الدورقي، وهشام بن عمار، وإسحاق بن موسى الأنصاري، وأبي مصعب الزهري، وسمى جماعة غيرهم. وروى عنه محمد بن مخلد الدوري، وابن المنادي، وأحمد بن سلمان النجاد، وأبو بكر الشافعي، وأبو علي بن الصواف، وابن مالك القطيعي، وخلق كثير. قال: وكان ثقة ثبتاً، حجة. قال القاضي: وقد مر في ذكره في المالكية، ووجدته معلقاً بخطي، ولم أدر بعد من أين، وقفت عليه. وله كتاب مناقب مالك، وكتاب السنن، كتاب كبير. وقال أبو طاهر الذهلي: سمعته يقول: كل من رويت عنه لم يسمع إلا من لفظه، إلا اثنين: أبا مصعب الزهري، فإنه كان ثقل لسانه، وآخر سماه غير الذهلي، وهو المعلى بن مهدي. قال: ولما ورد أبو بكر بغداد، استقبل بالطيارات، والدبادب، ووعد له الناس يسمعون منه. فممن حضر مجلسه للسماع، نحو ثلاثين ألفاً. وكان المستملون، ثلاثمائة وستة عشر. قال أبو الفضل الزهري: كان في مجلس الفريابي، ممن يكتب من أصحاب الحديث، نحو عشرة آلاف إنسان، سوى من لا يكتب. قال ابن كامل: كان جعفر الفريابي، مأموناً موثوقاً به، مكثراً. ومولده سنة سبع ومائتين، وتوفي في المحرم سنة إحدى وثلاثمائة.(4/301)
من أهل مصر
المقدام بن داود
ابن عيسى بن تليد الرعيني، ثم القبّاني، بقاف. مولاهم. أبو عمرو. وقد تقدم ذكر نسبه، وضبطه قبل، عند ذكر عمه. هو ابن أخي سعيد بن عيسى بن تليد. أخذ عن عمه سعيد، وعبد الله بن عبد الحكم. وعبد الله بن يوسف التنيسي، وعلي بن سعيد، وأسد بن موسى، وذؤيب بن عمامه. وأبي زرعة، عبد الأحد بن الليث. روى عنه: عبد الله بن الورد، وابن مسرور الغسّال، وأبو العباس الرازي، وأحمد بن ابراهيم بن جامع، وابن أبي طبنه، وأحمد بن مسلمة الهلالي. قال المسعودي في تاريخه: كان مقدام من جلّة الفقهاء. من أصحاب مالك. قال ابن أبي دليم: وكان عالي الدرجة. كثير الرواية. قال الكندي: كان فقيهاً مفتياً، ولم يكن بالمحمود في روايته. عن خالد بن نزار. لأنهم سألوه عن مولده، فأخبرهم. ثم مضوا الى الاسطوانة التي على رأس خالد بن نزار، فنظروا فيها تاريخ وفاته، فإذا المقدام حينئذ ابن أربعة أعوام أو خمسة. قال ابن مفرّج: وسماعه من أسد صحيح. وقد نفى هذا القول النسائي جداً؟ ونسبه الى الكذب.(4/302)
قال ابن حاتم في تاريخه: وتوفي في آخر رمضان، سنة ثلاث وثمانين.
محمد بن أصبغ بن الفرج
كان بمصر فقيهاً مفتياً. وكان على محنة المسالمة. وهو آخر من ولي ذلك. أخذ عن أبيه، روى عنه محمد بن فطيس، وأبو بكر بن الخلال. توفي بمصر، سنة خمس وسبعين ومائتين.
أبو الخير فهر بن موسى
ابن أبي رباح. قاضي الاسكندرية. أخذ عن أبي بكير وغيره. ولي قضاء الاسكندرية. توفي في شعبان، سنة سبعين ومائتين.
يحيى بن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم
أبو الحسن. ذكره ابن أبي دليم، وابن حارث في هذه الطبقة. توفي بمصر سنة سبع وثمانين ومائتين.
أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مقلاص
مولى خزاعة. تقدم ذكر أبيه. قال الكندي: كان متقشفاً جلداً. توفي سنة خمس وثمانين.(4/303)
مطروح بن محمد بن شاكر
مولى غافق. أبو نصر. من أصحاب أصبغ بن الفرج. يروي عن عبد الله بن هارون. روى عنه أبو القاسم العلاف. وروى عنه أحمد بن منير. توفي بالاسكندرية سنة ثلاث وسبعين ومائتين. قال ابن ميسر: كان ثقة.
حفص بن مدرك
ابن عاصم بن عمرو بن عمير بن أبي مدرك. مولى بني سعد بن خولان، أبو عمر. قال ابن أبي دليم: حلّ أخذه عن أصبغ. قال الكندي: كان شديداً. وقد روي عنه. توفي سنة ثلاث وسبعين.
داود بن عمر
ابن سعيد بن أسلم الصدفي، مولاهم. جل روايته عن ابن مريم. توفي سنة ثمان وستين.
أبو الشريف ابراهيم بن سلمان بن عبد الله بن المهلب
القضاعي الحرسي، بحاء مهملة، وراء مفتوحة، وسين مهملة. كذا ضبطه الأمير. قال عبد الغني بن سعيد: هو أبو مخلد. توفي بمصر، آخر سنة ثلاث وسبعين ومائتين. وبيته بها بيت علم. سنذكر من يأتي منهم.(4/304)
أبو الزنباع روح بن الفرج
ابن عبد الرحمن سطان. مولى الزبير بن العوام. صاحب أبي زيد بن أبي الغمر. سمع عمرو بن خالد، وسعيد بن عفير، وهارون بن موسى المدني، وعبد الغني العامل، وزيد بن بشر، وأبا مصعب. قال ابن حارث: كان عالماً فقيهاً. وعنه أخذ أبو الذكر الفقيه. قال الكندي: أوثق الناس في زمانه. قال ابن فريد: ذاك رجل، وفّقه الله بالعلم. له رواية في القراءات، عن يحيى بن سليمان الجعفي. روى عنه محمد بن أحمد بن الهيثم ومحمد بن سعد، ومحمد بن شاهين، وأبو العباس أحمد بن الحسن الرازي، وأحمد بن مسلمة الهلالي، وابراهيم بن محمد الحلواني، وقاسم بن أصبغ، وأبو بكر بن أبي الأصبغ. قال ابن يونس: مولده سنة أربع ومائتين. توفي سنة اثنين وثمانين ومائتين.
أبو الطاهر خير بن عروة
ابن عبد الله بن كامل الأنصاري، مولاهم. ضبط اسمه بخاء معجمة، مفتوحة، بعد ياء باثنتين من أسفل، وراء. يروي عن مروان العوفي. حدّث عنه أبو طالب الحافظ، وأبو عبد الله الإيلي، وأبو الحسن البصري. ذكره ابن أبي حاتم.(4/305)
قال الكندي: وكان فاضلاً، توفي صدر سنة ثلاث وثمانين.
أبو الطاهر محمد بن عبد الغني
ابن عبد العزيز بن سلام، الغسال. مولى قريش. قال الكندي: كان فقيهاً مفتياً. قال الطحاوي: كان فقيهاً، لا يدافع. تقدم ذكر أبيه. توفي سنة ثلاث وثمانين.
محمد بن يزيد بن أبي زيد بن أبي الغمر
أبو بكر. مولى بني سهم. يروي عن أبيه. روى عنه محمد بن مكي الخولاني. توفي سنة إحدى وتسعين ومائتين.
أبو مسلم خير بن موفق
مولى عبد الله بن سعيد التجيبي. قال الأمير: مولى بني الأجم، من تُجَيب، ثم لعبدوس بن سعيد. يروي عن عبيد بن هشام الحلبي، وابن بكير، ومنصور بن أبي مزاحم، ومحمد بن خالد الاسكندراني، وغيرهم. توفي سنة ست وثمانين ومائتين.
ابن جبر الحضرمي
قاضي برقه، والاسكندرية. أبو عبد الرحمان. ويقال أبو محمد.(4/306)
وضبط اسمه واسم جده بجيم مفتوحة، وباء بواحدة ساكنة، وراء. روى عن محمد بن خلاد بن هلال. حدّث عنه أبو طالب، وأبو عبد الله الإيلي، وأبو الحسن البصري. توفي سنة ثمان وثمانين ومائتين.
أبو شير محمد بن عبد الله بن الغازي
قال ابن أبي دليم: كان فقيهاً في المذهب، وتوفي سنة ثلاث وتسعين ومائتين.
محمد بن الأصبغ
المسمى فليح، بن سلام بن يحيى، الهروي، مولاهم. قال الكندي: كان فقيهاً مفتياً، وكان أبوه فليح مقبولاً بمصر. توفي سنة أربع وتسعين ومائتين.
محمد بن خلف بن عبيد
أبو عبد الله. من أهل صوران. متولى حضرموت. قال الكندي: كان فقيهاً، وهو صاحب المسألة في القرآن مع أبي جريش. يروى عن الحارث بن مسكين. توفي صدر سنة تسع وتسعين، واجتمع لجنازته خلق، لم يرَ مثلهم.
القاسم بن حبيش
ابن سليمان بن برد بن نجيح التُجيبي، مولاهم، أبو عبد الرحمان. مضى نسبه عند ذكر أبيه وجده. يروى عن هارون بن سعيد الإيلي. روى عنه ابن يونس.(4/307)
ذكر ابن أبي حاتم. وقال الكندي: كان فقيهاً، مفتياً. وسيأتي ذكر ابنه. توفي سنة سبع وتسعين ومائتين.
ركين بن يحيى الأسيوطي
كان يتفقه على مذهب مالك. يروى عن يحيى بن بكير، وعبد الله بن عبد الحكم، وغيرهما. توفي بأسيوط سنة سبعين ومائتين.
أبو عبد الله عمر وابن أبي الطاهر
أبو السرح. تقدم ذكر أبيه. قال الكندي: كان زاهداً فاضلاً. توفي سنة ثمان وثمانين ومائتين. ومولود سنة ثمانين ومائتين.
من أهل إفريقية
ابن طالب القاضي
كنيته أبو العباس. واسمه عبد الله بن طالب، بن سفيان بن سالم، بن عقال بن خفاجة التميمي، من بني عم بني الأغلب، أمراء القيروان. ويقال طالب بن سعيد بن سفيان، وقد غلط بعضهم فيه. فنسبه: كنيته، فظن أن اسمه أحمد. فسماه به. تفقه بسحنون، وكان من كبار أصحابه. ولقي المصريين محمد بن عبد الحكم، ويونس بن عبد الأعلى،(4/308)
وحج فانصرف. وولي الصلاة، ثم قضاء القيروان مرتين. أحدهما سنة سبع وخمسين ومائتين. ثم عزل سنة تسع وخمسين، والثانية سنة سبع وستين، وعزل سنة خمس وسبعين. سمع منه أبو العرب وابن اللّباد. وكان جميل الصورة، بهي الخلق، فاخر اللباس، أحور العينين.
ذكر علمه والثناء عليه
قال محمد بن حارث في تاريخ الأفارقة، وغيره من كتبه. كان أبو طالب لقناً فطناً. جيّد النظر. يتكلم في الفقه، فيحسن. حريصاً على المناظرة، فيجمع في مجلسه المختلفين في الفقه. ويغري بينهم لتظهر الفائدة، ويفهم عند نفسه، وربما يأمرهم. فإذا تكلم أجاد وأبان، حتى يود السامع ألا يسكت. إلا أنه كان إذا أخذ القلم، لم يبلغ حيث يبلغ لسانه. قال غيره: لم يكن شيء أحب لابن طالب من المذاكرة في العلم. قال ابن اللباد: ما رأيت بعيني أفقه من ابن طالب. إلا يحيى بن عمر. قال أبو العرب: وكان عدلاً في قضائه. صارماً في جميع أمره. فقيهاً، ثقة، عالماً بما اختُلف فيه. وفي الذّبّ عن مذهب مالك. ورعا في حكمه. قليل الهيبة في الحق، للسلطان. وما سمعت العلم قط أطيب ولا أحلى منه، من ابن طالب. وما أخذت عليه خطأ، إلا مسألة، اختلف فيها ابن القاسم وأشهب. فأتى بقوليهما. ولكن قلب قول كل واحد الى الآخر. وكان كثير الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. رقيق القلب، كثير الدموع. ولابن طالب من التأليف كتاب في الرد على من خالف مالكاً. وثلاثة أجزاء من أماليه. وكان ابتداء طلبه فيما ذكره ابن اللباد عنه. قال: كنت يتيماً لا أب لي. وكنت آتي مع معلمي، الخميس والجمعة، وأنا إذ ذاك صغيرٌ، ذو جُمّة(4/309)
فقرئ يوماً عليه، في الموطأ اسم عمر بن حسين، في كتاب الزكاة. فقال سحنون: هذا كان يشاور في القضاء، أيام مالك. ثم قرأ القارئ، فبعد قليل، قال سحنون: كيف سحبت لكم الرجل، الذي كان يشاور في القضاء، أيام مالك. فقد نسيت اسمه. فسكت الناس. فقلت له أنا من موضع: هو عمر بن حسين أصلحك الله. فقال: بارك الله عليك. أحسنت يا غلام. من هذا الغلام؟ فعرف بي. قال: أحب أن أرى عليك زين العلم. ما ينبغي أن يمنع هذا العلم من أحد، فما أتيت الموعد الآخر، إلا وقد حلق رأسي، وكسيت ثياب العلماء. فلم أزل أتردد الى سحنون، وهو يقرئني حتى نفعني الله. وله تأليف في الردّ على المخالفين من الكوفيين، وعلى الشافعي.
ذكر ولايته القضاء وشيء من سيرته
ولي ابن طالب، القضاء بالقيروان، مرتين، لما عزل سليمان، أول مرة ولي هو، ولاه ابراهيم بن الأغلب. وعظم قدره. وجعل إليه النظر في تركة جدته. فطلب ابن طالب، سليمان. فاستخفى عنه. فلما رأى ابراهيم ميل نفوس الناس الى ابن طالب، ومحبتهم له، لعدله وسماحته وعقله، وحسن سيرته، وعلمه، واستبشارهم بأيامه، لرخص السعر، وارتفاع الوباء، أيامه به، غار ابراهيم به، وخشيه(4/310)
على ملكه. لكونه ابن عمه. فرأى إماتة اسمه، وعزله. ورد سليمان بن عمران. فلما شاخ سليمان بن عمران، عزله، وولي مكانه ثانية. قال ابن حارث: كان ابراهيم بن الأغلب، أكره الناس في ابن طالب. وكان قد أساء إليه، أيام قضائه، الأول. وإمارة أخيه ابراهيم المعروف بأبي الغرانيق. فلما ولي ابراهيم بعده، هم به. وكان الحضرمي، وبلاغ مولى ابراهيم خاصين به، ولهما بابن طالب عناية. فكانا يكفّانه عنه. فلما شاخ سليمان بن عمران، واضطر ابراهيم، الى قاضٍ غيره، جمع وجوه القيروان، وشاورهم فيمن يوليه. فطرحوا الاختيار إليه، وغلبته الشهوة في محمد بن عبدون، وأمر له بمركب فأمر بأن يخرج ابن عبدون عليه، الى أن دخل أحمد بن أبي سليمان، فسأله الأمير، فقال: أرى أن نولي العدل الرضيّ المستحق للقضاء. فقال: من هو؟ قال: ابن طالب. فاستوى جالساً، وقد كان ابن غافق أشار بمثله، قبله. وقال: ما أرى لها إلا ابن طالب. فقال له: ابن أبي سليمان: إن الصلاة عمود الدين. فلما استحق عند الأمير أن يقدم عليها، كان بما هو أقل منها أولى. فقال ابراهيم: يُرَد الفرس. وأذن لابن أبي سليمان في الانصراف، ووجه لابن طالب، فولاه القضاء.(4/311)
قال لي ابن طالب: كنت نائماً قائلة، حتى انتبهت من نومي، فأنكرت ذلك، وعلمت أنه لأمر حدث. فقيل لي: رسول الحاجب بالباب. فخرجت إليه في ثوب البيت. فقال لي الحاجب: الأمير يدعوك الساعة. فقلت: أدخل، وأخذ ثيابي على نفسي. فقال لا. فساءني، ودعوت بثيابي فلبستها. وسرت حتى وصلت الى ابراهيم بن أحمد الأمير. فوجدته وبين يديه السيف مسلولاً. فسلمت، فردّ علي فسكن روعي، لرده. ثم قال لي: احتجت في يومي الى ابن طاهر، ما أوفاه من أمرك شيئاً. وقد عزمت على توليتك القضاء، فأبيت. فمد يده الى السيف، وقال: إن شئت القضاء. وإن شئت هذا. فقلت تأذن لي في صلاة ركعتين أدعو وأستخير. قال: أفعل. فصليتهما، واجتهدت في الدعاء والخيرة. فلما سلمت، قال لي: ما ظهر لك. قلت أبقى الله الأمير، إن ولاني علي ما لا ينفذ عليه القضاء، ليست بولاية. فقال: عل مفرق رأسي. فقلت له: أبقى الله الأمير، تقدمت الإيمان، فآذن في الانصراف، حتى أنظر فيها، ثم أعود الساعة. قال: أفعل. وكان ابن طالب، قد حلف بجميع الإيمان قبل هذا، ألا يلي قضاء أبداً. فخرج ابن طالب، فخالع زوجته، وباع عبيده، وتصدّق بأمواله، وأخرجها من ملكه. ثم رجع فقبل. وكتب له عهده، وأمر له بكسوة، ووصله وحمله.(4/312)
قال ابن طالب: وكنت لما دخلت إليه في المرتين، ما رفع إلي أحد رأساً. فلما وليت، وخرجت، فوجدت أهل الأرض وقوفاً ينتظروني على الباب. فعلمت هوى الناس للدنيا. قال ابن حارث: وكان ابن طالب، إذا وقف للحكم بين الخصمين، كتب للمطلوب القصة، التي شهد عليه بها. ثم قال له: اذهب، وطف بها على كل من عنده علم، وجئني بالأجوبة، فيها. قال ابن أبي خالد: كان ابن طالب عدلاً في قضائه، ورعاً في أحكامه، كثير المشاورة، لأهل العلم من أهل مذهبه وغيرهم. وذكر أبو عمرو الداني في كتابه: أن ابن طالب، أيام قضائه، أمر ابن برغوث المقرئ، بجامع القيروان ألا يقرأ الناس إلا بحرف نافع. وقال صاحب المغرب في أخبار المغرب: إن في أيام ابن طالب، قتل ابراهيم الفزاري، وكان ابراهيم، شاعراً. متفنناً في كثير من العلوم، مع استهزاء وطيش. وكان يحضر مجلس ابن طالب لمناظرة الفقه. فقيل إنه كان يزري به، ويتضحك بأمره، ونمت عنه أمور منكرة. فانتهى ذلك الى ابن طالب. فطلبه ابن طالب وحبسه. وشهد عليه أكثر من مائتين بالاستهزاء بالله. وبكتاب الله. وبأنبيائه. وبنبيّنا صلى الله عليه وسلم. قيل منهم ثلاثون عدلاً. فجلس له ابن طالب، وأحضر له العلماء، يحيى بن عمرو وغيره. وأمر بقتله فطعن بسكين في حنجرته. وصلب منكساً. ثم أنزل بعد ذلك، وأحرق بالنار. فحكى بعضهم: أنه لما رفعت خشبته، وزالت عنها الأيدي، استدارت، وتحولت عن القبة.
فكانت آية للجميع. فكبّر الناس. وجاء كلب فولغ في دمه. فقال يحيى بن عمر: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأسند حديثاً عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: لا يلغ الكلب في دم المسلم. قال بعضهم: سمعت ابن طالب عند محنته، وسجنه يقول، وهو مسجون، في سجوده، ومناجاته: اللهم إنك تعلم أني ما حكمت بجور، ولا آثرتُ عليك أحداً من خلقك، في حكم من أحكامي، ولا خفت فيك لومة لائم. فكانت آية للجميع. فكبّر الناس. وجاء كلب فولغ في دمه.(4/313)
فقال يحيى بن عمر: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأسند حديثاً عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: لا يلغ الكلب في دم المسلم. قال بعضهم: سمعت ابن طالب عند محنته، وسجنه يقول، وهو مسجون، في سجوده، ومناجاته: اللهم إنك تعلم أني ما حكمت بجور، ولا آثرتُ عليك أحداً من خلقك، في حكم من أحكامي، ولا خفت فيك لومة لائم.
ذكر جوده وكرم أخلاقه
لم يكن في زمانه سلطان ولا غيره أسمح منه. يتداين بالمال الكثير، ويتصدق به، ويصل بالعشرات من الدنانير من يعرف ولا يعرف. وربما أعوز فيتصدق بلجام دابته، ومصحفه، ونعله، وشوار عياله. وربما تصدق بثياب ظهره. حدث بعض أصحابه، أنه ركب معه إثر سماء وهو على حمار مصري، فعرض له في طريقه ماء مستنقع، فأتى صبي يرعى غنماً، فأخذ بلجام حماره، فجوزه الماء. فقال للغلام: من مولاك؟ قال: فلان. فنزل ابن طالب في مسجد، ثم قال للغلام: اذهب فجئني بمولاك. فجاءه.
فقال له: بكم اشتريت هذا الغلام؟ فقال: بعشرة دنانير. قال: فخذها واعتقه، وولاؤه لك. وعدها له، وكتب عتق الغلام، ثم قال لمولاه: قد وجب أن تجري له على رعايته لغنمك أجرة. فأجرى له دينارين في كل سنة. فقال ابن طالب: إلزم مولاك، ولا تقطعنا. فإنا نواسيك.(4/314)
وذكر أن غلاماً راعياً ناوله سوطه، وقد سقط، فوجه في مولاه، فاشتراه مع الغنم، وأعتقه ووهب الغنم له. وكان إذا رأى بعض الرجال في الشتاء، ليس عليه دثار، نزع فروه، وبعض كسوته عن جسده، وكساه. وشكا إليه رجل يتعذر بجهاز ابنة له، زوّجها. وكانت لابن طالب ابنة تخرج إليه، من عيد الى عيد. فقال لأمها: أحب أن تزيني ابنتي وتلبسيها ثيابها وحليها. ففعلت. وأخرجت إليه فرحب بها، واستبشر، ثم قال لها ولأمها: إن فلاناً شكا إلي كذا، وأنا أحب أن أدفع له جميع ما على ابنتي من حلي وثياب، يجهز به ابنته، وعليّ أنا عوض ابنتي منه بما هو أكثر. فدفعتاه إليه.
حكى المالكي عن محمد بن عمر أنه ولي القضاء ومعه ثمانون ألف دينار. فلم يقبل حتى تصدق بجميعها أيام قضائه. قال: وكان رجل من العراق ينال من ابن طالب، فتوفيت أم ولده، وكان مقلاً. فقال له بعض إخوانه لو قصدت ابن طالب أن يصلي على جنازتك، نلت منه خيراً. قال الرجل: كيف أقصد لمن سبق مني فيه غير جميل. فقيل له: الرجل كريم. وكان ذلك الوقت ابن طالب معزولاً عن القضاء، عزلته الأولى. فمضى الى ابن طالب، وعرّفه وسأله الصلاة. فوعده بالمجيء وقت الصلاة، ففعل. فلما كان اليوم الرابع، وجه ابن طالب إليه، فأتاه. فقال له: أكرمك الله. صرت لنا كالأخ، وأحببت أن أكلفك ببعض حوائجي، وذلك أن تشتري لي جارية نظيفة أديبة. على ما يحسن عندك.(4/315)
فمضى الرجل وأجهد نفسه، رجاء التقرب إليه، واشترى له جارية بنحو ثمانين ديناراً. وأتاه بها. فأعجبت ابن طالب فقال له: هي هبة مني إليك. فاتخذها، موضع أم ولدك، بارك الله لك، وأعطاه دينارين لكسوتها. قال: ولقي رجل ابن طالب في طريق، فشكا إليه الضعف، وأن له أربع بنات، عاريات. فكتب له رقعة الى رجل. فقرأها، وقال: اجلس. وطلب له أربعة أقمصة، وأربع غلائل، وأربع دهاقن، ومضى به الى البركة، فاشترى له خادماً، وغلاماً.
فلما طال على الرجل، قال: يا هذا، أجب حاجتي. فقال له: فيها أعمل. وأتى به الى سوق النخاسين، فاشترى له زوج بقر، وقطعة غنم، وقال له: جميعه لك. ومرّ يوماً، بإزاء الجمال بحمولة قمح، وإذا رجل يسايره، فقال له: إن مَن هذا عنده في أمن فقره المجاعة،(4/316)
وفارقه. فسار ابن طالب الى داره، فإذا الحمولة له، وجهها له وكيله. فأمر ابن طالب بحملها الى دار الرجل، وقال قولوا له: قد أمنت مما كنت تجده. قال أبو الفضل: كان رجل من العراقيين يقع في ابن طالب، إرضاء لأصحابه، فولدت له امرأته، فقالت له: أنت ترى حالنا، فامض الى أصحابك الذين كنت ترضيهم، بسب ابن طالب، لعلهم يعينونا على ما نحن عليه. فسار إليهم. فلم يأت منهم بشيء. وخرج، بمصحف يرهنه عند زحدهم، فما قبله منه أحد منهم.
فشتمته امرأته، وقالت له: اقصد إليه، يعني ابن طالب. فإني أرجو أنك لا تنصرف من عنده، خالياً. فمضى إليه واعتذر، وأعلمه بمقال زوجته. وقال: أتيتنا في وقت لا شيء فيه غير واسعة علينا، ولكن نعطيك ما حضر. فدفع إليه صرة كبيرة، وأخرى صغيرة. وقال له: انفق أنت هذه. وكان فيها أربعون ديناراً. وادفع الأخرى الى أهل البيت. وكانت فيها عشرة دنانير. قال ابن أبي عقبة: كان رجل كفيف من الفقراء، يمشي مع زوجته، فإذا بصقلبي أتى الى طباخ، فقال له: يقول لك القاضي خذ لنا خروفاً، من صفته كذا، واعمله في التنور، وخذ له من الزيتون والخبز، ونقل المائدة، ما يصلح، وهيئه الى أن يرجع من صلاة الجمعة. فانصرف الغلام. فقالت زوجة الكفيف: والله ما اشتهيت إلا الأكل منه. وكانت حاملاً. فقال الكفيف: أنت طالب إن تغدينا إلا منه.(4/317)
فلما فرغ الناس من الجمعة، سبقا القاضي الى باب الدار، حتى جاء ودخل بيتاً في سقيفة داره، يحكم فيه. وجلس معه إخوانه الذين كانوا يحضرون مائدته. قال الكفيف لزوجته: تسعمي الى وقت الطست. فقالت له: يا مدبر، ما الذي يصلك إليه؟ فقال لها: اسكتي. فلما سمعت الطست، أخبرته. فقال الكفيف: يا قاضي. قال الله تعالى: " ويؤثِرون على أنفُسهم " الآية. وقال: " إنما نُطعِمُكم لوجه الله " الآيات. فصاح القاضي وقال يا غلام: خذ هذا الخوان وامض معه به، حتى توصله الى در هذا المتكلم. ففعل. وحكي أن رجلاً من الرهادنة، بينما هو جالس في دكانه، طلعت إليه امرأة، فقالت له: بع هذا المتاع. وهو جبة وشي وطيلسان، ونعل طائفي، وقلنسوة. فأخذها وقال: هذا لا يصلح إلا بابن طالب.
فمضى بهما إليه، وأخبره. وقال له استقص وادفع لها الثمن. وإذا بذلك كسوته للجمعة. جاءته المرأة، فلم يكن عنده ما يدفع لها غير ذلك. وكان يتصدق بحلى سرجه، وسيفه.(4/318)
قال ابن حارث: وأتاه رجل من أهل البادية، فشكا إليه الإقلال، فكتب له الى أبي ابراهيم في ضيعته، أن يدفع له خمسين قفيزاً من زيت. فلما وصل الى أبي ابراهيم بالكتاب، ضجر على الرجل وقال له إنا لم نعصر بعد، وهو يبدأ بتفريقه. ما عندي ما نعطيك. فرجع الرجل إليه، فأعلمه. فكتب إليه أن يدفع له مائة قفيز. فزاده ضجره. وقال له: اذهب بسلام. فرجع الرجل إليه، فأعلمه. فكتب إلى أبيه: ادفع إليه مائة قفيز. فوَالله لئن رجع إلي لأدفعنّ إليه غلة العام أجمع. وأكرمه رجل في طريقه، ولم يعرفه. فقال له: سل في القيروان عن دار ابن طالب. فلما وصل الرجل دفع إليه خمسة آلاف درهم، وعشر خلع.
وأهدى إليه رجل من البادية خبز سلت، فدفع إليه خمسة مثاقيل، فقيل له: إنما تَسوى درهم. فقال: كلا. ولكن رجا هذا أفضالنا، فحققناه. قال أبو محمد بن سعيد بن الحداد، عن بعضهم: وصل إليّ من مال ابن طالب بآية من القرآن، نحو من سبعين ديناراً. كنت إذا رأيته داخلاً الى مجلس قضائه، قمت نحوه، فقرأت: " إنما نُطعمكم لوجه الله " الآية. فيدفع إلي الدينار، والدينارين، وما أمكنه. قال أبو القاسم المعروف بالمساجدي: شكوت يوماً الى ابن طالب الوحدة، وقلة الجدة، فاشترى لي جارية بأربعين ديناراً وحجرة قرب الجامع بعشرين ديناراً.(4/319)
فشكوت إليه أنه ليس فيها ماء. فحفر في زقاقها بئراً، للمسلمين. فكان يعطي قوتي، وقوت الجارية وكسوتها كل شهر. قال أحمد بن معتب: جئته يوماً أسأله لرجل معروفاً. قال: فناولني طرف كم قميصه، ثم أدخل يده لينتزعه. فقلت: سبحان الله، معاذ الله، أن أكلفك هذا. فقال لي: لا يسبق إليك أني فعلته عن ضجر، غير أني والله لا أملك في هذا الوقت ديناراً ولا درهماً، ولابد له من أخذها. ومدّ رليّ بثوبه. وقال بعضهم: أتيت ابن طالب فشكوت إليه الإقلال، فاعتذر اعتذار من عزم على ردّي. ثم دخل، وخرج، وجعل في يدي شيئاً لم أشك أنها دراهم، فلما خرجت إذا في يدي عشرة دنانير. وكان سليمان بن عمران، أراد غمطه بقضية، أيام قضائه، زادته رفعة. وذلك أنه دخل يوم فطر على الأمير، فذكر له من يخطب. فقال له الأمير: الى هذا الوقت؟ فمن؟ فقال له: ومن إلا ابن عمك وقاضيك ابن طالب؟ وأراد أن يأخذه الأمير على غير أهبة، فيفتضح رؤوس الناس، ويسقط. فأمر الأمير بإحضاره وأمره بالخطبة، فقام بخطبة مشهورة. وذكر أنه لم يروها. حسنة جداً.
فزادته عند الناس رفعة، ومكانة.(4/320)
وكان ابراهيم الأمير يقول: على بابي رجلان أحدهما يخاف الله، ولا يخافني. والثاني يخافني، ولا يخاف الله. فأما الذي يخاف الله ولا يخافني، فهو ابن طالب. والثاني فلان. فذلك عظيم الحرمة عندي. وهذا الذي يخافني، صغير عندي. قال بعضهم: ذكرت ذلك لابن طالب، فقال: صدق. قال القصري: كان ابن طالب، يذكر تنازع أصحابنا في المسائل، فربما ذكر في المسألة خمسة أقوال، أو ستة. ثم تسيل دموعه، ويضع خده على الأرض، ويقول: يا فتى: أردت أن يقال فقيه. فهل معك عمل صالح، تنجو به من عذاب الله، وإلا فما يغني هذا عنك. وما رأيت أكثر دموعاً عند ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم منه. وكان مع ذلك يقول أعجبتني نفسي، فأقول: يا ابن طالب هبك أعظم الناس قدراً، وأكثرهم علماً، أليس يشفع وراء ذلك كله الموت؟ ومن كرم أخلاقه، ما حدث به محمد بن محمبوب. قال: كنا عنده يوماً، فخاطبه بعض أهل مجلسه بخطاب خشن، لم يخاطب مثله بمثله. فنظر بعضهم الى بعض، وتمادى ابن طالب في مكالمته كأنه ما سمع مكروهاً. فلما قام الرجل، قال لنا ابن طالب: رأيت نظر بعضكم الى بعض، وقلت في نفسي: رجل قصدني، يؤدي الذي يجب من حقي، هنا عليّ، أصول عليه بسلطاني؟ هذا من اللؤم. وكانت لصاحبه عبد الرحمن بن عمران المعروف بابن الورنة، ابنة. خاصمها زوجها الى ابن طالب، في أمر يجب فيه بينهما اللعان. فماطلهما ما أمكنه. ثم ألح الزوج عليه، حتى حكم باللعان، وتلاعنا، وتفرقا. وكان عبد الرحمن كثير الزيارة له من أجل العلم، والمناظرة.
فقال ابن طالب لأصحابه، المتكلمين عنده في العلم: إذا حضر عبد الرحمن فلا يذكر أحد مسألة في باب اللعان.(4/321)
ومات سليمان بن عمران، في أيامه، فتندم، فصلى عليه. فيقال إن ابن طالب ما زاد في صلاته عليه أن قال: " ربّنا وسِعْتَ كل شيء رحمةً وعِلماً " الآية. وقال ابن اللباد: جاء رسول الأمير ابراهيم، الى ابن اللباد، فلقيه خارجاً من المسجد. فقال له: يأمرك الأمير أن تصلي على سليمان بن عمران. فوقف متفكراً ثم قال: نفعل. قال ابن اللباد: ثم عطف ابن طالب عليّ، وقال ظلمني والله ابن عمران، وحبسني، أفترى أن صلاتي عليه، إجلالاً له؟ والله لا أفعل. ماذا أقول عليه من الدعاء. وقد ظلمني. وكان معه قرآن، وإسلام. أقول عليه: اللهم انفعه بالإسلام. أقول هذا مرة. وأقول هذا مرة. قال ابن أبي الوليد: وأتيت ابن طالب تلك العشية. فقال لي: مات ابن عمران. لقد بلغني أنه كان يقول: إني لا أحب أن أموت في عزي، ونحو هذا الكلام، على النكير منه عليه. إنما العز لمن كان معه القرآن والعلم. هذا العزيز. وأما من كان معه عز السلطان، فليس بعزيز في داره. فكان يجهر بالقراءة بترتيل. وكذلك التسبيح حتى يسمعه من يليه في الصف الآخر. وصلى على جنازة بعض أصحابه، فأطال عليهم القيام، جداً مجتهداً في الدعاء، حتى ملّ الناس من طول قيامه.(4/322)
فكُلِّم في ذلك. فقال: كان لي صديقاً، فأردت أن أخلص له في الدعاء، وأجتهد له. لأنه رُوي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنه فعل مثله فاقتديت به. وكان ابن الأغلب، قد فوض إليه النظر في الولاة والجباة، والعدل والولاية، وقطع المناكير. ومن سيرة ابن طالب فيما حكاه عنه أبو بكر المالكي: أنه جعل على أكتاف اليهود والنصارى، رقاعاً بيضاً. فيها: صور قرد وخنزير. وعلى أبواب دورهم ألواح مسمرة، فيها صورة قرد. وضيق على أهل القيروان في الملاهي.
قال بعضهم: كنت أنظر الى أبي العباس بن طالب، إذا تفرغ من القضاء بين الناس، قدم فوقف وحول وجهه الى القبلة، ثم بسط كفيه، فنظرت الى دموعه وهي تجري على خديه، ولحيته، وهو يقول: اللهم إن كان مني زلة أو هفوة أو أصغيت بأذني، الى خصم دون خصم، أو مالت نفسي الى خصم دون خصم، فأسألك أن تغفر لي ذلك، ولا تؤاخذني، ولا تنتقم مني. إنك على كل شيء قدير. ثم يصلي على محمد صلى الله عليه وسلم، وينصرف. هكذا يعمل في كل مجلس. وكان يكتب على أحكامه: حكمت بقول ابن القاسم. حكمت بقول أشهب. ويقول: في البلد علماء وفقهاء، أذهب إليهم، فما أنكروا عليك، فارجع إلي. وكان يكتب القضية ويقول لصاحبها: أرها لكل من له علم بالقيروان. ثم ارجع إلي بما يقولون لك لأن يسألني الله عمن وقفت، أيسر علي من أن يسألني لم جسرت. قال ابن الحداد: كنت عند ابن طالب، فشهد عنده أبو العدل في شهادة، في عقد بدين، على رجل. فقال المشهود عليه: سله هل قبض منه شيئاً.(4/323)
فقال: نعم، قبض منه كذا. قال: فكيف شهدت علي بجميعه. فقال لي: ما تقول فيها؟ قلت لا يضره. لأنه لم يقصد الزور. فقال كأن يشهد بجميعه، ثم يقول: قبض. فقال ابن طالب لا أريد شهادة أبي العدل، وكان مبرزاً. قال يحيى بن عمر: حضرت ابن طالب وقد أمر بضرب رجل بالدرة. فقال: اضرب في الرأس، فإن أبا بكر رضي الله عنه قال: إنما يسكن إبليس في الرأس. وقد روى البرزي، عن أشهب نحوه. قال: ولا يفضح أحد في الأدب، وكتب ابن طالب الى خلف بن يزيد قاضي طرابلس وغيره، من قضاة عمله، في شأن إسقاط الشروط بين الزوجين، وإبطالها. وأن لا يزوّج المرأة إلا على دينه، وأمانته. وعلى قول الله تعالى: " فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسان ". ونهى أصحاب الوثائق، والشهود، وعامة الناس، أن لا يحضروا نكاحاً، فيه شيء من الشروط. ولا يكتبوها، ولا يشهدوا فيها، وأمرهم بمعاقبة من خالف ذلك، وسجنه. وحكى ابن طالب في بعض كتبه، عن مالك رحمه الله: أنه سئل عن بعض هذه الشروط الغليظة. فقال أرى أن يفرق السلطان بينهما. فإنها شروط لا يوفق عليها. وأن سحنون كان يهتم لها. ويتلهف على العاقدين والشاهدين. ويوقع بهم العقوبة الناهكة.(4/324)
وذكر ذلك عن غيره. وقال من عيبها. ترك من مضى عليه السلف وتزويجهم المرء على دينه. وأن الرجل ليس يدخل مع أهله، مع غليظ هذه الشروط، إلا وقد جازها لقلة التحفظ لحقائقها.
محنته ووفاته
كان رحمه الله، قد امتحن عند العَزلة الأولى، في ولاية سليمان بن عمران. وكانت محنته الثانية، الكبرى: في ولايته الثانية. بعد موت سليمان في ولاية ابن عبدون. وكان السبب في ذلك، أنه نظر ما شرعه ابراهيم بن الأغلب، من الفسوق والجور، والاستطالة على المسلمين. وإباحة السودان على نساء أهل بيته، حين امتنعوا من بيعها منه. وقد أتت امرأة، بفرعة ابنتها في ثوب، فألقته بين يديه، فتوجّع وقال: ما أرى هذا يؤمن بالله. أو هذا فعل الدهرية ومن لا يؤمن بالله واليوم الآخر. فبلغت الكلمة ابراهيم. فحقدها عليه. ثم عزله وحبسه. وولى محمد بن عبدون. وكان عراقياً، متعصباً على المدنيين. وأمره بإحضار العلماء، وإخراج ابن طالب إليهم، وفيهم من كان بينه وبين ابن طالب منافسة، ليشهدوا عليه. وجلس لذلك في المقصورة. وجلس ابن الأغلب يقربهم، ليسمع كلامهم. وأمر القاضي بتتبع أفعاله، ومناظرته، ليفضحه على رؤوس الناس.(4/325)
فكان من جملة ما سألوا ابن طالب أن قالوا له: دفعت من وصية فلان الى فلان العباسي مائة دينار. ولغيره الدينار، وأقل. وهو عندك ممن لا تحل له الصدقة. فإنه من بني هاشم. فقصّر في الأجوبة. ورد الى السجن. فيحكى أن الشرط دفعوه. فكان يقول: يا فتيان، اذكروا النار. وقال ابراهيم لابن عبدون: أحضره يوماً آخر، وأحضر جماعة الفقهاء، حتى يتبين خطؤه. فأنكل فيه. وكان ابن الأغلب قد أحضر سعيد بن الحداد، قبل، ليكون منه في ابن طالب ما كان من غيره. فأعان ابن الحداد ابن طالب، ووفى له. ودعا ابن الحداد ابنه. وقال له: تذهب الى ابن طالب، فقد علمت كيف كان برّه بنا. وقد صار ما صار إليه، وذهب عقله وفهمه لعظيم محنته.
وإنما يعد الأخوان لمثل هذا. فكتب جميع أجوبة المسائل، التي سألوه عنها. وأمره أن يحتج بها، إذا سألوه، وقال له في مسألة العباسي: إنما حرمت الصدقات عليهم، إذ كانوا يأخذون سهم ذي القربى، وأما الآن، فالصدقة عليهم حلال لحاجتهم. وقال لابنه: إحذر أن يشعر بك أحد. وقل له: يقرأها في خلوته. وجِئني بها، حتى يطمئن قلبي. فحملها إليه، وجعل ابن طالب يختلف الى المستراح، حتى وقف عليها وحفظ معانيها. وتذكّر ما أغفل عنه، لعظيم محنته، وردها. فلما كان اليوم الموعود، وأحضر، وسئل: أجاب عن كل ما عجز عنه في الجمعة الأولى. فاغتم لذلك ابراهيم، ورده الى السجون، وعوّل على قتله.(4/326)
فيقال دبّر إليه من سقاه سماً. وقيل أحال عليه أسودَين ركضا بطنه، حتى مات. وقيل: إنهم لما ركضوا في بطنه، ألقى دماً عظيماً من أسفله. ثم أخرجه من السجن، ووجه إليه فرساً، ودواء. فأقامه في داره، ودموعه تسيل، ونفسه تتصاعد، حتى مات رحمه الله. حكى ابن اللباد أنه كان يقول في قضائه: اللهم لا تمتني، وأنا قاض. فمات بعد عزله، بنحو شهر. قال ابن حارث: كان لما أمر ابن الأغلب قاضيه ابن عبدون، بإحضار ابن طالب، وأن يتبع أفعاله ويناظره، حتى يفضحه بحضرة الناس. ففعل، وجلس لذلك في المقصورة.
وجلس ابن الأغلب بمكان يسمع منه. وأمر بإحضار ابن طالب، فأحضر. وأشار إليه ابن عبدون وتم القضاء. فقال ابن طالب: أنا أعرف بحقه منك. فكيف لا أوقره. فقال له: فمن توقيره أن تجلس بين يديّ، متكئاً؟ فكان من قول ابن عبدون: أخبرني عن فعلك، في الأثلاث؟ من أجاز لك أن تفعل فيها ما فعلت؟ فقال ابن طالب: وما الأثلاث؟ فخجل. فقال له ابن طالب: لعلك تريد الوصايا؟ قال: نعم.(4/327)
قال: فإنها لا تسمى أثلاثاً، لأن الرجل يوصي بالثلث والربع ولا يذكر جزءاً فما أنكرت من فعلي فيها؟ قال: تعطي منها عطاء كصيراً، للواحد، فتعينه. فقال له ابن طالب: قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم. قال له: وفعله عمر. فقال له ابن عبدون: وإنما تشبه أفعالك بفعل عمر. فقال له ابن طالب: فإذا بالنبي لا يُهتدى وبعمر لا يُقتدى وبالأمير لا يُؤتمر فبمن إذن يا هذا؟ فقال ابراهيم: رجونا بابن عبدون أن يفضح ابن طالب. ففضحه ابن طالب. قال حمديس القطان: كان الأمير ابراهيم بن الأغلب، قد بعث إليّ والى سهل بن عبد الله القبرياني، وعبد الجبار بن خالد، وجماعة من أصحابنا، وجماعة من أهل العراق، لهذا المجلس، دخلنا المسجد، فكنت قاعداً الى حائط المقصورة فخرج إلينا، رسوله يقول: ما تقولون في ابن طالب: فتكلم فيه قوم، بينه وبينهم شيء. وأوقعوا فيه شهادات منكرة. سمعت الأمير من خلف الحائط ينكر عليهم قولهم، يقول: ولا هذا كله، ولا هذا كله. وتحزى قومٌ الكلام، مثل حمديس، ويحيى بن عمر، وأثنى عليه آخرون مثل سعيد بن الحداد، وقاسم ابن أبي المنهال. قال حمديس: ولقد أحضرني ابراهيم، عند عزل ابن طالب من قضائه الأول، وأحضر إسحاق ابن ابراهيم بن عبدوس، وأحمد بن أبي المنهال، وأحضر ابن طالب، والقاضي سليمان بن عمران.(4/328)
وقد أحضر سليمان يوماً للشهادة على ابن طالب. فمنهم ابن عبدون وغيره. فجعل ابراهيم يسأل ابن طالب، فيحتج ابن طالب. فرد الأمير حجته. ويتكلم سليمان بن عمران، بما لا تقوم به حجة، على ابن طالب. فجعلها الأمير، له حجة. فلما رأى ذلك ابن طالب، سكت. قال حمديس: فرأيت أن السكوت لا يسعني، وقلت: إنما أحضرنا للكلام، فقلت بإذن الأمير مرة، وأخرى، فلم يجبني. ثم قلت: أقول الثالثة. فإن لم يجب فهي حجة لي عند الله. فحوّل إليّ وجهه، وقال: هات كلامك. وكان الأمير يطلبه بأمر التركة، التي تولاها ابن طالب، وفرق ثلثها بتفويض الأمير، فقال له: ضمنتك جميع التركة. فقلت للأمير: خذ ما تحب. فقال لي: وما نحب. قلت: قال الله تعالى: " مما قلّ منه أو كثر نصيباً مفروضاً ". فلو أوصى الميت ألا يدفع ما أوجب الى وريثه، لم يكن له ذلك في سنة المسلمين. فقال ابراهيم: أمرتُه أن لا يدفع الى الورثة شيئاً. فقلت: أمر الله فوق أمر الأمير. فقام إليّ بلاغ الخادم، مغضباً ليهم بي، فكلمه الأمير بالصقلبية فانكف.(4/329)
وقلت: ليس لك عليه سبيل إلا في الثلث الذي فرضت إليه. فإن كان أنفذه في وجوهه، فلا سبيل لك عليه. وطال المجلس، وأخذ الأمير ضامناً على ابن طالب، ويخلى. فخرج ابن عمران القاضي الى الوزراء، فشكاني، وقال: هذا نقض أحكامي. فرد الأمير فيه إليه. فرده الى السجن. ثم عفا عنه. وكان في سجنه في القصة الأخيرة، بلغه أن ابراهيم هم فيه بأمر. فحكى أنه فرغ الى الدعاء. فكان من دعائه ومناجاته: اللهم إن كنت علمت مني أنه إذا جلس الخصمان بين يدي، فكان في أحدهما رضاك، وفي الأخرى رضا ابراهيم، إني أؤثر رضاك. فاعصمني منه. وإن علمت أني أؤثر رضاه، على رضاك. فسلطه علي. فكفاه الله ما هم به ابراهيم من تلك القصة. وقيل إن ابراهيم تبرأ في تلك المطالبة بأمر فأوجع قلبه. فقال: اللهم إنه رماني بذنب، لم أرتكبه. اللهم لا تمته حتى تشهّر به. فأجيبت دعوته، وانكشف ابراهيم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى
وقد وقت في كتاب تاريخ قضاة إفريقية، على نسخ السجل الذي عزله به، وثبت فيه مثالبه ومذاهبه، التي أجلبها عليه. وفيه رميُه بهذه الكبيرة المذكورة. أنصفه الله منه. وكانت وفاة ابن طالب بعد عزله، بنحو شهر. سنة خمس وسبعين ومائتين. وهو ابن ثمان وخمسين سنة. مولدة سنة سبع عشرة، ومائتين. ورثاه أحمد بن أبي سليمان بقصيدة طويلة أولها:
تهولت الدنيا لموت ابن طالب ... وأظلمت الآفاق من كل جانب
أمام هدى حلت بنا فيه نكبة ... من الدهر عظماً أصبحت بالعجائب(4/330)
لقاضي القضاة المرتضى في أموره ... غدا اليوم أهل الدين أهل المصائب
فمن بعده يرعى بنا الحق رعيه ... ويظهره إظهاره بالمغارب
لقد كان سيف المالكين ومن له ... يصال به ضرباً على كل جانب
وقد ذهب المأمور بالدين والتقى ... ومن كان يرجى للندا والمواهب
قال أحمد بن محمد القصري: رأيت ابن طالب في النوم بعد قتله. فسألته. فقال: وحق الله، لقد دخلت الجنة. قلت: كيف كانت منيتك؟ فقال: سقاني شربة. سقاه الله من صديد أهل النار.
عيسى بن مسكين بن منصور
ابن جريج، بن محمد الإفريقي. رحمه الله تعالى. من العجم أصله. وينسب الى قريش، من أهل الساحل. قال أبو العرب: سمع من سحنون، وابنه جميع كتبه. وسمع بالمغرب من غيره. وسمع بالشام من أبي جعفر الإيلي. وسمع بمصر من الحارث بن مسكين، وأبي الطاهر، والربيع. ومحمد بن المواز، ومحمد(4/331)
بن عبد الله بن عبد الحكم، والبرقي، ومحمد بن سحنون، ويونس الصدفي. وسمع من علي بن عبد العزيز، وغيرهم. سمع منه الناس: أحمد بن محمد بن تميم. وأبو الحسن الكانشي، وأبو مروان الحجام، ومحمد بن يونس السدري، وعلي بن حماد، وليث بن محمد وغيرهم. رضي الله تعالى عنهم.
ذكر فضائله رحمه الله تعالى
قال أبو دحيم: كان من أهل الفقه، والورع وكان مهيباً، وقوراً. قال أبو العرب: كان ثقة مأموناً، صالحاً. ذا سمت وخشوع. كثير الكتب في الفقه، والآثار. صحيحها. وكان يشبه سحنون في هيبته. وكان مهيباً. قال غيره: كان رجلاً صالحاً. فاضلاً، طويل الصمت، دائم الحمد. رقيق القلب. غزير الدمعة. كثير الإشفاق. متفنّناً، في كل العلوم: الحديث والفقه وأسماء الرجال. وكُناهم. وقويّهم وضعيفهم. فصيحاً، يجيد الشعر، قال أبو بكر المالكي: كان اعتماد ابن مسكين على سحنون، وبه كان يقتدى في كل أموره، من شمائله وزهده، ومحاسنه، ومباينته لأهل البدع، حسن المودة بيّن المروءة. قال أبو علي البصري: لو أفردنا كتاباً، في ذكر مناقبه ومحاسنه، وزهده وورعه، وعدله، ما انتهينا الى وصفه. وكان مع ذلك عالماً باللغة. قائلاً للشعر. قال ابن حارث: كان ابن مسكين من أهل الفضل البارع، والورع الصحيح، والصمت الطويل. يقال إنه كان مستجاب الدعوة.(4/332)
وقال ابن الجزار: كان محله من الزهد والورع والسكينة، والوقار والخوف من ربه، والعدل في حكمه، والتوبة في لفظه، ولحظه، على حالة يقصر عنها وصف البليغ.
وكان مع ذلك فقيهاً عالماً، فصيحاً. قال أبو الحسن الكانشي: أدخلني عيسى بن مسكين الى بيت مملوءة بالكتب، ثم قال: كلها رواية. وما فيها كلمة غريبة إلا وأنا أحفظ لها شاهداً، من قول العرب. وقال بعضهم لقد جلست الى كثير من أهل العلم، فما رأيت أحداً مثله. وما أشبّهه إلا بمن كان قبله من التابعين. وكان إذا حضر مجلس محمد بن سحنون أمره محمد بأن يؤذن، ويقيم ويصلي. فإذا استفتي محمد. قال افته يا أبا موسى. ونظر إليه محمد بن سحنون يوماً، فقال: يا أهل الساحل. هذا أفضلكم، وخيركم، وإمامكم. وكان إذا تفاخر أهل المدينة، وأهل العراق برجالهم. فقيل لأهل العراق: وعندكم مثل عيسى بن مسكين؟ يعجمون ويقولون: ذلك أفضلكم وأفضلنا.
ذكر ولايته القضاء وسيرته
قال ابن مسكين: لما مات سحنون اغتممت لموته. فرأيته في نومي، كأنه خلع من عنقه شيئاً، كان متقلداً به، فقلدني إياه. فقلت: كان سحنون رجلاً صالحاً. والله لأقفون أثره. وتأولته العلم. فبعد أربعين سنة خرجت رؤياي. فابتليت بالقضاء.(4/333)
قال عيسى: بينما أنا في الدار يوم الجمعة برقادة - يعني وهو قاضي - إذا برجل يحرك عليّ الباب. ففتحت له، فسلم عليّ. ثم جلس. فقال لي: كيف حالك. فقلت ما سؤال على من صار حاله الى ما ترى؟ قال: إنما هي تسعة. وقلت: هذا - يعني الأمير - قال: هذا يخرج. وهذا يمر. فقلت: أين. قال يركب البحر. ثم خرج. فقلت تسعة أيام.
فمضت تسعة أشهر. فأقمت تسع سنين. فقال: إنه الخضر عليه السلام. قال ابن حارث: كان ابراهيم بن أحمد بن الأغلب. قد أحضر يحيى بن عمر، الى ولاية القضاء. فقال له: إن دللتك على من هو أفضل مني، في الوجه الذي تحب. تعافيني؟ قال له: نعم. فدلّه على ابن مسكين. فأرسل فيه ابراهيم بن حماد، الى كورة الساحل. وأوصله الى نفسه. وعرض عليه القضاء فنفر منه. قال تميم بن خير إنه لما شاور العلماء ابراهيم، فيمن يلي القضاء، اختلفوا عليه. فذكر له عيسى، فقال أحمد بن ناجي: والله، أيها الأمير، صاحبنا عند سحنون. جمع الله فيه خلال الخير، بأسرها. فوجه فيه الى الساحل. فأتي به. وفي المجلس حمديس وغيره.(4/334)
فقال له ابراهيم: أدتري لمَ بعثت إليك؟ فقال: لا. قال: لأشاورك في رجل قد جمع خلال الخير أردت أن أوليه القضاء. وألمّ به شعث هذه الأمة فأمتنع؟ قال: ألزمه أن يلبي. قال: تمنّع. قال يُجبر على ذلك. قال: أمتنع؟ قال: يُجلد. قال: قم. فأنت هو. قال: ما أنا بالذي وصفت. وتمنع. فأخذ الأمير بمجامع ثيابه، وقرب السيف من نحره. فتقدم إليه عيسى بنحره. قال حمديس: فقمت من مكاني، كيلا يصيبني من دمه. فلم يزل به، حتى ولي. قال ابن أبي سعيد: ولاه القضاء ابراهيم بن أحمد، بعد إجماع الناس عليه، على اختلاف مذاهبهم، وامتناعه. فخوّفه ابراهيم، وحلف له بغليظ الإيمان لئن لم تلِ لأقتلنّك.
فولي، وأسكنه رقادة. فكان لا يتصرف، ولا يخرج الى المسجد. وقيل إن ابراهيم قال: والله لأولين عليكم من لا تختلفون في فضله وزهده، وعلمه وورعه. فوجه فيه.(4/335)
قال غيره: وقيل: إن الأمير ابراهيم، قال له: إن لم تلِ لأولينّ ابن عبدون، يظهر البدعة، ويهين، السنة. وقيل إن ابن الأغلب لما وجه فيه، استخشن الرسول زيه. فلما أتى به ابن الأغلب، قال له: إنه لا يصلح للقضاء. لثقل روحه، وزيه. قال له: أرنيه، قبل وصوله إليّ. فأدخله من حيث يراه، وعليه جبة صوف، وعمامة صوف. فلما وصل إليه، قال له ابن الأغلب: قد اتفق الناس عليك. فقال: اتق الله ولا تول مثلي على هذا البلد. فقال اذهب ولا ترجع الى منزلك إلا بإذني، وجمع العلماء والشيوخ الذين أشاروا به.
فقال لهم: أشرتم علي بشيخ في زي جَمال. فقالوا إن أردت أن تقوم لك الحجة عند الله، فوله. فلم يرَ مثله. فأحضره وخوفه وذكر نحواً مما تقدم. فلما رأى منه ما رأى، أي ما لا قدرة له عليه. أراد أن يشدد عليه في الشرط. قال اشترط ما أحببت. قال أستعفيك في كل شهر، قال نعم. قال: أكتبه. ففعل. وأحملك وبني عمك، وجندك وفقهاء المسلمين وأغنيائهم في درجة واحدة.(4/336)
قال: أكتب. ففعل. قال ولا توجه ورائي، ولا أعزّي، ولا أهنّي، ولا أشيّع، ولا ألتقي. فمتى لم توفِ لي بشرط، عزلت نفسي. قال: نعم. وعرض عليه الصلة، والكسوة فامتنع. قال ابن حارث: وقال عيسى بن مسكين لابن الأغلب: أنا رجل طويل الصمت، قليل الكلام، غير نشيط في أموري، ولا أعرف أهل البلد، فقال له الأمير: عندي مولى نشيط، قد تدرب في الأحكام، أنا أضمه إليك يكون كاتباً. يصدر عنك الأمور في القول في جميع الأمور، فما رضيت من قوله، أمضيت. وما سخطت رددت، فضم إليه عبد الله بن مفرج المعروف بابن البناء. قال المخبر: فكثيراً ما كنت آتي مجلسه، وهو صامت لا ينطق، وابن البناء يقضي. قال: فلقد دخلت يوماً على الأمير، فقال لي: بلغني أنك تخاطب الخصوم، وتفصل، وعيسى ساكت. ما أرى إلا أنه لم يقبل القضاء. قلت: قد قبل. إلا أني أكفيه.
قال: أمضِ، ولا تعلم أحداً بما جرى بيني وبينك. فإذا حضر الخصمان فافصل بينهما، بغير مذهبه. فقلت ما قلت لهما. فأمرني عيسى بصرفهما. فقال لي: أفصل بينهما ولا يعاد إليّ(4/337)
مثل ما فعلت قبل. فأمرهما قراراً بين يديه. وفصل بينهما، بمذهبه. فأخبرت بذلك الأمير. فحمد الله تعالى. وسجد شكراً لله تعالى. قال الخراط: وكان له كاتب آخر يقال له ابن زرياب. يتولى الديوان. فغاب يوماً عن المجلس، واحتيج الى النظر في الديوان، ولم يدر ابن البناء ما يعمل فيه، الى أن ارتفع النهار. وتفرق أصحاب القضية. فجاء ابن زرياب، فنظر في الديوان، فأخرج القضية، ثم اعتذر عن تأخره، بحضوره نكاحاً، عند أبي القاسم بن محمد بن عبدوس. وذكر ما لابن عبدوس عليه من الحق. وأنه لم يمكنه إلا الحضور. فقال له عيسى: ما ظننا بك إلا عذراً من مرض، أوهم في ذلك، وإذا أنت في هذا. فأخذوا بيده الى السجن. فلما استقر في السجن وجه وراءه، وقال له: أنت في إجازة المسلمين، تعطل ما استؤجرت فيه، وتشتغل بحضور الملاكات. لا تعد وارجع الى مكانك. وذكر أنه كان يقوم في الليل، يتذكر قصص المتخاصمين عنده، واحداً واحداً، ويسأل الله تعالى أن يحمله فيها على السداد. ومرّ يوماً على السجن فأسمعه بعض من سجنه ما يكره، فكلمه في ذلك بعض من حضر، وقال من يصبر على هذا. قال عيسى: من أين كلمني؟ قال من السجن. فقال لهم فليس عليّ أكثر من هذا. أخذنا كسوته ونمنعه من البكاء. ونحو هذا.(4/338)
وخرج عنده بعض العرافين شُهد عليه أنه يشرب النبيذ. قال له عيسى: كشفت عنه فأصبته يدين بتحليله. ولا يجمع عليه الجموع. وأثبت شهادته. ودخل على عيسى بن مسكين رجل، من أشراف الناس، يتولى الأمانة للقضاة. وكان عيسى يجلّه. فأقبل عيسى يسأله عما قبله. فإذا بصائح يقول: يا قاضي. خصمي داخل عندك. وأنا خارج. ثم صاح ثانية، وثالثة. فلم يرَ عيسى غيري. فأمر بإدخاله. وسأله من خصمك؟ فقال: هذا؟ يعني الأمين. فقال: هل دارت بينك وبينه مخاصمة، قبل هذا. قال: لا. وأمر بالرجل الى الحبس، وقال: لما دخل علينا أمينُنا ومن يعيننا على الحق، أردت أن تؤذيه وتمرته. فقال عندي منافع مال من السجن تأتي بها. فلما استقر في السجن، أمر بإخراجه، وإحضار منافعه. قال: وبينما عيسى يوماً بجامع رقادة، إذ سمع صياح قوم. بالله. ثم به. فقال لمن حوله: أنظروا من هؤلاء؟ قالوا: نهب تونس، فأمر بإمساكهم.(4/339)
فشكاه الذي نهبهم الى الأمير، ابراهيم. فأرسل إليه في إطلاقهم. فقال لكاتبه: أكتب إليه: " ويا قومِ ما لي أدعوكُم الى النجاة وتدعونني الى النار " الى قوله: " بصيرٌ بالعباد ". فلما قرأها، قال: هذا رجل يحاربنا بالله، لا حاجة لنا بهم.
أتركوهم. ووجه ابن الأغلب يوماً وراء ابن البناء. فغلط الرسول. فدعا عيسى، وذلك بعد مجيء الأمير ابراهيم، من سفرة، لم يشيعه فيها، عيسى، ولا لقيه إذ جاء. فلما أتى الرسول الى عيسى. أقبل فوجد ابراهيم في بستان. فلما رآه ابراهيم قال له ابتداءً، والله ما وجهت إليك. ولا أردت إلا ابن البناء. فانصرف عيسى من مكانه ذلك. ولم يصل الى الأمير ولا سلم عليه. فقال ابراهيم: يا قوم: أرأيتم مثل هذا القاضي. غبت فما شيع، ورجعت فما تلقى، ولا هنأ. بعثت وراء غيره. فغلط به الرسول. فاعتذرت له. فانصرف بعد أن رآني بغير تسليم، ردوه. فخرج بعد ذلك عليه ابراهيم. فقال له عيسى: الأمير أكرم من أن يعدني وعداً. ويعقد على نفسه عقداً. ثم ينقضه، فيما تقدم منه. من رفع المؤونة عني، فصارت مخالفة ما رسمه من طرح التكليف مما لا ينبغي أن أفعله ولا يجوز، وأما رجوعي بعد رؤيتي له، من غير تسليم، فرأيته جالساً في غير مجلسه للناس. فلو تركني. لسلمت.
فلما بادرني بالكلام، قبل السلام. ظننت كراهيته، لدخول هذا الموضع. فانصرفت مساعدة لذلك. وكان يقول للأمير ابرهيم عندما يُطنب في الثناء عليه، ويفتخر به: إنه مطيع.(4/340)
فقال: إن كان ما ظهر منه يشهد لباطنه فما كان في عُبّاد بني إسرائيل مثله. وإن كان رياء أو تصنعاً، فما رأينا ولا بلغنا عن أحد ملك شهوته ونفسه منه. لاسيما مع الإمكان والرياسة. وهو في الحالتين نسيج وحده. قال: ولم يأخذ ابن مسكين في مدته على القضاء أجراً. وكان لا يستعين بأحد في شيء، من أموره. وربما استُقي له الماء، فيريقه، ويستقي لنفسه. وإنما كان بل لنفسه. ودخل عليه رجل يوماً، فوجد له عجيناً في مقلى، كاد أن يحترق، وابن مسكين في الصلاة. فقلبه له الرجل. فلما أتم الصلاة أمر بصدقته، ولم يأكله. ودخل عليه رجل يستسقي، فحلف له أن لا يستقي إلا هو. فتركه حتى استقى. ثم أخذه فأراقه في الماجل. ثم استقى هو بنفسه. وإنما كان يعيش بدقيق، كان يأتيه من منزله، يخبزه بنفسه، وبقل وشيء يأتيه من البادية. فإن لم يأته شيء، انتظره. فربما بقي اليومين والثلاثة بلا طعام. وكان شديد التقشف في قضائه. ولم يكن على هذه السبيل من الانقباض، قبل قضائه. ولما عزل، عاد الى ما كان عليه، من حسن المعاشرة. وكرم المجالسة. والمؤاخاة. وسئل عن فرط انقباضه، فقال: ابتليت بجبار عنيد. خفت أن يبعث إليّ من طعامه أو يدعوني إليه. فلا آمنه إن امتنعت. فحملت نفسي على ذلك. لينقطع طمعه فيّ. وفرغ ما عنده من القوت برقادة. فبقي ثلاثة أيام، لا يطعم شيئاً. حتى لزم الفراش ضعفاً. حتى أتاه الرسول، آخر اليوم الثالث. قال: ولقد أقام برقادة تسع سنين، ما أكل تيناً - إلا مرة - اشتري له بخروبة. ولا بطيخاً - إلا مرة واحدة - صغيرة.(4/341)
وكان عيسى لا ينزل الى القيروان. فولى مظالمها، سليمان بن سالم، وأطل له النظر في مائة دينار. ثم عزله. وولاه قضاء صقلية. وولي مكانه ابراهيم بن الخشاب، واستكتب له أبا بكر بن اللباد. فكان يجري على رأيه، ولم يكن لابن الخشاب فقه، وولى على الحسبة، أبا القاسم الطرزي، قال أبو بكر اللباد: شاهدت ابن مسكين في جنازة بعض نساء الأمير ابراهيم، جالساً في المقبرة. إذ جاء الأمير أبو العباس، فقام إليه الناس، وسلموا عليه، وعيسى جالس. ما حل حبوته. فلما نظر إليه. قال: يا قاضي: السلام عليكم ورحمة الله. فقال له: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. ثم سار إذ جاء أبوه ابراهيم، فوقف إليه الناس، وعيسى على حاله، ما حل حبوته. فلما رآه الأمير مال إليه، فلما حاذاه، قال السلام عليك يا قاضي. فردّ عليه. ثم نزل فقدّم عيسى للصلاة عليها، وبعث الأمير به الى تونس، فرغب بعض أهلها في نزوله عنده. فأنزله في دار حسنة، فقصد الى بيت مُسوّدٍ من الدخان، بابه تحت درج، فنزل فيه فسئل عن ذلك. فقال: يأتيني رجال السلطان فيطيلون الجلوس، إذا أصابوا مكاناً حسناً. وهاهنا من أتى منهم، سلّم وانصرف. وعوفيت منهم. قال القاضي رحمه الله تعالى: ونقلته من خط ابن الحارث: سمعت بعض الشيوخ يحكي، أن رجلاً كان واقفاً على جزار فرماه رجل بشيء، فحاد عن الرمية، فسقط، فاعتل، فمات، وخاصم ورثته، الرامي الى عيسى بن مسكين. فأثبتوا عليه الرمية. فقضى لهم عيسى بالقتل، بعد القسامة.(4/342)
فلما ذهبوا ليحلفوا. قال لهم ابن مسكين: يحلفون بالله خمسين يميناً، لمن رميته حاد ومن حبوته سقط ومن سقطته مات. وكان ابراهيم يبتهج بكونه قاضياً له. قال له يوماً بعض خدمته لقد نصحتك نصحاً ما نصحك القضاة بمثله. فقال له ابراهيم: ولا عيسى بن مسكين.
ذكر استجابته وبراهينه
ذكر أنه دعا على ابن عبدوس القاضي، لما أشرف. فقال: اللهم ابله بداء القرحة. وهي قرحة تخرج في الوجه، فابتلي بها. ومات منها. وأن نصرانياً لقيه، فسلّم عليه، فصافحه، وعيسى لا يعلم. فعرف بعد ذلك. فقال اللهم إقطع يمينه، وانتقم منه. فلما كان من الليل، نزل عليه لصوص، فقاتلهم. فقطعوا يده. وحكى الكانشي عن بعض من رافق عيسى، في طريق الحج، فقال: خرجت ليلة من الرفقة، لقضاء حاجة الإنسان، ثم عدت الى الرفقة. فإذا عليها سور منعني من الوصول إليها. حتى أصبح الصباح. وضرب الطبل، فذكرت ذلك لعيسى. فقال ما أبيت ليلة حتى أدور على الرفقة، وأقول اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام. واكنفنا بكنفك الذي لا يرام. اللهم إني أستودعك ديني، ونفسي، وأهلي، وولدي، ومالي، إنك لا تخيب داعيك، يا أرحم الراحمين. قال: وبينما عيسى يقرأ عليه أصحابه، إذ أخبرهم أن أبا العباس بن الأغلب، كتب السجلات بخلق القرآن. وأمر بتفريقها على الناس وأن يحمل الناس عليها بعد ذلك، وأصحابه باتوا من أجله في غمّ. فلما أصبح، قال لهم عيسى: إن مدة هذا الرجل قد انقطعت. فأتى الخبر أنه مات في تلك الليلة. وكان عيسى بن مسكين، ربما نطق بشيء من الإنذارات، قبل وفاته. فيقال: إنه صحب أبا خارجة، صاحب مالك بن أنس رحمهما الله تعالى. فتعلّم ذلك منه.(4/343)
ويقال بل كان يكاتبه بذلك رجل من أهل المشرق. ويقال بل كان يجري الله تعالى ذلك على لسانه. قال بعض أصحابنا: بينما نحن نسمع عليه، إذ أتته بنته، وضمها الى صدره، وبكى. وقال: كأني بالجلاوزة يمرونها في طلب التقسيط. وفي المجلس يومئذ سهلوف؟ ومحمد بن عباس الكاتب. قال بعضهم، ممن حضر: فأتى يوماً صارخ بعد هذا، من ديوان سهلوف، وعنده ابن عباس، وهما يخدمان عبيد الله، لعنه الله تعالى. إذا بامرأة طويلة على بابه، تعرى من كسائها، وإذا هي تلك. فرجعت الى سهلوف، وابن عباس. فأخبرتهما الخبر. فذكراه.
فقلت لهما: ها هي ببابك تعرى. فخرج سهلوف حافياً، وتبعها فدخل على عبيد الله. فكتب لها سجلاً، وأن تصرف الى موضعها. قال بعض أصحابه: خرج عيسى يوماً الى المنستير، فمر بجهة المهدية اليوم. فبكى. وقال: تُبنى هاهنا مدينة يكون على بانيها إثم الإنس والجن، ثم سل سيفه، ولوّح به. وقال: اللهم أشهد أني إن أدركته أجاهده. ويحكي عنه، أنه كان يجتمع مع الخضر عليه السلام. وحكى عنه عبد الله العارف: أنه كان، بل قال: اجتمعت مع الخضر عليه السلام مرتين. ودخل عليّ في بيتي. فقال لي أبشر بفرجك مما أنت فيه.
ذكر رحلته وابتداء طلبه رحمه الله
قال عيسى: كان أبي يختلف الى كل من قدر عليه، ممن يعرف بصلاح، يستجلب لي دعاءهم. وكان ابتداء طلبي سنة أربع وعشرين ومائتين.(4/344)
وسمع من شيوخ إفريقية، سحنون فمن بعده. رحل الى المشرق، رحلتين لقي فيهما من ذكرناه. وكان في رحلته الأولى، لم يسمع من ابن سنجر، فرجع في الثانية بسببه. قال فلما دخلت مصر سمعت منادياً ينادي: من يحسن القراءة فليأت دار أبي عبد الله بن سنجر. يقرأ لابن الأمير مسنداً. فأعلمت المنادي بمكاني من القراءة. ورأيت ذلك فرصة. وكنت أكتب الليل كله. وأقرأ بالنهار، حتى كمل نسخه، وسماعه. فما مرّت تلك الأيام، حتى مات ابن سنجر. رحمه الله تعالى.
ذكر ورعه وعبادته وزهده وتواضعه رحمه الله تعالى
قال الشيرازي رحمه الله تعالى: رأيت على عيسى جبة صوف قديمة، مرقعة بخرقة، من كتابن. وهو قاضي يركب الحمار بالشند. ويعلّق الكوز من الشند، ومرض كاتبه أبو علي بن البناء الفقيه، وكان يسكن معه في دار واحدة. فطال مرضه أربعة أشهر. فلم يزره عيسى، ولا وقف على بابه، ولا سأله عن حاله، فبلغ ذلك من ابن البناء. فعتب عليه فيه، وفوض عيسى بن مسكين في ذلك، وتوجه إليه فيه، أبو سعيد بن محمد بن سحنون وغيره، وقالوا له: ابن البناء قد لحق بالمشائخ، وجعل فقهه لك لساناً، وكاتباً. وهو معك في دار واحدة، ومرض أربعة أشهر، فما وقفت عليه يوماً واحداً، ولا سألته عن حاله. فقال: اللهم المستعان.(4/345)
فلما ألحوا عليه، قال: إني في بلد غصب. فما كان الله ليراني أمشي فيه، واحداً في موضع لم أجبر عليه. فما رئي قط يمشي في غير طريق داره. ولا أتى المسجد إلا يوم موت أم الأمير ابراهيم، وأرسل إليه، أن يصلي عليها. فلم يجد بداً من ذلك. قال أبو العرب: حضرت بالساحل، وقد كلّف إنساناً شراء زيت، فاشترى له من نصراني زيتاً طيب الأصل، وأخبره أنه زاده فيما اشتراه عشرة أقفزة. حين علم أنه له. وذلك بعد صرفه عن القضاء. فأطرق ملياً ثم رفع رأسه إليه، فقال: شكر الله سعيه. لعلك تتم أجمالك بصرف زيته إليه، وتأتيني بديناري بعينه. وإلا فأترك الزيت له. وخذ منه ديناراً. وتصدق به.
ففعل ذلك. ثم اعتذر له عيسى. لئلا يقع في نفسه شيء. وقال خفت حكم الآية قوله تعالى: " لا تجدُ قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر " الآية. واشتهى يوماً لحماً فاشتُري له، فأعجبه. فقيل له: إنه معلوف. فأبى أن يطعمه فسئل عن ذلك. فقال: المعلوف عندنا يعيش على زيتون الناس، وزرعهم. قال السدى: أتى عيسى عشية، الى المسجد، فقمت وأخذت الحصير، لأفرشه إليه. فلم يجلس عليه، وجلس على الأرض. وكان إذا أصابه مفروشاً جلس عليه. قال بعض أصحابه: أراد عيسى أن يخرج الى بعض المواضع. فدخلت أخرج متاعه، فلم أجد غير آنيتين. أحدهما، بخلّ. والأخرى بزيت. فقال أصبب الخلّ على الزيت،(4/346)
فقال: هذا أخف. حمل آنية واحدة، من حمل اثنتين. ثم نظرت الى كوة في بيته، وفيها آنية صغيرة على فمها جلد مطبوع عليه. فقال: دعها حيث وجدتها. فسألته عنها، فحاد عن الجواب، وألححت عليه. فقال: كنت عند هذا. يعني: ابراهيم الأمير. فرآني أتوجع فسألني فأخبرته أني أجد رواحاً باطنة. فقال: أعطيك دواء يقطعها. فأمرني بهذا. فاستعفيت. فقال: أعرف مذهبك. خذها وأتني بدرهم ثمنها. فانصرفت. وبعثت إليه بالدرهم، وأغناني الله سبحانه عنها. وحكى ابن دبوس حاجبه، قال: جئته يوم خميس أو جمعة. وقلت: اليوم يتفرغ فأؤنسه. فقرعت عليه الباب، ففتح منه فرداً، ووقفت. فإذا هو مؤتزر بكسائه، يغسل جبته. فقال لي: يا أخي، ما جاء بك. قلت: أردت أن أؤنسك، وأراك مشغولاً. فاتركني أستقي لك الماء، وتغسل أنت. أو تستقي وأغسل أنا. فقال: يا أخي، قعدت بلا شغل. ورد الباب. وكان ذلك كله في قضائه رحمه الله تعالى.
باب في حكم من نظمه ونثره
كان يقول: أشرف الغنى ترك المنى. من قاسى الأمور علم المستور. من حصّن شهوته صان قدره.(4/347)
من أطلق طرفه كثر أسفه. في تقلّب الأحوال، علم جواهر الرجال. بحسن التأني تسهل المطالب. الحسن النية يصحبه التوفيق. المعاش مذلّ لأهل العلم. كفاك أدباً لنفسك ما كرهته لغيرك. قارب الناس في عقولهم تسلم من غوائلهم. خلّوا لهم دنياهم، يخلّون بينكم دينكم وبين آخرتكم. ومن شعره قوله:
لما كبرت أتتني كل داهية ... وكل ما كان مني زايداً نقصا
أصافحُ الأرض إن رُمتُ القيام وإن ... مشيت تصحبني ذات اليمين عصا
ومن الشعر قوله، يرثي شبابه:
أصاب الدهر مني عظم ساق ... به قد كنت مشاءً جليدا
الى الفقهاء أنقلُها، وأطوي ... بها للحاجة، البلد البعيدا
إذا رِجلُ الفتى يوماً أصيبت ... وطال سقامه ألف القعودا
وصار لبيته حلساً وأمسى ... من الإخوان منفرداً وحيدا
وأنشد له ابن أبي سعيد أيضاً:
لعمري يا شبابي لو وجدتك ... بما ملكت يميني لارتجعتك
ولو جعلت لي الدنيا ثوابا ... وما فيها عليك لما وهبتك
فقدتُك فافتقدت لذيذ نومي ... وطيب معيشتي لما فقدتك
ونحتك وانتحبت عليك دهراً ... فلم تغن النياحة حين نحتك(4/348)
بقية أخباره واستعفائه من القضاء وحالته
قال: ولما قدم الى القيروان، أتى على حمار عليه أكاف. فقام الناس إليه على أقدامهم. فقال: مكانكم رحمكم الله. إنما يقوم الناس لرب العالمين. ولما رأته امرأة على حمار وبردعة وستر، وحوله مشائخ القيروان، قالت: أنظروا أي قاض، وأي شكل. فسمعها. فقال لهم: والله لقد قلت لهم هذا. ومن الكتاب المعروف. ونقله أيضاً من خط القاضي أبي الوليد الباجي، قال سهل بن ابراهيم: كنا عند عيسى بن مسكين، نسمع منه. وكان يأتي في كل يوم شيخ نحوي، كان صاحباً له من عهد الصّبا، وكان عيسى لا يخرج، حتى يأكل. فجاء يوماً الى عيسى قبل خروجه. فعلم به، فدعاه. فقال الشيخ للرسول: قل له إني صائم. فقال: يقول لك تطوع أو واجب؟ فقال: بل تطوع. قال: فانهض معي. فلما رجع الشيخ، سألناه. فقال لي إن ثوابك في إدخال المسرة على أخيك المسلم بإفطارك عنده، أفضل من صيام يومك. فأفطرت معه. قلنا. فذكر لك قضاء هذا اليوم؟ قال: لا، ما ذكر لي. قال المؤلف رضي الله تعالى عنه. أما القضاء، فواجب. لابد منه. وإنما لم يذكره - والله تعالى أعلم - لعلمه أن ذلك ليس من خفي العلم الذي لا يظهر إلا ببيانه. وكان من سيرته في غير مدة قضائه: إنه كان إذا أصبح قرأ حزبه من القرآن، ثم جلس للطلبة، الى العصر. فإذا كان العصر، دعا بنته وبنات أخيه، يعلمهن القرآن والعلم.(4/349)
قال بعضهم: جئت الى عيسى بن مسكين فوجدته جالساً، على دكان في المعصرة. وخادم له يرد الزيتون، والدابة تطحن، وهو يقرأ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من صدره. فقيل له في ذلك. فقال: أعرض حديثي لئلا أنساه. قال ابن حماد السوسي: كلفني ابن مسكين، يوماً في خصومة شيئاً. فقلت: الله بيني وبينه. فأتاني في منامي، آت، فقال لي: لا تدعو على الرجل الصالح. فاستعفى من القضاء، فعوفي. فرجع الى منزله بالساحل. الى أن مات. فأصابه داء في ساقه. فلم يزل ملازماً به. ومات رحمه الله سنة خمس وسبعين ومائتين مولده سنة أربع عشرة ومائة. وكان إذا تحدث عن أيام قضائه يقول: كنت في بليتي. وكنت أيام تلك المحنة. ولما تاب الأمير ابراهيم، وتخلى عن الملك، وتوجه الى الجهاد، قصده عيسى بن مسكين، فقال له: إن الله عافاك مما ابتلاك به. فاعفني، مما أدخلتني فيه. فقد كبر سني، وضعف بدني، فعافاه. فخرج الى ضيعته. فقال ابراهيم: ما أعجب حاله؟ هو في آخر أمره، مثله في أوله. فكانت ولايته ثمان سنين وأحد عشر شهراً. ولما بلغت وفاته القيروان قال رجل منهم: سودوا وجوهكم. توفي. ووجدوا عليه. وقال آخر وا على إفريقية. تجدون العلم بعد عيسى. ولا تجدون مثل ورعه، وزهده، وأدبه.(4/350)
قال آخر: ذلك رجل حزنت لموته إفريقية. رحمه الله تعالى.
محمد بن مسكين أخوه أبو عبد الله رحمه الله تعالى
سمع من محمد بن سنجر. والحارث بن مسكين. ومحمد بن عبد الحكم. والربيع الجزري. وسحنون، وابنه، وغيرهم. وشارك أخاه في أكثر رجاله. وهو أصغر من أخيه بثلاث سنين. قال ابن حارث: كان صالحاً، ثقة. عاقلاً. من أهل العلم. بل مثله مثل ابن أبي دليم. قال أبو علي البصري: كان هو أيضاً فقيهاً يصنع الشعر، ويجيده. وقال لقمان بن يوسف: لما رحلت الى عيسى بن مسكين الى الساحل وأقمت كنت أستفتي، فلا أفتى. ولم أكن أمتنع من ذلك، من أجل عيسى، وإنما كنت أمتنع من أجل محمد أخيه. يعني: أن عيسى لا يتغاير على هذا. سمع منه أبو العرب، وتوفي سنة سبع وتسعين ومائتين بمنزلهم بالساحل. وولد سنة سبع عشرة. ويقال سنة عشرة. ومن ذكره أحمد بن محمد بن المثني من تلامذته. وتلامذة أخيه، عيسى، في مرثيته لأخيه. وأولها:
والآن مات بأرض المغرب الأدبُ ... وأصبح العلم مقروناً به العطب(4/351)
وانهدّ للدين ركن من دعائمه ... وقام ناعي الهدى يبكي وينتحب
واسودّ ما ابيضّ من وجه الزمان على ... فقد الإمام فدمع العين ينسكب
وفي أخيه محبّ المصطفى خلف ... فذاك جوهره أودى وذا ذهب
فجران للعلم مطبوعان من كرم ... من نبعة ما لها وصف ولا أرب
عبد الرحمن بن محمد بن عمر، الملقب بالورقه
أبو محمد. من أصحاب سحنون رحمه الله تعالى. مولى سلمي. وأصله من العجم. قال ابن أبي دليم: كان حسن الحفظ، جيد القريحة، يتكلم على الأصول، ولم يكن صاحب دواوين، ولا إكثار. قال ابن حارث: وإنما كان مقتصراً على أمهات ابن القاسم، لا غير. قال أبو العرب: كان فقيهاً، ثقة، صالح الكتاب، حسن الحفظ، جيد القريحة، سمع سحنوناً وغيره. وعلى سحنون تفقه. وعليه اعتمد. وكان من الورعين المخبتين الخاشعين. وقال سحنون: عبد الرحمن رجل من أهل الآخرة. وكان حمديس يذكره بالفضل والورع والعلم، ويقول: رحمة الله عليه. كان والله ورعاً في فتياه، عالماً عاقلاً، ومن أعظم نعمة الله عليه، أن أخرجه الله من الدنيا، ولم يدخل على سلطان قط. وعظمه تعظيماً كثيراً. وخرج إليه حمديس من عند سحنون منكشفاً. فلما رآه أحرم بالصلاة. قال سحنون لحمديس: إنما كان يمضي به لأهل الدنيا، وإنما ذلك من الآخرة. ولد سنة ثمان وثمانين ومائتين. وتوفي أول شوال سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة.
أحمد بن المعتب
ابن أبي الأزهر. أبو جعفر. تقدم ذكر أبيه.(4/352)
سمع من سحنون. وهو من فقهاء أصحابه. وسمع من أبي الحسن الكوفي، في جميع ما عنده. وسمع بالمشرق من العثماني، بالمدينة. وحسين بن حسن المروزي، صاحب ابن المبارك. ولقي اسماعيل القاضي.
ذكر علمه وفضله والثناء عليه
قال أبو العرب: كان ثقة ثبتاً، نبيلاً، عالماً بالحديث والرجال، حسن التقييد. سمع منه الناس. قال ابن حارث: كان نبيلاً فصيحاً، صحيح اليقين بالله. قال القاضي يونس عن أبي العرب: إن أحمد بن معتب، كان له صلاة طويلة بالليل، وبكاء. حتى كان يسمع جيرانه بكاءه، وصراخه. وكان له نسكٌ وخشوعٌ وحسن خلق. وكان فيه زهد. وكان سبب وفاته أنه حضر يوماً مسجد السبت بالقيروان، فقرأ القارئ: " ألْهاكُم التّكاثُر حتى زُرتُم " ويقال: بل قرأ: " ويُطاف عليهم بصحافٍ من ذهبٍ " الآية. وقيل: بل سمع بيت شعر، فيه ذكر النار، فخر صعقاً وحمل الى داره بشارع ابن المعتب، لا ينطق بكلمة. وتوفي. وذلك لسبع خلت من ذي القعدة سنة سبع وسبعين ويقال ست وسبعين ومائتين. قال ابن اللباد: حضرت مشهد الذكر يوم السبت، لسبع خلون من ذي القعدة، سنة سبع وسبعين ومائتين. وأحمد بن المعتب رحمه الله تعالى حاضر، وكان له بكاء ونوح. وكان القراء إذا علموا به، تحركوا، وعبّروا، وأخذوا في التعبير:
دع الدنيا لمن جهل الصوابا ... فقد حضر المحب لها وخابا(4/353)
يصلي فتارة يبكي يبيت ... ويطوي الليل بالأحزان دأبا
فلما وصلوا، تحرك وبكى. ثم قرأ قارئ: " يا عبادي لا خوفٌ عليكمُ اليومَ " الآية. بل الآيات الثلاث. فصاح صيحة شديدة. ثم سقط على وجهه. فأقام ساعة، وأسنده إنسان بصدره، وكُلم فلم يتكلم. ثم أغلق عينيه، ثم قاء شيئاً أخضر. فلما انقضى المجلس بالدعاء، أردنا أن نحمله على دابة. فلم يستطع، إذ كان لا يثبت، فجئنا بمحمل على جمل، فحمل، وأخرج من المسجد يبكي، كأنه نائم. وحمل في شق الجمل. وزامله ابن عم له. ثم أتي به داره. فقاء شيئاً أخضر، ولم يتكلم. وتركناه لنسائه. فلما كان بعد العشاء الأخير، توفي. رحم الله تعالى. ولم يتكلم. ولم يفتح عينيه. وأغلقت الحوانيت كأنه يوم عيد. وحضرت غسله، وقد كسي نوراً وبياضه لبدنه. وصلي عليه العصر. صلى عليه حمديس القطان. وفات كثيراً من الناس الصلاة عليه، لكثرتهم. ونودي على جنازته: أيها الناس لا تفوتكم جنازة أحمد بن معتب شهيد القرآن. قال بعضهم: إن ابن معتب، مر ذلك اليوم، في طريقه الى مسجد السبت، بدار. فسمع فيها غناء. فقرع الباب فخرج إليه صاحب الدار، فاستأذنه في الدخول، فاستحيا صاحب الدار، واعتذر. فقال لابد فدخل صاحب الدار قبله. وغيّب ما كان بين أيديهم من شراب. ثم أذن له، فدخل وسلم. فقال: من المتكلم؟ فقالوا هذا.(4/354)
فقال سألتك بالله، ألا أعدت ما سمعت منك. فقال مغنيهم:
العفو أولى لمن كانت له القدر ... لاسيما عن مصرٍّ ليس ينتصر
أقرّ بالذنب إجلالاً لسيده ... وقام بين يديه وهو مقتدر
فبكى وخرّ وأنّ. فردده مراراً. فانتحب وقام. وقال: تاب الله عليكم. وخرج. فتاب صاحب الدار. وسار أحمد الى مسجد السبت. فكان منه ما ذكرنا. قال ابن اللباد: شهد ابن معتب، شهادة عند ابن طالب. وشهد سهل القبرياني بضدها. قال ابن اللباد: فوقف في أمرها. ثم قال: إذا ذكر المتعبدون والبكاؤون، ذكر ابن معتب. وإذا ذكر أهل الأموال والتجارات، ذكر سهل معهم. فأرى أن آخذ بشهادة ابن معتب. قال أبو علي البصري: لم يكن ابن معتب من النقاد في الفقه، وغمص الناس عليه. إن القاضي ابن طالب كان له مكرّماً. وكان حاضر الكلمة، التي قالها ابن طالب في شأن الأمير ابن الأغلب، التي قتل ابن طالب من أجلها. ومن ذكرناها. ودعا الأمير ابن معتب للشهادة عليه، وشهد بها. وعذر ابن معتب في هذا، في كتم شهادة، قد سمع ذلك الجائر، أنه حضرها. وقد قيل إنه ما صرح بالشهادة بها. بل أداره عليها، ليلة كاملة، يسامره ويسائله، وابن الأغلب ينفث غيظاً. وهو يقول له: ما علمت لك، ولأهل بيتك إلا على الإخلاص والاعتقاد المشكور. وإنه لما حقق عليه. قال له: احفظ عليه شيئاً قاله، وكذب الناس كثير. وقيل بل قال له: كان ما بلغك.(4/355)
محنته رحمه الله تعالى
امتحن ابن معتب بعد هذا، على يد القاضي ابن عبدون، عدوه. وذلك أن ابن معتب كان لطيف المنزلة، سامي المكانة، يكتب إليه ابراهيم الى أخي في الإسلام، وشقيقي في المحبة. فتلاحى مع ابن عبدون، ووثق بمكانته من الأمير. فخذله ومكر به ابن عبدون. فأدخل رجليه في فلقه وضربهما حتى أدماهما. فكان أحمد بعد ذلك يقول: أرجو أن تكون هذه النازلة خيراً لي، إذ سلبت محبة ابراهيم بن الأغلب من قلبي. وكان ابن عبدون هذا، من كبار الكوفيين المتعصبين على المؤمنين. فامتحن على يديه جماعة من فقهاء المالكية، وأهل السنة. ضربهم ونكل ببعضهم، وأطلقهم، وأغرى الأمير ببعضهم. فقتل منهم: ابراهيم بن الدمني، وأبو القاسم مولى مهرية، وأحمد بن عبدو العطار، وغيرهم. ولما مات ابن معتب وشهد الناس جنازته، وباتوا على قبره، نظر ابن الأغلب ليلة الى من على قبره من الناس، وكثرة الشيوخ، وقال لابن عبدون: هذا الذي كنت تهون أمره عندي. أنظر ما عاقبه أمره.
محمد بن سليمان بن سالم بن القطان
أبو الربيع القاضي. يعرف بابن الكحالة. مولى لغسان. من أصحاب سحنون. سمع من سحنون، وابنه، وعون، والجفري، وابن رزين، وداود بن يحيى، وزيد بن بشر. ودخل المدينة، فحدث عن محمد بن مالك بن أنس، بحكايته عن أبيه. وأدرك موسى بن معاوية، ولم يسمع منه. سمع منه أبو العرب، وغير واحد.(4/356)
قال أبو العرب: كان ثقة، كثير الكتب والشيوخ. وكان حسن الأخلاق، باراً بطلبة العلم، أديباً كريماً. سمع منه في حياة ابن سحنون. ثم كان يقوم مع أصحابه، إذا جلس ابن سحنون، يسمع منه. قال ابن الحارث: لم أسمع منه، بمكروه. قال ابن أبي دليم: وكان الأغلب عليه الرواية والتفسير. وله تأليف في الفقه، تعرف كتبه بالكتب السليمانية. مضافة إليه. ولاه ابن طالب قضاء باجة. وولاه ابن سليمان مصالح القيروان. وأذن له في مائة دينار، ثم ولاه قضاء صقلية، فخرج إليها، ونشر بها علماً كثيراً. وكان خروجه إليها: سنة إحدى وثمانين. قال الشيرازي: وعنه انتشر مذهب مالك بها. فلم يزل عليها، قاضياً، الى أن مات سنة تسع وثمانين ومائتين. ولم يوجد له مال بعد موته.
يحيى بن عمر بن يوسف بن عامر الكناني رحمه الله تعالى
قال القاضي ابن الفرضي: قال ابن عابد البلوي، قيل هو مولى بني أمية أندلسي، من أهل جيان. وعداده في الإفريقيين. سكن القيروان، واستوطن سوسة آخراً. وبها قبره. كنيته أبو زكريا. نشأ بقرطبة وبها مولده. ينسب بابن عامر. فطلب العلم عند ابن حبيب وغيره. ورحل، فسمع بإفريقية من سحنون، وعون، وأبي زكريا الجفري. وسمع بمصر من ابن بُكير، وابن رمح، وحرملة، وأبي الطاهر، وهارون بن سعيد الإيلي والحارث بن مسكين، وعبيد بن معاوية، وأبي زيد بن أبي الغمر، وأبي إسحاق البرقي، والدمياطي، وغيرهم من أصحاب ابن وهب، وابن القاسم، وأشهب.(4/357)
وسمع أيضاً بالحجاز وغيرها من أبي مصعب الزهري، ونصر بن مرزوق، وابن كاسب، وأحمد بن عمران الأخفش، وابراهيم بن مرزوق ومحمد بن عبيد، وسليمان بن داود، ويحيى بن سليمان، وزهير بن عبّاد وغيرهم. سمع منه الناس، وتفقه عنه خلق كثير. منهم: أخوه محمد، وأبو بكر بن اللباد، وأبو العرب، وعمر بن يوسف، وأبو العباس الأبياني، وأحمد بن خالد الأندلسي، وغيرهم. وإليه كانت الرحلة في وقته.
ذكر فضله وعلمه والثناء عليه رحمه الله تعالى
قال القاضي أبو الوليد: كان فقيهاً حافظاً الرأي. ثقة ضابطاً لكتبه. قال ابن حارث: كان يحيى متقدماً في الحفظ. وسكن القيروان. فشرفت بها منزلته، عند العامة والخاصة. ورحل الناس إليه. لا يروون المدونة والموطأ إلا عنه. وكان يجلس في جامع القيروان. ويجلس القارئ على كرسي، يسمع من بعد من الناس، لكثرة من يحضره. وكان من أهل الوقار والسكينة على ما يجب لمثله، تأدب في ذلك بأدب مالك. وكان لا يفتح على نفسه باب المناظرة. وإذا ألحّ عليه سائل، أو أتاه بالمسائل، العويصة، طرده. قال أبو العرب: كان إماماً في الفقه. ثبتاً ثقة. فقيه البدن كثير الكتب في الفقه، والآثار، ضابطاً لما روى، عالماً بكتبه، متقناً شديد التصحيح لها. من أئمة أهل العلم، وعداده في كبراء أصحاب سحنون. وبه تفقه. قال ابن أبي دليم: كانت له منزلة شريفة عند الخاصة والعامة. والسلطان. وكان حافظاً، وله أوضاع كثيرة، منها: كتاب الرد على الشافعي.(4/358)
وكتاب اختصار المستخرجة. المسمى بالمنتخبة. وكتبه في أصول السنن. ككتاب الميزان. وكتاب الرؤية. وكتاب الوسوسة. وكتاب أحمية الحصون. وكتاب فضل الوضوء والصلاة. وكتاب النساء. وكتاب الرد على الشكوكية. وكتاب الرد على المرجئة. وكتاب فضل المنستير، والرباط. وكتاب اختلاف ابن القاسم، وأشهب. قال ابن أبي خالد في تعريفه: له، من المصنّفات نحو أربعين جزءاً. وكان فقيهاً. قال لي غير واحد، وكان لا يتصرف تصرف غيره من الحذّاق، والنظّار، في معرفة المعاني، والإعراب كان البصري يقول: كنت أسأله عن الشيء، من المسائل، فيجيبني. ثم أسأله بعد ذلك بزمان عنها. فلا يختلف قوله، عليّ. وكان غيره يختلف عليّ قوله.
ذكر فضله وأخباره
قال يحيى: رأيت في منامي، كأن سحنون معلّم صبيان، بيده درة. فأعطانيها وقال لي: قم على الصبيان. فأولتها خلافته في تعليم الناس. ودعاه ابن الأغلب الى قضاء إفريقية، واضطره الى ذلك، فدلّه على عيسى بن مسكين، فولاه. وسلم هو. قال حمديس: حضرت الأمير ابراهيم عرض القضاء على يحيى، فقال له: أنا غريب. فقال له: غريب، غريب. ثم عرضها على الفريابي أبي جعفر، فذم نفسه. وجعل يقول مزرياً على نفسه: أعيذك بالله أيها الأمير. مثلي يولى القضاء. فأعجبني ذلك منه.(4/359)
فعرضت على حمديس، فاعتذر. فعرضت على ابن مسكين، فقال: ليس عندي كتب القضاء. فقال الأمير: من يسمع الناس العلم، يسمعهم القضاء. ثم عرضت عليهم ثانية. فلما انتهت الى عيسى بن مسكين قال: قوموا.
فحبسه، وولاه القضاء. قال يحيى بن عمر: كان ابن رزين، يخرج في حضرتي، من تحت حصير جلوسه دراهم، لنفقته. بعد أن فتشته قبل أن يقعد عليه. ولم أرَ تحته شيئاً. وكان يحيى جليلاً في قلوب الناس، عظيماً في أعينهم. قال ابن اللباد: كان يحيى بن عمر، من أهل الصيام، والقيام. مجاب الدعوة. له براهين. قال الحسن بن نصر: ما رأيت أهيب منه، قيل له فابن طالب؟ قال: كانت له هيبة القضاء. وكان الكانشي يقول: ما رأيت مثل يحيى بن عمر. وما رأيت أحفظ منه. كأنما كانت الدواوين في صدره. قال: واجتمعت بأربعين عالماً. فما رأيت أهيب لله من يحيى بن عمر. قال: وأنفق يحيى في طلب العلم. ستة آلاف دينار. قال الأبياني: ما رأيت مثل يحيى في علمه وورعه، وكثرة دعائه، وبكائه، وكان حريصاً على أهل العلم، يحرض طالبه، ويشرف الوصف أن يقصر، والله عن يحيى وفضله. وما يجهل أمره إلا جاهل.(4/360)
وكان يحيى، ألّف كتاباً في النهي عن حضور مسجد يوم السبت. وكان مسجد ربض المتبتّلين بالقيروان.
وأن يجمع إليه جماعة من أهل الصلاح والفقه والرقة. ويقرأ فيه القرآن. وتنشد فيه أشعار الزهد. فصلى المغرب، رجل مع يحيى، فلما أكمل الصلاة قرأ: " ومَن أظلَمَ ممّن منع مساجدَ الله أن يُذكَر فيها اسمه " الآية. فبكى يحيى بن عمر ثم قال: اللهم إنه لم يقرأها لوجهك. وإنما أراد بذلك نقضي. فلا تُقِل له عثرة. فوالله ما حمل الرجل من مكانه إلا ميتاً. ويقال: إنه مات من ليلته. قال السّدي: سمع عليه خلق عظيم، من أهل القيروان في الجامع بالقيروان. وكان إذا انصرف من الجامع تبعه الناس، وبينما هو يوم يُسمِع الناس في خلق عظيم، جاءه كتاب من أبي زكريا يحيى بن زكريا الأموي. فلما فكه سكت القارئ، وقال لمن حضر: صاحب هذا الكتاب مَن جدّه على جدّي بالعتق. ذكر ذلك تواضعاً منه لله تعالى.(4/361)
وحكي أنه مرّ على محلة قوم، يكبرون أيام العشر، فنهاهم، وقال: هي بدعة. فلم ينتهوا. فيقال إنه دعا عليهم، فصار موضعهم بعد خراباً.
قال الزويلي: كان يحيى بن عمر ينصب له كرسي في الجامع، للسماع. فيجلس عليه، ليسمع الناس. وما علمت أنه عمل ذلك غيره. قال أبو الحسن اللواتي: كان عندنا يحيى بن عمر بسوسة، يسمع الناس في المسجد، ويمتلئ المسجد، وما حوله. فسأله من بعُدَ عن إسماعهم فقال: يجزئهم. وقد ذكر سليمان بن سالم أن بعض أصحاب سحنون، نام حتى قرأ القارئ ما شاء الله. ثم انتبه. قال: فاختلفنا في سماعه. فسألنا سحنون فقال: إذا جاء للسماع وله قصد، فهو يجزئه. وقال يحيى بن عمر لبعضهم. لا ترغب في مصاحبة الإخوان، وكفاك من ابليت بمعرفته، أن تحترس منه. انفردوا بأهل العلم. وكان فرات، يطعن في سماع يحيى، الموطأ من ابن بكير، ويحلف على ذلك، ويقول: إنه كان ملازماً لابن بكير، حتى مات. وإني لأنصرف من جنازته، إذ نزل يحيى بن عمر، في موكب فسلّم علي، وسألني عن ابن بكير. فقلت هذا منصرفي من جنازته. فاسترجع، وقال: فاتني الشيخ. قال الإبياني: فذكرت قول فرات للقمان بن يوسف، فقال: كذب فرات. لقيت بمصر أبا الزنباع، روح بن فرج، فسألني عن يحيى بن عمر، قال: كيف حاله عندكم؟ قلت في الهواء، وما نصل إليه. قال: يستحق يحيى، وما خرج من عندنا حتى احتاج أهل بلدنا إليه. ولو كان عندنا، لكان أكثر مما هو عندكم، وأرفع. فقلت: سمع من ابن بكير. قال: نعم. صاحبي عند يحيى. سمعنا منه الموطأ. قال أبو بكر المالكي: وكان شيوخنا يقولون: إنما جرى هذا ليحيى مع فرات في سفرته الثانية. وكان في الأولى لقي ابن بكير، وسمع منه. ولقد جرى له أيضاً، مثل هذا، في الرواية عن سحنون. فإن أكابر أصحاب سحنون قالوا: ما رأيناه عند سحنون قط.(4/362)
قال حمديس القطان: نعم سمع من سحنون في منزله بالساحل. وكذلك قال يحيى: لم أسمع من سحنون بالقيروان. إنما سمعت بالبادية. قال الحسن بن نصر: كان يحيى بن عمر إذا صلى الصبح وسلم، من صلاته، بقي كذلك على هيئته كجلوسه في صلاته مشتغلاً بذكر الله عز وجل، حتى تطلع الشمس. وذكر أنه رجع من القيروان الى قرطبة، بسبب دانق كان عليه، لبقال فخوطب في ذلك، فقال: ردُّ دانق على أهله أفضل من عبادة سبعين سنة. فمضينا الى قرطبة، ورجعنا في سنة. وبقيت معنا تسعة وستون. ولما هدمت القبور لإنشاء السلطان، المراكب الى صقلية. لم يهدم قبر يحيى. فكلم في ذلك بعض السودان، فقال: رأيت على قبره نوراً عظيماً. وحضر يوماً مجلسه، رجل من أهل العراق، فقال يحيى: من كان هاهنا من العراق فليقم عنا. وكان يحيى رحمه الله ينشد:
هممت ولم أفعل ولو كنت صادقاً ... عزمت ولكن الفطام شديد
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً ... إليك انقطاعي أنني لسعيد
محنته ووفاته رحمه الله تعالى
قال ابن حارث: كان يحيى بن عمر شجىً على العراقيين. أخبرني من كان جالساً مع ابن عبدون، وكان رأساً فيهم. حتى خطر ابن عمر، راكباً، على رأسه قلنسوة. فجعل وجه ابن عبدون يتلوّن شرقاً له.(4/363)
فلما ولي ابن عبدون القضاء طلب يحيى، وأخافه حتى توارى عنه، وخرج الى سوسة، فاختفى بها. ويقال إنه خرج ليلاً متنكراً فمرّ على دور بعض أهل العراق، وبها مشتعل، فخاف أن يروه. فوقف. فإذا بريح قد أطفأته. فجاز. فبعث ابن عبدون كتاباً الى عبد الله بن هارون الكوفي، يقول فيه صح عندي، أن ابن عمر، متوارٍ بتونس، فاطلبه وأوثقه، وابعث به إليّ. قال محمد بن عمر أخوه. فوجّه الكوفي إليّ وعرض عليّ الكتاب، فقرأته واربدّ وجهي، فقال: لا يسوء ظنك. فلم أبعث فيك لمكروه. ولكن لأعجبك من ابن عبدون، أن يريد مني أني آتي الى إمام من أئمة المسلمين، فأرسله إليه ليمتهنه. إن كان أخوك بهذا البلد، فهو من أهل هؤلاء العزّل. قال أبو العرب: وذهل آخر عمره. وتوفي رحمه الله تعالى بسوسة في ذي الحجة سنة تسع وثمانين ومائتين وسنّه سبعون سنة. مولده بالأندلس. سنة ثلاث عشرة ومائتين ورثاه سعدون الروحي بقصيدة أولها:
عين ألمّ بها وجدٌ ولم تنم ... تبكي بدمع كنظم الدر منسجم
يا موت أثكلتنا يحيى وكان لنا ... في بلدة الغرب مثل البدر في الظلم
ما كان إلا سراجاً يستضاء به ... في العلم يسمع منه العلم في الحكم
وكان يحيى إذ أخفنا لنا حرماً ... يلجى إليه فقد صرنا بلا حرم
وكان يحيى لنا سيفاً نعزّ به ... الدين الحنيف ويحمي كل مهتضم
وكان يحيى لنا في الزائغين إذا ... ضلّوا لساناً يبين الحق عن أمم
لتبك يحيى عيون بالدموع فإن ... غاضت مدامعها فلتبكه بدم
ما كان أشجعه ما كان أورعه ... ما كان أفصحه في محفل الكلم
ما كان أفقهه ما كان أعلمه ... ما كان أحماه عند الخوف للحرم
ما كان أرغبه في سنة درست ... يشيد بها بناء الحاذق الفهم
ما كان أطهر تلك النفس من ريب ... ما كان أكتب تلك الكف بالقلم(4/364)
محمد بن عمر أخوه
كنيته أبو عبد الله، رحمه الله تعالى. سمع الحارث بن مسكين. ومحمد بن عبد الحكم وحسن بن أصرم، وابراهيم بن مرزوق، وأبا الطاهر بن السّرح، وأبا إسحاق البرقي محمد بن عبد الله البرقي وشرك أخاه يحيى، في أكثر رجاله، إلا في سحنون، وأبي زيد وابن بكير. فلم يسمع منهم. وسمع من أخيه يحيى، وابن عبد الحكم. وسمع بالقيروان، من ابن عبدوس وغيره من أصحاب سحنون. سمع منه المصريون، وغيرهم. مؤمّل بن يحيى، ومسيرة بن مسلم وأبو سعيد بن يونس. وحمزة الحافظ رضي الله تعالى عنهم أجمعين. ومن الأندلس خالد بن سعد رحمه الله تعالى.
قال أبو العرب: كان ثقة كثير الكتب في الفقه. قال غيره: كان من أهل العقل والعلم، والدين والثقة. قال ابن حارث وابن الفرضي: كان كثير الكتب في الفقه، والآثار. ضابطاً. ثقة. كثير التجول في البلاد. وخرج من القيروان الى مصر عام تسعة وثمانين. وقال ابن الفرضي: عام سبعة وتسعين. وتوفي بمصر سنة تسع وتسعين ومائتين بعد أن كفّ بصره. وسمع منه بها الناس. قال غيره: بل توفي بأقريطش وبها ولد. كان أبوه لزمها للجهاد، وكانت وفاته سنة سبع وتسعين ومائتين. وقال الجنيدي: توفي بمصر، سنة عشرة وثلاثمائة. وله كتاب في أكرية السفن رحمه الله تعالى.(4/365)
أحمد بن أبي سليمان
واسم أبيه داود. ويعرف بالصواف مولى ربيعة. روى أبوه عن عبد الله بن نافع. روى عنه ابنه. قال أبو العرب: كان أبوه من أهل العلم، وما علمت عليه إلا خيراً. ويكنى أحمد بأبي جعفر. من مقدمي رجال سحنون. وسمع من أبيه أبي سليمان. وسمع منه أبو العرب، والناس. قال ابن أبي سعيد: كان حافظاً للفقه، مقدماً فيه، مع ورع وصيانة لعلمه، أديباً راوية للشعر، كثير القول له، وأحد كبار المالكية، ووجوههم. قال أبو العرب: كان شيخاً صالحاً ثقة فقيهاً، كريم الأخلاق، باراً بمن قصده، مسارعاً في حوائجه. وكان يلبس القلنسوة الطويلة. قال عيسى بن مسكين: أحمد بن أبي سليمان، حكيم. قال غيره: كان أكثر كلامه حكمة. قال الباجي: هو فقيه. قال ابن حارث: كان له بالشعر عناية في أول أمره. فلما صار الى درجة العلم، وصحبة العلماء، ترك قوله. قال ولم يكن معدوداً في أهل الحفظ، ولا في أهل المعرفة، بما دق من العلم. قال ابن أبي سليمان: أتى بي أبي الى سحنون، سنة سبع عشرة ومائتين لأسمع منه. فاستصغرني، وأجاز لي جميع كتبه. ثم صحبت سحنوناً، بعد ذلك، عشرين سنة.(4/366)
وعمِيَ. وكان سبب طلبه العلم، فيما حكاه، أنه قال: كنت أولاً أطلب الشعر، فرأيت في المنام، كأني على حائط يرجف ونار عظيمة، وأنا أخاف أن أقع فيها.
وإذا حلقة رجال، فيهم أبي. فكنت آنس إليه. فيقول لي: لا تخف. ارمِ بنفسك في حلقة سحنون، تنج. وكان أحمد يفتي في الذي يفتح حوانيت، في الشارع، قبالة دار رجل، أنه يمنع. وكذلك كان يقول في المرأة، تودع وديعة، فتدفعها الى زوجها، فتضيع الوديعة، أنها غير ضامنة، كالرجل، يستودع الوديعة امرأته. وقال غيره: المرأة ضامنة، بخلاف الزوج. وقال في رجل لاعن زوجتَيْه، أن يلاعنهما في واحد، على كل منهما، لعان. وقال أيضاً: يجزيه لعانه، لواحدة عن الأخرى، وإن قامت بعد. قال حبيب بن ربيع: وهذا إذا كانت غايته، بما فيه كلفة. فيلاعن مخافة لحوق الولد. وكان أحمد يصبر على السماع. قال الدباغ: اسمع الناس عشرين سنة. وكان يقول أنا حبس. وكتبي حبس وحضر قوم يوم السفر، فرغبوا له بالصبر عليهم. فجلس لهم أياماً، وقال:
سألبس للصبر ثوباً جميلا ... وأفتل للصبر حبلاً طويلا
وأصبر بالرغم لا بالرضى ... أخلّص نفسي قليلاً قليلا(4/367)
وفي كبر سنّه يقول، من قصيدة طويلة:
دُعيت معلماً إذ صرت شيخاً ... وأيام الشبيبة كنت بورا
لئن كان المشيب أتى نذيراً ... فإني سوف أدعوه بشيرا
فأهلاً بالمشيب لنا لباساً ... وقاراً نستزيد به وقورا
وجزت بتسعة سبعين عاماً ... وقد ضمنت أصحابي القبورا
وصرت كراكع يمشي دبيباً ... وأصبح خاسياً بصري حسيرا
وألقى الدهر وقراً فوق أذني ... وفي بدني وفي نطقي فتورا
وفي فقه الفقيه أبي سعيد ... رأيت الحق متضحاً منيرا
لزمت بناءه عشرين عاماً ... أعاديه وأغشاه هجيرا
ومن شعره في هذا المعنى:
أرى البرق من نحو القريب توقدا ... تغيب طوراً لمعه وترددا
أفق أيها الباكي المسائل منزلاً ... تشتت منه أهله متبردا
كفى عجباً أنا جهلنا ما خلا ... ملاعب ولدان ونوماً ومرقدا
ألفت به غيرا إذا هي ناهد ... وإذ كنت مرموق الزيارة أمردا
وكنت قريباً إذا دعتني ابن عمها ... فلما دعتني عمها كنت مبعدا
وكان نساء الحي يهوين طلعتي ... ليالي كان الشّعر أرجل أسودا
فلما اكتسيت الشيب صرت الى الضنى ... وأصلحت من شأني الذي كان مفسدا
لبست به ثوب الوقار وكلما ... بليت وأبليت الشباب تجددا
جزى الله طول العمر خيراً فإنه ... هداني الى التقوى ودل وأرشدا
ولما نحا عمري ثمانين حجة ... وأيقنت أني قد قربت من المدى
تركت تكاليف الحياة لأهلها ... وجانبتها طوعاً فجانبني الردى
رأيت حليم القوم فيهم مقدّماً ... ومن نال علماً نال جاهاً وسؤددا
ويحيا من الزلفى غداً في معاده ... بأضعاف ما يحيا الذي قد تعبدا
أراني بحمد الله في المال زاهداً ... وفي شرف الدنيا وفي العز أزهدا
فخليت من دنياي إلا ثلاثة ... دفاتر من علم وبيتاً ومسجدا
غنيت بها عن كل شيء حويته ... وصرت به أغنى وأفتى وأسعدا(4/368)
وقد ذم قوم ما فعلت جهالةً ... فعدّوا من الجهّال والجهل أحمدا
ولو فهموا أمري ورأيي لأبصروا ... وقالوا رأي رأياً رشيداً مسددا
وهي أطول من هذا وهو القائل:
يا لذة قصرت وطال بلاءها ... عند التذكّر في الزمان الأول
ولما تذكرها فقال ندامة ... من بعدها يا ليتني لم أفعل
ومن مأثور كلامه الحسن، قوله: يا طالب العلم، إذا طلبت العلم، فاتخذ له قبل طلبه أدباً، تستعين به على حمله. ومن أدب العلم والحلم، كظم الغيظ. وأن يغلب علمك وحلمك، هواك إذا دعاك الى ما يشينك. وعليك بالوقار، والتعفّف، والدراية والصيانة، والصمت، والسمت الحسن، والتودد الى الناس، ومجانبة من لا خير فيه. والقول الحسن في أحوالك، والكف عمن ظلمك، ولا تهمز أحداً، ولا تلمزه، ولا تقبل فيه، ولو كان عدوك. وقال ليس شيء أروح على الإنسان من الزهد في الدنيا. ولا للقلوب، أروح من القناعة. وقال: أنا أحمد الله على ما تقادم من أجلي. ما أهتم بشيء. وتوفي ابن أبي سليمان رحمه الله تعالى، في آخر رمضان. سنة إحدى وتسعين ومائتين. مولده سنة ست ومائتين. كذا وجدته بخط ابن الحارث وفي كتاب ابن الجزّار، ومولده سنة ثمان.
حبيب بن نصر بن سهل التميمي
صاحب مظالم سحنون. ومعدود في أصحابه، وعنه عامة روايته. كنيته: أبو نصر. كان من أبناء الجند القادمين إفريقية. قال أبو العرب: وكان فقيهاً ثقة. حسن الكتاب، والتقييد.(4/369)
وروى أيضاً عن عبد الله بن علي. قال ابن الحارث: كان نبيلاً في نفسه، وقد أدخل ابن سحنون سؤالاته لسحنون، في كتابه. ولاه سحنون المظالم. سنة ست وثلاثين. وقال غيره: سنة سبع وثلاثين. فوليها مدة ست سنين. بقية حياة سحنون. ثم بعد موته بسنتين. وكان سحنون أذن له في أن يحكم في عشرين ديناراً فأقل. قال بعضهم سألت حبيباً كيف ولاك سحنون المظالم؟ فقال: والله ما كنت أهل ذلك، قط، مع غيره. فكيف معه؟ وذلك أني تأخرت يوماً، فسأل عني، فأخبره أصحابي. أني غسلت ثوبي، فلما أتيته من غد، وجلست إليه، قال: قم يا حبيب، فقد وليتك مظالم القيروان. ثم قال لي: اتق الله يا حبيب. الذي إليه معادك، ولا تؤثر على الحق أحد. وقال لإثنين من أصحابه: امضيا معه، حتى يجلس في مسجد البركة. وينظر بين الناس. فما كنت أحكم في شيء فيه، سهُل حتى أشاوره. وكان حبيب، جيد النظر. وامتحن بعد هذا على يد سليمان بن عمران القاضي. فسجنه وضربه.
ويقال: بل لما ولاه سحنون أرسل معه نحو عشرة من أصحابه. ثم قال اكفوه المؤونة اليوم حتى يأنس وتركوه. توفي سنة سبع وثمانين ومائتين. في رمضان وسنّه ست وثمانون. ولد سنة إحدى ومائتين. صلى عليه حمديس القطان. وله كتب معروفة في مسائل سحنون سماه بالأقضية.(4/370)
جبلة بن حمود بن عبد الرحمن بن جبلة الصدفي
أبو يوسف. من أبناء القادمين مع حسان بن النعمان. أسلم جدّه على يد عثمان بن عفان رضي الله عنه تعالى. سمع من سحنون، وعون، وأبي إسحاق البرقي، وداود بن يحيى، وغيرهم من المصريين والإفريقيين. وله ثلاثة أجزاء مجالس عن سحنون رويت عنه. وقد روى عن سحنون المدونة. وروايته فيها معلومة باسم. لا يسمع كلام العراقيين. ويجلس الى محمد بن البساط، ثم ترك ذلك. وصحب سحنوناً روى عنه أبو العرب، وعبيد الله بن أبي عقبة، وعبد الله بن سعيد. قال الحارث: كان من أهل الخير، البيّن، والعبادة الظاهرة، والورع والزهد. وكان الغالب عليه الزهد.
ذكر زهده وعبادته وفضله رحمه الله تعالى
قال أبو العرب: كان صالحاً ثقة، زاهداً. كان بقصر الطوب. ثم لزم القيروان. فسمع منه الناس، وكان صحيح السماع من سحنون. قال أبو النصر: رحم الله أبا يوسف. فلقد كان سيد أهل زمانه. وقال سحنون وقد رآه مقبلاً: إن عاش هذا الشاب، فسيكون له نبأ وهو أزهد أهل زمانه. قال بعضهم: ما سمعته قط يذكر الدنيا بمدح ولا ذمّ. وقال أبو موسى: ما رأيت أزهد من جبلة(4/371)
من أفضل رجال سحنون. وقد علاهم في الزهد. وكان أول شأنه لما نشأ وتعلّم، كتاب الله وحضر جنازة مع حمديس، وسعيد ابن الحداد. فقال له سعيد: تقدم يا أبا يوسف. فأنت أهد منا وأعلم وأسن منا. قال ابن سعد: كان جبلة من أفضل رجال سحنون. وقد علاهم في الزهد. وكان أول شأنه لما نشأ وتعلّم كتاب الله، حبب إليه دار سحنون. فكان يختلف إليه. وكان أبوه يصحب السلطان. ويرى رأي أهل العراق. فأراد جبلة يوماً، الرواح الى سحنون. فأخذ أبوه طائره، ورفعه، لئلا يجد ما يمضي به الى سحنون؟ فأخذ جبلة مقنعة أمه، وتردى بها، ومضى الى سحنون، فسأله. فأخبره، جبلة. فأعطاه سحنون مدرجاً. فلما خرج لحقه رجل، فعوّضه عنه ثوباً، وطائراً.
فمضى بهما الى سحنون. فسأله عن المدرج. فأخبره. فقال غبنك. قال ابن حارث: كان أبوه من أهل الأموال، وصحبة السلطان، فنابذه في حياته، وتبرأ من تركته، بعد موته. وكانت تركته نحو ثمانمائة مثقال. قال: فما علمت منه إلا خيراً. إلا أنه كان يقضي من ثمن الطعام، أطعاماً. وهذا عنده جائز. على مذهبه. وعندنا غير جائز. وشهد على أبيه في حياته، أنه قتل رجلاً عمداً، عند بعض القضاة. فعرض له أبوه. فجاء يطعن عليه. فقال له القاضي: والله لئن شهد عليك معه ثانٍ لأسفكن دمك. قال أبو العرب: خرج علينا يوماً، فقوّم بعض أصحابنا لباسه. وذلك قميص في غلالة، وسراويل، ومنديل، كل ذلك خلق، بدرهم. قال أبو سعيد محمد بن سحنون: كانت مع جبلة همة يتيه بها على الخلفاء. قال موسى القطان: من أراد أن يدخل دار عمر بن الخطاب، فليدخل دار جبلة. ولو أن جبلة في زمان بني إسرائيل. أتت إلينا أخباره في الكتب. ولو فاخرنا بنو إسرائيل بعبّادهم وزهّادهم، لفاخرناهم به.(4/372)
ووقف موسى القطان على قبره، صبيحة موته، فقال له رجل: لقد وفق الله جوار هذا الرجل الصالح. يعني البهلول بن راشد. نفعنا الله به. فقال القطان: لعل البهلول ينتفع بأبي يوسف.
قال بعضهم: قلت لسعيد بن الحدّاد: ذكر لي أن جبلة كان ينام على زنبيل. قطع له قطعاً، وطوبة عند رأسه، فوقها وسادة. فقال سعيد: هو فوق ما تصف. قال عبد الله بن سعيد: وكان جبلة لا يحب ما ظهر من الأعمال بل كانت أعماله كلها خفية. حتى الزهد. فإنه كان لا يظهر عليه. قال أبو بكر الزويلي: كان قوت جبلة في الشهر، ثمنين شعيراً. يطحنهما ويجعلهما في قلة. فإذا رأى الشمس غربت، خرج الى الفحص فأخذ ما وقع على يديه، من بقل البرية. فجعله في قديرة على النار، ويجعل عليه قبيضة من الدقيق ويفطر على ذلك. هكذا كانت عيشته. قال ابن سعدون: رأيته حين صلى المغرب، أخذ عجينة وذهب بها الى المستوقد. وقد طبخ فيه الناس، وبقي الرماد، فحفر فيه بعود، وجعل القرصة فيه، وغطاها بالرماد، وجلس في ذكر ودعاء، الى أن أخذت قشيرة، فأخرجها ونفضها، فقلت لأهل القصر: شيخ مثل هذا الساكن بين أظهركم، يخدم نفسه. فقالوا لي يا أبا بكر، له معنا أربعون سنة. ما طبخ فيها قدراً. ولا أوقد سراجاً. وراح يوماً في قميص زوجته، وصلى الجمعة. وكان غسل قميصه ولم يجد سواه. فقيل له في ذلك. فقال: ما علمت منها إلا خيراً. لطاهرة عفيفة. وكان كثير الصدقة والمعروف، مع قلة ذات يده. رضي الله عنه تعالى.(4/373)
ذكر ما كان من كرامته ودعواته رضي الله عنه
قال محمد بن بشر المؤدب: مضى بي أبي وأنا صغير الى المرابط بقصر الطوب، فدخلنا على جبلة. فقال لقد أضمرت اليوم أن أفطر. وسألت الله أن يأتيني بمن أفطر معه. فأخذ شقفة وجعلها على النار، وطبخ فيها عصيداً. فأكلنا فيه. فكانت قدرنا وصحفتنا. ثم قال: يا بني اشتهِ ما شئت. فخطر ببالي تين أخضر، وليس بزمانه. فذكرت ذلك. فمد يده جبلة في قلة فأخرج لي خمس تينات خضر. قال أبو ميسرة: كنت آتي الى جبلة. فأستأذن عليه، فأسمع معه كلاماً غير كلامه. فأدخل، فلا أرى معه أحداً، فأسأله عن كتاب لأختبر من في البيت. فيقول لي: خذه من البيت. فلا أجد في البيت أحداً فكان يذكر أنه يجتمع بالخضر. وأمر يوماً فتى بشيء، فلم يفعل. فقال له: سمّاك أبوك حرباً ويلقى الناس منك شراً. أو نحو هذا. فبعد قريب، تولى الحرس بالقيروان. وقال لآخر من أصحابه: ليس تكون إلا أشرّ من أبيك. وكان أبوه على الحرس. فبعد ذلك شرُف الفتى. ودخل على جماعة من أصحابه، وهم يضحكون، وقد رفعوا أصواتهم، فقال لهم: لا نفعكم الله بالعلم. قال ابن أبي عقبة. فما علمت أحداً منهم ذُكر. ولما خرج أهل القيروان للقاء الشيعي، مداراة له. غمّه ذلك. وقال اللهم لا تسلم من خرج يسلم عليهم فجردوا في الطريق،(4/374)
فقيل له إنهم خرجوا مداراة. فقال: اسكت. أرأيت لو نزل الروم بنا فقالوا إنما تنزلون على حكمنا أو نجاهدكم. هل كان يجوز أن ننزل على حكمهم. وإن عشت سترى من أحكام هؤلاء، ما هو شرّ من أحكام الشرك.
وكان رجل من المتصوفة، يحضر مجلسه، فإذا سمع شيئاً من الدقائق، عصر عينيه، فيقول له: لست من أهل هذا. فلما دخل الشيعي، صار يخدم كتابه. وكان جبلة إذا رأى ابن غازي، في أول أمره. وعبادته، وتصوفه، وطلبه للعلم، يقول: ليس يموت على الإسلام. فلما دخل عبيد الله تشرف ابن غازي، بعد الاجتهاد في العبادة. وسكن الثغور، وطلب العلم، ودخل دعوتهم. وقال بالإباحة. وكان ممن قال لعبيد الله: أنت. أنت.
ذكر شدته على أهل البدع ومجانبته إياهم وقوته في ذات الله تعالى
كان رحمه الله تعالى، شديداً في ذلك. لا يداري فيه أحداً. ولم يكن أحد أكثر مجاهدة منه للروافض، وشيعهم. فنجّاه الله تعالى منهم. ولما دخل عبيد الله إفريقية، ونزل رقادة. ترك جبلة سكنى الرباط. ونزل القيروان. فكلم في ذلك. فقال: كنا نحرس عدواً بيننا وبينه البحر. والآن حلّ هذا العدو بساحتنا. وهو أشد علينا من ذلك. فكان إذا أصبح، وصلى الصبح، خرج الى طرف القيروان من ناحية رقادة، ومعه سيفه، وترسه، وقوسه، وسهامه، وجلس محاذياً لرقادة، نهاره. الى غروب الشمس. ثم يرجع الى داره. ويقول احرس عورات المسلمين منهم. فإذا رأيت منهم شيئاً، حركت المسلمين عليهم.(4/375)
وكان ينكر على من خرج من القيروان الى سوسة، أو نحوها من الثغور. ويقول جهاد هؤلاء أفضل من جهاد أهل الشرك. قال الفقيه ابن سعدون القروي: لما دخل عبيد الله الشيعي، القيروان، وخطب أول جمعة، وجبلة حاضر، فلما سمع كفرهم. قام قائماً. وكشف على رأسه، حتى رآه الناس، وخرج يمشي الى آخر الجامع، ويقول: قطعوها قطعهم الله. فما حضرها أحد من أهل العلم بعد هذا. ولما ولي الصديني القضاء، أيام أحمد بن الأغلب، كان جبلة يصلي الظهر أربعاً، بأذان وإقامة. فقال له المؤذن: ترى أن نؤذن ونقيم داخل المسجد؟ فلما آن الوقت، حاد من الصلاة. فقال له جبلة: قد قال مالك في المسجونين، يجمعون في السجن، لأنهم منعوا من الجمعة. فنحن أقمنا أنفسنا مقامهم. وكتب الصّديني الى ابن الأغلب يخبره بما فعل، جبلة. فأرسل إليه: مدّ يدك الى من شئت، واترك جبلة. وجاء صاحب الحرس، فقال له: يقول لك الأمير، كرر الإقامة. وسلم من اثنتين، ولا تقنت. فقال له جبلة: الأمير لا يعلّمنا أمر ديننا. وجاءه آخر من قبل القاضي بمثل ذلك. وبقراءة بسم الله الرحمن الرحيم.
وبزيادة حيّ على خير العمل. في الأذان. فقال له جبلة: قم قبّحك الله، وقبّح من أرسلك.(4/376)
فرجع الرسول الى المروردي، فأخبره، فسبّه المروردي، وقال له: أنا أرسلتك الى جبلة، تأتي الى أولياء الله تعالى. تتعرض في دعائهم. وتجسس عليه يوماً صاحب الحرس، فأخذه جبلة وأدخله المسجد، وضربه بالجريد، حتى تاب ألا يعود إليه. فقال القابسي: إنما سلك السبأي في هذا الباب، مع بني عبيد، طريق جبلة. ولما ولي ابن عبدون، وكان عراقي المذهب في القضاء. جاء الى القصر الذي فيه جبلة. فخرج إليه، أهله. فتلقوه. ولم يخرج جبلة. فقيل له: ابن عبدون يأتيك ليسلم عليك. فأتى ابن عبدون على بابه. فسلم عليه. فلم يرد عليه. وقال له وهو جالس: ما اسمك. قال: محمد. قال له يا محمد: إياك إياك أن تقول: القرآن مخلوق. وحضر جنازة مع ابن عبدون، فقدم جبلة، وصلى ابن عبدون وراءه. ثم حضرت أخرى، فقدم عليها ابن عبدون، فلم يصلّ جبلة، وانصرف من جهة القبلة، فشقّ ذلك على ابن عبدون وأرسل إليه في ذلك. وقال له: أتظن أني أقول بخلق القرآن؟ ما أقول فيه. فقال له جبلة: أمرك عندي، أشرّ: ألست الذي ضربت: ابن معتب والربيع، وفلاناً وفلاناً. وأطفتهم وتنادي عليهم: حزب الشيطان. وهم رجال سحنون. وأخذوا عن رجال مالك عن التابعين عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم. عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن أخباره في دنياه وزهده فيها، رحمه الله تعالى
ما حكاه المالكي: أن كانونه انكسر، كان يصطلي به، فألصقه بالزيت.(4/377)
وأنه رئي يروح على ماء، في إناء، فسئل. فقال: اشتهيت الماء البارد. ووجد بعض أصحابه من صنع بيسارا. وجعله في صحفة فوق السطح، ليجمده. فقال جبلة: مساكين غفلوا عن بيسارهم، حتى جمد. فصب لهم فيه الماء. فجاءه القوم، فصاحوا: من أفسد علينا بيسارنا. فقال لهم جبلة: أنا. لا تظنوا إلا خيراً. ظننت أنه فسد. ولم يكن جبلة بخبير في شيء من دنياه، ولا مشتغلاً بشيء من أخباره، لا من البله عن ذلك. إنما أشغلته العبادة والخير. وكان له قِبَل إنسان، أربعة دنانير. فتعذّر عليه إعطاؤها. فصالحه خادم جبلة، على أن يدفعها نجوماً. ربع دينار في كل شهر. وأخبره بذلك. فقال له جبلة: ربع مثقال، كثير. ولا أراه يقدر عليه. ولكن خذ منه أربعة دراهم، في كل شهر. وصرف المثقال اثني عشر درهماً. فقلت: ربع المثقال، أقل، من أربعة دراهم. فقال لي: حسن إذاً. قال القابسي: دخل جبلة يوماً على سحنون، وعليه ثوب خلق. فلما فرغ السماع وخرج الناس، دفع سحنون إليه شقة. ورداء. وقال له: اقطع من هذه الشقة، محفصين. وألبس الرداء. فلما خرج، ساومه فيها قوم من أصحابه. فلم يزالوا به، حتى اشتروا ذلك منه بألفي دينار فبلغ ذلك سحنون. فقال: اشتروا منك ما عرفوا. وبعت ما لم تعرف. توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين ومائتين.(4/378)
وصلى عليه محمد بن محمد بن سحنون. في مصلى العيد، لكثرة من اجتمع من الناس، رحمه الله تعالى. ومولده رحمه الله تعالى سنة عشر ومائتين.
حمديس القطّان
واسمه أحمد بن محمد الأشعري. رحمه الله تعالى. يقال إنه من ولد أبي موسى الأشعري. من أصحاب سحنون. رحل فلقي بالمدينة أبا مصعب، وغيره. وبمصر أصحاب ابن القاسم، وابن وهب وأشهب. قال ابن حارث: كان علماً في الفضل، ومثلاً في الخير، مع شدته في مذاهب أهل السنة. وغلوّ عظيم، في النهي على من ينحرف عن طريقة أهلها. لا يسلم على أحد منهم. وكان قد لهج الناس بتفضيله، وأقروا بخيره. وبه، وبعبد الجبار يضرب المثل، في العبادة والدين. وكان صاحباً له. قال ابن عياش: كان ورعاً، كاملاً ثقة، مأموناً. قال أبو العرب: كان كثير الكتب. شأنه في العبادة. مجانباً لأهل الأهواء، والسلطان. هجر عبد الجبار بسبب قراءته كتب ابن مهدي البكري. وكان لا يسلم عليه، ولا يرد عليه إذا سلّم. وهجر حمّاساً بسبب مخالفته في الاستثناء في الإيمان. ولم يصلّ خلفه، وسئل في القعود للناس، فامتنع. ورأى أن في عصره من يقوم مقامه، ويقال إنه قال: ثم من يقوم بهذا؟ ويلزمني. قال أبو سعيد بن محمد بن سحنون: لما اعتلّ حمديس، أحضرنا له طبيباً. فتبسّم، وقال: ما أقبح المخالفة بعد الموافقة. من أراد الله به حالاً، وأراد هو غيره، فقد خالف. ثم قال:(4/379)
بيد الله دوائي ... الذي يعلم دائي
إنما أظلم نفسي ... باتباعي لهوائي
بك قد داويت دائي ... غلب الداء دوائي
وكان لا يسلك على القناطر التي بناها أصحاب السلطان. وحضر مرة مع ابن عبدون القاضي، فأوتي بجنازة، فصلى وراءه القاضي ابن عبدون. ثم أوتي بأخرى، فصلى عليها القاضي، فلم يصلّ وراءه حمديس. فمضى القاضي ابن عبدون الى ابن الأغلب. فأنفذه. فشاور في ذلك بطانته. فقالوا: ليس لك شيء تصل به إليه، إلا أن تنهاه بأن لا يجتمع إليه أحد. فأوصى بذلك إليه. فقال حمديس: لا أمنعهم. المساجد لله. ولما أمنع أحداً من دخولها. وأنت أقدر. فاجعل على باب المسجد من يمنع من أراد منعه. قيل لابن عبدون: ولا يمكنكم هذا. فوجه إليه: يدخل إليك من تشاء. فقال حمديس: لا أمنعهم، ولا أتركهم. ثم عزل ابن عبدون. فاجتمع الناس إليه، لطلبه الشهادة عليه.
عند الأمير، ما خلا حمديساً. فإنه لما سأله الأمير، قال له: بلغني ما بلغ الأمير. ثم تنحّى عنهم الأمير بمكان، يسمع كلامهم. فقالوا لحمديس: ما منعك من الشهادة. فقال إنما كنتم تطلبون عزله، وقد عزل. ثم عاد الأمير، فسأله، وقد ظن أن أصحابه يردونه. فقال أكذب نفسي على لساني. وقد كان لا يرى الصلاة مع ابن عبدون. ولا أداء الشهادة عنده. ونهى الناس عن ذلك.(4/380)
وحضر مع أحمد الصواف، جنازة الصوّاف. فقدم لها حمديس. فقال: لا أفعل. فقال أحمد: ذلك لي جائز، إذ قدّموني، أن أقدّمك. فإني لأستحي من الله أن أقدَّم بين يديك. وكان ينكر فعل هؤلاء الذين يجتمعون ويضربون صدورهم، ويقول: لو كان لي من الأمر شيء، لنفيتهم من المنستير. وكان لا يصلي خلف أهل البدع، ومن يخالفه. وفعل ذلك هو وابن سحنون، ويحيى بن عمر، حين ولي الصلاة. ابن أبي الحواجب. وكان يتهم بالرفض. وفعل ذلك سحنون بغيره، وترك الصلاة خلف القاضي، سليمان بن عمران، في جنازة. فجاء إنسان فأخبر بذلك، سليمان. فقال سليمان: خلّ الناس على ما هم عليه، واستحضره ابراهيم، فسأله عن مسألة. فلم يجبه. فقال ما لي أسألك، فلا تجيبني؟ والله لئن ضربت مخالبي فيك لأفعلن كذا، وكذا. فقال حمديس: والله لهو أهون عليّ من أن يمسح على ديني.
إنما سؤالك تنكيت. ليس ليعمل به، وكان كثير التواضع والإشفاق، لا يرى لنفسه ذكر ابن خير: أن رجلاً ذكر له أنه رأى في المنام امرأة كانت مسرفة على نفسها، في منظر حسن. وحال حسن. فسألها عن سبب ذلك، لما يعرف من كثرة إسرافها. فقالت: إن حمديساً سئل أن يصلي عليّ فصلى علي فشفع بي.(4/381)
فنظره حمديس نظرة منكرة. وقال: ما يحسن أن تقول مثل هذا، إلا كما قال محمد بن كعب القرظي، لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما. لا يغرّنك حسن ثناء المادحين، ولن ينفعك ما قالوا فيك. إذا لم يكن ذلك فيك. وأنت أعلم بنفسك من مقال القائلين. فإن يكن فيك ما قالوا، فلا يضرّك لو سكتوا، وإن لم يكن فيك لم ينفعك ما قالوا. ثم قال للرائي: نامت عينك انصرف إذا شئت. قال حمديس: أحضرني الأمير ابراهيم بن أحمد، مع يحيى بن عمر، فأقمنا عنده الى الليل، وأصابنا مطر، ثم أمرنا بالإنصراف. فخرجنا في ظلمة، ومطر، ما نهتدي أين نمضي. إذ سمعت صوتاً ينادي حمديس، ويحيى بن عمر، فعدل بنا الى دار، فدق دقاً عنيفاً. ففتح. فإذا هي دار ولد أبي العباس الأمير. فقال له: يأمرك الأمير أن يبيت عندك الشيخان الليلة.
فدخل بنا الى بيت من الدار، وأتي لنا بشمعة. فقلت للخادم إن رأيت أن تنحي عنا هذه الشمعة، فافعل. فقال: إنما فعلته إكراماً لكما. فنحاها. فلما - فراغ - يحيى بن عمر. فنام على فراش البيت. فلما كان بالغداة أرسل إلينا أبو العباس، لا تصلوا حتى أصلي معكما. فخرجت الى الطريق، فتوضأت من الماء المستنقع فيه. ثم خرج، وجعل يسألني عن أشياء. فقلت: ما شئت أن تسأل عنه من شيء. فعليك بالشيخ يعني ابن عمر. فإنك تجد عنده ما تريد. فسأل عن أشياء. ثم صلى بنا، يحيى بن عمر. وجاء رسول الأمير ابراهيم، يستدعينا، فدخلنا عليه، وطال المجلس في المذاكرة. فقال لي: من أين عيشك؟ وفي كم أنت من العيال؟(4/382)
فقلت: في ستة. ثم قلت له: لي الى الأمير حاجة. فنشط لها. وقال أذكر: فقلت تعافيني من المجيء إليك في هذا المجلس. فإنك لا تجد عندي ما تريد، مما يكون عوناً لك. فسكت ساعة، ثم قال: قد فعلت. فقال يحيى بن عمر، وأنا أيها الأمير. فقال: لا. لست أفعل. ثم وجه إليّ حين ولي عيسى بن مسكين القضاء. فقلت للرسول: قد سألته معافاتي. فقال لي: لا تفعل. يأتيك صاحب المدينة ويمضي بك. فقلت مشافهة. ليَكبر ما أرسله. فانصرف الرسول، وجاءني أحمد الصواف، وقد بلغه الأمر. وكان لي أخ صدق. وقال لي: لا تفعل: أخشى أن يكون هذا منه مكراً بك. فيجد إليك السبيل. فتوجهت. فلما دخلت عطف على ابنه، وقال: والله ما وجهت إليك - كالمعتذر - فقلت: والله ما أتيتك إلا تِقاءَ؟ فقال لي: اجلس. فلعل الله يجعل في مجيئك بركة. وذكر قصة ولاية ابن مسكين. توفي سنة تسع وثمانين ومائتين. وصلى عليه محمد بن محمد بن سحنون. مولده في رجب سنة ثلاثين ومائتين.(4/383)
حمديس بن ابراهيم بن صخر اللخمي
من أهل قفصة. ونزل مصر وبها توفي. رحمه الله تعالى. قال أبو العرب: هو فقيه ثقة. سمع بالقيروان ومصر من ابن عون، ومحمد بن عبد الحكم، ويونس الصوفي. وكان لقمان الفقيه، يتكلم فيه. وله في الفقه كتاب مشهور، في اختصار مسائل المدونة. رواه عنه مؤمّل بن يحيى، والناس. وتوفي سنة تسع وتسعين ومائتين.
ثابت بن سليمان
قال اللبدي رحمه الله تعالى: كان رجلاً جليلاً، في أصحاب سحنون رحمه الله تعالى. قال يحيى بن عمر: إذا رأيت محمد بن سحنون يقول: حدثني الثقة عن سحنون. فهو ثابت بن سليمان. وكان ثابت بقصر زياد، وكان حمى قصور زياد، المرابطة بساحل إفريقية، دار ملك، بكثرة من فيه من العلماء، والعباد، والصالحين من أصحاب مالك. قال اللبدي: كان به من أصحاب سحنون أربعة عشر رجلاً.
عبد الجبار بن خالد بن عمران السرتي
أبو حفص رحمه الله تعالى من أكابر أصحاب سحنون. وسمع منه أبو العرب. وابن اللباد وغيرهما وعالم كثير. قال أبو العرب: كان شيخاً صالحاً. ثقة متعبداً. طويل الصلاة. كثير الذكر. كان يختم القرآن في كل ليلتين من رمضان، من عقلاء شيوخ إفريقية. من أصحاب سحنون.(4/384)
قال ابن حارث: كان صاحباً لحمديس بن القطّان. وبهما يضرب المثل في الفضل، والدين. إلا أن عبد الجبار، كان أنبَه وأفهم، لمعاني العلم والفقه من حمديس. قال: وكان ذا رئاسة في العلم، ونظر تام. قال أبو عياش: عبد الجبار عالم واسع العلم، فهم نطّاق بالحكمة. قال: ودرّس عبد الجبار العلم حتى بلغ، أو كاد مبلغ سحنون. ثم لما حجّ الحجة الثانية. قال: قد نلنا من هذا العلم، ما علمت. وقد ماحت نفسي الى هذه الناحية من العبادة. فبلغ فيها مبلغ البهلول، أو رباح. وقال سحنون: عبد الجبار، تقي في بطن أمه. وقال حمديس القطّان: ما رأيت أورع من عبد الجبار رضي الله تعالى عنه.
ذكر أخباره وفضائله
وذكر القابسي: أن عبد الجبار راح إلي الجمعة، على بغل الراوية، يوم طين. فلما صلى. لم يجد ما يرجع عليه. وكان بعيد الدار من الجامع. فرفع إليه رجل جندي، فرسه. فركبه. فنظر إليه أصحابه. فقال: ما بالكم. أما ورَعٌ نقَص، أو علم زاد. قال بعضهم: إنما فعل لضرورة. إذ لم يقدر، على المشي. ولعله تصدق بقدر انتفاعه. وخرج من عند الأمير ابراهيم، وكان يكبره، ويجلّه. فشيّعه الى أن ركب وأصلحت عليه ثيابه. وكان بينه وبين حمديس القطان، صحبة عظيمة. وشركة في القطن، يعملان في سوق الأحد، الى أن تهاجرا، بسبب كتب محمد بن مهدي البكري. كان عبد الجبار يقرأها، فنهاه عنها حمديس. وقال له: سمعت سحنون يقول: ابن مهدي هذا. ضال، مضلّ.(4/385)
فلم ينته عنها، عبد الجبار، فهجره حمديس. ولم يزالا متهاجرين أربعاً وعشرين سنة. وكان حمديس لا ينهى الناس عن السماع منه. وكان عبد الجبار إذا مرّ بمسجد حمديس، سلم عليه، فلا يرد عليه السلام، يعني حمديس. فيقول عبد الجبار: ما هجرني إلا لله. ويقول: حمديس، رجل صالح. وكان ابن طالب صديقاً لعبد الجبار، فهم بتأديب حمديس بسببه، الى أن فسد أيضاً ما بينه وبين عبد الجبار. وكان سببه أن عبد الجبار كتب إليه في بعض أسبابه.
فلم يلتفت الى كتابه. فكتب بذلك للأمير، وكان ابن طالب يسمي ذكره. وطلبه ابن طالب عند الأمير، وأوقع فيه الشهادة بمخالفة مذهبه. وشهد عليه ابن الحداد وابن أبي سليمان وجماعة من أصحاب سحنون. واستدعى الشهادة عليه، حمديس. فأبى. وقال: هجرته ديانة. رأى شيئاً، ورأيت أنا خلافه. لم أهجره على مال أكله. أو عرض. فمضى القوم. قال ابن أبي سليمان: فما قام منا أحد حتى نفر عبد الجبار، وكان سحنون ينتظره حتى يحضر. فإذا حضر أمر القارئ، فقرأ. قال عبد الجبار: ما قرأ سحنون كتاباً قط، في باذية ولا حاضرة، إلا وأنا حاضر. وكان ما بينه وبين أبي طالب القاضي، بيناً جداً بعد صداقة، كانت بينهما. وعبد الجبار، أول من شهد عليه عند ابن الأغلب. قال ابن اللباد: وكنا نسمع على عبد الجبار في جامع ابن وهب، ألا يمشي الرجل أمام والده. فقال من برّه به، أن يمشي أمامه في الظلام.(4/386)
قال ابن اللباد: واجتمع عبد الجبار مع سليمان بن عمران، يتذاكران السنّ. فقال له سليمان: نفعك الله بعمرك. فقال له عبد الجبار: وكان سيئ الرأي فيه. وأنت نفعك الله ومتعك بباقي عمرك. وحكى المالكي عن عبد الجبار، أنه ختم في مسجد، ثلاثين ختمة. وكان يختم في مسجده، كل ليلة ختمة. وكان إذا تعايا في الكلمة أو اشتبه عليه، الحرف. تركه. وقرأ، ما يليه. ثم قد يذكره بعد العشرين آية أو الثلاثين فيرجع إليه ويقرأه، مفرداً. ويعود من حيث رجع. وذكر أنه كان غادياً الى الجمعة، فإذا بشاب جميل حسن البشرة، يمشي في أثر صبية. فاتكأ عبد الجبار، فقطع شسعه، وناداه: يا شاب. فوقف، ومشى إليه عبد الجبار، وقال له: أنا شيخ ضعف بصري، وانقطع شسعي، فأصلحه. وأخذ منه النعل فأصلحه.
ومشى في أثر الصبية فقطعه ثانية. وناداه ليصلحه فعطف. وقال له: أنا قطعته يا شاب. إشفاقاً على هذا الشباب من لفح النار، وبكى. فبكى الفتى. وجزاه خيراً. وصحبه الى الجامع وحسنت توبته.
ذكر شيء من حكمته رحمه الله تعالى
قال أبو العرب: كان عبد الجبار من عقلاء الشيوخ، ثقة. وكان كثيراً ما ينطق بلفظ قليل. يدل على معنى كثير، كقوله، من قلّ كلامه قلّت آثامه.(4/387)
ومن كانت له وليّة، لم يعدم بليّة. الصوم عن الكلام، أثقل من الصوم عن الطعام. من خزن لسانه، كثر في الدنيا والآخرة أمانه. ومن خلا بربه، لم يعدم النور من قلبه. ومن خلا بغيره، لم يعدم الزيادة في ذنبه. ومن كلامه: من كان في الله همه، قلّ في الدنيا والآخرة غمّه. ومن كلام عبد الجبار، رحمه الله تعالى: من أصبح وأمسى، وهمه بغير الله مجتمع، لم يسأل الله تعالى عنه في أي واد من أودية الدنيا، وقع. وقال: لو همّك شأنك، لكل لسانك، وهيجتك أحزانك. ولولا الفضول لصفَتِ العقول، ولكان المجهول عندك معقول. ومن كان بالليل نائماً، وبالنهار هائماً، متى ينال الغنائم؟ ومن سكت سلم. ومن تكلم بذكر الله غنم. ومن خاض أثم. ومن وبخك فقد نفعك. ومن نفعك فقد رفعك. وقال: ما أبعدنا منه على قربه منا. إذا لم يرنا. وقال كنت أخلو لأهتم. ثم صرت أخلو لأغتمّ. وفي رواية: كنت أخلو لأعلم، ثم صرت أخلو لأغنم. وقال: كل كلمة لم يتقدمها نظر. فالكلام فيها خطر. وإن كانت من أسباب النظر. وتوفي رحمه الله تعالى في غرة رجب سنة إحدى وثمانين ومائتين. وصلى عليه حمديس، صاحبه، فيما قال ابن أبي خالد.(4/388)
وقال أبو العرب: بل في جمادى الأخيرة من السنة. مولده سنة أربع وسبعين ومائة.
عمر بن يوسف بن عمر بن عيسى
أبو حفص رحمه الله تعالى. عداده في أهل إفريقية. وأصله من إشبيلية. سمع يحيى بن عمر، ومحمد بن وضاح. ذكره الشيرازي في عداد فقهاء المالكية. وزعم أنه سمع من سحنون، ولم يذكر أبو العرب عنه سماعه. قال أبو العرب: كان صالحاً ثقة، ثبتاً ضابطاً سمع من سحنون ولم يذكر يحيى بن عمر ولا غيره. وسمعت منه. وكان سمع بمصر، من محمد بن عبد الحكم، وأخيه سعد، وابراهيم بن مرزوق، وابن عزيز الإيلي. وسكن سوسة. وتوفي بها، رحمه الله تعالى. سنة ست وثمانين ومائتين. والأول أصح؟ وذكر ابن حارث، فيمن ولي قضاء طليطلة: عمر بن يوسف بن عمر بن يوسف بن عمر في رأس ثلاثمائة سنة. وأراه آخر، وافق اسمه. والله سبحانه أعلم. وكان قليل ذات اليد، لا يتعرض لشيء مما في أيدي الناس. وكان كثيراً ما يقول:
أيا نفس قد أثقلتني بذنوبِ ... أيا نفس كفي عن هواك وتوبي
كيف التصابي بعدما ذهب الصبا ... وما حل بعارضتي عتاب مشيبي
سمع منه أبو العرب، وعبد الله بن الباجي رحمهم الله تعالى.(4/389)
أبو الأحوص أحمد بن عبد الله
كان رجلاً من أهل الفضل، مكفوف البصر، بعد صحة. وهو من المغرب. وسكناه بسوسة. له صحبة مع سحنون. وسمع كثيراً منه، ومن ابن زُغبة بمصر، قال أبو العرب: وكان يصلي من الضحى الى صلاة العصر، ثم يجلس، يسمع منه. سمع منه أحمد القصري. قال ابن حارث: وكان الخير والعبادة أغلب عليه من الفقه. وبلغني أنه كتب كتاباً، الى ابراهيم بن أحمد بن الأغلب يعظه فيه، بلفظ غليظ. فأرسل إليهم ابراهيم. وقيل: بل أتاه ابراهيم بباليل، فقال له: أنت وجهت إليّ هذا. قال: نعم. قال فمن كتبه لك. فأبى أن يخبره. فوقاه الله شرّه. وذكر ابن اللباد: أن رجلاً رآه كأنه واقف على باب الجنة. وأبو الأحوص يريد أن يدخل الجنة، ورجل زيات من أهل سوسة، يمنعه الدخول، ويقول: لا أدعك تدخل، حتى تدفع إليّ حقي. قال: هذا قصر أعطيكه. قال: لا. قال: فقصرين. قال: لا. قلت أيا هذا، أيعطيك قصرين في الجنة وتأبى. وإنما لك عليه درهمان(4/390)
فنفضني نفضة، وقال: إن الله تعالى ما كذب ولا يكذب، بل لابد من القصاص يوم القيامة. فانتبهت لنفضته، وأنا أعرف الزيات. فغدوت الى المسجد الجامع، وجلست بين الأبواب حتى دخل الرجل، فأشرت إليه، فأتى. فلما انقضت الصلاة قلت له: يا فلان ما لك على أبي الأحوص؟ فقد أوصاني إليك بشيء نسيته. فقال: درهمان. فدفعتهما إليه. وأخبرته بالرؤيا. وكان أبو الأحوص، متقللاً من الدنيا، زاهداً فيها. وكان سبب سكناه بسوسة، أنه أقام بها مرابطاً، مدة. حتى فرغت نفقته. فأراد الرجوع الى بلده. فبينما هو يركع بجامعها، إذا بعصفور جاء بشيء الى فراخه، فسقط من فيه ما جاء به، فخرج فأر من خلف الحصير، فأكل ما أسقط. فقال في نفسه: فأر خلف الحصير، قيّض الله له خلف رزقه، فلم يضيعه. فكيف أضيع أنا. لله عليّ ألا أضيّع مدينة الرباط. وكان ابن الأغلب يزوره. فإن وجده يطحن جلس على التراب. وإن وجده يأكل جلس على جلد المطحنة. لأنه لم يكن عنده حصير في البيت، ولا غيرها. وكان إذا عرضت للمسلمين حاجة. كتب إليه بالفحمة على شقفة. وسأله الأمير مرة: هل لك حاجة؟ فامتنع. فعزم عليه.
فقال ثلاث حوائج. قال: هي مقضية. قال فما هي: فطلب منه الزيادة في الجامع لضيقه عن الناس، وإجراء سقاية من خارج المدينة الى مواجلها. وإخراج من سجن. فأجابه.(4/391)
قال أبو الأحوص: غاب إما الجامع يوماً عن صلاة العصر، فعزم علي، فتقدمت. فلقد صحّ عندي أني ما سلمت من الصلاة حتى بدأ قوم يفتشون عن عيوبي. وما سمعت من يذكر ذلك قبل، كأنه يقول: إن الخمول من أسباب الستر. قال ابن اللباد: ذكر أبو العدل، قال: كنت بمدينة سوسة مرابطاً. فبلغني أن سعيداً الضرير قدم، فتوجهت إليه مع أبي الأحوص، أسلّم عليه. فوجدناه عنده ناساً. وذلك بعد العصر. فدعا وقرأ. ثم افترقنا بعد المغرب. وكان وقت قحط ومصيف، وحاجة الناس الى الماء. وقد فرغت مواجلهم. فوقف أبو الأحوص في بعض الطريق، فوقفنا لوقوفه. فقال: اللهم إن كنت استجبت لنا في مجلسنا هذا، فعرفنا بركة ذلك، بأن تسقينا الغيث. فما دخلنا المسجد إلا ونحن نخوض الماء من المطر. قال أبو الأحوص: أتيت للسماع من سحنون، فبقيت عنده مدة، لا يسأل عني، فلما أردت الرجوع الى بلدي، أتيته لأسلم عليه. وذكرت له أني أريد الرجوع. فسلّم عليّ وقال: يا بني لا تنسنا من دعائك. فقلت في نفسي: يسألني الدعاء - أزري على نفسي - وكنت أظنه لا يعرفني. وقال عبد الوهاب الزاهد: قمت على برج، على شاطئ البحر، فإذا أبو الأحوص رحمه الله تعالى، بين شرافتين في سواد الليل يقول:
أبوا أن يرقدوا ليلاً ... فهم لله قُوّامُ
أبوا أن يفطروا دهراً ... فهم لله صُوّام
أبوا أن يخدموا الدنيا ... فهم لله خدّام
لا إله إلا الله والله أكبر. ولله الحمد. ثم اندفع في السباحة حتى سمع حسي. فقال لي: من أنت؟(4/392)
فقلت: عبد الوهاب. فقال يا بني: يا أبا القاسم. إنما نقطع الدنيا بالهموم والعلل، والأحزان والأمراض، والأعمال. وإنما نفرح غداً بالنظر الى الله تعالى. إذا صرنا الى دار السلام. فقال أبو الأحوص: سئل سحنون عما يأتيه به أهل الشام، من الرخص في الفتيا. قال سحنون: يؤخذ هذا العلم من الموثوق بهم في دينهم المحسوس بخيرهم فإن أخذوا بالتشديد، فعن علم، وإن أخذوا بالرّخص فعن علم. وتوفي بسوسة يوم الأحد سنة أربع وثمانين ومائتين. رضي الله تعالى عنه ورحمه.
أبو عياش أحمد بن موسى بن مخلد من العجم. رحمه الله تعالى
وينتمي الى غافق. ويقال له: عيشون. وقال ابن أبي دليم في كنيته: أبو العباس بباء واحدة. قال المؤلف رحمه الله تعالى. وهو وهم لا شك فيه منه، أو من النقلة. وصوابه أبو العياش. بياء باثنين من أسفل. وقال أبو العرب التميمي: كان شيخاً صالحاً، ثقة فقيهاً، عالماً ثبتاً زاهداً، متعبداً ورعاً. صحيح الكتاب، حسن التقييد، معدوداً في كبار أصحاب سحنون، وعليه اعتمد. سمع منه ومن عبد العزيز بن يحيى المدني. وابن رمح. وأبي إسحاق البرقي. وهارون بن سعيد الإيلي، ومن غيرهم. وسمع أيضاً من الوقّار. سمع منه أبو العرب وأبو القاسم بن تمام، وعبد الله بن مسرور، ومحمد بن يونس السدري، ولقمان بن يوسف وغير واحد من الأجلّة. وعالم كثير. وكان لا يذكر أحد بحضرته لغيبة.(4/393)
وبلغ من تقشفه، وزهده، أنه كان يركب ثوراً من باب أبي الربيع، بالقيروان، حتى ينتهي الى منزله بالرّوحا فإذا كلم في ذلك، قال: حسبك من الدواب ما يبلغك المنهل. وولاه ابن طالب قضاء قسطلية. ويقال، سحنون. وامتنع. حتى تخلّص، وكان عالماً بأخبار علماء إفريقية. وطال عمره. قال ابن أبي خالد: كان زاهداً ورعاً، متعبداً، فاضلاً عالماً بكتبه.
قال أبو القاسم ابن تمام: رأينا منه من الإجابات والفراسات أمراً عظيماً. مرض ابني أحمد، قلت له أريد السفر، فإن حدث بأحمد الموت توليته، وصليت عليه. فقال اذهب الى سفرك. فما هو بميت من هذه العلة. وأراه يقوم فلم يمت منها. قال محمد بن يونس القروي: سألت أبا عياش عن التجارة بالقمح، وحكرته. فأباح لي ذلك في وقت كثرته ورُخصه. ومنعه في وقت غلائه. إلا ما لابد منه. وقال: هذا بخلاف الزيت. يريد إباحته في كل وقت. واحتجّ بأن ابن المسيب، كان يحتكر الزيت. وكان يميل الى الرقائق، والمواعظ. ويختم بذلك مجلسه. ويقطع له ولغيره، بأنه مؤمن عند الله، على رأي محمد بن سحنون، ومن قاله قبله. توفي رحمه الله تعالى في صفر سنة خمس وسبعين ومائتين ومولده سنة سبع وثمانين.(4/394)
أحمد بن مروان الصوّاف
أبو جعفر. رحمه الله تعالى. سمع من سحنون. ومن مروان بن أبي شحمة. قال ابن حارث: كان من الفضلاء المتقدمين والعباد المجتهدين. كان من أصحاب سحنون. وغلبت عليه العبادة والخير. ويقال إنه كان مستجاب الدعوة. قال أبو العرب: كان فقيهاً عالماً بالفقه، والمناظرة عليه. ثقة، حسن العقل. ذا اجتهاد في العبادة. وكان يسمى جوهرة أصحاب سحنون. قل من أخذ عنه، إذ لم ينصب نفسه لذلك. وكان إذا قام للصلاة، لم يشغل نفسه بسواها. فلو جرى ما شاء الله تعالى، لم يعلم بشيء منه. ذكر ذلك ابن أبي زيد، الفقيه رحمه الله تعالى. قال: كان له ابن، له أصحاب يجتمعون على اللهو، والغناء، وكانت والدته تقول له: لا تتحركوا حتى يأخذ والدك في الصلاة. فإذا أخذ في الصلاة، أخذوا في شأنهم. فلا يشعر بهم. فإذا أحست الوالدة بانصرافه منها. ضربت الحائط فكفوا.
أبو داود العطّار
واسمه حمد بن موسى بن جرير الأزدي. أصله من الجند الداخلين ويقال أسلم جده على يدي يزيد بن حاتم. وأبوه موسى من شيوخ إفريقية. سمع ابن سلام وغيره. وكان أبو داود، رحمه الله تعالى عطاراً.(4/395)
قال أبو العرب: كان صالحاً، ثقة في نفسه. سمع سحنوناً، وهو من كبار أصحابه. ومن يحيى بن سلام وابن أبي خارجة. ومعاوية الصمادحي. وأسد بن الفرات. وابن غانم، مسألة واحدة، يأخذ عنه الناس، وفي كتبه خطأ وتصحيف. قال محمد بن حارث: كان ظاهر الوجدانية والتقدم. معدوداً في أصحاب سحنون. قال أبو العباس الإبياني: كان أبو داود العطار، قرب سحنوناً إليه. وكان يرضاه جداً. وكان مختلطاً بأهل دار سحنون، لمكانه عنده. يشهد عنه بشهادة قضائه. فكتب سحنون إلى ابن عبدوس فيه، فلم يمض شهادته. وكان ابن عبدوس يكتب إليه وسأله عن سبب رده له. وقال له: هل لأحد في أبي داود، توقف؟ فقال له ابن عبدوس: حضرت يوماً بحانوته، فرأيت بعض أهل التعريف يشتري من غلامه، فبلغ ذلك أبا داود، فأتى ابن عبدوس وقال له: أخبرنا ما أنكرت علينا، لعلنا نصلحه. فذكر له القصة. فقال له أبو داود: الغلام صرّف ماله. فأخبر ابن عبدوس سحنون بذلك. فسرّ به. وقال: قد علمت أنه يبعد عن الريبة. توفي رحمه الله تعالى. في ذي الحجة سنة أربع وسبعين ومائتين. وهو ابن إحدى وتسعين سنة. مولده سنة ثلاث. وقيل اثنين وثمانين، ومائة.(4/396)
وله ابن اسمه محمد. ويكنّى: أبا عبد الله، سمع أيضاً من سحنون. وتوفي سنة ثلاثمائة.
ابراهيم بن عتّاب الخولاني
أبو إسحاق. رحمه الله تعالى. من أصحاب سحنون رحمه الله تعالى. وكتب له أيام قضائه، وسمع أيضاً من عبد العزيز المدني. قال أبو العرب رحمه الله تعالى: وهو ثقة مأمون. قال ابن حارث: رحمه الله تعالى، كان قليل الفهم، غالياً في مذهب ابن سحنون في مسألة الإيمان، شديد الحمل على محمد بن عبدوس، عصبيةً لابن سحنون. حتى أنه لم يصلّ على ابن عبدوس. وقد تقدم على جنازته، فوجه فيه ابن طالب رحمه الله تعالى. وأراه كان إذ ذاك على مظالم القيروان. فسأله: لمَ فعل ذلك؟ قال: لأنه شكوكي، يقول إنه ليس بمؤمن، عند الله تعالى. فقال ابن حمدوس: أشهد أن ابن عبدوس، قال: من قال إنه ليس بمؤمن عند الله تعالى، فهو كافر عند الله تعالى. فأمر ابن طالب بسجن ابن عتاب، وكان ابن عتاب هذا إمام مسجد سحنون رضي الله تعالى عنهما. وتوفي سنة إحدى وستين ومائتين رحمه الله تعالى.
عبد الله بن غافق التونسي
أبو عبد الرحمن رحمه الله تعالى. سمع من سحنون وزيد بن بشير. ولقي ابن عبد الحكم. وكان موصوفاً بالورع والعلم والكرم. قال أبو العرب: كان فقيهاً، ذا هيبة ونسك، معدوداً في أصحاب سحنون، ثقة مأموناً. وكانت له طاعة بتونس، لا يتقدمه أحد منهم في وقته، ولا يخالف أمره. وعرض عليه ابراهيم بن أحمد قضاء القيروان. فامتنع. وكان قبل قد استشار ابن طالب، فقال: رجل صالح.(4/397)
وأشار هو بابن طالب، وكان ابن عمران القاضي يقول: ما يحل لي أن أولى القضاء بتونس، حتى أعرض ذلك على ابن غافق. فحينئذ أولّى. وكان من كان وليها عن رأيه يصدر، وبقوله يأخذ الشيرازي. وعليه كان اعتماد أهل بلده، في الفتوى. وزعم أنه تفقه بعلي بن زياد. وهذا وهم كبير. لأن ابن غافق، ولد بعد موت علي بأزيد من عشرين سنة. توفي علي سنة ثلاث وثمانين ومائة. وولد ابن غافق سنة أربع ومائتين. سمع محمد بن عمر، وقال ابن حارث: كان من الحفاظ المعدودين من وجوه هذه الطبقة. فقيهاً نبيلاً عاقلاً. من أهل المروءة. وكان سحنون إذا أراد أن يحرض ابنه، يقول له: ادرس، لا يجيئك كبير الرأس، يعنيه. وكان رأسه كبيراً. وسمعت بعض الشيوخ يحكي، أن ابن غافق كان حليماً، كريماً. كثير الأخذ والفضل. وكان له عدوّ من أهل بلده. فقدم عدوّه الى القيروان يبدأ بثلبه. ونقضه لا يقعده في مجالس أهل العلم. فبلغ ذلك ابن غافق، فبدأ بإرسال التحف والهدايا، الى من خلف ذلك الرجل، في داره بتونس، من أهله وولده. فأغرقهم بها. وكتبوا إليه الى القيروان يعلمونه أن ابن غافق، أغرقنا بالنعم. فاستحيا ذلك الرجل، الذي يثلبه، وقلب لسانه بحمده وشكره. وجعل يعتذر الى كل من حفظ عنه فيه مقالاً سيئاً. ولما حجّ ابن غافق، أهدى إليه رجل هدية في سفره. فكافأه عليها في حينه. ثم أهدى إليه ثانية، فكافأه. فجعل الآخر يكثر في تهاديه، وابن غافق من مكافأته، فلما أكثر عليه، لقيه، فقال له: ابن غافق: إن كان يسرّك أن أرجع الى بلدي، وعليّ دين فتمادَ في فعلك.(4/398)
فكف الرجل عنه. ويقال: ثلاثة رجال من أهل العلم، لم يكن أحد في الناس أطوع منهم. محمد بن سحنون بالقيروان، وأحمد بن مخلد بقسطلية، وابن غافق بتونس. وكان ينزل في القيروان، على أحمد بن أبي زاهر. ورحل ابن غافق الى رجل بالجزيرة. يتعلم منه الأدب. فبقي عنده عشر سنين. وبعد هذا وصل الى سحنون. ولما وصل الى مصر، لقي محمد بن عبد الحكم، وكان أتى مجلسه، وهو لا يعرفه، فسأل محمد أصحابه عن مسألة. فأجابه عنها بعضهم. فقال ابن عبد الحكم وكان أتى مجلسه وهو لا يعرفه. بل فقال ابن عبد الحكم: من أين لك هذا الجواب؟ فقال من هذا؟ يعني ابن غافق. وكان جلس الى جانبه. فسأله محمد من أين الرجل؟ فقال: من تونس.
فقال أنت ابن غافق؟ قال: نعم. فسلم عليه. وسأله عن مسألة الإيمان، وما وقع فيها من الاختلافات بالقيروان. فقال له: قال قوم، نحن مؤمنون عند الله، مذنبون. وقال قوم نحن مؤمنون، ولا ندري، ما نحن عند الله. فقال: ما قال بها محمد بن سحنون؟ فقال له: مؤمنون عند الله. فقال دعني بهذين فبعث إليه. فقال الصواب ما قاله محمد بن سحنون. فلما قدم ابن غافق، وضع رسالته في الإيمان ولم ينسبها الى(4/399)
نفسه. فكتبها الناس واستحسنوها، فأذاعها رجل نحوي. فبلغ الخبر ابن غافق. فقال: إنما ظننت أنكم تعملون بما فيها. فلما نسبت لغير أهل العلم، والله لم يسعنِ السكوت. أنا وضعتها. وقرأتها على يحيى بن عمر، فاستحسنها. وقال: أنا أرويها عنك. وكان حمديس، وموسى القطان، يعجبان بها، وذكر أنه ناظر ابن الكوفي يوماً فلما ضيّق ابن غافق عليه بالحجة، قال له ابن الكوفي: إن مشورتك كبيرة - يعني رأسك - وكان طويل الرأس. فقال ابن غافق: ذلك أكثر لحشوها. وتوفي بتونس، رحمه الله تعالى سنة خمس. ويقال سبع وسبعين ومائتين. وسنه ثلاث وسبعين سنة. مولده سنة أربع وثمانين.
محمد بن بشار الرويني
فقيه، ثقة. أخذ عن سحنون. قال بعضهم: مررت به مرة، فرأيت فيه إنكاراً، فسألته. فقال: ما لي لا أغتمّ، وكانت لي خادم تمنعني من الفِرن، وإنما أصبت بها، فأعلمت بذلك، سحنوناً. فبعث الى خمسة رجال من أهل الساحل. وبعث الى جامع العطار، فأخذ منه خمسين ديناراً وقال: ادفعها عشرة، عشرة، للخمسة الرجال. وقال لهم: فرقوها على ثقات في الزيت ففعلوا وكان ذلك قريباً من جمع الزيتون. فلما أتم، كتبوا إليه باجتماع الزيت، فأمرهم ببيعه، فباعوه بمائة دينار. فردّ منها الى العطار خمسين ديناراً وبعث بالخمسين الى الزويلي فأخذها، ودعا له. وقال له يفتقدنا في دنيانا وآخرتنا. رحمهم الله تعالى ورضي عنهم أجمعين.(4/400)
سهل بن عبد الله بن سهل الفبرياني
رحمه الله تعالى. تقدم ذكر أبيه. يكنى بأبي يزيد وكان معدوداً في أصحاب سحنون. وسمع منه، ومن عبد العزيز بن يحيى المدني، ومن أبيه. وكان فقيهاً ثقة. وكان كثير المال، فعالاً للخير، بنى قصر الرباط على البحر بسوسة. فأنفق فيه مالاً عظيماً. وكان قوم أرادوا بناءه، فأتوه يستعينونه في ذلك. فتولى جميعه. وقيل بل كان موضعه ربوة رمل كبيرة. كان محمد بن سحنون يجلس عليه، بعد العصر مع أصحابه. إذ كان بقصر الطوب، مع أصحابه، ينظر في البحر، والتفرّج به. فقال يوماً وددت لو بُني هاهنا قصر. فقال له سهل: أنا أبنيه. فبناه. وأنفق فيه نحو ألف مثقال. توفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين. مولده سنة تسع ومائتين سمع منه عالم كثير، منهم أبو العرب، وأحمد بن محمد القصري، وغيرهم.
يحيى بن عون بن يوسف
أبو زكريا. رحمه الله تعالى. تقدم ذكر أبيه. له سماع من أبيه. وسحنون وأبي زكريا الجعفري، وجماعة. وسمع منه الناس، وكان مصاباً بإحدى عينيه.(4/401)
وذكره في كتاب المالكي، فقال: كان رجلاً صالحاً، من أهل العلم والفقه، وكان إذا كان يوم الشك جعل آنية الماء في المسجد الى جانبه. فإذا سأله أحد عن الصوم شرب الماء. وذكر ابن حارث أنه كان يتهم ويطعن عليه. وضربه سحنون لما صلى على ولده بغير أمره. وقد كان جالساً عند داره، ينتظرالصلاة عليه. حتى مرّ عليه الى قبره. فأخبر أن والده صلى عليه. فمنعه بالسوط بيده. ثم أمربإنزاله واعاد الصلاة عليه. وله كتاب في الردّ على أهل البدع. توفي سنة ثمان وتسعين ومائتين.
محمد بن زرقون
ابن أبي مريم. المعروف بابن الطيارة. من العجم رحمه الله تعالى. كان كاتباً لابن طالب، أول قضائه. وكان إماماً خطيباً بجامع القيروان. وكان صالحاً، ثقة كثير الكتب. سمع من سحنون وابنه، وعلي بن معبد وعبد الله بن عبد الله، وغيرهم، من أهل(4/402)
يونس ومحمد ابنا يوسف بن مؤذن
من أهل وشقة. سمع بالأندلس والمشرق كثيراً، وشُهِر بالعلم والفضل والزهد.(5/253)
ويكنى محمد: أبو عبد الله. توفي يونس سنة ست وتسعين. وتوفي محمد سنة سبع عشرة وثلاثمائة. قال ابن الفرضي، في باب أحمد بن مؤذن ولقي أحد العبّاد، ورحل. فسمع يحيى بن عمر، وكان ذا قدر جليل، يقال إنه فك من أسرى المسلمين مائة وخمسين. توفي سنة سبع وثلاثمائة.
عمر بن يوسف
ابن فِهر، بن خصيب الأموي، مولاهم. يكنى أبا حفص. يعرف بابن الإمام. وبيتهم بالثغر معروف بالعلم، والجلاة. قال ابن الفرضي: كان حافظاً للمسائل، وامتحن بالأسر هو وابنه وأخوه. فافتدوا بخمسة عشر ألف دينار وعمّر. ولّي قضاء بلده، سنة خمس وعشرين، الى أن توفي، سنة سبع وثلاثين. وهو ابن ثلاث وتسعين سنة. مولده سنة أربع وأربعين ومائتين.
أبو عبد الله الفهري.
فقيه تطيلة وكبيرها. ذكره ابن حارث، وقال: لقيته بتطيلة، سنة خمس وعشرين. فرأيت عليه جلالة السنّ، وسمت العلم وهديه. وتكلمت معه فأفضيت منه الى كل علم، وفقه ومذاهب مستحسنة. ولعله والد المذكور أولاً. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(5/254)
طبقة أخرى
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
قال الفقيه الإمام أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي، رضي الله عنه، وغفر له آمين. ثم صار المذهب بعد هذه الطبقة، في طبقة أخرى، فمنهم من أهل المدينة: أبو مروان قاضيها، واسمه عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن أحمد بن عبد الرحمن. قال ابن حارث: كذا كتبت نسبه من خط المديني، ويعرف بالمرواني، ويعرف أيضاً بالمالكي. وكان يزعم أن جده كان منقطعاً لمروان. يعرف وأهل بيته بذلك. وليس بقرشي. قال أبو الحسن بن معاوية، ابن مصلح، وذكره في شيوخه: كان ثقة مأموناً. روينا عنه كتاب المشكل من تآليفه. وغير ذلك. كذا قال: المشكل. وأظنه المسكر. ألف كتاب الأشربة، وتحريم المسكر، وهو كتاب الرد على أبي جعفر الإسكافي.(5/255)
وسمع منه الناس كثيراً. فمن سمع منه من أهل الأندلس: أبو محمد الأصيلي. والقاضي ابن السليم، وأبو عبد الله بن مفرج. وابن عون، وخطاب بن زيد، وأبو الحسن بن وضيء الحجازي، وغيرهم. ومن أهل المشرق أحمد بن ابراهيم الوندقاني. رحمهم الله ورضي عن جميعهم.
من هذه الطبقة من أهل مكة
عبد الله بن سعيد
ابن نافع. كان بمكة من فقهاء المالكية. قال الفرغاني: وكان من أهل السيرة والعلم. أخذ عنه فيما أرى، عبد الوهاب بن نصر. فقد رأيته والله أعلم في مشيخته.
ثم من آل حماد بن زيد
قاضي القضاة أبو الحسين: عمر بن قاضي القضاة، أبي عمر، محمد بن القاضي يوسف بن القاضي يعقوب بن اسماعيل، بن حماد بن زيد.(5/256)
كذا اسمه وقد وهم في اسمه أبو القاسم عبد الله بن محمد البغدادي الشافعي. فسماه أحمد. وقال: كان من أحذق من رأيناه من أحداث المالكيين. وقال ابن حارث وغيره: وكان ذكياً فطناً، حاذقاً بالمذهب. أخذ من كل علم بنصيب. قال الشيرازي: وناظر أبا بكر الصيرفي، فقيه الشافعية. وقال الصولي، وذكر القاضي أبا عمر، ووفاته، فقال: وولي بعده ابنه أبو الحسين نظيره، في الفضل وتاليه في العقل، السالك مسلك سلفه، والجاري على مذاهب أوله. الحامل لعلوم قلما اجتمعت في مثله، من أهل زمانه. ولا يعرف قاضٍ في سنه، ولا أعلى منه، يشتغل بالعلوم التي يشتغل بها، من حفظ الحديث، وعلم به. واستبحار في الفقه، واحتجاج له. وتقدم في النحو، واللغة. وحظ جزيل من البلاغة، نظماً ونثراً، وقرأ عليّ من كتب اللغة والأخبار، ما يقارب عشرة آلاف ورقة. قال: وكان بلغ في العلوم مبلغاً عظيماً. وله إليّ أشعار ملاح، لها مني جوابات. فقد أفردت لها كتاباً عملتها في وصفه، ووصف أبيه أبي عمر القاضي. وللقاضي أبي الحسين كتاب في الرد على من أنكر إجماع أهل المدينة. وهو نقض كتاب الصيرفي. وله كتاب سمّاه الفرج بعد الشدة. ولم يدرك عمه اسماعيل بن إسحاق. وإنما تفقّه عند أبيه، وكبار أصحاب اسماعيل. وعن القاضي أبي الحسين، وأبيه أبي عمر أخذ الشيخ أبو بكر الأبهري وغيره. وعندهما تفقّه.(5/257)
ولايته القضاء وبقية أخباره
كان أبو الحسين، يخلف أباه في قضائه. وهو صغير السن. ثم ولي قضاء مدينة المنصور. سنة عشرين وثلاثمائة. فلما توفي أبوه في رمضان، من هذه السنة. قلّد أبو الحسين جميع ما كان يتقلّده أبوه، من أعمال القضاء. إلا قضاء القضاة. وخلع عليه. فلما كان في صفر، سنة خمس وعشرين، وليَ قضاء القضاة. ثم قلّد في سنة ست وعشرين الخطبة، في مجلس الخلفاء. وذلك أنهم حضروا بين يدي الخليفة الراضي، عقد مصاهرة، بين بعض كبار أصحابه. فقام بعض الحاضرين، يخطب، فمنعه أبو الحسين. قيل إنه ابن أبي العزافير وكان يذهب الى مذهب الحلاج رضي الله تعالى عنه ويقول بالحلول، والتأله. فشهد على قوله. وأفتى أبو الحسين بقتله. وفي أيام أبيه أبي عمر قتل أبو منصور الحلاج، بفتواه. وعدم قبول توبته، على مذهبه. فأخذ بفتوى من قال بقتله، بعد أن ضرب ألفي صوت. وقطعت أطرافه، وضرب بها وجهه، ثم طرح من أعلى الركنة، الى الأرض وأُحرق ابنه أبا الحسين، فلما عاد، قصده الناس، إلا هما؟ فكتبت إليه أستجفي أبا عمر:
أأستجفي أبا عمر وأشكو ... أمَ استجفي فتاهُ أبا الحسين
فما زارا ولا بعثا رسولا ... ولا كانا لحقي قاضيين
بأي قضية وبأي حكم ... ألحّا في قطيعة واصلين(5/258)
فقال أبو عمر، لابنه: أجبه. فكتب إليه:
تجنَ واظلم فلست تقلى ... عن سالم العهد أيها الظالم
حكمت ظناً فما هديت ولن ... يحكم بالظن والهوى حاكم
أمران لن يذهبا على فطن ... وأنت بالحكم فيهما عالم
تركت حقّ الوداع منصرفاً ... وجئت تبغي زيارة القادم
كل حقي عليك مطرح ... وحق ما تدعيه فيّ لازم
وكل هذا عتاب ذي مقة ... وصدره من حفظه سالم
وذكر القاضي أبو علي الحسين بن علي التنوخي، في كتابه عن أبي الربيع ابن داود، خادم أبي عمر القاضي، قال: حججت مع القاضي أبي الحسين ابن أبي عمر، فذكر حكاية معناها أنه دخل مكة في حر شديد، فلما طاف وسعى، أدركه قلق وشدة من الحر، فقال: أشتهي على الله شربة ماء مثلوج. فقيل له إن هذا ما لا يوجد في هذا المكان. فقال: هو ما قلت، أو نحو هذا. فلم يكن إلا أن نشأت سحابة، وأبرقت وأرعدت شديداً، ثم أمطرت ببرد كثير، فجمعنا منه شيئاً عظيماً، وكان صائماً. فلما كان وقت المغرب، جئته منه بما أراد، ونحو هذا من الخبر، وقد عزيت هذه القصة الى غيره، وقال الصولي، في القاضي أبي الحسين، يخاطب أباه أبا عمر:
وما يُخالج القاضي ارتياب ... بأنك طرف حليته الحداد
أعرب خلاله فينا ولولا ... كمالك لم يكن مما يعاد(5/259)
فأنت خليفة منهم تسود ال ... بنين الأشرفين يخلفها الرماد
وبعضهم تكون بنوه منه ... مكان النار يخلفها الرماد
قدرت على المكارم لانتقاص ... بعينك قدرهن ولا ازدياد
قال الصولي. وكتب إليّ القاضي أبو الحسين:
أيها الصديق كل الصديق ... في مكاني التحصيل والتحقيق
والذي لم أخنه عهداً وثيقاً ... لا ولا خانني بعهد وثيق
لمَ أخلفت يا خليلي وعداً ... حاصلاً في زيارتي وطريقي
إن من ساءه جفاؤك إياه ... بطول الجفاء غير حقيق
وهي طويلة فأجابه الصولي بقصيدة طويلة أولها:
يا مقراً بالوعد عين الصديق ... وأجل الورى على التحقيق
وتوفي، أبو الحسين ببغداد. وهو يتولى قضاء القضاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من شعبان، سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. واخترمته المنية قبل استيفاء أقرانه، وطبقته. وسنّه يوم مات تسع وثلاثون سنة.(5/260)
وأمه أم ولد: اسمها لُبنى. ولم يتخلّف عن جنازته جليل، وصلى عليه ابنه أبو نصر. قال الصولي: ووجد عليه الراضي أمير المؤمنين، وجداً شديداً، حتى كان يبكي بحضرتنا، ويقول: كنت أضيق بالشيء ذرعاً حتى أراه فيوسعه عليّ برأيه. قال: وكنا عند الراضي ليلة، فأمر جواريه أن يضربن العود وينُحْن عليه، حتى خفنا عليه. وجعلنا نعزيه. قال: والله لا بقيت بعده.
ابناه أبو نصر يوسف، وأبو محمد الحسين، رحمهما الله تعالى
ذكر الإمام أبو إسحاق الشيرازي، أبا نصر في طبقة أبيه أبي الحسين. ولم يذكر أبا محمد. قال أبو إسحاق: وكان أبو نصر فقيهاً فاضلاً. وهو آخر من ولي القضاء، ببغداد، من ولد حماد بن زيد. وقال طلحة بن محمد بن جعفر: ما زال أبو نصر، قد نشأ نبيلاً، نظيفاً جميلاً، عفيفاً متوسطاً، في علمه بالفقه، حاذقاً بصناعة القضاء، بارعاً في الأدب والكتابة. حسن الفصاحة، واسع العلم باللغة، والشعر. تام الهيئة. اقتدر على أمره بالنزاهة والتصاون، والعفة. حتى وصفه الناس من ذلك بما لم يصفوا به أباه، وجده، مع حداثة سنه. وقرب ميلاده من رئاسته. قال: ولم نعلم قاضياً تقلده - يعني بغداد - أعرق في القضاء منه ومن أخيه الحسين. لأن أباه أبا الحسين: وجده أبا عمر، وولد أبي عمر يوسف بن يعقوب، وأباه يعقوب، كلهم ولوا القضاء ببغداد. ما خلا يعقوب، فإنه ولي قضاء المدينة. ثم قضاء فارس. قال الخطيب: وليَ أبو نصر القضاء في حياة أبيه، وبعد وفاته.
قال طلحة: لما خرج الراضي، الى الموصل، سنة سبع وعشرين. ومعه قاضي القضاة أبو الحسين، أمره أن يستخلف ابنه أبا نصر على(5/261)
مدينة السلام بأسرها. إذ علم أنه لا أحد بعد أبيه يجاريه، ولا إنسان يساويه، فتبيّن الناس من أمره، ما بهر عقولهم، ومضى في الحكم على سبيل معروفة له، ولسلفه. فلم يزل يخلف أباه في القضاء، الى أن توفي أبوه. قال الصولي: لما جلس القاضي أبو نصر، خلفاً لأبيه عند خروجه الى الموصل، لحرب ابن حمدان، حضر محمد بن بدر الشزابي، صاحب الشرطة، ونثر عليه دراهم ودنانير. وذلك سنة سبع وعشرين وثلاثمائة. وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة. قال ابن سنان، والصولي قلّد الراضي أبا نصر، يوسف. وأبا محمد الحسين. فكان إليهما لسبع من وفاته. فجعل لأبي نصر، قضاء القضاة ببغداد، الى المدائن. ولأبي محمد ما بين المدائن، الى البصرة. وخلع عليهما. فمرّ في الشارع الأعظم، فكان مما كلم به أبو نصر أمير المؤمنين الراضي، حين ولاه: قد استوفى سيدنا الأنعام وكمّله وشدّ بآخره أوله. فثبت الله وطأته. وأدام دولته. وقيل إن السلطان صادرهما بعد موت أبيهما، على عشرين ألف دينار، باعا فيها فيما حكاه ابن كامل من كسوة أبيهما خاصة، بأربعة آلاف دينار، وخمسمائة دينار. ثم قلد أبو محمد مدينة المنصور، مما كان بيد أخيه أبي نصر، سنة تسع وعشرين. وفي هذه السنة عزلا جميعاً عن القضاء ببغداد. وكان السبب فيه ما جرى بين أبي نصر، وبين أبي عبد الله بن أبي موسى الهاشمي. وكان أبو موسى هذا أولاً ممن سعى للقاضي أبي نصر، في الولاية. ثم اتهمه أبو نصر بالسعي عليه، لأخيه. فوقعت بينهما وحشة. فأخذ أبو نصر شهادة العدول، بأن ابن أبي موسى ليس أهلاً للشهادة، فأسقطه. وأشهد ابن أبي موسى ثلاثين عدلاً، أنه لا يشهد عند أبي نصر أبداً. وتجرّد في السعي عليه. وأنفق من ماله ألوفاً كثيرة، حتى صرفه. وولي أبو محمد مكانه. فخلع عليه لعشر خلون من محرم، سنة تسع وعشرين.(5/262)
وقال ابن سنان: صرف أبو نصر عن القضاء في جمادى الأولى، من هذه السنة. ثم رد الى الجانب الشرقي في شعبان منها. ثم عزلا جميعاً، في هذه السنة. وزعم القاضي أبو بكر بن الأخضر الداودي، في كتابه في أخبار أهل الظاهر: أن أبا نصر هذا انتقل آخراً عن مذهب مالك، الى مذهب داود. وتقدم فيه. وتمم كتاب الإيجاز لمحمد بن داود. رحمه الله تعالى. وأنشد الخطيب أبو بكر، لأبي نصر القاضي:
يا محنة الله كفي ... إن لم تكفي فخفّي
ما آنَ أن ترحمينا ... من طول هذا التشفي
ذهبت أطلب بختي ... وجدته قد توفي
ثورٌ ينالُ الثريا ... وعالم مستخفِ
الحمد لله شكراً ... على بقائه خفي
وتوفي يوم الأربعاء، لثمان خلون من ذي القعدة، سنة ست وخمسين وثلاثمائة. ومولده سنة خمس وثلاثين. رحمه الله تعالى.
هارون بن ابراهيم بن حماد بن إسحاق بن اسماعيل بن حماد كنيته أبو بكر
ولي قضاء مصر، سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة. وهو ببغداد. فكتب الى عبد الرحمن بن إسحاق بن محمد بن معمر الجوهري، والى محمد بن علي بن الحسن بن شعيب، المدايني. فتسلما ديوان القضاء وقرأ الجوهري كتاب عهده، بجامع مصر. وقد تضمن ولاية الصدقات، فسلماه الديوان. ثم أفرد الجوهري منهما، بالنظر، والحكم. وكان الجوهري عفيفاً عن أموال الناس، يذهب مذهب أبي حنيفة. فتولى ذلك(5/263)
الى أن قدم أحمد بن ابراهيم، خليفة لأخيه هارون. فعزل سنة ست عشرة وثلاثمائة. ثم وليها خليفة لأخيه هارون، ثانية، سنة سبع عشرة الى أن صرف بصرف أخيه، في سنة عشرين. ثم وليها من قبل القاهر أمير المؤمنين، سنة إحدى وعشرين. ثم صرف صدر سنة اثنتين وعشرين، بعد عزل ابن قتيبة. ثم صرف سنة اثنتين وعشرين. وتوفي فجأة في جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. ولد ببغداد، وكان يخضب بالسواد، وسنّه يوم مات ثمان وخمسون سنة. رحمه الله تعالى.
أحمد بن ابراهيم أخوه، رحمه الله تعالى
كنيته أبو عثمان. يروى عن أبيه. وأبي جعفر الطحاوي، وأبي بكر بن عبد العزيز العمري. حدث عنه أبو محمد بن أبي زيد. رحمه الله تعالى. وخلف أخاه، على قضاء مصر، مورده لها سنة أربع عشرة وثلاثمائة. فحكم قضاءها الى آخر سنة ست عشرة، فعزل. وولي قضاءها بعد ذلك، بين خلافة وقضاء، ست مرات.
سيرته رحمه الله تعالى
قال القاضي أبو طاهر الذهلي: كان أبو عثمان مشهوراً بالحياء، وخفض الصوت. أخبرني من حجّ معه: أنه كان إذا لبّى، أتى بأخفض صوت ما يكون. حتى كان النساء أرفع منه صوتاً. قال غيره: كان لا يكاد يفهم كلامه، من الحياء واسكتب أبا حفص، عمر بن أحمد بن شجاع.(5/264)
وفرض للمرابطين والأعراض، لأول ولايته. ففرض لألف رجل ونيف. وأصلح ثمانين علماً. وفي ولايته الأولى، حكم بتوريث ذوي الأرحام، وورد الكتاب بالأمر بذلك، من بغداد. وهذا أول من خرج من القضاة يمضي الى مسجد، مجبور لرؤية هلال رجب. احتياطاً لرمضان. وكان في مدة قضائه بمصر يسمع من أبي جعفر الطحاوي، ويتردد عليه. الى أن مات أبو جعفر. قال بعضهم: حضرت مجلس أبي جعفر الطحاوي، وعنده أبو عثمان بن حماد، وهو يومئذ قاضي مصر، فدخل إليه رجل، فسأل أبا جعفر عن مسألة. فقال له أبو جعفر: مذهب القاضي أيده الله، كذا وكذا. فقال له السائل: ما جئت الى القاضي، إنما جئت إليك. فقال: يا هذا، مذهب القاضي، ما قلت لك. فقال له السائل: مثل ما قال له أولاً. فقال: أبو عثمان تفتيه أيدك الله. فقال أبو جعفر إذا أذن القاضي أيده الله أفتيه. ثم أفتاه بعد ذلك. هذا من فضلهما وأدبهما. مولد أبي عثمان سنة خمس وسبعين ومائتين وتوفي بمصر سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. وقد لحقته حاجة وفقر. كفنه حين مات أبو بكر المدراني صاحب خراجها.
علي بن ابراهيم أخوهما
كنيته أبو الحسين. يروى عن أبيه، والحارث ابن أبي أسامة. ومحمد بن خلف. ووكيع. والبهلول بن إسحاق، ابن البهلول.(5/265)
روى عنه ابن أخيه أحمد بن عبد الوهاب، وأبو عبد الله التستري، وأبو الحسن الدارقطني.
عبد الصمد بن الحسين بن يوسف بن يعقوب أبو الحسن
ويعرف بابن أبي يعلى. كنيته أبو الحسين. يسمع من عمه القاضي أبي عمر. ذكر أنه سمع من اسماعيل. روى عنه ابن أخيه أحمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى.
أبو الطاهر الذهلي
رحمه الله تعالى. قال الدارقطني: هو محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر، ابني يحيى بن عبد الله بن صالح بن أسامة الذهلي. من بيوتات العلم ببغداد. وذوي الأقدار بها. سمع بشر بن موسى، وأبا أحمد بن عبدوس، وموسى بن هارون، وأبا بكر الفريابي، وجعفر بن يحيى القطان، وأبا إسحاق الزجاج. ومن شيوخه أيضاً أبو بكر محمد بن سليمان الشروري، والقاضي أبو عمر الحمادي. سمع منه أبو الحسن الدارقطني، وعبد الغني بن سعيد، وأبو القاسم الجوهري، وأبو الحسن بن علي، وأبو القاسم بن أبي زيد. وانتخب له أبو الحسن الدارقطني، وعبد الغني بن سعيد أجزاءً من حديثه. قال الدارقطني: كتبت عنه بمصر وأبو القاضي أبو العباس، أحمد، قاضي واسط. ويروي عن الدورقي، ومحمد بن خراش، ومحمد(5/266)
بن عبد الله المخزومي، وعمران بن بكّار، وابن النّطاح، ومحمد بن خالد. كتبنا عنه أمالينا. قال الفرغاني: كان أبوه من شيوخ القضاة بالعراق. وولي بها جليل الأعمال، كالبصرة وواسط. وحدث عنهم، وهم من أهل البيوتات ببغداد. قال الدارقطني، وأخوه نصر بن عبد الله بن نصر بن يحيى، يروى عن علي بن الجعد، وعاصم بن علي، وأبي بلال، قال الأمير فيه: كان ثقة ثبتاً. كان كثير السماع فاضلاً. بيته بيت جليل، في الحديث والقضاء. قال الفرغاني: كان أبو الطاهر مسنداً في الحديث، فقيهاً بمذهب مالك، ثبتاً أديباً، كاملاً، ذا قدر وجلالة وقدم في دولة بني العباس. وكان من شهود القاضي أبي الحسين بن حماد. وله به خاصة. ولاه القضاء بواسط فنكبه بها بحكم التركي. فتخلص بعد أن أشقى على الهلكة.
ولي قضاء لمدينة وعملها أيام المتقي، سنة تسع وعشرين. وقال الصولي: إنه لما ولي في هذه السنة قضاء مدينة المنصور، ببغداد، عند آل حماد، ثم لفظته العراق بأسباب الفتنة، بعد أن ولي جانبي بغداد، فخرج الى مصر، وولي قضاء دمشق، فاختلف عليه أهلها، فصرف. ثم ولي قضاء مصر سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، بعد الحصبي وابنه. ودخل جوهر غلام بني عبيد مصر، وهو قاضيها. فبقي على قضائها. قال الفرغاني: وكان حسن السيرة والعلم بالعربية، والآداب. قال القاضي أبو عبد الله بن الحداد: وكان محدث زمانه، وطال عمره.(5/267)
قال غيره: روى كتب الأدب عن ثعلب، وأبي الفرج الأصبهاني. قال ابن أبي زيد رحمه الله تعالى: كان فقيهاً بمذهب مالك، وأديباً كاملاً. وكانت له جلالة وقدر. مسنداً في الحديث. قال القاضي أبو عبد الله: وتوفي أبو الطاهر سنة تسع وستين وثلاثمائة ومولده سنة سبع وسبعين ومائتين رحمه الله تعالى.
أبو عبد الله التستري
هو محمد بن أحمد القاضي. من أهل البصرة. ويعرف بالتُّستري. وهو قريب لسهل بن عبد التستري العابد، ذي الأقاصيص العجيبة. أخذ عن ابراهيم بن حماد، ومحمد بن خشنان والبرنكاني، وغيرهم من أئمة المالكيين، وسمع من أبيه، وأحمد بن علي بن الحسن، وابراهيم بن محمد الحلواني، وجرير بن محمد الغطفاني، وأبي عبد الله الزبيري، وأبي بكر بن أبي داود، وموسى بن سهل بن عبد الحميد، والحسن بن المثنى، والحسين بن إسحاق، والدميني، ومحمد بن سليمان الباغندي، وعبد الله بن جامع الحلواني، واللؤلؤي وغير واحد. وكان له اتساع في الرواية والحديث، وحظ من العربية. وكان ملازماً للسنّة، نافراً من البدعة. حدث عنه ابنه، وجعفر بن نصر الخلدي. قال الفرغاني: وأدرك سهلاً. وسمع منه حكايتين. قال: سمعته وهو يقول: من أصبح ولم يعتقد أنه يمسي في القبر، لعبت به الشياطين طول يومه.(5/268)
قال: وسمعته يقول: الأكل على ثلاثة أصناف فآكل يأكل نوراً، وإيماناً، من أول طعامه الى آخره. وآخر: يأكل طعاماً. وآخر يأكل سرجيناً. فأما الذي يأكل نوراً وإيماناً من أول طعامه الى آخره: فالذي يمسي الله عز وجل عند كل لقمة، ويحمده عند إساغتها. وأما الذي يأكل طعاماً فالذي يسمي الله أول طعامه، ويحمده في آخر.
وأما الذي يأكل سرجيناً: فالذي لا يذكر الله في أول طعامه، ولا في آخره. أو كما قال. فإني كتبته من حفظي. قال الفرغاني: وتوفي سهل وهو صغير ابن عشر سنين. مولده سنة ثلاث وسبعين ومائتين. ووفاة سهل رضي الله تعالى عنه: سنة ثلاث وثمانين ومائتين. قال: وكان أبو عبد الله هذا، عالماً بمذهب مالك. شديد التعصب له. ووضع في مناقبه نحو عشرين جزءاً. وقد طالعتها وانتقيت في هذا الكتاب في أخبار مالك عيونها. وقد أدخل جميع ما له فيها من كلام صاحب الاستيعاب، في جامعه. وله كتاب في فضائل أهل المدينة، والحجة. وكان ندب في أيام علي بن الجراح لتعقبه أهل مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. فأقام بها زماناً طويلاً. ثم عاد الى العراق. وتقلد قضاء البصرة بلده، سنين. ثم قصده أحد رؤسائها بمكروه كثير، لوحشة جرت بينهما. فصرف عن القضاء. وقصد الوزير المهلبي الى الأهواز، فشكا إليه أمره. فوعده بكل جميل، ونوى صرفه الى القضاء، فغير عليه. فعاد الى البصرة. فجرت له بها أقاصيص مع المعتزلة. فنبت به الدار، وقصد بغداد سنة خمس وأربعين. فلقيه بها الشريف أبو عبد الله بن المراغي، الصغير العلوي، في بعض الطرق. فقال له: أنت تقول إن الله يُرى يوم القيامة. وإن القرآن غير مخلوق. فقال: نعم.(5/269)
فبصق في وجهه. وقيل إنه لعنه وسبه، أقبح سب. ففت ذلك في عضده، وأعلّه وأحدث به ورماً. وقيل إنه قال لولده: هذه علة لم أعتلّ بمثلها قط، وأحسبها علة الموت. فإذا مت، فلا تزدني على ثوبين تدرجني فيهما، إدراجاً بثمن أربعين درهماً، وتبخرهما بنصف أوقية عود، وادفنّي عند قبر معروف، فإنها بُقعة مباركة. فمات رحمه الله تعالى، في شهر ربيع الأول من السنة التي قدم فيها بغداد. وهي سنة خمس وأربعين المذكورة. وسنّه اثنان وسبعون سنة. وقد تقدم مولده رحمه الله تعالى.
بكر بن العلاء
القشيري. وهو بكر بن محمد بن العلاء بن محمد بن زياد بن الوليد بن الحميم بن ملك بن ضمرة بن عروة بن شنوءة بن سلمة الخير بن بشير بن كعب القشيري. كذا نسبه غير واحد. كنيته أبو الفضل. وأمه من ولد عمران بن حُصَين صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذا حكى عنه محمد بن عمر بن عيشون الطيطلي. وهو من أهل البصرة، وانتقل الى مصر، وهو من كبار فقهاء المالكيين، رواية للحديث. وذكره أبو إسحاق الشيرازي في أصحاب إسماعيل. وقال الفرغاني وغيره: إنه لم يدرك اسماعيل، ولا سمع منه. وقد ذكر بكر، اسماعيل في كتبه بالإجازة. ولا يبعد سماعه من اسماعيل. إذ قد أدركه بالسن، كما تراه في وفاته، وسنّه.(5/270)
سمع من كبار أصحاب اسماعيل وغيرهم، كابن حسام، والبرنكاني، والقاضي أبي عمر وابراهيم بن حماد، وجعفر بن محمد الفريابي، وروى عن أحمد بن ابراهيم بن عبد، وسعيد بن عبد الرحمان الكرابيسي، ومحمد بن صالح الطبري، وأبي خليفة الجمحي، وغيرهم، من أئمة الفقه والحديث. حدث عنه من لا يعد، من المصريين والأندلسيين والقرويين، وغيرهم. بل ممن حدث عنه أبو عراك، والنعال، وأبو محمد النحاس، وابن مفرج وابن عيشون، وأحمد بن ثابت، وابن عون الله، وأبو زيد بن أبي عامر البستي. قال الفرغاني: كان بكر من كبار الفقهاء المالكيين بمصر. وتقلّد أعمالاً للقضاء. وكان راوية للحديث. وأوله من البصرة. ثم خرج من العراق لأمر اضطره. فنزل مصر، قبل الثلاثين والثلاثمائة. وأدرك فيها رياسة عظيمة. وكان قد ولي القضاء ببعض نواحي العراق، وعده أبو القاسم الشافعي في شيوخ المالكية الذين لقيهم، وأثنى عليه. وألف بكر كتباً جليلة، منها: كتاب الأحكام، المختصر من كتاب اسماعيل بن إسحاق. الزيادة عليه. وكتاب الرد على المزني.
وكتاب الأشربة، وهو نقيض كتاب الطحاوي. وكتاب أصول الفقه. وكتاب القياس. وكتاب في مسائل الخلاف. وكتاب الرد على الشافعي، في وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة. وكتاب الرد على القدرية. وكتاب الرد على من غلط في التفسير، والحد، ومسألة الرضاع، ومسألة بسم الله الرحمن الرحيم. ورسالة الى من جهل محل مابك بن أنس، من العلم. ورأيت له كتاب أحد الأصول، وكتاب تنزيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وكتاب ما في القرآن من دلائل النبوة، وغير ذلك. وذكر أبو مروان بن مالك الفقيه، القرطبي: أن بكر قال: احتبس بولي، وأنا صبي نحو سبعة أيام، فأتى بي والدي، الى سهل. يعني:(5/271)
التستري، ليدعو لي، فمسح يده على بطني. فما هو إلا أن خرجنا بلت على عنق الغلام. توفي بمصر، ليلة السبت لسبع بقين من ربيع الأولى سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. وقد جاوز الثمانين سنة بأشهر، وشهدت جنازته، ودفن بالمقطم. قال أبو عبد الله بن عيشون: وأنشدنا بك ب العلء:
ومن شيمتي أن لا أفارق صاحباً ... على حاله إلا سألت له رشدا
فإن عادني ودي رجعت ولم أكن ... كآخر لا يرعى ذماماً ولا عهدا
أبو علي محمد بن سليمان بن علي المالكي
البصري. القاضي بها. يروي عن زيد بن أخزم. وأبي حفص القلاس. والنضر بن طاهر، وبندار، ومحمد بن عبد الملك، حدّث عنه الدارقطني. وسمع منه بالبصرة، أبو محمد بن اسماعيل.
أبو جعفر بن قتيبة
رحمه الله تعالى. هو أحمد بن عبد الله بن مسلم الدينوري، البغدادي النسّابة.(5/272)
كان مالكي المذهب، من أهل العلم، والحفظ لكتب أبيه من حفظه. وكان يحفظها كما يحفظ القرآن. ويرد فيها من حفظه، النقطة والشكلة. وما معه نسخة. كان أبوه: أبو محمد حفّظه إياها في اللوح. وعدتها إحدى وعشرون مصنفاً. كتاب المشكل. وكتاب معاني القرآن. وكتاب غريب القرآن. وكتاب عيون الأخبار. وكتاب مختلف الحديث. وكتاب غريب الحديث. وكتاب التفسير. وكتاب الفقه. وكتاب المعارف. وكتاب أعلام النبوة. وكتاب العرب والعجم. وكتاب الأنواء. وكتاب الميسر. وكتاب طبقات الشعراء. وكتاب الشعر. وكتاب إصلاح الغلط. وكتاب أدب الكاتب. وكتاب الأبنية. وكتاب النحو. وكتاب المسائل. وكتاب القرآن. سمع منه خلق عظيم، من الجلة. بالعراق ومصر. كأحمد بن ولاء، وأبي جعفر النحاس، وأبي عاصم المظفّر بن أحمد، وأبي علي القالي، وغيرهم من جلّة أهل الأدب والرواية. وكان مجلسه، لعيون الناس، وأعيان الفقهاء. ولم يكن عنده حديث، إلا ما في كتب أبيه. وولي قضاء مصر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. وردها ولبس السواد وحكم في جامعها، واستخلف الفقيه أبا الذكر المالكي على فرض النساء. وكانت في خلقه حدة. وتوفي في ربيع الأول سنة اثنين وعشرين، بعد صرفه. وكانت ولايته القضاء بمصر ثلاثة أشهر. وله ابن اسمه عبد الواحد، روى عن أبيه. سمع منه أبو عبد الله الوشاء المصري.(5/273)
من أهل مصر
ابن القرطي
هو أبو إسحاق: محمد بن القاسم بن شعبان بن محمد بن ربيعة بن داود بن سليمان بن أيوب الصيقل بن عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر. كذا حكى أبو القاسم بن سهل الحافظ. وذكر أنه نسب له نفسه كذا. يقال ابن عمار بن عبس، وعبس بن مذحج ويعرف بابن القرطي. بقاف مضمومة وراء ساكنة وبعدها طاء مكسورة وياء النسب. قال الفرغاني: كان رأس الفقهاء المالكيين بمصر في وقته، وأحفظهم لمذهب مالك، مع التفنن في سائر العلوم، من الخبر والتاريخ والأدب، الى التديّن والورع. وذكر أنه كان يلحن. ولم يكن له بصر بالعربية، مع غزارة علمه، وكان واسع الرواية كثير الحديث، مليح التأليف. قال ابن مفرّج العنسي: هو شيخ الفتوى وحافظ البلد. وكذلك قال أيضاً ابن أبي زيد فيه. وقال الشيرازي: وإليه انتهت رئاسة المالكيين بمصر، ووافق موته دخول بني عبيد الروافض، وكان شديد الذمّ لهم. ويقال إنه كان يدعو على نفسه بالموت قبل دولتهم. ويقول: اللهم أمتني قبل دخولهم مصر، فكان كذلك. قال القابسي: أرسل معزّ بني عبيد، قبل دخوله مصر، الى أبي إسحاق بن شعبان، صلة من مائة مثقال، وكتاباً مع رسوله ابن الديلمي. فقرض ابن شعبان من الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم وأحرق باقيه، في الشمعة أمام الرسول، ورد المائة عليه، وقال للرسول: لولا أنه ثبت عندي أنك سنّي، ما خرجتَ من هذه الدار، ولجعلتُ من يقتلك.(5/274)
وذكر لي أن أبا الحسن القابسي وأبا محمد بن أبي زيد رحمهما الله تعالى، وغالب ظني أنه أبو الحسن، كان يقول في ابن شعبان: إنه ليّن الفقه، وأما كتبه ففيها غرائب من قول مالك، وأقوال شاذة عن قوم لم يشتهروا بصحبته، ليست مما رواه ثقات أصحابه، واستقر من مذهبه. قال ابن حيان: كان الحكم المستنصر، أمير المؤمنين بالأندلس، فوجه كل عام الى كل واحد منهم مائة مثقال، وبضعفها لأبي إسحاق. وفعل ذلك بعده، صاحب القيروان. فردها ابن شعبان. فاعتذر له. فأعرض عنه ابن شعبان. ولم يوافقه على قبوله إياها. وألف كتابه الزاهي الشعباني، المشهور في الفقه. وكتاب في أحكام القرآن. وكتاب مختصر ما ليس في المختصر. وكتاب مناقب مالك. وكتاب شيوخ مالك. وكتاب الرواة عن مالك. وكتاب جماع النسوان. وكتاب مواعظ ذي النون الأخميمي. وكتاب النوادر. وكتاب الاشراط. وكتاب المناسك. وكتاب السنن من الوضوء. قال الفرغاني: وتوفي ابن شعبان يوم السبت، لأربع عشرة بقيت من جمادى الأولى، سنة خمس وخمسين وثلاثمائة. ودفن يوم الأحد، وقد جاوز سنه ثمانين سنة. وصلى عليه أبو علي الصيرفي رضي الله تعالى عنه، وخلق عظيم.
أبو علي الحسين
ابن أيوب بن سليمان المعروف بالصيرفي. قال الفرغاني: كان من وجوه المالكيين بمصر. مقدّماً فيهم مع(5/275)
عفة وسعة جاه. وكان إليه أمر الوقت بمصر، وأعمالها. وتوفي في ذي الحجة، بعد ابن شعبان، بنحو سبعة أشهر، في السنة التي مات فيها. وحضر جنازته كافور، أمير مصر، وقلّ من تخلّف عنها. ودفن بالمقطّم، وهو ابن أربع وتسعين سنة.
أبو الحسن السلفاني
رحمه الله تعالى. اسمه علي بن جعفر بن أحمد القاضي. روى عن ابن أبي مطر. يروى عنه أبو الحسن القابسي. وأبو زيد بن أبي عامر الكتامي، من أهل سبتة. وكان أخذ مشيخة المالكيين بمصر. ثم نزل جزيرة اقريطش. قال أبو الوليد الباجي: هو فقيه معروف. قال الفرغاني: وكان أهل اقريطش كتبوا الى مصر، يسألون أن يوجه إليهم من يفقههم. ويتقلد حكمهم. فوقع الاتفاق عليه. فخرج إليها وأقام بها، الى أن دخلها الروم، واستحوذوا عليها. من سنة خمسين وثلاثمائة وملكوها الى وقتنا هذا. ردها الله تعالى لدار الإسلام، بمنه.
محنته وأخباره في أسره
وكان أبو الحسن فيمن أُسر باقريطش. وحمل الى القسطنطينية، دمرها الله تعالى. وجرت بينه وبين نقفور الطاغية ملكها مناظرة.(5/276)
قال السلفاني أحضرني نقفور ليلاً، بالقسطنطينية. فكان أول ما خاطبني به أن قال لي: ما علمت أنك هاهنا، حتى عرفت أنه مات ابنك اليوم. فذكر لي أمرك. فتذكرت أمرك. فدعوت له. ثم قال لي: أنت تقول الخير من الله والشر من الله. قلت: نعم. وذلك أن النصارى كلهم على مذهب القدرية في الاستطاعة. فقال لي: نقفور. فكيف يقدر عليه. إذ هذا ظلم، لا يشبهه. فقلت له: لم يظهره الى ما خلق، مسيطر. قلت له: هل كان حقاً عليه أن يخلق أم لا؟ فلم يجد جواباً. ثم قال لي: عيسى بشّر به جميع الأنبياء. ونبيّكم لم يبشّر به أحد من الأنبياء. فقلت له: نبيّنا قد بشر به، جميع الأنبياء أيضاً. قال ما وجد منه في كتابكم، فهو عندنا. فقلت له: أنا أوجده في كتابكم، وكتابنا. قال: لئن لم تفعل تموت. قلت: مَن يحكم بيننا إذا اختلفنا؟ قال: اليهود. قلت أعداؤنا، وأعداؤكم، كيف تحكم علينا؟ فسكت. فقال لي أيضاً: وأنتم لم تجمعوا على نبيّكم. فإن منكم من يقول: إن النبي عليّ.(5/277)
فقلت: ليس من يقول هذا عندنا مسلماً. فجسرت فقلت: وأنتم أيضاً مختلفون في الباري تعالى. وذكرت له مقالاتهم. فقال لي في بعض كلامه خرج رجل فأظلته سحابة. فنظر فيها، فعمي. وكان فيها عيسى. فقلت: وهذا أيضاً من أعجب العجب. أن أقام عيسى بين الناس مدة، ينظرون إليه، وينظر إليهم، ويكلمهم، فلم يعمَ من ينظر إليه، ويكلمونه فلما تباعد، عمي من نظر إليه. فسكت. وتكلم معي في غير هذا أيضاً. فرأيت أنه نظر في شيء من الكلام لم يحسنه، وذهب به العجب مذهبه.
وكان صاحبه رجل من معتزلة البصرة، طرق له شيء من الكلام هوسه.
أبو بكر محمد بن سليمان
ابن أبي شريف. واسمه ابراهيم بن عبد الله المهلب. القضاعي الحويكي الحويسي. وقد ذكرناه. وأبو بكر هذا، من فقهاء المالكية بالفسطاط، والمدرسين في جامعه. يروى عن محمد بن مكي الخولاني، وعن أبي الحسن بن تدمير، روى عنه أبو القاسم الجوهري، ويحيى بن عابد، وأبو الحسن القابسي. وذكر أبو القاسم بن أبي يزيد في تاريخه: أن أبا بكر هذا، هو الذي حجّ بالناس سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، باجتماع من حضر الموسم، لفتنة كانت بالموسم. فصلى بالناس في مسجد ابراهيم عليه السلام.(5/278)
أبو القاسم بن النحاس رحمه الله تعالى
من كبار فقهاء المالكية بمصر. وكانت له حلقة تلي حلقة ابن شعبان بجامع الفسطاط. ذكر ذلك الفرغاني، رحمه الله تعالى.
أبو بكر بن مهبي رحمه الله تعالى
من فقهاء هذه الطبقة. ودرس بجامع الفسطاط. مكان أبي بكر بن أبي الأصبغ بعد وفاته. ذكره الفرغاني.
أبو الذكر محمد
ابن يحيى بن مهدي التّمّار. من أهل أسوان. قاضي مصر. قال الشيرازي: تفقه بالمغامي، سمع منه أبو الطاهر محمد بن عبد الغني. ولي قضاء مصر، سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. خليفة لأبي يحيى عبد الله بن مكرم، لما ولي قضاءها، وهو ببغداد. كتب الى الطحاوي، وعلي بن أحمد بن سليمان، وموسى بن عبد الله، وعبد الله بن محمد السجستاني، في اختيار رجل يرضونه. ينظر بين الناس. فوقع اختيارهم عليه. ثم ولاه ابن طفح، بعد سنة ثلاثين وثلاثمائة أيضاً. النظر بين أهل مصر، عند موت القاضي أبي بدر الصيرفي. قال ابن حارث: كان فقيه مصر في وقته. وكانت له حلقة في جامعها. وبه كان يلوذ كل مالكي، إلا قليلاً. وتناظر عنده فقهاء من القرويين، أبو محمد العتمي وأبو الفضل المهلبي. وكان يجلس للتفقه بجامع الفسطاط، من صلاة الصبح الى الزوال، ومن الظهر الى العصر.(5/279)
وذكر بعضهم أن أبا بكر بن الحداد، الشافعي، أيام نظره في قضاء مصر. تقدم إليه رجل جحد ابنة له من زوجته. فنظر في لعانها. وأعدّ رجلاً يضرب على فم الزوج عند فراغه. وأمره أن يضرب على فم المرأة عند فراغها. ويقولا إنها موجبة على مذهبه. مذهب الشافعي.
وتبادر الناس للاجتماع لذلك. فتلطف أبو الذكر، بالرجل، حتى اعترف بالبنت، وبالمرأة حتى أعفته من الحدّ، ورفع الأمر الى أبي بكر بن الحداد. فعلم أنه قطع به عن مراده بأمر: - بحمل البنت على أبيها، والنداء عليهما بمصر - هذا الذي جحد ابنته فاعرفوه. وأمر بإيقافها بمجلس أبي الذكر. قال ابن حارث رحمه الله تعالى: وتوفي قريباً من سنة عشرين وثلاثمائة. وذكر الشيرازي غير هذا. والذي يأتي على ما تقدم، من ولايته، أن وفاته بعد هذا كله، والصحيح أن وفاته سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة. هكذا قيدها ابن أبي يزيد في تاريخه، في المصريين، سنة وفاة أبي بكر الصموت، بها.
مؤمّل بن يحيى
أخوه. رحمه الله تعالى. أكثر الناس يقوله بفتح الميم الثانية. ووجدته بخط بعضهم: مكسورة مع التشديد في الوجهين. جلس مجلس أخيه بعد موته. وكانا معاً ممن يدرّس في جامع الفسطاط.(5/280)
سمع مؤمّل من حمديس ومحمد بن عمر، وأحمد بن محمد بن عبد العزيز، وأبي الطاهر محمد بن جعفر البرسيمي. سمع منه حمزة الحافظ، وسلمة بن سعيد الاسبحي، وأبو القاسم الجوهري، رحمهم الله تعالى.
أبو جعفر
أحمد بن محمد بن هارون بن موسى، المعروف بابن الأسواني. من مشاهير فقهاء المالكية بالفسطاط، والمدرسين بجامعه، من هذه الطبقة. يروي عن أبي القاسم بن مدى، ومحمد بن عمر بن النفاح الباهلي، وموسى بن عبد الله بن أبي مروان، وغيلان البداري، وأبي طالب الخشاب. روى عنه أبو القاسم بن يحيى الحضرمي، وعبد الغني بن سعيد الحافظ، وأبو الحسن بن الطفال، وأبو الحسن بن فهر، وأبو هارون الصديني الفارسي، رضي الله تعالى عنهم.
أبو مطر
حسن بن علي بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي مطر العامري. تقدم ذكر أبيه. فقال ابن أبي يزيد المصري: ولي قضاء مصر، عند وفاة أبيه، سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. قال الفرغاني: وهو شيخ صالح، يروي عن أبي الحسن أحمد بن محمد بن خزيمة. روى عنه أبو القاسم المكتب خلف بن محمد. قال الفرغاني: ولما توفي، ولي ابنه بعده، ولم يسمه.(5/281)
قال القاضي: ولده اسمه عبد الله. وقد ولي بعده ابنه، علي بن عبد الله. قال أبو ذرّ: وسنذكره بعد إن شاء الله تعالى. وذكر الفرغاني أن وفاة أبي مطر سنة سبع وثلاثين أيضاً. رحمه الله تعالى.
أبو الحسن أحمد
ابن عبد الرحمن بن حُبَيش بن سليمان بن برد. مولى حبيب. تقدم ذكر سلفه. وهو بيت جلالة في العلم بمصر. تكرر فيهم العلم والحديث والفق، من سليمان جدهم، صاحب مالك رضي الله تعالى عنه الى هذا الوقت.
عمر بن محمد
ابن أبي حجر، أبو حفص. قرطبي. ولزم فسطاط مصر. وحدّث بها عن ابن النفاح وغيره. ورأس بها في الفتيا، على مذهب مالك. حدّث عنه من الأندلسيين العايدي، ومحمد بن أحمد بن يحيى. قاله القرطبي رحمة الله تعالى.
ولد أبي بكر
محمد بن رمضان بن شاكر، الحميري. وكذا قرأت نسبه بخط الحكم، أمير المؤمنين. وأبوه أحد مشاهير فقهاء المالكية بمصر. وكانت له حلقة بجامعها، مع أبي بكر الحداد، وأبي جعفر الطحاوي، وطبقته.(5/282)
وقد ذكر ابن أبي دليم ولده هذا. وقال: كان صاحب حجة المالكية في وقته، والمناظر دونهم، ولم يذكر باسمه. وكذلك في كتاب ابن حارث، إلا أني وجدت أبا مروان الضبي، ذكر أبا الحسن علي بن يعقوب الزيات، المعروف برمضان. وذكر له زيادة أقوال بعض الفقهاء، في مختصر ابن عبد الحكم. على ما زاده البرقي. فلا أدري أهو ذاك غلط في اسم أبيه، أو هو أحد آل رمضان. والله أعلم. والتأويل الأول أشبه.
أبو محمد
عبد الله بن أحمد بن القاسم بن يوسف بن موسى الأنصاري، المعروف بابن بهلول. أندلسي الأصل، من وشقة. وسكن مصر. وسمع الصموت والفرغاني، وأبا بكر بن داود البغدادي. واعتنى بالاريخ الخبر، وهو كان الغالب عليه مع الأدب. وصنّف. قال أبو محمد الفرغاني: كان عالماً متفنناً، حافظاً، متقدماً في فنون العلم، له نظر ثاقب، وشعر حسن. قال ابن الفرضي: دخلت عليه بمصر، وهو عليل، فقال: ناولني تلك المحبرة فأنشد:
يا خدّ إنك إن توسّد ليّناً ... وسّدتَ بعد الموت صمّ جبال
فافعل لنفسك صالحاً تنجُ به ... فلتندمنّ غداً إذا لم تفعل
وتوفي بمصر في ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة.(5/283)
من الشاميين
أبو بكر
محمد بن علي النابلسي. كبير أهل مدينة الرملة. وفقيه مطع في بلده. مسموعاً فيه. يتبع الرأي. وكان فقيهاً زاهداً. مالكي المذهب ذا رئاسة وظهور. وكان شديداً على بني عبيد، حين ملكوا مصر والشام، ذامّاً لهم، منفراً للعامة عنهم. قائلاً لهم. قال ابن سعدون: وكان شيخاً صالحاً. قال أبو إسحاق الرقيق في تاريخه: هو رجل معروف بالعلم، وكان يفتي في المحافل، باستحلال دم من أتى من المغرب. ويستفز الناس لقتالهم. يريد بني عبيد. قال: وكان أغلظ عليهم من القرامطة. قال القاضي رضي الله تعالى عنه: وإنما سلك في هذا، مسلك شيوخ القيروان في خروجهم عليهم، مع أبي يزيد، لاعتقادهم كفر بني عبيد قطعاً. وقالوا لأبي يزيد: أنت رجل من أهل القبلة، نقاتل بك، من كفر بالله ورسوله.
ذكر محنته رحمه الله تعالى
ومما ذكره الرقيق، وابن أبي يزيد، وابن سعدون، وكان رحمه الله تعالى، لما قام الأعصم القرمطي الجنّابي، ونهض الى الشام، واسمه الحسن. فرأى المنصور. وأتى من موضعه بالإحساء، فحل بالرّملة بجيوشه. سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. وأمامه أميرها، لا يسع أبي بكر إلا مداراته على بلده، لئلا يستبيحه. فأدخله الرملة. ولم يخالفه أهل البلد. ووقَوا كثيراً من شره، ثم زحف الأعصم، الى مصر، وحصر القاهرة. وبها العبيدي، صاحب القيروان الملقب بالمعز إثر وصوله إليها. وغلامه جوهر(5/284)
الصقلبي، الى أن هزموا الأعصم، وفر أمامهم الى بلده، الإحساء. وذلك في سنة أربع وستين. وانبعث عساكرهم. فخرج أبو بكر النابلسي من الرملة خائفاً منهم الى دمشق. فلما حصل بها، قبض عليه بعض عظمائها، وحمل الى مصر مع ابنه، في جملة الأسرى الذين قبض عليهم في الهزيمة. وكانوا نحو ثلاثمائة فشهروا على الجمال، وأمر بضرب أعناقهم على النيل، ورمي جثثهم به، إلا النابلسي، فإنه أمر أن يسلخ من جلده.
وقال لجوهر: عرّف السلطان، أني أفدي نفسي بخمسمائة ألف. فدخل جوهر ثم خرج. فقال: اذهبوا به واسلخوه. فرمى بنفسه ثانية. فلطم شديداً، وحمل بهذا المنظر، فطرح على وجهه بالأرض، وجلس على صدره ووركيه، ومسك جداً. وشق السلاخون عرقوبيه، ونفخ كما تنفخ الشاة. ثم سلخ، وهو في كل هذا يقرأ القرآن بصوت قوي، وترتيل. الى أن انتهى السلخ الى كتفيه. فتغاشى. ثم مات. فصلب جسده، ناحية. ثم جلده، بعد أن حُشي ناحية. رحمة الله تعالى عليه. وذكر أبو الحسن بن جهضم في كتابه، في صدق فراسة المؤمن. قال: لما قدم أبو الحسن علي بن محمد بن سهل، الرملة. خرج إليه جماعة يتلقونه، ومنهم والد أبي بكر النابلسي، وابنه أبو بكر معه. فلما نظر الشيخ إليه، قال: مرحباً بشهيد مصر. وكان هذا في سنة عشرين، واستشهد في التاريخ المتقدم بعد هذا، بنيف وأربعين سنة. وذكر ابن جهضم: أن قتله كان سنة ثلاث وستين. والأول أصح. قال ابن سعدون: لما أُتي بأبي بكر، وبابنه أسيرين، اختار الشيخ أن يقتل ابنه قبله، حتى يحتسبه، ويكون في ميزانه. فكان ذلك.(5/285)
فدعا الله على فاعله أن يفجعه الله بابنه. وكان لمعد ابن، اسمه: عبد الله، لقبه المهدي. ودعى له، وفيه دعاوي. فقبل الله دعاء الشيخ، وأماته في حياة أبيه، وأفجعه به. قال القاضي عياض: رأيت مثل هذه الحكاية لغيره وحكيت لنا من طرق، عن عبد الله بن يربوع من أهل بلدنا، وكبيره، وفقيهه، حين قتله بسوق أحد أمراء سبتة، هو وابنه أحمد، أنه اختار تقديم ابنه. فإن كان هذا باللفظ والرغبة، فهو خطأ في الفقه. وغفلة عظيمة في العلم. لأنه معين على تقديم من قدمه، معجلاً له قبل نفسه، ولعل القدر لو قدّر، فحال بينه وبين ولده، ونجاه من القتل، بلطف من ألطاف الله. غير واحد، عن قتل أصحابه.
ولعلها أيضاً كحكاية أبي الحسن النوري، حين قدم الصوفية ببغداد، للقتل. فمرّ الى السياف متقدماً، سابقاً لهم. قال: أتصدّق بهذه الساعة التي أقتل فيها عن أصحابي، وهذا لا شك، معين على نفسه، وتقديمها لما لعل الله يلطف به في الساعة، لو تأخر، وينجّيه.
من أهل إفريقية
أبو بكر بن اللباد
واسمه محمد بن محمد بن وشاح. مولى الأقرع. مولى موسى بن نصير اللخمي. وكان وشاح حائكاً، من أصحاب يحيى بن عمر، وبه تفقه. وأخذ عن أخيه محمد بن عمر، وابن طالب رحمه الله تعالى. وحمديس القطان. وأحمد بن يزيد، وعبد الجبار بن خالد، والمغامي، وأحمد بن أبي سليمان،(5/286)
وسمع من الشيوخ الذين كانوا في وقته: كأبي بكر بن عبد العزيز الأندلسي، المعروف بابن الجزار. وحبيب بن نصر، وأبي عمران البغدادي، وأحمد بن يزيد، وأبي الطاهر، ومحمد بن المنذر، والزبيري، وأبي محمد عبد الله بن محمد بن معمر، وزيدان، وغيرهم. سمع منه حماد بن إلياس، وتفقه به أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى، وابن حارث، وغيرهم. وممن روى عنه زياد بن عبد الرحمن القروي، ومحمد بن الناظور، ودراس بن اسماعيل. ولم يذكر له رحلة ولا حجّ.
ذكر الثناء عليه وفضله ودينه
قال ابن حارث: وكان عنده حفظ كثير، وجمع للكتب. وله حظ وافر م نالفقه، والحفظ. شغله: إسماع الكتب عن التكلم في الفقه. وكانت مذاكرته تعسر، لم يشفع به لضيق في خلقه. وكان خلقه سيئاً. قال أبو العرب: وكان فقيهاً جليل القدر، عالماً باختلاف أهل المدينة، واجتماعهم، مهيباً مطاعاً. قال ابن حارث: وكان أولاً يكتب لابن الخشاب، إذ كان على مظالم القيروان. وكان الغالب على خلقه الحرج. وفي تعليق أبي عمر: أنه كان من أهل الحفظ، والضبط لكتبه، حافظاً. وذكره أبو بكر بن عبد الرحمن فأثنى عليه بالدين والورع والزهد. قال: وكان من الحفاظ المعدودين والفقهاء المبرزين. وذكر عن الابياني أنه قال: إنما انتفعت بصحبة ابن اللباد. ودرست معه عشرين سنة.(5/287)
وقال محمد بن ادريس: صحبت العلماء بالمشرق والمغرب، ما رأيت مثل ثلاثة: أبي بكر بن اللباد، وأبي الفضل المَمْسي، وأبي إسحاق بن شعبان. وذكر بعض ثقات أصحابه: أنه نظر الى رجليه بعد أن فلج، وقد تغيرتا، وانتفختا، فبكى ثم قال: اللهم ثبتهما على الصراط يوم تزول الأقدام. وأنت العالم بهما، والشاهد عليهما، أنهما ما مشتا لك في معصية. وألّف أبو بكر كتاب الطهارة، وكتاب عصمة النبيين صلى الله وسلم عليهم أجمعين. وهو كتاب إثبات الحجة في بيان العصمة، وكتاب فضائل مالك، وكتاب الآثار والفرائد عشرة أجزاء.
ذكر أخباره وإجابة دعوته وبراهينه وجمل من فضائله
قال محمد بن إدريس: كنا يوماً عند ابن اللباد نقرأ عليه، حتى سمعنا فوق البيت حركة. فسأل الشيخ خادمه عنها. فقالت: جعفر بن النوام يطارد الحمام. فقال: اللهم أصلحه. فما كان إلا بعد يوم أو يومين، حتى قرع علينا الباب، فأذن له. وجلس في الحلقة. فقال له الشيخ: اجلس يا مؤمن الى أن نفرغ. وكان أجداده كلهم عراقيون. فواظب على السماع، وانتفع بدعائه، ولزم السبائي وبلغ من العبادة مبلغاً عظيماً. وحكى المالكي أنه دعا على ثلاثة، فأجيبت فيهم دعوته. أما أحدهم، فدعا عليه بالجنون، وعلى الآخر بالعمى، فرأيتهما كذلك، وآخر بالجلاء، فمات في بلد السودان.(5/288)
قال محمد بن ادريس لأبي بكر ابن اللباد: استخلصت لك دَيناً بثلاثين ديناراً، ففرح بها، وأقبل يصبها من يد الى يد، ويقول: زكّها. فوالله ما زكيت قبلها قط. قال: وأدخل على عبيد الله صاحب إفريقية، فأقبل عليه، وقال: يا محمد أنت منا، وبلدك. في كم من العيال أنت؟ فأخبره. فقال نفرض لك في بيت المال ما يكفيك، من النفقة، والكسوة وغيرها. فقال: قبلت، ولكن يترك ذلك في بيت المال، حتى أحتاج إليه. قال: وكانت له امرأة سليطة، تؤذيه بلسانها. فحكى أنها قالت له يوماً: يا زاني. فقال: سلوها، فبمن زنيت؟ قالت: بالخادم. قال: سلوها لمن الخادم. قالت: له.
فقال له أصحابه: طلقها، ونحن نؤدي حقها. فقال: أخشى إن طلقتها، أن يبتلي بها مسلم. ولعل الله دفع عني بمقاساتها بلاءً عظيماً. فقال: بل حفظتها في والدها، فإني خطبت الى جماعة فردّوني، وزوجني هو لله تعالى. وكان يفعل معي جميلاً. أفتكون مكافأته طلاقها؟ وكان يقول: لكل مؤمن محنة. وهي محنتي. قال ابن ادريس: شوّر رجل ابنته بشوار حسن، كثير. فعجب الناس منه، وحضر أبو بكر بن اللباد، فانصرف الناس يهنئون صاحب الشوار. فقال أبو بكر: لا أخلف الله عليك بخير، فقد كمدت جارك، وعضلت ابنته، وخالفت سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(5/289)
فجعلت أنظر إليه، فقال لي: يا أبا عبد الله، إن أزهد الناس في العالِم، قرابته وجيرانه. وقال مرة أخرى في مثلها: ما قرب الخير من قوم قط، إلا زهدوا فيه. وذكر الأجدابي: أن أبا بكر، جلس يوماً عند اسماعيل المؤدب جاره، ليتفرج ويرى الناس. فكان الناس إذا جازوا من ذلك الموضع رجعوا من طريق آخر هيبة له. فقال: ما بالهم؟ فقالوا: من أجلك وهيبتك. فقال: إنما جلسنا في هذا الموضع لنتفرج. لا لأن نضرّ بالناس في طريقهم. ثم قام. وكان يحضر مجلس السبت بالقيروان، ويقول لمن أنكر عليه ذلك. قال: ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفّار. قال: وحضور السبت مما يغيظ بني عبيد. ورفع الى المهدية لعبد الله ليتولى قضاء صقلية، فاعتذر، وقال: صرت في حد، لو كنت على القضاء لوجب أن لا أولّى. فكيف أبتدئ وقد كبرت سني، ودخلتني زمانة. ثم عرض لهم قضاً من كفه اليمنى، قد سمُح. وكان أبو بكر يقول: أكبر شيء من محقه، وكلام لين.
ومن أخباره
رحمه الله تعالى. قال أبو بكر: أدركت بالقيروان أقواماً، كانوا أغنياء فافتقروا. وما ذاك إلا أنهم اتجروا في الحنطة في إبان الشدائد.(5/290)
قال: وحدثتني امرأة سماها، توفي ابن لها بالفسطاط، فقدمت القيروان. قالت: وكنت أخرج الى باب سلم، كل وقت، فأبكي الى جانب قبر. فرأيت في المنام: كأني هناك. فإذا أهل القبور قعود، على قبورهم. الرجال والنساء. فسمعتهم يقولون: قد جاءت هذه المرأة تبكي. ألها عندنا قبر تبكي عليه؟ فقالوا: لا. فقالوا: لم تؤذينا ببكائها؟ فلطمني ميت، لطمة بيده الشمال، في خدي اليمنى. فقلت: لم تلطم وجهي؟ وقد مسست به الركن والحجر. فقالوا لي: حزنك بمصر، وتؤذينا ها هنا. فانتبهت، وأثر اللطمة في خدها. فكشفت لي وجهها، وفيه أثر السواد. فأقام نحو أربعين يوماً، ثم ذهب. قال أبو بك: خرجت امرأتي في فرح، فبت وحدي. فكلمني جني من ناحية الدار. فقال لي: امرأتك تلبس المعصفرات وتحبسها في مسكننا. فقلت له: ومن أين لك عندنا مسكن يا شيطان؟ فقال لي: ولا تدري ما قلت لك، من ديك أفرق. فلما قال هذا، أدركني منه شيء. قلت: هذا حرز في دجانة. وكان أبو بكر يتخذ ديوكاً. فيجد فيهم أمواتاً. كان ذلك الجني يخنقهم. لأن الدين الأفرق يطرد الشياطين.(5/291)
محنته وأخباره فيها
كان أصل محنته، أنه صلى على جنازة استؤذن لها. وقد حضر ابن أبي المنهال القاضي، حينئذ، بجنازة أخرى. كلم عليها. فصلى أبو بكر ابن اللباد. ومد رجليه. واستدبر القبلة. ولم يصلّ وراءه في جماعة منهم. فشق ذلك على ابن أبي المنهال، وأغرته به المشارقة فوجه وراءه جماعة منهم فلما دخل، قال له: اجلس. ثم عقد عليه محضراً بشهادة القوم، بفتحه بابه، وانتصابه للفتوى، والسماع، بخلاف مذهب أمير المؤمنين. وأنه يلبس السواد، ويخضب في الأعياد. فقال له أبو بكر: لمن أدعو؟ قال: لبني أمية. يلبسون السواد. وأراد فضيحته عند من حضر. ثم قال له أيضاً: بأن الخطبة لا تكون بأقل من خمسين رجلاً. وداري لا تحمل ذلك. ثم قال له: ومتى كان هذا: بعد صلاة الجنازة أو قبلها؟ فقال له ابن أبي المنهال: وأي حجة لك في ذلك؟ فقال: إن كان قبل الصلاة عليها، فقد غششت أمير المؤمنين، إذ كتمت عنه هذا. وإن كان بعدها، فأنت خصمي، ولا يقبل قولك. فأمر ابن أبي المنهال بسجنه. فجاء الغلام ليأخذ بيده، فانتهره، وقال: دع. أشهدكم أني محبوس. ومضى الى السجن. فوجد فيه المراودي. وكان سجن على سب النبي صلى الله عليه وسلم. فلما دخل الشيخ تلقاه. فأعرض عنه. فقال المراودي: والله إني لأبغضك قديماً.(5/292)
فقال أبو بكر: الحمد لله يا فاسق، الذي لم يجعل قلبك بغض النبي صلى الله عليه وسلم وحبي. فأقام مسجوناً حتى ذهب محمد ابن أخيه الى المهدية. فأخبر بذلك البغدادي. وكان يحبه. فسعى له عند عبيد الله، حتى أمره أن يكتب الى ابن أبي المنهال بإخراجه من السجن، على أن لا يفتي ولا يجتمع إليه أحد. ولا يفتي إلا بمذهب السلطان. وكتب في رقعة داخل الكتاب، وقال: ما هذا الذي فعلت؟ عمدت الى عمدة بلده، فأحدثت فيه هذه الأحدوثة، وأثرت البلدة. وهذا مما كرهه أمير المؤمنين. فلا تعد الى مثل هذا. فلما وصل الكتاب أخرجه، وشرط عليه أن لا يخشن عليه الجواب. فلما رفع مجلسه، وقال هذا كتاب أمير المؤمنين، عهد فيه أن لا تفتي، ولا يجتمع إليك أحد، وإن مرضت فلا تعاد. فقال أبو بكر: هذه مسألة لم تنزل بعد. ثم خرج الى المهدية، فقصد البغدادي، فذكر وصوله لعبيد الله. فقال له: اكتب له كل ما يحب ولا تدخله عليّ. فكتب سجلاً أن لا ينظر في أمره ابن أبي المنهال. فأراد أن يأخذه. فقال له البغدادي: ليس مثلك، يحمل عناية أمره؟ تصل الى بلدك، ويصل مع البريد إليك ذلك. وبقي أبو بكر، لا يسمع إلا في خفية. فلزم داره، وأغلق بابه. وكان ربما خرج الى المسجد، فيأتي الطلبة الى بابه، فتفتح لهم خادمه، فإذا اجتمعوا أتته. فيدخل، وتغلق عليهم، فيقرأون.(5/293)
وكان منهم أبو محمد التبان، وابن أبي زيد رحمهما الله تعالى. وغيرهم.
وكانوا ربما جعلوا الكتب في أوساطهم، حتى تبتل بأعراقهم. فأقاموا على ذلك الى أن توفي رحمه الله تعالى. وكان قد امتحن أيضاً، على يد التاهرتي، طلبه بوديعة. قال له: لا أعرف ما تقول. ولا أودعني هذا الرجل شيئاً. ولا أعرف من هو. ولا رأيت هذا العدد قط، إلا على مائدة صيرفي. فدعا أعوانه، فأخذوه وبطحوه على وجهه. وجلس أحدهم على أكتافه، والآخر على رجليه. وضربوه ثلاثة عصي. فقال: اصبر أكلمك. فقال: دعوه. فما رق قلبي لأحد رقته عليه. قال ابن ادريس: لما امتحن أبو بكر على يد التاهرتي، وضرب إليتيه، قال: تضرب إليتين والله ما عصتا الله قط. وتوفي في منتصف صفر يوم السبت سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، قبل دخول أبي يزيد القيروان بخمسة أيام. وأظهر أهل القيروان بسبب ظهور أبي يزيد بينهم الترحم على أبي بكر، وعمر. ولعنوا من لا يترحم على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وهدموا بيوت المتقلبين. وكان فلج آخر عمره. ورثاه أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى، بقصيدة طويلة أولها:
يا من لمستقرب في ليلة حزناً ... مستوطن من بقايا آية وطنا
يا عين فابكِ لمن بفقده فقدت ... جوامع العلم والخيرات إذ دفنا
لهفي على ميّت ماتت به الخيرا ... ت قد كان أحيا الدين والسننا(5/294)
نفسي تقيك أبا بكر ولو قبلت ... فدتك من كل مكروه إليك دنا
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها ... فنحن بعدك نلقى الضيم والفتنا
ونحن بعدك أيتام بغير أب ... إذ غيب الترب عنا وجهك الحسنا
ومنها ذكر محنته وذكره:
قد كان يعتز بالرحمان إذ قصدوا ... لذلّه بهوان السجن إذ سجنا
كم محنة طرقته في الآله فلم ... يجِد لذلك إذ في ربه امتحنا
بل كان حصناً لدين الله ينصره ... ويحتمي مغضباً لله إن فتنا
إن صال في الحق لم يرهب عواذله ... ولا ملامة من في قوله طعنا
حتى استنار به الإسلام في بلد ... لولاه مات به الإيمان واندفنا
الفقه خلّته، والعلم حلته ... والدين زينته والله شاهدنا
أب لأصغرنا كفل لأكبرنا ... وفي النوازل ملجانا ومفزعنا
يا من هو العلَمُ المشهود منظره ... ومن تأدب بالتقوى وأدّبنا
ومن به تكشف الظلمات إذ نزلت ... ومن بدعوته الرحمان ينفعنا(5/295)
لقمان بن يوسف الغساني
كان بالقيروان. وسكن صقلية مدة. ثم استوطن تونس. فسمع من يحيى بن عمر، وعليه اعتمد. وعيسى بن مسكين، وحماس، وعبد الجبار، وابن بسطام، وغيرهم من أصحاب سحنون. وحجّ، فسمع بمصر كثيراً. وأخذ عن علي بن عبد العزيز، ويحيى بن أيوب الغالب، وقرأ على الأنماطي، والوداني. وكان محسناً للقراءة. يقرأ بقراءة نافع. قال ابن حارث: كان من أهل العبادة والصيام، والقيام، والتقشّف، والتواضع، حافظاً لمذهب مالك، حسن القريحة فيه. متفنناً، فقيهاً مبرزاً في ذلك. عالماً باللغة، والحديث، والرجال، والقرآن. يميل الى طريقة ابن عبدوس في فقهه وفي مسألة الإيمان، والاستثناء فيه. وفي جميع معانيه. من أحسن الناس مجلساً، وأغزرهم خبراً، وأعرفهم بأخبار القيروان وشيوخها. لا يكاد يفرغ من حديث، حتى يصله بغيره. قال ابن حارث: وكان إذا مضت مسألة - يعني في وقت القراءة - يحتاج إليّ. كلمني فيها. وإذا مر اسم رجل، كلم فيه محمد بن صامت. وإذا مر بشيء من اللغة، كلم فيه سعد بن ميمون. قال أبو العرب: كان فقيهاً يسمع معنا من مشائخنا. قال أبو عبد الله الخراط: كان فقيه البدن، ثقة صالحاً متقشفاً. يحسن اللغة والنحو، فكان الأبياني يثني عليه، ثناء حسناً. ويقال إنه كان عالماً باثني عشر صنفاً من العلوم. سمع منه الناس.(5/296)
قال الأبياني: غسل لقمان رجليه في يوم مطر، في جامع تونس، فأنكر ذلك عليه إنسان. فقال لقمان: عطاء بن أبي رباح يتوضأ في المسجد الحرام، وهذا يمنعني أن أغسل رجلي في جامع تونس. قال الأبياني: كنت أسمع من يحيى بن عمر، ثم آتي لقمان، فأفسر ما أشكل فيها، فسألني عن ذلك يحيى، فأخبرته. فقال لي: بل حدثني يحيى بن عمر، ونبأني بمعناها لقمان بن يوسف. قال الأبياني: ومكث لقمان أربعة عشر سنة، يدرس المدونة ويكتبها في اللوح.
حتى خرج له في جسمه خراج من دسّ اللوح. كان سبب موته، وأصل علته. قال الأبياني: قال لي لقمان بن يوسف: ركعتا تحية المسجد أوجب من ركعتي الفجر. وعرض له عارض في بصره فعمي، وبقي مدة أعمى ثم رد الله إليه بصره، فصحبته أياماً، وهو صحيح البصر يقرأ الخط الرقيق، بلا معالجة. ولا اكتحال. وسألته عن الخمير تجعل على الدمل، فقال لا بأس به. ومات بتونس سنة تسع عشرة وثلاثمائة. وقيل ثمان عشرة. قال أبو العرب: في نيف وعشرين.
أبو الفضل الممسي رحمه الله تعالى
واسمه العباس بن عيسى. وممسى قرية هناك. كان فقيهاً فاضلاً، ديناً عابداً. أثنى عليه أهل بمصر. سمع من موسى القطان، والبجائي وجبلة بن حمود. وأحمد بن أبي سليمان.(5/297)
قال ابن حارث: كان يتكلم في علم مالك كلاماً عالياً. ويفهم علم الوثائق فهماً جيداً. ويناظر في الجدل، وفي مذاهل أهل النظر، على رسم المتكلمين والفقهاء، مناظرة حسنة. وكان لسانه مبيناً وقلمه بليغاً مع حصافة العقل وذكاء الفهم وكان في المناظرة والفقه أجزل منه في الكلام. وقال في كتاب آخر: كان من أهل المروءة والانقباض والصيانة. لم يكن في طبقته أفقه منه، ولا أصون. وعني بالنظر والخلاف، ولكنه كان مالكياً، محضاً. وقد ألف الأجزاء في فضائله. وقال ابن أبي دليم: كان من أهل الحفظ والذكاء، والعلم بالوثائق. قال أبو عبد الله الأجزالي كان أبو الفضل صالحاً، قواماً صواماً، ورعاً حافظاً للفقه، والحجة لمذهب مالك. درس كلام القاضي اسماعيل. قال: وذكره أبو الحسن القابسي، وفضله وقال: ما بين محمد بن سحنون وأبي الفضل، أشبه بمحمد منه.
لعلمه وورعه، وزهده، واجتهاده. وكان من العاملين. ويقال إن أهل مصر لم يعجبوا ممن ورد إليهم من المغرب إلا من ثلاثة: من ابن طالب. أعجب به أولئك الجلة. وموسى القطان. فإنه كان من أجل أصحاب محمد بن سحنون. وأبي الفضل الممسي. وكان يقال ما كان ببلدنا على معنى اسماعيل بن إسحاق، في الكلام على العلم ومعانيه، إلا موسى القطان، وبعده أبو الفضل.(5/298)
وجاء أبو بكر بن سعدون مرة الى البجائي الشافعي ليسلّم عليه؟ وإذا أبو الفضل خارج من عنده. فقال البجائي: أي شاب نشأ للمؤمنين. فكررها. ما بيدي من هو، فسألناه. فقال هذا الشاب الخارج أبو الفضل العباس. ليسودنّ أو نحو هذا. وكان السبائي يحبه جداً. ويقدمه في هديه وعلمه، وورعه. ولقد قال أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى عند قتله، وددت أن القيروان سبيت، ولم يقتل أبو الفضل. وكان أبو محمد يثني عليه خيراً. قال ابن حارث، وخرج الى الحج، سنة سبع عشرة وثلاثمائة. فأقام عامه ذلك بمصر. ولزم في السنّة الفقيه، أبا الذكر. وكان له قدر فيهم، وجاه عندهم. وألّف كتاباً في تحريم المسكر، ناقض به كتاب الطحاوي. وله أيضاً كتاب في قبول الأعمال. وكتاب اختصار كتاب محمد بن المواز. وسمع في حجته تلك حديثاً كثيراً. قال غيره سمع بمصر من أحمد بن جعفر بن أحمد بن عبد السلام، الحضرمي وأبي عبد الله الجيزي، وأبي بكر بن مروان المالكي. روى عن الذهلي وابن عبد الوارث، وأبي الحسن بن سوادة وأبي الحسين بن المنتاب بمكة، وغيرهم. أخذ عنه أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى، ومحمد بن حارث، وأبو بكر الزويلي، وأبو الحسن بن الخلاف، وأبو الأزهر بن معتّب.(5/299)
ذكر عبادته وزهده وبعض أخياره وشمائله
قال ابن حارث: ولما انصرف من رحلته، لزم الانقباض والنسك. فكانت تلك حاله الى سنة قيام مخلد بن كيداد، أبي يزيد، علي بني عبيد، فخرج معه علماء القيروان. فكان ممن خرج. فمات رحمه الله تعالى بباب المردية. قال القاضي: يريد ابن حارث بالمردية: المهدية. مناقضة لاسمها. الذي سماها به بنو عبيد. إذ كانت عش كفرهم. ودار ضلالهم. ووجدت أبا عمران الفقيه يكني عنها بالمهدومة: نظيراً لها. قال أبو الأزهر بن معتب: صحبته من سنة عشر الى أن توفي سنة ثلاث وثلاثين. وهو على حالته من الاجتهاد. قال أبو بكر بن سعدون: صام أبو الفضل عندنا رمضان. فكان لا يتعشى، حتى يصلي العشاء الأخيرة. يتنفل بين العشاءين. وكنت أتعاهده بالليل، فأجده قائماً يصلي. وكان لا يتوضأ إلا في البحر، ويبعد وذلك أنه كان شديداً في وضوئه، وطهارته. ورأى بعضهم السبائي يتوضأ، فتعجب من وضوئه، فقال: لا تعجب. لو رأيت وضوء أبي الفضل الممسي، ما عجبت من وضوئي. وأهدى له أبو الأزهر بن معتب بسوسة، كعكاً. عمل بسكر. فرده.
وقال أنا لا آكل سكر صقلية. لأنه من ضياع السلطان. قال أبو الحسن بن الخلاف: لما جعل على الملح القبالة بالقيروان. أرسلني أبو الفضل لأشتري له ملحاً من بعض القرى. ووجه مرة ليشرى له سلعة من السوق، فقال: لا تشترها من صاحب دكان. فيلزمنا الكراء بمقدار مقامها عنده. ولكن اشترها من المناداة.(5/300)
وكان يلبس ثياباً جليلة، وخفاً أسود. وإذا أتى موضعاً، جلس في أشرفه. وكان يحضر الاملاكات عند ولي الزوجة. ولا يحضرها عند الزوج، لسلوكه معه في خلط من يحضر الأزفة على رسمهم. صيانة للعلم. وكان من النظافة وعلاء الهمة، والنزاهة على غاية. وكان له نعل لبيت مائه. وأخرى لمشيه في داره، وأخرى يمشي بها الى مصلاه. قال الإجدابي: وإنما سلك أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى في هديه، وهمته، وسمته طريقته. وحكى أبو محمد بن أبي زيد وغيره عنه: أنه كان يذهب الى أن ينوي الإنسان في كل تطوع، ووصية يوصي بها، وصدقة. رداً لتبعات المجهولة. لأن ردها أوجب من التطوع. قال ابن الخلاف: وكذلك في الصلوات. ينبغي إذا أحب أن يتنفّل، أن يصلي صلاة يوم، ينوي بها الخمس.
تكون قضاءً عما لا يدري، أنه فرط فيه، أو فسد عليه. قال أبو الحسين بن الخلاف: كانت عندنا بضيعة الوادي، دولاب مغصوبة. يباع فيها البقل، فربما احتجت الى شراء البقل منها، وتحرجت من ذلك، وسألت أبا الفضل الممسي، وأبا حفص بن العسال، رحمهما الله تعالى، فقالا - كان أحدهما يسمع صاحبه - تصدق بقدر مال البقل فيها، من بعد شرائك، الى أن قبضت. فقلت إنما كراؤها في الشهر ربع درهم. ويشترى فيها في اليوم بقل باثني عشر درهماً. وإنما اشتريت بحبة.(5/301)
فقالا لي: إنها مثاقيل الزراء. فلا تجتمع في السنة حبتان. قال: وسألت أبا الفضل عن رجل من جيراني، أصحاب السلطان، أراد أن يودع عندي مائة دينار؟ فقال لي: إذا أتاك فطلبها تردها عليه. قلت: نعم. فقال لي: إن كانت عندك مائة أخرى، تتصدق بها، فافعل. لأنه غاصب. حقه أن يرد ما غصبه على أربابه. فإن لم يعرفهم تصدّق بها، عنهم. وذكر أن رجلاً عند نهب تونس، جاء يشتري ثوباً لامرأته. فوجد جندياً يبيع ثوباً، فظنه ثوب امرأته، فاشتراه بستة دنانير. ودفعها الى الجندي. فجعلها في منطقته مع غيرها. وإذا الثوب ليس بثوب امرأة الرجل. فسأل الجندي أن يقبله، ففعل. فأخذه منه، ودفع إليه دنانيره من منطقته. فسأل عنها جماعة من أصحاب سحنون؟ فما اختلف عليه منهم أحد، بأنه يتصدق بهذه الدنانير، لاختلاطها بدراهم الجندي. وأنها لا تتميز. ويتصدق بقيمة الثوب، لأن كونه في يده من قبل الجندي الغاصب، صار هو كالغاصب له. فوجب عليه رده الى ربه، أو الصدقة به إن جهلهم. فإذا ردّه الى الجندي، لزمته قيمته، يتصدق بها على المساكين. إذ أربابه مجهولون. وكان بينه وبين أبي ميسرة بن نزار الفقيه بعد. وكذلك مع غيره من علماء القيروان، بسبب مسألة الإيمان، واختلافهم فيها. وكان أبو ميسرة يقول له: تب، وأنا أخدمك. فكان أبو الفضل يقول: مماذا أتوب؟ بل أبو الفضل يقول: لماذا أتوب؟(5/302)
وكان أبو ميسرة، قد أخذ محضراً عليه. فاجتمع بالجبنياني: أبي إسحاق. فعرفه وغضب واسترجع وقال: هكذا يوقع الشيطان بين المؤمنين العداوة والبغضاء. والله لا رضيت بسماع هذا في أبي الفضل. رجل نشأ على الطهارة وحفظ القرآن، من ثمان سنين، وحفظ الموطأ ابن خمس عشرة سنة. يقال هذا فيه. وخرج. فبهت أبو ميسرة. ولامه من حضره ومن كان يغري بينهما. وقال: إن ذكره أحد منكم بلفظة، إن دخل عليّ. وقطع المحضر، وقام الى دار أبي الفضل، فدخل عليه، وخاله وأصلح بينهما.
شرح مقتل الممسي وأصحابه
كان أهل السنة بالقيروان أيام بني عبيد، في حالة شديدة من الاهتضام والتستر. كأنهم ذمة. تجري عليهم في كثرة الأيام محن شديدة. ولما أظهر بنو عبيد أمرهم، ونصبوا حسيناً الأعمى السبّاب لعنه الله تعالى، في الأسواق، للسب بأسجاعٍ لُقِّنها. يوصل منها الى سب النبي صلى الله عليه وسلم، في ألفاظ حفظها. كقوله لعنه الله: العنوا الغار وما وعى، والكساء وما حوى. وغير ذلك. وعلقت رؤوس الأكباش والحمر، على أبواب الحوانيت، عليها قراطيس معلقة، مكتوب فيها أسماء الصحابة. اشتد الأمر على أهل السنة. فمن تكلم أو تحرك قتل، ومثّل به. وذلك في أيام الثالث من بني عبيد، وهو اسماعيل الملقب بالمنصور، لعنه الله تعالى، سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. وكان في قبائل زناتة، رجل منهم، يكنى بأبي يزيد، ويعرف بالأعرج صاحب الحمار، واسمه مخلد بن كيداد، من بني يفرن، وكان يتحلى بنسك عظيم، ويلبس جبة صوف قصيرة الكمين، ويركب حماراً،(5/303)
وقومه له على طاعة عظيمة. وكان يبطن رأي الصفرية. ويتمذهب بمذهب الخوارج. فقام على بني عبيد، والناس يتمنون قائماً عليهم. فتحرك الناس لقيامه، واستجابوا له. وفتح البلاد، ودخل القيروان، وفرّ اسماعيل الى مدينة المهدية، فنفر الناس مع أبي يزيد، الى حربه. وخرج بهم فقهاء القيروان، وصلحاؤهم، ورأوا أن الخروج معه متعين، لكفرهم. إذ هو من أهل القبلة. وقد وجدوه يقاتلوهم معهم. وكذلك كان أبو إسحاق السبائي، يقول. ويشير بيده الى أصحاب أبي يزيد. هؤلاء من أهل القبلة لقتالهم. فإن ظفرنا بهم، لم ندخل تحت طاعة أبي يزيد، والله يسلط عليه إماماً عادلاً، يخرجه عنا.
وحكى أبو عبد الله بن محمد المالكي، فيمن خرج معه أبو الفضل الممسي، وربيع بن سليمان القطان، وأبو العرب بن تميم، وأبو إسحاق السبائي، وأبو عبد الملك بن مروان بن منصور الزاهد، وأبو حفص عمر بن محمد الغسال، وعبد الله بن محمد الشقيقي، في جماعة المدنيين، وابراهيم بن محمد المعروف بالعشّاء الحنفي، وغيرهم. ولم يخلف من فقهاء المدنيين المشهورين، إلا أبو ميسرة لعماه، ولكنه مشى شاهراً للسلاح في القيروان مع الناس، باجتماع المشيخة على الخروج. ووجهوا الى الممسي ليروا رأيه في ذلك. وكان عباس الممسي في ذلك الحين مريضاً، بمنزله. وأنذر الناس الى الجامع فحضروا، وتكلموا في الأمر. فذكر ربيع جبر والديه، وذكر العشّاء ثقل وضوئه.(5/304)
فقال العباس الممسي: قد تعلمون أنه يشق عليّ من الوضوء والوالدة، أكثر مما ذكرتم. وغير ذلك من علتي هذه الظاهرة. ولكن لما بلغني من رد الناس الأمر إلي زالت العذُر، وإن عزمتم عزيمة رجل واحد، فلا أضن عليكم، لما وجب علي من جهادكم. فقال أبو إسحاق السبائي: جزاك الله، يا أبا الفضل عن الإسلام وأهله خيراً. إنا والله نشمر ونجد في قتال اللعين المبدل للدين. فلعل الله أن يكفر عنا بجهادنا، تفريطنا وتقصيرنا عن واجب جهادهم. فكلمهم أبو الفضل واحداً واحداً. فقال ربيع القطان: أنا أول من يسارع ويندب الناس. وتسارع جميع الناس الى ذلك. وذلك يوم الإثنين لثلاث عشرة بقيت بجمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين. وعقدوا أمرهم على الخروج الى المصلى بالسلاح الشاك. فلما كان الغد، خرجوا واجتمعوا بالمصلى بالعدة الظاهرة، فضاق بهم الفضاء من كثرتهم. وتواعدوا للخروج والنظر في الازواء. ثم اجتمعوا يوم الأربعاء في السلاح. فركب ربيع فرساً، عليه درع مصبوغ. وتقلد سيفاً، وحبس رمحاً، وقد تعمم بعمامة حمراء، وأبو سعيد ابن أخي هشام يمشي معه على عنقه السيف مصلتاً. وركب أبو العرب، وتقلد مصحفاً. وركب غيرهما في السلاح الشاك. وشقوا القيروان، ينادون بالجهاد، وقد شهروا السلاح، وأعلنوا بالتهليل والتكبير، وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، والترحم على أصحابه، وأزواجه رضي الله تعالى عنهم. فاستنهضوا الناس للجهاد، ورغبوهم فيه. فلما كان يوم الجمعة، ركبوا بالسلاح التام، والبنود والطبول، وأتوا حتى ركزوا بنودهم قبالة الجامع. وكانت سبعة بنود. بند أحمر للممسي فيه مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله. لا حكم إلا لله، وهو خير الحاكمين.(5/305)
وبندان أحمران لربيع، في أحدهما: بسم الله الرحمن الرحيم. لا إله إلا الله محمد رسول الله. وفي أحدهما: نصر من الله وفتح قريب، على يد الشيخ أبي يزيد. اللهم انصر وليك على من سب نبيّك، وأصحاب نبيّك. وبند أصفر لأبي العرب متكوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. " قاتلوا أئمّة الكُفر " الآية. وبند أخضر لأبي نصر الزاهد، فيه: لا إله إلا الله. قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم. وبند أبيض للسبائي، فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. محمد رسول الله، وأبو بكر الصديق، وعمر الفاروق. وبند أبيض للعشّاء، وهو أكبرهم، فيه مكتوب: لا إله إلا الله. " ألا تنصروه فقد نصره الله " الآية. وحضرت صلاة الجمعة، فخطب خطيبهم، أحمد بن أبي الوليد، خطبة بليغة. وحرّض الناس على الجهاد. وسب بني عبيد، ولعنهم وأغرى بهم. وتلا: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين " الآية. وأعلم الناس بالخروج من غدهم، يوم السبت. فخرج الناس مع أبي يزيد لجهادهم. فرزقوا الظفر بهم، وحصروهم في مدينة المهدية. فلما رأى أبو يزيد ذلك، ولم يشك في غلبته، أظهر ما أكنّه من الخارجية. فقال لأصحابه: إذا لقيتم القوم فانكشفوا عن علماء القيروان، حتى يتمكن أعداؤهم منهم. فقتلوا منهم، من أراد الله سعادته، ورزقه الشهادة. فمنهم الممسي، وربيع، ومحمد بن علي البقال. وكان نبيلاً(5/306)
من أهل العلم، في خمسة وثلاثين رجلاً، من الفقهاء والصالحين. وذلك في رجب سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. ففارق الناس أبا يزيد بالقيروان. وأظهروا السنّة وحلّقوا بالجامع. فكان لربيع حلقة يجتمع إليه فيها، للفقه من علماء المالكية: أبو الأزهر بن معتب، ومحمد بن أحمد السيوري، وابن أخي هشام، وعمر بن محمد الغسال، وعبد الله بن عامر بن عبد الله بن الحداد، وأبو الليث مولى ابن اللباد، وأبو محمد بن أبي زيد رحمه الله
تعالى، وعبد الله بن الأجدابي. فلما ظفر اسماعيل بأبي يزيد ودخل القيروان، سلط الله به على جماعة منهم، سوط عذاب. واختلف في قتل الممسي، كيف كان. فقيل سقط من دابته، وقت الهزيمة، فانكسر وركه، فداسته الدواب. وقيل وقعت به جراح، فأثخنته، فسقط الى الأرض. فقيل إنه لما سقط، وقع ظهره الى ناحية المهدية. فمر به رجل، فقال له: بفضلك رد وجهي الى ناحيتها لئلا نلقى الله مولياً ظهري عنهم. قال محمد ابنه: كان أبي لا يدخل مرحاضه أحد سواه. وفيه جميع ما يحتاج. ومفتاحه معه. فيوم قُتل، سمعنا آنيته قد انكسرت فيه، ولها وجبة. فقالت الوالدة: أعطانا الله خيرها. فإذا بها الساعة التي استشهد فيها. قال مروان العابد: رأيته بعد موته، وقال لي: قد جمعنا الله وأصحابنا من أهل العلم. فنحن نتناظر في العلوم، كما ترى، عند مالك بن أنس، رضي الله تعالى عنه. ورثاه أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى، بقصيدة أولها:، وعبد الله بن الأجدابي. فلما ظفر اسماعيل بأبي يزيد ودخل القيروان، سلط الله به على جماعة منهم، سوط عذاب. واختلف في قتل الممسي، كيف كان. فقيل سقط من دابته، وقت الهزيمة، فانكسر وركه، فداسته الدواب. وقيل وقعت به جراح، فأثخنته، فسقط الى الأرض. فقيل إنه لما سقط، وقع ظهره الى ناحية المهدية. فمر به رجل، فقال له: بفضلك رد وجهي الى ناحيتها لئلا نلقى الله مولياً ظهري عنهم. قال محمد ابنه: كان أبي لا يدخل مرحاضه أحد سواه. وفيه جميع ما يحتاج. ومفتاحه معه. فيوم قُتل، سمعنا آنيته قد انكسرت فيه، ولها وجبة. فقالت الوالدة: أعطانا الله خيرها. فإذا بها الساعة التي استشهد فيها.(5/307)
قال مروان العابد: رأيته بعد موته، وقال لي: قد جمعنا الله وأصحابنا من أهل العلم. فنحن نتناظر في العلوم، كما ترى، عند مالك بن أنس، رضي الله تعالى عنه. ورثاه أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى، بقصيدة أولها:
يا ناصر الدين قمت مسارعاً ... وبذلت نفسك مخلصاً ومؤيدا
وذببت عن دين الإله مجاهداً ... وابتعت بيعاً رابحاً محمودا
عهدي به بين الأسنة لم يكن ... لله عند لقاء العدو كمودا
كانت حياتك طاعة وعبادة ... فسعدت في المحيا ومت شهيدا
يا قرة للناظرين وعصمة ... للمسلمين وعدة وعديدا
يا فاتق الرتق الخفي بعلمه ... وميناً للمشكلات مفيد
جمعت كل فضيلة ونقيبة ... وحويت علماً طارفاً وتليدا
وبرعت بين أصوله وفروعه ... فقهرت ما قد كان منه عتيدا
يا أيها المحسود في أخلاقه ... وفعاله لا لمت فيك حسودا
أفديك من ورع عليم فاضل ... لك في الورى ما إن رأيت عنيدا
يبكي إذا غسقَ الدجى بمدامع ... قد خدّدتْ في خده أخدودا
إن فاتني نظري إليك فلم يفت ... ذكر عليك من السلو عمودا
ومدامع تشفي وتطفي بالحشا ... ناراً إذا طفيت تزيد وقودا
ورثاه أيضاً أبو القاسم الفزاري بقصيدة أولها:
عليك أبا الفضل استباق دموعي ... وشغلي بأنواع الأسى وولوعي(5/308)
ومنها:
منوع من الفحشاء والإثم نفسه ... وليس لباغي فضله بمنوع
بنفسي صريع جالت الخيل حوله ... بمعترك الأبطال أي صريع
ولست له أبكي ولكن لمعشر ... أصيب بن من مُفرَد وجميع
وللفقه والإسلام والدين والتقى ... وطول اجتماع واصطناع منيع
مضى علم العلم الرفيع وطالما ... أصابت مناه الموت كل رفيع
ولأبي عبد الله الدارمي فيه وفي مجلسه:
ما أشرف العلم ويا حبذا ... مجلسنا عند أبي الفضل
يفيض في علم وفي حكمة ... يصدر منها القول عن فضل
وفي لغات العرب قد زانها ... شواهد تعرب عن أصل
وصاحب المجلس بادي الحجا ... قد خصّ بالعلم وبالعقل
والدين والفضل معاً والتقى ... والخلق الواسع والبذل
وقال أبو عبد الله بن سعيد المؤدب:
أبو الفضل كهف للعلومبأسرها ... ومعدنها عند احتكاك المحافل(5/309)
فأجابه الدارمي:
وقرة عين الطالبين إذا غدوا ... إليه ليَعروا من ثياب المجاهل
فقال المؤدب:
على وجهه نور يكاد ضياؤه ... يجلّي الدجى والليل ملقي الكلاكل
فقال الدارمي:
لقد نال في الدنيا ثواب إمامة ... مواهب عام جاوزت كل قائل
وإن وإن أطنبت فيك مقصر ... وما أنا وحدي بل كذا كل قائل
ربيع القطان رحمه الله تعالى
هو أبو سليمان ربيع بن عطاء الله، ينتسبون الى قريش صليبه، ابن نوفل. قال المالكي: وكان ربيع من الفقهاء المعدودين والعبّاد المجتهدين، والنساك أهل الورع والدين. كان عالماً بالقرآن وقراءته، وتفسير معانيه. حافظاً للحديث. عالماً بمعانيه، وعلله ورجاله. وغريبه. معتنياً بالمسائل والفقه. كانت له بجامع القيروان، حلقة. يحضرها أبو القاسم ابن شبلون وغيره، أيام أبي يزيد،(5/310)
ووصفه ابن شبلون بالتقى والتفقه، وجودة الذهن والفقه الجيد، والضبط. وكان يتفقه عند أحمد بن نصر، ولازمه. وكان من كبار أصحابه، وكان عالماً بالوثائق، حسن الخط، أخذها عن أبي زياد. وكان عالماً باللغة والنحو. أخذ ذلك عن أبي علي المكفوف، والدارمي وغيرهما. وكان يؤلف الخطب والرسائل، ويقول الشعر. وكان لسان إفريقية في زمانه في الزهد، والرقائق. سمع القطان ابن نصر. وابن أبي زاهر. ومحمد سليمان بن نسل. وأحمد بن زياد وابن اللباد، وأبا العرب، وأبا جعفر القصري، والتمار وغيرهم. وبمصر من أبي عبد الله الحمري، ومأمون، وأبي محمد بن رشيد. وبمكة من ابن شاذان الجلاب، وأبي محمد بن يزيد المقرئ وغيرهم. قال ابن أبي دليم: وكان من أهل الدراسة والاعتناء بالعلم، والمسائل وحفظ الوثائق. ثم لزم الانقباض، والاشغال بنفسه. قال المالكي: وكان أبو محمد ابن التبان يحبه كثيراً. ويثني عليه، ويكرمه. قال أبو عبد الله الأجدابي: كان ربيع من حفاظ كتاب الله، القوامين به. قال أبو بكر بن عبد الرحمن: كان من الفقهاء والعلماء المجتهدين في العبادة. قال ابن حارث: كان من أهل الحفظ والفهم، فقيهاً مفتياً، حسن التصرف. نظر في مذهب الناس، وأهل النظر، مع الالتزام لمذهب مالك.(5/311)
وكان صاحبي في كل مجلس علم، وسماع، ومناظرة. ثم حجّ سنة أربع وعشرين. وانحرف عن كل ما كان عليه من التكلم في الرأي، وذهب الى العلم الباطن، والنسك والعبادة، وتلاوة القرآن، وتفهمه على طريق أهل الإرادة. وصار داعية إليه. فنفع الله به خلقاً كثيراً. وكانت له حلقة بجامع القيروان، أيام أبي يزيد، يجتمع إليه الأهل هذه الطبقة.
ذكر أخباره وفضائله وزهده وتعظيم الكبار له رحمه الله تعالى
قال عبد بن محمد القروي: كان ربيع لسان أهل إفريقية في الزهد، والرقة، والكلام على الأحوال والمقامات. لا يفوقه في ذلك أحد في وقته، انتفع في ذلك بصحبة أبي الحسن علي بن سهيل الدينوري. وأبي علي بن الكاتب، وأبي علي الروذباري وغيرهم. وحكى الأجدابي، أنه خرج الى الحج مرتين: الأولى سمع فيها الحديث. والثانية خرج متنكراً في زي طنجي، حتى لا يؤبه به. ويخلص له عمله. فاجتمع في تلك السفر بجماعة من المتعبدين. وكان أبو علي بن الكاتب يقول: ما رأيت رجلاً جعل رحلته الأولى في أول درجة من هذا العلم. وجعل رحلته الثانية في أعلى درجة إلا ربيعاً القطان. كأنما جاءه الأمر دفعة واحدة، صلة من الله تعالى. وفي كتاب زهرون الطرابلسي إليه: أنتم العلماء بأمر، والطرق إليه والإدلاء عليه. أسأل الله أن يجعلني حسنة من بعض حسناته. وكان أبو مالك الدبّاغ، له حلقة، يجتمع إليه أيضاً فيها أصحابه، في علم الباطن. فكان إذا اختلفوا قام أبو مالك الى حلقة ربيع. فيبحثوا بين يديه، فيسأله عما يريد. وكان قد نحل جسمه، ورق عظمه، من صيام النهار، وقيام الليل. قال بعضهم: كان بعض أهل العلم ينال من ربيع، ويأخذ عليه في مجلس وعظه. وكان لا ينقد عليه. فرأيت رجلاً ليس للدنيا عنده ذكر.(5/312)
وعظم حاله وحال مجلسه، وكان جعل على نفسه، أن لا يشبع من طعام، ولا نوم، حتى يقطع الله دولة بني عبيد.
وكان مع ذلك ملتزماً في حانوته، يبيع القطن. وفيه يأتيه من يطلب منه، ويسأله. قال أخوه أحمد: جاء قوم فسألوا ربيعاً عن مسائل. فرأيت أخانا سعيداً قد اغتم. فسألته عن غمه. فقال من أجل هذا، يأتي إليه قوم يقعدون عنده، فيسألونه عن علم رفيع. فيجيبهم بكلام عال. فإذا قاموا عنه، رجع الى حلقة القطن يبيض فيها، ويطلب الحبة، والخروبة. فذكرت ذلك لربيع فقال عادكم برُّ أريحُ لم تصرخوا؟ وقال بعضهم: كنت يوماً في مجلس، وهو محتفل. فوقع بقلبي شيء فأقلقني ولم أقدر على الصبر، الى خفة الناس. فقمت، فأعدت الكلام فنهرني وقال: اجلس. فغضبت. فقلت له: لا يحل لك كتم العلم. فلم آته أياماً. ثم قلت لنفسي: إنما وقع الضرر بك حيث قطعت حظك منه، مما يفوتك من الخير. فسرت إليه فوجدت بابه مردوداً بلا حديدة. وكانت علامة جلوسه. فدخلت دون إذن، فوجدته جالساً على رجليه. فأخذَتْه حالٌ وهو يبكي ويقول:(5/313)
أنت دائي ودوائي. أنت عيدي ومناي. أنت كنزي وعتادي. فبقيت أنظر إليه، وقد هاج. فسلمت عليه فانتبه وقال: مرحباً بك. وقام وأخذ بأطواقي، وجمعها علي. ثم جلس. وقال: صارت لك نفس تغضب وتندم. فقلت أي شيء أعمل. وقع بقلبي شيء فاحترقت، فقمت إليك أرجو الفرج، وأنت تجلسني. فقال: قد رأيتك، وأحسست الذي بك. فما مسألتك؟ فأخبرته. فقال: تلومني على هذا، وهذه مسألة ينبغي أن لا تذكر قدّام الناس. الجواب فيهما، كذا وكذا. قال أبو محمد يحيى: قلت لربيع: إذا أتى العدو، فقال: العدو إنما هو السارق. والسارق لا يدخل بيتاً خالياً. إنما يدخل بيتاً عامراً. ولكن إذا قال لك: هكذا. ومد يديه، يشير الى الدعاء والتضرّع واللجوء الى الله، عز وجل في كشف ما طرأ عليك، منه. فإنه يذهب. قال: وسألنا ربيعاً عن حضور مجلس السبت، فامتنع. فألححنا عليه، فوعد ومضى معنا إليه. وجلس ورأسه بين ركبتيه. ونحن نسمع تنهيده، حتى انصرف. فلما وصل منزله عصر القميص الذي كان عليه عصراً، من الدموع، وبيّته على الحبل.(5/314)
فصول من كلامه رحمه الله تعالى
من كلامه: الدنيا أمل ووجل، والآخرة جزاء وعمل، ومتوسط بينهما أجل. ومن كلامه: لا ترضَ على نفسك في أمسك. وعظة لك، في سرور غيرك بالتغيير. وفي صفاته بالتكدير. وفي عزّه بالذل. وفي عقده بالحل. وكان يقول: أخبركم بالحازم العازم، الذي قال: هاؤم اقرأوا كتابيه. إني ظننت أني ملاقٍ حسابيه. ومن نظمه قوله رحمه الله تعالى:
لا تطمئنوا فإن الناس قد حالوا ... واقبض لسانك عما قلت أو قالوا
واحذر زماناً إذا حدثت عن زمن ... نادى النصيحة أما ملت أو مالوا
وابك الدماء على ما فات من زمن ... فيه الوفاء وفيه الدين والمال
لله أنت وقد غدوت في زمن ... أعلى الفضائح آداب وأعمال
واقنع بحلسك أن تقبل نصيحتها ... أو أن تحيز فما يغنيك تسآل
وشعره كثير وخطبه ورسائله كثيرة متعددة مسطّرة على طريق كلام الصوفية ورموزهم رضي الله تعالى عنهم.(5/315)
ذكر جمل براهينه وكراماته
قيل لأبي الحسن القابسي: هل بلغك أن أحداً اجتمع مع الخضر عليه السلام، قال: نعم. فذكر أنه كان يجتمع مع ربيع في غرفته. قال أحمد أخو ربيع: خرج للحج معتقداً أن لا يظهر بمصر. فكان يأتي الى حلقة الدينوري متحصناً. فإذا دخل، رفع أبو الحسن الدينوري رأسه الى نحو سقف الجامع، ينظر ملياً، ثم يومئ بطرفه الى الجهة التي فيها ربيع، فيكشف له الناس، حتى يقع بصره عليه، ثم يقول: نعم، وربيع متستر بالناس. فصار ربيع بعد ذلك يقعد في غير ذلك المكان. فيفعل الدينوري مثل فعله، فينكشف له الناس عنه. كأن مخبراً يخبره به. ففعل يوماً مثل فعله، ثم صرف بصره عن الجهة التي كان فيها، وقال: إنه ليكاد يغشي بصري نوراً، فما أرى القوم. ولم يلتق ربيع معه في تلك السفرة. قال بعضهم: وأعدت أبا سليمان يوماً، على كتاب يقابله معي. فقال آتيك الليلة أقابله معك. فانتظرته بعد العشاء، وقد غلقت الأبواب، إذ سمعت حسه، وهو يتحدث مع إنسان. ثم ضرب، ففتحت له، وخرجت أنظر، فلم أر أحداً. فأقسمت عليه من الذي كان يحدثك. فقال: لا تفعل. فكررت عليه. فقال: ومن وقع بقلبك؟ فقلت: الخضر. فقال: هو والله. وكان السلطان قد رمى على القطّانين قطناً، وكان عنده بثمن سماه. فرمى على أخيه أحمد منه ثلاثة قناطير.(5/316)
قال: فعزمت على عمله وبيعه، وزيادة ما أعجز عن ثمنه من عندي. فنهاني عن ذلك أخي ربيع. وهزني الأعوان في الثمن. وهو ينهاني حتى ضجرت وكابرته. فقال لي: يا بغيض إنه يزول عنك، ويرجع الى صاحبه، فإني جالس إذا رسولٌ من الوالي، فقال لي: اصرف القطن الذي طرحته عليك. فطرحته. ومحا اسمي. وكان أخوه سعيد قد ركب في مركب الى مصر. فانفتح، وفرغ بعض شحنه، وضعفت قلوب من فيه، وأرادوا ترك الكراء لصاحبه، والخروج منه، إذ ورد عليهم كتاب ربيع الى أخيه: فبلغني ضعف قلوبكم، وإرادة بعضكم الخروج، فلا تخرجوا. فإن المركب يصل سالماً بكل ما فيه. فقويت قلوبهم وقال صاحب المركب: سلم والله مركبي. فإن ربيعاً لم يتكلم بهذا الأمر إلا عن صحة. فوصل المركب سالماً. وكان يتكلم على الأحوال. قال بعضهم: كثيراً ما كنت أغشى مجلس ربيع، أريد سؤاله عن أشياء تختلج في صدري، فأنصرف. فعلم ما أردت منه دون مسألة. وهذا خطر ببالي يوماً من بعض كرامات الصالحين، ما هالني واستعظمته. فنظر إلي وقال: قالوا أتعجبن من أمر الله. وقال: حكى ابن يوسف - وكان مختصاً به - عنه، قال: كنت أمشي وحدي في خلاء من الأرض، وبين يدي جبل، فوقع في قلبي شيء من القرب الى الله تعالى. فخشيت أن تكون نفسي سخرت. وأنه ليس من قبل الحق. فقلت: اللهم إن كان هذا شيئاً من قبلك، فأرني برهانه، لئلا أشك فيه لتطمئن إليه نفسي.(5/317)
فنظرت إليه، فإذا الجبل كله ذهب، يلوح. فنظرت إليه، ثم أعرضت عنه. وقال ابراهيم بن مسرور: وفي سري الحاجة ضقت بها. فبينما أنا نائم أقبل إلي شخص عليه بردة، ورائحة طيبة. فقال: ما لك ضقت لحاجتك. اذهب الى الوالي، فإنه يجريها الله على يديه. قلت: ومن الوالي؟ قال: الوالي كما ذكرت لك. فكررت عليه. فقال: هو ربيع القطان، فاذهب إليه، وبشره بالولاية. فأتاه فبشره. فقال له ربيع: أما علمت يا أخي أن المؤمنين كلهم أولياء الله. قال أخوه أحمد: دخلت عليه يوماً، وهو متفكر. فسألته عن فكرته، فقال: تفكرت في أمر. قلت: فيم؟ قال يراد بي وبرأسي أمر عظيم. فسألته. قال: رأيت في رؤياي الحق جل ذكره. فأمرني. فدنوت منه. فشرّف موضعاً مني، وعظّمه، ما بين صدغي، وأذني من الجانب الأيسر. فكانت والدته تأمره إذا حلق أن يأخذ شعر ذلك الموضع. فجمعت منه كثيراً. وأوصت حين موتها أن يدفن معها. فضرب حين قتل في ذلك الموضع رحمه الله تعالى. قال لي ربيع رحمه الله تعالى: ليُرادنّ بهذا الرأس. يعني رأسه. وكان ذلك لما مثلوه، أخذوا رأسه، فداروا به في البلاد، رضي الله تعالى عنه ورحمه.(5/318)
بقية أخباره ووفاته
وكان ربيع رحمه الله تعالى، ممن عقد الخروج لغزو الروافض. وجد في ذلك، كما قدمناه، في أخبار الممسي، فقتل شهيداً، رحمه الله تعالى، في وادي المالح، في حصار المهدية، لسنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. وكان أبو علي بن الكاتب العابد، يقول: ما رأيت ربيعاً قط إلا ورأيت دم الشهادة يلوح على وجهه، قال القابسي: وكانت رغبة بني عبيد ورجالهم، أخذ ربيع حياً، ليشفوا منه نفوسهم. فلما لقوه في القتال، أقبل وهو يطعن فيهم، ويضرب وهم يتوقفون عنه، رجاء أخذه. فلما أثخنهم بالضرب حملوا عليه، فقتلوه. وأخذوا رأسه، ومضوا به الى إمامهم، فطيف برأسه. قال بعضهم: رأيت السيف يثخن فيه، وهو يقول: قد وهن المشركون يقتلون المؤمنين. وما ولى دابراً حتى قتل. قال أبو محمد بن تبّان: رأيت ربيعاً القطان بعد أن قتل. فسألته عن حاله. فقال لي: تارة يزخرف لنا الجنان. وتارة يشرف علينا الحور. وتارة تصطك لنا الحجب. فقلت له: من أعلى درجة، أنت أو الممسي؟ قال: جُمعنا في حديق واحد. ورثاه أحمد أخوه. بمراث كثيرة، منها: من قصيدة طويلة أولها:
خليليّ عوجا بمهجتي عزّيانيا ... وإن كنت حياً لم أمت وابكيانيا
ومنها:
رزيت ربيعاً كان للناس كلهم ... ربيعاً ترى فيه القلوب رواعيا
رزيت أبي فيه وأمي وعترتي ... وأهلي وإخواني فلم يبق باقيا(5/319)
رثيتك مقروحاً وأي مصيبة ... بأعظم لي من أن أرى لك راثيا
ومن ذلك قوله:
جعلت أخي ذكراك فرضاً من الفرض ... وطول عزائي فيك من دينك المحض
إذا جن الظلام أراني ممثلاً ... دجى الليل ما بين المدامع والعضّ
تخيل لي في كل نفر وبلدة ... كأنك لا تخلي مكاناً من الأرض
ومولد ربيع سنة ثمان وثمانين ومائتين. وكان بينه وبين المحيسي ستة أشهر.
ذكر إخوته رحمهم الله تعالى
كان أبوه رحمه الله تعالى، من أهل العبادة. وكان رأى رؤيا فقصها على عابر، فقال له: تتزوج امرأة تطابق حالك، ويخرج من بينكما أولاد علماء. قال أحمد أخو ربيع: كنا إذا جلسنا مع والدي، وخطر في باله شيء من العلم، قام من مكانه يبحث بين يدي ربيع ابنه. فيقوم ربيع إليه ويقول: لم فعلت هذا؟ فيقول أردت أن أسألك عن شيء من العلم. فيقول: وهلا وأنت في مكانك؟ فيقول: أردت أن أعطي العلم حقه. كان إخوة ربيع هذا: أحمد، وربيع، وسعيد، وعطا الله. كلهم عباد.(5/320)
قال الأجدابي: فأما ربيع، فهو الذي أوتي علماً عظيماً. وأما سعيد، فسمع بالقيروان، وطلب الفقه، وسمع بمصر كثيراً، ومات بها. وأما أبو جعفر أحمد، فكان من أهل العلم والقرآن. قرأ على أبي بكر الهواري بإفريقية، وبمصر على الأنماطي وأحمد بن يوسف وغيرهم، وبالأندلس، على غيرهم. وصحب بمصر أبا إسحاق بن شعبان، وأبا علي بن الكاتب. وكان مرسلاً شاعراً، وموثقاً حسن الخط، عالماً بالعروض. وكان أعبدَ حلقة أخيه ربيع. وكان رئيسها، ويتولى الإلقاء بها. وكان ابن التبان ممن يغشاها. ولما انقضت أيام أبي يزيد، سافر أحمد الى الأندلس، وأقام بها عشر سنين، وخالط بها القاضي منذر بن سعيد. ثم أخذ له سجلاً من معدّ. فرجع الى القيروان، ومات سنة إحدى أو اثنين وتسعين وثلاثمائة. وكان كثير الحديث والشواهد والملح.
محمد بن ابراهيم
أبو بكر المعروف بالكتّاني. بتاء مشددة باثنين من فوق. صحب موسى القطان، وأحمد بن نصر، وسمع من غيرهما. قال ابن حارث: وكان يتكلم في المسائل كلاماً صالحاً. ذا دين، وطهارة، وحفظ، ودرس، ومناظرة، وصيانة، وحسن انقباض، وخير، وفضل. وكان يختم القرآن في كل ليلة. وحج سنة سبع وعشرين. ومات في رجوعه بالحوراء في هذه السنة.
محمد بن عباس النحاس رحمه الله تعالى
بحاء مهملة. قال ابن حارث: كان مذهبه المسائل، والفقه خاصة. جالسَنا عند جميع الشيوخ. وتوفي سنة خمس وعشرين وثلاثمائة.(5/321)
أبو عبد الله محمد بن مسرور النجار
يعرف بابن الأصلع. ويقال: الأقرع. كان مذهبه الدرس والحفظ والمناظرة. وسمع يحيى بن عمر وسعيد بن الحداد وغيرهما. قال ابن حارث: وكان حسن القريحة، فقيه البدن، وشيخاً مسناً. وكان جليسنا في كل مجتمع. وكان شأنه الفقه البارع والمناظرة فيه. حسن المناظرة متواضعاً. قال المالكي: كان شيخاً فقيهاً عالماً بالحجة والنظر. ولم يكن صاحب كتب ورواية. وإليه أسندت الحلقة بعد أحمد بن نصر. فرفعا أبي الفضل الممسي وقال: داري ضيقة وأنا حديث عهد بعرس، وهو رابع أربعة كانوا بالقيروان في وقتهم، على طريقة واحدة، في الفقه والنظر للمسائل، وتعليلها. هو، وربيع القطان، وابن حارث، والممسي. ولأحمد بن النظر كتاب في الرد عليهم. سماهم فيه: العملية. وساعده عليهم أحمد بن نصر. وكتب خطه فيه. وأبو ميسرة. قال صاحب الكتاب المعروف: كان فقيهاً بمذهب مالك، عالماً بالحجة والنظر. توفي فيما ذكره ابن حارث والمالكي: سنة ثمان وعشرين. وفي خط ابن عمران سنة سبع. وذلك بتونس. ووجدته أيضاً بخط ابن حارث رحمه الله تعالى.(5/322)
أبو الحسن عبد الله بن محمد بن زرقون الغسال بن أبي مريم
يعرف بابن الطيارة، في التعليق. كان من أهل المذهب، والفقه، على مذهب المدنيين بالقيروان. وكان أبوه صاحب صلاتهم. وقد ذكرته في أصحاب سحنون. وكان أبو الحسن ثالث ثلاثة إذا حضروا في مجلس، لم يتكلم أحد غيرهم. هو وأبو محمد عبد الله بن أبي عثمان بن الحداد، وأبو ابراهيم القرشي، المعلم، كثير حكاية، وحسن إيراد. قال الخراط: كان رجلاً صالحاً، ثقة مأموناً، فقيهاً خيّراً. سمع من سهل القبرياني، وأبي داود العطار. وسمع منه أبو الحسن بن زياد، وأبو الأزهر بن ناقد. توفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة. مولده سنة أربع وأربعين ومائتين.
أبو العرب
محمد بن أحمد بن تميم بن تمام بن تميم التميمي. كان جده تمام بن تميم، من أمراء إفريقية. وكان أبوه أحمد ممن سمع من شجرة بن عيسى، وسليمان بن عمران، وبكر بن حماد. وسمع أبو العرب من جماعة أصحاب سحنون، وأكثر رجال إفريقية. كأحمد بن عمر، وأبي داود العطار، وعيسى، ومحمد بن مسكين، وابن طالب، وعبد الجبار، وأبي العباس، وسهل القبرياني، وحماس، وحبيب بن نصر، وجبلة، وابن أبي سليمان، وسعيد بن إسحاق، وجماعة.(5/323)
قال أبو عبد الله الخراط: كان رجلاً صالحاً، ثقة عالماً بالسّنن، والرجال، من أبصر أهل وقته بها، كثير الكتب، حسن التقييد، كريم النفس والخُلق. كتب بخطه كثيراً في الحديث والفق. يقال إنه كتب بيده ثلاثة آلاف كتاب وخمسمائة. وشيوخه تنيف على عشرين ومائة شيخ. سمع منه أبو محمد بن أبي زيد، والحسين بن سعيد، وابناه، والشذوذي، والناس. قال ابن أبي دليم: وكان حافظاً للمذهب، معتنياً به. وغلب عليه الحديث والرجال، وتصنيف الكتب والرواية، والاسماع. وألّف طبقات علماء إفريقية، وكتاب عباد إفريقية، ومسند حديث مالك، وكتاب التاريخ، سبعة عشر جزءاً، وكتاب مناقب بني تميم، وجزأين في موت العلماء، وكتاب المحن، وكتاب فضائل مالك، وكتاب فضائل سحنون، وكتاب الوضوء والطهارة، وكتاب الجنائز، وذكر الموت، وعذاب القبر، وكتاب عوالي حديثه، وكتاب في الصلة، وغير ذلك. ودارت عليه محنة من الشيعي. حبسه وقيّده مع ابنه، مرة بسبب بني الأغلب، والتهمة في السلطان.
وهو أحد من خرج لحرب بني عبيد، وحاصر المهدية. وسمع عليه هناك كتاب الإمامة، محمد بن سحنون. وكان يقول: سماع هذين الكتابين هنا، علي أفضل من كل ما كتبت. وكان سبب طلبه للعلم، أنه أتى يوماً الى دار محمد بن يحيى بن سلام، فأعجبه من الطلبة. فاختلف إليه أياماً، وهو من أبناء السلاطين. قال: فقال رجل: لا تتزيا بهذا الزيّ، فليس بزي طلبة العلم. فرجعت فذكرت ذلك لأمي، فأبت علي وقالت إنما تكون مثل آبائك السلاطين.(5/324)
فاشتريت ثياباً ورداء، وجعلتهم عند صباغ. فإذا أتيت لبست تلك الثياب علي، في حانوته. ومضيت الى ابن سلام. فإذا انصرفت من عنده، رجعت الى حانوت الصباغ، وكشفت ما علي، ولبست ثيابي التي جئت بها، ورجعت الى دري. فقال لي رجل: أراك تلازم وتسمع، ولا تكتب. فقلت له: والديّ رغباني في هذا الأمر، والمعونة عليه، ولم يمكّناني من شيء. فقال: أعطيك جلداً تكتبه لنفسك. وتكتب لي آخر. فرضيت بذلك، وفعلته معه مدة. الى أن يسر الله لي فيما اشتريت به الرق. وقويت به على طلب العلم. وكان أبو العرب شاعراً. أنشد له ابنه تميم:
إذا ولى الصديق لغير عذر ... فزاد الله خلته انقطاع
الى يوم التناد بلا رجوع ... فإن رام الرجوع فلا استطاعا
إذا ولى أخوك قفاه عنك ... فولّ قفاك عنه وزده باعا
وناد وراءه يا ربّ تمّم ... ولا تجعل لفرقته اجتماعا
وله:
ضعفت حيلتي وقلّ اصطباري ... والى الله التشكي كل ما بي
وهن العظم بعد أن كان صلباً ... وفقدت الشباب أي شباب(5/325)
وتوفي فيما قال ابن حارث: يوم الأحد لثمان بقين من ذي القعدة، سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. وقرأ السبع أفراده سنة نيف وخمسين ومائتين. وكان له ابنان: أبو العباس تمام، سكن إفريقية. وأبو جعفر تميم، سكن الأندلس، وروى بها كتب أبيه وغيرها. وكان يضعّف. تكلم فيه أخوه.
أبو جعفر أحمد
ويقال حمود، بن ابراهيم. ويقال ابن سعدون المتعبد. سكن سوسة. ويعرف بالاريسي. ويقال أيضاً ابن السرداني. لأنه غزى السردانية. قال أبو بكر المالكي: وكان رجلاً صالحاً فاضلاً. فقيهاً ثقة. ذا سمت حسن ووقار، وورع. سمع منه الناس، وكتب جميع كتب يحيى ابن أبي الأزهر. ما رأيت في المتعبدين مثله. وكان قد اعتلّ، فلم يبق في بدنه عضو، إلا معتلاً، سوى لسانه وعقله وبصره. فكان إخوانه يزورونه وهو ملقى على ظهره، ما يستطيع الجلوس. ولقد كان يأتيه جماعة من إخوانه بينهم اختلاف، رجاء أن يصلح بينهم. فيذكر كل واحد منهم لأقف على صحة جوابه، وفهمه. فربما جازت عليّ أشياء من أقاويلهم، لا أذكرها إلا بجوابهم. وكان مع ذلك قد أدرك الثمانين. وكان من الزّهاد المتعبدين المستجابين. دخل سوسة بألف مثقال، فأنفقها. وكانت له مروءة، وهو كان القائم بأمر أبي جعفر العمودي، العابد، صاحبه.(5/326)
وذكر عنه أنه لقيه رجل يوماً، طالع الى السجن، وهو على عنقه كساء، وبيده طعام. فسأله فقال: حبس لي صديق اليوم، فأردت تأنيسه بالمبيت عنده. ولما اشتد مرضه، كان أبو جعفر العمودي، إذا سلّم من صلاته، يمضي وينظر إليه من الباب، ثم يرجع الى صلاته. فإذا سلّم عاد فنظر إليه. فوجده مرة في حالة النزع، وقد انقطع كلامه. فقال العمودي: الحمد لله رب العالمين. الآن قد طابت نفسي عليك. خلصت وبقيت أنا موحولاً. فلما سمعه الاريسي وهو لا يتكلم، أشار بيده الى حلقه، يريد أن نفسه لم تخرج بعد. ولما مات، وقف عليه فقال: خلصت ورويت عليك. لا يصل إليك سلطان ولا شيطان. وتركتنا بعدك موحولين، في بحر نسبح فيه لا ندري، نغرق أم ننجو. قال الخراط: رأى ثقة في منامه، كأن قائلاً يقول: إذا أردت أن تنظر الى أبي بكر الصديق، فانظر الى أبي جعفر السرداني. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وعشرين. وقيل أربع وعشرين وثلاثمائة.
أخوه أبو عطاء يزيد بن سعدون الاريسي
قال المالكي عنه: كان رجلاً فاضلاً من أهل العلم، والفضل، والورع، والعناية، والكتب وضبطها. وسمع أكثر كتب يحيى بن عمر، وكتبها وحبسها بعد موته، رحمه الله، بسوسة.(5/327)
أبو جعفر أحمد بن موسى التمار
من نبط تونس. سمع من فرات ويحيى بن عمر، وغيرهما. وسمع منه عالم كثير. قال ابن حارث: وكان من أهل العلم بالجدل، على معاني المتكلمين في النظر على مذاهب الفقهاء. ويتكلم في ذلك كلاماً جيداً. وكان لطيف الفهم، دقيق الاستخراج، قد صحب أبا عثمان بن الحداد، واحتوى على معانيه. وكان حسن التصرف، جميل الأدب، كريم المروءة، محمود الأخلاق، كثير الحكاية. قال الخراط: كان صالحاً ثقة فقيهاً عالماً، يحسن النحو والعربية. سأله يوماً بعضهم على الفرق بين المفلس الحي، والمفلس الميت، إذا وجد البائع عين متاعه. فقال: لأن الميت انتقل ملك ماله الى غيره، والحي ملكه باق على ماله. وامتحن هو وأخوه محمد، أيام الشيعي. فأمر عبيد الله بضرب أخيه مائتي سوط، فمات. ودارت على أناس كثير من المدنيين وغيرهم، محن كثيرة، كمحنة عمروس في خلع لسانه، وابن معتب في ضرب ظهره، وابن المدني في ضرب ظهره، وصفعه. وابن اللباد بسجنه. وابن البرذون وابن هذيل بقتلهما، وصلبهما. وأشياء كثيرة من جهة ترك: حيّ على خير العمل في الأذان. وترك قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة. والفتيا بمذهب مالك رضي الله تعالى عنه. وله في عبيد الله وآله: أنا أقول بأنني ممن برأ فيه - يرى أنه كان منهم علي أو كان فيهم علي - وتوفي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة رحمه الله تعالى.(5/328)
ابراهيم بن أبي حفص
أبو إسحاق المعروف بابن فتت سمع من يحيى بن عمر وغيره وكان جيد العقل يميل الى النظر، حسن الحكاية. قتله اللصوص في داره لأجل ماله وكان كثيراً وكان وحيداً فذبح بالليل هو وجاريته وحمل ماله رحمه الله تعالي.
أبو عبيد الله محمد بن أبي المنظور
عبد الله بن حسان ويقال
أبو محمد الأنصاري من أنفسهم ويقال مولاهم وأصله من الأندلس وبها ولد من جزيرة طريق ورحل فسمع النفري واسماعيل القاضي وابن قتيبة وابنه والحارث بن أبي السامة والكسوري وعلي بن عبد العزيز وغيرهم. وكتب في رحلته علماً كثيراً وأوطن القيروان وأغلق على نفسه باب السماع والعلم واشتغل بالتّجر. وكانت له في البلد جلالة السن، والعلم والصيانة. ولاه أبو القاسم بن عبيد الله، قضاء القيروان. على ملأ من الناس. أرادت الشيعة بتوليته: تسكين نفوس أهل السنة والناس. وما كان منهم بعد فتنة أبي يزيد. وكان شرط على اسماعيل حين ولاهم أن لا يأخذ لهم صلة. ولا يركب لهم دابة، ولا يقبل شهادة من قاربهم. ولا يركن إليهم. فأجابوه الى ذلك. وكان صليباً في قضائه. سالكاً طريق العدل في أمره. ورفع إليه أن يهودياً، سبّ النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: لم أُعطَ السيف فأحضر وعرض عليه الإسلام، فأبى. فأجلسه وأمر بضربه وقال للضارب اقصِد حذاء قلبه.(5/329)
فضربه حتى مات. وعليَت عليه الرواية. سمع منه أبو جعفر النصري، وابن التِبان، وابن نظيف، وعبد الله بن أبي هاشم، وولي القضاء وهو ابن تسعين سنة. لم يستنب. ولا أخذ على قضائه أجراً. ولا ركب في قضائه. وتوفي وهو كبير السن. سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة. في الثانية من قضائه. وهو قاض. قال بعضهم: كان له إدراك وسماع كثير. وعلم مشهود. وكان مالكياً عالماً. عاملاً بأصول الفقه. وليس ينسب الى الحفظ كثيراً. ذا سمت وخشوع وثناء.
أبو محمد
عبد الله بن سعيد بن محمد بن الحداد. شيخ عاقل، حصيف. عالي الهمة. سمع من أبيه وأحمد بن يزيد، وغيرهما من شيوخ القيروان. حدّث عنه، أبو محمد بن أبي يزيد رحمه الله تعالى، وغيره. وكان مليح المجلس. كثير الحكاية. توفي بعد العشرين وثلاثمائة. رحمه الله تعالى.
عبد الله بن أبي القاسم بن مسرور التجيبي
مولاهم. المعروف بابن الحجّاج. مولى بني عبيد التجيبي، أبو محمد. سمع من عيسى، ومحمد بن ابني مسكين، وسعد بن إسحاق، وعبد الله بن سهل الأندلسي، وأبي عيّاش، وفرات، وحمديس القطان،(5/330)
وعمر بن يوسف، وابن أبي سليمان، ويحيى بن زكريا الأموي، والمغامي، وغيرهم من شيوخ إفريقية. ورحل فسمع في رحلته بمصر، وجدة وغيرهما. من جماعة منهم: ابراهيم بن حميد، ومحمد بن ابراهيم الويلي، وابن الإعرابي، وابن أبي مطر، وعبد الله بن حمويه، ومحمد بن الحسين الطويبي، والحضرمي. وغلب عليه الجمع والرواية. يقال أكثر سماعه من ابن مسكين، إجازةً. قال أبو عبد الله الخراط: كان أبو محمد ورعاً مسمّتاً خاشعاً، رقيق القلب، غزير الدمعة، مهيباً في نفسه. لا يكاد أحدٌ ينطق في مجلسه، بغير الصواب. يشبه في أموره كلها ابن عمر، وحمديساً القطان. حسن التقييد صحيح الكتاب. وكانت كتبه كلها بخطه. وكان كثير التصنيف في أنواع العلوم. كثير الكتب. فقال القابسي: ترك أبو محمد هذا سبع قناطير كتب، بخطه. فلما توفي رفع جميعها الى سلطان الوقت. فأخذها ومنع الناس منها. وذكر بعض أصحابه أنه لما اشتد به المرض قال له أصحابه: نخشى أن يأخذ السلطان كتبك، ويمنعها الناس، الانتفاع بحبسها، على المسلمين، ووجّهها أثلاثاً في ثلاثة مواضع.
ففعل ذلك. فلما كان من الغد، قال: لم أنم البارحة. لما فقدت كتبي، فردوها عليّ، فردوا الثلثين، وتركوا الثلث الذي كان في دار أبي محمد بن أبي زيد، رحمه الله تعالى. فلما وصل إليه الثلثان مات. فقبض السلطان على ذلك، وسلم الثلث.(5/331)
قال أبو بكر بن عبد الرحمن: بلغني أن أهله، اشتروا له جارية، فزينوها وأدخلوها عليه. فلما كان الليل أخذ الكتاب، وكتب الليل كله، ولم يلتفت إليها. وأقام على ذلك نحواً من شهر. فلما طال على الجارية ذلك، قالت له: إن كان ليس لك غرض فيّ، فبعني. فقال لها: من أنت؟ قالت: جاريتك. قال: أنا ما اشتريت جارية. امض الى من اشتراك، يبعك. ففعلت. فأقام على حاله، الى أن مات. وكان القابسي يقول لمن قال لم يدرك، يحيى بن عمر الاسباطي: بل أدركه، صحيحاً. ولكن كان أبو محمد أولاً منقطعاً، فلهذا لم يسمع من يحيى. وحكى أن النعمان قاضي الشيعة، مرّ به، بباب داره. فقال: السلام عليك يا أبا محمد. فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل. وكرر عليه. فرد مثله. فلما انصرف النعما، قال له من حوله: تكون قاضي قضاة السلطان وداعيته، تسلم على صبي فما رد عليك. أذللت نفسك وأذللتنا. فرجع إليه يتوقد غضباً. فلما رآه أبو محمد، قام، وجعل يده على أذنه، وقال: جعلت أذنك قمعاً لمن يقرب الى النار، لحمك ودمَك. قال: صدقت يا أبا محمد. فانصرف قائلاً لأصحابه: هذا بشر من أهل الدنيا. فيتم فيه ما نريد. ولقيه ابن هاشم قاضي القيروان في حفدته، فترجّل له وسلّم عليه. فاتب ابن مسرر في حق له، في قضاء القوم. فاعتذر له، وقال: هل لك من حاجة؟(5/332)
فقال له: لا حاجة لي عندك. فسلم عليه. فقال للقاضي بعض من معه: إن أردت قضاء حاجته فكلم السلطان في الدار التي غصبها له. فقال: معن. وسأل السلطان فيها، فأجابه. فأخبر بذلك ابن مسرور. فقال والله لا فعلت شيئاً، تركته لله. ارجع فيه. لا حاجة لي فيه. وألّف كتباً كثيرة في أنواع من العلوم، منها: كتاب المواقيت، ومعرفة النجوم، والأزمان. سمع منه أبو محمد بن أبي زيد، رحمه الله تعالى، والقابسي، ومحمد بن ادريس، وأبو عبد الله الصدفي، وغيرهم من أهل إفريقية، ومصر، والأندلس. وكان رحمه الله تعالى قد نبذ جماعة من أصحابه، لأشياء اطلع عليهم فيها. فكتب عليهم محضراً يقول فيه: يشهد من تسمى في هذا الكتاب، أن عبد الله بن مسرور أشهدهم: أن فلاناً، وفلاناً، كانوا يأخذون عنه من العلم. فسألوا أن أجيزهم كتبي، ففعلت. فأشهدوا عليّ أني رجعت فيما رووا عني، وعن إجازتي لهم كتبي، لما ظهر فيهم من سوء حالهم. وكذا، وكذا.
قال القاضي: مثل هذا لا يضر الرواية. وقد فعله بعض من لقيناه ببعض من سخطه من أصحابه. ولعله لم يخف عليهم أن الرجوع فيها لا يصح. لكنه كالردع والتجريح لهم، بمثل هذا. وقد بينا هذا الفشل بياناً شافياً، في كتاب الإلماع. وتوفي سنة ست وأربعين وثلاثمائة. وسنّه سبع وثمانون سنة. مولده سنة ثلاث وستين ومائتين. وكان سبب موته، أنه اصطلى ونعس، فالتهبت النار بثيابه، واحترق إلا موضع سجوده. رحمه الله تعالى.(5/333)
حبيب بن الربيع
مولى أحمد بن أبي سليمان الفقيه. كان فقيهاً عابداً. كناه أبو الوليد الباجي: بأبي القاسم. وغيره: بأبي نصر. يروي عن مولاه أحمد، ويحيى بن عمر، ومحمد أخيه، والمغامي، وحماس، وابن أبي داود العطار، وعبد الجبار وأبي عياش، ويحيى بن عبد العزيز، وعمر بن يوسف، وابن بسطام، وابن الحداد، وعبد الرحمن الورقة، وغيرهم. وروى عنه: أبو محمد بن أبي زيد، رحمه الله تعالى، وابن ادريس، وعلي بن إسحاق، وجماعة. قال القاضي أبو الوليد الباجي: هو فقيه. قال الخراط: كان فقيه البدن، يميل الى الحجة، عالماً بكتبه، حسن الأخلاق، باراً سمحاً. وكان مولاه أحمد يقول: الذي خسرته في ابني، ربحته في حبيب. وكان يقول: قال لي مولاي أحمد: تخلّقْ بخُلقي في كل شيء، إلا في الدينار والدرهم - لسعة يده - قال حبيب: فتخلقت بخلقه في كل شيء إلا في الدينار والدرهم. وكان حبيب هذا شاعراً. وهو القائل:
إن الزمان وإن أتى بصروفه ... فأنا له من أعظمي رجاله
ما إن تغير حاله من حاله ... إلا سمَت هممي على أحواله(5/334)
ولقد أتيت وما لصاحب نعمة ... من ماله قبلي ولا أفضاله
واصدق ما بذل امرؤ من وجهه ... لصديقه أو غيره لسؤاله
إن الصديق وإن تغير حاله ... لم يجز ذاك الفعل من أفعاله
وصفحت عنه حافظاً لمحبتي ... ووصلت حبلي إن نأى بحباله
ووقفت على جزء من مسائله، مما سأله عنه مولاه، وابن الحداد، وعبد الرحمن الورقة، وابن بطريقة. وأفتى حبيب فيمن دفن وأكله السبع، أن كفنه لورثته. وقال غيره: لا يورث. كمن لا وارث له. قال أبو علي البصري في كتاب المعرب من أخبار المغرب: كان حبيب هذا فقيهاً، وهو الذي عناه مولاه أحمد رحمه الله في شعره:
تسمع يا حبيبي هديت قولي ... تنل بسماعه خيراً كثيرا
سمعتك تذكر الشعراء طرّاً ... وتنشد شعرهم جمعاً كثيرا(5/335)
وليس مؤلفٌ قولاً حليماً ... كآخر قائلاً إفكاً وزورا
وتوفي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. وهو ابن نيف وثلاثين سنة، رحمه الله تعالى.
حبيب بن نصر
مولى أحمد بن سليمان أيضاً. سمع من مولاه، ويحيى وغيرهما. وعنى بالمسائل والمناظرة فيها. وكان منقبضاً.
إسحاق بن مسلم
أبو ابراهيم. مولى أحمد أيضاً. كان يتكلم في الفقه على مذاهب النظر. وفي الأسماء والصفات على طريق المتكلمين وأهل السنّة. وكان نبيلاً متصرفاً، إلا أن ابن حارث، حكى عنه أنه يقول، بالجسم ولا كالأجسام. وهذا إن صحّ عنه ينفي كل ما وصفت به من فهم، ونبل. ويدل على إغراق في الجهل وغباوة تامة وقلة علم.
أبو عبد الله محمد بن العباس بن الوليد الذهلي
المعروف بدُعدُع. بدالين، مهملتين، مضمومتين، كان عالماً فقيهاً بمذهب مالك. ذا حفظ. سمع محمد بن سحنون. ومحمد بن يحيى بن سالم. ومحمد بن تميم العنبري. وكان شديد البغض لبني عبيد، كثير السبّ لهم. لا يخاف في الله لومة لائم.(5/336)
وحكم عليه ابن طالب، وعلى أخيه الملقب بشريشر: أنهما موالي، لامرأة من العجم، وبالكذب. أرى ذلك لانتمائهما الى هذيل. وضرب النفطي قاضي الشيعة، محمداً هذا. في جميع القيروان عرياناً. وصفع قفاه. حتى سال الدم من رأسه. وبُرّح عليه في الأسواق، وأطافه عرياناً على حمار إذا رُفع عنه أنه كان يفتي بمذهب مالك، ويطعن على السلطان. ثم حبس. ووجدت في التعليق لأبي عمران، أنه سقط آخر عمره. وتوفي سنة تسع وعشرين، وثلاثمائة. من خط أبي عمران.
محمد، المعروف بالبرقشاني
سمع من يحيى بن عمر. وموسى القطان. وقرأ عليه. وكان يختم القرآن في كل ليلة. توفي سنة ثلاث وثلاثين.(5/337)
أبو عبد الله محمد بن غليون الصنهاجي
من أهل باجة إفريقية. المعروف بالوقّاد. مشدد القاف. وآخره دال. قال: كان من أصحاب حمديس. روى عنه السّدري. وفي التعليق، أنه كان فقيهاً بمذهب مالك. قال المالكي: كان من أهل الفقه، ذا فهم جيد. وكان يجري بينه وبين ربيع القطان مناظرات في الفقه. قال ابن حارث: كان فقيهاً حافظاً. وكان الفقه والمناظرة وجودة القريحة، أغلب عليه، من الحفظ. وكان إذا ألقيت عليه مسألة، ينظر فيها. وقيل له: اسمع جوابها. قال: لا. حتى أعرف ما يظهر لي. إنما أريد أن أنتفع فيها. وقيل له: بل انتفع بعلم نفسي. وكان يتكلم في معاني الأحاديث، كلاماً حسناً. وكان من ذوي المروءة والهيئة الحسنة. وحكى عنه الفارسي: مسألة القملة، تسقط في قفيز قمح، لا يؤكل. مات بباجه. سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. رحمه الله تعالى.(6/9)
أبو العباس
عبد الله بن أحمد بن ابراهيم بن إسحاق، المعروف بالإبياني. كذا يقال. بكسر الهمزة وتشديد الباء. ويقال: صوابه تخفيفها. التميمي. تفقه بيحيى بن عمر، وأحمد بن أبي سليمان، وحمديس، ويحيى بن عبد العزيز، وحماس بن مروان وغيرهم. وصحبه لقمان بن يوسف، وعبد الله بن عامر، وذك أبا بكر بن اللباد، يروى عنه الأصيلي، وأبو الحسن اللواتي، وعمرون بن محمد، وعبد الله بن أبي زريق، وعيسى بن سعادة، وابن أبي زيد، رحمهم الله تعالى، وغيرهم. قال بعضهم، كان أبو العباس عالم إفريقية، غير مدافع. وقال بعضهم: كان من شيوخ أهل العلم، وحافظ مذهب مالك. قال ابن أبي دليم: كان من أهل الخير، والوجاهة، وله ميل الى مذهب الشافعي.(6/10)
قال ابن حارث: هو شيخ من أهل الصيانة والانقباض، والحفظ والكلام في الفقه. قال المالكي: كان شيخاً ثقة، مأموناً، إماماً، فقيهاً عاقلاً، حليماً نبيلاً، فصيحاً عالماً بما في كتبه، حسن الضبط، جيد الاستنباط. كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد، رضي الله تعالى عنه، إذا نزلت به نازلة، مشكلة، كتب إليه، يبينها له. ولما وصل الى مصر، تلقاه نحو أربعين فقيهاً، لم يكن فيهم أفقه منه. وقال أبو اسحاق بن شعبان: ما يزال بالمغرب عالم ما دام بين أظهرهم، وما عدي النّيل منذ خمسين سنة، أعلم منه. وقال أبو حفص بن عمرون: صحبت الحسن بن نصر، وغيره. وذكر من أحوالهم وفضائلهم، ما رأيت مثل أبي العباس في الفقه. وكان أبو الحسن القابسي يقول: ما رأيت بالمشرق ولا بالمغرب مثل أبي العباس. وكان يفصل المسائل، كتفصيل الجزار الحاذق اللحم. وكان يحب المذاكرة في العلم، ويقول: دعونا من السماع، ألقوا علينا المسائل.(6/11)
وربما دخل عليه أصحابه وهو ملتاث. فإذا أخذوا في المذاكرة زال التياثه، وظهر نشاطه. وكان يدرس كتاب ابن حبيب، وكان ابن اللباد إذا ذاكره، يضجر لكثرة معارضته، ودقة فهمه. فيُسرّ به أبو العباس. وذكر اللواتي: أنه قرأ على أبي العباس في الواضحة، صدراً من كتاب البيوع. فقال له: بقي من الكتاب حديث كذا، ومسألة كذا. وذكر أحاديث ومسائل. فنظرنا فلم نرَ شيئاً. فتأملنا، فإذا ورقتان منه التصقتا، وتجاوزناهما. فإذا في الصفحتين كل ما ذكره. فعجبنا من حفظه. وكان قليل الفتوى.
ذكر فضائله وأخباره رحمه الله تعالى
لما حج في زمن كافور، دخل الجامع بمصر، فوقعت عليه عين ابن القرطي فقال: هذه مشية فقيه. وكان قد فاتته صلاة العصر، فأحرم، وابن القرطي ينظر إليه، فقال: احرام فقيه. فلما صلى كان بجواره، رجل من أهل العلم، فتحدث معه، ثم قال: كيف رأيت مصر؟ فقال: رأيت ظلماً ظاهراً.(6/12)
وكان قد حُبس. فقال الناس فرفعت رقعة بمقاله، الى كافور. وكان يجلس يوم السبت للمظالم، ويجلس معه الفقهاء، وفيهم ابن شعبان. فلما جلسوا أُتي بالرقة. فقال كافور من المتكلم بهذا؟ وكان الخبر وصل الى ابن شعبان، وحرض على رؤيته. فقال ابن شعبان: هو أبو العباس الإبياني، ما عدى النيل منذ خمسين سنة أعلم منه. فقال كافور: يطلق. فقال الناس، يبيعون في السوق إن شاءوا ومما أردنا اشترينا. فكثر دعاء المغاربة لأبي العباس. وعرف أبو العباس بمقال أبي إسحاق.
فركب إليه. فلما رآه أبو إسحاق، وثب من مجلسه، فأجلسه فيه. ثم ذاكره في أشياء. ثم قال له: أنت اليوم ضيف. فقال له أبو العباس: تعلم أنه لا ضيافة على أهل الحضر. فقال أبو إسحاق: قال ابن عبد الحكم: عليهم الضيافة. ثم قال أبو إسحاق: وهل لك في لمذاكرة. فقال له: ذلك إليك. فقال له: أو ندع للصلح موضعاً. فقال له ذلك إليك.(6/13)
وقيل إن أبا إسحاق ألقى عليه، لما أكمل الصلاة في الجامع، عشر مسائل. فأجابه في تسع، وأخطأ في العاشرة. وقال بعضهم: بل ما أجاب به، كان الصواب. والمسألة: المدبّر يقرّ بالجناية في حياة سيده، ثم يموت سيده. والجواب فيه: أنه ينظر، فإن كان قد اختدمه سيده، بمثل ما يختدمه المجني عليه، في حياته، فلا شيء على المدبر، وإن كان اختدمه السيد بمثل نصفها، بقي عليه نصف الجناية. وعلى هذا الحساب قال عبد الله بن أبي رزيق. قال أبو العباس: تحبّ إن نفاه قلت: نعم. قال: فلتكن نفسك عندك أهون من الزبل، الذي على المزبلة. وكان اسماعيل أشخص فيه ليوليه القضاء. فعرضه عليه، فامتنع. فأوقفه اسماعيل أياماً، يقتفي أمره، ويدسّ عليه من يسمع كلامه، وأدخله على نفسه. فدخل عليه في زي بدوي، حافياً، ونعلاه في يده. وكان قد سبق الى السلطان، من قدم من أحواله.(6/14)
فلما رآه السلطان بتلك الهيئة، صدّق ما قاله القائل. فعرض عليه، فامتنع، فعافاه. وخرج من عنده عشاء متوجهاً الى تونس، لحينه. مخافة أن يبدو في أمره. فعافاه الله. وقيل إن الذي أراد أن يوليه القضاء معدّ، وكان غداء أبي العباس نصف حجلة تثرد له في نصف خبزة. وكان متحفظاً في طعامه. كثير الحِمية. ورأى رؤيا تدل، أن في طعامه شيئاً. فسأل عن الخبر، فلم يجد شيئاً. فإذا بالأندُر الذي ذري فيه قمحه، غير حسن الأصل، فتحفظ بعد ذلك. وكان متواضعاً، كثير التواضع. وكان إذا قيل له الفقيه. يقول: لقب لقبنا به. وحكى أنه يعقد السّفافل في وجهه، ازراء بنفسه، وتحقيراً لها. وقد سئل يوماً عن فقيهين من أصحابه، وتلاميذه، وهما أبو القاسم بن زيد، وسعيد بن ميمون. فقيل له: أيهما أفقه.(6/15)
فقال: إنما يفصل بين عالمين من هو أعلم منهما. وكان رحمه الله تعالى: يقرأ السبع، كل يوم. وما استكمل حفظ القرآن، إلا وهو ابن سبعين سنة. قال بعضهم: كنا عند أبي العباس، حتى أتى عطية الجزري العابد. فنظر يميناً وشمالاً، ثم انصرف وهو يقول: ما هنا من أصحابنا أحد. فصاح أبو العباس عليه. فرجع. ثم قال له: وما نحن من أصحابك، واندفع في البكاء. ويكرر قول عطية. ويقول من أين أكون من أصحابك؟ وأنت تأتي القيروان، وعليك تليس، وطرابلس وعليك تليس، ومصر وعليك تليس، ونحن نتخذ للحاضرة ثياباً، لا نلبسها للبادية. وقياباً للبادية، لا نلبسها للحاضرة. ونتزين ونتطيّب. ويبكي وعطية يقول: يا شيخ: لا تفعل. فأنت إمامنا في ديننا، بك نقتدي، في أمورنا. وكانت له فراسة. لا يكاد أن يخطئ. يذكر أنه قال لأبي الحسن القابسي، وهو يطلب عليه: والله لتضربن إليك آباط الإبل، من أقصى المغرب. فكان كما قال: ودخل عليه عطية الجزري، فرحب به أبو العباس، فقال: أتيتك زائراً، ومودعاً الى مكة. فقال له أبو العباس: لا تخلنا من بركة دعائك. وبكى. وكان(6/16)
مع عطية ركوة ولاقى وداً. فخرج مع أصحابه، ثم أتاه بأثر ذلك رجل، فقال له: أصلحك الله، عندي خمسون مثقالاً، ولي بغل، فهل ترى في الخروج الى مكة؟ فقال: لا تعجل، حتى توفر هذه الدنانير، فعجبنا من ذلك. واختلاف جوابه للرجلين، مع اختلاف أحدهما. فقال، عطية جاءني مودعاً غير مستشير، قد وثق بالله. وجاءني هذا يستشير، ويذكر ما عنده. فعلمت ضعف نيته. فأمرته بما رأيته. قال بعضهم: مر عطية المتعبد يوماً برجل يزمر. فمزّق زقه. فأقبل الزامر يرميه بطوب الحزق. وعطية يقول: اللهم تب عليه. فعرف ذلك الإبياني، فقال: ضرب عطية؟ اللهم اقطع يمينه. قال الحاكي: فرأيت الزامر بعد ذلك في الطواف، فقلت له: أنت صاحب عطية؟ قال بدعوته انتفعت. فذكرت له دعوة أبي العباس فقال: ما له ولي. هلا دعا لي كما دعا عطية. وأخرج يده مقطوعة. وكتب أبو الفضل بن نصر التابرتي الى أبي العباس الإبياني شعراً أوله:(6/17)
ماذا تريك حوادث الأزمان ... وصروفها وطوارق الحدثان
ومنها:
وأشد ما ألقى وأفضح للحشا ... عدم الوفاة وجفوة الإخوان
هذا أبو العباس واحد عصره ... وفقيهه والفائت الأقران
أنِفَت به أخلاقه عن وصلنا ... وسلامنا في السرّ والإعلان
إني أتيتك شاكراً ومخبراً ... أشكو إليك حوادث الأزمان
فكتب إليه أبو العباس الإبياني، رحمه الله تعالى:
دهرك يا أبا الفضل ذو تغلاب ... يريد العجائب بعد العجاب
فكن جليس بيتك مستوحشاً ... من الناس والأهل حتى الإياب
وتوفي سنة اثنين وخمسين وثلاثمائة. وقال المالكي: سنة إحدى وستين. وهو ابن مائة سنة، غير أربعة أشهر.
تميم بن حمدان بن تميم السرتي
أبو محمد. سمع من ابن عياش، وجبلة، وحماس، وموسى القطان، وابن بسطام وغيرهم. قال ابن أبي دليم: وكان يتكلم في العلم كلاماً صالحاً. وعني بالوثائق، والمناظرة عليها، وعليه كان يعتمد أهل القيروان في وقته. قال أبو بكر المالكي: كان فقيهاً له علم بأخبار إفريقية، عالم بالوثائق. ويقال إنه كتب لرجل وثيقة، فقال: لا يا هذا. احتفظ بها. فإني ما أبقيت لك فيها وجهاً إلا تكلمت لك عليه. وإني أضمن لك جميع دركها إلا شيئين: شاهد زور، وقاضياً مرتشياً. وكان عالماً بأخبار إفريقية، وأنساب أهلها. أنيس المجلس. ويقال إنه صام ثلاثين سنة. وعليه كان يعتمد أهل القيروان في وقته.(6/18)
توفي سنة ست وأربعين وثلاثمائة، وهو ابن ثمان وثمانين سنة، ويقال اثنتين. رحمه الله تعالى.
أبو يوسف بن مسلم بن يزيد بن ربيعة الحضرمي
قال أبو القاسم اللبيدي: كان من أهل العلم، والفهم، والعبادة، والورع. قد لقي جماعة من أصحاب سحنون، ولقي بمصر أصحاب الحارث بن مسكين، ولقي بمكة ابن الجارود، وابن المنذر، والبغوي، وغيرهم. أخذ عن الجبنياني، وهو أخو ميسرة بن مسلم، وأكبر منه، ويعرف بسكردون، وهم أهل بيت قرآن وعلم وعبادة. وأبو يوسف، ويزيد، وميسرة، وأحمد كلهم ممن سمع العلم، وتعبدوا. وكان أكثر منفعتهم بأبي عاصم المتعبد، الذي انتفع به الجبنياني. وكان كل واحد منهم يقوم بربع القرآن.(6/19)
ليث بن محمد بن صفوان بن الحارث
قال اللبيدي: كان من الفقهاء. وكان من المنقطعين في العبادة. وكان من أصحاب عيسى بن مسكين. وكان منزوياً عن الناس، متبتلاً. يسكن قصر زياد. فإذا أكثر عليه الناس هرب. وعنه أخذ عمر بن مثنى رحمه الله تعالى.
أبو اليسر
مطر بن بشار. مولى بني كيسان. قال أبو العرب: سكن تونس. وكان فقيهاً. سمع معنا من أصحاب سحنون، وغيرهم. وتوفي سنة نيف وعشرين وثلاثمائة.
محمد بن أحمد بن يونس أبو البشر السوسي نزيلها
قال أبو الرب: سمع معنا من أحمد بن يزيد. ويحيى بن عمر، وأحمد بن معتب، وجماعة من شيوخنا. وكان حسن الطبع. روى عنه أبو بكر الزويلي. قال أبو جعفر القصري، قبل الإلقاء على يحيى بن عمر. وقال غيره: كان أبو البشر من الخاشعين العاملين المجتهدين. طويل السجود بين عينيه كوكبة تُلقي بنور ساطع في وجهه. سكن سوسة، تونس.(6/20)
توفي في سوسة. وكان خروجه من القيروان ونزوله في تونس - كما حُكي عنه - هرباً من الرئاسة ورغبة في الخمول. قال: وذلك أن أهل القيروان لما اشتهر فيهم، رفعوا قدره وأكبروه، وأهل تونس بخلاف ذلك. قال أبو عثمان بن جرير: كلمته يوماً في أن يقرأ لي. فقال: ويحك. أدلك على أحمد بن عبد الرحمن فهو أكثر كتباً مني. وكان ربما سمع عامل سوسة، يضرب أحداً فيخرج رأسه من طاقة، وينتهره، حتى يتركه. وكان مجاوراً له. وكان كثيراً ما يخرج الى السوق، وقت عمارته. فيذكر الله في مواضع منه. ويخرج الى أهل الضرّ والبلاء، فيسألهم ويهوّن عليهم، ويرغّبهم فيما ما لهم عند الله. ولا ينصرف عنهم، إلا وقد هان عليهم، ما يقاسونه. لما يرجون من ثواب الله تعالى. توفي سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة.
محمد بن عبد الرحيم بن علي بن عبد ربه
أبو عبد الله، ابن أخي عبد الرحيم بن عبد ربه الزاهد. صاحب سحنون. كان من الصالحين العلماء. الثقات الحفاظ. سكن ساحل إفريقية. وخلف عمه بتلك الجهة. ولازم الرباط. سمع من أبيه. وعيسى بن مسكين. وأبي زكريا الأموي. وأخذ عنه أبو إسحاق الجبنياني، الزاهد. وعمر بن مثنى، صاحبه، وغيرهما. وتوفي بقصر زياد، سنة ست وأربعين. رحمه الله تعالى.(6/21)
علي بن محمد
تدميري الأصل. أبو سهيل وينبؤ بالقصد له سكن مدينة بونه سمع بإفريقية من لقمان بن يوسف وأبي البشر بن مساور. وابن اللباد، وبمصر من جعفر بن عبد السلام البزرا، وغيرهم. وكان رجلاً صالحاً فاضلاً. فقيه البدن كثير الكتب. حسن التقييد. توفي ببونه آخر سنة سبع وأربعين.
أبو عبد الله بن صامت تونسي
أبو العباس. قال ابن حارث: كانت له عناية محمودة بالحديث، والفقه والرجال. أخذ عن أبي جعفر بن نصر، ولقمان بن يوسف. قال غيره: ولي حكم تونس. وتوفي سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة.(6/22)
أبو حبيب
نصر الرومي، التونسي. قال ابن حارث: كان يتكلم في الفقه، كلاماً صالحاً. ودرس ببلده تونس. وأخذ عنه الناس، وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب. وكان أصله مملوكاً فأتى الى مصر، وجلس في حلق العلماء، ولازم حلقة بن عبد الحكم، حتى انتفع بها. وكان يستعير الكتب، ويجعل لمن يقرأها عليه أجراً. فحفظ علماً كثيراً، وتفقه ورجع الى مولاه. فأعلمه خبره، فأعتقه، فانصرف الى مصر، وتمادى الى العلم، الى أن صار من أهله. ثم انصرف الى القيروان، وجالس الفقهاء بها. حتى صار كواحد منهم. وجالس كثيراً، حماساً بن مروان. وسكن تونس. وكان معظماً بها. وحدث بغريب أبي عبيد بن علي بن عبد العزيز. وبقي كذلك. أثنى عليه ابن حارث، وغيره. توفي سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة.(6/23)
عبد الله بن سعيد
اللحّام. أبو محمد. حكى المالكي عن أبي عبد الله الخراط: أنه كان رجلاً صالحاً من طلبة العلم، والعناية بالتقييد. سمع من محمد بن أبي زاهد، وأبي جعفر القصري، وعبد الله بن محمد بن زرقون وغيرهم. قال أبو بكر المالكي: وكان يحسن الفقه والحديث، وسمع على الأئمة. وكتب بخطه كتبها. وسلك مسلك ربيع القطان. عن بعضهم أنه كان ينتقده، فدخل عليه ليلة، فوجد مصباحه قد انطفأ، فقال: وأخذت الفتيلة لأوقدها. فجئت فوجدت سراجه يزهر، فقلت: ما هذا؟ فتبسم، وقال: غيظك يا من لا يقول بالكرامات. فقلت: دخل عليك أحد. قال: لا والله، ما أوقده إلا مولاي. وكان يقول الشعر في معاني الزهد. توفي سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. مولده رحمه الله تعالى سنة سبعين ومائتين.(6/24)
يوسف بن عبد الله القفصي التميمي
قال بعض المؤرخين، كان من أجلّ أهل زمانه. وأفقههم مع أدب بارع، وعقل رصين وصبر، وزهد في كل ما يتنافس فيه من الدنيا، نظّاراً في الفقه، عالماً بأخلاق العلماء، والحديث واللغة. يقول جيد الشعر. روى عن مالك القفصي وغيره. وكان أهل بلده مجمعين على فضله وعلمه. وله كتاب نص فيه أبو عبيد بن سلام على ابن قتيبة. توفي رحمه الله تعالى سنة ست وثلاثين وثلاثمائة.
أبو القاسم عبد الرحمن بن تمام القطان
قال أبو بكر المالكي: كان من أهل الفضل والدين والورع والعبادة والنسك والعلم والعناية والسماع والضبط. سمع من جماعة من أصحاب سحنون. وكان من أقران أبي العرب، وأبي بكر بن اللباد. وسمع منه ربيع القطان وغيره. توفي سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة رحمه الله.
محمد بن عمر الحلاج
أبو عبد الله. قال الخراط: كان رجلاً صالحاً، ثقة حسناً، فقيهاً، حسن الاتباع لأهل المدينة ولإمامهم مالك.(6/25)
سمع ابن سبيل، وموسى القطان، وسعيداً بن حكمون، وأبا الغصن، وابن بسطام، وغيرهم. وكان لا يحدث إلا بما سمع. وعين الإجازة من سماعه، ولم يكن يحسن تقييد الكتب. توفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، رحمه الله تعالى.
محمد بن ابراهيم بن أبي صبيح
قال أبو عبد الله الخراط: كان من أهل الجزيرة، رجلاً فاضلاً، فقيه البدن، له رحلة قديمة. سمع فيها من يونس الصدفي، ومحمد بن عبد الحكم. وسمع من أصحاب سحنون. حدث عنه حبيب الجزري. ولاه حماس قضاء صقلية. فقيل إنه حمل إليها من إفريقية، حتى الملح، تورعاً. وترك النظر بينهم، حتى رفعه زيادة الله، فسجنه. وسجن أيضاً في أيام المشارقة. توفي بسوسة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة رحمه الله تعالى.
موسى بن أحمد الغرابلي السوسي
قال أبو عبيد الله: كان رجلاً صالحاً، فقيهاً، ثقة، ذا ورع وسكينة، مصفرّ اللون، طويل اللحية. سمع من أبي الغصن، ومحمد بن بسطام، ويحيى بن عمر، وعيسى. توفي بسوسة سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.(6/26)
أبو ميسرة
أحمد بن نزار. يكنى أبا جعفر. من الفقهاء العباد، المتبتلين الخائفين الورعين. روى عن حمديس القطان، وأحمد بن أبي سليمان، وفرات بن محمد، وسعيد بن أبي إسحاق، وموسى القطان، وابن حكمون، ومحمد بن عبادة، وأبي الغصن. حدث عنه الليث، والحسن بن سعيد الخراط، وأحمد بن سفيان الدراوردي. قال أبو محمد بن هبة الله: كان أبو ميسرة، من متعبدي شيوخ القيروان، المشهورين بالعبادة منهم. قال أبو عبد الله الخراط: كان رجلاً صالحاً مأموناً ثقة، خيراً فقيهاً حسن الاتباع، لا يخالف في فتواه ابن القاسم، مجانباً لأهل الأهواء، كثير الصلاة والذكر. عرض عليه قضاء إفريقية فامتنع. وكانت كتبه بغير خطه. قليل الضبط، لضعف بصره. وكان علماء وقته: أبو بكر اللباد، وغيره، يعظمونه. وذكر أنه كانت له ختمة كل ليلة في محرابه. وكان قد عمي آخر عمره. فلم يعرف بذلك أحد، حتى اجتمع شيوخ القيروان للخروج مع أبي يزيد، على بني عبيد. فأعلم بعذره. فحينئذ علم عماه وأخرج ابنه معهم، وسُمع، وهو يقول: اللم أدخلني في شفاعة السود. رمي فيهم بحجر. وقيل إنه لم يعرف أنه عمي، حتى اعتذر بذلك إذ طلب للقضاء.(6/27)
جمل من كراماته وبراهينه وإجابته وحكم من كلامه رحمه الله تعالى
ذكر ابن اسماعيل العبيدي وجه في أبي ميسرة، ليوليه قضاء إفريقية بعد فتنة أبي يزيد، فأناه الرسول فقال له: مولاي يقرئك السلام، ويقول لك: لابد أن تلي القضاء رجل أعمى، يبول تحته. ولم يعلم أحد أنه أعمى، إلا ذلك اليوم. فقال: منذ كم عميت؟ قال: منذ ثمان عشرة سنة. ثم قال: اللهم أنك تعلم أني انقطعت إليك، وأنا ابن ثمان عشرة. فلا تمكنهم مني. فما جاء العصر إلا وقد توفي. فغسل، وكفن، وخرج به. فوجه إليه اسماعيل كفناً وطيباً في الأطباق. فرافقه الرسول على النعش. فجعل إليه الكفن من فوقه. وذكر عنه أنه بينما هو يتهجد ليلة من الليالي، ويبكي، ويدعو، إذ بنور عظيم خرج له من حائط المحراب، ووجه كالبدر. فقال له: تأمل من وجهي، يا أبا ميسرة، بأني ربك الأعلى. فبصق في وجهه، وقال له: اذهب يا ملعون. فعليك لعنة الله. قال الإجدابي: اشتهى أبو ميسرة مدة طويلة، فقوصاً. فلما غلبته شهوته، أمر رجلاً فاشتراه له. فأكل منه عند إفطاره، وجلس ساعة. ثم بصق. فوق بصاقه بلحيته. فقال: ما هذا إلا لذنب فعلته.(6/28)
ثم بحث عن الفقوص، فإذا هو من أرض السلطان، فتقيأه، وحلف أن لا يأكل فقوصاً أبداً. قال غيره: وكان بجوار أبي ميسرة أسود ينهب ويسرق، ولا يبالي ما يصنع. فقال له الجيران: ارحل عنا. فشتمهم. فأتوا أبا ميسرة، وسألوه الدعاء عليه. فقال: اللهم إنه عبدك ونحن نخافه، لأنه لا يخافك. فصلّحه. وإن لم يسبق في علمك إصلاحه، فخذه، وأزل عنه حلمك، وفاجئه بسوطك، ونقمتك. فلما أصبح أخرجه الشرطة، وضربوا عنقه. وحمل مرة خبزته الى الفرن، فخرج من الفرن خبز للبيع، فإذا بسائل يسأل، فلم يطعمه أصحاب الخبز شيئاً. فاشترى منها خبزة. ودفعها أبو ميسرة الى السائل. فلما انصرف الى المسجد وقت الصلاة، وجد الخبزة فيه. وقال رجل لأبي ميسرة: ادع الله أن يغنيني عن الهم كله. قال: ما دمت في الدنيا فلابد لك من الهم. وشكا إليه بعض إخوانه، بعد عهده به، فقال: إنما فائدة الاجتماع الدعاء. فإذا ذكرتني، دعوت لي، وإذا ذكرتك دعوت لك. فكأنّا التقينا، ولم نلتق.(6/29)
وقال له رجل: فلانة تقرئك السلام. فقال: لا يبلّغ الرجال عن النساء السلام.
بقية أخباره ووفاته
قال أبو بكر بن سفيان: دخلت إليه، فسألته عن حاله. وكنت لم ألتح. وكان ضعيف البصر فقال: معك أحد. فقلت: لا. فقال: اخرج، فإذا جاء أصحابك، دخلت معهم. قالوا: وأتت إليه امرأة تسأله عن شيء. فقال: ارفعي صوتك. قال: خفت أن تمرض كلامها. وجاز في بعض طريقه الى جبانة. فرأى رجلاً قد مكنته امرأة من نفسها، فقال: لا حول، ولا قوة، إلا بالله. وقصد إليهما. ففرّ الرجل، وقصدت المرأة أبي ميسرة، وتعلقت به، وقالت: يا معاشر المسلمين، هذا راودني عن نفسي. وأبو ميسرة ساكت. فلما رأت حاله، تركته وقالت: لا تغير المنكر إلا ومعك غيرك. فانصرف وهو يقول: لا تكثروا الروايات، فيدخل في فتياكم الذمامات.(6/30)
قال أبو الحسن بن خلاف: كان سبب التزام أبي ميسرة الدار، وشغله بالعلم، والعبادة، أنه قال: رمتني والدتي عند رجل من الرهادنة، ومعه صبيان. فكان يدفع إليهم سلع الناس، يبيعونها، ولا يعطيه هو شيئاً. فسأل بعض جيرانه عن سبب ذلك. فقال: لأنك تستقصي، وهؤلاء يبيعون ذلك منه من تحت يده. فيبيعونه. فتركته، وجلست في البركة. فباعوا رأساً، فشرطوا به عيوبً. فلم يقبله المشتري. فلما كان ذلك آخر النهار، باعوا ذلك من آخر. ولم يبينوا. فقلت لهم، غدوة ذكرتم به عيوباً؟ فقال بعضهم لبعض: من أين جئتم لنا بهذا؟ وتركت البركة. وكنت في باب الغنم، فجاءني يوماً صاحب الموضع، فقال لي: اقرأ ما على فلان. فقلت: كذا. فقال لي: إن قال لك إنما هو كذا. فقلت: بل أقول عليك كذا. فقال: فإن قال لك كذا، بل امرأته طالق، ما عندي إلا كذا. ما تقول له؟ قلت: أقول له ما عندك إلا كذا. وأراد أن أحلف له بمثل ما حلف. فقال: دع الدفتر من يدك. فلزمت الدار.(6/31)
فبلغ أبو ميسرة من العبادة مبلغاً عظيماً. وكان كثير التهجّد، والتلاوة، وقيام الليل، وصيام النهار، متواضعاً. تأكل خادمه معه، على مائدته. وكان إذا أكل، جعل مائدته في السقيف، حذاء الباب. فإذا أتى سائل، فتح الباب وأعطاه، لئلا يقيم الخادم، وهم يأكلون دونها. ولما ولي حماس، منع الناس من النداء في الأسواق، إلا من ثبتت عدالته، إلا أبا ميسرة، لثقته. وكان أبو ميسرة، مهاجراً لحماس، بسبب مسألة الإيمان، لا يسلم عليه، ولا يرد عليه السلام. وكان يقول: تركت السلام عليك لمن هو خير مني. حمديس: أمرني بذلك. وإلا، فرِجل حماس، في الأرض، خير من كذا وكذا من أبي ميسرة. وجرى بينه بسببها وبين أبي الفضل الممسي، مهاجرة عظيمة، ذكرناها في خبره. وكان أبو محمد يتعصب للممسي، ويثني عليه، ويقول: ما كان أبو ميسرة، ممن يتخذ إماماً، في دين الله. واحتج القابسي بمسألة من هذا الباب. فقال له أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى: لو سمعك أبو ميسرة؟ فقال أبو الحسن: إنما حكيت قول غيري. وتوفي سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة.(6/32)
عبد الله بن إسحاق البرقي
أبو محمد. قال ابن حارث: كان من أهل الفقه والأدب. له مناظرة حسنة، وحفظ جيد. من أصحاب أحمد بن محمد بن نصر. غلب عليه آخراً، الورع والزهد. ومات مرابطاً بسوسة من رعدة قاصفة سمعها. وقد أغفى فزهقت لها نفسه. وكان اشرب قلبه الخوف، للبكاء. ولسانه لتعظيم الله وتحميده، والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم. وبدني للتراب والبلاء، وقلبي للخوف والرجاء. ولم أخلق للّعب والهوى. وإنما خلقت للعمل الصالح. وكان يختم القرآن في كل يوم ختمة. وينظر، ويعتبر بالجنة في منامه. وتوفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة. فيما حكاه المالكي. سنة عشر ولم يدرك أعمار طبقته. رحمه الله تعالى.
أبو علي، تميم بن أحمد رحمه الله تعالى
كان يعرف بابن السّامة. كان حامل علم كثير، مائلاً الى الحجة والانتصار لمذهب مالك، رضي الله تعالى عنه. توفي سنة سبع وخمسين وثلاثمائة.(6/33)
أبو بكر عتيق ابن أبي صبيح الجزري
وكان فقيهاً، مفتي أهل الجزيرة بإفريقية. كان صاحباً لأبي العباس الإبياني، في قراءة له ممن طلب معه. فبلغ أمره بني عبيد، فرفعه مع أبيه محمد، وطلبهما بالدخول في دعوتهم. ويليا قضاء صقلية. فأبيا فعذبوهما عذاباً شديداً. وفرقوا بينهما. ويقولون لكل واحد عن الآخر، إنه دخل في دعوتهم، فيقول كل واحد عن الآخر: دعه يفعل ما أحب. لن يغني عني من الله شيئاً.
أبو علي الحسن بن نصر السّوسي
مولى امرأة من أهل قسطلية. ومنها أصله. ثم انتقل الى سوسة. سمع بإفريقية من المغامي. ويحيى بن عمر، وخالد بن نصر، وأحمد بن يزيد، وزيد بن خالد، وأحمد بن ملوك، وعبد الرحمن الورقة. وزيدان بن اسماعيل. وأحمد بن أبي سليمان، وأبي الغصن وغيرهم. وعزم على الرحلة الى محمد بن عبد الحكم. بلغه وفاته. فقال: ما اغتممت لشيء مثل غمي لذلك. وسمع من علي بن عبد العزيز، وهشام بن عمر، وأبي بكر بن المنذر، والوليد بن عمر وابن بشير، وابن جناح. أخذ عنه عمر بن محمد، وأحمد بن سلمون وغيرهما.(6/34)
ذكر محنته وثناء أهل الجلة عليه، وشمائله
قال الخراط: كان شيخاً صالحاً، فاضلاً، ثقة ورعاً، زاهداً فقيهاً، عدلاً في أحكامه، صادقاً في الحق، لا يهاب سلطاناً، مشهوراً بالعلم، صحيح الكتب. قال أبو عبد الله الخراط: وكان مع ذلك كثير الاجتهاد في العبادة، على قيام الليل، وصيام النهار، وتلاوة كتاب الله تعالى. كثير الخشوع، والتواضع. وكان أبو الفضل الممسي، يشرّف قدر الحسن بن نصر بسوسة، وحمود بن سهلون بالساحل، وحمود بقابس: قال الزويلي: كان طويل الصلاة. لا تذكر الدنيا في مجلسه. أقام فوق أربعين سنة، إذا دخل شهر رمضان، لم يكلم أحداً من الناس، ولا أهلاً ولا ولداً. فإذا أراد حاجة، كتب بها. وكان زاهداً في الدنيا. راغباً في الآخرة. حكت عنه زوجته، وكانت امرأة صالحة: أنه كان يختم في رمضان كل ليلة ختمة. حتى كانت رجلاه تتورم من القيام، وتتفطر بالماء الأصفر، وكان إذا جاء الليل، وحضر وقت القيام، أقام جميع من عنده الى بيوتهم، وأخرج(6/35)
عنه السراج، فإذا هدأ أهل الدار، سمعت قراءته الى الصبح، فيصليه بوضوء قيامه في مسجده. ثم يدخل داره، فلا يزال في تسبيح، وذكر الى طلوع الشمس، فيدخل إليه الناس يأخذون عليه، الى ارتفاع النهار. فيركع الضحى، ويضطجع الى الهاجرة. هذا دأبه. وكان يتورع أن يقبل من أحد شيئاً. وحكى أن ابنه محمد، قال في سنة غلا فيها السعر بسوسة: اشترِ يا أبتِ طعاماً. فإني أرى السعر قد غلا. فقال له: ادع بحِسانَ خادمه. فقال لها: إكتالي ما عندنا من القمح. فقالت له: ثمانون. فقال لها: امضي بها الى السوق، لفلان يبيعه. ثم قال لابنه: يا محمد لست من المتوكلين على الله. وأنت قليل اليقين. كان القمح إذا كان عند أبيك ينجيك من قضاء الله تعالى عليك. من توكل على الله كفاه. وكان يلبس جبة صوف. فإذا اتّسخ صدرها رده الى ظهره. وأخذ ظهره الى صدره. ويجعل على صدره مرقعة، أهله، وهي خرقة لطيفة. وكان يلبس فرواً، وقلنسوة، منه. ولما وصل اسماعيل الى سوسة، وجه جوهراً فتاه إليه، بالليل، ليأتيه به. فجاءه(6/36)
وهو في ورده فخرج ابنه إليه، ورجع الى الشيخ وأعلمه بمكان جوهر، فلم يلتفت إليه، حتى قضى ورده. وقد اعتذر ابنه إليه. فقال لا أبرح حتى أراه. وجوهر في هذا كله واقف على الباب. وقد فرق من ذلك، كل من بالجهة. فلما أحلّ انتهر ابنه. وقال له: أكون بين يدي الله، وتقول جوهر بالباب. وقام يخرج إليه. فجاءه ابنه بقميصه، ومنديله. وكان عليه فرو مغلوف. وقال له: إلبس هذا، يرهم عليك. فقال له: ما أقل حياءك، أكون بين يدي الله في هذه الحال، وأتهيب لجوهر. فخرج الى جوهر، واعتذر له باعتذار، حتى قال له جوهر: أنا أجتمع بمولاي، وأعتذر له عنك. فمضى. فرجع إليه في الحين، وأخبره بقبوله عذره، ومشقة عدم اجتماعه به عليه، وأنه يقرؤه السلام ويسأله الدعاء. فقال له: قل له: أحياك الله للمسائل، وأصلح جميع صفاتك. قال: وجاء جوهر بمال كثير من عند اسماعيل، ليفرقه على الفقراء، فلم يقبله، ورجع به جوهر.
ذكر سيرته في أحكامه رحمه الله تعالى
كان قد ولي أحكام سوسة، لحماس بن مروان، أيام زيادة الله. وعرض عليه(6/37)
بنو عبيد قضاءها. ورجع الى القيروان، فامتنع. ولم يلبث إلا يسيراً، حتى مات. فذكر أنه دعا على نفسه، ولم يأخذ إذ كان حاكماً لحماس أجراً، ولا صلة. وسار في ولايته بالعدل. وكان فقيهاً صليباً، مغيراً للمناكير، لا يهاب في إقامة الحق سلطاناً، ولا غيره. وكان يتسمى بالحكم. وكان إذا وردت عليه الكتب من السلطان، في أمر يخوف أصحابه، الى نفسه، وقرأ عليهم الكتاب، واستشارهم. فإن اتفقوا على شيء خاطب به السلطان، وإن اختلفوا، قال لكل واحد: اكتب ما رأيت، بخطك. ثم ينظر ما كتبوه. فيكتب ما يختار منه. وأسقط شهادة رجل كان ينزل من حانوته، فينصرف متزراً بميزر، عاري البدن. وقال له: أسقطت مروءتك، وهمتك. وكان يأمر من يمشي على شاطئ البحر، والمواضع الخالية، فإن وجدوا رجلاً مع غلام حدث، أتوا بهما إليه. فإن لم تقم بينة، أنه ابنه أو أخوه، عاقبه. وكان يجلس أيام مراسم الرباط، من حيث يتشرف لاطلاع مثل هذا.(6/38)
وبلغه أن رجلاً جاء ابنته بمزهر لطيف، تلعب به. فمزقه، وزجره. وكان لا يضمن صاحب الحمام بسوسة، ما تلف عنده، وإلزامه الثمن، على مشهور النص. فكثر مشتكوه. فحكم عليه بالضمان. لما حدث به يحيى بن عمر، عن الحارث، عن ابن وهب، عن مالك في تضمين صاحب الحمام. قال: فما اشتكى رليه أحد بعد. وكتب إليه حماس، في أمر نظر فيه الحسن بن نصر، أن يلتزم فيه الرفق والتؤدة والمداراة. فكتب إليه الحسن: بالتشديد في إقامته. وكان عنوان الكتاب: من الحاكم ابن نصر. فلما رأى حماس الكتاب، رمى به، وقال: من الحاكم؟ وكأنه عزّ عليه ذلك. وكان حماس لا يكتب، من القاضي، إلا في الأحكام. ثم نظر في الكتاب، ورأى فيه من صرامته في الحق، ما أعجبه. وكان فيه: قد أنفذت الحق كما يجب، وما كان لله، فلا مراء فيه. فسكن عنه ما كان به، ثم قال: نعم، يا أبا علي، من الحاكم. وإن شئت أكتب: من القاضي. فإنك أهل لذلك. والله أعلم.(6/39)
ذكر وفاته
توفي رحمه الله تعالى، فيما حكاه أبو بكر المالكي: في صفر سنة إحدى وأربعين، وقد جاوز السبعين. وخرج الناس من القيروان وغيرها، الى جنازته بسوسة. قال ابنه: قال لي أبي ليلة من الليالي، في مرضه الذي توفي فيه: وا بني، اربط لي حبلاً في السقف، لعلي أقدر أصلي قائماً. ففعلت. وحملناه حتى وقف. وغلب، ولم يستطع القيام. فبكى، وقال: وا حزناه. حيل بيني وبين طاعة ربي. فذكرت له الصلاة جالساً. فقال: يا بني، العمر قصير، والعمل قليل. وإنما أردت أن أعمل أكثر مما عملت. ولما أطال به المرض قال لزوجته: قد توليت مني خيراً. فاصبري. فما أشك أن أجلي قد اقترب. فإني سمعت هاتفاً من هذا الطاق يقول: أحسن غداً صلاة الظهر، يفرج عنك. فمات ذلك الوقت.
الشيخ أبو الحسن الكانشي رحمه الله تعالى
هو حسن بن محمد بن حسن الخولاني. قال أبو عبد الله الخراط، وأبو(6/40)
بكر المالكي، وبعضهم يزيد على بعض: كان رجلاً صالحاً فاضلاً فقيهاً مشهوراً بالعلم متعبداً مجتهداً ورعاً خائفاً رقيق القلب كثير النياحة والبكاء، سمعاً كثير المعروف، باع ضياعه كلها وتصدق بها، وكان صارماً في مذهبه مجانباً لأهل الأهواء. ومن يخالف مذهب أهل المدينة. وكان أبو العباس الإبياني، إذا ذكره يقول: ذلك العالم حقاً. قال أبو بكر بن خلف: كان من العالمين بالله، وبأمره. سكن المنستير، سمع من عيسى بن مسكين، ويحيى بن عمر، وأحمد بن يزيد، وأبي إسحاق بن شعبان، وكان يحسن العربية والنحو واللغة، وشعر العرب، واعتماده في روايته على عيسى بن مسكين. وكان أجمع على فضله المؤلف والمخالف. سمع منه أبو الحسن القابسي. وأبو القاسم بن شبْلون، وأبو الحسن اللواتي. وأبو الحسن القمودي علي القمودي. وأبو عبد الله بن نصيب، وجماعة الناس. ورحل إليه من الآفاق والله أعلم.
ذكر فضائل رحمه الله تعالى وزهده والثناء عليه
قال أبو عبد الله الخراط: قد تورع عن الحرث في أرض الغير بكفايته من غيرها. قال أبو بكر بن خلف: أُخبرت أنه كان لا يهدأ ولا ينام الليل أجمع، يقرأ القرآن ويبكي. ذا خوف وإشفاق.(6/41)
حكى الشيخ أبو الحسن القابسي: إن بعض سكان القصر، الذي كان يسكن فيه الكانشي قام فسمعه يقرأ في سبحان. فلما كان آخر الليل وجده قد ختم، ثم أخذ في النّياحة والبكاء. ثم قال:
أتراك بعد الدرس للقرآن تحرقني ... يا ليتني أدرجت قبل الذنب في الكفن
ثم عاد الى النياحة، والبكاء حتى طلع الفجر. ثم أقبل يقول وعزّتك وجلالك، ما عصيتك استخفافاً بحقك، ولا جحوداً لربوبيتك. لكني حضرني جهلي، وغاب عني علمي، واستفزّني عدوي، وإني عليها يا إلهي لنادم. قال القابسي: ما رأيت أخير من أبي الحسن. وكان أكثر ما يقطع ليلته بتلاوة القرآن والنياحة والبكاء. ولقد غلب عليه الحزن حتى صار ضحكه كالبكاء. وكان قد ورث من أبيه مالاً وضيعة، وتبرأ من جميع ذلك، وتصدّق به. فقيل له في ذلك. فقال: حضرت معه وأنا صبي، ومعه شيوخ المنزل، فكتبوا أسماءهم في شقافٍ لضيافة الأعوان. وأخذ أبي شقفة. وقال للأعوان: هذا اسم فلان وضيافتكم اليوم عليه. فلم تطب نفسي، أن آكل من ميراثه حبة. وكان يقول إذا تكلم على مسألة من العلم: لو أدركني عيسى بن مسكين ما رضي مني بالسجن، حتى يقيّدني. وسأله رجل عن مسألة من الفقه، فقال: امضِ بها الى الفقهاء. فاسألهم،(6/42)
فلما خرج الرجل قال: ردوه. والله الذي لا إله إلا هو، لولا آية من كتاب الله تعالى، ما أجبتك، ثم أجابه. وكان إذا أعجبه شيء من أحوال بعض من يصحبه، قال له: والله لأسُرّنك في نفسك، فيقال له بماذا؟ فيقول: بحسن الثناء عليه، فقيل له: فأين الحديث، احثوا التراب في وجوه المدّاحين. فقال: قد قال ابن عباس: إنما ذلك، إذا مدح الرجل في وجهه، بما ليس فيه، وإلا فواجب مدح الرجل في وجهه، بما يجري من حسن أفعاله. وأتاه رجل ممن يلوذ بالسلطان، فلما رآه لفّ رأسه في تأزيره، واضطجع الى الأرض، فوقف عند رأسه، فسلم عليه، فلم يرد عليه السلام. فقال أيها الشيخ: والله الذي لا إله إلا هو ما أعتقد إلا ما تعتقد. وما دخلت في هذه الدعوة. فأزال عن بعض وجهه، وقال: الآن رق لك قلبي. ويذكر أنه كان يضرب الطوب بيده، ويعده لغيره. فكان يسأل فيه، ويعطيه. فكثر عليه هذا، فبنى طوباً وبنى منه في بيته، كالحدود.(6/43)
وكان يقيم بيته بالتبن، وينام فيه. فأتاه بنو أبي الحسن، فلما أخبر بهم، دخل الحدود وتغطى بعباءته. فدخل القوم فسلموا عليه، وسألوا عنه، فأشار خدامه، الى أنه راقد. فقال: سبحان الله، تكذب منظر القوم - لكراهته لقاءهم - فتقدموا إليه، وقالوا: والله ما نحن إلا على الإسلام والسنة. وما تقربنا من السلطان، إلا لنرفع عن أنفسنا الظلم. فكشف عن وجهه وقال: الآن، لان لكم قلبي. ودعا لهم. وذكر أنه أخرج كتبه يوماً بحضرة الناس، وجلس في وسطها، ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني جمعتها ليؤتى الى هذا الوجه القبيح في مسألة فأحرقني بالنار. ولما مات لم يوجد له إلا دينار ونصف، كفّن به. ولم يكن في بيته حصير. قيل له في ذلك. قال: أنا اليوم في البيت وغداً في القبر. وجردته العرب في طريق الحج، فأعروه. فدفع إليه جمّال، معلف جمل فاستتر به. فلما اشتد عليه الحر، رفع رأسه، ونادى بصوت، وقال:(6/44)
أحببت نجواهم ثم بلوتهم ... فأكثرتَ بلواهم كي يتضرعوا
وإذا دعوك رفعت نحو دعائهم ... حجباً لعزّك دائماً لا تدفع
براهينه وفراسته رحمه الله تعالى
قال أبو محمد الصدفي: صلينا يوماً بقصر داود، صلاة العصر، مع أبي الحسن. فلما سلم الإمام من الصلاة، قال الشيخ: وحق هذه القبلة، ما طابت نفسي على هذه الصلاة. وأنا أعيدها. فأعادها. وكان الإمام يومئذ رجلاً صالحاً. فلما خرج الناس، سألنا، فإذا الإمام قد تخلف، وقدموا غيره، وإذا المتقدم من أصحاب الشيعي. وكان لبعض أصحابه، ولد يقرأ عليه، ثم انقبض عنه الشيخ وقطعه، فقيل له في ذلك فقال: رأيت عليه خشوع النفاق، فلما رجع الشيخ الى القيروان، ندب الى حكومة بلده، فلم يولّه النعمان، حتى أدخله الدعوة. وكان يقول للشاب يختلف إليه: كم تلح، والله لا أفلحت أبداً، ولا أفتيت بمسألة أبداً. فكان كما قال. وأتى إليه رجل من طلبة العلم بالقيروان - وكان وعدهم السماع - من أهل القيروان، فاختفى الشيخ منهم.(6/45)
قال الحاكمي: فعجبت من خلفه لهم. وكان قد سألني أن لا أدلهم عليه. فما سارت أيام حتى سرق أحدهم، واعتزل الآخر. قال: ألا اجتمعت عندي، دراهم. فقلت: ارمها. فأنا نائم، رأيت أبا الحسن فقال لي: يا خلف أبت الحكمة أن تنطق على لسان من يأكل، حتى يشبع. ومن يحب الدراهم. فزرته، فجاءتني. ثم قال لي: يا خلف أبت الحكمة - نص ما قاله في النوم - فعجبت من ذلك. وسأله رجل عن كرامة الأولياء، فقال: صحاح. فكرر عليه، فقال: صحاح. حتى أن الرجل يدخل يده في القلة. فيخرج منها حوتاً. وقال آخر: كانت لي امرأة فأقعِدَت. فسألتني أن أسأل لها الكانشي في الدعاء. فطلبته فلم أجده. فطلبت أبا أحمد الطرابلسي المتعبّد. فسألته عنه. فأشار لي: أي أنه تحت جُرف يصلي، على البحر. ثم سألني. فأخبرته بخبر المرأة، فقال لي: فرج الله عنها، وأتاها بالفرج من حيث لا تدري ولا تظن. فصرت الى الكانشي. فوجدته يصلي. وذلك ضحوة فطول الصلاة الى الظهر، فجاذبته، وقلت حانت صلاة الظهر، فأوجز. فلما سلم قال لي: الأمر الذي جئت به قضي، في ذمام الطرابلسي.(6/46)
فقلت: وما هو. قال: خبر المرأة، ولقيتَ الطرابلسي، فدعا لها. قلت: نعم. قال قد عوفيت في ذمام الطرابلسي. فجئت زوجتي، فوجدتها قائمة تصلي، فعجبت من الأمر. فلقيته فسألته عن الأمر. فقال: نور يجعله الله في القلوب، فينطق من يشاء، بما يشاء.
ذكر كرمه وجوده
قال أبو بكر: كان لأبي الحسن رباع نفيسة، بكانش. وغيرها. باعها كلها وتصدّق بثمنها على الفقراء. قال القابسي: كان له خمس سوان، باعها. واحدة واحدة. وما باع منها واحدة، بأقل من خمسين ديناراً أو ماية، وأنفقها على المساكين. وكان يعطي منها الخمسة والعشرة والخمسة عشر، وأقل ما كان يعطي، ديناراً، ويقول: يا أخي يجيء رجل الى آخر يسأله ما يسد به حاله، فيعطيه قيراطاً. أعوذ بالله من دناءة الأمور.(6/47)
قال: وكانت بقيت له سانية. فمنعه من ذلك ابن أخيه. فأمر بعض أصحابه، فكتب الى النعمان: يا نعمان أنا حسن بن محمد الخولاني. لي سانية. وقد منعني ابن أخي من بيعها. ومنع المشترين من تقليبها. وحجته في ذلك، أني إذا متّ لم يجد ما يرث. وهذا ليس هو له. وإني أولى بمتاعي، من ولدي وغيره، لو كانوا، فأدفعه عني، أو نحو هذا. ووجه به إليه. فأخذ أصحابه الكتاب، وزادوا في أوله: بسم الله الرحمن الرحيم. وأسقطوا: يا نعمان. فلما وصلوا إليه، نظر في الأمر، فباعها أبو الحسن، وتصدّق بثمنها. وذكر بعضهم، قال: كنا نسمع عليه. ومعنا أبو القاسم بن شبلون، فأتاه رجل، فسأله عن حاله، وعن دابته. فأخبره بموت دابته. فتوجع وقال: من حضرته منكم نية، فليعطه، فهو أهل لذلك، فدفع إليه ابن شبلون قطاعاً، فلما نهض الرجل، للقيام. قال له أبو الحسن: أرني ما أعطاك؟ فإذا دراهم يسيرة. فقال: ردها عليه. وقام فأتى بخمسة دنانير. ودفعها إليه. وقال: اشترِ بها دابة. تعول بها على بناتك. وأتاه بعض أصحابه، يودعه. وهو يريد الحج، وهو جالس بين الناس. فأعطاه(6/48)
أبو الحسن مفتاح بيته. وقال له أدخل البيت. فخذ الروحلة المعلقة. ففيها خبز وتين يابس. قال: ففعل. وأصحاب فيها مع ذلك صرة، من تسعة دنانير، فأتى بها إليه، فأخبره. فقال: أسكت لئلا تُسمع. ثم قال له: سرْ أتراني إني لا أعلم ما فيها. استعن بها في سفرك. وأخبار أبي الحسن في هذا كثيرة. ومن حكم كلامه ومناجاته، قوله: أرني من قصده فخيّبه، أرني من توكل عليه فأضاعه، أرني من أطاعه فأضاعه. إذاً لا تراه أبداً، وكان يقول: هانوا عليك فعصوك، ولو أحببتَهم لحميتهم. وكان ينشد:
يا رب كن لي ولياً ... بالصّنع حتى أطيعك
لئن ذممت صنيعي ... لقد حمدت صنيعك
إن كنت أعصيك إني ... أحب فيك مُطيعك
ذكر وفاته رحمه الله تعالى
توفي سنة سبع وأربعين وثلاثمائة. وهو ابن تسع وتسعين سنة. وقيل ابن ثمان وثمانين سنة. ودفن بالمنستير. وأوصى أن يكفن في ثلاثة أثواب. يدرج فيها، إدراجاً.(6/49)
وسمع وهو يقرأ عند خروج نفسه: إن المتقين في جناتٍ ونهر. وسمع في نزعه، يقول: لا. يا عدوّ الله، حتى يردوا الرداء. فقيل له: ما هذا؟ قال: إبليس عند رأسي، يقول نجوت مني.
عمر بن عبد الله بن يزيد، المعروف بابن الإمام الصوفي
أبو حفص. قال المالكي: كان ممن طلب العلم، وتفقه، وسمع من أحمد بن أبي سليمان وغيره. ثم اعتزل الناس. ولزم العبادة والتبتل. وقيام الليل. وكانت له في كل ليلة ختمة. ثم زاد فهمه. فكان لا يكاد يبلغ النصف حتى يصبح. قال أبو الحسن الزعفراني: كنت إذا رأيت أبا حفص علمت أنه من أهل الليل. قال أبو علي الورّاق: وكان أبو حفص من أهل العلم والورع، لا ينام إلا مغلوباً. لم يكن في وقته مثله. فلما دخل بنو عبيد فرّ. فسكن المنستير. ولم يتخذ فيها بيتاً، مدة، وإنما كان يدفع كساه. عند رجل من سكان القصر. ولما اشتهر أمره، كان إذا تكاثر الناس بالقصر في الموسم، خرج الى سوسة. وكانت له بها زوجة. فيقيم بها. ويلبس ثياباً حساناً. ويتزيّا بزي التجار، ويتعمم، ويمشي بين الناس، ويخفي بذلك نفسه. فلا يعرفه أحد بذلك الزي. فيطلبه الناس تبرّكاً(6/50)
بدعائه، فلا يجدونه، وهو بينهم بسوسة، ولا يعرفون أنه ذلك. فإذا انقضت أيام الموسم، رجع الى زيّه ومكانه. وكان مجاب الدعوة، ورأى ليلة القدر. قال بعضهم، قال وظهر لي إبليس. كم بالله، بالله. وكم بهذا الجد، والاجتهاد. فقلت له: أتراك يا عدو الله، ناجياً من عذاب الله. إذا عذبت أنا، فانخسى مني. قال المالكي: كان ممن حفظ العلم وعني به، ثم تركه. وقال: إنما تركته لله. لأن أهله أدخلوا فيه ما ليس فيه. توفي رحمه الله تعالى، سنة خمسين وثلاثمائة. ويقال اثنتين وخمسين. وقيل سنة سبع وأربعين. وذكر أنه لما احتضر دعا بشرابه فأتي به. فقال: قد سقيت، وسقيت. وأرويت. ثم أومأ بيده، الى السلام. فقلنا: رأيت الملائكة؟ قال: رأيت. وجعل يومئ بيده، حتى قبضت نفسه. قال بعضهم: لما حضرته الوفاة، قال: قد بُشِّرت. قلت: بماذا؟(6/51)
قال: أما تقرأ: " يبشّرُهم ربُّهم برحمةٍ منه " الآية.
سحنون بن أحمد
التنوخي. تقدم ذكر أبيه. من أهل قسطلية، وعلمائها. سمع من أبيه، وحدث عنه أبو محمد بن أبي زيد، رحمه الله تعالى، وأبو محمد بن هاشم وجماعة. وكان أبو الفضل الممسي يقول: إنما في نواحي إفريقية، أربعة رجال، أحدهم سحنون هذا، بقسطلية. وذكر من فضله وورعه. قال أبو بكر المالكي: كان شيخاً صالحاً، فاضلاً، فقيهاً، ورعاً، مشهوراً. وكان صعباً في الإجازة. توفي سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة.
عبد الله بن حمود
السلمي. المعروف بابن الحفنة السوسي. قال أبو بكر المالكي: كان رجلاً صالحاً فقيهاً، واسع الرواية. سمع من جماعة من الفقهاء والمحدثين. عالماً بالوثائق، والفقه. سمع من عيسى بن مسكين كثيراً - وهو آخر من سمع منه موتاً من الفقهاء - وسمع من أخيه محمد، وسعيد بن إسحاق، وفرات بن محمد العنبري، وحماس بن مروان. وكان(6/52)
فقيه البلد، حافظاً للمسائل، مشهوراً بذلك. وكان فقهاء سوسة، إذا ورد عليهم أحد من حفاظ القيروان قدموه لمذاكرته. لكنه قليل الضبط لكتبه، يؤثر عنه تصحيف قبيح. حدث عنه عمرون بن محمد، وأبو الحسن اللواتي، وابراهيم بن أحمد الساقي. قال أبو القاسم بن محمد الفقيه: كان عبد الله بن حمود فقيهاً حافظاً، وكان يفتي في كفارة اليمين، بمدّ ونصف قمحاً وثلاثة أمداد شعير، لكل مسكين، على رواية ابن وهب. فذكر ذلك لأبي محمد بن أبي زيد، رحمه الله تعالى، فاستنكره. قال عبد الله: وسألت عيسى بن مسكين، سماع كتب ابن الماجشون، فحلف أن لا يسمعنيها. فقلت: وأنا لا أزال من همي حتى أسمعها. فلما رأى عزمي، أخرج طعاماً، فكفّر عن يمينه، وأسمعنيها. وكان عيسى يرويها عن ابن الموّاز عن عبد الملك. وتولى أحباس سوسة، فصرفها في مواضعها، ولم يتلبس منها بشيء. وانكسر عليه من جملة الكراء، مالٌ، فأدى ذلك من ماله، ولم يضطرّ المساكين الى الغرم، رأفة منه بهم. وكان صاحب تاريخ، وعلم بالخبر.(6/53)
توفي سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، وهو ابن تسعين سنة. وهو حادّ الذهن. ورثاه بعضهم برثاء منه:
وكان يؤرخ علم القرون ... فها هو اليوم قد أُرّخا
أبو إسحاق ابراهيم بن أحمد السبائي
قال أبو عبد الله الخراط: كان من أولياء الله المعدودين، الذين ينزل بدعائهم القطر، وتظهر بهم البراهين. قال أبو عبد الله الإجدابي: كان أبو إسحاق من العلم بالله وأمره في خطة، ما انتهى إليها أحد من أهل وقته، حتى لقد كان من بالقيروان من أهل العلم والدين، إنما ينظرون إليه، إذا نزلت الحوادث والمعضلات. فإن أغلق بابه، فعلوا مثله. وإن فتح، فعلوا مثله. وإن تكلم، تكلموا بمثله. لتقدمه عندهم، ومكانه من العقل والعلم، والمعرفة بصحة الوقت، وكيف تلقى الحوادث. صحب أبا جعفر أحمد بن نصر، وأبا البشر مطر بن يسار، وأبا جعفر القصري، وغيرهم من أهل العلم. وأخذ عنهم علماً كثيراً. وصحب جماعة من المتعبدين. وكان شديد الأخذ على نفسه. شديد الورع. وكان أحد من عقد الخروج على بني عبيد.(6/54)
قال: وبلغني عن بعض العلماء، أنه كان يقول: بالقيروان رجلان، يدعى كل واحد منهما باسم صاحبه، وهما: أبو الحسن الدباغ، وأبو إسحاق السبائي. يقال للدباغ عالم وأولى أن يسمى عابداً. والسبائي يسمى عابداً، وأولى أن يسمى عالماً، لأنه كان يروي العلم ويعرفه ويتذاكر العلماء بحضرته وفي مجلسه، وهم: أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى وهو الملقي عليهم، وأبو القاسم بن شبلون، والقابسي، وسعيد بن ابراهيم، وغيرهم. وكل من يعرف مسألة كان يحضر مجلسه. فإذا تنازعوا فصل بينهم، بأمر يرجعون إليه كلهم فيه. ويستشيرونه في جميع أمورهم. فكان موفقاً في كل ما يشير عليهم. فيه أبو محمد بن أبي يزيد، رحمه الله تعالى، يقول: ما هذا الذي نحن فيه، إلا من بركته ودعائه. قال أبو الحسن: ما انتفعت إلا بدعائه. فإنه قال لي أعلى الله قدرك في الدنيا والآخرة. وكان أبو جعفر أحمد بن نصر الفقيه يقول: لا تعارضوا أبا إسحاق، فإنه لو وزن إيمانه بإيمان أهل الغرب، لرجحه. وسأل رجل أبا محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى، فقال: هل تعلم أحداً في أقطار الأرض يشبه أبا إسحاق؟ قال: أما في إيمانه فما علمت - يعني في وقته.(6/55)
قال القابسي: وصلت وفاة السبائي الى مصر، في تسعة عشر يوماً، لجلاته في قلوب الناس. وكان لموته بمصر وصية في قلوب الناس من أهل العلم. وكان الثعالبي بمصر يقول: إذا أكربني أمر فذكرت أن السبائي يدعو لي، يفرَّج عني. قال المالكي: كان رجلاً صالحاً فاضلاً مشهوراً بالعبادة والاجتهاد، كثير الورع وقافاً عن الشبهات، رقيق القلب، غزير الدمعة، متواضعاً، مجاب الدعوة، حسن الأخلاق، حميد الأدب، طلق الوجه، مجافياً لأهل البدع، شديد الغلظة عليهم، قليل المداراة لهم. قال ابن سعدون: كان من المتعبدين المتقدمين في العبادة، موصوفاً بالعقل والعلم. وكان مما شغل به نفسه، ذكر فضل الصحابة والثناء عليهم، لانتشار أمر المشارقة، فما كان أحد يذكر الصحابة إلا في داره. وكان يقول: رأيت عمر بن الخطاب في المنام فأمّنني.
ذكر بدايته وعبادته وشمائله
قال: وكان أبو إسحاق في ابتداء أمره، ولزومه العبادة، كثير الانزواء عن الناس. وكان مروان بن منصور الزاهد، مشهوراً. فكان الاختلاف إليه، الى أن مات. فانكشف أبو إسحاق. قال بعضهم: كان يخلو في مسجد أبي الحكم عشرين سنة، يخلو فيه بالعبادة، قبل أن يعرف. ولزم من سنة وثلاثمائة.(6/56)
قال الخراط: ما علمت أنه خرج من باب داره، منصرفاً من أيام أبي يزيد، حتى توفي. ولما أخبر بموت مروان، استرجع، وقال: كشفني. وكان يقول: لو علمت أن الأمر ينتهي الى هذا - يعني لما انخرق عليه من أمر الناس - ما كان إلا الأمر الأول. - يعني البعد منهم - وكان يقول: إذا كان هكذا، فمتى يعمل الإنسان؟ ويقول: هذا أمر قد نزل - يعني اختلاف الناس إليه - لا يزيله إلا الموت. قال: فلما اشتد أمر بني عبيد، وفتح دعاتهم أبوابهم، ودعوا الى كفرهم، قال أبو إسحاق لأصحابه: افتحوا باب داري، نأخذ في ذمهم، والتحذير منهم. وكان في ابتداء أمره، وانفراده، يقتات بعمل القصارة. يقصرها على بئر في داره. قال: وكان الرزق أبطأ علي مرة. فقالت لي نفسي: تعرّض للرزق. فخرجت، فسمعت معلماً يقرئ صبياناً هذه الآية: " ولقد خلقنا فوقَكم سبعَ طرائِقَ وما كنّا عنِ الخلقِ غافلين ". فانتبهت من ذلك ورجعت الى بيتي، فجلست. فدخل علي في ذلك رجل من إخواني. فدفع إلي ديناراً سلفاً. فأخذته، واشتريت أبداناً. وكنت أقصّرها في داري، فأربح في البدن قيراطاً، ونحوه، يقام لي من ذلك معاش.(6/57)
وكان إذا دخل في الصلاة، لم يكن قلبه إلا فيها. فربما يدخل من يدخل من أصحابه، فلا يعلم بدخولهم، لشغله بالصلاة. وكان إذا أراد أن يتوضأ، يتلو قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا قُمتُم الى الصلاة " الآية. ثم يقول: نعم يا رب، ويكررها، ذلك. ثم يغسل أعضاءه تحت خوف عظيم، ووله، حتى يفرغ من وضوئه. قال خديمه أبو سعيد القلال: قال لي الشيخ: افْلِ كسائي. فلم أجد فيه غير برغوث واحد ميت. فذكرت ذلك له. فقال: ما مكنّاهم، قال ابن سعدون: وكان خبز السبائي السميد. فقيل له في ذلك. فقال: والله لو قدرت على الجوهر، وعلمت أنه يزيدني في عقلي، لسحقته وأكلته. فإني لا أجد نفسي تصلح إلا إذا أكلت طيباً.
ذكر ورعه وحمايته من الشبهات، وبراهينه في ذلك
كان أبو إسحاق لا يأكل إلا ما علم طيبه. وطيب أصله. وتصرف المواريث فيه، وانتقال أملاكه على ما يجب. وأن أهله كانوا يزكونه. وذكر الأجدابي، أنه كلف شيخاً معروفاً بالثقة، أن يشتري له قميصاً، بسبعة دراهم. وأتاه به. فلما لبسه أبو إسحاق، وجده على جسده كالشرك. فنزعه الى أن جاء الشيخ، فقال: يا أخي من أين هذا القميص؟ وأخبره بشأنه.(6/58)
فقال له: يبدل إن شاء الله. فتحدث من بائعه منه. وكان ثقة. فقال: باعته منه امرأة. فجعلوا عليها العيون، فسألوها فقالت أخذته من دار أبي العباس الصيف. فانكشف الأمر، وحمى الله أبا إسحاق. قال أبو عبد الله بن هبة الله: ذبح لأبي إسحاق كبش في عيد الأضحى. فشوي له من زيادة كبده. فدخل البيت ليأكل. فخرج وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. فقال له خادمه: ما لك؟ قال: لما مضغت لقمة، أحسست كأن الشوك في حلقي. فما قصة هذه الشاة؟ فقال له خادمه: والله ما جئت بها إلا ممن أرسلتني إليه. فقال له: فهل جرى عليك في الطريق شيء. قال: لا. إلا ذود غنم. فرّت الشاة مني، ودخلت في الغنم. فأخرج الراعي منها شاة. فقال لي هذه شاتك. فاستقصى عن ذلك، فإذا هي، قد أبدلت بغيرها. قال أبو سعيد القلال: كان عندي زوج حمام، فأخرجوا فراخاً، فسمن منها زوج. حتى كان كالزبدة. ومضيت بها الى أبي إسحاق، فقبلهما. ثم قال: خذهما يا أبا سعيد. ما طابت نفسي عليهما.(6/59)
قال: فجئت بهما الدار. فسألت زوجتي. ما كانت تطعمهما. فقالت حبّ الزبيب، الذي يرميه النبّاذون. قال: وكلف بعض أصحابه، شراء زيت. فالتمسه أياماً، ثم جاءه برجل معه راوية زيت. فسأله أبو إسحاق عن أصله. قال: ميراث من أبي. قال ومن أين صارت لأبيك؟ قال ورثه عن أبيه. فقال فمن أين صارت لأبيه؟ فلم يجبه. ثم قال لصاحب الزيت: المعصرة التي عصرت فيها أيعصر فيها أهل القرية؟ قال: نعم. قال: وبها الطيب، وغير الطيب؟ قال: نعم. قال: يا أخي، لا سبيل الى أخذه. فانصرف الرجل. قال: ودفع الى رجل دينارين يشتري له بهما قمحاً طيباً، من أصل طيب، فبحث واشترى له، فجاءه به، فأمر زوجته بخبز خبزة منه. ففعلت وجاءت بها إليه. فلما رآها، قال لها: أزيليها عني، وادعي لي بفلان، يخرج هذا القمح عني.(6/60)
فجاء فأخذ القمح والخبزة. وسأل أهل الموضع عن القمح، فلم يجد إلا خيراً. فقال له شيخ: إن أردت أن تعرف أصول بني فلام فامضِ الى منزل كذا. فاسأل فلاناً - وكان معمّراً من أهل العلم - يخبرك بذلك. فمضى إليه فسأله، فأخبره أن أحدهم ورّث ماله كله ابنته، على مذهب الشيعة. قال أبو سعيد خادمه: وجهني أبو إسحاق أشتري له فقوساً. فاشتريته ممن أثق به، وأوصلته إليه. ثم قلت في نفسي قلدني. ولم أسأل بائعه من أين هو، فجئت له من الغد، وصرحت له عن ذلك. فتبسم. وقال لو كان فيه شيء ما جاز. قال القابسي: لما وقعت الهزيمة في عسكر أبي يزيد، وهرب الناس، جاء رجل بحمار الى أبي إسحاق. فقال اركب أصلحك الله. فسأله عنه. فقال له: هذا وقتك؟ أنت ترى السيف في أثرك اركب أصلحك الله. فقال له: لا سبيل الى الركوب عليه حتى تخبرني بأصله. فمضى وتركه، وسلم الله أبا إسحاق. قال بعضهم: دخلت عليه يوماً فرأيت في بيته حصيراً، مع الحائط، ليس(6/61)
عليه غير مسمارين. في الطرفين، فأخذت مسامير وأتيت لأسمّر وسطها. فقال: لا تفعل فليس الحائط لنا. قال القابسي: أتاه رجل ببطيخ، وكان يحبه. فقال له: هذا جئت به إليك من البحيرة، التي كان أبي يهدي إليك منها. فقال له: وكم ثمنه؟ فقال وكم عسى ثمنه. فقال إن كنت تأخذ ثمنه، وإلا فامضِ به. فأخذ ثمنه، فقال: خذ بطيخك. وإياك أن تعود. فدهش الرجل، فأخذ البطيخ والثمن. فكشف عنه، فإذا به قد اشتراه من السوق. وكان لا يقبل من أحد شيئاً إلا بثمن. ويكافئ بضعف ثمنه. وكان يشتهي الماء البارد، فسأل عما يبرده، فقالوا له الرقاق والشركية. فقال له ابن أبي زيد، رحمه الله تعالى، عندي منها واحد. فأتاه به. فقال: كم ثمنه. فغضب أبو محمد، فردها عليه الشيخ. فقال أبو محمد: شيخ مبارك كلما قلنا قربنا منه، ولم نزدد إلا بعداً. وكان يقول: ثلاثة أعتذر منهن: غسلي الدم في مجلس أحمد بن نصر. إذ(6/62)
كتب المحضر على أبي الفضل الممسي، وانفجرت منخراي دماً. فقمت لغسلهما. ولم أشاور أحمد بن نصر في ذلك الماء. ودخولي حمام الجزارين، ولم أعلم أن ريعه محبس على قصر الحديد
فوجهت بعد ذلك قيراطاً، يشترى به زيت يوقد به القصر. وشربي من القسطاس. وقدمنا وادي، فأقمت ثلاثاً أشرب منه. ما بي غذاء سواه. فأنكرت نفسي. فقال أبو عبد الله الخراط: وحسبك من افتقد من نفسه في عمره، مثل هذه الثلاثة. وكان يقول: اتجر بالعلم، وكل والبس بالورع. وجهت بعد ذلك قيراطاً، يشترى به زيت يوقد به القصر. وشربي من القسطاس. وقدمنا وادي، فأقمت ثلاثاً أشرب منه. ما بي غذاء سواه. فأنكرت نفسي. فقال أبو عبد الله الخراط: وحسبك من افتقد من نفسه في عمره، مثل هذه الثلاثة. وكان يقول: اتجر بالعلم، وكل والبس بالورع.
ذكر كراماته وإجابة دعوته وفراسته
ذكر أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى: إن أبا أسحاق كان مستجاباً. رأينا استجابته في كل شيء. من ذلك أنه كانت لي ابنة أصابها في عينها شيء، انتهى بها الى أمر عظيم. فعالجتها بكل علاج، فلم ينجح. فذكرت لأبي إسحاق أن يدعو لها، وقلت له: إني كرهت عرضها على الطبيب وكشفها عليه. فقال لي: ابعث بها إلي ارقِها، ثم رجع فقال: من ها هنا أرقيها.(6/63)
حتى أفاقت لثلاث، فكأنه ما كان بها شيء. وكانت عندي طفلة استرخى وركها. فمضت بها امرأة إليه، فرقاها فأتت صحيحة. وذكر أنه كان يرقي الناس الذين يأتون إليه جملة، ويجد كل إنسان منهم برء نفسه، على وجهه. فدخل فيهم رجل مشرقي، غطى وجهه. فلما رقاهم وخرجوا، أُعلم بذلك أبو إسحاق، فقال: الليلة يعمى. فسئل عنه، فقيل ما مرت عليه ليلة أشد من تلك الليلة. قال ابن شبلون: وكانت رقيته بالحمد لله، وقل هو أحد، والمعوذتين. كل ذلك سبعاً، ثم يقول في آخر دعوته: ببغضي عبيد، وذويه، وجاء نبيك وأصحابه، وأهل بيته، اشف كل من رقيته، فيشفى. وذكر أن اسماعيل المشرقي، صاحب القيروان، اشتكت عليه ابنة عينها، وأعيى الأطباء أمرها فقيل له: لو رقاها السبائي. فأرسلها مع عجوز متنكرة لئلا تعرف. فرقاها أياماً فبرئت. فسألها اسماعيل بما رقاها. فأخبرته بما تقدم. فقال القابسي: كنت عنده، فكثر دخول الناس عليه. فقلت كيف يجد الشيخ قلبه، عن كثرة دخولهم. قال: فحوّل وجهه إلي، وقال: يا أبا الحسن، ما أدري دخول من يدخل إلا كدخولهم المسجد، يصلون ويخرجون.(6/64)
ثم عاودتني نفسي، فقلت: هل يجد في نفسه لكثرة إقبالهم عليه شيئاً؟ فحوّل وجهه إلي، وقال لي: يا أبا الحسن، كان ذلك مرة، فما عاد. قال بعضهم: عند دخولنا إليه اعتقدنا التوبة، مخافة أن ينطقه الله فينا بشيء. وقال أبو إسحاق: مشيت الى ابن أبي المهزول، فعلمني اسم الله الأعظم. ثم أنسيته. ولعل ذلك خير لي. قال: ودخلت علقة في فم صبي بدوي، فدُلّ أبوه على الطبيب ابن البراء في إخراجها، فعاناها بما قدر، فلما أعياه، قال له: هذه استطاعتي. فامض بابنك الى السبائي، لعله يدعو لك فيفرج عنك. فسار إليه وأخبره بقصته، والناس وراءه. ثم حرك شفتيه، وقال للفتى: تقدم. وقرأ على فمه وأومأ بيده الى العلقة فسقطت من فيه. قال القابسي: قال لي البقالي بمصر هذا: يطرقني ما يمنعني النوم. إما لهمّ أو وجع فأسهر حتى إذا كان آخر الليل، ألقيت علي الراحة، ونمت، وذهب عني ما أجد، وهو الوقت الذي كان يقوم فيه أبو إسحاق. وذكر أنه كان أرسل الى حال الراحة. وذكر له بعض أصحابه: أنه مرّ بموضع كذا. فإذا بشيخ لم ير أجمل منه.(6/65)
فقال له أبو إسحاق: لعلك قالت لك نفسك، إنك خير منه. والله ما أرى بي فضلاً، على أهل الكبائر من المسلمين. فإذا رأيتم أهل البلاء، فاحمدوا الله على العافية. وذكر أن الرجل رؤي بعد ذلك قد تاب وحسن حاله. قال محمد بن أدريس: خرجت أريد الحانوت، فلقيت أبا العباس بن علي بن غانم، فقال لي: وأنتم هنا. والله لا سكنتم هذا الدرب الوادي معي، فاعملوا على الانتقال، لأنكم من حزب السبائي، وهو دنيء. فخوفني، فجئت الى السبائي، فأخبرته. فقال لي: ليس عليك منه شيء. إنما هو كلب ينبح. اللهم عاجله ولا تمهله. فلما خرجت من عنده، وقربت من داري، إذا به قد أُتي به ميتاً من الحمام. قال: وكان رجل من الجند يؤذيه، قال بعضهم: فسمعت منه وقد رآني خارجاً من عنده، سبّاً. فوصلت الى الدار فتوضأت فسمعت بكاءً فقلت: ما هذا؟ فقيل لي: مات ذلك الرجل الآن. ودخل إليه رجل من حاشية السلطان، ففحمه الشيخ فخرج من عنده، فلقي بعض أصحابه، فقال له قصته معه. ثم قال: سوف ترى أنت.(6/66)
قال الحاكي: فخرجت من عنده الى داري، فبعد ساعة خرجت. فإذا الناس يقولون: مات فلان. فجئت الى الشيخ، فأخبرته. فقال: قد كفينا ما نحذر، والحمد لله. ونقل إليه، مقال اسماعيل في خطبته: أن حسيناً، يعني الأعمى الشاب الشيعي، جاء بنقطة من قلّة وهذه القلّة بين أظهركم - يعني نفسه - فقال أبو إسحاق: عجب من نقطة من قلة خرقت المشرق والمغرب، اللهم اكسر القلة. فمات اسماعيل بعد ذلك بأيام. قال خادمه أبو سعيد: كنت ليلة عنده، فحبسني بحديثه، الى أن ضرب البوق. وكانت علامة أن لا يمشي أحد إلا من خرج لفساد. فمن وُجد بعد ذلك ضربت عنقه. فلما فرغ من حديثه، سلمت لأخرج. فقالت لي زوجته: قد ضرب
البوق. فقال لي الشيخ: اجلس. فقلت: الوالدة تظن أني أصبت. فقال لي: اصبر يا أخي. فوقفني بين يديه، وقرأ علي، وأقبل يشير عن جهاتي، وسمعته آخراً يقرأ بيَس. ثم دعا، وقال لي: حفظك الله بين يديك، وخلفك، ويمينك، وشمالك، وفوقك، وتحتك. فخرجت فمررت بساع وكلاب وعساسة في غير موضع. فما نبح علي كلب، ولا كلمني أحد، حتى وصلت داري. قال: وكان لبعضهم غلام أصيب ببصره، فسئل الشيخ له في الدعاء، فقال: امضوا يكن خيراً إن شاء الله. فلما أكمل تلك الليلة، أبصر الغلام. قال أبو محمد: وقعت له هرة في البئر. فدخلنا عليه فوجدناه واقفاً وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. فسألناه فما أخبرنا حتى ضرب الباب، فدخل إنسان، فجرد ثيابه، وائتزر بمئزر، وسلم. فقال له: لك حاجة، فأخبره، فنزل في البئر، فأخرجها. وذهب. فقلت له من هذا؟ قال: لا أدري. قلت: أرسلت فيه؟ قال: لا. قالوا: وأخذ الحاشد رجلاً فقيراً، فحبسه وقيده، فمضى ابنه الى أبي إسحاق، فأخبره، فقال له: غداً يخرج أبوك إن شاء الله تعالى. قال: فأنا في الليل، إذ أسمع صائحاً يقول: يخرج فلان، وتحل قيوده. ومضى بي الى الحاشد، فقال: امض لا سبيل عليك. فقلت: سألتك بالله ما السبب؟ قال: جاءني الليلة فارس بيده حربة. وقال لي: قم أخرج فلاناً، وإلا نحرتك بها. قال القابسي: كنت عند أبي إسحاق السبائي، إذ أتاه رجل مذعور، فقال له: إن السلطان أمر بنهب طعامي، وعبيدي وماشيتي، وقد خرج رسوله لذلك. فقال له الشيخ: كفاكه الله. فخرج من عنده، فإذا بقوم من أهل المنزل، فسألهم. فقالوا: لما وصل رسول السلطان لمنزلك وفتح المطمر، أتاه آت فنهاه أن يتعرض لشيء، قال: واختلف رجلان أيهما أفضل: مروان الزاهد أو السبائي. فدخلا عليه. فوجداه في الصلاة. فلما أكملها، حوّل وجهه، وقال: ما بال قوم قعدوا بلا شغل، فلان أفضل من فلان، أما لهم في أنفسهم شغل؟ قال أبو سعيد خادمه: اشتريت سلعة، وأشركت فيها الشيخ، فربحت فيها ربحاً. فجالت نفسي وأدركتني رغبة. فقلت: قد كان الشيخ مستغنياً عنها، وأنا ذو عيال، ثم حملت الى الشيخ حصته. فلما رآني تبسم، وقال: الناس يجولون على إخوانهم، ويتّجرون فيما ابتدأوه من الجهل. امض بها. فأخذني أمر، وقلت: لا أفعل. ثم قلت له: هذا أمر ما علمه إلا الله عز وجل. فقال لي: للناس رؤى ومنامات. ودخل عليه في جملة الناس رجل لا يعرفه، من المشارقة. فلما سلم ودخل، رفع الشيخ رأسه، وقد احمر وجهه، وقام شعره. وقال: الشيطان في داري، ثلاث مرات، ففر المشرقي. وقال السبائي رضي الله تعالى عنه: قمت بين أبواب بيتي، فسمعت حساً دخل من الباب فضربت الأرض بكفي، وعيني مغلقة. وأنا يقظان. فذهب ناحية الجبانة. وأنا أسمعه يقول: ما ندعُ أحداً يقربك، لا نائماً ولا يقظاناً. رحمه الله تعالى. البوق. فقال لي الشيخ: اجلس. فقلت: الوالدة تظن أني أصبت. فقال لي: اصبر يا أخي. فوقفني بين يديه، وقرأ علي، وأقبل يشير عن جهاتي، وسمعته آخراً يقرأ بيَس. ثم دعا، وقال لي: حفظك الله بين يديك، وخلفك، ويمينك، وشمالك، وفوقك، وتحتك.(6/67)
فخرجت فمررت بساع وكلاب وعساسة في غير موضع. فما نبح علي كلب، ولا كلمني أحد، حتى وصلت داري. قال: وكان لبعضهم غلام أصيب ببصره، فسئل الشيخ له في الدعاء، فقال: امضوا يكن خيراً إن شاء الله. فلما أكمل تلك الليلة، أبصر الغلام. قال أبو محمد: وقعت له هرة في البئر. فدخلنا عليه فوجدناه واقفاً وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. فسألناه فما أخبرنا حتى ضرب الباب، فدخل إنسان، فجرد ثيابه، وائتزر بمئزر، وسلم. فقال له: لك حاجة، فأخبره، فنزل في البئر، فأخرجها. وذهب. فقلت له من هذا؟ قال: لا أدري. قلت: أرسلت فيه؟ قال: لا. قالوا: وأخذ الحاشد رجلاً فقيراً، فحبسه وقيده، فمضى ابنه الى أبي إسحاق، فأخبره، فقال له: غداً يخرج أبوك إن شاء الله تعالى.(6/68)
قال: فأنا في الليل، إذ أسمع صائحاً يقول: يخرج فلان، وتحل قيوده. ومضى بي الى الحاشد، فقال: امض لا سبيل عليك. فقلت: سألتك بالله ما السبب؟ قال: جاءني الليلة فارس بيده حربة. وقال لي: قم أخرج فلاناً، وإلا نحرتك بها. قال القابسي: كنت عند أبي إسحاق السبائي، إذ أتاه رجل مذعور، فقال له: إن السلطان أمر بنهب طعامي، وعبيدي وماشيتي، وقد خرج رسوله لذلك. فقال له الشيخ: كفاكه الله. فخرج من عنده، فإذا بقوم من أهل المنزل، فسألهم. فقالوا: لما وصل رسول السلطان لمنزلك وفتح المطمر، أتاه آت فنهاه أن يتعرض لشيء، قال: واختلف رجلان أيهما أفضل: مروان الزاهد أو السبائي. فدخلا عليه. فوجداه في الصلاة. فلما أكملها، حوّل وجهه، وقال: ما بال قوم قعدوا بلا شغل، فلان أفضل من فلان، أما لهم في أنفسهم شغل؟ قال أبو سعيد خادمه: اشتريت سلعة، وأشركت فيها الشيخ، فربحت فيها ربحاً. فجالت نفسي وأدركتني رغبة. فقلت: قد كان الشيخ مستغنياً عنها، وأنا ذو عيال،(6/69)
ثم حملت الى الشيخ حصته. فلما رآني تبسم، وقال: الناس يجولون على إخوانهم، ويتّجرون فيما ابتدأوه من الجهل. امض بها. فأخذني أمر، وقلت: لا أفعل. ثم قلت له: هذا أمر ما علمه إلا الله عز وجل. فقال لي: للناس رؤى ومنامات. ودخل عليه في جملة الناس رجل لا يعرفه، من المشارقة. فلما سلم ودخل، رفع الشيخ رأسه، وقد احمر وجهه، وقام شعره. وقال: الشيطان في داري، ثلاث مرات، ففر المشرقي. وقال السبائي رضي الله تعالى عنه: قمت بين أبواب بيتي، فسمعت حساً دخل من الباب فضربت الأرض بكفي، وعيني مغلقة. وأنا يقظان. فذهب ناحية الجبانة. وأنا أسمعه يقول: ما ندعُ أحداً يقربك، لا نائماً ولا يقظاناً. رحمه الله تعالى.
ذكر شمائله مع الناس وتجمّله معهم، وتواضعه، رضي الله تعالى عنه، وغلظته على أئمة الجور وأهل البدع وبني عبيد
حكى الأجدابي قال: كان الشيخ أبو إسحاق، متجملاً مع من يدخل عليه. قال أبو علي حسان: لجأت إليه مرة، فلم أزل عنده، من غدوة الى الظهر. ما قال لي شيئاً. ولا قام ولا ركع. ولا بال. وكذلك كانت عادته، فيمن يدخل عليه.(6/70)
قال أبو سعيد القلال، خادمه، قال لي: لا تقض لي حاجة إلا بنيّة. قال حسان: وكان لا يتمالك، عهدي به ضحك مرة ضحكاً عظيماً، وما استحى أن يتجمل، وبحضرته قوم غرباء. فرأيت بعض من حضر استحى، فما اعتذر هو من ذلك، وقصده رجل من سجلماسة. فلما عرف الشيخ بذلك قال: أنا أقوم إليه، فتلقاه وسلم عليه، ووقف عليه، ووقف معه ساعة، ثم دخل كئيباً. فجثا على ركبتيه، وجعل يضرب بيديه إحداهما على الأخرى. ويسترجع. فسئل، فقال: رجل من سجلماسة. جاء الى زيارتي وما قدري أن أُزار من سجلماسة، والله الذي لا إله إلا هو، ما أستحق إلا من يجلسني في الزقاق ويقول: - لكل واحد ممن جاز - ألطم. وقد سأل الله، أن يُنسي الشيعيّ اسمه. وكان عبد الله بن هاشم يقول: كنت إذا اجتمعت معه يقول لي: ذلك الذي يسكن عند الربع فأقول له: السبائي. فيقول: نعم. وقال معدّ يوماً: رجل في بيت من قصب، بقرب الفحص يشتمنا، ما قدرنا عليه بشيء.(6/71)
قال بعض عبيده: من هو نقطع رأسه؟ فقال معدّ أسكت يا عبد السوء. فقال له: موسى اليهودي، إنك لن تقدر عليه. ولما هزم اسماعيل أبا يزيد، ووصل الى القيروان وجه في شيوخها، فوجه في مروان بن سعدون الخطيب. وكان يشتمهم، على المنبر. ودخل عليه فلم يسلم عليه، لا وقت دخوله، ولا وقت خروجه، وجعل كلما كلمه، لا يزيد على: ما شاء الله، حسبنا الله ونعم الوكيل. ثم وجه الى أبي إسحاق السبائي، فامتنع من المجيء إليه، فخرج اسماعيل الى جهة الساحل، فوقف عنده، ووجه رجلاً فيه. فقال له: لابد من خروجه إليّ فوصل إلي الرجل وأعلمه وشدد عليه، فقال: لا سبيل الى ذلك، فقال: ولابد قال: نعم، فاصبر حتى أتوضأ وأصلي ركعتين. قال له: يطول عليه الأمر، وأنت بطيء الوضوء. قال: لابد.(6/72)
فخرج الرجل ووقف على الباب وتوضأ أبو إسحاق. وركع ثم قام وتقلد سيفه، وأخذ رمحه، ولبس لامته، وخرج. فلما حصل على باب الدار ثار ثورة شديدة، فقال له الرجل: ما هذا. قال: عاهدت الله أن لا ألقاه إلا على هذا الحال. ولا سبيل الى نكث ذلك، فبكى الرجل، ومن حضر، وقال له: لا سبيل الى مسيرك بهذه الحالة فارجع. ومضى الرجل فوجد اسماعيل ينتظره. فقال: وجهتني الى رجل مصاب في عقله. فمضى اسماعيل وكفي شره. قال أبو إسحاق: كنا بمناخ أنا والممسي، وربيع ومروان، وأبو العرب، وجماعة. إذ خرج علينا أبو يزيد، فقال: بايعوني فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج الى غزاة، ولا بعث حتى جدّد البيعة في أعناق الصحابة. فسكتوا بأسرهم. فقال أبو إسحاق: نعم، نبايعك على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومذهب مالك. قال: فقلت. فأنت رجل من أهل القبلة، توحد الله، خرجت لجهاد أعداء الله تعالى. فخرجنا ننصرك عليهم.(6/73)
فوثب أبو يزيد، وقال: لا بأس إذا قالوا. وذكره معد يوماً فقال: أعد لنا السلاح، وتربص بنا الدوائر، وكفّرنا وشتمنا. وعلّم الناس الجرأة علينا، حتى يتأكد عند الكبير والصغير. وأعان قوم عليه، في المجلس، وتكلم قوم له، فأعلم بذلك، فزاد أبو إسحاق حينئذ في السلاح، وأصلح ما كان عنده منه. قال: واستأذن عليه يوماً صاحب الحرس، فهرب كل من كان معه، ومنهم ابن أبي زيد، ولم يبق معه إلا القابسي. فقال الشيخ: من هذا؟ فقال: أنا فلان فقال: أدخل الشيطان، ما يريد الشيطان، أخرج الشيطان، ما كلمه يومئذ إلا بشيطان. فلما خرج، رجع مَن هرب فقال لهم: ما هذا حق الصحبة تهربون وتتركوني. ولامهم على فعلهم، وكان لا يدخل على أبي إسحاق أحد من حاشية القوم، ولا قضاتهم، إلا ابن هاشم. لا غيره، لأنه كان يشتم بني عبيد عنده. قال بعضهم: كنا يوماً عندهم، إذ دخل صقلي، عليه كسوة ورائحة. فسأل عن الشيخ، فلم يجبه أحد،(6/74)
فقال الشيخ: تكفرون ثم ترسلون إلينا ندعو لكم. فانصرف الصقلي.
ذكر وفاته رحمه الله تعالى
توفي الشيخ أبو إسحاق رحمه الله تعالى ورضي عنه، لثمان بقين من رجب سنة ست وخمسين وثلاثماية. مولده سنة سبعين ومايتين. قال القابسي: لما احتضر أبو إسحاق رأى من حضر نوراً عند وجهه. ومرّ على صدره. ثم الى رجليه. ثم خرج من البيت، فقبض الشيخ. ولما قبض بادر الشيوخ الذين حضروه: ابن أبي زيد، رحمه الله تعالى، وابن شبلون، وغيرهم، الى غسله، وكفنه، مخافة أن يوجه لهم معدّ كفناً - على عادتهم - فجاء ابن أبي هاشم بالكفن، وهم قد فرغوا منه، فجعل من فوق. فلما خرج به الى الجبانة. قطّعوه قطعة قطعة. ولما رأى معد، اجتماع الناس لجنازته أرسل عسلوج الولهاجي، يبدّد الناس، - وكان والي القيروان - فكان الناس يلقونه، ويقولون له: النبي وصاحبيه. فيقول لهم: نعم، خوفاً منهم، ومعد تحت قلق الى أن دفن.(6/75)
قال ابن التبّان: لما توفي رجعت الى الدار، فلما تحينت وقت غسله، خرجت لحضوره، فإذا شيخ لقيني، فسألني عن مسيري فأخبرته، فقال لي: قد صُلّي عليه؟ وكما جئت. فغمني ذلك. فقلت: أمضي لأكمل أجري. فوصلت الى داره. فإذا به لم يغسل. فعلمت أنه إبليس، أراد أن يفوّتني ذلك. رحمة الله ورضوانه على سيدنا أبي إسحاق السبائي.
محمد بن مسرور العسّال رحمه الله تعالى
أبو عبد الله. كان شيخاً فاضلاً، من أهل العلم سمع بإفريقية، من عبد الله بن الخبّاز. وسهل القبرياني، وعبد الرحمن الورقة، ويحيى بن عمر، وابن معتب، والمغامي، وغير واحد. ورحل فسمع بمصر مقدام بن داود، وعلي بن عبد العزيز، وأجازه يونس الصدفي. وكان يقوم الليل كله، هو وكل من في داره. ولقد ذُكر أنهم باعوا خادماً، سوداء، فرجعت إليهم، وقالت بعتموني من اليهود. فقالوا لها: إنهم مسلمون.(6/76)
قالت إنهم لا يقومون الليل، وهو والد الفقيه، أبي حفص ابن العسّال. وكانوا ثلاثة إخوة: أبو عبد الله، هذا. وأبو حفص عمر، سمع محمد بن عبد الحكم، يونس بن عبد الأعلى، ومات قديماً. وأبو سليمان، كان نبيلاً ثقة، يسمى حمامة المسجد، لملازمته. وكان يميل الى الحديث. وكان أبو عبد الله، هذا، كثير الصلاة والتلاوة، يختم كل ليلة ختمة. وكان بينه وبين عبد الله بن مسرور بن الحجام المتقدم ذكره قبل هذا، مباعدة بسبب العلم. وكانت وفاتهما في يوم واحد، سنة ست وأربعين وثلاثماية، وابنه أبو حفص، عمر بن محمد، رحمه الله تعالى.
عمر بن محمد بن مسرور العسّال
قال أبو بكر المالكي: كان رجلاً صالحاً، خيراً فاضلاً، فقيه البلد، ثقة جيد الحفظ، مفتي أهل زمانه، ذا سمت وصيانة، وورع، وديانة، لم يغمص عليه في حداثته، ولا كبره شيء. سمع من أبيه وأبي بكر بن اللباد، وبمصر من بكر بن العلاء، وكان أبو إسحاق السبائي، يقول: ما تطيب على قلبي فتيا، غير فتيا أبي حفص، لأنه يشيب بورع، وخوف وشدة مراقبة، وإشفاق وحذر. وكان لا يقوم لأحد، إذا دخل عليه، إلا له.(6/77)
وكان أبو القاسم عبد الحق بن شبلون يقول: أبو حفص أفقه من أبي سعيد ابن أخي هشام. وكان أبو جعفر الأجدابي يقول: أبو سعيد أحفظ، وأفقه. قال بعضهم: قلت لأبي إسحاق السبائي، يدخل عليك العلماء، فلا تقوم لأحدهم إلا لأبي حفص. فقال لي: أبو حفص عالم عامل. وكان يقول: إذا أردت أن ترى العالم العامل، فعليك بأبي حفص. قال أبو بكر: وكان قد جمع الله فيه خصال الخير كلها. وكان المتعبدون يعظّمونه ويفضلّلونه. وكانت له همة عالية، ومحضر عظيم، ولكنه لم يطل عمره. وتوفي في حياة أبيه. قال: ودخل يوماً على أبي إسحاق، فقام إليه، وتلقاه وصافحه، وقال له: ما الذي أتى بك؟ فقال له أبو إسحاق: جمع الله شمل المسلمين بك، وأبقاك لهم. وتوفي شاباً، وأبوه حي. ذكر القابسي، أنه دخل على أبي عبد الله، وابنه أبو حفص في النزع، وهو جالس وفي يده جزء من القرآن، وفي المجلس أبو سعيد ابن أخي هشام، وابن التبان، وابن أبي زيد رحمه الله تعالى، والشيخ على حاله يقرأ جزأه، ثم يحوّل وجهه إليهم ويقول: كيف رأيتم أبا حفص؟ فتقول الجماعة: بخير إن شاء الله.(6/78)
الى أن مات. فوجموا وسكتوا. فحوّل الشيخ وجهه إليهم، وقال: مات أبو حفص. فقلنا: نعم. أصلحك الله وجبر مصابك. فثنى الجزء على إبهامه، ثم حوّل وجهه، وهو في مكانه، وقال: رحمك الله يا بني، لقد كنت صوّاماً قوّاماً، حافظاً لكتاب الله، عز وجل، عالماً بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولقد طمعت أن أكون في صحيفتك، فالحمد لله الذي جعلك في صحيفتي. ثم قال: خذوا في شأنه. وأقبل على مصحفه. قال ابن شبلون: لما مات وغسل، وكفن وأبو عبد الله أبوه حاضر، وأبو سعيد ابن أخي هشام وأبو الأزهر بن معتب وأبو محمد بن أبي زيد، رحمهم الله تعالى، وأبو محمد بن التبان، وغيرهم من أهل العلم. قال الغاسل لأبيه: ما أعظمها من مصيبة. فقال له: لا تقل. ثواب الله تعالى خير منه. ثم قال أبوه: رحمك الله يا أبا حفص، لقد كنت مباركاً علينا في دنيانا وأخرانا، أما دنيانا فكان يجري على يديك قوتنا، وأما أخرانا، فكنت أقول: لعلي أكون في صحيفتك، فقد صرت في صحيفتي. وعزه فيه السبائي، فقال له: يا أبا عبد الله، إنك كنت تريد أبا حفص، للدنيا. وأنا كنت أريده للآخرة، فأنا أحق بالتعزية منك.(6/79)
وكانت وفاته سنة ثلاث وأربعين وثلاثماية. وهو ابن نحو أربعين سنة وأبوه حي. وصلى عليه أبوه رحمه الله تعالى.
أحمد بن أبي رزين الخياط
سمع من يحيى بن عمر، وأحمد بن أبي سليمان، وأبي عمران الحداد، وأبي زيد التوزري، ومالك القفصي. وسمع منه أبو محمد بن هاشم بن الحجة. قال المالكي: له فقه وعلم بالحديث وصلاح. توفي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
حمود بن مسلم
القابسي. ذكره المالكي. قال: وكان الممسي يفضّله ويذكر من فضله وأن السلطان أراد أن يوليه شيئاً له من نعمته، وقبضت منه، ولم يل شيئاً. يروي عن يحيى بن عمر.(6/80)
الجزء الرابع
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
من أقصى المغرب
درّاس بن اسماعيل
كنيته أبو ميمونة. من أهل مدينة فاس. سمع من شيوخ بلده. وبإفريقية من أبي بكر ابن اللباد وغيره. وبالأندلس، من شيوخها. وله رحلة، حجّ فيها. وسمع من علي بن أبي مطر. وبالاسكندرية كتاب ابن المواز، وحدث به بالقيروان. سمعه منه أبو محمد بن أبي زيد، وأبو الحسن القابسي، وغيرهما. ودخل أيضاً الأندلس مجاهداً، وطالباً. فتردد بها في الثغر، فسمع منه أبو الفرج بن عبدوس، وخلف بن أبي جعفر، وغير واحد. وأراه رحل لبلدنا. فقد حدث عنه أقوام، من كبارهم، كأبي عبد الله محمد بن علي بن الشيخ، وأخيه حسن بن علي، وعمر بن ميمون بن بكر القيسي، وحمود بن غالب الهمداني وغيره. قال المالكي: كان أبو ميمونة من الحفّاظ المعدودين، والأئمة المبرّزين من أهل الفضل والدين، ولما طرأ الى القيروان، اطلع الناس من حفظه،(6/81)
على أمر عظيم. حتى كان يقال: ليس في وقته، أحفظ منه. وكان نزوله عند ابن أبي زيد، وظهر تقصيره بأهل القيروان، وشفوفه على كثير منهم. قال القاضي أبو الوليد ابن الفرضي: كان أبو ميمونة فقيهاً حافظاً للرأي على مذهب مالك. قال أبو عبد الله بن عتاب: كان يعرف بأبي ميمونة المحدّث. قال أبو الوليد الباجي: كان شيخاً صالحاً. وذكر أنه دفع ديناراً لمن يشتري له طعاماً، فأتاه. فقال له: اشتريت واجتهدت. فوصف له كيف كان الطعام، والزرع. فقال ردّ علي، ولا حاجة لي به. وذكر المالكي أنه كان أحفظ أهل زمانه بمذهب مالك، وأصحابه. وذكر عن بعض أصحاب أبي بكر ابن اللباد، قال: كنت يوماً جالساً في مجلس أبي بكر ابن اللباد، وأبو ميمونة يقرأ عليه الموطأ فتواقعا في حديث، فخالفه فيه شيخنا. وقال أبو ميمونة: كتابي هذا قرأته بالأندلس، وبفاس.(6/82)
فأمر أبو بكر بإخراج موطأ ابن وهب، وكتب كثيرة، حتى تقرر عندهم حقيقة الحرف الذي اختلفوا فيه. فلما نظر أبو بكر الى الكتب والرزم، قد حلت ضاق، وقال لأبي ميمونة: يا هذا فيك استقصاء. وما أظنك تريد إلا أن تكون ديكاً. فقال أبو ميمونة: أكرمك الله. لو شئت أن أكون ديكاً في غير بلدي، كنت. فقال له أبو بكر: قم عنا ولا تغشَ لي مجلساً. قم يا هذا. واستحثه. فأخذ أبو ميمونة كتابه، ومجرته، ووقف وقال: اللهم إنك تشهد. قال المالكي: فخرجت في أثره، ومشيت معه، حتى أبعدنا وهو يسترجع. فقلت له: اجلس على هذا الدكان، حتى أرجع الى الشيخ، وأعود إليك. فرجعت وجلست بين يدي الشيخ، وقلت: أصلحك الله أنت شيخنا وإمامنا، وهذا رجل له قصد إليك، فترى إذا سألك الله لم طردته، أتقول له، لأنه قال لو شئت أن أكون ديكاً في غير بلدي. ما فعلتَ. أصلحك الله. وقلت مقبول عنك، ومسموع. فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. وكررها. ثم قال: يا أخي، ردّ الرجل، ويدع المعاتبة. فسرت إليه فرجع معي. فسلّم على الشيخ، وجعل بعد ذلك يختلف ويحضر السماع، والشيخ غير منبسط له. فشكا ذلك الى بعض أصحابه. فقالوا له: زوجته شابة. فلو أهديت إليها عطّفته عليك، وأصلحتْ لك جانبه.(6/83)
فقال: والله لا أخذت العلم من طريق الرشوة أبداً، والشيخ قد انتشرت إمامته، وحلّ في قلوب الناس بالمحل الذي علمتم. وما قسّى قلبه عليّ، إلا لأمر تقدم لي، عوقبت عليه. ولكن، والله ما أصلحت إلا ما بيني وبين الله، وينتهي الأمر الى ما شاء. قال: فما طالت المدة، حتى كان إذا دخل أبو ميمونة قال أبو بكر له: يا أبا ميمونة، أشركنا في صالح دعائك. وذكر ابن التبّان، أن رجلاً، رأى سنة ثمان وخمسين في المنام، بالزيارة، وكان منصرفاً من الحج: السماءَ والأرضَ يبكيان. فسأل عن ذلك. فقيل له: على أبي ميمونة، درّاس بن اسماعيل، ولم يكونوا عرفوا موته. فإذا به قد مات رحمه الله تعالى. وتوفي بفاس بلده. سنة سبع وخمسين وثلاثماية. فيما قاله ابن الفرضي. وفي تاريخ الأفارقة. في سنة ثمان وخمسين. وقبره بباب الفتوح الى جانب السور من خارج البلد. وله بفاس مسجد يعرف به.(6/84)
خير الله
ابن القاسم الفارسي. من مشاهير فقهائها ومتقدميهم. سمع منه عيسى ابن سعادة الفارسي. رحمه الله تعالى.
من أهل الأندلس
محمد بن خالد
ابن وهب بن خالد بن داود بن جعفر. المعروف بابن الصُغَيّر. التميمي. مولاهم. أبو بكر من طيء من بيت علم وجلالة. سمع من أبيه وابن وضاح وأبي صالح، وسعيد بن خمير، وابراهيم بن قاسم بن هلال، ومطرف بن قيس وغيرهم. قال ابن أبي دليم: وكان ذا بصر بالفقه، وحفظ له. واعتماده على ترجيح قول ابن الماجشون. وشوّر. وسمع منه. وولي قضء أشبونة. قال ابن حارث: كانت له عناية بالرأي والفتيا، والوثائق.(6/85)
وكان يشاور في الأحكام. وسمع منه الناس. توفي بعد ثلاثين وثلاثماية. وقيل تسع وعشرين. وقيل سبع وعشرين في صفر.
محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة
أبو عبد الله. يلقب بالبربري ابن أبي الشيخ ابن لبابة. جلّ سماعه من عمه محمد بن عمر بن لبابة. وسمع من غيره. رحل فسمع بالقيروان، من حماس بن مروان. وكان من أحفظ أهل زمانه للمذهب. عالماً بعقد الشروط. بصيراً بعللها. وله اختيارات في الفتوى والفقه، خارجة عن المذهب. وله في الفقه كتب مؤلفة. منها: المنتخبة. وكتاب في الوثائق. وأثنى ابن حزم الفارسي على كتابه المنتخبة. وأنه ليس لأصحابه مثلها. وهي على مقاصد الشرح لمسائل المدونة. قال بعضهم: ولم يكن له علم بالحديث. وكان ينحرف عنه. قال القاضي: أما قلة علمه بالحديث، فظاهر، وأما انحرافه عنه، فلا، بل يميل إليه، في تواليفه، وإن اعتمد على نظره في مسألة، أو ضعّف فيها، قول المدنيين. كثيراً ما يقول: إلا أن يأتي بذلك أثر صحيح. ولي قضاء البيرة،(6/86)
والشورى بقرطبة. ثم رفع عليه أهل البيرة، فعزل عنها، وعزل بعد ذلك عن الشورى، لأشياء، نُقمَت عليه. وكان القاضي الحبيب بن زياد، قد سجل بسخطته. قال ابن عفيف: رفع الى الناصر لدين الله، عن ابن لبابة أشياء قبيحة. فأمر بإسقاط منزلته من الشورى، والعدالة، وإلزامه بيته. ومنعه أن يفتي أحداً. فأقام على ذلك وقتاً. ثم إن الناصر، احتاج الى شراء المحشر، من أحباس المرضى بقرطبة، عدوة النهر، فتشكّى - الى القاضي ابن بقي - أمرَه وضرورته إليه، لمقابلته منتزهه وباديته فيهم. وأن مطله من علاليه. فقال له ابن بقي: لا حيلة عندي، وهو أولى بحفظ حرمة الحُبُس. فقال له: تكلم مع الفقهاء فيه، وعرّفهم رغبتي. وما أبذله من أضعاف القيمة فيه، فلعلهم يجدوا في ذلك رخصة. فتكلم ابن بقي معهم. فلم يجعلوا إليه سبيلاً. وغضب الناصر عليهم. وأمر الوزراء بالتوجيه فيهم، الى القصر، وتوبيخهم. ففعلوا. فلما وصلوا الى بيت الوزارة بالقصر، انبرى لهم رجل جديد من الوزارة. فأفحش في خطابهم. وقال لهم: يقول لكم أمير المؤمنين: يا مشيخة السوء، يا مستحلي أموال الناس، يا آكلي أموال اليتامى ظلماً، يا شهداء الزور، يا آخذي الرشا، وملقني الخصوم، وملحقي الشرور، وملبّسي الأمور، وملتمسي الروايات(6/87)
لاتباع الشهوات، تبّاً لكم، ولرأيكم، فهو أعزه الله، واقف على فسوقكم قديماً، وخدعكم حديثاً، مغضٍ عنه، صابر عليه. ثم احتاج الى دقة نظركم، في حاجة، مرة في عمره، فلم يسع نظركم للتحمّل له، ما كان هذا ظنه بكم. والله ليعارضنّكم من يومه. وليكشفن ستوركم وليناصحنّ الإسلام فيكم. وكلاماً في مثل هذا. فبدأ شيخ منهم ضعيف الى الاعتذار، واللياذ بالعفو. وقال: نتوب الى الله مما قاله أمير المؤمنين، ونسأله الإقالة. فرد عليه كبيرهم، محمد بن ابراهيم بن حيون. وكان ذا منة. فقال: لم نتوب يا شيخ السوء، نحن براء الى الله من متابتك. ثم أقبل على الوزير المخاطب لهم فقال: يا وزير، ليس المبلغ أنت، وكل ما ذكرته عن أمير المؤمنين، مما نسبته إلينا، فهي صفتكم معاشر خدمه، أنتم الذين تأكلون أموال الناس بالباطل، وتستحلون ظلمهم، وتتحفون مماستهم بالرشا والمصانعة، وتبغون في الأرض بغير الحق. وأما نحن فليس هذه صفاتنا، ولا كرامة، ولا يقوله لنا إلا متهم في دينه، فنحن أعلام الهدى، وسروج الظلمة، بنا يتحسن الإسلام، ويفرَّق بين الحلال والحرام، وتنفّذ الأحكام، وبنا تقام الفرائض وتثبت الحقوق، وتُحقن الدماء، وتستحل الفروج. فهلا إذا أعتب علينا أمير المؤمنين بشيء، لا ذنب فيه لنا، وقال بالغيظ بعض ما قاله، تأنيت(6/88)
بإبلاغنا رسالته بأهون من إفحامك وعرضت لنا بإنكاره، ففهمنا منك وأجبنا عنه، بما يجب. فكنت تزيّن على السلطان ولا تفشي سره. وتستحيينا قليلاً فلا تستقبلنا بما استقبلتنا به، فنحن نعلم أن أمير المؤمنين أيده الله، لا يتمادى على هذا الرأي فينا، وأنه سيراجع بصيرته في تعزيرنا. فلو كنا عنده على الحالة التي وصفتها عنه، - ونعوذ بالله من ذلك - لبطل عليه كل ما صنعه، وعقده وحله، من أول خلافته الى هذا الوقت. فما بت له كتاب حرب، ولا سلم، ولا بيع ولا شراء، ولا صدقة ولا حبس ولا هبة ولا عتق، ولا غير ذلك، إلا بشهادتنا. هذا ما عندنا والسلام. ثم قام هو وأصحابه منصرفين، فلم يبعدوا الى باب القصر الأول، إلا والرسول خلفهم بصرفهم الى مواضعهم من بيت الوزراء. فلقوهم بالأعظام والاعتذار، مما كان من صاحبهم المخاطب لهم. وقال لهم: أمير
المؤمنين يعتذر إليكم من موجدته، ويعلمكم بندمه على ما فرط منه، وأنه متبصر في أعذاركم. وقد أمر لكل واحد منك بصلة وكسوة علامة لرضاه عنكم. فدعوا له وأثنوا عليه، وانصرفوا أعزة. وبقي في صدر الخليفة من هذا الحُبس حزة. وبلغ ابن لبابة هذا الخبر على وجهه. فرفع الى الناصر أنه يغض من أصحابه الفقهاء، ويقول: إنهم حجروا عليه واسعاً. ولو كان حاضرهم لما سلف لأفتاه بجواز المعارضة، وتقلدها، وناظر عليها أصحابه. فوقع الأمر بنفس الناصر، وأمر بإعادة محمد بن لبابة هذا الى عادته من الشورى. ثم أمر القاضي بإعادة الشورى في هذه المسألة فاجتمع القاضي للنظر في الجامع. وجاء ابن لبابة آخرهم وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم لها، وغبطة المعاوضة فيها. فقال جميعهم بقولهم الأول، من منع إحالة الحبس عن وجهه، وابن لبابة ساكت. فقال له القاضي: ما تقول أنت يا أبا عبد الله؟ قال: أما قول إمامنا مالك بن أنس، فالذي قاله أصحابنا الفقهاء. وأما أهل العراق، فإنهم لا يجيزون الحُبُسَ أصلاً. وهم علماء أعلام، يهتدي بهم أكثر الأمة. وإذا بأمير المؤمنين من حاجة الى هذا المحشر ما به، فما ينبغي أن يرد عنه، وله في السنّة فسحة. وأنا أقول فيها بقول العراقيين، وإنفاذ ذلك رأياً. فقال له الفقهاء: سبحان الله تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا، واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد بوجه عنه؟ وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه؟ فقال لهم محمد بن يحيى: ناشدتكم الله العظيم ألم تنزل بأحد منكم مسألة بلغت بكم أن أخذتم فيها بقول غير مالك في خاصة أنفسكم؟ وأرخصتم لأنفسكم في ذلك؟ قالوا بلى. قال: فأمير المؤمنين أولى بذلك، فخذوا مأخذكم، وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء. فكلهم قدوة، فسكتوا. فقال للقاضي: إنْهِ الى أمير المؤمنين بفتياي. وكتب القاضي الى أمير المؤمنين بصورة المجلس. وبقي مع أصحابه بمكانهم، الى أن أتى الجواب أن يؤخذ له بفتوى محمد بن يحيى بن لبابة. وينفذ ذلك. ويعوضوا المرضى من هذا المحشر بأملاكه بمنية عجبٍ. وكانت عظيمة القدر جداً، تزيد أضعافاً على المحشر. ثم جاء صاحب رسائل من عند أمير المؤمنين، وكتاب منه لمحمد بن يحيى بن لبابة، بولاية خطة الوثائق، لكي يكون هو المتولي عند هذه المعارضة. فهنّي بذلك. وأمضى القاضي الحكم بفتواه وأشهد عليه، وانصرفوا. فلم يزل محمد يتقلد خطة الوثائق، والشورى من هذا الوقت، الى أن مات. ومنزلته من السلطان لطيفة. قال القاضي: ذاكرت بعض مشائخنا بهذا الخبر، إذ أفضت مذاكرتي له، الى تسجيل الحبيب عملية سخطته. فقال: ينبغي أن يضاف هذا الخبر، الى سجل السخطة فهو أولى بما تضمنه، أو كما قال. إلا أن ابن عفيف، ذكر أنه مات رحمه الله تعالى، عن حال معتدلة. غفر الله لنا وله. قال ابن مفرج: كان هذا التسجيل سبباً لإقلاعه عما نسب إليه، الى توبة نصوح، رجع بها الى أحسن أحوال العلم. فلزم بيته مدة، دائماً على دراسة العلم، ومطالعته، حتى برع، وكمل. ثم حجّ ولقي جماعة من أهل العلم، وانصرف. وقد أعدلت حاله. فأقيلت عثرته. وكان سبب موته، أنه تخاصم عند القاضي ابن أبي عيسى، مع صاحب الشرطة ابن عاصم، في حمام. وتنازعا الخصومة يوماً والمجادلة، حتى اضطرب جسم محمد، وضربه فالجٌ صرعه، فحمل الى داره، في نعش. وكان سبب ميتته عاجلاً. فتوفي في ليلة الاثنين، لست خلون من ذي الحجة، سنة ثلاثين وثلاثماية. وقيل توفي في ذي القعدة، من السنة. فسمع خصمه، وهو خارج من المسجد، الذي فلج فيه، وهو متهلل شامل يقول: الحمد لله رب العالمين. اسبق عدوك ولو بيوم. يعتذر إليكم من موجدته، ويعلمكم بندمه على ما فرط منه، وأنه متبصر في أعذاركم. وقد أمر لكل واحد منك بصلة وكسوة علامة لرضاه عنكم. فدعوا له وأثنوا عليه، وانصرفوا أعزة. وبقي في صدر الخليفة من هذا الحُبس حزة. وبلغ ابن لبابة هذا الخبر على وجهه. فرفع الى الناصر أنه يغض من أصحابه الفقهاء، ويقول: إنهم حجروا عليه واسعاً. ولو كان حاضرهم لما سلف(6/89)
لأفتاه بجواز المعارضة، وتقلدها، وناظر عليها أصحابه. فوقع الأمر بنفس الناصر، وأمر بإعادة محمد بن لبابة هذا الى عادته من الشورى. ثم أمر القاضي بإعادة الشورى في هذه المسألة فاجتمع القاضي للنظر في الجامع. وجاء ابن لبابة آخرهم وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم لها، وغبطة المعاوضة فيها. فقال جميعهم بقولهم الأول، من منع إحالة الحبس عن وجهه، وابن لبابة ساكت. فقال له القاضي: ما تقول أنت يا أبا عبد الله؟ قال: أما قول إمامنا مالك بن أنس، فالذي قاله أصحابنا الفقهاء. وأما أهل العراق، فإنهم لا يجيزون الحُبُسَ أصلاً. وهم علماء أعلام، يهتدي بهم أكثر الأمة. وإذا بأمير المؤمنين من حاجة الى هذا المحشر ما به، فما ينبغي أن يرد عنه، وله في السنّة فسحة. وأنا أقول فيها بقول العراقيين، وإنفاذ ذلك رأياً. فقال له الفقهاء: سبحان الله تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا، واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد بوجه عنه؟ وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه؟ فقال لهم محمد بن يحيى: ناشدتكم الله العظيم ألم تنزل بأحد منكم مسألة بلغت بكم أن أخذتم فيها بقول غير مالك في خاصة أنفسكم؟ وأرخصتم لأنفسكم في ذلك؟(6/90)
قالوا بلى. قال: فأمير المؤمنين أولى بذلك، فخذوا مأخذكم، وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء. فكلهم قدوة، فسكتوا. فقال للقاضي: إنْهِ الى أمير المؤمنين بفتياي. وكتب القاضي الى أمير المؤمنين بصورة المجلس. وبقي مع أصحابه بمكانهم، الى أن أتى الجواب أن يؤخذ له بفتوى محمد بن يحيى بن لبابة. وينفذ ذلك. ويعوضوا المرضى من هذا المحشر بأملاكه بمنية عجبٍ. وكانت عظيمة القدر جداً، تزيد أضعافاً على المحشر. ثم جاء صاحب رسائل من عند أمير المؤمنين، وكتاب منه لمحمد بن يحيى بن لبابة، بولاية خطة الوثائق، لكي يكون هو المتولي عند هذه المعارضة. فهنّي بذلك. وأمضى القاضي الحكم بفتواه وأشهد عليه، وانصرفوا. فلم يزل محمد يتقلد خطة الوثائق، والشورى من هذا الوقت، الى أن مات. ومنزلته من السلطان لطيفة. قال القاضي: ذاكرت بعض مشائخنا بهذا الخبر، إذ أفضت مذاكرتي له، الى تسجيل الحبيب عملية سخطته. فقال: ينبغي أن يضاف هذا الخبر، الى(6/91)
سجل السخطة فهو أولى بما تضمنه، أو كما قال. إلا أن ابن عفيف، ذكر أنه مات رحمه الله تعالى، عن حال معتدلة. غفر الله لنا وله. قال ابن مفرج: كان هذا التسجيل سبباً لإقلاعه عما نسب إليه، الى توبة نصوح، رجع بها الى أحسن أحوال العلم. فلزم بيته مدة، دائماً على دراسة العلم، ومطالعته، حتى برع، وكمل. ثم حجّ ولقي جماعة من أهل العلم، وانصرف. وقد أعدلت حاله. فأقيلت عثرته. وكان سبب موته، أنه تخاصم عند القاضي ابن أبي عيسى، مع صاحب الشرطة ابن عاصم، في حمام. وتنازعا الخصومة يوماً والمجادلة، حتى اضطرب جسم محمد، وضربه فالجٌ صرعه، فحمل الى داره، في نعش. وكان سبب ميتته عاجلاً. فتوفي في ليلة الاثنين، لست خلون من ذي الحجة، سنة ثلاثين وثلاثماية. وقيل توفي في ذي القعدة، من السنة. فسمع خصمه، وهو خارج من المسجد، الذي فلج فيه، وهو متهلل شامل يقول: الحمد لله رب العالمين. اسبق عدوك ولو بيوم.
أحمد بن عمر بن لبابة
رحمه الله تعالى. أبو عمران: شيخ الفقهاء. وابن عم هذا المقدم ذكره. قرطبي. سمع من أبيه وأحد بن خالد وغيرهما.(6/92)
وكان حافظاً للرأي، مقدماً فيه، جيد القريحة، وشاوره أحمد بن بقي القاضي. قال ابن حارث: لم يكن بقرطبة في وقته أكمل منه علماً، ولا أظهر فقهاً، وكان محبّباً في الناس، تحمد خصاله. عاقلاً حصيفاً فقيهاً. عاملاً حسن المعاشرة، أديباً. وأراد قاضي قرطبة تقديمه للشورى، فاعترضه ابن أيمن. وقال له: إن أردت ذلك فقدم أولادنا لذلك. فكف القاضي عنه، وتوفي حدثاً. منصرفه من الغزو. ودفن بقلعة رباح، منتصف صفر سنة خمس وعشرين بعد وفاة أبيه، بنحو عشرين سنة.
أحمد بن عبادة بن نوح بن اليسع
ابن شعيب، بن الجهم، بن عبادة، بن علكرة الرعيني أبو عمر. قرطبي. سمع الخشني، وابن وضاح، وأبا صالح، وبه تفقه. ورحل فسمع ابن المنذر. والعقيلي، وابن الأعرابي وغيرهم بالقيروان، والشام، والحجاز. وكان منقبضاً. سمع أحمد بن عون الله. ولي الصلاة وقلد الشورى. فلم يتقلدها فيما قاله ابن أبي دليم.(6/93)
قال أحمد بن عبادة: كنت يوماً ماشياً مع محمد بن سلمة القاضي، فلقينا إنساناً في رأسه غرارة، فيها شيء مستور، وبيده كبر، فأمر القاضي بكسر الكبر، وعلم ولم يشك أن الغرارة مملوءة أكباراً. فقال: انزلوا الغرارة، وانظروا ما فيها. قال أحمد: فقلت له: ما عليك أن تفتش أمتعة الناس وخباياهم. وإنما عليك أن تغير ما ظهر من المنكر. فأمسك عما أمر به من تفتيش الغرارة. قال: ثم لقينا محمد بن عمر بن لبابة. فسأله عن ذلك. فقال مثل ما قلت له. فعطف عليّ، فقال: لقد انتفعنا بصحبتك اليوم، يا رعيني. وتوفي في رجب، سنة اثنتين وثلاثماية.
أحمد بن عبد الله بن فطيس
أبو القاسم. قرطبي. سمع من ابن وضاح، وأيوب بن سليمان، وطاهر بن عبد العزيز، واعتنى بالمسائل والمذهب. وشوّر في الأحكام. وكان ذا تصرف في الفقه والشروط، وذا سمت وهدي، وسجل عليه القاضي أحمد بن زياد، بسقوط نسبه من بني فطيس. توفي بعد ابن عبادة بيسير. رحمه الله تعالى.(6/94)
عبد الله بن ادريس بن عبد الله بن يحيى
ابن عبيد الله، بن حسين بن جعفر بن أسلم مولى أبان بن عمر. مولى عثمان. قرطبي. كنيته أبو عثمان. وبيته كنانية بيت، نبيه. وبقرطبة أدرك ابن وضاح، ولم يسمع منه، وسمع من عبيد الله بن يحيى. ويحيى بن عبد العزيز، ومحمد بن عمر بن لبابة، وغيرهم. وكان حافظاً للمسائل والحديث. كثير الدراسة لكتب الفقه، ومعتنياً بالآثار والسنن، عالماً بها، بصيراً بالأقضية، مقدّماً في الشورى. وحدث وسمع. وكان متواضعاً، سمتاً ذا معرفة بالخبر والنادر. وروى عنه ابن عبادة وغيره. ولم يزل على طريقة مستقيمة الى أن مات: سنة أربع وأربعين، وسنّه ست وسبعون. رحمه الله.(6/95)
محمد بن عبد الله
ابن يحيى بن يحيى بن يحيى. المعروف بابن أبي عيسى، القاضي
أبو عبد الله. قرطبي من بيت بني يحيى بن يحيى بن يحيى بن أبي عيسى، منتهى النباهة والرئاسة في العلم. بها سمع من عم أبيه، عبيد الله. ومحمد بن لبابة، وأحمد بن خالد، وغيرهم. ورحل سة اثنتي عشرة وثلاثماية. فحجّ وسمع من ابن المنذر، والعقيلي، وابن الأعرابي، وأبي جعفر الدبيلي، وغيرهم. وبمصر من ابن زيان ومحمد بن النفاخ الباهلي. وبإفريقية من محمد بن اللباد، وأحمد بن زياد، والبجلي، وإسحاق بن نعمان، وجماعة كثيرة. وكانت رحلته هو ومحمد بن مسور الجبلي، وأحمد بن حزم الصدفي، وأحمد بن عبادة الرعيني، في وقت واحد. ويقال إنه اجتمع هو وأحمد بن حزم، وابن مسورة في قفولهم. قال بعضهم لبعض: ترى ما نكون في بلدنا إذا رجعنا.(6/96)
فقال ابن أبي عيسى لفرط ركنه: أنا أقول لكم: أما أنا، فقاض. أو كاتب قاض. وأما أنت يا أبا عمر، فلا تنفعك منافية عمرك. وأما أنت يا أبا عبد الله: فأراك تثير بالأندلس فتنة، تبقى آخر الدهر. أو كما قال. فصدقت فراسته، في ثلاثتهم كما ذكر. قال ابن الفرضي: وكان حافظاً للرأي، معتنياً بالآثار، جامعاً للسنن، متصرفاً في علم الإعراب، ومعاني الشعر: شاعراً مطبوعاً. وشاور أحمد بن بقي، ثم استقضاه الناصر، ببجاية وطليطلة وجيان، وصرفه في غير أمانة، فاصطدم بما استكفى. وكان آخر ما ولاه: قضاء البيرة. وقلده مع القضاء، أمانة الكور والنظر على عمالها. فكانوا لا يقدمون ولا يؤخرون إلا عن أمره. ولا يظلم أحد في جانب الكور، إلا نصره، وقام معه. ثم نقله منها فولاه قضاء الجماعة بقرطبة، في ذي الحجة. سن ست وعشرين وثلاثماية. وأقر محمد بن أيمن على الصلاة، الى أن ضعف ابن أيمن. فاستعفاه، فأعفاه. وجمعهما لابن أبي عيسى، فتولاهما الى أن مات. قال ابن الحارث في كتاب القضاة: ولم يزل محمد بن عيسى في حداثة سنه، مشهوراً بفضل. ظاهر السؤدد. طالباً للعلم. مجمعاً على تفضيله. ولقد جالسته غير ما مرة. فرأيته محمود التصرف، جميل المذهب، كريم الأخلاق.(6/97)
ثم ولي القضاء، فما رأينا ولا سمعنا أحداً من عقلاء إخوانه، ومنصفي معارفه، يذمّ حاله ولا يشكو تغييره، ولا نبذه. بل يصفونه بغير ذلك بما هو أشبه بأهل الكمال والمروءة. وذكر أبو عبد الرؤوف في طبقاته، فقال: كان فقيهاً عالماً نسيباً من بيت فقه وعلم، وسنة ورواية. وكان يتصرف في علم الأدب، تصرف اتفاق. وله رسوخ في أفانينه، من عربية ولغة وخبر، ومثل. وله لسان ذرب، وبيان. وكان محبباً في العامة، مقرّباً لدى الخاصة ومن الخليفة، مؤتمناً على أسراره، حتى لقد بوّأه، فراش كرامة، مع وزرائه مدنياً لمكانه، من غير أن يوقع عليه اسم الوزارة. فكان يحضرهم ويمدهم برأيه، عند استدعائه، وكان ممن قال الشعر بطبع حسن، وتصرف في ضروبه. وله في ذلك الشأو البعيد في الخطابة، لم يكن عليه في الكلام مؤونة. قال الحسن بن محمد بن فرج في كتاب الانتخاب: لم يكن في قضاة الأندلس، أكثر شعراً منه. لقد ذكره ابن عبد الرؤوف في كتاب الشعراء بالأندلس.(6/98)
قال ابن حارث: وكان الناصر لدين الله، لا يخليه من تصريفه في مهماته، وإخراجه في السفرات، الى كبار الأمراء، والأمانات الى الثغور والأطراف، للإشراف عليها، والإعلام بمصالحها، والبنيان لحصونها، وترتيب مغازيها وإدخال جيوشها الى بلد الحرب. وربما أقامه في ذلك مقام أصحاب السيوف من قواد جيوشه، فيغني غناهم، بحسن تدبيره. وكان راضه على ركوب الخيل، وملابسة الحرب. وهو الذي تولى له بنيان مدينة سالم، بالثغر الأوسط، مع غالب غلامه. وخرج في أول سرية خرجت منها الى بلاد الحرب، ومنحت الظفر. فاستعد لذلك. وكان يستخلف على قضائه في غيبته قاسم بن محمد، صاحب الوثائق. وربما استخلف عبد الرحمن بن علي. رحمه الله تعالى.
ذكر سيرته في قضائه، رحمه الله تعالى
قال ابن حارث: فالتزم ابن أبي عيسى في قضائه الصرامة، في تنفيذ الحقوق، وإقامة الحدود. والكشف عن أحوال الشهود، والصدع بالحق، في السر والجهر. ولم يداهن ذا قدر، ولا أغضى لأحد من أصحاب السلطان، عن هنة. حتى تحاموا جانبه. فلم يكونوا يطمعون فيه.(6/99)
وله في التقصي عن إخراج الحقوق، من أكابر الناس، أخبار كثيرة. ولقد أتى مرة وصيف معه آلة لهو، فأمر بكسرها. فقيل له: إنه لفلان - وسُمّي له رجل عظيم - فلم يثنه ذلك عن كسره. قال: وكان يذهب أحسن المذاهب. بسط الحق، وأحيى العدل، ونصر المظلوم، وقمع المظالم. ولم يطمع شريف في حيفه. ولا يئس وضيع من عدله. ولم يكن الضعفاء قط أقوى قلوباً، ولا السنة، منهم في أيامه. مع لطافة بره، وكثرة بشره، ولم تغيره خطته عن حاله، حتى لقد أعرق في ابغاء الأجر بجانبه الكبير، بأن كان يحضر مسجد الجامع، عقب شعبان من كل عام، مع السدنة والقوام لخدمته، من كنسه، وصقل مصالحه. تنويهاً لمدخل الشهر. فيشاركهم في ذلك مشمّراً عن ساعديه. وذكر الحسن بن مفرج: أن رجلاً من أصحاب ابن أبي عيسى أتاه في الليل، فذكر له أن فقيهين مشهورين يصحبانه - في قصة سمّاها - بشهادة مدخولة. نصح له فيها وحذّره من قبولها. فلما جلس من الغد، أتاه أحدهما، فأعرض القاضي، وتبسّم في وجهه، لعله يقوم فيكفى شأنه، فتمادى، فلما رأى عزمه على(6/100)
التصميم في الشهادة، تناول القاضي سحاءةً بين يديه. فكتب فيها من حيث لم يره الآخر، ثم طواها وألقاها في حجره. فلما تصفحها الآخر إذا فيها مكتوب:
أتتني عنك أخبار ... لها في القلب آثار
فدع ما قد أتيت له ... ففيه العار والنار
فلم يكد يقرأها حتى قام منطلقاً. ولقي صاحبه، فقال له: النجاة. فقد شعر بنا. وقال القاسم بن محمد، كاتبه أيام قضائه بالبيرة: ركبنا مع القاضي، في موكب حافل، من وجوه البلد، إذ عرض لنا فتى، يتمايل سكراً. فلما رأى القاضي، أراد الفرار، فخانته رجلاه. فاستند الى الحائط، وأطرق. فلما قرب منه القاضي، رفع رأسه وأنشأ يقول:
ألا أيها القاضي الذي عم عدله ... فأضحى به في العالمين فريدا
قرأت كتاب الله تسعين مرة ... فلم أر فيه للشراب حدودا
فإن شئت أن تجلد فدونك منكباً ... صبوراً على ريب الزمان جليدا
وإن شئت أن تعفو تكن لك منّة ... تروح بها في العالمين حميدا
وإن أنت تختار الحدود فإن لي ... لساناً على هجو الرجال حديدا
فلما سمع القاضي شعره، أعرض عنه ولم يأمر، ومضى لشأنه كأن لم يره.(6/101)
ذكر نبذ من أخباره وطرف من أشعاره
مما أمر أن يكتب على سريره:
لا يغرنّك يا محمد ليل ... بت فيه على فراش وثير
منعم البال مطمئناً فلا بُ ... دّ من النعش بعد هذا السرير
كم فتى منهم وكهلاً وشيخاً ... ألحدَتْه كفاك وسط الحفير
وتذكّر بني أبيك أبي عيسى ... ذوي الجاه والعدد الكثير
وتفكّر في تعب موت أبي بكر ... ففي ذلك أعظم التفكير
قدم الزاد للمعاد ولا تن ... س إذا ما بطشت بطش القدير
واتق الله واعلم هذه الأيا ... م واعمل ليوم النشور
قرّب الموتَ منك مرُّ الليالي ... وأرى النقص منك واضح التعبير
ومن شعره في تقلقله في تلك السفرات:
ألفتني الهموم مذ كنت طفلاً ... لم ترُعني وقد علاني القتير
كلما قلت سالمتني الليالي ... وصفا العيش شابه التكدير(6/102)
فبدى يستحل في كل يوم ... وهموم تطرا ودهر يجور
وفلاة تختارني عن فلاة ... وصبا تستحثني ودبور
فوق حرف حامل لم يكن في ... بطن أنثى ولا علتها الذكور
زوجتي أيّم وابني يتيم ... في حياتي ومنزلي مهجور
خلّط الدهر لي سروراً بهمٍ ... فهو يوماً ويوماً نشور
كل ذا نعم من الله عندي ... فأنا حامد عليها شكور
حسبي الله خالق الخلق ... فالله على كشف ما عراني قدير
وله الحمد كم بفضل من ... هـ ينعمني ولكني عنود كفور
وله في رفيقين له من البرابرة يسميان عجنوساً ويعقوب. أرسلهما معه بعض أمراء العلويين بالعدوة:
تضمن عسكرنا أبرة ... نقيضين في قبة واحدة
فقد بر يعقوب به بحرة ... إذا شط قسورة لابدة
فهذا له صفو ما في المراد ... وذاك له ألف المائدة(6/103)
وعنجوس مستوطن لا يريم ... كما أرست الجعصة الخالدة
يحن الى طيبات الطعام ... حنين الرضيع الى الوالدة
ويأكل في سبعة من ومن ... لا يشتكي وحدة فاسدة
وأركان لقمته ستة ... كأن له إصبعاً زائدة
وله رحمة الله تعالى:
لا تلمني على البكا والعويل ... ذكرتني نخيل فاس نخيلي
وانسكاب الأمواه من حلل الضح ... ى دموعَ الأحباب يوم الرحيل
فعلت زفرتي وطال انتحابي ... وبدت لوعتي وهاج عليلي
ومنها:
وبنفسي نائي المحل، قريب ... من فؤادي وجسمي، نحيل
حال بيني وبينها البحر والفق ... ر وجد السرى ونفر الرحيل
يا قليل الإنصاف في الحب فعلا ... ان وجدي عليك غير قليل(6/104)
ومن نوادر أخباره ما ذكره ابن عفيف في كتاب الاحتفال، قال: جاءت الى القاضي ابن أبي عيسى من باديته دجاج، وعلى بابه السفيه، المعتوه، المعروف بابن شمس الضحى - وكان في ولاية القضاة من صغره الى أن مات - وكان مملولاً، وكان من شأنه مواظبة القضاة شاكياً أوصابه. فلما رأى الدجاج قال: يا قاضي أعطني دجاجة منهن، لابد والله أن تعطيني. وكان لا يقدر على رده أحد، وإلا جاء من حمقه بالعجب العجاب. فأمر، فأعطي دجاجة منها. فمضى بها يفخر بعطية القاضي، الى أن اجتاز بدرب أبي زيد قرب الجامع. فإذا رجل من بني أبي زيد فقيه هناك، جالس بباب داره. فقال للمعتوه: من أين لك هذه؟ قال: أعطانيها الساعة القاضي. فأمكث الزيدي البادرة وأخذها من يده، وحبسها، وقال هل: خدعك القاضي. أعطاكها مغربلة، أي مهزولة - بلغة عجم الأندلس - فانصرف عجِلاً، وقُل له إنها مغربلة. وكان القاضي يلقب مغربلة. فأبدلها لي سمينة. فهاج حمق المعتوه، ومضى على أدراجه الى القاضي وهو في جماعة. فقال: هذه الدجاجة التي أعطيتني مغربلة. فأبدلها لي سمينة.(6/105)
فعرف أنه دهيس للتعريض به. فقال له: هاتها حتى أراها. فجسّها. فقال: صدقت، من أين علمت ذلك؟ قال: قاله الفقيه الذي بموضع كذا. فسأله عن صفته، فوصفه. فاستدل على الرجل فعرفه، وإذا به يلقب بديك البادية، فوتأت له المعارضة، فبدّل له الدجاجة وقال له: اذهب الى ذلك الرجل، واسأله أن يعطيك الديك الذي سيق له أمس من البادية، يأتيك منه نسل جيد، فانطلق المعتوه الى ذلك الرجل الزيدي، فأصابه في جماعة، فأراه الدجاجة، وقال: أعطني أنت ديك البادية الذي أتاك، يكون زوجاً لها. فعلم ما أراد، فتغير، وانتهر المعتوه، فازداد تعلقاً به، وجعل يبكي ويلطم وجهه، ويحلف أن لا يزول إلا بالديك، فاضطر الى أن أخرج له ديك داره، الذي يوقظه للصلاة فداء من حمقه، فأخذه وانطلق، وجعل الزيدي يقول: لعمري لقد انتصف مني ابن أبي عيسى، ثم سار إليه، واعتذر له، فقال القاضي: واحدة بواحدة والبادئ أظلم.(6/106)
وذكر القاضي يوسف بن مغيث عن أبيه، أنه شاهر القاضي ابن أبي عيسى في بعض بل في دار بعض بني حدير، وقد خرجوا لحضور جنازة على فرش هناك، وجارية للحديري تغنيهم:
طابت بطيب لثاتك الأقداح ... وزها بحمرة خدك التفاح
وإذا الربيع تنسّمت أرواحه ... طابت بطيب نسيمك الأرواح
وإذا الحنادس ألبست ظلماءها ... فضياء وجهك في الدجى، مصباح
قال: فكتبها القاضي ببطن كفه. ولقد رأيته كبّر للصلاة، وهي ببطن كفه مكتوبة. وأخبار ابن أبي عيسى وأشعاره كثيرة. وتوفي ابن أبي عيسى رحمه الله في آخر خرجة. أخرجه الناصر الى الثغر سنة تسع وثلاثين وثلاثماية بمغيره من طليطلة. وبها دفن منسلخ صفر، وسنّه أربع وخمسون سنة. مولده نصف ذي الحجة: سنة أربع وثمانين ومايتين.(6/107)
أبو عيسى يحيى بن عبد الله، أخوه
غلبت عليه الرواية. سمع من عم أبيه، عبيد الله بن يحيى، ومحمد بن لبابة، وأسلم بن عبد العزيز، وأحمد بن خالد، وسمع ببجانة من علي بن الحسن المرّي وسعيد بن فحلون. وسمع من محمد بن عيسى القابسي. وعمّر الى أن كان آخر من حدّث عن عبيد الله. ورحل إليه الناس من جميع الأندلس، لرواية الموطأ، وحديث الليث، وسماع ابن القاسم رحمه الله تعالى. وعشرة يحيى بن يحيى، وتفسير عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ومشاهد بن هشام، ونيف من حديث الشيوخ. قال ابن عفيف: سمعنا منه الموطأ في أزيد من خمسماية تلميذ. وقد حكى الطبري أن أبا الحسن الدارقطني، همّ بالرحلة الى الأندلس، للسماع منه. وسمع منه هشام المؤيد في حياة أبيه الحكم. وسمع منه عالم عظيم، وآخر من حدث عنه بالأندلس: القاضي يونس بقرطبة. كان أخوه قاضي الجماعة. وكان سماع أبي عيسى من عمه عبيد الله، وهو صغير. وكان بعض الناس يغمص روايته عنه لذلك.(6/108)
قال ابن عتّاب، قال محمد بن حارث، وذكره في كتاب القضاة فقال: فحاز من تقدمه عفة وحياء وفضلاً، وانقباضاً. ورامه الناصر، عندما ولاه قضاء البيرة، أن يصرف إليه أمانة كورها، حسبما كانت بيد أخيه قبله، فأبى، وألحّ عليه الناصر، فاستعفى من ذلك فأعفاه من الأمانة. وتفرّد بالقضاء والنظر في الأحباس، فأدنى الضعيف وثبت في الحكم، وتحفظ من شهود زمانه، وتواضع في أمره، وتعفف. فلم يقبل لأحد تحفة، ولا هدية. قال محمد بن يحيى: كان أبو عيسى جليل القدر، عالي الدرجة في الحديث، حمد الناس أحكامه، وجميع أحواله. وكان من سراة الناس، حسن المركب والملبس والهيئة والصورة، كريماً، يطعم الطلبة إذا أتم مجلس مناظرته من ثمار بستانه، وينتظم للأكل، فإن فضل شيء دفعه الى الغرباء، يحملونه الى منازلهم. وقال لهم: تستعينون به في أدامكم. وكان أبو عيسى لا يرى القنوت في الصلاة. ولا يقنت في مسجده البتة. ويحتج بالحديث الذي رواه عن عبيد بن يحيى عمّ أبيه، عن الليث، عن يحيى بن سعيد، عن ابن شهاب: إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لقوم ويدعو على آخرين، ثم أتاه جبريل عليه السلام، فقال:(6/109)
يا محمد إن الله لم يبعثك سباباً ولا لعاناً، إنما بعثك رحمة، ولم يبعثك عذاباً، " ليس لك من الأمر شيء " الآية. قال يحيى بن سعيد: فمنذ سمعت هذا الحديث من محمد بن شهاب، لم أقنت. وقال الليث: ومنذ سمعت هذا الحديث من يحيى بن سعيد، لم أقنت. وقال يحيى بن يحيى: ومنذ سمعت هذا الحديث من الليث، لم أقنت. وقال عبيد الله بن يحيى: ومنذ سمعت هذا الحديث من أبي يحيى، لم أقنت. قال أبو عيسى: ومنذ سمعت هذا الحديث من عم أبي، لم أقنت، ولا قنت في مسجدنا. وعمّر، توفي أبو عيسى صدر رجب سنة ست وأربعين وثلاثمائة، وسنّه خمس وثمانون سنة، رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد
ويقال أحمد بن عبد الله بن أحمد الأموي، هذا قول ابن الفرضي وغيره،(6/110)
والأول قول ابن عفيف، المعروف باللؤلؤي - صناعة أبيه - قرطبي، كنيته أبو بكر. سمع من أبي صالح، وطاهر بن عبد العزيز. قال ابن أبي دليم: كان أفقه أهل زمانه بعد موت ابن أيمن. وله بصر باللغة والشعر والوثائق. قال الرازي: كان قد برع في علم السنن، وتقدم في الفتيا، وأخذ من جميع العلوم بنصيب وافر. وكان من أهل الحدس الصادق والرأي المصيب. قال ابن الفرضي: كان إماماً في الفقه على مذهب مالك، مقدماً في الفتيا، لم يزل مشاوراً من أيام أحمد بن بقي الى أن توفي. وقد حدّث. قال اسماعيل بن إسحاق: وكان اللؤلؤي من أحفظ أهل زمانه لمذهب مالك. لم تذكر له رحلة. حدثنا أبو حارث: كان صدر المفتين وأرواهم وأفقههم في تلك المعاني. قال ابن عفيف: كان مقدّماً في الشورى، أفقه أهل عصره، وأبصرهم بالفتيا، وعليه مدار طلاب العلم، وعليه تفقه محمد بن زرب القاضي.(6/111)
وكان أخفش العينين ضعيف البصر، وأفرط عليه آخر عمره، حتى كان لا يستبين الكتاب في أيام المناظرة. فكان ابن زرب يلقي عنه، ويمسك الكتاب. وذكره محمد بن عبد الرؤوف الكاتب في كتابه، فقال: كان فقيهاً حافظاً متفنناً في العلوم، غزير العلم، كثير الرواية، جيد القياس، صحيح الفطنة، عالماً بالاختلاف، حافظاً للغة، بصيراً بالغريب والعربية، شاعراً حسن القريض، متصرفاً في أساليبه، راوية له، مميزاً به. رغب عن الشعر ونكب عنه، الى التبحر في علم الفقه، وعلم السنّة. فأكثر شعره في الزهد والوعظ والمكاتبات. وذكره في طبقات شعراء الأندلس. وسئل خالد بن سعيد يوماً عن مسألة عويصة، فقال للسائل: عليك بأبي بكر اللؤلؤي، فإليه تأتي هذه الأحمال الكبار، وإما تأتينا المحتملات، ونسمع. وكانت فيه دعابة، يستعملها حتى أن شواطر النساء كن يكتبن إليه بالمسائل من المجون، يتعرضن بها إليه، فيجيبهن ويتخلص، ويندر فيهن. أتته امرأة بسؤال فيه: ما تقول يرحمك الله في امرأة وعدت ثم أخلفت، ما يجب عليها؟(6/112)
فكتب بأسفل كتابها: أساءت حين وعدت، وأحسنت حين أخلفت. وكتب في بعض أيام الشتاء، الى محمد بن مسرة، وكان من وجوه تلامذته، يستدعيه للمذاكرة:
هلم إن اليوم يوم دجن ... الى محل مثل الضمير المكن
ساكنه كطائر في وكن ... لعلنا نحكم أدنى فن
في مجلس مرفرف ذي كن ... فأنت عند الظن أمشى مني
وأنت في سنك دون سني(6/113)
وكتب الى تلميذه أبي بكر بن زرب شعراً:
كتمت تباريحي فصرح عن سري ... سوانح تمت عن غرامي وما تدري
ومنها:
أتتني بصفو الود منك صحيفة ... تخبر عن ود وتنظر عن بر
كأن نثير اللفظ في جنباتها ... لقائط در أو جمان من النّثر
تضمنها من جوهر الشعر حكمة ... بها سحرت من كان يُنعت بالسحر
إذا نشرت يزهى بها كل سامع ... ومنشدها يبدي صدوداً من الكبر
يطول بها لفظ البليّ بلاغة ... ونبصر بالراوي بها طائل العمر
ألا حبذا أرض يكون محمد ... بها وبنفسي حيث كان أبو بكر
فوالله لو أستطيع محض مودة ... لا حللته قلبي وأسكنته صدري
وللؤلؤي رحمه الله تعالى:
إن وإن كنت القريض أقوله ... يوماً فليس على القريض معولي
علمي الكتاب وسنة مأثورة ... وتفنّني في أضرُبٍ وتحوّلي
فإذا ذكرت ذوي العلوم وجدتني ... في السبق قدام الرعيل الأول
أشفي العَمى ببيان قول فاصل ... يجلو ويكشف كل أمر مشكل
والجمع يعلم أنني إمّا أقُلْ ... إن أنصفوا في ذاك أن لا أفعل(6/114)
واللؤلؤي كان المقرب بابن زرب أولاً. والمنتسب المال في حكاية طويلة، في كتب تواريخ الأندلسيين، يعد فيها الفقهاء. وكان اللؤلؤي في آخر عمره لا يفتي بالتدمية، ولا يقول به، لقصة غريبة جرت له مع بعض جيرانه بالبادية. وذلك أن جاراً له كان له حقل، مُداخِلٌ لحقل اللؤلؤي، يكرم عليه، ويود لو جمعه لحقله. فلا يزال اللؤلؤي يسأل صاحبه أن يبيعه منه. أو يعاوضه منه بكل حيلة، فلا يجيبه، الى أن اعتلّ صاحب الحقل، فعاده اللؤلؤي. فأظهر الرجل من السرور بعيادته والشكر له ما أطمعه في قضاء حاجته. فكلمه في ذلك ورغب إليه في تصييره له، فأظهر له الإسعاف بذلك وقال له: أحضر من شئت من الفقهاء أشهدهم على بيعي منك إياه، الى أن أستقل، فتبلغ ما تحبه، فسرّ بذلك. فقال له: فأجئ بالثمن، فقال الرجل سبحان الله يا فقيه، على مثلها من الحال، أقبض مالاً؟ لو كان عندي مال لأودعتكه، وكنت أحرز له من ذريتي. فسرّ بقوله وطمع فيه. وانطلق فجاء بعدة من الفقهاء أصحابه، فأدخلهم عليه. فإذا به قد أظهر انهداد قوته، وضعف منطقه. فدنا الفقيه منه، فقال: يا فلان أشهد الفقهاء - حفظهم الله - ببيعك مني.(6/115)
قال: أشهدكم أن الفقيه اللؤلؤي قاتلي، قاصداً متعمداً لقتلي. وأنه المأخوذ بدمي. فإن حدث بي حدث الموت استقيدوا لي منه. فإن دمي في عنقه، وأنتم رهناء بالصدق عني، فدهش اللؤلؤي، وقام على الرجل يستثبته، ويذكره بما جرى بينهما. ويخوّفه الله. وسلك أصحابه الفقهاء في ذلك سبيله. فلا يرجع عن ذلك، ويقول: ما أشهدكم إلا على ما كان. ولقد تناولني بيده بعد لسانه، والله سائلكم إن تكتموها. فلما لم يجدوا فيه حيلة، خرجوا عنه. فسألهم اللؤلؤي أن يتفرقوا قليلاً، حتى يخلو به، ففعلوا، فانفرد به. فطفق يعذله ويقول له: الى هنا انتهت بك الحال، حتى تعصى الله فيّ، وتدعي عليّ بغير الحق. فقال له: وهل قلتُ إلا ما فعلت؟ دخلتَ عليّ، وأنا أحسبك عابداً مشفقاً. فسررت بذلك، فإذا بك باغي فرصة، فلما مسستني في سويداء قلبي، وأعدت عليّ من حديث هذا الحقل، ما تعلم كرهي له، لكونه قرة عيني، وأتيت عليّ، فخرجت الى ما تراه. فهل أردت إلا قتلي؟ فاعتذر إليه اللؤلؤي وقال: أنا تائب لله تعالى من ذلك، فاتق الله فيّ، وراجع عقلك بما تدري ما يؤول إليه حالك.(6/116)
وجدّ في الرغبة إليه، في حلّ ما عقده من التدمية عليه. فبعدما أجابه الى ذلك وقال: أما وقد مضت الى هذا فاحلف بالأيمان اللازمة أنك لا تلتمس هذا الحقل في حياتي، ولا بعد مماتي، ولا تسعى لملكه بوجه، وتحرّمه على نفسك وتدفعه عنك، ولو صال إليك بميراث، ولا تهمّ لي مع ذلك بمساءة، ولا معارضة على فعلي. ولا تحقد على ذريتي بعدي. فحلف له على ذلك. وتوثق منه. وأذن للفقهاء عند ذلك للدخول. فلما دخلوا أشهدهم أنه قد عفا عن الفقيه لله تعالى، وأسقط عنه تبعة دمه. فقال له اللؤلؤي: إنم أريد أن تكذب نفسك، وتعود الى الحق. فقال له: هذا هو الحق، فإن أقنعك عفوي عنك، وإلا فأنا على ما عقدته عليك. وأما تكذيبي، فلا أقول به، إذ أنت قاتلي. فرضي منه بذلك، وتوثق من الإشهاد عليه، وصار حديثهما عجباً، واعتقد بعد، أن لا يفتي بإمضاء تدمية بعدها. وتوفي اللؤلؤي في سنة خمسين وثلاثمائة، وقيل سنة إحدى وخمسين.(6/117)
محمد بن فضيل بن هذيل الحداد
أبو عبد الله. سمع من محمد بن عمر بن لبابة، وصحبه. وكان حافظاً للمسائل والمذهب ومتكلماً فيه، عالماً بالرأي والشروط، كثير الرواية والمناظرة. وكان يتجر في سوق الحديد، ويفتي أهل السوق بقرطبة. واستشهد قديماً في غزوة الخندق، سنة سبع وعشرين وثلاثمائة. وقال ابن أبي دليم رحمه الله تعالى: فُقِد.
محمد بن عبد الله بن عبد البر
ابن عبد الأعلى بن سالم بن غيلان بن أبي مروان، التجيبي، المعروف بالكشتاني، أبو عبد الله، قرطبي. سمع من محمد بن لبابة، وأسلم بن عبد العزيز، وأحمد بن خالد. وكتب لأسلم أيام قضائه.(6/118)
وله رحلة لقي فيها محمد بن النفاح، وأبا مسلم بن محمد بن صالح، ومحمد بن زيان، وجماعة. وكانت له بالأندلس وجاهة عند الخاصة والعامة في العلم والزهد. وسمع منه الناس كثيراً، وشوّر في الأحكام. وكانت له منزلة من الحكم المستنصر، ومحل لطيف. ولقد عتب الحكم عليه في شيء، فأقسم أن لا يطأ عتبة منزله سنة. ثم لم يمض عنه، فنصب له كرسياً خارج المجلس، فجلس عليه، الى أن كملت سنة، وعاد لعادته. ويقال إنه لم حج، دعا في محراب زكريا في البيت المقدس، لله تعالى أن يهب له حظوة من سلطانه، وظهرت استجابته. حدث عنه أحمد بن يحيى وغيره. ورحل ثانية لآخر عمره، وسمع ابن الأعرابي، وحج. ومات بطرابلس، إحدى وأربعين وثلاثمائة، فيما ظنه ابن الفرضي. وكان له ابن اسمه أحمد، يكنى بأبي عثمان. وسمع بقرطبة، ورحل، فلقي ابن الأعرابي، وسمع منه ومن سواه، وكتب عنه رحمه الله تعالى. توفي سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.(6/119)
أحمد بن دحيم
ابن خليل بن عبد الجبار بن حرب بن أبي حرب، قرطبي، أبو عمر. سمع من عبيد الله، والأعناقي، وسعيد بن خمير، وطاهر بن عبد العزيز، وأبي صالح، وأحمد بن خالد، وابن لبابة، وغيرهم. ورحل سنة خمس عشرة، فسمع بمكة من الديلمي، والعقيلي، وابن الأعرابي. وببغداد من ابراهيم بن حماد، والبغوي، وابن مخلد العطار، وابن صاعد، وبحران بن أبي عروبة، وعن جماعة في الآفاق. وسمع من عبيد الله بن الولي المعيطي، ومن أسلم القاضي، وغيرهما. قال ابن الفرضي: وكان معنياً بالآثار، حافظاً للسنن، ثقة. قال ابن الحارث: كان من أهل الحفظ والرواية والخير والصلاح والورع، مشهوراً بالعلم، تقياً. قال في موضع آخر: كان من أهل العلم والفقه، حافظاً لمذهب مالك. وسمع منه الحكم المستنصر جلّ ما عنده. قال ابن أبي دليم: وحمل بالعراق كتب القاضي اسماعيل، فزاد فهمه.(6/120)
وولي الشورى، ثم قضاء طليطلة، ثم قضاء البيرة وبجاية. فلم يزل قاضياً الى أن توفي في طاعون سنة ثمان وثلاثين. ومولده سنة ثمان وسبعين.
أحمد بن عبد البر بن يحيى
أبو عبد الملك، قرطبي، من موالي بني أمية، صاحب تاريخ الفقهاء والقضاة. قال ابن عفيف: كان ممن طلب العلم كثيراً، وبحث عنه، وقيد آثار العلم له، ولا أعلم له رحلة. أخذ عن شيوخ الأندلس، بقرطبة وغيرها. وعوّل على محمد بن لبابة، ومحمد بن قاسم وابن أيمن، وقاسم بن أصبغ، وابن الزرّاد، وابن زياد، وأحمد بن خالد، وصحبه. وروى عن غيرهم، فانتفع في الرواية والدراية. وكان بصيراً بالحديث حافظاً للرأي، عالي الرواية. سمع أبو عبد الملك أيضاً من أسلم القاضي، وابن أبي تمام، وألف في فقهاء قرطبة تاريخاً مشهوراً. قال ابن الفرضي: كان بصيراً بالحديث، فقيهاً نبيلاً، متصرفاً في فنون العلم، وغلب عليه الحديث.(6/121)
قال ابن عفيف: وكانت له إشارة وسمت نبيل. وتكلم فيه الحسن بن مفرج، فاستولى على ما ذكره، بكثرة تتبعه، مثالب الأئمة في كتابه.
ذكر محنته رحمه الله تعالى
كان أبو عبد الملك هذا منقطعاً الى المؤيد، عبد الله بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله، لا يكاد يفارقه. وله ألف تاريخ الفقهاء والقضاة. فلما سُعي الى الناصر بابنه عبد الله، وأنه يريد القيام عليه في وقت قد اقترب، وحقق ذلك عنده، أرسل في الليل من قبض على ولده فألفيَ عنده تلك الليلة فشملته المحنة. وقال الناصر: أنا أعلم أنه الذي زين لهذا العاق ذلك، ليكون قاضي الجماعة، ويأبى الله ذلك. فسجنه وعزم على أن يعاقبه، يوم عيد الأضحى الذي قرر عنده أن التدبير كان فيه عليه. فأصبح ابن عبد البر ذلك اليوم ميتاً في السجن. فأسلم الى أهله. وذلك سنة ثمان وثلاثين وثلاثماية. ومات في ذلك اليوم محمد بن عبد الله بن أبي دليم. فقدّما جميعاً فصلى عليهما ابن أبي عيسى. وعاتبه الناصر لصلاته عليه. فاعتذر له أنه لم يعرف من كان. وإنما صلى على ابن أبي دليم. وضمت إليه جنازة أخرى لا أدريها. رحمه الله تعالى.(6/122)
اسماعيل بن عمر بن ناصح المخزومي
مولاهم، قرطبي أبو القاسم. قال ابن الفرضي وغيره: كان فقيهاً في المسائل على مذهب مالك رحمه الله تعالى، وأصحابه. حافظاً للشروط، بتصاون، صحب محمد بن عمر بن لبابة، وابن صالح، والقاضي أسلم، ونظرائهم من أهل العلم. ورحل حاجّاً وشوّر في الأحكام. وكان مشاركاً في علم الإعراب، ورواية الشعر، وقرضه. توفي سنة ثمان وثلاثين.
عبد الله بن محمد بن يوسف المعروف بالمري، الأزدي
أبو عبد الله، قرطبي. سمع الأعناقي، وابن خمير، وسعد بن معاذ بن عبيد الله، وأحمد بن خالد، وغيرهم، رضي الله تعالى عنهم. وكان رجلاً فاضلاً، عابداً زاهداً منقبضاً، معتنياً بالحديث مع تفقهه، ودراسته. غلب عليه الزهد والانقطاع. سمع منه خالد بن سعد، وأبو محمد الباجي، وابن عبد البر. وثّقه الباجي رحمه الله تعالى. قال ابن الفرضي: توفي بعد غزاة وخشمة. قال ابن أبي دليم: توفي سنة سبع وعشرين.(6/123)
أحمد بن يحيى بن زكريا رحمه الله تعالى
يعرف بابن الشامة. أبو عمر. من بيت نبيه بقرطبة. سمع ابن وضاح، صغيراً، ولم يحدّث عنه. وسمع من عبيد الله، وأبي صالح، وابن لبابة، والأعناقي، وأحمد بن خالد، وأبيه، وغيرهم. وكان حافظاً زاهداً منقطعاً ناسكاً، متتبلاً. وحدّث. وله حظ من الفقه. توفي رحمه الله تعالى، نصف شعبان، سنة ثلاث وأربعين، وابنه، عبد الله، حدث. ولم يكن عنده علم.
أحمد بن محمد بن مسور
رحمه الله تعالى. أبو القاسم. تقدم نسبه، عند ذكر أبيه، قرطبي. سمع صغيراً من أبيه ومن ابن وضاح. وسمع من أبي صالح، ومحمد بن عمر بن لبابة. وعني بالرأي، وشوّور. وكان ذا سمت وهدى، ونالته زمانة، وانقبض. وكان أحمد بن مطرف، وخالد بن سعد يثنيان عليه. قال ابن مصلح: كان شيخاً صالحاً. وسمع من ابن وضّاح صغيراً. وحدّث، وسمع منه أبو عثمان سعيد بن أحمد، وقال: حضني على السماع منه أحمد بن مطرف. وتوفي سنة خمس وأربعين.(6/124)
وكان له ابنان: محمد. قال في كتاب ابن مفرج القيسي. وكان ذا علم ورواية. روى عن أبيه وأخيه. ورحل. وتوفي سنة سبعين وثلاثمائة. وآخر: مسور بن أحمد، أبو تمام. سمع من جده وابن خالد وغيرهما. ورحل فسمع من ابن الأعرابي وغيره. وحدث عنه أخوه محمد وتقدمت وفاته.
أحمد بن يوسف
الطبلاطي، قرطبي. أبو القاسم. سمع من عبيد الله، وابن لبابة، وأبي صالح. وكان حافظاً للمذهب. وابن أبي تمام، وقاسم بن أصبغ وغيرهم. وكان فقيهاً حافظاً للرأي، بصيراً بالأحكام مشاوراً فيها، مع بصر بالإعراب، وحفظ للغة وذكاء. وكان شاعراً متقدماً، أديباً ظريفاً. توفي آخر ذي القعدة سنة سبع وأربعين.(6/125)
فرج بن سلمة بن زهير بن مالك بن سرحان بن زهير
ابن مالك بن أبي الأصلح البلوي قرطبي المولد، وأصله من باجه. وانتقل الى فحص البلوط. وكنيته: أبو سعيد. سمع من ابن لبابة، وجالسه وتفقه معه، وسمع من القاضي أسلم وأحمد بن خالد، ومحمد بن أيمن، وأبان بن محمد، وأحمد بن بقي، وابن أبي تمام، وابن وليد، وقاسم بن أصبغ وغيرهم. ورحل فسمع بالقيروان من ابن اللباد وغيره. وكان حافظاً للرأي على مذهب مالك. غلب عليه التفقه والمناظرة. وكان عاقداً للشروط مشاوراً في الأحكام، واستقضي بوادي الحجارة، وولي صلاتها، ثم قضاء ريّة. وله في الوثائق تأليف حسن. توفي سنة خمس وأربعين وثلاثمائة ومولده سنة ثمان وثمانين.
إسحاق بن ابراهيم بن مرسة
أبو ابراهيم التجيبي. مولاهم. قال الرازي في كتابه، في أعيان الموالي بالأندلس: إنه مولى بني هلال التجيبي من أهل طليطلة.(6/126)
كان طليطلي الأصل، وسكن قرطبة لطلب العلم، ثم استوطنها. وكان أولاً يتّجر في سوق الكتان، في دكان له. سمع ببلده من وسيم، وعثمان بن يونس، ووهب بن عيسى، وابن أبي تمام. وبقرطبة من أبي الوليد، وابن لبابة، وأسلم، وابن خالد، وابن أيمن، ومحمد بن قاسم، وقاسم بن أصبغ وغيرهم. وكان أكثر أخذه عن ابن لبابة، وابن خالد، وبهما تفقه.
ذكر فضائله وعلمه رحمه الله
قال الرازي وغيره: وكان خيراً فاضلاً ديناً ورعاً مجتهداً عاقداً. قال ابن عفيف: كان من أهل العلم والفهم والعقل والدين المتين، والزهد والتقشف، والبعد عن السلطان، لا تأخذه في الله لومة لائم. وقدّم للشورى على يد القاضي ابن أبي عيسى، دل عليه وليّ العهد الحكم، في عدة أُريدوا لها، فكملت عدتهم إذ ذاك ستة عشر مشاوراً. قال القاضي أبو الوليد بن الفرضي: كان حافظاً للفقه على مذهب مالك وأصحابه، متقدماً فيه، صدراً في الفتوى. وكان يناظر عليه في الفقه. وقد حدث وسمع منه جماعة. وكان وقوراً مهيباً. ولم يكن له بالحديث كبير علم. قال مؤرج الطليطلي، وذكره: كان أبو ابراهيم زاهداً عابداً، عالماً، لم يكن في عصره أبرّ منه خيراً، ولا أكمل ورعاً. من المشاهير في الجمع والعلم(6/127)
والحفظ. مهيباً مطاعاً، صليباً في الحق. لم يكن يتكلم مع أصحابه بالتسهيل. كان من الراسخين في العلم. ومن تأليف أبي ابراهيم: كتاب النصائح المشهور، وكتاب معالم الطهارة والصلاة. وكان الحكم أمير المؤمنين معظماً له. وكان إذا دخل عليه يمد رجليه أمامه، ويعتذر لشيخته، فيقول له الحكم: لا مؤونة عليك منا، اقعد كيف شئت. وكان صليباً، قليل الهيبة للملوك، متصرفاً مع الحق حيث ما تصرف. جالس يوماً الحكم، فذاكره أبواباً من العلم وأخبار السلف، الى أن وقع الحكم، فذكر رجلاً من القرطبيين، وثلبه، فسكت عنه أبو ابراهيم، ونكس برأسه، ولم يأخذ معه في شيء من ذكره. فوجد الحكم من ذلك. ثم رجع الى ما كانوا فيه من ذكر الصالحين. فانبعث معه أبو ابراهيم، ثم عاد الى ذكر الرجل، فأقصر أبو ابراهيم وعاد الى حاله الأول من الإطراق والوجوم. فأقصر الحكم عن ذكره. ورابَه أمر أبي ابراهيم، فأنشد متمثلاً بالبيتين المشهورين في مدح مالك بن أنس، رحمه الله ورضي عنه وأرضاه:
يأبى الجواب فما يراجع هيبة ... والسائلون نواكس الأذقان
هدي العلوم وعز سلطان التقى ... فهو المطاع وليس ذا سلطان
ولما أخذت الشهادات على أبي الخير المسمى بأبي الشر، الزنديق، أفتى أبو بكر بن السليم، والحجازي في جماعة، بالاعذار له فيمن شهد عليه. وأفتى أبو(6/128)
ابراهيم وابن المشاط والقاضي منذر بطرح الاعذار، في جماعة. وكان أشدهم في ذلك إسحاق بن السليم، والد أبي بكر. وخالف ابنه في ذلك، فأمر الحكم بالأخذ برأي أبي ابراهيم وأصحابه. ومر بقتله دون أعذار. فكتب إليه أبو ابراهيم كتاباً يشكره فيه على حياطة الدين، ويعتذر عن تخلفه عنه لبرد اليوم، وتوالي مطره. فأجابه الحكم بجواب منه: وجزاك الله عن الدين والحياطة للإسلام خيراً. فلقد وقع رأيك مني أفضل موقع. وقد أحسنت في توقفك والأخذ بالقدر، الذي عاقك بما أحب، الى ما أحاطك الله به، وأصلح من حالك، ولقد قلت لمن حضر في يوم السبت إثر خروجك: لن يزال هذا البلد بخير ما كان فيه مثل هذا الشيخ، أكثر الله فيه مثله، اعترافاً لله بالنعمة فيك. وهذه بصيرتي فيك، فأعلمه. وكان أبو ابراهيم لا يمسح على الخفين في حضر ولا سفر. يأخذ بذلك في نفسه، ويفتي بجواز ذلك لمن استفتاه. وكان إذا كلِّم في ذلك يقول: شيء ألفته. لا أستطيع تركه. وكلمه في ذلك تلميذه: قاسم بن أرفع رأسه، في بعض المغاربة في ليلة شديدة الريح، وقد ضجر من فعله. فتبسم الشيخ وقال: يا قاسم لا أدفع ما تقول بحجة. ولكنه شيء لم أفعله دهري كله، أفأفعله الليلة؟ ولعلي أموت فيها، فأتناقض في مذهبي. ولا احتطت فيه لنفسي.(6/129)
وكان شديد البرّ بوالدته. ذُكر أنه كان له أخ، قد اشتدت به الحال في بعض السنين الشديدة. فشكا إليه ضعفه. فتوجع له ودعا وانصرف الى أمه. وذكر لها ما به. وقال لها: أتيت الفقيه أخي، فما زاد على الدعاء. وانصرف أبو ابراهيم آخر النهار وقد اتّجر في سوقه، وباع كتّاناً ربح فيها ما اشترى به قوته: ربع دقيق، وثُمن زيت. فجاء بذلك الى داره، فاستقبلته أمه وعاتبته على منع أخيه من مؤاساته. فاعتذر لها بقلة ذات يده، وأنه ما كان يملك إذ جاءه، قطعة يواسيه بها. وما اشترى ما اشترى إلا من كتان باعه. فقالت له: سخطي عليك، لتحملن ما جئت به على رأسك، الى دار أخيك. تكفّر ردك له، ففعل. وراوده الحكم على أن يأتيه بابنه أحمد، وهو يومئذ صغير، وأظهر له حب ذلك. وعزم عليه فيه. فقال: يا أمير المؤمنين أما الآن فلا يصلح لذلك. والآن: أراه ميتاً - وهو واحِدي - أحبّ إلي من أن يقول الناس هذا الشيخ المرائي، استجلب بولده دراهم السلطان. فأعفاه الحكم من ذلك. قال تلميذه، وقريبه قاسم بن أرفع رأسه: تركني أبي، وإخوتي في حجر أبي ابراهيم. فكفلنا وربّانا وعلّمنا. ففتح الله عليّ ببركته. فلم يكن في قلي أحد أعظم منه لي. كنت يوماً خارجاً الى صلاة العصر، إذ فتح بابه، فإذا به ورائي، يريد مثل ما أريده. فتوقفت حتى لحقني. فسلمت عليه. فردّ عليّ مغضباً، وقال لي: يا قاسم، قط ما كان هذا تقديري فيك. فيا ليتني ثكلتك، ولم أرك صنعت ما(6/130)
صنعت. فقلت: وما هو يا سيدي؟ قال: خرجت من بيتك الى الله لتأدية فريضة. فبينا أنت في ذلك، وقعت عينك على مخلوق مثلك، يريد ما أردته، فحولت وجهك إليه، عن قبلتك، ووقفت حتى لحقك؟ فقلت: يا سيدي، أنا معذور في الهوى إليك، إذ حقك عليّ كوالدي. فقال: ما أريد أن تفعله به، ولا بي، فحق الله أحق من كل حق، لا تعد لمثله. وشاوره صاحب الرد في أصحاب السوق، يلتزمون الصلاة في دكاكينهم بإمام، ويتشاغلون عن حضور المساجد، وأن أكثر ذبّاحي المجازر اليهود. فأفتى بالمنع من جميع ذلك، وبإخراج اليهود من مجازر المسلمين. وكان يوماً في مجلسه يُقرأ عليه، وقد جعل بالطلبة، إذ جاءه خصي من قبل الحكم. فقال أجب أمير المؤمنين فهو ينتظرك، وقد أُمرت بإعجالك، فالله، الله. فقال: سمعاً وطاعة، ولا عجلة. فارجع إليه وعرّفه عني، إنك وجدتني في بيت من بيوت الله، مع طلاب العلم يسمعون عليّ حديث ابن عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس يمكنني ترك ما أنا فيه، حتى يتم المجلس المعهود، فذلك أكرم، ثم أقبل على شأنه، ومضى الخصي ثم انصرف فقال له: عرَّفته قولك(6/131)
فهو يقول لك: جزاك الله خيراً عن الدين، وعن أمير المؤمنين، عن جماعة المسلمين. فإذا أتممت فامضِ إليه راشداً. فقد أُمرتُ أن أبقى معك مذكراً. فقال له: أنا أضعف عن المشي الى باب الشدة، والركوب لشيختي صعب عليّ. وباب الصناعة يقرب إليّ. فإن
رأى أمير المؤمنين أن يأمر بفتحه، لأدخل منه، هوّن على المشي، فإن ذلك إليه. وتعود. فمضى الفتى ثم رجع بعد حين، فقال: يا فقيه قد أجابك أمير المؤمنين الى ما سألت، ومن الباب خرجت. وجلس الخصي جانباً، حتى أكمل أبو ابراهيم مجلسه. أفسح ما كان غير منزعج، وقام الى داره، فأصلح من شأنه، ومشى إليه، وقضى حاجته من لقائه. فلما انصرف، أعيد إغلاق الباب، كما كان. وذكر ابن مظاهر، أن الخليفة الحكم، استفتاه في غلبة نفسه، على وطء بعض جواريه في رمضان. فأفتاه بعض أصحابه بالإطعام، على اختيار مالك. فقال هو: لا أدري إلا الصيام. فإنما أمر مالك بالإطعام، لمن له مال، وأمير المؤمنين لا مال له، إنما هو مال المسلمين، فأخذ بقوله. وهذه الحكاية لا تصح جملة. لأن أمير المؤمنين في وقته ممن كان لا يغلب على هذا. وممن كان يدّعي لنفسه من الأموال المتملكة كثيراً. وممن كان لا يحبس عليه أبو ابراهيم وطاء غيره. والحكاية معروفة ليحيى بن يحيى، وذُكرت عن غيره. وذكرناها. وكان عند الناصر إعذار لبعض ولد بنيه، احتفل في استدعاء وجوه الناس له. فلم يتخلف عنه أحد إلا أبا ابراهيم، فافتقد مكانه، وساءه ذلك. فكتب إليه الحكم، يعتبه ويطلب منه وجه عذره. فأجابه أبو ابراهيم بما هذا نصه: سلام على الأمير، سيدي، ورحمة الله. قرأت - أبقى الله الأمير سيدي - كتابك، وفهمته. ولم يكن توقيفي لنفسي، إنما كان لأمير المؤمنين سيدنا أبقاه الله، ولسلطانه. لعلمي بمذهبه، وسكوني الى تقواه، واقتفائه لأثر سلفه الطيب، رضي الله عنهم. فإنهم كانوا يستبقون من هذه الطبقة، بقية. لا يمتهنوها بما يشينها، ويغض منها، ويتطرق الى تنقصها. يستعدّون بها لدينهم، ويتزينون بها عند رعاياهم، ومن يعدو عليهم من قضاتهم، فلهذا تخلفت، ولعلمي بمذهبه وفقه الله. فلما قرأ الكتاب الحكم، أعلم أباه الناصر، فاستحسن اعتذاره، وزال ما في نفسه، ووفى الشيخ بينته. وتوفي إسحاق بطليطلة وكان خرج مع الحكم، غازياً ليلة الجمعة في رجب، لعشر بقين منه سنة اثنتين. وقيل أربع وخمسين وثلاثماية. وسنّه خمس وسبعون. وذكر أن الخليفة الحكم، لما علم بموته قال: الحمد لله الذي كفانا شره، وخلصنا منه. وحكي أن خبر موته، ورد الى الحكم، وقد فتح عليه، فقال لا أدري بأي الفرحتين أسر، بأخذ الحصن أو بموت إسحاق، لخوفه منه، وطوع العامة له، وقيل: إنه كان حجبه عن نفسه، فاعتل. وذكر القاضي محمد بن يحيى بن أحمد في كتابه المعروف بكتاب البشرى، أنه رأى قبل موته سنة إحدى وخمسين، أنه مات - رحمه الله - وأن الملائكة تتوفاه. فخرجت رؤياه على وجهها. رحمه الله وغفر له ولجميعهم بمنّه. أى أمير المؤمنين أن يأمر بفتحه، لأدخل منه، هوّن على المشي، فإن ذلك إليه. وتعود. فمضى الفتى ثم رجع بعد حين، فقال: يا فقيه قد أجابك أمير المؤمنين الى ما سألت، ومن الباب خرجت. وجلس الخصي جانباً، حتى أكمل أبو ابراهيم مجلسه. أفسح ما كان غير منزعج، وقام الى داره، فأصلح من شأنه، ومشى إليه، وقضى حاجته من لقائه. فلما انصرف، أعيد إغلاق الباب، كما كان. وذكر ابن مظاهر، أن الخليفة الحكم، استفتاه في غلبة نفسه، على وطء بعض جواريه في رمضان. فأفتاه بعض أصحابه بالإطعام، على اختيار مالك. فقال هو: لا أدري إلا الصيام. فإنما أمر مالك بالإطعام، لمن له مال، وأمير المؤمنين لا مال له، إنما هو مال المسلمين، فأخذ بقوله. وهذه الحكاية لا تصح جملة. لأن أمير المؤمنين في وقته ممن كان لا يغلب على هذا. وممن كان يدّعي لنفسه من الأموال المتملكة كثيراً. وممن كان(6/132)
لا يحبس عليه أبو ابراهيم وطاء غيره. والحكاية معروفة ليحيى بن يحيى، وذُكرت عن غيره. وذكرناها. وكان عند الناصر إعذار لبعض ولد بنيه، احتفل في استدعاء وجوه الناس له. فلم يتخلف عنه أحد إلا أبا ابراهيم، فافتقد مكانه، وساءه ذلك. فكتب إليه الحكم، يعتبه ويطلب منه وجه عذره. فأجابه أبو ابراهيم بما هذا نصه: سلام على الأمير، سيدي، ورحمة الله. قرأت - أبقى الله الأمير سيدي - كتابك، وفهمته. ولم يكن توقيفي لنفسي، إنما كان لأمير المؤمنين سيدنا أبقاه الله، ولسلطانه. لعلمي بمذهبه، وسكوني الى تقواه، واقتفائه لأثر سلفه الطيب، رضي الله عنهم. فإنهم كانوا يستبقون من هذه الطبقة، بقية. لا يمتهنوها بما يشينها، ويغض منها، ويتطرق الى تنقصها. يستعدّون بها لدينهم، ويتزينون بها عند رعاياهم، ومن يعدو عليهم من قضاتهم، فلهذا تخلفت، ولعلمي بمذهبه وفقه الله. فلما قرأ الكتاب الحكم، أعلم أباه الناصر، فاستحسن اعتذاره، وزال ما في نفسه، ووفى الشيخ بينته. وتوفي إسحاق بطليطلة وكان خرج مع الحكم، غازياً ليلة الجمعة في رجب، لعشر بقين منه سنة اثنتين. وقيل أربع وخمسين وثلاثماية. وسنّه خمس وسبعون.(6/133)
وذكر أن الخليفة الحكم، لما علم بموته قال: الحمد لله الذي كفانا شره، وخلصنا منه. وحكي أن خبر موته، ورد الى الحكم، وقد فتح عليه، فقال لا أدري بأي الفرحتين أسر، بأخذ الحصن أو بموت إسحاق، لخوفه منه، وطوع العامة له، وقيل: إنه كان حجبه عن نفسه، فاعتل. وذكر القاضي محمد بن يحيى بن أحمد في كتابه المعروف بكتاب البشرى، أنه رأى قبل موته سنة إحدى وخمسين، أنه مات - رحمه الله - وأن الملائكة تتوفاه. فخرجت رؤياه على وجهها. رحمه الله وغفر له ولجميعهم بمنّه.
أحمد بن مطرف بن عبد الرحمن بن قاسم بن علقمة بن بدر
أبو عمر بن المشاط الأزدي
من أنفسهم. ويتولى بني أمية. وجده بدر. هو الداخل مع عبد الرحمن الداخل. وكان عربياً من الأزد. فكان ينتمي الى عبد الرحمن لدخوله معه.(6/134)
وكذا قال ابن الفرضي، وأنه أزدي. وقال خالد بن سعد، إنه تجيبي. قال ابن حارث: وكان أبو مطرف المشاط، قد عني بالعلم، وروى عن ابن مطروح، وابن وضاح، وابن باز، وابن وهب، وابن نافع، ومطرف بن قيس، وقاسم بن هلال. وكان مولده سنة خمس وأربعين آخر شوال. وتوفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة. وكان أحمد ابنه، من أهل العلم والتقييد. روى عن سعيد بن خمير، ومحمد بن لبابة، وأحمد بن خالد، وأبي صالح، وعبيد الله بن يحيى، والأعناقي، وطاهر بن عبد العزيز. وسمع منه ابن هذيل. وكان معتنياً بالآثار زاهداً، ورعاً متقشفاً، الغالب عليه الرواية والحديث. وولي الصلاة بقرطبة، بعد القاضي ابن أبي عيسى الى أن توفي، وسمع منه كثيراً. قال اسماعيل بن إسحاق: وكان أحمد بن مطرف فاضلاً خيراً ورعاً عفيفاً منقبضاً صدوقاً سالم الصدر، فيه غفلة الصالحين، وصحة مذهبهم. وكانت صدقات(6/135)
الحكَم تجري على يديه. فكان لا يعطي منها الدهاقين الذين أعدوها مكسبة، ويؤثر بها أهل الفقه والسنن. قال أبو الحسن الحجازي: كان ثقة حافظاً للمسائل والرأي، ركناً من أركان الدين. وكان كثير التغرر في طهارته، والأسباغ في وضوئه وغسله، يكرر ذلك ويعيد، حتى يخرج الى الإفراط. وكان لا يكاد يمس بثيابه ثياب غيره. وإذا قام عن موضع جلس فيه من لا يعلم نظافته، لم يمسه، ويقول: أحد يزكيه. ونضح ثيابه. وكان لا يقعد في موضع، ولا يستند الى شيء، حتى يستبرئ نظافته بالمسح والنفض والكنس. فيقال له في ذلك، فيقول: أستحي التوهم في هذا. وكان قد أعد لصلاته كسوة غير كسوته لمهنته، لا يلبسها لغير الصلاة. وكذلك آنيته التي يشرب منها، ويتوضأ، مجنبة عن غيرها، لا يشارك فيها، في أغشية يخبؤها. وكان قد هيأ لكل شيء من الآلة غطاء، ولا يركب دابة إلا معقودة الذيل، حذراً من شيء يعلق به، مسرفاً في التحفظ من ذلك. وابتلي مرة بامرأة غسلت نجاسة من فوق غرفة وهو مجتاز، فأصابته ولوثت ثيابه، فرجع الى منزله مقذوعاً قفاه كثيراً. وخلع الثياب واغتسل، وبدل كسوته، وأمر بغسل كسوته تلك وبيعها والبراءة مما أصابها، وتصدّق بثمنها شكراً لله، إذ وقى جسمه مباشرة تلك النجاسة.(6/136)
وعاده مرة من مرض اعتراه حسرامي الكاتب اليهودي. فلما استأذن عليه، انزعج الشيخ لذلك. وتقدم في قلب فرش بيته، وكشف الطريق إليه، ودعا بدفة باب الكنيف، ووضعت بين يديه، ليجلس عليها، وأبطأ عن اليهودي الإذن، الى أن هيئ ذلك كله. فلما رأى الهيئة حدس بفطنته، على ما أراده، فتوقف عن دخول البيت، واكتفى بالسؤال والدعاء إظهاراً لإعظام الشيخ، ثم انصرف، ولم يستجلسه. ومن فضائله المشهورة أن الناصر أخذته الجمعة يوماً بقرطبة، أيام تولي ابن المشاط الخطبة - وكان مطيلاً لها - فلما خرج الناصر للصلاة دعا وزيره أبا عثمان بن ادريس، وأوصى إليه أن يذكّر ابن المشاط في تخفيف الخطبة، ففعل، وألطف له القول، وقال له: إن الناصر يجد صداعاً في رأسه، هو الذي أمسكه عن الحركة الى الزهراء، ورأى أنه في حرج عن التخلف عن الجمعة. فهو يريد عونه عليها بالتخفيف عنه، والرفق به. فقال له: سمعت قولك، والله الموفق لما يُزلف منه. فلما انقضى الأذن، وخرج الناصر الى مصلاه جانب المنبر، قام ابن المشاط للخطبة، فترسّل في منطقه، واحتفل في افتتاحه وتحميده، والصلاة والسلام على رسوله، ثم أخذ في الوعظ على عباد الله، وروى في الحديث أنه يختبر يوم(6/137)
القيامة، أنعم الناس في الدنيا، وأشدهم بلاءً. فيغمس المتنعم في نهر من أنهار جهنم، ثم يخرج منه، فيقال: هل رأيت خيراً قط. ويؤتى بالمبتلى، فيغمس في نهر من أنهار الجنة، ثم يخرج، فيقال: هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا ما رأيت بؤساً قط. وحشد أمثال هذا وأطال، وزاد، فبكى وأبكى الناس، حتى قام في الجامع شبه المأتم من البكاء والشهيق. قال ابن ادريس: وأبلست وامتلأت غيظاً. فلا أدري أكثر ما قال. وخفت أن يظن الناصر أني لم أؤدّ الرسالة. فلما تمت الصلاة، ودخل الناصر الى مكانه بالساباط، وأذن للوزراء، فدخلوا وأنا معهم، فدعا بصاحب الصلاة، استربت. فلما وقعت عينه عليه، بشّ له. ورفع منزلته. فسري عني، فأقعده الناصر، وأقبل يثني عليه، ويكبر مشهده، وأنه
ما شهد قط مثله، وأنه يرجو بركته، لما أدركه من الخشوع والبكاء والندم، وأنه متقرب الى الله تعالى بألف دينار من طيب ماله، شكراً لحضور هذا المشهد، وأنه يرسل بها الى ابن المشاط، يجعلها حيث رأى من سبل الخير، وانصرف عنه، فوصل إليه الوزير ابن ادريس آخر النهار بها، وقال له: كنت أحوطَ لدينك، فكرم الله مقامك. فقال له ابن المشاط: يا وزير، اعمل ما شئت، ويكون عملك لله، فلن ترى إلا خيراً ضماناً عليه. وكانت فيه غفلة الصالحين. فكان إذا سمع الباعة يصيحون على سلعهم، ويصفونها بغاية الجودة، يقول لمن معه: لا تقبلوا منهم. فإن أكثر ما يقولون كذب. قد خدعوني بمثله. وكان يقول في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وحراسة سعد له، إن النبي صلى الله عليه وسلم، كان لا يخاف شيئاً. ولكن أراد أن يكون سنة لأمته. ينام أحد في المخاوف. وتوفي ليلة الأحد لثمان بقين من ذي القعدة سنة اثنتين وقيل أربع وقيل ست وخمسين وثلاثمائة. اشهد قط مثله، وأنه يرجو بركته، لما أدركه من الخشوع والبكاء والندم، وأنه متقرب الى الله تعالى بألف دينار من طيب ماله، شكراً لحضور هذا المشهد، وأنه يرسل بها الى ابن المشاط، يجعلها حيث رأى من سبل الخير، وانصرف عنه، فوصل إليه الوزير ابن ادريس آخر النهار بها، وقال له: كنت أحوطَ لدينك، فكرم الله مقامك. فقال له ابن المشاط: يا وزير، اعمل ما شئت، ويكون عملك لله، فلن ترى إلا خيراً ضماناً عليه.(6/138)
وكانت فيه غفلة الصالحين. فكان إذا سمع الباعة يصيحون على سلعهم، ويصفونها بغاية الجودة، يقول لمن معه: لا تقبلوا منهم. فإن أكثر ما يقولون كذب. قد خدعوني بمثله. وكان يقول في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وحراسة سعد له، إن النبي صلى الله عليه وسلم، كان لا يخاف شيئاً. ولكن أراد أن يكون سنة لأمته. ينام أحد في المخاوف. وتوفي ليلة الأحد لثمان بقين من ذي القعدة سنة اثنتين وقيل أربع وقيل ست وخمسين وثلاثمائة.
محمد بن عبدون بن محمد بن فهد
تقدم ذكر أبيه. قال ابن عفيف: كان محمد من أهل العلم والرواية، حافظاً للفقه بصيراً بالوثائق. متقدماً في ذلك. جلّ روايته عن والد. وروى عن ابن وضّاح، كتاباً واحداً من حديثه، سمعه منه. وهو يومئذ غلام ابن إحدى عشرة سنة، أو نحوها. أرى في السنة التي توفي فيها ابن وضّاح. إذ توفي ابن وضاح سنة سبع وثمانين، كما قدّمنا. وكان بين موته وموت ابن عبدون، إحدى وثمانون سنة. وحدث بالمدونة عن ابن وضاح، وأجازه. وهو آخر من حدث عن ابن وضاح.(6/139)
سمع منه ابن عفيف، وأبو علي الحداد الفقيه، ومحمد بن يحيى بن مفرج، وغيرهم. قال محمد بن يحيى: كان من أهل الفقه والحذق بالوثائق، من جلة الرجال. وكان عرض له صممٌ شديد. فكان لا يكاد يسمع ما قرئ عليه، إلا ما قرأ هو. ولم ألقَ من أصحاب ابن وضاح غيره. وعرضت على اللؤلؤي وثيقة فأعجبته. فقالوا له: ما تقول فيها؟ فقال: وثيقة جيدة. قال ابن عفيف: وقد طعن أيضاً في عدالته. وعمّر. فتوفي سنة ثمان وستين وثلاثماية، وهو ابن اثنتين وتسعين. قال ابن الفرضي: مولده فيما بلغني: سنة اثنتين وسبعين. رحمه الله.
عبد الله بن محمد بن يوسف بن أبي العطاف الأحدب
أبو محمد، قرطبي. قال ابن عفيف: كان من أهل العلم والرواية العالية، عن ابن وضّاح وغيره. حافظاً للفقه. عالماً بالوثائق وعللها. متقدّماً في هذا الفن. قال: وكان يطعن في عدالته.(6/140)
قال ابن الفرضي: كان من أبصر أهل زمانه بعقد الشروط. حدّثني عنه عبد الرحمن بن محمد الإمام، وأثنى عليه. وممن روى عنه القاضي ابن عمرون، رحمه الله.
أبو عثمان ابن عبد ربه
رحمه الله. وقال ابن الفرضي: هو سعيد بن أحمد بن محمد بن عبد ربه، ابن حبيب بن سالم. قال غيره: هو ابن أخي أبي عمر، أحمد بن عبد ربه الشاعر. وجده سالم، مولى هشام بن عبد الرحمن بن معاوية. سمع من ابن لبابة، والقاضي، وابن خالد، وابن أيمن، وابن قاسم. قال ابن عفيف: من أهل العلم والأدب، والحفظ للفقه، والنظر في الأدب، والحذق بالطب. وكان مشاوراً في الأحكام أيام منذر بن سعيد، وعمه أبو عمر، أجلّ شعراء الأندلس، وأمتنهم قولاً. لأبي عثمان هذا، أرجوزة في الطب، حسنة. وكان مذهبه في مداواة الحميّات بالبوارد، يخلط شيئاً من الحوار فيها، لتغوّصها في الأعضاء الباطنة، فتبعه(6/141)
على ذلك حذاق الأطباء. وظهرت له في تدبير جماعة من إخوانه منافع مذكورة. قال ابن الفرضي: كان فقيهاً مشاوراً، مقدّماً في الفتيا، ثقة. سمع منه الناس كثيراً. وقد حدّث عنه أبو حرملة الفقيه. قال ابن عفيف: كان حسن الخلق، فكِهاً. وعمي آخر عمره، وأشير عليه بالقدح فأبى ادخاراً للآخرة. وما روى في ذلك من الثواب في الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، أنه قال: من نزعت كريمته، جعلت ثوابه الجنة. وأنشد له عمه أبو عمر رحمه الله:
أمن بعد غوصي في علوم الحقائق ... وطول انبساطي في مواهب خالقي
ومن بعد إشرافي على ملكوته ... أُرى طالباً شيئاً الى غير رازقي
وقد أذنت نفسي بتقويض رحلها ... وأعنف في سوْقي الى الموت سائقي
وإني قد أيقنت إن رغت هارباً ... عن الموت في الآفاق فالموت لاحقي
وتوفي سعيد هذا سنة اثنتين وأربعين وثلاثماية. فيما قاله ابن عفيف. وقال ابن الفرضي رحمه الله: سنة ست وخمسين.(6/142)
أحمد بن محمد بن يحيى بن مفرج
قرطبي. يكنى بأبي القاسم. ومفرج هذا، مولى الأمير عبد الرحمن بن الحكم، فيما قاله ابنه محمد لابن الفرضي. وقال القيسي: إنه مولى عبد الرحمن بن معاوية. قال: وكان معدوداً في فقهاء قرطبة ورواتها. صالحاً نبيهاً مسمتاً. روى عن محمد بن وضاح، وعبيد الله، وطاهر، وأبي صالح، والأعناقي، ونظرائهم. قال ابن الفرضي: لا أعلم حدّث عنه إلا ابنه، أبو عبد الله رحمه الله. وتوفي سنة ست وثلاثين وثلاثماية، وأما لقبه، أبو عبد الله بن مفرج القاضي، فتفرّد بعلم الحديث. وكان من أعلم أهل الأندلس به، وأقواهم عليه، وأوثقهم فيه. ورحل ولقي الناس، وسمع منه، وصنّف تصانيف جليلة. وولي قضاء ريّة. وعدة شيوخه ماية شيخ. توفي سنة ثمانين وثلاثماية رحمه الله.(6/143)
محمد بن محمد الصدفي
أبو عبد الله. قرطبي. كان ذا سمت وهدى وعدالة. سمع مالك بن علي القطني، وابن لبابة، وعثمان بن أيوب، وكان بصيراً بالوثائق. قال ذلك ابن أبي دليم، رحمه الله. وكان ابن لبابة، يثني عليه. وذكر ابن الفرضي عن سليمان بن أيوب أنه كذبه. وكان ابن أيمن يسيء القول فيه. توفي آخر سنة ثمان عشرة وثلاثماية، قبل لحوق طبقته.
عبد الملك بن العاصي بن محمد بن بكر السعدي
أبو مروان قرطبي. أصله من طليطلة. وقيل من قلعة رباح. ونشأ بقرطبة. سمع بها من ابن لبابة. وأسلم: القاضي ابن سعد. وأحمد بن خالد وسعد بن رمضان. ورحل سنة ثلاث عشرة. فسمع بالقيروان، من البجلي، وأحمد بن زياد، وسمع بمصر من عبد الرحمن بن محمد اللوان، ومحمد بن زياد ومحمد بن الجبري، ولقي جماعة غير هؤلاء.(6/144)
ودخل الشام، فاستخلفه القاضي ابن المنتاب، على القضاء هناك. وسمع بمكة من ابن المنذر كثيراً. وببغداد من ابن صاعد، وابراهيم بن حماد، ومحمد بن الجهم، وابن مسلف، وأبي الفرج القاضي، وأبي يعقوب الرازي، وعمر بن محمد بن شريح، وغيرهم. وشهد بها مجلس المناظرة. وأقام ببغداد ثلاثة أعوام. وكانت إقامته في رحلته بضعة عشر عاماً. وأدخل الأندلس علماً كثيراً. وكان حافظاً متفنناً نظاراً متصرفاً في علم الرأي، حسن النظر فيه، مشاوراً في الأحكام، قال ابن حارث: كان قد ظهر فقهه في حداثة سنه، قبل رحلته. وشاوره إذ ذاك القاضي أسلم، ولما انصرف من المشرق، وقد مال هناك الى النظر، والحجة، رفعه الحكم، وهو ولي عهد الشورى. وألف في نصرة مذهب مالك تواليف كثيرة. منها كتاب الذريعة الى علم الشريعة. وكتاب الدلائل والبراهين على مذهب المدنيين. وكتاب الدلائل والأعلام، على أصول الأحكام. وكتاب الاعتماد، وكتاب الإبانة عن أصول الديانة، وكتاب الردّ على من أنكر على مالك العمل بما رواه. وتفسير رسالة عمر بن عبد العزيز في الزكاة، وكتاب اختصار الأقوال، لأبي عبيد. ومرض بالفالج، وتوفي يوم السبت، لثمان بقين من المحرم، سنة ثلاثين وثلاثماية. وهو ابن أربع وأربعين سنة ونصف. وفيها مات ابن أيمن، وابن لبابة، الأصغر. رحمهما الله تعالى، ورضي عن جميعهم.(6/145)
الحسن بن عبيد الله بن محمد بن عبد الملك بن الحسن
الملقب بزونان، ابن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. تقدم في ذكر جده زونان. نسبه، وبيته. يكنى أبا عبد الملك، ويعرف بابن زونان، قرطبي. سمع من ابن وضاح، وعبيد الله، وغيرهما وشوّور في الأحكام مدة طويلة، الى أن توفي واستخلفه القاضي ابن بقي، على الصلاة. وكانت وفاته، سنة ست وثلاثين وثلاثماية أول رجب منها. رحمه الله.
سليمان بن عبد الملك بن المبارك
أبو أيوب، المعروف بأبي المشترَى بفتح الراء. وجدّه المبارك مولى محمد بن الأمير. قرطبي بيته. سمع من ابن وضاح كثيراً ومن أبي صالح، وعبيد الله. وهو الذي بوّب الكتب المختلطة الباقية على سحنون من المدونة. وكان عالماً عابداً مجتهداً فقيهاً حافظاً مشاوراً في الأحكام. سمع منه الناس كثيراً. روى عنه ابن مفرّج وابن برطال، وغيرهما. واختلف في وفاته ما بين خمس وثلاثين وسبع وثلاثين وثلاثمائة. والله سبحانه أعلم وأحكم.(6/146)
أحمد بن عبد الله بن سعيد رحمه الله
يعرف بابن العطار. ويقال له صاحب الوردة. يكنى أبا عم، حدّث عن ابن وضّاح، واختص به. وحدّث عن غيره. قال ابن مصلح: كان من الفصحاء البلغاء. وهو كان القارئ على ابن وضاح، والخشني. قال ابن عفيف: كان من أهل العلم والعناية، والتقييد، فقيهاً حافظاً للمسائل، بصيراً بالوثائق، ذكياً حافظاً، حسن الأخلاق. وكان موصوفاً بكثرة الأكل، والتهمم به. له في ذلك نوادر مغربة. منها: أنه أتى يوماً ضيعة له، فوجد وكيله بها في حصاده، وزوجه في الدار قد أعدّت لغذاء الخدمة ما يقوم بهم من خبز فطير، وجفنة بشرار اللبن. وبصل كثير. فتركت الفقيه، وسارت بقلّة تستقي فيها ماءً. فشره الفقيه لأكل ما حضره وانبسط إليه، حتى استوفاه عن آخره. وخجل من رجوعها ومشاهدتها إقفار بيتها. فركب لحينه، فلقيها بقلّتها فاستقاها، وشرب القلة عن آخرها. ثم تجشأ في وجهها جشوة منكرة. فبهتت المرأة، وقالت له بكلامها الفحمي: سواد بيت تمضي إليه. فقال لها بمثل كلامها: بل سواد بيت خرجت منه، ولا تدري المرأة ما مراده. حتى أتت بيتها فرأت ما حطمه لها. واستأنفت للقوم غداءً آخر. ومنها: أنه أكل يوماً في وليمتين، وأوفى كل واحدة قسطها. وأتى دارهم، فوجدهم يأكلون كافحاً، فاستزاد منه. ثم أتاه مناصفة من قرية وسط نهاره، بعقيل خبز طري، وفول أخضر، وخرشف. فأمعن في ذلك وأفرط عليه الشبع. وربيَ في(6/147)
بطنه الطعام، وغشي عليه. فدعي له الطبيب، فعالجه بالقيء، حتى خفّ ما به، واستراح، وانصرف عنه الطبيب. فجعل يناديه: ما ترى يكون الغدي؟ فغضب الطبيب وقال له: حجارة الواد، فإن الطوب لا يقوم بك. وتوفي سنة خمس وأربعين وثلاثماية.
أبان بن عيسى بن محمد بن عبد الرحمن بن دينار
ابن واقد بن رجاء بن عامر بن مالك الغافقي، قرطبي. كنيته أبو محمد. وقيل أبو القاسم. وأصلهم من طليطلة. وقد تقدم في الطبقة الأولى من الاتباع، وبعدها ذكر نسبهم. ونباهة بيتهم، ورجالهم في العلم والجلالة بقرطبة وطليطلة. وذكرنا منهم عدة أئمة. وجماعة قضاة جلة. سمع أبان هذا من أبيه، وعبيد الله بن يحيى، وروى عنه ابناه، ومحمد بن عبد الله، وخالد بن سعد، ومحمد بن خليل، وابن أبي زمنين، وجماعة. توفي في ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وثلاثماية. مولده سنة إحدى وثمانين ومايتين.
يوسف بن سموال
الزيات رحمه الله، قرطبي. أبو عمر. كان رجلاً ورعاً حافظاً للمذهب. وكان يفتي بالسّوق.(6/148)
أحمد بن محمد بن زياد
رحمه الله، قرطبي، من بيت علم وجلالة، أبو القاسم. سمع عمه أحمد. وشوّور. قال ابن الفرضي: وكان متأخراً في حفظه مطعوناً.
أحمد بن محمد بن خلف بن أبي حجيرة
قرطبي، يروي عن ابن خالد، ومحمد بن أيمن، وقاسم، وغيرهم. ورحل فسمع بمصر محمد بن جعفر بن أعيد وغيره. وكان زاهداً متبتلاً، منقبضاً عالماً. وتوفي رحمه الله يوم السبت، لتسع بقين من جمادى الأولى، سنة ست وخمسين وثلاثماية. وحسد صديقه أحمد بن عون الله في جنازته، فعاب الناس عليه ذلك.
اليسع بن سعيد بن أصبغ الصدفي
يعرف بالحجازي. قرطبي. أبو القاسم. أخذ عن أسلم القاضي. وابن أبي تمام، وابن فطيس الأبهر، وغيرهم. وكان يشاور في الأحكام. ذكره ابن الفرضي.(6/149)
عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي دليم
قرطبي. أبو محمد. ذكرنا أباه ونسبه، فيما تقدم. ويروي عن أسلم، وابن أبي تمام، وابن خالد، وابن أيمن، وعثمان بن عبد الرحمن، ومحمد بن قاسم، وعبد الله بن يونس، وقاسم بن أصبغ، والخشني. وكان نبيلاً بالحديث ضابطاً لما رواه. بصيراً بالإعراب جيّدَ الكتاب. ولي قضاء بجاية والبيرة، وأحكام الشرطة بقرطبة، الى أن مات. وكانت له من الحكم أمير المؤمنين مكانة. وكان الحكم يعظّمه، وألّف كتاب الطبقات فيمن روى عن مالك، واتباعهم من أهل الأمصار. وقد نقلنا منه الكثير في كتابنا هذا. توفي فجأة بقصر الزهراء، سنة إحدى وخمسين وثلاثماية. وكان قد أفلج قبل ذلك بعام. ثم استقل شيئاً.
أخوه محمد أبو عبد الله، رحمه الله
سمع من رجال أخيه كلهم. وكان عالماً فقيهاً زاهداً، ورعاً عفيفاً جلداً. قال ابن الفرضي: وكان ضابطاً متقناً ثقة مأموناً.(6/150)
قال محمد بن يحيى الجزار: كل أصحابنا كان له صبوة ما خلاه، فإني عرفته صغيراً زاهداً. وقال أبو محمد الباجي: من أراد أن ينظر الى رجل من أهل الجنة - إن شاء الله - فلينظر الى محمد بن أبي دليم. وكان يأبى من الاسماع. الى أن توفي أصحابه. فجلس قبل موته بثلاثة أعوام، فسمع منه عالم كثير، وكان صرورة لا يطأ النساء. ولم يتداو قط ولا احتجم. قال محمد بن يحيى: كان من خيار الناس، وعلمائهم. قال ابن عفيف: كان من أهل العلم الواسع، والفضل البارع، معدوداً في النسّاك الصالحين. وكان هو وعبد الله بن المعيطي، أشهر الناس عدالة بقرطبة. وكان لا يرى أن يسمى طالب العلم فقيهاً حتى يكتهل، ويكمل سنه، ويقوى نظره، ويبرع في حفظ الرأي، ورواية الحديث وتبصره، ويميز طبقات رجاله، ويحكم عقد الوثائق، ويعرف عللها، ويطالع الاختلاف، ويعرف مذاهب العلماء، والتفسير، ومعاني القرآن. فحينئذ يستحق أن يسمى فقيهاً، وإلا فاسم الطلب أليق به. وكان نحيل الجسم ناسح الجلد، لا يتألم من عض البراغيث. ويعجب ممن يقلق منها.(6/151)
وكان كثير الصلاة والصيام، عابداً مجتهداً، وعمّر. مولده سنة ثمان وثمانين ومايتين. وتوفي سنة اثنتين وسبعين وثلاثماية.
قاسم بن محمد بن قاسم بن محمد بن يسار
مولى الوليد بن عبد الملك. تقدم ذكر أبيه وجلالة بيته في العلم بقرطبة. كنيته أبو محمد. وهو خاتمة بيته في العلم. سمع من أبيه ومن عبيد الله، والأعناقي، وطاهر، وابن لبابة، وابن خالد. وكان معتنياً بحفظ رأي مالك وأصحابه. بصيراً بالشروط، نافذاً فيها. ولي خطة الوثائق، وتصرف في قضاء استجه، وقُبْرة، وإشبيلية، وأحكام الشرطة بقرطبة. فلم يزل متقلداً لقضاء هذه البلاد، مجموعة له، الى أن توفي. وكان محموداً فيما تولاه. قال ابن عفيف: كان من أهل الفقه والشورى. وهذا الذي تولى الحكومة في أمر أبي البشر الزنديق. وتوفي فجأة، سنة ثلاث وخمسين وثلاثماية. أصابته سكتة فمات.
معاوية بن سعد
قرطبي. رحمه الله. أبو سفيان. سمع من ابن وضاح، وعبد الله، وابن الصفار، وصحبه. وكان فقيهاً في المسائل، حافظاً لها. توفي سنة أربع وعشرين وثلاثماية.(6/152)
هشام بن أحمد بن غانم بن خزيمة الغافقي
قرطبي، أبو خالد. كان ولي الأحباس. أيام منذر القاضي. وكان فقيهاً مشاوراً متصرفاً في علم النحو والشعر، شاعراً. توفي سنة تسع وخمسين وسنّه ثلاث وستون سنة. وقد كفّ بصره، قبل موته، بخمسة أعوام.
يوسف بن عمروس المنيي
قرطبي. نسب الى منْيَة عجب، جهة منها، سمع من ابن باز، وابن وضاح، وغيرهما. وكان رجلاً عابداً، حافظاً للمذهب، مذهب مالك، وانقبض قبل موته، بسنتين. وكان يختَلف إليه، للسماع منه، في داره، رحمه الله تعالى.
محمد بن يزيد بن رفاعة رحمه الله
أبو عبد الله من أهل البيرة. سمع بها من ابن فطيس، وأحمد بن عمرو، وابن منصور وهشام بن خالد، وبقرطبة من عبيد الله، وطاهر وغيرهما. وبالقيروان من محمد بن بسيل، وغيره.(6/153)
وكان حافظاً للغة بصيراً بالعربية، متقدماً فيها، وكان فيما قيل يصوم الدهر. كان مفتياً ببلده. توفي سنة ثلاث أو أربع وأربعين وثلاثماية. رحمه الله.
محمد بن أحمد بن لبيب
البيري. سمع من عبد الله وابن خمير وطاهر، وشوّور ببلده. رحمه الله.
أحمد بن علاء بن عمر بن نجيح، الخولاني
البيري. سمع ببلده من حفص بن عمر، وابن منصور، وابن فطيس، وبقرطبة من طاهر، وابن خالد. أفتى ببلده، رحمه الله.
محمد بن عيسى بن محمد بن عبد الله بن خير، الفزاري
من أهل البيرة، سمع ببجاية، من فضل، وغيره. وكان معتنياً بالمسائل، حسن الكلام فيها رحمه الله.
حريش بن ابراهيم رحمه الله
وادياشي. أبو اليسع، سمع من فضل بن سلمة، وبقرطبة من رجالها. وكان مفتياً بموضعه. ذكره ابن حارث رحمه الله.
عبد الله بن أحمد رحمه الله
من كورة البيرة، من آل سعد بن معاذ. سمع ابن أيمن، وأحمد بن زياد، وعليه كان معوّل أهل الموضع في الفتيا، والعقود.(6/154)
عثمان بن سعيد بن كليب
البيري. أبو سعيد. سمع ابن فطيس وغيره. وكان حافظاً للرأي، موصوفاً بالزهد. وليَ صلاة بلده. حدّث عنه أبو مفرج. وتوفي سنة أربعين أو إحدى وأربعين.
سعيد بن عثمان بن منازل
البيري، يعرف بابن الشقاق. ويكنى أبا عثمان. قاله ابن الفرضي. وذكره ابن أبي دليم وابن حارث، في أهل بجاية. سمع من فضل بن سلمة. وابن أبي خالد. ووهب وابن عمر، وابن فحلون. وبالبيرة من ابن منصور، وابن فطيس، وابن عمر، بل وبقرطبة من عبيد الله، وسعيد بن خمير، وطاهر وابن لبابة. وحدّث وكان فقيهاً مبرزاً، حافظاً عالماً حسن السمت والهدى. قال ابن حارث: كان فقيهاً متقدماً لا شغل له، إلا الدرس والمناظرة. كان هو وأحمد بن مناصح فقيهي بجاية. وكان وقوراً حسن الهدى، مجيباً للناس. ولي قضاء بجاية في المحرم، سنة خمس وأربعين، وسنة سبع وسبعين. مولده سنة ثمان وستين.(6/155)
وابنه عثمان أبو سعيد سمع من فضل، وابن فطيس، وعثمان بن جرير، وابن أبي خالد. وتوفي بعد هذا سنة أربع وستين.
أحمد بن واضح
من أهل بجاية. أبو القاسم. يروي عن عبيد الله. وأخذ عن فضل بن سلمة. وكان حافظاً للفقه، بصيراً بالمناظرة فيه، حسن الكلام في المذهب، أديباً. ورحل مرات حاجّاً وتاجراً. وتفقه على شيوخ القيروان. وشوّور ببلده، الى أن توفي. قال ابن حارث: كان جليساً في المجالس بالقيروان، ونفسه ببجاية. ولم يكن له شغل إلا الدرس والمناظرة في بلده، مع ابن الشقاق. إلا أن ابن واضح أدرك من ابن الشقاق، في الفقه ظاهراً وباطناً. رحمه الله.
أحمد بن جابر بن عبيدة
بجاني، أبو القاسم. يروي عن عبيد الله بن يحيى، وفضل بن سلمة، وغيرهما. وكان مشاوراً في الأحكام. وولي الصلاة بموضعه. رحمه الله.
عبد الملك بن سياخنح
بجاني أبو مروان. صحب فضلاً، وتفقه عنده. وكان حافظاً للفقه، متصرفاً(6/156)
فيه، وفي العربية والعبادة. ورحل الى المشرق، فسمع فيها وناظر ذلك ابن حارث. رحمه الله.
أحمد بن حفص
بجاني، من أصحاب فضل، ومحمد بن يزيد بن أبي خالد، وأبي جعفر العربي. كان بصيراً بالفتيا، ولم يكن بالضابط.
محمد بن زيدان
بجاني. قال ابن أبي دليم، رحمه الله: كان له حفظ وكلام حسن في المذهب، مع مروءة ومذهب جميل. رحمه الله.
يوسف بن سليمان بن عبد الله بن وهب بن حبيب بن مطر المري
يعرف بابن البسطي. أبو عمران. كان رجلاً صالحاً. صحب محمد بن أبي خالد وروى عنه، وشوّور. توفي قبل الثلاثين.
أحمد بن عبد الله العبسي
من أهل ريّة، كان فقيهاً عالماً زاهداً منقبضاً. كثير التلاوة والذكر والحفظ للمسائل، والنظر بالفرائض. وليَ الصلاة بموضعه. رحمه الله.
أحمد بن عبد الله رحمه الله
المعروف بابن عمامة - وهي أمه - وكان فقيهاً حافظاً، ذكياً. رحمه الله.(6/157)
محمد بن تمام رحمه الله
سمع من عبيد الله، وأبي صالح، وغيرهما. وكان فقيهاً فاضلاً ديّناً رحمه الله.
عزيز بن محمد بن عبد الرحمن بن عيسى، ابن عبد الواحد بن صبيح اللخمي
مالقي، يكنى أبا هريرة. وصبيح: هو الداخل للأندلس مع موسى بن نصير. كان فقيهاً عالماً، متفنناً بصيراً بالمسائل، موثقاً. سمع من ابن رفده، وعلاء بن عيسى، وابن بدرون. ولقي بكر بن حمّاد. توفي سنة خمس وخمسين وثلاثماية. رحمه الله.
محمد بن عبد الله بن طوف
جياني، سمع ابن أيمن، وابن زياد، وغيرهما. وكان معتنياً بالمسائل، وحفظها. مفتياً بموضعه. وجمع كثيراً من الحديث. رحمه الله تعالى.
محمد بن موسى
المعروف بابن أبي عمران. من أهل جيّان. سمع من معاذ، وابن أيمن، وكان مفتياً بموضعه، رحمه الله.
محمد بن نمير بن هارون، رحمه الله
المعروف بابن أبي خيثمة. جياني. سمع أحمد بن خالد، وأحمد بن بقي، وابن أيمن. وكان مفتي(6/158)
بلده، مع محمد بن يحيى بن أيوب. وكان الأغلب عليه الحديث. تقدم ذكر أبيه، رحمه الله.
ابراهيم بن عبد الله بن صالح
جياني، من أصحاب محمد بن أيمن، وأحمد بن زياد، وغيرهما. وكان مقدماً بموضعه، معتنياً بالفتيا.
عبد الله بن ابراهيم بن خالد
أرجوني، من عمل جيان، أبو محمد. كان فقيه موضعه. من أصحاب شعيب بن سهل.
عبد الله بن حمدين
جياني، من أصحاب ابن أيمن، وابن باز. كان مفتياً بموضعه. رحمه الله.
محمد بن حارث بن أبي سفيان
جياني. قال خالد بن سعد. كان فقيهاً في الرأي، حافظاً للمسائل، على مذهب مالك وأصحابه، رضي الله عنهم.
حسان بن عبد الله بن حسان
من أهل استجة. يكنى أبا علي. كان نبيلاً في الفقه، حافظاً للرأي. معتنياً(6/159)
بالحديث والأثر. متفنناً في علم اللغة والإعراب، والفرض والحساب والعروض ومعاني الشعر، وقرضه. كان اسماعيل يثني عليه ويقول: لم يكن باستجة مثله قبله، ولا بعده. وكان يفتي بموضعه. فسمع من الأعناقي، وعبيد الله، وسعيد بن خمير، وسعد بن معاذ، وأبي عبيدة، صاحب القبلة، وأبي صالح وابن أبي تمام، وأسلم القاضي، وأحمد بن خالد، وموسى بن أزهر، ومحمد بن قاسم، وغيرهم. وحدّث. وسمع من اسماعيل بن إسحاق، وغيره. وتوفي في عشرة ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وهو ابن ست وخمسين سنة. رحمه الله.
محمد بن عمر بن يوسف بن عمروس
استجي. أبو عبد الله. سمع من أبيه وغيره. وكان معتنياً بالفتيا، حافظاً للمسائل، حسن العقل. توفي رحمه الله، سنة ثمان وخمسين.
محمد بن يعقوب بن عيسى المرادي
استجي. أبو عبد الله. سمع من أبي صالح، وابن لبابة، وغيرهما. وكان ابن لبابة رضي الله عنه، يصفه بالفقه.(6/160)
عيسى بن خلف ابن أخت أبي أبينة
أبو القاسم. إشبيلي. سمع بقرطبة من ابن لبابة، وبإشبيلية من خالد، وابن القون، وكان حسن المناظرة، فقيهاً حافظاً للمسائل، عالماً بها. متقدماً في الفتيا بموضعه. أثنى عليه أبو محمد الباجي، وكان جميل المذهب. توفي سنة اثنتين وأربعين وثلاثماية، أو نحوها.
محمد بن سعيد بن جنادة الألهاني
إشبيلي. له عناية وسماع من ابن لبابة، وغيره. وأفتى بموضعه. توفي سنة تسع وأربعين وثلاثماية. في شعبان منها. رحمه الله.
خباب بن زكريا رحمه الله
من أهل بطليوس. وأصله من إشبيلية. يكنى بأبي القاسم. ورحل الى قرطبة زمن العطيبة، فسمع من شيوخها. وكان من أهل الفتيا والذكاء، فكِهاً مداعباً. توفي ببلده، سنة إحدى وثلاثين وثلاثماية. رحمه الله.
محمد بن ابراهيم بن إسحق بن عيسى بن أصبغ بن خالد بن يزيد
باجي. روى عن ابن جنادة وابن القون وغيرهما. وكان فقيه حاضرته ومفتيهم، وخطيبهم نحو ثلاثين سنة.(6/161)
وتوفي سنة ثمان وعشرين، وهو ابن ست وستين. رحمه الله تعالى.
ابنه ابراهيم بن محمد رحمه الله
أبو إسحاق. من أصحاب ابن لبابة، وأبي صالح، وابن خالد، وابن القون، وسمع غيرهم. وكان فقيهاً فصيحاً بليغاً شاعراً، لغوياً نحوياً. وليَ صلاة بلده. وكان مفتيها. وتوفي صدر سنة خمسين وثلاثماية. وهو ابن ثلاث وستين سنة.
وأخوه عبد الله بن محمد، رحمه الله
أبو محمد. روى بقرطبة عن ابن أيمن، وابن زياد، وقاسم. وكان مغتي بلده، وصاحب صلاته، بعد أخيه. موصوفاً بالورع والخير. توفي سنة تسع وستين، وهو ابن أربع وستين. وحقه أن يؤخر في الطبقة الأخرى.
منذر بن الحسن بن عبيد الله بن عثمان بن أبي روح الكلاعي
جزيري - من الجزيرة الخضراء - سمع بقرطبة من ابن لبابة، وابن خالد، ونظرائهما.(6/162)
ورحل فسمع من العقيلي، وابن الأعرابي، والكاروي، وابن رمضان، وابن الأنباري، وابن مجاهد وغيرهم بمصر والحجاز وبغداد، والشام والقيروان. وكانت رحلته نحو ثماني سنين. وانصرف فشووِّر ببلده. وتولى صلاته، وسمع منه يسير، إذ لم ينصب نفسه لذلك. وكان من أهل الفهم والورع والثقة. لم تحفظ عنه زلة. توفي ببلده، سنة خمس وثلاثين وثلاثماية.
خلف بن عبد الله بن مخارق الخولاني
من أهل الجزيرة الخضراء. سمع بها وببجاية، محمد بن بدرون. ورحل فسمع ابن المنذر وغيره. وكان مفتياً ببلده، مشاوراً. صاحب صلاتهم. ثم لزم سكنى قرطبة.
يوسف بن حطان بن سليمان بن خالد
جزيري. سمع ببلده، من ابن بدرون، وابن حكم، ومحمد بن عبد الوهاب بن ناصح، وغيره.(6/163)
وكان فقيهاً فاضلاً. وليَ صلاة بلده، أربعين سنة. وتوفي رحمه الله، سنة اثنيتن وعشرين وثلاثماية.
أحمد بن عيسى المعافري
من أهل الجزيرة الخضراء. كان فقيهاً متفنناً، ذكره ابن حارث. رحمهما الله.
وهب بن مسرة بن مفرج بن حكم التميمي الحجازي
أبو الحزم. سمع بقرطبة من ابن وضاح، وعبد الله بن أحمد بن ابراهيم الفرضي، والأعناقي، وابن معاذ، وأبي صالح، وأسلم، وابن الوليد، وابن أبي تمام، ومحمد بن عمر بن لبابة، وطاهر بن عبد العزيز، وأحمد بن خالد، وابن أيمن، ومحمد بن قاسم، وقاسم بن أصبغ، وابن الخشني. وببلده من أبي وهب بن أبي نخيلة، ومحمد بن عذرة، وعلي بن الحسن، وابن حيون. وكان حافظاً للفقه بصيراً به، وبالحديث واللغة، بصيراً حسناً ضابطاً لكتبه، مع ورع وفضل، ودارت عليه الفتيا بموضعه، وله أوضاع حسنة. واستُقدم بكتبه الى قرطبة، وأُخرجت إليه أصول ابن وضاح، التي سمع فيها، فسمعت عليه، وسمع عليه عالم عظيم. قال الحجازي: كان إماماً حافظاً للفقه، ثقة مأموناً. وإليه كانت الرحلة في حياته. ثم انصرف الى بلده.(6/164)
حدث عنه أبو محمد القلعي، وأثنى عليه. وحدث عنه غير واحد، وممن حدث عنه من أهل بلدنا وأكثر عنه: أبو عبد الله محمد بن علي، المعروف بابن الشيخ، راوية بلدنا وفاضله، وبلغني أن عبد الرحيم بن العجوز وأباه أحمد، حدثا عنه، وذكره ابن حارث فقال: كان يتكلم في الحديث وعلله، وكان خيّراً فاضلاً، وله كتاب في السنة، وإثبات القدر والرواية والقرآن. وتوفي ببلده، منتصف شعبان سنة ست وأربعين. وقال ابن أبي دليم: سنة أربع وأربعين. وقد قارب الثمانين. وقال غيره: ست وثمانين وستة أشهر. مولده سنة ست وسبعين ومايتين. رحمه الله.
أبو عبد الله الفهري، رحمه الله
فقيه طليطلة. ذكره ابن حارث وقال: لقيته، وكان شيخاً عليه جلالة السنّ،(6/165)
وسمت العلم، ووقاره وهديه. وفاوضته، فأفضيت منه الى علم كامل، وثقة ظاهرة، ومذاهب مستحسنة.
عبد الله بن حسين رحمه الله
المعروف بابن السندي. أبو محمد. مولى عبد الله بن المفلس، مولى بني فهر. ولزم هذا اللقب جده، لشبه رأسه بالبطيخة السندية. قاله ابن حارث، هو من أهل وشقة. سمع بقرطبة كثيراً، ورحل فسمع من يحيى بن عمر بالقيروان. حدث عنه يحيى بن عائذ، وأبو عبد الله بن الأبار، وكان عظيم الوجاهة في بلده. ولي قضاءه. قال ابن أبي دليم: وكان حافظاً للمذهب بصيراً بالشروط، حدّث وسُمع منه، وقرئ عليه. قال أبو الوليد الباجي فيه: فقيه مشهور. قال ابن حارث: كان معدوداً في وجوه أهل العلم. غلب عليه الكبر والزهو وشدة العصبية بالمولّدين، والتنقص بالعرب، والحفظ لمثالبها، ومناقب الموالي. قال: وكان لا يرد سلاماً على أحد، ولا يبتدئه به. وأتاه يوماً رجل - سمّاه - فقال له: إن لي أعداء أكره أن أسلم عليهم أو أرد سلامهم، فهل تعرف لي رخصة لترك ذلك؟ قال: لا. قال: فما بالك تجوز بين فلا تسلم علي، وأسلم عليك فما ترد علي؟(6/166)
قال: طبع فُطِرت عليه. قال: هذا والله طبع سوء، وإني لمحتاج الى تركه. وكانت له حُظوة عظيمة من أمراء الثغر، وكان الناصر يشاوره في أمور الثغر، وولاه قضاء وشقة وبوسر ولاردة. واكتسب أموالاً عظيمة. قال: وكان خارجاً في جميع مذاهبه، من طبقة أهل العلم. وكان كثير الصدقات، ولم يزل قاضياً الى أن توفي، سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، وهو ابن خمس وثمانين سنة، رحمه الله.
محمد بن دلف
أبو عبد الله. رحمه الله. مولى ابن عمروس، صاحب وشقة. كان أبو عبد الله من أهل العلم والفصاحة والحفظ لمعاني القرآن وتفاسيره. وكان من العباد والمجتهدين، حج وانصرف، فلزم السياحة والتبتل نحو عشرين عاماً ثم أخذ يجلس للناس يعلمهم ويفتيهم ويحدثهم. توفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.(6/167)
طيب بن محمد بن هارون بن عبد الرحمن بن الفضل بن عبيدة الكناني العتقي
تدميري. من أهل بيت علم وشرف شهير، يعرفون ببني عميرة بمرسية. ذكرنا منهم في الطبقات المتقدمة علماء عدة، من سلفه. يكنى بأبي القاسم. أخذ عن الصباح بن عبد الرحمن، وعن أبيه، وعن فضل بن سلمة، ويحيى بن عون، وحماس بن مروان، قاضي القيروان. توفي بالأندلس، سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، رحمه الله.
عبد الله بن مسعود
رحمه الله. من أهل مرسية. فقيه، مستفتى ببلده، مع أبي حفص بن عمر، وأبي الأسود، إلا أنه كان دونهما في السنّ. سمع من عمر ووهب بن مسرة. قاله ابن الفرضي، رحمه الله.
عريف مولى ليث بن فضل
لورفي. أبو المطرف. سمع من فضل، وتفقه عنده. وفي البيرة من ابن فطيس كثيراً.(6/168)
وكان حافظاً للفقه، بصيراً في الفتيا، جامعاً للعلم، بلغ مبلغ الشورى في موضعه، وعليه كان معولهم في وقته. وعاجلته منيته قبل اكتهاله، بصاعقة قتلته، سنة ثمان وعشرين. وكان طويل اللحية.
محمد بن عبد السلام
قرشي. رحمه الله. سمع من الأعناقي وابن لبابة. وكان حافظاً للفقه، والوثائق، مفتياً في موضعه، رحمه الله.
وهب بن محمد بن محمود بن اسماعيل
أبو الخرشدوني. قال أبو عبد الله الحميدي: هو فقيه محدث. روى عن قاسم بن أصبغ. روى عنه ابن عبد البر، وكان متصدراً يفتي الناس بجامع قرطبة. ويقال له: المفتي. رحمه الله.(6/169)
عبد الله بن يوسف البلّوطي
شذوني. أبو محمد. أخذ المدوّنة عن ابن رزين. وسمع من قاسم بن أصبغ. وكان مشاوراً بقَلسانة. رحمه الله.
هارون بن عتّاب بن بشير بن عبد الرحمن بن الحارث بن سهل، الوقاعي
الغافقي. شذوني. يكنى أبا موسى. وجده الحارث بن سهل. هو الداخل الى الأندلس، وأبوه أبو ثابت عتاب من أهل العلم. سمع بقرطبة من ابن وضاح، وابن مطروح، ومالك القطني. وعمّر الى أن أتت عليه ست وتسعون سنة. وكانت وفاته سبع أو ثمان وتسعين ومائتين. روى هارون عن أبيه، وابن وضاح، وكان ختنه، وعني بمذهب مالك، وحفظ كتاب المدونة حفظاً بارعاً. وكان فقيه قلسانه، في وقته. وتوفي بها سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. وسيأتي ذكر ابنه، إن شاء الله تعالى.
هشام بن محمد بن أبي رزين
شذوني. ويكنى بأبي رزين، بربري. كان مفتي بلده. وما والاه. بعيد الصوت معظماً فيه. روى عن محمد بن جنادة. سمع منه يوسف بن سليمان، وجماعة. وكان يرحل إليه للسماع منه.(6/170)
وكان حافظاً للمسائل، من أهل الحديث، وعمّر حتى أسنّ، وتوفي، رحمه الله، سنة ثلاث وثلاثين.
علي بن عيسى بن عبيد التجيبي
طليطلي. أبو الحسن. أخذ بقرطبة عن عبيد الله بن يحيى، وسعيد بن عثمان، وأحمد بن خالد ونظرائهم. وبطليطلة عن وسيم بن سعدون وغيره. وكان فقيهاً عالماً، وله مختصر مشهور ينتفع به، روى عنه ابن مدراج وشكور بن حبيب. وانتقدت عليه فيه مسائل، وهي صحيحة جيدة، جارية في الأصول، وإن خالفه فيها غيره، ونال بعض الفقهاء من حفظه، فهو فقيه قرية. فقال ابن مغيث: لو كانت مصر لمن أتقن حفظه، يريد التفقه في أصوله. قال أبو الأصبغ بن سهل: سألت ابن عتاب عنه، فقال: كان من أهل العلم، ثم احتججت بعد ذلك عليه، في مسألة جرت بيني وبينه، بما في مختصر ابن عبيد، فقال غير الكلام الأول. قال ابن طاهر: كان عبيد فقيهاً عالماً ثقة زاهداً ورعاً مجاب الدعوة محسناً في تعليمه قانعاً، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. حتى استثقله أهل(6/171)
طليطلة. فانحاز عنهم، الى قرية كان له بها جنة، يحفرها ويعتملها بيده. ويقوم منها حاله. وكان الطلبة ينهضون إليه، بها. فيأخذون عنه، وبلغه رغبة الحكم المستنصر في استجلابه، ففر عن موضعه. وكان ابن النجاء يقول: يا أهل طليطلة، كتابان جازا قنطرتكم، وتلقاهما الناس: تفسير يحيى بن مزين، ومختصر ابن عبيد. وسأله رجل أن يكتب له الى قائد طليرة في رد مال غصبه له. فكتب إليه: من علي بن عيسى، الى الظالم يحيى، رد على الرجل ماله، واتق الله، وإياك ودعوة المظلوم، فليس بينها وبين الله حجاب. فقال الرجل: لست أحمل هذا الكتاب أبداً. فبلغ ذلك العامل، فردّ مظلمته.
محمد بن عبد الله بن عيشون
طليطلي، أبو عبد الله. قال ابن الفرضي: كان فقيهاً حافظاً للمسائل. سمع بطليطلة من وسيم بن سعدون، ووهب بن عيسى، وبقرطبة، من ابن خالد وابن أيمن، وقاسم بن أصبغ، وغيرهم. ورحل الى المشرق، فلقي جماعة من المحدّثين، منهم أبو يزيد معمر الوداني، وروى عنه عن أبي المصعب، موطأه، ورأس بالعلم وشهر به. وحُمل عنه. روى عنه أبو محمد بن ديمن الطليطلي. ومحمد بن ابراهيم، وعبدوس الطليطلي.(6/172)
وتكلم فيه أبو عمران الفاسي، ومسلمة بن قاسم. قال أبو عمران، وقال مسلمة: أخذ كتب ابن قادم القروي الحنفي، ونسبها الى نفسه، وحملت عنه. وحدث بطرابلس عن ابن الأعرابي، بتاريخ ابن معين ولم يسمعه. وقال أبو محمد بن قون: كان ابن عيشون، فقيه عصره، من الحفاظ. كذلك قال لي وهب بن مسرة. وهو مشهور. وألف حديث مالك. قال ابن طاهر: كان محمد بن عيشون، عالماً متقدماً فقيهاً حافظاً لمذهب مالك، عالماً بالفتيا من أهل الصلاح والخير. متقللاً من الدنيا، ثقة. ألف مسنداً في الحديث، وكتاب الإملاق، واختصر المدونة. إلا الكتب المختلطة منها. وكان يقول الشعر. وكان أُسر وافتدى، وأطلقه النصراني، الذي كان عنده، ليجمع فداه مع موكل به. فعرض أمره على أهل طليطلة، فلم يجتمع له فداه. وعزم على الرجوع الى مولاه النصراني، إذ كان عاهده على ذلك. وقيل له اقصد رجلاً كان بينه وبينه شيء، فامتنع. ثم أدته الحال الى ذلك. فدفع إليه فديته، وقبضها الموكل. وأنشد من شعره:
حلفت على أن لا أردّ هدية ... ولا أنفع المهدى بشيء مدى الدهر
إذا ما صديق جاءني بهدية ... قبلت وعجّلت المثوبة بالشّكر
وإن جاء يوماً آخرٌ بهدية ... لحاجته كانت أضرّ من الكفر(6/173)
هدية من يهدي إليك لحاجة ... حرام وسحْتٌ والهدية كالسحر
وإيّاكَها واقبل نصيحة ناصح ... فما لك من بعد النصيحة من عذر
وهو القائل رحمه الله:
إذا أتت الهدية دار قوم ... تطايرت الأمانة من كواها
وقال أيضاً رحمه الله:
إن خانني أملي ما خانني أجلي ... كذا يقطّع آمالَ الغنى الأجلُ
يا من يؤمل آمالاً ليبلغها ... هيهات موتُك يأتي قبلُ يا رجل
إن كنتَ في غفلة عما يراد بنا ... فسَلْ هُديت عن الإباء ما فعلوا
وتوفي رحمه الله بحاضرة طليطلة، صدر سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة.
ومن أهل طليطلة أيضاً رجل آخر من أهل العلم والرواية والفقه هو:
أبو عبد الله محمد بن عمر بن سعد بن عيشون
يروي عن أبيه، وقاسم بن أصبغ، وغيره من القرطبيين. وسمع من شيوخ بلده، وسمع بمكة ومصر والشام والقيروان من الأعرابي، وأبي الحسن الجلاّ، والخزاعي، والقشيري، وأبي مروان المالكي، وغيرهم.(6/174)
وحدث بكثير. وذكر بمصر رواية العتبي، عن ابن القاسم، فيمن أحدث أثر صلاته، بعد التشهد. فتمادى من رواه، أن صلاتهم مجزية. فأنكرت عليه وضرب. روى عنه أبو الأصبغ الحوصي. وابن أبي دُليم، وابن الفرضي، وغيرهما. قال فيه ابن طاهر: إنه كان فقيهاً حافظاً للمذهب ممّن استُقضي ببلده. وذكر أنه كانت فيه خفة. وقال أبو الوليد القاضي الباجي، وذكره: الفقيه أبو عبد الله، هذا الشيخ. وذكره ابن الفرضي، في كتابه. وتوفي بعد هذا في رجب سنة سبعين وثلاثماية. مولده، رحمه الله، سنة عشر وثلاثماية.
فربما اشتبها على من لم يحققهما.
محمد بن وسيم بن سعدون
طليطلي. أبو بكر. سمع من أبيه، وغيره من شيوخ بلده. وبقرطبة من ابن خالد، وابن أيمن، وقاسم بن أصبغ. وكان أعمى. بصيراً بالحديث، حافظاً للفقه، له حظ من العلم باللغة، والنحو والشعر، والتفسير، والفرائض والحساب، والعبارة. شاعراً ذكياً.(6/175)
وكانوا يرون ما فيه من الذكاء ببركة دعاء أبيه. وكان صالحاً. وقد تقدم ذكره. وقيل لما عمي بعد مولده، بيسير، جمع أبوه أهل الصلاح والزهد وصلوا الليل كله. فلما أصبح أحضر هذا المولود فدعوا له أن يجعل الله نور بصره في قلبه. فأجيبت دعوتهم. وكان رأساً في كل فن متقدماً فيه، من أهل الظرف والأدب، وعلا ذكره، وتقدم في الفتيا. وكان رأساً فيها. وله كتاب في الناسخ والمنسوخ. ودخل عليه وهو في النزع بعض أصحابه، فناداه فلم يجبه. فقال الآخر: " وحِيل بينهُم وبينَ ما يشتهون ". فقال له أبو بكر حين ذلك: نزلت في الكفار وقتها. " إنهم كانوا في شكٍ مريب ". توفي في ذي الحجة، سنة اثنتين وخمسين وثلاثماية. ومن شعره:
خذ من شبابك قبل الموت والهرم ... وبادر التوب قبل الفَوت والندم
واعلم بأنك مجزي ومرتهن ... وراقب الله واحذر زلة القدم(6/176)
فليس بعد حلول الموت معتبة ... إلا الرجاء وعفو الله ذي الكرم
فإن ربك ذو عفو ومغفرة ... وذو عقاب شديد مؤلم الألم
فاضرع الى الله وارغب في تجاوزه ... عم ارتكبت من الآثام والحرم
فإن عفا فبأفضال ومرحمة ... وإن يعاقب فمن عدل ومن نقم
فاغفر إلهي زلاتي وما اجترحتْ ... كفّاي يا منتهى الإفضال والكرم
محمد بن سحنون
الأنصاري. طليطلي. أبو عبد الله. كان فقيهاً زاهداً ورعاً عاقلاً حافظاً للمسائل. سمع من عمه ابن أرفع رأسه، وهبة الله بن يحيى، ومن وسيم ونظرائهم. وسمع منه وروى عنه عبدوس، وعبد الرحمن بن عبيد الله، وغيرهما. ذكر أنه مستظهر المدوّنة، وكتبها في اللوح، وحفظها كما يحفظ القرآن، ولم يكن يخلط بها غيرها. وقصده الحكم أمير المؤمنين متبركاً بدعائه. رحمه الله.
محمد بن رباح بن صاعد الأموي
طليطلي. أبو عبد الله. سمع وهب بن عيسى وغيره. وكان موصوفاً بصلاح وفضل، وعناية بالعلم والرواية له، والحفظ لمذهب مالك. واستفتي ببلده، وله في المدونة اختصار - وكان مشهوراً بطليطلة - يدرّسه بها. وكان حماس بن(6/177)
محمد يثني عليه ويفضله. وتوفي لخمس خلون لجمادى الأولى، سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة.
معطي بن أحمد
من كورة بلنسية. أبو الفتح. سمع بقرطبة، من ابن أيمن، وابن خالد، وعبد الله بن يوسف، وقاسم بن أصبغ. وكان حافظاً للمسائل. قرئ عليه، وحمل عنه. توفي سنة تسع وأربعين وثلاثمائة.
محمد بن حضر
من أهل بلنسية. أخذ عن أهل بلده، ورحل الى القيروان، فسمع من مشائخها، وتفقه عندهم، وصحب ابن حارث هناك، وانصرف الى بلده. قال ابن حارث: وكان عالماً فقيهاً نبيهاً نبيلاً، أجاد الفهم، ذكي الإدراك، وعليه وعلى جحاف كان مدار الفتيا في بلده، في وقتهما. توفي أول سنة إحدى وخمسين وثلاثماية، آخر السنة قبلها.
جحّاف بن يمن
كبير بلنسية. وذو البيت النبيه فيها في العلم والجلالة الى وقتنا هذا. يكنى بأبي جعفر.(6/178)
كان مذكوراً بالفقه، موصوفاً بالعلم، وليَ قضاء بلده، وعليه كان مدار فتواه. أثنى عليه ابن حارث. واستشهد رحمه الله في غزاة الخندق. سنة سبع وعشرين وثلاثماية وهو على قضائه، وابنه عبد الرحمن. ذكر ابن حارث: أنه ولي قضاء بلنسية صدر أيام المستنصر وابنه، أبو عبد الرحمن بن عبد الله بن جحاف، وليَ قضاء بلده بعد العامرية، ومن بعدهم. وسنذكره إن شاء الله تعالى في طبقته، بعد هذا. وبالله سبحانه التوفيق.
بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
قال الفقيه القاضي، الإمام أبو الفضل عياض، رضي الله عنه، ثم انتهى المذهب الى طائفة أخرى، بعد هذه. رحمهم الله. فمنهم من أهل الحجاز:(6/179)
أبو إسحاق بن ابراهيم بن محمد الدينوري
نزل مكة، ولزمها. حدث عن أبي بكر بن الجهم، وابراهيم بن حماد، وأبي بكر بن داود، وعبد الله بن وهب الدينوري، وابن صاعد، وأبي الحسن النهاوندي، واليعقوبي. وكان فقيهاً مالكياً. حدث عنه أبو ذر الهروي، وأبو عبد الله بن الحداد، وعبدوس بن محمد، وأبو بكر الصقلي، وأبو عمر بن سعدي، ومحرز العابد، وأبو بكر الخولاني، وغيرهم. وكان عنده حديث. قال أبو عبد الله بن الحداد لقيته بمكة، سنة اثنتين وسبعين وثلاثماية، وتركته حياً. قد نيّف على الثمانين سنة. وكان فقيهاً ورعاً منقبضاً، خيراً من جلة العلماء. وذكره أبو ذر في معجمه، وقال: ثقة. رحمه الله.
أبو القاسم محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن
سكن مكة. روى عنه جملة من الناس، من الراحلين، وغيرهم. قال أبو الحسين بن مصلح الحجازي: كان رجلاً صالحاً، من سكان مكة، يذهب مذهب مالك. سألت عنه شيوخ مكة فأثنوا عليه خيراً. يروي عن الفضل(6/180)
بن محمد الجندي، ومحمد بن صالح بن موسى الآجري، رحمه الله. حدّث عنه أبو الحسن بن جهضم الهمداني، وأبو الحسن القابسي، وابن مصلح الأندلسي. رضي الله عنهم أجمعين.
أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد المؤمن
مكي، من المتكلمين على مذهب أهل السنة. ودخل العراق، فأخذ بها عن أبي عبد الله بن مجاهد البصري، وغيره. وسكن آخراً بالقيروان. وصحب أبا محمد بن أبي زيد، وغيره من أئمتها، وناظرهم، وذاكروه، وأثنوا عليه وأخذوا عنه. وله بها أخبار معروفة.
ومن أهل القيروان. ثم من آل حماد بن زيد. وهو آخر من روي عنه العلم منهم، فيما علمت وانتهى إليّ.
أحمد بن أبي يعلى
ويكنى بأبي علي. وهو أحمد بن عبد الوهاب بن الحسين بن يوسف بن يعقوب بن اسماعيل بن حماد بن زيد البصري. ونزل مصر وسمع من عمه القاضي أبي الحسن، عبد الصمد بن الحسين، ومن شيوخ آله، وعن أبي الحسن علي(6/181)
بن ابراهيم بن حماد، وأبي الطيب أحمد بن ابراهيم بن عبد الرحمن البغدادي، وأبي إسحاق بن عبد الصمد الهاشمي، وأبي الحسن علي بن أحمد البغدادي، وابن داسة. وروى عنه أبو عمران بن سعد، وأبو عمر الطلمنكي وأبو عمر بن عبد الله الباجي، وابنه أبو عبد الله. وألف كتاب اللقطة، وكتاب الحجة في القبلة، وكتاباً في الرد على الشافعي. وحدث بتصانيف القاضي اسماعيل.
أبو جميل البصري
رحمه الله. ذكره القاضي أبو بكر بن الطيب. قال: كان بالبصرة رجل من الفقهاء على مذهب مالك بن أنس، من آل حماد بن زيد، يعرف بابن جميل. قال القاضي أبو بكر: وكان يحب كلام الحارث بن أسد المحاسبي. فذكر عنه أنه اجتمع عنده للحارث نحو أربعمائة مصنف بين صغير وكبير. قال القاضي رحمه الله: لا حقيقة عندي، من ضبط اسم هذا الرجل. إذ لم أروِه، ولا وجدته بخط من أعول عليه. ولا حقيقة عندي من تصحيح طبقته. أهو من هذه أو من التي قبلها أو من غيرهم؟(6/182)
أبو بكر الأبهري
رحمه الله. هو محمد بن عبد الله بن صالح بن عمر بن حفص بن عمر بن مصعب بن الزبير بن كعب بن زيد بن مناة بن تميم. قال أبو بكر الخطيب في تاريخه: أبو بكر الفقيه الأبهري سكن بغداد، وحدث بها عن أبي عروبة الحراني، ومحمد بن الباغندي، ومحمد بن الحسين الأشناني، وعبد الله بن زيدان الكوفي، وابن أبي داود، وخلق سواهم من البغداديين والغرباء. قال القاضي رضي الله عنه: وقد سمع أيضاً من عبيد الله بن الحسن الأنطاكي الصابوني، وأبي بكر بن الجهم الوراق، وأحمد بن مروان الخيّاش، وابن داسة، واللغوي، وابن زيد المروزي. ورأيت سماعه بخط الأصيلي في كتابه، من صحيح البخاري، ومن مجلد ابن سفهود، وغيرهم من العراقيين والشاميي. قال الأصيلي: وله التصانيف في شرح مذهب مالك، رضي الله عنه، والاحتجاج له، والرد على من خالفه. وكان إمام أصحابه في وقته. حدث عنه ابراهيم بن مخلد، وابنه(6/183)
إسحاق بن ابراهيم، والبرقاني، وأحمد بن علي، ومحمد بن المؤمل الأنباري، وعلي بن محمد بن الحسن الحربي المالكي، والقاضي أبو القاسم التنوخي، والحسن بن علي الجوهري، وغيرهم. وحدث عنه أيضاً: أبو بكر الحسن الدارقطني، والقاضي الباقلاني، وابن فارس المقري، وأبو محمد بن نصر القاضي. ومن أهل الأندلس: أبو عبيد الحيوني، والأصيلي، وأبو محمد القلعي، وأبو القاسم الزهري، واستجازه أبو محمد بن أبي زيد، رضي الله عنه. وذكره ابن أبي الفوارس فقال: كان ثقة أميناً مشهوراً. وانتهت إليه الرئاسة في مذهب مالك. قال الشيرازي: تفقه ببغداد على القاضي أبي عمر، وابنه أبي الحسين. وقد أخذ أيضاً، عن القاضي أبي الفرج، وأبي بكر بن الجهم، والطيالسي، وابن المنتاب، وابن بكير. قال الشيرازي: وجمع بين القرآن وعلو الإسناد والفقه الجيد، وشرح المختصر الصغير، والكبير لابن عبد الحكم. وانتشر عنه مذهب مالك في البلاد. قال ابن مفرج القيسي: كان القيم برأي مالك بالعراق، في وقته. قال أبو بكر الخطيب: قال القاضي أبو العلاء الواسطي: كان أبو بكر الأبهري، معظماً عند علماء سائر وقته، لا يشهد محضراً إلا كان هو المقدم فيه، وإذا(6/184)
جلس قاضي القضاة المعروف بابن أم شيبان، الهاشمي، أقعده عن يمينه، والخلق كلهم، من القضاة والشهود، والفقهاء وغيرهم، دونه. وذكر أبو القاسم الوهراني أبا بكر الأبهري، في جزء أملاه من أخباره. قال: كان رجلاً صالحاً خيراً، ورعاً، عاقلاً، نبيهاً فقيهاً عالماً. ما كان ببغداد أجلّ منه. لقد كنا نخرج معه من الجامع فيتلقانا محمد القاضي: ابن معروف الحنفي، وهو راكب مع الشهود، وكان ربما حكم في جامع المنصور. فإذا رأى الشيخ الأبهري، ترجل له وسلم عليه. فإن تمكن من يده قبّلها، وإلا قبّل منكبه ورأسه، ويفعل الشهود أجمع، ذلك. ويمشي القاضي راجلاً، وهم معه رجالاً. حتى يصلوا الى باب السكة التي كان يسكنها. فيقسم عليه الشيخ فينصرف القاضي والشهود من هنالك. قال: ولم يعطَ أحد من العلم والرئاسة فيه، ما أعطي الأبهري في عصره، من الموافقين والمخالفين. لقد رأيت أصحاب الشافعي، وأبي حنيفة، إذا اختلفوا في أقوال أئمتهم، يسألونه، فيرجعون الى قوله. وكان يحفظ أقوال الفقهاء حفظاً مشبعاً. وكان أبو إسحاق الطبري - من أصحابنا وحفاظ الحديث - يجالسه، ويسأله عن أحاديث كثيرة. فيقول له من قطع حديث كذا؟ ومن وقف حديث كذا؟ ومن وصله؟ فيجيبه. وكان الموافقون والمخالفون يقولون بفضله. قال: وسمعته يقول: كتبت بخطي المبسوط(6/185)
والأحكام لاسماعيل. وأسمعت ابن القاسم وأشهب، وابن وهب وموطأ مالك، وموطأ ابن وهب. ومن كتب الفقه والحديث نحو ثلاثة آلاف جزء بخطي. ولم يكن قط لي شغل إلا العلم. ولي في هذا الجامع - يعني جامع المنصور ببغداد - ستون سنة أدرّس الناس وأفتيهم، وأعلمهم سنن نبيّهم صلى الله عليه وسلم. قال غيره عنه: قرأت مختصر ابن عبد الحكم خمسمائة مرة. والأسدية خمساً وسبعين مرة. والموطأ خمساً وأربعين مرة. ومختصر البرني سبعين مرة. قال الوهراني: وما رأيت من الشيوخ أسخى منه. ولا أشد مؤاساة لطلبة العلم. ومن يرد عليه من الغرباء يعطيهم الدراهم، ويكسوهم. وكان لا يخلي جيبه من كيس، فيه مال. فكل من يرد عليه من الفقراء يغرف له غرفة بلا وزن. ولقد سألته عن سبب عيشه، أولاً. فقال: كان رؤساء بغداد، لا يموت أحد منهم إلا وصّى لي من ماله. ولو
كنت ممن يريد الجمع، لكان معي فوق الثلاثين ألف مثقال. وكان يوماً جالساً إذ جاء القاضي أبو إسحاق المروزي. فلما دخل عليه تبسّم في وجهه. ثم قال: يا بغيض، ما أكثر انقباضك عن أصدقائك وإخوانك، ما تزور أحداً منهم، ولا تعرف خبرهم. قد مات صديقك فلان المالكي، وأوصى لك بثلاثماية دينار، وأسند النظر في وصيته إليّ، وهذه قد حضرت. وأتيتك فأقبلها وأصرفها في مصالحك، فجزاه الأبهري خيراً. وقال له: أنا في غنى عنها الآن، ورغب إليه في تصريفها ممن يستحفظها ليقع أجر موصيها على الله. فقال له القاضي: ما أكثرك محلل، وإني بك عن هذا. فقال له: إخواني كثيراً ما يعتقدوني، وعرض عليه ثلاثة أكياس في أحدهما قطع، وفي الآخر دراهم صحاح، وفي الثالث رباعيات، ومثاقل ذهب، وأراه ما فيها، وقال: أنا أبيّن لك أني لم أقل هذا مجملاً. وإذا أنا مت ووجد هذا عندي، فأي منزلة تكون لي؟ ورغب الى القاضي في تفريقها على أهل الحاجة. فبكى القاضي، وقال: جزاك الله عن نفسك خيراً. وكان الأبهري أحد أئمة أهل القرآن، والمتصدرين لذلك، العارفين بوجوه القرآن، وتحرير التلاوة. وقد ذكره أبو عمر الداني في طبقات المقرئين، وتفقه على أبي بكر الأبهري عدد كثير، وخرج له جملة الأئمة بأقطار الأرض من العراق وخراسان، والحجاز ومصر، وإفريقية. كأبي جعفر الأبهري، وأبي سعيد القزويني، وأبي القاسم الجلاب، وأبي الحسن بن القصار، وأبي عمر بن سعد الأندلسي، نزيل المهدية. وابن عباس البغدادي. وأبي تمام، وابن خويرمنداد البصري، وأبي محمد الأصيلي، وأبي عبيد الحيوني، وأبي محمد القلعي، وغير واحد. ولم ينجب أحد من الأصحاب بعد اسماعيل القاضي، ما أنجب أبو بكر الأبهري، كما أنه لا قرين لهما في المذهب بقطر من الأقطار، إلا سحنون بن سعيد في طبقته. بل هو أكثر الجمع أصحاباً، وأفضلهم أتباعاً. وأنجحهم طلاباً. ثم أبو محمد بن أبي زيد رضي الله عنه في هذه الطبقة أيضاً. غفر الله لجميعهم. ونفعهم بعلمهم. لكن أصحاب أبي بكر، العراقيين، تتابعوا بعد موته، فلم تطل أعمارهم بعد، ولأبي بكر من التواليف، سوى شرحي المختصرين. كتاب الرد على المزني. وكتاب الأصول. وكتاب إجماع أهل المدينة. ومسألة إثبات حكم الغابة. وكتاب فضل المدينة على مكة. ومسأل الجواد والدلائل، والملل. ومن حديثه كتاب العوالي، وكتاب الأمالي. وكان شرح المختصر الصغير، سنة تسع وعشرين وثلاثماية. وشرح الكبير، سنة أربعين. وفيهما نحو عشرين ألف مسألة. ت ممن يريد الجمع، لكان معي فوق الثلاثين ألف مثقال. وكان يوماً جالساً إذ جاء القاضي أبو إسحاق المروزي. فلما دخل عليه تبسّم في وجهه. ثم قال: يا بغيض، ما أكثر انقباضك عن أصدقائك وإخوانك، ما تزور أحداً منهم، ولا تعرف خبرهم. قد مات صديقك فلان المالكي، وأوصى لك بثلاثماية دينار، وأسند النظر في وصيته إليّ، وهذه قد حضرت.(6/186)
وأتيتك فأقبلها وأصرفها في مصالحك، فجزاه الأبهري خيراً. وقال له: أنا في غنى عنها الآن، ورغب إليه في تصريفها ممن يستحفظها ليقع أجر موصيها على الله. فقال له القاضي: ما أكثرك محلل، وإني بك عن هذا. فقال له: إخواني كثيراً ما يعتقدوني، وعرض عليه ثلاثة أكياس في أحدهما قطع، وفي الآخر دراهم صحاح، وفي الثالث رباعيات، ومثاقل ذهب، وأراه ما فيها، وقال: أنا أبيّن لك أني لم أقل هذا مجملاً. وإذا أنا مت ووجد هذا عندي، فأي منزلة تكون لي؟ ورغب الى القاضي في تفريقها على أهل الحاجة. فبكى القاضي، وقال: جزاك الله عن نفسك خيراً. وكان الأبهري أحد أئمة أهل القرآن، والمتصدرين لذلك، العارفين بوجوه القرآن، وتحرير التلاوة. وقد ذكره أبو عمر الداني في طبقات المقرئين، وتفقه على أبي بكر الأبهري عدد كثير، وخرج له جملة الأئمة بأقطار الأرض من العراق وخراسان، والحجاز ومصر، وإفريقية. كأبي جعفر الأبهري، وأبي سعيد القزويني، وأبي القاسم الجلاب، وأبي الحسن بن القصار، وأبي عمر بن سعد الأندلسي، نزيل المهدية. وابن عباس البغدادي. وأبي تمام، وابن خويرمنداد البصري، وأبي محمد الأصيلي، وأبي عبيد الحيوني، وأبي محمد القلعي، وغير واحد. ولم ينجب أحد من الأصحاب بعد اسماعيل القاضي،(6/187)
ما أنجب أبو بكر الأبهري، كما أنه لا قرين لهما في المذهب بقطر من الأقطار، إلا سحنون بن سعيد في طبقته. بل هو أكثر الجمع أصحاباً، وأفضلهم أتباعاً. وأنجحهم طلاباً. ثم أبو محمد بن أبي زيد رضي الله عنه في هذه الطبقة أيضاً. غفر الله لجميعهم. ونفعهم بعلمهم. لكن أصحاب أبي بكر، العراقيين، تتابعوا بعد موته، فلم تطل أعمارهم بعد، ولأبي بكر من التواليف، سوى شرحي المختصرين. كتاب الرد على المزني. وكتاب الأصول. وكتاب إجماع أهل المدينة. ومسألة إثبات حكم الغابة. وكتاب فضل المدينة على مكة. ومسأل الجواد والدلائل، والملل. ومن حديثه كتاب العوالي، وكتاب الأمالي. وكان شرح المختصر الصغير، سنة تسع وعشرين وثلاثماية. وشرح الكبير، سنة أربعين. وفيهما نحو عشرين ألف مسألة.
بقية أخباره رضي الله عنه
قال أبو بكر الخطيب: سئل الأبهري، أن يلي القضاء ببغداد، فامتنع. فاستشير فيمن يصلح لذلك، فأشار بأبي بكر الرازي. وكان حال الرازي يزيد على حال الرهبان، في العبادة. وكان حنفي المذهب. فامتنع وأشار بالأبهري. فلما لم يجب واحد منهما الى القضاء، وليَ غيرهما. وبعد موت الأبهري، وكبار أصحابه لتلاحقهم. وخروج القضاء عنهم الى غيرهم من مذهب الشافعي، وأبي حنيفة.(6/188)
ضعف مذهب مالك بالعراق. وقل طلبه لاتباع الناس أهل الرائاسة، والظهور. وقال الهمداني: لما دخل عضد الدولة بغداد وأتابها، استقبله جميع أهلها، وجميع أهل الرئاسة والعلم إلا الأبهري. فسأل عنه، وأرسل إليه رسوله بألفي درهم، وقال له: يقول لك الملك تفرق هذه الدراهم في أصحابك، ويقول لك: إنه لم يبق من أهل العلم ببغداد، من لم يأته سواك. فقال له الأبهري: أصلح الله الملك، أنا شيخ كبير السن، ضعيف البصر. وزوّج عضد الدولة ابنه، من بنت بعض ملوك الديلم، وأحضر جميع أهل بغداد وقضاتها، فلم يرَ الأبهري فيهم. فوجه إليه بعض وزرائه، يعزم عليه في حضور مجلسه، وإن احتاج الى محفة حمل فيها. فوصل إليه، فأخبره بعزيمة الملك، وأحضر له بغلة ومحفة يجلس فيها، ويحمل فيها إن لم يقدر يركب. فلما رأى العزيمة خرج متوكئاً على علي بن عمر بن القصار، وعبيد الله بن الحسن بن الجلاب، كبيري أصحابه، حتى أتى الدجلة والوزير يمشي بين يديه، يقرب إليه مركب، فعدل عنه الأبهري الى سمارية ركبها مع صاحبيه، ووصل القصر، فوجده محتفلاً، فجلس حيث انتهى به المجلس. فلما رأى الملك وزيره الموجه فيه، سأله، فأعلمه بوصوله، فقال له: قرّبه. فقرّبه، والملك وجميع الناس قيام إلا شيخاً من ملوك الديلم جالساً بين يدي الملك. فأمر الملك(6/189)
الأبهري بالجلوس مع الشيخ. وقرئ كتاب الصداق، وأمر الملك بوضعه في كتاب الأبهري والشهادة فيه، ثم كتب الناس بعده. فلما تمت الشهادات أدخل الناس الى مجالس الطعام. قال الأبهري: فوجدت فرصة الى النهوض، فسلمت على الملك وانصرفت، ولم آكل لهم طعاماً. قال ابن فطيس: وجدت بخط الأبهري: الدين عز، والعلم كنز، والحلم حرز، والتوكل قوة. ومن أخباره، قال: دخلت جامع طرسوس وجلست لسارية من سواريه، فجاءني رجل، فقال لي: إن كنت تقرأ فهذه حلقة القرآن، وإن كنت مقرئاً فاجلس يقرأ عليك، وإن كنت فقيهاً، فاجلس يحلق إليك، وإن كنت متفقهاً فهذه مجالس الفقه، قم إليها. فإن أحداً لا يجلس في جامعنا دون شغل. ذكر الفقيه أبو مالك بن مروان بن مالك القرطبي، في كتابه عنه، أنه قال: اجتمعنا في جماعة من أهل العلم والصلاح، وقد تناظر رجل من أهل السنة مع رجل معتزلي، فطال بينهما الكلام، فجاء المساء، فلم يظهر أحدهما على صاحبه. فقال السنّي: هذا مجلس انقضى على غير فلح. وقد حضرنا قوم صالحون فلنخلص الدعاء للمحق منا، بأن يثبت الله تعالى القرآن في صدره، وينسيه المبطل. فدعونا. قال الأبهري: فأقرّ لي المعتزلي بعد ذلك أنه نسي القرآن، حتى كأنه ما رآه قط. وحكى البرقاني عنه: كنت جالساً عند يحيى بن صاعد المحدّث، فجاءته امرأة، فقالت له: أيها الشيخ، ما تقول في بئر سقطت فيه دجاجة، فماتت.(6/190)
هل الماء طاهر أو نجس؟ فقال لها يحيى: ويحك كيف سقطت فيه؟ قالت: لم يكن عليه غطاء. فقال: ألا غطيتها حتى لا يقع فيها شيء. قال الأبهري: فقلت لها: يا هذه إن لم يكن الماء تغير فهو طاهر. فهِم من الشيخ الحيرة في الجواب، لأنه كان صاحب حديث، ولم يكن فقيهاً. قال الوهراني: سألت الأبهري عن سنه، فقال لي: قال مالك رضي الله عنه: سؤال الشيوخ عن أسنانهم من السفه. قال الحربي: جاء رجل الى أبي بكر الأبهري، يشاوره في السفر، فأنشد رحمه الله:
متى تحسب صديقك لا يقلّوا ... وإن تَخبُر يقلّوا في الحساب
وتركك مطلب الحاجات عزّ ... ومطلبها يذل عتا الرقاب
وقرب الدار في الإقتار خير ... من العيش الموسع في اغتراب
قال المؤلف القاضي الإمام رضي الله عنه: عتا الرقاب أنا أصلحتها وكان فيه اختلال. وذكر أن الأبهري قال يوماً لأصحابه: إن الله رضيكم لولاية فجمع لكم بها شرف الدنيا والآخرة، لا يعزلكم عنها أمرٌ ما طلبتم هذا العلم، ونفرتم به عن السلطان. فإذا كنتم كذلك، تمت لكم الولاية في الدنيا والآخرة، ونلتم بها سُرورَهما، وإن لزقتم بالسلطان، وأصبتم به الدنيا، عزلكم عن ولايته، وصغركم في الدنيا والآخرة. وحكى أبو القاسم: إن الأبهري، لما قارب الوفاة وتيقن حاله، أخرج لأصحابه(6/191)
برنية فيها ثلاثة آلاف مثقال، وأمرهم بكتب أهل البر والحاجة من جيرانه، يفرق المال عليهم. وأعطى منه أصحابه، على مراتبهم، وأعطى الأكابر منهم ماية مثقال. قال: وبلغني أنه أعطى الباقلاني ماية وخمسين، وحبس كتبه عليهم. وسئل حينئذ: لما ادخرت هذا المال؟ فقال: كان أبو بكر الرازي من أجل أصحاب مالك، ولم يتعرض الى شيء من القضاء، حتى كثر بناته واحتاج فولي القضاء، فقتله ديلمي في أمر معروف. وكان أبو بكر الصيرفي، من أصحاب الشافعي، من جلة أهل العلم، فكبر سنه وعمّر، فرأيته يكتب الرقاع لأصحابه، يتعطفهم في الرفق به، وكان إخوانه قد انقرضوا وماتوا. فخشيت أن يطول عمري أو يفحشني زمانه وأحتاج، فادخرتها عدة لهذا. وتوفي ببغداد يوم الست، لسبع خلون من شوال، سنة خمس وسبعين وثلاثماية. وصلي عليه بجامع المنصور. مولده قبل التسعين ومايتين. وسنّه نيف وثمانون سنة. رحمه الله.(6/192)
أبو بكر ابن علويه الأبهري، رحمه الله
أخذ عنه، أبو سعيد القزويني. وتفقه به مع الصفايحي، ونقل من كلامه كثيراً في كتبه. وله كتاب مسائل الخلاف. وكان من الفقهاء النظار، المحققين، وجلة أئمة المالكيين. قال أبو سعيد القزويني: ذكر شيخنا أبو بكر ابن علويه، مسألة النكاح، بلفظ الهبة، فقال: لم ينص على هذه المسألة مالك. قال: وذكر ابن المواز، عن ابن القاسم، أنه سئل عنها فقال: قال مالك في البيع: إذا قال وهبت منك بثمن كذا، أنه بمنزلة بعتك فكذلك النكاح، مع ذكر الصداق. قال القزويني فقلت له: فلو قال بعتكها، أو أجرتكها، أو ملكتها، أو أبحتكها، أو أحللتها، أو خذها إليك، وما أشبه هذا. قال: ليس فيه نص. والذي قال به لصاحبنا، يوجب أن يكون الباب واحداً. ويجوز ويفسخ به العقد متى لم يذكر الصداق. ولا يحتاج في زوجْتُك أو أنكحتك، الى ذكر الصداق. ولأنهما مختصان بهذا العقد، وغيرهما موضوع لغيره، فلا يفهم منه العقد، إلا بذكر الصداق.(6/193)
أبو الحسن بن أم شيبان، رحمه الله
قاضي القضاة. هو محمد بن صالح بن محمد بن صالح، بن علي بن يحيى، بن عبيد الله بن محمد بن عبيد الله بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي، بن عبد الله بن عباس، بن عبد المطلب. وجده يحيى، هو المعروف بابن أم شيبان. يروي عن السعدي، وابراهيم بن حماد. حدّث عنه أبو عبد الله، وأبو العباس أحمد بن مالك الكرخي، ومحمد بن حميد الخزان، وأبو القاسم الوهراني، وليَ قضاء الكوفة، سبع سنين. ومنها أصله. سنة أربع وثلاثين وثلاثماية. وولي قضاء القضاة ببغداد. وذكره صاحب الكتاب في هذه الطبقة، قال: وعنده كان يجتمع المالكية، أصحاب أبي بكر الأبهري، ببغداد، للنظر. قال الفرغاني: وكان دعي لقضاء بغداد، بعد ابن أبي الشوارب، أيام معز الدولة. فاستعفى وامتنع. وقال لا حاجة لي بقضاء بغداد. إذ صار بالقبالات؟ وأبوه صالح، يكنى بأبي عيسى. حدّث عن عبد الله بن الخراساني. حدّث عنه القاضي الصيمري.(6/194)
أبو إسحاق ابراهيم بن محمد بن أحمد بن سليمان بن سعيد البصري
من المالكية بها. وكان حاكمها. يروي عن ابن البكر، وعن أبيه. سمع منه عبد الله بن محمد بن ربيع الأندلسي. وأبو القاسم الحبلي. وأبو محمد القلعي. هو غير الأول. ومتقدم على طبقته شيئاً. والله أعلم.
أبو الحسن علي بن ميسرة القاضي
ذكره صاحب الكتاب الحكمي، وابن حارث في طبقة الأبهري من العراقيين، وممن لم يسمع من اسماعيل. وذكر أنه ولي قضاء أنطاكية. وله كتاب في إجمال أهل المدينة. قال القاضي الإمام المؤلف، رضي الله عنه: وأرى أن أبا عبيد الجبري، لقبه. وذكر ابن بطال في شرحه، عن أبي عبيد هذا، قال: سئل أبو الحسن بن ميسرة القاضي، البغدادي، عن رجل كان له على نصراني دين، فأفلس. ولا مال له، سوى وقف أوقفه على مساكين أهل ملته، قبل استحداثه للدين. هل ينقض وقفه، ويقتص منه المسلمين الدين؟ فأجابه بقوله: أهل الكتاب أملاكهم غير مستقرة. وإنما لهم شبهة ملك، على ما في أيديهم. فإذا اختاروا رفع أيديهم عن الشبهة، ارتفعت. ولم يعترض عليهم في عقد ما عقدوه، مما لو كان في شرعنا، لم ينقض،(6/195)
لأنهم على ذلك صالحوا. ولما جاز إقرارهم على غير دين الحق، إذا أعطوا الجزية، وجب أن لا يتعرض عليهم في نقض وقف، ولا غيره، مما يتعلق بحق الله، عزّ وجلّ.
أبو الحسن عمر بن محمد بن أحمد المالكي
أراه ولي القضاء. أبي عبد الله التُستري، حدث عنه الدارقطني، يروي عن أبيه، ومحمد بن اسماعيل الدولابي، والحسن بن المبارك الطوسي، وخلف بن محمد، ومحمد بن عبد الله العمري، وهشام بن علي السرابي واللؤلؤي، واللخمي.
أبو عبد الله بن مجاهد المتكلم
قال أبو بكر الخطيب في تاريخه: محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب بن مجاهد الطائي، المتكلم، أبو عبد الله، صاحب أبو الحسن الأشعري. وهو من أهل البصرة، وسكن بغداد. وعليه درس القاضي أبو بكر الباقلاني، الكلام. وله كتب حسان في الأصول. ذكر لنا غير واحد من شيوخنا: أنه كان يحسن الستر، يحسن الزي، جميل الطريقة. وكان البرقاني، يثني عليه، ثناء حسناً. وأدركه ببغداد فيما أحسب. وكان ابن مجاهد هذا، مالكي المذهب، إماماً فيه، مقدماً. غلب عليه علم الكلام والأصول. أخذ عن القاضي التستري، وله كتاب في أصول الفقه، على مذهب مالك، ورسالته المشهورة في الاعتمادات، على مذهب أهل السنة التي كتب(6/196)
بها الى أهل باب الأبواب. وكتاب تهدية المتبصر ومعونة المستنصر. وتواليف أخرى وغيرهما. وسمع الصحيح للبخاري، من أبي زيد المروزي، ورأيت سماعه في كتاب الأصيلي بخطه، واستجاز الشيخ أبا محمد بن أبي زيد رحمه الله، في كتاب المختصر والنوادر. قال القاضي الإمام المؤلف رضي الله عنه: ورأيت له في ذلك رسالة يقول فيها: وقد وقع إلينا من تصنيفه - أيده الله - قطع من المختصر، وجدناه قد أحسن في نظمه، وألطف في جمع معانيه، وكشف ما كانت النفوس تتوق إليه، وكفى مؤونة الرحلة، وطلب المصنفات، بالكلام السهل، والمعاني البينة، التي تدل على حسن العناية، وكثرة المعرفة، والحرص على منافع الراغبين في العلم، والمتعلقين به. فأحسن الله أيها الشيخ جزاءك. وأجزل ثوابك. ثم ذكر له بعد أن بلغه، تصنيف النوادر. ثم قال: وما يتصل بنا من فضل الشيخ، أيده الله. قد نشطني الى تعريف ما بنا من الحاجة الى هذين الكتابين. وتطلعي وتطلع من قبلي من الطالبين لها. والشيخ، أيده الله، يتفضل في ذلك بما هو أهله، ويمنّ عليّ بذلك، فإني إليه، وجماعة من قبلي من إخوانه، والراغبين في مذهب الإمام رضوان الله عليه، يتطلعون إليه. فإن رأى الشيخ أيده الله، أن يتفضل بإنفاذها، بعد عرضها بحضرته، وإجازتها لي، ولغيري من أصحابنا، ممن آثر ذلك وأحبه. ثم سأله الدعاء له، وأرخ كتابه بسنة ثمان وستين. فجاوبه أبو محمد بجواب(6/197)
أحسن منه: وعندنا من أخبار الشيخ الطيبة، ما تعم مسرته، من نصرته في هذا المذهب. وذبه عنه، ومحاماته عليه، حماه الله عزّ وجلّ مكروهه، من صحته. وشكر فيه ابتداء مخاطبته، وسروره بذلك، ومودته له. وأجازه كتبه له، ولمن رغب ذلك، وأنه وجه إليه بعض النوادر، إذ لم يبيضها. وأن الوقت لم يتسع لكتب نسخة من المختصر، ولا من النوادر، وأن شابّين ممن عني بهم توجها، من مكة للقاء الشيخ - يعني ابن مجاهد - ولقاء الأبهري. وهما محمد بن خلدون. واسماعيل بن عذرة. وبعث معهما المختصر صحيحاً، مقابلاً. ووعده أن يوجه إليه ما رغبه من الكتابين، وسأله الدعاء له، كما سأله. رحمهم الله. وحكى ابن مجاهد، أن رجلاً جاء الى سهل التستري، فقال له: بلغني أنك تمشي على الماء، فادعو الله لي. قال لا أدعو لك، حتى تذهب الى فلان الملاح، فتسأله عن خبر في يوم كذا. فمضى وسأله، قال: إنه صعد هنالك، فتوضأ للصلاة، على الحجر فزهق فغرق، واضطرب بثيابه. فتراميت عليه، فأخرجته. وقد كاد يهلك، وعلقناه لسق؟ فرجع الرجل الى سهل، فأخبره. فقال له سهل: أما بعد هذا فأدعو لك. فدعا له. وهذا من سهل فضل كثير، وتواضع، واعتراف.(6/198)
وذكر الخطيب، أن ابن مجاهد كان ينشد لبعضهم:
أيها المغتدي ليطلب علماً ... كل علم عبد لعلم الكلام
تطلب الفقه كي تصحح حكماً ... ثم أغفلت منزل الأحكام
وحدّث عنه القاضي، أبو بكر بن الخطيب. وأبو بكر بن عذرة. وأبو القاسم عبد المؤمن المكي، المتكلم. رضي الله عنهم أجميعن.
أبو العلاء عبد العزيز بن محمد البصري
أحد فقهاء المالكية. كان بالبصرة. ذكره أبو حمد الوليد. وله كتاب في إثبات القياس. وكتاب في مسائل الخلاف. روى عنه أبو عمر بن سعدي. وقال أبو القاسم الهمداني: جالست بالبصرة أبا العلاء المالكي، وذاكرته، وعليه، مع ابن عطية، كانت تدور الفتوى على مذهب مالك، بالبصرة.
القاضي أبو العلاء الحسن بن محمد بن العباس، البغدادي
ذكره ابن حارث في علماء المالكية. قال: ورأيت له اختصار الكتاب المبسوط، سماه المقتضب من المبسوط. ورأيت أن له كتاباً في الفروق، ويعرف بابن البصري، ويحتمل أنه الذي لقي الهمداني، لا الأول. والله عز وجلّ أعلم. لا ربّ سواه.(6/199)
علي بن محمد بن ابراهيم بن هشام بصري
تقدم ذكر أبيه في أئمة المالكية وكبار أصحاب اسماعيل. وذكر هذا أبو عمر المغربي في كتابه. وذكر أنه مالكي، ويكنى بأبي الحسن. قال: وكان خيراً فاضلاً، من مياسير البصرة. وتصدق بماله، وغلب عليه الزهد، وروى القراءة على أبي العباس المعدل. وروى عنه ابن غليون. قال: توفي بالبصرة سنة سبع وسبعين وثلاثماية. وخرج بجنازته بعد الزوال، فلم يصل الى موقفه، إلا بعد المغرب، من كثرة ما شاهده، حتى ضجّ الناس بذلك.
أبو عبد الله محمد بن عطية البصري
أحد فقهائها. قال الهمداني: جالسته، وذاكرته بها. وعليه، وعلى أبي العلاء كانت تدور الفتوى، على مذهب مالك رحمه الله، بالبصرة، في وقتهما.
أبو إسحاق الطبري
ذكره أيضاً الوهراني، في جلساء الأبهري. قال: وكان من أصحابنا ومن أهل العلم والحديث، وحفاظه، وكان الأبهري يتذاكر معه فيه.
أحمد بن محمد بن عمر الدهّان البصري
من أئمة المالكية بالمشرق. وله كتاب في نقض كتاب الشافعي، في رده على مالك، ستة أجزاء. وقفت عليه. قال ابن حارث: وله غير ذلك من التأليف، روى عن ابن شاهين عن(6/200)
مصعب الزبيري، وممن ذكر من أئمة مالكية أهل المشرق، والمتأخرين، رضي الله عنهم. ولا أتحقق طبقته.
أبو عبد الله الواسطي، رحمه الله
وقد ألف مسائل الخلاف. وشرح مختصر أبي المصعب الزهري، رحمه الله.
أبو علي الدهان رحمه الله
مذكور في مالكية أهل المشرق. وله أيضاً مسائل الخلاف. ولا أعرف هذا الأول أو غيره.
محمد بن جعفر البصري
المعروف بالخفّاف. له مسائل الخلاف. وشرح مختصر ابن عبد الحكم الكبير. قال ابن حارث: وهو ديوان كبير، أبان فيه. وقال أبو بكر الأبهري: ولم يشرح المختصر الكبير أحد، إلا الخفّاف. وضعف فقهه الأبهري، رحمه الله. وقال: لم يكن يعرف.
أبو حاتم الرازي، رحمه الله تعالى
ذكره في أئمة المالكية، القاضي أبو الوليد الباجي في فرقه. ولم يذكر طبقته، ولا اسمه.(6/201)
أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عمر بن رجاء البصري، المالكي
فقيه نظار محقق. وله كتاب في أصول الربا. وتعليله على مذهب مالك، أجاد فيه. ولا أتحقق طبقته. رحمه الله.
أحمد بن محمد بن جامع البصري
قال ابن حارث: رأيت له كتاباً في الوصايا، ذكر أنه اقتنصه من المبسوط، وسماه بذلك. وعدده في فقهاء العراقيين المتأخرين. روى عنه عبد الوهاب عن الحسن. وذكره ابن حارث، رحمه الله، في هذه الطبقة.
أبو عبد الله المالكي، البصري
الملقب بفلفل. حكى عنه أبو جعفر الأبهري. والقاضي أبو محمد بن نصر، في تصانيفهما.
من أهل مصر
أبو بكر النعالي
وهو محمد بن سليمان. كذا سماه القاضي أبو عبد الله ابن الحذّاء. وقال أبو إسحاق الشيرازي: محمد بن اسماعيل. وسماه ابو محمد بن الوليد: محمد بن بكر(6/202)
بن المفضل. وكذا قال عبد الغني. نسب الى النّعال الصواري. أخذ عن أبي اسحاق ابن شعبان. وبكر بن العلاء القشيري. ومحمد بن زيان. وسعيد بن هاشم، وابن يزيد، ومأمون، وغيرهم. روى عنه ابو بكر بن عبد الرحمن القروي. وعبد الغني بن سعيد الحافظ المصري. وابو بكر بن عقال الصقلي. وأبو عبد الله بن الحذّاء الأندلسي. وإليه كانت الرحلة والإمامة بمصر. وجالسه القابسي، وعظّم شأنه، وأثنى عليه. وحكى عنه. قال ابن الحذّاء: كان فقيه عصره، وكان المتكلم عنده بمصر في العلم والمسائل. وما رأيت رجلاً أتم مروءة منه، ولا أعف ولا أكمل، ولا أقنع. وكان أسخى الناس. ذكر لي أنه لم يجتمع له ما يزكّى عليه. قال غيره: وكان مبايناً لبني عبيد الله. قال القابسي: كانت حلقته في الجامع، تدور على سبعة عشر عموداً، لكثرة من يحضرها. وكان أبو القاسم، ممن حدث بمصر أيضاً عن المقداد بن داود. حدث عنه عبد الغني وغيره. وقال ابن الحذاء: وتوفي رحمه الله، في الثمانين والثلاثماية.(6/203)
أبو القاسم الجوهري رحمه الله
هو عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد الغافقي. الجوهري. فقيه، كثير الحديث، من شيوخ الفسطاط، وكبار فقهاء المالكية. وشيوخ السنّة. سمع من ابن شعبان، ومؤمل بن يحيى، وأبي القاسم العثماني، والحسين بن رشيق، وأحمد بن محمد الإمام، وأبي الطاهر القاضي، وأبي علي المطرّز، وعبد الصمد بن محمد النيسابوري، وحمزة بن محمد الكناني، وغيرهم. روى عنه أبو بكر بن عبد الرحمن، وأبو محمد الأجدابي، من القرويين. ومن المصريين ابنه، وأبو الحسن بن فهد، وأبو العباس بن نفيس المقري، وأبو علي الحراني، وأبو بكر بن عقال الصقلي، رحمه الله. ومن الأندلس: خلف الجعفري، وابنه محمد بن الوليد، وابن الحداد وأبو عمر الطلمنكي. قال أبو عبد الله محمد بن الحذاء القاضي: كان فقيهاً ورعاً منقبضاً، خيراً من أجلّة الفقهاء. قال أبو عمر الطلمنكي: وكان قد لزم بيته، لا يخرج منه. قال الباجي: لا بأس به. وألف كتاب مسند الموطأ. وكتاب مسند ما ليس في الموطأ، قال ابن الحذاء رحمه الله: وتوفي فيما أحسب سنة خمس وثلاثين وثلاثماية.
علي بن محمد بن ابراهيم بن هارون الحضرمي
من أصحاب القشيري. يروي عنه، وعن أبي عمر الكندي. وأبي بكر بن الأصبغ. روى عنه ابنه، أبو القاسم. رحمه الله.(6/204)
الحسين بن عبد الله بن حسين الفطسي
معدود في المالكية، في مصر، في هذه الطبقة. يروي عن أبي الحسن العراقي الصولي.
حسين بن وليد بن نصر رحمه الله
يعرف بابن العريف. ويكنى أبو بكر. أصله من قرطبة. وخرج الى المشرق. وسكن مصر، ورأس بها، وحلق بجامعها. قال ابن الفرضي: وكان فقيهاً عالماً بالمسائل، حافظاً للرأي، نحوياً متقدماً. توفي بمصر، سنة سبع وستين وثلاثماية. وهو أخو أبي القاسم بن عريف النحوي، القرطبي.
عبد الوهاب بن الحسين بن علي بن داود بن سليمان بن خلف
مصري، مالكي. أخذ عن أبي الحسن بن أبي مطر، والذهلي، والجوّاب، وأبي محمد الزهري، وأحمد بن جامع، وأبي منصور البارودي، وابن هداد، وحمزة الكناني، والصموت، وأبي الورد، وابن أبي الأصبغ وغيرهم. سمع منه أبو الحسن الحوفي، وعبد الله بن إسحاق بن مريم، رضي الله عنهم أجمعين.(6/205)
أبو بكر ابن أبي محمد بن يزيد، رحمه الله
واسمه خالد بن خالد بن يزيد المصري، من فقهاء مصر، وجلتها، والتحليق بجامعها. وهو الذي خلف أبي إسحاق بن شعبان في حلقته، بعد وفاته. وهو والد أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد الفقيه الداخل، الأندلسي. وسنذكره بعد.
محمد بن نظيف رحمه الله تعالى
كنيته أبو عبد الله، المالكي، البزار. قال أبو بكر: كان من العلماء الراسخين البارعين، والأئمة المعدودين، والعلماء المجتهدين. تخلى عن الدنيا، وانقطع الى الله عز وجلّ، وخرج - يعني من القيروان الى مصر، - عند ظهور سبّ السلف رحمهم الله تعالي. وعندما اشتهرت إمامته، هروباً من الرئاسة والفتنة، وكان من أصحاب أبي بكر ابن اللباد، ونظراء أبي محمد بن أبي زيد رحمه الله. وسمع بمصر من محمد بن أحمد بن خروف. وكان أبو محمد بن أبي زيد رضي الله عنه، يقول: لو كان أبو عبد الله مقيماً بالقيروان، لم يسعني أن أجلس هذا المجلس، لأنه أولى به مني، في حفظه وفهمه وفقهه ودينه وورعه. وكان يعد في أعلى طبقة أصحاب أبي بكر، رحمه الله. وكانوا جعلوا لأصحاب أبي بكر أشباهاً من أصحاب مالك. فشبهوا محمداً هذا بابن القاسم. وأبا محمد بن أبي زيد رحمه الله، بأشهب، وابن أبي هشام بابن نافع، وابن التبان بابن بكير. وذكره أبو الطيب ابن(6/206)
خلدون في بعض كتبه، فقال: كان إماماً فاضلاً، ولما نزل مصر لازم بها أبا إسحاق بن شعبان، وأبا الذكر، وبعدهما النعالي وغيرهم. وداوم على مجلس السبائي بالقيروان. فغاب عنه مرة، فسأله أبو إسحاق عن ذلك. فقال: أغتيب بمجلسك رجل مسلم. فقال له أبو إسحاق: أنا تائب من ذلك. وذكر أنه جاء يوماً لحضور بيع كتب، وفي المجلس جماعة من العلماء والصالحين رضي الله عنهم. فلما رأوه قاموا كلهم على أرجلهم، تعظيماً له. وكانت له هيبة، لم تكن لأحد في وقته، فأعظم فعلهم في نفسه. وعزم على اختبره، فألقى عليه مسألة من معاني القرآن، ففجر عنه فجراً. فقال في نفسه لو قام هؤلاء له على رؤوسهم لكان قليلاً. وتوفي رحمه الله، سنة خمس وخمسين وثلاثماية بمصر.
وكان له إخوة صالحون، أبو علي حسن رحمه الله، من أهل العلم والرواية والفضل. وعبيد الله، رحمه الله من أهل العبادة والاجتهاد والتلاوة. رافق أبا الحسن القابسي في طريق الحج من القلزم، فكانت له كل يوم ختمة، وربع. رحمه الله.
علي بن أحمد بن اسماعيل البغدادي
سكن مصر، وكان ينتحل مذهب مالك بن أنس، ويقول بالاعتزال. وكان داعية في ذلك. وكتب الى فقهاء القيروان رسالة معروفة، يدعوهم فيها الى الاعتزال، والقول بالقدر، والمخلوق، وغير ذلك من مذاهبهم. ويقول لهم:(6/207)
طريقة متكلمي أهل السنّة، ومذهب الأشعري، ويبدّعه، فجاوبوه - فقهاء القيروان - وردوا عليه، وجاوبه أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله، عن كتابه برسالة معروفة. ظهر فيها علمه وقوته في الكلام بالرد على أهل الأهواء. ونفى عن مالك وأصحابه جميع ما نسب إليه. وجعل يحتج على نقض قوله في القدر من كلام مالك البديع، في رسالته في القدر، الى ابن وهب رحمه الله تعالى. قال القاضي المؤلف أبو الفضل رضي الله عنه: وهذا الرجل غير معروف في المالكية، ولا معدود فيهم، وإنما تسمى بمذهب مالك لينفق بدعته عند العامة. فذكرناه تنبيهاً عليه، لا لنستكثر بمثله. أبعد الله مثله.
عبد العزيز بن علي المقري المالكي، المصري
من أصحاب أبي الذكر الفقيه بها. وممن عني بالفقه وعلم القرآن، وغلب عليه. وكان من المتصدرين لإقراء القرآن. وكان يقرئ في جامع عمرو. وقال: كنا نختلف الى أبي الذكر المالكي، عنده. ويجالسنا في ذلك كل يوم بعد صلاة الصبح الى الزوال. ومن الظهر الى العصر. فجلس إلينا مرة شاب. فكان يجيب في المسائل أحسن جواب. وجعل يختلف الى الحلقة زماناً، وعلى وجهه أثر صفرة. وكان من أحسن الناس وجهاً. وعليه ديبقتان، وطيلسان ونعل شراكه أسود. وكان لا يلبسها بشراك أسود(6/208)
إلا الشطّار. وكنا نعجب من ذلك. فلما دخل الشتاء وغيّر الناس زيهم، لم يغيّر الشاب زيّه. فقال لنا الشيخ: أظنه مقلاً. ويجب تفقّد حاله، فبادر الناس، فجمعوا له ماية مثقال، وعقدها الشيخ في خرقة حمراء. وقال لأحد أصحابه: أرصد الشاب. فإذا قام من الحلقة، تدفعها إليه وتقول: جمعها لك الشيخ من وجه طيب. فلما خرج الشاب من الجامع تبعه رسول الشيخ، حتى أتى القرافة، فدعي لصلاة على جنازة. فتقدم. فلما سلّم أخذ الرسول بطرل ردائه، فانفتل إليه، فأدى إليه رسالة الشيخ وسلامه، ودفع إليه الصرة. فقال له: وما هي؟ قال دنانير. فقال الشاب: ما لي أهل يحتاجون إليها ولا صديق. فألحّ عليه الرسول، وهو يمشي معه. حتى قربا من المقطم، فلما خشي فواته، قبض عليه. فقال الشاب: يا هذا أما علمت أن لله تعالى عباداً، لو شاءوا أن يجعل لهم الحصى دنانير لفعل؟ وحرّك شفتيه، قال الرسول: فنظرت الى الصحراء دنانير، فتركت يدي منه، وحثوت بيديّ جميعاً في الأرض حرصاً على الدنيا، فوقع في يدي دينار أطلس بلا كتابة. وتعلق الفتى بالجبل، وفاتني. وانصرف حيران، فلما بصرني الشيخ، قال لأصحابه: أرى الصرة سقطت منه. فحكيت له الحكاية وأريته الدينار، فقبّله ووضعه على عينيه، وفعل الناس كفعله. ثم كان عند الشيخ حتى مات، وأدرج في أكفانه. رحمه الله تعالى.(6/209)
أبو العباس أحمد بن سهل بن المبارك
المعروف بالعطار. بصري الأصل. سكن الاسكندرية. قال فيه عبدوس بن محمد: فقيه. وقال ابن معاوية: كان فقيهاً حازماً يذهب مذهب مالك. وكان ابنه أبو عبد الله محمد، حافظاً للحديث والفقه. عجباً من الصالحين. سمع من أبي العباس، الناس الكثير. وسمع هو من أحمد بن مراد الجهني. وعلي بن يزيد، ومحمد بن زيان، وأبي القاسم البغوي، وأبي الطاهر بن مهدي، قاضي أخميم، وغيرهم. حدّث عنه من أهل الأندلس: عبدوس بن محمد، وأبو الحسن الحجاري.
من أهل إفريقية
أبو سعيد خلف بن عمر
كذا قال الرقيق. وقال المالكي: عثمان بن عمر. قال أبو عبد الله الخواص: عثمان بن خلف، المعروف بابن أخي هشام الربعي الخياط. من أهل القيروان، تفقه بابن نصر، وسمع منه، ومن أبي القاسم الصدري، وأحمد بن عبد الرحمن القصري، وأبي بكر ابن اللباد، وغيرهم. وبه تفقه أكثر القرويين.
ذكر مكانه من العلم والثناء عليه
قرأت في التعليق المنسوب الى خط أبي عمران الفقيه، ذكره، فقال: كان شيخ(6/210)
الفقهاء وإمام أهل زمانه في الفقه. قال الرفيق في تاريخه، نحوه. وقال: كان إمام أهل زمانه في الفقه، ولم يكن عنده رياء ولا تصنع. وكان يجتمع هو وأبو الأزهر ابن معتب، وأبو محمد ابن أبي زيد، وابن شبلون، وابن التبان، والقابسي، وجماعة ذكرناهم، ونذكرهم، للتفقه في جامع القيروان، عندما ظهر أمر أبي يزيد، على بني عبيد. أخذ عنه جماعة ممن ذكرناه وخلف بن تميم الهواري. قال المالكي: كان يعرف معلم الفقهاء. لم يكن في وقته أحفظ منه، اختلط علم الحلال والحرام بلحمه ودمه، وما اختلف الناس فيه واتفقوا عليه. عالماً بنوازل الأحكام، حافظاً بارعاً فرّاجاً للكرب، مع تواضع ورقة قلب، وسرعة دمعة وخالص نية. سأل عبد الله صاحب القيروان أبا محمد بن أبي زيد، رحمه الله، من أحفظ أصحابكم؟ فقال له: أبو سعيد. قال: فمن أحفظهم بخلاف الناس؟ قال: أبو سعيد. وذكر مرة حفظه وقوة نفسه فقال: لو شاء أن يخطي دحمان بن معافى، فعل. وقال أبو القاسم بن شبلون: ما أخذ على أبي سعيد مسألة خطأ قط. قال أبو محمد الأجدابي: كان أبو سعيد من أجلّ أهل زمانه، يعرف طريق الصوفية. قالوا وكان أبو سعيد إذا قال: أجمعت الأمة. لم يوجد خلاف لقوله.(6/211)
ولما لفّ في أكفانه، قال أبو محمد بن أبي زيد: رحمه الله، إن أبا سعيد ليس يلقى الله بمثل ذرة من رياء. ولما ورد درّاس بن اسماعيل، أبو ميمونة، القيروان، وعجب الناس من حفظه، بلغ أبا سعيد تقصيره بعلماء القيروان، وأضافته قلة الحفظ إليهم. فقال لأصحابه: اعملوا على أن تجمعوا بيني وبينه لئلا يقول دخلت القيروان ولم أرَ بها عالماً. فما زالوا به، حتى أتوا به الى أبي سعيد في مسجده. فسلم عليه. فألقى أبو ميمونة عليه نحواً من أربعين مسألة، من المستخرجة، والواضحة. فأجابه عنها أبو سعيد. ثم ألقى عليه أبو سعيد عشر مسائل من ديوان محمد بن سحنون، فأخطأ فيها، أبو ميمونة كلها، فعطف عليه أبو سعيد وقال له: لا تغفل عن الدراسة، فإني أرى لك فَهماً. فإن واظبت، كنت شيئاً. فلما قام أبو ميمونة يخرج، لم يعرف الباب من الحيرة. وناظره بعض العراقيين، فقال لهم: أنتم تقولون من سبّ عائشة قتل. والله يقول: " والذين يرمون المحصَنات ثم لم يأتوا بأربعة شُهداء " الآية. والرسول إنما جلد أصحاب عائشة. فلم تأخذوا بالقرآن ولا بالسنّة. فقال له أبو سعيد: قال الله تعالى: " أولئك مُبرأون مما يقولون ". ليضرب مثل البراءة بما في القرآن. وبعد القرآن، من سبّها فقد رد القرآن، ومن رد حرفاً منه، فقد كفر بإجماع. وذكر أنه كان يمشي مع أحد طلبته في فحوص صبرة، فحضرتهم الصلاة.(6/212)
فأراد الشيخ الصلاة، فقال الطالب: اصبر حتى نخرج من أراضي هذه المدينة السوء. فقال له أبو سعيد: هذا جهل منك، أي ضرر على الأرض من صلاتنا. ولو لزم ترك الصلاة في الفحوص المغصوبة، وجب للمصلي أن يستأذن من أربابها إذا كانت غير مغصوبة. قال أبو عبد الرحمن: وهو كما قال صلى الله عليه وسلم: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً. وإن الصلاة في أرض المسلمين، بغير إذنهم، جائزة بلا خلاف. وإنما هذا فيما لم يجزه الغاصب ببناء. وتجوز على حاله بعد الغاصب، كما كانت قبل.
بقية أخباره ونوادره
وكان أولاً، يبيع الحنطة. ثم رجع يكتب الوثائق، ويأخذ عليها الأجر، لقلة ذات يده. وكان يقول: من دارى الناس مات شهيداً. وسئل عن الكرامات؟ فقال: ما ينكرها إلا صاحب بدعة. وصحح انقلاب الأعيان فيها. قال أبو محمد بن أبي زيد، رحمه الله: وكان بين أبي سعيد، وأخيه مشاجرة، في ربع، فرفعه الى النعمان قاضي القيروان، للشيعة. فأخبر القاضي بمكانه، فأمر بإدخاله، ومن معه. وقال له: هاهنا، جِواري. قال: جئت مخاصماً. قال: بجواري. ولو خاصمك أهل القيروان. فذكر له خبر أخيه، فهمّ السلطان بضربه وسجنه. فقال له:(6/213)
لم أرد هذا. أريد أن تأخذ على يده وتزجره، ففعل. قال بعض أصحابه: قام عنا أبو سعيد مرة، ثم أتانا يضحك، فسألناه فقال: صيح بي لامرأة من القرابة، صرعت. فلما دخلت قال لي الجان: لمَ لم تسلّم؟ والله - أصلحك الله - إنا نفتقدك كل ليلة، ونزور العلماء. ولقد كنت عندك البارحة، جالساً تحت الميزاب، وأنت تأكل التمر، ولقد رميتني بنواة. آتيك الليلة؟ فقلت: لا يا مشؤوم. وكان أبو سعيد قبل، ينكر مثل هذا. الى أن صرع إنسان بجانبه. فقال له الجان: على لسان المصروع أنت تنكر هذا يا أبا سعيد؟ فإني أخبرك - إن أردت - ما في بيتك، وما جرى لك مع خادمك البارحة؟ فقال له أبو سعيد: أسكت يا مشؤوم. فصار يصدّق بالأمر حينئذ. قال بعضهم: لقيت أبا سعيد يوماً. فسلمت عليه. وقلت له: أصلحك الله، كثيراً ما أذكرك. فقال لي وأنا ما أذكرك. لأني لا أنساك.
وفاته رحمه الله
قال: وتوفي ليلة الجمعة، لسبع خلون من صفر، سنة إحدى وسبعين وثلاثماية. وقال الرقيق، والمالكي: سنة ثلاث وسبعين وصلى عليه ابن الكوفي، القاضي، وحضر الصلاة عبد الله بن زيري الصنهاجي، أمير إفريقية المعروف(6/214)
ببلقين. وجميع عسكره، وأهل القيروان كافة، وجميع أهل المذهبين، من الموافق والمخالف. مولده: سنة سبع وتسعين ومايتين، ورثي بمرات كثيرة منها، قول ابن خاقان النحوي، من قصيدة:
فقل للواله الحرّ أذيلي ... بصوتك أنه حسن قبيح
وقل للمسعدين، أبو سعيد ... ليَبكوا رزْءَ مصرعه ونوح
فقد هلكت بمهلكه علوم ... وفضل ليس يبلغه المديح
وقال ابن مازن أيضاً يرثيه من قصيدة:
لقد فجع الورى شرقاً وغرباً ... ببحر من بحور العلم طامي
بمن قد كان من علم ودين ... عن الإسلام والدنيا يحامي
رأى الدنيا بعين النقص لما ... رأى ما دام ليس بذي دوام
وأبْصر كلَّ ما فيها حطاماً ... فصان النفس عن جمع الحطام
أبو محمد عبد الله بن أبي زيد، رضي الله عنه وغفر الله له
واسم أبي زيد عبد الرحمن. كذا قال الأمير ابن ماكولا. والقاضي ابن الحذاء. وهو نفزي النسب، قاله الأمير. سكن القيروان.
ذكر مكانه من العلم وثناء الجلّة عليه
وكان أبو محمد رحمه الله، إمام المالكية في وقته، وقدوتهم. وجامع مذهب مالك،(6/215)
وشارح أقواله. وكان واسع العلم كثير الحفظ والرواية. وكتبه تشهد له بذلك. فصيح القلم ذا بيان ومعرفة بما يقوله. ذابّاً عن مذهب مالك، قائماً بالحجة عليه، بصيراً بالرد على أهل الأهواء. يقول الشعر، ويجيده، ويجمع الى ذلك صلاحاً تاماً، وورعاً وعفة. وحاز رئاسة الدين والدنيا. وإليه كانت الرحلة من الأقطار، ونجب أصحابه، وكثر الآخذون عنه. وهو الذي لخص المذهب، وضم كسره، وذبّ عنه. وملأت البلاد تواليفه. عارض كثير من الناس أكثرها. فلم يبلغوا مداه، مع فضل السبق، وصعوبة المبتدأ، وعرف قدره الأكابر. قال الشيرازي: وكان يعرف بمالك الصغير. وذكره أبو الحسن القابسي، فقال: إمام موثوق به، في درايته، وروايته. وقال أبو الحسن علي بن عبد الله القطان: ما قلدت أبا محمد بن أبي زيد، حتى رأيت السبائي يقلده. وذكره أبو بكر بن الطيب في كتابه، فعظم قدره. وشيّخه. وكذلك هو وغيره من أهل المشرق، واستجازه ابن مجاهد البغدادي، وغيره من أصحابه البغداديين. قال أبو عبد الله الميورقي: اجتمع فيه العلم، والورع، والفضل، والعقل. شهرته تغني عن ذكره. قال الداودي: وكان سريع الانقياد الى الحق. تفقه بفقهاء بلده. وسمع من شيوخه. وعوّل على أبي بكر ابن اللباد، وأبي الفضل الممسي، وأخذ(6/216)
أيضاً عن محمد بن مسرور العسّال، والحجام. وعبيد الله بن مسرور بن الحجام، والقطان والإبياني، وزياد بن موسى، وسعدون الخولاني، وأبي العرب، وأحمد ابن أبي سعيد، وحبيب مولى ابن أبي سليمان في آخرين. ورحل فحجّ، وسمع من ابن الأعرابي، وابراهيم بن محمد بن المنذر، وأبي علي بن أبي هلال، وأحمد بن ابراهيم بن حماد القاضي. وسمع أيضاً من الحسن بن بدر، ومحمد بن الفتح، والحسن بن نصر السوسي، ودرّاس بن اسماعيل، وعثمان بن سعيد الغرابلي، وحبيب بن أبي حبيب الجزولي، وغيرهم. واستجاز ابن شعبان، والأبهري، والمروزي. وسمع منه خلق كثير. وتفقه عنده جلة. فمن أصحابه القرويين: أبو بكر بن عبد الرحمن، وأبو القاسم البرادعي، واللبيدي، وابنا الأجدابي. وأبو عبد الله الخواص، وأبو محمد مكي المقري. ومن أهل الأندلس: أبو بكر بن موهب المقبري، وابن عابد، وأبو عبد الله ابن الحذاء، وأبو مروان القنازعي. ومن أهل سبته: أبو عبد الله ابن العجوز، وأبو محمد بن غالب، وخلف بن ناصر، ومن أهل المغرب: ابن أمدكنو السجلماسي.
ذكر تواليفه رضي الله عنه
له كتاب النوادر والزيادات على المدونة، مشهور. أزيد من مائة جزء. وكتاب مختصر المدونة، مشهور، على كتابيه هذين المعوَّل بالمغرب في التفقه.(6/217)
وكتاب الاقتداء بأهل السنّة، وكتاب الذبّ عن مذهب مالك، وكتاب الرسالة، مشهور، وكتاب التنبيه على القول في أولاد المرتدين ومسألة الحبس على ولد الأعيان، وكتاب تفسير أوقات الصلوات، وكتاب الثقة بالله، والتوكل على الله سبحانه. وكتاب المعرفة واليقين. وكتاب المضمون من الرزق، وكتاب المناسك، ورسالة فيمن تأخذه عند قراءة القرآن والذكر حركة، وكتاب رد المسائل، وكتاب حماية عرض المؤمن، وكتاب البيان عن إعجاز القرآن، وكتاب الوساوس، ورسالة إعطاء القرابة من الزكاة، ورسالة النهي عن الجدال، ورسالة في الرد على القدرية، ومناقضة رسالة البغدادي المعتزلي، وكتاب الاستظهار في الردّ على الفكرية، وكتاب كشف التلبيس في مثله، ورسالة الموعظة والنصيحة، ورسالة طلب العلم، وكتاب فضل قيام رمضان، ورسالة الموعظة الحسنة لأهل الصدق، ورسالة الى أهل سجلماسة في تلاوة القرآن، ورسالة في أصول التوحيد، وجملة تواليفه كلها مفيدة بديعة، غزيرة العلم. وذكر أنه دخل يوماً على أبي سعيد بن أخي هشام يزوره، فوجد مجلسه محتفلاً. فقال له: بلغني عنك أنك ألفت كتباً. فقال له: نعم أصلحك الله. فقال له: اسمع مسألة؟ قال له أبو محمد: أذكر أصلحك الله، فإن أصبتْ أخبرتنا، وإن أخطأتُ علمتَنا. فسكت أبو سعيد. ولم يعاوده.(6/218)
بقية أخباره رضي الله عنه
كان أبو محمد بن أبي زيد، رحمه الله من أهل الصلاح والورع والفضل. ذكر أنه رحمه الله، قام ذات ليلة للوضوء فصبّ الماء من القلة في الإناء فانهرق، ثم صبّه ثانية فانهرق، ثم جرى له ذلك ثلاثاً، فاستراب. وقال: تتمردون علينا؟ فسمع من يقول له، ولا يراه: إن الصبيّ بال، فرشّ على القلة، فكرهنا وضوءك منها. ولما ألّف كتبه، على الفكرية، ونقض كتاب عبد الرحيم الصقلي، بتأليفه الكشف وكتاب الاستظهار، ورد كثيراً مما تقلده من خارق العادات، على ما قدره في كتابه. شنّع المتصوفة، وكثير من أصحاب الحديث عليه ذلك. وأشاعوا أنه نفى الكرامات. وهو رضي الله عنه، لم يفعل، بل مَن طالع كتابه، عرف مقصده. فردّ عليه جماعة من أهل الأندلس، ومن أهل المشرق، وألفوا عليه تواليف معروفة، ككتاب أبي الحسن بن جهضم الهمداني. وكتاب أبي بكر الباقلاني. وأبي عبد الله ابن شق الليل. وأبو عمر الطلمنكي في آخرين. وكان أرشدهم في ذلك وأعرفهم بغرضه ومقداره، إمام وقته القاضي أبو بكر بن الخطيب الباقلاني. فإنه بيّن مقصوده. قال الطلمنكي: كانت تلك من أبي محمد نادرة لها أسباب، أوجبها التناظر الذي يقع بين العلماء، صحّ عندنا رجوعه عنها. ولم يزل في ظاهر أمره، إلا محض السوء(6/219)
في ابن الأمير، إلا أن حمل الكرامات، فيما بلغنا عن طبقات عندهم، على مجالس، لأكل أموال الناس، ودرسوها بالموافقة. وقد روى منها وأملى كثيراً. قال الأجدابي: كنت جالساً عند أبي محمد، وعنده أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد المؤمن المتكلم. فسألهما إنسان عن الخضر عليه السلام، هل يقال إنه باق في الدنيا، مع هذه القرون؟ ثم يموت لقيام الساعة؟ أو هل يرد هذا لقوله تعالى: " وما جعلْنا لبشرٍ منْ قبلِك الخُلد " فأجابا معاً: إن ذلك ممكن جائز، وأن يبقى الخضر عليه السلام، الى النفخ في الصور، وأن الخلود إنما هو اتصال بقائه ببقاء الآخرة. وإن البقاء الى النفخ، ليس بخلود. ألا ترى أن إبليس، لعنه الله، لا يسمى خالداً. وإن كان من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم، ويذكر أن أبا محمد رحمه الله تعالى كتب الى أبي بكر الأبهري رضي الله عنه:
تأبى قلوبٌ قلوبَ قوم ... وما لها عندها ذنوب(6/220)
وتصطفي أنفس نفوساً ... وما لها عندها نصيب
ما ذاك إلا لمضمرات ... أضمرها الشاهد الرّقيب
قال أبو القاسم اللبيدي: اجتمع عيسى بن ثابت العابد، بالشيخ أبي محمد، فجرى بينهما بكاء عظيم وذكر، فلما أراد فراقه، قال له عيسى: أريد أن تكتب اسمي في البساط الذي تحتك، فإذا رأيته دعوت لي. فبكى أبو محمد، وقال: قال الله تعالى: " إليه يصعدُ الكلِمُ الطيّبُ والعملُ الصالح يرفعه ". فهَبْني دعوت لك. فأين عمل صالح يرفعه؟
وفاته رضي الله عنه
وتوفي أبو محمد رحمه الله، وغفر له، سنة ست وثمانين وثلاثماية. ورثاه كثير من أدباء القيروان، بمراث مشجية. فمن قول أبي الخواص الكفيف:
هذا لعبد الله أول مصرع ... تُرزا به الدنيا وآخر مصرع
كادت تميد الأرض خاشعة الرُبى ... وتمور أفلاك النجوم الطُلّع
عجباً أيدري الحاملون لنعشه ... كيف استطاعت حمل بحر مترع
علماً وحكماً كاملاً وبراعة ... وتُقى وحسن سكينة وتورع(6/221)
وسعَتْ فجاج الأرض سعياً حوله ... من راغب في سعيه متبرع
يبكونه ولكل باك منهم ... ذلّ الأسير وحرقة المتوجع
وقال أبو علي ابن سفيان في قصيدة:
غصت فجاج الأرض حتى ما تُرى ... أرض ولا علم ولا بطحاء
ما زلت تقدم جمعهم هرباً لهم ... في مركب حفت به النجباء
وذكر أن أبا محمد بن أبي زيد، رحمه الله. رؤي في مجلسه تحت فكرة وكآبة. فسئل عن سبب ذلك؟ قال: رأيت باب داري سقط، وقد قال فيه الكرماني، إنه يدل على موت صاحب الدار. فقيل له: الكرماني مالك في علمه؟ قال: نعم. هو مالك في علمه، أو كأنه مالك في علمه. فلم يقم إلا يسيراً. ثم مات رحمه الله.
أبو إسحاق الجبنياني رحمه الله
أحد أئمة المسلمين، وأبدال أولياء الله الصالحين، وقد جمع الفقيه أبو القاسم اللبيدي، وأبو بكر المالكي، من أخباره وسيره، ما ذكرنا هاهنا عيوناً منه. هو ابراهيم بن أحمد بن علي بن مسلم البكري، من بكر بن(6/222)
وائل، كان سلفه من أهل الخطط بالقيروان. ولهم مسجد يعرف بمسجد أبي مسلم بها. وجدّه علي من أصحاب سحنون. تقدّم ذكره في طبقته. وولى بنو الأغلب أبا بكر أحمد بن علي، والد الشيخ أبي إسحاق، خراج إفريقية. فتورط معهم. وكان من أهل الأدب والفهم. ثم ارتفع الى حدّ الوزارة، الى أن زالت دولة بني الأغلب. فنكب فيمن نكب. ولم يبق له إلا بقية ربع بسوسة. فلزم الخير والحجج، الى أن مات.
ذكر بداية أبي إسحاق رحمه الله
كان أبوه - وهو في حاله - قد أخذ له معلمين، أحدهما للقرآن، والآخر للعربية والشعر، وهو في رفاهة من العيش. قال أبو القاسم: فلقد حدثني من رأى أبا إسحاق في تلك الأيام، وحوله خمسة عشر صقلبياً موكلين بحفظه. وكان والده ينزل بقرية جبنيانة. وكانت من جملة أملاكهم. فيقيم بها الشهور، أكثر أيام النزهة، ومعه ابنه أبو إسحاق، يوجهه الى شيخ معلم بجبنيانة، يقال له ابن عاصم، يقيم عنده، ويتبرّك به، ويتعلم منه، ويختلف إليه بكرة وعشياً. وكان ابن عاصم، قد شهر بالعبادة، وإجابة الدعاء. وكانوا يتبرّكون بدعائه، قد نفع الله به خلقاً كثيراً، فكان يفعل هذا في كل سنة، الى أن بلغ أبو إسحاق الحلم، فدخل قلبه من الخير، ومما يسمع من ابن عاصم، ويرى من فضله، ما أزعجه عما كان فيه، فانخلع من الدنيا ولبس عباءة وهرب. فطلب فلم يوجد. وكان يستأجر نفسه، بما يرد عليها، يقيم به رمقه. قال:(6/223)
ولقد بقي في تلك الحال يومين. يطعم ولم يجد من يستأجره. فإذا برجل يقول: من يحمل هذا المجذوم الى موضع كذا، بثمن درهم. فحمله وأخذ الثمن فاقتات به. ووفق مع زهده الى طلب العلم. فكان لا يسمع في تصرفاته وسياحته، بعالم، إلا أتاه وسمع منه وكتب عنه. ولا برجل صالح، إلا قصده وانتفع به. وأبوه في هذا كله، بعد مع بني الأغلب في حاله. فلقد ذكر أن أبا إسحاق رحمه الله، وجد يعجن طيناً بمدينة سوسة، بأجرة. فقيل له: إن أباك كثير الاجتهاد في طلبك. فقال: قولوا له. أكنت تظن أنه يخرج من ظهرك، من يطلب الحلال؟ وحجّ سنة أربع عشرة وثلاثماية.
ذكر محله من العلم
وكان أبو إسحاق قد سمع من العلماء. وله من عيسى بن مسكين إجازة. وكتب عن أبي بكر ابن اللباد. قال اللبيدي: وكان ابن اللباد به متعجباً. وكان أكثر دراسته بالساحل، على أبي علي حمود بن سهلون. صاحب ابن عبدوس، وأخذ أيضاً عن محمد بن علي، بن عبد الرحيم بن علي ابن عبد ربه. وأبي يوسف ابن مسلم، وجماعة سواهم. وكان يقول: لقد رأيت هذا الساحل، وما منه قرية إلا بها رجل من أهل العلم والقرآن. أو رجل صالح يزار.(6/224)
قال أبو القاسم: وكان أبو إسحاق، حسن الضبط في نقله، وتصحيحه الكتب. إذا سمع من عالم لم يكتب اسمه في كتابه. وكان ممن سمع، وسكت. وكان حافظاً إذا حفظ شيئاً، قلّ ما ينساه. وكان درس من الفقه دواوين، وكتب بيده كتباً كثيرة. وكان من أعلم الناس باختلاف العلماء، عالماً بعبارة الرؤيا، ولا يفتي فيها. ويعرف حظاً من اللغة العربية، حسن القراءة للقرآن، يحسن تفسيره، وإعرابه وناسخه ومنسوخه. لم يدرك حظه من دراسة العلم بالليل، إلا عند ضعفه قبل موته بقليل. وكان لما ضعف بصره، عن قراءة الليل، فجعل ابنه أبا الطاهر، يقرأ عليه. قال أبو القاسم: وكان لا يفتي، إلا أن يسمع من يتكلم بما لا يجوز، فيرد علي. أو يرى فتى يخطئ في صلاته، فيرد عليه. ولقد وقف على مسائل، أفتى فيها جلّة العلماء. فقال لهم: عاودوا الفتيا. فما أراه أجاب إلا عن شغل، فعادوا، فأجابوا بخلاف الجواب الأول. وكان يقرأ، فلما ضعف جعل ابنه يقرأ عليه. فإذا حضر أحد من العامة، قطع القراءة، حذراً عليهم أن يسمعوا ما لا يفهمون، إلا أن يكون كتاب فقه. وكان أبو الحسن القابسي يقول: الجبنياني إمام يقتدى به. وكان أبو محمد بن أبي زيد، رحمه الله، يعظّم من شأنه. ويقول: طريق أبي إسحاق، خالية لا يسلكها أحد في الوقت. ويقول: لئن لم يكن أمر أَوَيْس القرني صحيحاً، فالجبنياني أويس هذه الأمة. ويقول: لو فاخرنا بنو إسرائيل بعبادها، لفاخرناهم بالجبنياني. ويقول: من محبتي فيه، وكثرة ذكري له، إني أراه في المنام. ولقد(6/225)
قوّى قلبي أنه يدعو لي. وأنه رأى جامع مختصر المدونة، الذي ألفته، فأعجبه. وكان أبو محمد التبّان يثني عليه، وكان مسرة بن سالم إذا ذكره، يبكي بكاء عظيماً، ويقول: كان والله مقدّماً علينا في صغره، وفي كبره. قال أحمد بن حبيب: قال أبو القاسم اللبيدي: وكان من أهل العلم، قال لي أبو إسحاق: أتدرسون في هذا الوقت العلم؟ قلت: نعم. قال فتجتمعون للمذاكرة؟ قلت: نعم. قال: لقد كنا نجتمع، ولقد لقينا المدونة في شهر، ونلقي الليل، فما علمت أننا نمنا ذلك الشهر، ثم قال وإنما نقوى على السهر بأكل اللحم. ثم قال لي: أي كتاب في أيديكم، تدرسونه؟ فقلت: العتق الأول. فألقي عليه من أوله، وسوّر المسائل، حتى كأن الكتاب في يده. قال: وكان ينزع بالقرآن والسنّة. وكان العلماء والفصحاء بين يديه، كالغلمان، بين يدي المعلم، من هيبته.
ذكر زهده في الدنيا وسيرته في نفسه وولده وأهله
قال أبو الحسن القابسي: لما رأيت هديه، وسمته في نفسه، وصلاته وحاله، رأيت شبيه السلف الصالح. وكان يقول: وقف أبو إسحاق على أقل عيش في الدنيا، فقال أروني منزلة دونها أنزل إليها. قال أبو القاسم: وكان أبو إسحاق، من أشد الناس تضييقاً على نفسه ثم على أهله، كان يأكل البقل البري والجراد إذا وجده، ويطحن قوته بيده، شعيراً. ثم يجعله بنخالته، دقيقاً في قدر ماء، مع ما وجده من بقل بري أو غيره، حتى أنه ربما رمى(6/226)
منه بشيء الى الكلب، فلا يأكله. وربما عوتب في ذلك، فيقول: الرقاد ما الكلب على المزابل وأكل خبز الشعير، بنخالته، كثير لمن كان يرجو في الآخرة شيئاً. وكان قوته، الذي يأكله من الشعير بنخالته، يتولاه له رجل من إخوانه، يحرثه في أرض حلال، وزريعته حلال، وبقله حلال. فإذا أصاب زرعاً أكثر من القوت تصدّق به. وقوته من الزيت، من عند رجال صالحين. وكان لباسه أولاً: صوفاً من موضع يعرف أصله، فلما تغيرت الأمور - يعني بالفتن - كان يلبس خرق المزابل، يجمعها ويغسلها. ويبطن بعضها على بعض، فيجعل منها شيئاً وسطه، وشيئاً على ظهره، ويخيطها بمسلة من عظم غزال. وكان يتوطأ الرمل. وفي الشتاء يأخذ قفاف المعاصر، الملقاة على المزابل، يجعلها تحته. ويكسر بيته كل واحد جبة صوف، ولفافة على رأسه، فإذا بلغ أحدهم أسقط النفقة عنه والكسوة. وقال له: لا نتقلدك، وكان وطاؤهم حصيراً خلقاً قديماً. وعند رؤوسهم الطوب. ومائدتهم جلدٌ - جلد ضحيته - ولقد مكث قبل موته، نحواً من سبع سنين لم يأكل خبزاً. إنما يلقي الدقيق في القدر، مع ما فيها. وكان إذا مشى، أسرع، حتى لا يكاد يدركه إلا من يجري. قال بعضهم: لقيته يوماً مهموماً. فسألته، ما بالك؟ فقال: ولما لا أكون مهموماً، والمنكر في داري؟ والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. قلت:(6/227)
المنكر؟ قال: أي والله المنكر. قلت: ما هو رحمك الله؟ قال: قشور قرع ملقاة على بابي، رماها أهلي، يمشون عليها، وفيها قوت، أيموت أحد جوعاً وهو يجد قشور قرع؟ ثم جمعها، فطبخها لقوته. قال: وكان عند أبي إسحاق، في سنة، زيت حصل له من التعليم. فمرت على الناس شدة، فقيل له: تبيع هذا الزيت بالدين؟ قال: نعم، لكنني لا أعامل من له ذمة، إنما أعامل الفقراء، ومن لا ذمة له، فباعه منهم. فلما وجب البيع، قال: لي عليكم ألا يأتيني أحد منكم، بشيء مما عليه، حتى أقتضيه منه. فلما زالت الشدة وأيسر بعضهم، أتاه بالثمن. فقال لهم: ما هكذا بيني وبينكم، ثم ترك جميع ذلك لهم. وختم عليه صبي، فأتاه بدينار. فقال له شيخ من أصحابه: أعطني هذا الدينار أعمل لك فيه، ففعل. قال: فلم أزل أتجر له سنين كثيرة حتى حصل به من الزيت ما يساوي مائة دينار، وغلا الزيت. فأخبرته بذلك فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وقال له: إذا أتتك رقعتي بخطي، فأعمل على ما فيها. فكانت رقعته تأتي بيد فقير، فيها: بسم الله الرحمن الرحيم. جبر الله يا أخي قلبك، وغفر ذنبك. تدفع الى موصل رقعتي كذا وكذا والسلام. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم. وهكذا كانت كتبه. ثم صلى على جنازة. فقال لي: بقي من ذلك الزيت شيء؟ فقلت: لا إلا شيء، من عكر. ففرّقه، وانصرف منه، بنصف قفيز. لا غير ذلك. ورغب إليه رجل من الصالحين في حصار أبي يزيد واشتداد الحال، في دينار، يقبله منه، قرضاً - إذ أعلم أنه لا(6/228)
يقبله على غير ذلك - فأبى. وقال: أنا في غنى عنه. عندي قفيز زيت، وخمسة أثمان شعيراً. فقيل له: وما يغني عنك هذا القدر، وأنت في خمسة من العيال، وفتنة وغلاء؟ فقال: الاشتغال بهذا من الفضول. قال ابنه أبو الطاهر: وكنا إذا بقينا بلا شيء نقتاته، كنت أسمعه في الليل يقول:
ما لي تلاد ولا استطرقت من نسب ... وما أؤمّل غير الله من أحد
إن القنوع بحمد الله يمنعني ... من التعرض للمنانة النكد
إني لأكرم وجهي أن أعرضه ... عند السؤال لغير الواحد الصمد
فذكر ذلك لأبي الحسن القابسي، فقال: مثل الجبنياني يقول هذا، ويصدق فيه.
ذكر ورعه وخوفه وعبادته واستقصاره بنفسه
ذكر أنه أول أمره استأجر نفسه عنده رجل، بجهة سوسة، يرعى له بقرة. فأتاه يوماً بفأس فقال: اقطع خشبة من هذه الشجرة. فقال له أبو إسحاق: ليست لك، إنما هي لأخيك. فقال له: صرت لي ضداً؟ إنما عليك أن تسمع ما آمرك به، فتعمله. فقال له: بلى، على أن أتقي الله. فانصرف عنه، فلحقه بأجرته. فقال له: من أين تدفعها لي أنت؟ لم تزع عن قطع شجرة أخيك في غيبته، فمن أين تدفع لي؟ فذهب ولم يأخذ منه شيئاً. وقال أبو بكر السيوطي: صحبته قديماً فكنا ربما استأجرنا أنفسنا في جمع الزيتون، فإذا دفعت إلينا أجرتنا يحط منها، ويقول: نخشى أنا لم نوفِ، فكيف نستوفي؟(6/229)
وحضر طعام رجل من أصحابه، فلم يأكل منه، فعتب فيه. فقال: رأيته ترك حلاله، وأكل ذلك أوجب عندي التنزه عن طعامه. ولما رحل الى القيروان، ليسمع من أبي بكر ابن اللباد، جاء بجراديق من شعير، فكان يفطر كل ليلة على واحدة. ويشرب من بئر بروطة. فلما فرغ جرادقه، انصرف، ولم يشتر بها شيئاً يأكل، ولما جاءت فتنة أبي يزيد، واختلطت أملاك الناس في الغنم، ترك شراءَ الرّق، فلم يكتب فيه. قال بعض أصحابه: سرت معه يوماً، وأنا أسوق دابة. فأخذت عوداً من الطريق أضربها به. فقال لي، أهو لك؟ قلت: لا. قال: القه. قلت: إنه عود ملقى. فقال: كان أصحابنا يزعون عن أخذ الحجر من أرضهم، قلت له: إن مالكاً سئل عن الحبل والعصا؟ وما لا بال له؟ فقال: صدقت ولم يقل مالك: أخذه خير من تركه. وأقل ما يُتّقى من ذلك، أنها تصير عادة، هو أكثر من ذلك. وقال بعض أصحابه: رأيت في المنام رجلاً مشهوراً بالفسوق، يرجم بحجارة من السماء. فذكرت ذلك لأبي إسحاق. فأقبل عليّ، وهو مذعور. فقال: سألتك بالله أنا هو؟ يكررها عليّ، حتى حلفت له بالله، أنه إنما هو إلا فلان. فقال: والله ما أعلم أحداً أحقّ بذلك مني. قال أبو القاسم: وكان أبو إسحاق ظاهر الحزن، كثير الدمعة، يسرد الصيام.(6/230)
قال ابنه أبو الطاهر: إنه ما رآه مفطراً قطّ. قال، وقال لي أبي: إن إنساناً أقام في آية سنة، لم يتجاوزها، وهي قوله تعالى: " وقفوهُم إنهم مسؤولون ". فقلت له: أنت هو؟ فسكت. فعلمت أنه هو. وكان إذا دخل في الصلاة، لو سقط البيت الذي هو فيه، ما التفت. إقبالاً على صلاته. واشتغالاً بمناجاة ربه. ولقد جمع أولاده يوماً، لزيارة أمهم، وجاءوا بلحم، فطبخته لهم في ركن البيت، وتعشّوا، والشيخ في الركن الآخر يصلي، فبعد مدة قال لأمهم: ما لكم لم تعملوا عشاءً - لشدة إقباله على صلاته. وحكى بعضهم: إنه جاء يوماً فسلم عليه، وقبّل في عنقه. قال: فردّ يده، وصفع نفسه. فبكيت بكاء عظيماً. فقال لي: ما يبكيك؟ قلت لأن هذا كان بسببي. فقال: عنقي بالصفع أولى منه بالقبلة. وقيل له: لمَ اخترت جبنيانة على غيرها؟ قال: أردت أن يجعل الله ذكري فيها. لأني رأيتها من أقل القرى ذكراً. قال أبو القاسم: ولقد رأيته يوماً وعظ، فبكى وأبكى، حتى اتصل البكاء بخارج الدار. فصارت كأنها مناحة. فلما رأى ذلك، خاف الفتنة على نفسه، فنظر الى نعمل ملقاة، بحذائه، فقال لمن حوله: سألتك بالله خذوا هذا النعل، واصفعوا بها هذا الشيخ السوء، الذي يأمركم بالمعروف، وينهاكم عن المنكر، ولا ينتهي عنه.(6/231)
ونبت في ساقه نبت. فقيل له: دواؤه فخذ البقر، سخناً مع الزيت، حتى يطيب. فسأل عن بقرة أصيلة. فقيل له عند علي بن عيشون، فقال: إنه قد مات، وترك ورثة فيهم أطفال. وسمع رحمة الله عليه كلباً ينبح، فقال لأصحابه: هذا الكلب والله أنصح لأهله مني. لأنه يحرس لأهله ويمنع عنهم، وهم يجيعونه ويضربونه. فأنا قد منّ الله علي بالإسلام، وحضني على ما فيه نجاتي، فققصرت ولم أنصح نفسي. قال أبو عبد الله محمد بن مالك الطوسي: انتسخت من أبي إسحاق كتاباً فيه رقائق، وحكايات، فقلت لولده عبد الرحمن: عسى تلطف به حتى نسمعه منه، فجئناه فقلنا: أصلحك الله نحب أن تقابل هذا الكتاب بين يديك. فقال: افعلا. فلما أخذنا لنقابل، قلنا أصلحك الله تعالى، على من قرأته، أو عن من رويته؟ فأخذ الكتاب من يدي، وقال: انصرف. فقلت له: لو ترك العلماء الرواية لذهب العلم وانقطع الأثر، وأنت تعلم ما جاء فيمن كتم علماً. فقال لي وهو يبكي: أليس في الحديث يجهل هذا العلم من كل خلق عدوله، ينفون عنه تحريف القائلين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؟ فقلت: نعم. فقال: شيخ جبنيانة ليس
بعدل، حتى تقبل شهادته على النبي صلى الله عليه وسلم. فانصرفت عنه. ولما ورد أبو حامد الخراساني إفريقية. وصل الى الجبنيانة، فسلّم عليه. وقال له: جئتك من خراسان زائراً. فقال له الشيخ: إن صدقت فأنت أحمق، وإن قبلت أنا هذا منك، فأنا أحمق منك، كيف تترك العراق ومن بها من العلماء. ثم حرم الله، وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم والشام، ومصر، وتأتي الى المغرب، الى شيخ بجبنيانة تقول هذا؟ فبكى أبو حامد، وقال له: لو تكن هكذا لم آتك. وكان أبو حامد هذا يقول: رأيت بالمغرب أربعة ما رأيت مثلهم، علي بن محمد بن مسرور الدبّاغ. فلم أرَ أكثر حياء منه. وأبا إسحاق السبائي، فلم أرَ أعقل منه، وأبا الحسن الكانشي، فلم أرَ أظهر حزناً منه. وأبا إسحاق الجبنياني، فلم أرَ أزهد منه. وكان إذا رأى اجتماع الناس يقول: كانت أمي رحمها الله، خادماً وثمنها كذا وكذا، ويذكر ثمنها نزراً. وكانت صلاته - رحمه الله - صلاة العلماء، تامة موجزة. وكان مع سعة علمه، يأخذ بالجد والاجتهاد، وما يخرجه من الخلاف، ونسي يوماً الإقامة من بعض الصلوات. فلما سلم، قال لمن خلفه: إني نسيت الإقامة، ولا يلزمكم عندي إعادة. وأنا أعيد صلاتي. لأخرج من اختلاف العلماء. فاحتاط لنفسه رضي الله عنه. لأن عطاء ابن أبي رباح، والأوزاعي وغيرهما، يريان الإعادة، على من نسيها. رضي الله عنهم أجمعين، وغفر لهم وبالله التوفيق.، حتى تقبل شهادته على النبي صلى الله عليه وسلم. فانصرفت عنه. ولما ورد أبو حامد الخراساني إفريقية. وصل الى الجبنيانة، فسلّم عليه. وقال له: جئتك من خراسان زائراً. فقال له الشيخ: إن صدقت فأنت أحمق، وإن قبلت أنا(6/232)
هذا منك، فأنا أحمق منك، كيف تترك العراق ومن بها من العلماء. ثم حرم الله، وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم والشام، ومصر، وتأتي الى المغرب، الى شيخ بجبنيانة تقول هذا؟ فبكى أبو حامد، وقال له: لو تكن هكذا لم آتك. وكان أبو حامد هذا يقول: رأيت بالمغرب أربعة ما رأيت مثلهم، علي بن محمد بن مسرور الدبّاغ. فلم أرَ أكثر حياء منه. وأبا إسحاق السبائي، فلم أرَ أعقل منه، وأبا الحسن الكانشي، فلم أرَ أظهر حزناً منه. وأبا إسحاق الجبنياني، فلم أرَ أزهد منه. وكان إذا رأى اجتماع الناس يقول: كانت أمي رحمها الله، خادماً وثمنها كذا وكذا، ويذكر ثمنها نزراً. وكانت صلاته - رحمه الله - صلاة العلماء، تامة موجزة. وكان مع سعة علمه، يأخذ بالجد والاجتهاد، وما يخرجه من الخلاف، ونسي يوماً الإقامة من بعض الصلوات. فلما سلم، قال لمن خلفه: إني نسيت الإقامة، ولا يلزمكم عندي إعادة. وأنا أعيد صلاتي. لأخرج من اختلاف العلماء. فاحتاط لنفسه رضي الله عنه. لأن عطاء ابن أبي رباح، والأوزاعي وغيرهما، يريان الإعادة، على من نسيها. رضي الله عنهم أجمعين، وغفر لهم وبالله التوفيق.
ذكر آياته وإجابته وفضائله، وهيبته، وتوكله
قال: وكان العلماء، رضي الله عنهم، بالقيروان وغيرها، والفضلاء يقصدونه ويزورونه ويتبركون برؤيته، ويسألونه الدعاء لهم. وكان أبو محمد بن أبي زيد، رحمه الله يقول:(6/233)
قوي قلبي إذ بلغني أنه يدعو لي. وكان أبو الحسن القابسي وغيره بقصده. قال أبو الحسن: لما سافرت إليه، أول سفرة، وقربنا من جبنيانة. دخل في قلبي منه رعب وهيبة عظيمة، وقلت لأصحابي: أخشى أن يجري على لسان هذا الشيخ، من أحوالنا شيء يظهره الله للناس، أو كلاماً هذا معناه. فوجدناه غائباً ليصلي على جنازة. فلما جاء وقت الصلاة وأذّن، ما ملكت نفسي عند سماع أذانه، حتى جلست الى الأرض، وسمعت أذاناً ما سمعت مثله، ثم دخنا المسجد، فلا أحد يتكلم إلا أن يسلّم سلاماً خفياً. فلما صلى انصرف. فسلمنا عليه، فكان منه إقبال عظيم. وكان قبل دخولنا جبنيانة، تكلم معنا بعض أصحابنا، فقال لنا رجل من العرب: وخطب إلي ابنتي رجلان صالحان من الموالي، فإن زوجتها لم تطب نفسي، وإن رددتهما خشيت أن لا تأخذ مثلهما. فكان أول شيء سمعنا من الشيخ قال: كان لسحنون بن سعيد صاحب من المغرب، خطب ابنته رجل من الموالي. فشاور سحنوناً، فقال له: زوّج من له دين ومروءة، ولو انفلقت عنه بعرة. ثم حوّل الجبنياني رأسه قِبَل صاحبنا فقال: هكذا قال سحنون. فقلت له قد أفتيت في مسألتك على لسان الجبنياني. وكان أبو إسحاق رحمه الله، قد سأل الله أن يبيّن له أهل البدع والمحدثين في الدين. فكان ربما لقيه قوم فيسلم على بعضهم، ويتفرس في آخرين فراسة سوء، فيقف عن السلام عليهم، فيكشف عنهم، فيوجدون على ضلالة، وله في هذا الباب(6/234)
أخبار مأثورات كثيرة. ولقد أتاه حسن بن رشيق، وزير السلطان، وابن النديم، فلما قربا من مسكنه قال أحدهما للآخر: أصابك مثل ما أصابني؟ قال له: وما هو؟ قال: إن عنان فرسي يسقط من يدي من الرعب. فقال له الآخر أصابني أشد من ذلك. فانصرفا ولم يجسرا على لقائه. وكان رجل من أهل السنّة، بقرية مشارقة ومعتزلة، ليس فيهم سني غيره، وعلى قريتهم كتامي. يقال له أبو دكرك. من الفراعنة. فقال جيرانه، لأبي دكرك: تكتب عليه محضراً أنه سبّ السلطان، وتأخذ أنت ماله، وتقتله. فإذا سألك السلطان عن قتله، أخرجت المحضر، فأمر باعتقال دار الرجل، لينزل عليها بالليل، فتحيل حتى خرج من الدار، ووصل الى أبي إسحاق، وقد ذهل عقله، فسلم سلاماً محتفلاً فقال له: ما بالك؟ قال: أبو دكرك جرى عليّ منه ما جرى، كذا وكذا. فقال أبو إسحاق: من أبو دكرك؟ دكرك الله به الأرض. ثم قال لمن حوله: إن صاحبكم مضطرب فاقصدوا به باب الملك الجبار. وأقبل على الدعاء، ومن حضر يؤمّن. ثم قال: تُكفى مؤنته، إن شاء الله تعالى. فكان من دعائه: اللهم دكرك الأرض بأبي دكرك. فلما كان الغد، أتانا السنّي يعرفنا أن أبا دكرك، قتله عبيد(6/235)
والي البلد، وأخفوه. فاجتهدوا في طلب جسده وبذل السلطان عليه مالاً، فما وُجد له أثر. دكرك الله به الأرض. وسلم السني. قال اللبيدي: ووصل إلينا محمد الترجمان، وطلب من أهل موضعنا خمراً. فقالوا له: ما بهذا البلد أحد يشربها لانا بجوار هذا العابد - يعنون أبا إسحاق - فقال: مَن العابد؟ أنا أخرج قلبه على رمحي، ما يعرف هو غير مولاه - يعني السلطان - فمضى أهل القرية يشكون الى أبي إسحاق، ويعرّفوه. فقالوا: إنا خائفون على أنفسنا، وحريمنا. وقد تركوا معه أحدهم يلاطفه. فوجدوا أبا إسحاق مستقبلاً، فدعا بدعاء عظيم. ثم قال: تكفون مؤنته إن شاء الله. لا يدخل إليكم أبداً. قال أبو القاسم: فرجعوا ورجعت معهم، فوجدناه قد شدّ على خيله متوجهاً الى الجبل. فسقط في جرف، وسقط عليه فرسه، فمات. قال أبو إسحاق: رأينا منه ما يضيق بوسعه الكتاب. ومرّ به صاحب خير السلطان، وهو يؤذن، فقال له: يا منافق. لم تصدّ عن دعوة مولانا؟ فلما قضى الشيخ أذانه، قال: أذلك الله يا فاسق على يد من اعتززت به. فنقم عليه السلطان شيئاً فضربه خمسماية سوط. وصُلب حيّاً. فكان يقول: دواء مجرب، من أحب أن يضرب خمسماية سوط ويصلب حياً فليسبّ الجبنياني.(6/236)
قال أحد أولاده: خرجنا عند الغروب من صفاقس، مع الشيخ، فأظلم علينا الليل، فلقينا السلاّبة. وقد شهروا حديدهم. فلما قربوا من الشيخ، قال: لا إله إلا الله، ينبغي للخلق أن يستحيوا من الله. ففرّت السلابة. ثم تمادينا نمشي في الظلمة. فإذا مشعلة نار
مرة عن يميننا، ومرة عن يسارنا. حتى حاذينا منزل مروان العابد. فقال الشيخ: أنا أرجع الى عند مروان. وتمادوا أنتم. ثم حوّل وجهه الى الشعلة. فقال: يا فاسق، يا لعين، قد عرفناك، واتقيناك، إخساً فعليك لعنة الله. وطفيت الشعلة. قال بعض أصحابه العباد: نبتني نبت في أصل العجز وأقعدني، ولم أقدر أن أصلي معه، لا قائماً ولا جالساً، إلا مضطجعاً. فحملت حتى وصلت إليه، فأخبرته وقلت: قيل لي تكتوي بالنار. فخفت من النار. فبكى وقال: أي والله ينبغي لك أن تخاف من النار. ثم قال لي: اجعل يدك على المكان، ففعلت وجعل يدعو، ثم قال لي: قم فقد شفاك الله. فوالله لقد ركبت الدابة، فما مسكها أحد كأني ما مسني شيء قط. قال عمر بن مثنى: كل من أدركت بهذا الساحل من عالم أو عابد، يستتر ويتروى بدينه، خوفاً من بني عبيد، إلا أبا إسحاق، فإنه واثق بالله، فلم يسلمه، ومسك الله به قلوب المؤمنين، وأعزّ به الدين، وهيّبه في أعين المارقين. وحضر أبو إسحاق جنازة بنت بعض أصحابه، فصلى عليها وانصرف كل من(6/237)
في السوق للصلاة عليها، خلفه. فرفع الأمر الى سلطان الشيعة: معد. وقيل له: إنه مطاع. فأمر بالبرد فخرجوا فيه. فسمع وزراؤه بذلك فأتوه، حفاة مشاة يقولون: إنا نخشى الهلاك. ما ظنّك برجل مجاب الدعوة، منقطع عن الدنيا. فرد البرد، وأرسل شيخاً من كتامة، في زي ناسك، ليختبر له أحواله، واختفى الشيخ الكتامي خلف حصير في المسجد، حتى جاء أبو إسحاق فأذّن للمغرب، وأقا، وصلى. فخرج الكتامي، من وراء الحصير، فقال له: يا منافق على مولانا، لا تؤذن حي على خير العمل؟ ولا تقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ولا تسلم على ناحيتين. ما لمولانا عدو مثلك؟ فدعا عليه. ثم قال: اللهم اجعله آية للعالمين. فطارت عيناه، جميعاً. فأخرج من المسجد يقاد وهو يقول: الموت، الموت مع هذا الشيخ لا تقربوه. وانصرف الى معد. فارتاع وقال لوزرائه: كيف ترون لو بدر منا فيه بادر. وكان - لما صلى على هذه الجنازة - بقربه رجل، فقال: يا أبا إسحاق، الوقت لا يحتمل. فقال له إنّا لم نبلغ درجة الصديقين، حتى نقتل على الحق. فقال له: يا أبا إسحاق، عندي دعاء الخليل، حين ألقي في النار، ودعاء يونس حين التقمه الحوت. فقال له الشيخ: يا مسكين، إن كنت تدعو دعاء الأنبياء، وتفعل فعل الفراعنة، فمن تخادع؟ وصلى مرة على جنازة امرأة، فجيء بجنازة كتامي، كبير. ومعه خلق منهم. فقالوا: الصلاة على هذا الشهيد. فلم يرد عليهم. فلما فرغ من دفن المرأة، انصرف وتركهم وقوفاً بتابوتهم. فافترق أصحابه، ومن معه من حوله. خوفاً أن يضعوا فيهم أيديهم. فلما ذهبوا بجنازتهم، أدركنا الشيخ، وقلنا له: الوقت، كما علمت، وهؤلاء(6/238)
أصحاب السلطان، فأولى بك ألا تخرج للصلاة على الجنائز، فلما أكثرنا عليه، قال: كأنكم خفتم عليّ منهم. قلنا: نعم. قال: اللهم إن كنت تعلم أني أخافهم دونك، فسلطهم عليّ. فأمنّا حينئذ ومشينا معه. وجاء إليه مرة، صاحب الأسطول في عسكر عظيم وصقالبة. فلما سلم الشيخ من الصلاة مضى إليه، حسون ومن معه، ليسلموا عليه. فحوّل إليهم وجهه، وهو مغضب، وقال لهم: خير ما لكم عندي. فما أعرف فلاناً، ولا فلاناً في الدارين، غير الله، هو الضار النافع. وأتاه يوماً حاكم سفاقص، وكانت تشرّف، وابن حجاج من أصحاب السلطان، فجلسا بين يديه، الى جانب مزبلة، وجلس بينهما شيخ ضعيف العقل. فأقبل يثني عليهما. فقال أبو إسحاق: جاء في الحديث: احثوا التراب في وجوه المدّاحين، وجاء في الحديث: إذا مدح الفاسق غضب الله عزّ وجلّ. ولا سبيل الى التخلف عما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم. فحثا بيده في وجه الشيخ الضعيف العقل، ثلاث حثيات، فامتلأت لحية الحاكم وصاحبه. وانصرفا. وكان في أصحاب أبي إسحاق، رجل مؤدب يزوره كل جمعة. فسرقت دابته، فطلبها فلم يجدها. قال: فأتيت أبا إسحاق وأنا أبكي، فعرّفته. فقال: يا ضعيف(6/239)
العقل، على دابة تبكي. فقلت: والله ما بكيت إلا لوجهين، أحدهما انقطاعي عن زيارتك، والآخر جهادي بها عن بنيات لي. فدعا لي دعاء كثيراً، ونحن نؤمّن على دعائه، ونبكي. وذلك نصف النهار، فانصرفت. فلما كان بعد ذلك بليلتين أو ثلاث، قرع على الباب. وقيل لي: أخرج خذ دابتك، فخرجت، فإذا بدابتي مع ثلاثة رجال. فسألوني أن أجعلهم في حلّ، وقالوا: ما قصدنا دارك ولكن غلطنا. فقلت لهم:
لابد لكم أن تخبروني بقصّتكم، فقالوا: ذهبنا بدابتك فنحن في الضحى، نصف النهار، إذ بصوت يقول: الى أين تذهبون، يا فسقة بداية الجبنياني؟ فنظرنا فلم نرَ شيئاً. ثم مشينا، فسمعنا بالصوت ثانية، فألقي في قلوبنا الرعب. فرجعنا حتى أتينا الليلة دار الجبنياني، فقرعنا عليه الباب، فقلنا له: خذ حمارتك واستغفر لنا، فقد فعلنا فيك ما لا يحل. فقال: أنتم يا مساكين، ابتليتم بهذه الدابة؟ قلنا: نعم، وأخبرناه. فقال: أنتم على طهارة؟ قلنا: لا. فأخرج لنا قلة وقدحاً وحبلاً. فاستقينا من بئر، واغتسلنا، ثم أتيناه فصلّينا وراءه ركعتين. وسأل الله لنا في التوبة. ثم قال: وصّلوا الدابة الى صاحبها. فجئناك بها. وكان أبو إسحاق، قلما يتغير على أحد فيفلح. قال لإنسان لاحه في شيء أنكره على آخر، لجهره في صلاة نافلة النهار. وقال له: يا هذا إن مالكاً، استحب فيها الإسرار. سيما في المسجد، لما يخلط على الناس. فقال الرجل: قد جهر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عمر بن عبد العزيز. فقال له أبو إسحاق: كان ذلك بالليل، وقد عاب عليه ذلك سعيد بن المسيّب. فقال له الرجل: تقول، سعيد حجة؟ فقال الشيخ: يا متعوس. أمام دار الهجرة، وشيخ التابعين، تقول هذا فيه؟ ما أراك تفلح والله، ما أراك تموت على الإسلام. ومات معتزلياً بعد ذلك. وقال له أبو سعيد ابن أبي عباس: سألتك بالله، يا أبا إسحاق أجبني عما أسألك عنه، فقال له: ما هذا يا أبا سعيد؟ إن سألتني عما أعلم أجبتك. فقال له: هل اجتمعت بالخضر عليه السلام، أم لا؟ فسكت منكراً. ثم رفع رأسه فقال: أعوذ بالله أن أدعي ما ليس ي بحق، يمرّ بي هاهنا أقوام يسلّمون عليّ بالليل، لا أدري أجنّ هم أم أنس. قال اللبيدي: أخبرت الشيخ أبا الحسن بهذه الحكاية. فقال هذا جواب عالم. لم ينكر ولا أقر. هي جيّدة. وقيل لزوجته، هل رأيت من أمره شيئاً تخبرين به؟ فسكتت وأبت من القول. فلما مات، سئلت، فقالت: إني في ليلة ظلماء حتى رأيت نوراً أغشى الحجرة، وموضع الشيخ. واسمع الحديث، فرعبت. وأقام ذلك مدة. فأحس بي أني يقظانة. فقال لي: احذري أن تذكري ما رأيت، ما دمت حياً. لكم أن تخبروني بقصّتكم، فقالوا: ذهبنا بدابتك فنحن في الضحى، نصف النهار، إذ بصوت يقول: الى أين تذهبون، يا فسقة بداية الجبنياني؟ فنظرنا فلم نرَ شيئاً. ثم مشينا، فسمعنا بالصوت ثانية، فألقي في قلوبنا الرعب. فرجعنا حتى أتينا الليلة دار الجبنياني، فقرعنا عليه الباب، فقلنا له: خذ حمارتك واستغفر لنا، فقد فعلنا فيك ما لا يحل. فقال: أنتم يا مساكين، ابتليتم بهذه الدابة؟ قلنا: نعم، وأخبرناه. فقال: أنتم على طهارة؟ قلنا: لا. فأخرج لنا قلة وقدحاً وحبلاً. فاستقينا من بئر، واغتسلنا، ثم أتيناه فصلّينا وراءه ركعتين. وسأل الله لنا في التوبة. ثم قال: وصّلوا الدابة الى صاحبها. فجئناك بها. وكان أبو إسحاق، قلما يتغير على أحد فيفلح. قال لإنسان لاحه في شيء أنكره على آخر، لجهره في صلاة نافلة النهار. وقال له: يا هذا إن مالكاً، استحب فيها الإسرار. سيما في المسجد، لما يخلط على الناس. فقال الرجل: قد جهر في مسجد رسول الله صلى(6/240)
الله عليه وسلم، عمر بن عبد العزيز. فقال له أبو إسحاق: كان ذلك بالليل، وقد عاب عليه ذلك سعيد بن المسيّب. فقال له الرجل: تقول، سعيد حجة؟ فقال الشيخ: يا متعوس. أمام دار الهجرة، وشيخ التابعين، تقول هذا فيه؟ ما أراك تفلح والله، ما أراك تموت على الإسلام. ومات معتزلياً بعد ذلك. وقال له أبو سعيد ابن أبي عباس: سألتك بالله، يا أبا إسحاق أجبني عما أسألك عنه، فقال له: ما هذا يا أبا سعيد؟ إن سألتني عما أعلم أجبتك. فقال له: هل اجتمعت بالخضر عليه السلام، أم لا؟ فسكت منكراً. ثم رفع رأسه فقال: أعوذ بالله أن أدعي ما ليس ي بحق، يمرّ بي هاهنا أقوام يسلّمون عليّ بالليل، لا أدري أجنّ هم أم أنس. قال اللبيدي: أخبرت الشيخ أبا الحسن بهذه الحكاية. فقال هذا جواب عالم. لم ينكر ولا أقر. هي جيّدة. وقيل لزوجته، هل رأيت من أمره شيئاً تخبرين به؟ فسكتت وأبت من القول. فلما مات، سئلت، فقالت: إني في ليلة ظلماء حتى رأيت نوراً أغشى الحجرة، وموضع الشيخ. واسمع الحديث، فرعبت. وأقام ذلك مدة. فأحس بي أني يقظانة. فقال لي: احذري أن تذكري ما رأيت، ما دمت حياً.
ذكر جمل من حكمه وفصول من كلامه في العلم، حسان
قال أبو القاسم: كان الجبنياني، حكيم القول، وكان إذا رئي ذكر الله تعالى من هيبته. قد جفّ جلده على عظمه. واسودّ لونه، كثير الصمت قليل الكلام. فإذا نطق، نطق(6/241)
بالحكمة. قال أبو القاسم: وكان أبو إسحاق قلما يترك ثلاث كلمات، كن الخير كله: اتّبع لا تبتدع. اتضع لا ترتفع، من ورع لم يتسع. وكثيراً ما يقول: خمسة تعاونوا على هلاك ابن آدم المسكين: مؤمن يحسده، وكافر يرصده، وشيطان مارد، ودنيا حاضرة، ونفس أمارة بالسوء، وكان يقول: إذا رأيت الشاب قذراً، في شبيبته، فإذا كبر يكون شيخ سوء. ويقول: إذا رأتك زوجتك وولدك وخادمك تعصي الله، كان أول من يذلك: هم. وقيل له يوماً: ما أقل من يأكل الحلال. فقال: ما أقل من يكسب حلالاً. والدار يكون فيها من الأهلين العشرة وأكثر، ينقلب لهم المسكين الساعي عليهم، فيأكلونها وهم لا يعلمون من أين هي، حلالاً. ويكسبها المسكين حراماً وحلالاً. قال أبو الحسن القابسي: لما خرجنا عنه هربت من يد صبي دابة، كان يمسكها لنا. فقلت: أعطوها لصبي لا يقوم بها فضاعت فقال لي أبو إسحاق: قد اغتبته. فقلت له: وصفته بحاله وقلة مقدرته. وفي السنّة ما يبيح ذلك. فقال: وأين هو؟ قلت قوله عليه السلام التي شاورته في النكاح: أما أبو جهم فلا يضع عصاه على عاتقه. وأما معاوية فصعلوك لا مال له. قال، فقال لي: ليس في هذا حجة. لأن المستشار مؤتمن. وأيضاً، فإنما مشاورته لتنكح برأيه، يدخلها في النكاح، أو(6/242)
يصرفها عنه. وليست مسألتنا كذلك. بل في السنّة ما يمنعك من ذلك. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه طبيبان، وكانا نصرانيين، فلما خرجا، قال: لولا أن تكون غيبة لأخبرتك أيهما أطبّ. قال أبو الحسن: ولم أكن أعرف أنهما نصرانيان قبل ذلك، قال: فهذا رسول الله كره في نصرانيين أن يخبر أيهما أطبّ، فكيف بمسلم؟ ثم قال لي: أرأيت هذا الصبي، لو سمعك أليس كانت توجعه نفسه، وأيهما كان أحب إليك، تجد ذلك في صحيفتك، أو لا تجده. فقلت له: صدقت. وسئل يوماً عن الزراعة التي في الطرقات، تمر عليها الدواب. فتغلب على أكل ما دنا منها. فقال: أرأيتم لو قيل لكم، إنها إن أكلته هلكت، ما كنتم تصنعون؟ قلنا نحتفظ منها، ولو لم نجد إلا أرديتنا، ربطناها على أفواهها. قال: فكذلك فاصنعوا بها إذا مررتم. قال بعض أصحابه: لما حججت أتيت معي بحصيات من حصباء المسجد الحرام. فقلت لأبي إسحاق: إني أتيت معي بحصيات من حصباء المسجد الحرام، أتحب أن أعطيك منهن شيئاً تسبح بها؟ فقال لي: يا أحمق، ارم بهن، فعلى أقل من هذا، عبدت الحجارة. فعرّفت القابسي بهذا، فأعجبه فقه أبي إسحاق. وقال أبو الحسن: قال مالك فيمن يخرج بشيء من حصباء المسجد في نعليه،(6/243)
إن كان قريباً من المسجد، ردها وإن بعد رمى بها. قال محمد بن سهلون: قلت لأبي إسحاق، ما تقول في يزيد بن معاوية؟ فسكت عني. ثم قال لي: إن أهل السنّة لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب دون الشرك. ولكن ليس على المرء أن يحب ما يكره، كما يحب من يحبه. فذكر قوله القابسي، فأعجب به. وقال: لو سألت عن هذه المسألة أبا الحسن الأشعري، فيما أراه، ما كان يجيب فيها بأكثر من هذا. والله ما على الإنسان ذلك. وكان رحمه الله، يمكن أوقات الصلوات. فكلّم في ذلك. وقيل له: لعله يجتمع إليك أهل القرى، التي حولك، ليدركوا صلاة الجمعة. فقال: ليس كذلك. لكن هؤلاء القوم، يعني بني عبيد، كادوا الدين، وتسللوا الى هدمه. لأنهم لو قالوا للناس: لا تعبدوا الله، لم يقبلوا منهم، ولو قالوا لهم: اتركوا الصلاة، لم يقبلوا منهم. فتحيلوا كيف يبطلون صلاة العباد، فجعلوا يُذنون قبل الوقت، وجعلوا صلاة الظهر، تقارن الزوال. وربما وقعت قبله. وجعلوا صلاة العصر وقت صلاة الظهر، تقارن الزوال. وطبعاً إذا ما انقطع الناس إليهم في وضع الصلاة في غير وقتها، ولو بساعة، أن ينطاعوا لهم في الترك، وكانت فتنتهم بذلك لا تخفى، على عوام الناس. فأردت أن أمكن الظهر والعصر، من غير أن أخرج عن الوقت المحمود، الى الوقت المذموم. حتى تكون(6/244)
صلاتي للظهر، وقت صلاتهم العصر. فيعلم العامة أن فعلهم ضلال. وكان أبو الحسن، يمكن الأوقات. قال اللبيدي: فكلمته في ذلك. فقال لي: كيف الجبنياني يصنع. قلت: كفعلك. وحكيت له الحكاية. فقال لي: حسبك بهذا الجبنياني إمام يقتدى. وما يروى من كلام أبي إسحاق مقاماته
أكثر مما ذكرناه، وأوسع مما أردناه. وفي هذا كفاية، لمن نوّر الله قلبه، وهُدىً لمن أراد رشده. ر مما ذكرناه، وأوسع مما أردناه. وفي هذا كفاية، لمن نوّر الله قلبه، وهُدىً لمن أراد رشده.
ذكر سيرته في التعليم
وكان رحمه الله يعلّم القرآن ويشترط، إذا كان أولاده صغاراً، ثم علّم ولم يشترط، ثم ترك. وكان في تعليمه يتحفظ كثيراً. ويقول رضي الله عنه، رحم الله محمد بن سحنون، لو علّم لرفق بالمتعلمين - يريد لأنه شدد عليهم في كتابه - وكل من تعلّم على يد أبي إسحاق، انتفع به، إلا قليل. وكان يقول: لا تعلموا أولادكم إلا عند رجل حسن الدين. فدين الصبي على دين معلمه، فلقد عرفت معلماً كان يخفي القول بخلق القرآن، ففطن له، فلما علم أنه يطرد، وقف بين يدي مكتبه وقال لصبيانه: ما تقولون في القرآن؟ قالوا لا علم لنا. فقال: هو مخلوق، ولا تُزالون عن هذا القول لو قُتلتم. فماتوا كلهم على هذا الاعتقاد. قال: وبلغنا عن معلم عفيف، رئي وهو يدعو حول الكعبة ويقول: اللهم أيما(6/245)
غلام علمته، فاجعله في عبادك الصالحين، فبلغني أنه خرج على يديه نحواً من تسعين عالم وصالح. وكان يتعلم عنده جماعة من أولاد الكتاميين، ولا يأخذ منهم شيئاً، ولا يعلمهم يكتبون، يقول: لم يصلحوا بعد لذلك، حتى يصلح. فخرج كل كتامي علمه على الكتاب والسنّة. وكان يعلّم اليتامى والفقراء لله عزّ وجلّ. وكان صبيان الكتاب يأتونه، بدجاج وفراخ وطير بلغ، يعطونه إياه، ويقولون صدناه، لم يقبله منهم. فإذا قالوا له وجهه إليك آباؤنا قبله. لأن عطيّتهم لا تجوز.
وفاته وذكر تركته
قال اللبيدي: توفي أبو إسحاق رحمه الله، يوم الأحد السابع من محرم. سنة تسع وتسعين وثلاثماية. ودفن يوم الإثنين بعده بشرق جبنيانة. وسنّه تسعون سنة. ووجدت بعد موته رقعة تحت حصيره، مكتوبة بخطه: رجل وقف له هاتف فقال له: أحسن، أحسن عملك. فقد دنا أجلك. فقال لي ولده عبد الرحمن: إنه كان إذا قصّر في العمل، أخرج الرقعة، فنظر فيها، ورجع الى جدّه. وصلى عليه ابنه أبو الطاهر، واجتمع إليه خلق كثير، خرجوا به غدوة الاثنين. فما وصلوا الى(6/246)
الصلاة عليه إلا بعد الزوال، وما وجدوا له في الدنيا قليلاً ولا كثيراً، إلا أمداد شعير في قلة مكسورة. والحجرة التي كان يسكنها إنما كانت لابنه رحمه الله ورضي عنه.
ذكر بنيه رضي الله عنه
كان عنده من الأولاد سبعة. أبو بكر، وأبو الطاهر أحمد، وأبو عبيد الله محمد، وأبو علي، وأبو زيد عبد الرحمن، وأبو محمد عبد الله، وأبو الحسن علي. فأما أبو علي، فمات قبل أن يحتلم. ثم مات عبد الله، وهو دون الثلاثين. وكان أشد من الشيخ اجتهاداً في العبادة، قتله القرآن، كلما مرّ بوعد أو وعيد بكى، حتى أذاب الحزن فؤاده. فمات. قال أبو القاسم اللبيدي: فحضرت موته والشيخ يلقنه، حتى مات. فأغمضه. ثم استرجع على المصيبة، ودعا له. ثم قال لوالدة عبد الله - وهي زوجة الشيخ وكانت قريباً منه في الفضل والعبادة: احمدي الله، فقد مات على الإسلام، وجعل في صحيفتك. فإن كان عندك طيب فتطيبي، وتجملي لنعم الله عز وجلّ. وأخرج ميزراً عنده، تجمّل به، وركع. ثم جلس للناس، والبشر ظاهر عليه. وتوفي أبو الحسن أيضاً في حياة أبيه. وتوفي عبد الرحمن بعد أبيه، بثلاث سنين، وكان من الفقهاء العباد، يختم في كل ليلة ختمة. وأما أبو الطاهر فكان من أهل القرآن. وكتب الحديث، ولقي أبا الورد وغيره، وكان أبو بكر وأبو عبد الله من أهل القرآن، ويعلّمانه رحمهم الله، ورضي عنهم أجمعين.(6/247)
أبو محمد عبد الله بن إسحاق، رحمه الله
المعروف بابن التبّان، الفقيه، الإمام. كان من العلماء الراسخين، والفقهاء المبرزين. ضربت له أكباد الإبل من الأمصار، لعلمه بالذب عن مذهب أهل الحجاز ومصر، ومذهب مالك. وكان من أحفظ الناس بالقرآن والتفنن في علومه، والكلام على أصول التوحيد، مع فصاحة اللسان. وكان مستجاب الدعاء، رقيق القلب غزير الدمعة. وكان من الحفاظ. وكان يميل الى الرقة، وحكايات الصالحين، عالماً بالفقه والنحو والحساب والنجوم. وذكره أبو الحسن القابسي بعد موته، فقال: رحمك الله يا أبا محمد، فلقد كنت تغار على المذهب، وتذب على الشريعة. وكان رحمه الله من أشد الناس عداوة لبني عبيد. كريم الأخلاق، حلو المنظر، وقرأت في تعليق أبي عمران الفقيه، فذكره فقال: كان فصيح اللسان حافظاً للقرآن، بعيداً من الرياء والتصنع. وقال أبو إسحاق الكاتب مثله. قال: وكان عالماً بالاحتجاج لمذهبه. فقال بعضهم: كان أبو محمد من أرق أهل زمانه طبعاً، وأحلاهم إشارة، وألطفهم عبارة. سمع منه أبو القاسم التستري. ومحمد بن ادريس بن الناظور، وأبو محمد بن يوسف الحجي. وأبو عبد الله الخرّاط وابن اللبيدي. رحمهم الله.(6/248)
ذكر ابتداء طلبه للعلم
ذكر أنه قال: كنت أول ابتدائي أدرس الليل كله، فكانت أمي تنهاني عن القراءة بالليل. فكنت آخذ المصباح فأجعله تحت الجفنة، وأتعمد النوم، فإذا رقدت أخرجت المصباح وأقبلت على الدرس. وكان كثير الدرس. ذكر أنه درس كتاباً ألف مرة. الى أن قال لي أبي ذات يوم: يا بني ما يكون منك؟ لا تعرف صنعة، واشتغلت بالعلم ولا شيء عندك. فلما كان ذات ليلة سمعته يقول لوالدتي: عرفت أني عُرّفت اليوم بابني؟ وذلك أني حضرت أملاكاً في مسجد - سماه - فوجدته ممتلئاً بالناس، ولم أجد مجلساً، فقام لي رجل من موضعه وأجلسني فيه، فسأله إنسان عني، فقال له أسكت هذا والد الشيخ أبي محمد. وقال آخر: خرج والدي محمد بن التبان يوماً من مسجد المسند، فزلق في طين، فبادر رجل وأخذ بيده، وقال لصاحبه: هذا والد الشيخ أبي محمد الفقيه. قال: فرجع وحرّض ابنه على طلب العلم، والتزم القيام بشأنه من يومئذ.
ذكر إجابته وفضائله رحمه الله
ذكر أن أبا محمد التبّان كان يقرئ لإخوانه ميعاداً من الرقائق. فقطعه أياماً، فعاتبوه عليه فاعتذر، فضيقوا عليه فقال: إذا كان غداً تأتوني إن شاء الله. فأتوه من الغد، وبين يديه شيء مغطى، فقال لهم: أكشفوه. فوجدوه طبقين(6/249)
صغيرين، أحدهما مملوء دنانير، والآخر دراهم. فقال لهم: هذا منعني. لأن من ملك من الدنيا هذا يقبح عليه أن يزهد الناس فيها. فيدخل فيمن ذمه الله تعالى بقوله تعالى: " أتأمرون الناس بالبرّ " الآية. ولما جرت له المسألة التي تكلم فيها في الإيمان، وخالفه أبو محمد ابن أبي زيد رحمه الله، والقابسي، والسبائي، والجماعة رضي الله عنهم. وحدث بينهم وبين بعضهم وحشة بسببها، جعل موعداً للإلقاء. وألقى عليهم كتاب الوضوء. فخالفوه في مسألة. فقال لهم: اسمعوا ما أقول: درست هذا الكتاب ألف مرة. فأبوا إلا مخالفته. فقام بهم الى داره، وأخرج الكتاب وأراهم المسألة، كما قال. ثم دعا على نفسه. وقال: اللهم لا تقض عليّ أن ألقي عليهم بعد هذا شيئاً. اللهم أقبضني إليك، وأرحني منهم. فما قام إلا يسيراً حتى مات رحمه الله. وقال أبو عبد الله محمد بن التمار: خرجت مع أبي عبد الله الى سوسة، ومعه جارية له راكبة على زاملة. وهو على سرج. فإذا مشى قليلاً، مضى إليها. وقال: تحبين أن تركبي السرج؟ فتقول نعم: فينزل لها ويرجع على الزاملة. ثم يمشي قليلاً فيقول لها: ترجعي الى الزاملة؟ فتقول نعم. فيردها(6/250)
عليها. فعل ذلك نحو أربع مرات. فلما وصلنا سوسة، دخلت عليه وقلت له: غلبت على عقلك مساعدتها؟ تنزل من دابة الى دابة، والناس يرونك. فغضب ورفع بصره الى السماء، وقال اللهم بحق الحافّين بعرشك، وبحق الذين إذا نظرت إليهم سكن غضبك، ألا ابتليته بما ابتليتني به. قال فابتلي أبو عبد الله في جارية باعها فتبعتها نفسه، وبلغ من ذلك أمراً عظيماً. وكان يقول: دعوة الشيخ. قال الأجدابي: رأى أبو محمد التبان ربّ العزة في المنام، فقال له: يا عبدي، تكون بالمغرب فتن، كقطع الليل المظلم، لا ينجو منها إلا سوسة، والمنستير، وما والاها، وكان إذا حدث بالقيروان أمر فرّ ابنُ التبّان الى سوسة، والمنستير، حتى ينفض الأمر. وحكى اللبيدي، أن أبا محمد حدث يوماً في المنستير بكراهة مالك بن أنس رضي الله عنه الاجتماع على قراءة القرآن، وأن ذلك بدعة. فقال له رجل: كيف تقول إن قراءة القرآن بدعة؟ فقال: لم أقل هذا، فخرج الرجل فصاح: إن ابن التبّان قال قراءة القرآن بدعة. فرجف الناس من كل جهة، منكرين هذا وأتوا حجرته. فجعل يرفق بهم ويبيّن لهم. قال: فمنهم من يتفهم، ومنهم من لا يتفهم. ثم حول أبو محمد وجهه للذي شنّع عليه، وقال له: أفجعت قلبي، أفجع الله قلبك. أفجعك الله بنفسك، وولدك، ومالك. قال اللبيدي: فأجيبت(6/251)
دعوة الشيخ، فهوس ولده، فكان من جملة المجانين. وذهب ماله، وابتلي بداء البطن فكان منه موته. وذكر أنه سار مرة لزيارة أبي إسحاق الجبنياني، فلما قرب منه، هابه. وقال: أخشى أن يجري الله على لسانه، في أمري شيئاً، يعزّ عليه فأكون ممّن عادى وليّاً من أولياء الله تعالى. فوجه إليه بالسلام وانصرف. وبالله التوفيق.
ذكر أخباره مع بني عبيد وحسن مقامه في الدين
كان أبو محمد شديد التنقيض لهم والتنير عنهم. قال بعض أصحابه: كنت معه يوماً بالمنستير، وكان يوم عاشوراً. فلما رأى بكى. فقيل له ما يبكيك؟ فقال والله ما أخشى عليهم من الذنوب، لأن مولاهم كريم، وإنما أخشى أن يشكّوا في كفر بني عبيد، فيدخلوا النار. قال ابن ادريس: كنت معه، فجرى ذكر صلاة الجمعة مع خطباء بني عبيد، فقال خلف. قال: لا. قيل له بنو عبيد أشرّ من هؤلاء. وكان الخطباء يدعون لهم، وكان كثيراً ما يقول: اللهم العنهم، ما أقام أمرهم، وما صرفه، وعلّق اللعنة عليهم، كتعليق القلائد في أعناق الولائد. وكان عبد الله المعروف بالمحتال، صاحب القيروان، شدّ في طلب أهل العم، ليشرّقهم، فطلب الشيخ أبا سعيد ابن أخي هشام. وأبا محمد(6/252)
التبّان وأبا القاسم بن شبلون، وأبا محمد ابن أبي زيد، وأبا الحسن القابسي، رضي الله عنهم. فاجتمعوا في مسجد ابن اللجام واتفقوا على الفرار. فقال لهم ابن التبان: أنا أمضي إليه، وأكفيكم مؤونة الاجتماع، ويكون كل واحد منكم في داره. ويقال إنهم أرادوا السير الى عبد الله. فقال لهم: أنا أمضي إليه، أبيع روحي من الله دونكم، لأنكم إن أتي عليكم، وقع على الإسلام وهن. ويقال إنه قال لعبد الله: لما دخل عليه جئتك عن قوم إيمانهم مثل الجبال، أقلّهم يقيناً أنا. فحدث بعض من حضر، قال: كنت مع عبد الله، وقد احتفل مجلسه بأصحابه، وفيهم الداعيان: أبو طالب، وأبو عبد الله. لعنهم الله. وقد وجه الى ابن التبان، فإذا به داخل، وعيناه توقدان، كأنهما عينا شجاع. فدخل وسلم. فقال: أبطأت عنا يا أبا محمد. فقال: في شغلك، كتاب ألفته في فضائل أهل البيت الساعة. أتاني به المجلد، ودفعه إليّ. فقال: يا أبا محمد ناظر هؤلاء الدعاة. قال: في ماذا؟ قال في فضائل أهل البيت. فقال لهما: ما تحفظان في ذلك. فقال له أبو طالب: أنا أحفظ حديثان - ولحن - ثم سأل الآخر، فقال له: وأنا أحفظ حديثان. فقال فيما ذان الحديثان(6/253)
اللذان تحفظ أنت؟ فقال له: هما يحفظان حديثان - ونطق بلحنهما - وأنا أحفظ في ذلك تسعين حديثاً، فأولى بهما الرجوع إلي. ثم قال عبد الله: يا أبا محمد، من أفضل أبو بكر أو عليّ؟ قال: ليس هذا موضعه. فقال: لابد، فقال: أبو بكر أفضل من علي. فقال عبد الله: أيكون أبو بكر أفضل من خمسة، جبريل عليه السلام سادسهم؟ فقال أبو محمد: أيكون عليّ أفضل من اثنين، الله ثالثهما؟ إني أقول لك ما بين الوجهين، وأنت تأتيني بأخبار الآحاد. فضاق عبد الله، وقال: فمن أفضل عائشة أو فاطمة. فقال له: هذا آخر، سؤالك الأول؟ قال: لابد. قال: عائشة رضي الله عنها، وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من فاطمة. قال: من أين؟ فقال له قال الله تعالى: " يا نساءَ النبيّ لستنّ كأحدٍ من النساء، إن اتقيتُنّ. فيقال، إن بعض الدعاة قال له في هذه المسألة. أيما أفضل، امرأة أبوها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأمها خديجة الكبرى، وزوجها علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولداها الحسن والحسين، سيدا شباب أهل الجنة. أو امأة، أمها أم رومان وأبوها عبد الله ابن أبي قحافة؟ فقال له أبو محمد: أيهما أفضل عندك، امرأة إذا طلقها زوجها، أو مات عنها تزوجها عشرون زوجاً؟ أو امرأة إذا مات عنها زوجها أو طلقها لم تحل لأحد؟(6/254)
فيحكى، أن أبا عبد الله قال له: يا أبا محمد أنت شيخ المؤمنين، ومن يوثق بك، أدخل العهد وخذ البيعة. فعطف عليه أبو محمد وقال له: شيخ له ستون سنة، يعرف حلال الله وحرامه، ويرد على اثنين وسبعين فرقة، يقال له هذا؟ لو نُشِرتُ بين اثنين، ما فارقت مذهب مالك. فلم يعارضه، وقال لمن حوله: امضوا معه. فخرجوا ومعهم سيوف مصلتة. فمر بجماعة من الناس ممن أحضر، لأخذ الدعوة. فوقف عليهم فقال: تثبتوا ليس بينكم وبين الله عزّ وجلّ إلا الإسلام. فإذا فارقتموه هلكتم. فترك عبد الله طلب بقية الشيوخ، بعد ذلك المجلس.
ذكر مذهبه في الإيمان رحمه الله تعالى
قال الداودي: كان ابن التبّان إذا سئل عن غيره، هل يقول: هو مؤمن عند الله، أو يسكت. فكان يقول: هو مؤمن عند الله. وقال بقوله جماعة من علماء القيروان. وخالفه أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله. وأنكر عليه ذلك. وقال: إنما يقول، إن كانت سريرتك، مثل علانيتك، فأنت مؤمن عند الله. وقال بمثل مقالته، أكثر علماء القيروان. ووقع بين الطائفتين في ذلك تهاجر، وتقاطع. قال الداودي: فكلمنا ابن التبّان في ذلك، وقلت له: كيف نقطع على غيبة؟ فقال: فإن كانت سريرته مثل(6/255)
علانيته، كان كذلك. يقال هذا مؤمن في حكم الله تعالى، مثل قوله تعالى: " فإن علمتُموهنّ مؤمناتٍ فلا ترجعوهُنّ الى الكفّار ". فقال لي أبو محمد: ليس هذا أراد. فقلت: كذلك يقول.
ذكر حكم من كلامه وبقية أخباره ووفاته
قال أبو محمد لبعض من يتعلم منه: خذ من النحو، ودع. وخذ من الشعر، وأقل. وخذ من العلم وأكثر. فما أكثر أحد من النحو إلا حمّقه. ولا من الشعر إلا أذلّه. ولا من العلم إلا شرفه. ويذكر عنه أنه كان كثيراً ما كان ينشد:
قد غاب عنك ثقيلُ كل قبيلة ... ممن يشوب حديثه بمراء
فالآن طاب لك الحديث إنما ... طيبُ الحديث بخفة الجلساء
وكان رحمه الله يسمع التعبير ويرق لهذه المعاني. سأله الخراط يوماً، وقد وجد عنده معبراً. فقال له: أليس التعبير بدعة؟ قال: والاجتماع على(6/256)
إلقاء المسائل بدعة. فبلغ كلامه السبائي، فشقّ عليه. قال اللبيدي: قال ابن التبّان يوماً: لا شيء أفضل من العلم. قال الجبنياني: العمل به. فقال: صدق، العلم إذا لم يعمل به صاحبه، فهو وبال عليه. وإذا عمل به كان حجة له، ونوراً يوم القيامة. وتوفي رحمه الله يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة. سنة إحدى وسبعين وثلاثماية. وصلى عليه القاضي محمد بن عبد الله بن هشام، وخرج الناس لجنازته من ثلث الليل، حتى ضاقت بهم الشوارع، وفاضوا في الصحراء غدوة الثلاثاء. مولده: سنة إحدى عشرة وثلاثماية. ومما رثي به قول بعضهم:
لقد ظلم الله البلاد بأسرها ... بموت ابن إسحاق الفقيه المهذب
أبو إسحاق ابراهيم بن عبد الله الزبيري
المعروف بالقلانسي. كان رجلاً صالحاً فاضلاً فقيهاً عالماً بالكلام، والرد على المخالفين. له في ذلك تواليف حسنة. وله كتاب في الإمامة والرد على الرافضة. سمع من فرات بن محمد، وحماس بن مروان، وابن المغامي. ومحمد بن عبادة السوسي. وخلق كثير. روى عنه أبو ابراهيم بن سعيد، وأبو جعفر الداودي، وغيره. وامتحن على يدي أبي(6/257)
القاسم بن عبيد الله الرافضي. ضربه سبعماية سوط، وحبسه في دار البحر، أربعة أشهر، بسبب تأليفه كتاب الإمامة. وقيل الذي ألفه ابن سحنون. وتوفي رحمه الله سنة تسع وخمسين، وقيل سنة إحدى وستين وثلاثماية.
أبو الحسن بن علي بن محمد بن مسرور الدباغ
كان من أهل العلم والورع، والتعبّد والصيانة والأخبات، والسلامة والحياء. ثقة، حسن التقييد. سمع من أحمد بن أبي سليمان. وعول عليه. ومن محمد بن بسطام، وعمر بن يوسف، ومحمد بن بسيل، وعبد الرحمن الورقة، وغيرهم. وسمع أيضاً في رحلته من محمد بن زيان، ومحمد بن رمضان، وبعد هذا من عبد الله بن أبي هاشم، وأبي بكر بن نادر، وأبي بكر بن اللباد. واجتمع بأبي الحسن الدينوري، سمع منه أبو الحسن القابسي، وأبو عبد الرحمن بن محمد الربعي، وأبو جعفر الداودي، وعبد الرحمن بن محمد الربعي، وبكر بن يوسف، وأحمد بن حاتم الزيات، وخلف بن أبي فراس، وعمران المقري ومحمد بن علون، وعتيق بن ابراهيم الأنصاري، وعالم كثير.
ذكر ثناء العلماء عليه
كان عبد الله ابن أبي هاشم، يثني عليه ويأمر بالسماع منه. قال الربعي: كان ثقة مأموناً، لم أرَ أعقل منه، ولا أكثر حياء. اجتمع له من العلم والورع،(6/258)
والعبادة والتواضع. سريع الدمعة، رفيق الطالب. أخذ الناس عنه من سنة ثلاثين وثلاثماية، الى سنة تسع وخمسين. ثم منع السماع، ورعاً لما دخله من السنين. وكان الجبنياني يحبه، ويثني عليه ويعظمه. وقال الجبنياني للقابسي: أو ليس عندكم أبو الحسن الدباغ؟ وددت لو أن وسادتي في عتبة باب أبي الحسن الدباغ. ما يكلمه أحد إلا احمر لونه، ولقد كان أحيا من الأبْكار. وقدم رجل من أهل الشرق، فسمع الناس يقولن: أبو الحسن الدباغ الفقيه، وأبو إسحاق السبائي العابد. فقال لهم: بل العابد أبو الحسن، والعالم البحر أبو إسحاق. قال أبو إسحاق: كان يخيل إليّ أن صاحب الشمال، لا يكتب عن أبي الحسن لطهارة قلبه، وعفة بطنه. وكان من أهل التحقيق في معاني الولايات.
ذكر أخباره وفضائله رحمه الله تعالى
كان أبو الحسن قد ورث مالاً حلالاً. فأقام نفسه فيه مقام الفقراء، وأسوتهم. وكان يصرف في كل شهر أربعة دنانير، اثنين لصدقته، واثنين لنفقته. قال ابن الخلاف: وكان أصابه آخر عمره، بلغم منعه القيام على قدميه. فكان يحمل لحاجته، أو يزحف. فإذا جاءت الصلاة. أخذ بيده فاستوى قائماً وصلى، وأتم(6/259)
صلاته دون إمساك، فإذا فرغ عاد الى حاله. وقال غيره: بت عنده ليلة، فسمعت حسّ ماء يقطر، فظننت أنه آنية ماء انكسرت. فقمت لأنظر ذلك، فإذا به قائم يصلي ويبكي. وإذا الذي سمعت دموعه، تقطر على الحصير. وكن بينه وبين السبائي صحبة، فلما خبر بموت السبائي، بكى كثيراً. وقال: واكشفاه، اليوم انكشف. وكان أيام بني عبيد لا يؤذّن إلا على سنّة الأذان، ولا يقول حي على خير العمل. فحماه الله منهم. ولقد أذّن مرة. فخاطبته نفسه بقولها: وإن لم يقلها قتل، فقالها. فلما فرغ إذا أسود ناصد حربته بين كتفيه. إن لم يقلها طعنه بها، فعافاه الله. وكان يقول للناس: تمادوا على الأذان على سنته، في أنفسكم. فإذا فرغتم فقولوا: حي على خير العمل. فإنما أراد بنو عبيد خلاء المساجد، لفعلكم هذا - وأنتم معذورون - خير من خلاء المساجد. وكان يوم الجمعة يغتسل، ويلبس ثيابه، ويتطيّب. ويخرج حتى يصل الى الجامع، ويرفع عينيه الى السماء، ويقول: اللهم أشهد. ويرجع الى داره. ويقول: كنت في المكتب فانصرفت. فإذا بهرة خارة من قناة، فرميتها بحجر، فلا أدري أصبتها أم لا. فأنا أتذكرها الى الآن. ولما توفي السبائي، وخرج أبو الحسن للصلاة عليه: ازدحم الناس عليه،(6/260)
يسألونه الدعاء، ويسلمون عليه، حتى كاد يموت لكثرة ازدحامهم عليه. فألزم نفسه ألا يخرج من داره. فلزمها حتى مات.
فصول من كلامه في الرقة والعلم
قال بعضهم: سمعته يقول: إن طال عمرك فجعت بأحبابك. وإن قصر فجعت بنفسك. قال عتيق بن ابراهيم: لما وقعت مسألة الإيمان، واختلف فيها الفقهاء، قلت لأبي الحسن: إيش مذهبك في ذلك، نتبعك؟ فقال: إنا إذا وقفنا بين يدي الله، لم يسألنا الله عن هذه المسألة. إيش أنتم مؤمنون عنده، وإلا عندكم؟ إن كنتم عقلاء فاسكتوا عنها. قال أبو الحسن الدباغ: لما نهبت تونس، سرت الى عبد الرحمن الورقة، صاحب سحنون، فقلت له: ما ترى في البيع والشراء من أهل الأسواق؟ فقال لي: أقصد أهل العفاف. قال أبو الحسن: وبلغني أنه لما دخلت غنائم تونس القيروان، سأل رجل البهلول، وشقران عن ذلك. فقالا له: اشترِ من أوسط أهل السوق، ودع المعروفين بالشر، ومن لا يرجع عن هذه الغنائم. قال عبد الرحمن بن محمد: فسألت أبا الحسن عن ذلك. فقال: أقصد أهل العفاف. فليس فيهم اليوم كأهل ذلك الزمان. ثم قال: من قنع بعباة وأكل الشعير في هذا الوقت، فقد طاب عيشه، وتخلص. ومن كان مثلنا غرق. لانا لا نستبد من البيع والشراء والأسواق. وسألته: هل تقطع لغيرك بالإيمان عند الله؟ فقال: لا. إلا أني أقول له: إن كان(6/261)
ظاهرك وباطنك واحداً. وكان ينهى عن الكلام فيها ويقول: ما لنا والكلام في شيء إن أصبنا فيه لم نؤجر، وإن أخطأنا فيه أثمنا. ويقول لأبي الحسن الزيات: ذهبت الى العراق، فأتيتنا بهذه البدعة. وهو الذي كان جابها وألقاها بالقيروان. وتوفي رحمه الله منتصف رمضان، من تسع وخمسين وثلاثماية. وعهد ألا يعلَم الناس بموته. فلما خرج بجنازته، لم يكد يصل الى قبره، بعد صلاة المغرب، إلا بجهد كبير. وولد سنة إحدى وسبعين ومايتين.
عبد العزيز بن رشيق - مولى الرحمة
قال ابن الناظور: عن بعض شيوخه، كان شاباً من أهل العلم، من حفاظ المسائل، جميل الأحوال، وكان يحضر حلقة الشيخ أبي إسحاق السبائي، ثم قطعه. لأن أبا إسحاق أعجب يوماً برقة فهمه، وحفظه، ومناظرته، وحسن سيرته. فسأل عنه. فأخبر عنه. فقال له: إن كنت قبضت من ميراث أبيك شيئاً فتصدق به، وإلا فلا تدخل إليّ.(6/262)
أبو القاسم بن شبلون
اسمه عبد الخالق، ابن أبي سعيد، واسمه خلف. قال الشيرازي: تفقه بابن أخي هشام. وكان الاعتماد عليه بالقيروان في الفتوى، والتدريس. بعد أبي محمد بن أبي زيد رحمه الله. وسمع ابن مسرور الحجام، وألف كتاب المقصد، أربعين جزءاً. وكان يفتي في اللازمة بطلقة واحدة. وتوفي سنة إحدى وتسعين. وبخط أبي عمران. في ربيع الأول، سنة تسعين وثلاثماية.
أبو الأزهر عبد الوارث بن حسن بن أحمد بن معتب
ابن أبي الأزهر، عبد الوارث بن حسن الأزدي
تقدم ذكر جده في أصحاب سحنون، وكان بيت بني معتب، بيت علم بالقيروان. وكان ابن أبي الأزهر هذا من أهل الفهم، واللسان الجيد، والعقل والوجاهة. وكان رجلاً صالحاً خيّراً. فاضلاً. قال ابن حارث:(6/263)
درس أبو الأزهر وحفظ، واختلف معنا الى الشيوخ. وكانت له قريحة حسنة، وفهم جيد في الفقه، وعناية بالوثائق. قال المالكي: كان أبو الأزهر من الأئمة الراسخين، ذا فقه بارع، وعلم بالأصول، مجوداً للوثائق والأحكام، وعلم القضاء، مبرزاً، حسن الوجه، جميل الشيبة، متواضعاً. قال أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله: ما بإفريقية أفقه من أبي الأزهر، إنما قطع به، قلة دنياه. صحب أبا بكر ابن اللباد، وأبا عبد الله بن مسرور، وأبا محمد بن أبي هشام، ولم تكن له دنيا. كان عيشه، من الوثائق. وأراد عبد الله بن هاشم القاضي استكتابه، فاستشار أبا محمد بن أبي زيد فكسّر عليه، فبلغ ذلك أبا الأزهر، فجلس بالقرب من درب السكة، فإذا خرجت مسألة من عند ابن أبي زيد، كتب تحت الجواب: خطأ، ونبّه على ذلك. فضاق من ذلك ابن أبي زيد، ووجه إليه يعتذر له. وقال: إنما فعلت ذلك، إجلالاً لقدرك إذ أنت من شيوخنا. قال: فترك ذلك. قال أبو إسحاق القابسي: اختلف أصحابنا فيمن صلى بامرأته، المكتوبة هل يصلي تلك الصلاة مع الجماعة؟ فقال أبو سعيد ابن أخي هشام وغيره: لا يفعل. وجعلوا صلاته مع زوجته جماعة. وقال أبو الأزهر: لا بأس بذلك. وأتى أبو الأزهر لإشهاد أملاك لرجل مشهور بالقيروان، وقد حضره أبو سعيد، وابن التبّان، وابن أبي زيد وغيرهم، وامتلأت الدار، فلم يجد أين يجلس(6/264)
ولم يفسح له. وجلس على الماجل. وقرأ الوثيقة، أبو محمد الشقيقي، غيظك على هؤلاء، ترده عليّ؟ أنا قلت لك أقعد على الماجل؟ قال ابن حارث: وأبو الأزهر هذا حافظ فقيه، موثوق به، لزم بيته لما حدث من غلط الزمان. وقد ذكرنا أنه كان يحلق بجامع القيروان، أيام أبي يزيد رحمه الله، مع ابن أخي هشا، وابن أبي زيد، وغيرهم. وتوفي رحمه الله، سنة إحدى أو اثنتين وتسعين وثلاثماية. ويقال سنة ثمان وستين.
حباشة بن حسين اليحصبي
قال ابن الفرضي: سمع بالقيروان، من زياد بن عبد الرحمن بن زياد. وابراهيم بن عبد الله القلانسي، ونظرائهما، قدم الأندلس، فصحب أبا عبد الله محمد بن أحمد الخراز القروي وسمع منه، ومن أبي بكر بن الأحمر، وتردد في الثغور مرابطاً. ثم رحل الى المشرق حاجّاً. فسمع من أبي زيد المروزي، وغيره. وانصرف الى الأندلس، فلزم العبادة، ودراسة العلم. والجهاد الى أن توفي به. وكان(6/265)
فقيهاً في المسائل. حافظاً للاختلاف، عالماً بالسنن والآثار. وسمع أيضاً من ابن عون الله. ومحمد بن أحمد بن يحيى، وغيرهم. وقال: أدركت بالقيروان ستة عشر رجلاً، كلهم يقول: حدثني سحنون، ودُعي الى أن يجري عليه جراية من عند خليفة الأندلس هشام، ويتوسع له، ويجلس للفتوى. فلم يجب الى ذلك. وكان يتكرر على إشبيلية. وتوفي بقرطبة ليلة السبت. لإحدى عشرة خلت من جمادى الآخرة، سنة أربع وسبعين وثلاثماية.
محمد بن حارث بن اسماعيل الخشني، أبو عبد الله
تفقه بالقيروان، على أحمد بن نصر، وأحمد بن زياد، وأحمد بن يوسف، وابن اللباد، والممسي. وسمع من غير واحد من شيوخ إفريقية. وقدم الأندلس حدثاً، سنة إحدى عشرة، فسمع من ابن أيمن، وقاسم بن أصبغ، وأحمد بن عبادة ومحمد بن يحيى بن لبابة، وأحمد بن زياد والحسن بن سعد، وغيرهم من القرطبيين. واستوطن بعد هذا قرطبة. وقد دخل بلدنا سبتة قبل العشرين وثلاثماية. فحبسه أهلها عندهم، وتفقه عليه قوم منهم، وذكر أبو الفرج الجياني في تاريخه، أنه حقق قبلة جامعهم، إذ ذاك، فوجد(6/266)
فيها تغريباً فامتثلوا رأيه وشرّقوها. ثم دخل الأندلس، وتردد في كور الثغور، واستقر آخراً بقرطبة. قال ابن عفيف: وكان حافظاً للفقه، متقدماً فيه. قال أبو أيوب: كان ابن حارث نبيهاً ذكياً. فقيهاً فطناً. متقناً عالماً بالفتيا. حسن القياس في المسائل، وأولاه الحكم المواريث ببجانة. وولي الشورى بقرطبة. وتمكن من ولي عهدها الحكم، وألف له تواليف حسنة. منها كتابه في الاتفاق والاختلاف في مذهب مالك. وكتابه في التحاصُر والمغالاة. وكتاب الفتيا. وكتابه في تاريخ علماء الأندلس. وتاريخ قضاة الأندلس. وتاريخ الأفريقيين. وكتاب فقهاء المالكية. وكتاب التعريف، وكتاب المولد والوفاة، وكتاب النسب، وكتاب الاقتباس، وغير ذلك. قال ابن الفرضي: بلغني أنه ألف له ماية ديوان. وكان عالماً بالأخبار وأسماء الرجال. وكان حكيماً يعمل الأدهان، ويتصرف في الأعمال اللطيفة، شاعراً بليغاً إلا أنه يلحن. وكان يتعاطى صنعة الكيمياء. وآلت به الحال بعد(6/267)
موت الحكم، وتقصير ابن أبي عامر بصنائع الحكم، الى الجلوس في حانوت يبيع الأدهان. حدث عنه أبو بكر بن حرمل، وغيره. قال أحمد بن عبادة: رأيت ابن حارث في مجلس أحمد بن نصر - يعني في وقت طلبه بالقيروان - وهو شعلة يتوقّد في المناظرة. وتوفي بقرطبة لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر، سنة إحدى وستين وثلاثماية، فيما قهل ابن الفرضي، رحمه الله. وقال ابن عفيف: سنة أربع وستين، رحمه الله.
تميم بن محمد بن أحمد بن تميم التميمي
ولد أبي العرب. يكنى بأبي العباس. وسماه بعضهم تماماً. والأول هو المعروف. أدرك صغار رجال سحنون، عيسى بن سليمان، والمغامي، وابن أبي زاهر، ومحمد بن بسطام، وحماس بن مروان، وفراتا، ومحمد بن عمر. وسمع من أبيه والقطان، ونفيس السوسي، وسع منه أبو محمد الأجدابي، والوليد بن مخلد، والأندلسي، وأبو القاسم الوهراني، وغيرهم. وكان يحفظ المسائل، ويتكلم فيها. وكان من أهل الورع والاجتهاد والانقباض، قرئ عليه بالقيروان، وسمع منه.(6/268)
قال المالكي: كان رجلاً صالحاً، فاضلاً، متفنناً، ناسكاً، كثير الأخذ على لسانه، أغلب أقواله الورع والسخاء والمروءة. أجمع الناس على فضله. قال أبو عبد الله الخواص: كان إذا أراد أن يطين سقوفه، حفر أصل داره، من أجل قبالة السلطان، على التراب. وكان يطعم من أتاه، ويخرج لهم ما عنده، ويقول: من أراد أن يأكل، أو يحمل، فليفعل. وكان إذا دعاه أحد الى وليمة، حمل كسرة من خبز، وشيئاً من تين من ربعه. فإذا أكل الناس الطعام، أكل هو ما معه، مما حمل. قال بعضهم: كنت مع أبي العباس يوماً جالساً على باب داره، إذ وثب وقال لأصحابه: قوموا فادخلوا. فدخلوا وأغلق الباب، ولا يدرون ما السبب. فقال: رأيت رجلاً من أصحابنا سكران فلم أرد أن تروه. فقالوا له: من هو؟ فقال: أنا سترته منكم، ثم أخبركم به؟ فقال الأجدابي: ولقد صحبته كثيراً فما رأيته ضاحكاً قط. قال أبو الوليد بن مخلد: أما تميم بن محمد الزاهد، فلم أرَ أعبد منه. وقال أبو القاسم الوهراني: - فيما وجدته معلقاً عنه في أخبار رحلته وشيوخه - وكان أبو العباس تميم بن محمد كوالده خيراً فاضلاً، ورعاً زاهداً، متقشفاً من أهل العلم والصيانة. لزمته أربعة أعوام للسماع منه، وأخوه أحمد يكنّى بأبي جعفر، ودخل الى الأندلس واستوطن قرطبة، وحدث عن أبيه، وعبد الله بن محمد الرعيني، وأبي الغصن السوسي، وكان يضعّف. تكلم فيه أخوه وقال: إنه لم يسمع كتب أبيه. وكان هو يدعي سماعها.(6/269)
وتوفي رحمه الله سنة تسع وخمسين وثلاثماية.
مسرة بن مسلم بن ربيعة الحضرمي
من أهل العلم والعبادة والزهد التام، بساحل القيروان، هو وإخوته. وقد تقدم ذكرهم عند ذكر أخيهم الأكبر أبي يوسف في الطبقة قبل هذه. ويكنى مسرة هذا: بأبي بكر. قال ابن اللبيدي: كانوا أهل بيت قرآن، وعبادة. وتفقه مسرة مع حمود بن سهلون. وكان صديقاً لأبي إسحاق الجبنياني، وسمع من مسرة اللبيدي، وعطية بن مسلم الصفاقسي، وولد أبي إسحاق الجبنياني، وعالم كثير. ورحل إليه الناس من الأقطار. قال اللبيدي: ولم يترك مسرة من اجتهاده في العبادة شيئاً. وكان من النوّاحين على أنفسهم، حتى تستقر الدموع في موضع سجوده. حتى يسقط من قامته فيتهشم وجهه. وكان أبو إسحاق يوثقه في العلم، ويأمر ولده وغيره، بالسماع منه. قال المالكي: كان رجلاً صالحاً فاضلاً ناسكاً مجتهداً. طويل الصلاة. وكان بسّاماً لجلسائه، ذا حزن وبكاء، إذا خلا. سمع من محمد بن عمر، ورحل سنة ثلاثماية مع أخيه، فسمع من النسائي، ومحمد بن زيان، وأبي محمد بن(6/270)
الجارود، ومأمون، وأبي الطاهر بن مهدي القاضي، ومحمد بن رمضان، وابن الأعرابي، والإيلي، وأبي عبد الله بن الربيع الجيزي، وأبي القاسم البغوي. رحمهم الله.
ذكر عبادته وزهده وأخباره
قال اللبيدي: أقام مسرة ستة عشر عاماً في دكان، في زاوية البيت، لا ينزل إلا لحاجة الإنسان، يتلو ويبكي ويتكلم بالحاجة إشارة. وكان في ابتداء أمره، يختم ختمة بالنهار، وأخرى بالليل، أقام على ذلك أربعين سنة، ثم ضعف. فكان يختم ختمة سائر ليله ونهاره. ولقد رأيته يوماً يقرأ ويبكي، وأن دموعه تجري على الأرض، وكان من الخائفين. وكان يسمع التعبير وربما تغير منه، فبكى. ويقيم أياماً لا ينتفع به. قال مسرة: كنت في شبيبتي أورق، فغلا الرق، فوقف بي هاتف فقال: أبا بكر، إذا غلت الرقوق يرخصها لك العلام الرفيق. ولما احتضر رحمه الله، ابتدأ القرآن، فانتهى في طه، الى قوله تعالى: " وعجِلتُ إليك ربّي لترضى ". ففاضت نفسه. قال اللبيدي: رأيت أبا إسحاق الجبنياني، ومسرة جالسين في جنازة، وعلى مسرة جبة صوف. فقال له الجبنياني: من أين لك هذه، يا أبا بكر؟ قال: من سوق المسلمين. فقال له أبو إسحاق: سبحان الله تشتري من السوق، وفيه تخليط،(6/271)
وأنت يقتدى بك؟ فقال مسرة فمن أين هذه الدراعة التي عليك - وعليه مرقعة بخرق المزابل - فقال له: أصلها منذ ثلاثين سنة، عملتها لي أختي، بموضع كذا، كشف عن أصله، فقال مسرة: موضع السراق أنت يا أبا إسحاق. أنت رجل مجنون - لتضييقه على نفسه، وتتبعه غاية الأمور، التي ليست لها غاية - فقال له أبو إسحاق: صدقت. كان معلمي يقول لي: إنك مجنون. ثم أقيمت الصلاة. فقدم مسرة، أبا إسحاق، ثم أتي بالجنازة، فقدمه أيضاً. وكان الميت ابن أخي مسرة. فلما فرغا جرى بينهما حديث، ودعاء وتوادعا، وتصافحا. وكان كل واحد منهما، يجلّ قدر صاحبه، ويعرف له فضله. قال اللبيدي: فما علمت أنهما اجتمعا بعد ذلك اليوم. مات أبو إسحاق، ومات مسرة بعده، بنحو ثمان سنين. قال: وكنت عنده قبل موته، بثلاث سنين، حتى جاءه رجل، فقال: رأيت أبا إسحاق في المنام واقفاً، فصاح ثلاث صيحات: يا مسرة، يا مسرة، يا مسرة. فقال: اما ثلاث ساعات، فقد ذهبت، وأراني أموت الى ثلاثة أيام، أو ثلاثة شهور، أو ثلاث سنين. فأرخنا الرؤيا فمات لثلاث سنين. توفي رحمه الله سنة ثلاث وتسعين وثلاثماية.(6/272)
محمد بن حكمون الربعي الزيات
أبو الكم. سمع من ابن مسرور الغسال وغيره، وهو الذي جاء بالمسألة التي في الإيمان، فألقاها الى علماء القيروان، ووقع فيه من الخلاف بين ابن زيد، وابن التبّان، رحمهما الله، ما اشتهر.
أحمد بن عبد الله المهدي
أبو جعفر، قيرواني. من أصحاب أبي بك ابن اللباد، من أهل العناية بالعلم. وكان في الدراسة والمطالعة آية لا يكاد يسقط الكتاب من يده، حتى عند طعامه.(6/273)
ابراهيم بن يزيد المكني رحمه الله
من مكنة. ذكره المالكي. وقال فيه: فقيه حافظ عابد، مجتهد. كان يسكن المنستير. ثم بلغه أن صديقاً له توفي، وترك بنتاً بصفاقس. فقال: كفالة بنت صديقي، أولى بي. فترك سكنى المنستير، وكفلها وربّاها. رضي الله عنهم، ورحمهم أجمعين.
علي بن أحمد المعافري
أراه من أهل الساحل. قال المالكي: كان فقيهاً حاذقاً. توفي سنة خمس وتسعين وثلاثماية. رحمه الله.(6/273)
أبو عبد الله محمد بن خليفة السوسي
من فقهاء هذه الطبقة. وكان أبوه خطب لبني عبيد بالقيروان. ورأيت أيضاً عبد الله بن محمد بن خليفة السوسي، مذكوراً في فقهاء الطبقة التي بعد هذه، فلعله ابنه. ورأيت أيضاً عبد الله محمد بن خليفة السوسي من الفقهاء، يروي عن الدويلي، من الطبقة بعد هذه. رحمه الله.
عمرو بن محمد بن عمرون السوسي
أبو حفص. من فقهاء هذه الطبقة وفضلائها. يروي عن الإبياني، وابن الحقبة. والحسن بن نصر، وبهما تفقه. وروى أيضاً عن محمد بن يزيد بن عاصم، وطال عمره. روى عنه أبو القاسم اللبيدي. كان عمرون طيّب المسكب متوقفاً عن الشبهات. توفي سنة خمس وتسعين وثلاثماية. وهو ابن ماية سنة وأربع سنين.
أبو الحسن بن الخصيب رحمه اله
هو علي بن أحمد بن زكريا بن الخصيب، ويعرف بابن ذكرون، طرابلسي. قال المالكي: كان رجلاً صالحاً متعبداً ناسكاً، ذا فضل وعبادة وعقل رصين، وإشارة جميل، منوّر الوجه. له في الفقه والفرائض، والشروط والرقائق،(6/274)
مصنفات كثيرة. وله في الحديث والرجاء تواليف. وكان كريم الأخلاق باراً بمن قصده. قال أبو عبد الله الأجدابي: صحب رفيق القطان، وشقّ معه القفار، وسال معه الشامات، وله سمات وسند عال. وسمع من أبي عبد الله الجيري، وابن المنذر، وابن رمضان، وابن شعبان، وابن الأعرابي، وابن الجارود. وصحب أبا علي بن الكاتب الزاهد المصري. وجماعة من النسّاك، وروى عنه أبو الحسن القابسي، وأبو الحسن بن النمر الطرابلسي. وأبو القاسم بن نمر. وأبو علي بن المثنى، قاضي طرابلس. وأبو الحسن الحصائري الفارضي. رضي الله عنهم أجمعين. ومن أهل الأندلس عبدوس بن محمد الطليطلي وغير واحد، وبه انتفع أهل طرابلس. وكانوا يعلمونه. قال أبو الحسن بن النمر: كان أبو الحسن بن ذكرون من الورعين، في مطعمه ومشربه وملبسه، ومكسبه، ولفظه، تعلم الناس منه الفقه والحديث والورع، قال غيره: أقام أربعين سنة لم يضحك، ولم يتكلم في غيبة أحد، ولا يسمي أحداً بلقب، وأقام خمسين سنة، لم يحلف بالله. قيل له لما احتضر أتذكر كفارة؟ قال: أعلم ما عليّ يمين أكفرها. وكانت بينه وبين ربيع، مراسلات. توفي سنة سبعين وثلاثماية.(6/275)
ومن أقصى المغرب
فمن أهل بلدنا
أبو زيد عبد الرحمن بن مسعود الكتامي
يعرف بابن أبي عامر. بعين معجمة وباء. كذا وجدته بخط أبي إسحاق بن يربوع. وهو أحد من أخذ عنه. سمع وتفقه، ورحل فسمع من رجال المصريين، ولقي أئمة المالكيين، وبكر بن العلاء القشيري. وسمع منه أحكامه، وأبا الحسن بن جعفر التلباني القاطبي. وأبا حفص عمر بن حفص الاسكندراني. وعن خالد بن جميل، كتاب محمد بن المواز عن أبي مطر. وسمع منه الناس. أخذ عنه عبد الله بن غالب. وعبد الرحيم ابن العجوز، وابراهيم بن يربوع، وقاسم بن عيسى بن علاء، وغازي بن سعيد بن محمد بن عفان، وغيرهم من مشيخة بلدنا. وتوفي رحمه الله بعد التسعين.
عيسى بن علاء بن نذير بن أيمن رحمه الله
من أهل سبته. يكنى بأبي الأصبغ.(6/276)
سمع بقرطبة، من أحمد بن خالد، ومحمد بن عبد الملك، وقاسم بن أصبغ، ومحمد بن عيسى بن رفاعة، وغيره. وكان طلبه بقرطبة، من سنة سبع عشرة الى سنة أربع وعشرين، وليَ الصلاة والقضاء سبته. قال القاضي أبو الوليد بن الفرضي: وكان فقيهاً عالماً، ومحدّثاً ضابطاً، كتب عنه. وتوفي سنة ست وثلاثين وثلاثماية. وهو ابن ست وثمانين سنة. قال: وسمع منه من أهل بلدنا: ابنه قاسم، وخلف بن ناصر، وغالب بن تمام، جد بني غالب، وقاسم بن مخلد المعروف بابن علاء قومه، ومحمد بن علي ابن الشيخ.
عيسى بن سعادة
أبو موسى السجلماسي، من فقهاء بلدنا، ومشاهير المغرب. أخذ ببلده عن خير الله بن قاسم، وطلب بالقيروان ومصر والأندلس. وكان صاحب أبي الحسن القابسي عند الشيوخ.(6/277)
سمع من أبي الحسن الإمام، والدبّاغ والإبياني، وصحب الأصيلي أيضاً عند الإبياني، وحمزة بن محمد الحافظ وغيرهما. وأخذ بالأندلس عن أبي ابراهيم، وابن الخراز. قال المالكي: رحل سنة ثلاث وثلاثماية. فسمع من حمزة وغيره. وحفظ الحديث، وفاق فيه غيره. وكان في الحفظ عجباً. أبله في أمر دنياه. وتوفي بمصر سنة خمس وخمسين وثلاثماية. ولما مات تنازعت الفقهاء والمحدّثون، كلهم يدعيه، ويقول: أنا أحق بالصلاة عليه. ورأيت في تعاليق أبي عمران، أن أبا محمد، حمل عنه عن أبي الجزار، عن ابن لبابة، مسألة كراهة استنشاق الصائم للبخور، الذي ذكر في مختصره. وهو الذي أخبره بذلك، عن ابن لبابة. وقد صرح به، أبو محمد أيضاً. فقال: حدثني عيسى بن سعادة عن خير الله بن قاسم، أنه حكى عن أصبغ في امرأة المسافر، ترفع أمرها الى السلطان، أنه لم يترك لها نفقة، أنه يطلقها عليه. قال القابسي: وذكر مسألة فقال: كذا قال في هذه المسألة، عيسى بن سعادة، الذي ما تكلم قط في مسألة حتى يتقنها. قال القابسي: لما أتينا حمزة بن محمد أنا وعيسى بن سعادة والأصيلي، وافقناه نازلاً من درج مسجد. فقال من هؤلاء؟ فقيل له قوم مغاربة. فوقف، فسلمنا عليه. ثم رجع فقعد، فنظر في وجوهنا وقال: ما أرى إلا خيراً. حدثونا عن(6/278)
محمد بن كثير، عن سفيان الثوري، عن عمر بن قيس الملاني، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: احذروا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله تعالى. وتلا: " إن في ذلك لآيات للمتوسمين ".
موسى بن يحيى الصديني، رحمه الله
من أهل فاس. كنيته أبو هارون، كبير فقهاء بلده، وشيخهم الشهير في وقته، وبعده. قال القاضي أبو الوليد بن الفرضي: كان فقيهاً عالماً بالرأي حافظاً للمسائل، وله رحلة الى المشرق، سمع ولقي فيها أبا جعفر الأسواني، المالكي، وغيره. ودخل الأندلس، وتردد بالثغر، وكتب عنه هناك. حدّث عنه أبو الفرج عبدوس، وتوفي بفاس يوم الجمعة، يوم عرفة، سنة ثمان وثمانين وثلاثماية، وهو ابن سبع وسبعين سنة. قال القاضي أبو الفضل رضي الله عنه: وسمع أيضاً من ابن عبدون الغزويني، وابنه أحمد أيضاً، كان فقيهاً. وتوفي رحمه الله، سنة ثمان وأربعماية. وبقي سؤدد العلم في بيته، الى الآن. رضي الله عنه.(6/279)
من أهل الأندلس
القاضي أبو بكر ابن السليم
هو محمد بن إسحاق بن منذر بن محمد بن ابراهيم بن محمد بن السليم، ابن أبي عكرمة، واسمه جعفر - وهو الداخل الى الأندلس - ابن يزيد بن عبد الله، مولى سليمان بن عبد الملك. قيل إن عبد الله جده، رومي. وقال ابن مفرج في انتسابه: إنه لخمي من أشراف كورة شذونة. تولى سلفه لبني أمية، وإليهم تنسب المدينة المعروفة ببني السليم، من كورة شذونة. نزلوها عند فتحهم الأندلس، وهو قرطبي. سمع بها من أحمد بن خالد صغيراً، ومحمد بن أيمن، ومحمد بن قاسم، وعبد الله بن يونس، وقاسم بن أصبغ، وأبي عمر بن دحيم، وسعيد بن جابر، وغيرهم. ورحل سنة اثنتين وثلاثين. فسمع بمكة من ابن الأعرابي، وبالمدينة من المرواني، القاضي. وبمصر من الزبيري، وعبد الله بن جعفر البغدادي، وأبي جعفر النحاس، وابن بهزاذ. وابن أبي مطر، وأبي العباس السكري، ومحمد بن أيوب الرّقي، وجماعة. وانصرف الى الأندلس، فأقبل على الزهد والعبادة ودراسة العلم. قال ابن الفرضي: كان حافظاً للفقه، بصيراً بالاختلاف، عالماً بالحديث، ضابطاً لما رواه، متصرفاً في علم النحو واللغة، حسن الخطابة والبلاغة. لين(6/280)
الكلمة، متواضعاً. وكان مع ذلك ذا غور ودهاء. وسمع منه كثير، وبخط الحكم أمير المؤمنين، وذكره فقال: هو فقيه بمذهب مالك، حافظ متقدم، من أهل المعرفة بالحديث والرجال. له حظ من الأدب. لم يلِ القضاء بقرطبة أفقه منه، ولا أعلمه، إلا منذر بن سعيد. لكنه أرسخ في علم أهل المدينة، من منذر. قال ابن مفرج: كان ابن السليم راسخاً في العلم، مجتهداً في طلبه، عالماً بالحديث والفقه. قال غيره: جمع الى الرواية الواسة جودة استنباط الفقه، والفتيا والحذق بالفرائض، والحساب والتصرف في البلاغة، والشعر والافتتان في العلوم، وكان جماعة من كبراء العلماء بالأندلس ممن أدركوه قاضياً. وذكره الحميدي، وأبو عبد الله في تاريخه، كان مع هيبته ورئاسته، حسن العشرة. كريم النفس كابن زرب، وأبي العباس المروقي، يقطعون على أنه لم يكن قط في قضاء الأندلس، منذ دخلها الإسلام الى وقته، قاضٍ أعلم منه. قال أبو محمد الباجي: فما رأيت في المحدثين مثله، وله كتاب التوصل مما ليس في الموطأ. واختصار كتاب المروزي في الاختلاف. وكتاب المحسن في الحديث.(6/281)
ذكر ورعه وزهده وفضله
وكان مع علمه من أهل الزهد والتقشف والبر. طال هربه من السلطان الى أنشبه المقدار. نال رئاسة الدين والدنيا بالأندلس، فما استحال عن هدية ولا غرته الدنيا بوجه. قال ابن مفرّج: وكان قد بلغ به التقشف وطلب الحلال، إن كان يصيد السمك بنهر قرطبة. ويبيع صيده. فيأخذ من ثمنه ما يقتات به ويتصدق بفضله.
ذكر ولايته وسيرته رحمه الله
قال ابن حيّان: كان أول معرفته بالحكم المستنصر، وهو إذ ذاك ولي عهد أبيه الناصر، أنه طلب رجلاً عالماً زاهداً يحجّ عن والدته، بعد موتها بخمسماية دينار - دراهم كانت أعدتها لذلك، من طيب مالها - فذكر له ابن السليم هذا، فأمر بإحضاره. والحكم خلف ستر، وأمر أن يُكلَّم في القصة، ويرغب إليه في ذلك فأبى وأقسم أن لا يفعل ذلك أبداً. فتعلق بقلب الحكم. ولم يزل يجتذبه بكل حيلة، حتى اقتضاه من طريق محبته في العلم. فاستخدمه في المقابلة لدواوين بيت حكمته الذي حوى من كتب العلم ما لم يحوه بيت ملك. فداخله من حينئذ وصاحبه. فنوه الحكم باسمه، وقدمه الى الشورى. فلما ولي الخلافة - بعد موت أبيه - قدمه الى المظالم والشروط. الى أن توفي قاضيه، منذر بن سعيد، فولاه(6/282)
مكانه قضاء الجماعة. وذلك سنة ست وخمسين. وجمع له معها الخطبة والصلاة سنة ثمان وخمسين. فحمد الناس سيرته. فكان من سيرته التواني، في الأحكام والتبطؤ في القضاء. فردّ لومه في ذلك من لم يعرف غرضه. لم ينقم عليه شيء سوى ذلك. فلما مات اتفقت الألسنة بالثناء عليه. قال الرازي: وفي ليلة الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان، سنة خمس وستين وثلاثماية. أمر القاضي ابن السليم، أئمة الفرض، أن يصلوا الوتر بالجامع ثلاثاً، لا يفصلون بتسليم. كما كان يفعل قبل ذلك. وذلك أن بقي بن مخلد، كان يأخذ به، واتبعه عليه بعض الأندلسيين، وهو مذهب أهل العراق. قال القاضي الفقيه الإمام المؤلف أبو الفضل عياض، رضي الله عنه: وقال ابن الحدائي، في كتاب الخطب والخطباء، كان ابن السليم، قد اقتطع من مقاصر النساء بجامع قرطبة، موضعاً اتخذه لصلاته، يوم الجمعة، يبكر للرواح فيه. فلا يزال فيه بين صلاة وذكر، حتى يؤذّن المؤذن بالوقت، فيقوم نحو المقصورة. وحضر مرة جنازة رجل ترك ابناً رجلاً، فلما وضع النعش، تقدم الابن ليصلي من غير إذن، فلما فرغ من شأن الميت، وانفض الناس، أمر القاضي فحمل الولد الى الحبس. فأقبل يقول: ما ذنبي؟ فقال: جهلك، إذ تقدّمت بمحضري، ولم تستأذني ولا رعيت حق الخليفة، إذ الصلاة له وأنا خليفته. فليس لأحد أن يتقدم(6/283)
إلا بإذننا، فلم تفعل، ولابد من تأديبك، لأرشد بك مثلك. فمضي به الى السجن، فلما وصل القاضي الى داره، أمر بإطلاقه، وقال: ما فعلنا به، أدب له. قال المؤلف رضي الله عنه: قد مرّ في أخبار سحنون مثل هذا. قال ابن مسعود: لوى القاضي ابن السليم، للوزير أبي زيد بن خدير بإنفاذ تسجيل له، فاستبطاه أبو زيد، وكتب إليه يعتبه بشعر أوله:
إليك بك الشكوى لعلك موصلي ... وإن كنت قد ضيعت سبل توصلي
عتب عليه فيه، وشكا من مطلعه ثم قال:
إذا لم يكن منك الجميل فإنني ... رضيت بأن أعتاض حسن التنصّل
لأجعل دون الصبر للوصل عقله ... عسى وطناً يبقى لنا بالتجمّل
فأجابه القاضي بقوله:
أتاني قريض كالجمان المفصل ... بديع معانيه لطيف التوصّل
حباني به ندب كريم معظّم ... بأسلابه من ماجد متفضّل
خلا أن فيه بعض عتب ... لشخص يلام لتقصير وليس بمؤتل
وما عاق عن إنفاذ ما قد رغبته ... سوى خطأ في العقل غير محصّل
وغاب اللذان أخطآ في نظامه ... فلم يكتمل منه مراد مؤمّل(6/284)
وإني وقد طال انتظاري علاجه ... فأكملت ما قد كان، غير مكمل
وهذا أبو بكر فأعدل شاهد ... يقول مقالي لا محالة فاعدل
ورفقاً بخل غير جلد لعاتب ... على أنه جلد لدى كل معضل
وهي أطول من هذا.
بقية أخباره رحمه الله
حدّث أبو القاسم أحمد بن يوسف، معلّم الخليفة هشام، قال لي: انصرفت من الحج، فصيّرني ولي العهد الحكم لمقابلة كتبه، وأجرى لي على ذلك رزقاً. فأتاني ابن السليم، وهو يومئذ معتزل عن السلطان، على غاية من التقشف، يقعد عندي، وأقبل يعذلني ويقول: يا أبا القاسم بعد طلب العلم، وتقييد الحديث، والرحلة فيه، ركنت الى هؤلاء القوم، واستهوتك دنياهم. فقلت له: وما الذي وليت لهم، إنما هي كتب علم، لمثلها كان سعيي، أصححها لهم بأجرة؟ فقال لي: لا تقل هذا. فقد أعلقتك حبالهم، فلن تقلها. فمن هنا يزفونك الى غيره، ولا يمكننا خلافهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، على عظم المصاب بك. ثم مدّ يده الى كمه، وأخرج منه حجرين، وقال لي: خذهما واضرب بهما صدرك، ونُح علي نفسك، سلام عليك. وخرج عني، وتركني أبكي علي، فما مضت الأيام، حتى صار الى منزلتي. ثم ارتقى الى الشورى، ثم الى المظالم، ثم الى قضاء الجماعة، فانتهى الغاية. فأردت معارضته، فأمرت جاراً بحمل حجرين ضخمين، وبعثت معه غلاماً بعد صلاة العتمة. حتى أنزلهما باب القاضي ابن السليم، وأنزلهما الى مصراعيه، فلما قام القاضي لصلاة الفجر، وفتح بابه سحراً،(6/285)
لقي الحجرين مسندين إليه، فبقي مفكراً، ومضى الى المسجد، مشغول البال، الى أن دخلت عليه غدوة. فما هو إلا أن رآني اهتدى الى وجه القصة، فقرّبني وقال لي: أنت صاحبه؟ فقلت: هما الحجران اللتان دفعت إليّ، وضعتهما عندي حتى كبُرتا وصرفتهما إليك أذكرك حالك. فبكى، وقال: هو حقك، والبادئ أظلم، فإنّا لله وإنا إليه راجعون على عظم منشبنا، وخسران صفقتنا. قال ابن الهندي: وكان ابن سليم شديد المحبة لبنيه، والإشفاق عليهم. وكان يوصي مؤدبهم ألا يضربهم. فقال له مؤدبهم، يوماً: كيف يتعلمون بلا ضرب؟ فقال له: " الرّحمانُ علّم القرآنَ ". أوصى مؤدبي أبي، أن لا يضربني، فما ضربني قطّ غير مرة واحدة. فلذلك لم أتعلم. قال ابن الهندي: قال لي ابن السليم: رأيت ثلاث مرات تؤيا استدللتُ من اثنتين منها، على أنني ألي الضاء، وبالأخرى على أني ألي الصلاة. قلت له: كم كان بين رؤياك الأولى، وولايتك القضاء؟ قال ثلاثين سنة. ودخل ابن السليم يوماً، على الخليفة الحكم، وهو ينظر في كتاب فيه من صعاب المسائل، في الفرائض، فألقى عليه منها، أول مسألة. فأجابه: كأنه يقرأها معه في الكتاب الى أن أتى على آخرها. فأعجب به، وقال: أنت من الراسخين في العلم. وكان ابن السليم، حسن الخلق، حليماً. حضر يوماً مسجداً بأطراف قرطبة، لانتظار جنازة فحان وقت العصر، فلم يؤذّن لها. فقال لرجل من العامة: يا هذا،(6/286)
أخرج فأذن، فإذا به جاهل، فتغيّر لقوله، وقال: ألم ترَ في المجلس أنحس مني؟ فتبسم القاضي واستغفر الله، وخرج، وأذن، فرجع وصلى بالناس. ثم قال للرجل: قد وجدت أنحس منك، فلا تعد الى مثل قولك، ولكن قل لا أحسن، تاب الله علينا وعليك. حكى القاضي يونس بن معتب: أن القاضي ابن السليم، خرج يوماً فأصابه مطرٌ اضطره الى أن دخل بدابته، في أسطوان دار رجل يعرف بالنسائي من أهل المشرق، وساكناً بقرطبة. فوافقه فيه، ورحب به، وسأله النزول عنده. فنزل وأدخله وتفاوض، ثم قال له: عندي جارية مدينية لم يسمع بأطيب من صوتها. فإن أذنتَ أسمعتك عشراً من كتاب الله، وأبياتاً. فقال: نعم، فأمرها فقرأت، ثم أنشدت. فاستحسن ذلك ابن السليم وأخرج دنانير كانت في كمه، فجعلها تحت الفرش الذي كان عليه من حيث لم يره. فلما ارتفع المطر ركب وودعه وقال: تركت شيئاً، هو للجارية، وأقسم لسيدها ليفعلن. وكانت عشرين مثقالاً. قال القاضي ابن مفرج: لما قدّم المستنصرُ ابنَ السليم قاضيه الى الصلاة والخطبة، وكان ذلك ليلة الفطر، كتب الى جماعة من ثقاة إخوانه، يسألهم أن يصبحوا له، فأتيناه. فقال: أريد أن تحفوا بي وتشهدوا خطبتي، لتصدقوني على(6/287)
نفسي. وما يتعقب عليّ، ففعلنا. وخطب وأبلغ إلا أنه أهذر، وأكثر الإهذار. فلما انصرفنا سألنا، فقال أحمد بن نصر صاحب الشرطة والسوق: يا سبحان الله، سألكم. فقولوا الحق. فقلنا له: قل أنت يا أبا عمر. قال: قعدنا ننظر خطيباً يهدهد يرفع رأسه ويضعه لكل كلمة. وليس هذا من سمت الخطباء، فأقصر عنه ورتل كلامك وزن جسمك. فشكره القاضي. وتفقد نفسه، فلحق بالخطباء المتقدمين.
ذكر وفاته رحمه الله
قال ابن حيان. لم يزل ابن السليم على القضاء بقية أيام الحكم. فلما وليَ ابنه هشام، أبقاه. إلا أن كان ما بينه وبين قيّم دولته ابن أبي عامر من شنآن، يقال إن سببه كلمات بدرت من ابن السليم، في حين خلافة هشام. إذ كان صغيراً ابن إحدى عشرة سنة. منها أن سرير الملك الحكم، لما قدم للصلاة عليه قالوا لجعفر بن عثمان خاصته: من يصلي على أمير المؤمنين؟ فقال ومن إلا أمير المؤمنين ولي عهده؟ فتقدم هشام، فصلى. فسمع بعض أكابر الخدم القاضي يهمس، ويقول: وما تغني صلاة أمير المؤمنين عنه، ونحو هذا. ثم برز القاضي عن الصف، فصار متقدماً للناس، خلف هشام، مؤذناً لهم بتكبيره. فيقال: إنه نوى التقديم للصلاة(6/288)
عليه. وروى عنه أنه قال: لولا أني نويت عقد الصلاة بمقامي هذا لدُفن بغير صلاة، وليست بأشد عقوباته لتقديمه على الأمة صبياً لم يدرك الحلم. فنميت هذه الكلمات الى ابن أبي عامر، فمقته. وكان صادعاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، فثقل مكانه عليه. ولم يزل ابن أبي عامر، يسعى في توهين أمره، ويتعرض بأحكامه، وينقض قضاياه، وفطن هو لذلك فخفف وطأته، ودارى سلطانه شهوراً، الى أن وقع في العلة التي توفي منها. فمات رحمه الله. وذلك يوم الاثنين لخمس أو ست بقين من جمادى الأولى. وفي كتاب الاحتفال: جمادى الآخرة، سنة سبع وستين وثلاثماية، وسنّه خمس وستون، مولده سنة اثنتين وثلاثماية، فلما نعي الى ابن أبي عامر، قال: هل سمعتم بالذي عاش ما شاء، ومات حين شاء؟ فقد رأيناه وهو هذا، رحمه الله.
أخوه منذر بن إسحاق
أبو الحكم، كان أسنّ من أخيه، وكان مشاوراً له بقرطبة. وابنه أبو الوليد عبد الله بن محمد، كان سليمان المستعين قدمه للشورى في الفتنة، تنويهاً بمكانه. ولم يكن لذلك أهلاً. وتوفي سنة اثنتين وأربعماية.(6/289)
عبيد الله بن الوليد بن محمد بن يوسف بن عبد الله
ابن عبد العزيز بن عمر بن عثمان بن محمد بن خالد بن عقب بن أبي معيط واسمه أبان بن أبي عمر بن أمية بن عبد شمس - قرطبي. دخل الأندلس صغيراً مع أبيه. وأصله من برقة. يكنى أبا مروان، ويعرف بالمعيطي. وسمع بقرطبة من قاسم بن أصبغ، والحسن بن سعد، وأحمد بن عبادة، ومحمد بن أبي دليم، وأحمد بن دحيم، وابن الأحمر. قال ابن الفرضي: كان عالماً بالفتيا، بصيراً بالمسائل والشروط. مشاوراً في الأحكام، حافظاً للخبر والشعر، طيب النفس، فكه الخلق، حدث وسمع منه جماعة، أنا منهم. قال غيره: واليه والي ابن أبي دليم، انتهت رئاسة الفتوى، أيام الحكم. مولده رحمه الله سنة اثنتين وثلاثماية. وتوفي لعشر بقين لمحرم، سنة ثمان وسبعين.
سليمان بن أيوب بن سليمان
قرطبي. بيته بيت نباهة. تقدم ذكره أولاً، عند ذكر أبيه، يكنى بأبي أيوب. سمع من أبيه وابن لبابة، وابن أبي الوليد، وابن أبي تمام، وأسلم،(6/290)
وابن قاسم، وابن أبي دليم، ورحل حاجّاً.
وسمع من ابن خالد وابن أيمن، وعثمان ابن أبي زيد، وابن الأغبس، ومحمد بن أحمد الشبلي، وعبد الله بن يونس، ومحمد بن قاسم، وقاسم بن أصبغ، وأحمد بن بقي. وكان من أهل العلم والنظر، بصيراً بالاختلاف حافظاً للمذهب، مائلاً الى الحجة. كان محمد بن يحيى بن الجزار، ومحمد بن أبي دليم، يثنيان عليه. قال ابن الفضي: وهما بعثاني للأخذ عنه، وكان زاهداً خاشعاً متواضعاً كثير البكاء. حدث وسمع منه الناس كثيراً. قال ابن عفيف: وكان من أهل العلم واليقظة، والرواية. روى عنه ابن حبيب، وابن الفرضي، وغير واحد. وتوفي سنة سبع وسبعين. وابنه أحمد يكنى بأبي عمر. سمع ابن قاسم، وابن أبي دليم، وغيرهم. ورحل حاجّاً. وكان صالحاً مشاركاً في فنون من العلم، مع سلامة وأمانة. توفي رحمه الله سنة ثمان وثمانين - وهو آخر من حدث عنه.(6/291)
عبد الملك بن هذيل بن عبد الملك بن هذيل بن اسماعيل
ابن نويرة بن جميل بن نويرة بن مالك بن نويرة التميمي
قرطبي، أبو مروان. سمع من أحمد بن خالد، وابن أيمن، وابن أصبغ، وغيرهم. ورحل فحجّ، وسمع من أحمد بن رشدين بمصر، ومن ابن الأعرابي بمكة. ومن ابن اللباد بالقيرون، وانصرف الى الأندلس، فالتزم العزلة والانقباض، وكان يلبس خلق الثياب. فسمّته العامة الخلقي لذلك، قال ابن عفيف: كان واحد عصره في التقشف والزهد والعقل. من الراسخين في علم الفقه والحفظ. وله المعرفة بالحديث، واختلاف العلماء. صحب الصالحين فأخذ بسيرتهم. ورفض الدنيا ولزم منزله. وهجر الناس، وأقبل على صلاته وعلمه، حتى أتاه اليقين. وكان يذهب في الماء مذهب العراقيين. قال ابن الفرضي: كان لا يسند حديثاً. فإذا سئل عن سند حديث قال: يا ابن أخي، إنما هي بتر. فكان من الناس من يحمل ذلك منه على الانقباض، ومنهم من يحمله محملاً قبيحاً. قال: وسمعت محمد بن أحمد بن يحيى، يسيء فيه القول، وينسبه الى الضعف. وتوفي سنة تسع وخمسين وثلاثماية. ورثاه أخوه.(6/292)
أبو بكر يحيى بن هذيل
الشاعر، سمع مع أخيه من رجاله، والأندلسيين، وغلبت عليه صناعة الشعر. فكان شاعر وقته، غير مدافع. وطال عمره فسمع منه. قال ابن مفرج: وكان عالماً نزيهاً فصيحاً، حافظاً للفقه، راوية للحديث والخبر. ظاهر البشارة، من ملبس ومركب، حسن الحديث، ذا عفة وتقى، كثير التلاوة للقرآن. وكان القاضي ابن زرب، يفضله ويزكيه، ويرد عليه المتخاصمين من جيرانه كثيراً، ليصلح بينهم. سمع منه ابن الفرضي، وغيره، وكان الرؤساء يقدمونه ويبرونه. وعمي آخر عمره، فدعي الى أن يقدح عينيه، فأبى من ذلك. وقال أبعدما أوجب الله لي الجنة، أدعها وأستأنف العمل؟ والله لا فعلت، ولأجعلن بقية عمري لله تعالى. وكان يكثر تلاوة القرآن بالنهار، والتهجد بالليل، وكان وضع على باب مستراحه، مسماراً يتحسسه بيده ويضع فيه خاتمه، عند دخوله، حتى لا يناله شيء، إذ كان فيه منقوشاً: نجا بفضل الله تعالى يحيى. وقرأ عليه قارئ محسن سورة، فبكى وانتحب، ثم شهق وغشي عليه، حتى ظن أنه مات، ثم أفاق وبقي مهيضاً أياماً.(6/293)
وكانت بينه وبين الفقيه أبي عبد الله ابن أبي زمنين، مهاداة أشعار في الذكرى، حسنة. منها مقصورة لابن أبي زمنين، رحمه الله، أولها:
تذكر أخي مثواك في منزل الهلكى ... رهيناً به لا تستجيب إذا دعا
وهي طويلة. أجابه عنها ابن هذيل بأخرى أولها:
أخي غاية قصوى ومن لي بالقصوى ... وقد بلدت خيلي وعن مثلها نعني
وكان قال الشعر في المكتب. فكان معلمه يعجب منه، الى أن دخل عليه يوماً رجل من حكماء وقته، فأخبره بخبره. فقال له: أرنيه. فقال له: لا، ولكن تفرسه في صبياني. فقال: إن كان فهو ذلك، فقال له المعلم: صدقت. فمن أين تفرسته؟ فقال: أما تراه صبياً أسمر معرباً على خلقة العرب. ثم قال له أجز: لستَ من الشعر ولا صوغه. فقال له ابن هذيل سريعاً: فدع مقال الشعر لا تبغه. فصفق الرجل بيديه، وحوقل، وقال له: أحسن ما سمعت مع البديهة وصعوبة القافية. ومن أخباره: أن الناصر كان قد أنذر الخطباء والشعراء بحضور خيل الحلبة في المهرجان، قال ابن هذيل: فجاءني الأمر بذلك، عشي نهارها. فخلوت بقية يومي(6/294)
والنصف من ليلتي، لم أنظم كلمة. فأويت الى فراشي، فأخذتني عيني، فكنت أرى شخصاً في المنام يقول لي: ترقد يا أبا بكر، ولم يفتح عليك. ثم يقول:
مشاهد يلزمنا حضورها ... للخيل حتى تنقضي أمورها
وهببت سريعاً وقد توقد خاطري وافتتحت بهذا الابتداء، وانثالت علي القوافي. فجئت بأرجوزة حسنة. غدوت بها أول منشد. وتوفي رحمه الله، سنة إحدى وسبعين وثلثماية عم عمر - فيما قاله ابن عفيف - وقال ابن الفرضي، رحمه الله: توفي سنة تسع وثمانين.
عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الزجالي
من بيت نبيه بقرطبة، في أصحاب السلطان. يكنى بأبي بكر. كان خيراً فاضلاً، حليماً طاهراً عالماً. كثير الخير والمعروف. طويل الصلاة. يقال إن قدميه تفطرتا من طول قيامه. قال ابن الفرضي: سمعت محمد بن يحيى بن عبد العزيز يقول - وقد خرج من عنده، وقد أتاه عائداً: ما أعرف أحداً يصلح للقضاء غيره. وقال سليمان بن أيوب: كان أولى بالقضاء من ابن أبي عيسى، ومنذر وغيرهما. ثم قال: هذا الذكر يغار له الناس. واستوزره الحكم، تنويهاً بمكانه. فلم(6/295)
تستوفزه الدنيا بحال. ومات رحمه الله، وهو مخطط بالوزارة، في جمادى الأولى، سنة خمس وسبعين وثلاثماية.
أبو بكر محمد بن عبد العزيز بن ابراهيم بن عيسى بن عمر بن عبد العزيز
يعرف بابن القوطية. قال ابن حارث: من مواليد البربر نسب بيتهم الى أم جد أبيهم. وهي ابنة ملك الأندلس. قبل دخول الإسلام إليها وفدت به قبل دخول الأندلس، على هشام بن عبد الملك بالشام، متظلمة. فتزوجها هنالك عيسى بن مزاحم، وقد الأندلس، فنسبت بنوها إليها. وهم من أهل إشبيلية، وسكن أبي بكر قرطبة. وقد ولي أبوه قضاء إشبيلية. وسمع من ابن القون، وحسن الزبيري، وابن جابر، وعلي بن أبي شيبة، وسيد أبيه الزاهد. وبقرطبة من طاهر، وابن أبي الوليد، ومحمد بن مغيث، وابن لبابة، وابن أبي تمام، وأسلم القاضي، وابن أيمن، وابن الأغبس، وابن يونس، وقاسم بن أصبغ، ونظرائهم.(6/296)
قال ابن غفيف: كان جليلاً من أعلم أهل زمانه باللغة والعربية، حافظاً للفقه، والخبر النادر، والشعر. قال ابن أحمد: وله في الحديث قدم ثابتة، ورواية واسعة، وهو على ذلك من أهل النسك والعبادة. وقال ابن عبد الرؤوف في طبقاته: كان أبو بكر عالماً من علماء الأندلس، فقيهاً من فقهائهم، صدراً في أدبائهم، حافظاً للغة والعربية، بصيراً بالغريب والنادر، والشاهد والأثر. عالماً بالخبر والأثر. جيد الشعر، صحيح الألفاظ واضح المعاني، إلا أنه تركه ورفضه مؤثراً ما هو أولى منه. فهو إمام من إئمة الدين، تامّ العناية بالفقه والسنّة، مع مروءة ظاهرة، وتمام خِلقة وسمت وحسن بيان. قال ابن الفرضي: كان عالماً بالنحو، حافظاً للعربية، مقدّماً فيها على أهل عصره، لا يشق غباره. وله في ذلك تصانيف حسنة. ككتاب تصاريف الأفعال، وكتاب المقصور والممدود، وشرح رسالة أدب الكاتب، وغير ذلك. وكان حافظاً لأخبار الأندلس، وسير أمرائها وأحوال رجاله. وله تصنيف في تاريخها حسن. قال ابن الفرضي: ولم يكن بالضابط لروايته في الحديث والفقه. ولا له أصول يرجع إليها. وما سمع عليه من ذلك يحمل على المعنى. وكثيراً ما كان يقرأ عليه ما لا رواية له فيه على سبيل التصحيح. وطال عمره حتى سمع طبقة بعد طبقة من الشيوخ والكهول، ممن ولي القضاء والشورى والخطط من أبناء الملوك وغيرهم. وسمعت منه.(6/297)
قال ابن الفرضي: وكانت فيه غفلة وسلامة، وتقشف في ملبسه وورعه. وذكر أنه كان يدلس في حديثه. وحكى أن الحكم سأل أبا علي البغدادي: من أنبل من رأيت في بلدنا في اللغة؟ فقال: ابن القوطية. وذكر أبو بكر بن هذيل، أنه لقيه بسفح جبل قرطبة صادراً من ضيعته، فسلم عليه وفداه ابن هذيل. فأنشده على البديهة مداعباً:
من أين أقبلت يا من لا شبيه له ... ومن هو الشمس والدنيا له فلك
قال: فابتسم وأجابني بديهاً:
من منزل يعجب النسّاك خلوته ... وفيه ستر على الفتّاك إن فتكوا
قال: فقبّلت يده. إذ كان شيخي، ودعوت له. وتوفي رحمه الله، سنة سبع وستين وثلاثماية.
اسماعيل بن إسحاق بن ابراهيم القيسي
ثم النصري بالنون رفع نسبه ابن الفرضي الى قيس بن عَيلان بن نصر. يكنى بأبي القاسم. ويعرف بابن الطحان. من طيء. كان من أهل الفقه والحديث، مشهوراً بالخير، غلب عليه الحديث. وله في المدونة اختصار معروف. قال ابن الفرضي: كان عالماً بالآثار والسنن، عالماً بالحديث ورجاله، وأخبارهم، حسن الحكاية كثير الفائدة، موروداً من الناس. سمع من قاسم بن أصبغ،(6/298)
وابن الخشني، والرعيني، وابن دحيم، وابن أبي دليم، وابن الأحمر، وابن مطرف، وأحمد بن حزم، وخالد بن سعد، وحسان بن عبد الله الاستجي، وغيرهم. وكان أكثر وقته في تصنيف الحديث، والتاريخ وغيرها. وخرج في غير نوع من المصنفات. سمعت منه، وأكثر أصحابنا. وانتفع به أهل الكور، لصبره على المواظبة على الجلوس. وكان يعقد الشروط ويفتي. وكان فتياه بما ظهر له من الحديث، توفي رحمه الله، سنة أربع وثمانين. مولده سنة سبع وثمانين. رحمه الله.
عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري
أبو محمد قرطبي. قال شيخنا أبو علي حسن بن محمد الغساني الحافظ: هو والد شيخنا أبي عمر بن عبد البر، من فقهاء قرطبة. تفقه على أبي ابراهيم التجيبي، ولازمه. وسمع(6/299)
من أحمد بن مطرف، وأحمد بن حزم، وأحمد بن دحيم، وابن الأحمر، ومحمد بن أحمد بن قاسم بن هلال، وغيرهم. توفي رحمه الله، سنة ثمانين وثلاثماية. مولده سنة ثلاثين وثلاثماية. وكان أبوه محمد بن العباد المنقطعين، المعروفين بالتهجد، والمبرزين فيه، من أصحاب ابن مجاهد الألبيري. رحمه الله. توفي قبل ابنه بسبعة أشهر.
محمد بن أحمد بن خالد بن يزيد بن الجباب
تقدم ذكر أبيه، قرطبي، يكنى أبا بكر. سمع من أبيه. قال ابن الفرضي: ولا أعلمه روى عن غيره. قال أبو الوليد الباجي فيه: فقيه. وقال ابن الفرضي: كان قليل العلم، روى عنه القاضي يونس، توفي سنة اثنتين وستين. وله كتاب فضل العلم.
أبو عبد الله محمد، وأبو محمد، عبد الله
ابنا أبان بن عيسى بن محمد بن عبد الرحمن بن دينار من جملة فقهاء قرطبة.(6/300)
سمعا أباهما: عيسى، ووهب ابن مسرة، وأحمد بن مطرف، وندبهما الحكم، الى اختصار الكتب المبسوطة، تأليف يحيى بن إسحاق بن يحيى، فاختصراها وقرباها. واختصر اختصارهما بعد هذا، شيخنا قاضي الجماعة: أبو الوليد ابن رشد. وتوفي عبد الله منهما في جمادى الآخرة، من سنة ست وعشرين وثلاثماية. رحمه الله.
يحيى بن هلال بن زكريا بن سليمان بن مطر
قرطبي. يكنى بأبي زكريا. سمع من عمه ابن مطر وأحمد بن خالد، وابن أيمن، وعثمان بن عبد الرحمن، ومحمد بن قاسم، ومحمد بن مسوّر، وقاسم بن أصبغ، ومحمد بن حكم ومحمد بن أبي لبيد، والدينوري، وسمع ببجانة من ابن فحلون، وكان حافظاً لمسائل المالكية، بصيراً بالعقود، مقصوداً في السماع، درباً عليه، لم يرَ في المحدثين أصبر منه على المواظبة. لذلك كان يجلس كل يوم لإسماع المدونة، من الظهر الى الليل، يستوعب قراءتها كل شهر. تمادى على ذلك عمره. وسمع منه الواضحة وغيرها، وسمع منه جماعة من الأندلسيين وغيرهم. وممن سمع منه الفقيه أبو علي الحداد، وابن عمرون.(6/301)
وتوفي سنة سبع وستين وثلاثماية، على ما قاله ابن عفيف، وابن الفرضي. وقال محمد بن يحيى بل توفي سنة ست قبلها. وسنّه أزيد من خمس وسبعين.
عبد الله بن محمد الصابوني
المعروف بابن بركة، قرطبي. يكنى بأبي محمد، مولى لبني هارون لآل باد حجر، ويقال لفهر. وغلب عليه اسم أمه. سمع ابن الأحمر، وابن حزم، وابن مطرف، وتفقه. قال غيره: وكان حسن الثناء في الناس، والإصلاح بينهم، حتى كان الحكام يوجهون إليه المتشاكيين من الخصوم، لحسن وساطته. توفي سنة ثمان، ويقال ثلاث وسبعين.(6/302)
أبو بكر بن عبد العزيز بن يحيى
المعروف بابن الحصار. قرطبي. قال ابن مفرج: كان من أهل الحديث من الصالحين، حافظاً للفقه، ودعي الى الشورى، فامتنع عنها. ولزم العبادة والانقباض، الى أن مات رحمه الله، وسمع عليه أخوه:
أبو عبد الله محمد بن العزيز بن يحيى
المشتهر بأسفيل. قرطبي. قال ابن عفيف: كان من حفاظ الفقه، ورواة الحديث. أخذ عن ابن خالد وابن أصبغ، وابن أيمن، وغيرهم. وكان أبصر أهل زمانه بالوثائق. وله فيها تأليف حسن. قال ابن مفرج: كان ابن الحصار هذا من أهل العلم والرواية والدرس، والنظر بالحجة. قال ابن الفرضي: كان عالماً بالوثائق، وشهر بالدلسة فيها، غير ثقة. ولا مأمون، وذكر غيره ابن الحصار هذا: خرج سحراً لحاجة، فأخذته الصلاة في مسجد الأمير ابن الشرح، فوجد في الصفّ الأول فرجة استوى فيها، إذ أقبل ابن الشرح، فجاء المؤذن الى ابن الحصار فقال له وهو لا يعرفه: يا هذا، قم عن(6/303)
مكان الأمير، وإذا في المكان حصير نظيف كان يفرش له، فانتزعه ابن الحصار من تحته، ورمى به وراءه وقال: دونك حصير الأمير يا جاهل، فأما المكان فليس لك ولا له. ولم أحضركم إذ نسبتم المسجد، فأخذ يحط منه. فرفع الناس رؤوسهم، واستحيى الأمير، وأقبل يفنّد مؤذنه، فلما صلى جاء الى الشيخ، واعتذر له، وكان جار من النصارى من وجوه الخدمة، يقضي حوائجه، ومتى مرّ بدار الشيخ وقف به، فيهشّ إليه الشيخ ويدعو له، بأن يقول له: أبقاك الله وتولاك. أقر الله عينك. يسرّني ما يسرك. جعل الله يومي قبل يومك. لا يزيد على هؤلاء الكلمات. والنصراني يبتهج بذلك. فعوتب الشيخ في ذلك، فقال: إنما هي معاريض، عرف الله نيتي فيها، فأما قولي أبقاك الله وتولاك، فأريد بقاءه لغرم الجزية، وأن يتولاه بعذابه. وقولي أقر الله عينك، فإني أريد قرار حركتها بشر يعرض لها، فلا تحرك جفونها، وقولي يسرني ما يسرك، فالعافية تسرني وتسره. وأما جعل الله يومي قبل يومك، فيوم دخولي الجنة قبل دخولك النار. وتوفي رحمه الله سنة اثنتين وسبعين وثلاثماية.
أبو عمر أحمد بن عيسى بن مكرم الغافقي
قرطبي.(6/304)
قال ابن الفرضي: كان متصرفاً في الفتيا، وعقد الشروط. توفي رحمه الله سنة ثلاث وسبعين.
وأخوه أبو عثمان سعيد بن عيسى
قرطبي. سمع من قاسم بن أصبغ، وأحمد بن زياد، والحسن بن سعد، وغيرهم. وكان متصرفاً في حفظ الرأي وعقد الشروط، ذا عدالة ووجاهة. رحمه الله. توفي بعد أخيه سنة ثمان وسبعين. رضي الله عنه.
أحمد بن محمد بن زكريا بن الوليد بن عبد اللرحمن بن عبد الله
ابن زيد بن مكيال مولى عبد العزيز بن مروان بن الحكم المكفوف، المعروف بالرصافي، قرطبي. سمع أحمد بن خالد، وأحمد بن زياد، ومحمد بن حكم، وكان مفتي أهل تلك الجهة، ومحدثهم. كتب عنه غير واحد. قال ابن الفرضي: كان صالحاً. توفي في صفر سنة أربع وستين وثلاثماية.(6/305)
أحمد بن هلال بن زين العطار
قرطبي. يكنى بأبي عمر. ورحل فسمع بمصر من زيان، ومحمد بن الربيع الجيزي، وغيرهم. قال ابن الفرضي: كان حافظاً للشروط، نبيلاً في الرأي، على مذهب المالكية. مفتياً في السوق، وحدث عنه اسماعيل بن إسحاق البصري وغيره. وتوفي عقب صفر سنة أربع وستين، وسنّه قد نيف على تسعين، مولده سنة اثنتين وسبعين ومايتين. رحمه الله.
أحمد بن بدار المؤدب
قرطبي. يكنى أبا عمر. سمع ابن قاسم والحسن بن سعد، وغيرهما. قال أبو الوليد: كان حافظاً للفقه، على مذهب مالك بن أنس. وكان يؤدب بالقيروان. وكان من العباد المتبتلين. وحدث. توفي آخر سنة سبع وسبعين رحمه الله.(6/306)
زكريا بن يحيى بن زكريا التميمي
قرطبي. أبو يحيى، يعرف بابن برطال. وهو خال المنصور بن أبي عامر. سمع من ابن لبابة، وابن خالد، وابن قاسم، وغيرهم. وكان فقيهاً نبيلاً في الفتيا، وعقد الشروط، وتصرف في القضاء ببطليوس وطليطلة، وباجه، وأكشونية، ووادي الحجارة أيام الناصر والمستنصر. وكتب عنه الناس كثيراً. قال ابن الفرضي: وكان ثقة. قال ابن حارث: هو من أهل العقل الجيد والمذاهب الحسنة، عفيفاً متورعاً. وكان أبو يحيى، قد وليَ القضاء قبله، ببطليوس وباجه، ولاردة أيام الناصر. قال ابن حارث: وكان محموداً في قضائه، حسن الوفاء، موصوفاً بحسن المعاشرة، ولم يزل قاضياً هنالك، الى أن توفي بعد عشرين وثلاثماية. وتوفي ابنه زكريا سنة تسع وخمسين، وثلاثماية. وسنّه إحدى وسبعين سنة.
وابنه الآخر القاضي: محمد بن يحيى أبو عبد الله
سمع بقرطبة من ابن خالد، وقاسم بن أصبغ، ومحمد بن عيسى بن(6/307)
رفاعة، وابن دحيم، وغيرهم. ورحل الى الشرق فحجّ حججاً، وسمع من أبي إسحاق بن فراس، وابن جامع السكري، والقشيري، وحمزة الحافظ الرازي، وعبد الكريم النسائي، وجماعة كثيرة. ووليَ أيام الناصر، قضاءَ ريّة. ثم قضاء جيّان أول أيام المؤيد، وأحكام الشرطة. فلما توفي ابن زرب، وليَ قضاء الجماعة - مكانه - والصلاة معاً، سنة إحدى وثمانين. فاستخلف على الصلاة ابن الشرفي، وبقي على القضاء، الى أن علت سنّه، وتلف ذهنه، فصرفه ابن أبي عامر عن القضاء، سنة اثنتين وتسعين، ونقله الى الوزارة تنويهاً بمكانه، وتسلية له. فكانت مدة قضائه عشرة أعوام ونحو أربعة أشهر. قال ابن الفرضي: وكان شيخاً مسمتاً جميلاً، وقوراً حليماً متواضعاً، كثير الصوم، لم يحفظ له فيما تولاه بنفسه قضية جور، ولا غرته الدنيا. وكان باطنه كظاهره، سلامة ونزاهة. قال ابن معمر: كان ورعاً عفيفاً.(6/308)
قال ابن جيّان: كان عبداً صالحاً، ورعاً عاقلاً، عفيفاً. قال بعضهم: وكان عاطلاً من الفقه، مشهوراً بالصدق، والأمانة. سمع عليه الناس، وحدث عنه ابن الفرضي، والقاضي سراج بن عبد الله، وجماهير الناس. وكان مجلسه من أجلّ المجالس، وتوفي رحمه الله سنة أربع وتسعين. وخلّف ثناءً حسناً. وسنّه يوم توفي ست وتسعون سنة.(6/309)
أبو عبيد الله الجبيري رحمه الله
بضم الجيم، واسمه قاسم بن خلف بن فتح، بن عبد الله، بن جبير. طرطوشي الأصل. ولزم قرطبة، وسمع بها من قاسم بن أصبغ وغيره. ورحل فسمع بمصر من جماعة، وبجدة من الحسين بن حميد الحرمي، وبالعراق من أبي بكر الأبهري، ولزم وتفقه عنده على مذهب المالكية. وتحقق به، وأقام في رحلته ثلاثة عشر عاماً، وانصرف الى الأندلس. ومن شيوخه: عبد العزيز بن محمد الواثق. قال ابن الفرضي: وكان فقيهاً عالماً، حسن النظر، صدراً في أهل الشورى، يجتمع إليه، ويتاظر عنده. وكانت الرواية أغلب عليه، روى عنه أبو بكر ابن رهما. قال ابن عفيف: كان من أهل العلم بالفقه، والحديث نظاراً مدققاً في المسائل.(7/5)
قال ابن مفرج: كان أبو عبيد الله من الصالحين العلماء، طلب صغيراً ورحل فحجّ وتوسع في الطلب. وكان له الي علمه، أدب وفهم، وحسن خط وذكاء، وتفنن في المعرفة. وكان حسن التلاوة، له كتاب في التوسط بين مالك وابن القاسم، فيما خالف فيه ابن القاسم مالكاً. كتاب حسن. وكانت له من الحكم المستنصر، منزلة ومكانة عالية. أسكنه معه الزهراء. وتوسع له، ووليَ قضاء بلنسية، وطرطوشة. فحكمها دهراً فيما قال ابن حزم. وقال ابن الفرضي: استقضاه المستنصر، على طرطوشة وعملها، فاستعفى، ولحقته التهمة مع عبد الملك بن منذر البلوطي - صاحب الردّ - في جماعة من العلماء وغيرهم، بالقيام مع عبد الله بن عبد الرحمن الناصر، على مؤيد هشام، وصاحب دولته ابن أبي عامر. وكانت قصة عظيمة. حان فيها لحينه، عبيد الله وصاحب الرّد عبد الملك، بسبب إقراره واعترافه بذلك، لخدعة لحقته من ابن أبي عامر، بالإقرار. فأفتى بعضهم على عبد الملك بالقتل، ونزع بآية المحاربين. وقال ابن المكوى: هؤلاء هموا بمعصية، فلم يفعلوها. فلا قتل عليهم. فأمر ابن أبي عامر، بقتل عبد الله، وصلب ابن منذر، فنفذ ذلك ولاذ أبو عبيد الله بالإنكار. وتخوف مما فرق به. وقال: معاذ الله، أن(7/6)
أفعل هذا وقد رويت كذا، وسمعت كذا، وجلب الآثار في ذلك في نكث البيعة، والسعي والفساد. فلم يوجد إليه سبيل وسلك غيره من العلماء المتهمين، مسلكه. فأمر به وبهم الى المطبق، على اختلاف أحوالهم، وكان ذلك في سنة ثمان وسبعين، فيما قاله ابن مفرج. قال: بعد أن أقام فيه، نحو عشرة أعوام. وقال ابن الفرضي: توفي أبو عبيد الله بمطبق الزهراء، سنة إحدى وسبعين. ومولده فيما قيل: آخر سنة اثنتي عشرة. وقيل: توفي وهو ابن اثنتين وستين سنة. وذكر أن أبا بكر بن مجاهد الألبيري، نهض مع أصحابه، الى أبي عبيد الجبيري، ليزوره بالزهراء على عادته له، وكان صديقه. فلما حضر عنده أحضر طعاماً ودعاهما الى أكله. فأكلا معه. فلما خرجا سئل أبو بكر عن أكل طعامه وقد علم أنه ليس له مال، إلا ما أعطاه السلطان. فقال أبو بكر: هو رجل من أهل العلم، فلو أمسكت عن طعامه، لكان جفاءً. وأنا في نفسي أحقر من أن أجعلها في هذا النصاب، وقد قدمت ما ملكت وأجمعت على الصدقة به، وثواب ذلك لصاحبه، ورأيت هذا، أفضل من الشهرة والإمساك عن طعامه والجفاء عليه.(7/7)
محمد بن سعيد العصفري رحمه الله
وقيل محمد بن يحيى بن خليل العصفري، اللخمي، قرطبي. أبو عبد الله. سمع من قاسم بن أصبغ، ومحمد بن أبي دليم وغيرهما. وكان حافظاً للمسائل، مفتياً في السوق بقرطبة، ويجتمع إليه في لمناظرة في الجامع. وتوفي رحمه الله سنة ثلاث وستين وثلاثماية. وقيل سنة أربع وستين.
ابراهيم بن أحمد بن فتح
مولى أبي إسحاق. يعرف بابن الحداد، قرطبي. روى عن محمد بن عبد الملك بن أيمن، ومحمد بن مسرور، وعبد الله بن يونس القبري. وأحمد بن زياد، وقاسم بن أصبغ، والحسن بن سعد، وأحمد بن الشامة. وكان حافظاً للمسائل، عاقداً للشروط، ضابطاً. قرئ عليه المدونة، وغير ذلك. وتوفي رحمه الله آخر ربيع الآخر سنة تسع وسبعين وثلاثماية.(7/8)
عيسى بن محمد بن عيسى البجاني
أبو الأصبغ. ويعرف بعيسون، بسين مهملة. قرطبي. وبجانة هذه: آخر عمل الزهراء. سمع ابن فطيس الألبيري، وأحمد بن زياد، وقاسم بن أصبغ، ومحمد بن يحيى بن لبابة. وكان ختمه هو على ابن لبابة. وتردد عليه، وكتب بين يديه، حتى فقه. وقيل كان مشاوراً في الأحكام، صدراً فيمن يستفتى، مرشحاً للأحكام الشرطية. توفي قبل ذلك. كان عبيد الله بن المعيطي واسماعيل بن إسحاق، يثنيان عليه. روى عنه اسماعيل بن إسحاق. وتوفي سنة خمس وخمسين وثلاثماية.
محمد بن يحيى بن خليل
اللخمي، العصفري، الحباب. قرطبي. أبو عبد الله. سمع من قاسم بن أصبغ ومحمد بن أبي دليم وغيرهما. وكان فقيهاً حافظاً معتنياً بالرأي، يفتي في السوق، ويجتمع إليه في المناظرة. توفي رحمه الله سنة أربع وستين.(7/9)
محمد بن عبد الله بن أيمن البزاز
قرطبي. أبو عبد الله. سمع طاهر بن عبد العزيز، والأعناقي، وابن خمير، وابن مُعاذ، وابن الزرّاد، ومحمد بن عمر بن لبابة. وكان متصرفاً في الفتيا والشروط، وحدث. قال القاضي ابن مفرج: كان رجلاً صالحاً، ثقة، وأثنى عليه، رحمه الله.
محمد بن نجاح بن عبد الرحمن بن علقمة بن منعوش
قرطبي. أبو القاسم. روى عن القاسم بن أصبغ وغيره. وولي قضاء طليطلة. فلم يزل قاضياً عليها، الى أن توفي رحمه الله، سنة ست وسبعين.(7/10)
أحمد بن محمد بن يوسف المعافري
أبو القاسم، قرطبي. يعرف بالقشطيلي. سمع أبا عيسى الدينوري. قال ابن عفيف: كان من أهل العلم بفنون كثيرة، من الفقه والحديث والعربية، واللغة. رحل وسمع وحجّ. ولقي رجال الشرق والأندلس. وأكثر من الرواية. وأدخل الأندلس علماً جماً، واستعمله الحكم المستنصر في خطة المقابلة. ثم صيّره الى تأديب ولده هشام: المؤيد، القرآن. فاختص به. فلما تولى هشام الخلافة بعد أبيه، قدمه للحكم بالشرطة. فلم يزل على ذلك الى أن هلك. وقد حدث وسمع منه الناس. حدث عنه ابنه، أبو عمر الفقيه. وأبو علي الحداد، وابن عفيف وابن الحداد. وهو صاحب قصة الحجرين، مع القاضي ابن السليم التي ذكرناها في أخباره. وتوفي رحمه الله، سنة اثنتين وسبعين وثلاثماية، من سقطة سقطها في الحمام. أقام بعدها ثلاثة أيام ثم مات. رحمه الله.(7/11)
سعيد بن حمدون بن محمد الدقي
القيسي. أبو عثمان. سمع ابن أصبغ، وابن الشامة، وابن أحمد وابن مطرف، وغيرهم. وحجّ فسمع الآجري وابن الورد، وغيرهما. قال ابن الفرضي: ولم يزل سامعاً وطالباً الى أن مات. قال: ولم يكن له نفاد في شيء من العلم، وتكلم فيه. وكان أعور العين اليمنى. فكانت العامة تسميه: دجّال الفقهاء. وزاره ابن زرب من علة، فألطف سؤاله. فشكا له حمى فمد ابن زرب يده، وأدخلها في جيبه - كأنه يلمس جسده - وقد قبض على صرة دراهم وضعها على صدره. فلما وجد حسها قال: قد شفاني الله عزّ وجل، بلمس كفك المباركة يا قاضي، ولقد بردها الى قلبي، ولم يعلم أحد ما أراد حتى حدث به بعد إفاقته. وتوفي، رحمه الله سنة سبع فيما قاله ابن مفرج. أو ثمان وسبعين، فيما قاله ابن الفرضي. رحمه الله تعالى.(7/12)
خطاب بن مسلمة بن محمد بن سعيد بن بتري الأيادي
قرموني، سكن قرطبة. يكنّى بأبي المغيرة. سمع ابن لبابة، والقاضي أسلم، وأحمد بن خالد، وعثمان بن عبد الرحمن، وعبد الله بن يونس، ومحمد بن قاسم، وقاسم بن أصبغ، ورحل مع القاضي ابن السليم، فحجّ وبقي بالشرق أعواماً. سمع بمكة من ابن الأعرابي، وبمصر من القرشي، وابن بهزاد، وأبي جعفر بن النحاس، وابن الورد، والصموت وغيرهم. وكان زاهداً فاضلاً، مجاب الدعوة. قال ابن السليم: هو من الأبدال. قال ابن الفرضي: وكان حافظاً للفقه بصيراً بالنحو والعربية، نبيلاً. قال ابن عفيف: كان من أهل العلم بالفقه، والحديث والإعراب واللغة. قال محمد بن يحيى: كان خيراً زاهداً فاضلاً مجتهداً في العبادة، منقبضاً عن الناس، وكان من العلماء العاملين. سمع منه، من القرطبيين: ابن الفرضي، وابن الحداد. ومن أهل بلدنا ابن أبي مسلم القاضي، وناس كثير. مولده سنة أربع وتسعين ومايتين. وتوفي رحمه الله في شوال، سنة اثنتين وسبعين وثلاثماية. وسنّه نحو ثمانين سنة.(7/13)
وابنه أبو عبد الله محمد رحمه الله
من أهل العلم والرواية أيضاً. سمع من أبيه. قال محمد بن يحيى: كان خيراً فاضلاً، زاهداً مجتهداً في العبادة، منقبضاً عن الناس، وكان من العلماء العاملين.
وابن أخيه مسلمة بن محمد بن مسلمة
أبو عبد الله. ويعرف بالزاهد. كان فقيهاً زاهداً فاضلاً متبتلاً، كثير الجهاد، ورعاً. سمع الباجي وابن عون الله، ووهب، وابن الحداد، وأبا عيسى بن مفرّج، وعمّه. ورحل فسمع بإفريقية من السدري. وبمكة من الآجري، وغيرهما. وامتحن في الطريق بذهاب رحله. وقرئت عليه المدونة، والمستخرجة، وغير ذلك. وكان أكثر ما يحمله من الحديث إجازة. وكانت العبادة أملك به، وأغلب عليه. توفي سنة إحدى وتسعين. ولم ينصرف من جنازته، إلا بالليل. رحمه الله.
عبد القادر بن عبد العزيز العتروني
مرشاني. أبو المطرف. سمع من قاسم بن أصبغ، ووهب بن مسرة. وكان حافظاً(7/14)
للمسائل، عاقداً للشروط، مفتي موضعه. توفي سنة تسع وستين وثلاثماية. مولده سنة ثمان عشرة. رحمه الله تعالى.
عتاب بن هارون بن عتاب بن بشر بن عبد الرحيم بن بشر
ابن الحارث بن سهل بن الوقاع بن قطنة الغافقي أبو أيوب. شذوني روى عن أبيه وغيره. وقد تقدم ذكر أبيه وجده. ورحل الى المشرق، فسمع بمكة من أبي بكر الأنماطي، والجمحي، وأبي محمد الطوسي، والخزاعي. وبمصر من ابن الحداد التنسي، وغيره. قال ابن الفرضي: وكان حافظاً لمذهب مالك وأصحابه حسن الباطن. يقال إنه مجاب الدعوة. سمعت أبا محمد الثغري(7/15)
يقول: لست أعلم بالأندلس أفضل منه. سمع منه ابن الفرضي. وتوفي سنة إحدى وثمانين. مولده: سنة إحدى عشرة وثلاثماية.
ابراهيم بن مَيسر شذوني
أبو إسحاق. سمع أحمد بن عبادة الرعيني، وغيره. وكان فقيهاً. توفي رحمه الله في نحو الستين وثلاثماية.
سعيد بن يوسف بن كليب الخولاني
أبو عثمان. شذوني. يعرف بابن البيضاء. سمع من وهب وغيره. مفتياً بموضعه. مقدماً للشورى فيه. توفي آخر سنة خمس وستين وثلاثماية.
سعيد بن أحمد بن رمح الخولاني
شذوني. أبو عثمان. كان مفتياً بموضعه، مقدماً للشورى. وتوفي رحمه الله، بعد خمسين وثلاثماية.(7/16)
حمدون بن سعدون بن بطال التجيبي
شذوني. يكنّى بأبي مروان. سمع ابن وهب وغيره. وكان حافظاً للمسائل، مشاوراً بموضعه. توفي سنة أربع وستين وثلاثماية.
سعيد بن مرشد شذوني
أبو عثمان. سمع من وهب وابن حزم، وابن الخراز القروي. وشوّر ببلده، مع صاحبيه حمدون وابن كليب. توفي رحمه الله بمصر، منصرفاً م الحجّ، سنة ثلاث وسبعين وثلاثماية.
عثمان بن سعيد بن البشر بن غالب بن فيض اللخمي
شذوني. أبو الأصبغ سمع من ابن الوليد، وابن لبابة، وابن خالد. وكان فقيهاً بموضعه. صاحب صلاة. شيخاً صالحاً. توفي رحمه الله سنة ثلاث وسبعين وثلاثماية. رضي الله عنهم أجمعين.(7/17)
علي بن عمر بن حفص بن عمرو بن نجيح بن سليمان
ابن عيسى الخولاني الكبير أبو الحسن. كان فقيهاً حافظاً للمسائل، موثقاً، روى عن أبيه وسعيد بن فحلون، وعلي بن الحسين المري، ومسعود بن علي، وسمع منه ابن الفرضي، وغيره. قال ابن الفرضي: وكان لا بأس به، رحمه الله. وتوفي سنة أربع وثمانين. ومولده سنة تسع وثلاثماية.
عبد الله بن عيسى بن أبي زمنين المري
من أهل البيرة، وأصله من نفزة من العدوة، يكنّى بأبي محمد. سمع ببجانة من ابن فحلون، وعلي بن الحسن المري، وبقرطبة من ابن أيمن، والرعيني، وابن أبي دليم، وغيرهم. قال القاضي أبو الوليد الباجي: كان فقيهاً روى عنه ابنه محمد، وسيأتي ذكره، إن شاء الله تعالى. والقاضي يونس بن مغيث، وغيرهم، رضي الله عنهم. توفي بقرطبة سنة تسع وخمسين وثلاثماية. وسنّه تسع وخمسون.(7/18)
مطرف بن عيسى بن أيوب بن الليث بن مطرف
الغساني الألبيري. سمع من شيوخ بلده، وشيوخ بجانة: محمد بن فطيس وفضل بن سلمة، وأحمد بن عمريل ومحمد بن أبي خالد، وغيرهم. وبقرطبة من محمد بن لبابة وأحمد بن خالد، قال ابن حارث: كان فقيه غرناطة وولاه الحكم قضاء كورة البيرة. قال ابن الفرضي: وكان متصرفاً في علم الإعراب، والغريب. ورواية الشعر والخبر، والتأليف للكتب. وألّف كتاباً في فقهاء البيرة، وكتاباً في شعرائها، وكتاباً في أنساب العرب النازلين بها وأخبارهم. ومات بقرطبة فحمل الى بلده فدفن فيه، سنة ست أو سنة سبع وخمسين وثلاثماية.(7/19)
سليمان بن حسين الحجازي
يعرف بابن الطويل. قاضي مدينة الفرج. سمع ببلده من وهب بن مسرة. له رحلة سمع فيها من بكر القاضي، وابن أبي العرب، وأبي بكر ابن الأبيض، وسمع غيرهم. وولي قضاء مدينة الفرج، للحكم المستنصر.
محمد بن عبد الملك الخولاني
أبو عبد الله. يعرف بالنحوي. أصله من بلنسية. وسكن ببجانة. كان فقيهاً حافظاً متصرّفاً في المسائل، يناظر عليها. وله في المدونة اختصار مشهور. وكفّ بصره قبل وفاته بأعوام. توفي رحمه الله سنة أربع وستين.
علي بن عبيد الله الباهلي
بجاني. أبو الحسن. فقيه مذكور ببلده. توفي في آخر سنة خمس وستين وثلاثماية. رضي الله عنه.(7/20)
محمد بن عبد الله بن رشيد
بجاني. أبو عبد الله. وكان فقيهاً حافظاً للمسائل، وبوب العتبية للحكم أمير المؤمنين. وتوفي في نحو سنة ثلاث وستين وثلاثماية.
سلمة بن الفضل بن سلمة الجهني
بجاني. أبو الفضل. أخذ عن أبيه. وكان مذكوراً في أهل العلم، معدوداً فيهم. وحدث وتوفي بقرطبة، سنة تسع وعشرين فيما وجدت في بعض التواريخ. وسنّه ثلاثون. رحمه الله.(7/21)
عمر بن محمد بن ابراهيم رحمه الله
المعروف بابن الوفي، بجاني. وليَ قضاء بلده، ثم قضاء تدمير. قال ابن مفرج: كان من أهل العلم والرواية، ولقي الأبهري وتفقه عنده. وروى كتاب الأشراف لابن المنذر، عن مؤلفه. وسكن البصرة عشرين سنة. وتولى للحكم ابتياع الكتب والذخائر هناك. فيقال إنه جرت على يده من النفقات هناك، من هذه الوجوه، مقدار ماية ألف وعشرين ألف دينار. وتوفي وهو قاضي بلده، سنة ثمانين، وهو ابن سبعين سنة. روى عنه أبو الوليد بن سعد، وعيسى بن علاء، والقاضي يونس، وأبو عبد الله بن باب، وغيرهم. رضي الله عنهم.
أحمد بن موسى بن أحمد بن يوسف بن موسى
ابن محمد بن حصيب يعرف بابن الإمام، من أهل تطيلة، وبيتهم بها مشهور من الجلالة والعلم، والتقدم. كنيته أبو بكر.(7/22)
قال ابن الفرضي: كان عالماً نبيهاً. سمع من عمه عمر بن يوسف، ومحمد بن شبل، وولي قضاء بلده. مولده: سنة سبع وعشرين وثلاثماية. وتوفي في صدر شعبان سنة ست وثمانين وثلاثماية.
أخوه عيسى أبو الأصبغ
سمع من عمه، وابن شبل. وبقرطبة من أبي عيسى، وطبقته. وسمع بالقيروان من أبي القاسم الصقلي، وغيره. ووليَ قضاء موضعه. وكان خيراً فاضلاً. وتوفي سنة ست وثمانين. وهو ابن سبع وخمسين سنة. رحمه الله.
عبد الله بن محمد بن أزهر بن حريز بن قيس
ابن أيوب بن جبير مولى معاوية بن هشام. استجي. أبو محمد. قال ابن الفرضي: كان صدراً فيمن يستفتى في موضعه. أديباً شاعراً بليغاً عظيم الرئاسة. سرياً كريم النفس، مداخلاً للسلاطين. متصرفاً في أمور الناس. توفي ببلده سنة تسع وسبعين رحمه الله.(7/23)
أحمد بن يوسف بن إسحاق بن ابراهيم
أبو القاسم. استجي. كان متصرفاً في الفتيا والشروط. حافظاً للخبر، والمثل. يقرض الشعر. توفي سنة اثنتين وسبعين وثلاثماية.
محمد بن عبد الله بن قاسم
استجي. أبو عبد الله. سمع من ابن لبابة، وابن خالد، وابن أيمن، ومحمد بن قاسم، وقاسم بن أصبغ، وعمران بن يوسف، وعمروس وابراهيم بن داود وغيرهم. وكان حافظاً للمسائل، عالماً بعقد الوثائق، بصيراً بالنحو، ورعاً في الفتيا. حدث عنه اسماعيل بن الطحان. وأثنى عليه. رضي الله عنهم.
عبد الله بن محمد بن القاسم بن حزم بن خلف الثغري
ويقال القلعي. أبو محمد. من أهل قلعة أيوب، من ثغر شرق الأندلس. ويعرف بالبطرنولي. وكان ولده بها الى اليوم،(7/24)
ذوي ظهور ورئاسة. الى أن تغلب عليها العدو، فيما تغلب عليه من تلك الثغور، سنة أربع عشرة وخمسماية. سمع بالثغور من ابن شبل، وابن عباس، ووهب بن مسرة، ووهب بن عيسى، وأحمد بن خالد التاجر، والأنطاكي. ورحل فدخل العراق، فسمع بها وبالبصرة: من أبي إسحاق المالكي، والدينوري، ونظائهما. وببغداد أبا بكر الأبهري، وأبا علي الصواف، وابن مالك، وأبا بكر الشافعي، وابن مقسم، وغيرهم. وفي الكوفة، من ابن دحيم، وبالشام، من أبي العقب، وبمصر من ابن الورد، وابن رشيق، وأحمد بن الحسن الرازي، وابن أبي طنة، وجماعة. وبإفريقية من ابن اللباد، وانصرف الي الأندلس، فلزم العبادة والجهاد، ووليَ قضاء بلده. ثم استعفى، فعوفي. قال ابن الفرضي: وكان فقيهاً فاضلاً، ديّناً ورعاً صليباً في الحق لا يخاف في الله لومة لائم. ما كنا نشبهه إلا بسفيان الثوري في زمانه. وأنكر على بعض أصحاب السلطان في ناحية شيئاً، فسعي به وعهد بإسكانه قرطبة، فقدمها، فحدث بها، وسمع منه خلق كثير: ابن عون الله - وسمع هو منه - ومحمد بن(7/25)
أحمد بن يحيى القاضي، وعباس الحجري. وابن الطحان، وعبد الله بن اسماعيل، وأبو عمر الطلمنكي، وابن الفرضي، وابن الشقاق، الى أن سرح الى بلده. قال ابن الفرضي: وكان ثقة مأموناً، وإليه كانت الرحلة من جميع نواحي الثغر، ونفع الله به عالماً كثيراً. قال ابن الحذّاء: وكان رجلاً صالحاً فاضلاً زاهداً منقطع القرين. وكان بطلاً شجاعاً. قال ابن الفرضي: بلغني أنه كان يقف وحده للفئة. قال ابن الحذّاء: يذكر عنه أهل جهته في هذا الباب، مقامات مشهورة، منها: أن العدو قصد بلدهم في نحو ثلاثة آلاف فارس، وكان قائد القلعة شجاعاً أيضاً. فاجتمعا فقال أبو محمد: معنا خمسماية فارس، وأنت تعدّ بخمسماية فارس، وأنا بخمسماية فارس، فقد وجب علينا لقاؤهم بنص الكتاب. فأطاعه الناس وبدروا إليهم، فظهروا عليهم وانهزم العدو، وتحكموا فيهم قتلاً وغنيمة. فحسن ظن الشيخ رحمه الله.(7/26)
وتوفي ببلده، سنة ثلاث وثمانين، وهو ابن ثلاث وستين سنة. وترك حملاً جاء بعده، وتسمى باسمه. فكان صالحاً حسن السيرة كريماً ورعاً، لم يكن له كثير علم، وليَ قضاء بلده، نحو أربعين عاماً. توفي وترك ولداً، وليَ أيضاً أحكام بلده، ولم تزل رئاسة بلدهم فيهم من القضاء والتقدم، الى وقتنا هذا. الى أن تغلب العدو عليها. وأبو محمد بن قاسم بن حزم أبو عبد الله، من أهل العلم، له رحلة لقي فيها بالقيروان ابن زياد، وابن اللباد، حدث عنه ابنه، وتوفي سنة أربع وأربعين وثلاثماية. رحمه الله.
عبد الرحمن بن عيسى بن محمد
يعرف بابن مدارج. أبو المطرف. أخذ ببلده طليطلة، عن عبد الله بن سعيد، وبقرطبة عن أحمد بن خالد، وابن أيمن، وقاسم بن أصبغ، وعثمان بن عبد(7/27)
الله. وناظر عندهم في التفقه، وأكثر من الرواية. ورحل الى المشرق فلقي حماداً، وكان مَن جمع الحديث والرأي، وحفظ وأتقن. وكان من أهل العلم والعمل به. ورعاً عالماً بمذهب مالك. حافظاً له، راسخاً في علمه، فقيه الصدر ذكياً يتكلم في كل علم ويغلب عليه الفقه. متحريّاً في روايته، شديداً على أهل الأهواء، كثير التهجد والتلاوة. وكان يتفقه عنده، وسمع منه. وله أوضاع كثيرة في غير ما فن من فنون العلم وكان فيه تلطف. مات بعض أصحابه، وترك ولداً. فأخبر عنه بسلوكه غير القوام فأمر أن يؤتى به إليه، يشاهد عنده المجلس، وحان وقت الصلاة فقدمه، فلما فرغ وخلا به، وعظه وقال له: أنظر، لا تجعل الناس يقولون أنظر من قدم عبد الرحمن يصلي به. وكان له مجلس يعظ الناس فيه، وكان يرحل إليه للرواية والتفقه. عظيم القدر، ونافذ الأمر، يذكر عنه استجابة الدعوة. وكان يأكل من عشائه المساكين، كل ليلة. حتى كان أهله يقولون له: ليس ثم مرق ما يعم كل من جاء. فيقول: ألم يكن معك الماء؟ فكثري من المرق، ليعم من جاء. وكان لا يجيب في نازلة، حتى تقع.(7/28)
وحكى أنه لقي رجلاً وقع بينه وبين زوجته شيء لزمه فيه ثلاث تطليقات. وأفتى جميع الفقهاء بطليطلة، واحدة. فجاءت زوجة الحالف لزوج ابن مدارج بحلي من حليها. وذكرت لها من قصتها، وأن زوجها تورّع وحلف أن لا يأخذ إلا بفتوى ابن مدارج، فلما دخل ابن مدارج على زوجته، أرته الحلي وذكرت له القصة. فلم يراجعها وأرسل في الحين الى دلال العقار، وأمر ببيع حظٍ له في رحى، وقبض ماله، وابتاع حلياً مثل ما سيق الى زوجته، ثم أتاها وقال لها: أيهما أفضل؟ فأشارت الى الذي جابه. فقال: هو لك، واصرفي حلي المرأة إليها. وقال بعضهم: النظر الى عبد الرحمن بن عيسى، قربة الى الله عز وجلّ. ودخل على الحكم في وفد أهل طليطلة، وكان أصغرهم. فقال الحكم: ما معنى قول الله عز وجل، يا معشر العلماء: " إن أحسنتُم أسحنتم لأنفسكم، وإن أسأتُم فلَها ". رب(7/29)
رحيم يغفر الذنوب ولا يأخذ بها. استحسنه الحكم، وسأل عنه، فأمر بعد هذا باستجلابه لقرطبة، فاستعفى من ذلك، رضي الله عنه. وتوفي رحمه الله تعالى، في جمادى الآخرة، من سنة ثلاث وستين وثلاثماية. رضي الله عنهم جميعهم.
عبد الله بن عبد الوارث بن متبتل
طليطلي. أبو الفرج. قال ابن الفرضي: كان فقيهاً حافظاً، استخلفه ابن الجزّار أيام قضائه، بطليطلة. توفي في رمضان سنة ثلاث وسبعين. قال ابن مظاهر: كان مشهوراً بالعلم والفضل، مستوفياً في الأحكام، من أهل الفقه والورع في جميع أموره. أخذ عن أبي ابراهيم، ووهب بن مسرة، ووهب بن عيسى، ومحمد بن(7/30)
عيشون، ومحمد بن وسيم، وابن جزار القروي، واسماعيل بن بدر. وكان اسمه متبتلاً. فسماه أبو ابراهيم: عبد الله. رحمه الله.
عبد الرحمن بن تمام بن مكحول
أبو المطرف. طليطلي. له رحلة سمع فيها بمكة من الجمحي، والخزاعي، وبمصر من أبي الحسن النيسابوري، وأبي علي ابن شعبان، وابن أشبه، وابن رعد، وغلب عليه حفظ الفقه. وكان فقيهاً حافظاً. قال ابن الفرضي: وكان ينسب الى قلة ورع. وحدّث. توفي في صدر سنة تسع وسبعين وثلاثماية. مولد، رحمه الله: سنة خمس عشرة، وقيل: سنة تسع وثلاثماية.(7/31)
أبو غالب تمام بن عبد الله بن تمام بن غالب المعافري
طليطلي من أهل العناية بالعلم، والرواية الواسعة، والفتيا، والتقدم والديانة والعقل. قال ابن مظاهر: كان على طريقة المتقدمين في صحة المذهب، وسلامة الظاهر، قال ابن الفرضي: سمع وهب بن عيسى ووهب بن مسرة، ورحل فسمع من ابن الأعرابي، وابن فراس، وسمع بالشام وبالقيروان من أبي عبد الله بن مسرور الغسال، وغيره. كتبت عنه بقرطبة وجماعة من أصحابنا. قال ابن مظاهر: وسمع من محمد بن عيشون، ووسيم بن سعدون، وسمع في رحلته من جماعة ذكرهم، منهم: أبو علي ابن السكن، وابن رشيق، وأبو الحسن ابن الكوفي، وحبيب ابن الربيع، ومحمد بن نافع الخزاعي، وأبو العباس ابن أبي العرب، وجلب كتباً كثيرة. وكان حسن الضبط متحرياً. روى عنه ابن أبي زمنين، وغيره، بقرطبة. وكان الحكم قد جلبه الى قرطبة، فقامت له بها سوق. وكان متواضعاً يعود المرضى، ويتعاهدهم بالطعام.(7/32)
وتوفي سنة سبع وسبعين وثلاثماية في جمادى الآخرة. مولده رضي الله عنه سنة خمس وثلاثماية. رحمهم الله أجمعين.
عبد الله بن فتح بن فرج بن معروف ابن أبي معروف التجيبي
أبو محمد. طليطلي. قال ابن الفرضي، سمع وهب بن مسرة، ووهب بن عيسى، ورحل فسمع بالمضرق من جماعة، منهم: ابن الورد والسكري، وابن أبي الموت. قال غيره: وسمع بالأندلس أيضاً من أبي بكر بن وسيم، وبالمشرق من القاضي الحصين، وابن بهزاد، وأبي الطاهر المدني. كان ممن يحفظ الرأي، مفتياً بموضعه. ومن أهل الخير والطهارة والثقة، والأحوال المحمودة والتقدم ببلده. وجلس بعد ابن مدارج بمجلسه، فلما تحلق إليه الناس مرّ به بعض المجانين فسأل عنه: فقيل: مات فلان، وهذا فلان صار مكانه. فقال خير شيء، من لا شيء. واستظرف قوله، وصار مثلاً.(7/33)
توفي منتصف شعبان، سنة ست وسبعين وثلاثماية بطليطلة. ومولده سنة اثنتين وثلاثماية. رحمه الله.
عبد الله بن محمد بن علي بن شريعة بن رفاعة
ابن محمد بن سماعة اللخمي
المعروف بالباجي. أبو محمد. كذا ضبط اسم جده: شريعة على وزن مدينة بالشين المثلثة، المفتوحة والراء المكسورة. وجدت بخط أبي عبد الله بن عتاب، أن صوابه، سريعة بسين مهملة وراء مفتوحة على وزن هبيرة والمشهور الأول. وكذا يكتبه لآله، وأهل بيته، ويعرفونه. ولكن ابن عتاب لا يحكي إلا ما سمع. وهو من أشرف أهل بلده من لخم ذؤابة، وشهرة في العلم. أنجب ولده فرأسوا بلدهم في العلم، والقضاء، الى زمننا هذا. سمع أبو محمد هذا من ابن القون، وحسن الزبيدي، وسيّد أبيه الزاهد، وابن أبي شيبة، وسمع بقرطبة ابن لبابة، وأسلم القاضي(7/34)
وابن أبي تمام، وابن خالد، وعثمان بن عبد الرحمن، وابن مسرور، ومحمد بن قاسم، وابن الأغبس، وابن أيمن، وابن أبي عبد الأعلى، وقاسم بن أصبغ، وعبد الله بن يونس وغيرهم. وسمع بالبيرة، من محمد بن فطيس كثيراً. ومن عثمان ابن حربي، قال ابن الفرضي: وكان ضابطاً لروايته، صدوقاً حافظاً للحديث، بصيراً بمعانيه، لم ألق فيمن لقيت، من شيوخ الأندلس، بعد ابن حبيب، مثل أبي محمد الباجي. قال ابن الفرضي: أبو الوليد الباجي، ثقة مشهور، راوية الأندلس. واستقدم الى قرطبة، فأقام بها يحدث. ثم انصرف الى موضعه. روى عنه الناس كثيراً، ممن سمع منه ابنه، أبو عمر، وحفيده القاضي محمد، واسماعيل بن إسحاق، وأبي بكر بن وهب وابن الفرضي، وابن الخزار الإشبيلي، والزبيدي النحوي، والأصيلي، فيمن بعدهم. ومن أهل بلدنا: أبو إسحاق ابن يربوع وأبو محمد بن غالب، في جماعة لا يحصون كثرة. وإليه كانت الرحلة في وقته بإشبيلية. وحدث نحواً من خمسين سنة وغلبت عليه الرواية والحديث.(7/35)
قال ابن مفرج: كان الباجي من أهل الرواية العالية، والبصر بالحديث، والمعرفة بالفقه، من الراسخين فيه والحافظين له، من أهل النصائح في الدين، والتواضع في الدنيا. ولا يصحب السلطان. وليَ مرة قضاء بلده، وشوراه وألحّ في الاستعفاء حتى عوفي، من القضاء. وبلغ عدد ما رواه من الدواوين مايتين وثمانين ديواناً. وأوصله ابن أبي عامر الى نفسه، وسلم عليه. وكانت فيه صحة. وقد عارضه فقال لابن أبي عامر: لي والد كان والدك، رحمه الله - وأثنى عليه خيراً - ووصفه بطلب. قال: وكان لي صديقاً، سمعت منه على الشيوخ، ولم يكن فضولياً، وأنت فلم تماثله. وأدخلت يدك في الدنيا، فانغمست في لجتها، وطلبت الفضول، وعلمت أخباراً كثيرة. وأوبقت بنفسك، والله يا مغرور، عزّ عليّ انتسابك. فاحتمل ابن أبي عامر قوله، لعلمه بسلامته. ثم قال له: يا حاجب: قال النبي صلى الله عليه وسلم، لبس على مسلم جزية. فأيش تقول أنت فيه؟ فقال ابن أبي عامر: وما عسى أن أقول في حديثه، صلى الله عليه وسلم، هو حق(7/36)
لا شيء فيه. فقال: وايش أنا عندك؟ فقال: مسلم حنيفي، بحمد الله، فقال له: فلم أغرم الجزية إذاً ورسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك بإسقاطها عني؟ فقال ابن أبي عامر: سمعاً وطاعة له. ولن تغرمها بعد. وصحكك له بجزية ضياعه. توفي رحمه الله، يوم سبع وعشرين من رمضان. وسنّه إحدى وتسعون سنة.
محمد بن عبد الله بن أبي شيبة
أبو القاسم، إشبيلي. سمع من عمه، علي. وكان من فقهاء بلده. وتوفي رحمه الله سنة أربع وتسعين.
محمد بن حسن بن عبد الله بن مذحج الزبيدي
إشبيلي. تقدم ذكر أبيه. سكن قرطبة. وتوفي بإشبيلية. يكنى بأبي بكر،(7/37)
سمع من قاسم بن أصبغ، وسعيد بن فحلون، وأحمد بن سعيد، وأبي علي البغدادي، وأكثر عنه، ولازمه. وكان متفنناً فقيهاً أديباً شاعراً. قال ابن عفيف: كان الزبيدي، مع أدبه من أهل الحفظ للفقه، والرواية للحديث. تفقه عند اللؤلؤي، وابن القوطية، وغلب عليه الأدب، وعلم لسان العرب. فنهض به. وصنّف فيه، واستأدبه الخليفة، الحكم، لابنه هشام. وولاه قضاء إشبيلية، وقلده هشام الشرطة. قال ابن الفرضي: كان واحد عصره في علم النحو، وحفظ اللغة. قال ابن حيان في هذا الباب: لم يكن له نظير في الأندلس، مع افتنان في علوم كثيرة، من فقه وحديث، وفضل واستقامة. قال القاضي أبو عمر ابن الحذّاء: لم ترَ عيني مثله في علمه، وأدبه. قال ابن عفيف: وكان ابن زرب يقدمه ويعظمه، ويزوره. قال غيره: وكان ابن أبي عامر يثق به في لقائه الخليفة هشام. حدث عنه ابنه القاضي أبو مسلم من أهل بلدنا، وأبو عمر ابن الحذّاء(7/38)
وألف كتاب الواضح في النحو. وكتاب الأبنية. وكتاب لحن العامة. وكتاب مختصر العين، وزيادة كتاب العين. وكتاب غلط صاحب العين، وغير ذلك من تأليفه. وله كتاب في الردّ على محمد بن مسرة. رحمه الله.
ملح من أخباره
ذكر ابن عفيف، أن ابن زرب القاضي، وقف يوماً بالزبيدي، فلما علم به، خرج إليه مكشوف الرأس، بيده مدية. فلما كان في بيته، سارع لقضاء حقه - كما جاءه الى محله - فوقف قائماً وقضى حقه. فأنكر ابن زرب خروجه على تلك الهيئة وقيامه. وسأله الجلوس. فأبى وأنشد:
أقوم وما بي أن أقوم مذلة ... عليّ وإني للكرام مبجل
على أن لي منها لغيري مجنة ... ولكنها بيني وبينك تجمل
وأنشد ابن أبي وافد له في منجّم:
يقول المنجم لي لا تسر فإ ... نك إن سرت لاقيت ضرا
فإن كان يعلم أني أسير ... فقد جاء بالنهي لغواً وهجرا
وإن كان يجهل سيري فكيف ... يراني إذا سرت لاقيت شرا(7/39)
وأنشد له في كتاب ابن مفرج:
أقابل بالرفق عنف العنيف ... وأقنع من صاحبي بالطفيف
ويكرمني برّ غير الشريف ... فانسخ ذاك ببرّ الشريف
وفاته رضي الله عنه
توفي الزبيدي، رحمه الله بإشبيلية. وهو على قضائها في جمادى، سنة تسع وسبعين وثلاثماية. ووليَ بعد وفاته القضاء مكانه: ابنه أبو القاسم أحمد. وسلك مسلك أبيه في مداخلة الخليفة هشام، فاتهمه ابن أبي عامر، وسيره الى العدوة. فقتله اللصوص في بعض انتقالاته، وابنه الآخر: أبو الوليد محمد. روى عن أبيه، حدث عنه القاضي ابن وردون وغيره.
يحيى بن شراحيل
بلنسي. أبو زكريا. قال ابن الفرضي: كان حافظاً لمذهب مالك، عاقداً للشروط، ولم تُشهر له رواية. وكان موصوفاً بالعلم، معدوداً في أهله. وله كتاب في توجيه حديث الموطأ. توفي سنة اثنتين وسبعين وثلاثماية.(7/40)
مفضل بن عياش بن سليمان بن أيوب الخولاني
مولاهم، جياني. يعرف بابن الطويل. كان حافظاً للمذهب، صاحب شروط من أهل العفاف، والخير والثقة. سمع حميداً وأبا صالح، وغيرهما. وكن مفتياً. ولحقته مطالبة ببلده. فخرج الى الثغور، فرابط بها. الى أن مات، سنة ستين وثلاثماية.
إدريس بن عبيد الله بن ادريس بن عبيد الله، بن يحيى بن عبد الله
ابن خالد بن عبد الله بن الحسين بن جعد بن أسلم مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه قرطبي. كنيته: أبو يحيى. سمع أباه، وغيره. وكان حافظاً فقيهاً مشاوراً، ولي أحكام الشرطة. وكان زاهداً، ورعاً متقشفاً، متواضعاً، لم تغيره الدنيا. توفي آخر سنة ثلاث وسبعين وثلاثماية.(7/41)
عيسى بن العلاء
أبو الأصبغ. تدميري، عني بالعلم، وسمع من ابن العابد، وغيره. ورحل الى المشرق، وكان موصوفاً بالفقه، مستفتى بموضعه، توفي سنة إحدى وتسعين وثلاثماية. رحمه الله تعالى.
محمد بن عيسى بن حسين بن أبي السعد
ابن سيد الدارين يوسف التميمي أصله من تاهرت. وخرج جده الى فاس، ومولده سة ثمان وعشرين وأربعماية، فيما أخبر به، رحمه الله. كملت الطبقة، بحمد الله تعالى.
طبقة سابعة
بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وسلم. قال القاضي أبو الفضل عياض رضي الله عنه: ثم انتهى المذهب بعد هذه الطبقة الى أخرى تليها:
من أهل الحجاز(7/42)
أبو القاسم سليمان بن علي بن سليمان الجبلي
بجيم وباء واحدة، مفتوحتين، كذا قيده الأمير، وعبد الغني. قال الأمير: هو من جبلة الحجاز وكان مقيماً بمكة، رأس الثلاثماية. وكان فقيهاً مالكياً. حدث عن أبي بكر ابن عبد المؤمن، وأبي إسحاق الدينوري، روى عنه الناس. حدث عنه مكي. وأبو بكر بن عقال، وأبو القاسم ابن عيشون، وأحمد بن جمهور الرشياني، وغيرهم. قال مكي: سألته عن التزامه لمذهب مالك، رضي الله عنه، ما السبب فيه. فقال لي: أبو الفرج المالكي رحمه الله. كان نازلاً بمكة. ذكره القابسي. قال: وكان من أهل العلم، ورآني أرفع يدي، عند افتتاح الصلاة قائمتين وأحني(7/43)
أصابعي. قال: وكذلك كان يفعل أبو عمران الفاسي.
من أهل العراق والمشرق
وأكثرهم من أصحاب أبي بكر الأبهري، رحمه الله
أبو بكر بن محمد بن الطيب بن محمد القاضي
المعروف بابن الباقلاني. الملقب بشيخ السنة، ولسان الأمة، المتكلم على مذهب المثبتة، وأهل الحديث، وطريقة أبي الحسن الأشعري خرّج له ابن أبي الفوارس. قال الخطيب أبو بكر في تاريخ البغداديين: درس على أبي بكر ابن مجاهد الأصول، وعلى أبي بكر الأبهري الفقه.(7/44)
قال أبو بكر: وكان ثقة. حدثنا عنه السمناني، قال: وكان أبو الحسن بن جهضم الهمداني، وذكره في كتابه، فقال: كان شيخ وقته، وعالم عصره، الرجوع إليه فيما أشكل على غيره. قال غيره: وإليه انتهت رئاسة المالكيين في وقته. وكان حسن الفقه، عظيم الجدل، وكانت له بجامع المنصور ببغداد حلقة عظيمة. وكان ينزل الكرخ. ذكر أبو عبد الله بن سعدون الفقيه، أن سائر الفرق رضيت بالقاضي أبي بكر في الحكم بين المتناظرين. قال ابن عمار الميورقي: كان ابن الطيب مالكياً، فاضلاً متورعاً، ممن لم تحفظ له قط زلة. ولا نسبت إليه نقيصة. وكان يلقب بشيخ السنة. ولسان الأمة، وكان فارس هذا العلم مباركاً على هذه الأمة. قال: وكان حصناً من حصون المسلمين، وما سرّ أهل البدع بشيء كسرورهم بموته. وليَ القضاء بالثغر. وذكره أبو عمران الفاسي فقال: سيف أهل السنة في زمانه، وإمام متكلمي أهل الحق في وقتنا.(7/45)
قال القاضي أبو الوليد: كان أبو بكر مالكياً، وحدث عن أبي ذر الهروي. قال: كان سبب أخذي عن القاضي أبي بكر، ومعرفتي بقدره، أني كنت مرة ماشياً ببغداد، مع أبي الحسن الدارقطني، إذ لقيت شاباً فأقبل الشيخ أبو الحسن عليه، وعظمه، ودعا له. فقلت للشيخ: من هذا الذي تصنع به هذا؟ فقال لي: هذا أبو بكر ابن الطيب، نصر السنّة، وقمع المعتزلة. وأثنى علي. قال أبو ذر: فاختلفت إليه، وأخذت عنه من يومئذ. وأخذ عنه جماعة لا تعد، ودرسوا عليه أصول الفقه والدين. وخرج منهم من الأئمة أبو محمد عبد الوهاب بن نصر المالكي، وعلي بن محمد الحربي، وأبو جعفر السماني، وأبو عبد الله الأدري وأبو الطاهر الواعظ، رحمهم الله. ومن أهل المغرب: أبو عمر بن سعد، وأبو عمران الفاسي. رحل إليه، وأخذ عنه. قال أبو عمران: رحلت الى بغداد وكنت قد تفقهت(7/46)
بالمغرب، والأندلس عند أبي الحسن القابسي، وأبي محمد الأصيلي، وكانا عالمين بالأصول. فلما حضرت مجلس القاضي أبي بكر ورأيت كلامه في الأصول والفقه، والمؤالف والمخالف، حقرت نفسي وقلت: لا أعلم من العلم شيئاً. ورجعت عنده كالمبتدئ. وتفقه عنده القاضي أبو محمد بن نصر، وعلق عنه، وحكى في كتبه ما شاهد من مناظرته في الفقه بين يدي ولي العهد ببغداد، للمتخالفين. قال أبو بكر الخطيب: كان أعرف الناس بعلم الكلام، وأحسنهم فيه خاطراً، وأجودهم لساناً، وأوضهم بياناً، وأصحهم عبارة. وحكى أن أبا بكر الخوارزمي كان يقول: كل مصنف ببغداد إنما ينقل من كتب الناس، إلا القاضي أبا بكر فإن صدره يحوي علمه، وعلم الناس. وقال علي بن محمد الحربي: كان القاضي أبو بكر يهم بأن يختصر ما يصنعه، فلا يقدر لسعة علمه وحفظه. وما صنف أحد كلاماً إلا احتاج أن يطالع كتب المخالفين، غير أبي بكر فإن جميع ما يذكر من حفظه. وكان أبو محمد(7/47)
الشافعي يقول: لو أوصى رجل بثلث ماله لأفصح الناس، لوجب أن يدفع الى أبي بكر الأشعري. وكان بعضهم يقول: جاء في الأثر أن الله تعالى، كان يتعاهد عباده بأنبيائه ورسله، فلما ختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم، تعاهد أمته في رأس كل مائة عام برباني من علمائها، يحيي لها دينها، ويجدد شريعتها، فكان إمام رأس أربعماية: أبو بكر بن الطيب رحمه الله تعالى.
ذكر فضله وسيرته ووفاته
قال أبو عبد الله الصيرفي: كان صلاح القاضي أكثر من علمه، وما نفع الله هذه الأمة بكتبه، وبثها فيهم، إلا بحسن نيته واحتسابه بذلك. قال: وكان يدر نهاره، وأكثر ليله. وذكر من فضله كثيراً. وحكى أبو بكر الخطيب: كان ورد القاضي كل ليلة عشرين ترويحة، ما ترك ذلك في حضر ولا سفر، وكان كل ليلة إذا صلى العشاء وقضى ورده، وضع الدواة بين يديه، وكتب خمساً وثلاثين ورقة تصنيفاً من حفظه. وكان يذكر أن الكتابة بالمداد، أسهل عليه من الكتابة بالحبر. فإذا صلى الفجر، دفع الى بعض أصحابه ما صنفه ي ليلته، وأمره بقراءته عليه. وأملى عليه الزيادات فيه.(7/48)
قال القاضي أبو عبيد الله البيضاوي: رأيت في المنام: كأني دخلت مسجدي الذي أدرس فيه، فرأيت رجلاً جالساً في المحراب، وآخر يقرأ عليه. فقيل لي أما الجالس في المحراب، فرسول الله، صلى الله عليه وسلم. وأما القارئ: فأبو بكر الأشعري، يدرس عليه الشريعة. قال الميورقي: حسبت تواليف القاضي، وإملاءاته، فسمت على أيام عمره، من مولده الى موته. فوجد أنه يقع لكل يوم منه عشرون. قلت: أو نحوها. وتوفي القاضي أبو بكر يوم الست، لتسع بقين من ذي القعدة، سنة ثلاث وأربعماية، فيما حكاه الخطيب، ووجدت عن غيره: سنة أربع. أيام بهاء الدولة، والخليفة القادر بالله. وهذا خطأ. والأول هو الصحيح. وقد أثبت أبو عمران الفاسي سماعه منه إملاء، في رمضان من سنة اثنتين. قال: وصلى عليه ابنه الحسن. قال غيره: وكان الحسن مرجواً فاخترمته المنية، بعد أبيه. قال الخطيب: ودفن القاضي أبو بكر في داره، ثم نقل الى مقبرة باب حرب. وأنشد بعضهم يرثيه:
أنظر الى جبل تمشي الرجال به ... وانظر الى القبر ما يحوي من الصلف
وانظر الى صارم الإسلام منغمداً ... وانظر الى درة الإسلام في الصدف(7/49)
قال: وحدثني أبو الفضل، عبد الله بن علي المقرئ: سرت أنا وأبو علي بن شاذان، وأبو القاسم عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي، الى قبر القاضي أبي بكر بعد موته بشهر، لنترحّم عليه. فرفعت مصحفاً كان على القبر وقلت: اللهم بيّن لي في هذا المصحف حال أبي بكر وما صار إليه. ثم فتحت المصحف، فإذا فيه: " يا قومِ أرأيتم إن كُنتُ على بيّنةٍ من ربّي وأتاني رحمةً من عنده " الآية.
ما اشتهر من مناظرته مع الفرق وأخباره في ذلك
قال الخطيب: حُدّثنا أن ابن المعلم شيخ الرافضة ومتكلمها، حضر بعض مجالس النظر مع أصحاب له. إذ أقبل القاضي أبو بكر الأشعري، فالتفت ابن المعلم الى أصحابه، فقال لهم: جاءكم الشيطان. فسمع القاضي الكلام، وكان في بعد من القوم، فلما جلس أقبل على ابن المعلم وأصحابه وقال لهم: قال الله عز وجلّ: " إنّا أرسلنا الشّياطين على الكافرين تؤزّهُم أزّاً ". وحكى غيره أن الحكاية جرت له مع أهل مجلس(7/50)
فناخسرو الملك، من شيوخ المعتزلة، وأنه كان داخلاً، إذ سمعهم يذكرون أمره، فقال لهم بعضهم ما هو إلا شيطان. فوصل إليهم وهو يتلو الآية. وسمعت بعض الشيوخ يحكي، أن ابن المعلم تكلم معه يوماً، فلما احتدّ الكلام بينهما رماه ابن المعلم بكفّ باقلاء أعده له - يعرّض له بما ينسب إليه ليخجله بذلك ويحصره - فرد القاضي للحين يده الى محمد ورماه بدرّة أعدّها له. فعجب من فطنته، وإعداده للأمور أشباهها، قبل وفاته.
مناظرته المشهورة في مجلس عضد الدولة
قال أبو عبد الله الأزدي، وغيره: كان الملك عضد الدول فناخسرو بن بويه الديلمي، يحب العلم والعلماء. وكان مجلسه يحتوي منهم على عدد عظيم في كل فن، وأكثرهم الفقهاء والمتكلمون. وكان يعقد لهم للمناظرة مجالس. وكان قاضي قضاته بشر بن الحسين، معتزلياً. فقال له عضد الدولة، يوماً: هذا المجلس عامر بالعلماء إلا أني لا أرى فيه عاقداً من أهل الإثبات - يعني مذهبهم - والحديث يناظر فقال له قاضيه: إنما هم عامة، أصحاب تقليد ورواية، يروون الخبر وضده، ويعتقدونهما جميعاً. ولا أعرف منهم أحداً يقوم بهذا الأمر. وإنما أراد ذمّ القوم، ثم أقبل(7/51)
يمدح المعتزلة. فقال له عضد الدولة: محال أن يخلو مذهب طبق الأرض من ناصرٍ، فانتظر أي موضع فيه مناظر، يكتب فيه فيجلب. فلما عزم عليه. قال القاضي: أخبروني أن بالبصرة شيخاً، وشاباً، الشيخ يعرف بأبي الحسن الباهلي. - وفي رواية بأبي بكر بن مجاهد - والشاب يعرف بابن الباقلاني. فكتب الملك من حضرته يومئذ يشير الى عامل البصرة، ليبعثهما. وأطلق مالاً لنفقتهما من طيب ماله. فلما وصل الكتاب إليهما، قال الشيخ وبعض أصحابه: هؤلاء قوم كفرة فسقة - لأن الديلم كانوا روافض - لا يحل لنا أن نطأ بساطهم، وليس غرض الملك من هذا إلا أن يقال إن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم، ولو كان خالصاً لله، لنهضت. قال القاضي: فقلت له: هكذا قال ابن كلاب والمحاسبي، ومن في عصرهم، إن المأمون فاسق، لا نحضر مجلسه، حتى سيق أحمد بن حنبل الى ظرسوس، وجرى عليه بعده ما عرف. ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر، وتبين لهم ما هم عليه بالحجة، وأنت أيضاً أيها الشيخ تسلك سبيلهم حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد، ويقولوا بخلق القرآن، ونفي الرواية؟ وها أنا خارج إن لم تخرج. فقال الشيخ:(7/52)
أما إذا شرح الله صدرك لهذا، فاخرج. فخرجت مع الرسول، نحو شيراز في البحر، فوصلت، فسألت عن صفة الدخول عليهم، فأخبرت أنه إذا كان يوم الجمعة، لم يحجب عنه كل صاحب طيلسان. لأن له فيه مناظرة، وفي رواية: فلما كان من الغد دخلت على الملك، وكان إذا صلى الظهر، وقعد العلماء، رفع الحجاب ودخل كل صاحب طيلسان. فدخلت والناس قد اجتمعوا، والملك قاعد على سرير، وبين يديه غلمان بأيديهم السيوف المحلاة. وعن يمينه ويساره مراتب. وما عن يمينه خال لا يقعد هناك إلا وزير، أو ملك عظيم. فكرهت أن أقعد آخر الناس، للذلة. فمضيت وقعدت عن يمينه بحذاء قاضي القضاة، عن يساره، فنظر الملك لقاضي القضاة، نظراً منكراً. ولم يكن في المجلس من يعرفني إلا واحد، وقد فزعوا لفعلي. فقال الرجل للقاضي: هذا الرجل الذي طلبه الملك من البصرة. فأعلم الملك بذلك، والتفت إليّ وأومأ بعينه الى الحجاب، فطاروا عني. ثم أقبل فقال: هاتوا مسألة. وفي المجلس رئيس المعتزلة البغداديين الأحدب، وكان أفصح من عندهم، وأعلمهم. وعدد كثير من معتزلة البصرة، أقدمهم(7/53)
أبو إسحاق النصيبيني. فقال الأحدب لبعض تلاميذه: سله، هل لله أن يكلف الخلق ما لا يطيقون؟ كان غرضه تقبيح صورتنا عن الملك. قال: فقلت إن أردتم بالتكليف، القول المجرد، فقد وجد ذلك إن شء الله تعالى، قال: " قُل كونوا حجارةً أو حديداً " الآية. ونحن لا نقدر أن نكون كذلك. وقال تعالى: " أنبِئوني بأسماءِ هؤلاء " الآيتان. فطالبهم بما لا يعلمون. وقال تعالى: " يومَ يُدعَون الى السّجود " الآية. فهذا كله أمر بما لا يقدر الخلق عليه. وإن أردتم بالتكليف، الذي نعرفه، وهو ما يصح فعله وتركه، فالكلام متناقض، وسؤالك فاسد، فلا تستحق جواباً، لأنك قلت تكليف، والتكليف اقتضاء فعل ما، فيه مشقة على المكلف. وما لا يطاق لا يفعل بمشقة، ولا بغير مشقة. فسكت السائل،(7/54)
وأخذ في الكلام الأحدب فقال: أيها الرجل، سئلت عن كلام مفهوم، فطرحته في الاحتمالات، وليس ذلك بجواب. وجوابه إذا سئلت أن تقول: نعم، أو لا. قال القاضي: فأحفظني كلامه، لما لم يوقرني، توقير الشيوخ. وقلت له: يا هذا، أنت عائم ورجلاك في الماء. إنما طرحت السؤال في الاحتمالات، وقد بينت لك الوجوه المحتملة. فإن كان معك في المسألة كلام، فهاته، وإلا تكلم في غيرها. فأعاد الكلام الأول. فقال الملك: هذا الشيخ، قد بيّن وجوه الاحتمال، وليس لك أن تعيب عليه، ولا أن تغالطه، وما جمعتكم إلا لفائدة، لا للمهاترة ولما لما لا يليق بالعلماء. ثم
التفت الملك الى القاضي، وقال له: تكلم على المسألة. فقال القاضي: ما لا يطاق، على ضربين. أحدهما، لا يطاق للعجز عنه، والآخر لا يطاق للاشتغال عنه بضده. كما يقال: فلان لا يطيق التصرف لاشتغاله بالكتابة. وهذا سبيل الكافر، أنه لا يطيق الإيمان، لاشتغاله بالكفر، وهو ضده. وأما العاجز فما ورد في الشريعة تكليفه، ولو ورد لكان جائزاً. وقد أثنى الله تعالى على من سأله ألا يكلفه ما لا يطيق. فقال عز وجلّ: " ولا تحمّلنا ما لا طاقةَ لنا به ". لأن الله تعالى، له أن يفعل في ملكه ما يريد. ثم تجاوز الأحدب الكلام الى غيره. وتكلم معه القاضي. ومال الملك الى قوله. ثم التفت الملك فقال: سلوا أبا إسحاق النصيبيني، عن مسألة الرؤية. فأنكر رؤية الله تعالى في الآخرة. وسئل ما حجته؟ فقال: كل شيء يرى بالعين فيجب أن يكون في مقابلة عين الرائي، فالتفت الملك الى القاضي أبي بكر، فقال القاضي أبو بكر: لا يرى بالعين. فعجب الملك من قوله، وقال قاضي القضاة: فإذا لم يرَ بالعين، فبماذا يرى؟ فقال القاضي: يرى بالإدراك الذي يحدثه الله تعالى في العين، وهو البصر، ولو كان الشيء يرى بالعين لكان يجب أن ترى كل عين قائمة، وقد علمنا أن الأجهر عينه قائمة ولا يرى شيئاً. فقال النصيبيني: لم أعلم أنه يقول هذا، وظننت أنه يسلّم قولي. وجرى له في هذا المجلس كلام كثير، أعجب به الملك. ولم يزل يحلو له كلامه، ويزحف عن سريره، حتى نزل عنه. وحصل بين يديه. ثم أقبل الملك على قاضي القضاة، فقال له: ألم أقل لك مذهب طبق الأرض، لابد له من ناصر؟ قال القاضي: فلما انقضى المجلس، صحبني بعض الحجّاب الى منزل هيأ لي فيه، جميع ما نحتاج إليه، فسكنته. ولم يزل مع الملك الى أن قدم بغداد، ودفع إليه الملك ابنه، يعلمه مذهب أهل السنة. وألّف له التمهيد. وأخذ عنه إذ ذاك، أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي، وجماعة من أهل السنّة، بشيراز. وقرأوا عليه شرح اللمع، قال، وقال الملك لقاضيه: فكرت بأي قتلة أقتله، بجلوسه حيث جلس بغير أمري. وأما الآن، فقد علمت أنه أحق بمكاني مني. وحكى القاضي أبو الوليد الباجي عن أبي ذر الهروي، قال: أول معرفتي بالقاضي أبي بكر، وأخذي عنه، أني كنت ماشياً مع الشيخ أبي الحسن الدارقطني، في بعض أزقة بغداد، إذ لقي شاباً فسلم عليه، واحتفل به. ورأيت من تعظيم الشيخ أبي الحسن له، وإقباله عليه ودعائه له ونحو هذا، ما عجبت منه. فقلت له: من هذا؟ فقال لي: هذا أبو بكر ابن الطيب، الذي نصر الله به أهل السنّة. وقمع به أهل البدعة. أو كما قال. الملك الى القاضي، وقال له: تكلم على المسألة. فقال القاضي: ما لا يطاق، على ضربين. أحدهما، لا يطاق للعجز عنه، والآخر لا يطاق للاشتغال عنه بضده. كما يقال: فلان لا يطيق التصرف لاشتغاله بالكتابة. وهذا سبيل الكافر، أنه لا يطيق الإيمان، لاشتغاله بالكفر، وهو ضده. وأما العاجز فما ورد في الشريعة تكليفه، ولو ورد لكان جائزاً. وقد أثنى الله تعالى على من سأله ألا يكلفه ما لا يطيق. فقال عز وجلّ: " ولا تحمّلنا ما لا طاقةَ لنا به ". لأن الله(7/55)
تعالى، له أن يفعل في ملكه ما يريد. ثم تجاوز الأحدب الكلام الى غيره. وتكلم معه القاضي. ومال الملك الى قوله. ثم التفت الملك فقال: سلوا أبا إسحاق النصيبيني، عن مسألة الرؤية. فأنكر رؤية الله تعالى في الآخرة. وسئل ما حجته؟ فقال: كل شيء يرى بالعين فيجب أن يكون في مقابلة عين الرائي، فالتفت الملك الى القاضي أبي بكر، فقال القاضي أبو بكر: لا يرى بالعين. فعجب الملك من قوله، وقال قاضي القضاة: فإذا لم يرَ بالعين، فبماذا يرى؟ فقال القاضي: يرى بالإدراك الذي يحدثه الله تعالى في العين، وهو البصر، ولو كان الشيء يرى بالعين لكان يجب أن ترى كل عين قائمة، وقد علمنا أن الأجهر عينه قائمة ولا يرى شيئاً. فقال النصيبيني: لم أعلم أنه يقول هذا، وظننت أنه يسلّم قولي. وجرى له في هذا المجلس كلام كثير، أعجب به الملك. ولم يزل يحلو له كلامه، ويزحف عن سريره، حتى نزل عنه. وحصل بين يديه. ثم أقبل الملك على قاضي القضاة، فقال له: ألم أقل لك مذهب طبق الأرض، لابد له من ناصر؟ قال القاضي: فلما انقضى المجلس، صحبني بعض الحجّاب الى منزل هيأ لي فيه، جميع ما نحتاج إليه،(7/56)
فسكنته. ولم يزل مع الملك الى أن قدم بغداد، ودفع إليه الملك ابنه، يعلمه مذهب أهل السنة. وألّف له التمهيد. وأخذ عنه إذ ذاك، أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي، وجماعة من أهل السنّة، بشيراز. وقرأوا عليه شرح اللمع، قال، وقال الملك لقاضيه: فكرت بأي قتلة أقتله، بجلوسه حيث جلس بغير أمري. وأما الآن، فقد علمت أنه أحق بمكاني مني. وحكى القاضي أبو الوليد الباجي عن أبي ذر الهروي، قال: أول معرفتي بالقاضي أبي بكر، وأخذي عنه، أني كنت ماشياً مع الشيخ أبي الحسن الدارقطني، في بعض أزقة بغداد، إذ لقي شاباً فسلم عليه، واحتفل به. ورأيت من تعظيم الشيخ أبي الحسن له، وإقباله عليه ودعائه له ونحو هذا، ما عجبت منه. فقلت له: من هذا؟ فقال لي: هذا أبو بكر ابن الطيب، الذي نصر الله به أهل السنّة. وقمع به أهل البدعة. أو كما قال.
مناظرته في مجلس ملك الروم وأخباره معه
وجه عضد الدولة في بعض سفراته، الى ملك الروم الأعظم، القاضي أبا بكر ابن الطيب، واختصه بذلك، ليظهر رفعة الإسلام،(7/57)
ويغض من النصرانية. فلما تهيأ للخروج، قال للقاضي، وزير عضد الدولة: الطالع خروجاً؟ فسأله القاضي أبو بكر. فلما فسر مراده، قال: لا أقول بهذا. لأن السعد والنحس كله، والشر والخير كله، بيد الله عز وجلّ. ليس للكواكب هاهنا مثقال ذرة من القدرة. وإنما وضعت كتب المنجمين ليتمعش بها الجاهلون، بين العامة. ولا حقيقة لها. فقال الوزير: احضروا لي ابن الصدفي، ليست المناظرة من شأني. ولا أنا قائم بها، وإنما أنا أحفظ علم النجوم، وأقول إذا كان من النجوم كذا كان كذا. وأما تعليله، فهو من علم المنطق. فأحضر وأم بمكالمة القاضي، فقال له أبو سليمان: هذا القاضي يقول: إن الباري سبحانه، قادر على أن يركب عشرة أنفس في ذلك المركب الذي في دجلة، فإذا وصلوا الى الجانب الآخر يكون الله قد زاد فيهم آخر فيكونون أحد عشر. ويكون الحادي عشر(7/58)
من خلقه الله في ذلك الوقت. ولو قلت أنا لا يقدر على ذلك أو هذا محال، قطعوا لساني وقتلوني، وإن أحسنوا إليّ كتفوني، ورموني في الدجلة. وإذا كان الأمر كما ذكرت لم يكن لمناظرتي معه معنى. فالتفت الوزير الى القاضي وقال: ما تقول أيها القاضي؟ فقلت: ليس كلامنا هاهنا في قدرة الباري تعالى، والباري تعالى قادر على كل شيء. وإن جحده هذا الجاهل، وإنما كلامنا في تأثيرات هذه الكوامب، فانتقل الى ما ذكر لعجزه وقلة معرفته، وإلا فأي تعلق للكلام في قدرة الباري، عز وجلّ، في مسألتنا؟ وأنا وإن قلت إن القديم تعالى قادر على ذلم، ما أقول إنه يخرق العادة، وبفعل هذا. لأنه لا يجوز عندنا أن يخلق اليوم إنساناً من غير أبوين، فإذا كان كذلك فقد علم الوزير أن هذا فرار من الزحف. فقال هو كما ذكرت. فقال المنطيقي: المناظرات دربة وتجربة، وأنا لا أعرف مناظرات هؤلاء القوم، وهم لا يعرفون مواضعتنا وعبارتنا، ولا تجمل المناظرة بين قم هذا حالهم. فقال له الوزير: قبلنا اعتذارك والحق أبلج. قال القاضي: ومال إليّ بوجهه، وقال: سر(7/59)
في دعة الله. فخرجت. فدخلنا بلاد الروم، حتى وصلت الى ملك الروم بالقسطنطينية، وأخبر الملك بقدومنا. فأرسل إلينا من تلقانا، وقال: لا تدخلوا على الملك بعمائمكم، حتى تنزعوها. إلا أن تكون مناديل لطاف، وحتى تنزعوا أخفافكم. فقلت: لا أفعل، ولا أدخل، إلا بما أنا عليه من الزي، واللباس. فإن رضيتم، وإلا فخذوا الكتب تقرأونها، وأرسلوا بجوابها وأعود به. فأخبر بذلك المل، فقال: أريد معرفة سبب هذا وامتناعه عما مضى عليه رسمي مع الرسل. فسئل القاضي عن ذلك. فقال: أنا رجل من علماء المسلمين، وما تحبونه ما ذلّ وصغار، والله تعالى قد رفعنا بالإسلام وأعزّنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وأيضاً فإن من شأن الملوك، إذا بعثوا رسلهم الى ملك آخر، رفع أقدارهم، لا إذلالهم. سيما إذا كان الرسول من أهل العلم. ووضع قدره انهدام جانبه، عند الله تعالى، وعند المسلمين. فعرّف الترجمان الملك بذلك، فقال: دعوه يدخل ومن معه كما يشاؤون.(7/60)
ندخل بها على سلطاننا الأكرم، الذي هو تحت يد أمير المؤمنين، وأدخل بها على سلطاننا الأكرم الذي أمرنا الله تعالى ورسوله، بطاعته. فما تنكرون عليّ هذا، وأنا رجل من علماء المسلمين؟ فإن دخلت بغير هيئتي ورجعت الى حكمك، أهنت العلم ونفسي، وذهب عند المسلمين جاهي. فقال للترجمان: قل له قد قبلنا عذرك، ورفعنا منزلتك، وليس محلك عندنا محل سائر الرسل، وإنما محلك عندنا محل الأبرار الأخيار، وقد أخبرنا صاحبكم في كتبه: إنك لسان المسلمين والمناظر عنهم، وأنا أشتهي أن أعرف ذلك وأسمعه منك، كما ذكروه عنك. قلت: إذا أذن الملك، فقال: أنزلوا حيث أعددت لكم، ويكون بعد هذا الاجتمال. قال القاضي: فنهضنا الى موضع أُعدّ لنا، وذكر أبو بكر البغدادي الحافظ: أن القاضي، لما وصل الى مدينة الطاغية، وعرّف به وبمحله من العلم، أفكر الطاغية في أمره، وعلم أنه لا يكفر له إذا دخل عليه - كما جرى رسم الرعية أن يقبل الأرض بين يدي ملوكها -(7/61)
فرأى أن يضع سريره، وراء باب لطيف، لا يمكن أن يدخل أحد منه إلا راكعاً، ليدخل القاضي من ذلك الباب. فلما رآه القاضي، تفكّر وأدار رأسه، وحنى رأسه راكعاً، ودخل من الباب يمشي مستقبلاً الملك بدبره، حتى صار بين
يديه. ثم رفع رأسه، ونصب ظهره. ثم أدار وجهه الى الملك حينئذ، فعجب من فطنته، ووقعت له الهيبة في قلبه. قال غيره: قال القاضي: فلما كان يوم الأحد، بعث الملك في طلبي، وقال: من شأن الرسول حضور مائدة الملك. فنحب أن تجيب الى طعامنا ولا تنقض كل رسومنا. فقلت لرسوله: أنا من علماء المسلمين، ولست كالرسل من الجند وغيرهم، الذين لا يعرفون ما يجب عليهم في هذا الموطن. والملك يعلم أن العلماء لا يقدرون أن يدخلوا هذه الأشياء، وهم يعلمون، وأخشى أن يكون على مائدته من لحوم الخنازير، وما حرمه الله تعالى على رسوله، وعلى المسلمين؟ فذهب الترجمان، وعاد إليّ وقال: يقول لك الملك: ليس على مائدتي، ولا في طعامي شيء تكرهه. وقد استحسنت ما أتيت به، وما أنت عندنا كسائر الرسل، بل أعظم، وما كرهت من لحوم الخنزير، إنما هو خارج من حضرتي بيني وبينه حجاب. فنهضت على كل حال. وجلست وقدّم الطعام، ومددت يدي وأوهمت الأكل، ولم آكل منه شيئاً مع أني لم أرَ على مائدته ما يكره. فلما فرغ من الطعام، بخّر المجلس وعطّره، ثم قال: هذا الذي تدعونه في معجزات نبيّكم من انشقاق القمر، كيف هو عندكم؟ قلت: هو صحيح عندنا، وانشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رأى الناس ذلك. وإنما رآه الحضور، ومن اتفق نظره إليه في تلك الحال. فقال الملك: وكيف لم يره جميع الناس؟ قلت: لأن الناس لم يكونوا على أهبة ووعد لشقوقه وحضوره. فقال: وهذا القمر بينكم وبينه نسبة وقرابة؟ لأي شيء لم تعرفه الروم وغيرها من سائر الناس، وإنما رأيتموه أنتم خاصة؟ قلت: فهذه المائدة بينكم وبينها نسبة؟ وأنتم رأيتموها دون اليهود، والمجوس والبراهمة، وأهل الإلحاد، وخاصة يونان جيرانكم، فإنهم كلهم منكرون لهذا الشأن، وأنتم رأيتموها دون غيركم. فتحيّر الملك وقال بكلامه: سبحان الله، وأمر بإحضار فلان القسيس ليكلمني. وقال: نحن لا نطيقه. لأن صاحبه قال: ما في مملكتي مثله، ولا للمسلمين في عصره مثله. فلم أشعر إذ جاؤوا برجل كالذئب أشقر الشعر مسبله، فقعد، وحكيت له المسألة فقال: الذي قاله المسلم لازم، هو الحق لا أعرف له جواباً إلا ما ذكره. فقلت له: أتقول إن الكسوف إذا كان، يراه جميع أهل الأرض أم يراه أهل الإقليم الذي بمحاذاته؟ قال: لا يراه إلا من كان في محاذاته. قلت: فما أنكرت من انشقاق القمر، إذا كان في ناحية لا يراه إلا أهل تلك الناحية، ومن تأهب للنظر له؟ فأما من أعرض عنه، وكان في الأمكنة التي لا يرى القمر منها فلا يراه. فقال: هو كما قلت. ما يدفعك عنه دافع. وإنما الكلام في الرواة الذين نقلوه. وأما الطعن في غير هذا الوجه، فليس بصحيح. فقال الملك: وكيف يطعن في النقلة؟ فقال النصراني: شبه هذا من الآيات، إذا صح، وجب أن ينقله الجم الغفير، الى الجم الغفير، حتى يتصل بنا العلم الضروري به، ولو كان كذلك، لوقع إلينا العلم الضروري به. فلما لم يقع لنا العلم الضروري به، دلّ أن الخبر مفتعل باطل. فالتفت الملك إليّ وقال: الجواب. قلت: يلزمه في نزول المائدة، ما يلزمني في انشقاق القمر، ويقال له لو كان نزول المائدة صحيحاً، لوجب أن ينقله العدد الكثير، فلا يبقى يهودي ولا نصراني ولا ثنوي إلا ويعلم هذا بالضرورة. ولما لم يعلموا ذلك بالضرورة، دلّ أن الخبر كذب. فبهت النصراني والملك، ومن ضمه المجلس. وانفض المجلس على هذا. يديه. ثم رفع رأسه، ونصب ظهره. ثم أدار وجهه الى الملك حينئذ، فعجب من فطنته، ووقعت له الهيبة في قلبه. قال غيره: قال القاضي: فلما كان يوم الأحد، بعث الملك في طلبي، وقال: من شأن الرسول حضور مائدة الملك. فنحب أن تجيب الى طعامنا ولا تنقض كل رسومنا. فقلت لرسوله: أنا من علماء المسلمين، ولست كالرسل من الجند وغيرهم، الذين لا يعرفون ما يجب عليهم في هذا الموطن. والملك يعلم أن العلماء لا يقدرون أن يدخلوا هذه الأشياء، وهم يعلمون، وأخشى أن يكون على مائدته من لحوم الخنازير، وما حرمه الله تعالى على رسوله، وعلى المسلمين؟ فذهب الترجمان، وعاد إليّ وقال: يقول لك الملك: ليس على مائدتي، ولا في طعامي شيء(7/62)
تكرهه. وقد استحسنت ما أتيت به، وما أنت عندنا كسائر الرسل، بل أعظم، وما كرهت من لحوم الخنزير، إنما هو خارج من حضرتي بيني وبينه حجاب. فنهضت على كل حال. وجلست وقدّم الطعام، ومددت يدي وأوهمت الأكل، ولم آكل منه شيئاً مع أني لم أرَ على مائدته ما يكره. فلما فرغ من الطعام، بخّر المجلس وعطّره، ثم قال: هذا الذي تدعونه في معجزات نبيّكم من انشقاق القمر، كيف هو عندكم؟ قلت: هو صحيح عندنا، وانشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رأى الناس ذلك. وإنما رآه الحضور، ومن اتفق نظره إليه في تلك الحال. فقال الملك: وكيف لم يره جميع الناس؟ قلت: لأن الناس لم يكونوا على أهبة ووعد لشقوقه وحضوره. فقال: وهذا القمر بينكم وبينه نسبة وقرابة؟ لأي شيء لم تعرفه الروم وغيرها من سائر الناس، وإنما رأيتموه أنتم خاصة؟ قلت: فهذه المائدة بينكم وبينها نسبة؟ وأنتم رأيتموها دون اليهود، والمجوس والبراهمة، وأهل الإلحاد، وخاصة يونان جيرانكم، فإنهم كلهم منكرون لهذا الشأن، وأنتم رأيتموها دون غيركم. فتحيّر الملك وقال بكلامه: سبحان الله، وأمر بإحضار فلان القسيس ليكلمني. وقال: نحن لا نطيقه. لأن صاحبه قال: ما في مملكتي مثله، ولا للمسلمين في عصره مثله. فلم أشعر إذ(7/63)
جاؤوا برجل كالذئب أشقر الشعر مسبله، فقعد، وحكيت له المسألة فقال: الذي قاله المسلم لازم، هو الحق لا أعرف له جواباً إلا ما ذكره. فقلت له: أتقول إن الكسوف إذا كان، يراه جميع أهل الأرض أم يراه أهل الإقليم الذي بمحاذاته؟ قال: لا يراه إلا من كان في محاذاته. قلت: فما أنكرت من انشقاق القمر، إذا كان في ناحية لا يراه إلا أهل تلك الناحية، ومن تأهب للنظر له؟ فأما من أعرض عنه، وكان في الأمكنة التي لا يرى القمر منها فلا يراه. فقال: هو كما قلت. ما يدفعك عنه دافع. وإنما الكلام في الرواة الذين نقلوه. وأما الطعن في غير هذا الوجه، فليس بصحيح. فقال الملك: وكيف يطعن في النقلة؟ فقال النصراني: شبه هذا من الآيات، إذا صح، وجب أن ينقله الجم الغفير، الى الجم الغفير، حتى يتصل بنا العلم الضروري به، ولو كان كذلك، لوقع إلينا العلم الضروري به. فلما لم يقع لنا العلم الضروري به، دلّ أن الخبر مفتعل باطل. فالتفت الملك إليّ وقال: الجواب. قلت: يلزمه في نزول المائدة، ما يلزمني في انشقاق القمر، ويقال له لو كان نزول المائدة صحيحاً، لوجب أن ينقله العدد الكثير، فلا يبقى يهودي ولا(7/64)
نصراني ولا ثنوي إلا ويعلم هذا بالضرورة. ولما لم يعلموا ذلك بالضرورة، دلّ أن الخبر كذب. فبهت النصراني والملك، ومن ضمه المجلس. وانفض المجلس على هذا.
قال القاضي: ثم سألني الملك في مجلس ثانٍ، فقال: ما تقولون في المسيح عيسى بن مريم عليه السلام؟ قلت روح الله، وكلمته، وعبده، ونبيه، ورسوله. كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له: كن، فيكون. وتلوت عليه النص. فقال: يا مسلم تقولون: المسيح عبد، فقلت: نعم، كذا نقول، وبه ندين. قال: ولا تقولون إنه ابن الله؟ قلت: معاذ الله، " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله " الآيتان، إنكم لتقولون قولاً عظيماً. فإذا جعلتم المسيح ابن الله، فمن أبوه وأخوه وجده وعم وخاله. وعددت عليه الأقارب، فتحيّر وقال: يا مسلم، العبد يخلق، ويحيي ويميت ويبرئ الأكمه والأبرص؟ قلت: لا يقدر العبد على ذلك وإنما ذلك كله من فعل الله عز وجلّ. قال: وكيف يكون المسيح عبداً لله وخلقاً من خلقه، وقد أتى بهذه الآيات، وفعل ذلك كله؟ قلت: معاذ الله ما أحيى المسيح الموتى ولا أبرأ الأكمه والأبرص. فتحيّر وقلّ صبره، وقال: يا مسلم، تنكر هذا مع اشتهاره في الخلق، وأخذ الناس له بالقبول؟ فقلت: ما قال أحد من أهل الفقه والمعرفة، إن الأنبياء عليهم السلام، يفعلون المعجزات من ذاتهم. وإنما هو شيء يفعله الله تعالى على أيديهم، تصديقاً لهم، يجري مجرى الشهادة.(7/65)
فقال: قد حضر عندي جماعة من أولاد نبيّكم، وأهل دينكم المشهورين فيكم، وقالوا، إن ذلك في كتابكم. فقلت: أيها الملك، في كتابنا أن ذلك كله بإذن الله، وتلوت عليه منصوص القرآن في المسيح: " بإذن الله " وقلت: إنما فعل ذلك كله بإذن الله وحده لا شريك له، لا من ذات المسيح. ولو كان المسيح يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص من ذاته، لجاز أن يقال: موسى، فلق البحر، وأخرج يده بيضاء من غير سوء من ذاته. وليست معجزات الأنبياء عليهم السلام من ذاتهم وأفعالهم، دون إرادة الخالق. فلما لم يجز هذا، لم يجز أن تسند المعجزات التي ظهرت على يد المسيح إليه. فقال الملك: وسائر الأنبياء كلهم من آدم، الى من بعده كانوا يتضرّعون للمسيح، حتى يفعل ما يطلبون. قلت: أوَفي لسان اليهود عظم، لا يقدرون أن يقولوا إن المسيح كان يتضرّع الى موسى؟ وكل صاحب نبي يقول: إن المسيح كان يتضرع الى نبيه، فلا فرق بين الموضعين في الدعوى. قال القاضي رحمه الله: ثم تكلمنا في مجلس ثالث فقلت له: أتحد اللهوت بالناسوت؟ قال: أراد أن ينجي الناس من الهلاك. قلت له: درى بأنه يقتل ويصلب ويفعل به كذا ولم يؤمن به اليهود؟ فإن قلت إنه لا يدري ما أراد اليهود به، بطل أن(7/66)
يكون إلهاً. وإذا بطل أن يكون إلهاً، بطل أن يكون ابناً، وإن قلت قد درى ودخل في هذا الأمر على بصيرة، فليس بحكيم، لأن الحكمة تمنع من التعرض للبلاء. فبهت. وكان آخر مجلس كان لي معه. وذكر ابن حيّان عمن حدثه أن الطاغية، وعد القاضي أبا بكر بالاجتماع معه في محفل من محافل النصرانية ليوم سمّاه. فحضر أبو بكر وقد احتفل المجلس، وبولغ في زينته، فأدناه الملك وألطف سؤاله، وأجلسه على كرسيه، دون سريره بقليل. والملك في أبهته وخاصته، عليه التاج، والذرية ورجال مملكته، على مراتبهم. وجاء البطرك قيم ديانتهم، وقد أوعد الملك إليه في التيقظ، وقال له: إن فناخسرو ملك الفرس، الذي سمعت بدهائه وبكرامته، لا ينفذ إلا من يشبهه في رحلته وحيلته. فتحفظ منه. وأظهر دينك. فلعلك تتعلق منه بسقطة، أو تعثر منه على زلة تقضي بفضلنا عليه. فجاء(7/67)
البطرك قيم الديانة، وولي النِّحلة. فسلم القاضي عليه أحفل سلام. وسأله أحفى سؤال، وقال له: كيف الأهل والولد؟ فعظم قوله هذا عليه، وعلى جميعهم وتغيروا له، وصلبوا على وجوههم، وأنكروا قول أبي بكر عليه، فقال: يا هؤلاء تستعظمون لهذا الإنسان اتخاذ الصاحبة والولد، وتربون به عن ذلك، ولا تستعظمونه لربكم، عزّ وجهه، فتضيفون ذلك إليه؟ سوءة لهذا الرأي ما أبين غلطه. فسقط في أيديهم، ولم يردوا جواباً. وتداخلتهم له هيبة عظيمة، وانكسروا، ثم قال الملك للبطرك: ما ترى في أمر هذا الشيطان. قال: تقضي حاجته، وتلاطف صاحبه، وتبعث بالهدايا إليه، وتخرج العراقي عن بلدك من يومك إن قدرت. وإلا لم آمن الفتنة منه على النصرانية. ففعل الملك ذلك وأحسن جواب عضد الدولة، وهداياه، وعجل تسريحه، ومعه عدة من أسارى المسلمين والمصاحف. ووكل بالقاضي من جنده من يحفظه، حتى وصل الى مأمنه. قال غيره: وكان سير القاضي الى ملك الروم، سنة نيف
وثمانين وثلاثماية. ن وثلاثماية.(7/68)
فهرست كتب القاضي أبي بكر ابن الطيب
نقلتها من خط شيخي القاضي أبي علي الصدفي: كتاب الإبانة عن إبطال مذهب أهل الكفر والضلالة. كتاب الاستشهاد، كتاب إكفار الكفار المتأولين وحكم الدار. التعديل والتجريح، التمهيد، وشرح اللمع، الأمانة الكبيرة. الأمانة الصغيرة. شرح أدب الجدل. الأصول الكبير في الفقه. الأصول الصغير. مسائل الأصول. أمالي إجماع أهل المدينة. فضل الجهاد. المسائل. المجالسات المنثورة. كتاب على المتناسخين. كتاب الحدود على أبي طاهر محمد بن عبد الله بن القاسم. كتاب على المعتزلة فيما اشتبه عليهم من تأويل القرآن. كتاب المقدمات في أصول الديانات، في أن الروم ليس بشيء. نصرة العباس وإمامة بنيه، في المعجزات أصل استجلبت. المسائل القسطنطينية. الهداية. وهو كتاب كبير. جواب أهل فلسطين. البغداديات. النيسابورات. الجُرجانيات. مسائل سأل عنها ابن عبد المؤمن. الأصبهانيات. التقريب والإرشال في أصول الفقه، كتاب كبير، المقنع في أصول الفقه. الانتصار للقرآن. دقائق الكلام. الكرامات. نقض الفنون للجاحظ. تصرف العباد، والفرق بين الخلق، والاكتساب. الأحكام(7/69)
والعلل. كتاب الدماء التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. ومما لم أجد بخط الشيخ، مما وقفت عليه، كتاب البيان، عن فرائض الدين، وشرائع الإسلام. وصف ما يلزم من جرت عليه الأقلام، من معرفة الأحكام، مختصر التقريب والإرشاد الأصغر. وله الأوسط. ولم أره. وكتاب مناقب الأئمة. وكتاب التبصرة. وكتاب رسالة الحرة. وكتاب رسالة الأمير. وكتاب كشف الإسراء في الرد على الباطنية. وكتاب إعجاز القرآن. كتاب في إمامة بني العباس.
القاضي أبو الحسن ابن القصار
اسمه علي بن عمر بن أحمد. الإمام. بغدادي. قال أبو إسحاق الشيرازي: تفقه بالأبهري. وله كتاب في مسائل الخلاف. لا أعرف للمالكيين كتاباً في الخلاف أحسن منه. وكان أصولياً نظاراً. وولي بغداد. قال أبو ذر: هو أفقه من رأيت من المالكيين. وكان ثقة، قليل الحديث. يروي عن أبي الحسن علي بن المفضل(7/70)
السامري. وعليه تفقه ابن نصر. أخذ عنه ابن عمروس وأبو ذر الهروي. توفي، فيما قيل: سنة ثمان وسبعين وثلاثماية. قال القاضي عبد الوهاب: تذاكرت مع أبي حامد الإسفراييني الشافعي، في أهل العلم. وجرى ذكر أبي الحسن ابن القصار، وكتابه في الحجة لمذهب مالك. فقال لي: ما ترك صاحبكم، لقائل ما يقول.
أبو علي اسماعيل بن الحسن بن علي بن عتاس
بتاء باثنتين من فوق، من فقهاء بغداد المالكيين. روى عنه أبو ذر، وذكره في معجمه. وقال لقيته ببغداد وقرأت عليه. وكان لا بأس به. وذكر أنه فقيه مالكي. وقال في موضع آخر: إنه درس على الأبهري، قبل ابن القصار. وحدث أبو علي، عن الحسين بن يحيى بن عيّاس، بياء باثنتين، من أسفل.(7/71)
أبو سعيد الأبهري رحمه الله
واسمه عبد الرحمن بن أحمد بن يزيد بن عبد السلام. قال أبو ذر فيه: الفقيه المالكي، سمعت منه بأبهر وكان شيخاً صالحاً، لا بأس به. يروي عن أبي بكر عبد الله بن طاهر بن حاتم الطائي، الأبهري. رحمه الله.
أبو جعفر الأبهري رحمه الله
هو محمد بن عبد الله. ويعرف بالأبهري، الصغير. وبالوتلي، وابن الخصاص. تفقه بأبي بكر الأبهري. ورحل الى مصر، وتفقه عليه خلق كثير. قاله الشيرازي. وسمع من أبي زيد المروزي، ورأيت سماعه في أصل الأصيلي بخطه. روى عنه. وله كتاب في مسائل الخلاف كبير، نحو مايتي جزء. وكتاب تعليق المختصر الكبير مثله. وكتاب في الرد على ابن علية، فيما أنكره على مالك. وتوفي في حياة أبي بكر الأبهري. رحمه الله. فوجدت في مختصر التعليق أن وفاته، سنة خمس وستين وثلاثماية.(7/72)
أبو جعفر محمد بن عبد المنعم بن عيسى بن محمد
ابن عيسى بن أبي حماد الأسدي كان باهراً. قال أبو بكر بن عتيق السمنطاري في فهرسته: لقيته بأبهر، وكان مالكياً مشهوراً هناك بالعلم والحديث، ومكارم الأخلاق، وأنه روى كتب أبي بكر الأبهري عنه. وسمع من ابن لؤلؤ البغدادي، وأنه سمع منه، أبو القاسم الأناتي، والمالكي. روى عنه أبو ذر.
أبو سعيد القزويني
هو أحمد بن محمد بن زيد. تفقه بالأبهري. قال لي أبو بكر الصالحي: وقد ظن القاضي أبو الوليد، أن الصالحي غير الأبهري. فقال: الصالحي مجهول. وقال أيضاً في القزويني: مجهول. ولا جهالة بمثله. ولكنه أكبر من حاله عنده. إذ لم يكن عنده منه علم. فرب رجل معروف عند واحد. ومجهول،(7/73)
إنما توقع على من لم يعرف أحد من أهل الصنعة له حالاً. وأما أن يسمع واحد منهم برجل لم يسمع قبل به، ولا علم عنده منه، فلا ينبغي أن يطلق عليه حكمه عنده وحده، من الجهالة بأمره، إذ ذاك لا يؤثر حتى يبحث عليه. ويتعرف حاله، من أئمة أهل العلم بالباب، فإن لم يعرفوه فحينئذ. قال الشيرازي: وصنف في المذهب والخلاف. وكان زاهداً عالماً بالحديث. وقد سمع من أبي زيد المروزي. ورأيت أنا ذلك بخط الأصيلي في كتابه. وسمع أيضاً من أبي الحسن الدارقطني، وأبي الحسين الدقاق، العدل بالأهواز، وأبي مالك القطيعي، وجعفر بن عبد الله بن يعقوب بالري. وأبي يعقوب إسحاق بن الحسن بن سفيان، وعلي بن أحمد السكري المقري. وله كتاب المعتمد في الخلاف، نحو ماية جزء. وهو من أهذب كتب المالكية. وله كتاب الإلحاق في مسائل الخلاف. وتوفي في نيف وتسعين وثلاثماية.
القاضي أبو بكر بن أبي موسى الهاشمي
واسمه أحمد بن محمد بن أبي موسى، عيسى بن أحمد(7/74)
بن موسى، بن محمد بن ابراهيم بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب. سمع ابراهيم بن عبد الصمد الهاشمي. ومحمد بن حمدويه المروزي، وأحمد الادمي بن محمد بن اسماعيل، وأحمد بن علي الجرجاني، والقاضي المحاملي، والحسين يحيى بن العياش القطان وغيرهم. حدث عنه العتيقي، وعبيد الله بن عبد العزيز البرذعي، والقاضي التنوخي، ومحمد بن طلحة الكتاني وغيرهم. قال الخطيب أبو بكر: وكان ثقة مأموناً. كتب الناس عنه بانتخاب الدارقطني. وكان مالكي المذهب. وتقلد قضاء المدائن وسر من رأى ونصيبين، وديار ربيعة وغيرها. وخطابة جامع المنصور. ولد سنة خمس عشرة وثلاثماية. رحمه الله.(7/75)
أبو القاسم ابن الجلاب رحمه الله
واسمه عبيد الله. ويقال، أبو الحسين بن الحسن. وقال أبو إسحاق الشيرازي: اسمه عبد الرحمن بن عبيد الله. والأول هو الصواب، إن شاء الله. بصري، تفقه بالأبهري. أخذ عنه القاضي أبو محمد بن نصر الطائفي. وابن أخيه المسدد بن أحمد. وله كتاب في مسائل الخلاف. وكتاب التفريع في المذهب مشهور. قال أبو القاسم الهمداني: كان من أحفظ أصحاب الأبهري، وأنبلهم. وتوفي فيما قيل قديماً. منصرفه من الحج، في صفر سنة ثمان وسبعين وثلاثماية. رضي الله عنه.
أبو تمام علي بن محمد بن أحمد البصري
من أصحاب الأبهري، أيضاً. وكان جيد النظر، حسن الكلام حاذقاً بالأصول، وله كتاب مختصر في الخلاف، سماه نكت الأدلة. وكتاب آخر في الخلاف كبير. وكتاب في أصول الفقه. رحمه الله تعالى.(7/76)
أبو بكر بن خُويز منداد رحمه الله
ويقال خوين منداد. إذ كذا كنّاه أبو إسحاق الشيرازي. وسماه محمد بن أحمد بن عبد الله. ورأيت على كتبه تكنيته، بأبي عبد الله. وفي نسبته: محمد بن أحمد بن علي بن إسحاق. وقال الشيرازي، أيضاً تفقه بالأبهري وسمح الحديث. يروي عن أبي داسة، وأبي الحسن التمار، وأبي الحسن المصيصي، وأبي إسحاق التجيبي، وأبي العباس الأصم. وله كتاب كبير في الخلاف، وكتاب في أصول الفقه، وفي أحكام القرآن، وعنده شواذ عن مالك. وله اختيارات وتأويلات على المذهب في الفقه، والأصول، لم يرجع عليها حذاق المذهب. كقوله في بعض ما خالفه فيه من الأصول: إن العبيد لا يدخلون في خطاب الأحرار يوجب العلم. وفي(7/77)
بعض مسائل الفقه حكايته عن المذهب: إن التيمم يرفع الحدث. وإنه لا يعتق على الرجل سوى الآباء والأبناء. ولم يكن بالجيد النظر، ولا بالقوي الفقه. وقد تكلم فيه أبو الوليد الباجي. قال: إني لم أسمع له في علماء العراق بذكر. وكان يجانب الكلام جملة، وينافر أهله، حتى تعدى ذلك الى منافرته المتكلمين من أهل السنّة. وحكم على الكل بأنهم من أهل الأهواء، الذين قال مالك في مناكحتهم وشهادتهم وإمامتهم وعيادتهم وجنائزهم ما قال. رحمه الله.
الحسين بن علي
من ساكني البصرة. أبو عبد الله من أصحاب الأبهري. ذكره أبو عمر المقري في طبقاته. وقال: انتحل مذهب مالك، وسمع من الأبهري، وأخذ القراءة عن أبي بكر الشداني، وفارس بن أحمد، وأبي القاسم الحافي. وكان شيخاً صالحاً ثقة. رحمه الله. توفي بمصر، في حدود الأربعماية.
ومن في هذه الطبقة ممن ذكره، أبو ذر في شيوخه، وذكر أنه في المالكية. رحمه الله تعالى.(7/78)
أحمد بن إسحاق بن ابراهيم الصفار
المقري البصري. يروي عن عبد الكريم بن الرواسي، وأبي يوسف الخلاّل. قال فيه أبو ذر: شيخ فقيه مأمون.
أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن القاسم بن الصلت
يعرف بالمجبّر. بجيم وباء بواحدة مشدودة مكسورة. بغدادي. قال أبو ذر: لا بأس به. سمع أبا بكر البهلول، واسماعيل الصفار، وابراهيم بن عبد الصمد الهاشمي. حدث عنه أبو ذر، وأبو عمران الفاسي، والقاضي أبو محمد بن نصر، وابراهيم بن عبد الصمد. رحمهم الله.
ادريس بن علي بن إسحاق بن يعقوب
أبو القاسم المؤدب. سمع أبا حامد الحضرمي، وأبا علي بن اسماعيل الوراق. بغدادي حدث عنه أبو ذر. رحمه الله.(7/79)
أبو عبد الله الحفاظي
سماه القاضي أبو الوليد الباجي، في أئمة الفقهاء المالكيين. ولم يزد على هذا، وذكره أبو إسحاق الشيرازي في أئمة الشافعية. أبا عبد الله الحفاظي الطبري. من طبرستان. وقدم بغداد في أيام الشيخ أبي حامد الاسفراييني الشافعي. والله أعلم وأحكم.
أبو الحسن بن أحمد بن سعيد
أراه عراقياً. قال أبو الوليد الباجي: شيخ فقيه مالكي. روى عنه أبو الحسن العتيقي. يروي عن أحمد بن الحسين الجيار الصوفي. رحمه الله.
أبو الحسين بن محمد بن علي المالكي
يروي عن القاضي عبد الوهاب(7/80)
السعدي، البغدادي. من بيت جلالة وتقدم وقضاء ببغداد. قرأت في معجم الرازي، أنه كان مالكي المذهب، ودرس ابنه القاضي أبو الفضل، محمد بن أحمد علي القاضي أبي حامد الاسفراييني فذهب الى مذهبه. وكان ابنه خليلاً، محدثاً. سمع ابن بطه، ونظراءه. ونزل مصر، فسمع بها وحدث. سمع منه شيخه عبد الغني بن سعيد الحافظ فيمن دونه.
أحمد بن عيسى بن عبد الله بن عبد الوهاب السعدي البغدادي
من بيت جلالة وتقدم وقضاء ببغداد، قرأت في معجم الرازي، أنه كان مالكي المذهب، ودرس أبو الفضل، محمد بن أحمد، على القاضي أبي حامد الاسفراييني، فذهب الى مذهبه، وكان ابنه جليلاً محدثاً، سمع ابن بطة، ونظراءه، ونزل مصر فسمع بها، وحدث، سمع منه شيخه عبد الغني بن سعد الحافظ، فمن دونه.
الوليد أبو بكر بن مخلد النحوي
أبو العباس. أصله أندلسي من سرقسطة، وسكن المشرق، وغلب عليه الحديث. ذكره أبو القاسم الطرابلسي فقال فيه: مالكي نحوي، دخل المشرق، وكان من أهل الحديث، وألّف كتاب الوجارة في صحة القول بالإجارة. روى عنه أبو ذر الهروي في كتابه هذا، وحمزة بن محمد بن طاهر، وأبو عبد الله محمد بن عبد الواحد، وأبو الحسين بن الكناس، يروي عن علي بن زكريا الهاشمي. رحمه الله.(7/81)
أبو عبد الله بن دُوسْت
واسمه أحمد بن محمد بن يوسف بن محمد بن دوست البزاز، البغدادي، حدث عن أبي جعفر المطيري، والحكيمي، وعمر بن الحسن الأشناني، واسماعيل بن محمد الصفار، وأبي الحسن المصري، وغيرهم. قال الخطيب: كتب عنه الأزهري، والحسن الخلاّل، وحمزة بن محمد الدقاق، وهبة الله الطبري، وعامة أصحابنا، وسمعت منه جزءاً واحداً، وكان مكثراً من الحديث عارفاً به حافظاً له، مكث مدة يملي في جامع المنصور بعد وفاة المخلِّص، ثم انقطع ولزم بيته، قال حمزة بن محمد: مكث ابن دوست سبع عشرة سنة يملي وكان إذا سئل عن شيء أملى من حفظه في معنى ما سئل عنه،(7/82)
قال عيسى بن أحمد بن عمر الهمداني: وكان ابن دوست فهماً في الحديث عارفاً بالفقه على مذهب مالك، وكان عنده عن الصفار وحده ملء صندوق وكان يذاكر بحضرة الدارقطني ويتكلم في علم الحديث، وتكلم فيه الدارقطني لذلك، قال حمزة بن محمد، قلت لخالي أبي عبد الله بن دوست: لم تملي من حفظك، ولا تملي من كتابك؟ فقال لي: أنظر فيما أمليته فإن كان فيه خلل لم أمل من حفظي، وإن كان جميعه صواباً فما الحكمة في الكتاب أو كما قال، وحكى الخطيب أنه مكث سنة بعد موت ابن حبابة يملي من حفظه في حياة المخلّص، وابن شاهين، ثم تكلم فيه ابن أبي الفوارس، قال عيسى الهمداني كان ابن أبي الفوارس ينكر علينا مضيّنا له وسماعنا منه. ثم جاء بعد ذلك وسمع منه، قال الأزهري: هو ضعيف رأيت كتبه كلها طرية، وقال إن كتبه كلها عرفت فاستدرك نسخها. قال ابن البرقاني: كان يسرد الحديث من حفظه، وتكلموا فيه، وكان يكتب الأجزاء ويتربها لترى أنها عتق. توفي في رمضان سنة سبع وأربعماية.(7/83)
أبو الحسين بن فارس رحمه الله
هو أحمد بن فارس بن زكريا اللغوي الرازي، أحد رجال خراسان وعلمائها وأئمة أدبائها، غلب عليه علم الفقه ولسان العرب، فشهر به. وكان إماماً في ذلك، وقد حدث عنه، روى عن علي بن مهرويه، وأبي الحسن علي بن أبي ابراهيم الحداد، وروى عنه أبو ذر الهروي، والقاضي أبو زرعة روح بن محمد الرازي، وأبو العباس الغضبان، والقاضي أبو عبد الله الديباجي، وغيرهم، ومحمد بن الحسن النيسابوري، وذكر أبو ذر أنه كان مالكياً. قال ولم أحمد حاله. وذكره القاضي أبو الوليد الباجي فقال: كان فقيهاً مالكياً، وحقق لي ذلك بعض من ذاكرته من شيوخنا المغاربة الراحلين. وحكى لي بعض من لقيته من أهل المشرق أنه شافعي المذهب، واحتج بشرحه لألفاظ مختصر المزني الذي سماه حلية الفقهاء، وله من التواليف غير كتاب: فقيه العرب، وكتاب مجمل اللغة المشهور المعترف بتفضيله على سائر المؤلفات في هذا الباب، وكتاب الاتباع والمزاوجة في جزء. وكان أديباً شاعراً مجيداً في ذلك، وقد ذكره(7/84)
أبو منصور الثعالبي في يتيمته في جملة شعراء أهل الجبل من كتابه. وحكى عنه أنه ألّف للصاحب ابن عباد كتاباً سماه كتاب المجد ووجهه إليه. فقال الصاحب: وذو المجد حيث جاء ثم قبله ووصلَه. وله رسالة مشهورة حسنة طويلة كتب بها الى بعض الكتّاب في شأن كتاب الحماسة ذكرها الثعالبي، ومما أنشد له الثعالبي قوله:
يا ليت لي ألف دينار موجّهة ... وإن حظي منها فلس إفلاس
قالوا فما لك منها؟ قلت: يخدمني ... لها ومن أجلها الحمقى من الناس
محمد بن عبد الله البصري
من أصحاب الأبهري، وكان فقيراً متقنعاً منقبضاً متنسكاً، لم يكن له بيت، إنما كان يأوي الى المساجد، ويودع كتبه عند إخوانه، وكانت له كتب كثيرة،(7/85)
وكان ما يقع له يبتاع به كتباً، وكان الناس يعرفونه بالشهرة بالعبادة وطلب العلم، وكان الأبهري يحبه ويجلّه، وتوفي بهمدان رحمه الله.
من أهل الشام
عبد الباقي بن الحسن بن أحمد بن محمد بن عبد العزيز
دمشقي، يكنى أبا الحسن، من أصحاب الأبهري، سمع منه ببغداد وكتب عنه كتبه في شرح المذهب، وكان إماماً في علم القرآن، وغلب ذلك عليه، قال أبو عمرو الداني في طبقاته إن أصله خراساني، وولد بدمشق، قال: وكان خيراً فاضلاً ثقة مأموناً إماماً في القراءة، عالماً بالعربية بصيراً بالمعاني، أخذ عن جماعة من أهل العراق والحجاز والشام ومصر، وكان يقول قرأت كل قراءة في مصرها، قال وسمعت عبد الرحمن بن عبد الله يقول كان عبد الباقي يسمع معنا ببغداد على الأبهري. وكتب كتبه في المشرق، ثم قدم مصر فقامت له بها رئاسة عظيمة، وكنا لا نظنّه إذ كان(7/86)
معنا بالعراق هناك، وكان سبب خروجه الى مصر شيء وقع بينه وبين شيوخ بلده دمشق، فتعصّب له قوم وعليه آخرون، وذلك في جامع دمشق حتى تطاول بعضهم الى بعض فخرج الى الاسكندرية، قال أبو عمرو توفي بعد سنة ثمانين وثلاثماية.
أبو الحسن علي بن الحسين بن مندار الأنطاكي
قاضي أذنه. وسكن مصر، يروي عن جماعة، يروي عنه أبو الحسن ابن أبي الكرام، وأبي حفص بن شعيب الألكيان.
من أهل مصر
أبو عبد الله بن الوشاء
واسمه محمد بن أحمد بن محمد بن عبيد بن موسى. أخذ عن ابن شعبان والطبري، وابن أبي الحديد، سمع منه(7/87)
أبو عمران الفاسي، وأبو محمد الشنجتالي، وأبو محمد بن غالب السبتي الفقيه، وكان عالماً بالحديث واسع الرواية فقيهاً، رحل إليه الناس وسمعوا منه، قال محمد بن سعدون في كتابه: وكان شديد المباينة لبني عبيد، وهو الذي حبس مع السباع فلم تضره ولا عدت عليه. توفي رحمه الله بمصر سنة سبع وتسعين وثلاثماية، وذكره أبو الحسن بن محمد الحباني الحافظ رحمه الله تعالى.
الحسن بن عمر بن الحسين بن أبي إسحاق الغافقي
حدث عنه أبو ذر بالاسكندرية، وذكره، فقال الفقيه المالكي، يعرف بأبي علي بن المصباح، وكان يفهم لا بأس به، حدث عنه عثمان بن محمد السمرقندي.
رجاء بن عيسى بن محمد الأننصِناوي
بثلاث نونات وصاد مهملة. ويقال الأنصاوني بالواو، وأنصنا قرية بمصر، أبو العباس المصري المالكي(7/88)
أخذ عن القاضي الذهلي، ومؤمل بن يحيى، وحمزة الحافظ، وأبي العباس الرازي، وأبي العباس ابن أبي تمام، وابن رشيق، وغيرهم، وحدث عن مؤمل بن يحيى المصري، عن حمديس، عن محمد بن عبد الحكم: أفضل ما جر المرء نفسه في أعمال البر، حدث عنه أبو ذر الحافظ قال وكان ثقة مأموناً، لقيته بالبصرة. قال الخطيب أبو بكر: وقدم بغداد فحدّث بها وسمع منه أبو عبد الله بن بكير وعبيد الله بن عثمان الصيرفي، والعتيقي، قال أبو عبد الله الصوري: وكان فقيهاً مالكياً مرضياً ثقة في الحديث متحرياً في الرواية مقبول الشهادة. مولده سنة عشر وثلاثماية، قال الحبال توفي سنة سبع وأربعماية، وقال الصوري: توفي بمصر ما بين سنة خمس وسنة عشرة وأربعماية.
أبو القاسم يحيى بن علي بن محمد بن ابراهيم الحضرمي
فقيه مالكي، يروي عن أبيه، وعن أبي جعفر الأسواني، والحسن بن رشيق، والحسين بن عبد الله القرشي، وعبد الله بن محمد المفسر. روى عنه أبو محمد بن الوليد، وأبو اسحاق الخيال، رحمهم الله.(7/89)
أبو مطر علي بن عبد الله بن الحسن بن علي
ابن عبد الرحمن الغفاري المعافري الاسكندراني قاضيها، من بيت علم وقضاء وتقدم في مذهب مالك، قال أبو ذر وكان مالكياً شيخاً ثقة، قرأت عليه في منزله بالاسكندرية، حدث عن عبد الرحمن بن عمر بن عثمان العلاف، وقد تقدم ذكر بيته رحمه الله.
محمد بن عبد الله بن عتاب
أبو عبد الله يعرف بابن المقري، من أهل الاسكندرية. روى عنه أبو ذر بها، وذكره فقال: كان فقيهاً مالكياً من خيار المسلمين، ثقة مأموناً، وكان بنو عبيد ضربوه وردوه على السنة وأحرقوا كتبه، فحدث عن الأعرابي.
محمد بن أحمد بن العباس
أبو الحسن الأخميني، ذكره أبو ذر فقال شيخ صالح ثقة مالكي، قرأت عليه بمصر، ولقد قال لي عبد الغني بن سعيد رأيت له عن ابن زيان مثل هذا - يعني رزمة كبيرة.(7/90)
الحسن بن عمر بن ابراهيم
أبو محمد بن زكريا العروضي، ذكره أبو ذر وقال قرأت عليه بمكة وكان لا بأس به، حدث عن ابن القاسم بن بكار بن أحمد السلمي المرادسي.
أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أبي يزيد خالد
ابن خالد بن يزيد المطري الأزدي
يعرف بالصواف، دخل الأندلس تاجراً آخر الدولة العامرية وفاراً من مصر لشيء وقع له فيها مع أميرها، سمع القاضي أبا طاهر الذهلي، وأبا سعيد بن يونس الصدفي، وحمزة الحافظ، وابن أبي الموت، وأبا محمد الفرغاني، وابن الورد، وابن السكن، رآه عمر السمرقندي وغيره، حدث عنه بالأندلس أبو عمر ابن الحذاء، وابن الحصار، وقاسم ابن الراموني السبتي. قال ابن المأموني: كان منقطع القرين في مروءته وعلمه، وكان فقيهاً(7/91)
مالكياً متكلماً نسابة أدبياً، ذا قوة في علم الاعتقاد ويحقق في علم النسب. له قطع من الشعر مطبوعة. وقع الاجتماع أنه لم يصل الى الأندلس من بلده مثله. ولم يكن بالراسخ في الفقه، كان مشاوراً فيه، قال أبو عمر ابن الحذاء كان حافظاً للحديث حسن الشعر، قال الحصار: استوطن قرطبة أعواماً كثيرة الى زمن الفتنة، فخرج عن الأندلس الى مصر فتوفي بها. وقال ابن حيان: خرج من الأندلس الى إفريقية ثم جاء الى الأندلس فمات بها سنة عشرة وأربعماية.
من أهل إفريقية
أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري
المعروف بابن القابسي. سمع من رجال إفريقية أبي العباس الإبياني، وأبي الحسن بن مسرور الدباغ، وأبي عبد الله بن مسرور الغسال، وأبي محمد بن مسرور الحجام، ودراس بن اسماعيل الفاسي، والسدري، ورحل فحجّ وسمع بمصر ومكة من حمزة بن محمد الكناني، وأبي الحسن التلباني، وابن أبي الشريف، وابن زيد المروزي، وأبي الحسن ابن حبونه النيسابوري، وأبي(7/92)
الحسن بن أبي هلال، وأبي الحسن بن شعبان الطحان، وأبي الحسن بن هاشم، وأبي الطاهر محمد بن عبد الغني، وأبي الحسن الأسيوطي، وأبي بكر أحمد بن عبد الله بن عبد المؤمن، وأبي أحمد بن المفسر، وأبي الفتح بن يرمين، وأبي إسحاق عبد الحميد بن أحمد بن عيسى. وكتب إليه أبو بكر ابن خلاد، وكان واسع الرواية عالماً بالحديث وعلله ورجاله، فقيهاً أصولياً متكلماً مؤلفاً مجيداً. وكان من الصالحين المتقين الزاهدين الخائفين، وكان أعمى لا يرى شيئاً وهو مع ذلك من أصح الناس كتباً وأجودها ضبطاً وتقييداً. يضبط كتبه بين يديه ثقات أصحابه، والذي ضبط له في البخاري سماعه على أبي زيد بمكة أبو محمد الأصيلي بخط يده، وكان يزور الشيخ الزاهد أبا إسحاق الجبنياني فدعا له. قال أبو الحسن: قلت له - يعني عند رجوعه أول ما زاره - أذكر لك اسمي فمتى ذكرتني دعوت لي، فقال: بل أدعو لك في جملة المسلمين، فقلت: بل تخصني، قال: أرأيت من أودع وديعة فضيعها، أليس يضمن كالمعتدي؟ قلت: بلى فما دعا الإنسان الى شيء أن ضيعه ضمنه. قلت لا عليك أن أعرفك باسمي فإن نشطت للدعاء دعوت وإلا تركت، فلما رآني كئيباً إذ لم يقبل مسألتي، قال لي: ما اسمك؟ قلت:(7/93)
علي، قال لي: أبشر يا علي أعلى الله قدرك في الدنيا والآخرة، فلما قدمت دابة أبي الحسن أخذ الجبنياني بركابه، وكانت عادته لمن قبله علم أو خير. قال الشيرازي: وجلس مجلس ابن شبلون بعد وفاته. وكان أبو سعيد ابن أخي هشام يعظم الشيخ أبا الحسن ويقول: الشيخ أبو الحسن لا يحاسب على مكيال ولا ميزان. وإن كان لا يدخل الجنة إلا مثل أبي الحسن فما يدخلها منا أحد. وذكر ابن سعدون أن أب الحسن لما جلس للناس وعزم عليه في الفتوى تأبّى وسدّ بابه دون الناس، فقال لهم أبو القاسم ابن شبلون اكسروا عليه بابه لأنه قد وجب عليه فرض الفتيا، هو أعلم من بقي بالقيروان، فلما رأى ذلك خرج إليهم ينشد:
لعمر أبيك ما نُسب المعلى ... الى كرم وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اقشعرّت ... وصوّح نبتُها رُعِي الهشيم
قال حاتم الطرابلسي صاحبه: كان أبو الحسن فقيهاً عالماً محدثاً ورعاً متقللاً من الدنيا، لم أرَ أحداً ممن يشار إليه بالقيروان بعلم إلا وقد جاء اسمه عنده وأخذ عنه، يعترف الجميع بحقه ولا ينكر فضله. وقال محمد بن عمار الهوزني - في رسالته - وذكره فقال: متأخر في زمانه متقدم في شأنه العلم والعمل والرواية(7/94)
والدراية، من ذوي الجتهاد في العباد والزهاد مجاب الدعوة. له مناقب يضيق عنها الكتاب. عالماً بالأصول والفروع والحديث وغير ذلك من الرقائق، وذكره أبو عبد الله ابن أبي صفرة فقال: كان فقيه الصدر، قال أبو الحسن: لما رحلت الى الإبياني أنا وأبو محمد الأصيلي، وعيسى - يعني ابن سعادة الفاسي - كنا نسمع عليه، فإذا كان بعد العصر ذاكرنا في المشكل، فتذاكرنا يوماً وطال الذكر فخصني بأن قال لي يا أبا الحسن لتضربن إليك اباط الإبل من أقصى المغرب، فقلت له: ببركتك إن شاء الله، ولما نرجوه من النفع بك إن شاء الله. ثم جرى لي منه ذلك يوماً آخر ثم ذاكرني يوماً ثالثاً فهمني له، فقال مثل ذلك، فقلت له ببركتك إن شاء الله فقال: والله لتضربن إليك اباط الإبل من أقصى المغرب، وعليه تفقه أبو عمران الفاسي، وأبو القاسم البيري، وغيرهما. وروى عنه أبو بكر عتيق السوسي، وأبو القاسم ابن الحساري، وابن سمحان، وابن أبي طالب العابد، وأبو عمرو ابن العتاب، وابن محرز، وابن سفيان، وأبو محمد اللوبي،(7/95)
وأبو حفص العطار، وأبو عبد الله الخواص، وأبو عبد الله المالكي، ومكي الفارسي، وابن الأجدابي، وروى عنه من الأندلسيين المهلب ابن أبي صفرة، وحاتم بن محمد الطرابلسي، وأبو عمر المغربي.
ذكر تواليفه رحمه الله
لأبي الحسن تواليف بديعة مفيدة ككتابه: المهذب في الفقه، وأحكام الديانة، وكتاب المنقذ من شبه التأويل، وكتابه المنبه للفطن من غوائل الفتن، والرسالة المعظمة لأحوال المتقين، وأحكام المتعلمين والمعلمين، وكتاب الاعتقادات، وكتاب مناسك الحج، وكتاب الذكر والدعاء، ورسالة كشف المقالة في التوبة، وكتاب ملخص الموطأ، وكتاب رتب العلم وأحوال أهله، وكتاب أحمية الحصون، ورسالة تزكية الشهود وتجريحهم، ورسالة في الورع.
ذكر فضائله وخوفه وبقية أخباره
كان أبو الحسن من الخائفين الورعين المشتهرين بإجابة الدعوة، سلك في كثير من أموره مسلك شيوخه من صلحاء فقهاء القيروان المتقللين من الدنيا، البكائين، المعروفين بإجابة الدعاء وظهور البراهين.(7/96)
قال بعض أصحابه كان أبو الحسن إذا دخل محرابه وانتفخت عيناه واحمرت، ولجأ الى الله عز وجل ورأينا ذلك منه انتظرنا إجابة دعائه، وكانت الى ثلاثة أيام، وكان بالمهدية نصراني ابن أخ لخاصة باديس صاحب القيروان فافتض هذا النصراني صبية شريفة، فلما سمعت بذلك العامة رجعوا إليه فقتلوه، وبلغ ذلك باديس فعظم ذلك عليه، وأرسل قائداً بعسكر الى المهدية، وقال لهم: اقتلوا من هو قد السيف الى فوق، وبلغ ذلك أبا الحسن، فدخل المحراب وأقبل على الدعاء في كشف هذا، فلما وصل القائد الى قصر مسور قرب المهدية بات فيه فقام بالليل وهو سكران يمشي على السطح فمشى في الهواء وسقط على رأسه وانتثر دماغه، وجاءت البرد الى باديس بذلك، وأعلم بدعاء الشيخ أبي الحسن فرعب لذلك، وقال لابن أبي العرب وكبراء رجاله: تمشون للشيخ. فلما ضربوا عليه بابه وأعلم بهم، قال: تمضون للجامع حتى يأتيكم العلماء - ولم يدخلهم داره - ووجه الى أصحابه أبي بكر ابن عبد الرحمن، وأبي عمران الفاسي، وأبي القاسم ابن الكاتب، وأبي محمد اللوبي، وأبي عمرو ابن العتاب،(7/97)
والخواص، وابن سفيان، وأبي عبد الله المالكي، ومكي الفارسي، وابن الأجدابي، والربعي، وابن سمحان، وغيرهم، وأملى عليهم رسالة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم بالله أستعين، وعليه أتوكل. الغوث الغوث الغوث بما حلّ بالمسلمين من الافتئات عليهم، ثم ينادي بمثل. وفي فصل منها: كيف يحل لمن يعتقد الإسلام أن يقوم في دم كافر اغتصب صبية من سلالة المصطفى صلى الله عليه وسلم. لو انطبقت السماوات والأرض من أجل هذا الفعل كان قليلاً. وهي رسالة طويلة. وقال لأصحابه إذا وصلتم الى الجامع فليقرأها واحد منكم على المنبر ممن له صوت. ففعلوا ذلك فجعل القواد يقول بعضهم لبعض والله ما السلطان إلا هذا الشيخ. ذكر البيري أنه رآه قد اجتمع مع عيسى بن ثابت العابد يوماً فتذاكرا وبكيا حتى سقط كل واحد منهما على ظهره. وذكر أن رجلاً من أصحاب أبي إسحاق غره القمر ليلة فبكر فأخذه الحرس بالقيروان فاستغاث به وأعلمهم أنه ضيف أبي الحسن ومن أصحابه، فلم يلتفتوا إليه، وحملوه الى السجن وأودعوه الحديد، وأطلع رجل من غرفة على ذلك، فلما أصبح، أعلم أبا الحسن بحال صاحبه، فقال له اذهب فأخرجه من السجن، وثق بالله، أو كما قال، فذهب الرجل فدخل الى السجن حتى وصل الى الرجل دون أن يعترضه أحد، فوجد الرجل في ثقل الحديد، فلم يقدر الرجل على الخروج في حديده، فرجع الرسول(7/98)
الى أبي الحسن فأخبره، فقال له: اذهب بحداد يحل عنه، فأخذ الرجل معه حداداً حتى حلّ عنه حديده في السجن، وخرج ثلاثتهم، وحراس السجن ينظرون إليهم فلا ينكرون عليهم شيئاً مما صنعوه، وكأنهم لا يرونهم، وكأنهم ألقي إليهم النسيان فلم يعرف من جهة الحرس من القصة خبر، قال أبو عمرو المقري في طبقات القراء وذكره فقال: أخذ عن ابن الدهن، وأقرأ القرآن بالقيروان دهراً، ثم قطع القراءة لما بلغه أن بعض أصحابه استقرأه الوالي فقرأ عليه، ودرس الحديث والفقه الى أن رأس فيهما، وبرع الى أن صار إمام عصره وفاضل دهره، وذكر أن أبا الحسن سأل أصحابه يوماً في رمضان عما كان إفطارهم عليه ليلة يومهم فأخبره كل واحد منهم بما كان على قدر وسعه، فقال أبو القاسم البرادعي: أفطرت على ثريدة خروف بأطراف سلق وحمص، وبعد ذلك إسفنجة، فقال له أبو الحسن: والله يا خلف لا صلحت أبداً ما اجتمع هذا من حلال قط، ولم يكن أبو الحسن قابسيّاً وإنما كان له عم يشد عمامته مثل القابسيين فسمي بذلك، وهو قيرواني الأصل، وتوفي أبو الحسن بالقيروان سنة ثلاث وأربعماية، ودفن بباب تونس، وقد بلغ الثمانين أو نحوها بيسير، مولده في رجب(7/99)
لست ليال مضين منه سنة أربع وعشرين وثلاثماية، وكانت رحلته الى المشرق وسنّه اثنتان وخمسون سنة.
أبو عبد الله الحسين ابن أبي العباس عبد الله ابن عبد الرحمن الأجدابي
المشهور في فقهاء القيروان. من أصحاب أبي محمد بن أبي زيد، وأبي الحسن القابسي، وكان واسع الرواية سمع من شيخه، ومن هبة بن أبي عقبة، وأبي القاسم بن حيران، وتميم بن أبي العرب، وأبي عبد الله بن الناظور، وأبي محمد البادسي، وغيرهم من أهل إفريقية، ورحل فلقي الناس بمصر والحجاز فسمع من أحمد بن أبي يعلى الحمادي، وأبي حفص بن عراك، وأبي بك الأدفوي، وأبي القاسم السفطي، والقاضي أبي نصر النيسابوري، وأبي الحسن ابن زريق، وأبي زرعة الجرجاني. وسمع أيضاً من عيسى بن حبيب، وابن اسماعيل المهري، وأبي زكريا بن عابد الأندلسي، وأبي القاسم(7/100)
عبد الرحمن بن خالد الأزدي، وتميم بن أبي العرب، وسمع منه أبو محمد عبد الحق، وابن سعدون، وأبو محمد بن سبعين وغيرهم. وألّف مناقب ربيع القطان، والممسي، والسبائي، وابن نصرون. وأخوه أبو محمد الحسن مشهور بالعلم والتقدم في الفهم، وكثرة الرواية بإفريقية والمشرق، ومقدم في بلده، وسمع منه. وأخوه أبو الحسن علي. حدث عن تميم ابن أبي العرب، وأبي القاسم بن حيران، حدث عنه ابن سعد.
أبو عمر أحمد بن سعدي
واسمه: أحمد بن محمد أصله أندلسي إشبيلي، ونزل المهدية، وعليه دارت الفتيا بها وكان فقيهاً صالحاً، وله رحلة دخل فيها العراق، ولزم أبا بكر الأبهري وحمل عنه(7/101)
كتبه وتفقه عليه. وسمع من جماعة بمصر والعراق، ولقي أيضاً من المالكية أحمد بن أبي يعلى الحمادي، وأبا القاسم الجوهري، وابن الوشاء، وأبا إسحاق التمار، وأبا بكر الباقلاني، وسمع أيضاً أبا الفضل الهاشمي، وابن غلبون، والحربي. حدث عنه حاتم الطائي الطرابلسي، وأبو محمد ابن الوليد، وأبو القاسم بن محرز، وتوفي بالمدينة.
أبو الحسن علي بن أحمد اللواتي
سوسي، كان فقيه بلده في وقته. أخذ عن أبي العباس الإبياني، وابن مسرور، والدباغ، سمع منه أبو عمران الفاسي.
أبو موسى عيسى ابن القمودي
فقيه مالكي من أصحاب الإبياني رضي الله عنه.
أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي الأسدي
من أئمة المالكية بالمغرب، والمتسمين في العلم، المجيدين للتأليف، أصله من المسيلة، وقيل من بسكرة. كان بطرابلس،(7/102)
وبها أملى كتابه في شرح الموطأ، ثم انتقل الى تلمسان، وكان فقيهاً فاضلاً متفنناً مؤلفاً مجيداً، له حفظ من اللسان والحديث والنظر، أخذ عنه أبو عبد الله البوني، وعليه تفقه، وألّف كتاب القاضي في شرح الموطأ، والواعي في الفقه، والنصيحة في شرح البخاري، والإيضاح في الرد على الفكرية، وكتاب الأصول، وكتاب البيان، وكتاب الأموال، وغير ذلك، وبلغني أنه كان ينكر على معاصريه من علماء القيروان سكناهم في مملكة بني عبيد، وبقاؤهم بين أظهرهم، وأنه كتب إليهم مرة بذلك. فأجابوه أسكت لا شيخ لك، أي لأن درسه كان وحده، ولم يتفقه في أكثر علمه عند إمام مشهور، وإنما وصل الى ما وصل بإدراكه، ويشيرون أنه لو كان له شيخ يفقهه حقيقة الفقه لعلم أن بقاءهم مع من هناك من عامة المسلمين تثبيت لهم على الإسلام، وبقية صالحة للإيمان، وأنهم لو خرج العلماء عن إفريقية لتشرّق من بقي فيها من العامة الألف والآلاف فرجحوا خير الشرين، والله أعلم،(7/103)
حمل عنه أبو عبد الله البوني، وأبو بكر ابن الشيخ أبي محمد ابن أبي زيد رحمه الله، وأبو علي ابن الوفاء من أهل بلدنا وغيرهم. قال حاتم الطرابلسي: توفي بتلمسان سنة اثنتين وأربعماية، وقبره عند باب العقبة، ولم يسمع منه حاتم وكان حياً إذ كان حاتم بالقيروان، وقرأت في بعض التواريخ أن وفاته سنة إحدى عشرة والأول أصحّ.
أبو موسى بن مناس رحمه الله
من كبراء فقهاء إفريقية ونبهائها، والمقدّمين بها، وله كلام كثير، وتفسير لمسائل المدونة مسطرة، وقد سمع من البوني رضي الله عنه.
أبو علي بن خلدون رحمه الله
من فقهاء إفريقية وعلمائها وصلحائها، من أصحاب أبي الحسن القابسي، كان قد نشأ بإفريقية، جليل القدر في فقهائها، مطاعاً. وكانت العامة تتبعه. وكان شديداً على أهل البدع(7/104)
والروافض مغرياً بهم، يستند منه أهل السنّة الى ملجأ ووزر، فضجر لذلك شاعر الرافضة المعروف بالباحجوري في قطعة له وهي:
عيني من التغميض ممنوعة ... ومهجتي بالنار ملذوعة
من حسن ظبي حسن وجهه ... طرته بالمسك مصنوعة
كأنما ذكرى الهوى عنده ... ذكرى ابن خلدون لدى الشيعة
ذكر الشيخ أبو عمران قال: نزلت بالقيروان مسألة الملاعنة إذا نكلت عن اليمين ثم أرادت الرجوع الى اللعان فاختلفنا فيهعا، فأفتى فيها أبو علي ابن خلدون وغيره أن لها ذلك، كما لها الرجوع بالإقرار المحض، وهو قول أبي بكر بن عبد الرحمن، وذهب أبو القاسم ابن الكاتب أن الرجم قد وجب عليها، وليس لها الرجوع بعد النكول لأن الزوج لما حقق عليها ما رماها به بالشهادات الأربع صارت تلك الشهادات كأربعة شهدوا على معاينة الزنى فعليها أن تأتي بما يقابلها ذلك ويكافئ شهادته، فإن نكلت فكأنها صدقت شهادته، بخلاف مجرد الإقرار، وبه قال أبو عمران، ولابن الكاتب في ذلك تأليف طويل نص فيه فتياه وبيّن وجه قوله.(7/105)
خبر قتله رحمه الله تعالى
ولما قتلت الرافضة سنة سبع وأربعماية، وكان ابتداء ذلك يوم الجمعة منتصف محرم مفتتحها، وهو يوم كان وصول المعزّ بن باديس الى القيروان فيه، بعد موت أبيه واستفتاح ولايته، فقتلت العامة الرافضة أبرح قتل بالقيروان، وحرقوهم وانتهبوا أموالهم وهدموا دورهم وقتلوا نساءهم وصبيانهم وجروهم بالأرجل، وكانت صيحة من الله سلطها عليهم، وقال إن عامل القيروان منصور بن رشيق كان يمشي كأنه يسكن الناس وهو يشير على العامة، وأفتق الأمر فلم يقدر السلطان على ضبطه وولي عاملاً آخر فتعذر عليه سده، وخرج الأمر عن القيروان الى المهدية وسائر بلادهم، فقتلوا حيث وجدوا وأحرقوا بالنار فلم يترك أحد منهم بمدن إفريقية وأعمالها إلا من اختفى. ولجأت الرافضة الى مساجد البادية فقتلوا فيها أبرح قتل وهدموا دار الإمارة بالمنصورة، وتعدت العامة ذلك الى جماعة من أهل السنة من غيرهم. فلقد حكي أن العامة جاءت تتعلق برجل منهم اتهموه برأيهم فمروا به على شيخ من العامة بسألهم عن تعلقهم به، فقالوا نسير به الى الفقيه أبي علي ابن خلدون فنأخذ عليه بما يأمرنا به، فقال لهم الشيخ العامي لمَ لا تقتلوه الآن فإن كان رافضياً أصبتم وإن كان سنياً عجلتم بروحه الى الجنة(7/106)
من الآن؟ أو كما قال. وحكي أنه رئي يتبع واحداً منهم ليقتله، فقيل له ما تصنع؟ فقال هذا زنديق يفضّل علي ابن الخطاب على عمر ابن أبي طالب أو كما قال بلفظ العامي، فانتقم الله منهم على أيدي عامة المسلمين وقتلوهم كل مقتل، فرعب المعز منهم وأراد كسر شوكتهم فدبر قتل زعيم السنة وشيخ هذه الدعوة. فلما كان يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال من السنة، أتى عامل القيروان ومعه خيل ورجال فتقدم الى مسجد أبي علي بعد صلاة العصر وهو جالس وعنده جماعة، فطلع بعض رجالاته الى المسجد فقتلوا أبا محمد ابن العرب جليسه وهم يظنونه أبا علي إذ احتقرت عيونهم أبا علي لكونه سناطاً فلم يظنوه صاحب المجلس، وخرجوا، فلما عرفوا أنه ليس إياه رجعوا فقتلوا أبا علي وتعاودوه بسكاكينهم وجرحوا جماعة ممن في المسجد فحمل الى داره به حشاشة فتوفي في ليلته، وارتجت المدينة وثارت الصيحة من نواحي القيروان فمال أهل المنصورة من الرجال والعبيد فنهبوا جميع ما في حوانيتها، حتى لم يدعوا حانوتاً، وألقيت النار في كبار الأسواق، ونهبت أموال التجار، وكانوا آمنين وأموالهم بحوانيتهم، فذهل الناس وخرجوا، وشغلوا بأنفسهم عن ذكر أبي علي وخبره،(7/107)
فطاح بهذه السبيل دمه، وأراد عامل البلد استرضاء الناس فجاء برجلين وقال إنهما اللذان قتلاه فقتلهما، ودفن أبو علي بالليل، وفي ذلك يقول الحصري أبو إسحاق الأديب من رثاء فيه:
دفنوا صبحهم بليل وجاءوا ... حين لا صبح يطلبون الصباحا
ومن رثاء ابن الوراق فيه:
مضرج بدم الإسلام، مهجته ... من بين أحشاء دين الله تنتزع
والمراثي فيه كثيرة منها لابن جرمون قصيدة أولها:
جفوني لا تدري الدموع بأسحم ... ونفسي ألا تلتظي فتضرمي
فلا وجد إلا أن تفيضي من الأسى ... ولا دمع إلا أن يكون مع الدم
وقال ابن يحيى في قصيدة:
وأكون متبعاً لأشنع سنة ... قبلي العالم أبو تمام
للبست لبس الثاكلات وجئت في ... سود السلاب بكاة من حام
أبو جعفر عمر بن مثنى
كان أبوه من جلّة أصحاب عيسى بن مسكين، مات وتركه صغيراً، فربّاه الشيخ أبو الحارث ليث بن محمد الفقيه،(7/108)
قال اللبيدي: وكان عمر من العلماء بالقراءة، يجيد رواية ورش، مقدماً في الإعراب، ومعرفة الناسخ والمنسوخ والخاص والعام والتفسير والغريب والحساب والفرائض ودرس الفقه، سمعت أبا محمد الصدفي يقول: ما رأيت في خارج إفريقية أعلم منه وكان قد لزم السكنى بعد مسرة بن مسلم بقصر زياد يؤمد فيه ويطلب عليه الناس منقطعاً في العبادة، ما رأيته ضاحكاً قط، ولا كان يبتسم ولا يتكلم يما لا يعنيه، إنما كان يجلس لقراءة القرآن، ومذاكرة العلم، وينزوي للصلاة والذكر، وكان من أعلم الناس بالوثائق والبلاغة في الترسيل، وحجب أيضاً حمدون بن مجاهد، ومحمد بن عبد الرحيم بن عبد ربه، وكان خاصة بأبي إسحاق الجبنياني ينشط إليه ما لا ينشط الى غيره رحمه الله تعالى.(7/109)
من أقصى المغرب
أحمد بن خلف المسيلي
أبو جعفر يعرف بالخياط، من أهل العدوة ودخل الأندلس فاستوطنها، قال ابن الفرضي كان فقيهاً عالماً بالمسائل حافظاً لها، حسن التكلم في الفقه على مذهب مالك، وكان ورعاً زاهداً فاضلاً، دخل الأندلس، وسكن الثغر أعواماً كثيرة. وكان منسوباً الى البأس والنجدة، وتوفي رحمه الله بقرطبة في جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين وثلاثماية، رحمه الله.
عبد الله بن الزويزي
بزاءين، قاضي أصيلا من بلد المغرب، مشهور الاسم بعيد الصيت في الفتيا والذكر بالعلم، وبه يضرب المثل الى الآن بالمغرب، فيقول لا أفعل كذا لو أفتاك به ابن الزويزي، وله مع بني عامر غزوات بثغور الأندلس رحمه الله.(7/110)
أبو سعيد خلف بن مسعود الرعيني
يعرف بابن أمنية من أهل المغرب، ودخل الأندلس. فنزل مالقة. قال ابن حيان: كان من أهل الرواية والعلم وذا لسان وعارضة، وقدم قرطبة سنة ثلاث وتسعين، فحمل عنه بها علم كثير، وكانت له بها من ابن ذكوان مكانة. فلما ثارت الفتنة بقرطبة وقاموا على البربر أول قيام المهدي اتصلت الثورة بالأندلس فأغرى العامة بعض أعدائه فشدخوه بالحجارة، وقيل إنهم لما أرادوا قتله سألهم أن يمهلوه حتى يصلي ركعتين، فأمهلوه، ثم أضجعوه فذبحوه، وطافوا برأسه، وذلك آخر سنة أربعماية، وقد نقل الشيعي عنه في نوازله في مسألة.
أبو بكر محمد بن عيسى رحمه الله
ويعرف بابن زويع، من أهل سبتة، وقال أبو حيان: ابن زويعة، من أهل العلم والأدب، وأجلّ قضاة سبتة،(7/111)
وكان تخطط بالشرطة العليا، وقضاء سبتة وأصيلا والمغرب. كذا رأيت السجلات تنعقد عليه، ويقال إن أصله من البصرة، وله رحلة الى الأندلس، ويقال إنه دخل العراق وحجّ ولقي علماء البلاد، ورجع الى قرطبة فاختصّ بابن ذكوان، وهو كان المنوه به لما وجد عنده من العلم، وكان له مال واسع وذلك أن قاضي الجماعة تسلف له مالاً من مال الأحباس بإشبيلية وأخرجه في زيت باسمه فعاد عليه منه عائد كان أصل ماله فيما ذكر، وكان حسن السيرة في قضائه وأيامه مشهورة لعلو مكانه، وسعة علمه، وبعد صيته، قال لي بعض الشيوخ وكان متفنناً في علمه نظاراً صاحب حجة وجدل عالماً بالحديث، قال ابن حيان: وكانت له منزلة عالية عند سلطان الأندلس متمكن الأسباب لديه وهو آخر قضاة بني أمية بسبتة. قال أبو مروان ابن حيان: وكان من وجوه أصحاب ابن ذكوان وله في العلم والعفة والصرامة درجة سامية، وقدم صدق أدنته الى المنية، وقال: وقلده المظفر قضاء سبتة بلده وعمله، بإرشاد ابن ذكوان إليه، وذلك عند اختياره لخطة القضاء أهلها، فحمدت ولايته واتصلت الى أن قامت الفتنة، وسما قاسم بن حمود الى الخلاف على بني مروان بسبتة فكان من قاضيها هذا عنه بعض التأخر، فأغرى به العامة بقتله(7/112)
ورعب الناس بقتله فلم يختلوا عليه، وخبره مشهور في الجزالة، وما قاله ابن حيان من إغرائه للعامة غير صحيح، فقد كان أجل في قلوبها من ذلك وإنما قتلته رجال بني حمود والصحيح أن الآمر بقتله علي بن حمود أخو قاسم، وذلك بعد الأربعماية، وقد بسطت أخباره في ذكر قضاة سبتة من تاريخها.
أبو مروان عبد الملك الكوري
من أصحاب أبي محمد بن أبي زيد رحمه الله، من فقهاء فاس، ومعظمها بعدوة الأندلس منها، وبه تفقه عثمان بن مالك، وغيره من الفاسيين، وتوفي سنة سبع وأربعماية.
يحيى بن تمام رحمه الله
من فقهاء سبتة في هذا الحين، قال أبو بكر الحسن بن مفرج القيسي كان من فقهائها مشهوراً بالعلم بها، وهو صاحب مسألة الشفعة في الصدقة، وقد ذكرناها في أخبار أبي عمر ابن المكوي رحمه الله.(7/113)
من أهل الأندلس
القاضي أبو بكر محمد بن يبقى بن محمد بن زرب بن يزيد
قرطبي، كان أبوه يبقى أحد قراء القرآن للناس، قال ابن الفرضي: سمع من قاسم بن أصبغ، ومحمد بن عبد الله بن أبي دليم وطبقتهما، وعني بالرأي فتقدم فيه. وكان تفقه عند اللؤلؤي، وأبي ابراهيم، واللؤلؤي هو المنوه به. وكان ابن زرب من أحفظ أهل زمانه لمسائل مذهب مالك وأفقههم به. وعليه كان مدار طلبه في المناظرة، وكان الفقه جلّ علمه، ولم تكن له رحلة ولا رواية، كان القاضي ابن السليم يقول له: لو رآك عبد الرحمن ابن القاسم لعجب منك يا أبا بكر، وشوّر في الأحكام أيام ابن السليم قبل أبي عمر ابن المكوى سنة ستين، فلما مات وليَ مكانه قضاء الجماعة سنة سبع وستين الى أن مات.(7/114)
قال غير واحد: كان ابن زرب مع علمه عالماً مجتهداً ورعاً عفيفاً كثير الصلاة والتلاوة، بصيراً بالعربية والحساب، حسن الخطابة، قريب الدمعة، بعيد المنظر، دقيق التفقه، مستبحراً في المسائل، حافظاً للأصول حاذقاً بالفنون، كثير الاقتداء، متثبتاً في أحكامه، وإليه كانت الخطبة والصلاة، وألّف كتاب الخصال المشهور في الفقه على مذهب مالك عارض به كتاب الخصال لابن كاوس الحنفي، فجاء غاية في الإتقان، وله كتاب في الردّ على ابن مسرة، وكان آخر حاله قد فرّ الى العمل وجدّ في القيام وأكثر الاستغفار، حتى قيل إنه كان يختم القرآن كل ليلة. ويقال إن سبب ذلك حضوره المجلس الذي عقده ابن أبي عامر وذلك لتهمتهم في القيام على هشام الخليفة، وإقرار عبد الملك بذلك على نفسه. ويقال إن القاضي كان نزع عندما استفتي بالآية: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله "، وقيل نزع بها غيره، نكث ابن منذر لإقراره حتى زجره ابن أبي عامر، وقال له تريد أن تشككه في(7/115)
نفسه يا قاضي هو أعلم بما أقر به على نفسه، فرخص القاضي رحمه الله ونفذ قتل ابن منذر وصلبه.
سيرته رضي الله عنه
قال ابن حيان: سمعت المشيخة رضي الله عنهم يقولون إنه لما وليَ القضاء احتبس خواص أصحابه المشاورين وقد جاءوه مهنئين، فأمر غلامه فكشف عن مال عظيم في صندوق وقال يا أصحابنا قد عرفتم ما امتحن به من تولى القضاء قديماً من سوء الظنة، وأخشى أن أطرق الناس على عرضي. وهذا حاصلي ورزقي هذا من الصندوق، وفي مخازني ما يفي بقيمته، وحظي من التجارة ما عرفتم، فإن فشى من مالي ما يناسب هذه الجملة فلا لوم، وإن تباعد ذلك فقد وجب مقتي فاسألوا الله تخليصي مما نشبت فيه. وكان ابن زرب لا يجلس للحكومة حتى يأكل. وكان موصوفاً بطيب الطعام، له منه ومن الحلوى والفاكهة وظيفة معلومة، كان لا يؤاكل أحداً إذا قرّب عامه قرماً عليه، دون أن يستدعي أحداً، فلما كان أحد الأيام حضره المتطيب الترجلي وكان يخف عليه فقرع عليه وقال لا أريد فقال المتطيب فما قولك لمن يريده فقال نعمى عين ومسرة وعلي أن تأكل وحدك فلا فضل في الأكل. فقال المتطيب تكفاه، فضحك وأمر فتاه بإخراج المائدة فقدمها عليها ثريدة صغيرة من(7/116)
درمك مكللة بلحم خروف الصنعة، ثم بعدها جنب خروف مشوي برغيف درمك، فقال: هذا طعامي الذي يكثر عليّ فيه، لونان كل وقت لا أزيد عليهما، ولا سرف في لونين. فقال له: أيها القاضي أمن أصل تقوله؟ قال نعم، ورفع فيه حدياً لبعض السلف، لم يذكره الراوي: قال ابن الفرضي: وكان بعيداً من الحيف في أحكامه وفيه سلامة حال، قال غيره: كان كريم العناية نفاعاً لمن صحبه وكان ابن أبي عامر يعظمه ويستحسنه ويتحرك إليه إذا أتاه ويجلسه معه في فراشه، لم يقبّل له ابن زرب يداً قط عند أخذه أهل مملكته، ولما أشهر ابن أبي عامر جامع الزاهرة واستشار الفقهاء في التجميع فيه أفتى القاضي بمنع ذلك وقال بقوله ابنا(7/117)
ذكوان، وابن المكوى، وابن وافد، وابن الفرج الطائي، وجماعة، وساعده ابن العطار على التجميع فاستحيى خلاف ابن زرب وآدابه كثيرة، وتوفي رحمه الله في رمضان سنة إحدى وثمانين، ومولده في رمضان سنة سبع عشرة وثلاثماية. وتفاقده الناس وأثنوا عليه حسناً، وأظهر ابن أبي عامر لموته غماً شديداً. وكتب لورثته كتاب حفظ ورعاية انتفعوا به، وتفقدهم في حياته، واستدعى ابنه محمداً وهو طفل ابن ثلاثة أعوام فوصله بثلاثة آلاف دينار والطاف قيمتها ألف دينار، قال القاضي غريب بن محمد: رأيت ابن زرب بعد وفاته، فسألته؟ فقال: ما وجدت شيئاً أضرّ من الاختلاف الى أبواب الملوك، وقال المقرئ الباقلاني: سألته في النوم؟ فقال ما وجدت أنفع من قراءة القرآن، وكانت ولايته في القضاء أربعة عشر عاماً.(7/118)
محمد بن عبيد الله بن الوليد المعيطي
أبو بكر، من أبناء الأشراف وأعيان الفقهاء الأخيار. سمع من أبيه ووهب وابن الخراز القروي، وابن سعيد، والمحيلي، وأبي ابراهيم الطليطلي، قال ابن الفرضي: وكان حافظاً للفقه، عالماً بمذهب مالك وأصحابه. قدم الى الشورى وهو ابن ثلاثين سنة. وكان ورعاً زاهداً وصار في آخر عمره متبتلاً منقطعاً معتزلاً عن جميع الناس. قال غيره: وكان ثبتاً سليماً طرح الدنيا عندما تمت له. وصارت إليه رئاسة قرطبة بالعلم والشرف والقرب من الخليفة، وصيّر قاضي الجماعة فزهد في ذلك كله في عنفوان شبابه، فلزم بيته وأطرح السلطان والفتيا، وعهد ضيعته، وباع دابة ركوبه، ولزم غرفة باب داره منفراً(7/119)
لعبادة ربه، ويأكل ما يصنع بيده مثل بقل الفحص وما أشبه ذلك، ولبس الصوف وتوسّد الأرض، واعتزل امرأته باختيارها المقام معه، وكان لا يجالس أحداً البتة. قال القاضي موسى: كان أبو بكر فقيهاً قد عني بالحديث والمسائل، وكان ذا رئاسة في العلم والخبر، وشوّر وعظم جاهه، ثم أوقع الله تعالى في نفسه حب الآخرة والزهد في الدنيا، فزهد في الدنيا ولزم العبادة الى أن مات. وكان ابتداء تبتله عند انصرافه من دفن أبي بكر البيري الزاهد صاحبه، وكان يجالسه، وهو سهّل الطريق له الى العبادة بتدريج حتى تم له مراده، فكان يصوم النهار ويقوم الليل، حتى مات. وكان يخدمه أيام نسكه أبو بكر القرشي الزاهد، قال القاضي يونس الصفار: فعدت الى المعيطي في تبتله مرة في الجامع فوجدته على ما عهدته من الانبساط إليّ وكان بيننا المرافقة في طلب العلم، فذاكرته بحديث نقله ابن أبي الدنيا في أن الشاب إذا صدق في توبته عجلت منيته، فسرّ به وسألني أن أرسل إليه بالكتاب الذي وجدته فيه، فما عاش بعد ذلك إلا نحو شهرين ومات، وما رجع إليّ الكتاب إلا بعد موته وكان موته بعد انقباضه بسبعة عشر شهراً رحمه الله تعالى.(7/120)
خبر تأليف كتاب الاستيعاب لقول مالك رضي الله عنه
كان ساقطاً الى الحكم أمير المؤمنين كتاب من رأي مالك، ابتدأه بعض أصحاب اسماعيل القاضي، وبوبه وقدره ديواناً جامعاً لقول ملك خصة، لا يشاركه فيه قول أحد من أصحابه باختلاف الروايات عنه، وذكر من رواها: مضى للمؤلف منه مقدار خمسة أجزاء أو نحوها، واخترمته المنية عن تمامه فلما رآه الحكم أعجبته بساطته وحرص على إكمال الفائدة به فذاكر به قاضيه ابن السليم وسأله هل عندهم من يكمله على الرغبة؟ فقال له: نعم بشرط إباحة أمير المؤمنين خزانة كتبه للبحث عن أقوال مالك حيث كانت، روايات المكيين والمدنيين والعراقيين والمصريين والقرويين والأندلسيين وغيرهم، فقال له الحكم: افعل ذلك على ضنانتي بها حرصاً على إكمال الفائدة. فسمى له الفقيهين أبا بكر المعيطي القرشي هذا، وأبا عمر ابن المكوى فمكنهما من الأسمعة وما جانسها فاقتدرا منها على ما أراداه، وألّفا كتاب الاستيعاب الكبير في مائة جزء، بلغا فيه النهاية، وكان(7/121)
بين أيديهما راوٍ مجيد لتبييض ما يودانه، فكان ابن المكوى أولاً يقدم القرشي لنسبه ويقدم اسمه عليه فيما يتكلمان فيه فيقول: قال محمد حتى وقع بينهما شيء فأنف أبو عمر من تقديم اسمه عليه لسنّه وعلمه فجعل يقدم نفسه فيما يكتب ويملي، وعارضه الآخر بمثل ذلك وأنكر الحكم اختلافهما في ذلك بحجة تقديم القرشي لنسبه. وأقرّ قاضيه - ابن السليم - بإصلاح بينهما وجمعهما على ما أمر به، فصلحت حالهما، فلما تم الكتاب سُرّ به ووصل كل واحد منهما بألف دينار ومنديل بكسوة، وقدمهما الى الشورى.
وفاته رضي الله عنه
واخترم المعيطي قبل أقرانه، فكانت وفاته في ذي القعدة سنة سبع وستين وثلاثماية، وأبوه عبيد الله حي وهو الذي صلى عليه، وسنّه نيف على الأربعين سنة، مولده سنة سبع وعشرين في صفر منها، وكان له ابن يسمى عبد الله ويكنى بأبي مروان، قال ابن حيان: كان حافظاً عالماً ورعاً فاضلاً عظيم الصدقة(7/122)
من بيت علم وفقه وعبادة، بشر بخير قبل موته. وشاوره سليمان المستعين في أيامه وتوفي في ذي القعدة سنة إحدى وخمسماية، وسنّه ثلاث وأربعين سنة، قال بعضهم حضرت يوم موت أبي بكر المعيطي وهو يغسل إذ نظرت في قبلة حائط بيته مكتوباً بخطه: من رجال شيئاً طلبه ومن خاف شيئاً هرب منه. فقلت: أنت والله ذلك الطالب الهارب يا أبا بكر، فنفعك الله بذلك.
أبو عمر أحمد بن عبد الملك الإشبيلي
المعروف بابن المكوى، مولى بني أمية، وسكن قرطبة، شيخ فقهاء الأندلس في وقته، تفقه بأبي ابراهيم وصحبه، وكان أبو إبراهيم يتفرس فيه النجابة فحرضه واعتنى به، وكان قد حبب إليه الدرس مدة عمره لا يفتر عنه ليله ونهاره، ورجعت فيه لذته، وكان أول أمره ضعيف الحفظ قليل العلم، فلم يزل أبو ابراهيم عليه بالدرب والتحريض على المطالعة(7/123)
وإقامة الدرس حتى فتح عليه، وكان أول طلبه ممكناً في عيشه يتجر في سوق البزازين لا يفارق أثناء ذلك المطالعة في جلوسه وحركته، فلما شهر في الناس حذقه، واحتاجوا الى فتواه قلده الحكم الشورى، وقرر القاضي ابن السليم أمره للحكم فأخرج له ألف دينار فلما رآها هالته، قال: كنت أرى القيامة قد قامت وأنا أساق الى العرض، فكنت أسير وأجد في نفسي قوة فإن أمري على دين الإسلام، فكنت أقف بين يدي العرض فأحاسب يسيراً، ثم يقال لي أقعد فأنت آمن، ثم يؤتى بصكوك كثيرة، فيقال لي خذ كتابك فأقبض يدي ثم الثانية فلا آخذه ثم الثالثة فكنت كذلك ثم استيقظت، وبي رجف من الفزع فلم يلهني، فانقطع بعد هذه الرؤيا ولم تبق من نفسه بقية الى أن مات، ذكر أن صديقاً له قصده في عيد زائراً له فأصابه داخل داره ودربه مفتوح، فجلس منتظره وأبطأ عليه،(7/124)
فأوصى إليه فخرج وهو ينظر في كتاب فلم يشعر بصديقه حتى عثر فيه لاشتغال باله بالكتاب، فتنبّه حينئذ له، وسلم عليه، واعتذر إليه من احتباسه بشغله بمسألة عويصة لم يمكنه تركها حتى فتحها الله عليه، فقال له الرجل: في أيام عيد ووقت راحة مسنونة؟ فقال: إذا علمت بهذه النفس انصبت الى هذه المعرفة، والله ما لي راحة ولا لذة في غير النظر والقراءة. قال ابن عفيف: إليه انتهت رئاسة العلم بالأندلس حتى صار بمثابة يحيى بن يحيى في زمانه، واعتلى على جميع الفقهاء، ونفذت الأحكام برأيه، فحكم على الحاكم، وبعد صيته بالأندلس، وحاز رئاسة أحاديثها مشهورة، وكان رحمه الله من ذوي المتانة في دينه والصلابة في رأيه والبعد عن هوى نفسه، لا يداهن السلطان، ولا يدع صدعه بالحق، كان البعيد والقريب عنده في الحق سواء.(7/125)
ذكر مكانه من العلم رحمه الله
قال ابن مفرج: وكان أفقه أهل زمانه، وأتقنهم للرأي، وكان أحفظ الناس لمذهب مالك رحمه الله، واختلاف أصحابه، لا يلحقه أحد من المتقدمين في عصره، ولا يقوم به أحد من طبقته، وكان متفنناً في علوم الشريعة، وأطلب الناس لنجاة الناس عند مضائق الفتيا. وكان في الحفظ آية من آيات الله عز وجلّ. أقرّ له أصحابه كلهم بذلك. وكانوا يقولون: أبو عمر ابن المكوي أحفظ منا للعلم كثيراً. وسمع أبو محمد ابن الشقاق الفقيه يوم دفنه يقول على قبره: رحمك الله يا أبا عمر، فلقد فضحت الفقهاء بقوة حفظك في حياتك، ولتفضحهم بعد مماتك، أشهد أني ما رأيت أحداً أحفظ للسنة كحفظك، ولا علم من وجوهها كعلمك. وكان ابن زرب على تقدمه يعترف له بذلك. ولقد قال يوماً لأصحابه، بعد خروجه عنه وثنائه عليه في وجهه: يا أصحابنا الحقُّ خيرُ ما قيل، أبو حمر والله أحفظ منا كلنا. ولقد كانت(7/126)
أعيتهم مسألة عويصة، فسأله القاضي، هل يذكرها قال نعم، في كتاب كذا من المبسوط في باب كذا آخر مسألة منه، أو كما قال. فطلب منه الكتاب فإذا بها كما ذكرها، قال غيره: وعلى أبي عمر دارت الفتيا بالأندلس أجمع الى أن هلك، وكان في ذريته فيما جرى على يديه أحصى العجائب، وكان تماماً في ذهنه وفطنته، لطيف الحياة في الإصلاح بين الناس. قال أحمد بن الليث: كان أبو عمر من أهل الحفظ والفهم الثاقب، مع الذكاء والفطنة وحدة الذهن، حتى كان يشبه بإياس بن معاوية ونظرائه. ظهرت له من ذلك في فتاويه أمور عجيبة، قال القاضي أبو الفضل عياض رضي الله عنه: وعظم قدر أبي عمر بالأندلس كلها، وصار معتمداً لجميع قضاتها وحكامها فيما اختلفوا فيه. ودعاه ابن أبي عامر الى تقليد قضاء الجماعة مرتين، إحداهما عند وفاة ابن زرب والأخرى عند عزل ابن برطال بعدها فأبى من ذلك في المرتين أشد إباء، وأغلظ القسم(7/127)
ألا يلي القضاء ولا شيئاً من الأحكام أبداً، وهو الذي أسند إليه الحكم تأليف كتاب الاستيعاب الذي قدمنا ذكره، مع أبي بكر المعيطي. قال ابن حيان، وكان في أول حاله لم يأخذ نفسه بتثقيف علم اللسان فراغت في فتاويه غرائب من لحنه، بقاها عليه أصحابه ثم فطن لنفسه، فأشاع ذكر مرض حبس نفسه فيه شهراً عاكفاً على كتاب سيبويه، فخرج مكتفياً من علم النحو لقوة حفظه وتقرب فهمه، فصلحت حالاته. وكان مما أعانه على سعة المطالعة، أنه تخير هو وقوم من الفقهاء صدر خلافة هشام أيام ابن أبي عامر لامتحان خزانة العلم، وتفتيش ما يعرض فيها من آلاته وردها الى مواضعها مرتبة الى أشكالها، معهم من الفتيان طائفة يتولون ذلك بين أيديهم، فاستجاب أبو عمر لما كلف من ذلك، على بعده من الالتباس بعمل السلطان، لما رجا في ذلك من المطالعة للغرائب، التي جلبها الحكم، واقتدر منها على ما لم يقدر عليه سواه،(7/128)
مما كان أبو عمر يتشوق إليه، فرغب أبو عمر الى أصحابه أن يعفوه من مباشرة ما اشتغلوا به من التأليف، ويتركوه والمطالعة، فاستوسع في ذلك وطالت مدة عملهم في ذلك، لكثرة هذه الكتب، ووفور خزانتها حولاً كاملاً وفوقه، فحصل للشيخ من ذلك ما أمله، وكان عظيم التذكر، حسن الحفظ، بطيء النسيان، وكان يتكلم عنده يوم الإثنين في الموطأ، وما شاكله، ويوم الثلاثاء في المدونة والمستخرجة وما جانسهما، فكان النبلاء من أصحابه كابن الشفاء، وابن دحون وأمثالهما من الأكياس والحفاظ، يتظاهرون عليه، لينشروا حفظه، فإذا جرت المسألة وأمعن القول فيها الى أبي عمر وترجيحه، بدر كلٌّ من أولئك الحفاظ الى ما يغرب من قولة شاذة، فينصت أبو عمر الى كل ما يقوله كل منهم، حتى يستوفي كلامهم. ثم يرد على كل واحد فيما أغرب به، ويفصل له أمكنته ونسبته الى قائله. ويذكر الاختيار من ذلك من قول الأصحاب كأنما ينظر في صحيفة، ثم يجرد إثر ذلك هو اختياره فيريهم العجب، من كل فعله.(7/129)
ومن غرائب فتاويه ونزعاته رحمه الله، كان أبو عمر لكثرة حفظه، وقوة درايته، لا يبطئ بالفتاوي ولا يطيل حسبما عند نفسه، بل يجيب لوقت أو يومه، ومن نوادر ما أفتاه أبو عمر فتواه في امرأة حرة بقرطبة، لها ابنة مملوكة صبية باعها مولاها من رجل يخرجها عن قرطبة، فشكت أمها ذلك فأفتى بمنعه من إخراجها وبيعها على مشتريها، وخالفه في ذلك القاضي ابن زرب وغيره من الفقهاء، فأخذ فيها ابن أبي عامر بقول أبي عمر. ومنها مسألة وقعت ببلدنا بسبتة وهي إذ ذاك
من عمل صاحب الأندلس، وذلك أن الفقيه يحيى بن تمام من أهلها، اشترى حصة من حمّام فيه شرك، وأشهد البائع لابن تمام في الظاهر أنه تصدق به عليه، ليقطع شفعة الشريك، فقام الشريك بشفعته، فأفتى الفقهاء بها إذ ذاك كلهم بقطع الشفعة، إذ لا شفعة في الصدقة. فقال الشفيع للقاضي: لا أرضى إلا بفتوى فقهاء الحضرة بقرطبة. فرفع إليهم السؤال على وجهه، وبدأ بالشيخ أبو عمر فوقع أسفلها: هذا من حيل الفجار، وأرى الشفعة واجبة. فلما رأى ابن تمام جوابه، قال: هذا عقاب لا يطار تحت جناحه، والحق خير ما قيل، هات مالي وخذ حمامك. ومن غرائب فتاويه التي زاحم فيها ابن أبي عامر، قصة عبد الملك بن منذر البلوطي وكان يتولى الرد بقرطبة وكان من صنائع الحكم، فلما تغلب ابن أبي عامر على الأمر واتخذ لنفسه صنائع، وحجر على هشام الأمير وهويت قلوب الناس إليه فكانوا يتربصون به الدوائر، واجتمع جماعة من وجوه الناس على النكث بهذه الطبقة المستغربة، والبطش بهذا الخليفة المستضعف، والبطش بابن أبي عامر وقتله، والقيام بغيره. وكان ابن منذر المتولي لكبر القصة فوقع ابن أبي عامر على الخبر وعلى كتاب بخط ابن منذر في القصة، وجمع الفقهاء والقاضي ابن زرب للشورى في أمرهم. وقد أقر ابن منذر بالأمر على نفسه، وأن الكتاب خطه. فأفتى بعض الفقهاء فيهم بحكم المحاربة، لما سعوه من الفساد في الأرض. وتوقف آخرون، منهم القاضي وألحّ ابن أبي عامر، على أبي عمر ابن المكوى واضطره الى القول فيها. فقال: ما أرى عليه شيئاً، هو رجل همّ بمعصية فلم يفعلها. ولم يجرد سيفاً، ولا أخاف سبيلاً. إنه ممن قال فيه صلى الله عليه وسلم: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم. فخرج أمر السلطان بعد ذلك بطلب ابن المنذر، فنفذ ذلك في الحين وانقبض ابن المكوى في داره، وادعى مرضاً نحواً من شهرين فلم يفتِ أحداً، ولا خرج لمن أتاه، إنكاراً لما جرى على صاحبهم، ابن المنذر. وإذ لم يؤخذ فيه برأيه وتوقعاً لشر ابن أبي عامر، الى أن تقادم العهد وخشي زيادة وحشة ابن أبي عامر، فعاد لحاله. ومن غرائب ذكائه وتلطفه، أن بعض الحكام وجه الى امرأة معها بنية تطلب فرضها من أبيها، والرجل ينكر أن تكون ابنته، فلم يزل به يعظه، ويخوفه، ويستلطفه، ولا تنفعه رأفة فيه، وكانت عادته الصبر في مثل هذا. الى أن أخذ أبو عمر الطفلة، وكانت حسنة الصورة، عليها فروة جديدة فأجلسها في حجره، وجعل يمسح عليها، ويثني على حسنها، ويترصد غفلة الرجل، الى أن رآه مطرقاً غافلاً فقال: حتى فروها مشاكل لها، أحسن في شرائه أخلف الله له، ثم قال له مستعجلاً بكم بالله اشتريته؟ فقال - من غير روية -: بعشرة دراهم فقال: أحسنت قم فأفرض لابنتك بأقل ما يلزمك كذا. فخجل الرجل وأذعن. ومثل ذلك قصة أخرى في رجلين رفعا إليه من العامة أحدهما يدعي رق الآخر، وأنه ابن أمته، منذ زمان حتى عرفه الآن وهو في زي التجار. فأخذ الشيخ في ألطافهما ووعظهما فلا يلقى منهما إلا الإصرار فتفرس في المدعى قوة أدّته الى طول مراوضتهما فلعله يظفر ببغيته، فجعل يكلمهما معاً ومنفردين في الرجوع الى الحق فلا يغيبه، فكان فيما سأل عنه المدعي أن قال له: كيف كان اسمه عندك؟ فقال: رزق، قال فاكتم هذا، وكان قد تسمى بأحمد، وعاد الى شأنه من مراوضتهما الى أن أظهر الضجر وقال: أصرفهما يا غلام وعرف الحكم أني ما أجد على المدعي عليه حجة، ولا شبهة توجب شيئاً غير ضامن يأخذه عليه، الى أن يظهر غير هذا فانطلقا عنه، وقد علت المدعي فترة أكسبت العبد طمعاً ألقاه في الغفلة، فلما ولوه ظهرهما نادى الفقيه: يا رزق فلبّاه نعم يا سيدي، فقال له: طال ما أعييتنا يا كذا أطع مولاك وقال لمولاه: خذ بيد عبدك، فبهت العبد وانقاد لسيده فمضى معه. عمل صاحب الأندلس، وذلك أن الفقيه يحيى بن تمام من أهلها، اشترى حصة من حمّام فيه شرك، وأشهد البائع لابن تمام في الظاهر أنه تصدق به عليه، ليقطع شفعة الشريك، فقام الشريك بشفعته، فأفتى الفقهاء بها إذ ذاك كلهم بقطع الشفعة، إذ لا شفعة في الصدقة. فقال الشفيع للقاضي: لا أرضى إلا بفتوى فقهاء الحضرة بقرطبة. فرفع إليهم السؤال على وجهه، وبدأ(7/130)
بالشيخ أبو عمر فوقع أسفلها: هذا من حيل الفجار، وأرى الشفعة واجبة. فلما رأى ابن تمام جوابه، قال: هذا عقاب لا يطار تحت جناحه، والحق خير ما قيل، هات مالي وخذ حمامك. ومن غرائب فتاويه التي زاحم فيها ابن أبي عامر، قصة عبد الملك بن منذر البلوطي وكان يتولى الرد بقرطبة وكان من صنائع الحكم، فلما تغلب ابن أبي عامر على الأمر واتخذ لنفسه صنائع، وحجر على هشام الأمير وهويت قلوب الناس إليه فكانوا يتربصون به الدوائر، واجتمع جماعة من وجوه الناس على النكث بهذه الطبقة المستغربة، والبطش بهذا الخليفة المستضعف، والبطش بابن أبي عامر وقتله، والقيام بغيره. وكان ابن منذر المتولي لكبر القصة فوقع ابن أبي عامر على الخبر وعلى كتاب بخط ابن منذر في القصة، وجمع الفقهاء والقاضي ابن زرب للشورى في أمرهم. وقد أقر ابن منذر بالأمر على نفسه، وأن الكتاب خطه. فأفتى بعض الفقهاء فيهم بحكم المحاربة، لما سعوه من الفساد في الأرض. وتوقف آخرون، منهم القاضي وألحّ ابن أبي عامر، على أبي عمر ابن المكوى واضطره الى القول فيها. فقال: ما أرى عليه شيئاً، هو رجل همّ بمعصية فلم(7/131)
يفعلها. ولم يجرد سيفاً، ولا أخاف سبيلاً. إنه ممن قال فيه صلى الله عليه وسلم: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم. فخرج أمر السلطان بعد ذلك بطلب ابن المنذر، فنفذ ذلك في الحين وانقبض ابن المكوى في داره، وادعى مرضاً نحواً من شهرين فلم يفتِ أحداً، ولا خرج لمن أتاه، إنكاراً لما جرى على صاحبهم، ابن المنذر. وإذ لم يؤخذ فيه برأيه وتوقعاً لشر ابن أبي عامر، الى أن تقادم العهد وخشي زيادة وحشة ابن أبي عامر، فعاد لحاله. ومن غرائب ذكائه وتلطفه، أن بعض الحكام وجه الى امرأة معها بنية تطلب فرضها من أبيها، والرجل ينكر أن تكون ابنته، فلم يزل به يعظه، ويخوفه، ويستلطفه، ولا تنفعه رأفة فيه، وكانت عادته الصبر في مثل هذا. الى أن أخذ أبو عمر الطفلة، وكانت حسنة الصورة، عليها فروة جديدة فأجلسها في حجره، وجعل يمسح عليها، ويثني على حسنها، ويترصد غفلة الرجل، الى أن رآه مطرقاً غافلاً فقال: حتى فروها مشاكل لها، أحسن في شرائه أخلف الله له، ثم قال له مستعجلاً بكم بالله اشتريته؟ فقال - من غير روية -: بعشرة دراهم فقال: أحسنت قم فأفرض لابنتك بأقل ما يلزمك كذا. فخجل الرجل وأذعن.(7/132)
ومثل ذلك قصة أخرى في رجلين رفعا إليه من العامة أحدهما يدعي رق الآخر، وأنه ابن أمته، منذ زمان حتى عرفه الآن وهو في زي التجار. فأخذ الشيخ في ألطافهما ووعظهما فلا يلقى منهما إلا الإصرار فتفرس في المدعى قوة أدّته الى طول مراوضتهما فلعله يظفر ببغيته، فجعل يكلمهما معاً ومنفردين في الرجوع الى الحق فلا يغيبه، فكان فيما سأل عنه المدعي أن قال له: كيف كان اسمه عندك؟ فقال: رزق، قال فاكتم هذا، وكان قد تسمى بأحمد، وعاد الى شأنه من مراوضتهما الى أن أظهر الضجر وقال: أصرفهما يا غلام وعرف الحكم أني ما أجد على المدعي عليه حجة، ولا شبهة توجب شيئاً غير ضامن يأخذه عليه، الى أن يظهر غير هذا فانطلقا عنه، وقد علت المدعي فترة أكسبت العبد طمعاً ألقاه في الغفلة، فلما ولوه ظهرهما نادى الفقيه: يا رزق فلبّاه نعم يا سيدي، فقال له: طال ما أعييتنا يا كذا أطع مولاك وقال لمولاه: خذ بيد عبدك، فبهت العبد وانقاد لسيده فمضى معه.(7/133)
وفاته رضي الله عنه
توفي أبو عمر رحمه الله أول انبعاث الفتنة البربرية بقرطبة، في جمادى الأولى سنة إحدى وأربعماية فجأة. ويقال إن سبب موته ما جرى على أصحابه، زعماء قرطبة بني ذكوان عند نكبتهم، وتسييرهم عن الأندلس. وأعظم الناس ما جرى عليهم، وذهلوا لعظمهم في أنفسهم، فيقال إن موته كان بعد تسييرهم عن الأندلس بيوم والله أعلم. مولده سنة أربع وعشرين وثلاثماية وذكر ابن أخيه أبو الأصبغ قال: كان عمي من أشد الناس رضاء عن ابن المسيب وأحرصهم على اقتفاء أثره وسيرته، لا يزال يذكره ويحفظ أخباره، ويثني عليه. فلما احتضر رأيناه تبسم وسلم ويشير بإصبعه، ويقول انزل يا سيدي رضي الله عنك إلي الساعة أقوم معك - بكلام خفي - فسئل فقال: هذا سعيد بن المسيب معي جاءني، ثم قبض رحمه الله،(7/134)
وترك ابناً اسمه عبد الله وليَ قضاء قرطبة أيام بني جهور بعد ولد ابن ذكوان، وكان صارماً في حكومته، عفيفاً مستقيماً، خلواً من المعرفة أجلس معه أبو عمر ابن القطان لفتواه، وتسديد أحكامه، وتوفي سنة تسع وأربعين.
أبو محمد الأصيلي رحمه الله
واسمه عبد الله بن ابراهيم بن محمد بن عبد الله بن جعفر. قال ابن مفرج: أصله من كورة شذونة. وقال ابن الحذاء: أصله من الجزيرة الخضراء. وكان جده من مسالمة أهل الذمة، ورحل به الى أصيلا دخل من بلاد العدوة فسكنها. ونشأ أبو محمد بها وطلب العلم بالآفاق. ويقال بل ولد بأصيلا فيما قاله ابن عائد. قال ابن الفرضي: أخبرني أنه دخل قرطبة سنة اثنتين وأربعين وثلاثماية.(7/135)
قال ابن الحذاء: وكان أبوه وراقاً للحكم. قال ابن عائد: تفقه أبو محمد بقرطبة منذ صباه بشيخيها اللؤلؤي وأبي ابراهيم وسمع ابن حزم وابن المشاط والقاضي ابن السليم وابن الأحمق وأبان بن عيسى بن دينار الأصغر ونظرائهم. وأخذ عن وهب بن مسرة الحجازي بوادي الحجارة، وعن ابن فحلون ببجانة. ورحل الى المشرق سنة اثنتين وخمسين وثلاثماية. وقال ابن الفرضي: سنة إحدى وخمسين وثلاثماية فلقي شيوخ إفريقية كأبي العباس الإبياني التونسي وأبي العرب التميمي، وعلي بن مسرور، وعبد الله بن أبي زيد رحمه الله. وكتب عنه ابن أبي زيد عن شيوخه الأندلسيين، ولقي بمصر القاضي أبا الطاهر البغدادي، وابن رشيق، وحمزة الحافظ وأبا إسحاق ابن شعبان، ومحمد بن عبد الله بن زكريا النيسابوري وأبا أحمد بن المصف وغيرهم. وحجّ سنة ثلاث وخمسين فلقي بمكة أبا زيد المروزي، سمع منه البخاري وأبا بكر الآجري. وبالمدينة قاضيها أبا مروان المالكي، وسار الى العراق فلقي بها الأبهري رئيس المالكية، وأخذ عنه الأبهري أيضاً. وسمع من الدارقطني، وسمع(7/136)
منه الدارقطني أيضاً. وقد حدث عنه كثيراً في كتابه في الرواة عن مالك وسمع بها من أحمد بن يوسف ابن خلاد، وأبي علي الصواف، وأبي بكر الشافعي وغير واحد واضطرب بالمشرق مدة طويلة. قال أبو عمر ابن الحذاء: أقام بالمشرق نحو ثلاثة عشر عاماً، وسمع ببغداد عرضته الثانية في البخاري، من ابن زيد، وسمعه أيضاً من أبي أحمد الجرجاني، وهما شيخاه في البخاري وعليهما يعتمد. قال في كتاب ابن مفرج: وسمع به الحكم وهو بالشرق مدة طويلة فأقبل الى الأندلس فلما وصل المرية مات الحكم، فانعكس أمل الأصيلي وبقي حائراً هائماً. نهض الى قرطبة ونشر بها علمه، فسار ذكره. وشرق به فقهاء البلد فبقي مدة مضاعاً حتى همّ بالانصراف الى المشرق، الى أن عرفه ابن أبي عامر فنوه به وأمر بإجراء الرزق عليه، باسم المقابلة. ثم ارتقت حاله بتقليده الشورى فنبّه حاله على غيره، انصرف الى الأندلس إثر موت الخليفة الحكم سنة ست وستين. فأقام بقرطبة وابن أبي عامر على غاية التعظيم له. وسمع منه عالم كثير وبه تفقه أبو عمران الفاسي وغيره.(7/137)
جمل من ثناء الجلة عليه وذكر علمه وفضله وشيء من فتاويه واختياراته
قال أبو إسحاق الشيرازي: وممن انتهى إليه هذا الأمر من المالكية بالأندلس أبو محمد الأصيلي، وانتهت إليه الرئاسة، قال ابن عفيف: رحل وتفقه فاحتوى على علم عظيم، وقدم الأندلس ولا نظير له فيها في الفهم والنبل، قال غيره: كان من جلة العلماء نسيج وحده، رحل الى الأمصار ولقي الرجال وتفنن في الرأي ونقد الحديث وعلله وألف كتباً نافعة. قال ابن الفرضي: كان عالماً بالكلام والنظر منسوباً الى معرفة الحديث. وجمع كتاباً في اختلاف مالك والشافعي وأبي حنيفة سماه الدلائل، وحفظت عليه شيئاً - يعني فيما خالف فيه أهل الحديث - من العقود فذكرها. قال ابن الحذاء وذكره: لم ألق مثله في علمه بالحديث ومعانيه وعلله ورجاله،(7/138)
وقال ابن المهلب: وذكر مشيخته، فقال: فأجلّهم علماً، وفقهاً، وأثبتهم نقلاً، وأصحهم ضبطاً، وأرفعهم حالاً، وأعدلهم قولاً، أبو محمد الأصيلي. وقال ابن حيان: كان أبو محمد في حفظ الحديث، ومعرفة الرجال، والإتقان للنقل، والبصر بالنقد، والحفظ للأصول، والحذق برأي أهل المدينة، والقيام بمذهب المالكية، والجدل فيه على أصول البغداديين، فرداً لا نظير له في زمانه. بلغني من غير واحد أنه وجد في كتب الدارقطني: حدثني أبو محمد الأصيلي ولم أرَ مثله. قال غيره: كان الأصيلي من حفاظ رأي مالك، والمتكلم على الأصول وترك التقليد، من أعلم الناس في الحديث، وأبصرهم بعلله ورجاله، ويحض أصحابه عليه، ولا يرى أن من خلا من علمه فقيهاً على حال، ولما ورد أبو يحيى ابن الأشج من أهل المشرق وكان قد روى كتاب البخاري سئل إسماعه فقال: لا يراني الله أحدث به والأصيلي حي أبداً. فلما مات الأصيلي أسعف،(7/139)
قال أبو الوليد: لما دخلت القيروان أتيت أبا محمد ابن أبي زيد فقال لي: ما حاجتك؟ قلت: الأخذ عنك. فقال لي: ألم يقدم عليك الأصيلي؟ قلت: بلى، قال لي: تركت والله العلم وراءك، فكيف حاله مع أهل بلده؟ فأخبرته بظلمهم له، قال: جهلوا ما أتى به. وأتيت القابسي فجرى لي معه مثل ذلك. وقال لي مثل قوله. وأحضره ابن أبي عامر في جملة الفقهاء، فاستشارهم في أرض موقوفة على بعض كنائس أهل الذمة، أراد شراءها، فمنعه جماعة الفقهاء منها، غير الأصيلي وحده فإنه أفتاه بجوازه، واحتج لذلك. فرجع ابن صاعد منهم الى قوله. والأصيلي أيضاً أفتى لابن أبي عامر بجواز الصلاة، في العمارية التي كان يلزم الركوب فيها في أسفاره، وإباحة ذلك في الفريضة، دون النزول بالأرض إذا كانت صلاته إيماء للوجع الذي أصاب قدميه من علة النقرس، وهي إحدى روايتي ابن القاسم عن مالك. ولم يرَ غيره هذه الفتيا. ورأي رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة، التي هي أم المذهب منع ذلك حتى يباشر الأرض،(7/140)
وكان يخطئ القول بنبوءة مريم أم عيسى عليهما السلام، ويقول: هي صدّيقة، ويرد القول بإتيان النساء في إعجازهن كراهة من غير تحريم، على أن الآثار في ذلك شديدة. وقد روي في بعضها التحريم ولعنة فاعله، وكان ينكر الغلو في كرامات الأولياء، ويثبت منها ما صح سنده أو كان بدعاء الصالحين. وقال المهلب: وكان يعمل بالمزارعة على الثلث والربع. ويرى ذلك ولا يقول بمنعها في المذهب، ويقول هي ألين مسائلنا وأضعفها، وحجته حديث معاملة النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عاملهم في أن يزرعوها ويعملوها ولهم شطر ما يخرج منها، وما حكي عن عمر وجماعة أهل المدينة. وله كتاب الدلائل، ونوادر حديث، خمسة أجزاء، والانتصار، ورسالة المواعد المنتجزة، ورسالة الرد على من استحل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسالة الرد على ما شذ فيه الأندلسيون.(7/141)
بقية أخباره رحمه الله
وكانت بين الأصيلي وابن زرب القاضي، وأصحابه مشاحنة، أثارتها النفاسة، وعلو كعب الأصيلي في العلم، وأزراؤه عليهم، فأراد ابن أبي عامر صلاح حالهم بتفريقهم، فقلد الأصيلي قضاء سرقسطة، فدارت بين الأصيلي وواليها بين يدي ابن أبي عامر منافسة، ومحارجة لأشياء أنكرها عليه الأصيلي. وكان في خلق الأصيلي حرج وزعارة، فاستعفى من القضاء فعوفي، وقيل بل حلف الوالي أن لا يلي معه. فصرفه ابن أبي عامر عن القضاء، صرفاً جميلاً. وأراد حاجته الى قربه بالحضرة. فأقام رأساً في أهل الشورى بقرطبة، سيما بعد وفاة ابن زرب. فإنه استكملت رئاسته، حتى كان بالأندلس نظير ابن أبي زيد بالقيروان وعلى هديه، إلا أنه كان فيه ضجر شديد، يخرجه أوقات القيظ الى غير صفته. ذكر بعضهم أنه هنأه بالشورى حين تقلدها، فقال: لعن الله الشورى إن لم أرفعها، ولعنني إن رفعتني، ونحو هذا. وأبلغ عن القاضي ابن زرب رحمه الله يوماً كلاماً، عرض به فساءه، وحرك منه وانبعث من ضجره، ما شق جيبه غيظاً وتمثل:(7/142)
لبستم ثياب الخز لما كفيتم ... ومن قبل لا تدرون من فتح القرى
وقوفاً بأطراف الفجاج وخيلنا ... تساقي كؤوس الموت يدعو بالقنا
فلما أكلتم قتلنا بسلاحنا ... تحدث مكفي يعيب الذي كفى
ويحكى أنه ناظر ابن أبي زيد يوماً في مسألة فاحمر مزاجه، فقال له ابن أبي زيد: قال خلاف قولك فلان. فقال: لو قالها فلان ما صدقته، أو لكان خطأ، أو نحو هذا من الكلام مما أسرف فيه، وغلا بفرط حرجه، فانتدب له البرادعي وتولاه ووجد للمقال سبيلاً وأنكر عليه كل من حضر ولكن تولى ذلك البرادعي، بفرط حرج منه هو أيضاً. فخرج الأصيلي. فكان ذلك سبب مقاطعته مجلس ابن أبي زيد. فيقال إن ابن أبي زيد قال للبرادعي: لقد حرمتنا فوائد الشيخ بإسرافك في الرد عليه.(7/143)
ذكر وفاته رضي الله عنه
توفي رحمه الله يوم الخميس، لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، سنة اثنتين وتسعين. وكان جمعه مشهوداً. وجهزه المظفر ابن أبي عامر على عادته للفقهاء. وبعث الى ابنه أكفاناً له وحنوطاً من عنده، رعاية لمكانة من أبيه المنصور. فقبل ابنه كرامته. وجهز شيخه فيما كان أعده لنفسه. وكان أراد أن يدفن ليلاً ولا يعلم بجنازته، فرده عن ذلك صهره ابن أبي صفرة، وأوصى أن يدفن في خمسة أثواب. وكان آخر ما سمع منه لما احتضر: اللهم إنك قد وعدت بالجزاء عند كل مصيبة، ولا مصيبة عليّ أعظم من نفسي، فأحسن جزائي عنها يا أرحم الراحمين. ثم خفت. وكان قد أعد قبره لنفسه، يقف عليه ويتعظ به. وكان كثيراً ما يتخوف من سنة أربعماية، وما يجري فيها من الفتن. فذكر يوماً شأنها في مجلسه، ودعا الله تعالى أن يتوفاه قبلها، وابنه محمداً. وسأل من(7/144)
حضر التأمين. وأن ابنه محمداً حاضر كاره، ففعل من حضر ذلك. وأجيب دعاؤه، فتوفي عما قريب كما ذكرنا. وتوفي ابنه بعده بأعوام. وكان سنة أربعماية، فكان فيها من الفتن، وخراب الأندلس ما كان.
عيسى بن محمد بن عبد الرحمن
أبو الأصبع يعرف بابن الحشاء، وبابن المعلم. قرطبي. روى عن جماعة من الأندلسيين ورحل الى المشرق، فلقي الناس واتسعت معرفته، قال ابن عفيف: كان فيها من أهل الأدب والعلم، راسخاً في الرأي، بصيراً بالوثائق، ورعاً، منقبضاً، من خيار المسلمين، عامراً للمسجد الجامع لتفقيه الناس وفتياهم، بصيراً بالاختلاف، جميل اللقاء، إماماً في المذهب المالكي. ناظر الجلة في علم السنة. وعلا بغزارة علمه، وقدمه ابن زرب للشورى، فانتفع به، ودعي للقضاء مرتين فأبى. ولزم حاله الى أن مات.(7/145)
قال ابن حيان: كان غزير العلم، معتنياً بالأخبار، حسن الأدب والفهم، كثير الحفظ، فصيحاً، عفيفاً، ورعاً مجانباً للسلطان. أراده المظفر والمهدي بعده عن القضاء ببعض الكور فأبى. ولم يقدر فيه على شيء، واستهدف بجفوتهما فوقي شرهما. وعاتبه ابن ذكوان في ذلك، وكان الذي هدى ابن عامر الى مكانه. وقال له: يقع الناس فيك. فقال: بلى. فبرر جفاه حيناً. ومات رحمه الله سنة اثنتين وأربعماية. فقدم موضعه للشورى ابن دحون.
أحمد بن سعيد بن ابراهيم الهمداني
أبو عمر. المعروف بابن الهندي، قرطبي. أخذ عن ابراهيم وظيفته، وسمع محمد بن أبي دليم.(7/146)
قال ابن حيان: كان واحد عصره في علم الشروط لا نظير له، يعترف له بذلك فقهاء الأندلس. وله فيها كتاب مفيد جامع محتو على علم كثير وفقه جم، وعليه اعتماد الحكام والمفتين، وأهل الشروط بالأندلس والمغرب. إذ سلك فيها الطريق الواضح، وقد اختصره جماعة منهم. اعتنى به منهم القنازعي، وابن ذهل، وابن عبد الواحد، مع ما أضاف إليه. ولم يكن بالمرضي في دينه، ولا بالمقبول قوله، عديم المروءة. وذكرت فيه أشياء منكرة. وهو أحد من لاعن زوجته بالأندلس بعهد القاضي ابن السليم. وكان فكهاً حسن الحديث. وتوفي في رمضان سنة تسع وتسعين وثلاثماية. وهو ابن ثمانين سنة. ولا أعلم روى عنه غير أبي بكر ابن سيرين وحمزة بن حاجب فإنه روى عنه تأليفه.(7/147)
محمد بن أحمد بن عبد الله
المعروف بابن العطار، أبو عبد الله. قرطبي. قال ابن حيان: كان هذا الرجل متفنناً في علوم الإسلام، وثابتاً في الفقه، لا نظير له، حاذقاً بالشروط، وأملى فيها كتاباً عليه معول أهل زماننا. وكان يفضل فقهاء وقته بمعرفته بالنحو واللسان. فكان لا يزال يزري بأصحابه المفتيين، ويعجب بما عنده، الى أن تمالأوا عليه بالعداوة، وحملوا قاضيهم ابن زرب على إسقاطه، وقد استفسده بعد أن كان مقدماً في أصحابه، وهو الذي رقاه الى الشورى أول ولايته، فجرى له مع الفقهاء أخبار كثيرة. وذكر الفقيه أبو عبد الله ابن عتاب فقال: ومحل أبي عبد الله في العلم معروف، وهو به موصوف، ولقد كان فقيهاً موثقاً، لم يحفظ أنه أخذ عليها أجراً. قال ابن حيان: فلم يزل ابن العطار مع خصاله منقوص الحظ، وكان فريد فقهاء وقته مع توافرهم. أيام ضمهم(7/148)
مجلس ابن أبي عامر الذي عقده للمناظرة في موطأ مالك رحمه الله. فقصر أكثرهم عن شأوه في تدقيق معانيه وغريبه، حتى شرقوا منه، وتلطف أحمد بن ذكوان الى صاحبه ابن أبي عامر عنه حتى قطعه، فاستجر الى جماعتهم. وكان الذي هيّج أحقادهم عليه، عجب فيه، وشكاسة في خلقه. ذكر بعضهم أنه حضر مجلس شورى، في مسألة اختلف فيها ابن العطار والوتد، وأمسك سائرهم لياذاً من ابن العطار، الى أن خرجا الى المهاجرة فقام عندها ابن المكوى والأصيلي منصرفين عنهم. وزاد الأمر بينهما الى أن حذب ابن العطار الوتد بالدراية، فحلف الفقهاء ألا يحضروا مع ابن العطار مجلس شورى. فكان الحكام يوجهون فيه وحده بعدهم.
ذكر محنته رضي الله عنه
قال ابن العطار: رأيت في المنام قبل محنتي كأني أنظر في المرآة، فأرى في جبهتي سطراً مكتوب:
أنظر لنفسك أيها الإنسان ... سينالك النقصان والشنئان(7/149)
وكنت أرى نعشاً يحمل، وموضع الجنازة قلم كنت أكتب به عرفته، فكان يدفن في القبر ويصلي عليه، فترحمت لذلك حتى جرت الحادثة، وكان السبب في مطالبة ابن زرب له ومساعدة أعدائه عليه، أن ابن العطار سبق بالفتح عليه يوم الجمعة في خطبته لتوقف عراه. فقال ابن زرب: وكفوا ألسنتكم عن الرفث، فلم يكد يقف، حتى قال ابن العطار: قبيح القول. وكانت معهودة من كلام ابن زرب: فنظره ابن زرب شزراً وقال: ودور الكلام وما عاد لتلك اللفظة الأولى بعدها في خطبة. ومضى في خطبته، وقد توقد عليه غضباً شغله في الصلاة. فأسقط من القراءة ففتح عليه ابن العطار أيضاً. فكانت حسبة مغيرة عليه. فأنكر ذلك من فعله وقال: هل سمعتم بخطيب فتح عليه، كان ذلك الكلام لا يبدل، أو نحو هذا. وسعى ابن العطار في استصلاحه فلم يقدر واستمسكت مديدة، لحسن رأي ابن أبي عامر فيه، الى أن سقط عنده،(7/150)
لقيه فأسلمه لابن زرب وأصحابه. وكان ابن العطار قد رد على ابن أبي عامر قولاً قاله، وذلك أنه حكى حكاية قال فيها: فلقنه بعينه أي أصابه - بالقاف - فنظر ابن العطار لخطابه ولم يكن يصبر عليها لشرهه. فاستطر بذكر حكاية من ذلك المعنى فلقنه بعينه - على الصواب - ففطن ابن أبي عامر لمراده وقال: لو علمنا سقوط الهيبة لاشترطنا حسن المجالسة، يدخل مَن على الباب من أرباب اللغة، فإذا بصاعد قد مثل فسأله، وقد كان الأمر ألقي إليه، فقال: يقال بالقاف والفاء والقاف أشهرهما فأخذ ابن أبي عامر حجة، وأقبل على توبيخ ابن العطار وتبكيته، وأمر بإخراجه، ومكن منه أعداءه، فقاموا في ذلك وحمل ابن زرب على كشف معايبه، الشاهد بما عندهم. فأتوا من ذلك بما أراده، إلا قوماً منهم ابن المكوى، وابن صاعد فأبوا ذلك وأنكروه. وسجل شهادتهم تلك وقد حوت عظائم من الجرح، اقتضت إسقاطه عن الشورى، والشهادة،(7/151)
وأمضى ذلك ابن أبي عامر عليه وأوعد عليه بالانقباض عن الناس وإغلاق بابه. فجرى عليه مكروه عظيم ولم يزل ابن المكوى يذكر ما جرى عليه، ويتشنع ما شهد به عليه فيه، حتى غمص ابن زرب بسببه وقال: رفعه لغير الله ووضعه لغير الله. وقال حين دعي للشهادة: ما أعلم فيه جرحة أشهد بها، مع أنه كان يؤذيني في مجالس الشورى بلسانه. ولما نفذ السجل عليه كتب الى المنصور ابن أبي عامر:
بالله والحاجب المنصور أعتصم ... من حاسد وبنصر الله أنتقم
الظلم فيما رويناه ونعلمه ... يوم الحساب على أربابه ظلم
والإفك والبغي معدولان عن رجل ... له حشاشة دين أو له كرم
هل من رأى عجباً مثلي ومثلهم ... بأن تعاور الغربان والرخم
وما لنا عندهم ذنب سوى حسد ... نيرانه داخل الأحشاء تضطرم
وهي طويلة، تشكى فيها للمنصور، مدحه، وتلطفه، فدس فيه الوتد - عدوه - بيتاً في ذم القاضي ابن زرب أحفظه، وكان يقول: لو كنت شاعراً لأجبته. فأجابه الوتد على لسانه في الروي والقافية، ناقضه فيها وأفحش له.(7/152)
ويقال إن ابن أبي عامر لم يهنى عليه ما بلغ منه، ولكنه استحيى قاضيه ابن زرب، ولم يمكنه من الحمية، واستأذن للحج فأذن له فرحل وقضى فرضه. واجتمع في طريقه هذا بجماعة من علماء الأمصار، فاعترفوا بفضله. وذكر في كتابه وجرت له معهم أثناء ذلك قصص من هنياته. فيحكي أنه سأل أبا محمد ابن أبي زيد رحمه الله، بالقيروان يوماً عن صلاة الناس بصلاة الإمام على قعيقعان وأبي قبيس، فأجابه بالجواب المنصوص في المسألة، أنه لا يجوز، فسأله من قال هذا، أو كيف قال؟ فاحتج له بنص المسألة في المدونة وكررها. فقال له: إنما وقعت مسألة المدونة، إذا صلى المأموم هنالك بصلاة الإمام في الحرم. ولم أسألك عن هذا، وإنما سألتك عن مسألة إذا كان الإمام والمأموم جميعاً هنالك، وهذا ما لا يخالف فيه أحد ولا يمنعه. ففطن الشيخ لما أراد من تعنيته، وأضرب عن كلامه في المسألة، إذ لم يظن هذا. وإنما أجابه عن المسألة المعروفة. ثم انصرف الى الأندلس. وقد مات ابن زرب، وقد كملت خصاله، ونقصت شكاسة خلقه، وكبر منه، واعتدلت حاله، فلاطف ابن أبي(7/153)
عامر فانفسح له، ورحب به فحكي أنه قال يوماً لأهل مجلسه، إثر خروج ابن العطار: إني لأستحي من هذا الرجل، ولوددت لو تهيأ صرفه لحاله، وإباحة المسلمين الانتفاع به. فقال له بعضهم: وما يمنع من ذلك إذا أردته. قال: وكيف يحل تسجيل ابن زرب؟ فقال المتكلم: ليس يحل، ولكن يعارض بالشهادة لابن العطار باستقامة أحواله، وزيادته في الخير بعد التسجيل، وأنه أهل الفتوى فأنفذ الى ابن الشرفي، صاحب الشرطة النظر في القصة، فأظهرت وثيقة بصلاح ابن العطار، وأعيد الى طريقته، وصحة نزوعه عما نقم عليه، واقتدائه بالسلف. شهد فيها ثقاتهم وعلماؤهم. وقل من توقف عن الشهادة فيها وأثبت ابن الشرفي، ورفعت الى المنصور، فجمع أهل العلم فرأوا إسقاط السخطة عنه، ورده الى أفضل أحواله فنفذ. وعهد المؤيد الى القاضي ابن برطال، فأعاده الى حاله، واستقل من نكبته، ولزم القاضي وكبر عنده، ولولده ألّف كتابه في الوثائق المعروف، وأفرده ابن أبي عامر بالفتوى في أمور الجناية بين العمال(7/154)
والرعية، وكان من أفتاه بالتجميع بجامع قصر الزاهرة، وخالف في ذلك أصحابه، والتزم الصلاة معه فيه، بقية مدته، والجلوس فيه للإقراء. وأقصر مع ذلك من غلوائه إلا فوارض يدرسها في أصحابه، خلال الفتوى، بفضله وزيادة أدبه. وكان أبعدهم له أحمد بن ذكوان، وبخاصة لما ولي القضاء. فإنه غض منه غضاً شديداً، وجعل ينكر صرفه الى الفتوى، بعد التسجيل، وجرت بينهما خطوب، وعلا لسان ابن ذكوان أيام عبد الملك المظفر، فازدادت غضاضة ابن العطار ودب ابن العطار لمطالبة ابن ذكوان أيام المهدي، فأعجلته المنية قبل تمكنه من ذلك رحمه الله.
فصل من نوادر ابن العطار
سئل ابن العطار عن مسألة من السهو في الصلاة، فأفتى فيها بسجود السهو، فقال له السائل: إن أصبغ بن الفرج الطائي، لم يرَ علي سجوداً، فرد عليه ابن العطار: كلا لا تطعه واسجد واقترب.(7/155)
وبلغه أن ابن المكوى لم يشهد عليه، حين دعي الناس للشهادة بجرحه. فقال: كل يعمل على شاكلته، من قول الله تعالى، وكل إناء ينضح بما فيه. من قول العرب، والأمور بيد الله لا شريك له في حكمه، ولما سمع ابن العطار أن ابن صاعد لم يشهد عليه قال:
هون عليك الخطب ... فالله فيما حاولوا حسبي
فكان ابن صاعد يقول: من عذيري من ابن العطار، ما وجدت في رضاه حيلة. ولما بلغه ما شهد به عليه. قال: ستكتب شهادتهم ويسألون. ذكر ابن صاعد يوماً لابن العطار فاستصغر حفظه، فبلغ ابن صاعد. فقال: ما الذي أصنع معه؟ سالمته فلم أسلم. فقال ابن العطار: إن كان خالف الحق فقد أثم، وإن كان خالف المين فقد ظلم.(7/156)
وجاءت إليه جارية شاطرة ناشز على زوجها، فقالت: يا فقيه الحب إذا سقط كيف فقال: الهم من الألم وفي التعليل شفاء الغليل. وكان المنصور أمره بالمسير إليه كل يوم ثلاثاء يذاكره ويحدثه. فحضر يوماً منها وتعذر عليه الوصول لشغل المنصور فكتب إليه:
يا من حكى بهديه لنا السلفْ ... عبدك بالباب ماثلاً يقف
كل ثلاثاً يومُ زورته ... وهي العلا والفخار والشرف
يدعو لك الله في البقاء ... وفي التأييد والنصر ثم ينصرف
وكتب أبو بكر الزبيدي الى ابن العطار:
يا عليماً بكل علمٍ عليّ، ناظراً ... فيه عن عيان خفي
هل تجوز الصلاة خلف إمام ... ألكن أو تجوز خلف الخصي
فأجابه ابن العطار:
لا تجوز الصلاة خلف إمام ... ألكن بالقرآن جذم عيي
وتجوز الصلاة في الغب ما لم ... يتصل منه ذاك خلف الخصي
نسأل الله أن يوفق للحق ... بفعل ومنطق مرضي(7/157)
توفي ابن العطار عقب ذي الحجة، سنة تسع وتسعين وثلاثماية. وكان جمعه عظيماً. وانتاب قبره طلاب العلم أياماً، ختم قراؤهم على قبره القرآن ختمات وذلك أمر لم يعهد قبل بالأندلس.
موسى الوتد رحمه الله
هو موسى بن أحمد. ويقال ابن محمد بن سعيد بن الحسن اليحصبي قرطبي، يعرف بابن الوتد ويكنى بأبي محمد. سمع من قاسم بن محمد، وأحمد بن مطرف، ومحمد بن يحيى بن عبد العزيز ونظرائهم. وكان بصيراً بالشروط نبيلاً فيها، حافظاً، يقظاً، حازماً في أموره، حسن المعاملة مع إخوانه. وله حظ من تعبير الرؤيا، كتب لمحمد بن برطال أيام قضائه،(7/158)
وقلد الشورى، وتصرف في دفع كتب المظالم الى المنصور. ودرس عليه الفقه. قال ابن الفرضي: وكان ينسب إليه تخليط كثير عرف منه، وشهر به، وتوفي في ربيع الأول المبارك سنة سبع وتسعين وثلاثماية.
أصبغ بن الفرج بن فارس الطائي
أبو القاسم، قرطبي، أحد أكابر علماء قرطبة، وزعماء مفتيها. قال ابن مفرج: كان فقيهاً جليلاً في الدولة العامرية، حافظاً بالمسألة بصيراً برأي مالك وأصحابه، عارفاً بالوثائق. ورحل فحج ولقي الناس بالمشرق. وكان من أكرم الناس عناية، وأعلاهم همة. وليَ قضاء بطليوس وثغورها. فحسنت سيرته. ثم لحقته من ابن أبي عامر غضاضة، بسبب مخالفته لهواه في الفتيا بالتجميع في الجامع الذي بناه في مدينته، بطرف قرطبة الشرقي، المسماة بالزاهرة. فإنه استشار في التجميع فيه الفقهاء، فمنعه(7/159)
من ذلك أكثرهم، إذ لا يجمع في مصرٍ واحدٍ في جامعين. ومضى أكثرهم على ذلك، وأفتى ابن العطار في قليل منهم بجواز ذلك، لاتساع البلد وعجز كثير ممن يسكن هنالك عن الوصول الى الجامع الأول. حتى قاسوا ما بين المسجدين، على أبعد الطرق بينهما، فوجدوه نحو الفرسخ. فامتثل ابن أبي عامر رأي من أجازه، على أنه لم يجمع به حتى مات قاضيه ابن زرب. وذهب من يستحيي منه، ودعا ابن أبي عامر أصبغ هذا، الى تولي الصلاة والخطبة بأهله. وكان ممن لم يرَ ذلك فامتنع. وقال: سبحان الله يا منصور أنا لا أرى الجمعة أقامت به، فكيف أقوم بها، والعرض مني كثير. فألزمه المنصور ذلك، وأظهر إكراهه عليه. فألح وامتنع، وأقسم على ذلك ولو ناله العقاب. فسخط عليه المنصور عندها، وعزله عن القضاء والفتيا. إلا أنه سلم من أذاه، وعاش بقية عمره مصوناً، الى أن مضى لسبيله. وكان ممن سخط عليه المنصور لذلك أيضاً، أبو بكر بن وافد، فأسخطه عن الشورى والشهادة، وألزمه داره. واحتصل الباقين(7/160)
من ابن ذكوان، والأصيلي، وابن المكوى، وابن صاعد، وابن جني، وابن الصفار. فلم يغير عليهم شيئاً. وجمع ابن العطار في هذا الجامع، وجلس فيه للفتيا، والتعليم والتفقه. وانفرد بالفتيا بين العمال والرعية. وجعل قوم من رؤساء الفقهاء، من سكان الربض الشرقي، جوار هذا الجامع يشهدون الصلاة فيه، ويعيدونها أصلاً، لئلا يحقد ابن أبي عامر عليهم، منهم الأصيلي، وابن صاعد، وابن الصفار، وابن جني. ولم يصنع ذلك ابنا ذكوان ثقة بمكانهما من ابن أبي عامر. فكان إذا احتاجهما، دعاهما إثر الصلاة. وتوفي أصبغ بن الفرج سنة سبع وتسعين وثلاثماية.
عبد الرحمن بن محمد بن يحيى بن صاعد بن وثيق
أبو المطرف. يقال جده صاعد معتق بني عبده، قرطبي. سمع بها من ابن الأحمر، وابن عيسى، وابن الخراز وغيرهم.(7/161)
وبالقيروان من ابن أبي زيد، والقابسي، رحمهما الله. قال ابن الفرضي: عني بحفظ الرأي والتفقه في المسائل، وقدم للشورى أيام ابن زرب. وكان حليماً، أديباً، نزيهاً عن المطامع. ووليَ قضاء شذونة. ثم استعفى. قال ابن حيان: كان من أهل العلم، والفقه، والديانة. قال ابن مفرج: كان فقيهاً فاضلاً، ديّناً فهماً، حافظاً كريم الأخلاق، حسن الصحبة، ذا أدب بارع، وجاه باذخ، كثير الصلاة والصدقة، والبكاء والخشية. كتب إليه بعض إخوانه:
أيا عالماً فاق الأنام بعلمه ... وأربى عليهم بالسنى والفضائل
فديتك هل يجري الطلاق لذاهل ... فرد أنت اليوم قطب المسائل(7/162)
فأجابه رحمه الله:
إذا كان ذا فهم وطلق زوجه ... فقد لزم التطليق يا خير سائل
فإن كان معتوهاً ولا عقل عنده ... يقيناً فلا طلاق لذاهل
توفي رحمه الله تعالى، سنة تسعين، وهو كهل ابن تسع وأربعين سنة.
أبو العاصي أمية بن أحمد بن حمزة القرشي المرواني
قرطبي. كانت له من ابن أبي عامر خاصة، وكان يتقيه. وشاوره ابن زرب في الأحكام. وكان من وجوه أصحابه، وولي الشرطة، والأحكام. فجلس لذلك في الجامع، وكان شديداً سالماً انتفع به. مع الغفلة. تولى لابن أبي عامر من وجوه الإنفاق في سبيل الأمانات، في بناء الجوامع، والحصون، وتفريق الصدقات مالاً أحمله فما تعلق بمثقال ذرة، ولا ازداد كسبه درجة.(7/163)
قال ابن الفرضي: وكان متأخراً في عمله وعقله. ومن غريب غفلاته، أنه صرف يوماً الى المنصور درهمين، زعم أنهما بقيا له من صدقة دفعها إليه يفرقها. وأنه لم يجد لمن يدفعهما، لعمومه، أهل الحاجة، فاستضحك المنصور.
محمد بن أحمد بن محمد بن قادم بن زيد
قرطبي مشهور، أبو عبد الله. سمع من قاسم بن أصبغ، وغير واحد. ورحل فسمع ببغداد أبا بكر الشافعي، وابن حمدان، والصواف. وأخذ عن السيرافي. وسمع أيضاً بالبصرة من غير واحد. وبمصر من ابن الورد، وحمزة، وابن أبي التمام. وتفقه عند ابن شعبان. وكان ينتحل مذهب مالك رضي الله عنه. وكان شاعراً محسناً حافظاً للخبر. وهذا كان الغالب عليه. قال ابن الفرضي رحمه الله: وكان مضعوفاً، غير ضابط لنفسه، ولا للسانه. وذكر أنه كان قاضياً. وكتب عنه غير واحد. قال: وكان أهلاً لذلك. توفي سنة ثمانين وثلاثمائة.(7/164)
أحمد بن محمد بن عبد الله بن هاني العطار
المعروف بابن اللباد، قرطبي. يكنى بأبي عمر. سمع هو وأبوه من قاسم بن أصبغ، وكان أبوه أحد العدول. وكتب عنه. قال ابن الفرضي: وكان أحمد فقيهاً. وقد كتب عنه أيضاً، ومات وأبوه حيّ. وتوفي أبوه سنة خمس وتسعين.
محمد بن رادع بن محمد الضرير
يكنى أبا عبد الله، قرطبي. له رحلة سمع فيها من القاضي المرواني بالمدينة، ومن الخزاعي بمكة، ومن العجيمي بالبصرة، قال ابن الفرضي: كان العجيمي يومئذ ابن مائة سنة وأربع وأربع سنين. وبقي بعد سماعه منه عاماً. وسمع ببغداد من الأبهري أبي بكر، وأخذ عنه كتبه، وسمع من غيره. وانصرف الى الأندلس وكفّ بصره. فقرئ عليه بعض كتب الأبهري، وابن أبي زيد رحمه الله. حدث عنه ابن الفرضي وغيره.(7/165)
قال القاضي أبو الفضل رحمه الله: الذي عرفته وذكره أئمة الصنعة، أن أبا إسحاق ابراهيم ابن علي العجيمي، توفي وهو ابن ماية سنة وثلاث سنين، وأنه لم يحدث حتى تمت له ماية سنة، وذلك أنه كان رأى في منامه أنه تعمّم، ودور على رأسه ماية وثلاث دورات. فعبر له أنه يعيش هذا القدر من السنين. فلم يحدث حتى بلغ المائة. ثم حدث فأراد السامعون اختبار عقله بعلو سنّه، فقرئ عليه القارئ يوماً:
إن الجبان حتفه من فوقه ... كالكلب يحمي جلده بروقه
فقال العجيمي: قل الثور يا ثور. فإن الكلب لا روق له. فسرّ الناس بثباته وصحة عقله. وكان العجيمي يروي عن القاضي اسماعيل كتبه، وعن غيره من الجلة رحمه الله تعالى. وتوفي ابن رادع سنة ثلاث وسبعين، وقيل أربع، وهو ابن ستين سنة.
قاضي القضاة أبو العباس ابن ذكوان
اسمه أحمد بن عبد الله بن هرثمة بن ذكوان بن عبد الله بن عبدوس بن ذكوان الأموي.(7/166)
قال ابن الفرضي: أصلهم من جيان. قال ابن حيان: أصلهم فيما يقال من برابرة فحص البلوط ويتولون بني أمية. فلما انقضرت دولة بني أمية انتموا في قيس بن غيلان من سليم. وكان أبوه أبو بكر بن عبد الله من أهل العلم. وليَ خطة الرد بقرطبة، بعد طلب عبد الملك بن منذر صاحب الرد. وله مكانة من المنصور، وسمع قاسم بن أصبغ، وأحمد بن عبادة ونظرائهم. قال ابن الفرضي: وكان عاقلاً عالماً باللغة والنحو، حافظاً للمشاهد والأيام، ذا مروءة وافرة. وكانت وفاته سنة سبعين وثلاثماية. ونشأ ابنه العباس هذا أكمل رجالات الأندلس، وأتمهم عقلاً. كان من جلة أصحاب ابن زرب. وهو الذي قدمه للشورى، ثم ولاه ابن أبي عامر عند وفاة أبيه خطة الرد. ثم قضاء الجماعة، عند عزل ابن برطال.(7/167)
قال ابن حيان: وكان صارماً في حكمه، محمود الطريقة، عاقلاً عاملاً بمذاهب المالكية. ذا عفاف ونزاهة وبراءة من الريبة، وبعد همة، وفرط هيبة وزكانة. فلقد كان في هذا الباب في مرتبة الخليفة، لم يقدر أحد ينقصه منها قلامة ظفر، مع اختلاف الدول، وحلول الفتن، الى أن فارق الحياة، وهو أعلى الناس محلاً. وذكر أبو الخيار الشنتريني الداودي، أبا العباس - وكان ما بينهما شيئاً - فقال: أبو العباس وما أبو العباس نظر في الفقه على مذهب مالك فأدرك طرفاً منه، إلا أنه لم يستجد في الحفظ، واكتسب بالدربة الحذق في الحكومة. وكان مع ذلك صليباً فهماً بعيداً من المداراة، حاد بالناس إجلاله عن مذاكرته، فلاذوا من مناظرته، بالتسليم والموافقة. وتحاموا السؤال منه وكان أكبر ما فيه عقله ورأيه.
ولايته القضاء وخبره فيها مع العامرية وسيرته
قد قدمنا أن الذي ولاه القضاء، المنصور ابن أبي عامر. وكان من جملة أصحابه وخواصه، ومحله منه فوق محل الوزراء يفاوضه في تدبير الملك وسائر شؤونه. لم يتخلف عنه في غزوة(7/168)
من غزواته، ولا فارقه في ظغن ولا إقامة. وكذلك كان حاله مع ولديه المظفر والمأمون بعده. قد تيمنوا برأيه وعرفوا النجاح في مشورته. وكان له داخل القصر بيت خاص به يأتيه آخر النهار. فيجلس فيه الى أن يخرج إليه ابن أبي عامر فيفاوضه في جميع ما يحتاج إليه. وربما بات عنده بالنزاهة وخفة الوطأة، حتى قيل إنه ما سأله قط على مكانته منه، حاجة لنفسه ولا لغيره بتصريح، مع كثرة ما انقضت على يديه من حوائج الناس. بل كان يعرض ما يحتاج إليه عرضاً كالمنكر أو المستحسن، يطّرد للبحث عنها. وكانت الصلاة والخطبة أيامه لابراهيم بن الشرفي الحاكم، الى أن فلج، فجمعت مع القضاء لابن ذكوان. ولم يزل على هذا الى أن هلك المنصور، وولي ابنه المظفر فزاده أثرة. الى أن فسد ما بين القاضي، وبين وزير الدولة، عيسى بن سعيد، بسبب فسخ شراء ضيعة اشتراها عيسى من ولد ابن السليم السفيه، فقضى ابن ذكوان بردها الى السفيه. وفسخ بيعه فالتحمت بينهما العداوة، وعمل عيسى في طلب ابن ذكوان(7/169)
وجوه الحيلة، الى أن أوقع المظفر بخادمه الغالب على أمره طرفة فسعى عيسى به. وكانت لابن ذكوان من طرفة هذا ألطف منزلة. ونسب عيسى طرفة وأصحابه الى القدح في الملك. فقتل طرفة. ونكب أصحابه. واشتملت التهمة على بني ذكوان. ووجد عيسى للمقال سبيلاً، فصرف المظفر أبا العباس ابن ذكوان عن القضاء والصلاة. وصرف أخاه أبا حاتم عن المظالم. وساء رأيه فيهما. وولى مكانه القضاء والصلاة، عبد الرحمن ابن فطيس. فلم يقم - على استقامته واستقلاله - مقام ابن ذكوان، لتبريزه. فحن القضاء إليه، وأسف الناس على فقده، وحسن رأي عبد الملك عما قريب فيهما. فصرف أبا العباس الى خطته، بعد تسعة أشهر من عزله. بعد إلزام ورغبة، فازداد رفعة الى رفعته وسمت حاله عند المظفر، سيما عند اتهامه وزيره عيسى عدو ابن ذكوان بالقدح في دولته، وبطش المظفر به وقتله إياه. ففرغ مكانه لأبي العباس، واستراح منه. فلم يجر شيء من أمر المملكة إلا عن مشورة ابن ذكوان. الى أن هلك عبد الملك المظفر ووليَ أخوه عبد الرحمن. فرفع منزلته جداً. وولاه الوزارة مجموعة(7/170)
الى القضاء. ولم يجتمعا قبل لأحد بالأندلس قبله. ولا خطط لقاضي القضاة بها أيضاً لأحد قبله. وإنما كانوا يتخططون بقضاء الجماعة. وانقرضت دولة بني عامر بقيام المهدي ابن عبد الجبار المرواني عليهم أول ملوك الفنتة. وكان أحقد الناس على ابن ذكوان، بخاصة تقربه من العامرية، ناقماً عليه أحكاماً أمضاها عليه في قضائه، فتوق عنه لجلالته في قلوب الخاصة والعامة، والتماساً للعثرة، الى أن عوجل المهدي فمضى لسبيله، ووقي شره. إلا أنه أزال عنه اسم قاضي القضاة. واقتصر به على قضاء الجماعة. قال: وكان ابن ذكوان ضابطاً للحق، صليباً فيه، لا تأخذه لومة لائم. وكان الناس والخصوم يلتزمون في مجلسه من الوقار وغضّ الصوت الغاية. وكانوا يقربون إليه الأول فالأول بأسمائهم، قد قيد ذلك في جريدة فمن ضاق عنه أول يوم الوصول، دفعت إليه رقعة ترتبه للغد، على الرسم القديم للقضاء.(7/171)
ومن نوادر الخبر أن أبا بحر أنس بن أحمد بن فرج الجياني الشاعر، خاصم عند أبي العباس وقتاً فجعل يرفع صوته، ويستطيل، ويحسر عن ساعديه، بخلاف الرسم، فنهاه أبو العباس عن ذلك وأمره بقبض ذراعه. فلما انقضى المجلس ناوله أبو محمد رقعة لوقته فيها:
أسأت أبا العباس تأديباً ... فاتك معامله وقف علي فتكات
تؤنبني إن لاح مني ساعدي ... مبسم في ظهر كل شدات
ولست من الصنف الذي قيل فيهم ... ولم تك إن أنصفتني بصفاتي
يخبئن أطراف البنان من التقى ... ويخرجن شطر الليل معتجرات
فلما قرأها ابن ذكوان وجم. وقال: تكلم بكلتا يديك ورجليك فلا حرج عليك.(7/172)
محنته ووفاته رحمه الله
ولما قتل واضح - الصقلي الحاجب - المهدي، وبايع الناس لهشام المؤيد خلافته الثانية، وقام واضح بأمره وحجابته، والبرابرة مع سليمان المستعين يفاتنون قرطبة، ويرومون دخولها. وكان هوى بني ذكوان في جماعة الناس الى السلم وصلح البرابرة وصاحبهم. فيقال إن ابن ذكوان نصح لهشام في واضح فبلغت واضحاً. فسعى على بني ذكوان، بالتهمة في الميل الى البرابرة، وأن الناس تبع لما يشيرون به. فنفذ أمر هشام بإخراجهم عن الأندلس، ونفيهم الى العدوة. فأخرج أبو العباس وأخوه أبو حاتم وأخوهما الأديب أبو عمر. وذلك في سنة إحدى وأربعماية. ووكل بهم من يوصلهم، فحملوا الى المرية، وأجيزوا لحينهم البحر في حال شدة ارتجاجه، وعنِّف بهم، وخلفوا دوابهم(7/173)
وثيابهم، فكتبت سلامتهم. وخرجوا الى وهران. وقامت لنكبتهم بقرطبة القيامة، وعظم على الخاصة والعامة ما جرى عليهم. حتى تفزع جماعة من الأعيان لاستهوال الحادث عليهم، لفرط محنتهم وجلالتهم في القلوب. وأسرعت الإقالة لهم عما قريب. فلما قتل الجند واضحاً حسن الرأي فيهم فوجه فيهم، وعادوا الى وطنهم بالأندلس. إلا أنهم لم يعاودوا بعد العمل، ولا تقلدوا ولاية، مع تكرار الرغبة إليهم من جميع خلفاء الفتنة. بل كان رجال الولايات عن رأيهما، الى أن مات أبو العباس سنة ثلاث عشرة وأربعماية. ثم تلاه أبو حاتم أخوه، فاعتد أهل قرطبة المصيبة بهما كفاء ما جرى عليهم من المحن. وذهب من يستحيي منه. فاستوى الناس بعدهما فكانت مدة عمل أبي العباس على القضاء في الكرتين سبعة أعوام ونصفاً. وترك ابنه أبا بكر فجاء بعد منه خير خلف. وولي القضاء وسيأتي ذكره بعد هذا في طبقته. ورثى ابن الخياط الغرير أبا العباس:
عفاءَ على الأيام بعد ابن ذكوان ... وقبحاً لدنيا غيّرت كل إحسان
سأبكي دماً بعد الدموع بعبرة ... تغيّر أحزاني تعبر عن شان(7/174)
وإن حياتي اليوم بعد وفاته ... دليل بأن الغدر في كل إنسان
أحقاً سراج العلم أخمده الردى ... وهدم ركن الدين من بعد تبيان
وغودر في دار البلى علم الهدى ... مزعزع آساس مضعضع أركان
فشقت عليه المكرمات جيوبها ... وألقت رؤوس المجد عنها بتيجان
وقال أبو عامر رحمه الله أخرى أولها:
إذا لم تجد إلا الأسى لك صاحباً ... فلا تمنعنّ الدمع ينهل ساكبا
هوت بأبي العباس شمس من التقى ... وأمسى شهاب الحق في الغرب غاربا
أخوه أبو حاتم محمد بن عبد الله صاحب المظالم
كان من جملة القضاة والحكام بعهد العامرية. عمل فيها أعمالاً جليلة بغير كورة. وتصرف في الأمانات. وولاه المظفر المظالم. فحمد في كل ذلك وكان يخلف أخاه أبا العباس على قضاء الجماعة، بقرطبة مدة مغيبه في المغازي مع السلطان. وتأيد مع أخيه على إعزاز الحق.(7/175)
قال أبو حيان: كان أبو حاتم أطلق من أخيه لساناً، وله طبع في حسن الإيراد والامتناع. قال أبو الخيار الشنتريني: وذكره إثر ذكر أخيه قال: وأما أبو حاتم فتلوه في الصنعة ودونه في العلم، يختص بأدب وسط وعلم بالخبر وطيب بالمجلس. وله أوفر حظ من الدربة بالحكومة. وقد ذكرنا من أخباره ونكته في أخبار أخيه ما قدمناه. وتوفي أبو حاتم نصف شهر رمضان سنة أربع عشرة وأربعماية. مولده سنة أربع وأربعين وثلاثماية. وترك ابنه حسناً أبا علي، فوليَ الحسبة بقرطبة في الفتنة، ثم أحكام القضاء. وكان ثقة عارفاً بالحكومة، ذا جزالة ونزاهة عاطلاً من العلم والأدب.
قاضي القضاة ابن وافد رحمه الله تعالى
أبو بكر يحيى بن عبد الرحمن بن وافد اليحصبي، قرطبي. سمع بها من أبي عيسي. قال ابن حيان: كان أحد من حاز كمال القضاة بالأندلس، علماً وهدياً ورجاحة وديناً، جامعاً لخلال الفضل. تقلد الشورى بعهد العامرية. فكان مبرزاً(7/176)
في أهلها، وتقلد الصلاة بالزهراء مدة الى أن استعفاها. وقد ذكرنا في أخبار أصبغ بن الفرج الطائي، أنه كان ممن لا يرى التجميع بالزاهرة. وأبى من فتيا ابن أبي عامر بجوازه، حتى سخط عليه، كما فعل بأصبغ وعزله عن الشورى بعد. قال أبو الخيار الطاهري: كان ابن وافد مستبحراً في مذهب المالكية، حاذقاً بحفظ المسائل والأجوبة، من أكمل قضاة الأندلس، ولي القضاء والخطبة عند صرف ابن ذكوان ونكبته في الفتنة. ولقب بقاضي القضاة. قال ابن حسان: وكان حاضر العلم في مجالسته، كثير الإفادة، فصيح اللهجة، وكان شاعراً مطبوعاً. قرأت في انتخاب ابن مفرج: أهدى الفقيه ابن وافد الى الزبيدي في طبق ورد بكيراً وكتب معه إليه:
أهديت شبهك منظرا ... في العالمين ومخبرا
فتقبلن بدر الذي ... يرجو رضاك وذا حرا(7/177)
فأجابه الزبيدي:
قد أتانا منك ما جانس ... أخلاقك فوحا
طبق الورق الذي أهدى ... الى الأرواح روحا
فأنا دهري عليه اعتنى ... بالشكر مدحا
لم تزل في العلم يا يحيى ... على الأدواح دوحا
محنته ومهلكه رحمه الله تعالى
كان ابن وافد أحد الأشداء على البرابرة، وخليفتهم المستعين سليمان، وأكثر الناس نفاراً منهم، ومن البيعة لصاحبهم. والصلح معهم على خلع هشام المؤيد خليفة قرطبة. وقد حصلت قرطبة من ذلك في محنة، وشد البرابرة عليها قتالهم من كل جهة، وخربوا أفاءها وقطعوا مرافقها حتى رضي الناس بالدخول تحت طاعتهم وخلع هشام ومصالحتهم على ذلك وتقديم صاحبهم. وكان أبناء ذكوان ممن يرغب في ذلك في طائفة من الفقهاء والجلة، منهم ابن حوبيل، وابن الشقاق، وابن دحون. وكان ابن وافد شديد النفار والإبانة عن ذلك. مغرياً بهم العامة محرضاً(7/178)
عليهم صلحهم والإنابة إليهم، معه على رأيه ابن الفخار في جماعة. فلما تغلب البربر على قرطبة، وتم الصلح وخلع هشام، وهم أحنق الناس على ابن وافد فاستخفى واشتد الطلب فيه فعثر عليه عند امرأة، فحمل راجلاً مكشوف الرأس مهاناً يقاد بعمامته في عنقه، والمنادي ينادي عليه: هذا قاضي النصارى، مسبب الفتنة وقائد الضلالة. وهو يقول: كذبت بفيك الحجر بل والله ولي المؤمنين، وعدو المارقين. أنتم والله شر مكاناً، والله أعلم بما تصفون، والناس تتقطع قلوبهم لما نزل به. فلقيه في هذه الحال بعض أعدائه فقال: كيف رأيت صنع الله بك؟ فقال: ما أتاهم قضاؤه كان ذلك في الكتاب مسطوراً. ولقيه بعض أصحابه فقال: ترى أن أبلغ أمرك أبا العباس ابن ذكوان، فإنه مقبول القول عند البرابرة؟ فقال لا حاجة لي في ذلك. فأدخل على المستعين سليمان بن الحكم في ذلك الوقت. فأكثر توبيخه وأغرته به البرابرة فأمر(7/179)
بصلبه، وشرع في ذلك فاضطرب البلد له، ووردت عليه شفاعة أبيه الحكم، وشفاعات ابن ذكوان وابن حوبيل، وجماعة من الفقهاء والصالحين، الذين لا يرى ردهم يرغبون إليه في شأنه ويقبّحون إليه ما أمر به فيه، فرفع عنه الصلب والمثلة، وأمر بضمه الى المطبق وتثقيفه، فكان شديد الصبر في محبسه كثير التبسم والحديث متعاهداً لصلاح نفسه وجسمه من الاغتسال والاستياك والاستحداد حتى عذله بعض من جمعته وإياه المحنة في ذلك المكان على فعله، فقال له: وما لي لا أتهيأ للقدوم على ما لابد لي منه واصل الراحة؟ والله إني لا أرجو غادياً أو رائحاً. وسواكي طواي وجسمي نقي. أو نحو هذا. وكان السلطان يجري وظيفته على من فيه. وكان ابن وافد لا يأكلها معهم. ولم يبعد رحمه الله أن اعتل في مجلسه فمات. فتكلم الناس أن حيلة وقعت عليه، فالله أعلم. فأخرج ميتاً في نعش منتصف ذي الحجة سنة أربع وأربعماية. فوضعه الأعوان بالميضآت موضع غسل المحاويج، فاحتمله قوم الى دار صهره ابن الأعرش الفقيه فسد الباب في وجه النعش تقية. وسمع الزاهد حماد بن عمار بالقصة، فبادره وصار(7/180)
بنعشه الى منزله فقام بأمره. وكان من عجيب الاتفاق أن ابن وافد كان أودع عند هذا الصالح كفنه وحنوطه وقارورة من ماء زمزم لجهازه. فتم مراده. وعدت من كراماته. وجاء بنعشه فصلى عليه في طائفة من العامة عند باب الجامع ثم ساروا به فواروه. وامتنع من يعرف ممن شهد الجامع من الصلاة تقيه. وكانت مدة عمله للقضاء في الكرتين والمصرتين عشرين شهراً.
وولده الوزير ابن وافد
الطبيب المشهور المعترف بإمامته في علمه وصحة نظره ومنفعته بحرفته وله في هذا العلم تأليف مشهور منتفع به.
أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس
من مشاهير علماء القرطبيين وجلتهم وفضلائهم وكان الغالب عليه الحديث، سمع ابن الأحمر وأبا عيسى وطبقتهما، وبعدهم أبا عبد الله بن مهدي حدث عنه حاتم الطرابلسي.(7/181)
قال أبو محمد بن حزم وكان وليَ القضاء والمظالم بقرطبة، وكان واحد زمانه في جمع الحديث وروايته، ولم يكن بعهد المستنصر أجمع منه ولا أعرف بما يجمع، ولم يكن بالأندلس من يملي الحديث من حفظه على رسم أهل المشرق وسواه أحد من أئمة السنن. قال أبو حيان كان مشهوراً بالزهد والفقه والصلابة. فقلد المظالم والأحكام لابن أبي عامر المنصور ومن بعده، فقام بها أحسن قيام ووليَ قضاء الجماعة للمظفر عند صرف ابن ذكوان الأول تسعة أشهر، وغلب عليه الحديث والبصر به وأسماء الرواة، وتوفي سنة أربعين وثلاثماية. قال أبو عمر ابن الحذاء: كان من أبناء الدنيا فلما وليَ القضاء وترك زي الوزارة ولزم زياً أخضر - زي الفقهاء - وكان عدلاً(7/182)
شديداً في أحكامه عالماً بالحديث والتقييد. ذكر أنه لما ولي القضاء دخل عليه ابن العطار مهنئاً، وكان ابن ذكوان عدوه، فقال: الحمد لله الذي سلبهما كسرى وألبسهما سراقة، وصرفهما عن أهل الكفر والجهل وجعلهما في أهل العلم والفضل، ونحو هذا من الكلام، فلم يمضِ إلا مدة حتى سئل ابن العطار فقال: عدو عاقل خير من صديق أحمق. ولما رضي المظفر عن ابن ذكر ذكوان صرف ابن فطيس عن قضاء الجماعة، ورد إليها ابن ذكوان رحمه الله وخطط بالوزارة تنويهاً به.
أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عيسى ابن أبي زمنين المري البيري
أصله من العدوة من نفزة، تفقه بقرطبة عند أبي ابراهيم، وسمع منه ومن وهب بن مسرة، وابن الجزار القروي، وابن المشاط، وأبان بن عيسى بن محمد، وأحمد بن حزم، وابن فحلون، وابن الأحمر، وابن العطار صاحب الورد. وسمع من أبيه، ومحمد بن قاسم بن هلال. تفقه به(7/183)
أهل بلده وغيرهم. وحدث عنه أبو زكريا القلعي، وأبو عمر ابن الحذاء، وحكم ابن محمد، وهشام بن سوار، والقاضي يونس وحسين بن غسان، وأبو عبد الله ابن الحصار. قال ابن عفيف: كان من كبار المحدثين والفقهاء الراسخين في العلم. قال ابن مفرج: كان من أجلّ أهل وقته حفظاً للرأي ومعرفة بالحديث، واختلاف العلماء، وافتناناً في الأدب والأخبار، وقرض الشعر، الى زهد وورع واقتفاء لآثار السلف، وكثرة العمل والبكاء والصدقة والمواساة بماله وبجاهه. وبيان ولهجة، وما رأيت قبله ولا بعده مثله، قدم قرطبة، فسمع منه بها الناس سنة ثمان وسبعين. قال الخولاني: كان رجلاً زاهداً صالحاً من أهل الحفظ والعلم. آخذاً في المسائل، قائماً بها، متقشفاً واعظاً له أشعار حسان في الزهد والحكم، له رواية واسعة. وكان حسن التأليف، مليح التصنيف، مفيد الكتب في كل فن، ككتابه(7/184)
المغرب في اختصار المدونة وشرح مشكلها، والتفقه في نكت منها ليس في مختصراتها مثله باتفاق. قال ابن سهل: هو أفضل مختصرات المدونة وأقربها ألفاظاً ومعاني لها، وكتاب المنتخب في الأحكام الذي ظهرت منفعته، وطار بالمشرق والمغرب ذكره، وكتاب المهذب في اختصار شرح ابن قرين للموطأ، وكتاب المشتمل في علم الوثائق، وكتاب مختصر تفسير ابن سلام للقرآن، وكتاب حياة القلوب في الرقائق والزهد، وكتاب أنس المريد في مثله، وكتاب أدب الإسلام، وكتاب أصول السنّة، وكتاب قدوة الغازي، وكتاب منتخب الدعاء، وكتاب المواعظ، وكتاب النصائح المنظومة من شره. وله شر في المواعظ والرقائق والزهد كثير جداً حسن فمنه قوله:
أيها المرء إن دنياك بحر ... طامح موجه فلا تأمننها
وطريق النجاة منها مبين ... وهو أخذ الكفاف والقوت منها(7/185)
وقوله:
خليلي أنا للذي تعلمانه ... زمان التصابي وانطلاق عنانه
شديد الجوى جم الأسى محرق ال ... حشى فهل من مجير مخبر بأمانه
وإني مجير عند من قد عصيته ... فيا أسفي إن لم يجد بحنانه
وقوله:
وذي دوعة راحت زفراته ... إذا ما سطت في قلبه خطراته
له في دجى الأظلام خلوة مخلص ... تذكره فيها الجحيم هناته
إذا ما تلا التنزيل وانكشفت ... له عجائبه زادت له عبراته
وإن لحظت عين المبين سعادة ... سعت خوفه من مائها لحظاته
بنفسي وليّ أنسه بمليكه ... وفي ذكره أصباحه وبياته
وتوفي بالبيرة سنة تسع وتسعين وثلاثماية. مولده آخر سنة أربع وعشرين وثلاثماية. وخلف ابناً من الصالحين اسمه أحمد رحمه الله.(7/186)
أبو عمر أحمد بن يحيى بن سعيد بن الحديدي الطليطلي
قال صاعد بن أحمد بن صاعد: من بيوت الشرف والعلم بطليطلة بيت آل الحديدي. وكان كبيرهم أبو عمر هذا فقيهاً ذا رئاسة جليلة في بلده، وذا مكانة من الفقه والعفاف والثروة. وتلاه في حاله ولده بعده.
أبو موسى ابن أبي الحزم ابن جهور المرشاني
من أهل سبحه، قال ابن حيان كان فقيه بلده ووجهه، مشهوراً بالعفة والعلم. قتله البرابرة سنة سبع وعشرين وأربعماية. قال ابن عفيف وهو من ذرية أبي موسى عبد الرحمن بن موسى الهواري رواية مالك بن أنس. أخوه أبو الوكيل. سمع منهما الناس ببلدهما بقرطبة، وأبو عمر ولد أبي الوكيل منهما حجّ وروى العلم، رحمه الله.(7/187)
أبو بكر محمد بن موهب التجيبي الحصار
المعروف بالقبري. قرطبي مشهور، وهو جد القاضي أبو الوليد الباجي كان من العلماء الزهّاد الفضلاء. أخذ ببلده عن أحمد بن ثابت، وابن قطن وأحمد بن هلال، وأبي محمد الباجي وغيرهم. ورحل الى المشرق فسمع من رجاله، وصحب أبا محمد ابن أبي زيد رحمه الله، واختص به وحمل عنه تواليفه وغير ذلك، وكان القاضي ابن ذكوان يقدمه على فقهاء وقته وعلى نفسه ويرغب دعاءه. وكان الأصيلي يعرف حقه ويثني عليه، وغلب عليه الكلام والجدل على نصرة مذهب أهل السنّة، والتواليف في ذلك، إلا أنه كان يخل بعلمه عدم معرفته اللسان. وذكره الجياني أبو علي شيخنا فقال: أحد الفضلاء العلماء حدث عنه أبو بكر بن الغراف، واسماعيل بن حمزة السبتي.(7/188)
قال ابن حسان: وكان شديد الورع والزهد مجتنباً للسلطان اشترى يوماً تيناً فلما عده عليه بايعه، أقبل يثني له عليه أنه يشرب من ناعورة السلطان، فترك التين عنده ودفع إليه ثمنه، وقال لبائعه: أمسكه الى أن أقضي حاجة فإن أبطأت عليك فتصدق به ومضى لسبيله. واستدعاه المستعين صاحب البرابرة، فأجابه مع مجانبته لمن قبله، ودخل عليه بعد أن استعفاه من تقبيل يده الذي جرت به عادتهم فأعفاه وزاد تكرمته، وله في العقائد تواليف كثيرة مفيدة وله شرح رسالة شيخه أبي محمد ابن أبي زيد رحمهما الله.
ذكر محنته رضي الله عنه
كان أبو بكر هذا لتعلقه بهذه العلوم النظرية الغريبة بالأندلس مشوماً عند كثير من الفقهاء بقرطبة، سيما من لم(7/189)
يتعلق منهم من العلم بغير الفقه ورواية الحديث، ولم يحضر في شيء من النظر. وكان أبو عون الله شيخ المحدثين في طائفة من أصحابه، منهم أبو عمر الطلمنكي تلميذه، قد أغروا به فجرت بينه وبينهم قصص ومجاوبات في مسألة الكرامات، فإن ابن وهب كان يذهب فيها مذهب شيخه أبي محمد بن أبي زيد رحمه الله، في إنكار الغلو فيه. وكان أولئك يجوزونها ويسعون في رواية أشياء كثيرة منها، وكان يثبت نبوءة النساء ويقول بصحة نبوءة مريم وبإحالة بقاء الخضر عليه السلام أبد الآبدين. فجرت بينهم في هذه المسائل فتن لاسيما عند موت ابن عون الله تداركها ابن أبي عامر، فسير جماعة من الطائفتين عن الأندلس الى العدوة فيهم ابن القبري هذا، مع طائفة من أضداده. وكان الأصيلي وابن ذكوان في طائفة من نحارير العلماء في حزب القبري، وجماعة الفقهاء والمحدثين في الحزب الآخر. فخرج القبري إذ ذاك الى العدوة وبقي فيها مدة أخذ(7/190)
عنه بها، وأراه أقام ببلدنا مدة، وبها أخذ عنه اسماعيل بن حمزة كتبه وكتب الشيخ أبي محمد ابن أبي زيد رحمه الله، ثم راجع الأندلس خفية فورد قرطبة متستراً، فرمى بنفسه على الأصيلي، ففزع الأصيلي لذلك، لسطوة ابن أبي عامر فوبخه القبري وقال له: افعل ما بدا لك فعلى الله توكيلي أو نحو هذا، فأعلم الأصيلي ابن أبي عامر بالأمر وأنه لم يعرف به حتى ورد عليه ورفعه إليه، فعفا عنه ولزم قرطبة ممسكاً لسانه بقية دولتهم، وتوفي بقرطبة سنة ست وأربعماية.
أبو عثمان سعيد بن محسن الغاسل
من أصحاب ابن زرب والمتفقهين عنده، قال ابن حيان، وقلد الشورى بقرطبة ودخل السلطان وعمل في القضاء، فلم يحمد ولم يكن بالقوي في علمه. وكان يختص بغسل موتى أولي النباهة. توفي في ذي القعدة سنة إحدى وأربعماية.(7/191)
أبو إسحاق ابراهيم بن محمد بن ابراهيم الحضرمي
المعروف بابن الشرفي الخولاني. كان قديم الصيانة، إماماً في الرواية والعلم. قائماً بذلك قوياً عليه، مجتهداً فيه، من النقاد، متسنناً، على تقوى وسمت، ذكياً نبيلاً حافظاً حسن الإيراد. قال ابن الفرضي وأبو عبد الله: من أهل الفضل والعبادة والعلم بالقرآن. سمع أبو إسحاق من أحمد بن سعيد ابن حزم، وأحمد بن مطرف، ومحمد بن أحمد بن قاسم بن هلال وأبي إسحاق عيسى، وأبي ابراهيم التجيبي، وابن أبي العطاف، وابن الخراز. قال ابن حيان: كان أحد رجالات قرطبة المعدودين في الجزالة والرجولة مع جودة المعرفة وغزارة العلم ومتانة الخطابة، والسداد في الحكومة مع الصلابة والنزاهة. وليَ(7/192)
الشرطة والأحكام بقرطبة والصلاة والخطبة بجامعها مع المواريث. وكان ابن أبي عامر يسترجحه ويباهي به. ويذكر عنه أنه قال: في أصحابي رجل بصير بدنياه يصلح لكل خطة، من مكاني بالحجابة الى مكان بوابي فلان فما بينهما، من ذوي منزلة، ومشتغل بكل أمر، ويصلح لكل خطة فإذا استفسر عنه قال هو ابن الشرفي، وكان من ثقاته وخواصه، سمع منه عالم عظيم من الناس، وكان يتولى القراءة بنفسه فكان يكمل في ميعاده ما بين الظهر والعصر كل يوم اثنين وخميس جزءاً لدربته في القراءة. قال ابن حيان ولم ينتقل - مع ما ناله من حظوة - عن سنن التواضع والاقتصاد. وله في التسحير أخبار عجيبة منها: أنه ما ارتبط لنفسه دابة قط، خوفاً لمؤنتها، وإنما كان يمتطي دواب ابن أبي عامر ترتبط له بنوبة. ويكتري ما احتاج(7/193)
إليه، وأصابه فالج عطله، قبل موته نحو ثلاثين شهراً، فكان لا ينطق بغير: لا إله إلا الله. ولا يكتب غير: بسم الله الرحمن الرحيم. لا يقدر على غير ذلك، آية من الله. بعد أن كان فيهما طرفاً. توفي في نصف شعبان سنة ست وتسعين.
أحمد بن ابراهيم بن عبد الرحمن الكلاعي
المعلم. من أهل قطربة، يعرف بابن الضحى، يكنى أبا عمر. وكان فقيهاً عالماً بالمسائل، عاقداً للشروط، سمع من ابن عيسى، ومسلمة بن محمد، وشكور الطليطلي، وغيرهم. وكان يجتمع إليه في التفقه ويقرأ عليه، وكان على سنة وقوان طريقة. توفي فجأة في جمادى الآخرة، سنة إحدى وتسعين وثلاثماية. وكان الثناء عليه حسناً.(7/194)
أحمد بن سعيد بن محمد بن بشر
المعروف بابن الحصار. قرطبي كنيته أبو العباس. وهو والد القاضي أبي المطرف بن بشر، مولى لابن فطيس، سمع من قاسم بن أصبغ، وابن أبي دليم، ومسلمة بن قاسم، وخالد بن سعيد، ومحمد بن عيسى وغيرهم. وكان كثير السماع مشهوراً بطلب الحديث يعقد الشروط، ويفتي ويحدث. سمع منه كثير روى عنه ابنه وابن نبات. قال ابن حيان كان فقيهاً راوية. قال ابن الفرضي: ولم يكن بالضابط لكتبه. توفي في شعبان سنة اثنتين وتسعين وثلاثماية. وهو ابن وست وأربعين وكان أعور. رحمه الله.(7/195)
أحمد بن عبد الله بن الحسن
قرطبي. أبو عمر، سمع من قاسم ابن أصبغ وغيره. واستقضي بكورة ريّة، الى أن توفي. وكان مشاوراً. وكتب عنه فيما قيل. توفي آخر سنة اثنتين وسبعين وثلاثماية.
وهب بن محمد بن محمود بن اسماعيل بن عبد الله بن جني الأموي
قرطبي. أبو الحزم، سمع من قاسم بن أصبغ، ووهب بن مسرة وغيرهما. وكان حافظاً للرأي شاوره ابن السليم، أيام قضائه. ولم يشاور ابن زرب. كان شيخاً صالحاً كثير الصلاة والملازمة للجامع، يجتمع إليه فيه، ويستفتى، وقد حدث. توفي سنة إحدى وتسعين رحمه الله.(7/196)
أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الرعيني
المعروف بابن المشاط. قرطبي. في كتاب ابن مفرج: كان من أهل العلم والفهم أديباً بصيراً بزمانه. وليَ الشورى والوثائق للسلطان، وقضاء استجة، واشبونه وقرمونه. ولاّه جميع ذلك ابن أبي عامر. ثم صرفه عنه وولاه أحكام السوق، وقضاء جيان، ثم قضاء بلنسية، وقلده التاريخ، فجمع كتابه الباهر، وكان حاملاً لما قلده، ذا جاه ومنزلة. حسن المنطق والصوت مليح الإيراد. قال ابن حيان: وتوفي في مجلس نظره أيام المظفر سنة ست وتسعين وثلاثماية.(7/197)
أبو العباس الباغاني رحمه الله
واسمه أحمد بن علي بن أحمد المغربي. قال ابن حيان: ربانياً في علوم الإسلام. جمّ الرواية شديد الحفظ، آية في ذلك. لم يخلف بعده أحد يقربه في علوم القرآن. وهي كانت الغالبة عليه. وكان بحراً من بحار العلم، وله تأليف في أحكام القرآن، وكانت له خاصة من العامرية. وقدم للشورى أثر موت ابن المكوى، فلم يطل أمره. وكان أبو عبد الله بن عتاب يستحسن تأليفه في الأحكام، وقرأه عليه. وتوفي في ذي القعدة سنة إحدى وأربعماية. وهي سنة ابن الكوى وابنه أبو بكر خلفه، بجامع قرطبة للإقراء. وكان حسن التلاوة ذا حظ من الفقه، وبصيراً بالشروط، طاهر الثوب. رحمه الله.(7/198)
عبد الرحمن بن أحمد بن سعيد البكري
المعروف بابن عجب. أبو المطرف، قرطبي. قال ابن حيان: كان أحد الحفاظ للمسائل، المتبحرين في الرأي. ووليَ الشورى والأحباس لابن ذكوان، وكان أحد أصحابه. توفي رحمه الله أول سنة أربع وأربعماية.
أبو عبد الله الحسن بن جني بن عبد الملك بن جني التجيبي
قرطبي. طلب العلم بالأندلس ورحل فحجّ، وتردد في الشرق فسمع الآجري، وانصرف الى الأندلس، فقدمه ابن زرب للشورى، وتقلد القضاء بجهات، والوثائق، للعامرية. قال ابن حيان: ولم يكن بالبارع في فقهه ولا بالمحمود في شيء من أمره. وكان مفرط القصر، ولذلك كان ابن(7/199)
المنتحيلي ذو النوادر العجيبة يسميه بالقصير كله، واستهواه حب الدنيا فارتكس في الفتنة، مع المهدي ابن عبد الجبار. وكان أحد دعاته فاستوزره عند ظهوره وقلده المظالم. فأخلد الى الأرض واعداً ردع هشام المخلوع مدة؟ وكان محمد ابن أبي عامر يتفرس فيه ويقول له: إنه يموت على فتنة. ولما انقرضت دولة المهدي، لجأ الى الاستخفاء، والطلب عليه شديد الى أن وجد سبحاً في بعض المقابر، قد استخرج من استخفائه ميتاً فوق نعش، على صدره رقعة فيها خبره. فرفع أمره الى السلطان. فأمر بمعاناته ودفنع. وذلك في آخر سنة إحدى وأربعماية.
عبد الرحمن بن عبد الله الترجالي
أبو بكر من بيت نبيه بقرطبة، في أصحاب السلطان. كان خيراً فاضلاً حليماً، طاهراً، ديّناً، كثير الخير والمعروف، طويل الصلاة. يقال إن قدميه تقطرتا صديداً من طول قيامه.(7/200)
قال ابن الفرضي: سمعت محمد بن يحيى بن عبد العزيز يقول: وقد خرج من عنده، وقد أتاه عائداً: ما أعرف أحداً يصلح للقضاء غير هذا الرجل. وقال سليمان بن أيوب: كان أولى بالقضاء من ابن أبي عيسى وغيره. ثم قال: هذا الذكر يغار له الناس. واستوزره الحكم أمير المؤمنين تنويهاً بمكانه. فلم تستهوه الدنيا بحال. ومات وهو مخطط بالوزارة في جمادى الأولى سنة خمس وسبعين وثلاثماية.
عبد الله بن محمد الصابوني
المعروف بابن بركة، قرطبي. يكنى بأبي محمد، مولى بني مروان لآل الأحمر. ويقال مولى للفهريين. وغلب عليه(7/201)
اسم أمة بركة مولاة ابن القاسم سمع ابن الأحمر، وابن حزم، وابن مطرف، وتفقه. قال ابن مفرج: وكان من أهل الحفظ للفقه والحذق به، وليَ الشورى أيام ابن زرب. وكان عالماً بالوثائق، وقال ابن الفرضي: كان قليل العلم ولم يزل مشاوراً الى أن مات. قال غيره: كان حسن التأني للناس والإصلاح بينهم، حتى كان الحكام يوجهون إليه المتشاكين من الخصوم لحسن وساطته، وكان له دكاكين يصنع فيها خدمته الصابون، ومنه عيشه. توفي في سنة ثمان وسبعين وثلاثماية ويقال ثلاث.(7/202)
أبو عبد الله محمد بن طاهر بن أبي الحسام
المعروف بالشهيد القيسي. التدميري. من بيوتات الشرف ببلده. قال ابن مفرج وغيره: وكان من عظماء الأندلسيين، بعيد الصيت في الخير والصلاح والانقطاع الى الله تعالى. طلب العلم ببلده، ومن شيوخه. وبقرطبة من العابدي، وابن مفرج وغيرهما وتفقه وأخذ بحظ وافر من علم الرأي، ورسخ في علم السنة. وبالغ في صالح العمل، وحجّ وجاور في الحرمين ثمانية أعوام. فلقي هناك العلماء والصالحين، وسمع منهم وصار الى العراق للقاء أبي بكر الأبهري. فتفقه معه ودخل واسط، فلقي العلماء والنساك، واقتدى بآثارهم، ولبس الصوف، وأعرض عن شهواته. وكان عيشه تلك المدة من الوراقة، فإذا سئم منها أجر نفسه في الخدمة. وكان أعظم علمه الورع والتشدد فيه، وله سؤالات في وجوه المكاسب، سألها عنه مصنفها وجريت منه دعوات مستجابة.(7/203)
قال ابن الفرضي: وظهرت له بالشرق إجابات وكرامات وذكره هناك مشهور. وانصرف الى بلده مجيباً لدعوة والده، إذ كان في الحياة، فتنكب مدينة مرسية، ولقيه قبل، فنزل خارجاً منها في قرية بني طاهر. وكان لا يرى سكناها ولا الصلاة فيها في جامعها، واتخذ لنفسه خيصة من شعر البقر واعتمر جنينة له هناك، يقتات من تينها، ثم نزع الى الجهاد فلازم الثغور، وحسن أثره في العدو وشهر بالبأس الى أن استشهد رحمه الله، سنة تسع، فيما قاله ابن مفرج. وصحح ابن الفرضي أنه سنة ثمان، وله كتاب في الإجابات والكرامات أخذ عنه.
عيسى بن العلاء أبو الأصبغ تدميري
عني بالعلم، وسمع من ابن عائد وغيره، ورحل الى الشرق. وكان موصوفاً بالفقه مستفتى بموضعه. توفي سنة إحدى وتسعين وثلاثماية.(7/204)
أبو عبد الله بن الجالطي
واسمه محمد بن قاسم بن محمد الفراء. سمع القرشي وابن الأحمر وطبقته، بقرطبة. ورحل الى المشرق، وصحب القاضي أبو عبد الله ابن الحذاء في السماع هناك. ولقي جماعة وانصرف، فوليَ بقرطبة الحكم بالشرطة والصلاة والخطبة بالزهراء مدينة السلطان. وقدّم الى الشورى أيام المظفر. قال ابن الحصار: كان ممن عني بالعلم، وشهر بالفهم، وكان نظاراً معدوداً في الحذاق. قال ابن حيان: كان محمود الطريقة في حكمه، رفيع المنزلة في علمه، قتله البرابر يوم دخولهم قرطبة. في شوال سنة ثلاث وأربعماية. فبقي مطروحاً ثلاثة أيام الى أن اصطلح الناس فووري وفعل به ما يفعل بالشهداء. سمع منه أبو عمر ابن عبد البر الحافظ وابن الحصار وغيرهما.(7/205)
يوسف بن محمد بن عمر بن يوسف بن عمروس
استجي. يكنى بأبي عمر من أهل بيت علم وجلالة بموضعه. تقدم ذكر أبيه وجده. سمع من قاسم ابن أصبغ كثيراً، ومحمد بن أبي دليم، وابن الأحمر وغيرهم. وكان حافظاً للمسائل، رأساً في فتيا موضعه. له حظ من التهجد بالقرآن. وحدث وسمع منه غير واحد. حدث عنه ابن الفرضي، رضي الله عنه. توفي سنة ثلاث وتسعين ومولده سنة عشرين وثلاثماية.
أبو عمر أحمد بن عبد الله الباجي
ولد الشيخ أبي محمد، إشبيلي. من أنبه بيت بها في العلم تقدم ذكرهم عند ذكر أبيه. كان أبو عمر فقيهاً، راوية، مسنداً. سمع أباه وولي قضاء بلده أيام المظفر، عند(7/206)
عزله اسماعيل بن عباد عنها سنة ثلاث وتسعين. ثم صرف اسماعيل الى قضائها، وصرف أبا عمر أجمل صرف بعد نحو عام، لانقباضه عن الدخول في أمور السلطان. قال ابن حيان: كان أحد أكابر أهل العلم بإشبيلية ذا رواية مشهورة عن أبيه مع جاه وثروة.
أبو حفص عمر بن عبادل الرعيني
من كورة رية. قال ابن عفيف: كان من الزهاد المتبتلين، والعلماء الراسخين، بصيراً بالفقه، وعقد الوثائق والحفظ للمسائل. له كرامات كثيرة، وكان كثير التواضع يهين نفسه ويحرث أرضه بيده، ويحتطب على ظهره، ويتصرف في جميع أموره، رافضاً للدنيا لا يشتغل بغير عبادة ربه. وكان مع ذلك بسيط الوجه، حسن الخلق. وكان العمال يبادرون الى بره يحمل مغرمه وأتيهم به لوقته، راضياً بذلك من فعله. ويقول: حيف السلطان أرجح للميزان، وأنصف للجيران وأوفق للزمان. وينشد رحمه الله:
الله يدفع بالسلطان معضلة ... عن ديننا رحمة منه ودنيانا
لولا الخلائف لم تأمن لنا سبل ... وكان أضعفنا نهباً لأقوانا
قال الفقيه معوذ الزاهد: اشتقت الى رؤية الشيخ أبي حفص ابن عبادل فخرجت أريده من موضعي، فباكر بالرؤيا بعثتني على لقائه. وبين موضعينا نحو من أربعين ميلاً فمشيت نحوه بقية يومي، وبعض ليلتي فرأيته من الغد فسألت عن منزله، فأرشدت إليه فاستأذنت، فقال لي ولده الأكبر: وكان - على سمته في الصلاح - أقول من؟ قلت: رجل نزاهة وعفة. من أحببته في الله تعالى. قصده ليلقاه فأذن. فدخلت إليه، فقام مبتهجاً وصافحني. وقال: مرحباً بك أبا عمرو جئت جاداً على فاقة، وألطف مسألتي. وكنت لم أره قبل ذلك. فقلت: أصلحك الله بأي شيء عرفتني؟ فقال: أخبرت البارحة في النوم أنك تصافحني اليوم. وكنت أهوى لقاك، وما زلت منتظراً لك منذ صليت الصبح. فقلت له: وأنا ما حملني على قصدك وتجشم السفر إليك إلا أني كنت في منامي، وقائلاً يقول أقصد منينانة من فحص رية وهي قرية ابن عبادل، فإن فيها ولياً من أولياء الله تعالى، يرغب رؤيتك فقال: نعم يا أبا عمرو علق ذكرك بقلبي، واشتهيت رؤيتك. فدعوت الله أن يستعملك للقاء. فقد أنعم عليّ بك، فمكّنّي الأنس بك أياماً. فأقمت عنده. وقرأت عليه القرآن، وتفقهت معه. فنفعني الله تعالى به. فانصرفت وحبلي به موصول أزوره في كل عام، وأتكرر عليه وبلغتني علته التي قبض فيها، فانصرفت إليه فلما دخلت عليه استبشر بي وأنشد رحمه الله:
أنت الحبيب الذي تأتي على قدر ... من الذي يشتهى أو حاجة عرضت
مرحباً بك قد سألت الله عز وجلّ أن يرينيك قبل الموت. فقد فعل وأحسب أني مقبوض، فأنشدك الله أن تقيم عليّ تشهدني وتقوم بشأني. فإذا مت فاغسلني ونقني وجهزني وحنطني وطيبني وكفنّي في ثلاثة أثواب غير مخيطة. قد أعددتها ولا تعممني وضعني فوق نعشي، وتقدم بالصلاة عليّ، واجتهد في الدعاء الى الدائم القائم، الحي الذي لا يموت. واسأله أن يجمعني وإياك في جواره برحمته ورضوانه حيث أنا من الغربة. وتعم في النعمة، ثم اتركني لولدي وأهلي وجيراني يتولون دفني. وانهض أنت الى موضعك مصحوباً بالخير مشيعاً بالسلامة. واستودعتك الله تعالى خير مستودع. قال فشهدت موته ولقنته الشهادة، وهو غير مؤتل في تكريرها الى أن زهقت نفسه. فقمت بأمره، وكانت سنة ثمان وسبعين وثلاثماية. رحل مع ابنه محمد فحجّ، وسمع من جماعة منهم الميمون بن حمزة وعبد الغني بن سعيد. وقد سمع من عبد الغني سعيد بمصر أيضاً. قال أبو علي الجياني: كان من أهل العلم والفضل، قال الخولاني: كان من أهل العلم مقدماً في الفهم عارفاً بالحديث ووجوهه، إماماً مشهوراً بذلك، سيما في العلم. ومات عليه. لم ترَ عيني مثله في المحدثين، وقاراً وسمتاً. استقدم(7/207)
الى قرطبة آخر الدولة العامرية. سمع منه بها. حدث عنه ابنه وأبو عمر ابن عبد البر، وقاسم ابن المأموني السبتي، وأبو عبد الله محمد بن حصار. وتوفي في المحرم سنة ست وتسعين، ومولده سنة أحد وثلاثين، وأوصى أن يكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها عمامة. رحمه الله تعالى.
سعيد بن عبد الملك الجذامي
إشبيلي، أبو عثمان يعرف بالملاح. كان حافظاً للرأي، عاقداً للشروط مشاوراً في الأحكام. حدث وتوفي سنة أربع وسبعين وثلاثماية وهو كهل.
سعيد بن موسى بن معمر الغساني
البيري. أبو عثمان. رحل ولقي الأبهري. حمل عنه كتبه وسمع من غيره. انصرف الى الأندلس فلزم تطيلة(7/208)
مرابطاً بها والثغر الى أن توفي. وكان فقيهاً زاهداً ورعاً. يصوم الدهر. لم يحدث. وقتل بالمعترك سنة ثلاث وتسعين.
أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أسد الجنبي
طليطلي. سكن قرطبة. من أهل الفقه والرواية والأدب. سمع من قاسم بن منذر القاضي وغيره. رحل فسمع بمصر والشام والحجاز من أبي عباس ابن السكن، وابن أبي الجوز، وابن أبي الورد، وابن جامع السكري، وحمزة الحافظ، وابن أسيد، وابن إسحاق، وابن فراس محمد بن سرور الغسال والقشيري، وأحمد بن ابراهيم بن جامع، وغير واحد. توسع في السماع، وكان ضابطاً متفنناً للرواية، حسن الحديث، فصيح اللسان، حاضر الجواب، جليل القدر. ويجمع الى الفقه(7/209)
الأدب. وله حظ من علم اللغة والشعر. وكان لا يغير كتاباً إلا بمشقة، ولا يسمع في غير كتابه. ولم يرو بالأندلس سماعاته بالمشرق، إذ لم يكن معه أصول قال أبو عمر ابن الحذاء: كان شيخاً وقوراً فاضلاً رفيع القدر. ما رأيت أضبط لكتبه منه. حدث عنه أبو عمر ابن عبد البر، وأبو عمر ابن الحذاء وحكم بن محمد. وكان يستحسن التفاؤل في المصحف لالتماس البركة. يحكى أنه صرف مدة، وقد أراد ركوب البر فألفى: واترك البحر رهواً إنهم جند مغرقون. قال: فتخلفت وركب غيري فغرقوا بأجمعهم. وكان يقول ما وليت لبني أمية إلا قراءة كتب الفتوح وقتاً، وهي أدنى الحفظ. ولقد أساءني القول عنها أشد مساءة. وامتحن أيام ابن المظفر بالغيرة عليه والتقييد والإخراج عن الأندلس. توفي في آخر سة خمس وتسعين وأوصى أن يكفن في ثلاثة أثواب ليس فيه قميص ولا عمامة. مولده رحمه الله سنة عشر وثلاثماية. رضي الله عنه.(7/210)
أبو عبد الله محمد بن عيسى المريني قاضي تطيلة
قال ابن حيان: كان رجل الثغر، موصوفاً بالشجاعة والعلم والفقه. مثابراً على الجهاد. رحل وحجّ ولقي مشايخ القرويين والمصريين وتفقه معهم. سمع الحديث. قتل في وقعة البقر سنة أربعمائة بظاهر قرطبة. وكان جاء مع المهدي لحرب البرابرة بجازر فاسه بلده. بعد ابنه.(7/211)
أحمد بن عبد الله بن محمد بن عروس الموروري الحضرمي
قال ابن الفرضي: كان أحمد هذا فقيه بلده، وكتب عنه. قال ابن الرازي: وكان الخليفة يصرفه في الأمانات. قال ابن حيان: كان من جوابر الحديث والفقه. وسلك سبيل العلماء. وليَ القضاء ببعض النواحي. ثم صحب ابن أبي عامر، فتجرد لطلب دنياه، وتحول عن طبقته، فلحق أهل الخدمة. ونال الوزارة وتقلد المدينة. وصادر المكوس(7/215)
وارتكب الجرائم، وأغرق في ظلم العباد. فلم تطل مدته حتى اخترمته المنية في شهر رمضان من سنة ست وستين وثلاثماية. وترك من المال ما لا كفاية له مما غله. فحاز ابن أبي عامر أكثره.
محمد بن علي بن محمد بن شبل
ويقال الشبل ابن بكير القيسي. تطيلي. من فقهائها وبيوتها المشهورة في العلم والجلالة. ووليَ أحكم بلد. حدث عنه عيسى بن موسى بن الإمام. روى عنه أبو الأصبغ ابن أبي درهم. وجده محمد بن شبل، يكنى بأبي بكر. سمع من المغامي وغيره، ورحل فسمع من يحيى بن عمر، ويحيى بن عون، وعمر بن يوسف، وأبي مضر دارم بن ملك البغدادي، ويعيش الغرابلي، وزيدان بن اسماعيل. وولي الصلاة ببلده. وكان يرحل إليه من مدن الثغر للسماع منه. وطال عمره ومات سنة ثلاث وخمسين. حدث عنه أبو محمد القلعي، وعيسى بن موسى الإمام، رضي الله عنهما.(7/216)
محمد بن يعيش بن منذر الأسدي
طليطلي. كان يكنى بأبي عبد الله. قال ابن الفرضي: كان فقيهاً حافظاً للمسائل عالماً بالشروط رأساً في ذلك. قال ابن حيان: كان محمد بن يعيش فقيه بلده في وقته. وإليه انتهت فتواه، من بيت علم وجلالة ورئاسة. توفي رحمه الله سنة إحدى وتسعين.
سعيد بن كوثر رحمه الله
قال ابن حيان: كان نظيراً لابن يعيش في العلم والجلالة بطليطلة. وكان من بيت علم وجلالة ورئاسة بها. وكان متصافين جداً.(7/217)
أبو الحزم خلف بن عيسى بن سعد الخير بن أبي درهم
وشقي. فقيه بلده وقاضيه. قال ابن الحذاء: كان فاضلاً تلك الجهة وعاقلها. يروي عن محمد بن عمر بن عيشون، وابن الأبار، ويحيى بن مطر، وابن عيسى. حدث عنه أبو عمر ابن الحذاء وابنه أبو الأصبغ. قال الباجي فيه وفي ابنه أبي الحزم: لا بأس بهما. انتهى.
أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن مسافر الهمداني
المعروف بالواهراني، وبالتجاني. ويعرف بابن الخراز. قال ابن غلبون: كان صالحاً صاحب سنّة. له رحلة قديمة لقي فيها الناس، وحجّ ورحل الى العراق وغيرها ولقي الأبهري، وروى عنه كتبه. ولقي بها جماعة سواه. ولقي بمصر والبصرة وغيرهما.(7/218)
قال غيره: لم يكن فيما أدركنا أوثق منه، ولا أورع ولا أحسن تمسكاً منه بالسنّة. وسمع منه جماعة الناس بالأندلس، كحاتم الطرابلسي، ومحمد بن غلبون الخولاني، وغيرهم. وله مشائخ كثيرة. سمع منهم بإفريقية ومصر والحجاز والعراق وخراسان والجبل. ورحل لابن مرد ولابن شبويه، فسمع منه صحيح البخاري، ورحل الى نيسابور وبلخ، وتفقه بالأبهري، ودرس عليه كتبه، سنين مع أصحابه. ولقي بالبصرة فقيهي المالكيين: أبا يعلى البصري، وأبا عبد الله بن عطية، وذاكرهم. وسمع من اليحرمي، وابن مالك، وابن السقا، وابن مامي، وابن سيف، وأبي الفضل العطار، وأبي الحسن ابن لؤلؤ وغيرهم من البغداديين. وسمع بالقيروان من أبي العباس، وابن أبي العرب، وأقام في رحلته نحو عشرين عاماً. رحمه الله.(7/219)
طبقة ثامنة
بسم الله الرحمن الرحيم. قال الفقيه القاضي أبو الفضل رضي الله عنه وقد غفر له بمنه: ثم انتهى الفقه والمذهب بعد هذه الطبقة الى أخرى تليها فمنهم:
من أهل العراق
أبو محمد عبد الوهاب بن نصر القاضي
قال أبو بكر بن ثابت الحافظ في تاريخ: عبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد بن الحسين بن هارون بن مالك أبو محمد الفقيه المالكي. سمع أبا عبد الله بن العسكري، وعمر بن محمد بن سبنك، وأبا حفص بن شاهين. كتبت عنه ولم ألقَ في المالكيين أفقه منه. وكان حسن النظر جيد العبارة ووليَ القضاء بالدينور وغيرها، وخرج في آخر عمره الى مصر، فمات بها ورأيت في بعض الكتب أنه ولي قضاء الدينور.(7/220)
وقال أبو إسحاق الشيرازي في تعريفه: أدركته وسمعت كلامه في النظر قال: وقد رأى أبا بكر الأبهري إلا أنه لم يسمع منه شيئاً، وكان فقيهاً متأدباً شاعراً. وخرج في آخر عمره الى مصر فحصل له حال من الدنيا. قال الفقيه أبو الفضل قوله لم يسمع من أبي بكر غير صحيح، بل حدث عنه وأجازه وسمع أيضاً من أبيه عن أبي ثابت الصيدلاني، وابن عمر بن السماك، وأبي خالد النصيبي والحاوي. وممن سمع منه أيضاً القاضي أبو محمد بن زرقونه، وأبو عم الهاشمي، وأبو سعيد الكرخي، والمخلص، وأبو الحسن ابن الصلت، والمجد، وابن نافع، ومحمد بن أحمد الصياد، وأبو علي ابن شاذان وغيرهم. وكان تفقهه على كبار أصحاب الأبهري: أبي الحسن ابن القصار، وأبي القاسم ابن الجلاب، ودرس الفقه والأصول والكلام على القاضي أبي بكر الباقلاني وصحبه وألف في المذهب والخلاف والأصول تواليف بديعة مفيدة(7/221)
ككتاب التلقين. وكتاب شرحه لم يتم، وكتاب شرح الرسالة، وكتاب المهدي في شرح مختصر الشيخ أبي محمد. صنع منه نحو نصفه، وكتاب شرح المدونة لم يتم، وكتاب النصرة لمذهب إمام دار الهجرة، وكتاب المعونة لدرس مذهب عالم المدينة، وكتاب أوائل الأدلة في مسائل الخلاف، وكتاب الرد على المزني، وكتاب الإفادة في أصول الفقه، وكتاب التلخيص فيه أيضاً، وكتاب عيون المسائل، وكتابه الآخر المسمى بالمروزي في الأصول، وكابه المسمى بالمفاخر، وعليه تفقه ابن عمروس، وأبو الفضل مسلم الدمشقي. وأبو العباس ابن قشير الدمشقي. وروى عنه جماعة، منهم: عبد الحق بن هارون الفقيه، وأبو عبد الله المازري البغدادي. وأبو بكر الخطيب، ومن الأندلس جماعة منهم: القاضي ابن شماخ الغافقي. ومهدي بن يوسف صاحبه.(7/222)
ذكر ملح من أخباره ولمع من فضائله
وجدت فيما يذكر من أخباره والله أعلم بصحته؟ أنه لما خرج من بغداد الى مصر وتبعه الفقهاء والأشراف من أهلها، قالوا له: والله يعز علينا فراقك، فقال لهم: والله لو وجدت في بلدكم كبجلتين من ذرة، ما خرجت منها. ولق ترك أبي جملة دنانير وداراً، أنفقتها كلها على على صعاليك من كان ينهض بالطلب عندي. فنكس كل واحد منهم رأسه. ثم أمرهم بالانصراف، فانصرفوا. وأنشد:
لا تطلبن الى المجبوب أولاداً ... ولا السّراب لتسقي منه ورّادا
ومن يروم من الأنذال مكرمة ... كمن يوتّد في الأتبان أوتادا
وقد رأيت نحو هذه الحكاية، دون الشعر، في مثالب أهل البصرة، وأنها جرت للنضر بن شميل معهم، والله أعلم. ويقال إن(7/223)
سبب خروجه من بغداد قصة جرّت له الكلام مع الشافعي. فخاف على نفسه، وطلب. فخرج فاراً عنها. قال الشيرازي رحمه الله: وأنشد أبو محمد في خروجه من بغداد:
سلام على بغداد في كل موطن ... وحُقَّ لها مني السلام المضاعف
لعمرك ما فارقتها عن ملالة ... وإني بشطي جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت عليّ برحبها ... ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
فكانت كخل كنت أهوى دنوه ... وأخلاقه تنأى به وتجانف
وقرأت في بعض الأخبار، أن الشعر ليس من قوله. وأن القاضي أبا محمد قال: وجدت مكتوباً على سارية بحران، فذكر الشعر، وأكثر الناس يروونه له. فالله أعلم. ويروى له أيضاً في مثله:
بغداد دار لأهل المال واسعة ... وللصعاليك دار الضنك والضيق
أصبحت فيها مضاعاً بين أظهرهم ... كأنني مصحف في بيت زنديق(7/224)
ومما أنشده أيضاً في ذلك، وبعضهم ينسبه له:
وقائلة: لو كان ودك صادقاً ... لبغداد لم ترحل فكان جوابيا
يقيم الرجال الموسرون بأرضهم ... وترمي النوى بالمغترين المراسيا
وما هجروا أوطانهم عن ملالة ... ولكن حذاراً من شمات الأعاديا
وحدث عن بعض الأندلسيين أنه قال: دخلت بمصر، حمّاماً، فاجتمعت فيها بالقاضي أبي محمد، وعندي آنية بطفل مطيب، فقصدت إليه، وسألته استعماله، فتناوله واشتمه، وسألني من أين هو لك؟ قلت: اشتريت خادماً، وكان هذا في أسبابها. فقال لي: اشترطت ماله؟ قلت: لا. قال: خذه إليك فلا حاجة لي به. ولما وصل الى مصر ونيته المغرب، فوصف له فزهد فيه، وخاطبه ابنا الشيخ أبي محمد ابن أبي زيد، وقد انعقد(7/225)
بينهما وصلة بسبب شرحه لتواليف أبيهما، ووصلاه بمال لم يرضه، واستدعياه للدخول الى المغرب فكتب إليهم:
أنا ذاك الصديق لكن قلبي ... عند قرب الديار ليس بقلب
ما انتفعنا بقربكم ثم لا لوم ... عليكم وإنما الذنب ذنبي
أنا في حطة واسأل ربي ... في خلاصي من شرها ثم حسبي
وكان خطاب فقهاء أهل القيروان في الوصول إليها، فرغبه في ذلك أبو عمران، وكسره عنه أبو بكر ابن عبد الرحمن، وخاطبه أيضاً مجاهد الموفق، صاحب دانية، في الوصول الى الأندلس فيما ذكره. توفي بمصر سنة اثنتين وعشرين وأربعماية، يقال من أكلة اشتهاها. ويحكى أنه قال: لما أحسّ بالموت بمصر(7/226)
إثر ما اتسع حاله بها بعد ضيقه بالعراق: لا إلا الله، لما عشنا متنا. ورأيت في بعض التواريخ أن سنّه كان حين مات ثلاثاً وسبعين سنة.
أبو الحسن علي بن القاسم بن محمد بن إسحاق الطافي
البصري. وطافة قرية من قرى البصرة. نزل مصر وأخذ بالعراق عن أبي القاسم ابن الجلاب، وهبة الله الضرير المقري، وغيرهم. ولقي بمصر أبا القاسم ابن الكاتب، وكتب عنه الفروق في مسائل، سأله عنها. أخذ عنه أبو العباس الدلائي، وأبو محمد الشجالي، وذكره أبو الوليد الباجي، فقال: فقيه. وله كتب في الفقه معروفة. رضي الله عنه.(7/227)
المسدد بن أحمد بن جعفر بن محمد بن أيوف بن محمد بن عبد الله
ابن قيس بن سعيد بن عبادة بن دلامة بن الخزرج البصري. سمع من خاله أبي القاسم ابن الجلاب، وشرح كتابه المسمى بالتفريع. قال ابن الحصار: كان من أهل العلم والحظ الوافر من العلم. سمع بالعراق والبصرة، وبشيراز وغيرها. ومن شيوخه أبي علي السلمي، والقاضي أبي بكر الظهراني، وأبي بكر أحمد بن عبيد الله، يروي عنه الدلائي وغيره. ودخل المغرب، فاستوطن القيروان، وبها مات. واستجازه ابن الحصّار، وابنه أبو القاسم فأجازهما.(7/228)
أبو بكر محمد بن الحسن بن أحمد الفارقي
يعرف بابن البغدادي. كان بميّافارقين، من ديار بكر. قال عتيق: هو ديّن زاهد، مشهور. مالكي، من المالكية. يروي عنه القاضي أبو القاسم الحسن بن الحسن بن المنذر، روى عنه أبو حفص السمنطاري العابد، وعتيق بن علي السمنطاري، الصقلي.
أبو ذر الهروي رحم الله
هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عفير بن عرك، بن خليفة بن ابراهيم بن نيسان، بن قيس بن عامر، بن قيس، بن أبي ردمة، بن عمر بن قيس بن رفاعة بن الحارث، بن سواد بن سلا بن غنم، بن مالك بن النجار. هكذا وجدت نسبه في ظهر كتابه، الذي نقل لي عن خط شيخنا أبي علي الجياني، رحمه الله. أصله من هراة، وتمذهب بمذهب مالك، رضي الله عنه.(7/229)
ولقي جلة من أعلامه، وأخذ عنهم، كالقاضي أبي الحسن القصار، وأبي بكر الأبهري، وابن عباس البغدادي، وأبي إسحاق الدينوري، واشتغل في الحديث فتقدم في إمامته، وغلب عليه حال في بلاد خراسان والجبل، وبلاد العراق، ورحل الى الحجاز ومصر، فسمع من جلة كأبي الحسن الدارقطني، وأحمد بن عبد الله الشيرازي، وأبي بكر بن شاذان، وأبي الحسن بن فراس، وأبي الفضل بن حمدونه، وأبي إسحاق المستملي، وأبي محمد الحموني، وأبي الهيثم السرخسي، والخليل بن أحمد القاضي، وأبي المنتعل، وأبي عبد الله الحاكم، وأبي عمر الحران، وأبي عبد الله العصفي، وأبي حفص ابن شاهين في عدد كثير، قد ألّف(7/230)
فيهم كتابين، أحدهما فيمن روى عنه الحديث، اشتمل على نحو ثلاثماية اسم، أو أزيد من الفقهاء، والمحدثين، والآخر فيمن لقيه ولم يروِ عنه حديثاً. وأخذ عن أبي بكر الباقلاني، وأبي بكر بن فورك من متكلمي أهل السنّة حظاً من علم الاعتقاد، وسكن الحرم وجاور فيه، الى أن مات ناشراً للعلم. وسمع منه عالم لا يحصى من أهل الأقطار من شيوخ شيوخنا. وقد أدركنا غير واحد ممن سمع منه، ولم يقدر على السماع منهم، لقصر أو بعد الدار، وآخر من حدث عنه بالإجازة، أحمد بن محمد الإشبيلي، بعد الخمسماية. وقد أجازنا وسمع منه من جلة أقرانه: أبو محمد عبد الغني الحافظ، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو عمران القابسي. ولم يسمع هو من عبد الغني تحرياً لمداخلته ببني عبيد أمراء مصر الشيعة. ولا سمع من القضاعي، لكونه قاضياً لهم.(7/231)
ذكر فضله وزهده رضي الله عنه
كان رحمه الله، مالكي المذهب، إماماً في الحديث حافظاً له، ثقة ثبتاً متفنناً، واسع الرواية متحرياً في سماعة، كثير المعرفة بالصحيح، والسقيم، وعلم الرجال. حسن التأليف في ذلك كثيراً. وكان مع ذلك زاهداً متقشفاً، فاشلاً متقللاً. نزل مكة، وجاور بها أزيد من ثلاثين سنة. وكان سكن منها بسراة بني سبابة. وكان يتحرى في الفتيا، ويحيل على من يحضره من فقهاء المالكية للسماع منه. قال أبو محمد الشتنجالي: من رأى أبا ذر، رآه على هدى السلف الصالح من الصحابة، والتابعين. رضي الله عنهم. قال حاتم بن محمد: كان أبو ذر مالكياً خيراً، فاضلاً متقللاً من الدنيا، بصيراً بالحديث وعلله، ويميّز الرجال.(7/232)
ولأبي ذر كتابه الكبير في المسند الصحيح، المخرج على البخاري ومسلم. وكتاب السنة والصفات، وكتاب الجامع، وكتاب الدواة، وكتاب القرآن، وكتاب فضائل يوم عاشوراء، وكتاب مسانيد الموطآت، وكتاب كرامات الأولياء، وكتاب الرؤى والمنامات، وكتاب فضائل مالك بن أنس، وكتاب المناسك، وكتاب دلائل النبوءة، وكتاب الرباء واليمين الفاجرة، وكتاب شهادة الزور، وكتاب بيعة العقبة، وحديث الجعرانة وخيبر، وكتاب شهادة النبي وأصحابه، وكتاب ما روي في بسم الله الرحمن الرحيم، وكتاب في شيوخه. وتوفي أبو ذر رحم الله، في ذي القعدة، سنة خمس وثلاثين وأربعماية. قال: سألت أبا ذر عن مولده، فقال: ولدت أنا سنة خمس أو ست وخمسين وثلاثماية. شك أبو ذر رضي الله عنه.(7/233)
محمد بن اسماعيل النصيبي
أبو بكر. يعرف بالعربي. قال أبو عمر: وكان واثق المعرفة ذا ضبط وفهم، ثقة ثبتاً، وكان إمام مسجد نصيبين. وذكر أنه كان مالكياً. قال: وكانت له رواية في القراءات عن أبي بكر الشرابي، وامتنع من التصدر، وتوفي بعد عشرين وأربعماية.
علي بن محمد بن الحسن الحربي
مالكي. أخذ عن أبي بكر الأبهري، وعن عبد الله بن عثمان الصفار. روى عنه أبو بكر الخطيب الحافظ، رحمه الله.
الشهرزوري رحمه الله
مالكي. ثقة بغدادي، وأحسب أن اسمه محمد بن منصور، ويكنى بأبي بكر. ودخل الأندلس،(7/234)
قال القاضي أبو عمر ابن حسين: قدم علينا الفقيه الشيخ الشهرزوري، من المشرق. وكان من كبار الفقهاء المالكيين، ومن المحسنين فيهم. وحكي عنه أن بعض العراقيين سأل عن قوله تعالى، لمحمد نبيّه عليه السلام: " فلا تكونن من الجاهلين ". وعن قوله تعالى لنوح: " إني أعظُك أن تكون من الجاهلين ". فإن ظاهر الكلام، أنه أغلظ في حق نبيّنا صلى الله عليه وسلم. فأجابه بعض علمائهم: إن هذا مما يدل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم، أقرب الى الله وأحبّ. ولا يكون شدة التأديب إلا للمحبوب القريب، وأنشد:
لا يعيب الصّديق قارعة التأ ... نيب إلا من الصّديق الرّغيب(7/235)
قال القاضي أبو عمر: ولو قيل في هذا إنه رفق بنوح في عظته للسن والشيخ، وأنه كان مصاباً بابنه وبقومه، وما لقي من أهوال الغرق وضيق السفينة، كان وجهاً. قال القاضي أبو الفضل: ولو عُكس السؤال لكان باللفظ أليق. وذلك أن قوله: أعظك أن تكون من الجاهلين، أشدّ من قوله: فلا تكونن من الجاهلين. لأن في الآيتين النهي، ثم في قوله: أعظك، الزّجر والتحذير. والصحيح أن الآيتين معنى واحد، وليس في واحدة منهما إثبات جهل لواحد منهما. ولا نهيه عنه إذ كانا منزّهين عن صفات الجهّال واتباع مقاصدهم، بل المراد بالآيتين جميعاً.
قال القاضي أبو الفضل عيّاض رضي الله عنه.
من أهل مصر(7/236)
أبو الحسن علي بن الحسن بن محمد بن العباس بن فهر البزار الفهري
فقيه مالكي محدث مصر. ألّف في فضائل مالك رضي الله عنه اثني عشر جزءاً. سمع الحسن بن رشيق وأبا الحسن ابن زريق وأبا الطاهر الدبيلي وأبا القاسم الجوهري، وأبا سعيد السحري، وأبا علي المطرّزي، وأبا أحمد بن اليسر، وأحمد بن فراس، وأبا مسلم الكاتب، سمع منه الدلائي، والمهلب بن أبي صفرة، وابن الوليد، وغلبت عليه الرواية. قال القاضي أبو الوليد الباجي: تعرّض من الكلام لما لم يكن من شأنه، فأنكر ذلك عليه. وقال أبو عمران الفاسي: تفقّه بمصر وبمكة، ولم ألقَ مثله.(7/237)
أبو محمد بن الوليد بن سعد بن بكر الأنصاري
أندلسي. أصله من قرمونه. سمع بالأندلس من الطحّان الحافظ، وابن ثابت، وأبي جعفر ابن عون، وأبي الحسن ابن السماك، ورحل فسمع بمصر وإفريقية والحجاز من ابن أبي زيد والفاسي والإجدابي، وأبي العباس بن بندار الرازي، وأبي عمر بن سعدي، والحسن بن فراس، وأبي القاسم الحضري، وابن فهر، وأبي ذر الهروي، وأبي العباس الرازي، وابنه، ومروان بن عبد الملك.(7/238)
قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد الرازي: أبو محمد بن الوليد الأنصاري الفقيه على مذهب مالك، من سادات المغاربة وفاضليهم، سكن مصر وأخذ عنه بها الناس. قال أبو الوليد الباجي فيه: شيخ صالح ثقة مصحح لكتبه، كثير الرواية، ومكث بالقدس من نحو الأربعين، رضي الله عنه.
من أهل إفريقيا
أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله الخولاني
من أهل القيروان، وشيخ فقهائها في وقته، مع صاحبه أبي عمران الفاسي. وكان أبو بكر فقيهاً حافظاً ديّناً، كان تفقه بأبي محمد، وأبي الحسن، وسمع منهما ومن غيرهما من شيوخ إفريقية، كأبي بكر أحمد بن بكر الدويلي، وأبي محمد بن خالد السوسي(7/239)
المعروف بالبادلي. وأبي بكر عتيق بن موسى الحاتمي. وسمع بمصر من أبي بكر النعّال وغيرهم، وتفقه عليه خلق كثير، كأبي القاسم بن محرز، وأبي إسحاق التونسي، وأبي القاسم الستوري، وأبي حفص العطار، وأبي الفضل ابن بنت بن خلدون. وابن سعدون، وأبي محمد عبد الحق وغيرهم. وحاز الذكر ورئاسة الدين، في وقته مع صاحبه في المغرب بأسره، حتى لم يكن لأحد معهما اسم يعرف. وكان الذي بينهما متباعداً، حتى طمع بذلك صاحب إفريقية، ليجد الحجة على العامة، طوعهما. فلما اختبرهما في ذلك وجد عندهما ما يوافقه، ووجد دينهما أمتن مما يظن، ويذكر أن أصحاب أبي بكر، تعجبوا من حفظه وذكره في آخر عمره. فقال بعضهم: نراه يواظب على الدرس، للميعاد، أو يتكلم على قديم حفظه، فاتفقوا على اختباره. فلما(7/240)
كان من الغد، أخذوا غير الكتاب الذي كانوا يتذاكرون فيه. وكانت مذاكرتهم إذ ذاك في كتاب محمد بن المواز. فلما أخذوا الكتاب، قال الشيخ لهم: ليس كتابنا هذا. فجمحوا له، وأروه الوهم، وأنه إذا حضر فالمذاكرة فيه أولاً. ففطن الشيخ لمرادهم، وأخذ الكتاب ونظر فيه، ثم طواه، فألقاه عليهم من حفظه. وقال: علمت ما أردتم. لو عدم هذا الكتاب لأمليته من حفظي. وكانت وفاته فيما حكاه أبو إسحاق الشيرازي، وابن سعدون: سنة اثنتين وثلاثين وأربعماية. وقال غيرهما: سنة خمس وثلاثين. ومن شيوخه بالأندلس أيضاً: أبو يحيى بن الأشج، وأحمد بن قاسم، ومحمد بن خليفة، وأبو عمر الباجي، وغيره. قال ابن سعدون: رأيت في النوم وأنا في القيروان، أول سنة اثنتين وثلاثين وأربعماية، بعد فراغنا من ميعاد يوم الأربعاء(7/241)
على الشيخ أبي بكر بن عبد الرحمن في المدونة، وكانت مواعيده بها يوم الإثنين والأربعاء والجمعة. قائلاً يقول بين السماء والأرض: إلا أن أبا بكر بن عبد الرحمن، ورث خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه من أهل الجنة. ثم رأيت في الحال كأني يلقى علينا كتاب القضاء. فلما كان يوم الأربعاء، سألني عن ذلك بعد ذلك اليوم. ودخل داره ومرض مرضه الذي مات فيه، رحمه الله. قال ابن سعدون: أخبرنا الشيخ أنه كان يرى في النوم كأن قائلاً يقول له: اكتب اسمك في ذلك اللوح، الذي فيه أسماء العلماء، فانظر فيه الى اسم مالك. فأكتب اسمي تحته.(7/242)
أبو عمران الفاسي رحمه الله
واسمه موسى بن عيسى بن أبي حاج. واسمه يحجّ ابن وليهم بن الخير الغفجومي، وغفجوم فخذ من زناتة. وقال السمنطاري: من هوّارة. أصله من فاس، وبيته به مشهور، ويعرفون ببني أبي حاج. ولهم عقب، وفيهم نباهة الى الآن. واستوطن القيروان، وحصلت له بها رئاسة العلم. وكان تفقه بالقيروان عند أبي الحسن القابسي. وسمع بها من أبي بكر الدويلي، وعلي بن أحمد اللواتي السوسي. ورحل الى قرطبة فتفقه بها عند أبي محمد الأصيلي. وسمع بها من أبي عثمان سعيد بن نضرة. وعبد الوارث بن سفيان، وأحمد بن قاسم وغيرهم. ثم رحل الى المشرق فحجّ حجيجاً. ودخل العراق، فسمع من أبي الفتح ابن أبي الفوارس، وأبي الحسن علي بن ابراهيم المستملي،(7/243)
وأبي الحسين ابن الحمامي المقري، وأبي الحسن ابن الرفاء، وأبي الحسن بن الخضر، وأبي أحمد الفرضي، وأبي الطيب المجد، وأبي العباس الكرخي ابن المحاملي، وأبي عبد الله بن بكران الرازي، وأبي القاسم الضريري، وأبي عبد الله الجعفي القاضي، وأبي أحمد بن جامع الدهان، وهلال الحفار، وأبي الحسن ابن الفضل العطار، وغيرهم. ودرس الأصول على القاضي أبي بكر الباقلاني، ولقي جماعة. وكان قد سمع بمكة من أبي ذر. ثم ترك أن يسميه لشيء جرى بينهما. فكان يقول: فيما سمعت عنه. وذكروا أن السبب في ذلك بعد صداقتهما ومودتهما، أن أبا عمران لما رجع من العراق، وجد أبا ذر بالفرات خارج مكة، وكتبه بمكة عند جارته، فطلبها من جارته، فلم تمكنه. وكان له غرض في بعضها. فبإدلاله وما(7/244)
بينهما. وسمع بالحجاز أيضاً، من أبي الحسن ابن فراش، وأبي القاسم السفطي، وبمصر من أبي الحسن ابن أبي الجدار، وأحمد بن نور القاضي، وعبد الوهاب بن منير الوشاء. ثم رجع الى القيروان فاستوطنها، فلم يزل إماماً بالمغرب، أخذ عنه الناس وتفقه عليه جماعة كثيرة ممن ذكرنا في أصحاب أبي بكر وغيرهم، كعتيق السوسي، وأبي محمد الفحصلي، ومحمد بن طاهر بن طاوس، وجماعة من الفاسيين، والسبتيين والأندلسيين، فطارت فتاويه في المشرق والمغرب، واعتنى الناس بقوله. وكان يجلس للمذاكرة، والسماع في داره، من غدوة الى الظهر. فلا يتكلم بشيء إلا كتب عنه، الى أن مات.(7/245)
ذكر فضائله وأخباره رحمه الله
قال حاتم بن محمد: كان أبو عمران من أعلم الناس، وأحفظهم. جمع حفظ المذهب المالكي الى حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة معانيه. وكان يُقرئ القرآن بالسبعة، ويجوده. مع معرفته بالرجال وجرحتهم، وتعديلهم. أخذ عنه الناس من أقطار المغرب والأندلس، واستجازه من لم يلقه. وخرج من عوالي حديثه نحو مائة ورقة. قال حاتم: ولم ألقَ أحداً، أوسع منه علماً، ولا أكثر رواية. قال عمر الصقلي: أبو عمران الثقة الإمام الديّن، المعلم. وذكر أن الباقلاني كان يعجبه حفظه، ويقول: لو اجتمعت في مدرستي أنت وعبد الوهاب بن نصر، وكان إذ ذاك بالموصل، لاجتمع فيه علم مالك. أنت تحفظه وهو ينصره. لو رآكما مالك لسرّ بكما.(7/246)
قال ابن عمار في رسالته، فذكره فقال: كان إماماً في كل علم، نافذاً في علم الأصول، مقطوعاً بفضله وإمامته. ولما دخل بغداد شاع أن فقيهاً من أهل المغرب مالكياً، قدم. فقال الناس: لسنا نراه إلا عند القاضي أبي بكر الباقلاني، وهو إذ ذاك شيخ المالكية بالعراق، وإمام الناس. فنهض من أهل بغداد من المالكية. فقال السائل: أصلحك الله، هذا شيخ من كبار شيوخنا، ومن الجفاء أن تكلفه المناظرة من أول وهلة. ولكن أنا أخدمه في نصرة هذه المسألة وأنوب(7/247)
عنه فيها، الدليل على صحة ما أجاب به الشيخ، حرسه الله تعالى، كذا وكذا، ما اعترضه الشافعي فيه. ثم انفصل المالكي من اعتراضه، حتى خلص الدليل. فلما أجمل الكلام على المسألة، قام إليه الشافعي، وقبّل رأسه، وقال: أحسنت يا سيدي، وحبيبي. أنت والله شيخ المذهب، حين نصرته. وجرت في ذلك المجلس مسائل غيرها. وذكره أبو عمر المغربي في كتابه، فقال: قرأ القرآن على أبي الحسن علي الحمامي، وقرأ القرآن بالقيروان مدة، ولما ورد القيروان وجلس مدة، بان علمه. قال كبار أصحاب أبي بكر بن عبد الرحمان: نسير إليه. وقالوا إنه يعزّ على شيخنا ذلك. وتروّضوا في الحضور عنده. ثم عزموا على ذلك. قالوا إنه لا يجمل بنا التخلف عن مثله، فأسخطوا شيخهم حتى يحكى أنه دعا عليهم، وهجرهم.(7/248)
وجرت بالقيروان مسألة في الكفار، هل يعرفون الله أو لا؟ فوقع فيها تنازع عظيم بين العلماء. وتجاوز ذلك الى العامة، وكثر التمادي بينهم، حتى كان يقوم بعضهم الى بعض في الأسواق، ويخرجون عن حد الاعتدال الى القتال. وكان المتهجم بذلك رجل مؤدب يركب حماره، ويذهب من واحد الى آخر. فلا يترك متكلماً ولا فقيهاً إلا سأله فيها وناظره. فقال قائل: لو ذهبتم الى الشيخ أبي عمران لشفانا من هذه المسألة. فقام إليه أهل السوق بجماعتهم، حتى أتوا باب داره واستأذنوا عليه، فأذن لهم. فقالوا له: أصلحك الله، أنت تعلم أن العامة إذا حدثت بها حادثة، إنما تفزع الى علمائها. وهذه المسألة قد جرى فيها ما بلغك، وما لنا في الأسواق شغل إلا الكلام فيها. فقال لهم: إن أنصتّم وأحسنتم الاستماع أجبتكم(7/249)
إلا واحد، ويسمع الباقون. فقال له: أرأيت لو لقيت رجلاً فقلت له: تعرف الشيخ أبا عمران، فقال: نعم. فقلت: صفه لي، فقال: نعم. هو رجل يدرس العلم ويدرسه، يفتي الناس ويسكن بقرب السماط، أكان يعرفني؟ قال: نعم. قال: والأول ما كان يعرفني؟ قال: لا. قال لهم الشيخ: كذلك الكافر، إذا قال لمعبوده صاحبة، وولداً، وأنه جسم، وقصد بعبادته مَن هذه صفته. فلم يعرف الله، ولم يصفه بصفاته. ولم يقصد بالعبادة إلا مَن هذه صفته، وهو بخلاف المؤمن الذي يقول إن معبوده: الله، الأحد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد. فهذا قد عرف الله، ووصف بصفته.(7/250)
وقصد بعبادته من يستحق الربوبية سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون، علواً كبيراً. فقامت الجماعة وقالوا له: جزاك الله خيراً من عالم. فقد شفيت ما بنفوسنا، ودعوا له، ولم يخوضوا في المسألة بعد هذا. وذكر أبو الحسن ابن رشيق الأديب في كتابه، قال: كتب محمد بن علي الطبني حين عزم أبو عمران على السفر الى الحج إليه:
أقول والنفس حزنى منك والهة ... مما تحاذره من فقد محياها
ومن له رب ما تراه من عمل ... برٍ وإن كان في بقياه بقياها
فإن تُقم لم يُرِعني نأيُ مرتحل ... وإن ترد سفراً ودعتك اللهَ
نفسي بما ترتضيه غير كارهة ... وحسبك أن ما أرضاك أرضاها(7/251)
فأجابه أبو عمران رحمه الله:
حياك ربك من خل أخي ثقة ... وصان نفسك بالتكريم مولاها
من كل غم وشأن لا يوافقها ... هو العليم بما يبديه مولاها
ولا أضاع لها الرحمن حرفتها ... وقولها إن تسر ودعتك اللهَ
فالله يجمعنا من بعد أوبتنا ... ويؤتنا من وجوه البر أسناها
وتوفي أبو عمران سنة ثلاثين وأربعماية. ومولده سنة ثلاث وستين وثلاثماية. فيما حكى الجياني، عن أبي عمر ابن عبد البر، وقال أبو عمر المقرئ: مات وسنه خمس وستون سنة.
أبو القاسم عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الكناني
المعروف بابن الكاتب. من فقهاء القيروان المشاهير، وحذاقهم. قال ابن سعدون: كان موصوفاً بالعلم والفقه والنظر، وفضله مشهور. تفقه في مسائل مشتبهة من المذهب. وحجّ،(7/252)
ولقيه أبو القاسم الطائي بمصر، وسأله عن فروق أجوبته في مسائل مشتبهة من المذهب. قال الطائي: وقد كان أعضل جوابها بكل من لقيته من علماء القيروان. فأجابني أبو القاسم فيها ارتجالاً، على ما كان عليه من شغل البال بالسفر، وقد وقفت على جوابه في جزء منطوٍ على أحد وأربعين فرقاً. وكان قوياً في المناظرة، حتى علا العرق أبا عمران، وبلّ قميصه ورداءه، وصار كمن غمس في ماء. وبينهما في ذلك خلاف ونزاع ومراجعة، في مسائل مشهورة، نقلت عنهما. ولأبي القاسم كتاب كبير في الفقه، نحو ماية وخمسين جزءاً.(7/253)
أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الحضرمي
المعروف باللبيدي. ولبيدة من قرى الساحل، من مشاهير علماء إفريقية. ومؤلفيها وآخر طبقته موتاً. تفقه بأبي محمد ابن أبي زيد رحمه الله، وأبي الحسن القابسي، وسمع منهما ومن غيرهما من شيوخ إفريقية، وعباد أهل الرّباط، كأبي الحسن اللواتي، وأبي إسحاق الساحلي، وأبي عبد الله بن مالك الطرشي، وصحب الشيخ الفاضل أبا إسحاق الجبنياني، وانتفع به. روى عنه أبو عبد الله بن سعدون وغيره من القرويين والأندلسيين، ووجهه أبو الحسن القابسي لتفقيه أهل المهدية، وامتدّ عمره بعد اقترانه، فجاز رئاسة العلم، والتشييخ فيه بالقيروان. وألّف كتاباً جامعاً في المذهب كبيراً. أزيد من(7/254)
مائتي جزء كبار، في مسائل المدونة وبسطها والتفريع عليها. وزيادات الأمهات، ونوادر الرايات. وألف أخبار مشيخة أبي إسحاق الجبنياني، وفضائله. وكتاباً في اختصار المدونة، سماه الملخص، وكان أيضاً ينظم الشعر، ويحسن القول. فمما أنشده لنفسه قوله:
أنت العلي وأنت الخالق الباري ... أنت العليم بما تخفيه أسراري
أنت العليم بما في الخلق مقدرة ... في وسع عيش وفي بؤس واقتار
تصفي الولاية أقواماً فتكسبهم ... ثوب المهابة محروساً من العار
تجول في ملكوت العزّ أنفسهم ... تبدي مدامعهم خوفاً من النار
قد أسلموا الأرض والأوطان وارتحلوا ... ما إن نرى مثلهم من نازح الدار
يا طول حزني على تركي لوصلهم ... يا ويح نفسي على بعد وإدبار
عسى المليك يذود النفس عن عطب ... يجلو العمى بتوفيق وأنوار(7/255)
وتوفي بالقيروان فيما أخبرني ثقة من شيوخنا: سنة أربعين وأربعماية. قال غيره: ذلك لليلتين بقيتا من شوال منها، بالقيروان. وسنه ثمانون سنة. وصلى عليه ابنه أبو بكر. وكان أبو بكر من أهل العلم. وحضر جنازته صاحب إفريقية. وجميع رجاله. ودفن في داره. ورثي بمراثٍ كثيرة. ونوه السلطان إثر ذلك بولده، وخلع عليه وأجلسه مقعد أبيه، وسنذكره إن شاء الله تعالى.
أبو القاسم خلف ابن أبي القاسم الأسدي
المعروف بالبرادعي. ويكنى أيضاً بأبي سعيد. من كبار أصحاب أبي محمد ابن أبي زيد، وأبي الحسن القابسي، وحفاظ المذهب المؤلفين فيه. له كتاب التهذيب واختصار المدونة، وحذف ما زاده أبو محمد.(7/256)
وقد ظهرت بركة هذا الكتاب على طلبة الفقه. وتيمنوا بدرسه وحفظه. وعليه معول أكثرهم بالمغرب والأندلس، على أن أبا محمد عبد الحق ألّف عليه جزءاً، فيما وهم فيه على المدونة. وأنا أقول: إن البرادعي ما أدخل ما أخذ عليه فيه، إلا كما نقله أبو محمد ابن أبي زيد، ومن تآليفه أيضاً كتاب تمهيد مسائل المدونة على صفة اختصار أبي محمد وزياداته. ولأجل ذلك قصده بعض الطلبة ليسمعه منه. فلما أتم الصدر، أغلق كتابه وقال: قد سمعت الباقي على أبي محمد. وهل زدت فيه غير هذا الصدر، وكتاب الشرح والتّمامات، وكتاب اختصار الواضحة. ولم تحل له رئاسة بالقيروان، وكان مبغضاً عند أصحابه، بصحبة سلاطينها الذين تبرأوا منهم. فكان مرفوض القول لديهم، ثقيل المكان عليهم. ويقال إن فقهاء القيروان أفتوا برفض كتبه، وترك قراءتها لتهمته لديهم، وسهل بعضهم في اختصاره المدونة وحده، لشهرة مسائله. ويقال إن الذي مكّن تغيرهم عليه، أنه(7/257)
وجد بخطه في ذكر بعض بني عبيد، أو أسبابهم يتمثل في تفريطهم بهذا البيت المشهور:
أولئك لوم إن بنوا أحسنوا البناء ... وإن وعدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
ويقال: بل سببه أنه ألّف كتاباً في تصحيح نسب بني عبيد، وأنه كانت تأتيهم إمامة. ويقال: بل لحقه في هذا دعاء الشيخ أبي محمد، رحمه الله. إذ كان البرادعي أيام دراسته عنده، لا يزال يتسبب في الاعتراض عليه والتنبيه على أوهامه، والإزراء ببعض كلامه. فعزّ ذلك على الشيخ، وتفرّغ عند خروجه الى الدعاء عليه. فكانوا يرون أن ذلك لحقه منه، فلفظته القيروان. ولم يستقر بها. فخرج الى صقلية، وقصد أميرها. فحصلت له مكانة. وعندها ألّف كتبه المذكورة. وكان ممن له دنيا، ولم يبلغني وقت وفاته. رحمه الله.(7/258)
أبو عبد الملك البوني رحمه الله
واسمه مروان بن علي القطان. أندلسي الأصل. سكن بونة من بلاد إفريقية. وكان من الفقهاء المتفننين. وألّف في شرح الموطأ، كتاباً مشهوراً حسناً، رواه عنه الناس، وتفقه بأحمد بن نصر الداودي. روى عنه حاتم الطرابلسي وأبو عمر ابن الحذاء. قال حاتم: كان رجلاً فاضلاً حافظاً، نافذاً في الفقه والحديث. أصله من قرطبة. سمع معنا وكتب عنه تفسير الموطأ من تأليفه. ولازم الداودي وغيره. قال أبو عمر ابن الحذاء: كان صالحاً عفيفاً عاقلاً، حسن اللسان رحمه الله.(7/259)
أبو عبد الله محمد بن عباس الأنصاري
المعروف بالخواص، من فقهاء إفريقية ورواتها، ومقدمي فضلائها وزهادها، وأصحاب الفاسي، وأصاب أبي محمد ابن أبي زيد، وأبي سعيد ابن أخي هشام. حدث عنهما عن زياد بن عبد الرحمن، وتميم ابن أبي العرب، وأبي الحسن البلوي، وأبي محمد البادسي، وهبة الله ابن أبي عقبة، وأبي بكر الصقلي، وأبي القاسم الصقلي، وابن حنيف السوسي، وأجازه سهل بن عبد الله بن سودان، وروى عنه عبد الجليل الربعي، وابن المرابط المري، وابن سهل القروي. وتوفي رحمه الله في شعبان، سنة ثمان وعشرين. ورثاه أبو علي ابن رشيق بقصيدة أولها:
الله باقٍ وكلٌ هالك مودي ... والموت ليس على حال بمردود
فانظر وإنك في الدنيا على خطر ... ما يفعل الدهر في صم الجلاميد(7/260)
رماها العنى في دار غبطته ... إذا استفاد بلى منها بتجديد
هذا محمد المحمود أجمعه ... قد خلف الدهر فينا غير محمود
فأي حظ من المعروف منقطع ... وأي ركن من الإسلام مهدود
أودى ابن عباس الثاني ووارثه ... ديناً وعلماً وفضلاً غير مجحود
أودى ولم يبق شيئاً كان يملكه ... إلا بيوتاً كأمثال المساجيد
من لا يردّ ضعيفاً عند مسألة ... ولا يُرى وهو ثاني العطف والجيد
فليبكه كل ملهوف لحاجته ... وكل معفى عن الأبواب مطرود
له التقدم في فرض نافلة ... على أئمتنا الغر الصناديد
فما رأيت مصابيح الهدى اجتمعوا ... إلا وألقوا إليه بالمقاليد
عبد الله بن إسحاق السرتي
يعرف بابن سمحان، من فقهاء إفريقية، يروي عن عبد الله المستملي.(7/261)
أبو محمد بن هبة الله البلوي رحمه الله
أبو القاسم. قيرواني، فقيه واسع الرواية، له رحلة الى الشرق.
أبو عبد الله مكي بن عبد الرحمن المنستيري القرشي
من فقهاء إفريقية. وأصحاب القابسي. وكان كاتبه ومختصاً به. رحمه الله.
أبو علي حسين بن محمود المولى التونسي
قدم القيروان سنة ثلاث وعشرين. فسمع عنه بها. يروي عن الإبياني. ورحل الى المشرق ولقي ابن فورك وغيره. روى عنه عبد الجليل الرّبعي. وأبو محمد بن سهل المقري، وأبو بكر عبد الله بن محمد المالكي. وأبو عبد الله المعروج القار.(7/262)
محمد بن سفيان الهواري رحمه الله
المقري، قيرواني. أبا عبد الله بن محمد. أخذ عن القابسي، ورحل الى عبد المنعم بن غلبون. وكان الغالب عليه علم القرآن. قال أبو عمر الداني: كان ذا حفظ وفهم، وستر وعفاف. قال حاتم الطرابلسي: كان رجلاً عاقلاً فهماً، حلواً متقللاً. أشهر من في المغرب في وقته بالقراءات، وأبصرهم بها. وله في القراءات كتاب الهادي وغيره. روى عنه حاتم الدّلائي. قال أبو الطيب الخلودي الفقيه: كان شيخنا أبو عبد الله بن سفيان، إماماً فاضلاً، وكان له اعتناء بعلم الحساب، والهندسة. وقد حكى ابن محرز عنه في مسألة. قال أبو عمر المقرئ في طبقاته: وخرج من القيروان لأداء الفريضة، سنة ثلاث عشرة وأربعماية. فحجّ وجاور بمكة. ثم أتى المدينة. فتوفي بها سنة خمس عشرة.(7/263)
سيدي محرز العابد رحمه الله تعالى وغفر له
هو أبو محمد محرز بن خلف ابن أبي رزين التونسي، المعروف بالعابد. خاتمة صلحاء علماء إفريقية. روى عن أبي إسحاق الدينوري. وكتب الى الأبهري، ولا أدري لقيه أم لا. روى عنه حاتم، وكان متقشفاً فاضلاً، زاهداً في الدنيا، مجانباً لأهلها، مستجاب الدعوة. ذكر أن أهل تونس لما قتلوا الروافض، القتلة المعلومة، وحدثوا أن محرزاً شيخهم حملهم عليه، وطهر الأرض منهم، ورفعت القصة الى باديس أمير إفريقية، حنق على التونسيين، وعزم على القصد لهم، وقال: تكون الأرض، ولا تكون تونس. فبلغ الخبر أهل تونس، فجزعوا له. وفزعوا الى شيخهم محرز، وأخبروه ما بلغهم بأنفسهم، وقال لهم: بل تكون الأرض ولا باديس، فأخذ في الدعاء عليه. فأخذ باديس ذبحة أتت عليه، وأراح الله تعالى منه.(7/264)
حكى بعضهم أنه كان آخر ليله ونهاره، إنما صلاته النافلة. يصلي ركعتين ثم يجلس، يتفكر ساعة أو ساعتين، ثم يقوم فيركع ركعتين ثم يجلس يتفكر، يفعل ذلك عامة ليله ونهاره، وكان بتونس، صقليّ أمر الناس ألا يكبّروا على الميت، إلا خمس تكبيرات. فقال له المشارقة: أبو كسية يكبّر أربعاً، ولا يؤذن حيّ على خير العمل، ولا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، ولا يسلم تسليمتين، ولا يؤذن الصلاة خير من النوم. فأرسل وراءه، فدخل عليه محرز، وحول الصقلي المشارقة. فلم يسلّم، فقال له الصقلي: السلطان يأمر بكذا. وأنت لا تفعل أمر السلطان، إحذر من السيف. فقال له: الصراط أحدّ من السيف، ومن السلطان وأمره؟ ثم انصرف. فبهت الصقلي، ولم يتكلم بكلمة. وغشي عليه، فلما أفاق من غشيته، قال: تقولون أبو كسية؟ لما أشار بيده إليّ حسبت كأن من ضربني برمح(7/265)
في القلب، فغشي عليّ. ودخل عليه كاتب ابن أبي العرب. فقال: أحب أن توصيني بوصية، الى عبد الله ابن أبي العرب. فقال له: ولابد. قال: نعم، إذا وصلت إليه، فقل له: يقول لك المؤدب إقرأ سورة ابراهيم. فإذا فرغت منها كررها ثلاث مرات، يريد تنبيهه على قوله تعالى: " ولا تحسبنّ الله غافلاً عما يعمل الظالمون " الآية. كتب الى الأبهري، أبي بكر، يسأله عما يأخذ بنو عبيد من الزكاة. فأجاب بأنها لا تجزئ. وكذلك الجبنياني، والقابسي. لأنهم يقرون بالزكاة المفروضة، وإنما يأخذونها على أنها جزية. وهم على غير الإسلام. وقال ابن أبي زيد وابن اللباد: إنها تجزئ، لأنا إن قلنا لا تجزئ، لم يؤدوا شيئاً. فلأن يؤدوا بتأويل، خير من تركها عامدين. قال أبو محمد: وكنت أستحب ذلك، إذ كانوا يشحون بيت المال.(7/266)
وقد أعطوا ذلك اليهود والنصارى وأنفقوها في الخمور، وحالوا بينها وبين أهلها. فلا تجزئ ويكون ما أخذوا منها، كمالٍ غصبه الغاصب، وعلى أهل الأموال إخراج زكاة ما بقي، كان فيه ما فيه الزكاة. قال: جُعِلت على بعض طلبة المؤدب محرز دراهم، جوراً وظلماً. فأتى المؤدب فأخبره. فقال: لا خلاص لي من هذا، إلا بالله، ثم بك. فإن امتنعت خاصمتك غداً بين يدي الله تعالى. فقال الشيخ عند ذلك: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله. ما تريد يا أخي؟ قال: كتاباً الى باديس، يصرف عني ما أنا فيه. فقال: تكلفني مشقة. فقال: لابد. فقال الشيخ: الله المستعان. وأخذ قرطاساً وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، حقق الله الحق في قلوب العارفين من عباده، ونقل المذنبين الى ما افترض عليهم من طاعته. أنا رجل قد عرف كثير من الناس(7/267)
اسمي. وهذا من البلاء. وأنا أسأل الله أن يتغمدني برحمة منه، وفضل. وربما جاء المضطر يسأل الحاجة. فإن تأخرت، خفت، وإن سارعت، فهذا أشرّ. وقد كتبت إليك في مسألة رجل من الطلبة، طولب بدراهم ظلماً، ولا شيء له. وحامل رقعتي يشرح لك ما جرى، فعامل فيه مما لابد من لقائه، واستح ممن هو وحده. وشاور في أمرك الذين يخافون الله تعالى، واحذر بطانة السوء. فإنهم إنما يريدون دراهمك ويقرّبون من النار لحمك ودمك. فاحفظ، تحفظ واتق الله، فإن من يتق الله يجعل له من أمره يسرا. ومن يتق الله يجعل له مخرجا. واستعن بالله، فإنه من يتوكل على الله، فهو حسبه. الآية. واستكثر من الزّاد، فقد دنا الرحيل. والسلام. فتلقى الطالب بكتابه، ولد المنصور. فقال له كاتبه - ابن أبي العرب - ما تريد؟ فأعلمه. فقال: هات(7/268)
الكتاب. فقال الطالب: إنما أريد وضعه في يد باديس. فأخذه باديس، وقبّله. وقال: هذا كتاب صديق الله. وأم الكاتب أن يكتب سجلاً، لجميع الطلبة
بالحفظ، والرعاية. وأن يصرف عن جميع طلبة الشيخ ما تسبب إليهم، من المظالم. ظ، والرعاية. وأن يصرف عن جميع طلبة الشيخ ما تسبب إليهم، من المظالم.
أبو بكر عتيق السوسي
قيرواني، من أصحاب القابسي. رضي الله عنه
أبو محمد عبد الله العربي
قيرواني، معظّم في فقهائها. ذو علم، وحفظ، ونظر، وتحقيق، من أصحاب القابسي. أخذ عنه ابن محرز وابن سعدون، وغيرهما. قال ابن سعدون: مبرزاً من أحفظ الناس.
القاضي أبو الحسن أحمد بن عبد الرحمن
المعروف بابن الحصائري. صقلي. لقي أبا محمد ابن أبي زيد، وأبا الحسن ابن بكرون، وأبا عبد الله محمد بن أحمد(7/269)
بن يزيد القروي، من أهل الفقه والفضل والدين، والرواية. أخذ عنه الناس، وتفقهوا عليه. سمع منه عتيق السمنطاري، وأبو بكر ابن يونس، وعتيق بن عبد الجبار، الربعي، الفرضي.
أبو بكر بن العباس
فقيه صقلية. فاضل. أدب في القرآن والفرائض وتفقه عليه في المدونة وكان إماماً في علم الفرائض، وعنه أخذها أهل صقلية وغيرهم. حدث عن القابسي، أخذ عنه ابن يونس، والسمنطاري.
أبو علي حسن بن أبي طالب الزيّات المروي
فقيه حدث عن هبة الله بن عقبة بن سعدون.(7/270)
أبو حسين بن سلمون المسيلي
دخل الى الأندلس، فقطن قرطبة، بعهد الجماعة. فلم يرمها، وشهر بها علمه وفضله، وولي الشورى. فكان أحد جلة مفتيها الى أن مات. وكان عفيفاً متواضعاً حافظاً للمسائل، واقفاً على الأصول، فيما قاله ابن حيان. قال: وتوفي رحمه الله سنة إحدى وثلاثين وأربعماية. رحمه الله.
أبو عبد الله ابن البناء رحمه الله
فقيه زاهد من أهل صقلية، رضي الله تعالى عن جميعهم.
محمد بن محمد بن إدريس الزيات
المعروف بابن الناظور، وأبو بكر من فقهاء القيروان، وأهل العناية بالعلم والظهور في الحديث والفقه. سمع من أبيه ومن أبي الحسن بن مسرور الدباغ، وأبي القاسم الستوري، وهبة الله بن محمد، وأبي الحسن بن شعبان وأبي إسحاق(7/271)
ابراهيم بن عبد الله الملايسي، وجماعة غيرهم. وكان أبوه راوية القيروان في وقته. رواه عنه ابن سعدون الفقيه، وأبو محمد بن سعيد.
أبو بكر بن عبد الله بن أبي زيد
ولد الشيخ أبي محمد. كانت له ولأخيه عمر بالقيروان، مكانة جليلة، بأبيهما وتقدمهما. ووليَ قضاء القيروان، قبل الفتنة. ولم يكن فيما بلغني بالمحمود السيرة. وقد رويت عنه كتب أبيه. وكان أدركه صغيراً. وكتب أحمد بن نصر الداودي عنهما. ولم يكن بالطائل المعرفة. وله ولأخيه خاطبهما ابن رشيق بقوله:
يا موضعي أملي على التحقيق ... وسميّي الصدّيق والفاروق
ما زال رأيكما كرأي أبيكما ... يجري على التسديد والتوفيق
لكن أمتُّ إليكما دون الورى ... فسرقت أمن ما لكون فويق(7/272)
من أي وجه تنصران مخاصمي ... من بعد ما وجبت عليه حقوقي
وأنا أحق بذاك غير مدافع ... في كل ناحية وكل طريق
إن كان إشفاقاً عليه فإنه ... فيما تعالى لم يكن بشفيق
لا ترغبا في بر من هو مثله ... فلرب برٍّ يرجعنْ بعقوق
وإذا الفتى لم يرضَ من خالقه ... لم تلقه يرضى عن المخلوق
أبو عمر عثمان أبو العتاب
من فقهاء القرويين، وعظماء مدرسيها. أخذ عن القابسي، رحمهما الله.
أبو المنجار زيادة الله رحمه الله
الطرابلسي. له كتاب تذكرة الدارس. رضي الله عن جميعهم.(7/273)
أبو الحسن علي بن محمد رحمه الله
المعروف بابن الهمر، من أهل طرابلس. أخذ ببلده عن ابن بكرون، وبه تفقه. وبمصر عن محمد بن عبيد الوشاء، وأبي القاسم الجوهري، وبمكة عن أبي الحسن ابن رزين، وبالقيروان عن القابسي، وكان فقيهاً فرضياً. له في الفرائض كتاب مفيد مشهور، سماه بالكافي. أخذ عنه ابن محرز.
أبو الحسن بن سي رحمه الله
قاضي طرابلس. من أصحاب ابن بكرون أيضاً. رضي الله عن جميعهم.
أبو بكر اسماعيل بن إسحاق بن عذرة الأيدي
فقيه فاضل زاهد قيرواني. من أصحاب أبي محمد ابن أبي زيد، وطبقته. ورحل الى المشرق فلقي ابن مجاهد الطائي المتكلم، وأخذ عنه. وأبا بكر الأبهري، وأبا بكر محمد بن(7/274)
أحمد البغدادي. وسمع غيرهم. وكان الغالب عليه الزهد والعبادة. وقد سمع منه الناس، روى عنه حاتم الطرابلسي، وأبو مروان الطلبني، وأثنى عليه ابن أبي زيد في شيبته، في كتابه منه، الى من سأل ابن عذرة عن خطباء بني عبيد. وقيل له: إنهم يثنون عليهم. قال: أليس يقولون: اللهم صل على عبدك الحاكم، وورّثه الأرض؟ قالوا: نعم. قال أرأيتم لو أن خطيباً خطب فأثنى على الله تعالى ورسوله، فأحسن الثناء، ثم قال: أبو جهل في الجنة، أيكون كافراً؟ قالوا: نعم. قال: فالحاكم أشر من أبي جهل. وسئل الداودي عن المسألة فقال: خطيبهم الذي يخطب لهم، يدعو يوم الجمعة. كافر يقتل. ولا يستتاب، وتحرم عليه زوجته، ولا يرث ولا يورث ماله في المسلمين. وتعتق أمهات أولاده، ويكون مدبروه للمسلمين. يعتق أثلاثهم، بموته، لأنه لم يبق له(7/275)
مال. ويؤدى مكاتبوه للمسلمين ويعتقون بالأداء، ويرجعون بالعجز، وأحكامه كلها، أحكام الكفر. فإن تاب قبل أن ظهر الندم، ولم يكن أخذ دعوة القوم، قبلت توبته. ومن صلى وراءه، خوفاً، أعاد ظهراً أربعاً. ثم لا يقيم إذا أمكنه الخروج، ولا عذر له بكثرة عيال ولا غيره.
أبو محمد بن الكراني من فقهاء القيروان
سئل عن من أكرهه بنو عبيد على الدخول في دعوتهم، أو يقتل؟ قال: يختار القتل، ولا يعذر أحد بهذا، إلا من كان أول دخولهم البلد. فيسأل إن يعرف أمرهم، وأما بعد، فقد وجب الفرار، فلا يعذر أحد بالخوف بعد إقامته، لأن المقام في موضع يطلب من أهله تعطيل الشرائع، لا يجوز،(7/276)
وإنما أقام من هنا من العلماء والمتعبدين على المباينة لهم، لئلا يخلو بالمسلمين عدوهم، فيفتنوهم عن دينهم. وعلى هذا كان حبيب بن حمدون ونظراؤه، القطّان، وأبو الفضل الممسي، ومروان بن نصرون والجبنياني والسبائي، وبه يقولون ويفتون. وقال أبو يوسف بن عبد الله الرعيني في كتابه: أجمع علماء القيروان أبو محمد، وأبو الحسن القابسي، وأبو القاسم ابن شبلون، وأبو علي بن خلدون، وأبو بكر الطبني، وأبو بكر بن عذرة: أن حال بني عبيد، حال المرتدين والزنادقة، بما أظهروه من خلاف الشريعة، فلا يورثون بالإجماع، وحال الزنادقة بما أخفوه من التعطيل. فيقتلون بالزندقة، قالوا: ولا يقدر أحد بالإكراه على الدخول في مذهبهم، بخلاف سائر أنواع الكفر. لأنه أقام بعد علمه بكفرهم،(7/277)
ولا يجوز له ذلك، إلا أن يختار القتل، دون أن يدخل في الفكر. على هذا الرأي أصحاب سحنون يفتون المسلمين. قال أبو القاسم الدهان: وهم بخلاف الكفار، لأن كفرهم خالطه سحر بمن اتصل بهم، خالطه السحر. ولما حمل أهل طرابلس الى بني عبيد، أضمروا أن يدخلوا في دينهم، عند الإكراه. ثم ردوا من الطريق سالمين. فقال ابن أبي زيد رضي الله عنه: هم كفّار لاعتقادهم ذلك.
عبد الرحيم بن أحمد الكتامي
أبو عبد الرحمن، المعروف بابن العجوز من أهل سبتة. كان كبير قومه، كتامة. وإليه كانت الرحلة في جهة المغرب. وذا ذكر شهير في بلاد المغرب. ومنزلهم بالدمنة، من بلد قومهم، معروف. وإليه كانت الرحلة في جهة المغرب في وقته. وعليه مدار الفتوى، سمع عبد الرحيم بن(7/278)
العجوز، وطلب العلم، ورحل فيه الى الأندلس، وإفريقية. ولزم أبا محمد بن أبي زيد فقيه القيروان نحو خمسة أعوام، وسمع منه كتبه النوادر، والمختصر وغير ذلك. وسمع أيضاً من عبد الملك بن الحسن الصقلي. وسمع من درّاس بن اسماعيل القابسي. وأبو محمد الأصيلي، ووهب بن مسرة الحجاز، وكانت رحلته ورحلة صاحبه، محمد بن غالب الى القيروان، في نحو الثمانين وثلاثماية. قرب وفاة أبي محمد ابن أبي زيد، رحمه الله. أخذ عنه الناس بسبتة، علماء كثيراً. وتفقهوا عليه وسمعوا منه. وكان من حفاظ المذهب القائمين به. روى عنه أبو محمد قاسم ابن المأمون، ومحمد بن عبد الرحمن بن سليمان، وابن خلف الله، وجماعة فقهاء السبتيين والفاسيين، وسواهم من غيرهم، ممن روى عنه. وأبو عثمان بن سولب من أهل قلعة حماده.(7/279)
وتوفي رحمه الله: سنة ثلاث عشرة وأربعماية. وكان له بنون، عبد العزيز، وعبد الرحمن، وعبد الكريم. فأما عبد العزيز وعبد الرحمن، فخلفا أبيهما وسدا مكانه. وسيأتي ذكرهما. وأما عبد الكريم فطلب العلم أيضاً. وسمع من أبيه، وكان أكثر مدته في قومه كتامة، رأساً فيهم. وهم له طاعة. وقتله المرابطون عند غلبتهم على كتامة. ودخولهم قلعتهم الدمنة.
يوسف بن حمود بن خلف بن أبي مسلم الصفّي
القاضي. أبو الحجاج. سبتي شهير البيت بها في العلم. كان فقيهاً خيراً فاضلاً زاهداً متقشفاً أديباً شاعراً. راوية. سمع من شيوخ بلده. ورحل الى الأندلس، فسمع أبا محمد الباجي، وأبا محمد الأصيلي، وأبا المغيرة خطاب بن بتري. وأبا بكر الزبيدي،(7/280)
وغيرهم. ووليَ قضاء سبتة ولاه المستعين من بني أمية العلويين، بعد قتل ابن زوبع. فكان من أجل قضاتها طريقة، وأحمدهم سيرة، وأشدهم على أصحاب السلطان شكيمة. وله في كل هذا أخبار مأثورة. وكان يرغب الانحلال عن الخطة، فلا يسعف. رحل الى المشرق، وهو كبير. بعد ولايته القضاء، سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. واستعفى الى الخطة عنه. فلم يسعف في الانحلال، فقيل له: استخلف. فاستخلف قاسم بن الفضل ابن أبي مسلم. وتخطط بالفقهاء. وسافر، فحجّ وسمع من أبي ذر، وأبي عبد الله الصوري، وانصرف. فرجع الى قضائه. وكان على مكانه من الجلالة، كثير التواضع، يمتهن نفسه، في نتاول أسبابه وفلاحته جنته. ويمتطي حماراً له في تصرفاته. حدّثني من رآه متحزماً في جنته بالميناء، ينظر في بعض مصالح غراستها.(7/281)
وحدثني غير هذا: أنه كان في بعض أزقة الميناء، إذ سمعت الناس يقولون: القاضي. ويتأهبون لحضوره. قال: فإذا بشيخ طويل القامة، أبيض اللحية، طويلها، يمشي وبيده قفة، فيها آلة الفلاحة. قد سترها بطنب غفارة عليه. وإذا به القاضي منصرفاً من جنته تلك. وخيره مع الغربيين اللذين قصداه، فألفياه بجنته. فدقا عليه الباب، فخرج إليهما في صورة خدمة الجنات، فعرّفاه أنهما يريدان لقاء القاضي، وهما يظنان أنه أجيره. فقال لهما: ترونه إن شاء الله تعالى. فلما قضى شغله لبس ثيابه، وركب حماره، وانصرف الى المدينة والرجلان معه. وتبين لهما من إجلاله وإكبار الناس له، أنه القاضي، فاعتذرا له، فهون عليهما ونظر في قصتهما. ومن خبره أن إدريس بن علي الحسني، أمير سبتة إذ ذاك، رأى هلال شوال في جماعة من أصحابه، ولم يره أحد من أهل سبتة سواهم. فقال له بعض أصحابه: إدفع شهادتك الى القاضي،(7/282)
وثبات ذلك عندك وصحته. فقال لهم ابن حمود: ذلك لا يغني عنده شيئاً، فأنكروا ذلك عليه. فقال لهم: سترون. ووجه إليه بعض ثقاته، يخبرونه برؤيتهم الهلال. ويأمه بالخروج من عندهم الى الصلاة، مع الناس. فقال لهم: إن كان ثبت عندي شيء يوجب أمراً الى الآن. فرجع الرسول إليه. فقال لهم أبيتم إلا فضيحتنا. وقطع اليقين على أنه لا يقبل شهادتنا؟ قال: وجاء داخل الليل شيء من الصيادين، في البحر من الثقات. فأخبروه بكشفهم الهلال، من موضع صيدهم، ورؤيتهم له. فأثبت شهادتهم ووجه الى ابن حمود بإثبات الخبر عنده، بشهادة من شهد بذلك من الصيادين، فزادهم عجباً. وقد بسطنا من أخباره أشبع من هذا في قضاة السبتيين من تاريخنا. ولم يزل ابن أبي مسلم يتردد في الاستعفاء من القضاء الى آخر أيام إدريس. فصرفه وألحقه غضاضته. وسبب عليه من يطلبه، بما تولاه من الأحباس والأوقاف، فوقاه الله شرهم.(7/283)
توفي إثر ذلك في نحو ثلاثين وأربعماية. وكانت مدة قضائه، بضعاً وعشرين سة. وابنه أبو الفضل حمود، أحد رجالات سبتة. وكان قليل العلم، استشاره البرغواطيون في قلة الفقهاء. وكان المنظور إليه في البلد من مواليهم الأدراسة، سمع منه ابنه حمود، وابن أخيه ابراهيم بن الفضل القاضي، وقاسم بن علا قومه، وبنو عنان، وعبد الله بن محمد بن غالب، واسماعيل بن حمزة وابن المري، والمسيلي، ومحمد بن سليمان المعافري، وجماعة سواهم، من أهل بلدنا. والغرباء، ورحل إليه، رحمه الله.
من أهل الأندلس
عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون
أبو بكر المخزومي. قرطبي. أبو بني زيدون، وزراء العبّادية. كان أحد أصحاب ابن ذكوان، وكان متفنناً في ضروب العلم، جم الرواية والمعرفة. فصيحاً، جميل الأخلاق. ويخضب بالسواد، وكان أحد(7/284)
المشاورين المفتين بقرطبة. وابنه الأديب أبو بكر ابن زيدون ذو الثناء البعيد، في جودة الشعر والبلاغة. ولي كتابة المعتضد ابن عبّاد، وابنه، وليَ بعده وزارة ابنه المعتمد. وقتله المرابطون عند دخولهم عليه قرطبة، وقتلهم صاحبها المأمون ابن المعتمد بن عبّاد. وكانت وفاة الفقيه أبي بكر ابن زيدون: سنة خمس وأربعماية. وهو كهل، ابن نحود الخمسين سنة بالبيرة، فجيء بتابوته الى قرطبة. فدفن بها. ومولده سنة أربع وخمسين وثلاثماية. ورثاه أبو عبادة ابن ماء السماء الشاعر، بقصيدة أولها:
أي ركن من الشهادة هيضا ... وجموم من المكارم غيضا
حملوه من بلدة نحو أخرى ... كي يوافوا به ثراه الأريضا
مثل حمل الرياح مزناً طبيباً ... ليداوي به مكاناً مريضا(7/285)
أبو عبد الله محمد بن عمر
المعروف بابن الفخار، ويعرف بالحافظ - لقب عرف به - أحد أئمة المالكية بقرطبة. وأحفظ الناس وأحضرهم علماً، وأحسنهم تذكّراً، وأسرعهم جواباً، وأوقفهم على اختلاف العلماء، مرجحاً بين المذهبين. جافظاً للحديث والأثر، مائلاً الى الحجة والنظر، سمع أبا عيسى، وكان أولاً يميل الى مذهب الشافعي، ثم تركه. وروى عن الربيع أنه قال: دخلت على الشافعي في مرض موته، فوجدته يبكي. فقلت له: ما بكاؤك رحمك الله. قال أبكي، والله، لمفارقة مذهب مالك، وأنا أعلم أنه الحق. وكان ابن الفخار، يفضل داود القياسي ويقول في بعض الأشياء بقوله. قرأت بخط أبي محمد ابن أبي قحافة الفقيه. وذكر ابن الفخار، فقال: كان واحد عصره، وبديع دهره، ورئيس وقته، وعالم فقهه.(7/286)
وكان أرزق الناس وأسكنهم طائراً، وأقنعهم مجلساً، قبل أن يهاج. وكان سريع الغضب، تبدر منه عند ذلك بوادر، لا يضبط كلامه عند ذلك. وكان ذا منزلة عظيمة في النّسك، والفقه، والتقشف، والمشاورة في الأحكام. ورحل الى المشرق، فحجّ، وجاور واتسع في الرواية. وسكن مدينة النبي صلى الله عليه وسلم. وشوّر بها، فكان يفخر بذلك على أصحابه. وكان كثير الانتزاع بكتاب الله تعالى. حاضر الجواب في ذلك. وحكي أنه قال: لما حججت وانصرفنا، وصلت برقة. فرأيت قائلاً يقول لي في النوم: يا محمد ارجع فحجّ، فإنك لم تحجّ. ففكرت في العلة. فوجدت المال الذي أنفقته، فيه شيء، فتفرغت من بقيته، ورجعت أخدم في سقي الماء وغيره، حتى حججت مرة ثانية. فلما بلغت برقة رأيت ذلك القائل بعينه يقول لي: قد قبل حجّك.(7/287)
وله اختصار في كتاب نوادر الشيخ أبي محمد ابن أبي زيد. ورد عليه في بعض مسائله، واختصار المبسوط لاسماعيل القاضي، لا بأس به. وله رد على أبي محمد ابن أبي زيد، في رسالته، رداً تعسف عليه فيه. في كتاب سماه التبصرة. ورد على أبي عبد الله بن العطار في وثائقه. وكانت له مذاهب، أخذ بها في خصة نفسه، خالف فيها أهل قطره. وكان يصلي الإشفاع خمساً، ويعجل بصلاة العصر شديداً ولا يرى غسل الذكر كله من المذي. وكانت له أعمال من البر صالحة. ودعوات مستجابات. وانتفع المسلمون بوعظه، وإرشاده. وفرّ عن قرطبة عند غلبة البرابرة عليها، لهدرهم دمه. إذ كان أحد المشددين في صلحهم، والنهي عنهم. فاضطرب بجهات الغرب والشرق وألقى عصاه ببلنسية. فأقام بها مطاعاً الى أن هلك لعشر خلون من ربيع الأول، سنة تسع عشرة فيما قاله ابن حيان. وثمان عشرة فيما قاله ابن مفرج،(7/288)
وأربعماية. وسنّه نحو الثمانين سنة. وكان الحفل في جنازته عظيماً، وعاين الناس فيها آية من طيور سوداء، مثل أمثال الخطاطيف تخللت الجمع دافقة فوق نعشه، مرفرفة عليه، لم تفارقه الى أن ووري في لحده، وسوي علي، فعجب منها.
أبو بكر عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن التجيبي
المعروف بابن حرمل، قرطبي. كبير المفتين في هذه الطبقة. سمع أبا ابراهيم، وابن الأحمر، وابن حارث، وابن مطرف، وأبا عثمان بن عبد ربه، وابن السليم القاضي، وأبا عيسى، واسماعيل بن بدر، وأبا جعفر التميمي. أخذ عنه ابن عتاب، وحاتم، جميع مسائل ابن زرب. قال أبو عبد الله الخولاني: كان من أهل العلم والصلاح، والفضل. قديم الخير.(7/289)
قال ابن حيان: كان حافظاً عالماً، راوية، وجيهاً في قضاء الحوائج. طليق المحيا لجميع الناس، ولحقته زمانة أقعدته آخر عمره في بيته. وتوفي في منتصف صفر، سنة نيف وعشرة وأربعماية، فقده الناس. وترك ابنه محمداً. وكان له حظّ من علم الشروط والأدب والمعرفة. ولم يحذق الفقه حذق غيره، ولا حفظ المسألة حتى حفظها. وكان ذا مروءة وظرف وفصاحة. توفي سنة خمس وثلاثين وأربعماية. ومولده سنة إحدى وسبعين وثلاثماية. رحمه الله تعالى.
أبو المطرف عبد الرحمن بن هارون بن عبد الرحمن الأنصاري
المعروف بالقنازعي. منسوب الى صنعته. قرطبي، فقيه زاهد ورع، متقشف، تفقه بالأصيلي، وابن المكوى، وابن أخي مسلمة، ونظرائه بالأندلس. وسمع الحديث بها من ابن أبي عيسى، والقلعي،(7/290)
وابن عون الله، وابن الخراز والباجي، وابن القوطية، وأبي المغيرة ابن بتري، وابن مفرج. ثم رحل الى المشرق، فلقي ابن أبي زيد بالقيروان، وأخذ عنه، وحجّ وسع بمصر، من أبي علي المطرزي، وأبي الحسن ابن شعبان، وأبي القاسم ابن المؤمل، وأبي محمد الفاسي، وأبي الطيب الحريري، وأجازه ابن رشيق. وأخذ عن أبي بكر الأرموني، ثم تركه، إذ رآه داخل بني عبيد. وخرج محملاً بهم، فحمل بين يديه بين السماطين، وكان يقول: إنه دخل مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط. وفيه من مجالس المالكية في الفقه، والحديث نحو عشرين حلقة. وأهله يشكون لقياه والنقص بانتقال الدولة للشيعة على السنة. وحدث أبو علي المطرزي أن حمزة الكناني، قال له في سنة ثمان وأربعماية: سيمر بك سنة تسع وستين إن عشت، ولست والله ترى في الجامع من ينصر الله، ولا رسول من سنة. قال المطرزي:(7/291)
فمات من كان بها من العلماء. ومنع بقيتهم من الجلوس في الجامع. والأمير كان على مذهب الشيعة. فجاءت السنة المؤرخة، بما قال حمزة. وذكر الفقيه أبو عبد الله بن عتّاب، فقال: كان خيراً فاضلاً. قدمه القاضي ابن بشر الى الشورى، فلم يلتفت الى ذلك، واستحضره للشهادة فاعتذر، وأبى. وكان يقرأ القرآن. قال ابن عبد البر: كان خيراً عفيفاً ورعاً. كان يلبس قميصاً أبيض، على فروة. وربما لبس الفروة دونها. قال ابن الحصار: كان ورعاً زاهداً صالحاً، من أهل العلم والتفقه في الحديث، وعلوم القرآن، من أحسن الناس تثبتاً لرواية يحيى، وعناية بها. قال ابن حيان، وذكره، فقال: الفقيه المقرئ الراوية الحافظ الزاهد المخبت الورع، المتقشف الفاضل العالم، أحد من تناهت فيه خلال الصلاح بقرطبة. وعظمت به المنفعة. ظاهره(7/292)
وباطنه. وسلك سبيل السلف المتقدمين من هذه الأمة في الزهد في الدنيا، والبعد عن الأمراء والقناعة باليسير، والحرص على التعليم والرضى عن الله، والتذكر لبلائه. وكان ممن امتحن بالبرابرة في الفتنة، أيام ظهورهم على قرطبة. محنة أودت بحاله، وقدحت في خاطره. فعراه طيف خيال خفيف، يغشاه فلا يؤذيه، واضطر الى مؤاجرة نفسه في الإمامة والتعليم على حد من التحري. وتسرح في أيام الأخمسة والجمعات، الى الإسماع والتفقه. وكان أقوم من بقي بحديث موطأ مالك رحمه الله، وله في تفسيره كتاب مشهور، مفيد مستعمل، واختصار كتاب ابن سلام في تفسير القرآن، وكتاب اختصار وثائق ابن الهندي. وكان له حظ من علم العربية، يستقل به. روى عنه ابن عتاب، وابن عبد البر، وابن الطبني، وأبو أحمد جعفر ابن عبد الله التجيبي، وعبد الرحمن القلعي، والطرابلسي. مولده سنة إحدى وأربعين وثلاثماية. وتوفي في رجب سنة ثلاث عشرة وأربعماية بقرطبة. رحمه الله. وجعلت رجلاه مما يلي يحيى بن يحيى.(7/293)
أحمد ويحيى ابنا حكم العاملي
المعروف بابن اللبان من أهل قرطبة. وليَ أحمد قضاء طليطلة. وأخذ المنصور بها عيداً، فخطب به أحمد بإشارة ابن ذكوان القاضي، تنويهاً به. فارتج عليه، ففزع الى الدعاء ثم صلى. فقال المنصور لابن ذكوان: لم يف ضمانك فيه، لم يأمر بشرائع الإسلام. فذكر له ذلك ابن ذكوان، فقال: أحببت السنّة في تقصير الخطبة، ولم أظن أنكم نسيتم شرائع الإسلام فأذكركم بها. فلما بلغ المنصور كلامه ضحك واستظرفه. وأما أخوه يحيى، فكان في عداد المشاورين بقرطبة. ولم يكن فيها أهلاً لذلك. كان قليل العلم.(7/294)
أبو سعيد عمران بن عبد ربه
المعافري. قرطبي. فقيه صالح، اختصر كتاب الدلائل الكبير للأصيلي. وتوفي بقرطبة سنة إحدى وعشرين وأربعماية. رحمه الله تعالى.
أبو محمد الشقاق
واسمه عبد الله بن سعيد بن محمد، قرطبي. شيخ المفتين بها في وقته، وأحد أكابر أصحاب بني عمر بن المكوى المختصين بقرنائه. وقرأ القرآن على ابن النعمان. وسمع من أبي محمد القلعي. قال أبو مروان: كان أحد علماء الأندلسيين النحارير المبرزين في الفقه، والحذق بالفتوى والشروط والفرائض، والحساب. إماماً في القراءات والتفسير، مشاركاً في الأدب والعربية والخبر، وانفرد هو وصاحبه أبو محمد بن دحون برئاسة العلم بقرطبة. وكانا خليلي صفاء. وقد عمل عمَل القضاء بعهد الجماعة،(7/295)
ببعض الجهات، ونظر بالحكم بالرد في الفتنة، وذكره أبو عمرو المقرئ في طبقات القراء فقال: كان مقرئاً بالقرى في مسجده، بقرطبة زماناً. قال أبو حيان: كان هو وصاحبه ابن دحون يرخصان في السماع. توفي آخر رمضان، سنة ست وعشرين وهو ابن إحدى وثمانين سنة. مولده سنة ست وأربعين وثلاثمائة. رحمه الله.
أبو محمد عبد الله بن يحيى بن دحون
أجد جلّة شيوخ المفتين بقرطبة وكبار أصحاب ابن المكوى، وابن زرب. صحبهما وتفقه بهما وبغيرهما. قال ابن حيان: لم يكن في أصحاب ابن المكوى، بإجماع، أفقه منه. ولا أغوص على الفتيا ولا أضبط للروايات مع نصيب من الأدب والخبر. ولم يكن معه كتب إلا يسيراً من الأصول. وكان بقية علماء وقته بقرطبة. وعاش بعد قرنائه، فانفرد بالرئاسة،(7/296)
بقية مدته. وكان فكه المجلس. جمّ الإفادة. شديد التواضع مع رفعة حاله، وتقديم الناس له. يشتري جميع ما يحتاج إليه في الأسواق لنفسه. حسن الرأي. أنشد بعض الأدباء لابن دحون، وزعم أنها من قوله، وهي تنشد لابن الروي رحمه الله:
عجبت من الخير في أنعم بالدجى ... وأصبح ريّاه مع الصبح يعجب
فخلت الرِّيا طبعاً له فكأنه ... فقيه يرائي وهو بالليل يشرب
قال ابن حيان: وكان يرخص في السماع، ويجادل فيه عن مذهبه. وسئل عن حاله، فقال: ما حال من يعثر في ثوبه ويلقط الحيوان في جسمه. وتوفي في صدر محرم سنة إحدى وثلاثين وأربعماية. وسنه تسع وثمانون.(7/297)
أبو محمد حماد بن عمار الزاهد
قرطبي. كان منقطع القرين في فضله. جمع الى العلم الأدب والفقه، والبلاغة. وكان منزوياً عن الناس، منقبضاً عن الرؤساء، متبركاً به، مقطوعاً بفضله. خرج بعد الفتنة الى طليطلة، وطلب لقضاء قرطبة في الفتنة، فلم يطمع به. ولا أعلم أنه أخذ عنه علم. وبه ختم زهاد الأندلس، من طبقته. حدث عنه الطرابلسي. وتوفي بطليطلة سنة اثنتين وثلاثين وأربعماية. وسنه بالقياس أزيد من ماية سنة. وهو ممتع بجوارحه.
أبو القاسم ابن نابل رحمه الله
واسمه: يحيى بن عمر بن حسين بن محمد بن نابل، قرطبي. بيته، من بيت علم. جدّه أبو بكر: من أهل الرواية الواسعة، عن أحمد بن خالد، ومحمد بن عبد الملك بن(7/298)
أيمن، وقاسم بن أصبغ، وابن لبابة، والقاضي أسلم. وابن الأعرابي، والطحاوي، والزبيدي، وابن أبي مطر، وأبي الطاهر المدني، وابن الورد، ونظرائهم من الأندلسيين، والمشرقيين. وكان شيخاً صالحاً. له حظ من الفقه، وعقد الشروط، وتصرف في العربية والشعر، وقرضه. غلبت عليه الرواية. حدث عنه ابن الفرضي وغيره. وكانت فيه غفلة. توفي سنة تسع وسبعين وثلاثماية، فيما قاله ابن عفيف، أو اثنين وسبعين. فيما قاله ابن الفرضي. ومولده سنة ست وتسعين ومايتين. وأبوه عمر بن حسين من أهل العلم والرواية أيضاً، عن قاسم بن أصبغ - وهو آخر من حمل عنه - وابن أبي دليم، ووهب، وطبقتهم. وكان مسنداً صدوقاً ثقة فاضلاً ورعاً. وعمي، وسُمع منه على حالته. وروى عنه ابنه أبو القاسم هذا.
قال ابن عفيف: كان من أنجب في العلم وتفقه، وشهر بالحفظ الجيد، وقُدّم الى الشورى أيام القاضي ابن ذكوان.(7/299)
قال أبو عبد الله بن الحصار، كان من أهل الخير والفضل والصلاح، والتقدم في الفهم والأمانة في العلم. فقيه مشاور من بيت طهارة، واستقامة وهدي، رحل مع أبيه فحجا، وسمع من رجال المشرق. وقال ابن حيان: كان فقيهاً فاضلاً، خيراً ورعاً، مقتدياً بالسلف، وقلده هشام المؤيد خطة الردّ بقرطبة. فجاءته الولاية يوم وفاته وكان موصوفاً ببر والدته، حتى أنه أسخط أباه بإرضائها. لما وكلته بمخاصمته في حقوق ادعتها قبله - أيام فارقها - فرأيت في كتاب الإمام أبي بكر الطرطوشي: حكى لنا أستاذنا أبو الوليد الباجي، أن امرأة وكلت ولدها على زوجها في طلب مال لها عنده، فأبى. فاستشار الفقهاء بقرطبة. فأشار بعضهم أن يطيع أمه. فيتوكل لها عليه، مراعاة بأن مبرة الأم آكد للحديث الوارد في ذلك. فلعل هذه الحكاية التي حكاها أبو الوليد، هي في قصة أبي القاسم هذا، أو غيره، فالله أعلم.(7/300)
ولما كانت الحادثة في نكبة بني ذكوان، رؤساء قرطبة. وكان أبو القاسم هذا صديقاً لهم، أعظم ما جرى عليهم كما قدمناه عن ابن المكوى. فلحقه من الأمر جزع عظيم، اختلط من أجله، فاحتجب ستة أيام. وذلك سنة إحدى وأربعماية. وأبوه عم حي بعد، مكفوف البصر، فصلى عليه ثم مات بعده بيسير، في السنة نفسها. وظهرت في موت عمر هذا آية وكرامة، وذلك أنه عهد الى ابنه أن يدرجه في كفنه، دون قطن، فخالفه وألقى القطن. فلما سوي فوق أكفانه على المشجب للبخور طارت شرارة، أحرقت القطن فأخبر حينئذ ابن ابنه بالأمر. فكفن دون قطن. كما عهد رحمهم الله. وأخوه ابراهيم بن محمد عم أبي القاسم، شيخ أديب له حظ من العلم. يكنى بأبي إسحاق، رحمه الله.(7/301)
أبو علي الحسن بن أيوب الأنصاري
المعروف بالحداد. شيخ الشورى بقرطبة. ومقدم مفتيها لاسيما بعد موت صاحبيه، ابن الشقاق، وابن دحون. كان حافظاً للمسائل، والأجوبة. قائماً بها على مذهب المالكية، عارفاً بالحديث بارعاً في الخبر والأدب. ذا تفنن في المعارف وحذق بالشروط، وسعة الرواية. سمع من أبي عيسى، وأبي علي البغدادي، وأحمد بن هلال، وابن ثابت، وابن عيسى، وابن دحون، وغيرهم. حدث عنه أبو عبد الله بن عتاب. وأبو عبد الله بن الطلاع والساري الطليطلي. وأبو محمد بن الدباغ، وابن الحصار وابنه. توفي سنة خمس وعشرين وأربعماية. وقد بلغ سنّاً عالية. مولده سنة سبع وثلاثين وثلاثماية.(7/302)
أبو عبد الله ابن الحذاء
واسمه محمد بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن محمد بن يعقوب بن داود التميمي. هكذا نسبهم. والحذاء بالذال المعجمة. وحكى ابن عفيف، أنهم يأبون ذلك. ويقولون هو بدال مهملة. من حدا الإبل. وإن جدهم الذي ينسبون إليه هو حادي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: ولكن لما سكن أولنا في ربض الحذائين بقرطبة، تصحف على الناس نسبنا، لقرب الحرفيين، ينسبون الى بني أمية. وكان جدهم داود: أمير، يوم مرج راهط. فكان صدراً في موالي بني أمية. وهو الداخل الى الأندلس من الشام. وكان بنوه ذوي وجاهة في أعمال السلطان بالأندلس، من التقديم على مهم الأعمال والتصريف في الأمور الجليلة. قال ابن عفيف: كان أبو عبد الله هذا فقيهاً عالماً حافظاً، متفنناً في الأدب، حافظاً للرأي، مميزاً للحديث ورجاله(8/5)
بصيراً بالوثائق، مرسلاً بليغاً. وكان خطيباً مجيداً، ومعبراً من أبصر الناس بذلك. له فيها نوادر مشهورة، محسناً، حسن المشاركة للناس. قال ابن عفيف: وغلب عليه الحديث، فبذّ في علومه أهل زمانه. وكان ابن زرب قد استخثه من صغره. وهو ابن أربعة عشر عاماً، وتفقه عنده، ولقي غيره من شيوخ الأندلس، رحمهم الله، كزكريا بن برطال، وابن السليم، ومحمد بن أبي دليم، والأنطاكي، وابن عون، والقلعي، والزبيدي، وابن النعمان، وابن عابد، وأبي عيسى الليثي، وغيرهم. ثم رحل، فلقي ابن أبي زيد بالقيروان، وتفقه معه. وحمل عنه تواليفه، ولقي بمصر الثعالبي، والجوهري والذهلي الكبير. فتفقه عندهم، وسمع منهم ومن عبد الله بن عبد الغني، وابن ماهان، وأبي القاسم هشام بن محمد بن أبي خليفة، راوية الطحاوي، وابن المهندس، والأدفوي، وابن غلبون، وابن حسنون السامري وابن رشدين وغيرهم. وحجّ(8/6)
فسمع من أبي إسحاق الدينوري، وغير واحد. وكان عدة شيوخه ستين شيخاً. وانصرف فبقي بمصر والقيروان مستكثراً من مشائخه، متفقهاً عندهم في الحديث والمذهب. وورد الأندلس، فلازم الأصيلي، وارتفعت طبقته في العلم، وولاه السلطان خطة الوثائق والشورى والقضاء، بغير جهة، كإشبيلية وبجانة. ولحقت فتنة البربر، فلحق بالثغر، فوليَ هناك قضاء تطيلة، ثم استوطن سرقسطة، حتى مات بها. وذكر ابنه القاضي أبو عمر، فقال: كان له علم بالفقه والحديث والعبارة للرؤيا، روى عنه الطرابلسي وابن الحصار، قال أبو عبد اللهالخولاني: كان من أهل العناية بالعلم، متقدماً في الفهم والنّبل، وكان من النقاد يشبه المتقدمين في حذقهم وسيرهم. وألف شرحاً في الموطأ سماه كتاب الاستنباط لمعاني السّنن والأحكام، من أحاديث الموطأ، ثمانين جزءاً، وكتاب التعريف برجال الموطأ، أربعة أسفار، وكتاب البشرى في عبارة الرؤيا، وهو شرح كتاب الكرماني، خمسة عشر جزءاً، وكتاب الأنباء على أسماء الله تعالى. وكتاب الخطب والخطباء. قال ابنه أبو عمرو: ما حدثت عندنا حادثة إلا وقد أنذر بها أبي، حسبما دلت عليه الرؤيا. فنجدها كما قال.(8/7)
مولده سنة سبع وأربعين وثلاثماية، في المحرم. وتوفي سنة عشرة. وقال ابنه ست عشرة وأربعماية. وهو ابن سبعين سنة. ولقبه: القاضي أبو عمر رحمه الله.
أبو عمر أحمد بن محمد بن عفيف
قرطبي. سمع بها من ابن عيسى وابن السليم، وابن زرب، وابن برطال، وابن عون الله، والقلعي، وابن مظهر ناصر السبتي، وعباس بن أصبغ البصري، والزبيدي، وابن القوطية، ومحمد بن رفاعة وغيرهم. وأخذ بحظ وافر من الفقه، وبرع في الوثائق والشروط. قال ابن مفرّج: فلم يكن في عصره أعلم بها منه. وشارف كثيراً من العلوم، وصحب الصالحين كالقرشي، والقبري، ومسلمة وغيرهم. حدث عنه الطرابلسي، والدلائي. وكان يعظ الناس في مسجده. ويقرأ عليهم كتب الرقائق. وكان كثير الخشية، سريع الدمعة، متهجداً بالقرآن، متقناً لأحرفه السبعة، بصيراً(8/8)
بمعانيه، وإعرابه. عارفاً بالخبر والشعر، طيب المجالسة، وقوراً سمحاً قانعاً برزقه وحظه. وكان يغسل الموتى، وله كتاب حسن في ذلك، سماه كتاب الجنائز. وألّف في علم الشروط تأليفاً حسناً، وألّف كتاب المعلمين وكتاب الاحتفال في علماء الأندلس، وصل به كتاب ابن عبد البر، وله شعر حسن، ولاه المهدي خطة الشرطة والوثائق. فلما زالت أيامه، قضاه المستعين. فخرج عند حلول الحادثة بقرطبة الى المرية. فنوه به صاحبها. وقلده قضاء لورَقه. فحسنت سيرته، الى أن توفي بها سنة عشر وأربعماية، وسنّه أربع وسبعين سنة. مولده سنة ست وأربعين وثلاثماية.
أبو عامر محمد بن حفص بن الأشعث
المعروف بابن قرطبي. قال ابن حيان: كان عفيفاً سمحاً متصاوناً، عدلاً متأدباً. مشاوراً لم يكن بالمستبحر في الرأي. كان حسن العلم، مشاركاً في الأدب. توفي سنة تسع وعشرين بقرطبة. وسنه نحو الستين سنة.(8/9)
القاضي أبو المطرف ابن بشر
المعروف بابن الحصار، اسمه: عبد الرحمن بن أحمد بن سعيد بن محمد بن بشر، مولى بني فطيس. تقدم ذكر أبيه. وكان أبو المطرف هذا، من أجلّ علماء وقته، علماً وعقلاً وفقهاً، وسمتاً وعفة وهدياً. صحب ابن ذكوان قاضي الجماعة. وكتب له بعهد الجماعة ووليَ الشورى، مع ابن الفخار، وطبقته. ثم اختاره ابن ذكوان للقضاء في الفتنة، أيام الحمودية. فعمل مدتهم وبعدهم الى أيام المعتمد، آخر خلفاء بني أمية في الفتنة. قال أبو محمد ابن حزم، وذكره في كتابه، قال ابن حيان: لم يكن في وقته بقرطبة مثله، حفظاً للفقه، وحذقاً بالحكم، وبصراً بالشروط، ومشاركة في الأدب، مع العفة والصيانة، وبعد الهمة. وكان شديد التعسف على الفقهاء والتقويم لميلهم. فلما وليَ المعتمد اجتمعوا عليه وطلبوه، حتى عزله. وولى مسرة بن الصفار، وعهد إليه بالتزام داره، وسد بابه. فأدركه خمول كثير ثم أبيح له الخروج، فمات بقرب ذلك.(8/10)
وقال ابن حيان في موضع آخر: كان عالماً فطناً. وكان من الفقه والعلم بالشروط، بمحل كبير. أخذ عن أبيه، وبه تفقه أبو عبد الله بن عتاب. وكتب بين يديه. وكان يفخر ابن عتاب بذلك ويثني عليه. وكانت وفاته منتصف شعبان، سنة اثنتين وعشرين، وشهده الناس وتعاهدوه. وحضر جنازته الخليفة المعتمد. مولده سنة أربع وستين. وكانت مدة قضائه بقرطبة اثنتي عشرة سنة وعشرة أشهر. رحمه الله.
أبو عبد الله محمد بن علي بن هشام بن عبد الرؤوف الأنصاري
حاكم قرطبة، زمن الحمودية وبعدهم. قال ابن حيان: كان واسع العلم حاذقاً بالفتوى، صليباً في الحكم، شديداً على أهل الاستطالة. متحققاً بعلم اللسان، ورعاً عفيفاً متقللاً، جواداً قوالاً للحق. نفاعاً لإخوانه. طالت ولايته، ولم يوجد له بعد موته كبير شيء.(8/11)
وتوفي في رمضان سنة أربع وعشرين. وكان موته مشهوداً ورثاه ابن الخياط الشاعر بقصيدة أولها:
لو رمت من أسف لكنت خليقاً ... لم يبق لي ريب الزمان صديقا
قالوا أبا عبد الإله طوى الردى ... فافزع لصبرك قلت لست أطيقا
إن كان أودى علة فأنا الذي ... أودي عليه زفرة وشهيقا
حكم يذكرنا بفضل قضائه ... وقضائه، الفاروق والصديقا
يرويك قائله إذا ما لم تجد ... في فيك من ظمأ الحوادث ريقا
رضي الله عنهم أجمعين.
الليث بن حريش
أبو الوليد. قرطبي. من مشيخة المفتين بها. وولي قضاء المرية فانتقل إليها، الى أن توفي بها، عقب صفر، سنة ثمان وعشرين وأربعماية، بوجع أصابه لليلته، وقد قارب ثمانين سنة. قال أبو عبد الله بن عتاب: شاهدت القاضي أبا المطرف ابن بشر، يتكلم معه في مسألة. رضي الله عنه ورحمه.(8/12)
أبو محمد مكي ابن أبي طالب
واسمه محمد - ويقال له حموس - ابن مختار القيسي، وأصله من القيروان، نزيل قرطبة، المقرئ. كان فقيهاً مقرئاً أديباً متفنناً راوية، وغلب عليه علم القرآن، وكان من الراسخين فيه، أخذ بالقيروان عن أبي محمد ابن أبي زيد، وأبي الحسن القابسي، وأبي عبد الله الفراء اللغوي، ورحل الى الشرق سنة سبع وسبعين. فلقي ابن الأدفوي، وابن غلبون بمصر، وحجّ عامه. ثم عاد مكة، سنة سبع وثمانين. فأقام بمكة أربعة أعوام، وتحول في رحلته، فلقي من المحدثين والفقهاء جماعة، منهم: أبو القاسم السقطي، وأبو الفضل أحمد بن عمران الهروي، وأبو العباس أحمد بن محمد بن زكريا البسري، وعبد الرحمن بن علي العباسي، وأبو الحسن المطوَّعي، وصدقه بن أحمد الزقي، وغير هؤلاء. وانصرف الى القيروان سنة اثنتين وسبعين، ودخل قرطبة أيام المظفر ابن أبي عامر، سنة ثلاث وتسعين ولا يؤبه به الى(8/13)
أن تنبه لمكانه ابن ذكوان القاضي، فأجلسه في المسجد الجامع، فنشر علمه وعلا ذكره ورحل إليه الناس، ثم وليَ الخطبة والصلاة مدة، الى أن أقعده عنها الخوف. وكان رسوخه في علم القرآن وتفننه فيه، قراءات وتفاسير ومعاني، نحوياً لغوياً فقيهً راوية. وليَ الشرى وصنف تصانيف جليلة في علوم القرآن، وغير ذلك. ومن أشرف تصانيفه كتاب الهداية في التفسير، وكتاب الكشف في وجوه القراءات، واختصار الحجة للفارسي، وكتاب إعراب القرآن، وكتاب الإيضاح في ناسخه ومنسوخه. وهو كتاب حسن، وكل تواليفه حسنة، وكتاب المأثور عن مالك في الأحكام، والتفسير والتبصرة والموجز، واختصار أحكام القرآن، والإيجاز واللمع في الإعراب، وانتخاب نظر القرآن للجرجاني، والواعي في الفرائض وغير ذلك. وأخبرني شيخنا الفقيه أبو إسحاق ابراهيم بن جعفر أن له تصنيفاً روى عنه جلة الناس، كأبي عبد الله بن عتاب، وأبي فلان الباجي، وحاتم الطرابلسي، وأبي محمد بن سهل المقري، وبعدهم أبو الأصبغ ابن سهل، وآخر من حدث عنه بالإجازة، شيخنا أبو محمد بن عتاب، وتوفي رحمه الله صدر محرم، سنة خمس وخمسين وثلاثماية.(8/14)
سليمان بن بيطير بن سليمان بن بيطير بن ربيع الكلبي
أبو أيوب. قرطبي. قال ابن الحصار: كان رجلاً صالحاً حافظاً للمسائل، تفقه بابن زرب. سمع من ابن الأحمر، وأبا عيسى وابن القوطية، وابن قطر، وله في الكتب الثمانية، لأبي زيد القرطبي، اختصار، واختصر كتب المدينة لعبد الرحمن بن دينار، واختصاره حسن. وخرج الى مالقة، بعد زمن الفتنة.
القاضي يونس ابن الصفار
هو: أبو الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث. قرطبي. وكان أولاً يتولى بني أمية. فلما انقرضت دولتهم، انتمى في الأمصار. نشأ في طلب العلم، فسمع من ابن الأحمر، وابن أبي بدر، وابن ثابت وزكريا بن بطال، وابن الخراز صاحب الصلاة، وابن أبي زمنين، وابن أبي العرب، وأبا عيسى، ومحمد بن عبد العزيز، وابن مجلس الكبير، وابن السليم، وابن(8/15)
جهور المرشاني، وابن زرب والزبيدي، وعبد الرحمن بن أحمد بن بقي، ومحمد بن أحمد بن خالد، وابن القوطية، وابن عبدون، وجماعة سواهم. قال محمد بن عبد الله الخولاني: كان رجلاً صالحاً، قديم الخير والطلب، مع الأدب. مقدماً في الفقهاء والأدباء، مشاركاً في كل فن. قدمه ابن زرب للشورى، وسمع منه الناس، روى عنه جماعة من الجلة، منهم: القاضي أبو الوليد الباجي، وابن عتاب، وأبو مروان سراج، والعقيلي والطرابلسي، وأبو مروان الطبني، وحازم بن محمد، وأبو عبد الله بن الطلاء، وأبو المطرف الشعبي، وآخر من حدث عنه بالإجازة: أحمد بن محمد الحصار، بعد الخمسماية. قال ابن حيان: كان يونس من أكابر أصحاب ابن زرب، المقدمين في بسط العلم وسعة الرواية وجودة الخطابة، وبراعة الشعر. آخر الخطباء المعدودين، وأسند من بقي من المحدثين، وأوسعهم جمعاً وأعلاهم سنداً، وكان خاتمة قضاة بني أمية في الفتنة، وتولى للسلطان أعمالاً كثيرة من القضاء، بالكور والعمل بخطة الرد والشرطة.(8/16)
وولي الشورى بقرطبة والزهراء والزاهرة، وولي قضاء الجماعة أيام المعتمد، وهو ابن نيف وثمانين، وكان يقال بقرطبة، إن مات يونس ولم يلِ القضاء الجماعة، مات شهيداً. وكان يميل مع هذا الى التصرف والعبادة والنسك، مع هذا كله. وكان مقدماً في علم اللسان والأدب، حسن البلاغة سريع الدمعة، ولم يكن بالبارع في فقهه، وتوالى مرضه فاستخلف على الصلاة والخطبة مكي ابن أبي طالب، ولازم الحكم متحاملاً الى أن مات، وأشهد على عهده بالقضاء لحفيده مغيث بن محمد بن يونس، فلم ينفذ فيه عهده بعد موته. فكانت مدته في قضاء قرطبة تسع سنين، ونصفاً. وذكره الأمير أبو نصر في كتابه فقال: مختلف فيه. قال الباجي: هو مشهور بالعلم. قال ابن الحصار: وكان في سيرة يونس أيام قضائه إباحته المقصورة لجميع الناس، ومنع المارة في صحن الجامع. قال أبو مروان الطبني: شهدت يوماً شيخاً جاء الى القاضي يونس يرغب إليه أن يجيز له ما رواه، ولم يرو بعد هذا، فلم(8/17)
يجبه. فغضب السائل، فنظر الى يونس، فقال: يا هذا نعطيك ما لم نأخذ؟ هذا، محال، محال. فقال يونس: هذا جوابي. وأنشد له ابن حيان:
أدافع أيامي بقصد وبلغة ... وألزم نفسي الصبر عند الشدائد
وأعلم أني في مكابدة البلاء ... بعين الذي يرجوه كل مكابد
وله أيضاً رحمه الله:
سارع الى الخير وبادر به ... فإن من خلفك ما تعلم
لا تسأم الكد وطول السرى ... فطالب الفردوس لا يسلم
وله أيضاً رحمه الله:
النوم من مرسله رحمة ... وراحة للبدن المتعب
فخذ من النوم بحظ فإن ... قضيت منه وطراً فانصب
وألّف كتاب الموعب في تفسير الموطأ، وجمع مسائل ابن زرب، وأكثر تواليفه في أخبار الزهّاد وأرباب الرقائق، وهي تواليف مليحة مفيدة. منها كتاب التسبيب والتقريب، وكتاب الابتهاج لمحبة الله عزّ وجلّ، وكتاب المنقطعين الى الله عز وجلّ، وكتاب التهجد،(8/18)
وكتاب فضائل الأنصار، وكتاب التسلي عن حب المدينة، وتكملة كتاب العباد، وكتاب الموجز الكافي ودعاء الصالحين، وكتاب طب القلوب الشافي من ألم الذنوب، وكتاب أنس الوحيد، وكتاب المراقب والمحاضر، وكتاب المعمرين، وكتاب الحكايات، وكتاب فضائل السير في الزاهد، وكتاب المستصرخين بالله تعالى. وتوفي في رجب سنة تسع وعشرين، وقد نيف على التسعين سنة. مولده سنة ثمان وثلاثين وثلاثماية. وهو سليم الحواس. ويخطب ويؤلف.
أبو المطرف عبد الرحمن سعيد بن فرج
أوله من البيرة. وسكن قرطبة، وطلب العلم وتفقه بابن أبي زمنين، ومسلمة بن البتري وطبقتهم. ورحل فحجّ وأخذ عن القابسي، والداودي وغيرهما. وشوّر بقرطبة. وكان كثير الدعاء والذكر، ملازماً للجامع يقرأ فيه على من يحلق إليه من العامة.(8/19)
قال ابن حيان: ولم يكن من المستبحرين في العلم، ولا من أهل الحذق بالمسائل المالكية. وتوفي سنة تسع وثلاثين، وهو ابن سبعين سنة. مولده سنة ثمان وستين وثلاثماية.
أبو القاسم أحمد بن مختار بن شهر
قال ابن حيان: كان فقيهاً حافظاً، حسن القيام على المسائل، من بيت نباهة. توفي بقرطبة سنة إحدى عشرة وسنذكر ابنه وغيره، من آل بيته.
أبو مروان عبد الملك بن أحمد بن محمد بن عبد الملك
ابن الأصبغ القرشي المرواني المعروف بابن المشتري الحناط. من ولد الأصبغ بن هشام بن الحكم بن عبد الرحمن بن معاوية. وكان متقدماً في فقهاء قرطبة الأشراف، مشاوراً. له حظ من علم المسائل، مع عفة. وله كتاب سمّاه: كنز معرفة الأصول، ورجح مذهب(8/20)
مالك. جمع فيه أشياء من أصول الفقه، ومقدمات العلم، لم يكن فيما جمع من ذلك بالحاذق ولا بالنبيل القول. رواه عنه ابنه. وروى عنه أيضاً ابن الحصار وابنه أحمد. قال ابن الحصار: كان من أهل العلم، مقدماً في الفهم قديم الخير والفضل. قال: وله تأليف حسن في الفقه والسنن. وولاه المعتمد نقابة قريش. ولم يلها بالأندلس سواه. وامتحن بالشهادة في شأن الدعي المشبه، الذي قام به بنو مروان، وزعموا أنه هشام المؤيد المخلوع، فيمن امتحن بالشهادة من أكابر الناس على عينه. فسقط بذلك بعد تقدمه. وأخرجه بنو جهور الثوار بقرطبة، عن قرطبة لذلك، ولفرط تشيعه في المذكور. وتوفي رحمه الله تعالى، سنة ست وثلاثين إثر ذلك.
وابنه أبو عبد المهيمن
كان متفقهاً عفيفاً. منقبضاً. روى عن أبيه كتابه. رواه عنه أبو الأصبغ بن سهل(8/21)
القاضي، أبو بكر محمد بن علي حسين المخزومي، المعروف بابن امحي بالحاء المهملة. كان من فقهاء قرطبة. مشهوراً آخر أيام العامرية. فلما انقرضت دولة بني أمية اتهمه بنو حمود بالعصبية لهم. وكان شديداً في ذلك، فامتحن وسجن وأخرج عن قرطبة، ثم رجع إليها. فمات في محرم سنة أربعماية. رحمه الله.
أحمد بن ابراهيم بن أبي سفيان الغافقي
أبو عمر. قرطبي. من فقهائها. قال ابن حيان: وكان أديباً عفيفاً غنياً وجيهاً. قدمه المهدي الى الشورى في الفتنة مع ابن بشر، وابن الفخار القروي، وابن المشاء، وابن حيوة الصخري. وتوفي في صفر سنة عشر وأربعماية.(8/22)
عبد الرحمن بن أحمد بن نصر بن خالد
أبو المطرف. المعروف بابن الطيش، والقاضي. كان ممن قُدِّم بقرطبة للشورى، أيام الفتنة. وولي قضاء إشبيلية. وتوفي آخر سنة تسع وأربعماية.
أبو القاسم خلف بن البناء
الملقب بشراها. من الفقهاء الحفّاظ لمسائل المذهب بقرطبة. وكان أمنياً، وكان أكابر الفقهاء يعترفون بقوة حفظه. توفي في آخر جمادى سنة عشر وأربعماية. رحمه الله.
أبو الوليد بن هشام رحمه الله
من فقهاء قرطبة. وليَ الشورى، وتوفي أول سنة خمس عشرة وأربعماية.
أبو محمد الباجي رحمه الله
من أهل القيروان، وولى المهدي له الشورى بقرطبة في الفتنة.(8/23)
هشام بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن أكدر بن حما
كان من أهل العلم والمعرفة والعفة، والفقه والرواية. سمع من الأصيلي، والعائذي وطبقتهم وأخذ عنه الناس. قال ابن حيان: كان من المقدمين في العلم والعفة واليسار. وعمل للمظفر ابن أبي عامر أعمالاً واسعة من القضاء. كان فيها محمود الطريقة، ولحق الفتنة ولم يتلبس منها بشيء. وكان أصمّ، قال ابن الحصار رحمه الله: كان من أهل العلم والأدب والفهم، والميز بالرجال. كتب عن الشيوخ رضي الله عنهم. توفي سنة إحدى وعشرين. رحمه الله.
خلف بن مروان بن أمية بن حيوة الصخري
والصخرة بلد بغرب الأندلس. قال ابن حيان: كان أحد أكابر الفقهاء بقرطبة. وكانت له عناية بطلب العلم والرحلة فيه الى المشرق. وله بيت شهير،(8/24)
ومروءة. ذا معرفة في العلم والنزاهة، والتفقه. قلده الظفر قضاء طليطلة وأعمالها، كارهاً. فحكم بين أهلها مقسطاً، وأقام بها مستعفياً، الى أن وافاه الأجل، بعد حول. فخرج عنها مبادراً على بغله الذي جاء عليه، بأخف من خروجه الذي جاء به، ما أبدل في ولايته شكلاً، لبغلته. فضلاً عن غيرها. ولم يقتبس من طليطلة ناراً. فأبكى أهل طليطلة فراقه، ثم وليَ الشورى بقرطبة. صدر الفتنة. فهلك ببلده، في رجب سنة إحدى وأربعماية.
أبو محمد عبد الله بن محمد بن قيد
المعروف بالطليطلي. قرطبي. من أكابر أصحاب الأصيلي. لزمه، وصاحبه للمناظرة والسماع. كان من أهل البراعة في الفقه والحديث، والافتتان في ضروب من العلوم، والتحقق منها بعلم العربية، مع مروءة وعفة. وولي الأحكام بقرطبة، وخطط بالوزارة، ووليَ قضاء بجانة والبيرة. وكان متقعراً في كلامه. له في ذلك نوادر محفوظة مستظرفة، من ذلك: رسالته الى البربر المشهورة. واخترم قبل أقرانه، ففقد(8/25)
بظاهر قرطبة يوم وقعة النصارى بأهلها، بعقبة البقر، عند تفانن المهدي والمستعين. وانضمت النصارى الى المستعين، القائم عليه بها. وكان المستعين أخرجه معه في جماعة. فكان ممن فقد، رحمه الله. وكانت هذه الوقعة سنة أربعماية.
عبد الله بن عبيد الله بن الوليد المعيطي
من بيوتات العلم والشرف بقرطبة. قد تقدم ذكر أبيه، وأخيه. أخذ عن أبي محمد الباجي، وطبقته، ووليَ الشورى بقرطبة. فلما كانت الفتنة خرج عن قرطبة. فاستدعاه مجاهد الموفق - صاحب دانية والجزائر الشرقية - فرضيه خليفة، وأخذ له على الناس البيعة. فكان يخطب بنفسه في الجمع، ويصلي. فلم يستجب أحد من أمراء الفتنة لدعوة مجاهد له. وخرب ما بينه وبين مجاهد فهمّ بالقبض على مجاهد. فبادر به مجاهد، وأخرجه عن الأندلس الى ساحل إفريقية، بجهة بجاية، فاستقر هنالك، خاملاً فخفي شأنه، يؤدب الصبيان الى أن مات.(8/26)
حكى أبو علي ابن ذكوان: أن المعيطي كان يختلف الى أبي محمد الباجي بقرطبة، أيام كونه بها. وله منه منزلة. فقال له الباجي يوماً: يا قرشي كأني بك قد أثرت فتنة وتقلدت إمارة، إلا أنك قليل المتعة بها. فاستعذ بالله من شرها. فوجم المعيطي وقال له: من أين يقول الشيخ هذا؟ ويعلم الله بعدي منه. فقال: رأيتك في النوم، توقد ناراً حطبها زرجون، لم تلبث أن خمدت فأوّلتها ذلك. وكانت وفاته بموضع خموله، سنة اثنتين وثلاثين وأربعماية. رحمه الله.
أحمد بن عمر بن عبد الله بن منظور الحضرمي
إشبيلي. أبو القاسم، يعرف بابن عصفور. كان ببلده فقيهاً مشاوراً خطيباً فاضلاً، صالحاً زاهداً، عاقلاً، من أهل العلم والأدب، يروي عن أبي محمد الباجي، ونمطه. وكان شاعراً مطبوعاً. ذكره أبو عبد الله ابن الحصار، وحدث عنه. وقال أبو حيان: توفي الأديب الخطيب الناسك ابن عصفور، صاحب صلاة إشبيلية، وكان ناسكاً في الورع والعلم والحكاية، سنة عشر وأربعماية، ببلده، رضي الله عنه.(8/27)
أبو بكر ابن زهر رحمه الله
واسمه: محمد بن مروان بن زهر الإيادي، إشبيلي. شهير البيت بها نبيه. سمع من ابن الأحمر، وابن ثابت، وابن عيسى، وأبي يحيى ابن بطال، وأبي بكر ابن القوطية، وابن زرب والجسري، وغيره. حدث عنه أبو المظفر ابن سلمة الطليطلي، وحاتم بن محمد وأبو عبد الله الحصار وابنه، وابن الفرات البطليوسي، وأبو جعفر بن مغيث. وبه تفقه أهل طليطلة. قال محمد بن الحصار الخولاني: كان فقيهاً مشاوراً من أهل العلم، والحفظ للمسائل، قائماً بها، مطبوعاً في الفتيا على الأصول. ذكر أبو الأصبغ بن سهل: أنه كان من يفتي في الإيمان اللازمة، بطلقة واحدة على ما ذهب إليه أبو عمران الفاسي. قال أبو الأصبغ: وكان بعض الطليطليين يفتي فيها بواحدة بائنة. ولا أعلم لقوله بائنة، وجهاً.(8/28)
خبر محنته رضي الله عنه
ولما قام أبو القاسم ابن عباد في الفتنة بإشبيلية، واقتنصها ملكاً لنفسه واحتاط لحاله، فنكب كل من خشي على نفسه من كبرائها منه، وكان الرجل حيث كان جلالة وعلماً، فخاف على نفسه، وسكن طليطلة مدة. فعندها أخذ الطليطليون عنه. وتفقهوا معه، ثم رُدّ بالثغور الشرقية، الى أن مات، واقتطع بنو عباد عند مغيبه أمواله، واستصفوه. كانت واسعة، ومن ذريته هؤلاء، بنو أزهر النجباء، منهم ابنه عبد الملك ابن أبي بكر. ثم مال الى الطب، ففاق. ورأس أهل وقته، وتلاه في ذلك ابنه الوزير الأجلّ، أبو العلاء زهر بن عبد الملك بن زهر. ففاق أهل وقته، جلالة وعلماً وجاهاً، ومكانة عند الرؤساء، والخاصة والعامة. مولده سنة ثمان وثلاثين، وثلاثماية.
سليمان بن بطّال
أبو أيوب البطليوسي، وانتقل الى البيرة. ويعرف بالمتلمس. كان مقدماً في أهل العلم والفقه والفهم، والشعر والأدب. وكان أولاً كثير الشعر، مشهوراً به، ومال آخراً الى الزهد، وترك قول الشعر. وله كتاب في مسائل الأحكام، سماه المقنع. عليه مدار المفتين والحكام.(8/29)
قال ابن عبد البر: وليس لمالكي مثله في معناه. وكتاب في الزهد سماه الموقظ. وكتاب أدب الهموم، وكتاب الدليل الى طاعة الجليل. وبمثل هذا الاسم، سمي أيضاً أبو علي الطلمنكي، كتابه الكبير. حدث عنه أبو عمر بن عبد البر، وحكم بن محمد بن أبي الربيع الأيسري، وابن الرمينة السبتي، وابن الحصار الإمام. توفي عام اثنين وأربعماية، فيما أظن.
عيسى بن معاوية
إشبيلي، الضرير. أحد وجوه أهل إشبيلية ورجالاتهم ودهاتهم، مع المعرفة والعلم والنزاهة. وليَ القضاء بعهد المنصور. وكان يقول: منه جنة لو عوينت ببصر، لطمست الأعين. وكان من أصحاب ابن ذكوان. فلزم الانقباض وحسن الطريقة، الى أن مات رحمه الله.(8/30)
أبو الوليد بن محمد بن عباد اللخمي
إشبيلي. قال ابن حيان: كان رجل غرب الأندلس في وقته. وكان حسن المعرفة، يقطع من العلم جليله، صالح النظر في الفقه، عالماً كاتباً حليماً أديباً، حسيباً كثير التوجيه للمرافق، وافر النعمة. ذكروا أن أملاكه كانت تعدل ثلث كورته. لم يكن رئيس يعدله في قراه. قديم الجاه عند سلطان الأندلس، زمن العامرية، مشتغلاً لهم بالأمور العظيمة، تولى قضاء بلده، وعمله مدة. ثم صرف عنها أيام المظفر عند ارتياده للقضاء أهل السلامة. واستقدم الى قرطبة، وولي مكانه أبو عمر ابن الباجي، نحو سنة. فلم يحمدوه في أمورهم، ولا قام لهم مقامه، ولم يخلص القضاء بغيره. فاضطروا إليه، وردوه الى عمله، وصرفوا الآخر صرفاً جميلاً. وأصيب ببصره آخراً، فاحتيج إليه، على ما هو به. وقعد عن القضاء آخراً، شيخاً. وكان أهل الغرب لا يخرجون عن طاعته. وتوفي في ربيع الآخر سنة عشرة وأربعماية. وانتصب للرئاسة مكانه ابنه، أبو القاسم محمد، وكان جزلاً ذا أدب ومروءة، وولاه القاسم ابن حمود القضاء، مكان أبيه، فسد مكانه، وأثروا صيته الى أن ثار ببلده عند اضطراب أمر بني حمود، فتأمر به، وحاز رئاسته وأورثها عقبه، فجاءوا بعد من أجل الملوك بالأندلس.(8/31)
أبو عمر الطلمنكي
واسمه أحمد بن محمد بن عبد الله، ابن أبي عيسى - واسمه لبّ - ابن يحيى بن محمد بن قزلمان المعافري، أصله من طلمنكة، بثغر الأندلس الشرقي، وبها ولد، ونشأ بقرطبة. فسمع من رجالها: ابن مفرج، وابن عون الله، وأبي محمد القلعي، وأبي عيسى، وأبي القاسم خلف بن محمد المكتب، وزكريا بن خالد، وابن ناصر السبتي، وابن النعمان والأنطاكي، وابن زرب، وحسين بنابل، والزبيدي، وعباس بن أصبغ، ومحمد بن خليفة ومسلمة بن بتري، وابن جندل، وابن البلكاوشي، وطبقتهم. ورحل الى المشرق فلقي جماعة منهم ابن عمار الدمياطي، وأبو الطيب بن غلبون وابنه ظاهر، والأدفوي، وأبو القاسم الجوهري، وابن صفوان البرذعي، وابن المهندس، وابن عراك، وابن أبي غالب، وابن سنجر، وأبو إسحاق التمار، وغير هؤلاء. سع منه وحدث عنه الجلة، سماعاً وإجازة. منهم حاتم الطرابلسي، وأبو عبد الله بن عتاب، وابن المرابط وابن فوريش، والمووفشي. وأبو عمر بن الحرار، واتسعت روايته. وتعين في علوم الشريعة.(8/32)
وغلب عليه القرآن والحديث ألف تواليف نافعة كثيرة، كباراً، ومختصرة، احتساباً. ككتاب الدليل الى معرفة الجليل، نحو ماية جزء. وكتابه في تفسير القرآن، نحو هذا. وكتاب البيان في إعراب القرآن. وفضائل مالك، ورجال الموطأ، وكتاب الرد على ابن مسرة، وكتاب الوصول الى معرفة الأصول. وغير ذلك من تواليفه. قال حاتم: كان أبو عمر من أهل الإقامة بالعلم، والضبط له، وله علوم ما شاء حسنة. قال ابن الحصار الخولاني: كان من الفضلاء الصالحين، على هدى وسنّة. قديم الطلب والعلم. مقدماً في الفهم مجوداً للقرآن. حسن اللفظ، فضائله جمة أكثر من أن تحصى. قال أبو معمر عمر المقرئ: وكان خيراً فاضلاً، ضابطاً لما روى. قال ابن الحذاء: وكان فاضلاً شديداً في كتاب الله تعالى. سيفاً على أهل البدع، سكن قرطبة وأقرأ بها. ثم سكن المرية ثم البيرة ثم سرقسطة. ثم عاد الى بلده، طلمنكة، مرابطاً. فتوفي بها صدر محرم، سنة تسع وعشرين، وقيل في ذي الحجة سنة ثمان، وقد قارب التسعين، وصحبه ذهنه. مولده سنة أربعين وثلاثماية.(8/33)
أبو الوليد بن مقبل رحمه الله
واسمه محمد بن عبد الله البكري. من أهل مرسية، ولازم مدة قرطبة، وبها تفقه. ثم عاد الى بلده. سمع من سهل بن ابراهيم الاستجي. حدث عنه أبو عبد الله ابن المرابط، وأبو عمر ابن الحذاء، وأبو بكر عبد الرحمن بن عيسى السماني. وآخر من حدث عنه، صاحب المظالم ابن طاهر. كان فقيهاً ديّناً. وقال أبو عمر ابن الحذاء: ما رأيت أتم منه ورعاً، ولا أحسن خلقاً، وكرماً. لم يأكل لحماً. مذ وقعت الفتنة إلا من طير أو حوت، ولا لبس خفّاً، إلا من جلود، ميورقة، إذ لم يدخلها النهب. وكان من أحفظ الناس لمذهب مالك. وأقومهم فيه حجة. عالماً بصحيح الحديث، وسقيمه ورجاله. وباللغة والنحو والشعر والقراءات. وكان كثير الضيافة على توسط حاله. ولقد أضاف أقواماً نزلوا به أعواماً. وكان محسوداً ببلده. وتوفي فيها. قرأته بخط شيخنا القاضي عبد الله التميمي، في شوال سنة ست وثلاثين وأربعماية. مولده سنة اثنتين وستين وثلاثماية.(8/34)
أبو القاسم المهلب بن أحمد بن أسيد بن أبي صفرة التميمي
سكن المرية، من أهل العلم الراسخين فيه. المتفنني في الفقه والحديث والعبارة، والنظر. صحب الأصيلي، وسمع منه، وتفقه معه. وكان صهره، وسمع أيضاً من غيره، من شيوخ الأندلس، كأبي زكريا الأشعري، وعبد الوارث بن خيرون، ورحل فسمع بالقيروان ومصر من جماعة. منهم: أبو الحسن القابسي، وأبو ذر الهروي، ويحيى بن محمد الطحان، وعبد الوهاب بن الحسن بن منير الخشاب، وأخوه عبد الله، وأبو بكر ابن يزيد الأنطاكي، ومحمد بن عباس، وأبو جعفر ابن مسمار، وأبو عبد الله بن يسار، وأبو بكر بن ابراهيم البغدادي، المعروف بابن الحداد، وأبو إسحاق المصري، وأبو عبد الله بن صالح المصري، ومحمد بن شاكر. وروى عن أبي الحسن الطائي العابد، كتبه. حدث عنه القاضي ابن المرابط، وأبو عم ابن الحذاء، وأبو العباس الدلائي، وحاتم الطرابلسي. وولي القضاء بمالقة. قال أبو عمر ابن الحذاء: كان أذهن من لقيت، وأفهمهم وأفصحهم.(8/35)
قال أبو الأصبغ ابن سهل القاضي: كان أبو القاسم وأبو محمد من كبار أصحاب الأصيلي، وبأبي القاسم حيا كتاب البخاري بالأندلس، لأنه قرئ عليه تفقهاً، أيام حياته. وشرحه واختصره. وله في البخاري، اختصار مشهور، سماه كتاب النصيح في اختصار الصحيح. وعلق عليه تعليقاً في شرحه مفيد. وتوفي سنة ثلاث وثلاثين، أو نحو ذلك.
أخوه محمد رحمه الله
سمع من الأصيلي. وكان من كبار أصحابه، وتوفي بالقيروان. وقد سمع منه أخوه المهلب، وله شرح في اختصار ملخص أبي الحسن القابسي. رحمه الله.
أبو محمد عبد الله بن سعيد بن أرباح الأموي
الشنتجالي، الشيخ الصالح. طلب بالأندلس، وأخذ عن سلمة الزاهد. ورحل الى المشرق فجاور بمكة، بضعاً وثلاثين سنة. يثابر على الحج، وكتابة الحديث والقيام بالعلم، وأكثر من ذلك. واشتهر هنالك اسمه، وانتفع به، وحصل على منزلة رفيعة في النسك والخير. وكان الغالب عليه.(8/36)
قال الباجي: كان شيخنا صالحاً يكنى بالضابط. سمع من أبي سعيد السنجري، وأبي سعيد الواعظ، وأبي بكر المطوعي، وأبي الحسن الطائي الفقيه، وأبي الحسن ابن فراس، وأبي القاسم السقطي، وأبي ذر، والقاضي أبي العباس الكرخي، وأبي عبد الله الوشاء، وأبي العباس الكناني، وأبي الحسن القروي، وأبي الفضل بن أحمد الهروي وغيرهم. وانصرف الى الأندلس، سنة ثلاث وثلاثين، راغباً في الجهاد. فلم يزل مثابراً عليه بالثغور والناس يأخذون عنه، خلال ذلك. حدث عنه خلق كثير. منهم أبو عبد الله بن عتاب، والطرابلسي، ومحمد بن الحصار، وأبو حفص الهروي، وآخر من حدث عنه بالإجازة: شيخنا، أبو محم بن عتاب. ودخل قرطبة، فسمع منه بها مسلم، وأجازه لكل من دخل قرطبة من طالبي العلم. قال القاضي أبو الأصبغ: سألت ابن عتاب إجازة، كتاب مسلم. وكان الشيخ سمعه من الشنتجالي. فقال لي: أنتم ونحن سواء. قد أجاز الشنتجالي، لكل من دخل قرطبة من طالبي العلم. قال المؤلف رضي الله عنه: ذكرنا هذه الحكاية ليعلم أن مذهب هؤلاء الثلاثة، جواز إجازة المجهول، المختلف فيها. وقد رأيت إجازة(8/37)
القاضي أبي الأصبغ ابن سهل، بخط يده لكل من طلب عنده العلم بسبته، بلده. وله مختصر في الفقه مشهور. وكان يوالي الاكتحال بالإثمد. وتوفي بقرطبة سنة ست وثلاثين.
أبو الطيب سعيد بن أحمد بن يحيى بن سعيد
المعروف بالحداد، طليطلي. حاز رئاسة بلده، بعد أبي عمر في الفقه، والوجاهة وبيتهم بطليطلة، من بيوت الشرف والعلم. قال القاضي صاعد بن أحمد بن صاعد: كان لأبي الطيب حظ من الفقه، والرواية. ورحل فحجّ وكتب العلم، وسمع عبد الغني بن سعيد الحافظ، بمصر وغيره. وساد أهل بلده في وقته. وقد روى أيضاً عن أبي العباس أحمد بن محمد القاضي، وأبي عبد الله بن محمد بن ثمد الكرخي. وروى عنه أبو عبد الله بن عتاب. وكناه بأبي عثمان، ومرة قال عنه: حدثنا بعض أصحابنا،(8/38)
ولم يصرح باسمه. وكان لا يصرح به. ذكر ذلك القاضي ابن سهل. وروى عنه أيضاً حاتم الطرابلسي. وتوفي بطليطلة، سنة ثمان وعشرين وأربعماية. وقد تقدم ذكر أبيه. وسيأتي ذكر ابنه إن شاء الله.
أبو العباس أحمد بن أيوب بن أبي الربيع الألبيري
الواعظ. أصله من البيرة، ونزل في الفتنة الى قرطبة، فهلك بها هنالك. كان ممن أمعن في الطلب، وتفنن في المعارف، وأخذ عن الأندلسيين، ورحل الى المشرق، فلقي رجاله. فمن شيوخه ابن أبي زمنين، لزمه واختص به. وروى عنه كتبه، ومن شيوخه: أبو الحسن القابسي، ومسلة بن سعيد الاستجي، والقاضي أبو أيوب بن بطال، ولم يخالف بالمشرق زيه. فلبس قلنسوة بين أظهرهم، وكان فصيح اللسان. ذا فرائض، مطبوعاً. وكان الغالب عليه الوعظ والذكر. له في هذا الباب تصانيف. روى عنه أبو المطرّف الشعبي، وابن الحصار، وابنه. وكانت العامة حزبه، وكان مديناً لهم، مقرباً لإفهامهم، ما عسر عليهم. حاضّاً لهم على فعل الخير، حاضر العلم، كثير الشعر.(8/39)
له في أيدي الناس أزهاد وتكافير، يتداولها المنشئون، والمفتون. وله في بعضها مجموع. توفي بقرطبة، في مجلسه بالجامع، فجاءةً، أبسط ما كان، فاحتمل ضحوة. ومات وسط النهار من يومه. وانزعجت العامة لموته انزعاجاً لم يسمع بمثله. وشهده الناس، حتى خلت قرطبة، واحتاج أولو الأمر الى ضبطها، وحرس أبوابها، حتى فرغ من شأنه، ولم يصل نعشه الى قبره، إلا أصيلاً. وجعلت العامة تلمسه تبرّكاً به، بأيديها وأثوابها. وزاروا قبره مدة. رحمه الله.
أبو بكر أحمد بن أدهم
مولى بني مروان. جياني من بيوت الشرف بها. قال ابن حيان: وليَ القضاء بالمرية. وكان صليباً في حكمه، قوياً في علمه وأدبه. ولم يكتسب في العمل، مع الفقر. توفي سنة تسع وعشري.(8/40)
أبو بكر يعيش بن محمد بن يعيش بن منذر الأسدي
طليطلي. ذكرنا أباه قبل هذا. قال ابن حيان: إليه والى صاحبه أبي عمر أحمد بن سعيد بن كوثر، انتهت رئاسة بلدهما، بعد أبويهما. وكانا على صفاء. وقد فاق فيها محمد بن يعيش أقرانه في العلم، إلى أن جرت بينهما منافسة أيام بني ميسرة. أدتهما الى التقاطع، فمال ابن ميسرة لابن يعيش. ونكب ابن كوثر، وصيره الى شنترين، ثم دس إليه من قتله. فخلا لابن يعيش مكانه، وتفرد برئاسة البلد. فلما مات ابن ميسرة، أجمع ابن يعيش ولده، واقتطع البلد رئاسة. وقام فيه مقام القاضي أبي القاسم بن عباد بإشبيلية، والبكري بغرب الأندلس. وحمى جهته، وحسن سياسته. وهو في هذا كله لا يدعي باسم الرئاسة، مقتصراً على اسم الفقيه. ولا يفارق زي العلماء. وقد جعل الأمر والاسم لولده، عبد الله. وكان من شدته منع النساء الخروج من باب طليطلة، خلف الجنائز كثرة. وقطع عمل الدرمك بالجملة،(8/41)
قال السبتي: كان ابن يعيش، أول أمره معدوداً في أهل الصلاح والفضل. أخذ من العلم بأوفر نصيب. وولي الجهاد والحجّ. وأوسع النفقة في السبيل، وأكثر التلاوة والصلاة، الى أن ابتلي بحب الدنيا، مما يغفره الله تعالى له بفضله. ولم يلبث أهل طليطلة، أن ملوا دولته، وثقل عليهم وطأته، وخلعوه، وقتلوا ولده. وذلك سنة سبع عشرة وأربعماية.
أبو عمرو معوذ بن داود بن معوذ بن دلهاب الأزدي التاكرني
الزاهد. بقية الزهّاد العلماء العباد في وقته، انقطع زمن الفتنة ببعض جبال رية. كان فقيهاً عالماً، بليغاً أديباً، متبتلاً سمحاً، حسن العشرة. لقي الناس وصحب الفقهاء والعلماء، ولقي الفقيه الزاهد أبا حفص ابن عبادل، فأخذ عنه، وتفقه معه، وانتفع به. وقد ذكرنا خبره قبل هذا، وعلا ذكره في العلم(8/42)
والخير، والزهد. وإليه كانت الفتوى من جميع الجهات، بموضع انقطاعه، وانعزاله. وكان الناس ينتفعون به الى أمر الفنتة. فيكتب لهم بما لا تخيب شفاعته، ويتحامى أهل الفساد حوزته، ويعظ من قصده منهم. وكان ممن لا يقبل هدية إلا مع تعجيل المكافآت، عليها حصوراً. لم يتخذ قط لنفسه فراشاً. يصرف فضل ضيعته الى من ينتابه من أهل السبيل وطلبة العلم، كلفاً بجمع الكتب. له رسائل في الزهد والمواعظ، مستحسنة. وكانت وفاته سنة إحدى وثلاثين.
أبو عمر أحمد بن حسين
القاضي بدانية، من أهل العلم والقرآن. وكان الموفق صاحب دانية، قد وجهه في رسالة الى المعزّ صاحب القيروان. فجرت له بالقيروان أخبار وأجوبة حسنة. وكتب الى علمائهم بماية من فنون العلم، أجاب عنها أبو عمران الفاسي رحمه الله. وفي ذلك كتب القاضي أبو عمر للمعز:(8/43)
يا معزاً أعزّ أهل الدين ... وتردى بكل فضل مبين
ماية كالبدور أو هي أضوى ... في عيون الأذهان لا في العيون
مقبلات فإن مست بإذن ... فتحت في فنائك الميمون
وبدت قاصدات علم وفقه ... ومعانٍ غريبة وفنون
فمن القيروان تبتغى المعاني ... وبها نشر كل علم مصون
وله أبيات غير هذه. وقد وقفت على أجوبة أبي عمر هذا، فيها فقه واستحسنت فيها قوله. وقد سأل عن المرأة الميتة لم خُصّت بوضع القبة على نعشها، على ما استمر عليه عمل المسلمين من صدر هذه الأمة. وهي في حياتها ألا يلزم إخفاء شخصها بل تستر جسدها. فقال: علة ذلك لما حملت على الأعناق، وتعين عينها، زيد في سترها، حتى لا يعلم طولها من قصرها، وسمنها من هزالها. وفي حياتها هي مختلطة بغيرها، فلم تتعين. وأما أبو عمران فأجاب: إنها لم تملك من أمرها شيئاً، فلذلك جعل لها أتم الستر.
سعيد بن سهل الشرفي
إشبيلي. آخر فقهاء بلده. ووجوهه، نكبه ابن عباد في الفتنة. بسبب التهمة في بني حمود. واستصفى ماله.(8/44)
أبو بكر عبيد الله القرشي التيمي
أصله قرطبي، ونزل إشبيلية. وكان أحد المفتين بها. وممن له وجاهة، وكان أحد الدعاة للشبيه الدعي القائم بها، باسم هشام المخلوع. وممن شهد على عينه، وكف بصره آخر عمره. ذكر القاضي أبو الأصبغ ابن سهل في كتاب الأعلام: إن هذا القرشي التيمي، أفتى في أم الولد، تقوم في غيبة سيدها بعدم النفقة. أنها تعتق عليه، كالزوجة. وخالفه في ذلك غيره من فقهاء إشبيلية. وأفتى فيها ابن الشقاق، وابن القطان، أنهن بخلاف الزوجات، لا يعتقن. وهو الذي حكاه ابن القطان في وثائقه. قال: وهذه الرواية لا تشبه فيمن عجز عن نفقة أمهات الأولاد، أنهن يعتقن عليه، بعد انتهاء أمد شهر، ونحوه. لعلي بن زياد، واختاره ابن سهل، رحمه الله.(8/45)
أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله الباجي
إشبيلي، نبيه البيت في العلم والجلالة والقضاء ببلده. تقدم نسبه، وذكر أبيه وجده. سمع أبو عبد الله من جده أبي محمد، ورحل مع أبيه أبي عمر، ولقي عدة من الشيوخ والفقهاء، وروايته ورواية أبيه واحدة. سمع منه ابن الفرات البطليوسي، ومحمد بن عبد الله الحصار، وأبو بكر ابن الوليد، وآخر من روى عنه، أحمد بن محمد الحصار بالإجازة. ولي الشورى ببلده، ثم القضاء. وكان يستفتي في كثير من مسائله، أبا بكر بن عبد الرحمن، وأبا عمران الفاسي. قد ذكر القاضي ابن سهل في كتابه، من مسائل لهما، جملة صالحة. قال أبو عبد الله محمد بن عبد الله، وقد ذكره. كان أبو عبد الله هذا من أهل العلم بالحديث، والرأي، والحفظ للمسائل. قائماً بها واقفاً عليها، عاقداً للشروط، محسناً لهم. بيته بيت علم، هو وأبوه وجده. وكان جميعهم في الفضل والتقدم على درجتهم في السن، ومنازلهم في السبق. وتوفي في محرم سنة ثلاث وثلاثين.(8/46)
خلف بن سعيد بن أحمد بن محمد الأزدي
أبو القاسم إشبيلي. كان رجلاً صالحاً من الفضلاء الزهداء في الدنيا. منقبضاً قديم الخير. له رحلة، حجّ فيها. وتنسك وتقشّف. وكان فقيهاً مفتياً. وليَ الشورى. سمع من أبي محمد الباجي وغيره. سمع منه أبو عمر بن عبد البر، وأبي بكر بن أبان، وأبو عبد الله الخولاني.
محمد بن مغيرة بن عبد الله بن مغيرة بن معاوية بن المأمون القرشي
أبو بكر المعروف بالإشبيلي. قال ابن الحصار: كان من أهل العلم بالحديث والفقه، والفهم بضروب الأدب، متقدماً فيما وصفناه. له أشعار كثيرة، مشهورة. ولي الشورى بموضعه. وأخذ عن رجال الأندلس، ورحل فلقي رجال المشرق، أبا الحسن بن فراس، وطبقتهم،(8/47)
وأخوه أبو سليمان عبد الرحمن بن مغيرة. قال: كان أيضاً من أهل الفهم والأدب والخير والانقباض. رحل وتجول، وسكن مصر مدة. وصحب بها جلة وسمع منهم واشتغل في العبادة والتبتل، الى أن توجه أخوه حاجّاً، فعزم عليه وانصرف معه بعد حجهما. وقد استفاد علماً ونبلاً وفهماً. فسكن قرطبة. ثم انتقل في الفتنة الى إشبيلية. رحمه الله.
أبو بكر يحيى بن محمد بن أحمد بن عبد الملك القرشي العثماني
إشبيلي. كان من أهل العلم والتقدم في الفهم للحديث والسنن، والرأي والأدب. فقيهاً مشاوراً. لقي جماعة، وسمع منهم. كابن عن الله، وابن مفرج، وعباس بن أصبغ، وسهل بن ابراهيم الاستجي، وأحمد بن عبد الله بن العنان، وهشام بن يحيى البطليوسي، وعبد الله بن النون وغيرهم.(8/48)
خلف بن مسلمة بن عبد الغفور
فقيه حافظ. ألّف كتاب الاستغناء في أدب القضاة والأحكام. كتاب كبير نحو خمسة عشر جزءاً، كثير الفائدة والعلم، وقفت عليه. وكانت وفاته نحو أربعين وأربعماية. رحمه الله.
أبو بكر خلف بن أحمد بن خلف الرحوي
من أهل طليطلة، وفقهائها. أخذ عن أبي محمد بن أبي زيد بالقيروان. وحدث عنه بكتبه. وسمع منه أبو الوليد الباجي، وأبو القاسم الطرابلسي، وأبو محمد الشارني، وأبو جعفر ابن مغيث. وتفقه به الطليطليون. وحكى أبو جعفر ابن مغيث عنه، أنه كان يرى بالرأي.(8/49)
إسحاق بن يحيى بن ابراهيم
سرقسطي من فقهائها، ومشاوريها ومدرسيها. سمع منه وضاح بن محمد الرعيني وغيره. وتوفي سنة إحدى وعشرين وأربعماية. رحمه الله.
عبد العزيز بن علي المقري المالكي المصري
من أصحاب أبي الذكر الفقيه بها. المالكي. وممن عني بلفقه، علم القرآن وغلب عليه. وكان من المتصدرين للإقراء للقرآن في جامع عمر. ويختلف الى أبي الذكر. وتفقه عنده في المسائل. ويجالسه في ذلك كل يوم، من بعد صلاة الصبح الى الزوال، ومن الظهر الى العصر. فبينما هو كذلك إذ جلس إلينا شاب، فكان يجيب في المسائل أحسن جواب. وجعل يختلف الى الحلقة زماناً. وعلى وجهه أثر صفرة. وكان من أحسن الناس وجهاً،(8/50)
وعليه ديفتان وطيلسان، ونعل شراكه أسود. وكان لا يلبسها بشراك أسود، إلا الشطار. فكنا نعجب من ذلك، فلما دخل الشتاء وغير الناس زيهم، لم يغير الشاب زيه. فقال لنا الشيخ: أظنه مقلاً. ويجب أن يتفقد حاله. فبادر الناس وجمعوا له ماية مثقال. وعقدها الشيخ في خرقة حمراء. وقال لأحد أصحابه: أرصد الشاب. فإذا قام من الحلقة، تدفعها إليه وتقول: جمعها لك الشيخ من وجه طيب. فلما خرج الشاب من الجامع، تبعه رسول الشيخ، حتى أتى القرافة، فدعي للصلاة على جنازة. فقدم عليها. فلما سلّم، أخذ الرسول بطرف ردائه، فأدى إليه رسالة الشيخ وسلامه، ودفع إليه الصرة. فقال: وما هي؟ قال دنانير. قال: وما أصنع بها؟ قال: تصرفها في مصالحك وتجعلها حيث شئت من أهلك، وأصدقائك. فقال الشاب: ما لي أهل يحتاجون إليها ولا صديق. فألحّ عليه الرسول، وهو يمشي معه. حتى قربا من المقطم، فلما خشي فواته، قبض عليه. فقال الشاب: يا هذا ما علمت أن لله عباداً، لو سألوه، أن يجعل لهم الحصى دنانير لفعل. وحرّك شفتيه، قال الرسول: فنظرت الى الصحراء، دنانير. فتركت يدي منه، وحثوت بيديّ جميعاً في الأرض حرصاً على الدنانير. فوقع في يدي دينار أطلس بلا كتابة. وتعلق الفتى في الجبل، وفاتني. وانصرفت حيران، فلما أبصرني الشيخ، قال لأصحابه: أرى الصرة سقطت منه. فحكيت له الحكاية. وأريته الدينار، فقلبه ووضعه على عينيه. وفعل الناس كفعله. ثم كان عند الشيخ حتى مات، وأدرج في كفنه.
ذكر أن أبا بكر ابن مجاهد الألبيري، نهض مع أصحابه الى أبي عبيد الجيزي، ليزوره بالزهراء، على عادته له. وكان صديقه. فلما حضر عنده أحضر طعاماً ودعاهما الى أكله. فأكل أبو بكر، فأكلا معه. فلما خرجا، سئل أبو بكر عن أكله طعامه. وقد علم أن ليس عنده مال، إلا ما أعطاه السلطان. فقال أبو بكر: هو رجل من أهل العلم. فلو أمسكت عن طعامه، لكان جفاء عليه. وأنا في نفسي أحقر من أن أجعلها معه، في هذا النصاب، وقد قوم ما أكلت وأجمعت على الصدقة بقيمته، وثواب ذلك لصاحبه، ورأيت هذا أفضل من الشهرة بالإمساك عن طعامه، والجفاء عليه. رضي الله عنه. تمت الطبقة بحمد الله تعالى.(8/51)
طبقة تاسعة
بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. قال الفقيه القاضي، أبو الفضل عياض رضي الله عنه. ثم انتهى المذهب بعد هذه الطبقة، الى طبقة أخرى.
منهم من أهل المشرق
أبو الفضل بن عمروس رحمه الله
واسمه محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن عمروس البزار، بغدادي. إمام فاضل. ذكر اسمه، هكذا. الشيخ أبو بكر بن ثابت الحافظ في تاريخ البغداديين. درس على القاضي أبي الحسن بن القصار، والقاضي ابن نصر، وحمل عنهم كتبهما. وحمل كتب أبي محمد ابن أبي زيد عنه إجازة. وذكر اسمه ونسبه هكذ، الشيخ أبو بكر بن ثابت الحافظ، في تاريخ البغداديين. وكذا قال السمنطاري، وسماه الباجي، عبيد الله. والأول أثبت وأصحّ.(8/53)
قال الخطيب: وهو أحد الفقهاء يعني ببغداد، على مذهب مالك. وكان من حفاظ القرآن ومدرسيه. سمع من ابن جباية، وابن شاهين، كتبت عنه. وكان ثقة ديّناً مشهوراً، وإليه انتهت الفتوى في الفقه بمذهب مالك ببغداد. وقبل القاضي الدامغاني شهادته. وذكره أبو إسحاق الشيرازي، فقال: كان فقيهاً أصولياً. وذكره القاضي أبو الوليد الباجي، فقال: فقيه صالح. وذكره السمنطاري فقال: فقيه شاطر، جلد قيم بمسائل الخلاف، صاحب حلقة المالكيين بجامع المنصور. وله تعليق حسن، كبير مشهور في المذهب، والخلاف. ومقدة حسنة في أصول الفقه. ودرس عليه القاضي أبو الوليد الباجي ببغداد. وحدث عنه هو، وأبو بكر الخطيب. توفي أول محرم سنة اثنتين وخمسين وأربعماية. وقد بلغ الثمانين سنة. مولده فيما حكاه الخطيب: في رجب سنة اثنتين وسبعين وثلاثماية. رحمه الله.(8/54)
أبو العلاء الحسن بن محمد البصري
من علماء مالكية المشرق. له كتاب في الجموع والفروق. رحمه الله.
القاضي أبو الحسن علي بن هارون التميمي
من شيوخ المالكية من أهل البصرة. أخذ عنه أبو يعلى العبدي، إمام البصرة. سمع أبا يعقوب المحرمي. وله كتاب بصحة ما صحّ فيما يلزم المسلمين في دينهم ودنياهم. رحمه الله.
أبو بكر بن المؤمل البغدادي
مالكي، يروي عن ابن ماسة. ويعرف بغلام الأبهري. حدث عنه أبو الوليد الباجي. وقال فيه: شيخ لا بأس به.
أبو الحسن علي بن محمد بن قيس البغدادي
كان مالكياً. سمع من الأبهري. وأبي بكر تواليفه، وعن أبي حفص الكتاني، وأبي علي الفهري. قال أبو الوليد الباجي: هو شيخ من أهل المعرفة باللسان. مالكي لا بأس به. سمع منه أبو الوليد الباجي، رحمه الله.(8/55)
من أهل مصر
أبو علي الحسن بن أحمد بن محمد الهاشمي العباسي
يعرف باليازري، بغدادي، من أصحاب ابن نصر. ومن فقهاء المالكية بمصر. سكنها وأقرأ في جامعها. وكان أديبً. حدث عنه أبو مروان الطبني.
أبو القاسم عبد الواحد بن علي الجيزي
من مالكية مصر. وله كتاب في أصول الفقه. من أصحاب القاضي ابن نصر، وعنه أخذ ابن سعيد فقيه ميورقة. حدث عنه مكحول. رحمه الله تعالى.
أبو حفص عمر بن أحمد بن محمد بن عيسى المالكي
المعروف بابن شمس، البصري. يروي عن القاضي، أبي الحسن بن بندار الأنطاكي. روى عنه الحمال، رحمه الله.(8/56)
من أهل الشام
أبو الفضل مسلم بن علي بن عبد الله بن محمد بن حسين الدمشقي
ويعرف بغلام عبد الوهاب. فقيه مالكي مشهور. اختص بالقاضي أبي محمد بن نصر وأطال صحبه، وخدمته. فشهر به. وله كتاب في الفروق معروف. حدث عن القاضي أبي محمد، ودرّس. أخذ عنه الناس، وأخذ عنه من أهل بلدنا قاسم ابن المأموني.
أبو العباس أحمد بن منصور بن محمد بن قيس الغساني
دمشقي. ذكره بعضهم. قال: وكان فقيهاً على مذهب مالك. يروي عن القاضي عبد الوهاب بن نصر، وعن أبي محمد بن نصر وغيرهما.(8/57)
أبو النجا حيدرة بن علي بن ابراهيم الأنطاكي
المعبر المالكي. ذكره الأمير أبو نصر. وقال: هو شيخ كتبت عنه بدمشق. حدث عن ابن نصر، رحمه الله.
من أهل إفريقية
أبو إسحاق التونسي
واسمه ابراهيم بن حسن. تفقه بأبي بكر بن عبد الرحمن، وأبي عمران الفاسي، وطبقتهم. ودرس الكلام والأصول عن الأزدي. وكان جليلاً فاضلاً، إماماً صالحاً، منقبضاً متبتلاً. وبه تفقه جماعة من الإفريقيين. وأخذ عنه عبد الحق، وابن سعدون، وعبد العزيز التونسي، وابن أبي جامع وغيرهم من الجلة. وله شروح حسنة، وتعاليق مستحسنة مستعملة، متنافس فيها على كتاب ابن المواز، وعلى كتاب المدونة. وذكره ابن عامر الميورقي في رسالته، هو والسيوري. فقال: لحقا من تقدمهما في العلم والورع، وأعجزا من يأتي بعدهما. وهما والله أعلم آخر(8/58)
علماء المغرب. وفي التونسي يقول عبد الجليل الديباجي:
حاز الشريفين من علم ومن عمل ... وقلما يتأنى العلم والعمل
وكان مدرّساً بالقيروان، مستشاراً فيها. مع بقية المشيخة، قبل الفتنة كأبي القاسم اللبيدي، وغيره. رضي الله عنهم أجمعين.
ذكر محنته رضي الله عنه
كان الشيخ أبو إسحاق، قد امتحن مع فقهاء القيروان، محنة عظيمة في سنة سبع وثلاثين وأربعماية. وذلك أنه استفتى في تدمية ما عداه، في مراجعة عقدها ولي من العبيديين. وذلك بعدما جرى عليهم ما جرى بالقيروان. وقيام المسلمين عند ولاية المعزّ بن باديس، صاحبها عليهم. وتقتيلهم كل مقتل. واستنصار المعزّ في ذلك. فرد الفقيه أبو إسحاق في بعض جوابه. أن هذه الفرقة على ضربين: أحدهما كافر، مباح الدم، والضرب. والآخر الذين يقولون بتفضيل علي بن أبي طالب على سائر الصحابة، لا(8/59)
يلزمهم الكفر، ولا تبطل نكاحاتهم. وشاعت فتواه فأنكرها فقهاء إفريقية بالقيروان، وغيرها. وكانوا من التشدد على هذه الفئة المارقة. وكل من يتعلق بهم، حيث كانوا. والعامة أشد من ذلك. لاسيما بظهورهم عليهم، وبغضهم فيهم، وأرسلوا الى أبي إسحاق، في معاودة النظر، وأن يرجع، فأبى إباءً شديداً. فخالف الجميع، واستحقر مخالفته، وانتهت القصة الى السلطان المعزّ، فجمعهم بعض الجمع عنده في المقصورة، وناظروه. فأظهر الإنابة الى قولهم، والرجوع إليهم، ثم خلا بأصحابه، فأنكروا عليه، رجوعه، عن قولهم، وأنه الحق الذي لا يجب سواه. وكان رأي الفقهاء، سد هذا الباب للعامة على هذه الكفرة. وأن بني عبيد زنادقة، وأنّ الداخل في دعوتهم، وإن لم يقل بقولهم، كافر لتوليه الكفرة. فأظهر أبو إسحاق التمادي على قوله، وإنكار الرجوع عنه. ومشى الناس في هذا بعضهم الى بعض. وامتزج فيه القيام لله عزّ وجل في ذلك، بالشهوة من العصبية للغلبة. واجتمعت الفقهاء في ذلك، وأتتهم مكاتبات علماء الجهات بإنكار ذلك. وأن المنتقمين بهذه المقالة الخبيثة، من المصريين والشاميين، قد(8/60)
استحسنوا جوابه. ونهضوا ليفتنوا به الناس، وسرّ به من في قلبه مرض، واحتجّ به. فأطلق الفقهاء الفتيا بما عليه، بمقالته هذه، بالتضليل والتبديع. وقال فيها الشعراء قصائد كثيرة. تضمنت إيذاء أبي إسحاق والتبرؤ منه. وأنشدها الشعراء والطلبة عند الفقهاء غيره، في دورهم وجموعهم. وأطلقوا فيها عليه. وأمر السلطان بسجل أنشئ في القصة من التبرؤ من قوله. وقيل فيه منه ما يعظم الله به أجره، وأمر بقراءته يوم جمعة على المنبر، قبل الصلاة، مستهل صفر عام ثمان وثلاثين. ثم أمر السلطان بإحضاره في ذلك اليوم، إثر الصلاة. وأحضر معه الفقيه أبا القاسم اللبيدي في بقية مشيخة الفقهاء، وكبيرهم، والفقيه أبا الحسن ابن المغربي، والقاضي أبا بكر بن محمد بن أبي زيد، خاصة من بين سائر الفقهاء. وكان هذان الفقيهان من أشد الناس، وحكم في المسألة اللبيدي، فحكم بأن يقر بالتوبة على المنبر، بمشهد جميع الناس، وأن يقول: كنت ضالاً فيما رأيته ونطقت به. ثم رجعت عن ذلك الى مذهب الجماعة. فكانوا على ذلك، وكأنه استعظم الأمر على المنبر، وقال ها أنا أقول هذا بينكم. فساعدوه(8/61)
وقنعوا منه بقول ذلك بحضرة السلطان، والجماعة. وأن يقوله في مجلسه، ويشيعه عن نفسه. فافترقوا على ذلك. وجعلت على الشيخ من ذلك غضاضة. فخرج في فصبيحة يومه متوجهاً الى منستير، للرباط مستكناً لقضيته. ومسبباً لها. فتغيب شخصه. قال القاضي عياض: لا امتراءَ عند منصف أن الحق ما قاله أبو إسحاق. ولا امراء أن مخالفته أولاً لرأي أصحابه في حسم الباب، لمصلحة العامة واللجاج خطأ. وأن رأي الجماعة، كان أسدّ للحال. وأولى بعائدة الخير، وفتواه جري على العلم وطريق الحكم. ومع هذا فما نقصه هذا عند أهل التحقيق. ولا غضّ من منصبه عند أهل التوفيق. وقد حكى أبو عبد الله بن سعدون، قال: رأيت أبا القاسم اللبيدي بعد موته، فسألته: من على الحق؟ أنت أو أبو إسحاق؟ فسكت. وأمسكت بعضده، فكان يقول بصوت خفي: التونسي. ومات أبو إسحاق بعد هذا بسنين، فرأيته أول فتنة القيروان، وكان ابتداء فتنتها سنة اثنتين وثلاثين بالقيروان. ورثاه أبو علي ابن رشيق بقصيدة فريدة أولها:(8/62)
ليس امرؤ صاحب الزمان بباقي ... والخلق مرجعهم الى الخلاق
يا للرزية في أبي إسحاق ... ذهب الزمان بأنفس الأعلاق
ذهب الزمان بخاشع متبتل ... تبكي العيون عليه باستحقاق
ذهب الحمام ببدر تمّ لم يدع ... منه التقى إلا هلال محاق
صبرنا الى الحال التي من أجلها ... كنا نعد الدمع في الآماق
فاليوم أغلق كل فهم بابه ... لما فقدنا فاتح الأغلاق
ما القيروان أذقت ثكلك وحدها ... قد ذاق ثكلك سائر الآفاق
وإذا مصارمة الصروع تخاطرت ... وأتاك ابراهيم بالمصداق
زدت شفاء بها الى لهواتها ... من بعد نا نفدت على الأشداق
دنياك قدماً كنت قد طلقتها ... ما اليوم حين فجعته بطلاق(8/63)
أبو الحسن علي بن تمام المعروف بابن بنت المهدي
وغلب عليه اسم عند الناس المهدي. أحد فقهاء هذه الطبقة في وقته بالقيروان. وله صيت وأتباع كثيرة وصلابة في القيام، في تغيير النكرات والتكلم بالحق، ومكانة عند السلطان. وهي عنده في حوائج الناس وأمور العامة، وهو كان أحد القائمين على القاضي أبي بكر ابن أبي زيد والمحسنين في عدواته، كما ذكرناه في خبره. وكان قد خالفه في أمر العيد، إذ كان القاضي المذكور قد أمر بأن العيد من غدهم. لما ثبت عنده، وعند السلطان، والقاضي وسائر الفقهاء، وخرجوا لصلاتهم، ورجعوا وذبحوا. وكان يوم جمعة، إلا المهدي، فخالفهم في هذا كله، وجلس في داره. فلما صلى بهم الخطيب صلاة الجمعة، وكبّر تكبير التشريق، قال له المهدي من موضعه: كذبت أيها الفاسق. وأصبح اليوم الثاني في باب داره، وصلى العيد مع خلق، اتّبعوه. وكان من جملة من صلى معه، خطيب الناس بالأمس. وقال له: إنما صلى بالأمس تقية. فبلغ ذلك القاضي، فأحضره. فقال: إنما فعلت هذا عند المهدي، خوفاً منه، فكان هذا سبب نكبة هذا الخطيب، وعزله.(8/64)
أبو القاسم السيوري
واسمه عبد الخالق بن عبد الوارث. قيرواني. آخر تبعاته من علماء إفريقية، وخاتمة أئمة القيروان. وذوي الشأن البديع في الحفظ والقيام بالمذهب والمعرفة بخلاف العلماء. وكان زاهداً فاضلاً ديناً نظاراً. وكان آية في الدرس والصبر عليه. ذكر أنه كان يحفظ دواوين المذهب، الحفظ الجيد، ويحفظ غيرها من أمهات كتب الخلاف. حتى أنه كان يذكر له القول لبعض العلماء، فيقول: أين وقع هذا. ليس في كتاب كذا، ولا كتاب كذا. ويعدد أكثر الدواوين المستعملة من كتب المذهب والمخالفين، والجامعين. فكان في ذلك آية. وكان نظّاراً. ويقال إنه مال أخيراً الى مذهب الشافعي، وله تعليق على نكت من المدونة. أخذه عنه أصحابه. ويقال إنه تفقه بأبي بكر بن عبد الرحمن وأبي عمران، وطبقتهم. وقرأ الكلام والأصول على الأزدي، وأكثر ما قرأ الكلام. ولازم مدينة القيروان بعد خرابها، الى أن مات بها، وعليه تفقه عبد الحميد، والمهدي، واللخمي، والذكي. وأخذ عنه(8/65)
عبد الحق، وابن سعدون وغيرهما، وبعدهم حسان ابن البربري، وأبو القاسم المنهاري، وأراهم آخر من أخذ عنه وطال عمره. فكانت وفاته سنة ستين بالقيروان. رضي الله تعالى عنه.
أبو محمد الفحصلي
واسمه عبد الله. أخذ عن أبي بكر وأبي عمران. وكان من الفضلاء العبّاد. لم يكاتب السيوري، أحداً من هذه الطبقة بالفقه غيره. وكان زاهداً متقللاً، قوته في النهار. الى غد نصف مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وهو أكبر هذه الطبقة. وكان يحلق في حياة الشيوخ رضي الله عنهم.
أبو الطيب عبد المنعم بن ابراهيم الكندي
والمعروف بابن بنت خلدون، قيرواني، هو ابن أخت الشيخ أبي علي ابن خلدون من نبلاء هذه الطبقة ومتفننيها. وكان(8/66)
له علم بالأصول، وحذق بالفقه والنظر. تفقه بأبي بكر بن عبد الرحمن، وأبي عمران. وأخذ عن أبي سفيان المقرئ، وبه تفقه اللخمي، وأبو إسحاق بن منصور القفصي، وعبد الحق، وابن سعدون وغيرهم. وحكى عن بعض شيوخ الإفريقيين أنه كان يقول: دخلت عليه، فوجدته ينظر في اثني عشر علماً. وكان له حظ من الحساب والهندسة في العلوم القديمة. ويحكى أنه كان دبر جلب ماء البحرين من ساحل تونس، الى القيروان، وسوقه خليجاً من هنالك بنظر هندسي، ظهر له. فاخترم قبل نفاد رأيه فيه، وظهور ما دبره منه. وذكره بعض العلماء فقال: كان قدوة في العلم والدين، ورأيت أهل قفصة قد سألوه في مسألة يرونها، بقولهم: إن الله تعالى منّ علينا معشر المسلمين، بأن جعلك إماماً يقتدى به، وراسخاً في العلم، نفزع إليه. وكانت له رحلة. ودخل مصر، وله على المدونة تعليق مفيد.
أبو حفص عمر بن أبي الطيب
المعروف بالعطار. قيرواني فاضل. وكان حافظاً قيّماً بالمذهب. حسن الاستنباط. وكان اعتماده على المدونة. وبه تفقه عبد الحميد المهدي، وابن سعدون.(8/67)
كان ابن العطار يقول للطلبة: فقر وعلم. لم تبلغوا هذه الدرجة. أنتم ورثتم الفقر، والعلم منزلة الأنبياء عليهم السلام.
أبو القاسم عبد الرحمن بن محرز
قيرواني. تفقه بشيوخ القيروان، أبي بكر بن عبد الرحمن. وسمع من ابن عمران، وأبي حفص العطار، يتولى الطلبة: نبيلاً، ذا رأي حسن، ومروءة تامة. وابتلى آخر عمره، فيما بلغني، بالجذام. وله تصانيف حسنة. منها تعليق على المدونة، سماه: التبصرة، وكتابه الكبير المسمى بالقصد والإيجاز. توفي نحو الخمسين وأربعماية.
أبو إسحاق بن منصور القفصي
كان من فقهاء إفريقية وفضلائها، من أصحاب أبي بكر بن عبد الرحمن، وطبقته. وصحب أبا الطيب عبد المنعم الخلدوني، وأبا إسحاق التونسي، والسيوري، وغيرهم. أثنى عليه بالعلم البارع والدين، القاضي(8/68)
أبو عبد الله ابن داود. وذكر لنا أن شيخه أبا عبد الله الذكي كان يثني عليه كثيراً، ويقول: ما اجتمع لأحد من أهل إفريقية، ما اجتمع لأبي إسحاق. أو كما قال. أراه سكن طرابلس، وأصله من قفصة، وبها كان مدة.
أبو بكر محمد ابن أبي القاسم اللبيدي
كان من أهل العلم والأدب والفهم الحسن، وجلس بأمر السلطان مجلس أبيه، بعد موته، سنة أربعين، قبل الفتنة، بعد أن استدعاه إليه في جماعة من أهل العلم. فنوّه به وشرّفه، وخلع عليه خلعة تليق بأهل العلم. وكان معظماً في الناس لنفسه وأبويه ومكانته عند السلطان. وكان حسن المعاشرة طلق الوجه، مبادراً لقضاء حوائج الناس، مكارماً لهم، يجيد قرض الشعر، جميل الصورة، واسع الحال. كانت له مشية حسنة، وملبس نظيف، وتوقر مفرط. وكان النساء يتصدين لرؤيته، وحسن إشارته. وتمادت الرئاسة بالعلم والقضاء في بيته، الى وقتنا هذا.(8/69)
أبو حفص عمر بن ساروا، اللواتي
من فقهاء صقلية ومشاهيرها. وكان شاعراً أديباً. وهو القائل يفخر بقومه لواته، من قصيدة أولها:
لمن تعزى المكارم والأيادي ... ورد الخيل ذاهبة الهوادي
سوى قومي الذين سمت نفوس ... بهم شرفاً الى السبع الشوادي
وله أيضاً:
أأجازيك أم أعاديك سفلا ... أم تراني أراك للسب أهلا
سب ما شئت لست ممن يجازي ... أنا بالسب إن شتمتك أولى
محمد بن عبد الصمد
كان هذا الرجل من علماء وقته، بالقيروان. وغلب عليه الزهد. وكان ممن انقطع وأخذ في وعظ الناس وتحذيرهم. وكان يجتمع إليه، ويسمع منه حتى حضره صاحب القيروان. فحكى أبو الطيب بن الكماد الأديب القيرواني: أن المعزّ صاحب القيروان كان تحيل حتى استعار منه بعض كتبه، يريد أن يطلع(8/70)
شيئاً منها، فأقامت عنده أياماً، ثم ردها إليه، لأنها السبب. وأحسبه بخط فيها: زعمت ملوك الفرس، وحكماء السند والسياسة، أن أهل المعرفة والوعظ وتأليف العامة، وإقامة المجالس أضرّ الأصناف وأقبحهم أثراً في الدول. فيجب أن يتدارى أمرهم، ويبادر الى حسم الإيذاء منهم، وأبلغ ما يكون في ذلك، عرض المال عليهم، فإذا قبلوه، كفي أمرهم. ففهم ابن عبد الصمد، أنه قصده بذلك، فاستعمل الخروج الى الحجّ، وخرج معه من عامه. ثم عاد فأخذته الفتنة الناشئة، بالقيروان وهو به.
أبو الحسن بن سليمان
سكن المهدية، وكان خير فقهائها، في هذه الطبقة. فأخذ على التونسي رحمه الله في نازلته.
عبد الحق بن محمد بن هارون السهمي القرشي
أبو محمد. من أهل صقلية. تفقه بشيوخ القرويين والصقليين. فمن شيوخه بصقلية: أبو بكر ابن أبي العباس، والفقيه أبو بكر بن عبد الرحمن، وابن عمران الفاسي، وعبد الله بن الأجدابي، وأبو عبد الله مكي(8/71)
القرشي. وتفقه مع التونسي والسيوري، وبابن بنت ابن خلدون وغيرهم، وحجّ مرتين. فلقي في إحداهما أبا محمد عبد الوهاب بن نصر، وأبا ذر الهروي، آخر بعد أن أسنّ، وكبر وبعد صيته. فلقي بمكة إذ ذاك إمام الحرمين، أبا المعالي العالم المتكلم. وذلك سنة بضع وخمسين، فباحثه وسأله عن مسائل أجابه عنها أبو المعالي، هي مؤلفة مشهورة في أيدي الناس. وكان عبد الحق يعترف بفضله، ويقول: لولا كبر سني، ما فارقت عتبة منزله. وكان الآخر يجله ويعترف بفضله. سمعت شيخنا أبا القاسم عبد الرحمن بن محمد يقول: - وكان معهما إذ ذاك بالحجاز - إنهما اجتمعا، وحانت الصلاة، فقدم أبو المعالي شافعي المذهب، وتكرر عبد الحق بعد هذا ببلاد مصر، الى أن توفي بها. وكان فقيهاً فهماً صالحاً ديّناً مقدماً. بعيد الصيت، شهير الخير، مليح التأليف. وألف كتاب النكت والفروق لمسائل المدونة، وهو أول من ألف، وهو مفضل عند الناشئين من حذاق الطلبة. ويقال إنه قدم بعد ذلك على تأليفه، ورجع عن كثير من اختياراته(8/72)
وتعليلاته فيه، واستدرك كثيراً من كلامه فيه. وقال: لو قدرت على جمعه وإخفائه لفعلت، أو نحو هذا. وألف أيضاً كتابه الكبير في شرح المدونة، المسمى بتهذيب الطالب، ونبه فيه على ما استدركه، على كتاب النكت. وله استدراك على مختصر البرادعي. وكان له حظ من الأصول والفروع، وله عقيدة رويت عنه. وله جزء في ضبط ألفاظ المدونة. وذكره ابن عمار المتكلم، فقال: إمام مشهور بكل علم متقدم، مدرس للأصول والفروع. وذكره ابن سعدون فقال: كان من الصالحين المتقين فيه قدر أهل العلم، وسكينتهم، وإذعانهم للحق. كثير الإنصاف. وأنشد له ابن القطان من شعره:
أرى فتن الدنيا تزيد وأهلها ... يخوضون بالأهواء في غمرة الجهل
فما أن ترى من مخلص ذي عقيدة ... وما أن ترى من صادق القول والفعل
فيا سوء حالي حين أصبح فازعاً ... ولم أدخر زاداً وما زلت في شغل(8/73)
وله يرثي ابنه عمران:
أراك قريباً واللقاء بعيد ... وجسمك يبلى والزمان يعيد
وما كان يا عمران بي الظن أنني ... أراك مقيماً في التراب تبيد
ولا أنني أبقى وراءَك ساعة ... أعاين موجوداً وأنت فقيد
سأصبر في الدنيا بنيّ لعلني ... ألاقيك في الأخرى وأنت سعيد
وتوفي عبد الحق بالاسكندرية، سنة ست وستين وأربعماية. رحمه الله تعالى.
عبد الجليل بن مخلوف الصقلي
أبو محمد، حدث عن عبد الملك الصقلي. يروي عنه الشيخ أبو محمد عبد القادر القروي. رحمه الله.
أبو محمد المعروف بابن صاحب الخمس
فقيه متكلم أصولي، فاضل مشهور في موضعه. ذكره الميورقي، فقال: كان(8/74)
متكلماً إماماً في علم الأصول، نافذاً في علم الفروع، متورعاً عن الفتيا. قال: وهو أكبر من لقيت بصقلية. وكان شيخنا القاضي أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد المعافري، قد لقيه بها. وكان يثني علي، وحدث عنه، وأخذ عنه.
أبو العباس أحمد بن محمد الجزار
صقلي مشهور. مقدم ببلد. انفرد فيه برئاسة الفتيا والشهرة بالخير والصيانة والديانة. وكان من أهل التحقيق بالفقه والأصول، وبه تفقه أبو القاسم السرقوسي، ومتأخر الصقليين. ولقيه أبو الوليد الباجي، وابن عمار، وغيرهما من الأندلسيين. قرين عبد الحق في رئاسته العلم بصقلية. رحمه الله.
فتوح بن الغزال الباغاني
من أهلها. وكان فاضلاً فقيهاً موسراً خيراً، حسن الطريقة، منظوراً إليه ببلده. رأس على من فيها من أهلها من العلماء، بعلمه وخيره، ومكانته من السلطان. فكان صاحب القيروان يخاطبه في أمر بلده، فحسده على ذلك كل من كانت له بها رئاسة، من عربها(8/75)
وعجمها. فاتفقت كلمتهم على إغراء العامل به، والسلطان مشغول بفتنة القيروان إذ ذاك، المذهلة. فأجابهم ووجه فيه بأمر، فقتله بالرماح بحضرتهم، وبقي مطروحاً يومين، وكان له ابن صغر سنه، ذا علم بالفقه. وانتهبت أمواله، وكشف عياله. وكان فيما انتهبت له كتب بنحو ألفي مثقال. وكان ذلك كله منتصف شعبان من سنة ست وأربعين. وعجل الله بالانتقام من المغرين به. فخرج جماعة منهم، صحبة الفقيه المعروف بابن عفيف، من فقهائها، إعانة للقاء العرب من أهلها، لشحناء وقعت بين العرب والعجم، فتغلبوا على العرب فقتلوهم، إلا خيرهم ابن عفيف. سفره النساء بعد أن أصابه مكروه، ثم سلط الله العجم عليه، فقتلوا العرب وانتقم الله للفقيه، من الجميع.
أبو الحسن بن المقلوب السوسي
عظيم بلده، وشيخ فقهائهم. من أصحاب القابسي، وانتقل الى المهدية، وأخذ عنه.
أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد اللواتي
المعروف بالخرقي، بكسر الخاء، معجمة. من شيوخ هذه الطبقة وفقهائها، ومحدثيها وأسند من كان معه في وقته،(8/76)
مع القابسي، وأبي ذر العروي. وكان ممن يجتمع إليه بالقيروان، ويتناظر عنده مع المشيخة. سمع منه ابن أبي الفرج المدلجي، وأبو القاسم السرقوسي، الصقلي، وأبو حفصل ابن الصقلي، وأبو علي الحسين بن مكي المعروف بحسان المهدوي، وغير واحد. ممن حدث عنه من القرويين النازلين بالأندلس، أبو محمد ابن الخياط.
أبو محمد بن سبحان
ممن كان يدرس بالقيروان من هذه الطبقة، ويجتمع إليه، ويعرف بالفقه من أصحاب القابسي. وممن كان يحلق بها أيضاً في هذا الوقت، من المالكيين ممن يعرف عبد العزيز بن المهدي، والصدفي المالكي، المعروف بالشقاشقي. وكلهم من أصحاب أبي الحسن القابسي، وممن انتفع به، رحمه الله.
أبو عثمان ابن أبي سوار
من أهل قلعة حماد، ومن فقهائها. وتفقه بشيوخ جهته. وأخذ عن عبد الرحيم بن العجوز السبتي، من أهل بلدنا.(8/77)
أبو حفص عمر ابن أبي الحسين ابن الصابوني
من أهل قلعة حماد أيضاً. زعيم فقهائها في وقته. وطال عمره، فانفرد برئاسة جهته، وكان فقيهاً نظاراً محققاً، حسن الفهم جيد الكلام في الفقه.
أبو القاسم ابن أبي مالك
من العرب. وكان سكناه بجهة القلعة. قال ابن شرف في تاريخه: كان يوصف بفقه وورع، وزهادة ومروءة وخير. وورد القيروان رسولاً من قبل ابن حماد، على المعز، سنة ثمان وثلاثين، فخاطب بأبلغ خطاب، وأحسنه، وألطفه. ولقي مسرة من السلطان، ولا أنفق في هذه المدة إلا ماله، ولا اقتات إلا منه.
من أهل المغرب الأقصى
عثمان بن مالك
فقيه فاس، وزعيم فقهء المغرب في وقته، وعنه أخذ فقهاء فاس، وتفقهوا به. منهم أبو بكر ابنه. وأبو بكر ابن الخياط وغيرهم. ولهم عنه تعليق على المدونة. تفقه بفقهاء بلده، على أبي مروان الأزدي. توفي سنة أربع وأربعين، وأربعماية.(8/78)
الحسن القرشي رحمه الله
من فقهاء فاس. ألّف كتاباً سماه التصنيف. رضي الله عنه.
حمزة بن يوسف ابن الحوراء
من فقهاء فاس. وتوفي بها سنة ثمان وثلاثين. وفي هذه السنة توفي عبد الرحمن بن الباز اليحصبي، قاضي فاس. وكان من جلتها وفضلائه ونبهائها.
أيوب بن محمد
رحمه الله. ذكر أنه كان من أهل العلم، والرحلة فيه الى بلاد المشرق. ولقي أبا عمران وغيره من شيوخ القرويين. وكان فقيه المصادقة في وقته.(8/79)
أبو القاسم بن عذرا رحمه الله تعالى
الفقيه. أخو سليمان بن عذرا الجزولي. وكان من أصحاب أوبان بن زلوه، اللمطي، الفقيه. وأخوه سليمان، القائمين بأمر المرابطين بعد عبد الله بن ياسين. وكانت وفاة سليمان سنة اثنتين وخمسين.
تومارت بن تيدي
الفقيه. من الفقهاء الفضلاء، من المصامدة، من هذه الطبقة. رحمه الله.
لمتاد بن نفير اللمتوني رحمه الله
كان من عبادهم وفقهائهم. وهو الذي تولى قتل مسعود بن راقودي، الزناتي، صاحب سجلماسة عند قيام المرابطين، وغررهم إياهم. والمثل يضرب بفتياه في بلاد الصحراء وتعظيم أمرها الى الآن.(8/80)
عبد الله بن ياسين الجزولي
ذو الأنباء العظيمة، والقصص الغريبة، القائم بدعوة المرابطين، المزين لدولتهم، أول خروجهم. كان أولاً من طلبة أوكاد بن زلوه اللمطي، في داره، التي بناها بالسوس للعلم والخير، وسماها دار المرابطين. الى أن مرّ به رجل من جزلوة يعرف بالجوهر بن سكن، ممن كان يحب الخير، منصرفاً من الحج، فرغب الى أوكاد، أن يوجه معه رجلاً من طلبته، ليعلم قومه العلم، إذ كان الدين عندهم قليلاً، وأكثرهم جاهلية، ليس عند أكثرهم غير الشهادتين، ولا يعرف من وظائف الإسلام سواهما. فوجه معه عبد الله بن ياسين، وكان موصوفاً بعلم وخير، فسار معه، وفهم له سيره، ولقومه. وأخذ من الشدة في ذات الله تعالى، وتغيير المناكير وانعزام صاحبه، من لم يقبل الهدى، ولم يزل يستقر تلك القبائل حتى علا عليهم، وأظهروا الإيمان هنالك. ثم جرت له قصص، مع هذا الحاج، الجالب له(8/81)
ولغيره من الشدة، في إقامة الحدود، خاف منها آخراً على نفسه. قيل إنه أفتى بقتل الحاج المذكور، لأمر أوجبه عنده. وخرج عن جزولة الى ملتونة. فقام بأمرهم، قبل أيام تاشفين بن عمر، وقبل أيام يحيى بن عمر، وهو الذي سماه بأمير المسلمين، وأول من تسمى منهم بذلك. فقام بأمره، وجاهد معهم وقلدوه أمرهم. وأنفذ حدوده في أميرهم، فمن دونه. ثم توفي يحيى، فسلك تلك السبيل مع أخيه أبي بكر بن عمر. ولقد ذكر أنه ضرب بالسوط أبا بكر بن عمر وهو إذ ذاك أمير المسلمين، لحق تعين عليه عنده. والكل له مطيع، وسيرته في أموره هناك وتقريراته معروفة، محفوظة. يتأثر عليها مشيخة المرابطين. ويحفظون من فتاويه وأجوبته، ما لا يعدلون عنه. وكان أخذ جميعهم بصلاة الجماعة. وعاقب من تخلف عنها عشرة أسواط، لكل ركعة، تفوته. إذ كانوا عنده ممن لا تصح له صلاة إلا مأموماً، لجهلهم بالقراءة والصلاة. واستقامت للمرابطين بلاد الصحراء بجملتها وما وراءها من بلاد المصامدة، والقبلة، والسوس، بعد حروب كثيرة. ثم خرج بالناس لجهاد برغواطة الكفرة. فغزاهم مع أبي بكر بن عمر، في جمع عظيم من المرابطين، والمصامدة. قيل(8/82)
إنهم كانوا في نحو خمسين ألف راجل، وراكب. فحل ببلادهم تامسنا، وقد فرت برغواطة أمامه في جبالهم وغياطهم. وتقدمت العساكر في طلبهم، وانفرد عبد الله في قلة من أصحابه، فلقيه منهم جمع كثير، فقاتلهم قتالاً شديداً. فاستشهد رحمه الله، وذلك سنة خمسين وأربعمائة. وقد بسطنا أخباره في كتاب التاريخ.
ومن بلدنا
عبد العزيز بن عبد الرحيم بن أحمد بن الفخور الكتامي
كان فقيهاً فاضلاً، خيراً ديّناً، أخذ عن أبيه، وسمع أحمد بن محمد، وعبد الملك بن أحمد ولم تطل حياته. وكان صديقاً لابن أبي مسلم القاضي، وعلى طريقته في الخير، والصيانة. وعليه كان اعتماد ابن أبي مسلم في الفتيا، بعد أبيه. مع ابن يربوع وابن غالب. أراه توفي في نحو ثلاثين وأربعماية. رحمه الله تعالى.(8/83)
وأخوه أبو القاسم عبد الرحمن
من أهل الفقه والصلاح. وذو بيت شهير في العلم بسبته. تقدم ذكر أبيه. وسمع من أبيه وطبقته. وحجّ مع ابنه القاضي، أبي عبد الله محمد، وسيأتي ذكره. وكان أبو القاسم هذا من رؤوس فقهاء سبتة في وقته، ومفتيهم. وعليه دارت الشورى، أيام قضاء محمد بن عتاب، بعد موت المشيخة قبله. وكان حسن الأخلاق، ذا علم وفضل ونباهة. توفي سنة تسع وأربعين وأربعماية.
عثمان بن سعيد بن حمادة
بصري الأصل. سكن سبتة، تقدم ذكر أبيه. وكان عثمان من أعيان فقهائها، ونبهائها. صاحب نظر وكلام وجدال وحجة. وتفقه على طريقة العراقيين. سمعت أنه لم يكن يُقرن في وقته بسبتة، وأنه لم يكن بالمغرب، أقوم منه، بحجة. أُخرج عن سبتة عند دخول برغواطة، بعد الثلاثين للمناقشة التي(8/84)
بين أهلها، وبين قطانها من أهل بصرة المغرب. فسكن غرناطة وله بها عقب.
سعيد بن خلف الله بن إدريس بن سليمان البصري
المعروف بالرياحي. أبو عثمان، سبتي، من أهل العلم والفضل والدين. سمع من عبد الرحيم بن أحمد بن العجوز، ومن أبي عبد الله ابن الشيخ وغيره، من أهل بلده. وأرى له رحلة وسماعات بالأندلس. وكان منقبضاً زاهداً، متبتلاً صاحب سلامة، وعفاف وخمول، وتقشف وعزلة. وكان مقامه ليله ونهاره بمسجده، بزقاق الخير. ولم يكن له عيال أكثر دهره. فكان يلازم المسجد المذكور فيه. يكتب ويفتي، ويقرئ ويؤخذ عنه، فإذا احتاج الى ضرورة الناس، خرج الى دار قريبة له هنالك. وهناك كان يصنع غداءه، ويؤتى به الى المسجد، وكان أكثر دهره، صائماً. وكان الفقيه أبو عبد الله بن عيسى، شيخنا يقول: كنت أراه في الجامع قائماً يصلي، وربما كان يغلق عينيه لئلا يرى ما يشغله. وكان من جملة من يستفتى. وذكر أن أبا عبد الله بن عتّاب، قال لمن سأله بقرطبة، عن مسألة السبتيين: أليس عندكم ابن خلف الله؟ وأثنى عليه. وكتب(8/85)
بيده كثيراً من الدواوين. قل ما رأيت كتاباً مشهوراً في المذهب، إلا وقع إليّ بخط يده، وسوى ذلك من كتب التفسير، وغيرها، انتهى.
قاسم بن محمد بن هشام الرعيني
المعروف بابن المأموني. سبتي شهير البيت بها. أخذ عن عبد الرحيم بن العجوز، وابن الشيخ، وابن يربوع ونظرائهم بسبتة. ورحل الى الأندلس، فسمع من ابن الدبّاغ، وأبي محمد الباجي، ورحل الى المشرق، فحجّ ولقي مسلماً المالكي، وسمع من عبد الوهاب بن منير، وأبي محمد عبد الغني الحافظ، وأبي القاسم بن أبي يزيد، وغيرهم من المصريين. ثم انصرف فسكن المرية. وقد أخبرت أنه سكن إشبيلية أيام القاسم بن حمود، قبل هذا، وكانت له بها مكانة. وقد أخذ عنه جلة من مشيختنا وغيرهم. وحدثوا عنه، منهم أبو المطرف الشعبي، وأبو بكر ابن صاحب الأحباس القاضي، وأبو محمد غانم الأديب المالقي، وابنه حجاج بن غانم الفقيه، وغيرهم. وله كتاب في المناسك، رواه عنه ابنه.(8/86)
من أهل الأندلس
أبو بكر محمد ابن قاضي القضاة أبي العباس
أحمد بن ذكوان، تقدم ذكر أبيه، وجده. قال ابن حيان: قرأ العلم، وسمع الحديث، وعكف على النظر، وتوسع في الكتب، حتى كان الحذّاق يتباهون بمجالسته. وكان قد خطط إثر موت أبيه، وهو شاب بمكانه، فسلك أسد مسالك أبيه، الى أن جاء عما قريب، أجود نسيج وحده. وكان قد جمع أشتات الفضائل مع رفعة المنصب، وعزة القدر والعلم والرحابة والأدب، وعزة النفس، ولم يكن من نمطه بالأندلس، أكثر كتباً منه، ولاه المعتمد خطة المظالم، الخاصية. ثم وليَ القضاء بقرطبة، بعد موت يونس بإجماع أهلها عليه. وكان حميد السيرة، شديد المذهب صليب القناة، حمي الأنف، رامه الرئيس ابن جهور، على أخذ مال الأوقاف، لينفقه على المصالح. فلم يوافقه عليه. وألحّ ابن جهور عليه. فلم يساعده، وسد بابه عن الحكم، فاحتشم منه.(8/87)
وتوفي سنة خمس وثلاثين مخترماً أول كهولته. ولم يكمل أربعين سنة. مولده سنة خمس. فحزن الناس لفقده. وأرغبوا لجنازته. وانهاروا لقبره، مع رئيسهم ابن جهور، ورثاه جماعة منهم، أبو الوليد بن زيدون بقوله:
أعجب بحال السرو كيف تحال ... ولدولة العلياء كيف تدال
لا تفسحن للنفس في شأو المنى ... إن اغترارك بالمنى لضلال
يا قبره العطر الثرى لا يبعدن ... حلو من الفتيان فيك حلال
ما أنت إلا الجفن أصبح طيه ... نصل عليه من الشباب صقال
مَن للعلوم فقد هوى العلم الذي ... وسمت به أنواعها الأغفال
مَن للقضاء يعزّ في أثنائه ... إيضاح مظلمة لها إشكال
وُدّعتَ عن عمر عمرتَ قصيرَه ... بمكارم أعمارهن طوال(8/88)
أبو المطرف عبد الرحمن بن أحمد بن مختار بن سهر الرعيني
قال ابن حيان: كان عفيفاً متصاوناً يقظاناً، ذكياً متصرفاً لمعاني الفقه، بصيراً بالحساب من أهل بيت نباهة، بقرطبة. توفي سنة أربع وأربعين، وهو ابن أربعين سنة. تقدم ذكر أبيه.
أبو الحسن مختار بن عبد الرحمن بن سهر الرعيني القرطبي
قال ابن حيان: كان من كبار رجال قرطبة، جامعاً لفنون العلم، مستقلاً بما تقلده من الحكم. حسن الشارة والبلاغة، أديباً فقيهاً، حاسباً معدلاً، حافظاً جزلاً، عزيز النفس. وليَ قضاء المرية، استجلبه أهلها لذلك، على عادتهم من تدافع القضاء بينهم نفاسة. فلم يزل عليها الى أن مات. ويقال إنه شرب البلاذر، للحفظ، فأورثه سوء مزاج. فلم يزل به الى أن أهلكه سنة خمس وثلاثين، وهو بقرطبة. مولده سنة ثلاث وتسعين.(8/89)
أبو عبد الله محمد بن سعيد بن أبي رعيل
المعروف بابن الرقاق. قرطبي. كان مقدم المفتين، في هذه الطبقة نحو سنة. وكان حسن الخلق، سالم العيب، كثير الغفلة. تؤثر له في هذا الباب، نوادر محفوظة. ولم يكن راسخاً في علمها، ولا ذا تحقيق بها. عمر وتوفي في رجب سنة أربع وخمسين رحمه الله.
سوار بن أحمد بن سوار أبو القاسم
قرطبي. قال ابن حيان: كان معظّماً معززاً، مقبلاً حليماً، حسن البشر والتودد، لا يلقى السلطان، ولا يتصرف له. ولا يأتي الحكم ولا يشهد عندهم، لعلة أوجبت ذلك، ذا معرفة بأخبار بلده، وملوكه. فصيح اللسان حافظاً للمسائل، قائماً على الشروط حسن الخط، يشرح العلم، ويفتي الى أن توفي، رحمه الله، سنة أربع وأربعين،(8/90)
وخلفه ابنه عبد الرحمن وكان حسن الخلق، ذا صياغة وعفة، داخل السلطان. وولي الشورى وقضاء قرطبة، وتوفي سنة أربع وستين.
محمد بن عبد الرحمن بن عقبة
قرطبي، من أهل النفاذ في المعرفة والتفنن في العلم. وليَ الشورى أيام المعتمد، وهو شاب، ثم مات عما قريب. رحمه الله.
أبو القاسم محمد بن محمد بن عبد الله ابن أبي الحارث الثقفي الطائي
قرطبي. صلب الفتيا، عفيف الطعمة، من قسم بالفقه، واقف على كثير من أصول المالكية. قال ابن حيان: من غير استبحارٍ في ذلك. قال: ولم يكن بالرضي، في كل أموره. توفي سنة أربع وثلاثين وأربعماية رحمه الله.(8/91)
أحمد بن سعد بن دنبل الأموي
قرطبي. أبو القاسم ممن له عناية في العلم. أخذ عن أبي عيسى بن الخراز، وابن مفرج، وابن عون الله، والقلعي، وابن زرب. وله مختصر في وثائق ابن الهندي، مستحسن عند أهل الصنعة. وكان ثقة حليماً، معلّماً. قال الخولاني: كان من أهل العلم والفهم، والعدالة. من أصحاب ابن الشقاق وابن دحون، وصديقاً لهما. وعمر وأسنّ. حدث عنه أبو عبد الله الخولاني، وابنه أحمد. توفي سنة خمس وثلاثين وأربعماية. مولده سنة سبع وأربعين وثلاثماية.
عبد الرحمن بن أحمد بن العاصي
المعروف بولد المطورة. قرطبي من أصحاب أبي محمد بن دحون، ويونس القاضي، وممن لازمهما وأفاد منهما. وكان طلبه وهو كبير. فحصل على حظ من علم المسائل،(8/92)
ودربة فيه. وقلد الشورى بقرطبة. وكان المبدأ به آخر وقته عند موت أقرانه. وكان ملازماً للقضاة. توفي سنة أربع وأربعين وأربعماية. رحمه الله.
أبو عمر بن عبد الرحمن بن القرداحي
قرطبي. كان أبوه المنبوذ بهذا اللقلب، رجلاً صالحاً. وكان ابنه أبو عمر هذا، فقيهاً أديباً، حافظاً ذكياً. أحذق أصحاب ابن دحون. قال ابن حيان: ولم يكن بالمرضي في نفسه، توفي وأبوه حي، سنة خمس وعشرين وأربعماية.
أبو عمر أحمد بن عبد الله بن الزبير الثعلبي
كان فقيهاً ذكياً حافظاً. من أصحاب الشيخ ابن دحون، رحمه الله. توفي سنة تسع عشرة.(8/93)
ابن سيد المعروف بابن سرحان المري
له كتاب في الوثائق، وكتاب في فقهها. سماه المفيد. وتوفي سنة نحو الخمسين وأربعماية.
أبو بكر محمد بن مغيث رحمه الله
من أهل طليطلة. وحكماء فقهائها المتقدمين في الفتيا، والعلم. وله كلام حسن في الفقه، ونظر جيد. وكان يذهب الى الحجة والنظر على طريقة أبي عمر ابن الفخار، وكان يفقه أهل طليطلة.
أبو محمد بن الرحوي رحمه الله
من عظماء هذه الطبقة، بطليطلة، والرواية والمفتين بها. وله رحلة أخذ فيها عن القاضي أبي محمد بن أبي زيد بالقيروان. روى عنه كتبه. حدث عنه القاضي، أبو الوليد الباجي، وأبو عمر مغيث، رضي الله عنهما.(8/94)
محمد بن اسماعيل بن محمد بن فورتش
أبو عبد الله. سرقسطي. شهير البيت بها. وفي القضاء والنباهة. قال ابن الفرضي: وهم ينسبون الى بني أمية. وحدثني بعض أصحابنا من أهل بلدهم، أنهم ينسبون الى عذرة. وكان أبو عبد الله أحد فقهاء الثغور، ورجاله، وليَ قضاء بلده. حدث عن أبي عبد الله محمد بن نصر بن عاصم، وأبي عمرو السفاقسي، وحكم بن ابراهيم، وأبي عمر الطلمنكي. حدث عنه ابنه القاضي أبو محمد، والقاضي أبو الوليد الباجي، وأبو عبد الله بن الضراب، وغيرهم.
محمد بن أيوب بن بسام
من أهل مالقة. وكبير فقهائها، ومشاهير بيوت العلم والقضاء. وبقي ذلك فيهم الى وقتنا هذا. وآخر من بقي منهم من أهل النباهة: أبو الحسن جابر بن بسام بن مسلم، كان مفتياً في(8/95)
بلده، في زماننا، نبيلاً عاقلاً، سرياً. توفي بعد عشرين وخمسماية. وأما أكبرهم أبو عبد الله هذا. فكان من كبراء فقهاء بلده، ومشاوريهم ورأساً فيهم، مع ابن بدر و،
ابن أبي الهيثم وأبي علي حسون، وأخذ عن ابن المكوى، وطبقته، وليَ قضاء بلده. ووقفت له على أجوبة نبيلة، وكلام في الفقه، حسن، واستدراك جيد على المفتين في أحكام ابن زياد القاضي. ويحكى عنه أخبار في نبله في أمر دنياه، ظريفة.
أحمد بن محمد بن بدر
من أهل مالقة أيضاً، والمشاورين الكبراء في وقته، وليَ قضاها. رحمه الله.
ابن أبي الهيثم
من أهل مالقة، وكبراء فقهائها، من هذه الطبقة. وولي القضاء، وألّف كلاماً في الفقه، حسناً. ووقفت له على جواب في مسألة غائب، عن ملك، مدة من الزمان. فلما انصرف وجده عند أقوام ادعوا ابتياعه، ولم يثبت لهم ذلك، ولا ظهرت لهم وثيقة به. وطلب منهم(8/96)
صاحب الأرض الغلة. فقال: إذا ثبت الأصل للقائم، وأنه لم يفته في علم شهوده، ولم يعلم شراء من وجد بيده، إلا بقوله. فاختلف فيه أصحاب مالك، واختلف فيه أيضاً قول مالك، فقال، وقالوا: يحمل على الشراء. حتى يستبين خلافه. ويعلم أنه غاصب، ولا غلة عليه. وقالوا أيضاً: هو كالغاصب وعليه الغلة حتى يعلم الشراء. وقع القولان في أمهات كتبه. وخالفه أبو علي حسون في المسألة وقال: لا رجوع. ولا أعلم خلافاً بين مالك وأصحابه، فيمن استحق بيده شيء، لا يعلم تفويته فيه. أن لا رجوع عليه بغلة. وإنما يجب الرجوع بالغلة على الغاصب.
تمت الطبقة بحمد الله، وعونه. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.(8/97)
طبقة عاشرة
بسم الله الرحمن الرحيم. قال القاضي أبو الفضل عياض، رضي الله عنه: ثم انتهى الفقه في المذهب بعد هذه الطبقة، الى طبقة أخرى، بعد هؤلاء.
منهم من أهل المشرق
أبو يعلى أحمد بن محمد العبدي
إمام المالكية بالبصرة، وصاحب تدريسهم، ومدار فتواهم، وذو التواليف في وقته، مذهباً وخلافاً. أخذ عن أبي الحسن ابن هارون التميمي، المالكي. قال شيخنا القاضي الشهيد، أبو علي حسين بن محمد: كان مشهوراً بتقدم وإمامة، وصلاح. وكان(8/99)
يملي في كل جمعة في جامع البصرة، وعلى رأسه مستمليان يسمعان الناس ما يمليه، وبه تفقه مالكية البصرة، أبو عبد الله بن صالح، وأبو منصور بن باقي، وغيرهم. وسمع منه شيخنا القاضي أبو علي، والقاضي أبو بكر عبيد بن عمران النفزاوي، من بلدنا، وعالم عظيم، وقد ذكرته في معجم المشيخة. وتأخرت وفاته. فتوفي فيما بلغني: سنة تسع وثمانين وأربعماية.
أبو الحسن علي بن محمد بن الطيب الواسطي
قال شيخنا القاضي الشهيد: كان شيخاً فاضلاً، فقيهاً مالكياً، وكان خطيب بلده واسط، يفتي بها. وسمعت منه. وكان يتعاطى الحديث. سمع من الشريف: أبي الحسن علي بن عبد الصمد الهاشمي، وغيره. وورد بغداد بعد الثمانين. فغرق في الدجلة، رحمه الله.(8/100)
أبو عبد الله محمد بن أبي الفرج المازري
المعروف بالذكي. صقلي الأصل. وسكن قلعة بني حماد، ثم خرج الى الشرق، فدخل العراق، وسكن أصبهان الى أن مات بها فعداده فيها. وكان فقيهاً حافظاً، مدركاً نبيلاً، فهماً متقدماً في علم المذهب واللسان. متفنناً في علوم القرآن، وسائر المعارف. أخذ عن شيوخ بلده، وأخذ بالقيروان عن السيوري، والخرقي وغيرهما. وحكي أن السيوري كان يقول: ابن أبي الفرج، أحفظ من رأيت. فقيل له: تقول هذا، وقد رأيت أبا بكر بن عبد الرحمن، وأبا عمران الفاسي. فقال: هو أحفظ من رأيت. وكان القاضي أبو عبد الله بن داود يقول: شيخنا الذكي، أفقه من أبي عمران، ومن كل مالكي، حتى فضله على اسماعيل بن إسحاق القاضي. تفقه به في المغرب أبو الفضل ابن النحوي، والقاضي أبو عبد الله بن داود، وحمل عنه أدب كثير، وعلم جمّ، وألّف في علوم القرآن كتاباً كبيراً(8/101)
سماه الاستئلاء. وله تعليق كبير في المذهب، مستحسن، وخرج على أنه ألف سؤال، وعنده تفقه أبو الفضل ابن النحوي، وأبو عبد الله بن داود القاضي، وغيرهما.
بقية أخباره رحمه الله تعالى
ولما صعد الى المشرق ودخل بغداد، وجد مذهب مالك بها قد درس وقل طالبه. فلم يحصل له بالفقه رئاسة هناك. ولتقدم أهل المشرق في صنعة النظر، وحذق الجدل الذي بذلك تقدم أئمتهم، فرس في النحو وعلم لسان العرب، واستصحبه القيم بالخلافة بها. إذ ذاك الملك العادل، أبو الفتح. واستصحبه الى أصبهان، لتدريس بقية الأدب، فذهب علمه بالسنة هناك ضياعاً. ولم يبلغني أن أحداً أخذ عنه هناك، ويقال إن سبب هذا دعاء الشيخ أبي القاسم السيوري عليه. فإنه يحكى أنه كان كثيراً ما يسيء الأدب معه، ويتبع سقطاته، حتى جمع من فتاويه نحو ثلاثين مسألة ادعى عليه الخطأ فيها، فأنكرها الشيخ، وكتب الى أصحابه لا تسمعوا منه فإنه كذاب. فأسقط بهذا،(8/102)
وتوفي بأصبهان بعد الخمس، بعد أن جرت له بها حروب، في مطالبة الغزالي. وكان أحد القائمين عليه هناك، لكنه حمي عنهم فلم يصلوا إلي. والله أعلم بالسرائر. لا إله غيره.
من أهل مصر
أبو محمد التونسي
سكن مصر، وكان فقيهاً مالكياً، وكان مفتي مصر في وقته، أخبرني بخبره شيخنا الأستاذ الخطيب، أبو القاسم خلف بن ابراهيم المقرئ، وقال لي: لقيته بمصر، وأفتى بقطع نخلة لبعض المصريين لإضرارها بما جاوره. فبلغ ذلك من صاحبها مبلغاً، وكان شاعراً. فقال في رثاء نخلته أشعاراً كثيرة. ومال على التونسي فيها وذمه.
يحيى بن حمود الاسكندراني
كان فقيهً في وقته. وحاز رئاستها. وكان بها معظماً، عليه اعتماد أهلها. ذكره أبو الحسن بن برية قال: قال لي يحيى بن حمود الفقيه: هل لك أن تزور هذا الفقيه، أبا بكر محمد بن ابراهيم الحنفي، الرازي؟ فقلت له: لا. لأنه يجاري المذهب. فلما بت رأيته في النوم، كأنه مقبل من البحر يمشي على الماء، وأنا وابن(8/103)
حمود وآخر وقوف على الساحل. فلما وصل إلينا، أقبل على ابن حمود وصاحبه، وسلم عليهما وأعرض عني، فلما أصبحت، استغفرت الله من سوء ظني به، وسرت الى ابن حمود فجئناه زائرين.
محمد بن الفرج بن عبد الله القروي الأنصاري الطليطلي
يعرف بالصواف. سكن مصر وحدث بها. روى عنه شيوخ بلده. وكان قد كتب عن جماعة، منهم: أبو الوليد محمد بن المجيش، بن السمّاك، وأبو العباس بن بندار الرازي، قال الرازي في مشيخته: كان فقيهاً وغلب عليه الرواية. حدث عنه الأمير أبو نصر بن ماكولا، وأبو العباس أحمد بن ابراهيم الرازي، وابنه. وعلي بن مشرف وابن مسلم. وحدثنا عنه شيخنا أبو القاسم ابن لنحاس، المقرئ، القرطبي.(8/104)
من أهل إفريقية
أبو محمد عبد الحميد بن محمد المغربي
المعروف بابن الصائغ. قيرواني. سكن سوسة. أدرك صغيراً أبا بكر بن عبد الرحمن، وأبا عمران. وتفقه بالعطار، وابن محرز والبوني، والتونسي والسيوري، وسمع أبا ذر الهروي، وكان فقيهاً نبيلاً فهماً فاضلاً، أصولياً زاهداً نظاراً، جيد الفقه، قوي العارضة، محققاً. وله تعليق على المدونة. أكمل بها الكتب التي بقيت على التونسي. وبه تفقه أبو عبد الله المازري، المهدوي، وأبو علي ابن البربري، وأبو الحسن الحوفي، وأخذ عنه من أهل الأندلس: أبو بكر بن عطية. وأصحابه يفضلونه على أبي الحسن اللخمي، قرينه، تفضيلاً كثيراً.
جمل من أخباره رحمه الله
لما أراد تميم بن المعز صاحب المهدية، تولية أبي الفضل بن شغلان، قضاءها. شرط ابن شغلان ألا يتقلد ذلك إلا باستجلاب عبد الحميد الى المهدية، ليقوم بفتواها، إذ لا يرى(8/105)
استفتاء أحد من فقهائها، لأمور يتهمها عليهم. فحلف له، فلزم المهدية. ودارت عليه فتواها، فلما شغبت سوسة على تميم، قبض على جماعة، فيهم ولد عبد الحميد، فضربه وأغرمه ستماية دينار. فباع فيها عبد الحميد كتبه. وكان سبب انقباض عبد الحميد عن الفتيا، فلقيه بعد ذلك تميم واعتذر له، فلم ينفعه ولزم الانقباض، والتزام داره، وأظهر التجانز، ولم ينتفع به في شيء، وجعل لا يجالس أحداً، وتحيّل في الخروج الى سوسة، لعلة المعاناة بحسن هوائها. فبقي على حالته تلك ستة أعوام الى أن دخل الإفرنج المهدية، واستباحوا أهلها. ودخل جلّ قصر صاحبها، وذلك سنة ثمانين، فانكسر بعد ذلك تميم، وقلّ حزبه. وهان على الناس، وداراهم. فظهر عبد الحميد وراجع حالته الأولى. وأفتى ودرّس وانتفع به، الى أن مات. حكى أن الفقيه أبا علي حسان المهدوي، قال: رحلت الى سوسة، الى عبد الحميد للأخذ عنه، فلما لقيته رحب بي، ثم قال لي: من الحق ألا أدخرك نصيحة شيخي، الذي أخذت عنه وأفخر به، أبي القاسم التونسي السيوري، الى الآن حيّ. وإنما بيننا وبينه(8/106)
ميسرة كذا، وإن شغلت بالأخذ عني فإن لك منه خير كثير، وإن لقيته لم أفتك أنا إن شاء الله تعالى، بتبليغي عمر مثلي. فانهض إليه، وستدركني إن شاء الله تعالى. فشكرته وخرجت الى السيوري، وخرج مع الشيخ مشيعاً. فلما ودعته، وجئت لأركب، أخذ بركابي، وغلبني على ذلك، وقال لي: أنت تمشي في خير، فعونك عليه فيه أجر، أو نحو هذا. فلقيت السيوري، وأخذت تعليقه، وصحبته مدة، ثم لحقت أملي من عبد الحميد. وتوفي عبد الحميد، رحمه الله سنة ست وثمانين وأربعماية.
أبو إسحاق بن منصور القصي
كان من فقهاء إفريقية، وفضلائها، من أصحاب أبي بكر ابن عبد الرحمن وطبقتهم. وصحب أبا الطيب الخلدوني، وأبا إسحاق التونسي، والسيوري، وغيرهم. أثنى لنا عليه بالعلم البارع والدين، القاضي أبو عبد الله بن داود، وذكر لنا أن شيخه أبا عبد الله الذكي، كان يثني عليه كثيراً. ويقول: ما اجتمع لأحد من أهل إفريقية، ما اجتمع لأبي إسحاق، أو كما قال: أراه سكن طرابلس، وأصله من قفصة. وكان بها مدة.(8/107)
أبو محمد عبد الله بن عبد العزيز التميمي
يعرف بابن غرور. نزل المهدية من أصحاب أبي بكر، وأبي عمران، وكان أحد الأربعة الفقهاء، الذين خرجوا من القيروان، بعد خرابها. وهم عبد الحميد المقرئ، وأبو الحسن اللخمي، وأبو محمد هذا، وأبو الرجال المكفوف. وكان أبو محمد هذا، فقيهاً فاضلاً، مفتياً. به تفقه ابن حسان والقاضي ابن اللبيدي، وغير واحد. وكان رأس الفقهاء بالمهدية، في وقته. وكان من أقيم الناس على كتب المدونة، وأحثهم على أسرارها، وإثارة الخلاف من آثارها. وكان الفقيه حسان يرفعه جداً. ويصفه بفهم عظيم. وكان من أهل العبادة، والفضل. يقال إنه أفتى ابن نيف وعشرين، وأزيد، وطلب على القضاء فامتنع. توفي فيما أظن، في نحو ثلاث وسبعين رحمه الله.(8/108)
أبو الحسن علي بن محمد الربعي
المعروف باللخمي. وهو ابن بنت اللخمي. قيرواني، نزل صفاقس، تفقه بابن محرز، وأبي الفضل ابن بنت خلدون، وأبي الطيب، والتونسي، والسيوري، وظهر في أيامه. وطارت فتاويه. وكان السيوري يسيء الرأي فيه كثيراً، لطعن عليه. وكان أبو الحسن فقيهاً فاضلاً ديّناً مفتياً متفنناً، ذا حظ من الأدب والحديث، جيد النظر، حسن الفقه، جيد الفهم. وكان فقيه وقته، أبعد الناس صيتاً في بلده. وبقي بعد أصحابه، فحاز رئاسة بلاد إفريقية جملة. وتفقه بجماعة من الصفاقسيين، وغيرهم. أخذ عنه أبو عبد الله المازري، وأبو الفضل ابن النحوي وشيخنا أبو علي الكلاعي، وعبد الحميد الصفاقسي، وعبد الجليل بن هور وغير واحد. وله تعليق كبير على المدونة سماه بالتبصرة، مفيد حسن، وهو مغرى بتخريج الخلاف في المذهب واستقراء الأقوال، وربما اتبع نظره فخالف المذهب فيما ترجح عنده فخرجت اختيارته في الكثير عن قواعد المذهب. وكان حسن الخلق مشهور المذهب، توفي سنة ثمان وسبعين رحمه الله.(8/109)
أبو حفص عمر العمودي
قيرواني، نزل صفاقس، وكان فقيهاً أديباً مفتياً من حفّاظ المدونة والقائمين عليها، ومن حفاظ الشعر أخذ عن أبي بكر وأبي عمران وصحب السيوري. ذكر بعض أصحابه، قال: لما ودعني الفقيه أبو حفص أنشدني:
هيّجوا للبين برقاً فلمع ... وأثاروا دمع عيني فاندفع
ودعوا قلبي فلما جاءهم ... أوقفوه بين يأسٍ وطمع
أبو سعيد القصار
قيرواني، من فقهائها. من أصحاب أبي بكر بن عبد الرحمن وأبي عمران وكان أكثر - فيما يقال - فقهه في البيوع والأقضية، رحمه الله تعالى.
أبو الرجال المكفوف
قيرواني، فقيه فاضل، أراه سكن المهدية، رحمه الله تعالى.(8/110)
مكي المعروف باللياني
يكنى فيما أظن بأبي يحيى. أخذ عن السيوري وأبي إسحاق رضي الله عنه. وكان فقيهاً توفي بعد الثمانين، رحمه الله.
أبو عبد الله محمد السلمي
قيرواني، سكن المهدية آخراً. سمع أبا ذر الهروي، وأبا عمران الفاسي، سع منه
أبو بكر ابن عطية، رحمه الله.
أبو عمران موسى
المعروف بالشعري مهدوي، من فقهائها ومفتيها، وقتله الإفرنج عند دخولهم المهدية سنة ثمانين رحمه الله.(8/111)
أبو بكر بن أبي طاعة
من أهل العلم من أصحاب أبي عمران الفاسي رحمه الله.
أبو محمد عبد الله بن حسن الجبيري
بجيم مكسورة بعدها ياء باثنتين من أسفل وباء مكسورة، وأراه مهدوي من فقهائها ومفتيها، وكان له معرفة بالحديث ورجاله. وتوفي الجبيري في سنة اثنتين وثمانين.
أبو عبد الله محمد بن سعدون بن علي بن بلال القروي
تفقه بالقيروان على جماعة، وسمع من شيوخها كابن الأجدابي وأبي بكر بن عبد الرحمن وأبي علي الزيات، والبوني واللبيدي، ومكي القرشي، وأبي سعيد ابن الفاسي، والسيوري، وأبي عبد الله المعروف بالمالكي وغيرهم. ثم حجّ فسمع بمكة من أبي صخر، وأبي بكر المطوعي، وأبي ذر الهروي، وسمع بمصر من ابن أبي ربيعة وابن الطبّال، وأبي الحسن بن منير، وأبي العباس بن(8/112)
النحاس وابن باشاد. وسمع أيضاً من جماعة غير هؤلاء. وكان فقيهاً حافظاً للمسائل نظّاراً فيها على مذهب القيروانيين، حسن اللسان، وألّف إكمال التعليق للتونسي على المدونة، واشتغل بالتجارة فطاف ببلاد المغرب والأندلس، وأخذ عنه هناك الناس، وسمعوا منه كثيراً ولم يكن له أصول حسنة. سمع منه بالأندلس جماعة من شيوخها أبو علي الحافظ، وأبو محمد سفيان بن العاصي، ومن غيرهم ابنا مفوز وابنا مدير في آخرين، وسمع منه ببلدنا شيخنا القاضي أبو عبد الله التميمي، وأبو علي النحوي وغيرهما. وتوفي بأغمات في جمادى الأولى سنة ست وثمانين وأربعماية. مولده عام ثلاثة عشر.(8/113)
أبو بكر
أبو عبد الله بن يونس، صقلي. وكان فقيهاً فرضياً حاسباً أخذ عن القاضي أبي الحسن الحصائري، وصنف في الفرائض وشرحاً كبيراً للمدونة عليه اعتماد الطالبين بالمغرب للمذاكرة.
أبو الحسن علي بن عبد الجبار
المعروف بابن الكوني من فقهاء صقلية، وكان نبيلاً أديباً وهو القائل يرثي صقلية عند الحادث بها من الفتنة:
كانت وكنّا بها في ... ظل عيش ناعم رطب
مدّ عليها الأمن أستاره ... فسار ذكراها مع الركب
لم يشكروا نعمة ما خولوا ... فبدلوا المالح من العذب(8/114)
أبو حفص عمر بن عبد النور
يعرف بابن الحكّار، صقلي، فاضل عالم نظّار محقق حسن الكلام والتأليف، أديب شاعر حسن القول. وله في المدونة شرح كبير نحو ثلاثماية جزء، وانتقد على التونسي، ألّف مسألة واختصر كتاب التمامات. أنشد له جامع شعر الصقليين قوله:
تأملت علم المرتضين أولي النهى ... فأفضلهم من ليس في جده لعب
ومن فقهه مستنبط من حديثه ... رواه بتصحيح الرواية وانتخب
وما مالك إلا الهدى وإذا اهتدى ... به أمم من سائر العجم والعرب
حكي أن بعض شباب فقهاء صقلية وحفّاظها وهو أبو القاسم ابن الحداد وكان ممن يعتني، تقدم مرة بين يدي الشيخ أبي حفص رحمه الله، فأصله له قرنه أو نعله، فقال له: اصفعني به يا أبا القاسم ولا تفتني في دين الله عز وجلّ، رضي الله عنهم جميعهم.(8/115)
ابن فروج
صقلي، موصوف بعلم، له تأليف رتّب فيه تمهيد البرادعي على نسق كتاب المدوّنة رأيت له أسماء تعاليق وتصانيف كثيرة، رحمه الله.
أبو العباس أحمد بن محمد الكلاعي
أحد فقهاء صقلية ونبلائها من هذه الطبقة، وكان أديباً شاعراً ظريفاً رحمه الله.
ابن القابلة
صقلي، من فقهاء صقلية رحمه الله تعالى.(8/116)
من أهل الأندلس
القاضي أبو الوليد الباجي
واسمه: سليمان بن خلف بن سعدون بن أيوب بن وارث الباجي أصلهم من بطليوس. ثم انتقلوا الى باجه الأندلس، ثم سكنوا قرطبة واستقر أبو الوليد بشرق الأندلس، أخذ بالأندلس، عن ابن الرحوي وأبي الأصبغ ابن أبي درهم وأبي محمد مكي وأبي شاكر القبري خاله ومحمد بن اسماعيل بن فورتش وأبي سعيد الجعفري والقاضي يونس بن مغيث. ورحل سنة ست وعشرين أو نحوها - فيما قاله الجياني - فأقام بالحجاز مع أبي ذر ثلاثة أعوام حجّ فيها أربع حجج. كان يسكن معه بالسراة ويخدمه ويتصرف له في حوائجه، وسمع هناك أيضاً من أبي بكر المطوعي وأبي بكر ابن سحنون وابن صخر وابن أبي محمود الورّاق. ورحل الى بغداد فأقام بها ثلاثة أعوام يدرس الفقه ويسمع الحديث عن أئمتها فلقي بها جلة من الفقهاء كأبي الفضل بن عمروس إمام المالكية وأبي الطيب الطبري وأبي إسحاق طاهر بن عبد الله الشيرازي الشافعي وأبي عبد الله(8/117)
الدامغاني والصيمري رئيس الحنفية، وسمع بها من أبي إسحاق البرمكي وابن العشاري وابن قشيش النحوي وغلام الأبهري وأبي عبد الله الصوري، وأبي بكر الخطيب، وأبي النجيب الأرموي، وأبي الحسن العتيقي وأبي الفتح الطناجري وابن حمامة وأبي علي العطار وأبي القاسم التنوخي وأبي الحسن ابن زوج الحرة وأبي منصور السوّاق وأبي رومة وغيرهم. ودخل الشام فسمع بها من ابن السمسار وطبقته، وسمع بمصر من أبي محمد بن الوليد وغير واحد، ودخل الموصل فأقام بها عاماً يدرس على السمناني الأصول، وحاز علمً كثيراً، قال الجياني: وكان مقامه بالمشرق نحو ثلاثة عشر عاماً وجلّ قدره بالشرق والأندلس، وسمع منه بالمشرق نحو ثلاثة عشر عاماً وحاز الرئاسة بالأندلس، فأخذ عنه بها علم كثير وسمع منه جماعة. وتفقه عليه خلق. فممن تفقه عنده وسمع منه الإمام أبو بكر الطرطوشي وابنه أبو القاسم، وأبو محمد بن أبي قحافة، وأبو الحسن بن مفوز وغيرهم، وشيخنا القاضي أبو(8/118)
عبد الله بن شبرين، وسمع منه من شيوخنا سواه وأبو علي الحافظاني، والقاضي أبو القاسم المعافري من أهل بلدنا والفقيه أبو محمد ابن أبي جعفر، وأبو بحر سفيان بن العاصي وغير واحد. وكان أكثر تردد أبي الوليد بشرق الأندلس ما بين سرقسطة وبلنسية ومرسية ودانية ولم يكن بالأندلس قط أتقن منه للمذهب، وبلغني أن أبا محمد ابن أبي جعفر وأبا محمد بن حزم الظاهري على بعد ما بينهما كان يقول: لم يكن للمالكية بعد عبد الوهاب مثل أبي الوليد، رحمه الله.
مكانته من العلم وثناء الجلة عليه
كان أبو الوليد رحمه الله، فقيهاً نظّاراً محققاً راوية محدثاً، يفهم صيغة الحديث ورجاله، متكلماً أصولياً فصيحاً شاعراً مطبوعاً، حسن التأليف، متقن المعارف. له في هذه الأنواع تصانيف مشهورة جليلة، ولكن أبلغ ما كان فيها في الفقه وإتقانه، على طريق النظّار من البغداديين وحذّاق القرويين والقيام بالمعنى والتأويل، وكان وقوراً بهياً مهيباً جيد القريحة حسن الشارة والذي ذكره الأمير أبو نصر ابن ماكولا في(8/119)
إكماله فقال: هو من باجة الأندلس، متكلم فقيه أديب شاعر. رحل الى المشرق فسمع بمكة من أبي ذر، وبالراق من البرمكي وطبقته، ودرس الفقه على الشيرازي والكلام على السمناني، ورجع الى الأندلس يروي، ودرس وألّف، وكان جليلاً رفيع القدر والخطر، وقد روى عنه الخطيب أبو بكر، وسألت عنه شيخنا قاضي قضاة الشرق أبا علي الصدفي الحافظ صاحبه فقال لي: هو أحد أئمة المسلمين لا يسأل عن مثله ما رأيت مثله، وكان القاضي أبو عبد الله بن شبرين يثني عليه كثيراً، وكذلك كان شيخنا أبو إسحاق ابن جعفر الفقيه وقاضي القضاة أبو محمد بن منصور يربون به جداً، ويفضلونه ويفضلون كتبه وذكره الإمام أبو بكر الطرطوشي فقال: ذكر أستاذنا أبو الوليد الباجي قال لي القاضي: لما ورد علينا بغداد أبو القاسم ابن القاضي أبي الوليد سرت معه الى شيخنا قاضي القضاة أبي بكر الشاشي وكان ممن صحبه أبو الوليد قديماً ببغداد وعلّق عنه فلما دخلنا عليه قلت له: أعزك الله هذا ابن شيخ الأندلس فقال: لعله ابن الباجي. فقلت نعم، فأقبل عليه.(8/120)
ذكر جمل من أخباره رحمه الله
وكان في رحلته وأول وروده الأندلس مقلاً من دنياه حتى احتاج في سفره الى القصد بشعره، واستأجر نفسه مدة مقامه ببغداد فيما سمعته مستفيضاً لحراسة درب، فكان يستعين بإجارته على نفقته، وبضوئه على مطالعته. ثم ورد الأندلس، وحاله ضيّقة فكان يتولى ضرب ورق الذهب للغزل والأنزال ويعقد الوثائق، فلقد حدثني ثقة من أصحابه - والخبر في ذلك مشهور - أنه كان حينئذ يخرج إلينا إذا جئنا للقراءة عليه وفي يديه أثر المطرقة وصدأ العمل، الى أن فشا علمه وعرف وشهرت تواليفه، فعرف حقه وجاءته الدنيا وعظم جاهه وقرّبه الرؤساء وقدّروه قدره، واستعملوه في الأمانات والقضاء وأجزلوا صلاته. فاتسعت حاله وتوفر كسبه حتى مات عن مال وافر خطير وكان يصحب الرؤساء ويرسل بينهم ويقبل جوائزهم، وهم على غاية ابرّ، فكثر القائل فيه من أجل هذا، وليَ قضاء مواضع من الأندلس تصغر عن قدره، كأريولة وشبهها، وكان يبعث إليها(8/121)
خلفاءه وربما قصدها المرة بنفسه ووجد عند وروده بالأندلس لابن حزم الداودي، صيتاً عالياً وظاهريات منكرة، وكان لكلامه طلاوة، وقد أخذت قلوب الناس، وله تصرف في فنون تقصر عنها ألسنة فقهاء الأندلس في ذلك الوقت، لقلة استعمالهم النظر وعدم تحققهم به، فلم يكن يقوم أحد بمناظرته، فعلا بذلك شأنه، وسلموا الكلام له، على اعترافهم بتخليطه، فحادوا عن مكالمته. فلما ورد ابن الوليد الأندلس وعنده م الإتقان والتحقيق والعرفة بطرق الجدل والمناظرة ما حصله في رحلته، أمله الناس لذلك، فجرت له معه مجالس كانت سبب فضيحة ابن حزم وخروجه من ميورقة، وقد كان رأس أهلها، ثم لم يزل أمره في سفال، فيما بعد. وقد ذكر أبو الوليد في كتاب الفرق من تأليفه من مجالسته تلك ما يكتفي به من وقف عليه، ولما ألّف أبو الوليد رسالته المسماة بتحقيق المذهب من أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب وكان أصل ذلك أنه قرئ عليه بدانية في كتاب البخاري، حديث المقاضاة فمرّ في حديث إسرائيل فتكلم أبو الوليد على الحديث وذكر قول من قال بظاهر(8/122)
هذا اللفظ فأنكره عليه ابن الصائغ وكفّره بإجازته الكتابة على النبي الأمي، وأن هذا تكذيب للقرآن وأعلى ما حمل من أشياعه في الإنكار والشناعة، وقبّحوا عند العامة ما أتى به وأكثر القالة فيه من لم يفهم غرضه، حتى أطلق عليه اللعنة غلاتهم وضمنوا البراءة منها، أشعارهم، وحتى قام بذلك بعض خطبائهم في الجمع وفي ذلك يقول عبد الله بن هند الشاعر:
برئت ممن شرى دنيا بآخرة ... وقال إن رسول الله قد كتبا
- في نظمه - أخبرني الثقة أنه سمع خطيب دانية ضمّنها خطبته يوم الجمعة فأنشدها على رؤوس الناس رحمه الله، فألف هذا الكتاب وبيّن فيه وجوه المسألة لمن لم يفهمها وأنها لا تقدح في المعجزة كما لم تقدح القراءة في ذلك بعد أن لم يكن قارئاً، بل في هذا معجزة أخرى. وأطال في ذلك الكلام وذكر من قال بهذا القول من العلماء، وكان المقرئ أبو محمد ابن سهل من أشدّ الناس عليه في ذلك. ولم ينكر عليه في ذلك، ولم ينكر عليه أولو التحقيق في العلم والمعرفة بأسراره وخفائه(8/123)
شيئاً من قوله، وكتب بالمسألة الى شيوخ صقلية وغيره فأنكروا إنكارهم عليه وأثنوا عليه وسوغوا تأويله، منهم: ابن الجزار ممن ذكرنا ثناءه عليه في الباب المقدم ذكره.
ذكر تصانيفه
من ذلك في الفقه والمعاني كتابه المنتقى في شرح الموطأ عشرين مجلداً لم يؤلف مثله، وكان ابتدأ كتاباً أكبر منه بلغ فيه الغاية سماه الاستيفاء في هذا المعنى، لم يصنع مثله، في مجلدات، ثم اختصر من المنتقى كتاباً آخر سماه الإيماء خمس مجلدات وكتاب السراج في عمل الحجّاج في مسائل الخلاف كبير لم يتمّ، والكتاب المقتبس في علم مالك بن أنس لم يتم أيضاً، وكتاب المهذّب في اختصار المدونة، وهو اختصار حسن، وشرح المدونة لم يتم ومختصر المختصر في مسائل المدونة ومسألة مسح الرأس، ومسألة غسل الرجلين ومسألة اختلاف الزوجين في الصداق وغير ذلك، ومن تواليفه في الحديث: كتاب اختلاف الموطآت، وكتاب التعديل والتريح لمن خرج عنه البخاري في الصحيح. ومن كتبه في الأصول والكلام، كتاب التسديد الى معرفة طريق التوحيد، وكتاب(8/124)
أحكام الفصول في أحكام الأصول، وكتاب الإشارة في الأصول، وكتاب الحدود، وكتاب تفسير المنهاج في ترتيب طرق الحجاج وتواليفه كثيرة مفيدة، ككتاب سنن الصالحين وسنن العائدين، وكتاب سبيل المهتدين، وكتاب تهذيب الزاهر لابن الأنباري، وتفسير القرآن لم يتم، والناسخ والمنسوخ لم يتم، وكتاب الأنصار لأعراض الأئمة الأخيار، وغير ذلك.
بقية أخباره ووفاته
وكان مطبوع القول، شغفاً بالشعر، وقد ألّف أبو القاسم ابنه شعره. ومن شعره المشهور، ما أنشده أبو بكر الخطيب البغدادي. قال أنشدني أبو الوليد سليمان بن خلف لنفسه رحمه الله:
إذا كنت أعلم علماً يقيناً ... بأن جميع حياتي كساعة
فلم لا أكون ضنيناً بها ... وأجعلها في صلاح وطاعة(8/125)
ومما أنشدناه له ثقة من أصحابه يرثي ابنه وأخاه:
رعى الله قبرين استكانا ببلدة ... هما أسكناها في السواد من القلب
لئن غيبا عن ناظري وتبوّءا ... فؤادي لقد زاد التباعد في القرب
يقر لعيني أن أزور رباهما ... وألصق مكنون الترائب بالترب
وأبكي وأُبكي ساكنيها لعلني ... سأنجد من صحب وأمطر من سحب
فما ساعدت ورق الحمام أخا أسى ... ولا روحت ريح الصبا عن أخي كرب
ولا استعذبت عيناي بعدهما كرىً ... ولا ظمئت نفسي الى البارد العذب
أحن ويثني اليأس نفسي عن الأسى ... كما اضطر محمود الى المركب الصعب
وكان له ابنان أحدهما أبو القاسم خلف مجلسه، وسيأتي ذكره والأخر أبو الحسن محمد، توفي في حياة أبيه بسرقسطة، وكان نبيلاً ذكياً مرجواً، فرثاه أبوه بمراثي شجية، وكان له إخوة جلّة نبلاء، وبيته بيت علم ونباهة قال أبو علي الجياني: مولده في ذي القعدة سنة ثلاث وأربعماية،(8/126)
وتوفي بالمرية سنة أربع وسبعين لسبع عشرة خلت من رجب، وكان جاء الى المرية سفيراً بين رؤساء الأندلس يؤلفهم على نصرة الإسلام، ويروم جمع كلمتهم مع جنود ملوك المغرب المرابطين على ذلك، فتوفي قبل تمام غرضه رحمه الله.
أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله
اسمه: يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري الحافظ شيخ علماء الأندلس وكبير محدّثيها في وقته، وأحفظ من كان بها لسنة مأثورة، قد تقدم ذكر أبيه، رحل عن وطنه قرطبة في الفتنة فكان بغرب الأندلس، ثم تحول منها الى شرق الأندلس فتردد فيه ما بين دانية وبلنسية وشاطبة، قال شيخنا أبو علي الغساني، رحمه الله: أبو عمر رحمه الله من النمر بن قاسط في ربيعة. من أهل قرطبة طلب بها وتفقه عند أبي عمر بن المكوى وكتب بين يديه ولزم أبا الوليد ابن الفرضي الحافظ وعنه أخذ كثيراً من علم الرجال(8/127)
والحديث وهذا الفن كان الغالب عليه، وكان قائماً بعلم القرآن، وسمع من سعيد بن نصر، وعبد الوارث بن سفيان، وأحمد بن قاسم البزاز، وأبي محمد بن أسد وخلف بن سهل، وابن عبد المؤمن، وأبي زيد عبد الرحمن بن يحيى وسعيد بن القزاز، وأبي زكريا الأشعري، وأبي عمر الباجي، وأبي القاسم ابن أبي جعفر، وابن الجسور. وأجازه أبو الفتح بن سَيبُخت، وعبد الحميد بن سعيد الحافظ، ولم تكن له رحلة. سمع منه عالم عظيم فيهم من جلة أهل العلم المشاهير أبو العباس الدلائي، وأبو محمد بن أبي قحافة وسمع منه أبو محمد ابن حزم، وأبو عبد الله الحميدي، وطاهر ابن مفوز. ومن شيوخنا أبو علي الغساني، وأبو بحر سفيان ابن العاصي، وهو آخر من حدث عنه من الجلة، وكان سنده مما يتنافس فيه.
ذكر الثناء عليه رحمه الله
قال أبو علي الجياني: وصبر أبو عمر على الطلب ودأب فيه ودرس وبرع براعة فاق فيها من تقدمه من رجال الأندلس، وعظم شأن أبي عمر بالأندلس وعلا ذكره في الأقطار، ورحل إليه الناس وسمعوا منه، وألف تواليف مفيدة طارت في الآفاق. قال أبو علي: سمعت أبا عمر يقول: لم يكن ببلدنا(8/128)
أفقه من قاسم بن محمد بن قاسم، وأحمد بن خالد. قال أبو علي وأنا أقول إن أبا عمر لم يكن دونهما ولا متخلفاً عنهما. وكان مع تقدمه في علم الأثر وبصره بالفقه ومعاني الحديث، له بسطة كثيرة من علم النسب والخبر. وذكره القاضي أبو الوليد الباجي في كتاب الفرق ولم يكن الذي بينهما بالحسن لتجاذبهما سؤدد العلم في وقتهما.
ذكر تصانيفه رضي الله عنه
ألّف أبو عمر رضي الله عنه على الموطأ، كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد وهو عشرون مجلداً، وهو كتاب لم يضع أحد مثله في طريقه، وكتاب الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار، وكتاب التقصي لحديث الموطأ، وكتاب الاستيعاب لأسماء الصحابة، وكتاب جامع بيان العلم، وكتاب الإنباه على قبائل الرواه، وكتاب الانتقاء في فضائل الثلاثة الفقهاء مالك والشافعي، وأبي حنيفة رضي الله عنهم، وكتاب البيان عن تلاوة القرآن، وكتاب بهجة المجالس وأنس المجالس، وكتاب أسماء المعروفين(8/129)
بالكنى سبعة أجزاء، والكتاب الكافي في الفقه في الاختلاف وأقوال مالك وأصاحبه رحمهم الله عشرون كتاباً والدرر في اختصار المغازي والسير، وكتاب القصد والأمم في التعريف بأنساب العرب والعجم وأول من تكلم بالعربية من الأمم. والشواهد في إثبات خبر الواحد. والبستان في الإخوان. والأجوبة الموعبة في الأسئلة المستغربة، وكتاب الاكتفاء في القراءة، وكتاب التجويد واختصار التمييز لمسلم، وكتاب الإنصاف فيما في بسم الله من الخلاف، واختصار تاريخ أحمد بن سعيد. والإشراف في الفرائض، وغير هذا من كتبه الصغار ولأبي عمر في وصف كتاب التمهيد:
سهير فؤادي من ثلاثين حجة ... وصاقل ذهني والمفرج عن همي
بسطت لكم فيه كلام نبيكم ... لما في معانيه من الفقه والعلم
وفيه من الآداب ما يهتدى به ... الى البرّ والتقوى وينهى عن الظلم
مات بشاطبة ليلة الجمعة، سلخ ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وأربعماية عن خمس وتسعين سنة وخمسة أيام، رحمه الله.(8/130)
أبو عبد الله محمد بن عتاب بن محسن
قرطبي. شيخ المفتين بها في هذه الطبقة، تفقه بأبي عمر ابن الفخار، وأبي الأصبغ القرشي، وبالقاضي ابن بشير، صحبه أزيد من اثني عشر عاماً. وكتب له في مدة قضائه، وروى عن القنازعي، وابن وافد، وابن حوبيل، وأبي علي الحداد، وأبي محمد بن بنوش، وأبي عبد الله بن نبات، وأبي أيوب بن عمران، وسعيد بن رشيق، وسعيد بن سلمة، والشنتجالي والطلمنكي، وأبي محمد مكي، والقاضي يونس، وخلف الله، وخلف بن يحيى، والطليطلي، وعبد الرحمن بن الأشج، وأبي الطيب بن الحديدي، والباغاني المقرئ، وأحمد بن ثابت الواسطي، ومحمد بن عمر بن عبد الوارث. وأجازه أبو ذر ولم تكن له رحلة، تفقه به الأندلس. وسمعوا مه كثيراً. فمن تفقه به، وسمع منه ابناه والقاضي بن سهل، وأبو لحسن بن حمدين وأبن جعفر بن رزق الله رحمهم الله.(8/131)
ذكر مكانه من العلم والثناء عليه وفضله
قال القاضي أبو الأصبغ عيسى بن سهل، وذكره: كان إماماً جليلاً، متصرفاً في كل باب من أبواب العلم. أحد الفقهاء بالأندلس، حافظاً نظّاراً مستنبطاً بصيراً بالأحكام والعقود، معه كان أكثر تفقهي. وصحبته طويلاً ورويت عنه كثيراً. وأجاز لي جميع ما رواه. وذكره أبو علي الغساني الحافظ شيخنا رحمه الله. فقال: كان من جلة الفقهاء وأحد العلماء الأثبات، وممن عني بسماع الحديث دهره وقيده فأتقنه. وتقدم في المعرفة بالأحكام، وعقد الشروط وعللها فاق في ذلك أقرانه. وكان على سنن أهل الفضل، جزل الرأي، حصيف العقل، على منهاج السلف المتقدم. وقال الفقيه أبو مروان بن مالك، وقد رأى له كلاماً استحسنه: لو كان هذا الكلام لأحد من المتقدمين، لعدّ في فضائله. وذكر غيره: أنه كان متواضعاً يتصرف راجلاً ويحمل خبزه الى الفرن بنفسه، ويتولى شراء حوائجه ويحملها الى داره بنفسه، فإذا لقيه من يكبره من طلبته وغيرهم، وسأله أن يكفيه مؤنتها وحملها قال له: لا أفعل، الذي يأكلها يحملها. وهو مع(8/132)
ذلك في عيون الناس وقلوبهم النجم رفعة وجلالة، حتى رئيس البلد ابن جهور ينزل الى مسجده في الأحيان، لمهم الأمور، ويأخذ فيها رأيه هناك، وربما جمع له بقية فقهاء الشورى، فيقضي قضاءه، وينفذ أحكامه هناك. سمعت شيخنا أبا محمد عبد الرحمن ابن أبي عبد الله بن عتاب يقول: كان أبي يقول لا غنى للطالب عن الإجازة، وإن سمع الديوان أو الحديث قراءة على المحدث أو منه لجواز السهو والغفلة والسنة على أحدهما، قال: وعلى هذا اعتمدت في روايتي. وروى لنا عنه أنه كان لا يزيد في الرد إذا شمت عند العطاس يرحمك الله على قوله: وإياكم. وأريد أبو عبد الله بن عتاب على القضاء غير مرة، فامتنع ولم يقدر عليه بشيء. طلبه أهل طليطلة، وأهل المرية لقضاء بلدهم على عادتهم معاً في كون القضاء عندهم في غير بلدهم للتنافس الذي كان بين أهل هذين البلدين في القضاء، فكانوا يطلبونه من غيرهم، فطلب أهل هذين البلدين ابن عتاب لذلك، وبذلوا له ليقبل ذلك الرزق الواسع فامتنع، ولما مات(8/133)
القاضي بقرطبة سراج بن عبد الله، رغبه ابن جهور بنفسه ولاطفه جهده، فلم يقدر عليه، وحلف بحضرته ألا يلي وقال: ما إبايتي إلا إباية ضعف وقوة، لا من وهن وطاعة. وحكى أنه كان خلّف صندوقاً مقفلاً قد أوصى ألا يفتح إلا بعد موته، فلما مات، فتح فإذا فيه أربعة كتب من أربعة رؤساء: ابن عباد وابن الأفطس وبن صمادح وابن هود، كل منهم يدعوه الى نفسه وتقلّد القضاء ببلده، وقد كتب على كل كتاب منها: تركت هذا لله. وسأله رجل عن مسائل انتخبها وأعدها فأجابه أحسن جواب. فأثنى عليه الرجل فقال له: يا ابن أخي لا تتخذ هذا عادة، فلولا أني طالعتها البارحة ما أجبتك بمثل هذا أو كما قال. توفي ليلة الثلاثاء لعشر بقين من صفر سنة اثنتين وستين وأربعماية. وقد نيف على الثمانين سنة. ولد لسبع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وثمانين - ذكر ذلك الجياني - رحمه الله.(8/134)
أبو عمر ابن القطان رحمه الله
اسمه: أحمد بن محمد بن عيسى بن هلال. قرطبي. بعيد الصيت في فقهائها، وعليه وعلى أبي عبد الله بن عتاب دارت الفتيا بها، الى أن فرّق الموت بينهما. وكان لا يزال الذي بينهما متباعداً ولا يزال يخالف ابن عتاب إذ كان متقدماً عليه لسنة. وكان ابن عتاب مع سنه يفوقه بتفننه، وثبوت معرفته، وهذا ببيانه وقوة حفظه، وجودة استنباطه. وكان قائماً بالشروط بصيراً بعقدها، تفقه بأبي محمد بن دحون وابن الشقاق وابن حوبيل. وسمع القاضي يونس، وشور في أيام ابن بشر القاضي. قال ابن حيان: وكان أحفظ الناس للمدونة والمستخرجة، وأبصر الناس بالتهدي الى مكنونهما وأبعد أصحابه عن مكروه، وبأبي عمر تفقه القرطبيون،(8/135)
وابن مالك وابن الطلاع، وأحمد وابن دحون وابن رزق ونمطهم. وروى عنه مولد أبي عمر فيما ذكره ابن حيان بقرطبة، سنة تسعين وثلاثماية. وتوفي ببجاه، وقد خرج عن قرطبة يروم مدينة المرية للاستحمام بحماماتها لفالج أصابه يوم الاثنين منتصف ذي القعدة سنة ستين وأربماية.
أبو مروان بن مالك رحمه الله
واسمه: عبيد الله بن محمد بن عبيد الله بن مالك. قرطبي. كان أبوه محمد يتفقه على ضعف معرفته وكتب لأبي الحسن ابن بقي في قضائه بطليطلة. ثم توفي وابنه هذا قد علق بصناعة قبى الحرير، فتعلق إذ ذاك بالطب فانقطع إليه، فجلس الى فقهاء طليطلة. ثم عاد الى وطنه فجد في طلبه، وأخذ عن القرشي وابن الأصبغ، وأبي عمر ابن القطان، ومن أدركه. فأعمل لحينه، ورسخ في مذهب مالك، واستظهر أم كتبهم المدونة، قبل في تصريفها، وله فيها مختصر حسن، فعضل، واحتيج إليه فشور مع شيوخه ودارت عليه معهم الفتوى حياته، وكتب(8/136)
لولد ابن زرب عند ولايته قضاء قرطبة، وكان له بالحساب والفرض واللسان والكلام والجدل والتفسير، وله في عقود أهل السنة والكلام عليها كتاب حسن. وبه وبابن عتاب، تفقه ابن سهل وغيره من القرطبيين. وكان كثير الجهاد والرباط مذكراً للعامة يقرأ عليها كتب التفسير والرقائق، ولم تكن له كتب. سمعت شيخنا أبا إسحاق ابن جعفر الفقيه يحكي عن شيخه القاضي ابن سهل، قال: لم يكن عند ابن مالك من الكتب إلا فقه فيها معاني النحاس ومختصره في المدونة وأراه ذكر المستخرجة وأشياء من الكتب قليلة فكان إذا ذكر عنده المكثرون في الكتب وجمع الدواوين يقول: لا أدري هذه كتبي والله لأموتنّ وأنا أجهل الكثير مما فيها فماذا يصنع بالإكثار منها؟ أو نحو هذا من الكلام. وكان ابن سهل يعظمه ويستنبله كثيراً ويفضله على غيره. قال بعض القرطبيين دخلت مع أبي مروان الزهراء مدينة الخلفاء بقرطبة الخراب فوقف متعجباً ثم تناول فحمة فكتب بها على جدار:(8/137)
بلدٌ ألمّ بها الخراب وزارها ... فغدوت أنظر شاخصاً آثارها
فالدهر أفناها وغير حالها ... وأباد منها صرفه عمارها
وإلهنا ذو العرش يحيي أهلها ... يوم تحدّث الأرض أخبارها
وتوفي بقرطبة ليلة الثلاثاء الحادية عشرة من جمادى الأولى سنة ستين وأربعماية عام وفاة ابن القطان بشبه الفجأة. ذكر أهله أنه انصرف من صلاة العشاء بمسجده وآوى بعد حين الى فراشه فقبض أسهل قبض لم يعلم به ضجيعه حتى جفّ. وسنه إذ ذاك ستون سنة، مولده سنة أربعماية رحمه الله.
ابن أبي عبد الصمد رحمه الله
واسمه: موسى بن هذيل ابن أبي عبد الصمد وكنيته أبو محمد. قرطبي. جليل مفتٍ مع أصحابه، فقيه البيت في العلم. قال ابن حيان: كان من فضلاء قرطبة وكفّ بصره قبل موته بمدة فكان ابنه يكتب عنه وكان له ابنان، عبد المولى:(8/138)
توفي شاباً في حياة أبيه، سنة ثمان وخمسين وأربعماية وسنّه ثلاثون سنة، وكان ذا حظ من الفقه والمعرفة، ذا هدى وفضل. وأبو الحسن حاز خطة أبيه من الفتيا والرئاسة بعد موته ووليَ بعده قضاء قرطبة، وسيأتي ذكره بعد هذا وكانا جميعاً - فيما ذكره ابن حيان - يشاركان أباهما فيما يتقلده من الفتوى.
سراج بن عبد الله بن محمد بن سراج الأموي
أبو القاسم. قرطبي. من بيت شهير، في موالي بني أمية. قال أبو علي الغساني الحافظ: كان من موالي بني أمية وخاصتهم، وأهل الجاه والحظوة منهم. وكان شيخاً صالحاً عفيفاً على منهاج السلف الأول، قال ابن حيان: وكان يصرح بولائهم ويفخر بكتاب عتق جده الأكبر سراج من مولاهم المنعم عليه عبد الرحمن بن معاوية، رحمه الله. قال القاضي: وكان ابنه شيخنا الوزير أبي الحسن سراج بن عبد الملك بن سراج الحافظ(8/139)
اللغوي الأديب ينتفي من مواليه بني أمية رقاً وأقساماً، ويدعي أن ذلك إغراق وولاء وأن جدهم سراج بن قرة الكلابي الوافد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن الوليد ابن طريف: إن أولهم أصابه سبى قديم صيرهم أولاً في ولاء بني أمية بالمشرق فكانوا في عداد مقدمة مواليهم وينكر أن جدهم سراج بن قرة الكلابي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. كذا سمعت شيخنا أبا الحسين يقول: إن قرة بالراء وصوابه قوة بالواو وكذا قيده أصحاب الصنعة، وهو سراج بن قوة بن رفعي بن زرعة بن الكاهن بن عمر بن عوف بن أبي ربيعة بن الصوت بن عبد الله بن كلاب وهو شاعر مشهور. وما ذكره من أن له وفادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أعلم أحداً ذكر ذلك. سمع القاضي أبا القاسم الأصيلي، والقاضي ابن برطال، ومسلمة بن بتري ونمطهم. حدث عنه أبو علي الجياني وابنه أبو مروان عبد الملك بن سراج الحافظ(8/140)
وابن طريف الكاتب وغير واحد، وولي الشورى بقرطبة مع هذه الطبقة وخطط بالوزارة، ثم وليَ قضاءَها. قال ابن حيان: وكان من أفضل أهل زمانه وأعفهم وساذج الفقه، قليل المعرفة. وتوفي في شوال سنة ست وخمسين، ولم يختلف الناس في إجمال ذكره والثناء عليه لعفته وطيب طعمته وانقباضه واقتفائه آثار من سلف ولين جانبه، وبه اختتم وجوه موالي بني مروان بقرطبة، وكانت مدته في القضاء ثمانية أعوام. وخلف سؤدده وسد مكانه ابنه أبو مروان عبد الملك الحافظ إمام الأندلس في وقته في علم لسان العرب وضبط لغاتها وأذكرهم لشوارد أشعارها وأوثقهم في ذلك، وإليه كانت الرحلة من جميع جهات الأندلس. سمع من أبيه والإقليلي والصفاقسي والحراني والقاضي يونس، ومكي المقرئ وطبقتهم واحتاج الكثير بعد من شيوخه الى الأخذ عنه والاستفادة منه. حدثنا عنه ابنه أبو الحسين الحافظ، وأبو علي الجياني والصدفي الحافظان، والقاضي أبو عبد الله بن عيسى الفقيه وأبو عبد الله ابن الحاج وغير واحد من شيوخنا.(8/141)
وتوفي رحمه الله في ذي الحجة سنة تسع وثمانين، فصير مكانه وناب منابه شيخنا أبو الحسين سراج. ووصل الرحلة الى داره وأخذ عنه الناس وأخذ عنه في حياته ابنه أبو الحسين المذكور وحاز الإمامة في هذا الباب بعده وكان رجل وقته فهماً وعلماً وحفظاً وإتقاناً مع التقدم في ثمرة الأدب النثر والنظم وهو القائل:
بث الصنائع لا تحفل بموقعها ... في آمل شكر المعروف أو كفرا
كالغيث ليس يبالي حيث ما انسكبت ... منه الغمائم ترباً كان أو حجرا
لقيته رحمه الله بقرطبة وقرأت عليه من كتب الشروح وغيرها كثيراً. وتوفي رحمه الله في جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسماية، وقد أجريت من ذكرهم في كتاب المعجم في الشيوخ أشبع من هذا، وفي هذا كفاية إن شاء الله تعالى.(8/142)
أبو زيد عبد الرحمن بن عيسى بن محمد
المعروف بابن الحشاء القاضي. قرطبي. قال ابن حيان: كان بارع العلم راجحاً، عفيفاً، حاضر الشاهد والخاطر، حلو الشمائل. حجّ ولقي الناس بالمشرق وتخلق بأخلاقهم، وكان أحد نبلاء قضاة وقته، وليَ قضاء طرطوشة أيام مقاتل، ثم استعفاه لوحشة تخيلها منه، لحكم حكمه على بعض أصحابه، كره ذلك مقاتل. ثم ولي قضاء طليطلة فحمدت فيها سيرته الى أن نكبه صاحبها المأمون يحيى بن ذي النون عند قبضه على مشيختها فعزله وأخرجه منها. وكتب له في قضائه بطليطلة أبو الأصبغ بن سهل وأبو محمد ابن أبي قحافة. وعلى يده جرت قصة ابن الشرهو في ذنبه. وكانت وفاته في نحو السبعين وثلاثماية.
أبو محمد عبد الرزاق ابن عبد الرحمن بن خلف الصفار القرطبي
كان حافظاً للمسائل حاذقاً بالوثائق متقناً لمعانيها مطبوعاً فيها وكتب للقاضي سراج بن سراج أيام قضائه بقرطبة، وتوفي سنة خمس وخمسين وأربعماية بقرطبة.(8/143)
عبد الرحمن بن سعيد المرواني
الملقب بالمدوري، ويعرف بالطالوتي لمذهب مالك مفقه للعامة يجتمع إليه في مسجده للمناظرة ويعقد للشروط مع فضل وعفة وصبر على القلة وانقباض، الى أن مضى لسبيله رحمه الله. وكانت فيه غفلة تغلب عليه. وتوفي سنة خمس وخمسين، وقد نيف على السبعين رحمه الله.
أبو شاكر عبد الواحد بن محمد بن موهب
التجيبي. المعروف بابن القبري، خرج عن قرطبة في الفتنة، وكان من أهل العلم بالحديث والفقه والعربية والكلام والنظر والجدل على مذهب أهل السنة والحذق، يصوغ القريض والخطابة، تولى المظالم بشاطبة، والصلاة والحكم ببلنسية. سمع من أبيه وأبي محمد الأصيلي، وأبي حفص بن نابل وغيرهما، وأجازه أبو محمد بن أبي زيد، وأبو الحسن القابسي. سمع منه ابن أخته القاضي أبو الوليد الباجي، وشيخنا أبو علي الباجي الجياني الحافظ وأبو الأصبغ بن سهل وغيرهم. وله خطب مؤلفة حسان، وهو القائل في رثاء قرطبة:(8/144)
يا ليت شعري والأيام تجمعنا ... ونأخذ البين مغلوباً فنصفعه
في جنة الأرض أعني أرض قرطبة ... فكل شيء بديع فهي تجمعه
استودع الله أهليها فإنهم ... كالمسك قد ملأ الدنيا تضوّعه
قال أبو علي الغساني الحافظ: كان من أهل النبل والذكاء سرياً متواضعاً وتوفي في رجل سنة ست وخمسين وسنّه نحو الثمانين سنة بشاطبة وحمل الى بلنسية فدفن بها. مولده في ذي القعدة سنة سبع وسبعين وثلاثماية رحمه الله.
أبو جعفر أحمد بن محمد بن مغيث الصدفي
كبير طليطلة وفقيهها. كان حافظاً بصيراً بالفتيا والأحكام. فهماً نظاراً فصيحاً أديباً. تفقه بابن زهير وابن أرفع رأسه وابن بدر وابن الفخار. ورحل فحجّ وسمع منه. حدث عن صاعد بن محمد وأحمد بن صاعد، وأبي محمد الشارفي،(8/145)
وأبي محمد العقيبي وأبي الطيب بن الحديدي وغيرهم. وحدث عنه بالإجازة شيخنا أبو عبد الرحمن بن عتاب وأراه لقي بالقيروان أبا بكر بن عبد الرحمن وألف المقنع في الوثائق.
أبو جعفر أحمد بن قاسم القروي
المعروف بابن أرفع رأسه. طليطلي. شهير البيت بها في العلم والجلالة كان رأساً في فقهاء بلده، مقدماً فيهم، مفتياً. حدث عنه القاضي ابن سهل وكان حافظاً تفقه بابن الفخار وطبقته.
أبو جعفر أحمد بن سعيد
المعروف بابن اللورانكي من كبار فقهاء طليطلة ومفتيها وأجدر علمائها، امتحن بابن ذي النون يحيى المأمون محنته المشهورة في ستة من أكابر البلد فيهم ولد ابن مغيث وأبو جعفر هذا وولد ابن أرفع رأسه. وكان قد وشي بهم إليه بالتهمة(8/146)
على سلطانه فاستدعاهم مع قاضيهم أبي زيد ابن الحشاء القرطبي يريهم أنه يأخذ معهم في أمر من أمر النصارى غدوة، فحضروا، وربما اجتنبوا حضور قصره، إذ كانوا في ظهيرة من عامة بلدهم، فلما نزلوا بموضع، ترك لهم استدعاءهم واحداً واحداً، فيعدل بالداخل الى موضع قد أعد له فيه قيود وحداد، ففرق بينهم ستتهم، وسخط على قاضيهم فعزل وحوسب على ما جرى على يده، وبلغت العامة القصة فهموا بالنفور الى السلاح، على عادتهم لقصرهم، فإذا بمنادي السلطان في الجند بالسيف على من أعلن أو نطق. فسكن الناس واستبيحت دور الممتحنين. وكان ذلك في جمادى الأولى من سنة ستين وأخرج القوم يومهم الى قلعة كونكة، واسكنوا المطبق وأزعج قاضيهم الى وتده. واتهم بالسعي عليهم ضدهم كبير البلد أبو الطيب ابن أبي بكر يحيى بن سعيد بن أحمد الحديدي وبيته في العلم والرئاسة بطليطلة كما قدمنا شهرة وجلالة، فلم يزل القوم بهذا السبيل وقد خلت وجوههم لابن الحديدي وحاز رئاسة البلد وحده، الى أن مات المأمون وولي ولده الملقب بالقادر والحال لابن الحديدي حتى كأنه في حجره. فخاب حاله وقيل له لن تقدر عليه إلا(8/147)
بإخراج أضداده، فتستميل بهم الى العامة وتفترق العامة عنه. فأخرجوا ليلاً الى طليطلة، ودخلوا القصر سراً، واستدعاه الى القصر فجاء على عادته، فلما رآهم سقط ما بيده. فتناولوه بالسبّ وقام بعض من كان في المحنة معهم بقتله مع اثنين من أصحابه الفقهاء، كانا قد تبعاه مستحسنين خبره فيمن تبعه من أشياخه، فجلسا بخارج القصر، الى أن حدثت الحادثة، فسعوا بهما ووقع الى العامة دسّ من الخبر، فهاجت فلم يرعها إلا الرؤوس مائلة والمنادي بين أيديهم والمشيخة الممتحنون خلفها يتقدمهم شيخاهم الفقيهان أبو جعفر بن مغيث وابن اللورانكي، وقد أصاب شيخهم ابن اللورانكي من العمى ببصره في المطبق ما زاد في الزكانة له والحنق على عدوه، فنسيت العامة ابن الحديدي برؤيتهم، وأقبلوا مبتهلين بالدعاء لهم والتهنئة بخلاصهم فطاح بهذا السبيل، رحمه الله.(8/148)
أبو جعفر بكر بن عيسى بن أحمد
المعروف بالكندي، الفقيه الناسك. جياني. وسكن في الفتنة الأخيرة قرطبة، أخرجته عن بلده المخافة، فلزمها ملتزماً مسجدها بالنهار للإقراء ومنزله بالليل للعمل الصالح، لا يخوض في شيء من أمر الفتنة ولا يخالطه الناس جملة. قال ابن حيان: كان على تحققه بعلم القرآن والسنة، عالماً بالعربية بصيراً بالنحو مشاركاً في الأدب، له حظ من الطب في الناس دون ثواب، وتظهر المنفعة به، أجمع الناس على عدم نظيره في وقته، وانتفع به أصحابه، تفقه عنده جماعة، منهم: ابن بنته أبو الحسن ابن حمدين وأبو جعفر ابن رزق، وأبو الأصبغ بن سهل وغيرهم من شيوخ شيوخنا، وكان شديداً عليهم يأخذهم بالأدب والزجر، وربما أمر من يمسك له من يتهمه من طلابه بأمر لو يتخيل فيه تعطيل قراءة واشتغالاً بفضول، فيوجعه أدباً، ويحتمل له ذلك، فانتهوا به.(8/149)
توفي رحمه الله بقرطبة صدر رجب سنة أربع وخمسين، وجعل الناس لمشاهدته. وحدث بعض من كان في الصحراء من مشاهير الناس أنهم رأوا يوم موته عمود نور قد تخلل ما بين قرطبة والسماء، فلما وردوا الحضرة سألوا: هل من حادثة؟ فأخبروا بموت هذا العالم العامل رضي الله عنه.
أبو المطرف عبد الرحمن بن سلمة
فقيه طليطلة وحافظها ومفتيها، كان من أحفظ القوم وأعرفهم بطريق الفتيا، ذا فضل وصلاح وانقباض عن السلطان وأشياعه، لم يدخل في شيء مما دخل فيه فقهاء بلده، رزق السلامة. أخذ عن أبي بكر ابن زهر وطبقته حدث عنه شيخنا أبو محمد ابن أبي جعفر. وكان رحل إليه وتفقه عنده، وروى عنه أيضاً القاضي أبو الأصبغ ابن سهل غير شيء من فتاويه. وسع منه الناس، ولما دارت المحنة من النصارى على طليطلة وافتتحوها، خرج أبو المطرف فيمن خرج. فتوفي رحمه الله ببطليوس رضي الله عن جميعهم.(8/150)
أبو علي حسين بن عيسى المالقي
المعروف بحسون. فقيه بلده ومفتيه وكبيره، وذو بيت مشهور فيه وأبو علي حسون من كبرائه وقضاته. تفقه ببلده وبفقهاء سبتة عبد الرحمن بن العجوز وابن غالب. وولي قضاء بلده وكان مشاوراً فيه وكان من أهل الفقه الجيد والحفظ والذكاء والمعرفة. وحجّ، وله سماع من أبي ذر الهروي، وأبي الحسن الحوفي. ولقي أبا عمران القابسي وساءله، وذكر أن أبا ذر كان إذا سأله سائل عن مسألة بحضرته بمكة، أحال عليه في الفتيا. أخذ عنه أبو المطرف الشعبي وبه تفقه. وذكره ابن سهل القاضي فقال: فقيه مالقة، ورثاه الأديب أبو محمد بقصيدة أولها:(8/151)
لو كان يُبقي الموت حبراً عالماً ... لوقى الحمام أبا علي واق
وموقر لبس المشيب جلالة ... بحر لباغي العرف عذب مذاق
أبقيت في الدنيا مآثر جمّة ... تتلى على الأيام وهي بواق
وفيه أيضاً يقول ابن الخياط الضرير الشاعر لما وليَ القضاء في دولة العلويين:
حسنت بحسونٍ خلافة هاشم ... قاض تخيره الخليفة فاتقى
حسنت به الدنيا وأصبح عدله ... في المغرب الأقصى فأضحى مشرقا
وفيه يقول أيضاً:
يا هادي الضلال نهج طريقه ... وموفّي الإسلام كنه حقوقه
وإمام علم الدين والعدل الذي ... سواه بين عدوه وصديقه
وُفّقت فاستقضيت أنك واحد ... وجدوا صلاح الكل في توفيقه
أبو محمد عبد الله بن موسى
المعروف بالمشارقي من أهل طليطلة وذوي العلم والفهم موصوفاً بورع بها، لقي شيوخها وشيوخ قرطبة وسمع منهم. حدث عن القاضي يونس وابن عتاب وأبي لأصبغ القرشي وابن القطان، ومن أهل طليطلة: عن أبي بكر ابن الرحوي، وأبي محمد ابن ادريس وابن أرفع رأسه. حدث عنه القاضي ابن سهل، وأبو الحسن ابن المشاط حاكم الجزيرة الخضراء، وأبو القاسم بن عفيف. وكان يكتب لابن الحديدي، ذكر أنه جلس معه أخ له يوماً فرأى حال ابن الحديدي ورئاسته وسعة حاله. فقال له أخوه: أين كنا إذ فرقت هذه الأموال؟ فسكت عنه، فلما خرجا مر به على ربط الجذمى فلما أوقفه(8/152)
على اختلاف بلائهم، قال له أبو محمد: أين كنا يا أخي إذ فرق هذا البلاء.
أبو بكر عيسى بن محمد بن عيسى
المعروف بابن صاحب الأحباس، فقيه أهل المرية، ومقدمهم في العلم والرواية والفتيا والأدب. سمع المهلب ابن أبي صفرة، وأبا الوليد ابن ميقل وأباه أبا عبد الله، وأبا محمد قاسم بن المأموني. وأجازه أبو عبد الله بن عباس الخواص القروي. أخذ عنه جماعة من شيوخنا، وحدثنا عنه أبو عبد الله بن سليمان وغيره. وولي قضاء بلده وتفقه عنده في البخاري وغيره. وكان يتكلم عليه، رحمه الله.
أبو إسحاق ابراهيم بن سعيد بن وردون
فقيه المرية وكبير مفتيها. وليَ قضاءها. سمع من أهل بلده لأبي حفص بن مقيوس، وأبي القاسم الهمداني، وأبي(8/153)
عبد الله بن محمود، وأبي محمد الرميني، وأبي حفص عمر بن يوسف، وأبي الوليد ابن الزبيدي. حدث عنه ابن أبي قحافة، وشيخنا أبو عبد الله بن سليمان، وأبو جعفر أحمد بن سعيد وغيرهم. وعنده تفقه أهل المرية.
أبو عمر أحمد بن رشيق المري
شيخ فقهاء المرية، وكبير مفتيها. وكان من أهل العلم والنظر، مقدماً في جودة الفتيا. أخذ عنه حجاج المأموني وغيره، من فقهاء المرية. حدثنا بعض المشيخة أن حجاجاً المأموني كان يناظر عند ابن رشيق بالمرية، فجرت مسألة تكلم فيها حجاج مع الشيخ، واستقصر حجاج كلام الشيخ أبي عمر واعتراه وهم، فساء حجاج معه الأدب، وقال له: هنا أنت بعد، وبلغت القصة قاسماً، والد حجاج، فبلغ منه ووبخ ابنه على سوء أدبه مع الشيخ وقال له: الى هنا بلغت معه والله ما يحسن بك أن تتكلم بين يديه فكيف تخطئه أنت اليوم؟(8/154)
ومما عرف به أبو عمر في فتاويه أنه زاد في يمين القائمة بعدم النفقة على زوجها الغائب: أن تحلف - بعد ضرب الأجل - أنه ما ترك لها نفقة ولا كسوة، ولا شيئاً تمون به نفسها، ولا تعلم له مالاً ترجع فيه ولا تعلم أن الزوجية انقطعت بينهما. قال القاضي أبو الأصبغ بن سهل قوله: ولا أن الزوجية انقطعت بينهما. لا أعلمه لغيره.
أبو عبد الله محمد بن منظور القيسي
إشبيلي. طلب الفقه والحديث ببلده، ورحل فسمع من أبي ذر الهروي، وأبي القاسم بن بقي، وأبي النجيب الأرموني وغيرهم. فانصرف الى الأندلس واحتيج إليه وسمع منه. ووليَ القضاء، حدث عنه أبو(8/155)
علي الجياني. قال أبو علي: وكان حسن الضبط، جيد التقييد للحديث، كريم النفس خيراً. توفي في شوال سنة تسع وستين، وهو ابن سبعين عاماً، وأربعة أشهر، رحمه الله تعالى.
أبو حفص عمر بن حسين الهوزني
من أهل إشبيلية. وهوزن بطن من ذي الكلاع. كبير فقهائها، كان متفنناً في علوم كثيرة. وله مع فقهه وروايته الحديث، نظر في علوم قديمة مع أدب صالح، وشعر حسن، ونثر بارع، وحكم مأثورة. أخذ بالأندلس عن مشيخة بلده القاضي أبي عبد الله الباجي، وحجّ فلقي شيوخ صقلية ومصر وسمع بمكة وغيرها من أبي محمد بن الوليد، وكتب عن ابن منصور الشهرزوري،(8/156)
وسكن شرق الأندلس. نزل في كنف بني طاهر رؤسائها، وله بها مع القاضي أبي الوليد الباجي أيام سكناها منازعات. ثم رجع الى إشبيلية بلده، وأفتى وسمع منه الناس. سمع منه ابنه أبو القاسم. وحدثنا عنه أبو محمد ابن أبي جعفر الفقيه. ومن شعره يحض المعتضد عباد بن عباد على الجهاد، عند ظهور الروم شرق الأندلس بالثغر:
أعباد حل الرزء والقوم هجع ... على حالة من مثلها يتقنع
تلق كتابي من فراغك ساعة ... وأن طال فالوضع للطول موضع
إذا لم أبتَّ الداء رب دوائه ... أضعت وأهلٌ للبلاء المضيّع
وقتله المعتضد عباد بإشبيلية بلده في جمادى الأولى سنة ستين وأربعماية. بعد أن أمر من حضر من فتيانه، فلم يقدموا عليه إجلالاً له.(8/157)
وابنه أبو القاسم الحسن، كان زعيم بلده في وقته. سمع أباه وابن منظور وغيرهما من أهل بلده. ورحل فكتب عن جماعة من العلماء، وأجازه محمد بن الوليد، وأبو المنصور الشهرزوري، وسمع منه. توفي سنة اثنتي عشرة وخمسماية رحمه الله.
أبو الوليد ابن البارية رحمه الله
من فقهاء ميورقة من أهل هذه الطبقة المشهورين بها المتقدمين. وله مع أبي محمد ابن حزم الظاهري مناظرة في اتباع مالك، تعصب فيها عليه ابن حزم حتى حمل الوالي على سجنه واستهانته. وقد ذكر خبره معه القاضي أبو الوليد الباجي في كتاب الفرق.(8/158)
أبو عبد الله محمد بن موسى بن عمار الكلاعي
من أهل ميورقة. كان من أهل العلم والفهم، ورحل فلقي بقية مشيخة القيروان السيوري وطبقته. وأخذ الكلام والأصول هناك عن أبي عمر ابن سراج، وأبي عبد الله الصيرفي، وأبي القاسم الديباجي. ولقي بها أبا الطاهر البغدادي. وأخذ بصقلية عن شيوخها أبي محمد عبد الحق، وأبي العباس الخراز، وأبي محمد بن الأحب. ولقي شيوخ مصر ومن كان بمكة كرافع المعروف بالحمال وغيره. وغلب عليه علم التوحيد والكلام فيه. وألف في ذلك كتاب الأعلام. وكان حسن العبارة جيد القريحة.
أبو بكر ابن الصائغ رحمه الله
من فقهاء دانية ومتقدمي المفتين بها. موصوفاً بالحفظ. وله به مع القاضي أبي الوليد الباجي أخبار ذكرها في كتاب الفرق.(8/159)
أبو الحسن علي بن خلف بن بطال البكري
يعرف بابن النجام. أصلهم بقرطبة وأخرجته الفتنة فخرج الى بلنسية أخذ عن الطلمنكي، وابن عفيف، وابن الفرضي، وأبي القاسم الوهراني، وأبي عبد الوارث، وأبي بكر الرازي. وألف شرحاً لكتاب البخاري كبيراً. يتنافس فيه، كثير الفائدة. وله كتاب في الزهد والرقائق. روى عنه أبو داود المقرئ، وعبد الرحمن بن بشر من مدينة سالم. وكان نبيلاً جليلاً متصرفاً. توفي سنة أربع وسبعين ببلنسية.
أبو زكريا يحيى بن محمد بن حسين الغساني
المعروف بالقلعي من أهل غرناطة من البيرة. شهير البيت بموضعه. صحب الفقيه أبا عبد الله ابن أبي زمنين وأكثر(8/160)
عنه وحمل عنه جميع تواليفه. وروى عن أبي سعيد خلف بن ناصر السبتي المعروف بابن الرقية، ويكنى أيضاً بأبي محمد الشيخ الصالح. ورحل فسمع من الفقيه أبي مروان البوني ببونة. وحدث بغرناطة ورحل إليها. قال القاضي أبو الأصبغ بن سهل: كان أبو زكريا من كبار أهل بلده مشاوراً حسن الهيئة والسمت فاضلاً جزلاً رحل إليه أبو الأصبغ وسمع منه غير شيء. وكان من أجل شيوخه. وسمع منه أيضاً حفيده ابن ابنته أبو الحسن علي بن أحمد بن خلف الفقيه زعيم غرناطة - حرسها الله تعالى - في دولة المرابطي، وأحد دعاتهم. تفقه بأبي زكريا وبفقهاء بلده وبقرطبة على ابن القطان وابن عتاب رحمه الله تعالى ورضي عنه.(8/161)
ابراهيم بن مسعود بن سعيد التجيبي الألبيري
من أصحاب أبي عبد الله ابن أبي زمنين رحمه الله. وروى عنه كتبه وكان فقيهاً معظماً في وقته وعليه تفقه عبد الواحد بن عيسى بن الهمداني فقيه غرناطة. وروى عنه كتب ابن أبي زمنين. وتوفي عبد الواحد هذا سنة أربع وخمسماية وقد رأيته أنا رحمه الله.
أبو عثمان سعيد بن خلف بن جعفر الكلابي الكبير
غرناطي. من فقهاء وقته. سمع ببلده من أبي عبد الله محمد بن عيسى الناشي، عن عيسى. أخذ عنه أبو بكر ابن عطية وغيره.(8/162)
أبو محمد ابن هاني البيري رحمه الله
من هذه الطبقة وفقهء بلده المشاهير. ذكره ابن حيان رحمه الله.
هشام بن وضاح أبو الوليد المرسي
شهير البيت بموضعه وتقلد فتيا بلده. سمع ابن نبات وابن عابد وغيرهما. سمع منه شيخنا أبو محمد ابن أبي جعفر وغيرهما.
أبو الربيع سليمان ابن الربيع القيسي
من فقهاء غرناطة. سمع أبو المطرف عبد الرحمن بن هاني. أخذ عنه أبو بكر بن عطية.(8/163)
ابن حرب الله
من أهل بلنسية، ومن فقهاء بلده المشاهير، ذكره ابن حيان رحمه الله.
أبو القاسم ابن بهلول
المعروف بالبربري. كان مفتي بلنسية في وقته، ومن أهل العلم والجلالة. وله كتاب في شرح المدونة سماه التقريب. استعمله الطلبة للمذهب في المناظرة وانتفعوا به. أخذت عليه فيه أوهام في النقل. حدث عنه المقرئ أبو داود الموفرني. وتوفي سنة أربع وأربعين وأربعماية، رحمه الله.(8/164)
هشام بن عمر بن سوار
أبو الوليد الفزاري. جياني. من أصحاب أبي عبد الله بن أبي زمنين. يروي عنه وعن أبي عروة مجاهد بن أبي عروة، وأبي محمد عبد الله بن مسلمة ابن بتري، ومسلمة بن محمد الزاهد. ورحل فلقي بالقيروان أبا عبد الله الخواص، وأبا عبد الله الأجدابي وغيرهم. سمع منه أبو الأصبغ ابن سهل. قال: وكان شيخنا وسيماً مفتياً. وليَ الأحكم بشرق الأندلس رحمه الله.
محمد بن الحسن الحبيب بن سماخ
أبو عبد الله، الغافقي من أهلها. وليَ قضاءها. وكان من أهل العلم والفقه والفضل. وله رحلة لقيَ فيها القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن نصر وحمل عنه تواليفه، وأثنى عليه ابن عتاب، وابن القطان، وابن مالك فقهاء قرطبة. ووصفوه بالعلم والفضل والسداد فيما يتولاه. أخذ عنه الناس وحملوا عنه كتب القاضي أبي محمد. وكان يحمل عنه فممن روى عنه القاضي أبو الأصبغ عيسى بن سهل، وشيخنا أبو محمد ابن عتاب.(8/165)
أبو محمد عبد الله بن فتوح بن موسى بن عبد الواحد السبتي
من فقهاء هذه هذه الطبقة. وألف الوثائق المجموعة، وهو تأليف مشهور مفيد، جمع فيه أمهات كتب الوثائق وفقهها. وهو مستعمل وكانت وفاته نحو ستين وأربعماية، رحمه الله تعالى وغفر له.
تم الجزء الرابع من المدارك وهو الأخير، بعون الله، على يد كاتبه لنفسه الفقير الى ربه الأعظم، عبده الحاج محمد الأصرم. وكان الفراغ منه يوم الثلاثاء في 3 محرم الحرام فاتح شهور سنة 1231 لإحدى وثلاثين ومايتين ألف. غفر الله لي ولوالدي ومشائخي وجميع المسلمين بمنه وكرمه. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(8/166)