جَوْهَر المعظمي ختمة قُرْآن وَقفهَا بِالْبَلَدِ وَشرط نظرها للفقيه
وَمن ذُريَّته قُضَاة مشْعر موضعا من الشوافي وَضَبطه بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَضم الْعين الْمُهْملَة ثمَّ رَاء وَبَلغنِي أَن وَفَاته على آخر المئة السَّادِسَة تَقْرِيبًا
وَمن تهَامَة ثمَّ من زبيد بَنو أبي عقامة غير من تقدم وَقد اعتمدت فِي ذكرهم مَا ذكره الْفَقِيه عمَارَة من التَّرْتِيب وَخبر من أخبر بهم ابْن سَمُرَة وَقد تقدم ذكر جمَاعَة على مَا ذكرهم عمَارَة ورتب إِذْ هُوَ خَبِير بهم فَإِنَّهُ صحب جمعا مِنْهُم فَنقل مِنْهُم أَحْوَال متقدميهم كَمَا أوردته وَأورد من أهل طبقته جمَاعَة
مِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عَليّ بن أبي عقامة وَهُوَ ابْن أخي الْحسن بن مُحَمَّد القَاضِي الشَّهِيد الْمُقدم ذكره
قَالَ عمَارَة كَانَ فَقِيها فَاضلا شَاعِرًا مترسلا من شعره ... مَا لهَذَا الْوَفَاء فِي النَّاس قلا ... أَترَاهُم جفوه حَتَّى استقلا ... وَمن ترسلاته مَا كتبه إِلَى ابْن عَمه أبي حَامِد بن أبي عقامة بِسَبَب مناقشة حدثت بَينهمَا على حكم سل عني قَوْمك ويومك وَأمْسك تجدني مُعظما فِي النُّفُوس وَقَاعِدا على قمم الرؤوس
قَالَ عمَارَة وَمِمَّنْ عاصرته وعاشرته القَاضِي الْفَاضِل أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن(1/380)
القَاضِي عبد الله مقدم الذّكر وَيعرف بالحفائلي وَهُوَ لقب من ألقاب الْمكتب كَانَ نبيلا فَاضلا فَقِيها متكلما شَاعِرًا مترسلا رَئِيسا ممدحا يثيب على الْمَدْح إِلَيْهِ انْتَهَت رئاسة مَذْهَب الشَّافِعِي بزبيد وَإِلَى ابْن عَمه حاكمها يَوْمئِذٍ أبي مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي الْفتُوح وَأورد من شعر الحفائلي مَا كتبه جَوَابا إِلَى ابْن عَمه أبي الْعِزّ بن أبي الْفتُوح مقدم الذّكر قَوْله ... رفقا فدتك أوائلي وأواخري ... أَيْن الأضاة من الْفُرَات الزاخر
أَنْت الَّذِي نوهت بِي بَين الورى ... وَرفعت للسارين ضوء مفاخري ... وَله قصيدة يتشوق بهَا إِلَى إخوانه ... تشتاقكم كل أَرض تَنْزِلُونَ بهَا ... كأنكم لبقاع الأَرْض أمطار ... وَمِنْه مَا كتبه جَوَابا إِلَى عمَارَة ... إِذا فاخرت سعد الْعَشِيرَة لم يكن ... لأحلافها إِلَّا بأسلافك الْفَخر
وبيتك مِنْهَا يَا عمَارَة شامخ ... هوت تَحْتَهُ الشعرى ودان لَهُ الشّعْر ... وَمن مُعَاتَبَته لبَعض إخوانه مِمَّن تغير لَهُ عَن معهوده ... عذرتك لَو كَانَت طَرِيقا سلكتها ... مَعَ النَّاس أَو لَو كَانَ شَيْئا تقدما
فَأَما وَقد أفردتني وخصصتني ... فَلَا عذر إِلَّا أَن أَعُود مكرما ... وَهَذَا آخر مَا ذكره عمَارَة قَالَ ابْن سَمُرَة فِي حق هَذَا الحفائلي ولي قَضَاء زبيد من قبل الْحَبَشَة وَكَانَ مُعظما عِنْدهم ذَا جاه كَبِير وَعلم غزير تفقه بِأَهْل بَيته
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن القَاضِي عبد الله بن عَليّ بن مُحَمَّد وَهُوَ أَخُو الحفائلي وَأَخُوهُ أَبُو بكر بن عبد الله قَالَ وَآخرهمْ فِي هَذِه الْمدَّة يَعْنِي مُدَّة القَاضِي عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله القَاضِي بن أبي الْفتُوح الْمَذْكُور أَولا وَهُوَ حَاكم زبيد من جِهَة أثير الدّين قَاضِي قُضَاة الْيمن صدر دولة سيف الْإِسْلَام تفقه بِحسن الشَّيْبَانِيّ وَلما قيل لَهُ أَعنِي الشَّيْبَانِيّ يقْعد قَاضِيا بزبيد أَشَارَ عَلَيْهِم بِهِ لما قد خَبره من فقهه وَدينه وَلم يزل بَنو أبي عقامة قُضَاة زبيد وَرُبمَا كَانَ فِي التهائم مُنْذُ دخل ابْن زِيَاد وجدهم مُحَمَّد بن هَارُون إِلَى صدر الدولة المظفرية حَتَّى كَانَ آخِرهم القَاضِي إِبْرَاهِيم وَلم يكن مثبتا فِي الْقَضَاء فَلَمَّا ولي الإِمَام إِسْمَاعِيل الْقَضَاء وَتحقّق مِنْهُ مَا(1/381)
يُوجب الْعَزْل وعزم على عَزله من الْقَضَاء بزبيد أَشَارَ عَلَيْهِ من أَشَارَ بِأَن لَا يفعل ذَلِك حَتَّى يشاور الْملك المظفر وَهُوَ السُّلْطَان يَوْمئِذٍ فَكتب إِلَيْهِ يُخبرهُ بذلك فَأَدْرَكته عَلَيْهِ شَفَقَة لأجل أَهله وَمَا لَهُ من سَابق قدم بِالْقضَاءِ فجوب إِلَى الإِمَام إِسْمَاعِيل يستعطفه عَلَيْهِ وَيَقُول يَا سيد هُوَ من بَيت أَنْت تعلم حَالهم وسابقتهم فِي هَذَا الشَّأْن فَتصدق عَلَيْهِ بالْعَطْف وَالصَّبْر كَرَامَة لسلفه وَخرج الْجَواب مَخْتُومًا عَلَيْهِ اسْم القَاضِي أبي عون فَظن أَنه قَاضِي الْبَلَد لَا قَاضِي الْقُضَاة فوصل بِهِ إِلَيْهِ فحين رَآهُ فضه وَقَرَأَ كتاب قَاضِي الْقُضَاة وَجَوَاب السُّلْطَان ثمَّ طواه وَاعْتذر وَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى قَاضِي الْقَضَاء وأعلموه أَن الرَّسُول غلط وغلطت بِفَتْح الْكتاب فحين وصل الْكتاب إِلَى الإِمَام إِسْمَاعِيل وقرأه علم أَنه قد وقف عَلَيْهِ تغير خاطره من ذَلِك إِذْ كَانَ يحب أَن لَا يطلع على ذَلِك مَعَ مساعدة السُّلْطَان لَهُ كَيفَ مَعَ عدمهَا ثمَّ إِن ابْن أبي عقامة خرج من فوره يُرِيد أَرضًا لَهُ بِجِهَة المسلب ينظر حَالهَا فَلَمَّا عَاد مِنْهَا عثرت دَابَّته فَسقط فاندق عُنُقه فَلم يرفع إِلَّا مَيتا وَهُوَ آخر من ولي الْقَضَاء مِنْهُم وَذريته الموجودون بزبيد من بني عقامة لَيْسَ فيهم مشتغل بِالْعلمِ بل يتعانون الزِّرَاعَة وَمِنْهُم جمَاعَة يسكنون وَادي سِهَام بقرية تنْسب إِلَيْهِم فَيُقَال أَبْيَات الْقُضَاة والقرية تعرف بِمحل الدارية يَأْتِي ذكر المتحقق مِنْهُم إِن شَاءَ الله
وَمِنْهُم جمَاعَة يسكنون بِلَاد المعافر بقرية يَأْتِي ذكر المتحقق مِنْهُم أَيْضا إِن شَاءَ الله
وَمن أهل الْجبَال ثمَّ من أهل الصلو جمَاعَة يعْرفُونَ ببني عبد الْملك ثمَّ من بني ضباس فَخذ من الأشعوب وَضبط ضباس بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ ألف ثمَّ سين مُهْملَة أول من ذكر ابْن سَمُرَة مِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْملك بن مُحَمَّد بن أبي الْفَلاح كَانَ مدرسا بِجَامِع عمق قَرْيَة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالْمِيم ثمَّ قَاف سَاكِنة وَهُوَ جَامع أحدثه الشَّيْخ جَوْهَر المعظمي على مَا سَيَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله ثمَّ لما توفّي خَلفه أَخُوهُ أَحْمد بن عبد الْملك ثمَّ انْتقل التدريس إِلَى ابْن أَخِيه الْقَاسِم بن مُحَمَّد مقدم الذّكر وَذَلِكَ بحياة عَمه أَحْمد وَكَانَ حَاكم الْبَلَد ثمَّ خَلفه ابْن عَمه عمر ثمَّ كَانَ آخر مشاهيرهم ولد لَهُ اسْمه يُوسُف كَانَ(1/382)
فَقِيها متفننا بالفقه والنحو واللغة تفقه فِي بدايته بِبَعْض أَهله وَأخذ النَّحْو عَن مُحَمَّد بن سعيد الْحِمْيَرِي وَحج مَكَّة فَأدْرك ابْن حسن فَأخذ عَنهُ وَعَن من وجد بِمَكَّة حِينَئِذٍ
قَالَ بعض الْفُقَهَاء من أهل ناحيته حِين سَأَلته عَن حَقِيقَة أمره هُوَ شيخ الْأَدَب إِلَيْهِ انْتهى الْعلم وَالْفضل وَالْفِقْه وَالدّين والكمال والورع وَالصَّلَاح لم يكن فِيمَن علمت مثله قبله وَلَا بعده فِي كَمَال طَرِيقه وَحسن تَحْقِيقه وَكَانَت وَفَاته فِي آخر المئة السَّابِعَة وانتجع عَن الْبَلَد مِنْهُم أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد تفقه بمصنعة سير وتفقه بالأصبحي وَكَانَ أفقه أَصْحَابه وأدركته يدرس فِيهَا وَأخذت عَنهُ بعض كَافِي الصردفي وَسَيَأْتِي ذكره فِي مدرسي المصنعة وهم بَيت علم وَصَلَاح
وَلَقَد كتب فَقِيه ناحيتهم فِي عصرنا الْآتِي ذكره إِلَيّ حِين كتبت إِلَيْهِ أسأله عَن الْفُقَهَاء بناحيته فَأَخْبرنِي عَن ذَلِك حَتَّى جَاءَ إِلَى ذكر هَؤُلَاءِ بني عبد الْملك فَقَالَ وَأما السَّادة بَنو عبد الْملك فِي عمق فهم الْفُضَلَاء الْقُضَاة الْعلمَاء الأتقياء الْأَبْرَار الأخيار المنتخبون مِمَّن سمعنَا مِنْهُم وعد جمَاعَة مِمَّن ذكرنَا
وَقد عرض ذكر الشَّيْخ جَوْهَر فِي غير هَذَا الْموضع لَكِن رَأَيْت ذكره هُنَا أولى لكَونه من ناحيته وَمِمَّنْ لَهُ على هَؤُلَاءِ الْقَوْم إفضال وَأَنه مَعْدُود من أَعْيَان الْفُضَلَاء وَهُوَ أَبُو الدّرّ جَوْهَر بن عبد الله المعظمي كَانَ أستاذا حَبَشِيًّا من موَالِي الزريعيين ونسبته المعظمي إِلَى الدَّاعِي مُحَمَّد بن سبأ فَإِنَّهُ كَانَ يلقب بالمعظم وَخَلفه فِي حصن الدملوة وَسَيَأْتِي ذكره أَعنِي سَيّده فِي الْمُلُوك
وَلما توفّي الْمُعظم خَلفه ابْنه عمرَان الملقب بالمكرم أبقى جوهرا على نِيَابَة الدملوة ثمَّ لما دنت وَفَاته جعله وَصِيّا على أَوْلَاده وَكَانُوا يَوْمئِذٍ صغَارًا كلهم فنقلهم من عدن إِلَى الدملوة وَأكْرمهمْ وَقَامَ بكفايتهم أحسن قيام وعضده فِي ذَلِك الشَّيْخ يَاسر بن بِلَال بن جرير المحمدي إِذْ كَانَ وزيرا لعمران ومديرا لدولته كَمَا كَانَ أَبوهُ مَعَ أَبِيه كَمَا سَيَأْتِي بَيَان ذَلِك إِن شَاءَ الله وَكَانَ جَوْهَر عبدا مُبَارَكًا تقيا ومشتغلا بِالْعلمِ أجمع فُقَهَاء عصره على تَسْمِيَته بِالْحَافِظِ وَكَانَ مَعَ ذَلِك فَقِيها مقرئا قل أَن يحفظ شَيْئا فينساه وَله مصنفات فِي علم الْقُرْآن والْحَدِيث والوعظ وَكَانَ يسلم من مَذْهَب موَالِيه ويعتمد خطه فُقَهَاء زَمَانه من أهل السّنة يواصلهم ويواصلونه وَمن كتبه الَّتِي صنفها فِي المواعظ كتاب سَمَّاهُ تذكرة الأخيار ومدخرة الأشرار وَمَا أحسن قَوْله فِي خطبَته لما علمت أَن الْمَوْت موردي والقبر مشهدي جعلته تَنْبِيها لنَفْسي من الْغَفْلَة وَتَذْكِرَة لي قبل يَوْم الرحلة لَعَلَّ يتغمدني الله بِالْعَفو عَن قَبِيح مَا أسديته ويتجاوز عَن شنيع مَا جنيته
وَأفهم من هَذِه الْخطْبَة أَنه قد عمل كتابين أَحدهمَا كتاب الْمُنَاجَاة والأدعيات وَالْآخر كتاب الرسائل وشريط الْوَسَائِل وَله كتاب سَمَّاهُ اللؤلؤيات جعله فصولا فِي المواعظ واستفتح كل فصل مِنْهَا(1/383)
بِحَدِيث أسْندهُ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ إِنَّمَا أوردت هَذِه الْأَحَادِيث مُسندَة لَا تنظم بسلك أحد طَرفَيْهِ مُتَّصِل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يزل قَائِما بكفالة أَوْلَاد سَيّده حَافِظًا لحصن الدملوة حفظا مرضيا وَأمره نَافِذ بعدن ونواحيها وَهُوَ مصَالح لبني مهْدي على ذَلِك بِمَال يحملهُ كل عَام حَتَّى قدمت الغز فَأخذ توران عدن وَلزِمَ يَاسر بن بِلَال وَعَبده السدُوسِي مِفْتَاح فوسطهما وَقيل شنقهما ولزومهم وتوسيطهم بِذِي عدينه سنة إِحْدَى وَسبعين وَخَمْسمِائة ثمَّ عَاد إِلَى مصر على مَا سَيَأْتِي بَيَان ذَلِك إِن شَاءَ الله
وجوهر هَذَا بَاقٍ على الحزم والعزم بحصن الدملوة وَلم يزل كَذَلِك على الطَّرِيق المرضي من الدّين وَالدُّنْيَا حَتَّى هلك توران وَقدم سيف الْإِسْلَام بالتاريخ الْآتِي وَبَاعَ مِنْهُ الْحصن حِين رَآهُ وَقد غلب على كثير من الْحُصُون والمدن وَعلم أَن لَا طَاقَة لَهُ بمقاومته وَذَلِكَ بتاريخ سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة كَمَا سَيَأْتِي وَلما بَاعه اشْترط أَن لَا ينزل من الْحصن وَلَا يطلع لَهُم نَائِب حَتَّى يكون جَمِيع عِيَال سَيّده قد جاوزوا الْبَحْر وَأَنَّهُمْ يركبون من المخا أَو نَحوه فَأَجَابَهُ سيف الْإِسْلَام إِلَى ذَلِك لما علمه من صعوبة الْحصن فحين وثق وَسلم لَهُ المَال وَلَا أَدْرِي كم مبلغه جهز أَوْلَاد سَيّده من الْبَنِينَ وَالْبَنَات إِلَى سَاحل المخاء وتجهز مَعَهم بزِي امْرَأَة مِنْهُم وَأخذ مصونهم حَتَّى جَاءَ السَّاحِل ركب الْبَحْر وَقد لَهُ سفن هُنَالك معدة فَركب وسافر إِلَى أَرض الْحَبَشَة وَقد ترك كَاتبا فِي الْحصن يكْتب مَا يحْتَاج ويجهز بَقِيَّة مَا يَلِيق تَجْهِيزه وَيُوجد الغز أَن الطواشي بَاقٍ فِي الْحصن وَكَانَ قد كتب عدَّة أوراق عَلَيْهَا علامته وَكَانَ الغز قد أضمروا الْغدر بالطواشي وَأَنه مَتى نزل من الْحصن لزموه وَأخذُوا مِنْهُ مَا قَبضه وَزِيَادَة عَلَيْهِ وَلما فرغ مَا فِي الْحصن من قماش وَغَيره وَنزل الْكَاتِب وَقد صَار الطواشي وَمَا مَعَه من وَرَاء الْبَحْر فَسئلَ الْكَاتِب عَنهُ فَقَالَ هُوَ فِي أول من نزل فَعجب سيف الْإِسْلَام مِنْهُ وَقَالَ كَانَ يَنْبَغِي استخلافه وإبقاؤه فِي الْحصن فَقل وجود مثله فِي دينه وحزمه وعزمه وَلم يزل الطواشي بِالْحَبَشَةِ حَتَّى هلك هُنَالك وَأَوْلَاد سَيّده وَله فِي جَزِيرَة الْعَرَب من الْآثَار المتبقية للذّكر مَعَ السِّيرَة المرضية عدَّة مآثر مِنْهَا أَنه نسخ بِيَدِهِ عدَّة مُقَدمَات ووقفها فِي أَمَاكِن مُتَفَرِّقَة مِنْهَا فِي جَامع الْجند ثَلَاثُونَ جُزْءا ختمة كَامِلَة وَنَحْوهَا رَأَيْتهَا بوادي عميد مَعَ ذُرِّيَّة الْفَقِيه عَليّ بن سَالم وَقفهَا بحياة الْفَقِيه وَلَو لم يكن لَهُ غير جَامع عمق الَّذِي تقدم ذكره فَإِنَّهُ بناه أحسن بِنَاء ووقف عَلَيْهِ(1/384)
وَقفا عَظِيما يقوم بِجمع من الطّلبَة ثمَّ بنى جَامعا آخر فِي بِلَاد الأشعوب يُقَال لَهُ معبرة وَآخر يُقَال لَهُ الخناخن وَضبط الْمَوْضِعَيْنِ الأول بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَالرَّاء وَسُكُون الْهَاء وَالثَّانِي بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة بعد ألف وَلَام وَفتح النُّون ثمَّ ألف ثمَّ خفض الْخَاء الْمُعْجَمَة أَيْضا ثمَّ نون وَللَّه دره
وَمن آثاره الْفَقِيه بطال أَيْضا فَإِنَّهُ ارتهنه من أَهله على مَا سَيَأْتِي ذكره فهذبه وَعلمه الْقُرْآن وَصَارَ إِمَامًا مَقْصُودا مَشْهُورا وَلم أعلم لَهُ علما يَنْبَغِي إِيرَاده وَكَانَ سَفَره بالتاريخ الْمُتَقَدّم
وَمن النَّاحِيَة أَيْضا سُلَيْمَان بن عبد الله بن مُحَمَّد بن فهيد جمع بَين الْفِقْه والقراءات السَّبع والعربية
وَمِنْهُم أسعد بن مُحَمَّد كَانَ أديبا بارعا فَقِيها فِي الْعَرَبيَّة مدرسا بمنزله الْمُسَمّى أروس إِلَى أَن توفّي سنة سِتّ وَسبعين وَخَمْسمِائة وَمِنْهُم عَليّ بن سُلَيْمَان ثمَّ الأخوان ابْنا الأديب منقذ وَعلي ابْنا عبد الله قَالَ ابْن سَمُرَة وهما مجودان فِي الْعَرَبيَّة وَمن أهل الجؤة القَاضِي الْمُبَارك بن إِسْمَاعِيل ولي قضاءها وَكَانَ فَاضلا روى عَنهُ الْحَافِظ العرشاني وَكَانَ فَقِيها مُحدثا
وَمِنْهُم عمر بن حَرْب ولي قضاءها ثمَّ الْخَطِيب أَحْمد بن عبد الله بن الإِمَام ثمَّ القَاضِي عَليّ بن يحيى أَخُو عَليّ وَأحمد وَأَصله من تهَامَة
وَمن إتحم بخفض الْهمزَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة ثمَّ مِيم سَاكِنة القَاضِي أَبُو بكر بن أبي الْفَتْح بن أبي السهل والفقيه سمير
وَمن خدير الْقُضَاة آل أبي ذرة مِنْهُم مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي ذرة والفقيه مَسْعُود بن ثَعْلَب وَقد تقدم مِنْهُم يحيى بن عبد الْعَلِيم وَغَيره من أَهله
وَمن المعافر من قَرْيَة الحسيد بِضَم الْحَاء وَفتح السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ دَال مُهْملَة جمَاعَة مِنْهُم بَنو الدقاق مِنْهُم عمر بن الدقاق قَالَ(1/385)
ابْن سَمُرَة وَتزَوج فيهم عَليّ بن يحيى بن عبد الْعَلِيم وَعلي بن مُحَمَّد بن بلاوة الْجَعْدِي قلت وَفِي الْقرْيَة الْمَذْكُورَة جمَاعَة من آل أبي عقامة أَخْبرنِي بذلك ثِقَة وَأَنَّهُمْ فِي عصرنا يتولون الحكم بِتِلْكَ النَّاحِيَة
وَمِنْهُم إِبْرَاهِيم بن أبي الْأَغَر الْوَلِيد وَعمْرَان بن يحيى بن عَليّ من الأشعوب ولي قَضَاء المعافر أَيَّام شمس الدولة وَمِنْهُم إِبْرَاهِيم بن أبي الْأَغَر ولي قضاءها من جِهَة القَاضِي الْأَثِير
وَمِنْهُم ابْن أَفْلح وَابْن دُحَيْم وَمِنْهُم حسن الدباني أَصله من تهَامَة ثمَّ سكن جبل ذبحان من المعافر وَمَات هُنَالك
وَمن جباء وَهِي بلد مبارك تقدم ضَبطهَا مَعَ ذكر القَاضِي الجندي خرج مِنْهَا جمع من أَعْيَان الْفُضَلَاء مِنْهُم عليان بن مُحَمَّد الحاشدي وَمِنْهُم بَنو البلعاني بَيت رئاسة وأصلهم من حراز وَمِنْهُم جمَاعَة فُقَهَاء مِمَّن ذكر ابْن سَمُرَة
مِنْهُم عَليّ بن أَحْمد بن مُحَمَّد وَمُحَمّد بن عبد الله القَاضِي قَالَ ابْن سَمُرَة
وَقد ذكره وَغَيره من أقرانه مِمَّن لم يحضرني معرفتهم الْآن وَهَذَا من قَوْله يدل على أَن فيهم جمَاعَة لم يتحققهم
وَمِنْهُم أَبُو الْعَتِيق أَبُو بكر بن الشَّيْخ يحيى بن إِسْحَاق بن عَليّ بن إِسْحَاق العياني ثمَّ السكْسكِي نِسْبَة إِلَى قوم يعْرفُونَ بالأعيون قَبيلَة فِي الْيمن مِنْهُم جمَاعَة بالجانب الْيَمَانِيّ من أَعمال الْجند ونسبتهم إِلَى قَرْيَة يُقَال لَهَا عيانة بِعَين مُهْملَة مَضْمُونَة وياء مثناة من تَحت ثمَّ ألف وَنون مَفْتُوحَة وهاء سَاكِنة وَهِي بِبَلَد مقمح بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْقَاف وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة كَانَ وَالِد هَذَا أبي بكر من أَعْيَان الْيمن فِي الصّلاح وثروة المَال وَفعل الْمَعْرُوف وَكَثْرَة الْحَج وَكَانَ أهل الْحجاز إِنَّمَا يسمونه زين الْحَاج لِكَثْرَة الْمَعْرُوف الَّذِي كَانَ يَفْعَله هُنَاكَ وَلما علم بِهِ صَاحب بَغْدَاد وبدينه كتب لَهُ مُسَامَحَة بغالب أرضه وَأَن يبْقى عَلَيْهَا مَا بَقِي من ذُريَّته إِنْسَان وَهِي بِأَيْدِيهِم إِلَى الْآن يجرونَ عَلَيْهَا وَذريته أهل عصرنا فِي فعل الْمَعْرُوف وَالصَّبْر على الْإِطْعَام للقاصد ومؤاساة الْوَاصِل ثمَّ الْقيام بِحَال طلبة الْعلم بِحَيْثُ أَنه(1/386)
قد يجْتَمع مَعَهم نَحْو المئة طَالب يقومُونَ بكفايتهم من الطَّعَام وَلَا أجد ذَلِك إِلَّا بركَة هَذَا الرجل الشَّيْخ يحيى وَكَانَ كثير الزِّيَارَة لفقهاء ذِي أشرق فَلَمَّا سمعهم يثنون على الْفَقِيه إِبْرَاهِيم بن حديق بجودة الْفِقْه وَالدّين سَأَلَهُ أَن ينْتَقل مَعَه إِلَى جبا ليقرىء ابْنه هَذَا أَبَا بكر وَغَيره فَأَجَابَهُ وَسَار إِلَى جبا وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك إِن شَاءَ الله
وَلَقَد قدمت جبا فِي جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَعشْرين وَسَبْعمائة لغَرَض زِيَارَة تربته وتربة الأخيار حوله من ذُريَّته وَغَيرهم فَوجدت ذُريَّته على الْحَال المرضي من الْإِطْعَام والإيناس لمن ورد عَلَيْهِم بِحَيْثُ غلب على ظَنِّي عدم وجود مثلهم فِي الْيمن لَا سِيمَا فِي الْجبَال إِذْ قد يذكر عَن بني البَجلِيّ مَا يضاهي ذَلِك
وبحثت عَن تَارِيخ الشَّيْخ فَلم أَجِدهُ
وَأما وَلَده أَبُو بكر فَذكره ابْن سَمُرَة وَقَالَ تفقه بشيخي عَليّ بن أبي بكر وَلَعَلَّ ذَلِك كَانَ فِي بداية أمره فَإِنِّي رَأَيْت طبقَة سَمَاعه للمهذب إِنَّمَا يرويهِ عَن إِبْرَاهِيم بن حديق
وَأخذ التَّنْبِيه عَن غَيره وَغير من ذكره ابْن سَمُرَة أَنه تفقه عَلَيْهِ وَأخذ عَن الإِمَام سيف السّنة عدَّة من كتب الحَدِيث وَكَانَ مِمَّن حضر السماع لصحيح مُسلم عَلَيْهِ بِمَدِينَة الْجند وَحج مَكَّة سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة فَلَمَّا عَاد إِلَى زبيد أَخذ بهَا على الْفَقِيه عَبَّاس بن مُحَمَّد الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله
وَكَانَ فَقِيها محققا مدققا ذَا صَلَاح مَشْهُور وَعلم مَذْكُور قَصده الطّلبَة من أنحاء الْيمن رَغْبَة فِي علمه وإنسانيته مِنْهُم ابْنه يحيى وَأَخُوهُ مُحَمَّد وَغَيرهم من أهل قريته وَقَومه
وَمن المشيرق أَحْمد بن مُحَمَّد بن مَنْصُور الْجُنَيْد وَعُثْمَان بن يُوسُف بن أسعد الشّعبِيّ وَغَيره من أهل الْجبَال وَمن تهَامَة إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن عجيل وَعلي بن قَاسم الْحكمِي وَعلي بن مَسْعُود الكثيبي من المخلافة وَغَيرهم وَهُوَ أَكثر فُقَهَاء الْجبَال الْمُتَأَخِّرين أصحابا أَخْبرنِي الثِّقَة أَنه حج سنة وَلم يسْتَطع الزِّيَارَة إِلَى يثرب فَبَقيَ قلقا لذَلِك وقلق بَاطِنه فَرَأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَهُ يَا أَبَا بكر لم تزرنا فزرناك فَقَالَ يَا رَسُول الله بكرمك فعلت ذَلِك
فَادع الله لي فَدَعَا لَهُ وَقَالَ ولإخوتي وأولادي وَأَوْلَاد أَوْلَادِي حَتَّى عدد سَبْعَة بطُون وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْعُو لكل بطن عِنْد ذكره لَهُم فهم يرَوْنَ أَن الْخَيْر وَالْبركَة الْمَوْجُودين فيهم ببركة دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا
وَكَانَ بعض أهل الْعلم وَالصَّلَاح من أهل جبا يَقُول رُؤِيَ الْفَقِيه أَبُو بكر بن يحيى وَهُوَ يطوف بِالْكَعْبَةِ رَاكِبًا على بغلة وَحَوله نَحْو ثلثمِائة فَقِيه يَمْشُونَ بمشيته ويطوفون بطوافه وَكَانَت وَفَاته بقريته سنة ثَمَان وَعشْرين وسِتمِائَة وَهُوَ آخر من ذكر ابْن سَمُرَة من أهل جبا(1/387)
وَمِمَّنْ قدم عَلَيْهِم وانتفعوا بِهِ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن حديق بن إِسْحَاق الجشيبي ثمَّ السكْسكِي والجشيبي من قوم يُقَال لَهُم الأجشوب بجيم سَاكِنة بعد ألف وَلَام ثمَّ شين مُعْجمَة مَضْمُومَة ثمَّ وَاو ثمَّ بَاء مُوَحدَة بطن من السكاسك أصل بَلَده إتحم قد تقدم ضَبطهَا خرج إِبْرَاهِيم مَعَ ثَلَاثَة من إخْوَته فسكن أكمة سُودًا ببادية الْجند فَأدْرك الْفَقِيه سُلَيْمَان فَأخذ عَنهُ وطلع ذِي أشرق فَأخذ عَن عَليّ بن أبي بكر من بني الإِمَام وَأخذ عَن القَاضِي مَسْعُود ثمَّ صَار إِلَى جبا كَمَا قدمت ذَلِك مَعَ ذكر الشَّيْخ يحيى فَلَمَّا قدم جبا قَالَ ابْن سَمُرَة انْتَهَت إِلَيْهِ رئاسة الْفِقْه وَالْفَتْوَى بهَا وتفقه بِهِ أَبُو بكر بن يحيى الْمُقدم ذكره وَبِه تفقه الإِمَام بطال الركبي وَحضر السماع على سيف السّنة بِمَسْجِد الْجند وَفِي ذِي أشرق أَيْضا وَله بهَا عقب إِلَى الْآن وَتُوفِّي بقرية الْحَصَاة وَخَلفه ابْن لَهُ اسْمه أسعد مولده ربيع الأول سنة سبعين وَخَمْسمِائة تفقه على فَقِيه كَانَ بمطران اسْمه أَحْمد بن مُحَمَّد بن عِيسَى الحجوري
مِنْهُم أَخُوهُ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يحيى كَانَ فَاضلا تفقه بِهِ وَأخذ عَن سيف السّنة وَكَانَ جيدا صَالحا يغلب عَلَيْهِ الِاشْتِغَال بكتب الحَدِيث وَفَاته لثلاث بَقينَ من شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وسِتمِائَة
وَمِنْهُم ابْنه يحيى كَانَ فَقِيها تفقه بِأَبِيهِ وَأخذ الْفَرَائِض عَن لَيْث بن أَحْمد كَمَا أَخذهَا عَن أَحْمد بن عبد الله الزبراني وَلم أجد لَهُ تَارِيخا
وَمِنْهُم ابْن أَخِيه يحيى بن عبد الله بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن يحيى وَبِهَذَا يحيى تفقه جمع كثير وقصده الطّلبَة من نواح شَتَّى وَوَصله مدرسو تعز ورأسهم يَوْمئِذٍ ابْن آدم الْآتِي ذكره فَأخذُوا عَنهُ الْبَيَان
وَكَانَ ذَا كرامات ومكاشفات وَبِه تفقه مُحَمَّد بن أبي بكر الأصبحي فَذكرُوا أَنه كَانَ من جَاءَهُ للْقِرَاءَة قَالَ لَهُ مرْحَبًا بك يَا مدرس سير فَكَانَ(1/388)
كَمَا قَالَ درس بسير عدَّة سِنِين وَأخذ عَنهُ جمع من الطّلبَة وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك وَكَانَت وَفَاته على طَرِيق التَّقْرِيب سنة ثَمَانِينَ وسِتمِائَة بذلك أَخْبرنِي فَقِيه جبا وحاكمها حِين دَخَلتهَا بالتاريخ الْمُتَقَدّم وَخَلفه فِي التدريس وَالطَّرِيق المرضي أَخُوهُ عُثْمَان بن عبد الله تفقه بتهامة على عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن عجيل وَأخذ عَن أَخِيه يحيى وَكَانَ جيدا صَالحا كثير الْعُزْلَة ببيته ويدرس فِيهِ قل أَن يخرج مِنْهُ إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة وَكَانَ زاهدا ورعا متقللا وَكَانَ نظيف الْفِقْه لُزُوما للسّنة أَخْبرنِي ابْن أَخِيه الْفَقِيه عَليّ بن أبي بكر أحد فقهائهم وأخيارهم عَام قدمت عَلَيْهِم بالتاريخ الْمُتَقَدّم أَنه أسر إِلَيْهِ أَنه قَالَ رَأَيْت رُؤْيا إِن عِشْت لَا أخبر بهَا أحدا وَإِن مت فَأَنت بالخيرة رَأَيْت لثمان بَقينَ من رَجَب جمَاعَة فيهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدَنَا مني وَقبل بَين عَيْني فَقلت اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا لي عنْدك وَدِيعَة وذخرا فَاغْفِر لي يَا خير الغافرين وَمَا أظنني أعيش بعْدهَا فَقلت وَلم ذَاك قَالَ إِن ابْن نَبَاته الْخَطِيب رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقبله فَلم يَعش بعد ذَلِك غير اثْنَي عشر يَوْمًا ثمَّ لم يَعش بعد ذَلِك سوى عشْرين يَوْمًا إِذْ مَاتَ يَوْم السبت خَامِس عشر من شعْبَان سنة ثَلَاث عشرَة وَسَبْعمائة وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة
وَقد عرض مَعَ ذكر هَذَا الرجل الْمُبَارك ذكر الْخَطِيب ابْن نباتة وَهُوَ أحد أَعْيَان الْعلمَاء الْمَشْهُورين وَرَأس الخطباء الْمَذْكُورين فَأحب بَيَان بعض اللَّائِق بِهِ من أَحْوَاله على مَا بَلغنِي وَصفَة رُؤْيَاهُ الَّتِي أَشَارَ الْفَقِيه إِلَيْهَا فَهُوَ أَبُو يحيى عبد الرَّحِيم بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن نباتة الفارقي فنباتة بِضَم النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة بعد ألف وتاء مثناة من فَوق مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء سَاكِنة مولده سنة خمس وَثَلَاثِينَ وثلثمائة
قَالَ ابْن خلكان فِي حَقه هُوَ صَاحب الْخطب الْمَشْهُورَة كَانَ إِمَامًا فِي عُلُوم الْأَدَب ورزق السَّعَادَة فِي خطبه الَّتِي وَقع الْإِجْمَاع على أَنه مَا عمل مثلهَا وفيهَا دلَالَة على غزارة علمه وجودة قريحته وَهُوَ من أهل ميافارقين وَكَانَ خطيب حلب وفيهَا اجْتمع بِأبي الطّيب المتنبي فِي خدمَة سيف الدولة بن حمدَان وَذكروا أَنه سمع مِنْهُ بعض ديوانه وَكَانَ سيف الدولة كثير الْغَزْو وَلِهَذَا أَكثر الْخَطِيب من خطب الْجِهَاد ليحض النَّاس عَلَيْهِ ويحثهم على نصْرَة سيف الدولة وَكَانَ رجلا صَالحا رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام قلت رُؤْيَاهُ مَشْهُورَة وَجدتهَا بِخَط شَيْخي القَاضِي أَحْمد بن عبد الله العرشاني وَفِي بعض كتبه بِسَنَد أَعرَضت عَن إِيرَاده ميلًا للاختصار قَالَ رَأَيْت فِيمَا يرى النَّائِم لَيْلَة الْجُمُعَة كأنني خَارج من بَاب من أَبْوَاب ميافارقين يعرف بِبَاب أرزد بِأَلف مَهْمُوزَة وَرَاء سَاكِنة ثمَّ زَاي مَفْتُوحَة ثمَّ دَال مُهْملَة سَاكِنة وجدته مضبوطا كَذَلِك(1/389)
فحققته
نرْجِع إِلَى كَلَام الْخَطِيب قَالَ خرجت طَالبا زِيَارَة تُرَاب أَهلِي وَإِذا بِجَمَاعَة كثير قد لقوني وَفِي وَسطهمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَأَنِّي سَأَلت عَنْهُم فَقيل هَؤُلَاءِ من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا فتقدمت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأخذت بِيَدِهِ الْكَرِيمَة فَقَبلتهَا وَقلت لَهُ رفع الله درجتك تقبل الله شفاعتك رحم الله أمتك
فَأَجَابَنِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على السجع وَقَالَ أقَال الله عثرتك غفر الله زلتك أحسن الله معونتك ثمَّ الْتفت إِلَى الْجَمَاعَة الَّتِي حوله وَقَالَ سلمُوا على خطيب الخطباء فَسَلمُوا عَليّ وسلمت عَلَيْهِم ثمَّ قَالَ لي خطيب الخطباء كَيفَ قلت وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَة إِلَى الْجَبانَة كَأَنَّهُمْ لم يَكُونُوا للعيون قُرَّة وَلم يعدوا فِي الْأَحْيَاء مرّة أعد الْفَصْل من أَوله فابتدأت من أول الموعظة بخطابة وَترسل وَهُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يبكي وَالْجَمَاعَة يَبْكُونَ لبكائه إِلَى أَن وصلت خَاتِمَة الْخطْبَة وَقلت أسكتهم الله الَّذِي أنطقهم وأبادهم الَّذِي خلقهمْ وسيجددهم كَمَا أخلقهم ويجمعهم كَمَا فرقهم يَوْم يُعِيد الله الْعَالمين خلقا جَدِيدا وَيجْعَل الظَّالِمين لنار جَهَنَّم وقودا ثمَّ أَوْمَأت بيَدي إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإليهم وَقلت يَوْم تَكُونُونَ شُهَدَاء على النَّاس وَيكون الرَّسُول عَلَيْكُم شَهِيدا يَوْم تَجِد كل نفس مَا عملت من خير محضرا وَمَا عملت من سوء تود لَو أَن بَينهَا وَبَينه أمدا بَعيدا فَقَالَ لي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحْسَنت يَا خطيب الخطباء لَا فض الله فَاك قَالَ افْتَحْ فَاك ففتحته فتفل فِيهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ انْتَبَهت ورائحة الْمسك يتضوع من فِي وَبَقِي رَضِي الله عَنهُ أَيَّامًا الْمَنَام أفْصح وَأحلى مِمَّا قبله وَاخْتلف فِي مُدَّة بَقَائِهِ بعد ذَلِك فَقَالَ ابْن خلكان عَاشَ بعْدهَا ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا لَا يستطعم طَعَاما وَلَا شرابًا لبركة تِلْكَ التفلة وَهَذِه الْخطْبَة هِيَ الَّتِي فِيهَا هَذِه الْكَلِمَات تعرف بالمنامية لهَذِهِ الْوَقْعَة وَذكر فِيمَا رَأَيْت بِخَط شَيخنَا الْمَذْكُور أَولا الَّذِي وجدت الْقِصَّة بِخَطِّهِ أَنه عَاشَ بعد الْمَنَام أَرْبَعِينَ يَوْمًا
وَأما الَّذِي ذكره الْفَقِيه عُثْمَان وَهُوَ من الْعلمَاء الْمَأْخُوذ عَنْهُم أَنه لم يَعش غير اثْنَي عشر يَوْمًا ثمَّ لم يَعش هُوَ أَيْضا بعد الْمَنَام غير اثْنَي عشر يَوْمًا كَمَا قدمنَا وَكَانَت وَفَاة الْخَطِيب بميافارقين سنة أَربع وَسبعين وثلثمائة
قَالَ ابْن خلكان وَرَأَيْت فِي بعض المجاميع قَالَ الْوَزير أَبُو الْقَاسِم بن المغربي رَأَيْت الْخَطِيب ابْن نباتة بعد مَوته فِي الْمَنَام فَقلت مَا فعل الله بك قَالَ دفع إِلَيّ ورقة وفيهَا سطران بالأحمر هما(1/390)
.. قد كَانَ أَمن لَك من قبل ذَا ... وَالْيَوْم أضحى لَك أمنان
والصفح لَا يحسن من محسن ... وَإِنَّمَا يحسن من جاني ... وانتبهت وَأَنا أكررهما كي لَا أنساهما
نعود إِلَى ذكر فُقَهَاء جبا وتتمة بني إِسْحَاق إِلَى عصرنا سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة فَمنهمْ عمر بن عُثْمَان بن الشَّيْخ يحيى مقدم الذّكر مولده سنة ثَمَان وَعشْرين وسِتمِائَة وَكَانَ فَقِيها غلب عَلَيْهِ الِاشْتِغَال بكتب الحَدِيث وَتُوفِّي بصفر من سنة عشر وَسَبْعمائة ثمَّ خَلفه ابْنه عبد الله مولده سنة أَربع وَخمسين وسِتمِائَة فِي شهر شعْبَان وارتحل إِلَى زبيد فَأخذ بهَا عَن ابْن ثُمَامَة الْآتِي ذكره وَإِلَيْهِ انْتهى الحكم فِي عصرنا والتدريس بجبا وَهُوَ أحد الْمَعْدُودين فِي أخيار فُقَهَاء الْعَصْر أنس للواصلين وَقيام بالقاصدين قدمت جبا وَهُوَ الْمَذْكُور بذلك وَاجْتمعت بِهِ فَرَأَيْت مِنْهُ مَا حقق الذّكر وَالسَّمَاع وَرَأَيْت لَهُ ذكرا بالفقه وَإِلَيْهِ تَنْتَهِي الْفَتْوَى وَأخذ عَنهُ جمَاعَة وَله تصنيف بالفقه
وَمِنْهُم الأخوان عَليّ ويوسف ابْنا أبي بكر بن عبد الله بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن يحيى مقدم الذّكر قدمت جبا بالتاريخ فَوجدت عليا الْمَذْكُور هُوَ الْمشَار عَلَيْهِ بعد ابْن عَمه الْفَقِيه عبد الله بالفتوى وَرُبمَا كَانَ أَكثر تلقيا للأصحاب وأنسا لَهُم وصبرا عَلَيْهِم من الْفَقِيه عبد الله وَسَأَلته عَن ميلاده فَقَالَ سنة ثَلَاث وَسبعين
وَأما أَخُوهُ يُوسُف ففاضل بالفرائض مولده سنة سبع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة يذكر بالأمانة وَالصَّبْر على أكاذبها غَالب ودائع أهل الْجِهَة إِنَّمَا تكون مَعَه وَتُوفِّي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عمر بن عُثْمَان فَاضل بالقراءات السَّبع وَمن بني البلعاني أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عبيد بن أبي بكر بن عبد الله البلعاني مولده ربيع الأول من سنة إِحْدَى وسِتمِائَة وتفقه بعلي بن قَاسم من زبيد وَعمر بن مُفْلِح من أبين ودرس بمغربة تعز فِي الْمدرسَة النجاحية وَعنهُ أَخذ جمَاعَة من فُقَهَاء تعز وَغَيرهَا أثنى عَلَيْهِ الْفَقِيه عُثْمَان الشرعبي فِي تعليقته وَكَانَت وَفَاته بجبا نَهَار الْخَمِيس رَابِع عشر من شعْبَان سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة وَله ولدان بجبا أَحدهمَا مقرىء للسبعة وَهُوَ طَالب الْآن للتفقه وَمُحَمّد محسن بِالْكِتَابَةِ مَعَ السلاطين
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم بن عبد الله الجبائي ثمَّ السكْسكِي(1/391)
عرف بِابْن الْمعلم كَانَ فَقِيها فَاضلا لَكِن غلب عَلَيْهِ علم الْأَدَب وَأَخذه عَن القَاضِي أَحْمد القريظي الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله وَله شرح المقامات للحريري الْمَشْهُورَة بِهِ فَيُقَال شرح الجبائي وَهُوَ أحد شُيُوخ الْفَقِيه إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن عجيل وَيُقَال إِنَّه مَاتَ قبل تَمام الشَّرْح فَقدم ابْن عجيل الْمَذْكُور فأتمه وَعنهُ أَخذ عَليّ بن عمر الْحَضْرَمِيّ أحد شارحي المقامات أَيْضا شرحها شرحا أبسط من شرح شَيْخه وَشرف نفس وَلم أعرف لَهُ تَارِيخا
وَمِنْهُم أَبُو الْخطاب عمر بن أَحْمد بن أسعد بن عمر وَعرف بِابْن الْحذاء بحاء مُهْملَة مَفْتُوحَة ثمَّ فتح الذَّال الْمُعْجَمَة ثمَّ ألف وَأَظنهُ كَانَ يعْمل النِّعَال فَلذَلِك سمي الْحذاء إِلَيْهِ انْتَهَت رئاسة الْقرَاءَات فِي الْيمن أجمع وَكَانَ عَظِيم الْبركَة قَلما قَرَأَ عَلَيْهِ أحد إِلَّا انْتفع وَكَانَ مَسْكَنه قَرْيَة من قرى جبا تعرف بالمتفولة بِفَتْح الْمِيم بعد الْألف وَاللَّام وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وبضم الْفَاء وَسُكُون الْوَاو ثمَّ فتح اللَّام ثمَّ هَاء سَاكِنة وَهِي شَرْقي مَدِينَة جبا وَكَانَ صَاحب كرامات كَثِيرَة
أَخْبرنِي الثِّقَة أَنه كَانَ عِنْده يقْرَأ الْقُرْآن وَأَن الْفَقِيه تقدم من قريته إِلَى قَرْيَة تعرف بالمصراخ فِيهَا مَشَايِخ النَّاحِيَة وهم قوم يعْرفُونَ ببني عبيد بن عَبَّاس وهم عرب يُقَال لَهُم الساور أصلهم من ظَاهر حَصى وهم بَيت رئاسة وَعز وَلَهُم مَكَارِم كَثِيرَة فَأقبل اللَّيْل وَهُوَ عِنْدهم وَذَلِكَ لحَاجَة فصلى الْمغرب وَالْعشَاء مَعَهم وهم يَظُنُّونَهُ يبيت عِنْدهم فَلَمَّا انْقَضتْ حَاجته عزم على الرُّجُوع إِلَى بَيته فلازموه على الْمبيت فكره وَكَانَت لَيْلَة مظْلمَة وفيهَا ريح فَقَالُوا يَا مقرىء الظلام فَقَالَ أعيروني سِرَاجًا وأسرجوه لي فَهُوَ يضيئني فِي الطَّرِيق إِن شَاءَ الله
قَالَ الْمخبر فَفَعَلُوا ذَلِك وهم لَا يَظُنُّونَهُ يثبت مَعَه سَاعَة فَلم يزل مسرجا بيد رجل مِمَّن مَعَه حَتَّى وصل بَيته فانطفأ
وَرُبمَا كَانَ الْمخبر لي هُوَ الْحَامِل
وَمن عَجِيب مَا أخْبرت بِهِ عَنهُ عَام قدمت جبا أنني لما عولت على(1/392)
الْفَقِيه عَليّ بن أبي بكر الْمُقدم ذكره بِأَن يصل معي إِلَى الْمقْبرَة ليريني الْقُبُور الَّتِي تزار فَفعل ذَلِك ووقف بِي على قبر فَقَالَ هَذَا قبر رجل يعرف بالسروي كَانَ درسيا صَالحا دخل المقرىء عمر بن الْحذاء هَذِه الْمقْبرَة فَجعل يزور أَهله ومعاريفه وَالْمَشْهُور من الْفُقَهَاء وَإِذ بِهِ يسمع من هَذَا الْقَبْر مناديا يُنَادي يَا مقرىء عمر أَنْت مَا تزور إِلَّا أَصْحَاب الجاهات فَالْتَفت إِلَى الْقَبْر وزاره وَلم يبرح يزوره كلما دخل الْمقْبرَة قبل كل يَوْم أحد وَأعلم النَّاس بالْخبر فَصَارَ الْقَبْر مزورا إِلَى عصرنا وَهَذَا المقرىء وغالب من ذكرته وأذكره مقبور بمقبرة جبا وَلم أتحقق تَارِيخه
وَمِنْهُم سعيد بن يُوسُف الزَّيْلَعِيّ تفقه بِيَحْيَى بن أبي بكر وَكَانَ فَقِيها فَاضلا وَجمع كتبا كَثِيرَة ووقفها على طلبة الْعلم بجبا وَبهَا توفّي
وَمِنْهُم بَنو حسان قوم ينتسبون إِلَى جد لَهُم ثمَّ حسان بن ثَابت الْأنْصَارِيّ ويسكنون بادية جبا فيهم فُقَهَاء حققت جمَاعَة مِنْهُم قَاسم بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن حسان الخزرجي كَانَ فَقِيها صَالحا مقرئا أَخذ عَن الإِمَام سيف السّنة كتاب الشَّرِيعَة للآجري
وَمِنْهُم ابْن ابْنه عبد الله بن مُحَمَّد بن قَاسم بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن حسان الخزرجي تفقه بِمُحَمد بن حُسَيْن الأصابي وَأخذ عَنهُ شرح مُوسَى اللمع كَمَا أَخذه عَن مُصَنفه وَأخذ عَن الشَّيْخ بطال وَعنهُ أَخذ أَحْمد بن مُحَمَّد الوزيري المستعذب وَهُوَ أحد شُيُوخ شَيْخي أَحْمد السرددي وَله ابْن اسْمه إِبْرَاهِيم تفقه بِأبي بكر بن عمر السهامي أحد أَصْحَاب أبي قَاسم وبالإمام بطال وَبِمُحَمَّدٍ بن حُسَيْن المرواني الْآتِي ذكره ودرس بِذِي هزيم بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أحدثها الطواشي مُخْتَصّ وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْجُمُعَة ثامن عشر رَمَضَان سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة
وَمِنْهُم المقرىء عبيد بن مُحَمَّد برع فِي الْقرَاءَات وَأَخذه لَهَا عَن ابْن الْحذاء وَعَن رجل بِمَكَّة وَكَانَ لَهُ أَب وأخوة امتحنوا بالعمى وهم بَيت حفظ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيم فحج هَذَا عبيد قبل الْعَمى فَلَمَّا زار ضريح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استجاره من الْعَمى فَكفى ذَلِك إِلَى أَن توفّي سالما فِي شَوَّال سنة سِتّ وَتِسْعين وسِتمِائَة
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي بكر بن عَليّ الجداي نِسْبَة إِلَى صقع من الْحَبَشَة يُقَال لَهُ جداية بخفض الْجِيم ثمَّ دَال مُهْملَة ثمَّ ألف وَفتح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ هَاء شهر بالزيلعي أَخذ عَن أبي زاكي بحراز ثمَّ عَن الغيثي بوصاب وَأخذ عَن المقرىء عبيد الْمَذْكُور آنِفا
وَيذكر عَن هَذَا المقرىء التجويد فِي علم(1/393)
الْقرَاءَات والنحو وَلما قدمت جبا سنة إِحْدَى وَعشْرين وَسَبْعمائة وجدت هَذَا الْمشَار إِلَيْهِ يعلم الْقرَاءَات وَعنهُ أَخذ جمَاعَة وَكَانَت وَفَاته بِشَهْر صفر سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة
وَمِمَّنْ انتاب إِلَى نواحي جبا جمَاعَة مِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن حُسَيْن المرواني الأصابي تفقه بِابْن سحارة الْآتِي ذكره وبأبي بكر بن إِسْحَاق الْمَذْكُور وَكَانَت مدرسته بقرية المصراخ مَعَ الْمَشَايِخ مُتَقَدِّمي الذّكر وضبطها بخفض الْمِيم بعد ألف وَلَام وَسُكُون الصَّاد وَفتح الرَّاء ثمَّ ألف ثمَّ خاء مُعْجمَة أَخذ عَنهُ بهَا جمَاعَة كَثِيرُونَ من الْجند وَغَيرهَا فَمن الْجند عمرَان بن النُّعْمَان وَمن سهفنة عمر بن الْحداد وَمن ذِي السفال مُحَمَّد بن مَسْعُود وَلم أعرف لَهُ تَارِيخا
وَمن النَّاحِيَة جمَاعَة مِنْهُم عبد الْكَرِيم بن عَليّ بن إِسْمَاعِيل مَسْكَنه قَرْيَة الوجي بِفَتْح الْوَاو وخفض الْجِيم ثمَّ يَاء سَاكِنة مثناة من تَحت وَهِي على قرب مَدِينَة جبا وَكَذَلِكَ المصراخ الْمَذْكُور أَولا وَكَانَ هَذَا عبد الْكَرِيم عَارِفًا بالقراءات أَخذهَا عَن الْحذاء وَكَانَ من صالحي زَمَانه وأخيارهم مَا قَرَأَ عَلَيْهِ أحد إِلَّا انْتفع وَلَا حقق عَلَيْهِ شَيْئا فنسيه وَكَانَ فِي أَوله ناسج ثِيَاب فَكَانَ القارىء يقْرَأ عَلَيْهِ وَهُوَ يشْتَغل بالخياطة فَلَا يفوتهُ شَيْء من غلطه ثمَّ فِي آخر أمره ترك النسج واشتغل بالخياطة وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى توفّي وَكَانَ قوته من صَنعته وَرُبمَا جَاءَ ضيف خاط لَهُ أَو نسج لَهُ بِغَيْر شَيْء وَقدم الْجند وَأَنا يَوْمئِذٍ أدرس بمدرسة الشَّيْخ عبد الله بن الْعَبَّاس فعزمته من الْجَامِع إِلَى الْمدرسَة وتبركت بِدُخُولِهِ وَكَانَت وَفَاته بالقرية سنة سبع عشرَة وَسَبْعمائة وَله أَوْلَاد مِنْهُم ابْن فِيهِ خير كَبِير وَهُوَ إِمَام الْجَامِع بجبا والخطيب فِيهِ وَآخر بقرية السمكر يتعانى التِّجَارَة وَيذكر بِحِفْظ الْقُرْآن
وَمن النواحي أَيْضا ثمَّ من قَرْيَة تعرف بيفرس قد تقدم ضَبطهَا مَعَ ذكر القَاضِي الجندي أَبُو الْحسن أَحْمد بن علوان قد تقدم ذكر وَالِده مَعَ ذكرالشيخ يحيى بن أبي الْخَيْر
نَشأ هَذَا أَحْمد بِموضع يعرف بِذِي الْجنان من جبل ذخر وَلم يزل على ثروة ورعونة على مَا جرت عَلَيْهِ أَوْلَاد الْكتاب والمتنعمين بِقرب الدولة وطلع طلوعا حسنا قَارِئًا كَاتبا فَاضلا تعلم الْكِتَابَة والنحو واللغة وشعره وَكَلَامه فِي التصوف يدلان على ذَلِك فَذكر بعض نقلة آثاره أَنه دَعَتْهُ نَفسه وَهُوَ شَاب إِلَى قصد بَاب السُّلْطَان(1/394)
والتعرض للْخدمَة إِمَّا مَكَان أَبِيه أَو غَيره فَخرج من ذِي الْجنان وَصَارَ قَاصِدا بَاب السُّلْطَان فَلَمَّا صَار بِشَيْء من الطَّرِيق إِذْ بطائر أَخْضَر قد وَقع على كتفه ثمَّ مد منقاره إِلَى فِيهِ فَفتح الشَّيْخ فَاه لَهُ فصب الطَّائِر إِلَيْهِ شَيْئا فابتلعه الشَّيْخ ثمَّ عَاد من فوره إِلَى بَلَده فَلَزِمَ الْخلْوَة أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ فِي الْيَوْم الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ خرج من المتعبد وَقعد على صَخْرَة يتعبد فانفلقت الصَّخْرَة عَن كف وَقيل لَهُ صَافح الْكَفّ فَقَالَ وَمن أَنْت قَالَ لَهُ أَبُو بكر فصافح فَقَالَ لَهُ قد نصبتك شَيخا وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ فِي شَيْء من كَلَامه الَّذِي يُخَاطب بِهِ أَصْحَابه حَيْثُ يَقُول وشيخكم أَبُو بكر الصّديق ثمَّ ألْقى لَهُ الْحبّ فِي قُلُوب النَّاس والوجاهة فتحكم لَهُ قوم كثير وَله كتب فِي المواعظ
نحا نَحْو ابْن الْجَوْزِيّ وَلذَلِك كَانَ يُقَال لَهُ جوزي الْيمن وَذكروا أَنه لما اجْتمع بالشيخ أبي الْغَيْث الْمُقدم ذكره بعد مُكَاتبَة كَانَت بَينهمَا يطول ذكرهَا وفاتحه الْكَلَام وأجابه أعجبه وَعلم أَنه أعجب بذلك قَالَ لَهُ أَنْت جوزي الْوَقْت وَأَنا دورته وأخشى دورتي تكسر جوزتك ثمَّ إِن الشَّيْخ أمْلى شَيْئا من كَلَامه على بعض الْحَاضِرين فَكَتبهُ ثمَّ قَالَ لِلْكَاتِبِ أعْط الورقة لِأَحْمَد فَلَمَّا أَخذهَا قَالَ يَا أَحْمد أتم هَذَا الْكَلَام فَأخذ الورقة وَقبلهَا وَقَالَ لَا يحسن للْعَبد أَن يكمل كَلَام سَيّده ثمَّ إِنَّه عَاد من بَيت عطا بِغَيْر دستور من أبي الْغَيْث فقصده بعد ذَلِك فَلم يجده فَقَالَ وَلَو وقف الْجبلي لأخذ القماش
وَكَانَت بَينهمَا مكاتبات يطول شرحها وَله فِي التصوف فُصُول كَثِيرَة يتَكَلَّم بهَا على لُغَات شَتَّى فَسئلَ بعض العارفين من أَيْن كَانَ الشَّيْخ يعرف تِلْكَ اللُّغَة وَهُوَ عَرَبِيّ وَلم يكد يعرف لَهُ خُرُوج من بَلَده
وَأَهْلهَا عرب لَا يعْرفُونَ غير الْعَرَبيَّة فَقَالَ كَانَت روح الشَّيْخ مهبطا لأولياء الله وَلَهُم لُغَات كَثِيرَة يَتَكَلَّمُونَ بهَا على لِسَان الشَّيْخ فَنَطَقَ بهَا كَمَا يَقُولُونَ
وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنه كَانَ يكْتب كَلَامه الَّذِي ينْطق بِهِ بآلات مُتَفَرِّقَة ثمَّ يستعرض ذَلِك مِمَّا لم يُدْرِكهُ غسله وَقَالَ كَانَ الشَّيْخ أشوق إِلَى كَلَامه من سامعيه وَكَانَ مَتى علم أَن فِي السامعين لكَلَامه من لَا يفهمهُ قَالَ معرضًا بِهِ ... يَا وَاقِفًا على المَاء وَهُوَ عطشان
وَسَأَلَهُ السُّلْطَان عَلَاء الْآتِي ذكره فِي فُقَهَاء الأجناد وَهُوَ من أكبر أَصْحَابه عَن أَرْجَى آيَة فِي الْقُرْآن قَالَ قَوْله تَعَالَى {قل كل يعْمل على شاكلته} قَالَ إِذا كَانَت(1/395)
محبَّة الله قَدِيما لم يُؤثر فِيهَا أَعْرَاض التبغيض حَدِيثا وَإِذا كَانَت الْمعْصِيَة من الله قَدِيما لم يُؤثر فِيهَا أَعْرَاض التحبيب حَدِيثا وَيَكْفِي على ذَلِك شَاهد مَعْصِيّة آدم وَطَاعَة إِبْلِيس فَلَمَّا هَبَط آدم إِلَى أَرض شقوته من حصن رتبته بِمن فِيهِ من ذَوي نفوس ذُريَّته عَادَتْ عوائد محبوبهم فَنزل إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا شوقا إِلَى تقريبهم وجني من بعديتهم ليَالِي الْأَيَّام الدائرة إِلَى أَن يطلع فجر الْآخِرَة يُنَادي بِلِسَان التَّنْبِيه هَل من تائب وَسُئِلَ عَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أحدث وَلم يتَوَضَّأ فقد جفاني وَمن أحدث وَتَوَضَّأ وَلم يصل رَكْعَتَيْنِ فقد جفاني وَمن صلى رَكْعَتَيْنِ وَلم يدعني فقد جفاني وَمن دَعَاني فَلم أجبه فقد جفوته وَلست بِرَبّ جَاف فَقَالَ للسَّائِل معنى الْخَبَر فِي الشَّرِيعَة ظَاهر وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة إِشَارَة إِلَى أَن كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة حَتَّى يتهود أَو ينتصر أَو يتمجس أَو يُشْرك أَو يَعْصِي وَذَلِكَ حدث نَاقض لوضوء الْفطْرَة وَلَا طَهَارَة من هَذَا الْحَدث إِلَّا بِمَاء التَّوْبَة من تَوَضَّأ من إِحْدَى هَذِه النواقض بِمَاء التَّوْبَة خرج من جفَاء الْحَدث إِلَى تَجْدِيد الْعَهْد وَمن صلى بعد هَذَا الْوضُوء رَكْعَتَيْنِ مُقبلا على الله مقتديا برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج من جفَاء الْمُخَالفَة إِلَى ود المؤالفة وَمن دَعَا بعد هَذِه الصَّلَاة خرج عَن جفَاء العناء عَن نبيه إِلَى خضوع الافتقار إِلَيْهِ فَلَا جرم أَنه يُسْتَجَاب لَهُ وَيدخل فِي صف الأحباب بَين يَدي رب الأرباب مولده قَرْيَة ذِي الْجنان حَيْثُ تقدم ذكر أَبِيه مَعَ ذكر الإِمَام يحيى بن أبي الْخَيْر ثمَّ فِي آخر الْأَمر تأهل بِامْرَأَة من يفرس الْقرْيَة الْمَذْكُورَة فسكن مَعهَا ورفض ذِي الْجنان وَلم يزل بهَا حَتَّى توفّي وَكَانَت لَهُ كرامات شهيرة يطول تعداد بَعْضهَا
وَكَانَ كثيرا مَا يرد إِلَى السمكر إِحْدَى قرى الْجند وَله بهَا أَصْحَاب كَثِيرُونَ أدْركْت جمَاعَة مِنْهُم
وبالقرية كتاب فِيهِ مُعظم كَلَامه أَخْبرنِي خَبِير بِمَا ذكر أَن جمَاعَة من السمكر خَرجُوا عازمين على زيارته إِلَى يفرس أَو ذِي الْجنان وَمَعَ كل مِنْهُم شَيْء من الدُّنْيَا يُرِيد أَن يتَقرَّب بِهِ فَلَمَّا وصلوا إِلَيْهِ وسلموا عَلَيْهِ سلم كل وَاحِد مِنْهُم مَا جَاءَ بِهِ للنقيب ثمَّ لَبِثُوا مَا شَاءَ الله وعادوا بلدهم وَفِي أول لَيْلَة لم يقم أحد مِنْهُم من نَومه حَتَّى وجد مَا رَاح بِهِ وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة السبت الْعشْرين من رَجَب سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة بقرية يفرس وقبر بهَا على بَاب مَسْجِد لطيف وَهُوَ الْقَبْر الملتصق(1/396)
بِالْمَسْجِدِ وعَلى يسَار الدَّاخِل إِلَيْهِ وَيَمِين الْخَارِج عَنهُ وَكَانَ لَهُ ولد اسْمه مُحَمَّد يسكن ذَا الْجنان أصل موضعهم وَكَانَ على طَرِيق مرضِي من طَرِيق الْمُسلمين إِلَى أَن توفّي مستهل شَوَّال سنة خمس وَسَبْعمائة وَقد جعلت ذكر هَذَا الرجل فَارس الأعقاب فِي أهل جبا ونواحيها فليعرف الْعَارِف أَن غرضي بذلك جعله ختامهم لِأَن الله ختم الْأَنْبِيَاء بأفضلهم
وَقد انْقَضى ذكر من عَرفته مُسْتَحقّ الذّكر من أهل جبا ونواحيها وَلم يبْق إِلَّا الْعود إِلَى ذكر الْفُقَهَاء فأبدأ بأقدمهم فِي ذَلِك وهم أهل الملحمة ذُرِّيَّة الْفَقِيه أبي عمرَان فقد مضى ذكر من ذكرهم ابْن سَمُرَة مِنْهُم وَلم يبْق إِلَّا من تَأَخّر عَنْهُم وهم جمَاعَة
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مَضْمُون بن الْفَقِيه عمر بن مُحَمَّد بن عمر بن الْفَقِيه إِبْرَاهِيم بن أبي عمرَان فالفقهاء المذكورون أَولا قد ذكرهم ابْن سَمُرَة وذكرتهم وَأما هَذَا مُحَمَّد فَإِنِّي انْفَرَدت بذلك وَنسبه قد تقدم وميلاده يَوْم الْخَمِيس السَّابِع عشر من شعْبَان سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة وتفقه بِالْإِمَامِ سيف السّنة فَذكر أَنه لزم مَجْلِسه إِحْدَى عشرَة سنة وَأَنه أَقَامَ بِجَامِع إب سبع سِنِين لم يخرج عَنهُ إِلَّا فِي قبران صَاحب يعز عَلَيْهِ والأربع الْبَاقِيَات قد تخْتَلف فِي البدري إِلَى بَلَده فانظروا معاشر الطّلبَة إِلَى اجْتِهَاد هَذَا الرجل وتخليه مَعَ قرب بَلَده الملحمة من مَوضِع درسه إب وَأخذ عَن الإِمَام سيف السّنة الْفِقْه والنحو واللغة والْحَدِيث وَالْأُصُول وحاكاه فِي جَمِيع أُمُوره حَتَّى فِي الْخط وَالشعر وَلما شَاب وَهُوَ ابْن تسع وَعشْرين حجَّة قَالَ شعرًا ... وَلما مضى تسع وَعِشْرُونَ حجَّة ... من الْعُمر عزتني وعزت إِلَى الصِّبَا ...(1/397)
.. وأنذرني شيبي بحتفي معجلا ... فَقلت لَهُ أَهلا وسهلا ومرحبا
وسمعا لداعي الْحق مِنْك وَطَاعَة ... وَإِن كنت بطالا وَإِن كنت مذنبا
فَقَالَ أَرَاك اشْتقت وَيحك مَا الَّذِي ... بجرمك قد أَعدَدْت بَين لي النبا
أتحسب أَن الْخطب من بعد هَين ... وهيهات يَا مغرور قد خلت غيهبا
أَنا الْمُنْذر الْعُرْيَان فاسمع نصيحتي ... فَإِن أَمِير الْجَيْش بعدِي تأهبا
فَإِن رَسُول الْمَوْت عَمَّا عهدته ... على أثري للقصد هيأ مركبا
فَقتل لَهُ وَالله مَا لي عدَّة ... وَإِن كَانَ فيض الذَّنب قد بلغ الزبا
سوى حسن ظَنِّي أَن رَبِّي مسامحي ... وَأَن ذُنُوبِي جنب رَحمته هبا
وَأَن رَسُول الله فِي الْحَشْر شَافِعِيّ ... وَأَنِّي وجدت الْعَفو للذنب أقربا
وَأَنِّي أحب الله ثمَّ نبيه ... وَصَحب نَبِي الله وَالْحق مذهبا
فَهَذَا الَّذِي أرجوه يُنجي من الردى ... بِيَوْم يرى من هوله الطِّفْل أشيبا
وَصلى إِلَه الْخلق مَا ذَر شارق ... على الْمُصْطَفى حَقًا وَمَا هبت الصِّبَا ... وَنسخ بِيَدِهِ كتبا عديدة وَكتب على كل مِنْهَا أبياتا مِنْهَا قَوْله ... وقف حرَام وَحبس دَائِم الْأَبَد ... يبْقى رَجَاء ثَوَاب الْوَاحِد الصَّمد
على الْحَنَابِلَة الْمَشْهُور مَذْهَبهم ... من آل بَيت أبي عمرَان ذِي الرشد
ثمَّ الحنابل طرا بعد أَن عدموا ... سيان غائبهم أَو حَاضر الْبَلَد
لَا حَظّ فِيهَا لبدعي يخالفني ... لَو كَانَ مُعْتَقدًا ضدا لمعتقدي
فَمن بغى أَو سعى فِي هتك حرمتهم ... فخصمه الله إِن الله بالرصد
يَا رب فانفع بِهِ دنيا وآخرة ... يَا من تَعَالَى فَلم يُولد وَلم يلد
وصل مَا انهل أَو أضا قبس ... على النَّبِي بِلَا حصر وَلَا عدد ... وَقد أَخذ الْعلم أَيْضا عَن أبي السُّعُود بن خيران مقدم الذّكر فِي أَصْحَاب الإِمَام يحيى وَلما قدمت الملحمة بالتاريخ الْمُتَقَدّم ووقفت على بعض كتبه الْمَوْقُوفَة نقلت الأبيات مِنْهَا وَوجدت عَلَيْهِ مُعَلّقا شعرًا وَهُوَ بِخَطِّهِ من قَوْله ... من كَانَ فِي الْحَشْر لَهُ قربَة ... تدنيه من عَفْو الْقَدِير الْوَلِيّ
فقربتي حبي للمصطفى ... ثمَّ اعتقادي مَذْهَب الْحَنْبَلِيّ ...(1/398)
وَكَانَ الْملك الْمَنْصُور بن عَليّ بن رَسُول يُحِبهُ ويعتقده فَلَمَّا بنى مدرسته الَّتِي بِدَرَجَة المغربة الْمَعْرُوفَة بالوزيرية لم يزل يتلطف لَهُ ويتوسل إِلَيْهِ حَتَّى نزل من بَلَده وَقعد فِي الْمدرسَة مدرسا ثمَّ قَالَ لَهُ إِنِّي أحب أَن أكون أَقرَأ عَلَيْك ونزولي إِلَى الْمدرسَة فِي كل يَوْم يشق عَلَيْك وَعلي وعَلى النَّاس فَإِن رَأَيْت فانعم كل يَوْم يَأْتِيك الركبدار ببغلة تركبها وتطلع الْحصن فأقرأ عَلَيْك فِي خلْوَة فَرَأى الْفَقِيه أَن طلوعه أسهل فاستعفاه الْفَقِيه من ركُوب البغلة وَقَالَ أَنا أطلع على كل يَوْم بدرسي من أَصْحَابِي يؤنسني وَاتفقَ مَعَ السُّلْطَان على ذَلِك وَصَارَ يطلع فِي كل يَوْم الْحصن وَمَعَهُ درسي من أَصْحَابه فَلَمَّا صَار على بَاب الستارة وقف صَاحبه وَدخل الْفَقِيه من غير إِذن فَيقْرَأ عَلَيْهِ السُّلْطَان مَا شَاءَ الله ثمَّ يخرج الْفَقِيه وَكَانَ السُّلْطَان مَتى نزل من الْحصن يَأْمر من يسْبقهُ إِلَى الْفَقِيه يسْأَل مِنْهُ أَن يقف على بَاب الْمدرسَة فَإِذا قَابل السُّلْطَان ذَلِك الْموضع رد السَّلَام ثمَّ رفع يَده يُشِير إِلَى أَن الْفَقِيه يَدْعُو فيفهم الْإِشَارَة وَيَدْعُو السُّلْطَان وَاقِف رَافعا يَدَيْهِ فَإِذا مسح الْفَقِيه وَجهه مسح السُّلْطَان وَمن مَعَه وُجُوههم ويتقدم حَيْثُ أَرَادَ وَيعود الْفَقِيه الْمدرسَة فَلَا يبرح مدرسا ومفتيا بَقِيَّة يَوْمه وَلم يزل ذَلِك من عَادَته وَحج سنة سبع وَعشْرين أَو ثَمَان وَعشْرين وَحج مَعَه وَلَده عمر وَلما دنت وَفَاته عَاد من تعز بَلَده فَتوفي بهَا وَرَأَيْت بِخَط وَلَده عمر يَقُول توفّي الْوَالِد طُلُوع الْفجْر لَيْلَة الْجُمُعَة لليلة أَو لَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا من الْمحرم أول سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَكَانَ آخر مَا فهمنا من كَلَامه لَا إِلَه إِلَّا الله وَللَّه الْحَمد ودفناه بعد صَلَاة الْجُمُعَة وَكَانَ يَقُول من زمَان يَوْم الْجُمُعَة وليلتها عَليّ ثقيلان وَلَعَلَّ موتِي فيهمَا وَكَانَ قد أَخْبرنِي مَعَ جمَاعَة مِنْهُم الشَّيْخ الصَّالح زُرَيْع بن سعد الْحداد وَقبل أَن يعلم أَن يُرِيد حفر قَبره مَتى حفرت قَبْرِي وجدْتُم قبرا آخر
فَلَمَّا توفّي وجدنَا جربة مزروعة فأبعدنا الزَّرْع من مَوضِع فِيهَا ثمَّ حفرنا فِيهِ فَلَمَّا قاربنا اللَّحْد ظهر لنا طَاقَة إِلَى قبر آخر فسددناها ثمَّ أتممنا الْقَبْر وقبرناه فِيهِ
ثمَّ خَلفه ابْنه عمر وَامْتنع عَن النُّزُول إِلَى تعز للتدريس فَلم يعذرهُ الْمَنْصُور من(1/399)
ذَلِك بل لاطفه وَأَخذه بالحيل حَتَّى نزل ودرس وَكَانَ جيدا صَالحا ورعا زاهدا وَقد أَخذ عَن الْفَقِيه مُحَمَّد وَولده جمَاعَة فَمِمَّنْ أَخذ عَن الْفَقِيه مُحَمَّد القَاضِي مُحَمَّد بن عَليّ حَاكم تعز فِي صدر الدولة المظفرية وَسَيَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله وَتُوفِّي ابْنه بقريته
وَمن عَجِيب مَا رَأَيْته فِي سَفَرِي فِي دخولي إِلَى قريتهم بالتاريخ الْمَذْكُور مُعَلّقا بِشَيْء من كتبهمْ مَا مِثَاله أَيَّام مَوْلَانَا السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور خلد الله نعْمَته فِي تعز المحروس فِي شهر رَمَضَان من سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَفِي مجْلِس السماع أَنه أخبرهُ الْفَقِيه عَليّ الصّقليّ بِمَكَّة حرسها الله تَعَالَى أَنه لبث اثْنَتَيْ عشرَة سنة يسْأَل الله أَن يرِيه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأرَاهُ إِيَّاه فِي الْحجر فِي النّوم وَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام يطوف بِالْكَعْبَةِ وَعَلِيهِ ثوب أَبيض كَأَنَّهُ محرم فِيهِ فَقَالَ لَهُ يَا رَسُول الله إِنِّي أُرِيد أَن أَسأَلك فَوقف صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الطّواف بَين رجلَيْنِ وَقَالَ سل فَقلت يَا رَسُول الله الْأمة اخْتلفت بعْدك فَأمرنِي مَا أفعل فَقَالَ عَلَيْك بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم فَقلت يَا رَسُول الله إِن السوَاد الْأَعْظَم اخْتلفُوا بعْدك على أَئِمَّة فَقَالَ لي من هم فَقلت يَا رَسُول الله الْحَنَفِيّ فَأَشَارَ لي بِيَدِهِ الْيُمْنَى وحرك أَصَابِعه وَقَالَ لي دع فَقلت يَا رَسُول الله الْمَالِكِي قَالَ ذَلِك رجل نقل عني ظواهر حَدِيثي فَقلت الشَّافِعِي فَقبض الْخِنْصر والبنصر وَالْوُسْطَى إِلَى رَاحَته وَقبض رَأس السبابَة إِلَى بَاطِن الْإِبْهَام كَأَنَّهُ عَاقد عشرَة وَقَالَ ذَلِك رجل ينْقل عني مَحْض حَدِيثي وَنقض يَده كرر ذَلِك ثَلَاثًا يقبض أَصَابِعه وينقضهن
قَالَ الرَّاوِي وَكَانَ ذَلِك بِالْحجرِ بَين النَّائِم وَالْيَقظَان قَالَ الْمَنْصُور وَكَانَ الرَّاوِي مالكي الْمَذْهَب وَظن أَنه يذكر مَالِكًا يُشِير لَهُ إِلَى اتِّبَاعه وَمن وَقت أَشَارَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاتِّبَاع الشَّافِعِي لم يزل يُصَلِّي مَعَ الشَّافِعِيَّة ثمَّ فِي آخر مَا كتبه الْفَقِيه عمر مَا مِثَاله بِخَط الْمَنْصُور هُوَ كَمَا ذكر فليرو عني وَكتب عمر بن عَليّ بن رَسُول وَمن أحسن مَا رَأَيْته مُعَلّقا بِخَطِّهِ مَا كتبه عقب سَماع البُخَارِيّ إِذْ كتبه لقوم إجَازَة لَهُم شعر ... فيا سَامِعًا لَيْسَ السماع بِنَافِع ... إِذا أَنْت لم تعْمل بِمَا أَنْت سامع
إِذا كنت فِي الدُّنْيَا عَن الْخَيْر عَاجِزا ... فَمَا أَنْت فِي يَوْم الْقِيَامَة صانع ...(1/400)
وَلم أتحقق لَهُ تَارِيخا إِذْ الْغَالِب فِي الْمَوْجُود من ذُريَّته الإهمال وَعدم الِاشْتِغَال كَمَا هُوَ ذَلِك فِي كثير من ذَرَارِي الْفُقَهَاء
وَمِنْهُم أَبُو الْعَتِيق أَبُو بكر بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عمرَان الملقب بالصفوي لقب من ألقاب الْمكتب وَهُوَ آخر محققي هَذَا الْبَيْت تفقه بِابْن عَمه مُحَمَّد بن مَضْمُون وَكَانَ صَالحا ورعا زاهدا متقللا درس بِبَلَدِهِ ثمَّ درس بِبَلَد صهْبَان فِي مدرسة أحدثها مَشَايِخ بني حميد فَلم يزل يدرس بهَا حَتَّى دنت وَفَاته فَعَاد إِلَى بَلَده وَتُوفِّي بهَا بتاريخ سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة وقبر بَين أَهله
وَمن أعيانهم أَحْمد بن يحيى بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن مَضْمُون كَانَت لَهُ مُشَاركَة بِالْعلمِ لَكِن اشْتِغَاله بِأُمُور الدُّنْيَا والترؤس وخلطة الْأُمَرَاء كعلي بن يحيى وَغَيره أَكثر من ذَلِك وَكَانَ أَخذه لما بعد من الْمَعْلُوم عَن الصفوي الْمَذْكُور آنِفا وَكَانَ مَشْهُورا بِالْكَرمِ وَكَثْرَة إطْعَام الطَّعَام حَتَّى أفنى جملَة مستكثرة من مَاله فِي ذَلِك وَلما بلغ حَاله إِلَى الْأَمِير عَليّ بن يحيى أَدْرَكته عَلَيْهِ شَفَقَة وَكَانَ يَصْحَبهُ وَهُوَ يَوْمئِذٍ مقطع لبلدهم وَكَانَ مَتى قدمهَا سكن حصن شواحط الْحصن الْمَذْكُور أَولا فَقدم ذَات مرّة فَلَمَّا صَار بالحصن وَصله أَعْيَان الْبِلَاد يسلمُونَ عَلَيْهِ وَهَذَا من جُمْلَتهمْ وَقد صَار عِنْده مِنْهُ صُورَة وَأَنه قد صَار مشرفا على إفناء مَاله صَار يتأسى لَهُ بهَا وَيَقُول هَذَا مِسْكين يفرغ مَاله وَيرجع هُوَ وَمن مَعَه يَحْتَاجُونَ إِلَى النَّاس فَلَمَّا أَرَادَ النَّاس الْخُرُوج من عِنْده أمره بالتاخر فَلَمَّا خلا بَينهمَا الْمَكَان قَالَ يَا فَقِيه بَلغنِي أَنَّك كثير التَّفْرِيط بِمَا فِي يدك بِغَيْر وَجه لَائِق وأظنك تُرِيدُ الِاقْتِدَاء بِنَا وَلَا يَنْبَغِي لَك ذَلِك نَحن يحصل لنا كثير من غير تكلّف وَلَا تَرْتَضِي أَن نَفسِي عالية فيسهل علينا خُرُوجه كَمَا يسهل دُخُوله وَأَنت فَقِيه دَخلك قَلِيل حَلَال كَسَائِر الْفُقَهَاء وَمَا خرج عَلَيْك لَا يكَاد يحصل لَك عوضه إِلَّا بِمَشَقَّة ثمَّ وبخه على فعله ومكارمه والفقيه سَاكِت فَقَالَ لَهُ الْأَمِير أحب أَن تعاهدني أَنَّك لَا عدت على شَيْء من ذَلِك فَقَالَ الْفَقِيه أروح الْبَيْت وأستخير الله اللَّيْلَة ثمَّ أتيك غَدا بِمَا قويت عَلَيْهِ عزيمتي فَلَمَّا رَاح الْفَقِيه وَبَات بمنزله فِي الملحمة صلى فِي اللَّيْل صَلَاة الاستخارة ثمَّ نَام وَإِذا بِهِ يرى قَائِلا يَقُول لَهُ يَا فَقِيه أَحْمد أنْفق فَأَنت مِمَّن وقِي شح نَفسه فَقَوِيت نَفسه على الْبَقَاء على حَاله ثمَّ لما أصبح غَدا إِلَى الْأَمِير فَقَالَ لَهُ مَا فعلت بِالْأَمر الَّذِي رحت مني أمس متسخيرا بِهِ قَالَ عزمت على(1/401)
الْبَقَاء على مَا كنت عَلَيْهِ فَقَالَ وَلم وَقد رَأَيْتُك حِين كلمتك كدت تقرب إِلَى قولي قَالَ ثمَّ عذر يُوجب الْإِعْرَاض عَن السَّبَب فَلم يعذرهُ حَتَّى أخبرهُ الْمَنَام فَقَالَ إِنَّمَا كدت أوافقك لأنني علمت أَنَّك إِنَّمَا قلت لي مَا قلت شَفَقَة عَليّ فَلَمَّا رَأَيْت مَا رَأَيْت وَعلمت قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرُّؤْيَا الصَّالِحَة جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من النُّبُوَّة عزمت على الْبَقَاء على حَالي فَبكى الْأَمِير وَقَالَ فِي أَي شَيْء مَا شَاءَ ركبك وَكَانَت وَفَاته سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة
وَقد عرض هُنَا ذكر الْأَمِير وَهُوَ أحد أَعْيَان الْفُضَلَاء والأمراء والكرماء فاتجه حِينَئِذٍ بَيَان بعض اللَّائِق من أَحْوَاله فَهُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن يحيى الْعَنسِي بالنُّون بَين السِّين وَالْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ نِسْبَة إِلَى قَبيلَة كَبِيرَة فِي الْيمن خرج مِنْهَا جمع من الْفُضَلَاء أصل بَلَده المكنة بِبَلَد صهْبَان بِفَتْح الْمِيم بعد الْألف وَاللَّام وَفتح الْكَاف وَالنُّون بعد تشديدها ثمَّ هَاء سَاكِنة وَكَانَ لَهُ من الْمَنْصُور مكانة عَظِيمَة وَرفع لَهُ طبلخانة وأقطع لَهُ إقطاعا كثيرا وَذَلِكَ أَن الْمَنْصُور كَانَ ابْن عمته وَقيل ابْن أُخْته وَلم يزل معززا مكرما حَتَّى توفّي الْمَنْصُور على مَا يَأْتِي تَارِيخه وَكَانَ يكره المظفر ويميل إِلَى أَوْلَاد عَمه أَسد الدّين وأخيه فَلَمَّا لزم المماليك فَخر الدّين وأوصلوه إِلَى المظفر أَسِيرًا حَسبه ورسم عَلَيْهِ المبارز بن برطاش فَلَمَّا بلغ ذَلِك إِلَى عَليّ بن يحيى هَذَا كتب إِلَى أَسد الدّين يحثه على الْقِتَال واستنقاذ أَخِيه من الْأسر أبياتا وَهِي ... أتراك تعلم يَا مُحَمَّد مَا جرى ... فتقودها شعث النواصي ضمرا
جردا ترَاهَا فِي الأعنة شزبا ... تفري السباسب واليباب المقفرا
قدها عرابا من تريم ومرخة ... ودثينة حَقًا ودع عَنْك المرا
واقصد بهَا دربي زبيد على الوجا ... لتقيم عذرا أَو تشيد مفخرا
واجنح إِلَى الْملك الْمفضل لذ بِهِ ... شاوره حَقًا قل لَهُ مَاذَا ترى ...(1/402)
.. أضحى ابْن عمك فِي الْقُيُود مكبلا ... حاشا لمثلك أَن تنام ويسهرا ... فَأَجَابَهُ ابْن دعاس بِشعر هَذَا مَحْفُوظ مَا سمعته مِنْهُ ... يَا قَائِلا أتراك تعلم مَا جرى ... أَتُرِيدُ عكس الْأَمر وَهُوَ مُقَدرا
مَا يَنْبَغِي هَذَا لمخلوق وَلَو ... جَاءَت بِجمع جُنُوده الإسكندرا
انْظُر إِلَى عدن أطاعت أمره ... وَإِلَى زبيد وَمَكَّة أم الْقرى ... والشعران طويلان لم يكد يعلق بحفظي غير مَا أوردته فَلَمَّا اسْتَقل المظفر بِالْملكِ تغافل عَن عَليّ بن يحيى وأبقاه على الْحَال الَّتِي مَاتَ الْمَنْصُور وَهُوَ عَلَيْهَا وَفِي نَفسه أُمُور قديمَة من أَيَّام أَبِيه وحديثة مِنْهَا هَذَا الشّعْر وَغَيره وَلما كَانَ فِي سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة قَالَ لَهُ تطلع وَتصْلح بيني وَبَين ابْن عمي أَسد الدّين ووعده على ذَلِك خيرا أَو زِيَادَة إِحْسَان وَأسد الدّين إِذْ ذَاك فِي الْبَلَد الْعليا صنعاء ونواحيها وَقد ضعف وَصَارَ متخشيا من مكر الْعَرَب وَأَن يبيعوه ونفد غَالب مَا كَانَ بِيَدِهِ فَلَمَّا وصل عَليّ بن يحيى فَرح وَمَال إِلَى الصُّلْح وَكَانَ مَعَ عَليّ بن يحيى شَاهد الشَّيْخ أَمِين الدّين عبد الله بن عَبَّاس كَاتب الْجَيْش يَوْمئِذٍ وَقيل لأسد الدّين يَوْمئِذٍ ابْن عمك رُبمَا لَا يَفِي لَك بِذِمَّة ويحبسك فَقَالَ يأكلني وَلَا يأكلني غَيره وَلِأَن يُقَال اعتاب بِي السُّلْطَان خير من أَن يعتابني بعض البدو إِمَّا بقتل أَو بأسر ثمَّ نزل مَعَ ابْن عَيَّاش وَابْن يحيى فَلم ينزلا إِلَّا وَالسُّلْطَان بزبيد فلحقاه إِلَى هُنَالك فَدخل زبيد وَأنزل فِي دَار أَبِيه ووقف فِيهِ من الضُّحَى إِلَى بعد الظّهْر ثمَّ استدعى أَسد الدّين وَابْن يحيى فَلَمَّا صَارا بِموضع من دَار زبيد قعد فِيهِ وَأخرج لَهما قيدان فقيدا بهما وَبعث بهما على السّير إِلَى حصن تعز وَذَلِكَ سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة
وَذكر أَن أَسد الدّين لما دخل على أَهله جعلُوا يخاصمونه فَقَالَ لَا نَكُون مثل أهل جَهَنَّم فَلم يَزَالَا بِهِ حَتَّى توفيا بدار تعرف بدار الْإِمَارَة وَكَانَ قد حبس فِيهِ قبلهمَا أَخُوهُ فَخر الدّين ووالده بدر الدّين وَرُبمَا كَانَ بدر الدّين مِمَّن حضر مَعَهُمَا وَقيل بل كَانَ بعدن وَإِنَّمَا اطلع بعد ذَلِك وَبعد سُؤال مِنْهُم السُّلْطَان لذَلِك وأخبار عَليّ بن يحيى ومكارمه كَثِيرَة وَلَو لم تكن لَهُ غير محبته للفقهاء وإحسانه إِلَى الْفُضَلَاء نقل الثِّقَات ذَلِك نقلا متواترا وَأَنه قَلما قَصده قَاصد فخيبه وَسمعت شَيْخي أَبَا الْحسن الأصبحي يَقُول أَخْبرنِي الثِّقَة أَن الْمَنْصُور لما بنى مدرسته بالجند سُئِلَ عَن أفقه من(1/403)
بهَا ونواحيها فأرشد إِلَى الْفَقِيه أبي بكر بن نَاصِر فاستدعاه من الذنبتين فَلَمَّا حضر بقصر الْجند وَسلم قَالَ يَا فَقِيه نُرِيد مِنْك أَن تدرس لنا بِهَذِهِ الْمدرسَة فَقَالَ لَا أفرغ وَأَنا رجل بدوي لَا أقدر على الْمَدِينَة قَالَ فتبيعنا كتبك قَالَ وَلَا ذَلِك وَذَلِكَ بِحَضْرَة الْأَمِير عَليّ بن يحيى قَالَ لَهُ الْمَنْصُور فَتخرج من بِلَادنَا قَالَ نعم ثمَّ ولى خَارِجا عَازِمًا على ذَلِك فَقَالَ عَليّ بن يحيى الله الله يَا مَوْلَانَا رجل عَلامَة تَأمره أَن يخرج من بلدك وَمثله يطْلب من أقْصَى الْبِلَاد فَقَالَ مَا وجدنَا لَهُ جَوَابا إِلَّا قَول لَا قَالَ سَأَلته أمرا عَظِيما وَهُوَ بيع كتبه فَأجَاب بأشق جَوَاب ثمَّ قَالَ يَا مولَايَ إِن الْفَقِيه أشق الْأُمُور عَلَيْهِ هُوَ بيع كتبه فَأمر السُّلْطَان برده وَقَالَ لَهُ قف بَيْتك فَمَا لأحد عَلَيْك تعرض وادع لنا فَخرج الْفَقِيه وَعَاد بَلَده طيبا وسأذكر قصَّته مَعَ ابْن فضل فِي ذكره وابتنى مدرسة بِبَلَدِهِ وَهِي الَّتِي قبر بهَا ووقف عَلَيْهَا وَقفا جاملا لَكِن أَوْلَاده لما افتقروا عَادوا عَلَيْهِ واستأثروا بِهِ وَكَانَ مَعَ صحبته للفقهاء وَالصَّالِحِينَ يتواضع ويتأدب مَعَهم وَيقبل شفاعتهم وَكَانَ فِي نَاحيَة من بلد بني حُبَيْش رجل من الْفُقَهَاء والصلحاء يعرف بِعَبْد الله القرين رُبمَا يَأْتِي من ذكره مَا لَاق كَانَ عَليّ بن يحيى يَصْحَبهُ إِذْ كَانَت بِلَاده إقطاعة وَكَانَ مهما أمره بِهِ ائتمر وَكَانَ الْفَقِيه يَدْعُو لَهُ ويذكره بِالْخَيرِ فعوتب على ذَلِك وَقيل لَهُ هَذَا رجل ظَالِم فَقَالَ إِن دخل عَليّ بن يحيى النَّار فَإِنَّهَا صُحْبَة حمَار بن حمَار وَالله لَا مَاتَ إِلَّا طَاهِرا مطهرا فَقيل لَهُ وَمَا تَطْهِيره قَالَ الْقَيْد وَالْحَبْس فَلَمَّا حصل لَهُ ذَلِك وَمَات بِهِ علم صدق الْفَقِيه وَكَانَت وَفَاته يَوْم الِاثْنَيْنِ فِي صفر سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَحمل إِلَى بَلَده فقبر بمدرسته
وَأما أَسد الدّين الْعَارِض ذكره مَعَه فَهُوَ مُحَمَّد بن حسن بن عَليّ بن رَسُول أحد خِيَار بني رَسُول وكرامهم قَلما قَصده قَاصد إِلَّا وأناله قَصده وأجزل رفده وَله آثَار جَيِّدَة مبقية للذّكر مِنْهَا مدرسة بِمَدِينَة إب ثمَّ مدرسة بقرية الجبابي وَبهَا قَبره وَعَلَيْهَا وقف كثير شَيْء مِنْهُ للوافد يطعم على قدر حَاله وَمِنْهَا للدرسة ومدرس ثمَّ لما صَار بالسجن اشْتغل بِقِرَاءَة كتب الْعلم وَكَانَ يَسْتَدْعِي بالفقهاء إِلَى مَوْضِعه فَيقْرَأ عَلَيْهِم وَيحسن إِلَيْهِم لَا سِيمَا شَيخنَا الْفَقِيه أَحْمد السرددي إِذْ كَانَ رَأس الْمُحدثين إِذْ(1/404)
ذَاك بتعز فَقَرَأَ غَالب كتب المسموعات خَاصَّة من كتب الحَدِيث على ابْن السرددي وَغَيره من أهل تعز ثمَّ نسخ عدَّة مجلدات ثمَّ مُقَدمَات قَرَأت ووقف ذَلِك على أَمَاكِن عديدة مِنْهَا تربة ذِي عقيب وَمِنْهَا مدرسته وَغير ذَلِك ووقف على مدرسته بإب أَيْضا وَقفا جاملا وَبنى سدا بِموضع فِي المخلاف يعرف بسد فرقة وَلم يزل على أحسن طَرِيق من قبل وَفَاته بعدة سِنِين إِلَى أَن توفّي على ذَلِك ثَلَاث عشر ذِي الْحجَّة آخر سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة بعد أَن بلغ عمره نيفا وَسِتِّينَ سنة وعقبه من خير أَوْلَاد الْأُمَرَاء يغلب عَلَيْهِم الْخَيْر وَفعل الْمَعْرُوف حَتَّى مواليهم بِحَيْثُ اعْتبرت ذَلِك فَوَجَدته حَقًا صدقا وَخلف عدَّة أَوْلَاد فأفضلهم أَبُو بكر كَانَ عَارِفًا بِعلم الْأَدَب وَله أشعار جَيِّدَة مِنْهَا قَوْله ... إِذا لم أقاسمك المسرة والأسى ... وَلم أجد الوجد الَّذِي أَنْت وَاجِد
وَلم أسهر اللَّيْل الطَّوِيل كآبة ... فَمَا أَنا مَوْلُود وَلَا أَنْت وَالِد ... وهما من قصيدة كَبِيرَة كتبهَا إِلَى أَبِيه فِي السجْن وَتزَوج الْملك المظفر ابْنَته مِنْهُ قبل الْحَبْس وَكَانَت من أخير نسَاء الْمُلُوك فِي الدّين وَالصَّدَََقَة وابتنت مدرسة بمغربة تعز بحافة الميهال ووقفت عَلَيْهِ وَقفا عَظِيما لَكِن ضعفه سوء نظر النظار وَلها من المظفر ابْنه الواثق والحرة مَاء السَّمَاء يَأْتِي ذكر الواثق إِن شَاءَ الله فِي الْمُلُوك وَأما الْحرَّة مَاء السَّمَاء فَهِيَ إِحْدَى أخيار الخواتين كَثِيرَة الشَّفَقَة على أَهلهَا وَالْإِحْسَان إِلَى ذُرِّيَّة جدها أَسد الدّين وَالصَّدَََقَة على الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وَلها من الْآثَار المبقبة للذّكر مدرسة ابتنتها بزبيد وَمَسْجِد كَانَ لجدها بدر الدّين بزبيد أَيْضا وَكَانَ قد خرب فابتنته مُخْتَصرا ووقفت عَلَيْهِ وعَلى الْمدرسَة وَقفا جاملا لدرسه وأيتام يتعلمون ومدرس يقرىء الدرسة الْعلم الشريف وابتنت بتعز فِي حدبة مَسْجِدا أَيْضا وَجعلت عَلَيْهِ وَقفا يقوم بِإِمَام ومؤذن وأيتام ومعلم جزاها الله خيرا وَالْغَالِب عَلَيْهَا وعَلى من يلوذ بهَا الْخَيْر فِي الْمقَال والفعال وَهِي آخر ذُرِّيَّة أَسد الدّين فِي اسْتِحْقَاق الذّكر(1/405)
وَتوفيت بقرية التريبة سادس عشر شعْبَان سنة أَربع وَعشْرين وَسَبْعمائة وَلَا أعرف لعَلي بن يحيى عقبا عمل مَا يسْتَحق الذّكر غير ابْنة لَهُ تسمى حللا فَإِنَّهَا كَانَت من حظاياه وابتنت مدرسة بِرَأْس وَادي نخلان بِموضع يعرف بالظهرة وعملت مكرمَة بِأَن وقفت دارها الَّتِي كَانَت تسكنها مدرسة ووقفت طينها على مدرسة ودرسة وَخرجت عَن بَيتهَا إِلَى بَيت ابتنته بِقرب الْمدرسَة وَكَانَت من المتصدقات المحسنات أَخْبرنِي الثِّقَة أَنَّهَا كَانَت تَأمر من يفتش لَهَا عَن الْأَيْتَام وَيَأْتِي لَهَا بهم فتكسوهم وتحسن إِلَيْهِم وتأمر بتطهير من لم يكن مطهرا مِنْهُم وَهَذَا دأبها إِلَى أَن توفيت وَكَانَت من أهل الهمم الْعَالِيَة والنفوس الأبية حكى لي الثِّقَة أَن الْأَمِير أَسد الدّين لما مر عِنْدهَا هُوَ ووالدها يُريدَان نزُول بَاب السُّلْطَان وَكَانَت قد كتبت إِلَى سَيِّدهَا أَنه لَا يتَأَخَّر عَن النُّزُول مَعهَا فِي دارها قبل أَن تَجْعَلهُ مدرسة فَعرف بذلك الْأَمِير أَسد الدّين فَقَالَ لَا بَأْس نجبر بَاطِنهَا ثمَّ مروا بهَا فَلم يدخلُوا إِلَّا على سماط عَظِيم لَا يعْمل أحد من نظرائها مثله وحجت بعد لُزُوم سَيِّدهَا وَأَقْبَلت على الْعِبَادَة وَفعل الْمَعْرُوف حَتَّى توفيت ووقفها على الْمدرسَة وقف جيد وَلَكِن ضعف الْوَقْت وَسُوء نظر النظار وَعدم الْحُكَّام أقلوا بركته
نرْجِع إِلَى تَتِمَّة ذكر الْفُقَهَاء بني مَضْمُون فآخر من عرف مِنْهُم ولد لِأَحْمَد اسْمه مُحَمَّد كَانَ متفقها وَيذكر بِمَعْرِِفَة النَّحْو ولي قَضَاء صنعاء من قبل بني مُحَمَّد بن عمر وَكَانَ خَطِيبًا مصقعا وَكَانَ شَدِيد الْأَحْكَام مبالغا فِي إِقَامَة الْحق وَإِقَامَة مَذْهَب السّنة وإماتة الْبِدْعَة وَكَانَ يحلف الإسماعيلية بأيمان تشق عَلَيْهِم ثمَّ بلغه أَن بَعضهم لما مَاتَ وَدفن دفن مَعَه مصحف فَأمر من ينبش الْقَبْر عَنهُ وَأخرج الْمُصحف فشق ذَلِك على الإسماعيلية وكادوا وبذلوا الْأَمْوَال فِي عَزله فعزل بِغَيْر وَجه يُوجب الْعَزْل فَعَاد إِلَى بَلَده فَلبث مُدَّة ثمَّ رتبه أَوْلَاد أَسد الدّين مدرسا بمدرسة جده بإب فَلم يبرح بهَا حَتَّى توفّي وَهُوَ الَّذِي عرفني بِبَعْض نعوت أَهله إِذْ وجدته بإب وَأَنا عازم على تقدم بَلَده فَقلت لَهُ يكْتب لي إِلَى بعض من يرَاهُ صَالحا فِي الْبَلَد يزورني الترب(1/406)
ويوقفني على الْمُمكن من كتبهمْ فَفعل وقدمت بلدهم إِلَى ابْن لَهُ كتب إِلَيْهِ فَلَمَّا جِئْته تَلقانِي بالترحيب والأنس وَذَلِكَ بالتاريخ الْمُتَقَدّم سنة ثَلَاثَة عشر وَسَبْعمائة وَلم يزل الْفَقِيه هَذَا بإب حَتَّى دنت وَفَاته فَعَاد بَلَده وَتُوفِّي بهَا سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة تَقْرِيبًا وَدفن مَعَ أَهله وَخَلفه ابْنه يُوسُف الَّذِي قدمت إِلَيْهِ وَهُوَ الْمشَار إِلَيْهِ فِي عصرنا لكَونه أفقه ذُرِّيَّة بني مَضْمُون وَانْقطع عَنْهُم النّسَب إِلَى الْفَقِيه أبي عمرَان
وَمِمَّنْ ذكره ابْن سَمُرَة فِي الْفَصْل أَيْضا قَالَ وَمن الْقُضَاة بِذِي جبلة وإب مدينتي المخلاف فَذكر ذَا جبلة وقضاتها قَالَ مِنْهُم لمك بن مَالك وخليفته جرير بن يُوسُف ثمَّ وَلَده يحيى بن مَالك ثمَّ أَحْمد بن عبد السَّلَام النقوي سَمِعت خَبِيرا بذلك يَقُول كَانَ أهل النقوي قوما ذَوي دين وعزم وشهرة بالفقه ولتهم السيدة أَو غَيرهَا من الْمُلُوك الْقَضَاء بِصَنْعَاء والمخلاف وانتقلوا من مَذْهَب السّنة إِلَى مَذْهَب الشِّيعَة ثمَّ بعدهمْ أَبُو الْمَعَالِي بن يحيى وَولده أَبُو السُّعُود بِقَضَاء جبلة من قبل النقوي ثمَّ عبد الله بن أبي الْفَتْح وَولده عَليّ مَاتَ سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة ثمَّ أسعد وَأحمد وَمَنْصُور وَأَبُو الْفَتْح بَنو القَاضِي عبد الله بن أبي الْفَتْح الْمُقدم ذكره ثمَّ القَاضِي عَليّ بن أَحْمد بن أبي يحيى وَابْن أَخِيه عَليّ بن عبد الْأَعْلَى وأظن من ذكر بالنقوي إِلَى هُنَا الْغَالِب على الْمَذْكُورين التَّشَيُّع
ثمَّ صَار الْقَضَاء فِي أهل السّنة أَوَّلهمْ القَاضِي أَبُو بكر اليافعي وَولده مُحَمَّد وصهره مُحَمَّد بن عبد الله بن حسان بن مُحَمَّد وَهُوَ أحد من جدد مَسْجِد مرعيت على طَرِيق الرايح من تعز إِلَى الجؤة وَذَلِكَ فِي تسع عشرَة وَخَمْسمِائة ثمَّ وَلَده مُحَمَّد بن زيد
هَؤُلَاءِ كَانُوا ينوبونه حِين انْتقل إِلَى جبلة على مَا قدمت ثمَّ تقضى بعدهمْ القَاضِي عَليّ بن يحيى بن أبي عقبَة ثمَّ وَلَده عقبَة وَمُحَمّد بن عبد الله بن أبي عقبَة ثمَّ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الإِمَام ثمَّ إِبْرَاهِيم بن الْمُبَارك بن الدَّلِيل وَالْقَاضِي بن الحرمي وَمُحَمّد بن عَليّ بن يحيى الْحَضْرَمِيّ ولي أشهرا ثمَّ مَاتَ وَأحمد بن القَاضِي مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الإِمَام ثمَّ القَاضِي سُلَيْمَان بن أَحْمد وَأَخُوهُ مَسْعُود ونائبه عَليّ بن يحيى ثمَّ(1/407)
عُثْمَان بن يحيى بن أَحْمد بن عُثْمَان فِي إب ثمَّ القَاضِي طَاهِر بن يحيى ثمَّ وَلَده مُحَمَّد ثمَّ القَاضِي عَليّ بن أسعد بن الْمُسلم الصعبي تقضى أَيَّام شمس الدولة وَتُوفِّي بسهفنة يَوْم الْجُمُعَة منتصف الْحجَّة سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة ثمَّ ابناه مُسلم وَعِيسَى توفّي عِيسَى على الْقَضَاء يَوْم رَابِع من رَمَضَان فِي السّنة الَّتِي نزل الرماد من السَّمَاء وَسميت سنة الرماد وَهِي سنة سِتّمائَة
ثمَّ صَار الْقَضَاء إِلَى أهل عرشان بِإِشَارَة من القَاضِي عِيسَى وَالْغَالِب أَنه كَانَ مصير الْقَضَاء إِلَيْهِم قبل موت القَاضِي عِيسَى لمُدَّة لثاني ولايتهم مَعَ سيف الْإِسْلَام ثمَّ حَدِيثهمْ مَعَ القَاضِي مَسْعُود وَلما صَار الْقَضَاء إِلَيْهِ ولي قضا جبلة الْفَقِيه إِسْمَاعِيل بن الإِمَام سيف السّنة وَبِه انْقَضى ذكر أهل عرشان
وَمِمَّنْ ذكر ابْن سَمُرَة من الْقُضَاة بزبيد عبد الله بن مُحَمَّد بن عبلة ولي قضاءها أَيَّام بني مهْدي إِذْ عزلوا بني عقامة ثمَّ رَحل شمس الدولة توران شاه بن أَيُّوب الْيمن وَمَعَهُ القَاضِي أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عمر الدِّمَشْقِي وَقد خبر شمس الدولة علمه وفضله فَجعله قَاضِي الْقُضَاة فِي الْيمن أجمع
قَالَ ابْن سَمُرَة وَكَانَ هَذَا القَاضِي كريم النَّفس ذَا مُرُوءَة أَقَامَ بِالْيمن مُدَّة وَتزَوج بهَا ابْنة السُّلْطَان مُحَمَّد بن الْأَغَر الهيثمي فأولدت لَهُ ابْنا سَمَّاهُ هبة الله الْيَمَانِيّ ثمَّ لما عَاد شمس الدولة ديار مصر عَاد صحبته قَالَ ابْن سَمُرَة بَلغنِي أَنه ذُو جاه وَحَالَة جليلة بِمصْر مَعَ صَلَاح الدّين أخي شمس الدولة وَحين صَار الْقَضَاء إِلَى هَذَا وبلغه حَال القَاضِي التسترِي جعله حَاكما بزبيد وَهُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن الْحُسَيْن بن أَحْمد التسترِي تفقه بشيوخ زبيد وبأبي عمرَان مُوسَى بن يُوسُف الأصابي مقدم الذّكر وَكَانَ فَقِيها مجودا ورعا نظيف الْفِقْه أجمع على تبجيله وتفضيله المؤالف والمخالف واعترف بفضله كل عَارِف وامتحنه أهل زبيد بِأَلف مسأله من مسَائِل الامتحان فأجابهم عَنْهَا بأجوبة بَيِّنَة
قَالَ ابْن سَمُرَة وَلَقَد سَمِعت من فضائله وَكَرمه مَا يتعجب مِنْهُ السَّامع ويعجز عَن بُلُوغه الطامع وَكَانَ مَقْطُوعًا بأمانته وديانته وَتُوفِّي عَائِدًا من الْحَج فِي قَرْيَة من مخلاف الساعد سنة تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة غَرِيبا وَقد عد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْغَرِيب شَهِيدا(1/408)
وَمن المدرسين بهَا عَيَّاش بن مُحَمَّد بن عَيَّاش بن أَسد المَخْزُومِي ثمَّ الْقرشِي والعياشان بِعَين مُهْملَة بعد ألف وَلَام ثمَّ يَاء مثناة من تَحت مَفْتُوحَة ثمَّ ألف ثمَّ شين مُعْجمَة مَفْتُوحَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ نون تَثْنِيَة عَيَّاش تفقه بِالْقَاضِي التسترِي وَكَانَ فَقِيها فَاضلا تفقه بِهِ جمَاعَة مِنْهُم عَليّ بن قَاسم الْحكمِي وَمِنْهُم مُحَمَّد وَعلي ابْنا عِيسَى هَذَانِ أخذا عَن الْأَحْنَف قَالَ ابْن سَمُرَة رَأَيْتهمْ يدرسون بِمَسْجِد الأشاعر ويرشدون الطَّالِب وَمِنْهُم حُسَيْن الْأَخْرَس لم أتحقق ضَبطه وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن أبي الصَّيف سكن مَكَّة وانتهت إِلَيْهِ رئاسة الْفِقْه بهَا بعد مُحَمَّد بن مُفْلِح الأبيني وَهُوَ أحد الْحفاظ المكثرين لَقِي عدَّة من الْفُقَهَاء والمحدثين وعاصر جمعا مِنْهُم كالحافظ السلَفِي وَابْن الْجَوْزِيّ وَغَيرهمَا فانتهت إِجَازَته إِلَى مَكَّة وَلم يزل بِمَكَّة على الْحَال المرضي حَتَّى توفّي سنة تسع وسِتمِائَة
وَمن حيس الشَّيْخ عبد السَّلَام بن أبي بكر ثمَّ أَبُو بكر بن فالح وَهُوَ ابْن أخي حسن الشَّيْبَانِيّ وَولي قَضَاء حيس فِي بضع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم أَبُو ربيعَة بن أَحْمد فَقِيه القرشية ثمَّ مُحَمَّد بن أَحْمد المَخْزُومِي توفّي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة ثمَّ أَبُو بكر الْعَبَّادِيّ قَاضِي فشال بِفَتْح الْفَاء والشين الْمُعْجَمَة ثمَّ ألف ثمَّ لَام وَهِي مَدِينَة بالوادي الْمَعْرُوف برمع وَمن ذوال وَهُوَ وَاد عَلَيْهِ عرب يعْرفُونَ بالمعازبة يرجعُونَ عكا وجدهم ذوال بِهِ سمي الْوَادي وَبِه قَرْيَة تسمى بالمدالهة بِفَتْح الْمِيم وَالدَّال الْمُهْملَة ثمَّ ألف ثمَّ خفض اللَّام ثمَّ هَاء مَفْتُوحَة ثمَّ أُخْرَى سَاكِنة مِنْهَا عبد الله بن أَحْمد تلقب بالصريدح الْمَالِكِي النّسَب نِسْبَة إِلَى مَالك وَهُوَ أحد بطُون المعازبة تفقهه بِعَبْد الله الهرمي وَبِه تفقه على ابْن عمر بن عجيل ذكر ذَلِك ابْن سَمُرَة وَمن ذُريَّته جمَاعَة فُقَهَاء يَأْتِي ذكرهم إِن شَاءَ الله
مِنْهُم ابناه يُوسُف وَأحمد فيوسف كَانَ فَقِيها فَاضلا محققا مدققا ثاقبا للمستعجم وَكَانَ صَالحا خيرا تفقه بإبراهيم بن زَكَرِيَّا الْآتِي ذكره واشتغل أَخُوهُ(1/409)
أَحْمد بِالْعبَادَة فَغلبَتْ عَلَيْهِ وَكَانَ ليوسف ثَلَاثَة أَوْلَاد هم مُحَمَّد وَأَبُو بكر وَأحمد فمحمد وَأَبُو بكر تفقها بأبيهما وَأحمد تفقه بِإِمَام الْمُتَأَخِّرين أَحْمد بن مُوسَى بن عجيل وَغَيره وَكَانَ يثني عَلَيْهِ بِمَعْرِِفَة علم الْأَدَب وَأما أَحْمد الَّذِي غلبت عَلَيْهِ الْعِبَادَة فَحدث لَهُ ولدان هما عبد الله وَعلي فعبد الله تفقه بِعَمِّهِ يُوسُف ثمَّ بِالْإِمَامِ ابْن عجيل أَيْضا وَعلي تفقه فِي بدايته بِابْن الهرمل وَغَيره ثمَّ أُخْرَى بِالْإِمَامِ ابْن عجيل الْآتِي ذكرهمَا إِن شَاءَ الله قدمت عَلَيْهِ قريته الْمَذْكُورَة فِي سنة أَربع وَسَبْعمائة فرأيته رجلا مُبَارَكًا قَلِيل الْمثل فِي فُقَهَاء الْعَصْر كثير نقل الْفِقْه فَأخذت عَنهُ كتاب التَّنْبِيه الْبَعْض قِرَاءَة وَالْبَعْض إجَازَة لغَرَض التَّبَرُّك ورأيته رجلا مُبَارَكًا مؤالفا للأصحاب مؤانسا للواصل وَحصل عَلَيْهِ فِي آخر عمره تغفيل توفّي عله بعد نَيف وَعشْرين وَسَبْعمائة وَسَيَأْتِي ذكر من حدث بعده من الْقرْيَة فِي الطَّبَقَة الْمُتَأَخِّرَة ثمَّ يخرج الْخَارِج من هَذَا الْوَادي فَيَقَع مَعَ أهل الشويرى قَرْيَة بواد سِهَام بخفض السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْهَاء ثمَّ ألف ثمَّ مِيم وَضبط الْقرْيَة بشين مُعْجمَة مَضْمُومَة بعد ألف وَلَام وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ رَاء وَألف بعْدهَا بهَا الْفُقَهَاء المعروفون إِلَى عصرنا ببني زَكَرِيَّا
أَوَّلهمْ عبد الله بن مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا نسبه فِي قحطان ومولده سنة إِحْدَى وَخَمْسمِائة تفقه بالطويري الْمُقدم ذكره عِنْد ذكر أَصْحَاب اليفاعي وَابْن عبدويه وانتفع بِهِ جمَاعَة فِي الْفِقْه وبورك لَهُ فِي الذُّرِّيَّة خلاف غَيره من فُقَهَاء تهَامَة بِحَيْثُ أَنهم من عصره إِلَى عصرنا لم يكادوا يخلون من فَقِيه مُحَقّق ومفت مدقق وَكَانَت وَفَاته سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَذَلِكَ فِي أحد أَيَّام التَّشْرِيق ثمَّ خَلفه ابْنه أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم مولده سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة تفقه بِأَبِيهِ ثمَّ بالطويري شَيْخه وَكَانَ فَقِيها كَبِيرا أثني عَلَيْهِ مَعَ وجود أَبِيه وَرُبمَا فضل عَلَيْهِ وَكَانَ الْأَحْنَف يَقُول إِبْرَاهِيم أفقه من أَبِيه وَبِه تفقه جمع كثير من التهائم وَالْجِبَال وَهُوَ أَكثر الْفُقَهَاء الْمُتَأَخِّرين أصحابا حَتَّى نقل الثِّقَة عَن الْفَقِيه إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد الْحَضْرَمِيّ أَنه قَالَ لبني زَكَرِيَّا على غَالب فُقَهَاء الْيمن منَّة أَو كَمَا قَالَ وَيُرِيد بذلك أهل تهَامَة فَإِن غَالب طريقهم فِي الْكتب المسموعة عَلَيْهِم وانتشر عَنْهُم الْفِقْه انتشارا متسعا فَمن أَعْيَان تلاميذه مُوسَى بن عَليّ بن عجيل الْآتِي ذكره وَعبد الله بن جعمان وَعلي بن قَاسم(1/410)
الْحكمِي وَابْن عَمه مُحَمَّد بن يُوسُف الشويري ثَبت لي سَنَد بِخَط الْفَقِيه الإِمَام الصَّالح أَحْمد بن مُوسَى بن عجيل الْآتِي ذكره أَنه قَالَ بَلغنِي أَن الْفَقِيه إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا كَانَ من الصَّالِحين الكابر وَالْعُلَمَاء الْمَشْهُورين رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام وَقد سُئِلَ عَن مَسْأَلَة فاستدعى بِالثَّانِي من الْمُهَذّب وفتحه وَوَضعه بَين يَدَيْهِ وَأخذ ورقة ووضعها على رُكْبَتَيْهِ وَجعل يستملي الْجَواب من الْمُهَذّب ويكتبه فِي الورقة وَكفى بِهِ شَهَادَة ابْن عجيل لَهُ بالصلاح وَالْعلم وَكَانَ راتبه كل يَوْم سبعا من الْقُرْآن واقتدى بِهِ فِي ذَلِك جمع من أَصْحَابه وَتُوفِّي على الْحَال المرضي سنة تسع وسِتمِائَة فَلَزِمَ مجْلِس التدريس بعده تِلْمِيذه مُوسَى بن عجيل الْآتِي ذكره إِذْ لم يكن فِي أَهله من يكمل غير مُحَمَّد بن يُوسُف الْتزم العكفة تواريا عَن ذَلِك وتوقيا بِأَن الْفَقِيه مُوسَى لَا يتْرك الْموضع شاغرا من مدرس لما فِيهِ من الأنفة على الْأَصْحَاب على مَا سَيَأْتِي ذكر بَيَان ذَلِك مَعَ ذكره إِن شَاءَ الله فَأَقَامَ يدرس مُدَّة ثمَّ إِن مُحَمَّد بن يُوسُف خرج من مُعْتَكفه فَمَا هُوَ أَن رَآهُ الْفَقِيه مُوسَى فَخرج من الشويري يُرِيد بَلَده فَقيل لمُحَمد بن يُوسُف قد ذهب الْفَقِيه مُوسَى واتجه عَلَيْك أَن تدرس فلازم الْمدرسَة ودرس وَهُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يُوسُف بن عبد الله بن يُوسُف بن زَكَرِيَّا تفقه بالفقيه مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا كَمَا تقدم وَكَانَ فَقِيها كَبِيرا عَارِفًا محققا أجوبته على مشكلات التَّنْبِيه تدل على ذَلِك سَمِعت الْعَارِف بالفقه يثني عَلَيْهِ وَيَقُول أجَاب عَلَيْهَا جمع من أهل الْيمن وَالشَّام وَأهل الْعرَاق فَلم يكن فِيهَا مَا يرتضي غير جَوَاب مُحَمَّد هَذَا وتفقه بِهِ جمَاعَة من أَهله وَغَيرهم وَكَانَت وَفَاته سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة وَخلف إِبْرَاهِيم ولدا يُقَال لَهُ مُحَمَّد اشْتغل بِالْعبَادَة وَكَانَ لَهُ ولدان هما عبد الرَّحْمَن وَعبد الله تفقها بالبداية بجدهما إِبْرَاهِيم وَكَانَ تفقههما بتلميذه وَابْن عَمه مُحَمَّد بن يُوسُف فَلَمَّا توفّي خلفاه فِي التدريس فرأسا ودرسا فَتوفي عبد الرَّحْمَن سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَتُوفِّي عبد الله سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة ثمَّ خلفهمَا فِي التدريس ابْن عَم لَهما اسْمه مُحَمَّد بن عمر بن يحيى بن زَكَرِيَّا تفققه بِمُحَمد بن يُوسُف أَيْضا وَكَانَ فَاضلا محققا مدققا توفّي سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة ثمَّ خَلفه ابْن عَمه عبد الله بن الْفَقِيه عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن الْفَقِيه عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن الْفَقِيه إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا مولده سنة تسع عشرَة وسِتمِائَة وَكَانَ فَاضلا بالفقه تفقه بِابْن عَمه مُحَمَّد بن عمر مقدم الذّكر وَأخذ عَن صَالح بن عَليّ الْحَضْرَمِيّ ولي قَضَاء الكدرا من قبل بني عمرَان وَقدم تعز فَأخذ عَنهُ أَبُو بكر بن اليحيوي الْآتِي ذكره فِي تعز كتاب الْوَجِيز وَتُوفِّي عَلَيْهِ سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَخَلفه فِي الْقَضَاء وَلَده أَبُو بكر وَهُوَ(1/411)
أحد أجواد زَمَانه كَانَ شرِيف النَّفس عالي الهمة ذَا محفوظات حَسَنَة وَرِوَايَات موفقة اجْتمعت بِهِ فِي تعز وزبيد وَغَيرهمَا
وَأَخْبرنِي بِكَثِير من أَحْوَال أَهله وامتحن بآخر عمره بفقر مدقع وعزله بَنو مُحَمَّد بن عمر بِغَيْر وَجه يُوجب الْعَزْل بل كَرَاهَة لمن ولاه كَمَا هُوَ عَادَة حكام زَمَاننَا إِذْ يحملهم عَلَيْهِ جهل أَو ضعف دين يَبْتَغُونَ لأَجله الأهوية
وَمِنْهُم فِي عصرنا ثَلَاثَة موجودون عبد الرَّحْمَن بن الْجُنَيْد بن الْفَقِيه عبد الرَّحْمَن مقدم الذّكر مولده سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَتُوفِّي سنة سبع أَو ثَمَان وَسَبْعمائة ثمَّ ابْن عَمه مُحَمَّد بن عمر بن الْفَقِيه عبد الرَّحْمَن أَيْضا مولده سبع وَسِتُّونَ وسِتمِائَة تفقههما بعلي بن إِبْرَاهِيم البَجلِيّ الْآتِي ذكره فاجتمعت بِعَبْد الرَّحْمَن هَذَا فِي زبيد فَأَخْبرنِي بِكَثِير مِمَّا ذكرته من أَحْوَالهم وَالثَّالِث اسْمه أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن أبي بكر بن عمر وَلَعَلَّه عمر بن يحيى بن زَكَرِيَّا جد مُحَمَّد الْمُقدم ذكره تفقهه فِي الِابْتِدَاء بعلي بن إِبْرَاهِيم البَجلِيّ أَيْضا ثمَّ كَانَ كَمَاله بِابْن الْأَحْمَر الْآتِي ذكره وانقضى ذكر بني زَكَرِيَّا من طَرِيق النَّقْل إِذْ لم أرد بلدهم وألحقت متأخرهم بمتقدمهم وَلم أرجئه إِلَى ذكر طبقته إِلْحَاقًا للذرية بِالْآبَاءِ وَالله يَقُول بِإِيمَان ألحقنا بهم ذرياتهم
نرْجِع إِلَى تَتِمَّة من ذكره ابْن سَمُرَة من أهل تهَامَة فِي فصل الْقُضَاة قَالَ وَمِنْهُم يُوسُف القطراني ولي قَضَاء الكدراء وَمن علقان قَرْيَة قد مضى ذكرهَا وَأَنه خرج مِنْهَا جمَاعَة مضوا وَمن الْمُتَأَخِّرين أَحْمد بن أسعد بن أبي الْمَعَالِي التباعي وَولده محيا بعده قلت وَلَده محيا بِضَم الْمِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ ألف حصل عَلَيْهِ غيبَة من الذِّهْن يسميها أهل الْيمن التسفيل بتاء مثناة من فَوق مُشَدّدَة بعد ألف وَلَام ثمَّ سين بعد هَاء مُهْملَة سَاكِنة وخفض الْفَاء وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ لَام ثمَّ عَاد ذهنه بعد أَيَّام فَأخْبر بِغَرَائِب الله أعلم بوجهها وَمِنْهُم المقرىء سُلَيْمَان بن أَحْمد بن أسعد القَاضِي كَانَ ورعا مَاتَ بعد سبعين وَخَمْسمِائة وَمِنْهُم أَبُو الْقَاسِم بن سُلَيْمَان الحبيشي سكن حصن آل أَيُّوب من بلد(1/412)
وَسن تفقه بشيوخ الملحمة وَأخذ عَن طَاهِر بن يحيى وَفِي الْمحلة قَرْيَة بوادي السحول بِفَتْح الْمِيم والحاء الْمُهْملَة وَاللَّام مَعَ التَّشْدِيد ثمَّ هَاء سَاكِنة فَقِيه اسْمه مُحَمَّد بن أسعد بن أَحْمد بن عبد الله بن أبي أَفْلح
وَمن رفود بِفَتْح الرَّاء وَضم الْفَاء وَسُكُون الْوَاو ثمَّ دَال مُهْملَة قَرْيَة بالوادي أَيْضا فَقِيه اسْمه أَبُو السُّعُود بن مُحَمَّد كَانَ مَوْجُودا سنة تسع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة هَذَا لم يُورِدهُ ابْن سَمُرَة لَكِن لما طلعت السحول من بلدي الْجند وَذَلِكَ فِي سنة ثَلَاث عشرَة وَسَبْعمائة بعد أَن كنت وجدته مَذْكُورا فِي الْأَسَانِيد سَأَلت عَنهُ فَقِيه السحول يَوْمئِذٍ أَحْمد بن سَالم الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله وَكَانَت لَهُ معرفَة بأحوال النَّاس مَعَ قدم سنّ وَصدق مذاكرة وَقَالَ كَانَ يذكر بِالْخَيرِ فروى عَنهُ بعض الْفُقَهَاء أَنه روى بِسَنَد صَحِيح إِلَى رجل من الْحَبَشَة وَأثْنى عَلَيْهِ بِالْفَضْلِ أَنه كَانَ ذَات لَيْلَة فِي زمرة الْحَبَشَة ودولتهم بتهامة نَائِما على طَهَارَة إِذْ أَتَاهُ تِسْعَة رجال من أهل بَلَده ركبانا يعرفهُمْ فَسَلمُوا عَلَيْهِ فَرد عَلَيْهِم السَّلَام وسألهم أَيْن تُرِيدُونَ فَقَالُوا مَكَّة حرسها الله نشكو مُنكر هَؤُلَاءِ الْحَبَشَة وفعلهم مَعَ النَّاس فَقلت وَأَنا مَعكُمْ ثمَّ ركبت دَابَّتي وسرت مَعَهم حَتَّى أَتَيْنَا مَكَّة فَدَخَلْنَا الْحرم وَوجدنَا رجلا مُسْتَندا إِلَى الرُّكْن الأسحم وَعَلِيهِ كسَاء أَبيض فسلمنا عَلَيْهِ فَرد علينا وَقَالَ مَا تُرِيدُونَ فَقُلْنَا نشكو إِلَيْك الْحَبَشَة فَإِنَّهُم قد أظهرُوا الْمُنكر ببلادنا فَقَالَ روحوا فقد سلط الله عَلَيْهِم رجلا من الْيمن يُقَال لَهُ ابْن مهْدي يقتلهُمْ وينتقم مِنْهُم ثمَّ ظهر ابْن مهْدي فِي النّوم فَفعل الأفاعيل الْمَشْهُورَة عَنهُ قَالَ الرَّائِي فَرَأَيْت الْقَوْم بأعيانهم قد جَاءُوا ركبانا على الدَّوَابّ كَمَا جَاءُوا أَولا فسألتهم أَيْن تذهبون فَقَالُوا قَوْلهم الأول نُرِيد مَكَّة نشكو فعل ابْن مهْدي وَمَا صنع بعد الْحَبَشَة فَقَالَ روحوا فقد سلط الله عَلَيْهِ أهل الذوائب فَنَظَرت الغز وذوائبهم كَمَا ذكر فَبينا أَنا فِي نومتي تِلْكَ إِذْ بِأَصْحَابِي قد جَاءُوا على حَالهم الأول فِي الرّكُوب والتهيؤ بهيئة السّفر فَقلت أَيْن تُرِيدُونَ فَقَالُوا مَكَّة نشكو فعل الغز وَمَا يصنعون بِالنَّاسِ إِلَى ذَلِك الرجل فَقلت وَأَنا(1/413)
مَعكُمْ ثمَّ ركبت دَابَّتي وسرت مَعَهم حَتَّى دَخَلنَا مَكَّة فَوَجَدنَا الرجل على حَاله ذَلِك لم يكد يتَغَيَّر فشكونا إِلَيْهِ فعل الغز فَقَالَ روحوا فقد سلط الله عَلَيْهِم أهل الدراريع السود وَالْخَيْل الْبيض سلط عَلَيْهِم الْعمانِي فَنَظَرت خيلهم ولباسهم وأداتهم كَمَا وصف فَبينا أَنا فِي أثْنَاء النّوم إِذْ بِأَصْحَابِي أَيْضا قد جاؤوني وَقَالُوا نُرِيد مَكَّة فَقلت مَا تَصْنَعُونَ قَالُوا نشكو إِلَى ذَلِك الرجل مُنكر العمانيين فَقلت وَأَنا مَعكُمْ ثمَّ سرت مَعَهم رَاكِبًا دَابَّتي حَتَّى أَتَيْنَا مَكَّة فَوَجَدنَا الرجل مَكَانَهُ وَعَلِيهِ لِبَاس أَخْضَر وعمامة خضراء وَهُوَ يتهيأ للسَّفر وَعَلِيهِ أهبته فَشَكا إِلَيْهِ الْقَوْم فعل الْعمانِي وجنده وَمَا صَنَعُوا فَقَالَ لَهُم اذْهَبُوا فَأَنا لَهُم على أثركم فَوَقع فِي قلبِي أَنه الفاطمي ثمَّ انْتَبَهت من نومي وبادرت إِلَى كتاب علقت فِيهِ مَا رَأَيْت وَالله يقْضِي بِالْحَقِّ وَالْخَيْر فَقلت وَقد صرنا فِي دولة الغز وَكَانَ مَا قبلهَا مَا سبقنَا كَمَا ذكر الرَّائِي ظهر ابْن مهْدي على الْحَبَشَة ثمَّ الغز على ابْن مهْدي وَسَيَأْتِي مَا يُؤَيّد بَيَان مَا ذكر من العمانيين بأثر عَن الإِمَام ابْن عجيل مَعَ ذكره نفع الله بِهِ وَذكر ابْن سَمُرَة الْفَقِيه عَليّ بن عمر بن عجيل وَأَنه تفقه بِابْن الصريدح فَأَحْبَبْت بَيَان مَا صَحَّ لي من نَعته ونعت ذُريَّته وَلَوْلَا خشيَة الْعَيْب بالتقديم لَكَانَ المعتقد أَن أقدم ذكر هَذَا الْبَيْت لما ثَبت من غزارة علمهمْ وَقُوَّة ورعهم وَشرف منصبهم وقومهم الَّذين ينتسبون إِلَى ذوال إِذْ هم فَخذ يُقَال لَهُم شيت لكَوْنهم بَيت رئاسة وَشرف أما عَليّ بن عمر فَلم أجد ذكره إِلَّا من ابْن سَمُرَة وذكرته كَذَلِك وَلم أتحقق من نَعته شَيْئا وَكَانَ لَهُ ولدان هما إِبْرَاهِيم ومُوسَى
فإبراهيم طلع الْجبَال فَقدم جبا فَأخذ عَن أبي يحيى وَعَن مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم الْمعلم مقدم الذّكر بجبا ثمَّ ارتحل عَن جبا فطلع المخلاف فَأخذ عَن القَاضِي مَسْعُود ثمَّ صَار إِلَى قَرْيَة المخادر من وَادي السحول وَأخذ عَن ابْن سحارة الْآتِي ذكره وَأخذ بِذِي جبلة عَن القَاضِي الْأَشْرَف شرح مُقَدّمَة ابْن بَاب شَاذ وَلما عَاد بَلَده أَخذ عَن أَخِيه مُوسَى فَرَائض الصردفي وَكَانَ فَقِيها محققا فَاضلا بالفقه والنحو واللغة والفرائض وَعلم الْحساب وَكَانَ مَسْكَنه بَيت عجيل قَرْيَة تنْسب إِلَى جده من بلد المعازبة بِالْقربِ من قَرْيَة المدالهة فَيُقَال إِنَّه انْتقل عَن الْقرْيَة إِلَى الْكَثِيب الْمَعْرُوف بكثيب الشَّوْكَة نِسْبَة إِلَى(1/414)
قَرْيَة فِيهِ فابتنى بَيْتا فِيهِ ومسجدا وَاجْتمعَ عِنْده جمع من الطّلبَة فَأخذُوا عَنهُ فَسُمي ذَلِك الْمَكَان الْمدرسَة ثمَّ انْتقل عَنهُ إِلَى قَرْيَة تعرف بِمحل الأعوض فَلبث بهَا مُدَّة ثمَّ عَاد إِلَى الْمدرسَة فَلم يزل بهَا إِلَى أَن توفّي على حَال الْكَمَال بعد أَن صنف عدَّة مصنفات مِنْهَا مُخْتَصر فِي الْفِقْه يعرف بالمعونة وَشرح كتاب نظام الْغَرِيب فِي اللُّغَة وَيُقَال إِن شَيْخه مُحَمَّد بن الْمعلم الجبائي مَاتَ قبل تَمام شرح المقامات وتممه وَبِه تفقه جمَاعَة من أَهله وَغَيرهم مِنْهُم ابْن أَخِيه أَحْمد الْآتِي ذكره وَكَانَت وَفَاته بِالْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَة لبضع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
وَأما مُوسَى وَكَانَ من أكَابِر الْفُقَهَاء بِزَمَانِهِ تفقه بإبراهيم بن زَكَرِيَّا وَقد ذكرته فِي أَصْحَابه وَكَانَ فَقِيها كَبِيرا صَالحا يصحب الأخيار وَالصَّالِحِينَ وَتزَوج بابنة مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن الْفَقِيه مُحَمَّد الْأَحْنَف مقدم الذّكر فأولدت لَهُ اثْنَيْنِ هما مُحَمَّد البَجلِيّ وَصَاحبه الْحكمِي الْآتِي ذكرهمَا إِن شَاءَ الله إِذْ كَانَ يصحبهما فبشره بِأَنَّهَا تَأتي بِولد يكون عَظِيم الْبركَة وَالْقدر فَلَمَّا وضعت أخبرهما بذلك فَقَالَا إِن الْوَلَد الْعَظِيم الْبركَة هُوَ الَّذِي يَأْتِي بعده فَلَمَّا وضعت أَخَاهُ أَحْمد عرفاه بِأَنَّهُ سَيكون سيد زَمَانه علما وَعَملا وَكَانَ كَمَا قَالَا وَحين اشْتغل بِالطَّلَبِ وَالْقِرَاءَة حمل عَنهُ أَخُوهُ مؤونة كلفته وَكَانَ هَذَا مُوسَى من أَعلَى النَّاس همة وأشرفهم نفسا وَأَحْسَنهمْ عصبية وأعظمهم حمية وَقد ذكرت من ذَلِك مَعَ ذكر الإِمَام إِبْرَاهِيم بن زَكَرِيَّا مَا يدل عَلَيْهِ وَقد أَخْبرنِي خَبِير ثِقَة أَنه ثَبت عِنْده أَن هَذَا الْفَقِيه كَانَ كثيرا مَا إِذا سَافر مَكَّة صحب إِمَام الْمقَام يَوْمئِذٍ وَأَنه كَانَ رجلا مُبَارَكًا ذَا عبَادَة وزهادة وَكَانَت أَسبَاب مَكَّة غَالِبا بِيَدِهِ من إِمَامَة وتدريس وَقَضَاء وخطابة وَأَنه حسده بعض أهل زَمَانه مِمَّن سكن مَكَّة على كَثْرَة أَسبَابه مَعَ كَونه جعد الْمعرفَة فِي الْعلم فكاتب خَليفَة بَغْدَاد وَكَلمه كلَاما مزعجا حَتَّى أَنه أَمر وزيره بافتقاد ذَلِك وَمَتى كَانَ كَمَا ذكر الْمُتَكَلّم عَزله عَن جَمِيع أَسبَابه وَجعل فِي كل سَبَب مِنْهَا من يكمل لَهُ وَلما سَار الركب من الْعرَاق إِلَى مَكَّة كتب بعض أَصْحَاب الإِمَام إِلَيْهِ يُخبرهُ أَن الْوَزير قد ندب إِلَيْهِ فُقَهَاء فضلاء يستحضرونه بِمَكَّة ويسألونه عَمَّا يَلِيق بالفقه والإمامة والخطابة فَإِن وجدوه أَهلا أبقوه وَإِلَّا عزلوه وَبعث بذلك من يعْتَاد وُصُول مَكَّة قبل الركب بأيام فوصل الْكتاب إِلَى الْفَقِيه فحين علم مَا فِيهِ أجمع بخاطره أَن يختفي من وَقت وُصُول الركب إِلَى وَقت سَفَره واختفى وَأمر جَارِيَته أَن تعتذر بِعُذْر لَائِق فَدخل الْفَقِيه مُوسَى(1/415)
وَسَأَلَ عَنهُ فَلم يجده وَأخْبرهُ بعض الخبراء بِالْحَال فوصل إِلَى بَاب الْفَقِيه وَقَالَ لِلْجَارِيَةِ قولي للفقيه هَذَا صَاحبك مُوسَى بن عجيل الْيَمَانِيّ فحين أعلمته أذن بِدُخُولِهِ فَدخل وَاجْتمعَ بِهِ وَسَأَلَهُ عَن الْحَال فَأخْبرهُ بِهِ فَقَالَ لَهُ اعْمَلْ الَّذِي أَقُول لَك وَلَا تخَالف فِي شَيْء مِنْهُ وَأَنا أَسد عَنْك هَذِه الْقَضِيَّة بعون الله فَقَالَ سمعا وَطَاعَة ثمَّ قَالَ لَهُ اخْرُج وَاعْتذر بأنك كنت مَشْغُولًا بِعُذْر لَازم وقوى قلبه على الْخُرُوج وَالْقعُود مَوضِع الْقَضَاء والتدريس فَخَرَجَا مَعًا وَلما دخلا الْحرم خلع الإِمَام نَعله فَحَمله الْفَقِيه مُوسَى لِأَنَّهُ كَانَ قد اشْترط عَلَيْهِ ذَلِك وَقَالَ إِذا قعدت اقْرَأ فَلَا تقل لي غير يَا مُوسَى ثمَّ مَتى سألوك قلت أجبهم يَا مُوسَى ثمَّ أَخذ عَلَيْهِ الأكيد بذلك ثمَّ لما قعد أقبل الْفَقِيه مُوسَى يقْرَأ عَلَيْهِ بعض الْكتب فحين علم أهل الْعرَاق كَونه قد برز يقْرَأ أَتَاهُ جَمَاعَتهمْ وقعدوا إِلَيْهِ وَهُوَ يقرىء الْفَقِيه مُوسَى ثمَّ لما فرغ الْفَقِيه مُوسَى جعلُوا يسْأَلُون الْفَقِيه عَن أُمُور فيعرضهم الْفَقِيه مُوسَى وَيَقُول لَهُم أَنا أَضْعَف تلامذته أُجِيبكُم عَمَّا شِئْتُم ثمَّ يُجِيبهُمْ عَن كل مَا سَأَلُوهُ حَتَّى نفد سُؤَالهمْ ثمَّ أورد عَلَيْهِم أسئلة تبلبل قُلُوبهم فِي جوابها وَكَانَ الْفَقِيه كلما سُئِلَ عَن مَسْأَلَة قَالَ لَهُ يَا مُوسَى أجبهم عَنْهَا إِذْ شَرط عَلَيْهِ الْفَقِيه مُوسَى ذَلِك كَمَا قدمنَا وَكَانَ أَمِير الركب حَاضرا فَعظم قدر الْفَقِيه وَقَالَ الْأَمِير وَالْفُقَهَاء المندوبون إِذا كَانَ هَذَا حَال التلميذ فَكيف يكون حَال الشَّيْخ واعترفوا بِفضل التلميذ وَالشَّيْخ واعترفوا أَن الْمُتَكَلّم على الشَّيْخ كَاذِب وتركوه مستمرا على أَسبَابه وَكَانَ مَعَهم درج فِيهِ مسَائِل فقهية كتبوها فِي الْبِلَاد وَحين غلب على ظنهم مَا قدمْنَاهُ ناولوا الْفَقِيه ذَلِك الدرج فَنظر فِيهِ وناوله الْفَقِيه مُوسَى وَقَالَ لَهُ يَا مُوسَى انْظُر هَذَا وأجب عَلَيْهِ فَنظر فِيهِ ثمَّ أجَاب عَن جَمِيع مَا فِيهِ بِجَوَاب شاف كَاف وَقَالَ فِي آخر الْأَجْوِبَة قَالَ ذَلِك وَكتبه مُوسَى بن عَليّ بن عجيل تلميذ الشَّيْخ فلَان وَهَذَا وَالله الْفضل والإنسانية المحمودان بَين الأخيار وَلم يزل على أشرف حَال حَتَّى توفّي وَكَانَ لسعة فقهه يُقَال لَهُ الشَّافِعِي الْأَصْغَر وَلم أتحقق لَهُ تَارِيخا وَكَانَ إِذْ ذَاك كَمَا يُقَال لم يستكمل ثَلَاثِينَ سنة
وَمِنْهُم ابْنه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد مولده رَمَضَان الْكَائِن فِي سنة ثَمَان وسِتمِائَة وتفقه بِعَمِّهِ إِبْرَاهِيم كَمَا تقدم وَلما حصل من المعازبة تخبط بعد موت عَمه انْتقل عَن الْمدرسَة إِلَى مَحل الأعوض فَلبث بِهِ مُدَّة وَكَانَ قد انْتقل مَعَه ابْنا عَمه عبد الله(1/416)
وَعبد الرَّحْمَن فَلَمَّا طابت ذؤال عَاد الْفَقِيه إِلَى الْمدرسَة وبقيا بهَا إِلَى أَن مَاتَا وَكَانَ إِمَامًا من أَئِمَّة الْمُسلمين وعمدة الْمُتَّقِينَ وقدوة للورعين والمتزهدين لم يكن فِي الْفُقَهَاء الْمُتَأَخِّرين من هُوَ أدق نظرا فِي الْفِقْه وَلَا أعرف بِهِ مِنْهُ غواصا على دقائقه أجمع على تفضيله الْمُخَالف والمؤالف لم أعلم أَن أحدا أمترى فِي صَلَاحه من الْمُسلمين بِهِ تفقه جمَاعَة كثير من نواح شَتَّى وَكَانَ مبارك التدريس دَقِيق النّظر فِيهِ وحواشيه على الْمُهَذّب والتنبيه وَغَيرهمَا من كتب الْفِقْه تدل على ذَلِك وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ شَيخنَا أَبُو الْحسن الأصبحي حِين سُئِلَ عَن شَيْء من مَعَاني كَلَامه على بعض مشكلات الْمُهَذّب فَأجَاب على ذَلِك وَبَينه ثمَّ أثنى عَلَيْهِ وَقَالَ مَا مثلنَا هَذَا الإِمَام إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو حَامِد الإسفرائيني فِي حق ابْن سُرَيج نَحن نجري مَعَ أبي الْعَبَّاس فِي ظواهر الْفِقْه دون دقائقه
وَكَانَ صَاحب كرامات كَثِيرَة مَشْهُورَة يظْهر مِنْهَا مَا يظْهر عَن كره مِنْهُ وَكَانَ أَكثر النَّاس لَهَا كتمانا وَكَانَت الْمُلُوك تصله وتزوره وتتبرك بِهِ وَتقبل شَفَاعَته وتعظمه ويريدون مسامحته فِيمَا يزرعه فيأبى وَيَقُول أكون من جملَة الرّعية الدفاعة ويسألونه قبُول شَيْء من أَمْوَالهم إِمَّا لنَفسِهِ أَو يفرقه على من يرَاهُ مُحْتَاجا فَلَا يقبل مِنْهُم وَله كرامات كَثِيرَة مَعَ أَنه كَانَ قل أَن يظْهر مِنْهُ وَذَلِكَ مَا أَخْبرنِي وَالِدي عَن بعض ثِقَات أَصْحَابه قَالَ حَضَرنَا مَعَه جمَاعَة فتذاكرنا كرامات الصَّالِحين وَرُبمَا عنيناه على عدم ذَلِك فضربنا لَهُ مثلا بِأَهْل عواجة وبإسماعيل الْحَضْرَمِيّ وَمن ماثلهم فَقَالَ لكل ولي إِنَاء ملآن وَمَا ظهر من كراماته فَهُوَ بعض من الْإِنَاء وَأحب ألْقى الله بِإِنَاء ملآن
وَأَخْبرنِي الثِّقَة عَن بعض كرامته أَنه حج فِي بعض سني حجاته فَخرج عَلَيْهِم عرب وَأَرَادُوا نهبهم وَكَانَ مَتى حج حج مَعَه خلق كثير من أهل الْيمن تبركا بِهِ وأنسا فَلَا يكَاد يتَعَرَّض لَهُم أحد بِسوء وَإِن تعرض لم يفلح فَلَمَّا هم الْعَرَب بنهبهم أَمر الْفَقِيه مناديا أَن يُنَادي أَن تحط الْقَافِلَة فحطت فَقَالُوا نبيع ونشتري مَعَهم يَوْمَيْنِ ثَلَاثًا ثمَّ ننهبهم بعد ذَلِك ثمَّ لما كَانَ اللَّيْل ألْقى الله على الْعَرَب النّوم فَنَامُوا على آخِرهم وَلما تهور اللَّيْل أَمر الْفَقِيه النَّاس بالرحيل فارتحلوا وَالْقَوْم نيام فَلم يوقظهم إِلَّا بعض من(1/417)
مر بهم فِي ثَانِي يَوْم أَو ثالثه فظنوا أَن النَّاس عمِلُوا لَهُم طَعَاما فِيهِ منجا وأشاعوا ذَلِك حَتَّى استطار فِي الْعَرَب ثمَّ مر بعدهمْ بعرب آخَرين وَقد صَار على مرحلَتَيْنِ من مَدِينَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأرادوا مصارعة الْقَافِلَة أَيْضا وَكَانُوا فِي حرَّة ذَات أَحْجَار متقشفة لَا يقدر أحد على الانحطاط عَلَيْهَا فحير الْقَافِلَة والفقيه فِي السَّاقَة وَتلك عَادَته حَتَّى إِذا مر بمنقطع أَمر بِزَوَال انْقِطَاعه إِمَّا يَسْتَقِي مَاء أَو يحمل حملا أَو غير ذَلِك وَبقيت الْقَافِلَة متحيرة واقفة بالشمس حَتَّى كَاد يهْلك مِنْهُم خلق كثير والفقيه مطرق سَاكِت فضجر الشَّيْخ على ابْن نعيم وَأمر الْجمال أَن تعدل بمحمله عَن الطَّرِيق ويقتاده إِلَى حَيْثُ الْفَقِيه والفقيه وَاقِف فَلَمَّا دنا من الْفَقِيه قَالَ يَا سَيِّدي الْفَقِيه إِلَى كم يكون هَذَا الْوُقُوف فَقَالَ لَهُ يَا شيخ عَليّ تأدب هَذَا الرب وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى السَّمَاء وَهَذَا النَّبِي وَأَشَارَ إِلَى قدو الْمَدِينَة فاستحى ابْن نعيم وَعَاد مسرعا إِلَى مقَامه الَّذِي كَانَ فِيهِ أَولا ثمَّ لما طَال الْوُقُوف عَلَيْهِم أَمر الْفَقِيه النَّاس أَن ينزلُوا فنزلوا بموضعهم وَسَهل الله عَلَيْهِم النُّزُول فِيهِ ووطأه لَهُم فَلَمَّا أقبل الْعشَاء أَو وَقت الْعشَاء أَمر الْفَقِيه الدَّلِيل أَن يجمع طَعَاما للْعَرَب يتعشونه فَلَمَّا وصلهم بِهِ قَالُوا تُرِيدُونَ أَن تمنجونا كَمَا منجتم بني فلَان ثمَّ باتوا محارسين وحطو محطة بأولادهم ومواشيهم فِي مُقَابلَة قافلة الْفَقِيه ينتظرون غَفلَة من الْقَافِلَة ويفتكون بهَا نهبا فَبَاتَ النَّاس على حذر وراجع الْفَقِيه الْعَرَب من أول مَا أَمْسكُوا الْقَافِلَة على أَنهم يقبلُونَ مَا يَلِيق بِحَال أهل الْقَافِلَة فَأَبَوا
قَالَ الْمخبر فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم الثَّانِي أصبح الْعَرَب يناوشون النَّاس ويتهددونهم طلبا للشر والفقيه يَأْمُرهُم بِالصبرِ وَالِاحْتِمَال وَقد صلى الصُّبْح وَصَارَ يذكر الله تَعَالَى فَمَا كَادَت الشَّمْس تطلع رُمْحَيْنِ أَو ثَلَاثَة حَتَّى سَمِعت طبلخانة قد أَقبلت من قدو الْمَدِينَة ثمَّ بعد سَاعَة ظَهرت وَمَعَهَا عَسْكَر جرار فحين رَأَوْا البدو حملُوا عَلَيْهِم وَقتلُوا ونهبوا وأسروا وَسبوا حريمهم وَأَوْلَادهمْ فَحِينَئِذٍ شدت الْقَافِلَة وسارت ثمَّ سُئِلَ الْعَسْكَر عَن مُوجب خُرُوجهمْ وغارتهم فَقَالُوا لما كَانَ هاجرة أمس سمعنَا بِالْمَدِينَةِ مناديا يُنَادي أَن الْعَرَب قد اعترضت ابْن عجيل وقافلته فالغارة الْغَارة مَأْجُورِينَ فَأمر(1/418)
الشريف من صَاح بعسكره وَالْخُرُوج للغارة فَنظر النَّاس وَإِذا هُوَ الْوَقْت الَّذِي قَالَ فِيهِ الْفَقِيه لِابْنِ نعيم تأدب يَا شيخ فَهَذَا الرب وَهَذَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وعَلى الْجُمْلَة فأحواله أَكثر من أَن تحصر وفضائله أعظم من أَن تنشر
وَلَقَد أَخْبرنِي الْفَقِيه الصَّالح عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الْحِجَازِي الْمُقِيم برباط النُّور عِنْد تربة الشَّيْخ مَسْعُود قبلي مَدِينَة زبيد قَالَ أَخْبرنِي الْفَقِيه الصَّالح عَليّ بن الْأسود الْمَالِكِي عرف بالعجمي قَالَ رَأَيْت الْفَقِيه أَحْمد بالمنام قبل مَوته بِمدَّة فَقلت لَهُ يَا فَقِيه مشت أحوالكم مَعَ الغز بجلالتكم واحترامكم حَتَّى لم تذوقوا مَا تذوقه المستضعفون من النَّاس فَنظر إِلَيّ الْفَقِيه وَقَالَ مد بَصرك إِلَى الْمشرق فَنَظَرت إِلَى هُنَاكَ وَإِذا بِقوم عَلَيْهِم فرجنات صوف فأشاروا وَقَالَ هَؤُلَاءِ وَالله يستبيحون دماءكم ونساءكم وَأَمْوَالكُمْ كَمَا يستباح عرق الجبين وَأَن الغز أجروا الْعدْل عَلَيْكُم وَكَانَ مَعَ ذَلِك كَلَام طَوِيل بيني وَبَين الْفَقِيه هَذَا زبدته
قلت وَهَذَا الْمَنَام يُؤَيّد مَنَام الْفَقِيه الحبيشي الَّذِي رَوَاهُ أَبُو السُّعُود
أَخْبرنِي الثِّقَة أَنه كَانَ مَتى دخل مَكَّة اشْتغل النَّاس بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ عَن كل شَيْء وَمَتى صَار فِي المطاف فِي أَو الْحرم ترك النَّاس أشغالهم وَأَقْبلُوا على تَقْبِيل يَده والتبرك بمصافحته فَيَقُول يَا هَؤُلَاءِ أَنْتُم فِي بَيت الله وَمحل بركته وَرَحمته وَأَنا مثلكُمْ مَخْلُوق فَلَا يزدادون بذلك إِلَّا إقبالا عَلَيْهِ
وَلَقَد أخبر الثِّقَة أَنه سمع ثِقَة خَبِيرا من أهل مَكَّة وَذَوي الدّين وَالصَّلَاح وَالْعلم يَقُول لي من الْعُمر كَذَا وَكَذَا مُدَّة فَذكرهَا مُدَّة طَوِيلَة قل من يعيشها ثمَّ لم يزل الْعلمَاء يدْخلُونَ مَكَّة وَفِيهِمْ من يقف وَمن يرجع إِلَى بَلَده فَمَا رَأَيْت فيهم أحدا إِلَّا وَنور الْكَعْبَة وعظمتها يزيدان عَلَيْهِ إِلَّا مَا كَانَ من ابْن عجيل فَإِنَّهُ كَانَ مَتى دخل الْحرم زَادَت عَظمته ونوره على نور الْكَعْبَة بِحَيْثُ لَا يبْقى للنَّاس تعلق بِغَيْرِهِ وَلَقَد أَخْبرنِي الثِّقَة من أهل بَغْدَاد أَنه كَانَ مُقيما بِأم عبيد بمقام سيدنَا الْأَكْمَل أبي الْحسن أَحْمد الرِّفَاعِي نفع الله بِهِ فدعتني الْمَقَادِير فِي بعض السنين إِلَى الْحَج فحججت فَلَمَّا صرت بِمَكَّة وجدت هَذَا الْفَقِيه الْمَذْكُور وَقد اشْتغل النَّاس بِهِ عَن كل شَيْء وَحَتَّى أَنه مَتى برز للطَّواف لم يكد يفرغ من طَوَافه إِلَّا بعد مشقة لِكَثْرَة شغل النَّاس بِهِ قَالَ فَلَمَّا عدت أم عبيد سَأَلَني صَاحب الْمقَام عَن عَجِيب مَا رَأَيْت فَأَخْبَرته بِمَا رَأَيْت من الْفَقِيه أَحْمد فَقَالَ يَا وَلَدي هَذِه أَمارَة القطب(1/419)
ثمَّ كَانَ مَتى قدم الْمَدِينَة فعل النَّاس مَعَه كَذَلِك فَيَقُول لَهُم اتَّقوا الله هَذَا نَبِيكُم وَهَؤُلَاء صحابته وَأَنا رجل مِنْكُم فَلَا يزْدَاد النَّاس إِلَّا إقبالا عَلَيْهِ وَكَانَ مَتى ضجر من النَّاس بِمَكَّة وَالْمَدينَة تغيب عَنْهُم لقَضَاء مآربه من ذكر أَو قِرَاءَة أَو صَلَاة وَذَلِكَ غَالب شغله وَكَانَ كثير التَّرَدُّد إِلَى مَكَّة
أخبر الثِّقَة أَن الْقَافِلَة الَّتِي تسير فِي الْبر من عصره إِلَى الْآن مَعَ من سَارَتْ من فَقِيه أَو غَيره إِنَّمَا تسمى بِهِ فَيُقَال قافلة ابْن عجيل وَهَذَا من أعجب الْأَشْيَاء
وَمَا أشبه هَذَا بقول الأول ... قد مَاتَ قوم وَمَا مَاتَت مكارمهم ... وعاش قوم وهم فِي النَّاس أموات ... ثمَّ ذهب النَّاس الْمدرسَة عَن مَسْكَنه وَقيل لَهُ بَيت الْفَقِيه يعنونه وَكَانَ إِمَامًا فِي الْفِقْه والأصولين والنحو واللغة والْحَدِيث وَمن أحسن من ضبط بكتبه الْفُنُون وقرت بمذكراته الْعُيُون وَلَقَد أَخْبرنِي ثِقَة من فُقَهَاء عصره أَنه قَالَ ارتحلت من بلدي الْجبَال إِلَى الْفَقِيه أَزورهُ فَلَمَّا وصلت وسلمت عَلَيْهِ كنت قد أَعدَدْت عدَّة مسَائِل فقهية وأصولية وكلامية فَأَقْبَلت أسأله عَن الْفِقْهِيَّة وَهُوَ يجيبني وَعَن الْأُصُولِيَّة وَهُوَ أَيْضا يجيبني ثمَّ عَن الكلامية فغالطني فأضمرت فِي نَفسِي قصوره عَن ذَلِك ثمَّ لما انْقَضى الْمجْلس وَكَانَ حافلا وَدخل الْفَقِيه الْمنزل الَّذِي لَهُ استدعى بِي إِلَيْهِ وَقَالَ إِن الْعُقُول لَا تكَاد تحْتَمل جَوَاب مَا سَأَلته وَرُبمَا حصل بَيْننَا مُرَاجعَة واعتراضات تشوش على السَّامع لَكِن هَات السُّؤَال الأول فأوردته فجوب لي جَوَابا شافيا ثمَّ بَقِيَّة الأسئلة كَذَلِك فحمدت الله على ذَلِك وَعظم عِنْدِي وَكنت أَظُنهُ يُفَارق المعتقد لِأَن ينْقل ذَلِك لَا يخبر الْفَقِيه نفع الله بِهِ وَأَخْبرنِي الثِّقَة عَن أَبِيه أَنه قَالَ خرجنَا من جبل الحشاء وناحية العوادر جمعا كثيرا نُرِيد الْحَج فمررنا على الإِمَام فَأَتَانَا بِالطَّعَامِ وَجعل يغسل علينا بِنَفسِهِ وَجَعَلنَا نقُول لَهُ مَا جرت عَادَة الْبِلَاد غسلك الله من الذُّنُوب وَجعل يَقُول يَا حجاج فِي عَافِيَة فِي عَافِيَة فَإِن الْغسْل من الذُّنُوب إِنَّمَا يكون غَالِبا بالأمراض وَلَقَد أَخْبرنِي عدَّة من الثقاث أَن رجلا من دلالي زبيد طلعت بِيَدِهِ عاشة(1/420)
وتعظمت وَصَارَت شَيْئا فَاحِشا مستبشعا فَقَالَت لَهُ نَفسه النَّاس مجمعون على صَلَاح هَذَا ابْن عجيل فَتقدم إِلَيْهِ وَالْتَزَمَهُ بِهَذِهِ الْعلَّة فَصَارَ إِلَيْهِ من جملَة جمَاعَة خَرجُوا زائرين لَهُ من زبيد وَلما وَصله قَالَ مَا أروح مِنْك حَتَّى تَزُول هَذِه العاشة فَقَالَ حسبي الله أزيل مَا قدره الله فَلم يعذرهُ فَقَالَ هَات يدك فأدناها مِنْهُ وتفل الْفَقِيه عَلَيْهَا وتلا شَيْئا من الْقُرْآن ثمَّ قَالَ لَهُ غطها وعد بلدك فَلَعَلَّ الله يزيلها قَالَ وأدخلت يَدي فِي كمي وسرت سَاعَة مَعَ جمَاعَة جِئْت أَنا وهم من زبيد ثمَّ أخرجت يَدي وَإِذا بهَا سليمَة كَأَن لم يكن بهَا شَيْء فأريتها الْجَمَاعَة ودخلنا زبيد
قَالَ الرَّاوِي ورأيتها وَبهَا العاشة ثمَّ رَأَيْتهَا بعد ذَلِك متعافية وَمَعَ مَا قدمت ذكره فَإِنَّهُ لَا يذكر لأحد شَيْء من كراماته مِمَّن قد عرفه فيمتري بِهِ وَله مسَائِل كَثِيرَة يسْأَله عَنْهَا فُقَهَاء أجلاء فأجابهم بأبين جَوَاب وَأحسنه وَلم يكد أحد من فُقَهَاء وقته يسْأَله إِلَّا افْتقر إِلَى فقهه وَلم أسمع عَنهُ أَنه افْتقر إِلَى أحد مِنْهُم فِي جَوَاب وَلَا سُؤال وَلم يزل على قدم التدريس وَالدّين والورع حَتَّى توفّي نَهَار الثُّلَاثَاء بَين صَلَاتي الظّهْر وَالْعصر لخمس بَقينَ من ربيع الأول من شهور سنة تسعين وسِتمِائَة وَكَانَ الْملك الواثق الْآتِي ذكره فِي فشال يَوْمئِذٍ إِذْ هِيَ إقطاعه من أَبِيه وَهِي على نصف مرحلة من مَوضِع الْفَقِيه تَقْرِيبًا فَلَمَّا سمع بِمَوْت الْفَقِيه ركب فِي موكبه وَحضر غسل الْفَقِيه وَكَانَ من جملَة الغاسلين ثمَّ لما حمل إِلَى الْمقْبرَة كَانَ من جملَة الحاملين وَتَوَلَّى إنزاله مَعَ من تولى ذَلِك فغبطه على ذَلِك كثير من أَعْيَان زَمَانه أَبنَاء جنسه وَغَيرهم وزرته بِحَمْد الله مرَارًا فِي حَيَاته وَبعد وَفَاته فَكَانَت زيارتي لَهُ آخر مرّة أَنا ووالدي وأخوتي قبل مَوته بِثمَانِيَة أَيَّام فَلَمَّا صرنا بالجند إِذْ عَاد وَالِدي إِلَيْهَا متنقلا عَن زبيد ومدرسا بمدرستها الَّتِي ولدت بهَا وَهِي مدرسة الشَّيْخ عبد الله بن عَبَّاس وَمن أحسن مَا قيل فِيهِ من الشّعْر قَول وَالِدي من قصيدة امتدحه بهَا فِي حَال حَيَاته وَذكر فِي أَولهَا المراحل من زبيد إِلَى بَيت الْفَقِيه بعد أَن صدرها بقوله ... هذي ديار أحبتي يَا حادي ... أنخ الْمطِي فقد بلغت مرادي
وعَلى الْكَثِيب الْأَشْرَف أنزل فقد ... حللت بأمنع الأطواد
دَعْنِي أَضَع خدا على ساحاته ... وَالْوَجْه كي أحظى بِذَاكَ النادي
وأشاهد الْبَدْر الَّذِي من أمه ... ينجو من الأحزان والأنكاد
وَأَقْبل الْقدَم الشريف تقربا ... أَرْجُو بِذَاكَ هدايتي ورشادي ...(1/421)
.. يَا رَاكِبًا حرفا أمونا جسرة ... تنجو نجاة الطّرف يَوْم طراد
يمم إِذا مَا رمت نجح سَعَادَة ... علما إِلَى نهج السَّعَادَة هادي
واجمع عزومك بل همومك واردا ... بَحر الْفُرَات العذب للوراد
فَإِذا رَأَتْ عَيْنَاك طلعة أَحْمد ... قطب الزَّمَان حبيت بالإسعاد
فاشكر لِرَبِّك شاكرا متواضعا ... كفعال إسْرَافيل ذِي الْإِرْشَاد
قل يَا ابْن مُوسَى إِنَّنِي وفادكم ... وعَلى الْكَرِيم كَرَامَة الوفاد
يَا من بِهِ تشفى الْعُيُوب وَمن بِهِ ... تمحى الذُّنُوب عَن الْمُسِيء الكادي
يَا وَاحِد الكبراء وَالْعُلَمَاء بل ... يَا قدوة الأبدال والأوتاد
يَا سيد الكبراء قد عودتني ... برا ومرحمة وَعرف أيادي
أَو أَنا المعيل العايل الأسف الَّذِي ... كل الذُّنُوب عَلَيْهِ بالمرصاد
وَلكم مَكَارِم يستطيل عمومها ... ومناصب يسمو بهَا استشهادي
سر الْخَلِيل ورثتموه حَقِيقَة ... وَمن الذَّبِيح الصدْق فِي الميعاد
شرفا لكم وليهنكم مَا نلتم ... فضلا وفخرا شامخ الأعماد ... وَالْقَصِيدَة كَبِيرَة ذكرت زبدها وشواهد غرضي مِنْهَا وَلم أوردهَا إِلَّا لما تحققته من اسْتِحْقَاق من قيلت فِيهِ لما قيل فِيهَا وَقد مدح بعدة قصائد من عدَّة شعراء وَإِنَّمَا قَالَ سر الْخَلِيل ورثتموه لِأَن الْفَقِيه من أَوْلَاد عك وعك من أَوْلَاد إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم كَمَا لَا يخفى فَأَشَارَ إِلَى أَن الْفَقِيه ورث من الِاثْنَيْنِ وهما الْخَلِيل والذبيح مَا تقدم فِي الْبَيْت مَعَ أَن معتقدي ومعتقد أخيار زماني أَن الشّعْر يَزْدَان بالفقيه وَلَا يزادن بِهِ الْفَقِيه كَمَا قَالَ ... يَزْدَان فِي أوزانه وعروضه ... فعساه يلقى طيبكم فيطيب ... وَخَلفه من الْأَوْلَاد أَرْبَعَة أكبرهم إِبْرَاهِيم فَقِيه ذُو دين وورع يحب الاعتزال قل مَا يجْتَمع بِهِ من الواصلين إِلَيْهِ أَخذ الْفِقْه عَن أَبِيه والنحو عَن الْفَقِيه عمر بن الشَّيْخ من أهل شُرَيْح المهجم توفّي سنة سبع وَعشْرين وَسَبْعمائة(1/422)
ثمَّ مُوسَى فَقِيه خير تفقه بِأَبِيهِ وَتُوفِّي سادس شعْبَان سنة عشْرين وَسَبْعمائة ثمَّ إِسْمَاعِيل كَانَ فَقِيها فرضيا توفّي سنة سبع عشرَة وَسَبْعمائة
ثمَّ أَبُو بكر تفقه بخاله عَليّ بن أَحْمد الصريدح الْمُقدم ذكره إِذْ أمه بنت الْفَقِيه يُوسُف بن عبد الله يذكر أَبُو بكر هَذَا بجودة الْفِقْه والورع وَهُوَ بَاقٍ إِلَى عصرنا على الْحَال المرضي ولإبراهيم ومُوسَى ولدان يذكران بالفقه واسمع عَن كل وَاحِد مِنْهُمَا اجْتمعت بهما فِي زبيد عَام وَاحِد وَعشْرين وهما اللَّذَان يسيران بحوائج النَّاس فِي الشفاعات وغالب قدومهما زبيد لذَلِك وَسمعت من يفضل ولد مُوسَى بشرف وعلو الهمة ويذكره بمكارم الْأَخْلَاق ويبالغ فِي الثَّنَاء عَلَيْهِ وَهُوَ عدل فِي الْعقل وَالنَّقْل وَيذكر عَنهُ كرامات أَيْضا
وَمِنْهُم عبد الرَّحْمَن وَعبد الله ابْنا الْفَقِيه إِبْرَاهِيم بن الْفَقِيه عَليّ بن عمر الَّذِي ذكره ابْن سَمُرَة أَنه تفقه بِابْن الصريدح فعبد الله تفقه بِابْن عَمه أَحْمد وَكَانَ فَقِيها كَبِيرا مدرسا انْتفع بِهِ خلق كثير من الطّلبَة وَكَانَ أوحد زَمَانه علما وَعَملا اجْتمعت بِهِ فِي بعض السنين على رَأس تسعين وسِتمِائَة
وَمِنْهُم الأخوان مُحَمَّد وَإِبْرَاهِيم ابْنا عَليّ ابْن الْفَقِيه إِبْرَاهِيم بن الْفَقِيه عَليّ بن عمر بن عجيل مقدم الذّكر فمحمد أَخذ الْفِقْه عَن عَمه عبد الله وَعَن ابْن عَم أَبِيه أَحْمد بن مُوسَى والنحو عَن الغيثي بوصاب والْحَدِيث عَن أهل زبيد وَإِبْرَاهِيم أَخذ الْفِقْه عَن ابْن عَمه أبي بكر بن الْفَقِيه أَحْمد بن عجيل مقدم الذّكر وَهُوَ بَاقٍ إِلَى عصرنا يذكر عَنهُ الْخَيْر يسكن قَرْيَة هِيَ يمني بَيت الْفَقِيه ذكر عَنهُ جودة الْفِقْه وصفاء الذِّهْن وقبور من مَاتَ من بني عجيل بكثيب بَين المدالهة وَبَيت الْفَقِيه زرت قُبُورهم أجمع بِحَمْد الله وتبركت بهَا وَهَؤُلَاء آخر من اسْتحق الذّكر من فُقَهَاء تهَامَة الَّذين ذكرهم ابْن سَمُرَة وذراريهم على مَا تقدم
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عبد الله كَانَ فَقِيها فرضيا توفّي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة وَمِنْهُم إِبْرَاهِيم بن عَليّ يذكر بِالْفَضْلِ والمواظبة للتدريس وَالصَّلَاة مَعَ الْجَمَاعَة وَهُوَ بَاقٍ إِلَى عصرنا
ثمَّ نرْجِع إِلَى تَتِمَّة من ذكر ابْن سَمُرَة من الْجبَال وذراريهم فأبدأ بِمن كثرت بركتهم وَارْتَفَعت شهرتهم قوم الإِمَام يحيى بن أبي الْخَيْر فقد مضى ذكر مُحَمَّد بن مُوسَى وَأَوْلَاده وَلم يبْق إِلَّا ذكر من تَأَخّر مِنْهُم مَعَ من تبعه وعاصره مَعَهم بالحصن الَّذِي يعرف بمصنعة سير وَذَلِكَ أَنه انْتَشَر عَنْهُم الْعلم انتشارا كليا بِحَيْثُ لم يكن فِي(1/423)
الْمُتَأَخِّرين لَهُم بذلك نَظِير إِذْ كَانُوا أهل إطْعَام وإكرام عَاميْنِ وَقد تقدم ذكر الشَّيْخ وَمن شهر بالفقه من أَهله ثمَّ ذكر ابْن عَمه مُحَمَّد بن مُوسَى وَمن تفقه من أَوْلَاده على مَا ذكر ابْن سَمُرَة تَصْرِيحًا ومفهوما وَآخر من ذكر مِنْهُم أَحْمد بن مُوسَى وَقَالَ كَانَ على قَضَاء الْجند يَعْنِي فِي عصره ثمَّ توفّي وَلم أتحقق لَهُ تَارِيخا فخلفه ابْنه أَبُو بكر فِي الْفِقْه وَالْقَضَاء وَكَانَ يُقَال لَهُ سرداب الْعلم لِكَثْرَة نَقله لَهُ وجودة مَعْرفَته بِهِ وَكَانَ أحد حفاظ الْيمن بِكِتَاب الْمُهَذّب وَقدم المسعود بن الْكَامِل الْيمن بالتاريخ الْآتِي ذكره وَقدم صحبته معلمه القَاضِي معافى وَكَأَنَّهُ كَانَ سني الِاعْتِقَاد فَأصْبح بعد أَن ولي الْقَضَاء من قبل المسعود فِي آخر يَوْم من شعْبَان صَائِما وَأمر النَّاس بِالْفطرِ وَأنكر عَلَيْهِ الْفُقَهَاء وَهُوَ إِذْ ذَاك بِالْجَبَلِ فَعلم بِهِ بعض أعدائه فوشى بِهِ إِلَى المسعود وَكَانَ حادا لصِغَر سنه فَعظم ذَلِك عَلَيْهِ واستدعى بِهِ فَلَمَّا حضر قَالَ لَهُ يَا قَاضِي الْيَوْم من رَمَضَان قَالَ لم يثبت بذلك شَيْء فاستدعى بالغداء فَلَمَّا حضر اعتزله فَقَالَ لَهُ المسعود الْآن تحققت أَنَّك خارجي على غير السّنة ثمَّ طرده وَأخرجه عَن مَجْلِسه وَكَانَ وَقت دُخُوله الْيمن ضَعِيف الْفِقْه إِذا حضر مَجْلِسا وذاكره الْفُقَهَاء بِشَيْء من أَبْوَاب الْفِقْه ومسائله يصدر عَنهُ الْجَواب القَاضِي أَبُو بكر وحاجج عَنهُ الْفُقَهَاء فَأَحبهُ وقربه فَصَارَ أول دَاخل عَلَيْهِ وَآخر خَارج عَنهُ وَصَارَ يُسَمِّيه بكيرا على طَرِيق التصغير ثمَّ كَانَ يثني عَلَيْهِ عِنْد المسعود وَيَقُول هُوَ أفقه أهل الْيمن فَصَارَ لَهُ فِي بَاطِن السُّلْطَان صُورَة جَيِّدَة فَلَمَّا صَار الْمعَافى فِيمَا صَار من الْأَمر مَعَ المسعود وطرده طلب هَذَا أَبَا بكر فَلَمَّا حضر ولاه قَضَاء الْقُضَاة فَلم يزل عَلَيْهِ حَتَّى توفّي آخر الدولة المنصورية وَحكى الثِّقَة الْخَبِير بأحواله أَنه نزل تهَامَة يُرِيد افتقادها فحين صَار بحيس وَقد سمع بِهِ فُقَهَاء زبيد لم يصل النوري إِلَّا وَقد صَار مِنْهُم أَعْيَان متوكفون للقائه فحين واجهوه سلمُوا عَلَيْهِ سَلاما لائقا ثمَّ أَقبلُوا يسألونه بسؤالات قد أعدوها من مشكلات الْفِقْه وَكَانَ يُجِيبهُمْ غير مكترث وَلَا متلعثم فَأَخْبرنِي الْفَقِيه أَبُو بكر بن عبد الله بن خليج الْآتِي ذكره قَالَ أَخْبرنِي بعض أَصْحَابه وَمن كَانَ مَعَه مِنْهُم فِي سَفَره ذَلِك قَالَ خشيت عَلَيْهِ التَّعْجِيز فدنوت مِنْهُ وَقلت لَهُ يَا سَيِّدي أَلا أصرفهم(1/424)
عَنْك فَقَالَ دعهم فَأَنا وَالله أحفظ الْمُهَذّب كَمَا تحفظ الْفَاتِحَة وَلم يزَالُوا يسألونه حَتَّى نفذ سُؤَالهمْ ثمَّ أقبل على كل فَسَأَلَهُ بسؤال فَتَركه متحيرا يتلعثم ويتلجلج ثمَّ أَقَامَ بزبيد أَيَّامًا فوصله حكام التهايم وفقهاؤها وافتقد من يصلح فأبقاه وَمن لَا يصلح فنفاه وَهُوَ أول من ولي الْقَضَاء من بني عمرَان فَذكرُوا أَنه اسْتمرّ على قَضَاء الْقُضَاة وَتُوفِّي عَلَيْهِ كَانَ ميلاده سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة وَكَانَ أورع من قعد فِيهِ وَحكم بِأَحْكَام الشَّرْع وَله من الْآثَار المتقنة للذّكر تَجْدِيد جَامع مرعيت على طَرِيق الساير من تعز إِلَى عدن أَو الجؤة وَغَيره وَكَانَ حسن الْهَيْئَة جيد السِّيرَة وَلما توفّي لَا أَدْرِي بِأَيّ تَارِيخ وَله إِذْ ذَاك ولد اسْمه مُحَمَّد كَانَ مولده سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة وَقد صَار مراهقا فأضيف الْقَضَاء إِلَى ابْن عَمه أسعد بن مُحَمَّد بن مُوسَى فتوقف فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور حَتَّى يكمل ولد القَاضِي أبي بكر فَلَمَّا كمل كتب القَاضِي إِلَيْهِ يُعلمهُ فَجعل مَكَانَهُ ابْنه مُحَمَّد فسلك طَرِيق أَبِيه فِي كل الْأُمُور وَذَلِكَ مَعَ علم بالفقه وَغَيره وَكَانَ نظيف الْعلم عَظِيم الْوَرع
حُكيَ أَنه كَانَ يطعم النَّاس طَعَاما لائقا وَكَانَ ابْن عَمه مُحَمَّد بن أسعد الملقب بالبهاء يطعم أَيْضا طَعَاما خَارِجا عَمَّا يَلِيق بِحَيْثُ يذبح وَيعْمل الألوان الْحَسَنَة وَكَانَ ذَلِك وَالْقَاضِي الْبَهَاء لَيْسَ مَعَه مَا يطعم مِنْهُ غير مَا يَأْتِيهِ من أملاكه وَهِي إِذْ ذَاك قَليلَة وَكَذَلِكَ قَاضِي الْقُضَاة فَذكرُوا أَنه قَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه ابْن عمك يعْمل طَعَاما عَالِيا وَأَنت تعْمل دونه وَلَو شِئْت لعملت خيرا مِنْهُ فَقَالَ صدقت لَكِن أَنا أطْعم دَائِما حَلَالا لَو شِئْت كم على هَذِه المثابة الَّتِي ترى وَابْن عمي كَأَنَّك بِهِ وَقد أدان وَأخذ رَحل الْمَسَاجِد والأيتام فَكَانَ كَمَا قَالَ وَأَن من عَجِيب ورع هَذَا الرجل أَنه دخل جبلة لقضية أوجبت ذَلِك وَمَعَهُ ابْن عَمه الْمُقدم ذكره فقضيا حوائجهما وخرجا فَأخذ نصف ابلوج سكر أَبيض وَأخذ ابْن عَمه عدَّة أباليج ثمَّ لم يعلم بهم حَتَّى وصلا المصنعة وَكَانَ متزوجا بأخته فَأمر لَهَا أَخُوهَا بِنَصِيب من الْهَدِيَّة وَفرق على الْجِيرَان والأهل فَقَالَت أُخْته لزَوجهَا قَاضِي الْقُضَاة يَا هَذَا يُؤَدِّي إِلَيّ أخي نَصِيبي أَكثر مِمَّا أهديت أَنْت جَمِيعه فَقَالَ يَا هَذِه تنظري أَنْت عَاقِبَة أَمْرِي وَأمر أَخِيك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
وَكَانَت وَفَاته على الطَّرِيق المرضي فِي عشر سِنِين(1/425)
وسِتمِائَة ثمَّ خَلفه ابْن عَمه مُحَمَّد بن أسعد بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن مُوسَى مقدم الذّكر أَولا ميلاده سنة ثَمَانِي عشرَة وسِتمِائَة تفقه بِحسن بن رَاشد وحصلت صُحْبَة بَينه وَبَين الْملك المظفر أَولهَا أَنه لما افترق أَوْلَاد الْمَنْصُور المظفر وَإِخْوَته وطلع المظفر إِلَى الْجَبَل أمره ابْن عَمه أَن يتَقَدَّم إِلَيْهِ من المصنعة ليختطب لَهُ فَلَقِيَهُ إِلَى جبا واختطب لَهُ بهَا أول جُمُعَة وَكَانَت أول بلد خطب لَهُ بهَا ثمَّ صَحبه من هُنَالك وحصلت بَينهمَا ألفة قَوِيَّة واستحلف لَهُ الأيفوع وَمن حَولهمْ من الْعَرَب كالسبأيين ورأسهم يَوْمئِذٍ عبيد بن عَيَّاش بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة من تَحت مُشَدّدَة مَفْتُوحَة بعد عين مُهْملَة مَفْتُوحَة ثمَّ ألف ثمَّ شين مُعْجمَة وَلم تزل الصُّحْبَة تتأكد حَتَّى آلت إِلَى الوزارة مَعَ قَضَاء الْقُضَاة وَكَانَ خَطِيبًا مصقعا لبيبا ذَا دهاء وسياسة وَكَانَ لَهُ حسن نظر مَعَ الْمُلُوك وَالْفُقَهَاء يجلهم ويحترمهم فِي الْغَالِب وَهَذَا أول من جمع بَين الوزارة وَقَضَاء الْقُضَاة وَتَبعهُ على ذَلِك عَليّ بن مُحَمَّد بن عمر ثمَّ انْقَطع وَجعل الْقَضَاء مُنْفَردا وَلم يتوزر أحد بعده وَلم يزل على الْقَضَاء والوزارة حَتَّى كَانَ فِي جُمَادَى الأولى سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة فَأَقَامَ المظفر ابْنه الْأَشْرَف فِي الْملك على أَن يكون خَلِيفَته وأحلف لَهُ العساكر وطلع حصن تعز وَأَشَارَ القَاضِي الْبَهَاء إِلَيْهِ أَن يَجْعَل أَخَاهُ حسان وزيرا للأشرف فَفعل ذَلِك وَبَقِي القَاضِي الْبَهَاء على الْقَضَاء وَبقيت لَهُ دَوَاة الوزارة بعد الِاسْتِنَابَة بِتِسْعَة أَيَّام فَلم يزل الْقَضَاء مَعَه وَمَعَ ذَلِك يتراجع هُوَ وَحسان بِمَا يرد عَلَيْهِ من التهائم إِلَى أَن توفّي على ذَلِك منتصف ربيع الأول سنة خمس وَتِسْعين وسِتمِائَة فاستمر على الْقَضَاء حَتَّى كَانَ من عزلهم مَا كَانَ
فَأول ظُهُور ذَلِك عزل حسان من الوزارة لمضي شَهْرَيْن من سنة سِتّ وَتِسْعين وسِتمِائَة عَزله الْمُؤَيد واستوزر عَليّ بن مُحَمَّد بن عمر وَبَقِي الْقَضَاء مَعَ ابْن عمرَان على طَرِيق الْمجَاز حَتَّى كَانَ رَمَضَان من سنة سِتّ وَتِسْعين وسِتمِائَة وصلوا الْجند للتختم بالجامع وَكَانَ ذَلِك عَادَة جَارِيَة مِنْهُم يصل جمَاعَة يَوْم سِتَّة وَعشْرين وشخص وَاحِد يخْتم لَيْلَة سَبْعَة وَعشْرين وَيقْرَأ الختمة على الْمِنْبَر ويلبث بالجند(1/426)
حَتَّى يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِيد ثمَّ يعْمل طَعَاما يدْخل عَلَيْهِ من الْمصلى جمَاعَة من حفدتهم فَوَافَقَ وصولهم أَن وصل أسعد أَخُو الْوَزير مُعَارضا لَهُم يُرِيد يخْتم ويختطب وَكَانَ قد بَلغهُمْ أَن للخطيب فِي كل شهر ثَلَاثِينَ دِينَارا فوصل وَأَرَادَ الاختطاب فَمَنعه بَنو عمرَان وغالب أهل الْجند يحبونهم إِذْ ذَاك ويلوذون بهم فَلم يطق أسعد يطلع الْمِنْبَر وَدخل بَينهم الْعُقَلَاء على أَن أسعد يكْتب إِلَى السُّلْطَان يُخبرهُ فَإِذا جَاءَ جَوَابه بِأَنَّهُ يسْتَمر سلم لَهُ كتاب الْخطْبَة فَكتب فِي أول اللَّيْل وَصدر رَسُولا فَلم تطلع الشَّمْس جدا حَتَّى عَاد بالخط على مَا سُئِلَ وَزِيَادَة وَأخْبر أَيْضا بِأَن الْقَضَاء إِلَيْهِم فَخرج بَنو عمرَان من فورهم عَن الْجند إِلَى المصنعة لم يصلوا الْجُمُعَة إِلَّا بهَا وَلَبِثُوا بقريتهم إِلَى رَمَضَان سنة سبع وَتِسْعين وطلبهم الْمُؤَيد إِلَى تعز فلبثوا أَيَّامًا بدار الواثق يُؤْتى لَهُم كل يَوْم بِالطَّعَامِ ثمَّ بعد انْقِضَاء رَمَضَان تقدم السُّلْطَان الْجند وهم مَعَه وَعَلَيْهِم ترسيم من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وَأمر السُّلْطَان من أخرج بَقِيَّة رِجَالهمْ وحريمهم عَن المصنعة وَختم على بُيُوتهم وأنزلوا الْجند فَلم يشعروا حَتَّى قيل لَهُم هَؤُلَاءِ أهلكم قد جِيءَ بهم ثمَّ تجهز السُّلْطَان إِلَى صنعاء لحصار الْعَظِيمَة والميقاع وَأمر وَالِي الْجند يخرجهم عَن الْجند إِلَى ذِي جبلة فَفعل وَذَلِكَ فِي شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة فلبثوا بهَا أَيَّامًا وَكَانَ لَهُم من فعل الْمَعْرُوف خُصُوصا عبد الله مَا لَا ينْحَصر حَتَّى أَن أهل جبلة كَانُوا إِذا طلبُوا فَقِيرا لم يجدوه إِلَّا عِنْد بَيت عبد الله وَكَانَت سنة خصَاصَة وَكَانَ كثير الصَّدَقَة وإطعام الطَّعَام وإكرام الضَّيْف لم أر لَهُ نظيرا فِي ذَلِك ثمَّ كَانَ ذَا عبَادَة كَثِيرَة وَذكر وتلاوة قل من يواظب ذَلِك مثله ثمَّ يَصُوم غَالب زَمَانه وَكَانَ خَطِيبًا مصقعا ذَا كرامات وعبادات وَله مسموعات ومقروءات ولي مِنْهُ إجَازَة بكتب عدَّة ثمَّ لما نزل الْمُؤَيد من حِصَار الْعَظِيمَة والميقاع التقاه حسان للسلام بالموسعة ثمَّ إِنَّه لم يكد يقف فِي تعز غير تَتِمَّة السّنة حَتَّى بعث أَمِير خاندار مَعَه(1/427)
عشرَة تردارية وجندارية أنزلوا عبد الله هَذَا وأخاه حسان وَابْنه عمرَان من جبلة فَلَمَّا صَارُوا بالحصن فِي تعز ضرب حسان وَعمْرَان ضربا يخرج من حد الْوَصْف يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ وَالنَّاس تتألم وهموا بِضَرْب عبد الله فحماه الله مِنْهُم قهرا مَا هم بِهِ أحد إِلَّا ضرب ببلاء من فوره وَكَانَ الْعَدو الَّذِي لَهُم يؤنب أَمِير خاندار ويلومه على ذَلِك فطلع ذَات يَوْم وَقد امْتَلَأَ غيظا ودعا بعض الخاندارية مِمَّن يعرف جَهله ووبخه وَقَالَ لَهُ اعْمَلْ بِضَرْب القَاضِي عبد الله فَدخل عَلَيْهِ وَكَلمه بِسوء أدب وتهدده بِالضَّرْبِ فبزقه القَاضِي بزقة انْقَطع بهَا شَيْء من أمعائه وَوَقع مغشيا عَلَيْهِ بِحَيْثُ لم يبرح إِلَى بَيته إِلَّا مَحْمُولا وَلم يزل مَرِيضا لَا ينفع نَفسه بنفاعة حَتَّى توفّي مطروحا فِي بعض الْأَسْوَاق وَوصل حريمهم إِلَى بَيت الْفَقِيه أبي بكر حَالين وَفِيهِمْ بَنَات خَاله فَلم يفتح لَهُم بَابه وَلَا قضى لَهُم حَاجَة وأزيل عَنْهُم الضَّرْبَة بشفاعة الْحرَّة ابْنة أَسد الدّين زَوْجَة السُّلْطَان وَكَانَت خيرة كثيرا مَا ترده عَن الْقَبِيح فأطلقوا عَن الْحَبْس وأنزلوا فِي المغربة وَأمرت أَن يجْرِي عَلَيْهِم بأدوية حَتَّى تعافوا وأطلقوا بِشَرْط أَن يسكنوا سهفنة فسكنوها وَرهن عبد الله وَلَده عمرَان وَحسان ابْنه مُحَمَّدًا وَتركُوا فِي زبيد فسكنوها من رَجَب ثَمَانِي وَتِسْعين وسِتمِائَة ولبث القَاضِي عبد الله وَالْبَاقُونَ بسهفنة إِلَى أَن توفّي بهَا نَهَار رَابِع ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَسَبْعمائة وَحضر قبرانه جمع من الْجند وَغَيرهَا فيهم شَيخنَا أَبُو الْحسن الأصبحي فَأخْبر الثِّقَة أَنه كَانَ على قَرْيَة سهفنة خَاصَّة جَراد عَظِيم وَلَيْسَ بخارجها شَيْء فَسَأَلَ شَيخنَا عَن ذَلِك فَقَالَ مَا هُوَ بِبَعِيد أَن يكون الْجَرَاد مَلَائِكَة فِي حق القَاضِي عبد الله وَكَثْرَة إطعامه وصدقته وَلم يزل الْجَرَاد حول الْبَيْت وحول النعش إِلَى أَن قبر ثمَّ لم يُوجد مِنْهُ شَيْء وَبَقِي حسان وابنان لَهُ إِلَى مُدَّة بعد ذَلِك فِي قَرْيَة سهفنة مَعَ أحزان وإهانة من غلْمَان بني مُحَمَّد بن عمر ثمَّ بعد وَفَاة الْحرَّة الَّتِي كَانَت سَببا لإطلاقهم وَذَلِكَ مستهل ذِي الْقعدَة سنة أَربع وَسَبْعمائة أوهم عدوهم فيهم السُّلْطَان بِمَا لَا يَلِيق وظل يَوْمًا طردا عِنْده وَكَانَ لَا يتهمه بكذب فصدر لَهُم نَحْو خمسين فَارِسًا ورجلا عَددهمْ مئتان سروا إِلَيْهِم وَقت الْعشَاء من تعز فوصلوا سهفنة سحرًا وقبضوا حسان وابنيه وَعبد الله ابْن أَخِيه بن أبي بكر ونزلوا بهم الْجند غير مقيدين فأدخلوا الدهليز الَّذِي للقصر وَكتب السُّلْطَان بذلك فَأمر الْفَقِيه أَبَا بكر التعزي بِإِطْلَاق عبد الله لِأَنَّهُ كَانَ يوالي الْفَقِيه هُوَ وَأَبوهُ مُحَمَّد وجده أَبُو بكر صنو القاضيين الْمَذْكُورين ثمَّ قيد حسان وابناه وأنزلا إِلَى سجن قد أحدث(1/428)
لأجلهم فِيهِ من الضّيق مَا لَا ينْحَصر وَكَانَ قد أَمر السُّلْطَان وَالِي عدن بِبِنَاء سجن شَدِيد الضّيق لَيْسَ لَهُ متنفس لخارج وَلَا دَاخل فاجتهد الْوَالِي ببنائه ظنا أَنه لبَعض الْجَبَابِرَة من أَعدَاء السُّلْطَان فَلَمَّا جِيءَ بالقضاة نَدم على ذَلِك فلبثوا بالسجن مُجْتَمعين لَا يكَاد يفتح لَهُم بَاب إِلَّا فِي الْوَعْد مرّة أَو مرَّتَيْنِ لما يُؤْتى بِهِ من المَاء
أما الطَّعَام فَينزل لَهُم من تصدق عَلَيْهِم من طَاقَة فِي السّقف سقف الْحَبْس وَذَلِكَ أَنه يُعْطِيهِ الحباس سرا خشيَة أَن يبلغ عدوهم وَبعد ثَلَاث سِنِين وَأَرْبَعَة أشهر توفّي حسان على ذَلِك الْحَال فقبر بالمقبرة الَّتِي بهَا ابْن أبي الْبَاطِل وَهُوَ أحد مَشَايِخ الطَّرِيق من الصُّوفِيَّة الأكابر ولبث ابناه حَتَّى قدمت الْحرَّة كَرِيمَة السُّلْطَان من ظفار بعد وَفَاة أَخِيهَا الواثق الْآتِي ذكره وَكَانَت إِحْدَى أخيار الخواتين على طَرِيق الْمُرُوءَة وَالدّين وَالصَّدَََقَة وَقد مضى من ذكرهَا مِمَّا يُغني عَن إِعَادَته فحين وصلت تعز إِلَى أَخِيهَا وسلمت عَلَيْهِ شفعت لَهُم وَقَالَت أجعلهم ضيافتي مِنْك فَأمر بإطلاقهم فَعلم بذلك عَدو لَهُم غير الأول فَأمر بِأَنَّهُم لَا يخرجُون من عدن وَكَانَ الْوَالِي ابْن عَلَاء الدّين عمر فأعادهم من بَاب عدن وأسكنهم فِي دَار جَيِّدَة وفسح لَهُم فأقاموا هُنَالك مُدَّة وَبعد وَفَاة الْوَزير وانقضاء أَيَّام بني مُحَمَّد بن عمر على مَا يَأْتِي بَيَانه طلب بَنو عمرَان من عدن وَجمع بَينهم وَبَين أخيهم بزبيد وَكَانَ فِي يَوْم حبس وَالِده بعدن حبس وَهُوَ بِحَبْس زبيد وَجعل لَهُ فِي وَسطه حبس فِي غَايَة الضّيق وَكَانَ كثيرا مَا يُوجد خَارج الْحَبْس فِي الْمَسَاجِد يُصَلِّي وَبلغ السُّلْطَان الْمُؤَيد فَأَطْلقهُ وَجعل لَهُ رزقا يقتاته وَسكن بدار عَمه القَاضِي الْبَهَاء مقدم الذّكر وَلما صَار الْملك إِلَى الْمُجَاهِد بن الْمُؤَيد الْمرة الأولى وَالْغَالِب عَلَيْهِ الْأَمِير عمر بن يُوسُف بن مَنْصُور قَالَ لَهُ القَاضِي عبد الْبَاقِي بن عبد الْمجِيد يَا أَمِير اعْمَلْ لآخرتك وَاسع فِي إِطْلَاق هَؤُلَاءِ بني عمرَان من زبيد واجمع بَينهم وَبَين عائلتهم فَلم يزل عمر بن يُوسُف يتلطف حَتَّى أطْلقُوا من زبيد وطلعوا سهفنة فِي الدولة المجاهدية وَتُوفِّي مُحَمَّد بن حسان بعد أشهر دون السّنة من طلوعهم يَوْم الْجُمُعَة حادي عشر صفر من سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة
وَأما ابْن عَمه عمرَان فَتوفي بزبيد بعد وَفَاة أَبِيه بأيام قَلَائِل وَكَانَ قد توزر للواثق مُدَّة حَتَّى سَافر إِلَى ظفار فَلم يتْركهُ أَهله يُسَافر مَعَه وَبَقِي حَاكم تعز فِي غَالب الْأَحْوَال إِذْ كَانَ عَمه حسان حاكمها مُنْذُ توفّي مُحَمَّد بن عَليّ وَقد يستنيبون بعض المدرسين مجَازًا وَالله أعلم
وَفِيهِمْ فُقَهَاء درسوا وأفتوا فلعبد الله وَلَده مُحَمَّد كَانَ فَقِيها فَاضلا درس مُدَّة(1/429)
بِجَامِع المصنعة وَعنهُ أخذت بعض كَافِي الصردفي والمهذب وَبَعض مُصَنفه فِي الدقائق وَهُوَ كتاب فائق سَمَّاهُ جَامع أَسبَاب الْخيرَات البديعة ومثير عزم أهل الكسل والعثرات وَهُوَ من أحسن كتب المتعبدين ثمَّ كتاب مُخْتَصر سَمَّاهُ البضاعة لمن أحب صَلَاة الْجَمَاعَة وَهُوَ من المختصرات البديعة فِي ذَلِك والتبصرة فِي علم الْكَلَام وَشرح التَّنْبِيه شرحا لائقا اجْتمع الْفُقَهَاء على سَمَاعه بعد فَرَاغه من جَمِيع أنحاء الْجبَال وَكَانَ فيهم عدَّة من أكَابِر الْفُقَهَاء وَقد سَمِعت عَلَيْهِ بعضه وأجازني بِجَمِيعِهِ وقرأت عَلَيْهِ جَمِيع مُصَنفه الَّذِي سَمَّاهُ البضاعة لمن أحب صَلَاة الْجَمَاعَة وإيضاح الأصبحي وَكَانَت وَفَاته فِي شهر شَوَّال سنة خمس وَتِسْعين وسِتمِائَة
وَآخر اسْمه عبد الرَّحْمَن كَانَ مقرئا مجيدا فَاضلا بالقراءات وَقد تفقه بعض تفقه توفّي سلخ رَمَضَان سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة وَهُوَ أَصْغَرهم وَآخر اسْمه أسعد تفقه وَكَانَ يَنُوب أَبَاهُ فِي خطابة الْجند وقضائها توفّي آخر سنة خمس وَتِسْعين وَالْآخر عمرَان وَقد مضى ذكره ولأخيه أبي بكر بن أسعد ولد فَقِيه فَاضل كَانَ فِيهِ إِحْسَان إِلَى الطّلبَة وَأنس لَهُم وَذَلِكَ بعكس مَا كَانَ لِأَبِيهِ وَكَانَ يتَوَلَّى التدريس هُوَ وَابْن عَمه مُحَمَّد بِجَامِع المصنعة وتفقها بالفقيه مُحَمَّد بن أبي بكر الأصبحي الْآتِي ذكره وَكَانَت وَفَاته بقرية سهفنة على رَأس سنة سَبْعمِائة تَقْرِيبًا وَله ابْن سَمَّاهُ عبد الله كَانَ قد تولى الخطابة بالمصنعة وَلما حبس أَهله قَامَ بحريمهم وَتحمل مؤنتهم حَتَّى خرج من خرج مِنْهُم من الْحَبْس وَكَانَ للْقَاضِي إخْوَة يَأْتِي ذكرهم إِن شَاءَ الله فِي أَعْيَان الدول
فلنرجع إِلَى تَتِمَّة ذكر الْفُقَهَاء وذراريهم وأعني بالفقهاء الَّذين ذكرهم ابْن سَمُرَة فِي آخر ذكر الْقُضَاة وَقد انْقَضى ذكر مَا لَاق من أَحْوَال بني عمرَان وَمَا تمّ عَلَيْهِم من الامتحان ثمَّ يتبعهُم فِي الشُّهْرَة بقدم التسمي بالفقه ذُرِّيَّة الْفَقِيه الْهَيْثَم وقدمت بني عمرَان لانتفاع النَّاس بتصانيفهم لَو لم يكن لَهُم غير الْبَيَان ثمَّ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ من الْإِطْعَام فِي المصنعة بِحَيْثُ يجْتَمع مَعَهم فِي غَالب الْأَوْقَات فَوق مئة درسي يقومُونَ بكفايتهم من النَّفَقَة وَالْكِسْوَة بِحَيْثُ سَمِعت جمَاعَة من أَعْيَان الْفُقَهَاء يَقُولُونَ لم يصب أحد من أهل الْيمن بمصيبة كَمَا أُصِيب طلبة الْعلم بِأَهْل سير وَقد رثيت سير بقصائد مِنْهَا قصيدة للنجم صَاحب مَكَّة وَلَوْلَا خشيَة الإطالة لذكرت من ذَلِك عجائب وعدهم وَقد مضى ذكر من ذكره ابْن سَمُرَة وَتَأَخر عَنْهُم جمَاعَة(1/430)
تحققت مِنْهُم جمَاعَة عَليّ بن عبد الله بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْفَقِيه عمر بن الْفَقِيه أسعد بن الْفَقِيه الْهَيْثَم مقدمي الذّكر مولده يَوْم الْخَمِيس مستهل صفر سنة سبع عشرَة وسِتمِائَة تفقه بِابْن نَاصِر الْآتِي ذكره فِي قَرْيَة الذنبتين وَولي قَضَاء بَلَده وَكَانَ يتَرَدَّد بَين بَلَده والجند وتعز وَاجْتمعت بِهِ فَرَأَيْت رجلا مُبَارَكًا كَانَت وَفَاته لسبع بَقينَ من رَجَب سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَله ولدان هما يُوسُف وَأَبُو بكر ومولد يُوسُف مستهل ربيع الأول من سنة خمسين وسِتمِائَة تفقهه أَولا بِأَبِيهِ ثمَّ بِمُحَمد بن أبي بكر الأصبحي وَكَانَ حَاكم بَلَده كَمَا كَانَ أَبوهُ وَكَانَ ينيب القَاضِي عمر بن سعيد على قَضَاء صنعاء ودرس بمدرسة الزواحي بتَشْديد الزَّاي بعد ألف وَلَام ثمَّ فتح الْوَاو ثمَّ ألف ثمَّ حاء مُهْملَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت وَهِي قَرْيَة من نواحي بلدهم بهَا مدرسة أحدثها بعض مَشَايِخ بني وايل وَكَانَت وَفَاته بِصَنْعَاء لسبع بَقينَ من شعْبَان سنة سبع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَأما أَبُو بكر فتفقه بأَخيه أَولا ثمَّ بِصَالح بن عمر بالسفال ثمَّ بالفقيه عبد الصَّمد ثمَّ بِأَهْل المصنعة ثمَّ صَار حَاكما فِي بَلَده كَمَا كَانَ أَبوهُ وَأَخُوهُ وَشهر بطريقة مرضية فِي الحكم
وَلما كَانَت سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة محنت بحسبة زبيد لعدم طول وَكَثْرَة عول وَدين وَعدم طول فقدمتها وقاضي الشَّرْع بهَا يَوْمئِذٍ مُحَمَّد بن سعد عرف بِأبي شكيل الْآتِي ذكره فَلَبثت أَيَّامًا قَلَائِل وَقدم هَذَا أَبُو بكر فَلبث قَاضِيا وَكَانَت ولايتنا جَمِيعًا من قبل القَاضِي جمال الدّين مُحَمَّد بن الْفَقِيه أبي بكر التعزي فلبثنا مُدَّة أشهر إِلَى أَن دخل رَمَضَان ثمَّ فصلني عَن الْحِسْبَة وَالْحَال مِنْهُ جميل فِي الحكم وَجَعَلَنِي قَاضِيا فِي موزع ثمَّ بَلغنِي أَنه تغير بعد ذَلِك وَحكم بِمَا استحسنه وَبِمَا أمره أهل الْغَرَض فِي حق القَاضِي أبي شكيل خَاصَّة ثمَّ حصل عَلَيْهِ بعد ذَلِك نهب بَيته فِي الحجفة وهرب إِلَى تربة ذِي عقيب لَوْلَا أَنه أَقَامَ بِقَضَاء الْقُضَاة من لَيْسَ بِهِ غَرَض فَمشى حَاله وفصله عَن زبيد وَأعَاد أَبَا شكيل على الْقَضَاء وَهُوَ إِلَى الْآن سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة حَاكم بَلَده وَمِمَّنْ سكن الجرينة الْقرْيَة الَّتِي تقدم ضَبطهَا مَعَ الحجفة وسكنتها جمَاعَة وَمِنْهُم أسعد بن يُوسُف بن أَحْمد بن الْفَقِيه عمر مقدم الذّكر وَهُوَ أول من تدير هَذِه الْقرْيَة وانتقل إِلَيْهَا من الحجفة وفقهاؤها ذُريَّته وَهُوَ باني مَسْجِدهَا وَلم أتحقق من نَعته وتاريخه شَيْئا غير مَا ذكرت وَكَانَ لَهُ أَخ(1/431)
اسْمه أَحْمد بن يُوسُف تفقه بِمُحَمد بن مَضْمُون بن أبي عمرَان مقدم الذّكر وَأخذ عَن ابْن أبي سحارة الْآتِي ذكره وَله ولد أَيْضا اسْمه مُحَمَّد بن أسعد أَخذ عَن مُحَمَّد بن مِصْبَاح وَغَيره وَتُوفِّي بِبَلَدِهِ وَكَانَت وَفَاته آخر أَيَّام التَّشْرِيق من سنة تسع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة
وَله أَوْلَاد جمَاعَة قدمت بلدهم للبحث عَن أَحْوَالهم وجدت اثْنَيْنِ مِنْهُم إِدْرِيس فِيهِ أنس وَخير ثمَّ أَحْمد أكبر مِنْهُ امتحن بالعمى وَقَتله أهل الْفساد فِي شعْبَان سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة ثمَّ يُوسُف أوسطهم هُوَ حَاكم ذمار يذكر بِولَايَة الْقَضَاء بهَا من أَيَّام بني مُحَمَّد بن عمر وانفصل فِي أَيَّام الْفِتْنَة وانضراب الدول لنيف وَعشْرين وَسَبْعمائة
وَمِمَّنْ ذكر ابْن سَمُرَة وَخَلفه ذُرِّيَّة يذكرُونَ بالفقه بَنو يحيى بن الْفَقِيه فضل الَّذِي تقدم ذكره فخلفه ابْنه يحيى مولده سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة وتفقه بِعَبْد الله بن سَالم الأصبحي وَتزَوج ابْنَته منيرة وَله منا أَوْلَاد انْتَشَر مِنْهُم ذُرِّيَّة تفقه مِنْهُم جمَاعَة ومسكنهم قَرْيَة الملحمة فِيمَا مضى وَلَهُم بهَا مَسْجِد ينْسب إِلَيْهِم وَهُوَ شرقيها وَيعرف بِالْمَسْجِدِ الْأَعْلَى وقراءته للْبَيَان على سُلَيْمَان بن فتح وَكَانَت وَفَاته بقرية الملحمة لَيْلَة الْخَمِيس ثَالِث عشر ربيع الأول من سنة تسع وَعشْرين وسِتمِائَة وَخلف أَوْلَادًا جمَاعَة تفقه مِنْهُم أَبُو بكر مولده لَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا من جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة تفقه بِأَبِيهِ وَغَيره وَفتح لَهُ فِي الْعلم بفهم جيد حَتَّى أدْرك مِنْهُ نَصِيبا وافرا بِحَيْثُ كَانَ الْفَقِيه عمر بن سعيد يَقُول لَو سُئِلَ أَبُو بكر بن يحيى عَن علم الرّوح لأفتى بِهِ وَكَانَ خيرا توفّي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ تَاسِع ربيع الأول سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَلم يعقب ثمَّ عُثْمَان مولده آخر نَهَار الْجُمُعَة لليلة بقيت من الْمحرم سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَكَانَ فَقِيها صَالحا متأدبا ذَا محفوظات لَهُ بديهة جَيِّدَة حَاضر الْجَواب نظما ونثرا
لما قدمت إِلَى قومه وَقد انتقلوا عَن الملحمة إِلَى الْجَبَل الَّذِي هُوَ مطل عَلَيْهَا من قبل الْيمن وَسَكنُوا قريتين تعرف إِحْدَاهمَا بالمحيب وَهِي على قبالة من الملحمة وضبطها بخفض الْمِيم بعد ألف وَلَام ثمَّ سُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة كَانَ هَذَا الْفَقِيه يسكنهَا وَبهَا جمَاعَة من ذُريَّته وَأَهله
والقرية الْأُخْرَى تسمى النظاري بِفَتْح النُّون بعد ألف وَلَام والظاء الْقَائِمَة ثمَّ ألف ثمَّ رَاء ثمَّ يَاء مثناة من تَحت
وَلما قدمت قَرْيَة المحيب أخرج إِلَيّ بعض ذُرِّيَّة الْفَقِيه عُثْمَان شَيْئا من كتبه فَرَأَيْت على بَعْضهَا بِخَطِّهِ وَمن قَوْله(1/432)
.. طُوبَى لمن عَاشَ بعض يَوْم ... وَنَفسه فِيهِ مطمئنه
وَلَا لَهُ فِي الملا عَدو ... وَلَا لخلق عَلَيْهِ مِنْهُ ... وَهَذَا هُوَ صَاحب الْقِصَّة الْمَشْهُورَة مَعَ الْأَمِير عَليّ بن يحيى وذكرتها خشيَة أَن يَقع كتابي مَعَ من لم يكن علمهَا وَذَلِكَ أَن الْأَمِير عَليّ بن يحيى كَانَ على الصّفة الْمُتَقَدّمَة من الإنسانية والمحبة للفقهاء والفضلاء وصحبتهم كَمَا ذكرته فَقدر أَنه عمل طَعَاما لجَماعَة من أَصْحَابه هَذَا الْفَقِيه من جُمْلَتهمْ وَعمل فِيهِ ظرفا مملوءا لحوحا وزوما وَوضع بِموضع فِيهِ بعد عَن الْفَقِيه فَلَمَّا اجْتَمعُوا على الطَّعَام صَار الْفَقِيه يتَنَاوَل مِنْهُ فَلَا يَنَالهُ إِلَّا بتكلف فَأَنْشد الْأَمِير ... بعد اللحوح عَن الْفَقِيه الأوحد ... عُثْمَان خير بني الْبَريَّة عَن يَد ... فَأَجَابَهُ الْفَقِيه مرتجلا ... ترد المراسم إِن أمرت بنقله ... وَيطول مِنْك الباع إِن قصرت يَدي ... فَقَامَ الْأَمِير مسرعا من مَكَانَهُ وَاحْتمل الظّرْف وَوَضعه بَين يَدي الْفَقِيه ثمَّ لما انْقَضى الطَّعَام جعل الْأَمِير يحدث الْفَقِيه وَيَقُول يَا سَيِّدي الْفَقِيه إِنِّي رَأَيْتُك تحب اللحوح وَقد وَهبتك جربتي الْفُلَانِيَّة تكون برسمه فقبلها الْفَقِيه وَهِي جربة تَسَاوِي ألف دِينَار على قرب من الملحمة هِيَ بيد ذُريَّته إِلَى الْآن فرحم الله عَليّ بن يحيى مَا كَانَ ألطف شمائله وَأكْثر فَضله وفضائله
وَقد تقدم ذكره مَعَ بني مَضْمُون وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْأَحَد لثلاث بَقينَ من رَمَضَان سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَذَلِكَ بقرية الملحمة مَعَ أَبِيه يحيى وأخوته أبي بكر وَعلي فقبر الْأَب وأبناؤه أَبُو بكر وَعلي فِي فسقية هِيَ شَرْقي مَسْجِدهمْ فَلَمَّا دنت وَفَاة عُثْمَان قيل لَهُ نقبرك مَعَ أَبِيك وأخوتك قَالَ لَا إِنَّنِي أخْشَى أَن أؤذيهم هم كَانُوا على طَرِيق كَامِل من الْوَرع فقبر بِقَبْر قريب مِنْهُم ثمَّ لما توفّي عُثْمَان خَلفه برئاسة أَهله واشتهر بالفقه ابْن لَهُ اسْمه يحيى مولده آخر نَهَار الْجُمُعَة لخمس خلون من صفر سنة سبع عشرَة وسِتمِائَة وَكَانَ خيرا ذَا دين وورع نزل من بَلَده إِلَى ذِي جبلة فدرس بِالْمَدْرَسَةِ الشرقية وَكَانَ(1/433)
فِي شهر ذِي العلان فَيطلع بَلَده فيقف فِيهَا حَتَّى يَنْقَضِي الصراب ثمَّ مَتى عَاد بَلَده أَحَالهُ النَّائِب بِنَفَقَة السّنة فَيرد عَلَيْهِ نَفَقَة الشَّهْرَيْنِ اللَّذين غَابَ فيهمَا وَاسْتمرّ ذَلِك إِلَى عصرنا أَن لَا ينْفق للمدرس غير عشرَة أشهر لتِلْك الْعَادة وَكَانَ إِذا قيل لَهُ يَا سيدنَا لَا ترد الشَّهْرَيْنِ فالمدرسون قبلك كَانُوا يغيبون أَكثر من الشَّهْرَيْنِ وَيَأْخُذُونَ كيلة الْجَمِيع فَقَالَ لَا يسْأَلُون عَمَّا أجرمنا وَلَا نسْأَل عَمَّا يعْملُونَ وَكَانَ يصرف مَا يقبضهُ من الكيلة على المحتاجين من طلبة الْعلم وَفِيمَا يَطْلُبهُ أهل الدِّيوَان مِنْهُ خراجا على أرضه وَكَانَ مَعَ ورعه نقالا للفروع وعارفا بهَا وَتُوفِّي بقرية المحيب وَبهَا قَبره منتصف صفر من سنة ثَمَان وَسبعين وسِتمِائَة ثمَّ خَلفه ابْن لَهُ اسْمه عُثْمَان كَانَ فَقِيها خيرا وَله قريحة يَقُول بهَا الشّعْر وَمن شعره يجمع فِيهِ أولي الْعَزْم من الْأَنْبِيَاء بيتان هما ... أولو الْعَزْم فاحفظهم لَعَلَّك ترشد ... فنوح وَإِبْرَاهِيم هود مُحَمَّد ... وَخمْس المديح الَّذِي لِابْنِ حمير وَهُوَ ... يامن لعين قد أضرّ بهَا السهر ... وأضالع حدب طوين على الشرر ... فصدر هَذَا الْبَيْت بِأَن قَالَ ... قلبِي الْمَعْنى صَار حلفا للفكر ... وكذاك سَمْعِي خانني مثل الْبَصَر
ودموع عَيْني بالمحاجر كالمطر ... يَا من لعين قد أضرّ بهَا السهر
وأضالع حدب طوين على الشرر
وضاهاها بالتخميس تخميس ابْن الظفاري لبانت سعاد وَكَانَت وَفَاته مبروقا لأحد عشر ذِي الْحجَّة من سنة تسع وَسَبْعمائة بعد بُلُوغ سِتّ وَثَلَاثِينَ سنة وقبر(1/434)
بالمحيب إِلَى جنب قبر أَبِيه زرتهما مَعًا وفقيههم يَوْم قدمت إِلَيْهِم حسن بن عَليّ بن الْفَقِيه يحيى بن الْفَقِيه فضل مَسْكَنه النظاري يدرس بمدرسة بنتهَا امْرَأَة فوقفت عَلَيْهَا وَقفا جيدا وَكَانَ صَاحب دنيا وَاسِعَة وَلما خشِي من الظلمَة وتعسفهم على نَفسه وعَلى الْمدرسَة لَاذَ بالفقيه أبي بكر التعزي وَتزَوج ابْنة لِأَخِيهِ عمر فَكَانَ بذلك مُسْتَقِيم الْحَال حَتَّى هلك الوزراء بالتاريخ الْآتِي ذكره وَحصل عَلَيْهِ بعض تعسف ثمَّ لما قدم ولد الْفَقِيه أبي بكر على قَضَاء الْقُضَاة على مَا سَيَأْتِي ذكره ولبث مَا لبث ثمَّ ظهر للمؤيد مِنْهُ مَا ظهر صودر هَذَا وَحبس وعزر وَجرى لَهُ أَمر لَا يَلِيق ذكره وَلم تطل مدَّته بعده بل توفّي سنة ثَمَانِي عشرَة وَسَبْعمائة وَكَانَ ذَلِك تَصْدِيقًا للأثر الَّذِي هُوَ من تعزز بِغَيْر الله ذل
وَمِنْهُم يحيى بن فضل بن الْفَقِيه يحيى مقدم الذّكر ولاه القَاضِي مُحَمَّد بن أبي بكر على طَرِيق عَادَة حكام الْوَقْت فِي كَرَاهِيَة من كَانَ قبلهم ونوابهم وَفِيهِمْ جمَاعَة مِنْهُم سُهَيْل يذكر عَنهُ مُرُوءَة وَشرف نفس ثمَّ الْمَأْمُون فقيهان خيران لما قدمت المحيب قَرَأَ عَليّ الْمَأْمُون وَيحيى وَمُحَمّد بن عُثْمَان شَيْئا من الأربعينات النووية وَهَذَا مُحَمَّد بن الْفَقِيه عُثْمَان صَاحب الأبيات وَهُوَ يَوْمئِذٍ شَاب مبارك مترشح لطلب الْعُلُوّ وَمِنْهُم بَنو الإِمَام ذكر ابْن سَمُرَة مِنْهُم جمَاعَة وذكرتهم أَيْضا ثمَّ تَأَخّر عَن زمانهم جمَاعَة مِنْهُم الأخوان مُحَمَّد بن الْفَقِيه عبد الله بن الْفَقِيه سَالم الْأَصْغَر وَمِنْهُم أَحْمد بن مُحَمَّد بن سَالم أَيْضا وَكَانَا فقيهين خيرين لَكِن أَحْمد كَانَ يَقُول الشّعْر وَكَانَت فِيهِ خفَّة فَسُمي لأَجلهَا بالمجن وَكَانَ يَقُول الشّعْر ويسلك طَرِيق أبي الطّيب المتنبي فيرحل إِلَى أقيال الْيمن وكرامها ويمتدحهم وَيَأْخُذ جوائزهم وَكَانَ فَقِيها فَاضلا مترسلا مهذبا متأدبا
حُكيَ أَنه ترك شَيْئا من الْكتب مَعَ بعض مَشَايِخ بني عمرَان فِي قلعة سير فعبث بهَا الفأر عَبَثا شنيعا فَلَمَّا جَاءَ لأخذها وجدهَا مبعثرة فَعمل أبياتا مِنْهَا قَوْله ... مديح الفأر خير من هجاه ... رجا شَيْئا فَأدْرك مَا رجاه
وَأعْطى مَا أَرَادَ وَمَا تمنى ... وأحظى الْخلق من يعْطى مناه ...(1/435)
.. بدار الشَّيْخ أسعد حَيْثُ كَانَت ... أكيتبتي وَقد عظموا وتاهوا
وَقَالُوا قطّ لَيْسَ لنا معدا ... من المخزان فَهُوَ لنا بناه
إِذا مَا الهر وافى فَرد يَوْم ... أَغَارُوا كلهم وجروا وَرَاه
فأطبق وَهُوَ فِي وَجل عَظِيم ... وَلم يلفت وَأَعْطَاهُمْ قَفاهُ
وَحش لَو استقام لَهُم قَلِيلا ... لطاح وأطعموه إِذا أَذَاهُ ... وَهِي أَبْيَات تقَارب الْعشْرين لم يعلق بحفظي مِنْهَا غير مَا أوردته وَذكر أَنه قدم المخادر على الشَّيْخ عبد الله بن أسعد بن نَاجِي فَوَجَدَهُ محجبا فَقَالَ للخادم اسْتَأْذن لي على الشَّيْخ فَدخل وَخرج وَقَالَ الشَّيْخ بحافة الْحَرِيم فَأخذ ورقة بَيْضَاء وَكتب بهَا بَيْتَيْنِ هما ... يقبح بالسيد الْكَرِيم ... أَن يقْعد فِي حافة الْحَرِيم
والوفد بِالْبَابِ بانتظار ... نظامه غير مُسْتَقِيم ... وَقَالَ للخادم أعْطهَا الشَّيْخ وَركب من فوره وَصَارَ إِلَى مقْصده فحين وقف عبد الله على الورقة شقّ عَلَيْهِ القَوْل وَعرف من كتبهَا وَسَأَلَ الْخَادِم عَنهُ فَقَالَ ناولني الورقة وَسَار طَرِيق كَذَا فحنق عَلَيْهِ وَقَالَ وَالله لَا يلْحقهُ غَيْرِي ثمَّ ركب دَابَّته ولحقه بعد سَاعَة جَيِّدَة فَأَعَادَهُ وَأحسن إِلَيْهِ إحسانا كليا
وَذكر بعض الْمَعْنيين بأخبار النَّاس أَن الْمعز بن سيف الْإِسْلَام لما خرج إِلَى مَذْهَب الإسماعيلية وَصَارَ مَالِكًا لليمن تشفع إِلَيْهِ أهل مذْهبه بِأَن يَأْمر الخطباء فِي بِلَاد الْيمن بِأَن يقعوا بالشيخين فِي الْخطْبَة ويسبوهما فَقَالَ لَا طَاقَة لي بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم فَقَالُوا اعْمَلْ ذَلِك بجبلة وَكَانَ أَكثر سكناهُ بهَا فَقَالَ أَسْتَطِيع وَلَا آمن أَن يهجم عَليّ الْعَامَّة فَقَالُوا فَأمر خطيب جبلة بِإِسْقَاط ذكرهمَا قَالَ لَعَلَّ هَذَا أَهْون من غَيره فاستدعي بِالْقَاضِي فِي تِلْكَ الْمدَّة وَأمره بذلك وَكَانَ ذَلِك بيد أهل عرشان فساءهم ذَلِك وشق عَلَيْهِم وبقوا حائرين فَوَافَقَ ذَلِك الْيَوْم قدوم هَذَا أَحْمد وَقد بلغه مَا امروا بِهِ وَأَنَّهُمْ لم يقدروا على التَّأَخُّر خوف السلطنة وَلَا التَّقَدُّم خوف الشِّيعَة تبقى هَذِه السمعة عَنْهُم فوصلهم هَذَا الْفَقِيه وَقَالَ لَهُم أعطوني شَيْئا أَقْْضِي بِهِ ديني وَأسد بِهِ فَاقَتِي وَأَنا أَخطب عَنْكُم وَأسْقط ذكر(1/436)
الشَّيْخَيْنِ أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا فَسَأَلُوهُ عَن دينه فَأخْبرهُم فالتزموا لَهُ بذلك وَأَن يسدوا فاقته فَلَمَّا جَاءَ وَقت الْخطْبَة صعد الْمِنْبَر وخطب حَتَّى جَاءَ مَوضِع ذكر الشَّيْخَيْنِ فَقَالَ وَاعْلَمُوا رحمكم الله أَن ذكر الشَّيْخَيْنِ أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا لَيْسَ شرطا فِي الْخطْبَة وَقد حصل لي ببركتهما كَذَا وَكَذَا دِينَارا وَكَذَا وَكَذَا ذَهَبا من الطَّعَام فعلى مبغضهما لعنة الله ولعنة اللاعنين
وَكَانَ الشِّيعَة قد اجْتَمعُوا من أَمَاكِن شَتَّى ليسمعوا بِإِسْقَاط الشَّيْخَيْنِ إِلَى الْجَامِع فَلَمَّا عمل هَذَا مَا عمل فحين سمعُوا ذَلِك ساءهم وشق بهم وَقَالُوا لم يرض إِلَّا سبنا وذكرهما بِأَحْسَن مَا كَانَا يذكران بِهِ ثمَّ لما خَرجُوا من الْجَامِع اتَّفقُوا على الرواح إِلَى بَيت الْمعز وملازمته بِالْإِرْسَال على الْخَطِيب وَالْأَمر لَهُ بِأَن يبْقى على الْعَادة الْمُتَقَدّمَة فَفَعَلُوا ذَلِك وَفعله الْمعز خشيَة بَقَاء سبّ مبغضيهما بعد أَن قَالَ لَهُم وَالله لقد كنت خاشيا عَلَيْكُم وعَلى الْخَطِيب أَن تقع الْعَامَّة بكم وَبِه وَقد سَمِعت من يذكر أَن الْخَطِيب لم يكن هَذَا وَإِنَّمَا كَانَ رجلا من أهل صهْبَان يُسمى الصُّبْح وَالله أعلم بِالصَّوَابِ
وَقد عرض مَعَه ذكر عبد الله بن أسعد بن نَاجِي التباعي وَهُوَ أحد أَعْيَان الْيمن وأخيار الزَّمن وَكَانَ مَشْهُورا بِالْكَرمِ وسعة الْجُود وَالنعَم لَهُ عطايا جمة مَسْكَنه قَرْيَة المخادر قد مضى ذكرهَا ونال هَذَا عبد الله وَأَخُوهُ مكانة عَظِيمَة ورزقه الله سماحة نفس وعلو همة بِحَيْثُ سَمِعت لَهُ مَكَارِم يطول تعدادها وَيكثر إيرادها وَكَانَ قد استماله بعض الإسماعيلية وَدخل بمذهبه وَصَارَ عَلَيْهِ مَعَ تستر فَإِنَّهُ ليَوْم قَاعد فِي الْجَامِع بالمخادر وَهُوَ حافل بِجمع من الْفُقَهَاء والطلبة إِذْ قَرَأَ بَعضهم بِصَوْت حسن سُورَة الْمُؤمنِينَ حَتَّى قَرَأَ {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة من طين ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مكين} إِلَى أَن بلغ قَوْله {ثمَّ إِنَّكُم بعد ذَلِك لميتون ثمَّ إِنَّكُم يَوْم الْقِيَامَة تبعثون} ثمَّ جعل يُرَدِّدهَا فحكي أَنه بَكَى حَتَّى غشي عَلَيْهِ ثمَّ أَفَاق وَتشهد واستغفر الله تَعَالَى وَنزل على طَرِيق السّنة لَا يَبْدُو مِنْهُ مَا يُخَالِفهَا حَتَّى توفّي وَكَانَ قد حدث لَهُ فِي تِلْكَ الْمدَّة الَّتِي أَقَامَ بهَا خَارِجا أَوْلَاد(1/437)
خَرجُوا عَن الإسماعيلية إِلَى وقتنا وذراريهم فِي الْغَالِب على ذَلِك غير أَن الْغَالِب على بني نَاجِي حَيْثُ كَانُوا السماحة والرجاحة وَالْإِحْسَان إِلَى أهل الْقُرْآن وَلَهُم فِي بلدهم مدارس حَسَنَة وَعَلَيْهَا وقف جيد لَا تكَاد تَخْلُو قريتهم عَن أهل الْخَيْر من أهل الدّين وَالدُّنْيَا قدمتها لزيارة صالحيها فَوجدت بهَا آثارا يعجب من أقربها من آثَار أهل سير
وَمِنْهُم أَعنِي بني الإِمَام أَبُو الْخطاب عمر بن يحيى بن الْفَقِيه أبي بكر بن الْفَقِيه سَالم كَانَ فَقِيها فَاضلا
وَمِنْهُم عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الضرغام بِهِ تفقه جمَاعَة مِنْهُم عَليّ بن أَحْمد الْجُنَيْد وَعمر بن مُحَمَّد الجرهمي وَابْن عَمه سُلَيْمَان وَغَيره وَهُوَ آخر من تحققته من بني الإِمَام وَتَبعهُ من أَهله سُلَيْمَان بن عَليّ بن مُحَمَّد بن سَالم الأصعى درس بِذِي هزيم وَغَيره بعد أَخِيه أَحْمد الْمَذْكُور فِي فُقَهَاء تعز وَتُوفِّي أَيْضا بتعز وَكَانَ عَارِفًا بِكِتَاب الْبَيَان أَخذه عَن جمَاعَة وَتُوفِّي وَترك ولدا اسْمه عبد الرَّحْمَن أم مُدَّة طَوِيلَة بِجَامِع ذِي أشرق تفقه بعض التفقه وَتُوفِّي على الطّلب منتصف الْقعدَة من سنة خمس وَعشْرين وَسَبْعمائة وَآخر فُقَهَاء قريتهم مِمَّن هُوَ فِي طبقَة الْمَذْكُورين آنِفا جمَاعَة لَيْسُوا مِنْهُم
مِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أسعد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن سعيد القري الْعَنسِي الْمذْحِجِي بالنُّون بَين الْعين وَالسِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ نِسْبَة إِلَى الْقَبِيلَة الْمَذْكُورَة فِيمَا تقدم
كَانَ فَقِيها عَارِفًا بالفروع وَالْأُصُول وَله بِكُل كتاب مِنْهُمَا تصنيف ولي قَضَاء عدن بُرْهَة من الدَّهْر وَكَانَ مَوْصُوفا بالورع وَالْفِقْه غواصا على دقائقه عَاملا بِهِ
سَمِعت فَقِيه عدن شَيْخي أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ الْحرَازِي يذكر هَذَا الرجل ويثني عَلَيْهِ ثَنَاء بليغا بالفقه والورع وَكَانَ مِمَّن أدْركهُ وَقَرَأَ عَلَيْهِ وَأَخْبرنِي أَيْضا أَنه كَانَ يُعجبهُ الِاخْتِلَاط بالفقهاء والمواصلة لَهُم
وَكَانَ مدرس عدن يَوْمئِذٍ والمعيد وأصحابهما من الطّلبَة يصلونَ صباح كل يَوْم إِلَى بَابه ويحضرون مَجْلِسه فيلقاهم بالبشر وَالْإِكْرَام ثمَّ إِذا اطمأنوا جعل يلقِي عَلَيْهِم الْمسَائِل من الْكتب الَّتِي يتعانون قرَاءَتهَا
فَمن وجده ذَاكِرًا بَارك عَلَيْهِ وشكره ووعده بِالْخَيرِ وحثه على زِيَادَة الِاجْتِهَاد وَكَانَ ذَا مَكَارِم أَخْلَاق وكرم طباع قَلما قَصده قَاصد إِلَّا وَأَعْطَاهُ مَا يَلِيق بِحَالهِ إِمَّا من نَفسه إِن أمكن(1/438)
أَو من جاهه
وَكَانَ مَعَ ذَلِك كثير الصَّدَقَة متنزها عَمَّا يتهم بِهِ حكام عدن وَغَيرهم من الْخِيَانَة وَكَانَ كثير الْعِبَادَة
أَخْبرنِي شَيْخي أَحْمد بن عَليّ الْحرَازِي الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى أَن الْفَقِيه مُحَمَّد بن أبي بكر الأصبحي قدم عدن على هَذَا القَاضِي وَهُوَ إِذْ ذَاك شَاب قد تفقه فَكَانَ يحضر مجْلِس القَاضِي ويستمع إلقاءه فيجيب مبادرا فَيَقُول القَاضِي هَذَا يخرج فَقِيها فَكَانَ كَمَا قَالَ وَلَقَد أَخْبرنِي الْفَقِيه عبد الْملك الْوراق بعدن قَالَ أَخْبرنِي من أَثِق بِهِ من خبر هَذَا القَاضِي أَنه كَانَ يتَصَدَّق كل يَوْم بِدِينَار خبْزًا وَلما دخل شمس الدّين البيلقاني عدن صَحبه وتتلمذ لَهُ وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْوَجِيز للغزالي وَلم يكن إِذْ ذَاك أظهر شَيْئا من معتقده الَّذِي شهر بِهِ فَلَمَّا أظهره انشقت الْعَصَا بَينهمَا وتهدد القَاضِي من حضر مَجْلِسه أَو قَرَأَ عَلَيْهِ فَتفرق غَالب النَّاس عَنهُ فصاروا نافرين وَمن رغب بِالْأَخْذِ عَنهُ أَتَاهُ سرا إِن خشِي من القَاضِي وَكَانَ السُّلْطَان المظفر قد جعله مدرسا فِي مدرسة أَبِيه الْمَنْصُور فَلم يهن ذَلِك على القَاضِي لما رأى من قصوره فِي معرفَة الْفِقْه ولمباينة المعتقد فَمَا زَالَ يفكر فِي إِخْرَاجه عَن الْمدرسَة حَتَّى أجمع رَأْيه على أَنه يَأْمر بعض الطّلبَة يسْأَله كَمَا سَيَأْتِي فِي ذكر البيلقاني وَكَانَ القَاضِي هَذَا من أهل الحمية والعصبية الَّذين لَا تأخذهم فِي الله لومة لائم وَكَانَ فِي عدن نَاظر يعرف بالجزري وَكَانَ متعصبا مَعَ البيلقاني وَرُبمَا كَانَ السَّبَب فِي إشفاق السُّلْطَان عَلَيْهِ فَكتب إِلَى السُّلْطَان يتَكَلَّم على القَاضِي مَا لَيْسَ بِحَق نصرا للبيلقاني فَعَاد جَوَاب السُّلْطَان إِلَى الْجَزرِي يعده بعزل القَاضِي فِي وَقت معِين فَمن شدَّة فَرح النَّاظر بذلك أخبر بذلك كافور البالكي الْآتِي ذكره وَكَانَ مِمَّن يصحب القَاضِي وَيُحِبهُ فَأخْبرهُ بذلك وَقَالَ لَهُ اجْتمع بالأمير عَبَّاس وَأخْبرهُ بِمَا فعل الْجَزرِي فَفعل ذَلِك وَكَانَ عَبَّاس على مُعْتَقد القَاضِي فشق عَلَيْهِ وَكتب إِلَى المظفر ورقة يُخبرهُ بصلاح القَاضِي وَدينه وَأَنه قل أَن يسْتَبْدل بِهِ وَيَقُول قد بَلغنِي أَن بعض من لَا خير فِيهِ كتب إِلَى مَوْلَانَا يتَكَلَّم عَلَيْهِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ وَأَنه غير صَادِق فجوب لَهُ السُّلْطَان يَقُول لَهُ لقد تحققنا مَا ذكرت عَن القَاضِي لسنا نسْمع فِيهِ كلَاما فلتطب نَفسك وَنَفسه واسأله لنا الدُّعَاء أَو كَمَا قَالَ وشق على السُّلْطَان كَون الْجَزرِي أذاع مَا كتب بِهِ إِلَيْهِ من عزل القَاضِي وأكن ذَلِك فِي نَفسه فَلَمَّا جَاءَ الْوَقْت الَّذِي يرقب فِيهِ عزل القَاضِي وَلم يعْزل ظن أَن السُّلْطَان قد نسي فَكتب إِلَيْهِ يستنجزه الْوَعْد فَعَاد جَوَابه يَقُول لَهُ لَوْلَا خوف الله لعملنا بهلاكك إِذْ نفشي إِلَيْك سرا تذيعه فَكَانَ ذَلِك آخر مُكَاتبَة جرت من الْجَزرِي فِي حَقه ثمَّ بعد عود المظفر من الْحَج دخل عدن فَشَكا أَهلهَا من الْجَزرِي وفظاظته وجبروته فَأمر السُّلْطَان القَاضِي الْبَهَاء أَن يحاقق بَينه وَبينهمْ فَكَانَ ذَلِك فِي الْجَامِع(1/439)
فَقَالُوا لَا نَفْعل ذَلِك حَتَّى يكون بِأَيْدِينَا ذمَّة أَنه لَا يبْقى يتَصَرَّف علينا فَفعل السُّلْطَان لَهُم ذَلِك وحققوا عَلَيْهِ جملَة مستكثرة وهموا أَن يبطشوا بِهِ لَوْلَا مَانع عَنهُ جمَاعَة من أهل الدولة ثمَّ صودر وَضرب ثَلَاث مَرَّات فَسلم ثَلَاثمِائَة ألف دِينَار ثمَّ ضرب وعصر فَلم يقدر على شَيْء وَصَارَت جَارِيَته وَبنَاته يدرن بيُوت أَصْحَابه الَّذين كَانَ يواليهم فيقفلون فِي وُجُوههم الْأَبْوَاب فَقدر أَن جَاءُوا بَاب القَاضِي فوجدوه مَفْتُوحًا فدخلوه فحين وَقعت عين القَاضِي عَلَيْهِم رحب بهم ورق لَهُم وَبكى ثمَّ ناولهم صرة بهَا ثلثمِائة دِينَار فضَّة بعد أَن أطْعمهُم وبرهم فَلَمَّا عَادوا إِلَى أَبِيهِم سَأَلَهُمْ عَن حَالهم وَأَخْبرُوهُ الْقِصَّة فَكَانَ بعد ذَلِك يَقُول لمن يتحدث مَعَه وَرُبمَا ابْتَدَأَ ذَلِك مَا الْبعيد إِلَّا ولد زنا وَذَلِكَ أنني أَسَأْت كثيرا كثيرا إِلَى هَذَا القَاضِي وَجرى مِنْهُ مَا هُوَ كَذَا وَكَذَا وَفِي عدن جمَاعَة أَصْحَاب أَحْسَنت إِلَيْهِم وصاروا أهل ثروة مَا أعلم أحدا مِنْهُم لما نكبت كَانَ يسلم عَليّ السَّلَام الشَّرْعِيّ وَلَو لم يكن لهَذَا القَاضِي من المكارم غير هَذِه لكَانَتْ كَافِيَة شافية وَله مُصَنف جيد فِي أصُول الدّين وسأذكر بعض مَا جرى بَينه وَبَين البيلقاني حِين أذكرهُ فِي الواردين إِلَى عدن وَمَكَارِم هَذَا الرجل كَثِيرَة وَكَانَت وَفَاته بثغر عدن يَوْم الثُّلَاثَاء اثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة بقيت من صفر سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وقبر بالقطيع فِي حياط ينْسب إِلَى آل الْفَارِسِي الْآتِي ذكرهم فِي أهل عدن إِن شَاءَ الله وَإِلَى جنبه قبر جمَاعَة من الْحُكَّام الَّذين توفوا بعده كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله وَقد زرت قَبره مرَارًا وتبركت بِهِ وَقد عرض مَعَ ذكره رجلَانِ من الْأَعْيَان الأول أَبُو مُحَمَّد عَبَّاس بن عبد الْجَلِيل بن عبد الرَّحْمَن التغلبي أصل بَلَده جبل ذخر بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وخفض الْخَاء وَسُكُون الرَّاء كَانَ ذَا مَال جزيل وجاه كَبِير أَكثر مَاله من التِّجَارَة وَكَانَ أَكثر النَّاس صَدَقَة ومعروفا وَكَانَت ولَايَته تَارَة بعدن وغالبها زبيد وَله فِيهَا مدرسة حَسَنَة جعلهَا ابْنه مُحَمَّد بعد مَوته وَهِي الدَّار الَّتِي كَانَت لِأَبِيهِ وَكَذَلِكَ فِي بَيت حُسَيْن وَله بقرية السَّلامَة مَسْجِد وَله على كل وقف يقوم بِهِ وصدقاته كَثِيرَة ومعاملته مَعَ الله جليلة بِحَيْثُ يعز حصرها وَكَانَ إِذا أقبل الْحجَّاج وَهُوَ فِي بلد مروا عِنْده فيكسوهم ويعطيهم مَا يوصلهم بلدهم الَّتِي يذكرُونَ أَنهم قاصدون لَهَا وَإِن كَانُوا من الْبَلَد أَعْطَاهُم مَا يزيلون بِهِ وعثاء السّفر وَقد أَخْبرنِي الثِّقَة أَنه كَانَ يتشبه بهم جمَاعَة فِي زيهم يأْتونَ إِلَيْهِ فيعطيهم مَا يَلِيق بحالهم وَله من الْآثَار المبقية للذّكر(1/440)
مدرسة فِي بَلَده ذخر فِي مَوضِع يعرف بالحبيل بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ لَام وَكَانَت وَفَاته بزبيد سنة أَربع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَخلف أَوْلَادًا رَأس مِنْهُم مُحَمَّد نَالَ مرتبَة عِنْد الْملك المظفر وَرفع لَهُ طبلخانة وَجعله من جملَة حرفائه وَكَانَ أَمِيرا شهما فَارِسًا مقداما لَكِن غلب عَلَيْهِ الْعجب فَكثر عَلَيْهِ إِلَى السُّلْطَان وَقيل لَهُ عَنهُ بِأُمُور لَا يحْتَمل الْمُلُوك بَعْضهَا فَلَزِمَهُ وكحله بزبيد وَذَلِكَ سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة وَسَار إِلَى بَيت ابْن عجيل الْمُقدم ذكره وَلم يزل مترددا بَين بَيت الْفَقِيه وزبيد إِلَى أَن توفّي فِي رَمَضَان سنة تسع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَخلف أَوْلَادًا رَأس مِنْهُم اثْنَان أَحْمد وعباس فَأَحْمَد توفّي بعد أَن ولي زبيد ونال بعض شَفَقَة من الْملك المظفر وَذَلِكَ لنيف وَتِسْعين وسِتمِائَة وَأما عَبَّاس فَإِنَّهُ نَشأ فِي صنعاء وَأمه ابْنة الْأَمِير سنجر الشّعبِيّ أحد أخيار أُمَرَاء الغز ثمَّ إِنَّه نَالَ من الْملك الْمُؤَيد شَفَقَة جَيِّدَة وَقَاتل قتالا جيدا فِي مخارج كَثِيرَة بَان للسُّلْطَان ذَلِك بِصُحْبَتِهِ وَله وقعات كَثِيرَة أَجَاد بهَا وَلَو لم يكن لَهُ إِلَّا رد الإِمَام ابْن مطهر من بَاب صنعاء وَقد أشرف على أَخذهَا هُوَ وأكراد ذمار ثمَّ لم يقف بعد ذَلِك حَتَّى رفع لَهُ الْمُؤَيد طبلخانة وأقطعه إقطاعا جيدا ثمَّ أَنه امتحن بِمَرَض يعرف بالنقرس وَطَالَ بِهِ سِنِين فاستحى من أَخذ الإقطاع وَقلة الْمخْرج فَجعل يلازم الْمُؤَيد بالاستعادة الطبلخانة والإقطاع فتوقف مرَارًا ثمَّ غلب عَلَيْهِ الْيَأْس من عافيته فاستعاد ذَلِك ثمَّ أقطعه إقطاعا لطيفا يقوم بِاثْنَيْ عشر ألفا بِسَبَبِهِ وَحصل من حسده على ذَلِك وَحسن للمؤيد أَن لَا يقطعهُ إِذْ هُوَ صَاحب مَال جزيل فَمَال إِلَى ذَلِك وَهُوَ بَاقٍ إِلَى عصرنا يذكر بِالْعقلِ والرجلة فِي الرَّأْي وَغَيره وَغلب عَلَيْهِ الْمَرَض الْمَذْكُور وَمَعَهُ ابْن لِأَخِيهِ أَحْمد اسْمه عبد الْجَلِيل كَانَ يتَوَلَّى بَاب عَمه وَالْقِيَام بِهِ أَيَّام الطبلخانة وَمِنْهُم بَقِيَّة بزبيد
وَالْآخر من الْأَعْيَان هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله الْجَزرِي قدم عدن وَنزل فِي الْمدرسَة المنصورية وَكَانَ من أَعْيَان أَبنَاء الجزيرة فَعرفهُ جمَاعَة من التُّجَّار وَغَيرهم وَكَتَبُوا إِلَى السُّلْطَان يعلمونه بِهِ وَأَنه من أَبنَاء النَّاس وَأَن لَهُ خبْرَة جَيِّدَة فِي الْكِتَابَة فَأمره السُّلْطَان أَن يتَوَلَّى ديوَان النّظر بعدن فَفعل ذَلِك وَكَانَ يلقب بالفقيه شمس الدّين وَقَرَأَ عَلَيْهِ شَيْئا من الْعلم وَرُبمَا أَقرَأ فِي(1/441)
بَيته وَفِي الفرضة جمَاعَة من الطّلبَة شَيْئا من الْعلم وَكَانَ يعْمل فِي كل يَوْم سماطا يحضرهُ جمع من وُجُوه التُّجَّار وَجَمِيع الْفُقَرَاء لَا يمْنَع أحد وَمَعَ ذَلِك يواسي كلا مِنْهُم بِمَا سَأَلَ وَمَا لَاق وَبِالْجُمْلَةِ أخباره الجميلة كَثِيرَة وَكَانَت فِيهِ مَكَارِم أَخْلَاق مَا قَصده قَاصد فخاب وَلَوْلَا أَنه كَانَ عسوفا لَكَانَ من أخيار النَّاس ظَاهرا وَبَاطنا وَله مَكَارِم يطول تعدادها مِنْهَا مَا أَخْبرنِي وَالِدي عَن الْفَقِيه أبي بكر السرددي أَنه قَالَ كنت بلحج أعلم لبَعض أعيانها فَجرى فِي بعض الْأَيَّام ذكر أبي نواس ثمَّ ذكر أبياته ذَوَات الكافات الثَّلَاث الَّتِي يَقُول فِيهَا ... انعمي بِالرِّضَا يَا سيدتي ... وامنحينا عسلا من عككك
مَا على أهلك مَا ضرهم ... لَو مشينا سَاعَة فِي سككك
لَيْتَني المسواك أَو يَا لَيْتَني ... تكة منقوشة من تككك ... وَكنت فِي مجْلِس بِهِ جمَاعَة يتعانون الْأَدَب فَكل مِنْهُم ادّعى أَنه يُطيق مشابهتها فَلم يطيقوا حَتَّى قلت أبياتا مِنْهَا ... يَا دَار سلمى لَيْتَني ... دكة مفروشة من دككك ... من روى الأبيات للجزري فَقدر أَنِّي دخلت عدن وَعرضت لي حَاجَة إِلَى الْجَزرِي فَكتبت إِلَيْهِ بِسَبَبِهَا فحين وقف على رقعتي استدعاني فَلَمَّا قربت مِنْهُ حياني وأكرمني وسألني الأبيات فرويتها لَهُ وَكَانَ تِلْكَ السّنة قد حج المظفر وهم فِي عمل مدارية ونسميها فِي الْجبَال شجمات وَقد تسمى أراجيح وَعمل غَالب أَعْيَان أهل عدن كل وَاحِد مِنْهُم شجمة شَيْء يعْتَاد أهل الْيمن عمله لمن حج أول حجَّة وَعند نصبها إِذا كَانَت لرجل ذِي رئاسة قَامَ الشُّعَرَاء بأشعار يمدحون عَملهَا أَو من عملت لَهُ وضبطها بلغَة تهَامَة بِفَتْح الْمِيم وَالدَّال الْمُهْملَة ثمَّ ألف ثمَّ خفض الرَّاء ثمَّ يَاء مثناة من(1/442)
تَحت ثمَّ هَاء واحدتها مدروهه وبلغة أهل الْجَبَل بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَالْجِيم الْمُعْجَمَة وَالْمِيم ثمَّ هَاء سَاكِنة فَعمل الْجَزرِي مِنْهَا شَيْئا باسم السُّلْطَان وَاجْتمعَ النَّاس حوله فَأَرَادَ الشُّعَرَاء الْقيام وَقد كَانَ أَشَارَ إِلَيّ أَن أكون من جُمْلَتهمْ فَأمر من ناداني يَا فَقِيه أَبَا بكر يَا سرددي فأجبت فَقَالَ ادخل فَلَمَّا دخلت مقَامه قَالَ هَات مَا عملت فَقُمْت بقصيدتي فِي السُّلْطَان فَرمى عَليّ كسْوَة جَيِّدَة ثمَّ تشبه بِهِ جمَاعَة من التُّجَّار ثمَّ رمى لي بِدَنَانِير ذهب فأمال الْحَاضِرُونَ على شَيْء كثير من الذَّهَب وَالْفِضَّة حَتَّى اجْتمع لي كثير من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْكِسْوَة وَبِالْجُمْلَةِ مكارمه كَثِيرَة وَكَانَت وَفَاته لنيف وَسِتِّينَ وسِتمِائَة حُكيَ أَن المظفر لما بلغه شدَّة وَجَعه أَمر إِلَيْهِ يخبر بَاطِنه ويعده بِالْخَيرِ أنْشد
وجادت بوصل حِين لَا ينفع الْوَصْل ... نرْجِع إِلَى تَتِمَّة فُقَهَاء ذِي أشرق مِنْهُم عبد الرَّحْمَن بن الْفَقِيه القَاضِي مُحَمَّد بن أسعد مقدم الذّكر مولده ثامن عشر جُمَادَى الْأُخْرَى سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة ولي قَضَاء عدن أَيَّامًا ثمَّ كاده تَاجر يُقَال لَهُ ابْن نكاس بِأَن كذب عَلَيْهِ إِلَى الْملك المظفر فَحَمله على الصدْق وَأمر القَاضِي البهآ أَن يعزله وَلم يفلح التَّاجِر بعد ذَلِك بل أخرجه الله من عدن وَأَسْكَنَهُ بَين الْكفَّار بِالْهِنْدِ وَصَارَ غُلَاما لملك مِنْهُم إِلَى أَن توفّي هُنَالك على حَال غير مرضية عِنْد ذَوي الدّين وَالدُّنْيَا وَأما عبد الرَّحْمَن فَإِنَّهُ لما انْفَصل من عدن وَكَانَ ذَا عبَادَة وزهادة واجتهاد فِي الْعلم وَشهر بذلك كرهه بعض أهل الْوَقْت وكاده إِلَى أهل سير الْقُضَاة فكرهوه وَظهر لَهُ مِنْهُم ذَلِك فلاذ بِالْملكِ الْأَشْرَف بن المظفر توقيا لشرهم فَجعله وزيرا لَهُ وَأحسن إِلَيْهِ فَلم يزل مَعَه مجللا حَتَّى توفّي آخر يَوْم من رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وسِتمِائَة
وَمِنْهُم عَليّ بن عمر بن مَسْعُود ابْن أخي القَاضِي مَسْعُود الَّذِي تقدم ذكره وَأَنه كَانَ جيدا صَالحا ولي قَضَاء صنعاء بُرْهَة من الدَّهْر وَكَانَ القَاضِي عمر بن مَسْعُود أَخَاهُ لأمه فاستعفى الْمَنْصُور وَكَانَ إِذْ ذَاك مراهقا وَسَيَأْتِي ذَلِك مَعَ ذكره إِن شَاءَ الله وَحج هَذَا عَليّ بن عمر وَعَاد إِلَى زبيد فَتوفي بهَا فِي شهر صفر سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة
وَمِنْهُم عبد الله بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل المأربي الْآتِي ذكره كَانَ فَقِيها صَالحا متعبدا ورعا زاهدا متقللا رأى لَيْلَة الْقدر مرَارًا فَقَالَ لَهُ وَلَده يَا أبي بِاللَّه إِذا رَأَيْت لَيْلَة(1/443)
الْقدر فأدع الله أَن يفتح علينا فِي الدُّنْيَا فَقَالَ لَهُ أُفٍّ لَك يَا بني رَأَيْتهَا نيفا وَعشْرين مرّة مَا سَأَلت الله شَيْئا من أُمُور الْآخِرَة فَكيف أسأله أُمُور الدُّنْيَا لقد كنت أعدك رجلا وَكَانَت وَفَاته بِذِي أشرق على الطَّرِيق المرضي وَلما دنت وَفَاة القَاضِي عبد الرَّحْمَن مقدم الذّكر أوصى أَن يدْفن إِلَى جنبه لما يَعْتَقِدهُ فِيهِ من الصّلاح
وَمِنْهُم أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان الملقب بالجنيد مُحَمَّد بن أسعد بن هَمدَان بن يعفر بن أبي النهى مولده سنة اثْنَتَيْنِ وسِتمِائَة وَذَلِكَ بقرية العدن من بلد صهْبَان وَكَانَ وَالِده فَقِيها فَاضلا تفقه بِمُحَمد بن عَليّ الْحَافِظ العرشاني وأصل بلدهم ريمة المناخي وَسكن الْقرْيَة الْمَذْكُورَة وَعنهُ أَخذ ابْنه وَتُوفِّي بِهَذِهِ الْقرْيَة سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة وَأما ابْنه هَذَا فَكَانَ سيدا نبيلا وامتحن بِقَضَاء مدينتي الْيمن عدن وزبيد ثمَّ عوفي من الْجَمِيع وَذكر بَعضهم أَنه إِنَّمَا امتحن بذلك لِأَنَّهُ عَابَ بعض حكام زَمَانه فِي شَيْء مِمَّا هُوَ بِهِ فَقيل لَهُ سنذيقك مَا ذاق فَلَمَّا امتحن بِقَضَاء عدن اسْتغْفر الله تَعَالَى وَتَابَ ثمَّ عزل نَفسه وَعَاد بَلَده فَقيل لَهُ عَاد لَك قَضَاء زبيد فامتحن بِهِ ثمَّ عزل نَفسه وَعَاد بَلَده ثمَّ انْتقل إِلَى ذِي أشرق وَكَانَ الزَّاهِد العابد مَقْصُودا للزيارة مَشْهُورا باستجابة الدعْوَة حَتَّى أَن الْفَقِيه عمر بن سعيد العقيبي الْآتِي ذكره كَانَ كثيرا مَا يزوره وَيَأْمُر أَصْحَابه بزيارته فَذكرُوا أَنه زَارَهُ مَعَ جمَاعَة من أَصْحَابه فَلَمَّا وصلوه لم يزدهم على الْقيام وَهُوَ على مُصَلَّاهُ والمصافحة لَهُم وأقعدهم وقعدوا وتحدثوا سَاعَة ثمَّ سَأَلَهُ الْفَقِيه الدُّعَاء فَمد يَده ودعا ثمَّ وادعهم وفارقوه وَكَانُوا وَقت وصلوا إِلَيْهِ مَعَهم فاقة فحين خَرجُوا قَالُوا نجد فِي نجد المحرس أَو نجد العكايف الطَّعَام يُبَاع فنشتري مِنْهُ فَلَمَّا صَارُوا إِلَى الْمَوْضِعَيْنِ لم يَجدوا بهما شَيْئا من الطَّعَام وأمضهم الْجُوع والتعب فعتب غالبهم على الْفَقِيه الْجُنَيْد كَونه لم يُطعمهُمْ حَتَّى أَرَادَ بَعضهم أَن يَقُول لَو كَانَ الْجُنَيْد يطعم الطَّعَام لَكَانَ أفضل لَهُ من الْعِبَادَة فزجره الْفَقِيه عمر عَن الْكَلَام وَقَالَ مهلا الْمَوْضُوع مَحْفُوظ ثمَّ لم يصل الْفَقِيه ذَا عقيب إِلَّا وَأَصْحَابه قد كَادُوا يهْلكُونَ جوعا فأدخلهم بَيته وأتاهم بِطَعَام فأكلوه ثمَّ بعد أَيَّام عزم على إِعَادَة الزِّيَارَة فَأمر أَصْحَابه الَّذين خَرجُوا مَعَه أَولا أَن يخرجُوا مَعَه ثَانِيًا فَأَجَابُوهُ وَسَارُوا مَعَه على كره إِذْ لَا يَسْتَطِيعُونَ خلاف الْفَقِيه بعد أَن احتملوا طَعَاما مَعَهم وَسَارُوا فَلَمَّا دنو من ذِي(1/444)
أشرق خرج الْفَقِيه فَلَقِيَهُمْ وَسلم عَلَيْهِم سَلاما مكملا بالبشر والأنس وَصَارَ كلما مر مِنْهُم ثَلَاث أَربع خطوَات أقبل عَلَيْهِم ورحب بهم وَأهل وَسَهل ثمَّ أدخلهم منزله وأتى لَهُم بِطَعَام كثير فَأَكَلُوا حَتَّى اكتفوا فَلَمَّا غسلوا أَيْديهم سَأَلُوهُ أَن يَدْعُو لَهُم فَدَعَا لَهُم ثمَّ استودعوه وَخَرجُوا عائدين فَقَالَ الْفَقِيه عمر لأَصْحَابه فِي أثْنَاء الطَّرِيق مَا بَقِي سُلَيْمَان يتْرك الْإِطْعَام أبدا وَكَانَت لَهُ كرامات يجل قدرهَا عَن الْحصْر وببركته وإشارته عمل الطواشي مُخْتَصّ المطاهير بِجَامِع ذِي أشرق وَكَانَت وَفَاته على الْحَال المرضي بالقرية الْمَذْكُورَة حَيْثُ انْتقل ظهر الْأَرْبَعَاء منتصف صفر من سنة أَربع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وقبر بالعدينة حَيْثُ قبر بَنو الإِمَام وَهِي بِفَتْح الْعين وخفض الدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَفتح النُّون وَسُكُون الْهَاء وَهِي مَقْبرَة كَبِيرَة قديمَة شَرْقي الْقرْيَة فقبر بهَا جمع من الأخيار وَخَلفه ولدان أدركتهما أَحْمد أكبرهما وَكَانَ متعبدا يحب الْعُزْلَة وَهُوَ مَوْجُود فِي سنة سِتّ وَعشْرين وَسَبْعمائة وَالْآخر اسْمه عمر تفقه بِسَعِيد العودري الْآتِي ذكره وَكَانَ هُوَ السَّبَب فِي انْتِقَاله إِلَى ذِي أشرق وَكَانَ صَالحا ذَا كرامات وَكَانَت وَفَاته ثامن الْمحرم من سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة وقبر إِلَى جنب قبر أَبِيه فِي الْمقْبرَة الْمَذْكُورَة
وَمِنْهُم أَبُو الْحسن عَليّ بن الْفَقِيه أَحْمد بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن مَنْصُور الْجُنَيْد الَّذِي ذكره ابْن سَمُرَة وَقَالَ توفّي بالسرين عَائِدًا من الْحَج كَانَ عَليّ هَذَا تقيا خيرا تفقه بِحسن بن رَاشد وبعمر بن يحيى وَالْإِمَام مقدم الذّكر وَغَيره ثمَّ امتحن بِقَضَاء ذِي أشرق وَإِلَيْهِ انْتهى تدريسها فَذكرُوا أَنه كَانَ يَوْمًا بِمَجْلِس التدريس إِذْ قَالَ لأَصْحَابه الْيَوْم نَحن فُقَهَاء وَغدا نَكُون صوفية فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّانِي قدم إِلَيْهِ رجل من أهل بعدان صوفي من أَصْحَاب الشَّيْخ عمر بن المسن يُقَال لَهُ حبريل فَقَالَ لَهُ يَا عَليّ كن مَعنا وَمد إِلَيْهِ يَده فَحكمه ثمَّ نَصبه شَيخا وَأذن لَهُ فِي التَّحْكِيم وَكَانَ الْفَقِيه أَبُو بكر التعزي إِذْ ذَاك فِي أول ظُهُوره وتعرضه للشهرة وتظاهره بِصُحْبَة الصُّوفِيَّة ومحبتهم وَهُوَ شَاب فوصل إِلَى هَذَا الْفَقِيه وتتلمذ لَهُ فِي التَّوَاضُع وَكَانَ من أظرف النَّاس فِي اجتلاب الْقُلُوب عَلَيْهِ فَأَحبهُ الْفَقِيه على أَنه صَار يتواضع لَهُ ويعظمه ثمَّ جلبه إِلَى تعز وتلطف لَهُ بتدريس الْمدرسَة الأَسدِية بمغربة تعز فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وَنزل فدرس بهَا(1/445)
مُدَّة وَعجب النَّاس من ذَلِك أَشد الْعجب إِذْ كَانُوا يرَوْنَ الْفَقِيه لَو تعرض عَلَيْهِ الْخلَافَة لأعرض عَنْهَا وَعَلمُوا أَن ذَلِك سَلامَة بَاطِن مِنْهُ واستدراج من الْفَقِيه أبي بكر وَلم يزل على تدريس الْمدرسَة الْمَذْكُورَة حَتَّى توفّي مستهل الْحجَّة من سنة ثَمَانِينَ وسِتمِائَة بعد بُلُوغ عمره أَرْبعا وَخمسين سنة
وَمِنْهُم أَبُو الْخطاب عمر بن سعيد بن مُحَمَّد بن عَليّ الربيعي الكعومي الجميلي مولده على رَأس سِتّمائَة وَكَانَ فَقِيها مُحدثا أَخذ عَن أَخِيه لأمه عَليّ بن عمر مقدم الذّكر وَعَن غَيره من الْعلمَاء الَّذين يجْتَمع مَعَهم بِصَنْعَاء وَغَيرهَا من بِلَاد الْيمن عرضت ولَايَته لقَضَاء صنعاء حِين عزل أَخُوهُ نَفسه وَاعْتذر وَكَانَ من أفْصح النَّاس الْخطْبَة وَأَحْسَنهمْ رِوَايَة للْحَدِيث وَالتَّفْسِير وَمَتى حضر مَجْلِسا لم يبْق لأحد فِيهِ قدر يتَكَلَّم بِشَيْء دونه وَكَانَ حَافِظًا للفقه وَالتَّفْسِير لَدَيْهِ معرفَة بالفقه لائقة وَكتب إِلَى المستعصم آخر خَليفَة بِبَغْدَاد يسْأَله أَن يَأْذَن لَهُ فِي الحكم بِصَنْعَاء ونواحيها فوصله خطه بذلك فَكَانَ القَاضِي الْبَهَاء لَا حكم لَهُ فِي شَيْء من تِلْكَ النواحي من رَأس نقِيل صيد حَتَّى تجَاوز عمل السُّلْطَان المظفر إِلَى خلف صنعاء فَكَانَت بَينهمَا بذلك مكارهة وَكَانَ يهم بحرقه وَكسر حرمته فَلم يسْتَطع ذَلِك وَكَانَ هَذَا القَاضِي مَعَ اشْتِغَاله بِالْقضَاءِ راتبه كل يَوْم ثلث الْقُرْآن وَكَانَ رزقه على الْقَضَاء ورزق حكام الْجِهَة من الْجِزْيَة وَلم يزل على ذَلِك إِلَى أَن توفّي فَلذَلِك صَار مُنْذُ توفّي آمُر الْجِزْيَة يسْتَند عَلَيْهِ الْقُضَاة الأكابر كقضاء الْقُضَاة والوزراء إِلَى عصرنا وَكَانَ حسن السياسة أَحْكَامه كَمَا شَرط لينًا من غير ضعف قَوِيا من غير عنف مَعَ كَثْرَة صِيَام وَقيام وَكَانَ متعصبا للسّنة مجانبا لأهل الْبِدْعَة وَكَانَ المظفر يعظمه ويجله وَبِذَلِك عجز القَاضِي الْبَهَاء عَن إِسْقَاطه وَلم تزل جِزْيَة الْيَهُود وجامكية من جَاءَ مَعَه إِلَى أَن هلك فَأخذ بَنو عمرَان الْجِزْيَة إِلَيْهِم وَجعلُوا لحَاكم كل بلد جامكية من الْوَقْف وَرُبمَا جَعَلُوهُ من مَال الدِّيوَان واستمروا على ذَلِك هم وكل وَزِير جَاءَ بعدهمْ فَصَارَ الْحُكَّام هُنَالك يَأْخُذُونَ مَا لَا يحل لَهُم وَيمْنَعُونَ مَا هُوَ لَهُم حَلَال فَهَذِهِ سنة رتبها بَنو عمرَان غَالِبا واحترزت(1/446)
بالغالب عَن الْبِلَاد اليمنية كإب وجبلة والجند وتعز وَنَحْوهَا فَإِن تَغْيِير ذَلِك كَانَ من المظفر كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه مَعَ القَاضِي عَبَّاس بِذِي جبلة وَكَانَ هَذَا القَاضِي لَهُ جاه جيد عِنْد مُلُوك بني رَسُول وأمرائهم وَكَانُوا محسنين إِلَيْهِ وَكَانَ ذَا دنيا متسعة اتساعا كليا اشْترى أَرضًا كَثِيرَة فِي السحول والشوافي وَغَيرهمَا وَكَانَ كثيرا مَا ينزل وَيقف عِنْدهَا ويستوطن أشهرا بِمَدِينَة إب وَغَيرهَا من الْيمن الْأَوْسَط وَمن عَجِيب مَا جرى لَهُ أَنه كَانَ قَاعِدا مَعَ الْأَمِير الشّعبِيّ فِي دَار السُّلْطَان بِصَنْعَاء إِذْ خرب عَلَيْهِم الدَّار وَمَعَهُمْ جمَاعَة مِنْهُم مُحَمَّد بن حَاتِم وَأَخُوهُ وَمُحَمّد بن بدر صهر الشّعبِيّ فَمَاتَ الْجَمِيع لم يخرج مِنْهُم أحد من تَحت الْهدم وَهلك الْبَاقُونَ غير هَذَا القَاضِي وَمُحَمّد بن حَاتِم الْهَمدَانِي فَكَانَ القَاضِي يَقُول لما تهور الدَّار رَأَيْت رجلا كَبِير السن قد التقى عني خَشَبَة وَسُحْقًا سقفهما عَليّ فَلم يصلني الْهدم فَقلت لَهُ من أَنْت الَّذِي من الله عَليّ بك فِي هَذَا الْوَقْت فَقَالَ إِبْرَاهِيم الْخَلِيل وَكَانَت وَفَاته تَقْرِيبًا على الْقَضَاء بِمَدِينَة صنعاء سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة تَقْرِيبًا وَقد أَخذ عَنهُ جمَاعَة من أهل صنعاء وَغَيرهم وَله ذُرِّيَّة كَثِيرَة لم يقم أحد مِنْهُم مقَامه وَهُوَ أَكثر الْقُضَاة ذُرِّيَّة وَأَكْثَرهم رواجا فِي صنعاء وإب وَغَيرهمَا
وَمِنْهُم عمر بن مُحَمَّد بن عَليّ الجرهمي من قوم بالقرية يُقَال لَهَا الجراهمة تفقه بِعَبْد الله بن الإِمَام مقدم الذّكر وبعلي الْجُنَيْد ولي قَضَاء ذِي أشرق وَكَانَ فرضيا عَارِفًا بِعلم الْمَوَارِيث وَتُوفِّي بهَا سنة خمس وسِتمِائَة
وَمِنْهُم سعيد بن عمرَان بن سُلَيْمَان العودري تفقه بشيخي أبي الْحسن الأصبحي الْآتِي ذكره وَكَانَ قد انْتقل من الذنبتين ودرس بمدرسة الْحرَّة حلل الَّتِي تقدم ذكرهَا مَعَ ذكر عَليّ بن يحيى الْأَمِير وَكنت لَهُ الْوَاسِطَة بذلك مَعَ القَاضِي عبد الله بن أسعد بمكاتبة شَيْخي لَهُ فَلبث بهَا سِنِين قَلَائِل وَنقل الْفَقِيه عمر بن الْفَقِيه سُلَيْمَان الْجُنَيْد الْمُقدم ذكره إِلَى ذِي أشرق لِأَنَّهُ كَانَ رَاغِبًا فِي قِرَاءَة الْعلم عَلَيْهِ إِذْ قَامَ مُدَّة يخْتَلف إِلَيْهِ من ذِي أشرق إِلَى الْمدرسَة ثمَّ صَعب ذَلِك على الْفَقِيه عمر فَجعل لَهُ سَببا من وقف مَعَهم بِذِي أشرق نظرهم عَلَيْهِ وَهُوَ من وقف الطواشي مُخْتَصّ فانتقل الْفَقِيه إِلَى ذِي أشرق وزهد بِالْمَدْرَسَةِ وَلم يزل سَاكِنا بِذِي أشرق حَتَّى توفّي عقيب موت شَيْخه أبي الْحسن بأيام وَذَلِكَ سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة فِي الْمحرم وقبره بالمقبرة الْمَذْكُورَة مَعَ(1/447)
الْفُقَهَاء وأصل بَلَده جبل يُقَال لَهُ الْعود بِعَين مُهْملَة مَفْتُوحَة بعد ألف وَلَام وَسُكُون الْوَاو ثمَّ دَال مُهْملَة وَكَانَ أَحْمد بن عبد الله اليحيوي بهَا ودرس وَكَانَ ذَاكِرًا للفقه فَاضلا توفّي لنيف وَسَبْعمائة ثمَّ درس بهَا يحيى بن مُحَمَّد بن أبي الرجا ثمَّ آخر من تحققته الْفَقِيه حسن بن مُحَمَّد العماكري انْتفع بِهِ جمَاعَة من أهل الْقرْيَة وَتُوفِّي على ذَلِك بقريته على مَا سَيَأْتِي تَارِيخه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَذكر ابْن سَمُرَة جمَاعَة فِي الطّلبَة أَيْضا مِنْهُم أَحْمد بن مقبل ذكره مَعَ ذكر ابْن أبي الْيَقظَان الْمَذْكُور فِي أهل السفال وَعبد الله بن زيد العريقي
فَأَما أَحْمد فَهُوَ ابْن الْفَقِيه مقبل الدثيني مقدم الذّكر مولده سنة سِتّ وَخمسين وَخَمْسمِائة بِذِي أشرق سكنها مُدَّة ثمَّ انْتقل إِلَى مَوضِع يُسمى عرج وزن فعل بِفَتْح الْعين اشْتَرَاهُ وَهُوَ أول من أسس قريته وتفقه بِالْإِمَامِ سيف السّنة وَيزِيد بن عبد الله الزبراني وَغَيرهمَا وَكَانَ فَقِيها حَافِظًا محققا مدققا وتصنيفه لكتاب الْجَامِع يدل على ذَلِك وَبِه تفقه جمَاعَة مِنْهُم عمر بن الْحداد والشكيل وابناه مُحَمَّد وَأَبُو بكر وَكتابه الَّذِي صنفه مَوْجُود مَعَ ذُريَّته بالموضع الْمَذْكُور وَله فِي أصُول الْفِقْه كتاب سَمَّاهُ الْإِيضَاح وَله شرح الْمُشكل من كتاب اللمع وَكتابه الْجَامِع فِي أَرْبَعَة مجلدات كبار يزِيد حجمه على الْمُهَذّب وَهُوَ أحد الْفُقَهَاء الَّذين ذكرت ذَرَارِيهمْ بِحَيْثُ أَن ذُريَّته الْآن تزيد على الْأَرْبَعين رجلا سوى النِّسَاء وهم مجتمعون بالموضع فيهم خير يقومُونَ بالوارد إِلَيْهِم لَكِن شغلوا بالأزدراع وَغَيره من أُمُور الدُّنْيَا وامتحن هَذَا أَحْمد بِقَضَاء عدن وَعَاد بَلَده فَتوفي بهَا سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَخَلفه ابْنه مُحَمَّد مولده سنة سِتّ وَسبعين وَخَمْسمِائة تفقه بِأَبِيهِ كَمَا قدمنَا وَهُوَ أحد مدرسي الْمدرسَة المنصورية بالجند وتفقه بِهِ جمَاعَة من أَهلهَا وَعَاد بَلَده فَتوفي بهَا سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة فقبر إِلَى جنب قبر أَبِيه وَله أَخ اسْمه أَبُو بكر مولده سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة وَكَانَ فَقِيها فَاضلا وخطيبا كَامِلا ولي خطابة زبيد سِنِين ثمَّ توفّي بهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة ثمَّ خَلفه بقريتهم ابْن لَهُ اسْمه عبد الله بن أبي بكر مولده سنة ثَمَان وسِتمِائَة وتفقه بجده أَحْمد وزميله فِي الدَّرْس عمر بن الْحداد الْآتِي ذكره وَعرض عَلَيْهِ بَنو عمرَان أَن يتَوَلَّى قَضَاء عدن حَيْثُ كَانَ جده فكره وَامْتنع وَكَانَت وَفَاته بقريته الْمَذْكُورَة فِي رَمَضَان سنة إِحْدَى(1/448)
وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَخَلفه ابْن لَهُ اسْمه مُحَمَّد هُوَ عين أَهله دينا وعقلا ورياسة فَقدمت بلدهم سنة سبع عشرَة وَسَبْعمائة فَوجدت لَهُ مَكَارِم أَخْلَاق وَلَيْسَ فيهم أحد يشْتَغل بالفقه فأذكره لَكِن مُحَمَّدًا هَذَا من أَعْيَان النَّاس وعقلائهم وَأهل بَلَده ونواحيها يرجعُونَ إِلَى قَوْله وَهُوَ الَّذِي أخرج لنا شَيْئا من كتب أَهله تتبعت مِنْهُ التَّارِيخ وَأما عبد الله بن زيد فَهُوَ عبد الله بن زيد بن مهْدي العريقي من أعروق أَيَّامه بِرَفْع الْهمزَة وَفتح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ ألف ثمَّ فتح الْمِيم ثمَّ هَاء سَاكِنة وَهِي قَرْيَة على قرب من حصن الشذف بهَا قوم هَذَا الْفَقِيه وَفِي الْقرْيَة سد متغير كلما أصلح تغير ينْقل قدماؤهم أَن سَبَب ذَلِك أَنه امْتَلَأَ مَاء فِي أول مرّة فَأَتَاهُ جمَاعَة من صبيان الْحَيّ وَفِيهِمْ ولد للفقيه فَسقط إِلَيْهِ وَمَات فِيهِ فَقيل للفقيه ذَلِك فَقَالَ لَا بَارك الله بِهِ من سد فانشق وَهُوَ كلما أصلح من جِهَة فسد من أُخْرَى وَكَانَ تفقه هَذَا عبد الله بِابْن أبي الْيَقظَان كَمَا ذكر ابْن سَمُرَة وَقد ثَبت أَنه أَخذ وتفقه على الإِمَام سيف السّنة وَأخذ رِوَايَته للْحَدِيث وَالْفِقْه عَنهُ وَكَانَ دَقِيق النّظر ثاقب الفطنة اتَّضَح لَهُ فِي مسَائِل الْخلاف مَا لم يَتَّضِح لفقهاء الْوَقْت إِذْ غلب عَلَيْهِم تَقْلِيد مَذْهَب الشَّافِعِي فَذهب فِي الْمسَائِل الَّتِي خَالف بهَا إِلَى أَقْوَال أَئِمَّة معتقدين ظهر لَهُم قُوَّة الْأَدِلَّة فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ وَذَلِكَ بِخِلَاف مَذْهَب أَحْمد بن حَنْبَل وَدَاوُد ونظرائهم فأنكروا عَلَيْهِ بِغَيْر إنصاف إِذْ لم يطيقوا الْإِنْكَار على غَيره مِمَّن قَالَ بقوله إِذْ أَكثر مَا فعلوا بالإنكار عدم قبُول قَوْله وعندما يوردون مَسْأَلَة فِيهَا خلاف أوردوا خِلَافه وَلم يتَعَرَّضُوا لَهُ بِسَبَب بل يعظمونه ويثنون عَلَيْهِ بِمَا يَنْبَغِي الثَّنَاء بِهِ على أهل الْعلم فالعجب للمتأخرين كَيفَ لَا يقتدون بالمتقدمين فِي ذَلِك
وَهَذَا الْفَقِيه كَانَ مَشْهُورا بِالْعلمِ وَالصَّلَاح وَإِذا نظر النَّاظر فِي مصنفاته علم غزارة علمه وجودة فَضله وَله عدَّة مصنفات فِي الْفِقْه وَالْأُصُول وَكَانَ نظيف الْفِقْه توفّي تَقْرِيبًا فِي عشر الْأَرْبَعين وسِتمِائَة فِي جَامع الصردف معتكفا إِذْ كَانَ كثير الِاعْتِكَاف وقبره بحياطة شَرْقي الْمَسْجِد زرته فِي آخر الْمحرم سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة ثمَّ زرته بعد ذَلِك مرَارًا فِي أَوْقَات مُتَفَرِّقَة وَلم يكن اعْتِكَافه إِلَّا بعد خلو الصردف عَن السكان
وَمِمَّنْ عده ابْن سَمُرَة أَيْضا فِي الطّلبَة مُحَمَّد بن أبي بكر بن مفلت وَقد تفقه بِمُحَمد بن مُوسَى يَعْنِي الْمَذْكُور أول ذكر أَصْحَاب صَاحب الْبَيَان فَلَمَّا اجْتمعت بِبَعْض ذُريَّته وَكَانَ مِنْهُم جمَاعَة يسكنون الْجند مِنْهُم شخص توفّي سنة خمس(1/449)
وَعشْرين وَسَبْعمائة سَأَلته عَن نسب هَذَا الْفَقِيه فَقَالَ هُوَ أَبُو بكر بن مفلت بِضَم الْمِيم وَفتح الْفَاء وَاللَّام وتشديدها وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق بن عَليّ بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن سعيد بن قيس الْهَمدَانِي نسبا والجحافي بَلَدا نسبه إِلَى جبل هُوَ من أكبر جبال الْيمن وأكثرها عربا يُقَال لَهُ جحاف بِضَم الْجِيم وَفتح الْحَاء ثمَّ ألف ثمَّ فَاء والسعيدي نِسْبَة إِلَى جدهم سعيد الْمَذْكُور وَهُوَ أحد أَصْحَاب عَليّ كرم الله وَجهه قدم مُحَمَّد بن أبي بكر إِلَى سير فتفقه بهَا على مُحَمَّد بن مُوسَى ثمَّ سكن قَرْيَة أنامر بِضَم الْهمزَة وَفتح النُّون ثمَّ ألف ثمَّ مِيم مُخَفّفَة ثمَّ رَاء سَاكِنة وَهِي إِحْدَى قرى العوادر الْقَدِيمَة الْمُعْتَمدَة وَله بهَا ذُرِّيَّة إِلَى الْآن مِنْهُم حكام الْقرْيَة الْمَعْرُوفَة بالأنصال
قَالَ ابْن سَمُرَة وَكَانَت وَفَاته سنة سبع وَسبعين أَو ثَمَان وَخَمْسمِائة ثمَّ لما توفّي خَلفه ابْن لَهُ اسْمه عَليّ كَانَ فَقِيها صَالحا كثير الْحَج يُقَال إِنَّه حج نَحوا من أَرْبَعِينَ حجَّة وَكَانَ مَشْهُورا بالصلاح وَالْعِبَادَة واستجابة الدُّعَاء وَلما توفّي خلف جمَاعَة من أَوْلَاده مِنْهُم ابْنه عِيسَى تفقه بالمصنعة وولاه القَاضِي أَحْمد بن أبي بكر قَضَاء الْجند فَلبث قَاضِيا بهَا خمْسا وَأَرْبَعين سنة لم يذكر عَنهُ مَا يذكر عَن غَيره من الْحُكَّام بل يذكر بالورع وَالدّين والعفاف والكفاف وَكَانَ يحب الْعلم وَأَهله وَكَانَ حَافِظًا لكتاب الله تَعَالَى وحافظا لكتاب الْمُهَذّب عَارِفًا بِهِ وَهُوَ أحد من يعده الْفُقَهَاء من حفظَة الْمُهَذّب وَكَانَ إِذا دخل الْجند طَالب علم أحبه وَأَهله واجتهد مَعَه بِحُصُول سَبَب يقوم بِحَالهِ وَكَانَ مَتى حضر مَجْلِسا لم يكن لأحد مَعَه قدر يتَكَلَّم وَلم تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم يَقُول الْحق وَلَو على نَفسه وَلما أَرَادَ المظفر أَن يتَزَوَّج بابنة الشَّيْخ الْعَفِيف استدعى بِهَذَا القَاضِي فَلم يعْقد لَهُ حَتَّى استكملت شَرَائِط العقد وَلم يتساهل من ذَلِك بِشَيْء فأعجب المظفر بذلك وَقَالَ لَو كَانَ متساهلا بِشَيْء فِي حكمه لتساهل مَعنا فِي مرادنا وَكَانَ عِنْده مُعظما وَذكر عِنْده الْقُضَاة والمنكحون فَقَالَ كل نِكَاح لَا يكون بِحَضْرَة القَاضِي عِيسَى حَاكم الْجند لَا يكَاد يوثق بِصِحَّتِهِ أَو كَمَا قَالَ وَكَانَت جامكيته من جِزْيَة الْيَهُود(1/450)
فِي الْجند وَهِي خَمْسَة عشر دِينَارا وَله أَرض على قرب مَدِينَة الْجند وَأَرْض بِبَلَدِهِ يَأْتِيهِ مِنْهَا مَا يقوم بِحَالهِ وَكَانَ غَالِبا على حَاله المسكنة وَكَثِيرًا مَا يدان وَقل أَن يدان من أهل الْجند تورعا لَيْسَ كَمَا نرى من حكام الْوَقْت يدْخل الْحَاكِم فَقِيرا فَيصير غَنِيا فِي أقرب مُدَّة وَهَذَا جلس خمْسا وَأَرْبَعين سنة وَمَات مديونا عَلَيْهِ نَحْو من سِتّمائَة دِينَار وَعمر فَوق مئة سنة لم يتَغَيَّر لَهُ عقل وَلَا اخْتَلَّ لَهُ فهم يحضر الْمجَالِس الْفِقْهِيَّة والمواكب الملكية يستضاء بِرَأْيهِ وَينْتَفع بِعِلْمِهِ وَكَانَت وَفَاته على الْقَضَاء المرضي بالجند لَيْلَة الْأَرْبَعَاء حادي عشر جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة وقبر تَحت جبل صرب زرت قَبره مرَارًا لما ذكر لي من خَبره وَإِلَّا فغالب الْحُكَّام تنفر النَّفس مِنْهُم أَحيَاء فَكيف أَمْوَاتًا وَذَلِكَ وَالْقَضَاء بيد مُحَمَّد بن أسعد الملقب بالبهاء الْمُقدم الذّكر فَلم يستنب بِالْقضَاءِ أحدا غير أَخ لَهُ اسْمه حسان وَهُوَ أَصْغَرهم وَقد تقدم ذكره مَعَ أَهله فاستولوا على الْقَضَاء والخطابة واستنابوا على وقف الْمَسْجِد والمدارس من شَاءُوا وَلم يزل حسان على الْقَضَاء حَتَّى توفّي القَاضِي مُحَمَّد بن عَليّ الْآتِي ذكره صَاحب تعز فَنقل القَاضِي الْبَهَاء أَخَاهُ حسان عَن الْجند إِلَى تعز وتركا الْجند لعبد الله خطابة وَحكما واستنابة وَلم يزل على ذَلِك حَتَّى نزع الْقَضَاء مِنْهُم على الصّفة الْمُتَقَدّمَة وَخلف القَاضِي عِيسَى وَلدين هما إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد فإبراهيم تفقه بِأَبِيهِ ثمَّ بفقهاء المصنعة ثمَّ بعمر بن مَسْعُود الأبيني بِذِي هزيم ثمَّ بِإِحْدَى الوزيرتين وَرُبمَا كَانَ بهما وَيَأْتِي ذكر الْجَمِيع إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَكَانَ فَقِيها كَبِيرا وَهُوَ آخر من يعد فَقِيها من بني مفلت على مَا بَلغنِي وَكَانَت الْجند موردا للْعُلَمَاء ومقاما للملوك فَكَانَ يَأْخُذ عَن كل من وردهَا من الْعلمَاء واكتسب علوما جمة مِنْهَا الْفِقْه والأصولان وَكَانَ مُعظما عِنْد أهل الدولة والبلد وَكَرِهَهُ بَنو عمرَان لِأَنَّهُ كَانَ لَا يتخضع لَهُم وَلَا يلْتَفت عَلَيْهِم وَلَا إِلَيْهِم وَكَانَ فِي أَيَّام أَبِيه يدرس بِالْمَدْرَسَةِ الشقيرية فأخرجوه عَنهُ ووقف بالجند متقطعا عَن الْأَسْبَاب وَكَانَ بِيَدِهِ أَرض بَاعهَا على شخص فَأمروا عَلَيْهِ وأكرهوه فِي دفع الثّمن ورغبوه فِي الأفساخ ففاسخه ثمَّ كَانُوا يذكرُونَ للسُّلْطَان عَنهُ أمورا قبيحة هُوَ منزه عَنْهَا لَا غَرَض لَهُم بذلك غير إِسْقَاطه عَن عين السُّلْطَان فَحصل بذلك بعض صُورَة عِنْده وَكَانَ قد استفاض بَين(1/451)
النَّاس علمه وصلاحيته فَذكرُوا أَن المظفر قعد يَوْمًا فِي مجْلِس حافل بقصر الْجند مَعَ جمَاعَة من أَعْيَان دولته الحرفا لم يكن الْوَزير فيهم فَذكرُوا الْجند وَمن بهَا من الْفُقَهَاء فَذكرُوا هَذَا إِبْرَاهِيم فَقَالَ السُّلْطَان يَا نَاس إِنَّه يذكر عَنهُ أُمُور لَا تلِيق وَكَانَ ابْن الْجُنَيْد من الْحَاضِرين فَقَالَ يَا مَوْلَانَا أَنا أخبر بِهَذَا الرجل وَأَنه فَقِيه الشَّافِعِيَّة لَكِن صَار لَهُ أَعدَاء يحسدونه ويكذبون عَلَيْهِ ويتركون من يكذب عَلَيْهِ كَرَاهَة لَهُ فَوَقع ذَلِك فِي قلب السُّلْطَان وَغلب عَلَيْهِ ثمَّ أَمر وَلَده الْأَشْرَف أَن يستدعيه إِلَيْهِ وَيقْرَأ عَلَيْهِ فَفعل ذَلِك وَلما حضر وجده فَقِيها كَامِلا ورجلا فَاضلا فلازمه على أَن يكون لَهُ وزيرا فَلم يقبل فَجعل لَهُ افتقادا جيدا فِي كل سنة وَكَانَ يغلب عَلَيْهِ مَا قَالَ صللم تمعددوا وَاخْشَوْشنُوا وَكَانَ لبسه الْقطن وتفقه عَلَيْهِ جمَاعَة من أهل الْجند مِنْهُم أَبُو بكر بن فليح وَابْن المغربي أَبُو بكر ووالدي وَأخذ عَنهُ شَيْخي أَبُو الْحسن الأصبحي وَجمع كَبِير وَكَانَت وَفَاته بالجند أَيْضا مستهل ربيع الأول من سنة تسعين وسِتمِائَة وَكَانَ وَالِدي إِذْ ذَاك فِي الْجند حَاضرا قد طلعها من زبيد لاستعادة مدرسة ابْن عَبَّاس فَلَمَّا نزل زبيد لاطلاع أَوْلَاده تقدم إِلَى الإِمَام ابْن عجيل وَأخْبر بِمَوْتِهِ فَقَالَ الْفَقِيه قد بَلغنِي ذَلِك وَصليت عَلَيْهِ فِي جمَاعَة وقبر إِلَى جنب قبر أَبِيه وَأما أَخُوهُ مُحَمَّد فَكَانَ حَافِظًا لكتاب الله تَعَالَى من أحسن النَّاس لهجة بِهِ
من سَمعه يقرأه استعذب ذَلِك وطرب لَهُ رتبه بَنو عمرَان إِمَامًا بالجامع بعد أَبِيه وَكَانَ يتخضع لَهُم ويتودد إِلَيْهِم وَلم يكن لَدَيْهِ فقه شاف فَكَانَ بَنو عمرَان يركنون إِلَيْهِ لذَلِك وَيَقُولُونَ هُوَ لَا يروم مَا يروم أَخُوهُ فَلبث إِمَامًا بالجامع حَتَّى انفصلوا عَن الْقَضَاء ولبث بعدهمْ إِمَامًا نَحْو سنة ثمَّ فَصله بَنو مُحَمَّد بن عمر فَلبث مُنْفَصِلا مُدَّة سِنِين ثمَّ توفّي بالجند لتسْع وَسَبْعمائة تَقْرِيبًا وَخلف ابْنا اسْمه عِيسَى كَانَت أمه من بني الأمجد الْكتاب فغلب عَلَيْهِ اللَّبن فطلع كَاتبا من كتاب الْحساب وَهُوَ الَّذِي ذكر أَولا أَنِّي أَدْرَكته وَبقيت لِابْنِ مفلت ذُرِّيَّة بِبَلَد العوادر مِنْهُم بَقِيَّة بقريتهم أنامر الْمُتَقَدّم ذكرهَا وَلما خربَتْ الْقرْيَة انتقلوا إِلَى جبل سورق وَمِنْهُم فُقَهَاء الأنصال وحكامها وَالْغَالِب عَلَيْهِم أَن لَيْسُوا فُقَهَاء بل يسمون بالفقهاء استصحابا للاسم كَمَا يُسمى الْيَتِيم بعد بُلُوغه
انْقَضى ذكر من حَقَّقَهُ ابْن سَمُرَة فِي جَزِيرَة الْيمن من الْفُقَهَاء وَمن كَانَ بعصره طَالبا ثمَّ لم يبْق غير يسير إِمَّا لسهو أَو ليجعلهم مَعَ من تَأَخّر من ناحيتهم بمَكَان وَاحِد وهم جمَاعَة أفردهم بِالْفَصْلِ الَّذِي ختم بِهِ كِتَابه وَجعله مُخْتَصًّا بذكرالقضاة وَقد أَدخل(1/452)
جمَاعَة غَيرهم فِيهِ لَيْسُوا بقضاة وَأَنا أنبه على ذَلِك إِن شَاءَ الله
فَمن أهل الْجبَال جمَاعَة مِنْهُم أهل الصّفة فِي الْفضل مِنْهُم عَليّ بن يحي العريقي وَأحمد بن مُوسَى العريقي وَعلي بن حسن الْجَعْدِي وَمن دمت الْفَقِيه عَليّ بن جسمر وَأَخُوهُ أَبُو السُّعُود بن عَليّ وَمُحَمّد بن حُسَيْن وَأَخُوهُ أَبُو بكر وَعبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّزَّاق وَولده عبد الرَّزَّاق وَمُحَمّد بن أَحْمد بن أبي عُثْمَان بن أسعد بن سَالم بن دُحَيْم وَابْنه عبد الله من أَصْحَاب مُحَمَّد بن مُوسَى العمراني
وَمن بِنَا بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَالنُّون ثمَّ ألف بِجِهَة مشرق الْيمن جمَاعَة مِنْهُم عمر بن مُحَمَّد الْحَضْرَمِيّ ثمَّ أسعد بن مَسْرُوق بن فتح بن مِفْتَاح الصليحي بِالْوَلَاءِ وَهُوَ ابْن أخي سُلَيْمَان الْفَقِيه سُلَيْمَان بن فتح مقدم الذّكر قَالَ ابْن سَمُرَة سمع يَعْنِي هَذَا أسعد بقرآتي التِّرْمِذِيّ على شَيْخي أبي بكر بن سَالم الإِمَام بِذِي أشرق وَذَلِكَ سنة سبعين وَخَمْسمِائة وَمن أحاظة الْبَلَد الَّذِي كَانَ بهَا الفائشي كَانَ بهَا جمَاعَة من الْفُقَهَاء غير من تقدم مِنْهُم وَمِنْهُم مُحَمَّد بن الْفَقِيه عَليّ بن الإِمَام زيد بن الْحسن الفائشي وَابْن عَمه الْحسن بن الْفَقِيه قَاسم فمحمد ذُريَّته قُضَاة حرض فِي عصرنا وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عمر الزوقري وَعبد الله بن مُسلم الكشيش وأسعد بن مَرْزُوق بن أسعد مَسْكَنه الصَّوْم وَأحمد بن أبي الْقَاسِم فَقِيه شَاعِر
انْقَضى ذكر من ذكره ابْن سَمُرَة فِي أهل الْجبَال ونواحيها مَا خلا عدن ونواحيها ثمَّ حضر موت ونواحيها ومرباط وَهِي مَدِينَة قديمَة كَانَت على السَّاحِل قبل ظفار وموضعها من ظفار على مَسَافَة مرحلة أَو مرحلَتَيْنِ وضبطها بخفض الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ ألف ثمَّ طاء مُهْملَة سميت بذلك لِكَثْرَة مَا كَانَ يرْبط بهَا من الْخَيل ثمَّ لما سكنها قوم من الصيادين يعْرفُونَ بالمرابطة طاوها وطاء والمخرب لَهَا أَحْمد بن مُحَمَّد الحبوضي بعد قتال المنجوي وَهُوَ الَّذِي بنى ظفار فِي سَاحل اسْمه جردفون بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَضم الْفَاء ثمَّ وَاو وَنون
فأبدأ حِينَئِذٍ بِذكر من عَمت بركته وانتفع النَّاس بتصانيفه وَهُوَ أَبُو عبد الله(1/453)
مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحسن بن عَليّ بن أبي عَليّ القلعي قيل بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون اللَّام نِسْبَة إِلَى قلعة حلب الْمَدِينَة الْمَعْرُوفَة بِالشَّام وَقيل بفتحهما نِسْبَة إِلَى قلعة بَلْدَة بالمغرب وَقيل غير ذَلِك كَانَ فَقِيها كَبِيرا لم يبْدَأ ابْن سَمُرَة فِي الْفَصْل الْأَخير بعده إِلَّا بِهِ أثنى عَلَيْهِ وَله مصنفات عدَّة انْتفع النَّاس بهَا مِنْهَا قَوَاعِد الْمُهَذّب وَمِنْهَا مستعرب أَلْفَاظه وَمِنْهَا إِيضَاح الغوامض من علم الْفَرَائِض مجلدان جيدان جمع بِهِ بَين مَذْهَب الشَّافِعِي وَغَيره وَأورد فِيهِ طرفا من الْجَبْر والمقابلة والوصايا وَله احْتِرَاز الْمُهَذّب الَّذِي شهد لَهُ أَعْيَان الْفُقَهَاء أَنه لم يصنف فِي اعتزاز لَهُ نَظِير أَوله لطائف الْأَنْوَار فِي فصل الصَّحَابَة الأخيار وَله كنز الْحفاظ فِي غَرِيب الْأَلْفَاظ أَعنِي أَلْفَاظ الْمُهَذّب وَله تَهْذِيب الرياسة فِي تَرْتِيب السياسة وَله كتاب أَحْكَام الْقُضَاة مُخْتَصر وَيُقَال إِن مصنفاته أَكثر مِمَّا ذكرت وَهِي تُوجد بظفار وَحضر موت ونواحيهما وَعنهُ انْتَشَر الْفِقْه بِتِلْكَ الْجِهَة وَأَخْبرنِي شيخ قديم من أهل تِلْكَ النَّاحِيَة وَأهل الْفِقْه بهَا قَالَ سَمِعت قدماء بِلَادنَا يذكرُونَ أَن هَذَا الْفَقِيه قدم عَلَيْهِم من الْحَج إِلَى مرباط فِي مركب فأرسوا وَجعلُوا الأبحر فِي البندر ودخلوا البندر ليشتروا ويبيعوا ثمَّ يترددوا وَكَانَ فِي الْبَلَد قَاض ذُو دين وَفقه قَلِيل والوارد إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَة من الْفُقَهَاء قَلِيل وَكَانَ الْفِقْه بهَا قَلِيلا فَبلغ القَاضِي أَنه وصل فِي الْمركب رجل من أكَابِر الْعلمَاء فبحث عَن ذَلِك وتحققه فحين ثَبت عِنْده خرج بِجَمَاعَة من الْبَلَد وتجارها وَكَانَ قد ضرب للقلعي خيمة خَارج الْبَحْر نزل ليستريح بهَا من ضنك الْمركب فقصده القَاضِي وَمَعَهُ التُّجَّار وَاسْتَأْذَنُوا حِين صَارُوا ببابها فأدخلوا عَلَيْهِ فَرَحَّبَ بهم وآنسهم فَسَأَلَهُ القَاضِي عَن عدَّة مسَائِل فَأَجَابَهُ عَنْهَا بأبين جَوَاب وَأقرب صَوَاب بعبارات مرضية فأعجب القَاضِي وَمن مَعَه بِعِلْمِهِ وَحسن خلقه وَسَأَلَهُ أَن يقف مَعَهم بِشَرْط أَلا يَتْرُكُوهُ يحْتَاج إِلَى شَيْء فَقَالَ أُرِيد أَن أصل بلدي فَلم أخرج مِنْهَا على هَذَا الْعَزْم وَظن أَن ذَلِك مِنْهُم على سَبِيل(1/454)
التجمل فَلم يجزموا على كَثْرَة ملازمته وعادوا الْبَلَد وسلطانها يَوْمئِذٍ الْمَعْرُوف بالأكحل فوصل القَاضِي إِلَيْهِ وأعيان من خرج مَعَه وَأَخْبرُوهُ بقدوم الْفَقِيه وَأَنه عَالم كَبِير وَأَنَّهُمْ مضطرون إِلَى مثله ينْتَفع النَّاس بِهِ ويتفقهون عَلَيْهِ قَالَ وَمَا الْغَرَض قَالُوا تخرج إِلَيْهِ بِنَفْسِك وتلازمه بِالْوُقُوفِ فَلَعَلَّهُ يقبل مِنْك فأجابهم إِلَى ذَلِك وَخرج بموكبه حَتَّى أَتَى خيمة الْفَقِيه وَسلم عَلَيْهِ وَالْتَزَمَهُ فِي الْوُقُوف مَعَه وَشرط لَهُ على ذَلِك أَن يفعل لَهُ مَا أحب فاستحى الْفَقِيه وَأجَاب إِلَى ذَلِك فَحمل قماش الْفَقِيه من الْفَوْر من الْمركب إِلَى الْبَلَد وَأنزل فِي دَار لَائِق بِهِ ثمَّ أقبل على التدريس وَنشر الْعلم فتسامع النَّاس بِهِ إِلَى حضر موت ونواحيها فقصدوه وَأخذُوا عَنهُ الْفِقْه وَغَيره بِحَيْثُ لم ينتشر الْعلم عَن أحد بِتِلْكَ النَّاحِيَة كَمَا انْتَشَر عَنهُ وأعيان فقهائها أَصْحَابه وَأَصْحَاب أَصْحَابه فَمِمَّنْ تفقه بِهِ أَحْمد بن مُحَمَّد بن صمع الْآتِي ذكره ثمَّ أَبُو مَرْوَان وَحج من مرباط فَأخذ عَنهُ بِمَكَّة وزبيد وَغَيرهمَا من الْبِلَاد الَّتِي مر بهَا وَلما أحدث بهَا حمد بن مُحَمَّد الحبوضي ظفار بعد وَفَاة السُّلْطَان الْمَذْكُور على حَيَاة هَذَا الْفَقِيه وَأمر أهل مرباط بالانتقال إِلَيْهَا وَذَلِكَ سنة عشْرين وسِتمِائَة تَقْرِيبًا فابتنى الْفَقِيه بَيْتا بظفار وَكَانَ يتَرَدَّد بَينهَا وَبَين مرباط لِئَلَّا ينْسب إِلَى مُخَالفَة السُّلْطَان فأخرب أَحْمد بن مُحَمَّد بن غَالب بيُوت مرباط إِلَّا بَيت هَذَا الْفَقِيه إجلالا لَهُ وَعمر طَويلا وَكَانَت وَفَاته نَحْو ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة بمرباط وقبر بمقبرتها وَإِلَى جنبه قبر تَاجر يُقَال لَهُ أبافير بخفض الْفَا وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ رَاء وَكَانَ تَاجِرًا من أهل الدّين وَالدُّنْيَا يقوم بكفاية الطّلبَة الَّذين يصلونَ على الْفَقِيه وَإِن كَثُرُوا فِي الْغَالِب وقلما كَانَ يدْخل الْمَدِينَة مرباط أحد إِلَّا وَكَانَ عَلَيْهِ تفضل فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ دَار على بَاب الْبَلَد فَلَا يدْخل فِي الْغَالِب دَاخل إِلَّا وتكرم فِيهَا على مَا يَلِيق بِحَالهِ وَلم أتحقق تَارِيخه وَإِنَّمَا ذكرته لما كَانَ فِيهِ من الْخَيْر وَالْفضل وقبره إِلَى جنب قبر الْفَقِيه بَينهمَا أَذْرع قَليلَة فَأَخْبرنِي الْخَبِير أَنه تُوجد فَأْرَة تخرج من أحد القبرين وَتدْخل فِي الآخر قبر الْفَقِيه وقبر هَذَا ويفوح عِنْد خُرُوجهَا رَائِحَة الْمسك والواصلون إِلَى هُنَالك يتبركون بتربتهما ويقصدونهما للزيارة من بعد
ثمَّ قد عرض مَعَ ذكر الْفَقِيه ذكر السُّلْطَان وقاضيه فقد أوردت مَا كَانَ مِنْهُمَا فِي حق الْفَقِيه لنَنْظُر فُقَهَاء زَمَاننَا وحكامه كَيفَ لم يداخل القَاضِي حسد كَمَا هُوَ مَنْظُور فِي غالبهم أعين الْقُضَاة وَلم أعرف اسْمه وَكَذَلِكَ السُّلْطَان لم يستكبر على أهل بَلَده(1/455)
وَلَا على الْفَقِيه وَهُوَ السُّلْطَان أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الأكحل لكحل كَانَ بِهِ من قوم يُقَال لَهُم المنجويون من بَيت لَهُم آل بَلخ بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَاللَّام وَسُكُون الْخَاء ونسبهم فِي مذْحج كَانَ أوحد زَمَانه كرما وحلما وتواضعا فَانْظُر كَيفَ فعل للفقيه وَخرج إِلَيْهِ وَكَانَ ممدحا وَإِلَيْهِ قدم الشَّاعِر التكريتي وَلم يكن يتعانى الشّعْر إِنَّمَا كَانَ تَاجِرًا ولديه فضل فانكسر بِهِ الْمركب على قرب من مرباط فَدَخلَهَا وَلَيْسَ مَعَه شئ بل غرق جَمِيع قماشه وامتدح هَذَا الأكحل بقصيدة مَشْهُورَة قَالَ فِيهَا أَعْيَان الأدباء شعرًا يدرس يدرس إِلَّا مَا كَانَ من قصيدة التكريتي وَقد أَحْبَبْت إيرادها فِي كتابي لحسنها وَهِي مَا أَنْشدني وَالِدي قَالَ قدم علينا رجل من أهل ظفار فأنشدني إِيَّاهَا
وأنشدني الْفَقِيه الَّذِي ذكرت أَولا أَنه أَخْبرنِي بِبَعْض مَا ذكرت من أهل هَذِه النَّاحِيَة عَن جمَاعَة سمعهم يروونها هِيَ ... عج برسم الدَّار فالطلل ... فالكثيب الْفَرد فالأثل
فبمأوى الشادن الْغَزل ... بَين ظلّ الضال فالجبل
فَإِذا مَا بَان بَان قبا
... وَبَلغت الرمل والكثبا
... نَاد يَا ذَا الرّبع واحربا ... واسبل العبرات ثمَّ سل
وابك فِي أثر الدُّمُوع دَمًا
... هَب كَأَن الدمع قد عدما
... واندب الغيد الدما ندما ... وَاقِف أثر الظعن وَالْإِبِل
آه لَو أدْركْت بَينهم
... كنت بَين الْبَين بَينهم
... لَيْت شعري الْآن أينهم ... رب سَار ضل فِي السبل
كَيفَ أثني عَنْهُم طمعي
... وهم فِي خاطري وَمَعِي
... كف عني اللوم لست أعي ... ففؤادي عَنْك فِي شغل
هَا أَنا فِي الرّبع بعدهمْ
... أشتكي وجدي من بعدهمْ(1/456)
.. أسلك الْأَيَّام وعدهم ... وأقضي الدَّهْر بالأمل
فدموع الْعين تنجدني
... وحمام الأيك تسعدني
... فَهُوَ يدنيني ويبعدني ... بالبكا طورا وبالجدل
خلفوني فِي الرسوم ضحى
... أحتسي الدمع مصطبحا
... كل سَكرَان وعى وصحا ... وَأَنا كالشارب الثمل
رق رسم الدَّار لي ورثا
... وسقامي للضنا ورثا
... لَيْسَ سقمي بعدهمْ عَبَثا ... كل من رام الحسان بلي
آه لَو جاد الْهوى وسخا
... أذهب الأقذار والوسخا
... والجوى وَالصَّبْر قد نسخا ... وقعتي صفّين والجمل
مَا لهَذَا الدَّهْر يطمعنا
... وأكف الْبَين تقمعنا
... أَتَرَى الْأَيَّام تجمعنا ... بمنى والخيف والجبل
أَتَرَى بالمشعرين يرى
... عيسهم والركب قد نَفرا
... ونزور الْحجر والحجرا ... ونضم الرُّكْن للقبل
كم لنا بالمروتين أسى
... مَا لَهُ غير الخضوع أسى
... ينجلي عَن رُبمَا وَعَسَى ... والورى فِي غَايَة الوجل
يَا أصيحابي وَيَا لزمي
... غير خَافَ عَنْكُم ألمي
... إِن أمت لَا تَأْخُذُوا بدمي ... غير ذَات الدل والكسل
غادة فِي خصرها هيف
... دنف كل بهَا دنف(1/457)
.. فهيام الْقلب والشغف ... بَين ذَاك الخصر والكفل
كبياض الصُّبْح غرتها
... وَسَوَاد اللَّيْل طرتها
... دمية كَالشَّمْسِ بهجتها ... وَهِي فِي خمس من الْحمل
أصل دائي عنج مقلتها
... ودوائي لثم وجنتها
... أَتَرَى عمرا بنظرتها ... أَو أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ
رِيقهَا والمبسم الشنب
... خندريس فَوْقه حبب
... لُؤْلُؤ رطب هُنَا الْعجب ... بحره أحلى من الْعَسَل
وصفوا هندا وَمَا وصفوا
... عكسوا الْمَعْنى وَمَا عرفُوا
... قلت هَذَا مِنْكُم سرف ... أيقاس الْكحل بالكحل
فعلت بِي غير مَا وجبا
... عَاقَبت مَا راقبت رقبا
... صحت فِي الْأَحْيَاء وآحربا ... أَيحلُّ الْقَتْل فِي الخجل
كم كرى عَن مقلتي منعت
... حبذا لَو أَنَّهَا قنعت
... مذ بَدَت صنعاء وَمَا صنعت ... جمع ذَاك اللحظ بالمقل
إِن يكن بالحب هان دمي
... هَا صباباتي وَهَا ندمي
... قدمي فِي سالف الْقدَم ... ورشادي ضل فِي الْأَزَل
بدرت من بدر جَارِيَة
... ودموع الْعين جَارِيَة
... ثمَّ قَالَت وَهِي جَارِيَة ... أرفقي يَا هِنْد بِالرجلِ
فأجابت وَهِي معرضة
... ومراض اللحظ ممرضة(1/458)
.. أَنْت لي يَا سعد مبغضة ... قد شفيت النَّفس من علل
قَالَت البدرية اتئدي
... وعدى ذَا الْمُبْتَلى وعدي
... مَا الَّذِي يُنجي من الْقود ... خلق الْإِنْسَان من عجل
طالما فِيك الْهوى عبدا
... مَا عدا مِمَّا لديك بدا
... لَيْسَ يخفى قَتله أبدا ... عَن مَرْوِيّ الْبيض والأسل
الإِمَام الطَّاهِر النّسَب
... الزكي الطّيب الْحسب
... السَّحَاب الساكب اللجب ... الهتون الْعَارِض الهطل
الهزبر المنجوي إِذا
... أَلْقَت الْحَرْب الْعوَان إِذا
... هُوَ تَاج والملوك حذا ... بل حضيض وَهُوَ كالقلل
طالما قد ضنت السحب
... واشرأب الْمحل والشغب
... وعوادي كَفه الشهب ... بالضحى تهمي وبالأصل
لَو هَمت يَوْمًا غمائمه
... بلظى ناحت حمائمه
... فَهُوَ مذ ميطت تمائمه ... مولع بِالْخَيْلِ والخول
يمنح السُّؤَال قبل مَتى
... سَأَلَ الْمُضْطَر أَو سكتا
... لَو أَتَى بعد الرَّسُول فَتى ... كَانَ حَقًا خَاتم الرُّسُل
وعذول بَات يعذله
... ولديه المَال يبذله
... قَصده عَن ذَاك يَخْذُلهُ ... وَهُوَ لَا يصغي إِلَى العذل
حكت الأنوا أنامله
... وَهِي تخشى أَن أقاتله(1/459)
.. فَإِذا مَا هز ذابله ... قرب الْأَرْوَاح بالأجل
مَا لَهُ مثل يماثله
... لَا وَلَا شكل يشاكله
... وَله فِيمَا يحاوله ... همة تعلو على زحل
كف كف الدَّهْر حِين سَطَا
... ويداه نحونا بسطا
... فغدونا أمة وسطا ... بعد ذَاك الْخَوْف والوجل
كَيفَ نخشى بعده الزمنا
... وَأَبُو عبد الْإِلَه لنا
... ارتدى مجدا وألبسنا ... حللا ناهيك من حلل
هُوَ قس فِي فَصَاحَته
... ولؤي فِي صباحته
... وَهُوَ معن فِي سماحته ... وَابْن عَبَّاس لَدَى الجدل
إِن يكن فِي نظمها خلل
... يعْذر الْجَانِي وَيحْتَمل
... خاطر الْمَمْلُوك مشتغل ... عَن كتاب الْعين والجمل
جد جد أجد قرلراع سمى
... زد مر آنه اسْلَمْ تهن دم
... صل أَو أَصْرَم صريب استقمي ... هَب تفضل أدن نل أنل ... وَأَشَارَ بقوله أيقاس الْكحل بالكحل إِلَى مَا ذكرنَا أَنه كَانَ أكحل الْعَينَيْنِ وَكَانَ آخر مُلُوك مرباط
قَالَ الْمخبر فَذكرُوا أَنه أجَاز هَذَا الشَّاعِر بمركب جَاءَ لَهُ من بعض الْبِلَاد إِذْ كَانَ معول مُلُوك المنجويين إِنَّمَا هُوَ على الْمَوَاشِي لَا غير كالبدو والحبوضيين على التِّجَارَة والزراعة لَا على الجباية كَمَا هُوَ الْيَوْم مُنْذُ دخل الغز وَلم يزَالُوا كَذَلِك حَتَّى انْقَضتْ أيامهم فَذكرُوا أَن التَّاجِر وصل من مرباط إِلَى عدن وملكها يَوْمئِذٍ سيف الْإِسْلَام وَقد نقل إِلَيْهِ الشّعْر فَاسْتَكْثر الْمَدْح واحتقر الممدوح وَلما وقف على قَوْله هُوَ(1/460)
تَاج والملوك حذا غضب عَلَيْهِ وَقَالَ تمدح بدويا بِمثل هَذَا ثمَّ أوصى النَّائِب بعدن مَتى قدم التَّاجِر عَلَيْهِ أوصله إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ فَلَمَّا قدم عدن احتاط على مَا مَعَه وأقدمه على سيف الْإِسْلَام فَلَمَّا استحضره ووقف بَين يَدَيْهِ وَقَالَ لَهُ كَيفَ تَقول هُوَ تَاج والملوك حذا قَالَ لم أقل بخفض الْحَاء وَإِنَّمَا فتحتها فأعجب سيف الْإِسْلَام وَأَعَادَهُ مكرما وَكَانَ قد عَاد الثغر من عدن إِلَى مرباط فَأخْبرُوا السُّلْطَان المنجوي بِمَا جرى على التَّاجِر وَأَنه مُودع فِي السجْن قد حيل بَينه وَبَين مَاله فَبعث مَعَ السّفر بمركب آخر وَقَالَ يتْرك لَهُ مَعَ بعض عدُول الْبَلَد يُنْفِقهُ مِنْهُ ويكسوه مَا شَاءَ حَتَّى يَأْتِيهِ الله بالفرج فَلم يصل السّفر إِلَى عدن إِلَّا وَقد سلم إِلَيْهِ مَاله فَسَلمُوا إِلَيْهِ الْمركب وشحنه فَكتب نَائِب سيف الْإِسْلَام بعدن إِلَيْهِ يُخبرهُ فَعجب من ذَلِك وَقَالَ يحِق لمادح هَذَا أَن يَقُول فِيهِ مَا شَاءَ وَكَانَت وَفَاته يَعْنِي السُّلْطَان على طَرِيق مرض من العفاف وَالْعدْل بعد سِتّمائَة وقبره بَين مرباط وظفار
ذكر الثِّقَة أَنه كثير مَا يسمع من قَبره قِرَاءَة الْقُرْآن وَلم يتْرك عقبا وَلَا بَقِي فِي أَهله كَامِل وَكَانَ مُحَمَّد بن أَحْمد الحبوضي يتجر لَهُ فَقَامَ بِالْملكِ وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك إِن شَاءَ الله وَبَلغنِي لهَذَا الْملك قصَّة حَسَنَة فَكرِهت إهمالها لِأَن المؤرخين يَقُولُونَ من ذكر إنْسَانا وَله منقبة لم يذكرهَا ظلمه وَذَلِكَ أَن الْفَقِيه الْمخبر قَالَ أَخْبرنِي من أَثِق بِهِ عَن من يَثِق بِهِ أَن جمَاعَة من أَعْيَان حضر موت تجهزوا من بلدهم لقصد هَذَا المنجوي بِهَدَايَا تلِيق بأحوالهم فصحبهم فَقير فسمعهم يذكرُونَهُ بِالْكَرمِ والإنسانية ثمَّ ذكر كل مِنْهُم مَا وصل بِهِ فاجتنى الْفَقِير ضغثا من أسوكة عَددهمْ سَبْعَة وَجعله حزمة فَلَمَّا دخل أهل الْهَدِيَّة مرباط وَأذن لَهُم فِي الدُّخُول عَلَيْهِ فَدَخَلُوا والفقيه من جُمْلَتهمْ فَسَلمُوا وَوضع الْفَقِير الأسوكة بَين يَدَيْهِ ثمَّ أنْشد ... جعلت هديتي لكم سواكا ... وَلم أقصد بهَا أحدا سواكا
بعثت إِلَيْك ضغثا من أَرَاك ... رَجَاء أَن أَعُود وَأَن أراكا ... ثمَّ أَمر السُّلْطَان أَن تخلى لَهُم بيُوت وللفقير مثلهم وَبعث للْفَقِير بجاريتين ووصيف يخدمونه مُدَّة إِقَامَته وَكَذَلِكَ كَانَ يفعل لكل ضَعِيف يصله ثمَّ عزم الْفَقِير على السّفر فَاسْتَأْذن وَذَلِكَ فَأذن لَهُ بعد أَن أَمر السُّلْطَان من عد الأسوكة الَّتِي جَاءَ بهَا(1/461)
فَقيل لَهُ سَبْعَة فَقَالَ يعْطى مِمَّا فِي خزائننا من كل شَيْء سَبْعَة أَجزَاء فَقلت للمخبر وَكَيف ذَلِك قَالَ مَا كَانَ يُوزن بالبهار كالحديد والقار وَنَحْوهمَا أعطي مِنْهُ سَبْعَة أبهرة وَمَا كَانَ يُوزن بالمن أعطي سَبْعَة أمنان كالمسك والزعفران وَنَحْوهمَا
وَبِالْجُمْلَةِ مَكَارِم هَذَا الْملك أَكثر من أَن تحصر وَلَو لم تكن من بركته إِلَّا مَا أبقى الله لَهُ جميل الذّكر فِي هَذِه القصيدة الَّتِي مَا سَمعهَا أحد إِلَّا أعجب بهَا وكررها لكفى
ثمَّ نرْجِع إِلَى ذكر الْفُقَهَاء وتتمته كَمَا ذكر ابْن سَمُرَة وَلم يذكر بمرباط غير القلعي وَذكر من فُقَهَاء تريم وَهِي مَدِينَة قديمَة بحضر موت وضبطها بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وخفض الرَّاء ثمَّ يَاء مثناة من تَحت ثمَّ مِيم كَانَ بهَا جمَاعَة مِنْهُم أَبُو بكر أَبُو كدر حاكمها وَكَانَ فَقِيها مقرئا وَله أَخ يذكر بِالْفَضْلِ قتلا جَمِيعًا سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة
حُكيَ أَن الزنجبيلي لما أَمر بِقَتْلِهِمَا سبقه أَخُوهُ إِلَى المقتل فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ أَبُو كدر اسبقني إِلَى الْجنَّة لَا بَأْس عَلَيْك وَإِلَى مثلهَا يكون السباق
أخبر الثِّقَة من أهل تِلْكَ النَّاحِيَة أَنَّهُمَا يزاران وَمَتى عَطش أهل حضر موت وَاشْتَدَّ بهم الْجهد وصلوا قبرهما واستسقوا بهما فَمَا يلبثُونَ أَن يسقوا
وَمِنْهُم أَبُو بكر قَالَ ابْن سَمُرَة لَقيته فِي عدن بِأول مرّة وقرأت عَلَيْهِ فِي عدن تَفْسِير الواحدي وَكتاب النَّجْم وَقتل شَهِيدا فِي غَزْوَة الزنجبيلي أَيْضا مَعَ أبي كدر إِذْ لما غزا الزنجبيلي حضر موت قتل من أَهلهَا عَالما كثيرا لَا سِيمَا من الْفُقَهَاء وَقَالَ ابْن سَمُرَة وَهُوَ من أهل ذَلِك الْعَصْر قتل فِي غَزْوَة الْأَمِير عُثْمَان الَّتِي قتل فِيهَا فُقَهَاء حَضرمَوْت وقراؤها قتلا ذريعا وَلَقَد كنت لما قدمت عدن وَرَأَيْت مَا وَقفه هَذَا الْأَمِير الزنجبيلي على الْحرم وَالْمَسْجِد الَّذِي بناه على الخان استعظمت قدره واستكثرت خَيره حَتَّى رَأَيْت مَا ذكره ابْن سَمُرَة من قَتله للفقهاء والقراء فصغر وحقر مَا فعله من خير فِي جنب مَا عمله من شَرّ وَقد يَقُول قَائِل مَا كَانَ هَذَا عُثْمَان فَأَقُول هُوَ عُثْمَان بن(1/462)
عَليّ الزنجبيلي يلقب بعز الدّين كَانَ من جملَة الْأُمَرَاء الَّذين قدمُوا مَعَ شمس الدولة توران شاه بن أَيُّوب حِين قدم الْيمن على مَا سَيَأْتِي فَلبث توران فِي الْيمن مَا لبث ثمَّ عَاد واستخلف الزنجبيلي على عدن ونواحيها فأطمعته نَفسه لغزو حضر موت أشرا وبطرا بعد أَن غزا الْجبَال والتهائم وأفسد فِيهَا على نواب شمس الدولة فِي عدَّة مَوَاضِع فأخلى الْجند عَن أَهلهَا وَكَانَت حروب كَثِيرَة بَينه وَبَين خطاب نَائِب شمس الدولة على زبيد وَذَلِكَ بعد أَن غزا حضر موت فَلم يقم بعد غَزْو الْجند غلا يَسِيرا حَتَّى قدم سيف الْإِسْلَام وَعُثْمَان إِذْ ذَاك بعدن وخطاب بزبيد فَأسر خطابا واستباح أَمْوَاله
ثمَّ قَتله وهرب عُثْمَان فِي الْبَحْر فَأمر السُّلْطَان سيف الْإِسْلَام بالتقاط مراكبه من سَاحل زبيد فَلم يفلت مِنْهَا غير الْمركب الَّذِي كَانَ فِيهِ وَأخذت بَقِيَّة المراكب وَلم يدر بعد ذَلِك مَا جرى لَهُ وَلَا أَي الْجَرَاد عاره فَظَاهر أَفعاله الْفسق الشنيع وَأمره فِي آخرته إِلَى الله تَعَالَى
وَنَرْجِع إِلَى ذكر الْفُقَهَاء فَمن شبام وَهِي قَرْيَة محدثة بعد تريم وضبطها بخفض الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ ألف ثمَّ مِيم وَهِي ملك للملوك بِخِلَاف تريم فَإِنَّهَا لم تزل للْعَرَب فَفِي شبام جمَاعَة فَمنهمْ ابْن أبي ذِئْب فَقِيه شَاعِر مجود لم يزدْ ابْن سَمُرَة على ذَلِك فَلَمَّا صرت بعدن وَأَنا إِذْ ذَاك معتزم لجمع هَذَا الْكتاب سَأَلت جمَاعَة من أهل النَّاحِيَة عَن اسْمه وبلده فَقيل بَلَده شبام واسْمه مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب وَكَانَ فَاضلا فِي الْفِقْه وَعلم الْأَدَب نظم التَّنْبِيه فِي شعر وَله قصائد عدَّة مِنْهَا قَوْله ... أر رسوم ربوع أم رقم ... لاحت فدموع عَيْنَيْك تنسجم
أم وشم معاصم رفشه ... وتأنق فِيهِ من يشم ... وَهِي قصيدة كَبِيرَة تنيف على مئة بَيت مِنْهَا حكم وأمثال وَله ذُرِّيَّة مِنْهُم بَقِيَّة فِي(1/463)
مَدِينَة عدن يتعانون التِّجَارَة ويعرفون ببني أبي الذِّئْب
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن دَاوُد كَانَ نظيرا لِابْنِ أبي الذِّئْب فِي الْفِقْه وَالشعر وَمن الهجرين وَهِي بلد بِأَعْلَى حضر موت على قرب من الشحر ضَبطهَا بِفَتْح الْهَاء بعد ألف وَلَام ثمَّ جِيم وَرَاء مفتوحتين ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ نون خرج مِنْهَا جمَاعَة مِنْهُم أَبُو زنيج بِضَم الزَّاي وَفتح النُّون ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ جِيم كَانَ فَقِيها كَبِيرا مَشْهُورا وَله هُنَاكَ ذُرِّيَّة ينسبون إِلَيْهِ ويتسمون بالفقه استصحابا للْأَصْل وَمِنْهُم أَبُو جحوش وَمِنْهُم حمد بن أَحْمد بن النُّعْمَان كَانَ فَقِيها كَبِير الْقدر شهير الذّكر طَاف الْبِلَاد وَلَقي المشائخ وَدخل بعد ذَلِك ثغر الاسكندرية وأصبهان فَأدْرك الْحَافِظ السلَفِي وَأخذ عَنهُ بهَا وَهُوَ أحد من عده ابْن سَمُرَة شَيخا لَهُ وَلم يذكر لَهُ تَارِيخا
ثمَّ عرض مَعَ ذكره ذكر السلَفِي نِسْبَة إِلَى جده سلفة بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَالْفَاء ثمَّ هَاء
قَالَ ابْن خلكان وَذَلِكَ لفظ أعجمي مَعْنَاهُ بالعربي فِي ثَلَاث شفَاه وَذَلِكَ أَن شفته الْوَاحِدَة كَانَت مشقوقة فَصَارَ شفتين غير الْأَصْلِيَّة مولده سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة تَقْرِيبًا وأصل بَلَده أَصْبَهَان وَهُوَ أحد الْحفاظ المكثرين رَحل فِي طلب الحَدِيث وَلَقي أَعْيَان الْمَشَايِخ وَكَانَ شَافِعِيّ الْمَذْهَب وَقدم بَغْدَاد فاشتغل بهَا على أبي الْحسن عَليّ الهراس فِي الْفِقْه وعَلى الْخَطِيب التبريزي فِي اللُّغَة وروى عَن أبي مُحَمَّد جَعْفَر بن السراج وَغَيره من الْأَئِمَّة الأماثل وجاب الْبِلَاد وَطَاف الْآفَاق وَدخل ثغر الاسكندرية سنة إِحْدَى عشرَة وَخَمْسمِائة وَبنى لَهُ أَبُو الْحسن عَليّ السلال وَزِير الظافر أحد الْمُلُوك الفاطميين مدرسة بهَا وَهِي ومعروفة بِهِ إِلَى الْآن
قَالَ ابْن خلكان لم يكن فِي آخر عمره لَهُ نَظِير فِي سَعَة الْعلم قَصده النَّاس من الْأَمَاكِن الشاسعة فَسَمِعُوا عَلَيْهِ وانتفعوا بِهِ وَله أشعار متداولة بَين النَّاس وأماليه وتعاليقه كثير وَله أشعار متقنة مِنْهَا مَا قَالَه فِي معاتبة الزَّمَان حَال ترحله من الْبِلَاد فمما قَالَه ... لج الزَّمَان مبالغا فِي شاني ... فأزاحني عَن موطني ومكاني
وَغدا يعاندني معاندة العدا ... مُتَعَمدا حَتَّى لقد أعياني
وحر لقيا من أحب بَقَاؤُهُ ... بالرغم بعد وَزيد فِي أحزاني ... وَهِي كَبِيرَة تزيد على ثَلَاثِينَ بَيْتا وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْجُمُعَة وَقيل يَوْمهَا خَامِس(1/464)
ربيع آخر من سنة سِتّ وَسبعين وَخَمْسمِائة
ثمَّ نرْجِع إِلَى ذكر فُقَهَاء حضر موت قَالَ ابْن سَمُرَة وَمِنْهُم ابْن أبي الْحبّ تفقه بطاهر بن يحيى وَهُوَ الَّذِي مدح طَاهِرا بالشعر الْمَذْكُور مَعَ ذكره وَفِي آل الْحبّ جمَاعَة يسكنون ظفار وعدن لَعَلَّ الله يَسُوق إِلَيّ أحدا مِنْهُم فأذكره فِي طبقته إِن شَاءَ الله وَهَذَا آخر من ذكر ابْن سَمُرَة من أهل حضر موت ثمَّ قَالَ وَمن أحور مُحَمَّد بن مَنْصُور النصيف كَانَ فَقِيها مجودا فِي علم الْفَرَائِض والحساب إِمَامًا فِي الحَدِيث وَفِي ميفعة سعيد بن فَرح وَرَاشِد بن عبد الله بن أبي جياش العامري
وَمِنْهُم عمر بن مُحَمَّد الكبيبي بِضَم الْكَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وخفض الْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ يَاء لَا أَدْرِي إلام هَذِه النِّسْبَة تفقه بشيوخ الْحصيب وَولي قَضَاء عدن سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن حَوْشَب العامري من أبين والخطيب مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن الْفَقِيه عمر بن بيش مقدم الذّكر وَأَنه أحد شُيُوخ الإِمَام يحيى
قَالَ ابْن سَمُرَة وَهُوَ مفتي لحج الْآن
وَمن أهل عدن أَبُو الْفَتْح بن عَمْرو ولي قضاءها أَيَّام السُّلْطَان زُرَيْع بن الْعَبَّاس اليامي أَو أَبُو الْفَتْح بن أبي السهل الْفَارِسِي ثمَّ بعده القَاضِي أَبُو بكر اليافعي ثمَّ زبيد بن عبد الله بن عون الله ثمَّ ولي قَضَاء الْقُضَاة فِي الْيمن من صنعاء إِلَى عدن سُلَيْمَان بن الْفضل عده عمَارَة فِي كِتَابه وَأثْنى عَلَيْهِ قَالَ عبد الله بن مُحَمَّد القَاضِي سُلَيْمَان بن الْفضل شيخ اللُّغَة وَصدر الشَّرِيعَة وجمال الخطباء وتاج الأدباء وظني وَالله أعلم إِنَّمَا ولي بعد القَاضِي أبي بكر وَكَانَ لَهُ شعر رائق مِنْهُ قَوْله ... تسموا بالوصال ترك الْوِصَال ... واعتمدتم قطيعتي وملالي
واعتضتم من التداني بعادا ... وصدودا يزِيد فِي بلبالي
لَيْسَ من شِيمَة الوفا أَن تلجوا ... فِي التجني فيشتفي عذالي ...(1/465)
وَذكر لَهُ عمَارَة عدَّة أشعار لَكِن لَا يَلِيق بالمختصر غير ذَلِك وَكَانَ لَهُ ولد اسْمه حَاتِم معدودا فِي الْفُضَلَاء
قَالَ ابْن سَمُرَة وأفضت ولَايَة الْقَضَاء بهَا يَعْنِي عدن إِلَى شَيْخي أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي سَالم القريظي كَانَ فَقِيها فَاضلا مُحدثا نحويا لغويا أَخذ عَن القَاضِي الجندي والمقيبعي وَعَن غَيرهمَا وَعنهُ أَخذ جمَاعَة كَثِيرُونَ مِنْهُم ابْن سَمُرَة والفقيه بطال وَمُحَمّد بن قَاسم الْمعلم وَغَيرهم وامتحن بِالْقضَاءِ أَرْبَعِينَ سنة هَكَذَا ذكر ابْن سَمُرَة وانفصل عَنهُ سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَكَانَت وَفَاته بعدن سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة ثمَّ تولى بعده القَاضِي عبد الْوَهَّاب بن عَليّ الْمَالِكِي من جِهَة أثير الدّين وَهُوَ آخر من عده ابْن سَمُرَة وَعَجِيب كَيفَ لم يعد ولد طَاهِر فِي الْقُضَاة بعدن وَقد ذكر ذَلِك مَعَ ذكره
وَمِنْهُم إِبْرَاهِيم بن القَاضِي أَحْمد أَخذ عَن أَبِيه وَغَيره وَأخذ عَن القَاضِي الْأَثِير وَعَن مُحَمَّد بن سعيد مؤلف الْمُسْتَصْفى وَعنهُ أَخذ الشريف أَبُو الحَدِيث وَمُحَمّد بن عمر الزَّيْلَعِيّ وحسين العديني وَأَبُو السُّعُود بن الْحسن وَغَيرهم مِمَّن يَأْتِي ذكرهم وَله عدَّة أَوْلَاد مِنْهُم وَلَده إِسْمَاعِيل كَانَ فَاضلا وَلم تزل خطابة عدن بأيدي ذُريَّته حَتَّى انقرضوا لبضع وَسَبْعمائة وَقد كَانَ فيهم من هُوَ أهل لِأَن يذكر لَكِن لم أجد ذَلِك محققا وَيَأْتِي إِن شَاءَ الله ذكر من الْتحق بهم فِي عدن مَعَ أهل الطَّبَقَة الْمُتَأَخِّرَة مِمَّن لم يذكرهُ ابْن سَمُرَة على حسب مَا ثَبت لي من نقل الْعدْل
وَهَذَا أَوَان الشُّرُوع فِي ذكر الَّذين تَأَخَّرُوا عَن زمن ابْن سَمُرَة إِذْ يغلب على ظَنِّي أَنِّي قد أتيت على جَمِيع من ذكره مَعَ مَا حصل وَزِيَادَة من غير الْكتب الَّتِي تقدم ذكرهَا أَو من نقل الْعدْل من ذكر المناقب وَقد رَأَيْت أَن أستفتح من ألحقت وأحببت أَن أبدأ بِذكرِهِ رَحْمَة الله عَلَيْهِ فَهُوَ أَبُو الْخطاب عمر بن عَليّ بن سَمُرَة الْجَعْدِي مولده قَرْيَة أنامر الْمُقدم ذكرهَا سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة تفقه بِجَمَاعَة أَوَّلهمْ عَليّ بن أَحْمد اليهاقري وَزيد بن عبد الله بن أَحْمد الزبراني وَمُحَمّد بن مُوسَى العمراني وطاهر بن يحيى وَجَمَاعَة كَثِيرُونَ وَهُوَ شَيْخي فِي جمع هَذَا الْكتاب
وَلَوْلَا كِتَابه لم أهتد إِلَى تأليف مَا ألفت
وَلَقَد أبقى للفقهاء من أهل الْيمن ذكرا وَشرح لِذَوي الأفكار صَدرا ولي قَضَاء أَمَاكِن فِي المخلاف من قبل طَاهِر بن الإِمَام يحيى وترأس فِيهَا بالفتوى ثمَّ(1/466)
صَار إِلَى أبين فولاه القَاضِي الْأَثِير الْقَضَاء فِي أبين سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَأَظنهُ توفّي هُنَالك بعد سِتّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَقد تكَرر ذكر القَاضِي الْأَثِير فَأحب بَيَان مَا ثَبت لي من أَحْوَاله فأبدأ بنسبه هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد ذُو الرياستين ابْن الشَّيْخ ثِقَة الْملك أبي الْفضل مُحَمَّد بن ذِي الرياستين مُحَمَّد بن بنان الْأَنْبَارِي بَلَدا ضبط بنان جده بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح النُّون ثمَّ ألف وَنون قدم الْيمن صُحْبَة سيف الْإِسْلَام وَقد خبر علمه وأمانته وعمره يَوْمئِذٍ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ سنة وَقَالَ سَمِعت كتاب الشهَاب وَأَنا ابْن ثَلَاث سِنِين فَسَمعهُ عَلَيْهِ القَاضِي إِبْرَاهِيم بن أَحْمد فِي جمَاعَة كَانَ إِبْرَاهِيم فِي جمَاعَة القارىء لَهُم وَابْن سَمُرَة من جملَة السامعين وَأخذ عَن القَاضِي إِبْرَاهِيم سيرة ابْن هِشَام قِرَاءَة وَهُوَ طَرِيق سَمَاعنَا بهَا فِي بعض الطّرق لشَيْخِنَا أبي الْعَبَّاس الْحرَازِي الْآتِي ذكره ثمَّ إِن سيف الْإِسْلَام صرفه عَن الْقَضَاء سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَحمله رِسَالَة إِلَى بَغْدَاد فحملها وَعَاد من بَغْدَاد إِلَى مَكَّة وَكتب مِنْهَا إِلَى سيف الْإِسْلَام
... وَمَا أَنا إِلَّا الْمسك عِنْد ذَوي النَّهْي ... أضوع وَعند الْجَاهِلين أضيع ... قَالَ ابْن سَمُرَة وَلم أدر أَي الْجِهَات قراره وَلَا أَي الْجَرَاد عاره ثمَّ لم يبْق إِلَّا أَن أذكر الْفُقَهَاء فِي كل بلد فأبدأ بِذكر الْبَلَد ثمَّ بِمن فِيهَا وحواليها وَكنت أحب أَن أفعل ذَلِك فِي جَمِيع الْكتاب فَلم يساعد الزَّمَان لِكَثْرَة الامتحان وَعدم الْإِمْكَان فأبدأ حِينَئِذٍ بفقهاء الْجبَال لتحققي لغالبهم نظرا وسماعا يقوم مقَام النّظر فَرَأَيْت أَن أعظم الْبِلَاد إِفَادَة للطلبة وَأعظم أَهلهَا صبرا عَلَيْهِم فِي الزَّمَان الْمُتَأَخر وَهِي مصنعة سير مسافتها من مَدِينَة الْجند عِنْد ذكر الشَّيْخ مؤلف الْبَيَان نصف مرحلة وَكَانَت هَذِه الْقرْيَة قلعة فَاشِية بأيدي صبهان فاشتراها مِنْهُم بَنو عمرَان وابتنوا بهَا مسَاكِن وَذَلِكَ فِي شهر جُمَادَى الْآخِرَة من سنة سِتّ وَخمسين وَخَمْسمِائة وَوجدت بِخَط الْفَقِيه مُحَمَّد بن مُوسَى أَن ابْتِدَاء الْبناء بهَا فِي سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة وَذَلِكَ قبل وَفَاة الإِمَام يحيى لسنة(1/467)
أَو سنتَيْن فَلم تزل مُنْذُ ابْتِدَاء عمارتها موئلا لطلبة الْعلم وَلَا نجد فِي الْجبَال غَالِبا من المدرسين والمفتين وَالْفُقَهَاء والمحققين إِلَّا من كَانَ تفقه بهَا إِن لم يكن جملَته أَو تفقه على من تفقه بهَا فقد ذكر فِيمَا تقدم أَن الْفُقَهَاء من أَهلهَا هم ذُرِّيَّة الْفَقِيه مُحَمَّد بن مُوسَى وَبَقِي مِنْهُم بَقِيَّة وَقد درس مَعَهم فِيهَا جمَاعَة وَذَلِكَ أَنه لما صَار إِلَيْهِم الْقَضَاء الْأَكْبَر والوزارة فشغلوا بهما عَن التدريس فَكَانُوا يجتلبون الْفُقَهَاء ليدرسوا لَهُم أَوْلَادهم وَمن جَاءَ طَالبا حَتَّى تفقه من أَوْلَاد القَاضِي عبد الله بن مُحَمَّد وَابْن عَمه مُحَمَّد بن أبي بكر قَائِما بالتدريس كَمَا قدمنَا ذَلِك وَلمن كَانَ يفقههم
وَأما المدرسون المستدعون إِلَى المصنعة لأجل التدريس فَجمع لَا يكَاد يُحْصى
مِنْهُم أَبُو الْحسن بن رَاشد وَبِه تفقه جمَاعَة مِنْهُم القَاضِي الْبَهَاء وَمن تفقه من أخوته وَكَانَ مَسْكَنه العماقي وَسَيَأْتِي ذكره محققا إِن شَاءَ الله
ثمَّ بعده مَنْصُور بن مُحَمَّد بن مَنْصُور الأصبحي ثمَّ ابْن أَخِيه مُحَمَّد بن أبي بكر بن مَنْصُور ثمَّ تِلْمِيذه شَيْخي عَليّ بن أَحْمد الأصبحي وَيَأْتِي ذكرههم محققا مَعَ أهل بلدهم إِن شَاءَ الله ثمَّ مُحَمَّد بن عَليّ الشّعبِيّ ثمَّ عبد الله بن عمرَان الْخَولَانِيّ وغلبت من أَوْلَادهم على التدريس مُحَمَّد بن عبد الله كَانَ الْأَكْبَر من الطّلبَة يتفقهون بِهِ لِأَن أَبَاهُ هُوَ الَّذِي يطعم الدرسة وَغَيرهم بالمصنعة لَا يطعم مَعَه أحد وَيكبر لَهُ أَخَوَاهُ اللَّذَان يسكنان مَعَه فِي المصنعة وهما أَبُو بكر وَمَنْصُور فَإِذا غَابَ فِي الْجند أَو تعز قَامَ بأعباء الطّلبَة والضيف أَخُوهُ مَنْصُور فَإِذا غَابَ أَيْضا قَامَ بذلك أَبُو بكر مَعَ أَن الْجَامِع لم يكن يَخْلُو عَن مدرس يَأْخُذ الكيلة من وقف وَقفه القَاضِي أَبُو بكر بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُوسَى مقدم الذّكر بِجِهَة الحيمة وَإِن لم يدرس ويقتصر على إِمَامَة الْمَسْجِد وَرُبمَا قَرَأَ عَلَيْهِ بعض الدرسة على سَبِيل التوطئة وَيكون تَحْرِير ذَلِك وتحقيقه فِي الْغَالِب على الْفَقِيه مُحَمَّد بن عبد الله فَإِنَّهُ كَانَ يجْتَمع عَلَيْهِ نَحْو من مئة درسي أَو زِيَادَة عَلَيْهِم وتفقه من بني عمرَان جمَاعَة من أَوْلَاد الْقُضَاة غير من تقدم مِنْهُم عمرَان بن القَاضِي عبد الله الَّذِي ذكرت أَولا تفقه وَأخذ النَّحْو وَكَانَ بِهِ فَاضلا وَقعد وزيرا للْملك الواثق مُدَّة سِنِين وَلما أَرَادَ يقدم ظفار على مَا سَيَأْتِي امْتنع أَهله عَلَيْهِ من السّفر مَعَه فَلبث مَعَ أَعْمَامه بتعز وَتَوَلَّى قضاءها مَكَان عَمه حسان ثمَّ لما صودر قومه كَانَ من أَشد النَّاس عذَابا هَذَا ثمَّ أنزل هُوَ وَابْن عَمه مُحَمَّد بن حسان إِلَى زبيد على حبس الرهائن وأقعد تَحت الْحِفْظ بدار لَهُم صَغِيرَة إِلَى جنب دَار عمهم القَاضِي الْبَهَاء حَتَّى توفّي بعد أَبِيه سنة اثْنَتَيْنِ وَسَبْعمائة(1/468)
وَمن أحسن مَا بَلغنِي من مَكَارِم بني عمرَان أَن هَذَا عمرَان كَانَ يلْعَب وَهُوَ فَتى مَعَ بعض الدرسة فَحَذفهُ بحصاة وَقعت بِإِحْدَى عَيْنَيْهِ وأبعدته فخاف الدرسي خوفًا شَدِيدا فَأمر لَهُ القَاضِي بكسوة وَأمره أَن يروح حَيْثُ شَاءَ وَلم يغب إِلَّا أَيَّامًا قَلَائِل وَكَانَت لَهُ مَكَارِم يكثر تعدادها لَو أَنَّهَا قرنت بورع لكَانَتْ عجبا وَكَانَ لحسان الْمُقدم ذكره ثَلَاثَة أَوْلَاد هم مُحَمَّد ويوسف وَعمر وأمهم وَأم الوزراء بني مُحَمَّد بن عمر أختَان إِذْ هما بَنَات القَاضِي أسعد بن مُسلم الْآتِي ذكره ولهذه الْقَرَابَة سلمُوا من الضَّرْب وَلم يسلمُوا من الْقَيْد وَالْحَبْس بِخِلَاف أَوْلَاد أبي بكر فَإِنَّهُم سلمُوا من جَمِيع مَا وَقع بأهلهم من ضرب وَحبس وَقتل وَقبض أَرض فَدلَّ أَن نفع الدُّنْيَا والمداراة بهَا أبلغ من نفع النّسَب كَمَا قَالَ الحريري الْمَرْء بنشبه لَا بنسبه إِنَّمَا شاركوهم من الْأُمُور الَّتِي وَقعت عَلَيْهِم المؤلمة بِالْخرُوجِ عَن المساكن إِذْ قَامَ بهم الْفَقِيه أَبُو بكر قيَاما مؤزرا وَصد عَنْهُم فَسَأَلت عَن ذَلِك فَقيل كَانَ والدهم يصحب الْفَقِيه أَبَا بكر ويهادنه بِغَيْر علم من أخوته فَلم تزل ذُريَّته مجللين مصونين حَتَّى انقرض مُحَمَّد وَابْنه عبد الله مصونا إِلَى الْآن وَهَذَا كَلَام دخيل
فلنرجع إِلَى تَتِمَّة أَوْلَاد حسان مُحَمَّد أكبرهم كَانَ بِهِ تعبد وتعفف وتفقه على جمَاعَة من فُقَهَاء تعز وَغَيرهم وَكَانَ فِيهِ صَدَقَة وافتقاد لجَماعَة من الضعوف وترتب سِقَايَة لجامع الْجند ثمَّ كَانَ مسحسها هَذَا فِي قيام حَالهم ووزارتهم وسجن بزبيد دهرا وَكَانَ السجان يذكر عَنهُ كرامات مستغربة ثمَّ أطلقهُ الْمُؤَيد من السجْن بعد وَفَاة الْوَزير عَليّ بن مُحَمَّد
وأسكن بَيْتا عمره ثمَّ صَار الْملك إِلَى الْمُجَاهِد وَقد كَانَ الْمُؤَيد نقل إِلَيْهِ أَخَوَيْهِ من سجن عدن إِلَى دَار عمهم بزبيد فلبثوا بِهِ فَأخْرجهُمْ الْمُجَاهِد وَجمع بَينهم وَبَين أهلهم بسهفنة فلبثوا مُجْتَمعين نَحوا من سنة وَتُوفِّي بالتاريخ الْمُتَقَدّم وَأما أَخُوهُ يُوسُف فتفقه أَيْضا بِمن تفقه بِهِ أَخُوهُ كَابْن العراف الْآتِي ذكره وَغَيره وَفِيه مروة وتخلق وَحسن فتوة وَهُوَ بَاقٍ إِلَى عصرنا سنة سِتّ وَعشْرين وَسَبْعمائة وَأما أَخُوهُ عمر فتفقه وَيذكر بِالْخَيرِ والإنسانية أَيْضا وَلَهُم أَخ رَابِع أمه من الطبريين من أهل مَكَّة لما امتحن أَهله بالسجن وَنزل بِأَبِيهِ إِلَى عدن هربت بِهِ أمه إِلَى(1/469)
أَهلهَا فَنَشَأَ بَينهم نشأة حَسَنَة وتفقه وَذكر بِالْفَضْلِ وَقدم زبيد سنة ثَلَاث وَعشْرين فَجعل قَاضِي قُضَاة من قبل الظَّاهِر فَلَمَّا غلب الْمُجَاهِد على زبيد خرج إِلَى عدن وَلحق بِالظَّاهِرِ إِذْ كَانَ يَوْمئِذٍ بهَا ثمَّ طلع الْجبَال فانتهب بجرانع ثمَّ تقدم جبلة فَهُوَ بهَا إِلَى الْآن فِي شهر ربيع الآخر سنة سبع وَعشْرين وَسَبْعمائة
وَلَيْسَ للْقَاضِي الْبَهَاء عقب يذكر بِهِ وَلَا لمنصور وَهَؤُلَاء آخر من يَنْبَغِي ذكره مِنْهُم وَآخر ذَرَارِي الْفُقَهَاء الَّذين ذكرهم ابْن سَمُرَة اللَّهُمَّ إِلَّا رجل بِذِي السفال اسْمه عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْفَقِيه عمر بن إِسْمَاعِيل مقدمي الذّكر مولده سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة أدْرك جده مُحَمَّدًا وَأخذ عَنهُ وَكَانَ فَاضلا بالتفسير والْحَدِيث وَالْفِقْه وَكَانَ جميل الْخلق مديد الْقَامَة كَمَا ذكر عَن جده مُحَمَّد بن أَحْمد وَكَانَ يحفظ النقاش فِي التَّفْسِير حفظا جيدا وَكَانَ يتنعم فِي ملبسه ومطعمه ومشربه فَكَانَ يدان حَتَّى يبلغ دينه مبلغا عَظِيما فيضيق من ذَلِك وَينزل مدرسة الْجند المنصورية فيتخلى لَهُ مدرسها عَن منصبه ليبقى بهَا مُدَّة وَمَا يحصل من الكيلة قضى بِهِ الدّين وَهُوَ لَا يَأْكُل إِلَّا من بَيته يُؤْتى بِخبْز مخبوز وَيَشْتَرِي إدامه فِي الْجند ثمَّ إِذا انْقَضى دينه عَاد بَلَده مبادرا فَمَا أحسن هَذَا وَأحسن مِنْهُ فعل الْفَقِيه الْمدرس الَّذِي يتخلى لَهُ هَذَا يكَاد يكذب بِهِ الْعقل لما نرَاهُ من فُقَهَاء زَمَاننَا لَكِن الَّذِي أَخْبرنِي رجل من أهل الدّين وَالْعقل وَكَانَ من بَقِي عَلَيْهِ من الطّلبَة شَيْء فِي كِتَابه لحقه بَلَده فأتمه وَكَانَ صَاحب كرامات ومكاشفات أَخْبرنِي الثِّقَة من أهل بَلَده أَنه كَانَ يكثر التّكْرَار لزيارة الْقُبُور فزارها ذَات يَوْم بِجَمَاعَة من أَصْحَابه فحين أشرف عَلَيْهَا تنفس صعدا ثمَّ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله إِن هَذِه الْقُبُور لَيست على مَا ترَوْنَ إِنَّهَا كبيوت أهل الدُّنْيَا مِنْهَا قُصُور وَمِنْه دور وَمِنْهَا بيُوت وَمِنْهَا عشش وَمِنْهَا ديم وَقد سمع مِنْهُ هَذَا جمَاعَة وَأخْبر ثِقَة عَنهُ أَنه روى عَن جده مُحَمَّد بن أَحْمد أَنه كَانَ ذَات لَيْلَة قَائِما يُصَلِّي ورده إِذْ سمع شخصا يَدْعُو من الشَّارِع يَقُول يَا مسعودة يَا مسعودة من قبالة الطاق الَّذِي لَهُ فأخف الصَّلَاة ثمَّ أشرف من الطاق فَرَأى كَلْبا على جذم حَائِط يحدث هرة لبيت الْفَقِيه قد خرجت حِين دَعَا فحين لَقيته تسالما بِكَلَام يعرفهُ الْفَقِيه ويسمعه ثمَّ قَالَت لَهُ من أَيْن جِئْت قَالَ خرجت من زبيد الْيَوْم لِأَنَّهُ قتل الْملك الْمعز بهَا وَأُرِيد أبلغ الْخَبَر من فوري صنعاء وَلَكِنِّي جوعان فانظري لي شَيْئا آكله فَقَالَت لَيْسَ بِالْبَيْتِ شَيْء إِلَّا(1/470)
وَقد غطي وَذكر عَلَيْهِ اسْم الله تَعَالَى قَالَ كَمَا فِيهِ صبي قد أكل شَيْئا ونام قبل غسل فِيهِ قَالَت بلَى لكني أخشاك تضره قَالَ إِذا أصبح وعَلى فِيهِ شَيْء فأطلوه بطحلة الجرة ثمَّ غَابَ عَن نظر الْفَقِيه وَإِذا بِهِ يسمع بكاء الطِّفْل فِي المهد فَاسْتَيْقَظت أمه وحركته حَتَّى نَام وَعَاد الْفَقِيه إِلَى ورده ثمَّ لما أصبح الصَّباح ظهر على فَم الصَّبِي بثر فَقَالَت أمه للفقيه يَا سَيِّدي مَا هَذَا الَّذِي بولدي قَالَ تطعمينه وَلَا تغسلين فَمه من الطَّعَام فَعرفت وَقَالَت نعم فَقَالَ هَاتِي الجرة فَأَتَتْهُ بهَا فأبعد ماءها وسلت من طحلتها شَيْئا فطلى بِهِ فَم الصَّبِي فَلم يلبث أَن تعافى ثمَّ أَقبلت الْهِرَّة تمشي على سَبِيل عَادَتهَا فَقَالَ الْفَقِيه لَهَا هَكَذَا يَا مسعودة تساعدين علينا فَنَظَرت إِلَيْهِ سَاعَة ثمَّ ولت فَقَالَ الْفَقِيه قد ربينا هَذِه الْهِرَّة فَالله عَلَيْهَا خير حَافِظًا فَنزلت الْهِرَّة الدهليز وأرادت أَن تخرج من طَاقَة فِيهِ فحنبت فِيهَا ثمَّ لما كَانَ بعد يَوْمَيْنِ افتقدت فَلم تُوجد فَأمر الْفَقِيه من طلبَهَا وَقَالَ لَعَلَّهَا فِي الْموضع الْفُلَانِيّ فَوجدت فِيهِ حانبة فخلصت مِنْهُ وأتى بهَا إِلَى الْفَقِيه فَمسح عَلَيْهَا وَقَالَ لَا بَأْس عَلَيْك لَا تغيري الصُّحْبَة ثمَّ لما استفاضت هَذِه الرِّوَايَة صَار كل من حصل بِهِ حول فَمه بثر طلاه بطحلة الجرة فَيبرأ وجرب ذَلِك وَقدم على هَذَا الْفَقِيه الفقيهان مُحَمَّد بن أبي بكر الأصبحي وَمُحَمّد بن عمر الزَّيْلَعِيّ أَخْبرنِي الْفَقِيه صَالح بن عمر بذلك وَأَنه يذكر قدومهما عَلَيْهِ وسمعا عَلَيْهِ كتاب الرَّقَائِق لِابْنِ الْمُبَارك وَكنت إِذْ ذَاك صَغِيرا
وَلَقَد نَدِمت حَيْثُ لم أحضر سماعهما وَكَانَ محبوبا عِنْد أهل بَلَده ونواحيها مسموع القَوْل مَقْبُول الشَّفَاعَة وَكَانَ خطيب الْبَلَد وَإِمَام الْجَامِع وَكَانَت وَفَاته نَحْو سِتِّينَ وسِتمِائَة تَقْرِيبًا وَحضر قبرانه خلق لَا يكادون يُحصونَ
وَمن غَرِيب مَا جرى يَوْم مَوته أَنه لما توفّي كَانَت لَهُ بقرة غَالب إدامه من لَبنهَا ودهنها توفيت يَوْم توفّي أَيْضا فَلم يخرج الْفَقِيه حَتَّى أخرجت الْبَقَرَة وَكَانَ مَعَه مُؤذن بَينه وَبَينه محبَّة وَرُبمَا كَانَا أَتْرَابًا فحين توفّي الْفَقِيه خرج من جملَة القبار وَجعل ابْنا لَهُ(1/471)
على كتفه خوفًا عَلَيْهِ من الزحام فَلَمَّا انْقَضى الْأَمر من الدّفن جعل يطْلب وَلَده ثمَّ صَاح لَهُ فَأَجَابَهُ من كتفه فَعجب النَّاس من اشْتِغَال بَاطِنه كل هَذَا الانشغال وَضرب بِهِ الْمثل فَقيل يفتش على ابْنه وَهُوَ على كتفه وَكَانَ مَعَه خَادِم للبقرة يرعاها مُنْفَرِدَة وَيَأْتِي لَهُم بالحطب توفّي بعد أَيَّام يسيرَة وَلم يقم بعده فِي بني عَلْقَمَة أحد يسْتَحق الذّكر وَمن تركته أَنه اشْترى المظفر كتبهمْ الْمُهَذّب الَّذِي نسخه عمر بن إِسْمَاعِيل وَغَيره
وَمِنْهُم عُثْمَان بن الْفَقِيه عبد الْحَكِيم بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن أَحْمد مقدم الذّكر كَانَ هَذَا عُثْمَان وَولده فقيهين فاضلين دخل عُثْمَان عدن فَأخذ عَنهُ عبد الرَّحْمَن الأبيني الْمدرس وَجَمَاعَة من فُقَهَاء عدن جَمِيع كتاب الْبَيَان وَهُوَ وَأَبوهُ مشتهران بالفقه وَالْحِفْظ وَلم أتحقق لأَحَدهمَا تَارِيخا
وَمن بني المصوع مقدمي الذّكر عبد الرَّحْمَن بن فلَان كَانَ زَمَانه قبل زمَان الْفَقِيه عبد الله لَكِن قدمت عبد الله لِأَنَّهُ اشْتهر بِالْعلمِ بِخِلَافِهِ وَأما عبد الرَّحْمَن فَكَانَ يغلب عَلَيْهِ الازدراع والاتجار مَعَ إتقان الْعِبَادَة أَخْبرنِي الْفَقِيه مُحَمَّد بن عمر صنو الْفَقِيه صَالح بن عمر الْآتِي ذكره عَن أَبِيه وَكَانَ مِمَّن طعن بِالسِّنِّ أَن عَمه قَالَ أَخْبرنِي الْفَقِيه عبد الرَّحْمَن بن المصوع أَنه صلى ذَات لَيْلَة الْعشَاء مَعَ جمَاعَة بِالْمَسْجِدِ ثمَّ تقدم بَيته فَأَتَتْهُ امْرَأَته وَهِي متطيبة فَدَعَاهَا إِلَى الْفراش فاعتذرت بِعُذْر هَين فَتَركهَا ونام قبل عودهَا إِلَيْهِ ثمَّ لم يشْعر إِلَّا وَهِي تكبسه فَاسْتَيْقَظَ يحدثها يُرِيد وقاعها فَقَالَت نَحن الْآن قد فَرغْنَا فتشوش من ذَلِك ثمَّ قَامَ وأرخ ذَلِك وَامْتنع عَنْهَا تِسْعَة أشهر فَوضعت صَبيا فَلم يكن أَكثر شيطنة مِنْهُ لَا سِيمَا فِي أَوْقَات الصَّلَاة وَكثر الْبَوْل على من حمله قل من حمله إِلَّا وبال عَلَيْهِ وخصوصا مَتى كَانَ من أهل الدّين وَالطَّهَارَة وَمَتى صَار بمواضع الصَّلَاة بَال فِيهَا وقلما يَبُول فِي الأَرْض والفقيه قد عرف قلَّة توفيقه وَأَنه سبقة من الشَّيْطَان فَلم يتَكَلَّم فَلَمَّا صَار على أَنه يمشي ويفطم تركته أمه يَوْمًا يلْعَب بِالْمَجْلِسِ والفقيه قَائِم يُصَلِّي الضُّحَى نظر بطرفه وَالصَّبِيّ مُقَابل الطَّاقَة فَظهر مِنْهَا شخص فصاح يَا قدار يَا قدرا فَأَجَابَهُ الصَّبِي بِكَلَام فصيح لبيْك فَقَالَ وَكَيف أَنْت قَالَ بِخَير وعَلى خير يكرمونني ويغذونني غذَاء جيدا فَقَالَ لَا تكون إِلَّا جيدا فَمَا تعرف لَا تتركهم يصلونَ وَلَا تتْرك لَهُم موضعا طَاهِرا وَلَا ثوبا طَاهِرا حَسْبَمَا أشكرك فَقَالَ الصَّبِي سمعا وَطَاعَة ثمَّ قَالَ كَانَ الله مَعَك فَذهب وَلم يره الْفَقِيه بل كَانَ خطابه من خَارج الطَّاقَة فَلَمَّا فرغ(1/472)
الْفَقِيه من صلَاته صَاح بِالصَّبِيِّ يَا قدار اذْهَبْ أذهبك الله وَإِذا بِالصَّبِيِّ قد نفر على شبه الطَّائِر وَخرج من الطَّاقَة الَّتِي حصل مِنْهَا الْكَلَام كَأَنَّهُ طَائِر
ثمَّ إِن امْرَأَته عَادَتْ فَلم تَجِد الصَّبِي فَقَالَت يَا سَيِّدي أَيْن ابْني قَالَ أمره عَجِيب ثمَّ أخْبرهَا بِمَا كَانَ مِنْهُ جَمِيعه فَقَالَ لَو قلت لي يَوْم وَلدته كنت قتلته
فَقَالَ قد كفى الله بِهِ وقلعه ثمَّ لبث الْفَقِيه مُدَّة سنتَيْن فَتحصل لَهُ شَيْء من الْقُوَّة من أرضه فعزم أَن ينزل بِهِ إِلَى عدن فَسَار حَتَّى صَار بالمفاليس ولقيه الحرس ونقيبهم يَوْمئِذٍ شَاب جميل الْخلق فحين رأى الْفَقِيه أقبل يسلم عَلَيْهِ بِسَلام حسن سَلام عَارِف مؤالف
فأنزله بِمَنْزِلَة جَيِّدَة وَصَارَ يتَكَرَّر بحوائجه وَيَقُول لأَصْحَابه اخدموا الْفَقِيه فَهُوَ رجل صَالح فَسَأَلَ عَنهُ فَقيل هُوَ نقيب العشارين لَا نَعْرِف فِيهِ الْخَيْر إِلَّا لَك فَعجب الْفَقِيه ثمَّ سَافر إِلَى عدن فَقضى حَوَائِجه وَعَاد المفاليس فَلَمَّا صَار بهَا وَصله النَّقِيب وَتَوَلَّى خدمته فَقَالَ لَهُ الْفَقِيه يَا هَذَا بِمَ استحققت مِنْك هَذِه الْمُوَالَاة فَقَالَ يَا سَيِّدي لَك عَليّ حُقُوق كثير أما تعرفنِي قَالَ لَا قَالَ أَنا عَبدك قدار فَقَالَ أَنْت قدار فَقَالَ نعم يَا سَيِّدي لَك عَليّ حُقُوق كثير لَو علمت أَنَّك تقبل ضيافتي لأضفتك لَكِن معي هذَيْن الزنبيلين وأحضرهما أحب أَن تحملهما إِلَى والدتي فِي أَحدهمَا كسْوَة لَهَا وَفِي الآخر طيب فَلم يُمكن من الْفَقِيه إِلَّا جبر بَاطِنه وَأخذ مَا جَاءَ بِهِ وَلما وصل بَلَده أخبر زَوجته بِمَا جرى مَعَه فعجبت ثمَّ أخذت حطبا وَأوقدت التَّنور فَلَمَّا اشْتَدَّ لهيبه أَلْقَت فِيهِ الأجبين بِمَا فيهمَا وَلم تفتحهما وَكَانَ وجود هَذَا الْفَقِيه فِي صدر المئة السَّابِعَة وَهُوَ آخر من تحققت من بني المصوع
ثمَّ اعْلَم أَن أَكثر بلد الْيمن من زمن مُتَقَدم على زَمَاننَا فُقَهَاء ومتفقهين وعلماء محققين مَدِينَة زبيد الْمُتَقَدّم ذكرهَا على مَا تحققته قد مضى ذكره والمتأخر جمَاعَة مِنْهُم أَبُو الْحسن عَليّ بن قَاسم بن العليف بن عبس بن سُلَيْمَان بن عمر بن نَافِع الشراحيلي الْحكمِي من حكم حرض قدم زبيد بعد أَن تحكم بقرية الشويري على إِبْرَاهِيم بن زَكَرِيَّا مقدم الذّكر ثمَّ لما قدم زبيد أَخذ عَن الْفَقِيه عَبَّاس بن مُحَمَّد مقدم الذّكر وَدخل مَدِينَة ذِي أشرق فَأدْرك القَاضِي مَسْعُود فَأخذ عَنهُ وَكَانَ إِمَامًا كَبِيرا من أَئِمَّة(1/473)
الدّين بِهِ تفقه غَالب الطَّبَقَة الْمُتَأَخِّرَة من غَالب نواحي الْيمن إِذْ قَصده الطّلبَة من نواح مُخْتَلفَة وتفقهوا بِهِ وعادوا بلدانهم فنشروا بهَا الْعلم وَكَانَ عَالما مُبَارَكًا عَظِيم الْقدر وَله مصنفات مفيدة مِنْهَا كتاب الدّرّ فِي الْفَرَائِض وَله مُخْتَصر سَمَّاهُ الدُّرَر يبين بِهِ مشكلات الْمُهَذّب وَله أسئلة غَرِيبَة عَن مُشكل التَّنْبِيه سَيرهَا إِلَى بَغْدَاد على يَد الإِمَام مُحَمَّد بن الْحسن الصغاني وَأعَاد الْجَواب من البادراوي من بَغْدَاد وَأجَاب عَلَيْهَا جمَاعَة من علمائها وَأجَاب عَنْهَا أَيْضا مُحَمَّد بن يُوسُف الشويري الْمُقدم ذكره وَجَوَابه أرْضى الْأَجْوِبَة عَنْهَا وَقد ذكرت ذَلِك
وَمن أَعْيَان أَصْحَابه بزبيد مُحَمَّد بن الْخطاب وَابْن عَاصِم وَابْن القلقل وَرُبمَا كَانَ القوقلي وَعبد الْوَاحِد بن مبارك السحيلي وَعمر بن مَسْعُود الأبينيان وَحسن الشرعبي وَعبيد بن أَحْمد من السهولة وَلَقَد أخبر الثِّقَة أَنه خرج فِي درسته سِتُّونَ مدرسا وَيَأْتِي إِن شَاءَ الله ذكر من تحققته مِنْهُم مُبينًا فِي مَوْضِعه وَكَانَ يحفظ التَّنْبِيه عَن ظهر غيب ثمَّ لَا يزَال حَامِلا لَهُ فَقيل لَهُ فَأَنت تحفظه فَلم تحمله قَالَ احْتج بِهِ على أهل المراء وَكَانَ راتبه كل يَوْم سبع الْقُرْآن أَخذ ذَلِك عَن شَيْخه إِبْرَاهِيم بن زَكَرِيَّا مقدم الذّكر وَكَانَ ذَا ورع لوزم على قَضَاء زبيد فَامْتنعَ ولوزم على التدريس فَامْتنعَ ورسم عَلَيْهِ أَيَّامًا وَهُوَ مصمم على الِامْتِنَاع مَعَ الْفقر وَعدم مَا يقوم بِهِ
وَبِالْجُمْلَةِ ففضله أَكثر من أَن يحصر وَكَانَت وَفَاته خَامِس رَمَضَان سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة وَخَلفه ابْنه أَحْمد وَكَانَ فَقِيها فرأس ودرس إِلَى أَن توفّي يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع ربيع الآخر سنة أَربع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَله ذُرِّيَّة بزبيد يجللون ويحترمون ببركته
وَمِنْهُم أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن القلقل بقافين مخفوضتين الأولى بعد الْألف وَاللَّام وَبَين القافين لَام سَاكِنة وَبعد الْأَخِيرَة لَام أَيْضا سَاكِنة كَانَ فَقِيها جليل الْقدر محققا مدققا وَله فَتَاوَى تدل على فقهه وسعة فَضله لوزم على تدريس المنصورية ورسم عَلَيْهِ بذلك فَامْتنعَ وَأقَام أَيَّامًا بالترسيم اتَّصل فِي أَثْنَائِهَا الْعلم بِمَوْت الْمَنْصُور صَاحب الْمدرسَة فَانْظُر هَؤُلَاءِ وورعهم كَيفَ يطْلبُونَ ويرسم عَلَيْهِ فِي قبُول المناصب وَأخذ الرزق عَلَيْهَا فيتورعون عَن ذَلِك وَكَانَ غَالب أَحْوَالهم الْفقر(1/474)
وَهَذَا عكس أهل زَمَاننَا وَكَانَ هَذَا إِبْرَاهِيم من أجل الْفُقَهَاء قدرا وَإِلَيْهِ ينْسب الْمحل الغربي من زبيد الْمَعْرُوف بِمحل القلقل وَله ذُرِّيَّة يحترمون ببركته إِلَى عصرنا وَلم أتحقق لَهُ تَارِيخا
وَمِنْهُم الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الْحكمِي وَولده مُحَمَّد كَانَا فقيهين كبيرين وَكَانَا يدرسان بِالْمَدْرَسَةِ المعزية الْمَعْرُوفَة بمدرسة الميلين وذريتهم يتوارثون ذَلِك إِلَى عصرنا سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة وَرَأَيْت إجَازَة لمُحَمد فِي إقرائه لبَعض الطّلبَة لكتاب الْمُهَذّب أَنه كَانَ ذَلِك فِي أَيَّام آخرهَا ثَالِث عشر جُمَادَى الأولى من سنة خمسين وسِتمِائَة وَأدْركت لمُحَمد أَخا اسْمه أَبُو بكر درس بعد أَخِيه وَكَانَ رجلا صَالحا مُبَارَكًا ذَا مروة وتفضل وَعمي فِي آخِره وَتُوفِّي آخر المئة السَّابِعَة وَخَلفه ابْنَانِ هما عَليّ وَعمر فعلي درس بالعاصمية إِلَى أَن توفّي فِي الْمحرم سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة وَخَلفه ابْن اسْمه أَبُو بكر هُوَ الْآن مدرس بِالْمَدْرَسَةِ المعزية وَله مروة وَخلق درس بهَا بعد عَمه وَالْغَالِب عَلَيْهِم الْخَيْر وَالدّين ويعرفون بحكماء الميلين تَحَرُّزًا من حكماء الْجَامِع
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي بكر بن أبي الْحُسَيْن بن عبد الله الزوقري ثمَّ الركبي وَيعرف بِابْن الْحطاب فَإِن أَبَاهُ كَانَ يسكن قَرْيَة النويدرة على بَاب زبيد القبلي نِسْبَة إِلَى بيع الْحَطب مولده آخر المئة السَّادِسَة وتفقهه بِابْن قَاسم الْمُقدم ذكره وتضلع من عُلُوم شَتَّى بِحَيْثُ كَانَ يفضل على فُقَهَاء عصره أجمع على ذَلِك المؤالف والمخالف وَكَانَ يقرىء الْقرَاءَات السَّبع وَكَانَ نحويا لغويا فروعيا أصوليا فرضيا حسابيا حديثيا وَكَانَ يَقُول أَنا ابْن عشْرين علما لَيْسَ أحد لي مناظرا فِي شَيْء مِنْهَا ذكر الثِّقَة أَنه حصل اجْتِمَاع لفقهاء زبيد فِي وَلِيمَة وَتَأَخر هَذَا الْفَقِيه عَن الْمُبَادرَة فَلم يتم أَمر حَتَّى وصل فَأقبل يمشي وَعَلِيهِ ثِيَاب مُرْتَفعَة يجر رِدَاءَهُ فَقَالَ شَيْخه ابْن قَاسم مَا هَذَا الْعجب الَّذِي مَعَ هَذَا الصَّبِي فحين دخل الْمجْلس قصد صَدره وَقعد فِيهِ غير محتفل بِأحد وَلَا لافت فَقَالَ لَهُ بعض الْحَاضِرين مسرا إِنَّك لما أَقبلت على الْجَمَاعَة قالو كَيْت وَكَيْت ثمَّ قَالَ الْفَقِيه عَليّ بن قَاسم كَذَا وَكَذَا فَرفع الْفَقِيه رَأسه وَقَالَ جهارا كَيفَ لَا أعجب وَأَنا ابْن عشْرين علما لَيْسَ فِي الْحَاضِرين من يناظرني فِي وَاحِد مِنْهَا ثمَّ أنْشد قَول المتنبي ... إِن أكن معجبا فَعجب عَجِيب ... لم يجد فَوق نَفسه من مزِيد ...(1/475)
وَحين تفقه صَار إِلَى زبيد من النويدرة وَمن قومه بَقِيَّة بهَا إِلَى الْآن وَلما صَار إِلَى مَدِينَة زبيد حَاز مَسْجِد الأشاعر على أَصْحَاب أبي حنيفَة وَصَارَ يدرس فِيهِ وعندما دخل الْوَقْت يَأْمر الْمُؤَذّن بِالْأَذَانِ ثمَّ يُبَادر إِلَى أَدَاء الصَّلَاة كَمَا هُوَ مقول فِي مَذْهَب الشَّافِعِي فتعب من ذَلِك أَصْحَاب أبي حنيفَة وَلم يحتفل بهم وَكَانَ لَا يكَاد يُوجد إِلَّا مدرسا للْعلم أَو مُقبلا على صَلَاة وغالب تدريسه فِي مَسْجِد الأشاعر ونادرة فِي مَسْجِد عِنْد بَيته يعرف بفخر الدّين بن عَليّ رَسُول الَّذِي جددته الْحرَّة مَاء السَّمَاء ابْنة المظفر وَقد تقدم ذكرهَا وَذكر الثِّقَة أَنه أصبح ذَات يَوْم استدعى بِأَخ لَهُ اسْمه أَبُو الْحسن وَهُوَ جد الْمَوْجُودين بقرية النويدرة المعروفين ببني الْحطاب فَلَمَّا حَضَره قَالَ لَهُ يَا فلَان رَأَيْت البارحة رَبِّي تَعَالَى فَقَالَ لي يَا مُحَمَّد إِنَّا أحبك فَقلت يارب من أحببته ابتليته فَقَالَ استعد للبلاء وَأَنت يَا أخي فَكُن بِي على حذر ثمَّ فِي ذَلِك الْيَوْم خرج من بَيته إِلَى الأشاعر يُرِيد صَلَاة الْعَصْر فَصلاهَا ثمَّ عَاد بَيته مسرعا وَكَانَ من عَادَته الْقعُود والإقراء فَلَمَّا صَار بِشَيْء من الطَّرِيق غشي عَلَيْهِ فَذكرُوا أَن الْفَقِيه إِسْمَاعِيل الْحَضْرَمِيّ نفع الله بِهِ مر بِهِ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَال فأكب عَلَيْهِ وَقبل بَين عَيْنَيْهِ ثمَّ قَالَ أَهلا بك يَا مَحْبُوب ثمَّ حمل إِلَى بَيته وَكَانَ ذَلِك وَهُوَ ابْن خمس وَعشْرين سنة وَكَانَ متزوجا بابنة شَيْخه عَليّ بن قَاسم ففسخ عَلَيْهِ نِكَاحهَا وَاشْترى لَهُ من مَاله جَارِيَة تقوم بِهِ وخطبت زَوجته فَقَالَت لَا أُرِيد بِهِ بَدَلا حَيا وَلَا مَيتا وَكَانَت الْجَارِيَة ترمه وَتَحفظه وَقد أَتَت لَهُ بابنتين إِحْدَاهمَا مَوْجُودَة عَام وَاحِد وَعشْرين وَسَبْعمائة وَكَانَ من أَكثر النَّاس حفظا للآثار وَالْأَخْبَار والأشعار وَكَانَ مُقَيّدا مربوطا إِلَى شَيْء أكيد ثمَّ كَانَ الطّلبَة من أَصْحَابه وَأهل عصره يقرؤون عَلَيْهِ فِي أَوْقَات يكون فِيهَا متعافيا وكل من أعياه مثل أَو مَسْأَلَة وَصله وَسَأَلَهُ فيزيل عَنهُ الْإِشْكَال
حُكيَ أَن الْملك المظفر قَالَ يَوْمًا لجلسائه أذكر بَيْتَيْنِ كنت أحفظهما فِي المعلامة لَا أذكر مِنْهُمَا غير حضني أَو حضنا وأريدهما وَلَو بِمَال فَقَالَ لَهُ بعض الْحَاضِرين يَا مَوْلَانَا هُنَا فَقِيه فَاضل حصل بِهِ جنان يفِيق فِي بعض الأحيان وَيسْأل عَن مسَائِل فيجيب عَنْهَا وَلَو أَمر مَوْلَانَا بإحضاره فِي وَقت الصحو فَرُبمَا يجد عِنْده مَا سَأَلَ فَقبل السُّلْطَان ذَلِك وَأمر إِلَى الْجَارِيَة وسألها عَن وَقت يَتَّسِع فِيهِ صفاء ذهن الْفَقِيه فَقَالَت مَا بَين الْمغرب وَالْعشَاء فَأمر إِلَيْهَا بِثِيَاب وأمرها أَن تغسله وتطيبه وَعرفهَا أَنه بعد الْمغرب يُرْسل لَهُ بمركوب وَأَنَّهَا تصل مَعَه وَذَلِكَ أَنه بلغ السُّلْطَان أَنَّهَا تشد عَلَيْهِ وَقد(1/476)
تضربه فَهُوَ يخافها خوفًا شَدِيدا فَلَمَّا كَانَ بعد الْمغرب أَمر السُّلْطَان لَهُ بمركوب وَغُلَام يركبه ويسير مَعَه إِلَى دَاره وَكَانَت الْجَارِيَة قد استعدت لذَلِك بِمَا يَلِيق من غسل وتنظيف وسارت مَعَه حَتَّى دخلت مَعَه مقَام السُّلْطَان الْملك المظفر وَقد اغتص بالأمراء والحرفاء وأعيان الدولة فَأقْعدَ وَلما اسْتَقر سُئِلَ عَن أَي مَكَان هُوَ فِيهِ فَقَالَ هُوَ مقَام السُّلْطَان الْملك المظفر ثمَّ قَالَ لَهُ يَا يُوسُف كَانَ والدك صَاحِبي فَقَالَ السُّلْطَان وَنعم الصاحب أَنْت يَا فَقِيه ثمَّ أَمر من يسْأَله من الْحَاضِرين شخصا شخصا فَكلما سُئِلَ عَن وَاحِد قَالَ هَذَا فلَان قَالَ هَذَا فلَان بِمَعْرِِفَة شافية حَتَّى قيل لَهُ ابْن دعاس فَقَالَ هَذَا ابْن عَم أَخِيه وَكَانَ بَينهمَا مكارهة من طَرِيق الْمَذْهَب إِذْ ابْن دعاس حَنَفِيّ فحين تحقق السُّلْطَان صفاء ذهنه أَمر من يكلمهُ فِي طلبته فَقيل لَهُ إِن مَوْلَانَا السُّلْطَان كَانَ يحفظ أَيَّام الْمكتب بَيْتَيْنِ وَقد نسيهما غير أَن فِي أَحدهمَا حضنى أَو حضني فَقَالَ الْفَقِيه هما ... رَاحَة الْإِنْسَان حَيا ... بَين حضني وَالِديهِ
فَإِذا مَاتَا أحالا ... بشقا الدُّنْيَا عَلَيْهِ ... فَقَالَ السُّلْطَان هما وَالله البيتان وسر بهما سُرُورًا عَظِيما وَأمر أَن يخلع عَلَيْهِ فَفعل ثمَّ بدا مِنْهُ شَيْء حسن التعقيل فَقَالَت الْجَارِيَة هَذَا وَقت تغير حَاله فأعيدوه إِلَى الْبَيْت فَأمر السُّلْطَان بذلك فِي سرعَة وأعيد إِلَى بَيته ثمَّ فِي صباح ذَلِك الْيَوْم أصبح متأسفا عَلَيْهِ ولائما لِأَبِيهِ كَيفَ حصل لَهُ رجل فِي دولته مثل هَذَا وغفل عَن حَدِيثه وَلم يداوه ثمَّ طلب الطَّبِيب وَأمره بِمُبَاشَرَة الْفَقِيه ووعده على عافيته إعطاءه مَا سَأَلَ فَذكرُوا أَنه تقدم وَنَظره وَخرج من عِنْده وَقد استبشر لَهُ بالفرج فَيُقَال إِن ابْن دعاس لقِيه بِالطَّرِيقِ وَقد كَانَ علم مَا أَمر لَهُ فَقَالَ كَيفَ رَأَيْت حَال هَذَا الرجل هَل يتداوى قَالَ نعم فَقَالَ وَالله إِن تعافى لَا يتْرك لَك وَلَا لأحد من الْفُضَلَاء قدرا فَإِنَّهُ فِي كل علم باقعة وَالصَّوَاب أَنَّك تدفع السُّلْطَان عَن ذَلِك لعذر مَا فأوقع ذَلِك فِي نفس الطَّبِيب وَلما صَار إِلَى السُّلْطَان قَالَ وَالله يَا مَوْلَانَا هَذَا لَا يتداوى إِلَّا فِي الْعرَاق قَالَ لَهُ فَلَو بَعَثْنَاهُ إِلَى الْعرَاق وتداوى ثمَّ عَاد إِلَى الْبِلَاد هَل يخْشَى عَلَيْهِ شَيْء قَالَ نعم فَأَعْرض السُّلْطَان عَن ذَلِك ظنا مِنْهُ أَنه صَادِق فِيمَا يَقُول ثمَّ أَمر أَن يجْرِي على الْفَقِيه كل يَوْم عشْرين درهما فحسده ابْن دعاس وَلم يزل بالسلطان حَتَّى نَقصهَا حَتَّى عَادَتْ إِلَى دِرْهَمَيْنِ وَاسْتمرّ ذَلِك بعد مَوته على ذُريَّته وَكَانَ كثيرا مَا يَأْتِيهِ أَصْحَابه وَغَيرهم فَمَتَى لقوه ذَاهِبًا(1/477)
باحثوه فِي الْعلم وَمَتى تغير خَرجُوا عَنهُ وَمن لم يفهم حَاله صفقت الْجَارِيَة فَيعرف فَيخرج فتظهر الْجَارِيَة وتهيب بِالضَّرْبِ وَرُبمَا ضَربته فيسكن إِذْ كَانَ يخافها
أَخْبرنِي وَالِدي يُوسُف بن يَعْقُوب نور الله حفرته قَالَ كنت أحب هَذَا الْفَقِيه ابْن الْحطاب على السماع وأكره أَن أره على مَا قد بَلغنِي من الْحَال علمت أَن رجلا مِمَّن كنت أَصْحَبهُ قَالَ لي يَوْمًا اذْهَبْ معي إِلَى الْفَقِيه ابْن الْحطاب نسلم عَلَيْهِ فَاسْتَحْيَيْت مِنْهُ ورافقته فَلَمَّا صرت مَعَه إِلَيْهِ وَسلمنَا عَلَيْهِ رد علينا ردا جيدا ثمَّ قَالَ للرجل يَا مُحَمَّد هَل جئتنا بِشَيْء فَقَالَ بنفسي فَأَنْشد الْفَقِيه مرتجلا ... أَتَانَا أَخ من غيبَة كَانَ غابها ... وَكَانَ إِذا مَا غَابَ ننشده الركبا
فَقُلْنَا لَهُ هَل جئتنا بهدية ... فَقَالَ بنفسي قلت نطعمها الكلبا ... وَنَحْو ذَلِك مَا أَخْبرنِي الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ بن الشَّيْخ الْفَاضِل مَنْصُور بن حسن الْكَاتِب عَن أَبِيه قَالَ دخلت أَنا والمقرىء مُحَمَّد بن عَليّ الْفَقِيه الْمَذْكُور فَسَأَلَهُ المقرىء عَن مَسْأَلَة فِي الْحيض مشكلة فَأَبَانَهَا لَهُ ثمَّ أنْشد ... لَو علمنَا مجيئكم لبذلنا ... مهج النَّفس أَو سَواد الْعُيُون
وفرشنا على الطَّرِيق خدودا ... ليَكُون الْمُرُور فَوق الجفون ... وَله شعر رائق مِنْهُ مَا وجدته بوصاب عَام دَخَلتهَا سنة عشْرين وَسَبْعمائة مَعَ مقرئها يَوْمئِذٍ وَهُوَ مُحَمَّد بن يُوسُف الغيثي الْآتِي ذكره قَالَ أثبت إِلَيّ أَن هَذَا الْفَقِيه يَعْنِي ابْن الْحطاب كَانَ بَينه وَبَين الْفَقِيه مُوسَى بن أَحْمد شَارِح اللمع الْآتِي ذكره صُحْبَة ومكاتبة وَأَنه كتب إِلَيْهِ شعرًا مِنْهُ لما دخل كِتَابه شرح اللمع إِلَى زبيد مَا مِثَاله ... تربي خليلي فِي ربع والثمل فأرقته ... وَيَكْفِيك فضلا أدمج حطاب
وكل وعذراء بردي
وَهَذَا جملَة مَا وجدته عِنْد المقرىء الْمَذْكُور وَبِالْجُمْلَةِ فأوصافه جمة وَإِنِّي مقصر عَن استيعابها وَكَانَت وَفَاته بزبيد سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة(1/478)
إِلَى هُنَا تَنْتَهِي تَرْجَمَة الأديب الْعَلامَة أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي بكر الزوقري الْمَعْرُوف بِابْن الْحطاب الزبيدِيّ وبانتهاء هَذِه التَّرْجَمَة انصرم الْجُزْء الأول من كتاب السلوك فِي طَبَقَات الْعلمَاء والملوك للمؤرخ الْفَاضِل بهاء الدّين أبي عبد الله مُحَمَّد بن يُوسُف بن يَعْقُوب الجندي السكْسكِي الْكِنْدِيّ وَذَلِكَ بتجزئة الْمُحَقق مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن الْأَكْوَع الحوالي لطف الله بِهِ ويبتدىء الْجُزْء الثَّانِي بترجمة أبي عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن يحيى بن عبد الله النَّاسِخ الزبيدِيّ
حررها بتاريخ 27 الِاثْنَيْنِ من شهر رَجَب 1403 هـ الْمُوَافق 9 من شهر مايو سنة 1983 م(1/479)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
وانه كتب اليه بِشعر مِنْهُ لما دخل كِتَابه شرح اللمع إِلَى زبيد مَا مِثَاله ... ترى دهسات الرمل من جَانب الند ... على عهدها ام قد تغيرن من بعدِي
منَازِل من مي عهدنا بهَا المها ... لَهَا فتكة تربى على صولة الْأسد
هُنَالك أذمى على ايمن الحما ... وَهِنْد يسراه فَمن لَك من هِنْد
سقى الله ربعا للأحبة باللوى ... على عقدات الكثب والشمل كالعقد
خليلي فِي ربع على الرّبع بعْدهَا ... وَأنْفق نَفِيس الْعُمر فِي طلب الْمجد
إِذا كنت شهما فاترك الْهزْل جانبا ... ونافس على عليا الْمَرَاتِب بالجد
كَفعل عماد الدّين مُوسَى بن أَحْمد ... حَلِيف الْمَعَالِي جَامع الْمجد وَالْحَمْد
فَتى ترك اللَّذَّات فِي طلب العلى ... فارقته همات لَهُ قمة السعد
مَتى تلقه تلق ابْن إِدْرِيس فقهه ... وسُفْيَان فِي جمع التنسك والزهد
ويكفيه فضلا مَا ابان بشرحه ... على لمع الشَّيْخ الامام أبي الْمجد
وَعِنْدِي ان الشَّيْخ لوعان شَرحه ... لقَالَ لَهُ احسنت لم تعد مَا عِنْدِي
لَئِن كَانَ ابراهيم ادمج مَتنه ... لقد حل مُوسَى كل مَا فِيهِ من عقد
وعذراء من علم الاصول تمنعت ... على كل خطاب وكل اخى نقد
أهاب بهَا يَوْمًا فالقت قناعها ... وجائته طَوْعًا فِي جلابيبها تردى ...(2/27)
وَهَذَا مَا وجدته عِنْد المقرى الْمَذْكُور وَبِالْجُمْلَةِ اوصافه جمة وانى مقصر عَن استيعابها وَكَانَت وَفَاته بزبيد سنة خمس وَسِتِّينَ وستماية تَقْرِيبًا
وَمِنْهُم ابو عبد الله مُحَمَّد عَليّ بن يحيى بن عبد الله النَّاسِخ كَانَ فَاضلا لَا سِيمَا بفن الادب واخذ عَنهُ جمَاعَة من اهل زبيد وَغَيرهَا وَمِنْهُم الْبكر يان فقيهان كبيران درسا وَأخذ عَنْهُمَا جمَاعَة الْمُتَقَدّم مِنْهُم عَليّ بن أبي بكركان فَقِيها فَاضلا متفننا وَهُوَ أحد شُيُوخ الْفَقِيه أبي الْخَيْر لَا سِيمَا بفن الْأَدَب لم أتحقق لَهُ تَارِيخا
وَمِنْهُم ابْن أَخِيه مُحَمَّد بن عمر كَانَ فَاضلا درس بالسيفية الَّتِي تعرف بام السُّلْطَان توفّي سنة ارْبَعْ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة
وَمِنْهُم عبد الله بن مَنْصُور بن ابراهيم بن عَليّ بن ابراهيم بن عَليّ بن مُحَمَّد الفرسي نسبه بِالْفَاءِ مَضْمُومَة بعد الف وَلَام وَبعدهَا رَاء سَاكِنة وخفض السِّين الْمُهْملَة ثمَّ يَاء نِسْبَة الى الْفرس واصله من قَرْيَة بوادي زبيد تعرف بالتربة بتاء مثناة من فَوق مضمومه بعد ألف وَلَام وَبعدهَا رَاء سَاكِنة ثمَّ بَاء مُوَحدَة ومفتوحة ثمَّ هَاء وَهِي بِالْقربِ من قَرْيَة القرتب الَّتِي سمي بهَا بَاب الْمَدِينَة اليمني وَله بهَا إِلَى الْآن قرَابَة مِنْهُم جمَاعَة يسكنون قَرْيَة المسلب أَيْضا فِي الْوَادي وَكَانَ هَذَا عبد الله فَقِيها عَالما من أتراب الْفَقِيه مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْحَضْرَمِيّ الَّاتِي ذكره وَله ابْن اخ اسْمه مَنْصُور بن حسن الْآتِي ذكره وَكَانَ هَذَا من اعيان فُقَهَاء وقته وَلم اتحقق تَارِيخه واما ابْن اخيه الْمَذْكُور فَهُوَ مَنْصُور بن حسن مولده شهر رَمَضَان(2/28)
سنة سبع عشرَة وسِتمِائَة كَانَ اُحْدُ اعيان الْكتاب فِي الدولة المظفرية وَصدر المؤيدية لم يكن لَهُ نَظِير فيهم بِمَعْرِِفَة كتب الْأَدَب ولاكثر المحفوظات نظما ونثرا وَمهما اشكل فِي ذَلِك فِي وقته انما يرجع اليه فِي الْغَالِب بِهِ اخذ عَن الامام الصغاني المقامات وَغَيرهَا واخذ عَن غَيره كزكريا بن يحي الاسكندر عدَّة من كتب الحَدِيث وَغَيرهَا وَيُقَال كَانَ محفوظه من الشّعْر يزِيد على عشرَة الاف بَيت وَكَانَ غَالب أوقاته نَاظرا إِمَّا بعدن أَو بجبلة وهما من أعظم أَعمال الْيمن وَمَا أدْرك عَلَيْهِ غلظ وَلَا خِيَانَة لمخدوم بل شهر عَنهُ الامانة وَعدم ظلم الرّعية وَكَانَت وَفَاته على النّظر بذى جبلة فِي يَوْم الْجُمُعَة عَاشر الْمحرم سنة سَبْعمِائة
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن عبد الْعَزِيز بن عبد الرَّحْمَن عرف بالفشلي مولده رَابِع عشر شعْبَان سنة خمس وَثَمَانِينَ وخمسماية اخذ عَن جمَاعَة من الاكابر كالشريف ابي حَدِيد وَابْن حرويه الْموصِلِي وَغَيرهمَا وارتحل الى مَكَّة وَالْمَدينَة واخذ عَن أعيانهما كَابْن ابي الصَّيف وَعمر بن عبد الْمجِيد الفرسي وَغَيرهمَا وَأخذ عَنهُ كَثِيرُونَ من أهل الْيمن وَغلب عَلَيْهِ علم الحَدِيث فَكَانَ إِمَامًا فِيهِ وَهُوَ اُحْدُ شُيُوخ شَيْخي أَحْمد بن عَليّ السرددي وَكَانَت لَهُ مكانة عِنْد الْملك الْمَنْصُور ثمَّ عِنْد وَلَده المظفر وَسمع عَلَيْهِ عدَّة من كتب الحَدِيث مَعَ جمع كثير وَكَانَت وَفَاته ان ركب دَابَّته يَوْمًا بِمَدِينَة زبيد يُرِيد بعض حَوَائِجه فمرت الدَّابَّة عِنْد كلب فنبحها فجفلت مِنْهُ فَوَقع مِنْهَا على الارض مَيتا وَذَلِكَ يَوْم الاربعاء عَاشر رَمَضَان سنة احدى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة واما وَالِده ابراهيم فَكَانَ رجلا فَاضلا صَالحا صَاحب عبادات وكرامات هُوَ شيخ الشَّيْخ احْمَد الصياد وَالَّذِي كَانَ يدله على الطَّرِيق الى الله تَعَالَى بِحَيْثُ حكى فِي سيرته انه قَالَ لما فتح الله لي بِمَا فتح(2/29)
سلم الي الْفُقَهَاء والمشايخ غير هَذَا الشَّيْخ ابراهيم الفشلي فانه اخي وقسيمي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَكَانَ يثني عَلَيْهِ ثَنَاء كثيرا هَكَذَا ذكر مؤلف سيرته اعني الصياد
وَمِنْهُم أَبُو الْخَيْر بن مَنْصُور بن أبي الْخَيْر الشماخي السَّعْدِيّ نسبا والحضرمي بَلَدا اِدَّرَكَ جمَاعَة من الاكابر واخذ على اصحاب السلفى بِمَكَّة كَابْن الْحِمْيَرِي وَغَيره واخذ بأحور الْبَلَد الَّتِي يَأْتِي ذكرهَا عَن أبي عبد الله بن احْمَد بن عراف عَن يحي بن ابي قصير الظفاري عَن الامام القلعي الْآتِي ذكره وتضلع من عُلُوم كَثِيرَة مِنْهَا الْفِقْه والنحو واللغة والفرائض والْحَدِيث وَالتَّفْسِير وصنف كتبا فِي ذَلِك تدل على جودة مَعْرفَته واخذ عَن الامام بطال بن احْمَد وَلم يكن لَهُ فِي اخر عمره نَظِير بجودة الْعلم وَضبط الْكتب بِحَيْثُ لَا يُوجد لكتبه نَظِير فِي الضَّبْط أَخْبرنِي جمَاعَة مِمَّن ادركه أَنه كَانَ لَا يُوجد إِلَّا وَعِنْده كتاب ينظر فِيهِ ومحبرة وَأَقْلَام يصلح بهما
مَا وجد فِي الْكتاب وَكَانَت وَفَاته بزبيد لسبع بَقينَ من جمادي الْآخِرَه سنة ثَمَانِينَ وستماية بعد أَن بلغ عمره سبعين سنة وَبعد أَن جمعت خزانته من الْكتب مَا لم تجمعه خزانَة غَيره مِمَّن هونظير لَهُ بِحَيْثُ قَالُوا كَانَ فِيهَا مائَة أم سوى المختصرات وَخَلفه ابْنه احْمَد مولده نَهَار الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشر صفر من سنة خمس وَخمسين وستماية وَهُوَ شيخ الحَدِيث فِي الْبَلَد والبلاد وَأحد أَعْيَان الافراد وَعنهُ اخذت سعار الدّين للخطابي وَبَعض الأربعينات وَأَجَازَ فِي باجازة عَامَّة وَسمع عَلَيْهِ الْملك الْمُؤَيد سنَن ابي دَاوُد فِي سنة ثَلَاث عشرَة وسبعماية وَكَانَ لَهُ ابْن آخر اسْمه مُحَمَّد ولي قضا موزع وَكَانَ مَذْكُورا بالتقى والسخاء وَتُوفِّي بحياة أَبِيه وَعَلِيهِ دين أدانه قَضَاهُ عَنهُ وَالِده وَلم اتحقق تَارِيخه وَلأَحْمَد أَوْلَاد يترشحون لاقراء الحَدِيث لبث نَحوا من سنتَيْن لَا يُطيق الْقيام وَتُوفِّي يَوْم الثُّلَاثَاء منتصف ربيع الاول سنة تسع وَعشْرين وسبعمائه(2/30)
وَمِنْهُم سعيد بن مُحَمَّد بن مُعَاوِيَة وَمِنْهُم مُحَمَّد بن حُسَيْن بن عَليّ بن الْمحرم الْحَضْرَمِيّ يُقَال كَانَ بَينه وَبَين أبي الْخَيْر قرَابَة وَكَانَ هَذَا فَقِيها فَاضلا غلب عَلَيْهِ فن الْأَدَب وَكَانَ لَهُ ولدا مجيدا خطاطا فَسَأَلَهُ المظفر عَن رجل يصلح لتعليم وَلَده الْمُؤَيد فارشد اليه فاستدعاه وامره بالتعليم فَعلم وأجاد فَكَانَ الْمُؤَيد ببركة تَعْلِيمه من اعيان الزَّمَان عقلا ونقلا وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ مستهل الْحجَّة سنة احدى وَثَمَانِينَ وستماية وَكَانَ خيرا صَالحا فرضيا حسابيا صَاحب مكاشفات وعبادات إبتني مَسْجِدا شهر بِهِ وَلم يزل يدرس بِهِ حَتَّى كَانَت وَفَاته تَقْرِيبًا نَحْو خمسين وستماية
ثمَّ صَار الْفِقْه فِي طبقَة اخرى غَالب اصحابها تلاميذ مُحَمَّد بن قَاسم الْمُقدم ذكره وَقد تقدم مِنْهُم ابْن الْحطاب ثمَّ تَأَخّر عَنْهُم جمَاعَة مِنْهُم أَبُو الْخطاب عمر بن عَاصِم بن مُحَمَّد بن عَاصِم بن مُحَمَّد بن عَاصِم بن عِيسَى اليعلي بياء مثناة من تَحت مَفْتُوحَة بعد الف وَلَام وَبعدهَا عين مُهْملَة سَاكِنة ثمَّ لَام ثمَّ يَاء نسب فَخذ من كنَانَة ثمَّ الْكِنَانِي كَانَ فَقِيها كَبِيرا فَاضلا بالفقه والنحو واللغة والْحَدِيث وَله أشعار مستحسنة تفقه بِهِ جمَاعَة مِنْهُم وَالِدي يُوسُف بن يَعْقُوب واخذ عَنهُ شَيخنَا ابو الْحسن الاصبحي خُلَاصَة الْغَزالِيّ وَأَخذهَا عَنهُ ايضا الإِمَام إِسْمَاعِيل الْحَضْرَمِيّ واليه انْتَهَت رياسة الْفِقْه وَالْفَتْوَى بِمَدِينَة زبيد وَحصل فِي نفس قَاضِي الْقُضَاة عَلَيْهِ عتب بِكَلَام نقل عَنهُ فَجعل النايب يتعند بِهِ فِي أَمر الْمدرسَة يعامله بِمَا لَا يَلِيق وَكَانَ لَهُ عِنْد السُّلْطَان الْملك المظفر مكانة اعني الْفَقِيه كتب اليه يشكو من النَّائِب من جملَة الشكوى أَبْيَات مِنْهَا ... خربَتْ مدارسكم مَعًا يَا يُوسُف ... وفتى وحيش لَو عملت الْمُتْلف ...(2/31)
فَلَمَّا وقف السُّلْطَان على كِتَابه وَكَانَ قَاضِي الْقُضَاة اذ ذَاك حَاضر قَالَ لَهُ يَا قَاضِي بهَا الدّين من النَّاظر على مدارس زبيد قَالَ يَا مَوْلَانَا ابْن وحيش قَالَ لَا يكون لَهُ على مدرسة الْفَقِيه ابْن عَاصِم نظر فَقَالَ سمعا وَطَاعَة ثمَّ كتب اليه قد صرفناه عَن النّظر فِي مدرستك فاترك عَلَيْهَا من اخترته وَله شعر فِي ذمّ الْمدَارِس ... بيع الْمدَارِس لَو علمت بدارس ... يغلو وَمن يحسن صَفْقَة للْمُشْتَرِي
دعها ولازم للمساجد دَائِما ... ان شيت تظفر بالثواب الاوفر ... وصنف زوايد الْبَيَان على الْمُهَذّب فِي كتاب وَيُقَال ان ذَلِك أحد مَا اوجب الوحشة بَينه وَبَين قَاضِي الْقُضَاة اذ هُوَ من قومه فانه نقل اليه انه قصد بذلك حط الْبَيَان وَإِن لَا يلْتَفت اليه مَعَ وجود مُصَنفه والمهذب مَعَ ان كِتَابه لم يكد يشهر وَلَا تتداول وَكَانَت وَفَاته طُلُوع شمس نَهَار الْخَمِيس لخمس بَقينَ من ربيع سنة ارْبَعْ وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة
وَمِنْهُم أَبُو بكر بن عبد الله عرف بالريمي تفقه بِابْن قَاسم ايضا وَبِه تفقه جمَاعَة كَثِيرُونَ كاحمد بن سُلَيْمَان وَعَمه عِيسَى وَغَيرهمَا وَكَانَت وَفَاته على طَرِيق التَّقْرِيب سنة ثَمَانِينَ وستماية وَخلف وَلدين فقيهين عبد الله وَمُحَمّد فعبد الله اعاد بمدرسة أَبِيه إِذْ كَانَ أَبوهُ يدرس فِي التاجية الَّتِي تعرف بمدرسة المبرذعين وَأقَام معيدا سنة ثمَّ حصل عَلَيْهِ وَله فَجعل مَكَانَهُ اخوه فاقام مُدَّة ثمَّ عانده قَاضِي زبيد مُوسَى بن ايمن فَعَزله وَجعل مُحَمَّد بن أبي بكر النَّاشِرِيّ مَكَانَهُ ليستعين بِهِ فِي االإستنابه إِذا خرج إِلَى بَلَده
وَمِنْهُم عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد أَبَا حسان الْحَضْرَمِيّ الشبامي قدم زبيد ابْن اربعين سنة فتفقه بابيات حُسَيْن ثمَّ سَافر إِلَى مَكَّة(2/32)
فادرك ابْن السّبْعين وَأخذ عَن أَصْحَابه وَله يَد فِي التصوف وَقَرَأَ النَّحْو كَذَلِك والْحَدِيث وصنف فيهمَا وَكَانَ عابدا ورعا زاهدت خلف كتبا عدَّة وَصَحب ابْن الْحَضْرَمِيّ اسماعيل وَجَمَاعَة من أَصْحَاب أبي الْغَيْث وَابْن عجيل وَتُوفِّي على ذَلِك سنة ارْبَعْ وَعشْرين وَسَبْعمائة وَخلف ولدا جيدا توفّي بعده بِيَسِير وَلم يمت إِلَّا عَن بَنَات وَولد توفّي بعده بعد أَن تفقه وَذَلِكَ برجب سبع وَعشْرين وَسَبْعمائة بعد أَن عمر على مَا يزِيد على مائَة سنة رَحمَه الله لم يتَغَيَّر لَهُ سمع وَلَا ذهن وَلَا بصر
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد يجْتَمع مَعَ عبد الرَّحْمَن باحمد تفقه بِبَلَدِهِ وبزبيد أَيْضا وَبهَا توفّي وَهُوَ وَالِد عبد الله الْحَضْرَمِيّ الْعَطَّار وَكَانَ لَهُ أَخ اسْمه أَحْمد يذكر عَنهُ الْخَيْر الْجيد
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن القيقل كَانَ فَقِيها مُحدثا وَهُوَ الَّذِي سمع المظفر بقرآته الحَدِيث على الفشلي وَضبط جده بقافين مفتوحتين بَينهمَا يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ لَام وَأَصله من قَرْيَة من قرى زبيد تعرف بِمحل ماتع وَلم أعرف لَهُ تَارِيخا
ثمَّ صَار الْفِقْه إِلَى طبقَة أُخْرَى مِنْهُم أَحْمد بن أبي بكر عرف بِابْن سرُور قيل أَنه ينتسب إِلَى ابي عبد الله الْقَائِد سرُور آخر وزراء الْحَبَشَة الْآتِي ذكرهم وَكَانَ فَقِيها فَاضلا وَكَانَ زميلا لاحمد بن سُلَيْمَان الْحكمِي الْآتِي ذكره أَن شَاءَ الله وَهُوَ الَّذِي رغبه بسكنى زبيد إِذْ أصل بَلَده القحمة واثنى عَلَيْهِ ابْن دعاس بمقام المظفر والمنصورية قد شغرت عَن مدرس فرتبه المظفر بهَا وَلم يكد(2/33)
يقف طائلا بهَا بل توفّي فَجعل مَكَانَهُ الْفَقِيه عبد الله بن الْحَضْرَمِيّ الْآتِي ذكره
وَمِنْهُم عمر بن عَليّ الحجي كَانَ فَقِيها فَاضلا تفقه بالريمي ودرس بالهكارية واعاد بالنظامية وَكَانَ يذكر بِالْخَيرِ إِلَى أَن توفّي لَيْلَة الْجُمُعَة ثَالِث رَمَضَان سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة
وَمِنْهُم أَبُو الْحسن أَحْمد بن سُلَيْمَان الْحكمِي مولده سنة خمس واربعين وستماية وتفقه بِصَالح بن عَليّ الْحَضْرَمِيّ الَّاتِي ذكره وبالريمي الْمَذْكُور أَولا كَانَ مَشْهُورا بالذكاء اليه انْتَهَت رياسة الْفَتْوَى بزبيد وَبِه تفقه جمَاعَة كَثِيرُونَ وَلما توفيت الدَّار الشمسي فِي سنة خمس وَتِسْعين وسِتمِائَة وَكَانَت قد أوصت بِكُل أملاكها لِابْنِ اخيها الْمُؤَيد بن المظفر وَالْوَارِث لَهَا اخوها الفايز بن الْمَنْصُور وَالسُّلْطَان يَوْمئِذٍ الاشرف بن المظفر والمؤيد اذ ذَاك فِي حَبسه وَكَانَ يعجب الاشرف بطلَان الْوَصِيَّة لكَي يصير مَا بَطل مِيرَاثا فيشتريه من عَمه الفايز فَكَانَ هَذَا احْمَد لَهُ عناية جَيِّدَة فِي ذَلِك استجلابا لخاطر الاشرف لَكِن كَانَ الْغَالِب على الاشرف الشَّفَقَة على الاهل وَكَرَاهَة التظاهر بذلك فَإِن حصل شَيْء بطرِيق شَرْعِي لم يكره ذَلِك فَكَانَ هَذَا الْفَقِيه من اشد النَّاس اجْتِهَادًا بالفتوى بِبُطْلَان الْوَصِيَّة وَوَافَقَهُ جمَاعَة من تهَامَة لَكِن لجودة الأرف كَانَ مَتى جَاءَت الْفَتْوَى من تهَامَة امْر بعرضها على شَيخنَا ابي الْحسن الأصبحي فان وَافق على الْجَواب والالم يعْمل بِهِ كَمَا يَأْتِي بَيَان ذَلِك ان شَاءَ الله واليه اشار الْفَقِيه هَارُون السروي فِي بعض شعره الَّذِي مدحه بِهِ على مَا يَأْتِي بَيَان ذَلِك وَكَانَ سَبَب تعصب هَذَا الْفَقِيه
الْميل مِنْهُ إِلَى مَا يُوَافق خاطر الاشرف رجا ان يَجْعَل قَاضِي قُضَاة تهَامَة فَلم يكد ينجح بذلك سَعْيه بل مَاتَ الاشرف على مَا سَيَأْتِي بَيَانه وَقَامَ الْمُؤَيد بِالْأَمر فَلم تكمل المسارعة فِي وَصِيَّة الْحرَّة إِلَّا بعد قِيَامه وَحصل على هَذَا الْفَقِيه احْمَد من السُّلْطَان الْمُؤَيد بعض مصادرة واهانة وعزل عَن تدريس(2/34)
المنصورية وَلزِمَ بَيته وَأَقْبل على نشر الْفِقْه ببيته تَارَة وبالجامع اخرى وَذَلِكَ سنة سبع وَتِسْعين إِلَى أَن توفّي سحر لَيْلَة الِاثْنَيْنِ ثامن شعْبَان سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة وقبر بمقابر بَاب زبيد الغربي اذ عِنْده قبر وَالِده وَكَانَ يذكر بالفقه أَيْضا وَكَانَ لَهُ ولد اسْمه مُحَمَّد تفقه وَتَوَلَّى إِعَادَة المنصورية ايام ابيه ثمَّ توفّي قبله بِسِتَّة أَيَّام
وَمِنْهُم عَمه عِيسَى بن ابي بكر تفقه بالريمي مقدم الذّكر انفا وَكَانَت طَرِيقَته فِي الدّين تفضل على طَرِيقه ابْن اخيه احْمَد وامتحن فِي اخر عمره بكفاف بَصَره الى أَن توفّي على ذَلِك سنة خمس وسبعماية وَله ابْن اخ اسْمه على تفقه ودرس بالتاجية الَّتِي تعرف بالمبرذعين الى أَن توفّي سنة خَمْسَة عشرَة وَسَبْعمائة
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عَليّ بن عمر الشرعبي عرف بِابْن المسود الْجبلي اخذ الْفَرَائِض عَن ابْن مُعَاوِيَة وَالْفِقْه عَن الريمي وَابْن عَاصِم وَهُوَ الَّذِي درس بعده بمدرسته وَهِي مدرسة احدثها الاتابك سنقر وَتُوفِّي على ذَلِك سنة سبع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة
وَمن الْحُكَمَاء عبد الرَّحْمَن بن ابي بكر يلقب بعمر مخبول درس بالعفيفية وَتُوفِّي بهَا فِي شعْبَان سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عُثْمَان بن مُحَمَّد بن عبد الله عرف بِابْن الْقصار مولده سنة سبع اَوْ ثَمَان وَخمسين وستماية تفقه بِابْن عَاصِم غَالِبا واخذ عَن غَيره ودرس الْفِقْه مُدَّة وَهُوَ فِي عصرنا يدرس الحَدِيث بِالْمَسْجِدِ الَّذِي احدثته الدَّار الشمسي بِمَدِينَة زبيد وَربع المعاصر مِنْهَا وَقد انْقَضى ذكر غَالب الْفُقَهَاء الْمُتَأَخِّرين من اهل الْبَلَد وَالْمذهب
لم يبْق الا ذكر الواردين اليها من اهل طبقتهم وهم جمَاعَة وَمن الواردين الى زبيد الشريف ذُو النُّون يُونُس بن يحي بن ابي الْحسن بن أبي البركات بن احْمَد بن عبد الله الْهَاشِمِي الْقصار الْبَغْدَادِيّ اقام بزبيد مُدَّة وَعنهُ اخذ جمع كَثِيرُونَ وَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ الحَدِيث اقام بِمَكَّة مُدَّة أَيَّام بالْمقَام واخذ عَنهُ الْفَقِيه(2/35)
اسحاق الطَّبَرِيّ وَغَيره وَمِمَّنْ اخذ عَنهُ الْفَقِيه إِسْمَاعِيل الْحَضْرَمِيّ وَغَيره وَلم اتحقق مآل أمره
وَمِنْهُم ابو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن أبي الْحسن بن أبي عرُوبَة الْموصِلِي كَانَ كَبِير الْقدر شهير الذّكر وَهُوَ اكثر من اخذ عَن الْفَقِيه مُحَمَّد الفشلي مقدم الذّكر
وَمِنْهُم مَحْمُود بن مُحَمَّد بن احْمَد الْكرْمَانِي كَانَ اول من اسْمَع وجيز الْغَزالِيّ فِي مَدِينَة زبيد وَبهَا توفّي وَكَانَ كثير الارتحال
تدير زبيد مُدَّة وَتُوفِّي وَله اخ اسْمه مِيكَائِيل يغلب على الظَّن تقاربهما فِي طَرِيق الْعلم روى عَن جمَاعَة وروى عَنهُ مثلهم
وَمِنْهُم أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان بن آدم عرف بالجبرتي نِسْبَة إِلَى جبرت صقع من بِلَاد الْحَبَشَة كَانَ لَهُ مسموعات واجازات اخذها عَن ابي الْخَيْر وَغَيره وَكَانَ غَالب دهره بِمَسْجِد يعرف الى الْآن بِهِ فَيُقَال مسجدالجبرتي وَكَانَ ورعا زاهدا توفّي على ذَلِك لَيْلَة الْأَحَد ثَالِث شعْبَان سنة ارْبَعْ وَسَبْعمائة
وَمِنْهُم الأخيار الابرار المعروفون بالحضارم بِبَيْت فقه وَعبادَة وورع انما مثلهم فِي بركَة الْفِقْه والتدريس فِي المتاخرين كبركة ال أبي زَكَرِيَّا الشوبريين الْمُقدم ذكرهم قل أَن يُوجد فَقِيه فِي الْجبَال إِلَّا أَخذ عَنْهُم اولهم شهرة بزبيد ابو الفدا اسماعيل بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن اسماعيل بن عَليّ بن عبد الله بن اسماعيل ابْن احْمَد بن مَيْمُون الْحِمْيَرِي وَيُقَال الْيَزنِي الْحِمْيَرِي نِسْبَة الى ذى يزن الْملك الْمَشْهُور فِي حمير وَهُوَ الَّذِي اخْرُج الْحَبَشَة عَن الْيمن بعد مُلُوكهَا واماهؤلاء الْقَوْم فهم كَمَا قَالَ الاول ... سبق الاوايل مَعَ تَأَخّر عصره ... كم اخرا يزرى بِفضل الاول ... كَانَ مولد هَذَا اسماعيل تَاسِع الْحجَّة من سنة احدى وسِتمِائَة ذكر الثِّقَة ان اباه لما تزوج بامه قيل لَهُ يَا مُحَمَّد ياتيك مِنْهَا ابْنَانِ مُحدث ومحدث الأول بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَالثَّانِي بخفضها وتفقه بابيه وَعَمه عَليّ الَّاتِي ذكرهمَا فِي أهل بلدهما(2/36)
وَقد اخذ عَن جمَاعَة من الْكِبَار كيونس بن يحي وَغَيره كالبرهان الْحَضْرَمِيّ وَكَانَ نقالا لفروع الْفِقْه غواصا على دقائقه وَله مصنفات مفيدة مِنْهَا شرح الْمُهَذّب وَغَيره وَدخل زبيد لغَرَض الزِّيَادَة فِي الْعلم فَتزَوج بابنة الْفَقِيه ابي بكر بن حنكاس الْحَنَفِيّ الَّاتِي ذكره وبابنة الْفَقِيه ابي الْخَيْر الْمُقدم ذكره وغلبت عَلَيْهِ محبَّة استيطان زبيد وَاجْتمعَ بِهِ المظفر غير مرّة يسمع عَلَيْهِ البُخَارِيّ فَلَمَّا جَاءَ القارى الى ذكر الْخمر وَالْخمر اشار لَهُ الْفَقِيه الى ذكر اعادته مرّة بعد اخرى بِحَيْثُ فهم الْملك المظفر أَنه يعرض لَهُ ابطاله فَقَالَ يَا فَقِيه قد فهمنا غرضك وَنحن نامر بابطاله فاستمر القارى على قِرَاءَته وَلما انْقَضى الْمجْلس قَالَ السُّلْطَان نُرِيد ابطال الْخمر فاعترضه ابْن دعاس وَقَالَ لَا عَلَيْك من رَأْي الْفَقِيه انت ملك وَعَلَيْك خراج عَظِيم وَلَا تَأْكُل ثمنهَا وَلَا تحضرها إِنَّمَا يَأْكُل الضَّمَان نَاس يشربونها وَلم يزل يُجَادِل حَتَّى اعْرِض السُّلْطَان عَن ذَلِك وَلما انقرض الاعيان فِي بنى صَالح جعل السُّلْطَان امْر القضا فِي تهَامَة اليه فَلبث مُدَّة الثرها سنة اسْتخْلف فِي الْقَضَاء اهله الصَّالِحين من اهل الْفِقْه والورع وَالصَّلَاح لم يتْرك قَاضِيا إِلَّا من علم صَلَاحه
وورعه فَترك بزبيد صهرا لَهُ اسْمه عَليّ بن احْمَد والقحمة عَليّ بن ثُمَامَة وهلم جرا فِي كل بلد فَقِيها ورعا وَاشْترط عَلَيْهِ ان لَا يحكم الا بِمحضر من الْفُقَهَاء فَيُقَال إِنَّه خُوطِبَ بهَا يَا اسماعيل رضيت بالنزول عَن التسمي بالفقه إِلَى التسمي بِالْقضَاءِ اَوْ كَمَا قيل وَقيل بل كَانَ كثير التَّرَدُّد الى تربة الشَّيْخ احْمَد الصياد وَقد يجد عِنْدهَا دَلِيلا على مَا فِيهِ صَلَاح حَاله فترجي هُنَالك بِمَا قدمنَا ذكره وَقيل أَنه لما وجد السُّلْطَان فِيمَا قَالَه من ابطال الْخمر كتب اليه فِي شقف وَقيل بِعظم يَا يُوسُف قد عزلت نَفسِي وامر بذلك الى امير خاندار رَسُولا وَقَالَ ابلغ ذَلِك الى السُّلْطَان فَلم يطق أَمِير خاندار كتم ذَلِك بل بعث بِهِ الى المظفر فحين وقف عَلَيْهِ علم ان لَا طَاقَة على رده فاضاف قضا التهايم إِلَى القَاضِي مُحَمَّد بن(2/37)
اِسْعَدْ الملقب ببها الدّين مَعَ قضا الْجبَال كَمَا قدمنَا ذكره وَيُقَال أَن هَذَا الْفَقِيه آخر من ولي الْقَضَاء على الْوَجْه المرضي بِالْيمن هَكَذَا أجمع فُقَهَاء الْيمن وتحققت ذَلِك بطرِيق التتبع وَهُوَ كَذَلِك فِي تهَامَة خَاصَّة وَفِي الْجبَال القَاضِي مُحَمَّد بن أبي بكر العمراني الْمُقدم ذكره وَلَو لم يكن للفقيه إِسْمَاعِيل شَاهد على الْوَرع الا مَا نقل عَنهُ الثِّقَات انه دخل بَيت قَاضِي زبيد وَكَانَ من خَواص اصحابه وَزوج اخته فلقى مُعَلّقا على حَبل ثيابًا من الْخَزّ وَكَانَ لَا يعرف مَعَه شَيْئا من ذَلِك فَقَالَ لَهُ من ايْنَ لَك هَذَا اشارة الى مَا رَآهُ فَقَالَ لَهُ صهره هَذَا من بركتك يَا ابا الذَّبِيح فَقَالَ ذبحني الله أَن لم أعزلك ثمَّ عَزله وَفِي عقب ذَلِك عزل نَفسه وَمِمَّا يذكر عَن هَذَا الْفَقِيه نفع الله بِهِ انني وجدت بِخَط تِلْمِيذه الْفَقِيه حسن بن مُحَمَّد بن سبا بن أبي أسعد الَّاتِي ذكره وَكَانَ من خَواص اصحابه قَالَ اخبرني عَليّ بن عبد الله أَنه سَافر مَعَ الْفَقِيه من الضحي الى الشويري الْقرْيَة الْمَذْكُورَة اولا قَالَ وَكنت كثيرا مَا الْتَزمهُ على أَن يُخْبِرنِي بِمَا فتح الله عَلَيْهِ فِي سَفَره من فَائِدَة بَيْنَمَا وَنحن فِي السّير إِذْ رَأَيْته قد شغل كَمَا نعلمهُ من وَقت حُصُول الْحَال عَلَيْهِ فَلَمَّا استفاق سَأَلته عَن امْرَهْ فَقَالَ لَا أخْبرك حَتَّى أَسْتَأْذن ثمَّ لما قربنا من الشويرى لقِيه اهل الْقرْيَة فشغل بهم وبتنا فِي الْقرْيَة فَلَمَّا كَانَ السحر لازمته فاخبرني بمخاطبته وكتبها بِيَدِهِ وَهِي الْحَمد لله قل لعبادي انا اشوق اليهم مِنْهُم الى المَاء الْبَارِد افلا يشتاقونا الي قل لعبادي انا اسْتُرْ عيوبهم عَن ملائكتي كَمَا يستر احدهم عَيبه عَن النَّاس قل لعبادي ان رَحْمَتي دَائِرَة عَلَيْهِم مَا دَامَت حَاجتهم الي وحاجتهم الي لَا تَنْقَطِع ابدا قل لعبادي وان كانمغفرتي اكثر من ذنوبهم افلست اهلا ان يستحى مني
وَكتب الى تِلْمِيذه اُحْدُ فُقَهَاء عصرنا أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن الرَّسُول الَّاتِي ذكره من الْوَالِد اسماعيل ابْن مُحَمَّد الْحَضْرَمِيّ الى الْوَلَد احْمَد بن أبي بكر الرَّسُول وَفقه الله تَعَالَى وَبعد فان حب الدُّنْيَا مَا دخل قلبا الا افسده وبفساده يفْسد جَمِيع الْجَسَد فالحذر الحذر فالدنيا ممر والاخرة مقرّ وَالله وَالله بِلُزُوم بَيت الله وَنشر الْعلم(2/38)
على من طلبه وَكتب الى تِلْمِيذه ايضا الْفَقِيه الصَّالح عبد الله ابْن الْخَطِيب الَّاتِي ذكره لَا يَصح الِاجْتِمَاع الا بعد الْجَوَاز على الصِّرَاط فَعَلَيْك بالعزوب عَن الدُّنْيَا الْقَلِيل مِنْهَا وَالْكثير فان قَلِيل السم قَاتل وَمن دخل فِيهَا انملة غطس كُله وَكَانَ مبارك التدريس انْتفع بِهِ جمَاعَة كَثِيرُونَ من مدارس الْيمن وَمن عَجِيب ذَلِك مَا اخبرني بِهِ الثِّقَة من اهل عدن قَالَ اخبرني الْفَقِيه مُحَمَّد بن معطي وَكَانَ من زهاد الْفُقَهَاء الَّذين قدمُوا عدن وتديروها قَالَ كنت فِي بلد وَعرض عَليّ ان اقْرَأ النَّحْو فَرَأَيْت فِي الْمَنَام قَائِلا يَقُول لي اذْهَبْ الى الْفَقِيه اسماعيل بن الْحَضْرَمِيّ واقرأ عَلَيْهِ النَّحْو فعجبت من ذَلِك يَا عجباه المشهوران الْفَقِيه اسماعيل ضَعِيف الْمعرفَة للنحو ثمَّ قلت قد حصلت الاشارة فَمَا يكون بدا من السّفر ثمَّ عزمت على السّفر من بلدي وَهِي قَرْيَة الدفنة من قرى وَادي رمع فسافرت حَتَّى دخلت الضحي فَوجدت الْفَقِيه فِي حَلقَة التدريس بَين أَصْحَابه فحين رَآنِي رحب بِي فَلَمَّا سَمِعت عَلَيْهِ بِقبُول قعدت بَين اصحابه قَالَ لي يَا فَقِيه قد اجزتك بِجَمِيعِ كتب النَّحْو فاخذت ذَلِك وعدت بلدي فَمَا طالعت شَيْئا من كتب النَّحْو الا عرفت مضمونه حَتَّى يظنّ من يذاكرني اني قد اخذت كتبا عديدة من النَّحْو قَالَ الْمخبر وَكَانَ كَمَا قَالَ واخبرني الثِّقَة عَن الْفَقِيه حسن الشرعبي الْآتِي ذكره فِي أهل موزع انه سَمعه يَقُول رَأَيْت ذَات لَيْلَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت لَهُ يَا رَسُول الله من أَوْلِيَاء الله الَّذين لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ فَقَالَ هُوَ الدرسة فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلَة الْمُقبلَة رايته أَيْضا فَقلت يَا رَسُول الله أَي الدرسة هم قَالَ هم درسة الْفِقْه التَّنْبِيه والمهذب قلت يَا رَسُول الله فدرسة الْقُرْآن قَالَ اوليك اصفياء الله وَكَانَ وَفَاته بِبَلَدِهِ تَاسِع الْحجَّة سنة سِتّ وَسبعين وستماية
وَقد عرض مَعَ ذكره ذكر الصياد وَكَانَ من اعيان الْعباد والزهاد فَهُوَ ابو الْعَبَّاس(2/39)
احْمَد بن أبي الْخَيْر الملقب بالصياد مولده سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَقد شرح سيرته تِلْمِيذه الشَّيْخ أَبُو اسحاق ابراهيم بن بشار الصُّوفِي وَقد امعن فِي ذكر فضائله فِي مُجَلد لطيف وَذكر فِيهِ عجائب وغرايب مِنْهَا أَنه أَقَامَ ثَلَاث سِنِين لَا يَأْكُل طَعَاما وَلَا يشرب شرابًا وَكَانَ مَتى حضر مجَالِس الْفُقَهَاء تكلم مَعَهم بِمَا يشق عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ غلبتنا عَامَّة وفقيهنا وَشَيْخه فِي الطَّرِيقَة الشَّيْخ عَليّ بن الْحداد
والفقيه ابراهيم الفشلي وَكَانَ اكثرهما لَهُ مُرَاعَاة الفشلي وَقد مضى ذكره وعَلى الْجُمْلَة فمناقبه اكثر من ان تحصر بل من اشتاق الى شَيْء من ذَلِك بحث عَن سيرته فيجد بهَا غرائب كَثِيرَة وَسُئِلَ عَن الْمحبَّة والشرق وَكَانَت وَفَاته لايام فِي شهر شَوَّال سنة تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة قَالَ الْمُؤلف لسيرته وَهُوَ ابْن اربعين سنة لم ينقص مِنْهَا وَلم يزدْ
وَمِنْهُم ابْن عَمه مُحَمَّد بن عَليّ بن اسماعيل كَانَ كَبِير الْقدر شهير الذّكر من كرام الْفُقَهَاء واخيارهم حَيّ انه مَا سَأَلَهُ سايل شَيْئا من الدُّنْيَا فَرده وَرُبمَا لقِيه السَّائِل فَأعْطَاهُ بعض ثِيَابه حَتَّى أَنه كَانَ قد يَأْتِي عَلَيْهِ وَقت يعجز فِيهِ عَن الْخُرُوج من العرى روى أَنه عَاهَدَ الله لَا رد سايلا قطّ حَتَّى حُكيَ انه سَأَلَ سايل عَن شَيْء فَدخل منزله فَلم يجد غير طَعَام على المرهك فَأَخذه بأناه وَخرج بِهِ للسايل فاعطاه اياه وَكَانَ الْفَقِيه اسماعيل يعظمه وَيَقُول انه ازهدنا واعلمنا واورعنا وامتحن بحصر الْبَوْل فَكَانَ يقل مجالسة النَّاس لذَلِك وَكَانَت وَفَاته بزبيد رَابِع الْمحرم سنة ارْبَعْ وَسبعين وستماية(2/40)
وَمِنْهُم اخوه صَالح بن عَليّ تفقه بِهِ احْمَد بن سُلَيْمَان وَمُحَمّد بن ابراهيم الشكير وَغَيرهمَا وَعَلِيهِ قَرَأَ وَالِدي بعض شَيْء من التبنة وَكَانَ يثني عَلَيْهِ وَقَالَ كَانَ عبادا زاهدا توفّي سلخ شعْبَان سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة
وَمِنْهُم ابْنه عبد الله كَانَ فَقِيها صَالحا مُبَارَكًا ذَا كرامات مشهروة من غرايبها مَا ذكر انه مر بِبَاب السُّلْطَان بزبيد ونوبة خَلِيل تضرب وَمن الْعَادة لايستطيع اُحْدُ ان يمر مَا دَامَت تضرب فَمر رَاكِبًا لم يقل لَهُ اُحْدُ شَيْئا فَعجب الْحَاضِرُونَ من ذَلِك وَكَانَ مبارك التدريس درس بِذِي عدينة فِي الْمدرسَة
الَّتِي احدثتها الْحرَّة الْمَعْرُوفَة بالشمسية وَفَاته فِي الْعشْرين من ربيع الاول سنة احدى وَثَمَانِينَ وستماية وَقد تكَرر ذكر الدَّار الشمسي وَكَانَت من اعيان الاخيار وَهِي ابْنة السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور كَانَت من اخيار النِّسَاء حازمة عفيفة وَبهَا سهل على اخيها الْملك المظفر اخذ الْملك اذ كَانَت بزبيد حِين توفّي والدهما قتلا بالجند فشمرت هَذِه واخرجت المَال وبذلته لمن يُقَاتل حَتَّى ياتي اخوها من المهجم وحفظت زبيد حَتَّى وصل فملكها فَهِيَ اول مَدِينَة ظهر فِيهَا ملكه وَلذَلِك كَانَ يبرها وَلَا يُخَالف رأيها وَكَانَت ذَات صَدَقَة والمأثر الْحَسَنَة لَهَا كَثِيرَة مِنْهَا الْمدرسَة الَّتِي بِذِي عدينة الْمُسَمَّاة بهَا وَمِنْهَا الْمَسْجِد الَّذِي بزبيد بحافة المعاصر وَمِنْهَا وقف زنجع على طَرِيق الْبر وَهِي الَّتِي تولت كَفَالَة الْمُؤَيد وسافرت مَعَه الى الشحر فَتوفي اخوها المظفر
وَهِي هُنَالك فَعَادَت هِيَ والمؤيد فَوقف الْمُؤَيد بلحج للحرب وطلعت هِيَ الى ابْن اخيها حصن السمدان فَلَمَّا لزم الْمُؤَيد نزلت من السمدان وَصَارَ الى تعز فَنزلت بمدرسة اخيها المظفر رجا ان الْأَشْرَف يخرج اخاه فَلم يفعل فَاشْتَدَّ بهَا الْمَرَض فانتقلت الى دَار الْمُؤَيد وَتوفيت بِهِ فِي مستهل رَجَب(2/41)
سنة خمس وَتِسْعين وستماية
وَمِنْهُم ابْنه فَقِيه زبيد الان مُحَمَّد مولده سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وستماية وتفقه اولا بابيه ثمَّ بِابْن ثُمَامَة وباحمد بن سُلَيْمَان الْحكمِي ثمَّ خرج من زبيد الى شجينة فتفقه بعلي بن ابراهيم البَجلِيّ ثمَّ ارتحل الى نَاحيَة المهجم فاقام بِبَيْت ابْن ابي الْخلّ واخذ بِهِ عَن احْمَد بن الْحسن الَّاتِي ذكره واليه انْتَهَت فِي عصرنا بزبيد رياسة الْفَتْوَى وَالْفِقْه وَهُوَ اُحْدُ الْفُقَهَاء ز الاخيار وراس مدارس زبيد فِي عصرنا وَهُوَ اُحْدُ شيوخي اخذت عَنهُ بعض الْمُهَذّب جزاه الله خيرا وَله ولدان متفقهان وَمِنْهُم ابو بكر وَعمر الاخوان ابناء مُحَمَّد بن رشيد كَانَا صالحين يغلب عَلَيْهِمَا الْعِبَادَة كَانَ قدومهما زبيد يُقَال قبل الحضارم رَغْبَة فِي صُحْبَة الشَّيْخ ابْن مرتضى خَليفَة الشَّيْخ ابْن ابي الْبَاطِل الصُّوفِي على اصحابه وَكَانَت وَفَاة ابي بكر سنة ارْبَعْ وَسِتِّينَ وستماية واخوه عمر سنة خمس وَسَبْعمائة وَهُوَ جد الْفَقِيه مُحَمَّد بن عبد الله الْحَضْرَمِيّ ابو امهِ وَأما ابو بكر فَكَانَ لَهُ ابْن فَقِيه اسْمه مُحَمَّد كَانَ مَعَ الْفِقْه ذَا صَلَاح وَعبادَة ودرس بعد احْمَد بن سُلَيْمَان حِين عزل كَمَا قدمنَا وَكَانَت وَفَاته اذان ظهر الْأَرْبَعَاء ثَانِي عشر شَوَّال سنة خمسوسبعمائة وَخَلفه ابْنَانِ كَانَا متفقهين فدرسا بعده سنة ثمَّ توفيا سنة سِتّ وسِتمِائَة
وَمِنْهُم أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن احْمَد بن نجاح عرف بِابْن ثُمَامَة بثاء مُثَلّثَة مَضْمُومَة وَمِيم مَفْتُوحَة والف ثمَّ مِيم مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء سَاكِنة مولده سنة سبع وَعشْرين وستماية نسبته فِي نَبِي كنانه أهل الضحي الْآتِي ذكرهم إِن شَاءَ الله وتفقه بالفقيه اسماعيل وَتزَوج بابنين واتت لَهُ ابْنَيْنِ تفقها وَيَأْتِي ذكرهمَا اسْتَخْلَفَهُ الْفَقِيه اسماعيل على قَضَاء القحمة فَذكر عَنهُ حسن السِّيرَة وَكَمَال الْقَضَاء فَحكى انه جَاءَهُ خصمان ادّعى احدهما على صَاحبه شَيْئا وَكَانَ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ قد(2/42)
تقدّمت اليه مِنْهُ هَدِيَّة وَصَحبه قبل الْقَضَاء قَالَ الْمخبر فَوضع الْفَقِيه كمه على وَجهه وَحكم بَينهمَا بطرِيق الْحق ثمَّ حِين فرغا عزل نَفسه عَن الْقَضَاء وَكَانَ مبارك التدريس بذلك اثنى عَلَيْهِ الْفَقِيه مُحَمَّد بن عبد الله الْحَضْرَمِيّ قَالَ وَكَانَ من ابرك المدرسين تدريسا وَكَانَ عَظِيم الخشية لله كثير الْخُشُوع سريع الْعبْرَة عِنْد ذكره الله تَعَالَى بِحَيْثُ كَانَ يُسمى البكا وَكَانَ مِمَّن يزار ويتبرك بِهِ وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْخَمِيس سَابِع عشر الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وستماية
وَخَلفه ابْنه اسماعيل وَهُوَ اُحْدُ الِاثْنَيْنِ من ابْنة الْفَقِيه اسماعيل وَكَانَت فِيهِ مَكَارِم واخلاق وَفقه وَكَانَت وَفَاته بجمادي الاولى سنة تسع وسبعماية وَخَلفه أَخُوهُ مُحَمَّد مولده سنة ارْبَعْ وَسبعين وستماية وَهُوَ الان الْمدرس مَكَان ابيه واخيه بِالْمَدْرَسَةِ النظامية وَيذكر عَنهُ الدّين وَله ولد يعرف بالبدر معيدا الْآن فِي هَذِه الْمدرسَة مولده سنة خمس وَعشْرين وستماية والنظامية مدرسة بزبيد انشأها الاستاذ مُخْتَصّ بن عبد الله الملقب نظام الدّين كَانَ مولا لغازي بن جِبْرَائِيل الَّاتِي ذكره فِي الدول ثمَّ خدم مَعَ الْمَنْصُور فَجعله اتابك وَلَده المظفر فاحسن التربية وتاديبه يضْرب بِهِ الْمثل فِي الْيمن فَيُقَال ادب مُخْتَصّ وَلما صَار الْملك الى المظفر جعل لَهُ طبلخانه واقطاعا جاملا فَكَانَ كُفؤًا لما ندب لَهُ شجاعا مقداما ذَا همة عاليه فان شكى عَلَيْهِ ذُو ضَرُورَة
ازالها وان كَانَ عَن خساسة زبره وَكَانَ رَاغِبًا فِي طلب الاجر وَبَقَاء الذّكر كثير الصَّدَقَة بنى مدارس مُتعَدِّدَة مِنْهَا(2/43)
الْمدرسَة الْمَذْكُورَة بزبيد الَّذِي يَمِين دَار السُّلْطَان يعرف بمسجدالسائق نِسْبَة الى عبد لَهُ ثمَّ مدرسة بِذِي هزيم ثمَّ اخرى بِذِي جبلة ثمَّ اخرى بِموضع يعرف بالوحص على قرب من حصن بحرانة
وَمن الواردين أَيْضا الى زبيد أَبُو الْحسن عَليّ بن اسماعيل بن عبد الله بن عَليّ الْحلَبِي بَلَدا الملقب بالمنتخب يعرف بالنقاش قدم الى زبيد من مَكَّة بعد تكَرر ذكره فِي الْيمن فَلَمَّا قدم زبيد وواليها نجم الدّين ابْن الخرتبرتي كتب الى المظفر يُعلمهُ فامره ان يجله ويبجله وَكَانَ متورعا متزهدا لَهُ فِي الْفِقْه والاصول وَصَحب ابْن عَاصِم مقدم الذّكر ثمَّ بعد ذَلِك حصل فِي بعض مجَالِسهمْ ذكر الصَّحَابَة والمفاضلة بَينهم فَسمع مَه هَذَا تَقْدِيم عَليّ على غَيره واتهموه بالرفض واشاعوا ذَلِك عَنهُ فهجرهم وَلزِمَ بَيته ويعاني الزِّرَاعَة غَالب ايامه وَكَانَ مُحْتَرما فِيهَا لاجل مَا كَانَ من المظفر من تبجيله ويوصى بذلك الْوُلَاة ثمَّ ان الْمُؤَيد تزوج بابنت لَهُ فَاتَت لَهُ بولده الْمُجَاهِد وَسَيَأْتِي ذكره فِي الْمُلُوك وَكَانَ من اخيار النَّاس توفّي سنة احدى عشرَة وَسَبْعمائة بزبيد وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْمُؤَيد بِجَامِع المغربة ثَلَاثَة أَيَّام بأيام قِرَاءَته قرا على الواثق ايضا والطواشى مُخْتَصّ هُوَ الَّذِي بنى مطاهير الْجَامِع بِذِي اشرق واوقف عَلَيْهِ وعَلى درسة يدرسون الْعلم وَقفا جيدا جعل نظر ذَلِك الى ذُرِّيَّة الْفَقِيه الْجُنَيْد مقدم الذّكر وَله وقف على مَسْجِد الْجند ومقدمة قُرْآن وَمَسْجِد المخا والخوهة فِي السَّاحِل جعل بنائِهِ الى عصرنا وَله مأثر حَسَنَة تقرب من مأثر الْحُسَيْن بن سَلامَة وَزِير الْمُلُوك بني زِيَاد الَّذِي ولاهم جدهم الأول الْمَأْمُون(2/44)
بن هَارُون الْيمن أول مُلُوك الْحَبَشَة فِي الْإِسْلَام وَلم يزل مُخْتَصّ مجللا مَعَ الْملك المظفر واقطاعه المحالب بلد لم يجد اُحْدُ من الْمُلُوك يسمح باقطاعها لغيره وبهاتوفي فِي شهر صفر من سنة سِتّ وَسِتِّينَ وستماية ولنرجع الى ذكر الْفُقَهَاء الواردين فَمنهمْ اهل الوزيرة قدم مِنْهُم عُثْمَان بن عبد الله بن ابي بكر بن عَليّ الْوَهْبِي ثمَّ الْكِنْدِيّ كَانَ فَقِيها فَاضلا تفقه باسماعيل الْحَضْرَمِيّ وَابْن عَمه مُحَمَّد وبالقوقلي وَكَانَ يَقُول الشّعْر وَكَانَ معاصرا لاحمد بن عبد الله الوزيري الَّاتِي ذكره وَتُوفِّي بزبيد لاربع خلون من صفر سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وستماية وَخَلفه ابْن لَهُ اسْمه مُحَمَّد توفّي برجب بعد تفقه بِابْن عَاصِم وباحمد بن مُحَمَّد الوزيري
ثَلَاث وسبعماية بعد أَن بلغ عمره ب سِتا وَخمسين سنة
وَمِنْهُم ابو الْحسن عَليّ بن عبد الله الزَّيْلَعِيّ الفرضي شهر بذلك لاحكامه بِعلم الْفَرَائِض والحساب مَعَ انه كَانَ يُشَارك فِي الْعُلُوم الدِّينِيَّة مُشَاركَة مرضية مِنْهَا الْفِقْه وَالتَّفْسِير والْحَدِيث والنحو واخذه عَن ابي الْخَيْر وَعَن ابْن عجيل وانتفع بِهِ جمع كثير من زبيد وَغَيرهَا وَكَانَ من اخيار الْفُقَهَاء وَكَانَ من احسنهم الفة درس فِي بداية امْرَهْ بِالْمَدْرَسَةِ التاجية بزبيد من قبل بني مُحَمَّد بن عمر وَتُوفِّي على ذَلِك مدرسا للْحَدِيث سنة ارْبَعْ عشرَة وَسَبْعمائة وَخَلفه ابْن لِأَخِيهِ يُقَال لَهُ مُحَمَّد بن مُنِير يذكر انه مشتغل بِالطَّلَبِ وَفِيه خير وَهَذِه الْمدرسَة الَّتِي ذكرت انفا انما احدثها الطواشي بدر ويلقب بتاج الدّين وَكَانَ هَذَا بدر نظيرا لمختص وان كَانَ دونه فِي السن والمنزلة كَانَ استاذا من استاذي الْحرَّة ابْنة جوزة وَكَانَ يتظاهر بمحبة الْملك المظفر فامرت بِهِ سيدته فحبس وَقتل الْمَنْصُور وَهُوَ بسجن زبيد فَلَمَّا بلغه ذَلِك خرج قهرا على السجان وَصَارَ الى وَالِدَة المظفر واخته واولاده الاشرف وكريمته كَانُوا هُنَالك فعزمهم على الْقيام بِحِفْظ زبيد واقلد الْمُقَاتلَة لمن(2/45)
ارادها
واخرج مَالا مِنْهُ اضافة الى مَا اعطوه واستخدم الرِّجَال وَحفظ الْأَبْوَاب والمفاتيح وشاجر الْوَالِي وَهُوَ مَمْلُوك اسْمه قايماز وشمر فِي الْحَرْب عِنْد مَجِيء المماليك وفخر الدّين الى زبيد فَلم يحفظ زبيد عَنْهُم الا بهمته بعد تَقْدِير الله دلك حَتَّى أَنه لَا يُخْبِرك عقلاء الْوَقْت بِغَيْر ذَلِك فَلَمَّا دَخلهَا المظفر أحسن إِلَيْهِ ثمَّ رفع لَهُ طلبخانة وَكَانَ ذَا همة عالية وَفِيه شهامة وعزامة وَله مأثر مبقية للذّكر مِنْهَا الْمدرسَة الَّتِي بزبيد الْمَعْرُوفَة بمدرسة الْقُرَّاء وفيهَا مدرسة حَدِيث هِيَ الَّتِي رتب الْفَقِيه على بهاء وَعَلَيْهَا وقف عَظِيم وَمِنْهَا الْمدرسَة الَّتِي تعرف بمدرسة المبرذ عين لكَوْنهم يشتغلون عِنْدهَا وَهِي مُخْتَصَّة بالفقهاء وَمِنْهَا دَار المضيف الْجَمِيع عَلَيْهِ وقف جامل غير مَا تفرد كلا بوقف مُخْتَصّ بالعمارة وجميعه بزبيد وَله فِي الْجَبَل مدرسة بقرية الوحيز هِيَ الْآن بايدي الْمَشَايِخ بن مدافع وَسمعت العقلا بزبيد يَقُولُونَ فِي وقف تَاج الدّين يقوم بامير صَاحب طبلخانة وَكَانَ المظفر قد اراد تَغْيِيره واقفلت مدرسته نَحْو شَهْرَيْن أَو ثَلَاثَة فَلم يزل القَاضِي الْبَهَاء يلاطف السُّلْطَان حَتَّى أجراه وأبقاه وَكَانَت وَفَاته بتعز يُقَال مسموما فِي شهر ربيع الاول سنة ارْبَعْ وَخمسين وستماية تَقْرِيبًا وَلم يخلفه اُحْدُ على عمله
وَمِنْهُم ابو مُحَمَّد عبد الله بن الْأَحْمَر الْآتِي ذكره وَذكر ابْنه فِي اهل شجينة لَكِن الذّكر لكَونه درس بزبيد مُدَّة وَمن الْفُقَهَاء بزبيد احْمَد بن مُحَمَّد بن عِيسَى الْحرَازِي غلب عَلَيْهِ علم الْكَلَام وَشهر بِهِ وَله فِيهِ مصنفات على مَذْهَب ابي الْحسن الاشعري قرآته غَالِبا على البيلقاني بعدن وَكَانَ يغلب عَلَيْهِ طَرِيق التصوف اخذها على البيلقانيواخذ عَنهُ جمَاعَة من اهل تعز وزبيد ادركت بَعضهم والى الْآن سنة احدى وَعشْرين اجْتمعت بِرَجُل مِنْهُم فَسَأَلته عَن تَارِيخ وَفَاته فَقَالَ لي سنة تسع وَثَمَانِينَ وستماية والتلميذ هَذَا قد خرج عَن زبيد وَسكن برهَا مُعْتَزِلا للنَّاس يذكر بِالْخَيرِ وَيقْرَأ عَلَيْهِ فِي علم الْكَلَام
وَمِنْهُم ولدان للفقيه عبد الله بن الْفَقِيه مُحَمَّد الْحَضْرَمِيّ مقدم الذّكر هما أَبُو(2/46)
بكر وَطَلْحَة فابو بكر هُوَ الْآن معيد بِالْمَدْرَسَةِ المنصورية الَّتِي يدرس بهَا اخوه مُحَمَّد الْمُقدم الذّكر وَله ولد يُسمى عَليّ يذكر بِالِاجْتِهَادِ بالفقثه والمعرفة واما طَلْحَة فاخبرني ان مولده سنة ثَمَانِي وَثَمَانِينَ وستماية وتفقه باخيه مُحَمَّد وَمِنْهُم خطيبها ابو عبد الله مُحَمَّد بن الشَّيْخ احْمَد بن جَامع المباركي نِسْبَة لابيه الى شيخ لَهُ كَانَ من اهل شيراز مَا زار مَرِيضا ودعا لَهُ الا عوفي فَسمى مُبَارَكًا وَنسب اليه اصحابه وَكَانَ هَذَا الشَّيْخ احْمَد مِنْهُم دخل بِلَاد الْيمن فسكن حرض مُدَّة ثمَّ انْتقل الى القحمة ثمَّ الى زبيد وَكَانَت بَينه وَبَين وَالِدي صُحْبَة واخوة ادت الى الفة بيني وَبَين وَلَده هَذَا مُحَمَّد وَقد صَار وَلَده مُحَمَّد هَذَا رجلا فاشتغل بِالْعلمِ واخذ عَن جمَاعَة من اعيان المدرسين وَصَارَ فَقِيها فَاضلا وَفِيه مرؤة وَحسن خلق وَشرف نفس ومواساة للاصحاب وصبر على اطعام الطَّعَام وبيته موئل للأعيان من الْفُقَهَاء والمتصوفين قل ان يَنْقَطِع مِنْهُ الْوَارِد وصنف كتابا فِي الرَّقَائِق وَقد جعلت ذكره فَارس الاعقاب رَجَاء ان يكون ذكره ختاما للأصحاب وَكَانَت وَفَاته على الخطابة بزبيد رَابِع عشر ربيع الاول سنة سبع وَعشْرين وَسَبْعمائة وَقد انْقَضى ذكر من يَنْبَغِي ذكره من فُقَهَاء الشَّافِعِيَّة بزبيد وَحِينَئِذٍ اشرع بِذكر اصحاب أبي حنيفَة وهم جمَاعَة اورد ابْن سَمُرَة مِنْهُم القَاضِي احْمَد بن الْحُسَيْن بن أبي عَوْف عرف بِالْقَاضِي احْمَد الْمَشْهُور فِي المين وَالْعراق عِنْد الْحَنَفِيَّة وَمن أَصْحَابه الْفَقِيه الْأَقْمَر مُنِير بن جَعْفَر كَانَ فَقِيها محققا وَله ذُرِّيَّة يسكنون قَرْيَة التربة يَأْتِي ذكر الْمُسْتَحق للذّكر مِنْهُم
وَمِنْهُم ابْن الْحَنْبَلِيّ اخذ الاصول عَن ابي الْمَنْصُور وَالْفِقْه عَن مُنِير وَمِنْهُم صَاحب كتاب التَّقْوِيم وَمِنْهُم الدبوسي وَابْن مسرور سكن حيس وَمِنْهُم ابْن ابي بكر المدحدح بميم مَضْمُومَة ودال مَفْتُوحَة مُهْملَة وَسُكُون الْحَاء المهلمة وَفتح الدَّال ثمَّ حاء مهلمة وَكَانَ فَقِيها مناظرا قدم الْفَقِيه طَاهِر فِي أَيَّامه زبيد وناظره فَقَطعه مرَارًا بِحَضْرَة عبد النَّبِي بن مهْدي كَمَا قدمنَا ذكره(2/47)
وَمِنْهُم عبد الله الضجاعي نِسْبَة الى قَرْيَة من اعمال الْوَادي الْمَعْرُوف برمع الَّذِي هِيَ ام قرى فشال وَهِي بضاد مُعْجمَة مخفوضة بعد الف وَلَام ثمَّ جِيم مَفْتُوحَة ثمَّ عين مُهْملَة وَهُوَ آخر من ذكره ابْن سَمُرَة من اصحاب ابي حنيفَة وَقد بحثت عَن من تَبِعَهُمْ من اصحابهم وهم جمَاعَة
وَمِنْهُم احْمَد بن حسن بن عَليّ ابْن بجارة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْجِيم ثمَّ الف ثمَّ رَاء مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء اصله من التربية وَقيل من القرتب وَله بهَا عقب يعْرفُونَ ببني الشَّرِيعَة وَهُوَ الَّذِي جرت لَهُ الْقِصَّة الْمَشْهُورَة مَعَ القَاضِي ابي الْفتُوح بن ابي عقامة حَتَّى قَالَ عمَارَة فِي حَقه كَانَ فَقِيها شَاعِرًا يحذو طَرِيق ابي نواس فِي الخلاعة والمجون وَبِذَلِك تمّ لَهُ مَعَ ابْن ابي عقامة مَا قدمنَا ذكره وَمِنْهُم عبد الله بن ابي بكر بن مُحَمَّد عرف بالسكاك بِضَم السِّين الْمُهْملَة بعد الف وَلَام ثمَّ كَاف مَفْتُوحَة ثمَّ الف ثمَّ كَاف كَانَ فَقِيها كَبِيرا أصوليا وَله فِي الْأُصُول تصنيف مُفِيد توفّي ضحوة يَوْم الْجُمُعَة مستهل الْقعدَة سنة ثَمَانِي عشرَة وستماية وَله ذُرِّيَّة الى الْآن بزبيد يشْتَغل بَعضهم بِفقه الشَّافِعِي وَفِيه خير وَدين وَمِنْهُم عَليّ بن ابي بكر بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن اسماعيل الْعلوِي نِسْبَة الى عَليّ بن بعلان بن عبس بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَكَانَ فَقِيها جليل الْقدر اخذ عَنهُ الشريف الَّاتِي ذكره وَهُوَ جد بني الْعلوِي وَفِي ذُريَّته من يسْتَحق الذّكر يَأْتِي ذكره ان شَاءَ الله مَعَ اهل طبقته
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن يُوسُف الضجاعي كَانَ فَقِيها كَبِيرا ينْسب الى الْقرْيَة الَّتِي برمع قد تقدم ذكرهَا
وَمِنْهُم ابو بكر بن اسحاق الْمُخَير فِي نِسْبَة الى قَرْيَة برمع تسمى المخيريف بِضَم الْمِيم وَفتح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وخفض الرَّاء ثمَّ يَاء مثناة من تَحت ثمَّ فَاء تفقه بَاهل زبيد وَكَانَ مَوْجُودا يدرس سنة سبعين(2/48)
وخمسماية
وَمِنْهُم أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن احْمَد النجراني نِسْبَة الى صقع من الْيمن يُقَال لَهُ نَجْرَان بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْجِيم وَفتح الرَّاء ثمَّ الف ثمَّ نون وَكَانَ فَقِيها مقرئا صَالحا وَله دنيا ينيل مِنْهَا قاصديه وَهُوَ اُحْدُ الائمة بالاشاعر اذ ولي ذَلِك وَذريته يتوارثون ذَلِك وهم عَلَيْهِ الى عصرنا سنة ثَلَاث وَعشْرين وسبعماية لما دخل ابْن ابي توجه الى زبيد اجْتمع بِهِ واخذ عَنهُ شَيْئا من النَّحْو وَمِنْهُم مُحَمَّد بن ابراهيم بن دحمان المضري نِسْبَة الى مُضر بن نزار كَانَ فَقِيها صَالحا وَكَانَ الاتابك سنقر اذا صَار الى زبيد لم يكد يَنْقَطِع عَنهُ وَبني لَهُ الْمدرسَة الَّتِي تعرف بالدحمانية وخصها باصحاب ابي حنيفَة وَسبب ذَلِك بِنَا الْمدرسَة الَّتِي تعرف بالعاصمية مُسَاوَاة بَين اهل المذهبين وَهَذَا مَا يستشهد بِهِ على خير الاتابك وذرية هَذَا مُحَمَّد يتوارثون تدريس الْمدرسَة الى عصرنا وهم اهل دين وبهم تعرف الْمدرسَة فَيُقَال الْمدرسَة الدحمانية وَكَانَ فيهم جمَاعَة فُقَهَاء لم اكد اتحقق مِنْهُم احدا
وَمِنْهُم عبد الله بن الْفَقِيه مُحَمَّد مقدم الذّكر كَانَ من اعيان الْعلمَاء الصلحاء واخوه عمر ولعمر ولد اسْمه عَليّ يدرس الان مَكَان ابيه وَعَمه وَمِنْهُم الشريف ابو عمر عُثْمَان ابْن عَتيق الْحُسَيْنِي تفقه بعلي بن بكر الْعلوِي الْمُقدم ذكره وَبِمُحَمَّدٍ ابْن يُوسُف الضجاعي وَعَن هَذَا الشريف اخذ جمَاعَة من فُقَهَاء الْمَذْهَب كابي بكر ابْن حنكاس وَغَيره وَكَانَت وَفَاته بزبيد ضحى الاحد لثلاث بَقينَ من شَوَّال سنة ثَمَانِي عشر وَقيل سِتَّة عشرَة وستماية ثمَّ صَار الْفِقْه بطبقة اخرى فِي جمَاعَة(2/49)
مِنْهُم عُثْمَان بن مُحَمَّد بن ابي سوَادَة الْحَضْرَمِيّ كَانَ فَقِيها فَاضلا بِهِ تفقه يحيى ابْن عطيه وَهُوَ من اتراب الْفَقِيه ابي بكر بن حنكاس وَكَانَ معيدا لَهُ وَفَاته نَهَار الِاثْنَيْنِ حادي عشر رَجَب سنة تسع وَسِتِّينَ وستماية
وَمِنْهُم سُلَيْمَان بن مُوسَى بن عَليّ بن الجون الاشعري نسبا تفقه بِابْن حنكاس وَغَيره وَكَانَ فَقِيها فَاضلا كَبِيرا عالماب بالفقه والنحو واللغة وَعلم الْآدَاب شرح الْخمر طاشيه شرحا جيدا وَسَماهُ بالرياض الأدبية وَذكر فِيهِ أَنه صنفه وَهُوَ ابْن ثَمَانِي عشرَة سنة وَكَانَ أمرا بِالْمَعْرُوفِ ناهيا عَن الْمُنكر وَلما ظَهرت السبوت بزبيد وَعمل فِيهَا الْمُنْكَرَات هَاجر الى ارْض الْحَبَشَة فاقام بهَا الى أَن توفّي وازوج اخته بالفقيه أبي بكر بن حنكاس ولي بشرحه الْمَذْكُور قِرَاءَة وتدير من بِلَاد الْحَبَشَة أَرضًا يُقَال لَهَا روره بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْوَاو وَفتح الرَّاء ثمَّ هَاء سَاكِنة وَبهَا توفّي وَلما بلغ ابْن دعاس وَفَاته كتب الى صهره أبي بكر بن حنكاس وكاتبه يعزيه فِيهَا ابياتا مِنْهَا ... غير انا نقُول مَا دَامَ فِينَا ... نجل عِيسَى لم نرزء من نجل مُوسَى
ولعمري عَلَيْهِ يؤسى وَلَكِن ... بِبَقَاء الامام ذَا الْجرْح يؤسى ... وَفَاته بارض الْحَبَشَة سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وستماية
وَمِنْهُم ابو الْعَتِيق ابو بكر بن عِيسَى بن عُثْمَان اليقرمي ثمَّ الاشعري عرف بِابْن حنكاس فاليقرمي نِسْبَة الى بطن من الاشاعر يُقَال لَهُم اليقاوم بِفَتْح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَفتح الْقَاف ثمَّ رَاء ثمَّ مِيم مخفوضتان ثمَّ يَاء نِسْبَة مولده سنة تسعين وخمسماية تفقه بالشريف عُثْمَان بن عَتيق كَانَ من صُدُور الْفُقَهَاء يقرى اهل المذهبين وَلما بنى الْمَنْصُور مدرسته الَّتِي خص بهَا الشَّافِعِيَّة وقف لَهُ هَذَا الْفَقِيه(2/50)
فِي بعض الطّرق وَقَالَ لَهُ يَا عمر مَا فعل بك ابو حنيفَة اذ لم تبن لاصحابه مدرسة فَبنى مدرسة جعل فِيهَا مكانيين لأَصْحَاب ابي حنيفَة أَحدهمَا ولاصحاب الحَدِيث الاخر وَكَانَ هَذَا الْفَقِيه اوحد عصره اجْتِهَادًا فِي الْعلم وَنشر الْمَذْهَب حَتَّى قيل لَو لم يُوجد لمات الْمَذْهَب واتى على كتاب الْخُلَاصَة فِي اصول الْمَذْهَب وَالْفِقْه ثَلَاث مائَة شرف وَهَذَا حَاله فِي هَذَا وَكتب عدَّة انْتَهَت اليه الرياسة لاهل مذْهبه وَاجْتمعَ على صَلَاحه الْمُخَالف والمؤالف فَمن احسن مَا ذكر من سيرته انه مُنْذُ درس مَا رأى نايما فِي رَمَضَان لَيْلًا وَلَا نَهَارا بل نَهَاره يعلم الْعلم وليله سَاجِدا وَقَائِمًا وتاليا وذاكرا وَاصل بَلَده قَرْيَة العنبرة من اسفل وَادي زبيد قَرْيَة خرج مِنْهَا ابْن مهْدي الَّاتِي ذكره وضبطها بِفَتْح الْعين وَسُكُون النُّون وفتحالباء الْمُوَحدَة ولاراء وَسُكُون الْهَاء واخذ عَنهُ جمَاعَة من الْفُقَهَاء وَكَانَت وَفَاته على الطَّرِيق المرضي بزبيد بعد ان تفقه بِهِ جمَاعَة
مُحَمَّد بن عَليّ الصريفي وَابْن ابي سوَادَة وَعلي ابْن معمر وَعمر بن الْعلوِي وَهُوَ ابْن بنته وَعَمه مُحَمَّد بن عمر الْأَبَح وَلما كَانَ يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع عشر ربيع آخر سنة ارْبَعْ وَسِتِّينَ وستماية احْتضرَ بعد مرض أَيَّامًا فحضره جمع من أَصْحَابه وَذَلِكَ بعد طُلُوع الشَّمْس فسالهم عَن الْيَوْم مَا هُوَ فاخبروه فَدَعَا بِطَعَام فاكله ثمَّ قَالَ لصهره عَليّ بن عمر الْعلوِي ارْفَعْ صَوْتك انت وَالْجَمَاعَة بِلَا إِلَه إِلَّا الله فَقَالَ يَا فَقِيه اذ لم نذكرك ذكرتنا قَالَ نعم ثمَّ امرهم بالتهليل فهللوا وَجعل يقْرَأ خَوَاتِيم يس من قَوْله عز وَجل أَو لَيْسَ الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِقَادِر على ان يخلق مثلهم بلَى وَهُوَ الخلاق الْعَلِيم ويكرر ذَلِك ثَلَاثًا رَافعا صَوته ثمَّ تشهد عقيب ذَلِك وفاضت نَفسه وَصلي عَلَيْهِ ظهر ذَلِك الْيَوْم وَلم يكد يتَأَخَّر عَن قبرانه اُحْدُ من اهل زبيد وَرَأى بعض اهل زبيد(2/51)
شخصا من اهله كَانَ قد توفّي مُنْذُ سِنِين رأه بعد قبران الْفَقِيه فَقَالَ لَهُ مَا فعل الله بك فَقَالَ مُنْذُ مت حبست مَعَ جمَاعَة فَلَمَّا توفّي ابْن حنكاس شفع فِينَا فاطلقنا وَغفر لجَمِيع من فِي الْمَقَابِر ببركة قدومه وَكَانَ لَهُ ولد اسْمه مُحَمَّد مولده سنة تسع وَثَلَاثِينَ وستماية تفقه وَغلب عَلَيْهِ الشّعْر وَسكن مَكَّة اذ نَالَ من ابي نمى صَاحبهَا حظوة
وَمِنْهُم ابو بكر بن مُحَمَّد بن معطى كَانَ فَقِيها صَالحا اصله من حازة زبيد من قَرْيَة تعرف بِمحل مبارك وَمن اصحابه الْمُتَقَدِّمين المقاربين لَهُ فِي السن والرتبة مُحَمَّد بن عَليّ الصريفي فَقِيه مَذْكُور مَشْهُور لَهُ مُصَنف كَبِير يعرف بالايضاح تفقه بِهِ جمَاعَة
مِنْهُم الْمَكِّيّ وَغَيره وَله ذُرِّيَّة يعْرفُونَ بِهِ توفّي بزبيد سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عَليّ كَانَ فَقِيها زاهدا ورعا لَا يتَعَلَّق بالدنيا وَلَا باهلها علقه دين عَظِيم نفر بِسَبَبِهِ الى الْجبَال وبلغه ان قُضَاة سير يَفْعَلُونَ الْمَعْرُوف فَأَتَاهُم وَقعد مَعَهم فساله بعض الْفُقَهَاء عَن المعتقد فاجابه بِمَا انكر عَلَيْهِ السَّائِل وافضى ذَلِك الى سباب وتكفير فَخرج الْفَقِيه نافرا وَبلغ الْقُضَاة ذَلِك فَلم يعجبهم وَأمرُوا بِطَلَبِهِ ورده فَلم يُوجد فشق عَلَيْهِم وَكَتَبُوا الى اخيهم القَاضِي مُحَمَّد الْوَزير يخبرونه بِقِصَّتِهِ ويسألونه ان يتْرك من يبْحَث عَنهُ بتعز فَفعل فَلَمَّا جَاءَهُ بجله واكرمه وَاعْتذر اليه من فعل ذَلِك المجادل ثمَّ سَأَلَهُ عَن سَبَب قدومه فاخبروه فعني لَهُ بقضا جَمِيع دينه مَعَ زِيَادَة وَتُوفِّي بزبيد فِي الْمحرم اول سنة ارْبَعْ وَثَمَانِينَ وستماية وَقد بلغ عمره ثَمَانِينَ سنة
ثمَّ صَار الْعلم فِي طبقَة اخرى اخذوا عَن الْمَذْكُورين وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عمر ابْن الْفَقِيه عَليّ بن ابي بكر الْعلوِي مقدم الذّكر مولده سنة ثَمَانِي عشرَة وستماية تفقه بِابْن حنكاس كَمَا قدمنَا وَكَانَ فَقِيها فَاضلا لَهُ تفضل وَمَكَارِم اخلاق توفّي بعد شَيْخه باربعة اشهر وَذَلِكَ تَاسِع عشر شعْبَان سنة ارْبَعْ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَهُوَ جد القَاضِي بزبيد الْمَعْرُوف بِابْن الابح(2/52)
وَمِنْهُم ابو بكر بن عمر بن ابراهيم بن دعاس الْفَارِسِي تفقه بِابْن حنكاس وَكَانَ اديبا فَاضلا فَقِيها بِالْمذهبِ نَالَ حظوة من الْملك المظفر وابتنى مدرسة بزبيد خص بهَا اهل مذْهبه لم تكد تَخْلُو من مدرس ذى دين لَهُ وَله ديوَان شعر يوجدكثيرا بايدي النَّاس وَكَانَت وَفَاته بزبيد مَهْجُورًا من السُّلْطَان لَا دلال حدث مِنْهُ على السُّلْطَان وَقد تكَرر فِي حَقه وَحقّ وزيره القَاضِي الْبَهَاء مقدم الذّكر فطرد من تعز الى زبيد فَلبث سنة متعللا الى جمادي الْآخِرَة سنة سبع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَتُوفِّي
وَمِنْهُم ابو بكر بن يُوسُف عرف بِالْمَكِّيِّ نسبه فِي نزار كَانَ فَقِيها جليل الْقدر شهير الذّكر حسن الْوَرع رَاضِيا من الدُّنْيَا بالكفاف مصاحبا مِنْهَا بالعفاف عالي الهمة شرِيف النَّفس فَقِيها نحويا لغويا متادبا مترسلا عَارِفًا بالطب شَيْخه فِي ذَلِك ابو سوَادَة وسلك طَرِيقه وَكَانَ يقرى اهل المذهبين كَمَا كَانَ شَيْخه اخبر الثِّقَة من اصحابه انه قَالَ لَهُ يَوْمًا على قرب من وَفَاته رَأَيْت كَانَ الْقِيَامَة قد قَامَت واحضروا الائمة الاربعة بَين يَدي الله عز وَجل وهم ابو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَاحْمَدْ فَقَالَ الله لَهُم اني امرت اليكم رَسُولا وَاحِدًا بشريعة وَاحِدَة وجعلتموها اربعا رددها عَلَيْهِم ثَلَاثًا فَلم يجبهُ اُحْدُ فَقَالَ لَهُ احْمَد بن حَنْبَل يَا رب انت قلت وقولك الْحق الْمُبين لَا يَتَكَلَّمُونَ الا من اذن لَهُ الرَّحْمَن وَقَالَ صَوَابا فَقَالَ لَهُ تكلم قَالَ يَا رب من شهودك علينا قَالَ الْمَلَائِكَة قَالَ يَا رب لنا فيهم الْقدح وَذَلِكَ أَنَّك قلت وقولك الْحق وَإِذ قَالَ رَبك للْمَلَائكَة إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة قَالُوا أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء فَشَهِدُوا علينا قبل وجودنا فَقَالَ الله جلودكم فَقَالَ يَا رب كَانَت الْجُلُود لَا تنطق فِي الدُّنْيَا وَهِي الْيَوْم تنطق فَهِيَ مَغْصُوبَة وَشَهَادَة الْمَغْصُوب لَا تصح فَقَالَ الله أَنا أشهد عَلَيْكُم(2/53)
فَقَالَ أَحْمد حَاكم وَشَاهد فَقَالَ الله تعال لَهُم اذْهَبُوا فقد غفرت لكم ثمَّ لما كَانَ فِي االخامس من ربيع الآخر سنة سبع وَتِسْعين وستماية رأى بعض أخيار زبيد أَن مَنَارَة مَسْجِد الأشاعر قد سَارَتْ من مَكَانهَا حَتَّى خرجت إِلَى الْمَقَابِر فتغيبت فِيهَا فَلَمَّا توفّي هَذَا الْفَقِيه وَخرج النَّاس لقبرانه رأى الرَّائِي أَن الْفَقِيه قد قبر مَوضِع المنارة حَيْثُ غَابَتْ فِيهِ فَعلم أَنَّهَا عبارَة عَن الْفَقِيه
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن الْحسن الصمعي كَانَ فَقِيها فَاضلا عَارِفًا غلب عَلَيْهِ فن النَّحْو وَعنهُ أَخذ جمَاعَة وَهُوَ الَّذِي درس قبل الْفَقِيه السراج بالمنصورية وَعنهُ اخذ جمَاعَة فَهُوَ الَّذِي درس قبل الْفَقِيه السراج بالمنصورية وَله عِبَارَات فِي النَّحْو مرضيه وَفَاته بزبيد سنة سِتّ وَسبعين وستماية نسبه الى صمع بِفَتْح الصَّاد ولاميم مَعَ التَّشْدِيد ثمَّ عين مُهْملَة
وَمِنْهُم ابو بكر بن عِيسَى بن عمر عرف بالسراج الْحَنَفِيّ مولده سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَكَانَ فَقِيها كَبِير الْقدر سليم الصَّدْر يغلب عَلَيْهِ البداوة اذ هُوَ من اهل بادية زبيد وَكَانَ قايلا بِالْحَقِّ آمرا بِالْمَعْرُوفِ لَا يحاشم فِي ذَلِك صَغِيرا وَلَا كَبِيرا وَهُوَ اُحْدُ مدرسي الْمَذْهَب درس بعد الصمعي وَتُوفِّي بزبيد فِي شهر جمادي الاخرة وَفِي سنة ثَلَاث وسبعماية
وَمِنْهُم ابو الْخطاب عمر بن عَليّ الْعلوِي الْمَذْكُور فِي اصحاب ابْن حنكاس مولده سنة ارْبَعْ وَسِتِّينَ وستماية تفقهه بجده ابْن حنكاس كَانَ من اهل المرؤات ذَا مرؤة واحسان وابتني بزبيد مدرسة خص بهَا اهل مذْهبه وَله مُصَنف جيد يحتوي على سَبْعَة مجلدات يعرف بنزهة النظار وَأنس الحضار وَله عدَّة اولاد تفقه مِنْهُم ابراهيم مولده سنة ثَلَاثِينَ وتسماية وَهُوَ الْآن اُحْدُ مدرسي الْمَذْهَب بزبيد وَيذكر مَعَ الْفِقْه بِمَعْرِِفَة الحَدِيث تفقهه بِابْن جَابر الْآتِي ذكره فِي أهل الْبر وَقد ذكرت ان امهِ ابْنة الْفَقِيه ابي بكر بن حنكاس وامتحن فِي آخر عمره بخلطة الْمُلُوك فصادره الْمُؤَيد مصادرة شاقة وَتُوفِّي عقيبها برجب سَابِع عشر سنة ثَلَاث سبعماية وَمُحَمّد بن عمر تفقه ودرس بمدرسة ابيه ويوسف فَقِيه بالفرائض وادركته وَرَأَيْت(2/54)
مِنْهُ أَشْيَاء جَيِّدَة وَلما دخلت زبيد سنة عشْرين وسبعماية وجدته مِمَّن يذكر بِالدّينِ وَالْأَمَانَة وَعظم الْفِقْه والْحَدِيث وَشرف النَّفس وخالطته
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عَليّ يعرف بِابْن الغزال كَانَ من اهل الْفِقْه وَالدّين والانسانية متأدبا شَاعِرًا وَكَانَت لَهُ مَكَارِم واخلاق وسماحة فِي الارزاق وَله شهر جيد مثل مِنْهُ وَهُوَ لغيره ... واني لاستحيي من الله ان ارى ... بِحَال اتساع وَالصديق مضيق ... ولي دَار الضَّرْب بزبيد مدى فَكَانَ لَا يعْمل الدَّرَاهِم الا من فضَّة خَالِصَة واليه ينْسب الدِّرْهَم الْغَزالِيّ الَّذِي لم يكن فِي الضريبة المظفرية مثله وَمَتى ظَهرت مِنْهُ شَيْء بَادر النَّاس الى اكتنازة اخبرني الْخَبِير بِحَالهِ قَالَ كَانَ من عَادَته مَتى صلى الْغَدَاة ذكر الله تَعَالَى فِي الْمصلى سَاعَة حَتَّى يسفر ثمَّ يوتي بربعة الْقُرْآن فِيهَا ثَلَاثُونَ جُزْءا وَعِنْده جمَاعَة يَأْخُذ كل مِنْهُ نَصِيبا مِنْهَا ثمَّ يقْرَأ فَلَا ترْتَفع الشَّمْس حَتَّى قد ختموا ثمَّ يدعونَ ويؤتي لَهُم بِطَعَام يَأْكُلُونَهُ ثمَّ ينْصَرف الى دَار الضَّرْب فيقعد فِيهِ ويصل اليه اما طَالب علم فيقريه اَوْ ذُو حَاجَة فيقضيها لَهُ وَكَانَ ابو بكر بن دعاس يحسده على مَنْزِلَته عِنْد السُّلْطَان ووجاهته عِنْد النَّاس وَكَثْرَة ثنائهم عَلَيْهِ اذ كَانَ لَا يزَال ساعيا فِي حوائجهم بجده واجتهاده بِحَيْثُ يَحْكِي عَنهُ امور يطول شرحها وَلما حضر مجْلِس المظفر وحقق عَلَيْهِ مَال مستكثر وَقد علم المظفر ان النَّاس تحبه وَالثنَاء عَلَيْهِ قَالَ لَهُ شريت بِنَا النَّاس باموالنا
وَمِنْهُم يحي بن مُحَمَّد بن يحي العطيعط بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وخفض الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الطَّاء تفقه(2/55)
بِابْن ابي سوَادَة ودرس بمدرسة ابْن دعاس ادركته على ذَلِك وَسمعت اهل زبيد يثنون عَلَيْهِ بِالدّينِ والورع وجودة الْفِقْه وَمَعْرِفَة الْفَرَائِض وَكَانَت وَفَاته فِي الْمحرم سادس عشر وسبعماية وَله شعر مستحسن لم يحضر لي مِنْهُ شَيْء فاذكره ثمَّ تكلم عَلَيْهِ الى المظفر فصادره وحربه فَلم يكد يستريح من ذَلِك حَتَّى مَاتَ وَلم اتحقق تَارِيخه
وَمِنْهُم ابو بكر بن احْمَد بن عبد الرَّحْمَن عرف بِابْن الصَّائِغ مولده سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وستماية تفقه بِابْن حنكاس وتأدب بِابْن دعاس وَكَانَ فَاضلا بالفقه والادب وَفَاته بزبيد سنة ارْبَعْ عشر وسبعماية
وَمِنْهُم ابْنه يُوسُف موله الْحجَّة سنة سبع وَسِتِّينَ وستماية فَاضل بالفقه والادب وَقَول الشّعْر وَهُوَ فِي عصرنا رَأس طبقَة اصحابهم وجاهة ومرؤة تفقه بِالْمَكِّيِّ والسراج الْمَذْكُورين اولا وسمعته يفضل الْمَكِّيّ وَله مخطوطات سمعته يروي مِنْهَا جملا مستحسنة وَله مَكَارِم اخلاق
وَمِنْهُم عِيسَى المعيري كَانَ جيدا مُجْتَهدا فِي الطّلب اخذ عَن الْمَكِّيّ وَتُوفِّي قبله فَلَمَّا توفّي الْمَكِّيّ رأه بعض اصحابه فِي الْمَنَام فَسَأَلَهُ عَن هَذَا الْفَقِيه فَقَالَ هَلُمَّ لم اقدر اجْتمع بِهِ من شدَّة ماهبته والمعيري نِسْبَة الى قَرْيَة يُقَال لَهَا المعايرة بِفَتْح الْمِيم وَالْعين االمهلة ثمَّ الف ثمَّ يَاء مثناة من تَحت ثمَّ فتح الرَّاء ثمَّ هَاء سَاكِنة وَهِي برمع خراب فِي عصرنا
وَمِنْهُم ابراهيم بن مهنا بن مُحَمَّد بن مهنا مولده سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وستماية فَقِيه الْمَذْهَب
... نروح ونغدو لحاجتنا ... وحاجة من مَاتَ لَا تَنْقَضِي
تَمُوت مَعَ الْمَرْء حاجاته ... وَتبقى لَهُ حَاجَة مَا بَقِي ...(2/56)
أنْشد نيهما الْفَقِيه إِبْرَاهِيم وعزاهما إِلَى الحماسة وَهُوَ الْآن أورع اصحابهم وافقههم ومدرس الدعاسية يذكر بالنسك وجودة الْفِقْه وَقد اجْتمعت بِهِ فَوَجَدته خيرا عَلَيْهِ اثر الْخَيْر وعلامة الدّين وَالصَّلَاح وَقد انْقَضى ذكر فُقَهَاء زبيد من اهل المذهبين
وَلم يبْق الا الشُّرُوع بِذكر غَيرهَا فابدا بِمَدِينَة الْجند لقدمها وَكَثْرَة من كَانَ بهَا من الْفُقَهَاء المقصودين وَالْعُلَمَاء الْمُحَقِّقين والائمة الْمَشْهُورين كطاووس وعطا مُتَقَدما وَزيد بن عبد الله ونظرائه متاخرا واذ لم يكد يَخْلُو من اول الاسلام الى عصرنا من فُقَهَاء وقضاة ويشاركها فِي ذَلِك فِيمَا تقدم وَتَأَخر مَدِينَة صنعاء اذ الْيَوْم ومنذ دهر طَوِيل قد غلب على اهلها الاعتزال وَمذهب الزيدية فقد مضى ذكر جمَاعَة من الْجند على مَا ذكره ابْن سَمُرَة والتحق بِمن ذكر جمَاعَة
وَمِنْهُم ابو عبد الله مُحَمَّد بن عمر بن جَعْفَر بن فليح بن مُحَمَّد بن احْمَد بن يحي بن ابي بكر الكلَاعِي ثمَّ الْحِمْيَرِي اخذ عَن الامام سيف السّنة وَعَن الامام مَسْعُود العنسى وَغَيرهمَا وَكَانَ رجلا مُبَارَكًا وَهُوَ جد الْفُقَهَاء الَّذين كَانُوا يسكنون الْجند ويعرفون ببني فليح ويذكرون ان لَهُم نسبا فِي الامام جَعْفَر بن عبد الرَّحِيم صَاحب الظرافة الْمُقدم ذكره وَسمعت بعض قدما الْجند يَقُول كَانَ بنوفليح يسكنون منفردين بِمَدِينَة الْجند بحافة تعرف بحافة الزرائب وَهِي الَّتِي حول الْقصر الَّذِي بناه المسعود بن الْكَامِل وَمِنْهُم شري مَوْضِعه قَالَ واعرف مِنْهُم سِتَّة عشر متعمما ينسبون الى دين وَفقه يخرجُون من شَارِع وَاحِد فَلَمَّا اشْترى مِنْهُم المسعود بُيُوتهم تفَرقُوا فِي الْمَدِينَة اذ اخذ كل وَاحِد مِنْهُم بَيْتا فِي مَوضِع وَلم يتَصَوَّر(2/57)
لَهُم اجْتِمَاع المساكن كَمَا كَانُوا وهم بَيت ورع وزهد وَكَانَت دنياهم مباركة ينَال مِنْهَا الْقَرِيب والبعيد وَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِم شرف النَّفس وعلو الهمم والورع اخبرني الثِّقَة انه سمع بعض اخيار الْجند يَقُول رأى بعض الصَّالِحين نَارا قد دخلت الْجند وَهِي تحرق بيوتها بَيْتا بَيْتا واذ بمنادى يناديها لَا تدخلي بيُوت بني فليح فانهم قوم صَالِحُونَ وَلم اتحقق تَارِيخ وَفَاته وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَة اولاد تفقهوا كلهم بالفقيه يحي وَكَانَ فَقِيها فرضيا اخذ الْفَرَائِض عَن الوعلاني وَعبد الرَّحْمَن كَانَ عابدا وَعبد الله تفقه بفقها الْجند الَّاتِي ذكرهم كالسحيقي وَغَيرهم وَكَانَ رجلا مُبَارَكًا كَانَ يزرع ارضا يملكهَا بورك فِيهَا وَكَانَت لَهُ ارْض بجبل صَبر تسمى صهلة اشْتَرَاهَا الْملك المظفر من اولاده وَلما توفّي خلف اولادا تفقه مِنْهُم اثْنَان عمر وابو بكر وَكَانَا خيرين صالحين توفّي عمر فِي بضع وَسِتِّينَ وستماية وابو بكر عَنهُ اخذت بعض كَافِي الصردفي غلب عَلَيْهِ فِي اخر عمره سلوك طَرِيق الصُّوفِيَّة اذ اخذ الْيَد لبِنْت الشَّيْخ احْمَد الرِّفَاعِي وَعنهُ اخذتها وَالله يَجْعَل ذَلِك خَالِصا لوجهه وَيجْعَل ذَلِك سَببا لسلوك طَرِيق الْخَيْر وَكَانَ تحكمه على يَد الشَّيْخ عمر الْقُدسِي وَتَركه مَنْصُوبًا لَهُ برباط يُقَال لَهُ رِبَاط الحقل بِبَلَد صهْبَان فَلبث بِهِ مُدَّة وَصَحبه جمع من تِلْكَ الْبِلَاد ثمَّ انْتقل الى مَوضِع اخر على قرب مِنْهُ فَلم يزل بِهِ غَالب ايامه وَفِي اخر الامر تشوش من اهل الْبَلَد فَنزل الْجند فأستوجع بهَا وَتُوفِّي ثَالِث رَجَب سنة سِتّ وسبعماية وَله ولدان يسكنان الْجند ونواحيها وَقد عرض مَعَ ذكره رجلَانِ يتطلع النُّفُوس الى معرفَة حَالهمَا(2/58)
الاول الشَّيْخ الرِّفَاعِي وَالثَّانِي الْقُدسِي فالرفاعي هُوَ ابو الْعَبَّاس احْمَد بن ابي حُسَيْن بن عَليّ بن ابي الْعَبَّاس الْمَعْرُوف بالرفاعي بخفض الرَّاء وَفتح الْفَاء ثمَّ ألف ثمَّ عين مهمة ثمَّ يَاء نسب نِسْبَة إِلَى رجل من الْعَرَب قَالَ ابْن خلكان نقلت هَذِه النِّسْبَة من رجل من اهل بَيته قَالَ وَكَانَ رجلا صَالحا وفقيها شَافِعِيّ الْمَذْهَب
واصله من الْمغرب بغين مُعْجمَة ثمَّ سكن قَرْيَة من البطايح تعرف بام عُبَيْدَة بِفَتْح الْعين وخفض الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء المثنا من تَحت وَفتح الدَّال الْمُهْملَة ثمَّ هَاء سَاكِنة والبطائح بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة والطاء الْمُهْملَة ثمَّ الف ثمَّ همزَة لفظا وياء خطأ محفوضة ثمَّ حاء مُهْملَة وَهِي قرى مجتمعة وسط المَاء بَين وَاسِط وَالْبَصْرَة وَلها شهرة بالعراق قَالَ وَلما سكن ام عُبَيْدَة انْضَمَّ اليه جمع من الْفُقَرَاء واحسنوا الِاعْتِقَاد بِهِ وتبعوه ونسبوا اليه وَقيل لَهُم الرفاعية والبطائحية نِسْبَة الى مَكَانَهُ وَلَهُم أَحْوَال عَجِيبَة من اكل الْحَيَّات حَيَّة وَالنُّزُول الى التنانير وَهِي تضرم نَارا فيطفؤونها وَيُقَال انهم فِي بِلَادهمْ يركبون الْأسد وَمثل هَذَا لَهُم كثير من طَرِيق النّظر وَالسَّمَاع والمتحقق وَلَهُم مواسم يجْتَمع بهَا عِنْدهم عَالم كثير لَا يُحْصى يقومُونَ بكفايتهم وَلم يكن لَهُ عقب انما الْعقب لِأَخِيهِ واولاده يتوارثون المشيخة وَالْولَايَة الى تِلْكَ النَّاحِيَة الى الْآن وامورهم مَشْهُورَة مستفيضة فَلَا حَاجَة للاطالة فِيهَا وَكَانَ لَهُ مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ من الِاشْتِغَال بِالْعبَادَة شعر حسن مِنْهُ قَوْله ... اذا جن ليلِي هام قلبِي بذكركم ... انوح كَمَا ناح الْحمام المطوق
وفوقي سَحَاب تمطر الْهم والاسى ... وتحتي بَحر للأسى يتدفق
سلوا ام عمر كَيفَ امسى اسيرها ... تفك الاسارى دوهه وَهُوَ موثق
فَلَا هُوَ مقتول فَفِي الْقَتْل رَاحَة ... وَلَا هُوَ ممنون عَلَيْهِ فَيعتق ... وَلم يزل على الْحَال الْكَامِل الى ان توفّي وَهُوَ فِي عشر السّبْعين وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس لعشر بَقينَ من جمادي الاولى سنة ثَمَانِي وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَهَذَا كُله(2/59)
كَلَام ابْن خلكان فِي حَقه وَطَرِيق نسبته حرفية اخذ الْيَد عَن الشَّيْخ عَليّ بن القارى عَن ابي الْفضل ابْن كامخ عَن عَليّ بن بارباري عَن مهلي العجمي عَن ابي بكر الشبلي عَن ابي الْقَاسِم الْجُنَيْد عَن خَاله سرى عَن مَعْرُوف الْكَرْخِي عَن عَليّ بن مُوسَى الرضى عَن مُوسَى الكاظم عَن جَعْفَر الصَّادِق عَن مُحَمَّد الباقر عَن زين العابدين عَن ابيه الْحُسَيْن بن عَليّ عَن ابيه عَليّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
واما الْقُدسِي فَهُوَ ابْن الْخطاب عمر بن عبد الرَّحْمَن بن حسان الْمَعْرُوف بالقدسى كَانَ وَالِده دمشقيا وامه من عسقلان اجْتمعَا بالقدس وازدوجا فِيهِ واقاما بِهِ فولد عمر هُنَاكَ سنة ارْبَعْ وَقيل سنة سِتّ وستماية وَلحق بام عُبَيْدَة وَهُوَ ابْن اثْنَي عشرَة سنة وادرك الشَّيْخ نجم الدّين الْمَعْرُوف بالاخضر من ذُرِّيَّة اخي الشَّيْخ احْمَد فاخذ عَلَيْهِ الْعَهْد وتربا بَين يَدَيْهِ فَلَمَّا رأى كَمَاله امْرَهْ ان يدْخل مَكَّة ويحج وَيدخل الْيمن لينشر فِيهِ الْخِرْقَة واخبره انه يجْتَمع فِيهِ بِرَجُل مبارك ينْتَفع بِهِ فِي دينه ودنياه فَفعل ذَلِك وَلما خل الْيمن اجْتمع بالفقيه عمر بن سعيد العقيبي الْآتِي ذكره فاقام عِنْده بذى عقيب اياما وَذَلِكَ سنة تسع واربعين وستماية فشهره الْفَقِيه عمر وبجله ثمَّ اسكنه موضعا على قرب مِنْهُ يعرف بالمعشب ثمَّ انْتقل مِنْهُ الى اماكن بني لَهُ بهَا ربطا حَتَّى كَانَ آخر رِبَاط سكنه الذهوب تَحت مَدِينَة اب فَلم يزل بِهِ حَتَّى توفّي بعد ان انتشرت عَنهُ الْخِرْقَة الرفاعية لَا سِيمَا بِجِهَة المخلاف وَكَانَت وَفَاته بالرباط الْمَذْكُور لَيْلَة الْجُمُعَة لثمان بَقينَ من ربيع الْآخِرَة سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وستماية وَلم يعقب غير ابْنة تزَوجهَا خَلِيفَته الشَّيْخ عِيسَى بن(2/60)
مُحَمَّد بن عمرَان الصُّوفِي وَهِي من اخيار النِّسَاء حازمة عفيفة قارية كاتبة وَحدث لَهُ مِنْهَا اولاد وَكَانَ قد زَوجهَا قبله بالفقيه مُحَمَّد بن ابي بكر الأصبحي واتت لَهُ بِولد وَهُوَ الى الْآن باقى يتعاطى التِّجَارَة وَفِيه مرؤة وتفضل
نرْجِع الى ذكر فُقَهَاء الْجند وَمِنْهُم أَبُو اسحاق ابراهيم بن عَليّ بن مُحَمَّد بن مَنْصُور بن عواض الأصبحي عرف بِابْن المبردع وَكَانَ فَقِيها نحويا لغويا عَارِفًا بِالْحِسَابِ إِمَامًا فِي علم الْمَوَاقِيت وتصنيف الْكتاب اليواقيت فِي علم الْمَوَاقِيت يدل على ذَلِك وَهُوَ كتاب جليل فِي فنه يتداول بَين أهل الْيمن وَهُوَ برتبة الْفُقَهَاء بنى فليح وَعنهُ أَخذ الْفُقَهَاء توفّي لبضع وَسِتِّينَ وستماية تَقْرِيبًا
وَمِنْهُم عمرَان بن النُّعْمَان بن زيد الْحرَازِي كَانَ فَقِيها مقرئا وَغلب عَلَيْهِ علم الْقِرَاءَة وَكَانَ يَنُوب القَاضِي عِيسَى فِي قَضَاء الْجند ثمَّ نَقله بَنو عمرَان إِلَى زبيد ورتبوه بمدرسة الْقرَاءَات بانشاء الْأُسْتَاذ بدر مقدم الذّكر مقرئا فَلم يزل هُنَاكَ حَتَّى توفّي
وَمِنْهُم ابْنه شَيْخي يُوسُف كَانَ فَقِيها صَالحا خيرا عَنهُ اخذت بعض الْفَرَائِض للصرد فِي درس ايام بني عمرَان فِي الْمدرسَة الشقيرية بالجند ثمَّ لما صَار الْقَضَاء الى بني مُحَمَّد بن عمر جَعَلُوهُ قَاضِيا بالجند فَكَانَ فِي قَضَائِهِ متحريا ورعا وَلم يكد تطل مدَّته حَتَّى توفّي على الطَّرِيق المرضي اول سنة ثَمَانِي وَتِسْعين وستماية
وَمِنْهُم سُلَيْمَان بن النُّعْمَان كَانَ فَقِيها عابدا ذَا كرامات وافادات غلبت عَلَيْهِ الْعِبَادَة وَتُوفِّي بالجند وقبره يقْصد للتبرك
وَمِنْهُم ابْنه مُحَمَّد تفقه بِسَعِيد بن مَنْصُور اُحْدُ اصحاب عمر بن مسود(2/61)
الابيني الْآتِي ذكرهمَا وَكَانَا فَقِيها مجودا فَاضلا درس فِي الْجند فِي مدرسة الشَّيْخ عبد الله بن الْعَبَّاس وَتُوفِّي بهَا وَلم اتحقق تَارِيخه وترتب وَالِدي بعده بِالْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَة
والآن قد عرض ذكر الشَّيْخ عبد الله فاحب بَيَانه وكما اشْترطت فَهُوَ ابو مُحَمَّد عبد الله بن الْعَبَّاس ابْن عَليّ بن الْمُبَارك الْحَجَّاجِي الشاكري ثمَّ الهمدني كَانَ رجلا من اعيان النَّاس ذَا مشاركه بِالْعلمِ لم يجمع اُحْدُ من نظرائه كتبا كَمَا جمع بِحَيْثُ يُقَال جمعت خزائنة فَوق خَمْسَة آلَاف كتاب واخذ عَن الْفَقِيه الجزيري مقامات الحريري وَغَيرهَا واخذ عَن اسحاق الطَّبَرِيّ والعماد الإسكندري وَغَيرهم وَولي كِتَابَة الْجَيْش فِي ايام المسعود بن الْكَامِل ثمَّ هَلُمَّ جرا وسفره المظفر الى مصر مرَارًا وَهُوَ الَّذِي وَصله بالاستنابة من صَاحب بَغْدَاد وتقيد الطَّاعَة وتنويه الْجَلِيل وابتنى هَذِه الْمدرسَة بالجند غير انه قصر فِي وَقفهَا وَلم يزل على الاعتزاز عِنْد المظفر وَولي ديوَان النّظر بعدن مُدَّة وَله فِي عدن سَبِيل بِئْر وحوض وحائط وَكَانَت وَفَاته بتعز لبضع وَسِتِّينَ وستماية وَحمل الى الْجند فقبر تَحت جبل صرب وَذكر لي ثِقَة انه مَا قصد تربته لامر عسير الا تيَسّر وَترك وَلدين هما ابو بكر وَعمر فابو بكر توفّي وَانْقطع عقبه وَعمر كَانَ خيرا يحفظ كتاب الله حفظا شافيا وَتُوفِّي وَخلف ولدا اسْمه أَحْمد كَانَ عَاقِلا يتَوَلَّى للسُّلْطَان الْأَعْمَال الْكِبَار كحرض ولحج وَكَانَت وَفَاته بتعز رَابِع رَمَضَان سنة احدى وَعشْرين وَسَبْعمائة وَخلف خَمْسَة بَنِينَ المرجو من الله اصلاحهم إصلاحا جيدا
وَمِمَّنْ وردهَا على بن عِيسَى بن مُحَمَّد بن مقبل النَّخعِيّ ثمَّ الابيني سَبَب مصيره الْجند انه دخل عدن وَحضر مجْلِس القَاضِي مُحَمَّد بن اِسْعَدْ وَهُوَ يلقِي على الْفُقَهَاء مسايل فَكَانَ يتصدر لَهَا فاعجب القَاضِي بِهِ وَكتب لَهُ الى قَاضِي(2/62)
الْقُضَاة فرتبة مدرسا بالجند بالمنصورية فَلم يزل عَلَيْهَا ثمَّ نقل الى مدرسة بتعز فَلم يزل بهَا حَتَّى توفّي وَمِنْهُم احْمَد بن أبي بكر بن أَحْمد بن أبي الْقَاسِم الفائشي اصله من قَرْيَة اليهاقر الْقرْيَة المضبوطة أَولا وَيَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَمِنْهُم جمَاعَة وردوها وتديروها وانتفع بهم أَهلهَا كَعبد الله بن عمرَان مقدم الذّكر مَعَ أَبِيه بعدن الْخَولَانِيّ وَمُحَمّد بن أَحْمد بن مقبل وَقد ذكر وَسَيَأْتِي ذكر الْخَولَانِيّ فِي أهل بَلَده إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَمِنْهُم عمر بن ابي بكر بن معوضة كَانَ فَقِيها متأدبا اخذ الادب عَن السُّلْطَان علا الَّاتِي ذكره فِي اهل السمكر وَكَانَ زميله فِي الاخذعنه وَالِدي كَانَا يَخْتَلِفَانِ اليه من الْجند الى السمكروكان يُوصف بالذكاء
وَمِنْهُم الاخوان خضر وابو بكر ابْنا مُحَمَّد المغربي كَانَ خضر مقرئا خيرا اخذ عَن ابْن الحذا بجبا وَابْن الْحرَازِي وَكَانَت وَفَاته نَحْو تسعين وستماية واما ابو بكر فتفقه بشيخي ابي الْحسن الاصبحي وَابْن الامام ابراهيم مقدم الذّكر مَعَ ابيه بعدن ودرس بالشقيرية وَكَانَت وَفَاته تَقْرِيبًا لنيف وَتِسْعين وستماية وَمِنْهُم مفضل بن ابي بكر بن يحي الخياري ثمَّ الْهَمدَانِي اصله من جبل عنة من قوم هُنَالك يعْرفُونَ ببني خِيَار تفقه بفقهاء تعز كمحمد بن عَبَّاس الشّعبِيّ وَغَيره على مَا يَأْتِي ذكره وَلما توفّي احْمَد الفايشي مقدم الذّكر اقدمه بَنو عمرَان الى الْجند ليدرس مَكَانَهُ بالمنصورية فَقَرَأَ عَلَيْهِ جمَاعَة من الْجند كَابْن الصارم وَغَيره واخذت عَنهُ الوجير والمستعذب ومشكل مكي وَغَيرهمَا وَلما توفّي الْفَقِيه يُوسُف ابْن النُّعْمَان الْمُقدم ذكره جعل الْقَضَاء اليه مَعَ التدريس فَلبث جَامعا بَين الْقَضَاء(2/63)
والتدريس الى شهر صفر سنة ارْبَعْ وَعشْرين وسبعماية ثمَّ توفّي على ذَلِك فَجعل القَاضِي مُحَمَّد بن ابي بكر مَكَانَهُ رجلا يُقَال لَهُ احْمَد الرعاوي من المشيرق فَلبث قَلِيلا وَمرض فطلع بَلَده وَتُوفِّي وَصَارَ مَكَانَهُ رجلا من اليهاقر يُقَال لَهُ قَاسم بن عَليّ قَاسم الزكى تفقه بشيخنا أبي الْحسن الأصبحي وَلما توفّي شَيخنَا ارتحل الى تهَامَة فاخذ بهَا عَن ابْن الصريدح فَلم يزل على ذَلِك حَتَّى ولي أَبُو بكر بن الأديب فِي شعْبَان سنة سِتَّة عشرَة قَضَاء الْقُضَاة فَعَزله وَجعل مَكَانَهُ رجلا من الغز يعرف بِمُحَمد بن قَيْصر فاظهر فِي دُخُوله الْقَضَاء من الْعِبَادَة وَالصَّلَاة وَالصِّيَام مَالا ينْحَصر واضاف اليه ابْن الأديب قَضَاء تعز فاستناب على الْجند وَصَارَ يحكم بتعز وَيفْعل امورا لم يَسْتَطِيع أهل تعز صبرا عَلَيْهَا بل شكوه الى السُّلْطَان فَأمر ابْن الأديب بابعاده فدافع عَنهُ فَلم يقبل مِنْهُ السُّلْطَان فَصَرفهُ على كره مِنْهُ فابقاه على قَضَاء الْجند فَسَار سيرة كَانَ لَهُ فِيهَا هَنَات كَثِيرَة ثمَّ اسْتمرّ على كره من النَّاس ومدافعة من ابْن الاديب عَنهُ حَتَّى كَانَ فِي ربيع اول نزل حسن بن الاسد من ذمار بعسكر فَلم يقدر على دُخُول قاع الْجند حَتَّى خرج اليه ابْن قَيْصر الْمَذْكُور وجرأه على دُخُول الْجند فدخله ثمَّ جَاءَت لَهُ العساكر من تعز تُرِيدُ قِتَاله فَاقْتَتلُوا قتالا شَدِيدا وانكسر عَسَاكِر الْمُجَاهِد الى الْمَدِينَة فسعي هَذَا ابْن قَيْصر لَيْلَة وَيَوْما وافسد جَمِيع العساكر حَتَّى مالوا عَن الْمُجَاهِد الى ابْن الاسد وقصدوا تعز وحصروها سِتَّة أَيَّام وَفِي سابعها اقنضوا وَتحقّق للسُّلْطَان الْمُجَاهِد ذَلِك فامر بلزومه وَذَلِكَ فِي جمادي الاولى سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة وصودر وَجعل مَكَانَهُ الْفَقِيه حُسَيْن بن مُحَمَّد بن عمر العماكري فَوجدَ اضر مِنْهُ فعالا ومقالا فاستمر قَاضِيا حَتَّى دخلت سنة ارْبَعْ وَعشْرين فِي صفر رتب الْجند بَنو فَيْرُوز فخانوا وساعدوا ابْن قَيْصر فِي لزم القَاضِي حُسَيْن فَلَزِمَهُ وصادروه بمبلغ من الطَّعَام وَالدَّرَاهِم وَعَاد ابْن قَيْصر قَاضِيا وَلما وصل ابْن الدويدار كَانَ من اعظم الاسباب فِي دُخُوله الْجند ونهبها فَكَانَ فِي بُيُوتهم يَوْمئِذٍ النائحات وَفِي بَيته المحجرات والفرح فَلم يكن غير قَلِيل حَتَّى(2/64)
نزل الدملوة وَعَاد فَقتل مَا بَين الجؤة وغيل ورزان وقبر هُنَالك
وَمِمَّنْ وردهَا مُتَأَخِّرًا عَليّ سير بن اسماعيل بن الْحسن الوَاسِطِيّ قدم تعز اولا واخذ عَنهُ جمَاعَة بِشَيْء من كتب الحَدِيث مِنْهَا قريب الْعَهْد الْمَرْوِيّ عَن المعمر بِالْهِنْدِ ثمَّ سَافر الى الْجند لغَرَض الرجبية بهَا فاخذته بَطْنه وتوجع فَمَا هُوَ إِلَّا ان احس بِالْمرضِ وَثقله فَطلب جملا وَحمل عَلَيْهِ فَلَمَّا صَار الْجمل بِبَاب الْجند برك فَضرب فَلم يقم فَقَالَ بخ بخ لكم يَا اهل الْجند هَذَا عَلامَة موتِي وَقد وَعَدَني رَبِّي ان يغْفر لي وَلمن قبر حَولي ثمَّ اعيد الى مَوضِع نزل فِيهِ اولا وَهِي الْمدرسَة الشقيرية فَتوفي مبطونا لبضع وَعشْرين لَيْلَة مَضَت من رَجَب سنة ارْبَعْ وَسِتِّينَ وستماية وقبر تَحت جبل صرب فقبره مَشْهُور يزار
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن يُوسُف بن مَسْعُود الْخَولَانِيّ اصله من زبران ولي إِمَامَة الْجَامِع وَهُوَ الان مدرس بِالْمَدْرَسَةِ وَتُوفِّي عَلَيْهَا لَيْلَة عيد الْفطر من سنة اثْنَتَيْنِ وسبعماية
وَمِنْهُم احْمَد بن ابراهيم بن بلسه عرف بِابْن الصارم وَهُوَ الان مدرس بِالْمَدْرَسَةِ الشقيرية وَتَوَلَّى امامة الْجَامِع الْمُبَارك مُنْذُ توفّي مُحَمَّد بن يُوسُف وَكَانَ تفقهه بمفضل واخذ النَّحْو عَن احْمَد الفايشي مقدمي الذّكر وَلما ظهر اسْتِحْقَاق حُسَيْن للعزل عَزله قَاضِي الْقُضَاة وَجعل هَذَا مَكَانَهُ وَذَلِكَ فِي شَوَّال من سنة خمس وَعشْرين وسبعماية وَكَانَ فَقِيها مُبَارَكًا يسْلك بِالنَّاسِ سيرة بني مفلت الَّذين تقدم ذكرهم والمدرسة الشقيرية نسبتها الى امْرَأَة كَانَت ماشطة للْحرَّة(2/65)
ابْنة جوزة وَكَانَت مُزَوّجَة على مَمْلُوك اسْمه شقير بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ رَاء كَانَت امْرَأَة بهَا خير وَصدقَة وَتوفيت وَلَا وَارِث لَهَا فاوصت بدارها وَارْضَ كَانَت لَهَا لاولاد مولاتها فَقَالَت حِين بلغَهَا ذَلِك اولادي فِي غنى عَن ذَلِك وامرتها تجْعَل دارها مدرسة وَتوقف عَلَيْهَا الارض فَفعلت ذَلِك فَنعم المولاة وَمَا احسن علو همتها وَشرف نَفسهَا وَهِي الْحرَّة ابْنة الاتابك سنقر تزوجت المسعودين الْكَامِل ثمَّ تزوجت بعده الْمَنْصُور فَاتَت لَهُ بولدين وهما الْمفضل والفائز وَكَانَ الْمَنْصُور قد حلف الْعَسْكَر للمفضل وَلما قتل بقصر الْجند قَامَت هَذِه بِالْملكِ وَكَانَت حازمة عفيفة غير انها كَمَا قَالَ ابْن عَبَّاس كُنَّا ندخل على عايشة نسْمع مِنْهَا الحَدِيث فَلَا نخرج مِنْهَا حَتَّى نعلم انها امْرَأَة فطلعت من تعز الى حصن الدملوة وَلم تَبْرَح فِيهِ حَتَّى أَخذ المظفر الْبِلَاد واقام مَالِكًا لَهَا عدَّة سِنِين وخادعها بَان ترك ابْنه الاشرف رهينة مَعهَا وَمَعَهُ خَادِم يعرف بياقوت كَانَ ذكيا حازما فَلم يزل يتلطف فِي اجتلاب المرتبين حَتَّى صَارُوا مائلين الى المظفر ثمَّ عرض لَهَا عَارض أوجب نُزُولهَا عَن الْحصن لقلَّة رأيها فَلَمَّا صَارَت خَارِجَة عَنهُ ثار ياقوت بِمن مَعَه فِي الْحصن واخرج بَقِيَّة غلمانها فَنزلت الى المظفر تَشْكُو اليه فَلم يشكها وامرها ان تنزل باولادها الْمَذْكُورين وتسكن بهم حيس فَلم يزَالُوا بهَا حَتَّى توفوا وَكَانَت وَفَاة الْمفضل سلخ الْحجَّة سنة سبع وَسِتِّينَ وستماية وَلم يزل ياقوت نايبا بالدملوة فَكَانَ بِهِ عنف ومبادرة الى الظُّلم وشكى الى المظفر مِنْهُ فَلم يشك مِنْهُ احدا وَكَانَ مَعَ جبروته كثير الصَّدَقَة مجلا لاهل الْعلم وَالدّين ابتنى بالمنصورة مدرسة وَكَانَت وَفَاته على حَالَة سلخ الْقعدَة سنة ثَمَانِينَ وستماية وَهَذَا ذكر عَارض على سَبِيل اللُّزُوم بل خشيَة تطلع النُّفُوس الى مَا عرض وَقد انْقَضى ذكر المتحقق من احوال بني حُسَيْن ذكر جدهم فأغنى عَن اعادته هُنَا(2/66)
وَمن الواردين اليها ابو عبد الله مُحَمَّد بن منيع النميري كَانَ فَقِيها كَبِيرا متأدبا شَاعِرًا وَكَانَ يصحب الرؤساء من اهل الدولة ويمتدحهم كتب الى قَاضِي الْقُضَاة بهاء الدّين مقدم الذّكر ... بهاء الْهدى اني دعوتك دَعْوَة ... لدهر يشيب الْمَرْء من نكباته
وَلم ارج خيرا م سواك وَإِنَّمَا ... يكون اجتناء الْخَيْر من شجراته ... وَمن شعره مَا كتب بِهِ أَلِي عَليّ بن يحي لما تَابَ من الْخمر وَعَاد إِلَيْهِ ... لَو كَانَت الراح بِابْن يحي ... مُبَاحَة مَا رغبت فِيهَا
لَكِن تَحْرِيمهَا صَرِيح ... فانت بالطبع تشتهيها
زهدت عَاما وَنصف عَام ... فِيهَا وَفِي قرب شاربيها
حَتَّى ظنناك يَا بن يحي ... بَين الورى عَالما فَقِيها
ثمَّ رَأَيْنَاك بعد زهد ... زِدْت غراما بهَا وفيهَا
وهمت وجدا بهَا الى ان ... خلعت ثوب الْوَقار فِيهَا
فعد عَنْهَا أبن دياب ... الى عَلَاء انت تشتهيها
وَتب الى الله من مغاو بِالْمَالِ وَالْعرض تشتريها
فَلم تزل مُنْذُ كنت طفْلا ... تهوى الْمَعَالِي وتقتنيها
وَتكره النَّقْص والدنايا ... بِكُل حَال وتحتويها ... وَبِهَذَا النميري انْتفع جمَاعَة من الْبَلَد اخذوا عَنهُ المقامات وَغَيرهَا من كتب الادب واليه يَنْتَهِي سندنا بالمقامات وَمِنْهُم مُحَمَّد بن احْمَد بن مقبل الدثيني مقدم الذّكر فِي ذُريَّته اهل عرج
وَمِنْهُم عَليّ بن مُحَمَّد السحيقي ثمَّ العامري ثمَّ الْكِنْدِيّ من معشار الدملوة(2/67)
وَله هُنَاكَ قرَابَة يعْرفُونَ بالسجيقيين تفقه بالامام بطال وبعمر بن الْحداد الْآتِي ذكرهمَا ودرس فِي الْجند بعد مُحَمَّد بن احْمَد بن مقبل وَكَانَ متواضعا يلبس قَمِيصًا بجيب ونعلين عربيتين وَيدخل السُّوق وَيَشْتَرِي سلْعَته يحملهَا وَلَا يحمل لَهُ غَيره إِلَّا عِنْد عجز مِنْهُ وَلَقَد اخبرني الثِّقَة من اهل الْجند انه كَانَ يكون سايرا فِي الطَّرِيق وَمَعَهُ سلْعَته فَنَاوَلَهُ بعض النَّاس ورقة سُؤال فقهي فيفتشها ويقراها ثمَّ يجوب بعد ان يضع سلْعَته من يَده وَيخرج دَوَاة من جيبه ويجوب ورأيته قد اجاز الْمقري عمر بن النُّعْمَان مقدم الذّكر سنة ثَلَاث واربعين وستماية
ز وانقضى ذكر من يَنْبَغِي ذكره من اهل الْجند ووارديها لم يبْق إِلَّا الشُّرُوع بِذكر نَوَاحِيهَا فابدأ بأقدمها شهرة بِذكر الفهقاء وَهِي الْقرْيَة الذنبتين ضَبطهَا بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة بعد الف وَلَام وَفتح النُّون وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ نون وَإِنَّمَا ضبطتها خشيَة وُقُوع كتابي هَذَا فِي بِلَاد بعيدَة فقد بغلني انهم لما وقفُوا على تصنيف شَيخنَا الْمعِين وجدوا فِيهِ مُعَلّقا اسْم هَذِه الْقرْيَة اذ هُوَ مِنْهَا فصارا يصفحونها وَهِي قَرْيَة قديمَة قبلي الْجند على ربع مرحلة مِنْهَا وَقد ذكر ابْن سَمُرَة مِنْهَا جمَاعَة غالبهم فِي الاصابح وذكرتهم ايضا فِيمَا مضى وَعَن الْمُتَأَخِّرين عَنْهُم جمَاعَة
وَمِنْهُم ابو الْعَتِيق ابو بكر بن مُحَمَّد بن نَاصِر بن الْحُسَيْن الْحِمْيَرِي نسبا مولده سنة سبع وَثَمَانِينَ وخمسماية تفقه بِحسن بن رَاشد وأخيه عبد الله وَأخذ عَن ابي الْحَدِيد وَابْن جديل وَمُحَمّد بن اِسْعَدْ بن ظَاهر بن يحي وَغَيرهم وَكَانَ فَقِيها زاهدا ورعا متقللا لَا يلبس إِلَّا مَا يغزله حريمه من عطب يجلب من تهَامَة وَيكرهُ عطب ابين وَيَقُول انه قد اغتصبها الْمُلُوك المعروفون بالحجاريم مَتى كمل الْغَزل اعطاه(2/68)
حايكا يتَحَقَّق امانته كَيْلا يخلطه بِغَيْرِهِ ثمَّ كَانَ لَهُ حول وَاحِد لَا يَأْكُل إِلَّا من غَلَّتهَا إِذْ كَانَ مِيرَاثا لَهُ من اهله وَكَانَ لَا يقصر ثِيَابه بل مَا قدم مِنْهَا جعله عِمَامَة والْحَدِيث رِدَاء وَكَانَ مَعَ ذَلِك اذا اقبل الى الْمَسْجِد بالذنبتين انار الْمَسْجِد حَتَّى الْمطَالع فِي الْكتاب يجدالنور على كِتَابه فيرفع رَأسه ليرى سَبَب ذَلِك فَلَا يرَاهُ إِلَّا ظُهُور الْفَقِيه على الْمَسْجِد ومحاسنه اكثر من ان تحصى وتفقه بِهِ جمَاعَة مِنْهُم عبيد بن احْمَد الحساني وَعلي بن عبد الله الْمَذْكُور فِي ذُرِّيَّة الْهَيْثَم وَمَنْصُور بن مُحَمَّد الاصبحي عَم الْفَقِيه
مُحَمَّد الاصبحي واخذ عَن مُحَمَّد بن احْمَد بن جديل ولد شَيْخه وَكَانَ فَقِيها محققا مدققا لَهُ شعر مستحسن مِنْهُ فِي الْفِقْه قَوْله ... والوطيء فِي دبر الْحَلَال محرم ... ومخالف فِي خَمْسَة أَحْكَام
ادب وتعبير وَحل مُطلق ... والفي والاحصان فِي الاسلام ... وَمِنْه مَا كتبه الى بعض اهل بَلَده مِمَّن تدير عدن ورفض بَلَده وَهُوَ ... سَلام على الاحباب حَيْثُ توجهوا ... وَحَيْثُ اقاموا فِي العرائس من عدن
ارى النَّهر قد يَرْمِي اجتماعا بغرفة ... وَيُورث فِي الاحشا مَا يذهب الوسن
وتبدي لنا الايام مَا لم يكن لنا ... ببال من الافراح اَوْ لوعة الْحزن
فَمَا كل محزون بهَا دَامَ حزنه ... وَلَا كل مسرور بهَا تمّ فِي الزَّمن ... وَكَانَ بعض الصُّوفِيَّة يسكن فِي اليهاقر واسْمه عَطِيَّة يتعانى الرقص وَالسَّمَاع وَيَقُول النَّبِي قد كَانَ يرقص فَلَمَّا بلغ الْفَقِيه ذَلِك صَعب عَلَيْهِ وَعمل قصيدة مِنْهَا قَوْله ... نبئت ان يهاقرا ظَهرت بهَا ... لعب الولائد مُعْلنا بزفير
حاشا لاحمد ان يرى بملاعب ... وعطية فِي ذَاك غير خَبِير ...(2/69)
أَخْبرنِي الثِّقَة أَنه اصبح يَوْمًا فِي حَلقَة اصحابه وتدريسه فَجْأَة بعض أَصْحَابه فَقَالَ لَهُ رَأَيْت فِي الْمَنَام فَوق بَيْتك حَماما كثيرا مجتمعات وبينهن طَائِر لَهُ عَلَيْهِنَّ تميز بالخلقة وَالصُّورَة فَبينا انا اعْجَبْ مِنْهُ ومنهن اذ بِهِ قد غَابَ عَنْهُن وظني انه نزل فِي الارض فحين فقدته الْحمام اخذنا فِي التَّفَرُّق فَقَالَ الْفَقِيه انا الطاير وَالْحمام اصحابي ثمَّ اخذ فِي الاستعداد للْمَوْت بِالْوَصِيَّةِ وَغَيرهَا وَمَات عقيب ذَلِك الْيَوْم يَوْم الْخَمِيس عَاشر ربيع الاول من سنة بضع واربعين وستماية وقبره يمنى الْقرْيَة الذنبتين يزار ويستنجح عِنْده الحوايج وَهُوَ من الترب الْمَقْصُودَة للزيارة طلبا للتبرك وزرته مرَارًا كَثِيرَة
وَمِنْهُم ابو عبد الله الْحُسَيْن بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن اسماعيل بن احْمَد الزبيدِيّ نسبا الى الْقَبِيلَة الْمَشْهُورَة ولاعديني بَلَدا نِسْبَة الى ذى عدينة الْمَدِينَة الْمَعْرُوفَة تَحت حصن تعز كَانَ يتعانى التِّجَارَة وَسكن جيلة فَكَانَ لَهُ بهَا ذكر شايع بالجميل واطعام الطَّعَام وبورك لَهُ فِي دُنْيَاهُ وَاشْترى بهَا الذّكر الْجَمِيل والاجر وَسمع المسموعات على فُقَهَاء عدَّة فِي اماكن مُتَفَرِّقَة من ذَلِك عدن وَغَيرهَا اِدَّرَكَ بعدن القَاضِي ابراهيم بن احْمَد الَّاتِي ذكره ثمَّ انْتقل من ذِي جبلة الى قرب سهفنة الْمُقدم ذكرهَا ثمَّ بعد ذَلِك بِمدَّة انْتقل الى قَرْيَة الذنبتين لشَيْء حدث بَينه وَبَين الْقُضَاة بهَا فَلم يلبث فِي الذنبتين حَتَّى توفّي على طَرِيق مرضى من الاطعام والاحسان بِحَيْثُ كَانَ لَا يذكر اُحْدُ فِي ذَلِك غَيره وَكَانَ الْفَقِيه ابْن نَاصِر يقرئ وَهُوَ يطعم المنقطعين وَيكرم الضَّيْف وَلم يكن لَهُ فِي عصره نَظِير واخذ عَنهُ جمَاعَة من الْفُقَهَاء المعتبرين كتب المسموعات
مِنْهُم ابْن مِصْبَاح مُحَمَّد والفقيه عمر العقيري وَغَيرهمَا وَلما تكاثر دينه اراد التَّقْصِير عَمَّا يَفْعَله من الاطعام فَقيل لَهُ انه كَانَ ذَات يَوْم مفكرا فِي امْرَهْ عازم على ذَلِك اذ سمع هاتفا يَقُول يَا حُسَيْن انفق وعلينا القضا فَلَمَّا سمع ذَلِك ازْدَادَ عزما على الْبَقَاء على فعله الْمُعْتَاد فَلَمَّا توفّي وَعَلِيهِ دين عَظِيم قَامَ بِدِينِهِ عبد لَهُ ابْتَاعَ بذلك وعضده فِيهِ القَاضِي اِسْعَدْ بن(2/70)
مُسلم الَّاتِي ذكره فَلم يكن غير مُدَّة قريبَة حَتَّى انْقَضى دينه بِحَمْد الله وَلم يكن يدْفن حَتَّى بَرِئت ذمَّته قلت وسماعه للهاتف نَحْو مَنَام ابْن مَضْمُون وَمَا يَحْكِي من ورع هَذَا الرجل فِي التِّجَارَة انه دخل عدن بفوة كَثِيرَة وباعها بِمَال جزيل ثمَّ قبض الثّمن وَذهب بِهِ الى دَاره واستدعى بالنقادين فنقدوا لَهُ ذَلِك فَخرج الْفَا دِرْهَم فَقيل لَهُ ترد ذَلِك على المُشْتَرِي فَقَالَ اخشى ان يغربها غَيْرِي وانا احْمِلْ بِهِ ثمَّ ذهب بِهِ الى موقع فِي الْبَحْر فالقاها فِيهِ بِحَيْثُ يغلب على الظَّن تلافه وَعدم ادراكه وَهَذَا ورع يعز وجوده ومناقب هَذَا الْفَقِيه اكثر من ان تحصى وَكَانَت وَفَاته لبضع وَثَلَاثِينَ وستماية تَقْرِيبًا وقبر بمقبرة الذنبتين الشرقية وَحضر الصَّلَاة عَلَيْهِ جمع ناشر لَا يُحصونَ كَثْرَة من جُمْلَتهمْ ابْن نَاصِر وَمُحَمّد بن عمر الزَّيْلَعِيّ وَغَيرهمَا وَخلف ابْنَيْنِ صغيرين هما مُحَمَّد وَأحمد فمحمد صحب الْفَقِيه عمر بن سعيد وتفقه بِهِ ولبث مُدَّة بِمَدِينَة الْجند درس بمدرسة الامير مِيكَائِيل ابْن ابي بكر ابْن مُحَمَّد لموصلي ثمَّ انْتقل عَنْهَا وَتُوفِّي بالذنبتين وقبر الى جنب قبر ابيه
وَعرض مَعَه ذكر مِيكَائِيل ابْن ابي بكر وَكَانَ من اعيان الْوُلَاة ولي الْجند مُنْذُ اخر الدولة المسعودية حَتَّى دخلت الدولة المظفرية وَكَانَ رجلا فَاضلا نسبه فِي التركمان وَقدم صُحْبَة المسعود بن كَامِل وَكَانَ يُقَال لَهُ السيروان لَان عَمه زوج والدته كَانَ سيروان وادرك هذاميكائيل شَفَقَة من المسعود فولاه مَدِينَة الْجند ولبث بهَا واليا مُدَّة ثمَّ ابتنى بهَا مدرسة وقف عَلَيْهَا وَقفا جيدا غَيره ابْن لَهُ اسْمه عمر وَرُبمَا عزم على اخرابها لَكِن زَجره القَاضِي البها مقدم الذّكر من اهل سير وَكَانَ مِيكَائِيل الْمَذْكُور من اخيار الْغَزْو اعيانهم يلقب بشمس الدّين وَله مُخَالطَة بَاهل الْعلم ومشاركة فِيهِ ووقف على مدرسته بالجند عدَّة كتب ودرست بهَا عدَّة سِنِين وَله مَسْجِد بِرَأْس تقبل سَوْدَة وسقايتان وحوض يجْرِي اليه المَاء وَيشْرب(2/71)
مِنْهُ النَّاس والحيوانات وَكَانَ يغلب عَلَيْهِ الْخَيْر والرفق بالرعايا وَلم اتحقق لَهُ تَارِيخا غير انه توفّي على ولَايَة الْجند وقبر الى جنب قبر الْفَقِيه زيد اليفاعي
نرْجِع الى ذكر الْفُقَهَاء بالذنبتين فَمنهمْ مَنْصُور بن مُحَمَّد بن مَنْصُور الاصبحي قد ذكرته فِي مدرسي سير وَكَانَ فَقِيها فَاضلا صَالحا تفقه بِهِ جمَاعَة وَمِنْهُم ابْن اخيه مُحَمَّد بن ابي بكر بن مَنْصُور الْمَذْكُور اولا كَانَ فَقِيها كَبِيرا محققا مدققا فِي الْجَواب مبارك التدريس بِهِ تفقه جمع كثير من نواح شَتَّى وَله مصنفات عديدة مِنْهَا الْمِصْبَاح مُخْتَصر فِي الْفِقْه والفتوح فِي غرايب الشُّرُوح والايضاح ومذاكرة التَّنْبِيه فِي الْمسَائِل المشكلة من التَّنْبِيه والاشراف فِي تَصْحِيح الْخلاف وَكَانَ النَّاس حِين ظهر عكفوا عَلَيْهِ حَتَّى ظهر كتاب الْمعِين تصنيف تِلْمِيذه شَيخنَا ابي الْحسن الاصبحي فانتقلواعن النّظر بِهِ الى الْمعِين واستغنوا بِهِ عَن جَمِيع الْكتب الَّتِي وضعت فِي تَصْحِيح الْخلاف وَكَانَ هَذَا الْفَقِيه رجلا موفقا عابدا زاهدامتورعا اما عِبَادَته فاكثر من ان تحصى غير انه كَانَ من عَادَته ان يقْرَأ فِي ايام رَمَضَان ولياليه كل يَوْم ختمة وكل لَيْلَة كَذَلِك حَتَّى كَانَ رَمَضَان الَّذِي توفّي عقبه ختم فِيهَا خمْسا وَسبعين ختمة وَرَآهُ بعض الْفُقَهَاء بعد مَوته فَسَأَلَهُ عَمَّا فعل الله بِهِ فَقَالَ أَخذ بيَدي وادخلني الْجنَّة فَقَالَ لَهُ هَل وجدت مُنْكرا ونكيرا فَقَالَ لَا بل سَمِعت صَوتا لَا ادري هَل هُوَ مِنْهُمَا ام من غَيرهمَا ثمَّ اسمعني كلَاما حفظت مِنْهُ مَا مِثَاله قل للرجلين انصرفا عَن الْفَقِيه كلاكما قل للرجلين انصرفا عَن الْفَقِيه قبل انيراكما قل لِرجلَيْنِ انصرفا عَن الْفَقِيه الم تعلما انه مولاكما وَثَبت عَنهُ رَحمَه الله ان قَالَ جعل الله اربعة مَلَائِكَة لغضبه هم عزرائيل وَمَالك ومنكر وَنَكِير وَقد سَالَتْ الله ان لَا يريني احدا مِنْهُم وارجو انه اسْتَجَابَ لي فَكَانَ مَوته بَحر المدفن فِي اسرع من لمح الْبَصَر فَعلم انه لم ير عزرائيل وَرُوِيَ الْفَقِيه الجرهمي(2/72)
تدل على انه لم ير الاخرين وَكَانَ شَدِيد الْوَرع من صغره حَتَّى كَانَ لَا ياكل إِلَّا مَا يتَحَقَّق حلّه وَلَقَد قَامَ فِي مصنعة سير ط فَوق عشْرين سنة لَا يَأْكُل لَهُم طَعَاما إِنَّمَا ياخذ كيلة من وقف القَاضِي أَبُو بكر بن احْمَد مقدم الذّكر بِجِهَة الحيمة على من يدرس بِجَامِع المصنعة وَكَانَ كثير الْعِبَادَة وزيارة الصَّالِحين والمساجد الْمُبَارَكَة وراتبه كل يَوْم سبع من الْقُرْآن وتفقه بِهِ جمع كَثِيرُونَ خرج مِنْهُم الْفُقَهَاء الْمُحَقِّقُونَ والمفتون والمدرسون فَلَا يُوجد فِي الْجبَال خَاصَّة من هومتصف بِهَذِهِ الصِّفَات الا من أصحابهاو اصحاب اصحابه
وَمِنْهُم شيخناا ابو الْحسن الأصبحي وَهُوَ ابْن عَمه أَيْضا لَكِن هَذَا مُحَمَّد بن اصابع انتجعوا الذنبتين م ذبحان وَشَيخنَا من اصابع تديروا الذنبتين مُنْذُ دهر طَوِيل اصلهم من الأصابح الَّذين بجبل السحول وهم أصل رياسة وركوب خيل وعزم وحزم وانتقل اللَّهُمَّ قوم الْفَقِيه مُحَمَّد من ابين فتزوجوا مِنْهُم وازوجهم ثمَّ صَار اليه قوم من جبل بعدان اصابح ايضا سَيَأْتِي ذكر من عَلمته تفقه بهم ايضا وتفقه بِهِ ايضا عبد الْوَهَّاب ابْن الْفَقِيه نَاصِر وَعبد الله بن سَالم وابو بكر اللَّيْث وَمُحَمّد بن ابي بكر وَمُحَمّد بن عبد الله ابنى اِسْعَدْ العمرانيان وَمن اصحابه كثير وَكَانَت حلقته تجمع فَوق مائَة طَالب فِي اكثر الاحيان وَرُبمَا بلغو مِائَتَيْنِ فِي كثير من الاوقات ثمَّ ضَاقَتْ بِهِ المصنعة فانتقل عَنْهَا الى مَدِينَة اب الَّاتِي ذكرهَا فَلَقِيَهُ اهلها ملقى حسنا واكرموه وَاحْتَملُوا من جَاءَ مَعَه من الطّلبَة واقاموا(2/73)
بكفايتهم مَا داموا منقطعين وَمَات على الطَّرِيق المرضي ضحى الْجُمُعَة سادس شَوَّال من سنة احدى وَتِسْعين وستماية بعد ان عمر تسعا وَخمسين سنة وقبر الى جنب قبر الامام سيف السّنة وزرت قَبره بِحَمْد الله مرَارًا
وَمِنْهُم ابو بكر بن عمرَان الاصبحي كَانَ فَقِيها ولي قَضَاء الذنبتين واخذ عَنهُ الْفَقِيه مُحَمَّد بن ابي بكر فِي بدايته التَّنْبِيه فَلَمَّا فرغ مِنْهُ سَأَلَهُ ان يُجِيزهُ وَيكْتب لَهُ بذلك اجازة فَقَالَ بِشَرْط انك لَا تَأْخُذ قَضَاء الذنبتين فَغَضب الْفَقِيه وَحلف لَا يَأْخُذ مِنْهُ اجازة وَلَا تولي الْقَضَاء ثمَّ قَرَأَ على عَمه مَنْصُور الْمَذْكُور اولا وَرَوَاهُ عَنهُ وَتُوفِّي هَذَا الْفَقِيه عَليّ الْقَضَاء لَا اتحقق تَارِيخه وَكَانَ لَهُ ابْن خيرا اسْمه احْمَد أَخذ فِي النَّحْو طَرِيقا جيدا عَلَيْهِ استفتحت قِرَاءَة الْجمل للزجاجي
وَمِنْهُم احْمَد بن اِسْعَدْ الاصبحي كَانَ خطيب الْقرْيَة وَكَانَ ذَا دين وَتُوفِّي لَيْلَة الْجُمُعَة لست بَقينَ من ربيع اول سنة تسع وَتِسْعين وستماية وقبره قبلي الذنبتين
ثمَّ صَار الْفِقْه بطبقة اخرى مِنْهُم شَيْخي ابي الْحسن عَليّ بن احْمَد الْفَقِيه الْمَذْكُور آنِفا ابْن اِسْعَدْ ابْن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عمر بن ابي الْفتُوح بن عَليّ بن ابي الْفتُوح بن عَليّ بن صبيح الأصبحي مولده لخمس بَقينَ من الْحجَّة سنة ارْبَعْ واربعين وستماية تفقه فِي بدايته بِعَبْد الْوَهَّاب الَّاتِي ذكره ثمَّ بِابْن خَاله مُحَمَّد بن أبي بكر وَعَلِيهِ اتقن الْفِقْه وحققه وَكَانَ غَالب قِرَاءَته عَلَيْهِ بالمصنعة يخْتَلف إِلَيْهِ من الذنبتين كل اثْنَيْنِ وخميس فِي الْغَالِب وَرُبمَا كَانَ فِي السبت ايضا وَقد يققف فِي المصنعة الايام ذَوَات الْعدَد ثمَّ لما اكمل الْفِقْه اخذ عَنهُ كتب الحَدِيث ايضا وَكَانَ من الْمُحَقِّقين للفقه العارفين بِهِ لم اكن اتحقق لَهُ نَظِير فِي عصره فِي كثير من بِلَاد الْيمن جبلها وتهامتها وَلَو لم يكن لَهُ شَاهد فِي ذَلِك الا تصنيفه لكتاب الْمعِين(2/74)
ثمَّ لكتاب اسرار الْمُهَذّب ثمَّ لغرائب الشرحين فَإِن النَّاس انتففوا بهَا انتفاعا عَاما
والمعين يدل على كَثْرَة مطالعته للكتب وتحقيقه لنقلها ومعرفتها والعاقل عِنْد مطالعتها يتَحَقَّق ذَلِك وَله فَتَاوَى جمعهَا تِلْمِيذه الْفَقِيه مُحَمَّد بن جُبَير وَكَانَ الْفُقَهَاء مَتى امتروا فِي مسئلة لم يقنعهم جَوَاب بَعضهم الْبَعْض حَتَّى يعرفوا مَا اخذه فيكتبون الى الْفَقِيه بذلك ويسألونه من نَص عَلَيْهَا من الفقهء ام باي مُصَنف من مصنفاتهم فيجيب لَهُم بِمَا سَأَلُوا حَتَّى سَمِعت بعض اكابر المدرسين يَقُول مثل هَذَا الْفَقِيه وَمثل ساير الْفُقَهَاء كقوم ولجوا بحرا يغوصون فِيهِ لطلب الْجَوَاهِر وَكَانَ فيهم مجيد خَبِير يدْخل الْمَوَاضِع بِاجْتِهَاد وخبرة فَيَقَع على الْجَوَاهِر النفسية ويخرجها ويمتاز على اصحابه بهَا وَكَانَ قَوْله هَذَا بِمحضر جمَاعَة من فُقَهَاء تعز كل مِنْهُم سَلمَة واعترف بِصِحَّتِهِ وَعنهُ اخذت التَّنْبِيه والفرائض وَبَعض الْجمل والمهذب والإيضاح والرسائل تصنيفي شَيْخه مقدم الذّكر والاربعينات الودعانية ثمَّ الطائية وقرأت الْعَهْد الَّذِي يروي عَن زين المعمر فِي الْهِنْد وَغير ذَلِك فرحمه الله وجزاه خيرا وَلَقَد كَانَ السماع عَلَيْهِ يفوق الْقِرَاءَة على غَيره بركَة وانشراحا وَكَانَ جميل الْخلق تَامَّة دَائِم الْبشر حسن الالفة يحب الاصحاب ويتألفهم وَيُعْجِبهُ إيتلافهم وَكَانَت لَهُ كرامات ومكاشفات اجْمَعْ النَّاس على نزاهة عرضه وَحسن ورعه وزهده وَكَانَ يَقُول الْحق وَلَو على نَفسه وَكَانَ مَتى اجْتمع اصحابه حوله آنسهم وبش بهم وَرُبمَا ذكر لَهُم مَا يعْجبُونَ مِنْهُ رَغْبَة فِي تألفهم ويفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم وَقد ذكرت قصَّته مَعَ الاشرف فِي الْفَتْوَى عِنْد ذكر ابْن الْحكمِي فِي اهل زبيد والى ذَلِك اشار الْفَقِيه هَارُون السروي بقصيدته الَّتِي امتدحه بهَا فَقَالَ ... لما دَعَاهُ من الْمُلُوك مُعظم ... متغطرس وَجُنُوده افواج
ان قَالَ للنَّفس اصْبِرِي لَا تجزعي ... لَو ثار من كره عَلَيْك عجاج ...(2/75)
.. فَلَا فتين بِصَحِيح مَا صححته ... لَو شاع ذَا مَا شاعه الحجا
ان سادنا فلذي الْمنَار لجدنا ... غمدان سَاج رَأسه وزجاج
كم من كريم فَاضل من مذْحج ... لَا ممعن هربا وَلَا هجهاج ... وَمِنْهَا فِي مدحه ايضا ... إِلَى ... وغلى الْمُهَيْمِن اشتكي من لوعتي ... فَعَسَى برأفته تقضي الْحَاج
والى سلاله احْمَد علم الْهدى ... بل بحرنا المتغطمط المراج
ناهيك من متهلل وعلينا ... بل بدرنا وسراجنا الْوَهَّاج
حلف الزَّمَان أَله مبتوتة ... ليعقمن عَن مثله الأفراج
كم معضل قد فكها بذكائه ... وسل الْمعِين فَفِيهِ مَا تحْتَاج
افخر بِهِ من راسخ ومحقق ... متتوج ورعا وَنعم التَّاج
اقْسمْ عَلَيْهِ ثَلَاثَة من بعده ... ذَر المدرة المنطيق والمسراج
من حَضْرَة قدسية علوِيَّة ... لَا مصري ذُو النُّون يُشبههُ وَلَا الحلاج
دُخُول فِي المعضلات وَقلت لَا ... احمق شرس وَلَا هراج
لم يتق فِي الله لومة لايم ... لم يلف إمعة وَلَا لجلاج ... اوصافه جم وَإِنِّي مفحم ... يَا لَيْتَني الخطفا اَوْ العجاج ... قَوْله بامعة ماخوذة من قَول عَليّ كرم الله وَجهه وَهُوَ(2/76)
.. فلست بامعة فِي الرِّجَال ... اسايل هَذَا وَذَا مَا الْخَبَر ... وَمِنْهَا ... فَعَلَيهِ فِي رأد النَّهَار وَفِي الضُّحَى ... مني سَلام رِيحه أراج ... وَالْقَصِيدَة طَوِيلَة ذكرت الزّبد من ابياتها والغيت الزّبد وَلما صنف كِتَابه الْمعِين فاستطار فِي الْبلدَانِ امتدحه جمَاعَة من فضلاء الْعَصْر مِنْهُم الْفَقِيه احْمَد بن مَنْصُور الشمسي الْمدرس بمدرسة ضراس يَوْمئِذٍ الَّاتِي ذكره وَهُوَ مَا انشدني من لَفْظَة بمدرسة ضراس الَّتِي أنشأتها الْحرَّة ابْنة شرف الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن رَسُول لنَفسِهِ فِي صفر سنة سبع وَتِسْعين وستماية ... ان الْمعِين لعون يستضاء بِهِ ... احصى الْخلاف وَأبْدى الْآن مشكله
لله لله مَا اهدى مُصَنفه ... للطالبين بَيَانا حِين اكمله
خَاضَ التصانيف تَصْحِيحا ليودعه ... فِي ضمنه فَكفى عَنْهَا وسهله
اعطاه مَوْلَاهُ يَوْم الْعرض مغْفرَة ... يُرْضِي بهَا وبدار الْخلد خوله ... وَمِنْهُم وَالِدي يُوسُف بن يَعْقُوب قَالَ فِيهِ أَيْضا ... فَازَ من ألف الْمعِين معينا ... موضحا للأنام نورا مُبينًا
اودع الْبَحْر فِيهِ بَحر عُلُوم ... ملك الْفضل والعلى تمكينا
قدوة الطالبين نور هدَاهُم ... وامام الْأَئِمَّة المنتهينا
0 - مثله فِي الزَّمَان شمس نَهَار ... طلعت بعد ظلمَة الْجَهْل فِينَا
يَا ضِيَاء الْهدى نصرت بن ادريس ... وبرهنت قَوْله تبيينا
فَلَو ان الانام شكر اياديك ... ارادوا طرا لقالوا عيينا
فابق فِي غرَّة الزَّمَان سعيدا ... وفريدا تقري الْعُلُوم منونا ...(2/77)
.. مَا تغنى على الاراك حمام ... وَسَقَانَا السَّحَاب مَاء معينا
وعَلى الْمُصْطَفى الوف صَلَاة ... فِي الوف واله اجمعينا
ابدا دايما دهورا مرورا ... وعَلى صَحبه مَعَ التابعينا ... وَكَانَ لاصحابه عِنْده مَحل وَعند النَّاس لَهُم قدر تفقه بِهِ جمَاعَة مِنْهُم عِيسَى بن مُحَمَّد بن ابي بكر وَسَعِيد العودري وَعمر الحبشي وَمُحَمّد بن جُبَير وَولده احْمَد واسماعيل بن احْمَد الخلي وَمُحَمّد بن عَليّ وَابْن عَمه محسن العماكريان وَعبد الله بن عمر من بني ايمن ثمَّ من العماقي وابو بكر بن الْمقري من تعز وابو بكر بن حَاتِم السَّلمَانِي وابو بكر المغربي من الْجند ويوسف بن النُّعْمَان كَذَلِك هَؤُلَاءِ الَّذين شهروا بِصُحْبَتِهِ وتفقهوا بِهِ وَقد أَخذ عَنهُ جمع كثير غَيرهم والزمه القَاضِي الملقب بالبهاء أَن يدرس بِالْمَدْرَسَةِ المظفرية بالمغربة فَأجَاب إِلَى ذل كودرس أَيَّامًا قَلَائِل ثمَّ عَاد نافرا بِغَيْر اذن القَاضِي وَلَا غَيره وَاخْتلف فِي سَبَب انْتِقَاله عَنْهَا فاخبرني اخوه ابراهيم انه قَالَ رَأَيْت تِلْكَ الْأَيَّام فِي النام وَالِدي دخل على مجْلِس الْمدرسَة فَقُمْت لأسلم عَلَيْهِ فحين دَنَوْت مِنْهُ قطب فِي وَجْهي وَلم يرد يصافحني فَاسْتَيْقَظت وَغلب على ظَنِّي ان سَبَب ذَلِك قبولي لطعام الْمدرسَة فَقُمْت بليلتي وسافرت وَقد روى غير ذَلِك وَمن غَرِيب مَا جرى لَهُ أَنه خرج الى ارْض لَهُ فِيهَا بتوله يحرث فَسَأَلَهُ هَل عِنْده مَاء فاشار البتول الى مَوضِع فقصده الْفَقِيه فَوجدَ عِنْده حنشا فَمَا تمالك ان قَتله واذا بِهِ يجد نَفسه فِي ارْض غَرِيبَة بَين اقوام لَهُم خلق غَرِيب وَمِنْهُم من يَقُول قتلت اخي وَفِيهِمْ من يَقُول قتلت ابْني واخر يَقُول قتلت ابي واخر يَقُول قتلت وَلَدي فَفَزعَ مِنْهُم فَزعًا شَدِيدا واذا بِرَجُل مِنْهُم يَقُول لي قل انا بِاللَّه وبالشرع قَالَ فَقلت ذَلِك واذا بِجَمَاعَة دفعُوا عني المتعلقين بِي وَقَالُوا امضوا بِهِ الى الشَّرْع فمضيت انا وهم حَتَّى اتينا دَارا فَخرج مِنْهُ شخص على هَيْئَة الرخم الْأَبْيَض فَقعدَ على شَيْء مُرْتَفع فَادّعى عَليّ بعض الْخُصُوم فَدَنَا مني(2/78)
صَاحِبي الأول وَقَالَ لي قل مَا قتلت لَا حنشا فَقلت كَمَا قَالَ لي فَقَالَ القَاضِي سَمِعت بأذني من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ من تشبه بِشَيْء من الْهَوَام فَقتل فَلَا قَود على قَاتله ولادية فاسقط مَا بايدي الْقَوْم واذا بِي قد صرت فِي موضعي وَكَانَ البتول قد رأى الْفَقِيه حِين وصل مَوضِع المَاء قد غَابَ سَاعَة جَيِّدَة ثمَّ ظهر قَالَ البتول فوصل إِلَيّ الْفَقِيه وَقَالَ يَا فلَان جرى لبَعض رعية الاجناد مَا هُوَ ذَا وَكَذَا وَاخْبَرْ بِمَا ذكرت فَعرفت انه هُوَ ذَا جرى لَهُ مَا جرى فَقلت لَهُ سَأَلتك بِاللَّه هَل هُوَ انت فَسكت وغالط بِحَدِيث آخر وَلما بلغ المظفر ذَلِك سَأَلَ عَن حَاله فَقيل هُوَ فَقِيه فَقَالَ الْحَمد الله الَّذِي جعل مثل هَذَا الرجل فِي بِلَادنَا وزماننا رجل عَالم زاهد متورع وَكَانَت لَهُ ارْض عَلَيْهَا خراج فَلَمَّا قدم الْفَقِيه الْمُحب الطَّبَرِيّ من مَكَّة الى تعز باستدعاء من السُّلْطَان المظفر واقام بهَا وَسمع الْفُقَهَاء عَلَيْهِ عدَّة كتب وَقَرَأَ عَلَيْهِ المظفر سَمَاعا كتبا من الحَدِيث وَالْفِقْه وَغَيرهمَا ثمَّ وصل اليه شَيخنَا وَقَرَأَ عَلَيْهِ من جملَة من قَرَأَ عَلَيْهِ ثمَّ اخبره بِحَدِيث الْخراج وانه يعجز عَنهُ فَأمره يكْتب ورقة الى المظفر فَفعل وَلما دخل على الْعَادة عرضهَا وَتكلم مَعهَا كلَاما لايقا بِالْوَقْتِ فَكتب لَهُ المظفر بمسامحتها فسومح وَلما كَانَ أَيَّام الْأَشْرَف وَحصل بَينهمَا الِاجْتِمَاع سَأَلَ الاشرف وَصَاحبه الْفَقِيه احْمَد هَل على الْفَقِيه الاصبحي من خراج قَالَ نعم قَالَ يكْتب الينا ورقة يعرفنا بِهِ فَكتب فامر النواب بمسامحته وَذَلِكَ بمبلغ كَبِير يزِيد على الْمُسَامحَة الْمُتَقَدّمَة مثل نصفهَا وَاسْتمرّ ذَلِك حَتَّى توفّي سنة تسع عشرَة غير كثير من المسامحات بقاع الْجند وَغَيره واريد تَغْيِير مسامحات هَذَا الْفَقِيه فقلق اهله وَكَتَبُوا الى السُّلْطَان الْمُؤَيد وتعلقوا بِمن ابلغ لَهُم الْقِصَّة وَعرض المسامحتين عَلَيْهِ وَهُوَ اذ ذَاك بزبيد فامر باجرى المظفرية دون الاشرفية فتعب اهله من ذَلِك تعبا شَدِيدا اذ كَانَت الاشرفية اكثر من المظفرية فَرَأى احدهم الْفَقِيه(2/79)
بالمنام يَقُول لَهُ يَا فلَان مَا اراد السُّلْطَان ان يكْتب لكم على الْمُسَامحَة الاشرفية هَاتِهَا الى ان اكْتُبْ لكم عَلَيْهَا فَلَمَّا طلع الصَّباح واشرقت الشَّمْس اذ بالمنادي على بَاب السُّلْطَان يُنَادي ايْنَ وَرَثَة الْفَقِيه الاصبحي يَأْتُوا بمسامحتهم فاظهروها وادخلت على السُّلْطَان فحين رأها كتب باجرائها مسرعا وَكَانَت لَهُ محفوظات من الاخبار والاثار والاشعار من ذَلِك مَا أنشدنيه من لَفظه للامام الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى فِي النَّهْي عَن اكل التُّرَاب ... دع الطين مُعْتَقدًا مذهبي ... فقد صد عَنهُ حَدِيث النَّبِي
من الطين رَبِّي برا أدما ... وآكله آكل للاب ... وَله اخبار يطول تعدادها فِي الْوَرع والزهد وَخرج عَلَيْهِ قوم من الخرب لَيْلًا وَمَعَهُ جمَاعَة من اصحابه فاخذ على احدهم سَيْفا وَمنع من نَفسه وَمن اصحابه بعد ان قد خرج مِنْهُم ثمَّ هرب الخرب وَبَان لَهُم ان الْفَقِيه لَيْسَ هُوَ الَّذِي اغتروا بِهِ فوصلوا اليه واعترفوا بالْخَطَأ ثمَّ لم يكد تأت عَلَيْهِم سنة حَتَّى قد هَلَكُوا جمع وَلم يكن لَهُ فِي اخر عمره نَظِير فِي الْفِقْه وَالدّين والاخذ بِالسنةِ واتباالاثر اليه انْتَهَت الرياسة بالفقه فِي الْيمن اجْمَعْ وَكَانَ مُسَددًا بِالْجَوَابِ موفقا الى الصَّوَاب انْتفع بتصانيفه الْخَاص وَالْعَام وارتحل بهَا الى الْبعيد من الْبلدَانِ وجاوزت الى بِلَاد البيضان والسودان وعول عَلَيْهَا مِنْهُم كل انسان وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الاربعاء رَابِع عشر الْمحرم من سنة ثَلَاث وسبعماية وقبر الى جنب قبر ابيه قبلي الذنبتين وَحضر قبرانه غَالب اهل الْجند وَجَمَاعَة من اعيان فُقَهَاء تعز كالفقيه احْمَد بن الصفي وَغَيره
وَكَانَ حَاضر الصلوة مَا يزِيد على ثَلَاثَة الف شخص من النَّاس وأمهم بالصلوة عَلَيْهِ وَلَده مُحَمَّد وانزله قَبره احْمَد بن الصفي الْآتِي ذكره فِي أهل تعز اذ كَانَ بَينهمَا صُحْبَة اكيدة مَعَ جمَاعَة وَاجْتمعَ النَّاس للْقِرَاءَة عَلَيْهِ ثَلَاثَة ايام(2/80)
وَمِنْهُم وَلَده مُحَمَّد مولده رَجَب سَابِع عشرَة سنة خمس وَسبعين وستماية خلف اباه فِي التدريس وَعَكَفَ أَصْحَابه عَلَيْهِ وَحج بعد موت أَبِيه ثمَّ لما عَاد من الْحَج لبث مُدَّة وَكَانَ للوزراء بني مُحَمَّد بن عمر صيت بالقرية فَجعلُوا يشوشون عَلَيْهِ ويؤذونه وَرُبمَا دخل بعض غلمانهم بَيته وسرق شَيْئا واشتكى فَلم ينصف وَمَا زَالُوا يكررون ذَلِك حَتَّى ضجر وَخرج عَن الْقرْيَة مُهَاجرا إِلَى نَاحيَة حجر فَأَقَامَ بهَا بقرية الظَّاهِر مَعَ الْفَقِيه عبد الرَّحْمَن الْآتِي ذكره سِنِين وَاقْبَلْ أهل تِلْكَ النَّاحِيَة عَلَيْهِ إقبالا حسنا ثمَّ عَاد بَلَده بعد أَن اضمحل أَمر الوزراء وَمَات عقيب سَفَره من الْبَلَد الْوَزير وَأَبْنَاء أَخِيه مُحَمَّد وَعلي أبنا أَحْمد ثمَّ لما صَار الْقَضَاء إِلَى ابْن الأديب وبلغه انْقِطَاع هَذَا عَن الْأَسْبَاب وَحَاجته إِلَيْهَا رتبه فِي الْمدرسَة المنصورية بمغربة تعز تفرد بالغرابية فَلبث بهَا سنينا ثمَّ فَصله وَعَاد بَلَده فَتوفي بهَا فِي شهر جمادي الْآخِرَة سنة سبع عشرَة وسبعماية وَهُوَ آخر الأصابح فقها
وَمِنْهُم عبد الْوَهَّاب ابْن الْفَقِيه بن أبي بكر بن نَاصِر مقدم الذّكر تفقه بِمُحَمد بن أبي بكر الأصبحي غَالِبا وتفقه بِهِ شَيخنَا أَبُو الْحسن الاصبحي فِي بدايته أَخذ عَنهُ الْمُهَذّب والفرائض للصردفي وَكَانَ يثني عَلَيْهِ وَيَقُول انتفعت بِالْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ انتفاعا جيدا وَكَانَت وَفَاته بخبت البزوا حَاجا لم أتحقق تَارِيخه وَإِنَّمَا اخرت ذكره لِئَلَّا ادخل بَين فُقَهَاء الاصابح ذكر غَيرهم مِمَّن عاصرهم ثمَّ صَار الْفِقْه بطبقة أُخْرَى مَعَ جمَاعَة مِنْهُم يُوسُف بن أَحْمد بن الْفَقِيه حُسَيْن العديني مقدم الذّكر أَولا تفقه بشيخنا أبي الْحسن الاصبحي ولي قَضَاء بعض بلد مذْحج وَكَانَ يخْتَلف إِلَيْهَا من الذنبتين تَارَة فَتَارَة وَكَانَ فَقِيها فَاضلا بالفقه والفرائض وَكَانَ رَفِيق شَيخنَا إِلَى تهامه حِين قَرَأَ فِيهَا الْخُلَاصَة على ابْن عَاصِم بزبيد كَمَا قدمنَا وزار الإِمَام ابْن(2/81)
عجيل وَتُوفِّي بقرية الذنبتين لاربع بَقينَ من ربيع الآخر أحد شهور سنة خمس وَتِسْعين وستماية
وَمِنْهُم عَليّ بن مُحَمَّد الأصبحي تفقه بشيخنا أبي الْحسن تفقها جيدا ثمَّ صَار إِلَى زبيد فتفقه بِبَعْض فقهائها وَهُوَ على ذَاك يسكن بزبيد إِلَى عصرنا سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة
وَمِنْهُم أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أَحْمد صنو شَيخنَا أبي الْحسن مولده تَاسِع ربيع الأول من سنة احدى وَسبعين وستماية تفقه فِي بدايته بأَخيه ثمَّ ارتحل إِلَى أبين فَقَرَأَ عَليّ ابْن الأديب وتفقه فِي أبين وعدن ولحج إِذْ كَانَ يتَرَدَّد بَينهمَا فَانْتَفع بِالْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ انتفاعا كليا أَخذ عَنهُ الْمُهَذّب والتنبيه والوسيط واللمع ثمَّ عَاد بَلَده وَأقَام يقري مُدَّة فِي الْمَسْجِد بالذنبتين من وَصله ثمَّ لما اشْتَدَّ بِهِ الْفقر صَار إِلَى تعز فدرس بهَا فِي مدرسة من مدارسها حَتَّى كَانَ آخِره امْرَهْ يدرس بِالْمَدْرَسَةِ الجديدة بالحميري إِلَى أَن توفّي وَهَذِه الْمدرسَة الْمَذْكُورَة تنْسب إِلَى الْحرَّة مَرْيَم ابنت الشَّمْس الْعَفِيف زوج السُّلْطَان المظفر وَكَانَت من أخيار النِّسَاء لَهَا مآثر جَيِّدَة مِنْهَا هَذِه الْمدرسَة ثمَّ أُخْرَى بزبيد ثمَّ أُخْرَى بِذِي عقيب وَهِي الَّتِي دفنت بهَا وَدَار مضيف ووقفت على ذَلِك املاكا جليلة الْخطر وَغَيرهَا لَكِن أغرى حكام السوء إِلَى الْمُلُوك بإفسادها وَكَانَت وفاتها بِذِي جبلة فِي جمادي الأولى سنة ثَلَاث عشرَة وَسَبْعمائة
وَإِنَّمَا كَانَ مصيره إِلَى تعز حِين صَار ابْن الأديب قَاضِي الْقُضَاة قانه يوالي الأصابح ورتبهم فِي مَوَاضِع انتفعوا بهَا بِخِلَاف مَا كَانَ حَالهم مَعَ غَيره وَكَانَ هَذَا إِبْرَاهِيم تقيا متنسكا لَهُ دين لم يعرف لَهُ صبوة وَكَانَ من أهل المرؤة وَمن أحسن من صحب وَفَاء ومحبة وصفاء للمصاحبة إِلَى أَن توفّي سَابِع وَعشْرين من رَمَضَان(2/82)
سنة ثَمَانِي وَعشْرين وَسبع مائَة وَكَانَ لَهُ أَخ اسْمه عمر يحفظ كتاب الله وَقَرَأَ بعض كتب الْفِقْه ورتبه إِبْنِ الأديب فِي خطابة الْجند فَلم يزل عَلَيْهَا حَتَّى توفّي قبل أَخِيه إِبْرَاهِيم بأيام قَليلَة توفّي ثامن رَمَضَان وَكَانَا شقيقين
وَمِنْهُم مُحَمَّد ابْن أَحْمد بن أسعد الشبرمي بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَضم الرَّاء ثمَّ مِيم وياء نسب نِسْبَة لَهُ إِلَى قوم كَانُوا يسكنون الذنبتين ويعانون الْكِتَابَة كَانَ هَذَا فَقِيها مُجْتَهدا فِي قِرَاءَة الْعلم يقْرَأ الدَّرْس مِائَتَيْنِ وَخمسين شرفا وَكَانَ صَالحا متعبدا تفقه بشيخنا أبي الْحسن وسمعته يثني عَلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ بِالْعلمِ وَتزَوج بِامْرَأَة من الْفُقَهَاء بني عَلْقَمَة أهل ذِي السفال الْمُقدم ذكرهم فَاتَت لَهُ بِولد اسْمه عبد الله يسكن الْآن الْجند يتعاني التِّجَارَة فِيهِ خير وَبَعض اشْتِغَال بِالْعلمِ توفّي وَالِده لنيف وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة تَقْرِيبًا
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عَليّ بن جُبَير مولده ربيع الآخر من سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وسِتمِائَة تفقه فِي بدايته بخاله الْفَقِيه مُحَمَّد الأصبحي مقدم الذّكر ثمَّ بشيخنا أبي الْحسن ثمَّ بِصَالح بن عمر ثمَّ بفقهاء تعز كَابْن الصفي وَابْن النَّحْوِيّ وَغَيرهمَا ثمَّ ارتحل إِلَى عدن فادرك بهَا شَيْخي أَبَا الْعَبَّاس الْحرَازِي وشيخي أَبَا الْعَبَّاس الْقزْوِينِي الْآتِي ذكرهمَا فاخذ عَنْهُمَا وَأخذ صَحِيح مُسلم عَن التَّاجِر الْمَعْرُوف بالشهاب صقر التكريتي لعلو سَنَده فِيهِ عَن ابْن مُضر ثمَّ عَاد بَلَده وَلما توفّي الْفَقِيه إِبْرَاهِيم الأصبحي مقدم الذّكر آنِفا جعل ابْن الأديب هَذَا مَكَانَهُ فِي الْمدرسَة الجديدة بحافة الْحِمْيَرِي وَهُوَ على ذَلِك إِلَى أَن توفّي فِي شهر الْمحرم أَو عَرَفَة سنة ثَلَاث وَعشْرين وسبعماية
وَمن الواردين إِلَيْهَا جمَاعَة فهم أَحْمد بن عبد الله الجبرتي أَصله من جبرة نَاحيَة الْحَبَشَة ثمَّ قدم سير طَالبا للْعلم(2/83)
فاقام بالمصنعة وَقَرَأَ على الْفَقِيه مُحَمَّد بن أبي بكر الأصحبي فتفقه بِهِ ثمَّ بتلميذه شَيخنَا أبي الْحسن ورتبة القَاضِي إِمَامًا بَقِيَّة جعلوها مَسْجِدا ثمَّ لم اخْرُجُوا عَن سير خرج هَذَا الْفَقِيه وَقدم الذنبتين وَكَانَ فَقِيها فَاضلا توفّي بالقرية سنة تسع وسبعماية وقبر على قرب من قبر تربة شَيْخي أبي الْحسن وَمِنْهُم سعيد إِبْنِ عمرَان بن سُلَيْمَان العودري وَقد ذكرته من أهل ذِي اشرق وعَلى قرب من قَرْيَة الذنبتين الْقرْيَة الَّتِي تعرف بالعماكر بهَا جمَاعَة مِنْهُم مُحَمَّد بن عَليّ بن عِيسَى العكاري من قوم يُقَال لَهُم الأعكور يرجعُونَ إِلَى السكاسك تفقه بشيخنا أبي الْحسن وَكَانَ خيرا حج مَكَّة فَدَخلَهَا محرما بِالْعُمْرَةِ ثمَّ سَافر للزيارة وزار الضريح وَتُوفِّي بوادي مر عايدا من يثرب فِي شهر الْقعدَة من سنة أحدى وسبعماية
وَمِنْهُم ابْن عَمه حسن بن مُحَمَّد بن عمر مولده جمادي الْآخِرَة من سنة سبع وَسبعين وستماية وَأخذ فِي بدايته عَن شَيخنَا أبي الْحسن ثمَّ لما توفّي انْتقل إِلَى قَرْيَة ذِي السفال فاكمل قِرَاءَته على الْفَقِيه الصَّالح الْآتِي ذكره وَولي خطابة الْجند وَهُوَ امثل من يشار إِلَيْهِ الْآن بِمَعْرِِفَة الْفِقْه فِي بادية الْجند ودرس مُدَّة بِذِي اشرق باستدعاء أَهلهَا وَتُوفِّي ضحوة يَوْم الثُّلَاثَاء حادي عشر ربيع الأول سنة خمس وَعشْرين وسبعماية وَحَضَرت مَعَ جمَاعَة من أهل بلدنا الْجند قبرانه وغالب الْقِرَاءَة عَلَيْهِ ثَلَاثًا وَمِنْهُم أخوة حُسَيْن تفقه بِهِ وَهُوَ الْآن القَاضِي بالجند محن بِهِ أهل الْجند كَمَا محنوا بِابْن قَيْصر قبله ثمَّ عزل بعد ذَلِك وَمن الْقرى العماقي كَانَ بهَا جمَاعَة مِنْهُم أَبُو مُحَمَّد الْحسن ابْن رَاشد بن سَالم بن رَاشد بن حسن الْمُقدم ذكره فِي مدرستي مصنعة سير كَانَ فَقِيها كَبِيرا تفقه بِمُحَمد بن أَحْمد بن جديل بسهفنة(2/84)
وَأقَام يدرس بالمصنعة مُدَّة فتفقه بِهِ خلق كثير فهم القَاضِي الْبَهَاء وأخويه وَابْن عمهم قَاضِي الْقُضَاة مُحَمَّد بن أبي بكر وَعنهُ أَخذ الْخَطِيب عَليّ بن عمر العميدي وَأَبُو بكر بن نَاصِر وَكَانَ مَسْكَنه بعائلته فِي هَذِه الْقرْيَة ويتررد بَينهَا وَبَين المصنعة وأحس لَيْلَة فِي بَيته بلصوص فَقَامَ ليصدهم فوقعوا بِهِ وجرحوه فَلبث أَيَّامًا وَتُوفِّي فِي سلخ جُمَادَى الأولى سنة ثَمَانِي وَثَلَاثِينَ وستماية وَدفن فِي الْمقْبرَة الشرقية من مَقَابِر الْقرْيَة تعرف بشعب الدَّار وقبره من الْقُبُور المزورة زَارَهُ المظفر وَالْقَاضِي الْبَهَاء من الْجند وتبركا بِهِ وَكَانَ لَهُ أَخ اسْمه عبد الله عَنهُ يروي ابْن نَاصِر التَّنْبِيه وَلم أكد أتحقق من نَعته شَيْئا غير مَا رَأَيْت ابْن نَاصِر يروي عَنهُ وَهَذَا يدل على جلالة قدره وَكَانَ لَهُ ابْن اسْمه مُحَمَّد كَانَ فَاضلا جرى بَينه وَبَين الزيدية مناظرات وقطعهم ثمَّ أَنهم سموهُ فَتوفي وَله ذُرِّيَّة بدمنة ذِي أشرق
ثمَّ بِذِي اشرق وَمِنْهَا مُحَمَّد بن ايمن وَولده أَبُو بكر كَانَ مُحَمَّد فَقِيها فَاضلا عَارِفًا صَالحا صَاحب كرامات واما وَلَده أَبُو بكر فلحظته بركته
وَمِنْهُم عبد الله بن عمر العشاني من بني أَيمن أَيْضا قوم الْفَقِيه عبد الله الهرمي مقدم الذّكر والعشاني بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة ثمَّ ألف ثمَّ نون ثمَّ يَاء نسب نسبته إِلَى قوم يعْرفُونَ بالعشنة قَالَ ابْن سَمُرَة نسبهم فِي نزار
ثمَّ يَليهَا قَرْيَة الذكره كَانَ بهَا جمَاعَة
مِنْهُم احْمَد بن حَمْزَة بن عَليّ بن حُسَيْن الهرمي ثمَّ السكْسكِي كَانَ فَقِيها فَاضلا متأدبا ورعا وَرُبمَا قَالَ شَيْئا من الشّعْر من ذَلِك قصيدته الَّتِي رَحل بهَا إِلَى مَكَّة من قريته فَقَالَ ... هَل شمت برقا بالشأم القارب ... متلملما مثل اخْتِلَاج الْحَاجِب ...(2/85)
.. لما سرى طَار الْكرَى من مقلتي ... وأثار شوقا كامنا بجوانبي
وَذكرت مَكَّة وَالنَّبِيّ بِيَثْرِب ... فرفضت اولادي وعفت مكاسبي
وَتركت بالاجناد ربعا آهلا ... واعضت مِنْهُ بطن خبت لاحب
وشققت برد اللَّيْل اسود حالك ... بمناسم لأيانق وغوارب
جَازَت من الحوبان وَهِي مغذة ... وتعز كالمريخ بَين كواكب
اَوْ كالثريا والديار نَحْو لَهَا ... متوقدا اَوْ كالشواظ اللاهب
جَازَت حبيلا والدمينه بعده ... والبئر فِي المرهوب ري الشَّارِب
مرت بِنَخْل وَهِي تنفخ فِي البرى ... ويحن للحبا غير حواصب ... وَهِي كَبِيرَة تزيد على سبعين بَيْتا وَسمعتهَا مَعَ جمَاعَة كثيرين مَحْفُوظَة وَكَانَت مدرسته بحصن الظفر احدثها الشَّيْخ عبد الْوَهَّاب ابْن رشيد الْمُقدم ذكره ثمَّ توفّي فِي بَلَده وقريته فِي شهر صفر منسنة ارْبَعْ وَثَمَانِينَ وستماية وَخلف جمَاعَة اولاد غالبهم ذُو دين وَحفظ لكتاب الله تَعَالَى يتعانون الزِّرَاعَة
وَمِنْهُم عَليّ بن ربيع عرف بالمقري كَانَ فَقِيها بالقراءات واصله من نَاحيَة الْمشرق وقراءته الْقُرْآن بمدينته جبا الْمُقدم ذكرهَا وَتُوفِّي بالقرية لَا أعرف تَارِيخه وَمن وَمن اليهاقر قد ذكر ابْن سَمُرَة مِنْهُم جمَاعَة وذكرتهم وَقد تقدم ضَبطهَا فَمن المتاخرين عَنْهُم جمَاعَة مِنْهُم احْمَد بن ابي بكر بن احْمَد ابْن ابي الْقَاسِم الفايشي قد تقدم ذكره فِي مدرسي الْجند تفقه بيحي بن مُحَمَّد بن فليح الْمَذْكُور فِي اهل الْجند وَبِغَيْرِهِ مِنْهُم واخذ النَّحْو عَن عُثْمَان بن رفيد من زبران وَتُوفِّي سنة تسع وَثَمَانِينَ وستماية بالقرية وقبره فِي مقبرتها الْقبلية وَقد ذكرته فِي أهل الْجند اذ درس بهَا سِنِين كَثِيرَة فِي الْمدرسَة المنصورية وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن جَابر بن اِسْعَدْ بن ابي الْخَيْر العودري ثمَّ السكسي عرف بالرباعي اذ كَانَت لَهُ ارْبَعْ(2/86)
اصابع تفقه بفقهاء الْجند كابراهيم بن عِيسَى وَغَيره وَأخذ النَّحْو عَن احْمَد بن أبي بكر وَغَيره وَسمع كتب الحَدِيث على عبد الله بن عمرَان الْخَولَانِيّ وَحصل بَينه وَبَين بعض اهل قريته وَحْشَة نفر بِسَبَبِهَا الى الْبَلَد الْعليا فَعلم للشريف عَليّ ابْن عبد الله ولديه ادريس وَدَاوُد وحصلت لَهُ شَفَقَة كُلية من الشريف واقام مَعَه مُدَّة سِنِين فَانْتَفع اولاده بِهِ وقرأوا الْقُرْآن والنحو واستخلص خراج ارضه من السُّلْطَان فَلم تزل مسموحة حَتَّى توفّي
عَنهُ أخذت عَنهُ بعض الْجمل وَهُوَ احسن من رَأَيْته يدرس النَّحْو من أهل الْيمن وَجمع كتبا كَثِيرَة فِي الْأَدَب وَغَيره وَكَانَت وَفَاته منتصف صفر من سنة احدى عشرَة وَسبع مية وَقد عرض مَعَ ذكره ذكر الشريف فَهُوَ أحد اعيان الزَّمَان فَهُوَ ابو الْحسن عَليّ بن عبد الله بن حسن بن حَمْزَة كَانَ فَارِسًا شجاعا كَرِيمًا صحب الْملك المظفر ولاذ بِهِ فاحبه وَرَفعه لَهُ طبلخانه ولقبه بِجَمَال الدّين وَذَلِكَ عَاشر الْمحرم من سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وستماية وَلم يزل على الاعزاز حَتَّى توفّي المظفر بتاريخه الَّاتِي ذكره ثمَّ لما صَار الْملك إِلَى الاشرف ونازعه فِيهِ أَخُوهُ الْمُؤَيد استنجد بِهَذَا على فانجده بِجَيْش جيد وَنزل الى لحج فانكسر عَسْكَر الْمُؤَيد وَقبض فأنعم الاشرف على هَذَا الشريف بنعم كَثِيرَة مِنْهَا حصنان فِي بَلَده يعرفان بالعظيمة والميقاع فطلع من الْيمن وقبضهما وعتب الناسعلى الاشرف بذلك فملا صَار الْملك الى الْمُؤَيد بعد وَفَاة الاشرف لم يكن لَهُ مخرج إِلَّا فِي طلبهما فَخرج فِي سنة تسع وَتِسْعين وستماية وحاضره فيهمَا أَرْبَعَة أشهر ثمَّ تركا عداله على يَد وَلَده ادريس ثمَّ نزل الشريف صُحْبَة السُّلْطَان الى الْيمن ثمَّ نزل مَعَه تهَامَة ثمَّ عَاد الى تعز ثمَّ طلع الى بَلْدَة فَتوفي بهَا سنة ثَمَانِي وَتِسْعين وستماية ثمَّ ان وَلَده ادريس نزل الى السُّلْطَان الْمُؤَيد وَسلم لَهُ الحصنين(2/87)
فَرفع لَهُ السُّلْطَان طبلخانه كَمَا كَانَ لابيه واقطعه بتهامة اقطاعا جاملا وَلم يزل على الاعزاز والاكرام وَكَانَ فَاضلا بِفقه مَذْهَب الزيدية واصولهم عَارِفًا بالنحو معرفَة شافية وَله شعر جيد ودراية بالتاريخ وَله فِيهِ تصنيف شافي جمعه باشارة الْملك الْمُؤَيد وَكَانَ شجاعا جوادا
لَا يكنز درهما سَمِعت كثيرا من النَّاس يفضلونه على ابيه بالشجاعة وَالْكَرم اما الْعلم فَأهل مَذْهَبهم يَقُولُونَ لَو كَانَت امهِ شريفة لَاسْتَحَقَّ الامامة وَكَانَت وَفَاته بتعز لَيْلَة السبت الْعشْرين من ربيع الاخر سنة ارْبَعْ عشرَة وسبعماية
وَنَرْجِع الى ذكر تَتِمَّة الْفُقَهَاء باليهاقر مِنْهُم قَاسم بن عَليّ ابْن قَاسم الْمُقدم ذكره فِي مدرسي الْجند وقضاتهم
وَمن قَرْيَة السمكر جمَاعَة مِنْهُم وحيش بن مُحَمَّد بن أسعد بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب نِسْبَة الى الاجعود الَّذِي ذكره ابْن سَمُرَة مولده سنة سِتّ وَعشْرين وستماية وَكَانَ من اهل المروات والديانات وَله مُشَاركَة بِالْعلمِ اراها كَانَت زهيدة لَكِن استصحب اسْم الْفَقِيه على الْعَادة وَمن ذَرَارِي الْفُقَهَاء وَقد بيّنت كَيْفيَّة ذَلِك فِي مَوَاضِع عدَّة وَكَانَ لَهُ عَم اسْمه عمر بن اِسْعَدْ سلك طَرِيق الْجد فِي الْعِبَادَة فارتقا بذلك الى حَالَة تخيل بِحَيْثُ كَانَ يخبر انه الفاطمي صَاحب الزَّمَان المنتظر فَبلغ عمر بن الرَّسُول ذَلِك فخشي ان يحدث مِنْهُ كَمَا حدث من مرغم الصُّوفِي فِي ايام المسعود بن الْكَامِل فاستدعاه الى تعز وَسَأَلَهُ عَمَّا نقل عَنهُ فَقَالَ نعم فامر بِهِ فشنق بالميدان حسما لمادة المتعبدين لمن ادعا ذَلِك وَتُوفِّي وحيش بالقرية وَخلف ابْنَيْنِ وهما يُوسُف وَمُحَمّد تعانيا خدمَة الْمُلُوك وثباتهم على ارضهم فَتوفي مُحَمَّد وَهُوَ الاكبر لبضع وسبعماية ويوسف فِي الْقعدَة سنة اثنى عشرَة وَلَهُمَا ذُرِّيَّة بالقرية سلكوا طريقهما وهم باقون عَلَيْهَا الى سنة ثَلَاث وَعشْرين وسبعماية(2/88)
وَمِنْهُم ابو السمو الْعلَا بن عبد الله بن مُحَمَّد بن الْعلَا الوليدي الْحِمْيَرِي يُقَال ان جده الامير اِسْعَدْ الَّذِي ذكره ابْن سَمُرَة وانه قتل بَين الْبَابَيْنِ فِي حصن تعز وَاصل مسكن هَذَا فِي عفينه بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وخفض الْفَاء ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ نون مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء وَهِي من معشار تعز بهَا جمَاعَة من قومه الى الان يعْرفُونَ بالاخاضر أهل رياسة وَكَانَ يُقَال لَهُ السُّلْطَان علا يعرف بذلك وانتقل الى ذِي السمكر فَكَانَ يخْتَلف إِلَى الْجند وزبران وَغَيرهمَا وجبلة وتعز وجبا ونواحيها فاخذ بالجند عَن ابْن المبردع ابراهيم وَغَيره وبزبران عَن ابْن رفيد وبتعز عَن عَليّ السرددي وَغَيره وبنواحي جبا عَن الشَّيْخ احْمَد بن علوان الْمُقدم ذكره وبجبلة عَن مُحَمَّد بن مِصْبَاح وَكَانَ رجلا صَالحا بورك لَهُ فِي دينه ودنياه وَكَانَ الشَّيْخ ابْن علوان يثني عَلَيْهِ ويوده واجازه بِجَمِيعِ مقرؤاته ومنظوماته ومنثوراته وَمن عَجِيب مَا رَوَاهُ عَن الشَّيْخ احْمَد بن علوان مَا ذكرته عِنْد ذكره حِين سَأَلَهُ عَن ارجا اية فِي الْقُرْآن وَمن عَظِيم مَا كَانَ بَينه وَبَين الشَّيْخ من الالفة انه كَانَ مَتى انْقَطع عَن الرواح اليه وَصله الى السمكر ولبث عِنْده اياما وَكَانَ صَاحب محفوظات وَرِوَايَات من الاشعار والاخبار ماهرا بفن الادب وَعنهُ اخذ وَالِدي وَمن عَجِيب مَا يذكر عَنهُ انه كَانَ لَا يزرع ارضه الا على حِسَاب فَكَانَ لَا يكَاد يَأْتِيهِ من ارضه شَيْء وَكَانَ غَالب احواله ان يَشْتَرِي الوجيم فَقَالَ لَهُ بعض اصحابه يَا فَقِيه دع عَنْك التنجيم فِي هَذِه السّنة وازرع توكلا على الله لَا على النَّجْم فَوَقع ذَلِك فِي نَفسه فَلَمَّا كَانَ وَقت الزِّرَاعَة امْر البتول مَتى رأى النَّاس قد سرحوا يذرون سرح مَعَهم وذرا فَفِي اول سنة فعل ذَلِك فَجْأَة زرع كثير وغلة جَيِّدَة فاستمر على ذَلِك حَتَّى توفّي على ذَلِك رَأس ثَمَانِينَ وستماية وَمِمَّنْ وردهَا سعيد بن اِسْعَدْ بن عَليّ(2/89)
الْحرَازِي النّسَب وَاصل بَلَده قَرْيَة المشراح بِرَأْس وَادي نخلان قَرَأَ الْقُرْآن بذى اشرق وَتعلم الْخط وَكَانَ حسن الصَّوْت فاستدعاه الدَّار النجمي الى ذِي جبلة فَصَارَ معلما مَعَهم وَكَانَ المظفر يخْتَلف اليهم فحصلت بَينه وَبَينه معرفَة فَلَمَّا صَار الْملك اليه سَأَلَ من عمته الدَّار النجمي ان تؤثره بِهِ فَفعلت فَجعله معلما لوَلَده الاشرف فَلم يزل مَعَه ونال نَصِيبا وفرا من دُنْيَاهُ وَكَانَ كثيرا مَا يصده عَن امور غير لايقة حَتَّى انه لما توفّي ترحم عَلَيْهِ الاشرف وَقَالَ لقد كَانَ يردنا عَمَّا لَا يَلِيق وَهُوَ الَّذِي عمل الْحَوْض بسفل النقيل الاسفل من النقيلين وجر اليه المَاء وَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ الْخَيْر وصحبة الْفَقِيه اسماعيل الْحَضْرَمِيّ وامثاله ومحاضره عِنْد الاشرف جَيِّدَة وَسبب سكناهُ للسمكر زواجه لأم أَوْلَاده مِنْهَا فَلم يزل بهَا حَتَّى توفّي فِي شهر شَوَّال سنة ثَمَانِي وَسبعين وستماية وَخلف أَوْلَادًا جمَاعَة أكبرهم عمر اقام على خدمَة الاشرف بالجندية والمنادمة سِنِين ثمَّ صحب الْفَقِيه ابا بكر التعزي الَّاتِي ذكره وشغف بِهِ فَترك الْخدمَة وتزهد وَتعبد وَصَارَ لَهُ بذلك ذكر مستفيض ثمَّ بعد ذَلِك سلك طَرِيق النَّاس الْمُعْتَادَة من الزِّرَاعَة وَغَيرهَا الى ان توفّي نَهَار الاحد لعشر بَقينَ من جمادي الاولى سنة سبع وسبعماية والاخر كَانَ اسْمه عَليّ كَانَ كثير التِّلَاوَة لِلْقُرْآنِ واعتزال النَّاس حَتَّى توفّي على ذَلِك سنة سِتّ عشرَة وسبعماية ثمَّ اصغرهم رجل يعرف بِمُحَمد الشَّعْبَانِي تولى وقوفات الْجند ضمانا ونياية مُدَّة ثمَّ انْفَصل
وَمِنْهُم عمر بن مُحَمَّد بن مَسْعُود الحجري بَلَدا تفقه فِي بدايته باسماعيل الخلي الَّاتِي ذكره ثمَّ(2/90)
لما صَار بالسمكر بسؤال من اهلها درس على الْفَقِيه صَالح وَجعل يخْتَلف اليه من السمكر حَتَّى أكمل قِرَاءَته وتفقه ثمَّ لما ولي ابْن الأديب الْقَضَاء جعله قَاضِيا بالقرية فَلبث على ذَلِك نَحْو سنة ثمَّ انْفَصل وَبَقِي على التدريس بالجامع والخطابة حَتَّى توفّي فِي منتصف شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسبعماية
وَمن الجبى بِضَم الْجِيم بعد الف وَلَام وخفض الْبَاء الْمُوَحدَة مُشَدّدَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة كَانَ بهَا من اهلها فَقِيه اسْمه ابو بكر بن عِيسَى تفقه بَاهل الْجند وَمَات قبل كَمَال تفقهه على طَرِيق مرضِي وَله ولد اسْمه يُوسُف يحفظ كتاب الله تَعَالَى ويشتغل بِمَا يُعينهُ فِي دينه ودنياه ونسبهم من قوم يُقَال لَهُم بَنو حسان يرجعُونَ الى الاساودة وَمِمَّنْ تديرها ابو الْحسن احْمَد بن الْفَقِيه على الْجُنَيْد ابْن الْفَقِيه احْمَد بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن مَنْصُور بن الْجُنَيْد الَّذِي ذكره ابْن سَمُرَة وانه توفّي قَافِلًا من الْحَج بالسرين ووالد هَذَا قد ذكرته فِي اهل ذِي اشرق وجده احْمَد قد ذكرته فِي اهل ذِي اشرق فَمِمَّنْ اخذ عَنهُ القَاضِي عبد الله بن عَليّ العرشاني وَكَانَ مولده بِشَهْر صفر من سنة تسع وَخمسين وستماية وَلما توفّي وَالِده بتعز كَمَا قدمت بَيَان ذَلِك ترَتّب هَذَا معيدا بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي كَانَ ابوه مدرسا بهَا وَهِي الاسدية الْمُقدم ذكرهَا وحدب الْفَقِيه ابو بكر التعزي عَلَيْهِ وَعلي اخوته مُرَاعَاة لصحبة ابيهم واشفق عَلَيْهِم وَلما صَار الْمُؤَيد سَاكِنا بِالْقربِ مِنْهُم دَعَتْهُ نَفسه الى قِرَاءَة الْعلم فَسَأَلَ عَن فَقِيه صَالح يقْرَأ عَلَيْهِ فارشد الى الْفَقِيه مُحَمَّد بن عَبَّاس التبعي الَّاتِي ذكره فِي اهل تعز فاستدعي بِهِ وعرفه فَقَالَ حَتَّى استخير الله تَعَالَى ثمَّ خرج وَبعد ايام كتب اليه الْمُؤَيد فَكتب اليه يعتذره من ذَلِك وَيَقُول إِن لم أترك خرجت من الْيمن وان كَانَ وَلَا بُد لمولانا من رجل يقرا عَلَيْهِ فَعَلَيهِ بِولد الْفَقِيه عَليّ الْجُنَيْد فَقِيه بركَة وَخير وَكَمَال فاستدعاه الْمُؤَيد وَعرف بغرضه(2/91)
فَقَالَ اشتور وَالِدي يَعْنِي بِهِ الْفَقِيه ابا بكر بن مُحَمَّد التعزي الَّاتِي ذكره فَقَالَ الم يذكر لنا ان والدك توفّي فاخبره بِمن يَعْنِي ثمَّ خرج وَاسْتَشَارَ الْفَقِيه ابا بكر فامره بذلك واشار عَلَيْهِ بِهِ فَحصل بَينهمَا أنس وتآلف بِحَيْثُ صَار يركب بركوب السُّلْطَان وَلما طلع صنعاء طلع مَعَه بالبغلة ذَات الزنار كَمَا يركب الوزراء وَكَانَ النَّاس فِي صنعاء يصلونَ بَابه يصيحون لَهُ كَمَا يَفْعَلُونَ مَعَ الوزراء وَلم يزل فِي مُلَازمَة الصُّحْبَة حَتَّى سَافر الْمُؤَيد الشحر سنة ارْبَعْ وَتِسْعين وستماية فَتَأَخر هَذَا عَنهُ بِالْيمن فَلَمَّا حدث بَينه وَبَين اخيه الاشرف مَا حدث وَلزِمَ الْمُؤَيد قَرْيَة الدعيس على مَا سَيَأْتِي بَيَانه بالتاريخ نفر عَن تعز كل من كَانَ ينْسب الى الْمُؤَيد كَهَذا والفقيه ابي بكر بن مُحَمَّد واخوته وَجَمَاعَة من اصحابهم فلحق هَذَا بشجيتة بلد الْفُقَهَاء بني البَجلِيّ الَّاتِي ذكرهَا فَلَمَّا صَار الْملك الى الْمُؤَيد وصل هَذَا اليه فَجعل يترشح بِحَالهِ الاول من ركُوب البغلة وَالِاخْتِلَاف للمشورة وَالنَّاس يدْخلُونَ كل صباح اليه يصيحون اذ غلب على ظنهم انه الْوَزير وَالْقَاضِي مُسْتَمر على الوزارة
الظَّاهِرَة والفقيه ابو بكر اذ ذَلِك غايب فيناحية وصاب فاستدعاه السُّلْطَان فحين وصل غلب على امْرَهْ فَلم يشْعر النَّاس حَتَّى ظهر اخوه عَليّ بن مُحَمَّد من الْحصن لم يشْعر بِهِ حِين طلع فَنزل الْعَسْكَر بخدمته وَظهر امْرَهْ ولقب بموفق الدّين وَبَقِي هَذَا على شَفَقَة من السُّلْطَان ورزق يُطلق لَهُ فِي كل شهر لَا اتحققه ووهب لَهُ ارضا جَيِّدَة بِهَذَا الْقرْيَة وبيتا كَانَ قد صَار اليه وَمن وَرَثَة الْفَقِيه عمر بن اِسْعَدْ وَكَانَ قد بَقِي بِهِ شركَة لَهُم فاشتراها واستكمل الارض وَالْبَيْت واصلح الْجَمِيع واعجبته الْقرْيَة فابتنى بهَا مسكنا اخرأ وَصَارَت الْقرْيَة مَسْكَنه عوضا عَن تعز وَاشْترى املاكا جزيلة من المخلاف والاجناد وَغير ذَلِك ثمَّ هُوَ يذكر بالفقه والاصول والنحو وَالشعر وَله فِي التصوف كَلَام مرضِي وَشعر ويتردد الى قَرْيَة السمكر فَيعْمل بهَا السماعات ويعقدها وَكثير من اهل السمكر بِهِ اعْتِقَاد وَكَانَ مؤالفا لشَيْخِنَا ابي الْحسن كثير المواصلة اخبرني من لَفظه عَن الْفَقِيه عمر(2/92)
بن سَالم البانا صنو الْفَقِيه الْمَشْهُور بتعز انه اخبره انه حصل بِعَين السُّلْطَان حَصَاة فاضرت بهَا وَلم تخرج وَعرض ذَلِك على الاطباء فَلم يحسنوا علاجها قَالَ فَسلمت الامر لله تَعَالَى وعملت عَلَيْهَا ستارة وصرت يَوْم جُمُعَة فِي الْجَامِع اذا اذن الْمُؤَذّن فَلَمَّا قَالَ اشْهَدْ ان لَا اله الا الله اشْهَدْ ان مُحَمَّدًا رَسُول الله عملت بالرواية الْمَشْهُورَة وَلَقي فِي نَفسِي أنني أواظب على ذَلِك فواظبته حَتَّى الْجُمُعَة الثَّانِيَة فَإِنِّي لاجيب الْمُؤَذّن فِي مثل ذَلِك الْوَقْت الاول الَّذِي بدأت بِهِ اذ سَقَطت الْحَصَاة من عَيْني وَذَلِكَ ببركة الاثر فَعلمت حِينَئِذٍ انه اثر صَحِيح فَلم يزل عَلَيْهِ وَكَانَ وَفَاته بقريته يخْتل نَهَار الاحد ثَانِي عشر جمادي الاولى سنة 727 وَله ولد اسْمه عَليّ فَقِيه يَأْتِي ذكره فِي اهل تعز ان شَاءَ الله تَعَالَى وَمن قَرْيَة قرامد فقيهها الان مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن عَليّ بن اِسْعَدْ عرف بِابْن التؤيم بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق بعد الف وَلَام ثمَّ همزَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت ثمَّ مِيم اصله من سهفنة الْقرْيَة الْمَذْكُورَة اولا نسبه فِي الصعبيين مولده سنة سِتِّينَ وستماية وتفقه بِمُحَمد بن اِسْعَدْ الجعميم الَّاتِي ذكره وَبِغَيْرِهِ وَصَارَ الى هَذِه الْقرْيَة بسؤال من أَهلهَا فَصَارَ اماما بهَا وخطيبا وانتفع جمَاعَة من اهلها فِي قِرَاءَة الْقُرْآن وَالْعلم فتفقه بِهِ الْفَقِيه عبد الرَّحْمَن بن عَليّ العامري وَولده احْمَد وَكِلَاهُمَا خيران وقرا احْمَد عَلَيْهِ التَّنْبِيه والمهذب والفرائض والشريعة للاجرى وَلم يزل يقرئ ويفتي بِهَذَا الْقرْيَة وتفقه بِهِ ايضا مُحَمَّد بن عمر الوجيهي من اهل الْقرْيَة وَهُوَ شَاب مُجْتَهد صَالح مشتغل بِطَلَب الْعلم قَرَأَ عَلَيْهِ التَّنْبِيه والمهذب والفرائض وَالْبَيَان والمستصفى واللمع وَشَرحه لمُوسَى وَالْبُخَارِيّ والشريعة للآجرى والتبصرة والمعين لابي الْحسن الاصبحي وَتَصْحِيح الْخلاف والاصولين وَهُوَ الان على الطَّرِيق المرضي فِي طلب الْعلم وَهَذَا الْفَقِيه قد(2/93)
نَاب على مُحَمَّد بن سُلَيْمَان فِي قَضَاء الْجند وَضبط الْقرْيَة قرامد بِفَتْح الْقَاف وَالرَّاء ثمَّ ألف وخفض الْمِيم ثمَّ دَال مُهْملَة ثمَّ من قَرْيَة زبران حَيْثُ كَانَ الْفَقِيه عبد الله بن احْمَد الْمُقدم ذكرهمَا فِيمَا مضى فِيهَا جمَاعَة مِنْهُم عُثْمَان بن عَليّ بن رفيد كَانَ فَاضلا بِعلم الادب ومسائله فِيهِ الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا الْملك المظفر تدل على ذَلِك وَلم اتحقق لَهُ تاريخها
وَمِنْهُم أَبُو بكر بن يُوسُف بن مَسْعُود اللخولالي وَهُوَ صنو الْفَقِيه مُحَمَّد بن يُوسُف الْمَذْكُور فِي أهل الْجند كَانَ هَذَا ابو بكر فَقِيها فَاضلا اخذ عَن شَيخنَا ابي الْحسن وَغلب عَلَيْهِ طَرِيق الادب وَتَوَلَّى كِتَابَة الانشاء مَعَ القضي الرشيد وَكَانَ يجيد الْخط لَهُ ارْض بزبران ورثهَا من ابيه وَكَانَ يَكْتَفِي بهَا وَرُبمَا يَأْتِي مِنْهَا وَتُوفِّي لَا اتحقق لَهُ تاريخها
وَمن قَرْيَة العربة الْفُقَهَاء بَنو الْفَقِيه نعْمَان بن يزِيد بن مُسلم بِضَم الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وخفض اللَّام ثمَّ مِيم قد ذكرتهم فِي اهل الْجند اذ تديروها سَأَلت بعض ذُريَّته عَن اولاد الْفَقِيه نعْمَان فَقَالَ كَانُوا اربعة عمرَان الَّذِي ذكرت انه كَانَ فَقِيها مقرئا ثمَّ عَليّ ثمَّ يُوسُف ثمَّ سُلَيْمَان فعلي وَعمْرَان وَسليمَان تفقهوا وَآل الْفِقْه بِسُلَيْمَان الى خير وَاسع من الْعِبَادَة وَالصَّلَاح واما يُوسُف فَكَانَ حراثا صَاحب زراعة وَهَذِه آخر قَرْيَة تعرف بقاعي الْجند بالفقهاء وعَلى قرب من الْقرْيَة صقع يعرف بالنجاد وَهُوَ من اعمال الْجند فِيهِ قَرْيَة تعرف بقناذر بِضَم الْقَاف وَفتح النُّون ثمَّ الف وخفض الذَّال الْمُعْجَمَة ثمَّ رَاء سَاكِنة وَهِي قَرْيَة قد ذكرت فِيمَا مضى عِنْد ذكر الْفَقِيه سُلَيْمَان وَابْن عَمه الجدنيان وَهِي من نَاحيَة(2/94)
الْيمن لمدينة الْجند وَكَانَ بهَا بعد الْمَذْكُورين اولا الاحدون وهم جمَاعَة على وَابْنه فعلي ابْن اسماعيل بن ابراهيم بن حديق وَهُوَ اخو ابراهيم الْمَذْكُور فِي أهل جبا سَأَلت الْخَبِير من قَومهمْ عَن أخبارهم فَقَالَ خرج اربعة اخوة عَن بلدهم لامر يُوجب الْخُرُوج فسكن قناذر مِنْهُم اثْنَان هَذَا عَليّ واخ لَهُ اسْمه مُحَمَّد فمحمد لم يشهر لَهُ ذكر بالفقه وَكَانَ لعَلي ابْن اسْمه عبد الرَّحْمَن مولده سنة تسعين وخمسماية تفقه تفقها جيدا وَكَانَ قَائِلا للحق عَاملا بِهِ وَحدث بَينه وَبَين ابْن نَاصِر الْمَذْكُور أَولا فِي فُقَهَاء الْجند مناظرة فِي جَامع الْجند وَحكي ان الْمَنْصُور بن الرَّسُول وَجَبت عَلَيْهِ كَفَّارَة فِي الْجِمَاع بنهار رَمَضَان فامر الْوَالِي ان يجمع لَهُ الْفُقَهَاء فِي الْجند واعمالها فاستدعاهم ميكائل وَهَذَا الْفَقِيه من جُمْلَتهمْ ثمَّ اعْلَم السُّلْطَان بذلك فَقعدَ السُّلْطَان لَهُم قعُودا خَاصّا فَلَمَّا حَضَرُوهُ سَأَلَهُمْ عَن الْمَسْأَلَة فاجابوه بِمَا يُجيب بِهِ ساير النَّاس وَهَذَا الْفَقِيه سَاكِت وَالْكل نطق بِمَا ذكرت فَقيل لَهُ لم لَا تنطق كَمَا نطق أَصْحَابك فَقَالَ اشتهي اعرف صَاحب الْمَسْأَلَة فَقيل هُوَ السُّلْطَان فَقَالَ لَا يجْزِيه الا صَوْم شَهْرَيْن واما الاطعام اَوْ الاعتان فَلَا يجْزِيه واعجب السُّلْطَان جَوَابه وَذَلِكَ ان الْفُقَهَاء نازعوه فِيهِ فَقَالَ الْغَرَض حسم الْمَادَّة وَترك معاودة الذَّنب وَلَا يكون ذَلِك من السُّلْطَان الا بَان يفعل هَذَا الْفِعْل وَهُوَ صِيَام شَهْرَيْن قلت هَذَا الْجَواب يشبه جَوَاب الْفَقِيه مُحَمَّد بن احْمَد الَّذِي نَازع بِهِ الْفَقِيه سيف السّنة وَمن اجْتمع اليه من الْفُقَهَاء بِجَامِع الْجند كَمَا ذكرت اولا واخذ عَنهُ جمَاعَة وَكَانَت وَفَاته سنة ارْبَعْ وَخمسين وستماية وَخَلفه ابْن لَهُ اسْمه عبد الله ولي حكم بَلَده ونواحيها الْمُسَمَّاة بالنجاد وَكَانَ ذَلِك على طَرِيق التبعة للْأَب وَلم يكن فَقِيها
وَمِنْهُم ابْن عَمه لحا عمر بن مُحَمَّد بل الْفَقِيه عَليّ بن اسماعيل مقدم الذّكر وَهُوَ آخر من عرف بِمَعْرِِفَة الْفِقْه واخذ فِيهِ فِي هَذِه الْقرْيَة وَمن النَّاحِيَة قَرْيَة(2/95)
الوثب بِفَتْح الْوَاو بعد الف وَلَام وفت الثَّاء المثلتة ثمَّ سُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة ذكر ابْن سَمُرَة مِنْهَا عبد الله بن حشركة وَقَالَ اعتزل النَّاس الى نَاحيَة ارضه وَلم يذكر ابْن بَلَده حَتَّى كنت كثير التطلع الى ذَلِك وَالسُّؤَال عَنهُ حَتَّى تحقق انه من هَذِه الْقرْيَة وَضبط ابيه بِالْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَالْكَاف ثمَّ هَاء سَاكِنة وَإِنَّمَا ضبطته لانني كنت اصحفه فاخذت ضبط ذَلِك عَن ذُريَّته واهل بَلَده وَنسبه فِي عرب يُقَال لَهُم الاعيون واحدهم عياني نِسْبَة الى قَرْيَة ببلدة مقمح يُقَال لَهَا عيانه بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ الف ثمَّ نون مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء مِنْهُم جمَاعَة كَثِيرُونَ بمعشار النجاد وَسمعت لهَذَا الْفَقِيه اخبارا جَيِّدَة ومآثر حَسَنَة مِنْهَا انه كَانَ يَأْتِيهِ الزاير فِي حَال عزلته فيجد عِنْده طَعَاما ويجد مائدة عَلَيْهَا طَعَام لَا كطعام الادميين وفواكه فِي غير اوانها ومسجده الَّذِي اعتزل بِهِ مَعْرُوف على مَا ذكرُوا ويأتيه الزاير كثيرا وَكَانَ لَهُ ولد اسْمه عَليّ تفقه وَحضر السماع لصحيح مُسلم على الامام سيف السّنة وعده من جملَة الْفُقَهَاء وَهُوَ ابراهيم بن حديق وَذَلِكَ بِجَامِع اللجند كَمَا تقدم وَذريته الى الان بالقرية متسمون بالفقه ويشهرون بِالدّينِ يُقَال هَلُمَّ اولاد ابي هُرَيْرَة اذ كَانَ فيهم رجل اسْمه كَذَلِك الْمَوْجُود مِنْهُم الان فِي الْقرْيَة ذُريَّته اعرف مِنْهُم رجلا اسْمه عمر تفقه بالجند ثمَّ توفّي على رَأس سَبْعمِائة
وَمِنْهُم عُثْمَان بن مُحَمَّد بن عَليّ العياني ايضا كَانَ من اعيان اهل الدّين والمرؤة وَكَانَ مَشْهُورا بالاطعام وَله ارْض جَيِّدَة يَسْتَعِين بهَا على حَاله مِنْهَا الْوَادي الْمَعْرُوف بواهب وَقفه على ذُريَّته ثمَّ اكلفه بعض وُلَاة الْجند ان يَبِيعهُ فاخبره(2/96)
بِالْوَقْفِ فَلم يقبل وَظن ان ذَلِك عذرا فَبَاعَهُ مِنْهُ ثمَّ بعد الشِّرَاء بأيام تحقق صِحَة الْوَقْف فاستعاد مِنْهُ الثّمن وَبقيت الارض بِيَدِهِ حَتَّى توفّي ثمَّ وقف مَعَ اولاده مُدَّة فَاشْتَرَاهُ بعض اولاد ذَلِك الْوَالِي على وَجه الْكرَى وَالشِّرَاء كَمَا يَفْعَله اهل الْوَقْت تحوطا وَخلف عُثْمَان وَلدين هما مُحَمَّد وعتيق فمحمد توفّي بعد ابيه بِيَسِير وعتيق هُوَ الَّذِي بَاعَ الطين مَعَ اخوات لَهُم وَتُوفِّي لبضع عشرَة وسبعماية ثمَّ قَرْيَة حصن الظفر الَّذِي تقدم ذكره بهَا جمَاعَة وردوا اليها
مِنْهُم ابْن ابي اليقطان وَغَيره وَآخر من سكنها من الْفُقَهَاء أَبُو بكر بن ابي الْقَاسِم الشّعبِيّ اصله من اشعوب ذبحان وَكَانَ رجلا صَالحا كثير الْعِبَادَة وَلما استدعى الشَّيْخ عبد الْوَهَّاب بالفقيه عبد الله بن يحي الى المظفر لسَمَاع الْبَيَان وَاجْتمعَ نَاس كثير من الاعيان سمعُوا عَلَيْهِ فِي مدرسة الشَّيْخ الْمُقدم ذكره وَكَانَ هَذَا الْفَقِيه مُقَدرا عِنْد شيخ الاعروق وَكَانَت وَفَاته سنة ارْبَعْ وسبعماية وَخَلفه وَلَده ابو الْخطاب عمر كَانَ من اخير اولاد الْفُقَهَاء شرِيف النَّفس عالي الهمة لما اقمت بالظفر سنة ثَلَاث عشرَة وسبعماية مُرَتبا فِي تدريس الْمدرسَة الْمَذْكُورَة وجدت فِيهِ من الْخَيْر مَالا مزِيد عَلَيْهِ وَكَانَ لَهُ دين رصين وَقَرَأَ عَليّ التَّنْبِيه ومختصر الْحسن وَبَعض كتب الحَدِيث وَكَانَ صبورا على اطعام الطَّعَام للخاص وَالْعَام وَلذَلِك علقه دين كثير لم يكد يقبر حَتَّى قد برا من اجزله وَتُوفِّي على الْحَال المرضي سلخ صفر سنة سبع عشرَة وسبعماية وَله ولد اسْمه ابو بكر وَقد انْقَضى ذكر الْجند ونواحيها
وَحِينَئِذٍ اشرع بِذكر فُقَهَاء تعز اذ هِيَ من اول الدولة المظفرية مصر الْيمن الْمَقْصُودَة من كل نواحيه وَلم تزل دَار ملك لبني الرَّسُول(2/97)
فابدأ حِينَئِذٍ بالفقهاء الَّذين امتحنوا بِالْقضَاءِ وَكَانُوا متورعين اذ هم اولى بالتقدمة وهم جمَاعَة اولهم أَبُو الْخطاب عمر بن ابي بكر الْمَعْرُوف بالهزاز وابو بكر هَذَا ابْن عبد الله بن قيس بن ابي الْقَاسِم بن ابي الاعز اليحيوي ثمَّ اليافعي مولده لبضع وَسِتِّينَ وخمسماية وَاصل بَلَده العقيرة الْقرْيَة الْمُتَقَدّمَة الذّكر وَقد ذكر ابْن سَمُرَة مِنْهُم عَليّ بن عبد الله وَسَأَلت خَبِيرا بالأحوالهم من اهاليهم فاخبرني ان وَالِد عَليّ كَانَ فَقِيها فَذَكرته فِيمَا مضى واما هَذَا عمر فَكَانَ من الْقُضَاة الورعين وَلذَلِك قيل لَهُ الهزاز تفقه بِأَخ اسْمه عبد الله لم أتحققه وَلما امتحن بِقَضَاء تعز سَار فِيهِ السِّيرَة المرضية فِي ذَلِك لانه كَانَ اذا مَاتَ ذُو الاولاد الصغار نصب من يجهزه وَيَقْضِي دينه ثمَّ يعلم مَا بَقِي لاولاده فيأمر الْمُؤَذّن الْمُسَمّى عِيسَى يَصِيح على جِدَار جَامع المغربة وَهُوَ مشرف على السُّوق ان فلَان ابْن فلَان توفّي وَخلف من الْعِيَال كَذَا وَكَذَا وَمن الدّين كَذَا وَكَذَا فَقضى الدّين وَبَقِي للعيال مَا هُوَ كَذَا وَكَذَا ثمَّ يذكر مَا فرض لَهُم حَتَّى كَانَ اموال الايتام يكَاد اهل تعز يعرفونها وَمَعَ من هِيَ وَمَا يصرف مِنْهَا كل شهر وَهَذَا امْر لم يعلم ان احدا سبقه اليه وَلَا لحقه فِيهِ ثمَّ فِي رَأس الشَّهْر اذا انفق على الايتام امْر الْمُنَادِي يُنَادي الا ان الْيَتِيم فلَان قد صرف لَهُ من مَاله كَذَا وَكَذَا وَبَقِي لَهُ كَذَا وَكَذَا وَلم يزل على الْقَضَاء المرضي حَتَّى توفّي بالمغربة عَشِيَّة الْخَمِيس لثمان بقيت من ربيع الاخر سنة ارْبَعْ واربعين وستماية وقبر بجوار مجير الدّين وَهِي الَّتِي بهَا مرباع الْبَقر بسوق تعز
وَكَانَ لَهُ اخ اسْمه يُوسُف كَانَ فَقِيها توفّي قبله بِثمَانِيَة ايام وَكَانَ هَذَا مجير الدّين من خدام السُّلْطَان سيف الاسلام يعرف بمجير الدّين كافور النقي خَادِم يتعاني الْقرَاءَات ومحبة اهلها وَكَانَ شَيخا فِي الحَدِيث وروى عَنهُ جمَاعَة الحَدِيث وابتنى الْمدرسَة(2/98)
المجيرية وَجعل نظرها الى بعض قوم هَذَا القَاضِي وَهِي بيد ذُريَّته الى عصرنا مسكنا
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن عمر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي الْقَاسِم الريَاحي الْحِمْيَرِي مولده سنة تسع وَتِسْعين وخمسماية وتفقه بِمُحَمد بن مَضْمُون غَالِبا وَاصل بَلَده اب وَكَانَ وَالِده قَاضِيا بهَا فَلَمَّا دنت وَفَاته حذره من الْقَضَاء فَلَمَّا توفّي لم يتَعَرَّض لَهُ قبولا لوَصِيَّة أَبِيه فَحدثت عَلَيْهِم مظالم كَثِيرَة شنيعة شقَّتْ بِهِ وبأخوته وَأَهله فَقَالَت لَهُ والدته يَا بني اذْهَبْ الى سير وَاعْلَم قَاضِي الْقُضَاة بوفاة والدكم وَمَا عمل اهل الامر مَعكُمْ فَلَعَلَّهُ يتركك بِهِ مكانة ابيك تتغطى فِيهِ انت واخوتك عَن الظُّلم والاعداء قَالَ فَقلت الان قَابل نهي الْوَالِد أَمر الوالدة فتعارضا ثمَّ تقدّمت الى قَاضِي الْقُضَاة الى المصنعة فحين رأني وسلمت عَلَيْهِ اخبرته بوفاة الْوَالِد فترحم عَلَيْهِ ترحما كليا وعزاني وَقَالَ لم لَا جيت من يَوْم توفّي فاخبرته الْقِصَّة فنصبني مَكَان وَالِدي ثمَّ عدت الْبَلَد فَلَبثت قَاضِيا واستترنا عَن الظُّلم وانقمع عَن الاعداء فَلَمَّا توفّي القَاضِي عمر مقدم الذّكر انفا بتعز بعث الى قَاضِي الْقُضَاة فحين جيته قَالَ لي قد استخرت الله واستنبتك على قَضَاء تعز واستنبت اخاك احْمَد مَكَانك فاعتذرت فَلم يقبل مني والزمني التَّقَدُّم الى تعز فتقدمتها عقيب وَفَاة القَاضِي عمر وَكَانَ ذَلِك من اهل سير عَادَة يحبونَ ابقا اهل الْأَسْبَاب وذراريهم ان وجدوا أَنما مَنعهم عَن ترك محم دولد القَاضِي عمر لكراهته للوقوف مَكَان ابيه مُحَافظَة على وَصِيَّة ابيه اذ وصاه بالحذر من الْقَضَاء وَلم يزَالُوا على ذَلِك فِي الْغَالِب حَتَّى انقرضوا وَمن شكّ فِي ذَلِك بحث عَن ذُرِّيَّة الْفَقِيه(2/99)
البحراني الَّذِي كَانَ اماما بِمَسْجِد الاشاعر الْمُقدم الذّكر فِي اهل زبيد فانه لما توفّي وَخلف اولادا صغَارًا فرتب بَنو عمرَان رجلا وشرطوا عَلَيْهِ ان يقاسم أَوْلَاد الْفَقِيه بالجامكية فَفعل ذَلِك وَلم يزل ذَلِك مستمرا حَتَّى كبروا وقرأوا الْقُرْآن ثمَّ تركُوا أكبرهم قَامَ مقَام ابيه وَنَحْو هَذِه الْحِكَايَة عَنْهُم كثير فَلم يزل على الْقَضَاء الى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَتُوفِّي عَلَيْهِ بالتاريخ الَّاتِي ذكره وَقل مَا سَمِعت بقاضي سلك مسلكه وَلَقَد كَانَ فِي غَايَة من الزّهْد والورع والاقتصاد فِي مطعمه وملبسه وزواجه وَكَانَ اذا اتاه آتٍ وَسَأَلَهُ ان يسعي مَعَه فِي حَاجَة اَوْ شَفَاعَة اجابة الى ذَلِك غير مستكبر وَلَا متجبر وَلَقَد اخبرني الثِّقَة عَن نَفسه انه قَالَ لقِيت القَاضِي مُحَمَّد بن عَليّ فِي هاجرة النَّهَار يمشي حافيا بِيَدِهِ نَعله قَاصِدا من المغربة حافة المحاريب فَقلت يَا سيدنَا لم فعلت هَذَا قَالَ بَلغنِي عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ من مَشى فِي حَاجَة اخيه الْمُسلم حافيا كَانَ لَهُ اجْرِ عَظِيم اَوْ نَحوا مِمَّا قَالَ ونسند نَحْو السَّنَد الاول انه لقِيه بعض النَّاس حافيا مقرعا فصافحه وسايره لينْظر ايْنَ يقْصد فَإِذا بِهِ قد وصل الى بَيت الامير خَازِن دَار المظفري فحين صَار بِالْبَابِ بَادر الْخَادِم الى اعلام الامير فَخرج الامير مسرعا وَقبل يَد القَاضِي واقعده على مَقْعَده متميزا ثمَّ قعد بَين يَدَيْهِ تأدبا ثمَّ قَالَ يَا سيدنَا لم جِئْت على هَذَا الْحَال وَهل ارسلت عَليّ كنت ان اصل الى بَين يَديك قَالَ انا احق بالاجر فان ساعدتني كنت شَرِيكي فِيهِ فَقَالَ يَا سيدنَا لم جيئت على هَذَا الْحَال قَالَ وصلني اولاد فلَان وَذكروا انك حَبسته بِالسَّوِيَّةِ وهم ضعف محتاجون وَبَلغنِي ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ(2/100)
من مَشى فِي حَاجَة أَخِيه الْمُسلم حافيا حاسرا اتاه الله اجرا عَظِيما فَلذَلِك جِئْت كَذَلِك فَقَالَ يَا سيدنَا انما حبس بامر من السُّلْطَان وَلَا يُمكن اخراجه الا بعد مُرَاجعَته وانا الان اراجعه فِي ذَلِك ثمَّ استدعي بِدَوَاةٍ وَقِرْطَاس وَكتب الى السُّلْطَان يُعلمهُ بوصول القَاضِي اليه حافيا حاسرا وانه يشفع لفُلَان وامر بهَا رَسُولا محيا فَعَاد مسرعا بِالْجَوَابِ باطلاق الرجل وَقَالَ شَفَاعَة القَاضِي مَقْبُولَة ثمَّ لم يخرج القَاضِي من بَيت الامير الا وَالرجل مَعَه فَانْظُر كَيفَ كَانَ فعل هَذَا الرجل وانه لما كَانَ لله وجد لَهُ قبولا وَلَو فعل اُحْدُ من اهل هَذَا الزَّمَان كَمَا فعل لنسب الى التخيل وَلم يقبله عقل وَلَا اثمر وَنسب الى الْجُنُون وَكَانَ لهَذَا القَاضِي عِنْد السُّلْطَان مَحل من طَرِيق الْوَرع وَالصَّلَاح وَلَقَد اخبرني الثِّقَة وَهُوَ الْفَقِيه عُثْمَان الشرعبي وَهُوَ الَّذِي علقت عَنهُ غَالب اخبار هَذَا القَاضِي وَغَيره من فُقَهَاء تعز الْمُتَقَدِّمين قَالَ كتب اهل بلد من غير تعز يَشكونَ قاضيهم الى المظفر فَكتب السُّلْطَان يَا قَاضِي بهاء الدّين أنظر فِي أَمرهم فالقضاة كلهم فِي النَّار إِلَّا مُحَمَّد بن عَليّ وَذَلِكَ لما تحقق من ورعه ببحث شاف على يَد من يثقه وَله فِي الامانة اخبار مِنْهَا ان بعض التُّجَّار من اهل تعز مرض مَرضا شَدِيدا فامر على القَاضِي فَلَمَّا حَضَره استخلي بِهِ ثمَّ اشار الى مَوضِع فِي الدَّار وَقَالَ انني بنيت هَذَا الْموضع بيَدي على مَال جزيل لَا اكاد احصر مبلغه وقضضت عَلَيْهِ بيَدي ايضا واولادي صغَار وَقد نزل بِي مَا ترى من الْمَرَض واخشى الْمَوْت وَلم استطع اعلام اُحْدُ غَيْرك ليَكُون وَدِيعَة مَعَك فَمَا علم بِهِ اُحْدُ إِلَّا الله تعلى فَقَالَ القَاضِي لَا بَأْس امْرَهْ ان يُوصي الى شخص جيد باموره الظَّاهِرَة فَفعل ثمَّ توفّي الرجل وَكبر(2/101)
اولاده وَلعب من لعب بِمَا ظهر لَهُم من التَّرِكَة وارادوا ان يبيعوا الْبَيْت من شدَّة الْحَاجة فَمَنعهُمْ القَاضِي ثمَّ بعد مُدَّة بلغه صَلَاحهمْ ورجوعهم الى الطَّرِيق الْمَحْمُود فَصَبر عَلَيْهِم مُدَّة وامر من يختبرهم فَوجدَ غالبهم الرشد فاتاهم القاي الى بَيتهمْ فَفَرِحُوا وادخلوه ليتبركوا بِهِ فَقَالَ للارشد فيهم احْفِرْ لي هَذَا الْموضع فَفعل فَخرج مِنْهُ مَال جزيل فَقَالَ هَذَا امانة من والدك اليك لتصرف بِهِ على اخوتك ونفسك فَسَأَلَهُ الصَّبِي ان يسْتَلم شَيْئا ويحتسبه من نصِيبه فكره وَعَاد بَيته فَللَّه دره من قَاضِي وَلَقَد كَانَ يُمكنهُ الاحتيال على اخذ المَال بِوَجْه اجمل الاشياء واسهلها بَان يَشْتَرِي الْبَيْت وَيدْفَع ثمنه مِمَّا فِيهِ اَوْ كَانَ حِين فَاتَهُ الشِّرَاء عمل على اخذ نصيب جيد من الصَّبِي رَحْمَة الله عَلَيْهِ وَنَحْو هَذِه مَا اخبرني الْفَقِيه سُلَيْمَان بن احْمَد العسقي عَن الامير غَازِي بن يُوسُف التعزي قَالَ كنت ايام شَبَابِي قَاعِدا فِي الْبَيْت اذ بطالب يطلبني الى القَاضِي فدخلني رِيبَة ثمَّ زَالَت باستفاضة عَدَالَة القَاضِي وسرت وَأَنا أقدم رجلا وأؤخر أُخْرَى حَتَّى أتيت القَاضِي فحين رَآنِي تَبَسم الي فَلَمَّا دَنَوْت مِنْهُ وسلمت ردعلي بِوَجْه مُسْفِر ولسان طلق ثمَّ قَالَ لي هَل لابيك من ولد غَيْرك قلت لَا فَدخل بَيته وامرني بلحاقه فَدخلت بعده فَلم يكن بِهِ اُحْدُ فَسَار امامي حَتَّى جَاءَ المطبخ فَلَمَّا توسطته اشار الى ان احْفِرْ موضعا مِنْهُ فحفرته فَظهر لي برمة فامرني باخراجها فَفعلت ثمَّ امرني بِفَتْحِهَا فَوَجَدتهَا مملؤة ذَهَبا فَقَالَ لي خُذْهَا واحتفظ بِنَفْسِك فَهِيَ عِنْدِي وَدِيعَة من ابيك قَامَ مُدَّة يلازمني فِي قبُولهَا وانا اكره ذَلِك فَلَمَّا الح عَليّ اتيت الْبَيْت كَمَا فعلت الْيَوْم واستدعيته فجَاء بهَا فامرته ان يحْفر هَذَا الْموضع ويودعها فِيهِ فَفعل فَلم يفتحها اُحْدُ غَيْرك وَلَا علم بهَا اُحْدُ وَأَنا مَعَ ذَلِك اسئل عَنْك فَلَمَّا اخبرت عَنْك انك عَاقل رشيد طلبتك تقبض مَا اودعني ابوك وَالْحَمْد لله الَّذِي من عَليّ بِبَرَاءَة الذِّمَّة قبل الْمَوْت وَلِهَذَا القَاضِي أَخْبَار فِي الْوَرع وَالْأَمَانَة يطول تعدادها وَفِي مَا ذَكرْنَاهُ كِفَايَة لَيْسَ كَمَا نرَاهُ(2/102)
الْيَوْم يود الْمَرِيض اذهاب مَا بِيَدِهِ فِي غير وَجه مرضِي وَلَا تصير الى الْقُضَاة وَلَا الى الَّذِي نصبهم لذَلِك وَلَقَد شاهدت من ذَلِك عجايب فأسال الله الْعَفو عَن ذَلِك وَلذَلِك لما تقدّمت عِنْدِي لَهُ هَذِه الاخبار من الثِّقَات الاخيار قَدمته على غَيره من سَائِر الْفُقَهَاء واما مَا ذكر لَهُ من الكرامات فاخبار يطول شرحها مِنْهُ مَا اخبرني الْفَقِيه عُثْمَان بن مُحَمَّد الشرعبي اخبرني شَيْخي الْفَقِيه مُحَمَّد بن عَبَّاس الشّعبِيّ قَالَ كنت معيدا بِالْمَدْرَسَةِ المظفرية بمغربة تعز وَالْقَاضِي الْمَذْكُور يَوْمئِذٍ الْمدرس بهَا فَرَأَيْت ذَات لَيْلَة ان الْقِيَامَة قَامَت وَالنَّاس مجتمعون بصعيدها حُفَاة عُرَاة كَمَا فِي الْخَبَر وَأَنا من جُمْلَتهمْ عُرْيَان فَلَمَّا طَال ذَلِك اذ رَأَيْت مَكَانا مرتفعا وَالْقَاضِي تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن عَليّ وَاقِف عَلَيْهِ وَعَلِيهِ ثِيَابه الَّتِي يلبسهَا اجْمَعْ حَتَّى الْعِمَامَة والملحفة وَالنَّاس مطيفون بِهِ فهرولت اليه اولا لكوني معبدة فملما دَنَوْت مِنْهُ سمعته يَقُول للنَّاس كلكُمْ بشفاعتي فاطمئنوا فَقلت لَهُ يَا سَيِّدي وانا مِنْهُم فَقَالَ وانت مِنْهُم فَلَمَّا كَانَ وَقت السحر خرجت من بَيْتِي الى الْمدرسَة فوافقته رايحا إِلَيْهَا لصَلَاة الصُّبْح فبدأني بِالسَّلَامِ فَرددت عَلَيْهِ وَقلت يَا سَيِّدي اريد الْوَعْد الصَّادِق فَقَالَ مَا اذكر اني وعدتك بِشَيْء لَكِن ذَكرنِي فالعدة دين فاخبرته بمنامي فَبكى وَقَالَ اخبرني رَبِّي لست من اهل الشَّفَاعَة بل ارجو ان نَكُون جَمِيعًا فِي شَفَاعَة نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت لَهُ دَعْنِي من المغالطة فَلَا بُد من الوفا ثمَّ لازمته فاخذ بيَدي وَقَالَ يكون ذَلِك ان كنت من اهل الشَّفَاعَة وَمن ذَلِك مَا اخبرني الْفَقِيه الْفَاضِل ابو الْحسن الْحَمد ابْن الْفَقِيه الصَّالح الْجُنَيْد وَقد تَذَاكرنَا فضل هَذَا القَاضِي وشهرة ورعه وَمَا يذكر عَنهُ من الكرامات مَعَ المحنة بِالْقضَاءِ فَقَالَ لَو لم يكون لَهُ من الكرامات الا حَدِيث الدّلَالَة لَكَانَ كَافِيا فِي الدّلَالَة على خَيره فَقلت لَهُ اخبرني كَيفَ كَانَ فَقَالَ اتّفق لبَعض الْأَعْيَان من اهل تعز حَادث سرُور وَاحْتَاجَ الى اسْتِعَارَة شَيْء من المصاغ فَدَعَا الدّلَالَة فُلَانَة وَكَانَت مَأْمُونَة عِنْد السُّلْطَان فعول عَلَيْهَا تستعير لَهُ فاجابته بِالطَّاعَةِ وراحت بيُوت الامراء والكبراء فَاجْتمع لَهَا جمل مستكثرة فراحت بِهِ الى(2/103)
صَاحب الْحَادِث فَأَخذه وَعمل حَاجته ثمَّ اعاده اليها فَخرجت بِهِ فِي غلس فلقيها جمَاعَة اخذوه مِنْهَا وخنقوها ورموا بهَا فِي مَوضِع ظنا انها قد مَاتَت ثمَّ عدلوا موضعا اقتسموا بِهِ القماش فَلَقِيَهُمْ رجل يُقَال لَهُ ابْن الدَّلال فارتباوا مِنْهُ واخبروه الْقِصَّة واعطوه بعض شَيْء من القماش فاخذه وَانْصَرفُوا ثمَّ من الله على الدّلَالَة بالعافية فَقَامَتْ من غشيتها وَخرجت من حَيْثُ القيت فَذَهَبت بَيت هَذَا القَاضِي وَشَكتْ عَلَيْهِ وَكَانَ النَّاس يحسنون بِهِ الظَّن مَعَ قَضَائِهِ فوعدها بِالْخَيرِ وانه يبْحَث لَهَا عَن ذَلِك فَمَا كَانَ غير يسير حَتَّى وصل إِلَى القَاضِي ابْن الدَّلال زايرا وَمُسلمًا وَكَانَ لبيبا فحدثه القَاضِي ثمَّ ذكر لَهُ قصَّة الدّلَالَة فَضَحِك واخبره الْقِصَّة فَعرف الْمَذْكُورين انهم مِمَّن يتسمى بالفقه فامرهم فوصلوه فَذكر لَهُم الْقِصَّة فاعترف بَعضهم وَسلم مَا مَعَه وَقد كَانَ ابْن الدَّلال حِين اخبره القَاضِي سلم مَا كَانَ اخذه وتغلب مِنْهُم بَعضهم فاخبر بامره قَاضِي الْقُضَاة فامر لَهُ وَلم يعذرهُ فَوَجَدَهُ قد رهن شَيْئا فافتداه القَاضِي من نَفسه وَكَانَ هَذَا القَاضِي كثير الْعِبَادَة مصاحبا للعباد كَانَ يصحب الشَّيْخ عَليّ الرميمة اُحْدُ عباد صَبر وَيكثر زيارته ويخبر هعنه بامور كَثِيرَة تدل على خير قَالَ الْفَقِيه عُثْمَان اخبرتني هَذَا القَاضِي يَوْمًا على خلْوَة قَالَ مَا على قلبِي هم الا ان اكون فِي بعض الْمَسَاجِد والربط استفرغ بَقِيَّة عمري فِي عبَادَة الله وَكتب بعض النَّاس الى المظفر يشكو اليه من قَاضِي ظلمه فَكتب يَا قَاضِي بهاء الدّين الْقُضَاة ثَلَاثَة قاضيان فِي النَّار وقاضي فِي الْجنَّة القَاضِي تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن عَليّ فِي الْجنَّة اكشف قصَّة هَذَا الشاكي اراد وَالِدي ان يُسَافر من الْجند الى زبيد على رَأس ثَمَانِينَ وستماية فَلَمَّا صرنا بتعز دعِي الى مجْلِس هَذَا القَاضِي ليحمل شَهَادَة الى حَاكم زبيد فَلَمَّا تحملهَا ادناني مِنْهُ وَسَأَلَ مِنْهُ ان يمسح على رَأْسِي وَيَدْعُو لي فَلَمَّا صَار يمسح عَليّ تأملته فَرَأَيْت رجلا معتدلا ذَا لحية كثة(2/104)
شفنا عَلَيْهَا انوارا وانا يَوْمئِذٍ فِي سنّ التَّمْيِيز فَلَمَّا كَبرت فاستدركت ذَلِك علمت اجماع النَّاس على صَلَاحه وانه مِمَّن يُرْجَى بركته وَلَوْلَا ذَلِك لم يفعل وَالِدي مَا ذكرته فَإِنَّهُ كَانَ نزها من مراءات النَّاس وَلم يزل على الْقَضَاء المرضي حَتَّى توفّي نَهَار السبت حادي عشر شَوَّال من سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وستماية فَلم يُكفن الا بقرض اقْترض لَهُ وَكَانَ لَهُ مخلف وَرثهُ من ابيه قدر خَمْسَة الاف فافتقد فَلم يُوجد بَقِي مِنْهُ الا مَا يُسَاوِي الفي دِينَار وَبَاعَ العائز وَصَرفه مستعينا بِهِ على الْوَرع والاسباب الَّتِي كَانَت لَهُ من الْمدَارِس وَالْقَضَاء يصرف حاصلهاعلى المنقطعين من طلبه الْعلم والفقراء
وَعرض مَعَ ذكره ذكر الشَّيْخ عَليّ الرميمة فَكَانَ يُسمى عَليّ ابْن احْمَد يلقب الرميمة تَصْغِير رمه صحب الشَّيْخ مدافع الْمَذْكُور اولا وَلزِمَ طَرِيق الْعُزْلَة بجبل صَبر وَكَانَ شَيخا مُبَارَكًا قَالَ القَاضِي مُحَمَّد بن عَليّ اخبرني الشَّيْخ عَليّ الرميمة ان اكله فِي السّنة اثْنَي عشر زبديا يكلفه اهله على ذَلِك والزبدي التعزي يؤمئذ قدر ثَمَانِيَة ارطال فِي تِلْكَ الايام وَإِنَّمَا زيدته فِي آخر الدولة المظفرية وَهَذَا الْقدر يَأْكُلهُ الْوَاحِد الْمُنْفَرد فِي شهر وَكَانَ صَاحب مكاشفات قَالَ القَاضِي وَكَانَ الشَّيْخ عبد الله ابْن عَبَّاس مقدم الذّكر قد بَعثه المظفر الى مصر هُوَ والأمير ابْن الداية فَلَمَّا صَارُوا بِمصْر مَاتَ ابْن الداية فاتصل الْعلم الى الْيمن ان الْمَيِّت هُوَ عبد الله ابْن الْعَبَّاس وَكَانَ يصحبني فمررت بِبَابِهِ فَسمِعت فِي بَيته بكاء ازعجني حَتَّى طلعت الى الشَّيْخ الرميمة فاخبرته فاطرق سَاعَة ثمَّ قَالَ لي لم يمت الا ابْن الداية وَابْن عَبَّاس فِي عَافِيَة فَانْزِل اخبر اهله بذلك فَنزلت مسرعا فاخبرتهم ثمَّ بعد(2/105)
ايام قدم الْعلم بِصِحَّة ذَلِك وَلم يزل الشَّيْخ عَليّ على الطَّرِيق المرضي حَتَّى توفّي يَوْم الْجُمُعَة صَلَاة الضُّحَى خَامِس وَعشْرين رَمَضَان سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وستماية
وَحِينَئِذٍ ارْجع الى ذكر الْفُقَهَاء بتعز وَلم يكن فِي بلد اقل مِنْهَا فُقَهَاء وَلَقَد اخبرني ثِقَة أَنه كَانَ اذا كتب درسي لوحا من الْقُرْآن لم يكد يجد احدا من الْحفظَة يقصه عَلَيْهِ وَلذَلِك لم يذكر ابْن سَمُرَة مِنْهَا غير فَقِيه من ذِي عدينة
وَقد ذكرته وانما كثر الْفُقَهَاء بهَا من الدولة المظفرية وهلم جرا فَهِيَ اكثر بِلَاد الْيمن فُقَهَاء ومتفقهون فِي عصرنا فَمن الْفُقَهَاء ابو عَفَّان عُثْمَان بن عَليّ بن سعيد بن ساوح تفقه ثمَّ تصوف صحب الشَّيْخ مدافع مقدم الذّكر وَلما اخبره الشَّيْخ ابو بكر بن مَنْصُور الصُّوفِي من أهل ذبحان انه عزم على وُصُول تعز لزيارة الشَّيْخ مدافع صحبته قَالَ فتوقفت لما سَمِعت انه جرى عَلَيْهِ مَا جرى حَتَّى بَلغنِي انزاله الى عدن فَلَقِيته الى المفاليس فَسَأَلته الصُّحْبَة فَقَالَ اذْهَبْ الى تعز واصحب الْفَقِيه عُثْمَان ابْن ساوح فقد استخلفته على اصحابه وَقَالَ الْفَقِيه عُثْمَان ايضا واخير القَاضِي تَقِيّ الدّين الْمَذْكُور اولا ان الشَّيْخ عَليّ الرميمة قَالَ لَهُ يَوْمًا يَا قَاضِي من االسلطان الْيَوْم قلت الْملك المظفر فَقَالَ هَكَذَا كنت اظن حَتَّى كَانَ لَيْلَة امس قُمْت لوردي فَبينا اصلي اذ سَمِعت جَمِيع الْبَيْت حَتَّى الْخشب والصرب مَا فِيهِ من آلَة يَقُول جَاءَ السُّلْطَان جَاءَ السُّلْطَان بفرح حَتَّى سَمِعت طاقيتي على رَأْسِي(2/106)
تَقول ذَلِك حَتَّى الْحَيَوَان الَّذِي فِي الْبَيْت فغلب على ظَنِّي أَن المظفر سيصل إِلَيّ فَلَمَّا اصبحت امرت اهلي بتنظيف الْبَيْت فَلَمَّا دفئت الشَّمْس اقبل الْفَقِيه عُثْمَان يسير على ضعف وَبِيَدِهِ عَصا متوكأ عَلَيْهَا فَدخل عَليّ الْبَيْت وصافحني بعد السَّلَام وَكَانَ لَهُ بِالْقربِ من بَيْتِي مزرعة بهَا زرع جيد فَقلت يَا فَقِيه مَا أحسن زرع ضيعتك فتنفس صعدا وَقَالَ ضيعتي اجرني فحين سمعته يَقُول ذَلِك غلب عَليّ ظَنِّي انه السُّلْطَان المعني وَقلت لَهُ نعم انت السُّلْطَان فَقَالَ وَقد اعلموك احسن الله الْعَافِيَة والخاتمة واخذ الْخِرْقَة عَن هَذَا الْفَقِيه جمَاعَة من الاعيان مِنْهُم الشَّيْخ عمر بن المسن الَّذِي نسب اليه العمرية وَله قرَابَة يعْرفُونَ ببني ساوح وهم اولاد اخيه واما هُوَ فَلَا عقب لَهُ وَلَا اظنه تأهل بِامْرَأَة واما الشَّيْخ عمر بن مُحَمَّد بن المسن فَكَانَ رجلا كَبِير الْقدر شهير الذّكر من اعيان مَشَايِخ الصُّوفِيَّة وَله اتِّبَاع كثير فِي نواح كَثِيرَة وَاصل بَلَده ذبحان وَله بهَا جمع كثير صحبوه واتبعوه على طَرِيق الصُّوفِيَّة وَصَارَ لَهُ اصحاب منتشرون فِي أَمَاكِن شَتَّى فِي بَلَده وَفِي جبل بعدان وناحية حجر الَّتِي هِيَ على قدر مرحلة من جِهَة مشرق بلدي الْجند من اعيانهم عمر بن مُحَمَّد الرَّاعِي وَعمر الْعَدوي شيخين كبيرين اهل كرامات شهيرة وانتفع بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا جمع فعمر توفّي بِبَلَدِهِ لَا اعْلَم تَارِيخه بل زرت تربته وَهِي برباطه فِي بلد قومه بني عدي وَله عِنْدهَا ذُرِّيَّة اخيار غالبهم التَّوْفِيق ببركته وَغَيرهَا ويسمون العمرية نِسْبَة اليه وَكَانَ لَهُ ولد اسْمه عبد الله تزوج بابنة الشَّيْخ احْمَد بن علوان وَلَهُم مِنْهَا ذُرِّيَّة هم الان اصحاب الْقيام بالربط المنسوبة اليهم لَا سِيمَا فِي نَاحيَة جبل بعدان وَبَعْضهمْ فِي بَلَده يقوم برباطه الاصلي وَكَانَت وفاه على اكمل طَرِيق نَهَار الثُّلَاثَاء جمادي الاولى الْكَائِن فِي سنة اربعين وستماية(2/107)
وَمن الْفُقَهَاء بتعز مُحَمَّد بن عَبَّاس بِالْبَاء الْمُوَحدَة من اشعوب سامع وَهُوَ جبل بِنَاحِيَة الدملوة كَانَ فَقِيها صَالحا ورعا زاهدا تفقه بِابْن البابا وبالاشرفي وَالْقَاضِي مُحَمَّد بن عَليّ وَغَيرهم وَقد ذكرت من ورعه مَا تقدم مَعَ ذكر ابْن الْجُنَيْد حِين ذكرته فِيمَن تأهل وتدير قَرْيَة الجبي لما ظهر شهر عَنهُ الصّلاح ودعي الى نِيَابَة الْمدَارِس فَامْتنعَ عَنْهَا مَعَ الْحَاجة فَلم تأت ايام حَتَّى اعاضه الله بتدريس فدرس بالوزيرية وانتفع بِهِ جمع وَخرج فِي اصحابه نَحْو من خَمْسَة عشر مدرسا وَكَانَ محميا عَن الْمعاصِي بِدَلِيل مَا أَخْبرنِي الْفَقِيه عُثْمَان الشرعبي قَالَ لي يَوْمًا لقد راودتني امْرَأَة فِي ايام الشبيبة على نَفسِي فهممت بهَا وَلما عزمت اذ بذكرى كفتيلة عطب مبلولة وَاخْبَرْ عَنهُ الْفَقِيه عُثْمَان ايضا انه قَالَ بَلغنِي فضل مَسْجِد الْجند فَجعلت اخْتلف واصلي فِيهِ اياما فَكنت اذا احرم الامام وَبلغ الْمبلغ واحرم النَّاس سَمِعت فِي الْهوى تَكْبِير جمَاعَة لَا اعلمهم يصلونَ بِصَلَاة الامام وَكَانَ كثيرا مَا يرى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام وتدريسه فِي أول الامر بالوزيرية وتفقه بِهِ جمَاعَة كَثِيرُونَ ودرس مِنْهُم جمَاعَة كَعبد الرَّزَّاق وَعُثْمَان الشرعبي وَغَيرهمَا وَولي الْقَضَاء بتعز بعد مُحَمَّد بن عَليّ نِيَابَة وَكَانَ يَقُول حججْت فدعوت الله عِنْد الْحجر الاسود أَن يعصمني من الْقَضَاء وَالْفَتْوَى فَلَمَّا صرت بَين المدينتين مَكَّة وَالْمَدينَة امسيت مَعَ الْقَافِلَة فِي محطة فَلَمَّا نمت رَأَيْت فِي الْمَنَام حَلقَة عَظِيمَة من النَّاس فهرولت نَحْوهَا لانظر مَا مُوجبهَا واذا وسط هالتها شخص كانه الْقَمَر لَيْلَة تمامة فَقلت لبَعض الْحَاضِرين من هَذَا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَأَيْت رجلا سئله عَن مَسْأَلَة بِوَرَقَة قد نَاوَلَهُ اياها وَبِيَدِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جُزْء من الْمُهَذّب وَهُوَ ينظر تَارَة بالجزء وَتارَة بِالْمَسْأَلَة فَجعلت اتعجب واستيقظت فَلم اكره الْفَتْوَى بعد ذَلِك اقْتِدَاء بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبقيت على كَرَاهَة الْقَضَاء وعوفيت مِنْهُ فَللَّه الْحَمد وَقَالَ كنت ذَات يَوْم افكر فِي نَفسِي(2/108)
واحدثها انه لَو كَانَ لي مَال لفَعَلت بِهِ كَذَا وَكَذَا من الطَّاعَات والمباحات اذ سَمِعت قَارِئًا قَرَأَ وَلَو بسط الله الرزق لِعِبَادِهِ لبغوا فِي الارض وَلَكِن ينزل بقد ر مَا يَشَاء
فَخرجت من الْموضع وتأملت هَل من تال أَو غَيره فَلم اجد احدا فَعلمت انها موعظة من الله تَعَالَى وَكَانَ يَقُول كَانَت لي جَارِيَة كنت لَهَا محبا وَكَانَت زَوْجَتي تعلم ذَلِك فتغار عَليّ فَقَالَت اني لَا اطيب مَعَك اَوْ تبيعني الْجَارِيَة فاذا صَارَت فِي ملكي امنتك عَلَيْهَا فَقلت فِي نَفسِي اطيب قَلبهَا وابتاعها عَلَيْهَا عقدا ثمَّ اخْتَار فَسخه فِي الْمجْلس فَلَمَّا فعلت ذَلِك عرض لي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكل غادر لِوَاء يعرف بِهِ يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ قلت لَا أغدر ثمَّ أتممت البيع وَعرفت نَفسِي وَكَانَت وَفَاته على الطَّرِيق المرضي نَهَار الِاثْنَيْنِ مستهل الْحجَّة من سنة تسع وَثَمَانِينَ وستماية وَقد بلغ عمره بضعا وَخمسين سنة وقدمته لتحقيق ورعه وان كَانَ فِي الِاثْنَيْنِ من هُوَ اشهر مِنْهُ لَكِن رجح شهرة هَذَا وورعه وصلاحه
وَمِنْهُم احْمَد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن سَالم الاصغر اليزيدي ثمَّ الشّعبِيّ نسبا والاشرقي بَلَدا نسبته فِي بني سَالم الامام الْمُقدم الذّكر بذى اشرق اليه تنْسب الْمدرسَة الاشرقية بمغربة تعز تفقه بالامام اسماعيل الْحَضْرَمِيّ مقدم الذّكر وَبِه تفقه مُحَمَّد بن عَبَّاس مقدم الذّكر وَجَمَاعَة من اهل تعز وَكَانَ يرْوى عَنهُ انه قَالَ كنت بالضحي يَوْمًا اطالع التَّنْبِيه فِي ظلّ الْمَسْجِد اذ بِي ارى على ورق الْكتاب نورا يتلالأ فَرفعت رَأْسِي واذا بشيخ ذِي لحية كثة عَظِيمَة ينظرمعي فِي الط سَاعَة ثمَّ عدت فَلم أر احدا ورايت على الْكتاب اثر النُّور كَمَا يكون اثر الْحَيَوَان الْمُسَمّى بالنوارى فَذكرت ذَلِك لشيخي الْفَقِيه اسماعيل فَقَالَ ذَلِك الشَّيْخ هُوَ الشَّيْخ ابو اسحاق مُصَنف الْكتاب وَقد كَانَ يأتيني ايام الْقِرَاءَة وَقَالَ سَمِعت الْفَقِيه اسماعيل يَقُول اعطوا الْعلم كلكُمْ يعطكم بعضه فانكم ان(2/109)
اعطيتموه بَعْضكُم لم تظفروا مِنْهُ بِشَيْء وَقَالَ كُنَّا نقتات بالعطارة وَكنت أتتبع الْمَسَاجِد لاجل السرج كلما طفي سراج رحت الى اخر حَتَّى اذا لم اجد سِرَاجًا نمت وَتُوفِّي على تدريس الْمدرسَة بالمغربة لم اتحقق تَارِيخه وَخَلفه ولد تفقه ثمَّ صحب الصُّوفِيَّة وَكَانَ يغلب عَلَيْهِ المحبوب ثمَّ ولي قَضَاء بعض نواحي الْبَادِيَة من اعمال تعز فَسَار يَوْمًا مُنْفَردا فَقتل وَلم يعرف قَاتله وَذَلِكَ على رَأس تسعين وستماية تَقْرِيبًا ومدرسته المنسوبة اليه انشأها جمال الدّين ياقوت الجمالي كَانَ واليا لحصن تعز وَهُوَ الَّذِي انشأ الْقبَّة الجمالية نِسْبَة اليه وَذَلِكَ فِي دولة سيف الاسلام غَالِبا وَخلف احْمَد واخوه سُلَيْمَان كَانَ ذَاكِرًا للْبَيَان وعارفا بِهِ اخذه عَنهُ عدَّة من الْفُقَهَاء بتعز سكن هُوَ واخوه تعز وتوفيا هُوَ واخوه بتعز وقبرا بهَا
وَمِنْهُم يحي بن زَكَرِيَّا ابْن مُحَمَّد بن سعيد بن عبد الله الكلالي الضرغامي الْحِمْيَرِي اصل بَلَده جبل يعرف بخنيم بخاء مُعْجمَة محفوضة وَنون سَاكِنة وياء مثناة ومفتوحة ثمَّ مِيم وَهُوَ من جبال بعدان الْمُقدم الذّكر مشرف على اودية الملحمة وَرُبمَا كَانَ تفقهه فِي الْبِدَايَة باهلها وَله ذريتة بتعز يَأْتِي ذكرهم انشاء الله تَعَالَى فِي اهل طبقتهم تفقهه بِحسن بن عَليّ الَّاتِي ذكره واخذ الْبَيَان عَن الْفَقِيه مُحَمَّد الْهَمدَانِي واخذ عَن اسحاق الطَّبَرِيّ وَمُحَمّد بن مُخْتَار الرواوي ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الْمَعْرُوفَة بالغرابية من مغربة تعز انشأها الْملك الْمَنْصُور ونسبت الى مُؤذن كَانَ يُسمى غرابا كَمَا سميت الاخرى بالوزيرية نِسْبَة الى بعض مدرسيها كَمَا سَيَأْتِي وَكَانَ هَذَا يحي فَقِيها عَارِفًا بالفقه نقالا لَهُ توفّي على التدريس(2/110)
بالمغربة لأحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من رَمَضَان سنة ثَمَانِي وَسِتِّينَ وستماية
وَقد عرض مَعَ ذكره الرواوي فَهُوَ ابو عبد الله مُحَمَّد بن مُخْتَار الرواوي بِفَتْح الرَّاء بعد الف وَلَام وواو مَفْتُوحَة ثمَّ الف ثمَّ وَاو ثمَّ يَاء نسب نِسْبَة الى بلد من الغرب اخبرني الثِّقَة ان الْفَقِيه مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْحَضْرَمِيّ اَوْ وَلَده اسماعيل قطع الْمخبر بِأَحَدِهِمَا واجه هَذَا الرواوي فَسَأَلَهُ عَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخلَافَة فِي قُرَيْش وَالْقَضَاء فِي الانصار والاذان فِي الْحَبَشَة وَكَيف عمل الشَّافِعِي بالْخبر الاول دون الاخرين وَمَا الْفرق فاجاب الرواوي بِاثْنَيْ عشر فرقا حَتَّى بهت الْحَضْرَمِيّ وَكَانَا سايرين لصَلَاة الْجُمُعَة وَقَالَ مَا اغزر نقل هَذَا الرجل وَجعل يعجب لَهُ بذلك وَيَقُول مَعنا فرقان وَقد صرنا معجبين بهما نظن ان لَيْسَ مَعَ اُحْدُ مثلهماوكانا قدومه الْيمن على رَأس خمسين وستماية تَقْرِيبًا وارتحل الى مَكَّة وَتُوفِّي بهَا وَلم اتحقق تَارِيخه
وَمِنْهُم ابو بكر بن آدم بن ابراهيم الجبرتي بَلَدا الزَّيْلَعِيّ لقبا على عَادَة خطابه اعتادها اهل الْيمن يلقبون بهَا غَالب السودَان الخارجين اليهم من بِلَاد الْحَبَشَة لَا سِيمَا من لم يكن رَقِيقا اذ يسمونه حَبَشِيًّا وَمن عداهُ يسمونه زيلعيا نِسْبَة الى قَرْيَة هِيَ بندر الْحَبَشَة يركب مِنْهَا الى غَالب سواحل الْيمن لَا سِيمَا سَاحل عدن وَهِي بِفَتْح الزَّاي وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة ن تَحت وَفتح اللَّام ثمَّ عين مُهْملَة سَاكِنة وَيخرج مِنْهَا فِي قوافل الى حَيْثُ يُرِيد القاصد من جَمِيع نواحي الْحَبَشَة ومايسامتها تفقه هَذَا أَبُو بكر بالامام اسماعيل الْحَضْرَمِيّ مقدم الذكرواخذ عَن غَيره وَكَانَ اُحْدُ محققي الْفِقْه وَصدر الْمُفْتِينَ فِي مَدِينَة تعز والمعدودين لذَلِك وَكَانَ رَأْسا للمفتين بتعز قَائِلا بِالْحَقِّ غَالِبا غير محاربه قايلا وفاعلا وَلَو لم يكن لَهُ فِي ذَلِك الا الْقِصَّة الْمَشْهُورَة مَعَ ابْن البانة والمقدسي الَّاتِي ذكرهمَا وَهِي مَا خبرني جمَاعَة من الثِّقَات ان الْمَقْدِسِي قدم تعز وَكَانَ فَقِيها اصوليا منطقيا فَجعل مدرسا بِالْمَدْرَسَةِ الْعليا الْمَعْرُوفَة بِأم(2/111)
السُّلْطَان فِي مغربة تعز وَكَانَ ابْن البانة يَصْحَبهُ فِي جمَاعَة وَكَانَا يتذاكران من علم الْكَلَام بِمَا لَا تحتمله الْعُقُول وَلَا تقبله فنسب الى الزندقة وَالْكفْر وتكرر ذَلِك مِنْهُمَا وَنَفر النَّاس عَنْهُمَا نفورا فَاحِشا وَالْفُقَهَاء مترددون فِي امرهما حَتَّى شهد الْفَقِيه احْمَد بن الصفي الَّاتِي ذكره عَلَيْهِمَا وَكَانَ يقرا على بن البانة بانهما ينكران صدق الْقُرْآن ويقولان لَيْسَ هُوَ كَلَام الله تَعَالَى فَاجْتمع الْفُقَهَاء الى هَذَا ابْن ادم واخبروه بِمَا شهد بِهِ ابْن الصفي فصعب عَلَيْهِ ذَلِك فَقَالَ لَهُ الْفُقَهَاء رَأينَا لرأيك تبع فأشر بِمَا شِئْت فَنحْن ممتثلون وامرنا بِمَا شِئْت فانا قابلون فَقُمْ لله والا انتشرت هَذِه الْبِدْعَة ومرق النَّاس من الدّين اَوْ كَمَا قَالُوا فَقَالَ الصَّوَاب انا نطلع الى المغربة وَنُصَلِّي يَوْم الْجُمُعَة بالجامع فَمَتَى خرج هَذَانِ اوقعنا بهما وقتلناهما وارحنا مِنْهُمَا الاسلام والانام فاجابوه بِالطَّاعَةِ وتعاهدوا على ذَلِك فَنقل للمقدسي وَابْن البانة مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ وَلما كَانَ يَوْم الْجُمُعَة طلع ابْن ادم من ذِي عدينة اذ كَانَ مدرس الشمسية ويسكن بهَا فَلَمَّا صَار بالجامع فِي المغربة وَاجْتمعَ اليه الْفُقَهَاء وحان وَقت الصَّلَاة دخل الْمَقْدِسِي وَمَعَهُ جمَاعَة من الاعوان يَحْفَظُونَهُ بِالسِّلَاحِ وَلم يدْخل ابْن البانة فبحث الْفُقَهَاء عَن ذَلِك فَقيل لَهُم لما بلغ ابْن البانة اتفاقكم على مَا اتفقتم عَلَيْهِ من الامر حذر الْمَقْدِسِي وامره بالتقدم الى الواثق والالتزام بِهِ وَشَكوا الْفُقَهَاء عَلَيْهِ ثمَّ نزل من فوره الى ذِي عدينة متخفيا فأكثترى هجينا الى زبيد وَكَانَ المظفر بهَا فَركب وَلم يشْعر بِهِ الاشرف حَتَّى صَار منطرحا على بَابه وَكَانَ يدل عَلَيْهِ بجوار وَمَعْرِفَة فحين علم الاشرف بوصوله استدعاه واستخبره عَن أمره فاخبره الْقِصَّة فَكتب حِينَئِذٍ الى ابيه المظفر يُخبرهُ بذلك وَقيل بل أمره الاشرف أَن يكْتب قصَّته يشكو اليه من فعل الْفُقَهَاء فحين وقف على ذَلِك صَعب عَلَيْهِ فخشى ان يسْرع الْفُقَهَاء الى شقَاق كَبِير يصعب علاجه فَكتب اليهم مَا مِثَاله اظلمتم الضيا وخبطتم فِي عشوى فاقتصروا عَن هَذِه الْأَهْوَاء وَاشْتَغلُوا(2/112)
بالنصوص فانك يَا ابْن ادم اغنى المفقهه وامثالك مِمَّن فِي تِلْكَ الْجِهَة لم يحظ علما بِمَا فِي كِتَابه وَلَو بهت احدكم وَسُئِلَ عَن مَسْأَلَة على الْقَوْلَيْنِ لم يكن فِي قدرته الْجَواب عَنْهَا حَتَّى يكْشف ويطالع وان كَانَ يغنيكم مَا افنيتم بِهِ اعماركم فَكيف تخرجُونَ الى اهوية تقيمون لَهَا امثالا بِظَاهِر الفاظكم مِمَّا يسْتَدلّ لَهَا على اهويتكم فاعتمدوا على الْكتاب وَالسّنة وَالصَّحِيح من حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واتركوا التَّمَسُّك بالموضوعات على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلهَذَا عُلَمَاء يوردون وَيَصْدُرُونَ ماكتبتم من ذَلِك النمط فالحذر كل الحذر وَمن اعذر فقد انذر فَإِن اقتصرتم والا قصركم السَّيْف عَن طول اللِّسَان فقصدكم التلبيس على الْعَوام بقيل وَقَالَ ثمَّ ارسل الى الْوَالِي بحصن تعز بِالْوَرَقَةِ وعرفه ان يَأْمر الْخَطِيب يقرئها على الْمِنْبَر بِحُضُور الْفُقَهَاء وَغَيرهم فَفعل الْوَالِي ذَلِك وَقَرَأَ الْخَطِيب الورقة كَمَا امْر فَتفرق الْفُقَهَاء عَن ذَلِك وَتَفَرَّقُوا فِي الْبلدَانِ شغربغر وَقَامَ اعيان الْفُقَهَاء فِي الْبَلَد مُهَاجِرين للمقدسي اذ هُوَ مُقيم على جوَار من الواثق اذ كَانَ مُقيما فِي تعز خلفا لِأَبِيهِ فَلم يكد يُقيم المقسدي غير يسير حَتَّى مرض ثمَّ توفّي على الهجر بِحَيْثُ قبر سحرًا وَلم يكد يحضر قبرانه غير نفر يسير وَلم يزل ابْن البانة ملتصقا بالاشرف فحتى توفّي بعد اتِّفَاق من
الْفُقَهَاء واظهارتوبته عَمَّا نقل عَنهُ وصنف فِي ذَلِك مصنفات يدل على صِحَة رُجُوعه وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك مَعَ ذكره ان شَاءَ الله تَعَالَى
نرْجِع الى تَتِمَّة ذكر ابْن ادم فَكَانَ وَاحِدًا فِي رياسته وتدريسه وَكَانَ يَوْم الْعِيد لَا ينْصَرف النَّاس عَن الْمصلى خَاصَّة الْفُقَهَاء الا إِلَى بَيته يحْضرُون طَعَاما يصنعه لَهُم وَكَانَ شرِيف النَّفس عالي الهمة وتفقه بِهِ جمع كثير من تعز وَغَيرهَا مِنْهُم احْمَد بن(2/113)
زَكَرِيَّا وَمُحَمّد السبائي وابراهيم الابيني وَغَيرهم وَقَالَ سَمِعت شَيخنَا الْفَقِيه اسماعيل الْحَضْرَمِيّ يَقُول رَأْي رجل صَالح من اصحابنا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَأن يَوْم الْقِيَامَة قد قَامَت واعطى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَفَاتِيح الْجنَّة فَقَالَ الرَّائِي وَهُوَ كالخائف يَا رَسُول الله انا بجارك فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدرسة مَا عَلَيْهِم خوف فَقَالَ من هم الدرسة قَالَ درسة التَّنْبِيه والمهذب قَالَ وامرني الْفَقِيه بابلاغ ذَلِك الى اخوتنا الدرسة وَلما كَانَ فِي الْيَوْم الَّذِي ادخل فِيهِ الامام ابراهيم اسيرا الى تعز اصبح هَذَا الْفَقِيه اقفل شبابيك بَيته الَّذِي هُوَ فِيهِ اذ مر الامام عِنْده وَلم يظْهر عِنْده وَلَا اُحْدُ من جِهَته حَتَّى صَار الامام محبسه فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَزينًا كئيبا فسئلته اَوْ سَأَلت بعض الْحَاضِرين مَعَه عَن سَبَب ذَلِك فَقَالَ ان النَّبِي حَزِين لأمساك وَلَده هَذَا الامام اَوْ كَمَا قَالَ اخبرني الثِّقَة ان ابْن البانة وَصله الى مجْلِس تدريسه وَاحِد الدرسة يقْرَأ عَلَيْهِ والفقيه يذاكره فَلَمَّا قعد ابْن البانة عِنْد ابْن ادم اراد الدرسي ان يمْتَنع عَن الْقِرَاءَة فزجره ابْن ادم وَقَالَ لَا تعْتَبر بهؤلاء واشار الى ابْن البانة فَأَنا وَالله افقه مِنْهُم فَلم ينْطق ابْن البانة بِكَلِمَة غير ان قَالَ صدقت يَا سَيِّدي الْفَقِيه وَاقْبَلْ الدرسي على قِرَاءَته حَتَّى فرغ وَلما دنت وَفَاته مرض فَضَاقَ بتعز واحب ان يرجع الى نَاحيَة موزع الى الْفَقِيه سُلَيْمَان الفرساني الَّاتِي ذكره فارتحل الى هُنَاكَ فالفاه قد توفّي فَلبث عِنْد اولاده بقريتهم الْمَعْرُوفَة بالقحقح أَيَّامًا ثمَّ توفّي فِي اُحْدُ شهور سنة سِتّ وسعبين وستماية وَلما ابْتليت بِقَضَاء موزع زرت قَبره مرَارًا مُتَعَمدا مَعَ قبر صَاحبه سُلَيْمَان لما كَانَ يبلغنِي من ورعه كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَسَيَأْتِي بَيَان الْفَقِيه والقرية ان شَاءَ الله(2/114)
وَمِنْهُم ابو اسحاق ابراهيم بن سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن عجلَان تفقه بعلي بن ابي الْقَاسِم السرددي ويوسف بن ابي بكر اليحيوي عَن الجبائي والرواوي وَغَيرهم وَكَانَ فَقِيها صَالحا متعبدا متورعا متزهدا درس الْفِقْه ايام شبيبته ثمَّ فِي آخر أَيَّامه تعانى درس الْقُرْآن وَقِرَاءَة كتب الحَدِيث وإقراءها اخذه لَهَا عَن الشريف ابي الْحَدِيد الْمُقدم ذكره وَعَن مُحَمَّد بن اسماعيل الْحَضْرَمِيّ الَّاتِي ذكره وَعَن الشَّعْبَانِي وَعَن سَالم الابيني وَعنهُ اخذ جمَاعَة من مدرسي تعز كشيخنا ابْن الصفي وَعُثْمَان الشرعبي وَابْن النحوى وَغَيرهم وَكَانَت لَهُ ضَيْعَة ورثهَا يقتات مَا يَأْتِي مِنْهَا فَلَمَّا دنت وَفَاته وَقفهَا ووقف كتبه على طلبة الْعلم وَلم اتحقق تَارِيخه وَلَا عقب لَهُ من جِهَة الرِّجَال بل اولاد الْفَقِيه عَليّ بن عِيسَى ذُريَّته من جِهَة الْبَنَات وَتُوفِّي بعد أَن بلغ عمره نيفا وَثَمَانِينَ سنة
وَمِنْهُم ابو الْحسن عَليّ بن ابي الْقَاسِم بن عَليّ بن مُحَمَّد عرف بالسرددي قدم تعز فِي أول الدولة المنصورية فصحب الشَّعْبَانِي والتصق بِهِ وَلما قدم الصَّدْر الصَّاغَانِي الى تعز سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وستماية اخذ عَنهُ مقامات الحريري ورسالته بمواصلة الشَّيْخ مَنْصُور بن حسن الْمُقدم ذكره واخذ عَن الْفَقِيه العسيقي وَعَن الْفَقِيه مُحَمَّد بن مَضْمُون وَعَن الْفَقِيه عَليّ بن قَاسم الْحكمِي وَسَعِيد بن مُحَمَّد المَخْزُومِي وَعبد الله بن اِسْعَدْ الوزيري وَلم اتحقق لَهُ تَارِيخا
وَمِنْهُم الْفَقِيه احْمَد بن عبد الله بن اِسْعَدْ بن ابراهيم الوزيري المري بَلَدا الاوسي ثمَّ الانصاري نسبا والبلد تعرف بالوزيرة بواو مَفْتُوحَة بعد الف وَلَام ثمَّ زَاي مخفوضة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت ثمَّ رَاء مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء وَهِي صقع على نصف مرحلة من تعز من جِهَة قبليها والمري جد لَهُم يعرف بمري تفقه بِأَبِيهِ عبد الله الْمُقدم ذكره وَابْنه تفقه بالأحنف ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الوزيرية بعد ابْن مَضْمُون غَالِبا وَبِه سميت الى عصرنا لطول مقَامه بهَا
واقامه ابْن عَمه فِيهَا ثمَّ(2/115)
عَن لَهُ الْحَج فحج فِي أَيَّام الْمَنْصُور بعد ان اسْتخْلف ابْن عَمه الَّاتِي ذكره وَلما قضى الْحَج وَعَاد احب ان يسكن زبيد فَسَأَلَ من الْمَنْصُور ان يسكنهُ اياها فاسكنه اياها وَجعل لَهُ الْمدرسَة الشَّافِعِيَّة فاخذ عَنهُ عمر بن عَاصِم وَغَيره من اهلها وَهُوَ اُحْدُ شُيُوخ يحي بن زَكَرِيَّا وَكَانَت وَفَاته بزبيد فِي شهر رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وستماية وقبر بِبَاب القرتب وَخلف اولادا أفقههم سُلَيْمَان سكن مخلاف شرعب وَكَانَ فَقِيها صَالحا زاهدا ورعا متعبدا تفقه فِي بدايته بابيه ثمَّ بالامام اسماعيل الْحَضْرَمِيّ واخذ عَن ابي الْخَيْر وَعَن السُّلْطَان علا السمكري وَكَانَ مَعَ حسن فقهه يَقُول شَيْئا من الشّعْر غالبه فِي صرح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي الزّهْد وَمِنْه قَوْله ... سَبِيلك فِي الدُّنْيَا سَبِيل مُسَافر ... وَلَا بُد من زَاد لكل مُسَافر
وَلَا بُد فِي الاسفار من حمل عدَّة ... وَلَا سِيمَا ان خفت سطوة قاهر ... وَمَا شعره فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاكثر من ان يُحْصى وَكَانَ مَسْكَنه قَرْيَة فِي بلد شرعب تعرف بالمصياة بميم مخفوظة وصاد مُهْملَة سَاكِنة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء سَاكِنة وبهاء قَالَ بعض الْفُقَهَاء وَقد جَاءَ مِنْهَا فَسئلَ من ايْنَ مَجِيئه فَقَالَ من عِنْد بني مري الساكني المصيابه السالكين طَرِيق كل اصابة وَهَذَا مرى جدلهم بِضَم الْمِيم وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت كَانَ لَهُ ثَلَاثَة اخوة هم مُحَمَّد كَانَ فَقِيها ثمَّ مظفر ثمَّ مكرم تفقها ايضا وَلم اتحقق لَهُم مَا يذكر
وَمِنْهُم ابو عبد الله مُحَمَّد بن القَاضِي عمر الهزاز مقدم الذّكر اول ذكر فُقَهَاء الْبَلَد مولده يَوْم الْخَمِيس ثامن عشر شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وستماية كَانَ موسوما بالفقه وَالدّين وَالْعِبَادَة وَالصَّلَاح والورع لوزم على ان يتَوَلَّى الْقَضَاء بعد ابيه(2/116)
فَامْتنعَ بعد ان وقف بِهِ مُدَّة وَكَانَ المظفر يجله ويعتقد صَلَاحه وَرُبمَا زَارَهُ سرا الى منزله اخبرني الْفَقِيه عُثْمَان الشرعبي فَلَمَّا فرغ النَّاس من الْقِرَاءَة سُئِلَ المظفر عَن الْفَقِيه فَقيل هُوَ بالقبة الضريبة فَقَامَ اليه فَلَمَّا اقبل قَامَ لَهُ الْفَقِيه وتسالما ثمَّ جعل المظفر يحدثه بلطف ويستعطفه ويستدعي دَعَاهُ وافترقا بعد الدُّعَاء وَكَانَت وَفَاته بعد ان صنف كتبا فِي الْفِقْه وَغَيره على مَا ذكر اذ لم نقف على شَيْء مِنْهَا يَوْم الِاثْنَيْنِ بعد الظّهْر لاربع بَقينَ من شَوَّال سنة سبعين وستماية وَحين بلغت وَفَاته الْملك المظفر كتب الى اولاده سَأَلَهُمْ ان يدفنوه فِي التربة الَّتِي هِيَ قبلي جَامع عدينة فَفَعَلُوا ذَلِك اذ خَواص بني الرَّسُول من الْقَرَابَة والسراري مقبورون فِيهَا وَخلف اولادا جمَاعَة اليهم انْتَهَت الرياسة الدُّنْيَوِيَّة والديانة فِي غَالب الدولة المويدية يَأْتِي ذكرهم إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَمِنْهُم أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْفَقِيه ابراهيم بن اِسْعَدْ الوزيري يجمعه هُوَ وَابْن عَمه الْمُقدم ذكره جدهما اِسْعَدْ وجده ابراهيم قد ذكره ابْن سَمُرَة وذكرته ومولده سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وخمسماية وَنَشَأ نشؤ البدو وَلم يشْتَغل بِالْعلمِ حَتَّى بلغ عمره اربعين سنة فَذكرُوا انه كَانَ اذا وصل الى ابْن عَمه الْمَذْكُور اولا لم يكد يصافحه وَلَا يتْركهُ يدنو مِنْهُ ويطوي عَنهُ حصر الطَّهَارَة حَتَّى جَاءَهُ يَوْمًا فَبَالغ فِي التَّحَرُّز مِنْهُ واظهر لَهُ ذَلِك فتعب فَقَالَ لَهُ وَلم تفعل ذَلِك فَقَالَ لانه غلب على ظَنِّي انك لَا تتحرأ من نَجَاسَة وانك لَا تعرف مَا يَنْبَغِي لَك اجتنابه وانك جَاهِل فَرَأَيْت التَّحَرُّز مِنْك اولى فداخله من ذَلِك غيظ عَظِيم وَخرج فلحق بِعَبْد الله بن مُحَمَّد الجبائي الْمَذْكُور فِي نواحي جبا فتفقه بِهِ ثمَّ عَاد الى ابْن عَمه فاكمل عَلَيْهِ التفقه ثمَّ لما عزم على الْحَج كَمَا قدمنَا استنابه على التدريس فدرس بالوزيرية وَعنهُ اخذ جمَاعَة كَثِيرُونَ وَمِنْهُم ابْن النَّحْوِيّ وَابْن البانة من تعز وَحسن بن عَليّ(2/117)
من اب وَغَيرهم مِمَّن لم يحضرني ذكرهم وَلم اتحقق لوفاته تَارِيخا
ثمَّ صَار الْفِقْه بطبقة اخرى مِنْهُم ابو عبد الله مُحَمَّد بن سَالم بن عَليّ الغسي بالنُّون عرف بِابْن البانة تفقه بعمر بن مَسْعُود الابيني وبالوزيري واخذ عَن الْمَقْدِسِي ثمَّ امتحن بالقصة الَّتِي قدمنَا ذكرهَا عِنْد ذكر ابْن ادم فَلم يزل منافرا للفقهاء والقضاة حَتَّى امكنه الدُّخُول على القَاضِي الْبَهَاء وَهُوَ يؤمئذ المتفرد بالوزارة وَالْقَضَاء فَحلف لَهُ انه مَا تغير عَن مُعْتَقد السّنة واراه كتابا صنفه فِي مُعْتَقد السّلف فَقبل مِنْهُ ذَلِك بعض قبُول واكثر الْفُقَهَاء لم يكد يصدق ذَلِك وَلم يزل مُنْقَطِعًا الى الاشرف حَتَّى توفّي دخل على الاشرف يَوْمًا وَعِنْده شَيْء من التحف فَقَالَ يَا فَقِيه لَيْسَ مَعَ الْفُقَهَاء شَيْء من هَذَا فَقَالَ عِنْدهم مَا قَالَ الشَّاعِر ... شَيْئَانِ احسن من عنَاق الخرد ... والذ من شرب القراح الاسود
واجل من رتب الْمُلُوك عَلَيْكُم ... وشي الْحَرِير مطرز بالعسجد
سود الدفاتر ان اكون نديمها ... طول النَّهَار وَبرد ظلّ الْمَسْجِد ... فَقَالَ الاشرف نعم مَا حفظت وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة عيد الْفطر وَقيل صبيحتها قبل صَلَاة الْعِيد سنة سبع وَسبعين وستماية اخبرني الثِّقَة قَالَ كنت كثيرا مَا ارى الْفَقِيه ابْن الصفى مَتى زار الْقُبُور وَمر بِقَبْر ابْن البانة انْصَرف عَنهُ فرأيته مرّة قَاعِدا عِنْده قد كشف رَأسه فدنوت مِنْهُ وَسَأَلته السَّبَب فَقَالَ رَأَيْته فِي مَنَامِي البارحة على هَيْئَة حَسَنَة وَحَوله كتب كَثِيرَة فَقَالَ لشخص عِنْده هَات الْكتاب الْفُلَانِيّ الى الْفَقِيه ليزول عَن قلبه مَا أَخذ عَليّ فَقلت يَا سَيِّدي انت صَادِق ثمَّ اعتنقته واعتنقني وَزَالَ مَا فِي باطني وعزمت على زيارته
وَمِنْهُم ابو الْعَتِيق ابو بكر بن مُحَمَّد بن سعيد بن عَليّ الحفصي ثمَّ الازدي والحفصي نِسْبَة الى القارى حَفْص والازدي الى الْقَبِيلَة الْمَشْهُورَة(2/118)
وَيعرف بِابْن العراف مولده ومنشآه قَرْيَة ذِي السفال وتفقه بهَا على مُحَمَّد بن مَسْعُود الَّاتِي ذكره وَكَانَ فَقِيها محققا للفقه نقالا لَهُ عَارِفًا بِهِ درس فِي أول امْرَهْ بذى جبلة فِي الْمدرسَة الزابية ثمَّ انْتقل الى تعز بسؤال من الْقُضَاة بني عمرَان فدرس بالوزيرية وَاتفقَ عَلَيْهِ بَنو عمرَان وسألوه ان يكون مدرسا لابناء حسان ونايبا لَهُم فِي الحكم فاقام على ذَلِك اياما ثمَّ اعتذر عَن الحكم فعذر بِابْن النحوى وتفقه بِهِ جمَاعَة
مِنْهُم ابْن النحوى وَابْن زُرَيْق وَبَان الصفي وعبد الله الريمي وَغَيرهم وَتُوفِّي يَوْم عَرَفَة بعد صَلَاة الصُّبْح سنة تسع وَثَمَانِينَ وستماية وَقد بلغ عمره ثمانيا واربعين سنة وَمِنْه شَيْخي ابو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْفَقِيه على السرددي الْمَذْكُور اولا كَانَ فَقِيها محققا وَغلب عَلَيْهِ فن الحَدِيث اِدَّرَكَ الشُّيُوخ الاكابر من تهَامَة وَالْجِبَال والواردين اليها من غَيرهمَا فن تهَامَة مُحَمَّد بن ابراهيم الفشلي واسماعيل الْحَضْرَمِيّ وَعمر التباعي وَمن الْجبَال مُحَمَّد بن مِصْبَاح وَغَيره واما القادمون فجماعة مِنْهُم الْعِمَاد الاسكندري والقطب الْقُسْطَلَانِيّ وَابْن وحيش واسحاق الطَّبَرِيّ وَعنهُ اخذ غَالب فُقَهَاء تعز كتب المسموعات كالبخاري وَمُسلم وغالب كتب الحَدِيث وَكَانَت كبته مضبوطة مُحَققَة وَعنهُ اخذت عدَّة كتب ورايت ضَبطه لكتبه ضبطا شافيا ولي مِنْهُ اجازة عَامَّة لجَمِيع مَا تجوز لَهُ رِوَايَته كَمَا قَرَأت عَلَيْهِ أَسبَاب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعين جمع ابْن أبي الصَّيف وَالْقَصِيدَة الرائية الَّتِي ذكر بهَا المبتدعة الَّتِي اولها ... تدبر كتاب الله وَاتبع الْخَبَر ... ودع عَنْك رَأيا لَا يلائمه الْأَثر ... فجزاه الله عني خيرا وَكَانَت وَفَاته عَام خمس وَتِسْعين وستماية
وَمِنْهُم ابو الْعَتِيق ابو بكر بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن القَاضِي عمر الهزاز الْمُقدم ذكرهمَا مولده رَجَب سنة سِتّ واربعين وستماية تفقه بابيه غَالِبا وَبِغَيْرِهِ كَابْن البانة وَرُبمَا اخذ عَن الْمَقْدِسِي ثمَّ تصوف وَصَحب الاكابر من الصُّوفِيَّة كابي السرُور وَغَيره(2/119)
وَحج مَكَّة فلقي بهَا جمعا من الاكابر صحبهم وانتسخ كتبا من كَلَام ابْن الْعَرَبِيّ الصُّوفِي فعكف عَلَيْهَا واعتقد مَا فِيهَا فَلذَلِك نقم عَلَيْهِ غَالب الْفُقَهَاء فان ابْن الْعَرَبِيّ لَهُ مُعْتَقد غَرِيب مِنْهُ اعْتِقَاده ان فِرْعَوْن مَاتَ على اسلام مُحَقّق وَغير ذَلِك مماهو مَشْهُور عَنهُ فِي كتبه وانكره اعيان الْفُقَهَاء ثمَّ لما عَاد الْيمن اقبل عَلَيْهِ غَالب اعيان الْأُمَرَاء والملوك والخواتين وَصَارَ لَهُم بِهِ مُعْتَقد عَظِيم وَذكروا لَهُ كرامات وَنقل عَنهُ اصحابه امورا تدل على جلالة الْقدر وَالصَّلَاح وَحصل بَينه وَبَين الْملك الْمُؤَيد ائتلاف وصحبة قبل مصير الْملك اليه وأعتقد صَلَاحه إعتقادا جَاوز الْحَد لم يشركهُ فِيهِ من الاعيان غير ابْن اخيه النَّاصِر فَإِنَّهُ ايضا صَحبه كَمَا صحب عَمه واعتقد فِي هـ الصّلاح ورويا عَنهُ عدَّة كرامات وَلما صَار الْملك الى الاشرف تخوف وَخرج هُوَ وأخوته وَجَمَاعَة من المنتسبين اليه عَن تعز فلحق هُوَ بِنَاحِيَة من طرف بلد وصاب واحيا هُنَالك ارضا زَرعهَا تعرف بوادي سخمل ثمَّ لم يكد يقف غير اشهر حَتَّى توفّي الاشرف وَصَارَ الْمُؤَيد سُلْطَانا على مَا سَيَأْتِي بَيَانه فاستدعاه الْمُؤَيد من حَيْثُ هُوَ فوصل بعد ان مر على النَّاصِر وَهُوَ يَوْمئِذٍ مقطع بِمَدِينَة القحمة واعمالها ثمَّ وصل الى تعز واخذ للناصر المواثيق من عَمه ثمَّ طلب النَّاصِر فوصل مسرعا وَجمع بَينه وَبَين عَمه وَعَاهد بَينهمَا وَلم يزل الْحَال بَينهمَا متجملا الى سِتّ عشر وسبعماية وَحدث بَينهمَا مَا رُبمَا أذكرهُ فِي مَوْضِعه ان شَاءَ الله وزبدة الامر فِيهِ ان النَّاس مُخْتَلفُونَ فِيهِ فَمن قَائِل هُوَ ولي الله وَهُوَ الْمُؤَيد والناصر وَبَعض من حولهما وَقَلِيل من النَّاس وَالَّذين عَلَيْهِ الاكثرون نسبته الى التلبيس وَالرَّغْبَة الى الدُّنْيَا وَاسْتِعْمَال الاسماء وَالسحر بهَا ومعاناة الكيمياء وطلبها من كل ليوهم أَن مَعَه علما بهَا وَكَانَ هَذَا الْفَقِيه مُنْذُ وصل الى تعز مظهر لاقامة(2/120)
الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وابطال الْخمر وَمَا شابهه وعقاب من اظهر شَيْئا من ذَلِك وَلم يكن السُّلْطَان مغيرا مَا فعله اعتقادا ان مَا فعله هُوَ الصَّوَاب وَكَانَ مَعَ ذَلِك محسنا الى جمَاعَة فُقَهَاء بتعز وَغَيرهَا مَعَ تحَققه ان جمَاعَة مِنْهُم يكرهونه وَرُبمَا ساؤا اليه وَكَانَ يحسن الى اولئك خَاصَّة وَسمعت من ذَلِك اشياء يطول شرحها وَله فِي التصوف كتب مستحسنة واشعار معجبة
ايضا وباشارته انْتقل نظر الاوقاف من الْحُكَّام الى اهل الدِّيوَان وَاسْتمرّ ذَلِك الى عصرنا سنة ثَلَاث وَعشْرين وسبعماية وَلم يزل بتعز على الْحَال الْمَذْكُور واهله يُنكرُونَ ذَلِك وهم حجود لليقين فانا نقدره صدق قَوْلهم وفَاقا لَهُم فَلم لَا صد عَن الْوَقْف كَمَا صد عَن الْخمر وَغَيره وَلَقَد اخبر ثِقَة ال كنت اعتقده حَتَّى قدر انني قلت لَهُ اكْتُبْ لي الى ابْن اخيك يكْتب لي الى النَّائِب بزبيد ان لَا يكون يقطعني الكيلة من الْغلَّة الى الْغلَّة فَقَالَ انت فَقِيه
كَيفَ يجوز اكل طَعَام سنة فِي اخرى فَعلمت ان ذَلِك كَلَام مغالطة ومباهتة وَلَو عرف لفعل كَمَا فعل اسماعيل الْحَضْرَمِيّ على مَا قدمْنَاهُ فانه كَانَ اذا توفر على مَصْرُوف الْمدرسَة شَيْء امْر باخراجه وتفريقه على المرتبين واذا امْتنع بعض قليلي التَّوْفِيق من النواب وصل الْفَقِيه المخزن وَأمر بِكَسْر قفله واخراج مَا فِيهِ وفرقه على الطّلبَة وَلم يزل فِي تعز على الْحَال الْمَذْكُور من الْغَلَبَة على امْر السُّلْطَان وَالْقَضَاء بيد اخيه والوزارة ايضا وَفِي سنة ثَمَانِي وسبعماية نزل السُّلْطَان من تعز الى زبيد ثمَّ صَار الى المهجم وطلع حصون حجه فَأخذ حصنا كَانَ يغلب عَلَيْهِ الْعَرَب وَكَانَ فِي حصن تعز وَال يعرف بالعتمي حصل مِنْهُ سوء ادب على بعض المتجورين حول بَيت الْفَقِيه اذ كَانَ هُوَ وَجَمَاعَة من النَّاس احسوا بِحُصُول وَحْشَة بَينه وَبَين السُّلْطَان فتجهز هَذَا الْفَقِيه من تعز باولاده وَجَمَاعَة من اصحابه واظهر قصد الْحَج فَلَمَّا صَار بِالْقربِ من زبيد عدل عَنْهَا وَحط بقرية التريبة فحين علم مُتَوَلِّي زبيد بذلك وَهُوَ يَوْمئِذٍ الشهَاب بن الخرتبرتي كتب الى السُّلْطَان يُخبرهُ بذلك وَأرْسل هجانا بِالْكتاب فحين وقف(2/121)
السُّلْطَان على الْكتاب نزل عَن حجه مبادرا وَلَقي الْفَقِيه فِي المهجم وَاجْتمعَ بِهِ وَلم يزل يتلطف بِهِ حَتَّى اعاده الى مَدِينَة زبيد وَتَركه فِيهَا وَذَلِكَ انه شَرط على السُّلْطَان ذَلِك فَلَمَّا اراد السُّلْطَان الطُّلُوع قيل انه اوصى الْوَالِي بحفظه وَعدم مُخَالفَته فَلم يزل بهَا حَتَّى توفّي وَكَانَ مُدَّة اقامته بهَا مبالغا باماته الْمُنْكَرَات واراقة الخمورات حَتَّى نفر لذَلِك جمع كثير الى حيس وفشال وَغَيرهمَا من الْقرى المقاربة لزبيد حَتَّى توفّي بعد ان اشْترى دَارا وبناه وَتُوفِّي قبل كَمَاله منتصف لَيْلَة الْجُمُعَة الاخير لعشر بَقينَ من ربيع الاخر سنة تسع وسبعماية وَحضر قبرانه اخوه على الْوَزير يَوْمئِذٍ فَنزل منزعجا عَلَيْهِ من تعز فادركه منزولا بِهِ فقبر الى جوَار قبر الشَّيْخ عَليّ بن افلح فِي مَقَابِر بَاب سِهَام وَمَتى زار الزاير قبر الشَّيْخ زار قَبره وَقل ان كَانَ الْمُؤَيد ينزل زبيد الا ويزوره وَمَتى علم اهل الْحَاجَات بذلك تركُوا اوراقهم عِنْد قَبره فياتيه السُّلْطَان لَيْلًا فِي الْغَالِب فيزوره ثمَّ يقرا مَا عِنْده من الْوَرق ويجيب على كل ورقة بِمَا يُرِيد اليه وَذَلِكَ اكراما للفقيه واعتقادا لوُجُوب حَقه حَيا وَمَيتًا وَخَلفه فِي بَيته وعَلى أَوْلَاده الْفَقِيه الصَّالح أَحْمد بن عَليّ الظفاري فَقَامَ بذلك قيَاما مرضيا وهذب بنيه وعلمهم تَعْلِيما جيدا حَتَّى نشأوا على حَال مرضِي وهما ابْنَانِ مُحَمَّد وَعبد الرَّحْمَن فمحمد مولده سَابِع عشر الْحجَّة سنة ارْبَعْ وتستعين وستماية تفقه وَولي قَضَاء الْقُضَاة سنة أَربع عشرَة وسبعماية فَقَامَ كقيام أَبِيه بالمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَهُوَ ذُو همة وَشرف نفس وكرم طبع وَحسن اعْتِقَاد للمنقطعين من اهل الْعلم وَغَيرهم وَعمل فِي أَيَّامه مأثر جَيِّدَة لم يعلمهَا اهله وَلَا من قبلهم مِنْهَا مطاهير جَامع المغربة ثمَّ السيفية ثمَّ فِي جَامع الْجند ثمَّ جَامعا فِي المحاريب بتعز وَمظَاهر بزبيد وانفصل قبل تَمامهَا ثمَّ فِي سنة 720 اجتلب المَاء الى عدينة الى الشمسية والرشيدية بعد ان انْقَطع مُدَّة وتعب النَّاس لذَلِك وَلما كَانَ فِي سنة سِتّ عشرَة وسبعماية حصل بَين النَّاصِر بن الاشرف وَبَين عَمه الْمُؤَيد وحشه اتهمه بهَا الْمُؤَيد فازاله عَن الْقَضَاء ثمَّ اقصاه فَلَزِمَ بَيته الى سنة(2/122)
اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسبعماية وَحصل عَلَيْهِ فِي ذَلِك امتحان سجن وصودر بِسَبَب اتِّفَاق الاعداء عَلَيْهِ بِالْكَذِبِ والصدق وسجن بعدن حَيْثُ سجن بَنو عمرَان مُدَّة شهر ثمَّ بِبَيْت كَانُوا بِهِ ايضا ثمَّ اطلق ثمَّ اعيد الى عدن فَلبث يَسِيرا واطلق ثمَّ توفّي الْمُؤَيد فِي سنة إِحْدَى وَعشْرين واخرج من عدن حَتَّى وصل المفاليس ثمَّ تقدم تعز وَتقدم بعد ذَلِك مَكَّة هُوَ ومعلمه الظفاري واولاده وَذَلِكَ سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسبعماية فحجوا وزاروا ثمَّ عَادوا ووقفوا فِي بَيت الْفَقِيه احْمَد بن عجيل مقدم الذّكر مُدَّة ثمَّ طلع مُنْفَردا الى تعز صُحْبَة احْمَد بن ازدمر فَلم يزل لَازِما لبيته بالمغربة ثمَّ توَسط بَين السُّلْطَان ورعية الشوافي واجناداب وَهُوَ على ذَلِك من شعْبَان الى ان دخلت سنة ارْبَعْ وَعشْرين وَهُوَ على ذَلِك مُقيم مَعَهم اذ تزوج مِنْهُم فَالله يحسن عاقبته وعاقبة الْمُسلمين وَفِي شهر صفر طلع الْحصن حِين تحقق خبر الْحصار فَوقف مَعَ الْمُجَاهِد فِيهِ الى ان ارْتَفَعت المحطة فِي الْعشْرين من الْحجَّة وَفِي الْمحرم ولاه الْقَضَاء الاكبر فَهُوَ عَلَيْهِ الى الان فِي شهر رَمَضَان سنة 725 وَفِي هَذِه السّنة نزل تهَامَة فالتمس شَيْئا من حيس من مَال الْوَقْف وَلما طلع السُّلْطَان من تهَامَة فِي الْحجَّة من السّنة سبقه الى تعز بايام ثمَّ ان السُّلْطَان طلع حصن التعكر مَعَه فتقلقل مِنْهُ اهل جبله اهل الْوَقْف خَاصَّة اذ سلط عَلَيْهِم ابْن القواس فطلعوا التعكر وَشَكَوْهُ فَقَصره عَنْهُم وَعَاد السُّلْطَان تعز وَعَاد صحبته ثمَّ نزل فَخرج من تعز مستترا بعد ان نقل اولاده وقماشة سرا حَتَّى لم يبْق لَهُ شجن وَخرج على انه مسير اَوْ مُودع ثمَّ صَار الى ذِي اشرق فَلبث بهَا مُدَّة وانتقل الى رِبَاط كَانَ لابيه وَدخلت سنة ثَمَان وَهُوَ بِهِ فَلَمَّا قَامَ الْعَرَب فِي ربيع الثَّانِي جَعَلُوهُ رَأْسهمْ ثمَّ كذبُوا بِهِ فَاشْترى حصن شوائط نصفه فَلَمَّا صَار بِهِ ذكرُوا أَن صَاحب الْحصن أَرَادَ الْغدر بِهِ فغدر بِهِ وَلَزِمَه وَأَرَادَ حَبسه وَبعد الْجهد حصل لَهُ(2/123)
الاطلاق بعد اخذ مَاله وَلم يزل منضرب الْحَال الى أَن دخلت سنة تسع وَعشْرين وَسَبْعمائة وَحمله الْجَهْل على التَّقَدُّم الى السمداني فلحق بِهِ ثمَّ عَاد مِنْهُ صُحْبَة ابْن السبائي فَقتله فِي شهر صفر من السّنة
وَأما اخوه عبد الرَّحْمَن فامة ابْنة الْفَقِيه عَليّ بن العسيل الْآتِي ذكره فِي جبلة فَإِنَّهُ وقف برباط أَبِيه بِنَظَر الظفاري وَصَارَ ذَا فطنة وَهُوَ إِلَى الْآن طَالب للْعلم مُجْتَهد فِيهِ
وَمِنْهُم شَيْخي ابو الْعَبَّاس احْمَد بن عبد الدَّائِم بن عَليّ عرف الده بالصفي الْمَيْمُونِيّ مولده سنة اربعين وستماية تفقه فِي بدايته بفقهاء تعز كَابْن البانة وَابْن العراف مقدمي الذّكر وَغَيرهمَا ثمَّ ارتحل الى تهَامَة واخذ عَن الامام اسماعيل الْحَضْرَمِيّ وَغَيره ثمَّ لما عَاد متفقها درس بذى جبله ثمَّ انْتقل الى تعز فدرس بعدينة بالرشيدية وَعلم الْملك الْعَادِل بن الاشرف تَعْلِيما جيدا وَكَانَ مُبَارَكًا كَمَا سَيَأْتِي ثمَّ لما ابتنى مدرسته بالمغربة جعله ابوه مدرسا فِيهَا فَلم يزل بهَا حَتَّى توفّي وَهِي من اضعف الْمدَارِس وَقفا وَلَكِن كَانَ الْأَشْرَف فِي حَيَاته يفتقد الْفَقِيه بِشَيْء مِنْهُ وَلما توفّي قيل لَهُ هلا انْتَقَلت الى بعض الْمدَارِس النافعة فَقَالَ لَا اغير صُحْبَة الاشرف حَيا وَمَيتًا وَكَانَ اخذه لكتب الحَدِيث عَن أَحْمد السرددي واسحاق الطَّبَرِيّ وَعَن ابراهيم بن عجلَان وَعنهُ أخذت لمع الشَّيْخ أبي إِسْحَاق ومقامات الحريري وَبَعض وسيط الْغَزالِيّ واليه انْتَهَت رياسة الْفَتْوَى بتعز ونال من الاشرف مكانة جَيِّدَة وَظهر ذَلِك ايام استقلاله بِالْملكِ وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْخَمِيس فجا ولثمان بَقينَ من صفر سنة بضع وسبعماية وَكنت يَوْمئِذٍ بعدن فَقلت يَوْم الْجُمُعَة للمؤذن بالجامع يَصِيح بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ بعد الْجُمُعَة فَفعل وَصلى عَلَيْهِ جَمِيع الْجَامِع ثمَّ جمعت الاصحاب وقرأنا عَلَيْهِ ثَلَاثَة أَيَّام بِالْمَدْرَسَةِ المنصورية اذ كنت يَوْمئِذٍ بهَا وَذَلِكَ بعض الْوَاجِب من حَقه رَحمَه الله فَقل مَا رَأَيْت من فُقَهَاء تعز لَهُ(2/124)
نظيرا بمكارم الاخلاق والشفقة على الاصحاب
وَمِنْهُم ابو الْعَتِيق ابو بكر بن عمر بن سعيد عرف بِابْن النَّحْوِيّ مولده ربيع الاخر كَمَا اخبرني من لَفظه وَذَلِكَ فِي شهور سنة سِتّ واربعين وستماية وتفقه بِابْن ادم وَابْن العراف والوزيري وَبِعَبْد الله بن مُحَمَّد الْحَضْرَمِيّ الْمُقدم الذّكر وَكَانَ مُبَارَكًا بالتدريس قل مَا قَرَأَ عَلَيْهِ أحد الا انْتفع وَكَانَ مَذْكُورا بشرف النَّفس وعلو الهمة استنابه بَنو عمرَان فِي الْقَضَاء فَلبث بِهِ مُدَّة الى ان انقرضوا فَعَزله بَنو مُحَمَّد بن عمر فِي اول قيامهم وَتركُوا مَكَانَهُ عَليّ بن عبيد الَّاتِي ذكره وَبَقِي على تدريس الْمدرسَة الغرابية الى ان توفّي بعد ان تفقه بِهِ جمَاعَة مِنْهُم عمر بن ابي بكر العراف وَغَيره وَكَانَت وَفَاته فِي منتصف شَوَّال من سنة ارْبَعْ عشرَة وسبعماية
وَمِنْهُم عبد الله بن مُحَمَّد الباحري كَانَ فَقِيها فَاضلا غير انه اكثر خلْطَة اهل الذِّمَّة فاتهم بِتَغَيُّر الدّين وَكَانَ عَارِفًا بِتَغَيُّر الرُّؤْيَا وَله اشعار كَثِيرَة وَاخْتصرَ كتاب القادري فِي التَّعْبِير وَحدث لَهُ ولد شرع بالفقه اسْمه مُوسَى وَلم يطلّ عمره فَتوفي بصفر سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وستماية ولبث ابوه بعده شَهْرَيْن اَوْ وَنصفا ثمَّ توفّي وَلم يَرِثهُ غير ابْن اخ لَهُ وَلَوْلَا التجأ الى امير يعرف بالطعا لقتل لما شهر من مذْهبه واخذ عَن ابْن المبرذع كِتَابه اليواقيت فِي الْمَوَاقِيت واخذته انا عَن من اخذه عَنهُ
وَمِنْهُم صنوه ابو عبد الله مُحَمَّد بن عمر مولده الْمحرم من سنة اربعين وستماية قَرَأَ الْقُرْآن لَاذَ بَابي الْمسك عنبر وَكَانَ يؤمه وَينْتَفع بِهِ وَيكْتب لَهُ وَكَانَ خيرا وبسبب صُحْبَة اتَّصل بِصُحْبَة الْملك الواثق وسافر مَعَه الى ظفار وَغلب على امْرَهْ بهَا وَلم يزل وزيرا لَهُ فِيهَا وابتنى بهَا مدرسة ووقف عَلَيْهَا وَقفا جاملا وَتُوفِّي(2/125)
هُنَاكَ فِي شهر رَمَضَان سنة تسع وسبعماية وَخلف ابْنا جيدا اسْمه عمر جَامعا لفنون من الْعلم وَالْفِقْه والحساب والفرائض والطب وَلما مَاتَ الواثق لم يطق الْوُقُوف بظفار بل عَاد الْيمن صُحْبَة الْحرَّة مَاء السَّمَاء كَرِيمَة الواثق اذ عَادَتْ كَمَا تقدم فحين وصل لم يعْذر الْمُؤَيد ان جعله كَاتب خزاينه وَهُوَ الان مَعَ ابْنه كَذَلِك يذكر بِالْعَدَالَةِ والامانة فِيمَا تصدى لَهُ
وَمِنْهُم احْمَد بن الْفَقِيه يحي ابْن زَكَرِيَّا مولده صبح الثُّلَاثَاء ثَانِي عشر جمادي الاخرة من سنة تسع واربعين وستماية تفقه بِابْن ادم كَمَا قدمنَا وَكَانَ فَقِيها خيرا ذَا مرؤة وحمية على الاصحاب مَشْهُور بجودة الْفِقْه وعلو الهمة وَحسن الصُّحْبَة وَكَانَ وَفَاته سنة احدى وَتِسْعين وستماية وَخلف اولادا تفقه مِنْهُم جمَاعَة يَأْتِي ذكرهم إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَمِنْهُم ابو عَفَّان عُثْمَان بن مُحَمَّد عرف بالشرعبي تفقه بِمُحَمد بن عَليّ القَاضِي وبابن عَبَّاس الشعيبي مقدمي الذّكر وَعنهُ اخذت غَالب اخبار الْفُقَهَاء بتعز ونعوتهم اذ كَانَ الف ذَلِك بكراريس فَلَمَّا اخبرته بِمَا جمعته اعجبه ذَلِك وَأَعْطَانِي الكراريس فَوَجَدته ذكر جمعا كثيرا لكنه لم يَأْتِ بتاريخ مِيلَاد وَلَا وَفَاة إِنَّمَا اخذت مَا اوردته من ذَلِك عَن بحث لَهُ من مضانه هَذَا الْفَقِيه من اخيار الْفُقَهَاء وصلحائهم وَمِمَّنْ يُرْجَى بركته وَكَانَ جميل الْخلق كثير البشاشة درس بِالْمَدْرَسَةِ الاسدية الْمُقدم ذكرهَا مُدَّة طَوِيلَة الى ان توفّي لَيْلَة الاحد سَابِع صفر من سنة ثَمَانِي عشرَة وسبعماية
وَمِنْهُم ابو سُلَيْمَان دَاوُد ابراهيم الجبرتي بَلَدا والزيلعي لقبا كَمَا تقدم فِي ذكر ابْن ادم درس بالشمسية بعد ابْن زَكَرِيَّا وتفقه بفقهاء جبلة ونواحيها وَكَانَ جليل الْقدر اخذ بالاثر يفرش لَهُ مجْلِس التدريس فرشا وَيقْعد عَلَيْهِ ثمَّ يجْتَمع الطّلبَة حوله فيقرأون الْفِقْه ثمَّ انه كَانَ لَا يناصف الا مُسْتَحقّا للمناصفة لعلمه اَوْ دينه وَمَتى وَصله المترأسون بدنياهم لم يحفل بهم بِحَيْثُ انه يكون متمددا فَلَا يكَاد(2/126)
يرفع بسببهم جَبينه وَكَانَ محميا من الله م الشُّبُهَات اخبر الثِّقَة انه كَانَ يقْرَأ فِي عرشان عَليّ القَاضِي احْمَد بن عبد الله مقدم الذّكر وانه كَانَ مَعَه رَاع يرعي لَهُ شَيْئا من الْغنم وان من جُمْلَتهَا كَبْشًا كَانَ قد تربى وَسمن فَحصل بِهِ مرض فَمَاتَ من فوره فَلم يهن على الرَّاعِي ذَلِك فذبحه واتي بِهِ لبيت القَاضِي وَقَالَ انني تلافيت هَذَا واستدركته فَحَمَلُوهُ على الصدْق
وطبخوه فَعمل عَلَيْهِ طَعَاما ودعي هَذَا الْفَقِيه دَاوُد فَلَمَّا حضر وَرَآهُ كرهه فلازمه القَاضِي عل الاكل مِنْهُ فَمَا هُوَ الا ان وَافقه حَتَّى وضع لقْمَة فِي فِيهِ اذ ضرب ضرسه واخرج اللُّقْمَة وَقَامَ واستدعي بالراعي وحلفه فاخبر بِحَقِيقَة الامر فَعلم ان الله حماه وَنَحْو ذَلِك مَا ذكر ان بعض الْفُقَهَاء بتعز اَوْ لم وَلِيمَة وحضره غَالب الْفُقَهَاء وَهَذَا الْفَقِيه من جُمْلَتهمْ فَلَمَّا قرب الطَّعَام اكلوا وامسك هُوَ عَن الاكل فَعَاتَبَهُ الْفَقِيه احْمَد بن الصفي على ذَلِك وَهُوَ اذ ذَاك رَأس الْفُقَهَاء وَلم يعذرهُ عَن مواكلتهم فَأكل وَنزل بَيته فَمَرض اياما مَرضا شَدِيدا فوصله الْفَقِيه ابْن الصفي وكشف رَأسه واستحله من الِاعْتِرَاض الَّذِي اعْتَرَضَهُ وكلفه فِيهِ الى الطَّعَام فاحله وَكَانَ مبارك التدريس قل مَا قرا عَلَيْهِ اُحْدُ الا انْتفع وَكَانَ ذَا صَلَاح وَدُعَاء مستجاب ومحبة للاصحاب وَكَانَت وَفَاته على الْحَال المرضي فِي شهر صفر سنة سبع وسبعماية
وَمِنْهُم ابو الْخطاب عمر بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عمرَان المتوجي المراني ثمَّ اللخولاني نسبا فالمتوجي بِضَم الْمِيم وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَالْوَاو ثمَّ جِيم وياء نسب والمراني ظَاهر والخولاني اظهر موله سنة سِتّ واربعين وستماية بمخلاف حصن شيبَة ثمَّ صَار الى تعز فدرس بِالْمَدْرَسَةِ العمرية فِي حافة الْملح من(2/127)
مغربة تعز وَكَانَ يغلب عَلَيْهِ الْعُزْلَة وَالْعِبَادَة وكلف دين عَظِيم وصل الى عدن بِسَبَب قَضَائِهِ وَكنت اذ ذَاك بهَا وَلم يكن لي بِهِ قبل ذَلِك معرفَة وَكنت اماما بِالْمَدْرَسَةِ المنصورية فوصلت لاصلي بهَا بعض الْأَوْقَات فَوَجَدته فَسلمت عَلَيْهِ وسئلت عَن مجيئة واسْمه فَقَالَ انا فلَان من تعز فعرفته على السماع فاهلت بِهِ وسهلت ورحبت ثمَّ تقدّمت بِهِ الى الْوَالِي وَهُوَ يَوْمئِذٍ حسن بن مِيكَائِيل وَقد كَانَ كتب اليه جمَاعَة من اعمال الدولة بِسَبَبِهِ فَلَقِيَهُ متلقى حسنا ووعده بِالْخَيرِ ثمَّ انه وصل الى قَاضِي عدن ايضا بكتب من القَاضِي مُحَمَّد بن احْمَد الَّاتِي ذكره وَهُوَ يَوْمئِذٍ ابو بكر بن الاديب كَذَلِك ثمَّ انه مرض اياما يسيرَة وَتُوفِّي بهَا نَهَار الْخَمِيس حادي عشر الْحجَّة سنة سبع وسبعماية فتوليت تَجْهِيزه وَدَفنه عِنْد مصلى الْعِيد وقبر الشَّيْخ ابْن ابي الْبَاطِل وَله اولاد يَأْتِي ذكر من يسْتَحق الذّكر مِنْهُم انشاء الله تَعَالَى وَقد عرض مَعَه ذكر الْمدرسَة العمرية وَهِي منسوبة الى الامير عمر بن سيف الدّين بن نَفِيس اخي المظفر لامه كَانَ اميرا كَبِيرا ذَا همة عاليه واقطاع جَيِّدَة كَانَت وَفَاته فِي صفر سنة تسع وَتِسْعين وستماية
وَمِنْهُم عبد الله بن مُحَمَّد بن سبا الريمي العياشي بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالْيَاء الْمُثَنَّاة تَحت ثمَّ الف ثمَّ شين مُعْجمَة ثمَّ يَاء نِسْبَة الى جدله اسْمه عَيَّاش من ريمة الاشابط تفقه اولا بِمَدِينَة اب على الْفَقِيه يحي ابْن ابراهيم الَّاتِي ذكره ثمَّ صَار الى تعز فتفقه بِابْن العراف وَابْن الصفي وَغَيرهمَا من فُقَهَاء تعز ثمَّ جعل معيدا بالمظفرية مُدَّة واستنابه بَنو مُحَمَّد بن عمر فِي الْقَضَاء مُدَّة ثمَّ فَصله القَاضِي مُحَمَّد بن ابي بكر وَجعله مدرسا فِي الْمدرسَة المظفرية بقرية المحاريب ثمَّ انْتقل عَنْهَا الى مدرسة ابْن نجاح وعزل عَنْهَا فِي شهر جمادي الاولى وَهُوَ من اخيار الْفُقَهَاء(2/128)
وتقلبت بِهِ احواله حَتَّى توفّي متضعضعا ثَالِث وَعشْرين وَرَجَب سنة خمس وَعشْرين وسبعماية
وَمِنْهُم عبد الرَّزَّاق بن مُحَمَّد الجبرتي الزَّيْلَعِيّ نِسْبَة الى الْبَلَد كَمَا تقدم وَيذكر انه شرِيف النّسَب كَانَ فَقِيها فَاضلا من اهل المرؤة محبا فِي السَّعْي بِقَضَاء حوائج الاصحاب رَاغِبًا فِي ذَلِك درس فِي النجاحية مُدَّة الى ان توفّي كَانَ تفقهه بِمُحَمد بن عَيَّاش وَعلي بن احْمَد الْجُنَيْد وَكَانَت وَفَاته بصفر سنة عشر وسبعماية فَحكى انه لما حمل بالنعش جَاءَ طير من الْهَوَاء فَدخل فِي اكفانه وَلم يربعد ذَلِك وَهَذِه تشبه قصَّة جرت لِابْنِ عَبَّاس وَقت وَفَاته
وتكرر ذكر النجاحية وَهِي مدرسة احدثها امير يعرف بِمُحَمد بن نجاح من امراء الدولة المظفرية كَانَ اميرا كَبِيرا صَاحب طبلخانة واقطاع جَيِّدَة بني هَذِه الْمدرسَة بِنَاحِيَة المغربة الشرقية الَّتِي تعرف بالمعاينة وَله وقف بر بتعز واخر بالجند وَكَانَ كثير فعل الْمَعْرُوف وامتحن اخر عمره بالعما وَأقَام مُدَّة ثمَّ توفّي على الامتحان يَوْم الِاثْنَيْنِ ثامن الْقعدَة سنة احدى وَثَمَانِينَ وستماية وَخَلفه ابْن اسْمه أَبُو بكر عَاشَ بعده سنة واشهرا ثمَّ توفّي بجمادي الاولى سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وستماية وَلم يعقب وَله ذُرِّيَّة من قبل النِّسَاء يعْرفُونَ ببني نجاح
وَمِنْهُم ابو بكر بن عبد الله بن عبيد بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان عرف بِابْن زُرَيْق اصله من جبله تفقه بِابْن العراف وَابْن الصفي وَابْن عَيَّاش مقدمي الذّكر وَكَانَ فِيهِ خير ومرؤة وَحسن موالفة للأصحاب درس بالوزيرية وَكَانَ بَنو مُحَمَّد بن عمر يشفقون عَلَيْهِ الى ان توفّي على ذَلِك مستهل جمادي الاخرة من سنة ثَلَاث ووسبعماية
ثمَّ صَار الْفِقْه الى طبقَة اخرى فِي جمَاعَة مِنْهُم مُحَمَّد بن الْفَقِيه احْمَد بن الْفَقِيه يحي بن زَكَرِيَّا مقدمي الذّكر مولده لَيْلَة الْجُمُعَة لثمان بَقينَ من جمادي الاولى سنة احدى وَسبعين وستماية تفقه بِابْن الصفي وَغَيره وَكَانَ فَقِيها ذكيا نقالا للفقه(2/129)
عَارِفًا بِهِ ذَا مرؤة وحمية على الاصحاب وابنا الْجِنْس درس بالشمسية بعد الْفَقِيه دَاوُد واقام معيدا مَعَه وَلم يزل مدرسا بهَا حَتَّى توفّي على ذَلِك لست خلون من صفر سنة اثْنَتَيْ عشر وسبعماية وبتاريخه توفّي صَاحبه وصاحبي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الجبرتي وَكَانَ من اخيار الاصحاب واهل المرؤات
وَمِنْهُم عمر بن سلمَان مولده سنة احدى وَعشْرين وستماية وَهُوَ فَقِيه خير تفقه بَابي بكر النَّحْوِيّ وَغَيره ودرس بِالْمَدْرَسَةِ المنسوبة الى ام السُّلْطَان ثمَّ انْتقل الى زبيد فدرس بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي انشأها اهل دَار الدملؤة فِيهَا وَاجْتمعت بِهِ فِيهَا سنة احدى وَعشْرين وسبعماية فَوَجَدته ذَا مرؤة وحمية على الاصحاب ساعيا فِي مصالحهم
وَقد عرض عَن ذكر دَار الدملؤة وَكَانَت من اعيان خواتين بني رَسُول وَهِي الْحرَّة نبيلة ابْنة الْملك المظفر كَانَت صَالِحَة تقية برة باهلها محسنة إِلَى من لَاذَ بهَا والى حَاشِيَة ابيها واخيها واحدثت مَسْجِدا بمغربة تعز واخر بجبل صَبر ومدرسة بزبيد وَهِي الَّتِي درس بهَا هَذَا الْفَقِيه وَكَانَت مُقِيمَة بحصن تعز حَتَّى حصل بَين الْمُؤَيد واخيها النَّاصِر مَا حصل فاستوحش وانزلها المغربة ثمَّ توفيت منتصف الْمحرم سنة ثَمَانِي عشرَة وسبعماية
وَمِنْهُم ابو بكر بن احْمَد بن عمر بن مُسلم بن مُوسَى الشّعبِيّ عرف بِابْن الْمقري مولده لَيْلَة الْجُمُعَة من رَجَب سنة خمس وَسبعين وستماية تفقه بِجَمَاعَة من اهل تعز اولا ثمَّ ارتحل الى الذنبتين فاكمل تفقهه على شَيخنَا ابي الْحسن الاصبحي ثمَّ عَاد بَلَده وَكَانَ فَاضلا بالفقه والنحو وَالْعرُوض والفرائض والحساب درس بالاشرفية بعد ابْن الصفي وَتُوفِّي على ذَلِك لَيْلَة الثُّلَاثَاء عَاشر ربيع الاخر من سنة ارْبَعْ عشرَة وسبعماية وَله اخ اسْمه يُوسُف مولده ربيع الاخر فجر خَمِيس منتصفه سنة خمس وَثَمَانِينَ وستماية متفقه قد قَرَأَ واخذ عَن(2/130)
جمَاعَة وَفِيه سياسة وَحسن خلق وانس لمن يَصْحَبهُ وَهُوَ الان امام الْمدرسَة الأَسدِية والمذكورة للنَّاس فِي الْمَسْجِد الَّذِي بِرَأْس دَرَجَة المغربة انشاء الْحرَّة ابْنة اسد الدّين زوج السُّلْطَان الْمُؤَيد
وَمِنْهُم الْفَقِيه مُحَمَّد بن مُحَمَّد عمر الهزاز تفقه بفقهاء تعز ودرس بمدرسة ام السُّلْطَان الْمُؤَيد مُدَّة وامتحن بالمصادرة هُوَ واخوه اِسْعَدْ وَإِبْرَاهِيم وَلما من الله عَلَيْهِم بالاطلاق عَاد الى ذِي السفال وَهِي اصل مَسْكَنه ومسكن اخوته اذ امهم ابْنة القَاضِي اِسْعَدْ بن مُسلم والا فبلد والدهم قَرْيَة العقيرة الْمُقدم ذكرهَا وابتنى مَسْجِدا بقرية الوحص على قرب مَسْكَنه ثمَّ لما حصل من الْعَرَب التَّغَيُّر لنيف وَعشْرين وسبعماية عَاد الى تعز وَسكن بهَا واستعاد تدريس الْمدرسَة وَهُوَ الان عَلَيْهِ فَلَمَّا تغير اهل صَبر سنة ثَلَاث وَعشْرين خرج من تعز وَعَاد الى ذِي السفال فَهُوَ فِي بَيته الى الْآن وَله ابْن اسْمه مُحَمَّد تفقه وَسكن تعز يذكر بشرف النَّفس حَتَّى قَالَ بَعضهم هُوَ فريد قومه توفّي سنة ثَمَان وَعشْرين وسبعماية وترتب بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي كَانَ ابوه بهَا ثمَّ ترَتّب بالمؤيدة واعيدت الْمدرسَة الى ابيه فهما مستمران وَكَانَ ذَلِك بِسَبَب تقوم ابْن زَكَرِيَّا اذ كَانَ مدرسا بهَا
وَمِنْهُم ابْن اخيه مُحَمَّد بن احْمَد وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَنُوب عَمه الْوَزير عَليّ بن مُحَمَّد فِي فصل قضايا النَّاس ويباشر احكامهم وَمَا فعله لم يُعَارضهُ بِهِ اُحْدُ من اهله وَلَا غَيرهم وَكَانَ النَّاس يرونه قَاضِي الْقُضَاة اذ كَانَ غَالب الْفُقَهَاء والحكام هُوَ الْمُتَوَلِي لفصل قضاياهم وَكَذَلِكَ اهل الْوَقْف وترتيبهم وَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ سلوك طَرِيق الزّهْد بِحَيْثُ كَانَ اكثر اهله واصحابه يَقُولُونَ مَا اكْتسب شَيْئا من الدُّنْيَا وَكَانَ هُوَ الَّذِي يتَوَلَّى صرف الْبر فَيتَصَدَّق مِنْهُ بجملة مستكثرة وَوَصله بعض الْفُضَلَاء الغرباء فَلم يكد يحفل بِهِ وَلَا قضى لَهُ حَاجَة فَخرج عَنهُ مغضبا وَكتب اليه كتابا يعاتبه على جفائه لَهُ فَقَالَ احسنوا الى خلق الله مُكَافَأَة لانعامه فالنبي(2/131)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول أَحْسنُوا مجاورة نعم الله بِالْإِحْسَانِ إِلَى خلقه فَمَا نفرت من قوم فَعَادَت وَإِنَّمَا يعرف قدر الْفُضَلَاء من كَانَ مِنْهُم ثمَّ قَالَ وَإِذا كنت فَاضلا أَو فِي بلدك فَاضل فقد كتبت إِلَيْك بَيْتَيْنِ عرفني يفحواهما ثمَّ كتب إِلَيْهِ من أَمْثَاله ... وَمَا ساير قد يرى مُقبلا ... وطورا على خَلفه الْقَهْقَرَى
وَلَيْسَ لَهُ ارجل ان مَشى ... ويسبق كل الورى ان جرى ... فَلَمَّا وقف القَاضِي على ورقته اوقف عَلَيْهَا جمَاعَة مِمَّن يَغْشَاهُ وَهُوَ يعرف بِالْفَضْلِ فَلم ينْقل ان احدا مِنْهُم شار بِجَوَاب فوصل من اخبر شَيخنَا ابا الْحسن بذلك بِمحضر جمَاعَة من اصحابه فاعجبه الْبَيْتَيْنِ وَقَالَ مَا أَرَادَ بهما إِلَّا النِّعْمَة وَكَانَ عَمه ابو بكر هُوَ الَّذِي تولى تَرْبِيَته وَلم يصر اليهم امْر الوزارة وَالْقَضَاء الَّذِي كَانُوا فِيهِ الا بعد ان تفقه وَتعبد وَحج وجاور بِمَكَّة وَالْمَدينَة وَعرف النَّاس يمنا وحجازا وَلم يكْتَسب شَيْئا من الدُّنْيَا كَمَا اكْتسب اهله اجمعون وَلَا تزوج امراة وَكَانَ مَا اشار بِهِ على عميه ابي بكر وعَلى لم يخالفاه وَفِي أَصْحَاب عَمه جمَاعَة يعترفون لَهُ بالصلاح وَرُبمَا يفضلونه على عَمه ابي بكر وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشرَة الْقعدَة من سنة اثْنَتَيْ عشر وسبعماية شرب شربة فاطلقت بَطْنه ثمَّ اعْتصمَ فَتوفي بذلك وَتُوفِّي عَمه الْوَزير بعده بِنصْف شهر وَذَلِكَ ثَالِث الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة عِنْد قبر ابيه بحياط جَامع عدينة
وَأما مُحَمَّد فَتوفي وَدفن بمقابر المغربة على قرب من تربة الإِمَام إِبْرَاهِيم
وَمِنْهُم ابو الْعَتِيق ابو بكر بن جِبْرِيل بن اوسام العدلي مَنْسُوبا الى قَبيلَة فِي السودَان يعْرفُونَ بِالْعَدْلِ بِفَتْح الْعين وَالدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ ثمَّ لَام سَاكِنة فَقِيه صَالح من اخير الْفُقَهَاء الْمَوْجُودين واشرفهم نفسا واعلاهم همة واحسنهم عصمَة فِي الله تَعَالَى وشفقة على ابناء الْجِنْس وَسَأَلت عَن اهله فِي بلدهم فَقيل لي بَيت خير وَدين وَله اخ من اعيان مَشَايِخ الصُّوفِيَّة وصالحيهم وَكَانَ تفقهه بمواضع عدَّة على(2/132)
اكابر اخرهم شَيخنَا ابو الْحسن وَلما توفّي انْتقل الى تعز فرتبه القَاضِي مُحَمَّد بن احْمَد بِالْمَدْرَسَةِ الْمَعْرُوفَة بالأتابكية بقرية ذِي هزيم ثمَّ انْتقل الى تدريس الشمسية وَهُوَ عَلَيْهِ الى االآن فَقِيه ذَاكر للفقه سليم الصَّدْر صبور على وَفَاء الصُّحْبَة وَالْقِيَام بواجبها وَلما كَانَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسبعماية جعل القَاضِي عبد الرَّحْمَن الظفاري قَاضِي قُضَاة بِمَدِينَة الْجند طلب فُقَهَاء تعز مِنْهُ الْحُضُور لتوليه فوصلوا وولاه السُّلْطَان بِالْقصرِ فَحَضَرَ هَذَا الْفَقِيه وَابْن العراف وَابْن زَكَرِيَّا فَلَمَّا خَرجُوا عَن مقَام السُّلْطَان ولاه قَضَاء تعز فَلبث مُدَّة وَاعْتذر وَله حمية مرضية على الاصحاب مجد فِي قَضَاء حوائجهم وَهُوَ فَقِيه نقال للفقه مبارك التدريس ومناقبه كَثِيرَة وَلما ضعف رزق مدارس تعز رَكبه دين كثير لعول وَتحمل للاطعام انْتقل الى تهَامَة فدرس بزبيد بمدرسة احدثتها ام السُّلْطَان الْمُجَاهِد
وَمِنْهُم أَبُو إِسْحَاق ابْن الْفَقِيه أَحْمد بن الْفَقِيه يحيى بن زَكَرِيَّا مولده لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من ربيع الاول سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وستماية تفقه باخيه مُحَمَّد وبداود وَغَيرهمَا ودرس بالأتابكية بِذِي هزيم مُدَّة ثمَّ بالمؤيدية وَهُوَ اُحْدُ من يعد فَقِيها محققا موفقا نقالا للفقه لَا يَدُور بالفتوى بتعز غير عَلَيْهِ وعَلى ابْن جِبْرِيل الْمَذْكُور اولا وَالثَّالِث لَهما يَأْتِي ذكره وَهَذَا الْفَقِيه من اخيار الْفُقَهَاء وَذَوي الانفاع للأصحاب وابناء الْجِنْس وَفِيه انس وَصَحبه وَشرف نفس وَكَانَ لَهُ عَم يُقَال لَهُ احْمَد بن مُحَمَّد بن عبد الله وَفِي سني الْخلاف خرج عَن تعز وطلع الْبَلَد الْعليا فَلبث بِصَنْعَاء وذمار مَعَ الْجمال الْحِمصِي الى سنة ثَلَاثِينَ وسبعماية ثمَّ عَاد الى تعز ورتب بمدرسة الشمسية حَيْثُ كَانَ ابْن جِبْرِيل
وَمِنْهُم ابو الْخطاب عمر بن الْفَقِيه ابو بكر بن العراف مقدم الذّكر مولده لَيْلَة تَاسِع الْمحرم اول سنة ثَمَانِي وَثَمَانِينَ وستماية تفقه بِابْن النَّحْوِيّ وَتزَوج بابنته وَلما نزل بِهِ الْمَوْت أوصى إِلَيْهِ بِضَم تركته وَقَضَاء دينه ثمَّ لما توفّي قَامَ بذلك أتم قيام(2/133)
مولده سلخ سنة ثَمَانِينَ وستماية ثمَّ خَلفه فِي تدريس مدرسة الغرابية فَأول تدريس درسة نِيَابَة للفقيه عُثْمَان بتدريس الاسدية اذ حج ثمَّ قِرَاءَة الحَدِيث بدار المضيف بتعز ثمَّ لما توفّي صهره انْتقل الى مدرسته وَلما صَار قَضَاء الْقُضَاة الى ابْن الاديب جعل هَذَا قَاضِيا بتعز فَقدم فِي ايامه الْفَقِيه عبد الحميد الجيلوني الَّاتِي ذكره فالتقاه هَذَا واهله لسكني تعز كَمَا سَيَأْتِي ان شَاءَ الله بَيَان ذَلِك عِنْد ذكره وَهُوَ الثَّالِث من الْفُقَهَاء الْمَعْدُودين فِي الْوَقْت بالفتوى ورتبهم على مَا اغلب عَلَيْهِ ظَنِّي من تقدم وجود كل على الاخر وَهَذَا مِمَّن يشهر بسعة الْفِقْه والزهد والورع وَبِه سياسة وَشرف نفس وَأنس للاصحاب مبارك التدريس نظيف الْفِقْه حج سنة خمس وَعشْرين وسبعماية وَعَاد على احسن حَال وَلما ضعف رزق الْمدَارِس انْتقل الى خانقة حيس وَصَارَ بهَا شَيخا وَكَانَ لَهُ حَالَة رضية وَمَكَارِم مرضية وَكَثِيرًا يرى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَات فِي سنة أَربع وَخمسين وَسَبْعمائة وَدفن فِي قَرْيَة حيس بَين زبيد وقبره على مسار الطَّرِيق فِي النُّزُول ومستجاب عِنْده الدُّعَاء هَكَذَا أَخْبرنِي بعض سكان حيس وَمِنْهُم مُحَمَّد بن الْفَقِيه عمر المتوجي مقدم الذّكر مولده شعْبَان سنة سبع وَثَمَانِينَ وستماية خلف اباه فِي تدريس العمرية وَهِي تنْسب الى الْأَمِير عمر بن نَفِيس أخي المظفر من أمه وَولي الْقَضَاء من قبل ابْن الأديب وَكَانَ يستنيبه بعض قُضَاة بني مُحَمَّد بن عمر ايضا وَيذكر بِالدّينِ وَالْخَيْر وَاجْتمعت بِهِ مرَارًا فَوجدت بِهِ انسا وتواضعا وسعة خلق وتفقهه بَاهل تعز
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن يُوسُف بن عَليّ ابْن مَحْمُود النزاري نسبا ثمَّ الصبري بَلَدا فَقِيه فَاضل حدث السن لَدَيْهِ فضل بالفقه والنحو والقراءات السَّبع والفرائض والحساب والجبر والمقابلة درس بالاشرفية اولا وناب على الْقَضَاء بتعز ايام ابْن الاديب وَكَانَ قَضَاؤُهُ فِي الْغَالِب مرضيا وتفقهه بِأَهْل تعز كَابْن العراف واسحاق(2/134)
وَهُوَ الان يقرئ الْقُرْآن بِالْمَدْرَسَةِ المويدية باسم مقرى الْقرَاءَات السَّبع وَفِيه انس وصحبة للاصحاب وَالسَّعْي فِي قَضَاء حوايجهم وَشرف نفس وَكَانَ لَهُ عَم اسْمه احْمَد بن مُحَمَّد بن عبد الله النزاري تفقه بِرَجُل وَصله الى صَبر ثمَّ كَانَ يتَرَدَّد الى شَيخنَا ابي الْحسن الاصبحي فيذاكره ويزيل عَنهُ مَا اشكل عَلَيْهِ وَولي الْقَضَاء فِي جبل صَبر بَلَده فَذكر لي عَنهُ الْخَبِير بِهِ ان قَضَائِهِ كَانَ مرضيا وَلما حصل الْخلاف من اهل صَبر وأخربوا وأحرقوا المغربة انْتقل هَذَا الى بَلَده وَرجع الْفَقِيه الى المغربة ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الغرابية ثمَّ انْتقل إِلَى الْمدرسَة المظفرية وَلم يزل عَلَيْهَا إِلَى أَن سافرمكة المشرفة وَإِلَيْهِ انْتَهَت رياسة التدريس والفتوة من يَوْمئِذٍ على أَن توفّي على الْحَال المرضي رَحْمَة الله عَلَيْهِ فَرجع الى بَلَده لأجل الضَّرُورَة إِذْ لم يسكن المغربة من أول سنة أَربع وَعشْرين على رَمَضَان من سنة سِتّ وَعشْرين وَهَان الْآن على مَا أثْبته فِي السِّيرَة
وَمِنْهُم ابو الْحسن عَليّ بن الْفَقِيه احْمَد بن الْفَقِيه عَليّ بن الْجُنَيْد الْمُقدم ذكرهم مولده يَوْم الثُّلَاثَاء خَامِس رَمَضَان سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة فَقِيه نحوي فَاضل تفقه بِجَمَاعَة من فُقَهَاء تعز وبابن الاديب وبابن الاحمر اُحْدُ مدرسي زبيد وَهُوَ الان مدرس الاسدية بتعز وَله مَكَارِم اخلاق وعلو همة قل ان يجد الْفُقَهَاء لَهُ نَظِير لَا سِيمَا فِي عصرنا اجْمَعْ الاصحاب بوقتنا على ذَلِك فِيهِ وَله شعر حسن مِنْهُ فِي مروره على ورد يضْرب ليحمل ... اصبر على ألم الخطوب فَرُبمَا ... وافي بِمَا يختاره الْمَكْرُوه
اَوْ مَا رَأَيْت الْورْد لما هزه ... شوق الى ازهاره ضربوه ... وَهُوَ الْآن معيد بمدرسة أم السُّلْطَان الَّتِي أحدثوها وَقد ذكرتها مَعَ ابْن جِبْرِيل وَقد انْقَضى ذكر اهلتعز من فقهائها واحببت ان الْحق بهم الَّذين وردوها ودرسوا فِيهَا وهم جمَاعَة من الطَّبَقَة الاولى مِنْهُم ابو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد ابْن أَحْمد بن حَدِيد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن حَدِيد بن عبد الله بن أَحْمد بن عِيسَى(2/135)
بن مُحَمَّد بن عَليّ ابْن جَعْفَر الصَّادِق بن مُحَمَّد الباقر بن عَليّ بن زين العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ ابْن ابي طَالب كرم الله وَجهه وَيعرف بالشريف ابي الْحَدِيد عِنْد أهل الْيمن اصله من حَضرمَوْت من اشراف هُنَالك يعْرفُونَ بَال ابي علوي بَيت صَلَاح وَعبادَة على طَرِيق التصوف وَفِيهِمْ فُقَهَاء يَأْتِي ذكر من اتحقق ان شَاءَ الله تَعَالَى مَعَ أهل بَلَده قدم الى عدن فادرك القَاضِي ابراهيم ابْن احْمَد القريظي فاخذ عَنهُ الْمُسْتَصْفى كَمَا اخذه عَن مُصَنفه وَقدم مَعَ اخ لَهُ اسْمه عبد الْملك ثمَّ خرج عَن عدن عازمين على زِيَارَة الشَّيْخ مدافع لما شهر بِهِ من الصّلاح واستفاض عَنهُ فَقدما عَلَيْهِ الى قَرْيَة الوحيز الَّاتِي ضَبطهَا ان شَاءَ الله تَعَالَى فَرَحَّبَ بهما واقاما عِنْده اياما وزوجهما بابنتين لَهُ فسكنا بِذِي هزيم قَرْيَة تقَابل الوحيز وَيُقَال كَانَ بَيت الشريف ابي الْحَدِيد الْحَائِط الَّذِي على بَاب الْمدرسَة النظامية فَأخذ النَّاس عَن أبي الْحَدِيد أخذا كثيرا فَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ مُحَمَّد بن مَسْعُود السفالي وَابْن نَاصِر الْحِمْيَرِي وَاحْمَدْ بن مُحَمَّد الْجُنَيْد وَحسن بن رَاشد وَمُحَمّد بن ابراهيم الفشلي وَكَانَ مَتى ذكر عِنْده قَالَ ابو حَدِيد رجل ثِقَة كَانَ من الْحفاظ وَمِمَّنْ اخذ عَنهُ الْفَقِيه عمر بن عَليّ صَاحب بَيت حُسَيْن الَّاتِي ذكره واقام فِي الْجَبَل مُدَّة طَوِيلَة وَصَارَ لَهُ بهَا ذكر شَائِع وقصده النَّاس من انحاء الْيمن للاخذ عَنهُ فَلَمَّا قبض المسعود بن الْكَامِل على الشَّيْخ مدافع قبض عَلَيْهِ مَعَه فَلبث بحصن تعز من مستهل رَمَضَان سنة سبع عشرَة وسِتمِائَة الى سلخ ربيع الاول من سنة ثَمَانِي عشرَة وستماية ثمَّ انزلا عدن وسفر بهما الْهِنْد فَذكرُوا ان الرّيح عصفت بمركبهم فَدخل ظفار فَلَمَّا علم اهلها بالشيخ واصلوه وزاروه وحبوه وَصَحبه جمَاعَة مِنْهُم وَقَالُوا ان اخْتَرْت أَن تقف فَقَالَ لَا أكون عبدا فِرَارًا سأكون عنْدكُمْ مرَارًا ثمَّ(2/136)
لما اسْتَوَى الرّيح سافرا فِي الْمركب حَتَّى دخلا بلد الدينول فلبثا بهَا شَهْرَيْن وَثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ خرجا عَنْهَا لثلاث خلون من رَمَضَان سنة ثَمَانِي عشرَة وستماية فدخلا ظفار ولبثا بهَا ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا فَتوفي الشَّيْخ وقبر بهَا على مَا سَيَأْتِي ثمَّ عَاد الشريف الى الْيمن فَلم يطب فِي الْجبَال بل نزل تهَامَة واقام بزبيد مُدَّة ثمَّ عزم الى المهجم فسكن من اعمالها بقرية تعرف بالمرجف فدرس مُدَّة فِي مَسْجِدهَا ثمَّ سَافر إِلَى مَكَّة ثمَّ عَاد وَيُقَال انه الْتَزمهُ الشَّيْخ عمرَان بن رفيع القرابلي فِي ذَلِك فَكَانَ لَا يبرح فِيهِ حَيْثُ كَانَ فاكثر قعوده بهَا بَين القريتين ثمَّ سَافر الى مَكَّة فَذكرُوا انه توفّي هُنَالك نَحْو سنة عشْرين وستماية وَكَانَ حَافظ عصره لم يكن لَهُ اذ ذَاك فِي الْيمن نَظِير فِي معرفَة الحَدِيث وَقد عرض مَعَ ذكره ذكر الشَّيْخ مدافع وَهُوَ مدافع بن احْمَد بن مُحَمَّد المعيني ثمَّ الخلاوني فالمعيني نِسْبَة الى جد قَبيلَة كَبِيرَة من خولان يعْرفُونَ ببني معِين بِضَم الْمِيم وخفض الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ نون أصل بَلَده شرعب وَكَانَ مِمَّن فتح عَلَيْهِ الله بِالدّينِ واخذ يَد التصوف عَن الشَّيْخ ابي الْحداد بِحَق اخذه عَن شيخ الْعَصْر عبد الْقَادِر الجيلاني وَكَانَ مدافع مِمَّن اجْمَعْ النَّاس على صَلَاحه وكماله وَلما فقد الشَّيْخ ابو الْغَيْث شَيْئا من احواله وَصله الى قَرْيَة الوحيز واقام بِمَسْجِد على قرب من بَيته اياما فاعاد الله عَلَيْهِ مَا فَقده وَقد دخلت الْمَسْجِد مرَارًا وتبركت بأثار الشَّيْخَيْنِ مِنْهُ وَضبط الوحيز بِفَتْح الْوَاو وخفض الْحَاء الْمُهْملَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت ثمَّ زَاي سكنها الشَّيْخ وَذريته بهَا الى الان وَصَحبه جمَاعَة من اعيان الصُّوفِيَّة وَالْفُقَهَاء كعثمان ابْن ساوح وعَلى الرميمة وَعمْرَان وعَلى الصُّوفِي وَمن جبلة وَغَيرهم وَكَانَت لَهُ ابنتان خطبتا مِنْهُ خطبهما اعيان اهل الدّين وَالدُّنْيَا فَلم يقبل من اُحْدُ وَلَا(2/137)
انْعمْ لَهُ فَسَأَلَهُ بعض خواصه عَن ذَلِك فَقَالَ ان ازواجهن من وَرَاء الْبَحْر سيصلون عَن قريب فَلَمَّا وصل الشريفان أَبُو الْحَدِيد وَأَخُوهُ أزواجهما علم صدق مَا كَانَ اخبر بِهِ وان الشَّيْخ قَالَ ذَلِك من طَرِيق الْكَشْف وَلما دخل المسعود الْيمن وَملكه وقدرفي أَيَّامه خُرُوج مرغم الصُّوفِي بجبل سحمر وَجرى لَهُ مَا هُوَ مَشْهُور من الْحَرْب بِحَيْثُ انزعج لَهُ المسعود وطلع من الْيمن مغيرا واقام فِي الحقل مُدَّة يحارب مرغما وَقد اطاعه اهل جبل سحمر بَنو مُسلم وغالب الْعَرَب الَّذين حَولهمْ كبني سيف وَغَيرهم فحارب الغز مرَارًا وَمَعَ المسعود جمع من الْعَرَب وكل مرّة يقتل مِنْهُم جمعا ويأسر كَذَلِك وَكَانَ يَأْخُذ من الْمُطِيع لَهُ غير الْعَاشِرَة بِخِلَاف الغز وَنشر الْعَدَالَة بِخِلَاف الاشراف وَلذَلِك مَال النَّاس اليه غير انه كيرا مَا يسفك الدِّمَاء فسلب النَّصْر وَكَانَ لَهُ كرامات استمال بهَا من اطاعه يطول شرحها مِنْهَا انه كَانَ مَتى اقتتل الْعَسْكَر ان رمى بِوَجْه من يقاتله شَيْئا من الْحَصَى فينكسر فَلم يكد يكسر لَهُ جَيش ثمَّ يطْبخ لَهُ اللَّحْم بقدور فيغترف مِنْهَا بِيَدِهِ ويستخرج اللَّحْم بكفه حَتَّى افْتتن بذلك جمع كثير وَلما سلب النَّصْر هرب لَيْلًا من جبل سحمر وَدخل بلد وصاب بعدان قتل فِي حربه جمَاعَة من الاعيان عربا وغزا فَمن الْعَرَب رَاشد بن مظفر السنحاني ممدوح بن هيتمل فِي الْغَالِب وَلما خفف عَن النَّاس اشياء يعْتَاد الغز التزامهم اياها مِنْهَا شَيْء يُقَال لَهُ الْخرص واللاحق والشباك فَلَمَّا هرب اعاد الغز ذَلِك عَلَيْهِم(2/138)
فَقَالَ شاهرهم ينْدب مرغما ... فديتك الْيَوْم يَا مرغم وَلم عَاد أَرَاك ... خلصتني الْخرص واللاحق وَحمل الشباك ... وَلما كَانَ الحَدِيث شجونا حَدِيث مرغم من حَدِيث الشَّيْخ مدافع فَذكرُوا أَن المسعود كَانَ بعد ذَلِك يُنكر ذكر الصُّوفِيَّة وَرُبمَا حرم لبس زيهم وعاقب عَلَيْهِ حَتَّى جرى لَهُ الامر مَعَ الشَّيْخ فرج النوبي بالجند وَهُوَ كَمَا اخبر القدماء الثِّقَات من اهل الْجند انه لما حرم لبس الدولوف والمرقعات والطواقي خرج فِي تِلْكَ الْمدَّة من مَدِينَة الْجند يُرِيد الصَّيْد وقدامه صَاحب الْفِيل اذ لقِيه الشَّيْخ فرج مُقبلا من طَرِيق غيل يُقَال لَهُ السودَان قد صلى عِنْده الصُّبْح فحين رأه المسعود شقّ عَلَيْهِ حَيْثُ لم يجْتَنب مَا حرمه فَأَشَارَ إِلَى صَاحب الْفِيل أَن يَأْمر الْفِيل بأذيته فَفعل الفيال ذَلِك وَالشَّيْخ على بعد يسير مطرقا فحين دنى مِنْهُ الْفِيل فَرفع رَأسه وَقَالَ الله اذ بالفيل وَقع مَيتا وَصَاحبه مغشيا عَلَيْهِ فَقيل للمسعود اِدَّرَكَ نَفسك فَنزل عَن(2/139)
مركوبه وَاقْبَلْ الى الشَّيْخ كاشفا رَأسه ومعتذرا فَقَالَ لَهُ تأدب يَا صبي مَعَ الْفُقَرَاء خير لَك فَقَالَ نعم وعاهده على التَّوْبَة فَمن ذَلِك تأدب مَعَ الْفُقَرَاء وَحسن ظَنّه بهم حَتَّى كَانَ مِنْهُ الى مدافع مَا يَأْتِي ذكره وَكَانَ من حَدِيثه انه كَانَ اذا نزل من حصن تعز ووقف بالميدان اَوْ بالمطعم يطعم الْجَوَارِح الصيدية فيجد جمعا من الْعَسْكَر وَغَيرهم يروحون طَرِيق الوحيز فيسال عَن ذَلِك فَيُقَال لزيارة رجل من الصُّوفِيَّة كَبِير الْحَال ثمَّ بحث عَنهُ فاخبر بَان لَهُ قبولا عَظِيما ومحلا بَين الْعَالم جسيما فَأحب ان يطلع على امْرَهْ واظهر ان غَرَضه زيارته وَوصل الى بَابه وَكَانَ من عَادَة الشَّيْخ مدافع لَا يجْتَمع باحد وَلَا يجْتَمع بِهِ اُحْدُ من اذان الصُّبْح الى قرب الظّهْر بل مَتى صلى الصُّبْح اقبل على الذّكر فِي مَوضِع من بَيته فَلَا يَسْتَطِيع أحد كَلَامه ثمَّ اذا ارْتَفَعت الشَّمْس اقبل على صَلَاة الضُّحَى فيطيلها فوصل المسعود وَهُوَ مبتدئ للصَّلَاة فبقى وَاقِفًا بِالْبَابِ وَالْخَادِم الَّذِي يخْدم الشَّيْخ يدْخل وَيخرج وَيَقُول الشَّيْخ مَشْغُول والان يخرج وَعند المسعود جمَاعَة من اشرار خدمه وجهالهم يوبخونه وَيَقُولُونَ ابْن الْملك الْكَامِل وَاقِف على بَاب فلاح من اهل الْيمن وَنَحْو هَذَا الْكَلَام بِحَيْثُ اغتاظ غيظا عَظِيما وَرَاح فِي الْغَالِب من غير اجْتِمَاع بالشيخ واتهم انه رُبمَا يحدث مِنْهُ كَمَا حدث من مرغم الْمُقدم ذكره وعزم على مسكه واخراجه من الْيمن فَلَزِمَهُ بالتاريخ الْمُقدم ذكره مَعَ ذكر ابي حَدِيد واقام فِي حصن تعز سَبْعَة اشهر كَمَا قدمت ذَلِك ثمَّ انْتَقَلت احواله كَمَا بيّنت ذَلِك فِي ذكر ابي حَدِيد وَكَانَت وَفَاته على الْحَال المرضي بِمَدِينَة ظفار فِي شهر شَوَّال غَالِبا سنة ثَمَانِي عشرَة وستماية وقبره من الْقُبُور الْمَشْهُورَة بِالْبركَةِ واستجابه الدُّعَاء وَكَانَ لَهُ ولد غَائِب مَعَ خَاله ابْن رضوَان فِي الْهِنْد فحين بلغته وَفَاة أَبِيه عَاد إِلَى الْيمن فوصل مقَام ابيه وجده اول الْمحرم سنة ثَمَانِي وَعشْرين وستماية وَخلف فِي الْيمن ثَلَاثَة أَوْلَاد مُحَمَّد لَا عقب لَهُ وَأَبُو بكر لَهُ عقب الى الان موجودون بالوحيز ثمَّ عمر كَانَ يخالط الامراء والكبراء وَكَانَ محبوبا عِنْد ابيه وَحصل لَهُ مِنْهُ نصيب وافر(2/140)
بِحَيْثُ انه مَا هم اُحْدُ بالاساءة اليه الا وبلى ببلاء ظَاهر وَكَانَ من المترفين يلبس الثِّيَاب الفاخرة وَيذكر عَنهُ امور غير لائقة بِالشَّرْعِ فَحملت ذَلِك على مَا جَاءَ فِي الاثار من سبقت لَهُ الْعِنَايَة لم تضره الْجِنَايَة ذكر لي بعض الثِّقَات ان المظفر لما كثر سَمَاعه مَا هُوَ عَلَيْهِ من الْخلطَة هم ان يُغير عَلَيْهِ شَيْئا من المسامحات فَرَأى الشَّيْخ فِي الْمَنَام قَائِلا يَقُول لَهُ يَا يُوسُف ان غيرت على عمر غَيرنَا عَلَيْك وَلم يزل مُحْتَرما لَهُ حَتَّى توفّي سنة ثَمَانِينَ وستماية وَله ولد اسْمه مدافع لزم الزاوية وَقَامَ بِوَاجِب الرِّبَاط حَتَّى توفّي سنة سِتّ وَتِسْعين وستماية بعد ان اسْتخْلف ولدا لَهُ اسْمه ابو بكر وَهُوَ الان قَائِم بِالْحَال بالرباط اجْتمع بِهِ مرَارًا فَوَجَدته من خيرة اولاد الْمَشَايِخ لَهُ اشْتِغَال بِالْعلمِ بِحَيْثُ رتبه بَنو مُحَمَّد بن عمر مدرسا فِي الْمدرسَة التاجية بقرية الوحيز وَفِيه مَكَارِم اخلاق وَأنس للاصحاب وذكرا ان الشَّيْخ تأهل بِالْهِنْدِ وَله بهَا ذُرِّيَّة يذكرُونَ بِهِ وَالْقلب غير موقن بذلك توفّي هَذَا ابو بكر بقرية الوحيز سلخ صفر سنة ثَمَان وَعشْرين وسبعماية وَنَرْجِع الى ذكر الْفُقَهَاء فَمن الطَّبَقَة الثَّانِيَة بعد ابي حَدِيد جمَاعَة مِنْهُم ابو الْخطاب عمر بن مَسْعُود بن مُحَمَّد بن سَالم الْحِمْيَرِي نسبا والابيني بَلَدا تفقه بِمُحَمد بن اسماعيل الْحَضْرَمِيّ الَّاتِي ذكره وبعلي بن قَاسم الْحكمِي الْمُقدم ذكره وببطال بن احْمَد وَعلي بن عمر الْحَضْرَمِيّ اخذا من شرح مقامات الحريري من اهل الْيمن وبعلي بن مَسْعُود الْكشِّي وابراهيم بن عجيل الْمُقدم ذكره ودرس بِذِي هزيم فِي الْمدرسَة النظامية الْمُقدم ذكرهَا مَعَ بانيها وَبِه تفقه جمع كثير يُقَال خرج من اصحابه اربعون مدرسا مِنْهُم مُحَمَّد بن سَالم البانة وابراهيم بن عِيسَى الجندي مقدمي الذّكر وَمُحَمّد بن مَسْعُود الصحاوي السفالي وَسَعِيد ابْن انْعمْ من مصنعة سير وَكَانَ فَقِيها متورعا متعففا لُزُوما للسّنة شهرت مِنْهُ صُحْبَة الْخضر وَكَانَت وَفَاته على الطَّرِيق المرضي لَيْلَة الْخَمِيس ثامن شَوَّال سنة ثَمَانِي وخسمين وستماية وقبر نَهَار الْخَمِيس(2/141)
بمقبرة صينة وَبهَا يقبر اهل الوحيز وَذي هزيم وصينة اذ هم ثَلَاث قرى مُتَقَارِبَة وَقد زرت قَبره مرَارًا لما ذكر لي من فَضله وَدينه ثمَّ لما توفّي خَلفه فِي مدرسته تِلْمِيذه سعيد بن مَنْصُور عرف بانعم اعنى اباه ابْن مُحَمَّد بن احْمَد الجيشي بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ شين مُعْجمَة ثمَّ يَاء نسب اصل بَلَده مصنعة سير ولقب وَالِده بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون النُّون وفتحالعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وَكَانَ هَذَا اللقب غَالِبا فَلَا يعرف الا بِهِ وَكَانَ ققيها محققا درس بِعْ شَيْخه فِي مدرسته الى ان توفّي سنة ارْبَعْ وَسبعين وستماية قبر الى جنب شَيْخه ثمَّ خَلفه ابْن شَيْخه عبد الله بن الْفَقِيه عمر بن مَسْعُود الْمُقدم ذكره فَلم تطل مدَّته بل توفّي على رَأس سنة من قعوده وَذَلِكَ سنة خمس وَقيل سنة سِتّ وَسبعين وستماية
وَمن الثَّالِثَة ابو بكر ابْن عَليّ بن اِسْعَدْ اصله من الصّفة وَهِي عزلة من جبل عَنهُ بخفض الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء ثمَّ هَاء سَاكِنة وجبل عَنهُ بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد النُّون مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء سَاكِنة وَهُوَ جبل من جبال الْيمن المتسعة خرج مِنْهُ جمَاعَة من الْفُقَهَاء والعباد مولد ابي بكر هَذَا لعشر مضين من شَوَّال سنة تسع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة تفقهه بَابي بكر بن العراف وَابْن البانة مقدم الذّكر واخذه للنحو عَن الْمَقْدِسِي الْمُقدم ذكره فِي الْقَضِيَّة الْحَادِثَة بَين الْفُقَهَاء درس هَذَا فِي النظامية ايضا وَتُوفِّي على ذَلِك لَيْلَة الْجُمُعَة لاربع خلون من الْحجَّة سنة تسع وَثَمَانِينَ وستماية
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن الْحَنَفِيّ تلقب بظهير الدّين البُخَارِيّ كَانَ كَبِير الْحَال حَنَفِيّ(2/142)
الْمَذْهَب دخل زبيد سنة ثَمَانِي وَثَمَانِينَ وستماية وَحَوله حشم ومماليك بزحمة جَيِّدَة فتناظر مَعَ اصحاب الشَّافِعِي ورأسهم اذ ذَلِك احْمَد بن سُلَيْمَان الْحكمِي وَهُوَ مناظرة فاظهره الله عَلَيْهِ واصفق مَعَه على ذَلِك اغلب الْحَاضِرين تعصبا للْمَذْهَب وتقويا فَحَمله الغيظ وسافر وَتُوفِّي بماردين لم تطل مدَّته
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عَليّ الكاشغري نِسْبَة الى بلد باقصى بلد التّرْك وشينها مُعْجمَة ساكنه هَكَذَا قَالَ ابْن خلكان فِي وفياته كَانَ فِي اول قدومه الْيمن حَنَفِيّ الْمَذْهَب فاقام بِمَكَّة ارْبَعْ عشرَة سنة صنف بهَا كتابا سَمَّاهُ مجمع الغرائب ومنبع الْعَجَائِب فِي أَرْبَعَة مجلدات وانتقل الى مَذْهَب الشَّافِعِي هُنَالك فَسَأَلَ عَن ذَلِك فَقَالَ رَأَيْت الْقِيَامَة قَامَت وَالنَّاس يدْخلُونَ زمرة بزمرة فصرت مَعَ زمرة مِنْهُم فجذبني شخص وَقَالَ تدخل الشَّافِعِيَّة قبل اصحاب ابي حنيفَة فعزمت ان اكون من الْمُتَقَدِّمين متظاهرا بِمذهب الصُّوفِيَّة ابتني رِبَاطًا فِي أَمَاكِن مُتَفَرِّقَة وَحكم جمَاعَة ايضا وَلما رأى ان الْغَالِب فِي الْيمن مَذْهَب الشَّافِعِي تظاهر بِهِ وَقَرَأَ كتبه فَقَرَأَ الْمَذْهَب فِي اب على الْفَقِيه يحي بن ابراهيم الَّاتِي واما النَّحْو اللُّغَة فوصل من بَلَده وَهُوَ عَارِف بهما ماهر فيهمَا وَفِي كتب التَّفْسِير والوعظ وغالب مصنفات ابْن الْجَوْزِيّ وَضبط عَنهُ كتبا مِنْهَا مُحَمَّد بن عَليّ ابْن عِيسَى وَلما اقام فِي قَرْيَة اليهاقر وابتنى بهَا رِبَاطًا وَكَانَ قد بنى بهَا رِبَاطًا لاصحاب الشَّيْخ ابي السرُور فَحصل بَينهم وَبَينه تحاسد ومقاولة وَصَارَ هُوَ وهم الى عِنْد الشَّيْخ فعاتبهم وَقَالَ لَهُ اذا مَا دَعَوْت شيخك واجابك والا دَعَوْت شَيْخي واجباني فاستعفى وَاسْتَغْفرُوا وَمن هُنَاكَ(2/143)
ترك التظاهر بالتصوف وَمَال الى طَرِيق الْفِقْه فرتبه القَاضِي الْبَهَاء بِالْمَدْرَسَةِ المظفرية وَكَانَ قد ابتنى رِبَاطًا فِي سَاحل موزع وغرس بِهِ نخلا كثيرا وَكَانَ يخْتَلف اليه فِي ايام ثماره وَيعود الى تعز عِنْد فَرَاغه وَفِي سنة خمس وسبعماية نزل الى موزع كجاري الْعَادة فادركته الْوَفَاة هُنَالك فَتوفي بهَا وقبر الى جنب قبر الْفَقِيه الصَّالح عبد الله بن الْخَطِيب الْآتِي ذكره وزرت قبرهما مرَارًا أَيَّام كنت بِقَضَاء موزع
وَمِنْهُم عَليّ بن عُثْمَان الاشهي بشين مُعْجمَة سَاكِنة بعد الف وَلَام دخل الْيمن من طَرِيق الْحجاز فَقدم تعز واقام بالسيفية اياما فاخذ عَنهُ جمَاعَة من الْفُقَهَاء وَبلغ فَضله الْقُضَاة يَوْمئِذٍ وهم بَنو مُحَمَّد بن عمر فرتبوه مدرسا بالمظفرية فوصلته اذ ذَاك وَهُوَ يدرس فِيهَا كتاب الْحَاوِي الصَّغِير والكتب الَّتِي اهل الْيمن عاكفون عَلَيْهَا لَا يكَاد يعرفهَا وَهِي كتب ابي إِسْحَاق وَالْغَزالِيّ انما كَانَ ياخذها من طَرِيق غَيرهَا فاخذ النَّاس عَنهُ الْحَاوِي وَغَيره وَذكروا انه كَانَ معيدا بِبَغْدَاد فِي الْمدرسَة النظامية وَقيل مدرسا وَلما وقف على كتاب الْمعِين مُصَنف شَيخنَا ابي الْحسن الْمُقدم ذكره اعجبه واستنسخة وَقَالَ مَا كنت اظن مثل هَذَا يُوجد فِي زَمَاننَا بِالْيمن فرحم الله مُصَنفه لقد كَانَ عَظِيم الْقدر ثمَّ لم تطب لَهُ الْيمن فَاسْتَأْذن فِي السّفر وسافر من طَرِيق عدن سنة سبع وَسَبْعمائة فَذكرُوا ان الْمركب الَّذِي سَافر فِيهِ غرق وَالله اعْلَم بِحَالهِ
وَمِنْهُم حسن بن احْمَد بن نصر بن عَليّ عرف بمختار الدولة وَكَانَ مُخْتَار الدولة وزيرا لحد العبيديين خلفاء مصر قدم تعز اخر ايام الْمُؤَيد فَلم يصف لَهُ مَعَه حَال وهومن اعيان الْفُضَلَاء الواصلين من مصر عَارِفًا بالنحو والفلك والاصول والحساب والفرائض والجبر والمقابلة وَعَلِيهِ حقق مُحَمَّد بن يُوسُف الصبري الْفَقِيه مقدم الذّكر شَيْئا من ذَلِك ولبث بتعز مُدَّة فَلم يصف لَهُ من(2/144)
الْمُجَاهِد ايضا وَقت وَطَالَ تَعبه فسافر عَن تعز فِي النّصْف الاخير من الْمحرم اول سنة ارْبَعْ وَعشْرين وسبعماية لم اكن اجد فِي الغرباء المصريين لَهُ نظيرا فِي معرفَة الْفُنُون الْمَذْكُورَة وعلو الهمة وَكَانَ سَفَره من تعز تَاسِع عشر الْمحرم على انه يعْمل على عود الْبِلَاد لبث فِي التهائم حَتَّى انْقَضتْ المحاط عَن تعز ثمَّ عَاد اليها فَلبث فِيهَا حَتَّى قدم المصريون بالتاريخ الَّاتِي وَصلح ولبث اياما مَعَ الامير مُحَمَّد بن حسن ثمَّ لما اسْتَقر الامر عَاد بَاب السُّلْطَان فَجعل كَاتبا للخزانة والانشاء وَله شعر مِنْهُ مَا كتبه الى بعض اصحابه جَوَابا لشكوى شكاها من زَمَانه وَهُوَ ... عَلَيْك سَلام الله ياخير فَاضل ... الى مشتك من دهره وعداته
بكيتك حَتَّى كَاد يمحو كتابكُمْ ... بغزر الَّذِي قد سَالَ من عبراته
لجور زمَان لم يزل أولو النَّهْي ... بشكوى إِلَى الرَّحْمَن من وتباته ... ولمانزل السُّلْطَان عدن وحاصرها الْمرة الثَّالِثَة وَذَلِكَ فِي رَمَضَان كَمَا سَيَأْتِي نزل هَذَا من عز فِي صحبته فَتَطلع عَلَيْهِ وَعرف فَضله فحين علم ذَلِك جعله من جملَة خواصه فَتَوَلّى أمورا بِاجْتِهَاد وَأَمَانَة وتوسط مَعَه لأهل الْفضل بِالْخَيرِ وَقبل مِنْهُ وَذَلِكَ حِين دخل عدن جعله صَاحب صناعَة الْبَاب إِلَيْهِ الصِّنَاعَة وَغَيرهَا ولبث على ذَلِك مُسْتَقِيم الْحَال فِي صُحْبَة الركاب حَتَّى توفّي لَيْلَة الاربعاء حادي عشر رَمَضَان من سنة تسع وَعشْرين وَسَبْعمائة وقبر بمقبرة المعاتبة بمغربة تعز
وَمِنْهُم ابو الْعَبَّاس احْمَد بن عَليّ الظفاري قدم من ظفار قَاصِدا الْحَج فَحصل بَينه وَبَين الْفَقِيه أبي بكر بن مُحَمَّد بن عمر أَلفه ومحبة واتحاد وَعلم لَهُ وَلَده الَّذِي صَار إِلَيْهِ قَضَاء الْقُضَاة ببركته وَقد مضى ذكره وَلما دنت وَفَاة الْفَقِيه أبي بكر جعله خَلِيفَته على أَهله وناظرا فِي أُمُور أَوْلَاده الَّذِي صَار إِلَيْهِ بِالْوَصِيَّةِ الصَّحِيحَة كَمَا قدمنَا ذَلِك وَكره ذَلِك جمَاعَة اخوته واظهروا ذَلِك لَا سِيمَا بعد موت مُحَمَّد بن احْمَد وَعَمه الْوَزير لَوْلَا ان الْملك الْمُؤَيد كَانَ يسمع من الْفَقِيه ذكره كثيرا بِالدّينِ وَالصَّلَاح فَلم يزل ينظره بِتِلْكَ الْعين وَلَقَد كاده جمَاعَة وَسعوا فِي قَتله أَو مَوته أَو حرقه(2/145)
أَو اهانته بِالضَّرْبِ فَلم يساعدهم الى ذَلِك بل وَقَاه الله وحماه وَلما امتحن القَاضِي جمال الدّين ابْن الْفَقِيه بالمحنة الْمَشْهُورَة فِي أول امْرَهْ وَحبس نَحْو سنة وَهَذَا الْفَقِيه قَائِم بِبَيْت الْفَقِيه اتم قيام كَمَا كَانُوا يعرفونه قبل مصير الوزارة وَالْقَضَاء اليهم فلمي تمّ لَهُ سنة بالسجن حَتَّى لاطف لَهُ الْمُؤَيد واستعفاه فعفى عَنهُ واطلقه وَلما امتحن المحنة الثَّانِيَة فِي سنة ثَمَانِي عشرَة لزم هَذَا الْفَقِيه مَعَه وسجنا مَعًا وَبَالغ الْأَعْدَاء فِي طلب حرقه اَوْ قَتله مَعَه وَالْقَاضِي جمال الدّين فَجرى للْقَاضِي جمال الدّين مَا هُوَ مَشْهُور وَحمى الله هَذَا الْفَقِيه بعد ان كتب اعداؤهم الفتاوي بِحل دِمَائِهِمْ واجابهم بذلك جمَاعَة من الْفُقَهَاء باشارة من ابْن الاديب قَاضِي الْقُضَاة يَوْمئِذٍ فَلم يقبل الْمُؤَيد ذَلِك واطلق هَذَا الْفَقِيه على كره من المفتيين والمستفتين وَغَيرهم فَعَاد الى بَيت الْفَقِيه وصبر فِيهِ على الْحَال المرضي من الْقيام بِبَيْت الْفَقِيه وتهذيب اخي القَاضِي جمال الدّين الْمُسَمّى عبد الرَّحْمَن وتعليمه ثمَّ جعل يلاطف الْمُؤَيد ويستعطفه حَتَّى اطلقه ثَانِيًا وَعَاد بَيته وَلَقَد كرهه اعداء بَين الْفَقِيه وَقَالُوا لَو سلمناه لم يبْق للفقيه وَلَا لأَهله ذكر وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَسَبْعمائة حج هُوَ وَالْقَاضِي ولد الْفَقِيه ثمَّ زارا قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد الْحَج ثمَّ عَاد الى تهَامَة فَمر فِي بَيت الْفَقِيه بن عجيل كَمَا قدمنَا فَوقف فِيهِ الى الان سنة ارْبَعْ وَعشْرين وَسَبْعمائة وَفِي سنة خمس وَعشْرين قدم من بَيت الْفَقِيه بن عجيل الى تعز فَلَزِمَ بَيت الْفَقِيه على جاري عَادَته فَهُوَ بهَا الى الان سنة 726 وَلم يزل بِهِ حَتَّى كَانَ فِي سنة 27 خرج القَاضِي جمال الدّين عَن تعز لوحشة حصلت بَينه وَبَين السُّلْطَان فلحق بِبَلَد صهْبَان ولبث هَذَا بعده فِي تعر الى منتصف ربيع الاول ثمَّ لحق بِهِ وَهُوَ مَعَه بِموضع يُقَال لَهُ العشة بِعَين مُهْملَة بعد ألف وَلَام ثمَّ ألف ثمَّ شين مُعْجمَة ثمَّ هَاء
وَمِنْهُم عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن ابْن عبد الحميد ابْن عبد الله الجيلوني نِسْبَة الى كورة جيلون وَهُوَ جبل بِبِلَاد فَارس كوره اسْم للجبل وجيلون بِلَاد(2/146)
نسب اليها الْجَبَل مولده سنة ثَمَانِي واربعين وستماية فِي بِلَاد فَارس كَانَ فَقِيها عَارِفًا لكتاب الْحَاوِي لم يقدم الْيمن من هُوَ اعرف بِهِ مِنْهُ وصنف على منواله كتابا اكبر مِنْهُ سَمَّاهُ بَحر الفتاوي يزِيد على الْحَاوِي بِقدر نصفه وَقدم الى تعز من طَرِيق الْحجاز فِي سنة 717 وحاكمها يَوْمئِذٍ عمر بن العراف الْمُقدم ذكره وَلم يكن غَرَضه الْوُقُوف بِالْيمن فَاجْتمع بِهِ بِذِي عدينة ولازمه على الْوُقُوف بتعز واكرمه وَبسط لَهُ جنَاح الْأنس والتواضع ورغبة فِي الاقامة فَوقف فرتبه بِالْمَدْرَسَةِ المؤيدية مدرسا وَفِي دَار المضيف وَصَارَ يتَرَدَّد للتدريس الَّتِي المؤيدية ثمَّ ضعف فاستناب ابا بكر بن جِبْرِيل الْمُقدم ذكره وَاجْتمعت بِهِ يَوْمًا بِحَضْرَة شَيخنَا اسماعيل بن احْمَد فاخبرني بمولده فَسَأَلته عَمَّن تفقه فَقَالَ على رجل من اهل الْيمن كَانَ يسكن الْبَصْرَة اسْمه مَنْصُور بن فلاح وَلم ادخل الْيمن الا لمحبته لعَلي أجد مثله مِنْهُم فسالته عَن بَلَده فَقَالَ لم اعرفها وَلَا كنت ظَنَنْت اني ادخل الْيمن فأساله عَن ذَلِك وَقَالَ لما توفّي خرجت من الْبَصْرَة الى قَرْيَة فاروث على قرب من الْبَصْرَة وَهُوَ بِفَتْح الْفَاء ثمَّ الف ثمَّ رَاء مَضْمُومَة وواو سَاكِنة ثمَّ ثاء مُثَلّثَة فاردكت الْفَقِيه عز الدّين الفاروثي اذ سَمِعت بفضله وسعة علمه فَقَرَأت عَلَيْهِ مُدَّة ثمَّ خرجت الى ولد مُصَنف الْحَاوِي فاخذته عَنهُ والنحو والبيضاوي فقراته عَلَيْهِ أَيْضا وَسمعت شَيخنَا اسماعيل القلهاني يَقُول هَذَا الْفَقِيه فِي بَلَده مُعظم عِنْد الاصاغر والاكابر وَله تلاميذ كَثِيرَة تفقهوا بِهِ ثمَّ حصل بَينه وَبَين ابْن الاديب وَحْشَة عَزله من اسبابه كلهَا وَنسبه الى صُحْبَة اعدائه وَكلما استخرج خطا من السُّلْطَان تَأَول عَلَيْهِ بِهِ ودافعه بالْكلَام وَسَأَلته عَن الفاروثي فَقَالَ كَانَ صَدرا حَافِظًا سمعته يَقُول يقدم الصَّغِير على الْكَبِير فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع إِذا سَارُوا لَيْلًا اَوْ خَاضُوا سيلا أَو ركبُوا خيلا قَالَ كَانَت وَفَاته تَقْرِيبًا على رَأس تسعين وسِتمِائَة وَلما طَال انْقِطَاعه واستخرج من السُّلْطَان الْمُجَاهِد خُطُوطًا بالعودة إِلَى أَسبَابه وَكم يساعده ابْن(2/147)
الاديب سَافر الى عدن بربيع الاخر من سنة 723 فَتوفي بِالطَّرِيقِ بالشهر الْمَذْكُور
وَمِنْهُم عَليّ بن الشقرا قدم على انه طَبِيب فَلم اعْلَم طَبِيبا نطاسيا ورد مثله مَعَ فضل كَامِل بالفقه والنحو وَغَيرهمَا وَذكر لنا انه كَبِير الْقدر عِنْد اهل مصر بالطب وَغَيره سَالَ بعض شعراء الْيمن صَاحب مصر عَن طَبِيب فَقَالَ مَا تريدوه وَمَعَكُمْ ابْن أبي الحوافر وَهُوَ إِذْ ذَاك بِالْيمن وَهُوَ صَاحب محفوظات مِنْهَا مَا أنشدته بعض الْأَصْحَاب عَنهُ ... مَا غير السرج اخلاق الْحمير وَلَا ... نقش البراذم اخلاق البراذين
كم بغلة تَحت والدها وَكم ... عمائم خرجت فَوق يَقْطِين ... وَلم يكد يطب فِي الْيمن فانفسح من الْمُؤَيد وَعَاد مصر بعد ان بَاعَ كتبه وَذَلِكَ انه لم يقم فِي الْيمن غير سِنِين هِيَ على جِهَة التَّقْرِيب ارْبَعْ وقدومه سنة خمس عشرَة وسبعماية
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عَليّ عرف بالمقري الْمصْرِيّ فَاضل بالفقه والقراءات وَلما قدم الْيمن سكن جبلة فاخذ عَنهُ جمَاعَة من اهلها الْقُرْآن وترتب اماما بِمَسْجِد السّنة ثمَّ تأهل ولبث سِنِين ثمَّ انْتقل الى تعز فَجعله القَاضِي جمال الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر معيدا فِي المؤيدية ثمَّ نقل عَنْهَا الى قِرَاءَة الحَدِيث بدار المضيف المؤيدي(2/148)
وَهُوَ عَلَيْهِ الى الْآن
وَمِنْهُم شَيخنَا ابو الفدا اسماعيل بن احْمَد بن دانيال عرف بالقلهاني اصل بَلَده هرموز مولده فِيهَا سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وستماية تفقه بهَا على رجل قدمهَا من اصحاب الْبَيْضَاوِيّ وَبِغَيْرِهِ من الورادين الى هرموز جمع فِي هرموز وقلهات بَين رياستي الدّين وَالدُّنْيَا ثمَّ ان بعض امراء هرموز خرج على سلطانها فَقتله وهم بقتل هَذَا الْفَقِيه لصحبة لَهُ كَانَت من السُّلْطَان فشفع لَهُ جمَاعَة بالاخراج عَن هرموز الى مقديشو فسفره فِي مركب فعصفت بِهِ الرّيح والقتة فِي عدن سنة ثَمَانِي عشرَة وانا يَوْمئِذٍ قد محنت بحسبتها فحين بَلغنِي فَضله اجْتمعت بِهِ فَوَجَدته رجلا كَامِلا ذَا فضل بالفقه والنحو واللغة والْحَدِيث يقرى المذهبين الشَّافِعِي وَهُوَ مذْهبه والحنفي اقتدارا واستلحاقا فقرات عَلَيْهِ بعض الْمفصل وَكَانَ يبين لي فِيهِ مَا لم اكن اسْمَعْهُ من غَيره وقرات عَلَيْهِ مُعظم المقامات للحريري وَكَانَ اماما فِي الادبيات وَدخل الى زبيد بعد طلب لَهُ من السُّلْطَان الْمُؤَيد عَن عدن ولبث بِالْبَابِ مُدَّة سِنِين عى احسان مِنْهُ وافتقاد ورزق فِي كل شهر وَقَرَأَ عَلَيْهِ جمَاعَة من اهل زبيد بالمذهبين وقرؤا عَلَيْهِ ايضا بالْمَنْطق والاصول واخذ عَنهُ جمَاعَة من اهل تعز واعترفوا بفضله وجودة فقهه وَلم يزل على ذَلِك حَتَّى توفّي الْمُؤَيد بالتاريخ الَّاتِي ذكره فَبَقيَ مَعَ وَلَده الْمُجَاهِد حَتَّى وصل الْجند فِي ربيع الاول سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسبعماية فلازمه بالفسح على ان يتَوَجَّه بَلَده فاذن لَهُ فَنزل عدن وَركب مِنْهَا الى هرموز فَهُوَ هُنَالك لم اكد اتحقق لَهُ خَبرا لإنقطاع الاخبار بَين الْجند وعدن لوم اكد اجد لَهُ فِي فُقَهَاء الْعَجم شَبِيها بتقربه وتواضعه وَشرف نَفسه وعلو همته وهم الْمُؤَيد قبلموته بَان يَجعله قَاضِي قُضَاة الْيمن فَتوفي(2/149)
وَقد ظهر للنَّاس دَلَائِل ذَلِك
وَمِنْهُم عَليّ بن مُحَمَّد الجندي اصله من بلدي الْجند ثمَّ صَار الى تعز فتفقه بهَا ثمَّ ترَتّب معيدا بالشمسية ثمَّ نَقله ابْن الاديب الى تدريس الغرابية وَهُوَ عَلَيْهِ الى الْآن فِيهِ دين وَفقه لَائِق وبشاشة للأصحاب وَأنس وَمِنْهُم أَبُو يَعْقُوب يُوسُف بن مُحَمَّد بن عَليّ الْمقري ابْن مُحَمَّد بن مَسْعُود الْجَعْفَرِي نسبا الاصابي بَلَدا كَانَ جده على الْمقري من كبار أَصْحَاب أبي بكر الجناحي وَأما هَذَا يُوسُف فَأخذ بالقراءات السَّبع بزبيد عَن الْمقري يُوسُف بن المهلهل وَعَن احْمَد بن يُوسُف الريمي واخذ النَّحْو عَن ابناء افلح ثمَّ طلع الْجَبَل فتفقه بِجَمَاعَة من اهل تعز فاخذ عَن ابْن جِبْرِيل وَابْن الْمقري مقدمي الذّكر وَعَن غَيرهمَا من فُقَهَاء تعز وصحبته فارتضيت صحبته وَدينه ونزاهة فَضله وفقهه ورتبه النَّاصِر فِي الاشرفية مدرسة ابيه مدرسا بتعز ثمَّ نَقله الى مدرسة عمته الْمُقدم ذكرهَا ثمَّ نَقله عَنْهَا الى مدرسة زبيد المنسوبة الى دَار الدملوة فَهُوَ عَلَيْهَا الى الْآن وَلم يزل مُجْتَهدا فِي الْعلم الى عصرنا سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة
وَمِنْهُم أَبُو بكر بن مُوسَى الزَّيْلَعِيّ فَقِيه فَاضل درس بالنجاحية ثمَّ خودع وَنقل إِلَى مدرسة المظفرية بقرية المحاريب وَله يَد جَيِّدَة بالفقه وَعَلِيهِ سيماء الصّلاح وَيذكر ببركة التدريس وَهُوَ نَائِب الْحَاكِم بِذِي عدينة وَله مروة وَشرف نفس وَصَلَاح قَرَأَ عَليّ المقامات والدريدية وتذاكرنا تَارِيخ المولد وَإِذا تَقْرِيبًا من سبعين وسِتمِائَة وَلَقَد أَخْبرنِي مرّة وَقد ورد علينا الْجند لبَعض حَوَائِجه أَنه سمع الْفَقِيه الصَّالح عَليّ بن أَحْمد أحد فُقَهَاء الْحَبَشَة وصلحائها وزهادها وَقد تَذَاكر هُوَ وخاله اسْمه عمر بن دَاوُد وَقد سَأَلَهُ عَمَّا رَآهُ فِي عمره من الْعَجَائِب فَقَالَ دخلت يَوْمًا على مَرِيض فَوجدت عِنْد راسه شَيْئا يشبه جرذ وَهُوَ ينظر إِلَى وَجه الْمَرِيض(2/150)
فَقضيت حق الزِّيَارَة وَخرجت فَلَبثت أَيَّامًا وعدت لَهُ فَوجدت ذَلِك الجرذ قد كبر وَصَارَ شبه السنور وَهُوَ ينظر إِلَى وَجه الْمَرِيض كنظرته الاولى فَقضيت حق الزِّيَارَة وعدت منزلي أَقمت أَيَّامًا ثمَّ عدت زَائِرًا وَإِذا بِهِ قد صَار شبه الْكَلْب وَالْمَرِيض قد صَار منزولا بِهِ وَالْحَيَوَان ينظر إِلَيْهِ وَلَا ينظره من النَّاس غَيْرِي ثمَّ توفّي فَلَمَّا حمل إِلَى المغتسل خرج مَعَه فَجعل الغاسلون يغسلونه وَالْكَلب ينظرهم ثمَّ حمل إِلَى الْمقْبرَة فَسَار تَحت سَرِيره فَوضع بالمصلى وَهُوَ عِنْده وَحمل إِلَى الْقَبْر وَسَار مَعَهم فَلَمَّا وصل بِهِ دخل الْقَبْر قبل إِدْخَاله فَأدْخل وَسوى عَلَيْهِ التُّرَاب وَانْصَرف النَّاس فوقفت عِنْده إِذْ بِي أسمع أنينا وبكاء فَجعلت أقرا يس وأكررها إِذْ بِهِ بذلك الشَّخْص قد خرج متمعر الْوَجْه مخضب بالدماء فَقَالَ لي يَا فَقِيه مَا جلوسك هَا هُنَا إنصرف فقد سَلطنِي الله عَلَيْهِ فَلم ألتفت على كَلَامه ثمَّ استمريت على الْقِرَاءَة وَعَاد الشَّخْص الْقَبْر وَعَاد ذَلِك الْبكاء والعياط وَخرج كخروجه الأول وكلمني نَحْو كَلَامه الأول فَلم الْتفت وَعَاد الْقَبْر وَعَاد الأنين والبكاء وَأَنا أقرا إِذْ بِهِ قد خرج ثَالِثا فكلمني نَحْو كَلَامه الأول وَصَارَ فِي جِسْمه شبه إراق النَّار فَقَالَ وَالله لقد آذيتني مَا لَك معي فَقلت مَا أَنْت قَالَ أَنا عمله ثمَّ توجه نَحْو الْبَريَّة وَقَالَ حلت بيني وَبَينه بِالْقُرْآنِ
وَمن ذِي عدينة مُحَمَّد بن عَليّ بن سُلَيْمَان عرف بِابْن الاقيرد فَقِيه خير تفقه بِأَهْل تعز وَغَيرهم وَأما القادمون الى تعز فخلق كثير لَا يُحصونَ بل اذكر مَا ثَبت من ذكرهم وَمِنْهُم رجل من دلى اسْمه جمال الدّين حَنَفِيّ الْمَذْهَب قَرَأَ عَلَيْهِ بتعز النَّحْو وانتفع بِهِ فِيهِ
وَمِنْه نظام الدّين كَانَ شافعيا فَاضلا بِعلم الجدل
وَمِنْهُم عبد الْعَزِيز القلعي المغربي مالكي الْمَذْهَب تفقه بالشريف المراكشي قدم فِي الدولة المظفرية وقابله قَاضِي الْقُضَاة بِمُقَابلَة مرضية حَتَّى بلغه انه يحتقر(2/151)
الْعلمَاء ويزلقهم متظاهرا بذلك اذ كَانَ كلما احْتج عَلَيْهِ اُحْدُ اَوْ ذكر لَهُ عَالم قَالَ مَا يُسَوِّي بَيْضَة فجفاه قَاضِي الْقُضَاة وَغَيره فَهَلَك جوعا وَنسب الى الْبِدْعَة فَخرج من تعز وطلع الْبَلَد الْعليا وخالط الاشراف وَرُبمَا قيل انه دخل بمذهبهم وَصَارَ ينصره فافادواه مَالا جزيلا وَدخل مَكَّة فارادوا المغاربة قَتله فَخرج هَارِبا فَلم يعلم إِلَى مَا آل أمره
وَقد عرض مَعَ ذكره ذكر شَيْخه الشريف المراكشي فَكَانَ من أعظم عُلَمَاء الاسلام الْمَشْهُورين بَين الْأَنَام وَمن قَرْيَة عسق على وزن فعل بِالْفَتْح عَليّ بن أسعد بن سليم كَانَ فَقِيها صَالحا ذَا مروة وَكَانَ غَالب من ورد الى تعز من الْفُقَهَاء إِنَّمَا يأنس بِهَذَا الْفَقِيه وَعَلِيهِ ورد عَليّ السرددي فاهله وعرفه بِالْبَلَدِ وَكَانَت اذ ذَاك اقل الْبِلَاد فُقَهَاء بِحَيْثُ كَانَ لَا يكَاد يُوجد فِي الْبَلَد فَقِيه من اهلها وَكَانَ هَذَا الْفَقِيه يحكم بانكاح من لَا ولي لَهَا بقرية عسق وَهِي قَرْيَة شَرْقي تعز وَكَانَ وَالِده على هَذَا الْمِثَال متسم بالفقه متصف بِالدّينِ من ذَلِك مَا حكى أَن قوما من الشعبانية بَدو من الرعاع وصلوه الى عسق فوجدوه غَائِبا فوجدوا والدته فاخبروها بقصتهم وَأَن مُرَادهم أَن يعْقد لَهُم نِكَاحا فَقَالَت أَنا أعقد لكم وَكلهمْ جهلة فظنوا صِحَة مَا قَالَت وعقدت بَين الزَّوْج وَالزَّوْجَة وتقدموا بلدهم فَلَمَّا وصل الْفَقِيه اخبرته بِحَدِيثِهِمْ فشق عَلَيْهِ وسألها ايْنَ بلدهم فاخبرته بِمَا فعلت فَلم يقف بل خرج من فوره وَسَار حَتَّى وصلهم فَقَالَ لَهُم ايتوني بِالرجلِ وَامْرَأَته فاتوه بهما فجدد العقد وَقَالَ انما جيئت مبادرا خشيَة ان يدْخل الرجل بِالْمَرْأَةِ بِغَيْر وَجه شَرْعِي فعأعون آثِما فَقَالُوا يَا فَقِيه كَانَت اللَّيْلَة الدخلة فَلَو لم تصل مَا كُنَّا ظننا الا صِحَة النِّكَاح ثمَّ عَاد بَيته من فوره وَجعل يلاطف والدته يخبرها انها مَتى عَادَتْ(2/152)
الى ذَلِك اثمت وَكَانَت سَببا لزناء الرجل وَالْمَرْأَة وَكَانَ وَالِي الْحصن رجلا يُقَال لَهُ ياقوت الجمالي بنى الْقبَّة الْمُسَمَّاة بِهِ فَلَمَّا كمل بناؤها قَالَ اطْلُبُوا لَهَا إِمَامًا يحفظ الْقُرْآن فَقيل لَهُ لَا نجد ذَلِك إِلَّا اُحْدُ رجلَيْنِ اما الْفَقِيه الشَّعْبَانِي اَوْ الْفَقِيه عَليّ العسقي يَعْنِي هَذَا فَقَالَ اطْلُبُوا لي اقربهما الى تعز فَكَانَ هَذَا الْأَقْرَب فوصله وَتحقّق حَاله فرتبه اماما وَكَانَ ذَلِك فِي اقبال رَمَضَان وَسَأَلَهُ ان يشفع بِهِ فِي الْحصن ويستنيب على إِمَامَة الْقبَّة فَفعل فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة الختمة فِي الْحصن قَالَ الامير لجَمِيع حَاشِيَته ومرتبي الْحصن من كَانَ لي محبا ابر هَذَا الْفَقِيه بِنَصِيب فَجمعُوا لَهُ نَحْو اربعمائة دِينَار وزاده الامير مائَة دِينَار اخرى وكساه كسْوَة حَسَنَة ثمَّ ان الْفَقِيه اشْترى بِبَعْضِه ارضا بميهال الْحسن وابتنى عِنْدهَا بَيْتا واقتنع بحاصلها ثمَّ زهد بالقبة وَغَيرهَا وَأما الْفَقِيه عَليّ الثعباتي فَكَانَ فَقِيها صَالحا متعبدا إِمَامًا لجامع ثعبات مَشْهُور بِالْبركَةِ ذَا دَعْوَة مستجابة عمر طَويلا
وَمن العدنة فَقِيه اسْمه عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عَليّ الأثوري نِسْبَة الى عرب يُقَال لَهُم الاثاور بثاء مُثَلّثَة مَفْتُوحَة بعد الف وَلَام ثمَّ الف ثمَّ وَاو ثمَّ رَاء ويرجعون خداشة من عرب يسكنون الهشمة كَانَ فَقِيها صَالحا ذَاكِرًا للفقه عَارِفًا بالفرائض والحساب اخذ عَن عمر بن مَسْعُود الابيني وَعَن فَقِيه باللجم على قرب من قريته ضَبطهَا بلامين مُشَدّدَة احدهما للادغام كَلَامي اللَّيْل غير انها مخفوضة وَذَلِكَ قبل الف قبلهَا ثمَّ جِيم سَاكِنة ثمَّ مِيم وَضبط قَرْيَة العدنة بِعَين(2/153)
مُهْملَة مَفْتُوحَة بعد ألف وَلَام ودال مُهْملَة محفوضة ثمَّ نون مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء وَكَانَ مِمَّن يشْهد لَهُ بِالْعلمِ وَالصَّلَاح يُقَال سَأَلَ المظفر فُقَهَاء تعز عَن مسأله هِيَ كَيفَ جَوَاب الْعلمَاء فِي مَال لنا من المَاء اصله المَاء لَا يَنَالهُ المَاء فَلم يجب عَلَيْهَا غير هَذَا الْفَقِيه وَقَالَ هُوَ اللُّؤْلُؤ فاعجب المظفر ذَلِك وَصدقه وَتُوفِّي اخر الْمِائَة السَّابِعَة تَقْرِيبًا وانقضى ذكر الْفُقَهَاء الَّذين تحققتهم تديروا تعز ونواحيها
وَمن الْبِلَاد الْمَشْهُورَة مخلاف جَعْفَر وَحده من جبل مصابيح إِلَى نقِيل صيد فابدأ بمدينتيه ثمَّ نَوَاحِيهَا وأبدأ بِمَدِينَة اب لانها اقدم من جبلة ولانه يتديرها غير اهل السّنة من الْعَوام وَالْفُقَهَاء وَقد اشرت الى ذَلِك مَعَ ذكر القَاضِي ابي بكر اليافعي فِيمَا مضى واخر من ذكره ابْن سَمُرَة من اهل اب
اسماعيل بن الامام سيف السّنة وَأَخْبرنِي الْخَبِير انه لما صَار القضا الى الامام مَسْعُود بن عَليّ جعل هَذَا اسماعيل قَاضِيا بَاب وجبلة فاستمر على قَضَاء مرضى واخذ عَن هَذَا اسماعيل جمَاعَة من الْفُقَهَاء
وَمِنْهُم عَليّ بن حسن الوصابي وَمُحَمّد بن مِصْبَاح وَمُحَمّد بن عمر الزَّيْلَعِيّ وَغَيرهم وَكَانَت وَفَاته بَاب وقبر الى جنب ابيه وَلم اتحقق تَارِيخه(2/154)
وَمِنْهُم ابو عبد الله مُحَمَّد بن مُوسَى بن عبد الله بن مَسْعُود يجْتَمع مَعَ سيف السّنة فِي عبد الله وتفقه بِهِ وَيُقَال ان سيف السّنة لما اعيته الْحِيلَة فِيهِ اذ لم يرد يشْتَغل بِالْعلمِ كتب لَهُ الى صَاحب حصن الشواحط الْحصن الْمَذْكُور كتابا وختمه وامره بايصاله اليه فَتقدم بِهِ فحين وَصله وقرأه قَالَ لَهُ ان عمك امرني بتحيرك فِي الْحصن حَتَّى تقْرَأ الْقُرْآن فَعلم صدق ذَلِك فاقبل على قِرَاءَة القرأن حَتَّى اكمله ثمَّ اشْتغل بِقِرَاءَة الْعلم فاتاه الْفَقِيه سيف السّنة فَوَجَدَهُ على طَرِيق مرضِي فوصل بِهِ الى اب فَلم يزل مشتغلا حَتَّى كمل تفقهه بِهِ ورايت اجازاته لَهُ تَارَة يَقُول الْوَلَد وَتارَة يَقُول ابْن الْعم وَالشَّيْخ الَّذِي كَانَ يملك الْحصن هُوَ سعيد بن احْمَد المسكيني وَقد ذكرته مَعَ ذكر الْفَقِيه على الهرمي وَقَرَأَ كتاب النَّجْم هَذَا الشَّيْخ بِمَكَّة على المُصَنّف اَوْ على رجل عَنهُ وَعَن هَذَا سعيد أَخذ جمَاعَة من اكابر الْفُقَهَاء وَبلغ عمر مُحَمَّد بن مُوسَى نيفا وَثَمَانِينَ سنة وَكَانَ لَهُ ولد اسْمه يحي تفقه بجده فِي بدايته وارتحل الى الامام بطال فاخذ عَنهُ وَهُوَ طَرِيق اهل المخلاف مصنفات الامام بطال وَعنهُ اخذ الكاشغري الْمُهَذّب وَقد ذكرت ذَلِك وَغَيره وَلم اتحقق تَارِيخ أحد مِنْهُم وَخلف وَلدين ومحن احدهما بِقَضَاء اب من قبل بني مُحَمَّد بن عمر فَلبث قَاضِيا مُدَّة سِنِين وَكَانَ قَضَاءَهُ فِي الْغَالِب مرضيا قدمت مَدِينَة اب سنة ثَلَاث عشرَة وَاجْتمعت بِهِ فَوَجَدته متوسط الْحَال باحكامه وَلم اسْمَع احدا من الثِّقَات يذكر عَنهُ ميلًا فِي الحكم واستدليت على ذَلِك وَصِحَّته بِزِيَادَة دينه ايام الحكم وَلم يكد يخف اذا سَأَلته عَن تَارِيخ جده وابيه فَقَالَ كَانَ فِي كتب سرقت علينا وَكَانَ وَفَاته على الْقَضَاء سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة وَعَلِيهِ الدّين كثيرا وَلم يكد يُوجد لَهُ مَا يَقْضِيه فسئلته ان يَأْمر معي من يدلني على الْقُبُور الَّتِي لَهُم إِذْ لَيست عِنْد قبر الإِمَام سيف السّنة فَأمر معي من يدلني عَلَيْهَا(2/155)
فَوَجَدتهَا بالمقبرة الَّتِي تعرف بالشرشيرة فزرت الْجَمِيع بِحَمْد الله تَعَالَى وَكَانَت وفاتهم بَاب وَلَهُم بهَا ذُرِّيَّة الى الْآن فيهم من يشْتَغل بِالْعلمِ وَمن الْمَدِينَة ابو الْحسن عَليّ بن عمر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن ابي الْقَاسِم الْحِمْيَرِي مولده سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخَمْسمِائة محن بِقَضَاء اب فَكَانَ فِيهِ كَمَا كَانَ ابوه فِي مَدِينَة تعز وَقد بيّنت ذَلِك وَلَو لم يكن من ورعه الا انه امْتنع من قبض الجامكية الَّتِي كَانَت لحَاكم ابْن فَانْقَطَعت الى عصرنا وَلم تزل ذُريَّته فيهم الْوَرع وَالْخَيْر الى عصرنا وَلما حَضرته الْوَفَاة اوصى ابْنه الاكبر ابْن لَا يتَوَلَّى الْقَضَاء وَقد ذكرت ذَلِك حِين ذكرت أَبَاهُ فِي اهل تعز واوصى اهله وَمن حَضَره بتقوى الله والميل بِطَاعَتِهِ وَلم يزل على الْقَضَاء المرضي حَتَّى توفّي مصلحا لحاله ذَاكِرًا لله تَعَالَى وَذَلِكَ لَيْلَة السبت لست من جمادي الاولى من سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَقد ذكرت بَيَان قعُود ابْنه مُحَمَّد مَكَانَهُ اياما ثمَّ انْتِقَاله الى تعز وَكَانَ لَهُ اربعة اولاد مُحَمَّد واظنه الاكبر مضى ذكره ثمَّ افقه الثَّلَاثَة حسن مولده لسبع خلون من ربيع الاخر سنة احدى عشرَة وسِتمِائَة تفقه بِعَبْد الله بن عَليّ العرشاني بجبلة وَعَن ابي السُّعُود بن الْحُسَيْن الَّاتِي ذكره وَعَن عَليّ السرددي وَأخذ الْبَيَان عَن الْفَقِيه سبا عَن الْفَقِيه احْمَد بن ابراهيم الْمليكِي عَن المُصَنّف واخذ عَن الْفَقِيه سُلَيْمَان الْجُنَيْد وَنزل تهَامَة فَأخذ عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْحَضْرَمِيّ وَأحمد بن عبد الله بن أبي الْقَاسِم بن كنَانَة الضحويين وَاحْمَدْ بن عبد الله الوزيري وَكَانَ شَدِيد الِاجْتِهَاد فِي طلب الْعلم ومطالعة كتبه حَتَّى ذكر الثِّقَة عَنهُ انه لبث سنة يُصَلِّي الصُّبْح بوضؤ الْعشَاء اذ كَانَ يبيت مطالعا وَلم يكن يسْأَل عَن طَعَام وَلَا شراب حَتَّى يُؤْتى بِهِ وَلَا يشْتَغل بَاهل وَلَا ولد وَقد اخبرني الثِّقَة انه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد جَاءَهُ فِي جمَاعَة فيهم الامام الشَّافِعِي فاستحيا وَقَالَ يَا رَسُول الله بِمَا استحققت هَذِه(2/156)
الزِّيَارَة فَقَالَ باجتهادك فِي طلب الْعلم وتتبعك الاسانيد الْعَالِيَة وَكَانَ فَقِيها مُبَارَكًا رحالا فِي طلب الْعلم ويروي شرح ابْن يُونُس للتّنْبِيه عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن حسن الْأنْصَارِيّ الخزرجي عَن المُصَنّف بلغه ان الْفَقِيه مُحَمَّد بن الهرمل الَّاتِي ذكره لَهُ رِوَايَة سندها قريب من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فارتحل اليه الى مَوْضِعه فَلَمَّا وَصله اخذها عَنهُ ثمَّ قَالَ لَهُ ابْن الهرمل نحب ان نسْمع عَلَيْك الْبَيَان فاجابه فَكَانَ وَقت ان يسمع هَذَا الْفَقِيه يقْعد على السرير وَيقْعد دونه ثمَّ اذا جَاءَ وَقت الْقِرَاءَة هَذَا الْفَقِيه قعد هُوَ مَكَان الْفَقِيه وَقعد الْفَقِيه مَكَانَهُ فَكَانَ وَقت سَماع الْبَيَان قد يرفع حسن رَأسه الى سقف الْموضع فيجد حنشا مخرجا اسه من جَوَانِب الْخَيْمَة شبه المستمع وَهَذَا دابه حَتَّى تَنْقَضِي الْقِرَاءَة فَيدْخل رَأسه وَلما طَال ذَلِك أخبر بِهِ الْفَقِيه فَقَالَ لَهُ هَذَا رجل من فُقَهَاء الْجِنّ قَرَأَ عَليّ الْمُهَذّب والتنبيه وَهُوَ الَّذِي سَأَلَني ان اسألك اسماعنا الْبَيَان قَالَ وَبَلغنِي وَأَنا بالمهجم اريد الشَّيْخ ابا الْغَيْث يتَكَلَّم بِمذهب الاشعرية ويتظاهر بِهِ فَقلت فِي نَفسِي ايْنَ هَذَا الصّلاح وَهُوَ على هَذَا الْمَذْهَب وَكنت مصرا على زيارته فَرَجَعت عَنْهَا لذَلِك ثمَّ اني خرجت من المهجم اريد الضُّحَى فَلم اشعر حَتَّى صرت بِبَيْت عَطاء فَلم يكني إِلَّا الدُّخُول على الشَّيْخ فحين رأني قَالَ مرْحَبًا بك يَا فَقِيه ثمَّ تركني قعدت وَقَالَ يَا فَقِيه اسمعنا كتابا فِي التَّفْسِير قلت سمعا وَطَاعَة فَقَالَ انا لَا احب الا النقاش فَإِنَّهُ على السّنة فَعلمت ان ذَلِك مِنْهُ مكاشفة لما فِي باطني وَعَملا بازالته فاخرجت النقاش وَهُوَ معي اذ كنت استصحبه فِي السّفر فَقَرَأت عَلَيْهِ بعضه فاجزته بِهِ وَله مصنفات فِي الحَدِيث وذيل طَبَقَات ابْن سمره وَمن تَعْلِيقه اخذت تَارِيخ جمَاعَة من الْفُقَهَاء وَلما قدم الشَّيْخ على الوَاسِطِيّ الْمَذْكُور فِيمَن قدم الْجند الى تعز اخذ هَذَا عَنهُ وَلما حَضرته الْوَفَاة لم يزل يذكر الله تَعَالَى وَكَانَ اخر كَلَام سمع مِنْهُ الشَّهَادَة وَكَانَت وَفَاته بربيع الاول سنة سبع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة ثمَّ(2/157)
عرض ذكر الوَاسِطِيّ وانه اخذ عَنهُ فقد مضى ذكره لَكِن يَنْبَغِي ان اذكر تَحْقِيق مَا اخذه هَذَا عَنهُ وَمَا اخبر عَنهُ من الحَدِيث المعمر فَإِن النُّفُوس كثيرا مَا تتطلع اليه اعني حَدِيث المعمر وَكَيف كَانَ فَوجدت بِخَطِّهِ قَالَ
قَالَ هُوَ عَليّ بن شبيب بن غسماعيل بن حسن الوَاسِطِيّ بَلَدا قدم تعز فَنزل بخانكة قليم السيفي فَاجْتمع اليه الْفُقَهَاء بتعز فاخذوا عَنهُ احاديث الشَّيْخ المعمر وَهُوَ مَا وجدته بِخَطِّهِ حَيْثُ دخلت انا فِي سنة عشْرين وَسَبْعمائة فِي كتاب سماعاته مَا مِثَاله أَخْبرنِي الشَّيْخ الصَّالح الْمُحدث أَبُو الْحسن حلى بن شبيب بن اسماعيل بن الْحسن الوَاسِطِيّ قَالَ حَدثنَا الْفَقِيه الشَّيْخ دَاوُد بن اِسْعَدْ بن حَامِد الْقفال الشحروري قَالَ سَمِعت المعمر زين بن مُنْذر بن مثدى الصراف السندي يَقُول كنت فِي بَدو امرى اعبد صنما فِي بلدي فَرَأَيْت فِي مَنَامِي قَائِلا يَقُول لي اطلب لَك دينا غير هَذَا فَقلت ايْنَ اطلب قَالَ بِالشَّام فَأتيت الشَّام فَوجدت دين اهله النَّصْرَانِيَّة فتنصرت ثمَّ بَلغنِي ان نَبيا خرج فِي الْمَدِينَة فَخرجت اليها فادركت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحْفر الخَنْدَق فاسلمت على يَده وقصصت عَلَيْهِ قصتي وتناولت الْمعول الَّذِي كَانَ بِيَدِهِ وحفرت فِي الخَنْدَق حفرا ارضى النَّبِي صللم فدع لي بطول الْعُمر وَمسح على رَأْسِي بِيَدِهِ الْكَرِيمَة ثمَّ خرجت مَعَه الى غزَاة الْيَهُود وَلما عدت مَعَه استأذنته بالعودة إِلَى بلدي لاجل والدتي فاذن لي وَذكر أَن مولده بقرية كَانَت تسمى أَولا كاور بَينهَا وَبَين الملتان(2/158)
اربعة عشرَة فرسخا ثمَّ سميت هَذِه الْمَدِينَة بعد ذَلِك سوريا باسم رجل من ولد اسامة بن لؤَي اسْمه سورباه ثمَّ سميت الهراووت وَبِذَلِك تعرف الان وَهِي بَاقِيَة الى زمننا قَالَ وتواتر عِنْد اهل بَلَده انه بلغ من الْعُمر نَحْو سَبْعمِائة سنة ببركة دُعَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وامرار يَده الْكَرِيمَة على رَأسه ثمَّ بعد ذَلِك أَقمت ببلدي مُدَّة ثمَّ خرجت إِلَى بلد يُقَال لَهُ سير هِنْد من اعمال السَّنَد لادعو حكيما بهَا من حكماء السَّنَد اسْمه هربال بخفض الْهَاء واسكان الرَّاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ الف ثمَّ لَام بالصفار فادركته فِي آخر عمره فدعوته الى الاسلام فَاسْلَمْ على يَدي ثمَّ لم تطل مُدَّة المعمر حَتَّى توفّي بعد اسلام الْحَكِيم بِثَلَاثَة ايام وَدفن بسير هِنْد فِي رَجَب سنة ثَمَانِي وسِتمِائَة قَالَ الوَاسِطِيّ سَمِعت ذَلِك كُله من تلميذ المعمر وَهُوَ دَاوُد بن اِسْعَدْ الْمُقدم ذكره بقرية من صَعِيد مصر يُقَال لَهَا اسيوط ذكر الاحاديث الَّتِي يَرْوِيهَا المعمر وَهِي فِي الورقة الَّتِي قبل هَذِه الورقة يَقُول فِي الولها قَالَ احْمَد بن عَليّ السرددي ثمَّ قَالَ مَا ذَكرْنَاهُ عَنهُ عِنْد ذكره من تقدمه الْجند ووفاته بالتاريخ الْمَذْكُور وَقد قدم الْيمن غير هَذَا الوَاسِطِيّ رجل اخر اسْمه عمر بن مُحَمَّد بن ابي بكر السَّمرقَنْدِي عَن الشَّيْخ ابي الْفَتْح مُوسَى بن مجلي بن مقلد الدنيسر عَن الشَّيْخ ابو الرِّضَا(2/159)
زين ابْن نصر بن كربال وَهَذَا مُخَالف فِي النّسَب للراوية الْمُتَقَدّمَة وَدخل الْجند وَاجْتمعَ بِهِ الْفُقَهَاء من الْجند وَغَيرهَا واخذوا عَنهُ مَا رَوَاهُ عَن الشَّيْخ ابي الْفَتْح مُوسَى بن مجلي ابْن مقلد الدنيسر عَن الشَّيْخ ابي الرِّضَا زين بن نصر بن كربال فاتفق الناقلان على تَسْمِيَته برتن على وزن فعل بِالْفَتْح ثمَّ رَاء ثمَّ تَاء مثناة من فَوق ثمَّ نون وَاخْتلف فِي ابيه وجده فالسمرقندي قَالَ نصر بن كربال بخفض الْكَاف وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ الف ثمَّ لَام والواسطي قَالَ مُنْذر على وزن مفعل بن مندى بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون النُّون وخفض الدَّال المهلة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت غير ان السَّمرقَنْدِي نِسْبَة الى الْهِنْد والواسطي نِسْبَة الى السَّنَد وَذَلِكَ اصح اذ سَأَلت الخبراء عَن مَوْضِعه فَقيل السَّنَد وَلَيْسَ بَين هَذِه الْمَذْكُورَة بَلَدا لَهُ انما خرج إِلَيْهَا فِي آخر عمره يَدْعُو حكيما كَانَ كَمَا قدمنَا وضبطها على مَا وجدته بِخَط الْفَقِيه حسن بخفض الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من فَوق وخفض الرَّاء وَسُكُون النُّون وَضبط مولده بِفَتْح الْوَاو وَالْكَاف وَضم الْوَاو ثمَّ وَاو اخرى مفتوحتان ثمَّ رَاء مُهْملَة وسرباه بِضَم السِّين الْمُهْملَة ثمَّ رَاء وباء مُوَحدَة مفتوحتان ثمَّ الف ثمَّ هَاء واهراووت بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْهَاء وَفتح لراء ثمَّ الف ثمَّ وَاو مَضْمُومَة ثمَّ اخرى سَاكِنة ثمَّ تَاء مثناة من فَوق وَإِنَّمَا يَقُول كثير من الاس الْهِنْدِيّ انهم يرَوْنَ من جَاءَ من نَاحيَة الْهِنْد هنديا وان كَانَ من السَّنَد سنديا وَقل مَا يذكر السَّنَد إِذْ لَا يعرفهُ إِلَّا عقلاء النَّاس كَمَا ينسبون من جَاءَ من بلد السودَان الى زيلغ فَيَقُولُونَ زيلعيا وَقد بالغت فِي إِيضَاح مَا تحققته من امور المعمر وَنسبه وبلده إِذْ تطلع النُّفُوس إِلَيْهِ ثمَّ رايت الْكتاب الَّذِي رَوَاهُ السَّمرقَنْدِي مُخَالفا للْكتاب الَّذِي رَوَاهُ الوَاسِطِيّ فِي الْغَالِب وَكتاب السَّمرقَنْدِي سَمَّاهُ قريب الْعَهْد وَكَانَ كتاب الوَاسِطِيّ أَحَادِيث منشورة لم أكد أتحقق لَهَا اسْما
وَحِينَئِذٍ نرْجِع الى ذكر الْفُقَهَاء من اب فَكَانَ للفقيه حسن الْمَذْكُور انفا ابْن اسْمه عبد الرَّحْمَن قَالَ الْفَقِيه عُثْمَان كَانَ من الرِّجَال الْمَعْدُودين فِي اهل الْفِقْه وَالدّين تفقه بابيه وبالامام اسماعيل الْحَضْرَمِيّ وبالقاضي عَيَّاش من جبلة ثمَّ(2/160)
رتب معيدا فِي المظفرية ثمَّ انْتقل الى مدرسة ذِي هزيم الاتابكية ثمَّ الى النجاحية ثمَّ زهد بِالْجَمِيعِ وَلزِمَ بَيته بمغربة تعز قَالَ الْفَقِيه عُثْمَان من لَفظه وَكَانَ ثِقَة قَالَ ظهر فِي بعض النواحي مخلاف جَعْفَر حَنش عَظِيم لَهُ نباح كنباح الْكَلْب فَنزل على قَرْيَة بِقرب من مَوضِع ظُهُوره فَجعل يَصِيح بِصَوْتِهِ حَتَّى افزع اهل الْقرْيَة وانقطعوا عَن اشغالهم وهموا بالانتقال عَن الْقرْيَة لشدَّة مَا دخلهم من الْفَزع من كبره وَعظم صَوته فَتقدم جمَاعَة مِنْهُم الى بعض صالحي بلدهم وَشَكوا اليه حَالهم مَعَ الحنش وسألوه ان يَدْعُو لَهُم فَقَالَ تقدمُوا باجمعكم الى جبل يُقَابل مَوضِع الحنش ثمَّ هللوا وَنَادَوْا يَا الله يَا رَبنَا هَذَا الثعبان الَّذِي ارسلته لَا طَاقَة لنا بِهِ فَذَهَبُوا وفعلوا مَا امرهم بِهِ فَبَيْنَمَا هم على ذَلِك اذ انقض طَائِر عَظِيم ابيض اصفر المنقار والمخاليب فَجعل يحارب الحنش فحين يقبل عَلَيْهِ ينفخه فَيخرج من فِيهِ نَار يهرب مِنْهَا الطَّائِر فتحرق مَا مرت بِهِ من الشّجر وَغَيره ثمَّ يعود الطَّائِر عَلَيْهِ مسرعا فَيضْرب رَأسه بمخاليبه ثمَّ لم يَزَالَا كَذَلِك سَاعَة جَيِّدَة حَتَّى كَانَ اخر امْرَهْ وَقد تَعب الحنش ضرب رَأسه ايضا بمخلبيه حَتَّى كَاد يغيبها ثمَّ اتبع ذَلِك بمنقاره ثمَّ جعل الخش ينضرب سَاعَة وَهُوَ مُمْسك لَهُ حَتَّى مَاتَ فَتَركه مَيتا وطار عَنهُ وَاقْبَلْ اهل الْقرْيَة فوجدوا حنشا لم يرَوا وَلم يسمعوا يمثله فَحَفَرُوا الى جَانب الْموضع الَّذِي هُوَ فِيهِ وخذوا حفيرا عَظِيما وقلبوا الحنش اليه ثمَّ واروه بِالتُّرَابِ وَهَذِه حِكَايَة غَرِيبَة قد جرى لَهَا نَظِير فِي قصَّة سيف الاسلام حِين اراد اغتصاب اراضي اهل الْيمن كَمَا سَيَأْتِي انشاء الله تَعَالَى مَعَ ذكره وَفِي اخر عمر هَذَا عبد الرَّحْمَن حصل بِهِ مرض طَال وامتد فاشار عَلَيْهِ مشير بالطلوع الى صنعاء يخْتَرف بهَا الْعِنَب فاكترى من حمَار غَرِيب فَلَمَّا صَار بِهِ فِي الطَّرِيق مُنْفَردا عمل بقتْله واخذ مَا مَعَه وَذَلِكَ نَحْو تسعين وسِتمِائَة تَقْرِيبًا فَجمع الله لَهُ بَين الغربة وَالْقَتْل شهادتين وَمن اولاد عَليّ بن عمر ابْنه الثَّالِث حُسَيْن مولده لخمس بَقينَ من جمادي الاولى سنة ثَمَانِي وسِتمِائَة تفقه ثمَّ غلبت عَلَيْهِ الْعِبَادَة حكى انه ايام تفقهه ترَتّب فِي مدرسة عومان مَعَ الققيه يحيى بن سَالم فَذكرُوا انه بَاعَ شَيْئا من كيلته(2/161)