بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي أسبغ على عباده بفضله نعماً لا تحصى، وقدر على ما شاء بعدله أن يطاع ويعصى، وعين بين أهل الجنة والنار بقضيتي القضاء، وميز في ظهر آدم بين طائفتي السعادة والشقاء، ثم انتقى منهم ليتمم عدله خواص وأصفياء، وجعل فيهم رسلاً وأنبياء، ليوضح بهم لمن أراد هداية منهاجه، ويقيم على من صد عنه وصرف عن آياته حجاجه، فبذلوا في ذاته جدهم، ونصحوا العباد جهدهم، إلى أن اختار الله تعالى لهم ماعنده وقضى كل واحد منهم ما كتب له من أثر ومدة، عليهم من صلوات الله ما لا يحيط به حصر ولا عدة،(1/3)
ثم تمم الله على المؤمنين بفضله، وختم أنبياؤه ورسله، بأرجحهم ميزاناً، وأرفعهم مكاناً، وأكرمهم أخلاقاً، وأطيبهم أعراقاً، وأطولهم في الفضائل باعاً، وأكثرهم أمة وأتباعاً، أبي القاسم، سيد ولد آدم، صلى الله عليه وسلم، كما شرف وكرم، فجاهد في الله حق جهاده، وزايل الجلايل الصعبة في إرشاد عباده، حتى أقاموا على سواء محجته، وأخذهم طوعاً وكرهاً ببالغ حجته، وسافهم في السلاسل إلى جنته، ودخلوا في دين الله أفواجاً بدعوته، فأنجز الله به وعده، وعبد تعالى وحده، وخصه بخير أمة أخرجت للناس، وآزروه في إقامة شرعة في حياته، وخلفوه في حياطته وحمايته بعد وفاته، نص في غير موطن على تفضيلهم، وأمر بالاقتداء بهم، وتوعد على اتباع غير سبيلهم، بوأهم دار وحيه، ومأوى دينه، ومتبوى شرعه، ومهبط ملائكته، ومهاجر نبيه، ومنزل كتابه، ومختم مثوى رسله، ومجثم الخير كله، كهف الإيمان والحكمة، ومعدن الشريعة والسنة، وسراج الهدى الذي بنوره ضاء أقطار المشارق والمغارب، وينبوع العلم الذي استمدت منه سائر الأدوية والمذائب(1/4)
ثم خلفهم في كل قرن باتباع صدق وعدل، واخلاف هدى وفضل، وأكناف معرفة وعلم، ومعادن خير وحلم، اختار منهم أئمة المسلمين، ونصب منهم أعلاماً للدنيا والدين، فبينوا للناس ما نزل إليهم، وشرحوا لهم ما أشكل عليهم، وانقادوا لما ثبت من السنن لديهم، واعتبروا باستنباطهم، وصحيح اجتهادهم، حكم ما لم ينص على عينه، وقاسوا - بما فهموا من الشرع - حكمه في غيره، ولم يزيغوا عن سنن التحقيق، ولا أخذوا بنيات الطريق، ولا حكموا الآراء المضلة في الدين، ولا انهملوا انهمال الملحدين، وتنطعوا تنطع المعتدين، بل تبعوا آثار من مضى قبلهم، واقتفوا في التمسك بأصول الشريعة سبلهم، ولم يضرهم خلال من خالفهم من الفرق، ولا شغب من لج في هواه ومرق، فالموفق من اقتفى آثارهم، وغاير شرود من شرد وأتباعهم، وعلم أن الحق مع هذا النمط الذي هدى الله واقتدى بهداه، ولم يعرج على ناعق نعق وان اختدع العقول بلهجة صداه، جعلنا الله ممن اتبع فعلم، واقتفى ما مر عليه السواد الأعظم.
وبعد فلما تكررت رغبات الأصحاب، شملنا الله وإياهم بسعادته، لإمضاء(1/5)
ما كانت النية اعتقدته، وتبييض ما غدت الهمة قد سودته: من كتاب حاو لأسماء أعيان المالكية وأعلامهم، وتبين طبقاتهم وأزمانهم، وجمع عيون فضائلهم وآثارهم، ونظم نثر فنون سيرهم وأخبارهم، تشمل منفعته، وتجمل معرفته، وتستغرب فوائده، وتستعذب مصادره وموارده، إذ هو فن لم يتقدم فيه تأليف جامع، ولا اختص به تصنيف رائع، يوصل الطالب إلى الغرض، ويقف بالراغب على البغية، مع شدة حاجة المجتهد والمقلد إليه، وضرورة الفقيه والمتفقه إلى ما ينطوي عليه، إلا ما جمعه عبد الله بن محمد بن أبي دليم القرطبي، من ذلك، ومحمد بن حارث القروي، مع تقدم زمنهما، وما اقتضته الشيخ أبو إسحاق الفيروزأبادي في موضع ذكرهم من مختصره، وكل الكتب فما شفت غليلاً، ولا تضمنت من الكثير إلا قليلاً، على أن ابن أبي دليم اتسع اتساعاً حسناً، فيمن ذكره من المغاربة، من أتباع رواة مالك:(1/6)
من المصريين والأندلسيين، وطائفة من القرويين، واقتصر على ذكر طبقاتهم، دون شيء من أخبارهم، وبيان أحوالهم، ولم يجز لأحد من الحجازيين والمشرقيين ذكراً، على جلالة مكانهم، وكثرة أعلامهم، قال القاضي: ولم أزل، منذ سمعت همتي لمعرفة هذا الفن، وتحركت نيتي للاطلاع عليه، أستقرىء سبل مسالكه، وأفحص عن وجوه مداركه وأقيد أثناء مطالعتي شوارده، وأجود، مدة بحثي، جوائده، إلى أن اجتمع لي من ذلك، بعد طول المباحثة الشديدة، والعناية التامة، والمطالعة المتواترة، ما وجدته بغية وغنية، وبسط لي في تحريره أملاً ونية، ولم ألق أحداً ممن يعتنى بقوله، ويلتفت إلى حسن رأيه، ممن وقف على نبذ من أمره، وانتهى إليه رش من ذكره، إلا قلقاً إلى تمامه، شديد التعطش إلى كماله، محرضاً على صرف العناية إلى تحريره وتهذيبه، راغباً في تقريب الفائدة بنظمه وتبويبه، والنفس تمطل بذلك وتسوف، وتوالي القواطع والشواغل تصدف عن ذلك وتصرف إلى أن انبعثت الآن عزمة مصممة للتفرغ، وترتيب مضمنه وتصنيفه.(1/7)
فاستخرت الله تعالى على ذلك، واستعنته، جل اسمه، لتوطئة هذه المسالك، وجمعت قراطيس فقبضتها، عما استودعتها، وطالعت تآليفي فوقفت على خفي أسرارها، واستشبت محفوظاتي فأنجدتني أذكارها، فنظمت منثورها، وفصلت شذورها، ورتبت أعجازها وصدورها، وأبرزت تأليفاً مفرداً في مضمونه، بالغاً فيما قصر عليه من أنواع هذا العلم وفنونه، واقتضى النظر بين يدي الغرض تقديم مقدمات تمس الحاجة إليها، ونتمم الفائدة بالوقوف عليها، تشتمل على أبواب في ذكر المدينة وفضائلها، وتقديم علمائها وعملها، ووجوب الحجج بإجماع أهلها، وترجيح مذهب مالك بن أنس، أمامها، وتقصيت هذه الأبواب تقصياً يشفي الغليل، ونعمتها نظراً يقف بالمنصب على سواء السبيل، ثم قفيته باقتداء الأئمة وثناء العلماء عليه، ونشر فضائله وما أضيف من السر إليه، إلى سائر ما يحتاج إليه، من معرفة تاريخه ونسبه، ويتطلع إليه من مجاري أحواله في معاشرته وأدبه، واستوعبت في هذه الجملة باختصار فنونها، والاقتصار على عيونها، ما طالت به تواليف جمة، وشحنت به مجلدات عدة. إذ ألف فضائل مالك وأخباره جماعة من الأئمة، والسلف والخلف من فرق هذه الأمة، فممن ألف في ذلك وأطال(1/8)
القاضي أبو عبد الله التستري المالكي له في ذلك ثلاث مجلدات ومثل ذلك أبي الحسن بن فهر المصري ولأبي محمد الحسن بن اسماعيل الضراب وألف في ذلك القاضي أبو بكر جعفر بن محمد الفريابي، وأبو بشر الدولابي، وأبو العرب التميمي، والقاضي أبو الحسن بن المنتاب وأبو علاثة محمد بن أبي غسان(1/9)
وأبو اسحاق بن شعبان والزبير بن بكار القاضي الزبيري، وأبو بكر محمد بن محمد اليقطيني، وأبو نصر بن الحباب الحافظ، وأبو بكر ابن أبي دراوية الدمشقي، والقاضي أبو عبد الله البرنكاني وأبو محمد الجارود، والحسن بن عبيد الله الزبيري، وأحمد بن مروان المالكي،(1/10)
والقاضي أبو الفضل القشيدي، وأبو عمر المقاصي، وأحمد بن رشد بن جعفر، وأبو بكر بن محمد بن صالحا الأبهري، وأبو بكر بن اللباد، وأبو محمد عبد الله بن أبي زيد، وأبو عمر بن عبد البر الحافظ والقاضي أبو محمد بن نصر،(1/11)
وأبو عبد الله الحاكم النيسابوري، وأبو ذر الهروي وأبو عمر الطلمنكي، وأبو عمر بن حزم الصدفي، وابن الامام التطيلي، وابن الحارث القروي، وابن حبيب، والقاضي أبو الوليد الباجي، وأبو مروان بن الأصبغ القرشي النقيب.
وأكثر تعويلي فعلى كتابي التستري والضراب وتتبعت من غيرهما ما فيه زيادة فائدة أو نادرة لم تقع فيهما، وحذفت كثيراً مما أطالوا به من كلامه في التفسير والجوامع والرجال، إذ ليس من الغرض وله مظان(1/12)
أخر هي به أليق، ثم اثبت بعد ذلك جريدة في أسماء مشاهير الرواة عن مالك وحملة الفقه والعلم عنه، مختصة بالتعريف بهم معدات من تواريخهم وأخبارهم إذ قد اتسعنا في أخبار الفقهاء منهم بعد هذا، ومن عداهم فليس من غرضنا ذكرهم، ولم أقصد في هذه الورقات لاستيعاب كل من ذكرت له عنه رواية أو مجالسة أو سؤال إذ قد أودعنا ذلك كتاباً آخر في جمهرة رواة مالك انطوى على أزيد من ألف وثلاثمائة راو تقصيتها من الكتب المؤلفة في ذلك إذ ألفت في ذلك كتباً عدة ككتاب أبي الحسن الدارقطني الحافظ، وكتاب اسماعيل الضراب المصري، وأبي بكر أحمد بن ثابت الخطيب البغدادي، وأبي اسحاق بن شعبان القرطبي، وأبي الحسن بن أبي عمر البلخي، وأبي عبد الله بن حارث القروي، وأبي نعيم الأصبهاني، ومنهم من بلغ الألف ومنهم من قصر دونها.(1/13)
ومن الأندلسيين أبو عبد الله محمد بن مفرج، وعبد الله بن أبي دليم وهما أقل عدداً وأبو محمد عبد الرحمان بن محمد البكري وفي كل واحد من هذه الكتب ما لم يذكر الآخر، فتتبعت ذلك جهدي وأضفت إليه ما شذ عنها وندر، فيما طالعته من كتب أهل الحديث وغيرهم.
اقتصرنا في هذه الورقات على ذكر ألف اسم ممن عرف اسمه وصحت روايته وشهرت صحبته، ورأينا أن لا نخلي هذا الديوان من هذا القدر لتتم به فوائده وتكمل في فنه معارفه.
وبعد هذا، اطردت أغراض التأليف واتسقت طبقات التصنيف، فابتدأنا بذكر الفقهاء من أصحابه خاصة، ثم باتباعهم طبقة طبقة وأخلافهم أمة بعد أمة، إلى شيوخنا الذين أدركناهم وأئمة زمننا الذين عاصرناهم ممن شهرت إمامته، وعرفت معرفته، أو ظهرت تواليفه ونقلت أقواله وامتثلت فتاويه وآراؤه، على حسب تقدم أزمانهم وتعاقب أوقاتهم، فأنبأنا بأسمائهم وأعربنا عن ألقابهم وأنسابهم وقيدنا مهملها لئلا يقع(1/14)
فيها تصحيف، وأزحنا علية مشكلها ليأمن من أطلع عليها من التحريف. فقد قال أبو اسحاق إبراهيم بن عبد الله النجرسي: أولى الأشياء بالضبط أسماء الناس. لأنه لا يداخله قياس لا قبله ولا بعده شيء يدل عليه، وقال علي بن المديني: أشد التصحيف التصحيف في أسماء الرجال.
وقد قال ابن جريج طلبت اسم جندع بن ضمرة ثماني سنين حتى عرفته وكثيراً ما شاهدت وسمعت في بعضها من التصحيف الشنيع ما يقبح ذكره ويشهد على الجاهل بها نقصه، وقد غلب على ألسنة الفقهاء أحمد بن ميسرة بكسر السين وصوابه بفتحها. كذا قيده عبد الغني وغيره. وكذاك أحمد بن المعذل كثير من يقوله بدال مهملة وصوابه بمعجمة، ومن ذكر الشيخ أبو اسحاق الشيرازي في رواة سحنون من الأندلسيين: إبراهيم بن محمد بن زيان ولا يعرف ذلك في الأندلس وقد(1/15)
رده عليه أهل الصنعة، والأشبه أنه ابن بلز وهو من جلة تلك الطبقة وكذلك صنع في أسماء كثيرة منهم في أنسابهم وذكرهم في غير طبقاتهم فأما تمييز المشتبه منها فمما لا يقف عليه إلا التحرير، ولا يعرفه إلا الفطن بهذا الباب البصير.
ولقد بعث لسحنون في محمد بن رزين وقد بلغه أنه يروي عن عبد الله ابن نافع فقال له أنت سمعت ابن نافع؟ فقال: أصلحك الله إنما هو الزبيري وليس بالضائع. فقال له: ولم دلست؟ ثم قال سحنون: ماذا يخرج بعدي من العقارب. فقد رأى سحنون وجوب بيانها، وإن كانا ثقتين إمامين.
حتى لا تختلط روايتاهما وأقوالهما فإن الصائغ أكبر وأقدم وأثبت في مالك، لطول صحبته له. وهو الذي خلفه في مجلسه بعد ابن كنانة، وهو الذي يحكي عنه(1/16)
سحنون ويحيى بن يحيى ويرويان عنه ولم يسمع سحنون منه سماعاً وإنما سمعه من أشهب كما نذكره بعد، ووفاته سنة ست وثمانين ومائة.
والزبيري من متأخري أصحاب مالك وهو شيخ ابن حبيب وسعيد بن حسان ووفاته سنة ست عشرة ومائتين وكثيراً ما تختلط رواياتهم عند الفقهاء، حتى لا علم عند أكثرهم بأنهما رجلان، وربما جاءت رواية أحدهما مخالفة لرواية الآخر، فيقولون في ذلك اختلاف من رواية ابن نافع عن مالك وقد وهم فيهما عظيم من شيوخ الأندلسيين بعد أن فرق بينهما، لكنه زعم أن صاحب السماع هو الزبيري وأنه المذكور في العتيبة، ومثل ذلك علي ابن زياد التونسي وعلي بن زياد الاسكندراني كلاهما من أصحاب مالك فاضل مشهور. فالأول الفقيه شيخ سحنون وغيره، والآخر صالح يعرف بالمحتسب. وقد جرى ذكر ابن زياد مرة بحضرة من يفهم هذا الباب، فلم يكن عنده شك أن الفقيه المذكور اسكندارني فقلت له هما اثنان وأوقفته على من قال ذلك بمعرفة، هذا مما يضطر إليه، لا سيما إذا كان بينهما فرق في العلم ومزية في العدالة والفضل.(1/17)
ثم ذكرنا من مولدهم ووفاتهم وذكر مشايخهم ورواتهم وتصنيف أزمانهم وطبقاتهم ما انتهى ألينا علمه، وصح عندنا نقله، لتعرف بذلك أوقاتهم ولتبين في التقدم والتأخر درجاتهم، ويتميز بذلك المتصل من المنقطع من روايتهم. وكثيراً ما يخلط الفقهاء هذا الباب، وربما حكوا الرواية وأسندوها عن المتقدم عن المتأخر إذا اشتبهت عليهم طبقاتهم ولم تتميز لهم أوقاتهم وقد شاهدت معظماً منهم ذكر عن ابن حارث الفقيه مسألة، قال فيها ابن حارث: وقد شاهدت أحمد بن نصر يفتي بذلك.
فحمل هذا الشيخ أنه ابن نصر الداودي المتأخر وطبقته بعد ابن حارث توفى ابن حارث سنة اثنين وستين وثلائمائة، وتوفى الداودي سنة اثنين وأربعمائة.
وإنما أراد ابن حارث أحمد بن نصر بن زياد الهواري من أصحاب ابن سحنون، وابن عبدوس كاتب القاضي همام ووفاته سنة سبع عشرة وثلاثمائة. فلو عرف الشيخ، والله أعلم، أنهما اثنان وميز طبقتهما لما سقط هذا السقوط ولعدم المعرفة بهذا وهم جماعة فعدوا في الرواة عن مالك وأصحابه من لا تصح عنه رواية ولا جمعه معه زمن والله أعلم. فلقد ذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أن أبا يحيى الوقار ممن سمع من مالك، وعده في طبقة أصحابه ولم يذكر هذا أحد ممن جمع رواة مالك وإنما عدوه في أتباع(1/18)
أصحابه وهو الصحيح والله أعلم. وكذلك ذكر أبو إسحاق ابن شعبان إبراهيم بم محمد بن باز الأندلسي في رواة مالك، وهو من أصحاب سحنون مولده بعد وفاة مالك بمدة وتوفى سنة أربع وسبعين ومايتين وكذلك ذكر أبو بكر الخطيب، على تقدمه وحفظه، عبد الملك بن حبيب في الرواة عن مالك وأدخل له حديثاً عن المغيرة عنه، وهو غلط عظيم، لاسيما من مثله. وعبد الملك ابن حبيب إنما رحل سنة ثمان ومايتين بعد موت مالك بسنتين على ما تراه في أخباره إن شاء الله تعالى.
وكذلك ما ذكره الشيرازي أيضاً أن عبد الملك بن حبيب تفقه أولاً بيحيى وعيسى وحسين بن عاصم هو وهم.
هؤلاء نظراؤه، وإنما تفقه أولاً بشيوخ هؤلاء الأندلس زياد وصعصعة والغازي بن قيس ونظرائهم، وكذلك ذكره عبد الله بن غافق في طبقة سحنون، وزعم أ، هـ سمع من علي بن زياد باطل، هو من أصحاب سحنون وليس من ذوي الأسنان منهم، ومولده بعد موت علي بن زياد بأزيد من عشرين سنة كما سنذكره،(1/19)
وكذلك ذكر الرازي في استيعابه وأحمد بن عبد البر أن عيسى بن دينار سمع من مالك ورحل مع زياد وأقام بعده، وهذا كله وهم. وسنبين ذلك كله في مكانه إن شاء الله تعالى مع أمثاله. ثم ذكرنا بعد هذا من فضائلهم ومناقبهم وثناء الأجلاء عليهم وتوثيق المزكي من الذكاء والعدالة ومراتبهم في العلم والرواية ومن تكلم فيه منهم على قلتهم أوعد منهم في أول التقدم والإمامة، مع ما يحتاج إليه الناظر المجتهد فيمن يعتمد بخلافه وأجماعه، ويضطر إليه المتفقه والمقلد في معرفة من يدين بإمامته وأتباعه. ودحضنا الدلس عن قوم منهم تحامل المتعصبون عليهم، أو تجمل أهل الريب بإضافتهم إليهم.
وقد صح وعرف خلاف ذلك بما سنجلبه إن شاء الله تعالى، إذ نزه الله تعالى أهل هذا المذهب عما خالط من الهوى سواهم من أهل المذاهب، وعصمهم من علة الافتراق والتدابير فليس في أيمتهم بحمد الله من صحت عنه بدعة، ولا من اتفق أهل التزكية على تركه لكذب أو جرحة، وإن كان أبو خيثمة زهير بن حرب تكلم في أبي مصعب الزهري، ويحيى بن معين في إسماعيل بن أبي أويس ويحيى بن بكير. فما ضرهم ذلك. قد خرج عنهم إمام المعدلين صاحب الصحيح محمد بن إسماعيل البخاري، إذ لم ينسبهم إلى كذب ولا ريبة،(1/20)
وإن كان الباجي تعسف فيما نقله على عبد الملك بن الماجشون في علله، فالصحيح عنه ضد ذلك وهو المشهور من مذهبه حسبما نبينه عند ذكر كل واحد منهم في موضعه.
وكذلك صنع يحيى بعبد الله ابن عبد الحكم فلم يقلد في قوله، وقد خالفه أبو حاتم الرازي في ذلك وغيره كما أن قول القاضي أبي الوليد رحمه الله في القزويني أنه مجهول غير ملتفت إليه وكذلك قال في الصالحي فلو اعتنى رحمه الله بهذا الباب لعلم أن الصالحي هو أبو بكر محمد بن صالح الأبهري، ولما قال فيه هذا ولنفى حال أبي سعيد القزويني وجلالته وإمامته في العلم، وحسن تصانيفه فصحح روايته ولم يرتب في نقله وكذلك ذكر في ابن خويز منداد وهو في شهرته وكثرة تصانيفه حيث لا يذكر أنه مجهول، وقال أن أحداً من أيمتنا البغداديين لم يذكروه، وهذا الشيرازي قد ذكره في كتابه وهذا أبو محمد عبد الوهاب يحكي عنه ويقول فيه، وقال أبو عبد الله البصري وأنت أيها المنصف متى اعتبرتهم مع غيرهم وجدتهم أصح يقيناً وأمتن ديناً وأكثر أتباعاً وأزكى صحابة وأتباعاً حتى أن سيئاتهم حسنات سواهم، وما ينتقد بعضهم على بعض لا يلتف إليه من عداهم، ولهذا قال سحنون رحمه الله: المدني إذا لم يكن هكذا.
يريد في الدين وشديده أيسر شيئاً أو كما قال،(1/21)
وفي كتاب الحكم المستنصر إلى الفقيه أبي إبراهيم، وكان الحكم ممن طالع الكتب ونقر عن أخبار الرجال تنقيراً لم يبلغ فيه شأوه كثير من أهل العلم، فقال في كتابه وكل من زاغ عن مذهب مالك فإنه ممن زين على قلبه وزين له سوء عمله وقد نظرنا طويلاً في أخبار الفقهاء وقرأنا ما صنف في أخبارهم إلى يومنا هذا فلم نر مذهباً من المذاهب غيره أسلم منه فإن فيهم الجهمية والرفضية والخوارج والمرجئة والشيعة إلا مذهب مالك رحمه الله تعالى فإنا ما سمعنا أحداً ممن تقلد مذهبه قال بشيء من هذه البدع، فالاستمساك به نجاة إن شاء الله تعالى.
وقد مزق القرويون أسمعتهم من ابن أبي حسان وطرحوها على بابه لكلمة برزت منه لأمير افريقية حرضه بها على العصاة لا يبعد صوابها في بعض الأحوال كان الأولى بمثله غيرها، لامامته وفضله وتقدمه ستأتي مستوعبة إن شاء الله، ولهذا ماتركوا الحمل عن محمد بن رشيد، وكان ثقة من نمط سحنون وإليه كانت الرحلة معه لتساهل رئي منه في المعاملة، وترخص في العينة والأخذ برأي من لم ير الذريعة فتركوه حتى لما مات لم ينظر سحنون في تركته، وأسندها إلى حبيب صاحب مظالمه،(1/22)
قال القاضي أبو الفضل رضي الله عنه: ثم جمعت من أخبارهم وقصصهم وفقر من سير حكامهم وقضاتهم ونوادر من فتاوى فقهائهم وأيمتهم ما يحتاج إليه ولا غنى بالعلماء عنه وأثبتنا من حكم حكمائهم ورقائق وعاظهم ومناهج صلحائهم وزهادهم، ما ترجى بركته ولا تخيب إن شاء الله تعالى منفعته، وقد قال سفيان بن عينية رحمه الله تعالى: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة. وقال أبو حنيفة: الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إلي من الفقه، لأنها آداب القوم، وقال بعض المشايخ: الحكايات جند من جنود الله يثبت بها قلوب أوليائه. قال وشاهده قوله تعالى وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك. وذكرنا من محن ممتحينهم وبلايا مبتليهم ما فيه مسلاة للممتحنين وأدلة على ثبات قدمهم في الصالحين. قال النبي صلى الله عليه وسلم: أشدهم - يعني الناس - بلاء، الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، وإنما يبتلى المرء على قدر إيمانه، فإن كان إيمانه شديداً كان البلاء عليه أشد، حتى أن العبد يمشي على الأرض ما عليه خطيئة، وقال: إذا أحب الله عبداً ابتلاه ليسمع تضرعه.
وذكرنا من بلدانهم وأوطانهم ورجالهم وقضاتهم إذ كان ينبوع هذا المذهب بالمدينة فيها تفجر ومنها انتشر، فكانت المدينة كلها على ذلك الرأي وخرج منها إلى جهات من الحجاز واليمن فانتشر هنالك بأبي(1/23)
قرة القاضي ومحمد بن صدقة الفركي وأمثالهم، واستقر ببلاد العراق بالبصرة فغلب عليها بابن مهدي والقعنبي وغيرهما ثم باتباعهم من ابن المعذل، ويعقوب بن شيبة آل حماد بن زيد إلى أن دخلها بعض الشافعية فتشارك المذهبان جميعاً إلى وقتنا هذا وكان آخر الأئمة بها من المالكية في زمننا ومرتبة شيوخنا أبا يعلى العبدي، وابا منصور بن باخي، وأبا عبد الله بن صالح، فدخل هذا المذهب بغداد وغيرها من بلاد العراق فانتشر بها مع غيرها من المذاهب ولكنه غلب وفشي أيام قضاء آل حماد بن زيد وانقطع ببغداد فلم يبق له بها إمام من نحو الخمسين والاربعمائة عند وفاة أبي الفضل بن عبدوس، ثم سكنها ابن صالح بعد التسعين، وأما خراسان وما وراء العراق من بلاد المشرق فدخلها هذا المذهب أولاً بيحيى بن يحيى التميمي، وعبد الله بن المبارك، وقتيبة بن سعيد، فكان له هنالك أئمة على مر الأزمان.
وفشى بقزوين وما والاها من بلاد الجبل، وكان آخر من درس منه بينسابور أبو إسحاق بن القطان وغلب على تلك البلاد مذهبا أبي حنيفة والشافعي ودخل أيضاً من أيمة هذا المذهب إلى بلاد فارس القاضي أبو عبد الله(1/24)
البركاني ولي قضاء الأسوار وانتشر عنه هذا المذهب وغلب على بلاد فارس مذهب داود. وأما الشام فكان بها من أصحاب مالك الوليد بن مسلم وأبو مسهر ومروان بن محمد الططوي وغيرهم وغلب عليها أولاً مذهب الأوزاعي ثم دخلتها المذاهب. وأما أرض مصر فأول أرض انتشر بها مذهب مالك بعد المدينة وغلب عليها وأطبق أهلها على الاقتداء به إلى أن قدم عليهم الشافعي فكان واحداً منهم فيهم إلى أن كثر عليه فتيان ابن أبي السمح من فقهائهم وجرت بينه وبينهم خطوب اقتضت تحيزه مع أصحابه كما سنذكره في موضع ذكره، فنبه بها حينئذ مذهب الشافعي وكثر أصحابه والمتعصبون له ومنها انتشر في الآلإاق، ومذهب مالك في كل ذلك ظاهر بها غالب عليها إلى وقتنا هذا. ودخلها أئمة من أصحاب أبي حنيفة، وأما أفريقية وما وراءها من المغرب فقد كان الغالب عليها في القديم مذهب الكوفيين، إلى أن دخل علي بن زياد وأبن أشرس والبهلول بن راشد، وبعدهم أسد بن الفرات وغيرهم بمذهب مالك فأخذ به كثير من الناس ولم يزل يفشو إلى أن جاء سحنون فغلب في أيامه(1/25)
وفض حلق المخالفين واستقر المذهب بعده في أصحابه فشاع في تلك الأقطار إلى وقتنا هذا، وكان بالقيروان قوم قلة في القديم أخذوا بمذهب الشافعي ودخلها شيء من مذهب داوود، ولكن الغالب إذ ذاك مذهب المدينة والكوفة، وكان الظهور في دولة بني عبيد لمذهب الكوفيين لموافقتهم إياهم في مسألة التفضيل، فكان فيهم القضاء والرئاسة وتشرق قومهم منهم لمسرتهم واصطياداً لدنياهم وأخرجوا أضغاثهم عن المدنيين فجرت على المالكية في تلك المدة محن، ولكنهم مع ذلك كثير.
والعامة تقتدي بهم والناشىء فيهم ظاهر إلى أن ضعفت دولة بني عبيد بها، من لدن فتنة أبي يزيد الخارجي فظفروا وأفشوا علمهم وصنفوا المصنفات الجليلة وقدم منهم جلة طار ذكرهم بأقطار الأرض ولم يزل ألأمر على ذلك إلى خربت القيروان.
وأهلها وجهاتها وسائر بلاد المغرب مطبقة على هذا المذهب، مجمعة عليه، لا يعرف لغيره قائم.
وأما أهل الأندلس فكان رأيها مذ فتحت على رأي الزاعي، إلى أن رحل إلى مالك زياد بن عبد الرحمن وقرعوس بن العباس والغازي ابن قيس ومن بعدهم بعلمه وأبانوا للناس فضله واقتداء(1/26)
الأئمة به، فعرف حقه ودرس مذهبه إلى أن أخذ أمير الأندلس إذ ذاك هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الناس جميعاً بالتزامهم مذهب مالك وصير القضاء والفتيا عليه وذلك في عشرة الشبعين ومائة من الهجرة في حياة مالك رحمه الله تعالى، وشيخ المفتيين يومئذ صعصعة بن سلام إمام الأوزاعية وروايته، وقد لحق به من أصحاب مالك عدة فالتزم الناس بها هذا المذهب وحموا بالسيف عن غيره جملة، وأدخل بها قوم من الرحالين والغرباء شيئاً من مذهب الشافعي وأبي حنيفة واحمد وداوود فلم يمكنوا من نشره فمات لموتهم على اختلاف أزمانهم إلا من تدين به في نفسه ممن لا يؤبه لقوله.
على ذلك مضى أمر الأندلس إلى وقتنا هذا، فبدأنا في كل طبقة بأهل المدينة ثم بمن والاها من جزيرة العرب ثم بأهل المشرق ثم كررنا على المصريين ومن ورائهم من المغاربة وختمنا بأهل الأندلس إلا من لم نجد له من أهل تلك البلاد في تلك الطبقة اسم منتقد إلى ما بعده على الرسم وانتقينا أثناء ذلك من نوادر ظرفائهم وملح آدابهم ومحاسن شعرائهم ما ينشط النفس عن كسلها ويصقل عنها ريق صدائها فقد قال علي رضي الله عنه: سلوا النفوس ساعة فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد.(1/27)
وذكرنا ما ينتحله كل واحد منهم من المعارف وما أضيف من الخصال إليه منبهنا على الغالب من أنواع العلوم عليه، وسمينا من تواليف مؤليفهم وإملاءات مصنيفهم ما لا غنى عنه، وما ينبه المتفقه على الاقتباس منه ولم نغال فيما جمعنا من ذلك تحرياً للاختصار لفنونه، وتحرياً للاقتصار على فصوصه وعيونه وحذفاً للطرق والأسانيد وضماً للتفاريق والأبادير، واستصفيناه من كبار تصانيف المحدثين وأمهات تآليف المؤرخين، ككتاب أبي عبد الله البخاري وعبد الله بن أبي حاتم وأبي الحسن الدارقطني والزبير بن بكار وأبي بكر بن حيان القاضي ووكيع في تاريخ القضاة، وكتب أبي جعفر الطبري(1/28)
والصولي وأبي كامل وكتاب أبي عمر الكندي، وأحمد بن يونس المصري في المصريين ومن تاريخ أبي عمر الصدفي القرطبي، ومن كتب أبي عبد الله بن حارث في القرويين والأندلسيين ومن كتب أبي العرب التميمي، وأبي إسحاق الرقيق الكاتب، وأبي علي بن البصري في القرويين وتعاليق وجدتها بخط الشيخ أبي عمران الفاسي في ذلك، وما وقع إلي من تاريخ أبي بكر بن أبي عبد الله المالكي في القرويين ومن تواريخ الأندلس ككتاب أبي عبد الملك بن عبد البر(1/29)
وكتاب الاحتفال لأبي عمر بن عفيف، والانتخاب لأبي القاسم بن مفرج وكتاب القاضي أبي الوليد بن الفرضي وتاريخ أبي مروان بن حيان، والرازين وكتاب أحمد بن عبد الرحمن بن مظاهر الطليطلي، وسى هذه الكتب، ككتاب ابن أبي دليم المتقدم ذكره، ومما وقع إلي من كتاب أبي بكر الخطيب في البغدادين، وأوراقاً جمعت للحاكم المستنصر بالله وجدت عليها خطه في كتاب في العراقيين، وما وقع من ذلك في كتاب الأمير أبي نصر وفي كتاب الشيخ أبي اسحق، وكتاب أبي عمر بن عبد البر في ذكر الأئمة الثلاثة ورواتهم وغير هذه الكتب مما عسى أن يكون وقع من غرضنا فيها التافه اليسير إلى ما تلقيناه من أفواه الرجال والتقطناه بفرط الاعتناء والاهتبال(1/30)
وأنا أضرع إلى ذي العزة والجلال أن لا يجعل حظي من هذا الكتاب مجرد التعب والسهر والنصب، وأن يحسن فيه النية ويكمل بعفوه عن زللنا المنة، وجدير لمطالعه أن يحسن الظن ولا يبادر إلى الطعن حتى يجيل النظر ويحقق ما أنكر، فإن تيقن بعد ذلة أصلحها أو وجد مبهمة أوضحها وأن يشكر ما كفيناه في جمعه من شغل الخاطر والفراغ للبحث والطلب المتواتر، ويعذر فيما عساه يعثر عليه من زلل خفي، أو ظاهر، فالغالب على المرء التقصير والأمر الذي ارتكبته خطير، ويفتقر القليل للكثير وصلى الله على سيدنا محمد البشير النذير.(1/31)
فضل المدينة
باب
ما ورد من الآثار في فضل المدينة
ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم (لها)
روى أنس بن ملك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في صاعهم ومدهم، يعني أهل المدينة، وعن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك لنا في ثمارنا وبارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا ومدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة ومثله معه.
وقال عمر بن الخطاب لعبد الله بن عياش: أنت القائل لمكة خير من المدينة؟ قال عبد الله: فقلت حرم الله وأمنه وفيها بيته.(1/32)
فقال عمر: لا أقول في حرم الله ولا في بيته وأمنه شيئاً، ثم قال له عمر كما قال أولاً، فأجابه عبد الله بجوابه وأجابه عمر بمثل الأول، ثلاث مرات ثم انصرف.
أنا اختصرته.
وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يصبر أحد على لأواء المدينة وشدتها إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة، وفي رواية وشفيعاً.
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها.
وفي حديث أبي هريرة: تنقي الناس كما ينقي الكير خبيث الحديد.
وفي حديث زيد بن ثابت أنها تنقي الرجال كما تنقي النار الفضة.
وروى سفيان بن أبي زهير قال: قال رسول الله صلى(1/33)
الله عليه وسلم: تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون.
وذكر في فتح العراق والشام مثله، أنا اختصرته.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عنه صلى الله عليه وسلم بمعناه.
وقال: والذي نفسي بيده لا يخرج منها أحد رغبة عنها إلا خلف الله فيها من هو خير منه.
وعن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال.
قال مالك بن أنس: المدينة، وعلى أنقابها ملائكة يحرسونها لا يدخلها الدجال ولا الطاعون وهي دار الهجرة والسنة وبها خيار الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واختارها الله بعد وفاته فجعل بها قبره وبها روضة من رياض الجنة ومنبر(1/34)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس ذلك في البلاد غيرها.
وفي رواية، ومنها تبعت أشراف هذه الأمة يوم القيامة.
وهذا كلام لا يقوله مالك عن نفسه، إذ لا يدرك بالقياس.
وقال حماد بن واقد الصفار لمالك: يا أبا عبد الله أيما أحب إليك المقام هاهنا أو بمكة؟ فقال: هاهنا.
وذلك أن الله تعالى اختارها لنبيه صلى الله عليه وسلم من جميع بقاع الأرض.
ثم ذكر حديث أبي هريرة في فضلها.
وقال جعفر بن محمد: قيل لمالك اخترت مقامك بالمدينة وتركت الريف والخصب: فقال: وكيف لا أختاره وما بالمدينة طريق إلا سلك عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام ينزل عليه من عند رب العالمين في أقل من ساعة.
قال أبو مصعب الزهري قيل لمالك لمَ صار لأهل المدينة لين القلب وفي أهل مكة قساوة القلب فقال لأن أهل مكة أخرجوا نبيهم وأهل المدينة آووه.
قال محمد بن مسلمة: سمعت مالكاً يقول: دخلت على المهدي(1/35)
فقال أوصني فقلت أوصيك بتقوى الله وحده والعطف على أهل بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيرانه، فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: المدينة مهاجري ومنها مبعثي وبها قبري وأهلها جيراني وحقيق على أمتي حفظي في جيراني فمن حفظهم بي كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة ومن لم يحفظ وصيتي في جيراني سقاه الله من طينة الخبال.
باب الآثار في اختصاص المدينة بفضل العلم
والسنة والقرآن
روت عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فتحت المدائن بالسيف وافتتحت المدينة بالقرآن: وعن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه(1/36)
وسلم قبة الإسلام ودار الإيمان وأرض الهجرة ومبدأ الحلال والحرام.
وروى كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الدين ليأزر إلى المدينة - وفي رواية إلى الحجاز - كما تأزر الحية إلى جحرها.
وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل.
إن الدين بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس بعدي من سنتي.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليحاز الإسلام إلى المدينة كما يحاز السيل الدمن.
وعن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى يأرز الإيمان إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها.
قال أبو مصعب الزهري: في هذا الحديث والله ما يأرز إلا إلى أهله الذين يقومون به، ويشرعون شرائعه ويعرفون(1/37)
تأويله ويقمون بأحكامه، وما ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدحاً للأرض والدور، وما ذلك إلا مدحاً لأهلها وتنبيهاً على أن ذلك باق فيهم زائل عن غيرهم حين يرفع العلم فيتخذ الناس رؤساء جهالاً فيسألون فيقولون بغير علم فيضلون ويضلون.
قال ابن أبي أويس: سمعت مالكاً يقول في معنى الحديث بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ أي يعود إلى المدينة كما بدأ منها.
باب فضل علم أهل المدينة
وترجيحه على علم غيرهم واقتداء السلف بهم
قال زيد بن ثابت: إذا رأيت أهل المدينة على شيء فاعلم أنه السنة، قال ابن عمر: لو أن الناس إذا وقعت فتنة ردوا الأمر فيه إلى أهل المدينة فإذا اجتمعوا على شيء - يعني فعلوه - صلح الأمر، ولكنه إذا نعق ناعق تبعه الناس.(1/38)
قال مالك كان ابن مسعود يسأل بالعراق عن شيء فيقول فيه ثم يقدم المدينة فيجد الأمر على غير ما قال، فإذا رجع لم يحط راحلته ولم يدخل إلى بيته حتى يرجع إلى ذلك الرجل فيخبره بذلك.
قال: وكان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه ويكتب إلى المدينة يسألهم عما مضى ويعلمون بما عندهم، وكتب إلى أبي بكر بن حزم أن يجمع له السنن ويكتب بها إليه، فتوفى وقد كتب له ابن حزم كتباً قبل أن يبعث بها إليه.
قال مالك: والله ما استوحش سعيد بن المسيب ولا غيره من أهل المدينة لقول قائل من الناس، لولا أن عمر بن عبد العزيز أخذ هذا العلم بالمدينة لشككه كثير من الناس.
وقال عبد الله بن عمر بن الخطاب كتب إلي عبد الله - يعني ابن الزبير - وعبد الملك بن مروان، كلاهما يدعوني إلى المشورة، فكتبت إليهما إن كنتما تريدان المشورة فعليكما بدار الهجرة والسنة.(1/39)
وقال رجل أبي بكر بن عمر بن حزم في أمر: والله ما أدري كيف أصنع في كذا.
فقال أبو بكر: يا ابن أخي إذا وجدت أهل هذا البلد قد أجمعوا على شيء فلا يكن في قلبك منه شيء.
وقال الشافعي أيضاً: أما أصول أهل المدينة فليس فيها حيلة من صحتها.
قال ابن نافع كان مالك يرى أن أهل الحرمين إذا بايعوا لزمت البيعة أهل الاسلام.
قال مالك كان ابن سيرين أشبه الناس بأهل المدينة في ناحية ما يأخذ به.
قال أبو نعيم: سألت مالكاً عن شيء فقال لي إن أردت العلم فأقم - يعني بالمدينة - فإن القرآن لم ينزل على الفرات.
قال الشافعي: رحلت إلى المدينة فكتبت اختلافهم، زاد في رواية، في الحد.
قال مسعر قلت لحبيب بن أبي ثابت: أيما أعلم بالسنة أو الفقه أهل الحجاز أم أهل العراق؟ قال: أهل الحجاز.(1/40)
وقال الشافعي كل حديث ليس له أصل بالمدينة وإن كان منقطعاً ففيه ضعف.
وقال مالك في أثر ذكر التشهد في الوصية: هو الذي أدركت عليه الناس بهذه البلدة فلا يشك فيه فهو الحق.
قال عبد الله بن عمر: بعث عمر نافعاً إلى مصر بعلمهم السنن.
قال مجاهد وعمر بن دينار وغيرهما من أهل مكة: لم يزل شأننا متشابهاً فتناظرا حتى خرج عطاء بن أبي رباح إلى المدينة فلما رجع علينا استبان فضله علينا.
رسالة مالك إلى الليث بن سعد في هذا
من مالك بن أنس إلى الليث بن سعد.
سلام عليكم، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو.
أما بعد عصمنا الله وإياك بطاعته في السر والعلانية وعافانا وإياك من كل مكروه.
اعلم رحمك الله أنه بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا وببلدنا الذي نحن فيه(1/41)
وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك وحاجة من قبلك إليك واعتمادهم على ما جاءهم منك، حقيق بأن تخاف على نفسك وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه، فإن الله تعالى يقول في كتابه: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.
الآية.
وقال تعالى: فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه....
الآية.
فإنما الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن وأحل الحلال وحرم الحرام إذ رسول الله بين أظهرهم يحضرون الوحي والتنزيل ويأمرهم فيطيعونه ويسن لهم فيتبعونه، حتى توفاه الله واختار له ما عنده صلوات الله عليه ورحمته وبركاته.
ثم قام من بعده أتبع الناس له من أمته ممن ولي الأمر من بعده فما نزل بهم مما علموا أنفذوه، وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه، ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم وحداثة عهدهم، وإن خالفهم مخالف أو قال امرؤ غيره أقوى منه وأولى ترك قوله وعمل بغيره، ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون تلك السبيل ويتبعون تلك السنن،(1/42)
فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهراً معمولاً به لم أر لأحد خلافه للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها، ولو ذهب أهل الأمصار يقولون هذا العمل ببلدنا وهذا الذي مضى عليه من مضى منا، لم يكونوا من ذلك على ثقة، ولم يكن لهم من ذلك الذي جاز لهم.
فانظر رحمك الله فيما كتبت إليك فيه لنفسك واعلم أني أرجو أن لا يكون دعائي إلى ما كتبت به إليك إلا النصيحة لله تعالى وحده، والنظر لك والظن بك، فانزل كتابي منك منزلته، فإنك إن فعلت تعلم أني لم آلك نصحاً.
وفقنا الله وإياك لطاعته وطاعة رسوله في كل أمر وعلى كل حال.
والسلام عليك ورحمة الله، وكتب يوم الأحد لتسع مضين من صفر.
أتينا بها على وجهها بسرد فوائدها وهي صحيحة مروية.
وكان من جواب الليث عن هذه الرسالة:(1/43)
وإنه بلغك عني أني أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم وأنه يحق علي الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي فيما أفتيهم به، وأن الناس تبع لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن، وقد أصبت بالذي كتبت من ذلك إن شاء الله، ووقع مني بالموقع الذي لا أكره ولا أشد تفضيلاً مني لعلم أهل المدينة الذين مضوا ولا آخذ بفتواهم مني والحمد لله، وأما ما ذكرت من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ونزول القرآن عليه بين ظهراني أصحابه وما علمهم الله منه، وإن الناس صاروا تبعاً لهم فكما ذكرت.
أنا اختصرت هذا وأتيت منها بموضع الحاجة وبالله التوفيق.
باب ما جاء عن السلف والعلماء في الرجوع إلى عمل أهل المدينة
في وجوب الرجوع إلى عمل أهل المدينة وكونه حجة عندهم وإن خالف الأكثر(1/44)
روي أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال على المنبر: احرج بالله على رجل روى حديثاً العمل على خلافه.
قال ابن القاسم وابن وهب رأيت العمل عند مالك أقوى من الحديث، قال مالك: وقد كان رجال من أهل العلم من التابعين يحدثون بالأحاديث وتبلغهم عن غيرهم فيقولون ما نجهل هذا ولكن مضى العمل على غيره، قال مالك: رأيت محمد بن أبي بكر ابن عمر بن حزم وكان قاضياً، وكان أخوه عبد الله كثير الحديث رجل صدق، فسمعت عبد الله إذا قضى محمد بالقضية قد جاء فيها الحديث مخالفاً للقضاء يعاتبه، ويقول له: ألم يأت في هذا حديث كذا؟ فيقول بلى.
فيقول أخوه فما لك لا تقضي به؟ فيقول فأين الناس عنه، يعني ما أجمع عليه من العلماء بالمدينة، يريد أن العمل بها أقوى من الحديث، قال ابن المعذل سمعت إنساناً سأل ابن الماجشون لمَ رويتم الحديث ثم تركتموه؟ قال: ليعلم أنا على علم تركناه.
قال ابن مهدي: السنة المتقدمة من سنة أهل المدينة خير من الحديث.
وقال أيضاً إنه ليكون عندي أو نحوه.(1/45)
وقال ربيعة ألف عن ألف أحب إلي من واحد عن واحد لأن واحداً واحد ينتزع السنة من أيديكم، قال ابن أبي حازم كان أبو الدرداء يسأل فيجيب فيقال أنه بلغنا كذا وكذا بخلاف ما قال.
فيقول: وأنا قد سمعته ولكني أدركت العمل على غير ذلك، قال ابن أبي الزناد كان عمر بن عبد العزيز يجمع الفقهاء ويسألهم عن السنن والأقضية التي يعمل بها فيثبتها وما كان منه لا يعمل به الناس ألغاه، وإن كان مخرجه من ثقة، وقال مالك: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة كذا في نحو كذا، وكذا ألفاً من الصحابة، مات بالمدينة منهم نحو عشرة آلاف وباقيهم تفرق بالبلدان فأيهما أحرى أن يتبع ويؤخذ بقولهم؟ من مات عندهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين ذكرت؟ أو مات عندهم واحد أو اثنان من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال عبيد الله بن عبد الكريم: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عشرين ألف عين تطرف.(1/46)
باب بيان الحجة بإجماع أهل المدينة
فيما هو وتحقيق مذهب مالك
اعلموا أكرمكم الله أن جميع أرباب المذاهب من الفقهاء والمتكلمين وأصحاب الأثر والنظر إلب واحد على أصحابنا على هذه المسألة مخطئون لما فيها بزعمهم، محتجون علينا بما سنح لهم حتى تجاوز بعضهم حد التعصب والتشنيع إلى الطعن في المدينة وعد مثالبها وهم يتكلمون في غير موضع خلاف، فمنهم لم يتصور المسألة ولا تحقق مذهبنا فتكلموا فيها على تخمين وحدس، ومنهم من أخذ الكلام فيها ممن لم يحققه عنا، ومنهم من أطالها وأضاف إلينا ما لا نقوله فيها، كما فعل الصيرفي والمحاملي والغزالي، فأوردوا عنا في المسألة ما لا نقوله واحتجوا علينا بما يحتج به على الطاعنين على الإجماع وها أنا أفصل الكلام فيها تفصيلاً لا يجد المنصف إلى جحده بعد تحقيقه سبيلاً وأبين موضع الاتفاق فيه والخلاف إن شاء الله تعالى.
فاعلموا أن إجماع أهل المدينة على ضربين، ضرب من طريق النقل والحكاية الذي تؤثره الكافة عن الكافة وعملت به عملاً لا يخفى ونقله الجمهور عن الجمهور عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الضرب منقسم على أربعة أنواع،(1/47)
أولها ما نقل شرعاً من جهة النبي صلى الله عليه وسلم من قول كالصاع والمد، وانه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ منهم بذلك صدقاتهم وفطرتهم، وكالأذان والإقامة وترك الجهر بسم الله الرحمن الرحيم الله الرحمان الرحيم في الصلاة والوقوف (والأحباس) فتقلهم لهذه الأمور من قوله وفعله كنقلهم موضع قبره ومسجده ومنبره ومدينته وغير ذلك مما علم ضرورة من أحواله وسيره وصفة صلاته من عدد ركعاتها وسجداتها وأشباه هذا، أو نقل إقراره عليه السلام لما شاهده منهم ولم ينقل عنه إنكاره كنقل عهده الرقيق وشبه ذلك، أو نقل تركه لأمور وأحكام لم يلزمهم إياها مع شهرتها لديهم وظهورها فيهم كتركه أخذ الزكاة من الخضروات مع علمه عليه السلام بكونها عندهم كثيرة، فهذا النوع من إجماعهم في هذه الوجوه حجة يلزم المصير إليه ويترك ما خالفه من خبر واحد أو قياس، فإن هذا النقل محقق معلوم موجب للعلم(1/48)
القطعي فلا يترك لما توجبه غلبة الظنون، وإلى هذا رجع أبو يوسف وغيره من المخالفين ممن ناظر مالكاً وغيره من أهل المدينة في مسألة الأوقاف والمد والصاع حين شاهد هذا النقل وتحققه، ولا يجب لمنصف أن ينكر الحجة هذا، وهذا الذي تكلم عليه مالك عن أكثر شيوخنا ولا خلاف في صحة هذا الطريق، وكونه حجة عند العقلاء وتبليغه العلم يدرك ضرورة، وإنما خالف في تلك المسائل من غير أهل المدينة من لم يبلغه النقل الذي بها.
قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب ولا خلاف بين أصحابنا في هذا ووافق عليه الصيرفي وغيره من أصحاب الشافعي كما حكاه الآمدي، وقد خالف بعض الشافعية عناداً، ولا راحة للمخالف في قوله أن ما هذا سبيله فهم وغيرهم من اهل الآفاق من البصرة والكوفة ومكة سواء إذ قد نزل هذه البلاد وكان بها جماعة من الصحابة ونقلت السنن عنهم والخبر المتواتر من أي وجه ورد لزم المصير إليه ووقع العلم به، فصارت الحجة في النقل فلم تختص المدينة بذلك وسقطت المسألة في حق غيرهم لكن لا يوجد مثل هذا النقل كذلك عند غيرهم فإن شرط نقل التواتر تساوي طرفيه ووسطه وهذا موجود في أهل المدينة ونقلهم الجماعة عن الجماعة عن(1/49)
النبي صلى الله عليه وسلم أو العمل في عصره وإنما ينقل أهل البلاد غيرها عن جماعتهم حتى يرجعوا إلى الواحد أو الاثنين من الصحابة فرجعت المسألة إلى خبر الآحاد وبالحري أن تفرض المسألة في عمل أهل مكة في الآذان ونقلهم المتواتر عن الآذان بين يدي النبي عليه السلام بها، لكن يعارض هذا آخر من رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي مات عليه بالمدينة، ولهذا قال مالك لمن ناظره في المسألة ما أدري أذان يوم ولا ليلة هذا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن فيه من عهده ولم يحفظ عن أحد إنكاره على مؤذن فيه.
النوع الثاني: إجماعهم على عمل من طريق الاجتهاد والاستدلال، فهذا النوع اختلف فيه أصحابنا فذهب معظمهم إلى أنه ليس بحجة ولا فيه ترجيح وهذا قول كبراء البغداديين منهم ابن بكير وأبو يعقوب الرازي وأبو الحسن بن المنتاب، وأبو العباس الطيالسي، وأبو الفرج، والقاضي أبو بكر الأبهري وأبو التمام، وأبو الحسن بن القصار.
قالوا لأنهم بعض الأمة والحجة إنما هي لمجموعها، وهو قول المخالفين أجمع.
ولهذا ذهب القاضي أبو بكر ابن الخطيب وغيره، أنكر هؤلاء(1/50)
أن يكون مالك يقول هذا أو أن يكون مذهبه ولا الأئمة أصحابه، وذهب بعضهم إلى أنه ليس بحجة، ولكن يرجح به على اجتهاد غيرهم، وهو قول جماعة من متفقيهم وبه قال بعض الشافعية ولم يرتضه القاضي أبو بكر ولا محققو أيمتنا وغيرهم، وذهب بعض المالكية إلى إن هذا النوع حجة كالنوع الأول وحكوه عن مالك.
قال القاضي أبو نصر: وعليه يدل كلام أحمد بن المعذل وأبي معصب وإليه ذهب القاضي أبو الحسين بن أبي عمر من البغداديين، وجماعة من المغاربة من أصحابنا ورآه مقدماً على خبر الواحد والقياس، وأطبق المخالفون أنه مذهب مالك ولا يصح عنه كذا مطلقاً.
قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى: ولا يخلو عمل أهل المدينة مع أخبار الآحاد من ثلاثة وجوه: أما أن يكون مطابقاً لها، فهذا أأكد في صحتها إن كان من طريق النقل، وترجيحه إن كان من طريق الاجتهاد بلا خلاف في هذا إذ لا يعارضه هنا إلا اجتهاد آخرين وقياسهم، عند من يقدم القياس على خبر الواحد، وإن كان مطابقاً لخبر يعارضه خبر آخر كان عملهم مرجحاً لخبرهم وهو(1/51)
أقوى ما ترجح به الأخبار إذا تعارضت، وإليه ذهب الأستاذ أبو إسحاق الاسفراييني ومن تابعه من المحققين من الأصوليين والفقهاء من المالكية وغيرهم، وإن كان مخالفاً للأخبار جملة فإن كان إجماعهم من طريق النقل ترك له الخبر بغير خلاف عندنا في ذلك، وعند المحققين من غيرنا على ما تقدم، ولا يجب عند التحقيق تصور خلاف في هذا ولا التفات إليه، إذ لا يترك القطع واليقين لغلبات الظنون، وما عليه الاتفاق لما فيه الخلاف كما ظهر هذا للمخالف المنصف فرجع، وهذه نكتة مسألة الصاع والمد والوقوف وزكاة الخضروات وغيرها، وإن كان إجماعهم اجتهاداً أقدم خبر الواحد عليه عند الجمهور، وفيه خلاف كما تقدم من أصحابنا، فأما إن لم يكن لهم عمل بخلافه ولا وفاق فقد سقطت المسألة ووجب الرجوع إلى خبر الواحد كان من نقلهم أو من نقل غيرهم إذا صح ولم يعارض، فإن عارض هذا الخبر الذي نقلوه خبر آخر نقله غيرهم من أهل الآفاق كان ما نقلوه مرجحاً عند الأستاذ أبي إسحاق وغيره من المحققين لزيادة قرب مشاهدتهم قرائن الأحوال وتعددهم لنقل آثار الرسول عليه(1/52)
السلام وإنهم الجم الغفير عن الجم الغفير عنه.
وكثر تحريف المخالف فيما نقل عن مالك من ذلك سوى ما قدمناه فحكى أبو بكر الصيرفي وأبو حامد الغزالي أن مالكاً يقول لا يعتبر إلا بإجماع أهل المدينة دون غيره وهذا ما لا يقوله هو ولا أحد من أصحابه، وحكى بعض الأصوليين أن مالكاً يرى إجماع الفقهاء السبعة بالمدينة إجماعاً، ووجه قوله بأنه لعله كانوا عنده أهل الاجتهاد في ذلك الوقت دون غيرهم وهذا ما لم يقله مالك ولا روي عنه، وحكى بعضهم عنا إنا لا نقبل من الأخبار إلا ما صححه عمل أهل المدينة وهذا جهل أو كذب لم يفرقوا بين قولنا برد الخبر الذي في مقابله عملهم وبين من لا يقبل منه إلا ما وافقه عملهم.
فإن احتجوا علينا في هذا الفصل برد مالك حديث البيعين بالخيار الذي رواه هو وأهل المدينة بأصح أسانيدهم، وقول مالك في هذا الحديث بعد ذكره له في موطئه،(1/53)
وليس لهذا عندنا حد محدود ولا أمر معمول به، وهذه المعارضة أعظم تهاويلهم وأشنع تشانيعهم قالوا هذا رد للخبر الصحيح إذ لم يجد عليه عمل أهل المدينة حتى قد أنكره عليه أهل المدينة وقال ابن أبي ذئب فيه كلاماَ شديداً معروفاً فالجواب أنه إنما أوتيت بسوء التأويل.
فإن قول مالك هذا ليس مراده به رد البيعين بالخيار، وإنما أراد بقوله ما قال في بقية الحديث وهذا قوله إلا بيع الخيار، فأخبر أن بيع الخيار ليس له حد عندهم، ولا يتعدى إلا قدر ما نختبر فيه السلعة وذلك يختلف باختلاف المبيعات، فيرجع فيه إلى الاجتهاد والعوائد في البلاد وأحوال المبيع.
وما يراد بهذا فسر قوله أيمتنا رحمهم الله وإنما ترك العمل بالحديث لغير هذا بل تأول التفرق فيه بالقول وعقد البيع وإن الخيار لهما ما داما متراوضين، ومتساويين.
وهذا هو المعنى المفهوم من المتفاعلين وهما المتكلفان للأمر، الساعيان فيه.
وهذا يدل أنه قبل تمامه، ويعضده قوله لا يبيع أحدكم على بيع أخيه، وهذا أيضاً في لمتساويين.
فقد سماه بيعاً قبل تمامه وانعقاده،(1/54)
وقال بعض أصحابنا: الحديث منسوخ بقوله في الحديث الآخر إذا اختلف المتبايعان، فالقول ما قال البائع.
ويترادان ولو كان لهما الخيار لما احتاجا إلى تحالف وتخاصم، وقد يكون قول مالك على طريق الترجيح لأحد الخبرين بمساعدة عمل أهل المدينة.
لما خالفه كما تقدم وقد قال بحديث البيعان بالخيار والعمل به كثير، من أصحابنا: ابن حبيب.
ومما ذكره المخالفون عن مالك أنه يقول أن المؤمنين الذين أمر الله تعالى بإتباعهم هم أهل المدينة ومالك لا يقول هذا.
وكيف يقوله وهو يرى أن الإجماع حجة ومما عارض به المخالف أن قالوا إذا سلمنا باب النقل الذي ذكرتم فما فائدة الإجماع والعمل؟ ومتى حصل النقل عن جماعة يحصل العلم بخبرهم وجب الرجوع إليه وإن خالفهم غيرهم فما فائدة ذكرهم الإجماع مع الاتفاق على هذا؟ فالجواب أنا نقول: إذا نقل البعض فلا يخلو الباقون أن يؤثر عنهم خلاف أو لا يؤثر، فإن لم يؤثر فهو ما أردناه، وإن علم الخلاف فإن كان من القليل لم يلتفت إليه ولم يقدح مخالفة القليل في الإجماع النقلي، وقد اختلف في مخالفة القليل فالإجماع الإجماع على ما قرره(1/55)
أرباب الأصول الذي شرطه في التحقيق أطباق ملأ المجتهدين.
وأما النقل فإنما يحتاج فيه عدد يوجب لنا العلم فإذا خالف فيه القليل نسب إليه الغلط والوهم إذ القطع نقل، التواتر وصحته يبطل خلافه، وأما إن كان الخلاف من جماعة آخرين وجمهور ثان متواتر أيضاً فقد قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب هذا نقل متعارض لا يكون حجة وليست مسألتنا.
قال القاضي أبو الفضل رضي الله تعالى عنه: وعندي أن تصور هذه النازلة يستحيل إذ نقل المتواتر موجب للعلم الضروري إذا جاء على شروطه ولا يصح أن يعارضه تواتر آخر لأنه يقضي أن أحدهما باطل محال، وهذا مما لا يصححه العقل ولا يصح كونهما جميعاً حقاً، ولا كونهما جميعاً باطلا، فسقط السؤال كرة.
إلا أن يكون النقل المتواتر المتعارض في نازلتين معينتين أن حالين مختلفين أو وقتيين متغايرين فيحكم فيهما بحكم الدليلين الصحيحين المتعارضين، وينظر إلى الجمع بينهما إن أمكن، وقصر كل واحد على نازلته وبابه أو الرجوع إلى التاريخ والحكم بالنسخ وغير ذلك من الحكم في التعارض والترجيح، وموضع بسطه أصول الفقه،(1/56)
قالوا فإذا تقرر ما بسطتموه رجع إلى نقلهم وتواتر خبرهم وعملهم، وبه الحجة، فما معنى تسميتهم إجماعاً؟ قلنا: معناه إضافة النقل والعمل إلى الجميع من حيث لم ينقل أحد منهم ولا عمل بما يخالفه، فإن قيل فقد حلتم المسألة وصرتم من إجماع إلى إجماع على نقل بقول أو عمل، فالجواب: إن موجب الكلام لنا في هذه المسألة مخالفة العراقيين وغيرهم لنا في مسائل طريقا النقل والعمل المستفيض اعتمدوا فيها على أخبار آحاد واحتج أصحابنا بنقل أهل المدينة وعملهم المجمع عليه المتواتر على تلك الأخبار لما قدمناه.
فإن قالوا فقد قال الله تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) وهذا رد إلى غير الرسول إذ تقرر عندنا بالنقل المتواتر إن ذلك العمل هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمله وإقراره.
قال القاضي أبو الفضل رضي الله تعالى عنه فأما قول من قال من أصحابنا أن إجماعهم من طريق الاجتهاد حجة فحجته، ما لهم من فضل الصحبة والمخالطة والملابسة والمساءلة ومشاهدة الأسباب والقرائن، ولكل(1/57)
هذا فضل ومزية في قوة الاجتهاد، وقد قال أصحابنا ومخالفونا: إن تفسير الصحابي الراوي لأحد محتملي الخبر أولى من تفسير غيره وحجة يترك لها تفسير من خالفه لمشاهدة الرسول وسماعه ذلك الحديث منه وفهمه من حاله ومخرج ألفاظه وأسباب قضيته ما يكون له به من العلم بمراده ما ليس عند غيره فرجع تفسيره لذلك فكذلك إجماع أهل المدينة بهذا السبيل واجتهادهم مقدم على غيره فمن نأت داره ولم يبلغه إلا مجرد خبر معرى من قرائنه سليب من أسباب مخارجه.
وهذا ما رجح الشافعي أحاديث شيوخ الصحابة على حديث أسامة في الدماء، قال لأن ابن عمر وعبادة والمشيخة أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم من أسامة، ولهذا رجح الأصوليين والفقهاء قياس الصحابي على قياس غيره ولذلك رجح كثير منهم لعمل الصحابي بل للحديث إذا رواه على غيره من حديث لم يعمل به راويه، وقد قال الشافعي مرة: إجماع أهل المدينة أحب إلي من القياس، وهذا قول بأن إجماعهم حجة في وجه بخلاف إجماع غيرهم الذي لا خلاف بين أحد أنه لا تأثير له في الأحكام، إلا ما حكي عن بعض الأصوليين أن إجماع أهل الحرمين والمصرين حجة كما قدمناه وما رجح به أهل الأصول في تعارض الأخبار بعمل أهل مكة والمدينة.
وهذا - أكرمكم الله تعالى - منتهى الكلام في هذا الباب، ولباب العقول(1/58)
والألباب ومترع في المسألة من التحقيق والتدقيق يشهد له كل منصف بالصواب.
مذهب مالك
باب ترجيح مذهب مالك
والحجة في وجوب تقليده وتقديمه على غيره من الأئمة
قال القاضي أبو الفضل رضي الله تعالى عنه: رأينا البداية قبل الخوض في هذا ماسة إلى تقديم مقدمة وتمهيد قاعدة لموجب التقليد عليها ينبني الكلام فيما قصدناه فأقول: اعلموا وفقنا الله تعالى وإياكم أن حكم المتعبد بأوامر الله تعالى ونواهيه المتشرع بشريعة نبيه عليه السلام طلب معرفة ذلك وما يتعبد به، وما يأتيه ويذره، ويجب عليه ويحرم، ويباح له ويرغب فيه من كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه السلام، فهما الأصلان اللذان لا تعرف الشريعة إلا من قبلهما ولا يعبد الله تعالى إلا بعلمهما ثم إجماع المسلمين مرتب عليهما ومسند إليهما فلا يصح أن يوجد وينعقد إلا عنهما، إما من نص عرفوه ثم تركوا نقله، ومن اجتهاد مبني عليهما على القول بصحة الإجماع من طريق الاجتهاد، وهذا كله لا يتم إلا بعد تحقيق العلم بذلك الطريق والآلات الموصلة إليه من نقل ونظر وطلب قبله وجمع وحفظ وعلم وما صح من السنن واشتهر، ومعرفة كيف يتفهم وما به يتفهم من علم ظواهر الألفاظ(1/59)
وهو علم العربية واللغة وعلم معانيها وعلم موارد الشرع ومقاصده ونص الكلام وظاهره وفحواه وسائر نواحيه وهو المعبر عنه بعلم أصول الفقه وأكثره يتعلق بعلم العربية ومقاصد الكلام والخطاب، ثم يأخذ قياس ما لم ينص عليه على ما نص بالتنبيه على علته أو شبيهاً له.
وهذا كله يحتاج إلى مهلة والتعبد لازم لحينه، ثم إن الواصل إلى هذا الطريق وهو طريق الاجتهاد والحكم به في الشرع قليل وأقل من القليل بعد الصدر الأول والسلف الصالح والقرون المحمودة الثلاثة وإذا كان هذا فلا بد لمن لم يبلغ هذه المنزلة من المكلفين أن يتلقى ما تعبد به وكلف به من وظائف شريعته ممن ينقله له ويعرفه به ويثبته عليه في نقله وعلمه وحكمه وهو التقليد ودرجة عوام الناس بل أكبرهم هذا، وإذا كان هذا فالواجب تقليد العالم لموثوق بذلك، فإذا كثر العلماء فالأعلم وهذا حظ المقلد من الاجتهاد لدينه ولا يترك المقلد الأعلم ويعدل إلى غيره وإن كان يشتغل بالعلم فيسأل حينئذ عما لا يعلم حتى يعلمه.
قال الله تعالى: (فاسألوه أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإقتداء بالخلفاء بعده وأصحابه، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في الناس ليفقهوهم في الدين،(1/60)
ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم وإذا كان هذا الأمر لازماً لا بد منه فكان أولى من قلده العامي الجاهل (والمبتدىء) المتعبد والطالب المسترشد والمتفقه في دين الله تعالى وأحق بذلك فقهاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أخذوا عنه العلم وعلموا أسباب نزول الأوامر والنواهي ووظائف الشرائع ومخارج كلامه عليه السلام.
وشاهدوا قرائن ذلك وثاقبوا في أكثرها النبي عليه السلام واستفسروه عنها مع ما كانوا عليه من سعة العلم ومعرفة معاني الكلام وتنوير القلوب وانشراح الصدور، فكانوا أعلم الأمة بلا مرية وأولاهم بالتقليد لكنهم لم يتكلموا من النوازل إلا في اليسير مما وقع، ولا تفرعت عنهم المسائل ولا تكلموا من الشرع إلا في قواعد ووقائع، وكان أكثر اشتغالهم بالعمل مما علموا والذبّ عن حوزة الدين وتوكيد شريعة المسلمين ثم بينهم من الاختلاف في بعض ما تكلموا فيه ما يبقي المقلد في حيرة ويحوجه إلى نظر وتوقف، وإنما جاء التفريع التنتيج وبسط الكلام فيما يتوقع وقوعه بعدهم، فجاء التابعون فنظروا في اختلافهم وبنوا على أصولهم ثم جاء من بعدهم العلماء من أتباع التابعين، والوقائع قد كثرت والنوازل قد حدثت، والفتاوى في ذلك قد تشعبت فجمعوا أقاويل الجميع وحفظوا فقههم وبحثوا عن اختلافهم واتفاقهم وحذروا انتشار الأمر وخروج الخلاف عن الضبط(1/61)
فاجتهدوا في جمع السنن وضبط الأصول وسألوا فأجابوا وبنوا القواعد ومهدوا الأصول وفرعوا عليها النوازل ووضعوا في ذلك للناس التصانيف وبوبّوها، وعمل كل واحد منهم بحسب ما فتح عليه ووفق له، فانتهى إليهم علم الأصول والفروع والاختلاف والاتفاق وقاسوا على ما بلغهم ما يدل عليه ويشبه، رضي الله عن جميعهم ووفاهم أجر اجتهادهم فالمتعين على المقلد العامي وطالب العلم المبتدىء أن يرجع في التقليد لهؤلاء لنصوص نوازله والرجوع فيما أشكل من ذلك إليهم، ولاستغراق علم الشريعة ودورها عليهم وأحكامهم النظر في مذاهب من تقدمهم وكفايتهم ذلك لمن جاء بعدهم، لكن تقليد جميعهم لا يتفق في أكثر النوازل وجمهور المسائل لاختلافهم باختلاف الأصول التي بنوا عليها ولا يصلح أن، يقلد المقلد من شاء منهم على الشهوة والبحث أو على ما وجه عليه أهل قطره وآله، فحظه هنا من الاجتهاد النظر في أعلمهم ويعرف الأولى بالتقليد من جملتهم حتى يركن العامي في أعماله إلى فتواه ويجتهد في تعبداته على ما رآه وينصب العامي الأعلم من ملتزمي مذاهب هؤلاء منصبه، ولا يحل له أن يعدو في استفتائه من لا يرى مذهبه، فقد قال بعض المشائخ: إن(1/62)
الإمام لمن التزم تقليد مذهبه كالنبي عليه السلام مع أمته، ولا يحل له مخالفته.
وهذا صحيح في الاعتبار مما بسطناه وشرطناه يظهر صوابه لأولي البصائر والأبصار وكذلك يلزم هذا طالب العلم في بدايته في درس ما أصله الأعلم من هؤلاء وفرعه وحفظ ما ألفه وجمعه والاهتداء بنظره في ذلك والميل حيث مال معه إذ لو ابتدأ الطالب في كل مسألة فطلب الوقاف على الحق منها بطريق الاجتهاد عسر عليه ذلك إذ لا يتفق له إلا بعد جمع خصاله وتناهي كماله، وإذا كان بهذا السبيل استغنى عن تقليد أرباب المذاهب وكان من المجتهدين لنفسه فسبيله أن يقلد من يعرفه أن، هذا هو الحق، حتى إذا أدرك من العلم ما قيض له وحصل منه ما قسم الله تعالى له وأفلح وكان فيه عمل للنظر والاجتهاد انتقل إلى ذلك وأدركه، فإذا تقررت هذه المقدمة فنقول: قد وقع إجماع المسلمين في أقطار الأرض على تقليد هذا النمط واتباعهم ودرس مذاهبهم دون من قبلهم ومع الاعتراف بفضل من قبلهم وسبقه ومزيد علمه، لكن للعلل التي ذكرنا وكفاية ما نحلوه وانتقوه من ذلك كما قدمنا.(1/63)
ثم اختلفت الآراء والهمم في تعيين المقلد منهم بحسب ما اعتقدوه فيه أنه هو الأعلم والأولى بالإتباع، أما من اعتقاد اعتقدوه أو انتشار ذكر وثناء سمعوه أو من اتباع له اعتمدوه أو من تقليد لآبائهم أو أهل بلادهم نشأوا عليه وألفوه، فكان المقلدون المقتدى بمذاهبهم أصحاب الأتباع في سائر الأقطار البقاع كثرة قبل مالك بن أنس بالمدينة وأبو حنيفة والثوري بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة على ما تقدم منه، والأوزاعي بالشام، والشافعي بمصر، وأحمد بن حنبل (بعده) ببغداد وكان لأبي ثور هناك أيضاً أتباع.
ثم نشأ ببغداد أبو جعفر الطبري وداود الأصبهاني فألفا الكتب واختارا(1/64)
في المذاهب على آراء أهل الحديث واطرح داود منها القياس وكان لكل واحد منهما أتباع، وسرت جميع هذه المذاهب في الآفاق فغلب مذهب مالك على الحجاز والبصرة ومصر وما والاها من بلاد أفريقية والأندلس وصقلية والمغرب الأقصى إلى بلاد من أسلم من السودان إلى وقتنا هذا وظهر ببغداد ظهوراً كثيراً وضعف بها بعد أربعمائة سنة وضعف بالبصرة بعد خمسمائة سنة وغلب من بلاد خراسان على قزوين وأبهر وظهر بنيسابور وكان با وبغيرها أئمة ومدرسون سنذكر منهم بعد في طبقاتهم من ألهم الله تعالى إليه، وكان ببلاد فارس وانتشر باليمن وكثير من بلاد الشام، وغلب مذهب أبي حنيفة على الكوفة والعراق وما وراء النهر وكثير من بلاد خراسان إلى وقتنا وظهر بإفريقية ظهوراً كثيراً إلى قريب من أربعمائة عام فانقطع منها ودخل منه شيء ما وراءها من المغرب قديماً بجزيرة الأندلس وبمدينة فاس(1/65)
وغلب مذهب الأوزاعي على الشام وعلى جزيرة الأندلس أولاً إلى أن، غلب عليها مذهب مالك بعد المائتين فانقطع، وأما مذهب الحسن والثوري فلم يكثر أتباعهما ولم يطل تقليدهما وانقطع مذهبهما عن قريب، وأما الشافعي فكثر أتباعه وظهر مذهبه ظهور مذهبي مالك وأبي حنيفة قبله وكان أول ظهوره بمصر وكثر أصحابه بها مع المالكية وبالعراق وبغداد وغلب عليها وعلى كثير من بلاد خراسان والشام واليمن إلى وقتنا(1/66)
أتباعهم والاقتداء بمذاهبهم ودرس كتبهم والتفقه على مآخذهم والبناء على قواعدهم والتفريع على أصولهم دون غيرهم ممن تقدمهم أو عاصرهم، للعلل التي ذكرناها، وصار الناس اليوم في أقطار الدنيا إلى خمسة مذاهب مالكية وحنفية وشافعية وحنفية وحنبلية وداودية وهم المعرفون بالظاهرية.
فحق على طالب العلم ومريد تعرف الصواب والحق أن يعرف أولاهم بالتقليد ليعمل على مذهبه ويسلك في التفقه سبيله، وها نحن نبين أن مالكاً رحمه الله تعالى هو ذلك لجمعه أدوات الإمامة وتحصيله درجة الاجتهاد وكونه أعلم القوم بأهل زمانه وأطباق أهل وقته على شهادتهم له بذلك وتقديمه، وهو القدوة والناس إذ ذاك ناس والزمان زمان، ثم للأثر الوارد في عالم المدينة التي هي داره وانطلاق هذا الوصف ولإضافة على ألسنة الجماهير، وموافقة أحواله الحال التي أخبر في الحديث عنه وتأويل السلف الصالح أنه المراد به، وتفصيل الكلام في ذلك وبسطه في فصلين(1/67)
أولهما ما اعتمد النقل والأثر وفي ذلك ترجيحان، والثاني مسلكه الاعتبار والنظر، وفيه ثلاث ترجيحات فانتهينا في ترجيح مذهبه وعظيم قدره في العلم وعلو منصبه إلى خمس حجج كلها أتينا فيها بمبلغ الوسع بما يقطع الغدر ويكاد ينتهي بعضها إلى مدارك القطع.
الفصل الأول
في ترجيحه من طريق النقل
اعلموا وفقكم الله تعالى أن ترجيح مذهب مالك على غيره وأنافة منزلته في العلم وسمو قدره من طريق النقل والأثر لا ينكره إلا معاند أو قاصر لم يبلغه ذلك مع اشتهاره في كتب المخالف والمساعد، وها نحن نقرر الكلام في ذلك في حجتين أولاهما: بالتقديم وهو الأثر المشهور الصحيح المروي في ذلك من رسول الله عليه السلام من حديث الثقات، منهم سفيان بن عيينة عن أبي جريج عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم.
وفي رواية يلتمسون العلم فلا(1/68)
يجدون عالماً أعلم، وفي رواية من عالم المدينة وفي بعضها أباط الإبل مكان أكباد الإبل، وقد رواه غير سفيان عن ابن جريج بمثل حديث سفيان منهم المحاربي موقوفاً على أبي هريرة ومحمد بن عبد الله الأنصاري في سند وهو ثقة مأمون.
وهذا الطريق أشهر طرقه ورجال هذا الطريق رجال مشاهير ثقات خرج عن جميعهم البخاري ومسلم وأهل الصحيح ورواه أيضاً المقبري عن أبي هريرة بلفظ آخر حدث به القاضي أبو البختري وهب بن منتبه عن عبد الأعلى بن عبد الله عن القبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تنقضي الساعة حتى يضرب الناس أكباد الإبل من كل ناحية إلى عالم المدينة يطلبون علمه إلا أن أبا البختري ضعيف عندهم وقد رواه النسائي أيضاً، وخرجه في مصنفه عن علي بن محمد بن كثير عن سفيان عن أبي الزناد عن أبي صالح عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تضربون أكباد الإبل وتطلبون العلم فلا تجدون عالماً أعلم من عالم المدينة.
قال النسائي هذا خطأ والصواب أبو الزبير عن أبي صالح.(1/69)
ورواه أيضاً أبو موسى الأشعري عن النبي عليه السلام بلفظ آخر حدث به معن بن عيسى عن أبي المنذر التميمي زهير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج ناس من المشرق والمغرب في طلب العلم فلا يجدون عالماً أعل من عالم المدينة.
وذكر ابن حبيب حديثاً يسنده عن أبي صالح
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تنقطع الدنيا حتى يكون عالماً بالمدينة تضرب إليه أكباد الإبل ليس على ظهر الدنيا أعلم منه.
قال سفيان بن عيينة من غير طريق واحد: نرى أن المراد بهذا الحديث مالك بن أنس، وفي رواية هو مالك بن أنس ومثله عن ابن جريج وعبد الرزاق وروي عن سفيان أنه قال كنت أقول هو ابن المسيب حتى قلت: كان في زمن ابن المسيب سليمان وسالم وغيرهما ثم أصبحت اليوم أقول أنه مالك.
وذلك أنه عاش حتى لم يبق له نظير بالمدينة،(1/70)
وهذا هو الصحيح عن سفيان رواه عنه الثقات والأئمة ابن مهدي، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، والزبير بن بكار، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وذويب بن غمامة السهمي وغيرهم (كلهم) سمع سفيان يقول في تفسير الحديث إذا حدثهم به: هو مالك أو أظنه أو أحسبه أو أراه وكانوا يرونه، قال ابن مهدي يعني سفيان بقوله كانوا يرونه التابعين.
قال القاضي أبو عبد الله التستري هو أخبار عن غيره من نظرائه أو ممن هو فوقه وأن منزلته كانت في نفوسهم هذه المنزلة لما شاهدوه من حاله التي تشبه ما أخبر به في الحديث، قال وقد جاءت هذه الأحاديث بلفظين أحدهما: لا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة، والآخر: من عالم بالمدينة، ولكل واحد منهما معنى صحيح.
فأما قوله من عالم بالمدينة فإشارة إلى رجل يعينه يكون بها لا بغيرها ولا نعلم أحداً انتهى إليه علم أهل المدينة وأقام بها ولم يخرج عنها ولا استوطن سواها في زمن مالك مجمعاً عليه إلا مالكاً.
ولا أفتى بالمدينة وحدث(1/71)
نيفاً وستين سنة أحد من علمائها يأخذ عنه أهل المشرق والمغرب ويضربون إليه أكباد الإبل غيره.
وأما رواية عالم المدينة أو أهل المدينة فقد ذكر محمد بن إسحاق المخزومي أبو المغيرة أن تأويل ذلك ما دام المسلمون يطلبون العلم فلا يجدون أعلم من عالم المدينة كان بها أو بغيرها.
فيكون على هذا سعيد بن المسيب لأنه النهاية في وقته ثم بعده غيره ممن هو مثله من شيوخ مالك، ثم بعدهم مالك ثم بعده من قام بعلمه وصار أعلم أصحابه بمذهبه، ثم هكذا ما دام للعلم طالب ولمذهب أهل المدينة إمام.
ويجوز على هذا أن يقال هو ابن شهاب في وقته والعمري في وقته ومالك في وقته، ثم إذا أجمعت اللفظتان اختص مالك بقوله من عالم بالمدينة ودخل في جملة علماء المدينة باللفظ الآخر، وقال بعض المالكية إذا اعتبرت كثرة من روى عن مالك من العلماء ممن تقدمه وعاصره أو تأخر عنه على اختلاف طبقاتهم وأقطارهم وكثرة الرحلة إليه والاعتماد في وقته عليه، دل بغير مرية أنه المراد بالحديث.
إذ لم نجد لغيره من علماء المدينة ممن تقدمه أو جاء بعده من الرواة والآخذين إلا بعض من وجدناه وقد جمع الرواة عنه غير واحد، وبلغ بهم بعضهم في تسمية من(1/72)
علم بالرواية عنه سوى من لم يعلم ألف راو واجتمع من مجموعهم زائداً على الألف وثلاثمائة، ويدل كثرة قصدهم له كونه أعلم أهل وقته وهو الحال والصفة التي أنذر بها عليه السلام لم يسترب السلف أنه هو المراد بالحديث وعد هذا الخبر من معجزاته وآياته عليه السلام مما أخبر به من الكائنات فوقعت كما أخبر به عليه الصلاة والسلام.
وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: أما أنه لا ينازعنا في هذا الحديث أحد من أرباب المذاهب.
إذ ليس منهم من له إمام من أهل المدينة.
فبقول المراد به إمامي.
ونحن ندعي أنه صاحبنا بشهادة السلف وبأنه إذا أطلق بين أهل العلم عالم المدينة وإمام دار الهجرة فالمراد به مالك عندهم دون غيره من علمائها.
كما إذا قيل قال الكوفي فالمراد به أبو حنيفة دون سائر فقهاء الكوفة.
قال القاضي أبو الفضل رضي الله تعالى عنه: فوجه احتجاجنا بهذا الحديث من أنه مالك من ثلاثة أوجه، أحدها تقييد السلف بأن المراد الحديث هو حسبما نقلنا عنهم وما كانوا ليقولوا ذلك إلا عن تحقيق ولا ليذيعوه بهوى وهم المبرؤون من(1/73)
ذلك مع تنافس الأقران وما جبلت عليه القلوب من قلة الإنصاف للأمثال فكيف فضل هذا.
الوجه الثاني أنك إذا اعتبرت ما أوردناه من شهادة السلف الصالح بأنه أعلم من على ظهر الأرض وأعلم من بقي وأعلم الناس وإمام الناس، وعالم المدينة وإمام دار الهجرة وأمير المؤمنين في الحديث، وأعلم علماء المدينة وتعويلهم عليه واقتداؤهم به وإجماعهم على تقديمه وطالعت ذلك فيما نورده من أخباره ظهر وبان أنه المراد بالحديث إذ لم تحصل هذه الأوصاف لغيره ولا أطبقوا على هذه الشهادة لسواه.
الوجه الثالث هو ما نبه عليه بعض الشيوخ من أن طلبة العلم لم يضربوا أكباد الإبل من شرق الأرض وغيرها ولا رحلوا إليه من الآفاق رحلتهم إلى مالك، لما اعتقدوا فيه من تقديمه على سائر علماء وقته، ولو اعتقدوا ذلك في غيره لما ولوا إليه فالناس أكيس من إن يحمدوا رجلاً من غير أن يجدوا آثار إحسان.
الترجيح الثاني في هذا الفصل من طريق النقل(1/74)
والمعتمد فيه مجرد تقليد السلف وأئمة المسلمين وعلمائهم في المسألة وبالاعتراف لمالك رحمه الله تعالى بأنه أعلم وقته وإمامه وأعلم الناس وأعلم علماء المدينة وأشباه هذا من شهادتهم له بذلك واعترافهم به وتقليدهم إياه واقتدائهم به على رسوخ كثير منهم في العلم وترجيحهم مذهبه على مذهب غيره مما سنورد في بابي ثنائهم عليه واقتدائهم به بعد هذا عند ذكرنا شمائله ومناقبه وهما بابان متسعان.
وسنورد هنا لمعاً من ذلك تومي إلى ما وراءها إن شاء الله تعالى.
من ذلك تومي إلى ما وراءها إن شاء الله تعالى.
من ذلك قال ابن هرمز شيخه فيه أنه عالم الناس، وقال سفيان بن عيينة لما بلغه وفاته ما ترك على الأرض مثله، وقال: مالك إمام ومالك عالم أهل الحجاز، ومالك حجة في زمانه ومالك سراج الأمة، وما نحن ومالك إنما كنا نتبع آثار مالك، وقال الشافعي: مالك أستاذي وعنه أخذنا العلم وما أحد أمن علي(1/75)
من مالك وجعلت مالكاً حجة بيني وبين الله تعالى، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم الثاقب ولم يبلغ أحد مبلغ مالك في العلم لحفظه وإتقانه وصيانته، وقال: العلم يدور على ثلاثة مالك والليث وسفيان بن عيينة، وحكي عن الأوزاعي أنه كان إذا ذكره قال: قال عالم العلماء وعالم أهل المدينة ومفتي الحرمين، وقال بقية بن الوليد: ما بقي على وجه الأرض أعلم بسنة ماضية ولا باقية منك يا مالك، وقال أبو يوسف: ما رأيت أعلم من ثلاثة، فذكر مالكاً وأبا حنيفة وابن أبي ليلى، وقال ابن مهدي - وسئل عن مالك وأبي حنيفة - مالك أعلم من أستاذي أبي حنيفة، وقدمه ابن حنبل على الأوزاعي والثوري والليث وحماد، والحكم في العلم.
وقال: هو إمام في الحديث والفقه، وسئل عمن يريد أن يكتب الحديث وينظر في الفقه حديث من يكتب؟ وفي رأي من ينظر؟ فقال حديث مالك ورأي مالك،(1/76)
وقال يحيى بن سعيد القطان: مالك إمام يقتدى به، وقال ابن معين: مالك من حجج الله ما خلقه.
إمام من أئمة المسلمين مجمع على فضله، وقال أيوب بن سويد: مالك إمام دار الهجرة، وقال أبو جعفر المنصور أنه أعلم أهل الأرض.
وقال سعيد بن الحداد كان مالك من الراسخين في الإسلام أرسخ في العلم من الجبال الراسيات، وقال حميد بن الأسود كان إمام الناس عندنا بعد عمر زيد بن ثابت وبعده عبد الله بن عمر قال علي بن المديني وأخذ من زيد ممن كان يتبع رأيه واحد وعشرون رجلاً.
ثم صار علم هؤلاء إلى ثلاث ابن شهاب وبكير بن عبد الله وأبي الزناد، وصار علم هؤلاء كلهم إلى مالك بن أنس، وقال أسد بن الفرات: إن أردت الله والدار الآخرة فعليك بمالك بن(1/77)
أنس، قال حماد بن زيد: دخلت المدينة ومنادياً ينادي لا يفتي الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحدث إلا مالك بن أنس، وقد استوعبنا هذه الشهادات والاعتراف بعد هذا، وقد اعترف له بالعلم والإمامة يحيى بن سعيد شيخه والأوزاعي والليث وابن المبارك وجماعة من هذا النمط ومن بعدهم كالبخاري ومحمد بن عبد الحكم وأبو زرعة الرازي ومن لا ينعد كثرة.
وكذلك ذكرنا في الباب الآخر اقتداء السلف وأهل العصر من العلماء، وسائر الناس به ونحن نذكر هنا شيئاً من ذلك، قال سعيد بن منصور رأيت مالكاً يطوف وخلفه سفيان الثوري كلما فعل مالك شيئاً فعله يقتدى به،(1/78)
قال ابن أبي أويس كان الناس كلهم يصدون عن رأي مالك وكان للأمير عنه رجال يسأله وكذلك القاضي والمحتسب، وسأل رجل ابن عيينة عن الضحية بالليل فقال له سفيان لا بأس بذلك فقال له ابن وهب فإن مالكاً قال لا يضحى بالليل فقرأ في أيام معلومات، فنادى سفيان بالرجل وقال: أن هذا أخبرني عن مالك أنه لا يضحى بليل، وقال حميد: أهل المدينة بعد زيد بن ثابت كما تقلدوا قول مالك، وقال عتيق بن يعقوب: ما اجتمع أحد بالمدينة إلا أجمع عليه، ونطالع بعد هذا بقية ما شابه ما ذكرناه.
الفصل الثاني
في ترجيحه من طريق الاعتبار والنظر
وفيه ثلاث اعتبارات(1/79)
الاعتبار الأول أن نبين جمع مالك لدرجات الاجتهاد في الدين وحوزه خصال الكمال في العلم، وبلوغه في ذلك المنزلة التي لم يبلغها أحد من هؤلاء المقلدين، قاصداً بذلك مقصد الحق غير راكن إلى التعصب قائماً بالصدق ومقتصداً فيما أذكره من ذلك غير مستبيح عرض أحد من الأئمة، وقاده الخلق.
وها هنا معارك النزاع والاعتلاج ومثار العناد واللجاج.
فأقول والمستعان الله: لا خفاء على منصف من الإمامة في علوم الشريعة وعلم الكتاب والسنة وأنه إمام المسلمين وأعلمهم في وقته بسنة ماضية وباقية وأمير المؤمنين في الحديث ثم العلم بالاختلاف والاتفاق، وهذا كله ما لا ينكره مخالف ولا مؤالف إلا من طبع على قلبه التعصب، وأنه القدوة في السنن وهو أول من ألف فأجاد التأليف ورتب الكتب والأبواب وضم الأشكال وصنع من ذلك ما اتخذه المؤلفون بعده قدوماً وإماماً، إلى وقتنا هذا في أقطار الأرض، هذا مع صفوة الابتداء وخيرة الاختراع وهو أول من تكلم في غريب الحديث وشرح موطئه(1/80)
الكثير منه، وقد قال الأصمعي أخبرني مالك أن الاستجمار هي الاستطابة ولم أسمعه إلا من مالك، وله في تفسير القرآن كلام كثير.
وقد جمع، وتفسير رواه عنه بعض أصحابه، وقد جمع أبو محمد مكي مصنفاً فيما روي عنه من التفسير والكلام في معاني القرآن وأحكامه مع تجويده له وإحسان ضبط حروفه، وقد ذكره أبو عمرو المقري في كتابه في طبقات القراء المتصدرين وذكر رواية عن نافع، قال البهلول ابن راشد وغيره ما رأيت أنزع بآية من مالك بن أنس مع معرفته بالصحيح والسقيم والمعمول به من الحديث المتروك، وميزة الرجال وصحة حفظه وكثرة نقده إلى ما يؤثر عنه من الكلام في غير ذلك من العلوم كرسالته إلى ابن وهب في الرد عى أهل القدر، وكقوله: جالست ابن هرمز ثلاث عشرة سنة، ويروى ست عشرة سنة في علم لم أبثه لأحد من الناس.(1/81)
قال: وكان من أعلم الناس بالرد على أهل الأهواء، وبما اختلف فيه الناس، وقال المهدي: أخبرني بعض نقاد المعتزلة من القرويين قال: أتيت مالك بن أنس فسألته عن مسألة من القدر بحضرة الناس فأومأ إلي أن اسكت فلما خلا المجلس قال لي سل الآن وكره أن يجبني بحضرة الناس.
قال: فزعم المعتزلي أنه لم تبق مسألة من مسائلهم إلا سأله عنها وأجابه فيها، وأقام الحجة على أبطال مذهبهم حتى نفذ ما عند المعتزلي وأقام عنه، وتأليفه في الأوقات وفي النجوم وإشاراته إلى مأخذ الفقه وأصوله التي اتخذها أهل الأصول من أصحابه معالم اهتدوا بها وقواعد بنوا عليها وغيره ممن ذكرنا، لم يجمع هذا الجمع ولا وصل هذا الحد مع اشتغالهم الفقه ووصفهم بالعلم ولكن فوق كل ذي علم عليم، مع الثقة التامة والتقوى وشدة التحري في الحديث والفتيا.
وبهذا الوجه احتج الشافعي على محمد بن الحسن في ترجيح علم مالك على علم أبي حنيفة حين تناظرا في ذلك فقال له الشافعي: الإنصاف تريد أم المكابرة.
قال الإنصاف،(1/82)
قال الشافعي ناشدتك الله فمن أعلم بكتاب الله وناسخه ومنسوخه قال محمد ابن الحسن: اللهم صاحبكم، فقال الشافعي: فمن أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم صاحبكم، قال الشافعي فمن أعلم بأقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم صاحبكم، قال الشافعي فلم يبق إلا القياس.
قال محمد صاحبنا أقيس، قال الشافعي القياس لا يكون إلا بهذه الأشياء فعلى أي شيء يقيس، ثم قال الشافعي ونحن ندعي لصاحبنا ما لا تدعونه لصاحبكم، وفي رواية وصاحبنا لم يذهب عليه القياس ولكنه كان يتوقى ويتحرى ويريد التأسي من تقدمه فرحم الله تعالى الشافعي ومحمد بن الحسن فلقد أنصفا والذي قاله الشافعي هو حق اليقين فإن الاجتهاد واليقين والقياس والاستنباط إنما يكون على الأصول فمن كان أعلم بها كان استنباطه أصح وقياسه أحق وإلا فمتى(1/83)
اختلت معرفته بالأصول قاس على اغترار، وبنى على شفا جرف هار، وقد احتج بهذه الحكاية الإمام أبو إسحاق الشيرازي على الخراسانيين في اقتصارهم في النظر على المسائل القياسيات المسماة عندهم بالطبوليات لتنتج الكلام فيها ومد أنفاس الجدال بين أهلها، وإذا كان بإتفاق ما قاله الشافعي وهو الحق وهو قول جماهير العلماء أن الاجتهاد لا يصح والقياس إلا لمن جمع آلته من علم الكتاب والسنة وأحكم ذلك على ما يجب، ثم جمع إلى ذلك من آلات الاجتهاد وفهم الألفاظ والمعاني وتصريفها ما لا غنى له عنه، ثم عرف مواضع الإجماع والاتفاق ومسائل الخلاف والنزاع فمتى اختل على العالم شيء من ذلك كان غضاً من إمامته ونقصاً من كماله، ولم يصح له الاجتهاد ولا ساغ له النظر في الدين إلا بإجتماع ذلك.
ومتى أخل بأحد هذه القواعد فلا يحل له الاجتهاد في الدين ولا الفتوى بين المسلمين ولا القياس على ما يبلغه.
وقد تقرر استقلال مالك بهذه الأصول على السنة المولف والمخالف، ولا يلتفت إلى متعصب نعق آخر الزمان بما أراد به الغض منه في الاجتهاد(1/84)
وما غض إلا من نفسه، مع تصريحه عنه بأنه أعلم علماء المدينة وأمير المؤمنين في الحديث وإمامة الشافعي تكذب هجر قوله، وأئمة الهدى وأعلام العلماء ممن ذكرنا وممن سنذكر إن شاء الله تعالى يخالفه ويشهد بتهافته فيما قال وجهله، ثم نظرنا إلى الأئمة لمقلدين في عصره فلم نجد واحداً منهم جمع من ذلك ما جمع ولا اضطلع بهذه الأصول كما اضطلع.
وأما أبو حنيفة والشافعي فيسلم لهما حسن الاعتبار وتدقيق النظر والقياس وجودة الفقه والإمامة فيه.
لكن ليس لهما إمامة في الحديث ولا معرفة به ولا استقلال بعلمه، ولا يدعيانه ولا يدعى لهما وقد ضعفهما فيه أهل الصنعة.
وهذا أهل الصحيح لم يخرجا عنهما منه حرفاً، ولا لهما في أكثر المصنفات ذكر، وإن كان الشافعي متبعاً الحديث ومفتشاً على السن لكن بتقليد غيره، والاحتمال على رأي سواء، والاعتراف بالعجز عن معرفته، فقد كان يقول لابن مهدي وابن حنبل أنتما أعلم بالحديث،(1/85)
إذا لم يتبحر فيه أو في علم القرآن إذا لم يستقل به، يسأل هل لنازلته التي ينظر فيها أصل فيهما أم لا؟ ولا سبيل إلى إمامتهما (في الفقه) جملة، وللشافعي في تقرير الأصول وتمهيد القواعد وترتيب الأدلة والمآخذ وبسطه ذلك ما لم يسبقه إليه من قبله، وكان فيه عليه عيالاً، كل من جاء بعده مع التفنن في علم لسان العرب والقيام بالخبر والنسب، وكل ميسر لما خلق له.
كما أن أحمد وداود من العارفين بعلم الحديث ولا تنكر إمامة أحد منهما فيه لكن لا يسلم لهما الإمامة في الفقه ولا جودة النظر في مأخذه ولم يتكلما في نوازل كثيرة كلام غيرهما وميلهما مع المفهوم من الحديث.
لكن داود نهج إتباع الظاهر وبقي القياس فخالف السلف والخلف وما مضى عليه عمل الصحابة فمن بعدهم حتى قال بعض العلماء أن مذهبه بدعة ظهرت بعد المائتين وحتى أنكر عليه ذلك إسماعيل القاضي أشد إنكار،(1/86)
وإذا لم يقل بالقياس وهو أحد أركان الاجتهاد فيما يجتهد (فعلى م) فيما لم ينص عليه يعتمد، وليس تقصير من قصر منهج في فن بالذي يسقط رتبته عن الآخر ولكل واحد منهم من الفضائل والمناقب ما حشيت به الصحف ونقله السلف والخلف.
لكن نقص ركن من أركان الاجتهاد يخل به على كل حال والله ولي الإرشاد.
الاعتبار الثاني: الالتفات إلى مأخذ الجميع في فقهم، ونظرهم على الجملة في علمهم، إذ تخصيصه في آحاد النوازل وشعب الوقائع لا يدرك صوابه إلا المستقل بالعلم وتبين ذلك لغيره يطول، ولا يدرك إلا في أمد تنقضي فيه الأعمار وتمر السنون، وحسب المبتدىء أن يلوح له بتلويح يفهمه اللبيب ويقضي منه بترجيح مصيب، وهو أنا قد ذكرنا خصال الاجتهاد ثم مأخذه وترتيبه على ما يوجبه الفعل ويشهد له الشرع بتقديم كتاب الله على ترتيب وضوح أدلته من نصوصه ثم ظواهره ثم مفهوماته ثم كذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترتيب متواترها ومشهودها،(1/87)
ثم ترتيب نصوصها وظواهرها ومفهومها على ما تقدم في الكتاب ثم الإجماع عند عدم الكتاب ومتواتر السنة.
وبعد ذلك عند عدم هذه الأصول القياس عليها والاستنباط منها إذ كتاب الله مقطوع به وكذلك ما تواتر من سنة نبيه وكذلك النص مقطوع به فوجب تقديم ذلك كله ثم الظواهر ثم المفهوم منها لدخول الاحتمال في معناها ثم أخبار الآحاد يجب العمل بها والرجوع عند عدم الكتاب والتواتر لها وهي مقدمة على القياس لإجماع الصحابة على الفعلين وتركهم في نظر أنفسهم متى بلغهم خبر ثقة عن النبي وامتثالهم مقتضاه دون خلال منهم في ذلك، آخراً.
إذ إنما يلجأ إليه عند عدم هذه الأصول في النازلة فيستنبط من دليلها ويعتبر الأشياء بها على ما مضى عليه عمل الصحابة ومن بعدهم من السلف المرضيين وعلم من مذهبهم أجمعين،(1/88)
وأنت إذا نظرت لأول وهلة منازع هؤلاء الأئمة وتقررت مأخذهم في الفقه والاجتهاد في الشرع وجدت مالكاً رحمه الله تعالى ناهجاً في هذه الأصول منهاجا، مرتباً لها مراتبها ومدارجها مقدماً كتاب الله ومرتباً له على الآثار، ثم مقدماً على القياس والاعتبار، تاركاً منها لما لم يتحمله عنده الثقات العارفون بما تحملوه أو ما وجد الجمهور الجم الغفير من أهل المدينة قد عملوا بغيره وخالفوه.
ولا يلتفت إلى من تأول عليه بظنه في هذا الوجه، سوء التأويل وقوله ما لا يقوله بل يصرح أنه من الأباطيل.
ثم كان من وقوفه عن المشكلات وتحريه عن الكلام في المعوصات ما سلك به سبيل السلف الصالحين وكان يرجح الاتباع ويكره الابتداع والخروج عن سنن الماضيين، ثم سلك الشافعي سبيله وبسط مأخذه في الفقه وأصوله.
لكن خالفه في أشياء أداه إليه اجتهاده وثقوب فطنته ولم يخلصه من دركها عدم استقلاله بعلم الحديث والأثر، وتزحزحه عن الانتهاء في معرفته، ثم ما جرى بينه وبين بعض المالكية بمصر وحمله عليه حتى تميز عنهم بعد أن كان معدوداً فيهم وواحداً من جملتهم، فبان بأصحابه وتلاميذه، وصرح(1/89)
حينئذ بالخلاف والرد على أكبر أسانيده كما سنذكر في أخباره بعد هذا إن شاء الله تعالى من قصته مع فتيان ابن أبي السمح، وتعصبه عليه وامتحان ذلك الآخر به ودخول التنافر بينه وبين جماعتهم منذ ذلك بسببه.
(فصل) وأما أبو حنيفة فإنه قال بتقديم القياس والاعتبار على السنن والآثار، فترك نصوص الأصول وتمسك بالمعقول وآثر الرأي والقياس والاستحسان، ثم قدم الاستحسان على القياس فأبعد ما شاء.
وحد بعضهم استحسان أنه الميل إلى القول بغير حجة.
وهذا هو الهوى المذموم والشهوة والحدث في الدين والبدعة، حتى قال الشافعي من استحسن فقد شرع في الدين.
ولهذا ما خالفه صاحباه محمد وأبو يوسف في نحو ثلث مذهبه إذ وجدوا السنن تخالفهم تركها لما ذكرناه عن قصد لتغليبه القياس وتقديمه أو لم تبلغه ولم يعرفها إذ لم يكن من مثقف علومه وبها شنع المشنعون عليه وتهافت الجراء على دم البراء بالطعن إليه.
ثم ما تمسك به من السنن فغير مجمع عليه، وأحاديث ضعيفة ومتروكة(1/90)
وبسبب هذا تحزبت طائفة أهل الحديث على أهل الرأي وأساءوا فيهم القول والرأي.
قال أحمد بن حنبل ما زلنا نلعن أهل الرأي ويعلنوننا حتى جاء الشافعي فمزج بيننا يريد أنه تمسك بصحيح الآثار واستعملها، ثم أراهم أن من الرأي ما يحتاج إليه وتنبني أحكام الشرع عليه، وأنه قياس على أصولها ومنتزع منها.
وأراهم كيفية انتزاعها، والتعلق بعللها وتنبيهاتها.
فعلم أصحاب الحديث أن صحيح الرأي فرع الأصل، وعلم أصحاب الرأي أنه لا فرع إلا بعد الأصل، وأنه لا غنى عن تقديم السنن وصحيح الآثار أولاً.
ونحو هذا في هذا الفصل قول ابن وهب: الحديث مضلة إلا للعلماء.
ولولا مالك والليث لضللنا وأما أحمد وداود فإنهما سلكا إتباع الآثار، ونكبا عن طريق الاعتبار، ولكن داود غلا في ذلك فترك القياس جملة.
فأحدث هو وأصحابه من القول بالظاهر ما خالف فيه أئمة الأمة، فخانه التمسك برفع أدلة الشريعة وأعرض مما مضت عليه من الاجتهاد والاعتبار وسمى ما لم يجد فيه نصاً ظاهراً عفواً، وأطلق على بعضه الإباحة واضطربت أقوال أصحابه(1/91)
في ذلك لضيق المسلك فيه، فتهافت مذهبه، واختل نظره، وجاء من أتباع الظاهر بمقالات يمج الكثير منها السمع وينكره.
وقال أحمد: الخبر الضعيف عندي خير من القياس، وبديهة العقل تنكر هذا.
فلا خير في بناء غير أساس، وهذا أكرمكم الله اعتبار في التفضيل نبيل، يدل المنصف على السالك منه نهج السبيل.
الاعتبار الثالث: يحتاج إلى تأمل شديد، وقلب سليم من التعصب شهيد، وهو الالتفاف إلى قواعد الشريعة ومجامعها، وفهم الحكمة المقصودة بها من شارعها.
فنقول: إن أحكام الشريعة وأوامر ونواهي تقتضي حثاً على قرب من محاسن، وزجراً على مناكر وفواحش، وإباحة لما به مصالح هذا العالم وعمارة هذه الدار ببني آدم.
وأبواب الفقه وتراجم كتبه كلها دائرة على هذه(1/92)
الكلمات وسنشير إلى رموز في كلمات هذه القواعد لنبين للناظر من اتبع فيها معنى الشرع المراد أو خالف فنكب على السداد وحاد، وإن مالكاً في ذلك كله أهدى سبيلاً وأقوم قيلاً وأصح تفريعاً وتفصيلاً.
فنقول أول ما تكلم فيه من أبوابه الطهارة التي صرح صاحب الشرع بأنها شطر الإيمان وأمر الله تعالى بالطهارة من الحدث والخبث وخص ذلك بالماء بقوله: (ماء ليطهركم به) (وأنرلنا من السماء ماء طهوراً) .
فأبو حنيفة الذي يرى إنها تجزي الطهارة من الحدث بالنبيذ المستنبذ في السفر عند عدم الماء مع حكم أكثر العلماء بنجاسة ما بلغ من الأنبذة هذا الحد وتجزي عنده من النجاسة بكل نبيذ مائع خل ومرير وعسل ولين وتجزي منها عنده وعند الشافعي في أحد قوليه بكل ماء مضاف ومتغير بالإضافة، ولو كان بقطران وما أشبهه ما لم(1/93)
يغلب على أجزائه ما أضافه.
أتراهما رأيا للفظ التطهير والتنظيف قدراً وقد زاد العضو تلويثاً بذلك وقدراً أم جعلا لتخصيص الماء حكماً أو لوصفه بالتطهير معنى، كذلك اشترطه الشافعي وأحمد القلتين فيما تحل فيه النجاسة، وحديثها ليس بثابت وتقريرهما تخمين وحدس غير متفق ولا مستقر لهما قول عليه، وإنه إن نقص منهما كوز أثرت فيه النجاسة وحتى حلت نجاسة قليلة في كيزان كثيرة كانت كلها نجسة ما دامت متفرقة فإذا جمعت في بركة صارت طاهرة، وإنه إن غرف من ماء قدر قلتين بإناء نجس كان ما في الإناء طاهراً وباقي القلتين نجس.
وسوة في هذا الباب كله عن مدرك الصواب، حتى قال عظيم من أصحابه اشتراط القلتين مثار لوسواس.
كذلك داود في اقتصاره في النهي عن البول في الماء الدائم على مجرد ظاهره فلا يفسده عنده ولا بواقع النهي إلا من بال فيه، وإن من بال في(1/94)
كوز وصبه فيه أو أحدث فيه أو بال بقربه فسال إليه بوله غير داخل في النهي عنده ولا مفسد للماء شيء من ذلك إلا بتغييره.
أليس يعلم على القطع إن هذا صد عن مراد الشارع وقطع كذلك، فهم من تخصيص بعض الأعضاء بالوضوء ما تقدم من معنى التنظيف والتحسين الذي هو معنى الوضوء.
إذ تلك الأعضاء من الوجه واليدين والرأس والرجلين هي الطهارة من ابن آدم غالباً والتي تحتاج إلى التنظيف والتحسين أبداً أما اليدان والرجلان فلما يعاني بها من الأعمال التي تعقب الأدناس والأوساخ وتلاقي من الأمور التي تنتج عنها الدرن والأقذار، وانظر من لا يهتبل بالوضوء والماء والطهارة من البوادي وأجلاف الأعراب واسوداد القذر بروائحه وبراجمه وتراكم الدنس الموالي جوفاً بكوعه ورسغه، وكذلك الوجه سمة ابن آدم ومحياه وصورته التي كرمه الله بها وسيماه وهو نصب لفح الهواجر، ومثار نقع الأقدام والحوافر وفيه مسام تقذف بأوساخها من قذاء عين ومخاط أنف(1/95)
وبصاق فم، وكل يحتاج إلى تنظيف، فشرع بجميعها الغسل والتكرار.
ولما كان الرأس مستوراً غالباً شرع فيه المسح اكتفاء بدهنه بالماء لأن الله شعثه ولأن غسله عند كل حدث مما يشق ويهلك، فهل وفى الشافعي بعبرة هذا الأصل إذا اكتفى بصب الماء عن الدلك وبالمسح على شعرات أو ثلاث من جميع الرأس؟ زأبو حنيفة في الاقتصار على الناصية؟ والثوري في الاقتصار على شعرة؟ ولا يعترض على ما مهدناه بكون التيمم بدلاً من الوضوء عند عدم الماء ولا تنظيف فيه ولا تحسين بل الضر من ذلك، فاعلم أن هذا السر عجيب في الشريعة لمن عدم الماء الطهور وهو متكرر وشاق في السفر وكانت الصلاة دونه مع تأدية فقد تركن إليها النفوس لحبها الدعة وخشية اتخاذها ذلك عادة، جعل اشرع التيمم تنبيهاً على أنها لا تستباح إلا بطهارة، ولتنقي النفس على استعمالها وشرع ما لا يعدم من وجه الأرض وخفف حاله في بعض الأعضاء وفي كل حكم والله الموفق.(1/96)
وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: إنما الأعمال بالنيات.
وأبو حنيفة والثوري يريان أ، الطهارة للصلاة تجزى بغير نية وهي مفتتح أجل القربات وفرق بينها وبين التيمم بغير حجة إلا بحيلات لا تقوم على قدم.
وسوى الأوزاعي في الجميع فلم يوجبها.
ترتقي إلى أجل القربات المقرونة بكلمتي التوحيد وهي الصلاة والزكاة وأبو حنيفة يجزي عنده من الصلاة أقل ما يجزي في كل مذهب وهي رياضة النفوس الجامة وصقالة القلوب الصدية ومظان الخشوع والمناجاة وسر العبودية المحضة ويرى التحيل في إسقاط الزكاة بعد وجوبها عند رأس الحول يبعدها عن ملكه ظاهراً بما يوطىء عليه غيره، ليصرفها عليه بعد الحول، وهي طهارة الأموال ودليل صحة ألإيمان كما قال عليه السلام: الصدقة برهان وسد خلة الضعفاء.
ونهى الشرع عن التحيل فيها بالتفريق والتجميع ونهى عن الخداع والخلابة فهل وفى القائل بها في هاتين القاعدتين فجهدها أو طابق عمله المعنى الموصوف له في الشرع وحكمها.(1/97)
كذلك نهى عن شرب الخمر، وعلل ذلك بإيقاع العداوة أو البغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وقد فهمت الصحابة لأول ورود الآية المعنى فحملوه على العموم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم كل مسكر حرام.
فمن فرق من الكوفيين بين نبيذ العنب ومطبوخه وسائر المسكرات أباحها ما لم تبلغ بشاربها عدم التمييز خالف الأصلين وخرج قاعدة الشرع في الفصلين، ثم ننظر في الفروج فنتيقن أن حكمة الله في تحصينها وضع أعظم الحدود وأشنعها لمؤثر السفاح على ما أبيح له منها بالنكاح، والملك على الوجوه التي قيدها الشرع لصلاح هذا الخلق وبقاء التمييز والمعارف لهذا النسل، فمن رأى أن الاستئجار على الزنى مسقط للحدود الموضوعة فيه، وأ، الزاني(1/98)
بأجرته للخدمة لا حد عليه، وكذلك اللائط بالذاكران وهو أفحش الفواحش لا حد فيه بل يعزر على قوله، وقول أهل الظاهر، فد ناقض موضوع الشرع وحل رباط هذا الأصل.
كذلك حرم الله الدماء والأعراض أشد التحريم وفرض على المعتدين فيها الحد والعذاب الأليم وحمى الأموال على أربابها إلا بحقها وحد القطع على سارقها والقتل على المحارب بسببها.
فهل قوله أيضاً بإسقاط الحد على سارق كل رطب من الأطعمة حتى لو بقيت قطرة عسل أو ماء في حب ذهب فسرقه سارق لم يقطع لأجلها.
وكذلك إسقاطه ذلك عن سارق كل ما أصله الإباحة من الجواهر الخطيرة مستخرجات المعادن الثمينة وملتقطات البحر النفيسة وإسقاط القطع عن النباش عن أكفان الموتى فاتح غلق الصيانة للأموال ومسهل التوصل إلى التعدي على الكثير منها دون خوف كبير نكال لا سيما على مذهبه ومذهب داود في تخفيف التعزيز واقتصارهم من ذلك على الخفيف اليسير.
وكذلك قوله إن من تعدى على ثياب رجل فأفسدها أو شياهه فذبحها وطبخها، فقد صارت له أموالاً وملكها ولزمت ذمته لربها قيمتها(1/99)
على زعمه مع وجود عينها وإن كان عديماً غير مراع - نهى الشرع عن العدوان والتمادي على اغتصاب الأموال وتسويغ إخراجها من أيدي أربابها دون أثمان ثم جعل الله في القصاص حياة وردعاً للمعتدين.
فأبو حنيفة يقول إن من قتل الخلائق من غير محدد الحديد من التغريق والتحريق والتخنيق وسقي السم وغير ذلك من أنواع الاجتراء والظلم لا يقتص منه فقد اجتثت هذا الأصل وبسط أيدي المجرمين على أشنع ضروب القتل آمنين من القصاص على هذا الفعل.
كذلك الاعراض حصنت حصنتها وصينت حرمتها بحدود المفترين.
فالشافعي الذي لا يرى الحد بالتعريض المفهوم والحنفي يرى أن جماعة من الفساق المجاهرين عدد شهود الوفاء فأكثر لو جاء، ويجيء الشهادة مجالس الحكام، وصرحوا بقذف أفضل الأنام لم يلزمهم حد لمقامهم هذا المقام.
فهل يعجز كل فاسق جريء عن هتك عرض كل مسلم بريء بأنواع التعاريض القبيحة.
أو بأداء الشهادة مع أمثاله على رؤوس الملأ بالفواحش الصريحة، وهم يتوصلون وإن لم تقبل شهادتهم بأمانهم من الحد إلى تمزيق الأدم الصحيحة(1/100)
والإخفاء، بأن حكمة الله في منصب الحكم والقضاء، تحقيق الحق وإبطال الباطل بحكم الدلائل الظاهرة، وقطع المنازعة والمشاجرة، وحكمهم بذلك ماض وبواطن الأمور إلى الله تعالى.
ومن خادع الله فإنما يخادع نفسه ومحال تغيير حكم البشر في الباطن، حكم الله وحكمته، وقد قال عليه السلام: لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئاً فإنما أقطع له قطعة(1/101)
من النار.
فأما أبو حنيفة الذي يرى أن القاضي بشهادة شهداء الزور في نكاح إمرأة وانتقال ملك يحلل للمشهود له الراشي لهم على(1/102)
الشهادة وطء ذلك الفرج وأكل ذلك المال سراً أو علناً ظاهراً وباطناً.
وهو يعلم تحريمه عليه وباطل نسبته إليه وكذلك قال فيمن غصب جارية وادعى أنها ماتت فحكم عليه بقيمتها ثم أظهرها أنها قد طابت وحلت له.
وكذلك لو تحيلت إمرأة عنده بشاهدي زور على طلاق زوجها فقضى بذلك القاضي حل لها غيره من الأزواج.
ولو كان أحد الشاهدين، فأين هذا وفقكم الله من المفهوم من مراد الشارع ومقصده بتغليظ الزجر لاستحلال الفروج بغير حقها، والمنع هل يتعذر على الفساق بهذا، الوصول إلى شهواتهم فيمن امتنع عليهم من المحصنات أو حضر عليهم من الشهوات فأسأل الله توفيقاً يعصم ولا يصم برحمته وهذا وفقكم الله خمس ترجيحات كلها توجب اليقين وتوضح الحق المبين، وترغم أناف المتعصبين، وحسب الناظر في هذا الاعتبار الأخير حسن التأمل أولاً وإجمال التأويل آخراً.
فلم نر به التسبب لنقص أحد من الأئمة ولا التسلط على(1/103)
عرض سلف الأمة.
لا كنا عرفنا الحق وأهله، ولم ننكر مع ذلك لكل واحد تقدمه وفضله.
والسعيد من عدت عثراته ومن ذا الذي يعطي الكمال فيكمل.
ونحن بعد هذا نسرد أخبار مالك رحمه الله وسيره وجملة تاريخه وأخباره باباً باباً حسبما سبق الوعد به.
ونبدأ بالترتيب بذكر نسبه ثم نأتي بطبقات أصحابه تترى وبأعلام أهل مذهبه عصبة بعد أخرى والله المستعان على تحقيق ما أطلق على ألسنتنا من ذلك لا إله غيره.
باب في نسب مالك بن أنس الأصبحي
رحمه الله تعالى ونفع به آمين
قال إسماعيل ابن أبي أويس فيما حكاه عن الزبير ابن بكار القاضي وغيره أن مالك ابن أنس بن مالك بن أبي عامر بن الحارث بن غميان بن حنبل بن عمرو بن الحارث وهو ذو أصبح.
كذا غميان بالغين المعجمة المفتوحة والياء الساكنة باثنتين من أسفل.
وذكر ذلك غير واحد وكذا قيده الأمير أبو نصر بن ماكولا، وحكاه عن إسماعيل بن أبي أويس وخثيل بخاء معجمة مضمومة وثاء مثلثة مفتوحة وياء باثنتين من اسفل ساكنة هذا هو الصحيح.
وكذا قيده الأمير أبو نصر بن ماكولا وأتقنه وضبطه، وحكاه عن محمد ن سعد عن أبي بكر ابن أبي أويس.(1/104)
وقال أبو الحسن الدارقطني وغيره جثيل بالجيم، وحكاه عن الزبير.
وأما من قال عثمان بن حنبل فقد صحفه وأما ذو أصبح فقد اختلف في نسبة اختلافاً كثيراً.
فقال الزبير ذو أصبح بن سويد ابن عمر بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سدد بن حميد الأصغر بن سبأ الأصغر بن كعب بن كهف الظلم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية ابن جشم ابن عبد شمس بنو وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن ايمن بن هميع بن حمير، وإنما الأكثر هو عبد شمس بن سبأ - وإنما سمي سبا لأنه أول من سبا وغزا القبائل - بن يعرب بن يشجب بن قحطان.
وقال غيره ذو أصبح بن عوف بن مالك بن يزيد بن شداد بن زرعة.
وهو حمير ألأصغر ابن سبأ الأصغر بن حمير الأكبر بن سبأ الأكبر بن يشجب ابن يعرب ابن قحطان،(1/105)
وقيل ذو اصبح بن مالك بن زيد بن الغوث بن سعد بن عفير بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن جشم بن عبد شمس.
وقيل هو عوف بن مالك بن زيد بن عامر بن ربيعة بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن يشجب.
وقيل ذو أصبح ويحصب أبناء مالك بن زيد بن حمير.
هذا ما ذكر في نسب ذي أصبح من الخلاف ولا خلاف أنه من ولد قحطان، وقد اختلف في نسب قحطان ورفعه، وهل هو من ولد إسماعيل أم لا اختلافاً لا ينحصر وليس من غرضنا فنعده.
قال القاضي أبو الفضل رضي الله عنه: لم يختلف العلماء بالسير والخبر والنسب في نسب مالك هذا واتصاله(1/106)
بذي أصبح إلا ما ذكر عن ابن إسحاق وبعضهم من أنه مولى لبني تميم وسنبين وهم من قال ذلك، والعلة التي من أجلها تطرق الوهم إليهم وأما أبو عبد الله محمد بن حمدويه الحاكم المعروف بابن البيع فقد غلط غلطاً شنيعاً لا خفاء به، ولا قاله أحد قبله ولا بعده.
وخلط في هذا تخليطاً كثيراً، فقال: مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر وهو الحارث بن عثمان بن حسل بن عمر بن الحارث بن عبد الرحمان بن عثمان بن عبد الله من ولد تميم بن مرة.
يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرة بن كعب.
فعجباً له كيف اتفق هذا الغلط ومن اين تطرق له؟ ثم قال في باب آخر إنه من خولان فأين هذا من ذلك وكلاهما خطأ.
وإما وهم من زعم أنه مولى تميم فدخل عليه الوهم إذ وجده ينتمي إليهم ويحسب عدادهم بسبب حلفه معهم وإلا فنسبهم في ذي أصبح صحيح.
ذكر ذلك غير واحد من زعماء قريش ونسابها وغيرهم من أهل العلم كمحمد ابن(1/107)
عمران الطلحي، وعبد الملك ابن صالح وصعب بن ثابت الزبيري وعامر بن عبد الله الزبيري وأبي بكر اليعمري وابنه طلحة وأبي مصعب الزهري وأبناء أبي أويس وخليفة بن خياط العصيري والواقدي والبخاري وابن أبي خيثمة وأحمد بن صالح بن بكار القاضي ومن بعدهم الحفاظ، كالدارقطني وعبد الله التستري القاضي وأبي محمد العراب وأبي القاسم الجوهري وأبي القاسم الإلكاني وأبي نصر ابن ماكولا ومن لا ينعد كثرة.
بل كل من ذكر نسبه ولم يتابع أحد منهم ابن إسحاق على قوله من جاء بعده بل بينوا وجه وهمه.
قال عامر بن عبد الله الزبيري وذكر بيت مالك بن أنس أما أنهم من العرب من اليمن ذو قرابة بالنظر بن مريم.
وقال الدراوردي: قال لي أبو سهل ابن مالك نحن قوم من ذي أصبح ليس لأحد علينا ولاء ولا عهد.
وقال أبو مصعب: مالك من العرب صليبه وحلفه في قريش في بني تيم بن مرة.
قال محمد بن عمران لمن سأله عنه: وهو رجل من العرب من حمير من(1/108)
أنفسهم ما بيننا وبينه نسب إلا أن أمه مولاة لعمي عثمان بن عبيد الله وقال أبو بكر العمري السالمي: مالك صحيح النسب من أنفسهم لا من مواليهم.
وقال مصعب بن عبيد الله الزبيري: بنو أصبح الذين كان الملك فيهم بنو عم مالك.
قال الفرياني: سألت مصعباً عن مالك.
فقال: عربي شريف كريم في موضعه من ذي أصبح، بطن من اليمن من ملوك اليمن بني إبراهيم بن الصباح.
وقال أحمد بن صالح مالك من ذي أصبح صحيح النسب.
وقالت بنت طلحة ما لنا عليه عقد ولاء.
تعني جد مالك.
ولما قدم زياد بن عبيد الله المدينة قال ما هنا أحد من أهل العلم، فنسبوا له مالكاً.
فقال هذا بيت اليمن.
فكان أول من استفتاه.
وقال عبد الملك بن صالح الهاشمي: مالك بن أنس من ذي أصبح.
وجاء أبو المهاجر إلى عثمان بن عبد الله التيمي أو غيره، يشتكي بأبي عامر جد مالك ابن أنس وكان أبو المهاجر على الصدقة، فقال للتيمي ألا تعذرني من مولاك؟ قال ليس بمولاي، هو رجل من العرب من أهل اليمن.(1/109)
باب في انتماء مالك وآله إلى تيم بن مرة
من قريش وذكر نسب أمه
قال أبو عمر بن عبد البر الحافظ: لا أعلم أن أحداً أنكر أن مالكاً ومن ولده كانوا حلفاء لبني تيم بن مرة من قريش، ولا خلاف فيه إلا ما ذكر عن ابن إسحاق فإنه زعم أنه من مواليهم.
قال: وروى عن ابن شهاب أنه قال حدثني نافع ابن مالك التيمي، قال وهذا عندنا لا يصح عن ابن شهاب.
قال الإمام القاضي أبو الفضل رضي الله عنه، قول ابن شهاب هذا في صحيح البخاري أول كتاب الصيام.
وتعرف الموالي في لسان العرب بمعنى الحليف والتناصر وغيرهما معروف فلعله ما أراد ابن شهاب، ولذلك قال عبد الملك بن صالح الهاشمي مالك من ذوي أصبح مولى لقريش.
وقال الزبير بن بكار عداده في بني تيم بن مرة.
وقد روى عن مالك أنه لما بلغه قول ابن شهاب هذا ليته لم يرو(1/110)
عنا شيئاً.
قال أبو سهيل عم مالك نحن قوم من ذي أصبح قدم جدنا المدينة فتزوج في التيميين فنسبنا إليهم ومثله قول ابن عمران التميمي القاضي الذي تقدم ما بيننا وبينه نسب إلا أن أمه مولاة لعمي عثمان بن عبيد الله.
وقال الربيع بن مالك أخو أبي سهل عن أبيه قال لي عبد الرحمان بن عثمان بن عبد الله التيمي ابن أخي طلحة ونحن بطريق مكة يا مالك هل لك إلى ما دعانا إليه غيرك فأبينا، أن يكون دمنا دمك وهدمنا هدمك ما بل بحر صوفه.
فأجبته إلى ذلك.
وقال عبد الله ابن مصعب قدم مالك ابن أبي عامر متظلماً من بعض الولاة باليمن.
فمال إلى بعض بني تيم بن مرة فعاقده وصار معهم.(1/111)
وقد روي أن مالك بن أبي عامر لم يجب عبد الرحمان بن عبد الله إلى الحلف الذي دعاه إليه، وقال له لا حاجة لي به والأول أصح وأشهر.
وذكر أن أبا عامر تحالف مع عثمان بن عبد الله في الجاهلية وقدما معاً المدينة.
وقيل إن أبا عامر إنما حالف في الجاهلية عبد الله بن جدعان، قال ابن أبي أويس: نحن أصبحيون حلفاء بني تيم.
فننتمي إلى قريش أحب إلينا من اليمن.
فالسبب الذي تقدم لهم من الالتفاف بتيم إما بالحلف على الأشهر والصحيح أو بالصهر انتسبوا تيمين فظن ابن إسحاق ومن لم يحقق الأمر أنهم مواليهم إذ لم يكن لهم نسب معروف فيهم.
وأما أمه، فقال الزبير هي العالية بنت ابن بكار شريك بن عبد الرحمان بن عبد الرحمان بن شريك الأزدية وقال ابن عائشة أمه طليحية مولاة عبد الله بن معمر وقد تقدم قول ابن عمران.
باب في ذكر آل مالك وبيته ونسبه
ذكر القاضي بكر بن علاء القشيري أن أبا عامر بن عمر وجد(1/112)
أبي مالك رحمه الله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وشهد المغازي كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم خلا بدراً وابنه مالك جد مالك كنيته أبو أنس من كبار التابعين ذكر ذلك غير واحد يروي عن عمر وطلحة وعائشة وأبي هريرة وحسان بن أبي ثابت وكان من أفاضل الناس وعلمائهم وهو أحد الأربعة الذين حملوا عثمان ليلاً إلى قبره وغسلوه ودفنوه وكان خدنا لطلحة يروي عنه بنو أنس وأبو سهيل نافع والربيع.
مات سنة ثنتي عشرة ومائة وذكر أبو محمد الضراب أن عثمان رضي الله عنه أغزاه إفريقية ففتحها.
وروى التستري محمد بن أحمد القاضي أنه كان ممن يكتب المصاحف حين جمع عثمان المصاحف وكان عمر بن عبد العزيز يستشيره، وقد ذكر ذلك مالك في جامع موطأه.
قال أبو القاسم الإلكاني الحافظ كان لأبي أنس بن مالك ابن أبي عامر أربعة بنين، أحدهم أنس أبو مالك الفقيه.
قال غيره وبه كان يكنى.
روى عنه ابنه مالك.
قال الضراب وقد روى ابن شهاب عنه وقاله ابن أبي حاتم(1/113)
يرويه عن أبيه.
قال أبو إسحاق بن شعبان روى مالك عن أبيه عن جده عن عمر حديث الغسل واللباس.
قال ابن وهب سئل مالك عن أبيه فقال كان عمي ثقة أبو سهيل.
قال أبو مصعب كان أبو مالك بن أنس مقعداً وكان له قصر بالحرف يعرف بقصر المقعد.
قال غيره وكان يعيش من صنعة النبل قال الإلكاني والثاني نافع أبو سهيل، روى عنه مالك أيضاً وإسماعيل ومحمد ابنا جعفر ابن أبي كثير والدراوردي وغيرهم.
قال الإمام أبو الفضل رضي الله عنه، وقد روى عنه ابن شهاب أيضاً.
والثالث أويس وجد جده أبي أويس أبي إسماعيل وأبي كر وسيأتي ذكرهما.
وسماه غيره أوسا مكبراً ووهم.
روى عن أبيه أيضاً وزعم الضراب أنه روى عن ابن شهاب أيضاً.
والرابع الربيع.
قال إسماعيل جالسته، قال أبو حاتم لم يرو عنه العلم.
قال أبو القاسم الجوهري لم يرو عنه إلا سليمان بن بلال وذكر التستري لأبي بكر الأويسي عنه رواية، وذكر أيضاً ابنه مالك بن الربيع وفيه نظر.(1/114)
وقد روى أربعتهم عن أبيهم مالك بن أبي عامر، وقد خرج أهل الصحيح البخاري ومسلم ومن بعدهم عن مالك بن أبي عامر وأبي سهيل ابنه كثيرا.
قال إسحاق بن شعبان عمومة مالك ثلاث نافع والنظر ويسار.
قال الضراب كان لمالك عم يقال له النظر به كان يعرف مالك أولاً، وكان يقال مالك ابن أخي النظر، فما لبث إلا يسيراً حتى قال الناس النظر عم مالك.
وقال محمد بن طلحة والأشهر أن النظر الذي كان به يعرف مالك أولاً ثم صار يعرف به أخ مالك كذا ذكر أحمد بن صالح والأصح والأعرف في أعمام مالك الأول.
قال مالك كان لي أخ في سن ابن شهاب فألقى أبي يوماً علينا مسألة فأصاب أخي وأخطأت فقال لي أبي ألهتك الحمام.
وكان لمالك ابنان يحيى ومحمد وابنه اسمها فاطمة، زوج ابن أخته وابن عمه إسماعيل بن أبي أويس.
قال ابن شعبان ويحيى بن مالك يروى عن أبيه نسخة وذكر أنه روى الموطأ عنه باليمن، وروى عنهما ابن سلمة وابنه محمد.
قدم مصر وكتب عنه.
حدث عنه الحارث بن مسكين(1/115)
وزيد بن بشر قال أبو عمر بن عبد البر كان لمالك أربعة من البنين يحيى ومحمد وحماد وأم البهاء.
فأما يحيى وأم البهاء فلم يوص بهما إلى أحد أوصى بالآخرين إلى إبراهيم بن حبيب رجل من أهل المدينة.
وقال ابن شعبان حبيب وهو اللآلي ويعرف ببابين أنه هو كان وصيه مع داود بن أبي زنير ولعل إبراهيم ولد حبيب هذا.
فالله أعلم.
وقد ذكره في الرواة عنه ابن أبي إسحاق، وذكر أيضاً إسحاق بن إبراهيم ابن حبي بابين وذكرهم الثلاثة في المدنيين فالله أعلم.
وأرى قوله إسحاق وهم، وإنه أبو إسحاق.
وقال قاسم بن أصبغ: إبراهيم بن حبيب ثقة من أصحاب مالك، وهو وصيه.
قال الزبير، كان لمالك ابنة تحفظ علمه يعني الموطأ.(1/116)
وكان تقف خلف الباب فإذا غلط القارىء نقرت الباب فيفطن مالك فيرد عليه.
وكان ابنه محمد يجيء وهو يحدث وعلى يده باشق ونعل كتب فيه، وقد أرخى سراويله فيلتفت مالك إلى أصحابه ويقول إنما الأدب مع الله: هذا ابني وهذه ابنتي.
قال الفروي: كنا نجلس عنده وابنه يدخل ويخرج ولا يجلس.
فيقبل علينا ويقول: إن مما يهون علي أن هذا الشأن لا يورث وأ، أحداً لم يخلف أباه في مجلسه إلا عبد الرحمن بن مفرج القرطبي في رواة مالك وأبو بكر الخوارزمي البرقاني الحافظ في كتابه في الضعفاء الذين اتفق رأيه ورأي أبي منصور بن حكمان مع أبي الحسن الدارقطني على تركهم.
وتوفى أحمد هذا سنة ست وخمسين ومائتين.
باب في مولد مالك
رحمه الله تعالى والحمل به ومدة حياته ووقت وفاته(1/117)
قال الإمام القرطبي أبو الفضل رضي الله عنه: اختلف في مولده رحمه الله تعالى اختلافاً كثيراً، فالأشهر في ما روي من ذلك قول يحيى بن بكر أن مولده سنة ثلاث وتسعين من الهجرة في خلافة سليمان بن عبد الملك بن مروان.
وقال ابن عبد الحكم بل سنة أربع وتسعين.
وقال إسماعيل بن أبي أويس كان في خلافة الوليد.
قال غيرهما في ربيع الأول منها.
وروي عن محمد ابن عبد الحكم أن مولده سنة أربع وتسعين وقال أبو موسى سنة تسعين.
وقيل سنة ست وتسعين، وقيل سنة سبع وتسعين، وقال أبو داود السبجستاني سنة ثلاث وتسعين، وقال أبو إسحاق الشيرازي سنة خمس وتسعين.
قال محمد بن سعيد مولى سفينة قال مالك أتى عمي أبو سهيل إلى عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة ليفرض لي فقال احتلم؟ فقال سل أباه فهو أعلم مني به.
قال مصعب بن عبد الله: هذا خطأ.
عزل محمد عن المدينة سنة ثلاث وتسعين.
وأما وفاته فالصحيح ما عليه الجمهور من أصحابه ومن بعدهم من(1/118)
الحفاظ وأهل علم الأثر ممن لا يعد كثرة أنه توفى سنة تسع وسبعين ومائة واختلفوا في أي وقت منها فالأكثر على أنه في ربيع ألأول قاله إسماعيل ابن أبي أويس وابن أبي زنبر وابن بكير وأبو مصعب الزهري وغيرهم، واختلفوا بعد ذلك فقال ابن أبي أويس والواقدي وابن سعد صبيحة أربع عشرة من الشهر المذكور.
وقال أبو مصعب لعشر مصت منه وحكى أبو علي البصري في الكتاب المغرب أن وفاته يوم الأحد لثلاث خلون من هذا الشهر وقال ابن وهب في تاريخ ابن سحنون يوم الأحد لثلاث عشرة خلت منه، وحكى أبو عمر بن عبد البر لعشر خلون منه، وقال ابن سحنون في إحدى عشرة ويقال في اثنتي عشرة من رجب من السنة.
وقال مصعب الزبيري وخالف هذا كله حبيب كاتبه ومطرف فيما ذكر عنه.
قاللا سنة ثمانين.
وخالف أيضاً الفزاري فحكى عنه ابن سحنون وأبو العرب التميمي أن، وفاة مالك سنة ثمان وتسعين وهذا وهم والأول هو الصحيح.(1/119)
واختلف على هذا في سنه.
فقال ابن نافع الصائغ وابن أبي أويس ومحمد بن سعيد وحبيب أنه توفى سنة خمس وثمانون وقيل أربع وثمانون وقيل عن ابن نافع سبع وثمانون، وقاله سحنون وقال الواقدي تسعون.
وقال الفريابي وأبو مصعب ست وثمانون وذكر عن ابن القاسم سبع وثمانون وقاله ابن سحنون وأبو العرب وعن القعنيني تسع وثمانون.
وقال أيوب بن صالح اثنتان وتسعون وقال أبو محمد الضراب وهذا خطأ والصواب ست وثمانون وهو الأشبه مع قول ابن القاسم على الأصح من مولده ووفاته.
واختلف في حمل أمه به فقال ابن نافع الصائغ والواقدي ومعن ومحمد بن الضحاك حملت به أمه ثلاث سنين وقال نحوه بكار بن عبد الله الزبيري، وقال أنضجته والله الرحم.
وأنشد الطرماح:
تظن بحملنا الأرحام حتى ... تنضجنا بطون الحاملات
قال ابن المنذز وهو المعروف وروي عن الواقدي أيضاً أن حمل أمه به سنتان.
قاله عطاف بن خالد ولا خلاف أن وفاته بالمدينة.
باب في صفته وخلقه
قال أبو عاصم: ما رأيت محدثاً أحسن وجهاً من مالك.
وقال عيسى ابن عمر المديني: ما رأيت قط بياضاً ولا حمرة أحسن من وجه مالك، ولا أشد بياض ثوب منه.
ووصفه غير واحد من أصحابه، منهم مطرف وإسماعيل والشافعي وبعضهم يزيد على بعض، قالوا كان طويلاً(1/120)
جسيماً عظيم الهامة أبيض الرأس واللحية شديد البياض إلى الصفرة، أعين، حسن الصورة أصلع أشم عظيم اللحية تامها، تبلغ صدره ذات سعة وطول، وكان يأخذ إطار شاربه ولا يحلقه ولا يحفيه ويرى خلفه من المثل.
وكان يترك له سبلتين ويحتج بفتلة عمر لشاربه، إذا همه الأمر.
ووصفه أبو حنيفة أنه أزرق أشقر.
قال أبو العباس بن شريح القاضي وذكرت له صفته هذه صفة عاقل.
وقال: الفراسة تدل على أن من هذه صقته كان عاقلاً.
وقال مصعب الزبيري كان مالك من أحسن الناس وجهاً وأحلاهم عيناً وأنقاهم بياضاً وأتمهم طولاً في جودة بدن.
قال بعضهم: كان مالك ربعة من الرجال والأول أشهر.
قال غيره: دخلت على مالك فرأيته في إزار.
وكان في أذنيه كبر كأنهما كفا إنسان أن دون ذلك.
قال الحكم بن عبدة: دخلت مسجد المدينة وإذ بمالك وله شعرة قد فرقها.
قال أحمد بن إبراهيم الموصلي رأيت مالكاً مضموم الشعر.
قالوا ولم يكن يخضب ويحتج بعلي رضي الله عنه وهذا هو المشهور عنه.
وقد روى أن بعض ولاة المدينة قال له: لم لا تخضب يا أبا عبد الله؟ فقال له: هذا بقي عليك من العدل.(1/121)
وقد روى ابن وهب أنه رأى مالكاً يخضب بالحنا وروى نحوه عبد الرحمان بن واقد، ولم يقل بالحنا.
قال الواقدي: عاش مالك تسعين سنة لم يخضب شيبته ولا دخل الحمام ولا حلق وفي رواية ولا حلق قفاه.
باب في ملبسه وطيبه
وحليته ومسكنه ومطعمه ومشربه
قال محمد بن الضحاك كان مالك جميل الوجه نقي الثوب رقيقه يكره أخلاف اللباس.
قال خالد بن خداش: رأيت على مال طيلساناً طرازياً وقلنسوة وثياباً مروية جياداً وفي بيته وسائد وأصحابه عليها قعود، فقلت له يا أبا عبد الله الذي أرى شيئاً حدثته أم وجدت الناس عليه؟ قال: رأيت الناس عليه.
قال الوليد بن مسلم: كان مالك لا يلبس الخز ولا يرى لبسه، ويلبس البياض، ورأيته والأوزاعي يلبسان السيجان ولا يريان بلبسها بأساً.
قال بشر بن الحارث: دخلت على مالك فرأيت عليه طليساناً يساوي خمسمائة قد وقع جناحاه على عينيه أشبه شيء بالملوك.
قال أشهب: كان مالك إذا اعتم جعل منها تحت ذقنه وأسدل طرفها بين كتفيه.
قال ابن وهب: رأيت على مالك ريطة عدنية مصبوغة بمشق(1/122)
خفيف.
وقال لنا هو صبغ أحبه ولكن أهلي أكثروا زعفرانها، فتركته.
وقال لنا ما أدركت أحداً يلبس هذه الثياب الرقاق إنما كانوا يلبسون الضفاف الأربيعة، فإنه كان يلبس مثل هذا، وأشار إلى قميص عليه عدني رقيق.
قال الزبيري: كان مالك يلبس الثياب العدنية الجياد والخراسانية والمصرية المرتفعة البيض ويتطيب بطيب جيد، ويقول ما أحب لأحد أنعم الله عليه إلا ويرى أثر نعمته عليه وخاصة أهل العلم، وكان يقول أحب للقارىء أن يكون أبيض الثياب.
قال ابن أبي أويس: ما رأيت في ثوب مالك حبراً قط.
قال أشِهب: كان مالك يستعمل الطيب الجيد المسك وغيره.
قال الواقدي: كان مالك يجلس في منزله على خماع ونمارق مطروحة يمنة ويسرة في سائر البيوت لمن يأتيه من قريش والأنصار، ووجوه الناس.
قال أشهب: كان مالك إذا اكتحل لضرورة جلس في بيته وكان يكرهه إ لعلة.
قال ابن نافع الأكبر ومطرف وإسماعيل: كان خاتم مالك الذي مات وهو في يده فصه حجر أسود نقشه سطران فيهما: حسبنا الله ونعم الوكيل، بكتاب جليل، وكان يحبسه في يساره وربما خرج علينا وهو في يمنيه لا نشك أنه إذا توضأ حوله في يمينه.
وسأله مطرف عن اختياره لما نقش فيه فقال: سمعت الله يقول:(1/123)
(وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) ... الخ.
الآية الأخرى.
قال مطرف: فحولت خاتمي وصيرته كذلك، والله أعلم.
قال أحمد بن صالح: كان مالك قليل المشي يظهر التجمل ضيق الأمر، لم يكن له منزل.
كان يسكن بكراء إلى أن، مات، وسأله المهدي: ألك دار؟ فقال: لا.
وحدثني ربيعة أن نسب المرء داره.
قال عتيق بن يعقوب: كان على باب مالك مكتوب: ما شاء الله.
فقيل له في ذلك فقال: قال الله: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله) ... الآية.
والجنة الدار.
قال ابن المنذر: وكانت دار مالك بن أنس التي كان ينزل بالمدينة دار عبد الله ابن مسعود، وكان مكانه من المسجد مكان عمر بن الخطاب وهو المكن الذي يوضع فيه فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذا اعتكف.
كذا قال الأوسي.
وقال مصعب: كان مالك يجلس عند نافع مولى ابن عمر في الروضة حياة نافع وبعد موته.
قال ابن بكير مولد مالك بذي المروة وكان أخوه النظر يبيع البز وكان مالك معه بزازاً ثم طلب العلم وكان ينزل أولاً بالعقيق ثم نزل بالمدينة(1/124)
وقيل لمالك لم تنزل العقيق فإنه يشق عليك إلى المسجد.
فقال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبه ويأتيه وأن بعض الأنصار أراد النقلة منه إلى قرب المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما تحسبون خطاكم.
قال إسماعيل بن أبي أويس: كان في كل يوم لحمه درهمان وكان يأمر خبازه سلمة في كل يوم جمعة طعاماً كثيراً.
قال مطرف: لو لم يجد مالك كل يوم درهمان يبتاع بهما لحماً إلا أن، يبيع في ذلك متاعه لفعل.
وكانت وظيفته في لحمه.
وقال ابن أبي حازم: قلت لمالك: ما شرابك يا أبا عبد الله؟ قال: في الصيف السكر وفي الشتاء العسل.
وكان مالك يعجبه الموز ويقول: لم يمسه ذباب ولا يد أسود ولا شيء أشبه بثمر الجنة منه لا نطلبه في شتاء ولا صيف إلا ووجدته.
قال الله: أكلها دائم وظلها.
قال أبو السمح طلق بن أبي السمح: رأيت مالكاً على بغلة سرية بسرج سري عليها وعليه ثياب سرية وغلام يمشي خلفه حتى إذا أتى(1/125)
باب داره فدخل راكباً إلى موضع معرسه فنزل وقعد، فأخذ الغلام منديلاً فمسح خفه ونزعه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: الأخبار المشهورة عنه بخلاف هذا مما سنذكره وأنه كان لا يركب بالمدينة إكراماً لتربة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفون.
قال محمد بن مالك كانت عمتي مع مالك في منزله فتهيء له فطره خبزاً وزيتاً، ووعظ مالك مرة أبا جعفر المنصور في افتقاد الرعية فقال له: أليس إذا بكت ابنتك من الجوع تأمر بحجر الرحا فيحرك كيلا يسمع الجيران بكاءها، فقال مالك: والله أعلم في ابتداء حاله وضيق أمره وأكثر هذه الحكايات المختلفة التي أوردنا منها ونورد في اختلاف أحواله في ديناه إنما كانت لاختلاف الأوقات وتنقل الأحوال إذ حال المرء في بدايته بخلاف حاله في نهايته، فقد عاش رحمه الله نحو التسعين سنة على ما تقدم فكان يها إماماً يروري ويفتي ويسمع قوله نحو سبعين سنة تنتقل أحواله في كل حين زيادة في الجلالة، ويتقدم في كل يوم علوه في الفضل(1/126)
والزعامة حتى مات وقد انفرد منذ سنين وحاز رئاسة الدنيا والدين دون منازع فلا تعارض بين ما يرد عليك من الأخبار في اختلاف أحواله والله والموفق.
باب في عقله وسمته
وأدبه وحسن معاشرته وذكر شيء من شمائله.
قالوا كان ربيعة يقول إذا جاء مالك قد جاء العاقل.
وقال ابن مهدي لقيت أربعة: مالكاً وسفيان وشعبة وابن المبارك، فكان مالك أشدهم عقلاً.
وقال: ما رأت عيناي أحداً أهيب من هيبة مالك ولا أتم عقلاً ولا أشد تقوى ولا أوفر دماغاً من مالك.
وقال هارون الرشيد عنه ما رأيت أعقل منه.
وقال ابن وهب: الذي تعلمنا من أدب مالك أكثر مما تعلمنا من علمه.
قال أحمد بن حنبل: قال مالك ما جالست سفيهاً قط.
وهذا أمر لم يسلم منه غيره.
قال أحمد ليس في فضائل العلماء أجل من هذا.
قال أبو نوح ومصعب الزبيري: ذكر مالك يوماً شيئاً، فقلنا له من حدثك بهذا، قال أبو نوح ومصعب الزبيري: ذكر مالك يوماً شيئاً، فقلنا له من حدثك بهذا، قال إنا لم نجالس السفهاء.
وقال زياد بن يونس كان والله مالك أعظم الخلق مروءة وأكثرهم صمتاً.
وكان إذا جلس جلسة لا ينحل منها حتى يقوم ورأيته كثير الصمت قليل الكلام متحفظاً للسانه.(1/127)
قال ابن المبارك: كان مالك أشد الناس مدارة للناس وترك ما لا يعنيه.
قال ابن أبي أويس، كان مالك يستعمل الأنصاف ويقول ليس في الناس أقل منه فأردت المداومة عليه.
قال الزهراني: كان مالك إذا أصبح لبس ثيابه وتعمم ولا يراه أحد من أهله ولا أصدقائه إلا متعمماً لابساً ثيابه، وما رآه أحد قط أكل أو شرب حيث يراه الناس، ولا يضحك ولا يتكلم فيما لا يعنيه.
وحكى أبو فهر المصري قال: كان أبو بكر بن إسحاق إذا ذكر عقل أبي علي الثقفي يقول ذلك عقل مأخوذ من الصحابة والتابعين وذلك أن أبا علي أقام بسمرقند منذ أربع سنين يأخذ تلك الشمائل من محمد بن نصر المروزي وأخذها ابن نصر عن يحيى بن يحيى، فلم يكن بخراسان أعقل منه وأخذها يحيى عن مالك أقام عليه لأخذها سنة بعد أ، فرغ من سماعه.
فقيل له في ذلك فقال إنما أقمت مستفيداً لشمائله فإنها شمائل الصحابة والتابعين، وكان مالك لذلك يسمى العاقل واتفقوا على أنه أعقل أهل زمانه.
قال زهير ابن عباد: ما كنت أقول لمالك رحمك الله إلا قال وأنت رحمك الله.
وإذا قلت له عافاك الله.
قال وأنت عافاك الله، حسن أدب.
قالوا كان أحسن لناس خلقاً مع أهله وولدوه.
ويقول: في ذلك(1/128)
مرضاة لربك ومثراة في مالك ومنساة في أجلك وقد بلغني ذلك عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال عبد الله بن عبد الحكم هيأ مالك بن أنس دعوة للطلبة وكنت فيهم فمضينا معه إلى داره فلما دلنا الدار قال هذا المستراح، وهذا الماء ثم دخلنا البيت فلم يدخل معنا، ودخل بعد ذلك فأتانا بالطعام ولم يؤت بالماء قبله لغسل أيدينا.
ثم أتى به بعده فلما خرج الناس سألته عما رأيت قال أما أعلامي لكم بالمستراح والماء.
فإنما دعوتكم لأبركم ولعل أحدكم يصيبه بول أو غيره فلا يدري أين يذهب فيصل إليه الضرر وأما تركي الدخول معكم في البيت فلعلي أقول هاهنا أبا فلان اجلس وهاهنا أبا فلان اجلس وقد أنسى بعضكم فيظن ذلك نقصاً فيه، فتركتكم حتى أخذتم مجالسكم ودخلت عليكم.
وأما تركي الماء قبل الطعام فإن الوضوء قبله من سنة الأعاجم وأما بعده فقد جاء في ذلك حديث.
قال الشافعي: سئل مالك عن الصورة في البيت فقال لا ينبغي.(1/129)
فقال له رجل عراقي يا أبا عبد الله هو ذا في بيتك صورة.
قال أنا ساكن فيه منذ كذا ما رأيتها، قم فحكها.
فأخذ قناة فلف عليها خرقة ثم حكها.
قال مطرف كان مالك إذا دخل بيته قال: ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فسئل عن ذلك فقال: قال الله تعالى: ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله ولا قوة إلا بالله، وجنته بيته.
وقيل أن ذلك كان على باب مالك مكتوب ليتذكر برؤيته قول ذلك متى دخل.
باب في ابتداء طلبه وسيرته في ذلك وصبره عليه
وتحريه فيمن يأخذ عنه
قال مطرف، قال مالك: قلت لأمي أذهب فأكتب العلم؟ فقالت تعال فالبس ثياب العلم.
فألبستني ثياباً مشمرة ووضعت الطويلة على رأسي وعممتني فوقها.
ثم قالت: اذهب فاكتب الآن.
وقال رحمه الله: كانت أمي تعممني وتقول لي اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه.
قال ابن القاسم: أفضى بمالك طلب العلم إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه،(1/130)
ثم مالت عليه الدنيا بعد.
وروي مثل هذا عن ربيعة.
قال أنس ين عياض جالست ربيعة ومالك يومئذ معنا وما يعرف إلا بمالك أخو النضر ثم ما زال حرصه في طلب العلم حتى صرنا نقول النضر أخو مالك، وكان لمالك حين طلبه يتبع ظلال الشجر ليتفرغ لما يريد.
فقالت أخته لأبيه هذا أخي لا يأوي مع الناس قال يا بنية إنه يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال مالك كان لي أخ في سن ابن شهاب فألقى أبي يوماً علينا مسألة فأصاب أخي وأخطأت فقال لي أبي ألهتك الحمام عن طلب العلم فغضبت وانقطعت إلى ابن هرمز سبع سنين.
وفي رواية ثمان سنين لم أخلط بغيره.
وكنت أجعل في كفي تمراً وأناوله صبيانه وأقول لهم أن سألكم أحد عن الشيخ فقولوا مشغول، وقال ابن هرمز يوماً لجاريته من بالباب فلم ترَ إلا مالكاً فرجعت فقالت له ما ثم إلا ذاك الأشقر فقال له دعيه فذلك عالم الناس.
وكان مالك اتخذ تباناً محشواً للجلوس على باب هرمز يتقي به برد حجر هناك.
وقيل بل من برد صحن المسجد وفيه كان مجلس ابن هرمز.
قال مالك إن كان الرجل ليختلف للرجل ثلاثين سنة يتعلم منه، فظننا أنه يريد نفسه مع ابن هرمز.
وكان ابن هرمز من استحلفه ألا يذكر اسمه(1/131)
في حديث قال ابن عينية شهدت مالكاً يسأل زيد بن عمر عن حديث عمر أنه حمل على فرس في سبيل الله يجعل يرفق به ويسأله عن الكلمة بعد الأخرى والشيء بعد الشيء وكان في خلق زيد شيء.
وقال ابن عبد الحكم قال لي مالك كنا نأتي ابن شهاب في دارة في بني الريل وكانت له عتبة حسنة كنا نجلس عليها نتدافع إذا دخلنا عليه، وقال مالك كنا نجلس إلى الزهري وإلى محمد بن المنكدر فيقول الزهري: قال ابن عمر كذا وكذا فإذا كان بعد ذلك جلسنا إليه وقلنا له الذي ذكرت عن ابن عمر من حدثك به.
فيقول ابن سالم.
قال مصعب كان مالك يقود نافعا من منزله إلى المسجد وكان قد كف بصره فيسأله فيحدثه وكان منزل نافع بناحية البقيع قال مالك كنت آتي نافعا مولى ابن عمر وأنا يومئذ غلام ومعي غلام لي وينزل إلي من درجة له فيقعدني معه فيحدثني، وقال كنت آتي نافعا نصف النهار وما تظلني الشجر من الشمس إلى خروجه.
فإذا خرج أدعه ساعة كأني لم أرده ثم أتعرض له فأسلم ليه وأدعه حتى إذا دخل البلاط أقول له كيف قال ابن عمر في كذا وكذا فيجيبني ثم أجلس عنه وكان فيه حدة.
وكنت آتي ابن هرمز بكرة فما أخرج من بيته حتى الليل.(1/132)
قال الزبيري رأيت مالكاً في حلقة ربيعة وفي أذنه شنف وهذا يدل على ملازمته الطلبة من صغره كما قال في خبر نافع.
قال ابن أبي زنبر سمعت مالكاً يقول كتبت بيدي مائة ألف حديث وروى عنه ابن إسحاق: ما كتبت عن أحد كتاباً على وجهه إلا عن العلا.
وروى عن ابن وهب عنه أنه قال ما كتبت في هذه الألواح قط قال أحمد بن صالح نظرت في أصول كتب مالك فإذا شبيه باثني عشر ألف حديث.
قال عبد الله بن عمر عامة ما سمعت من ابن شهاب أنا ومالك عرضاً، كان مالك يقرأ لنا وكان حسن القراءة.
وقال ابن مهدي سئل مالك عن سماعه من الزهري فقال: أقل ذلك العرض.
وقال له ابن وهب أكنت تقرأ العلم على أحد؟ قال لا.
وروى عنه أنه قال قدم علينا الزهري فأتيناه ومعنا ربيعة فحدثنا نيفا وأربعين حديثاً ثم أتيناه الغد فقال انظروا كتاباً حتى أحدثكم منه، أرأيتم ما حدثتكم أمس أفي شيء في أيديكم منه؟ فقال له ربيعة ها هنا من ير عليك.
ما حدثت به أمس فقال ومن هو قال: ابن أبي عامر.
قال هات فحدثته بأربعين حديثاً منها.
فقال الزهري:(1/133)
ما كنت أرى بقي من يحفظ هذا غيري.
وقال مالك في رواية أخرى شهدت العيد فقلت هذا اليوم يخلو فيه ابن شهاب فانصرفت من المصلى حتى جلست على بابه فسمعته يقول لجاريته أنظري من على الباب.
فنظرت فسمعتها تقول: مولاك الأشقر مالك.
قال أدخليه فدخلت فقال ما أراك انصرفت بعد إلى منزلك؟ قلت لا.
قال هل أكلت شيئاً قلت لا قال فاطعم قلت لا حاجة لي فيه قال فما تريد قلت تحدثني فحدثني سبعة عشر حديثاً ثم قال وما ينفعك إن حدثتك ولا تحفظها قلت إن شئت رددتها عليك فرددتها عليه، وفي رواية قال هات فأخرجت ألواحي فحدثني بأربعين حديثاً.
فقلت زدني قال حسبك إن كنت رويت هذه الأحاديث فأنت من الحفاظ قلت قد رويتها فحبذا الألواح من يدي ثم قال حدث فحدثته بها فردها إلي وقال قم فأنت من أوعية العلم.
أو قال إنك لنعم المستودع للعلم.
وروى عنه: حدثي ابن شهاب بأربعين حديثاً ونيف منها حديث السفينة فحفظت.
ثم قلت أعدها علي فإني نسيت النيف على الأربعين فأبى فقلت أما كنت تحب أن، يعاد عليك قال بلى.
فأعادها فإذا هو كما حفظت.
وفي رواية أن ابن شهاب قال له ما استفهمت عالماً قط.
ثم استرجع وقال ساء حفظ الناس لقد كنت آتي سعيد بن المسيب وعروة والقاسم(1/134)
وأبا سلمة وحميداً وسالماً وعدد جماعة فأدور فأسمع من كل واحد من الخمسين حديثاً إلى المائة ثم انصرف وقد حفظته كله من غير أن أخلط حديث هذا، في حديث هذا.
وقال مالك وفي رواية ابن وهب: كنت أجلس إلى ابن شهاب ومعي خيط فإذا حدث عقدت ثم رجعت إلى البيت يعني فكتبتها، قال وفي رواية ابن قيس: كان ابن شهاب إذا جلس يحدث ثلاثين حديثاً فحدث يوماً وعقدت حديثه فأنسيت منها حديثاً.
فلقيته فسألته عنه فقال ألم تكن في المجلس قلت بلى قال فمالك لم تحفظ قلت ثلاثون إنما ذهب عني واحد فقال لقد ذهب حفظ الناس ما استودعت قلبي شيئاً قط فنسيته هات ما عندك فسألته فأنبأني فانصرفت.
وقال عبد العزيز بن عبد الله سئل مالك أسمع من عمرو بن دينار.
فقال رأيته يحدث والناس قيام يكتبون فكرهت أن أكتب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم.
وقال أحمد بن صالح جاء مالك إلى عمر بن دينار فلم يفهم كلامه(1/135)
لأنه كان أهتم فيذهب إلى بيت الزبير يكتب عنه.
قال الزبير مر مالك بأبي الزناد وهو يحدث فلم يجلس إليه.
فلقيه بعد ذلك فقال له ما منعك أن تجلس إلي.
قال كان الموضع ضيقاً فلم أرد أن آخذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم.
وروى أن القصة جرت له مع أبي حازم، قال ابن وهب سئل مالك هل كنتم تتقايسون في مجلس ربيعة ويكسر بعضكم على بعض؟ فقال لا والله.
قال مالك كان أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن يسار يقول لنا إذا أخذتم في الساذج تكلمنا معكم وإذا أخذتم في المنقوش قمنا عنكم.
قال ابن أبي أويس سمعت مالكاً يقول: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه.
لقد أدركت سبعين ممن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده هذه الأساطين، وأشار إلى المسجد، فما أخذت عنهم شيئاً، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان أميناً إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن.
وفي رواية ابن وهب وحبيب وابن عبد الحكم نحوه.(1/136)
وعن مطرف عنه: أدركت جماعة من أهل المدينة ما أخذت عنهم شيئاً من العلم وأنهم ليؤخذ عنهم العلم وكانوا أصنافاً فمنهم من كان يكذب في حديث الناس ولا يكذب في علمه ومنهم من كان جاهلاً بما عنده، ومنهم من كان يزن برأي سوء.
فتركتهم لذلك، وفي رواية ابن وهب عنه: أدركت بهذه البلدة أقواماً لو استسقى بهم القطر لسقوا، قد سمعوا العلم والحديث كثيراً ما حدثت عن أحد منهم شيئاً لأنهم كانوا ألزموا أنفسهم خوف الله والزهد، وهذا الشأن يعني الحديث والفتيا يحتاج إلى رجل معه تقى وورع وصيانة وإتقان وعلم وفهم، فيعلم ما يخرج من رأسه وما يصل إليه غداً.
فأما رجل بلا إتقان ولا معرفة فلا ينتفع به ولا هو حجة ولا يؤخذ عنهم.
وروى عنه ابن كنانة ربما جلس إلينا الشيخ جل نهاره ما نأخذ عنه ما بنا أن نتهمه ولكن لم يكن من أهل الحديث.
قال مالك وكنا نزدحم على درج ابن شهاب حتى يسقط بعضنا على بعض، قال وكانت عندي صناديق من كتب ذهبت، لو بقيت لكان أحل إلي من أهلي ومالي وروى بعضهم عنه أنه قال: كتبت بيدي مائة ألف حديث.
قال مالك أتيت زيد بن أسلم فسمعت حديث عمر أنه حمل على(1/137)
فرس في سبيل الله فاختلفت إليه أياماً أسأله عنه فيحدثني لعله يدخله فيه شك أو معنى فأترك لأنه كان ممن شغله الزهد عن الحديث.
وقيل له لم لا تكتب عن عطاء قال أردت أن آخذ عنه وأردت أن أنظر إلى سمته وأمرن، فأتبعته.
أتى منبر النبي صلى الله عليه وسلم فمسح الغاشية والدرجة السفلى، يعني من المنبر، فلم أكتب عنه إذ ذاك من فعل العامة.
والدرجة السفلى والغاشية شيء أصلحه بنو أمية فلما رأيته لا يفرق بين منبر النبي ولا غيره ويفعل فعل العامة تركته.
وقد روى مالك عن رجل عنه فلعله تركه لما رأى منه ولم يعرف حقيقة ما كان عليه من الفضل والعلم ولهذا ما أراد النظر إليه واختباره.
فلما استبان له بعد ذلك حاله وعلمه وقد فاته أخذ علمه عن غيره.
قال ابن عينية ما رأيت أحداً أجود أخذاً للعلم من مالك.
وقال رحم الله مالكاً ما كان أشد انتقاده للرجل والعلماء.
وقال ابن المديني لا أعلم أحداً يقوم مقام مالك في ذلك.
وقال أحمد بن صالح: ما أعلم أحداً(1/138)
فيه شيء.
روى عن قوم ليس يترك منهم أحد.
وروى عنه ابن وهب أنه قال دخلت على عائشة بنت طلحة فاستضعفتها فلم آخذ عنها إلا كان لأبي مركز يتوضأ هو وجميع أهله منه.
وقال إن كنت لأرى الرجل من أهل المدينة وعنده الحديث أحب أن آخذ عنه فلا أراه موضعاً للأخذ فأتركه حتى يموت فيفوتني.
وقال رأيت أيوب السختياني بمكة حجتين فما كتبت عنه ورأيته في الثالثة قاعداً في فناء زمزم.
فكان إذا ذكر النبي عنده يبكي حتى أرحمه.
فلما رأيت ذلك كتبت عنه.
قال ابن وهب نظر مالك إلى العطاف بن خالد فقال بلغني أنكم تأخذون من هذا.
فقلت بلى.
فقال ما كنا نأخذ الحديث إلا من الفقهاء.
باب في ابتداء ظهوره في العلم وقعوده للفتوى والتعليم
وحاجة الناس إليه
قال الليث قدمنا فإذا عبد العزيز بن أبي سلمة ومالك قد اكتنفا ربيعة(1/139)
وعلاه عبد العزيز، ثم قدمت مرة أخرى فإذا مالك علا عبد العزيز.
قال محمد بن فليح: كنت عند ربيعة ومالك يجلس إليه ثم نبل مالك واحتيج إليه.
فانتقل من مجلس ربيعة وطلب منه العلم فكنت فيمن انتقل إليه من مجلس ربيعة وكنا جماعة أمرني بذلك أبي.
قال سفيان بن عينية: دارت مسألة في مجلس ربيعة، فتكلم فيها ربيعة فقال مالك: ما تقول فيها يا أبا عثمان؟ قال ربيعة: أقول فلا تقول، وأقول إذ لا تقول وأقول فلا تفقه ما أقول.
ومالك ساكت فلم يجب بشيء وانصرفت فلما راح إلى الظهر جلس وحده وجلس إليه القوم، فلما صلى المغرب اجتمع إلى مالك خمسون أو أكثر.
فلما كان من الغد اجتمع إليه خلق كثير.
قال: جلس للناس وهو ابن سبع عشرة سنة وعرفت له الإمامة وبالناس حياة إذ ذاك.
قال ابن المنذر: أفتى مالك في حياة نافع وزيد بن أسلم.
قال ابن عبد الحكم: أفتى مالك مع يحيى بن سعيد.
قال أيوب السختياني: قدمت المدينة في حياة نافع ولمالك حلقة.(1/140)
قال مصعب: كان لمالك حلقة في حياة نافع أكبر من حلقة نافع..
وفي رواية زمعة: مكان نافع.
قال شعبة: قدمت المدينة بعد موت نافع بسنة ويومين ولمالك حلقة وكان موت نافع سنة سبع عشرة.
قال الإمام أبو الفضل رضي الله عنه: هذا كله صحيح، وقد تقدم أن مالكاً جلس للناس ابن سبع عشرة سنة، ومولده سنة ثلاث وتسعين على خلاف فيما قبلها، فيأتي موت نافع وسنه نيف وعشرون سنة، بعد أن جلس للناس بسنتين.
قال ابن وهب: قال لنا مالك يوماً: دعاني الأمير في الحداثة أن أحضر المجلس، فتأخرت حتى راح ربيعة فأعلمته وقلت لم أحضر حتى جئت أستشيرك.
فقال ربيعة: نعم.
قال ابن وهب فقلت: لو لم يقل لك احضر لم تحضر.
ثم قال: يا أبا محمد لا خير فيمن يرى نفسه في حالة لا يراه لها أهلاً.(1/141)
وفي رواية أخرى لما حضرت مع ربيعة عند السلطان رأيت الكراهية في وجهه.
فقلت له لما خرجنا: إن كنت تكره لم أحضر إنما تعلمنا منك.
فقال: فلا أكره أن يحضر معنا من أنت أفقه منه.
قال مالك: ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس.
حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل وأهل الجهة من المسجد.
فإن رأوه لذلك أهلاً جلس.
وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم إني لموضع لذلك.
قال ابن وهب: جاء رجل يسأل مالكاً عن مسألة.
فبادر ابن القاسم فأفتاه فأقفل عليه مالك كالمغضب وقال له: جسرت على أن تفتي يا عبد الرحمن؟ يكررها عليه، ما افتيت حتى سألت هل أنا للفتيا موضع.
فلما سكن غضبه قيل له من سألت؟ قال: الزهري وربيعة الرأي.(1/142)
قال مالك وربيعة إذا سأل الرجل فلم يفهم عنه يقول له سل هذا.
فأقول للسائل إنما ينهاك عن كذا.
قال ابن بكير وغيره: أول ما بان من فقه مالك أن رجلاً أوصى عند وفاته قد زوج ابنتيه من ابني أخيه وقد أخذ مهورهما ومات الرجل فأحضر الوالي، وكان الحسن بن يزيد، الناس، وفيهم ابن أبي ذئب وابن عمران وابن أبي سبرة ومالك وهو حدث وذكر المسألة.
فقال جميعهم ذلك جائز ومالك ساكت.
فقال: ما ترى يا مالك؟ قال: ذلك لا يجوز.
فغضب الجميع وقال ابن أبي ذئب: لا يشاء أن يرد علينا إلا رد.
فقال الوالي: أصاب وأخطأتم.
ثم قال: من أين قلت يا أبا عبد الله هذا؟ قال: أرأيتم إن هديتنا جميعاً إلى زوجيهما فتعلق كلا واحد منهما بهودج واحدة كل واحد يقول هي زوجتي دون الأخرى.
لمن تقضون بها؟ فسكت القوم.
قالوا: أصاب.(1/143)
قال: فما ترى يا أبا عبد الله.
قال: النكاح مفسوخ حتى تسمى كل امرأة لرجل معين.
وقال ابن الماجشون: مما علم به مالك أن، سارقاً أخذ ومعه قمح وقد سرقه من تلاليس لهذا وهذا، حتى اجتمع قمح كثير فاعترف بذلك فأحضر الوالي من بالمدينة وفيهم ربيعة ويحيى بن سعيد ومعهم مالك على حداثة سنه لمعرفتهم بعلمه، فلما أخذوا مجالسهم سألهم الوالي عن المسألة.
وأخرج القمح فإذا شبيه فكلهم رأى أن عليه القطع ومالك ساكت.
فقال له: تكلم.
قال: لا قطع عليه.
فاستعظم ذلك من هناك.
وسألوه من أين قاله؟ فقال لهم: هل يجب القطع إلا في ربع دينار فصاعداً فأما أن يسرق من هذا التليس ما يساوي درهماً ومن هذا ما يساوي درهماً هكذا فهذا لا قطع عليه.
فانصرف الناس وقد بان فضل علمه.
قال أبو الحسن المطالبي: سأل مالكاً صفوان بن سليم وهو أحد شيوخ مالك الجلة الفضلاء النقاد عن رؤيا رآها في النوم ومالك إذ(1/144)
ذاك غلام صغير السن فقال له: ومثلك يسأل مثلي؟ فقال له: وما عليك يا ابن أخي، رأيت كأني انظر في مرآة.
فقال له مالك: أنت تنظر في أمر آخرتك وما يقربك إلى ربك.
فقال له صفوان: أنت اليوم مويلك ولئن بقيت لتكونن مالكاً اتق الله يا مالك إذا كنت مالك، وإلا فأنت هالك.
قال مالك: وكان قبل يدعوني مويلك.
فلما سألني قال يا أبا عبد الله وهو أول يوم كناني فيه.
قال المطالبي: وفي قوله وما عليك إشارة إلى أنه كان عنده متسأهلاً لجواب ما سأل عنه، ولو لم يكن عنده كذلك لما سأله ولا استحل لنفسه ولا له الغوص في علم الغيب والتلاعب بالنبوءة.
قال الحرث: أوصى ابن هرمز مالكاً وعبد العزيز بن أبي سلمة إذا دخلتما على السلطان فكونا آخر من يتكلم.
فلزم مالك وصيته فبلغني أنه حضر عند الأمير مع ابن أبي ذئب ونظرائه فاستفتاهم في رجل أقر على(1/145)
نفسه بالقتل عمداً فأفتى كلهم بالقتل إلا أن يعفو الأولياء، ومالك ساكت.
فسأله فقال: انظر وهو مطرق.
ثم سأله فقال: هو القتل حتى أنظر.
فقالوا: ما تنظر رجل أقر أنه قتل عمداً أي شيء هذا؟ فقال: اين القاتل المقر؟ فإذا فتى حدث السن فقال: منذ كم حبس، قيل: منذ كذا.
فإذا حبسه وإقراره قبل أن يحتلم، فسرح.
وهذا والله أعلم أنه أنكر إقراره ورجع عنه.
قال أحمد بن صالح: كان مالك في ثلاث طبقات، طبقة دونه وأخرى فوقه.
ولم يكن في الثلاث طبقات من يجيد الطلب مثله فاق الثلاث طبقات.
فالتي فوقه من ولد في الثمانين، ابن عجلان وابن أبي ذئب ونمطهم، والتي معه عبد العزيز ابن الماجشون وأبي الزناد وسليمان بن بلال وغيرهم.
والذين دونهم ابن الدراوردي وابن أبي حازم أنس بن عياض.
قال ابن القاسم: قال لي مالك: كنا نجلس إلى ربيعة أربعين معتماً سوى من لا يعتم ما ندري منهم إلا أربعة،(1/146)
أما أحدهم فغلبت عليه الملوك يعني ابن الماجشون.
وفي رواية شغل بالأغاليط أو نحو هذا.
وأما الآخر فمات يعني كثير بن فرقد.
وأما الثالث فغرب نفسه يعني عبد الرحمن بن عطاء.
وسكت عن الرابع فعلمنا أنه يعني نفسه.
وقيل لأبي حنيفة: كيف رأيت غلمان المدينة؟ قال: إن نجب منهم فالأشقر الأزرق.
يعني مالكاً.
وفي رواية رأيت بها علماً مبثوثاً فإن يجمعه أحد فالغلام الأبيض والأحمر.
قال ابن غانم: فذكرت ذلك لمالك، فقال: صدق.
لقيته فرأيت رجلاً له علم وفهم لو بني على أصل، يعني أثر أهل المدينة.
قال ابن أبي أويس: قال مالك: أقبل علي ذات يوم ربيعة فقال لي: من السفلة يا مالك؟ قلت: الذي يأكل بدينه.
قال لي: فمن سفلة السفلة؟ قلت الذي يأكل غيره بدينه.
فقال زه وصدرني.(1/147)
باب شهادة السلف الصالح وأهل العلم له بالإمامة في العلم
بالكتاب والسنة والتقدم في الفقه والصدق في الرواية وتفضيلهم له وثنائهم عليه قد قدمنا في باب ترجيح مالك الآثار الواردة فيه وتكلمنا عليه بالمنقول والمعقول، بما لا مزيد فوقه.
وذكرنا من كلام السلف والأيمة بالشهادة له بالإمامة والتقدم على غيره بما لا نطيل بإعادته ونذكر هنا جملة صالحة من ذلك والله المعين.
قال ابن هرمز يوماً لجاريته: من بالباب؟ فلم تر إلا مالكاً فذكرت ذلك له فقال: دعيه فنه عالم الناس.
وقال ابن شهاب: أنت من أوعية العلم وإنك لنعم مستودع العلم.
وقيل لأبي الأسود شيخ مالك بمصر سنة إحدى وثلاثين من للرأي بعد ربيعة بالمدينة؟ قال يحيى بن سعيد بالعراق.
فقال الغلام الأصبحي.
وقال سفيان بن عينية: ما نحن عند مالك.
إنما كنا نتبع آثار مالك.
وقال:(1/148)
أن المدينة أو ما رأى المدينة إلا ستخرب بعد مالك.
قال: ومالك سيد أهل المدينة.
وقال مالك سيد المسلمين.
وقال: مالك إمام.
وقال: مالك عالم أهل الحجاز.
وقال: كان مالك سراجاً.
ومالك حجة في زمانه.
وقال وقد بلغه وفاة مالك: ما ترك مثله أو ما ترك على الأرض مثله.
وقال لبعضهم: أتقرنني بمالك؟ ما أنا وهو إلا كما قال جرير:
وابن اللبون إذا ما بز في قرن ... لم يستطيع صولة البزل القناعيس
ثم قال: ومن مثل مالك متبع لآثار من مضى، مع عقل وأدب.
وقال: مالك إمام في الحديث.
وقال: حدثني مالك الصدوق.
وجاء نعي مالك إلى حماد بن زيد، فبكى حتى جعل يمسح عينيه بخرقة.
وقال: يرحم الله مالكاً لقد كان من الدين بمكان.
لقد رأيت رأيه يتذاكر في مجلس أيوب.
وفي رواية ثم قال حماد: اللهم أحسن علينا الخلافة بعده.
وقال الشافعي: إذا جاءك الأثر عن مالك فشد به يدك.
وقال: إذا جاء الخبر، فمالك النجم.
وقال: إذا ذكر العلماء فمالك النجم.
ولم يبلغ أحد في العلم مبلغ مالك لحفظه وإتقانه وصيانته.
ومن أراد الحديث الصحيح فعليه بمالك.
وقال: مالك بن أنس معلمي.
وفي رواية أستاذي.
وما أحد أمن(1/149)
علي من مالك.
وعنه أخذنا العلم وإنما أنا غلام من غلمان مالك.
وقال: جعلت مالكاً حجة فيما بيني وبين الله.
وقال محمد بن الحكم: كان الشافعي دهره إذا سئل عن الشيء يقول: هذا قول الأستاذ.
يريد مالكاً.
وذكر الأحكام والسنن.
فقال: العلم يدور على ثلاثة: مالك والليث وابن عيينة.
وقال: مالك وسفيان قرينان ومالك النجم الثاقب.
وقال: لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز.
ويروى لما عرف العلم بالحجاز قال الشافعي: ذاكرت محمد بن الحسين يوماً فقال لي صاحبنا أعلم، يعني أبا حنيفة، من صاحبكم، يعني مالكاً.
فقلت له: الإنصاف تريد أم المكابرة؟ قال الإنصاف.
قلت له: نشدتك بالله الذي لا إله إلا هو من أعلم بكتاب الله وناسخه ومنسوخه؟ قال: اللهم صاحبكم.
قلت له: فمن أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: اللهم صاحبكم.(1/150)
قلت له: فمن أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: اللهم صاحبكم.
قلت: فلم يبق إلا القياس.
قال: صاحبنا أقيس.
قلت: القياس لا يكون إلا على هذه الأشياء، فعلى أي شيء يقيس، ونحن ندعي لصاحبنا ما لا تدعونه لصاحبكم.
وفي بعض الرواية عنه، فقلت له: وما صاحبنا لم يذهب عليه القياس ولكنه يتوقى ويتحرى يريد يتأسى بمن تقدمه.
وقال بعضهم: سمعت بقية بن الوليد في جماعة ممن يطلب الحديث ومشيخة من أهل المدينة يقول: ما بقي على ظهرها، يعني الأرض، أعلم بسنة ماضية ولا باقية منك يا مالك.
قال عبد الله والد مصعب الزبيري لمالك بن أنس سيد المسلمين.
وذكره الليث فقال: مالك يرفع من قدره.
وذكره الأوزاعي فقيل له: كيف رأيت مالكاً؟ قال: رأيت رجلاً عالماً.
قال عبد الله بن عمر: نعم الخلف للناس مالك.(1/151)
وقال عبد العزيز: مالك سيدنا وعالمنا.
قال الليث: لقيت مالكاً بالمدينة فقلت له: إني أراك تمسح العرق عن جبينك.
قال عزفت مع أبي حنيفة.
إنه لفقيه يا مصري.
ثم لقيت أبا حنيفة قلت: ما أحسن قول ذلك الرجل فيك.
فقال: والله ما رأيت أسرع منه بجواب صادق وزهد تام.
قال أبو يوسف: ما رأيت أعلم من ثلاثة: مالك وابن أبي ليلى وأبي حنيفة.
قال البهلول بن راشد: ما رأيت أنزع بآية من كتاب الله من مالك بن أنس.
قال مطرف: كان مالك إذا سئل عن مسألة نزلت فكأنما نبي نطق على لسانه.
قال محمد ابن عبد الحكم: إذا انفرد مالك بقول لم يقله من قبله فقوله حجة توجب الاختلاف لأنه إمام.
فقيل له الشافعي.
قال: لا.
قال الحكم: دخلت المسجد فسألت جماعة ممن في المسجد: من أعلم من في المسجد وأفضل؟ فقالوا: هذا القائم يركع، يريدون مالكاً.
وقال وهيب بن خالد وكان من أبصر الناس بالحديث: قدمت المدينة فلم أجد أحداً إلا ويعرف وينكر إلا مالكاً ويحيى بن سعيد.
وكان(1/152)
وهيب لا يعدل بمالك أحداً.
وعن الليث أنه قال علم مالك علم تقى.
مالك أمان لمن أخذ عنه من الأنام.
قال ابن المبارك: لو قيل لي اختر للأمة إماماً اخترت لها مالكاً.
قال أبو إسحاق الفزاري: مالك حجة رضى كثير الإتباع للأثار.
وقال.
ابن مهدي: مالك أفقه من الحكم وحماد.
وقال: أئمة الحديث الذين يقتدى بهم أربعة، سفيان بالكوفة ومالك بالحجاز والأوزاعي بالشام وحماد بن زيد بالبصرة.
وسئل من أعلم مالك أو أبو حنيفة؟ فقال: مالك أعلم من أستاذي أبي حنيفة.
وقال: الثوري إمام في الحديث وليس بإمام في السنة.
والأوزاعي إمام في السنة وليس بإمام في الحديث.
ومالك إمام فيهما.
وقال مرة لأصحابه: أحدثكم عمن لم تر عيناي مثله.
ثم قال حدثنا مالك، وقال مالك أحفظ أهل زمانه، ومالك لا يخطىء في الحديث، وقال لم يبق على وجه الأرض آمن على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من مالك.
وقال ما اقدم مالك في صحة لحديث أحداً.
وقال: لم أر أحداً(1/153)
مثل مالك وحماد بن زيد كانا يحتسبان في الحديث.
وقال يعقوب بن سفيان: إلى مالك والثوري وابن عيينة تنتهي الإمامة في العلم والفقه والإتقان.
وقال ابن حنبل: مالك أتبع من سفيان؟.
وسئل عن الثوري ومالك إذا اختلفا في الرواية.
وفي طريق أيهما أفقه؟ فقال: مالك أكبر في قلبي.
قيل له فمالك والأوزاعي إذا اختلفا في الرواية.
قال مالك أحب إلي وإن كان الأوزاعي من الأئمة.
قيل فمالك والليث؟ قال مالك.
قيل مالك والحكم وحماد.
قيل مالك والنخعي؟ قال ضعه مع أهل زمانه.
وقال: مالك سيد من سادات أهل العلم، وهو إمام في الحديث والفقه، ومن مثل مالك متبع لآثار من مضى؟ مع عقل وأدب.
وقيل له الرجل يجب أن يحفظ حديث رجل بعينه حديث من ترى يحفظ؟(1/154)
قال حديث مالك، فإنه حجة بينك وبين الله.
وقاله أيضاً لرجل سأله أي شيء أكتبه من الحديث؟ قيل له فيريد ينظر في الرأي رأي من ترى ينظر؟ قال رأي مالك.
وقال: يرحم الله مالكاً كان من الإسلام بمكان.
وقال: لا يترك عن مالك حديث ولا كلام إلا كتب.
وقال: مالك حافظ متثبت من أثبت الناس في الحديث.
وقال أبو قدامة: مالك أحفظ أهل زمانه.
وقال يحيى بن سعيد القطان: ما في القوم أصح حديثاً من مالك.
يعني الأوزاعي والسفيانيين.
ومالك أحب إلي من معمر.
ومالك إمام الناس في الحديث.
وقال أيضاً مالك أمير المؤمنين في الحديث.
وقاله أيضاً علي بن المديني ويحيى بن سعيد.
وقال يحيى أيضاً: كان مالك حافظاً.
وقال: كان مالك إماماً يقتدى به.
وقال يحيى بن معين: مالك نبيل الرأي، نبيل العلم، أخذ المتقدمون عن مالك ووثقوه، وكان صحيح الحديث وكان يقدمه أصحاب(1/155)
الزهري.
وقال ما رأيت أحداً أحفظ لحديث نفسه منه ومن سفيان.
وقيل له الليث أرفع عندك أم مالك؟ قال: مالك.
وهو أعلم أصحاب الزهري وأوثقهم، وأثبت الناس في كل شيء.
وقال: مالك إمام ن أئمة المسلمين مجمع على فضله وثبته في لحديث.
وقال: مالك نجم أهل الحديث لمتوقف على الضعفاء الناقل عن أولاد المهاجرين والأنصار.
وقال علي بن المديني: ما أقدم على مالك أحداً في صحة الحديث.
ومالك أمير المؤمنين في الحديث.
وقال لي إني أحدثك عمن لم تر عيناك.
وفي رواية عيناي مثله.
فحدثني عن مالك، وقال: لولا أن الله يبعث في الإسلام في كل زمان مثل مالك وشعبة والأوزاعي لكانوا قد أدخلوا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس فيه.
وقال: حسبك مالك وابن عينية حفظاً وإتقاناً إذا اتفقا.
وقال بكر بن أحمد بن مقبل: مالك بن أنس الحجة القائمة.(1/156)
وقال البخاري وأبو زرعة الرزاي ومحمد بن عبد الحكم وأبو عبد الله بن السيد وغير واحد: مالك بن أنس إمام.
وقال أيوب بن سويد: مالك إمام دار لهجرة والسنة الثقة الصدوق.
وقال: ما رأيت أحداً قط أجود حديثاً من مالك.
وقال النسائي(1/157)
قال ابن أبي حازم: قال لي عبد العزيز بن الماجشون اغتنم مالكاً، فلم يبق من أدرك الناس غيره وغيري.
وقال سعيد بن داود: لم يذكر في عصر مالك أحد أرفع عند أهل المدينة من مالك.
وقال غيره: ما رأيت أحسن على التكشف من مالك كلما كشفته ازددت فيه رغبة.(1/161)
وقيل لابن هرمز نسألك فلا تجيبنا ويسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما.
فقال: دخل علي في بدني ضعف ولا آمن أن يكون قد دخل علي في عقلي مثل ذلك، وأنتم إذا سألتموني عن الشيء فأجبتكم قبلتموه ومالك وعبد العزيز ينظران فيه.
فإن كان صواباً قبلاه، وإن كان غيره تركاه.
وقال محمد ابن سعد: كان مالك ثقة مأموناً، ثبتاً، فقيهاً، ورعاً حجة، عالماً.
وقال أبو علي بن أبي هلال: سئل النسائي عن معاوية فقال: الإسلام دار والصحابة بابها فمن تكلم في أحد منهم بسوء فإنما دخل الدار.
وقال أبو علي ابن أبي هلال: وأنا أقول ومالك حلقة الباب لمن مر الحلقة فإنما أراد الدار.
بقية شهادتهم له بالصدق والثبات في الأثر
والقول في مراسيله وتوفيقه (ومن روى عنه) قال ابن مهدي: مالك أثبت في نافع من عبد الله وموسى بن عقبة ون إسماعيل بن أمية ومن سائر الناس.
وقال مثله يحيى بن سعيد ويحيى بن معين.
قال سليمان بن حرب إن مالكاً لأهل لذلك.
قال ابن مهدي: ومالك عن ابن المسيب أحب إلي من قتادة عن ابن المسيب إلا أن(1/162)
يقول قتادة سمعت.
قال ابن وهب ما أحداً آمن ولا أوثق من مالك.
وقال يحيى بن سعيد القطان، وذكرت من مرسلات السفيانيين والشعبي والأعمش وغيرهم.
فقال: في بعضها شبه الريح وشبه لا شيء.
قيل له فمرسلات مالك؟ قال هي أحب إلي.
ليس في القوم اصح حديثاً منه.
وقدمه في أصحاب الزهري.
قال: ومالك عن سعيد أحب إلي من سفيان عن إبراهيم.
وقال أحمد بن حنبل مالك أحسن حديثاً عن الزهري من ابن عيينة.
ومالك أثبت الناس عن الزهري.
قال أحمد بن صالح ثلث حديث مالك مسند.
وليس هذه المنزلة لأحد من نظرائه.
وحديث مالك ألفا حديث وشبيه بمائتي حديث.
يعني التي رويت عنه، وحدث بها، وقال أبو القاسم الإلكاني عن علي ابن المديني عند مالك نحو ألف حديث.
قال أحمد بن صالح وذكر الليث وسفيان فجعل يعظمهما.
وقال: كل واحد منهما إمام قيل له فإذا اختلف سفيان ومالك في الزهري أيهما أحب إليك؟ قال: مالك.
قال سفيان بن عيينة أخذ مالك ومعمر عن الزهري عرضاً، وأخذت سماعاً.(1/163)
قال ابن معين: لو أخذ كتاباً كان اثبت منه.
قال البخاري: مالك اثبت الناس في الزهري.
وقال يحيى بن عبد الله لأبي زرعة: ليس هذا زعزعة عن زوبعة ترفع الستر وتنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين يديه.
مالك عن نافع عن ابن عمر.
وقال وكيع حدثني الثقة مالك بن أنس وروى مثله عن القاسم بن علي وعن أحمد بن علي.
وقال الحسن بن علي: كنا عند وهيب بن خالد فحدث بحديث عن مالك وابن جريج.
فقلت لرجل أكتب ابن جريج ودع مالكاً، لأنه كان حياح.
فسمعها وهيب، فقال: تقول دع مالكاً! ما نعلم بين شرقها وغربها أحداً آمن عندنا من مالك على حديث
قال ابن المديني: مالك عن رجل عن سعيد بن المسيب أحب إلي من سفيان عن رجل عن إبراهيم.
فإن مالكاً لم يكن يحدث إلا عن ثقة.
وقال ابن داود(1/164)
حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مالك عن نافع عن ابن عمر ثم مالك عن الزري عن سالم عن أبيه.
ثم مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة.
لم يذكر شيئاً عن غير مالك وقال: مراسيل مالك أصح من مراسيل سعيد بن المسيب ومن مراسيل الحسن ومالك اصح الناس مرسلاً وقال سفيان: إذا قال مالك بلغني فهو إسناد.
وقال يحيى بن سعيد: مرسلات مالك صحاح.
وقال يحيى كان أصحابنا يقولون مرسلات مالك إسناده.
قال ابن وهب مالك والليث إسناد وإن لم يسند أو قال إبراهيم الحربي مالك لا يرسل إلا عن ثقة وسئل أحمد بن حنبل عن حديث جعفر بن محمد فقال ما أقول فيه وفيه وقد روى عنه مالك.
وسئل ابن معين عن طلحة الايلي وجماعة فقال حدث عنهم مالك.
قال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن عمر بن أبي عمر(1/165)
ومولى المطلب فقال يؤيد أمره مالك بن أنس قد روى عنه.
وقد ذكره البخاري في الصحيح وقال قد روى عنه مالك.
باب في إجماع الناس عليه
واقتداء الأكابر به وحاجتهم إليه.
قال مالك رحمه الله تعالى، فيما روى عنه ابن وهب وابن القاسم: ما أحد ممن نقلت عنه العلم إلا اضطر إلي حتى سألني عن دينه.
قال ابن أبي حازم: رأيت زيد بن اسلم واقفاً يستفتيه.
وقال مالك: قال لي يحيى ابن سعيد حين خرج إلى العراق التقط لي مائة حديث من أحاديث ابن شهاب أرويها عنك.
فكتبتها ثم دفعتها إليه.
قال لي أروها عنك؟ قلت: نعم.
قيل له فسمعها منك؟ قال كان أفقه من ذلك.
قال يحيى بن سعيد: التقى مالك والثوري، فكان الثوري يسأل مالكاً.
فقال معن: رأيت الثوري يزاحمنا على باب مالك.
قال مطروح بن شاكر: جلس ابن شهاب وربيعة ومالك، فألقى ابن شهاب مسألة فأجاب فيها ربيعة، وصمت مالك.
فقال له ابن شهاب: لم لا تجيب قال قد أجاب الأستاذ أو نحوه.
فقال ابن شهاب نفترق(1/166)
حتى تجيب.
فأجاب بخلاف جواب ربيعة.
فقال ابن شهاب ارجعوا بنا إلى قول مالك.
قال الدراوردي بينما أنا جالس مع يحيى ابن سعيد الأنصاري وهشام بن عروة إذ سمعت أحدهما يقول للآخر، كم ذا يكون هذا الرجل بين أظهرنا أفلا تأتيه نسمع منه أو نأخذ عنه؟ فقلت في نفسي إن هذا رجلاً ذهب هذان في الأخذ عنه لأهل أن لا أجهله فقاما وقمت معهما، فأتيا باب مالك واستأذنا عليه فلم نلبث أن سمعنا وقع الوسائد وأذن لهما فدخلا معهما.
فقالا يا أبا عبد الله حدثنا عن ابن شهاب وكان سفيان الثوري إذا سئل عن شاذ الحديث، قال دعوه، فإن الحجازي نهاني عنه، يعني مالكاً.
قال ابن معين سمع يحيى بن سعيد القطان من مالك في شباب مالك.
قال شعبة دخلت لمدينة سنة سبع عشرة بعد موت نافع بسنة وفي بعضها سنة ثمان عشرة وهو أصح.
فرأيت مالكاً له حلقة فإذا اختلف الناس في شيء نظروا إليه ما يقول.
قال القاضي محمد بن أحمد البصري: وفي هذه لسنة سمع شعبة من مالك وسن مالك إذ ذاك نيف وعشرون سنة.(1/167)
قال ابن أويس كان الناس كلهم يصدرون عن رأي مالك ابن أنس، وكان للأمير عنده رجل يسأله.
وهكذا القاضي والمحتسب.
قال سعيد بن منصور: رأيت مالكاً يطوف وخلفه سفيان الثوري يتعلم منه كما يتعلم الصبي من معلمه، كلما فعل مالك شيئاً، فعله سفيان يقتدي به، وقال ابن عيينة: ما نحن ومالك؟ إنما كنا نتبع آثار مالك.
فإن أخذ عن الشيخ أخذنا عنه.
قال بعضهم كنت عند ابن عيينة فسأله رجل عن الضحية بالليل فقال سفيان لا بأس بها.
فقلت له ابن وهب روى عن مالك أنه لا يضحي بالليل، وقرأ (في أيام معلومات) .
فصاح ابن عيينة بالرجل وقال له إن هذا أخبرني عن ابن وهب عن مالك أنه لا يضحي بالليل.
وقد ذكر أن ابن وهب هو الذي حكى لابن عيينة قول مالك هذا.
وقال ابن عيينة: حج مالك فضاق الطواف بالناس يأتمون به.
قال يحيى: قال الشافعي أفطرت بالمدينة عند مالك فخرج إلى العيد(1/168)
وصلى وانصرف ونظر إلى الناس عند بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على باب المسجد.
فقال ما لهم؟ قال: انصرفوا يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم فرجع إلى الحظيرة التي يطعم فيها المساكين في رمضان، وترك أ، يدخل المسجد فرأيت الناس قد خرجوا من المسجد يتبعون أين مالك؟ وقال عتيق: ما أجمع أهل المدينة على أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا على أبي بكر وعمر، ومات مالك ولم نعلم أن أحداً من أهل المدينة قبل موته إلا وقد أجمع عليه.
وقال حميد بن الأسود ما تقلد أحد من أهل المدينة بعد زيد بن ثابت كما تقلدوا قول مالك.
قال ابن أبي أويس: حضرت الاستسقاء بالمصلى فلما حول الإمام رداءه قام مالك يحول ساجا عليه.
فقام الناس فحولوا أرديتهم.
فلما انصرف مالك قيل له أمن سنة الاستسقاء إذا حول الإمام، أن يقوم الناس يحولوا أرديتهم؟ قال ليس عليهم قيام ويحولون قعوداً، وإنما قمت لأن ساجي كان تحتي فلم أقدر على تحويله حتى قمت.
قال مروان بن عمر ما ترك مالك الرواية عن أحد إلا ضعف.
قال ابن كنانة: قال العمري لمالك بايعني أهل الحرمين(1/169)
وأنت ترى ظلم أبي جعفر.
فقال له مالك تدري ما الذي منه عمر بن عبد العزيز أن يولى رجلاً صالحاً بعده؟ قال لا، قال كانت البيعة ليزيد فخاف عمر بن عبد العزيز إن بايع لغيره أن يقيم يزيد الهيج، ويقاتل الناس فيفسد ما لا يصلح.
فاحتمل العمري عن رأي مالك.
وقال سفيان كان مالك سراجاً.
حج الثوري فطفت معه فلم يكن معه كثير أحد، وقدم مالك فطاف فضاق الطواف بالناس، يعني لكثرتهم.
ولما روى مالك عن يزيد بن عبد الله بن الهادي رحل إلى يزيد قريب من ألف راحلة.
فلما أصبح يزيد ونظر إلى كثرة ما غشي بابه قال: ما هذا؟ قيل له إن مالكاً روى عنك.
قال داود بن مهران لما أتيت المدينة حضرت جنازة فلم يبق أحد من بني هاشم (وقريش والناس) إلا حضرها.
فلا خرجت الجنازة قام مالك وقام الناس لقيامه فمضى ماشياً بين يديها فما رأيت أحداً خلف الجنازة ومالك أمامهم.
وقال الليث إني لأدعو لمالك في صلاتي، وذكر من حاجة الناس في الفتيا.
قال الشافعي رأيت المغيرة وابن أبي حازم والدراوردي يذهبون مذهب مالك.
قال ابن وهب سألت عبد العزيز بن الماجشون عن مسألة فقال ما يحضرني فيها جواب، ولكن سل مالكاً وأخبرني بما يقول.
فسألته(1/170)
وأخبرته: فقال: مالك سيدنا وعالمنا.
وذكر عبد العزيز بن الماجشون مسألة، اختلف فيها قول أبيه وقول مالك فقال: وبقول مالك أقول، وأميل مع مالك حيثما مال، فإنه كان موفقاً.
قال خالد بن نزار زار مسلم بن خالد الدارنجي مالكاً، فقال له مالك: يا مسلم، ما هذه الأشياء التي تبلغني عنكم، تخالفون فيها أهل المدينة؟ قال يا أبا عبد الله أصلحك الله إني قد جمعت أشياء أريد أن أسألك عنها.
قال مالك هات.
أما أني أحب أن يرشدكم الله ولكني أكره أن خالفوا أهل المدينة إلى غيرهم.
قال محمد بن الحسن أقمت على باب مالك سنتين أو ثلاثاً أسمع منه، وكان يقول إنه سمع منه لفظاً أكثر من سبعمائة حديث.
وقال يحيى بن يحيى التميمي أقمت عند مالك بن أنس بعد كمال سماعي منه سنة أتعلم هيئته وشمائله فإنها شمائل الصحابة والتابعين ونحو هذا.
وقال محمد بن عبد الحكم: كان الشافعي إذا سئل عن شيء يقول هذا قول الأستاذ يعني مالكاً وقال فيه مالك أستاذي ومالك معلمي وعنه أخذنا العلم.
وما أحد أمن علي من مالك وإنما أنا(1/171)
غلام من غلمان مالك، وجعلت مالكاً حجة بيني وبين الله.
وقال ابن وهب: لولا أن الله استنقذنا بمالك والليث لضللنا.
وسئل مالك عن عبد الله بن عبد الرحمان الأنصاري الذي يحدث عنه ابن سمعان فقال: ما أعرفه.
فقال الناس: رجل من أهل المدينة من الأنصار ويروى عنه لا يعرفه مالك؟ فاتهمه الناس.
فقال علي ابن المديني: إذا حدث مالك عن رجل من أهل المدينة ولا تعرفه فهو حجة، لأنه كان ينتقي.
وقال علي: مالك أستاذي في أهل المدينة.
ويحيى في العراق.
وحكى بعض من ألف في مناقبه أن ابن هرمز مر بدار بعض ذوي الأقدار وهو واقف مع مولاة له: فقال ابن هرمز: يا هذا إنك على الطريق وليس يحل لك هذا.
فقال هذي داري ومولاتي وحشمي.
فما ينكر على مثلي.
وقال لعبيده طؤوا بطنه فوطئوه حتى حمل إلى منزله.
فعاده الناس وفيهم مالك.
فجعل يشكو والناس يدعون له، ومالك ساكت ثم تكلم، فقال: إن هذا لم يكن لك.
تأتي الرجل من أهل القدر على باب داره معه حشمه ومواليه.(1/172)
فقال ابن هرمز: فترى أني أخطأت؟ قال: أي والله.
وذكر باقي الحكاية.
ولما قدم حماد بن زيد المدينة لم يأته أحد من أصحاب مالك فراح حماد فشكى ذلك إليه.
فقال: أنا أمرتهم بذلك.
فقال ولم؟ يا أبا عبد الله؟ قال لأنكم يا أهل العراق تكتبون بالمدينة عمن لا شهادة له عندنا.
فيتوهم عليكم أنكم تفعلون هكذا في بلادكم.
فرجع حماد فأسقط عامة علمه.
قال سحنون: جاء وافد أهل مصر سؤلاتهم لربيعة، فوجدوه قد مات.
قال: فلم أرد أن أرجع بغير جواب، فرأيت في المسجد حلقة يخوضون في العلم فجلست إليهم وخبرتهم أمري وقلت لهم إن كان لكم أجيبوني أو فأرشدوني.
فأشار إلي جميعهم إلى مالك بن أنس، وهو يومئذ شاب جالس إلى عمود وحده ولم أدع حلقة إلا جلست إليها، وسألتهم فكلهم يدني عليه فأتيته فأخبرته بخبري وبما دلني القوم عليه، وذكر أنه سأله فكلما قرأ عليه مسألة بكى.
ثم أجابه.
قال سحنون: بكى حين عرفها وعرف أنه احتيج فيها.(1/173)
قال المغامي عن عبد الملك: سمعت مطرفاً وابن الماجشون يقولان عن مالك في أمهات الأولاد أنهن إذا استحقن يؤخذن قيمة أولادهن حتى استحقت أم ولده محمد وتخاصم فيها وكيل المستحق مع وكيل مالك عند المطلب والي المدينة فقال المطلب: ما أرى أحداً استشيره في أمره غيره.
فقال وكيل الطالب: تستشيره في أمر نزل به؟ فقال المطلب ليس مثله يتهم، ولو كان صاحبه حاضراً يعني ابن أبي سلمة استشرناه، فاستشار مالكاً في ذلك، فقال: قد كان رأيي في ذلك ما قد علمت وجرى في الناس حتى رأيت أمراً شديداً يعمد إلى أم ولدي، فتستخرج من تحتي وإنما اشتريت من سوق المسلمين، فيحمل علي رزقها أما أفديها بجميع مالي وما ظلم من دفع إليه القيمة.
فحكم بذلك فما سر أهل المدينة سرورهم بهذه الفتيا.
وفي الثمانية (هكذا) والواضحة مثله وأنه قول مالك المقدم.
وقول ابن كنانة وابن الماجشون.(1/174)
قال أبو محمد الضراب وغيره وروى عن مالك جماعة من الشيوخ الذين روى عنهم.
منهم يحيى بن سعيد الأنصاري وأبو الأسود بن نوفل وزياد بن سعد وابن شهاب وهشام بن عروة إلى آخر من سواهم.
وأما من روى عنه من أقرانه ممن مات قبله أو بعده فكثير: كان جريج وابن عجلان والدراوردي وعبد الله بن جعفر المديني والليث ونافع القارىء عبد العزيز بن الماجشون(1/175)
والسفياني والحماد المزني، وأبو حنيفة، وصاحبه ووكيع وشعبة والأوزاعي وسواهم، ممن سنذكرهم بعد هذا.
قال غيره ففي رواية هؤلاء المشيخة وأمثالهم عن مالك دليل على عظم شأنه.
قال جعفر الفريابي: لا أعلم أحداً روى عنه الأئمة والجلة ممن مات قبله بدهر طويل إلا مالك.
فإن يحيى بن سعيد مات قبله بخمس وثلاثين سنة وابن جريج بثلاثين والاوزاعي بعشرين والثوري(1/176)
بثمان عشرة وشعبة بتسع عشرة.
قال الإمام أبو الفضل رضي الله عنه وأبو حنيفة بثلاثين سنة وهمام بأكثر من ذلك.
وأغرب من هذا الزهري توفى قبل مالك بخمس وخمسين سنة.
قال أبو الحسن الدارقطني: لا نعلم أحداً تقدم أو تأخر اجتمع له ما اجتمع لمالك.
وذلك أنه روى عنه رجلان حديثاً واحداً بين وفاتيهما نحو من مائة وثلاثين سنة محمد بن شهاب الزهري وشيخه توفى سنة خمس وعشرين ومائة وأبو حذافة السهمي، توفى بعد الخمسين ومائتين رويا عنه جميعاً حديث الفريعة بنت مالك في سكنى المعتدة.
تحريه في العلم والفتيا والحديث وورعه فيه وإنصافه
قال عبد الرحمان العمري: قال لي مالك ربما وردت علي المسألة تمنعني من الطعام والشراب والنوم فقلت يا أبا عبد الله ما كلامك عند الناس إلا كنقش في حجر، ما تقول شيئاً إلا تلقوه منك.(1/177)
قال فمن أحق أن يكون كذا إلا من كان هكذا.
فرأيت في النوم قائلاً يقول مالك معصوم قال ابن القاسم: سمعت مالكاً يقول إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن.
قال ابن مهدي: سمعت مالكاً يول: ربما وردت علي المسألة فأسهر فيها عامة ليلي.
قال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا سئل عن المسألة قال للسائل انصرف حتى أنظر فيها.
فينصرف ويتردد فيها.
فقلنا له في ذلك، فبكى وقال: إني أخاف أن يكون لي من السائل يوم وأي يوم.
قال وزاده كان مالك إذا جلس نكس رأسه ويحرك شفتيه بذكر الله ولم يلتفت يميناً ولا شمالاً، وزاده، فإذا سئل عن مسألة تغير لونه وكان أحمر بصفرة فيصفر وينكس رأسه ويحرك شفتيه.
ثم يقول ما شاء الله ولا قوة إلا بالله، فربما يسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب منها في واحدة.
وقال بعضهم لكأنما مالك والله إذا سئل عن مسألة(1/178)
فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب.
وقال: ما شيء أشد علي من أن أسأل عن مسألة من الحلال والحرام، كأن هذا هو القطع في حكم الله ولقد أدركت أهل العلم والفقه ببلدنا وإن أحدهم إذا سئل عن مسألة كأن الموت أشرف عليه.
ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام فيه والفتيا، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غداً لقللوا من هذا، وإن عمر بن الخطاب وعلياً وعلقمة خيار الصحابة كانت تتردد عليهم المسائل وهم خير القرون الذي بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يجمعون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويسألون حينئذ ثم يفتون فيها، وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم الفتيا فبقدر ذلك يفتح لهم من العلم.
قال: ولم يكن من أمر الناس ولا من مضى ولا من سلفنا الذين يقتدى بهم ويعول الإسلام عليهم أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقول أنا أكره كذا وأحب كذا.
وأما حلال(1/179)
وحرام فهذا الافتراء على الله، أما سمعت قول الله تعالى: قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق ... الآية.
لأن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرماه.
قال موسى بن داوود: ما رأيت أحداً من العلماء أكثر أن يقول: ما أحسن من مالك.
وربما سمعته يقول ليس هذا ببلدنا.
قال مروان بن محمد: كنت أرى مالكاً يقول لرجل يسأله اذهب حتى أنظر في أمرك فقلت إن الفقه من بابه وما رفعه الله إلا بالتقوى.
قال سحنون قال مالك يوماً: اليوم لي عشرون سنة أتفكر في هذه المسألة.
قال ابن مهدي: سأل رجل مالكاً عن مسألة وذكر أنه أرسل فيها من مسير ستة أشهر من المغرب.
فقال له أخبر الذي أرسلك أنه لا علم لي بها.
قال ومن يعلمها؟ قال من علمه الله.
وسأله رجل عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب فقال ما أدري ما ابتلينا بهذه المسألة في لدنا ولا سمعنا أحداً من أشياخنا تكلم بها ولكن تعود.(1/180)
فلما كان من الغد جاءه وقد حمل ثقله على بغلة يقودها فقال مسألتي فقال ما أدري ما هي.
فقال الرجل يا أبا عبد الله تركت خلفي من يقول ليس على وجه الأرض أعلم منك.
فقال مالك غير مستوحش: إذا رجعت فأخبرهم أني لا أحسن.
وسأله آخر فقال يا أبا عبد الله أجبني فقال ويحك، أتريد أن تجعلني حجة بينك وبين الله؟ فأحتاج أنا أولاً أن أنظر كيف خلاصي، ثم أخلصك.
قال ابن أبي حازم قال مالك إذا سألك إنسان عن مسألة فابدأ بنفسك فأحزرها.
قال الهيثم ابن جبيل: شهدت مالكاً سئل عن ثمان وأربعين مسألة.
فقال في اثنين وثلاثين لا أدري.
وقال خالد بن خراش قدمت من العراق على مالك بأربعين مسألة فما أجابني منها إلا في خمس.(1/181)
وقد قال ابن عجلان: إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقالته وقد روى هذا الكلام عن أبي عباس رضي الله تعالى عنهما.
وقال مالك: سمعت ابن هرمز يقول: ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول لا أدري حتى يكون ذلك أصلاً في أيديهم يفزعون إليه، فإذا سئل أحدهم عما لا يروي قال لا أدري.
قال ابن وهب: كان مالك يقول في أكثر ما يسأل عنه لا أدي.
قال عمر بن يزيد: فقلت لمالك في ذلك، فقال يرجع أهل الشام إلى شامهم وأهل العراق إلى عراقهم وأهل مصر إلى مصرهم ثم لعلي أرجع عما أفتيتهم به.
قال فأخبرت بذلك الليث فبكى، وقال: مالك والله أقوى من الليث أو نحو هذا.
وقال معن بن عيسى: سمعت مالكاً يقول: إنما أنا بشر أخطىء وأصيب فانظروا في رأيي فكلما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب(1/182)
والسنة فاتركوه.
قال ابن أبي أويس: سئل مالك مرة عن نيف وعشرين مسألة فما أجاب منها إلا في واحدة.
وربما يسأل عن مائة مسألة فيجيب منها في خمس أو عشر، ويقول في الباقي لا أدري.
قال أبو مصعب: قال لنا المغيرة: تعالوا نجتمع ونستذكر كلما بقي علينا مما نريد أن نسأل عنه مالكاً.
فمكثنا نجمع ذلك وكتبناه في قنوان ووجه به المغيرة إليه وسأله الجواب.
فأجابني بعضه وكتب في الكثير منه لا أدي.
فكان المغيرة يقول: لا والله ما رفع هذا الرجل إلا بالتقوى.
من كان منكم يسأل عن هذا فيرضى أن يقول لا أدري.
قال ابن وهب: سألت مالكاً في ثلاثين ألف مسألة نوازل في عمره، فقال في ثلثها أو شطرها أو ما شاء الله منها لا أحسن، ولا أدري.
وقال: لو ملأ رجل صحيفة من قول مالك لا أدري لفعل قبل أن يجيب في مسألة.
قال مصعب: وجهني أبي بمسألة ومعي صاحبها إلى مالك يقصها عليه، فقال ما(1/183)
أحسن فيها جواباً، سلوا أهل العلم.
قال ابن أبي حسان: سئل مالك عن اثنين وعشرين مسألة فما أجاب إلا في اثنتين بعد أن أكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله.
وكان الرجل يسأله عن المسألة فيقول: العلم أوسع من هذا.
وقال بعضهم إذا قلت أنت يا أبا عبد الله لا أدري فمن يدري.
قال: ويحك ما عرفتني؟ وما أنا؟ وأي شيء منزلتي حتى أدي ما لا تدرون.
ثم أخذ يحتج بحديث ابن عمر، يقول لا أدري فمن أنا، وإنما أهلك الناس العجب وطلب الرئاسة.
وهذا يضمحل عن قليل.
وقال مرة أخرى: قد ابتلى عمر بن الخطاب بهذه الأشياء.
فلم يجب فيها.
وقال ابن الزبير لا أدري، وابن عمر لا أدري وقال مصعب: سئل مالك عن مسألة فقال لا أدري.
فقال له السائل إنها مسألة خفيفة سهلة، وإنما أردت أن اعلم بها الأمير.
وكان السائل ذا قدر فغضب مالك وقال مسألة خفيفة سهلة ليس في العلم شيء خفيف(1/184)
أما سمعت قول الله تعالى: (إنا سنلقي عليل قولاً ثقيلاً) فالعلم كله ثقيل وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة.
قال بعضهم: ما سمعت قط أكثر قولاً من مالك لا حول ولا قوة إلا بالله.
ولو شاء أن تصرف بألواحنا مملوءة بقوله لا أدري: إن تظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين لفعلنا.
وقال له ابن القاسم: ليس بعد أهل المدينة أعلم بالبيوع من أهل مصر.
فقال مالك: ومن أين علموها؟ قال: منك.
قال مالك: ما أعلمها أنا فكيف يعلمونها؟ قال مفضل بن فضالة: ما نعد مالكاً إلا مثل نقاد بيت المال.
وقال ابن حاتم قلت ابن معين: مالك قل حديثه.
فقال بكثرة تمييزه.
وسئل مالك عن الأحاديث يقدم فيها ويؤخر والمعنى واحد.
فقال أما ما كان من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينبغي أن يقوله إلا كما جاء، وأما لفظ غيره فإذا كان المعنى واحداً فلا بأس به.(1/185)
قيل فحديث النبي صلى الله عليه وسلم مزاد فيه الواو والألف والمعنى واحد.
قال أرجو أن يكون خفيفاً.
وروى عنه ابن عقير نحوه.
قال القطان: لما مات مالك رحمه الله أخرجت كتبه أصيب فيها فنداق عن ابن عمر ليس في الموطأ منه شيء إلا حديثين.
قال ابن وهب: قال مالك: سمعت من ابن شهاب أحاديث كثيرة ما حدثت بها قط، ولا أحدث بها.
فقال الفروي: فقلت له: لم؟ قال ليس عليها العمل.
قال عتيق بن يعقوب: قال لي مالك: أخذت من ابن شهاب تسعة فناديق في بطونها وظهورها أن، منها أشياءاً ما حدثت بها منذ أخذتها بالمدينة.
قال رجل لمالك أن الثوري حدثنا عنك في كذا.
فقال إني لأحدثك في كذا وكذا حديثاً ما أظهرتها بالمدينة.
قال ابن مالك: لما دفنا مالكاً دخلنا منزله فأخرجنا كتبه فإذا فيها سبع صناديق من حديث ابن شهاب ظهورها وبطونها ملأى وعنده فناديق أو صناديق من كتب أهل المدينة.
فجعل الناس يقرأون ويدعون ويقولون: رحمك الله(1/186)
يا أبا عبد الله لقد جالسناك الدهر الطويل فما رأيناك ذاكرت بشيء مما قرأناه.
وفي رواية عن ابنه: وإنا ما وجدنا له إلا كتاباً واحداً فيه لابن شهاب أحاديث قد خط على بعضها.
وعن ابن إسحاق بن بابين: وجدنا في تركة مالك صندوقين مقفولين فيهما كتب فجعل أبي يقرأها ويبكي ويقول: رحمك الله إنك كنت تريد بعملك الله.
لقد جالسته الدهر الطويل وما سمعته يحدث بشيء مما قرأت وذكر عتيق بن يعقوب أنه دخل منزل مالك بعد موته مع أبيه ففتح صناديق مملوءة كتباً فقرأها فذكر نحوه.
قال: ثم فتح صندوقاً آخر فأخرج منه اثني عشر ألف حديث للزهري وفتح آخر فأخرج منه سبع صناديق ظهورها وبطونها من حديث أهل المدينة فما رأيت فيها شيئاً مما ذاكر به أصحابه في حياته.
قال أحمد بن صالح(1/187)
نظرت في أصول مالك فوجدتها شبيهاً باثني عشر ألف حديث.
قال بعضهم وهو حديث أهل المدينة في ذلك الوقت فلم يحدث مالك إلا بثلثها.
وأخرج إلي ابن أويس سماع مالك من الزهري فإذا نحو ثلاثمائة وخمسين حديثاً.
وأخرج إلي كتاب مالك في قراطيس غير كتاب ابن شهاب فقدرنا ذلك بنحو من عشرة آلاف حديث.
قال الشافعي: قيل لمالك: عند ابن عيينة أحاديث ليس عندك.
فقال: إذا أحدث الناس بكل ما سمعت إني إذاً أحمق.
وفي رواية إني أريد أن أضلهم إذاً.
ولقد خرجت مني أحاديث لوددت أني ضربت بكل حديث منها سوطاً، ولم أحدث بها.
وإن كنت أفزع الناس من السياط.
وفي رواية أخرى قال وددت أني ضربت بكل مسألة تكلمت بها سوطاً.
قال الداودي: قلت له حدثني بحديث الملطا.
قال لا.
قلت سفيان(1/188)
يرويه عنك.
قال صدق ولو كنت حدثت أحداً لحدثتك.
إن العمل ببلدنا ليس عليه وليس صاحبه بذلك وكان إذا قيل له هذا الحديث ليس عند غيرك تركه وإن قيل له هو مما يحتج به أهل البدع تركه.
وقيل له إن فلاناً يحدثنا بغرائب.
فقال: من الغريب نفر.
قال أبو مصعب: قيل لمالك لم لا تحدث عن أهل العراق.
قال لأنني رأيتهم إذا جاءونا يأخذون الحديث عن غير ثقة.
فقلت أنهم كذلك في بلادهم.
وقال عندي أحاديث لو ضرب رأسي بالسوط ما أخرجتها أبداً.
وقال ابن عيينة: كان مالك لا يبلغ الحديث إلا صحيحاً.
ولا يحدث إلا من ثقة.(1/189)
فقلت أنهم كذلك في بلادهم.
وقال عندي أحاديث لو ضرب رأسي بالسوط ما أخرجتها أبداً.
وقال ابن عيينة: كان مالك لا يبلغ الحديث إلا صحيحاً.
ولا يحدث إلا عن ثقة.
قال الشافعي كان مالك إذا شك في الحديث طرحه كله.
قال معن سمعت مالكاً يقول إنما إنا بشر أخطىء وأرجع وكلما أقول يكتب.
قال أشهب ورآني أكتب جوابه في مسألة فقال لا تكتبها، فإني لا أدري أثبت عليها أم لا.
قال ابن وهب وسمعته يقول فيما يسأل عنه من أمر القضاء هذا متاع السلطان.
وسمعته يعيب كثرة الجواب من العالم حتى يسأل يعني الرجل الذي يجلس لهذا.
وإنما يصنعه معلم الكتاب.
وكان الرجل يجلس فإن سئل العالم عن شيء سمعه.
وسمعته عندما يكثر عليه بالسؤال يكف ويقول حسبكم، من أكثر أخطأ.
وكان يعيب كثرة ذلك وقال يتكلم كأنه جمل مقتلم ويقول هو كذا هو كذا يهدر في كل شيء(1/190)
وسأله رجل عراقي عن رجل وطىء دجاجة ميتة فخرجت منها بيضة فأفقست البيضة عنده عن فرخ أيأكله؟ فقال مالك سل عما يكون ودع ما لا يكون.
وسأله آخر عن نحو هذا، فلم يجبه.
فقال له لم لا تجبني؟ يا أبا عبد الله.
فقال له لو سألت عما تنتفع به أجبتك.
قال ابن المعدل قيل لمالك إن قريشاً تقول إنك لا تذكر في مجلسك أباءها وفضائلها.
فقال مالك إنما نتكلم فيما نرجو بركته.
قال ابن القاسم كان مالك لا يكاد يجيب وكان أصحابه يحتالون أن يجيء رجل بالمسألة التي يحبون أن يعلموها كأنها مسألة بلوى فيجيب بها.
وقال مالك لابن وهب اتق هذه الآثار، وهذا السماع الذي لا يستقيم أن يحدث به.
فقال له إنما أسمعه لأعرفه لأحدث به.
فقال ما سمع إنسان شيئاً إلا تحدث به، وعلى ذكر القدر وسمعت من ابن شهاب أشياء ما تحدثت بها، وأرجو ألا أفعل ما عشت.
وروى البياضي عنه أنه قال: لقد ندمت ألا أكون طرحت أكثر مما طرحت من الحديث.(1/191)
وقال له القاسم بن مسرور أرأيت يا أبا عبد الله أحاديث تحدثت بها ليس عليها رأيك، لأي شيء أقررتها.
فقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما فعلت ولكنها انتشرت عند الناس، فإن سألني عنها أحد ولم أحدث بها وهي عند غيره اتخذني غرضاً.
قال بشر بن عمر سألت مالكاً مرة عن رجل فقال لو كان ثقة لرأيته في كتبي.
وسأله رجل عن مسألة من أهل المدينة، الجواب فيها.
فرده ثم عاد فرده ثلاثاً فكأنه تهاون بعلم مالك فأتاه أت في نومه يقول له: أنت المتهاون بعلم مالك؟ ائته فأسأله فلو كانت مسألتك أدق من الشعر وأصلب من الصخر لوفق فيها باستعانته بما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال أشهب رأيت في النوم قائلاً يقول لزم مالك كلمة عند فتواه لو ورد عليه الجبال لقلعتها.
وذلك قوله ما شاء الله لا قوة إلا بالله.(1/192)
قال القعنبي دخلت على مالك فوجدته باكياً فسألته عن ذلك فقال ومن أحمق بالبكاء مني لا أتكلم بكلمة إلا تبت بالأقلام وحملت إلى الآفاق وما تكلمت برأي إلا في ثلاث مسائل.(1/193)
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا ومولانا وعلى آله وصحبه وسلم
باب صفة مجلس مالك للعلم
ونشره له وصيانته إياه وتوقيره لحديث النبي صلى الله عليه وسلم قال الفقيه القاضي أبو الفضل عياض رحمة الله عليه قال الواقدي: كان مالك يجلس على ضجاع ونمارق مطروحة في منزله يمنة ويسرة لمن يأتي من قريش والأنصار والناس.
وكان مجلسه مجلس وقار وعلم، وكان رجلاً مصيباً نبيلاً ليس في مجلسه شيء من المراء واللغط ولا رفع صوت إذا سئل عن شيء فأجاب سائله لم يقل له من أين رأيت هذا.
وكان الغرباء يسألونه عن الحديث والحديثين فيجيبهم الفينة بعد الفينة.
وربما أذن لبعضهم يقرأ عليه.
وكان له كاتب قد نسخ له كتبه يقال له حبيب يقرأ للجماعة فليس أحد ممن حضر يدنو منه ولا ينظر في كتابه ولا يستفهمه هيبة له وإجلالاً.
وكان حبيب إذا أخطأ فتح عليه مالك رحمه الله تعالى، وكان ذلك قليلاً، ولم يكن يقرأ كتبه على أحد، وكان كالسلطان له حاجب يأذن عليه فإذا اجتمع الناس ببابه أمر آذنه يخص أولاً أصحابه فإذا فرغ من يخص أذن للعامة(2/13)
وهذا هو المشهور من سماع أصحابه أنهم يقرأون عليه، وسيأتي من أخباره ما يعضد هذا كثير.
إلا أن يحيى بن بكر ذكر أنه سمع الموطأ من مالك أربعة عشر مرة.
وزعم أن، أكثرها بقراءة مالك وبعضها بالقراءة عليه، وعوتب مالك في تقديمه الإذن لأصحابه.
فقال أصحابي وجيران رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال إسماعيل بن حماد أتيت مالكاً فرأيته جالساً في صدر بيته وأصحابه بجنبتي البيت.
وقال أبو مصعب وابن الضحاك ومطرف والمهدي وعبد الملك وابن سلمة وغير واحد من أصحابه كان جلساء مالك كأنما على رؤوسهم الطير تسمتاً وأدباً، وقال حبيب كان مالك إذا جلس جلسة لم يتحول عنها حتى يقوم.
قال مطرف وكان مالك إذا أتاه الناس خرجت إليهم الجارية فتقول لهم يقول لكم الشيخ تريدون الحديث أو المسائل؟ فإن قالوا المسائل خرج إليهم فأتاهم وإن قالوا الحديث قال لهم اجلسوا ودخل مغتسله فاغتسل وتطيب ولبس ثياباً جدداً ولبس ساجه وتعمم ووضع على رأسه طويلة وتلقى(2/14)
له المنصة فيخرج إليهم وقد لبس وتطيب وعليه الخشوع ويوضع عود.
فلا يزال يبخر حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال يحيى كنا نجتمع على بابه فإذا توافينا صرخ الآذن ليدخل أهل المدينة ثم ليؤذن لغيرهم فيدخل ويسم عليه ويسكت ونسكت ساعة فإذا رأى ازدحامنا قال توقروا فإنه عون لكم وليعرف صغيركم حق كبيركم، ومن رواية أخرى، كان إذنه لنا رفع سطر في أسطوانة فندخل عليه وهو قاعد.
قد ميل رأسه حتى إذا أخذ الناس مجالسهم رفع رأسه فقال السلام عليكم.
إنما كان يفعل ذلك لئلا يقرب بعض الناس على بعض من العلوية أو العثمانية أو غيرهم فينتقد عليه ذلك كان يدعهم حتى يأخذون مجالسهم وكان بعضهم يعرف حق بعض فإذا قدم الحاج جعل جواباً على بابه فيأذن أولاً لأهل المدينة فإذا دخلوا قال للبواب تنح.
قال ابن قعنب ما رأيت قط أشد وقاراً من مجلس مالك، لكأن الطير على رؤوسهم.
قال ابن أبي أويس: كان مالك إذا جلس للحديث توضأ وجلس على صدر فراشه وسرح لحيته وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة.
ثم حدث فقيل له في ذلك، فقال أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدث به إلا على طهارة متمكناً وكان يكره أن، يحدث في طريق قائماً ومستعجلاً وقال أحب أن أفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم،(2/15)
قال ابن المنذر وكان مالك لا يوسع لأحد في حلقته ولا يرفعه يدع أحدهم حيث انتهى به مطرف وإسماعيل (كذا) قال ابن أبي أويس كان إذا جلس للحديث قال ليليني منكم ذوو الأحلام والنهى.
قال إسماعيل فربما قعد القعنبي عن يمينه.
قال ولم يكن يجلس على المنصور إلا إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو مصعب كان مالك لا يحدث إلا على وضوء إجلالاً منه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال مصعب بن عبد الله كان مالك إذا سئل الحديث توضأ وتهيأ ولبس ثيابه فقيل له في ذلك فقال: إنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عبد الله بن المبارك: وكنت عند مالك وهو يحدثنا فلدغته عقرب ستة عشر مرة ومالك يتغير لونه ويصبر ولا يقطع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من المجلس وتفرق الناس قلت يا أبا عبد الله لقد رأيت منك اليوم عجباً قال إنما صبرت إجلالاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال يحيى ابن يحيى الأندلسي كنت جالساً عند مالك فوقعت على رأسه وزغتان فمرتا على قلنسوته ثم دنتا إلى عنقه حتى دخلتا تحت طوقه حتى خرجتا من تحت ثيابه وما نفضهما وما حل صفوته.(2/16)
قال مصعب الزبيري كان حبيب يقرأ على مالك وأنا على يمينه وأخي عن شماله وهو أقرب إلى مالك.
وكان أسن مني وكان حبيب يقرأ لنا عشية من ورقتين إلى ورقتين ونصف ولا يبلغ ثلاثاً والناس ناحية لا يدنون ولا ينظرون فإذا خرجنا جاءنا الناس فعارضوا كتبهم بكتبنا.
قال وجئنا يوماً إلى أبينا بالعرصة لنقيم عنده ونسير بالعشي إلى مالك فأصابتنا سماء يماً فلم نأته تلك العشية ولم ينتظرنا وعرض عليه الناس فأتيناه بالغد فقلنا له يا أبا عبد الله أصابتنا أمس سماء ثقلتنا عن حضور العرض، فاردد علينا قال لا.
من طلب هذا الأمر صبر عليه.
قال جعفر ابن إبراهيم كلم صديق لأبي، مالكاً أن أسمع منه فأذن فكنت اختلف إليه وأنا مدل بنسبي من الرسول عليه الصلاة والسلام وموضعي، فأنخطأ الناس إلى وساد مالك فلا يتزحزح ويريني أنه لم يدنيني احتقاراً لي.
فشكوت ذلك إلى أبي وغيره فبعثوا إليه يسألونه إكرامي وأثرتي فقال للرسول ما هو عندنا وغيره إلا سواء.
إنما هي عافاك الله مجالس علم السابق إليها أحق بها.
فكنت أني وقد أحدق الناس فما يوسع لي فاستدني حيث وجدت.
قال ابن وهب كنا إذا جلسنا إلى مالك فإنما يتساءل الناس بينهم فإذا اختلفوا وأرادوا أن يرفعوه إلى مالك فإنما يضم إليه رجل واحد.
بخفض الصوت مع الإجلال والهيبة فيقول(2/17)
ما تقول أصلحك الله في كذا وكذا.
قال فإن كان الرافع المصيب قال له وفقك الله، وإن، كان الآخر قال له ذلك فأيهم ناداه بالتوفيق علم أنه المصيب.
قال عبد الرزاق بينما نحن في المسجد الحرام فقيل لنا هذا مالك فلقيناه داخلاً من باب بني هاشم وعليه رداء وقميص صنعاني فطاف بالبيت وخرج ناحية الصفا فصلى ركعتين ثم احتبى.
فلما فرغ احتوشناه كما يصنع أصحاب الحديث فلما جلسنا قام من بيننا كالمغضب.
فجئنا مشائخنا.
أي شيء كتبتك عن مالك فأخبرناهم بالذي فعل.
فقالوا الذي فعلتم لا يحتمله مالك، فلما كان من الغد جئنا واحداً واحداً وعلينا السكون فحدثنا وقال الذي فعلتم أمس فعل السفهاء.
قال خالد بن نزار سألت مالكاً عن شيء وكان متكئاً فقال حدثني يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب ثم استوى جالساً وتجلل بكساه فقال استغفر الله فقلت له في ذلك.
فقال إن العلم أجل من ذلك ما حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متكىء.
قال ابن بكير قام رجل إلى مالك فقال له أعرض؟ قال نعم.
فقال أحدثكم ابن شهاب عن سالم، فقال له مالك أنت ثقيل.
يقوم(2/18)
غير هذا فقام آخر فقال حدثكم ابن شهاب، بلا استفهام، فقال مالك أحسنت.
مثل هذا فليعرض.
ودخل بقية بن الوليد على مالك فقال الناس اليوم ننتفع بأبي محمد يسأل مالكاً مسائل نكتبها عنه.
فسأله عن ست مسائل فأجابه فيها كلها وسأله بعد ذلك فقال له مالك أكثرت خذوا بيد الشيخ فجاء نفسان فأخذا بضبعيه فأخرجاه.
قال ابن المنذر كانت لمالك حلقة يجالسه فيها فقهاء المدينة.
ولم يكن يوسع لأحدهم ولا يرفعه يدع أحدهم يجلس حيث انتهى به المجلس.
حكى الزبير عن عمه مصعب وغير واحد أن هارون لما حج أتى مالكاً فأستأذن عليه حاجبه ثم أذن له.
وفي رواية بعضهم ثم خرج إليه فلما دخل قال يا أبا عبد الله ما حملك على أن أبطأت، وقد علمت مكاني.
وفي رواية حبسنا ببابك.
قال والله يا أمير المؤمنين ما زدت على أن توضأت وعلمت أنك لا تأتي إلا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحببت أن أتأهب له.
فقال قد علمت أن الله ما رفعك باطلاً.
وأخذ بيده فمضى إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أخبرني عن مكان أبي بكر وعمر من النبي صلى الله عليه وسلم فقال كان محلهما منه في حياته كمحلها منه بعد وفاته.
قال هشام بن عيسى لما قدم هارون المدين دعا مالكاً.
فقال مالك: منكم خرج هذا العلم وأولى الناس بإعظامه ومن إعظامكم له ألا تدعوا حملته إلى أبوابكم.
قال قد فعلت يا أبا عبد الله.(2/19)
وقال بعضهم حج المهدي فدخل المدينة فسار إليه مالك وأظهر من بره وإعظامه وأمر ابنيه موسى وهارون أن يسمعنا منه.
فبعثوا إليه فلم يصل إليهم وأعلموا المهدي فبعث إليه لم يأتهم؟ فقال يا أمير المؤمنين العلم أهل لأن يوقر ويؤتى.
قال، صدق.
سيروا إليه.
فلما حضروه قالوا له إقرأ علينا.
قال إن هذا البلد إنما يقرأ فيه على العالم كما يقرأ الغلام على المعلم فإذا أخطأ فتاة فانصرفوا عنه، وأعلموا المهدي.
فبعث إليه.
فقال امتنعت أن، تصير إليهم فصاروا إليك فامتنعت أن، تقرأ عليهم.
قال يا أمير المؤمنين سمعت ابن شهاب يقول جمعنا هذا العلم من رجال في الروضة، وهم سعيد بن المسيب وأبو سلمة وعروة والقاسم وسالم وخارجة وسليمان ونافع ثم نقل عهم ابن هرمز وأبو الزناد وربيعة والأنصار وبحر العلم ابن شهاب وكل هؤلاء يقرأ عليهم ولا يقرأون.
قال المهدي اذهبوا فاقرأوا، ففي هؤلاء قدوة.
فكان مؤدبهم يقرأ عليهم.
وفي رواية ابن نافع في هذا الحديث لما دخل مالك على هارون رفع مجلسه وقال لابنيه قوما فاجلسا بين يدي عمكما فقاما فجلسا بين يدي مالك.
فقال حدثهما فتغير وجه مالك ثم التفت إلى هارون وقال(2/20)
أن الله رفعك وجعلك في موضعك الذي أنت فيه للعلم، فلا تكن أول من يضع عز العلم فيضع الله عزك فالتفت هارون إلى ابنيه وقال لهما قوما فإذا مضى عمكما فأتيا منزله فاسمعا منه.
فلما انصرف مالك ركبا إليه ونزلا ودقا الباب فلم يفتح لهما فتركا فجلسا على الباب والريح تضرب وجوههما بتراب العقيق فلما أيسا انصرفا.
قال بعضهم قدم الرشيد المدينة ومالك عليل فبعث إليه أن يأتيه ليسأله عن مسألة، فقال أنا عليل فقال لا بد من لقائك ووجه إليه محفة وحمله على أيدي الخدم.
فلما دخل قام إليه الفضل بن الربيع فسأله عن مسألة فقال مالك يا وغد إليك حملت؟ لأخبرن أمير المؤمنين.
فأكب عليه الفضل يقبله ويستعطفه فلما دخل قام إليه الفضل بن الربيع فسأله عن مسألة فقال مالك يا وغد إليك حملت؟ لأخبرن أمير المؤمنين.
فأكب عليه الفضل يقبله ويستعطفه فلما دخل إلى هارون سأله عما أراد.
وقال مطرف وابن نافع وغيرهما وبعضهم يزيد على بعض، لما قدم هارون المدينة وجه إلى مالك البرمكي وقال له قل له احمل لي الكتاب الذي صنفته حتى أسمعه منك فوجد من ذلك مالك واغتم وقال للبرمكي(2/21)
إقرئه السلام وقل له العلم يزار ولا يزور، وإن العلم يؤتى ولا يأتي فرجع البرمكي إلى هارون فأخبره بذلك، فغضب وأشار عامة أصحاب مالك أن يأتي هارون وقال البرمكي للرشيد يبلغ أهل العراق أنك وجهت إلى مالك فخالفك.
أعزم عليه حتى يأتيك فإذا بمالك قد دخل فسلم وليس معه كتاب، فقال له هارون في ذلك فقال مالك يا أمير المؤمنين إن الله تعالى بعث إلينا محمداً صلى الله عليه وسلم وأمر بطاعته واتباع سنته وأن نرعاه حياً وميتاً وقد جعلك في هذا الموضع لعلمك فلا تكن أول من ضيع العلم فيضيعك الله.
الله لقد رأيت من ليس هو في حسبك ولا نسبك من الموالي وغيرهم يعز هذا العلم ويجله ويوقر حملته فأنت أحرى أن، تجل علم ابن عمك، ولم يزل يعدد عليه حتى بكى.
ثم قال له حدثني الزهري وذكر حديث ذيل بن ثابت، كنت أكتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله وابن أم مكتوم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله قد أنزل الله تعالى في فضل الجهاد ما أنزل وأنا رجل ضرير فهل لي من رخصة، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم ما أدري.
قال زيد وقلمي رطب لم يجف حتى غشي النبي صلى الله عليه وسلم الوحي ووقع فخذه على فخذي فكادت تندق من ثقل الوحي ثم خلا عنه فقال اكتب يا زيد غير أولى الضرر(2/22)
فقال يا أمير المؤمنين هذا حرف واحد بعث فيه جبريل والملائكة مسيرة خمسين ألف عام حتى أنزل على نبيه أفلا ينبغي لي أن أجله وأعزه؟ قال، فقال هارون قم بنا إلى منزلك.
فأتى هارون منزل مالك فدخل مالك واغتسل ولبس ثياباً جدداً وتطيب ووضع مجامير فيها عود وجلس فقال هات، فقال هارون تقرأ علي.
ما قرأت على أحد منذ زمان.
قال فأخرج عني الناس حتى أقرأه عليك.
فقال مالك إن العلم إذا منع من العامة لأجل الخاصة لم تنتفع به الخاصة.
قال فأمر بعض أصحابه يقرأه فأمر المغيرة على مالك وفي رواية إن الذي قرأه له معن.
قال فكان هارون قد استند إلى جنب مالك فلما بدأ يقرأ له قال يا أمير المؤمنين من تواضع لله رفعه الله.
وفي رواية أبي مصعب من إجلال الله إجلال ذوي الشيبة المسلم.
فقام فقعد بين يديه فحدثه، فلما فرغ عاد إلى مكانه.
قال مالك: لما كان بعد مدة قال لي الرشيد: تواضعنا لعلمك فانتفعنا به، وتواضع لنا علم سفيان بن عيينة فلم تنتفع به.
وكان يأتيهم فيحدثهم.(2/23)
قالوا وكان رجل قرشي ينتقص مالكاً ويقول بأي شيء هو أكبر منا؟ فلما قدم هارون وجلس الناس قالوا له هذا هارون ومالك يدخل وأنت تدخل فافعل ما فعل.
وأرسلوا معه من ينظر، فتقدم مالك فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، عمك مالك بن أنس أين يجلس؟ قال: ها هنا تجلس.
وأقبل الرجل خلفه فقبل يدي هارون، فقال هارون لمالك إن رأيت أن تأتي ولديك فتحدثهم يعني ابني هارون.
قال فما رد عليه مالك شيئاً حتى خلا من عنده، فتول إليه فقال أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تكون أول من أجرى على يديك ذل العلم.
قال وما ذاك.
قال أدركت أهل العلم يؤتون ولا يأتون.
فقال له أصبت بل يأتوك.
وخرج مالك.
فقال هارون هذا الذي تلومونني فيه ما رأيت رجلاً اعقل منه، قلت له آنفاً فلم يرد على شيء كراهية أن يخرج منه شيء في ذلك الجمع فلما خلوت خرج لي عما في نفسي مروا له بكذا وكذا جائزة، فكانوا بعد يقولون للقرشي كيف ترى؟ فيقول ذلك رجل معصوم.
قال مطرف دخل مالك على هارون في بعض حاجته فقال له هارون أريد أن تأتيني فتقرأ على كتابك.(2/24)
فقال مالك العلم يؤتى ولا يأتي.
قال فأرسل إلي من ينسخها قلت نعم.
قال ابن مهدي مشيت مع مالك يوماً إلى العقيق من المسجد فسألته عن حديث فانتهرني، وفي رواية فالتفت إلي وقال لي كنت في عيني أجل من هذا، أتسألني عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي.
فقلت إنا لله ما أراني إلا وقد سقطت من عينه.
فلما قعد في مجلسه بعدت منه فقال ادن ها هنا فدنوت فقال قد ظننت أنا أدبناك تسألني عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أمشي سل عما تريد هاهنا.
قال ابن مهدي وسألوا مالكاً بالموسم وهو قائم فلم يحدثهم قال أبو مصعب وسأله جرير بن عبد الحميد القاضي عن حديث وهو قائم فأمر بحبسه.
فقيل له إنه قاض فقال القاضي أحق أن يؤدب احبسوه فحبس إلى الغد.
قال عبد الله بن صالح كان مالك والليث لا يمسان الحديث إلا وهما طاهران.(2/25)
قال المروي كان مالك إذا جلس معنا كأنه واحد ينبسط معنا في الحديث وهو أشد تواضعاً منا له.
فإذا أخذ في الحديث تهيبنا كلامه كأنه ما عرفنا ولا عرفناه.
ولما حج هاشم بن جريج وهو حدث أتى مالك بن أنس وقد رحل الناس بورقتين من حديث، فقال له: أقرأ هذه الأحاديث فقد مضى الناس.
فقال مالك ينتظر أحدكم حتى إذا رحل النسا جاء فقال: أقرأ لي، فقد رحل الناس.
فالتفت هاشم إلى مالك فقال أصلحك الله إن تكن حاجة أو أمر تأمر به انتهيت إلى طاعتك ووقفت عند أمرك وفرحت بذلك في نادي قومي، وسدت به على عشيرتي استودعك الله، فإن طاعتك فرض وقولك حكم استودعك الله.
قال مالك مثل هذا طلب العلم، ردوه.
فبعث في طلبه فأتى به فقرأ له ثم انصرف.
قال القروي لما كثر الناس على مالك قيل له لو جعلت مستملياً يسمع الناس.
قال: قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول) .
وحرمته حياً وميتاً سواء.
قال ابن مهدي وما أدركت أحداً إلا يخاف هذا الحديث إلا مالكاً وحماد بن زيد فإنهما كانا يجعلانه من أعمال البر.
وكان مالك يقول لا ينبغي لأحد عنده علم أن يترك التعليم.(2/26)
قال مطرف: حضرت مالكاً يأتيه الرجل بالدفتر فيسأله أن يجيزه فيفعل وروى ابن وهب عنه أنه رآه مرة فعله ومرة كرهه وأجاز المناولة وقد كتب ليحيى بن سعيد الأنصاري مائة حديث لابن شهاب فقيل له اقرأها عليك؟ قال كان أفق من ذلك.
قال مصعب وسأله المهدي أن يسمع منه كتبه فقال له هذا شيء يطول عليك ولكن أكتبها لك وأصححها وابعث بها إليك، وكان أكثر أمله أن يقرأ عليه على أحد كتاب الموطأ.
وسمعته يأبى أشد الإباء على من يقول لا يجزي العرض وزعم ابن بكير أنه سمع الموطأ من مالك بقراءة نفسه غير مرة، وقال لمالك غير واحد أرأيت ما قرأته عليك أن أقول فيه حدثنان وأخبرنا.
قال نعم.
ألست فرغت لكم نفسي وأقمت سقطه والله؟ قيل له فيجوز لمن حضر أن يقول ذلك؟ قال: نعم.
وفي سماع ابن وهب سأل رجل مالكاً عن الكتاب يعرض عليك ثم ينقلب به صاحبه فيبيت عنده أيجوز أن أحدثه؟(2/27)
قال نعم.
وقال مالك في سماع ابن القاسم وابن وهب وغيرهما: العرض أعجب إلي من السماع وأثبت إذا كان الذي يقرأ يتثبت، واستعدى عليه رجل خرساني قاضي المدينة فقال جئت من خراسان ونحن لا نرى العرض وأبى مالك أن يقرأ علينا.
فحكم القاضي على مالك أن يقرأ له.
فقيل له أصاب الحق؟ قال نعم.
قال الحارث ابن مسكين، كلم بعض الهاشميين مالكاً في أيام الموسم أن يعرض عليه فأبى وقال هي أيام الحج فإذا انقضت فإن شئت عرضت بعد.
فغضب، وقال قد أرادك هارون أمير المؤمنين على هذا فأجبته.
قال مالك قد أراداني فما فعلت.
قال القطان قراءة ابن مهدي على مالك كالحديث لأنه كان يقول سمعت فلاناً يقول سمعت فلاناً يقول قال ابن المديني.
قلت ليحيى: كان مالك يملي عليك قال كنت أكتب بين يديه.
قال مصعب كان مالك يرى الرجل يكتب عنده فلا ينهاه ولكن لا يرد عليه ولا يراجعه(2/28)
وقال أشهب عاب مالك الكتاب للعلم، وقال لم أدرك أحداً يفعله، إنما كانوا يحفظون قال القطان دخلت المدينة سنة أربع وأربعين ومالك أسود الرأس واللحية والناس حوله سكوت لا يتكلم أحد هيبة له ولا يفتي أحد في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم غيره.
فجلست بين يديه فسألته فحدثني فراددته فراددني ثم غمزني بعض أصحابه فسكت.
قال معن كان مالك يتقي في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الباء والتاء ونحوهما.
وروى عنه ابن عمير مثله ذكر ابن وهب قال لما أتيت عبد العزيز بن الماجشون لأسمع منه قال لي: إياك وأن تعلم مالكاً أنك تأتيني فلا يحدثك.
كأنه يعلم أنه يغمزه.
قال إسماعيل قال حماد بن أبي حنيفة: أتيت مالكاً فرأيته جالساً في صدر بيته وأصحابه بجنبتي الباب، له واحد منهما له مجلس (كذا) فقمت على باب البيت قال من أنت؟ قلت فلان أسأله عن مسألة.
قال ادن حتى أقعدني بين يدي فرشه، فلما رأى ذلك أصحابه قاموا جميعاً من مجالسهم فخرجوا(2/29)
من البيت، فقال لي ما كان أبوك يقول في كذا؟ فأخبرته فقال وما كانت حجته؟ فأعلمته، وجعل يسألني عن أشياء من مذهب أبي حنيفة وعن حجته.
ثم قال: سل.
فسألته، فأجابني.
فلما خرجت عاد أصحابه إلى مجالسهم.
قال الحسن بن الربيع البواري كنت على باب مالك فنادى مناديه ليدخل أهل الحجاز فما دخل إلا هم.
ثم نادى في أهل الشام.
في أهل العراق.
فكنت آخر من دخل.
وفينا حماد بن أبي حنيفة فقال السلام عليكم ورحمة الله.
قال فأوما الناس إليه بأيديهم أن اسكت.
فقال أفي صلاة نحن فلا نتكلم؟ فسمعت مالكاً يقول أستخير الله مرتين ثم قال: أخبرنا نافع فحدثنا بعشرين حديثاً ثم قال أخرجوهم فأخذتنا المقارع.
قال الشافعي قرأت الموطأ على مالك ولم يكن يقرأ عليه إلا من فهم العلم وجالس أهله، وكنت قد سمعت من ابن عيينة والزنجي وغيرهما من المكيين ولم يبلغ أحد في العلم مبلغ مالك لحفظه وإتقانه وصيانته.
قال عبد الله بن مطيع أتينا مالكاً فحدثنا بأحاديث فاستزدناه فقال حسب فأخذتنا المقارع.
وسأله رجل مالكاً عن مسألة فلم يجبه فقال له لم لا تجبني.
فقال لو سألت عما تنتفع به أجبتك.(2/30)
قال الشافعي أستأذنت على مالك وكنت أريد أن أسمع منه حديث السقيفة، فقلت إن جعلته أولاً خشيت أن يستطيله ولم يحدثني وإن جعلته آخراً خشيت أن لا أبلغه، فجعلته بعد عشرة أحاديث.
فأخذت أسأله فلما مرت عشرة، قال حسبك.
فلم أسمعه.
قال بشر بن آدم سأل الأغضب مالكاً عن مسألة ثم عن أخرى فأجابه، ثم عن أخرى فلم يجبه.
فقال له هو لم؟ فقال مالك يا غلام خذ بيده فاذهب به إلى السجن.
قال إني قاضي أمير المؤمنين.
قال ذلك أهون لك.
قال لا أعود.
قال خل سبيله.
قال إسماعيل بن بنت السندي سألت مالكاً عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه رمل من الحجر إلى الحجر قال، فقلت إسناده.
فقال جروا برجله.
قال إسماعيل القواريري دخلت على مالك فسألته الحديث فحدثني أظنه باثني عشر حديثاً، فاستزدته وكان سودان قيام على رأسه فإذا هم حملوني وأخرجوني من داره فرموا بي في الطريق أو نحو هذا.
قال ابن حارث دخل ابن المبارك وأصحابه على مالك فقالا يا أبا عبد الله حدثنا ولا تحدثنا إلا بحديث الزهري، فقال مالك يؤخذ بأيديهم ويقاموا عني فقام القوم فلما كان من الغد قال ابن المبارك لأصحابه إن مالك بن أنس لا يضره ألا تسمعوا منه شيئاً.
فعودوا إلى الرجل، فدخلوا عليه فلما أخذوا مجالسهم اعتبرهم وحدثهم من حديث الزهري كما أرادوا.(2/31)
قال أبو مسعر كان مالك يسأله عن مسألة وثانية فإذا سئل عن ثالثة قال خذوا بيده فأخرجوه.
قال ابن مهدي لما أراد يحيى ابن أبي زائدة الحج كلم عبد الله بن إدريس أن يكتب له كتاباً إلى المدينة ليسمع منه، وكانت بينهما مودة ففعل، وكان يسمع إذا جاءه يوماً رجل فقال يا أبا عبد الله ما تقول في رجل أوصى لعبده بمائة درهم فقال مالك الوصية جائزة.
فقال له يحيى يا أبا عبد الله يوصي بماله لماله؟ فنظر مالك إلى من عنده فقال.
ولتعرفنهم في لحن القول لا تعد إلي.(2/32)
باب في ذكر ما كان رزقه مالك في العلم من نباهة القدر
والهيبة والمجد.
قال القاضي رضي الله عنه.
قال زياد بن يونس ما رأيت قط عالماً ولا عابداً ولا شاطراً ولا والياً أهيب من مالك رحمه الله تعالى.
وقال ابن الماجشون، دخلت على أمير المؤمنين المهدي فما كان بيني وبينه إلا خادمه فما هبته هيبتي مالكاً وقال مثله الدراوردي.
قال سعيد بن أبي مريم: ما رأيت أشد هيبة من مالك لقد كانت هيبته أشد من هيبة السلطان.
وقال مصعب الزبيري ما رأيت قط أهيب من مالك إلا الخليفة.
وقال سعيد ابن أبي هند: ما هبت أحداً هيبتي عبد الرحمان بن معاوية يريد ملك الأندلس حتى حججت فدخلت على مالك فهبته هيبة شديدة صغرت هيبة ابن معاوية.
قال ابن أبي أويس وأبو مصعب: ما كان يتهيأ لأحد بالمدينة أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حبسه مالك، فإذا سئل فيه قال يصحح ما قال ثم يخرج.
قال إسماعيل، ولقد كان ابن كنانة وابن أبي حازم والدراوردي وغيرهم سمعوا مع مالك من مشائخ وتركوا الحديث عنهم هيبة له حتى مات.
ففشى ذلك فيهم:(2/33)
قال الأصمعي ما هبت عالماً قط ما هبت مالكاً حتى لحن فذهبت هيبته من قلبي، قلت له في ذلك، فقال كيف لو رأيت ربيعة؟ كنا نقول له كيف أصبحت فيقول بخير أو بخيراً.
قال ابن وهب قدمت المدينة فسألني الناس أن أسأل لهم مالكاً عن الخنثى وقد اجتمعوا إليه وكنت أنا الذي أسأل لهم، فهبت أن أسأله وهابه كل من في المجلس أن يسأله.
قال هشام بن عمار دخلت المدينة فأتيت مالكاً بن أنس فلما وقع بصري عليه هبته حتى ضربت على خاصرتي.
قال الشافعي ما هبت أحداً قط هيبتي مالك بن أنس حين نظرت إليه وقيل كان الثوري في مجلسه فلما رأى إجلال الناس له وإجلاله للعلم أنشد:
يأبي لجواب فلا يراجع هيبة ... فالسائلون نواكس الأذقان
أدب الوقار وعز سلطان التقى ... فهو المهيب وليس ذا سلطان
قال ابن حنبل كان مالك مصيباً في مجلسه لا يرد إعظاماً له.
قال الشافعي كان محمد بن الحسن إذا حدث بالعراق عن مالك امتلأ منزله حتى يضيق بهم الموضع وإذا حدثهم عن غيره من شيوخ الكوفة لم يجبه إلا اليسير فكان يقول ما أعلم أحداً أسوأ ثناءاً منكم على أصحابكم.(2/34)
قال بكير بن الشرود وغيره والمعنى متقارب أتينا مالك بن أنس فجعل يحدثنا عن ربيعة ونحن نستزيده من حديثه، فقال لنا ذات يوم ما تصنعون بربيعة وهو قائم في ذلك الطاق، فأتينا ربيعة فأنبهناه وقلنا أنت ربيعة الذي يحدث عنك مالك؟ قال نعم.
قلنا كيف حظي بك مالك ولم تحظ أنت بنفسك؟ فقال أما علمتم ابن مثقالاً من دولة خير من حمل علم.
قال ابن حارث كان مالك يجل العلم الذي عنده إجلالاً عظيماً ويصون نفسه عن جميع الوجوه التي تنقص وإن قلت وكان يتهيب شديداً.
قال يحيى بن حسن كتبت يوماً عن مالك ثمانية أحاديث فسررت بها سروراً كثيراً.
وقال بشر الحافي حدثنا مالك وأستغفر الله أن من زينة الدنيا أن يقول الرجل حدثنا مالك.
قال حبيب رأيت مالكاً منصرفاً من عند المهدي ما يمر بأحد إلا قام إليه وذكر الله.
قال فذكرت الحديث الذي جاء إذا رأى ذكر الله.
قال غيره كان مالك يسأل عن المغازي الضحاك بن عثمان وابن كنانة ثم يتحدث عنهما في مجلسه فيبتدىء الناس يكتبونها عنه، ويكتبها معهم الضحاك وابن كنانة وأكثرها إنما سمعه منهما.
قال القعنبي ما أحسب مالكاً بلغ ما بلغ إلا بسريرة كانت بينه وبين الله تعالى.
رأيته يقام بين يديه الرجل كما يقام بين يدي الأمير.
قال إسماعيل بن يعقوب السهمي كنت مع مالك بن أنس جالساً يوماً عند بروز أهل الموسم فجلس إليه رجل عراقي(2/35)
فسأله عن مسألة فأجاب ثم سأله مرة أخرى فأجاب، ثم سأله فأبى أن يجيبه فقال لقد أنفقت وجئت هذا الوجه وأنا مسترشد فأرشدوني فقال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا إيمان لمن لا حياء له.
فقال العراقي وأنا قد بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا كنف وجه الرجل رق دينه.
فوثب إليه جماعة من جلساء مالك فنزعوا عمامته وطرحوها في رقبته وخنقوه بها.
قال أشهب: عاد مالك محمد ابن علي من علة وطرحوها في رقبته وخنقوه بها.
قال أشهب: عاد مالك محمد ابن علي من علة فصارت له بعيادة مالك وجهة في الناس.
قال عبد الله بن نافع الزبيري: كنت أقرأ على نافع بن أبي نعيم بعد الصبح فرفعت صوتي فزجرني وقال أما ترى مالكاً.
وهو أول ما عرفت به مالكاً.
وروي هذا عن ابن وهب، قال يونس بن تميم قدمت المدينة سنة ستين ومائة فأتيت مالكاً فلما نظرت إليه هبته ولم أتقدم إليه ورأيت الناس يهابونه فأقمت أتردد عشرة أيام فشكوت ذلك لبعض أهل المدينة فقيل لي اعط كاتبه يسأل لك عما أحببت، وأما أنت فلا أحسب تتهيأ لك مسائلته لأنه أهيب من ذلك في صدور الناس.
قال عبد الله العباسي: كان أهل المدينة إذا مات لهم ميت يقولون امضوا بنا إلى مالك يعزينا.
قال مصعب: رأيت مالكاً على ضجاع لا يقعد معه أحد وقريش قعود فإذا جاء الرجل من بني هاشم ثنى رجله وأجلسه على ضجاعه فيقبل عليه ولا يلتفت أحد حتى يفرغ.
قال التستري وهذا في غير مجلس العلم، وقد قيل إن المخزومي كان ممن يجلس معه على فراشه،(2/36)
قال بعضهم سعى ابن أبي الزناد بمالك إلى بعض أمراء المدينة فأتاه مالك يسأله أن يكف عنه فأدخله حجلته فتعجب الناس منه كيف ائتمنه على حرمه لما بينهما، ومضى إلى الوالي ورجع فقال قد كفيته.
ثم لم يعد مالك إلى كلامه حتى مات.
قال بعض الحسنيين كنت مقيماً عند أهلي أيام ابتنائها فأتاني مالك وأنا مع أهلي في الحجلة فأستأذن فكرهت أن أجلسه في الباب إلى أن أباعد أهلي فخرجت من الحجلة وأرخيت الستر على وجه زوجتي فقعدت بين يدي الحجلة وأذنت له فدخل وجلس.
ثم قال أن هذا يعني ألأمير قد حبس غلامي أخذه العسس فامض إليه حتى يطلقه.
فهبت أن أخبره بموضع زوجتي أو أرجعه فتركته جالساً وخرجت إلى الأمير فأطلق غلامه وجئت به فلما رآني مالك آخذاً بيد الغلام تلقاني وانتزع الغلام وخرج يتوكأ عليه والله ما قال لي أحسن الله جزاك.(2/37)
باب اتباعه السنن
وكراهيته المحدثات وبعض ما روي عنه في عقائد أهل السنة والكلام في أهل الأهواء.
قال الفقيه القاضي رضي الله تعالى عنه كان مالك كثيراً ما يتمثل:
وخير أمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع
قال أحمد بن حنبل: مالك أتبع من سفيان.
وقال ابن حنبل: إذا رأيت الرجل يبغض مالكاً فاعلم أنه مبتدع.
قال أبو داود أخشى عليه البدعة.
وقال ابن المهدي: إذا رأيت الحجازي يحب مالك بن أنس فاعلم أنه صاحب سنة وإذا رأيت أحداً يتناوله فاعلم أنه على خلاف وقال إبراهيم ابن يحيى بن بسام ما سمعت أبا داود لعن أحداً قط إلا رجلين، أحدهما رجل ذكر له أنه لعن مالكاً، والآخر بشر المريسي.
قال معن: انصرف مالك يوماً إلى المسجد وهو متكىء على يدي فلحقه رجل يقال له ابو الجويرة يتهم بالأرجاء فقال يا أبا عبد الله اسمع مني شيئاً أعلمك به وأحاجك وأخبرك برأي.
فقال: احذر أن اشهد عليك قال: والله ما أريد إلا الحق اسمع فإن كان صواباً فقل إنه.
أو فتكلم.
قال فإن غلبتني.
قال اتبعني.
قال فإن غلبتك.
قال أتبعك.(2/38)
قال: فإن جاء رجل فكلمناه فغلبنا.
قال اتبعناه.
فقال له مالك يا عبد الله بعث الله محمداً بدين واحد وأراك تنتقل وقال عمر بن عبد العزيز من جعل دينه عرضاً للخصومات أكثر التنقل.
وقال مالك ليس الجدال في الدين بشيء.
وقال مالك المراء والجدال في العلم يذهب بنور العلم من قلب العبد.
وقال إنه يقسي القلب ويورث الضغن.
قال الزهري رأيت مالكاً وقوماً يتجادلون عنده فقام ونفض رداءه وقال إنما أنتم حرب.
قال الهيثم بن جميل قيل لمالك: الرجل له علم بالسنة يجادل عنها؟ قال لا.
ولكن يخبر بالسنة.
فإن قبل منه وإلا سكت.
قال أبو طالب المكي: كان مالك أبعد الناس من مذاهب المتكلمين وأشدهم بغضاً للعراقيين: وألزمهم لسنة السالفين من الصحابة والتابعين.
قال سفيان بن عيينة: سأل رجل مالكاً، فقال على العرش استوى.
كيف استوى يا أبا عبد الله؟ فسكت مالك ملياً حتى علاه الرحضاء وما رأينا مالكاً وجد من شيء وجده من مقالته، وجعل الناس ينتظرون ما يأمر به ثم سري عنه.
فقال الاستواء منه معلوم، والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة والإيمان به واجب وإني لأظنك ضالاً أخرجوه عني.
فناداه الرجل يا أبا عبد الله والله الذي لا إله إلا هو لقد سألت عن هذه المسألة أهل البصرة والكوفة والعراق فلم أجد أحداً وفق لما وفقت له.(2/39)
قال أبو مصعب: قدم علينا ابن مهدي فصلى ووضع رداءه بين يدي الصف فلما سلم الإمام رفعه الناس بأبصارهم ورمقواً مالكاً، وكان قد صلى خلف الإمام، فلما سلم قال من ها هنا من الحرس؟ فجاءه نفسان فقال: خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه.
فحبس.
فقيل له ابن مهدي فوجه إليه وقال له أما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف وأشغلت المصلين بالنظر إليه، وأحدثت في مسجدنا شيئاً ما كنا نعرفه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلك: من أحدث في مسجدنا حادث فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
فبكى ابن مهدي وآلى على نفسه أن لا يقعد ذلك أبداً في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في غيره.
وفي رواية ابن مهدي، قال فقلت للحرسين تذهبا بي إلى أبي عبد الله.
قالا إن شئت.
فذهبا بي إليه، فقال يا أبا عبد الرحمان تصلي متسلياً؟ فقلت يا أبا عبد الله إنه كان يوماً حاراً كما رأيت فثقل ردائي علي، فقال: الله ما أردت بذلك الطعن على من مضى والخلاف عليهم.
قلت: الله.
فقال خلياه.
قال سفيان بن عيين سألت مالكاً عمن أحرم من المدينة وراء الميقات.
فقال هذا مخالف لله ورسوله أخشى عليه الفتنة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة.
أما سمعت قوله تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
ومن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يهل من الميقات(2/40)
وسأل رجل مالكاً عن الشيء من علم الباطن، فغضب وقال: علم الباطن لا يعرفه إلا من عرف علم الظاهر، فمتى عرف علم الظاهر وعمل به فتح الله عليه علم الباطن.
ولا يكن ذلك إلا مع فتح قلبه وتنويره.
ثم قال للرجل عليك بالدين المحض.
وإياك وبنيات الطريق وعليك بما تعرف واترك ما لا تعرف.
قال ابن وهب سمعت مالكاً يقول إذا جاءه بعض أهل الأهواء، يقول أما أنا فعلى بينة من ربي وأما أنت فشاك فاذهب إلى مثلك فخاصمه.
ثم قرأ: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله.....
الآية.
قال مطرف سمعت مالكاً إذا ذكر عنده فلان من أهل الزيغ والأهواء يقول: قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناً الأخذ بها إتباع لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله، ليس لأحد بعد هؤلاء تبديلها ولا النظر في شيء خالفها.
من اهتدى بها استنصر ومن انتصر بها فهو منصور، ومن تركها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً.
وكان مالك إذا حدث بهذا ارتج سروراً، وسأل رجل مالكاً من أهل السنة يا أبا عبد الله؟ قال: الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي ولا رافضي ولا قدري.(2/41)
قال ابن نافع وأشهب وأحدها يزيد على الآخر.
قلت يا أبا عبد الله: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة.
ينظرون إلى الله.
قال نعم بأعينهم هاتين.
فقلت له فإن قوماً يقولون لا ينظر إلى الله إن، ناظرة بمعنى منتظرة إلى الثواب.
قال كذبوا بل ينظر إلى الله أما سمعت قول موسى عليه السلام: رب أرني أنظر إليك.
أفترى موسى سأل ربه محالاً؟ فقال الله لن تراني في الدنيا لأنها دار فناء ولا ينظر ما بقي بما يفنى فإذا صاروا إلى دار البقاء نظروا بما بقي إلى ما بقي.
وقال الله: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون.
قال زهير بن عباد قلت لمالك ما قولك في صنفين عندنا بالشام اختلفوا في الإيمان؟ فقالوا يزيد وينقص.
قال بئس ما قالوا قلت قالوا إنا نخاف على أنفسنا النفاق.
قال بئسما قالوا.
قلت فإن قالوا نحن مؤمنون إن شاء الله قالت الأخرى الإيمان واجب وإيمان أهل الأرض كإيمان أهل السماء.
قال: لا تقولوا.
قلت فإن قالوا نحن مؤمنون حقاً.
قال لا تقولوا قلت فما ينبغي للطائفتين أن يقولوا؟ قال يقولون نحن مؤمنون: فيكفوا عما سوى ذلك من الكلام.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال أمرت أن أقاتل الناس(2/42)
حتى يقولوا لا إله إلا الله ... الحديث.
وقال تعالى: لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً.
قال زهير فقلت له فإن الطائفتين بعضها بعضاً.
فاسترجع وتعجب وقال لي وقد أفلح الناس يصلون إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً ثم أمروا بالصلاة إلى البيت الحرام فقال الله: وما كان الناس ليضيع إيمانكم.
يعني صلاتكم إلى بيت المقدس وإني لأنكر بهذه الآية قول المرجئة إن الصلاة ليست من الإيمان.
قال زهير وقد كان دخل على مالك من سأله عن نحو هذا فأمر به فأخرج وكأنه لمخزياً قال غير واحد سمعت مالكاً يقول الإيمان قول وعمل وينقص وبعضه أفضل من بعض.
قال والله في السماء وعمله في كل مكان.
قال ابن القاسم كان مالك يقول الإيمان يزيد وتوقف عن النقصان وقال ذكر الله زيادته في غير موضع.
فدع الكلام في نقصانه وكف عنه.
وقال مالك أنا مؤمن والحمد لله.
قال ابن أبي أويس قال مالك القرآن كلام الله وكلام الله من الله وليس من الله شيء مخلوق.
زاد غيره عنه، ومن قال القرآن مخلوق فهو كافر، والذي يقف أشد منه يستتاب وإلا ضربت عنقه.
وفي رواية ابن نافع عنه يجلد ويحبس من قال ذلك.(2/43)
وفي رواية بشر بن بكير التنسي يقتل ولا تقبل توبته.
قال البركاني والتستري من شيوخنا العراقيين معنى الجوابين المستبصر الداعية ويضرب غيره وسئل عن حديث التنزيل ينزل أمره كل سحر وأما هو دائم فلا يزول.
وقال الوليد بن مسلم سألت مالكاً عن هذه الأحاديث فقال أقرأها كما جاءت.
فقيل له إن ابن عجلان يحدث بها فقال لم يكن من الفقهاء.
قال في رواية ابن القاسم وابن وهب إنه كان لا يعرف هذه الأشياء.
وكره مالك أن يحدث بها عوام الناس الذين لا يعرفون وجهه ولا تبلغه عقولهم فينكروه أو يضعوه في غير موضعه.
وجاء إلى مالك رجل فقال له ما تقول فيمن يقول القرآن مخلوق.
قال زنديق فاقتلوه.
فقال يا أبا عبد الله ليس هو كلامي، إنما هو كلام سمعته.
قال لم أسمعه أنا إلا منك.
قال أشهب كنا عند مالك إذ وقف عليه رجل من العلويين وكانوا يقبلون على مجلسه فناداه يا أبا عبد الله فأشرف له مالك ولم يكن إذا ناداه أحد يجيبه أكثر من أن يشرف برأسه.(2/44)
فقال له الطالبي إني أريد أن أجعلك حجة فيما بيني وبين الله، إذا قدمت عليه فسألني قلت مالك قال لي.
فقال له قل قال من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو بكر قال العلوي ثم من؟ قال مالك ثم عمر.
قال العلوي ثم من؟ قال الخليفة المقتول ظلماً عثمان.
قال العلوي والله لا أجالسك أبداً.
قال له مالك فالخيار لك.
قال عبد الرحمان بن القاسم عنه ما أدركت أحداً إلا وهو يرى الكف بين عثمان وعلي ولا شك في أبي بكر وعمر أنهما أفضل من غيرهما.
زاد ابن وهب عنه وعلى هذا مضى الناس وفي رواية أبي مصعب سئل مالك من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقال مالك أبو بكر ثم قال ثم من؟ قال عمر ثم قال ثم من؟(2/45)
قال عثمان.
قيل ثم قال ها هنا وقف الناس.
هؤلاء خيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر على الصلاة واختار أبو بكر عمر وجعلها عمر إلى ستة فاختاروا فوقف الناس ها هنا.
زاد في رواية وليس من طلب الأمر كمن لا يطلبه.
وفي رواية ابن وهب أفضل الناس أبو بكر وعمر قلت ثم من؟ فأمسك.
قلت إني امرؤ أقتدي بك في ديني فقال وعثمان في رواية أبي مصعب ثم استوى الناس وقال البزاز سألت أبا عاصم النبيل عن التقدمة في السلف.
قال حمزة وجعفر.
قلت إنما نحن في العشرة فسكت ثم قال: كان مالك يقدم حمزة.
قال مصعب الزبيري وابن نافع دخل هارون المسجد فركع ثم أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتى مجلس مالك فقال السلام عليك ورحمة الله وبركاته ثم قال لمالك هل لمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفيء حق؟ قال لا ولا كرامة قال من أين قلت ذلك؟ قال قال الله: ليغيظ بهم الكفار.
فمن عابهم فهو كافر ولا حق للكافر في الفيء(2/46)
واحتج مرة أخرى في ذلك بقوله تعالى: للفقراء المهاجرين الذين.....
الآيات قال فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هاجروا معه وأنصاره الذين جاءوا من بعده يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا...... الآية.
فما عدا هؤلاء فلا حق له فيه.
قال إسحاق بن عيسى رأيت رجلاً من أهل المغرب جاء مالك بن أنس فقال إن الأهواء كثرت قبلنا فجعلت على نفسي أن آتيك إن إنا رأيتك آخذ بما تأمرني به.
فوصف له مالك شرائع الإسلام الصلاة والزكاة والحج والصوم ثم قال خذ بها ولا تخاصم أحداً.
قال ابن وهب وغير واحد سئل مال عن أهل القدر أيكف عن كلامهم؟ قال نعم.
إذا كان عارفاً بما هو عليه.
قال ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر؟ ويخبرهم بخلافهم ولا يواضع القول ولا يصلي عليهم، ولا تشهد جنائزهم ولا أرى أن يناكحوا زاد في رواية غيره، قال الله ولعبد مؤمن خير من مشرك.
قال في رواية أشهب ولا يصلى خلفهم ولا يحمل عليهم الحديث وإن وافيتوهم في ثغر فاخرجوهم منه.
قال ابن القاسم عنه ولا يسلم عليهم ولايعاد مرضاهم.
قال الواقدي ولا تجوز شهادة القدري الذي يدعو أو الخارجي والرافضي.
وقد روى عن مالك منع شهادته مجملاً وروي عنه إذا كان داعية.(2/47)
قال مصعب سأل رجل مالكاً فقال الفواحش كتبها الله علينا.
قال نعم: قبل أن يخلقنا.
ولا بد لكل من كتب الله عليه ذلك أن يعلمها ويصير إلى ما قدر عليه وكتب.
قال الكرابيسي سمعت مالكاً وسئل عن القدرية من هم؟ قال من قال: ما خلق المعاصي.
وقال القاسم بن الحكم سألت مالكاً عن القدرية من هم؟ فقال سألت أبا سهيل كما سألتني فقال الذين يقولون الاستطاعة إليهم إن شاءوا أطاعوا وإن شاءوا عصوا.
قال الفروي سمعت ابن أبي حنيفة يقول لمالك إن لنا رأياً نعرضه عليك فإن رأيته حسناً مضينا عليه وإن رأيته سيئاً تنكبنا عنه لا نكفر أحداً بذنب.
المذنبون كلهم مسلمون قال ما أرى بها بأساً.
فقال له داود ابن أبي زنبر وإبراهيم بن حبيب وابن نافع الصائغ يا أبا عبد الله إن هذا يسوق الكلام إلى أن ديني دين الملائكة، وجبرائيل وميكائيل.
فقال لا والله الدين يزيد.
قال الله: ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم.
وقال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى....
الآية.
قد أثبت زيادة في دينه قال ابن وهب سمعت مالكاً يقول إن المرجئة أخطأوا وقالوا قولاً عظيماً.
قال إن أحرق الكعبة أو صنع كل شيء فهو مسلم.
فقيل لمالك ما ترى فيهم؟(2/48)
قال، قال الله تعالى: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين.
قال ابن وهب سمعت مالكاً وقيل له إن أهل الأهواء يحتجون علينا بحديث كل مولود يولد على الفطرة.
الحديث فقال احتجوا عليهم بأخرى الله أعلم بما كانوا عاملين.
قال ابن نافع سألت مالكاً يقول إن العبد ارتكب الكبائر كلها بعد أن لا يشرك بالله شيئاً ثم نجي من الأهواء رجوت أن يكون في أعلا الفردوس.
لأن كل كبيرة بين العبد وربه هو منها على رجاء وكل هوى ليس هو منه على رجاء، إنما يهوي بصاحبه في نار جهنم.
قال مالك أهل الأهواء كلهم كفار وأسوأهم الروافض.
قيل فالنواصب؟ قيل لهم الروافض رفضوا الحق فمن رفض الحق ونصبوا له العدواة والبغضاء معناه أن الأربعة أهل الحق فمن رفض واحداً منهم فقد ناصب الحق قال مطرف رأيت مالكاً يحتجم يوم الأربعاء ويوم السبت منكراً لما روي في ذلك.(2/49)
باب في ذكر عبادة مالك وورعه
وعزلته وإجابة دعائه
قال القاضي عياض رضي الله عنه قال الزبير بن حبيب كنت أرى مالكاً إذا دخل الشهر أحيا أول ليلة منه.
وكنت أظن إنما يفعل هذا ليفتتح به الشهر.
وقالت فاطمة بنت مالك كان مالك يصلي كل ليلة حزبه فإذا كانت ليلة الجمعة أحياها كلها.
قال المغيرة خرجت ليلة بعد أن هجع الناس هجعة فمررت بمالك بن أنس فإذا أنا به قائم يصلي فلما فرغ من الحمد لله ابتدأ بالهاكم التكاثر حتى بلغ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم فبكى بكاءاً طويلاً وجعل يرددها ويبكي وشغلني ما سمعت ورأيت منه عن حاجتي التي خرجت إليها فلم أزل قائماً وهو يرددها ويبكي حتى طلع الفجر.
فلما تبين له ركع فصرت إلى منزلي فتوضأت ثم أتيت المسجد فإذا به في مجلسه والناس حوله فلما أصبح نظرت فإذا وجهه قد علاه نور حسن.
قال محمد ابن خالد بن عتمة كنت إذا رأيت وجه مالك رأيت أعلام الآخرة في وجهه، فإذا تكلم علمت أن الحق يخرج من فيه.(2/50)
قال أبو مصعب كان مالك يطيل الركوع والسجود في ورده وإذا وقف في الصلاة كأنه خشبة يابسة لا يتحرك منه شيء.
فلما ضرب قيل له لو خففت في هذا قليلاً.
فقال ماينبغي لأحد أن يعمل لله عملاً إلا حسنه، والله تعالى يقول: ليبلوكم أيكم أحسن عملاً.
قال ابن وهب: ما رأت عيني قط أروع من مالك بن أنس.
وذكر ابن القاسم أن خادم مالك قالت له: إن لمالك اليوم بضع وأربعين سنة.
قلما يصلي الصبح إلا بوضوء العمة.
قال ابن المبارك رأيت مالكاً فرأيته من الخاشعين وإنما رفعه الله بسريرة بينه وبينه، وذلك أني كثيراً ما كنت أسمعه يقول من أحل أن، يفتح له فرجة في قلبه وينجو من غمرات الموت وأهوال يوم القيامة فليكن في عمله في السر أكثر منه في العلانية وروى نحوه عن مطرف.
قال ابن مهدي: ما رأيت أحداً الله في قلبه أهيب منه في قلب مالك بن أنس.
وفي رواية أجل مكان أهيب.
قال ابن أبي أويس كان مالك يأمر بالمعروف ويحث عليه.
قال مصعب بن عبد الله كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عنده تغير لونه وانحنى حتى يصعب ذلك على جلسائه.
فقيل له يوماً في ذلك.(2/51)
فقال لو رأيتم لما أنكرتم علي ما ترون كنت آتي محمد بن المنكدر وكان سيد القراء لا نكاد نسأله على حديث إلا بكى حتى نرحمه، ولقد أتى جعفر بن محمد وكان كثير المزاح والتبسم فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اخضر واصفر.
قال مالك ولقد اختلفت إليه زمان فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصلياً، وإما صائماً، وإما يقرأ القرآن.
وما رأيته قط يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على الطهارة: ولا يتكلم فيما لا يغنيه.
وكان من العباد الزهاد الذين يخشون الله وما أتيته قط إلا ويخرج الوسادة من تحته ويجعلها تحتي وأخذ يعدد فضائله.
وما رواه من فضائل غيره من أشياخه في خبر طويل.
قال بعضهم رأيت مالكاً صامتاً لا يتكلم ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً، إلا أن يكلمه إنسان فيسمع منه ثم يجيبه بشيء يسير.
فقيل له في ذلك فقال وهل يكب الناس في جهنم إلا هذا وأشار إلى لسانه.
ولقد أن رجلاً دخل على أبي بكر الصديق وهو يجبذ لسانه ويقول هذا الذي أوردني الموارد فإذا قال هو فكيف بنا إلا أن يتغمدنا الله برحمته.
وقال مالك كلما أجد في قلبي قسوة آتي محمد بن المنكدر فأنظر إليه نظرة فأتعظ أياماً بنفسي.
قال بشر بن عمر كان مالك لا يضحك فقيل له في ذلك فقال الضحك يدعو إلى السفه وقد بلغني أن ضحك النبي صلى الله عليه وسلم تبسم.(2/52)
قال ابن وهب كان في كم مالك منديل مطوي على أربع طاقات فإذا سجد سجد عليه فقيل له في ذلك فقال أفعله لئلا يؤثر الحط على جبهتي فيظن الناس أني أقوم الليل.
قال ابن وهب وكان أكثر عبادة مالك في السر بالليل والنهار حيث لا يراه أحد.
قال أبو بكر الأوسي كان مالك قد أدام النظر في المصحف قبل موته بسنين وكان كثير القراءة طويل البكاء.
وقال ابن مهدي سمعت مالكاً يقول لو علمت أن قلبي يصلح على كناسة لذهبت حتى أجلس عليها.
قال مطرف كان مالك يستعمل في نفسه ما لا يلتزمه الناس ويقول لا يكون العالم عالماً حتى يكون كذلك وحتى يحتاط لنفسه بما لو تركه لا يكون عليه فيه إثم.
قال الشافعي رأيت بباب مالك كراعاً من أفراس خراسان وبغال مصر فقلت ما أحسنها! فقال هي هبة مني إليك.
فقلت دع لنفسك منها دابة تركبها.
قال أنا أستحي من الله أن أطأ تربة نبي الله بحافر دابة.
قال أبو عمران الصدفي دخلت على مالك وعليه ثياب صوف.
فقال أخرجوه فقلت لا تفعل يا أبا عبد الله إنما أتيتك لأنك من ورثة الأنبياء.
فسألته عن جوائز السلطان فكرهها، فقلت له فإنك تقبل؟ فقال أتريد أن، تبوء بإثمي وإثمك؟ فقال المسيبي: ما كنا عند مالك وأصحابه حوله فقال رجل من أهل نصيبين(2/53)
يا أبا عبد الله عندنا قوم يقال لهم الصوفية يأكلون كثيراً ثم يأخذون في القصائد ثم يقومون فيرقصون.
فقال مالك: الصبيان هم؟ قال لا.
قال أمجانين؟ قال لا، قوم مشائخ وغير ذلك عقلاً.
قال مالك ما سمعت أن أحداً من أهل الإسلام يفعل هذا.
قال الرجل يل يأكلون ثم يقومون فيرقصون نوائب ويلطم بعضهم رأسه وبعضهم وجهه فضحك مالك ثم قام فدخل منزله.
فقال أصحاب مالك للرجل لقد كنت يا هذا مشؤوماً على صاحبنا، لقد جالسناه نيفاً وثلاثين سنة فما رأيناه ضحك إلا في هذا اليوم.
قال يحيى بن الزبير قال لي مالك اعتزلت أنت وعبد الله بن عبد العزيز؟ قلت نعم.
قال عجلتم، ليس هذا أوانه.
ثم لقيت مالكاً بعد عشرين سنة فقال هذا أوانه ثم اعتزل ولزم بيته.
قال بعضهم لم يشهد مالك الجماعة والجمعة سنين.
قال محمد بن عمر لما خرج محمد بن الحسن لزم مالك بيته فلم يخرج منه حتى قفل محمد.(2/54)
قال الواقدي ومصعب بن عبد الله كان مالك يحضر المسجد ويشهد الجمعة والجنائز ويعود المرضى ويجيب الدعوة ويقضي الحقوق زماناً، ثم ترك الجلوس في المسجد فكان يصلي وينصرف ثم ترك عيادة المرضى وشهود الجنائز فكان يأتي أصحابها ويعزيهم، ثم ترك مجالسة الناس ومخالطتهم والصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى الجمعة ولا يعزي أحداً ولا يقضي له حقاً، فكان يقال له في ذلك فيقول ما يتهيأ لكل أحد أن يذكر ما فيه.
وفي بعض الرواية من الأعذار أعذار لا تذكر.
فاحتمل الناس له كل ذلك.
قال عتيق بن يعقوب ومصعب فلما حضرته الوفاة سئل عن تخلفه عن المسجد قال عتيق بن يعقوب وكان تخلفه عنه قبل موته بسنين فقال لولا أني في آخر يوم من الدنيا وأوله من الآخرة ما أخبرتكم؟ سلس بولي.
فكرهت أن آتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير طهارة استخفافاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكرهت أن أذكر علتي فأشكو ربي.
وفي طريق آخر أنه قال خيفة أن آتي منكراً وفي رواية خلف بن محمد عنه أني ضعفت عن ذلك.(2/55)
وقيل بل كان عراه فتق من الضرب الذي ضرب فكانت الريح تخرج منه فقال كرهت أن أوذي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يعقوب بن عبد الرحمان كان مالك لا يتكلم عند طلوع الشمس ولا عند غروبها.
وقال ابن وهب كان لا يفتي ولا يتكلم حتى تطلع الشمس.
زاد مروان بن محمد وسعيد بن الجهم وكان يسبح ويذكر الله إذا طلعت الشمس.
قال مروان قام إلى حلقته وذاكر أصحابه إلى حلقته وقال السلام عليكم.
قال مطرف لقد رأيته يوماً وهو جالس في المجلس بعد الصبح يدعو ووجهه يصفر ويخضر حتى أطال الدعاء فأتاه سائل عن مسألة فقطع عليه فالتفت مغضباً، فقال يأت أحدكم الرجل وهو في دعائه وقد فتح الله عليه منه ما شاء أن يفتحه مما يستدعي به الإجابة فيقطع ذلك عليه فلا يعود أبداً.
قال ابن أبي حازم كان بين رجل من قريش ومالك كلام، فقال له مالك إن كنت تريد عيبي فسلط الله عليك من يخرجك من بيتك شر مخرج فلما صلى بنا إمامنا الصبح جلس في محرابه، فقام فيه فرأى عمر بن الخطاب معه حرسي يقول اخرج الحمار الضال من المسجد.
ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه بل حلاله وحرامه وسنن نبيه، وما يقرب إليه(2/56)
فأنبته الإمام لينبه الناس على الرجل، وقد أخرج من المسجد ووضع في عنقه حبل.
وجيء به إلى دار السلطان فأخبر الناس الإمام برؤياه فأخبر الرجل بالقصة فجعل يضرع لمالك ويقول خلني يا خير من يقول حدثنا.
فاستغفر له مالك.
قال أبو مصعب سمعت مالكاً يقول إني لأذكر وما في وجهي طاقة شعر وما منا أحد يدخل المسجد إلا معتماً إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال بشر بن عمر جئت مع مالك من منزله حتى دخل المسجد فانتهى إلأى جماعة فوسع لي في صدرها فأبى وجلس حيث انتهى به المجلس فقلت في نفسي هذا رجل منصف كنا لا نوسع لأحد في مجلسه لا يقعد في صدور مجالس الناس.
قال الحارث بن مسكين رحم الله مالكاً، ما كان أصونه للعلم وأصبره على الفقر ولزوم المدينة.
أمر له بجوائز ثلاثة آلاف دينار فما استبدل منزلاً غير المنزل الذي كان فيه ولا استفاد منه غلة ولا صنعة ولا تجارة.
قال ابن القاسم كان لمالك رحمه الله تعالى أربعمائة دينار يتجر له بها، فمنها كان قوام عيشه ومصلحته.
قال ابن أبي أويس كان مالك قد أكثر النظر قبل موته بسنين وكان كثير القراءة طويل البكاء(2/57)
رحمه الله.
باب شدة مالك في إقامة حدود الله تعالى
قال القاضي رضي الله تعالى عنه قال البهلول بن عبيدة كنت عند مالك فأتى برجل ملباً فقالوا له: الأمير يقرئك السلام ويقول لك هذا خنق رجلاً فقتله.
فقال مالك اخنقوه حتى يموت كما فعل به وركبت مالك صفرة وتشوق حتى مد به بصره فأخبروه أنهم خنقوه فرجع إلى وجهه الدم.
فقال ابن كنانة في ذلك: فقال أظننتم أني ندمت؟ لكني خفت أن يبطل حكم من أحكام الله تعالى.
قال عبد الجبار بن عمر حضرت مالكاً وقد أحضره الوالي في جماعة من أهل العلم فسألهم عن رجل عدى على أخيه حتى إذا أدركه دفعه في بئر وأخذ رداءه وأبوا الغلامين حاضران فقال جماعة من أهل العلم الخيار للأبوين في العفو أو القصاص.
فقال مالك أرى أن تضرب عنقه الساعة.
فقال الأبوان ليقتل ابن بالأمس ونفجع في الآخر اليوم؟ نحن أولياء الدم وقد عفونا.
فقال الوالي يا أبا عبد الله ليس ثم طالب غيرهما.
وقد عفوا.
فقال مالك: والله الذي لا إله إلا هو لا تكلمت في العلم أبداً أو تضرب عنقه، وسكت.
وكلم فلم يتكلم فارتجت المدينة وصاح الناس إذا سكت مالك فمن يسأل ومن يجيب؟ وكثر اللغط وقالوا لا أحد بمصر من الأمصار مثله، ولا يقوم مقامه في العلم والفضل.(2/58)
فلما رأى الوالي عزمه على السكوت قدم الغلام فضرب عنقه فلما سقط رأسه التفت مالك إلى من حضر وقال: إنما قتلته بالحرابة حين أخذ ثوب أخيه ولم أقتله قوداً إذ عفا أبواه، فانصرف الناس وقد طابت نفوسهم حين رأوه بر في يمينه إذ كان يعلم أنه لا يحنث.
قال حفص بن عياث: كان مالك يجلس عند الوالي فيعرض عليه أهل السجن فيقول اقطع هذا، واضرب هذا مائة، ومائتين، واصلب هذا.
كأنه أنزل عليه كتاب.
قال أشهب دعا بعض الأمراء مالكاً يستشيره في شيء فدخل عليه وأشار بقطع قوم وقتل قوم وخرج علينا وهو يبتسم ويقرأ: لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب.(2/59)
باب في حكمه ووصاياه وآدابه
قال الفقيه القاضي رضي الله عنه قال مالك رحمه الله إنما التواضع في الدين والتقى لا في (كذا) قال التواضع ترك الرياء والسمعة.
وقال شر العلم الغريب وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس.
وقال زيد بن الحسن سمعته يقول الزهد في الدين، طيب المكسب، وقصر الأمل.
وقال الدنيا صحة البدن وطيب النفس من النعيم.
وقال التواضع في التقى والدين وليس في اللباس.
وروى ابن المبارك عنه أنه قال له فرجة في قلبه أفضل منه في العلانية.
وقال ليس العلم بكثرة الرواية وإنما العلم نور يضعه الله في القلوب.
وقد روي هذا الكلام عن ابن مسعود.
وقال ابن وهب عنه طلب العلم حسن.
لمن رزق خيره، وهو قسم من الله، ولكن انظر ما يلزمك حين تصبح إلى حين تمسي فالزمه.
وقال العلم نور لا يأنس إلا بقلب تقي خاشع.(2/60)
وروى ابن عبد الحكم سئل مالك عن طلب العلم أفريضة هو؟ قال: لا.
ولا يطلب إلا ما ينتفع به ولا يطلب الأغاليط والإكثار.
وفي رواية أشهب سئل مالك عن طلب العلم أفريضة هو؟ قال لا والله.
ما كل الناس عالم وإن منهم من لا آمره بطلبه.
ثم قال: أما على كل الناس فلا.
قال ابن وهب: قال مالك: خير الأمور ما كان منها ضاحياً بيناً أمره وإن كنت في أمرين أنت منهما في شك فخذ بالذي هو أوفق.
وقال لابن وهب أد ما سمعت وحسبك ولا تحمل لأحد على ظهرك فإنه كان يقول أخسر الناس من باع آخرته بدنياه.
وأخسر منه من باع آخرته بدنيا غيره.
وقال ينبغي للرجل إذا خول علماً وصار رأساً يشار إليه بالأصابع أن يضع التراب على رأسه ويمتهن نفسه إذا خلا بها ولا يفرح بالرئاسة.
فإذا اضطجع في قبره ووسد التراب رأسه ساءه ذلك كله.
وقال لأبي مسهر: لا تسأل عما لا تريد فتنسى ما تريد، فإنه من اشترى ما لا يحتاج إليه باع ما يحتاج إليه.
وقال من إذالة العلم أن تجيب كل من سألك ولا يكون إماماً من حدث بكل ما سمع.
ومن إذالة العلم أن ينطق به قبل أن يسأل عنه.
وقال إن المسألة إذا سئل فيها الرجل ولم يجب واندفعت عنه فإنما هي بلية صرفها الله عنه.
وقال لا يصلح طلب لمفلس ولا لغني متكبر.
وقيل له ما أفضل ما يصنع العبد؟ قال طلب العلم.(2/61)
وقال لولا النسيان لكان أكثر الناس علماء.
وقال إنما أهلك الناس تأويل ما لا يعلمون.
وقيل له العالم يخطىء الذي دل عليه من الخير أكثر، ومن ذا الذي ليس فيه شيء؟ ولو لم يأمر بالمعروف إلا لمن ليس فيه شيء ما أمر أحداً.
وقال من شأن ابن آدم أن لا يعلم ممن يعلم.
أما سمعت قول الله تعالى إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً.
وقال إنما الحكمة مسحة ملك على قلب العبد.
وقال أيضاً الحكمة نور يقذفه الله في قلب العبد.
وقال أيضاً يقع في قلبي أن الحكمة الفقه في دين الله.
وأمر يدخله الله القلوب من رحمته وفضله.
وقال أيضاً الحكمة التفكير في أمر الله تعالى والإتباع له.
وقال في سماع ابن وهب وابن القاسم الحكمة طاعة الله والإتباع لها، والفقه في الدين والعمل به.
وقال الفروي سمعته يقول لا خير في شيء من الدنيا وإن كثر بفساد دين الرجل أو مروءته وقال تعلموا الحلم قبل العلم.
وقال نقاء الثوب وحسن الهمة وإظهار المروءة جزء من بضع وأربعين جزء من النبوة.(2/62)
وقال لبعض بني أخيه: إذا تعلمتم علماً من طاعة الله فلير عليك أثره، ولير فيك سمته، وتعلم لذلك العلم الذي علمته السكينة والحلم والوقار، وقال حقاً على من طلب العلم أن يكون فيه وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لآثار من مضى، وينبغي لأهل العلم أن يخوا أنفسهم من المزاح وبخاصة إذا ذكروا الله.
وقال أدب الله القرآن وأدب رسوله السنة وأدب الصالحين الفقه.
وقال لا يستكمل الرجل الإيمان حتى يحرز لسانه.
وقال لبعض أصحابه لا تكثر الشخوص من بيتك إلا لأمر لا بد منه، ولا تجلس في مجلس لا تستفيد منه علماً.
وقال سفيان دخلت على مالك فقلت له إن العلم كثير.
فقال العلم شجرة أصلها بمكة وأغصانها بالمدينة وأوراقها بالعراق وثمرتها بخراسان فقال اكتب يا غلام فهذه من طرائف مالك.
قال الزبيري: قلت لمالك: إن من الناس من إن أمرتهم ليطيعونني ومنهم من إن أمرتهم أتأذى منهم.
الشعراء يهجونني والشاطرون يضربونني ويحبسونني فكيف أصنع.
فقال إن خفت وظنت أنهم لا يطيعونك فدع، وأنكر بقلبك، ولك في ذلك سعة.
ومن لم تخش منه فأمره وانهه وخاصة إذا أردت به الله تبارك وتعالى، فإذا كنت كذلك لم تر إلا خيراً وبخاصة إذا كان فيك شيء من لين.
ألا ترى(2/63)
قول الله تعالى إلأى موسى وهارون فقولا قولاً ليناً....
الآية.
ينظر في أمرك ويقبل منك.
تعوضت وخرجت من جملة أهل القرآن، وقال في سماع أشهب وابن القاسم من صدق في حديثه متع بعقله ولم يصبه ما يصيب الناس من الهرم والخرف.
وقال له رجل خرفت فقال له إنما يخرف الكذابون.
وقال ابن المبارك سمعته يقول لا يصلح الرجل حتى يترك ما لا يعنيه، فإذا كان كذلك أوشك أن يفتح الله في قلبه.
وروى ابن أبي أويس عنه أنه قال بغيتك منها ما يكفيك، فأقل عيشها يغنيك، وما قل وكفي خير مما أكثر وألهى.
قال ابن وهب سمعه يقول ما زهد أحد في الدنيا إلا أنطقه الله بالحكمة.
وقال خالد بن حميد: سمعته يقول عليك بمجالسة من يزيد في علمك قوله، ويدعوك لحال الآخرة فعله، وإياك ومجالسة من يعللك قوله ويعيبك دينه ويدعوك إلى الدنيا فعله.
وقال ابن القاسم ذكر مالك القصد وفضله ثم قال إياك من القصد ما تحب أن ترفع به.
قيل له لم؟ قال تعجب به.
قال مطرف: قال رجل لمالك أوصني(2/64)
قال: إذا هممت بأمر من طاع الله فلا تحبسه إن استطعت فواقاً حتى تمضيه، فإنك لا تأمن الأحداث، فإذا هممت بغير ذلك فإن استطعت أن لا تمضه فواقاً فافعل، لعل الله يحدث له تركه، ولا تستحي إذا دعيت لأمر ليس بحق أن تقول قال الله تعالى في كتابه: والله لا يستحي من الحق.
وطهر ثيابك وأنقها عن معاصي الله وعليك بمعالي الأمور وكرائمها واتق رذائلها وما سفسف منها فإن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفافها، وأكثر تلاوة القرآن واجتهد أن تأتي عليك ساعة من ليل أو نهار إلا ولسانك رطب في ذكر الله.
ولا تمكن الناس من نفسك، واذهب حيث شئت.
وقال ما أسر عبد سريرة خير إلا ألبسه الله رداءها.
ولا أسر سريرة سوء إلا ألبسه الله رداءها.
وقال مالك للقعنبي مهما تلاعبت بشيء فلا تلعبن بدينك.
وقال لابن أخيه إن أحببتما أن ينفعكما الله بهذا الأمر فأقلا منه وتفهما فيه.
وقال ما أكثر أحد قط فأفلح.
قال ابن وهب: قال لي مالك إنه لم يكن يسلم رجل حدث بكل ما سمع.
ولا يكون إماماً ابداً.
ومن أذل إهانة العلم عند من لا يطيعك.
قال ابن نافع قال مالك كل شيء ينفع فضله إلا الكلام.
قال مطرف وكان مالك إذا ودعه أحد من طلبة العلم عنده، يقول لهم: اتقوا الله في هذا العلم ولا تنزلوا به دار مضيعة، وبثوه ولا تكتموه.(2/65)
قال مصعب كان مالك إذا أتاه موت أحد قال الحمد لله رب العالمين الذي أبقانا بعده، اللهم لا تجعله لنا فتنة.
قال ابن عبد الحكم وابن وهب سمعت مالكاً يقول أول المعاصي الكبر والحسد والشح.
حسد إبليس وتكبر فقال خلقتني من نار وخلقته من طين وقال الله تعالى فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة.
فشح آدم حتى أكل منها.
وقال أبو قرة: سمعت مالكاً يقول من علم أن قوله من عمله قل كلامه.
والقول من العمل.
قال أبو قرة هو أشد من العمل، به يكون الإيمان والكفر.
وقال ابن وهب سمعت مالكاً يقول من رضي بشيء كفاه وفيه يعني القناعة منفعة لأهل الورع.
وقال مالك: خرق المرء أشد من العدم.
والخرق لا ينمي له شيئاً.
قال ابن وهب وقال لمالك رجل أوصني.
فقال: أوصيك أن تعمل صالحاً وتأكل طيباً.
وقال سمعته يقول: من أراد الله به خيراً أجمع عليه شمله ومن نعم الله تعالى على العبد أن يجمع عليه أمره ومن بلواه عليه أن يشتت عليه أمره.
وسمعته يقول التقرب من أهل الباطل هلكة.
القول الباطل يصد عن الحق.
ومن سعادة المرء أن يوفق للخير، ومن شقاوة المرء أن لا يزال يخطىء وسمعته يقول إذا ظهر الباطل على الحق كان الفساد في الأرض، وقيل الباطل وكثيره هلكة، وإن لزوم الحق نجاة.(2/66)
قال وسمعته يقول حقاً على من طلب العلم أن يكون فيه وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لآثار من قبله.
وقال من آداب العالم أن لا يضحك إلا تبسماً.
وقال لكل شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله، فبقدر ما يعقل يعبد ربه.
وقال الإسلام واسع إذا لم يرده بالحق فالإسلام أوسع من ذلك.
فلا ينبغي أن يضيق، زاد في موضع آخر إذا أقيمت حدوده.
قال وسمعته يقول إن المؤمن حسن المعونة يسير المؤونة والفاجر بضده، وفي سماعته عنه.
قال كنت أسمع بهذا الرجل يخطىء الخطيئة فيكون من رأس عمله في الخير، زاد في سماع أشهب ينيب إلى الله تعالى.
وقال القعنبي سمعته يقول: إذا مدح الرجل نفسه ذهب بهاؤه.
قال ابن وهب: وسمعته يقول الكلام في هذه المسائل المعضلة تزيل الفتيا وتفسدها.
وسمعته يقول كثرة الكلام تمج العلم وتذله وتنقصه.
قال وذكر الكلام ومراجعة الناس فقال من صنع هذا ذهب بهاؤه، وكان يكره كثرة الكلام ويعيبه.
وقال لا يوجد إلا في النساء والضعفاء.
وكان يقال نعم الرجل فلان إلا أنه يتكلم كلام شهر في يوم.(2/67)
قال خالد بن خراش: قلت لمالك: أوصني.
قال عليك بتقوى الله وطلب العلم عند أهله.
قال ابن القاسم: كنا إذا ودعنا مالكاً يقول: اتقوا الله وانشروا هذا العلم وعلموه ولا تكتموه.
وقال لن ينال هذا ألأمر حتى يذاق فيه طعم الفقر.
قال أبو قرة سمعت مالكاً يقول تعلموا من العلم حتى لبس نعله.
وقال أشهب سمعته يقول لا خير في رفع الصوت في المسجد لا في العلم ولا في غيره.
أدركت الناس قديماً يعيبون ذلك.
وقال ابن وهب عنه إذا كثر الكلام كان فيه الخطأ وإذا أصيب الجواب قل الخطاب.
وكان يقول حين يسأل ويستفتى الكلام بالباطل يصد عن الحق.
وقال لابن وهب اتق الله واقتصر على علمك فإنه لم يقتصر أحد على علمه إلا نفع وانتفع، فإن كنت تريد لما طلبت ما عند الله فقد أصبت ما تنتفع به إن كنت تريد بما تعلمت الدنيا فليس في يديك شيء.
وفي رسالة إلى أبي قرة إني أرى الصواب في ترك تعلم المسائل التي قد ينتفع ببعضها إذا كان فيه من المضرة ما يخاف على صاحبها الخطأ والفتنة، فكيف بغيرها من المسائل، التي لا منفعة فيها.
قال ابن وهب قال مالك إنما قبحت ألأشياء حتى يتعدى بها منازلها.(2/68)
وقال: طلب الرزق من شبهه أحسن من الحاجة إلى الناس.
وقال الزهد في الدنيا طيب المكسب وقصر الأمل.
وقال الناس في العلم اربعة: رجل علم فعمل به فمثله في كتاب الله قوله: إنما يخشى الله من عباده العلماء.
ورجل علم به ولم يلمه فمثله في كتاب الله: الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى.....
الآية.
ورجل علم علماً وعلم ولم يعمل به فمثله في كتاب الله: إن هم إلا كالأنام.
وقال من عيب القاضي إذا عزل لم يرجع لمجلسه الذي كان يتعلم وأفتى مالك لبعض الشعراء بما لا يوافقه فقال يا أبا عبد الله أتظن الأمير لم يكن يعرف هذا القضاء الذي قضيته.
بلى.
وإنما أرسلنا إليك لتصلح بيننا فلم تفعل بالله لأقطعن جلدك هجاءاً.
فقال له مالك يا هذا أتدري ما وصفت به نفسك؟ وصفتها بالسفه والدناءة وهما اللذان لا يعجز عنهما أحد فإن استطعت فأت غيرهما مما تنقطع دونه الرقاب من الكرم والمروءة.
وقال ابن وهب قال مالك كفى بك ظالماً ألا تزال مخاصماً.
وقال من روى عن ضعيف فقد بدأ بنفسه وقال الإعراب جلي اللسان.
وقال أهوال الدنيا ثلاثة ركوب البحر وركوب فرس عربي وتزويج حرة.(2/69)
باب ذكر الموطأ وتأليف مالك إياه
قال الإمام القاضي رضي الله عنه.
قال ابن مهدي ما كتاب بعد كتاب الله أنفع للناس من الموطأ.
وقال لا أعلم من علم الإسلام بعد القرآن أصح من موطأ مالك.
قال ابن وهب من كتب موطأ مالك فلا عليه أن يكتب من الحلال والحرام شيئاً.
وقال الشافعي ما في الأرض كتاب من العلم أكثر صواباً من كتاب مالك.
وقال ما على الأرض كتاب أصح من كتاب مالك وفي رواية أفضل وما كتب الناس بعد القرآن شيئاً هو أنفع من موطأ مالك.
وإذا جاء الأثر من كتاب مالك فهو الثريا.
قال سعيد بن أبي مريم وكان ابنا أخته بالعراق ولو جمعا عمرهما بالعراق ما أتيا بعلم يشبه موطأ مالك.
وقال في رواية أخرى: ما جاء بسنة مجمع عليها خلاف ما في الموطأ.
وقال ما أحسن لمن تدين به.
قال الدراوردي: كنت نائماً في الروضة بين القبر والمنبر فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من القبر متكئاً على أبي بكر وعمر ثم رجع فقمت إليه فقلت له يا رسول الله من أين جئت؟(2/70)
قال مضيت إلى مالك بن أنس فأقمت له الصراط المستقيم.
قال فأتيت مالكاً فأصبته يدون الموطأ فأخبرته بالخبر فبكى، وروى أبو مصعب أن أبا جعفر قال لمالك ضع للناس كتاباً أحملهم عليه.
فكلمه مالك في ذلك فقال ضعه فما أحد أعلم منك.
فوضع الموطأ فلم يفرغ منه حتى مات أبو جعفر.
وقال أبو مصعب سمعت مالكاً يقول دخلت على أبي جعفر بالغداة حين وقعت الشمس بالأرض وقد نزل عن شماله إلى بساط وعلى البساط برذونان قائمان من حين دخلت إلى حين خرجت لا يبولان ولا يروثان أدباً وإذا بصبي يخرج ثم يرجع، فقال أتدري من هذا؟ قلت لا؟ قال هو ابني وإنما يفزع من شيبتك وفي رواية إنه استنكر قرب مجلسك مني ولم يربه أحد قط، وحقيق أنت بكل خير وخليق بكل إكرام، وقد كان أدناه إليه وألصق بركبته فلم يزل يسألني حتى أتاه المؤذن بالظهر فقال لي أنت أعلم الناس وفي رواية أهل الأرض.
فقلت لا والله يا أمير المؤمنين.
قال بلى.
ولكنك تكتم ذلك.
وفي رواية فما أحد أعلم منك اليوم بعد أمير المؤمنين.
ولئن بقيت لأكتبن كتابك بماء الذهب، وفي رواية كما تكتب المصاحف ثم أعلقها في الكعبة وأحمل الناس عليها.(2/71)
فقلت ياأمير المؤمنين لا تفعل فإن في كتابي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الصحابة وقول التابعين ورأياً هو إجماع أهل المدينة لم أخرج عنهم، غير أني لا أرى أن يعلق في الكعبة.
قال: وقال له أبو جعفر وهو بمكة اجعل العلم يا أبا عبد الله علماً واحداً.
قال فقلت له يا أمير المؤمنين إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في البلاد فأفتى كل في مصره بما رآه، وفي طريق، إن لأهل هذه البلاد قولاً ولأهل المدينة قولاً ولأهل العراق قولاً تعدوا فيه طورهم.
فقال أما أهل العراق فلست اقبل منهم صرفاً ولا عدلاً، وإنما العلم علم أهل المدينة فضع للناس العلم وفي رواية فقلت له إن أهل العراق لا يرضون علمنا.
فقال أبو جعفر يضرب عليه عامتهم بالسيف وتقطع عليه ظهورهم بالسياط وفي بعضه إن أبا جعفر قال له إني عزمت أن أكتب كتبك هذه نسخاً ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين بنسخة آمرهم بأن يعملوا بما فيها ولا يتعدوها إلى غيرها من هذا العلم المحدث فإنني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعملهم.
فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل وسمعوا أحاديث وروايات وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وعملوا به ودالوا له من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم وإن ردهم عما اعتقدوا شديد، فدع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم.
فقال: لو طاوعتني على ذلك لأمرت به.(2/72)
وفي رواية إن المنصور قال له: يا أبا عبد الله ضم هذا العلم ودون كتباً وجنب فيها شدائد ابن عمر ورخص ابن عباس وشواذ ابن مسعود وأقصد أوسط الأمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة.
وروي أن المهدي قال له ضع كتاباً أحمل الأمة عليه، فقال له مالك أما هذا الصقع يعني المغرب، فقد كفيته وأما الشام ففيه الأوزاعي وأما أهل العراق....
فهم أهل العراق.
قال عتيق الزبيري وضع مالك الموطأ على نحو من عشرة آلاف حديث فلم يزل ينظر فيه سنة ويسقط منه حتى بقي هذا ولو بقي قليلاً لأسقطه كله.
يعني تحرياً.
قال سليمان بن بلال لقد وضع مالك الموطأ وفيه أربعة آلاف حديث أو قال أكثر.
فمات وهي ألف حديث ونيف يلخصها عاماً عاماً بقدر ما يرى أنه أصلح للمسلمين وأمثل في الدين.
وقال مالك وقد ذكر له الموطأ فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الصحابة والتابعين ورائى وقد تكلمت برأي على الاجتهاد وعلى ما أدركت عليه أهل العلم ببلدنا.
ولم أخرج عن جملتهم إلى غيره.
وقال أبو موسى الأنصاري وقعت نار في منزل رجل فاحترق كل شيء في البيت إلا المصحف والموطأ.(2/73)
قال ابن أبي أويس قيل لمالك ما قولك في الكتاب ألأمر المجتمع عليه عندنا وببلدنا وأدركت أهل العلم وسمعت بعض أهل العلم، فقال أما أكثر ما في الكتاب فرأي فلعمري ما هو رأيي ولكن سماع من غير واحد من أهل العلم والفضل والأئمة المقتدى بهم الذين أخذت عنهم وهم الذين كانوا يتقون الله فكثر علي فقلت رأيي، وذلك إذا كان رأيهم مثل رأي الصحابة أدركوهم عليه، وأدركتهم أنا على ذلك.
فهذا وراثة توارثوها قرناً عن قرن إلى زماننا وما كان أرى فهو رأي جماعة ممن تقدم من الأئمة وما كان فيه الأمر المجتمع عليه فهو ما اجتمع عليه من قول أهل الفقه والعلم لم يختلفوا فيه.
وما قلت الأمر عندنا فهو ما عمل الناس به عندنا وجرت به الأحكام وعرفه الجاهل والعالم.
كذلك ما قلت فيه ببلدنا وما قلت فيه بعض أهل العلم، فهو شيء استحسنه في قول العلماء وأما ما لم أسمعه منهم فاجتهدت ونظرت على مذهب من لقيته حتى وقع ذلك موضع الحق أو قريب منه حتى لا يخرج عن مذهب أهل المدينة وآرائهم وإن لم أسمع ذلك بعينه فنسبت الرأي إلي بعد الاجتهاد مع السنة وما مضى عليه أهل العلم المقتدى بهم، والأمر المعمول به عندنا، من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة الراشدين مع من لقيت فذلك رأيهم ما خرجت إلى غيرهم.(2/74)
وذكر أحمد بن عبد الله الكوفي في تاريخه أن كل ما قال فيها مالك في موطأه الأمر المجتمع عليه عندنا فهو من قضاء سليمان بن بلال وهذا لا يصح قال: وما أرسله فيه عن ابن مسعود، فرواه عبد الله بن إديس الأودي وما أرسله عن غيره فعن ابن مهدي.
قال الدراوردي إذ قال مالك على هذا فأدركت أهل العلم ببلدنا والأمر عندنا فإنه يريد ربيعة وابن هرمز.
قال عمر بن أبي سلمة ما من مرة أقرأ الجامع من الموطأ إلا رأيت في منامي رجلاً يقول لي هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فلما قدمنا المدينة بوسيلة إلى مالك، قال لي أحضر غداً بكتاب المدبر والمكاتب فإنهم اجتمعوا على أن يقرأوه فبت ليلتين فرأيت قائلاً يقول، وأنا نائم: غداً يقرأ على مالك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فغدوت إلى مالك ومعي الكتابان فلما رآني قال لي أي شيء معك؟ قلت المكاتب والمدبر.
فقال إنهم قد بدا لهم وأجمعوا على قراءة الجامع فذكرت له الرؤيا فقال لي صدق، وهو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال صفوان بن عمر بن عبد الواحد عرضنا على مالك الموطأ في أربعين يوماً فقال كتاب ألفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يوماً قل ما تتفقهون فيه.
قال غيره أول من عمل الموطأ عبد العزيز بن الماجشون عمله كلاماً بغير حديث فلما رآه مالك قال ما أحسن ما عمل ولو كنت أنا لبدأت بالآثار، ثم شددت ذلك بالكلام(2/75)
ثم عزم على تصنيف الموطأ.
فعمل من كان بالمدينة يومئذ من العلماء الموطئات فقيل لمالك شغلت نفسك بهذا الكتاب وقد شاركك فيه الناس وعملوا أمثاله.
فقال ائتوني بها فنظر فيها ثم نبذها وقال لتعلمن ما أريد به وجه الله تعالى.
قال مطرف قال لي مالك ما يقول الناس في موطأي قلت الناس رجلان محب مطرٍ، وحاسد مفتر.
فقال إن مد بك العمر فسترى ما يراد به الله.
قال فكأنما ألقيت تلك في الآبار.
ما سمع منها شيء بعد ذلك.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما وضع مالك الموطأ جعل أحاديث زيد في آخر الأبواب فقلت له ذلك فقال إنها كالشرح لما قبلها.
قال أبو داود قيل لمالك ليس في كتابك حديث غريب.
قال سررتني.
وقال أبو زرعة لو حلف رجل بالطلاق على أحاديث مالك التي بالموطأ أنها صحاح كلها لم يحنث، ولو حلف على حديث غيره كان حانثاً.
قال ابن أبي سوار الجدي سمعت مالكاً يقول الأمر عندنا كذا فأخبرت به ابن أبي ذئب فقال ما يحل لمالك أن يقول هذا، ليس هذا مما نحن عليه.
قال فأعلمت مالكاً.
فقال أنا لا أعتد برأي ابن ذئب أعتد بمن أدركت من أهل العلم.(2/76)
ذكر ما قيل في الموطأ من الشعر
من ذلك قول سعدون الورجيني:
أقول لمن يروي الحديث ويكتب ... ويسلك سبيل الفقه فيه ويطلب
إذا أحببت أن تدعى لدى الخلق علماً ... فلا تعد ما تحوي من العلم يثرب
أتترك داراً كان بين بيوتها ... يروح ويغدو جبرئيل المغرب
ومات رسول الله فيها وبعده ... بسنته أصحابه قد تأدبوا
وفرق شمل العلم في تأليفهم ... وكل امرىء منهم له فيه مذهب
فخلصه بالسبك للناس مالك ... ومنه صحيح في المجس وأجدب
فأبرى بتصحيح الرواية داءه ... وتصحيها فيه دواء مجرب
ولو لم يلح نور الموطأ لمن يرى ... بليل عماه ما درى أين يذهب
فبادر موطأ مالك قبل فوته ... فما بعده إن مات للخلق مطلب
ودع للموطأ كل علم تريده ... فأن الموطأ الشمس والغير كوكب
هو الأصل طاب الفرع منه لطيبه ... ولم لا يطيب الفرع فالأصل طيب(2/77)
هو العلم عند الله بعد كتابه ... وفيه لسان الصدق بالحق معرب
لقد أعربت آثاره ببيانها ... فليس لها في العالمين مكذب
ومما به أهل الحجاز تفاخروا ... بأن الموطأ في العراق محبب
ومن لم تكن كتب الموطأ ببيته ... فذاك من التوفيق بيت مخيب
فيعجب منه إذ علا في حياته ... تعاليه من بعد المنية أعجب
جزا الله عنا في الموطأ مالكاً ... بأفضل ما يجزى اللبيب المهذب
لقد أحسن التحصيل في كل ما روى ... كذا فعل من يخشى الأحد ويرهب
لقد فاق أهل العلم حياً وميتاً ... فأضحت به الأمثال في الناس تضرب
وما فاقهم إلا بتقوى وخشية ... وإذ كان يرضى في الإله ويغضب
فلا زال يسقي قبره كل عارض ... بمندفق ظلت غزاليه تسكب
وتسقي قبوراً حوله دون سقيه ... فيصبح فيها بينها وهو معشب
وما بي بخل أن تسقى كسقيه ... ولكن حق العلم أولى وأوجب
وقال أبو الطاهر أحمد بن محمد الأصفهاني في ذلك:
وأعم الكتب نفعاً للفقيه ... موطأ مالك لا شك فيه
فلا تبدأ بشيء من سماع ... سواه عن إمام ترتضيه
وصاحب من يعظمه وجانب ... كتاب جميع من قد يزدريه
وقال القاضي المؤلف رضي الله تعالى عنه في ذلك:
إذا ذكرت كتب العلم فخيرها ... كتاب الموطأ من تصانيف مالك(2/78)
أصح أحاديثاً وأثبت سنة ... وأوضحها في الفقه نهجاً لسالك
أسانيد أمثال الرواسي صحيحة ... ورأي كأنوار النجوم الشوابك
هو الحجة الغراء والعصمة التي ... ينجي هداها من جميع المهالك
به يهتدى في كل أمر ويقتدى ... وفيه جلاء المشكلات الحوالك
عليه مضى الإجماع في كل أمة ... على رغم خشيوم الحسود المهالك
وأول تصنيف تهذب فاغتدى ... يعلم كلاً نهج تلك المسالك
بتأليف أشكال وحسن عبارة ... وإتقان ترتيت لتلك المدارك
فجاءكما جاء الوشام منظماً ... وخلص محض التبر تخليص سابك
فعنه فخذ علم الديانة خالصاً ... ومنه استفد علم النبي المبارك
وشد به كف الضنانة تحتوي ... فمن حاد عنه هالك في المهالك(2/79)
باب في اعتناء الناس بكتاب الموطأ
وتهمهم به (هكذا؟) قال القاضي رضي الله تعالى عنه لم يعتن بكتاب من كتب الحديث والعلم اعتناء الناس بالموطأ فإن الموافق والمخالف اجتمع على تقديره وتفضيله وروايته وتقديم حديثه وتصحيحه، وقد ذكرنا ذلك في باب قبله طرفاً ونذكر بعد هذا باباً فيمن رواه من الجملة عن مالك إن شاء الله تعالى، فأما من اعتنى بالكلام على رجاله وحديثه والتصنيف في ذلك فعدد كثير من المالكيين وغيرهم من أصحاب الحديث والعربية وجمع كثير منهم حديث مالك من الموطأ وغيره فممن ألف في ذلك القاضي اسماعيل صنع موطأ المسند على رجاله إلى مالك بن أنس من موطئات مالك وسائر حديثه.
وألف مسند حديث مالك وألف أيضاً شواهد الموطأ وألف مسند الموطأ قاسم بن أصبغ وأبو القاسم الجوهري، وأبو الحسن القابسي في كتابه الملخص وألف مسند الموطئات أبو ذر الهروي وألف حديث مالك أبو بكر القبّاب(2/80)
وألف مسند الموطأ أيضاً أبو الحسن علي بن خلف السجلماسي روى عنه عبدوس وأبو محمد ومثله للمطرز ولأبي عبيد الله الجيزي ولأحمد بن سدّاد الفارسي والقاضي ابن مفرّج ولابن الأعرابي ومسد حديث مالك رواية محمد بن شروس الصنعاني وحديث مالك رواية ابن نافع الزبيري وألف مسند حديث مالك أبو عبد الرحمان النسائي وأبو أحمد بن عدي الجرجاني، وأحمد بن إبراهيم بن جامع البكري وبندار وابن الأعرابي وابن عفير وأبو عبد الله السراج النيسابوري، وأبو بكر ابن زيد النيسابوري وأبو العرب التميمي وأبو حفص بن شاهين وعبد العزيز ابن سلمة وأبو القاسم الحافظ الأندلسي، وأبو عمر بن عبد البر، والقاضي ابن مفرج،(2/81)
ومحمد بن عيشون الطليطلي، وألف أبو القاسم الجوهري أيضاً مسند حديث مالك خارج الموطأ، وأبو بكر محمد بن عيسى الحضرمي، وعبد الغني ابن سعيد، وأبو الفضل بن أبي عمران الهروي.
وألف أبو الحسن الدارقطني أيضاً وله في اختلاف الموطئات، وألف غريب حديث مالك دعلج بن أحمد وابن الجارود وقاسم بن أصبغ ولأبي الحسن الدارقطني تأليف في الأحاديث التي خولف فيها مالك والبزاز تأليف في نحو هذا، ومحمد بن المظفر الحافظ كتاب فيما وصله مالك مما ليس في الموطأ وألف مسند الموطأ رواية القعنبي أبو عمر بن خضر الطليطلي وإبراهيم بن نصر السرقسطي ولأبي بكر بن أحمد ابن سعيد بن فرضخ الإخميمي مسند الموطأ أيضاً.
وألف مسند حديث مالك أبو سليمان محمد بن عبد الله بن زير وأسامة بن علي بن زيد المصري وموسى بن هارون الحامل وأبو نعيم الجيلي القلانسي(2/82)
وللقاضي أبو بكر ابن السليم كتاب التوصيل مما ليس في الموطأ، ولأبي الحسن بن أبي طالب العابر كتاب الموطأ ولأبي بكر بن ثابت الخطيب كتاب طرق الموطأ وصنع يحيى ابن يزيد عليه كتابه في شرحه في كتابه المسمى بالمغرب.
ولابن مزين أيضاً كتاب في رجاله ولابن وهب فيه شرح، وكذلك لعيسى بن دينار ولعبد الله بن نافع الصائغ ولحرملة بن يحيى ولمحمد بن سحنون ولابن حبيب ولمسلم تأليف في شيوخ مالك وللبرقي كتاب في رجال الموطأ وكذلك لأبي عمر الطلمنكي وكذلك للقاضي أبي عبد الله بن الحذاء ولأبي عبد الله بن مفرج كتاب في ذلك، وللبرقي أيضاً شرح تغريبه ولأحمد بن عمران الأخفش كتاب في غريبه ولابن القاسم العثماني المضري شرح غريبه أيضاً ولأبي جعفر الدراوردي كتابه النامي في شرحه، ولأبي مروان القنازعي كتابه المشهور في شرحه أيضاً.(2/83)
ولابن خوصا جمع الموطأ من رواية ابن وهب وابن القاسم.
ورأيت بقبرة جمعاً من رواية يحيى الأندلسي وأبي مصعب ولأبي عمر بن عبد البر كتاباه الكبيران المشهوران في الكلام عليه وشرح معانيه كتاب التمهيد وكتاب الاستذكار، وله كتاب التقصي في مسند حديثه ومرسله وكتاب في حديث مالك خارج الموطأ وللقاضي أبي وليد الباجي كتابه المشهور أيضاً عليه المنتقى وكنا الإيماء وكتاب الأستيفاء.
لكن هذا لم يتم.
وهو كان أكبرها وأجمعها.
وله كتاب اختلاف الموطئات أبي الوليد بن الصفار كتاب المرغب في شرحه المسمى بالحلي ولأبي بكر بن سائف المغلي كتابه في شرحه المسمى بالمسالك ولأبي محمد بن حزم الظاهري كتاب في شرحه أيضاً.
ولابن أبي صفرة فيه شرح.
وكان شيخنا الفقيه أبو الوليد بن العواد ألف تأليفاً جمع فيه بين الاستذكار والتمهيد.
توفى رحمه الله قبل تمامه.
ولأبي محمد بن السيد البطاليسي النحوي كتاب في شرحه كبير سماه المقتبس.
وتوجيه الموطأ لأبي عبد الله بن عيشون الطليطلي ولأبي سعيد عمران بن عبد ربه المعافري الأندلسي المعروف بالدباغ عمل في دلائل أبي محمد الأصيلي وتأليفه على أبواب الموطأ، وقفت عليه، ولأبي القاسم بن الجد الكاتب كتاب في اختصار التمهيد(2/84)
لابن عبد البر في حديث الموطأ، وبعضهم ينسبه إلى أبي عبد الله مالك بن وهب، وللشيخ حازم بن محمد بن حازم كتابه المسمى بالسائر على أثار الموطأ في أربعين جزءاً.
وفي الموطأ تفسير أيضاً لرجل قرطبي يعرف بأبي الحسن الإشبيلي.
ولرجل آخر يسمى باب سراحيل ولأبي عمر الطلمنكي فيه تعبير لم يكلمه.
وكذلك القاضي أبي عبد الله بن الحذاء وشرح مسند الموطأ للقاضي يونس بن مغيث وهو شرح الملخص.
وشرحه أيضاً أبو القاسم المهلب ابن أبي صفرة وأخوه أبو عبد الله.
وصنع القاضي أبو بكر العربي كتاباً سماه القبس.
ولأبي محمد بن يربوع المحدث الشهير ممن نسيناه كتاب في الكلام على أسانيده سماه تاج الحلية وسراج البغية.
وللشيخ عاصم النحوي كتاب شرحه لم يكمله أيضاً.
وشرح الملخص أبو بكر بن موهب الغبري في أسفار كثيرة.(2/85)
باب في ذكر من روى الموطأ
من الجلة والأئمة المشاهير الثقات عن مالك رحمه الله تعالى
وروى عن أكثرهم في المشرق والمغرب منهم: عبد الرحمان بن القاسم وعبد الله بن وهب، ومطرف بن عبد الله، وأبو مصعب الزهري، ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، ومصعب بن عبد الله الزبيري وأخوه بكار، ويحيى ابن يحيى النيسابوري، ويحيى بن يحيى الأندلسي، وشبطون بن عبد الله الأندلسي، ومحمد بن طاووس الصناعاني، وأبو قرة السكسكي، ومحمد بن المبارك الصوري، وعبد الله بن سلمة القعنبي،(2/86)
وعبد الله بن يوسف التيسي، وأبو حذافة السهمي بغدادي، وأحمد بن منصور التامراني، وقتيبة بن سعيد خرساني، ومعمر بن عيسى مدني، وعتيق بن يعقوب الزهري، أسد بن الفرات القروي وإسحاق بن عيسى الطباع شامي، وجرير المعنى بغدادي، وحفص بن عبد السلام أندلسي، وأخوه حسان، وحبيب بن أبي حبيب كاتبه، وخلف بن جرير بن فضالة قروي، وخالد بن نزار الإيلي، والغازي بن قيس الأندلسي، وقرعوس ابن العباس أندلسي، ومحمد بن يحيى أندلسي، ومحرز المدني، وأراه بن هارون ابن عبد الله الهديري،(2/87)
ويحيى بن مالك وأخته فاطمة، ويحيى بن صالح الرحاضي شامي، ويحيى بن مضر أندلسي، وسعيد بن الحكم، وابن أبي مريم مصري، وسعيد بن كثير بن عفير مصري، وسعيد بن أبي هند أندلسي، وسعيد بن عبدوس أندلسي، وسليمان بن برد مصري، وعبد الأعلى بن مسهر الدمشقي، وعد الرحيم بن خالد المصري، وسويد بن سعيد الحدثاني، وإسماعيل بن أبي أويس وأخوه أبو بكر، وعلي بن زياد التونسي، وعباس بن ناصح أندلسي، وعيسى بن شجرة التونسي، وأيوب بن صالح المزني، وسكن الرملة.
عبد الرحمان بن هند طليطلي أندلسي، وعبد الرحمان بن عبيد الله أشبوني أندلسي،(2/88)
وعبد الله بن جبار الدمشقي وسعيد بن داود بن سعيد بن أبي زبير مدني.
قال القاضي رضي الله تعالى عنه فهؤلاء الذين حققنا أنهم رووا عنه الموطأ ونص على ذلك أصحاب الأثر والمتكلمون في الرجال وقد ذكروا أيضاً أن محمد بن عبد الله الأنصاري البصري أخذ الموطأ عنه كتابة وإسماعيل ابن صالح أخذه عنه مناولة وأما أبو يوسف القاضي فرواه عن رجل عنه، وذكروا أن الرشيد وبنوه الأمين والمأمون والمؤتمن أخذوا عنه الموطأ وقد ذكر عن المهدي والهادي أنهما سمعا منه ورويا عنه، وأنه كتب الموطأ للمهدي ولا مرية إن رواة الموطأ من هؤلاء من جلة أصحابه ومشاهير رواته ولكن إنما ذكرنا من بلغنا نصاً سماعه له منه وأخذه له عنه، أو من اتصل إسنادنا له فيه عنه، والذي اشتهر من نسخ الموطأ مما رويته أو وقفت عليه أو كان في روايات شيوخنا رحمهم الله أو نقل منه أصحاب اختلاف الموطئات نحو عشرين نسخة وذكر بعضهم أنها ثلاثون نسخة وبالله التوفيق.(2/89)
باب ذكر تأليفه غير الموطأ
قال القاضي الإمام رضي الله تعالى عنه اعلموا وفقكم الله تعالى أن لمالك رحمه الله تعالى أوضاعاً شريفة مروية عنه، أكثرها بأسانيد صحيحة في غير فن من العلم، لكنه لم يشتهر عنه منها ولا واظب على إسماعه وروايته غير الموطأ حذفه منه وتلخيصه له شيئاً بعد شيء وسائر تأليفه، إنما رواها عنه من كتب بها إليه أو سأله إياها أحد من أصحابه ولم تروها الكافة فمن أشهرها رسالته إلى ابن وهب في القدر والرد على القدرية وهو من خيار الكتب في هذا الباب الدالة على سعة علمه بهذا الشأن رحمه الله وقد حدثنا بها غير واحد من شيوخنا بأسانيدهم المتصلة إلى مالك رحمه الله تعالى، منهم الفقيه أبو محمد بن عتاب حدثنا بها هو وغيره عن حاتم بن محمد عن أبي محمد ابن دنير الطليطلي، عن أبي الفرج عبد الله بن عبد الله الوارث عن محمد بن أحمد ابن سعدون، عن محمد بن سحنون، عن عبد العزيز بن يحيى القرشي، عن ابن وهب(2/90)
وأخبرنا بها القاضي أبو علي الصدفي عن القاضي أبي الوليد البادي عن أبي محمد بن الوليد عن أبي محمد بن أبي زيد عن سعدون بن أحمد الخولاني عن عبد الرحمان عن ابن وهب.
وهذا سند صحيح مشهور الرجال وكلهم ثقات ومنها كتاب في النجوم وحساب مدار الزمان ومنازل القمر، وهو كتاب جيد مفيد جداً قد اعتمد الناس عليه في هذا الباب وجعلوه أصلاً وعليه اعتمد أبو محمد عبد الله بن مسرور الفقيه القروي في تأليفه في هذا الباب وصدر بفصوله وقد أدخل جميعها صاحب كتاب أقوال مالك أبو عبد الله المعيطي وأبو عمر بن المكوى في جامع كتابهما الكبير.
قال سحنون سمعته من ابن نافع وهو مما انفرد بروايته (عن مالك) عبد الله ابن نافع الصائغ.
قال سحنون سمعته من ابن نافع وهو في رواتنا عنه من طريق غير واحد من شيوخنا عن أبي القاسم الطرابلسي عن ابن دنير عن أبيه عن عبد الرحمان عن بعض أصحابه عن محمد بن ميمون عن إبراهيم بن هلال ومطرف بن قيس عن سحنون عن عبد الله بن نافع الصائغ عن مالك وعن غير واحد، عن أبي عبد الله بن عتاب عن أبي القاسم بن يحيى عن أبي جعفر تميم بن محمد عن أبيه عن عبد الجبار بن خالد وأحمد بن أبي سليمان عن سحنون قال أبو القاسم وحدثنا به أبو عبد الله محمد بن أحمد بن خالد عن إبراهيم بن هلال عن سحنون، وهذا أيضاً سند صحيح رواته كلهم ثقات(2/91)
وزمن ذلك رسالة مالك في الأقضية كتب بها إلى بعض القضاة، عشرة أجزاء أخبرنا بها الفقيه أبو إسحاق بن جعفر عن ابن سهل عن حاتم بن محمد عن ابن دنير عن أبي جعفر بن رحمون عن سعيد بن شعبان عن محمد بن يوسف بن مطروح عن عبد الله بن عبد الجليل مؤدب مالك بن أنس ومن ذلك رسالته إلى أبي غسان محمد بن مطرف في الفتوى وهي مشهورة يرويها عنه خالد بن نزار ومحمد بن مطرف وهو من كبار أهل المدينة قريناً لمالك يروي عن أبي حازم وزيد بن أسلم وروى عنه الثقات ووثقوه.
وقد نقل أبو إسحاق بن شعبان أقوال مالك في هذه الرسالة منها في كتابه ومن ذلك رسالته إلى هارون الرشيد المشهورة في الآداب والمواعظ حدث بها بالأندلس أولاً ابن حبيب عن رجاله عن مالك.
وحدث بها آخراً أبو جعفر بن عون الله والقاضي أبو عبد الله بن مفرج عن أحمد بن زيدويه الدمشقي ولم يرجع السند وحدثنا شيوخنا بذلك عن أبي عمر الطلمنكي عنهما ولم يرجع سند هذه الرسالة من هذا الطريق وأما من غيره فقد أخبرنا به القاضي الشهير أبو علي وغير واحد من شيوخنا عن أبي الحسن بن الغيور البغدادي عن أبي الحسن العبيدي عن أبي عمر بن حيوه عن أبي عمر وعبيد الله بن عثمان العثماني عن أبيه عن عبد الله ابن نافع بن مالك.(2/92)
وأخبرنا بهذا أيضاً أبو محمد بن عتاب عن أبي عبيد الله بن نبات عن ابن مفرج عن أبي جعفر محمود بن عبد الحميد الفرغاني عن عثمان ابن عبد الله بن سعيد بن المغيرة العثماني.
قال حدثنا عبد الله بن نافع الزبيري قال هذا كتاب وضعه مالك بن أنس أدباً للناس، قال أبو عبد الله بن عتاب هذا الإسناد وهم.
ولا شك في سقوط رجل محدث منه، وقد أنكرها بعض مشائخنا إسماعيل القاضي والأبهري وأبو محمد بن أبي زيد وقالوا إنها لا تصح وإن طريقها لمالك ضعيف وفيه أحاديث لا نعرفها.
قال الأبهري فيها أحاديث منكرة تخالف أصوله، قالوا وأشياء فيها لا تعرف من مذهب مالك ورأيه.
وقد أنكرها أصبغ بن الفرج أيضاً، وحلف ما هي من وضع مالك.
ومن ذلك كتابه في التفسير لغريب القرآن الذي يرويه عنه خالد بن عبد الرحمان المخزومي أخبرنا به أبو جعفر أحمد بن سعيد عن أبي عبد الله بن محمد بن الحسن المقرىء عن محمد بن علي بن العلا المصيصي عن أبيه عن أبي الحسن بن أحمد الرزاز عن أبي بكر الجعدي(2/93)
عن أبي العباس محمد بن أحمد بن هانىء عن يحيى بن عتيك القروي عن خالد بن عبد الرحمان المخزومي عن مالك وذكر الخطيب أبو بكر في تاريخه الكبير عن أبي العباس السراج النيسابوري أنه قال هذه سبعون ألف مسألة لمالك وأشار إلى كتب منضدة عنه كتبها.
قال القاضي المؤلف رضي الله تعالى عنه هي جواباته في اسمعة أصحابه الني عند العراقيين وقد نسب إلى مالك أيضاً كتاب يسمى كتاب السر من رواية ابن القاسم عنه حدثنا به بالإجازة أبو محمد بن عتاب عن أبي عمر بن الحذاء عن أبيه أبو عبد الله عن أبي القاسم الحسين بن عبد الله بن أحمد العثماني عن محمد بن عبد العزيز بن الوزير بن ضافي الحراني يعرف بالجروي عن الحارث بن مسكين عن ابن القاسم عن مالك.
وأما رسالته إلى الليث في إجماع أهل المدينة فقد رويناها أيضاً وذكرناها أول الكتاب بنصها لأنها صغيرة واحتجنا إلى ذكرها في موضعها والله ولي التوفيق بعزته.(2/94)
في أخبار مالك مع الملوك ووعظه إياهم وحسن مقامه
عند الولاة وزيارته لهم وأخذه منهم جوائزهم
قال القاضي رضي الله تعالى عنه.
سئل عيسى بن عمر المدني، أكان مالك يغشى الأمراء؟ قال لا.
إلا أن يبعثوا إليه فيأتيهم وقيل لمالك تدخل على السلاطين وهم يظلمون ويجورون؟ فقال: يرحمك الله وأين المتكلم بالحق؟ وقال مالك حق على كل مسلم أو رجل فعل الله في صدره شيئاً من العلم والفقه أن يدخل إلى ذي سلطان يأمره بالخير وينهاه عن الشر ويعظه حتى يتبين دخول العالم على غيره، لأن العالم إنما يدخل يأمره بالخير وينهاه عن الشر فإذا كان فهو الفضل الذي لا بعده فضل.
قال عتيق بن يعقوب: كان مالك إذا دخل على الوالي وعظه وحثه على مصالح المسلمين، ولقد دخل يوماً على هارون الرشيد فحثه على مصالح المسلمين قال له لقد بلغني أن عمر بن الخطاب كان في فضله وقدمه ينفخ لهم عام الرمادة النار تحت القدور يخرج الدخان من لحيته وقد رضي الناس منكم بدون هذا.(2/95)
ودخل عليه مرة وبين شطرنج منصوب وهو ينظر فيه فوقف مالك ولم يجلس وقال أحق هذا يا أمير المؤمنين؟ قال لا.
قال: فما بعد الحق إلا الضلال فرفع هارون رجله وقال لا ينصب بين يدي بعد.
وقال لبعض الولاة يوماً أتفقد أمور الرعية فإنك مسؤول عنهم فإن عمر بن الخطاب قال والذي نفسي بيده لو هلك حمل بشاطىء الفرات ضياعاً لظننت أن الله يسألني عنه يوم القيامة.
وقال الحنيني سمعت مالكاً يحلف بالله ما دخلت على أحد منهم يعني السلاطين إلا أذهب الله هيبته من قلبي، حتى أقول له الحق.
قال خلف بن عمر قلت لمالك الناس يكثرون أنك تأتي الأمراء.
فقال إن ذلك الحمل من نفسي وذلك أنه ربما استشير من لا ينبغي.
قال لي آخر لولا أني رأيتهم ما رأيت للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه المدينة سنة معمولاً بها. قال ابن وهب وابن عبد الحكم: قال مالك دخلت على أبي جعفر فرأيت غير واحد من بني هاشم يقبل يده المرتين والثلاث فرزقني الله العافية من ذلك فلم أفعل.
وروى أنه كان جالساً مع أبي جعفر فعطس أبو جعفر فشمته مالك فلما خرج أنكر عليه الحاجب ذلك وتهدده إن عاد لتشميته فلما كان بعد ذلك جلس عنده فعطس أبو جعفر فنظر مالك للحاجب(2/96)
ثم قال للمنصور أي حكم تريد يا أمير المؤمنين أحكم الله أم حكم الشيطان؟ قال لا بل حكم الله.
قال يرحمك الله.
قال يعيش بن هشام الخابوري: كنت عند مالك إذ أتاه رسول المأمون ويقال الرشيد وهو الصحيح ينهاه أن يحدث بحديث معاوية في السفرجل.
قال: ثم تلا مالك قول الله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا....
الآية.
ثم قال: والله لأخبرن بها في هذه الصرفة واندفع فقال: حدثنا نافع عن ابن عمر، قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهدي إليه سفرجل فأعطى أصحابه واحدة واحدة وأعطى معاوية ثلاث سفرجلات وقال القن بهن في الجنة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم السفرجل يذهب طحاء القلب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى لم يدرك مالك أيام المأمون توفى قبلها وذكر المأمون هنا وهم.
قال الزبيري عن مالك لما دخلت على أبي جعفر وذكر قصته معه في حمل الناس على كتبه نحو القصة التي قدمها.
قال كلمته في الناس وحضضته عليهم وجعل يسألني عن بني(2/97)
وعن ابني وعن أهلي فأخبره، فقال لي أترى أني أعرف منزلك ولا أعرف أمر الناس؟ ثم قال لي إن رابك ريب في عامل المدينة أو سوء سيرة في الرعية فاكتب إلي بذلك أنزل بهم ما يستحقون، وقد كتبت إلى عمالي بهذا أن يسمعوا منك ويطيعوا في كل ما تعهد إليهم فانههم عن المنكر وأمرهم بالمعروف تؤجر على ذلك وأنت حقيق أن تطاع ويسمع منك ثم خرجت فتبعتني صلة ذكر أنها كانت خمسة آلاف وكسوة حسنة ولابنه محمد ألف.
قال فلما لحقه الخصي جعلها على منكبه وكذلك كانوا يفعلون يخرج بها على الناس فانحنى مالك عنها كراهية لذلك فناداه أبو جعفر بلغها إلى رجل أبي عبد الله.
ولما قدم المهدي إلى المدينة جاءه الناس مسلمين عليه فلما أخذوا مجالسهم استأذن مالك فقال الناس اليوم يجلس مالك آخر الناس فلما دنى ونظر إلى ازدحام الناس، قال يا أمير المؤمنين أين يجلس شيخك مالك؟ فناداه عندي يا أبا عبد الله.
فتخطى الناس حتى وصل إليه، فرفع المهدي ركبته اليمنى وأجلسه حتى أتى المهدي بالطست والإبريق فغسل يده ثم قال للغلام قدمه إلى أبي عبد الله فقال له مالك: يا أمير المؤمنين ليس(2/98)
من الأمر المعمول به ارفع يا غلام فأكل معه غير متوضئ فذكر قصته معه في الموطأ وروى أن مالكاً دخل على عبد الملك بن صالح أمير المدينة فجلس ساعة ثم دعا بالطعام والوضوء فقال ابتدئ أولاً بأبي عبد الله.
فقال له مالك إن أبا عبد الله يعني نفسه لا يغسل يده.
فقال لم؟ قال ليس هذا هو الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا إنما هو من زي الأعاجم وقد نهى عمر عن أمر الأعاجم وكان عمر إذا أكل مسح يده بباطن قدمه.
فقال له عبد الملك أأترك يا أبا عبد الله؟ فقال أي والله.
فما عاد إلى ذلك عبد الملك بن صالح.
قال مالك ولا آمر الرجل أن لا يغسل يده ولكنه إذا جعل ذلك كأنه واجب عليه فلا.
أميتوا سنة الأعاجم وأحيوا سنن العرب.
أما سمعت قول عمر تمعددوا واخشوشنوا وامشوا حفاة وإياكم وذي العجم.
قال حسين بن عروة ولما قدم المهدي المدينة بعث إلى مالك بألفي دينار أو بثلاثة آلاف دينار مع الربيع فلما خرج من عنده قال يا جارية لا تمسي هذا المال فإني (قد) تفرست حين نظرت وجه الربيع ورأيت فيه أمراً منكراً، ولهذا المال سبب فلما حج المهدي وقدم المدينة أتاه الربيع بعد ذلك فقال له أمير المؤمنين يقرؤك السلام ويجب أن تعادله إلى مدينة السلام.(2/99)
فقال مالك اقرىء أمير المؤمنين السلام وقل له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون.
والمال عندي على حاله أخرجيه يا جارية.
أخرجيه.
فأبى الربيع أن يقبله فلم يزل به مالك حتى أخذه فأتى الربيع المهدي فغمه رد المال فلما كان وقت رحلته شيعه الناس فوصلهم ووجه إلى مالك فودعه ولم يأمر له بشيء فلما أتى منزله وجه له ستة آلاف دينار.
فالتفت إلى من كان حاضراً وقال من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً مما ترك.
وقال لمالك بعض ولاة المدينة: لم لا تخضب كما يخضب أصحابك؟ فقال مالك لم يبق عليها من العدل إلا أن أخضب؟ وأثني على والي المدينة بحضرته عند مالك فغضب مالك.
ثم التفت إليه وقال إياك أن يغرك هؤلاء بثنائهم عليك، فإن من أثنى عليك وقال فيك من الخير ما ليس فيك أوشك أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك فاتق الله في التزكية منك لنفسك وترضى بها من يقولها لك في وجهك فإنك أنت أعرف بنفسك منهم.
فإنه بلغني أن رجلاً امتدح رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم قطعتم ظهره أو عنقه لو سمعها ما أفلح.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم احثوا التراب في وجوه المداحين(2/100)
وناظر أبو جعفر المنصور مالكاً في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فرفع أبو جعفر صوته، فقال له مالك يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد إن الله تعالى أدب قوماً فقال: لا ترفعوا أصواتكم في هذا المسجد إن الله تعالى أدب قوماً فقال: لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم....
الآية ومدح قوماً فقال إن الذين يغضون أصواتهم....
الآية.
وذم قوماً فقال: إن الذين يناودنك....
الآية وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً.
فاستكان أبو جعفر وقال له أبو جعفر أدعو مستقبلاً القبلة أم مستقبلاً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله تعالى يوم القيامة بل استقبله واستشفع به إلى ربك يشفعك قال الله تعالى: ولو أنهم إذا ظلموا أنفسهم جاؤوك....
الآية.
قال أسامة بن زيد: لما قد أبو جعفر دخلنا مسلمين عليه وأخذنا مجالسنا فبينما نحن كذلك إذ دخل مالك فقال له أبو جعفر إلى ها هنا يا أبا عبد الله.
ولو تركتم قول علي وابن عباس، وأخذتم بقول ابن عمر، قال لأنه آخر من مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال المنصور والله يا أبا عبد الله ما بقي على الأرض أعلم مني ومنك.
خذ بقول ابن عمر ودعني مما سواه.(2/101)
قال مصعب لما قدم المهدي المدينة استقبله مالك وغيره من أشرافها على أميال، فلما أبصر بمالك انحرف المهدي إليه فعانقه وسلم عليه وسايره.
فالتفت مالك إلى المهدي فقال: يا أمير المؤمنين إنك تدخل الآن بالمدينة فتمر بقوم عن يمينك ويسارك وهم أولاد المهاجرين والأنصار فسلم عليهم فإن ما على وجه الأرض قوم خير من أهل المدينة ولا خير من المدينة.
فقال له ومن أين قلت ذلك يا أبا عبد الله؟ قال لأنه لا يعرف قبر نبي اليوم على وجه الأرض غير قبر محمد صلى الله عليه وسلم، ومن قبر محمد عندهم فينبغي أن يعلم فضلهم على غيرهم.
ففعل المهدي ما أمره به مالك.
فلما دخل المدينة ونزل وجه بغلة إلى مالك ليركبها ويأتيه فرد البغلة وقال إني لأستحي من الله أن أركب في مدينة، فيها جثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ماشياً.
وكانت به علة فاتكأ على المغيرة المخزومي وعلى ابن حسن العلوي وعلى ابن أبي علي اللهلي وهؤلاء علماء المدينة وأشرافها.
فلا بصر به المهدي قال يا سبحان الله ترك ركوب البغلة إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقيض الله تعالى له هؤلاء فاتكأ عليهم، والله لو دعوتهم أنا إلى هذا ما أجابوني.
فقال المغيرة يا أمير المؤمنين نحن قد افتخرنا على أهل المدينة لما اتكأ علينا.
واستسقى مالك عند المهدي فأتي بقدح زجاج في أذنه حلقة فضة فأبى أن يشرب فأتي بكوز فخار فشرب فأمر المهدي بالحلقة فقلعت.(2/102)
قال معن دخل إبراهيم بن يحيى العباسي أمير المدينة يوماً على مالك ومالك حدث عهد بعلة فثبت مالك في مجلسه لم يقم له ولم يوسع، فجلس إبراهيم على أقل فراش مالك، ومالك لا يتزحزح فحادثة ساعة ثم قال له: ما تقول يا أبا عبد الله في محرم قتل قملة؟ قال لا يقتلها.
قال فإنه قتلها فما فديتها؟ قال مالك لا يفعل.
قال فعل.
قال لا يفعل.
قال أقول لك قد فعل فتقول لي لا يفعل.
قال نعم.
فقام إبراهيم مغضباً وسكت مالك ساعة ثم قال: إما يريدون أن يعبثوا بالدين، إنما الفدية على من قتلها غير غير عامد لقتلها.
وهذا يريد أن لا يبقى في عسكره قملة على أحد من حشمه.
قال معن وسأله إبراهيم هذا مالكاً لأن يكتب له كتاباً فكتب له، ثم دخل عليه مالك يوماً فقال له إبراهيم أحب أن تكتب لي كتاباً مكان ذلك الكتاب فقد ضاع.
فقال مالك لم يضع أصلحك الله قال بلى، وحقك لقد ضاع، فعجل لي تاباً مثله.
قال ما أنا يفاعل.(2/103)
قال له لم؟ قال لأنه لا يضيع كتاب مثلك.
مر به يطلب تجده إن شاء الله.
ثم عاد إليه بعد فقال علمت يا أبا عبد الله أنا طلبنا الكتاب فوجدناه.
فقال الحمد لله أصبت حين طلبته.
قال عتيق بن يعقوب خرجنا مع مالك إلى المصلى يوم عيد ومالك يمشي، وخرج عبد الملك بن صالح أمير المدينة في سلاح وتعبيه ورايات وأعلام فنظر إليهم مالك فقال إنا لله وإنا إليه راجعون ما هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون.
فبلغ ذلك عبد الملك فأتاه في المصلى.
فقال يا أبا عبد الله ما الذي أنكرت؟ قال ما رأيت معك.
إنما أتى الناس الصلاة خاشعين يرجون المغفرة ولقد أخبرني يحيى بن سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح مكة في عشرة آلاف أو اثني عشر الآفاً وكان راكباً وحط راحلته وتحته قطيفة قيمتها أربعة دراهم منكس الرأس وهو يقول الملك لله الواحد القهار.
وكان يأتي المصلى للعيدين والاستسقاء متوكئاً على عصا أو قوس منكساً رأسه خاشعاً.
قال عتيق بن يعقوب دخل مالك يوماً على عبد الملك بن صالح وقد غضب على بعض أهل المدينة حتى بلغ ذلك منه.
فقال له مالك قال كعب لعمر في التوارة مكتوب ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء.
فقال عمر: لا من حاسب نفسه.
فقال كعب ما بينهما حرف إلا من حاسب نفسه.(2/104)
ووعظ المنصور في افتقاد أحوال الرعية فقال أليس إذا بكت ابنتك من الجوع جعلت الخادم تحت الرحى لئلا يسمعها الجيران؟ فقال مالك والله ما علم بهذا إلا الله.
فقال له فعلمت هذا ولا أعلم حال الرعية؟ قال بعضهم لما قدم الرشيد المدينة وقال آخر: بعض الخلفاء أراد أن ينقض النبي صلى الله عليه وسلم فقال لمالك ما ترى؟ فقال ما أرى.
فغضب وقال: لقد زاد فيه معاوية.
فقال مالك إن المنبر إذ ذاك كان صلباً فلست آمن إن نقضته أن تذهب البركة منه.
وفي رواية أن يتهافت فيتشاءم الناس منك، ويقولون زال على يده أثر من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال أحسن الله جزاءك.
فترك ما كان نواه.
قال وشاور المهدي مالكاً في ثلاثة أشياء في الكعبة أن ينقضها ويردها على ما كانت عليه فأشار عليه أن لا يفعل، وفي النبر أن ينفضه ويرده على ما كان عليه وذلك حين أراد أن يرد المنابر كلها صغاراً على منبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له مالك إنما هو من طرفاء وقد سمر إلى هذه العيدان يعني التي زادها معاوية، وأخشى إن نقضته أن يخرب وينكسر ولولا ذلك لرأيت أن ترده إلى حالته الأولى، وشاوره في نافع بن أبي نعيم القارىء أن يقدمه(2/105)
للصلاة فأشار عليه أن لا يفعل.
وقال: هو إمام الآف أن يكون منه شيء من الغفلة فيحكى عنه.
قال ابن عبد الحكم: استأذن المهدي على مالك فحبسه ساعة ثم أذن له، فلما دخل قال يا أمير المؤمنين إن العيال سمعوا بمجيئك فأحبوا أن يصلحوا من منزلهم.
قال سعيد بن أبي زنبر: كتب مالك رحمه الله إلى بعض الخلفاء كتاباً يعظه فيه: أما بعد فإني كتبت إليك كتاباً لم آل فيه رشداً ولم أدخر فيه نصحاً.
تحميد الله وأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتدبر ذلك بعقلك ورد فيه بصرك وأوعه سمعك واعقله بعقلك واحضره فهمك ولا تغيبن عنه ذهنك، فإن فيه الفضل في الدنيا وحسن ثواب الله تعالى في الآخرة.
ذكر نفسك غمرات الموت وما هو نازل بك منه وما أنت موقوف عليه بعد الموت من العرض على الله تعالى ثم الحساب ثم الخلود بعد الحساب إما إلى الجنة وإما إلى النار وأعد له ما تسهل به عليك أهوال تلك المشاهد وكربها، فإنك لو رأيت أهل سخط الله وما صاروا إليه من أنواع العذاب وشدة نقمة الله وسمعت زفيرهم في النار وتنهيقهم مع كلوح وجوههم وطول غمتهم وتقلبهم في إدراكها على وجوههم لا يسمعون ولا يبصرون يدعون بالثبور وأعظم من ذلك حسرة إعراض الله تعالى بوجهه وانقطاع رجائهم من روحه وإجابته إياهم بعد طول الغم أن اخسئوا فيها ولا تكلموني لم يتعاظمك شيء من الدنيا أردت به النجاة من ذلك ولا آمنك من هوله ولو قدمت في طلب النجاة جميع ما لأهل الدنيا كان ذلك صغيراً، ولو(2/106)
رأيت أهل طاعة الله وما صاروا إليه من كرامة الله ومنزلتهم مع قربهم من الله تعالى ونضرة وجوههم ونور ألوانهم وسرورهم بالنظر إليه والمكانة منه، والجاه عنده مع قربه منهم لتقلل في عينك عظيم ما طلبت به الدنيا فاحذر على نفسك حذراً غير تقرير وبادر إلى نفسك قبل أن تسبق إليها وما تخاف الحسرة فيه عند نزول الموت وخاصم نفسك لله تعالى على مهل وأنت تقدر بإذن الله تعالى على جر المنفعة، وصرف الحجة عنها قبل أن يوليك الله حسابها ثم لا تقدر على صرف المكروه عنها ولا جر المنفعة، وصرف الحجة عنها قبل أن يوليك الله حسابها ثم لا تقدر على صرف المكروه عنها ولا جر المنفعة إليها.
اجعل الله من نفسك نصيبها بالليل والنهار، إن عمرك ينقص مع ساعات الليل.
وأنت قائم على الأرض وهو يساربك، فكلما مضت ساعة من أجلك، والحفظة لا يغفلون عن الدق والجل من عملك حتى تملأ صحيفتك التي كتب الله عليك فعليك بخلاص نفسك إن كنت لها محباً، فاحذر وما قد حذرك الله منه تعالى فإنه يقول: ويحذركم الله نفسه، ولا تحقر الذنب الصغير مع ما علمت من قول الله تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره.
وقال: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد.
وحافظ على فرائض الله واجتنب سخط الله واحذر دعوة المظلوم واتق يوماً ترجع فيه إلى الله والسلام.
وقال ابن نافع الصائغ كتب مالك إلى بعض الخلفاء كتاباً فيه: اعلم أن الله تعالى قد خصك من موعظتي إياك بما نصحتك به قديماً وأتيت لك فيه ما أرجو أن يكون الله تعالى جعله لك سعادة وأمراً جعل به سبيلك إلى الجنة فلتكن رحمنا الله وإياك فيما كتبت إليك مع القيام بأمر الله وما استدعاك الله في رعيته فإنك المسؤول عنهم صغيرهم وكبيرهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، وروي في بعض الحديث أنه يؤتى بالوالي ويده مغلولة إلى عنقه فلا يفك عنه إلا العدل، وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول والله إن هلكت سخلة بشط الفرات ضياعاً لكنت أرى الله تعالى سائلاً عنها عمر.
وحج عشرة سنين وبلغني أنه كان ما ينفق في حجة إلا اثني عشر ديناراً.
وكان ينزل في ظل الشجرة ويحمل على عنقه الدرة ويدور في الأسواق يسأل عن أحوال من حضره وغاب عنه.
وبلغني أنه وقت أصيب حضر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأثنوا عليه، فقال المغرور من غررتموه، لو أن ما على وجه الأرض ذهبا لا افتديت به من أهوال المطلع.
فعمر رحمه الله تعالى كان مسدداً موفقاً مع ما قد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، ثم مع هذا خائف لما تقلد من أمور المسلمين فكيف من قد علمت.
فعليك بما يقربك إلى الله وينجيك منه غداً، أو احذر يوماً لا ينجيك فيه إلا عملك.
ويكون لك أسوة بما قد مضى من سلفك وعليك بتقوى الله فقدمه حيث هممت وتطلع فيما كتبت به(2/107)
إليك في أوقاتك كلها وخذ بنفسك فتعاهدها والأخذ به والتأديب عليه وأسأل الله تعالى التوفيق والرشاد إن شاء الله تعالى.
قال عبد الله بن مسلم الخياط لما قدم الرشيد لبست ثياباً وغدوت على مالك وقلت يتوكأ علي فأصيب بسببه من أمير المؤمنين مالاً.
فغدا مالك متوكئاً علي يرافقه يحيى.
فأجاز مالكاً بأربعة آلاف دينار وأجاز ابنه بخمسمائة دينار وجاءته من الرشيد صلة،(2/108)
وقال له رجل خراساني ما تقول يا أبا عبد الله في رجل يقوم عليه ديناً أعطى بعضاً وترك بعضاً أله أن يأخذ منه؟ فقال مالك إذا كان الرجل يغني عن المسلمين ما لا يغنيه المسلمون عن نفسه أخذ منه، ولقد كنت أنظر البارحة في قصة المحبين إلى أن طلع الفجر.
وقال الحارث عن ابن القاسم كان مالك يقول أما الخلفاء فلا شك يعني أنه لا بأس به، وأما من دونه فإن فيه شيئاً.
وقال ابن أبي زنبر أجازه هارون بثلاثة آلاف فقال له رجل من الزهاد يا أبا عبد الله ثلاثة آلاف تأخذها من أمير المؤمنين كأنه يستكثرها.
فقال مالك: إذا كان مقدار ما لو كان إمام عدل.
فأنصف أهل المروءة أصابه شبيه لذلك لم أر به بأساً وإنما أكره الكثير الذي لا شبيه أن يستحقه صاحبه.
وسأله غير واحد عن جائزة السلطان فقال لا تأخذها فقال أنت تقبلها فقال أتريد أن تبوء بإثمي وإثمك.
وقال لآخر أجئت تبكتني بذنوبي.
وقال محمد بن سلمة دخل مالك على المهدي فقال له أوصني.
فقال أوصيك بتقوى الله وحده والعطف على أهل بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيرانه فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله(2/109)
عليه وسلم قال المدينة مهاجري وبها قبري وبها بعثتي وأهلها وجيراني وحقيق على أمتي حفظي في جيراني فمن أحفظهم كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة ومن لم يحفظ وصيتي في جيراني سقاه الله من طينة الخبال.
فأخرج المهدي عطاءاً كثيراً وطاف بنفسه على دور المدينة فلما أراد الخروج دخل عليه مالك فقال له يا مالك أما أني محتفظ بوصيتك التي حدثتني بها ولئن سلمت لا غفلت عنهم.
وقال أبو مصعب قال لي مالك دخلت على المهدي فذكر له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب وهي المدينة تنقي الناس كما ينقي الكير خبث الحديد.
فأخذ المهدي زئيرة من فراشه وقال والله لا واسيتهم ولو بهذه.
قال مالك ثم دخلت على هارون فسألني عن أهل المدينة فحدثته بأحاديث المهدي فقال لي: ما قال المهدي؟ فأعلمته بما كان فقال أنا ابن أبي هارون الزهري سمعت مالكاً يقول: لما قدم هارون كنت ممن لقيته فقلت يا أمير المؤمنين إن لأهل المدينة حقاً فاستوص بهم خيراً.
فقال وما حقهم؟ فقلت هل تعلم أنه يعرف على وجه الأرض قبر نبي غير نبيك محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال لا.
قلت فلو أن أهل المدينة(2/110)
خرجوا عنها وجب عليك أن تجيء بمن يسكنها ويجاوز قبره، وتجري عليه الرزق؟ فقال لي لو لم أملك من الدنيا إلا ردائي هذا لواسيتهم به.
قال مصعب وابن زنبر استفتى والي المدينة مالكاً في مسألة فأبى أن يجيبه وقال كيف أجيبك وقد وليت على المسلمين خيثم بن عراك؟ فعزله وأفتاه.
قال يحيى بن بكير جئت الرشيد في يمين فجمع العلماء فأجمعوا أن عليه عتق رقبة، وسأل مالكاً فقال صيام ثلاثة أيام.
فقال لم أنا معدم؟ وقال عبد الرزاق دخل مالك على لأبي جعفر، فقال من بالباب من أصحاب نافع؟ فقال مالك وعبيد الله بن عمر وابن أبي ذئب.
قال أو ليس يزن بذلك الرأي؟ يعني القدر.
قال يا أمير المؤمنين الحمد لله الذي أسمعناها منك إن كنا لنزنك بها.
قال المفضل بن محمد بن حرب دخل مالك والقاضي ابن عمران في أشراف المدينة على المنصور فكان كل من أراد الانصراف ألقى أبو جعفر كمه فقبله فقال بعضهم لأقتدين اليوم بهذا الشيخ يعني(2/111)
مالكاً فإن قبل الكم قبلت وإن لم يفعل لم أفعل.
فقام مالك وانصرف ولم يقل وأردت ذلك فلم تقلني ركبتاي حتى قبلت.
قال معن أفتى مالك عند والي المدينة بقتل رجل فأمر الوالي بضرب وسطه.
فتهيأ مالك للقيام وقال لا أقعد بمكان يمثل فيه بأحد.
قال الله تعالى (فضرب الرقاب) قال الوالي اقعد أبا عبد الله لا تضرب وسطه أضربوا عنقه.(2/112)
باب من أخبار مالك مع العلماء
رحمه الله تعالى مع العلماء ومناظرته معهم
قال القاضي رضي الله تعالى عنه: قال عبد العزيز بن يحيى لما قدم أمير المؤمنين المدينة ومعه أبو يوسف والبرمكي وكان قاضياً، لمالك (كذا) يحب خطه ووقعه.
فقال يحيى: يا أمير المؤمنين إن مالكاً حمل الناس على رأيه ورأى الاستخفاف برأي أهل العراق، فلو جمعت بينه وبين أبي يوسف فإن كان الحق بيده، عرفت ذلك وإن كان الحق بيد غيره عرفت ذلك.
فوجه أمير المؤمنين إليه يقرؤه السلام ويأمره بالمشي إليه.
فكتب إليه مالك إن كان أمير المؤمنين أراد أن يسألني عما أشكل عليه فأرى أن يكتب إلي بذلك ليأتيه فيه الجواب فإني ضعيف البدن لا تحملني رجلاي.
فقال له يحيى يسمع الناس أنك وجهت إلى مالك فلم يأتك فاكتب إليه بعزيمة.
ففعل.
فجاء مالك فدخل عليه متوكئاً على ثلاثة نفر من أصحابه، المغيرة المخزومي وعبد الرحمان بن عبد الله العمري وسعيد بن سليمان المساحقي العامري.(2/113)
فلما جلسوا وكان هؤلاء الثلاثة يومئذ أشراف المدينة والمنظور إليهم فجاء أبو يوسف حتى جلس مستقبل مالك.
فقال يا أمير المؤمنين أتأذن لي في مناظرة أبي عبد الله؟ فقال: ناظره.
فقال أبو يوسف: إن أبا عبد الله يقول لو أن رجلاً أخذ لوزة فحلف بالطلاق أن فيها توأماً ثم كسرها كسراً عنيفاً فلم يعرف ما فيها لكان حانثاً.
فقال المساحقي أتأذن لي يا أمير المؤمنين في الكلام(2/114)
فلصقت بمالك فقلت له(2/118)
إن هذا يعنتك فلا تجبه وأمير المؤمنين لا يكره ذلك، فلما انصرفنا عاد ابو يوسف فلم يجبه مالك وقال إنما حسبته مسترشداً وأظنه إنما يسأل معنتاً فلا أجيبه.
قال بعضهم سأل أبو يوسف الرشيد أن يأمر مالكاً يناظره فقال ناظره يا أبا الله.
فقال مالك إن العلم ليس كالتحرش بين البهائم والديكة.
فلم يعف هارون عنه وجعل يقول ناظره.
ومالك ساكت.
فقال عبد الملك بن الماجشون إن شيخنا يا أمير المؤمنين قد جل عن المناظرة والكلام ونحن تلاميذه نقوم مقامه فنحن نناظره ونتكلم عنه فإن رأى خطأ لم يسكت عليه.
فقال هارون: ذاك.
فلما تناظرا ذكر أبو يوسف صداق المرأة وقال لها إن تصنع به ما شاءت (إن شاءت) رمت به وجاءته في قميص وإن شاءت جعلته في خيط الدوامة.
فقال مالك لو أن أمير المؤمنين خطب إمرأة من أهله وأصدقها مائة ألف درهم فجاءته في قميص لم يحكم لها بذلك.
ولكن يأمرها أن تتجهز وتتهيأ له بما يشبهه مما يتجهز به النساء فقال هارون أصبت قال وأخذ الحديث إلى أن قال أبو يوسف أجرى النبي صلى الله عليه وسلم(2/119)
الخيل في الغابة؟ فقال لا يا أمير المؤمنين إنما هي الغابة.
وهي وراءك.
قال أبو محمد الزهري وقال أبو يوسف لمالك ما تقول في رجل بعث مع رجل ديناراً وبعث معه آخر بدينارين فخلطهما، ثم سقط له منها دينار.
فقل مالك: أما واحد فلصاحب الاثنين لا شك فيه وواحد فيه شك فيتشاطرانه.
قال عبد الملك ابن الماجشون سأل رجل من أهل العراق مالكاً عن صدقة الحبس.
فقال إذا حيزت مضت.
فقال العراقي: إن شريحاً قال: لا حبس عن كتاب الله.
فضحك مالك وكان قليل الضحك ثم قال: رحم الله شريحاً، لم يدر.
ما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا.
وقال سعيد بن داود بن أبي زنبر: دخل هارون المدينة ومعه أبو يوسف فأتى إليه مالك، فسلم عليه وأبو يوسف عن يسار الرشيد وأبناؤه الأمين والمأمون تجاهه، فلما دخل مالك غمز ابنيه فقال(2/120)
قوما بين يدي عمكما، حتى يخرج.
يعني مالكاً.
قال أبو يوسف: فدخل وكان على مالك ثياب عتيقة سود، فو الله ما رأيت قط أحسن منه فيها.
فتزحزح هارون له حتى أجلسه معه على المنصة فكأن أبا يوسف حسده فقال له ما تقول يا أبا عبد الله في محرم كسر ثنيه ظبي؟ فقال مالك عليه الفدية.
فضحك أبو يوسف وقال: وهل للظبي ثنايا؟ فرفع مالك رأسه إلى هارون وقال له يا سبحان الله ما علمت أن أحداً يذكر العلم فيضحك.
فلا وقر العلم ولا مجلس أمير المؤمنين وإنما أجبته إن كان الظبي في حالة يكون له سن في موضع الثنايا، ففعله محرم فعليه الفدية وإلا فقد علمته ما علم، وليس هذا ينبغي لناس أن يعلموه ولا هو واجب عليهم.
ولكن ما تقول في إمام عرفة إذا وافق يوم عرفة يوم الجمعة.
هل عليه أن يجهر بالقراءة فإن هذا واجب على المسلمين أن يعملوه.
فقال أبو يوسف يجهر بها.
فقال مالك أخطأت والله ما يذهب هذا على صبيان مكة وسودانهم دون غيرهم، الجمعة إذا وافقت عرفة لا يجهر فيها يتوارثها الأبناء عن الآباء من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا.
ثم التفت إلى هارون وقال يا أمير المؤمنين سفيه سأل عن مسائل لسفهاء، توليه على أمور المسلمين، وقام فلما كان وقت الرواح عاد إليه وهو متكىء على المغيرة والمساحقي فسلم عليه فالتفت أبو يوسف إلى هارون فقال يا أمير المؤمنين أبو عبد الله لا يحدث عن إباء أمير المؤمنين العباس وعبد الله وعلي، وإنما يحدث عن معاوية ومروان وابنه، قد جعل أحاديثهم سنناً.(2/121)
قال، ومالك ساكت.
فقال المغيرة يأذن لي أمير المؤمنين في الكلام؟ قال تكلم.
قال تكلم.
قال إن عبد الله يحدث عن غباء أمير المؤمنين العباس وابنه وعن بني أعمامه علي وأولاده وعن أعطاف أمير المؤمنين معاوية ومروان وابنه ولا يحدث عن فلان الفلاني ولا يحدث عن فلان القتات ولا فلان صاحب الشعر وهؤلاء معروفون لا شك فيهم.
يعني الذي روى مالك عنهم.
فنكس أبو يوسف رأسه وسكت.
فقام مالك، فقال يا أمير المؤمنين قد حضرتني العلة التي ذكرتها لتسعفني.
وأما أبو يوسف فرجل بطال ومن علم أن الزمان يفنى والموت يأتي يكون عمله بخلاف عمل يعقوب.
قال سعيد بن أبي مريم ومصعب بن عيد الله: قدم هارون المدينة ومعه أبو يوسف فدخل عليه مالك فرفعه فوق أبي يوسف.
وقال مصعب: فقال مالك أين يجلس الشيخ فقال هارون حيث شاء فجلس فوق أبي يوسف.
فقال له: يا يعقوب ناظر أبا عبد الله.
فقال أبو يوسف ما تقول في رجل قال لإمرأته أنت طالق ملء سكرجة(2/122)
فأطرق مالك ساعة ثم رفع رأسه، فقال له هارون: أجبه يا أبا عبد الله.
فقال مالك: نظرت مسألة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقول الصحابة والتابعين فلم أجد أصل مسألته فيها، ولا خير في علم لا يكون فيما ذكرته.
فالتفت هارون إلى أبي يوسف وقال له يا يعقوب إن أبا عبد الله اجتث مسائلك من اصلها.
قال مصعب، فقال: يا أمير المؤمنين ليس عنده في ذلك شيء.
ولو كان لأجاب، وضحك.
فالتفت إليه مالك وقال: ساء ما أدبك أهلك أتضحك في مجلس أمير المؤمنين؟ فخجل أبو يوسف ثم سأل أمير المؤمنين مالكاً عن مسائل فأجابه فيها فسر بذلك.
وكان في المجلس رجل يقال له سندل فقال إن أبا عبد الله مرة يخطىء ومرة لا يصيب.
فقال مالك كذا الناس.
فلما فكر في قوله غضب غضباً شديداً ثم قال يا أمير المؤمنين.
قال الله: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله....
الآية.
وما ظننت أن أحداً من المسلمين يذكر الله ورسوله فلا يمرض قلبه خوفاً لهما.
قال الله وما كان لمؤمن ولا مؤمنة....
الآية.
فلا عرفتم حق عظمة الله ولا عرفتم قدر رسوله ولا عرفتم حق مجلس أمير المؤمنين(2/123)
ثم قام مغضباً.
يقول: بليتم وبلي بكم أهل الإسلام وخرج.
فصعب ذلك على هارون وقال لأبي يوسف قم والحق الشيخ وارضه وخرج فوجد مالكاً قد جلس في حانوت صديق له سراج يستريح فيه ابو يوسف على فرس فحل بين يديه، وقال كيف تراني يا أبا عبد الله فنظر إليه وقال مثل قيصر في قومه.
فخجل ومضى.
قال أبو مصعب قال أبو يوسف تؤذنون بالترجيع وليس عندكم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه حديث.
فالتفت مالك إليه وقال يا سبحان الله ما رأيت أمراً أعجب من هذا ينادى على رؤوس الإشهاد في كل يوم خمس مرات يتوارثه الأبناء عن الآباء من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا، أيحتاج فيه إلى فلان عن فلان.
هذا أصح عندنا من الحديث.
وسأله عن الصاع فقال خمسة أرطال وثلث فقال ومن أين قلتم ذلك؟ فقال مالك لبعض أصحابه: أحضروا ما عندكم من الصاع فأتى أهل المدينة أو عامتهم، من المهاجرين والأنصار وتحت كل واحد منهم صاع.
فقال: هذا صاع ورثته عن أبي جدي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(2/124)
فقال مالك هذا الخبر الشائع عندنا أثبت من الحديث.
فرجع أبو يوسف إلى قوله.
قال معن: دخل مالك على هارون وعنده أبو يوسف فلم يزل هارون يدنيه حتى أخذ بيده وأجلسه إلى جنبه، وجعل يسأله يا أبا عبد الله يا أبا عبد الله.
فقال له أبو يوسف كيف أنت يا أبا عبد الله؟ فأعرض عنه فقال هارون هذا قاضينا.
فأعرض عنه.
وسأله أبو يوسف عن مسألة فلم يجبه.
فقال له هارون أجبه.
فقال مالك وهو معرض عنه إذا رأيتنا جلسنا إلى أهل الباطل فتعالى أجيبك.
قال ابن حنبل: سأل أبو يوسف مالكاً عن مسألة عند هارون، فقال أبو يوسف لهارون قل له يجبني.
فقال ساء ما أدبك أهلك.
ودخل محمد بن عجلان على مالك وكانت فيه حدة.
فقال له وهو قائم: أرأيت الذي يفتي الناس فيه أن محرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة؟ فقال له مالك: إن جلست فاستمعت كلمتك.
فجلس.
فقال له مالك: أرأيت إن كان ماقلت أن محرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيداء، أليس يأتي على ذلك ويدخل فيه ما أقول؟ قال بلى.(2/125)
فقلت أفرأيت ما أقول إن محرمه صلى الله عليه وسلم من المسجد أليس يخرج من ذلك من عمل بما تقول، وقد اختلف في ذلك؟ فالحيطة في مسجد ذي الحليفة والحديث فيه أقوى، وقد قال ابن عمر بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر الرواية عنه وكان معه في صحبته يدون أفعاله ليفعلها ويستقريها حتى إن كان ليخرج إلأى الحج والعمرة فيتحرى في بعض المواضع التي عرف مواطىء أخفاف راحلة النبي صلى الله عليه وسلم، وعاش بعده ثلاثاً وستين سنة، ويرى ما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلم يزل يكلمه حتى تبين لابن عجلان قوله.
فقام إلى رأس مالك فقبله.
قال حامد بن يحيى وغيره وبعضهم يزيد على بعض: فأتيناه بالخبر كاملاً بزيادته.
اجتمع عند أمير مكة مالك بن أنس وعمر بن قيس المعروف بسندل أخو حميد بن قيس فقيل لعمر: هذا رجل من ذي أصبح.
قال وأنا رجل من ذي أمسى.
وأقبل على مالك، فقال له: ما تقول فيمن كسر ثنية ظبي؟ فقال عليه ما نقصته.(2/126)
فقال عمر: الأحيان يخطىء والأحيان لا يصيب.
فقال مالك هكذا الناس.
ثم فطن فقال عمر: لا لكن هذا أنت فقام مالك على الأمير وقال ما ظننت أن ألأمير يحضر مجلسه اللعابين.
ثم قال من هذا قيل عمر بن قيس أخو حميد.
فقال لو علمت أن لحميد أخاً مثل هذا ما رويت عنه.
قال أبو داود السجستاني: أسقطه عمر بن قيس بهذا المجلس.
وقال غيره: حج مالك فجلس عند الميزاب في ظل الكعبة وكثر الناس عليه يستفتونه، فإذا جاء يسأله عن الحج فقال أفرد أفرد هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه عمر بن قيس فوقف عليه وقال: يا مالك أنت هالك.
جلست في حرم الله تضل حجاج بيت الله تقول أفردوا أفردوا أفردك الله.
فقام إليه الناس فقال مالك دعوا المسكين فهو في شر من هذا إنه يشرب الخندريس وفي رواية يستحل شرب الخندريس يعني المسكر من النبيذ.
زاد بعضهم إنه باع مصحفاً فاشترى كلباً، فولى عمر وقد اسود وجهه، فوضعه الله إلى يوم القيامة.
وقال أبو مصعب أرسل الوالي إلى مالك بغلام شاب شهد عليه بالسرقة وقد كان أفتى المغيرة بحبسه قال وابن أبي حازم بقطعه، ومدت يده للقطع ثم قال الوالي: اذهبوا إلى مالك فأدخل عليه(2/127)
وقرأت عليه قصة طويلة وشهادات قوية، ثم مر به شاهد شهد أنه نظر إليه يوم سرق فوجده قد أنبت فقال انظروا مع الشاهد غيره.
فلم يوجد فقال أرى شاهداً واحداً على الانبات ولم ينظر فيه حتى شك لا قطع عليه.
فقال له الرسول بكم ترى يضرب قال خمسة وسبعين شوطاً ولو احتمل لزدت.
وقدم أبو عبد الرحمان السروجي فأتى مالكاً فجلس بين يديه وعلى مالك رداء عدني اشتراه بخمسمائة درهم فسأله عن رجل مات ولم يحج حجة الإسلام ولا أوصى بها أيحج عنه؟ فقال مالك لا.
فقال له أبو عبد الرحمان ما هكذا يقول علماؤنا.
قال وما يقول علماؤكم؟ فقال حدثنا هشام وذكر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يلبي عن شبرمة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسك لا عن شبرمة.
فقال مالك علماؤنا أعلم من علمائكم تحدثني عن البقالين قال الله تعالى (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) ثم قال أقيموه فأقاموني فبودي لو سكت حتى اسمع منه.
قال الحارث بن مسكين كان ابن هرمز قد أوصى مالكاً وعبد العزيز فقال إذا أدخلتما على السلطان فكونا من آخر من يتكلم
عنده.(2/128)
قال أبو عمر فلعمري لقد لزم مالك ذلك، ولقد بلغني أن بعض الأمراء حضره في جماعة فيهم ابن أبي ذئب فأخرج عليهم قصة قرئت عليهم في رجل أقر على نفسه بالقتل عمداً فقالوا بأجمعهم نرى عليه القتل ويدفع إلى ولاة المقتول فإن شاؤوا قتلوا أو عفوا.
ومالك ساكت.
فقال له الأمير ما تقول يا أبا عبد الله فقال منذ كم حبس فقال منذ كذا فإذا إقراره كان قبل أن يحتلم.
قال بعضهم اجتمع مالك والأوزاعي فتناظرا فجعل الأوزاعي يجر مالكاً إلى المغازي والسير فقوي عليه فلما رأى مالك ذلك جره إلى (غيرها من الفقه) فقوي مالك عليه.(2/129)
باب ذكر محنته
رضي الله تعالى عنه
قال القاضي رضي الله تعالى عنه: قال الطبري اختلف فيمن ضرب مالكاً وفي السبب في ضربه وفي خلافة من ضرب.
فقيل إن أبا جعفر نهاه عن الحديث ليس على مستكره طلاق ثم دس إليه من يسأله عنه فحدثه به على رؤوس الناس فضربه بالسوط.
وقاله مصعب إلا أنه قال إن الذي نهاه جعفر بن سليمان.
وقال الواقدي لما سود مالك وسمع منه وقبل قوله حسده الناس وبغوا عليه، فلما ولى جعفر بن سليمان على المدينة سعوا به إليه وأكثروا عليه عنده وقالوا لا يرى أيمان بيعتكم هذه شيئاً.
ويأخذ بحديث ثابت الأحنف في طلاق المكره أنه لا يجوز.
فغضب جعفر ودعا به فاحتج عليه فما رفع إليه.
ثم جره ومده فضربه بالسياط ومدت يده حتى انخلعت كتفه وفي رواية عنه ومدت يداه حتى انخلع كتفاه(2/130)
وكذلك اختلف على مصعب الزبيري.
وقال الحنيني بقي مالك بعد الضرب مطابق اليدين لا يستطيع أن يدفعهما وارتكب منه أمر عظيم فو الله لمالك بعد ذلك الضرب في رفعة في الناس وعلو وإعظام حتى كأنما كانت تلك الأسواط حلياً حلي بها.
وقيل إن هذا كان في أيام الرشيد.
قال أبو الوليد الباجي ولما حج المنصور قاد مالكاً من جعفر بن سليمان وأرسله إليه ليقتص منه فقال أعوذ بالله.
والله ما ارتفع منها سوط عن جسمي إلا وأنا أجعله في حل من ذلك الوقت لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال غيره: لما دخلت على أبي جعفر وقد عهد إلي أن آتيه بالموسم فقال لي والله الذي لا إله إلا هو ما أمرت بالذي كان ولا علمته وإنه لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم وإني أخالك أماناً لهم من عذاب الله.
وقد رفع الله بك عنهم سطوة عظيمة فإنهم أشرع الناس للفتن، وقد أمرت بعد والله أن يؤتى به من المدينة إلى العراق على قتب وأمرت بضيق حبسه، والاستبلاغ في امتهانة ولا بد أن أنزل به من العقوبة أضعاف ما نالك منه.(2/131)
فقلت عافى الله أمير المؤمنين وأكرم مثواه.
قد عفوت عنه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته منك.
فقال لي: عفا الله عنك ووصلك.
قال القروي والعمري وأحدهما يزيد على الآخر: لما ضرب مالك رحمه الله تعالى ونيل منه حمل مغشياً عليه فدخل الناس عليه فأفاق فقال: أشهدكم إني جعلت ضاربي في حل.
فعدناه في اليوم الثاني فإذا به قد تماثل.
قلنا له ما سمعنا منه، وقلنا له قد نال منك.
فقال تخوفت أن أموت أمس فألقى النبي صلى الله عليه وسلم فأستحي منه أن يدخل بعض آله النار بسببي فما كان إلا مدة حتى غضب المنصور على ضاربه وضرب ونيل منه أمر شديد.
فبشر مالك بذلك فقال سبحان الله أترون حظنا مما نزل بنا الشماتة به.
إنا لنرجو من عقوبة الله أكثر من هذا، ونرجو من عفو الله أكثر من هذا، وقد ضربت فيه محمد بن المنكدر وربيعة وابن المسيب ولا خير فيمن لا يوذىء في هذا الأمر، وقيل إن الذي تولى ذلك عامل جعفر بن سليمان وإن جعفر هو الذي صنع بعامله النكال لما تقدم، والأول أشهر.(2/132)
قال مطرف: جلد جعفر بن سليمان مالكاً ثمانين سوطاً وقاله ابن القاسم.
قال مطرف ومصعب، بسبب محمد بن عبد العزيز الزهري حمله عليه في عمله الأول أنه يفتي الناس أن ليس على من أكره على بيعة شيء.
قال مطرف: فرأيت آثار السياط في طهره قد شرحته تشريحاً.
وكان حين مدوه في الحبل بين يديه خلعوا كتفيه حتى كان ما يستطيع أن يسوي رداءه.
فلما ولي جعفر عمله الآخر ودخل عليه مالك سأله جعفر أن يجعله في حل، وقال إني جهلت واستزللت والله ما جلدك إلا القرشيون.
فقال له مالك إنك ترى أن قد ظلمتني.
قال نعم.
قال فأنت في حل، فوسع الله عليك.
قال إبراهيم بن حماد الزهري رأيت مالكاً يحمل إحدى يديه بالأخرى وقيل لمالك هذا ابن عبد العزيز الزهري قد وقف في المسجد وكان قاضي المدينة وهو الذي بغى بمالك.
فقال مالك ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم ذكر محنة محمد بن المنكدر وربيعة ثم قال:(2/133)
قال عمر بن عبد العزيز ما أغبط أحداً لم يصبه في هذا الأمر أذى.
قال الداروردي لما أحضر مالك لضربه في البيعة التي أفتى بها وكنت أقرب الخلق منه سمعته يقول كلما ضرب سوطاُ: اللهم اغفر لهم فإنهم لا يعلمون حتى فرغ من ضربه، وذكر عنه أنه أفتى الناس عند قيام محمد بن عبد الله بن حسن العلوي المسمى بالمهدي بأن بيعة أبي جعفر لا تلزم لأنها على الإكراه.
قال الليث إني لأرجو أن يرفع الله مالكاً بكل سود درجة في الجنة.
وخالف هذا كله ابن بكير، فقال: ما ضرب إلا في تقديمه عثمان على علي فسعى به الطالبيون حتى ضرب.
قيل لابن بكير خالفت أصحابك هم يقولون ضرب في البيعة.
قال أنا أعلم من أصحابي.
وقال أحمد بن صالح إنما ضرب مالك في الطلاق قبل النكاح، كان لا يراه ثم رآه.
قال أبو داود ولم يصنع أحمد شيئاً.
وقال ابن كنانة ضرب في أيمان السلطان إنها لا تلزم.
وفي دفع الصدقات إليهم.
وقال مصعب ضرب مالكاً جعفر بن سليمان ثلاثين سوطاً.
وقيل نيفً وثلاثين ويقال ستين وقال(2/134)
بكير بن إبراهيم سبعين سوطاً وقيل نيف وسبعين سوطاً وقيل مائة سوط من رواية الحارث عن ابن القاسم.
قال مالك ما كان علي يوم ضربت أشد من شعر كان في صدري وكان في إزاري خرق ظهر منه فخذي فجعلت لله علي إن استجد الإزار ولا أترك علي شعري.
قال مصعب وكان ضربه سنة ست وأربعين ومائة وقيل سنة سبع وأربعين.
قال محمد ابن خالد: كنا عند جعفر بن سليمان في مرضه الذي مات فيه، فدخل عليه حماد بن زيد، فقال له يا أبا إسماعيل رأيت في منامي مالك بن أنس فسلمت عليه فلم يرد فأعدت عليه فرد، وقال إن لي ولك غداً مقاماً عند الله فأرقت لذلك وغمني.
قال حماد إن مالكاً من الإسلام بمكان جليل وما هو إن الندم والاستغفار.
وفي رواية وإن تعتق فاعتق عن كل سوط رقبة.
قال الأصمعي: وأنا مشيت بين جعفر بن سليمان ومالك حتى حلله.
قال المنذر: الذي أغرى بمالك جعفر بن سليمان رجل من بني(2/135)
مخزوم صاحب أدب، وذكر، خبر فتياه في الإيمان فكتب بذلك جعفر إلى الخليفة فكتب إليه: أن اجلده.
فجلده ومد يده بين العقابين فلذلك كان لا يأتي المسجد لإنزال ريح تخرج من موضع الكتف ثم عزل ثم ولي ثانية فأكرم مالكاً وقربه وتباعد منه مالك حتى كف عنه فحج، فبينما مالك في الموقف قال جعفر لأصحابه لا تحركوا وسار فلم يشعر مالك إلا بإنسان ضرب بسوطه محمله، فرفع مالك رأسه فقال يا مالك هذا يوم عظيم ينظر إلى الله إلى عباده ويغفر لهم فاجعلني في حل مما ارتكبت.
فقال: لا والله حتى ألتقي أنا وأنت بين يدي الله.
فرجع.(2/136)
باب في صدق فراسته وركنه
رحمه الله تعالى
قال القاضي رضي الله تعالى عنه: كان الشافعي صاحب فراسة، فقيل له في ذلك، فقال: أخذتها من مالك.
قال أسد بن الفرات: لزمت أنا وصاحب لي مالكاً، فلما أردنا الخروج إلى العراق أتيناه مودعين له، فقلنا له أوصنا.
فالتفت إلى صاحبي وقال أوصيك بالقرآن خيراً.
والتفت إلي وقال أوصيك بهذه الأمة خيراً.
قال أسد فما مات صاحبي حتى أقبل على العبادة والقرآن، وولي أسد القضاء.
قال الشافعي لما سرت إلى المدينة ولقيت مالكاً وسمع كلامي نظر إلي ساعة وكانت له فراسة ثم قال لي ما اسمك؟ قلت محمد.
قال يا محمد اتق الله واجتنب المعاصي فإنه سيكون لك شأن من الشأن.(2/137)
قال غيره كانت لمالك فراسة لا تخطئ.
نظر يوماً إلى ثلاثة من أصحابه من أهل افريقية: ابن فروخ، وابن غانم، والبهلول ابن راشد.
فقال في ابن غانم هذا قاضي بلده، وفي البهلول هذا عابد بلده وفي ابن فروخ هذا فقيه بلده.(2/138)
باب في نوادر وملح من أخبار مالك
رحمه الله تعالى
قال القاضي رضي الله تعالى عنه قال معن جاء ابن سرجون الشاعر إلى مالك رضي الله عنه فقال له قلت شعراً أحب أن تسمعه فقال لا.
وظن أنه هجاء فقال لتسمعنه فأنشد:
سلوا مالك المفتي عن الهوى والغناء ... وحب الحسان المعجبات العوارك
فيفتيكم أني مصيب وإنما ... أسلي هموم النفس عني بذلك
فهل من محب يكتم الحب والهوى ... أثام وهل في ضمة المتهالك
قال فسري عن مالك وضحك وكان قليل الضحك، وقال الزبير بن بكار سأل محمد بن عبد الله مالكاً عن إمرأة أراد تزويجها وذكر قصة.
فقال له مالك تربص فإنها لا تحل لك الآن فقال:(2/139)
سأخطبها جهدي وإني مخالف ... لما قال لي حبر المدينة مالك
يقول وقد حلت تربص فإنما ... تربص مثلي لو علمت المهالك
أحرمت تزويج المحبين بينهم ... وأنت امرؤ فيما يرى الناس ناسك
وقال محمد بن الفضل المكي مر مالك بقينة تغني وتقول:
أنت أختي وأنت حرمة جاري ... وحقيق علي حفظ الجوار
أنا للجار ما تغيب عني ... حافظ للمغيب في الأسرار
ما أبالي أكان بالباب ستر ... مسبل أم بقي بغير ستار
فقال مالك لو غني به حول الكعبة لجاز.
وفي رواية يا أهل الدار علموا فتيانكم مثل هذا.
وقال مالك: قال أبو حازم كان أهل الجاهلية أحسن جواراً منكم وإلا فبيننا وبينكم قول الشاعر:
ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي تنزل القدر
ما ضر جار لي أني أجاوره ... أن لا يكون لبابه ستر
أعمى إذا ما جارتي برزت ... حتى يواري جارتي الخدر
قال مالك لا بأس بالغناء بمثل هذا، قال ابن أبي أويس كنت أمشي مع مالك إذا مولاتي تحمل جرة ماء وتقول:(2/140)
ليتني أرض لسلمى ... فتطأني قدماها
ليتني درع لسملى ... ترتديني من وراءها
ليتني خادم سلمى ... قاعد حيث أراها
فقال لي: يا إسماعيل، رجل أو إمرأة.
قلت: هي غزال خادم بني عمارة.
قال إنها لفصيحة اللمحة حسنة التأدية.
قال: وسمعني مالك وأنا أنشد: ودع هريرة إن الركب مرتحل.
فوقف ولا أعلم به، حتى بلغت قوله: علقتها عرضاً.....
الأبيات.
فقال: هؤلاء خمسة مرجومون.
قال مطرف: جاء رجل من أهل الكوفة إلى مالك: فأقام نحو الستين أو السبعين يوماً، فسمع عندها أحاديث، فشكى ذلك إلى مالك وقال: نحن بالعراق نكتب من الحديث في ساعة أكثر من هذا.
فقال له: يا ابن أخي، بالعراق عندكم دار الضرب، يضرب بالليل ويخرج بالنهار.
ثم قال مالك: كانت العراق تجيش علينا بالدنانير والدراهم، فصارت الآن تجيش علينا بالحديث.
وقيل له: إن أهل الشام يقرأون ابراهام.(2/141)
فقال عليهم بأكل البطيخ.
قال ابن أبي مريم، قال لي مالك: يا مصري، هل على مسجدكم بواب؟ فقلت نعم.
قال هذا سجن وليس بمسجد.
وقال ابن أبي أويس، قال مالك: قدم ابن شهاب الزهري المدينة فغلست إليه، فوجدته في طريق المسجد ومعه غلامه أنس وكان قد زوجه أمة له، فقال له: كيف وجدت أهلك؟ فقال: وجدتها يا مولاي جنة.
فقال ابن شهاب: الحمد لله.
ففطنت وضحكت، فسألني، فقلت: إنه يقول، إنها لم توافقه.
إن في الجنة سعة وبرداً.
فقال كذلك يا أنس؟ قال: إي والله، يا مولاي.
فما زال يضحك ويعيدها إلى أن فاتته الجماعة فصلى في منزله.
قال ابن أبي أويس: جاء رجل وإمرأته إلى مالك، وكل واحد منهما يشكو صاحبه.(2/142)
فقال مالك للرجل: ما نقمت عليها؟ فقال: تضحك إذا خرجت مني ريح.
قال مالك: فتباعد عنها إذا كان منك ذلك.
فقالت المرأة: هو أصيح من ذلك.
وهو رعد كرعد الخريف.
فقال مالك: احشي أذنيك قطناً.
فقالت والله لو جلعت في أذني سندان حداد، لنفذه.
فقال مالك اذهبي فاضحكي حيث شئت.
وقال للرجل عليك بالصعتر تداوم عليه.
فانقطع عنه.
وسأل رجل جهيني مالكاً عن يمين حلف بها، فأفتاه بطلاق زوجه البتة.
فقال:
أفض عبرات العين مخضلة تترى ... بكا جازع لا يفقه اللوم والزجرا
بكا ذي تميمات بكى غير نازع ... بكا نازع في شجوه قد بكى غمرا
فما بعد بت الحبل عن أم معمر ... على خلة أبكي واستعتب الدهرا
ولكن سأبكيها واعصارها التي ... لهون بها سقياً لأعصارها عصرا
فلولا اتقاء الله والموت مدركي ... وشيكا وبعد الموت أنتظر الحشرا(2/143)
لبتلت دعوى مسلم متبهل ... فقد يعلم الله السريرة والجهرا
على مالك أيام يفتيك مالك ... ولم يبل عهداً من مشيء ولا أمرا
ليس التي لو كنت خيرت بينها ... وبين يدي لاخترت تب يدي بترا
عشية يفتيني ويزعم أن بي ... عزاءاً على هجران رامة أو صبرا
فقد جار في اليوم المدينة مالك ... وأجرى لقتلي وهو يلتمس ألأجرا
فرحت وقد أجزت مشورة مالك ... نوافذ تحتل الجوانح والصدرا
فما أن أبالي بعدما صرمت محرماً ... بعاقبة لو جاب لي رامس قبرا
وأفنيت عبرات الدموع عليكم ... وغادرت دمع العين منحدراً بترا
قال عمر بن سليم: رأى مالك فتى يمشي مشية منكرة، فقام مالك، فجعل يمشي على جنبه يحكيه، فوقف الفتى.
فقال له مالك: مشيتي حسنة؟ قال لا.
قال فلم تمشيها أنت؟ قال لا أعود.(2/144)
قال أبو عوف عبد الرحمان ابن مرزوق، وذكر لعبيد الله بن محمد قاضي طرسوس عن بكر المزني، أنه قال: أحق الناس بلطمة من أكل طعاماً لم يدع إليه.
وأحق الناس بلطمتين من قال له صاحب المنزل: أقعد هاهنا.
وأحق الناس ثلاث لطمات من قال لصاحب المنزل: ادع ربة البيت تأكل معنا.
فقال لي: عندي أعجب من هذا، وأطرف من هذا.
كان مالك يوماً جالساً فأستأذن عليه صديق له، فأذن له، وكان لمالك بطيخة في ناحية، فرمى بمنديل عليها.
فدخل الرجل، فقال له مالك: ها هنا.
فأبى أن يقعد إلا على المنديل، فتفتحت تحته البطيخة.
فقال له مالك: يرحمك الله كنا أبصر بعوار منزلنا منك.
وسأله رجل عمن قال لآخر: يا حمار.
قال يجلد.
قال فإن قال له يا فرس.
قال تجلد أنت.
ثم قال يا ضعيف وهل سمعت أحداً يقول لآخر يا فرس؟ قال ابن مهدي: قلت لمالك: ارفق علي قد طال مقامي وما أدري ما حدث على أهلي بعدي.
فتبسم وقال: يا ابن أخي، أهلي بالقرب مني، وما أدري ما حدث عليهم.(2/145)
باب ذكر وفاة مالك
رحمه الله واحتضاره ومرائي دلت على فضله عند الله تعالى
قال القاضي أبو الفضل رضي الله تعالى عنه: قد قدمنا تاريخ وفاته، وإن الصحيح من ذلك في ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة.
يوم الأحد، ولتمام اثنين وعشرين يوماً من مرضه.
وغسله ابن كنانة وابن أبي زنبر، وابنه يحيى وكاتبه حبيب، يصبان عليه الماء.
ونزل في قبره جماعة، وأوصى أن يكفن في ثياب بيض، وأن يصلى عليه في موضع الجنائز.
فصلى عليه عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن علي بن عبد الله بن عباس.
وكان خليفة أبيه على المدينة.
ومشى في جنازته وحمل نعشه، وبلغ كفنه خمسة دنانير، وقد ذكرنا في المرائي الدالة على علمه وإمامته جملة، ونقتصر ها هنا على الغرض مما نذكره قبل.
قال بكر بن سليمان الصواف: دخلنا على مالك بن أنس في العشية التي قبض فيها.
فقلنا:(2/146)
يا أبا عبد الله كيف تجدك؟ قال ما أدري، ما نقول إلا أنكم ستعاينون غداً من عبد الله من لم يكن في حساب.
ثم ما برحنا حتى غمضناه.
وقيل إنه تشهد ثم قال: لله الأمر من قبل ومن بعد.
ورأى عمر بن يحيى بن سعيد الأنصاري في الليلة التي مات فيها مالك قائلاً يقول:
لقد أصبح الإسلام زعزع ركنه ... غداة ثوى الهادي لدى منحدر القبر
إمام الهدى ما وزال للعلم صائناً ... عليه سلام الله في آخر الدهر
قال وانتبهت وكتبت البيتين في السراج، وإذا الصاروخ على مالك رحمه الله تعالى.
قال حبيب كاتب مالك: كنا عند مالك يوم مات، في جماعة من إخواننا إذ أتاه ابن حازم، فقال يا أبا عبد الله، رأيت في هذه الليلة رؤيا أحببت أن أقصها عليك.
قال قص.
قال أرأيت السماء انفجرت فهبط منها ملك بيده طومار وهو يقول: يا معشر الناس هذه براءة مالك من الناس.
ثم إنا لجلوس ما برحنا، حتى دخل والي المدينة ابن أبي زينب ومعه مؤدبه فقال:(2/147)
يا أبا عبد الله، إن مؤدبي رأى الليلة رؤيا ذكر مثلها سواء.
فقال له مالك: سبقك بها أبو تمام.
ثم خرجنا من عنده.
فلما بلغنا باب الدار أغلق وسمعنا صوائح ورجعنا، فما لبثنا أن خرج ابنه يقول: قد قبضه الله إليه.
قال الشافعي: قالت لي عمتي ونحن بمكة: رأيت في هذه الليلة عجباً.
قلت: وما هو؟ قالت: كأن قائلاً يقول: مات الليلة، أعلم أهل الأرض، فحسبنا تلك الليلة، فإذا هي ليلة مات فيها مالك.
قال الحسن بن حمزة الجعفري: كنت أشتم مالكاً، فأقمت عشيتي على ذلك: فنمت فرأيت الجنة فتحت فقلت ما هذا؟ قالوا الجنة.
قلت فما هذه الغرف، الغرفة فوق الغرفة؟ قالوا لمالك بن أنس بما ضبط على دينهم.
فلم أنتقصه بعد، وصرت أكتب عنه.
ورأى آخر كأن قائلاً يقول: ليعلم من صدق الله، فقام مالك بن أنس.
قال بعضهم: رأيت مالك بن أنس في النوم، فقلت: قد نفع الله بك ونفعت أهل بلدك.
فقال: وأما والله ما أردت بذلك إلا الله.
قال أسد بن موسى: رأيت مالك بن أنس بعد موته وعليه طويلة وثياب خضر، وهو على ناقة تطير بين السماء والأرض، فقلت: يا أبا عبد الله، أليس قدمت؟(2/148)
قال بلى.
فقلت فإلى ما صرت؟ قال قدمت على ربي فكلمني كفاحاً، قال: سلني أعطيك، وتمن علي أرضيك.
وذكر أن الفضيل بن عياض رأى أنه دخل الجنة، قال: بينما أنا في طرقها إذا مررت يزيد بن أسلم غرفة من غرفا وعليه قلنسوة طويلة.
فقلت زيد؟ قال نعم.
قلت له سكنك الله وشرفك، فأين مالك لا أراه؟ قال: أين مالك؟ مالك فوق ذلك.
فما زال يقول فوق حتى وقعت قلنسوته، ورآه آخر، فقال له: ما فعل الله بك؟ قال غفر لي.
قال لماذا؟ قال: بكلمة عثمان التي كان يقولها إذا رأى الميت: سبحان الحي الذي لايموت.
قال ابن أبي أويس: كان يحيى بن يزيد النوفلي من الزهاد العباد وكان لا يكلم مالكاً ولا ابن أبي ذئب ولا ابن عمران، وكتب إلى كل واحد منهم كتاباً يعظهم في إقبالهم على الدنيا.
فأما مالك فأجابه أحسن جواب، وأما الآخران فأغلظا عليه في القول،(2/149)
فقدم بعد موتهم من الغابة إلى المدينة فلم يتخلف عنه أحد فحضرته يوماً وهو يتحدث وعنده خلق كثير وهو يبكي ويقول: رأيت في هذه الليلة كأني في موضع نخيل وبساتين وخضرة وقصور وأنهار تجري فاعتمدت إلى قصر رأيت أنه أفضلها، فلما ذهبت لأدخله إذا على بابه إنسان فمنعني الدخول وقال: حتى استأذن لك، فذهب ثم أذن لي، فأدخلني، إذا بقصر لم ير الراؤون مثله حسنا، وإذا فيه مالك بن أنس جالس وسطه وفي حجره مصحف وعليه ثياب خضر أحسن ما تكون، فلما وقفت سلمت عليه وقلت: قدمت؟ قال: بلى.
قلت: فيم صرت إلى هاهنا؟ قال: بعفو الله وتجاوزه عني وسعة رحمته لا بعملي.
قلت: فما رأيت في شأن العلم؟ قال أكثر ما نجونا بالتوقف عنه.
قلت: ابن زيد بن أسلم؟ وفي رواية عبد الرحمان بن زيد بن أسلم.
فرفع رأسه إلى السماء وأشار بإصبعه وقال: هيهات ذلك في عليين مع البكائين.
فلم تزل رؤياه في رقعة بين يديه مع أجوبتهم له يقرأها للناس ويبكي ويترحم على مالك في كل مجلس.
وعن بشير بن بكر: رأيت أو رأى الأوزاعي والثوري وهما في الجنة، فقلت أين مالك؟ فقال لي: إن مالكاً في أعلى ورفع رأسه حتى سقطت قلنسوته.(2/150)
قال التستري: رأى أبو زرعة الرازي فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال لي أكثرت علي يا أبا زرعة، وكيف يكثر مخاصمة في النوم أصحاب المقالات وقال: فقلت إلى ربي أنهم حاولوا دونك.
فقال اجعلوه مع أبي عبد الله وأبي عبد الله وأبي عبد الله.
مالك والثوري وابن حنبل.(2/151)
باب في رؤيا أهل العلم الدالة على علمه وإمامته
قال الدراوردي: رأينا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام جالساً في الروضة بين القبر والعنبر إلى الاسطوانة المغلقة، فأتيناه وجلسنا إليه، إذ أقبل مالك آخرنا وسلم، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، ثم نزع خاتمه من يده صلى الله عليه وسلم وقال به (هكذا) بين أصابعه وجمعهن، فليس أحد منا إلا تشرف إليه، فأخذ بيد مالك ووضعه في إصبعه، فلو كان يصلح للخلافة قلنا خليفة، ولكنه العلم.
وقد رويت هذه الرؤيا عن الدراوردي بغير هذا اللفظ والمعنى متقارب.
وفي خبر آخر: كنت انتقصه، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لي: الزم ما أمرك به مالك بن أنس، فإنه يريد بما فيه الله تعالى.
قال الزبير بن حبيب: كنت أتناول مالكاً فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم عند الإسطوانة المغلقة وأنا معه، إذ أتى رجل يسأله عن مسألة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أئت مالكاً فاسأله فما على ظهر الأرض أعلم منه.
وقال محمد بن رمح رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام(2/152)
فقلت يا رسول الله إن مالكاً والليث يختلفان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليك بما تقول مالك، ورث وحيي.
وفي رواية: جدي.
قال الحسن بن علي الأشناني: معنى جدي: قيل جدي إبراهيم الخليل عليه السلام، وقيل: جدي، ديني.
وقيل سنتي.
وعن ابن سرح أيضاً: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا شاب والناس مجتمعون عليه يسألونه، فقال: قد أعطيت مالكاً كنزاً وأمرته أن يصدقه عليكم.
وجاء رجل إلى مجلس مالك فقال: أيكم مالك؟ فقالوا هذا.
فسلم عليه واعتنقه وضمه إلى صدره، وقال: والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم البارحة جالساً هنا، فقال: هاتوا بمالك فجيء بك ترتعد فرائصك، فقال: ليس بك بأس يا أبا عبد الله، اجلس.
فجلست.
فقال: افتح حجرك.
ففتحت.
فملأه مسكاً منثوراً، وقال: ضمه إليك وبثه في أمتي.
فبكى مالك وقال: الرؤيا تسر ولا تغر.
إن صدقت رؤياك، فهو العلم الذي أودعني الله.
قال أبو هاشم: رأى رجل النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب إذ جاء مالك فقال يا مالك، خذ هذه الصرة وضعها تحت قبري.(2/153)
قال أبو هاشم: هو العلم الذي بثه.
قال أبو بكر بن سعدون صليت بمصر الضحى، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن مالكاً والليث اختلفا في الضحى، فمالك يقول اثنتي عشر ركعة، والليث يقول ثمان.
فضرب بيده وبين وركي وقال: رأي مالك هو الصواب.
قال خلف بن عمر: كنت عند مالك فأتاه ابن أبي كثير قارىء المدينة فناوله رقعة، فنظر فيها وجعلها تحت مصلاه، فلما قام من عنده ذهبت أقوم، فقال: أثبت فناولني الرقعة.
رأيت الليلة في منامي كأنه يقال: رأى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت المسجد فإذا ناحية من القبر انفجرت وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس والناس يقولو يا رسول الله أعطنا يا رسول الله من لنا؟ فقال لهم: إني كنزت تحت المنبر كنزاً، وقد أمرت مالكاً يقسمه بينكم فاذهبوا إليه.
فانصرف الناس وبعضهم يقول لبعض ما ترون مالكاً يفعل؟ فقال بعضهم يقصد لما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فرق مالك وبكى.
قال: ثم خرجت وتركته على حاله.
قال يحيى ابن يزيد النوفلي: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومالك يمشي بين يديه بشمعة يحملها.
وفي رواية أخرى عنه: رأيت كأننا في الجنة وإذا مالك بن أنس بين يديه عمود من نور(2/154)
وقال ابن أبي الكرام: رأى رجل من أصحابنا النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقسم قسماً، قال: فبسطت يدي إليه وقلت: يا رسول الله أعطني.
فقال قد خبأت لكم خبأ تحت منبري هذا.
قلت وما هو يا رسول الله؟ قال مالك بن أنس.
وقال زبد بن ثابت: رأيت في منامي كأن القبر انفتح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس قد اجتمعوا عليه، فصاح حائم بمالك بن أنس، فجاء مالك إليه، فأعطاه شيئاً فأولناه: العلم الذي بثه.
وقال آخر: كانت في نفسي مسألة دقيقة كنت أحب أن أرى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فأسأله عنها.
فرأيته، فقلت يا رسول الله، في نفسي مسألة دقيقة أحب أن أسألك عنها.
فقال أئت مالكاً فأسأله عنها، فإنه يخرجها وإن كانت أدق من شعرة.
قال حجاج بن سليمان الرعيني: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فسألته عن مسألة.
فقال له: أكنز تحت قبري كنزاً، وأمرت مالكاً يفرقه عليكم.
قال محمد بن أبي بشر: كنت في مجلس ابن حنبل فطعن قوم على مالك وآخرون على الثوري فانصرفت وفي قلبي من الغم(2/155)
ما لا أصفه، فقمت فرأيت رجلاً من أحسن من رأيت وأطيبه رائحة وأنقاه ثوباً عن يمينه رجل وعن يساره آخر وكلاهما في هيئة جميلة غير أن أعلاهم حالاً، فقال: هل تعرفني؟ فقلت لم أرك من قبل فأعرفك.
لا أخالك إلا مشهوراً لما أرى من هيئتك وحسن وجهك.
فقال: أنا نبيك محمد.
فقلت صلى الله عليك بأبي أنت وأمي.
فمن هذا؟ فقال إمام داري، مالك بن أنس.
وأشار عن الذي عن يمينه، وهذا إمام أهل العراق، سفيان الثوري.
وأشار عن الذي عن يساره.
فاشهد بالصدق لهما واحببهما فإني أحبهما والله ما تكلما برأي إلا أصابا فيه سنتي، ونصحا فيما اجتهدا فيه أنفسهما بجميع أمتي، وإنهما تأخرا عن القرن الأول لغير مختلفين عن منازلهما بلزوم السنة، وضبط الأثر أقد حفظت؟ فقلت نعم.
فغدوت على ابن حنبل فأخبرته، فقال: وددت أني رأيت ما رأيت، وليس لي قوت يومي، هذا والله رأيي فيهما.
قال ابن القاسم: رأيت بالاسكندرية، كأني صدت بازياً ففضضته، فإذا جوفه مملوء جوهراً فعبرت رؤياي على زيد بن شعيب، فقال لي:(2/156)
لعلك حدثت نفسك بشيء من طلب العلم؟ قلت هو ذلك.
قال فمن ذكرت؟ قلت مالكاً.
قال: هو بازيك الذي صدت، والباز هو سيد الطير والجوهر الذي وجدته في جوفه، هو العلم الذي تسأله عنه.
وقال عمار بن يزيد بن الخشاب، رأيت كأني دخلت مدينة اختلطت علي أزقتها، فصرت لقوم، فقام إلي شيخ فأخذ بيدي حتى أخرجني إلأى طريق واسع واضحة وقال خذ عليها.
فسالت عنه فقيل لي هذا مالك.
قال ابن اللباد وبلغني أيضاً أن رجلاً أعرفه كان ينتحل مذهب أبي حنيفة، رأى في نومه النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه وصافحه فأردت معانقته فأعرض عني، فقلت في نفسي ما أراه إلا لاستحلالي النبيذ.
فقال قائل: وددنا لو سألناه ما ننتحل، فقال عليه الصلاة والسلام: ألا إن الحق في قول مالك، ما يتعداه.
فصار الرجل إلى مذهب مالك وترك مذهبه.
وروي أن مالكاً قال لابن هرمز: رأيت كأني أنظر في مرآة.
فقال ابن هرمز من رأى هذا فهو ينظر في أمر دينه.
ثم قال: يا مالك، أنت اليوم مملك، فاتق الله في هذه الأمة، إن كنت لها مالكاً.(2/157)
فقال له مالك: لا تخبرني فقد رأيت مثل ما رأيت.
قال إبراهيم بن أبي يحيى: نمت فرأيت الشمس قد كسفت وقد علت الأرض ظلمة حتى إن الناس لا ينظر بعضهم إلى بعض، فقلت لرجل بجنبي: أقامت القيامة؟ فقال: ولم لا تقوم، وقد مات عالم الآفاق.
قلت ومن هو(2/158)
قال: مالك.
فانتبهت وفزعت فإذا أنا به قد مات.
وقال ابن مزاحم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الناس، فقلت يا رسول الله من نسأل بعدك؟ قال مالك بن أنس.
فقال ابن القاسم: بينما أنا نائم، أتاني آت، فقال لي: إذا أردت العلم فعليك بعالم الآفاق فقلت: من هو؟ فقال لي: هذا الشيخ انظر إليه، فنظرت إليه فإذا شيخ أشقر طويل حسن اللحية، فاستيقظت وقد مضى أكثر شوال فاكتريت إلى مكة وحججت فلما أتينا المدينة اغتسلت ودخلت مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فنظرت، فإذا بالصفة التي في النوم، وإذا هو مالك.
فعرفت أنه هو الذي قيل لي فيه عالم الآفاق فلزمته.
ورأى بعضهم أن الناس اجتمعوا في جبانة الإسكندرية يرمون غرضاً، كلهم تخطاه، وإذا رجل يرمي ويصيب.
قال، فقلت: من هذا؟ قيل مالك بن أنس.(2/159)
باب في تركة مالك بن أنس
رحمه الله
قال ابن القاسم: مات مالك رحمه الله تعالى عن مائة عمامة فضل عن سواها.
وقال ابن أبي أويس: جميع ما في منزلك يوم مات رحمه الله تعالى من منصات وبرادع وبسط ومخادد محشوة بريش وغير ذلك، ينيف على خمسمائة دينار.
قال محمد بن عيسى بن خلف: خلف مالك خمسمائة زوج من النعل، وقد اشتهى يوماً كساء قومسياً، فما بات إلا وعنده منه سبعة بعثت إليه.
وأهدى إليه يحيى بن يحيى النيسابوري هدية وجدت بخط بعض مشائخنا الثقات، أنه باع من فضلها بثمانين ألفاً.
قال أبو عمر وترك من الناض ألأفي دينار وستمائة وتسعاً وعشرين ديناراً، والف درهم.
فاجتمع في تركته ثلاثة آلاف وثلاثمائة ونيف.(2/160)
باب ما قيل في مالك من الشعر في حياته وبعد وفاته
قال القاضي رضي الله تعالى عنه من مشهور ذلك قول ابن المبارك:
صموت إذا ما الصمت زين أهله ... وفتاق أبكار الكلام المختم
وعى ما وعى القرآن من كل حكمة ... ونيطت الآداب باللحم والدم
وقال ابن مناذر:
ومن يبغي الوصاة فإن عندي ... وصاة للكهول وللشباب
خذوا عن مالك وعن ابن عون ... ولا ترووا أحاديث ابن داب
وقال عبد الله بن سالم الخياط:
أدب الوقار وعز سلطان التقى ... فهو المهيب وليس ذا سلطان
وأنشدوا لأبي المعافى في مالك وبعضهم يزيد فيها على بعض ويذكر بعضها لأبي المعافى:
ألا إن فقد العلم في فقد مالك ... فلا زال فينا صالح الحال مالك
فلولاه ما قامت حقوق كثيرة ... ولولاه لانسدت علينا المسالك
يقيم سبيل الحق سراً وجهرة ... ويهدي كما تهدي النجوم الشوابك
عشونا إليه نبتغي ضوء ناره ... وقد لزم العي اللجوج المماحك
فجاء برأي مثله يقتدى به ... كنظم جمان زينته السبائك(2/161)
وحكى التستري أن مالكاً كان جعل لأبي المعافى أن يجرح من شهد عليه، فشهد عليه المغيرة، فلما مات مالك قال: ألا قل لقوم....
الأبيات:
ألا قل لقوم حير مرحباً بكم ... لمن سال عن فتوى فقد مات مالك
وأنشد الزبير لأبي المغامي أو ابن المغامي يرثي مالكاً:
ألا قل لقوم سرهم فقد مالك ... ألا إن فقد العلم إذ مات مالك
وما لي لا أبكي على فقد مالك ... إذا عد مفقود من الناس مالك
وأنشد أصبغ لامرأة ترثيه:
بكيت بدمع واكف فقد مالك ... في فقده سدت علينا المسالك
ومالي لا أبكي عليه وقد بكت ... عليه الثريا والنجوم الشوابك
حلقت بما أهدت قريش وجللت ... صبيحة عشر حين تقضى المناسك
لنعم وعانا العلم والفقه مالك ... إذا عد مفقود من الناس هالك
أنشد أبو محمد الضراب لبعضهم:
إذا ما عدت العلماء يوماً ... فمالك في العلوم هو الضياء
تبوأ ذروة العلماء قوم ... فهو كالأرض وهو لهم سماء
وأنشدوا:(2/162)
وفقيه الحرمين مالك ... كان إذ يأمر بالأمر يطاع
وأنشد لطالب بن عصمة الأندلسي:
إمام الورى في الهدى والسمت مالك ... وفي الفقه والآثار ما أن يدارك
فأراؤه في الفقه يسطع نورها ... وتسهد من إيضاحهن المسالك
وآثاره يهدي العباد وميضها ... كما تهديهم زهر النجوم الشوابك
له من ذرا العلم السنام وشلوه ... وفي سائر الناس الشظا والسوابك
وأ، شد الزبير أيضاً لأبي المعافى:
فدا مالك قوم تمنوا بموته ... وما فيهم لو مات عوض ولا خلف
تحمل علم الدين نوراً مثقفاً ... بإسناد اقوام ثقات من السلف
فلما أقام الأود من ذي قسيمهم ... وكان إليه غاية الرمي والهدف
فما ساعد منهم يقاوم ظفره ... إذا قست منهم ساعداً ببنان كف
وقيل إن مالكاً لما سمع هذا الشعر قال: الله المستعان.
وقال أبو محمد ابن أبي زيد لبعض من ناقض قول مالك رحمه الله تعالى:
تخطيت نجوم السماء ... وهذا هو الأمل الكاذب
تروم إمام الهدى مالكاً ... وذاك هو الجبل الراهب
فما أثر الدر في صحوة ... ومجهوده قائم راتب
بدون منالك من مالك ... فدونك هذا الرجاء الخائب
ودونك من دون ما رمته ... بعيد كما بعد الثاقب
وأنشد عبد السلام بن سليمان:
عادني مالك فلست أبالي ... بعد ما عادني ومن لم يعدني(2/163)
وأنشد أبو مصعب لبعضهم:
ومن لم يجالس مالكاً فهذا نشا ... ولما يجالس غيره فهو جاهل
وأنشد التستري لمحمد بن عبد الرحمان البغدادي المعروف بأبي الحسن الصالحي يرثي مالكاً بقصيدة أولها:
قضى وطراً من غمه فهو جازع ... ولج به طرف من الميل دامع
وأبصر بالأميان عودة دينه ... فبات سهيراً والعيون هواجع
رأى أن أيام الصبا ليس راجع ... وإن الهوى في حلة الشيب ضائع
فلا اللهو محمود ولا العيش راجع ... ولا الحلم مذموم ولا الجهل نافع
تذكر أن العلم ينهي عن الهوى ... وراعته أعلام المشيب الروائع
وبعد هذا أبيات كثيرة، وذكر فيها المدينة فقال:
حرام رسول الله فيها وأمنه ... وللزجر والدجال فيها موانع
ويأزر إيمان البلاد إليهم ... إذا ظهرت فيها الهنات الفظائع
ومنها أتى البلاد بدينه ... كذاك إيمان إلى الدين راجع
ثم قال بعد أبيات:
سقى الله ما ضم النبي محمداً ... من الأرض ما يسقي الغمام الهوامع
إلى روضة التقوى إلى القبلة التي ... بها نحر التقوى مصل وراكع
إلى خيرة الأصحاب والتابع الذي ... به وصلته في الكتاب الذرائع
وجاء لقبر فيه أكفان مالك ... أفاويقه والمسبلات المدامع(2/164)
فنعم أمام العلم والكوكب الذي ... أتى نوره في صفحة الدين ساطع
عقيد الهدى فينا ومصباح ديننا ... ومن قوله بالحق والرشد واقع
ومن عروة الإسلام في بطن كفه ... هي العروة الوثقى وبالحق ساطع
ومن هو خير الناس والعلم هديه ... ومن عنده أركانه والشرائع
فإن لم تكن قضى الله صاحباً ... فإنك للأمي بالحق تابع
أقمت لنا دين النبي محمد ... وجاريه والصهرين مذ أنت يافع
وعلمك أعلى العلم فرعاً ومخرجاً ... كذا كل علم دونه متواضع
إذا قرع الآذان سويت قلبها ... وأصغت إليه بالرقاب المسامع
وما علم من لم يستمع قول مالك ... ولم يعتقده قلبه فهو صائغ
ولم يهد بالبرهان من علم مالك ... وما طويت أخباره والجوامع
لعمري قد أورثتنا العلم خالصاً ... وقد أوحشت منك الديار البلاقع(2/165)
تعلت إلينا عن مصابيح ديننا ... بتوفيق رب فضل جدواه واسع
فإن لم تكن فينا فعلمك بيننا ... ندافع عنه من نشا ونصارع
بكل بيان من كتاب وحجة ... لها في قلوب المؤمنين مواقع
ستبكيك أرض الناس والناس فوقها ... وتبكيك في الجو النجوم الطوالع
وحكى التستري أن أبا المعافى سجنه والي المدينة العباس بن محمد في أمر رجع إليه فكتب إلأى مالك رحمه الله تعالى بشعر يقول فيه:
ألا أن عمر العلم في عمر مالك ... فلا زال فينا صالح الحال مالك
الأبيات: فما فرغ منها حتى رئي الحياء في وجه مالك، ثم أطرق فرفع رأسه وقال: إن الله فرض الفرائض وجعل حد الزاني الرجم إذا أحصن وجلد مائة إذا لم يحصن وجلد ثمانين إذا قذف محصنة وإذا سرق ما فيه القطع قطع، ولم أسمع الله حكم بالسجن في شيء من حدوده.
فرجع ذلك إلى العباس فأرسل إلى مالك ليسأله، فقال اليوم بعد ثلاثة أشهر أرى أن يفتح عليه الباب وتستحله فيما مضى، فخلى سبيله.
فكان أبو المعافى ينشد ويعرض بالقريشيين الذين أفتوا بحبسه: فدا مالكاً قوم....
الأبيات.
وأنشد لابن سليمان أخو بني خضرة في مالك:(2/166)
كم فقه الله من جاب بمجلسه ... وزاد فقهاً به من فقه عباس
ما ينتهي الناس في الفتوى إذا اجتهدوا ... وقايسوك لذي النوكى بمقياس
أنت الفقيه إذا ودت بقيتنا ... لا الضارب (فيه) أخماساً بأسداس
وقال الفقيه محمد بن عمار الكلاعي الميورقي أيضاً من قصيدة منها:
وكن في ذي المذاهب مالكياً ... مدينياً وسنياً متينا
مدينة خير من ركب المطايا ... ومهبط وحي رب العالمينا
بها كان النبي وخير صحب ... وأكثرهم بها أضحى دفينا
ومالك الرضى لا شك فيه ... وقد سلك الطريق المستبينا
نظرنا في المذاهب فما رأينا ... كمذهب مالك للناظرينا
ومذهبه اتباع لا ابتداع ... كما اتبع الكريم الأكرمينا
وعندي كل مجتهد مصيب ... ولكن مالكاً في السابقينا
وقد دل الدليل على صواب ... يقول به لدى المتحققينا
وقال الفقيه أبو حفص بن عبد النور الصقلي المعروف بابن الحكار في ذلك:
تأملت علم المرتضين أولي النهى ... فأفضلهم من ليس في جده لعب
ومن فقه مستنبط من حديث ... رواه بتصحيح الرواية وانتخب
وما مالك إلا الهدى ولذا اهتدت ... به أمم من سائر العجم والعرب
وقال أيضاً:(2/167)
ومالك هو نور قد أضاء لنا ... بعلمه فجلونا ظلمة السدف
لا يبتدي سائلاً بالوعد يصرفه ... ولا يحيل على الأوراق والصحف
ولا يجيب جواباً ثم يتبعه ... نقضاً ولكن برأي غير مختلف
وقال الفقيه أبو الفضل ابن النحوي في ذلك:
إن الإمام الأصبحي ... من النجوم الباهرات
حفظ الله به الحديث ... وعده في الحافظات
وتصرفت أراؤه ... في المبدآت المبدعات
ومشى على الهدي الذي ... يمشي عليه أخو الثبات
أهل المدينة يهتدى ... بهم وهم أعلى الرواة
ويحيل بعد قياسه ... في المحدثات المشكلات
طلب المعالي فاستوى ... فوق المعالي المشرفات
وتشرفت أنواره ... لحق البلاد القاصيات
فاطلب منها من يوفق ... للصواب وللهداة
وللقاضي المؤلف رحمه الله تعالى ورضي عنه:
يا سائلاً عن عميد الهدى والسنن ... أطلب هديت علوم الفقه والسنن
وعند قلبك فاشدده على ثلج ... لا تطوينه على شك ولا تخن
واسلك سبيل الألى حازوا تقى ونهى ... كانوا فبانوا حسان السر والعلن(2/168)
هم الأئمة والأقطاب ما انخدعوا ... ولا شروا دينهم بالبخس والغبن
أصحاب خير الورى أخيار ملته ... خير القرون نجوم الدهر والزمن
من اهتدى بهداهم مهتد وهم ... نجاة من بعدهم من غمرة الفتن
وتابعوهم على الهدي القويم هم ... أهل النهى والتقى والعلم والفطن
واختر لدينك ذا علم تقلده ... مشهر الذكر في شام وفي يمن
حوى أصولهم ثم اقتفى أثراً ... نهجاً إلى كل معنى رائق حسن
ومالك المرتضى لا شك أفضلهم ... إمام دار الهدى والوحي والسنن
وعنه خذ علمهم إن كنت متبعاً ... ودع زخاريف كالأحلام في الوسن
فهو المقلد في الآثار يسندها ... خلاف من هو فيها غير مؤتمن
وهو المقدم في فقه وفي نظر ... والمقتدي بالهدى في ذلك الزمن
وعالم الأرض ضراب الذي حكمت ... شهادة المصطفى بالفضل والمنن
ومن إليه بأقطار البلاد غدت ... تقضي المطايا وتصبي يده البدن
من أشرف الخلق طراً حبه فجرى ... طي القلوب كجري الماء في الغصن
وقال كل لسان في فضائله ... قولاً وإن نحروا في الوصف عن لسن
عليه من ربه أضفى عوائده ... ومن رضاه كصوب العارض الهتن
وجاد ملحده وطفاء هاطلة ... تسقي لرحماه مثوى ذلك الحنن(2/169)
أصحاب مالك
باب مشاهير الرواة عن مالك ممن مات قبله
من شيوخه وأقرانه ممن مات قبله بمدة وتقارب موته
قال القاضي رضي الله عنه: كنا قديماً جمعنا الرواة عن مالك على حروف المعجم، على ما أشرنا إليه أول الكتاب، فاجتمع لنا منه نيف على الألف اسم وثلاثمائة اسم، وذكرنا في كتابنا هذا منهم في الطبقات الثلاثة الفقهاء منهم، إذ هو الغرض الذي بيننا عليه هذا الكتاب، وأردنا أن نذكر في هذا الباب نبذة من مشاهير من روى عن مالك من شيوخه وأقرانه، وكبراء الآخذين عنه، ومشاهير من سائر الناس ليتبين عظيم منزلته في وقته، واقتداء الجماهير به ومعرفتهم حقه، مقتصرين على الأسماء والوفاة لتقدمهم دون الخبر والقصص وعند تمام هذا الباب نرجع إلى غرضنا في تطبيق أصحابه الفقهاء وذكر أخبارهم على ما شرطنا أول الكتاب.(2/170)
باب من روى عن مالك من شيوخه وأقرانه
الذين تعلم منهم وروى عنهم فمن التابعين محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، روى عنه حديث الفريعة بنت سنان في الطلاق.
ومات سنة أربع وعشرين ومائة قبل الخمسين سنة.
أبو الأسود يتيم عروة ومات قريباً من وفاة الزهري أيوب بن أبي تميمة السختياني توفى سنة 131 إحدى وثلاثين ومائة قبل مالك بتسع وأربعين سنة.
ربيعة بن أبي عبد الرحمان توفى سنة ست وثلاثين وقيل سنة اثنتين وأربعين، روى عنه حديث المتعة وغير ذلك.
يحيى بن سعيد الأنصاري، وروى عنه كثيراً من حديث ابن شهاب توفى سنة 143 ثلاثة وأربعين ومائة، وقيل سنة أربع وأربعين قبل مالك بست وثلاثين سنة.
موسى بن عقبة، توفى سنة 141 إحدى وأربعين ومائة وروى عنه حديث (النهي عن) بيع التمر قبل بدو صلاحه، وذكر أبو محمد الحسن بن إسماعيل الضراب وغيره، أن من روى عن مالك من شيوخه من التابعين هشام بن عروة، وتوفى سنة ست وأربعين ومائة وذكر غيرهم منهم زيد بن أسلم وسؤاله إياه، ويزيد بن عبد الله بن قسيط الليثي(2/171)
ومن غير التابعين من شيوخ مالك الذين روى عنهم وغيره ورووا عنه الحديث، عمر بن الحارث المصري توفى قبله بثلاثين سنة.
وزيد بن أنيسة الجريزي توفى قبله بخمس وخمسين سنة، سنة موت ابن شهاب، لكنه توفى شاباً ابن ست وثلاثين سنة.
قال كله البخاري، روى عنه مالك في الموطأ، وروى هو عن مالك حديث رحم الله من كانت عنده لأخيه مظلمة.....
الحديث.
نافع القاري ابن أبي نعيم توفى قبله بعشر سنين قرأ عليه مالك القرآن.
محمد بن عجلان.
زياد بن سعد.
سالم بن أمية.
أبو النصر مولى عمر بن عبيد الله بن أسامة ابن الهادي توفى قبله بأربعين سنة، روى عنه لا يحلب أحدكم ماشية أخيه إلا بإذنه.
عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب روى حديث المتعة وغيره.
طبقة أخرى
من الأكابر من طبقة متأخري شيوخه من التابع والتابعين ومن مات قبله بزمن ممن لم يرو عنه مالك وروى هو عن مالك، وفيهم من عاصره وتوفى قبله بزمن: محمد بن عبد الرحمان بن أبي ذئب القرشي توفى قبله بعشرين سنة.(2/172)
عبد الملك بن جريج توفى قبله بثلاثين سنة.
محمد بن إسحاق صاحب المغازي توفى قبله بنحو ثلاثين سنة.
ذكر أبو محمد الضراب أنه روى عنه، وفيه نظر.
ومحمد بن إسحاق المدني رجل آخر روى عن مالك بغير شك.
سليمان بن مهران الأعمش توفى قبله بإحدى وثلاثين سنة.
طبقة أخرى
من الرواة عنه من أقرانه من الرواة والمشاهير الذين تقاربت موتاتهم معه ومن ساواه في السماع معه من أشياخه كثير منهم من مات قبله بسنين كثيرة.
سفيان بن سعيد الثوري توفى قبله بنحو عشرين سنة.
الليث بن سعد مصري توفى قبله بثلاثة وعشرين سنة.
إبراهيم بن طهمان يروي إبراهيم بن محمد أبو إسحاق الفزاري توفى بعده بثمان سنين.
إبراهيم بن محمد الشافعي مكي.
أنس بن عياض مدني.
أبو قرة توفى بعده بعشرين سنة.
أسامة بن زيد الليثي.
جويرية بن أسماء بصري مات بعده بثلاث عشرة سنة(2/173)
جرير بن عبد الحميد الضبي.
القاضي بن مسلمة بصري.
حماد بن زيد بصري توفى معه في عام واحد.
سفيان بن عيينة مكي، توفى بعده بإحدى عشر سنة أبو حنيفة كوفي توفى قبله بثلاثين سنة.
ابنه حماد.
أبو يوسف القاضي، توفى بعده بثلاث سنين.
جعفر بن عون المخزومي كوفي.
حفص بن عمر بن ميسرة الصنعاني.
الحسن بن زياد اللولوي كوفي.
حميد بن عبد الرحمان الرواسبي كوفي توفى بعده بعشرين سنة.
روح بن القاسم البصري.
عباد ابن عباد المهلبي، توفى بعده بسنة.
فليح بن سليمان مدني، توفى قبله بإثني عشر عاماً وأخوه عبد الحميد.
القاسم بن سرور الإيلي.
محمد بن عمران القاضي.
محمد بن أبي سبرة توفى قبله بسبع سنين.
محمد بن اسماعيل بن أبي فديك.
اسماعيل بن إبراهيم بن علية بصري، توفى قبله بسنتين.(2/174)
محمد ابن الحسن التل.
إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الغازي مدني، وأخوه محمد.
موسى بن أعين الجزري توفى قبله بسنتين.
الضحاك بن عثمان بن عبد الله الحزامي الأكبر وابنه عثمان وابن ابنه الضحاك بن عثمان بن الضحاك وهو الأصغر من كبراء أصحابه، وتوفى هذا الأصغر بعد مالك بسنة.
عبد الله بن جعفر المدني والد علي توفى قبل مالك بسنة.
مسلم بن خالد الزنجي توفى سنة وفاته.
عبد العزيز بن سلمة الماجشون توفى قبله بنحو عشرين سنة.
وكيع بن الجراح توفى بعده بمدة.
نافع بن يزيد مصري.
المغيرة بن عبد الرحمان الخزاعي توفى سنة وفاته.
معمر بن راشد توفى قبله بست وعشرين سنة.
ورقاء بن عمر.
إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى مدني.
عبد الله ابن لهيعة مصري، وتوفى قبله بنحو الخمسين سنين.
حفص بن ميسرة الصنعاني الشامي توفى بعد مالك بسنتين.(2/175)
عبد الرحمان بن أبي الزناد وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم توفى بعده بثلاث سنين.
وهيب بن خالد البصري توفى قبله بخمس عشرة سنة.
يونس بن يزيد الإيلي، مات قبله بعشرين سنة، وعبد الله بن إدريس الأودي.
أبو عون عبد الله بن عون بن أرطبان بصري توفى قبله بنحو ثلاثين سنة.
العطاف بن خالد المخزومي.
معاوية بن صالح الحمصي قاضي الأندلس توفى قبله بنحو العشر سنين.
طبقة أخرى
بعد هؤلاء ممن روى عنه العلم من مشاهير الأئمة وتفقه عنده وجالسه من جلة العلماء دون هؤلاء، منهم من شاركه في شيوخه، ومنهم من ظهر في حياته وأفتى في زمانه.
فمن أهل المدينة: المغيرة بن عبد الرحمان المخزومي توفى بعده بسبع سنين.
وسليمان بن بلال توفى قبله بأربع سنين.
وعبد العزيز ابن أبي حازم توفى(2/176)
قبله بأربع سنين وعبد العزيز بن الدراوردي توفى بعده بست سنين ومحمد بن مطرف أبو غسان وزكريا بن منظور ويحيى بن عبد الملك الهديري ومحمد بن مسلمة المحزومي.
من أهل العراق والمشرق
عبد الله بن المبارك توفى بعده بسنتين.
ويحيى بن سعيد القطان وتأخرت وفاته بعده.
وعبد الرحمان بن مهدي كذلك.
ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وتوفى بعده بثمان سنين.
والحسن بن زياد الؤلؤي صاحبه وحفص ابن غياث.
من أهل الحجاز واليمن
أبو قرة موسى بن طارق القاضي، ومن أهل مصر عبد الرحيم بن خالد توفى قبله بثماني عشرة سنة.(2/177)
وعثمان بن الحكم توفى بخمس وأربعين سنة وسعد بن عبد الله توفى قبله بست سنين.
وزيد بن شعيب توفى بعده بسبع سنين.
طليب بن كامل الاسكندري واسمه عبد الله
من أهل القيروان
البهلول بن راشد، توفى بعده بأربع سنين، وعلي بن زياد مثله وأبو مسعود بن أشرس وعبد الله بن فروخ توفي قبله بأربع سنين، وأبو محرز القاضي محمد بن عبد الله.
وعبد الله بن حيّان اليحصبي مدني.
وعبد الله بن غانم القاضي، توفي بعده بسنتين على ما ذكره الشيرازي، والصحيح أن وفاته بعده بعشر سنين.
من أهل الأندلس
محمد بن يحيى السبائي وحفض بن عبد السلام السرقسطي وزياد بن عبد الرحمان ابن محمد(2/178)
وسعيد بن عبدوس وسعد بن أبي هند توفي قبله بنحو ثلاثين سنة.
من أهل الشام
الوليد بن مسلم توفي قبله بأربع سنين.(2/179)
ومن بعد هؤلاء من المشاهير طبقة أخرى ممن حمل عنه الفقه والحديث ويندرج بعدهم من صَغُرَت أسنانهم عنهم وجئنا بهم على حروف المعجم تقريباً وترتيباً والله سبحانه المستعان.
باب الألف
أحمد بن محمد بن مالك حفيده.
أحمد بن أني بكر الزهري.
أبو مصعب مدني.
أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي.
أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي مكي.
أحمد بن منصور.(2/180)
حرف الخاء
خلف بن هشام البزّاز المقري بغدادي.
خلف بن جرير بن فضاله قيرواني.
خلف بن حجاج الأزرق كوفي.
حلف بن أيوب بلخي.
خلف بن موسى بلخي.
حلفه بن خليفة أبو أحمد الأشجعي بصري.
خالد بن عبد الرحمان أبو الهيثم خرساني.
خالد بن خراش بصري.(2/187)
خالد بن عثمان العثماني.
خالد بن مخلد القطواني كوفي.
خالد بن يزيد العمري مدني.
خالد العبدي بصري.
خالد بن حميدة أبو حميد المدني.
خالد بن نجيح.
خالد بن سالم.
خالد بن يزيد اللؤلؤي قروي.
خالد بن نزار يروي رسالته إلى محمد بن مطرف.
خالد بن سليمان أبو معاذ البلخي.
خالد بن يزيد الأرقي بصري.
خالد بن يزيد المكي.
خالد بن عبد الرحمان المخزومي.
خارجة بن مصعب بن الحجاج سرخسي.
خصيب بن ناجح مصري.
خداش بن الدحداح.
خليل بن كريز كوفي.
حرف الدال
داود بن الزبرقان بصري.
داود بن عبد الله بن أبي الكرام الجعفري مدني.
داود بن مهران الدباغ.(2/188)
داود بن عبد الجبار.
داود بن سعيد بن أبي زبير مدني.
داود بن سليمان بن فلح المدني.
داود بن منصور قاضي المصيصة.
داود بن إبراهيم القزويني التميمي أندلسي.
دعبل الخزاعي الشاعر.
حرف الذال
ذؤيب بن عمامة السهمي مدني.
ذو النون بن إبراهيم الإخميمي مصري
حرف الراء
ربيع بن عبد الله بن يعقوب.
الربيع بن الربيع بن الركين بن الربيع بن عليه الفزاري كوفي.
داود بن الجراح عسقلاني.
روح بن القاسم بصري.
روح بن عبادة بصري. روح بن زيد يمني. روح بن ثابت قروي.
حرف الزاي
زيد بن يحيى بن عبيد دمشقي. زيد بن الحباب العكلي كوفي.(2/189)
زيد ابن أبي الزرقاء موصلي. زيد بن الحسن بصري. زيد عن عون (مصري) . زيد بن داود مدني. زيد بن بشر مصري نزل أفريقيا. زياد بن موسى مصري. زياد بن عبد الله طليطلي. زياد بن الهيثم. زكريا بن نافع. زكريا ابن يحيى النسوي. زكريا بن يحيى بن الحكم قروي. زكريا بن دريد بن الأشعث. زهير بن محمد مكي. زهير بن عياد الرواسي. الزبير بن بكار. الزبير بن الزبير بن حبيب بن ثابت الزبيري. زنبر بن أبي الأزهر. رقعة ابن أبي عبد الله بن ربيعة. زرارة بن عبد الله أفريقي. زياد بن حبيب ابن زفان. زهر بن معبد. زياد بن سعد.(2/190)
حرف الطاء
طلحة بن يحيى بن النعمان الزرقي مدني. طاهر بن مدرار الطنافسي كوفي. طاهر بن عمر نصيبيني. طفيل بن عبد الله أنصاري. طلق بن غانم كوفي.
حرف الضاد
الضحاك بن عثمان مدني. الضحاك بن مخلد أبو عاصم النبيل بصري.(2/191)
ضمرة ابن ربيعة رملي. ضرام بن إسماعيل مصري.
حرف الصاد
صالح بن بيان السيرافي القاضي. صالح بن محمد الخوارزمي. صالح بن عبد الله القيرواني. صباح بن عبد الله أبو بشر بصري. صباح بن محارب داري. صقلاب بن زياد قيرواني. الصلب بن محمد بن همام الحاركي بصري. صدقة بن عبد الله السمين دمشقي. صخر بن محمد الحاجبي.
حرف الكاف
كامل بن طلحة الجحدري بصري. كثير بن هشام. كثير بن الوليد.
حرف اللام
ليث بن خالد الخرساني. ليث بن بكر الهذلي. ليث بن عاصم النسائي الغياني أبو زرارة.
حرف الميم
محمد بن مالك ابنه. محمد بن إدريس الشافعي. محمد بن مليح مدني. محمد بن صدقة فدكي. محمد بن الضحاك بن عثمان بن الضحاك الخزامي مدني وهؤلاء الأربعة في نسب كلهم. ورووا عنه وصحبوه.(2/192)
محمد بن حبيب شامي. محمد بن عمر الواقدي بغدادي. محمد بن النعمان بن شبيل بصري. محمد بن عبد الرحمان الصنعاني. محمد بن خالد بن حرملة البصري. محمد بن عبد الله بن القاسم العمري. محمد بن عبد الله القادري. محمد بن أبي نوح قراد بغدادي. محمد بن الله الزبيري كوفي.
محمد بن مسلمة الحراني. محمد بن عبد الرحمان الرداد بن الرداد مدني. محمد بن يزيد الأنصاري. محمد بن موسى الأنصاري أبو غزية. محمد بن سليمان بن يونس. معاذ القريشي بصري. محمد بن سليمان ابن أخي داود الحراني. محمد بن خالد بن عثمة بصري. محمد بن خالد العمري مدني. محمد بن خالد الجندي. محمد بن جعفر بن صبيح مصري. محمد بن حاتم بن صبيح خرساني. محمد بن عبد الله ابن ريسان.(2/193)
محمد بن صالح بن فيروز مروزي. محمد بن الحسن بن خالد الترمذي. محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري القاضي بصري. محمد بن عبد الله بن سنان الحارثي. محمد بن عبد الله الرقاشي والد أبي قلابة بصري.
محمد بن عون الزيادي. محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة الحلي. محمد بن أيوب الرقي. محمد بن المجير بن علي الرعيني مصري. محمد بن جعفر الجعفري مدني. محمد بن جعفر عنوي بصري. محمد بن جعفر الوركالي. محمد بن مخلد أبو مسلم الرعيني شامي. محمد بن شجاع بن نبهان الخراساني. محمد بن مسلمة المزني. محمد بن إسحاق اللؤلؤي. محمد بن أبي فديك. محمد بن محمد ابن أسماء بن عبيد أخو جويرة. محمد بن أبي فديك. محمد بن أسامة مزني. محمد بن الحجاج المخزومي. محمد بن الحجاج المصفر بغدادي. محمد بن مصعب الفرفساني. محمد بن رمح مصري. معاوية النيسابوري. محمد بن زنبور بن أبي الأزهر المكي.(2/194)
محمد بن عبد الرحمان بن شروس الصنعاني. محمد بن محمد المقدسي. محمد بن يسوقا قروي. محمد بن عمر العنزي. محمد بن مسكين الرحال. محمد بن يحيى بن عبد الحميد أبو غسان مدني. محمد بن أبي بلال. محمد بن مسلم المدني. محمد بن جعفر المدني. محمد بن عمر البلقاوي دمياطي. محمد ابن أبي موسى الرعيني برقي.
محمد بن مروان أسدي كوفي. محمد بن زيد أبو زيد الأنصاري مدني. محمد بن مزاحم المروزي. محمد بن أبي الخطيب انطاكي. محمد بن عمر بن الوليد. محمد بن عيسى الطباع. محمد بن المغيرة المخزومي. محمد بن أبي مقاتل. محمد بن حيان أبو الأحوص البغوي.(2/195)
محمد ابن عثمان بن ربيعة الرأي. محمد بن يحيى الإسكندراني. محمد بن حرب ابن سليمان المكي. محمد بن حرب بن قطر بن قبيصة الهمامي بصري. محمد ابن سعيد السبابي أندلسي. محمد بن حرب الأبرش. محمد بن عيسى بن القاسم ابن سميع. محمد بن أبي عثمان مصري. محمد بن الفضل مكي. محمد بن مسلمة الحراني. محمد بن عثمان بن خالد العثماني. محمد بن أبي المطيع بصري. محمد بن أبي الوزير مصري. محمد بن أحمد بن حماد زغبة بصري. محمد بن عمران بن أبي ليلى كوفي. محمد بن بكير بن واصل الحضرمي بغدادي. محمد بن عتاب أبو الوليد السرخسي. محمد بن خلف البلخي. محمد بن بشر التنسي. محمد بن يحيى الأسلمي بصري. محمد بن حكم اللخمي افريقي.(2/196)
محمد بن معاوية الاطرابلسي. محمد بن بشير القاضي أندلسي. محمد بن عبد الأعلى أبو الحطاب افريقي. محمد بن ربيعة الحضرمي الطرابلسي. محمد بن عبد الله بن حكيم برقي. محمد بن عبد الله بن قيس الكناني برقي. محمد بن عليم. محمد بن إسماعيل حمصي مدني. محمد بن مخلد الحضرمي. محمد بن قعنب مدني. محمد بن الحسن ابن أتيش صنعاني. محمد بن عبد الله الحطاطي أندلسي. محمد بن زكريا ابن يحيى المعافري اسكندراني. محمد بن بكر البلوي. موسى بن جعفر الجعفري. موسى بن أعين الجزري. موسى بن محمد الأنصاري كوفي. موسى بن محمد بن عطاء البلقاوي. موسى بن مسلمة مصري. موسى بن عبد الله بن أبي علقة القروي. موسى بن إبراهيم المروزي. موسى بن إبراهيم العثماني. موسى بن أبي بكر البكري.(2/197)
موسى بن تميم مصري. معافر بن عمران الظهري موصلي. مخلد بن يزيد الحراني. مخلد بن أبان البناء. مخلد ابن خداش أبو خداش بغدادي. (مروان بن محمد الطاطوي) . مروان ابن محمد السنجاري. منصور بن مزاحم بغدادي. منصور بن سلمة أبو سلمة الخزاعي بصري. منصور بن يعقوب بن أبي نويرة كوفي. منصور بن إسماعيل التل حراني. محمد بن عون بصري. محمد بن سلمة العدوي. محرز المدني. معلى بن منصور الرازي. معلى المفضل البصري. مالك بن إسماعيل أبو غسان كوفي. مالك بن سليمان الهروي. مالك بن حويص الهروي. مالك بن إبراهيم النخعي.(2/198)
مالك بن عثمان المعافري. أبو طالب قروي. مالك بن هارون الأسواني. المغيرة بن الحسن خال سعيد بن جعفر المغيرة بن صقلاب حراني. المغيرة بن الحسن الهاشمي مدني. مسلمة بن سليمان أندلسي. مسلمة بن علي بن الحسن شامي. معن بن عيسى. مطرف ابن عبد الله مكي. مكي بن إبراهيم الرحميني بلخي. محمود بن ميمون كوفي. منبه بن عثمان دمشقي. مسكين بن بكير حراني. مجاعة بن الزبير. معمر بن خالد السروجي. مفضل بن فضالة مصري. مفضل بن صدقة. معمر بن سليمان بصري. مسيب بن شريك. مقاتل بن إبراهيم بلخي. مهدي بن إبراهيم شامي.(2/199)
مهدي بن هلال. مصعب بن عبد الله الزبيري. مصعب بن عثمان الزبيري. مصعب بن إبراهيم القرشي. مهران ابن أبي عمران الرازي. مبشر بن إسماعيل الحلبي. مبارك بن مهاجر أبو الأزهر الرازي. منجاب بن الحارث بصري. مرداس بن محمد أبو هلال الأشعري. منيع بن ماجد أبو مطرف صنعائي. معاوية بن هشام أنصاري كوفي. مسعدة بن اليسع كوفي. معاوية بن حفص السبعي حمصي. معاوية ابن المفضل قيرواني. مندل بن علي القمزي. مغيث بد بديل سرخسي المنذر بن علي الخزامي مدني. الماضي بن محمد بن مسعود بصري. مرحوم ابن عبد العزيز العطار مصري. مسلم ويقال سلم بن ميمون الخواص شامي مطرف بن الأقرع قروي.(2/200)
حرف النون
النعمان بن عبد السلام الأصبهاني. النعمان بن شبل بصري. نوح بن أبي مريم أبو عصمة بلخي. نوح بن يزيد المؤدب بغدادي. نوح بن مريم. النضر بن شميل مروزي. النضر بن شميل مكي. النضر بن الطاهر بصري. نضر بن باب خرساني. نضر بن طريف بصري. أبو حربة بصري. نصر بن إبراهيم. نافع بن يزيد بصري. نعيم بن حماد خراساني.
حرف العين
عبد الله بن نافع الصائغ مدني. عبد الله بن نافع الزبيري مدني. عبد الله ابن سلمة القعنبي بصري. عبد الله بن وهب مصري. عبد الله بن عبد الحكم مصري. عبد الله بن عثمان بن أبي واد بصري. عبد الله بن عون الخرازني بغدادي.(2/201)
عبد الله بن محمد بن أبي الوزير طائفي. عبد الله بن ميمون الرمام بلخي. عبد الله بن عثمان المعافري قروي. عبد الله بن عباد أبو عباد البصري ابن أخت حماد بن سلمة. عبد الله بن عبد الوهاب الجحفي. عبد الله ابن عنبسة العثماني. عبد الله بن عمرو بن أمية المغربي. عبد الله بن أمية النخاس. عبد الله بن إبراهيم الغفاري مدني. عبد الله بن عمر الفهري. عبد الله بن إدريس الجعفري. عبد الله بن إبراهيم البياض. عبد الله بن عبد الملك. عبد الله بن يزيد القصير مكي. عبد الله بن الحارث المخزومي مكي. عبد الله بن عثمان بن أبي إسحاق بن سعد بن أبي وقاص.
عبد الله ابن مهران كوفي. عبد الله بن حكيم ابو بكر الداهري. عبد الله بن داود الجريجي بصري.(2/202)
عبد الله بن داود التمار واسطي. عبد الله بن نمير العمراني كوفي. عبد الله بن الوليد العدني. عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان مدني. عبد الله بن الربيع. عبد الله بن محمد بن أبي فروة. عبد الله بن مطيع بغدادي. عبد الله بن مسلم بن رشيد الهاشمي مولاهم. عبد الله بن محمد بن زمعة العداي مصيصي مولاهم. عبد الله بن مسلم. عبد الله بن محمد بن عمارة الفراح. عبد الله بن واقد الحراني. عبد الله بن العلاء بن زيد دمشقي. عبد الله بن الجراح القومتاني. عبد الله بن رجاء المكي بصري. عبد الله بن مسوار العنبري القاضي بصري. عبد الله بن مالك الخزاعي. عبد الله بن يوسف التنيسي. عبد الله بن محمد بن حميد بن الأسود ابن أخت ابن مهدي. عبد الله بن مصعب بن ثابت الزبيري.(2/203)
عبد الله ويقال عبد الرحمان بن يحيى بن سعيد القدري مدني. عبد الله بن عمر بن قاسم العمري. عبد الله بن معاذ صنعائي. عبد الله بن النضر بن أنس بن مالك بصري. عبد الله بن أبي حسان قيرواني. عبد الله بن صالح كاتب الليث. عبد الله بن أسمح مصري. عبد الله بن محمد البيطاري مصري. عبد الله بن حماد الخولاني مدني. عبد الله بن أبي غسان قروي. عبد الله ابن عبد الحميد الحنفي بصري. عبد الله بن عثمان أبو طالب الإبزاري. عبد الله بن عياد القلزومي. عبد الله بن داود الطيالسي. عبد الله بن عبد الجليل مؤدبه. عبد الله بن حازم الرملي. عبد الرحمان بن القاسم مصري. عبد الرحمان بن محمد المحاربي. عبد الرحمان بن عمر الحراني. عبد الرحمان ابن عبد الله بن عمر العمري. عبد الرحمان بن عبد الله أبو سعيد الهاشمي مكي. عبد الرحمان بن أبي جعفر الدمياطي. عبد الرحمان بن عبد الله ابو سعيد الهاشمي مكي.
عبد الرحمان بن أبي جعفر الدمياطي. عبد الرحمان بن محمد الحمدي مدني.(2/204)
عبد الرحمان بن مسلم بن واقد. عبد الرحمان بن غزوان قراد أبو نوح. عبد الرحمان بن المغيرة الخزامي. عبد الرحمان بن دبيس الملامي كوفي. عبد الرحمان بن يونس الجعفري كوفي. عبد الرحمان بن يحيى بن ريسان بغدادي. عبد الرحمان بن مقاتل أبو سهل خالد القعنبي. عبد الرحمان ابن المبارك العيشي. عبد الرحمان بن إبراهيم الراسبي. عبد الرحمان بن الجهم قيرواني. عبد الرحمان بن زيد بن أسلم مدني. عبد الرحمان بن عبد الله بن تيم اليشكري قاضي نيسابور. عبد الرحمان بن عبد الله العمري نيسابوري. عبد الرحمان بن هند أندلسي. عبد الرحمان بن موسى الهواري. عبد الرحمان بن عبد الله الأشبوني أندلسي. عبيد الله بن عبد الحميد ويقال عبد الله أبو علي الحنفي بصري.
عبد الله بن سفيان القداني بصري. عبيد الله ابن محمد بن عائشة التميمي. عبيد الله بن عمر الأموي. عبيد الله بن حيان دمشقي. عبيد بن أبي قرة بغدادي. عبيد بن عبيد الله مروزي. عبيد ابن عبد الرحمان اليمامي.(2/205)
عبيد بن هشام الحلبي القلانسي أبو نعيم. عبد العزيز ابن عمران الزهري. عبد العزيز بن عبد الملك الأوسي. عبد العزيز بن يحيى مدني. عبد العزيز بن عبد الله الأويسي. عبد العزيز بن الحصين بن الترجمان خراساني. عبد العزيز بن أبي رزمة مروزي. عبد العزيز بن أبي رجاء. عبد العزيز بن يحيى الهاشمي مولاهم. عبد العزيز بن عبد الله العامري بغدادي. عبد العزيز بن أبي رواد خراساني. عبد الملك بن الماجشون. عبد الملك بن مسلمة القعنبي بصري، أخو عبد الله. عبد الملك بن مسلمة القريشي مصري. عبد الملك بن زياد النصيبيني. عبد الملك بن قريب الأصمعي. عبد الملك بن يزيد الحرزي. عبد الملك بن عمر بن عامر القعدي. عبد الملك ابن عبد العزيز النسائي أبو نصر التمار. عبد الملك بن مهران الرفاعي. عبد الملك ابن أبي كريمة قاضي القيروان. عبد الملك بن مهران الرفاعي.
عبد الملك ابن أبي كريمة قاضي القيروان. عبد الملك بن يزيد القرقساني.(2/206)
عبد الملك بن الحكم الرملي. عبد السلام بن سلمة بن يرداد مدني. عبد السلام بن صالح أبو الصلق الهروي. عبد الحميد بن أبي أويس أبو بكر مدني. عبد الحميد ابن سليمان الخزاعي أخو فليح بن سليمان مدني. عبد الحميد بن عبد الرحمان ابن فروة. عبد الحميد بن يحيى مدني. عبد الحميد بن صالح البرجمي كوفي. عبد الوهاب بن نافع مدني. عبد الوهاب بن عطارد الخفاف العجلي بصري. عبد الوهاب بن موسى الزهري. عبد الكريم بن روح بن عنبسة. عبد الحكم ابن أعين مصري. عبد الأعلى بن حماد الراسبي بصري. عبد الأولى بن مسهر دمشقي. عبد الرحيم بن موسى العتاد. عبد الرحيم بن واقد بغدادي.(2/207)
عبد الرحيم بن أشرس قروي. عبد الكبير بن عبد الحميد بن أبي رواد مكي. عبد الغفار ب داود بن مهران حراني. عبد العظيم بن حبيب بن زغبان أبو بكر الحمصي. عبد الرزاق بن همام صنعائي. عبد الجليل بن سعيد الساحقي. عبد المنعم بن بشر أبو الخير مدني. عبد المتعال بن صالح. عبد الأحد بن أبي زرارة الغساني. عبد القدوس بن الحجاج أبو المغيرة حمصي. عبد العظيم ابن عبد ابن عبد الله النقعي. عبد الحكم بن ميسرة المروزي. عمر بن هارون البلخي. عمر بن راشد ويقال عمرو الرملي. عمر بن أبان بن عثمان. عمر بن عصام مدني. عمر ابن إبراهيم بن مالك الكردي كوفي. عمر بن محمد بن يحيى ابن عمر بن أبي مسلمة بن عبد الرحمان حجازي. عمر بن أيوب المدني. عمر بن نعيم بن ميسرة الرازي. عمر بن خالد مصري. عمر بن أيوب البرقي.(2/208)
عمر بن أيوب المعافري. عمر بن سميك ويقال سمك قروي. عمر السهيمي. عمر بن سعيد أبو داود كوفي. عثمان بن عمر بن فارس بصري. عثمان بن عمر بن سلاح حراني. عثمان بن عبد الرحمان الطرابلسي حراني. عثمان بن سعيد بن كثير الحمصي. عثمان بن عثمان بن خالد العثماني. عثمان بن عبد الله القرشي. عثمان بن الله النصيبيني. عثمان بن صالح بن حبان مصري. عثمان بن عبد الله بن محمد الأموي. علي بن زياد الفقيه التونسي. علي بن زياد المحتسب الاسكندراني. علي بن الجارود النيسابوري. علي بن أبي علي اللهبي. علي بن هشام بن البريد كوفي. علي بن عبيد الله ابن محمد بن محمد بن علي بن أبي طالب.
علي بن يونس البلخي. علي ابن عبد الحميد المعي الكوفي. علي بن الماع المروزي،(2/209)
علي بن الحسن بن أبان الرازي كراع. علي بن أبي بكر الأسباطي رازي. علي بن ثابت الجزري، علي بن محمد أبو الحسن المدائني الأخباري. علي بن الجعد الجوهري بغدادي. علي بن الربيع بن الركين الفزاري كوفي. علي بن محمد بن الحسن العلوي بن يوسف البصري. علي بن سالم الجهمي. علي ابن قتيبة الرفاعي. علي بن سعيد المؤذن. علي بن سعيد الترمذي. علي ابن عيسى الغساني. علي بن معبد بن شداد العبيدي مصري. علي بن معبد بن شداد العبيدي مصري. علي بن هارون الزينبي. علي بن الحسن الساسي صعيدي. علي بن زادويه. علي ابن أبي الوزير. علي بن يونس القروي. علي بن مقدم بصري. عمر ابن سعد أبو داود الجعدي كوفي. عمر بن عمران المدني. عمر بن عثمان الزهري مدني.(2/210)
عباس بن أبي سلمة مدني. عباس بن الوليد القرشي مصري. عباس بن ناصح الجزري. عباس بن الوليد الفارسي تونسي. عمر بن حفص الإيلي. عمر بن اليتيم القطيعي بصري. عمر بن حكام بصري. عمر بن محمد المنقري كوفي. عمر بن أبي سلمة تنيسي. عمر بن مزرق بصري. عمر بن زياد الثوباني. عمر بن يزيد مصري. عمر بن مروان الإيلي. عمر بن زياد الباهلي بصري. عمر بن محمد العثماني. عيسى بن زيد بن علي الحسيني. عيسى بن الجعفري. عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي. عيسى بن ميمون المكي. عيسى بن موسى مدني.(2/211)
عيسى بن موسى الصفار. عيسى بن خالد اليمامي. عيسى بن واقد الحنفي. عيسى بن أبي فاطمة الرازي. عيسى ابن شجرة التونسي. عيسى بن موسى بن حميد مدني. عيسى بن يونس الرملي. عيسى بن خالد دمشقي. عاصم بن مهجع أبو الربيع البصري. عاصم بن أبي بكر الزهري أبو قمرة مدني. عاصم بن علي بن عاصم الواسطي. عاصم ابن عبد العزيز الأشجعي. عقبة بن خالد السكوني كوفي. عقبة بن علقمة المعافري مروي. عقبة بن حسان العجري. عقبة بن عبد الحميد مروزي. عتبة بن حماد أبو جليد المكي القاري. عتبة بن محمد مروزي. عامر بن صالح بن عبد الله الزبيري مدني. عامر بن أبي عامر الخراز مصري. عامر ابن أبي جعفر الأندلسي.(2/212)
عامر بن يسار. عامر بن عبد الله الغافقي. عباد ابن كثير عباد بن عباد بن المهلب أبو معاوية بصري. عباد بن صهيب أبو بكر الكلبي. العلاء بن عبد الجبار مكي. العلاء بن كثير مصري. علي ابن الفضل أبو حاتم البصري. عمارة بن زيد. علي بن مطر الرهاوي. عمران ابن أبان الواسطي. عمر بن يزيد بن جرجيس الفارسي مصري. عطاف بن خالد المخزومي.
عتيق بن يعقوب بن صديق الزبيري. عمير بن عمار الهمذاني كوفي. عمامة بن عمر السهمي. عون بن عمارة مصري. عفيف بن سالم موصلي. عفان بن يسار الجرجاني. عنبسة بن داود قروي. عبيد بن عثمان دمشقي.(2/213)
حرف الغين
غياث بن إبراهيم. غياث بن الحسيب. غسان بن مالك. الغازي بن قيس أندلسي.
حرف الفاء
فضيل بن عياض مكي. فتيان بن أبي السمح مصري. فضيل بن صالح المعافري. الفضيل بن ذكين أبو نعيم كوفي. فضيل بن غانم القاضي بغدادي. الفضل بن يحيى بن المروح أنباري. الفضل بن العباس. الفضل بن منصور. فضيل بن إسحاق. فياض بن محمد الرقي. فرج بن مرزوق أبو مسلم فهر بن حيان الأقطف بصري. فرات بن زهير بن أبي عيسى الجزري. فطر ابن حماد بن واقد الصفار بصري. فطر بن محمد الكواري.
حرف القاف
قاسم بن معن بن عبد الرحمان المسعودي كوفي.(2/214)
قاسم بن الحكم ابن أبي أوس مدني. قاسم بن مزيد الحرمي. القاسم بن عبيد العمري. القاسم بن نافع مدني. القاسم بن سليمان الطائفي. قتيبة بن سعيد الخراساني. قيس بن الربيع كوفي. قطن بن صالح دمشقي. قدامة بن شهاب. قدامة بن محمد بن خيثم. قرعوس بن العباس أندلسي.
حرف السين
سعيد بن عفير مصري. سعيد بن الجهم مصري. سعيد بن عثمان مصري. سعيد بن الحكم بن أبي مريم. سعيد بن داود بن أبي زنبر مدني. سعيد بن مسكين بن أبي زرد. سعيد بن هشام. سعيد بن موسى شامي. سعيد بن أبي هلال. سعيد بن عبد الرحمان الجمحي. القاضي(2/215)
سعيد بن عبد الجبار الكرابيسي بصري. سعيد بن سالم القداح. سعيد بن سالم العطار مكي. سعيد بن عبد الحميد بن جعفر بصري. سعيد بن منصور مكي. سعيد بن محمد ويقال ابن موسى الأزدي. سعيد بن عمر الزبيري. سعيد ابن معن مدني. سعيد بن عيسى. سعيد بن منصور بلخي. سعيد بن المغيرة الصياد مصيصي. سعيد بن الصباح نيسابوري. سعيد بن عون بصري. سعيد بن عبد الجبار أبو غنام حمصي. سعيد بن عمر بن الزبير مدني. سعيد بن عبد الرحمان المساحقي مدني. سعيد بن عبد الرحمان بن جعفر بصري. سعيد بن ميسرة أو هبيرة كوفي.(2/216)
سعيد بن عبد الحميد بن جعفر أبو معاذ مدني. سليمان بنبرد مصري. سليمان بنداود الزهراني. سليمان بن حيان أبو خالد الأحمر كوفي. سليمان بن داود العسفاني. سليمان ابن محبوب العباداني. سليمان بن فريع مصري. سليمان بن عيسى الشجري. سليمان بن بريد بن المغني مدني. سلمة بن العبار دمشقي. سلم بن قتيبة الشعيري بصري. سلم بن المغيرة الأزدي، أبو خميصة. سويد بن سعيد الحدثاني كوفي. سويد بن عبد الله كوفي. سويد بن عبد العزيز الدمشقي. سويد بن محمد قروي. سهل بن حماد أبو عتاب الدلال بصري. سهل بن مزاحم المروزي. سهل بن زياد الباهلي أبو عمرو. سهيل ويقال سهل بن قدامة الخاطبي. سلام بن واقد.(2/217)
سريح بن يونس بغدادي. سريح بن النعمان. سوار بن عمار رملي، سنان بن عبد الله، سحبل خادمه. سليمان ابن عبد الله بن كعب. سالم القداح مصري. سلامة بن زياد بن يونس مصري.
حرف الشين
شعيب بن يحيى اسكندراني. شبابة بن شبابة بن سوار مدائني. شعيب ابن إسحاق دمشقي. شعيب بن حرب أبو صالح بغدادي. شعيب بن الليث ابن سعد مصري. شجرة بن عبد الله بن عيسى قروي. شبطون بن عبد الله أندلسي.
حرف الهاء
الهيثم بن عدي الطائي بغدادي. الهيثم بن جميل انطاكي. الهيثم بن خارجة خراساني. الهيثم بن حبيب بن غزوان أبو سالم خراساني. الهيثم بن عبد الله القرشي الفقيه. الهيثم بن خالد الخشاب كوفي.(2/218)
الهيثم بن حيان ابو بشر الرازي. هشام بن عبد الملك المدائني. أبو الوليد الطيالسي بصري. هشام ابن بهرام المدائني. هشام بن عمار السلمي دمشقي. هشام بن عبد الله الرازي. هشام بن إسحاق بن عمرو أبو ربيعة مصري. هشام بن يوسف القاضي الصنعاني. هاشم بن القاسم أبو النضر بغدادي. هشام بن محمد الربعي. هانىء بن المتوكل اسكندراني. هياج بن بسطام هروي. هشام بن مسلم. هشيم بن بشير بغدادي. هارون بن صالح الطائي. هارون بن أبي الهيدام. هارون بن عبد الله الزهري القاضي بغدادي. هارون بن معروف بغدادي.
حرف الواو
ورقاء بن عمرو السكوني مدائني. الوليد بن سلمة الطغرائي. الوليد ابن كثير رازي. وهب بن المبارك أبو اليسع. وهب بن عطية بصري.(2/219)
وهب بن وهب أبو البختري القاضي. وبرة بن داود أندلسي.
حرف الياء
يحيى بن مالك ابنه. يحيى بن يحيى التميمي نيسابوري. يحيى بن يحيى الليثي أندلسي. يحيى بن بكير مصري. يحيى بن نضر أندلسي. يحيى بن سعيد أبان أموي. يحيى بن سليمان الطائفي. يحيى بن أيوب المصري. يحيى بن أبي زائدة كوفي. يحيى بن عبد الله بن سالم العمري مدني. يحيى بن نصر بن حاجب القرشي. يحيى بن عبد الله الضحاك البابلي. يحيى بن عبد الصمد بن معقل بن وهب بن منبه الصنعاني شامي. يحيى بن حمزة الدمشقي. يحيى بن محمد العمري. يحيى بن ثابت الجندي، يحيى كاتبه. يحيى بن المبارك الصنعاني.(2/220)
يحيى بن صالح الوحاظي شامي. يحيى بن إبراهيم بن داود بن أبي قتيبة مدني. يحيى بن محمد بن قتيبة مدني. يحيى بن سالم البصري، سكن أفريقية. يحيى بن عبد الله بن غيلان الجوهري بغدادي. يحيى بن السكن. يحيى بن عبد الحميد الحمامي كوفي. يحيى بن ترعة القرشي مدني. يحيى بن أبي عمر المدني. يحيى بن أبي المتوكل الباهلي. الحراني ويعرف ويعرف بالتميمي. يحيى بن مسلمة بن قعنب. يحيى بن أبي عباد. يحيى بن راشد. يحيى بن الضريس(2/221)
رازي. يحيى بن العريان الهروي أبو زيد. يحيى بن عبيد الشافي. يحيى بن زياد بن ضماد المرادي اسكندراني. يحيى ابن سابق مدني. يحيى بن عباد الزبيري مدني. يحيى بن كثير العنبري. يحيى بن يزيد الحنبلي. يوسف بن عدي كوفي. يوسف بن عمر بن يزيد مصري. يوسف بن شعيب اللاذقي. يوسف بن يونس أبو يعقوب الأفطسي شامي. يوسف بن الطرق. يعقوب بن الوليد المدني. يعقوب بن إبراهيم الحضرمي. يعقوب بن إبراهيم بن مطرف. يعقوب بن إسحاق بن أبي عباس القلزمي. يعقوب بن كاسب مدني. يونس بن يحيى أبو نباتة مدني. يونس ابن محمد بغدادي. يونس بن هارون شامي.(2/222)
يونس بن عبد الله بن سالم الخياط عصبة مالك. يونس بن عبد الله الليثي لعمري بصري. يونس بن تميم مصري. يزيد بن أبي حكيم المدني. يزيد بن إبراهيم التستري. يزيد بن هارون الواسطي. يزيد بن هارون أبو خالد الأصبحي ويقال الصباحي. يزيد بن الخلال بغدادي. يزيد بن مغلس الباهلي. يزيد بن وهب أبو موهب شافعي. يزيد بن محمد الجمحي أفريقي. يزيد بن عبد الأعلى ابن سويد الحبشاني. يعيش بن هشام القرقساني شامي.
حرف الكنى
أبو بكر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب. أبو بكر بن شعيب المدني. أبو طلحة القاضي المدني.(2/223)
أبو طالب بن عثمان المعافري قروي، وهو والله أعلم أبو طالب الإبزاري وسنذكره والخلاف فيه. أبو محمد الحكيمي مدني. أبو موسى القاضي، أراه هارون الزهري ولكنه كنيته ذلك المعروفة والله أعلم. أبو يحيى أبو المطرف بن أبي الوزير بصري. أبو علي صاحب محمد بن الحسن. أبو نصر التمار كوفي. أبو نضلة الأوسي. أبو السمح ويقال أبو السمحاء والد فتيان مصري. أبو سهل ابن أخي عتبة بن محمد اليمامي. أبو سعيد مولى بني هاشم أبو الهيثم العبدي. أبو سوار ويقال ابن سوار الجوني. أبو نبيل عبد الله بن مالك. أبو سلمة الخزاعي. أبو سليمان البلخي كاتب ابن الرماح.(2/224)
قال الإمام الحافظ رضي الله تعالى عنه، قد ذكر ما في هذه الحروف من التراجم التي قبلها من أسماء الرواة عن مالك للفقه والأثر من الأكابر والمشائخ قبله وبعده ومعه، ومشاهير الرواة نيفاً على ألف اسم وتركنا كثيراً ممن لم يشتهر بذلك أو من جهل ولم يعرف من هو أو لم يذكر له عنه رواية إلا حكاية حالة أو وصف قصة، أو ذكر في رواية ولم تصح روايته عنه عند أهل المعرفة بالأثر ولاحظنا ذلك من كتابنا الآخر الجامع لجمهرة رواته الذين قدمنا ذكرهم واقتصرنا فيه على مجرد أسمائهم والتعريف بهم، دون التعرض لما رووه عنه، ولا شيء من أخبارهم إذ أخبار الفقهاء منهم تأتي مستوعبة مبسوطة بعد هذا الجزء إن شاء الله تعالى، وغيرهم ليس من غرضنا في هذا التأليف فلم نشتغل به، فنخرج عن أسلوبه ونخالف مقتضى تبويبه والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) .
تم الجزء الثاني من المدارك والحمد لله على ذلك.(2/225)
بسم الله الرحمن الرحيم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
ابتداء الطبقات
قال الفقيه القاضي الإمام أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض رضي الله عنه:
وهذا حين ابتدىء لي ترتيب الطبقات المقصودة على العهود الموعودة وقد وجدنا أصحاب مالك من الفقهاء ثلاث طبقات. أولها، من كان له ظهور في العلم مدة حياته وقاربت وفاته مدة وفاته. وثانيها قوم بعد هؤلاء، فمن عرف بطول ملازمته وصحبته وشهر بعده بتفقهه عليه وروايته. ثالثها، قوم صحبوه صغار الأسنان أخرجهم بعده الزمان، فقاربوا أتباع أتباعه وفضلوا بشرف مجالسته وحرية سماعه، فرتبناهم على هذا التطبيق وجئنا بمن بعدهم فريقاً بعد فريق والله ولي التوفيق.(3/1)
الطبقة الأولى من أصحاب مالك
فمنهم من أهل المدينة: المغيرة بن عبد الرحمان المخزومي: قال الزبير ابن بكار هو المغيرة بن عبد الرحمان بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. قال أبو القاسم الإلكاني: ويقال في نسبه أيضاً ابن عبد الرحمان بن الحارث بن عياش. وقاله البخاري: ويقال ابن عبد الرحمان بن عبد الله بن عياش كنيته أبو هاشم. قال: وأمه قروية بنت محمد بن عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، سمع أباه وابن عجلان وعبد الله بن سعيد بن أبي هند، وهشام بن عروة وموسى بن عقبة وأبا الزناد ويزيد بن أبي عبيد ومالكاً،(3/2)
روى عنه، ابناه عبد الرحمان وعياش ومصعب بن عبد الله، وأبو مصعب الزهري وإبراهيم بن حمزة الزبيري وقتيبة ابن سعيد، ويحيى بن بكير وسعيد بن أبي مريم وابن مهدي وابن كاسب والدراوردي. قال أبو زرعة: لا بأس به. والمغيرة أحب إلي في أبي الزناد من ابنه، خرج عنه البخاري وقال يحيى فيه: ثقة. وقال أحمد بن حنبل لا بأس به.
ذكر مكانته من العلم والثناء عليه
قال الزبير: كان المغيرة، فقيه المدينة بعد مالك. قال أبو عمر بن عبد البر: كان مدار الفتوى في زمان مالك وبعده علي المغيرة ومحمد بن دينار. حكى ذلك عبد الملك بن الماجشون، وكان ابن أبي حازم ثالثهم في ذلك، وعثمان بن كنانة وابن نافع. قال ابن بكير كان المغيرة يفتي في حياة مالك وللمغيرة كتب فقه قليلة في أيدي الناس،(3/3)
قال الواقدي: كان المغيرة فقيه أهل المدينة بعد مالك. قال غيره: كان بين المغيرة ومالك أول أمره معارضته ثم زالت آخراً وجالسه. قال محمد بن عبد الله البكري: رأيت المغيرة يأتي مالكاً فيستند في المجلس وما يرتفع إلى مجلس مثله. وقال غيره: وكان لمالك مجلس كالدكة يقعد فيه وإلى جانبه المخزومي لا يقعد فيه سواه، وإن غاب المخزومي. قال الزبير: وعرض عليه أمير المؤمنين الرشيد قضاء المدينة وجائزة أربعة آلاف دينار فامتنع، فأبى إلا أن يلزمه ذلك، فقال والله يا أمير المؤمنين لئن يخنقني الشيطان أحب إلي من أن ألي القضاء. فقال الرشيد ما بعد هذا شيء، وأعفاه. وأجازه بألفي دينار. وقال الواقدي: لما جمع الرشيد بين مالك وأبي يوسف وأبي مالك أن يناظره، قام المغيرة وقال: يا أمير المؤمنين، منا من يكفي أبا عبد الله الجواب إن أذن أمير المؤمنين. قال من هو؟(3/4)
قال: أنا. فأذن له فناظره المغيرة في مسألة من الرهن، وكان فقيه المدينة بعد مالك، فقويت حجة المغيرة على أبي يوسف فتناظرا إلى المغرب حتى خرجوا. قال الواقدي: فقال لي يحيى بن برمك: يا واقدي ماذا لقي صديقك أبو يوسف من المغيرة؟ لقد حيره حتى جعلت أتمنى أن يؤذن المؤذن بالمغرب فيتفرق المجلس لما لقي أبو يوسف منه. وقال المغيرة لمالك حين خرجوا: كيف رأيت مناظرتي للرجل؟ قال رأيتك مستعلياً عليه، غير أنك كنت تترك شيئاً. قال وما هو؟ قال كنت إذا ظهرت عليه في مسألة فضاقت به، أخرجك إلى غيرها وتخلص منها بذاك، وكان ينبغي أن لا تفارقه فيها حتى يفرغ منها.
ذكر نوادره وأخباره
قال الزبير بن بكار: قرأ الدراوردي على المغيرة فجعل يلحن لحناً منكراً فقال: ويحك يا دراوردي، أنت كنت بإقامة لسانك قبل طلبك هذا الشأن أحرى. وقال: ما كانت لنا حرمة إلا عاد عليها اللسان.(3/5)
وحكى أبو بكر الخطيب عن ابن الماجشون، قال: دخل أبي وأصحابه على المهدي بالمدينة وفيهم المغيرة بن عبد الرحمان وأبو السائب، وابن أخت الأحوص، فقال لهم: أنشدوني. فأنشد عبد العزيز بن الماجشون:
وللناس بدر في السماء يرونه ... وأنت لنا بدر على الأرض مقمر
فبالله يا بدر السماء وضوئها ... تراك تكافي عشر مالك آخر
وما البدر إلا دون وجهك في الدجا ... يغيب فتبدو حين غاب فتقمر.
وما نظرت عيني إلى البدر طالعاً ... وأنت تمشي في الثياب فتسحر.
وأنشد ابن أخت الأحوص:
قالت كلابة ما هذا فقلت لها ... هذا الذي أنت من أعدائه زعموا
إني امرؤ لج في حب فأحرقني ... حتى بليت وحتى شفني السقم
وأنشد المغيرة:
رمى البين من قلبي السواد فأوجعا ... وصاح فصيح بالرحيل فأسمعا
وغرد حاوي البين وانشقت العصا ... وأصبحت ملهوف الفؤاد مفجعا
كفى حزناً من حادث الدهر أنني ... أرى البين لا أسطيع اللبين موقعا
وأنشد أبو السائب:
أصيخا للداعي حب ليلى ميمما ... صدور المطايا نحوها وتسمعا
خليلي إن ليلى أقامت فإنني ... مقيم وإن بانت فبينا بنا معا(3/6)
وإن أثبتت ليلى بربع غدوها ... فعوذا لها بالله أن تتزعزعا
فقال المهدي والله لأغنيتكم الأربعة. فأجاز الأربعة بعشرة آلاف دينار. وقال المغيرة: كنت أسأل مالكاً، عن القول يقوله من أين قاله، فصلى يوماً إلى جانبي فقال لي: يا أبا هاشم، إنك تكرم علي وتسألني عما لا أجيب فيه الناس، فإن أجبتك اجترأوا عليّ، وأحب أن تفعل، ولكن اكتب ما تريد من المسائل وابعث بها تحت خاتمك أجيبك فيما أمكنني إن شاء الله. فانصرفت مسروراً وقلت لأصحابنا اكتبوا مسائل فكتبناها في نصف طومار وختمت عليه ووجهتها إليه، فقامت عنده أربعة أشهر فجاءتني بخاتمه بعد ذلك وقد أجاب في ثلث ذلك المسائل، قال في باقيها لا أدري. ومعه دخل مالك على الرشيد متوكئاً على المساحقي وعبد الرحمان بن عبيد الله العمري، وربما كان مع المغيرة إذ ذاك للناس، قيل لمالك: إن المغيرة قد(3/7)
عرض به أبو المعافى في شعره الكافي، وكان قد سجن فجعل له مالك أن يخرج من شهد عليه وشهد عليه المغيرة فقال: ألا قل لقوم سرهم فقد مالك...... الأبيات. مولد المغيرة سنة أربع وعشرين ومائة، وتوفى فيما قاله الزبير وعمه مصعب سنة ثمان وثمانين ومائة. وقال البخاري وابن وضاح: في صفر سنة ست وثمانين، قال البخاري: يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر، وابنه أبو القاسم عبد الرحمان بن المغيرة. قال أبو القاسم الإلكاني يروى عن مالك وابنه يروي عنه ابن المنذر، والخزامي وعبد الرحمان بن شيبة.(3/8)
عبد العزيز بن أبي حازم
واسم أبي حازم سلمة بن دينار الفقيه الأعرج مولى أسلم، وقال ابن شعبان: مولى بني ليث كناه غير واحد أبو تمام وكناه أبو إسحاق الشيرازي أبو عبد الله، والأول أصح. وقال آخر: أبو اليمان وهو تصحيف من أبي تمام والله اعلم تفقه مالك على ابن هرمز وسمع اباه والعلاء بن عبد الرحمان، وزيد بن اسلم، وسهيل بن أبي صالح، وثور بن زيد، ويزيد بن المناذر ومالكاً، وكان من جلة أصحابه، روى عنه ابن وهب وابن أبي أويس وقتيبة وعبد العزيز الأوسي وابن مهدي والقاضي هارون الزهري وابن المديني والقعنبي ويحيى بن يحيى التميمي، ومصعب الزبيري، قال ابن معين فيه: صدوق ثقة ليس به بأس. قال النسائي ليس به بأس. وقال أبو حاتم الرازي وهو صالح الحديث(3/9)
قال: هو وأبو زرعة أفقه من الدراوردي، والدراوردي أوسع حديثاً منه. قال ابن حارث: كان إمام الناس في العلم بعد مالك، وحكاه ابن وضاح عن بعضهم وسور مع مالك آخرا. قال أحمد بن حنبل لم يكن يعرف بطلب الحديث إلا كتب أبيه فإنه سمعها منه، وكان رجلاً تفقه، وكان يقال لم يكن بالمدينة بعد مالك أفقه منه. قال: ويقال أن كتب سليمان بن بلال رفعت إليه ولم يسمعها منه. وقد روي عن أقوام لا يعرف له منهم سماعاً. قيل لمصعب بن عبد الله: ابن أبي حازم ضعيف إلا في حديث أبيه. قال، وقد قالوها، أما ابن أبي حازم فسمع من سليمان بن بلال، فلما مات سليمان أوصى بكتبه إليه، فكانت عنده، وقد بال عليها الفأر فذهب بعضها فكان يقرأ ما استبان ويدع ما لا يعرف. وأما حديث أبيه فكان يحفظه، خرج عنه البخاري ومسلم. قال أحمد كان يتفقه، لم يكن بالمدينة بعد مالك أفقه منه،(3/10)
قال مصعب: ابن أبي حازم فقيه. وقال ابن السكري: هو مدني ثقة. وقال مثله ابن نمير. قال الدراوردي: شهد عند قاضي المدينة فقال ما اسمك؟ قال عبد العزيز بن أبي حازم، قال: الاسم عدل، ولا أعرف وجهك. وكلف المشهود له من يعرف وجهه، قال فاستحسن ذلك العلماء. قال المؤلف مثل هذه الحكاية لابن القاسم وهي أشبه لخموله وقلة مواصلته القضاة، وأما ابن أبي حازم فأشهر بالمدينة ومجالس أعيانها من أن يجهل. وحكى الشيرازي أن مالكاً قال فيه: إنه لفقيه. وقال مالك قوم فيهم ابن أبي حازم لا يصيبهم العذاب. وقال ما يرفع عن المدينة إلا بابن أبي حازم. وقال ابن أبي ضمرة وغيره: ذكر قوم عند مالك الموت فبكى، فقلنا له أرأيت أن نزل بك الموت فإلى من نفزع ومن نشاور؟ فقال: إن قوماً فيهم ابن أبي حازم فيصدرون عن رأيه أرجو أن يوفقوا. وحكى الدراوردي، أن مالكاً سئل حين احتضر من ترى لنا؟ قال أبو تمام، يعني ابن أبي حازم.(3/11)
قال ابن مهدي: سأل رجل مالكاً عن مسألة فلم يجبه فيها، قال له: فمن نسأل يا أبا عبد الله؟ قال سل ابن أبي حازم، فإنه نعم المرء. قال ابن مليح لمالك الأنفس يقرى عليها ويراح فمن تأمرنا يا أبا عبد الله؟ قال: بابن أبي حازم. وقال أبو مصعب: إن مالكاً وعمر بن حسين كانا يجلسان عند الوالي فكان يرفع صوته على مالك، فقال مالك يوم بيوم. قال ابن شعبان وغيره: توفى فجأة بالمدينة في سجدة سجدها بالروضة بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، في آخر سجدة منها غرة صفر سنة خمس وثمانون وكذا قال الزبيري وغيره. قال ابن سعد الجارودي والقعنبي والباجي: سنة أربع. قال ابن سحنون سنة ست وثمانين ومائة. وذكر البخاري أيضاً أن موته سنة اثنتين وثمانين ومائة، ومولده سنة سبع ومائة وكان رحمه الله يخضب بالحناء.(3/12)
عبد العزيز بن الدراوردي
أبو محمد هو عبد العزيز بن محمد بن عبيد بن أبي عبيد، ويقال الاندراوردي أيضاً، منسوب إلى دراوند في بلاد فارس، وقال ابن سعد: دراورد قرية بخراسان. وذكره ابن أبي خثيمة وغيره، مولى جهينة، وبها كان منزله. ويقال مولى لبرمك بن وبرة لبرمك بن وبرة أخي كلب بن وبرة ومن قضاعة، مدني، مولده بها. روى عن هشام بن عروة وعبيد الله بن عمر، والعلاء بن عبد الرحمان، ومحمد بن إسحاق، وسهيل بن أبي صالح، وثور بن زيد، وحميد الطويل، وعمر بن يحيى المازني، ومحمد بن عبد الله بن حسن المهدي، وصحب مالكاً وغلب عليه الحديث وروى عنه، ابن وهب وأبو نعيم والقعنبي وقتيبة وأبو مصعب ويحيى بن يحيى،(3/13)
أخرج له مسلم وروى له البخاري، قال ابن معين ليس به بأس وما روى في كتابه فهو أثبت في حفظه. قال ابن أبي حازم ومصعب: كان مالك يوثق الدراوردي. قال ابن بكير وأحمد بن صالح هو ثقة. قال الكوفي: هو ثقة، وكان يلحن لحناً قبيحاً. قال أحمد: إذا حدث في كتابه فهو صحيح، وإذا حدث في كتب الناس أوهم. واختلف فيه قول النسائي فقال مرة ليس به بأس صالح. وقال مرة ليس بذاك. قال مصعب: ليس صاحب فتوى، كان صاحب حديث. قال محمد بن سعد: كان ثقة، كثير الحديث يغلط. قال الشافعي رأيت المغيرة وابن أبي حازم والدراوردي يذهبون مذهب مالك. وعده ابن حبيب في طبقاته خير فقهاء المدينة بعد مالك. قال مصعب وابن دينار: أمر هارون والي المدينة أن يولي الصدقات التي جعلها هارون لأهل المدينة خير رجلين بالمدينة، فلم يوجد يومئذ أفضل من الدراوردي وسلمة بن عكرمة المخزومي فأقرأهما الوالي كتاب هارون(3/14)
فأبيا عليه، فكتب إلى هارون فأجابه: تالله لئن ولينا أعمالنا أشرارنا ليرون ذلك من حيفنا وجورنا، ولئن وليناها خيارنا ليأبون علينا. اضرب كل واحد منهم ثلاثين سوطاً في كل يوم حتى يلياها. وكان سلمة قد أنهكته العبادة وما بقي فيه شيء، فقال لهما الوالي: والله إنكما لمن أجل أهل المدينة عندي، والله لأنفذن فيكما كتاب أمير المؤمنين أو تليانها. فبكى سلمة، وقال الدراوردي: والله إن ضربت ثلاثين سوطاً لأموتن. فقال له الدراوردي: ويحك يا سلمة تموت تحت السياط خير لك من النار. فقال سلمة: إنك والله قد وجدت مس السياط، فأتت لا تباليها. فكلم الناس الدراوردي، وقالوا إليه: إنما هي صدقة على المساكين وأنت فيها مأجور فولياها جميعاً، وقد كان هارون حلف على الدراوردي قبل هذا في عمل أراد أن يستعمله فيه فأبى فحلف ليضربنه أو ليلين، فحلف الدراوردي فضربه اثنين وثلاثين سوطاً موجعة فما ولي. توفى سنة ست وقيل خمس وقيل سبع وثمانين ومائة بالمدينة.(3/15)
زكريا بن منظور بن ثعلبة
ويقال عقبة بن ثعلبة بن أبي مالك القرضي الأنصاري أبو يحيى جليسه، ويحيى من أصحابه، وسمع منه ومعه، من زيد بن أسلم وأبي حازم وهشام ابن عروة، وسمع ابن أبي سبرة وعبيد الله بن عمر ومحمد بن عقبة وعطاف بن خالد وثابت بن يزيد المحاربي وعمر بن حسين. روى عنه عبد الله بن عبد الوهاب وعبد العزيز الأوسي وهارون بن معروف الحميدي ومحمد بن ذبالة وأبو إبراهيم الترجماني وإسحاق بن أبي إسرائيل وعباد بن موسى الختلي وأبو ثابت المدني وهشام بن عمار وإبراهيم بن المنذر وعتيق بن يعقوب وهارون بن يحيى القاضي وبه تفقه. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، ضعيف الحديث منكره، لم يكتب حديثه.(3/16)
وقال أبوزرعة ليس بالقوي، واهي الحديث منكره. وذكر يحيى بن معين أنه سكن بغداد، وقال أيضاً: لا بأس به. وقال مثل ذلك فيه أحمد بن صالح. قال الخطيب: اختلف قول يحيى فيه. قال ابن رشدين ولي القضاء وحمله هارون إلى الرقة، لقضية قضى بها، قال: وليس بثقة. قال ابن رشدين: سألت يحيى عنه، فقال: لا بأس به. قلت له: لم أرك فيه قبل جيد الرأي. فقال: ليس به بأس، إنما زعموا أنه كان طفيلياً. وقال ابن حنبل: زكريا بن منظور شيخ، ولينه. وقال فيه المدني ضعيف. وقال مثله العلا والنسائي والساجي. وقال الدرا قطني: مدني متروك. وقال محمد بن سعد: كان أعور.(3/17)
محمد بن دينار
هو محمد بن إبراهيم بن دينار الجهيني، مولاهم. من ولد دينار بن النجار. كنيته أبو عبد الله. قال القاضي أبو الوليد: كذا نسبه أصحاب الحديث. وقال عبد الرحمان الفقيه في روايته عنه: محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن دينار يروي عن أبي ذئب وموسى بن عقبة ويزيد بن أبي عبيد وعبد العزيز بن المطلب وكان فقيهاً فاضلاً له بالعلم رواية وعناية. قال ابن حبيب: كان هو والمغيرة أفقه أهل المدينة.(3/18)
قال ابن حاتم الرازي عن أبيه، وكان من فقهاء المدين زمان مالك، وهو ثقة. قال يحيى: وهو ثقة. قال البخاري: هو معروف الحديث. أخرج عنه البخاري. قال أشهب: ما رأيت في أصحاب مالك أفقه من ابن دينار. وقال ابن شعبان: لا أحسبه أراد غير المدنيين. قال ابن حارث: كان من قدماء أصحاب مالك وكبارهم وشركه في بعض رجاله. وقال ابن القاسم: كبير من أصحاب مالك، وهو ابن دينار. وقال الشافعي: ما رأيت في فتيان مالك أفقه من ابن دينار. قال الشيرازي درس مع مالك على ابن هرمز. قال الحارث من مسكين كان ابن دينار ممن يقدم من أصحاب مالك. قال: جاء رجل إلى مالك يوماً أثر صلاة الصبح وكان مالك لا يتكلم حتى تطلع الشمس فجلس الرجل ما شاء الله ثم قام يذهب فقال له ابن دينار ما شأنك؟ فأخبره. فأفتاه ابن دينار. فلما فتل قال مالك: يا محمد تفتي؟(3/19)
قال أصلحك الله لم يطمع الرجل فيك وقام ليذهب، فخشيت أن يذهب بحاله فأفتيته بما أعلم من مذهبك. فقال له مالك: عجلت.
قال سحنون كان مالك وعبد العزيز وابن أبي سلمة ومحمد بن دينار يختلفون إلى ابن هرمز، فيسألونه، فيجيب مالكاً وعبد العزيز، ولا يجيب الآخر. فتعرض له ابن دينار وقال له لم تستحل ما لا يحل لك؟ وذكر له القصة. فقال له: إني كبرت سني وأخاف أن يكون خالطني في عقلي مصل الذي خالطني في جسمي ومالك وعبد العزيز فقيهان عالمان يسألاني عن الشيء فأجيبهما فما رأياه من حق قبلاه، وما رأياه من خطأ تركاه. وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وثمانين ومائة.(3/20)
عثمان بن عيسى بن كنانة
قال ابن سعبان: يكنى أبا عمرو. وكنانة مولى عثمان بن عفان، قال أبو عمر بن عبد البر: كان من فقهاء المدينة، أخذ عن مالك وغلبة الرأي، وليس له في الحديث ذكر. قال الشيرازي كان مالك يحضره لمناظرة أبي يوسف عند الرشيد، وهو الذي جلس في حلقة مالك بعد وفاته. قال ابن بكير لم يكن عند مالك أضبط ولا أدرس من ابن كنانة وكان مالك إذا مل من حبس الكتاب علينا أسلمه إلى حبيب كاتبه، وربما إلى ابن كنانة وهو الذي قعد في مجلس مالك بعد وفاته، وقيل بل جلس فيه يحيى بن مالك أولاً، وجلس فيه بعد ابن كنانة عبد الله بن نافع الصائغ. قال غيره: وكان ابن كنانة ممن يخصه مالك بالأذن عند اجتماع الناس على بابه. فيدعى باسمه هو وابن زنبر وحبيب اللئالي المعروف ببابين. فإذا دخلوا ودخل غيرهم ممن يخصه أذن للعامة. قال يحيى: كان يجلس ابن كنانة عن يمين مالك لا يفارقه.(3/21)
وقال ابن مفرج وابن القرطبي: توفى ابن كنانة سنة ست وثمانين ومائة. وقال ابن سحنون وابن الجزار سنة خمس وثمانين. وقال ابن بكير: كان بين موت ابن كنانة ومالك عشر سنين، وكانت وفاته بمكة وهو حاج.(3/22)
عثمان بن الضحاك وبنوه
قال الفقيه الإمام القاضي المؤلف أبو الفضل: هو عثمان بن الضحاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حزام. زاد ابن أبي حاتم، ابن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزيز بن قصي، يكنى بأبي عثمان. قال الزبير: كان هو وابنه الضحاك بن عثمان بن الضحاك من أكبر أصحاب مالك، وكانا جميعاً يجالسانه. روى عن عثمان هذا الحديث سمع منه ابن غانم وابن نافع الصائغ وأنس بن عياض. يروي عن أبيه والثوري والقطان وزيد ابن حباب وأنس بن عياض. يروي عن مالك وسالم أبي النضر ونافع وبكير ابن الأشج وعبد الله بن عروة.(3/23)
قال مصعب بن عبد الله كان علامة قريش بالمدينة بأشعار العرب وأيامها. له مروءة وفضل وفقه، ومن كبراء أصحاب مالك، وأمه أم عبد الله بن خالد بن حزام، وله أخ اسمه الضحاك، روى عنه العلم. ذكر ابن أبي حاتم: قال الزبير: وكان ابنه الضحاك علامة قريش بالمدينة بأخبارها وأشعارها وأيامها وأشعار العرب وأيامها وأحاديث الناس. قيل لابن معين: كيف حديثه؟ قال: ليس به بأس. وقال: هو ثقة. وعثمان أبوه ثقة. قال ابن نمير هو مدني ثقة لا بأس به، وفي حديثه اختلاف. قال ابن حنبل هو مدني ثقة. وقال أبو زرعة ليس بقوي. وقال أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به.(3/24)
وابنه محمد بن الضحاك من أصحاب مالك أيضاً كثير الرواية عنه والمجالسة. قال الزبير هلك شاباً وقد ظهرت مروءته وخلف أباه في العلم والأدب وكان ممدحاً. أمه أروى من بني عامر بن صعيعة. روى عنه الزبير كثيراً، وإبراهيم بن المنذر وابنه أحمد بن محمد جالس الواقدي. وقال الواقدي: هذا الفتى، يعني أحمد، خامس خمسة جالستهم على طلب العلم كما ترون: هو وأبوه وجده الضحاك وأبوه عثمان بن الضحاك، وأبوه الضحاك وعثمان بن عبد الله. ولما استعمل الرشيد عبد الله بن مصعب بن ثابت بن ثابت بن عبد الله بن الزبير على اليمن، وجه عبد الله بن الضحاك بن عثمان خليفة له عليها، وأعطاها رزقه ألف دينار كل شهر، إلى أن يقدم عليه، وكلم له الرشيد فأعانه على سفره بأربعين آلأف درهم وكان محمود السيرة وقال (وهو) باليمن:
أقول لصاحبي إذ عيل صبري ... وحن إلى الحجاز نبات صدري
لعمرك ما العقيق وما يليه ... أحب إلي من صلع وصهر
صلع وصهر، موضعان باليمن.(3/25)
قال الزبير: قال عمي مصعب: أظن أن البيت الأول من البيتين له، والآخر لغيره، ورواهما جميعاً غيرعمي له ومات الضحاك بمكة منصرفه من اليمن يوم التروية سنة ثمانين ومائة. فقال المنذر بن عبد الله الخزاعي يرثيه:
أعيني اسكبا غلبت عزائي ... حرارة بطنت حشائي
على الضحاك أني أرى قليلاً ... وقد بكى الحمام له بكائي
ولا تستبقيا دمعاً لشيء ... لعل الدمع يبرد حر دائي(3/26)
سعيد بن سليمان المساحقي
قال القاضي الإمام أبو الفضل: هو سعيد بن سليمان بن نوفل بن مساحق ابن عبد الله بن مخرمة. وقال ابن شعبان: ليس في رواة مالك سعيد بن عبد الرحمان المساحقي، وإنما هو ابن سليمان. كان من جلساء مالك وأصحابه، وعليه دخل مالك على الرشيد متوكئاً وعلى المخزومي والعامري. وإنما سعيد ابن عبد الرحمان جمحي أخذ عنه أيضاً، وذكره ابن شعبان أيضاً. قال الزبير: كان المساحقي من سراة قريش عقلاً وجلداً وجمالاً وشعراً وأدباً، وعارضة. وكان مسدداً في قضائه. قال ابن شعبان وهو من وجوه أصحاب مالك المدنيين. قال القاضي أبو بكر بن محمد بن خلف المعروف بوكيع في طبقات القضاة: هو أول قاض استقضاه المهدي بالمدينة وأقره الرشيد صدراً من ولايته. قال ابن الماجشون شهد سعيد بن سليمان عند ابن عمران الطلحي وهو قاض، فرد شهادته. فلما ولي سعيد شهد عنده ابن عمران فنظر في(3/27)
شهادته ففكر قليلاً ثم قال لكاتبه: أجز شهادته يا ابن دينار. فإن المؤمن لا يشفي غيظه. وكتب العباس بن محمد إلى سعيد بن سليمان، وكان ينقلب إلى الحجاز وإلى ماله بالجفر:
أليس إلى نجد وبرد مياهه ... إلى الحول أن حم الإياب سبيل
وقال له زد إليه. فقال سعيد:
وإن مقام المرء في طلب الغنا ... بباب أمير المؤمنين قليل
وذكر المصعب بن عبد الله في كتابه هذه الحكاية فقال: فلما وفد على الرشيد وكان منقطعاً إلى العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فنزل عليه، وجعل يتقلب إلى المدينة والى ماله بالجفر بناحية ضرية واشتكى عند العباس فجعل العباس يمازحه ويدفعه عن الخروج إلى الحج. قال مصعب: فكتب العباس إلى أبي بيتاً مازح به سعيداً وقال له زدنا عليه بيتاً، وذكر البيت الأول إلا أنه قال: الحج مكان الحول.(3/28)
قال: فزاد أبي وذكر البيت الثاني وقال الحول، فكان المرء وهو أصح في المعنى وأولى. وقال المساحقي:
وذي إحنة قد قلت ألاً ومرحباً ... له حين يلقاني بحيا ومرحبا
وأعطيته من ظاهري قسمة الرضى ... وأدنيته حتى دنا وتقربا
فصلت به مستكمل الكف صولة ... شفيت به أضغان من كان مغضبا
وله إلى عمرو بن عبد الرحمان العامري:
بلوت إخاء الناس يا عمرو كلهم ... وجربت حتى أحكمتني تجاربي
فلم أر ود الناس إلا رضاهم ... فمن يذر أن يعتب فليس بصاحبي
فخذ عفو من أحببت لا تحوجنه ... فعند بلوغ الكد رتق المشارب
فهونك في حب وبغض فربما ... بدا جانب من صاحب بعد جانب
وأنشد ابن الجراح في كتاب الورقة هاته البيتين لابنه عبد الجبار:
إن لنا مجلساً نسر به ... عند احتضار الهموم والحزن
ما به من خلة يعاب بها ... إلا حنين الفؤاد للوطن
وابنه عبد الجبار يأتي ذكره في طبقة بعد هذا إن شاء الله تعالى. قال مصعب: ومات سعيد وهو عند العباس وأمه أمة الوهاب ابنة عمر بن مساحيق.(3/29)
سليمان بن بلال
أبو أيوب. قال البخاري. قال مسلم: ويقال أبو محمد وهو قول الواقدي. مولىعبد الله بن أبي عتيق (وهو محمد بن عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق ابن الحارث وابن قتيبة) هو مولى القاسم بن محمد، مدني سمع يحيى بن سعيد وزيد بن أسلم وعبد الله بن دينار وربيعة وشريك بن أبي نمير، وصالح بن كيسان. روى عنه ابن إدريس وخالد بن مخلد المقري وابن وهب ويحيى ابن يحيى النيسابوري وأشهب وابن القاسم والقعنبي وابنا أبي أويس، ويحيى ابن حسان. قال ابن معين: هو ثقة أروى الناس عن يحيى بن سعيد وهو أحب إلي من الدراوردي. قال ابن حنبل: وكان كاتب يحيى بن سعيد، وإنما كان وضع منه عند أهل المدينة أنه ولي السوق.(3/30)
قال أبو عمر بن عبد البر: هو أحد ثقات أهل المدينة. وقال ابن حنبل والنسائي: هو ثقة. وقال ابن قتيبة: كان رضيئاً جميلاً. قال محمد بن يحيى: هو احفظ من الدراوردي. وقال أبو حاتم: هو مقارب. وقال أبو زرعة: هو أحب إلي من هشام بن سعد. قال ابن مهدي: ندمت ألا أكون أخذت عنه. وخرج عنه البخاري ومسلم وعده ابن حبيب في الطبقة التي صار إليها الفقه بالمدينة بعد طبقة مالك، وشارك مالكاً في كثير من رجاله. وكان من أجل أصحابه وأخصهم به. وهو أول من جلس معه حين انعزل عن مجلس ربيعة، وعمل لنفسه مجلساً. قال مطرف: قال لنا مالك: لما أجمعت تحولاً من مجلس ربيعة، وعمل لنفسه مجلساً. قال مطرف: قال لنا مالك: لما أجمعت تحولاً من مجلس ربيعة جلست أنا وسليمان بن بلال في ناحية المجلس، فلما قام ربيعة عدل إلينا وقال: يا مالك تلعب بنفسك! زفنت وصفق لك سليمان ابن بلال، بلغت أن تتخذ مجلساً، ارجع لمجلسك. وقد ذكرنا هذا الخبر بتمامه وسببه في أخبار مالك،(3/31)
وولي سليمان بن بلال سوق المدينة. وقال أحمد بن صالح الكوفي: أنه ولي قضاءها. وقال ابن قتيبة: ولي خراجها. والأول أصح. وقد قال بعضهم: إذا قال مالك ألأمر عندنا والأمر المجتمع عليه عندنا فإنما يعني ما به الحكم أيام سليمان بن بلال. وهذا غير صحيح. وقد شرحنا هذا الفصل في أخبار مالك وولي ابن بلال القضاء ببغداد للرشيد وتوفي وهو عليه. وصلى عليه الرشيد وذلك في سنة ست وسبعين ومائة قبل وفاة مالك بثلاث سنين. وقد قال البخاري: توفي سنة سبع وسبعين. وقال ابن قتيبة: سنة اثنتين وسبعين. وقال محمد بن المثنى سنة ثلاث وسبعين.(3/32)
محمد بن مطرف
هو أبو غسان الليثي، المزني صاحبه. وله كتب مالك رسالته في الفتوى وهو يرويها عنه، وحكى البخاري أن إسحاق قال فيه: محمد بن طريف. قال البخاري: والأول أصح، مدني، نزل عسقلان. سمع زيد ابن أسلم وأبا حازم ومحمد بن المنكدر وشاركه مالك في كثير من رجاله. سمع من ابن المبارك ويزيد بن هارون وابن أبي يحيى وعيسى بن يونس وعلي ابن عياش. قال أبو حاتم فيه: ثقة. وقال ابن معين والنسائي والبزاز وابن السكري لا بأس به. وقال ابن السكري وابن بكير لا بأس به وقال ابن الرقي: احتملنا حديثه لأنه روى عنه الثقات.(3/33)
يحيى بن كثير بن درهم
أبوعمران، ويقال أبو الهياج، ويقال أبو الهراج والأول أشهر وهو قول البخاري مولى العمريين. ذكره الدارقطني وابن شعبان وهو مدني، وقال ابن مفرج: مصري. وقال البخاري وغيره: هو بصري. قال ابن عبيد: كان من كبراء أصحاب مالك المتقدمين. حدث عنه ابن سفيان عن سعيد وعبد العزيز بن مسلم وأبي حفص بن العلا. روى عنه إبراهيم. خرج عنه البخاري ومسلم. قال ابو حاتم هو صالح الحديث.(3/34)
من أهل اليمن
يحيى بن ثابت
من قدماء أصحاب مالك هو ظيني جندي. قال أحمد بن خالد: قال لنا عبيد بن محمد الكشوري: يحيى بن ثابت من اقدم أصحاب مالك. وهو أول من وطأ له كتبه. وحدثنا أحمد بن خالد عن ابن الكشوري عن عبد الله بن الصباح، قال: حدثنا يحيى بن ثابت عن مالك، قال: سمعت ربيعة يقول لا يحل لأحد عنده موضع العلم إلا طلبه يريد العقل هكذا قال غيره: كان كاتب مالك أولاً.(3/35)
من أهل المشرق
عبد الله بن المبارك
وهو مولى بني تميم. ثم لبني حنيفة مروزي وكنيته أبو عبد الرحمان. سمع من ابن أبي ليلى وهشام بن عروة والأعمش وسليمان التيمي وحميد الطويل ويحيى بن سعيد وابن عون وموسى بن عقبة والسفيانيين والأوزاعي وابن أبي ذئب ومالكاً ومعمراً وشعبة وحيوة بن شريح وقرأ على أبي عمرو بن العلاء والليث وغيرهم. روى عنه ابن مهدي وعبد الرزاق ويحيى القطان وابن وهب وغيرهم. قال ابن وهب: ما فات ابن المبارك من مشيختنا إلا عمرو بن الحارث. قال الشيرازي تفقه بمالك والثوري، وكان أولاً من أصحاب أبي حنيفة ثم تركه ورجع عن مذهبه. قال ابن وضاح: ضرب آخراً في كتبه على أبي حنيفة ولم يقرأه للناس.(3/36)
ذكر مكانته من العلم والثناء عليه
قال أبو إسحاق الفزاري: ابن المبارك إمام المسلمين. وكان الفزاري يجلس بين يديه فيسأله. وقال شعبة: ما قدم من ناحيته مثله. قال ابن مهدي: لقيت أربعة من الفقهاء: مالكاً وشعبة وسفيان وابن المبارك. وفي بعضها: حماد، مكان شعبة. فما رأيت أنصح للأمة من ابن المبارك وحديث لا يعرفه ابن المبارك لا نعرفه. وسئل ابن مهدي عنه وعن الثوري أيهما أفضل، فقال ابن المبارك. فقيل له: إن الناس يخالفونك. قال: الناس لم يجربوا. ما رأيت مثل ابن المبارك. وكان ينسخه وحده. ولما نعي ابن المبارك إلى سفيان بن عيينة قال: رحمه الله. لقد كان فقيهاً عالماً عابداً زاهداً سجيناً شجاعاً شاعراً. وقال أيضاً: ما قدم علينا أحد يشبه ابن المبارك وابن أبي زائدة.(3/37)
قال محمد بن المعتمر: قلت لأبي لما مات الثوري: من فقيه العرب؟ قال ابن المبارك. قال الأوزاعي لأبي عثمان الكلبي عنه: لو رأيته لقرت عينك. وقال علي: هو ثقة. قال أبو حاتم: هو إمام. قال أبو زرعة: اجتمع فيه فقه ومروءة وشجاعة وسخاء وأشياء. وقال داود العطار: هو رجل طلع علينا من ناحية المشرق. وقال النسائي: ولا يعلم أحد في عصر ابن المبارك أجل منه ولا أعلى ولا أجمع لكل خصلة محمودة منه. وقال سلام بن مطيع: ما خلق بالمشرق مثله، وابن المبارك أحب إلي من الثوري. وقال ابن وضاح: سمعت جماعة من أهل العلم يقولون: اجتمع في ابن المبارك العلم والفتيا، والحديث والمعرفة بالرجال، والشعر والسخاء والعبادة والورع.
ابتداء طلبه وسبب زهده وجمل من فضائله وعلمه
قال الإمام القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى: ذكر الصدفي، قال: لما بلغ ابن المبارك دفع إليه أبوه خمسين ألف درهم يتجر بها، فطلب العلم حتى أفقدها، فلما انصرف لقيه أبوه، فقال:(3/38)
ما جئت به فاخرج إليه الدفاتر، فقال هذه تجارتي. فدخل أبوه المنزل فأخرج له أبوه ثلاثين ألف درهم أخرى، وقال: هذه تمم بها تجارتك، فأنفقها. قال ابن المبارك طلبت الأدب ثلاثين سن وطلبت العلم عشرين سنة. وقال ابن حنبل: لم يكن في زمن ابن المبارك أحد أطلب للعلم منه، دخل اليمن ومصر والشام والحجاز والبصرة والكوفة، وكان من رواة العلم وكان أهلاً لذلك، كتب عن الصغار والكبار، وما أقل سقطه. كان يحدث من كتاب، قال ابن وضاح: كان ابن المبارك يروي نحواً من خمسين وعشرين ألف حديث. وقيل له إلى متى تطلب العلم؟ قال أرجو أن تروني فيه إلى أن أموت. وذكر أبو عمرو في كتابه في طبقات المقرئين، وذكر أنه يقرأ بالاختلاف: إن ابنك سرق.
وقال يحيى الليثي أقبل يوماً إلى مالك رجل عليه سمت حسن: فكنت أراه، يعني مالكاً، يقول له:(3/39)
هاهنا. ثم تزحزح له في مجلسه، وما رأيته تزحزح لأحد غيره. فأجلسه في جواره، وكان ربما سأل مالكاً عن المسألة فيجيب فيها ثم يميل إلى الرجل ويقول له: ما يقول أصحابك فيها؟ فيقول الرجل جواباً خفياً لا نسمعه ولا نفهمه، فرأيته فعل ذلك أياماً، فأعجبني أدب الرجل، ولم أره يسأل عن شيء حتى انصرف كان يجيز بما سمع. فقال لنا مالك: هذا ابن المبارك فقيه خراسان. وصلى ابن المبارك يوماً إلى جنب أبي حنيفة أتريد أن تطير؟ فقال: لو شهيت لطرت في الأولى. وكان يقول الزاهد الذي إذا أصاب الدنيا لم يفرح، وإذا فاتته لم يحزن.(3/40)
وقال ابن شاهين: حضر ابن المبارك عند حماد بن زيد مسلماً عليه، فذهب أصحاب الحديث إلى حماد أن يسأل ابن المبارك أن يحدثهم. فقال ابن المبارك: يا سبحان الله أحدث وأنت حاضر. قال: أقسمت عليك لتفعلن أنحوه. فقال: حدثنا أبو إسماعيل حماد بن زيد وما حدثهم بحرف إلا عنه، وكان ابن المبارك يقول أول العلم النية، ثم الاستماع ثم الفهم ثم العمل ثم الحفظ ثم النشر. ويقال أنه كان يحج عاماً ويغزو عاماً لا يمر بمدينة إلا قال لمشيختها من أهل العلم والإقلال: ليخرج معي من أراد الحج، نكفيهم مؤونتهم. ويفعل مثل ذلك إذا أغزى. قال أحمد بن شجاع: رأيت سفرة ابن المبارك على عجلة، وقال على عجلتين. ومن كتاب أبي عمرو الصدفي قال: قدم الرشيد الثغر فجاء الفزاري وفرج أبو سليمان إلى ابن المبارك، فقالا له: قدم هارون وهو يريد لقاءك والسلام عليك. فقال: إذاً أكمله بلساني كله. فقال أحدهما للآخر: قم بنا لعله يجيء منه ما يكرهه الآخر بسببنا.(3/41)
قال العسولي العابد: كنت مع ابن المبارك في غزاة في ليلة ذات برد ومطر فبكى. فقلت أتبكي من مثل هذا؟ فقال: إنما ابكي على ليال سلفت ليس فيها مثل هذا من الشدة لنؤجر عليها. قال ابن الحسين: أرسل ابن المبارك إلى أبي بكر بن عياش بأربعين ألف درهم، وقال سد بها خلة القوم عندك. قال نعيم بن حماد: كان ابن المبارك يكثر الجلوس في بيته فقيل له: لا تستسوحش؟ فقال كيف أستوحش وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وحكى: أن إبليس جاء إلى ابن المبارك وهو يتوضأ فقال إنك لم تسمح. فقال بلى قد مسحت. قال بل لم تمسح. فقال: أنت المدعي فأقم البينة. قال منصور بن عمار: ثلاثة تفتت أكبادهم من الخوف، الفضيل وعيسى بن يونس وابن المبارك.(3/42)
وقال ابن المبارك لبعض أصحابه، لا تغفل عن يوم ذكره الله في كتابه في ثلاثة وستين موضعاً وقال رجل لابن المبارك: قرأت البارحة كذا وكذا. فقال ابن المبارك: لكني أعرف رجلاً لم يزل يقرأ البارحة التكاثر إلى الصباح ما جاوزها.
يعني نفسه. وذكر هو وغيره: أن ابن المبارك سئل عن ابتداء طلبه العلم فقال: كنت شاباً أشرب النبيذ وأحب الغنا وأطرب بتلك الخبائث، فدعوت إخواناً حين طاب التفاح وغيره إلى بستان لي، فأكلنا وشربنا حتى ذهب بنا السكر، فانتبهت آخر السحر فأخذت العود أعبث به وأنشد:
ألم يأن لي منك أن ترحما ... ونعصي العواذل واللوما
فإذا هو لايجبني إلى ما أريد. فلما تكررت عليه بذلك وإذا هو ينطق كما ينطق الإنسان: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله. قلت بلى، يا رب. فكسرت العود ومرقت النبيذ وجاءت التوبة بفضل الله بحقائقها، واقبلت على العلم والعبادة. وروي أن عبد الله ابن المبارك دخل الكوفة وهو يريد الحج، فإذا بإمرأة جالسة على مزبلة وهي تنتف بطة، فوقع في نفسه أنها ميتة، فوقف على بغلة وقال لها: ما هذه البطة أميتة أم مذبوحة؟(3/43)
قالت: ميتة. قال فلم تنتفيها؟ قالت لآكلها أنا وعيالي. فقال لها يا هذه إن الله قد حرم عليك الميتة، وأنت في بلد مثل هذا. قالت، يا هذا انصرف عني. فلم يزل يراجعها الكلام وتراجعه إلى أن قال: وأين تنزلين من الكوفة؟ قالت قبيلة بني فلان. فقال لها وبأي شيء نعرف داركم؟ قالت ببني فلان. فانصرف عنها وسار إلى الخان، ثم سأل عن القبيلة فدلوه عليها. فقال لرجل لك عليّ درهم وتعال معي إلى الموضع. فمضى حتى انتهى إلى القبيلة التي ذكرت المرأة فقال للرجل: انصرف. ثم دنا إلى الباب فقرع الباب بمقرعة كانت معه، فقالت العجوز من هذا؟ فقال افتحي الباب ففتحت بعضه، فقال افتحيه كله. ففتحته كله. ثم نزل عن البغل ثم ضربه بالمقرعة فدخل البغل إلى الدار، ثم قال للمرأة: هذا البغل وما عليه من النفقة والكسوة والزاد فهو لكم، وأنتم منه في حل الدنيا والآخرة.(3/44)
ثم جلس ابن المبارك مختفياً حتى رجع الناس من الحج، فجاءه قوم من أهل بلده يسلمون عليه ويهنئونه بالحج، فأقبل يقول لهم: إنه كانت بي علة ولم أحج هذه السنة. فقال بعضهم: يا سبحان الله، ألم أوادعك نفقتي، ونحن بمنى ونحن نذهب إلى عرفات. وآخر يقول: ألم تشتر لي كذا. فأقبل يقول: لا أدري ما تقولون. أما أنا فلم أحج في هذا العام. فرأى الليل في منامنه آت، فقال: يا أبا عبد الله، أبشر فإن الله قد قيل صدقتك وبعث ملكاً على صورتك فحج عنك.
ذكر قطع من حكمه وشعره وملحه
قال رحمه الله تعالى:
تعاهد لسانك إن اللسان ... سريع إلى المرء في قتله
وهذا اللسان يريد الفؤاد ... يدل الرجال على عقله
وقال رحمه الله تعالى:
أرى لي أناساً بأدنى الدين قد قنعوا ... ولا أراهم رضوا في العيش بالدون
فاستغن بالله عن دنيا الملوك كما ... استغنى الملوك بدنياهم عن الدين
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
لولا الجماعة ما كانت لنا سبل ... وكان أضعفنا نهباً لأقوانا(3/45)
وقوله أيضاً رحمه الله تعالى:
تنعم قوم بالعبادة والتقى ... ألذ النعيم لا اللذاذة بالخمر
فقرت بهم طول الحياة عيونهم ... وكانت لهم والله زاداً إلى القبر
على برهة نالوا بها العز والتقى ... ألا ولذيذ العيش بالبر والصبر
وكان فتى يصحب ابن المبارك يسمع منه كل يوم شيئاً يسيراً، فسافر ابن المبارك وسافر معه، فورد على ابن المبارك رجل في منزله فحدثه ابن المبارك بحديث كثير فوجد الفتى في نفسه فكتب إليه:
كنت زواراً لكم في أرضكم ... وأنا اليوم رفيق في السفر
ذان حقان عظيمان معاً ... ليس كالطير الذي جاء فمر
فكتب ابن المبارك رحمه الله تعالى:
غاية الصبر لذيذ طعمها ... ورديء الذوق منه كالصبر
إن في الصبر لفضلاً بيناً ... فاحمل النفس عليه تصطبر
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
كل عيش قد أراه نكداً ... غير ركن الرمح في ظل الفرس
وقيام في ليال دجن ... حارساً للناس في أقصى الحرس
وجاء رجل إلى ابن المبارك فقال له: رضي الله عنك صف لي الوالهين بالله فقال هم كما اقول لك:(3/46)
مستوفدين على رحل كأنهم ... ركب يريدون أن يمضوا وينتقلوا
عفت جوارحهم عن كل فاحشة ... فالصدق مذهبهم والخوف والوجل
وسأله آخر عن صفة الخائفين فقال:
إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقالوا ... وأهل الأمن في الدنيا هجوع
لهم تحت الظلام وهم سجود ... أنين منه تنفرج الضلوع
وخرس بالنهار لطول صمت ... عليهم من سكينتهم خشوع
وكان ينشد أيضاً:
أغتنم ركعتين زلفى إلى الله ... إذا ما كنت فارغاً مستريحاً
وإذا ما هممت يوماً بنطق ... فاجعل في مكانه تسبيحا
واغتنام السكوت أفضل من ... خوض وإن كنت في الكلام فصيحا
ورأى أبا العتاهية يلبس الصوف فقال:
أيها القارىء الذي لبس الصوف ... وأضحى بعد في الزهاد
إلزم الثغر والتعبد فيه ... ليس بغداد منزل العباد
إن بغداد للملوك محل ... ومناخ للقارىء الصياد(3/47)
ومما استحسن له من الشعر قوله:
قرب طعامك لمن دخلا ... واحلف على من أبى واشكر لمن أكلا
ولا تكن سامري العرض محتشماً ... من القليل فلست الدهر محتفلا
وشعر ابن المبارك كثير في غير باب وله أرجوزة في الصحابة والتابعين وقصائد طوال في التثبت والجهاد مشهورة، وله كتاب الرقائق مشهور، وكتاب رغائب الجهاد. وسئل ابن المبارك فقيل له: من الناس؟ قال: العلماء. قيل فمن الملوك؟ قال الزهاد. قيل: فمن الغوغاء؟ قال: هرثة وخزيمة. وقيل من السفلة؟ قال من باع آخرته بدنيا غيره. وكان يقول: إن أثر الحبر في ثوب صاحب الحديث أحسن من الخلوق في ثوب العروس. وقيل له من أحسن الناس حالاً؟ فقال: من انقطع إلى ربه.(3/48)
وقال ابن المبارك: مررت بحائك وقد انقطع شسع نعلي فلقيني بنعال، فقلت للثواب فعلتها؟ قال نعم. فكنت إذا أجزت به ملت إليه فسلمت عليه. ثم افتقدته فأصبته قد أغلق حانوته، فسألت عنه بعض جيرانه، وقلت: إن كان مريضاً عدناه أو مشغولاً أعناه أو فقيراً واسيناه. فقالوا لا علم لنا به. فأستأذنت على منزله فخرج إلي، فسألته ما شغلك عن حانوتك؟ فقال لي: أنت يا ابن المبارك، يراك الناس تميل إلي فالبستني قميصاً ليس علي منه شيء. فأخذت بكمه فسرت به إلى المقابر فقلت له: هذا قبر فلان، كان من شأنه كذا. وهذا قبر فلان، كان من شأنه كذا. فقال لي يا ابن المبارك ما أعرف ما تقول، ليس الرجل كل الرجل من وصفته الألسن ولا الرجل كل الرجل من رمقته الأعين، إنما الرجل من ستر الله عليه في حياته فأدخله قبره مستوراً ثم أبرزه يوم القيامة ليس عليه ذلة معصية فذلك الرجل.(3/49)
وحكى أبو بكر بن الخطيب أن الحسن بن عيسى بن سرجس كان يجتاز وهو إذ ذاك على نصرانيته بابن المبارك، وكان الحسن من أحسن الناس وجهاً فسأل عنه عقيل فقيل له: هو نصراني فقال: اللهم ارزقه الإسلام. فاستجاب الله دعوته وحسن إسلام الحسن ورحل في طلب العلم، فكان أحد علماء الأمة، وممن رحل في طلب العلم والتسنن في الآفاق. وأخذ الناس عنه مع ورع وعقل وثقة، ومال إلى الدنيا رجل ممن كان يصحب ابن المبارك وصحب السلطان فلقيه يوماً فسلم عليه فقال له يا أخي:
كل من الأرز والبر ومن خبز الشعير ... واجعلن ذاك حلالاً تنج من حر السعير
وق يا هذا هداك الله عن دار الأمير ... لا تزرها واجتنبها إنها شر المزور
تذهب الدين وتدنيك من الحرب الكبير
فاستحى الرجل وترك مصاحبة السلطان ورجع إلى صحبته.(3/50)
ذكر مذهبه في الرواية والحديث
كان ابن المبارك ينكر التدليس في الحديث. وقال له بعض الصوفية وسمعه يصف بعض الرواة: يا أبا عبد الرحمان تغتاب. قال: اسكت، إذا لم نبين فمن أين يعرف الحق من الباطل؟ توفى ابن المبارك بهيت منصرفه من الغزو في سفينة. فدفن بهيت في رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة. قال البخاري: ومولده سنة ثمان عشرة ومائة ولما حضرته الوفاة قال لنصر مولاه: اجعل رأسي على التراب. فبكى نصر. فقال ما يبكيك؟ قال ذكرت ما كنت عليه من النعيم وأنت هو ذان تموت فقيراً غريباً. فقال له: اسكت. فإني سألت الله أن يحيني حياة الأغنياء ويمتني ميتة الفقراء. ثم قال: لقني ولا تعد علي إلا أن أتكلم بكلام ثان. ولقني حتى يكون آخر كلامي. قال بشر بن قعنب: رأيت في النوم قائلاً يقول: عبد الله ابن المبارك وفلان في الفردوس الأعلى.(3/51)
من أهل مصر
عثمان بن عبد الحكم الجذامي من بني نصر
مشهور في أصحاب مالك المصريين. قال ابن شعبان: هو أول من أدخل علم مالك مصر. وقال ابن مريم: لم تنبت مصر أنبل من عثمان ابن عبد الحكم. قال ابن أبي حاتم: فسألت أبي عنه فقال: شيخ ليس بالمتقن. قال الأمير: كان فقيهاً له روايات مشهورة عن مالك. قال ابن مفرج: وله عن مالك نحو سبعة عشر حديثاً. يروي عن محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ وموسى بن عقبة وزهير بن محمد ويونس بن يزيد وابن جريج وعبيد الله بن محمد. روى عنه سعيد بن أبي مريم، وأبو زرعة عبد الأحد بن الليث، وروى عنه ابن وهب كثيراً في موطاه وفي المدونه. قال أبو الربيع الرشيديني في كتاب عباد مصر: أشار الليث بن(3/52)
سعد أن يولي عثمان بن الحكم القضاء أو غيره، فوقف عثمان عليه فقال: يا ليث رميتني بمشاقص الحتوف لا كلمتك بعد يومي هذا أبداً. فجاءه الليث يعوده في مرضه فقال: حولوا وجهي إلى الحائط. قال ابن المفرج وابن الجزار توفي سنة ثلاث وستين ومائة. وقال ابن شعبان سنة ست وثلاثين ومائة. وقال ابن شعبان سنة ست وثلاثين ومائة. والأولى أشبه.(3/53)
عبد الرحيم بن خالد بن يزيد مولى الجمحيين
قال أبو عمر الكندي مولى أبي الضبيع، مولى عمر بن وهب الجمحي اسكندراني يكنى أبا يحيى. قال الدارقطني: عبد الرحيم وعثمان بن عبد الحكم أول من قدم مصر بمسائل مالك. قال الشيرازي: كان من إخوان بني أبي حاتم ونظرائه، وعنده تفقه ابن القاسم بمصر قبل رحلته إلى مالك وكان جمع بين الزهد والعلم. وقد روى عن مالك الموطأ، وقد روى عنه الليث وابن وهب، وروى ابن وهب عن سعيد بن أبي أيوب. قال ابن بكير: بلغني أن مالكاً كان يعجب به، وكان فقيهاً. قال ابن القاسم: تذاكرنا مع عبد الرحيم بن خالد إيمان الكافر ورجوعه إلى الإسلام، مع ما ذكر الله في كتابه: قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف.... الآية. وذنوب أهل الإسلام. فقال: إني لأرجو أن يكون أهل الإسلام أفضل حالاً من أهل الكفر. ولقد بلغني أن توبة المسلم كالإسلام بعد الإسلام.(3/54)
وكان أبوه خالد من فقهاء مصر وقضاتها، يروي عن عطاء وأبي الزبير يروي عنه الليث وابن لهيعة والفضل. ووثقه أبو زرعة. وقال أبو حاتم لا بأس به. وقال ابن القاسم لمالك يوماً: ما قدم أعلم بهذه البيوع من أهل مصر. فقال مالك: وأنى لهم بذلك؟ فقال: من قبل عبد الرحيم. ذكر الرشديني عن عبد الرحيم قال: بعثني أبي في حاجة، فجاءه إنسان فسأله عن مسألة فأجاب فيها، فقال له الرجل: مد الله للأمة في عمرك. وسمعته يقول وهو لا يراني لنفسه: خالد مولى أبي الضبيع مد الله للأمة في عمرك ومن أنت لولا نعمة ربك، ومن أنت لولا ستر ربك وهو يبكي فلما أحس بي سكت. قال الرشديني: قال لي إدريس: لما مات عبد الرحيم عرف اليتم على ابن شريح. توفي سنة ثلاث وستين ومائة، قال العقدي وابن شعبان وابن الجزار وذلك بالإسكندرية وسنه ثلاث وخمسون سنة.(3/55)
سعد بن عبد الله بن سعد المعافري
ابو عمرو. وقيل أبو محمد، وقيل أبو عثمان، من أقران عبد الرحيم من كبراء أصحاب مالك من المصريين. سمع منه ابن القاسم وأشهب وابن وهب وابن عبيد وابن بكير وغيرهم. قال الشيرازي: وبه تفقه ابن وهب وابن القاسم. قال ابن القاسم: ما خرجت إلى مالك إلا وأنا عالم بقوله. قال سحنون يريد أنه تعلم من عبد الرحيم وطليب وسعد وكانوا عنده أوثق أصحاب مالك. قال ابن بكير: هو ثقة. قال ابن حارث: كان فاضلاً مأموناً، ووصى لابن القاسم مع ابن وهب بابنته. قال ابن شعبان: وهو الذي أعان ابن وهب على تآليفه. قال ابن حارث: كان معلم ابن القاسم في العبادة. قال سليمان بن داود المقري في كتابه: أخبرني فتح بن حماد،(3/56)
قال: لقيت الليث بن سعد عند قدومي من الإسكندرية فقال لي: كيف تركت إخواننا بالإسكندرية؟ فقلت له مات سعد بن عبد الله. فاسترجع وقال لو كان في عدوة وكنت أنا وسعد في عدوة لرجوت أن أكون به مليئاً. قال ابن حارث: وكان فاضلاً مأموناً، خطب ابنة سعد رجل موسر، لكنه يعيبه أهل الدين، فقال ابن وهب أزوجها منه. وقال ابن القاسم لا أزوجها منه. ثم قال أرأيت لو كان سعد حياً لكان يفعل؟ قال ابن وهب لا. قال: فإنما نفعل كما يفعل. قال سعد عن مالك: ليس على الفقيه ضيافة ... ولا مكافآت، يريد عن هدية، ولا شهادة بين اثنين. وذكر ابن وضاح أخبرني محمد بن يحيى وغيره: أن ابن القاسم أعطى سعداً معلمه صاحب مالك سبعين ديناراً. توفي بالإسكندرية سنة ثلاث وسبعين ومائة.(3/57)
زيد بن شعيب بن ركيب المعافري ثم الخامري
بخاء معجمة، من الأخمور، بطن من المعافر، أبو عبد الملك، ويقال أبو عبد الله. كذا قال الأمير أبو نصر اسكندراني مصري. وآخر اسم زين بالنون: روى عن مالك وقاسم العمري وأسامة بن زيد وغيرهم. روى عنه ابن وهب وسيد بن تليد وابن بكير ومرة البرالسي وعبد الأعلى بن عبد الواحد، قال ابن شعبان: كان مالك إذا فقده قال: كيف الشيخ الصالح؟ وكان فقيهاً فاضلاً عابداً وكان يعبر الرؤيا، وهو الذي عبر رؤيا ابن القاسم التي نذكرها في خبره. قال الحارث بن مسكين: كان زين، من علية أصحاب مالك. حكى سليمان بن داود العنبري عن عمه أبي الأصبع قال: كنت مع زين بن شعيب في الحرس، وكان إنما نام هجعة أول الليل ثم لا ينام حتى يصبح، يحرس وسط الليل وآخره ووسطه، أشد ما يكون. وإذا كان قبل الفجر بمنزلتين إنما تراه هكذا راحتاه إلى وجهه رافعاً يديه داعياً ثم يقلب بطونهما يسأل ويتعوذ إلى الفجر، قال: وعادلته إلى مكة فذكر من فضله. حكى الحارث بن المسكين أن رجلاً سأل زين بن شعيب عن الواطي في الدبر. فتناول وسادة من وسائد الحرس فضرب بها رأسه. قال وكان زين، من علية أصحاب مالك.(3/58)
قال الدارقطني توفي بالإسكندرية بعد الثمانين ومائة. قال الأخير سنة أربع وثمانين. وقال غيره سنة تسع وثمانين.(3/59)
عبد الحكم بن أعين بن الليث القرشي مولاهم
يقال هو مولى رافع مولى عثمان بن عفان ويقال مولى عفيرة، امرأة من موالي عثمان ويقال مولى رافع مولى عثمان. قاله ابن شعبان. والد بني عبد الحكم من فقهاء مصر. ويكنى عبد الحكم هذا أبو عثمان. وله رواية عن مالك في مسائل من المدبر وغيرها. ذكر ابن القاسم في المدونة عنه مسألة. قال ابن أبي حاتم: يروي عن أبي حنيفة اليماني. روى عنه ابن وهب وعبد الله بن صالح كاتب الليث، وابن القاسم. قال بعضهم: كان عاقلاً أديباً أعجلته المنية عن إتقان مذهب مالك. (مسائل) سكن هو وأبوه إسكندرية. ويقال أصلهم من ايلة. قال ابن بكير كان مداعباً للناس، ورفع اسمه في تاريخ أحمد بن سعيد سماه عبد الحكم بن أعين وتوفي سنة إحدى وسبعين ومائة.(3/60)
طليب بن كامل اللخمي
من كبار أصحاب مالك وجلسائه. كنيته أبو خالد وهو أيضاً أبو عبد الله له اسمان قاله أبو سعيد حفيد مؤنس في تاريخه. قال وأصله أندلسي سكن الإسكندرية. روى عنه ابن القاسم وابن وهب وبه تفقه ابن القاسم قبل رحلته إلى مالك مع سعد وعبد الرحمان. قال ابن حارث: وكانوا عنده أوثق أصحاب مالك. قال ابن وضاح: كان طليب بن كامل نبيلاً وهو من العرب من لخم، وهو مصري اسكندراني. قاله سحنون. وذكر ابن شعبان في المصريين عبد الله بن كامل. وفي الاسكندرانيين طليباً بن كامل فجعلهما رجلين وهما واحد كما تقدم. وتوفي طليباً بن كامل فجعلهما رجلين وهما واحد كما تقدم. وتوفي طليب بالإسكندرية سنة ثلاث وسبعين ومائة في حياة مالك.(3/61)
أبو السمح عبد الله بن السمح
ابن أسامة بن زنبر مولى بن عامر بن عدي بن نجيب المصري، والد فتيان مصر. كذا كناه ونسبه أبو عمرو الكندي في كتاب أعيان موالي مصر فيمن روى عن مالك. قال: وكان أبو السمح فقيهاً، روى عن مالك. وكان ابن وضاح أبو السمحاء. قال ابن حزم الصدفي: قال سحنون: رأى ابن السمحاء في منامه، نعم العمل الحج لولا المناهل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: أبو السمحاء ليس بوالد فتيان. وإنما والد فتيان أبو السمح المذكور. وقد وصفه ابن القاسم بالفقه والثقة في المدونة، في كتاب الحج في مسألة الإمام يذكر صلاة نسيها.(3/62)
قال: ولقد سألني رجل عن هذه المسألة ما يقول مالك فيها. وكان من أهل الفقه ورواته الثقة. فأخبرته أن مالكاً يرى أن تنتقض عليهم، كما تنتقض عليه، فلا أعلمه إلا قيل لي، وهذا الرجل هو أبو السمح والد فتيان. قال الكندي ولد أبو السمح سنة خمس وعشرين ومائة وتوفي سنة اثنتين وثمانين ومائة.
خالد بن حميد أبي ثعلبة
ويقال خالد بن أبي ثعلبة أبو حميد مولى حرة اسكندراني. قال الكندي كان فقيهاً من أصحاب مالك، روى عنه هانىء بن المتوكل وسعيد بن سابق ابن عابد مولده سنة ثلاث عشرة وتوفي سنة نسع وستين ومائة.(3/63)
يحيى بن أزهر أبو عبد الله مولى قريش
قال الكندي: كان فقيهاً من أكابر أصحاب مالك وغلبت عليه العبادة. قال الحارث: كان ابن أزهر من خيار المسلمين، وقدماء أصحاب مالك. وقال عبد الرحمان بن القاسم: كان العباد يأتون يحيى فينظرون صلاته لحسنها. قال غيره: كان يتيماً وكان له مال في بيت المال، فملا كبر وقبض ماله أدى منها أربعمائة دينار أو نحوها عن زكاة تلك السنين. وقال سليمان بن القاسم: ترك يحيى ألف دينار، كالخائف عليه. وكان قد اشترى تجارة بثمن فبيعت بعد موته بألف. توفي سنة إحدى وستين ومائة في حياة مالك.
موسى بن مسلمة بن أبي مريم مولي أبي الضبيع
هو خالد سعيد بن أبي مريم، كان من أكبر أهل مصر طلباً للعلم، توفي سنة ثلاث وستين ومائة في حياة مالك.(3/64)
من أهل إفريقيا
عبد الله بن غانم القاضي
قال القرطبي هو عبد الله بن عمر بن غانم بن شراحيل بن ثوبان بن محمد بن شريح بن شراحيل بن الحنف بن ايمن بن ذي النبط بن فوز بن ذي رعين. كنيته أبو عبد الرحمان، كذا نسبه ابن شعبان وابن حارث وأبو العرب. وقال البخاري في التاريخ: عبد الله بن عمر النميري عن يونس بن عبد الله، سمع من الثوري وحجاج بن منهال، وقال في الصحيح: حدثنا عبد الله بن عمر النميري حدثنا يونس حديث الإفك في باب من شهد بدراً، قال ابن هنده عبد الله هذا هو ابن غانم الإفريقي. روى عنه القعنبي وابن القاسم. قال أبو العرب التميمي: كان ثبتاً ثقة فقيهاً عدلاً في قضائه.(3/65)
قال أبو علي ابن أبي سعيد في كتابه المغرب في أخبار المغرب: كان ابن غانم رجلاً كاملاً فقيهاً مقدماً مع فصاحة لسان وحسن بيان وبصر بالعربية ورواية الشعر، ترى له أبيات مستحسنة وكانت فيه تهتهة. وكان أبوه مذكوراً قديماً في عرب أفريقية وابنائها قبل دخول المذهب. قال غيره: كان من أهل العلم والدين والفضل والورع والتواضع والفصاحة والجزالة. قال أبو سعيد ابن يونس: كان أحد الثقات الأثبات، ولم يعرفه أبو حاتم لبعد قطره، وقال: مجهول. قال الشيرازي: كان ابن غانم من نظراء ابن أبي حازم واقرانه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: سمع ابن غانم من ابن أنعم، وخالد ابن أبي عمران. ودخل إلى الحجاز والشام والعراق فسمع من مالك وعليه اعتماده، ومن سفيان الثوري ومن أبي يوسف بن الضحاك وإسرائيل ابن يونس. وداود بن قيس وغيرهم. سمع منه القعنبي وغيره. قال ابن عمران كان يجل ابن غانم وإذا جاءه اقعده إلى جنبه ويسأله عن أخبار المغرب وإذا رآه أصحابه قالوا شغله المغرب عنا. ولما ولي القضاء أعلم مالك بذلك أصحابه، وسر به. ويقال أن مالكاً عرض عليه أن يزوجه ابنته ويقوم عنده، فامتنع عن المقام، وقال له: إن أخرجتها إلى القيروان تزوجتها. وله سماع من مالك مدون انقطع. ومنه في المجموعة مسائل. وسمع الموطأ.(3/66)
قال وجاء رجل مرة بوثيقة إلى أسد بخط ابن غانم فجعل أسد يعرضها ثم تعربها بإصبعه، وقال: ما كان أفقهه. قال سليمان بن عمران: ابن غانم كاملاً متكملاً فصيحاً حسن البيان جيد الترتيل، لولا تمتمته ما قام بطلاقة لسانه أحد. قال أحمد بن الجزار: وهذه التمتمة الباقية في ولده إلى زمننا. قال أسد: كان ابن غانم فقيهاً. قال معمر: كان ابن غانم يقرئنا كتب أبي حنيفة في الجمعة يوماً. ولما بلغت وفاته ابن وهب استرجع وترحم عليه، ثم قال: لقد كان قائماً بهذا الأمر. قال ابن غانم: لما دخلت مع البهلول ابن راشد على سفيان الثوري وكان معهم عبد الله بن فروخ، قال: ليقرأ علي أفصحكم لساناً. فإني أسمع اللحنة فيتغير لها قلبي. فقرأت عليه إلى أن فارقته، ما رد علي حرفاً. قال أبو العرب ومناقب ابن غانم كثيرة وذكر ابن حارث أن علي بن زياد كان يسيء القول فيه ويغمزه في كتبه، ويقول ما صدق والله. حدث عنه سحنون وداود بن يحيى.(3/67)
ذكر ولايته القضاء وسيرته
قال الشيرازي: ولى الرشيد لابن غانم قضاء أفريقية. وقيل ولاه أمير أفريقية روح بن حاتم المهلبي. أشار عليه ابن فروخ الفقيه لما امتنع هو أن يلي. وقيل أن أبا يوسف قال لروح عند خروجه إلى القيروان: أن بمدينة القيروان فتى يقال له عبد الله بن غانم، فقد فقه فوله قضاء أفريقية. وكانت ولايته في رجب سنة إحدى وسبعين ومائة، وهو ابن اثنتين وأربعين سنة في حياة مالك رحمه الله تعالى. ولما بلغت مالكاً ولايته سر بها، وأعلم بذلك أصحابه. ولما أتاه ابن أبي حسان سأل عن ذلك ابن أبي حسان فأعلمه فقال ما ذلك كثير له. وكان الرشيد يكاتبه فكان يعد قضاؤه قبله. وتشاجر أصحاب ابن غانم في ولايته فقال بعضهم: هي من المسودة (كذا) دون أمير المؤمنين.
فقال أبو عثمان المعافري: امرأته طالق ثلاثاً ومماليكه أحرار، إن كان ولاه إلا أمير المؤمنين، ثم جاء إلى ابن غانم فأخبره الخبر، فقال لا يا أبا عثمان، كم صداق امرأتك؟ فقال مائتا دينار.(3/68)
قال خذها فقد بانت منك امرأتك واعتق مماليكك. ولم يزل ابن غانم على القضاء إلى أن توفي، فكانت ولايته نحواً من تسعة عشر عاماً. وكان ابن غانم يوجه أبا عثمان هذا بمسائله أيام قضائه إلى مالك فيما ينزل به من نوازل الخصوم، فيأخذ له عليها الأجوبة، وكان يكتب إلى كنانة فيأخذ له الأجوبة من مالك. وكان يكتب أيضاً إلى أبي يوسف. قال السيوري ولم يزل الأمر يتراقى بابن غانم في الرفعة والسمو في أحكامه وأموره، فكان من إكرام الخليفة له إذا كتب كتاباً لإبراهيم بن الأغلب يقول له فيه وأنا لا إفك لك كتاباً حتى يكون مع كتابك إلي كتاب ابن غانم. فكان إبراهيم أكثر الناس مداراة وتعظيماً له، وكان ابن غانم يلبس من الثياب أرفعها ويجعل لخصومات النساء يوماً يجلس فيه للنظر بينهن، فيلبس يومئذ الفرو الخشن وخلق الثياب، وينظر ببصره إلى الأرض فلا يشك من لا يعرفه أنه أعمى، ويزيل الحجاب والكتاب عنه، وكان له حظ من صلاة الليل فإذا قضاها وجلس في التشهد آخرها عرض كل خصم يريد أن يحكم له، على ربه، يقول في مناجاته: يا رب فلان منازع فلاناً وادعى عليه بكذا فأنكر داعوه فسألته البينة فأتى(3/69)
ببينة شهدت بما ادعى، ثم سألته تزكيتها فأتاني بمن زكاهم وسألت عنهم في السر فذكر يعني خيراً، وقد أشرفت أن آخذ له من صاحبه حقه الذي تبين لي أنه حق له، فإن كنت على صواب فثبتني وإن كنت على غير صواب فاصرفني، اللهم لا تسلمني. اللهم سلمني. فلا يزال يعرض الخصوم على ربه حتى يفرغ منهم. وابن غانم هذا هو الذي أوقف الأحمية التي كانت بمراسي أفريقية، لمرافق المرابطين. وكان ابن غانم إذا جلس رمى إليه الخصوم الشقاف فيها قصههم مكتوبة، فوجد يوماً شقفة فيها قصة النخاسين البغال فدعاهم، فأخبروه أن أبا هارون مولى إبراهيم بن الأغلب الأكبر صاحب أمره ابتاع منهم بغالاً بخمسمائة دينار، ولم يدفع لهم شيئاً. فضم ديوانه ونهض إلى إبراهيم، وكان قد أباح له الدخول عليه دون أذن، فكان القاضي إذا أتى تنحنح فإذا قيل له ادخل، دخل. ففعل كعادته، فسأله إبراهيم ما وصيته، فذكر له شأن المتظلمين.
فأحضر أبا هارون فاعترف وقال حتى يجيء الخراج وقد بعثت في طلبه. فقال ابن غانم: لا أبرح حتى تدفع إليهم أموالهم. فما برح حتى دفعت إليهم.(3/70)
ودعا الأمير إبراهيم ابن الأغلب ابن غانم يوماً فقرأ عليه كتاب الرشيد يأمره بإحضار رجل يقال له حاتم الإبزاري، ويقول إن لفرج مولى أمير المؤمنين عليه عشرة آلاف دينار، ويأمر إبراهيم بقبضها ويوجهها مع رسول له خراساني. ويقول في آخر الكتاب: واحضر ابن غانم القاضي، وقد أحضر المطلوب ترعد فرائضه فلما أكمل إبراهيم قراءة الكتاب قال لابن غانم سمعت ما فيه؟ قال نعم. قال ابن غانم وما أحضرت إلا لتحمل علي قولي فيما في هذا الكتاب. قال إبراهيم: ولم أمرت بإحضارك. إذا قال فأول ذلك أن يثبت الرسول بعدلين استخلاف أمير المؤمنين له على قبض هذا، وأن المال لأمير المؤمنين أو لمولاه، فقال الرسول ويكتب أمير المؤمنين بالباطل؟ قال معاذ الله، أمير المؤمنين أكرم أن يأخذ مالاً من غير حله، ولكن قد تنخرق الأشياء دونه. قال الخراساني ما تقول أيها الأمير؟ قال ما قال القاضي. وتحمل. فقام ابن غانم وحمل الإبزاري معه. فقال إبراهيم: ما أنفذ بصيرته وأمضى عزيمته. وراكب ابن غانم إبراهيم يوماً فزادت دابة إبراهيم في المشي فحول ابن غانم دابته، وعرج إلى داره، فعاتبه إبراهيم على ذلك، فقال ابن(3/71)
غانم أصلح الله الأمير إنما نفوذ أحكام القاضي على قدر جاهه، ولو ساعدتك وحركت دابتي سقطت قلنسوتي فلعب بها الصبيان. وراكبه مرة، فشق إبراهيم زرعاً فلم يسلك ابن غانم معه. ودخل عليه يوماً وفي يد إبراهيم قارورة فيها دهن يسير، قال كم تظن أيها القاضي يساوي هذا؟ قال تافه، فكم عسى أن يبلغ؟ قال إبراهيم فإن ثمنه كذا وكذا. قال ابن غانم: ما هو؟ قال السم. قال أرنيه. فدفع إليه إبراهيم القارورة ضرب بها عموداً في المجلس فكسرها. ودعاه إبراهيم يوماً إلى صعود الصومعة فأبى، وقال: نكشف حرم المسلمين، فلم يصعد معه. ودخل يوماً على إبراهيم فوردت عليه كتب من الرشيد، فقرأ إبراهيم كتابه ثم دفعه إلى ابن غانم فقرأه ورده على إبراهيم. فقال له إبراهيم هات كتابك أقرأه قالا لا أفعل قال له: فلم قرأت أنت كتابي. قال أنت دفعته إلي ومددت يدك به فكرهت ردها. وقد اسر أمير المؤمنين في كتابه ما لا أريد أن أطلع عليه أحداً.(3/72)
فقال له إبراهيم: أما علمت أن إبراهيم أمير أفريقية يقتل عبد الله قاضيها؟ فقال: يذكر ذلك. ولكن لست ذلك الأمير، هو ابنك ولست ذلك القاضي، هو غيري. فقدر أن الخبر بعد هذا، صدق في أبي العباس عبد الله بن طالب القاضي قتله الأمير إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم بعد هذا مسموماً في سجنه. وسيأتي ذكره بعد هذا إن شاء الله. قال ابن غانم: دخلت مجلس إبراهيم بن الأغلب، إذ أشرف علينا إبراهيم فقام إليه من كان في البيت غيري. فجلس مغضباً ثم قال لي: يا أبا عبد الرحمان ما منعك أن تقوم كما قام أخواك؟ فقلت أيها الأمير: حدثني مالك عن نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار. فنكس إبراهيم رأسه وأطرق. ومر رباح بن يزيد الزاهد وبيده قسط زيت على ابن غانم وهو قاض، فقال لها ابن غانم: احمله لك. فقال رباح شأنك. فرفع القسط إليه وجعل يشق به مجامع الناس فسلك به حوانيت البزازين حتى انتهى إلى داره. فقال رباح إنما فعلت هذا، لأنه بلغني عنك أنك تجد بنفسك، فأحببت أن أضع منك. فجزاه ابن غانم خيراً(3/73)
وكان رباح بن يزيد يأتي كل يوم جمعة إلى ابن غانم فيدعوا. وكان نحيلاً دقيق العروق فجعل يوماً يدعو فاستضحك ابن غانم وتمادى رباح في الدعاء، وابن غانم في الضحك حتى نهض رباح فعذل ابن غانم جلساؤه في ذلك، وقالوا له: مثل رباح يضحك عليه؟ فقال لهم ابن غانم: امسكوا عني، إنما غمني أن العدو لما علم ما نحن فيه من الخير، أراد أن يقطعه بما رأيتم أو نحوه. فلما كان الجمعة جاء رباح فأخذ في الدعاء وهجم على ابن غانم من الرقة والخشوع أكثر ما كان منه، فلما قضى دعاءه قال ابن غانم جزاك الله خيراً يا أبا يزيد. فقال له رباح قد علمت أن الذي كان منك إنما حركك عليه العدو ليقطع ما نحن فيه من الخير. ومر يوماً بالسوق والبهلول بن راشد يشتري لحماً من جزار فنزل ابن غانم عن دابته وعانقه وقرب إليه دابته تعظيماً له، فامتنع
البهلول فأقسم عليه ابن غانم، فقال له أني اشتريت لحماً قال احمله لك. فقال البهلول أني أجلك أن تمشي راجلاً فقال اركب خلفك. فركب البهلول على السرج وركب القاضي خلفه على كفل الدابة وقد حمل اللحم فشقا السماط حتى وصلا إلى دار البهلول فعجب الناس من تواضعه وشرفه. ول فأقسم عليه ابن غانم، فقال له أني اشتريت لحماً قال احمله لك. فقال البهلول أني أجلك أن تمشي راجلاً فقال اركب خلفك. فركب البهلول على السرج وركب القاضي خلفه على كفل الدابة وقد حمل اللحم فشقا السماط حتى وصلا إلى دار البهلول فعجب الناس من تواضعه وشرفه.(3/74)
بقية أخباره وكرمه وحلمه
قال ابن البصري: ذكر أن ابناً لابن غانم جاءه من عند معلمه، فسأله عن سورته فقرأ عليه فأحسن، فدفع إليه عشرين ديناراً أو نحوها. فلما جاء بها الصبي إلى المعلم أنكرها وظن بالصبي ظناً. فجاء بها إلى ابن غانم، فقال ابن غانم: لعلك استقللتها؟ قال لا. فقال له حرف واحد مما علمته يعدل الدنيا وما فيها. وذكر أن رجلاً يقال له ابن زرعة كان ابن غانم قد حكم عليه، فبلغ ذلك من ابن زرعة كل مبلغ، فلقي ابن غانم في طريق ضيقة فسبه وقال له: يا فاعل يا ابن الفاعلة،، وبالغ. فلما كان بعد ذلك لقيه في طريق ضيقة، فسلم عليه ابن غانم وحمله معه إلى منزله فأحضر طعاماً وأكل معه، واقاما إلى قرب المساء ثم انصرفا. فلما أراد مفارقته استغفره ابن زرعة واعترف له بالخطأ، فقال أما هذا فلست اجعله حتى نخاصمك بين يدي الله، وأما أن ينالك منه شيء مكروه في الدنيا فلا. ومن طريق آخر أن الجند نزلوا في دار ابن زرعة بعد سبه له وملأوها سلاحاً. فلجأ إلى ابن غانم، فلما دنا من الباب تذكر، وقال بعد أن سببته أستنصره، فانصرف، ثم أعظم ما نزل به فرجع إليه، فلما دنا انصرف ثم رجع،(3/75)
فلما رآه ابن غانم قال مرحباً بابن زرعة وأوسع مجلسه وقال له: ما جاء بك؟ فأخبره فقال يا غلام الرداء والنعال. فلبسهما ثم مضى إلى الأمير، فسأله إخراج الجند من داره، ففعل. وخرج ابن غانم مع جماعة إلى منزله ومعه سليمان بن زرعة وخرج بزوائله ومطانجه فنزل وقرب إليهم الطعام وفيه كنافة فجر رجل من القوم الزبد إلى جهته، فقال ابن زرعة: أخرقتها لتغرق أهلها؟ فقال ابن غانم: استهزاء بكتاب الله تعالى؟ لله علي أن كلمتك أبداً. وانصرف راجعاً إلى القيروان. وهجا أبو المضرجي الشاعر بني غانم فاتصل ذلك بالقاضي فضجر منه واشتهر الشعر فقيل لابن غانم: ليس لك إلا أبا الوزن، فإنه يلقاه بكل ما يكره. وكان أبو الوزن مضحكاً ضعيف الشعر. فأتي به، فقال ابن غانم: بلغني أنك بعيد الصوت ونحن نريد من يؤذن في الجامع. وقال لبعض خدمه: ادفع لأبي الوزن خمسة أقفزة قمحاً وخمسين قفيزاً زيتاً ومائة درهم، حتى ننظر في أمره. فلما قبض ذلك أبو الوزن قال للذي أتى به للقاضي: والله قصة، فإني لا أصلح أن أكون مؤذناً، فأخبر بالأمر، فقال: قد كفي. فدخل يوماً على إبراهيم بن الأغلب في جملة الشعراء فنظر إلى الأمير ثم أنشده:(3/76)
إني وإني وإنني وإنا ... وأهل بيتي معظموا الأمرا
ثم اشار إلى أبي المضرجي وقال:
إن أبا الضرجي شاعركم ... يضرط في الشعر كلما شعرا
قال القاضي: وبعد هذا بيت قبيح تركناه لفحشه ورفثه، وإن كان بيت الأبيات الثلاثة في بابه. فضحك الأمير ومن حضر وانكسر خاطره، وعلم من حيث أتى. فجاء إلى ابن غانم معتذراً مقسماً أنه ما هجا أحداً من أهل بيته: فأظهر ابن غانم ألا علم عنده من شيء من القضية. فسأله كف أبي الوزن عنه، فأمر له بذلك. وكان ابن غانم يكثر إنشاد هذين البيتين:
إذا انقرضت عني من العيش مدتي ... فإن عناء الباكيات قليل
سيعرض عن ذكري وتنسى مودتي ... ويحدث بعدي للخليل خليل
وكان لابن غانم أخم اسمه سعيد، سمع من أخيه عبد الله وكتب عنه. وكان لابن غانم ابنان جليلان أبو عمر غانم وأبو شراحيل فقيهاً نظاراً ورعاً أديباً شاعراً، أخذ عن الكوفيين ومال إلى رأيهم. وتوفى ابن ست وثلاثين سنة. مولده سنة تسع ومائتين(3/77)
وكان لابنه أبي عمر غانم ولد يكنى أبا عبد الرحمان وهو القائل في شعر له يفتخر بآله رحمهم الله تعالى:
ولينا قضاء الغرب عشرين حجة ... فعز بعدل عندنا مستلينها
وأمضى ابونا الحق في الناس فاستوت ... رعيته في العدل فاعتز دينها
فصلى عليه الله في مستقره ... وسقاه من غر السحاب هتونها
قال القاضي أبو الفضل: ودخل على ابن غانم أبو الوليد المهدي اللغوي في مرضه الذي مات فيه، فقال له رفه الله ضجعتك من هذه العلة إلى إفاقة، وراحة، وأعاد عليك ما عودك من الصحة والسلامة، فطالما صححت وعوفيت أصلحك الله فاصبر لحكم ربك، فإن الله يحب أن يشكر على نعماه. فقال ابن غانم هو الموت والغاية التي إليها نهاية الخلق وما لا بد منه فصبر يؤجر صاحبه عليه خير من ضرع لا يقي عنه ثم تمثل:
فهل من خالد أما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عار
وتوفى في ربيع الآخر سنة تسعين ومائة، وقيل ست وتسعين من فالج أصابه وقيل أن بصره كان قد كف والأول أصح، ويشهد له شعر حفيده قوله(3/78)
ولينا قضاء الغرب عشرين حجة وكان ولي القضاء سنة إحدى وسبعين وهو ابن اثنتين وأربعين وتوفي وهو قاض كما قدمناه ومولده سنة ثمان وعشرين ومائة مع البهلول بن راشد في ليلة واحدة. وذكر بعضهم أنه سمع عند موته صوتاً لا يرون شخصاً يقول:
زارت ذئاب بعد طول عوائها ... لما تضمنه الضريح الملحد
وقيل بل رآه بعضهم في النوم ولما مات بكى عليه ابن الأغلب وجلس على كرسي ينتظر وقته، ووقف على قبره معه ابن عقال خال إبراهيم بن الأغلب، وجزع عليه، فسأله إبراهيم عن ذلك، فقال: كان لي صديقاً ودوداً. فقال إبراهيم والله ما ولينا أفريقية ولا أمناً حتى مات. وكان علي الهمة لما مات قومت كسوة ظهره بألف دينار.(3/79)
علي بن زياد التونسي العبسي
أبو الحسن. وقيل أصله من العجم ولد بطرابلس، ثم انتقل إلى تونس فسكنها. وقال ابن شعبان وغيره هو من عبس. قال أبو العرب علي بن زياد من أهل تونس ثقة مأمون (خير) متعبد بارع في الفقه ممن يخشى اله عز وجل مع علوه في الفقه. سمع من مالك وسفيان الثوري والليث ابن سعد، وابن لهيعة وغيرهم. وسمع بإفريقية قبل هذا من خالد بن أبي عمران، لم يكن بعصره بإفريقية مثله. سمع منه البهلول بن راشد وسحنون وشجرة وأسد بن الفرات وغيرهم. وروى عن مالك الموطأ، وكتب سماعه من مالك الثلاثة. قال ابو سعد بن يونس: هو أول من ادخل الموطأ وجامع سفيان المغرب، وفسر لهم قول مالك ولم يكونوا يعرفونه. وكان قد دخل الحجاز والعراق في طلب العلم وهو معلم سحنون الفقه. قال الشيرازي به تفقه سحنون وله كتب على مذهبه وتفقه بمالك وله كتاب خير من زنته.(3/80)
قال سحنون: كتاب خير من زنته، أصله لابن أشرس. إلا أنا سمعناه من ابن زياد وكان يقرأه على المعنى وكان أعرف من ابن أشرس بالمعنى. قال ابن وضاح: قلت له: أو كان أكبر من ابن أشرس؟ قال: ما كان أمرهما واحداً، إلا أن ابن أشرس رعى سمع، وغاب علي، فكان علي يقرأ على المعنى، وهو ثلاثة كتب بيوع ونكاح وطلاق، وسماعه من مالك ثلاثة كتب. قال أبو الحسن بن أبي طالب القيرواني العابد في كتاب الخطاب: إن علي بن زياد لما ألف كتابه في البيع لم يدر ما يسميه به، فقيل له في المنام سمه: كتاب خير من زنته. ورأى حبيب أخو سحنون في منامه، خذ كتاب خير من زنته ذهباً. فإنه الحق عند الله. قال اسد قال لي المخزومي، وابن كنانة: ما طرأ علينا طارىء من بلد من البلدان كشف عن هذا الأمر، في رواية عن ابن كنانة، كشف لنا مالك عن الأصول كشف علي بن زياد، وكان سحنون لا يقدم عليه أحداً من أهل أفريقية، ويقول ما بلغ البهلول بن راشد شسع نعل علي بن زياد. قال سحنون: وكان البهلول يأتي إلى علي بن زياد ويسمع منه، ويفزع إليه. يعني في المعرفة والعلم، ويكاتبه إلى تونس يستفتيه في أمور(3/81)
الديانة. وكان أهل العلم بالقيروان إذا اختلفوا في مسألة كتبوا بها إلى علي بن زياد ليعلمهم بالصواب. قال وكان علي خير أهل أفريقية في الضبط للعلم. قال سحنون ولو أن التونسيين يسألون لأجابوا بأكثر من جواب المصريين. يريد علي ابن زياد وابن القاسم. وفي رواية أخرى: لو كان لعيي بن زياد من الطلب ما للمصريين ما فاته منهم أحد. وما عاشره منهم أحد. قال ابن الحداد، ألا إنها كلمة فضله بها عليهم. وقال سحنون: ما أنجبت أفريقية مثل علي ابن زياد. وكان يقول ما فاته المصريون إلا بكثرة سماعهم. وذلك أني اختبرت سره وعلانيته. والمصريون إنما اختبرت علانيتهم. قال أسد: كان علي بن زياد من نقاد أصحاب مالك. قال وإني لأدعو له مع والدي. وفي رواية أني لأدعو في إدبار صلاتي لمعلمي، وابدأ بعلي بن زياد، لأنه أول من تعلمت منه العلم. قال البلخي: لم يكن في عصر علي بن زياد أفقه منه ولا أورع. ولم يكن سحنون يعدل به أحداً من علماء أفريقية. قال ابن حارث: كان علي ثقة مأموناً(3/82)
خيراً.
ذكر فضائله ومناقبه
قال بعضهم: رأيت علي بن زياد واقفاً إلى سارية بجامع القيروان، فأراد أن يكبر فارتعد خوفاً من الله، ثم تحامل فكبر وتغير لونه. وذكر ابن اللباد عن سحنون قال: مات بعض قضاة أفريقية فقدم رسول الخليفة إلى أفريقية لجمع العلماء واستشارتهم في قاض يوليه أفريقية. فتوجه إلى تونس وبعث إلى واليها علي بن زياد فتثاقل، فأخبر بذلك الوالي رسول الخليفة فقال له الرسول، أمير بلد ورسول الخليفة، يوجه إلى رجل من الرعية فيتثاقل عن المجيء. فمضى إليه الوالي معه، فلما دخلا عليه وجداه قد حول وجهه إلى الحائط، فقال له الوالي: يا أبا الحسن، هذا رسول الخليفة يستشيرك في قاض يلي أفريقية، فحول عليه وجهه إلى القبلة وقال: ورب هذه القبلة ما أعرف بها أحداً يستوجب القضاء قوموا عني. وبعث فيه روح بن حاتم ليوليه القضاء، فقدم عليه وقدم البهلول والصالحون إلى باب دار الإمارة إذ بلغهم قدومه فخرج عليهم علي يمسح العرق على جبهته، فقالوا: ما فعلت؟ فقال عافى الله وهو محمود.(3/83)
فقال له البهلول: بما عزمت عليه؟ (قال ألا بيت فيهان فيبدو له؟ فتوجه إلى تونس على حماره، وودعوه. وجاء رجل إلى البهلول وقال رأيت في المنام كأن قنديلاً دخل من باب تونس حتى دخل من باب تونس حتى دخل دار بني دراج. فقال تعرف الدار؟ قال نعم. قال قوموا بنا فقد جاء علي بن زياد. فانتهوا مع الرجل حتى أوقفهم على الدار. فسألوا فإذا علي قد دخلها في السحر. فدخل عليه البهلول، فقام إليه علي وسلم عليه، وجعل البهلول يسأله عن مسائل، وكتب البهلول مع سحنون إلى علي ابن وياد: يأتيك رجل يطلب العلم لله. فلما وصل سحنون أتاه علي إلى بيته بالموطأ. وقال والله لا سمعته علي إلا في بيتك. لأن أخي البهلول كتب إلي أنك ممن يطلب العلم لله. وقد رأيت أنا هذه الحكاية مع غير سحنون رجل آخر من أكابر أصحاب مالك المصريين يكنى بكنيته ويسمى باسمه، وينتسب بنسبه وهو أبو الحسن علي بن زياد الإسكندراني سيأتي ذكره في طبقته إن شاء الله تعالى.(3/84)
عبد الرحيم بن أشرس
قال أبو العرب: هو أنصاري من العرب من أهل تونس كنيته أبو مسعود ونسبه ولم يسمه، وسماه المالكي العباس. وقالوا: هو مولى الأنصار. وقاله أبو سعيد بن يونس. وقال اسمه عبد الرحمان.... انتهى. وكذلك قال ابن فهر، رجح المالكي اسمه العباس، قال: وهو ثقة فاضل. سمع من مالك بن أنس ومن ابن القاسم. روى عنه عبد الرحمان حديث الموطأ. قال: وقرأت في رجال ابن وهب، أبو الأشرس عبد الرحمان بن أشرس المقري التونسي. ولعله أخا لأبي مسعود. وكان يكنى بأبي مسعود، وقد بين هذا ابن شعبان، فقال عنه أبو مسعود عبد الرحمان بن أشرس، ويقال عبد الرحيم، قال سحنون: كان علي بن زياد خير أهل أفريقية في الضبط للعلم، وكان ابن أشرس أحفظ على الرواية، وكان شديد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(3/85)
قال ابن يونس الصدفي: روى ابن أشرس عن مالك وعبد الله وروى عنه ابن وهب وسعيد بن أبي جعفر وعمران بن هارون بمصر. قال موسى بن معاوية: كنت عند
البهلول بن راشد، إذا أتاه ابن أشرس، فقال له: ما أقدمك؟ قال نازلة رجل ظلمه السلطان فأخفيته، وحلفت بالطلاق ثلاثاً ما أخفيته. قال له البهلول: مالك يقول: إنه يحنث في زوجته. قال ابن اشرس وأنا سمعته يقول، وإنما أردت غير هذا. فقال ما عندي غير ما تسمع. قال: فتردد إليه ثلاثة. كل ذلك يقول البهلول قوله الأول، فلما كان في الثالثة أو الرابعة قال له يا ابن اشرس، شر ما أنصفتم الناس إذا أتوكم في نوازلهم، قلتم: قال مالك. فإذا نزلت بكم النوازل طلبتم لها الرخص الحسن، يقول لا حنث عليه. قال ابن أشرس الله أكبر. قلدها الحسن أو كما قال. قال القاضي: كذا نقلته من كتاب ابن حارث وأراه كان بخطه. قال غيره فرجع ابن أشرس إلى زوجته. وكان هو صاحب المسألة.(3/86)
البهلول بن راشد
أبو عمر من أهل القيروان. قال محمد بن أحمد التميمي كان ثقة مجتهداً ورعاً مستجاب الدعوة لا شك في ذلك، كان عنده علم كثير. سمع من مالك والثوري وعبد الرحمان بن زياد ويونس بن زيد وحنظلة بن أبي سفيان وموسى بن علي بن رباح والليث بن سعد والحارث بن نبهان. وكان أولاً مشغولاً بالعبادة، فلما احتاج الناس إليه في العلم، سمع الموطأ من علي بن زياد وابن غانم، وسمع جامع سفيان الصغير من ابن أبي الخطاب، وأبي خارجة، والجامع الكبير من علي بن زياد. ودون الناس عنه جامعاً، وقام بفتياهم، وسمع من البهلول سحنون وعون والجعفري وعبد المتعالي(3/87)
وخالد بن يزيد وأبو سنان ويحيى بن سلام وغيرهم من بعدهم. قال أبو عبيد الله الجدائبي وروى عن البهلول أيضاً عبد الله بن مسلمة القعنبي. وقال حدثنا البهلول بن راشد وهو وتد من أوتاد المغرب. وروى عنه يزيد الفقر، ونظر إليه مالك بن أنس فقال: هذا عابد بلده، وجاءت إلى مالك من عند ابن غانم أقضية فقال ما قال فيها المصفر؟ يعني البهلول. وما قال فيها الفارسي؟ يعني عبد الله بن فروخ. قال سعيد بن الحداد ما كان بهذا البلد أحد أقوم بالسنة من البهلول في وقته، وسحنون في وقته. قال أبو حاتم: هو ثقة لا بأس به. وقال العقيلي: هو شيخ من أهل المغرب، ليس به بأس. وقال مثله علي بن الجويني. وقال أبو إسحاق البرقي: كان بهلول بن راشد من أهل الفضل والعلم والورع معروفاً بذلك مع العبادة والاجتهاد.(3/88)
قال سحنون: كان البهلول رجلاً صالحاً ولم يكن عنده من الفقه ما عند غيره، وإنما افتديت به في ترك السلام على أهل الأهواء.
ذكر فضائل البهلول وعبادته وورعه
وتواضعه وشمائله وبقية أخباره قال أبو إسحاق البرقي: قال البهلول بن عمر: ما رأيت أحداً أخشى لله من البهلول بن راشد. قال سحنون: كنا نختلف عند البهلول نتعلم منه السمت. قال غيره. دفع إلى البهلول كتاب ففضه. فإذا فيه: من امرأة من سمرقند من خرسان مجنت مجوناً لم يمجنه أحد إلا هي. ثم تابت إلى الله، وسألت عن العباد في أرضه، فوصف لها أربعة بهلول بإفريقية أحدهم، فسألتك بالله يا بهلول ألا دعوت الله في أن يديم لي ما فتح لي فيه. فسقط الكتاب من يده وخر على وجهه وجعل يبكي حتى لصق الكتاب بطين دموعه ثم قال: يا بهلول كان الذكر لرباح فلما مات، صار لبهلول. وما ذلك إلا من خبيئة كانت له.(3/89)
ومرت امرأتان وهو يصلي فقالت إحداهما للأخرى هذا البهلول. فقالت لئن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. فقال البهلول هذه عرفتني. وقال له رجل يوماً يا مرائي. فقال له البهلول: قد أخبرتها بذلك، يعني نفسه، فأبت علي ولم تقبل، فاجتمع عليها شهادتك وعلمي.
وكان عند البهلول طعام، فغلا السعر فباعه ثم أمر أن يشترى له ربع نصف قفيز، فقيل له في ذلك، فقال نفرح إذا فرح الناس ونحزن إذا حزنوا. قال جماعة: إن البهلول مضى مرة يريد الجامع، فلما حاذى قصر الإمارة إذا خدم السلطان قد خرجوا من المطبخ يحملون القدور، فقالوا له تقدم. ووضعوا لوحاً عليه قدور على رأسه، فلما رآه الناس قاموا من كل ناحية فأرادوا البطش بهم، فاعتذروا بأنهم لم يعرفوه. فقال: أنا فعلته بنفسي ولا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه. فكان بعد لا ينصرف إلا بثياب حسنة. فقال بعضهم: رأيت البهلول منصرفاً إلى داره وعليه قلنسوة خز وساج طرازي، وقميص تستري ونعل طائفي. قال عون: صنع البهلول طعاماً وأحضر له جماعة من أصحابه، فقالوا له لم صنعت من غير سبب؟(3/90)
فقال كنت خائفاً أن أكون من البربر، لما جاء فيهم من الحديث فأخبرني من يعلم أني لسن منهم. وكان البهلول جواداً، فبلغني أنه كان لا يحبس فوق خمسمائة درهم. قال ابن الحداد: أخبرتني أمي قالت: وجهت إلى بهلول وأنا طفلة، فلما رآني قال تبارك الله. فزرع فيها الشبه ثم وهب لي مائة درهم. وقالت جاريته أقمت مع البهلول ثلاثين سنة فما رأيته نزع ثوبه قط عن جسده. ولا رأيته مصلياً نافلة قط. كان ياتي فيرقدني كما ترقد الأم ابنتها، ثم يدخل المستراح فيتهيأ للصلاة، ثم يصعد لغرفته فيغلقها عليه، ولا أدري أحي هو أم ميت غير أني كنت ربما اسمع سقطته في آخر الليل، فأظن أنه استثقل نوماً فسقط، وذكر أنه كان عنده شاب يطلب ثم أقبل على المجانة، فبلغ ذلك البهلول، فساءه، فبينما هو جالس يوماً إذ خطر بباله الشباب وتحته طنبور فعرف ذلك، فذهب البهلول إلى داره فاستدعاه فسلم عليه وسأله عن الذي شغله عنه، وأقبل يعظه حتى رجع الفتى إلى الخير، وترك ما كان عليه ولازم البهلول ونفعه الله به فكان له شأن.(3/91)
قال أبو عثمان بن الحداد بلغني أن بهلولاً كان ذات يوم جالساً وعنده صاحبه رباح بن يزيد الزاهد، إذ أقبل أخ للبهلول في البادية يلج بخبر المطر والزرع والبهلول يتلقى ويتلون اغتماماً لرباح، لعلمه بكراهيته ذكر الدنيا وأسبابها فلما أكثر أخوه من هذا نهض وجعل يقول لبهلول: سقطت من عيني، تذكر الدنيا في مجلسك ولا تغير. فقال له البهلول: إذا لم أسقط من عين الله فلا أبالي من عين من سقطت. فخر رباح على رأسه يقبله. نعم يا حبيبي يا بهلول لا تبالي من عين من سقطت، إذا المرء سقط من عين الله. ودخل بهلول على ابن غانم القاضي وقت المغرب في رمضان فقرب الماء ليغسل من حضر ففعلوا وغسل بهلول ولم يأكل. فكلمه في ذلك ابن غانم القاضي وقال: أنا سلطان طعامي حرام؟ ألست بصائم؟ فجعل البهلول يعتذر إليه ويقول طعام لا أجد في بيتي مثله، وإن تكلفت شق علي وأنا أمره أن أتكلف بما يشق علي. وابن غانم يهذر ويعيد كلامه الأول، والبهلول يعتذر ولا يزيد على قوله الأول، حتى فرغ القوم وخرجوا وخرج البهلول.(3/92)
وذكر ابن اللباد أن رجلاً سأل بهلولاً عن مسألة فأجابه فيها ثم قال له: اذهب إلى الفارسي يعني ابن فروخ فاسأله، فذهب إليه فسأله، فأجاب بمثل قول بهلول، فانصرف إلى بهلول فسأله أيضاً، فقال ألم أدلك على ابن فروخ؟ قال بلى. وقد أجابني.
قال بهلول فما لك تفضل بعض الناس على بعض؟ يريد نفسه. والله لو كانت للذنوب رائحة ما جلست إلي ولا جلست إليك. وقال: ابن فروخ الدرهم الجيد، وأنا الدرهم المقوى. قال بهلول لقيت رباح بن يزيد ببئر زمزم، ومعه خراساني وقد نزعا ماء من بئر زمرم فجعلاه في سويق فنظرته فإذا هو عسل. فقالا لا تخبر بما رأيت. فما فعلت حتى مات. قال ابن الحداد: كان لقوم من النخاسين عشرون ديناراً عند البهلول وكان له عشرون ديناراً عند دحنون فجاءه سائل فقال لدحنون ادفع إليه ديناراً من العشرين فدفعه وجاءه النخاسون فقالوا حضر فقال حضر تسعة عشر وأمر دحنون بعدها لهم فوجد عشرين ديناراً.
فقال لدحنون لا إله إلا الله. أراك لا تحسن العدد.(3/93)
قال سليمان بن سالم: جاء مغيث بن رباح إلى البهلول فأخبره بعزمه على الحج، فقال له أما كنت حججت؟ فقال نعم. ولكني اشتقت إلى بيت الله الحرام وقبر النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: كم عددت لخروجك؟ فقال مائة درهم. فقال هل لك أن تأتيني بها فأصرفها في مواضع وأضمن لك على الله عشر حجج مقبولة. فأتى مغيث بالصرة فأفرغها تحت جلد وجلس معه. فلم يزل يدفع منها الخمسة والعشرة يقول لهذا تزوج بها وعش بالباقي، وهذا أنفقها على عيالك، والآخر استر وجهك بها. حتى نفذت. فرأى بعد ذلك رجل صالح أن أتياً أتاه مرة في الليل يقول له امض إلى مغيث فأخبره أن الله قد وفاه ضمان بهلول. فأخبره بذلك الرجل.
قال أبو زرجونة استقفيت ليلة جمعة وضربت بقرعة فأخبرت بذلك البهلول من الغد فأكب علي يسألني أن اجعل ما فعل ذلك في حل. فقلت فعلوا بي وفعلوا وأجعلهم في حل. فقال أيسرك أن يحال بين أخيك المسلم وبين الجنة بسببك؟ فلم يزل بي حتى جعلتهم في حل.(3/94)
قال: واقبل هرثمة بن أعين أمير أفريقية في موكبه، حتى انتهى إلى مسجد البهلول بن راشد، وبهلول مسند ظهره إلى عمود بإزاء باب المسجد، فانحنى هرثمة في السرج، وقال لبعض من معه ادفع إليه هذا المزود بالدراهم وقل له قال لك الأمير فرقها. فجاء إليه الرسول فقال له البهلول الأمير أقوى على تفريقها. قال سحنون: سأل رجل البهلول وأنا عنده عن مسألة، فأجابه بخطأ فقلت له في ذلك، فقال: ألا ترى إلى هؤلاء الأحداث يؤذوننا. وكنت إذا اجتمع لي قطعة خرجت إلى علي بن زياد فخرجت إليه، فبينما أنا عنده جاءه كتاب البهلول فرمى به إلي. فقلت هذه مسألة اختلف فيها عندنا. فقال لي ما قالوا؟ قلت: قال البهلول كذا. قال ومن نازعه؟ فقلت أنا، قلت فيها كذا. قال أصبت وأخطأ. اكتب إليه بهذا عني. ثم قال لي: افرح بهذا الرجل فإنه صالح. قال ابن الحداد عن أبيه كان البهلول من أغير الناس، ما كان يدخل داره رجل غيري.(3/95)
قال بعض أصحابه: دخلت عليه وبين يديه ابنته طفلة وعليها ثياب مصبوغة، فقال لي ما أحببت شيئاً حبي لها، وإني لأحب لو قدمتها لربي. فانصرفت عنه ثم رجعت إليه، فوجدت الناس مجتمعين على بابه فسألت، فقيل لي ماتت ابنته فدخلت إليه فعزيته فلما وليت لحقني وقال: بالله لا تذكر ما كان مني، يعني أمنيته، يعني ما دمت حياً. قال زكريا بن الحكم قلت للبهلول يا أبا عمر وهذه القراءة التي نقرأ عنكم الشيء رويته عن السلف أم شيء رأيته؟ فقال ما أخذته عن أحد إلا أني كنت عند معلمي أخيط فيمر علي سافر بن سليمان الواعظ بالجامع والقراء يقرأون عليه، فأقف إليه وأستحلي ذلك، ثم حاسبت نفسي وقلت أنا مستأجر، فصرت آخذ من معلمي طريحة معلومة، فإذا فرغت منها مضيت إلى مجلسه فانتفعت به وبقيت حلاوة ذلك في قلبي ومنفعتها إلى الآن، ثم قال وهؤلاء القراء إن أتوني سمعت منهم، وإن غابوا لم أرسل فيهم. وذكر رجل لبهلول أنه رأى الشمس والقمر ادخلا جوفه فأفتاه بهلول بأنه يموت وتلا: وجمع الشمس والقمر يقول ألإنسان يومئذ أين المفر.(3/96)
ذكر تسننه ومجانبته أهل الأهواء
وموالاته ومعاداته في الله
وخرج بهلول يوماً على أصحابه وقد غطى خنصره بيده وقد كان أهله سألوه حاجة، فربط في خنصره خطياً ليذكرها ثم قال: خفت أن أكون ابتدعت فغطى أصبعه لئلا يراه أحد فيقتدي به. ثم وجه بعض أصحابه واسر إليه الأمر فسأل ابن فروخ وصاحبه عن ذلك، فجاءه فأخبره عنه أن عبد الله بن عمر كان يفعل ذلك، فنحى بهلول كفه عن خنصره: وقال الحمد لله الذي لم يجعلني ممن ابتدع بدعة في الإسلام. قال ابن الحداد: قال لي ابن سنان ربما سمعت بهلولاً في داركم وهو يهدر ويقول السنة، ويلح بها. قال سحنون: أتيت يوماً إلى البهلول فوافاني رجل من أهل الأهواء على بابه يسألني عن الشيخ، فلم أرد عليه جواباً، والشيخ يسمع. فلما دخلت عليه سلمت فلم يرد علي وأعرض عني فلما خرج الناس جثوت بين يديه وقلت له ما قصتي؟ فقال سلم عليك رجل من أهل الأهواء وسألك عني. فقلت له: والله ما رددت عليه جواباً. فقال مرحباً أهلاً. وسلم علي. ثم قال لي بهذا يعرف الحق من الباطل.(3/97)
قال ابن الحداد: أتى أبو محرز العراقي الفقيه إلى البهلول يعوده فقيل ذلك البهلول، فقال: قولوا له إن كنت على رأيك فلا تقربنا. وقال سحنون: ما اقتديت في ترك السلام على أهل الأهواء إلا بالبهلول. قال بعضهم: دفع بهلول إلى بعض أصحابه دينارين ليشتري له بهما زيتاً يستفد به فذكر للرجل أن عند نصراني زيتاً أعذب ما يوجد. فانطلق إليه الرجل بالدينارين، فأخبر النصراني أنه يريد زيتاً عذباً لبهلول. فقال النصراني نتقرب إلى الله ببهلول كما تتقربون أنتم به إليه، وأعطاه بالدينارين من ذلك الزيت ما يعطى بأربعة دنانير من دنيء الزيت. ثم أقبل إلى بهلول فأخبره الخبر، فقال له بهلول قضيت حاجة فاقض لي أخرى، رد علي الدينارين. فقلت ولم؟ فقال ذكري قول الله تعالى: لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله. فخشيت ان آكل زيت النصراني فنجد له في قلبي مودة فأكون ممن حاد الله ورسوله على عرض من الدنيا يسير.
ذكر محنته ووفاته
قال القاضي رحمه الله: امتحن البهلول على يد العكي أمير القيروان وقيل له: أنه يقع في سلطانك، وضعف عنده أمره. فأمر به فتحاشد الناس معه فزاده ذلك حنقاً عليه، وأخرج إليهم الأجناد ففضوهم(3/98)
وأمر بتجريده وضربه بالسياط ورمى جماعة أنفسهم، فضربوا، وضرب هو نحو العشرين وحبسه، وكان عندما هم به وسيق لقيه قوم متمثلون فشاوروه في القيام عليه وتخليصه فجعل يقول لا ... لا. قال بعضهم كنا في غزاة مع بعض الخلفاء وكنا معه في أهل الثغور اثني عشر ألفاً وكان يقضي لنا كل يوم حاجتين، فلما بلغنا ضرب العكي لبهلول اختل العسكر، وتقدمنا إلى باب الخليفة فسألنا حاجبه، فقلنا قد جعلنا حوائجنا نصرة البهلول، بلغنا أن العكي ضربه. فقال الحاجب اتقوا الله في دم العكي، إن بلغ هذا الخليفة قتله، وكيف يضرب البهلول إلا أن يكون أهل أفريقية ارتدوا. وكان مما حرك عليه العكي أنه كان يهادي ملك الروم فوجه إليه الطاغية في سلاح وحديد ونحاس فلما أراد توجيه ذلك إليه عارضه في ذلك بهلول ووعظه فيه إذ لا يجوز ذلك. قال أبو زرجونة كنت عند بهلول بعد ضربه إذ سمعت بكاء رجل داخل من الباب وإذا ابن فروخ فجلس أمامه، فبكى. فقال له بهلول: ما أبكاك يا أبا عمر؟ قال أبكي لظهر ضرب بغير حق. فقال قضاء وقدر.(3/99)
وندم العكي بعد ذلك، وقال لابن غانم هل تستطيع أن ترينيه؟ فقال أما على أن يأتيك فلا ولكن استدعيه أنا واستشرف أنت من حيث تراه، ففعل.
فلما بصر به جعل يقول تبارك الله كأنه سفيان الثوري في شأنه، فعن قريب عزل العكي اسوأ عزل وولي تمام بن تميم. وحكي أنه لما مدت رجلاه للقيد قال إن هذا الضرب من البلاء الذي لم أسأل الله العافية منه خطرة. وأتاه السجان في سجن العكي فعالجه فوهب إليه ديناراً وأعطى لمن معه دراهم، فعل بهم هذا ثلاثة أيام. كلما دخلوا عليه إعطاهم. فخاف أصحابه حاجته قبل خروجه فقالوا للسجان قد برىء فلا تعاودوه. فلما استبطأه بهلول سأل عنه أصحابه، وكأنه فطن لهم، فقالوا له لكل يوم دينار؟ فقال وما في ذلك؟ فقال له حفص بن عمارة من أصحابه سمعت الثوري يقول: إذا كمل صدق الصادق لم يملك ما في يديه. فخر بهلول على يديه يقبلهما ويقول سألتك بالله أنت سمعتها منه؟(3/100)
وبرىء الضرب الذي ضرب إلا أثر سوط واحد، تنغل فصار قرحة فكان سبب موته رحمه الله. قال البهلول: أقمت ثلاثين سنة اقول إذا أصبحت وإذا أمسيت: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض وهو السميع العليم.... إلى آخر هذا فنسيتها يومي مع العكي، فابتليت. وذكر أن العكي وجه إلينا ثياباً وكبشاً فلم يقبل ذلك. فلما أبى سأله أن يحله فقال له: ما وقع علي سوط إلا وأ، ااستغفر الك يا أبا يسر. وفي رواية ما حللت يدي من العقالين حتى جعلتك في حل. وتوفي سنة ثلاث وثمانين ومائة. قال سحنون: بعد علي بن زياد بخمسة وثلاثين يوماً، كذا قال غير واحد، وقال فرات: سنة اثنتين ومولده مع عبد الله ابن غانم في ليلة واحدة سنة ثمان وعشرين ومائة.(3/101)
أبو محمد عبد الله بن فروخ الفارسي فقيه القيروان في وقته
قال أبو بكر المالكي في كتاب رياض النفوس: إن مولده بالأندلس سنة خمس عشرة ومائة، ثم انتقل إلى أفريقية، فسكن القيروان وأوطنها، ونحو ذلك ذكر سليمان بن عمران، فيما حكاه عنه ابن الجزار، في كتاب التعريف. قال القاضي وإن اسمه كان بالأندلس عبدوساً، وإن رجلاً ناداه به في الجامع يعني بالقيروان ممن كان يعرفه به، فقال له أناشدك الله أن تذكرني في هذا البلد. ثم رحل إلأى المشرق فلقي جماعة من العلماء والمحدثين كزكريا بن أبي زائدة وهشام بن حسان وعبد الملك بن جريج، والأعمش والثوري ومالك بن أنس، وأبي حنيفة وغيرهم. فسمع منهم وتفقه بهم. قال ابو بكر وكان اعتماده في الحديث والفقه على مالك بن أنس. وبصحبته أشتهر، وبه تفقه، لكنه كان يميل إلى النظر والاستدلال، فربما مال إلى قول أهل العراق فيما تبين له منه الصواب. ثم انصرف إلى أفريقية فأقام بالقيروان يعلم الناس العلم ويحدثهم فانتفع به خلق، ثم رحل ثانية، وأتى مصر فمات بها كما سنذكره. قال ابن الجزار في كتاب طبقات القضاة كان ابن فروخ فقيهاً ورعاً، رحل في طلب العلم، وكان يكاتب مالك بن أنس في المسائل ويجاوبه(3/102)
مالك، إلا أن سحنون كان يقول فيه: لا ينص الأصول، كان يسأل في المسألة فيجيب فيها بالأقاويل المختلفة.
الثناء عليه بالعلم والعقل والدين
قال ابو بكر: كان رجلاً صالحاً فاضلاً متواضعاً قليل الهيبة للملوك لا يخاف في الله لومة لائم، مبايناً لأهل البدع حافظاً للحديث والفقه. قال أبو العرب: كان ممن رحل في طلب العلم فلقي مالكاً وسفيان الثوري وغيرهما، وكان يكاتب مالكاً فيجيبه عن مسائله، وكان ثقة في حديثه. واستعفى من القضاء. قال ابن أبي مريم: هو أرضى أهل الأرض عندي. وقد خرج له مسلم في صحيحه. وقال البخاري: عبد الله بن فروخ، سمع منه ابن أبي مريم، تعرف وتنكر، خراساني وقع بالمغرب. قال، قال عبد الله بن وهب: قدم إلينا ابن فروخ سنة ست وتسعين بعد(3/103)
موت الليث ابن سعد، فرجونا أن يكون خلفاً منه. فما لبث إلا يسيراً حتى مات. وجعلت على نفسي ألا أحضر جنازة إلا وقفت على قبره، ادعو له. قال المالكي: كانت لوفاته بمصر فجعة عظيمة، عند أهل العلم، وقالوا: طمعنا أن يكون خلفاً عن الليث، وكانوا يعظمونه ويعتقدون إمامته.
قال: وكان مالك بن أنس يكرمه ويعظمه. وحكى الطحاوي أن ابن فروخ قدم المدينة فلبس ثيابه، وأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى مالكاً فلما رآه مالك تلقاه بالسلام: وقام إليه، وكان لا يكاد يفعل ذلك بكثير من الناس، وكان لمالك موضع من مجلسه يقعد فيه، وإلى جانبه المخزومي، معروف له، لا يستدعي مالك أحداً للقعود فيه، فأقعده فيه وسأله عن أحواله ومتى كان قدومه، فأعلمه أنه في الوقت الذي أتى إليه. فقال له مالك صدقت لو تقدم قدومك لعلمت به ولأتيتك، وجعل مالك لا ترد عليه مسألة وعبد الله حاضر إلا قال: أجب يا أبا محمد. فيجيب. ثم يقول مالك: هذا كما قال. ثم التفت مالك إلى أصحابه، فقال: هذا فقيه المغرب وفي خبر آخر، إنه أتى مالكاً فأجلسه معه على دكان. فأتاه سائل من أهل المغرب بمسائل في الجنايات فقرئت عليه، فقال له مالك أجبهم يا أبا محمد فهم أهل بلدك،(3/104)
فقال له ابن فروخ: بحضرتك. قال نعم. عزمت عليك. وكانت المسألة: رجل ضرب على رأسه وعلى حقويه فذهب أم رأسه، وزال عقله وبصره وسمعه وأسنانه واسترخت انثياه، حتى بلغت ركبتيه. فقال له ابن فروخ: في السمع الدية، وكذلك في البصر والعقل والأسنان، ويقعد في إجالة فيها ماء بارد في ليلة باردة. فإن تقلصت انثياه وعادتا لحالهما فلا شيء عليه، وإلا ففيها الدية كاملة. وإن تقلصت إحداهما فنصف الدية. فقال السائل لمالك أهذا جوابك يا أبا عبد الله. قال هذا جوابي. وقد حدث ابن فروخ بهذه الحكاية عنه وعن مالك. قال أبو العرب، عن أبي عثمان المعافري: أتيت إلى مالك بمسائل من ابن غانم، فقال لي ما قال فيها المصفر يعني البهلول بن راشد. وما قال فيها الفارسي، يعني ابن فروخ. ثم كتب الأجوبة وكتب في آخر الكتاب ودين الله يسر إذا أقيمت حدوده. فقال ابن حارث وسؤال مالك عن كلامه، وكلام البهلول في المسالة يدل على أنه علم أنهما صاحبا فتوى القيروان في زمنه. ولم يسأل عن كلام ابن(3/105)
زياد وابن أشرس لأنهما لم يكونا بالقيروان كانا بتونس، مع مناظرة ابن غانم علي بن زياد وابن أشرس لأنهما لم يكونا بالقيروان كانا بتونس، مع مناظرة ابن غانم علي بن زياد. قال وكان البهلول بن راشد، يعظم ابن فروخ ويقلده فيما نزل من أمور الديانات ويذكر أنه ناظر زفر بن الهذيل في مجلس أبي حنيفة، فازدراه زفر للمغربية، فلم يزل به ابن فروخ حتى قطعه. فقال أبو حنيفة لزفر لا خفف الله ما بك.
ذكر زهده وعبادته وورعه وقيامه بالحق
قال ابن قادم: كان ابن فروخ كثير التجهد، وكان تهجده آخر الليل. وقال أحمد بن يزيد: كان عبد الله بن فروخ إذا أخذ الجند أعطياتهم أغلق حانوته، تلك الأيام حتى يذهب ما في أيديهم. قال ابن قادم: كان الناس يتبركون بصحبة ابن فروخ ويجلسون له على طريقه إذا خرج من داره، ويمشون معه، ويغتنمون منه موعظة، ودعوة، متى يأتي الجامع، فإذا وصل الجامع تشاغل بمسح رجليه خارج المسجد، وقال لمن معه: ادخلوا رحمكم الله. فلا يدخل حتى لا يبقى معه أحد. وحدث الاجدابي: إن روح بن حاتم أرسل إلى ابن فروخ ليوليه القضاء، فلما جاءه قال له: بلغني أنك ترى الخروج علينا.(3/106)
قال نعم. فعظم ذلك على روح، ثم قال ابن فروخ: ذلك مع ثلاثمائة وسبعة عشر، عدة أصحاب بدر، كلهم أفضل مني. فقال روح: أمناك أن تخرج علينا أبداً. ثم عرض عليه القضاء، فامتنع، فأقعده في الجامع وأمر الخصوم يكلمونه، وجعل يبكي ويقول لهم: ارحموني يرحمكم الله. وذكر غيره: أنه لما امتنع، أمر به ان يربط ويصعد به على سقف الجامع، فقال: تقبل. فقال: لا. فأخذ ليطرح. فلما رأى القوم، قال: قبلت.
فأجلس في الجامع مع حرس، فتقدم إليه خصمان فنظر إليهما وبكى طويلاً، ثم رفع رأسه، فقال لهما: سألتكما الله إلا أعفيتماني من أنفسكما، ولا تكونا أول شؤمين علي، فرحماه وقاما عنه. فأعلم الحرس بذلك روحاً فقال اذهبوا إليه. فقالوا له تشير علينا من نولي، أو فاقبل. فقال: إن يكن، فعبد الله بن غانم. فإني رأيته شاباً له صيانة. يعني بمسائل القضاء فعليكم به، فإنه يعرف مقدار القضاء. فولي ابن غانم، فكان ابن غانم يشاوره في كثير من أموره وأحكامه، فأشفق ابن فروخ من ذلك، وقال له: يا ابن أخي، لم اقبلها أميراً، اقبلها وزيراً.(3/107)
فألح عليه ابن غانم، وشدد عليه، فلما رأى ذلك ابن فروخ، خرج إلى مصر هرباً من ذلك وورعاً. فمات بها وكان أكره الناس للقضاء وكان يقول: قلت أبي حنيفة، ما منعك أن تلي القضاء؟ فقال لي: يا ابن فروخ، إن القضاة ثلاثة، رجل يحسن العوم فأخذ البحر طويلاً فما عساه يعود، يوشك أن يكل فيغرق، ورجل لا بأس بعومه، عام يسيراً فغرق، ورجل لا يحسن العوم، ألقى بنفسه على الماء فغرق من ساعته. قال سحنون: اختلف ابن غانم وابن فروخ في الرجل يوليه أمير غير عدل القضاء، فأجاز ابن غانم له أن يلبي، وأباه ابن فروخ، وكتبا بذلك إلى مالك. فلما قرأ مالك الكتاب قال للرسول ولي ابن غانم؟ قال نعم. قال مالك: إنا لله وإنا إليه راجعون، فألا هرب. فألا فر حتى تقطع يداه. أصاب الفارسي وأخطأ الذي يزعم أنه عربي. وسأله يزيد بن حاتم الأمير عن دم البراغيث في الثوب هل تجوز الصلاة به؟ فقال له: ما أرى بأساً. ثم قال بمحضر رسوله: يسألونني عن دم البرغيث ولا يسألونني عن دماء المسلمين التي تسفك.(3/108)
وخرج مرة يصلي على جنازة، فإذا بإسحاق ابن الأمير يزيد بن حاتم قد أغرى كلابه بظبي، يغريها بذلك فلما انصرف استوقفه، وقال له: يا فتى رأيتك الآن تفعل كذا، وما أحسب ذلك لك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك. فقبل منه إسحاق وقال صدقت أبا محمد جزاك الله خيراً، والله لا فعلت ذلك بعدها أبداً. قال ابن قادم: كان ابن فروخ ربما غسل الأموات ولا يولي ذلك غيره، ويحملها إلى قبرها.
ذكر رحلته وطلبه
ذكر المالكي عنه، أنه رحل قديماً فلقي الشيوخ والفقهاء، قال وهناك سمع من أبي حنيفة مسائل كثيرة مدونة. ويقال إنها نحو عشرة آلاف مسألة. قال: لقي مالكاً وتفقه عنده وسمع منه. وأما خبره المتقدم مع مالك، فإنما كان في سفرته الثانية، بعد خروجه من القيروان، وذكرت أنه قال: سقطت آخره من أعلى دار أبي حنيفة وأنا عنده على رأسي فدمي. فقال: اختر الأرش أو ثلاثمائة ألف حديث. فقلت الحديث. قال: فحدثني.(3/109)
قال: ولما أتيت الكوفة وأكثر أملي السماع من الأعمش، فسألت عنه، فقيل لي غضب على أصحاب الحديث، فحلف أن لا يسمعهم مدة، فكنت اختلف إلى باب داره لعلي أصل إليه، إذ فتحت يوماً بابه وخرجت منه جارية، فقالت لي ما بالك على بابنا؟ فأعلمتها بخبري. قالت واين بلدك؟ قلت أفريقية. فانشرحت إلي وقالت تعرف القيروان؟ قلت أنا من أهلها. قالت تعرف دار ابن فروخ؟ قلت: أنا. فتأملتني، ثم قالت: عبد الله؟ قلت نعم. وإذا هي جارية لنا بعناها صغيرة، فصارت إلى الأعمش، وقالت له: مولدي الذي كنت أخبرتك بخبره بالباب. فأمر بإدخالي فدخلت، وأسكنني بيتاً قبالة بيته، فسمعت منه وحدثني.
ذكر تسننه وأتباعه وبقية أخباره
قال أبو العرب: كان ابن فروخ كتب إلى مالك يخبره أن بلدنا كثير البدع، وأنه ألف لهم كتاباً في الرد عليهم. فكتب إليه مالك يقول له: إن ظننت ذلك بنفسك خفت أن تزل وتهلك، لا يرد عليهم إلا من كان ضابطاً عارفاً بما يقول لهم، لا يقدرون أن يعرجوا عليه فهذا لا بأس به. وأما غير ذلك فإنني أخاف أن تكلمهم(3/110)
فتخطىء، فيمضون على خطاك أو يظفروا منه بشيء، فيطغوا ويزدادوا تمادياً على ذلك. قال محمد بن سحنون كانت المعتزلة تدعي ابن فروخ عندنا. فأخبرني بعض أصحاب أبي وكان صحب أبا خارجة. قال: نزل بنا أبو خارجة فسألته عن ابن فروخ وما يرمي به. فقال من قال هذا، فو الله الذي لا إله إلا هو، ما رأيت بهذين العينين شاباً أعبد لله من ابن فروخ. ثم قال: فو الله لقد كنت معه حتى سئل عن المعتزلة، فقال للسائل: وما سؤالك عن المعتزلة؟ فعلى المعتزلة لعنة الله قبل يوم الدين، وفي يوم الدين، وبعد يوم الدين، وفي طول دهر الداهرين. فقال له: وما فيهم قوم صالحون. فقال ويحك، وهل فيهم رجل صالح؟ قال سحنون: مات رجل من أصحاب البهلول، فحضر هو وابن غانم وابن فروخ فصلوا عليه وجيء بجنازة ابن صخرة المعتزلي، فقالوا لابن غانم الجنازة. فقال كل حي ميت. قدموا دابتي. وقيل لابن فروخ مثل ذلك. فقال مثله. وقيل للبهلول مثل ذلك، فقال مثله. وانصرفوا ولم يصلوا عليه. فكان ذلك مما عرف لابن فروخ. وكان قبل هذا يرى الخروج على أئمة الجور، إذا اجتمع ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر عدة أهل بدر. فلما خرج إلى مصر وشيعه الناس(3/111)
التفت إلى من شيعه، فقال اشهدوا أني رجعت عما كنت أقول به من الخروج على أئمة الجور، وتائب إلى الله منه. وكان قد تواعد مع قوم أيام العكي للخروج عليهن وكان العكي رجل سوء، وأن يكون اجتماعهم بباب تونس، فذهب ابن فروخ لمكان الموعد وتخلفوا، فلم يوافه منهم إلا محمد بن منوتا، من المدنيين وابن محرز القاضي من العراقيين، فرجع.
قال سحنون: ذهبت مع أخي حبيب، وكان يسمع من ابن فروخ، فلما رأيته يمازح الطلبة حوله، مجة قلبي. وذكر أن رجلاً دعاه فأطعمه واسقاه نبيذاً، وكان يرى فيه رأي أهل العراق فشربه واحمر وجهه، فقال له الذي دعاه: ألم تحدثنا أن الحسنات تتناثر من وجه الرجل إذا احمر وجهه من النبيذ؟ فقال له ابن فروخ: قد كنا أغنياء عن طعامك.
وفاته
توفي رحمه الله تعالى بمصر إثر منصرفه من الحج، في سنة خمس وسبعين ومائة، ودفن بالمقطم. قال عبد الله بن وهب قدم علينا ابن فروخ سنة ست وسبعين ومائة، وهو ابن خمس وخمسين سنة، وقيل ابن ستين سنة. وكان يخضب بالحناء فما لبث إلا يسيراً حتى رحمه الله تعالى.(3/112)
من أهل الأندلس
سعيد بن عبدوس
من أهل طليطلة يعرف بالجدي مصغراً، لقي مالكاً فسمع منه الموطأ وكان مفتي بلده في وقته، وسمع منه، وأبوه عبدوس مولى هشام بن الحكم عتاقة. وقيل مولى الحكم. توفي سنة ثمانين ومائة من كتاب ابن الفرضي. وقال ابن حارث: ذكر لي إسحاق بن إبراهيم، أنه كان من أهل الفقه والعلم، وكان مفتي البلد، وولي قضاء طليطلة، وإن أباه عبدوساً كان رأياً للأمير الحكم، وهو الذي اعتقه، وكان تقياً فاضلاً، وعلى يديه تم أمر أهل طليطلة وسلمهم مع الحكم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: هو الذي ذكر هؤلاء في عتقه، كان موجوداً بطليطلة وهو الذي أجار يحيى بن يحيى عند فراره من قرطبة، في محنة أهل الربض، ومنعه من الحكم ابن هشام حتى أمنه واعتذر إليه. قال ابن وضاح لقيته بطليطلة.(3/113)
الغازي بن قيس
من أهل قرطبة. أموي يكنى أبا محمد. رحل قديماً فسمع من مالك الموطأ وسمع من ابن أبي ذئب وابن جريج والأوزاعي وثور بن يزيد ومحمد ابن وردان، وهو أول من أدخل موطأ مالك وقراءة نافع الأندلس فيما قاله أبو عمرو المقرىء. قال: وشهد مالكاً وهو يؤلف الموطأ ظاهراً، وانصرف إلى الأندلس بعلم عظيم، نفع الله به أهلها. وكان الغازي يقدم أو يؤخر فيرد عليه ذلك. وقصد قارئاً يوماً أن يقدم من أبواب الموطأ ويؤخرها، ليرى الناس حفظ الغازي فأنكر ذلك عليه، وقال إن عدت، لا تقرأ. إنما تريد أن تري الناس ما يكن يريد حفظه. روى عنه ابنه وابن حبيب وأصبغ بن خليل وعثمان بن أيوب، وقيل إنه عرض عليه القضاء فأبى. قال أصبغ: سمعته يقول: والله ما كذبت منذ اغتسلت(3/114)
ولولا أن عمر بن عبد العزيز قاله ما قلته، وما قاله عمر فخراً، ولا رياء، وما قاله إلا ليقتدى به. وشاوره مصعب بن عمران القاضي عند موت صعصعة بن سلام، وأدب بقرطبة قبل رحلته، وكان إمام الناس بها في القراءة. قال أبو عمر القمرىء: وكان جيداً فاضلاً عالماً أديباَ ثقة مأموناً. قال أحمد بن عبد البر: كان عاقلاً نبيلاً يروي حديثاً كثيراً ويتفقه في المسائل، رأساً في علم القرآن، متهجداً بالقرآن كثير الصلاة بالليل، وتوفي فيها قبل سنة تسع وتسعين ومائة. وروي عنه أنه كان يقول: ما من يوم يأتي إلا ويقول: أنا خلق جديد، وعلى ما يفعل بي شهيد، احذرني قبل ان أبيد، فإذا أمسى ذلك اليوم خر لله ساجداً، وقال الحمد لله الذي لم يجعلني لليوم العقيم. وكان للغازي بن قيس ابنان عبد الله، وكان من أهل العلم بالعربية والتأدية لقراءة نافع، سمع من أبيه، وروى عنه ثابت وابنه قاسم. توفي سنة ثلاثين ومائتين، ومحمد أبو عبد الله، صاحب عربية ولغة، ورحل ولقي الرياشي وأبا حاتم ومات بطنجة في انصرافه وقال لما حضرته الوفاة:
الحمد لله ثم الحمد لله ثم الحمد لله ... ماذا عن الموت من ساه ومن لاه
ماذا يرى المرء والعينان من عجب ... عند الخروج من الدنيا إلى الله(3/115)
زياد بن عبد الرحمان بلقب بشبطون
قرطبي. جد بني زياد: يكنى أبا عبد الله، وهو زياد بن عبد الرحمان ابن زهير بن ناشدة بن لوذان من حي ابن أخطب بن الحارث بن وائل اللحمي وقد قيل إنه من ولد حاطب بن أبي بلتعة. سمع من مالك الموطأ، وله عنه في الفتاوى كتاب سماع معروف بسماع زياد، وسمع من معاوية بن صالح القاضي، وكان صهره زياد، على ابنته. وروى عن عبد الله بن عقبة والليث بن سعد وسليمان بن بلال وعبد الله بن عبد الرحمان وعبد الرحمان بن أبي الزناد وعبد الله بن عمر العمري ويحيى ابن أيوب وأبي معشر وموسى بن علي ومحمد بن عبد الله بن عمر الليثي والقاسم بن عبد الله وإسماعيل بن داود وهارون بن عبد الله ومحمد بن أبي سلمة العمري وأبي معمر صاحب أنس، وعبد الرحمان بن أبي بكر بن أبي مليكه وابن أبي داود وسفيان بن عيينة وعمرو بن قيس وابن أبي حازم، وروى عنه يحيى بن يحيى الموطأ، وسماعه من مالك قبل رحلته من الأندلس، فأشار عليه زياد بالرحيل إلى مالك ما دام حياً، وأخذه عنه، ففعل.(3/116)
وكان زياد أول من أدخل إلى الأندلس موطأ مالك، مثقفاً بالسماع منه، ثم تلاه يحيى بن يحيى. قال يحيى بن يحيى زياد أول من أدخل الأندلس علم السنن ومسائل الحلال والحرام، ووجوه الفقه والأحكام وهو أول من عرف بالسنة في تحويل الأردية في الاستسقاء، وصاحب الصلاة إذ ذاك المصعب بن عمران فأنكر ذلك. وقال هذا مذر مشر. قال يحيى: فخرجت بعد ذلك إلى المشرق، ولقيت مالك بن أنس، والليث بن سعد، ومن دونهما، فوجدت سنة تحويل الأردية عندهم معروفة فاشية. قال الشيرازي: كان أهل المدينة يسمون زياداً فقيه الأندلس. وحكى ابن حارث أنه كانت له إلى مالك رحلتان: أحداهما حين اجتمع به معاوية بن صالح. وحكى أبو بكر المالكي أن زياداً قدم المدينة فدخل على مالك وعنده ابن كنانة. فلم يعرفه ابن كنانة. فسأله ابن كنانة عن بلده، فذكره فقال له فقيه بلدكم؟ قال: أنا أو نحو(3/117)
هذا. فجادله ابن كنانة في مسائل فلم يأت منه ما أحب. فقال: وإن بقوم سودوك لفافة.... البيت. فقال له مالك: اخفظت الرجل وأسأت أدبه. فلما استقر المجلس بزياد جاراه ابن كنانة ففجر منه بحراً. فعلم أن ما كان أولاً إنما كان هيبة المجلس.
ذكر فضائله وخبره
كان زياد إذا بعث معاوية بن صالح القاضي شيئاً وكان أبا زوجته إلى داره، لم يأكل شيئاً منه. وكان زياد ناسكاً ورعاً، رواه الأمير هشام على القضاء فأبى عليه وخرج هارباً بنفسه. فقال هشام: ليت الناس كلهم كزياد حتى أكفى أهل الرغبة في الدنيا. ثم أمنه فرجع إلى قرطبة، وكان هشام يقول: بلوت الناس فما رأيت رجلاً يكتم من الزهد أكثر مما يظهر إلا زياداً. وذكر يحيى بن إسحاق أن هشاماً لما ولي قيل له: لا يعتدل ما تريد، إلا بتولية زياد على القضاء. فبعث إليه فتمنع، فألح هشام عليه، فقال للوزراء: أما إذا عزمتم فأخبركم بما ابتدأ به، على المشي إلى مكة إن وليتموني إ، جاءني أحد متظلماً منكم إلا أخرجت من أيديكم ما يدعيه،(3/118)
ورددته عليه وكلفتكم البينة، لما أعرف من ظلمكم. فتركوه وأشاروا بإعفائه فعوفي، فقيل ليحيى بن يحيى أهو وجه القضاء؟ قال: نعم، فيمن عرف بالظلم والقدرة. وكان الأمير هشام يؤثر زياداً ويكرمه ويسهم إليه ويخلو به ويسائله عما يعن إليه من أمور دينه. فيأخذ برأيه ويبالغ في بره، ويدفع إليه المال يتصرف به، وربما اجتاز به ليلاً فيخرج إليه ويسلم عليه ويحادثه.
وذكر الصدفي: أنه عرض عليه أخذ مال ليفرقه فأبى. وذكر أنه حضر عنده يوماً غضب فيه على خاصة له، أوصل إليه كتاباً كرهه، فأمر بقطع يده، فقال زياد: أصلح الله الأمير. فإن مالك بن أنس حدثني في خبر رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إن من كظم غيظاً يقدر على إنفاذه ولاه الله أمناً وإيماناً يوم القيامة. فسكن غضب الأمير، وقال له: أحسنت. إن مالكاً حدثك به. فأمر الأمير أن يمسك عن يد الخادم، وعفا عنه. وذكر أن زياداً راكب الأمير الحكم، وقد أردف زياد ولده خلفه، منصرفين من جنازة ووصل محادثته الأمير إلى أن وصل القنطرة، فسمع(3/119)
المؤذن فقطع زياد حديثه وقال: معذرة إلى الأمير أصلحه الله، إنا كنا في حديث عارضه هذا المنادي إلى الله تعالى. ولا يجوز الإعراض عنه، فهو أحق بالإجابة وإن اجتمعنا قدرنا على تتميم الحديث إن كانت بنا إليه حاجة. وسلم عليه فدخل الجامع من باب القنطرة واستقام الأمير إلى القصر. قال يحيى: كان زياد واحد زمانه، زاهداً ورعاً وأتاه هشام ليلاً في خاصته فقرع عليه الباب فخرج فعرف به، ففتح له وسلم عليه، وسأله عن سبب مجيئه، فقال: طلب التفرد بك، وهذا مال طيب وأشار إلى مال يحمله الفتى أردت التزلف به فأتيتك به لتضعه حيث تراه. فقال له زياد: تجد من هو أقوم لك بذلك وأعرف بأهله. وسمى له قوماً من صلحاء الناس، فأبى هشام إلا إياه، فلم يقدر عليه إلى أن حلف أن له بفعل. فاستحياه هشام وخرج بماله، وهو يقول: اللهم أعني على طاعتك بمثل هذا. قال حبيب: كنا جلوساً عند زياد فأتاه كتاب من بعض الملوك بعد مدة، فكتب فيه ثم طبع الكتاب ونفذ به الرسول. فقال زياد أتدرون عم سأل صاحب هذا؟ سأل عن كفتي ميزان الأعمال يوم القيامة، من ذهب هي أم من ورق؟ فكتبت إليه، حدثنا مالك عن ابن شهاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
وسترد فتعلم.(3/120)
وقال الحكم: صارت له في مصاهرته لمعاوية بن صالح نادرة مذكورة، وذلك إنما أراد النظر إلى المرأة قبل تمام نكاحها، كما يفعل بعض الناس وقيل بعد النكاح وهو أشبه بحاله، وآخر الحكاية فواعد أهل الدار أ، يأتيهم ليلاً خفية من معاوية، فجاء واختفى في اسطوان الدار، وخرج معاوية فأحس من دابته قلقاً وحركة، لمكان زياد، فأنكر ذلك، ودعا بالمصباح فلما نظر إذا بزياد قد انزوى في بعض زوايا اسطوانة، فلم يزد أن قال استوصوا بضيفكم خيراً وانصرف. وله سماع من مالك، مؤلف. وكتاب الجامع له. قال ابن عتاب: وهو كتاب غريب يشتمل على علم كثير. قال يحيى بن يحيى: عرضت سماع زياد على ابن نافع واين القاسم، فرد عليه ابن القاسم مسألة، وقال لي: كذب زياد على مالك. وما سمع هذا منه قط. فأخذت الكتاب وطويته وأدخلته كمي، فقال: اقرأ. فقلت زياد أجل في نفسي من أن أعرضه مثل هذا. فاحتشم ابن القاسم وقال لي: اقرأ فو الله لا عدت لمثلها أبداً. فقرأت.(3/121)
وكان محمد بن عيسى الأعشى سيء الرأي في زياد، وكان يقول: إني لآكل التفاح الحلو وأحسو البيض الخفيف وأبول في الماء الراكد، منذ كذا، لينسيني الله علم زياد ويخرجه من صدري، فما نسيته. والتزمت كل ما أعرف أنه ينسي. فقيل لم؟ قال لأن زياداً لم يكن شيئاً، وكان علمه بارداً. وتوفي سنة ثلاث، وقيل أربع، وقيل تسع وتسعين ومائة. ونجب ولده بقرطبة، وكان فيهم عدة من أهل الجلالة والفضل والقضاء والعلم والخير.(3/122)
سعيد بن أبي هند أبي عثمان
أصله من طليطلة وسكن قرطبة، ولقي مالك بن أنس، وهو الذي كان يسميه مالك، الحكيم. قال أحمد بن عبد البر. وقال ابن لبابة: اسمه عبد الوهاب. قال بعضهم عن أبي حارث، عبد الرحمان بن أبي هند الأصبحي من أهل طليطلة يكنى أبا هند. سمع مالكاً وكان له مكرماً، وكان يسميه حكيم الأندلس، وانصرف وسكن قرطبة واستوزره بعض الأمراء. وفي كتاب أبي سعيد الصدفي مثله، وكناه أبا دريد. وقال توفي سنة مائتين. وذكر غيره: إن سبب ولايته الوزارة ما امتحن به من صدقه، وأنه لم تجرب عليه كذبة قط. فقال بعض وزراء ذلك الوقت أنا أجعله يكذب. فرصده حت نعس ثم قال له: رقدت يا أبا هند؟ قال: نعم. فلم يظفر منه بما يريد، لعادة الناس الإنكار في هذا. وقد أضيفت هذه القصة بعده لغيره، فلعلهما قصتان.(3/123)
وقرأت في كتاب القضاة لابن حارث: سعيد بن عبد الرحمان بن أبي هند، أبو هند الأصبحي الطليطلي روى عن مالك الموطأ. وقال القاضي أبو الوليد بن الفرضي ومحمد بن حارث: لا أدري، أهما اثنان أم واحد. فقد قيل لي، أن ابن أبي هند مات في أيام هشام بن عبد الرحمان، والله تعالى أعلم. قال أحمد بن سعيد: كان ابن أبي هند ولم يسمه، فاضلاً نبيلاً عاقلاً، له همة وهيبة. قال ابن وضاح: كان ابن أبي هند هذا شريفاً، وكان مالك يسأل عنه، يقول: ما فعل الحكيم عندكم بالأندلس لكلمة سمعها منه، وهي: إن قال مالك يوماً ما أحسن السكوت وأزينه بأهله. فقال ابن أبي هند: وكل من شاء سكت يا أبا عبد الله. فأعجبت مالكاً كلمته. وقيل بل قال له: إ، ما نزين الصمت ما بعده. وعرض به رجل عند ألأمير عبد الرحمان بالرياء. فقال سعيد: اصلح(3/124)
الله الأمير يظن بنا سوء السريرة مع حسن العلانية، فما ظن ألأمير أعزه الله تعالى، بسريرة رجل قد فسدت علانيته، ورأى الناس ينظرون إلى قوم كساهم ألأمير ويستحسنون كسوتهم، فقال: إنهم ما أخذوا ذلك إلا ببخس من الثمن. يعني أنهم بذلوا فيها دينهم. حدث عنه يحيى، وروى ابن وهب عن مالك عن أبي هند، قال: وجدت الصمت اشد من الكلام. قال يحيى بن يحيى: سمعت ان أبي هند يقول: ما هبت أحداً هيبة عبد الرحمان بن معاوية، حتى حججت فدخلت على مالك فهبته هيبة شديدة فصغرت هيبة ابن معاوية. قال: وكان له ابن شيخ لم يملك من مال أبيه شيئاً، فقال له يا أبت، هب لي من مالك شيئاً. فقال: وهل استأثرت عنك منه بشي؟ تركب وتلبس وتأكل كما أفعل أنا. فقال: إن تسمي لي منه شيئاً. فقال يمنعني من ذلك أ، هـ يقال ينتقص من عقل الرجل بقدر ما ينتقص من ماله. قال أحمد: وتوفي سعيد ابن أبي هند صدر أيام عد الرحمان بن معاوية قبل موت مالك بكثير.(3/125)
يحيى بن مضر القيسي وقيل اليحصبي
من أهل قرطبة أبو زكرياء. ويقال أبو بكر شامي الأصل كبير من فقهاء قرطبة. سمع من سفيان الثوري ومالك بن أنس وروى عنه مالك، حكاية عن سفيان الثوري أن الطلح المنضود هو الموز. وقال: أخبرني بذلك عن سفيان يحيى بن مضر فقيه ألأندلس، وروى عنه عبد الله بن وهب ويحيى بن يحيى قبل رحلته، وكان عالماً متقناً صاحب رأي. قال يحيى بن يحيى لبعض الكبراء، وقال له: أن الأمير أجابني أن يجلس لي الفقهاء فيما حكم به علي بن بشير ويجلسك معهم، فقال له يحيى: عليكم إن كنتم لا بد فاعلين بشيخنا يحيى بن مضر، وطلبه أمير المؤمنين الحكم بن هشام ابن عبد الرحمان بن معاوية بن عبد الملك بن مروان، فيمن طلبه بسبب المهدي، ممن أراد القيام عليه وخلعه، سنة تسع وثمانين ومائة وكانوا قد أنكروا على أميرهم أموراً كثيرة، من انهماكه في لذاته وفي ذلك. فأرادوا خلعه وكانوا عدة من أعيان الفقهاء وأكابر العلماء والصلحاء وأكابر الناس وبياضهم ولقوا فتى من بني عمه، عزموا على القيام معه(3/126)
وتقديمه فوشى بهم إلى الأمير وأوقفه على صحة الحال، بأن أدخل كاتبه وثقته قبة له وأسبل عليه ستراً في يوم، وعدهم بالاجتماع فيه معهم، فلما حضروا، أقبل يسألهم عمن معهم في هذا ألأمر، والكاتب يكتب إلى أن استراب بعضهم بكثرة سؤاله، وقيل بل سمع صرير القلم وراء الستر، فكشفوه فوقفوا على الأمر، فسقط في أيديهم، وبادروا الخروج، فنجي من بادر وقبض على من بقي، فكان ممن نجا يحيى بن يحيى، وعيسى بن دينار، وقبض على يحيى بن مضر، فيمن قبض فأمر الأمير بصلبهم على شط نهر قرطبة، وكانوا اثنين وسبعين رجلاً من الفقهاء وأهل الصلاح، وقيل كان عدة من صلب مائة وأربعين، وقيل في شرح هذه القصة غير هذا، فعظم ما فعل في قلوب الناس وغدوا إلى جدة لم يزالوا متربصين للوثوب به، إلى أن أقاموا القيامة المشهورة بوقعة الربض الذين أصطلحوا فيها سنة اثنتين ومائتين.(3/127)
الطبقة الوسطى
من أهل المدينة
عبد الله بن نافع
مولى بني مخزوم المعروف بالصائغ كنيته أبو محمد. قاله البخاري. روى عنه مالك وابن أبي ذئب، وحسين ابن عبد الله وابن أبي الزناد وتفقه بمالك ونظرائه. قال أحمد بن حنبل: كان صاحب رأي مالك، وفقه أهل المدينة برأي مالك. ولم يكن صاحب حديث، ولم يكن في الحديث بذاك، وكان ضعيفاً فيه. قال أبو زرعة الرازي: لا بأس به. قال البخاري تعرف حديثه وتنكر. وكتابه أصح. وقال محمد بن الحسين: سألت أبا عبد الله عنه، فقال ثقة. قال ابن لبابة: أهل الحديث يقدمون ابن نافع على أصحاب مالك في الحديث والثقة.(3/128)
قال ابن غانم: قلت لمالك: من لهذا الأمر بعدك؟ قال: رجل من أصحابي. حتى دخل رجل أعور وهو ابن نافع، فقال: هذا. قال الشيرازي: كان أصم أمياً لا يكتب، وقال: صحبت مالكاً أربعين سنة، ما كتبت منه شيئاً، وإنما كان حفظاً أتحفظه. وهو الذي سمع منه سحنون، وكبار أتباع أصحاب مالك، والذي سماعه مقرون بسماع أشهب في العتبية، لا كما زعم أبو عبد الله بن عتاب في فهرسته أنه ابن نافع الزبيري، وما ذكرناه غير منكر، ولهذا مشيخة الأندلس عما يقع في سماعها، وفي سماع الشيخين، يعنون أشهب وابن نافع الصائغ، وهو الذي ذكروه، وروايته في المدونة نفيسة. قال أشهب: ما حضرت لمالك مجلساً إلا وابن نافع حاضر.
وما سمعت إلا وقد سمع. لكنه كان لا يكتب. فكان يكتب أشهب لنفسه وله. وفي المدونة أن مالكاً سأل ابن نافع عن حديثه عن حسين بن عبد الله ابن ضميرة في القراءة في ركعتي الوتر، قال ابن نافع حدثته به، فأعجب مالك واستحسنه. قال قد كنا على هذا ولم يبلغني فيه شيء؟. وجلس مجلس مالك بعد ابن كنانة.(3/129)
قال ابن وضاح: كان أفضل أصحاب مالك في العبادة المصريين والاسكندرايين، وكان ابن نافع رجلاً صالحاً لكن هؤلاء فوقه. قال محمد بن سعيد: لزم مالكاً لزوماً شديداً. وكان لا يقدم عليه أحداً وهو دون معنى قال سحنون: كان ابن نافع رجلاً صالحاً، وكان ضيق الخلق. وكان أبوه صائغاً، وكان أولاً في حداثته منحرفاً فبينما هو في حائط من حيطان المدينة إذ سمع رجلاً يقرأ القرآن، قال: هذا يتلو كتاب الله وأنا مشغول في هذا الحائط. فرجع ولزم المسجد، وله تفسير في الموطأ رواه عنه يحيى بن يحيى، وعده ابن حبيب وابن حارث فيمن خلف مالكاً في الفقه بالمدينة. وقال مجاهد بن موسى: قال عبد الله بن نافع الصائغ: أنا أجالس مالكاً منذ ثلاثين سنة أو خمس وثلاثين سنة بالغداة والعشي وربما هجرته، فما رايته قرأ الموطأ على أحد قط. توفي بالمدينة في رمضان سنة ست وثمانين ومائة.(3/130)
محمد بن مسلمة أبو هشام
قال الزبير: هو محمد بن مسلمة بن محمد بن هشام بن إسماعيل بن الوليد ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهشام هذا هو أمير المدينة الذي نسب إليه مد هشام، والذي يذكر عنه ذكر عهدة الرقيق في خطبته. روى محمد عن مال وتفقه عنده، وروى عن الضحاك بن عثمان وإبراهيم بن سعد والهديري. قال أبو حاتم: كان أحد فقهاء المدينة وأصحاب مالك وأفقههم، ولمحمد بن مسلمة كتاب فقه أخذت عنه. وقال القاضي التستري: هو ثقة مأمون حجة. قال الشيرازي: جمع العلم والورع. قال: وكان مالك إذا دخل على الرشيد دخل بين رجلين من بني مخزوم، المغيرة عن يمينه وأبو مسلمة عن يساره.(3/131)
قال البخاري قيل لمحمد بن مسلمة: ما لرأي فلان، دخل البلاد كلها إلا المدينة. فقال: لأنه دجال من الدجاجلة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يدخلها الطاعون ولا الدجال. وتوفي سنة ست عشرة ومائتين.(3/132)
مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان
ابن يسار اليساري الهلالي، أبو مصعب
ويقال أبو عبد الله، مولى ميمونة أم المؤمنين. كان جد أبيه سليمان مشهوراً مقدماً في الفقه والعلم، وكان هو وإخوته عطاء وعبد الله وعبد الملك بنو يسار، مكاتبين لميمونة أم المؤمنين، أخذ عن جميعهم العلم، وولاؤهم لبني العباس وهبت ميمونة ولاءهم لعبد الله بن عباس. قال أبو عمر الصدفي هذا وهم، أنا أنكره، إنما هي مولى ميمونة رضي الله تعالى عنها. وقال فيه ابن حارث الأسلمي وقد ذكره إسماعيل بن إسحاق في مبسوطه، وروى الأسلمي عن مالك ولم يسمه. وقال محمد بن سعد: مطرف بن عبد الله بن يسار، وكان يسار مكاتباً لرجل من أسلم فادعى عنه عبد الله بن أبي فريرة فعتق، فصار في دعوتهم، وهو ثقة.(3/133)
قال القاضي أبو الوليد الباجي: مطرف الفقيه صاحب مالك، هو ابن أخته، وكان مطرف أصم. روى عن مالك وان أبي الزناد وعبد الرحمان بن أبي المولى وعبد الله بن عمر العمري، وروى عنه أبو زرعة وأبو حاتم وإبراهيم بن المقدر والذهلي ويعقوب بن شيبة والبخاري، وخرج عنه في صحيحه. قال الشيرازي: تفقه بمالك، وعبد العزيز ابن الماجشون وابن أبي حازم وابن دينار وابن كنانة والمغيرة. قال ابن معين: مطرف ثقة. قال ابن وضاح: هو عنده ارجح من ابن أبي أويس. قال الكوفي هو ثقة. قال أحمد بن حنبل كانوا يقدمونه على أصحاب مالك. قال أبو حاتم: مطرف أحب إلي من إسماعيل بن أبي أويس، ومطرف صدوق، مضطرب. قيل لابن معين: مطرف مثل العقباني ومعن؟ قال: كلهم(3/134)
ثلاث. قال الزبير: قال مطرف: صحبت مالكاً سبع عشرة سنة فما رأيته قرأ الموطأ على أحد. وكان يعيب كتابة العلم علينا. ويقول لم أدرك أحداً من أهل بلدنا ولا كان ممن مضى يكتب. فقيل له فكيف نصنع؟ قال تحفظون كما حفظوا، وتعملون كما عملوا. حتى تنور قلوبكم فيغنيكم عن الكتابة. وقد كره عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ذلك، وقال لا يكتب كتاب مع كتاب الله. قال ابن وضاح: رأيت سحنون لا يعجبه مطرف. قال أبو العرب: وامتحن مطرف في القرآن أيام المأمون وقال البخاري: ولد ابن أبي خثيمة ومحمد بن سعيد، وقال في أولها. وقال الدارقطني: في صفر منها. وقال غيره: توفي سنة أربع عشرة، وقال ابن وضاح: سنة تسع عشرة. وقيل سنة بضع وثمانين.(3/135)
ابن الماجشون: عبد الملك بن عبد العزيز
ابن عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي سلمة كنيته أبو مروان واسم أبي سلمة ميمون. قاله الألكاني. ويقال دينار، وقال الباجي: مولى بني تميم من قريش. ثم لآل المنكدر. والماجشون هو أبو سلمة فيما قاله الألكاني. وقال محمد بن سعد والدارقطني: هو يعقوب بن أبي سلمة، أخو عبد الله. قال الباجي: والماجشون المورد، بالفارسية. قال الدارقطني: سمي بذلك لحمرة في وجهه. وحكى ابن خلاد أن أحدهم يلقى الآخر يقول: شؤون، شؤون يعني كيف أنت. فلقبوا بذلك. وحكى ابن حارث: أن ماجشون موضع بخراسان نسبوا إليه،(3/136)
وكان عبد الملك فقيهاً فصيحاً، دارت عليه الفتوى في أيامه إلى موته، وعلى أبيه قبله فهو فقيه ابن فقيه. قال مصعب: عبد الملك مفتي أهل المدينة في زمانه. وكان ضرير البصر، ويقال عمي آخر عمره. وبيته بيت علم وخير بيت بالمدينة، وجده عبد الله يروي عن ابن عمر وغيره، خرج له مسلم. وأخو جده يعقوب بن أبي سلمة يروي عن ابن عمر أيضاً، وعمر بن عبد العزيز. خرج عنه مسلم أيضاً، ويوسف بن عبد العزيز أخو عبد الملك حدث عنه الزبير ابن بكار، ومنهم يوسف بن يعقوب بن عبد الله وأبي سلمة يروي عن ابن المنكدر الزهري، خرج عنه البخاري ومسلم، وروى عنه ابن حنبل وابن المديني وغيرهما، وأخوه عبد العزيز بن يعقوب أبو الأصبغ يروري أيضاً عن ابن المنكدر مراسيل رواها عنه ابن حنبل.
ثناء العلماء عليه وتعظيمهم له وفضله
قال الشيرازي: تفقه بأبيه ومالك وابن أبي حازم وابن دينار، وابن كنانة والمغيرة(3/137)
وكان فصيحاً، روي أنه كان إذا ذاكر الشافعي لم يعرف الناس كثيراً مما يقولون. لأن الشافعي تأدب بهذيل في البادية، وعبد الملك تأدب في خولة من كلب، بالبادية. قال يحيى بن أكثم القاضي: عبد الملك بحر لا تكدره الدلاء. قال عبد الملك: أتيت المنذر بن عد الله الجذامي وأنا حديث السن، فلما تحدثت وفهم عني بعض الفصاحة قال لي من أنت؟ فأخبرته. قال لي: اطلب العلم فإن معك حذاءك وسقاك. وقال ابن المعذل: كلما تذكرت أن التراب أكل لسان عبد الملك، صغرت في عيني الدنيا. وقيل له: أين لسانك من لسان أستاذك عبد الملك؟ فقال: كان لسانه إذا تضايا أحسن من لساني إذا تحايا. قال ابن حارث: كان من الفقهاء المبرزين، وأثنى عليه سحنون وفضله، وقال: هممت أن أرحل إليه وأعرض عليه هذه الكتب، فما أجاز منها أجزت، وما رد، رددت. وأثنى عليه ابن حبيب كثيراً، وكان يرفعه في الفهم على أكثر أصحاب مالك(3/138)
قال ابن المواز: كنت عنده بعد أن عمي، حتى جاءه كتاب أمير المؤمنين فسأله عن أشياء فلما قرأ القارىء عليه، قال حول الكتاب واكتب جوابه، وأملى عليه، ثم ختمه ودفعه إلى الرسول. وقال ابن شعبان: كتب إليه المأمون بولاية القضاء، وكان قد عمي فامتنع من ذلك، وقيل له لو خرجت إلى العراق وعالجت بصرك فإن بها من يعالجه، وتنظر في ذلك، وكان بها غلام بتجارة خلط عليه فيها. فقال لا أفارق المدينة. وذكر أنه أوتي بقداح يقدح بصره فقال له: أنك تقيم كذا وكذا على ظهرك مستلقياً فأبى، وقال ما كنت لألتمس ما جعل الله ثوابه الجنة بتعطيل فرض من الصلاة. قال ابن حارث وكانت له نفس أبية، كلمه يوماً مالك بكلمة خشنة فهجره عاماً كاملاً، وذكر أنه استقصى على مالك في الفقر بين مسألتين، فقال له مالك تعرف دار قدامة، وكانت داراً يلعب فيها الأحداث بالحمام، وقيل بل عرض له بالسجن وكان العلماء يفضلونه في علم الأحباس. قال القاضي إسماعيل: عبد الملك عالم بقول مالك في الوقوف.(3/139)
وكان يقول بعد أن كف بصره هلم إلي سلوني عن معضلات المسائل. وذكر إسماعيل القاضي في المبسوط بعض كلامه، ثم قال ما أجزل كلامه، وأعجب تفصيلاته، وأقل فضوله. وتفقه به خلق كثير، وأئمة جلة كأحمد بن المعذل وابن حبيب وسحنون. قال ابن أكثم القاضي ما رأيت مثل عبد الملك، أيما رجل لو كان مسائلون. وكان ممن سمع كتبه. كتب عنه أربعمائة جلد ومائتي جلد شك الرواي، أو كما قال. وقال النسائي: فقيه الأمصار من أصحاب مالك من أهل المدينة، عبد الملك بن الماجشون ولعبد الملك بن الماجشون كلام كثير في الفقه وغيره. قال ابن حارث وعلم كثير جداً وله كتاب سماعاته وهي معروفة، وكتابه الذي ألفه آخراً في الفقه يرويه عنه يحيى ابن حماد السجلماسي، ورسالة في الإيمان والقدر والرد على من قال بخلق القرآن والاستطاعة.(3/140)
ذكر مذهبه فيما اختلف الناس فيه وإتباعه السنة
قال أبو مصعب الزهري: القرآن ليس بمخلوق وهو مذهب عبد الملك بن الماجشون، وكتب سحنون إلى عبد الملك يذكر ما حدث عندهم من الكلام في التشبيه والقرآن، ويسأله الجواب عليه. وكتب إليه عبد الملك مرة: من عبد الله بن الماجشون إلى سحنون بن سعيد، سلام عليكم فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، وفقنا الله وإياكم لطاعته، سألتني عن مسائل ليست من شأن أهل العلم والعمل بها جهل، فيكفيك من مضى من صدر هذه الأمة أنهم اتبعوا بإحسان ولم يخوضوا في شيء منها، وقد خلص الدين إلى العذراء في خذرها، فما قيل لها كيف ولا من أين؟ فاتبع لما اتبعوا وأعلم أنه العلم الأعظم الذي لا يشاء الرجل أن يتكلم في شيء من هذا، فيكب فيهوى في نار جهنم. وقال عبد الملك: لو أخذت المريسي لضربت عنقه. قال: وسمعت من أدركت من علمائنا يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق. قال القاضي رضي الله تعالى عنه. ذكرنا هذا كله وجلبناه من كتب الأئمة(3/141)
الثقات رداً وإبطالاً حكاه الساجي، في علله من خلاق هذا العالم يصح عنه. ولم يعرف منه مما كان الأولى بعد تركه. ذكر ابن اللباد، أن يحيى بن أكثم القاضي كان مع عبد الملك على سريره. يعني وهما يتذاكران مذهب أهل العراق وأهل المدينة، ويتناظران في ذلك. فقال ابن أكثم: يا أبا مروان رحلنا إلى المدينة في العلم قاصدين فيه، وكنتم بالمدينة لا تعنون به، وليس من رجل قاصداً فيه كمن كان فيه وتوانى. فقال عبد الملك: اللهم غفراً، يا أبا محمد ادع لي أبا عمارة المؤذن من ولد سعد. فجاء شيخ كبير فقال له: كم لك تؤذن؟ فقال سبعين سنة أذنت مع آبائي وأعمامي وأجدادي. وهذا الأذن الذي أؤذن به اليوم أخبروني أنهم أذنوا به مع ابن أم مكتوم. قال عبد الملك: وإن كتم تقولون توانيتم وتركتم، هذا الآذان ينادي به على رؤوسنا كل يوم خمس مرات متصلاُ بأذان النبي صلى الله عليه وسلم، فترى أنا كنا لا نصلي، فقد خالفتمونا فيه، فأنتم في غيره أحرى أن تخالفونا. فخجل ابن أكثم ولم يذكر أنه رد عليه جواباً.
بقية أخباره ووفاته
ذكر ابن إسحاق: سأل ابن الماجشون عن مسألة فأجابه، فرد عليه، فأجابه. فلما اكثر، قال له: قم، إني لأثقف من أن ترد علي المسائل. فأعلم به سحنون، فقال: نعم هو أثقف من أن يرد عليه.(3/142)
قال عبد الملك كان رجل من قريش صديقاً لي وكان بينه وبين وكيله محاسبة، فأجلسني مع رجل ثم تكلم مع الوكيل فقال الوكيل: قبضت كذا، ودفعت لك كذا. فقال القرشي: ما دفع إلي شيئاً. وقال لي ولصاحبي اشهد بما سمعتا منه، فإنه كان حجزني حقي. فقلت له: والله ما نشهد لهذا، ولا جلسنا لهذا. قال فاذهب بنا إلى مالك فإن أمر لي بالشهادة فاشهد. فقلت: لو أمرني لم اشهد لأخي. لم أقعد للشهادة. فأتينا ابن ابي حازم فذكر له القصة. فقال لي: الشهادة له عندكما. ثم دخلنا على مالك فذكر له القصة. فقال لي: يا عبد الملك لا تشهد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: قد اختلف في هذا الأصل عندنا، واختلف في تأويل قول مالك فيه. وكذلك لو أخفاهما ليشهدا على ماسمعا، أو أجلسهما للمحاسبة بشرط أن لا يشهدا، والصحيح من ذلك كله أن يشهد أذن أو لم يأذن، إذا استوعبا كلامه كله. حكى المطالبي في كتاب البستان: كان عبد الملك يجيد تفسير الرؤيا، فسأله رجل أنه رأى في منامه أن بيده سيفاً من ذهب وهو يهزه وينثني. فقال له خيراً رأيت، جعلت فداك. فعزم عليه ليخبرنه. فقال يولد لك غلام يكون مخنثاً. فكان كذلك.(3/143)
قال ابو عمر بن عبد البر: كان عبد الملك مولعاً بالسماع ارتجالاً وغير ارتجال. قال احمد بن حنبل قدم علينا ومعه من يغنيه. قال ابن معين: قدم علينا عبد الملك ومعه من يغنيه فكنا نسمع صوت معازفه، لهذا والله أعلم لم يخرج عنه في الصحيح. قال ولما قدم عبد الملك من العراق سئل عنها فقال:
بها ماشئت من رجل نبيل ... ولكن الوفاء بها قليل
يقول فلا ترى إلا جميلاً ... ولكن لا يصدق ما يقول
وروى عنه أنه قال: إني لأسمع الكلمة المليحة فمالي إلا نميرق فأدفعه لصاحبها، واستكسي ربي، ولقد كنا بالمدينة فيحدثنا الرجل الحديث فيميليه علي ويذكر الخبر من الملح فأستعيده، فلا يفعل، ويقول: لا أعطيك ظرفي وأدبي. وكانت وفاة عبد الملك سنة اثنتي عشرة. وقيل أربع عشرة ومائتين، وهو ابن بضع وستين سنة.(3/144)
عبد الله بن نافع الأصغر الزبيري
أبو بكر. قال الزبيري: هو عبد الله بن نافع بن ثابت بن عبد الله ابن الزبير بن العوام الأسدي القرشي، ويعرف بالأصغر وهو الفقيه صاحب مالك وله أخ آخر اسمه عبد الله، ويعرف بالأكبر. من أهل الفضل والدين ولم يكن فقيهاً. قال الزبير وأبوهما نافع، من أعبد أهل زمانه. صام من عمره خمسين سنة. قال يحيى بن مسكين ما رأيت أطول صلاة منه قط. وكان يحب ابنه هذا عبد الله الأصغر. قال مصعب: فكان يأتيه في صلاة فيدعو له، فيرى أن بركة دعائه أدركته. سمع عبد الله هذا من مالك وعبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة. روى عنه ابنه أحمد وعباس الدوري والزبير بن بكار والذهلي وهارون الجمال ويعقوب بن شيبة ويحيى ابن يحيى الأندلسي وابن رزين القروي، وعبد الملك بن حبيب وغيرهم، وهو أصغر من ألن نافع الصائغ، وروى عنه من لم يدرك ذلك.(3/145)
قال ابن معين فيه: صدوق. وليس به بأس. قال البخاري أحاديثه معروفة مستقيمة. قال البزار: هو ثقة. خرج عنه مسلم. قال منذر بن سعيد: ابن نافع إمام لم يرمه أحد ببدعة. قال الزبير: توفي وهو المنظور إليه من قريش بالمدينة في هديه وفقهه وعفافه. وكان صرد الصيام دهره. وحمل عنه. قال الضراب: صحب الزبيري مالكاً أربعين سنة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: وسنبين الغلط في هذا. والأشبه أن صحة هذه الحكاية أن لا تكون لابن نافع الصائغ. قال عبد الله بن نافع: أول ما عرفت مالكاً أني كنت يوماً أقرأ على نافع بن أبي نعيم بعد الصبح، فرفعت صوتي فزجرني وقال لي: أما ترى مالكاً. قال عبد الله بن نافع الأصغر: قال لي عبد الله بن نافع الأكبر: إذا كنت متخذاً يا عمر خليلاً فاتخذه عاصماً. قال ابن نافع: كان في آل الزبير رجل يشتم عبد الله بن مصعب بن(3/146)
ثابت، لا يضعه من فيه. فكان عبد الله بن مصعب يدفع في كل هلال دينارين ويأمرني أن أعطيه إياها ويقول لا أحب أن يعلم أني وصلته. فلما مات مصعب استبأني فأخبرته فعاد يدعو إلي ويقرضني أنا. فقلت:
شتمت امرءاً لم يطبع الذم عرضه ... زمانا ولا تدري ما كان يفعل
فلما تيقنت الذي كان صانعاً ... غدوت علي اليوم بالجهل تخطل
وما كان لي ذنب ولا لابن مصعب ... سوى أننا جئنا التي هي أجمل
حكى ابن اللباد: أن ابن نافع سأله رجل فقال خرجت من المسجد فتعلقت حصاة بخفي فقال له اطرحها. فقال له: فإنهم يقولون إنها تصيح. فقال: قل لها تصيح حتى ينشق حلقها. قال وكان في خلقه شيء هكذا ولست ادري أي ابن نافع منهما صاحب هذه الحكاية. والأشبه عندي أن صاحب هذه الحكاية ابن نافع الصائغ، فهو الذي وصف بما ذكر من ذلك من خلقه. وتوفي في المحرم سنة ست عشر ومائتين. قاله الزبير وقال البخاري سنة عشرة. وفي حكاية بضع عشرة. قال الزبير وهو ابن سبعين سنة. وهذا يرد ما قاله الضراب لأنه على هذا عاش بعد مالك ستاً وثلاثين سنة. فبقي من عمره أربع وثلاثون سنة منها طفولته وبعدها صحبته لمالك والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/147)
معن بن عيسى بن يحيى بن دينار
القزاز. كان يبيع القز مولى أشجع. أبو يحيى. روى عن مالك وابن أبي ذئيب وابن طهمان ومعاوية بن صالح، وخرمة بن بكير وأبي أويس وغيرهم. وروى عنه أحمد وابن المديني وابن معين والحميدي وإسحاق بن موسى الأنصاري، وابن نمير، وإبراهيم بن المنذر، وأبو بكر بن أبي شيبة، وسحنون بن سعيد، وعبد الله بن جعفر البرمكي، وذؤيب بن عمامة السهمي وأبو خيثمة وغيرهم. قال الشيرازي: وكان ربيب مالك وهو الذي قرأ عليه الموطأ للرشيد وابنيه، وكان يتوسد عتبته فلا يلفظ شيئاً إلا كتبه. وعده في فقهاء أصحابه، وعده ابن حبيب فيمن خلف مالكاً في الفقه بالمدينة. قال ابن حارث: وله سماع معروف من مالك. ذكره ابن عبدوس في المجموعة فيما ذكر. وهومن كبار أصحاب مالك،(3/148)
وقد ذكر أيضاً كثيراً من سماعه، وروايته عن مالك أبو عيسى الترمذي في جامعه، فكل ما أدخله عن مالك فقد قال في آخر كتابه: إنه من رواية معن. قال ابن عبد البر: كان أشد الناس ملازمة لمالك. وكان يتكىء عليه عند خروجه إلى المسجد حتى قيل له عصية مالك. قال يحيى: هو ثقة. أخرج عنه البخاري ومسلم.
قال أبو حاتم الرازي: أوثق أصحاب مالك واثبتهم معن. وهو أحب إلي من ابن نافع وابن وهب. قال محمد بن سعيد::ان ثقة كثير الحديث، مأموناً ثبتاً. قال الشافعي: قال لي الحميدي حدثني من لم تر عيناك مثله، معن بن عيسى. وسئل يحيى عن الثبت في مالك، فقال: القعنبي، ومعن. قال ابن الجنيد قلت لابن معين كان عند معن غير الموطأ؟ قال شيء قليل. قال علي بن المديني: أخرج إلينا معن أربعين ألف مسألة سمعها من مالك. قال معن: كان مالك لا يجيب أحداً من العراقيين حتى أكون أنا الذي أسأله عنه.(3/149)
قال ابن بكير: كان معن يبيع لخز وكان طويلاً. قال محمد بن سعد: وكان له غلمان حاكة. قال ابن بكير وكان معن يقول: حدثني مالك. فقيل له: فكيف تقول هذا. إنما كان يقرأ عليه. قال: كنت أستخرج الحديث في رقاع منه، ثم أقول يا أبا عبد الله اقرأ لي هذا الحديث. فيقرأه. ثم أتركه أياماً وأجيئه برقعة أخرى. قال ابن وضاح: اقبل قوم إلى معن بالمدينة يستأذنون عليه في داره، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم أسود ليدخل داره، فسألوه الأذن لهم، فدخل فنادى يا من فاستجاب له، فأعلمه، فأذن ودخلوا. فقالوا أصلحك الله. عجباً من تسمية هذا الأسود لك. قال: أما أنه مع ذلك مملوكي. قالوا هذا أكبر. قال وما اردتم، أكان يدعوني بأفضل من اسمي الذي رضيه لي ربي. وكأنه حسنه فعله. قال البخاري: ومات معن سنة ثمان وتسعين ومائة قيل في شوال منها بالمدينة.(3/150)
إسماعيل بن أبي أويس
أبو عبد الله. قاله البخاري. وقال ألإلكاني والجرجاني: أبو خثيمة. ويحيى ابن معين ومعن بن عيسى: اسم أبي أويس عبد الله بن عبد الله بن أبي أويس ابن أبي عامر الأصبحي، ابن عم مالك بن أنس وابن أخته وزوج ابنته. قال الشافعي وابن شعبان: أن اسم أبي أويس عبد العزيز بن عبد الله. قال غيره اسمه أوس بن مالك بن عبد الله والأول صحيح. وكان أبو أويس ممن يسمع العلم، وروى عن ابن شهاب وابن المنكدر وهشام بن عروة وغيرهم. قال أحمد بن حنبل: زعموا أن سماعه وسماع مالك كان شيئاً واحداً. سمع منه الناس بالحجاز والعراق.(3/151)
روى عنه القعنبي وغيره، واختلف فيه. فأثنى عليه أحمد بن حنبل، وأبو داود، وضعفه ابن المديني، وضعف حديثه يحيى بن معين، لكنه قال: كان صالحاً. وقال مرة كان ثقة.
ومرة ليس به بأس. وصدوق. وليس بحجة. وقال مرة كان ثقة. ومرة ليس به بأس. وصدوق. وليس بحجة. وقال مرة: ليس بثقة. قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به.(3/152)
فقلت له فيم يعلم القوم مكاني بك. فأجابني. فانتهيت إليهم فأعلمتهم، فلما كان وقت التعريس قام وقمت معه إلى القوم، فوجدت أشهب قد مدّ أنطاعه وأتى من الأطعمة بأمر عظيم، وصنع ابن وهب دونك ذلك. فسلم ابن القاسم وقعد ثم أدار عينيه فإذا بسكرجة فيها دقة، فأخذها بيدها بيده فحرك الأبزاز إلى ناحية ولعق من الملح ثلاث لعقات، وهو يعلم أن اصل ملح مصر طيب. ثم قام وقال بارك الله لكم. قال سحنون: فاستحيت أن أقوم. فتكلم أشهب وعظم الأمر. فقال ابن وهب: دعه. قال أبو الفضل مولى نجم: كان ابن القاسم يأكل في الشهر عشرين مداً من دقيق بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان فقيهاً عابداً. قال غيره: لأنه كان رد قوته إلى ثلث مد من شعير في اليوم. وذكر أن رجلاً من أهل العلم والخير قدم من العراق وأراد الاجتماع به فأتاه رجل في ذلك فوعده وقتاً لذلك، فلما استنجزه قال ابن القاسم: إني نظرت في ذلك فرأيت أنه يدخله المباهاة يتزين لي وأتزين له. دعني من ذلك وكان المصريون يقولون للكوفيين: اذكروا أخلاق سفيان، وتذكروا أخلاق ابن القاسم وأشهب حتى أفسدوا ما بينهما، وحلف أشهب بالمشي إلى مكة أن لا يكلم ابن(3/153)
وقال الناس: أثنى عليه ابن معين وأحمد والبخاري. حدث عنه بالكثير وهو خير من أبيه لأنه كان مقبلاً. وتكلم فيه النسائي. وقال الصدفي عنه: جالست خالي مالكاً من سنة ثمان وخمسين ومائة إلى أن مات وذلك إحدى وعشرون سنة. وروى عنه ابن وضاح واثنى عليه. وقال: أنه كان شديد القول فيمن يقول بالمخلوق. وروى عن مالك حديثاً كثيراً، وفقهاً. قال إسماعيل: قدمت على سفيان بعد وفاة خالي فأدنى مجلسي وذكر خالي فدعا له، وذكر فضله وحاله، وما أصيب الناس به منه، وبكى. ثم قال: سلني ما شئت لمكان خالك.(3/154)
أخوه أبو بكر عبد الحميد بن أبي أويس المعروف بالأعمش
يروي عن أبيه وأخيه وخاله وابن عجلان وابن أبي ذئب وسليمان بن بلال وقرأ على نافع القارىء، وكان صاحب عربية وقراءة. أخرج له البخاري ومسلم، وروى عنه أمد بن صالح المصري وأخوه إسماعيل وإبراهيم بن المنذر وإسحاق بن موسى وسليمان بن بلال وعبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة ومحمد بن عبد الحكم. قال يحيى: هو ثقة فيما حكاه ابن أبي حاتم والعقيلي وغيرهما. قال ابن شعبان: له ولأخيه عن مالك ما لا يحمل الموطأ وغيره. وروى عن مالك أنه قال لهما: أراكما تحبان هذا الشأن، فإن أردتما أن ينفعكما الله به فأقلا منه وتفقها فيه. وذكر يحيى بن بكير، فقال: ما بلغني الأخير كان كثير العلم.(3/155)
قال أحمد التميمي في كتاب المحن عن موسى بن الحسن، قال: سمعت أبا بكر بن أبي أويس ومطرف ابن عبد الله، وقد دعيا إلى المحنة في القرآن بالمدينة. فلما قرىء عليه الكتاب قال أبو بكر أكفر بالله بعد نيف وتسعين سنة، ومجالسة مالك ورجال أهل العلم متوافرون بالمدينة؟ فقيل له ليكن بيتك سجنك. وقال صحبت نافعاً القارىء أربعاً وعشرين سنة لا أفارقه إلا في منزله. وكان الغالب عليه الحديث. وحكى ابن شاهين، أن ابن معين كان يضعف بيت آل أويس كلهم جداً. وتوفي سنة اثنتين أو ثلاث ومائتين، ويقال سنة إحدى ومائتين.(3/156)
داود بن سعيد بن أبي زنبر
قال الحكم هو قريشي صحب مالكاً وروى عنه حديثاً وفقهاً كثيراً، ويقال إنه كان أحد أوصيائه، وكان كثير الحديث.
وقد روى عنه جماعة من اصحاب مالك كمحمد بن مسلمة وكابن نافع وغيرهما، وأثنى عليه ابن أبي أويس خيراً. قال الحاكم: هو أول من أخذ الفقه عن مالك. قال غيره: كان ممن يخصه مالك بالأذن عليه، في أول من يأذن له. وكان أحد أوصيائه، وابنه سعيد بن داود يكنى بأبي عثمان. قال الدارقطني: يروي أيضاً عن مالك نسخة عن أبي الزناد وعن الزهري، وهشام بن عروة وثور بن زيد أحاديث تفرد بها. قال ابن أبي حاتم: وسكن سعيد بغداد، وقدم الري وروى الموطأ عن مالك، وتكلم فيه أبو حاتم الرازي، وقال: ليس بالقوي. قال عبد الرحمان بن أبي حاتم: حدث عنه أحمد بن منصور الرمادي، ومحمد بن عمار الداري، وروى عنه خالي، وقد روى عنه ابن أبي حاتم ويعقوب بن شيبة.(3/157)
وقال البخاري سعيد بن داود الزبيري ويقال ابن داود، مدني سكن بغداد. وعده الحاكم في الضعفاء. قال: ويروي عن مالك أحاديث موضوعة. وقد استشهد به البخاري في الصحيح ولم نقف على ذكر وفاته.
يحيى بن عبد الله الهديري ويكنى أبا زكرياء
قال الدارقطني هو يحيى بن عبد الملك بن هارون بن عبد الله بن إبراهيم ابن عبد الله بن محرز الهديري التميمي. قال غيره: هو من ولد ربيعة بن عبد الله الهديري. مشهور بصحبة مالك، والرواية عنه حديثاً ومسائل. وله روايات عنه رواها أبو يحيى الزهري القاضي وبه تفقه. قاله الشيرازي. وروى عنه الزبير بن بكار وتوفي سنة ست ومائتين وقيل سنة ثمان ومائتين.(3/158)
سعيد بن عمر بن الزبير (بن عمر بن الزبير)
ابن العوام الأسدي القرشي ذكره الزبير في جمهرته. وقال: قد روى عن مالك بن أنس وعبد الرحمان ابن أبي الزناد وكان من جلساء مالك وأصحابه، ولي الشرطة بدمشق لعباس ابن محمد بن إبراهيم. قال الزبير بن بكار ووكيع القاضي عن أبي يحيى الزهري وبعضهم يزيد على بعض، وحديث الزهري ألمَ. دعا أبو البختري الزهري وبعضهم يزيد على بعض، وحديث الزهري أتم. دعا أبو البختري وهب بن وهب حين ولي المدينة سعيد بن عمر ليوليه شرطه، فأبى، وحلف وهب ليضربنه وليسجننه ثم لا يرسله ما دام عليه سلطان. فقبل عمله فألبسه السواد وقلده سيفاً وأعطاه مائة دينار، وقال له: صل بالناس العتمة. ففعل. فلما انصرف إلى منزله وتبعه رسول وهب بالمدينة قال ضعها في تلك الكوة. وندم على توليته فأراد أبو البختري أن يؤكد الأمر فأرسل إليه، صل بالناس الصبح، فإني مريض، فأبى وغدا حين أصبح إلى المسجد فجلس فيه. قال الزبير إنما ولاه قضاء المدينة. فلما أصبح جلس في الرحبة وأرسل إلى ثلاثة من فقهاء المدينة وهم أبو زيد الأنصاري ومطرف بن عبد الله وعبد الملك بن الماجشون.
وقال لهم: رزقني(3/159)
الأمير ثلاثين ديناراً. فأنا أقسمها بينكم لكل رجل منكم عشرة. وقد استخلفتك يا أبا زيد. فقال أبو زيد: أن عشرة دنانير لمستزاد، ولكني ضعيف عن أن أخلفك. وقال لعبد الملك وأما أنت فقد استكتبتك. فقال أن عشرة في الشهر لمرغوب فيها. ولكني ضعيف البصر ولا أصلح للكتابة. وقال المطرف استعملك على الطواف وكان مطرف ضعيفاً. فقال له: لو استعملت على عملك ما قبلته. فكيف أعمل لك على الطواف. فقال ما أنا بتارككم إلا أن أعفى. وقال وكيع وبعث إلى أبي عزية الأنصاري ومطرف وعبد الملك وابن نافع الصائغ، فقال لمطرف وليتك السجون. وقال لأبي غزية وليتك السوق. وقال لعبد الملك وليتك كتابتي. وقال لابن نافع وليتك كذا. وذكر مثله. فدخلوا على وهب فذكروا ذلك له فأرسل إليهم. فلا جاءه كلمه في تركهم فقال له سعيد: ليس لك أ، تكرهني وتمنعني من إكراههم. فقال له: لا تعجل(3/160)
فحلف أن لا يعمل إلا أن يدعه يكره على العمل من رأى. فقال له وهب: ضع سيفنا، واخلع سوادنا، واردد مالنا. وأمر به فدفع في قفاه، وهو يكبر. فلحقه الرسول فطلب المالية فقال له أين وضعها، فأخذها وانصرف. فقال في ذلك سعيد بن عمر:
أظن وهب بن وهب أن أكون له ... لما تغطرس في سلطانه تبعا
لما تغطرس وهب في عمايته ... وازداد أبهة واختال وابتدعا
خرجت منها خروج القدح لا وكلا ... وجلل العبد فيها الخزي والطمعا(3/161)
أخو الوليد بن عمر
قال الزبير: كان سرياً استخلفه بعض ولاة المدينة بها. وكان من جلساء مالك. وذكر بعض أصحابنا أنه ألف لمالك كتابه، موطأه. يعني - والله أعلم - بيضه له.
إبراهيم بن هارون بن محمد بن الياس بن أبي الليثي
قال الزبير: كان من جلساء مالك حافظاً عنه جامعاً لأنواع العلم، عاقلاً راجح الذهن. قال غيره: كان حافظاً متقناً روى عنه الزبير.(3/162)
زيد بن داود
قال مطرف: حدثني زيد بن داود وكان من أفضل أصحابنا. قال رأيت في منامي كأن القبر فرج عن رسول الله صلى اله عليه وسلم قاعداً هكذا والناس قد انقضوا عليه، فصاح صائح بمالك بن أنس، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاه شيئاً وقال اقسم هذا بين الناس. فرأيته يعطيهم إياه. فإذا هو مسك فتأولنا ذلك، العلم الذي بثه مالك في الناس.
أبو زيد الأنصاري
اسمه محمد بن زيد بن عبد الرحمن بن زيد بن حارثة كذا نسبه القاضي وكيع. وكان من رواة مالك وجلسائه وأحد فقهاء المدينة ومفتيهم من ابناء الأنصار، وولي قضاءها أيام المبيضة عند دخول محمد بن سليمان بن داود المدينة فلما رجعتها المسودة عزلته، ثم ولي أيام المأمون مرتين قبل أبي مصعب وبعده. ذكر ذلك القاضي وكيع. قال: ولاه المأمون قضائ المدينة سنة عشرين ومائتين وعنه في كتاب ابن حبيب روايات. سمع منه ابن حبيب.(3/163)
عبد الجبار بن سعيد بن سليمان المساحقي
تقدم نسبه في الطبقة الأولى عند ذكر أبيه. كان من أصحاب مالك وجلسائه. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم، كنيته أبو معاوية، روى عن أبي الزناد ويحيى بن محمد بن هانىء وابن وهب وروى عنه أبو زرعة. وقال أبو مصعب: كان أجمل وجهاً وأحسنه لساناً، ولي إمرة المدينة وقضاؤها، وأمه ابنة عثمان بن الزبير بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان. قال محمد بن الجراح، في كتاب الورقة: كان أديباً ظريفاً مدنياً. قال وكيع كان من أصحاب مالك وابن أبي الزناد ومن أهل الأدب، حدث عنه إسماعيل القاضي وغيره. وولي قضاء المدينة وولايتها سنة اثنتين ومائتين. وله:
وعوراء قد أسمعتها فصرفتها ... وأوطأًتها من غير عي بها نعلي
فلم يثنها ناث وكانت كما مضى ... وجرت عليه العاصفات سفى الرمل(3/164)
وله أيضاً:
أمر الغواني واحد ... حذو المثال على المثال
أصبرن قبلك بالمنى ... قطعن أعناق الرجال
وأنشد له الزبير:
ومولى منحت النصح مني وإنه ... لطاو حشاه والضمير على بغض
يحيى ويستحيي إذا ما لقيته ... وإن غبت أو وليت ارتع في عرضي
فلو شئت قد عض الأنامل نادماً ... وأوطأته إذ كان في موطىء دحض
ولكنه إحدى يدي فلم أجد ... سبيلاً إلى وصل ببعض إلى بعض
فأغضيت منه غير وهن على التي ... لعمرك ما يغضي على مثلها بغضي
وقال له الحسن بن زيد يوماً - وكان الحسن ولاه شرط المدينة، فعتب عليه في شيء -: لقد هممت أن أفارقك فراقاً لا رجعة بعده، فقال له المساحقي إذاً أيها الأمير أقول:
وفارقت حتى ما أبالي من النوى ... وإن بان جيران علي كرام
فقد جعلت نفسي على النأي تنطوي ... وعيني على ماهجر الحبيب تنام
قال الزبير توفي سنة ست وعشرين ومائتين وسنة ثلاث وثمانون سنة وهو شيخ قريش.(3/165)
حبيب اللئال
بشد الهمزة. ويعرف ببابين. أحد أصحابه القدماء وجلسائه المختصين به، وأحد من كان يقدمه في الأذن عليه ويخصه، وأحد أوصيائه. وقال بعضهم فيه: إبراهيم بن حبيب واراه ابن هذا. وذكر أنه وصي مالك، وذكرهما ابن شعبان معاً، وذكر أيضاً اسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن بابين، ووجدت له حكاية عند موت مالك بن أنس: وجد إسحاق بن بابين، في تركة مالك، صندوقين مقفلين فيهما كتب. فجعل أبي يقرأها ويبكي ويقول رحمك الله، إن كنت تريد يعلمك الله. لقد جالسته الدهر الطويل فما سمعته يحدث بشيء مما قرأت، وأرى صوابه أبا إسحاق. قال قاسم بن اصبغ: إبراهيم بن حبيب ثقة من أصحاب مالك وهو وصي مالك رحمه الله تعالى.(3/166)
حبيب بن أبي حبيب
واسم أبي حبيب مرزوق ويقال رزين. كاتب مالك وقارئه، وبقراءته سمع الناس الموطأ. مدني انتقل إلى مصر، وعدة بعضهم في المصريين لأنه توفي بها. روى عن مالك غير شيء، الموطأ والفقه وكثيراً من الحديث وغيره. ضعفه ابن حنبل وابن معين والنسائي وأبو حاتم الرازي وكذبوه وذموه. وقال ابن معين: حبيب الذي بمصر كان يقرأ على مالك ويخطرف للناس ويصفح ورقتين. سألوني عنه فقلت: ليس بشيء. وبقراءته سمع ابن بكير. وهو شر العرض. قال ابن أبي خثيمة ذكرت لمصعب ما ذكر أن حبيباً.(3/167)
وكان نزل على مالك. قال مصعب قال لنا مالك: صلوا حبيباً. أعطوا حبيباً. وكان نزل على مالك. قال مصعب: كان حبيب يقرأ على مالك وأنا عن يمين حبيب، يقرأ كل يوم ورقتين أو ورقتين ونصفاً. وكان يأخذ في كل عرضة دينارين من كل إنسان، فزدناه نحن. قال حبيب: جعل لي الدراوردي وابن كنانة وابن أبي حاتم ديناراً على أن اسأل مالكاً عن ثلاثة سمعوا منهم مع مالك، ولم يحدث عنهم مالك، وتهيبوا الحديث عنهم لذلك، فدخلت عليه بعد الظهر وليس عنده غير هؤلاء الثلاثة. فقال ليس هذا وقتك. قلت: أجل: ليس في البيت دقيق ولا سويق وقد جعل لي قوم ديناراً لأسألك: لم لم ترو عن فلان وفلان وفلان. فأطرق ثم قال ما أحب منفعتك إلي، ولكن، لم أحمل العلم إلا عن أهله. فأومأ إلى القوم إن أكتفي بمسألتي. وقال يحيى بن يحيى: أرشيت حبيباً بألف درهم حتى مكنني من مالك، فسمعت عليه ألف حديث. وتوفي بمصر سنة ثمان عشرة ومائتين.(3/168)
محمد بن الضحاك بن عثمان الخزاعي
من جلساء مالك يروي عنه وعن أبيه الضحاك. روى عنه يعقوب بن حميد بن كاسب. تقدم ذكره عند ذكر أبيه وجده في الطبقة وهناك بقية أخباره. قال الزبير: ومات شاباً وخلف أباه في العلم والأدب.
أبو غزية محمد بن موسى بن مسكين الأنصاري
من بني مازن بن النجار ومن ولد أسامة بن زيد، من جهة النساء. من أصحاب مالك والقائلين بقوله وله رواية، وولي القضاء بالمدينة، وسمع ابن أبي الزناد. قال محمد بن سعد: كانت له رواية وعلم ونظر بالفتوى والفقه قال البخاري: يعد في أهل الحجاز وعنده منا كبر. وفي بعض نسخ تاريخ البخاري الكبير في ذكره، ثقة. وجدت ذلك بخط شيخنا القاضي الشهير رحمه الله تعالى توفي في سنة سبع ومائتين قاله البخاري.
؟؟؟(3/169)
مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله
ابن الزبير بن العوام أبو عبد الله القرشي الأسدي
كذا نسبه البخاري وغيره، هو عم الزبير بن بكار. روى عن مالك الموطأ وغير شيء وعرف بصحبته، وروايته في الموطأ معروفة. سمع أباه ومالك بن أنس ونمطهم من أهل المدينة، وكتب عنه أبو خيثمة وابنه، ويحيى بن معين. وكان علامة قريش في النسب والشعر والخبر، شريفاً معظماً عند الخاصة والعامة. شاعراً ظريفاً. قال الصدفي: مصعب بن عبد الله الزبيري أبو عبد الله صاحب الأنساب وصاحب مالك. قال يحيى بن معين: هو ثقة.
؟
ذكر جمل من أخباره
قال مصعب: قال لنا أبي اطلبوا العلم، فإن لم يكن لك مال أكسبك مالاً، وإن يكن لك مال أجداك جمالاً.(3/170)
قال ابن أبي خثيمة: قلت لمصعب ابن عبد الله: إن هؤلاء يقولون القرآن كلام الله، ويقفون. فيقولون من قال مخلوق ابتدع، ومن قال غير مخلوق ابتدع ويحتجون بك ويزعمون أنك تقول بهذا القول، وإن مالكاً يقوله. فقال معاذ الله. أما أنا فأقول كلام الله وأسكت وقلبي يميل إلى أنه غير مخلوق، ولكني أسكت لأنه بلغني عن مالك أنه يقول الكلام في الدين كله أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه، القدر ورأي جهم، وكلما أشبهه. ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في الله فأحب إلي السكوت عن هذه الأشياء لأن أهل بلدنا ينهون عن الكلام لا فيما تحته عمل. ولقد ناظرني إسحاق بن إسرائيل فقال: لا أقول كذا ولا كذا ولا أقول ذلك على الشك، ولكني أسكت كما سكت القوم قبلي. فأنشدته قصيدتي التي قلتها في الواقعة فكتبها وأعجبته وهي:
أأقعد بعدما رجعت عظامي ... وكان الموت أقرب ما يليني
أجادل كل معترض خصيم ... وأجعل دينه عرضاً لديني
وأترك ما علمت رأي غيري ... وليس الرأي كالعلم اليقين
وما أنا والخصومة وهي لبس ... تصرف في الشمال وفي اليمين
وكان الحق ليس له خفاء ... أغرّ كغرة الفلق المبين
وهي أطول من هذا.
ذكر جمل من ملحه
ذكر الجراح في كتاب الورقة عنه، قال: دخلت على أحمد بن هشام فقال يا أبا عبد الله لقد شهرك إبراهيم الموصلي حين قال:(3/171)
لام فيها مصعبٌ وصباح ... فعصينا مصعباً وصباحا
عذلا ما عذلا ثم ملاً ... فاسترحنا منهما واستراحا
فقلت ما شهر إلا بأمر جميل، جعلنا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر وما شهرك بن أشهر، حين قال:
وصافية من المدام رقيقة ... رهينة عام في الدنّان وعام
أدرنا بها الكأس الروية موهنا ... من الليل حتى انجاب عنا الظلام
فما ذرّ قرن الشمس حتى رأيتنا ... من العيّ نحكي أحمد بن هشام(3/172)
عتيق بن يعقوب
ابن صديق بن موسى بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي أبو بكر. وأمه حفصة ابنة عتيق بن عامر بن عبد الله بن الزبير من المختصين بمالك والقائلين بقوله، المكثرين عنه المحافظين لسيرته وشمائله. قال: سمعت مالكاً يقول: ينبغي للرجل أن يؤدب أهله وولده، ومن يجب عيه فرضه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. فأدب أهلك أو من وليت أمره على أدبك وخلقك حتى يتأدبوا على الذي أنت عليه ليكونوا لك عوناً على طاعة الله. وذد ذكرنا في أخبار مالك دخوله منزل مالك بعد وفاته، ما وجد فيه من حديثه، وإنه ما رأى منه شيئاً مما ذاكر به أصحابه في حياته. قال محمد بن سعيد كاتب الواقدي في تاريخه: كان ملازماً مالك. كتب عنه الموطأ ويره، ولزم أيضاً عبد الله العمري واعتزل، ثم رجع إلى المدينة، ولم يزل من خيار المسلمين. توفي سنة سبع أو ثمان وعشرين ومائتين(3/173)
وعداده من المكيين من أهل الحجاز.
محمد بن إدريس الشافعي
هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد ابن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، وأمه أزدية. ولد بالشام بغزة. وقيل باليمن سنة خمسين ومائة وحمل إلى مكة وسكنها وتردد بالحجاز والعراق وغيرها. ثم قدم مصر واستوطنها. روى عن مالك ومسلم بن خالد وابن عيينة، وإبراهيم بن سعد وسعيد بن سالم وإسماعيل بن علية، ويحيى بن حسان والدراوردي وإبراهيم بن أبي يحيى ومروان بن ماوية(3/174)
وابن أبي فديك وابن أبي مسلمة والقعنبي، وفضيل بن عياض، وعن عمه محمد ابن شافع. روى عنه أحمد بن حنبل والحميدي وأبو الطاهر بن السراج، وحرملة بن يحيى والبويطي والمزني والربيع المؤذن، ويونس بن عبد الأعلى وأبو ثور والزعفراني، وأحمد بن سنان الواسطي، ومحمد بن عبد الحكم وابن أخي ابن وهب وهارون الإيلي وآخرين.
ابتداء طلبه وحفظه
قال الشافعي: كنت وأنا في المكتب اسمع المعلم يلقن الصبي فأحفظ ما يقول، ولم يكن عند أبي ما يعطي وكنت يتيماً، فكان المعلم يرضى مني بأن أخلفه إذا قام، ولقد كانوا يكتبون. وقبل أن يفرغ المعلم من الإملاء حفظت جميع ما كتبت. وفي رواية فقال لي ذات يوم ما يحل لي أن آخذ منه. ثم لما خرجت من المكتب كنت التقط الخزف وعزب النخل وأكتاف الجمال، فأكتب فيها الحديث، وأجيء إلى الدواوين فأستوهب الظهور، وأكتب فيها، حتى ملأت جباباً كانت لأبي في ذلك. فسمع إذ ذاك(3/175)
بمكة من عمه ومسلم بن خالد الزنجي وغيرهم من المكيين، ثم قال خرجت من المكتب فقدمت هذيلاً أتعلم كلامها، وكانت أفصح العرب، فبقيت فيهم سبعة عشر عاماً، راحلاً برحلتهم ونازلاً بنزولهم. فلما رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار وأذكر الآداب والأخبار، وأيام العرب، فمر بي رجل من الزبيريين فقال لي: يا أبا عبد الله، عزّ عليّ أن يكون مع هذه الفصاحة والذكاء فقع، فتكون قد سدت أهل زمانك. فقلت: من بقي يقصد. فقال لي: هذا مالك سيد المسلمين يومئذ. فوقع في قلبي، وعمدت إلى الموطأ فاستعرضته وحفظته في تسع ليال، ثم دخلت إلى والي مكة فأخذت كتابه إلى مالك وكتابه إلى والي المدينة، وقلت له: تبعثه إلى مالك يأتيك فتوصيه بي.
فقال: يا ليتني إذا ركبت إليه مع حشمي معك، حتى نأتي بابه ونجلس عليه، حتى تضرب وجوهنا الريح بتراب العقيق أذن لنا؟(3/176)
فلما صلينا ركب معي إليه، وصرت معه حتى أتينا العقيق، وكان منزله بمن معه وجلس على بابه، واستأذن. فخرجت إليه جارية، فقالت الشيخ يقول لك: إن كنت تريد المسائل فاكتبها في رقعة أجبك عنها. فقال لها قولي له إن الأمير قد كتب إلي في حاجة فدخلت فأبطأت ثم التفت إلي وقال ألم أقل لك؟ قلت: بلى. ثم خرج مالك وجلس وقال ما شاء الله. فناوله الأمير الكتاب فلما بلغ موضع الشفاعة رمى به ثم قال: يا سبحان الله! وصار علم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ بالوسائل! قال: فرأيت الوالي قد تهيبه أن يكلمه. فتقدمت إليه وقلت أصلحك الله أني رجل مطلبي، ومن حالي وقصتي فلما سمع كلامي نظر إلي ساعة، وكانت له فراسة، فقال لي: ما اسمك؟ قلت محمد. قال يا محمد اتق الله واجتنب المعاصي فإنه سيكون لك شأن من الشأن. ثم قال: نعم وكرامة. إذا كان غداً تجيء وتجيء بمن يقرأ لك الموطأ. قلت فإنني أقوم بالقراءة. قال: فقدمت عليه وابتدأت قراءته ظاهراً، والكتاب في يدي فلما تهيبت مالكاً وأردت قطع القراءة وقد أعجبته قراءتي، قال بالله يا فتى زد. حتى قرأت عليه في أيام يسرة، فأقمت بالمدينة إلى أن توفي رحمه الله تعالى.(3/177)
وفي رواية: أن مالكاً لم نظر في الكتاب قال: من هو؟ فقال له الوالي هذا. فنظر إلي ونكس رأسه، ثم قال: كيف يصلح لمن لا يرضى من خوف الله، فإذا كان كذلك أوشك أن ينفعه الله بالعلم. فقال له الأمير هذا مطلبي. فما سمع ذلك سري عنه وذكر نحوه. قال مصعب الزبيري: قدم الشافعي المدينة فكان يجلس في المسجد ينشد أشعار الشعراء، وكان حسن اللفظ فصيح القول، عالماً بمعانيه. فقال له أبي يوماً ترضى لنفسك في قرشيتك مما أنت فيه، أن تكون شاعراً؟ قال فما أصنع؟ قال تفقه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يرد الله بن خيراً يفقهه في الدين. قال فأنّى لي بذلك؟ قال: مالك بن أنس سيد المسلمين. قال تقوم بنا إليه. فأتينا مالكاً وجلس عنده وأخبره بشرفه وأمره، فقرّبه مالك وجعل يسمع منه، فلما كان بعد أيام قال الشافعي لأبي: الذي يقول مالك أمرنا، والذي عليه بلدنا، والذي عليه أئمة المسلمين الراشدين المهديين، أي شيء هو؟ فقال له أولهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر وعمر وعثمان الذين ماتوا بالمدينة.(3/178)
فترك الشافعي ما كان فيه، وسمع الموطأ من مالك، وسرّ به مالك. ثم سار الشافعي إلى العراق، فلزم محمد بن الحسن وناظره على مذهب أهل المدينة. وكتب كتبه ورتب هناك قوله القديم، وهو كتاب الزعفراني.
اقتداؤه بمالك واعترافه له
قد تقدم في أخبار مالك كلام الشافعي فيه، وكثير من ثنائه عليه. وقال الشافعي مالك بن أنس معلمي. وفي رواية أستاذي، ومنه تعلمنا العلم، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم، وما أحد أمنّ عليّ من مالك، وعنه أخذت العلم. وقال: إنما أنا غلام من غلمان مالك. وقال: جعلت مالكاً حجة فيما بيني وبين الله. قال محمد بن عبد الحكم: لم يزل الشافعي يقول بقول مالك ولا يخالفه إلا كما يخالف بعض أصحابه، حتى أكثر فتيان عليه فحمله ذلك على ما وضعه على مالك، وإلا فإنه كان الدهر كله إذا سئل عن الشيء قال: هذا قول الأستاذ. قال القاضي هارون بن عبد الله الزهري: كان الشافعي معي بغزة، في منزل واحد. فكان يصنف كتبه بالليل، فقلت له: تتعب نفسك تسهر وتفني الزيت وتؤلف كتباً تخالف فيها مذهب أهل المدينة، من ينظر فيها؟(3/179)
فقل لي يبعث لها قوم أغنام من أهل هذا المشرق فتكون عندهم أكثر من الكتاب والسنة. قال القاضي أبو عبد الله التستري: قال لي القاضي أبو العباس بن شريح الشافعي قلت لأبي إسحاق إبراهيم بن حماد ما بين مالك والشافعي أقل مما بين أبي يوسف وأبي حنيفة. وجعل يحتج بما ذهب إليه مالك في مسألة خلع الثلث. فقال: أنا لا أفتي ولا أقضي إلا بقول مالك. وحكى أبو العباس الشارقي عن أبي إسحاق الشيرازي، أنه قال له: ما نعد الشافعي إلا أحد أصحاب مالك. ولو عد ما خالفه فيه مع ما خالفه فيه عبد الملك أو غيره من أصحابه لكان أقل، ونحو هذا من الكلام.
ذكر ثناء العلماء عليه بسعة العلم والفضل
قال محمد بن عبد الحكم: قال لي أبي: إلزم هذا الشيخ يعني الشافعي، فما رأيت أبصر منه بأصول العلم. وقال: بأصول الفقه. قال محمد: لولا الشافعي ما عرفت، وهو الذي علمني القياس، وكان صاحب أثر وفضل وخير، مع لسان فصيح طويل، وعقل رضي صحيح.(3/180)
وقال فيه ابن عيينة: هذا أفضل فتيان زمانه، وكان ابن عيينة إذا جاءه شيء من التفسير والرؤيا قال سلوا هذا. يعني الشافعي. وقال له مسلم بن خالد الزنجي وهو شاب، سنه خمس عشرة سنة، ويقال ابن ثمان عشرة: قد آن لك أن تفتي يا أبا عبد الله. وقال يحيى بن سعيد القطان: إني لأدعو للشافعي في صلاتي، لما أظهر من القول بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أحمد بن حنبل ما أحد يحمل بخبره من أصحاب الحديث إلا وللشافعي عليه منة. قال: وكنا نلعن أصحاب الرأي ويلعوننا حتى جاء الشافعي، فخرج بيننا. وقال: ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالسته.
وقال أحمد بن حنبل لإسحاق بن راهويه: تعال حتى أريك رجلاً لم تر عيناك مثله. فأراه الشافعي. قال، وقال لي: جالسه يا شيخ. فقلت إن سنه قريب من سننا. اترك ابن عيينة والمقبري؟ قال ويحك: إن ذلك لا يموت وذا يموت؟(3/181)
قال ابن حنبل: كان الشافعي أفقه الناس في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وكان قليل الطلب للحديث. قال: وقد رآه هذا رحمة من الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. قال بعضهم قلت لأحمد: تركت سفيان وعنده السالفون - يعني وجنئت إلى الشافعي - فقال لي: اسكت فإن فاتك علو الحديث تجده بنزول لا يضرك في دينك ولا عقلك، وإن فاتك عقل هذا الفتى أخاف أن لا تجده أبداً، ما رأيت أفقه في كتاب الله منه. وقال أحمد: كان الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للناس. فانظر هل لهذين من عوض. قال أحمد: وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة رجلاً يقيم لها أمر دينها وقال: قد اختلفنا إليه فما رأينا إلا خيراً.(3/182)
وقال ابن معين لصالح بن أحمد ابن حنبل: أما يستحي أبوك رأيته مع الشافعي، والشافعي راكب وهو راجل، ورأيته قد أخذ بركابه. قال صالح فقلت لأبي فقال لي: قل له إن أردت أن تتفقه، فخذ بركابه الآخر. قال إسحاق: ما تكلم أحد إلا والشافعي أكثر إتباعاً وأقل خطأ. وقال إسحاق: الشافعي إمام. قال أبو عبيدة: ما رأيت رجلاً قط أكمل من الشافعي. وقال هارون: ما رأيت مثله، لو ناظر على أن هذا العمود الذي من حجارة أنه من خشب، لأثبت ذلك لقدرته على المناظرة: وقال أبو ثور: الشافعي عندي أفقه من الثوري والنخعي. قال غيره: ما رأيت محمد بن الحسن يعظم أحداً من أهل العلم إعظامه للشافعي. وقال هلال بن العلا: الشافعي فتح أقفال العلم. وقال الزعفراني: ما رأيت قط أفصح ولا أعلم من الشافعي. كان يقرأ عليه من كل الشعر فيعرفه. قال ابن هشام: الشافعي حجة في اللغة وذاكر بمصر في أنساب الرجال فقال له الشافعي بعد ساعة دع هذا، فإنها لا تذب عنا وخذ بنا في أنساب النساء. فلما أخذا في ذلك بقي ابن هشام فكان يقول: ما ظننت أن الله خلق مثل هذا.(3/183)
قال النسائي هو أحد العلماء ثقة مأمون. وقال يونس ما أخرجت الحجاز مثل الشافعي. قيل له فكيف كان أخذكم عنه؟ قال قصرنا وعاجله الموت، ولو مد في عمره لأدرك من علمه ما لم يدرك من علم أحد في زمانه. وقال: ما رأى أهل العراق مثل الشافعي، لو ضمت عقول الناس كلهم إلى عقله لغرقت عقولهم في عقله.
ومن فهم عن الشافعي ما يقول فهو الغاية. وكان يكلم الناس على قدر إفهامهم. قال المزني: ألف الشافعي كتاب السبق والرمي وكان بصيراً بذلك. وأي علم كان يذهب عليه. وقال: لو كنا نفهم عن الشافعي كل ما يقول، لأتيناكم عنه بصنوف من العلم. ولكنا لم نكن نفهم. وسأله رجل عن الرأي فقال: أين أنت من كتب الشافعي. قال الأصمعي: ورأيت محمد بن إدريس، فرأيت فقيهاً عالماً حسن المعرفة عذب اللسان، يحتج ويعرف، ولا يحسن إلا لصدر سرير، وذروة منبر، وما علمت أني أفدت حرفاً، فضلاً عن غيره. ولقد استفدت من ما لو حفظ رجل يسيره هكذا لكان عالماً. قال غيره: أقام الشافعي في علم العربية وأيام الناس عشرين سنة. فقيل له في ذلك. فقال ما أردت به إلا الاستعانة على الفقه.(3/184)
قال الزعفراني: كان يخص مجلسه ببغداد الأدباء والكتاب. يسمعون حسن ألفاظه وفصاحته، وما رأيت ولا أرى أحد في عصر الشافعي مثله. وقال أيوب بن سويد: ما طننت أن أبقى حتى أرى مثل الشافعي، ما رأيت مثل هذا الرجل قط. وكان لقي الناس. وقال أيوب أبو يعقوب البويطي: رأيت الناس بمصر والشام والعراق والكوفة والبصرة والحجاز من كل صنف من علماء القرآن والفقه ولسان العرب والسير والكلام وأيام العرب، ما رأيت أحداً يشبه الشافعي. هو عندي أروع وأشد توق من كل من رأيت نسب إلى الورع. وقال الشافعي: وددت أن الخلق يعلمون ما في كتبي ولا ينسبون إلى منها شيئاً. قال سويد بن سعيد: كنا عند ابن عيينة بمكة فجاء الشافعي فجلس فروى ابن عيينة حديثاً رقيقاً فغشي على الشافعي. قيل لسفيان: مات ابن إدريس. فقال إن كان مات فقد مات أفضل أهل زمانه. وقال أحمد بن عبد الله: هو ثقة صاحب رأي وكلام، ليس عنده حديث. وكان يتشيع. والثناء على الشافعي كثير وفضله مشهور إلا ما كان من يحيى بن معين فإنه أكثر القول فيه وأساءه، ونحوه لعلي بن المديني ويونس والحسن بن مكرم، ومحمد بن الحكم وغيرهم. وقد تقدم ليونس ومحمد خلاف ذلك، وأرى لأجل كلام يحيى وأولئك فيه، ترك أهل الصحيح حديثه، فلم يدخلوا له حرفاً. وكيف كان(3/185)
بلا خلاف في إمامته في الفقه، وإنما ضعف حديثه، لروايته عن الضعفاء كما قال محمد بن عبد الحكم يروي عن الكذابيين والبدعيين، وإلا فهو في نفسه بريء من ذلك.
وقد ألف الحافظ أبو بكر بن ثابت الخطيب كتاب الحجة في الشافعي، وأثبته في الصحيح، وسنجلب بعد هذا من تسننه ما يصحح ما قلناه، ويبطل ما عداه إن شاء الله تعالى، وأخبار الشافعي كثيرة وفضائله مأثورة. قال الربيع لمن سأله أن، يحدثه بأخباره، لو ذهبت أحدثكم بأيام الشافعي ما أتيت عليه في سنة.
ذكر الأثر المتأول فيه وتسننه وإتباعه ومذهبه فيما اختلف فيه
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: اللهم اهد قريشاً، فإن عالمها يملأ طباق ألأرض علماً. اللهم كما أذقتهم عذاباً أذقهم نوالاً. قال الربيع: قال الشافعي: القرآن كلام الله غير مخلوق. ومن قال مخلوق، فهو كافر. وقيل لمحمد بن عبد الحكم: أكان الشافعي بدعياً أو كذاباً؟ قال: وإن خالفناه فلا ينبغي أن نقول عليه ما لا نعلم، كان ابعد الناس من ذلك. قيل له فكان يقف في القرآن؟ قال ما علمت ذلك. كان بريئاً من ذلك أو نحوه.(3/186)
قال ابن حنبل: الشافعي ثقة صاحب رأية وكلام، وليس عنده حديث. وكان يتشيع. وقيل للشافعي فيك بعض التشيع. قال: وكيف؟ قالوا: تظهر حب آل محمد. قال: يا قوم، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين؟ وقال إن أوليائي وقرابتي المتقون، فإذا كان واجباً أن أحب قرابتي وذوي رحمي إذا كانوا من المتقين، أليس من الدين أن أحب من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان كذلك؟ فإنه كان يحبهم. ثم أنشد:
يا راكباً قف بالمحصب من منى ... واهتف لساكن خبيها والناهض
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضاً كملتطم الخليج الفائض
إن كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
وكان الشافعي يقول لأحمد وابن مهدي: أما أنتم فأعلم بالحديث مني، فإذا كان صحيحاً فاعلموني به، اذهب إليه. قال البويطي: إنما كان الشافعي ليتبع أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/187)
ذكر جوده وبقية أخباره وفضائله
انصرف الشافعي من اليمن إلى مكة ومعه عشرة آلاف دينار، فضرب خباء خارج مكة وجاء الناس فما برح حتى فرقها كلها.... فلما دخل مكة استسلف ما أنفق. قال الربيع: ما أراه أتى عليه يوم إلا تصدق فيه. وكان يف شهر رمضان كثير الصدقة بالثياب والدراهم، ويعطيهم الفقراء. وأصلح رجل زره، فأعطاه ديناراً واعتذر إليه، وناوله آخر سوطه فأعطاه صرة دنانير وقال: لم يحضرني غيرها. وقال الربيع: قد سمعنا بالأسخياء، وقد كان قوم عندنا بمصر منهم، رأيناهم. فأما مثل الشافعي فما رأيناه ولا سمعنا أحداً في زمان كان مثله. وكان إذا سأله إنسان يحمر وجهه حياء في السمائل. ودخل مرة الحمام، فأعطى صاحبه مالاً كثيراً، وسقط سوطه فناوله إنسان فأعطاه خمسين ديناراً. وأنشد الشافعي عند خروجه إلى مصر:
أخي أرى نفسي تتوق إلى مصر ... ومن دونها أرض المفاوز والفقر
فو الله ما ادري أللحفظ والغنى ... أساق إليها أم أساق إلى قبر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: سيق إليهما معاً، رحمه الله.(3/188)
قال سعيد ابن عبد الله بن عبد الحكم: لما قدم الشافعي مصر قدم علينا على خلة شديدة فمضى أخي محمد إلى بعض من بالبلد من المياسير، فقال له: من قدم علينا من أصحابنا ومن أهل قربتنا من قريش على خلة فتأمر لنا بما تغير به حاله. فأمر له بخمسمائة دينار، فلما كان المساء اجتمعنا عند أبي. فقال ما كان ينفعني أن يرضى بمثل هذا من فلان. فقال له أخي: فأعنا عليه. فأتمها ألفاً. قال الشيرازي: يقال أن ابن عبد الحكم دفع إلى الشافعي من مال نفسه ألف دينار، وأخذ له من بعض أصحابه ألفاً، ومن رجلين آخرين ألفاً ثالثاً. وعند ابن الحكم مات الشافعي. قال سعد: وكان الشافعي يلزم محمداً ولا يفارقه، يأتيه كل يوم غدوة فربما لم يجده في المنزل، فيسأل أين ذهب، فيمضي إليه. وكان يأخذ من كتبنا كتب مالك في كل يوم جزأين، فيمكثان عند ذلك اليوم وليلته، ثم يغدو وقد فرغ منهما فيردهما ويأخذ آخرين. وروى من أخباره أنه قال: بينما أنا أدور في طلب الحديث باليمن قيل لي هنا إمرأة وسطها إلى اسفل بدن وإلى فوق بدنان مفترقان، بأربع أيدي ورأسين، فأحببت رؤيتها ولم استحل ذلك فخطبتها ودخلت بها فوجدتها على ما وصفت، فاليدان يتلاطمان ويتقابلان ويأكلان ويشربان،(3/189)
ثم نزلت عنها وغبت ورجعت بعد مدة، فسألت عنها، فقيل: مات الجسد الواحد وربط أسفله بحبل وثيق، وترك حتى ذبل ثم قطع ودفن، فرأيت الشخص الآخر بعد ذلك يذهب في الطريق ويجيء. قال المؤلف رحمه الله في نكاح مثل هذا نظر! وهما أختان لا شك جمعهما بعض الجسد وفرج واحد مشترك، وإذا كان على ما وصف من خلاف أخلاقهما وأغراضهما فهو أبين والله تعالى أعلم. قال ابن عبد الحكم: روى أن أم الشافعي لما حملت به، رأت كأن المشتري خرج من فرجها، حتى انقض بمصر ثم وقع في كل بلد منه شظية.
فتأول أنه عالم يخص علمه أهل مصر ويفترق منها في كل البلاد. قال الربيع: كان الشافعي يختم في كل ليلة ختمة. فإذا كان رمضان ختم في كل ليلة من ختمة، وفي كل يوم ختمة. قال: وافتى وهو ابن خمس عشرة سنة. وكان يحيي الليل حتى مات. ولما قدم الشافعي على الزعفراني نزل عليه، فكان الزعفراني يكتب للجارية ما يصلح من الألوان كل يوم لطعامه. فدعا الشافعي يوماً الجارية ونظر في الكتاب فزاد بخطه لوناً اشتهاه، فلما حضر الطعام أنكر الزعفراني(3/190)
اللون الذي لم يأمر به فسأل الجارية، فأخبرته. فلما نظر في الرقعة ووجده بخط الشافعي اعتق الجارية فرحاً بذلك. وألح عليه يوماً أصحاب الحديث فقال لهم: لا تكلفوني أن أقول لكم ما قال ابن سيرين لرجل ألح عليه: إنك إن كلفتني ما لا أطيق ساءك ما سرك مني من خلق. وروي أن الشافعي كان عطيراً. وكان غلامه يأتيه كل يوم بغالية يمسح بها الأسطوانة التي يجلس إليها، وكان إلى جانبه رجل متزهد فعمد إلى عذرة فجعلها في شارب نفسه، مضادة لما فعل. وكان سميه البطال؟ فلما شم الشافعي الرائحة قال: فتشوا نعالكم. ثم قال ليشم بعضكم بعضاً فوجدوا ذلك بالرجل، فقال له الشافعي ما حملك على ما فعلت؟ قال رأيت تجبرك فأردت أن أتواضع لله. قال الشافعي: اذهبوا به إلى صاحب الشرطة يعقله، حتى ننصرف. فلما خرج الشافعي أمر به فضربه ثلاثين درة. قال له: هذا أراه لجهلك. ثم أربعين، وقل له هذا لتخطيك المسجد بالعذرة.
جمل من حكمه وآدابه رحمه الله تعالى
قال الشافعي: من ولي القضاء ولم يفتقر فهو سارق. ومن حفظ القرآن نبل قدره، ومن تفقه عظمت قيمته، ومن حفظ الحديث قويت حجته، ومن حفظ العربية والشعر رق طبعه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه العلم. وقيل له كيف أصبحت؟ فقال كيف اصبح من يطلبه الله بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم بالسنة، والحفظة بما ينطق، والشيطان بالمعاصي،(3/191)
والدهر بصروفه، والنفس بشهواتها، والعيال بالقوت، وملك الموت يقبض روحه، وقال: أحسن الاحجاج ما اشرقت معانيه، وأحكمت مبانيه، وابتهجت له قلوب سامعيه وقال: الطبع أرض والعلم بذر، ولا يكون العلم إلا بالطلب، فغذا كان الطبع قابلاً زكا مربع العلم وتفرعت معانيه. وقال العلم جهل عند أهل الجهل، كما أن الجهل جهل عند أهل العلم. وأنشد فيه:
ومنزل السفيه من الفقيه ... كمنزلة الفقيه من السفيه
فهذا زاهد في قرب هذا ... وهذا فيه زهد منه فيه
واستعار الشافعي من محمد بن الحسن كتبه فمنعه إياها. فكتب إليه:
قل للذي لم تر عينا ... من رآه مثله
العلم يأبى أهله ... أن يمنعوه أهله
لعله يبذله ... لأهله لعله؟
فأجابه محمد بن الحسن عن ذلك وكان الشافعي كثيراً ما ينشد:
أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ... ولن يكرم النفس الذي لا يهنيها
يريد لمن يطلب العلم عنده.(3/192)
وقال المزني سمعت الشافعي يقول: ذكر رجل رجلاً فقال: أما والله لقد كان يملأ العيون جمالاً، والآذان بياناً. فقال له رجل: أعد رحمك الله، فقال: أعيده والله عليك بلا تهاتر مني، ولا إبكات ولا تزكية له.
ذكر محنته ووفاته رحمه الله تعالى
قال الفضل بن الربيع: بعث إلي الرشيد في وقت لم يكن يبعث إلي فيه، فدخلت عليه في مجلس خاصته وبين يديه سيف وقد أزبد وجهه. فقال لي يا فضل أذهب إلى الحجازي محمد بن إدريس فأتني به، فإن لم تأتني به أنزلت بك ما أريد به، فأتيته وهو في مسجد بيته يصلي، فانتقل من صلاته، فقلت له: أجب أمير المؤمنين فقال: بسم الله وحرّك شفتيه ثم نهضت أمامه وهو يفنوني حتى أتيت القصر، وأنا أرجو أنه قد قام فإذا هو جالس. فقال ما فعل الرجل؟ قلت بالباب قال لعلك روعته قلت لا قال: أدخله. فلما دخل تزحزح له عن مجلسه وتهلل وجهه، وضحك إليه وصافحه وعانقه وقال له: يا أبا عبد الله لم يكن لنا عليك من الحق أن تأتينا إلا برسول،(3/193)
فاعتذر بعذر لطيف. فقال إن أمرنا لك بأربعة آلاف دينار وفي رواية بعشرة آلاف. فقال لا أقبلها. فقال: عزمت عليك لتأخذها. يا فضل، احملها معه. قال الفضل: فلما انصرف قلت: بالذي أنجاك منه وأبدل لك رضاه من سخطه، ما قلت في إقبالك إليه ودخولك عليه. قال نعم. قلت: شهد الله أنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم رب العرش العظيم. اللهم إني أعوذ بنور قدسك، وعظمة طهارتك، وبركة جلالك، من كل آفة أو عاهة أو طارق، إلا طارقاً يطرق بخير يا أرحم الراحمين. اللهم أنت عياذي، فبك أعوذ وأنت ملاذي فبك ألوذ، يا من ذلت له رقاب الجبابرة، وخضعت له مقاليد الفراعنة، أعوذ بكرمك من غضبك ومن نسيان ذكرك، ومن أن تخزني أو تكشف ستري، أنا في كنفك في ليلي ونهاري، وظعني وأسفاري ونومي وقراري.
فاجعل ثناءك دثاري وذكرك شعاري، لا إله غيرك، تنزيهاً لوجهك وتعظيماً لسحبات قدسك. أجرني من عقوبتك وسخطك، واضرب علي سراقات حفظك، وأعطني من خير ما أحاط به علمك. واصرف عني شر ما أحاط به علمك. وأمن روعاتي يوم القيامة يا راحم الراحمين. قال الفضل: فما دخلت على سلطان فدعوت بالدعاء إلا ضحك في وجهي وضمني وأكرمني(3/194)
وفي رواية أخرى، إن الفضل سأله بما دعى به، فقال له نعم. هو ما حدثني به مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، دعا به يوم الأحزاب: اللهم إني أعوذ بنور قدسك وعظمة طهارتك وبركة جلالك من كل آفة وعاهة. وذكر نحو ما تقدم. وتوفي الشافعي بمصر عند عبد الله بن عبد الحكم وإليه أوصى. قال الربيع: كنا جلوساً في حلقة الشافعي بعد موته بيسير، فوقف علينا إعرابي فسلم، ثم قال أين قمر هذه الحلقة وشمسها؟ فقلنا توفي رحمه الله تعالى، فبكى بكاءاً شديداً وقال رحمه الله وغفر له، ما كان يفتح ببيانه منغلق الحجة ويهدي خصمه واضح الحجة، ويغسل من العار وجوهاً مسودة، ويوسع من الرأي أبواباً منسدة، ثم انصرف. وكانت وفاته بمصر يوم لخميس وقيل ليلة الجمعة منسلخ رجب سن أربع ومائتين ودفنه بنو الحكم في قبورهم. وصلى عليه أمير مصر وكان رحمه الله تعالى خفيف العارضين يخضب.(3/195)
من أهل اليمن
أبو قرة موسى بن طارق السكسكي
كنيته: أبو محمد وأبو قرة لقب له. قال الحسين بن محمد الغساني الحافظ. وقال: نقلته من خط ابنفطيس. وقال الأمير أبو نصر في كتاب الإكمال: أبو قرة موسى بن طارق الجندي بجيم ونون مفتوحة ودال مهملة مكسورة منسوب إلى جند، ناحية اليمن. وقال ابن شعبان هو من أهل زبيد، من أهل الخصيب. قاض لهم. وروى عن مالك ما لا يحصى حديثاً، ومسائل وقد روى عنه الموطأ، ولأبي قرة كتابه الكبير وكتابه المبسوط وسماع معروف في الفقه عن مالك، يرويه عنه علي بن زياد الحجبي. قرية هنالك، وروى عنه أيضاً صامت بن معاذ، وكان أبو قرة قاضي زبيد،(3/196)
وذكره أبو عمر المقرىء في كتاب القراء. فقال: قرأ أبو قرة على نافع وروى عن إسماعيل القسط وموسى بن عقبة ومالك وابن جريج وابن عيينة، روى عنه علي بن زياد الحجبي، ومحمد بن يونس الزبيدي، وابن حنبل وابن راهويه، قال أبو حاتم: محله الصدق، وأثنى عليه ابن حنبل خيراً. وقال ابن أبي داود هو ثقة.
محمد بن حميد بن عبد الرحيم بن شروس
ويقال الشروس الصنعاني. من أصحاب مالك. له عنه الموطأ. وكتاب سماع مسائل ثلاثة أجزاء يروي عنه أبو علي الحسن بن أحمد بن أبي الطيب الصنعاني. قال القاضي رضي الله عنه، وقد رأيت موطأه عن مالك، وهو غريب لم يقع لأصحاب اختلاف الموطأت فلهذا لم يذكروا منه شيئاً والله أعلم. وإنما يذكرون من حديث ابن شروس ما في غير الموطأ.(3/197)
من أهل البصرة والعراق
وما وراءهما من بلاد المشرق
عبد الله بن مسلمة
ابن قعنب التميمي الحارثي، القعنبي أبو عبد الرحمن، اصله مدني وسكن البصرة، فهو من عداد البصريين. روى عن مالك وابن أبي ذئب وابنه، ومخرمة بن بكير وشعبة والليث والدراوردي والعمري والحمادين وسليمان ابن بلال. روى عنه أبو زرعة، وأبو حاتم الرازيان، وعلي بن عبد العزيز والذهلي وأحمد بن سنان، ومحمد بن سهل بن عسكر، والرمادي، وأبو داود السجستاني، وأخرج عنه البخاري ومسلم. حكى أبو علي الغساني الحافظ عنه أنه قال: لزمت مالكاً عشرين سنة حتى قرأت عليه الموطأ.
ذكر فضائله والثناء عليه
قال ابن شاهين فيما يحكى عن الحسيني: كنا عند مالك رحمه(3/198)
الله تعالى فجاءه رجل فأخبره بقدوم القعنبي، فقال متى يقرب قدومه؟ فقال قوموا بنا إلى خير أهل الأرض نسلم عليه. فقام فسلم عليه. قال أبو زرعة: ما كتبت عن أحد أجل في عيني منه. قال أبو حاتم: القعنبي أحب إلي من ابن أبي أويس. وهو بصري ثقة حجة. وقال: ما رأيت أخشع منه. سألناه أن يقرأ لنا الموطأ، فقال ائتوا بالغداة فقلنا إنا نجلس عند الحجاج. قال فإذا فرغتم. قلنا نأتي مسلم بن إبراهيم. قال فإذا فرغتم. قلنا يكون وقت الظهر ونأتي أبا حذيفة. قال فبعد العصر. قلنا نأتي حازماً. قال فبعد المغرب. فكنا نأتيه ليلاً فيخرج وعليه لبد، ماتحته شيء في الصيف في الحر الشديد. فيقرأ لنا وهو على جسده ولو أراد لأعطي الكثير. قال هارون بن إسحاق: ما رأيت أحداً يريد بعلمه الله، إلا القعنبي(3/199)
قال ابن معين فيه: ذلك من در ذاك من دنانير. قال: وإخوته ثقات كما تحب، قال: وأثبت في مالك هو معن، وقال مرة وأثبتهم القعنبي. قال أحمد هو ثقة. وقال الكوفي: هو ثقة، رجل صالح.
وقال سعيد بن منصور إنا لنقول أو إنه ليقال: ما يطوف بهذا البيت أحد من خلق الله أفضل من القعنبي. قال ابن مفرج: هو بصري ثقة عابد. قال عبد الله بن داود: حدثني القعنبي، وهو عندي والله أخير من مالك. قال ابن أويس: كان مالك إذا جلس قال ليليني منكم ذو الصلاح والنهى، فربما جلس القعنبي عن مجلسه. قال عبد الله بن عبد الحكم: كنت عند عبد الرزاق فنهرني مرة وأبى أن يكتب فبقيت مغموماً، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له قصتي مع عبد الرزاق، فقال لي اكتب عن أربعة:(3/200)
عبد الله هذا، وإسماعيل، ويحيى، وعبد الملك بنو مسلمة، كلهم رووا عن مالك. قال أحمد بن الهيثم: كنا إذا أتينا القعنبي خرج إلينا كأنه مشرف على جهنم. قال البخاري توفي سنة عشرين بمكة يوم السبت، ست خلون من المحرم منها. وقال أبو إسماعيل الترمذي لست خلون، يوم خميس. وقيل يوم عاشوراء. وقاله ابن الجزار في كتاب التعريف.(3/201)
عبد الرحمان بن مهدي بن حسان العنبري
يكنى أبا سعيد، مولى الأزد بصري، سمع السفيانيين والحمادين ومالكاً، وشعبة وعبد العزيز وشريكاً وهماماً، وأبا عوانة وزائدة والأسطواني، وغيرهم. روى عنه ابن وهب وابن حنبل ويحيى وزهير وابن المديني، وابنا أبي شيبة وإسحاق، وأبو عبيد وأبو ثور وابنه موسى بن عبد الرحمان وإسحاق ابن سعيد وغيرهم. وخرج عنه البخاري ومسلم، ولازم مالكاً فأخذ عنه كثير الفقه والحديث وعلم الرجال، وله معه حكايات. قال ابن المديني: كان ابن مهدي يذهب إلى قول سفيان بن يسار، وكان سليمان يذهب إلى قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. قال أحمد بن عبد الله بن صالح: رسالة الشافعي ابن مهدي ابتدأها، وأتمها الشافعي. وذكر أبو إسحاق الشيرازي: إن الشافعي إنما كتب الرسالة إلى ابن مهدي، وهو الأشبه عندي. وكان يجالس الشافعي ويصحبه مع أحمد بن(3/202)
حنبل، فكان الشافعي يقول لهما: ما صح عندكما من الحديث فاعلماني لأتبعه لأنكما أعلم مني بالحديث. ويقال إن ما أرسله مالك من غير ابن مسعود فعن ابن مهدي أخذه. والله تعالى أعلم.
ثناء العلماء عليه وذكر فضله
قال علي بن المديني غير مرة: لو أخذت فحلفت بين الركن والمقام، لحلفت بالله أني لم أر أحداً قط أعلم بالحديث من ابن مهدي. وقال أيضاً: كان ابن مهدي أعلم الناس. وقال ابن مهدي اختلفت إلى حماد بن زيد زماناً، وما بي إليه حاجة. قال ابن حنبل: كان ابن مهدي ثقة. وقال: هو أشد توقيعاً من وكيع. قال أحمد بن سنان: كان ابن مهدي ورعاً منذ كان. وكان حماد بن زيد إذا نظر إلى ابن مهدي يمسح وجهه. قال أبو حاتم كان ابن مهدي خياراً ثقة من معادن الصدق صالحاً مسلماً. ولما حضر سفيان الموت قال لمولى حميد: انطلق إلى ابن مهدي فجيء به يفحصني.
وقال سفيان: كتبي بالكوفة عند عجوز وددت لو وقدت عليها. فنظر فيها ابن مهدي نظرة. قال علي بن المديني قدمت الكوفة فعنيت بحديث الأعمش فجمعته، فلما قدمت البصرة لقيت ابن مهدي فسلمت عليه فقال هات ما عندك(3/203)
فقلت ما أحد يفيدني عن الأعمش شيئاً. فغضب. فقال: هذا كلام أهل العلم. ومن يضبط العلم ويحيط به، مثلك يتكلم بهذا؟ معك شيء تكتب فيه؟ فقلت: نعم. قال اكتب. قلت ذاكرني فلعله عندي. فقال الكتب لست أملي عليك إلا ما ليس عندك. قال: فأملى علي ثلاثين حديثاً لم اسمع منها حديثاً ثم قال: لا تعد. قلت: لا. قال علي: فلما كان بعد سنة جاء سليمان فقال: امض بنا إلى ابن مهدي حتى نفضحه اليوم بالمناسك. وكان سليمان من أعلم أصحابنا بالحج. قال: فذهبنا فدخلنا عليه فسلمنا وجلسنا بين يديه، فقال هاتا ما عندكما وأظنك يا سليمان صاحب الخطبة. قال نعم. ما أحد يفيدنا في الحج شيئاً. فأقبل علي بمثل ما أقبل عليه. ثم قال يا سليمان: ما تقول في رجل قضى المناسك كلها إلا الطواف بالبيت فوقع على أهله؟ فاندفع سليمان فروى يتفرقان حيث اجتمعا ويجتمعان حيث تفرقا. فقال وحتى يجتمعان ومتى يتفرقان؟ قال: فسكت سليمان. فقال اكتب. وأقبل يلقي عليه المسائل ويملي عليه حتى كتبنا ثلاثين مسألة، في كل مسألة يروي الحديث والحديثيين ويقول سألت مالكاً وسألت سفيان وعبيد الله بن الحسن، قال فلما قمت قال: لا تعد ثانياً.(3/204)
فأقبل علي سليمان فقال: إيش خرج علينا من صلب مهدي هذا. وجاء رجل إلى ابن مهدي فقال: يا أبا سعيد حديث رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم، من ضحك في الصلاة فليعد الوضوء والصلاة. فقال عبد الرحمان هذا لم تروه إلا حفصة بنت سيرين عن أبي العالية، عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له الرجل: من أين قلت ذلك يا أبا عبد الله؟ فقال إذا أتيت الصراف بدينارك فقال لك: هذا سرح. تقدر أن تقول له من اين قلت؟ فقال: فسره لي. قال هذا الحديث لم تروه إلا حفصة بنت سيرين. فسمعه هشام بن حسان منها وكان في الدار معها. فتحدث به الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقيل له من أين سمعه الزهري؟ قال كان سليمان بن أرقم يختلف إلى الحسن والزهري، فسمعه من الحسن، فذاكر به الزهري فقال الزهري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال لي أحمد بن صالح، لم يكن ابن مهدي يرويه إلا عن ثقة. وكل ما أرسله مالك عن ابن مسعود فإنما أخذه عن ابن إدريس، وما كان عن غير ابن مسعود، فإنما أخذه عن ابن إدريس، وما كان عن غير ابن مسعود، فإنما أخذه عن ابن مهدي. قال يحيى بن سعيد: سماع ابن مهدي نائماً أحب إلي من إملاء غيره. وكما قال.(3/205)
قال ابن أخته كان خالي قد خط علي أحاديث، ثم صحح عليها بعد، وقرأتها عليه، فقلت له في ذلك، فقال: تفكرت في فصل ذلك لعله إسقاط لعدالة قبلها، فيكونون خصماء لي عند الله. يقول رأيتني؟ تعرفني؟ سمعت كلامي؟ ومرض ابن مهدي لأهل هذا البلد مرتين. وقال القطان: ما قرأ ابن مهدي على مالك أثبت مما سمع عنه الناس قال ابن مهدي: كتب عني الحديث بحلقة مالك. قال ابن أبي صفوان لو كتب عنه مالك ما ضره. قال ابن المبارك: من لقي ابن مهدي فلم يأخذ بخطه منه، فقد (كذا) وذكره أيضاً. فقال: ذلك رجل منذ عرفناه يزداد في كل يوم خيراً. وقال محمد بن عبد الله بن السكوني: هو ثقة. وقال أبو داود فيه: حدثنا الثقة عبد الرحمان بن مهدي.(3/206)
بقية أخباره ووفاته
قال ابن حنبل: قدم ابن مهدي علينا بغداد، وهو ابن ست أو خمس وأربعين سنة. وقد خضب. قال صالح بن أحمد: شرف ابن مهدي وأبو داود الطيالسي للحفظ، فأما ابن مهدي فما مات حتى برص، وأما أبو داود فجذم. قال ابن اللباد: كان عبد الرحمان بن مهدي يبيع الجوهر، وأبوه طحان. قال البهلول بن راشد: لم آسف على شيء أسفي على كتاب رأيت ابن مهدي يعرضه على سفيان الثوري، فأعجب به سفيان. قال الصمادحي: فلما قدمت على ابن مهدي ذكرت له، فأخرج لي كتابه في السنة والفتوى من تأليفه. قال ابن مهدي: اختلف إلي حماد بن زيد ثلاثين سنة، فما رجعت منه إلا بفائدة. وقيل لابن مهدي: إن فلاناً صنع كتاباً في الرد على الجهمية. فقال عبد الرحمان: رد عليهم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله. قالوا له بل بالرأي والمعقول.(3/207)
فقال: أخطأ، رد بدعة ببدعة. قال القاسم بن سلام: دخلت البصرة لأسمع من حماد بن زيد فإذا هو ميت فشكوت ذلك إلى ابن مهدي، فقال لي مهما سبقت فلا تسبقن بتقوى الله. قال القواريري: رأيت عبد الرحمان بن مهدي على درجة من المنبر يحدث، وأبوه مهدي على الدرجة الأخرى، وجده حسان من فوق ثبة في الدرجة العليا، وهو يحدث الناس. قال العباس رأيت ابن مهدي جاء يوم الجمعة فجلس خارجاً عن الحلقة فقال له يحيى: ادخل الحلقة. فقال أنت حدثتني عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلق يوم الجمعة قبل خروج الإمام. قال يحيى: فإني رأيت حبيب ابن الشهيد وهشاماً وابن أبي عروبة يتحلقون. قال ابن مهدي: فهؤلاء بلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ففعلوه. فسكت يحيى.(3/208)
قال ابن المهدي (هكذا) : كان ابن مهدي، يقال له في الحديث روى معن كذا. فيقول هو خطأ وينبغي أن يكون أخطأ عن وجه كذا. فيفتش عليه، فيوجد. كما قال ابن مهدي: من فر من الرئاسة تبعته. ومن طلبها لم يكن ينالها. وتوفي ابن مهدي رحمه الله تعالى بالبصرة في جمادى الأخرى سنة ثمان وتسعين، ويقال أربع ويقال ست وثلاثين ومائة. وله ابن روى عنه، اسمه إبراهيم، يروي عنه أحمد الدوري.(3/209)
؟
محمد بن عمر بن واقد الواقدي مولى بني سهم بن أسلم
أبو عبد الله مدني: عداده في البغداديين. سكن بغداد وولي القضاء بها للمأمون، بعسكر المهدي والجانب الشرفي، والصلاة بالرصافة. ولي القضاء من قبل الرشيد، روى عن مالك حديثاً كثيراً، وفقهاً ومسائل، وفي حديثه منقطع كثير وغرائب، وكذلك في مسائله عنه منكرات على مذهبه لا توجد عند غيره، وكان واسع العلم كثير المعرفة، أديباً نبيلاً عالماً بالحديث والسير والأخبار.(3/210)
قال أحمد بن عبد الله بن صالح: ما رأيت أحفظ للحديث منه. وإنما تكلم فيه ابن المبارك. قال محمد بن سعد كاتبه في تاريخه الكبير: كان عالماً بالمغازي والسير والفتوح، واختلاف الناس في الحديث والأحكام، وإجماعهم، ووضع الكتب، وحدث. قال القاضي وكيع: كان الواقدي من المتسعين في العلم. وسئل عنه أحمد، فقال: دعونا من بحار الواقدي، زعم أن عنده عشرة آلاف حديث عن معمر ليست لغيره، فنظرنا إلى من هو أقدم منه مجالسة منه لمعمر فلم نجد هذا عنده. قال ابن البرقي هو كذاب. قال النسائي: ليس هو بثقة. ولا يكتب حديثه. قيل له فلم لم تضرب على اسمه؟ قال أستحي من ابنه وهو صديقي. وقال أحمد ابن عبد الله: كتبت نحواً من ستين ألف حديث. فبلغني أن ابنه(3/211)
المبارك قال له: لا ترفع هذين الحديثين، فإنهما غير مرفوعين. فلج فيهما. فقال الناس: كذاب. فقال الجارود تركوه. وذكره أبو عمرو المقرىء في طبقات القراء. فقال روى القراءة عن نافع بن أبي تميم وعيسى بن وردان وسليمان ابن مسلم بن حبان، وسمع معمر بن راد هكذا روى عنه ابنه وكاتبه محمد بن سعد.
؟
ذكر جمل من أخباره وكرمه وذكر وفاته
قال مصعب بن عبد الله: كلمت الواقدي في توكيل رجل من أهل المدينة بعض الوكالات التي يرتزق فيها. فأرسل إلي بصرة فيها مائة درهم فقلت لم أكلمك أن تصله. قال وأي شيء ينفق إلى أن أوكله؟ قال محمد ابن سعد: زارني الواقدي مغتماً، فقال لي: لا تغتم فإن الرزق يأتي من حيث لا تحتسب، أملقت مرة حتى بعت برذوني فاستبطأني يحيى بن خالد فاعتذرت إليه، فوقف على حالي، فأمر لي بخمسمائة دينار فصرت بها إلى البيت فأنا في تصريفها في قضاء الدين وعلى العيال إذ طرقني رجل من أهل المدينة قد قطع عليه الطريق، من ولد أبي بكر، فشكا إلي حاله، فدفعت إليه ما فضل ولم أشتر برذوناً(3/212)
فاستبطأني يحيى فأخبرته الخبر. فوجه إلى البكري، فقال: نعم أخذت الدنانير منه، فلما صرت بها إلى البيت جاءني فلان الأنصاري فشكا إلي حاله فدفعتها إليه، فوجه يحيى إلي الأنصاري فأخبره، فتعجب من الكرم ثم أمر لي بألف دينار وللبكري بمثلها، ولزوجتي بخمسمائة لغمها حين دفعت الدنانير إلى البكري. قال هارون بن عبد الله القاضي: رفع الواقدي في رقعة إلى المأمون يذكر فيها غلبة الدين عليه، وقلة صبره عليه، فوقع المأمون على ظهرها: أنت رجل فيك خلتان الحياء والسخاء. فأما السخاء فهو الذي أطلق ما عندك وأما الحياء، فهو الذي منعك من إطلاعنا على ما أنت عليه، وقد أمرنا لك بكذا وكذا، فإن أصبنا إرادتك فازدد في بسطتك وإن كنا لم نصب إرادتك فبجنايتك على نفسك. وأنت كنت حدثتني وأنت على قضاء الرشيد عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للزبير: يا زبير إن خزائن الرزق مفتحة بإزاء العرش فمن أكثر كثر الله عليه ومن قلل قلل عليه. قال الواقدي: وكنت قد أنسيت هذا الحديث، فكان ما ذكر فيه أعجب إلي من جائزته. قال هارون: وبلغني أن جائزته كانت مائتي ألف درهم.(3/213)
قال الواقدي: كان لي صديقان أحدهما هاشمي فنالتنا ضيقة، فقالت لي إمرأتي أنا نحن فنصبر إلى البؤس وأما صبياننا فقد قطعوا قلبي، فلو نظرت لهم في شيء تصرفه في صلاح شأنهم. فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة بما حضره، فوجه إلي كيساً مختوماً ذكر أن فيه ألف درهم. فما استقر قراره، حتى كتب إلي الصديق الآخر يذكر مثل شكواي، فوجهت إليه بالكيس كهيئته وخرجت إلى المسجد أبيت فيه حياء من امرأتي، ثم رجعت فاستحسنت فعلي إذ وافى صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته، فقال اصدقني عن الأمر فأخبرته، فقال: وجهت إلي وما أملك إلا ما بعثت به إليك، وكتبت إلى صديقنا أسأله المواساة فوجه إلي بكيس بخاتمي، قال فتواسينا الألف وقسمنا ما بيننا أثلاثاً بعد أن أخرجنا إلى المرأة مائة درهم، ونمى الخبر إلى المأمون فدعاني، فشرحت له الأمر فأمر لي بسبعة آلاف دينار، لكل واحد منا الفان وللمرأة ألف. وقد ذكر في رواية أخرى في هذا الخبر نحوه، وأن البرمكي وجه فيه وقال: رأيتك البارحة في المنام بحالة دلت على شدة، فاشرح لي أمرك فذكر له القصة. فقال: ما أدري أيكم أكرم وأمر لي بثلاثين ألف درهم، ولهما بعشرين ألفاً، وقلدني القضاء، ولم يذكر فيها المأمون. قال الواقدي: لقيت أشعب يوماً فقال لي: يا ابن واقد، وجدت ديناراً فكيف أصنع به.(3/214)
قلت: تصرفه. قال: سبحان الله. ما أنت في علمك إلا في غرر. قلت: فما الخبر با أبا العلا. قال أشتري به قميصاً وأعرفه بقبا. قلت إذن لا يعرفه أحد. قال فذاك أريد. قال المؤلف رحمه الله تعالى كذا وجدت هذا الخبر عنه. ولا أدري من هذا أشعب، فإن أشعب الطماع متقدم عن زمن الواقدي، سمع من سالم بن عمر، وقد قال أهل هذا الباب لا يعرف بهذا الاسم غيره. وتوفي الواقدي ببغداد وهو على قضاء عسكر المهدي ليلة الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، سنة سبع ومائتين، مولده سنة ثلاث ومائة. وصلى عليه محمد بن مسلم وأوصى إلى المأمون فقبل وصيته وقضى دينه.
؟؟؟(3/215)
يحيى بن يحيى بن بكير بن عبد الرحمان
التميمي الحنظلي مولاهم
ويقال مولى بني منقر بن سعد بن عمر بن تميم النيسابوري. روى عن مالك الموطأ، وقيل إنه قرأه عليه، وهو الذي يدل عليه حديثه في صحيح مسلم وغيره، ولازمه مدة في الاقتداء به، وعده أبو عمر بن عبد البر في كتابه المنتقى في الفقهاء من أصحاب مالك، وروى عن الليث والحمادين وأبي عوانة وابن لهيعة وابن عيينة وهشيم وابن المبارك وزهير بن معاوية، وسليمان بن بلال وغيرهم. قال أبو عمر: وكان له مال بنيسابور وحظ في الفقه. وكان ثقة مأموناً مرضياً. روى عنه جماعة من أهل بلدنا وغيرهم من الأئمة. كإسحاق بن راهويه، والذهبي والبخاري ومسلم، وخرجا عنه في الصحيح كثيراً. قال ابن خلاد الرامهرمزي في كتابه الفاضل: ورحل يحيى إلى مصر والشام واليمن والعراق، وكان ابن حنبل يثني عليه، ويقول: ما أخرجت خراسان بعد ابن المبارك مثله. وكان من ورعه يشك في الحديث كثيراً حتى سموه الشكاك.
وذكر من فضله وإتقانه أمراً عظيماً، وذكر نحوه أبو حاتم الرازي وأثنى عليه أبو زرعة الرازي ووثقه(3/216)
وقال إسحاق بن راهويه: لم أكتب العلم على أحد أوثق في نفسي منه. ومن الفضل بن موسى السناني. قال: وكان يحيى رجلاً عاقلاً. وقال: يحيى أثبت من ابن مهدي. وقال ما رأيت مثل يحيى بن يحيى. ولا أراه رأى مثل نفسه. قال محمد بن مسلم، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت له: عمن اكتب العلم؟ قال عن يحيى بن يحيى. قال أحمد بن عدي: وكان من العباد فاضلاً. قال يحيى بن الشهيد: ما رأيت محدثاً أورع من يحيى ولا أحسن لباساً منه. قال ابو بكر بن إسحاق: لم يكن بخراسان أعقل من يحيى بن يحيى. وكان أخذ تلك الشمائل من مالك بن أنس، أقام عليها لأخذها سنة بعد أن فرغ من سماعه، فقيل له في ذلك. فقال: إنما أقمت مستفيداً لشمائله فإنها شمائل الصحابة والتابعين. قال أبو أحمد بن عدي في معجمه: يقال أن إسحاق بن راهويه ركبه الدين، فركب ابن مروان إلى عبد الله بنيسابور، فكلم أصحاب الحديث يحيى بن يحيى في أمره. فقال ما تريدون؟ فقالوا له تكتب إلى عبد الله بن طاهر رقعة، وعبد الله أمير خراسان إذ ذاك،(3/217)
فقال يحيى: ما كتبت إليه، فألحوا عليه، فكتب في رقعة: إلى عبد الله بن طاهر، إسحاق بن إبراهيم رجل من أهل العلم والصلاح. فحمل إسحاق الرقعة إليه فلما جاء الباب فقال للحاجب: معي رقعة يحيى ابن يحيى إلى الأمير. فقال يحيى بن يحيى: قال نعم. قال: أدخله. فأدخله وناوله الرقعة فقبلها ابن طاهر وأقعد إسحاق بجنبه، وقضى دينه ثلاثين ألف درهم، وصيره في جلسائه، وكان لا يختلف إليه، وكان يحيى بن يحيى من المياسير، وذكر أنه أهدى هدية إلى مالك باع مالك من فضلتها بثمانين ألفاً. قال البخاري وتوفي ضحى يوم الأربعاء منسلخ صفر في سنة ست وعشرين ومائتين.(3/218)
انتهى الجزء الأول بحمد الله وحسن عونه.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
الجزء الثاني من المدارك
اعتمدنا في مقابلتنا لهذا الجزء على أجزاء أربعة مخطوطة مثل الجزء الأول، إلا أننا عوضنا الجزء الثاني من نسخة - ص - التي ينقصها جزء بجزء آخر موجود بمكتبة الأحمدية بجامع الزيتونة الأعظم دام عمرانه، مرقمة 3241. يقع هذا الجزء المنفرد من كتبا المدارك في 153 ورقة حجمه 19 - 25 من أحباش المشير أحمد باشا الأول باي تونس يبتدئ بترجمة عبد الله بن وهب، وينتهي بترجمة حبيب بن نصر بن سهل التميمي صاحب مظالم سحنون.
خطه مغربي ضعيف، كثير الأنماط الرسمية، إلا أنه واضح مقروء. لا تاريخ لكتابها أو اسم الناسخ، إلا أنها تبدو من أقدم النسخ عندنا بتونس، وقد يرجعها بعض أصحاب الدراية إلى أواخر القرن الثامن أو أوائل التاسع. كتب على الوجه من الورقة الأولى قيمة الكتاب وهي: خمسون ريالاً. ثم نص الوقف مشهود عليه ببيان عدلين وطابع المشير أحمد باش باي الأول وآخر ما كتب فيه بعد ترجمة حبيب بن نصر، تعليق في ثلاثة أسطر على قول المؤلف قليل الفائدة. وفي أسفل الورقة بيتان من البردة وهي:
أمن تذكّر جيران بذي سلم ... مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم
أم هبّت الريح من تلقاء كاظمة ... وأومض البرق في الظلماء من إدم
أشرنا إلى هذه النسخة في تحقيقنا للنصّ ب أ
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
من أهل الشام
الوليد بن مسلم بن السائب
أبو العباس، مولى بني أمية، دمشقي. قال ابن شعبان: له عن مالك ما لا يحصى كثرة. الموطأ والمسائل والحديث الكثير. يروي عن مالك وابن جريج والأوزاعي، وهو مختص به، والليث والثوري وعبد الرحمان بن يزيد ومسلمة بن علي وعمر بن جابر ويزيد بن جابر وأبي بكر بن أبي مريم وغيرهم، وروى عن شريك عشرة أحاديث. قال الألكاني: روى عنه الليث والحميدي وأحمد بن حنبل وابن المديني وأبو خيثمة وغيرهم، وروى عنه أيضاً اسحاق بن راهويه وهشام ابن عمار وصفوان بن صالح، وأخرج عنه البخاري ومسلم.(3/219)
قال أبو مسهر: رحم الله أبا العباس، لقد كان معتنياً بالعلم. وقال أحمد: هو ثقة في الحديث. قال يحيى: كان يدلس. قال أحمد: ليس أحد أروى لحديث الشاميين منه ومن إسماعيل بن عياش. قال الوليد: وافيت مكة وعليها محمد بن إبراهيم يقصر الصلاة بمنى وعرفة. فأعاد سفيان الصلاة وأمها ابن جريج فأتيت المدينة وذكرت ذلك لمالك، فقال لي أصحابي والأمير: أخطأ سفيان وابن جريج، وأن الأوزاعي قال فيه مثله. فأتيت مصر، فذكرت ذلك للشافعي، فقال لي: أخطأ الأمير والأوزاعي ومالك وأصحاب سفيان وابن جريج. أما مالك فيرى القصر للحاج وإن كان من أهل مكة كما فعل الأمير، وقاله الأوزاعي ويقصر الناس معه من أهل مكة وغيرهم، وعند الشافعي يتمون وراءه المكيون. وهو قوله الثوري وابن حنبل وأهل الرأي. وقال الخطابي في إعادة سفيان لأنه يرى للمفترض أن يصلي خلف المنتفل، وصلاة الأمير عنده نافلة حين قصرها وهو مكي، فاستأنف سفيان الصلاة، وهذا خلاف ما ذكر عنه في الاتمام، وفي روايته عن مالك شذوذ وغرابة. قال أحمد فيه: ثقة. وقال أحمد بن صالح الكوفي: قال البخاري وابن أبي خيثمة وابن وضاح. وتوفي سنة خمس وتسعين في منصرفه من الحج بذي المروة. وقال ابن شعبان وغيره: توفي في المحرم سنة أربع وتسعين وماية. مولده سنة تسع عشرة وماية.(3/220)
أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر بن عبد الأعلى
ابن مسهر الغساني الدمشقي قال أبو عمر المقرىء، أحمد بني كعب بن هند، قال أبو سفيان: روى عن مالك الموطأ وغيره من المسائل والحديث الكثير. قال ابن أبي حازم: سمع سعيد بن عبد العزيز وعبد الله بن العلاء بن زمر، وخالد بن يزيد بن صالح يروي عن أبي الجواري، وأبو زرعة الدمشقي ويحيى بن معين وأبو حاتم. قال ابن شعبان: ما رأيت مثله منذ خرجت من بلادي. أشبه بالمشيخة الذين أدركت من أبي مسهر. وهو ثقة. قال أبو حاتم: ما رأيت ممن كتبنا عنه الصحيح أثبت منه، وهو إمام. وقد خرج عنه البخاري.(3/221)
قال ابن وضاح: كان فاضلاً ثقة. وقد روى عنه محمد بن يوسف السكري والنسائي وأبو داود. قال الزبيري: وقرأ القرآن على نافع وأيوب بن تميم، وروى عنه أبو زرعة الدمشقي وأبو عبيد بن سالم. قال ابن مفرج: وأبو مسهر سيد أهل الشام وفقيههم وعابدهم.
قال ابن معين فيه: ثقة. قال الكوفي: هو ثقة. قال عبد الباقي بن الحسن: رجعت الإمامة بعد ابن ذكوان في القراءة، إلى أبي مسهر. وسأل أبا مسهر رجل عن مسألة فلم يجبه، ثم أعاد عليه فلم يجبه، ثم أعاد عليه فلم يجبه. فقيل له في ذلك فقال: سمعت مالكاً يقول من إذالة العلم أن تجيب كل من سألك.
فصل في أخباره ونوادره وحديثه
سئل أبو مسهر عن حديث بقية فقال: احذر الأحاديث بقية وكن منها على تقية، فإنها غير نقية. وكان على خاتمه مكتوب: عبد الأعلى قل الحق. وكان نقش خاتم أخيه علي أبرمت فقم. فكان إذا استثقل جليسه ناوله خاتمه ليقرأ نقشه، وحاجبه محمد بن عبد كلان فكتب إليه أبو مسهر.(3/222)
إني أتيتك للتسليم أحامل فلم ... تأذن عليك لي الأستار والحجب
وقد علمت بأني لم أردَّ ولا ... مارد إلا الإخا والعلم والأدب
فأجابه:
ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا ... إن السماء ترجى حين تحتجب
لو كنت كافأت بالحسنى لقلت كما ... قال ابن أوس ففي استقفائه أدب
قال هارون بن موسى: دخلت علي أبي مسهر وكان مستلقياً على قفاه فترنم بقول الشاعر:
يمسي الفتى ما كان قدم من تقى ... إذا نزل الداء الذي هو قاتله
ذكر محنته
قال موسى بن الحسن: سمعت أبا مسهر وقد وجه به المأمون إلى اسحاق ابن إبراهيم ببغداد فأحضر له اسحاق جماعة ليقرّ بكتاب المحنة الذي كتبه المأمون في خلق القرآن، ونفي الرؤية وعذاب القبر، وإن الميزان ليس بكفتين وإن الجنة والنار غير مخلوقتين. فلما قرىء الكتاب على أبي مسهر قال: أنا منكر لجميع ما في كتابكم هذا. بعد مجالسة مالك والثوري ومشائخ أهل العلم: إذاً لا أكفر بالله بعد إحدى وتسعين، ولا أقول القرآن مخلوق ولا أنكر عذاب القبر ولا الموازين إنها كفتان ولا أن الله يرى في القيامة ولا أن الله تعالى على عرشه، وعلمه قد أحاط بكل شيء، علماً نزل بذلك القرآن وجاءت به الأخبار التي نقلها أهل العلم فإن كانوا متهمين في القرآن فهم الذين تلقوا القرآن والسنن عن رسول اله صلى الله عليه وسلم.(3/223)
فجر برجله وطرح في أضيق المحابس فما أقام إلا يسيراً حتى توفي رحمه الله تعالى. فحضر جنازته من الخلق ما لا يحصيهم إلا الله. وقال أبو داود في المحنة فلم يجب. وقال أبو جعفر الطبري: حمل أبو مسهر إلى المأمون بالرقة للمحنة في القرآن، فلم يجبه. فدعا له بالسيف والنطع ليقتله. فلما رأى ذلك قال: مخلوق. فتركه فلم يقتله، وأشخصه إلى بغداد في ربيع الآخر سنة ثمان عشرة. فحبس فلم يلبث إلى يسيراً حتى مات في غرة رجب من السنة المذكورة. وذكر البلخي أن المأمون لما ورد دمشق ذكر له أبو مسهر ووصف بالعلم والفقه، فأحضره وناظره في القرآن ثم سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم هل أختلف. فقال: لا أدري. فسبّه وأقامه وهذا إنما فعله المأمون به عداوة لمخالفته إياه في القرآن. ومن قال لا أدري فقد أنصف. وقيل لأبي مسهر في الرجل يصحف ويخطىء ويهم في الحديث. فقال: بيّن أمره. فقيل له: أذلك عيب؟ قال لا. توفي فيما قاله الطبري والبراني والبخاري: سنة ثمان عشرة ومائتين وقال ابن مفرج: سنة عشرة. مولده سنة أربعين ومائة ونحوه قال البخاري.(3/224)
مروان بن محمد بن حسان الأسد
الظاهري دمشقي صحب مالكاً وروى عنه حديثاً ومسائل كثيرة وعن الليث بن سعد وسعيد بن عبد العزيز ومعاوية بن سلام. قال ابن وضاح: مروان بن محمد كبير فاضل. قال ابن معين: ومن كان مرجئاً بدمشق عليه عمامة، ومن لم يكن مرجئاً لم يعتم. قال البخاري: وإنما قيل له الظاهري لثياب نسب إليها. سمع معاوية بن سلام وخرّج عنه مسلم في الصحيح وأبو داود وغيرهما من الأئمة وضعفه بعضهم. حدث عنه الهيثم بن خارجة ومحمود بن خالد وأحمد ابن أبي الجواري والرازي وأحمد بن أبي الأزهر النيسابوري، وسلمة بن شيبة.(3/225)
روى عنه انه قال: ثلاثة لا يؤتمنون في دين: الصوفي والقصاص ومبتدع يرد على أهل الأهواء وابنه إبراهيم بن مروان بن محمد يروي عن أبيه، كتب عنه أبو حامد الرازي وقال: كان صدوقاً قال البخاري: مات مروان سنة عشر ومائتين وقال غيره سنة ست عشرة.(3/226)
إسحاق بن عيسى بن نجيح أبو يعقوب
المعروف بابن الطباع
وهم ثلاثة أخوة: محمد ويوسف وأسحق سمع أسحق مالك بن أنس وصحبه وسمع شريك بن عبد الله وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم وأبا ضمر أنس بن عياض روى عنه ابن أخيه محمد بن يوسف بن حنبلي وأسحق ابن بهلول ويعقوب بن شيبة وعباس الدوري، والحارث بن أسامة والحسن ابن مكرم، ومسلم بن الحجاج، وخرّج عنه في صحيحه وغيرهم قال الخطيب أبو بكر كان قد انتقل آخره عمره إلى أذن، فأقام بها إلى أن مات سئل عنه صالح بن محمد فقال: لا بأس به صدوق وقال محمد بن سعد: توفي سنة خمس عشرة ومائتين أسحاق بن الطباع الفقيه وقال ابن سنة أربع عشرة قال أبو بكر الحافظ والأول أصح.(3/227)
من أهل مصر
عبد الله بن وهب بن مسلم القريش مولاهم
مولى يزيد بن رمانة ويقال، بني فهر قاله البادي وقال الدارقطني: مولى يزيد بن ربابة مولى يزيد أنس الفري وقال أبو عمر الكندي مولى يزيد بن رمانة، مولى آل شيبان بن محارب بن فهر قال وقد اختلف في ولائه فقيل أن ابن رمانة مولى امرأة من الأنصار من بني بياضة كان زوجها فهرياً قال غيره فرجع ولاؤه إلى بنيه بسببها قال البخاري: هو مولى رمانة(3/228)
وقال ابن حاتم مولى ابن رمانة مولى فهر وقال ابن شعبان وابن عبد البر: مولى ريحانة مولاة لأبي عبد الرحمان يزيد ابن أنس الفري قال الكندي: وكان ابن وهب زعموا ربما قال: الأنصاري، ربما قال القرشي، ثم ثبت على القرشي وذكر نحوه ابن محبر هكذا وقال ابن بكير: وجدت شهادته في صك، الأنصاري قال أبو الطاهر: كان مسلم جده بربرياً روى عن مالك والليث وابن أبي ذئب، ويونس بن يزيد والثوري وابن عيينة وابن جريح وابن أنعم، وعبد العزيز بن الماجشون ويحيى بن أيوب ونحو أربعمائة شيخ من المصريين والحجازيين والعراقيين وقرأ على نافع، وروى عنه الليث وصرح باسمه.
وقيل أن مالكاً روى عنه عن ابن لهيعة حديث العرباض ومن أروى الناس عنه أصبغ بن الفرج، الحنون وأحمد بن صالح وابن بكير، ويونس وأبو الطاهر وقتيبة وابن غفير والوقار والقراطيسي، والحارث بن مسكين، وبنو عبد الحكم وحرملة وأبو مصعب الزهري وغيري واحد(3/229)
قال الشيرازي تقفه بمالك وعبد الملك بن الماجون وابن أبي حازم، وابن دينار والمغيرة والليث قال حرملة سمعت ابن وهب يقول لقيت ثلائمائة عالم وستين عالماً، ولولا مالك والليث لضللت في العلم وقال: أدركت من أصحاب ابن شهاب أكثر من عشرين رجلاً وقد حدث الليث عن ابن وهب بحديث كثير قال أبو الطاهر سمع ابن وهب من مالك قبل ابن القاسم ببضع عشرة سنة وصحب مالكاً من سنة ثمان وأربعين إلى مات ولم يشاهد ابن وهب موته، كان يخرج للحج وقال ابن وضاح حج ابن وهب سنة أربع وأربعين وفيها لقي مالكاً أولاً، ولم يسمع منه إلا مسألة واحدة، وسمع فيها من المثنى بن الصباح بمكة، والمسألة التي سمع من مالك في الجمع في المطر بين العشاءين وقد أرسل إليه الوالي في ذلك وكان مطراً يسيراً فأمره بالجمع قال الشيرازي صحب ابن وهب مالكاً عشرين سنة قال ابن وضاح: وسمع العلم صغيراً ابن ست عشرة سنة وذكر ابن الحنون عنه أنه قال طلب العلم ابن سبع عشرة سنة.
ذكر مكانته في العلم والفقه والحديث وسماع الإجلاء عليه
قال أبو عمر: يقولون إن مالكاً لم يكتب لأحد بالفقيه، إلا إلى ابن وهب وقاله ابن وضاح وكان يكتب إليه: عبد الله بن وهب فقيه مصر قال الشيرازي: كان مالك يكتب إليه: إلى أبي محمد المفتي وحكى مثله أبو الطاهر، زاد ولم يكن يفعل هذا لغيره(3/230)
وقال مالك: ابن وهب إمام وقال: ابن وهب عالم ونظر إليه يوماً فقال: أي فتى لولا الإكثار.
وقال أحمد بن حنبل: ابن وهب عالم صالح فقيه كثير العلم وقال أيضاً ابن وهب صحيح الحديث عن مشايخه الذين روى عنهم بفضل السماع من العرض والحديث من الحديث، ما أصح حديثه وقال أيضاً ما أصح حديثه وأعرفه بالإسلامي إلا أن الذين حملوا عنه لم يضبطوا، إلا هارون ابن معروف وقال يوسف بن عدي: ما أدركته الناس: فقيهاً غير محدث، ومحدثاً غير فقيه، خلا عبد الله بن وهب فإني رأيته فقيهاً محدثاً زاهداً.
قال أبو مصعب: كنا إذا شككنا في شيء من رأي مالك بعد موته كتب ابن دينار والمغيرة وكبار أصحابه إلى ابن وهب فيأتيناً جوابه قال ابن حنبلي أخبرنا من رأي ابن أبي حازم يعرض له ابن وهب، رأي مال قال هارون القاضي الزهري: كان أصحاب مالك بالمدنية يختلفون في قول مالك بعد موته فينتظرون قدوم ابن وهب فيصدرون عن رأيه وقال ابن وضاح: كان أهل الحجاز يحتاجون إلى ابن وهب في علم الحجاز، وأهل العراق، يحتاجون إليه في علم أهل العراق وكان عنده علم كثير ونعي إلى ابن عيينة فترحم عليه وقال: أصيب به المسلمون عامة وأصبت به أنا خاصة وقال ابن رشدين: ابن وهب أعلم من ابن القاسم بكثير وقال مالك وقد قام عنه: كذا يكون أهل العلم، لما رأى من تخشع وقال له سيفان: أنت ابن وهب المصري قال: نعم(3/231)
قال له: ما زلت أعرف مكانك من الإسلام منذ بلغني عنك قول يحيى بن معين ابن وهب ثقة.
قال أحمد بن خاله: كان ابن وهب من الفضلاء الكبار وممن يضبط ويحسن وكان ابن القاسم يقول: حدثني أوثق أصحابه، يريده وقال ابن رشدين قال لي الحسن بن توبان وزاد: لئن عاش هذا الفتى ليكون أمام هذا العصر إن شاء الله تعالى قال أحمد بن صالح: ليس أحد من خلق الله أكبر في ملكه من ابن نافع وابن وهب وابن نافع أحب إلى أحمد وابن وهب المقدم في كثرة العلم والمسائل لم يكن مالك يتكلم بشيء إلا كتبه ابن وهب وكان ابن وهب يتساهل في المشايخ ولو أخذ بما أخذ مالك كان خيراً له قال أحمد بن صالح: حديث ابن وهب مائة ألف حديث وما رأيت أكثر منه وقع عندنا في حديثه سبعون ألفاً.
قال أبو زرعة: نظرت من حديث ابن وهب نحو ثمانين ألف حديث فما رأيت له حديثاً لا أصل له وهو ثقة وهوأفقه من ابن القاسم وقال الكوفي هو ثقة صاحب سنة وآثار، رجل صالح وقال محمد بن عبد الحكم: هو أثبت الناس في مالك وسأل رجل علي بن معبد عن مسألة، وكان بالإسكندرية مرابطاً، فقال: ما كنت لأجيب بموضع فيه ابن وهب، فأذهب فأسأله قال محمد بن الحسين، كان ابن وهب في عصره محدث بلده، وكان عبداً صالحاً(3/232)
قال محمد بن عبد الحكم وابن بكير كان ابن وهب أقفه من ابن القاسم إلا أنه كان يمنعه الورع من إلفنا وقال ابن وضاح: كان علم ابن وهب أحب المناسك، وعلم ابن القاسم البيع وقال أبو حاتم الرازي: ابن وهب أحب إليّ من ابن نافع ومن الوليد بن مسلم، وهو أصح حديثاً من الوليد بكثير، وابن وهب صالح الحديث صدوق قال ابن معين والنسائي: ابن وهب ثقة وقال ابن معين: هو ثقة إلا أنه روى عن الضعفاء وسئل: لم تركت ابن القاسم ورويت عن ابن وهب؟ قال: كان ابن القاسم فاضلاً، ولكن ابن وهب صاحب آثار.
وخرج عنه البخاري ومسلم وكان أبو مصعب يعظم ابن وهب، وسمع مسائله عن مالك وكان يقول: هي صحيحة وقال أصبغ: ابن وهب أعلم أصحاب مالك بالسنين والآثار وقال عبد الرحمان بن محمد السهمي: رأيت مالكاً في النوم على بغلة فأخذت بلجامها لأسأله عن اختلاف قوله، فتأبّى عليّ، وقال: كأن تسأل عن اللؤلؤ والجوهر المكنون؟ قلت نعم. قال عليك بكتاب ابن وهب القديم.(3/233)
قال الحارث: جمع ابن وهب الفقه والرواية والعبادة، وكان إماماً ورزق من العلماء محبة، وحظوة من مالك وغيره. وما أتيته قط إلا وأنا أفيد منه خيراً. قال أبو زيد بن أبي الغمر: سمعت ابن وهب يقول: حججت أربعاً وعشرين حجة ألقى فيها مالكاً قال أبو زيد: وكنا نسمي ابن وهب ديوان العلم. قال حرملة: رأيت كتاب مالك، إلى ابن وهب مفتي مصر. قالوا وما من أحد إلا زجره مالك إلا ابن وهب، فإنه كان يعظمه ويحبه. وكان ابن القاسم يقول: لو مات ابن عيينة لضربت إلى ابن وهب أكباد الإبل، ما دوَّن أحد العلم تدوينه. قال يونس: ما رأيت أبا الحسن الإسكندراني قال لابن وهب قط إلا: يا عم. ولقد كانت تلك المشيخة إذا رأت ابن وهب خضعت له. قال أبو الطاهر: وقيل لابن وهب في المسائل الجدد، فقال: أدع أنا السائل القدم التي قرأناها عليه وهو نشيط لها حتى أنه ربما محا لي بكمه من كتابي.
قال ابن أخيه: كنت معه بالإسكندرية مرابطاً، فاجتمع الناس عليه يسألونه نشر العلم، فقال لي: هذا بلد عبادة. وقال ما أمهد لنفسي فيه مع شغل الناس. فترك الجلوس لهم في الأوقات التي كان يجلس، وأقبل على العبادة والحراسة، فبعد يومين أتاه إنسان فأخبره، أنه رأى نفسه في المسجد الحرام، والنبي صلى الله عليه وسلم فيه، وأبو بكر عن يمينه(3/234)
وعمر عن شماله وأنت بين يديه وفي المسجد قناديل تزهر أحسن شيء وأشدها ضياء، إذا طفيت منها قنديلاً فانطفأ. فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا عبد الله أوقده، فأوقدته ثم آخر كذلك ثم أقمت أياماً فرأيت القناديل كلها همت أن تطفأ، فقال أبو بكر يا رسول الله: أما ترى هذه القناديل. فقال صلى الله عليه وسلم: هذا عمل عبد الله يريد أن يطفيها. فبكى ابن وهب وقال له الرجل جئت لأبشرك ولو علمت أنه يغمك لم أأتك. فقال: خير. هذه الرؤيا وعظت بها نفسي ظننت أن العبادة أفضل من نشر العلم. فترك كثيراً من عمله للعلم، وحبس نفسه لهم يقرأون عليه ويسألونه.
ذكر مذهبه في الرواية
قال ابن وهب: كل شيء في كتبي كتب إليّ مالك فقد سمعته منه. وكانت له منه خاصة. قال ابن وهب سألت مالكاً أن يخليني في شيء يعرضه لي ففعل. فأنا عنده اقرأه عليه إذ استأذن عليه عبد الصمد الهاشمي والي المدينة، فسأله مثل ما سألته، فأبي وقال: قد أرداني الخليفة على هذا فلم أجبه. فقلت في نفسي: كيف لم يحتج عليه بي. قال ابن وهب كنت بين يدي مالك أكتب فأقيمت الصلاة، وفي رواية فأذن المؤذن وبين يديه كتب منشورة، فبادرت لأجمعها فقال لي على رسلك. فليس ما تقدم إليه بأفضل ما أنت فيه، إذا صحت فيه النية.(3/235)
قال ابن وهب: قال لي مالك: ما خلفك عنا منذ ليال. فقال: كنت أرمد. قال مالك: أحسب من كتب الليل. قلت أجل. فصاح مالك بالجارية هاتي من ذلك الكحل لصديقي المصري ابن وهب. قال إسماعيل ابن قعنب: كنت مه ابن وهب عند مالك فكانت الهدية تأتي إلى مالك بالنهار ويهديها إلى ابن وهب باللّيل.
قال ابن وهب دخلت المسجد فإذا الناس يزدحمون علي ابن سمعان وهشام بن عروة جالس فقلت اسمع من هذا وأصغي إليه، فلما فرغت قام، فأتيت منزله فقيل هو راقد. فقلت أحجّ وأرجع إليه، فرجعت وقد مات. وقيل لابن وهب: ابن القاسم يخالفك في أشياء. فقال: جاء ابن القاسم إلى مالك وقد ضعف. وكنت أنا آتي مالك وهو شاب قوي، يأخذ كتابي فيقرأ منه، وربما وجد فيه الخطأ فيأخذ خرقة بين يديه فيبلها في الماء فيمحوه، ويكتب لي الصواب. قال ابن وهب: لولا أن الله أنقذني بمالك والليث لضللت. فقيل له: كيف ذلك؟ قال: أكثرت من الحديث فحيرني. فكنت أعرض ذلك على مالك والليث، فيقولان لي: خذ هذا ودع هذا. قال نعيم بن حماد: كان ابن وهب جعل للغرباء يوم الثلاثاء، فيقرأون عليه فيأتي الداخل وقد بقي عليه من الكتاب الذي يقرأ شيء.(3/236)
فيقول أجزه لي. فيجيبه ويفعل ذلك بغير واحد حتى يقوم إليه فيسأله عن الحديث فيقول: الساعة قرىء هذا. فيقول أنا أن قرأنا عليك قلنا قرأنا على أبي محمد، وإن قرىء ونحن حضور قلنا قرىء على أبي محمد، ونحن حضور. وكان لنا حسن الخلق. فيقول لم نكن نأخذ الحديث كما نريد. قال محمد بن عبد الحكم: بيعت كتب ابن وهب بعد موته بثلاثمائة دينار. وفي رواية أخرى ستين، وأصحابنا متوافرون. وكان أبي وصيّه فلم ينكر ذلك أحد. ولولا أنه أوصى بعضهم أن لا يزيد لبلغت أكثر. وروي أنه دفع لإحدى زوجتيه من ثمنها ثمانون ديناراً، ولم يورث بولد. وهذا الحساب أكثر من الأول والله أعلم. ذكره في المبسوطة، قال أبو زيد: اجتمع ابن وهب وابن القاسم واشهب على أني إذا أخذت الكتاب من المحدث أن أقول فيه: أخبرني. وقيل لابن حنبل وقد أثني على حديثه: أليس كان سيء الأخذ؟ قال: نعم. ولكن إن نظرت إلى حديثه وما أخذ عن شيوخه وجدته صحيحاً.
باب في غير شيء من أخباره
قال ابن وهب: كان أول أمري في العبادة قبل طلب العلم فولع بي الشيطان في ذكر عيسى عليه السلام، وكيف خلقه الله فشكوت ذلك إلى شيخ، فقال لي: اطلب العلم. فكان سبب طلبي. وقال حسين بن عاصم كنت عند ابن وهب فوقف على الحلقة سائل، فقال يا أبا محمد، الدرهم الذي أعطيتني بالأمس زائف فقال يا هذا إنما كانت بأيدينا عارية. فغضب السائل وقال صلى(3/237)
الله على محمد. هذا الزمان الذي كان يحدث به أنه لا يلي الصدقات إلا المنافقون من هذه الأمة. فقام رجل من أهل العراق فلطم المسكين لطمة خرج منها لوجهه. فجعل يصيح يا أبا محمد يا إمام المسلمين يفعل بي هذا في مجلسك. فقال ابن وهب: ومن فعل هذا؟ قال العراقي أنا أصلحك الله. فعلته للحديث الذي حدثتنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من حمى لحم مؤمن من منافق يغتابه حمى الله لحمه من النار وأنت مصباحنا وضياؤنا. يغتابك في وجوهنا؟ فقال: لأحدثنكم بحديث. إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخر الزمان يكون مساكين يقال لهم الغناة كذا لا يتوضأون لصلاة ولا يغتسلون من جنابة، يخرج الناس من مساجدهم وأعيادهم يسألون الله من فضله، ويخرجون يسألون الناس، يرون حقوقهم على الناس، ولا يرون حقوقهم عليهم حقاً.
وكان ابن وهب يقول: من قال في موعد إن شاء الله فليس عليه شيء. وطلب ابن وهب من مالك كحلاً، فقال لجاريته أعطي من الكحل لصديقي المصري. قال فأتوه بأنبوبة أو أنبوبتين. قال الربيع صاحب الشافعي: جئنا عبد الله بن وهب للسماع واجتمع على بابه خلق كثير، فقام ليفتح، فلما فتح ازدحمنا للدخول فسقط وشج وجهه، فقال ما هذا إلا الخفّة وقلة الوقار ونحو هذا، والله لا(3/238)
أسمعتكم اليوم حرفاً. ثم قعد وقعدنا. فلما رأى ما بنا من الهدوء، قال أين سكينة العلم، إنما أنا أكفِّر عن يميني وأسمعكم، فكفّر وأسمعنا. ونظر ابن وهب إلى رجل يمضغ اللبان فقال له: إنه يقسي القلب ويضعف البصر ويكثر القمل. قال ابن وهب: كنت أصلي في المسجد بالإسكندرية فسمعت العلا بن كثير يقول لأصحابه: ما منكم من يقترف هذا الفتى فيزوجه ابنته، تفرسنا فيه. قال سحنون: نذر ابن وهب أن لا يصوم يوم عرفة، أبداً. وذلك أنه صام مرة فاشتد عليه الحر والعطش في الموقف قال: فكان الناس ينتظرون الرحمة وأنا انتظر الإفطار. قال ابن وهب: قال لي مالك: لا تترك أحداً من أهل الكتاب يعلم المسلمين. قال ابن وهب: وكان معلمي نصرانياً. قال يحيى بن يحيى: سمعت ابن وهب يحدث بحديث فيه: بعد العشرين ومائة ليربّي أحدكم جرواً خيراً له من أن يربي ولداً. فاستنكرت ذلك عليه. فقال له: يا أبا محمد ما أراك فيما أتاك الله من فضله ولدت إلا بعد هذا الرجل. فقال لي: نعم.(3/239)
فوالله ما عاد إلى ذكر الحديث حتى فارقته. قال يحيى ولم كان أحد يسلم من عيب الإكثار لسلم منها ابن وهب. وقال النسائي: لا بأس به، إلا أنه تساهل في الأخذ تساهلاً شديداً. قال ابن سعيد: وكان يدلس. قال سعيد بن منصور: وكان عبد الله بن وهب يسمع معنا عند المشايخ؛ فكان ينام في المجالس ثم يأخذ الكتب من بعضنا فيكتبها. قالوا وهو أول من فرق بمصر بين نا وأنا.
؟
ذكر عبادته وزهده وخوفه ووفاته
قال أبو عمر: كان ابن وهب صالحاً خائفاً لله. قال غيره: كان كثير الحج. قال سحنون: كان ابن وهب قد قسم دهره أثلاثاً، ثلثاً في الرباط، وثلثاً يعلم الناس بمصر. وثلثاً في الحج. وذكر أنه حج ستاً وثلاثين حجة. قال ابن وهب جعلت على نفسي كلما اغتبت إنساناً صيام يوم، فهان علي، فجعلت عليها إذا اغتبت إنساناً علي صدقة درهم فثقل علي ّوتركت الغيبة. قال أبو جعفر الأيلي: قال ابن وهب: ما من ليلة تمر إلا وأنا استهولها واذكر بها هول الآخرة، ولما طلب لقضاء مصر، استخفى عند حرملة سنة وأشهراً. قال الحجاج بن رشدين: فأشرفت عليه من غرفتي وكانت تحاذيه(3/240)
يوماً، فقال لي: يا أبا الحسن بينا أنا أرجو أن أحشر في زمرة العلماء أحشر في زمرة القضاة. قال ابن أخيه: ما رأيت قط أزهد في الدنيا منه. كان ينهدم عليه بعض بنيانه فلم يصلحه، وما بنى قط شيئاً، ولا رأيت أكثر رباطاً منه. قال: وشهدت عبد الله ابن وهب يقرأ عليه في منزله كتاب الأهوال الذي كان يرويه أنه بلغه عن أبي هريرة وشهده أبو أسامة البكاء فأخذ في البكاء، ثم أن أبا أسامة قام بتلك الرِّقة وابن وهب على حاله والقارىء يقرأ وابن وهب ينشج رافعاً صوته، حتى أني لأحسب من كان على خمسين ذراعاً يسمعه، فلم يزل كذلك حتى مال على الحائط الذي كان مستنداً إليه، ثم احتمل إلى منزله فلم يزل على حاله لا يعقل، حتى توفي. فكنا نرى أن قلبه انصدع قال يونس. قال ابن وهب: إن أصحاب الحديث طلبوا مني أن أسمعهم صفة الجنة والنار، وما أدري القدر على ذلك ثم قعد لهم فقرأوا عليه صفة النار، فغشى عليه ورش بالماء وجهه فقيل اقرأوا عليه صفة الجنة، فلم يفق وبقي كذلك اثني عشر يوماً فدعي له طبيب فنظر إليه فقال: هذا رجل انصدع قلبه. وكانت وفاته بمصر سنة سبع وتسعين ومائة.
فيما قاله أحمد ابن صالح وأبو محمد الكندي. قال ابن الجزار: يوم الأحد لخمس بقين من شعبان منها وقيل سنة ثمان وتسعين وقال الباجي: سنة تسعين. والأول أصح وأشهر.(3/241)
وقال ابن سحنون: الثابت أنه مات سنة ست وتسعين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. وقيل ابن خمس وسبعين سنة. وقيل ابن ثمانين. ولد بمصر سنة أربع وعشرين ومائة وقيل سنة خمس وعشرين قال أبو اسحاق: وكان أسنّ من ابن القاسم بثلاث سنين، وعاش بعده خمس سنين. قال ابن أخيه لما توفي ابن وهب رأى رجل في المنام تلك الليلة أنه قيل له مات الليلة أربعمائة عالم. فلما انتبه سمع النوح، فسأل فقيل له: مات ابن وهب قال وكان ابن وهب روى أربعمائة عالم قال الطباع فلما غسلوا ابن وهب وجدوا فيه رطبة وصلى عليه عبّاد والي مصر. قال أبو بشر بن قعنب رايت ليلة مايت ابن وهب كأن مائدة العلم رفعت. قال الطباع وغيره: وبيعت كتبه بعد موته، فبلغت خمسمائة دينار قال محمد بن عبد الحكمصى ابن وهب إلى أبي في كفّارة الأيمان، وأمره فيها بمّدين مدّين، وأوصى إليه بها ابن القاسم بمدّ بمدّ. وألف تآليف كثيرة جليلة المقدار عظيمة المنفعة منها سماعه على مالك، ثلاثون كتاباً. موطأه الكبير وجامعه الكبير وكتاب الأهوال وبعضهم يضيفها إلى الجامع، وكتاب تفسير الموطأ، وكتاب البيعة وكتاب لا هام ولا صفر. وكتاب المناسك. وكتاب المغازي. وكتاب الردة.(3/242)
وله أخ اسمه عبد الرحمان والد أحمد، وعبد العزيز. وأخ اسمه عمر بن وهب، قيل: له حديث وما أعرفه. توفي في محرم سنة سبع وتسعين ومائة. قال ابن يونس: وكان ابن اسمه حميد. ذكر الكندي أنه كان مقبولاً عند قضاة مصر، قال الطحاوي وكانت فيه بطالة.(3/243)
عبد الرحمان بن القاسم العتقي
قال أبو عمر الكندي في كتابه موالي مصر: كنيته أبو عبد الله، وهو عبد الرحمان بن القاسم بن خالد ابن جنادة. كذا ضبطه الدارقطني والأمير، ونقله الباجي: جبارة وهو وهم، مولى زبيد بن الحارث العتقي. وكان زبيد في حجر حميد، وذلك أن العتقاء جماع فيهم من حجر حميد، ومن سعد العشيرة، ومن كنانة مصر وغيرهم. قال ابن وضاح: وأصله من الشام من فلسطين، من مدينة الرملة. وسكن مصر، قال الدارقطني: وله بمصر مسجد يعرف بمسجد العتقي. قال ابن الحارث: وهو منسوب إلى العبيد الذين نزلوا من الطائف إلى النبي صلى الله عيه وسلم، فجعلهم أحراراً. وكان أبوه في الديوان وعنه ورث ابن القاسم المال الذي أنفقه في رحلته إلى مالك، وأعطى سعداً منها خمسين ديناراً. وسمعت أنه خرج عن مورثه كله منه لأجل ذلك وروى عن الليث وعبد العزيز ابن الماجشون، ومسلم ابن خالد الزنجي، وبكر ابن مضر وابن الداروردي، وابن زبيد وابن أبي حازم وسعد وعبد الرحيم وعثمان ابن الحكم وغير واحد(3/244)
وروى عنه أصبغ وسحنون وعيسى بن دينار، والحارث ابن مسكين وعيسى بن تليد ويحيى ابن يحيى الأندلسي، وأبو زيد ابن أبي الغمر ومحمد بن المواز وأبو ثابت المدني ومحمد عبد الحكم وأكثر روايات محمد بن المواز وابن عبد الحكم عن رجل عنه وخرج عنه البخاري.
ثناء الأجلاء عليه
قال الكندي في ذكر ابن القاسم لمالك، فقال: عافاه الله، مثله كمثل جراب مملوء مسكاً. وقال الدارقطني: ابن القاسم صاحب مالك من كبار المصريين وفقهائهم. قال أبو عمر بن عبد البر كان قد غلب عليه الرأي وكان رجلاً صالحاً مقلاً صابراً، وروايته في الموطأ صحيحة قليلة الخطأ. وكان فيما رواه عن مالك متقناً حسن الضبط. سئل مالك عنه وعن ابن وهب، فقال ابن وهب عالم وابن القاسم فقيه. قال ابن معين: هو ثقة. قال أبو زرعة: هو ثقة رجل صالح كان عنده ثلاثمائة جلد عن مالك من المسائل أو نحوها. سأله عنها أسد، وذكر باقي القصة وستأتي بعد. وقال النسائي: ومن فقهاء الأمصار بمصر عبد الرحمان بن القاسم وأشهب بن عبد العزيز.
وقال النسائي: ابن القاسم ثقة رجل صالح، سبحان الله ما أحسن حديثه وأصحّه عن مالك، ليس يختلف في كلمة أحد ولم يرو أحد الموطأ عن(3/245)
مالك أثبت من ابن القاسم، وليس أحد من أصحاب مالك عندي مثله. قيل له: فأشهب؟ قال: ولا أشهب ولا غيره، هو عجب من العجب، الفضل والزهد وصحة الرواية وحسن الدراية وحسن الحديث، حديثه يشهد له. وقال ابن وهب لأبي ثابت: إن أردت هذا الشأن، يعني فقه مالك، فعليك بابن القاسم، فإنه انفرد به وشغلنا بغيره. وبهذا الطريق رجح القاضي أبو محمد عبد الوهاب البغدادي مسائل المدونة لرواية سحنون لها عن ابن القاسم، وانفراد ابن القاسم بمالك وطول صحبته له، وأنه لم يخلط به غيره إلا في شيء يسير. ثم كون سحنون أيضاً مع ابن القاسم فهذه السبيل ما كان عليه من الفضل والعلم. قال يحيى بن يحيى: كان ابن القاسم أحدث أصحاب مالك بمصر منا، وأحدثهم طلباً وأعلمهم بعلم مالك وآمنهم عليه. قال ابن الحارث: هو أفقه الناس بمذهب مالك. قال: وسمعنا شيوخنا يفضلون ابن القاسم على جميع أصحابه في علم البيوع. وقال له مالك اتق الله وعليك بنشر هذا العلم. قال أبو عبد الله بن أبي صبرة: لم يقعد إلى مالك مثله. يعني ابن القاسم. قال وكان الأصيلي يقول ذلك فيه، وقال الحارث بن مسكين: كان في ابن القاسم الزهد والعلم والسخاء والشجاعة والإجابة.(3/246)
قال أحمد بن خالد: لم يكن عند ابن القاسم إلا الموطأ، وسماعه من مالك كان يحفظها حفظاً. قال أحمد: إلا أنه كان لا يحسن يقرأ. غاب القارئ يوماً، فاحتاج إلى أن يقرأ فما تم صفحة حتى أحمرّ وجهه، ولم يقدر على شيء: وقال: انظروا من يقرأ لكم، ورمى بالكتاب. وسئل أشهب عن ابن القاسم وابن وهب فقال: لو قطعت رجل ابن القاسم لكانت أفقه من ابن وهب. وكان ما بين أشهب وابن القاسم متباعد، فلم يمنعه ذلك من قول الحق فيه.
قال أبو الطاهر: أخبرني خالي وكان من المجتهدين ومن أهل العلم، رأيت في المنام كأن قائلاً يقول لا يفتي الناس إلا ابن وهب وابن القاسم المهذّب ثم رأيت ذلك بعد حول. قال ابن وضاح: لم يخرج لمالك وعبد العزيز مثل أشهب وابن القاسم وابن وهب. كان علم أشهب الجراح، وعلم ابن القاسم البيوع، وعلن ابن وهب المناسك. وقال أبو اسحاق الشيرازي: جمع بين الفقه والورع. صحب مالكاً عشرين سنة، وتفقه به وبنظرائه. قال ابن الحارث، وذكر ابن القاسم واقتصاره على مالك قال: سمع من سفيان أن أحاديث يكتبها في الواحد، ثم سمع من مالك شيئاً فمحا تلك وكتب ما سمع من مالك. قال الحارث: قلت لابن القاسم: أخبرني بالرؤيا التي بلغني أنك(3/247)
رأيتها سنة كذا. قال ولا تخبر بها أحداً، رأيت كأنه يقول لي: إن الله يصلي عليك وعلى سعيد بن زكريا. يعني سعيد الأدم. قال بعضهم وقف أشهب على قبر ابن القاسم فقال: رحمك الله يا عبد الله قد - كنا نترك كثيراً خوفاً من نقدك فسنهلك بعدك.
ذكر ابتداء طلبه وسيرته في ذلك
قال ابن وضاح: سمع ابن القاسم من الشاميين والمصريين وإنما طلب وهو كبير ولم يخرج لمالك حتى سمع من المصريين. وأنفق في سفرته إلى مالك ألف مثقال. قال سحنون عنه: ما خرجت لمالك إلا وأنا عالم بقوله. وقال له - لابنه موسى بن عبد الرحمان -: إلا أخبرك كيف طلبت العلم؟ قال: بلى. قال: كان لي أخ فنازع رجلاً فسار إلى السلطان فتبعته حتى أتياه، فأمر بأخي إلى السجن فتبعته، فدخلت المسجد وعليّ نعل سندي، ومعصفرة. فإذا حلق الناس يتلاقون العلم، فبهت فيهم وشغلت عن الذهاب إلى أخي. فرجعت إلى المنزل وأخذت حذاء ورداء آخر غير الأول، فأتيت المسجد فجلست فيه، وحدي أنظر إلى الناس، فانصرفت فقمت فأتاني آت فقال لي: إن أحببت العلم فعليك بعالم الآفاق. قلت ومن عالم الآفاق؟ قيل لي هذا الشيخ فإذا شيخ أشقر طوال حسن اللحية فاستيقظت وقد مضى أكثر شوال، فاكتريت إلى مكة وحججت مع الناس فلما أتينا(3/248)
المدينة اغتسلت ودخلت إلى المسجد، ونظرت فإذا انا بالصفة التي رأيت في المنام، وإذا هو مالك ابن أنس والناس يعرضون عليه، فعرفته إنه الذي قيل لي في النوم أنه عالم بالآفاق، فلزمته. وقال إصبع: قال ابن القاسم حملتاأحاديث المصريين فوقع في نفسي طلب الفقه، فاتيت أبا شريح وكان صالحاً حكيماً، فاستشريته وقلت له: أردت أن أشخص إلى مالك، فقال لي: ما أحسن الفقه، وإن كان أهله يعتريهم الكبر، ولكن اطلب فإن توسد العلم خير من توسد الجهل. قال: ترنمت بأثر ذلك فرأيت في منامي كان عقاباً انقض على راسي. وقال غيره: كأن بازياً رفرف على رأسه او على حجره، فأخذه فبقر جوفه. فقال له قائل: لا تضيع جوفه فإن حشوه جوهر.
وفي رواية فجعلت ابتلعه حتى أتيت عليه. فعبر الرؤيا على أبي شريح.
قال غيره: وعلى رجل كان بصيراً بالعبادة يقال إنه زين بن شعيب، فقال: البازي سيد الطير والجوهر العلم، هذا عالم أمرت أن تأخذ من علمه وإن تأتيه. وفي حديث أصبغ: العقاب سيد الطير، والعالم سيد الناس، ولئن صدقت رؤياك لترثن علم عالم، فاتق الله يا عبد الرحمن. فأمرني أن اخرج إلى مالك وألزمه. فخرج إلى مالك وسمع منه ولازمه، وفي رواية، أنه قال له: لعلك حدثت نفسك بشيء من طلب العلم؟ قلت: نعم. قال: فمن ذكرت؟ قلت: مالكاً. قال هو بازيك الذي صدت.(3/249)
قال ابن القاسم: كنت أسمع من مالك كل يوم غلساً إذا خرج من المسجد ثلاثة أحاديث، سوى ما أسمع مع الناس معه بالنهار. وفي رواية: كنت آتي مالكاً غلساً، فأسأله عن مسألتين ثلاثة أربعة، وكنت اجد منه في ذلك الوقت انشراح صدر، فكنت آتي كل سحر، فتوسدت مرة في عتبته فغلبتني عيني، فنمت وخرج مالك إلى المسجد فلم أشعر به، فركضتني سوداء له برجلها وقالت لي: ان مولاك قد خرج ليس يغفل كما تغفل أنت، اليوم له تسع وأربعون سنة ما صلى الصبح إلا بوضوء العتمة. ظنت السوداء انه مولاه من كثرة اختلافه إليه. وفي جزء آخر أنخت بباب مالك سبع عشرة سنة، ما بعت فيها ولا اشتريت شيئاً. قال: فبينما انا عنده إذ أقبل حاج مصر، فإذا شاب متلثم دخل علينا فسلم على مالك. فقال أفيكم ابن القاسم؟ فأشير إلي فاقبل يقبل عيني ووجدت منه ريحاً طيبة، فإذا هي رائحة الولد وإذا هو ابني، وكان ترك أمه به حاملاً، وكانت ابنة عمه، وكان اسمع عبد الله، وكان خبر أمه عند سفره لطول إقامته فاختارا البقاء، ولم يذكر الناس عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم هذا في ولده، وسنذكرهم. ولعله مات شاباً قبله والله أعلم. قال أبو زيد: سمعت ابن القاسم يقول: ما ضن احد بعلمه فأفلح. لقد كنت أحضر مجلس مالك فاسمع منه، فإذا لم يحضر أصحابي سألوني ما سمعت أخبرهم، ويحضرون وإلا احضر فاسألهم فلا يخبرونني. وقال ابن القاسم كأني كنت أنا وأشهب نختلف إلى عاملين مختلفين، لاختلافهما في الرواية.(3/250)
قال الصمادحي: من أجل هذا تركت السماع من أشهب. وذكر الطالبي: أن ابن القاسم لما رجع إلى مصر اجتمع حوله الناس في المسجد، فسأل عن ذلك الليث فقيل له: هذا ابن القاسم. فقال يأبى الله ذلك والمسلمون.
فرأى في المنام تلك الليلة: هاتفاً ينكر عليه ذلك. فاستيقظ وهو يقول لا يأبى الله ذلك ولا المسلمون. تحراني الجامع فحدث الناس حوله برؤياه. ولابن القاسم سماع من مالك عشرون كتاباً وكتاب المسائل في بيوع الآجال.
ذكر فضله وعبادته وورعه وكرامته وشيء من خبره
قال ابنه موسى: قال لنا أبي، وأمرنا بالصلاة والخير ثم قال: كنت وأنا ابن ثمان عشرة سنة أختم في كل يوم، وأحسبه قال وكل ليلة القرآن. قال الحارث ابن مسكين: سمعت ابن القاسم يقول: اللهم امنع الدنيا مني وامنعني منها بما منعت به صالحي عبادك. فكان في الورع والزهد شيئاً عجيباً. قال غيره: ذكر أنه شهد عند بعض قضاة مصر فلم يعرفه وطلب من يعدله لخموله وانقباضه. فخرج وهو يقول بل الله يزكي من يشاء. حتى عرف به، فلما عرف له، حكم بشهادة ويمين الطالب وكان عراقياً لا يرى ذلك ولكنه فعل لفضل ابن القاسم.(3/251)
وقيل بل شهد عند بعض القضاة، فقال القاضي: الاسم عدل ولا أعرف العين. فجئني بمن يعنيها، إذ كان لا يداخل القضاة. قال: وإنما كان مشتغلاً بالعبادة والعفاف. قال سحنون: وكان مالك معلم ابن القاسم في العلم، وكان معلمه في العبادة سليمان بن القاسم. وقال ابن القاسم فيهما: رجلان أقتدي بهما في ديني، سليمان في الورع، ومالك في العلم. وذكر أن بعض سياسي مصر أراد أن يزوجه ابنته وينقد عنه ويتكلف مؤونته، فقال: حتى أشاور. فشاور عمه سليمان بن القاسم. فقال له: تحب أن يخدمك الخصيان وتلبس الخز وتركب الخيل ويراح عليك غدوة وعشية بالجفان؟ قال: لا. فقال له فلم تشغل نفسك بمال فلان! فترك ذلك. قال أسد: كان ابن القاسم يختم في كل يوم وليلة ختمتين فنزل لي حين جئته عن ختمة رغبة في إحياء العلم. وقال يحيى بن يحيى، وقيل له: بلغنا أنه ابن القاسم كان لا يأكل من حنطة مصر. فقال: كذبوا ما كان يأكل هو ومالك إلا منها. ولقيت(3/252)
ابن القاسم مقبلاً في سوق مصر ومعه حمال بطعام، فسألته، فقال: طعام اشتريته، فأدخلت يدي فيه لابصره، فغذا هو كثير الغلث فقلت له: فهل كان أطيب من هذا؟ فقال: لا ياابا محمد، إني رضيت باليسير، ما يكفيني في الدنيا، فاستجزيت به. قال يحيى ولو أراد ابن القاسم أن يحمله له كبراء أهل مصر على ظهورهم لفعلت.
ولكنه كان لا يفعل ذلك، ولا يشتهيه، من الورع. قال: وسمعت ابن القاسم يقول: ما كذبت منذ شددت على مئزري. يعني: الحلم.
قال يحيى: وما كان أخلقه بذلك. قال يحيى: سمع رجلان من أهل الاندلس على ابن القاسم وكتبا عنه بما أفتاهما. قالا له: تشهد لنا رجلاً من أهل بلدنا بما سمعنا منك؟ فأنكر ذلك وقال: لا خير في قوم لا يصدقهم أهل بلدهم فيما ينقلون إليهم إلا بلبينة. قال يحيى: ولما قرأ أسد على ابن القاسم الأسدية وضع أشهب يده في مثلها، فخالفه في جلها، قال الفقيه القاضي أبو الفضل عياض رضي الله تعالى عنه: وهي المعروفة بمدونة أشهب، وبكتب أشهب. فقلت لابن القاسم: يا أبا عبد الله لو أعدت نظرك في هذه الكتب، فإن صاحبك قد خالفك فما لائمك عليه أقررته، وما خالفك فيه، أعدت النظر فيه،(3/253)
فقال: افعل إن شاء الله، فلما تقاضيته بعد أيام في ذلك فقال: يا أبا محمد نظرت في مقالتك، فوجدت إجابتي يوم أجبت، لله وحده، فرجوت أن أوفق، وإجابتي اليوم إنما تكون نقضاً على صاحبي، فأخاف أن أوفق، وإجابتي اليوم إنما تكون نقضاً على صاحبي، فأخاف أن لا أوافق في الأمر فتركته.
قال يحيى: وكان طول ما يقرأ عليه، رافعاً إصبعه مبتهلاً إلى اله تعالى في التوفيق والسلامة، قال: وتذاكرنا يوماً مع ابن القاسم هذا الأمر بكلنا، قال: لاورع أشد ما في هذا الدين. فقال ابن القاسم ما هو عندي كذا. فقلت له يا أبا عبد الله وكيف ذلك. فقال: أنا أمرنا ونهينا فمن فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه فذاك أورع الناس، فقيل له: يا أبا عبد الله، لقد خف عليك ما ثقل على غيرك، فأي شيء وجدت من هذا الأمر أثقل؟ فقال ما وجدت شيئاً أثقل علي من مكابدة أجزاء الليل.
وحكى يحيى بن عمر عن بعضهم قال: شهدت العيد مع عبد الرحمن بن القاسم فلما انصرفنا دخل ابن القاسم المسجد فصلى، ثم سجد فطول حتى خفت أن يفوتني الغداء مع أهلي، فدنوت منه فسمعته يقول: إلهي انقلب عبادك إلى ما أعدوه لهذا اليوم وانقلب عبد الرحمان إليك يرجو(3/254)
مغفرتك في هذا اليوم العظيم، فإن كنت فعلت فبخ بخ وإن كنت لم تفعل فيا ويلي ويا حسرتي، قال فجعلت على ثوبه علامة ثم سرت إلى أهلي، فتغديت معهم ووطئت وقمت ثم جئت المسجد فوجدته على هيأته كما تركته، قال يحيى: وخرج ابن القاسم إلى الحج، فلما كان بالأبواء، إذ أتته جارية كأحسن الجواري فناولها شيئاً، فقالت له ما أريد هذا، إنما أريد منك ما يكون من الرجل إلى المرأة، فأدخل رأسه بين ركبتيه وجعل يبكي، وأتاه أصحابه وهو كذلك فسألوه فأخبرهم، فجعلوا يبكون. فقال لهم لم تبكون؟ قالوا لأنا لو ابتلينا بما ابتليت به لم نأمن من الفتنة. فرأى ابن القاسم في المنام يوسف عليه السلام، فقال له: لقد كان في شأنك مع امرأة العزيز عجب فقال له يوسف شأنك مع صاحبة الأبواء أعجب إني هممت وأنت لم تهم، ومن كتاب الفقيه أبي مروان بن مالك القرطبي: قال ابن القاسم: خرجت إلى الإسكندرية ومعي وديعة فأرسينا في موضع مخوف فآثرت السهر لحفظ الوديعة، فإذ في شط البحر رجل أبيض على برذون أشهب فشق البحر إليّ حتى وقف على السفينة فقال لي: نم يا ابن القاسم فنحن نحرسها، قال ابن القاسم للحارث: لا نخبر به أحداً في حياتي.(3/255)
وفي رواية أخرى إن الوديعة كانت عشرة آلاف، وأن الفارس قال له أن ربي أرسلني إليك أحرس لك هذه الأمانة فنم آمناً، فكنت إذا استيقظت نظرت إليه يجول حوالينا. كان دأبه ذلك ثلاثة ليال حتى مضى من مصر إلى الإسكندرية وقال يحيى بن يحيى: خرج ابن القاسم إلى بعض صحارى مصر فعطش، وكان بعض ملوكها خرج متنزهاً فبينما هو يسير إذ وقفت دوابه فلن تنطلق، فضربت فلم تنهض. فقال لمن معه، هذا الأمر فانظروا، فنظروا. فقالوا: هذا شخص. فقال: سلوه، فسألوه. فقال: عطشت. فسقوه. فانطلقت الدواب.
قال عيسى بن دينار: وكنت بالإسكندرية مع ابن القاسم في الرباط ومعه رجل كان يألفه، فينما نحن في السفينة ليلة سبع وعشرين من رمضان، إذ قال رجل من أهل السفينة أخبرك بشيء عظيم رأيت في نومي ساعتي هذه. فأخبره، فقال لصاحبه: إن كان ما قال حقاً فهي ليلة القدر. وذكر أن علامة ذلك عذوبة ماء البحر، ومالا إلى صدر السفينة، فرأيتهما يشربان ثم استقبلا القبلة، فقمت فأتيت الموضع الذي آتياه فشربت فوجدته عذباً. قال الحارث: كان ابن القاسم لا يقبل جوائز السلطان،(3/256)
وكان يقول: ليس في قرب الولاة ولا في الدنو منهم خير. وكان أولاً يأتيهم، ثم ترك ذلك. قال ابن وضاح، كان ابن القاسم لا يجالسه إلا واحد، أو اثنان. ولم يكن فيه منفعة للناس، ولا لأبويه ولا ابنيه ولا نفسه في شيء من أمور الدنيا إلا بالعلم. وكان أشهب وابن وهب يقعدان في جماعة. وتنقضي عندهما الحوائج، وينفعان الناس. قال سحنون: كثيراً ما كنت اسمعه يقول إياك ورقّ الأحرار. فيسأل فيقول كثرة الإخوان. ولم يكن يشهد جنازة لأحد، ولا يخرج من المسجد. وذكر حديث سليمان بن القاسم لا تحمل لغيرك ما لا تحمله لنفسك على نفسك. قال، وكان سبب موت ابن القاسم أنه اغتسل بماء بارد، بمدين ولم يرد أن يسخن له منها، لأنها كانت غصباً لبعض بني أمية. قال سحنون، قمت يوماً في المسجد الحرام أشرب ماء، فقال ابن القاسم من أين تشرب؟ قلت، أليس في الفيء قدر أشرب به ماء. قال وأي فيء بمكة.
إنما هي صدقات. قال سحنون، أشترى عبد الصمد الأطرابلسي لابن القاسم جارية ثم أخرى، لم يتخذ غيرهما حتى ماتتا، لما ماتت الأولى أرسل إليه يشتري(3/257)
له جارية صقلبية كما تقول. فاشتراها له وبعثها له، وهي أم ابنيه. وسيأتي ذكرهما بعد هذا. وكان عبد الصمد هذا نم العباد، لزم المحرص باطرابلس، قال ابن وضاح وإنما قصد للصقالبة لأنهم لا عهد لهم، قال، وحكى أبو محمد بن أبي زيد ابن القاسم كان يتصدق بنصف قوته، يعمله كعكاً صغيراً فإذا وقف به السائل أعطاه كعكة صغيرة، كما عملت. وأنه باع نصف قوته سنة فاشترى به تمراً يعطي السائل تمرة. قال أبو محمد: كأنه رأى أن هذا أقل للمتكلف وأزكى في القدر لإشفاقه من رد السائل بغير شيء وهذا بقدر النية. وقال ابن وهب حين مات ابن القاسم: كان أخي وصاحبي في هذا المسجد منذ أربعين سنة. ما رحت رواحاً ولا غدوت غدواً قط إلى هذا المسجد إلا وجدته سبقني إليه. وحكى عن أبن القاسم أنه كان يقرأ عليه الموطأ إذ قام قياماً طولاً، ثم جلس. فقيل له في ذلك فقال: نزلت أمي تسأل حاجة، فقامت وقمت لقيامها، فلما صعدت جلست. قال: فسرَّت. قال سحنون: لما حججت كنت أزامل عبد الله بن وهب، وكان معنا أشهب وابن القاسم، فكنت إذا نزلت ذهبت إلى عبد الرحمان أسائله إلى وقت الرحيل، فقال لي ابن وهب وأشهب لو كلمت صاحبك ليلة واحدة يفطر عندنا. فكلمته. فقال إن ذلك يقل علي.(3/258)
فقلت له فيم يعلم القوم مكاني بك. فأجابني. فانتهيت إليهم فأعلمتهم، فلما كان وقت التعريس قام وقمت معه إلى القوم، فوجدت أشهب قد مدّ أنطاعه وأتى من الأطعمة بأمر عظيم، وصنع ابن وهب دونك ذلك. فسلم ابن القاسم وقعد ثم أدار عينيه فإذا بسكرجة فيها دقة، فأخذها بيدها بيده فحرك الأبزاز إلى ناحية ولعق من الملح ثلاث لعقات، وهو يعلم أن اصل ملح مصر طيب. ثم قام وقال بارك الله لكم. قال سحنون: فاستحيت أن أقوم. فتكلم أشهب وعظم الأمر. فقال ابن وهب: دعه. قال أبو الفضل مولى نجم: كان ابن القاسم يأكل في الشهر عشرين مداً من دقيق بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان فقيهاً عابداً. قال غيره: لأنه كان رد قوته إلى ثلث مد من شعير في اليوم. وذكر أن رجلاً من أهل العلم والخير قدم من العراق وأراد الاجتماع به فأتاه رجل في ذلك فوعده وقتاً لذلك، فلما استنجزه قال ابن القاسم: إني نظرت في ذلك فرأيت أنه يدخله المباهاة يتزين لي وأتزين له. دعني من ذلك وكان المصريون يقولون للكوفيين: اذكروا أخلاق سفيان، وتذكروا أخلاق ابن القاسم وأشهب حتى أفسدوا ما بينهما، وحلف أشهب بالمشي إلى مكة أن لا يكلم ابن(3/259)
القاسم، فندم، وأراد أن يمشي، فلما سمع بذلك ابن القاسم قال: هو يحنّث نفسه ويمشي، وأمشي معه. فمشيا جميعاً وحجا وعيسى بن دينار معهما. قال يحيى: سمعت ابن القاسم يدعو على رجلين من أهل الأندلس، ادخلا بينه وبين أشهب. فسمعته يقول اللهم أعنهما بسعيهما ولا تنفعهما بحملهما. فما ماتا حتى عرف ذلك فيهما. وقيل بل كان ابن القاسم وأشهب اختلفا في قول مالك في مسألة. وحلف كل واحد منهما على نفي قول الآخر، فسألا ابن وهب فأخبرهما أن مالكاً قال القولين جميعاً قضاء لليمين التي حنثا فيها.
ذكر وفاته
قال ابن سحنون وغيره: كانت وفاة ابن القاسم بمصر ليلة الجمعة لتسع خلون من صفر سنة إحدى وتسعين ومائة. بعد قدومه من مكة بثلاثة أيام. وقيل ستة. وقد ذكرنا سبب ذلك، ومرض ستة أيام وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة. وقيل توفي سنة اثنتين وتسعين وهو ابن ستين سنة. قال الكندي والشيرازي: مولده سنة اثنتين وثلاثين ومائة وقال أبو الطاهر وابن بكير، وقال أبو عمر بن عبد البر وابن حارث مولده سنة ثمان وعشرين ومائة. وترك ابنين يأتي ذكرهما. وذكر الكندي عمر بن القاسم أخا عبد الرحمان بن القاسم. قال: كان مقبولاً عند القضاة. وكان فاضلاً.(3/260)
قال الأمير أبو نصر: كانت فيه غفلة. ورئي ابن القاسم بعد موته فسئل فأخبر بما لقيه من الخير، فقيل له بماذا قال بركعات ركعتها بالإسكندرية. فقيل بالمسائل. فقال لا وأشار بيده، أي وجدناها هباءً. قال علي ابن معبد: رأيته في النوم فقلت له: كيف وجدت المسائل قال أف أف. قلت له: فما أحسن ما وجدت قال الرباط بالإسكندرية. قال عبد الله بن عبد الحكم: بينا أنا أفكر في وحشة القبر إلى أن قيل لي أما في ابن القاسم أسوة. قال عبد بن الحكم: كنت أرى في النوم كأني أموت فاجزع من الموت فيشتد شدة شديدة ويقال لي: أنا ترضى أن تكون رفيقاً مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. ومع عبد الرحمان ابن القاسم.(3/261)
أبو عمرو أشهب
هو أشهب بن عبد العزيز بن داود بن إبراهيم القيسي المعافري الجعدي. من ولد جعدة بن كلاب بن ربيعة ابن عامر. اسمه مسكين. وأشهب لقب. وكنيته أبو عمرو زوى عن مالك والليث والفضيل بن عياض، وسليمان بن بلال وابن لهيعة، ويحيى بن أيوب وبكر بن مضر والدراوردي، والمنذر ابن عبد الله الحزامي. وروى عنه الحارث ابن مسكين ويونس الصدفي وبنو عبد الحكم، وأبو الطاهر وسعيد بن حسان وسحنون بن سعيد، فيما لا ينعد كثرة، وجماعة. قال الشيرازي: تفقه بمالك والمدنيين والمصريين. قال أبو عمر المقريء: وقرأ على نافع. قال الشافعي: ما رأيت أفقه من أشهب لولا طيش فيه. وكانت المنافسة بينه وبين ابن القاسم.(3/262)
فقال لي: أنا مشغول بنفسي، وجعلت الأخرة أمامي، ولكن، عليك بابن وهب فأتيته. فقال إنما أنا صاحب آثار، ولكن ايت أشهب. قال أبو عمر الحافظ كان أشهب فقيهاً نبياً. حسن النظر من المالكيين المحققين. وكان كاتب خراج مصر، وكان ثقة فيما روى عن مالك. وصنف كتاباً في الفقه رواه عنه سعيد بن حسان وغيره، قال أبو عمر الكندي في كتاب قضاة مصر: كان أشهب على مسائل القاضي العمري بمصر، قال محمد بن الحكم: أشهب. أفقه من ابن القاسم مائة مرّة. قال ابن لبابة: ليس هذا عندنا، كما قال. وإنما قاله لأن أشهب شيخه ومعلمه. قال ابن لبابة: ليس هذا من عندنا، كما قال. وإنما قاله لأن أشهب شيخه ومعلمه. أبو عمر: كلاهما معلمه وشيخه وهو أعلم بها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: لم يسمع محمد بن عبد الحكم من ابن القاسم. وستأتي الحجة على هذا، ولا أدري من أين أتى على أبي عمر في هذا مع تقدمه في هذا الباب. وسئل سحنون عنهما أيهما أفقه، فقال: كانا كفرسي رهان، ربما وفق هذا وخذل هذا ووفق هذا، وقال سحنون: حدثني المتحري في سماعه. وقال رحم الله أشهب، ما كان أصدقه وأخونه لله تعالى، ما كان يزيد حرفاً واحداً،(3/263)
ولقد قال له ابن عبد الحكم يوماً لو أمسكت قليلاً. قال لقد علمت الذي تقول. ولو فعلت ذلك لكنت أن أجّلّ في عيون الناس، ولقطعت بعض كلا مهم، ولكن والله لا أعمل شيئاً أبداً إلا أريد به الله. وكان سحنون يعطي لأشهب الورع في سماعه، ولم يسمعه منه، إنما سمعه من ابن نافع. قال ابن الوضاح: وسماع أشهب أقرب، أشبه من سماع ابن القاسم. وعدد كتب سماعه عشرون كتاباً. قال ابن وضاح: ولما سمعناه أنا وابن حميد من محمد بن عبد الحكم قال لنا: ابن السكري - وكان يجالس محمد بن عبد الحكم ويسمع قراءتنا - أحبّ أن تعيداه لي. فقلنا له: وقد سمعته؟ قال لم ألو سماعه عن السكري. قال عليه الصلاة والسلام: إنما الأعمال بالنيات. وسمعته جيّد المسائل حسناً جداً. ولو أردت أن أخرج على كل مسألة منه حديثاً لفعلته. قال سحنون: ما كان أحد يناظر أشهب، إلا اضطره بالحجة حتى يرجع إلى قوله. ولقد كان يأتينا في حلقة ابن القاسم فيتكلم في أصول العلم، ويفسّر ويحتج، وابن القاسم ساكت ما يرد عليه حرفاً. وكان أشهب مهيباً. وكان أزرق العينين فإذا كلمه إنسان في مسألة يرفع عينيه إليه إذا، تعذرت(3/264)
المسألة. وكان يلبس قلنسوة سوداء. وكان آمرهم بمعروف أنهاهم عن منكر. قال: ثم سمعه من محمد بن عبد الحكم واعتقده. وكان الشافعي وأشهب يتصاحبان بمصر ويتذاكران الفقه. وكان ما بينهما متقارباً. وذكره أبو عمر مع عبد الله بن عبد الحكم فيمن أخذ الشافعي من كبار أصحاب الشافعي، وإنما كانا - يريد الشافعي وأشهب - متناظرين. وألف أشهب كتبه المدونة رواها عنه سعيد بن حسان وغيره، وهو كتاب جليل كبير كثير العلم. قال ابن الحارث: لما كملت الأسدية أخذها أشهب، وأقامها لنفسها، واحتج لبعضها. فجاء كتاباً شريفاً. فبلغني أنه لما وجد كتاباً تاماً فبنى عليه. فأرسل إليه أشهب: أنت إنما غرفت من عين واحدة، وأنا من عيون كثيرة. فأجابه ابن القاسم: عيونك كدرة وعيني أنا صافية. وله كتاب اختلاف في القسامة. وله كتاب في فضائل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.(3/265)
ذكر شيء من فضائله - وجوده وأخباره
قال سحنون: كتب أشهب إلى رجل كان يقع فيه: أما بعد، فإنه لم يمنعني أن أكتب إليك أن تتزايد مما أنت فيه إلا كراهية أن أعينك على معصية الله، واعلم إني أرتع في حسناتك كما ترعى الشاة الخضر. السلام. وجلس أشهب يوماً بمكة إلى ابن القاسم فسأله رجل عن مسألة، فتكلم فيها عبد الرحمان فصعّر له أشهب وجهه، وقال ليس هو كذلك. ثم أخذ يفسرها ويحتج فيها. فقال ابن القاسم: الشيخ يقوله، عفاك الله. يعني مالكاً. فقال أشهب: لو قاله ستين مرة. فلم يرادّه بن القاسم. قال أشهب: أتيت الفضيل أستشيره في إتيان الوالي وكيف أتيته فليس أحد يأتيه أقوم بأمره ونهيه مني، وربما قيل وانتفع بذلك المسلمون، فقال لي أنت رجل تسألني عن خاصة نفسك لأنك لا تأتيهم ولا تودهم ولا تود من يودهم. ولا تود من يودّ من يودّهم. قال ابن وضاح: كان أشهب يقول: إنما الورع في المشتبهات وأما الكبائر فكل أحد يتقيها. قال أشهب أمرني أبي أن أتخذ سقاية بموضع سمّاه فبنيتها مرات ويهدمها جيران حسدوني فيها. فأدركني يوماً غمّ ذلك، فقعدت عندها باكياً مفكراً، فسمعت صوتاً من الصحراء يقول: ونريد أن نمنَّ على(3/266)
الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة الآية، فحرّكت دوابي نحو الصوت فلم أر أحداً.
فعدت إلى موضعي فسمعت الصوت فقمت فلم أر أحداً. فعدت للقعود فعاد الصوت ثالثة، فعلمت أني المراد فحمدت الله. وقامت لي نية في طلب العلم وبنيتها ووكّلت من يحرسها، بأجرة. فلم يعد أحد إلى خرابها. وقد حكيت مثل هذه الحكاية لليث بن سعد حين بنى داره والله أعلم. وقال ما مرت بي إلا أعوام يسيرة حتى أحتاج أولئك وغيرهم من أهل بلدي إليّ. قال ابن أبي مريم: شيعنا أشهب إلى الرباط ما يملك نصف درهم، فما مات حتى كان ينفق كل يوم على مائدته عشرة مثاقيل. وكان فتح عليه في الدنيا. وقال سحنون: كانت بمصر مجاعة فحضرته يتصدق بالدنانير من الغدوة إلى الليل. ويتصدق بما كان معه من طعام. وذكر عنه سحنون، أنه رآه يتصدق في يوم واحد بألف دينار. وذكر ابن الجزار في كتاب التعريف: أن ابن القاسم ترك كلام أشهب لأنه تقبل خراج مصر. فسأل رجل ابن القاسم عن فيالة أرض مصر، فقال له: لا تجوز. فقال له: فأشهب يتقبلها. فقال له ابن القاسم: افعل أنت ما يفعل أشهب. وتقبل الجامع.(3/267)
وذكر أن رجلاً سأل أشهب عن الحرث في أرض مصر. فقال لا تجوز. فقال له أنت تحرث فيها. فقال له: فأحمل لنفسي ولك أيضاً. وسأل عنها ابن وهب فنهاه. فقال له: فأشهب يفعله. فقال أعطنا آخر كأشهب. يكفل ايتامنا، ويرق لضعفائنا، ونبيح لك أن تحدث في مسجدنا. قال سحنون: كان يتصدق بأضعاف كرائها. قال سحنون: حضرنا أشهب يوم عرفة بجامع مصر، وكان من حالهم إقامتهم بمسجدهم إلى غروب الشمس، يعني للذكر والدعاء كما يفعل أهل عرفة بها، وكان يصلي جالساً يعني النافلة. وفي جانبه صرة يعطي منها السوّال، فنظرت فإذا بيد سائل دينار، مما أعطاه، فذكرته له، فقال لي وما كنا نعطي من أول النهار، وذكر يونس قال: زعم أشهب أنه سمع سليمان السائح في مساجد الصحراء يقول: يا رب عبدك سليمان جائع، لم يأكل منذ ثلاث ليال. فلما فرغ سمعته يمضغ فكرهت أن أدخل عليه فأحشمه، وكان للمسجد بابان فخرج من القبلي ودخلنا من آخر. فإذا بأنواء تمر وتمرة منتبذة فأكلتها، فأقمت معصوباً عشرة أيام لا آكل ولا أشرب. قال سحنون: اجتاز أشهب بابن القاسم يوماً وعلى أشهب ثياب(3/268)
تتقعقع، وتحته بغلة هملاج، فقال ابن القاسم: وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون. ثم سكت ساعة وقال بلى: يا رب نصبر ونصبر. وقد نمت هذه الحكاية وهذا الكلام للمزني، وقد مرّ به بنو عبد الحكم في موكبهم بمصر أيضاً والله أعلم. وذكر أن رجلاً من أهل العراق لقي أشهب فقال له العراقي: أنتم تحلون إتيان النساء في أدبارهن، فقال أشهب: أنتم تحرمونه ولكن تعال أحلف لي ما فعلته، واحلف لي أنت بمثله، فلم يفعل العراقي.
وذكر أن أشهب بينما هو في أصحابه إذ سمع إنساناً ينذر بلص، فقام وأخذ سلاحه وخرج يتبعه، فقيل له في ذلك أن مثلك لا يليق به هذا؟ فقال: ما كنت لأتخلَّق بغير ما حبلني الله عليه.
ذكر مولده ووفاته
قال ابن عبد البر وأبو عمر المقريء: ولد أشهب سنة أربعين ومائة. وحكاه ابن حزم الصدفي عن أبي الطاهر، وحكى الشيرازي أنه ولد سنة خمسين ومائة، وتوفي بمصر سنة أربع ومائتين في رجب، وقيل لثالث وعشرين ليلة خلت من شعبان. قال الشيرازي: بعد الشافعي بشهر. وقال ابن عبد البر: ثمانية عشر(3/269)
يوماً. وقيل بثلاثة وعشرين يوماً. وهذا هو المشهور من تاريخ وفاته. قال أبو علي البصري في كتاب المعرب: وقيل توفي سنة ثلاث ومائتين. قال محمد بن عبد الحكم: سمعت أشهب يدعو على الشافعي بالموت. فذكرت ذلك له فأنشد متمثلاً:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد
فمات الشافعي واشترى أشهب من تركته غلاماً طباخاً، فمات بعده بثمانية عشر يوماً واشتريت أنا الغلام من تركة أشهب ونهيت عن شرائه. وقيل لي دعه فقد دفن العالمين في بضعة عشر يوماً فاشتريته وتركت التطيّر. وحكى الربيع بن سلمان، قال: سمعنا أشهب يقول في سجوده: اللهم أمت الشافعي وإلا ذهب علم مالك. فبلغ ذلك الشافعي، فأنشأ يقول، البيتين. قال محمد بن حفص المعافزي: مرض أشهب فرأيته في المنام أن قائلاً يقول لي يا محمد فأجبته، فقال:
ذهب الذين يقال عند فراقهم ... ليت البلاد بأهلها تتصدع
فقلت لامرأتي ما أخوفني أن يموت أشهب. فخرجت فإذا هو قد مات. وقال آخر نمت في القائلة فرأيت هاتفاً يقول:
ليبك على الإسلام من كان باكياً ... فقد أوشكوا هلكاً وما قدم العهد
وأدبرت الدنيا وأدبر خيرها ... وقد ملّها من كان يقلقه الوعد(3/270)
فخرجت إلى المسجد، فنعي إلي أشهب رحمه الله تعالى. قال يونس: دخلت على أشهب في مرضه الذي مات فيه فقال لي: يا يونس. قلت لبيك. قال: انظر ما ها هنا وأشار إلى كتبه، فإذا جمعت من الحجج على هذا البدن الضعيف ما أستريح. أن آخذ المصحف فأضعه على صدري. قال وكانت كتبه في زنبيل بجلد كبير.(3/271)
سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم
أبو عثمان الأنصاري المصري، سمع من مالك الموطأ وغير شيء، وصحبه. وغلب عليه علم الحديث، وعلم الخبر، وكان علامة بأخبار الناس، وله تاريخ. وسمع الليث بن سعد وابن لهيعة ويعقوب بن إبراهيم وابن وهب. وكان آخر مشائخ مصر في وقته. قال يحيى بن معين: هو ثقة. وقال أبو حاتم: هو صدوق، وليس بالثبت. كان يقرأ في كتب الناس. روى عنه البخاري ومسلم ومحمد بن إسحاق الصاغاني، وخرج عنه البخاري ومسلم. ولما ورد المأمون مصر وحضر عنده أهلها، كان فيهم سعيد بن عفير، فقال المأمون: هذه مصر التي قال الله فيها ما قال. وأقبل يحقرها فقال له ابن عفير: يا أمير المؤمنين، هذه مصر وقد دمرها الله فما ظنك بها قبل التدمير؟ قال الله تعالى: ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه. فقال المأمون: من المتكلم؟ فقيل: سعيد بن عفير صاحب مالك.(3/272)
فقال يا سعيد ما تقول فيمن قال: عليّ المشي إلى مكة؟ قال: عليه المشي. فقال له المأمون: لقد تيس مالك في هذه المسألة. فقال سعيد: أتيس من التيس، من سمع التيس. يريد أن أباه الرشيد، لما حلف بذلك أفتاه مالك بالمشي، فمشى. فوجم لها المأمون. فهم كذلك. إذ تشكى بعاملين فقال: يا سعيد ما تقول فيهما؟ فكيف تشهد عليهما؟ قال: كما شهدت أنك أمير المؤمنين قبل أن أراك. قال ابن عفير: سمعت في المنام قائلاً يقول أن الله لا يعبأ بصاحب رواية ولا حكاية، وإنما يعبأ بصاحب قلب ودراية. مولده سنة سبع وأربعين ومائة. ومات سنة ست وعشرين ومائتين، وبقي العلم في بيته زماناً طويلاً وكان لابن عفير ابنان عبد الله وأبو الحارث أسد.(3/273)
روى أبو الحارث عن أبيه، وابن وهب الشافعي، وتوفي في صفر ستين ومائتين وإبراهيم بن عبد الله ابن ابنه أبو إسحاق يعرف بالصيّوفي حدث أيضاً. توفي سنة خمس وتسعين ومائتين. والحسين بن زيد بن أسد بن سعيد، أبو عبد الله، ويقال أبو علي. توفي في شوال سنة ثمان وعشرين وثلاث مائة.
أبو عمر إدريس بن يحيى
مولى بني أمية يعرف بالخولاني. من أصحاب مالك توفي في أول سنة إحدى عشرة ومائتين وغلبت عليه العبادة.(3/274)
المفضل بن فضالة
هو المفضل بن فضالة بن عبيد، أبو معاوية الحميدي القتباني، وقتبان بقاف مكسورة وتاء باثنين من فوق وباء واحدة في أسفل، قبيلة من رعين، إليها ينسب المفضل. يروي عن ابن عجلان ويونس بن يزيد وعقيل بن خالد. قال أبو عبد الله الجيزي في كتابه في قضاة مصر: كان المفضل أحد أهل الفضل وخيار الناس. قال ابن شاهين: هو رجل صدق روى عنه ابنه فضالة، وقتيبة بن سعيد وحسان الواسطي وابن بكير، وحجاج ويونس بن محمد وأخرج عنه البخاري ومسلم في صحيحيهما. وقال أبو حاتم: هو صدوق.
وقال يحيى بن معين ليس بذلك. قال أبو زرعة يكتب حديثه. وله أخ اسمه عبد الله بن فضالة. قال ابن يونس لا أعلم له رواية. قال محمد بن سعد: ولي القضاء وكان محموداً منكر الحديث.(3/275)
سيرته وأخباره
ولي المفضل قضاء مصر مرتين: إحداهما في سنة وثمان وستين ومائة، وصرف سنة تسع ثم رجع إلى القضاء عند عزل أبي الطاهر الحزمي، وكان عزله سنة أربع وسبعين، وبقي المفضل قاضياً إلى صدر سنة تسع وسبعين. قال الجيزي: وهو أول القضاة بمصر، طول الليث. وكان إذا أشكل عليه القضاء في شيء كتب به إلى مالك حتى يأتيه جوابه، فيعمل به. قال غيره: كان يفتي بقول مالك. قال ابن شاهين كان إذا جاءه رجل قد انكسرت يده أو رجله، جبرها. وكان يصنع الأرحية. ذكر أبو الحسن ابن ضمضم قال، بلغني أن المفضل بن فضالة بلغه هذا الدعاء، فقال يا ذا الجلال والإكرام بحرمة نور وجهك الكريم أسألك صحة بصري وطول عمري في حسن عمل ورزقاً واسعاً لا منَّة لأحد عليَّ فيه. فأعطي الثلاث. وذكر الجيزي عنه قال: كتبت إلى مالك في حبس ابن أبي مدرك، ونسخته حرفاً بحرف وأعلمته أن الذين طلبوه وأحازوه ولد البنين، واحتجوا بأن جبير بن نعيم القاضي كتب لهم إجازة للأخير فالآخر منهم. وأن القضاة إجازته ولن يقتضوا فيه للنساء البنين ولا غيرهم بميراث، واحتج غيرهم بأن المحبس لم يذكر في حبسه كونه الآخر، ولمن يصرفه بعد انقراض البنين إلى شيء من وجوه الأحباس في سبيل الله،(3/276)
فكتب إليّ: نظرت في حبس ابن أبي مدرك وفيما احتج به من أراد رده ميراثاً، فوجدت في كتاب ابن أبي مدرك الذي جاء به بنوه، وأقروا به وأنفذوه: إن كل دار هي له حبس على بنيه، وثلت فضل خراجها بعد سكن بنيه في سبيل الله. وذكر في الطاحونة مثل ذلك. وذكر ابن الجراح صاحب كتاب الورقة: أن اسحاق بن معاذ الشاعر كان يخاصم عند الفاضل بمصر، فأتاه يوماً وكان قد هجاه ببيتين وهما:
خف الله واسمع واتئد أي مفضل ... فإنك عن فضل القضاء ستسأل
وقد قال أقوام عجيب لقولهم ... أقاض له شعر طويل مرجل
وكان كتبها وجعلها في كمه مع ظلامته، وحضر عنده فأدخل يده ليخرج للقاضي رقعة الظلامة فأخرج له رقعة الهجاء، فلما قرأها ردها إليه وقال: اللهم غفراً، ليست هذه يرحمك الله. توفي المفضل سنة إحدى وثمانين ومائة.(3/277)
فتيان بن أبي السمح
وضبطه بفاء مكسورة بهدها تاء باثنين من فوقه ساكنه، وياء باثنتين من أسفل، مفتوحة وألف ونون، مولى تجيب تقدم نسبه. قال أبو الحسن الدارقطني وغيره: هو أبو الخيار مصري، يروي عن مالك. وكان من كبراء أصحابه المتعصبين لمذهبه، وقال أبو حارث في كنيته: أبو السمح. قال أبو عمر الكندي: في كتاب أعيان موالي مصر: ومنهم أبو الخيار فتيان بن أبي السمح، واسمه عبد الله بن السمح بن أسامة بن زكي. مولى بني عامر ابن عدي من تجيب. وكان فقيهاً من أصحاب مالك. وكنى ابن وضاح أبا السمحاء. وفد تقدم ذكر أبيه في الطبقة الأولى، كان أيضاً من أصحاب مالك. قال ابن وهب: كان يشتري لمالك حوائجه وكان له منه عشر مسائل فيجيبه، فقدم على مالك فسأله عن مسائله فأجابه. ثم زاد فأجابه ثم قال مالك: لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض.. الآية. قال غيره: كان فتيان يخدم ابن القاسم. قال أبو عمر: كان فيما حكي أنه شغب في المناظرة وكانت بينه(3/278)
وبين الشافعي مناظرة. في بيع الحر في الدين. فكان الشافعي يقول يباع وفتيان يقول: لا يباع. فقال فتيان له أن ثبتّ على هذا فهل بك كيت وكيت. وذكر عن محمد بن عبد الحكم أن فتيان كلم الشافعي في مناظرة وكانت في عجلة. فخاطب الشافعي لخطاب أغلظ فيه. ثم افترقا وبعث السري بن الحكم أمير مصر إلى الشافعي يستخبره عما بلغه من الأمر، فيقال أن الشافعي أخبره فضرب السري فتياناً بالسّوط. قال محمد فرأيته والمنادي ينادي عليه: هذا جزاء من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتيان يقول عائذاً بالله من ذلك. وقال ابن وزير حضرتهما جميعاً فتناظرا فيما لا يعجبني إعادته. ثم جرى بينهما الكلام إلى أن ذكر الأئمة. فقال فتيان: حدثني مالك أن الإمام لا يكون إماماً أبداً إلا على شرط أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فإنه قال: وليتكم ولست بخيركم. ألا وإن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه. ألا وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق. إنما أنا متبع ولست بمبتدع فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني. فاحتج الشافعي بأشياء لا أذكرها أبداً. فبلغ ذلك السري، فضرب فتياناً فوثب أهل المسجد بالشافعي، فدخل منزله فلم يخرج منه إلى أن مات. وقال الطحاوي: وكان أبو زيد ممن حضر مناظرتهما وكانت بينه وبين فتيان منازعة في صدقة البقر. فكان فتيان يقول هي كصدقة الإبل.(3/279)
ويحتج في ذلك بأشياء حتى تواثبا. فكان أبو زيد ممن دخل إلى السري مع الشافعي، فيقال أنه شهد عليه وسمع فتيان يقول: الله بيني وبين الشافعي، أولاً. أحلل الشافعي. قال الدارقطني: أتهم الشافعي في أمر فتيان، فسئل عن ذلك فقال: والله ما ذكرته قط للسلطان. ولقد سمعت منه ما لو شهدت به عليه لحل دمع. قال غيره: ولعصبيته لمالك وإفراطه فيها، نشأت العداوة بين المالكيين والشافعيين. بمصر، فثاروا بالشافعي وأرادوا نفيه فضرب الأمير أجلاً فمات فيه. قال الكندي: وتوفي سنة خمس ومائتين، وولد سنة خمسين ومائة. قال ابن حارث ولد سنة خمس وعشرين ومائة: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائتين.(3/280)
اسحاق بن الفرات بن الجعد بن سليم
أبو نعيم مولى معاوية بن حديج الكندي، قاضي مصر. قال ابن وضاح: كان من أكابر أصحاب مالك، ولقى أبا يوسف وأخذ عنه. قال الكندي: كان فقيهاً. قال الشافعي: ما رأيت بمصر أعلم باختلاف الناس من اسحاق ابن الفرات. وقال إبراهيم بن علية: ما رأيت ببلدكم أحداً يحسن العلم إلا اسحاق بن الفرات. ولي القضاء بمصر سنة أربع وثمانين ومائة فكان شديداً رفيقاً. قال الشافعي: أشرت على بعض الولاة أن يولي اسحاق بن الفرات القضاء. وقلت له: إنه يتخيّر وهو عالم باختلاف من مضى. قال أحمد بن سعيد الهمداني. قرأ علينا اسحاق بن الفرات موطأ مالك من حفظه، فما أسقط حرفاً فيما أعلم. وصرف عنها صدر سنة خمس وثمانين، وهو أول من ولي مصر من الموالي. ذكر ذلك كله أبو عمر الكندي،(3/281)
قال الكندي: وقال ابن أبي حاتم: اسحاق بن الفرات قاضي مصر يروي عن يحيى بن أيوب ومعاذ بن محمد الأنصاري. روى عنه محمد بن عبد الحكم ويحيى بن نصر وعيسى بن أحمد العسقلاني. قال أبو حاتم ليس بمشهور. قال العقيلي: لا بأس به. وقال الكوفي: هو ثقة. قال الكندي: وتوفي سنة خمس ويقال أربع ومائتين وولد سنة خمس وثلاثين ومائة.(3/282)
سليمان بن برد بن نجيح التجيبي مولاهم
أبو الربيع. روى عن مالك الموطأ والفقه وغير ذلك. قال بن حبيب: كان سليمان بن برد من فقهاء مصر، وعده من طبقاته. قال محمد بن عبد الحكم: الموطأ الذي سمع ابن برد أصح موطأ. وذكره أبو عمر الكندي في كتاب القضاة، وكتاب الموالي، فقال: كان مقبولاً عند قضاة مصر. فقال: ولم ير في عصر ابن برد أعلم منه بالقضاء وآلته. وكان القائم بأمر عيسى ابن المنكدر أيام قضائه بمصر، لم يضطرب أمر ابن المنكدر حتى مات ابن برد، وولي عبد الله بن عبد الحكم مسائل ابن المكندر، وقال مقداد بن داود: ما رأيت أحداً أعلم بالقضاء ورتبته من سليمان، وتوفي سنة عشر ومائتين. وقيل اثنتي عشرة ومائتين وأورث العلم عقبه بمصر. فلم يزل منهم مقدم للمالكية في كل طبقة على ما يأتي ذكره. وذكر ابن أبي دليم وغيره من رواة مالك بن سليمان بن برد في الإسكندرانيين. وذكر أبا الربيع بن سليمان بن برد في المصريين ولم يذكر غيره وهو وهم والله أعلم.(3/283)
يوسف بن عمرو بن يزيد بن يوسف بن خرخسن الفارسي
كذا قيده أبو نصر الحافظ بخاءين معجمتين بينهما راء ساكنة وبعدها سين مهملة ونون ساكنين وقال ابن أبي دليم: خرخسرو، وجعل مكان النون راء مضمومة بعدها واو. كذلك قاله الكندي. وكنيته أبو يزيد، سمع من مالك وسمع ابن وهب وغيره من أصحابه. وكان من فضلاء أصحاب مالك ذا زهد وفضل. قال غيره وسنّه قريب من سنّ هؤلاء، وفي طبقتهم. ذكره ابن حبيب، روى عنه ابن عبد الحكم قال سعيد الأدم: هو ثقة صالح. قال الكندي: كان فقيهاً مفتياً أحد أوصياء الشافعي، وكان مصاباً بعينه، وكانت لحيته قد ملأت صدره. قال الحارث ابن مسكين: كان يوسف لا يقبل جوائز السلطان، وكان عليه دين، ولقد مات فما بلغ ما ترك وفاء دينه، قال يوسف: صحبت مالكاً ونحن شباب نتعاطى النحو، فما أنكرنا لسانه. قال الحارث: كان أشهب أو يوسف بن عمرو، أكثر ظني أنه يوسف، شك الرواي عنه. قد جعل على نفسه إن أتى أحداً من الولاة صدقة خمسين ديناراً وكأنه يأتيهم. ثم ترك ذلك.(3/284)
وسئل محمد بن عبد الحكم عن القراءة بالألحان فقال: مالك يكرهه. ولكن كان أبي ويوسف بن عمر، وغيرهما في بينت الشافعي، فقال له بعضهم: اقرأ الراهب. أو نحو هذا. فاستبشع أبي تلك الكلمة. وقال يوسف: تعالى فاقرأ: يوم يجمع الله الرّسل. حكاية الرهبان. قال محمد: أحضر لهيعة القاضي أصحابنا للمشاورة فيهم أبي ويوسف بن عمر، فقال يوسف لا تحضرنا، إن كان فلان يحضر بمجلسك فليس هو من يرضى. قال أبو الربيع الرشيدي: كان يوسف بن عمر يقول ليحيى بن بكير اذهب بنا إلى رشدين ابن سعد، لعل قلوبنا ترقّ، فيأتونه وبيته بيت رجل صالح. قال أبو الربيع: وسمعت يوسف بن عمر يقول والله الذي لا إله إلا هو لا تصلح الدنيا لشيء مما خلق الله إلا للزهد فيها. قال محمد بن عبد الحكم: كان أبي والشافعي وابن بكير وجماعة من أصحابنا في منزل يوسف بن عمر، وفي صنع، غرس لهم. وكان ثم لهو ودف فما أنكره واحد منهم. قال يونس: مرض يوسف مرضاً شديداً ثم نقه، فاشتهى رطباً فأتاه به بعض أهله في السوق فأكله وغلبت عليه شهوته، وكأنه قبله لا يأكل شيئاً، حتى يبحث عن أصله، فلما فرغ من أكله نام فاستيقظ فازعاً وسأل الذي اشتراه له من أين هو؟(3/285)
فقال: لا أدري. إلا أني اشتريته من السوق فوجه ليبحث عنه. فقيل له من رطب حلوان. قال يوسف رأيت في منامي كأني أقيء خنافس وكان والله أعلم في أرض حلوان شيء. وتوفي في صفر سنة خمسين ومائتين مولده سنة خمس ومائة وسيأتي ذكر ابنه بعد هذا إن شاء الله تعالى.(3/286)
سعيد بن هشام بن صالح المخزومي
بصري نزل الفيوم. قال الحارث بن مسكين: كان من أصحاب مالك. وكان قد تقدم. قال ابن شعبان أسند عن مالك حديث: لا تسبوا الدهر. روى عنه الحارث بن مسكين، وقال الحارث: قدم مصر قاض عمري كأنه شعلة نار. وكان يجلس للناس من صلاة الغداة إلى الليل. وكان حسن الطريقة مستقيم الأمر، وكان ابن وهب وأشهب وجميع أهل العلم يحضرون مجلسه. فقال: أعينوني ودلوني على قوم من أهل البلد استعين بهم، فمن يرضى؟ قال سعيد: فكتب إليَّ أن أخلفه بالفيوم، وأعينه. وكتب إلي أصحابي يسألونني ذلك ويخبرونني بصحة واستقامة أمره، فأشكل علي الأمر ولم أدر ما اصنع. فسمعت قائلاً لا أراه ويقول: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النّار.. الآية. فقلت لقد بيّن الله لي ووعظت، وعزمت على أن لا أدخل في شيء، وكتبت إلى أصحابنا أن كفيتموني وإلا انتقلت فكتب إلى بعضهم يعتذر.(3/287)
سعيد بن الجهم بن قاسم
مولى الحارث بن داخر الأصبحي. ثم السحلولي أبو عثمان الجيزي. مسكنه الجيزة. ذكره أبو عمر الكندي: وكان فقيهاً من أصحاب مالك، وهو أحد أصفياء الشافعي، وقبل شهادته قضاة مصر. قال الأمير: هو مقبول القول لا نعلمه أسند إلاّ حديثاً واحداً. ويروي عن ابن عفير، والربيع بن سليمان، روى عنه أبو الربيع الرشديني في كتاب عبد مصر المصريين والحارث بن مسكين. قال الكندي: لما اشتهر سعيد بن الجهم عند العمري، تصدق العمري واعتق فرجا بشهادته. وذكر أبو الربيع الرشديني في كتاب عباد مصر، المصريين. قال: كان يرجى بعد يوسف ابن عمرو، وكان من أصحاب مالك. وقد رايته وجالسته. قال سعيد ابن الجهم: جمع أبو شريح عبد الله بن شريح، وعمر بن الحارث الصلاة في المسجد، يعني بمصر، فقال أبو شريح لعمرو بن الحارث: ما تقول في رجل ورث مالاً حلالاً فأراد أن يخرج من جميعه إلى الله زهداً في الدنيا، ورغبة فيما عنده؟ قال: لا يفعل. فقال أبو شريح سبحان الله، لا يفعل، لا يزهد في الدنيا.(3/288)
فقال عمرو بن الحارث: ما أدب الله به نبيه أفضل من ذلك. قال الله تعالى، لنبيه صلى الله عليه وسلم. ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك.. الآية. ولكن تقدم بعضاً وتمسك بعضاً. فقال أبو شريح ما أفقهك يا أبا أمية، أزهد في الدنيا، يا أبا أمية، فقال عمر وادعو الله لي يا أبا شريح. توفي سنة تسع ومائتين.
أبو مسعود الماضي بن محمد بن مسعود
الغافقي: ويقال أبو يعقوب، ويقال أبو عبد الملك، وذكروه في الرواة عنه. وعده من القائلين بقوله من علماء مصر، وتوفي سنة اثنتين وثمانين ومائة.(3/289)
أبو الحسن علي بن زياد الإسكندراني
من رواة مالك المشهورين، من أهل الخير والزهد. يعرف بالمحتسب. ولم يشتهر في الفقهاء من أصحابه، ولكن له رواية عن مالك في الحديث والمسائل. وهو روى عن مالك إنكار مسألة وطء النساء في أدبارهن. قال بعض رواة مالك: حضرت علي بن زياد يسأل مالكاً، فقال عندنا يا أبا عبد الله قوم بمصر يحدثون عنك أنك تجيز وطء النساء في أدبارهن، فقال مالك: كذبوا عليّ عافاك الله. وقد ذكرنا في باب علي بن زياد التونسي في الطبقة قبل هذا. وذكرنا أخباره وفضائله.(3/290)
ومن أهل أفريقية أسد بن الفرات بن سنان
مولى بني سليم بن قيس. كنيته أبو عبد الله. قال أبو العرب في طبقاته: وأبو علي البصري في معربه، أنه من خراسان من نيسابور. قال بعضهم ولد بحرّان من ديار بكر. وقيل بل قدم أبوه وأمه حامل، وقد كان علم القرآن ببعض القرى، ثم اختلف إلى علي بن زياد بتونس، فلزمه وتعلم منه وتفقه بفقهه، ثم رحل إلى المشرق، فجمع من مالك ابن انس موطأه، وغيره. ثم ذهب إلى العراق فلقي أبا يوسف ومحمد بن الحسن وأسد بن عمرو، وكتب عن يحيى ابن أبي زائدة وهشيم، والحسيب وأبي شريك، وأبي بكر بن عياش وغيرهم. وأخذ عنه أبو يوسف موطأ مالك. وذكر يحيى بن اسحاق أنه قال: أخذه عني محمد بن الحسن، ولا أدري كيف هذا، محمد قد سمع الموطأ من مالك، وسمع عليه حديثاً كثيراً.(3/291)
قال محمد: أقمت عند مالك ثلاث سنين، ولا سمعت منه لفظاً أكثر من سبعمائة حديث. قال أسد: رأت أمي كأنَّ حشيشاً نبيت على ظهري، ترعاه البهائم فعبر لها بأنه علم يحمل عني والله تعالى أعلم.
ذكر أخباره في رحلته
قال أسد: لما خرجت من المشرق وأتيت المدينة فقدمت مالكاً وكان إذا أصبح خرج آذنه، فأدخل أهل المدينة، ثم أهل مصر، ثم عامة الناس فكنت أدخل معهم. فرأى مالك رغبتي في العلم، فقال لآذنه: ادخل القروي مع المصريين. فلما كان بعد يومين أو ثلاثة قلت له: إن لي صاحبين وقد استوحشت أن أدخل قبلهما فأمر بإدخالهما معي. وكان ابن القاسم وغيره يحملني أن اسأل مالكاً، فإذا أجابني قالوا لي قل له فإن كان كذا وكذا، فضاق علي يوماً وقال هذه سلسلة بنت سلسلة. إن كان كذا كان كذا. إن أردت فعليك بالعراق. فلما ودعته حين خروجي إلى العراق، دخلت عليه وصاحبان لي، وهما حارث التميمي وغالب صهر أسد. فقلنا له: أوصنا. فقال لي أوصيك بتقوى الله العظيم والقرآن ومناصحة هذه الأمة خيراً. فراسة من مالك فيه. فولي أسد بعدها القضاء. وقال لصاحبي أوصيكما بتقوى الله والقرآن(3/292)
ونشر هذا العلم. قال سليمان بن خالد: لما سمع أسد الموطأ عن مالك قال له: زدني سماعاً. قال حسبك ما للناس. وكان مالك إذا تكلم بمسألة كتبها أصحابه فرأى أسد أمراً يطول فرحل إلى العراق، وقال: فلما أتيت الكوفة، أتيت أبا يوسف، فوجدته جالساً ومعه شاب وهو يملي عليه مسألة. فلما فرغ منها قال ليت شعري ما يقول فيها مالك؟ قلت كذا وكذا. فنظر إليّ، فلما كان في اليوم الثاني كان مثل ذلك، وفي الثالث مثله، فلما افترق الناس دعاني، وقال، من أين أنت ومن أين أقبلت؟ قال فأخبرته. قال وما تطلب؟ قلت ما ينفعني الله به، فعطف عليّ الشاب الجالس، فقال ضمه إليك، لعل الله ينفعك في الدنيا والآخرة فخرجت معه إلى داره، فإذا هو محمد بن الحسن. فلزمته حتى كنت من المناظرين من أصحابه. قال أسد: قلت لمحمد من الحسن أنا غريب والسماع منك قليل. قال اسمع العراقيين بالنهار وجئني بالليل وحدك تبيت معي، فأسمعك. فكان إذا رآني نعست نضج وجهي بالماء.(3/293)
ورآني يوماً أشرب ماء السبيل فقال لي، تشربه؟ فقلت له أنا ابن سبيل. فلما كان الليل بعث إليّ بثمانين ديناراً. وقال ما عرفت أنك ابن سبيل، إلا الآن. فلما أراد الانصراف إلى إفريقية لم يكن عنده ما يتحمل به، فذكر ذلك لمحمد بن الحسن، فقال له، أذكر شأنك لولي العهد. فلقيه ابن الحسن وذاكره أمره ثم قال لأسد، قف بالحاجب يوم كذا يدخلك عليه، واعلم أنك حيث تنزل نفسك أنزلوك. فمضى أسد وأستأذن، فأذن له فدخل حتى أنتهى إلى موضع أمر بالجلوس فيه، ومضى الخادم الذي أدخله، فجاء بمائدة مغطاة فجعلها بين يديه قال أسد ففكرت وقلت ما أرى هذا إلا منقصة. وقلت للخادم، هذا الذي جئتني به منك أو من مولاك. قال مولاي أمرني به. قلت: مولاك لا يرضى بهذا يأكل ضيفه دونه. يا غلام هذا برّ منك وجبت مكافأتك عليه. وكانت في جيبي أربعون درهماً لم يبق معي سواها فدفعتها إلى الخادم، وقلت له أرفع مائدتك. ففعل وعرّف مولاه. فبلغني أنه قال حر والذي لا إله إلا هو. ثم قال الخادم ادخل. فدخلت عليه. وهو على سرير ومعلمه على آخر، وسرير ثالث. قال فأمرني بالجلوس عليه، فجلست. وجعل يسائلني(3/294)
وأجيبه، فلما قرب انصرافي كتب رقعة وختمها ودفعها إليّ وقال قف بهذا إلى صاحب الديوان وتعود إليّ. فأخذت الرقعة وحضرتها. ولقيت محمداً من الغد فسألني، فأعلمته. فقال لي أوصل الساعة الرقعة. ففعلت. فدفع إليّ صاحب الديوان عشرة آلاف درهم، فأعلمت محمد بن الحسن فقال لي إن عدت إلى القوم صرت لهم خادماً، وفيم أخذت عون لك. قال أسد، ورغب إليّ محمد أن أزامله إلى مكة. فكأني كرهت هذا. فقال لي أصحابه وددنا لو اشترينا هذا منه بعشرة آلاف درهم، فزاملته. فكنت أسأله عما أريد، وربما سألته وهو في الصلاة، فيمهد بالقراءة يعلمني أنه يصلي، فأقول: تشغل عني الصلاة وقد قطعت البلاد إليك. فيقطع ويجيبني. قال محمد بن الحارث وأبو اسحاق الشيرازي ويحيى بن اسحاق وبعضهم يزيد على بعض، رحل أسد إلى العراق فتفقه بأصحاب أبي حنيفة. ثم نعي مالك فارتجت العراق لموته. قال أسد فوالله ما بالعراق حلقة إلا وذكر مالك فيها. كلهم يوقل مالك، واجتماعهم على ذلك ذكرته لمحمد بن الحسن، وهو المنظور فيهم. وقلت له لأختبره ما كثرة ذكركم لمالك، على أنه يخالفكم كثيراً. فالتفت إليّ وقال لي اسكت. كان والله أمير المؤمنين في الآثار. فندم أسد على ما فاته وجمع أمره على الانتقال إلى مذهبه. فقدم مصر
ولم يذكر أبو اسحاق أسداً فيمن أخذ عن مالك ولا أن له عنه سماعاً،(3/295)
وإنما ذكره في اتباع أصحابه. وأرى أنه لم يبلغه ذلك وإلا فأخذه عنه صحيح مشهور. قال ابن الحارث: فقال أسد عن ذلك: إن كان فاتني لزوم مالك فلا يفوتني لزوم أصحابه. والله تعالى أعلم. م يذكر أبو اسحاق أسداً فيمن أخذ عن مالك ولا أن له عنه سماعاً، وإنما ذكره في اتباع أصحابه. وأرى أنه لم يبلغه ذلك وإلا فأخذه عنه صحيح مشهور. قال ابن الحارث: فقال أسد عن ذلك: إن كان فاتني لزوم مالك فلا يفوتني لزوم أصحابه. والله تعالى أعلم.
ذكر الكتب الأسدية والمدونة
قال أبو اسحاق الشيرازي: لما قدم أسد مصر أتى إلى ابن وهب وقال هذه كتب أبي حنيفة، وسأله أن يجيب فيها على مذهب مالك. فتورع ابن وهب وأبى. فذهب إلى ابن القاسم فأجابه إلى ما طلب. فأجابه فيما حفظ عن مالك بقوله. وفيما شك قال: أخال وأحسب وأظن به، ومنها ما قال فيه، سمعته يقول في مسالة كذا وكذا. ومسألتك مثله، ومنه ما قال فيه باجتهاده على ًاصل قول مالك، وتسمى تلك الكتب الأسدية. قال أبو زرعة الرازي: كان أبو أسد قد سأل عنها محمد بن الحسن. قال أسد: فكنت أكتب الأسئلة بالليل في قنداق من أسئلة العراقيين على قياس قول مالك. وأغدو عليه بها، فأسأله عنها. فربما اختلفنا فتناظرنا على قياس قول مالك فيها. فارجع إلى قوله أو يرجع إلى قولي.(3/296)
قال: وقال لي ابن القاسم: كنت اختم في اليوم والليلة ختمين فقد نزلت لك عن واحدة رغبة في إحياء العلم. قال: ولما أردت الخروج إلى إفريقية دفع إليّ ابن القاسم سماعه من مالك. وقال لي ربما أجبتك وأنا على شغل. ولكن أنظر في هذا الكتاب فما خالفه مما أجبتك فيه، فأسقطه. ورغب إلي أهل مصر في هذه الكتب فكتبوها مني. قال وهي الكتب المدونة وأنا دونتها. وأخذ الناس عن ابن القاسم تلك الكتب. وقال سليمان بن سالم: إن أسداً لما دخل مصر اجتمع مع عبد الله بن وهب، فسأله عن مسألة فأجابه بالرواية. فأراد أن يدخل عليه، فقال له ابن وهب: حسبك إذ أدّينا إليك الرواية. ثم أتى إلى أشهب فأجابه. فقال له من يقول هذا: قال أشهب. هذا قولي. فدار بيننا كلام فقال عبد الله بن عبد الحكم الأسد: كذا مالك. ولهذا أجابك بجوابه. فإن شئت فأقبل وإن شئت فأترك. فرجع إلى ابن القاسم فسأله، فأجابه. فأدخل عليه، فأجابه حتى انقطع أسد في السؤال. فقال له ابن القاسم كذا. ازياد مغربي. وقال له من أين أقبلت؟ حتى أتبين لك. فقام أسد في المسجد على قدميه، وقال: معاشر الناس، إن كان مات مالك، فهذا مالك. فكان يسأله كل يوم، حتى دون عنه ستين كتاباً، وهي الأسدية.(3/297)
قال وطلبها منه أهل مصر، فأبى أسد عليهم، فقدموه إلى القاضي، فقال لهم: أي سبيل لكم عليه! رجل سأل رجلاً فأجابه وهو بين أظهركم فاسألوه كما سأله. فرغبوا إلى القاضي في سؤاله قضاء حاجتهم في نسخها، فسأله، فأجابه، فنسخوها، حتى فرغوا منها وأتى بها أسد إلى القيروان، فكتبها الناس. قال ابن سحنون: وحملت لأسد بتلك الكتب في القيروان - رياسة. قال غيره: وأنكر عليه الناسإ إذ0جاء بهذه الكتب، وقالوا أجئتنا بأخال وأظن وأحسب، وتركت الآثار وما عليه السلف. فقال: أما علمتم أن قول السلف هو رأي لهم وأثر لمن بعدهم، ولقد كنت أسال ابن القاسم عن مسألة فيجيبني فيها، فأقول له: هو قول مالك؟ فيقول: كذا أخال وأرى وكان وربما. ورعاً يكره أن يهجم على الجواب. قال: والناس يتكلمون في هذه المسائل، ومنعها اسد من سحنون، فتلطف سحنون حتى وصلت إليه. ثم ارتحل سحنون بالأسدية إلى ابن القاسم فيها شيء لا بد من تفسيره، وأجاب عما كان يشك فيه، واستدرك فيها أشياء كثيرة، لأنه كان أملاها على أسد من حفظه. قال ابن الحارث: رحل سحنون إلى ابن القاسم وقد تفقه في علم مالك. فكاشف ابن القاسم عن هذه الكتب مكاشفة فقيه يفهم، فهذبها مع سحنون، وحكي أن سحنون لما ورد على ابن القاسم سأله عن أسد فأخبره بما انتشر من علمه في الآفاق، فسرّ بذلك. ثم سأله وأحله ابن القاسم من نفسه بمحل، وقال له سحنون: أريد أن أسمع منك كتب أسد فاستخار الله(3/298)
وسمعها عليه. وأسقط منها ما كان يشك فيه من قول مالك، وأجابه فيه على رأيه. وكتب إلى أسد أن أعارض كتبك على كتب سحنون فإني رجعت عن أشياء مما رويتها عني. فغضب أسد وقال: قل لابن القاسم أنا صيرتك ابن القاسم، ارجع عما اتفقنا عليه إلى ما رجعت أنت الآن عنه. فترك أسد سماعها، وذكر أن بعض أصحاب أسد دخل عليه وهو يبكي، فسأله. فأخبره بالقصة.
وقال أعرض كتبي على كتبه وأنا ربيته؟ فقال له هذا: وأنت الذي نوهت لابن القاسم، فقال له لا تفعل. لو رأيته لم تقل هذا. وذكر أن أسداً همّ بإصلاحها، فرده عن ذلك بعض أصحابه، وقال لا تضع قدرك تصلح كتبك من كتبه وأنت سمعتها قبله؟ فترك ذلك. وذكر أن ذلك بلغ ابن القاسم، فقال: اللهم لا تبارك في الأسدية. قال الشيرازي فهي مرفوضة إلى اليوم. قال الشيرازي: واقتصر الناس على التفقه في كتب سحنون، ونظر سحنون فيها نظراً آخر فهذبها، وبوّبها ودونّها، والحق فيها من خلاف كبار أصحاب مالك ما أختار ذكره، وذيّل أبوابها بالحديث والآثار، إلا كتباً منها مفرقة، بقيت على اصل اختلاطها في السماع، فهذه هي كتب سحنون المدونة والمختلطة. وهي أصل المذهب المرجح روايتها على غيرها، عند المغاربة، وإياها اختصر مختصروهم وشرح شارحوههم، وبها مناظرتهم ومذاكرتهم، ونسيت الأسدية فلا ذكر لها الآن وكان لمحمد بن عبد الحكم فيها اختصار،(3/299)
ولأبي زيد بن أبي الغمر فيها اختصار، وللبرقي فيها اختصار، وهو الذي كان صححها على ابن القاسم، وكان عليها مدار أهل مصر. قال أحمد بن خالد: كان واضع كلام ابن القاسم - يريد الأسدية - رجل من أهل مصر، يقال له الأحدب. فأخذها سحنون ودوّنها، وأدخل فيها الآثار. قال سحنون: عليكم بالمدونة فإنها كلام رجل صالح، وروايته: وكان يقول إنما المدونة من العلم بمنزلة أم القرآن من القرآن. تجزي في الصلاة عن غيرها، ولا تجزي غيرها عنها. أفرغ الرجال فيها عقولهم، وشرحوها وبينوها فما اعتكف أحد على المدونة ودارسها إلا عرف ذلك في روعه، وزهده، وما عداها إلى غيرها إلا عرف ذلك فيه، ولو عاش عبد الرحمان أبداً ما رأيتموني أبداً. قال محمد بن عبد الحكم: جاء ابن وهب إلى أبي، بعد موت ابن القاسم، فقال له: تبرأ - ابن القاسم في قبره. لا ترو عنه شيئاً من كتبه. يعني الأسدية. فما رأى أبي فيها شيئاً إلا مثل المسألة والمسألتين على سبيل المذاكرة. ومال أسد بعد هذا إلى كتب أبي حنيفة، فرواها وسمعها منه أكثر الكوفيين يومئذ، ومال إليهم. ولما أحرق عباس الفارسي كتب المدونة وغيرها من كتب المدنيين(3/300)
ضربه أسد درراً. فعنته رجل في ذلك، فقال: إنما أنجيته بضربي هذا من القتل بين يدي - الأمير لحرقه كتباً فيها العلم، وفيها ذكر الله تعالى. فقلت: أيها الأمير دعني أضربه وأشهره، فهو أبلغ له، فاستنقذته بذلك من القتل. وكان عباس هذا محدثاً يبغض أهل الفقه، والرأي، ويقع في أسد وابن القاسم. فيقال أن ابن القاسم دعا الله عليه أن يمنحه في بلده وأنه تشكى منه الأسد.
ذكر مكان أسد من العلم والفضل والسنة
قال أبو العرب: كان أسد ثقة، لم يرم ببدعة. قال بكر بن حماد: قلت لسحنون: يقولون أن أسداً قال بخلق القرآن. فقال: والله ما قاله.
قال داود بن يحيى: رأيت أسداً يعرض التفسير فتلا هذه الآية: فاستمع لما يوحى إنّني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني. فقال أسد: ويح أهل البدع، هلكت هوالكهم، يزعمون أن الله خلق كلاماً يقول ذلك الكلام المخلوق. إنني أنا الله.. الآية. قال يحيى بن سلام: حدث أسد يوماً بحديث الدومة، وسليمان البراء المعتزلي في آخر المجلس، فأنكر. فسمع أسد فقام إليه(3/301)
وجمع بين طوقيه ولحيته واستقبله بنعله، فضربه حتى أدماه وطرده من مجلسه، وقيل بل كان يقرأ عليه في تفسير المسيب بن شريك: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة. وسليمان حاضر، فقال: من الانتظار، يا أبا عبد الله. فأخذ أسد بتلابيبه ونعلاً غليظة بيده الأخرى، وقال: يا زنديق لتقولنها أو لا: تبصر بها عينيك. فقال سليمان: نعم، تنظر. قال سلمان بن عمران: سمع أسد بن هشيم اثني عشر ألف حديث. وقال: سمعت من أبي زائدة عشرين ألف حديث. وقال ربما رأيت أسداً يدق صدره ويقول: واحسرتا إن مت ليدخلن القبر مني علم عظيم. قال: وبسبب أسد ظهر العلم بإفريقية. قال غيره. كان أسد أعلم العراقيين بالقيروان كافة. ومذهبه السنة لا يعرف غيرها. قال: ولما قدم أسد القيروان سمع منه علماؤها ووجوهها سحنون ابن سعيد وأمثاله من المدنيين، وأصحابه المعروفون به، كعمرو بن وهب وسليمان بن عمران وبني قادم، وابن المنهال، وسائر الكوفيين سمعوا منه كتب أبي حنيفة. وكان أسد إذا سرد أقوال العراقيين يقول له مشائخ المدنيين: أوقد القنديل الثاني يا أبا عبد الله. فيسرد أقوال المدنيين.(3/302)
قال أسد: بعث إليّ ابن غانم يشاورني، فأجبته. فقال بعدما خرجت: ما أحب أن أشاور في هذا البلد غير هذا الفتى. وكان أسد إذا جاء باب ابن غانم فقرعه، فقيل: من؟ قال: أسد الفقيه. فيقول ابن غانم: صدق. يشاورني فأجبته. فقال بعدما خرجت: ما أحب أن أشاوره. قال عمران بن أبي محرز: جاءنا موت أسد فاستعظمه أبي، وقال: اليوم مات العلم. قال أسد: كان مالك يقول من بنى أو غرس في أرض بينه وبين قوم مشاعة، فللشركاء عوض من ذلك في الأرض، إن كان بقي منها عوض. ثم رجع مالك فقال: يقول أهل العراق أن الأرض تقسم، فإن صار الغرس في نصيب غارسه كان له، وإن صار في نصيب غيره قيل للغارس أرفع غرسك. واستفتى زيادة الله أمير إفريقية، أسداً وأبا محرز الكوفي وزكريا ابن الحكم في زنديق. فقال أبو محرز وأسد: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وقال أبو زكريا: قد روى أهل العلم أنه إن كان مظهراً للإسلام ثم أطلع بعد ذلك لم تقبل له توبة، قال أبو محرز: فأعطه السيف يقتله. قال زكريا: إنما رويت هذا، ولا تأخذ به. فقال أبو محرز: يا أحمق، فتجري هذا على قتله، وأنت لا تأخذ به. قال أسد: لو قتل بعد التوبة كان عندي شهيداً.(3/303)
وكان أسد لا يرى في التعريض الحد، ويقول بتحريم النبيذ. وسأله رجل عن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا يكون الرجل مؤمناً حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وأهله وماله والناس أجمعين. وقال له: أخاف أن لا أكون كذلك. فقال له: ارأيت لو كان النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فقرب ليقتل أكنت تفديه بنفسك؟ قال: نعم. وبأهلك وولدك؟ قال: نعم. فقال لا بأس. فقال له الرجل: فرّجتها عني فرج الله عنك.
ولاية أسد القضاء والإمارة
ولي زيادة الله أسداً القضاء شريكاً لأبي محرز الكناني، سنة ثلاث أو أربع ومائتين. فاشتركا في القضاء. وكان ما بينهما غير جميل، فكان أسد أغزرهما علماً وفقهاً، وأبو محرز أسدهما رأياً، وأكثرهما صواباً. قام قاضياً إلى أن خرج إلى صقلية، سنة اثنتي عشرة والياً على جيشها. وكان على علمه وفقهه أحد الشجعان. فخرج أسد في عشرة آلاف رجل منهم تسعمائة فارس، وكان سبب غزوة صقلية أنهم كانوا معه في هدنة، وكان في شرطهم أن من دخل إليهم من السلمين وأراد أن يرد بعضهم رده، فرجع إلى زيادة الله أن عندهم أسرى، فجاء رسل طاغيتها، فجمع زيادة الله العلماء وسألهم عن الأمر،(3/304)
فقال أبو محرز: يستأنى حتى يتبين. وقال أسد: يسأل رسلهم عن ذلك، فقال أبو محرز: كيف يقبل قولهم عليهم. فقال أسد: بالرسل هادناهم وبهم نجعلهم ناقضين. قال الله تعالى: فلا تهنوا وتدعوا إلى السلّم وأنت الأعلون. فنحن الأعلون. فسأل الرسل، فاعترفوا أنهم في دينهم لا يحلُّ لهم ردهم. فنحن الأعلون. فسأل الرسل، فاعترفوا أنهم في دينهم لا يحلُّ لهم ردهم. فأمر زيادة الله بالغزو إليها. فقال أسد إذ ذاك لزيادة الله: من بعد القضاء، والنظر في الحلال والحرام تعزلني وتوليني الإمارة؟ فقال: لا، ولكني وليتك الإمرة، وهي أشرف، وأبقيت لك اسم القضاء. فأنت أمير، قاض، فخرج إلى صقلية وظفر بكثير منها وتوفي وهو محاصر سرقوسة منها. وكان أيضاً قد غزا سردانية، فأشرف على فتحها، وحسده بعض من كان معه، فانهزم. وبلغ ذلك الأمير. فقال له: بلغني كذا. فهمّ لي من فعل ذلك معه، فلم يفعل. ولك خرج أسد إلى سوسة ليتوجه منها إلى صقلية، خرج معه وجوه أهل العلم والناس يشيعونه، وأمر زيادة أن لا يبقى أحد من رجاله إلا شيعه. فلما نظر الناس حوله من كل جهة، وقد صهلت الخيل وضربت الطبول وخفقت البنود، قال: لا غله إلا الله وحده لا شريك له، والله يا معشر المسلمين ما ولي لي أب، ولا جدّ ولا رأي أحد الناس من سلفي، مثل هذا. ولا(3/305)
بلغت ما ترون إلا بالإقلام فاجتهدوا أنفسكم فيها، وثابروا على تدوين العلم، تنالوا به الدنيا والآخرة. وحكى سليمان بن سالم أن أسداً لقي ملك صقلية في مائة ألف وخمسين ألفاً. قال الرواي فرأيت أسداً لقي ملك صقلية في مائة ألف وخمسين ألفاً. قال الرواي فرأيت أسداً وفي يده اللواء وهو يزمزم وأقبل على قراءة يس، ثم حرض الناس، وحمل وحملوا معه، فهزم الله جموع النصارى، ورأيت أسداً وقد سالت الدماء على قناة اللواء.
حتى صار تحت إبطه، ولقد رد يده في بعض تلك الأيام فلم يستطع مما اجتمع من الدم تحت إبطه والله تعالى أعلم.
بقية أخباره ووفاته
قال عبد الرحيم الزاهد: قلت لأسد لما قدم علينا بكتب أهل المدينة وأهل العراق: أي القولين تأمرني اتبع واسمعه منك؟ فقال لي: إن أردت الله والدار الآخرة فعليك بقول مالك، وإن أردت الدنيا، فعليك بقول أهل العراق. وقال ابن حاري فكان هذا الرجل بعد يطعن على أسد بهذه القصة. وكان يقول الحق عنده في مذهب مالك. وكان يفتي بغيره. ولما غلب عمران بن مجاهد على القيروان، بعث إلى أسد أن اخرج معنا، فتمارض ولزم بيته، فبعث إليه: إن لم تخرج معي وإلا بعثت إليك من يجر برجلك.(3/306)
فقال للرسول: لئن أخرجتني لأنادين القاتل والمقتول في النار. فلما سمع ذلك تركه. قال بعضهم: بعث الأمير إلى أبي محرز وأسد، وهما قاضياه فأقبل أسد، فإذا أبو محرز ينتظره مع بعض الرسل، فقال كيف أصبحت أبا محرز؟ فلم يرد عليه شيئاً، وصار إلى الأمير، فأجلس أبا محرز عن يمينه وأسداً عن شماله، ثم دفع صكاً إلى أسد ليقرأه، فلم يقرأ، باسم الله الرحمان الرحيم. فقال له أبو محرز: أخطأت. فقال أسد أيها الأمير لقيته فسلمت عليه فلم يرد علي السلام، ولم أقرأ إلا كلمتين فقال لي أخطأت. فنظر زيادة الله إليه، فقال أبو محرز: ما سلّم علي ولو سلّم علي لرددت عليه، وإنما قال: كيف أصبحت؟ وأصبحت مغموماً فلو أخبرته لسررته. ثم دخل عليهم رجل فذكر للأمير أنه رأى كأن جبرائيل هبط من السماء، ومعه نور حتى وقف بين يديك وصافحك. وفي رواية وقبل يدل، فابتسم زيادة الله، وقال: هذا عدل يجريه الله على يدي. فقال أسد كذب الشيخ أيها الأمير، فغضب ونظر إلى أبي محرز كالمحرك له، ليعلم ما بينهما. فقال أبو محرز: صدق أسد وكذب الشيخ. لأن جبريل لا ينزل بوحي إلا على نبي، وقد انقطع الوحي. وهذا وأمثاله يأتونكم بمثل هذا طلباً للدنيا، فاتق الله. فسكت الأمير وخرجا. فجزى أسد أبا محرز خيراً فقال له: لله فعلت ذلك لا لك.(3/307)
وكانا على تباعدهما لا يستحل أحدهما من صاحبه ما لا يحل. ولم يكن عند أسد عربية، وكان صاحبه معرباً قليل الكلام. وقيل له: ما هذا الذي يقول الناس في أمر أبي بكر وعلي. فقال: والله ما يخفى علينا من يستحق الولاية بعد والينا وقاضينا. فكيف يخفى على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من يستحق الأمر بعد نبيهم عليه الصلاة والسلام. ولما قدم منصور على ابن الأغلب ودنا من القيروان، خرج إليه أسد وأبو محرز وهما قاضيان، وكان من قوله لهما اخرجا معنا، أما تعلمان أن هذا أظلم المسلمين. فقال أبو محرز: وقد خاف منه. نعم، واليهود والنصارى. وأما أسد: لما انصرفت من العراق إلى مصر، قصدت أشهب واعتمدت عليه، وكان في خلقه ضيق، وكان علمه خيراً من دينه، فذكر يوماً أبا حنيفة، فأزرى عليه، ثم فعل بمالك مثل ذلك، فنهضت إليه وقلت له: يا أشهب. فأخذ الطلبة بثوبي وأقعدوني وقالوا: ما أردت أن تقول له؟ قال: أقول إنما مثلك ومثلهما مثل من بال بين بحرين، فرغى بوله فقال: هذا بحر ثالث. قال فتركته. ومات ابن الاسم فخير لي، وكان أورع منه.(3/308)
وكان أسد يقول: أنا أسد، وهو خير الوحوش، وأبي فرات وهو خير المياه، وجدي سنان وهو خير السلاح. وكانت وفاة أسد في حصار سرقوسة، من غزوة صقلية، وهو أمير الجيش وقاضيه. سنة ثلاث عشر ومائتين. وقيل أربع عشرة، وقيل سبع عشرة. وقبره ومسجده بصقلية. مولده سنة خمس وأربعين ومائة، بحران ويقال سنة ثلاث ويقال سنة اثنتين وأربعين وكان قدومه من المشرق، سنة إحدى وثمانين ومائة.(3/309)
عبد الله بن أبي حسان اليحصبي
من أنفسهم واسم أبي حسان فيما قاله أبو العرب وغير واحد: يزيد بن عبد الرحمان. وقال ابن سحنون: اسمه عبد الرحمان. ويقال عبد الرحمان ابن يزيد. قال أبو علي بن أبي سعيد في كتابه: هو من أشراف أفريقية، بشرف أبيه وبيته وفقهه وأدبه. وكان يسكن بالقيروان بحارة يحصب المنسوبة إليهم. وأبوه من عربها البلديين من أنفسهم. وله في حرب البرابرة بلاء حسن، وولي الأريس، قال أبو العرب: ورحل إلى مالك فكان عنده مكرماً، وسمع من ابن أبي ذئب وابن عيينة وابن أنعم، وكان ثقة. ولم يطعن بشيء إلا بهفوة كانت منه عند زيادة الله فيما حكي، والله أعلم بها. وروى عنه سحنون بن سعيد، وفرات وسليمان ومحمد بن وضاح. قال ابن أبي حسان: لما أتيت مالكاً وجدته قد ارتفع، وباب داره مغلق، فقرعت الباب فخرجت إلي جارية صفراء، فقالت: من أهل المسائل أنت أم من أهل الحوائج؟ قلت غريب أتيته قاصداً.(3/310)
فقالت: ليس هذا وقتك. أدخل السقيفة. فدخلت فلما كان وقت خروجه، فتحت الباب ووصف صورة المجلس، ثم خرج مالك بين تلك الجارية وفتى، يخط رجلاه الأرض كبراً. كأني أنظر إلى جماله وبهائه وشعر رأسه قد تعقف جعوده، فلما استوى جالساً عم بسلامه، فردّوا عليه. فقمت فسلمت عليه، ودفعت إليه كتاب ابن غانم، فقال لي: صاحبك على القضاء. قلت نعم. قال: ما ذاك بخير له. ثم قرء عليه، فقال للقوم: هذا كتاب أتاني من هذا الرجل، يخبرني عن حاله في بلده وقدره، وقد قال عليه السلام: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. فقمت بين يديه، فأوسع لي رجل منهم، فجلست. فذكروا العلم. فقال: لا يؤخذ العلم إلا عن الموثوق بهم في دينهم. قم جلس يسال، وأنا قاعد. فربما قال: العلم أوسع من ذلك. فسئل وأنا قاعد عن خمس وعشرين مسألة. فما أجاب إلا اثنتين. وقال لا حول ولا قوة إلا بالله. واختلف إليه فلم يزل لي مكرماً رحمه الله تعالى وكان قد جعل لرجل ثلاثة دراهم كل يوم، يأخذ له مجلساً يجلس فيه عند مالك. فإذا جاء ابن أبي حسان قام له الرجل، فجلس فيه. وكان أبن أبي حسان إذا جاء مجلس ابن عيينة قال أصحابه: جاءكم السؤوم لميل سفيان إليه، وحديثه معه،(3/311)
قال ابن أبي حسان: سمعت مالكاً يقول: أهل الذكاء والذهن والعقول من أهل الأمصار ثلاثة، المدينة ثم الكوفة ثم القيروان. قال ابن وهب: ما رأيت مالكاً أميل إلى أحد منه لابن أبي حسان.
ذكر علمه وفضله وبقية أخباره
قال سحنون: كنت أول طلبي إذا تعلقت على مسألة من الفقه، آتي ابن ابي حسان. فكأنما في يده مفتاح لما انغلق. وجاء رجل إلى ابن وهب فأخبره بموت ابن غانم فاسترجع ابن وهب، فقال له من ولي بعده: قال أبو محرز: قال ما أعرفه. فأين ابن أبي حسان، فوالله ما رأيت مالكاً أميل إلى أحد منه إليه. قال أبو علي البصري: كان عبد الله بن أبي حسان غاية في الفقه بمذهب مالك. حسن البيان عالماً بأيام العرب وأنسابها، راوية للشعر، قائلاً له. وعنه أخذ الناس أخبار إفريقية وحروبها. روى ذلك عن أبيه وكان جواداً. قال المالكي وكان مفوهاً قوياً على المناظرة ذابّاً عن السنة متبعاً لمذهب مالك، شديداً على أهل البدع، قليل الهيبة للملوك، لا يخاف في الله لومة لائم. دخل مرة على الأغلب فإذا الجعفري والعنبري يتناظران في القرآن، فقال الجعفري: هذا شيخنا أبو محمد يعنيني عليكم.(3/312)
فقال ابن أبي حسان للعنبري ما أنت وذا؟ هذا بحر عميق، عليك بكذا بكذا. فقال: إن كان معه أبو محمد فهذا الأمير معي. فقال ابن أبي حسان ما للملوك والكلام في الدين. فأحفظ ذلك على الأغلب. ثم قال: من أتى السلطان فهو مثله. فقال ابن أبي حسان إنما أتاكم الآتي، لأنكم خير ممن هو شر منكم، ولم أتى من هو شر منكم أتاه الناس، ولم يأتوكم. وجاء رجل إلى ابن أبي حسان فأعلمه: أن داره تهدمت، وشاوره في بنيانها، ومن يبني عنده، فدفع ابن أبي حسان إليه ثلاثين ديناراً، وقال استعن بها على بنائك. فقال له بعض ولده: أتاك يشاورك فأعطيته. قال لست ببناء وإنما تعرض لمعروفي. ولما ثار الجند على زيادة الله أغاروا على منازل ابن أبي حسان، وانتهبوها وطلبوه فاستخفى، وكان سيء الرأي فيهم، فقال شعراً منه:
أباح طغام الجند جهلا حريمنا ... وشقوا عصا الإسلام من كل جانب
وعاشوا وثاروا في البلاد سفاهة ... وظنوا بأن الله غير معاقب
وما عجب بعض الأعاجم ضلّة ... نزارا وقحطان الكرام المناسب
ولكن من قوم إلينا اعتزاؤهم ... فبغضاؤهم فيها لإحدى العجائب
ولما اشتد طلبهم له لجأ ابن أبي حسان إلى من بالسّوس من قومه يحصب، من جملة الجند الجائرين. ومتّ إليهم بالنسب واستجار بهم، فأجاروه، وأمنوه.(3/313)
فما ظفر زيادة الله بعد بالقيروان، جمع العلماء فسألهم في حال الجند القائمين علي، فعرّفوه ما في العفو، ورغبوه فيه. فقال ابن أبي حسان: العفو مفسدة، ولن يلدغ المؤمن من جحر مرتين. ويقال بل أنشد:
من لم يؤدبه الجميل ... ففي عقوبته صلاحه
فقال أبو محرز القاضي، وقال غيره: العفو أقرب للتقوى. وقال لابن أبي حسان: من أجل شويهاتك أو رمنكاتك، تستحل دماء المسلمين. ووجد هؤلاء الكوفيون أعداؤه السبيل إلى التشنيع عليه، عند الجند والعامة بهذه الكلمة. فحفظت عليه وسقط بها. وقيل وعمد كل من سمع منه علماً فكتبه عنه، فقطعها على باب داره، وأصبح على باب داره منه شيء كثير، واعتذر عنه من أنصف، إنما أراد فتّاك الجند الذين أفسدوا البلد. قال ابن أبي حسان: رأيت هارون الخليفة وهو يسعى بين الصفا والمروة، فمشى في بطن الوادي ونسي السعي، فلما جاوزه ذكر فرأيته رجع القهقري، حتى رجع إلى ما دون بطن الوادي، ثم سعى في بطنه واستدرك ما فاته، فأعجب ذلك من حضره من العلماء. ولما أصلح زيادة الله جامع القيروان، قال ابن أبي حسان: عاد المسجد مضرياً. لأن مختطه عقبة القريشي، وزيادة الله تميمي وهما مضريان. وكان حسان بن النعمان الغساني، ويزيد ابن حاتم الأزدي، قد جدداه قبل زيادة الله، فقال له: ابن أبي حسان: إبل عثرت أحلاسها. وقال له مرة: محونا أثاركم من الجامع. وقال: الأصل لنا، والفرع لكم.(3/314)
قال ابن أبي حسان وجه إليَّ زيادة الله، وعنده قاضياه أبو محرز وأسد يتناظران في النبيذ، وأبو محرز يحله وأسد يحرمه. فقال ما تقول في النبيذ الشديد، فقلت قد علمت سوء رأيي فيه، وهذان قاضياك وهما فقيها البلد يتناظران فيه. فقال لا بد لك أن تقول أنت. وقال لهما: اسكتا فقلت أعوذ بالله عقل يساوي ألف درهم، يزيله من النبيذ ما يساوي درهما. وقال لي: ثم يعود. قلت بعد انكشاف السوءة للأم، والعورة للأب، وفي رواية: بعد أن قاء في لحيته، وكشف عورته لأهله وقتل هذا. وضيف هذا. قال: صدقت. كذا ذكر أبو علي البصري، ومحمد بن حارث هذه الحكاية، وإن كان بعضها على نحو ما ابن حارث. ولا أدري كيف هي، إذ لا خلاف بينهم أن المسكر منه حرام. وتوفي ابن أبي حسان سنة سبع وقيل ست وعشرين ومائتين. وقال ابن سحنون: مات وهو ابن سبع وثمانين سنة. مولده سنة أربعين ومائة والله تعالى أعلم.(3/315)
أبو عثمان وأخوه حاتم وأخوه أبو طالب أبناء عثمان المعافري
ويعرف بالابزاري. فيما ذكره بعضهم. وذكر أبو العرب وابن الحارث: أبا طالب أخا أبي عثمان. ولم يسمياه، ولا قالا في الابزاري. وذكر أبا طالب عبد الله ابن عثمان الابزاري ممن روى عن مالك، على أنه آخر، والله أعلم. قال أبو العرب: لهما سماع من ابن أنعم، ومن مالك، وأحسب أن رحلتهما كانت مع ابن غانم. روى عنهما داود بن يحيى الصدفي، وغيره. وكان أبو عثمان رسول ابن غانم إلى مالك في مسائله. وكانا تقيين. قال أبو عثمان: سمعت مالكاً يقول: ينبغي للقاضي وللمعدل أن يحترس من الناس، بسوء الظن. قال حاتم: أكلت معه فرايته يأكل بثلاثة أصابع. قال: وسمعت مالكاً يقول: حياة الثوب طيّه، وعيبه قصر أكمامه. قال: وكنت إذا أتيت بكتاب ابن غانم إلى مالك قال لي: ادفع إلى ابن كنانة. فكتب ابن كنانة الجواب. ثم أتى به مالكاً فأعرضه، فإن أنكر شيئاً أصلحه. قال ابن شعبان: ويقال لأبي عثمان أبا طالوت. ولم يذكره غيره. قال واسم أبي طالوت عبد الله. وقال غيره: اسمه كنيشة ويكنى بأبي محمد والله تعالى أعلم.(3/316)
أبو خارجة عنبسة بن خارجة الغافقي من أنفسهم
قال ابن شعبان: ويقال أبو خالد أيضاً. سمع من مالك وسفيان الثوري والليث واليسع بن حميد وعبد الله بن وهب، ورشدين بن سعد، والمغيرة ابن عبد الرحمان المخزومي، وسفيان بن عيينة وله سماع مدون من مالك، كسماع ابن القاسم وأشهب. قال المالكي: كان شيخاً صالحاً عالماً باختلاف العلماء، مستجاباً. وأكثر اعتماده على مالك. متفنناً في العلوم من الحديث والفقه، والعبادة والعربية وغير ذلك. سمع منه نظراؤه بأفريقية، البهلول بن راشد وغيره، وسمع من بعضهم كعدن ين يوسف وعبد الله بن يونس، وسعيد بن حسان القزويني والجعفري وأبي داود والعطار وابنه، قال: وكان سحنون يجله، ويعرف حقه. وإذا سئل بحضرته أحال عليه، وكان أسنّ من سحنون. وكان سكناه بحصن، بجهة صفاقس. قال أبو العرب: وسماعه من سفيان صحيح. وهو ثقة. وحكى بعضهم قال: دخلت معه إلى سفيان، فأصبناه قد مات، وسأله بعضهم، قال أنا سمعت من سفيان.(3/317)
قال أبو العرب: أراه لقي سفيان في رحلة قبل والله أعلم. وهو ثقة مأمون لا يشك في سماعه من سفيان. وسئل أحمد بن برد عن أبي خارجة، فقال بمثله يقال ثقة. وهو رجل صالح. لقي أبا يوسف ولم يأخذ عنه. روى عن مالك عن الذي يعتم بالعمامة ولا يجعلها تحت ذقنه، فأنكره، إلا أن تكون قصيرة لا تبلغ. قال ابن حارث: سمعت كثيراً عن الناس يحكون عن أبي خارجة عجائب من الأخبار والوصف، لما لم يكن فيكون ذلك، مثل ما يحكى بالأندلس عن بقية بن مخلد، إلا أن الحكاية عن أبي خارجة أكثر استفاضة، وأكثر عجائب. قال ابن الجزار المتطبب في تعريفه: وذكره مثل ما ذكره ابن حارث، فبعضهم يقول: بل من خدمة الجان، ومنهم من يزعم أنه كان صالحاً يجري الله الحق على لسانه، فينطق به. قال الفقيه القاضي أبو الفضل عياض: وأنا بريء من عهدة هذه التأويلات إلا الأخيرة فالحديث الصريح يحتج لها.
؟
ذكر عجائب أخباره وبراهينه ووفاته
ذكر بعضهم، أنه نزل في طريق سوسة فاستلقى، ثم قال لأصحابه يأتيكم الساعة رجلان يسألان عن شيء، فتسمعان ما تكرهان، ومعهما طعام تأكلانه أنتم، ولا نأكله أنا.(3/318)
وإذا برجلين على بغلة، فسألا عن الشيخ وقالا له: رجل له عجل رأى في المنام أنه يخالفه إلى خمير عنده يأكله، قال، فقال له أبو خارجة له عبد خلاسي يخالفه إلى أهله. فقال أحد الرجلين للآخر قد نبهناه عن دخوله إليه، فلم يفقه. ثم قالا معنا شيء من زادنا فأخرجا خبز شعير ودجاجاً وزيتوناً، فأكل من حضر، ولم يأكل هو منه. إذ كانت بعض أرواح يضر بها هذا الطعام. وسأله رجل. أنه كان يرى أنه يحرث في حفر، ففسر أبو خارجة وقال: هذا رجل يطلب الصبيان. وكان أبو خارجة يقول اللهم أمتني قبل أن يخرج من ها هنا قوم ينبحون نباح الكلاب، يشير نحو أرض المغرب. وكان بنى مسجد عظيماً فيه نحو عشرين سارية عظاماً. فقالوا له من يرفع هذه السواري؟ قال الذي خلقها. فأصبحت السواري مرفوعة، ورؤوسها عليها. قال ابن مسكين: كان عندنا رجل له تابع فقال له يوماً: لأخوفن أبا خارجة. فنهاه صاحبه. فقال لأفعلن. فلما كان في الليل ركب أبو خارجة إلى منزله، فلقيه خيال، ثم عرض له شخص، فقصده أبو خارجة إلى منزله، فلقيه خيال، ثم عرض له شخص، فقصده أبو خارجة وجعل يضربه، ويفر منه، وهو يصيح، حتى غاب في الزيتون فذهب أبو خارجة. فأتى التابع صاحبه، وهو مما به أخبره، فقال: قد نهيتك.(3/319)
قال وكان أبو خارجة يصلي من الليل في مسجدٍ استضافه أهله، فبينما هو يصلي، نظر في ركن المسجد، وأراه بعد غلقه إلى شيخ قائم يصلي، فلما سلم أبو خارجة استل سيفه فهزه وقصده ويقول: أعلي تجسر، فاستمع منه وذهب! وكان يقول: لا تذهب الأيام والليالي حتى تمحى كتب أبي حنيفة. فكان كذلك أيام سحنون ومن حكمه قوله: ثلاثة من أعلام الإحسان كظم الغيظ، وحفظ الغيب، وستر العيب. وثلاثة من أعلام المعرفة: الإقبال على الله، والانقطاع إلى الله، والافتخار بالله. وثلاثة من أعلام الفكرة: سرعة الأفكار، وإدمان الاعتبار، وكثرة الاستغفار. وكان يقول عند إفطاره: الحمد لله الذي هداني فصمت، والحمد لله الذي رزقني فأفطرت، أن تعذبني فأنا أهل لذلك، وأن تغفر لي فأنت أهل لذلك. وكان يقول: ثلاث من أعطيهن فقد اغتبط: علم نافع، ورزق طيب، وعمل متقبل. وذكروا أنه أصاب الناس بصفاقس سبع سنين قحط، فأتوا أبا خارجة يستسقي لهم، فقال لهم تأتون غداً بنسائكم وصبيانكم، وبهائمكم، وتبيتون الصيام الليلة، فإذا كان غداً قفوا بين يده، وتضرّعوا إليه، فإنه يرق لحالكم. ففعلوا ذلك. فخرج أبو خارجة، فصلى بهم وخطب ودعا، ثم جلس إلى صلاة(3/320)
الظهر، ثم بسط يديه وقال: أنت مولانا ما لنا غيرك ولا سواك. بك نالوا الدرجة الرفيعة، والمواهب العالية، ولولاك ما نالوها، وأنت ذو رحمة واسعة، وأنت العالم بأحوالنا، وقبيح أعمالنا، وما لنا غيرك ولا سواك، وقد قامت آمالنا بك وقد جثونا بين يدك. بهائمنا جائعة، وأرضنا سوداء يابسة، وقلوبنا خائفة، وبيوتنا فارغة، وسماؤك عامرة، وخزائنك واسعة، فاسقنا سقية نافعة تجدد الإيمان في قلوبنا، ولا نبرح بين يدي كريم حتى يسقينا، وسيلتنا إليك نبينا الذي جعلته رحمة لنا. صلى الله عليه وسلم. وقال: فإذا بريح بيضاء بدت بهم، ثم اندفعت بالغيث. فمضى أبو خارجة يرفع ثيابه ويقول: بهذا يعرف الكريم، هذا فعلك فيمن قصدك. وبهذا تعرف وتوصف. وتوفي أبو خارجة في ربيع الأخير سنة عشر ومائتين، سنُّه ست وثمانون سنة. والله أعلم.(3/321)
؟
الحارث بن أسد
من أهل نقطة. كان ثقة خياراً مستجاباً يختم القرآن في كل ليلة من رمضان. أخذ عن مالك. روى عنه البهلول بن راشد، وعبد الله بن القاري، ومحمد بن تميم وغيرهم. قال الحارث لما أردنا وداع مالك دخلت عليه أنا وابن القاسم وابن وهب، فقال له ابن وهب: أوصنا. فقتل اتق الله وانظر عن تنقل. وقال لابن القاسم اتق الله وانشر ما سمعت. وقال لي اتق الله وعليك بتلاوة القرآن. قال الحارث لم يرني أهلاً للعلم. وقال محمد بن حارث رأيت في بعض الروايات أنه كان يستفتى فلا يفتي. ويقول لم يرني مالك أهلاً للعلم.(3/322)
محمد بن معاوية الحضرمي طرابلسي
من أصحاب مالك، وله عنه سماع، ثلاثة أجزاء. وله غيرها عن الليث رواها عنه محمد بن وضاح. قال أبو العرب التميمي: سمع من أبي معمر ومالك بن أنس موطأه، ومن الليث بن سعد وابن لهيعة وغيرهم، مشهور ثقة. وكان له سن وإدراك. سمع من أبي معمر صاحب أنس بن مالك. سمع منه بكر بن حماد، وفرات بن محمد. وحكى بكر أن سحنوناً قال فيه شيئاً. قال أبو علي بن البصري: هو أعلم من محمد بن ربيعة الحضرمي الطرابلسي. وكان أيضاً ابن ربيعة ممن روى عن مالك، وابن لهيعة، وأبي معمر وابن أبي حازم، وإبراهيم بن أبي يحيى. قال أبو العرب: قال محمد بن معاوية: كان بقي عليه شيء من الموطأ، من كتاب الصلاة، فأتيت إلى مالك وقد دخل الناس، فقال لي من يقرأ لك؟ قلت: حبيب. وكنت قاطعته بخمسة دراهم، ويضم الكتاب خمساً وعشرين ورقة. فقرأها لي حبيب في مجلس واحد. قال لي حبيب: لم تفتني دراهمك يا مغربي. وفي روايته في الموطأ، جامع الجامع. وليس ذلك عند غيره، من أصحاب مالك. ذكر ذلك أبو بكر بن محمد المالكي في كتاب الرياض ذلك.(3/323)
زكريا بن محمد بن الحكم اللخمي أبو يحيى
قال أبو العرب: كان ثقة مأموناً صالحاً. وكان من أهل العلم. سمع من مالك وحيوة بن شريح. وكان يستفتي بالقيروان مع أسد وأبي محرز وطبقتهم. وكان في عداد المدنيين منهم. ذكر أنه كان مع جماعة من العلماء عند زيادة الله بن الأغلب، فأتى بجراب فيه حلي من حلي النساء، ودنانير. فأعطى منه لمن حضر وأخذوا غير زكريا فأبى، ثم أنصرف فلما ولي جعل زيادة الله يقول وهو ينظر إليه: لله درك يا ابن الحكم. وذكر أبو العرب أيضاً في رواة مالك من أهل أفريقية: محمد بن عبد الحكم اللخمي، وأنه مأمون ثقة، وأنه توفي سنة ست ومائتين، ويحيى بن زكريا بن محمد ابن الحكم ابن التجيبي. قال أبو العرب: هو ثقة صالح. قال ابن فهري روى عن مالك. قال ابن وضاح: لقيت يحيى بن زكريا بن الحكم بالقيروان وهو شيخ.(3/324)
من أهل الأندلس
قرعوس بن العباس بن قرعوس بن حميد
ويقال عبيد بن منصور بن محمد بن يوسف الثقفي. قال القاضي أبو الوليد ابن الفضي: من أهل قرطبة. يكنى أبا الفضل. ويقال أبا محمد. رحل فسمع من مالك والثوري، وابن جريج والليث وابن أبي حازم وغيرهم. وكان رجلاً متديناً فاضلاً ورعاً، كان علمه المسائل على مذهب مالك وأصحابه ولا علم له بالحديث. وقيل: أنه سمع من مالك الموطأ. وغير شيء من ولا علم له بالحديث. وقيل: أنه سمع من مالك الموطأ. وغير شيء من مسائله. وقال يحيى بن يحيى وذكره: وهو رجل من أهل العلم كثير الفقه. لقي مالكاً وحمل عنه. وقال غيره: لم أر بالأندلس مرءة مثل قرعوس. قال القاضي أبو الوليد: وكان ممن اتهم في أمر البهج. فوفاه الله. يعني الذي هلك فيه أصحابه. وذكرنا عنه طرفاً في خبر يحيى بن مضر في الطبقة الأولى. روى عنه أصبغ بن خليل، وابن حبيب، وعثمان بن أيوب. وسأل قرعوس مالكاً عن الضرب الذي كان يضرب أبوه الناس، وكان أبو ولي السوق، وكان رجلاً صالحاً شديداً على أهل الريب، يضرب ضرباً شديداً.(3/325)
فقال له مالك: إن كان فعل ذلك غضباً لله وذباً عن محارمه فأرجو أن يكون خفيفاً. وكان ممن اتهم بالهيج والقيام بالربض على السلطان، فسيق فيمن سيق ملببّاً. ووقف به تحت النطع، وكلمه فتى على لسان الأمير، وقال له: مثلك من أهل الديانة والأمانة في العلم، يتابع السفلة. فلو نفذ لهم أمركم كان يهتك من الستور ويستحل من الفروج، إلى أن يقوم إمام يريح الناس. فقال معاذ الله أن أفعل وأن أقع في مثل هذا. بيدٍ أو لسان، فقد سمعت مالكاً والثوري يقولان: سلطان جائر سبعين سنة خير من أمة سائبة ساعة من نهار. فقال له الحكم أنت سمعت منهما؟ قال لقد سمعته منهما. فخلّى سبيله. وتوفي قرعوس سنة عشرين ومائتين. وقد اعترض على ما ذكر من روايته عن سفيان وابن جريج. فقال علي بن حزم: من المحال أن يروي قرعوس عن ابن جريج، إذ مات ابن جريج سنة خمسين ومائة، وقرعوس مات سنة عشرين ومائتين. ولم يطل عمر قرعوس طولاً يحتمل هذا. وكذلك وفاة سفيان سنة إحدى وستين.(3/326)
محمد بن بشير القاضي
قال الفقيه أبو عبد الله بن حارث: هو أبو عبد الله، محمد بن سعيد بن بشير ابن شراحيل. ويقال، إسرافيل المعافري، أصله من جند باجة، وعداده في عرب مصر. كتب في حداثته للقاضي المصعب بن عمران. ثم رحل إلى المشرق، فلقي مالكاً وجالسه، وسمع منه، واقتبس أيضاً بمصر، ثم انصرف إلى الأندلس، فلزم ضيعته بباحة إلى أن استدعي للقضاء بقرطبة. قال غيره: روى عن مالك الموطأ قال أحمد بن خالد: طلب ابن بشير العلم بقرطبة عند مشيختها، فأخذ منه بخط وافر، ثم كتب لوالي باجة ليعتصم به من ظلمة نالته، ثم انقبض وخرج حاجاً، فقضى الفريضة وأشبع في المعرفة. قال ابن القوطية: كتب أولاً لوالي بلده، ثم رغب عن ذلك ومال إلى العلم، وقال: أن المصعب القاضي إنما استكتبه بعد صدوره من المشرق. وحكى عن مالك أنه كان يقول: انظروا في هذه الكتب ولا تخلطوها بغيرها. يعني الموطأ. وكان يحيى بن يحيى كثيراً ما يحكى عنه، عن مالك من ذلك أنه سأل مالكاً عن لبن الأتن فلم ير به بأساً.(3/327)
الثناء عليه
قال: كان يحيى بن يحيى، أشدَّ الناس تعظيماً لمحمد بن بشير، وأحسنهم ثناء عليه. في حياته، وبعد وفاته. ولقد سئل عن لباس العمائم فقال: هي لباس الناس بالمشرق، وعليه كان أمرهم في القديم. فقيل له لو لبستها، لتبعك الناس. فقال قد لبس محمد بن بشير الخزّ، فلم يتبع فيه، وكان ابن بشير أهلاً أن يقتدى به. وذكره ابن القوطية فقال فيه، خير القضاة بالأندلس، وأفضلهم وأعدلهم. وقال عبد الملك بن حبيب: كان ابن بشير، من خيار المسلمين. ووصف عدله وفضله، قال: وكان يصلي بنا الجمعة، وعليه قلنسوة خز. قال ابن حارث: من مستفيض الأخبار التي لا يتواطأ على مثلها، لسعة الاجتماع عليها، أنّه كان من عيون القضاة الهداة، ومن أولي السداد والمذاهب الجميلة، وأصالة الرأي والسيرة العادلة، والذكر الجميل الخالد، وكان شديد الشكيمة ماضي العزيمة، صلباً في الحق، مؤيداً لا هوادة عنده لأحد. ولا مداهنة لديه لأحد. من أصحاب السلطان، لا يؤثر غير الحق في أحكامه. جيّد الفطنة حسن الإنبساط صادق الحسّ قوي الإدراك.(3/328)
ولايته القضاء وسيرته
قال ابن القوطية: لما توفي المصعب بن عمران القاضي، استشار الأمير الحكم فيمن يستقضيه، فأجمع له وزراؤه وأعلام الناس، على محمد، بن بشير كاتب المصعب، وكان قد شهر عفافه واستقلاله بعهد المصعب، فولاه القضاء. فأثر على المصعب، وبعد في الفضل والعدل وصيته، وخلدت آثاره بعد. فلم يزل قاضياً إلى أن توفي فولي ابنه سعيد مكانه، قال ابن حارث: رأيت في بعض الكتب، أن ابن بشير لما وجه فيه، عدل في بعض طريقه إلى صديق له عابد، فنزل عليه، وتحدث معه في شأن نفسه، وتوقعه أنه وجه إليه في الكتابة التي قد تخلى عنها، فقال له صديقه: ما أرى بعث فيك إلا للقضاء. فقد مات قاضي قرطبة. فقال له ابن بشير: فإذا قبلتها فما ترى، فانصح لي وأشر علي. قال له العابد: أسألك عن ثلاثة أشياء فاصدقني فيها. كيف حبك لأكل الطيب، ولباس اللين، وركوب الغاره؟ فقال ابن بشير: والله ما أبالي ما رددت به جوعي، وسترت به عورتي، وحملت به رجلي، فقال هذه واحدة. فكيف حبك للوجوه الحسان وشبه هذا من الشهوات. فقال ابن بشير هذه حالة والله ما استشرقت نفسي إليها قط، ولا خطرت ببالي. قال: هذه ثانية. كيف حبك للمدح والثناء وكراهتك للعزل، وحب الولاية.(3/329)
قال والله ما أبالي في الحق من مدحني أو ذمني وما أسرّ بالولاية ولا أستوحش للعزل. فقال له: أقبل القضاء، ولا بأس عليك. وذكر أن ابن بشير ولي القضاء بقرطبة مرتين، وكان بعض أخوانه يعتبه في صلابته في الحكومة، ويقول: أخشى عليك العزل. فكان يقول: ليته رأى الشقراء تقطع الطريق إلى ماردة، فما قضى إلا يسير حتى حدثت حادثة أظهر ابن بشير صلابته، فكانت سبباً لعزله. فانصرف لبلده كما تمنى. فما لبث إلا يسيراً حتى أتى فيه بريد من قبل الأمير، فرفعه إلى قرطبة، فعدل في بعض الطريق إلى صديق له زاهد، فاجتمع معه، وقال له قد أرسل فيّ الأمير، وأظنه أنه يردني على القضاء ثانية. فما ترى؟ فقال له صديقه: إن كنت تعلم أنك تنفذ الحق على القريب، والبعيد ولا تأخذك في الله لومة لائم، فلست أرى لك أن تحرم الناس خيرك، وإن كنت تخاف أن لا تعدل فترك الولاية أفضل لك. قال ابن بشير: أما الحق فلست أبالي على ما أمررته، إذا ظهر لي. فقال له: لست أرى أن تمنع الناس خيرك. فورد إلى قرطبة وولي القضاء ثانية. وقال بعضهم: إن سبب عزله، أن يده قصرت عن بعض الخاصّة، ومنع من الحكم عليها، فحلف بطلاق زوجته ثلاثاً وعتق مماليكه وبصدقة ما يملك على المساكين أن حكم بين اثنين،(3/330)
فعزل. فلما أراد رده، اعتذر إليه، بتلك الأيمان، فعزم الأمير عليه، واعتق وطلق وتصدق وأخرج إليه الأمير جارية من جواريه ومالاً عوضاً من ماله، ومماليكاً عوضاً من مماليكه. قال أبو عبد الملك بن عبد البر: كان محمد بن بشير، قد اشترط على الأمير الحكم عندما تولى له القضاء، ثلاثة شروط مضمونة إن التزمتها لي تقدمت، وإلا فلا أقبل البتة، نفاذ الحكم على كل أحد ما بينك وبين حارس السوق، وإن ظهر لي من نفسي عجز، أستعفيتك، فأعفني. وأن يكون رزقي من الفيء. فضمنها له. قال ابن الحارث: وكان محمد بن بشير فيما قاله لي عنه بعض العلماء: أنه كان قبل الشاهد عنده على التوهم والفراسة. وربما عول على تزكية السر من أهل الثقة. قال: وكان يقضي في سقيفة مغلقة بقبلي مسجد أبي عثمان، بأول الربض الغربي، فكان إذا قعد للقضاء هناك، جلس وحده وخريطته بين يديه. فتولى تقليبها بيده، ويتقدم إليه الخصوم على كتبته، مرتبة، فيقف الخصمان على أقدامهما، بين يديه. ويدليان بحجتهما من غير صخب، فيفصل بينهما. وكان رسمه القعود للخصوم من غدوة إلى وقت الزوال. ثم يعود للقعود بعد صلاة الظهر، إلى العصر، فلا ينظر غير أسماعه من البيّنات، ويقيد(3/331)
الشهادات، لا يسمع ذلك في غير ذلك الوقت، ولا يخلو به أحد في مجلس نظره، ولا داره. ولا يقرأ كتاباً لأحد في سبب خصومه، ولا يرخص إليه. قال ابن وضاح: تولى محمد بن بشير القضاء، طبع عشر طوابع يرفع بها الناس إليه. ثم لم تزل في خريطته بعينها، إلى أن مات. فإذا سأله رجل طابعاً لرفع خصم كشفه له، عما يريده له. فإن كان قريباً بقرطبة أعطاه إياه، وأمر كاتبه يزمُّ اسمه ومسكنه، واسم من أخذ الطابع فيه، ويعهد إليه بصرف الطابع إليه، إذا حضر خصمه، ويعنفه ويدعوه إن كان أخذه مبطلاً، فإن كان بعيداً أجل له بقدر بعده. قال يحيى لمحمد بن
بشير: إن الحالات بالناس تتغير، ولا تثبت. فإذا عدل عندك الرجل فحكمت بشهادته عن صحة نظر، حتى تطاول العهد وعادت الشهادة عندك، فأعد فيه نظرك، وكلفه التعديل، إن رابك، واستأنف الكشف عنه، فعمل بذلك وأخذ الشهود وحذرهم منه. وكان ابن بشير يشاور في قضائه عبد الملك بن الحسن زونان والغازي بن قيس، والحارث ابن أبي سعد، وإسماعيل ابن البشير التجيبي، ومحمد بن سعيد السبائي. قال ابن حارث: وكانوا إذا اختلفوا عليه، كتب إلى مصر إلى عبد الرحمان بن القاسم، وعبد الله بن وهب، قال القاضي أسلم عبد العزيز بن بقي بن مخلد؛ قال: كانت لمحمد بن بشير في قضائه مسالك رقاق، ومذاهب لطاف لم تكن لقاض قبله في الأندلس. ولا يقارن إلا بمن تقدم في صدر هذه الأمة. ورأيت له غير سجل فوجدتها مختصرة جداً، محتوية على فص المعنى، من غير إكثار. إنما هي أسطار قليلة. خلاف ما يختلف الآن في زماننا من الكلام. ذكر بعضهم أن ابن سماعة صاحب الخيل، شكا إلى الأمير، أن ابن بشير يحيف عليه. فقال: أنا أمتحن قولك الساعة بواحدة. أخرج من فورك فاقصده، واستأذن عليه. فإن إذن لك صدقت قولك وعزلته. وإن لم يأذن لك دون خصمك ازددت بصيرة فيه. فخرج نحوه، فلما استأذن عليه خرج الإذن له أن كانت لك حاجة فاقتصد لذكرها مجلس القضاء. إذا جلس القاضي فيه، فلا سبيل إلى لقائه. وأعلم الأمير بذلك، فوافقه. قال قاسم بن هلال: شهد عند ابن بشير رجل من أهل البادية في معارفه، فاحتاج إلى تعديله، فدخلت أنا وابن مرتيل وثالث معنا. فقال: ما جاء بكم؟ قلت لأعدل هذا الرجل. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وبها كان يستفتح حكومته. قال قاسم: فلما سمعته قهقرت، فحوّل وجهه نحونا. وقال لنا: الله الذي لا إلاه إلا هو إنه عندكم رضى. فقلنا له: بيمين أصلحك الله. قال والله لا أكتب له اسماً إلا أن تحلفوا بها، أنه كذلك. فتورعنا وانصرفنا. وشهد عنده رجل، رافقه من الحج، له منه مكانة، فلم يقبل شهادته. فقال الخصم: عرفني بمن لم تقبل، لأنظر في تعديله. فقال له محمد: فلان صاحبي. ولن ينفعك تعديله عندي. فبلغ ذلك الرجل، فجاءه في مجلسه على رؤوس الناس وسأله عن سبب ذلك، وقال له: جمعنا وإياك المنشأ والحضر، وطلب العلم وطريق الحج، وعلمت من باطني ما علمت من باطنك فعرفني بالسبب أمام الناس، لأعرفه وأعرف بخطئي فيه أمام الجماعة. فقال ابن بشير: صدقت. وما عثرت لك في كل ذلك على جرحة في دينك، ولكن صدرنا من الحج فنزلنا مصر، وأخذنا في السماع من شيوخنا، والمقام بها، وشكوت لي الغربة ونظرت في شراء خادم، فقلت لي: وجدت خادماً تساوي على وجهها كذا وكذا، وبيدها صنعة. فقلت لك: لا حاجة لك بصناعتها. وإنما تشتريها للمتعة. فدعها فلا معنى للزيادة فيها. فعصيتني واشتريتها. فلما رأيت الشهوة قد غلبتك في إتلاف ذلك في المغالاة فيها، خشيت أن تكون مثلها، قادتك إلى مثل هذه الشهادة. وشهد عنده صديق له يكنى بأبي اليسع، فرد شهادته، فعتبه في ذلك وقال: على محبتي فيك وخاصتي بك. فقال له الورع: يا أبا اليسع الورع يا أبا اليسع. فلم يزده على ذلك. وشهد عنده رجلان ممن يُظنُّ بهما خيراً لمملوكٍ لمتوفى، أن مولاه أعتقه وزّوجه ابنته، وأوصى إليه بماله، وقضى بشهادتهما، فلم يلبث أحد الشاهدين أن حضرته الوفاة، فأوصى إلى القاضي أنه يريده. فدخل عليه، فلما أبصر به الشاهد، وهو في كربة، جثا على ركبتيه، وجعل ينجز إليه، فقال له القاضي: ما شأنك؟ فقال إني في النار إن لم تنقذني منها. الشهادة التي شهدت بها عندك بفلان لم يكن منها شيء فاتق الله وافسخ الحكم. فلم يزد محمد بن بشير على أن وضع يديه على ركبتيه، ثم قام وجعل يقول قضي الحكم، وأنت في النار. وخرج عنه. قال الفقيه القاضي أبو الفضل عياض رضي الله تعالى عنه: ما فعله ابن بشير من إمضاء الحكم صواب، وقوله وأنت في النار دون استثناء. لعله قصد به الإغلاظ لأمثاله من شهداء السوء. وإلا فحتمية الله في العفو عنه. من وراء هذا بفضلة، بقبول توبة مثله، ومحو سيئته بها، موعود به. بشير: إن الحالات بالناس تتغير، ولا تثبت. فإذا عدل عندك الرجل فحكمت بشهادته عن صحة نظر، حتى تطاول العهد وعادت الشهادة عندك، فأعد فيه نظرك، وكلفه التعديل، إن رابك، واستأنف الكشف عنه، فعمل بذلك وأخذ الشهود وحذرهم منه. وكان ابن بشير يشاور في قضائه عبد الملك بن الحسن زونان والغازي بن قيس، والحارث ابن أبي سعد، وإسماعيل ابن البشير التجيبي، ومحمد بن سعيد السبائي. قال ابن حارث: وكانوا إذا اختلفوا عليه، كتب إلى مصر إلى عبد الرحمان بن القاسم، وعبد الله بن وهب، قال القاضي أسلم عبد العزيز بن بقي بن مخلد؛ قال: كانت لمحمد بن بشير في قضائه مسالك رقاق، ومذاهب لطاف لم تكن لقاض قبله في الأندلس. ولا يقارن إلا بمن تقدم في صدر هذه الأمة. ورأيت له غير(3/332)
سجل فوجدتها مختصرة جداً، محتوية على فص المعنى، من غير إكثار. إنما هي أسطار قليلة. خلاف ما يختلف الآن في زماننا من الكلام. ذكر بعضهم أن ابن سماعة صاحب الخيل، شكا إلى الأمير، أن ابن بشير يحيف عليه. فقال: أنا أمتحن قولك الساعة بواحدة. أخرج من فورك فاقصده، واستأذن عليه. فإن إذن لك صدقت قولك وعزلته. وإن لم يأذن لك دون خصمك ازددت بصيرة فيه. فخرج نحوه، فلما استأذن عليه خرج الإذن له أن كانت لك حاجة فاقتصد لذكرها مجلس القضاء. إذا جلس القاضي فيه، فلا سبيل إلى لقائه. وأعلم الأمير بذلك، فوافقه. قال قاسم بن هلال: شهد عند ابن بشير رجل من أهل البادية في معارفه، فاحتاج إلى تعديله، فدخلت أنا وابن مرتيل وثالث معنا. فقال: ما جاء بكم؟ قلت لأعدل هذا الرجل. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وبها كان يستفتح حكومته. قال قاسم: فلما سمعته قهقرت، فحوّل وجهه نحونا. وقال لنا: الله الذي لا إلاه إلا هو إنه عندكم رضى. فقلنا له: بيمين أصلحك الله. قال والله لا أكتب له اسماً إلا أن تحلفوا بها، أنه كذلك. فتورعنا وانصرفنا.(3/333)
وشهد عنده رجل، رافقه من الحج، له منه مكانة، فلم يقبل شهادته. فقال الخصم: عرفني بمن لم تقبل، لأنظر في تعديله. فقال له محمد: فلان صاحبي. ولن ينفعك تعديله عندي. فبلغ ذلك الرجل، فجاءه في مجلسه على رؤوس الناس وسأله عن سبب ذلك، وقال له: جمعنا وإياك المنشأ والحضر، وطلب العلم وطريق الحج، وعلمت من باطني ما علمت من باطنك فعرفني بالسبب أمام الناس، لأعرفه وأعرف بخطئي فيه أمام الجماعة. فقال ابن بشير: صدقت. وما عثرت لك في كل ذلك على جرحة في دينك، ولكن صدرنا من الحج فنزلنا مصر، وأخذنا في السماع من شيوخنا، والمقام بها، وشكوت لي الغربة ونظرت في شراء خادم، فقلت لي: وجدت خادماً تساوي على وجهها كذا وكذا، وبيدها صنعة. فقلت لك: لا حاجة لك بصناعتها. وإنما تشتريها للمتعة. فدعها فلا معنى للزيادة فيها. فعصيتني واشتريتها. فلما رأيت الشهوة قد غلبتك في إتلاف ذلك في المغالاة فيها، خشيت أن تكون مثلها، قادتك إلى مثل هذه الشهادة. وشهد عنده صديق له يكنى بأبي اليسع، فرد شهادته، فعتبه في ذلك وقال: على محبتي فيك وخاصتي بك. فقال له الورع: يا أبا اليسع الورع يا أبا اليسع. فلم يزده على ذلك. وشهد عنده رجلان ممن يُظنُّ بهما خيراً لمملوكٍ لمتوفى، أن(3/334)
مولاه أعتقه وزّوجه ابنته، وأوصى إليه بماله، وقضى بشهادتهما، فلم يلبث أحد الشاهدين أن حضرته الوفاة، فأوصى إلى القاضي أنه يريده. فدخل عليه، فلما أبصر به الشاهد، وهو في كربة، جثا على ركبتيه، وجعل ينجز إليه، فقال له القاضي: ما شأنك؟ فقال إني في النار إن لم تنقذني منها. الشهادة التي شهدت بها عندك بفلان لم يكن منها شيء فاتق الله وافسخ الحكم. فلم يزد محمد بن بشير على أن وضع يديه على ركبتيه، ثم قام وجعل يقول قضي الحكم، وأنت في النار. وخرج عنه. قال الفقيه القاضي أبو الفضل عياض رضي الله تعالى عنه: ما فعله ابن بشير من إمضاء الحكم صواب، وقوله وأنت في النار دون استثناء. لعله قصد به الإغلاظ لأمثاله من شهداء السوء. وإلا فحتمية الله في العفو عنه. من وراء هذا بفضلة، بقبول توبة مثله، ومحو سيئته بها، موعود به.
ذكر زيّه
وكان ابن بشير، قبل استقضائه يفرّق شعره إلى شحمة أذنيه، ويلتحف رداءاً معصفراً على الرسم الأقدم، وكان حسن الزي جميل الخلق، فتمادى على زيه في قضائه. قال ابن وضاح: أخبرني من كان يرى محمد بن بشير القاضي داخلاً على باب المسجد الجامع يوم الجمعة، وعليه رداء معصفر، في رجليه حذاء صرَّار. وعليه جمة مفروقة. ثم يقوم يخطب ويصلي في زيه وكذا كان يجلس للقضاء بين الناس، وأن العيون لتغضي عنه مهابة، فإن رام واحد نيل شيء من دينه، وجده أبعد منالاً من الثريا.(3/335)
ولقد أتى رجل طاريّ مجلسه لحاجة عنّت له، فسأل عنه بعض من جلس إلى قربه، فأرشده إليه، فلما رآه في زيه ذلك، وآثار الزينة في أطرافه من الخضاب والكحل والسواك، بمحياه، رابه أمره، واتهم من أرشده، وقال يا هؤلاء: رجل غريب سألكم عن قاضيكم فسخرتم بي، أسألكم عن قاض فتدلوني عن زامر. فأسكتوه. فقالوا: ما كذبناك. وزجر من كب ناحية. فقال له ابن بشير: تقدم واذكر حاجتك. ففعل الرجل. فوجد عنده فوق ظنه. قال زونان: عاينت محمد بن بشير في إرساله اللمة ولبسه الخز والمعصفر، فقال إني على بينة من ربي، حدّثني مالك، أن محمد بن المنكدر كان سيد القراء، وكانت له لمة. وأن هشام بن عروة كان فقيه هذا البلد، يعني المدينة. وكان يلبس المعصفر، وأن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، كان يلبس الخز. فماذا تعيب من هؤلاء. ألا إنهم إسوة. وكان محمد بن عيسى الأعشى يعرض بالقاضي محمد لزيه هذا، ويسميه في جميع ذكره بعشر الدلاّل - اسم مخنث كان بالمدينة - حتى بلغ ذلك ابن بشير. فجمعه والأعشى مجلس أمكنه فيه القول، فانعطف ابن بشير وقال: يا أبا عبد الله. إن الشر لا يعجز عنه أحد، وإن الخير لا يناله إلا أهل الصبر الجميل، ومن يقدم على نفسه بالرياضة المحمودة، فاقصر عما بلغني عنك، فإنه أجمل بك، واستحياه، واقتصر فيما بعد.(3/336)
ومن المبسوطة قال يحيى بن يحيى: لا تجد من يعقل، يلزم ما يعاب عليه، ولقد رأيت محمد بن بشير لبس ما لا يعرف ببلده، يعني الخزّ فما لبسه إلا أربعين يوماً، ثم ترك ذلك لاستبشاعه، لا لغير ذلك.
ذكر شيء من أعيان اقضيته التي دلت على ثبات قدمه
في الحق وبقية خبره
قال أحمد بن خالد: كان أول ما أنفذه ابن بشير من نافذ أحكامه، التسجيل على الأمير الحكم، في أرحي القنطرة بباب قرطبة، إذ أثبت عنده حق مدعيها، ولم يكن عند الأمير مدفع. فسجل فيها، وأشهد على نفسه. فما مضت مديدة حتى ابتاعها ابتياعاً صحيحاً، فسر بذلك الحاكم، بعد مسألة وجعل يقول: رحم الله ابن بشير فقد أحين فيما فعل بنا على كره منا، إذ كان في أيدينا شيء مشتبه فصحح ملكه لنا. قال ابن وضاح: حكم ابن بشير على ابن فطيس الوزير في حق ثبت عنده، دون أن يعرّفه بالشهود عليه. فشكا ابن فطيس ذلك إلى الأمير، وتظلم منه. وأومأ إلى ابن بشير بذلك، وذكر شكوى ابن فطيس من امضائه الحكم عليه، دون أعذار، وهو حق له بإجماع أهل العلم. فكتب إليه ابن بشير: ليس ابن فطيس ممن يعرَّف بمن شهد عليه، لأن إن لم يجد سبيلاً إلى تجريحهم لم يتحرج عن أذاهم، فيدعون بالشهادة هم ومن ائتسى بهم ويضيع أمر الناس.(3/337)
وقال ابن وضاح: وكان سعيد الخير، عم الأمير الحكم، وكلّ وكيلاً يخاصم له عند محمد بن بشير في مطلب، فهم به عنده عليه، وكانت في يد سعيد وثيقة فيها شهادات جماعة من العدول، أتى الموت عليهم ما عدا شاهد واحد، من أهل القبول، مع شهادة الأمير الحكم ابن أخيه، فاضطر عمّه إليها في خصومته لما قبل القاضي شهادة الأخير، وضرب الآجال لوكيله في شاهد ثان. فدخل سعيد على الأمير وعرفه حاجته، إلى شهادته، وكان الحكم معظماً لعمه، فقال له: يا عم، اعفني من هذه الكلفة. فقد تعلم أنا لسنا من أهل الشهادة عند حكامنا. إذ التبسنا من فتن هذه الدنيا بما لا نرضى به عن أنفسنا، ولا نلومهم على مثل ذلك فينا. ونخشى أن توقفنا مع هذا القاضي موقف خزي نفديه بملكنا. فصر في خصامك حيث ظهر لي الحقن وعلينا خلف ما ينقصك وأضعافه، فهمّ سعيد في ذلك وعزم عليه، إلى أن وجه شهادته مع فقيهين يؤدياهما إلى القاضي، فأدّياها إليه. فقال لهما: قد سمعت منكما فقوما راشدين، وجاءت دولة وكيل سعيد الخير، فتقدم مدلاً واثقاً، فقال أيها القاضي: قد نقلت إليك شهادة الأمير، فما تقول؟ فأخذ كتاب الشهادة وعاد النظر فيها. ثم قال: هذه شهادة لا تعمل عندي، فجئني بغيرها. فمضى الوكيل إلى سعيد فأعلمه، فركب من فوره إلى الحكم، فقال ذهب سلطاننا وأهينت عزتنا بتجري قاضيك الحروري على ردّ شهادتك! هذا ما لا يجب أن نتحمله عليه. وأكثر من هذا وأغرى بابن بشير، والأمير مطرق. فلما فرغ من كلامه، قال له: يا عم هذا ما قد ظننته، وقد آن لك أن تقصر عنه بالحق،(3/338)
فالحق أولى بك. والقاضي قد أخلص يقينه لله، وفعل ما يجب عليه ويلزمه. ولو لم يفعل ما فعله، لأجال الله بصيرتنا فيه، فأحسن الله جزاءه عنا، وعن نفسه، ولست اعترض للقاضي بعد فيما احتاط لنفسه. فذكر أن بعض أقران ابن بشير اعتبه فيما أتاه في ذك. فقال له: يا عاجز ألا تعلم أنه لا بد من الإعذار في الشهادات، فمن كان يجتريء على الدفع في شهادة الأمير لو قبلتها. ولو لم أعذر لبخست المشهود عليه حقه. وحكي أنه كانت لمحمد بن بشير، أيام نزوله بقرطبة خادم سوداء، اسمها بلاغ، تخدمه. ويستمتع بها عند حاجته. فكان إذا غشيها وقضى وطره منها، دفع صدرها بيده وقال: بلاغ أن فيك بلاغاً إلى حين. قال ابن حارث: إن حظية للأمير الحكم بات عندها في بعض الليالي فافتقدته في بعض الليل، ولم تصبه، فهاجت غيرتها وقامت تقفو أثره، فأصابته قائماً تحت شجرة في الحائط يصلي ويدعو ويجتهد فلما انصرف إلى مرقده ألّحت عليه في السبب الموجب لذلك، وظنت أن أمراً طرقه، فقال: ما ذاك إلا أن محمد بن بشير القاضي، لما به فأشفقت من نقده، وأعجزني الاعتياض منه، فقد كنت جعلته فيما بيني وبين الله في أحكام الناس، فأسندت منه إلى ثقة إذ كانت نفسي مستريحة إلى عدله، فناجيت الله تعالى ودعوته دعوة مضطر إلى إجابته، في أن يحسن عزائي عنه، ويجعل عوضي منه. وكانت وفاة ابن بشير سنة ثمان وتسعين ومائة. فاستقضى الحكم بعده ابنه سعيد بن محمد. وقيل، الفرج ابن كنانة، وسيأتي ذكرهما في طبقتهما إن شاء الله تعالى.(3/339)
طالوت بن عبد الجبار المعافري
من أهل قرطبة. قال أبو بكر بن القوطية: كان أحد ممن أخذ عن مالك بن أنس ونظرائه، من أهل العلم. وشهر بالصلاح والفضل. وإليه ينسب المجد والحفرة، بداخل مدينة قرطبة. وهناك كان مسكنه. وكان هذا المتخفي من أعلام فقهاء قرطبة، في ثورة أهل قرطبة على أميرهم الحكم بن هشام. وظفر بهم، وهو صاحب القصة المشهورة المضروب بها المثل في الوفاء بالذمة. وكان طالوت قد استخفى خوفاً على نفسه، عند رجل من اليهود من جيرانه، وثق به. فتقبله أحسن قبول. ومكث عنده بأفضل حال، حولاً. حتى طفيت الثائرة وظن الفتية أنه أهل اليهودي. وكانت بينه وبين أبي البسّام الوزير، وصلة جذبها إليه رجاء الأخذ له الأمان. فساء اليهودي تحوّله عنه، ونصحه. فلج وقصد الوزير خفية بين العشائين فأظهر القبول، وسأله أين كان قبل. فأخبره فصوّب رأيه في انتقاله إليه، ووعده الشفاعة له، وبادر بالركوب في وقته، وقد وكل به من يحرسه، فقال الأمير ما رأيك في عجل سمين عاكف على مذودة منذ سنة يلذ مطعمه، هذا طالوت رأس المنافقين عندي. قد أظفرك الله له. قال: قم فعجّل به،(3/340)
ووثب فجلس على كرسي بباب مجلسه، يتوقد غيظاً عليه. فلم يلبث أن أدخل طالوت عليه، فجعل يتقرعه بذنوبه، ويقول: طالوت الحمد الله الذي أظفرني بك، ويحك أخبرني لو أن أباك أو أبنك قعد مقعدي بهذا القصر، أكانا يزيدانك من البر وألإكرام على ما فعلته أنا بك؟ هل رددت قط حاجة لك أن لغيرك؟ ألم أشاركك في حلوك ومرِّك؟ ألم أعدك مرات في محلاتك؟ ألم أشاركك في حزنك على زوجتك؟ ومشيت في جنازتها راجلاً إلى مقبرة الربض؟ وانصرفت مقك كذلك إلى منزلك؟ وغير شيء من التوقير فعلته بك؟ ما حملك على ما قابلت به إجمالي؟ ولم ترض مني إلا بخلع سلطاني، وسعي لسفك دمي، واستباحة حرمتي؟ فقال له طالوت: ما أجد لي في هذا الوقت مقالاً أنجى من صدقك به. أبغضتك لله وحده. فلم ينفعك عندي كل ما صنعته، عوض دنياك. فسري عن الأمير وسكن غيظه، وملىء عليه رقة. فقال: والله لقد أحضرتك، وما في الدنيا عذاب إلا وقد عرضته اختار بعضه لك، وقد حيل بيني وبينك، فأنا أعلمك أن الذي أبغضني له، صرفني عنك، فانصرف في أمان الله تعالى، وانصرف حيث شئت، وارفع إليّ حاجتك، فلم تعدم فيّ براً. فيا ليت الذي كان لم يكن. فقال له طالوت صدقت فلو لم يكن كان خيراً لك، ولا مرد لأمر الله. فلم يزل طالوت لديه بعد مبروراً، إلى أن توفي عن قريب، فأنبىء له الحكم وحضر جنازته وأثنى عليه به بصدقه.(3/341)
وسأل الحكم طالوتاً بعد أن أمنه في ذلك المجلس، كيف ظفر بك صاحبك الوزير؟ قال أنا أظفرته بنفسي عن ثقة، لوصلة بيني وبينه، ليشفع لي عندك، فكان منه ما رأيت. فقال له: فأين كان مثواك قبل؟ فأخبره بخبر اليهودي، فقال الحكم للوزير: سوءة لك رجل في أعداء الملة حفظ لهذا الشيخ محله في الدين والعلم، فأخطر بنفسه فيه، وناقضت أنت ذلك وهو من خيار أهل ملّتك، وأردت أن تزيدنا فيما نحن قائمون عليه، في سوء الانتقام. أخرج عني قبّحك الله. ولا ترني وجهاً ووفر أرزاقه، وطويت في بيت الوزارة فراشه. فسقط آخر الدهرن وذهب عقبه وما زالوا في ارتكاس وخمول، وقد قيل إن إعلامه إياه بهذا القضية، وتباين ما بين الرجلين، كان سبب عفو الأمير عن طالوت، وانقلاب حقده على الوزير الواشي به. فالله أعلم.(3/342)
عبد الرحمان بن موسى، الهوَّاري أبو موسى
من أهل استجه
ذكر ابن حارث، إنه استقضي على بلده، أيام الأمير عبد الرحمان في الحكم قال القاضي أبو الوليد: رحل أول خلافة الإمام عبد الرحمان بن معاوية، فلقي مالك بن أنس، وابن عيينة، ونظرائهما من الأئمة. ولقى الأصمعي وأبا زيد، وغيرهما من رواة الغريب. وداخل الغريب. وداخل العرب وتردد في محالها، وصدر إلى الأندلس، من سفره، فعطب ببحر تدمير فذهبت كتبه، فلما قدم استجه أتاه أهلها يهنئونه بقدومه، ويعزونه بذهاب كتبه فقال لهم: ذهب الخرج وبقيت الدرج. يعني ما في صدره. وكان فصيحاً ضرباً من الإعراب، حافظاً للفقه والتفسير والقراءة. وله كتاب في تفسير القرآن قد رأيت بعضه. رواه عنه محمد بن أحمد العتبي، ومسيب بن سليمان الأستجي، وروى عنه أيضاً اصبغ بن خليل، وهو كان القائم بالقضاء أيام الحكم بن هشام بعد صعصة بن سلام ووفاته. قال القعنبي وكان أبو موسى إذا قدم قرطبة لم يفت عيسى، ولا سعيد بن حسان، حتى يرتحل عنها، توقيراً له. وكان يسكن بعض قرى مورور، ثم انتقل إلى استجة.(3/343)
عبد الرحمان بن عبيد الله
من أهل الأشبونة. قال ابن الفرضي: قال خالد: كان متردداً إلى قرطبة. وكان قد سمع من مالك ابن أنس، وكان له مكرماً. ذكر هذا غير واحد. ويقال إنه من روى الموطأ عنه. روى عنه عبد الملك زونان، وغيره. قال عبد الرحمان: كنت يوماً جالساً إلى جنب مالك ابن أنس، فنظر إلى ابن وهب وقال: سبحان الله أيما فتى، لولا الإكثار.
حسان وحفص ابنا عبد السلام السلمي
من أهل سرقسطة، ذكر غير واحد. رحلتهما إلى مالك، وسماعهما منه. قال ابن أبي دليم: ورويا عنه الموطأ. قال ابن الفرضي: وكان جميعاً فاضلين، ورحلا معاً إلى مالك. وكان حسان أسنّ من حفص. وكان من أهل العلم والتديّن. وكان حفص متفنناً في العلوم بليغاً حاذفاً. كنيته أبو عمر. ويحكى أنه لزم مالك مدة سبعة أعوام. وكان مالك يُدني منزلته. وسرد الصيام أربعين سنة. وكان الأمير الحكم يستقدمه كل عام يؤم به في رمضان.
شبطون بن عبد الله الأنصاري
الطليطلي. ولي القضاء ببلده، وذكره أبو سعيد وابن مفرج وابن أبي دليم، وغيرهم. في الرواة عن مالك. وذكر ابن أبي دليم أنه سمع منه الموطأ، وقيل إنه سمع منه كثيراً. وكان يسمع منه حتى مات. وتوفي سنة اثنتي عشرة ومائتين.(3/344)
محمد بن يحيى السبائي من أهل قرطبة
يكنى أبا عبد الله. كان يعرف بفطيس بن أم غازية. روى عن مالك بن أنس الموطأ، فيما ذكره ابن دليم. وسمع منه مسائل معروفة. روى عنه قاسم بن هلال. قال ابن الفرضي: وفي كتاب أحمد بن محمد بن سعيد السبائي، وفي رواية ابن لبابة: محمد بن يحيى. فلا أدري أهما رجلان أم واحد. اختلف في اسم أبيه. وفي كتاب أبي سعيد المصري، في موضع محمد ابن يحيى السبائي قرطبي. سمع من مالك ابن أنس. وقال في موضع آخر: محمد بن سعيد بن عبد الله بن عبد الرحمان بن سالم بن خشخاش بن أبي وعلة السبائي. أندلسي قديم. كان المفتي في أيامه، فجعلهما رجلين. وقال أحمد: هو جد السبائيين بقرطبة. قال: ولا أعلم له رحلة. وتوفي في صدر أيام الأمير عبد الرحمان بن الحكم، بعد ست ومائتين. وقال ابن حارث: كان ابن بشير القاضي يشاور في قضائه، محمد بن سعيد السبائي. قال الأمير: لعلّ هذا هو المعروف بابن الملون؟ ووهم فابن الملون متأخر عن هذه الطبقة.(3/345)
وقال ابن حارث: محمد بن سعيد بن عبد الله السبائي. ذكره عبد الملك في كتابه. سمع يحيى بن يحيى وعيسى بن دينار وأمثالهم، وكان من أهل الورع والسمت الحسن. يروي عن يحيى بن يحيى. توفي نحو الثمانين ومائتين.
داود بن جعفر بن الصغير.
ويقال ابن الصَّغير، مولى بني تميم، قرطبي. سمع عن مالك والدراوردي ومعاوية بن صالح، وابن عيينة، وزكريا بن منظور. وقال ابن الفرضي: وقد روى عن ابن وهب، وابن القاسم، ومن الأندلسيين حسين بن عاصم، والأعشى ومطرف بن عبد الرحمان بن قيس، محمد بن وضاح. قال ابن وضاح: وروى هو عني. وكان ولي قضاء قلنبريه. قال ابن أبي دُليم، وذكره في المالكية: كان يميل إلى الحديث، ولم يذكر له سماعاً من مالك. وذكر سماعه ابن الفرضي عن أبي لبانة. وذكره أيضاً غيره. وسماعه في المدينة كثير، مشهور. وقال داود: رأيت ابن عيينة يطوف بالبيت متكئاً على رجل يسأله عن حديث. فنحى يده عنه وقال له: نكراً. فانضممت إليه. واتكأ علي، حتى فرغ من طوافه ثم تحول إليَّ فقال: بارك الله عليك، قال علي بن أبي طالب: المؤمن حسن المعونة قليل المؤونة. قال مطرف بن قيس: كان داود بن جعفر لبيباً فاضلاً. كتب عنه نحواً من ثلاثة آلاف حديث، وأكثر. قال ابن وضاح: هو جدّ بني الصغير، عندنا بالأندلس.(3/346)
الطبقة الصغرى من أصحاب مالك
من أهل المدينة
أبو مصعب أحمد بن أبي بكر
واسم أبي بكر القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمان ابن عون الزبيري. روى عن مالك الموطأ وغيره من قوله، وتفقه بأصحابه: المغيرة وابن دينار وغيرهما. وله كتاب مختصر في قول مالك مشهور. قال الزبير بن بكار: كان على شريط عبيد الله بن الحسن بالمدينة. ثم ولاه قضاءها. قال مصعب بن عبد الله: ويعرف بكنيته: أبو مصعب وهو فقيه أهل المدينة. قال الزبيري: ومات وهو فقيه أهل المدينة.
غير مدافع. قال أبو إسحق الشيرازي: كان من أعلم أهل المدينة. روي أنه قال لأهل المدينة: لا تزالون ظاهرين على أهل العراق: ما دمت لكم حياً. روى عن مالك والمغيرة، وابن دينار وإبراهيم بن سعد، وابن أبي حاتم، وصالح بن قدامة والداروردي والعطاف بن خالد، وغيرهم.(3/347)
روى عنه البخاري ومسلم والذهلي وإسماعيل القاضي، وأخوه حمّاد والرازيان وابن نمير، ومحمد بن رزين وغيرهم. وأخرج البخاري ومسلم عنه في صحيحيهما قال ابن أبي حاتم: روى عنه أبي وأبو زرعة وقالا: هو صدوق. وقال القاضي وكيع في كتاب طبقات القضاة: هو من أهل الثقة في الحديث.
قال أبو بكر بن أبي خيثمة: خرجت من سنة تسع عشرة ومائتين إلى مكة، فقلت لأبي محمد أكتب؟ فقال: لا تكتب عن أبي مصعب، واكتب عمن شئت. قال القاضي المؤلف: وإنما قال ذلك، لأن أبا مصعب كان يميل إلى الرأي، وأبو خيثمة من أهل الحديث، وممن ينافي ذلك، فلذلك نهى عنه. وإلا فهو ثقة لا نعلم أحداً ذكره إلا بخير. قال ابن أبي خيثمة: وأبو مصعب ممن حمل العلم، وولاَّه عبيد الله بن الحسن قضاء الكوفة. ثم ذكر أنه ولي قضاء الكوفة. ثم ذكر أنه ولي قضاء المدينة. قال ابن نمير: سمعت أبا مصعب يقول: سمعت أبا مصعب يقول: سمعت مالكاً يقول: كلام الله غير مخلوق. وقال أبو مصعب: فمن شك أو وقف فهو كافر. وقال حبيب: قال أبو مصعب: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. فمن قال غير هذا فهو كافر.(3/348)
قال أبو مصعب: وحدثني عبد العزيز ابن أبي حازم قال. قلت لمالك ابن أنس من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو بكر وعمر قال ابن أبي حازم، وهو رأيي. قال أبو مصعب: وهو رأيي. ولو كان المحاباة لحابيت جدي عبد الرحمان بن عون. قال البخاري: ومات سنة اثنتين وأربعين ومائتين بالمدينة. وقال ابن عبد البرّ وغيره: سنة إحدى وأربعين. قال ابن الجزّار: في آخرها. قال الشيرازي وعاش تسعين سنة.
أبو محمد الحكم - مدني -
ذكره ابن شعبان في جملة رواة مالك. وهو مشهور بمحبة محمد بن مسلمة، وعبد الملك بن الماجشون. يروي عنه إسماعيل القاضي، وأخوه حماد، ومحمد ابن عبد الحكم.(3/349)
يعقوب بن حميد بن كاسب
أبو يوسف، مدني، سكن مكة. روى عنه مالك وإبراهيم بن سعيد والداروردي وابن أبي حازم، والمغيرة وأنس بن عياض وعبد المالك بن الماجشون. روى عنه أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان والزبير بن بكار، وعبد الله ابن شهاب وصعصعة بن معين، لعله قال: وهو في سماعه ثقة. وإنما ضعّفه لأن الطالبيين حدّوه. قال أبو داود: فناظرت ابن معين في خبره وتحامل أولئك عليه، فأمسك عنه. قال ابن وضاح: ما رأيت بالحجاز أعلم بقول أهل المدينة منه. قال سحنون: كان حافظاً، وكان يعرف بابن القسام، وضعفّه أبو حاتم وأبو زرعة. قال البخاري: مات أول سنة إحدى وأربعين أو آخر أربعين ومائة.(3/350)
أبو عبد الله محمد بن صدقة الفدكي
كان يسكن ناحية المدينة. قال البخاري: سمع مالكاً ومحمد بن يحيى ابن سهل. سمع منه إبراهيم بن المنذر، وله عن مالك مسائل كثيرة وحديث. قال محمد بن صدقة: سئل مالك، عن الرجل يبتاع العبد، فيشبح عنده موضحة، فيأخذ لها عقلاً، ثم يردّه بعيبه، فيطلب سيده أرش الموضحة أنه لا شيء له منها، لأن الموضحة لا تشينه وإن كان جرحاً يشينه لم يرده إلا بما أخذ. وقال ابن القاسم: وكذلك الجائفة، والمأمومة. وقال عيسى ابن دينار: إذا شأنه كان بالخيار إن يُرد، وما نقص الشين ليس العقل الذي يأخذه، وإن شاء حبس وأخذ قيمة العيب، وإن لم يُشن. وكل ما أخذ أو أمسك فلا شيء له.(3/351)
الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب
ابن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوّام. مدني يروي عن مالك وأبي ضمرة، وأبيه محمد. يكنى بأبي عبد الله. قال ابن أبي خيثمة: هو من أهل العلم. سمعت عمه مصعب بن عبد الله غير مرة يقول: لي بالمدينة ابن أخ إن بلغ أحدٌ منا فسيبلغ، يعنيه، كان الزبير علامة قريش في وقته. الحديث والفقه والأدب، والشعر والخبر والنسب، وهذا الباب هو الغالب عليه، وله فيه كتاب: جمهرة أنساب قريش، وغير ذلك. ولي قضاء مكة وبها توفي في ذي الحجة سنة ست وخمسين ومائتين.(3/352)
ومن المكيين ممن عداده في البغداديين
هارون بن عبد الله الزهري أبو يحيى قال المصعب الزبيري: هو هارون بن عبد الله بن محمد بن معن بن عبد الرحمان ابن عوف. وأمه سهلة ابنة معن بن خنجر بن عمر بن معن بن عبد الرحمان. مكي نزل بغداد، وذكره أبو إسحاق الشيرازي في الطبقة الأولى من الإتباع، وقد ذكر أبو إسحاق ابن القرطبي وأبو مفرج القرطبي: إنه ممن روى عن مالك وأسندوا له عنه أحاديث، وحكاية تشهد بسماعه. قال الشيرازي: تفقه بأبي مصعب الزبيري. قال القاضي: وسمع من ابن وهب وابن أبي حازم والقاضي هارون أيضاً، رواية عن المغيرة وعبد الملك والواقدي. روى عنه يحيى بن عمر ويونس بن عبد الأعلى والوليد بن مسافر والعداس، وأبو جعفر ابن هارون الإيلي، وجعفر بن يزيد، والقاضي أبو المغيرة محمد بن إسحاق المخزومي ومطرّف بن قيس. قال الشيرازي: هو أعلم من صنّف الكتب في مختلف قول مالك. قال الزبير في جمهرته: كان من الفقهاء وكان يقوم بنصرة أهل المدينة فيحسن.(3/353)
قال مطرف بن قيس: سمعت منه بمكة وكان ألزمها، وكان عظيم القدر وله رواية عن مالك. وقال لي محمد بن عبد الحكم: إن لقيته فاحمل عنه. وقال القاضي وكيع: كان هارون الزهري من الفقهاء لمذهب أهل المدينة من أصحاب مالك. ومن أهل الأدب الواسع.
قال هو والجيزي: كان في قضائه محموداً عفيفاً عدلاً ذا قدر.
ولايته القضاء وسيرته ومحنته
قال المصعب الزبيري: ولاه المأمون قضاء المصيصة ثم صرخد، ثم قضاه الرقة، ثم صرفه. ثم قضاء عسكر المهدي ببغداد. ثم صرفه. ثم قضاء مصر، فلم يزل على قضائها إلى أن صرف آخر أيام المعتصم. قال الحميدي في قضاة مصر. قال: بقيت مصر بعد ابن المنكدر دون قاضٍ، إلى أن ولًّى المأمون قضاءها هارون بن عبد الله الزهري. قال هارون: دعاني المأمون فقال: يا هارون قد وليتك بلداً يقولون بقولك، مصر. قال أبو عمر الكندي في كتابه في قضاة مصر: قدم هارون الزهري مصر، في رمضان سنة سبع عشرة ومائتين من قبل المأمون، وجلس في المسجد الجامع ولم يُبقٍ شيئاً في أمور القضاء إلا شاهده، بنفسه. وحضره مع أهل مصر.
وتقصّى الأحباس وأموال الأيتام، ووقف على وجوهها بنفسه، وحاسب عليه، وضرب رجلاً على حال رآه منه في مال يتيم، كان ينظر له، وأطافه. وأورد أموال الغيَّب ومن لا وارث له بيت المال، وسجل بجميع ذلك(3/354)
وكتب إليه المعتصم يأمره بأخذ الفقهاء بالمحنة فاستعفى من ذلك. فكتب ابن أبي دؤاد إلى أبي بكر الأصم يأمره بأخذهم بذلك. فكان رأساً في ذلك يحمل الناس فيها، فكان هارون يقول: الحمد لله على معافاتي مما ابتلي به غيري. فذكر أنه نال علماء مصر في ذلك محنة عظيمة. وإن ابن عبد الحكم الكبير ضرب بالسياط، وضرب بنو عبد الحكم كلهم، وامتحنوا.
وامتحن الأصم أيضاً أبا الطاهر وأبا جعفر الإيلي، ويحيى بن بكير وأبا إسحاق الفريقي، وأبا راشد، وضرب ظهره بالسياط. وجعل على حمار وجهه إلى ذنبه، وطيف به. وضرب ابن كاسب، وعبد الله ابن زيد بن ظبيان، وقابوس ابن أبي ظبيان وغيرهم. وأجابه بعضهم تقية. وكل من أجابه تركه، ومن أبى عليه، بعثه إلى العراق، إلى ابن أبي دؤاد، وفرّ جماعة على وجوههم، منهم ابن المواز. واختفى آخرون. منهم أصبغ بن الفرج، فلزم داره. وذكر الكندي: أن المأمون لما أخذ الناس بالمحنة في القرآن، كتب إلى أمير مصر، يأخذ به القاضي هارون، فزعم أنه أجابه وأنه كان لا يقبل من الشهود إلا من أقرَّ به. وذلك تقية، والله أعلم، وامتثالاً لما أمر به، ويدل على أنه تقية استعفاؤه من الأمر بعد ذلك وامتحانه على يد هذا الأصم المذكور، وما تذكره بعد(3/355)
قال أبو عمر والجيزي وثقل مكانه على ابن أبي دؤاد، فصرفه عن قضاء مصر، سنة ست وعشرين، ولم يجد سبيلاً إلى عزله. لأن المعتصم كان وقع اختياره عليه. حتى قرّر عند المعتصم، أنه استعمل أصحاب ابن المنكدر، الذي كان يشابه المعتصم كما ذكرنا في أخباره، وأنه صيرهم بطانة فعزله، وولى أبا بكر ابن أبي الليث الأصم، فأقام رجلاً فرفع على هارون باستهلاك مال من بيت المال. وكان هارون يدفع مفتاح التابوت إلى غير ثقة. فأتى عليه منه. فأمر الأصم، بإحضار كتاب المعتصم برفع ذلك عنه. فأخذ الله عما قريب من الأصم، ما فعل بهارون وزيادة، على يد الحارث بن مسكين، لما ولي قضاء مصر. أقام الأصم أياماً يضربه كل يوم عشرين سوطاً في رد مال بيت المال، ثم أمر المتوكل لما ولي بعد ذلك بحلق لحية الأصم وضربه، وطوافه في مصر على حمار، وسجنه وحمله على حمار وأصحابه. واستصفى ماله ولعنه على المنبر، فنفذ ذلك كله. وكان الأصم مبتدعاً متعزلياً خبيثاً. وكانت وفاة القاضي هارون سنة ثمان وعشرين ومائتين.
ذكر ملح وحكم من شعره
أنشد له القاضي وكيع في طبقات القضاة، ما قاله عند انصرافه عن ابن أبي دؤاد:
أيام معروفك ما لم تكن ... بالصبر أحوال وأحوال
فاصبر لها واصبر لمكروهها ... فللذي يدبر إقبال
ورب أمر مرتج بابه ... عليه أن يفتح أقفال(3/356)
ضاق بذي الحيلة في فتحه ... حيلته والمرء محتال
حتى تلقته مفاتحه ... من حيث لم يخطر به البال
والرزق فاطلبه على أنه ... آت له وقت وآجال
وليس يبطىء عنك في وقته ... ولا له عن ذاك إعجال
فلا تقم عبداً على مطمع ... فربما أخلفك الحال
فالفقر خير فاعلمن من غنى ... يكون كل فيه إذلال
والمال للمكثر شين إذا ... لم يك منه فيه إفضال
والحرّ حرّ حيث أمسى ولا ... يمنعه من ذاك إقلال
وأنشد الزبير بن بكار له:
هل الشوق إلا أن يحن غريب ... وأن يستطيل العهد وهو قريب
أرى الشوق يدعوني إلى من أوده ... وللشوق داع مسمع ومجيب
سقى الله أكناف المدينة أنه ... يحل به شخص إليَّ حبيب
وإني وإن شطت بي الدار عنهم ... إليهم لمشتاق الفؤاد طروب
وقائلة ما بال جسمك شاحباً ... وأهون ما بي أن يكون شحوب
فقلت لها في الصدر مني حرارة ... تقطع أنفاسي لها وتنوب
إذا ما تذكرت الحجاز وأهله ... فللعين من فيض الدموع غروب
وأنشد له أبو عمر الكندي:
ولما رأيت البين منها فجاءة ... وأهون للمكروه أن يتوقعا
ولم يبق إلا أن يشيٍّع ظاعنا ... مقيم وتذري عبرة أن تودعا
نظرت إليها نظرة فرأيتها ... وقد أبرزت من جانب الخدر إصبعا
وذكر عن هارون أنه قال: أنشدتها لعبد الملك ابن الماجشون ونسبتها إلى رجل من بني قيس، فقال: احسن والله.(3/357)
فقلت أنا والله قلتها في طريقي إليك. فقال قد عرفت فيها اللين حين أنشدتها. وأنشد له القاضي وكيع قصيدة كثيرة الحكم والوصايا، أولها:
أمسى مشيبك في المفارق شائعا ... ورددت من عهد الشباب ودائعا
وتركت وصل الغاتيات وطالما ... عاصيت فيهن العواذل طائعا
ولقد لبست من الشباب غضارة ... ونضارة لو كان ذلك رايعا
أزمان تصغي للصباوحديثه ... سمعاً يميل إلى الغواية سامعا
فدع الغواني والشباب وذكره ... كم موضع في الغي أصبح نازعا
والله فاحش وخف ذنوبك عنده ... يوم الحساب وكن لنفسك وازعا
لا تعط نفسك ما تريد ولا تكن ... فيما يضرّك أن دعيت مسارعاً
لا تمس عبداً للمطامع ولتكن ... للفضل متبوعاً ولا تك تابعاً
كن للعشيرة في الأمور إذا عدت ... كهفاً وعنها في الأمور مدافعاً
لا تحسدن نبيها واخضع له ... خير من أن تبقى لآخر خاضعاً
سهل له فيما يريد طريقه ... حتى يكون برفعة لك رافعاً
فمتى ينل خطأ يكن لك حظه ... وتكون فيه مفارقاً ومجامعاً
فإذا نشأ لك ناشيء فانهض له ... وامنعه من ضيم يكن لك مانعاً
حافظ عليه واتخذه عدة ... سيفاً إذا لقي الكريهة قاطعاً
أكثر صديقك ما استطعت فما به ... ضرّ إذا ما لم يكن لك نافعاً
داو العداوة من عدوّ بالتّقى ... واحذر عدوّك دانياً أو شاسعاً
وإذا دعاك إلى الرجوع مجاملاً ... فارجع له وليلف سربك واسعاً
إلا الحسود فإن تلك عداوة ... تبدي الرضا وتكون سمّاً ناقعاً
فاصبر عليه فليس فيه حيلة ... وليطلعنّ طوالعاً وطالعا(3/358)
وينشد أيضاً:
ماذا على الحي يوم البين لو رفعوا ... أو وصلوا من حبال البين ما قطعوا
بل لم يبالوا أسيراً في الديار ولو ... بالوه لم يصنعوا في ذاك ما صنعوا
لما رأيت حمول الحي باكرة ... يحثها جذل بالبين مندفع
ناديت ليلاً ولا ليلاً يودعني ... منها السلام فكاد القلب ينصدع
يا ليل أهلك أحموني زيارتكم ... والدار واحدة والشمل مجتمع
فالآن مرّ عليّ العيش بعدكم ... فلست بالعيش بعد اليوم انتفع
هل الزمان الذي قد مر مرتجع ... أم هل يرد على ذي الصورة الجزع
قالت سليمي علاك الشيب من كبر ... والشيب أهون ما لم يأتك الطمع
يا سلم إني وإن شيب يفزّعني ... رحب اليدين بما حملت مضطلع
ولن أرى أطير يوماً لمفرحه ... ولا أرى لمصروف الدهر يختشع
قد جربتني صروف الدهر فاعترفت ... صلب القناة صبوراً كيفما يقع
نزه الخلائق لا يقتادني طمع ... إن اللئيم الذي يقتاده الطمع
هذا وخائن قوم ظل يشتمني ... كالكلب ينبح حيناً ثم ينقمع
تركته معرضاً لي واستهنت به ... إذا لم يكن لي فيه ريّ ولا شبع
لا واضعاً غضبي في غير موضعه ... ولا انتظاري إذا ما نالني الفزع
ولا ألين لقوم خاضعاً لهم ... ولا أكافيهم بالشر إن جمعوا
حلماً بحلم وجهلاً إن هم جهلوا ... إني كذلك ما آتي وما أدع(3/359)
من أهل المشرق
قتيبة بن سعيد
ابن جميل بن طريف بن عبد الله الثقفي، البلخي البغلاني. وبغلان قرية بخراسان. مولى ثقيف. كنيته أبو رجاء. عداده في أهل بلخ. وكان طريف أبو جده الحجاج، وخباز. قال أبو احمد بن عدي وغيره: قتيبة لقب، واسمه يحيى. قال ابن شعبان له عن مالك الكثير من جيد الحديث والمسائل. سمع من مالك والليث، وابن لهيعة. وهو آخر من روى عنه، وبكر بن مضر، ويعقوب الاسكندراني، وحماد بن زيد، وأبي عوانة، وعبد الواحد بن زياد، وإسماعيل بن جعفر. روى عنه عبد الله ابن الزبير الحميد، وابن حنبلي وابن معين، وأبو خيثمة، وأبو بكر ابن أبي شيب، وابن نمير والحسن بن عرفة، وسيف بن موسى القطان، وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، وأبو داود، والترمذي والنسائي والبخاري ومسلم. وأخرجا عنه في الصحيح، فاكثروا. وأثنى عليه أحمد بن حنبلي، وقال يحيى: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة.(3/360)
قال عبد الرحمان: سمعت أبي يقول: حضرت قتيبة بن سعد ببغداد، وجاء ابن حنبلي فسأله عن أحاديث فحدثه بها. ثم جاء ابن أبي شيب، وابن نمير بالكوفة. فلم يزالا ينتجان، عليه، وأنتج معهما إلى الصبح. وذكر أبو القاسم البلخي في مقالاته: أن حمزة بن محمد الحافظ، قال: اجتمع قوم من الطلبة بباب قتيبة بن سعيد، فسأله أحدهم أن يسمعه الحديث وبعضهم يسأله أن يسمعه الفقه. وأتى عليه الرحالون، وكان روى كثيراً، ولقي رجالاً فتبسم ثم قال:
تسألني أم صبيي جملاً ... يمشي رويداً ويكون أولاً
مهلاً خليلي فكلانا مبتلى
قال القاضي وكيع: ولي قتيبة القضاء ببغداد، واستتاب بشراً المريسي فأقامه على صندوق من صناديق المصاحف، فقال بشر: معاذ الله، لست بتائب. فكثر الناس عليه حتى كادوا يقتلونه. قال أبو داود: سمعت قتيبة ابن سعيد، وقيل له الواقفة يعني في القرآن.(3/361)
فقال له: الواقفة شر منهم يعني ممن قال بالمخلوق. وذكر أن إسحاق بن راهويه كتب إلى قتيبة مرة وثانية، فلم يجبه. فكتب إليه الثالثة:
إذا الأخوان فاتهم التلاقي ... فلا شيء أسرّ من الكتاب
وأن كتب الصديق إلى أخيه ... فحق كتابه ردّ الجواب
وذكر أبو القاسم البلخي في مقالاته، قال أبو عبد الله البخاري: وتوفي قتيبة غرة شعبان، سنة أربعين ومائتين، وهو ابن اثنتين وتسعين سنة، ومولده ببلخ في رجب، سنة ثمان وأربعين ومائة.(3/362)
من أهل مصر
عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن الليث
مولى عميرة. امرأة من موالي عثمان بن عفان. قال ابن شعبان: يكنى أبا محمد، سمع مالكاً والليث وبكر بن مضر وعبد الرزاق، والقعنبي وابن لهيعة، وابن علية وإسماعيل بن أبي عياش، ويعقوب بن عبد الرحمان الزهري. والعطاف بن خالد، وبن عيينة. روى عنه ابن نمير، وهارون بن إسحاق وبنوه، والمقدام بن داود، وأبو يزيد القراطيسي والربيع بن سليمان، وابن المواز، والعداس وأحمد بن ركبان وابن حبيب، وأحمد بن صالح ومحمد ابن مسلم، وغير واحد. قال أبو عمر بن عبد البر: كان ابن عبد الحكم رجلاً صالحاً، ثقة محققا بمذهب مالك.
قال الكندي: كان فقيهاً. قال أبو زرعة الرازي: هو صدوق ثقة قال محمد بن مسلم، كتبت عنه وهو شيخ مصر. وقال مثله أحمد بن صالح. قال أبو حاتم الرازي: هو صدوق(3/363)
قال أحمد بن عبد الله الكوفي: عاقل، حليم، ثقة، كتبت عنه. قال الشيرازي: وإليه أفضت الرئاسة بمصر بعد أشهب. وكان أعلم أصحاب مالك بمختلف قوله. ولابن عبد الحكم سماع من مالك الموطأ، ونحو ثلاثة أجزاء. وروى عن ابن وهب وابن القاسم، وأشهب كثيراً. وصنف كتاباً اختصر فيه أسمعته، ثم اختصر منه كتاباً صغيراً وعلى هذين الكتابين مع غيرهما نقول المالكيين من البغداديين، في المدارسة وإيّاهما شرح أبو بكر الأبهري وغيرهما، بل وغير واحد من العراقيين وأهل المشرق، قال بشر بن بكر: رأيت مالكاً في النوم بعد الممات بأيام، فقال: لي ببلدكم رجل، يقال له ابن عبد الحكم، فخذوا عنه فإنه ثقة.
جملة من أخباره وفضائله وتواليفه
قال أبو عمر الكندي: وليّ ابن عبد الحكم بعد ابن برد، مسائل عيسى ابن المنكدر، قاضي مصر. فأدخل في العدول من استحق ذلك عنده، وأن لم يكن له قدم. وقبل شهادته، فاضغن ذلك عليه بعض مشيخة المصريين.
فقال له يوماً أبو خليفة الرعيني: كان هذا الأمر مستوراً فكشفته. وأدخلت في الشهادة من هو يسمى بأهل لها. فقال له ابن عبد الحكم: هذا الأمر دين، وقد فعلت ما يجب علي. فقال: وبلغ بنو عبد الحكم بمصر من الجاه والتقدم، ما لم يلقه أحد.(3/364)
قال ابن عبد البر: وكان عبد الله صديقاً للشافعي، وعليه نزل أن جاء من بغداد، فأكرم مثواه وبالغ الغاية في بره، وعنده مات. قال الشيرازي: يقال أنه دفع للشافعي ألف دينار، وأخذ له من أصحابه ألفاً، ومن رجلين آخرين ألفاً. قال ابن عبد البر: وقد روى عبد الله عن الشافعي وكتب كتبه بنفسه، وابنيه. وضم ابنه محمد إليه وكانت بين عبد الله بن عبد الحكم وبين اصبغ منازعة، ومباعدة. حتى كاد يرمي كل واحد منهما صاحبه بالبهتان فقيل لابن عبد الحكم: أن هذا الرجل قد وجب لك عليه حد، فحدّه فأبى. وقال أن جلد صرناً حديثاً. يقال جلد فلان، بسبب فلان. ومن تواليف عبد الله بن عبد الحكم: المختصر الكبير. يقال أنه نحا به اختصار كتب أشهب، والمختصر الأوسط والمختصر الأصغر، قصره على علم الموطأ. والمختصر الأوسط، صنفان. فالذي في رواية القراطيسي فيه، زيادة الآثار، خلاف الذي في رواية محمد ابنه، وسعيد بن حسان.(3/365)
وله أيضاً كتاب الأهوال. وكتاب القضاء في البينان. وكتاب فضائل عمر بن عبد العزيز. وكتاب المناسك. وقد اعتنى الناس بمختصراته، ما لم يعتن بكتاب من كتب المذهب بعد الموطأ والمدوّنة فشرح المختصر الكبير الشيخ أبو بكر الأبهري، وللخفاف فيه شرح أيضاً. ولأبي جعفر بن الجصاص عليه تعليق. نحو مائتي جزء فيما ذكر وقد رأيت بعضه. وشرح أيضاً الشيخ أبو بكر الأبهري المختصر الصغير، ولأبي بكر ابن الجهم فيه، شرح أيضاً كبير، غير أنه اختصره محمد ابن أبي زيد، وآخر من شرحه من طبقة شيوخنا ابن باخي البصري؟ ولمحمد بن عبد الله ابن عبد الحكم في الصغير زيادة خلاف الشافعي، وأبي حنيفة. وفيه عمل على هذا لأبي عبد الله بن عبد الرحيم البرقي. زاد على هذا قول سفيان، وابن راهويه والأوزاعي والنخعي، وبعضهم جعله لابنه، أبي القاسم عبيد الله بن محمد البرقي،(3/366)
ولأبي الحسن علي بن يعقوب الزيات المعروف بابن رمضان، على هذا زيادة أقوال بعض الفقهاء، ممن لم يذكره البرقي، ثم لعبيد الله بن عمر البغدادي الشافعي، من أهل قرطبة المعروف بعبيد، على ما ذكر ابن رمضان، زيادة مذهب داود ابن علية، والليث والطبري، ذكر بعضهم أن مسائل المختصر الكبير ثمانية عشر ألف مسألة. وفي الأوسط أربعة آلاف مسألة. وفي الصغير ألف ومائتا مسألة، وذكر بعضهم أن مسائل المدوّنة ستة وثلاثون ألف مسألة، وألف أيضاً كتاب الأهوال.
ذكر خبره مع ابن معين ومحنته ووفاته
ذكر الباجي، في كتابه خبره مع ابن معين، فاختصرته على المعنى، وذكر أنه كان صديقاً له، وأعلمه أنه يحضر مجلسه في الغد، وأمره بالتحفظ، فغدا عليه يحيى من الغد، وهو يحدث بكتاب الأهوال، من تأليفه. فقال حدثنا فلان وفلان وذكر عدة من شيوخه بما في هذا الكتاب، فقال له يحيى: كلهم حدثك بجميع ما فيه، أو بعضهم ببعضه، فجمعت حديثهم. فهاب كلامه ابن عبد الحكم، ودهش، وقال: كلهم حدثني به. فقام يحيى وقال: الشيخ يكذب. وذكر أبو العرب التميمي، في كتاب المحن، عن عبد الله بن عبد الحكم، أنه امتحن في القرآن على يد الأصم، وضرب بالسياط في مسجد مصر، أقل من ثلاثين سوطاً أيام المأمون وابن أبي دؤاد على قضائه.(3/367)
وترجم أبو العرب في الترجمة عبد الله بن عبد الحكم الكبير، وذكر في الحكاية أن فعل به هذا هو ابن عبد الحكم الكبير، وأراه ابنه فإن محنة الأصم كانت بعد موت عبد الله على ما ذكرناه، في أخبار القاضي الزهري، قبل. قال أبو عمرو الكندي: وكان القاضي عيسى بن المنكدر قد كتب إلى المأمون كتاباً في شأن المعتصم أخيه، لما ولاه مصر. فعرضه المأمون على المعتصم. فلما ورد المعتصم مصر عزل ابن المنكدر، وسجنه إلى أن مات في سجنه ببغداد، رحمه الله تعالى. وسجن عبد الله بن عبد الحكم بالتهمة، في هذا الكتاب إذا كان الغالب على ابن المنكدر وصاحب مسائله، وكان أشار على ابن المنكدر ألا يفعل، فعصاه. عبد الله فمات لإحدى وعشرين ليلة خلت من رمضان، سنة أربع عشرة ومائتين، وهو ابن ستين سنة. قيل مولده بمصر سنة خمس وخمسين. وقيل سنة ست في السنة التي ولد فيها الحارث بن مسكين، وعبد الله أكبر منه بشهرين.
وقيل سنة خمسين ومائة. وإليه أوصى ابن القاسم وابن وهب وأشهب وأبو عبد الحكم يكنى أبا عثمان، كذلك له عن مالك مسائل في المدّبر وغيرها. وتوفي سنة إحدى وتسعين ومائة. وأما بنوه فسيأتي ذكرهم بعد هذا إن شاء الله تعالى.(3/368)
يحيى بن عبد الله بن بكير بن زكريا المخزومي - مولاهم
قال الكندي: هو مولى عمرة مولاة أم حجر ابنة أبي ربيع بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وقال ابن وزير: ثلاثة من أهل مصر لا يعرف لهم ولاء صحيح: ابن بكير، وأصبغ، وابن عفير. قال الكندي: كان ابن بكير، فقيه الفقهاء بمصر في زمانه ولاه القاضي العمري مسائله مع أشهب سمع من مالك موطأة، وغير ذلك. ومن الليث بن سعد والعطاف ابن خالد، وابن لهيعة وبكر بن مضر، ومفضل بن فضالة، والمغيرة بن عبد الرحمان، وابن وهب روى عنه البخاري وخرج عنه في صحيحه، وابن إبراهيم والزبيري، وأسحق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، وأبو داود(3/369)
السجستاني، وعلي بن عمر التميمي، والرمادي وأبو زرعة ويونس بن عبد الأعلى والذهلي. قال أحمد بن عبيد الله الكوفي: كنت آتي ابن عبد الحكم فيمر به ابن بكير، ويسلم عليه، ويقول: شيخنا ابن بكير، ومحدث بلدنا ويتبعه ثناء حسناً ذكر عن يحيى بن معين أنه قال: شر العرضات عرضة ابن بكير كان حبيب يصافح له ورقتين في ورقة، وعنده الحكاية باطلة والله أعلم، لأن مالكاً رحمه الله تعالى ومن حضره، لم يصح جواز مثل هذا عليهم لحفظ حديث الموطأ. وقد أنكر هذا بعض أصحاب مالك الجلة: وقال: إنما كان عرضتنا على مالك ورقتين، من الموطأ. فكيف يصح هذا. قال الباجي: تكلم بعض أهل الحديث في سماعه للموطأ وأنه إنما سمعه بقراءة حبيب وهو ثبت في الليث، وقد روى عنه من طريق بقي بن مخلد وغيره أنه سمعه من مالك سبع عشرة مرة وأن بعضها بقراءة مالك. قال أبو أحمد بن عديّ: هو أثبت الناس في الليث. قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. كان يفهم هذا الشأن. ذكر ليحيى بن معين: يحيى بن بكير فقال: ثقة إلا أن حديثه عن ابن وهب لم يكن بالجيد القراءة له. وضعّفه النسائي،(3/370)
وذكر ليحيى بن معين أيضاً فقال: لا صلى الله عليه. دخلت عليه بمسجده فلما رآني سجد. وقال ما كنت أرى أنك تأتيني. وأراه لم يحدث عنه بغير هذه القصة. وذكر ابن باز: قرأ لنا يحيى بن بكير بمصر كتاباً كان يرويه عن عبد الله ابن لهيعة من حديثه. فلما فرغ من قراءته قال للناس: اسمعوا هذا الكتاب سمعته من ابن لهيعة بعدما اختلط. روى عنه من أهل الأندلس وأفريقية والغرب جماعة، منهم: يحيى بن عمر، وفرات بن محمد، وإبراهيم بن باز. توفي في مصر سنة إحدى ويقال اثنتين وثلاثين ومائتين. مولده سنة ثلاث وخمسين.(3/371)
عبد الملك بن مسلمة بن يزيد مولى بني أمية
أصله من نوبية، يكنى أبا مروان. قال أبو عمر الكندي: وكان فقيهاً من أصحاب مالك. مولده سنة أربعين ومائة. وتوفي سنة أربع وعشرين ومائتين.
يونس بن تميم بن يونس
مولى زوف بن مراد، قال الكندي: كان فقيهاً، وذكر ابن شعبان وابن مفرج روايته، عن مالك. توفي سنة خمس عشرة ومائتين.
هاني بن المتوكل بن إسحاق بن إبراهيم بن حرملة
مولى بني شبابة، من فهم. نزل بالإسكندرية. وذكر له رواية عن مالك. قال الكندي: كان فقيهاً سنياً. توفي سنة إحدى وأربعين ومائتين. مولده سنة ثمان وثلاثين ومائة.(3/372)
سعيد بن الحكم بن محمد ابن أبي مريم الجمحي
قال الكندي: مولى أبي فطيمة، مولى بني جمح. كنيته أبو محمد. كذا نسبه الكندي، وكذا قال البخاري، وأبو حاتم. وحكى الألكاني عن غيرهما: سعيد بن محمد بن عبد الحكم، يروي عن مالك وعبد الله العمري وابن عيينة، والليث وابن وهب وسليمان بن بلال وغيرهم. روى عنه ابن معين والذهلي وأبو عبيد، ومحمد بن إسحق الصاغاني، والبخاري وأبو هاشم. ويعقوب بن سفيان. وأخرج عنه البخاري ومسلم. ويقال إنه سمع الموطأ من مالك، وله عنه حديث كثير وغير ذلك. قال الكندي: كان فقيهاً من أهل الفضل والدّين. قال ابن معين فيه: ثقة. وقال أبو حاتم: مثله. وقال يحيى أيضاً: هو ثقة الثقات. وسئل أحمد بن حنبل عمن يكتب بمصر، فقال: عن ابن أبي مريم. وقال أحمد بن عبد الله الكوفي: هو ثقة، وأثنى عليه ابن أيمن، والأعناقي،(3/373)
وذكره ابن وضاح، فذكر من فضله وثقته، فأطنب فيه. وقال: هو ثقة الثقات، كتبت عنه بمصر مسألتين لا غير. قال ابن وضاح: وسمعت ابن أبي مريم يقول: كان لديه طوماران يكتب في أحدهما شهادته، وفي الآخر إيمانه. قال بعضهم كنا عند سعيد بمصر، فأتاه رجل فسأله كتاباً ينظر فيه، أو سأله أن يحدثه فامتنع عليه، وسأله رجل آخر فأجابه. فكلمه الأول في ذلك، وقال: ليس هذا من الحق أو نحوه. فقال ابن أبي مريم: إن كنت تعرف من الشبائي وأبا حمزة من أبي جمرة، وكلاهما عن ابن عباس، حدثناك وخصصناك كما خصصنا هذا. قال الكوفي: كان له دهليز طويل، يقف الآخر إنه يردّ عليه، فيقول ما هذا: فيقول قدري خبيث. ثم يأتي آخر، فيفعل به مثله. فيسأله، فيقول: جهمي خبيث، أو رافضي خبيث. وكان عاقلاً لم أرَ بمصر أعقل منه، ومن ابن عبد الحكم. قال البخاري: توفي سنة أربع وعشرين ومائتين. مولده سنة أربع وأربعين ومائة.(3/374)
؟
عبد الرحمان ابن أبي جعفر الدمياطي
قال أبو إسحق ابن شعبان: روى عن مالك، وأسند عنه. قال ابن أبي دليم، وابن حارث: سمع من أعالي أصحاب مالك، كابن وهب وابن القاسم، وأشهب. وله عنهم سماع مختصر، مؤلف حسن. رواه عنه يحيى ابن محمد، وغيره. وهذه الكتب معروفة باسمه، تسمى بالدمياطية. قال الشيرازي: تفقه بأشهب وابن وهب وابن القاسم، ومطرف وعبد الملك وابن نافع، وقد روى عن الفضيل بن عياض. قال الدمياطي: أتينا الفضيل نسمع منه، فلم يخرج إلينا. فقلنا للرجل كان معنا، حسن الصوت بالقرآن. اقرأ: فخرج إلينا، وإن الدموع على لحيته يبكي. فقال مالي ولكم؟ آذيتموني. العلم تريدون؟ تتركونه والله، كتاب الله. وروى عنه يحيى بن عمر والوليد ابن معاوية. وعبيد بن عبد الرحمان وغيرهم. توفي سنة ست وعشرين ومائتين.(3/375)
؟
عبد الله بن محمد بن إسحق البيطاري
نسب إلى ذلك، لأنه كان ينزل عنده بلال البيطار، مولى لقيس. كنيته أبو محمد. قال أبو عمر الكندي: كان فقيهاً، ولقي مالكاً. توفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين.
؟
بلال بن يحيى بن هارون الأسواني
من بني أمية. قال الكندي: من أصحاب مالك، وذكره فيهم. وكان مقبولاً عند قضاة مصر. وغمصه ابن عفير بما يقال في أهل اسوان.(3/376)
محمد بن رمح بن المهاجر ابن المحرز بن سلام
التجيبي، مولاهم، أبو عبد الله. ويقال أبو بكر، صحب مالكاً وسمع الليث والفضيل وابن لهيعة. حدث عنه مسلم، وعلي بن الحسن بن المنذر، وحازم بن يحيى الحلواني، وابن وضاح، والحسن بن سفيان وابن ريان، وغلبت عليه الرواية. وهو ثقة مأمون. قال الكندي: خرج له مسلم في صحيحه كثيراً. قال ابن الجيري: وكان رجلاً صالحاً، أوثق من ابن أبي زرعة. قال ابن ريان: هو ثقة. قال ابن وضاح: هو نعم الشيخ. قال الكندي: كان فقيهاً، قال، ابن رمح. واختلف عندنا في مالك والليث، فذكر من اختلافهم شيئاً غاظه. حتى كانوا أحزاباً. فرأيت النبي صلى الله عليه، في النوم. فقلت يا رسول الله: اختلف عندنا في مالك والليث. فما ترى؟ فقال: مالك ورث جدي.(3/377)
قال الحسن ابن علي الأشناني: قال قائلون: جدي يعني إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: الولي وقال آخرون: السنة. وقال أبو عمر الكندي في كتاب القضاة: كان أبو بكر الأصم قاضي مصر، قد أخذ أهلها، تبرك لباس القلاسي الطوال، وكانت ترى على شيوخهم، وفقهائهم وعدولهم. وقال لهم: لا تشبهوا بلباس القاضي فلم ينتهوا. فاجتمعوا مرة عنده، في الجامع. فأمر الأعوان بضرب رؤوسهم، حتى ألقوها. فكان الصبيان يلعبون بها، ولم يلبسوها في مدته، إلا ابن رمح فإنه ثبت على لباسها فلم يعارض. توفي في شوال سنة اثنتين وأربعين ومائتين. وقال الكندي: ثمان وأربعين. مولده سنة اثنتين وخمسين(3/378)
من أهل الأندلس
يحيى بن يحيى الليثي
قال القاضي أبو الوليد، ابن الفرضي: يحيى بن يحيى بن بكير بن وسلاس بن شملل بن صيغا. يكنى أبا محمد. قال الأصيلي: ويحيى أبوه هو المكنى بأبي عيسى، وهو من مصمودة طنجة وينتمي إلى بني ليث. ولا يعلم على الصحة سبب ذلك. قال الرازي في كتاب الاستيعاب: هو من مصمودة من مضارة قبيلة منها. دخل يحيى بن وسلاس، مع ابن أخيه نصر بن عيسى في جيش طارق، وأسلم وسلاس جدهم، على يدي يزيد ابن عامر الليثي، ليث كنانة. فهذا - والله أعلم - سبب انتمائهم إلى ليث. قال الرازي: ثم دخل بعدهما كثير بن وسلاس، وهو جد يحيى. وولي ابنه يحيى الجزيرة، وشذونه. وطلب يحيى ابنه العلم.(3/379)
وقال أبو عمر بن عبد البر، وكثير: هو المكنى بأبي عيسى. وهو الداخل إلى الأندلس، وكانوا يعرفون بأبي عيسى، والعلم عند الله.
ذكر ابتداء طلبه العلم ورحلته
قال الرازي: كان سبب طلب يحيى بن يحيى العلم، إنه كان يمر بزياد وهو يقول على أصحابه. فيميل إليه ويقعد عنده، فأعجبه ذلك زياداً، وأدناه يوماً، وقال له: يا بني إن كنت عازماً على التعلم فخذ من شعرك واصلح زيك. وكان يرى الخدمة، ففعل ذلك بحين، فسر به زياد واجتهد بتعليمه حتى برع تلاميذه. ثم قال له زياد بعد مدة: إن الرجال الذين حملنا العلم عنهم، يدفنون. وعجز بك أن تروي عمن دونهم. فخرج يحيى، بعد أن استسلف زياد له مالاً. إذ رغب من مال أبيه، فحج وسمع مالكاً، والليث. وكان لقاؤه لمالك سنة تسع وسبعين. السنة التي مات فيها مالك. وانصرف إلى الأندلس، فلم يلبث إلا يسيراً حتى هلك أبوه بمحله بالجزيرة. فأخذ ما طاب من مال أبيه، ثم عاد، فحج ولقي جملة أصحاب مالك، ثم انصرف. وذكر مثل هذا ابن حارث: إنه كانت ليحيى رحلتان من الأندلس. سمع في أولهما من مالك والليث وابن وهب، واقتصر في الأخرى على ابن القاسم وبه تفقه. وقال ابن الفرضي وأبو عمر بن عبد البر وغيرهما، وبعضهم يزيد على بعض: سمع يحيى لأول نشأته من زياد، موطأ مالك بن أنس، وسمع من يحيى بن مضر. ثم رحل وهو ابن ثمان وعشرين سنة. فسمع من مالك(3/380)
الموطأ، غير أبواب في كتاب الاعتكاف، شك فيها، فبقي يحدث بها عن زياد. وسمع من نافع بن أبي نعيم القارىء، والقاسم بن عبد الله العمري، وحسين بن ضميرة، وعبد الله بن نافع، وسمع بمكة من سفيان بن عيينة، وبمصر من الليث بن سعد، وعبد الله بن وهب، موطأة وجامعه. وسمع من ابن القاسم مسائل، وحمل عنه عشرة كتب. فكتب سماعه، قال أبو عمر: ثم انصرف إلى المدينة، ليسمعه من مالك. فوجده عليلاً. فأقام بالمدينة إلى أن توفي مالك رحمه الله تعالى، وحضر جنازته. وقدم الأندلس بعلم كثير، فعاد فتيا الأندلس بعد عيسى بن دينار إلى رأيه، وقوله. وأخذ عليه في روايته في الموطأ، وفي حديث الليث وغيره أوهام نُقلت وكُلَّم فيها، فلم يغير ما في كتابه، واتبعه الرواة عنه. وقد عرفها الناس، وبينوا صوابها. وأما ابن وضاح، فإنه أصلحها ورواها الناس عنه على الإصلاح. وكان يفتي برأي مالك، لا يدع ذلك إلا في مسائل نذكرها بعد. قال الشيرازي: رحل يحيى بن يحيى إلى مالك، وهو صغير، وتفقه بالمدنيين والمصريين من أصحابه قال أبو عبد الملك بن عبد البر: وبه وبعيسى بن دينار، انتشر مذهب مالك، وانتمى الناس إلى سماع الموطأ، من يحيى. وأعجبوا بتقليده، فقلّدوه، وتبعوه. قال ابن الفرضي: وسمع منه رجال الأندلس في وقته. وكان آخر من حدث عنه ابنه عبيد الله.(3/381)
ذكر شيء من فضائله وأخباره
قال أحمد بن خالد: لم يعط أحد من أهل العلم بالأندلس منذ دخلت الإسلام من الخطوة، وعظم القدر وجلالة الذكر، ما أعطيه يحيى بن يحيى. وكان الأمير عبد الرحمان بن الحكم يبجله، بتبجيله الأدب، ولا يرجع عن قوله، ويستشيره في جميع أمره، وفيمن يوليه ويعزله، فلذلك كثر القضاة في مدته. وكان يفضل بالعقل على علمه، وألح عليه الأمير عبد الرحمان في ولايته القضاء، فأبى عليه. فوكل عليه من يقعده في الجامع، وقال للناس: هذا قاضيكم. فأبى على الحكم. فقال له يحيى: إن المكان الذي أنا فيه أنفع وخير لكم مما تريدون. إنّا إذا تظلم الناس من قاض أجلستموني، فنظرت لكم في أحكامه. وإن كنت قاضياً فتظلم مني كما يتظلم من القضاة من تقعدون ينظر في أحكامي؟ فكفوا عنه. قال ابن لبابة: فقيه الأندلس عيسى بن دينار، وعالمها ابن حبيب، وعاقلها يحيى بن يحيى. قال الشيرازي: إليه انتهت الرئاسة بالأندلس في العلم. وكان مالك يعجبه سمت يحيى وعقله. روي عنه إنه كان عنده يوماً جالساً في جملة أصحاب مالك، إذ قال قائل: قد حضر الفيل.(3/382)
فخرج أصحاب مالك كلهم لينظروا إليه. فقال له مالك لِمَ لم تخرج فتراه، إذ ليس بأرض الأندلس. فقال له يحيى: إنما جئت من بلدي، لأنظر إليك، وأتعلم من هديك وعلمك، لا إلى أن أنظر إلى الفيل. فأعجب به مالك وسماه العاقل. قال أبو عمر بن عبد البر: كان يحيى إمام بلده المقتدى به، المنظور إليه، المعول عليه. وكان ثقة عاقلاً، حسن الهدي والسمت يشبًّه سمته بسمت مالك. ولم يكن له تبصر بالحديث. قال إبراهيم بن باز:
والله الذي لا إله إلا هو، ما رأيت أوقر من يحيى بن يحيى قط. ما رأيته يبصق، ولا يسعل في مجلسه، ولا يتحرك عن حاله، وكان أخذ بزي مالك وسمته. قال يحيى: لما ودعت مالكاً سألته أن يوصيني. فقال لي: عليك بالنصيحة لله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم، ثم قدمت على الليث، فلما حان فراقي إياه، قلت له مثل مقالتي لمالك. فقال لي مثل قوله سواء. قال ابن حارث: كان يحيى لا يرى القنوت في الصبح، ولا غيرها، إقتداء بالليث أيضاً. وخالف أيضاً مالكاً بالأخذ باليمين مع الشاهد، فلم ير القضاء به. وأخذ بقول الليث أيضاً فيه. وقضى برأي أمينين إذا لم يوجد من أهل الزوجين حكمان. ورأى كراء الأرض بما يخرج منها، على مذهب الليث. وذكر أبو عبد الملك بن عبد البر، أن يحيى كان لا يرى الحكمين، وأن ذلك مما أنكر عليه. وكان يأتي الجمعة معتماً راجلاً.(3/383)
وحكى عبيد الله بن يحيى عن أبيه، قال: كنت مع الحاجب عبد الكريم بن مغيث في الغزو يوم اربونة، ومعي صاحبي سعيد بن محمد ابن بشير، وكان يكرمنا ويرسل إلينا، ويستشيرنا. وربما استخصني، بالإرسال، حتى قلت له: لا تفعل، فربما احفظ ذلك صاحبي. ووجّه إلي يوماً بصلة، مائة دينار. وإلى سعيد بمثلها. فصرفتها إليه، وقلت له: أما أنا فمستغنٍ عنها، بحمد الله. ولكن أجمعها لصاحبي، لحاجته إليها. فلما فتح الله على المسلمين، وقفلنا، قال لي يوماً: يا أبا محمد، أردت أن أكرمك أنت وصاحبك، فأمكن بكما الأندلس. قلت وبما ذاك؟ قال بأن أسمعكما سماعاً حسناً عندي. قلت: أنت والله تريد إساءتنا، لا إكرامنا. فقال لي يا أبا محمد: لا تظن إلا خيراً. فما كان رأي من قبلك، إذا تبالغ في تكريمهم حتى نفعل ذلك بهم. فقلت لا جزاهم الله خيراً عن أنفسهم، ولا عنك، فقد والله خانوا الله ورسوله. فخجل واعتذر. وذكر أحمد بن عبد البر، أن قاضياً من قضاة قرطبة سماه، جميل المذهب، كان أشار بن يحيى بن يحيى، فكان طاعة له في قضائه، لا يعدل عن رأيه، إذا اختلف الفقهاء عليه، فاتفق إن وقعت قصة تفرد فيها يحيى وخالف(3/384)
جميعهم، فأرجأ القاضي القضاء فيها، حياء من جماعتهم، وردفته قصة أخرى، فشاورهم فيها أيضاً، فلما أتى كتاب يحيى وقد أحضره توقفه على إنفاذ الأولى، صرفه على رسوله، وقال: ما أفك له ختاماً، ولا أشير عليه بشيء، إذ قد توقف عن القضاء لفلان بما أشرت عليه به، وعابه. فلما انصرف إليه رسوله، وعرفه بقوله، قلق منه وركب من فوره إلى يحيى معتذراً وقال له: لم أظن الأمر وقع منك هذا الموقع. وسوف أقضي له غداً يومي إن شاء الله. فقال له يحيى: وتفعل ذلك صدقاً. قال: نعم. قال له: فالآن هيجت غيظي، فإني ظننت إذ خالفني أصحابك، إنك توقفت مستخيراً الله، متخيراً في الأقوال. فأما إذا صرت تتبع الهوى وتقضي برضى مخلوق ضعيف، فلا خير فيما تجيء به، لا فيّ إن رضيته منك. فاستعف من ذلك، فإنه أستر لك وإلا رفعت في عزلك، فرجع ليستعفي، فعزل. قال عبيد الله بن يحيى: قال لي أبي: لما قام الناس على قاضي قرطبة يحيى بن معمر؟ وتساعدوا فيما كتب عليه، أتاني سعيد بن حسان فقال لي: ما ترى في الشهادة عليه. فقلت له لا تفعل. وانتظر أن تكون مشاوراً في شهادة غيرك. فتكون فتواك أنفذ من شهادتك.(3/385)
فغلبته الشهوة، وخالفني، فشهد فجاءني كتاب الأمير يقول: تصفحت الشهادة على فلان فلم أرَ لك فيه شهادة. وقد وجهت إليك بكتاب الشهادات عليه، فتصفحها وأكتب إلينا برأيك إن شاء الله. فأجابه يحيى: ما عندي من أخبار الرجل علم، لأنه لم يكن يحضرني مجلسه، ولا يشاورني في أحكامه، فأما الشهادة الواقعة عليه، فقد تصفحها ولو شهد على مالك والليث رحمهما الله تعالى بمثلها ما رفعا بعدها رأساً. فعزل لحينه. قال يحيى: وأخبرني الليث أنه أخذ بركاب ربيعة. فقال له ربيعة: يا ليث: خدمك العلم. قال يحيى وإنما أراد ربيعة أن يبلغ مبلغ الكرامة، فما خرج يعني الليث من الدنيا حتى رأى ذلك. قال يحيى: وأخذت أنا بركاب الليث. فقال لي: أقول لك ما قال لي ربيعة: خدمك العلم يا يحيى. قال يحيى بن إسحق: ذكر يحيى ابن يحيى حديثاً يرويه عن يحيى بن أبي كثير، قال: لا يستطاع العلم براحة الجسم. قال وإن رجلاً ممن بلغه هذا الحديث من طلبة العلم، ذكره وهو على بطن امرأته، قبل أن يفضي إليها. فأخذ دفتراً من العلم ينظر فيه. قال يحيى: ولقد طلبت هذا الأمر
يوم طلبته ولا أريد إلا نفسي. حتى هيّأ الله ما هيأ. فعلمت أن الناس يحتاجون إلي، ولقد تقت إلى النساء في أيامي، مع ابن القاسم بمصر، فاشتريت جارية بها. فوالله ما رأيت لها وجهاً نهاراً، طول ما قامت عندي، حتى بعتها اشتغالاًً بابن القاسم وعلمه. وكان ابن القاسم موضع دلك وأهله، في روعة وأمانته. وقيل لي يا أبا محمد فتمني هذا الأمر، مما يفسد النيّة. فقال: لا والله. وما عقل من لم يتمن ذلك؟ قال الله تعالى وجعلنا للمتقين إماماً. قال يحيى: كنت آتي عبد الرحمان بن القاسم، فيقول لي من أين يا أبا محمد؟ فأقول له: من عند عبد الله بن وهب. فيقول لي: اتق الله، فإن أكثر هذه الأحاديث ليس عليها العمل. ثم آتي عبد الله بن وهب، فيقول لي من أين؟ فأقول له: من عند ابن القاسم، فيقول لي اتق الله، فإن أكثر هذه المسائل رأي، ثم يرجع يحيى فيقول: رحمهما الله فكلاهما قد أصاب في مقالته. نهاني ابن القاسم عن إتباع ما ليس عليه العمل من الحديث، وأصاب. ونهاني ابن وهب عن كلفة الرأي، وكثرته، وأمرني بالإتباع وأصاب. ثم يقول يحيى: إتباع ابن القاسم في رأيه رشد. واتباع ابن وهب في أثره هدى. وكان يحيى جمع مسائل، سأل عنها أشب وابن نافع وغيرهما من أصحاب مالك، وكتبها عنهم. فعرضها على ابن القاسم، ليرى فيها مذهبه، فجعل ابن القاسم ينتقص عليهم، فلما رأى يحيى ذلك طوى كتابه، وادخله في كمه. فقال له ابن القاسم ما بالك. فقال إن هؤلاء لهم علي حق كحقك، وقد كتبت عنهم ولم أرد أن أعرّض بهم، إلى الوقوع فيهم. فإذا كان هذا، فلا حاجة لي بذلك، ومثله له معه في سماع وزياد. وقد ذكرناه، في خبره. ووقع الأمير عبد الرحمان على جارية له في يوم من رمضان ثم ندم، وبعث في يحيى وأصحابه، فسألهم. فبادر يحيى وقال: يصوم الأمير، أكرمه الله شهرين متتابعين. فلما قال ذلك يحيى: سكت القوم. فلما خرجوا سألوه لم خصه بذلك دون غيره مما هو فيه، تخير من الطعام والعتق؟ فقال لو فتحنا له هذا الباب وطىء كل يوم وأعتق. فحمل على الأصعب عليه لئلا يعود. م طلبته ولا أريد إلا نفسي. حتى هيّأ الله ما هيأ. فعلمت أن الناس يحتاجون إلي، ولقد تقت إلى النساء في أيامي، مع ابن القاسم بمصر، فاشتريت جارية بها. فوالله ما رأيت لها وجهاً(3/386)
نهاراً، طول ما قامت عندي، حتى بعتها اشتغالاًً بابن القاسم وعلمه. وكان ابن القاسم موضع دلك وأهله، في روعة وأمانته. وقيل لي يا أبا محمد فتمني هذا الأمر، مما يفسد النيّة. فقال: لا والله. وما عقل من لم يتمن ذلك؟ قال الله تعالى وجعلنا للمتقين إماماً. قال يحيى: كنت آتي عبد الرحمان بن القاسم، فيقول لي من أين يا أبا محمد؟ فأقول له: من عند عبد الله بن وهب. فيقول لي: اتق الله، فإن أكثر هذه الأحاديث ليس عليها العمل. ثم آتي عبد الله بن وهب، فيقول لي من أين؟ فأقول له: من عند ابن القاسم، فيقول لي اتق الله، فإن أكثر هذه المسائل رأي، ثم يرجع يحيى فيقول: رحمهما الله فكلاهما قد أصاب في مقالته. نهاني ابن القاسم عن إتباع ما ليس عليه العمل من الحديث، وأصاب. ونهاني ابن وهب عن كلفة الرأي، وكثرته، وأمرني بالإتباع وأصاب. ثم يقول يحيى: إتباع ابن القاسم في رأيه رشد. واتباع ابن وهب في أثره هدى. وكان يحيى جمع مسائل، سأل عنها أشهب وابن نافع وغيرهما من(3/387)
أصحاب مالك، وكتبها عنهم. فعرضها على ابن القاسم، ليرى فيها مذهبه، فجعل ابن القاسم ينتقص عليهم، فلما رأى يحيى ذلك طوى كتابه، وادخله في كمه. فقال له ابن القاسم ما بالك. فقال إن هؤلاء لهم علي حق كحقك، وقد كتبت عنهم ولم أرد أن أعرّض بهم، إلى الوقوع فيهم. فإذا كان هذا، فلا حاجة لي بذلك، ومثله له معه في سماع وزياد. وقد ذكرناه، في خبره. ووقع الأمير عبد الرحمان على جارية له في يوم من رمضان ثم ندم، وبعث في يحيى وأصحابه، فسألهم. فبادر يحيى وقال: يصوم الأمير، أكرمه الله شهرين متتابعين. فلما قال ذلك يحيى: سكت القوم. فلما خرجوا سألوه لم خصه بذلك دون غيره مما هو فيه، تخير من الطعام والعتق؟ فقال لو فتحنا له هذا الباب وطىء كل يوم وأعتق. فحمل على الأصعب عليه لئلا يعود.
ذكر فصول من كلامه، وحكمه
وأخبار، من تنزهه وعقله وزيه
وكتب إلى يحيى رجل من قريش، يسأله عن حنث شك فيه، وإنه لم يرض مسألة غيره. فكتب إليه: أرى لك أن تتورع عنها، ولا يهوننّ الناس عليك، فتكون عليهم أهون، والسلام. وقال لآخر سأله عن مسألة حنث وقعت في مجلسه: لا ينبغي لك أن(3/388)
تسأل العلماء عن كل ما يحضر مجلسك، مما لا ينبغي أن يخرج دينك، فإنه أزين لك والسلام. وجمع بعض أصحاب يحيى وفوده عن ابن القاسم، فأراد أن يقرأها عليه، فتعظم ذلك وأبى منه، فقيل له: أو ليست حسنة؟ وقال: إنا لا نحبّ كل حسن أكون فيه مخالفاً لمالك وابن القاسم. ثم لم يكن من عرضها عليه. وكان يحيى يقول: تعاونوا على قطع المعانقة. وأول من أحدثها عنّا النساء والصبيان والخصيان. وقيل ليحيى: قال الحسن: لولا الحمقى ما عمرت الدنيا. فقال، يحيى: لكني أقول: لولا الحلماء ما عمرت الدنيا. وقيل له، قال سفيان الثوري: ما أخاف على دمي إلا القراء والفقهاء. أما أنا قلت قاله إبراهيم النخعي. فجعل يحيى يتعوذ ويقول اللهم لا تخف بنا أحداً من خلقك، مراراً. ثم قال: إن رجلاً يخيفه الله خيار خلقه، رجلُ سوءٍ، وكان يحيى يقول: ادخل الحشمة بينك وبين الناس. فإنه أوقر لحرمتك.(3/389)
وسأله رجل في غير مجلسه عن مسألة فأنكر ذلك، وقال: إذا جلست مجلس السائل من المجيب، أجبناك. وقيل له: لم لا تنبسط في الملا، كانبساطك في الخلا. فقال: لو فعلت ذلك لتلوعب بين يدي، وأنا أحب أن يقتدي بي كما اقتديت بغيري. وأراد أن يجاوب في مسألة، فاستمد فلم يجد المداد، ثم تكرر فلم يمكنه. فقال له رجل إلى جنبه: عنده الدواة. يا أبا محمد. فقال: لو كان، لكان. فضم الفتى الدفتر إلى وجهه، وتبسم، ولحظه يحيى لحظة، فقال: لو جلست في بيتك كان أستر لك. وقال: من أراد أن يعمل بما يقول، اقتصد. ومن لم يرد ذلك لم يسأل ما يقول. وكان يحيى يعجب بكلمة حكمة قالها له الحاجب عبد الكريم بن مغيث. وقال له يحيى مرة إني أريد أن أكلمك بشيء يرق وجهي عندك رقة، شديدة. فقال له يا أبا محمد: كل شيء تبلغ الحشمة منك فيه هذا، فضعه عن نفسك. وكان يحيى يعجبه ويقول: ما أزين الحلم بالرجال. وسمع يحيى بن يحيى يقول في قول الله تبارك وتعالى: يا بني(3/390)
آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ولباس التَّقوى. قال: لباس التقوى، السكينة والوقار وحسن السمّت. ثم رجع يحيى يقول: مع العمل بما يشبه ذلك. وسئل عن الزهد في الدنيا، فقال: ِ من لم يرض منها إلا بالحلال فهو فيها زاهد، وإن كان عليها مكباً حريصاً. وقال: من جاءه الموت وهو يطلب العلم، لم يكن بينه وبين الأنبياء في الجنة إلا درجة. وذكر يحيى أصحاب الأعراف فترجع واسترجع، وقال: قوم أرادوا وجهاً من الخير، فلم يصيبوه. فقيل له أفيرجى لهم مع ذلك لسعيهم ثواب؟ فقال: ليس في خلاف السنة رجاء الثواب. وقال قوم ليحيى يا أبا محمد. لو توكلنا على الله حق توكله، لأتانا بالرزق إلى بيوتاً، كما يأتي الطير. قال: والله ما كان يأتي عيسى بن مريم البقل البري حيث هو جالس، حتى يخرج إليه إلى الصحراء يلتمسه. وقيل ليحيى أن من مضى كان يتمنى الفقر، فأنكر ذلك، وقال: لا ينبغي لمن يعقل أن يتمنى ما تعوذ منه نبيه صلى الله عليه وسلم. وكان يحيى يلبس الوشي الرفيع، يريد القطني، ثمنه المال العظيم في الأعياد والدخول على الأمراء.(3/391)
وقال الأمير محمد: ركبت يوماً في حياة أبي، فلقيت يحيى بن يحيى، فراكبني ثم ضرب على يدي، وقال لي: إن هذا الأمر صائر إليك، فاتق الله في عباد الله. فكانت في نفسي حتى صرت إليه، ووليت الأمر بعده.
محنة يحيى بن يحيى رحمه الله تعالى
كان يحيى ممن اتهم بالإجلاب بالهيج بقرطبة، على الأمير الحكم بن هشام. فلما أظفره الله بالقائمين عليه، وأستباحهم، ثم أجلى بقيتهم، كان ممن فر عنه: عيسى بن دينار، ويحيى بن يحيى. فذكر أن يحيى بن يحيى خرج مع أخيه، فتم وكان رأساً في أهل الخلاف، متنكرين على باب اليهود بقرطبة، يريدان الفرار، وقد أنذر الأمير أهل الأبواب أن يقتلوا كل من اجتاز بهم، ممن ينكرونه، فعدل أخو يحيى إلى كبير أولئك البوابين، لصداقة كانت بينه وبينه. وثق بها منه ليودعه، ويوصيه بمن يخليه. وقد نهاه أخوه يحيى عن ذلك، فلما دنا منه، كشف له عن وجهه وطلب خلوته. فساعة وقعت عينه عليه قبض عليه، وأمر بضرب عنقه، ويحيى ينظر بناحيته فتزايد ذعره، وبالغ في تنكر نفسه، ولزم بقوم من مصمودة قومه في طريقه. فراموا الفتك به، لأخذ ما كان على بطنه من المال. فأنذرته ابنة أحدهم بذلك. فلما اجتمعوا معه للعشاء قام كأنه يريد حاجة، وركب رمكة وجدها في الدار سائبة، عرياً، فنجي عليها.(3/392)
فلما أبطأ عليهم خرجوا فوجدوه وقد فات وسار إلى أن نجا. فلحق بطليلة وردّ رمكتهم، فتقبله أهلها، وأجاروه. وكان يحيى المعروف بأبزي وطالبهم الأمير الحكم، بإسلامه إليه. فلم يفعلوا ومنعوه بعزة أنفسهم.
فأتاه كتاب الأمير أخيرا في الرجوع الى وطنه، وبذل له الأمان، ؤيرد عليه متاعه وماله، وكان يحيى قد كتب اليه في ذلك فاستجاب له، وعاد الى قرطبة أخريات أيام الحكم، فلم يزل تحت كرامته بقية أيامه، وأيام ولده، وعرض جاهه وشهر فضله وعلمه. ولما انصرف الى قرطبة، باع جميع عبيده، واستبدل بهم. فقيل له في ذلك، فقال: نكره ان يصحبنا من عرف ما دار علينا، من الهرب والذل. وامتدت أيامه، الى أن توفي، لثمان بقين في رجب، سنة أربع وثلاثين ومائتين، فيما قاله ابن الفرضي. وقال الرازي عشية يوم الأربعاء لثمان بقين من ذي الحجة. وقيل إنما توفي سنة ثلاث وثلاثين. حكاه أبو عمر الحافظ، وكان سنّه يوم توفي: سنتين وثمانين سنة. وترك ابنين يأتي ذكرهما. ولما مات يحيى، أسند وصيته إلى القاضي محمد بن زياد بن ربيع، أجل خاصته. وهو الذي صلى عليه بعد موته، فذكر أن ابنه الأصغر عبيد الله كان قدّمه، وأن ابنه الأكبر، اسحاق، تقدم بتقدمه للصلاة عليه، يكبر بتكبيرابن زياد، ويسلّم بتسليمه.(3/393)
فلما وري يحيى، أنكر ابن الزياد على إسحاق ما فعله، ووبخه، وقال له: ما أقدمك عليّ بهذا؟ فقال له إسحاق: ومن أقدمك أنت على أبي؟ فقال ابن زياد؟ أمر الصلاة إلي، ومع هذا، فإن أخاك عبيد الله قدمني، وهو أرشد منك على شبابه. وكان سن عبيد الله إذ ذاك سبع عشرة سنة. والله لولا حفظي لصاحب الحفرة، لأدبتك. فكان ثناء ابن زياد يومئذ على عبيد الله، أول أسباب سؤدده. قال يحيى بن إسحاق، في كتابه المبسوطة: قال لي أبي: دخلت أنا وعبد الملك بن زونان على أبي يحيى، وهو مريض، فسأله عن علته، فقال له يا أبا الحسن إنه ليخفف عني ما أنا فيه، تفكري في عضيم ما له خُلقت. فكان زونان يردد هذا، في كلامه ويعجب به. وقال له مرة أخرى: يا أبا الحسن ليتني أن أزحزح عن النار، على أن لا أسمع بذكر الجنة. وليحيى وصية لطلبة العلم مشهورة.(3/394)
بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما قال القاضي الإمام أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض رضي الله تعالى عنه. قد انتهى بنا القول في الطبقات الثلاث من أصحاب مالك، الذين أخذوا عنه، وسمعوا منه منتهاه، وبلغ بنا الذكر بعون الله تعالى تعيين ما نصحنا عليه مداه، واستوفينا من أخبارهم ومختلف أحوالهم، ما شرطناه. فلنعج على من بعدهم من أتباعهم، ورواتهم الملتزمين مذهبهم، الناهجين في التفقه على مذهب مالك، نهجهم. وأن كان منهم من قارن الطبقة الوسطى والصغرى من أصحاب مالك، ومن تقدم بعضهم من الزمان، ولكن قدمنا أولئك لمرتبتهم لصحبة إمامهم، وجئنا بهؤلاء. ثم بمن جاء بعدهم، إلى زماننا. مرتباً لهم على طبقاتهم، في تقدم الزمان، وتأخره ذاكراً لكل واحد ما بلغني علمه، من مفيد شمائله، وخبره. والله المعين لا رب غيره.(4/1)
الطبقة الأولى الذين انتهى إليهم فقه مالك والتزموا مذهبه
ممن لم يره ولم يسمع منه
من أهل المدينة
أبو ثابت محمد بن عبد الله بن محمد بن زيد
مولى عثمان بن عفان أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه. روى عن ابن وهب وابن القاسم وابن نافع.
قال الشيرازي: وبهم تفقه. روى أشهب، وعن إبراهيم بن سعد، وإبراهيم بن علي الرافقي وابن أبي حازم وحاتم بن إسماعيل وحماد بن زيد وغيرهم. روى عنه إسماعيل القاضي وأخوه حماد والبخاري ومحمد بن إبراهيم وخرج البخاري عنه في الصحيح. قال أبو حاتم: صدوق. وقال القاضي إسماعيل: كان الإجماع ونحن بالمدينة، إنه ليس بها أفضل من أبي ثابت وكان شريك والقعنبي، فكان أبو ثابت بالبصرة. فسمع من حماد بن زيد، وكان القعنبي بالمدينة، ولم يسمع منه أبو ثابت. قال أبو ثابت: رآني ابن وهب عن أشهب بعد موت ابن الاسم، فقال لي: أنت كما قال القائل: كما تبدّلت بعد الخيزران، جريدة ... البيت.(4/2)
أبو بكر بن ثابت المدني
من أصحاب محمد بن مسلمة، وعبد الملك بن الماجشون. يحكي عنه القاضي إسماعيل بن إسحاق في مبسوطه. نسبه ولم يسمِّه. وكناه القاضي أبو عبد الله التستري. وقرأت بخط الفقيه أبي عبد الله بن عتاب، إن الكتب الثمانية التي أدخل أبو زيد القرطبي من سماعه، عن عبد الملك ومطرف واصبغ، أن أبن ثابت أيضاً رواها عنهم، إلا ما منها لاصبغ، وقد روى ابن ثابت عن ابن بابين أبو شاكر محمد بن مسلمة بن محمد بن هشام بن إسماعيل، بن الوليد بن المغيرة، بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم. يروي عن أبيه. روى عنه القاضي إسماعيل بن إسحاق وأخوه حماد.
يعقوب بن عيسى بن عبد الملك بن حميد
ابن عبد الرمان بن عوف الزهري المدني أبو يوسف ذكر الخطيب أبو بكر، عن محمد بن سعد أن أبا يوسف هذا، كان كثير العلم والسماع للحديث حافظاً له. قال: ولم يجالس مالكاً. لكنه جالس من كان بعده من فقهاء المدينة، ورجالهم، وأهل العلم منهم. وكذا نسبه الخطيب في أصل النسخة التي وقعت إلي.(4/3)
ورأيت أنا في كتاب محمد ابن سعد فيه، يعقوب بن محمد بن عيسى. قال الخطيب: وقدم بغداد فحدث بها عن عبد العزيز الدّراوردي وابن أبي حازم، وإبراهيم بن سعد، ومحمد بن فليح، وصالح بن قدامه، وسفيان بن حمزة، وحاكم بن إسماعيل، وابن أبي فديك. روى عنه الحارث ابن أبي أسامة. وعباس بن إسماعيل، وأبن أبي فديك. روى عنه الحارث ابن أبي أسامة. وعباس الدوري، وحجاج بن الشاعر، وحاتم ابن الليث الجوهري، وأحمد بن زياد السحار، وإسحاق الجزلي، وأبو العباس الكرسي، قال يعقوب: مررت ببغداد فعرض لي رجلان قاما من مجلس، فأخذا بعنان دابتي، ثم قالا: اختلفنا في شيء فأردنا أن نعرف فيه قول أهل بلدك، فقلت: ما هو. فقال أحدهما: قلت القرآن مخلوق، وقال الآخر قلت ليس بمخلوق. فقلت لهما: قول أهل بلدي، لو أخذوكما لأوجعوكما ضرباً.(4/4)
وضعفه ابن حنبل، وقال: ليس بشيء. وسئل عنه ابن معبن، فقال: إذا حدث عن الثقات. وقال أيضاً: هو صدوق، ولكن لا يبالي عمّن حدّثك. وقال أيضاً: أحاديثه تشبه أحاديث الواقدي. وقال مثله صالح بن محمد، وأبو زرعة الرّازي. قال ابن نافع: توفي سنة ثلاث عشرة ومائتين. وكان أبوه محمد من سراة المدنيين، وأهل المروءة منهم.
من أهل العراق
أحمد بن المعذَّل
هو:
أحمد بن المعذل بن غيلان بن الحكم، بن المختار بن ذهل، بن عجل ابن عمر، بن وديعة بن بكير بن أفصى بن عبد القيس، الفهدي. يكنى أبا الفضل، بصري، وأصله من الكوفة، وأبوه المعذل بن غيلان، بذال معجمة مفتوحة، مشدّدة. كذا ضبطه الداراقطني وغيره. على أن أبا الحسن الداراقطني، ذكر اسمين في هذا الباب. المعذل بن غيلان وأحمد ابن المعذل. ولم يقل أنه ابنه، وهو ابنه كما قدمنا. وكان المعذل سريانياً شاعراً. قال الدارقطني: روى المعذل بن غيلان البصري، عن فضيل بن مرزوق روى عنه محمد بن شعبة. قال وأحمد بن المعذل بن غيلان البصري الفقيه المتكلم.(4/5)
وكان مفوهاً ورعاً، متبعاً للسنة. وله مصنفات وكتاب في الحجة، وكتاب الرسالة. قال الإمام أبو الفضل رضي الله تعالى عنه: وسمع أيضاً من إسماعيل ابن أبي أويس، وبشير بن عمر والسندي، ابن هارون وغيره، وعليه تفقه جماعة من كبار المالكية، كإسماعيل ابن إسحق القاضي، وأخيه حماد ويعقوب ابن شيبة وسمع منه ابنه محمد بن أحمد وعيد العزيز بن عمر البصري.
ذكر الثناء عليه وفضائله
قال أبو عمر الصدفي: هو ثقة. كان أبو حاتم يثني عليه. قال أبو سليمان الخطابي: أحمد بن المعذل، مالكي المذهب، يعد في زهاد البصرة وعلمائها. وكان أبو خليفة الفضل بن الحباب الجعفي القاضي يثني على ابن المعذل. قال أبو بكرالنقاش: قال لنا أبو خليفة: أحمدنا يعني ابن المعذل: أفضل من أحمدكم، يعني ابن حنبل. والله أعلم. قال أبو القاسم الشافعي المعروف بعبيد: كان ابن المعذل من العلماء الأدباء الفصحاء النظار.(4/6)
قال ابن حارث: كان فقيهاً بمذهب مالك. ذا أفضل وورع ودين وعبادة. ذكر الدينوري في كتاب المجالسة. وجّه المتوكل إلى أحمد بن المعذل وغيره من العلماء، بجمعهم في داره. ثم خرج عليهم فقام الناس كافة على أحمد. فقال المتوكل لعبيد الله: هذا لا يرى بيعتنا؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين، ولكن في بصره سوء. يريد: العذر عنه. فقال أحمد: يا أمير المؤمنين، ما في بصري سوء، ولكن نزهتك من عذاب الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: من أراد أن يمتثل له الرجال قياماً، فليتبوأ مقعده من النار. فجاء المتوكل فجلس إلى جنبه. وقال الحسن بن عبد الرحمان بن عبيد البصري في كتابه: وممن كان يقرض الشعر من الفقهاء النساك: أحمد بن المعذل. وكان من أفصح الناس وأبلغهم وأنسكهم وأصمتهم، حتى نسب بذلك إلى الكبر. وله مواعظ وأخبار حسان. وكان أهل البصرة يسمونه لفقهه ونسكه الراهب. وكان فقيهاً بقول مالك، لم يكن لمالك بالعراق أرفع منه، ولا أعلى درجة ولا أبصر بمذهب أهل الحجاز، منه وعنه أخذ اسماعيل بن اسحاق، وهو فقهه. وذكر الحسن بن عبد الرحمان عنه، وذكر ابن الجراح أيضا، وأحدهما يزيد على الاخر: انه كان سكن مع أخيه عبد الصمد في دار واحدة. وكان عبد الصمد منهمكا في الشراب، فكان أحمد يبكر الى صلاة الصبح، وكان امام المسجد، فيمر سحرا بأخيه وهو سكران،(4/7)
ويحركه ويقول: أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ... الآيات. وفي الرواية الأخرى: أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون. فيرفع عبد الصمد رأسه، ويقولك وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم.. الآية. قال أحمد: دخلت المدينة، فتحملت على عبد الملك بن الماجشون، برجل يخصني، ويعني بي، فلما فاتحني، قال ما تحتاج أنت إلى شفيع. معك من الحذاء والسقاء ما تأكل به لب الشجر، وتشرب به صفو الماء. وكان أحمد يذهب إلى البادية، ويكتب عن الأعراب. قال المبرد: رأيت أحمد بعرفان مضحيا للشمس لا يستظل، فقلت ما هذا يا أبا الفضل؟ فقال:
ضحيت لكي استظل بظله ... إذ الظل أضحى في القيامة قالصاً
فيا أسفاً إن كان أجرك حافظاً ... ويا حزناً إن كان أجرك ناقصاً
وحكى الدينوري، قال: كان أحمد بن المعدل إذا حج لا يستظل، فلقيه بعض أصحابه بين مكة والمدنية، في يوم صائف شديد الحر، ليس له(4/8)
مظلة وقد أحرقته الشمس، فقال له: سترت نفسك من الحر؟ فأنشأ يقول:
ضحيت له كي استظل ظله ... إذا الظل أضحى في القيامة قالصاً
وعادت نفوس الناس عند حلوقهم ... يريقون زيفاً غابر الماء شاخصاً
وما كنت ترجو أن ينالك حرها ... وقد كنت في حر الظهيرة حائضا
لعمري لقد ضاعت أمور لأهلها ... ليغتبطن بالصدق من كان خالصاً
قال: وكان أحمد بن المعدل، إذا أحزنه أمر، قام في الليل يصلي، ويأمر أهله بذلك. ويتلو: وأمر أهلك بالصّلاة الآية وينشد:
أشكو إليك حوادث أقلقنني ... فتركنني متواصل الأحزان
لولا رجاؤك والذي عودتني ... من حسن صنعك لاستطار جناني
من لي سواك يكون عند شدائدي ... إن أنت لم تكلأ فمن يكلاني
وأنشد أبو عبيد الله له:
التمس الأرزاق من عند الذي ... ما دونه أن سئل من حاجب
ومن يغمر التارك تسأله ... جوداً ومن يرضى عن الطالب
ومن إذا قال جرى قوله ... من غير توقيع ولا كاتب
وله قصيدة مشهورة في صفة النخلة، ولأخيه أرجوزة مشهورة فيها.
وأنشد له الحصر وابن الجراح:
أخو دنف رمته فأقعدته ... سهام من لحظك لا تطيش(4/9)
قواتل لا قداح سوى أحورار ... بهن ولا سوى اللحظات ريش
أصبن سواد مهجته فأضحى ... سقيماً لا يموت ولا يعيش
كئيب أن تحمل عنه جيش ... من البلوى ألم به جيوش
وكان القاضي أحمد بن إبراهيم بن حماد، قال: خرج أحمد بن المعدل من البصرة إلى طرسوس فأطال بها المكث فكتب إليه ابنه: يا أبت وحشت بقاع، وفقدك إخوانك. فكتب إليه أحمد:
أتأمن بالنفس النفيسة ما بها ... وليس لها في الناس كلهم ثمن
بها أملك الدنيا فإن أنا بعتها ... بشيء من الدنيا فذلكم الغبن
إذا ذهبت نفسي بدنيا تنالها ... فقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن
فبعها بها فمن إليه مصيرها ... فإنك فيها للمنية مرتهن
ودع لذة الدنيا لنعم خالد ... لدى جنة لا خوف فيها ولا حزن
فتبذل شيئاً لست تملك نفعه ... فيجزيك بالإحسان ذو الفضل والمتن
وأنشد له القاضي وكيع:
وقالت سل المعروف يحيى بن أكتم ... فقلت سلي رب يحيى بن أكتم
وقال ابن الجراح في كتاب الورقة: كان ابن المعدل فقيهاً نبيلاً. له أشعار ملاح.
قال القاضي إسماعيل بن أسحق: وكان أحمد أستاذه إلا أنه كان ورعاً حرجاً.(4/10)
بقية أخباره وفضائله وآدابه وشعره
قال أبو أسحق الحضرمي وغيره: كان أحمد بن المعدل من الفقه والنسك والأدب، والحلاوة في غاية وكان أخوه عبد الصمد يؤذيه ويهجوه. فكتب إليه أحمد: أما بعد، فإن أعظم المكروه ما جاء من حيث يرتجي المحبوب، ولقد كنت مرجواً حتى أشمل شرّك وعمً أذاك، فصرت فنيناً كالابن العاق، إن عاش نغّض وأن مات نقصّ، وأعلم أنك حسنت صدر أخ ناصح. والسلام. وكان يقول له: أنت كالإصبع الزائدة، أن تركت شانت وأن قطعت ألّمت. وذكر أبو علي القالي الكلام الأول بقريب من هذا اللفظ، فأجابه عبد الصمد:
أطاع الفريضة والسنة ... فتاة على الإنس والجنة
كأن لنا النار من دونه ... وافرده الله بالجنة
وينظر نحوي إذا زرته ... بعين حماة إلى كنة
قال أبو العباس. كان أحمد بن المعدل، من الأبهة والتمسك بالمنهاج، والتجنّب للعيب والتعرض له في أيدي الناس، وإضمار الزهد فيه على غاية، فلما حمل إلى بغداد في جملة فقهاء البصرة، وقبل الصلة، نقم عليه. فتسبب به أخوه إلى أذاه، ووجد سبيلاً. فذكر له في ذلك أشعاراً تركناها.(4/11)
قال الحضرمي، وابن الجراح: عن القاضي إسماعيل وكانت أم عبد الصمد طباخة فكان أحمد يقول إذا بلغه هجاؤه له: ما عسيت أن أقول فيمن القح بين قدر وتنور. ونشأ بين زق وطنبور. أبو العباس!؟ وذكر الدلائي في كتاب نزهة الأسرار: أن ابن المعدل قالت له أهله، حين ورد القاضي يحيى بن أكتم البصرة: لو أتيت يحيى فسألته، لضّر أصابهم. فلم يجبها ثم قال هذين البيتين:
تكلفني إذلال نفسي لعزها ... وكان عليها أن أذلّ فتكرما
تقول: سل المعروف يحيى بن أكتم ... فقلت سلي رب بن اكتم
وذكر الدّنيوري، عن محمد بن موسى البصري، كنا عند أحمد بن المعدل بالبصرة يوم مات ابنه، فاسترجع ثم أنشأ يقول:
تؤمل جنة لا موت فيها ... ودنيا لا يكدرها البلاء
وأنشد ابن الجراح له:
ألا أبلغ أبا سوار عني ... رسالة كاتب أهدي سلاماً
أفي حق الأخوة أن أقفّي ... ذمامكم ولا تقفّوا ذماماً
وقد قال الحكيم مقال صدق ... رآه الأولون لهم إماماً
إذا أكرمتكم واهنتموني ... ولم أغضب فذلكم فداماً
وأنشد له في وصف الرطب:
انشق جيب قميصها ... فالدمع عنها واكف(4/12)
يلغى بقاع إنائها ... حيث استعرنا خاطف
ومن الغرائب أنها ... بكر عوان ناصف
قال القاضي إسماعيل: عرضت على أحمد بن المعدل هذه الأبيات بكمالها، فقال: هي هكذا، إلا البيت الأخير، فإني لم أقلها، وينبغي أن يكون عبد الصمد قاله. قال القاضي: فانظر توقيه في هذا المقار الشعري، وذكر أبو علي القالي عن المعذل والد أحمد، أنه ركب إلى الأمير عيسى بن جعفر، فوقف ينتظره، فلما أبطأ عليه، أقبل يصلي، فخرج. وكان المعذل لا يقطع الصلاة. فناداه عيسى: يا معدل، يا أبا عمر، وهو مقبل على صلاته، فغضب عيسى ومضى، فلما أنهى الصلاة لحق عيسى، وأنشد شعراً منه:
قد قلت إذ هتف الأمير ... يا أيها القمر المنير
حرم الكلام فلم أجب ... وأجاب دعوتك الضمير
وأنشد له ابنه أحمد، في كتاب الورقة:
ولست بنظار إلى جانب الغنى ... إذا كانت العلياء في جانب الفقر
وإني لذو صبر على ما ينونبي ... وحسبك أن الله أثنى على الصبر
وأنشد له ابن الجراح أيضاً:
إلى الله أشكو لا إلى الناس إنني ... أرى صالح الأعمال لا أستطيعها
أرى خلة في أخوة وقرابة ... وذي رحم ما كنت ممن أضيعها
وذكر ابن الحارث عنه، أنه كان يقف في القرآن.(4/13)
ولعل ذلك تقية. ولعله في وقت المحنة، أو كراهة للكلام في فيما لم يتكلم فيه السلف، كما ذكرنا عن غيره. وأما أبو الفرج الأصبهاني في كتابه الكبير، فنحله ما لا يقوله، ولا يعرف له بوجه. وجدت في بعض الكتب أنه توفي وقد قارب الأربعين سنة.
إسحاق بن إسماعيل بن حماد
ابن زيد بن بابك البصري، أبو يعقوب الأزدي الجهني مولاهم، لآل جرير بن حازم، والد إسماعيل القاضي، ولي المظالم بمصر، أيام المأمون والحطابة والأشراف على المعتصم، وولي مظالم البصرة.
ولم يكن بالحافظ. لكن ولده وآل تجردوا لمذهب مالك في أيامه، وتفقهوا فيه. مولده سنة ست وسبعين ومائة. وتوفي بالبصرة سنة ثلاثين ومائتين. نقلت هذا كله من الأوراق المؤلفة، للحكم عبد الرحمان في ذكر المالكية، من أهل العراق. ومن كتاب ابن الحارث. وذكر أبو بكر الخطيب عن حماد بن إسحاق عن أبيه، قال: دخلت على ابن شكلة في بقايا غضب المأمون عليه. فقلت:
هي المقادير تجري في أعنتها ... فاصبر فليس لها صبر على حال
يوماً تريك خسيس الحال ترفعه ... إلى السماء ويوماً تُخفض العالي
فاطرق ساعة ثم قال:
عيب الإناءة إن سرت عواقبها ... إن لا خلود وإن ليس الفتى حجرا(4/14)
قال: فقمنا. فما مضى ذلك اليوم حتى بعث إليه المأمون بالرضا، ودعاه إلى مجالسته. قال: فالتقيت معه، في مجلسه. فقلت: ليهنك الرضا. فقال: ليهنك مثله من متيّم - جارية أهواها - فحسن موقع كلامه عندي. فقلت:
ومن لي بأن ترضى وقد صحّ عندها ... ولُوعي بأخرى من بنات الأعاجم
وجده، حماد بن زيد إمام البصرة، مشهور، كان أولاً بزازاً، فلزم العلم، فانتفع وانُتفع به. وارتفع ولده به. قال الفرغاني: فلا نعلم أحداً من أهل الدنيا بلغ مبلغ آل حماد.
يعقوب بن إسماعيل بن حماد - أخوه - أبو يوسف
قال محمد بن خلف القاضي، في كتاب طبقات القضاة: كان يعقوب هذا من حملة العلم. أخذ عن يحيى بن سعيد، وابن مهدي وغيرهما، وسمع أيضاً من ابن وهب بن جرير، وجرير بن صخرة، وحدث عنه ابنه يوسف، ومحمد بن هارون، وذكر أبو بكر بن ثابت البغدادي: إن ابنة القاضي أبو عمر، روى عنه، حديثاً أيضاً واحداً. لقنه إياه وهو ابن أربع سنين. قال الخطيب: ولي القضاء بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وقدم بغداد، فحدث بها عن سفيان ابن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وابن(4/15)
مهدي، ووهب بن جرير، وروح ابن عبادة، وابن عاصم النبيل، وأبي أحمد الزبيري. وروى عنه إسماعيل القاضي، وعبد الله بن أبي سعد الوراق، وابن أبي الدنيا، وعبد الله بن أحمد ابن حنبل، وابن ناجيّة، وقاسم المطرّز وغيرهم. قال ابن أبي حاتم: سألت عنه أبي، فقال: صدوق. وكتبت عنه، وكان يعقوب في صحابة المعتصم وقدّم إلى المعتصم وهو في صحبته للعشاء: هريسة. فقال المعتصم: ليست بطيبة. فقال يعقوب: أنا آكلها، فأتى عليها. فقال له المعتصم: أنت آكل الناس هريسة رديئة. قال ابنه: كان أبي يقول: أهل البيت في الشتاء إذا لم يأكلوا، ويصطلوا، فكأنهم غضاب. قال وكيع: ولاه المتوكل قضاء المدينة، ثم صرفه. قال ابن نافع: وتوفي بفارس وهو يتولى قضاءه سنة ست وأربعين ومائتين.(4/16)
من أهل مصر
أصبغ بن الفرج
ابن سعيد بن نافع. مولى عبد العزيز بن مروان. قال أبو عمر الكندي في موالي مصر: كذا زعم أصبغ، وكثير من أهل مصر لا يصححون له، ولاء. يكنى أبا عبد الله. يسكن الفسطاط. روى عن الدراوردي، وابن سمعان، ويحيى بن سلام وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم. كان قد رحل إلى المدينة ليسمع من مالك، فدخلها يوم مات وصحب ابن القاسم وأشهب وابن وهب، وسمع منهم وتفقه معهم. قال أبو أحمد الجرجاني: كان كاتب ابن وهب. قال الإلكاني: وكان ورّاقه وأخص الناس به. روى عنه الذهلي والبخاري ويعقوب بن سفيان ومحمد بن أسد الخشني، وابن رنجويه، وابن وضاح، وسعيد بن حسان، وأخرج عنه البخاري.
ذكر مكانه من العلم والثناء عليه
قال ابن أبي دليم: كان فقيه البدن كذا طويل اللسان، حسن القياس من أفقه هذه الطبقة. قال أبو حاتم الرازي: هو أعلى أصحاب ابن وهب، صدوق. وقال ابن معين: ثقة. وقال ابن وضاح مثله.(4/17)
قال ابن حبيب: كان أصبغ من أفقه أهل مصر، وعليه تفقه ابن المواز وابن حبيب وأبو زيد القرطبي، والصيرفي وابن مزين وعبد الأعلى القرطبي وغيرهم. قال ابن أبي حاتم: روى عنه أبو حاتم الرازي. قال ابن حارث: كان ماهراً في فقهه، وفقيه البدن طويل اللسان، حسن القياس، من أفقه هذه الطبقة، والتبيان والبيان. وتكلم في أصول الفقه. قال ابن حبيب: كان أفقههم بعد أن ذكر ابن القاسم وطبقته، ثم ذكر أصبغ وعبد الله بن عبد الحكم. قال أحمد بن صالح الكوفي: هو ثقة. صاحب سنة. حكى القاضي أن أشهب مرض، فدخل عليه عوّاده وفيهم أصبغ، فلما خرجوا قالوا له من لنا بعدك؟ قال: هذا الخارج عنا. قال وكان ابن وهب يقول: لولا إن تكون بدعة لسّورناك يا أصبغ، كما تسوّر الملوك فرسانها. قال أبو عمر الكندي: كان أصبغ فقيهاً، نظاراً. وسأل مطرف بعض المصريين عن عبد الله بن الحكم، فقال: مات. قال: فما فعل أصبغ؟ قال: باق.(4/18)
قال مطرف: الحي عندنا أفقه من الميت. قال ابن اللباد: ما انفتح لي طريق الفقه إلا من أصول أصبغ. وقد روي أن ابن القاسم قال: إن قيل أصبغ، سرُّوا به. قال عبيد بن سعيد: قدمت على أصبغ بن الفرج، فلما كان توجهي إلى المدينة، كتب معي إلى عبد الملك بن الماجشون يسأله أن يخير له كتبه. قال: فقدمت على عبد الملك بكتابه، وهو يومئذ قد كف بصره، فقال لي: قل له: اشخص للعلم إن كنت تريده فإن العلم لمن شخص له. قال: فذاكرته، حال أصبغ. قال ما أخرجت مصر مثل أصبغ. قلت له: ولا ابن القاسم؟ قال: ولا ابن القاسم، كلفاً منه به. وقال ابن مزين فلما قدمت على أصبغ سلمت عليه، وهو محتب فأخرج يده من تحت حبوته، وكنت أعرف مروءة أصحابنا بالأندلس، فقلت في نفسي: ما يضرك لو أخرجتها عن طوقك. وكان أصبغ بمصر يستفتي مع أشهب وغيره، من شيوخه. قال ابن غالب: خرجت من الأندلس، وأصبغ عندي أكبر أهل زمانه: لما كنا شاهدناه من تعظيم شيوخنا له. وحكى الكندي عن المزني والربيع قال: كنا نأتي أصبغ قبل قدوم الشافعي، فقلنا له: علمنا مما علمك الله.(4/19)
قال ابن معين: كان أصبغ من أعلم خلق الله كلهم، برأي مالك. يعرفها مسألة مسألة. متى قالها مالك ومن خالفة فيها. ولأصبغ تآليف حسان، ككتاب الأصول، له عشرة أجزاء. وتفسير غريب الموطأ. وكتاب أدب الصائم. وكتابه سماعه من ابن القاسم، اثنان وعشرون كتاباً. وكتاب المزارعة، وكتاب أدب القضاة، وكتاب الرد على أهل الأهواء. قال أبو بكر بن أصبغ: قال أبي: أخذ ابن القاسم بيدي يوماً، فقال لي: يا أصبغ، أنا وأنت اليوم في هذا الأمر سواء، فلا تسألني عن هذه المسائل الصعبة بحضرة الناس ولكن بيني وبينك، حتى انظر وتنظر. قال: وقدم طومار عليه من الأندلس، أو من المغرب فيه مسائل، فقال لي أجب فيها، وائتني بجوابك. وقال لعيسى بن دينار مثله فجئنا بذلك. وقرأنا عليه، فأخذ جوابي وطبع عليه، وأعطاه لصاحب المسألة، وقال أخبرهم أن هذا جوابي وما غيّر منه شيئاً.
جمل من أخباره
قال أصبغ: خرجت إلى مكة، سنة تسع وسبعين للسماع من مالك. فدخلت المدينة فلم ألق إلا باكياً، أو مسرجاً أو ضارباً يداً على أخرى، أو محددة. فقلت لبعضهم ما شأن الناس لم يكلمني أحد، وجعلت كل ما لقيت فوجاً أسأله حتى قال لي رجل جالس متقنع يبكي، وقد رأى حالي غريباً: أراك غريباُ؟(4/20)
قلت: نعم. الساعة دخلت. قال لي مات اليوم عالم المشرق والمغرب. قلت يرحمك الله، ومن هو: فال لي أراك جاهلاً أقول لك عالم المشرق والمغرب، فتقول: ومن هو؟ فاسكتني. فلما نظر لي وقد وجمت قال: مات مالك بن أنس. قال: فصحت مات مالك؟ ومضيت مع الناس إلى منزله. فإذا به قد مات ذلك اليوم. فحضرت جنازته، وذكر أبو عمر الكندي في كتاب الموالي: قال كانت بين عبد الله ابن عبد الحكم وأصبغ منازعة، ومباعدة. وقال في طبقات القضاة بمصر إن أبا ضمرة الزّهري، كان أشار بين يدي ابن طاهر بأصبغ القضاة. وقال أصبغ، الفقيه، العالم لها لم يوافقه عليها ابن عفير، وقال: ما بال أبناء الصبّاغين يذكرون هنا؟ فأشار ابن عبد الحكم، بعيسى ابن المنكدر، فولي، ولم يكن له رأي في أصبغ فبلغ قول ابن عفير أصبغ فقال: من أخبره إن في آبائنا صباغاً.
محنته
قال أبو العرب: قال يحيى بن عمر، اختفى أصبغ بن الفرج أيام الأصم، وأخذه الناس بالمحنة في القرآن، فطلبه الأصمُّ فاختفى في داره، وكان إخوانه يأتونه فيها الواحد بعد الواحد، حتى مات.(4/21)
وقال أبو عمر الكندي: إن المعتصم كتب في أصبغ ليحمل في المحنة. فهرب إلى حلوان، فاستتر بها. وفي ذلك يقول الجمل المصري، في مدحه الأصم.
وطويت أصبغ خفيةً في بيته ... فسترته جُدرُ البيوت الستر
أبدلته برجاله وجموعه ... خوفاًُ مقاعدة النساء الخدر
وتوفي أصبغ بمصر، سنة خمس وعشرين ومائتين. قال ابن سخنون وذلك في يوم الأحد لخمس ليال بقين من شوال منها. وقال نحوه الكندي: وقال أبو نصر الكلاباذي: توفي سنة أربع وعشرين ومائتين. قال الكندي مولده بعد الخمسين ومائة.
أبو زيد ابن أبي الغمر
واسمه عبد الرحمان ابن عمر بن أبي الغمر. كذا قال الكندي والدارقطني وغيرهما. مولى بني فهم. يروي عن يعقوب بن عبد الرحمان الإسكندراني، والمفضل وابن القاسم وأكثرهم عنه، وحبيب كاتب مالك، وابن وهب ومعاوية ابن يحيى الطرابلسي. قال ابن أبي دليم: ورأى مالكاً فلم يأخذ عنه شيئاً. وحكي ذلك الكندي عنه. روى عنه ابناه محمد وزيد والبخاري. وأخرج عنه في الصحيح، وأبو زرعة وأبو الزنباع روح ابن الفرج. وأحمد بن رشدين، ومحمد ابن المواز وأبو إسحاق البرقي. ومحمد بن عامر الألوسي.(4/22)
وأبو الطاهر المصري، والحارث ويونس بن عمر، ومحمد بن عيسى الأعشى. وهو رواية الأسدية. والذي صححها علي بن القاسم بعد ابن الفرات. وله كتب مؤلفة حسنة، موعبة لطيفة، في مختصر الأسدية. وله سماع من ابن القاسم مؤلف، قال ابن وضاح: لقيته بمصر، وهو شيخ ثقة. قال الكندي: كان فقيهاً مفتياً، وذكر لسحنون فقال: أن أبا زيد لم يكن من أهل هذا الشأن، يعني الفقه. قال ابن باز والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت أفضل من أبي زيد ابن أبي الغمر. لا أحاشي أحداً. وقال ابن أبي دليم: كان رجلاً صالحاً. قال غيره: كان لا يرى مخالفة ابن القاسم. وكتب أبو زيد إلى أبي سنان القيرواني: عليك يا أخي بنفسك. فلها فاعمل، وعلى حظها فاحرص، وعلى دوام بقائها في النّعيم المقيم فقم لها بذلك. فكأن قد حجبت عن القيام بذلك. بما ذكرت لك، فاغتنم ذلك ما كان لك مبذولاً، وأعلم أنك لن تقوى على ذلك حتى تترك ما تحب إلى ما تكره. فعند ذلك تقوى على ما تريد، ويهون عليك طلب ذلك. وتقدر عليه إن شاء الله، وأبعد ما تكون منه حين تعطي لنفسك مناها وتدرأ عنها ما تكره،(4/23)
وأعلم أن ذلك بالله ومنه، فعليك بالإستكانة إليه في ذلك. فلعلك تعطاه إن حسنت فيه نيّتك. قال ابن باز: سألت. أبا زيد ابن أبي الغمر، عمّن تزّوج وبشرط أنه إن لم يأت بمهر إلى كذا، فأمرها بيدها. فقال النكاح حائز فقلت له يُروى عن مالك، لا يجوز. فقال لي ومن أعلم بقول مالك؟ أنا أو أنت؟ قلت: أنت. ولكن أخبرني سحنون عن ابن القاسم عن مالك: إنه لا يجوز: قال إبراهيم ثم وجدتها رواية كما قال محمد بن عيسى.
قال إبراهيم: صليت وراء أبي زيد ابن أبي الغمر، على جنازة. فرفع يده في التكبير كله، ثم صليت وراءه على أخرى فلم يرفع لا في الأولى ولا في غيرها. وتوفي سنة أربع وثلاثين ومائتين سنة ستين ومائة.
أبو علي بن مقلاص
واسمه عبد العزيز بن عمران بن أيوب بن مقلاص، الخزاعي. وهو ابن ابنة سعيد بن أبي أيوب بن مقلاص، مولاهم، من أكابر أصحاب ابن وهب أخذ عنه وعن الشافعي، وعن لهيعة بن يحيى. روى عنه أبو إبراهيم الزهري، ويعقوب بن سفيان، وابن وضاح، وجماعة من الأندلسيين، وابن حارث، وكان فقيهاً زاهداً صوفياً حسناً. ذكره ابن أبي دليم، والكندي.(4/24)
وتوفي سنة أربع وثلاثين ومائتين. وله ابن اسمه محمد روى عنه ابن جرير قال ابن وضاح: لقيته بمصر، وكان كثير الرواية ضابطاً للحديث حافظاً له، نعم الشيخ ثقة. وكان جده لأمه سعيد بن أبي أيوب يكنى بأبي يحيى من رواة الحديث. يروي عن عقيل. روى عنه ابن المبارك والمقري، وأبو مطيع معاوية بن يحيى. قال ابن معين: هو مولى أبي هريرة، وثّقه هو والنسائي. توفي فيما قاله البخاري، سنة تسع وأربعين. وقال ابن بكير: سنة إحدى وستين ومائة.
سعيد بن عيسى
ابن تليد، بفتح التاء، أبو عثمان القتباني، ثم الرعيني مولاهم، وقتبان قبيلة من رعين، بقاف مكسورة بعدها تاء باثنتين، من فوق ساكنة، وباء موحدة مفتوحة، وبعدها نون. فقيه مشهور بمصر. قال الكندي: في كتاب الموالي، وهو عم مقدام بن داود بن عيسى، وكان كاتباً لغير قاض، بمصر. يروي عن المفضل بن فضالة، وبكر بن مضر، وابن عيينة وابن وهب، وابن القاسم، والليث بن عاصم، وغيرهم. روى عنه ابن أخيه المقدام، وأبو حاتم الرازي، وعلي بن محمد النفيلي، والبخاري. وخرج عنه في صحيحه. قال أبو حاتم: هو ثقة.(4/25)
قال أبو عمر الكندي، في قضاة مصر، ولاه لهيعة بن عيسى، على مسائله. وكان أول شأنه خياطاً وقال الجيزي: إن الفضل بن حاتم قاضي مصر، استكتبه، بعد أن أبى عليه، فحلف له إن لم يفعل ليعاقبنه. قال الدارقطني: وتوفي سنة تسع عشرة ومائتين، وقال الكندي: سنة أربع عشرة.
أبو الزنباع روح بن عبد الجبار بن نصير
مولى مراد. وهو أخو أبي الأسود. يروي عن ابن القاسم، وكان مقبولاً عند قضاة مصر. ذكره ابن أبي دليم في المالكية. قال: وتوفي في ذي القعدة سنة إحدى وعشرين ومائتين. وأخوه أبو الأسود: النضر ابن عبد الجبار. كان يكتب للهيعة، قاضي مصر. ذكره الكندي في علماء موالي مصر، مولده سنة خمس وأربعين ومائة، وتوفي سنة سبع عشرة ومائتين، وابن أخيهما محمد بن عبد الله بن عبد الجبار، يكنى أبي العوام. قال الكندي: كان فقيهاً مقبول الشهادة توفي سنة ثمان وستين.
أبو عمرو الحارث بن مسكين
ابن محمد بن يوسف. مولى محمد بن زياد بن عبد العزيز بن مروان. سمع من ابن القاسم، وأشهب وابن وهب، ودوّن اسمعتهم وبوّبها. وبهم تفقه وعد في أكابر أصحابهم. وله كتاب فيما اتفق فيه رأيهم الثلاثة، ورأي الليث ومالك والمفضل بن فضالة. وروى أيضاً عن سفيان بن عيينة، وسعيد ابن الجهم، ويوسف بن عمر. وحدث ببغداد وبمصر.(4/26)
وممن روى عنه ابن زبان الحضرمي، وأبو داود وابنه يعقوب بن أبي شيبة، وأبو حاتم الرازي ويحيى ومحمد بن عمر ومحمد بن رمضان والنسائي وابن وضاح وعبد الله بن أحمد بن حنبل، والقاسم بن المغيرة الجوهري، وحمدان بن علي. سئل أحمد بن حنبل عن الحارث بن مسكين، قبل أن يستقضي فأثنى عليه خيراً وقال: إنه رآه. وقال: ما بلغني عنه، إلا خير. قال: وكانوا يتساهلون في الأخذ عن ابن وهب والمصريين، تساهلاً شديداً. وقال يحيى ابن معين: لا بأس به. قال ابن وضاح: هو ثقة الثقات. قال الكندي: كان مفتياً فقيهاً. قال يحيى بن نصر: عرفت الحارث أيام ابن وهب، وبعد وفاته على طريقة زهادة وورع، وصدق لهجة، حتى مات. قال أبو بكر الخطيب: كان فقيهاً على مذهب مالك، ثقة في الحديث ثبتاً. وحكى الخطيب عن علي بن الحسين بن حيان، قال: وجدت في كتاب أبي بخطه. وقال النسائي: الحارث بن مسكين، خير من إصبغ وأفضل من عبد الله ابن صالح. وقال النسائي: الحارث بن مسكين ثقة مأمون، وللحارث بن مسكين كتاب حسن، دون فيه سماع ابن القاسم وابن وهب. قال أبو حاتم: هو صدوق. قال عبد الله بن محمد القاضي: كان الحارث من علماء هذه الطبقة بمصر، مع خيره وفضله وثقته في روايته. وكان عدلاً في قضائه، محموداً في سيرته.(4/27)
قال الكندي: وكان أصحاب الأصم قد أشاروا عليه بامتحان الحارث في القرآن، عند قدوم الحارث من العراق فقال لهم: السلطان لم يمتحنه هناك، أنا أمتحنه، اسكتوا عن هذا. وذلك إن ابن أبي دؤاد كان أوصاه به، لأن الحارث حضر جنازة له، فشكر ذلك له. قال الأمير أبو نصر: حمل إلى بغداد للفتنة، فحبس بها إلى أن ولي المتوكل فأطلقه. وقال الخطيب مثله. وزعم أن الذي حمله المأمون، وفيه يقول سعد بن زيد:
لو تراه وأبا زيد معاً ... وهما للدين حصن وعضد
يدرسون العلم في مسجدهم ... وإذا جنّهم الليل هجد
وإذا ما وردت مغلقة ... أسند للقوم إليهم ما ورد
نوّر االله بهم مسجده ... فهم للمسجد نور يتقد
ذكر ولايته القضاء وسيرته في ذلك
قال الجيزي في كتاب قضاة مصر: ولي الحارث بن مسكين قضاء مصر سنة سبع ثلاثين في جمادى الأولى منها. قال أبو عمر في كتاب قضاة مصر وفي كتاب الموالي: ولي الحارث بن مسكين قضاء مصر من قبل المتوكل، وأتاه كتاب القضاء وهو بالإسكندرية. فلما قرأه امتنع من الولاية فأجبره أصحابه على ذلك، وشرطوا عونهم له. فقدم الفسطاط وجلس للحكم، وكان مقعداً من رجليه. فكان يحمل(4/28)
إلى الجامع في محفة، ويركب حماراً مبرقعاً، وطولب بلباس السواد فامتنع، فخوفه أصحابه سطوة السلطان واتهمه لتولي قيصر أمية. فلبس كساء صوف أسود. قال بعضهم: رأى بعض من بمصر كأن ابن أكتم ذبح الحارث بن مسكين. فلم يكن حتى جاءه قضاء مصر. وكان على يدي ابن أكتم قاضي القضاة حينئذ. قال أبو محمد الضراب في كتابه: روى الحارث عن ابن وهب، عن مالك في رجل يدعى للعمل فيكره أن يجيب إليه، وخاف على دمه أو جلد ظهره وهدم داره، كيف ترى في ذلك؟ فقال أما هدم داره أو جلد ظهره أو سجنه فإنه يصبر على ذلك، ويترك العمل خيراً له. وأما أن يباح دمه فلا أدري ما حدث ذلك، ولعله في سعة من ذلك، أن عمل. قال يونس: روى الحارث هذا الخبر وولي. والله لقد سألني حارث: تراني أهلاً للفيتا كما قال مالك؟ وحكى القاضي يونس: ولي جعفر المتوكل الحارث، قضاء مصر، بعد أن سجنه على إبائه، ذلك زماناً.
قال محمد بن عبد الوارث: كنًّا عند الحارث فأتاه علي بن القاسم الكوفي، المدني. فقال له: رأيت في النوم الناس مجتمعين في المسجد الحرام، فقلت ما اجتماعكم؟ فقالوا عمر بن الخطاب جاء يقعد الحارث بن مسكين للقضاء. فرأيته أخذه وسمر مقعده في الحائط، وانصرف. فتبعته، فلما أحسّ بي، قال: ما تريد؟ قلت أنظر إليك.(4/29)
قال: اذهب إلى الحارث، فاقرأه مني السلام، وقل له يقضي بين الناس بإمارة إنك كنت في الحبس بالعراق. فقمت في الليل فعثرت بنكبة إصبعك، ودعوت بذلك الدعاء، فجئت من الغد، فقال لي الحارث: صدقت. وهذا شيء ما أطّلع عليه أحد إلا الله. فسألته عن الدعاء، فقال: يا صاحبي. عند كل شيء، ويا غياثي عند كل كربة، ويا مؤنسي في كل وحشة، صل على محمد وعلى آله، واجعل لي من أمري فرجاً. قال: ودعي إلى لباس السواد، فأبى من ذلك. فخاطب الوالي المتوكل، فرد كتابه: إن لم يلبس السواد فاخلعه، وركبه، ووجه الوالي وراءه رسلاً، فأسلمه القريب والبعيد. قال الطحاوي عن محمد ابن سعيد: فلقيته والرسل تزعجه، وقد وله. فعلمت إنه قصد وجهاً من الحق، فخالف فيه هوى السلطان، فدنوت منه وقلت له: سر يا شيخ لا يهولنك ما ترى، فإن إبراهيم أسلمه أهل الأرض فلم يضره، لما كان الله له. فاعتنقني وقال: أحييتني والله يا أخي بهذا الكلام، فأحياك الله سعيداً. فلما أتي به إلى الوالي، أمر بكتاب المتوكل فقرأ عليه، فامتنع من لباس السواد وقال رجل من ناحية المسجد: إن الشيخ رأيته يلبس هذه الثياب العرجية التي تعمل باليمن، فقال الحارث: بلى. إني ربما لبستها. فقال له الوالي: فألبسها.(4/30)
فقال أما تلك فنعم. وقنع منه بذلك. وكتب به إلى المتوكل، وخلي عن الشيخ. قال الكندي: وأمر الحارث بإطراح أصحاب الشافعي وأبي حنيفة. ومنع أصحاب أبي حنيفة من الجامع، وفض مجالسهم، وأمر بنزع حصورهم بين العُمد. ومنع عامة المؤذنين من الآذان. ومنع قريشاً والأنصار من طعمة رمضان. وعمر المساجد، فبنى سقاية. وحفر خليج الإسكندرية. ونهى عن تقبل المصائد، وأباحها ونهى عن النداء على الجنائز، وضرب القراء الذين يقرأون بالألحان. وهو أول من ولي على مصاحف الجامع أميناً. وترك تلفي الولاة والسلام عليهم. ولاعن. وقتل ساحرين نصرانيين وقتل نصرانياً سبًّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، بعد أن جلده الحد. ونفى وحد من سبَّ عائشة. ولم يكن في ولايته خلل. وهدّم مسجداً، كان بناه خراساني، بين القبور، بناحية القطب؟ في الصحراء. وكان يجتمع فيه للقراءة والقصص والتعبير، وبمثل هذا أفتى يحيى بن عمر في كل مسجد بني نائباً عن القرية. حيث لا يصلي فيه أهل القرية. وإنما يصلي فيه من ينتابه، وبذلك أفتى في مسجد السبت بالقيروان، وبمثله أفتى أبو عمران في المسجد الذي بني بجيل فاس، وحمله أصحابه على النظر في أمر أبي بكر الأصم القاضي قبله. وكانوا قد لعنوه لما عزل ورموا حصره، وغسلوا من المسجد موضعه.(4/31)
فكان الحارث يوقف الأصم كل يوم، فيضربه عشرين سوطاً، ليخرج ما وجب عليه من الأموال. أقام على ذلك أياماً. فقال بعضهم للحارث: إنه قبيح بالقاضي أن يتولى مثل ذلك. فخلى عنه. وألقيت إليه سحابة فيها مكتوب ميزان حراني، وصنجة ناقصة. فلما قرأها، استبدل بكتّابه وأعوانه غيرهم. وكان كاتب الحارث، أبو إسحاق القسطال. وعلى مسائله عمر ويزيد، أبناء يوسف بن عمر. وقال أبو عمر الكندي: وحكم الحارث في حُبسٍ بمذهبه، بمذهب مالك بإخراج أولاد البنات منه. فشكى أصحابه ذلك إلى المتوكل، فأفتى أهل العراق على مذهبهم وخطأوا الحارث، ونقصت القضية فاستعفى الحارث، إذ ذاك. فأعفي. وكان في كتاب استعفائه: انتهى إلى أمير المؤمنين، أن كتاباً وصل باستعفائك فيما تقلدت من القضاء بمصر. فأمر أيده الله بإجابتك إلى ذلك وإعفائك فيما تقلدت منه، إسعافاً لك فيما سألت، وتفضلاً لما أدّى لموافقتك فيه، فرأيك أبقاك الله في معرفة ذلك والعمل على حسبه. وذلك سنة خمس وأربعين ومائتين. فكان أمد قضائه سبع سنوات واحد عشر شهراً. وولي بعده بكار ابن قتيبة. فلم يكشف أحداً من أصحاب الحارث. وقال: حارث في فضله ودينه، أعلم بأهل بلده مني، إلى أن يتبين لي جرحه. وذكر أبو عمر الصدفي: إن رجلاً أتى الحارث برجل معه نصرانية، معها صغير أراد أن يبيعها من نصراني، فذكر ذلك للحارث. فقال له الحارث: فما أصنع به.(4/32)
فرد
عليه الرجل الخبر، والحارث يقول: ما أصنع به، حتى أكثر عليه. فقال يزيد بن يوسف: أصلح الله القاضي، هو رجل صالح. فقال له الحارث: إذا كان صالحاً وأحمق، فما أصنع. قال بعضهم: حضرت جنازة. فأخذ يونس بن عبد الأعلى في الكلام والرشاد حتى بكى بعض من حضر، فقال الحارث: يونس، تحسن هذا كله، وأنت تصنع ما تصنع. فقال له يونس: أنت قاض، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكين. وذكر أن رجلاً تقدم إلى حارث في خصومة، فناداه رجل باسمه. وكان اسمه إسرافيل. فقال له الحارث ما حملك على أن تسمّى بهذا الاسم؟ وقد قال عليه الصلاة والسلام: لا تسمعوا بأسماء الملائكة. فقال له: فلمَ سمي مالك بن أنس مالكاً؟ وقد قال الله تعالى: ونادوا يا مالك. ثم قال: والله لقد تسمي الناس بأسماء الشياطين. فما عيب ذلك. يعني الحارث اسمه. ويقال هو اسم إبليس لعنه الله. هـ الرجل الخبر، والحارث يقول: ما أصنع به، حتى أكثر عليه. فقال يزيد بن يوسف: أصلح الله القاضي، هو رجل صالح. فقال له الحارث: إذا كان صالحاً وأحمق، فما أصنع. قال بعضهم: حضرت جنازة. فأخذ يونس بن عبد الأعلى في الكلام والرشاد حتى بكى بعض من حضر، فقال الحارث: يونس، تحسن هذا كله، وأنت تصنع ما تصنع. فقال له يونس: أنت قاض، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكين. وذكر أن رجلاً تقدم إلى حارث في خصومة، فناداه رجل باسمه. وكان اسمه إسرافيل. فقال له الحارث ما حملك على أن تسمّى بهذا الاسم؟ وقد قال عليه الصلاة والسلام: لا تسمعوا بأسماء الملائكة. فقال له: فلمَ سمي مالك بن أنس مالكاً؟ وقد قال الله تعالى: ونادوا يا مالك. ثم قال: والله لقد تسمي الناس بأسماء الشياطين. فما عيب ذلك. يعني الحارث اسمه. ويقال هو اسم إبليس لعنه الله.
ذكر محنته وبقية خبره
قال الكندي: لما قدم المأمون مصر، تلقاه الناس يرفعون على عمال مصر، وجاء متظلم من ابن تميم وابن أسباط، فجلس الفضل بن الربيع في الجامع، وحضر مجلسه القاضي ابن أكثم، والقاضي ابن أبي داؤد وإسحاق ابن إسماعيل بن حماد، وكان على مظالم مصر، وجماعة من فقهاء مصر ومحدثيها. وأحضر الحارث ليولى قضاء مصر، فدعاه الفضل، فسأله عن ابن تميم وابن أسباط(4/33)
فقال ظالمين غاشمين. فقال ليس لهذا أحضرناك، واضطرب المسجد فقام الفضل وسار إلى المأمون وقال له: لقد خشيت على نفسي، من قيام الناس مع الحارث. فأرسل فسأله عنهما، فقال: ظالمين غاشمين. فقال له: هل ظلماك بشيء؟ قال: لا. قال فعاملتهما؟ قال لا. قال: فكيف شهدت عليهما؟ قال كما شهدت إنك أمير المؤمنين، ولم أرك إلا الساعة. وكما شهدت إنك غزوت ولم أحضر غزوتك؟ قال أخرج من هذه البلاد فليست لك ببلاد، وأجمع قليلك وكثيرك فإنك لا تعانيها أبداً. وحبسه في رأس الجبل في خيمة. ثم انحدر لبعض بلاد عاربة مصر، وأحدره معه. فلما فتحها سأل حارثاً عن مسألته الأولى، فرد عليه جوابه بعينه. قال فما تقول في خروجنا هذا؟ فقال اخبرني عبد الرحمان بن قاسم بن مالك، إن الرشيد كتب إليه يسأله عن قتال أهل دهلك. فقال: إن كانوا خرجوا عن ظلم من السلطان، فلا يحل قتالهم، وإن كانوا إنما شقوا العصا، فقتالهم حلال، فجاوبه المأمون بجواب قبيح، سبّه فيه، وسبّ مالكاً، وقال له: ارحل عن مصر.(4/34)
فقال: يا أمير المؤمنين، إلى الثغور. قال، إلحق بمدينة السلام. فقال أبو صالح الحراني: يا أمير المؤمنين تغفر زلته. فقال يا شيخ شفعت فارتفع. قال: كان لما حضر قال له المأمون: يا ساعي، يرددها عليه. فقال له: لست بساعي، وإن أذن أمير المؤمنين في الكلام تكلمت. قال: تكلم. قال: والله يا أمير المؤمنين ما أنا بساعي، ولكني أحضرت، فسمعت وأطعت حين دعيت. ثم سئلت عن أمر فاستعفيت. فلم أعف ثلاثاً. فلما رأيت أنه لابد لي من الكلام، كان الحق آثر عندي من غيره. قال المأمون هذا رجل أراد أن يرفع له علم في بلده، خذه إليك. ثم حمله إلى العراق. وخرجت إليه امرأته، وحمل ابنه إبراهيم إلى الثغور. فأقام الحارث بالعراق ستة عشر سنة، حتى مات المأمون، والمعتصم. وذكره الواثق لابن أبي داؤد. فقال له: هو حاضر. فقال: ما ظننت أنه حي. فأرسل إلى الحارث وهو ببغداد، يقول له: سل حاجتك.
قال حاجتي ألا تحملني إلى سرَّ من رأى. فقال ابن أبي دؤاد للواثق: هو شيخ ضعيف، خفت أن أحمله فيموت. قال فاكتب له يتوجه حيث شاء فانصرف إلى مصر، سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. فلما ولي المتوكل، ولاه قضاءها.(4/35)
قال محمد بن عبد الحكم: قال لي ابن أبي داؤد: لقد قام حارثكم مقام الأنبياء. وكان ابن أبي داؤد يحسن ذكره، ويعظمه جداً، ويكتب إلى الأصم بالوصاية له به. وتوفي الحارث سنة خمسين ومائتين. وقيل: سنة ثمان وأربعين. والأول الصواب. وسنّه خمس وتسعون. وصلى عليه أمير مصر. مولده سنة أربع وخمسين وقيل سنة ست وخمسين ومائة.
محمد بن أبي ركين
واسمه: يحيى بن أبي إسماعيل، أبو عبد الله. مولى آل خالد بن يزيد ابن السيد الصدفي، مولى لهم. هو: أبو مزاحم المحتسب، قاله الكندي في أعيانه، موالي مصر. وقيل، بل اسمه ركيز بضم الراء مصغراً. قاله الأمير والدارقطني. كان فقيهاً، من أكابر أصحاب ابن وهب، ويروي عن الشافعي. حدّث عنه أبو إبراهيم الزهري، وأبو زكريا البرذعي، والمصريون. قال أبو عمر الصدفي: سألت عنه أبا جعفر العقيلي، وأبا بكر الحضرمي، فقالا: ثقة. وابنه مزاحم، ولي الحسبة. وكان مقبولاً بمصر. توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين.
الوقار
قال أبو حارث: هو أبو يحيى، زكريا بن يحيى بن إبراهيم بن عبد الله، من موالي قريش، مصري.(4/36)
قال غيره: هو مولى بني عبد الدار. روى عنه ابن وهب، وابن القاسم، وأشهب وغيرهم. وكان مختصاً بابن وهب. قال أبو العرب في كتابه، في علماء إفريقية: قدم علينا إفريقية، سنة خمس ومائتين، وكان إذا حدث عن ابن وهب يقول حدثني سيدي ابن وهب، قال: وفي حديثه، لين وانقطاع، وعن رجال شاميين، وغير أعلام. وسمع عليه بإفريقية. ثم انصرف إلى مصر، وكان يلقب بالبرطنج. قرأ القرآن على نافع المدني، وعنه أخذ عبد الرحمان المقري، حرف نافع. قال: وأوطن طرابلس. قال أبو عمر الداني: أبو يحيى، يلقب بالبرطنج، مقريء، روى القراءة عندنا على نافع ابن أبي تميم، روى عنه القراءة محمد بن رغوث المقريء. قال: وأبو يحيى هذا مجهول. قال الفقيه القاضي أبو الفضل عياض رضي الله تعالى عنه. وأبو يحيى هذا المجهول عند أبي عمر، هو أبو يحيى الوقار. ولم يذكر أبو عمر الوقار، جملة. وأراه لم يبلغه خبره. أو لم يعلم أن البرطنج هو الوقار وقد بين أبو العرب وابن حارث ذلك بحمد الله. قال أبو عمر والكندي: كان فقيهاً صاحب عجائب، ولم يكن بالمحمود في روايته. قال: وكان ممن خرج من مصر أيام أبي بكر الأصم، وأخذه الناس بمحنة القرآن.(4/37)
قال ابن هلال: كان الوقار بمصر، يقضي فيجتمع إليه الناس. وكان لا يقعد المزني إلا النفر اليسير، فقلت في ذلك للوقار أو قيل له، فقال: إنّ كلّ ما ترى حولي، لو خطرت به دبّة أو قردة، افترقوا عني. ولو سقط المسجد على أصحاب المزني، لوجد حوله. وسمع عبد العزيز بن يحيى المدني، الخروج عنا استعّنا عليه، أن يصبر علينا حتى يستوعب الناس سماعهم منه، فصبر. فقال لنا الوقار: إني أريد الخروج، فإن استعنتم علي، كما استعنتم على عبد العزيز، جلست. أو كما قال أبو إسحاق الشيرازي. كان الوقار يغلو في مالك، ويتعصب له على أبي حنيفة. ويقول: ما مثل أبي حنيفة إلا كما قال جرير:
يعد الناسبون إلى معد ... بيوت المجد أربعة كبارا
يعدون الرباب وآل سعد ... وعمراً ثم حنظلة الخيارا
ويذهب بيننا المريّ لغواً ... كما ألغيت في الدية الحوارا
وعدّه أبو إسحاق الشيرازي، في صغار الآخذين عن مالك، ولم يذكر ذلك أحد. ولا أراه يصح. وتوفي سنة أربع وخمسين ومائتين بمصر. هذا المعروف، والذي قاله الكندي، وابن أبي دليم وغيرهم. وقيل سنة ثلاث وستين. وقال الأمير، أبو نصر، قتله اللهجة، بالحرس، سنة سبع ومائتين. وسيأتي ذكر ابنه أبي بكر بعد هذا.
أبو جعفر أحمد بن صالح
يعرف بابن الطهري، كان أبوه من أصحاب ابن الأشعث، من عجم الجند، من أهل طبرستان، سمع ابن وهب وعنبسة بن خالد.(4/38)
قال أبو محمد المقري: كان حافظاً للحديث وأخذ القراءة عن ورش، وقالون، وابني أبي أويس، وحرمي بن عمارة. كتب عنه أحمد بن حنبل والبخاري والذهلي، وخرّج عنه البخاري، من الصحيح. وأحمد بن رشدين، والحسن بن أبي مهران، وأبو داود السجستاني وغيرهم. وكان أحمد بن حنبل والبخاري وابن نمير وابن المديني ويحيى وأبو حاتم وغيرهم، يوثقونه. قال يحيى: هو ثقة. وقال أحمد: ثبت ثقة، صاحب سنّة. وقال سلمة بن القاسم: الناس مجمعون على ثقته وخيره، وفضله. وقال الكوفي: هو ثقة صاحب سنّة. قال الكندي: كان فقيهاً نظاراً. قال البخاري فيه: ثقة مأمون ما رأيت أحداً تكلم فيه بحجة. وقال يحيى: سلوه فإنه ثبت. وقال محمد بن الحسن فيه: أبو جعفر أحد الأئمة. وذكر الرشديني عنه، إنه كان يقول في المخيرة، إنها واحدة. وإن اختارت ثلاثاً. وبذلك كان يأخذ. وهو قول عبد الله بن عمر وابن العاصي. قال أبو نعيم: ما قدم علينا فتى أعلم بحديث الحجاز منه. قال أحمد: هو يفهم حديث المدينة. قال ابن خلاد: هو ممن جمع الأقطار في رحلته، اليمن والعراق ومصر. وتكلم فيه النسائي، فضعّفه. قال: وكان سبب ذلك أن ابن صالح، كان لا يحدث أحداً حتى(4/39)
يشهد عنده رجلان من المسلمين، إنه من أهل الخير والعدالة. فحينئذ كان يحدثه ويبذل له علمه على مذهب زائدة وغيره. فدخل عليه النسائي دون إذن ولا معرفة ولا تزكية. فأنكره وأمر بإخراجه. قال العقيلي: كان النسائي يصحب قوماً من أهل المدينة، ليسوا هناك. أو كما قال: فأبى أحمد أن يأذن له، فلم يره. فجمع النسائي أحاديث قد غلط فيها أحمد. فشنّع بها. ولم يضر ذلك أحمد شيئاً هو إمام ثقة. قال القاضي أبو الوليد الباجي: أحمد بن صالح من أئمة المسلمين الحفاظ المتقنين. لا يؤثر فيه تجريح. قال ابن نمير: حدثنا أحمد بن صالح: وإذا جاوزت الفرات فليس أحد مثله. وقال فيه أبو حاتم: ثقة. قال ابن زنجويه: ذاكر أحمد بن صالح ببغداد أحمد بن حنبل في حديث الزهري: فما رأيت مذاكرة أحسن منها، وما يطرب أحدهما على الآخر. وذكر خبراً طويلاً. قال أبو داود: قلت لأحمد بن صالح: من قال القرآن كلام الله، ولم يقل مخلوق، ولا غير مخلوق. قال هذا شاك، والشاك كافر. قال ابن أبي دليم: كان فقيهاً صاحب مناظرة. وألف في الصحابة. وكان يرى في الجنب إذا لم يقدر على طهره بالماء من برد وخوف على نفسه، إنه يتوضأ ويصلي، ويجزيه على ما جاء في بعض الروايات في حديث عمرو بن العاص، فتوضأ وصلى بهم. ولم يقل بهذا الرأي أحد من فقهاء الأمصار، سوى طائفة ممن ينتحل الحديث لهذا الحديث. ولأن الوضوء عندهم فوق التيمم. قال ابن أبي دليم: وكان فقيهاً صاحب مناظرة،(4/40)
وتوفي في ذي القعدة سنة ثمان وأربعين ومائتين. مولده سنة اثنتين وسبعين ومائة. قاله الكندي وغيره. وقال أبو عمر والمقريء مولده بمصر سنة سبعين ومائة.
عيسى بن المنكدر
ابن محمد بن المنكدر القرشي. قاضي مصر أيام ابن طاهر. أشار به عبد الله بن عبد الحكم، وأعلمه أنه فقير، فأجرى له سبعة دنانير كل يوم. وأجازه بألف دينار، وكان رجلاً صالحاً، وكان قد أشار أبو ضمرة الزهري بأصبغ بن الفرج فرد عليه سعيد بن عفير، فأشار عبد الله بن عبد الحكم بعيسى واستكتب أبا الأسود النضر بن عبد الجبار، وداود بن أبي طيبة، واستكتي أيضاً فيما حكاه ابن أبي دليم: أبا إسحاق القسطال. وكان القائم بأمره، سليمان بن برد، إلى أن مات. فولى بعده مسائله عبد الله بن عبد الحكم. قال محمد بن عبد الحكم: أشار والدي على ابن المنكدر بوجوب اليمين للمدعي على المدعى عليه، بالمال. وإن لم يقم بينة بخطله. وبه أخذ الناس، وقد فسدوا. وذكر نحوه عن أصبغ في الغرباء الذين يضربون في الأرض، وهل يشترون ويبيعون إلا ممن لم يعرفوه، ويخالطوه. قال ابن أخي ابن وهب: سمعت القاضي ابن المنكدر يصيح بالشافعي: يا كذا يا كذا، دخلت هذه البلدة وأمرنا ورأينا واحد، ففرّقت بيننا، ودعا عليه.(4/41)
وكانت له طائفة من أصحابه يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. فلما ولي كانت تلاقيه، فتعرّفه بما حدث، فيترك الحكم ويصير معهم لتغييره، فكان إذا عذله أحد في هذا، يقول: لابد من القيام بأمر الله. وكان يتنكر بالليل، فيستخبر أحوال الشهود، ويسأل عنهم. فولي نحو السنتين. وعزله المعتصم عند قدومه مصر، وأقامه للناس، وسجنه، وأخرجه معه إلى بغداد، فمات بها مسجوناً. وكان سبب حقده عليه، ما ذكرنا في خبر عبد الله بن عبد الحكم، قبل هذا. ذكر هذا كله أبو عمرو الكندي. وقال الجيزي: قال ابن عبد الحكم: قال لي ابن طاهر حين طلبت منه لابن المنكدر: كم ترى إنه يعطيه:؟ فخشيت أن أقول ما يريد أكثر منه. فقلت يقول الأمير. فقال: أمرنا له بألف دينار. فكرهت أن أعظمها عنده، أو أصغرها، وليست بصغيرة. فقلت: في ألف ما أغناه. فأمر له بها، وأجرى عليه أربعة آلاف درهم في الشهر. وكان أول قاض بها عليه. قال سعيد بن عبد الله بن عبد الحكم: لما ولي ابن المنكدر، وكانت حاشيته الصوفية، فكان إذا بلغ أبي، إنه كان منه ما ينكره الناس، بعث له أخي عبد الحكم ينهاه عن ذلك، ويأمره بما يراه. فبعث إليه مرة، فالتفت إلى أخي وقال: ما يظن أبوك إلا أنه أعتق المنكدر.(4/42)
فأمسك عبد الله أن ينهاه عن شيء. وغلبت عليه الصوفية. فقالوا له: اكتب إلى أمير المؤمنين تشتكي عمال الخراج. فكتب ودفع المأمون كتابه إلى المعتصم، وكانوا عماله. فأغاظه. ولما قدم مصر عزله وأوقفه للناس، فجعلوا يثنون عليه، ويصيحون. فبعث إلى أخوانه، وذلك بعد موت ابن عبد الحكم في السجن بسبب التهمة معه، فاستشارهم فيما نزل به. فقالوا: كم تحتج، أنت، تحفظ كلما قضيت. إذا ناظرك غداً ابن أبي دؤاد فقلت له: لم أقض لأحد ولا عليه، إلا وقد كتبت قضيته في الديوان، فانظروها. فإن كان ما اختلفت فيه العلماء، فللقاضي أن يختار. وإن كان إنما خرج عن أقاويل المسلمين، لزمني غرمه. فلما أصبح ووقف على ذلك. قال ابن أبي داؤد لأصحابه: علم هذا الرجل خلاف ما كنا فيه. فأعلموا المعتصم، فقال يفتش الديوان. حنقاً عليه. فأرسل عيسى إلى إخوانه في ذلك، فقالوا له: إذا سألوك أن تحضر الديوان: فقل هو ديوان أمير المؤمنين، فإن كان أمركم بذلك، فهو بين أيديكم، وأما أنا فلا أدخل فيه. فكره المعتصم هذا، وخاف المأمون وأمر بإشخاصه، وذلك سنة أربع عشرة ومائتين.
أبو الأزهر عبد الصمد وأبو هارون موسى
أنباء عبد الرحمان بن القاسم، كانا فاضلين عابدين ورعين سمعا من أبيهما. وغلب على عبد الصمد علم القرآن. وله في ذلك كتاب.(4/43)
وغلب على موسى العبادة. وروى عنهما ابن وضّاح. وروى عبد الصمد عن ورش، وهو من جلة أصحابه المتصدرين. ومن وقته اعتمد أهل الأندلس على رواية ورش. وروى أيضاً عن داود ابن أبي طيبة وسمع سفيان بن عيينة، وروى عنه الفضل ابن يعقوب، والمحاربي، ومحمد ابن سعيد الأنماطي، وإسماعيل بن عبد الله النحاس. وبكر بن سعيد الدمياطي، وحبيب بن إسحاق القرشي وابن باز، وابن وضاح، وغيرهم. وقد روى الحارث ابن مسكين على أحد ابني عبد الرحمان ابن القاسم. قال ابن اللباد: كان لابن القاسم ثلاثة من الولد، موسى وعبد الصمد وابنة. فأما عبد الصمد، فكان يقرأ مقرأ نافع، وأما موسى، فكان يروي موطأ مالك، وكان لموسى مع أخيه سدة مقابل سدته في بيت واحد. حتى ماتا شيخين. ولم يتزوج واحد منهما. قال الكندي: كانا يشهدان ثم امتنعا من الشهادة، بعد. وكانا من أفضل الناس. ذكر محمد ابن عبد الحكم عن عبد الصمد بن عبد الرحمان بن القاسم: حلف أخي بالمشي إلى مكة في شيء. فسألت أبي عن ذلك وأخبرته بيمينه، فاشتد عليه، وأمره أن يكفر يمنيه، ولا يعود.(4/44)
قال ابن يونس الصدفي: توفي عبد الصمد ابن عبد الرحمان في رجب سنة إحدى وثلاثين. وقال الكندي: سنة خمس. قالا: ومات موسى أخوه في جمادى الآخرة سنة تسع، وأربعين. وقرأت أنا بخط بعض الشيوخ عن ابن القرطبي: أن موت موسى سنة ثمان وأربعين ومائتين.
من أهل إفريقية وأقصى المغرب
أبو سعيد سحنون بن سعيد بن حبيب التنوخي
صليبة من المغرب. أصله شامي من حمص، وقدم أبوه سعيد في جند حمص. قال محمد ابنه: قلت: يا أبت أنحن صليبة من تنوخ؟ فقال لي: وما تحتاج إلى ذلك. فلم أزل به، حتى قال لي: نعم. وما يغني عنك ذلك من الله شيئاً، إن لم تتقه. قال المهدي: قدم رجل من أهل الشام على سحنون، فقال له: لو رأيت أهل بلدك بالشام، فرأيت علماء يؤخذ بأنوفهم. فانتهزه سحنون، وقال له: اسكت أتحاضر العلماء بهذا في مجلسكم.(4/45)
وسحنون، لقب له. واسمه عبد السلام. سمعت بعض مشائخ أهل الحديث يحكي عن بعض شيوخ إفريقية، أنه قال: سمي سحنون باسم طائر حديد لحدّته في المسائل. قال أبو العرب التميمي: وله أخ، يقال له حبيب أسن منه. سمع من ابن الأصم وابن فروخ، وكان ثقة صالحاً، روى عنه أخوه. وقد جمع الناس أخبار سحنون مفردة، ومضافة وممن ألف فيها تأليفاً معروفاً: وقال أبو العرب التميمي، ومحمد بن حارث القروي.
ذكر طلبه ورحلته
أخذ سحنون العلم بالقيروان عن مشائخها: أبي خارجة وبهلول، وعلي بن زياد وابن أبي حسان، وابن غانم، وابن أشرس، وابن أبي كريمة وأخيه، حبيب. ومعاوية الصمادحي وأبي زياد الرعيني. ورحل في طلب العلم أول سنة ثمان وثمانين ومائة، فيما قاله أبو العرب، وابن حارث. قال ابنه: خرج إلى مصر أول سنة ثمان وسبعين في حياة مالك، ومات مالك وهو ابن ثمانية عشر أو تسعة عشر. وكانت رحلته إلى زياد بتونس، وقت رحلة ابن بكير إلى مالك. قال سحنون: كنت عند ابن القاسم، وجوابات مالك ترد عليه. فقيل له: فما منعك من السماع منه. قال قلة الدراهم. وقال مرة أخرى لحى الله الفقر، فلولاه لأدركت مالكاً. فإن صحّ هذا، فله رحلتان. وإلا فما قال ابنه أصح. فإنه سمع ممن مات قبل ثمان وثمانين من المدنيين بها، كابن نافع. توفي سنة ست(4/46)
وثمانين. فسمع سحنون في رحلته إلى مصر والحجاز، من ابن القاسم، وابن وهب، وأشهب، وطليب ابن كامل، وعبيد الله بن عبد الحكم، وشعيب بن الليث، ويوسف بن محمد، وسفيان بن عيينة، ووكيع وعبد الرحمان ابن مهدي، وحفص بن غياث، وأبي داود الطيالسي، ويزيد بن هارون، والوليد بن مسلم، وابن نافع الصائغ، ومعن بن عيسى، وأبي ضمرة وابن الماجشون، ومطرف وغيرهم.
وانصرف إلى إفريقية، سنة إحدى وتسعين ومائة. قال سحنون: سمع مني أهل جدابية سنة إحدى وتسعين. وفيها مات ابن القاسم. قال: وخرجت إلى ابن القاسم، ابن خمس وعشرين. وقدمت إفريقية ابن ثلاثين سنة. وأول من قرأ على عبد الملك زونان. ذكر أن البهلول بن راشد، كتب إلى علي بن زياد، أن يُسمع سحنون، وقال له: إنما كتبت إليك في رجل يطلب لله. وقد روي إنه إنما كتب البهلول في عهد المتعالي الجدري، فسأله علي عن موضعه، ثم أخذ علي الموطأ. فأتاه ليسمعه في موضعه. وقال له: إن بهلول كتب إلي يعلمني إنك ممن تطلب لله.
قال فرات: سمعت سحنون يقول: انقفلت عليّ مسألة حتى أردت الرجوع فيها إلى المدينة، حتى اتضحت لي. حتى اتضحت لي. قال سحنون: لما حججت كنت أزامل ابن وهب، وكان أشهب يزامله يتيمه. وابن القاسم يزامله ابنه موسى. وكنت إذا نزلت سألت ابن القاسم، وكنا نمشي باالنهار، ونلقي المسائل، فإذا كان الليل قام كل أحد إلى حزبه من الصلاة. فهو يقول ابن وهب: ألا ترون هذا المغربي يلقي بالنهار، ولا يدرس بالليل.(4/47)
فيقول ابن القاسم هو نور يجعله الله في القلوب.
ذكر مكانه من العلم والثناء عليه
قال محمد بن أحمد بن تميم في كتابه قال: كان سحنون ثقة حافظاً للعلم فقيه البدن. اجتمعت فيه خلال قلّما اجتمعت في غيره. الفقه البارع والورع الصادق، والصرامة في الحق، والزهادة في الدنيا، والتخشن في الملبس، والمطعم، والسماحة. كان لا يقبل من السلاطين شيئاً. وربما وصل أصحابه بالثلاثين ديناراً أو نحوها، ومناقبة كثيرة. قال أبو بكر المالكي: وكان مع هذا رقيق القلب، غزير الدمعة، ظاهر الخشوع متواضعاً، قليل التصنع، كريم الأخلاق، حسن الأدب، سالم الصدر، شديداً على أهل البدع، لا يخاف في الله لومة لائم. انتشرت إمامته في المشرق والمغرب. وسلم له الإمامة أهل عصره، واجتمعوا على فضله وتقديمه. ومناقبه كثيرة قد ألف فيها أبو العرب التميمي كتاباً مفرداً. وسئل أشهب من قدم إليكم من المغرب؟ قال: سحنون. قيل: فأسد؟ قال: سحنون والله أفقه منه بتسع وتسعين مرة. وقال أشهب: ما قدم إلينا من المغرب مثله(4/48)
ولقد حثه ابن القاسم على أن يقيم عنده يطلب العلم، ويدع الخروج إلى الغزو، لما استفرس فيه. وقال ابن القاسم لابن رشيد: قل لصاحبك يعني سحنون يقعد. فالعلم أولى به من الجهاد، وأكثر ثواباً. ويعطي هذه الخيل التي قدم بها هو، في مثل حاله، يؤديها عنه. فما قدم إلينا من إفريقية مثل سحنون، ولا ابن غانم. قال حمديس: رأيت أبا مصعب بالمدينة، وغيره. وبمصر أصحاب ابن القاسم. وبمكة علماء من أهل بغداد. والله ما رأيت فيهم مثل ابن سحنون ولا رأيته بعده. وقال محمود بن يزيد: أول ما تعلمت مسائل الصلاة من سحنون. وإن قلت أن سحنون أفقه من أصحاب مالك كلهم، إني لصادق. قال أبو العرب: وكل ما لقيت من أصحاب سحنون الذين سمعوا منه وسمعنا منهم عشرات من مشاهير الفقهاء والشيوخ، منهم: يحيى بن عمر، وحبيب، وابن مسكين، وابن أبي سليمان، وابن سالم، وابن الحداد، وحمديس، وجبلة، وابن معتب، وغيرهم. قال: ومنهم من سمع، وهو أسنّ من سحنون. ولقي أصحاب مالك وسفيان الثوري، ورأى الناس في الآفاق كلهم يقولون ما رأيت أحداً مثل سحنون في ورعه وفقهه وزهده. وكان يزيد بن بشير يبجل سحنون ويعظمه. وقال: كنت بتونس، فبلغني مقامه من الإسلام وبركته ويقدم إلي رجل من أصحابه فأعرف فيه الأدب، وربما قدم إلي رجل من عند حرملة فأعرف فيه قلة الأدب، فأقول له: فهلا كنت مثل من يؤدبه سحنون.(4/49)
قال أبو زيد بن أبي الغمر: لم يقدم علينا أحد أفقه من سحنون، إلا أنه قدم علينا من هو أطول لساناً منه. يعني ابن حبيب. وقال يونس بن عبد الأعلى: هو سيد أهل المغرب. فقال له حمديس (القطان) : أو لم يكن سيد أهل المشرق والمغرب؟ قال: قد كان رجلاً نبيلاً فاضلاً خيّراً، من شأنه ومن شأنه. فأثنى عليه ورفع به. اخذ من ابن وهب مغازيه، إجازة. يعني سحنون. قال سليمان بن عمران: إذا سألت أسداً عن مسألة أجابني من بحر عميق، ومعنى جوابه لا تزد. وإذا سألت سحنون أجابني من بحر عميق ومعنى جوابه زد في سؤالك. وكان العلم في صدر سحنون كسورة في القرآن من حفظه. وكان سحنون رجلاً صالحاً. وقال سحنون أني حفظت هذه الكتب حتى صارت في صدري كأم القرآن. وكان أبو عياش بن عيشون يقول إذا ذكره: قال الإمام أبو سعيد. وكان ابن طالب وغيره لا يسميه، ويكنيه إجلالاً له. وكان ابن عبد الحكم يقول لبعض من يحضر مجلسه: ما يقول أبو سعيد في هذه المسألة؟ قال بكر بن حماد: سمعت سحنون يقول: عندي في البيت سماع سنتين لسفيان بن عيينة وقال غيره: كنا عند ابن القاسم، فقال: أن يكن يسعد أحد بهذه الكتب، فسحنون. ثم التفت إلى ابن عبد الحكم، فقال وان قبل، أبي محمد العلم. والتفت إلى اصبغ فقال: وان قبله لراوية،(4/50)
قال برأت. وقد روى اصبغ أولاً عن سحنون ثم ترك ذلك. قال برأت. قال سحنون: عندي ستة، أو أربعة وأربعون كتاباً، من البيوع، منها كتابان أو ثلاثة اصلها أربع مسائل في الموطأ. قال ابن وضاح: كان سحنون يروي تسعة وعشرين سماعاً، وما رأيت في الفقه مثل سحنون في المشرق. قال سعيد بن الحارث: كان أبو سعيد عاقلاً بمرة، ورعاً بمرة، عالماً بمذاهب المدنيين بمرة. وقال: جالست الناس بهذه البلد، منذ بلغته، ما رأيت أجود غريزة من سحنون. قال محمد بن الحارث: كانت أفريقية قبل رحلة سحنون، قد غمرها مذهب مالك بن انس، لأنه رحل إليها اكثر من ثلاثين رجلاً، كلهم لقي مالك بن انس
وسمع منه. (أن) كان الفقه والفتيا إنما كان في قليل منهم، كما ذلك في علماء البلاد، ثم قدم سحنون بذلك المذهب، واجتمع له مع ذلك فضل الدين، والعقل والورع والعفاف والانقباض. فبارك الله فيه للمسلمين. فمالت إليه الوجوه، وأحبّته القلوب وصار زمانه كأنه مبتدئاً قد مّحى ما قبله. فكان أصحابه سرج أهل القيروان، (فرأيته) عالمها وأكثرهم تأليفاً وابن عبدوس فقيهها وابن غانم عاقلها وابن عمرو حافظها وجبلة زاهدها وحمديس أصلبهم في السنة وأعذلهم للبدعة وسعيد بن حداد لسانها وفصيحها وابن مسكين أرواهم للكتب والحديث وأشهدهم للوقار وتصاوناً لكل هذه الصفات مقصورة على وقتهم. قال محمد ابن سحنون: قال لي أبي: إذا أردت تقدم اطرابلس. وكان فيها رجال مدنيون ومصر وبها الرواة. والمدينة عسير مالك ومكة فاجتهد جهدك، فان قدمت علي بلفظة خرجت من دماغ مالك ليس عند شيخك اصلها، فاعلم أن شيخك كان مفرطاً. قال سليمان بن سلام في مجالسه: دخلت مصر فرأيت فيها العلماء متوافرين بين الحكم والحارث بن مسكين وأبا الطاهر وأبا اسحاق البرقي وغيرهم. ودخلت المدينة، وبها أبو المصعب والقروي. ودخلت مكة وبها ثلاثة عشر محدثاً. ودخلت غيرها من البلدان، ولقيت علمائها ومحدثيها. فما رأيت بعيني مثل سحنون وابنه بعده. وقال عيسى ابن مسكين: سحنون راهب هذه الأمة. ولم يكن بين مالك وسحنون افقه من سحنون. وقال أبو الحسن القابسي: أني لأجد في نفسي، من خلاف سحنون لمالك، ما لا أجده في خلاف ابن القاسم لمالك. وكان يشق عليه مخالفة مالك، وسحنون، ويقول: لا اقدر على مخالفتهما، وأهاب ذلك هيبة عظيمة. وقال سعيد بن الحداد: جالست المتكلمين، فكل من لقيت من أهل العلم، فما رأيت منهم اصح غريزة من سحنون. وكان وقوراً فيها. وقال بعضهم: دخلت على الملوك وكلّمتهم، فما رأيت أحداً أهيب في قلبي من سحنون. قال الشيزاري: إليه انتهت الرئاسة في العلم بالمغرب. وعلى قوله الموصل به. وصنّف المدونة. وعليها يعتمد أهل القيروان. وحصل له من الأصحاب ما لم يحصل لأحد من أصحاب مالك، وعنه انتشر علم مالك في المغرب. قال أبو علي البصري: سحنون فقيه أهل زمانه وشيخ عصره وعالم وقته. قال بعضهم صحبت أسداً وابن فروخ، فلم أر أنفع من هذا الشافي. يعنيه. قال عبد الرحيم الزاهد: لما خرج أسد إلى العراق، شاورته فيمن اقصد بعده، أسمع منه. فقال: عليك بهذا الشيخ. يعني سحنون، فما أعرف أحداً يشبهه. قال ابن حارث: سحنون أمام الناس في علم مالك. وكان فاضلاً عادلاً، مباركاً. أظهر السنة، وأحمد البدعة، وثقف رسوم القضاء بعقله وعلمه. سمع منه. (أن) كان الفقه والفتيا إنما كان في قليل منهم، كما ذلك في علماء البلاد، ثم قدم سحنون بذلك المذهب، واجتمع له مع ذلك فضل الدين، والعقل والورع والعفاف والانقباض. فبارك الله فيه للمسلمين. فمالت إليه الوجوه، وأحبّته القلوب وصار زمانه كأنه مبتدئاً قد مّحى ما قبله. فكان أصحابه سرج أهل القيروان، (فرأيته) عالمها وأكثرهم تأليفاً وابن عبدوس فقيهها وابن غانم عاقلها وابن عمرو حافظها وجبلة زاهدها وحمديس أصلبهم في السنة وأعذلهم للبدعة وسعيد بن حداد لسانها وفصيحها وابن مسكين أرواهم للكتب والحديث وأشهدهم للوقار وتصاوناً لكل هذه الصفات مقصورة على وقتهم. قال محمد ابن سحنون: قال لي أبي: إذا أردت تقدم اطرابلس. وكان فيها رجال مدنيون ومصر وبها الرواة. والمدينة عسير مالك ومكة فاجتهد جهدك، فان قدمت علي بلفظة خرجت من دماغ مالك ليس عند شيخك اصلها، فاعلم أن شيخك كان مفرطاً.(4/51)
قال سليمان بن سلام في مجالسه: دخلت مصر فرأيت فيها العلماء متوافرين بين الحكم والحارث بن مسكين وأبا الطاهر وأبا اسحاق البرقي وغيرهم. ودخلت المدينة، وبها أبو المصعب والقروي. ودخلت مكة وبها ثلاثة عشر محدثاً. ودخلت غيرها من البلدان، ولقيت علمائها ومحدثيها. فما رأيت بعيني مثل سحنون وابنه بعده. وقال عيسى ابن مسكين: سحنون راهب هذه الأمة. ولم يكن بين مالك وسحنون افقه من سحنون. وقال أبو الحسن القابسي: أني لأجد في نفسي، من خلاف سحنون لمالك، ما لا أجده في خلاف ابن القاسم لمالك. وكان يشق عليه مخالفة مالك، وسحنون، ويقول: لا اقدر على مخالفتهما، وأهاب ذلك هيبة عظيمة. وقال سعيد بن الحداد: جالست المتكلمين، فكل من لقيت من أهل العلم، فما رأيت منهم اصح غريزة من سحنون. وكان وقوراً فيها. وقال بعضهم: دخلت على الملوك وكلّمتهم، فما رأيت أحداً أهيب في قلبي من سحنون. قال الشيزاري: إليه انتهت الرئاسة في العلم بالمغرب. وعلى قوله الموصل به. وصنّف المدونة. وعليها يعتمد أهل القيروان. وحصل له من الأصحاب ما لم يحصل لأحد من أصحاب مالك، وعنه انتشر علم مالك في المغرب. قال أبو علي البصري: سحنون فقيه أهل زمانه وشيخ عصره وعالم وقته. قال بعضهم صحبت أسداً وابن فروخ، فلم أر أنفع من هذا الشافي. يعنيه. قال عبد الرحيم الزاهد: لما خرج أسد إلى العراق، شاورته(4/52)
فيمن اقصد بعده، أسمع منه. فقال: عليك بهذا الشيخ. يعني سحنون، فما أعرف أحداً يشبهه. قال ابن حارث: سحنون أمام الناس في علم مالك. وكان فاضلاً عادلاً، مباركاً. أظهر السنة، وأحمد البدعة، وثقف رسوم القضاء بعقله وعلمه.
ذكر بقية شمائله
قال أبو العرب: كان سحنون ربع القامة، بين البياض والسمرة. حسن اللحية كثير الشعر. حسن اللحية كثير الشعر. أعين، بعيد ما بين المنكبين. كثير الصّمت، قليل الكلام، يتكلم بالحكمة، مهيباً جداً. يأخذ من شاربه على المشط، حسن اللباس، وكان به فتق في جوفه. فكان يعصبه بلبد. وكان له بر دون يركبه، وقلما رئي متطوعاً في المسجد. قال ابن بسطام: كانت لسحنون قلنسوة طويلة، ربما لبسها وساجاً، وربما حمل في يده، وقد لبسها حزم البصل، وغير ذلك إلى داره، تواضعاً. قال سليمان بن سالم: رأيت لسحنون ساجاً أزرق، ورداء وقلنسوة حبرة، وقلنسوة زرقاء، وشياً، وقلنسوة تشبه الأغلب. فإذا قعد للسماع لبس الرداء، وقلنسوة الأغلب، وإذا شهد الجمعة لبس الساج، وقلنسوة الحبر، وإذا حضر الجنازة لبس الأزرق، والقلنسوة الزرقاء. هذا كان أكثر فعله.
وقال أبو العرب: وكان عريض الطوق، نحو الإصبعين. قال سليمان بن سالم: أخذ سحنون بمذهب أهل المدنية. في كل شيء. حتى في العيش.
كان يقول: ما أحب أن يكون عيش الرجل إلا على قدر ذات يده. ولا يتكلف أكثر مما في يده. وأن احتاج امرأة طلبها على(4/53)
قدر ذات يده، في مؤونتها، وقناعتها، حتى يبقى في يده ما استغنى به. فإن كان له مال حلال، اعتمد عليه، وتفرغ للعبادة. وأن لم يكن عنده فعليه بكسب يده. فذلك أولى به من مسألة الناس. وأن كان مستغنياً عن الزوجة، فتركها أحب إلي، وأكل أموال الناس بالمسكنة والصّدقة، خير من أكله بالعلم والقرآن. قال سليمان: كان سحنون يركب بلجام حديد، ليس فيه فضة. وكان له برنس أسود، يلبسه في المطر والبرد. قال غيره: كان سحنون يجلس للسماع على باب داره، ونحن نجلس على الأرض، إلا من أتى منّا بحصير. فإذا تمنا، قال: قوموا قوم رجل واحد. فنفترق. قال عبد الجبار، بن خالد: كنا نسمع من سحنون جالساً بمنزلة، بالساحل. فخرج علينا يوماً وعلى كتفه المحراث، وبين يديه الزوج. فقال لنا: إن الغلام حمّ البارحة، فإذا فرغت أسمعتكم. فقلت له: أنا أذهب وأحرث وأنت تسمع أصحابنا، فإذا جئت قرأت عليك ما فاتني، ففعل. فلما جئته. قرّب إليّ غداءه، خبز شعير وزيتاً قديماً. قال حبيب: خرج سحنون علينا يوماً وعليه برنس، وكان يلبس الشاشية، والطويلة. قال عيسى: كان سحنون صمته لله، وكلامه لله، إذا أعجبه الكلام صمت، وإذا أعجبه الصمت تكلم.
قال ابن بسطام: دخلنا عليه في مرضه الذي مات فيه، وعند رأسه حقيبة، وما في بيته إلا الحصير. قال غيره: قيل له: يا أبا سعيد، كيف يسعك أن تترك الطلبة، وحاجتهم إليك، وتخرج إلى البادية فتغيب بها الشهور الكثيرة؟(4/54)
قال أتريدون أن تروا كتبي بهذا الغدير؟! قال: احتاج إلى دراهم هؤلاء، يعني السّلاطين، فأخذها، فتطرح كتبي. قال ابن متعب: كان يشتري سحنون كل يوم ربع رطل لحماً، يفطر عليه. ثم تركه اقتضاء بالصالحين في مطعمهم، ما عمل سحنون قط شيئاً إلا لله. ولا تكلم بشيء إلا لله. فلذلك عظم خطره. قال بعض العلماء: كان سحنون أعقل صاحباً، وأفضل الناس صاحباً. وأقفه الناس صاحباً. قال ابن الحارث: كانت هذه الصفات صفات سحنون. فتخلق بها أصحابه. قال إبراهيم ابن شعيب: كان سحنون يخرج علينا، ونحن تنتظره في مجلسه، فوا الله ما علمته يسلم في مجلسه علينا قط. وفي حلال يمشي بالأسواق، فلا يمر بأحد إلا التفت إليه وسلم عليه، توقيراً للعلم وهيبة له، عند طالبيه.
ذكر ولايته القضاء
ولي سحنون قضاء إفريقية، سنة أربع وثلاثين ومائتين، وسنه إذ ذاك أربع وسبعون سنة. فلم يزل قاضياً إلى أن مات. قال أبو العرب: لما عزل ابن أبي الجواد، قال سحنون: اللهم ولّ هذه الأمة خيرها، وأعدلها. فكان هو الذي ولي بعده. وذكر غريب الكاتب في تاريخه: أن سحنون مرّ يوماً بابن أبي الجواد، فدار منه. فقال: اللهم لا تمتني، حتى أراه بين يدي قاض عدل يحكم فيه بالحق. فعزل وولي سحنون، فامتحنه. فقال الناس: أجيبت دعوته.(4/55)
ولما أراد محمد بن لأغلب أن يولي سحنون، جمع الفقهاء للمشاورة. فأشار سحنون سليمان بن عمران، وأشار سليمان بسحنون، وأشار غيرهم بسليمان، فادخلوا فرادى، فقالوا: كقولهم الأول وذلك أن أكثر الفقهاء كانوا إذ ذاك على رأي الكوفيين. وكان سليمان يرى رأيهم. وقال سليمان: ما ظننت أنه يشاور في سحنون. حجبت فرأيت أهل مصر يتمنون كونه بين أظهرهم. وما يستحق أحد القضاء وسحنون حيّ. وبعث ابن الأغلب إلى سحنون يقول له: إني أريد أن استكفي قضاء رعيتي، فاعلمه. فقال: أصلح الله الأمير، لا أقوى عليه. أدلك على من هو أقوى. سلميان بن عمران.
قال محمد بن سحنون: ولي سحنون القضاء بعد أن أدير عليه حولاً، وأغلظ عليه الغلظة. وحلف عليه محمد بن الأغلب بأشد الإيمان، فولي يوم الاثنين الثالث من رمضان سنة أربع وثلاثين ومائتين. فأقام أياماً ينظر في القضاء، يلتمس أعواناً. ثم قعد للناس يوم الأحد بعده، في المسجد الجامع، بعد أن ركع ودعاء بدعاء كثير. وقال سحنون: لم أكن أرى قبول هذا الأمر، حتى كان من الأمير ضمينان: أحدهما أعطاني كل ما طلبت، وأطلق يدي في كل ما رغبت، حتى أني قلت له: أبداً بأهل بيتك، وقرابتك، وأعوانك، فإن قبلهم ظلمات الناس، وأموال لهم، منذ زمان طويل. إذ لم يجترئ عليهم من كان قبلي. فقال لي: نعم لا تبدأ إلا بهم، واجر الحق على مفرق رأسي. فقلت له: الله، قال لي: الله، ثلاث مرات. وجاءني من عزمه مع هذا، ما يخاف المرء على نفسه، وفكرت فلم أجد أحد يستحق هذا الأمر، ولم أجد لنفسي سعة فر رده.(4/56)
قال سليمان بن سالم: لما تمت ولاية سحنون، تلقّاه الناس، فرأيته راكباً على دابة، ما عليه كسوة ولا قلنسوة، والكآبة في وجهه، ما يتجرأ أحد يهنّيه. فسار حتى دخل على ابنته خديجة، وكانت من خيار الناس، فقال لها: اليوم ذبح أبوك بغير سكين. وعلم الناس قبوله للقضاء، ولما ولي، جاءه عون بن يوسف، فقال له: نهنئك أو نعزيك. ثم سكت. ثم قال: إنه بلغني أنه من أتاها من غير مسألة، أعين عليها. ومن أتاها عن مسألة لم يعن عليها. فقال له سحنون: من ولته الشفاعة عزلته الشفاعة.
ومن ولته الشفاعة، حكم بالشفاعة. فقال له رجل من الأندلس: إن لله وإن إليه راجعون، وددنا أنا رأيناك اليوم على أعواد نشعك، ولم نرك في هذا المجلس قاعداً. وكتب عبد الرحيم الزاهد إلى سحنون، لما ولي القضاء: أما بعد فإني عهدتك، وشأن نفسك عليك مهم، تعلم الخير وتؤدب عليه، وأصبحت وقد وليت أمر هذه الأمة، تؤدبهم على دنياهم، يذلّ الشريف بين يديك والوضيع. قد اشترك فيك العدو والصديق ولكلّ حظه من العدل. فأي حالتيك أفضل: الحالة الأولى أم الثانية؟ والسلام. فكتب إليه سحنون: أما بعد فإنه جاءني كتابك فهمت ما ذكرت فيه، وأني أجيب أنه لا حول ولا قوة في شيء إلا بالله تعالى، عليه توكلت وإليه أنيب. فأما ما كتبت أنك عهدتني وشأن نفسي عليّ مهم، أعلم الخير وأؤدب عليه، وأصبحت وقد وليت أمر هذه الأمة، أؤدبهم على دنياهم، ولعمري أنه من لم تصلح له دنياه، فسدت له أخراه. وفي صلاح الدنيا إذا صح المطعم والمشرب، صلاح الآخرة. فكلا الأمرين(4/57)
متصل بالآخرة. أؤدبهم في معاملتهم، ودفع ظالمهم عن مظلومهم، وأخذهم الأمور من وجوهها، أدب لأخرتهم. لأن بصلاح دنياهم لهم آجرتهم. وبفساد الدنيا تفسد الآخرة. وقد حدثني ابن وهب، ورفع سحنون سنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: نعم المطية الدنيا، فارتحلوا، فإنها تبلغكم الآخرة. ولن تبلغ الدنيا الآخرة من عمل في الدنيا بغير الواجب من حق الله. وأما قولك وليت أمر هذه الأمة، فإني لم أزل متبلي ينفذ قولي، منذ أربعين سنة، في أشعار المسلمين وأبشارهم. حدثني ابن وهب: أن عبيد الله بن أبي جعفر قال: لن تزالوا بخير ما تعلمتم. فإذا احتيج إليكم فانظروا كيف تكونوا. قال ابن أبي جعفر فرأيت في المنام، إنما المفتي قاض يجوز قوله، في أبشار المسلمين وأموالهم. فعليك بالدعاء. فألزم ذلك نفسك والسلام. قال سليمان بن عمران: لما ولي سحنون قال لي: إذا القاضي السعي كيف يكتب كذا. فكتب له ذلك. وكان سليمان يكتب لسحنون في قضائه، إلى أن ولاه بجاية وباجة الأربُس. فلما مات سحنون ولي سليمان مكانه. قال سليمان: قال لي سحنون: ابتليتني. فوا الله أيبتلينك فولاني القضاء وقال لي: عليك يا أبا الربيع بالحجازية الحجازية.
فقلت: القاضي مفتي، بما كنت أفتي به، فبه أقضي. فسكت عني وكان سليمان عراقي المذاهب. قال: فلما ولي سليمان القضاء دخل عليه من الغد، فقال له سحنون: عزمت يا أبا الربيع. فقال له: أن قلت لا كذبتك، أنا أريد. فقال سحنون لمن عنده: انظروا أن كان دخله رياء أو أظهر(4/58)
تمنعاً. مثلك يا أبا الربيع يكون ناظراً للمسلمين. قال جبلة: كان سحنون لا يأخذ لنفسه رزقاً، ولا صلة من السلطان في قضائه كله. ويأخذ لأعوانه وكتابه وقضائه من جزية أهل الكتاب. قال ابن سحنون: وسمعته يقول للأمير: والله لو أعطيتني ما في بيت مالك، وقال له لو ملأت مجلسك هذا لي دراهم ودنانير، ما سألني الله أن أقبل منك ذلك. ولا آخذ منك شيئاً ويقول لو أخذته لجاز لي. ولكنه تورع. وسمعته يقول للأمير: حبست أرزاق أعواني وهم أجراؤك. وقد وفوك عملك ولا يحل لك ذلك. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أعط ألأجير حقه قبل أن يجف عرقه.
قال ابن مسكين: كان سحنون قبل أن يلي أشرف منه بعد ما ولي. ولقد امتنع من النظر وجلس في بيته مدة. حتى حضر جنازة فرأى منكراً فأمر بتغييره، وانصرف، فنظر بين الناس. قال ابن سحنون: يضرب الخصوم إذا آذى بعضهم بعضاً بكلام. أو تعرضوا للشهود. ويقول: إذا تعرض للشهود كيف يشهدون. ويؤدب الخصوم إن طعن على الشاهد بعيب، أو تجريح، أو يقول سل لي عن البينة. فإنهم كذا، حتى يسأله هو عن تجريحه. ويقول للخصم: أنا أعني بذلك منك، وهو علي دونك. وكان إذا دخل عليه الشاهد، ورعب منه، أعرض عنه، حتى يستأنس، ويذهب روعه. فإن طال ذلك به هون عليه. وقال له: ليس معي سوط ولا عصا، فلا عليك بأس. أد ما علمت ودع ما لم تعلم. قال جبلة: كان سحنون يؤدب الناس على الإيمان التي لا تجوز في الطلاق، والعتق. حتى لا يحلفوا بغير الله. ويؤدبهم على سوء الحال، في لباسهم، وما نهي عنه، ويأمرهم بحسن السيرة، والقسط.(4/59)
قال ابنه محمد: وتخاصم إليه رجلان صالحان من أصحابه، ممن نظر في العلم، فأقامهما، وأبى أن يسمع منهما. وقال استرا عني ما ستر الله عليكما. قال غير واحد: أول ما نظر سحنون في الأسواق، وإنما كان ينظر فيها الولاة دون القضاة. فنظر فيما يصلح من المعاش، وما يغش من السلع، ويجعل الأمناء على ذلك، ويؤدب على الغش، وينفي من الأسواق من يستحق ذلك، وهو أل من نظر في الحسبة من القضاة، وأمر الناس بتغيير المنكر، وأول القضاة فرق حلق أهل البدع، وشرد أهل الأهواء منه. وكانوا فيه حلقاً. من الصفرية والإباضية المغيرية، وكانوا فيه حلقاً. يتناظرون فيه. ويظهرون زيفهم. وعزلهم أن يكونوا أئمة للناس، أو معلمين لصبيانهم. أو مؤذنين. وأمرهم أن لا يجتمعوا. وأدب جماعة منهم بعد هذا، خالفوا أمره، وأطافوا، وتوب جماعة منهم، فكان يقيم من أظهر التوبة، منهم علي البوا كذا وغيره، فيعلن بتوبته عن بدعته. وهو أول القضاة جعل في الجامع إماماً يصلي بالناس. وكان ذلك للأمراء. وأولهم جعل الودائع عند الأمناء. وكانت قبل في بيوت القضاة. وأول من قدم الأمناء في البوادي، فكان يكتب إليهم، وكان من قبله يكتب إلى جماعة من الصالحين، منهم. فأخذت القضاة هذه السيرة بعده، وكان يجلس في بيت الجامع، بناه لنفسه. إذ رأى كثرة الناس وكثرة كلامهم. فكان لا يحضر عنده غير الخصمين. ومن يشهد بينهما في دعواهما. وسائر الناس عنه بمعزل لا يراهم ولا يسمع لغطهم، ولا يشغل باله أمرهم فصار الجلوس في ذلك البيت سنة لقضاة المالكية. فإذا ولي عراقي، هدمه. وإذا ولي مدني، بناه، وحكم فيه. وكان سحنون يكتب للناس أسماءهم في رقاع، تجعل بين يديه، ويدعو بهم واحداً واحداً إلى أن يأتي مضطر أو ملهوف.(4/60)
وكان يضرب بالدرة، وما خف من ألأدب في الجامع، فإذا أقام الحدود، أخرجهم عن الجامع. وكان كثيراً ما يؤدب بلطم القفا. وقيد امرأة كانت تتهم بسوء، حتى شهد عنده أنها باتت. وضربت أخرى كانت تتهم بالجمع بين الرجال والنساء بالسوط، في قفة! وبني باب دارها، ونقلها بين قوم صالحين. وجاءت إليه امرأة من القصر، غاب عنها زوجها، فأرادت أن تقطع بشرطها فأبى. ثم قال لها: إياك أن تشهدي أحداً من أهل القصر، لا أكتب شهادتهم. وكتب مراراً يأمر بقتل الكلاب، وسيب الأعوان وراءها بالحراب. ويعطي الطابع لأهل العدوى، فإذا جاءه المستعدي بصاحبه، أخذ منه الطابع لئلا يعبث به الناس، ويضرب على اللدد، قال عيسى بن مسكين: فحصل الناس بولايته على شريعة من الحق، ولم يل قضاء أفريقية مثله. قال سعيد بن إسحاق: كل من ولي قضاء أفريقية اكتسب، إلا سحنون. وكان سحنون أيام قضاء ابن أبي الجواد، يقول: إن لأمره لآخراً.... ولكني أخشى أن الوالي بعده لا يحسن، أن يقتص منه. فكان هو الوالي بعده. وخاصم ابن أبي الجواد رجل بين يدي سحنون، فحكم له على ابن أبي الجواد، وحبسه. وقال له: إ، لم تؤد ضربتك بالسوط. وقال: ما عندي مال،(4/61)
فيقول إنه أخرجه. وضربه في جمعة بالسياط مائة سوط. وقيل أكثر من ذلك. حتى أسأل دمه على كعبه، فمر في طريقة على صباغ فصب عليه قصرية مصاره. وقال: اقتلوا الزنديق. ورد إلى السجن فمات فيه. وقيل كان سبب ضربه أنه شهد عليه، بقبض وديعة فأنكرها. فضربه ثمانية عشر سوطاً مجرداً من الأسماط يضربه، سبعة بعد سبعة. وهو متماد. وقيل، أنها وجدت بخطه، فأنكره، وشهد على خطه، فحبسه
أياماً وضربه عشرة أسواط. وكان يخرجه في كل جمعة فيضربه عشرة. كل جمعة إلى أن مرض. وقيل بل فعل ذلك به لما كان عليه من البدعة. وكانت أسماء بنت أسد ابن الفرات زوج ابن أبي الجواد، قالت: لسحنون: أنا أهبه هذا المال، يقضيه عن نفسه. فلم يقبل ذلك سحنون. وقال لها: حتى يقول: أؤدي ما لزمني. وقيل فعل ذلك به، لأن مالكاً لا يلزم قبول الهبة، ولو قالت أنا أقضي عنه، ما طلب منه. لما رد ذلك سحنون. والله أعلم. وقيل بل قالت له أفدي به زوجي. فقال لها: إن أقر ذلك، هو المال، أو بدل منه، أطلقته. فامتنع وأبى سحنون من قبول المال، إلا بإقراره. اً وضربه عشرة أسواط. وكان يخرجه في كل جمعة فيضربه عشرة. كل جمعة إلى أن مرض. وقيل بل فعل ذلك به لما كان عليه من البدعة. وكانت أسماء بنت أسد ابن الفرات زوج ابن أبي الجواد، قالت: لسحنون: أنا أهبه هذا المال، يقضيه عن نفسه. فلم يقبل ذلك سحنون. وقال لها: حتى يقول: أؤدي ما لزمني. وقيل فعل ذلك به، لأن مالكاً لا يلزم قبول الهبة، ولو قالت أنا أقضي عنه، ما طلب منه. لما رد ذلك سحنون. والله أعلم. وقيل بل قالت له أفدي به زوجي. فقال لها: إن أقر ذلك، هو المال، أو بدل منه، أطلقته. فامتنع وأبى سحنون من قبول المال، إلا بإقراره.
ذكر أخباره مع الملوك وثبوته في الحق
قال أبو العرب: وكان لا يهاب سلطاناً، في الحق يقيمه عليه. ولما أكثر من رد الظلامات في رجال ابن الأغلب وأبى أن يقبل منهم الوكلاء على الخصومة إلا بأنفسهم: وجه إليه الأمير وقد شكوه إليه، بأنه يغلظ(4/62)
عليهم. فأرسل إليه ابن الأغلب وقال إنهم فيهم غلظة وقد شكوك، ورأيت مما فاتك من شرهم فلا تنظر في أمرهم. فقال سحنون للرسول: ليس هذا الذي بيني وبينه. قل له: خذلتني خذلك الله. فلما أنهى الرسول الرسالة إلى الأمير، قال له: ما نعمل به. إنما أراد الله. فقال ابن أبي سليمان وغيره: إن المحتسبين لم يكونوا يعرفون بإفريقية، حتى كان سحنون جالساً على باب داره، إذ مر به حاتم الجراوي ومعه سبي من سبي تونس. فقال سحنون لأصحابه: قوموا فأتوا بهم، حتى خلوصهم من حاتم. أتوا بهم وهرب حاتم على برذونه وخرق ثيابه ودخل على الأمير فشكا أمره. فأرسل الأمير إلى سحنون: إنهم أحرار ولا سبي عليهم وقد أطلقتهم. فرد الأمير إلى سحنون لا بد من ردهم. فأبى سحنون، وقال للرسول: قل للأمير جعل الله حاتماً شفيعك يوم القيامة. أقسم عليه ليبلغن ذلك إلى الأمير. ثم قال سحنون: هذا الأسود، يعني حاتماً، يمضي هكذا. فأمر بسجنه، فطرحت عمامته في عنقه، وحمل إلى الحبس، فلحقه معتب، وقال له: يا حاتم لا تلق الشر بين الأمير والقاضي. وأعطاه معتب من عنده سبعة دنانير. فخلى حاتم عن السبي، وأخبر معتب سحنون بذلك، فأمر بإطلاق حاتم من السجن. وحكى ابن اللباد: أن رجلين اختصما إلى سحنون، حلف أحدهما بالطلاق على صاحبه ليستوفي حقه في حائط بينهما. فأمر سحنون بصفع قفاه ثم قال له: لا تحلف بالطلاق. فأرسل إلى رجل يقال له عبد الله البناء،(4/63)
فسأله هل من يمينه مخرج في الاستقصاء؟ فقال: نعم، بالخاتم والشعرة قال ابن الحداد: كنت يوماً عند سحنون، إذ جاءه رسول الأمير محمد بن الأغلب، يأمره برد النسوة على حاتم. فإنهن له. قال سحنون إن كن إماء فمثل حاتم لا يؤتمن على الفروج. فانصرف ثم رجع. فقال: يقول لك: لا تعبث. ارددهن، كما أمرتك. فقام سحنون على قدميه، وقال: إنما يعبث هو، والله الذي لا إله إلا هو، يعبث، ثلاثاً. والله لا أفعل، حتى يفرق بين رأسي وجسدي. وجاء محمد ابنه، يقول دون ذا. لا تفعل يا أبت. اكتب إليه ولاطفه: فكتب إليه وابنه وقال له حتى فرغ من طبع كتابه. وبعث إليه. فأخذه ابن الأغلب وضرب به الأرض، ثم قال: ما أدري هو علينا أن نحن عليه. واسود وجهه ولم يدخل عليه أحد، إلى بعد العصر. فأذن لأصحابه بالدخول، وقال لهم: ما أظن هذا الرجل يريد بنا إلا خيراً، ونحن لا نعلم. أرسلوا إليه، يرسل إلينا المحتسبة، لنكتب لهم السجلات، حتى يذهبوا بها إلى أقصى عملي، ليأخذوا من يجدوه من الحرائر. فكان ذلك. ولم يرض سحنون حتى فض الكتب التي كتبها لهم، وقرأها، ورضيها. وكتب سحنون إلى أبي زكي البربري: أن يفتش الرفاق فاعترضها، وكشف البراقع. فمن زعم أنه من سبي تونس، رفعه إلى سحنون فأطلق منهم عدة. ولما ثار القويع على محمد ابن الأغلب، قال بعض القواد: اليوم نستمكن من سحنون، إما يخسر دينه، أن دنياه. فقالوا للأمير: سحنون داعية مطاع، فأمره بنصرك على هذا الخارجي.(4/64)
فبعث فيه الأمير، وأعلمه بالأمر واستشاره في قتاله، وإن يعلم الناس بعرض ذلك عليهم. فقال له سحنون: غشك من دلك على هذا. متى كانت القضاة تشاورها الملوك في صلاح سلطانها. ونهض من عنده. وقال ابن اللباد، عن أبيه: رأيت ابن أبي الجواد بين يدي سحنون، وعليه كساء قرمسي وعمامة. فقال: أصلحك الله بأي قول أخذتني. قاض ينظر منذ ثمانية عشر عاماً. فقال له: من اين، وأين. وقد أخبرني أسد بن الفرات عن مالك، في القاضي يعزل ثم يلي آخر: هل ينظر فيما ينظر فيه. فقال: لأن له في نفسه ما يشغله. وفي رواية فإن الناس اختلفوا. فلو كان للمتولي أن ينظر، لما استقر قضاء ولا صح لأحد. فرد عليه سحنون كلاماً، رده عليه ابن أبي الجواد. فقال سحنون: الدرة. فنزعت عمامته. فقال ابن أبي الجواد: سألتك بالله أن تفعل. فتركه. قال ابن طالب: اشغلني معنى قول سحنون لابن أبي الجواد أضربك حتى تقول أؤدي. قال وسألت معنى قول سحنون لابن أبي الجواد أضربك حتى تقول أؤدي. قال وسألت عنها ابنه وابن عبدوس، فكلهم وقف، حتى بان لي أن معناه: أنه كان أظهر العدم. وكان عند سحنون ذلك. فضربه ليرجع إلى الحق
ولم يقبل منه ما جاد إليه، من أداء زوجته عنه. اذلوا كان كما زعم عديماً ما لزمه أداء شيء ولا أدى غيره هذا معنى قول ابن طالب. وعندي أنا: أن امتناعه لقول زوجته: أفديه. وقوله: حتى يقرأ أنه المال أو بدل منه، وإباء ابن أبي الجواد من هذا، فقه حسن دقيق، وحجة بينه لسحنون. إذ مضمون فعله وفصل زوجته، فداء له، من مظلمة نزلت به. وإنه بحكم المضغوط الذي لا يلزمه ما بذله. فلم ير إطلاقه، بهذا الوجه.(4/65)
وذكر أنه لما مات من ضربه في السجن، توسوس سحنون، وحفظ عنه، أنه كان يردد: ما أنا قتلته. الحق قتلة. ولو كان على ما ذهب إليه، ابن طالب، لكن من أدى عنه كمال وهب له. يقضي به دينه، فلا يكون حكمه بحكم العديم. وقد جاء في كتاب سحنون إلى محمد بن زياد، قاضي قرطبة، يأمره بالشد والمعاقبة لمن تفالس، وتكرار الأدب والضرب عليه، حتى يؤدي أو يموت. قال أبي: وبذلك أخذت في ابن أبي الجواد، ضربته أربعاً وعشرين، ومائة درة. وأوقفته يوم الجمعة للناس في صحن الجامع. وسوف أضربه أبداً، حتى يؤدي تحت الدرة أو يموت. وقال ابن أبي الحارث قيل لسحنون: هذا منصور دخل من تونس بالحرائر. فركب وانتزع منه ما بيده، فدخل منصور على ابن الأغلب وقد شق ثوبه، وذكر إليه ما نزل به، فأرسل ابن الأغلب إلى سحنون، أن تصرفهم على منصور مرة وثانية وثالثة. فقال: لا أفعل. وأقبل ابن الأغلب حتى دنا من موضع سحنون، وضربت له قبة، نزل فيها، وقد استشاط غيظاً لمصارمته إليه، على منصور، ودعا فتى قال له: اذهب إلى سحنون فقل له: فاردد السبي على منصور، وإلا فأتني برأسه. فجاء الفتى إلى سحنون يبكي ويتضرع ويقول له: أمرت فيك بعظيم. فأخذ سحنون ورقاً فكتب فيه بعد الاسم: ويا قوم ما لي أدعوكم إلى لنجاة وتدعونني إلى النار..... الآية. ودفع الكتاب للفتى، ثم قال: ادفعه لابن الأغلب.(4/66)
فلما قرأه أمره برفع مضربه، واحتجب ثلاثاً. ثم قال لمنصور: سلني عما شئت من حوائجك، واعرض عن خبر سحنون. وكان ابن الأغلب يقول في قضيته مع سحنون أن سحنون لم يركب لنا دابة ولا عقل كمه بصرة. فهو لا يخافنا. وذكر بعضهم، أن بعض قواد بني الأغلب، انصرف من بعض الحروب بعدد حرائر. فأرسل سحنون إلى جميع البوادي، في الصوفية، فاجتمع إليه نحو من ألف رجل. فقالوا: مرنا بما شئت. فقال: تخيروا منكم مائة رجل، فكونوا عنده إلى المغرب. ولا يعلمون غرضه. فلما صلى بهم، قال لهم: تمضوا إلى دار فلان، فتضربوها عليه، فإذا فتح أبلغوه سلامي، وإن يخرج الحرائر اللواتي أتى بهن من الجزيرة الساعة. ولا تجعلوا له إلى غلق الباب سبيلاً لئلا يخرج هو، ومن معه، فيدافعكم ويفضي الأمر إلى إراقة الدماء. وإن هو لاطفكم ومانعكم، فاشغلوه حتى يلج سبع مشائخ منكم، حتى تنتهوا الباب ألأوسط، وتنادوا.... بهن، اين الحرائر المسبيات بالجزيرة يخرجن إلى القاضي. فإذا خرج جميعهن أتيتم بهن، وتركتموه. ففعلوا ما أمرهم به، فلما ابى عليهم قبضوا عليه، حتى أخرجهن الشيوخ كما حده سحنون لهم، وحملوهن إلى سحنون. فركب القائد إلى القصر، فوجد الأبواب مغلقة. فبات هناك حتى أصبح ودخل على ابن ألأغلب، وقد شق ثيابه ونتف لحيته، وأخذ في البكاء. فسأله، فأخبره، فأنكر ذلك، ووجه فتى إلى سحنون يأمره بردهن له. فقال له سحنون: قل له والله الذي لا إله إلا هو إن أخرجتهن من داري، حتى تعزلني عن القضاء، ويعلم الله أنه لا نظر لي على رجلين من المسلمين.(4/67)
ثم وجه ابنه محمد بسجله مع الفتى إلى الأمير، وقال: قل له هذا سجلك، وجعل الله فلاناً شفيعك يوم القيامة. فوصلا إليه، وأبلغاه ما قال. فقال محمد: هذا سجلك بعث به لتولي أمور المسلمين من تراه. فقال أبو العباس: اقرأ على أبيك السلام، وقل له: جزاك الله عن نفسك وعنا وعن المسلمين خيراً. فقد أحسنت أولاً وآخراً. ونحن نرضي قائدنا من أموالنا. وامض على أحسن نظرك. فبلغ ذلك سحنون واجتمع إليه وجوه الناس وأهل الخير، وشكروا فعله. فقال لهم: إن الله قد أحب الشكر من عباده، فتقدموا إلى باب الأمير واشكروه على تأييد الحق، ففي ذلك صلاح الخاصة والعامة. ففعلوا ذلك. قال سليمان بن عمران: ودخل سحنون على محمد بن الأغلب يشكو إليه، رفع الخصوم عن بابه إلى باب الطبني شريكه في القضاء. وذلك، أن ابن الأغلب لما لم يمكنه عزل سحنون، لمكانه من قلوب الناس، وقصده من تحامل رجاله
وضيق عليهم، ولي الحكم معه الطبني، رجلاً جافياً جاهلاً. مضادة لسحنون. فكان يرفع الخصوم عن بابه، إلى الطبني، فلما ذكر ذلك لمحمد بن الأغلب قال له محمد: ما عندي من هذا علم. ثم التفت إلى بعض جلسائه، فقال أعندك من هذا علم؟ قال: لا. فضرب سحنون بيده على لحيته. وقال بتلعب بي وأنا إمام في العلم منذ ستين سنة. وهذا يشهد لي. يريد بن عمران. فقلت: وما حاجتك إلى ذلك؟ أدركت الناس بمصر يتمنون أن لو كنت فيه. وأسمعه يعقوب بن المضار! كلاماً غليظاً فيما ينفذه من لحق عليهم، بحضرة ابن الأغلب، فقال له سحنون: أين أنت من هذا القول، إذ جيء بك، وفي عنق يعقوب حبل كالكلب، ثم خرج سحنون، فقال يعقوب، للأمير: شيخ من مشائخك وعم من أعمامك يفعل بي سحنون بين يديك مثل هذا؟ ولا يرى لمجلسك حرمة! فقال ألأمير لأصحاب الأعمدة: لو قتلتموه ما كنت أصنع بكم؟ فعافاه الله. ولما رأى سحنون حال الطبني، وفهم المراد، لزم داره مدة. وترك الجامع. وكان الطبني يحكم في الجامع، وحبيب أيضاً صاحب مظالم سحنون ينظر. إلى أن بلغه أن الطبني مد يده إلى بعض أصحابه. فخرج سحنون إلى الجامع، وسمع بذلك الناس، فأتوا إليه من كل جهة. فخرج الطبني من الجامع إلى داره. فكان ينظر في داره، وسحنون في الجامع على عادته، نحوا من أربعين يوماً، إلى أن توفي رحمه الله تعالى. وكتب زيادة الله ابن الأغلب إلى علماء أفريقية، يسأله عن مسألة، فأخبروه، إلا سحنون. فعوتب في ذلك. فقال: أكره أن أجيبه، فيكتب إلي ثانية، اشتغال لمعرفة ألأمراء. فقال له إبراهيم بن عبدوس، في مثلها: اخرج من بلد القوم، أمس لا تصلي خلف قاضيهم. واليوم لا تجيب في مسألتهم. فقال سحنون: أجيب رجلاً يتفكه بالدين، ولو علمت أنه يقصد الحق، أجبته. وذلك قبل قضائه. يق عليهم، ولي الحكم معه الطبني، رجلاً جافياً جاهلاً. مضادة لسحنون. فكان يرفع الخصوم عن بابه، إلى الطبني، فلما ذكر ذلك لمحمد بن الأغلب قال له محمد: ما عندي من هذا علم. ثم التفت إلى بعض جلسائه، فقال أعندك من هذا علم؟ قال: لا. فضرب سحنون بيده على لحيته. وقال بتلعب بي وأنا إمام في العلم منذ ستين سنة. وهذا يشهد لي. يريد بن عمران. فقلت: وما حاجتك إلى ذلك؟ أدركت الناس بمصر يتمنون أن لو كنت فيه.(4/68)
وأسمعه يعقوب بن المضار! كلاماً غليظاً فيما ينفذه من لحق عليهم، بحضرة ابن الأغلب، فقال له سحنون: أين أنت من هذا القول، إذ جيء بك، وفي عنق يعقوب حبل كالكلب، ثم خرج سحنون، فقال يعقوب، للأمير: شيخ من مشائخك وعم من أعمامك يفعل بي سحنون بين يديك مثل هذا؟ ولا يرى لمجلسك حرمة! فقال ألأمير لأصحاب الأعمدة: لو قتلتموه ما كنت أصنع بكم؟ فعافاه الله. ولما رأى سحنون حال الطبني، وفهم المراد، لزم داره مدة. وترك الجامع. وكان الطبني يحكم في الجامع، وحبيب أيضاً صاحب مظالم سحنون ينظر. إلى أن بلغه أن الطبني مد يده إلى بعض أصحابه. فخرج سحنون إلى الجامع، وسمع بذلك الناس، فأتوا إليه من كل جهة. فخرج الطبني من الجامع إلى داره. فكان ينظر في داره، وسحنون في الجامع على عادته، نحوا من أربعين يوماً، إلى أن توفي رحمه الله تعالى. وكتب زيادة الله ابن الأغلب إلى علماء أفريقية، يسأله عن مسألة، فأخبروه، إلا سحنون. فعوتب في ذلك. فقال: أكره أن أجيبه، فيكتب إلي ثانية، اشتغال لمعرفة ألأمراء. فقال له إبراهيم بن عبدوس، في مثلها: اخرج من بلد القوم، أمس لا تصلي خلف قاضيهم. واليوم لا تجيب في مسألتهم. فقال سحنون: أجيب رجلاً يتفكه بالدين، ولو علمت أنه يقصد الحق، أجبته. وذلك قبل قضائه.
ذكر محنته
قال غير واحد من العلماء بالأثر: كان سحنون قد حضر جنازة. فتقدم ابن أبي الجواد، الذي كان قاضياً قبله. وكان يذهب إلى رأي الكوفيين،(4/69)
ويقول بالمخلوق. فصلى عليها. فرجع سحنون ولم يصل خلفه، فبلغ ذلك الأمير زيادة الله. فأمر بأن يوجه إلى عامل القيروان، يضرب سحنون خمسمائة سوط. ويحلق رأسه ولحيته. فبلغ ذلك وزيره علي بن حميد. فأمر الوزير أن يتوقف، ولطف حتى دخل على الأمير وقت القائلة، وقد نام. فقال له ما شيء يلغني في كذا. قال: لا تفعل. فإ، العكي إنما هلك في ضربه للبهلول بن راشد. فقال: وهذا مثل البهلول. قال: نعم. وقد حبست البريد شفقة على الأمير. فشكره، ولم ينفذ أمره. وبينما سحنون يقرأ للناس، إذ أتاه الخبر بما أزاح الله عنه. وقيل: لو ذهبت إلى علي بن حميد فشكرته. قال: لا أفعل. قيل له: لو وجهت ابنك لذلك، فأبى. قيل: فاكتب إليه. فأبى. قال: ولكني أحمد الله الذي حرك علي بن حميد، لهذا. فهو أولى بالشكر، وأقبل على إسماعه. فقال له قوم من أصحابه: لهذا والله كتب اسمك بالحبر على الرقرق. قال ابن وضاح: كنت عند سحنون، فجاءه إنسان، فساره بشيء، فتغير لونه، ثم جاءه آخر فساره، فرجعت إليه نفسه. ثم قال: لم أبلغ أنا مبلغ من ضرب. إنما يضرب مثل مالك، وابن المسيب. ولما ولي أحمد بن الأغلب الإمارة، وأخذ الناس بالمحنة بالقرآن، وخطب به بالقيروان، توجه سحنون إلى عبد الرحيم الزاهد بقصر زياد،(4/70)
فاراً. فكان عنده. فوجه في طلبه إلى هناك رجل، يقال له، ابن سلطان، وكان مبغضاً في سحنون، فظاً غليظاً. أختاره في ذلك في خيل، وجهها معه. فلما وصل إلى سحنون، قال له ابن سلطان: وجهني الأمير إليك، وقصدني فيك لبغضي فيك، لأبلغ منك، وقد حالت بغيتي عن ذلك. وأنا ابذل دمي دون دمك، فاذهب حيث شئت من البلاد، أو أقم، فأنا معك. فشكره سحنون، وقال له: ما كنت أعرضك لهذا. بل اذهب معك، وخرج، فشيعه أصحابه. فقال عبد الرحيم للرسول: قل للأمير أوحشتنا من صاحبنا وأخينا في هذا الشهر العظيم. وكان شهر رمضان، سلبك الله أنت فيه وأوحشك منه، وفي رواية: عرضتني في ضيفي، فو الله لأعرضنك على رب العالمين. فلما وصل الأمير جمع له قواده، وقاضيه ابن أبي الجواد وغيره. وسأله عن القرآن، فقال سحنون: أما شيء أبديته في نفسي فلا. ولكني سمعت من تعلمت منهم، وأخذت عنهم، كلهم يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق. فقال ابن أبي الجواد: كفى فاقتله، ودمه في عنقي. وقال غيره: مثله. ممن يرى رأيه. وقال بعضهم: يقطع أرباعاً، ويجعل كل ربع بموضع في المدينة. ويقال ها جزاء من لم يقل بكذا. فقال الأمير لدواد بن حمزة: ما تقول أنت؟ قال: قتله بالسيف راحة. ويقال قائل هذا، علي بن حميد والحضرمي. ورجال أهل السنة من أصحاب السلطان، ولكن قتل الحياة. نأخذ عليه الضمناء، وينادي عليه بسماط القيروان: لا يفتي. ولا يسمع أحداً، ويلزم داره. ففعل ذلك. وأخذ عليه عشرة حملاء.(4/71)
ويقال أن ابن أبي الجواد: هو الذي أمر بأخذ الحملاء عليه، حتى يتبين عليه، فرجع، ففعل ذلك وأمر الحرس أن يأخذوا ثياب من دخل عليه. قال سهل فدخلت عليه، ومعي دراهم أشتري بها ثيابي من الحرس، إن يأخذوا. فعافاني الله. فقلت: البدعة فاشية، وأهلها أعزاء. فقال: أما علمت أن الله إذا أراد قطع بدعة أظهراها. قال جبلة: ولما قرب سحنون في قصته هذه من القصر، لقيه في الموالي رجل سكران، على برذون، بيده قناة فأدخلها بين رجلي برذون سحنون، ليثب بسحنون ليقتله، فتحامل برذون السكران به، وقفز. فدخل زج القناة في صدر المولى. فمات وسلم سحنون. وقيل: بل الأمير أوصى إنساناً بركوب بغل شموس، وقال له اصدم به سحنون بعد أن تحميه، فلعل الله يريحنا منه. فلما قرب سحنون من القصر، فعل الرجل ما أمر به، فطرحه البغل الشموس فمات. وكان في طريقه نزل تحت شجرة، والرسول الذي جاء به تحت أخرى، فأتى رجل إلى سحنون بقصعة ثريد، عليها دجاجة، فأكل سحنون ولم يدع الرسول. فعاتبه في ذلك، وقال له: أحسنت صحبتك، وتفعل هذا معي. فقال له سحنون: ليس في السنة أن أدعوك إلى طعام غيري، ولو كان لي لفعلت. قال القاضي أبو الفضل عياض رضي الله تعالى عنه: ما قال سحنون صواب. ولكن لا أدري لم يستأذن. ربّ الطعام في أكله معه، كما فعل عليه الصلاة والسلام. ولعله فعل ذلك، ولم يأذن له. والله أعلم(4/72)
وفي هذا الخبر
قال: كان سحنون يقول في طريقه: الذين قال لهم النّاس إنّ النّاس قد جمعوا لكم ... الآية. وحكى، أنه لما دخل سحنون على ابن الأغلب، قال له سحنون: قد كنت خائفاً، حتى دخلت عليك. فأمنت بالله. وكان ابنه محمد، قد توارى معه. فلما أتى باب القصر، نفر الشرط إلى انتهابه، فأخذ لجام دابته، فلما دخل على الأمير قال له: تكلم. فقال: إنما يتكلم من معه عقله، وأما أنا فقد ذهب. فسأله، فأعلمه بما جرى عليه. فأمنه. وأمر بصرف لجامه. قال ابن وضاح: دخلت مصر، فلقيت الحارث بن مسكين، فسألني عن سحنون، فقلت له: إنه مغموم من قبل الأمير. فقال الحارث: قال الأوزاعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أحب الله عبداً سلط عليه من يؤذيه. ال: كان سحنون يقول في طريقه: الذين قال لهم النّاس إنّ النّاس قد جمعوا لكم ... الآية. وحكى، أنه لما دخل سحنون على ابن الأغلب، قال له سحنون: قد كنت خائفاً، حتى دخلت عليك. فأمنت بالله. وكان ابنه محمد، قد توارى معه. فلما أتى باب القصر، نفر الشرط إلى انتهابه، فأخذ لجام دابته، فلما دخل على الأمير قال له: تكلم. فقال: إنما يتكلم من معه عقله، وأما أنا فقد ذهب. فسأله، فأعلمه بما جرى عليه. فأمنه. وأمر بصرف لجامه. قال ابن وضاح: دخلت مصر، فلقيت الحارث بن مسكين، فسألني عن سحنون، فقلت له: إنه مغموم من قبل الأمير. فقال الحارث: قال الأوزاعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أحب الله عبداً سلط عليه من يؤذيه.
ذكر بقايا فضائل سحنون وتقاه وخوفه وزهده وتحريه
في الفتيا وعبادته وفقر من كلامه ووصاياه وأخباره
قال محمد بن أحمد بن تميم: كان الذين يحضرون مجلس سحنون من العباد أكثر من يحضره من طلبة العلم، كانوا يأتونه من أقطار الأرض. قال بعض أصحابه: عرست فدعوت ليلة عرسي جماعة من أصحاب أصحابنا وفيهم رجل من أهل المشرق، من أصحاب حنبل، قدم علينا. وكنا نسمع منه. فكان أصحابنا في أول الليلة في قراءة وبكاء، وتعبد وخشوع ثم أخذوا بعد ذلك في مسائل العلم، ثم ابتدروا بعد ذلك إلى زوايا بالدار، يصلون أحزابهم. فقال الشيخ: أصحاب من هؤلاء، ومن معلمهم؟ فوالله ما رأيت قط أقبل منهم، وما صحبوا رجلاً إلا نبلوه. فقال: أصحاب سحنون.(4/73)
فقال: والله لقد رأيت العلماء عندنا بالمشرق، فوالله ما رأيت مثل هؤلاء. قال ابن عجلان الأندلسي: ما بورك لأحد بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما بروك لسحنون في أصحابه، إنهم في كل بلد ائمة قال ابن حارث سمعتهم يقولون كان سحنون من أيمن العلماء؟ دخل المغرب، كأن أصحابه مصابيح، في كل بلدة، عدّ له نحو سبعمائة رجل، ظهروا بصحبته وانتفعوا بمجالسه، وسمعتهم يقولون: كان سحنون أعقل الناس صاحباً وأفضل الناس في باب الدين صاحباً، وأفقه الناس صاحباً. وقام سحنون بقصر زياد مرابطاً، خمسة عشر يوماً من رمضان. وحكى ابن اللباد، إن سحنون قال لأبنه محمد: يا بني، سلم على الناس، فإن ذلك يزرع المودة. وسلم على عدوك وداره، فإن رأس الإيمان بالله المداراة بالناس. وحكى المالكي أنه نقب بيت سحنون وهو قائم في تهجده، وأخذ ما كان في البيت، وهو لا يشعر، ثم أخذت القلنسوة من رأسه، فلم يلتفت لشغله بما كان فيه، وجيء إليه للصلاة على مقتول، فقال لم تحضرني نية. فأتى آخرون فقالوا له: فلان أصلحك الله، قتل وطرح في بئر، وقد أخرجناه، فصّل عليه. فقال: ومن قتله؟ قالوا: هذا المقتول الذي سئلت قبل الصلاة عليه. فصلى سحنون على هذا. وكانت منه فراسة. قال سليمان بن سالم: أتى رجل من صطفورة فسأل سحنون عن مسألة، وتردد عليه. فقال له: أصلحك الله مسألتي في ثلاثة أيام.(4/74)
فقال له: وما أصنع لك؟ ما حيلتي في مسألتك؟ نازلة معضلة، وفيها أقاويل، وأنا أتخير في ذلك. فقال الرجل الصطفوري: وأنت أصحك الله لكل معضلة. فقال: هيهات، ليس يا ابن أخي. فقولك أبذل لك لحمي ودمي إلى النار، ما أكثر ما لا أعرف، إن صبرت رجوت إن تنقلب بمسألتك، وإن أردت غيري فامضِ، تجاب عن ساعة. فقال: إنما جئت إليك ولا أبتغي غيرك. قال: فاصبر عافاك الله. ثم أجابه بعد ذلك. وأرسل أسد بن الفرات وهو قاض إلى سحنون، وعون وابن رشيد وموسى الصمادحي، فسألهم عن مسألة في الأحكام، فأجاب فيها ابن رشيد وعون، وأبى فيها سحنون عن الجواب. فلما أخرجوا عذلاه في تركه. فقال لهما: منعني إنكما بدرتما بالجواب فأخطأتما، وكرهت إن أخالفكما فندخل عليه إخواناً ونخرج أعداء، وبيَّن لهما وجه خطأهما. فجزياه خيراً، واعترفا. ورجع إلى أسد، فأخبراه برجوعهما. قال القاضي: لعل سحنون عدل على ما عرف من فضلهما، من أنهما إذا بين لهما وجه خطأهما رجعا، فأعلم أسداً برجوعهما كما فعلا. وإن الحكم، كان بعد لم يحن وقت نفوذه. وإلا فهو في فضله وورعه كان لا يسكت على مثل هذا، إلا رجاء أن يستبين الحق بلا تعلة، ولا مخالفة. قال سحنون: أجراً للناس على الفتيا، أقلّهم علماً. يكون عند الرجل باب واحد من العلم، فيظن أن الحق كله فيه. قال سحنون: إني لأسأل عن المسألة، فأعرف في أي كتاب وورقة وصفحة وسطر، فما يمنعني عن الجواب فيها إلا كراهة الجرأة بعدي على الفتيا.(4/75)
قال سحنون: وأنا أحفظ مسائل ما فيه ثمانية أقاويل من ثمان أئمة. فكيف يسعني أن أعجل بالجواب، حتى أتخيّر، وهو الأمر في حبس الجواب، أو كما قال، عبد الجبار بن خالد، قال رجل من الطلبة لسحنون: جئت اليوم ولم أسمع منك شيئاً. فقال له: إن كنت في وقت خروجك ممن شيعته الملائكة، فقد سمعت، وإن لم تسمع. وإن كنت ممن لم تشيعه، فلم تسمع، وإن كنت سمعت. قال عيسى: قلت لسحنون تأتيك المسائل مشهورة مفهومة، فتأبى الجواب فيها. فقال سحنون: سرعة الجواب بالصواب أشد فتنة من فتنة المال. قال يحيى بن عمر: لما قدمت إلى سحنون فسألت عنه، فقيل لي خرج إلى البادية، فجئته، فرأيت رجلاً أشعر عليه جبة صوف ومنديل، وهو متول حرثه وشأنه، فاستصغرته وندمت على تركي من تركت بالمشرق، ومجيئي إليه. وقلت ما أراه يحفظ
شيئاً من العلم. فرحب بي. فلما جالسته في العلم رأيت بحراً لا تكدره الدلاء، والله العظيم، ما رأيت مثله قط. كأنما جمع العلم عينيه في صدره. اً من العلم. فرحب بي. فلما جالسته في العلم رأيت بحراً لا تكدره الدلاء، والله العظيم، ما رأيت مثله قط. كأنما جمع العلم عينيه في صدره.
قال سحنون: ما أقبح بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد فيه. فيسأل عنه، فيقال: هو عند الأمير، هو عند الوزير، هو عند القاضي، فإن هذا وشبهه شرٌّ من علماء بني إسرائيل. وبلغني إنهم يحدثونهم من الرخص ما يحبون، مما ليس عليه العمل، ويتركون ما عليه العمل، وفيه النجاة، لهم، كراهة أن يشتغلوهم. ولعمري لو فعلوا ذلك لنجوا، ووجب أجرهم على الله، فوالله لقد ابتليت بهذا القضاء، وبهم. ووالله ما أكلت لهم القمة، ولا شربت لهم شربة، ولا لبست لهم ثوباً، ولا ركبت لهم دابة،(4/76)
وما أخذت لهم صلة. وإني لأدخل عليه، فأكلمهم بالتشديد، وما عليه العمل وفيه النجاة. ثم أخرج عنهم، فأحاسب نفسي، فأجد عليّ الدرك مع ما ألقاهم به في الشدة والغلظة، وكثرة مخالفتي هواهم، ووعظي لهم. فوددت أن أنجو مما دخلت فيه كفافاً. وقيل له: إن يعقوب بن المضار لا يحبك فقال: الحمد لله، الذي لم يجمع حبي وبغض أبي بكر وعمر في قلب واحد قال سليمان بن سالم: رأيت سحنون إذا قرىء عليه الكتاب الجهاد لابن وهب. وكتاب الزهري، يبكي حتى تسيل دموعه على لحيته. وقال مرة لرجل: اقرأ علي: ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة ... فقرأها. فلما بلغ: فستذكرون ما أقول لكم ... قال: حسبك. وهو يبكي. قال بعضهم: خرج سحنون وابن رشيد وابن الصمادحي إلى المنستير، ومعهم ابن نعيم، قال: نظرت إلى سحنون تسيل دموعه على لحيته. ثم سكت الفتى فقال سحنون: يرتجي أن يرتفع صوته، لو كان من يقول له، له. قال بعضهم: دخلت على سحنون وفي عنقه تسبيح يسبح به. قال حبيب: قال سحنون يتمثل بهذه الأبيات:
كل شيء قد أراه نكراً ... غير وكزا الرمح في ظل الفرس
وقيام في حناديس الدجا ... حارساً للقوم في أقصى الحرس
وحكي الإيباني، عن سحنون، إنه قال في الحديث: فيمن أخاف أهل المدينة، قال: ليس هم سكانها، بل كان من قال بقولهم، حيث كان.(4/77)
قال المؤلف رحمه الله تعالى. أراه والله أعلم فيمن كان على سنتهم وهديهم. وهم جماعة المسلمين. قال ابن وضاح: وكان إنسان يشرب قريباً من سحنون ويغني، ولم يغير عليه، فلما قدمت الأندلس، ابتليت بمثله، فأردت رفع أمره، ثم تذكرت أمر سحنون، فاقتديت به، وصبرت. ثم لقيت سحنون بعد ذلك، فلم أسمع جاره ذلك بعد، فسألته عنه، فقال لي: ماذا حملت منه، ولقد كفانيه الفقر، وها هو مؤذن في المسجد. وكنت أقدر أن أغير عليه، وأكلم السلطان فيه، فخشيت أن يحملني في ديني ما هو أضر مني، فرأيت أن أصبر حتى لا يكون السلطان علي منة. قال إبراهيم بن محمد بن باز: كنت أقرأ كتاب الهبات، من النذور على سحنون. فمرت مسألة في الكتاب كان في جانب كتابي فيها كلام لأصبغ، فقرأته على سحنون. فقال: إيه. فظننت إنه استفادني. فقلت له: قال: أصبغ. فقال: إيه. فأعدت، فنظر إليّ، وقال: من جرأك علي؟ قلت أصلحك الله، كذا هو في حاشية كتابي. وحدثني بها سعيد بن حسان عن أصبغ. فقال لي: تكذب. سعيد بن حسان أعلم الله. يا أهل الأندلس، ما تبالوا عمن تأخذون دينكم. قم والله لا قرأت لكم حرفاً(4/78)
منها. فلما كان بعد أيام، لم نشعر إلا وسحنون واقف على بيتي، عليه فروة وبيده عصا، فقال: السلام عليكم، أي شيء تكتب؟ فرددت عليه السلام وقلت له: أكتب كتاباً من المدونة. فقال لي يا أهل الأندلس: أنا أحبكم لأنكم قوم سنة، وخير. ثم مضى، فجئناه يوماً ثانياً، وكنت أنا القارىء عليه، وأخذتني زكمةٌ فربطت رأسي، وجلست ناحية، فلما اجتمعنا قال: أين ذا؟ قال: اقرأ. فقلت: عرض لي شيء، قال اقرأ كما أقول لك. قال واستأذنه رجل أن يبني قنطرة، يجوز عليها الناس إلى دار سحنون، فأبى سحنون، لأن كسبه كان من بلدان السودان. وكان لا يشرب من المواجل التي يبينها السلاطين تورعاً. ويفتي بجواز ذلك. ويقول: إنما هي حجارة جمعوها، ساق الله إليها الماء. وقال بعض أصحابه: خرج سحنون يوماً على أصحابه للسماع، مغضباً، على وجهه كآبة. إذ جاءه رجل بدوي، وفي رواية غلام له، فساره بشيء، فضحك سحنون. وأمر بالقرآن. ثم قال لأصحابه: إنا أصبنا في عامنا هذا ثمرة كثيرة، وزرعاً، ولم أصب بمصيبة. فخفت أن أكون سقطت من عين الله تعالى. وإن هذا جاء فأخبرني أن أجود جمالي مات؟ فسررت بذلك وعرفت أن الله ذكرني. ويخلف ما ذهب. وأهلك الريح مائة وخمسين شجرة. قال أحمد بن أبي سليمان: كان العلماء يأكلون طعام علي بن حميد الوزير، خلا سحنون وولده. فلم يكن يأتيهم، ولا يأكل طعامهم. ورغبوا إليه في تحرك ولده، فقال أخشي أن أعودِّهم عادةً.(4/79)
قال أحمد بن سليمان: كنا يوماً جلوساً عنده، إذ جاء غلام بدرهم ونصف فضة، باع له له زيتوناً. فقال: أحمد الله زيتوننا، وغلامنا ودابتنا. ثم رمى بها، وقال لنفسه: يا شقيّة، تدري ممن باعها لك. قال ابن معتب: كان سحنون يتصدق على الرجل الواحد، بالمال الذي تجب فيه الزكاة. الثلاثين ديناراً، أو أكثر. قال عبد الله بن سعيد الصائغ: دفع سحنون يوماً لرجل صرّة دنانير، وهو في بيته. ثم قال له: اذهب، فأول من تلقاه ادفعها إليه. فجعل الرجل يتخلل الأزقة إذ برجل عليه ثوب أبيض وتحته شيء يحمله، فدفع إليه الصرّة، فلما أخذها ألقى الذي بيده. وقال: هي ميتة، كانت لنا حلاً فحرمت الآن علينا. فكانت فراسة من سحنون. قال حمديس: دخلت عليه يوماً، وهو يأكل خبزاً، يبله في الماء ويغطسه في الملح، فقال: أما أني لم أكله زهادة في الدنيا، ولكن لئلا أحتاج إلى هؤلاء، فأهون عليهم. ثم صاح بجارية، فأتت بصرة فيها عشرون ديناراً. فقال: ادفعه لثلاثة رجال صالحين، ممن يسكن عندكم، فإن لم تجد ثلاثة، فإلى اثنين فإن لم تجدهما، فإلى واحد. قال العنبري: كانت غلة سحنون في زيتونه، خمسمائة دينار في السنة. فما تنقضي السنة إلا والديون عليه لكثرة صدقته ومعروفه.
فصول في حكمه وكلامه
كان سحنون، يقول: ليس للأمور بصاحب، من لم ينظر لها في العواقب، وكان يقول: ترك الحلال لله أفضل من أخذه. وترك الحلال لله، أفضل من أخذه وإنفاقه، في طاعة الله. وقال: ترك دانق مما حرم الله، أفضل من سبعين ألف حجة، تتبعها سبعون ألف عمرة، مبرورة متقبلة، وأفضل من سبعين ألف فرس، في سبيل(4/80)
الله، بزادها وسلاحها. ومن سبعين ألف بدنة يهديها إلى بيت الله العتيق، وأفضل من عتق ألف رقبة مؤمنة من ولد إسماعيل. فبلغ كلامه هذا لعبد الجبار بن خالد، فقال: نعم. وأفضل من ملء الأرض إلى عنان السماء ذهباً أو فضة، كسبت وأنفقت في سبيل الله. لا يرد بها إلا وجه الله. وكان سحنون يقول: مثل العلم القليل، في الرجل الصالح، مثل العين العذبة في الأرض العذبة، يزرع عليها صاحبها ما ينتفع به. وكان يقول: انظر أبداً الأمرين، يكون فيها الثواب، فأثقلهما عليك، هو أفضل. وكان يقول: كلّ دابة، تعمل على الشبع إلا ابن آدم، إذا شبع رقد. وقد قال مالك: ألا أدلكم على درّ، بلا ثمن؟ قيل: وما هو؟ قال: هو صر الجوع في كمك. وكان سحنون إذا ضاق عليه أمر، يقول: ضيقي تنفرجي يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين. وكان سحنون يقول: من لم يعمل بعلمه، لم ينفعه العلم. وروى عنه عيسى ابن أيوب، أنه قال: إذ تردد على القاضي ثلاث مرارٍ بلا حاجة، فلا تجوز شهادته. وكان سحنون يقول: من لم يعمل بعلمه، لم ينفعه العلم، بل يضره. وإنما العلم نور يضعه الله تعالى في القلوب. فإذا عمل به نوّر الله قلبه. وإن لم يعمل به، وأحب الدنيا، أعمى حبٌّ الدنيا عليه. ولم ينوّره العلم، وكان سحنون إذا رأى إعراض الجهال عن العلماء يقول:(4/81)
لمنزلة الفقيه من السفيه ... كمنزلة السفيه من الفقيه
فهذا زاهد في رأي هذا ... وهذا فيه أزهد منه فيه
باب ذكر كرمه وجوده
قال محمد بن عبد الله الرعيني: لما سرت إلى الغزو إلى صفاقس مع سحنون فتح لنا مطمورة شعير، لعلف دوابنا، فما كنا نأخذ منها بكيل، سماحة منه في ذات الله. قال غيره: وفدى سحنون يومئذ أسارى المسلمين، وظن أن الأمير يعطيه ما فداهم به. وأخذ سحنون الأموال التي فداهم بها سلفاً. فلما قدم على الأمير أبى أن يعطيه الفدى، فألزم سحنون الأسارى. فأمروا به. وقال لهم: قد كنتم عبيداً للعدو، ولا تملكون من أموالكم ولا تأمنون الفتنة على دينكم، فمن أعطى تركته، ومن أبى حبسته. قال أبو داود القطان: باع سحنون زيتوناً له، بنحو ثلاثمائة دينار، ودفع ذلك إليّ، فكان يبعث إليّ البطائق يتصدق من ذلك المال، إلى أن نفد، فأتيته بتلك البطائق ليحاسبني عليها، فقال لي: بقي من المال شيء؟ فقلت: لا. فرمى البطائق، ولم يحاسبني عليها، فقال لي: بقي من المال شيء؟ فقلت: لا. فرمى البطائق، ولم يحاسبني. وقال: إذا فرغ المال فلم أحاسبك؟ قال حمديس: ماتت لأبي خادم ثمنها ثمانية وعشرون ديناراً، فعرض علي سحنون ثمنها لأشتري لأبي منه خادماً، فقلت: أنا عن هذا غني. وحكى المالكي عن الجزري، قال: بينما أنا عند سحنون، إذ أتاه رجل، فسأله عن مسألتين أو ثلاثة، ثم قال: ما اليوم وما غد وما بعد غد.(4/82)
فقال له سحنون مجيباً: اليوم عمل وغداً حساب وما بعد غد جزاء. فلما ولَّى تبعته، حتى دخل المقبرة. فلما خفت فواته، قلت له: بالله قف لي.
فقال: ما تريد، أنا رجل من الجانّ، كنت أغشى مجلس أبي سعيد أسأله عن مسائل، فقد حرمتني المسائل، ثم غاب عني، فخطر لي الخروج إلى الحج، فبينا أنا في الطواف إذ جبن بثوبي من ورائي، فالتفت فإذا بالجنيّ، فسلم عليّ وأخبرني بخير من خلقته. ثم قال لي: رأيت الطلبة، يختلفون إلى شيخ، فمضيت إلى الرجل معه، فلما أشرفنا على الجماعة، جبنني الجني بثوبي، وقد تغير لونه وقال لي: هذا إبليس، والله لو رآني لقتلني. قلت له: فما العمل؟ قال: ارجع فالطمه للرأس، وقل له: يا لعين، يا ملعون. إيش أتى بك ها هنا؟ ففعلت. فاضمحل حتى صار مثل الدخان وأخبرت الطلبة بالقصة، فعجبوا وخرقوا ما كتبوا عنه. وحكى ابن اللباد هذه الحكاية وزاد في أولها: كان فتى يغشى مجلس سحنون، ذا سكينة وصمت، لا يتكلم. فإذا كان آخر المجلس، سأله عن ثلاث مسائل أو أربعة أو نحوها. ويستغرب لا يعرفه أحد من الطلبة، فشغل أحد الطلبة نفسه به، وأتبعه حتى خرج، وذكر الحكاية، وفيها زيادة ألفاظ، وفيها: وها هنا قوم من صالحي الجن فهم يرسلونني أسأل عنهم، عن دينهم وما يحتاجون إليه. فقد قطعت حظهم من ذلك.(4/83)
وفيها إنه أخبره حين لقيه في الطواف بحال أهله، وولده. وقال له: عهدي بهم بالأمس. فقال له: ها هنا شيطان قد تمثل في صورة شيخ، وحوله جمع يكتبون عنه، فإذا جئته فلا تهبه، وارفع العصا عليه. وذكر تمام الخبر بمعناه. قال القاضي أبو الفضل عياض رضي الله تعالى عنه: وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود: إن الشيطان يتمثل في صورة الرجل، فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب، فينصرفون عنه، فيقول الرجل منهم، سمعت رجلاً أعرف وجهه، ولا أدري من هو، وفيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: إن في البحر شياطين مسجونة، أوثقها سليمان عليه السلام. يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآناً. وحكى أبو الحسن القابسي قال: أتى رجل إلى سحنون فجلس، حتى انصرف الناس، فأخذ في البكاء. فسأله سحنون عن سبب ذلك، فذكر له: إنه رأى أمراً استعظمه، فلم يزل به حتى ذكر له، إنه رأى كأن القيامة قد قامت، وحشر الناس، وأتى سحنون فرأى إنه ألقي في النار، بعد أن لقي من الأغلال والنكال أمراً عظيماً، فصبّره سحنون، فأرسل في رؤساء كنيسة النصارى، فجاء إليه منهم اثنان، فسألهم هل مات لكم ميت ممن تعظمونه؟ قالوا: نعم. قال: أفرأيتم له شيئاً؟ قالوا: نعم رؤى كثيرة، ووصفوا فيها من الخير والترفيع،(4/84)
ثم صرفها وقال للرجل: هل تشك أن هؤلاء وميتهم من أهل النار؟ قال: لا. فقال له: إن الشيطان يأتي للمؤمن، بما يثبّطه عن الخير، ويمقت له أهله، ويأتي إلى الكفار بما يغبط إليه حاله ويثبته على كفره، وقد رآك تختلف إلينا فأراد أن يضرك. ورأى سحنون الناس يقبّلون يدا ابن الأغلب، فقال له: لا تعطيهم يدك. لو كان هذا يقرّبك من الجنة ما سبقونا إليه. وستأتي مثل هذه الحكاية في إخبار ابن وضاح إن شاء الله تعالى.
؟؟؟
ذكر وفاة سحنون رحمه الله تعالى ومرائي رؤيت له
لم يختلف أن سحنون توفي في رجب، سنة أربعين ومائتين. قال أبو علي: يوم الأحد قبيل نصف النهار، لثلاث خلون منه. وقال غيره: لسبع خلون منه، ودفن في يومه وصلى عليه الأمير محمد بن الأغلب، ووجه إليه بكفن وحنوط، فاحتال ابنه محمد حتى كفّن في غيره. وتصدق بذلك، واستعفى رجال ابن الأغلب من الصلاة عليه. وقالوا: قد علمت ما بيننا وبينه، وأنه يكفرنا ونكفره، لأن أكثرهم كانوا معتزلة، وإنما خرجنا طاعة لك، فإن صلينا عليه رأى الناس أنا رضينا حاله، فأعفاهم. فتقدم فصلى في عبيد، وعامة أهل السنة، وجماعة من المسلمين، وكان سنة يوم مات ثمانون سنة.(4/85)
؟؟؟؟
مولده
سنة ستين ومائة. ويقال إحدى وستين. وقال له رجل: يا أبا سعيد، الناس يقولون إنك دعوت الله أن لا يبلغك سنة أربعين ومائتين. فقال: ما فعلت، ولكن الناس يقولونه. وما أرى أجلي إلا فيها. قال أبو بكر المالكي: لما مات سحنون، رجتّ القيروان لموته، وحزن له الناس. قال سليمان بن سالم: لقد رأيت يوم مات سحنون، مشائخ من أهل الأندلس يبكون ويضربون خدودهم، كالنساء. يقولون يا أبا سعيد، ليتنا تزوّدنا منك نظرة، نرجع بها إلى بلدنا. قال بعضهم لأبي بكر الحضرمي: رأيت في نومي رجلاً صعد إلى سماء الدنيا، ثم من سماء إلى سماء، حتى صار تحت العرش. فقال ينبغي أن يكون هذا سحنون. فقال الرائي: هو ذاك. وقيل: إنّ الرائي رأى الحضرمي في النوم، فسأله عنها. ففسرها له بمثل ما ذكرنا. وفي أولها: رأيت باباً فُتح في السماء، ونودي بسحنون فأتي به، فصعد. وقال، آخر: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مقبوراً، والناس يجعلون على قبره التراب، وسحنون ينبشه. فقال: قل لسحنون هم يدفنون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تحييها. قال عيسى بن مسكين: رأينا في المنام كان سحنون يبني الكعبة، فغدوت عليه فوجدته يقرأ للناس كتاب مختصر المناسك، له.(4/86)
قال عبد الله بن الخشّاب الأندلسي، وكان ثقة: رأيت في المنام النبي صلى الله عليه وسلم، يمشي في طريق، وأبو بكر خلفه، وعمر خلف أبي بكر، ومالك خلف عمر، وسحنون خلف مالك، قال ابن وضاح: فذكرتها لسحنون فسر بذلك. وقال غيره: رأيت سحنون في النوم بيده لواء قد بلغ السماء وقد امتلأ الفضاء فراشاً، فكنت أسأل بعض الحضور، فيقال لي: هذا لواء محمد، وهذا الفراش ملائكة. وذكر ابن الحارث: إن رجلاً من أهل طرابلس، كان على بدعة، وفي رواية كان يقرأ كتب أهل العراق، فرأى في النوم كأنه في ماء قد غرق فيه إلى الذقن، ويكاد مع ذلك أن يموت عطشاً، ولا يقدر على الشرب. وفي رواية فإذا شرب صار فيه دماً. فأتاه في تلك الحال، رجل، فسقاه حتى روى. قال فانتبهت وبقيت صورة ذلك الرجل في نفسي، فجعلت أمشي في البلدان وأتأمل في وجوه الناس، لعلي أرى تلك الصفة، حتى رأيت سحنون فعرفته بتلك الصفة، فصحبته وتركت مذهبي، وصرت إلى مذهبه. قال ابن حارث: أقام سؤود العلم في دار سحنون، نحو مائة عام وثلاثين عاماً، من ابتداء طلب سحنون وأخيه، إلى موت ابن أبنه محمد بن محمد بن سحنون. قال أبو الأحوص المتعبد: رأيته في المنام وقد تهيأ للخروج إلى المصلى مع ابنه محمد، فأتيته بثوب أبيض، فقال لي: أما علمت أنا لا نقبل الهدية. فقلت: ليس بهدية، ولكن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أدفعه إليك.(4/87)
قال لي وأين رسول الله؟ فقلت له: ها هنا، حابس. فما قام سحنون إلا يسيراً، حتى مات. ورأى بعض المتعبدين قائلاً يقول: من أراد أن يشرب من ماء الحيوان فليسمع من سحنون. قال ابن أبي سليمان: رأيت في شأن سحنون، قبل موته، رؤيا فقصصتها على معبر يقال له ابن عياض، فقال: هذا رجل يموت على السنّة، ورثاه عبد الملك الهذلي بقوله كذا ورثاه أيضاً عبد الملك بن فطرن بقصيدة أولها:
من يبصر البرق فوق الأفق قد لمعا ... لمّا تسربل ثوب الليل وادّرعا
ولّى لعمري بأرض الغرب قاطبة ... ميت له البدو والحضار قد خشعا
لله أنت إذا ما هاب فاصلة ... من القضاء بكيل الحد فارتدعا
هناك برِّزت يا سحنون منفرداً ... كسابق الخيل لما بان فانقطعا
؟ فاذهب فقيداً حباك الله جنته واحصد من الخير ما قد كنت مزدرعا(4/88)
؟؟؟
عون بن يوسف الخزاعي أبو محمد
من أهل القيروان. قال أبو العرب: كان أسن من سحنون بعشر سنين. قال: وقدمت المدينة سنة ثمان ومائة بعد موت مالك بسنة. فأدركت بها أربعين رجلاً من معلمي ابن وهب منهم عبد الرحمان بن زيد بن أسلم وسمع من المفضل بن فضالة وابن وهب وابن غانم والبهلول وغيرهم. سمع منه ابنه، وبكر بن حماد، وابن طالب، وسليمان بن سالم، وجماعة من أصحاب سحنون وغيرهم. وقال الشيرازي: وبابن وهب تفقه. قال أبو بكر ابن حماد: لما فرغت بقراءة كتب ابن وهب، على عون، قلت يا أبا محمد: ثم قال لي: والله ما أحب أن يعذب الله أحداً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالنار. أبطل الله سعيه وصومه وصلاته، وسائر عمله، إن كنت أخذتها من ابن وهب شيئاً إلا قراءة قرأتها عليه. وقرأ هو عليّ، ولو كانت إجازة، نقلت إجازة. ولقد حضرت ابن وهب، فأتاه رجل يلتمس، فقال: يا أبا محمد، هذه كتبك. فقال له ابن وهب: صحت وقوبلت؟ فقال له: اذهب فحدث بها. فقد أجزتها لك. فإني حضرت مالكاً فعل ذلك. قلت يا أبا محمد، وكتاب الأهوال سمعته منه؟(4/89)
قال: لا. حدثني به رجل عنه؟ وكان عون يفرق بين السماع والإجازة. فيقول في السماع حدثنا وفي الإجازة أخبرنا.
ذكر فضله وثناء العلماء عليه
كان إبراهيم بن محمد بن بان، يفضل عون بن يوسف ويذكر دينه، وكان ابن وضاح يفضله. وكان سحنون يقع فيه، ويعيف الأخذ عنه، ويقول: لم يسمع من ابن وهب، وإنما أخذ عنه إجازة.
قال ابن وضاح: كان عون الله خيراً منه، وأتقى لله. قال أبو العرب: كان عون، رجلاً صالحاً، ثقة مأموناً. وكان أحمد بن خالد يعجب به. وكان يبيع الكتان في حانوت ومعه حبة شعير، إذا أعطى الدراهم، جعلها مع المثقال، وإذا أخذها جعلها مع الدراهم. حتى يعطي زائداً بجة ويأخذ ناقصاً بحبة. وكانت عنده قفة تين، إذا جاءه السائل أعطاه تينتين، لا يزيد عليهما ولا يرد سائلاً. وحكى أبو مروان بن مالك الفقيه عنه، إنه قال: كنت أجهر بالقراءة في الليل، فسمعت قراءة جار لي من الجن يقرأ معي في سورة الرعد، وكان ما بينه وبين سحنون فاسداً، وكان الوالي يكره سحنون ويدس من يرفع عليه، فقيل له ما بينه وبين عون، وقد أضرّ به سحنون، فطمع أن يجد السبيل بشهادة عون عليه، فأرسل في عون، فسأله عن سحنون وما يتردد عليه من الشكاية به.(4/90)
فقال عون: سبحان الله، مثلي يكشف أو يسأل عن سحنون. والله إن سحنون لأفضل أو أخير من أن يسأل مثلي عنه. فزاده ذلك شرفاً. فاندفعوا عنه. قال ابن وضاح: لو لم يكن له غير هذه، وكان يقول: والله إني لأحب أن ألقى الله وأنا طالب، ويقول الخلائق كلهم أعداء بني آدم، والخلائق وبنو آدم كلهم أعداء المسلمين، وجميعهم أعداء أهل السنة. وكان يعود الأصدقاء، ويتعاهدهم، ويعود المرضى. قال ابن حارث: نزلت نزلة أحضر لها ابن الأغلب فقهاء القيروان، فتقدم عون فقال له ابن الأغلب: تقدم يا أبا محمد، فلك السبق والجلالة. ألم يقل مالك كذا؟ ألم يقل؟ وهو يقول: نعم. وحكى عون عن أبي محمد الضرير، قال لي جار من الجن جزاه الله عني خيراً: إني لا أقوم من الليل أقرأ فيسايرني بالقراءة. قال سحنون: وأنا أجد ذلك آخر الليل. قال بعضهم: كان عون شديداً على أهل البدع، قائماً بالسنّة. قال سليمان بن سالم: كنت جالساً عنده إذ جاءه ثلاثة رجال فأخبره أن رجلاً مات عندهم، يقول بخلق القرآن. فقال: إن وجدتم من يكفيكم مؤونته، فلا تقربوه. فسكتوا. ثم سألوه ثلاثاً. قال ذلك، يجيبهم بمثله، فقالوا: لا نجد. قال اذهبوا فواروه من اجل التوحيد(4/91)
؟؟؟
وفاته
ومات يوم الأحد ثاني جمادى الأولى، سنة تسع وثلاثين ومائتين، قبل وفاة سحنون بنحو عام، على ما قاله العرب. وذكر ابن الجزار وابن يونس، أن وفاته كانت سنة أربعين، قال أبو العرب: ومولده سنة سبع وأربعين ومائة. وقال الآخر سنة خمسين. وأوصى عون ابنه يحيى أن يصلي عليه، فإن سحنون يزعم أني كذاب لم أسمع من ابن وهب. فلما قدم للصلاة، تقدم سحنون ليصلي عليه، فتقدم ابنه يحيى، وقال له أوصى أن لا يصلي عليه غيري، فضرب سحنون رأسه بالسوط وصلى عليه ظهراً. قال سليمان بن سالم: ابتدأنا القراءة على سحنون يوم مات عون بيسير. فقال سحنون للقارىء: ما أفهم عنك ما تقرأ انصرفوا. وظهر عليه الحزن، ورأت امرأة بيسير من موته كأن القيامة قامت، وحشر الناس، وقد جيء بثلاثة أفراس بسرجها ولجمها، مكللة بأنواع الجوهر. ويقال: هذه لسليمان المؤذن المقتول غدا، شهيداً. ثم يؤتى بخمسة وصفها بأحسن من الأولى، فيقال هذه لعون. فأقول: هذا شهيد له ثلاثة، ولعون خمسة، فيقال فضل عليه بالعلم. وأعلمت بذلك عوناً. فبكى وقال: لو أن لي دنيا، تصدقت بها شكراً لله تعالى، لهذه الرؤيا. وما أملك إلا هذين الثوبين اللذين علي.(4/92)
//الجزء الثاني
أبو جعفر موسى بن معاوية الصمادحي
مولى آل جعفر بن أبي طالب. قال ابن أبي دليم رحمه الله تعالى: يقال معاوية ابن أحمد بن عون بن معاوية بن عبد الله بن أبي طالب. ويقال إن عون ابن عبد الله، أودع جارية له مالاً، فجحدته، فأخرجها الى غلام له اسمه صمادح، فقدم بها الى إفريقية وهي حامل من عون، فيما يقال. فقال الناس أبو جعفر على هذا؟ والله أعلم. فاستوطن القيروان. وقال ابن اللباد عن شيوخه: إن معاوية بن عون بن عبد الله بن جعفر قدم على عبد العزيز بن مروان فوصله، واتخذ عنده جارية فأولدها ولداً، سماه عوناً، فمات. فغيبت المال وتزوجت غلاماً له، يقال له الصمادحي. فقدم بها إفريقية واشترى له غلاماً وصياغاً كثيرة. فعرف بالصمادحي. قال: ويقال إن موسى بن معاوية ابن الفضل بن عون بن عبد الله بن جعفر، رحل موسى من إفريقية في طلب العلم، في رجب سنة أربع وثمانين ومائة، وانصرف الى القيروان سنة تسع وثمانين.
ثناء العلماء عليه وفضله
قال أبو العرب: وكان على فقهه مأموناً عالماً بالحديث والفقه، كثير الأخذ عن رجاله المدنيين، والكوفيين والبصريين، وغيرهم. سمع من وكيع ابن الجراح، والفضل بن عياض، وعلي بن مهدي، وطبقتهم، وجرير بن عبد الله، وأبي معونة الضرير، وسمع من ابن القاسم وغيره. سمع منه سحنون وعامة أهل إفريقية، وسمع منه ابن وضاح، وأحمد بن يزيد القرشي،(4/93)
وعمي بعد قدومه من المشرق بيسير.
ثم أصابه الفالج. قال أبو الحسن الكوفي: لم يكن في إفريقية محدث، إلا موسى بن معاوية، وعباس الفارسي، قال مغيث: قلت لسحنون إن موسى جلس يفتي في الجامع، فقال: ما جلس في الجامع منذ ثلاثين سنة أحق بالفتوى منه. وكان سحنون يجله ويعظمه ويوفي حقه في العلم ويقدمه بين يديه في المجالس. قال: قرأت عن سحنون كنا برابطة المنستير في جماعة فكان موسى أطولهم صلاة وأدومهم عليها. فإذا كانت ليلة سبعة وعشرين من رمضان، طبقها من أولها الى آخرها. فإذا أصبح، قال: توجهوا بنا الى القيروان، فنقول له: أقم نتعبدها هنا. فيقول: كان النبي عليه السلام يجهد في العشر الأواخر، فإذا مضت ليلة سبعة وعشرين دبت فيه الفترة. قال سحنون: فلا نجد بداً من مساعدته. قال ابن أبي دليم: والأغلب عليه الحديث والرواية. وكان من أهل الورع والدين منابياً لأهل البدع. وذكره بعض، فقال: فيه بعض فقه مع كره الرواية. فقال هذا الصمادحي، عرضت له مسألة في حمار فما عرف ما يجب له حتى استفتى. قال فرات حضرة الأمير، زيادة الله. سئل الصمادحي، عن عمود في مسجد خرب، أراد تحويله الى الجامع. فقال: لا تحركه من موضعه يحتج له قال أبو الفضل ابن حميد: كنا نسمع من الصمادحي وقد كف فاستسقى فجئنا الى الماجل فإذا فيه ماء قليل، وفأر كبير، فأعلمناه. فقال: اروني منه نشمه، فلم يجد له رائحة. فقال: كيف ترون الماء؟ فقلت: صافياً. فشرب منه وشربنا، وتوضأ وتوضأنا. وتوفي ليوم الإثنين يقين من ذي القعدة سنة خمس، وقيل سنة ست وعشرين ومائتين، وسنّه خمس وستون سنة. قال ابن سحنون في تاريخه: ويقال أربع وستون. بعد أن أصابه ريح أبطله. فكان كالخشبة الملقاة. مولده فيما ذكر أبو العرب، مولد سحنون: بينهما ليلة. وقيل سنة. وكان موسى إذا رأى تقديم سحنون له، يقول: ما ترك علينا تلك الليلة. يريد أن بسببها. كان يجله سحنون، وأما أبوه معاوية، فله سماع من الثوري وابن أنعم، وحنظلة بن أبي سفيان. وكان معدوداً في شيوخ إفريقية. روى عنه ابنه وسحنون وأبو داود العطار، وكان ثقة ورمي برأي الصفرية، ولعله لا يصح عنه. توفي معاوية والد موسى سنة تسع وتسعين ومائة.
بقية أخباره رحمه الله
ولقي موسى محمد بن الحسن، فلم يأخذ عنه. فسئل عن ذلك، فقال: لو ملأ لي مسجدي هذا ذهباً ما سمعت منه حرفاً. وذكر أنه بلغه عنه شيء من مخالفة السنة، وامتحنه ابن أبي الجواد قاضي القيروان، وكان معتزلياً، فسأله عن القرآن. فقال موسى: سمعت فلاناً وفلاناً وذكر جماعة من أهل العلم، يقولون لمن قال القرآن مخلوق فهو كافر.(4/94)
فقال له ابن أبي الجواد: لقد أعمى الله قلبك، كما أعمى بصرك. وكان موسى إذ ذاك قد كفّ بصره. وكان موسى إذا نزل عنده اسماعيل بن رباح الزاهد يستجد له الطعام، فلا يأكل منه إسماعيل شيئاً. فيذهب موسى الى السؤال وأهل الطرق، فإذا رآهم إسماعيل كذلك وقرب إليهم موسى الطعام دنا إسماعيل، فأكل معهم، وألف موسى بن معاوية كتاب الزهد، وكتاب مواعظ الحسن(4/95)
محمد بن رشيد مولى عبد السلام بن مفرج الربعي القائد. وقال المالكي: مولى عمر. كانت رحلته ورحلة سحنون الى الحجاز، والى ابن القاسم واحدة. وكان سماعهما واحداً. وإنما نابه سحنون برجال الشام. لأنه رحل الى الشام دونه. قال سحنون: كان فقيهاً فهماً طويل اللسان، حسن البيان، قال غيره: كان من أهل العلم والفقه، ثقة في نقله. قال أبو سعيد يونس: روى عن سفيان بن عيينة وابن القاسم، وابن وهب.(4/96)
قال ابن حارث: كان ذكياً مصاحباً لسحنون، عند ابن القاسم، وكان ابن القاسم إذا تكلم في العلم أسرع ابن رشيد الى فهمه، وكان إذا فهم شيئاً رسخ في قلبه. قال أبو العرب وكان أهل الأندلس في أول أمره يسمعون منه. فيأتونه أكثر مما كانوا يأتون سحنون. ثم يرخص في المعاملة بالعينة. فأحبه كثير من من الناس. قال أبو العرب: وأما في نقله العلم، فكان ثقة، وكان أبوه رشيداً صقلياً، رجلاً صالحاً. فرأى في منامه كأنه أتى مسجد الجامع، فبال في محرابه، فقص رؤياه على البهلول بن راشد. فقال له: يخرج من صلبك ولد يكون إماماً. فولد له محمد. وذكر أن الفرج والد اصبغ رأى مثلها قال ابن حبيب: لما مات ابن رشيد، كره سحنون أن ينظر في تركته، وأمرني وأيوب فيها. فمات محمد وسحنون قاض، فيما قاله أبو العرب. وذكر ابن الجزار أنه توفي سنة إحدى وعشرين ومائتين. وغلط ابن حارث هذا القول ولم يسم قائله. قال: والصواب ما رواه أبو العرب. وقال ابن يونس توفي سنة اثنتين ومائتين، وصوب المالكي هذا. وخطأ ما قاله أبو العرب، وابن حارث. والله أعلم وهو الموفق للصواب لا ربّ غيره ولا معبود سواه.
حماد بن يحيى أبو يحيى السجلماسي
عداده في أهل القيروان. سمع عبد الله بن بكر السهمي وابن الماجشون. وهو أول من قدم بفقه ابن الماجشون القيروان.(4/97)
قال محمد بن أحمد بن تميم: وقد سمع من سحنون، وكان شيخاً صالحاً تاجراً. وكان في كتبه تصحيف كثير، لم يكن يقوم بها. سمع منه عامة أصحاب سحنون، وكان له ابن ابنه حسن، روى عن أبيه، مات قديماً. سمع منه ابن بسطام.
زيد بن بشر بن زيد بن عبد الرحمن الأزدي
صليد أم ابنه، مولده لبني سريح الحضرمي، يجري على أبيه العتق من قبلها. فكان زيد يقر بولائهم، مع صحة نسبه في الأزد. قال الكندي: هذا، ويكنى أبا البشر. أصله من أهل مصر، وعداده في أهل تونس، وبها نزل. قال أبو العرب: وقدم أولاً القيروان، في قضاء سحنون. فأتاه فسلم عليه، ثم لحق بتونس. وكان فقيهاً ثقة مأموناً أديباً مصوناً. سمع زيد بن بشر، من ابن القاسم ومن وهب وأشهب وضمام بن إسماعيل، ويحيى بن سليمان الطائفي، وبشر بن بكر وغيرهم. قال أبو بكر المالكي: كان رجلاً كريم النفس، كثير التواضع، حسن الأدب، وعدّه ابن سفيان فيمن لقي مالكاً. ولا أراه يصح ذلك. قال الكندي: كان في حجر ابن لهيعة، ولم يسمع منه شيئاً.(4/98)
قال: وكان فقيهاً من أكابر أصحاب ابن وهب، وعدّه الشيرازي في فقهاء هذه الطبقة. قال ابن وضاح: وكان ثقة الثقات.
ذكر جمل من أخباره وفضائله
والذي أخرجه الناس حتى سمعوا منه وعرفوا مكانه، محمد بن وضاح. وقال: قال لي سحنون، في زيد بن بشر: تؤجر فيه. وكان من أكرم الناس. انصرف ليلة من الجامع بتونس فانقطع شسع نعله، فوثب إليه حائك من دكان حانوته، فأعطاه شسعاً. فأصلح نعله ونظر في وجه الحائك، الى قنديل معه ليعرفه فيكافيه، فكان بعد ذلك كلما مرّ الى الجامع في جماعة أو منفرداً، مال الى الحائك وسأله عن حاله وسلم وشكر الفعلة. وقيل بل دخل الحمام سحراً وفيه زحمة. فقام له رجل فأجلسه في موضعه. فنظر وجهه الى القنديل، فسأله الرجل عن ذلك. فقال أريد مكافأتك. قال ابن أخي هشام: كان طريق زيد بتونس الى الجامع على الحواريين، فأقبل يوماً على الطلبة إذا شاب من الحواريين، قام على دكانه وقال لجاره: ما رأيت أوحش من هذا الشيخ، ولا أوحش لباساً منه. وكان زيد يلبس المفرح فنكس زيد رأسه، فلما انصرف من الجامع عاوده الفتى، بقبح. فلم يلتفت إليه زيد، وهمّ طلبته بضرب الفتى، فبلغ ذلك زيداً فسألهم عن ذلك. فقالوا: هو كما بلغك أصلحك الله لاستخفافه بحقك، واستهانته علمك. فقال لهم: أعطي لله عهداً، لئن تقدم إليه أحد، لا نعينه، ولا وطئ لي بساطاً. أنا أصلح شأنه.(4/99)
وصرّ في صرة عشرة دراهم، وجعلها في جيبه، واستعمل لفرد نعل قبالاً واهياً، ثم توجه الى الجامع، فلما مر بالشاب قام لعادته وتكلم بقبيح كلام. فلما حاذاه الشيخ اتكأ على نعله فقطع القبال. ثم مال الى الشاب فسلّم عليه، وقال: أي بني لعل عندك قبالاً، فأعطاه قبالاً. فأدخل زيد يده فأخرج الصرة من جيبه ودفعها له. فقال الشاب ما هذا؟ فقال زيد: صنعت لنا قبالاً، فكافيناه، ولك عندنا أمثالها. وسار الى الجامع. فلما كان انصرافه منه، مرّ بالشاب. فقام على قدميه، وقال: الحمد لله الذي خصّ بلدنا بهذا الشيخ الفاضل. اللهم ابقه لنا واحرزه على المسلمين. فلقد انتفع به شبابنا وحظي به شيوخنا. فقال له جار له: ما هذا؟ فقال له الشاب: اسكت، إنه أعطاني عشرة دراهم على إصلاح قباله. فليت له بهذه أخر. وكان سبب خروجه من مصر، الفرار من المحنة في العراق، بعد أن منع من السماع. فخرج سنة اثنتين وثلاثين ومائتين حين ولاية أبي بكر الأصم، ولي قضاء مصر وأخذ الناس بالمحنة. فاختفى زيد في بيته ثم خرج فارّاً. قال ابن سالم: لقيت بالمدينة محمد بن مالك بن أنس، فقلت له: حدثني عن أبيك. فقال: ما أحفظ شيئاً. فقلت له: تذكر. فقال: سمعته يقول: أدركت بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم تقوم فيه طائفة من الناس الى ثلث الليل، ثم تذهب وتأتي أخرى، فتقوم الى الصبح، ثم أخرى قبل هذه تقوم ثلث الليل الآخر.(4/100)
قال زيد: استفتاني رجل في مسألة فأفتيته بقول مالك، ثم أدركني ندم، فقلت: تركت مذهب من هو خير من مالك، زيد بن ثابت وأصابني شيء فغلبني النوم، فرأيت كأني في ظلمة إذ سقيت. فبينما أنا أهوي، إذ لقيتني جارية والتقتني بكفها. فقلت: من أنت؟ قالت: بنت مالك بن أنس. فانتبهت من رطوبة كفها. قال سليمان ابن سالم: كنت عند زيد بن بشر، فسأله سائل عن رجل صلى الظهر، فتذكر في الرابعة سجدة لا يدري من أين هي، فقال له: تأتي بركعة بسجدتيها، وتسجد لسهوة. قال: قال سليمان: فرآني تحركت. فقال: ما بك أصلحك الله؟ أثمّ جواب عن هذا، ثم قال: لعلك تريد جواب ابن القاسم يسجد الآن سجدة بتحرى أن يكون من هذه، ثم تأتي بركعة. قلت: نعم. فقال لي: إني رأيت السائل لا يفطن لمثل هذا. فأتيته بقول أشهب. وتوفي بتونس سنة اثنتين وأربعين ومائتين فيما قاله أبو العرب. وقال الكندي سنة أربعين.
شجرة بن عيسى المعافري أبو شجرة
ويقال أبو زيد، أصله من المغرب سمع ابن زياد وابن أشرس ومن أبي كريمة، وأبيه عيسى. وعداده في أهل تونس. وأبوه عيسى ممن روى عن مالك والليث، وابن لهيعة. وأصله أندلسي. نزل بتونس. قاله الأصيلي عن الابياني.(4/101)
وولي شجرة قضاء تونس أيام سحنون وقبله. قال سحنون: ما رأيت من قضاة البلدان إلا شجرة وشرحبيل قاضي طرابلس. وأخذ عن شجرة جماعة من أصحاب سحنون وغيرهم. وزعم بعضهم أنه ممن سمع من مالك. وسماه شجرة بن عيسى القيرواني. فلعله آخر، والله أعلم. قال أبو العرب: وكان شجرة من خير الفضلاء، وأعلمهم، ثقة عدلاً مأموناً وكان يلبس الثياب الخشنة ويخضب لحيته ويركب الفرس العاري، ويجيد الركوب. وكان كثير المعروف والفضائل وله كتاب في مسائله لسحنون. وعمّر حتى توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. مولده سنة تسع وستين ومائة، وابنه، أبو شجرة عمر. وابن شجرة ولي قضاء تونس. وكان صالحاً ثقة. روى عنه يحيى بن عمر، وقيل ابن قاده: سنة إحدى وثمانين ومائتين في ثورة أهل الأندلس، على ابراهيم بن أحمد، بعد أن حبس. ذكر ابن كدنه أن شجرة خرج يوماً للسماع، فنظر في الناس ولده، فلم يره. فأمر داحة ابنته، أن تحركه للسماع، فمضت ثم رجعت وهو نائم، وكرهت أن تنبهه من نومه فأنشد شجرة يقول:
شرب العشي ويوم بالعدوات ... موكلان بأخلاق المروءات
لا خير فيمن حوت كفاه مكرمة ... فباعها بغنا أو بلذات
ثم قال: اقرأوا رحمكم الله: اللهم لا تفتنا، وعافنا من الغفلات. قال ذلك بيدك.(4/102)
دحنون بن راشد
كان من أصحاب البهلول بن راشد. وكان ثقة من شيوخ إفريقية.
أبو سنان زيد بن سنان الأسدي
قال أبو العرب: كان ثقة. وكان سعيد بن الحداد وسعيد بن إسحق وأحمد بن يزيد يذكرونه بخير كثير. وكان سعيد بن إسحق، يذكر فضله وفقهه. وسمع عبد الرحمن بن القاسم. وكان ابن القاسم قد كتب إليه من مصر أيضاً كتاباً. وسمع سفيان بن عيينة وأبا ضمرة وبهلول بن راشد. ولقي عبد الله بن عبد الحكم، وعنده نزل بمصر، وأدرك أبا معمر صاحب أنس بن مالك، ولم يسمع منه، ولم يسمع من سفيان غير أربعة أحاديث، فيما ذكر. سمع منه أبو عثمان بن الحداد، وسعيد بن إسحق، وسليمان بن سالم وغيرهم. وكان يفتي بالقيروان مع سحنون في أيام قضائه. قال ابن الحداد: ما سمعت الدنيا قط تذكر عنده. وكان خياطاً. وكان يحمل خبزه الى الفرن على يده، ولا يترك طلبته يحملونه تواضعاً. قال المالكي: كان رجلاً صالحاً نبيهاً مأموناً، فقيهاً. قال بعضهم: رأيت البهلول بن راشد في النوم. فقال: جزى الله عني أبا سنان خيراً، فأخبرت بذلك أبا سنان، فقال: رحم الله معلمي، وجزاه خيراً. قال أبو سنان: رأيت عبد الرحمن ابن القاسم مكفناً في النوم، فرفعته في حجري، فرجع فيه الروح، فأخبرت بذلك أسد بن الفرات. فقال لي: سترجع الى علمه. قال عيسى بن مسكين: أتى أبو سنان الى مسجد سفيان بن عيينة، فلم يجده حينئذ ووجد أخاه ابراهيم. فقال له: هلم أحدثك يا مغربي.(4/103)
فقال له أبو سنان: إذاً آن من الأمور أمور نحسات. التقدم عليها هلكة والتأخر عنها هلكة. وقد ولي هذا الرجل القضاء، وقد كان يكره فتياناً قبل أن يصير الى هذا الأمر فأحب أن أسأله إن كان يروي الفتيا على نحو ما كنت أفتي، فعلت. وإن رأى غيره لتركت. فمضى الى سحنون فأخبره. فجعل يقول: كيف قال الخياط؟ من الأمور أمور نحسات، التقدم عنها هلكة، والتأخر عنها هلكة. ثم قال: نعم. مروه يفتي على نحو ما كان. قال سليمان بن سالم: قال لي أبو سنان: إذا كان طالب العلم لا يتعلم أو قبل أن يتعلم مسألة في الدين، يتعلم الوقيعة في الناس، متى يفلح. وكان لا يتكلم أحد في مجلسه بعينه في أحد. فإذا تكلم بذلك نهاه وأسكته. توفي سنة أربع وأربعين ومائتين. مولده سنة خمس وخمسين ومائة. قاله أبو العرب. ودفن بالقيروان وقال ابن يونس المصري: توفي في سوسة والله أعلم.
من أهل الأندلس
عبد الرحمن بن دينار
ذكر الرازي في كتاب الاستيعاب، في أنساب الأندلس. قال: أخبرنا دينار بن واقد الغافقي، أبو أمية، غلبت عليه كنيته. وكان عالماً زاهداً.(4/104)
وذكر عبد الرحمن، فقال: كان فقيهاً عالماً حافظاً يكنى أبا زيد شدور بقرطبة. قال في كتاب آخر: وكانت له رحلات استوطن في إحداها المدينة، وهو الذي أدخل الكتب المعروفة بالمدينة. سمعها منه أخوه عيسى، ثم خرج بها عيسى فعرضها على ابن القاسم. قال: وكان عبد الرحمن، قد أخذه بالأندلس عن محمد بن يحيى السماني، ومن الصغير. ويروي عن محمد بن إبراهيم بن دينار المدني، وغيره. وتوفي يوم الجمعة لسبع خلون من المحرم سنة إحدى ومائتين، ومولده سنة ستين ومائة وكان هو وأخوه يتواليان الى يزيد العتبي، وذكر أن أصلهم من طليطلة. وبنو دينار معروفون بالعلم. قال غيره: هو عبد الرحمن بن دينار بن واقد ورجا بن عامر بن مالك الغافقي وذكر أنه لما لقي ابن القاسم في رحلته الأخرى، وروى عنه سماعه. وعرض عليه المدونة وضمنها أشياء من رأيه، وكان من الحفاظ المتقدمين، والخيار الصالحين. استوطن قرطبة.
عيسى بن دينار وأخوه
قال ابن الفرضي: سكن قرطبة، ويكنى أبا محمد، ورحل فسمع ابن القاسم وصحبه وعول عليه، وانصرف الى الأندلس. وكانت(4/105)
الفتيا تدور عليه. لا يتقدمه في وقته أحد بقرطبة. وكانت له بها رئاسة. وذلك بعد انصرافه من المشرق. وقال ابن أبي دليم: كان ابن القاسم يعظمه ويجله ويصفه بالفقه والورع. وكان لا يعد في الأندلس أفقه منه في نظرائه. وقال الرازي: كان عيسى عالماً زاهداً مفتياً. حج حجات. وولي قضاء طليطلة للحكم والشورى بقرطبة. وقال محمد بن عبد الملك بن أيمن: كان عيسى عالماً مفتياً. وهو الذي علم أهل مصرنا المسائل. وكان أفقه من يحيى بن يحيى على جلالة قدر يحيى. وقال ابن مزين وابن لبابه: فقيه الأندلس عيسى. قال أبو عمر الصدفي: هو من أهل الفضل والفقه التام. قال ابن حارث: كان عيسى فقيهاً بارعاً غير مدافع، ومن مقدمي العلماء بالأندلس. خيراً فاضلاً عابداً ناسكاً ورعاً من أهل العلم والورع الحسبة. قال أصبغ بن خليل: كان مجاب الدعوة. مضت له أعوام صلى فيها الصبح بوضوء العتمة. يقول: وما قاله مخبراً: والله الذي لا إله إلا هو، ما كتب بيني وبين مخلوق ذنب، في ظلم، أو سئل عليه هوى أو اعتقاد سوء. منذ ألبسني الله العلم عن تعمده. قال أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم: خرجت الى المشرق، ومعي كتاب البيوع من سماع عيسى، فأريته ابن الماجشون، وقرأته عليه فصلاً، فصلاً. فكان لا يمر بفصل إلا قال: أحسن والله عيسى. هذا، وقوله من سماع عيسى، وهم. فليس في سماع عيسى كتاب بيوع معينة، ولا غيرها. وإنما هو مختلط. وإنما كتاب البيوع من تأليف عيسى(4/106)
من كتاب الهدية. وهو الذي يدل عليه ثناء عبد الملك، إذ إنما بنى على فقهه، وبالغه لأسماعه. وقال الشيرازي عنه: إنه صلى الصبح بوضوء العتمة أربعين سنة. وسمعه ابن القاسم عند انصرافه عنه، بثلاثة فراسخ فعوتب على ذلك. فقال: يلومونني أن سمعت رجلاً لم يخلف بعده أفقه منه، ولا أورع ووصاه ابن القاسم عند ذلك. وقال له: عليك بأعظم مدائن الأندلس، فأنزلها. ولا تنزل منزلاً يضيع فيه ما حملت من العلم. وقال ابن القاسم: أتانا عيسى، فسألنا سؤال عالم. قال أصبغ بن خليل: وهو أول من أدخل الأندلس رأي ابن القاسم. قال غيره: وكان أكبر الفقهاء بالأندلس، قبل رحلته على أخيه عبد الرحمن. قال ابن الفرضي: وكان عيسى عابداً فاضلاً ورعاً. كانوا يرون أنه مستجاب الدعوة. وكان يبلغ بلده طليطلة بها توفي سنة اثنتي عشرة ومائتين، وقبره هناك مشهور. وقال غيره: توفي منصرفه عن طليطلة، وكان لحقته محنة الهيج ومبتدأ فتنة الربض بقرطبة. ففر واستخفى، الى أن أمنه الأمير الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية. وامتحن أيضاً أول وصوله من الشرق الى بلده طليطلة بميل الناس إليه حتى شرف مكانه القاضي والوالي. وكتب الى الأمير عنده رجل يعرف بابن دينار ورفعوا علي. فوجه الأمير الحكم فيه، وسجن بقرطبة نحو عام، الى أن علم الأمير به، أنه عيسى، ومكانه من الناس باختلاف أهل العلم للسجن، فأطلقه وأحضره واعتذر إليه. فقال عيسى: هذا ذنب عجلت عقوبته لي، وأخبره بوصية ابن القاسم له ونهيه إياه عن(4/107)
سكنى طليطلة، لما وصفها له، وأنه أمره أن يسكن دار السلطان، فلم يأخذ بوصيته. فعوقب بسكنى قرطبة، وأغرب أهل تاريخ الأندلس وهو عبد الملك بن عبد البر في شأن عيسى، بأن جعله رحل الى مالك وعده مع زياد ويحيى بن مضر وقرعوس بن العباس، قال: فأما زياد فسمع منه الموطأ، وأما يحيى وعيسى وقرعوس فلم يبلغنا أنهم سمعوا منه الموطأ. ولا ندري ما الذي منعهم منه، إلا أن نظن أن لقاهم كان قبل تكلمه وتخرجه فانصرفوا كلهم إلا عيسى، فإنه بقي بعدهم بالمشرق، ولزم عبد الرحمن بن القاسم، فأخذ عنه سماعه في الرأي عن مالك. فجمع علماً عظيماً. ثم قال: فانتشر به وبيحيى علم مالك بالأندلس، ورجعت الفتيا بالأندلس الى رأيه. قال القاضي أبو الفضل رحمه الله. لم يذكر أحد من أصحاب علم الرجال والأثر سماعاً لعيسى بن مالك. ولا أثبتوه. ولا روى أحد الفقهاء وعلماء الرأي والمسائل له مقالاً، عن مالك. ولا رفعوا له عنه فتيا. وعيسى في شهرته لا يخفى مثل هذا من فضائله. ويعد أول مناقبه، كما عد لغيره ممن شهد له، كشهرته. وقد ذكرنا في خبر يحيى بن مضر وقرعوس غير ما ذكر من دوامهما للموطأ عن مالك، ولا شك أن رحلته مع أولئك الأكابر، ولم
يدر ما الذي منعه من سماع الموطأ. ويتم كله، فقد ذكر أبو محمد بن حزم، أن رحلة عيسى كانت في حدود سبعين ومائة. هذا بعد موت مالك بنحو عشر سنين. ويصح هذا، لأنه لم يرو عن أحد من أكابر أصحاب مالك. الذين ماتوا في هذه المدة، كالمغيرة وابن أبي حازم وابن نافع، وابن الصائغ وغيرهم. إنما روى أقوالهم عن أخيه عبد الرحمن. وكانت رحلة أخيه أيضاً بعد موت مالك. قال ابن حارث: رحل عيسى وأصحاب مالك متوافرون، ابن القاسم وابن وهب وأشهب. سمع من ابن القاسم، واقتصر عليه، واعتلت في اللفظ طبقته. وكان من أهل الزهد البائس، والدين الكامل، قالوا: في العلم البارع والفضل الكامل، مشهور، مع قوته في الفقه لمالك، وأصحابه. فلقد كان ابن وضاح يقول: هو الذي علم أهل الأندلس الفقه. قال ابن وضاح: حضر عيسى ويحيى جنازة. فلما صلى عليها أقبل الناس على عيسى وحفوا به. قال له يحيى: ما أشك أن الذي ألقى الله لك في قلوب الناس لخيبة صالحة. قال أصبغ بن خليل، كان يقرأ على عيسى فإذا مرّ بذكر الجنة والنار لم ننتفع به يومنا. وكان ذا هبة حسنة وعقل رزين، ومذهب جميل، ولما أصلح سحنون على ابن القاسم، كتاب أسد، وكان عيسى قد أتى بها وحضر سؤال أسد لابن القاسم، فكتب عيسى الى ابن القاسم في رجوعه عن ما رجع عنه من ذلك فيما بلغه. وسأله أعلامه فكتب إليه ابن القاسم: اعرضه على عقلك فما رأيت حسناً، فأمضه. وما أنكرت فدعه. وهذا يدل على ثقة ابن القاسم بفقهه. وذكر ابن لبابة، عن ابن بن عيسى، أن أباه أجمع في آخر عمره على ترك الفتيا بالرأي، والاعتماد على مقتضى الأثر، فأعجلته المنية، ولعيسى سماع من ابن القاسم عشرون كتاباً. وله تأليف في الفقه يسمى كتاب الهدية، الى بعض الأمراء. عشرة أجزاء. قال ابن عتاب: وله كتاب الجدار. وله تأليف آخر حسن أيضاً، وتوفي سنة اثنتي عشرة ومائتين وخلف أولادً فقهاء يأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى. ومن غريب خبره وكرامته أنه ذكر أنه سئل في مرضه وحضور موته، من يصلي عليه. فقال: ابني. فلما مات وحملت جنازته وكان ابنه مسافراً، فلما وضعت التمسوا من يصلي عليه، فإذا رجل راكب على حمار مقبلاً نحو الجنازة، فنزل وصلى عليها فإذا هو ابنه. وقد ذكرت هذه الحكاية أيضاً لابراهيم بن باز والله أعلم. يدر ما الذي منعه من سماع الموطأ. ويتم كله، فقد ذكر أبو محمد بن حزم، أن رحلة عيسى كانت في حدود سبعين ومائة. هذا بعد موت مالك بنحو عشر سنين. ويصح هذا، لأنه لم يرو عن أحد من أكابر أصحاب مالك. الذين ماتوا في هذه المدة، كالمغيرة وابن أبي حازم وابن نافع، وابن الصائغ وغيرهم. إنما روى أقوالهم عن أخيه عبد الرحمن. وكانت رحلة أخيه أيضاً بعد موت مالك.(4/108)
قال ابن حارث: رحل عيسى وأصحاب مالك متوافرون، ابن القاسم وابن وهب وأشهب. سمع من ابن القاسم، واقتصر عليه، واعتلت في اللفظ طبقته. وكان من أهل الزهد البائس، والدين الكامل، قالوا: في العلم البارع والفضل الكامل، مشهور، مع قوته في الفقه لمالك، وأصحابه. فلقد كان ابن وضاح يقول: هو الذي علم أهل الأندلس الفقه. قال ابن وضاح: حضر عيسى ويحيى جنازة. فلما صلى عليها أقبل الناس على عيسى وحفوا به. قال له يحيى: ما أشك أن الذي ألقى الله لك في قلوب الناس لخيبة صالحة. قال أصبغ بن خليل، كان يقرأ على عيسى فإذا مرّ بذكر الجنة والنار لم ننتفع به يومنا. وكان ذا هبة حسنة وعقل رزين، ومذهب جميل، ولما أصلح سحنون على ابن القاسم، كتاب أسد، وكان عيسى قد أتى بها وحضر سؤال أسد لابن القاسم، فكتب عيسى الى ابن القاسم في رجوعه عن ما رجع عنه من ذلك فيما بلغه. وسأله أعلامه فكتب إليه ابن القاسم: اعرضه على عقلك فما رأيت حسناً، فأمضه. وما أنكرت فدعه. وهذا يدل على ثقة ابن القاسم بفقهه. وذكر ابن لبابة، عن ابن بن عيسى، أن أباه أجمع في آخر عمره على ترك الفتيا بالرأي، والاعتماد على مقتضى الأثر، فأعجلته المنية، ولعيسى سماع من ابن القاسم عشرون كتاباً. وله تأليف في الفقه يسمى كتاب الهدية، الى بعض الأمراء. عشرة أجزاء. قال ابن عتاب: وله كتاب الجدار. وله تأليف آخر حسن أيضاً، وتوفي سنة اثنتي عشرة ومائتين وخلف أولادً فقهاء يأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى.(4/109)
ومن غريب خبره وكرامته أنه ذكر أنه سئل في مرضه وحضور موته، من يصلي عليه. فقال: ابني. فلما مات وحملت جنازته وكان ابنه مسافراً، فلما وضعت التمسوا من يصلي عليه، فإذا رجل راكب على حمار مقبلاً نحو الجنازة، فنزل وصلى عليها فإذا هو ابنه. وقد ذكرت هذه الحكاية أيضاً لابراهيم بن باز والله أعلم.
عبد الله بن زونان
هو عبد الملك بن الحسن، بن محمد بن يونس، بن عبيد الله بن أبي رافع. مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. من أهل قرطبة. يكنى أبا مروان. وقيل أبا الحسن. ويعرف بزونان. بضم الزاي بعد الواو نون. قال ابن الخيري: ويقال في اسم جده زريق. بتقديم الراق وتأخيرها سمع من صعصعة بن سلام، ورحل فسمع من أشهب وابن القاسم. وابن وهب وغيرهم من المدنيين. وهو أقدم هؤلاء كلهم طبقة. وأولهم في الظهور في العلم والفتيا. أفتى في أيام هشام بن عبد الرحمن مع يحيى بن يحيى، قال ابن الفرضي: كان يذهب أولاً مذهب الأوزاعي، ثم رجع الى مذهب مالك. وكان الأغلب عليه الفقه. ولم يكن من أهل الحديث. قال ابن أبي دليم: كان فقيهاً فاضلاً، ورعاً. أدخل العتبي سماعه في المستخرجة. وزعم الرازي أنه لقي مالكاً. ولم يذكر هذا غيره، من أهل علم الحديث الرحال الجامعين لرواية مالك من أهل الأندلس وغيرهم. ولا أراه يصح. ولم يرو الفقهاء عنه مسألة واحدة.(4/110)
قال أبو عمر الهدني: له فضل وخير، ومذهب جميل جداً. من طبقة يحيى بن سعيد بن حسان، وعليهم كان مدار الفتيا. قال الخيري: كان فقيهاً زاهداً. قال ابن حارث: كان فاضلاً. وكان الزهد غلب عليه. وكتب لقاضي قرطبة إبراهيم بن العباس بن أبي يحيى بن يحيى. وولي قضاء طليطلة. وكان يحيى بن يحيى معجباً من كلام زونان، أنه قال يا أبا محمد: ما أشقى من لم تسعه رحمه الله، التي وسعت كل شيء. وضاقت عليه الجنة التي عرضها السموات والأرض. وتوفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، فيما قاله ابن الفرضي. وقال غيره سنة أربع وثلاثين. والله أعلم.
سعيد بن حسان الصائغ
مولى الأمير الحكم بن هشام من أهل قرطبة. يكنى أبا عثمان. رحل الى المشرق سنة سبع وسبعين ومائة. فروى عن عبد الله بن نافع الزهري وعبد الله بن عبد الحكم، وأشهب بن عبد العزيز، ومنه استكثر. سمع منه سماعه من مالك، وكتب رأيه. وعن ذلك. وانصرف الى الأندلس، سنة أربع ومائتين. قال ابن أبي دليم، وابن حارث: لم يكن في زمانه أروع منه. قال ابن حارث: حتى يقال إنه مجاب الدعوة. لفضله واجتهاده،(4/111)
قال ابن وضاح: رويت عنه مسائل، وهو ثقة. قال ابن الفرضي: وكان فقيهاً في المسائل زاهداً فاضلاً حافظاً. مشاوراً مع يحيى بن يحيى، وطبقته. وكان منقطعاً الى مواخاة يحيى آخذاً بهديه معظماً له. لم يخالفه في شيء يراه. وكان الأغلب عليه حفظ رأي أشهب وفقهه. وروايته عن مالك. حدث عنه ابن باز وغيره. ذكر ابن حارث: إن سعيد بن حسان، لقي قاضي قرطبة سعيد بن سليمان الغافقي، وكان ابن حسان منقبضاً عنه، فقال له القاضي، أبا عثمان: ما لك تنقبض عني، ولا تأتيني؟ فوالله ما أريد إلا الحق، ولا أقصد غيره. فقال سعيد بن حسان: والله لو علمت هذا ما قعدت عنك، ولحملت هذه الخريطة بين يديك. قال ابن زونان: كنت أعرض على سحنون مرة في حاشية في جانب كتابي. أخبرني سعيد بن حسان عن أصبغ. فقال: يكذب سعيد بن حسان إنا لا نعرف بالأندلس إلا يحيى بن يحيى، وسعيد بن حسان وغيره حطب النار. وأتاه نصر الفتى يوماً، فوجده يصلي متنفلاً يطول صلاته. فانصرف نصر مغضباً يتوعده. فلما أكمل صلاته، كلِّم في ذلك. فقال: كنا بين يدي(4/112)
الله نناجيه. وسيكفينا أمره من كنا بين يديه. ما كنا لننصرف لنصر، وندع ما كان أولى منا. ودخل سعيد بن حسان على يحيى بن يحيى، فتعجل له الإذن، وكانت زوجة يحيى حاضرة. فدخلت جنبة البيت، وتركت نعلها في البيت، وكان مفصصة بالدر والياقوت. كانت من المياسير فلما رآهما سعيد أنكر ذلك جداً. ووبخه، وقال له: هذا من السرف الذي يسأل عنه. وكان متورعاً في فتياه. توفي سنة ست وثلاثين بعد يحيى بعامين وسيأتي ذكر ابنه إن شاء الله.
حارث بن أبي سعيد مولى الأمير عبد الرحمن بن معاوية
قال القاضي ابن الفرضي يكنى أبا عمرو. واسم أبي سعد، سابق. رحل فسمع من ابن القاسم، وابن كنانة وغيرهما من المدنيين، والمصريين. كان يفتي في آخر أيام الحكم بن هشام، وهو جد بني حارث بقرطبة. وولي الشرطة الصغرى. وهو أول من وليها بالأندلس، فلم يزل عليها الى أن توفي. فقال ابن أبي دليم: وعليه دارت الفتيا في عصره. قال أحمد بن سعيد: هو من أهل العلم والفتيا. قال ابن حارث واستفتاه ابن بشر. وتوفي حارث سنة اثنتين وعشرين ومائتين فيما قاله أحمد بن عبد البر.(4/113)
وأما ابن حارث فقال: سنة إحدى وعشرين. وسيأتي ذكر ابنه، إن شاء الله تعالى، وهو حسبي ونعم الوكيل.
حاتم بن سليمان بن أبي يوسف بن أبي مسلم الزهري
قرطبي. رحل مع الأعشى وحارث بن أبي سعد. فسمع من ابن كنانة وغيره من المدنيين والمصريين. قال ابن أبي دليم: وجل روايته عن ابن كنانة. وكان ابن كنانة يصفه بالفقه ويثني عليه وكان ذا زهد وفضل وورع. قال ابن الفرضي وكان فقيهاً في المسائل والرأي. موصوفاً بالفضل والزهد. وإليه ينسب المسجد الذي على مقبرة بلاط مغيث بقرطبة. قال أبو سعيد الصدفي: توفي آخر أيام عبد الرحمن بن الحكم. وذلك قبل الأربعين ومائتين.
محمد بن عيسى بن عبد الواحد بن نجيح المعافري
المعروف بالأعشى، قرطبي يكنى أبا عبد الله. قال ابن الفرضي: رحل في العام الذي مات فيه مالك. وذلك سنة سبع وسبعين ومائة. فسمع من سفيان بن عيينة، ووكيع ويحيى بن سعيد القطان، وعيسى بن كنانة والمخزومي وغيرهم من العراقيين والمدنيين. وكان الغالب عليه الحديث والأثر. وكان عاقلاً سرياً جواداً قال ابن أبي دليم: كان في بصره شيء. وكانت له وجاهة في العلم مع فضل وورع. قال الأعشى: دخلت مصر فرويت بها أربعين ألف مسألة. قال ابن حارث: يعني عن ابن القاسم، وابن وهب، وأشهب. سوى ما روى عن أصحاب مالك المدنيين.(4/114)
قال ابن الفرضي: وكان يذهب في الأشربة مذهب أهل العراق. وكانت فيه دعابة له فيها أخبار فاشية محفوظة. من غريبها التي كفت من عرفه أنه كان يمازح كثيراً أبا عقبة الأسوار بن عقبة. ويكنيه أبا عقبة بفتح العين والقاف. فلما تولى الأسوار القضاء بقرطبة، أتاه محمد بن عيسى، فشهد عنده مع آخر من أهل القبول. فاعلم على اسم ذلك دونه. وقال له: زدني في بينة. وذلك بمحضر الأعشى. فقال له الأعشى: أظنك أكرمك الله لم تقبل مثلها في شهادتي. فقال له: أنت أكرمك الله جاد في شهادتك هذه أو هازل. فإني أعرفك كثير الهزل، فعرفني إن كنت صدعت بها عن حق. فمثلك لا ترد شهادته. وإن كانت من اهتزالك فقد وقفتها. فقال عنه الأعشى منقطع الحجة. فكان يقول بعد ذلك قاتل الله الأسوار. فلقد قطعني عن كثير مما كنت أستريح إليه من الدعابة، بعد مجلسي معه. فربما هممت بالشيء فأذكر كلامه لي فيسمعني. قال أحمد بن سعيد: وعوتب في كثرة دعابته، وأن يتركها. فقال: علي لم يتركها للخلافة. فأتركها أنا للشهادة والعدالة. قال أحمد بن عبد البر: كان خيّراً عاقلاً، حليماً جواداً. روى عنه بقي ابن مخلد، وأصبغ بن خليل، ونظراؤهما وأصاب الناس مسغبة. وغلا السعر جداً. فأمر منادياً ينادي في الناس، من أحب أن يبتاع طعاماً بسعر يومه بتأخر عام، فليأت وكيل محمد بن عيسى وأمر وكيله بذلك فبادر الناس، فأخذوا منه حتى أوقف الله لي الذي أباحه لهذا.(4/115)
ثم أمر منادياً ينادي: من كان لمحمد بن عيسى عنده شيء فقد وضعه عنه. فقيل له: لو تصدقت به كان أفضل. فقال: لو كان ذلك لم يأخذه إلا من يأخذ الصدقات من الطوافين وشبههم. والآن أخذه الشريف والمحتاج والمتعفف المستور، ومن لا ينكشف لأخذ الصدقة. ومن أحواله أن صديقاً له رد القاضي شهادته، فجاء إليه مستغيثاً به راغباً إليه، في أن يسير معه الى القاضي. فيعدّله. فركب معه وكان ركوبه حماراً بسرج. فلما كان في بعض الطريق قال له: يا هذا، كم من ركعة في صلاة الاستسقاء. قال: لا أدري. قال له: ففي صلاة الخسوف. قال: لا أدري. فمضى معه هنيهة ثم قال له: كم في السوق من ثقبة. فقال: لا أدري. فقال له: يا هذا، لا خير تدري ولا شر تدري، وتلوم القاضي أن يرد شهادتك. فرجع وتركه. واختلف في وفاته، فقيل توفي في سة ثمان عشرة. وقيل إحدى وعشرين وقيل اثنتين وعشرين ومائتين.
إسماعيل بن البشر
ويقال ابن البشير. ويقال بشير بن محمد التجيبي. أبو محمد القرطبي هو جد ابن أبي الأغبس.(4/116)
قال ابن الفرضي: كان مفتياً أيام الأمير الحكم بن هشام، وابنه عبد الرحمن، وولي الصلاة أيام عبد الرحمن والحكم. وفيها مات. وقال ابن حارث: كان القاضي ابن بشير، يستفتي في قضائه زونان ومحمد بن سعيد السبائي والغازي بن قيس، والحارث بن أبي سعد، واسماعيل بن بشر، وقد ذكره ابن حبيب في كتابه مع يحيى، وعباس وطبقاتهم.
محمد بن خالد بن مرتنيل، مولى عبد الرحمن بن معاوية
يعرف بالأشج. قرطبي، بيته. رحل فسمع من ابن وهب وأشهب وابن نافع ونظرائهم من المدنيين، والمصريين. وكان الغالب عليه الفقه. ولم يكن له علم بالحديث. وقد ذكره العتبي في المستخرجة. وولي الشرطة والصلاة والسوق بقرطبة. قال الصدفي: قيل إنه كان يخطب عند باب المقصورة من خارج. وبيده عصا، وكان صليباً في أحكامه، ورعاً فاضلاً، لا تأخذه في الله لومة لائم. فحمدت سيرته. ولم يزل على وتيرة الى أن توفي. وكان ينفذ أحكامه على أصحاب السلطان، وضرب منهم رجلاً وحبسه، وشنع ذلك عليه عند الأمير، فوجه إليه وأوصى إليه. لم فعلت هذا به؟ فقال له: لم أفعله. إنما الأمير أعزه الله فعله. لأنه ولاني وأمرني بنصفة الحقوق، وتغيير المناكر. على جميع الناس. ولم يستثن هذا ولا غيره. ولو استثناه كنت أفعل ما يأمرني به،(4/117)
فأعرض عنه. وروى أنه عزله مرة. فعزله غدوة ورده عشية، لما رأى في ذلك من الصلاح. وقال لأصحابه: تحفظوا منه. قال يحيى: حملني ابن بشير بمسائل أسأل عنها ابن القاسم، فأجابني فيها. ثم قدم محمد بن خالد من المدينة، فسأله أيضاً عنها. فخالفت روايتي روايته. فقدمت على ابن القاسم فقلت له: يا أبا عبد الله، وفدنا إليك بمسائل، أنا وصحابي، وأهل بلدي ينظرون إلينا وقد اختلفت روايتنا عنك. فمتى سرنا الى بلدنا عن رجل واحد، بروايتين مختلفتين في شيء واحد أدخلنا عليهم فتنة، فتدارك النظر فيها. فقال: صدقت ونصحت. ثم أرسل الى صاحبي فقال له: أوهمت عليك فرد ما معك الى ما مع صاحبك. ففعلنا. وتوفي سنة عشرين ومائتين. وقيل سنة أربع وعشرين. وله اثنتان وسبعون سنة. وبيته بقرطبة بيت فقيه في العلم والسؤدد، وصحبة السلطان. وسيأتي ذكر ولده إن شاء الله تعالى.
قاسم بن هلال بن يزيد بن عمران بن مالك القيسي
أبو محمد القرطبي. سمع بالاندلس من زياد بن عبد الرحمن، ورحل فسمع من ابن القاسم وابن وهب وغيره. وأخذ من المصريين والمدنيين من أصحاب مالك،(4/118)
وكان عالماً بالمسائل، ولم يكن عنده علم بالحديث، وكان رجلاً معضلاً وقوراً. ذا فضل وورع. وكان سحنون يؤثر ابنه لاجتماعه معه عند ابن القاسم. روى عنه بنوه، واختلف في وقت وفاته. فقيل سنة إحدى، وقيل سنة سبع وثلاثين ومائتين، وبيته بيت فقه في العلم بقرطبة. ساد هو وبنوه، وسيأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى.
سعيد بن محمد بن بشير
قد قدمنا في ذكر أبيه نسبه، وأوليته. ولي القضاء بقرطبة بعد والده، فيما قيل. وكان رجلاً صالحاً عاقلاً. سمع من يحيى وغيره، وكان يشاور في بعض المجالس، وكان له على بر وصحبة. قال ابن حارث: وكان نبيلاً فاضلاً. معيناً لأبيه على العدل. بصيرته من بصيرة أبيه في جميل المذهب، واستقامة الطريقة. وكان سبب ولايته القضاء. أن ربيع القوسي أودعه وديعة. فلما سخط عليه وهتف الأمير لمن كان لربيع عنده وديعة. ولم يظهرها بعد ذلك بثلاث، سفك دمه، ونهب ماله بجبر، فأتى ليحيى بن يحيى فاستشاره فاستفظع يحيى الأمر، ثم فكر طويلاً، ثم قال له: أرى والله ألا تخفي أمانتك، للحديث الذي جاء إذ الأمانة الى البر والفاجر، وفشا الخبر حتى انتهى الى الأمير، فدعا بسعيد وقيل له: ما حملك على ما فعلت؟ وقد سمعت النداء والعزيمة.(4/119)
فقال سعيد: للحديث الذي جاء، وذكره. قال: ولا أفجر من ربيع. فقال الأمير للوزراء: هذا رجل مأمون. فولاه القضاء. توفي فيما قاله الرازي سنة عشر ومائتين. وقال ابن حارث: سنة إحدى عشرة.
حسبن بن عاصم بن كعب بن محمد بن علقمة
ابن حباب بن مسلمة بن محمد بن مرة بن عوف الثقفي
ويقال: عاصم بن مسلم بن كعب بن حباب بن علقمة بن هلال، ابن كعب بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل، بن عروة بن مسعود الثقفي. ويقال إنه مولى عبد الرحمن بن يعقوب أبي الحكم الثقفي. وهو المشهور. أبو الوليد قرطبي. حبيب. أبوه عاصم، يعرف بالعريان. لأنه أول من شق نهر قرطبة وهو عريان بين يدي الأمير عبد الرحمن بن معاوية الداخل. عند قصره بقرطبة. رحل حسين فسمع من ابن القاسم وأشهب وابن وهب ومطرف بن عبد الله، وعبد الله بن نافع ونظرائهم. وأدخل العتبي سماعه في المستخرجة أيضاً. وأسقطه منها قوم. قال الشيرازي عنه: كان في سن عيسى بن دينار. ويعتمد عليه ابن حبيب في الأسمعة وعده فيمن ذكر منه في هذه الطبقة.(4/120)
وتوفي فيما ذكر أصحاب التاريخ: سنة ثمان ومائتين. وأما ابن عبد البر فزعم أنه ولي السوق أيام الأمير محمد. وكان شديداً على أهلها، في القيم. فضرب الباعة على ذلك ضرباً مبرحاً. أنكر عليه، فسقط بذلك. وزعم أنه توفي سنة ثلاث وستين أيام الأمير محمد، وهذا بعيد من الخلاف، وقال غيره: توفي سنة ثمان ومائتين. وزعم أن سنه يوم توفي سبعون سنة. وهذا أبعد، إذ لو صح هذا، لما صح له سماع من ابن القاسم وابن وهب، لأنه إن كان مات سنة إحدى وتسعين وابن وهب سنة بضع وتسعين، على خلاف في تعيين سنة موته في ذلك، أو يكون موت ابن وهب وهو في السن في حيز من الإسماع له. كيف ولم يكن ببلده وإنما هو رحل إليه في سن من يصح رحلته، بالأشبه، والله أعلم أن وفاته متقدمة وإثبات العتبي سماعه في المستخرجة يبعد تراخي موته، الى هذا الوقت. لأن العتبي توفي سنة خمس وخمسين ومائتين، قبله على هذا بمدة. وتوفي ابنه ابراهيم بن حسين بن عاصم سنة ست وخمسين. وكان أيضاً قد تصرف في الولاية سنين للأمير محمد وبلغ في الشدة مبلغاً حاد فيه عن سنن القضاء. وسيأتي ذكره. فلعل من اشتباه هذا دخل هذا الوهم، والخلاف والله أعلم. ومات ابن القاسم وقد بقيت على حسين مقابلة كتبه بأصوله، بعد تمام سماعه منه. فكاد أصبغ بن الفرج وقال له: أنت خلف أبي عبد الله. فلو خليت نفسك، قرأت عليك ما بقي علي.(4/121)
فقال له أصبغ وأشهب وابن وهب شيخان حيان. فقال له: أنت عندي أجلّ، فأسعفه. فلما تم له مراده قال له: إنما ذهبت الى المقابلة لصحة كتبك. وأما السماع فلا نحب ذلك. فإني أقدم منك سماعاً، وعناية. تعود الى الحاضرة. قال ابن وضاح: قلت لسحنون: إن ابن عاصم يحلف الناس بقرطبة بالطلاق. قال: ومن أين أخذ هذا؟ قلت له: من قول مالك يحدث للناس، فتحدث لهم أقضية. فقال سحنون: ابن عاصم تأول هذا التأويل. قال الصدفي: وابن عاصم المذكور، هو هذا.
عبد الملك بن حبيب
قال القاضي أبو الوليد بن الفرضي، في كتابه في رجال الأندلس. هو عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون بن عباس بن مرداس السلمي. يكنى أبا مروان. ونقلت عن خط الحكم المستنصر بالله، أنه عبد الملك بن حبيب بن ربيع بن سليمان. وقال علي بن معاذ عن علي بن الحسن، إنه عبد الملك بن حبيب بن ربيع بن سليمان السلمي. وكان يعرف أبوه الحبيب العصار. كان يعصر الأدهان ويستخرجها. قال ابن الفرضي قيل إنه من مواليهم. وقال ابن حارث من أنفسهم. كان بالبيرة. وقال بعضهم: كان يعصر الأدهان ويسخرجها غيرهم(4/122)
كان أصلهم من طليطلة وانتقل جده سليمان الى قرطبة. وانتقل أبوه حبيب وإخوته في فتنة الربض الى البيرة. وروى بالأندلس عن صعصعة بن سلام والغازي بن قيس وزياد بن عبد الرحمن، ورحل سنة ثمان ومائتين. وقيل سنة سبع. فسمع ابن الماجشون ومطرف وابراهيم بن المنذر، وعبد الله بن نافع الزيدي، وابن أبي أويس وعبد الله بن عبد الحكم، وعبد الله بن المبارك والحزامي، وأصبغ بن الفرج، وأسد بن موسى وجماعة سواهم. وانصرف الى الأندلس سنة عشرة. وقد جمع علماً عظيماً. قال ابن حارث: فنزل بلدة البيرة، وقد انتشر علمه وروايته. فنقله الأمير عبد الرحمن بن الحكم الى قرطبة ورتبه في طبقة المفتيين بها. فأقام مع يحيى بن يحيى زعيمها في المشاورة والمناظرة. وكان الذي بينهما يسيء جداً. قال غيره: وتقدمه يحيى بالممات. فانفرد عبد الملك وحده بالرئاسة مديدة. سمع منه ابناه محمد وعبد الله وسعيد بن نمير، وأحمد بن راشد، وابراهيم بن خالد، وابراهيم بن شعيب، ومحمد بن فطيس. وروى عنه من عظماء القطربيين، مطرف بن قيس، وبقي بن مخلد، وابن وضاح والمغامي في جماعة. وكان المغامي آخرهم موتاً.
ذكر مكانه من العلم وثناء الفضلاء عليه
قال ابن الفرضي: كان عبد الملك حافظاً للفقه على مالك، نبيهاً فيه. غير أنه لم يكن له علم بالحديث ولا معرفة بصحيحه من سقيمه. وقال ابن لبابة: ويروى مثله عن ابن مزين عبد الملك، عالم الأندلس.(4/123)
وسئل ابن الماجشون من أعلم الرجلين. القروي التنوخي، أم الأندلسي السلمي " فقال: السلمي مقدمه علينا، أعلم أن التنوخي منصرفه عنا. ثم قال للسائل: أفهمت؟ قال أحمد بن عبد البر: كان جمّاعاً للعلم، كثير الكتب، طويل اللسان، فقيه البدن، نحوياً عروضياً شاعراً، نسابة إخبارياً. وكان أكثر من يختلف إليه الملوك وأبناؤهم من أهل الأدب. وقال نحوه ابن غلبون قال وكان يأبى إلا معالي الأمور. وقال ابراهيم بن قاسم بن هلال رحمه الله: عبد الملك بن حبيب: فلقد كان ذاباً عن قول مالك. وذكر أنه لما رحل قال عيسى: إنه لأفقه ممن يريد أن يأخذ عنه العلم. وقال سعيد بن نمير: حدثنا المأمون عبد الملك بن حبيب. لا أراه الله في إخوته قبحاً. قال غيره: رأيته يخرج من الجامع وخلفه نحو من ثلاثمائة من طالب حديث وفرائض وفقه، واعراب. وقد رتب الدول عليه كل يوم ثلاثين دولة؟ لا لا يقرأ عليه فيها شيء إلا تأليف وموطأ مالك. وذكر أنه يلبس الخز والسعيدي. قال ابن عبيد: وإنما كان يفعله إجلالاً للعلم، وتوقيره. وإنه كان يلبس الى جسمه مسح شعر، تواضعاً. وكان صواماً قواماً.(4/124)
قال: وعذلته على مأخذه على قلة ماله. فقال لي: قيل لأبي حازم، ما مالك؟ قال: مالان: القناعة بما في يدي، واليأس مما في أيدي الناس. وأنا أقول: لي مالان غنائي في ظاهر أمري، وقصدي خاصة نفسي. قال غيره: أكثر فقهاء الأندلس وشعرائهم، فعن عبد الله أخذوا، وعن مجلسه نهض. قال المغامي: لو رأيت ما كان على باب ابن حبيب، لازدريت غيره. ذكر الزبيدي أنه نعي الى سحنون، فاسترجع وقال: مات عالم الأندلس، بل والله عالم الدنيا. وهذا يرد ما روي عنه من خلاف هذا. وذكره الشيرازي فقال فيه: فقيه الأندلس. وذكره أيضاً ابن الفرضي في كتابه المؤلف في طبقات الأدباء فجعله صدراً فيهم. وقال: كان قد جمع الى إمامته في الفقه والتنجيح في الأدب، والتفنن فيه في ضروب العلوم. وكان فقيهاً مفتياً نحوياً لغوياً، نسّابة إخبارياً عروضياً فائقاً. شاعراً محسناً مرسلاً حاذقاً. مؤلفاً متفنناً. ذكر بعض المشيخة، أنه لما دنا من مصر، في رحلته أصاب جماعة من العلماء بارزين لتلقي الرفقة على عادتهم، فكلما أطل عليهم رجل له هيبة ومنظر، رجحوا الظن به، وقضوا بفراستهم عليه، حتى رأوه، وكان ذا منظر جميل، فقال قوم: هذا فقيه. وقال آخرون: شاعر. وقال آخرون: طبيب. وقال آخرون: خطيب. فلما كثر اختلافهم تقدموا نحوه، وأخبروه باختلافهم فيه، وسألوه عن ما هو؟(4/125)
فقال لهم: كلهم قد أصاب. وجميع ما قررتم أحسنه، والخبرة تكشف الحيرة والامتحان يجلي عن الإنسان، فلما حطّ رحله ولقي الناس شاع خبره. فقصد إليه كل ذي علم يسأله عن فنّه، وهو يجيبه جواب متحقق. فعجبوا من ثبوت علمه، وقصدته طائفة من المتفقهة، وقد أعدوا له مسائل من الحجج، لا زالوا يقتنصون بها متفقهة الأندلس، ففطن لمرادهم، وكان عهده بعيداً بمطالعة كتب الحجج. فلما فاتحوه بها أخر مجلسهم واعتذر بقيامه فيما لابد للغريب منه، ووعدهم لغد يومه، وأتى رحله وسهر ليلته، على مطالعة مسائل الحجج حتى أحكم النظر فيها. فلما كان من الغد تهافتوا عليه، وألقوا عليه صعابها، فأجابهم عنها جواب عالم. وذكر أنهم أخذوا عنه، وعطلوا حلق علمائهم. قال ابن وضاح: كنت عند الخزامي، فقيل له ابن حبيب، سمع التاريخ. فقال حفظه الله، أبا مروان فإنه يثني عليه ذكر ابن حارث أن ابن المواز أثنى عليه بالعلم والفقه وقال ابراهيم بن قاسم: يقول رحم الله عبد الملك لقد كان ذاباً عن قول مالك، وإن خالفه في البعض بما يسوغ إلا الحق. ولا أخذ إلا بالصواب. وقال العتبي: وذكر الواضحة: رحم الله عبد الملك ما أعلم أحداً ألف على مذهب أهل المدينة تأليفه، ولا لطالب أنفع من كتبه ولا أحسن من اختياره. وقال محمد بن أبي زيد في صدور النوادر. وذكر اختيار سحنون وأصبغ وعيسى وابن عبدوس، وابن سحنون، وابن المواز، وقال: وليس يبلغ ابن حبيب في اختياره وقدره رواياتهم مبلغ من ذكرنا.(4/126)
وقيل للمغامي: لو أوضحت هذا السماع في واضحة ابن حبيب؟ يريد ما لم يوضحه ابن حبيب من كتابه: فقال:
حاولت نفسي من ذلك، فوجدت نفسي معه كمرقع الخز باللبود. فقال بعضهم: ركبت البحر الى الأندلس، مع ابن حبيب، فهال علينا وخشينا العطب، فرأيت ابن حبيب متعلقاً بحبل السفينة وهو يقول: اللهم إن كنت تعلم أني إنما أردت بما أفتيته لوجهك وما عندك فخلصني برحمتك وانفع بما آتيتنا به عبادك. فما كان يسيراً حتى سكنت الحال، ووصلنا سالمين بحمد الله. لت نفسي من ذلك، فوجدت نفسي معه كمرقع الخز باللبود. فقال بعضهم: ركبت البحر الى الأندلس، مع ابن حبيب، فهال علينا وخشينا العطب، فرأيت ابن حبيب متعلقاً بحبل السفينة وهو يقول: اللهم إن كنت تعلم أني إنما أردت بما أفتيته لوجهك وما عندك فخلصني برحمتك وانفع بما آتيتنا به عبادك. فما كان يسيراً حتى سكنت الحال، ووصلنا سالمين بحمد الله.
ذكر تواليفه
وألف ابن حبيب كتباً كثيرة حساناً في الفقه والتواريخ والأدب. ومنها الكتب المسماة بالواضحة في السنن والفقه. لم يؤلف مثلها. والجوامع. وكتاب فضائل الصحابة. وكتاب غريب الحديث. وكتاب سيرة الإمام في الملحدين. وكتاب طبقات الفقهاء والتابعين. وكتاب مصابيح الهدى. قال بعضهم، قسّم ابن الفرضي هذه الكتب، وهذه الأسماء وهي كلها يجمعها كتاب واحد لابن حبيب. إنما ألف كتابه على عشرة أجزاء. الأول، تفسير الموطأ حاشى الجامع، والثاني شرح الجامع، والثالث والرابع والخامس في حديث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة التابعين. وكتاب مصابيح الهدى جزء منها. ذكر فيه من الصحابة والتابعين، والعاشر طبقات الفقهاء، وليس فيها أكثر من الأول، وتحامل في هذا الشرح على أبي عبيد، والأصمعي وغيره، وانتحل كثيراً من كلام أبي عبيد، وكثيراً ما يقول فيه أخطأ شارح العراقيين. وأخذ عليه فيه تصحيف قبيح، وهو أضعف كتبه.(4/127)
ومن تواليف ابن حبيب أيضاً، كتاب إعراب القرآن، وكتاب الحسبة في الأمراض وكتاب الفرائض، وكتاب السخاء واصطناع المعرف. وكتاب كراهية الغنا قال بعضهم: فقلت لعبد الملك: كم كتبك التي ألفت؟ قال: ألف كتاب وخمسون كتاباً. وقال عبد الأعلى بن معلى: هل رأيت كتباً تحبّب عبادة الله الى خلقه، وتعرفهم به، ككتب عبد الملك بن حبيب. يريد كتبه في الرغائب والرهائب. ومنها كتب المواعظ سبعة. وكتب الفضائل سبعة، فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة. وفضائل عمر بن عبد العزيز. وفضائل مالك بن أنس. وكتاب في أخبار قريش، وأخبارها وأنسابها، خمسة عشر كتاباً. وكتاب السلطان، وسيرة الإمام ثمانية كتب. وكتاب الباه والنساء ثمانية كتب. وغير ذلك من كتب سماعاته في الحديث والفقه وتواليف في الطب، وتفسير في القرآن ستون كتاباً. وكتاب المغازي والناسخ والمنسوخ ورغائب القرآن، وكتاب الرهون والمغازي والحدثان خمسة وتسعون كتاباً، وكتاب مغازي مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، اثنان وعشرون كتاباً. وكتاب في النسب، وفي النجوم، وكتاب الجامع، تأليفه. وهي كتب فيها مناسبك النبي صلى الله عليه وسلم، وكتاب الرغائب، وكتاب الورع في العلم، وكتاب(4/128)
الورع في المال، وكتاب الرياء، وكتاب الحكم والعمل بالجوارح وغير ذلك.
ذكر ما تحومل به عليه
قال بعضهم: كان الفقهاء يحسدون عبد الملك بن حبيب لتقدمه عليهم بعلوم لم يكونوا يعلمونها، ولا يشرعون فيه. قال أحمد بن خالد: لم يخرج ابن وضاح لابن حبيب شيئاً. وكان لا يرضى عنه. قال أبو محمد القلعي: سألت وهب بن مسرة، عن قول ابن وضاح في ابن حبيب. فقال: ما قال فيه خيراً، ولا شراً. إلا أنه قال: لم يسمع من أسد. وحكى الباجي وابن حزم أن أبا عمر بن عبد البر، كان يكذبه. وقد ذكرنا في أخبار ابن وهب، بعد هذا قصته التي تحومل عليها به منها. وليس فيها ما تقوم به دلالة على تكذيبه، وترجيح نقل غيره عن نقله. وكان أحمد بن خالد يسيء الرأي فيه. قال ابن الفرضي: لم يكن لابن حبيب علم بالحديث. وكان لا يعرف صحيحه من سقيمه. وذكر عنه أنه كان يتساهل في سماعه، ويحل على طريق الإجازة أكثر روايته. قال ابن وضاح: قال لي الخزامي: أتاني صاحبكم ابن حبيب بغرارة مملوءة كتباً. فقال لي: هذا علمك تجيزه لي. فقلت له: نعم، ما قرأ علي منه حرفاً ولا قرأته عليه. وفي رواية أخرى: فوالله ما ترون فإنه، وإنه. يثني عليه.(4/129)
قال ابن أبي مريم: كان ابن حبيب عندنا نازلاً بمصر. وما كنت رأيت أدوم منه على الكتاب، دخلت إليه في القائلة في شدة الحر، وهو جالس على سدة وعليه طويلة. فقلت: قلنسوة في مثل هذا الوقت. فقال: هي تيجاننا. فقلت: فما هذه الكتب؟ متى تقرأ هذه؟ فقال: ما أشتغل بقراءتها. قد أجازها لي صاحبها. فخرجت من عنده، فأتيت أسداً، فقلت: أيها الشيخ تمنعنا أن نقرأ عليك، وتجيز لغيرنا. فقال: أنا لا أرى القراءة فكيف أجيز، وإنما أخذ مني كتبي، يكتب منها ليسردها علي، قال خالد: إقرار أسد له بروايتها ودفع كتبه لنسخها، هي الإجازة بعينها. وذكر عن يونس، قال: أعطاني يونس كتبه عن ابن وهب فقابلناه بها فقلت: أصلحك الله كيف تقول في هذا؟ فقال: إن شئتم فقولوا: حدّثنا. وإن شئتم فقولوا أخبرنا. قال القاضي: أبو الفضل رضي الله عنه. وقد قال مالك رحمه الله: لمن سأله عن الأحاديث التي كتبها من حديث ابن شهاب، ليحيى بن سعيد الأنصاري، وقال له: أقرأها عليك. فقال: كان أفقه من ذلك. أي أن مثل هذا يغني عن القراءة. وقد بينا هذا الأصل في كتاب الإلماع الى أصول الرواية، وضروب السماع. وحكى ابن الفرضي أنه ذكر أن ابن حبيب كان يأخذ بالرخصة في السماع، وأنه كان له جوار يسمعنه وقد عرض به الغزال الشاعر في ذلك، فيما أذاه به من شعره، وأذى به غيره من الفقهاء.(4/130)
قال القاضي أبو الفضل رضي الله تعالى عنه: الأشبه بطلان هذه الحكاية. فإن لابن حبيب كتاباً في كراهة الغناء. قال القاضي منذر بن سعيد: لو لم يكن من فضل عبد الملك، إلا أنك لم تجد لمن يحكي عنه معارضته والرد لقوله ساواه في شيء. وأكثر ما نجد أحدهم يقول: كذب عبد الملك، أو أخطأ ولا يأتي بدليل على ما ذكره.
ذكر باقي أخباره وفضائله ونوادر أشعاره
ذكروا أنه رفع للأمير عبد الرحمن بن الحكم، أن قاضيه ابراهيم بن العباس المرواني، ويحيى بن يحيى في جماعة يعملون على خلعه، وتقديم القاضي ابراهيم مكانه. وإن القاضي لا يقبل من أهل قرطبة إلا من أشار يحيى بقبوله. وكان يحيى هو الذي أشار على الأمير بتوليته القضاء. وأن يكون زونان كاتبه. فوجد الأمير على ابن حبيب وقال له: تعلم يدي عنك، وأريد أن أسألك عن شيء فأصدقني فيه. فقال: نعم. لا تسألني عن شيء إلا صدقتك فيه. فقال: إنه رفع إلينا عن يحيى والقاضي، أنهما يعملان علينا في هذا الأمر. فقال ابن حبيب: قد علم الأمير ما بيني وبين يحيى، ولكني لا أقول عليه إلا الحق، ليس يحيى بن يحيى إلا ممن يحيي الحق، وكل ما رفع عليه فباطل. وأما القاضي فلا ينبغي للأمير أن يشاركه في عدله، من يشركه في نسبه، فعزل القاضي. وقد رأينا أن يحيى قارضه أيضاً بمثل هذا. ولست أعلم أي قصة صاحبها.(4/131)
وقد ذكر أن بعض جيران ابن حبيب اشتكى إليه، بأن بعض المنصرفين لبعض الوزراء، أنه يؤذيه، ويستطيل عليه.
فأمر عبد الملك برصده، فجيء به إليه، فضرب بين يديه ضرباً مبرحاً، فشكا الى صاحبه فكتب الى يحيى بن يحيى، فذكر له ما صنع ابن حبيب، بصاحبه وحاشيته. وسأله تأييده عليه عند الأمير. فكتب إليه يحيى: ما كنا نعينك على العلم وأهله، وأيم الله لأقلامنا أنفذ من سهامكم. فانصرف عن رأيك والسلام. وذكر أنه لما أراد أن يرحل، سأل عيسى بن دينار، أن يوصيه في مذهبه في رحلته، فقال له عيسى: إذا أصبت عالماً، فلا تظهر له مع علمه علماً، فيحرمك ما عنده. ومن فتاويه القصة المشهورة، وذلك أنه فيما ذكر أن المعروف بابن أخي عجَب، كان قد تكلم بعبث من القول في يوم غيم، شهد به عليه، فأمر الأمير عبد الرحمن بحبسه فأبرمته عمته عجب في إطلاقه. وكانت مكينة عند الأمير في حظاياه. فقال لها: نكشف أهل العلم، عما يجب عليه. وأمر والي المدينة بإحضاء الفقهاء، وفيهم القاضي موسى بن زياد وابن حبيب وأصبغ بن خليل، وعبد الأعلى بن وهب، وأبو زيد بن ابراهيم وابان بن عيسى.
فشاورهم في أمره فتوقفوا كلهم عن سفك دمه، إلا ابن حبيب وأصبغ وخرج عليهم فتى يقول لصاحب المدينة: قد فهم الأمير ما أفتى به القوم في أمر هذا الفاسق. وهو يقول للقاضي: اذهب فقد عزلتك. وأما أنت يا عبد الأعلى، فقد كان الشيخ يحيى يشهد عليك بالزندقة ومن كانت هذه عنده صفته فكيف تسمع فتياه. وأما أنت يا ابان بن عيسى، فأردنا أن نوليك قضاء جيان فزعمت(4/132)
أنك لا تحسن القضاء. فإن كنت صادقاً، فما آن لك أن تتعلم، وإن كنت كاذباً فالكاذب لا يكون أميناً. وقال للآخر لم يروه الراوي. ثم قال لصاحب المدينة: وقد أمرك أن تخرج الساعة مع هذين الشيخين عبد الملك وأصبغ مع أربعين غلاماً، لينفذوا في هذا الفاسق ما رأياه. فخرج عبد الملك وهو يقول: سب رباً عبدناه. إن لم ننتصر له إنا لعبيد سوء. ثم أخرج ووقف على خشبة وهو يقول لعبد الملك: اتق الله في دمي أبا مروان، فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وعبد الملك يقول: الآن وقد عصيت قبل. فلم يزالا حتى صلب وقتل، وانصرفا. فلما كان بعد هذا قيم على هارون بن حبيب أخي عبد الملك بن حبيب بمثل هذا. وكان ضيق الصدر كثير التبرم. ساكناً بالبيرة متحاملاً على أهلها. سيئ القول فيهم. وكان طالع بعض كلام المتكلمين فشهد عليه قوم عند قاضي البيرة، عبد الملك بن سلام المعافري، في شهادات. منها أن رجلاً جاء يطلب منه سلماً لصلاح مسجد، فقال له: لو أردته لكنيسة أعطيتكه. فقال له الآخر: المسجد أولى. قال: لا والله. إني رأيت من تعلق بالله مخذولاً. ومن تعلق بالشنيرة والقرابين عزيزاً الى حسن الحال.(4/133)
ودخل عليه رجلان، في حال استبلاله من علة. فسألاه عن حاله. فقال لهما: أما الآن فلا بأس بي، إلا أني لقيت في مرضي هذا، ما لو قتلت أبا بكر وعمر لم أستوجب هذا كله. فبعث قاضي البيرة بكتاب الشهادات الى الأمير عبد الرحمن بن الحكم، بعد أن سجن هارون في الحديد، فاختلف الفقهاء فيما يجب عليه. فبعث الأمير بالكتاب الى أخيه عبد الملك وغيره من الفقهاء. فأجاب في ذلك عبد الملك بجوابه العريض الطويل، المتضمن أوراقاً كثيرة. يتضمن حسن المخرج بكلام أخيه، وإسقاط الحد عنه، والعقوبة، فأسقط شهادة صاحب السلم بأن قال: هو شاهد واحد. ولم يجعل الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم في شهادة الواحد. وإن كان مرضياً قطعها مقطعاً بحق. ولا يجب بها على أحد عقوبة بحبس ولا ضربة بسوط، فما فوقه بلاء. لو شهد عليه أحد أنه كفر وزنى وسرق وسكر لما ضرب بشهادته سوطاً. قال فكيف لو اجتمع عليه شاهدان، لما وجب عليه فيه شيء لتصرفه في المعنى، الى ما لا يجب به فيه شيء. واحتج بقول عمر لا يحل لامرئ مسلم يسمع الكلمة من أخيه المسلم أو عن أخيه المسلم أن يظن بها ظن سوء وهو يجد لها في شيء من الخير مصدراً. ثم قال: ومن تصريف اللفظ أن يقول: عنيت بقولي إني رأيت من تعلق بالله مخذولاً عندكم. ولا تعينونه، ولا تصرفون حقه. ومن تعلق بالقرابين كان عزيزاً عندكم، حسن الحال فيكم. إذا كان البلد بلد عجم،(4/134)
واحتج على ما ورد من هذا المعنى بقول النبي صلى الله عليه وسلم: سيأتي على الناس زمان يكون الغني التاجر فيهم كالعالم الزاهد، فيكم، الحديث. فيصرفه الى معنى فساد الزمان. قال: ولو كان لا ينصرف الى هذا لوجب عليه القتل دون السوط لأنه كفر وأجاب عن شهادة السائلين له عن حاله، في المرض، وجوابهما.
فقال: لو قتلت أبا بكر وعمر ما استجوبت هذا كله. بأن قال: هذا أحق من الأول. ولكنه ليس من كلام العقلاء. ولكنه من كلام السفهاء وأهل الجهالة، ومثله من كلام كثير من الناس عند شدة تصيبه، وينبغي أن يعنف قائله ويؤدب لسوء لفظه، وينهى عنه، بلا عقوبة تجب في ذلك، من ضرب ولا سجن ولا يحمل على تجوير الله وأطال الكلام في نفي العقوبة والحجة في ذلك. ثم قال: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول: ادرأوا الحدود بالشبهات عن أمتي. فكيف ما لا حدّ فيه، ولا عقوبة، وما يتسع فيه المذهب والمعاني. ولو كانت تجب عليه عقوبة لقد كان في طول حبسه في الكبول، منذ ستة أشهر. ما يستقر كل عقوبة. ثم ذكر أن المدفع له فيمن شهد عليه، وبسط له في ذلك. وأجاب في القصة ابراهيم بن حسين بن خالد بضد ما أفتى به عبد الملك من التحريض على قتله، وترك التأويل لكلامه. وأودع ذلك جواباً طويلاً في أوراق، قريباً من جواب عبد الملك في العدد واحتج فيه بفعل عمر بصبيغ، وفعل علي لمن اتهمه بالزندقة. وقتل خالد بن الوليد لمالك بن نويرة بقوله: أرى صاحبكم. وأطال بمثل هذا.(4/135)
وصرح بأن كلام هارون تصريح لمن أبصر وتعريض عند من رق بصره. والتعريض كالتصريح يقتل بهما وإن قوله في قصة أبي بكر وعمر تجوير لله وتظلم منه. ثم احتج في هذا الفصل بأن التعريض كالتصريح ثم قال: لو أن سلطاناً مثّله بقصة السلّم بشاهد واحد، ما عنفته وما خطأته لتكذيبه الله. إذ يقول: " ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا، فإن حزب الله هم الغالبون ". مع ما هو به معروف من الاستخفاف بالله والجرأة عليه. ثم قال: فليعزم الأمير في أمره. وفي رواية أخرى عند خذل الجاهلين، الذين لم يعرفوا حرمة الله، والدين. وأطال في الطعن على هؤلاء، وتحريض الأمير على الإضراب عنهم. ثم قال: ولا تشبهوا عليه الحديث. ادرأوا الحدود بالشبهات. ونحوه، فإنهم لا يعرفون تأويله. فقد كان ربيعة يقول: إنما ورد في الزنى لما أراد الله من ستره. واستشهد بحديث عمر: إنما جعل الله في الأربعة ستراً. ستركم به من فواحشكم. وقال بعضهم تفسيره ما لم يبلغ السلطان في زلة ذي الهيئة لأن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا حداً من الحدود. وهذا حد به هارون ليس من ذوي الهيئات. وكثير من هذا. ثم قال: وإن لم يتبين للأمير قولي، فليتحر ضربه. ويخلد سجنه، ويكتب الى المشرف بمسألته، ونحو هذا من الطعن على ابن حبيب وبيته. وكتب في ذلك ابراهيم بن حسين بن عاصم بقريب من جواب عبد الملك، من إسقاط الواجب عليه في قصة السلم، لكونه بشاهد واحد.(4/136)
ولتأويل قصة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، واحتج بما احتج به عبد الملك من حديث عمر وتأويل كلامه في التشكي من ذلك. وإنه لم يقدح في أبي بكر وعمر بقبيح. إنما ذكر فضلهما ولا ألحد في دين الله. والعفو عن الحدود أولى، واحتج بقوله: ادرأوا الحدود بالشبهات. قال: ولا حد أعظم من القتل وقد التبس الأمر في هارون، والله يوفق للأمير السداد.
وكتب القاضي بقرطبة إذ ذاك سعيد بن سليمان البلوطي بنحو جواب ابن عاصم. قال فيه: جاءت الآثار المحكمة والسنة الماضية بالحدود الجارية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من قتل قُتل ومن سبّ الله وأنبياءه، قتل. ومن غيّر دينه، قُتل. ومن حارب، قتل، أو حكم فيه بما جاءت فيه الآية. ولم يجد فيما لفظ به هارون شتماً، يوجب القتل. وكان لقوله مذهب لا يوجب عليه القتل، رأيت عليه الحبس والتثقيل فيه. والشدة في الأدب لما فاه به، وجدف فيه. وجاء من ابن حبيب جواب آخر طويل نحو الأول، يناقض فيه ابراهيم بن حسين بن خالد فيما ناقضه به. ويطلف عليه وعلى جميع المذكورين من الفقهاء والقاضي، وينقض عليهم ويعرض بما يوجب إسقاط فتواهم، ويصفهم واحداً واحداً، ويذكر الأمير ما يوجب عداوته هو، معهم. من تأليبهم عليه وتخريجه قبل هذا هولهم. وأنه أفتى بتجويز الظلم منهم، وأن القاضي عزل فتواه مرتين، وأن قاضي البيرة عدو لأخيه. وأساء القول جداً في ابراهيم وابن حارث، وعبد الأعلى وغيرهم ممن رأى قتله. وممن لم ير قتله، أو رأى ضربه، ثم قال: أيشك الأمير في عداوتهم لي؟ ولأهل المقام الذي قمت فيهم؟ فكيف يشاورون في أحد من الناس ويقبل لهم(4/137)
قولاً، ولئن كنت عنده فيما قلت كاذباً، ما يحل للأمير أن يستشيرني، ويقبل لي قولاً أبداً. فأوصى الأمير الى عبد الملك أنا أخذنا بقولك في أخيك. وأمرنا بالكتاب الى عاملنا بإطلاقه، فسأله عبد الملك أن يقدم به الى قرطبة فيكون بها مسجوناً أدباً لحده وعصيانه له. قال المغامي: طرقت عبد الملك بن حبيب يوماً بغلس حرصاً على الاقتباس منه، واستأذنت عليه، فأذن لي، ودخلت. فإذا به جالس في مجلسه، عاكفاً على الكتب، قد أحاطت به. فنظر فيها والشمعة بين يديه تقد، وطويلة عليه، فسلمت فرد علي، وقال لي: يا يوسف أوَقد انسلخ الصبح. قلت: نعم، وقد صلينا. فقام الى صلاة الصبح، فصلاها، ثم رجع الى مقعده. وقال: يا يوسف ما صليت هذه الصلاة إلا بوضوء العشاء الآخرة. قال المغامي: كانت لابن حبيب قارورة، قد أذاب فيها اللبان في العسل، يشرب منها كل غداة على الريق، للحفظ. وكتب ابن حبيب، الى الرشاش الأديب يستهديه مداداً، ووجه إليه بقارورة كبيرة.
احتجت من حبر الى سقيه ... فأمدد لنا منه مرساك
وابعث وإن قل به طيباً ... ولا تكن دوناً فنلحاك
ولا تهولنك قارورتي ... فإنها أقنع من ذاك(4/138)
وأنشد له الزبيدي:
صلاح أمري والذي أبتغي ... هين على الرحمن في قدرته
ألف من الصفر وأقلل بها ... لعالم أوفى على بغيته
زرياب قد يأخذها قفلة ... وصنعتي أشرف من صنعته
ويروى فأخذها زرياب في نومه وأنشد له ابن الفرضي قصيدة كتب بها الى أهله من المشرق، سنة عشرين ومائتين:
أحب بلاد الغرب والغرب موطني ... ألا كل غربي إليّ حبيب
فيا جسداً أضناه شوق كأنه ... إذا نضيت عنه الثياب قضيب
ويا كبداً عادت رفاتاً كأنها ... يلدغها بالكاويات طبيب
بليت وأبلاني اغترابي ونأيه ... وطول مقامي بالحجاز أجوب
وأهلي بأقصى مغرب الشمس دارهم ... ومن دونهم بحر أجشّ مهيب
وهول كريه ليله كنهاره ... وسير حثيث للركاب تنوب
فما الداء إلا أن تكون بغربة ... وحسبك داء أن يقال غريب
فيا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... بأكناف نهر الثلج حين يصوب
وحولي صِحابي وبنتي وأمها ... ومعشر أهلي والرؤوف مجيب
ولما بلغه من تحامل الفقهاء عليه، ما شق عليه كتب الى الأمير عبد الرحمن: أسبغ الله على الأمير كرامته، وأعلا في الجنة درجته، أن العذري، أكرم الله الأمير، قال أبياتاً أعجب بها العلماء، ما فيها مثل يضرب على الأمير في خاصة(4/139)
نفسي واليسير من التعرض يكفي غيره من التصريح، كما قال الشاعر:
لذي اللهب قبل اللوم ما تقرع العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما
وهي:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلنَ لوجهها ... حسداً وبغياً إنه لدميم
يلقى اللبيب مشتماً لم يحترم ... شيم الرجال وعرضه مشتوم
وما هذا إلا كما قال زهير:
وأخذ التحمي ليس يبرح حاملاً ... ذنباً عليك عرفت أم لم تعرف
وكتب الى الأمير عبد الرحمن بن محمد في ليلة عاشوراء:
لا تنس لا ينسينك الرحمن عاشورا ... واذكر لا زلت في الأحياء مذكورا
قال الرسول صلاة الله تشمله ... قولاً وجدنا عليه الحق والنورا
من يأت في ليل عاشوراء ذا سعة ... يكن بعيشه في الحول مبرورا(4/140)
وتوفي ابن حبيب في ذي الحجة، سنة ثمان وثلاثين، وقيل تسع وثلاثين ومائتين. وقد بلغ سنة ستاً وخمسين سنة. وقال الشيرازي ثلاثاً وخمسين سنة. وقبره بقرطبة أم سلمة في قبلة مسجد الضيافة. وصلى عليه ابنه يحيى. وقال محمد بن حارث: توفي سنة سبع وثلاثين ومائتين إلا ستة شهور في ولاية الأمير محمد. قال ابن لبابة: حفر الى ابن وضاح الى جانب قبر ابن حبيب فانفتح ما بين القبرين فأدخل الحافر يده الى جنبه، وافر؟ لم تأكله الأرض. والتصق بيده من الكفن ورثاه أبو عبادة الرشاش وغيره:
لئن أخذت منا المنايا مهذباً ... وقد قل فينا من يقال المهذب
لقد طال فيه الموت والموت غبطة ... لمن هو مهموم الفؤاد معذب
ولأحمد بن باجي فيه من قصيدته:
ماذا تضمن قبر أنت ساكنه ... من التقى والندى يا خير موعود
عجبت للأرض أن غيبتك وقد ... ملأتها حكماً في البيض والسود
وخلف ابنين. محمد، وعبد الله، من ولده، وكان له حظ من العلم، إلا أن الزهد غلب عليه والعبادة. فانقطع إليها ولم يرغب في الدنيا، وعاد الى بلده البيرة، فلزمها الى أن توفي سنة إحدى وتسعين ومائتين. وقيل في نيف عليها.(4/141)
حدث عنه محمد بن فطيس الألبيري وكان يثني عليه ويحيى بن مطر وغيرهما. وقد روى أنها عن محمد. ووصف بالفضل والعلم.
هارون بن سالم قرطبي
يكنى أبا عمر. عده ابن أبي دليم في هذه الطبقة. قال ابن عبد البر: سمع من عيسى بن دينار، ويحيى بن يحيى، ورحل الى المشرق، فلقي أشهب وروى عنه، وعن أصبغ وعلي بن معبد، وسحنون، وروى عنه عامر بن معاوية القاضي. وأدخل العتبي من روايته المستخرجة، في كتاب الايمان بالطلاق. وكان منقطع القرين في الفضل والزهد، والعلم. وكان أحمد بن خالد يقول: إنه مجاب الدعوة. وإن دعوته استجيبت في أشياء. وكان بينه وبين ابن خالد قرابة، من قبل الأم، وكان يحفظ المسائل حفظاً حسناً. إلا أن العبادة غلبت عليه. قال ابن أبي دليم: وكان إذا دخل رمضان قال لزوجه أطوي الفراش. فلا ينام على فراش، حتى ينسلخ رمضان. وتوفي حدثاً في الأربعين من سنه متقدماً لقرنائه. سنة ثمان وثلاثين ومائتين. وكانت كتبه موقوفة عند أحمد بن خالد، وسنّه أربعون سنة. وقال ابن وضاح: ما رأيت هنا مثله. كنت إذا رأيته يصلي رحمته. قال غيره: كان إذا صلى يرتعد. وهو خال بني هلال.(4/142)
موسى بن الفرج قرطبي
يلقب بالثلجيلي. روى عن أشهب بن عبد العزيز. قال خالد: كان فقيهاً في المسائل على مذهب مالك. قال ابن حارث: كان من أهل الفتيا. وكان أبو صالح يصفه بالفقه. قال ابن وضاح: أخبرني سحنون وزياد بن المبشر أن ابن القاسم دعا عليه. وقال: لأعرضنّه على الله بالبكور والأسحار. وكان دعاؤه عليه سبب ما مشى بينه وبين أشهب، حتى أفسد ما بينهما.
هشام بن حبيش طليطلي
بضم الحاء المهملة وبعدها باء. كان صاحب رأي ومسائل. ورحل فسمع من ابن القاسم، وأشهب. وكان من أهل الفتيا والأسماع بصير بالاعراب. ذكره ابن حارث.
الفضل بن عميرة وابنه عبد الرحمن
قال أبو سعيد: فضل بن عميرة بن راشد بن عبد الله بن سعيد بن شريك بن عبد الله بن مسلم بن نوفل بن ربيعة بن مالك بن مسلم الكناني العتقي من أهل تدمير يكنى أبا العافية. قال ابن أبي دليم، وغيره: رحل مع ابنه عبد الرحمن فحجّا، وسمعا من ابن القاسم، وابن وهب، ومطرف وابن الماجشون. وكانا سمعا بالأندلس من يحيى بن مضر وغيره. وولي الفضل قضاء تدمير في إمرة الحكم بن هشام الى أن توفي، سنة سبع وتسعين ومائة.(4/143)
ثم ولي مكانه القضاء بها ابنه عبد الرحمن، ويكنى أبا المطرف. وكان سمع من أبيه، ومن شيوخ أبيه، كما ذكرنا. قال ابن حارث: وكان له طلب وعناية. وتوفي سنة سبع وعشرين ومائتين. ولهما عقب جميل في العلم، وبيته جليل في النباهة الى وقتنا.
الفرج بن كنانة
قال ابن حارث: هو الفرج بن كنانة بن نزار بن عتبان بن مالك الضمري. من ولد عمر بن أمية الضمري الكناني. نسبه في كنانة. ومسكنه في جند فلسطين. وكان مسكنه شذونة. قال ابن عبد البر: كنيته أبو القاسم. قال ابن حارث: وكان من أهل العلم والعبادة. وكانت له رحلة الى المشرق، سمع فيها من عبد الرحمن بن القاسم وغيره، من أهل العلم. قال غيره وسمع من ابن وهب. ولاه الحكم بن هشام بن عبد الرحمن قضاء قرطبة سنة ثمان وسبعين. فكان قاضياً أيام فتنة الربض، فاستنقذ الله بشفاعته كثيراً. وسكن من الأمر عند الأمير، فقال له إن قريشاً حاربت رسول الله صلى الله عليه وسلم وطردته، وبالغت في أذاه، وهو يدعوهم الى الهدى، ثم كان من صفحه عنهم لما أظهره الله عليهم ما علمت. وأنت أحق الناس بالاقتداء به لمكانك من قرابته وخلافة الله في عباده. فسكن عنهم وبذل لسيئاتهم الأمان على الجلاء عن قرطبة، وتردد القضاء في عقبه ببلده، مدة طويلة. ولم يزل القضاء متردداً في ولده بشذونة،(4/144)
قال: وكان الفرج مع فهمه فارساً شجاعاً، يتصرف للسلطان في قود الخيل وسد الثغور، وقيادتها. وقد ولاه الأمير الحكم، سرقسطة عند انتقاض طاعة بعض أهلها، من الغرب. لمكانه منهم. فألف كلمتهم وصلحت به أحوالهم. قال ابن عبد البر: كان فارساً شجاعاً شريفاً حكيماً جزلاً خيراً فاضلاً. ولي أثر ابن بشير فسلك سبيله. وكان صلب القناة في حكومته يعطي طوابعه في كل أحد من قرابة السلطان ووزرائه. فلا يرد له طابع. ولي سنة ثمان وتسعين واستعفى سنة مائتين فأعفي. قال ابن أيمن: كان للفرج قدر جليل، في الناس، ومكان عند السلطان. وله عقب فاش بشذونة. ذوو نباهة تردد فيهم قضاء بلدهم.
يحيى بن معمر بن عمران بن حنبل بن عبيد بن أنيف الألهاني
من العرب الشاميين. من أهل إشبيلية. كان منزله بمعدانة. قال ابن عبد البر: كنيته أبو بكر. قال ابن حارث: وكان في وقته فقيه إشبيلية وفارضها. وله رحلة. لقي فيها أشهب بن عبد العزيز. وأخذ عنه، وعن غيره من أهل العلم، وكان ورعاً زاهداً، فاضلاً عفيفاً مقبلاً على عمارة ضيعته.
باب ولايته القضاء وسيرته وفضله
قال ابن حارث: استقدمه الأمير عبد الرحمن بن الحكم ببلده،(4/145)
قضاء قرطبة، فعدّ من خير القضاة في قصد بصيرته، وحسن هديه، وصلابة قناته. لا يميل بلومة لائم وكان إذا أشكل عليه أمر، من أحكامه، واختلف عليه الفقهاء. تأنّى به، وكتب فيه الى مصر، الى أصبغ بن الفرج وغيره، من نظرائه بكشفهم عنه، فيجابهونه بما يعمل عليه. فكأنه يحقر بذلك فقهاء قرطبة فيدنونه؟ ويتبعون عثراته. وكان أشدهم عليه، زعيم الجماعة يحيى بن يحيى، وكانت آفة هذا القاضي، قلة رضاه عن الفقهاء، وتتبعه سقطاتهم، وقلة مداراته لهم. حتى سجل سبعة عشر رجلاً منهم السخط؟ فتفرقوا عنه بأجمعهم، ورفعوا عليه من كل جانب، وسعوا عليه جهدهم، حتى عزل. وذكر أنه لما عزل وأزمع على الرجوع الى وطنه، إشبيلية، أرسل إليه رجل من الوزراء كانت له به خاصة، ودالّة، بزوامل وأعوان، وقال له: عرّفه بثنائي على حفظ عهده، وسله أن يجعل على هذه الزوامل ثقلته. فلما أتاه بذلك جزاه خيراً على فعله. وقال له: أدخل حتى ترى ما عندنا من الثقلة، لتقيم العذر فيما رددناه على أبيكم من مكرمته. فإذا بيته خلا إلا من حصير، وخابية بدقيق، وقصعة، وقلة الماء، وقدح وفراش بتبن وسريرة كان يرقد عليها. وقال هذه والله ثقلتي. والله المحمود على اليسير. ثم قال لخادمه: فرّق الدقيق على من بالباب من الفقراء. وادفع الحصير والآنية الى ضعفاء الحومة.(4/146)
ثم ركب منصرفاً الى بلده. قال ابن وضاح: صليت صلاة الكسوف مع ابن معمر في جامع قرطبة، سنة ثمان عشرة ومائتين، فأحسن الصلاة، ولم يقم لها وطوّلها. بدأها ضحى وأتمّها في القايلة وقد تجلت الشمس وذلك في الصيف.
بقية أخباره
قال يحيى بن يحيى: لما قام الناس على ابن معمر أتاني سعيد بن حسان فقال لي: ما ترى في شهادتي عليه؟ قلت: لا تفعل، وانتظر أن تُشاور فيه، فيكون رأيك أنفذ من شهادتك. فغلبته شهوته وشهد فيه. فلم أنشب أن أتاني كتاب الأمير يقول لي: تصفحت الشهادات فلم أرَ فيها شهادتك وقد وجهتها إليك لتتصفحها، وتكتب برأيك فيها. فكتبتها الى الأمير: ما عندي من أخبار القاضي شيء. لأنه لم يكن يحضرني مجلسه. ولا يشاورني. وأما الشهادات عليه فلو وقع مثلها على مالك والليث ما رفعا بعدها رأساً. فأمسى معزولاً. قال ابن حارث: ثم ولي بعد الأسوار بن عقبة البصري، وكان من أهل الخير والتواضع والتحري، كان يحمل خبزه الى الفرن بنفسه، ولما عزل وأريد منه ثانية أبي، وقال فيّ عيوب كثيرة ضعف بدني، وكثر ولدي، فقيل له أو كثر ولدك من العيوب؟ قال: من أشدها. فولي يحيى بن معمر ثانية. وذلك أن الأمير ورد إشبيلية، فوجد بعض حواشيه، يحيى ابن معمر في جنة له، يستقي الماء بخطارة، ويسقي(4/147)
بقل جنانه. فذكر ذلك للأمير، فقال، الأمير: والله ما أشك في فضل الرجل وورعه، وإني لأظن أن الواقعين تألبوا بالباطل، وأمر من ساعته بتوجيهه الى قرطبة. فلما قدم حلف ألا يستبقي يحيى بن يحيى، ولا زونان، ولا سعيد بن حسان. فبقيت الأحكام معلقة الى مقدم الأمير، فبلغه. فأنكر ذلك. فقال له: قد أقسمت على ذلك. وفي البيرة رجل من أهل العلم والتقدم، ستغنى به عنهم. يعني عبد الملك بن حبيب. فأقدمه، وانفرد بفتياه. قال ابن أيمن، عن محمد: كنت يوماً عند ابن معمر. إذ دخل عليه ابن حبيب. فلما أخذ مجلسه قال له: قضيته، الآن أحب أن تنفذ فيها، بما أشرت به عليك هو الحق إن شاء الله. وكان ابن معمر، يريد أن يحكم فيها بقول ابن القاسم، وأفتاه ابن حبيب بقول أشهب. فقال ابن معمر: والله لا أفعل، ولا أخالف ما وجدت عليه أهل البلد من العمل على قول ابن القاسم. فما زال التراجع بينهما، حتى قام ابن حبيب مغضباً. فقلت له: هذا ابقه على أعدائك، كأني به قد صار في عددهم، ثم يعزلونه ثانية. فقال بالعزل تخوفني. ليت بغلتي عجزت في سهلة الحدود منصرفاً الى إشبيلية. وقد اختلفت الأخبار هل مات معزولاً أو قاضياً.(4/148)
قال ابن عبد البر: كان أول ما ظهر من حذق ابن معمر، أن تقديمه الى القضاء وافق ليلة فطر، وأضحى فمشى صبيحتها الى المصلى يقيم الصلاة، وكانت الصلاة للقاضي. وكان ابراهيم يومئذ أمر، أن يقام للإمام عترة. يصلي إليها، إذ لم يكن يومئذ للمصلى محراب. فإذا بأهل النباهة والفطنة من ذوي الهيئات، قد احتشدوا العترة، ليتعرفوا خطبته. فلما جاء وراءهم فهم الأمر. فكادهم بأن قال لقومه: إنذي أرى الناس قد ازدحموا، الى العترة، فقدّموها الى الفضاء، ليستوسعوا، فقدموها، وشط أنشاط الناس واخفاؤهم، فاصطفوا قربها، وتشاغل أولو الهيئات عن ذلك، ومكثوا مكانهم. فحصل قرب الشيخ من لم تكن عليه مؤونة. وقطع بأولئك. وذكر عن عثمان بن سعيد الزاهد، قال: لما احتضر يحيى بن معمر بإشبيلية، قال لمولى له من أهل الصلاح: أقسم بالله عليك، أجل الأقسام، إذا أنا متّ ألا ما ذهبت ليحيى بن يحيى فقل له يقول لك ابن معمر: " وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلَبٍ ينقلبون ". ففعل ذلك. فبكى يحيى وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. ما أظنه إلا خدعنا في الشيخ وسيء بيننا وبينه. ثم استغفر الله ملياً. ودعا له. وذكر ابن حارث: أنه ولي القضاء بقرطبة مرتين. إحداها سنة تسع ومائتين والأخرى بعد ذلك. قال ابن الفرضي: وهو الصحيح. قال ابن أبي دليم: وتوفي سنة ست وعشرين ومائتين.(4/149)
طبقة ثانية بعد هؤلاء
منهم من أهل المدينة
أبو الحكم المعروف بالبربري
قال القاضي اسماعيل بن إسحاق: أبو إسحاق بن الحكم المدني. المعروف بالبربري. كان من أصحاب عبد الملك بن الماجشون. وكان مشهوراً بكنيته. روى عنه القاضي اسماعيل في المبسوط، مسائل من الاحباس. ثم سأل عنها القاضي يحيى بن أكثم، عبد الملك بن الماجشون فأجابه فيها.
من أهل العراق
يعقوب بن شيبة
ابن الصلت بن عصفور بن شداد بن هيمان السدوسي مولاهم. أبو يوسف وقال الخطيب عن حفيده محمد بن أحمد في نسبه: عصفور بن ميدان مولى شداد ابن هيمان السدوسي. قال في الكتاب، الحكمي، وابن حارث: إنه كان بارعاً في مذهب مالك. وألّف في تآليف جليلة. أخذ ذلك ابن المعذل وأصبغ بن الفرج، والحارث بن مسكين، وسعيد بن أبي زيد، ولقي جماعة من أصحاب مالك. قال ابن كامل الفرضي: كان من فقهاء البغداديين على قول مالك، ومن كبار أصحاب أحمد بن المعذل والحارث، وكان من ذوي السند وكثرة الرواية(4/150)
ويعقوب هذا أحد أئمة المسلمين، وأعلام أهل الحديث المسندين. يروي عن فريد بن هارون، ويونس بن محمد، وهاشم بن القاسم، ويحيى بن أبي بكير، وجماعة ممن روى البخاري عن رجل منهم، فمن دونهم. قال أبو بكر الخطيب في تاريخ البغداديين: سمع يعقوب بالبصرة على ابن عاصم. ويزيد ابن هارون، وروح بن عبادة وعفان بن مسلم، ويحيى بن عبد الله الأنصاري، وهاشم بن القاسم، ويحيى بن أبي بكير، وأبا الوليد الطيالسي، وجماعة ذكرهم. روى عنه ابن ابنه محمد بن أحمد ويوسف بن يعقوب بن البهلول. قال: وكان ثقة سكن بغداد، وحدث بها، وبسرّ من رأى. ورماه أحمد بن حنبل بهواء وبدعة، حين أمر المتوكل بسؤال أحمد عمن يتقلد القضاء. فذكر له. قال الخطيب: إنما رماه بذلك لوقوفه في القرآن. قال ابن كامل: كان يقف بالقرآن. وقرأت بخط الحكم، والله أعلم، أن يعقوب كان ممن يقف في القرآن. قال القاضي: أصل وقوفه فيه. تقيه. أو سكوتاً عن الكلام فيما لم يتكلم فيه السلف، مع اعتقاده الحق والله أعلم. قال ابن كامل وكان لا يغير شيبة. قال ابن عبد البر: يعقوب أحد أئمة أهل الحديث. وصنف مسنداً معللاً. إلا أنه لم يتمه. قال الأزهري: سمعت الشيوخ يقولون، إنه لم يتم مسند معلل قط. قال عبد الغني بن سعيد: لم يتكلم أحد عن علل الحديث بمثل كلام يعقوب، وعلي بن المديني والدارقطني.(4/151)
قال شيخنا أبو علي القاضي، وكان أبو عبد الله بن أبي نصر الحميدي يقول: لو وجد كلام يعقوب على أبواب الحمامات للزم أن يُقرأ، ويُكتب. فكيف، ويوجد بسند لا مثل له. إعجاباً بكلامه. وقد ذكر الخطيب عن الدارقطني، وأبي عمر بن حيوة أنهما قالا: لو كان كتاب يعقوب على حمام. سطوراً لوجب أن يكتبها. وذكر عن الأزهري، أنه بلغه أنه كان في منزل يعقوب أربعون لحافاً، معدة لمن يبيت عنده من الوراقين، لتبييض كتابه، ونقله. ولزمه على ما خرج منه عشرة آلاف دينار. قال وقيل لي: إن مسند أبي هريرة منه. ومر بمصر في مائتي جزء. قال الخطيب: والذي ظهر منه مسند العتبة، وابن مسعود، وعمار، وعتبة بن غزوان، والعباس، وبعض الموالي. هذا الذي رأينا في مسنده حسب ما قال الباجي. وكان وقع لشيخة القاضي أبي علي منه قطعة صالحة. قال يوسف بن إسحاق بن البهلول، قال يعقوب بن شيبة: أظل عيد من الأعياد رجلاً. وعنده مائة دينار. لا يملك سواها فكتب إليه أخ يخبره أن العيد أظلّه، ولا شيء عنده ينفقه على الصبيان ويستدعي منه نفقة. فوجه إليه المائة في صرة، قد ختمها. فلم يكتب حتى كتب أخ آخر الى ذلك الرجل، يشكو له مثل شكواه هو للأول، ويستدعي مثل ما استدعاه. فوجه الصرة إليه، بختمها. وبقي الأول بلا شيء.(4/152)
فكتب الى صديق له: يستدعي منه نفقة. ويذكر إضاقته، فإذا به الثالث الذي عنده الصرة. فوجه بها إليه بختمها. فعرفها واستراب شأنها. فركب إليه ومعه الصرة. وسأله عن شأنها. فأخبره أنها وصلت إليه من صديقه فلان، بعدما استدعيت منه ما أنفقه. فلما وردت رقعتك عليّ آثرتك بها. فقال له: قم بنا إليه. فركبا جميعاً الى الثاني ومعهما الصرة. فتواصلوا الحديث. ثم فتحوها. فاقتسموها، أثلاثاً. قال يوسف والثلاثة: يعقوب بن شيبة، وأبو حسان الزيادي، وفلان، سماه. وقد تقدم شبه هذه القصة للواقدي، في أخباره. قال يعقوب: سألت أبا عمرو يعني الحارث بن مسكين عن المراكب في البحر. ينفق عليها السلطان ويجعل فيها ما يكفي، لمن يركب فيها، مما يأكلون الى أن يرجعوا، أترى للمطوعة أن يركبوها. فكأنه كره. ولم يعجبه. وسألته عن مبايعة الجند والسلطان. فكره ذلك للطعام والشراب وغير ذلك. وأن يجلب الى عسكرهم شيء. فقال ألا يخرجوا في غزو فأرجو أن لا يكون بمبايعتهم في جهتهم.(4/153)
قال: وسألته عما أخرج السلطان مباحاً للناس، كالجسور والقناطير، وما يوضع
في الطريق للشرب وشبهه. فقال أما ما لا يجد الرجل منه بداً، كالمساجد الجامعة، والجسور وشبهها فلا بأس به. وقد يبسطون به للمسافر. ويسرجون القناديل، وأما ما وجد منه بداً، فلا. وتوفي في ربيع الأول سنة اثنتين وستين ومائتين. مولده سنة اثنتين وثمانين ومائة. مع ابن عبد الحكم. في سنة واحدة. وقال ابن عبد البر: سنة أربع وثمانين. ي الطريق للشرب وشبهه. فقال أما ما لا يجد الرجل منه بداً، كالمساجد الجامعة، والجسور وشبهها فلا بأس به. وقد يبسطون به للمسافر. ويسرجون القناديل، وأما ما وجد منه بداً، فلا. وتوفي في ربيع الأول سنة اثنتين وستين ومائتين. مولده سنة اثنتين وثمانين ومائة. مع ابن عبد الحكم. في سنة واحدة. وقال ابن عبد البر: سنة أربع وثمانين.
أبو إسحاق ابراهيم بن محمد بن ضمره النيسابوري المعروف بالعطار
وكان فن فقهاء المالكية الخراسانيين فيهم. درس المذهب بنيسابور. وهو آخر من درس مذهب مالك رحمه الله تعالى ذكر ذلك أبو نصر بن ماكولا الحافظ، قال: وتفقه بعبد الله بن عبد الحكم. وسمع أبا عبد الله ابن أخي ابن وهب، ويونس بن عبد الأعلى، وأحمد بن منيع، ومحمد بن رافع، وتوفي سنة تسع وتسعين ومائتين.
من أهل مصر
أبو إسحاق البرقي
واسمه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عمرو، ابن أبي الفياض، مولى زهير. قال عبد الله بن محمد بن أبي دليم القاضي: كان صاحب حلقة أصبغ معدوداً في فقهاء مصر، يروي عن أشهب وابن وهب، وقد أخذ عن البرقي الناس بمصر.(4/154)
وروى عنه يحيى بن عمر. قال أبو عياش القروي: كنا عند البرقي بمصر، فامتنع علينا من إسماع بعض ما سألناه. فقلت لأصحابه: دعونا من هذا. فقد تركنا خلفنا من يكفينا عن الناس كلهم. قال، من هو؟ قلت: سحنون. فلم ينكر ذلك. وله مجالس وسماع، وكتب عن أشهب. حملنا عنه. قال ابن أبي دليم: وتوفي سنة خمس وأربعين ومائتين.
ذكر بني عبد الله بن عبد الحكم وهم أربعة
قد قدمنا في ذكر أبيهم وجدهم، نسبهم. وهم عبد الحكم، وعبد الرحمن، وسعيد، ومحمد. قال ابن حارث: وكانوا بمصر أربعة إخوة فقهاء علماء. بنو عبد الله بن عبد الحكم. فأما عبد الحكم بن عبد الله، أبو عثمان، فكان أكبر بني عبد الله. قال ابن أبي دليم، وابن حارث، ولم يكن فيهم أفقه منه ولا أجود حظاً، وكان خيراً، فاضلاً. له سماع كثير من أبيه، وابن وهب، وغيرهما من رواة مالك. وكان من أكابر أصحاب ابن وهب. قال الكندي: كان فقيهاً. قال أبو الطاهر: لم يكن في أصحاب ابن وهب أتقى منه، ولا أجود حظاً.(4/155)
حدث عنه الزيادي. وتوفي بمصر، في سجن يزيد التركي وعذابه سنة سبع وثلاثين ومائتين. قال زكريا بن يحيى بن الحكم. شهدت يحيى بن عبد الله بن عبد الحكم، ابن عبد الحكم. فقال لي أبوه: يحضر طعام ابن أخيك. فأتى بثريدة فأكلنا. ثم أتى بجفنة بطيخ، وكان ابن عبد الحكم هو الذي يخدمنا، ويوصينا. وكذلك كان طعامه للناس. ووجه الى المسلمين الذين حوله، في صلاة المغرب لكل مسجد ثريدة وجفنة بطيخ.
خبر محنته
كان القاضي نصر ابن أبي الليث الأصم، وكان معتزلياً. وقد امتحن بني عبد الحكم مع سائر الفقهاء، وأهل الفضل في القرآن، كما قدمنا. ثم وردت على الأصم كتب من العراق، في استخراج مال الجروي. من عند بني عبد الله بن عبد الحكم وغيرهم. فشهد جماعة بذلك، وشهد بنو عبد الحكم وآخرون: أن الجروي ابراهيم فتحامل عليهم ابن أبي الليث، وحكم على بني عبد الحكم بألف ألف دينار، وأربعمائة ألف، وأربعة آلاف دينار وحكم على زكريا بن يحيى كاتب العمري، بثمانية آلاف. وألزمهم المال،(4/156)
ودفع القصة الى يزيد التركي، الموجه في الحال من قبل المتوكل. فألزم المال بني عبد الحكم، وشدد عليهم، وسجنهم. فعذب عبد الحكم بن عبد الله حتى مات في عذابه، لأربع بقين من جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين. واستصفيت أموال بني الحكم وأصحابهم، ونهبت منازلهم، وملئت السجون من الناس، الى أن ورد كتاب المتوكل بإخراجهم من السجن، ورد أموالهم إليهم، وسجن الأصم القاضي، وقد كان ورد قبل هذا كتابه بسجنه، وسجن أصحابه، واستصفاء أموالهم، ولعنه على المنبر، فلعن. ولعنته الأمة على إثر ذلك. ثم أخرج من السجن، لينظر في أمر بني عبد الحكم، فوضع يده على بيت المال، فبذره. وذلك نحو مائة ألف وعشرين ألفاً. ودفعوا الى كل واحد منهم من الذين سجنوا معه العشرة الآلاف ونحوها، فأمر المتوكل بسجنه، وأمر بحلق رأسه ولحيته، وضربه بالسوط. وحمله على حمار بأكافٍ، وتطويفه بالفسطاط، ففعل ذلك كله به. وحكى ذلك أبو عمر الكندي، في كتاب الموالي، وفي كتاب القضاة. وذكر غيره، أن موت عبد الحكم إنما كان بسبب المحنة في القرآن، وأنه دخّن عليه بالكبريت حتى مات. وقال المالكي: سجنه الأصم وابن أبي الجواد فلم يرجع. فضرب في مسجد مصر أقل من ثلاثين سوطاً في خلافته.
أخوه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم
أبو عبد الله، سمع من أبيه وابن وهب، وأشهب وابن القاسم، وشعيب ابن الليث وغيرهم، من أصحاب مالك والليث. وصحب الشافعي، وكتب كتبه، وأخذ عنه. كان أبوه ضمه إليه، وأمره أن يعول عليه، وعلى أشهب. وكان محمد أفضل الناس فهماً.(4/157)
ويروي عن أبي فديك، وأنس بن عياض، وشعيب بن الليث، وبشر بن بكير، وحرملة بن عبد العزيز، وإسحاق بن الفرات. وخالد بن عبد الرحمن الخراساني. وأيوب بن سويد. روى عنه أبو بكر النيسابوري، وابراهيم بن محمد الحلواني، وأبو حاتم الرازي. وابنه عبد الرحمن، وأبو بكر الأصم، وأبو إسحاق بن خزيمة. وعيسى بن مسكين. وسعيد بن إسحاق، وعمر بن يوسف الإشبيلي، وعمر بن حفص بن غالب، ومحمد بن فطيس، وعبد الله بن خالد الفارسي، وأبو جعفر الطبري. ومحمد بن الربيع الجيزي، وسعد بن معاذ.
ذكر مكانه من العلم والفضل
قال ابن حارث: كان من العلماء الفقهاء، مبرزاً من أهل النظر، والمناظرة، والحجة فيما يتكلم فيه ويتقلده من مذهبه، وإليه كانت الرحلة من المغرب في العلم والفقه من الأندلس. قال أبو عمر بن عبد البر: كان فقيهاً نبيلاً جليلاً، وجيهاً في زمانه. وحكي لابن القاسم قوله فيه: أن قيل بحر العلم. وهذا يبعد لما نذكره. قال الشيرازي: إليه انتهت الرياسة بمصر. قال ابن أبي دليم: كان فقيه مصر في عصره، على مذهب مالك، وصحب الشافعي، فرسخ في مذهبه. وربما تخير قوله عند ظهور الحجة له. وكانت له مناظرة في الفقه. قال الكندي: كان أفقه أهل زمانه، وإليه انتهت الفتيا بمصر، وناظره ابن ملول صاحب سحنون، فقال لي معه، صاحبكم أعلم من سحنون.(4/158)
قال سعيد بن عثمان: محمد بن عبد الحكم ثقة، فاضل عالم. رأيته بمصر يركب حماراً قصيراً حقيراً، منتوف الذنب، ويقول: فقيه الطريق. ويروح الى الجمعة بقميص مرقوع بين كتفيه. ولو شاء لبس أرفع الثياب، وركب أفره الدواب، لسعة ماله. وذكر كثيراً من فضله وتواضعه. وقال ابن أبي حاتم: هو صدوق ثقة، ونبيل، الثناء عنه، هو أطرف وأنصف من أن يكذب. قال محمد بن فطيس الأيسري: لقيت في رحلتي، نحو مائتي شيخ، ما رأيت فيهم مثل محمد بن عبد الحكم. قال أبو عمر الصدفي: ورأيت أنا أهل مصر، لا يعدلون به أحداً. ويصفونه بالفضل والعلم والتواضع. ووجدت حلقته قائمة بجامع مصر، قد جلس فيها ابن رمضان، وذكر الخطيب في تاريخ البغداديين، عن أخيه سعد بن عبد الله: كان الشافعي يأتي راكباً الى الباب، يعني باب بني عبد الحكم. فيقول ثمّ محمد؟ فيدعوه فيذهب معه الى منزله، فيقيل عنده. قال أبو بكر بن خزيمة: وهم أربعة إخوة، فسماهم. قال ولم ندرك نحن منهم إلا اثنين. يعني محمداً وسعداً. قال: ومحمد أعظم من رأيت في مذهب مالك، وأحفظهم له. وسمعته يقول: كنت أتعجب ممن يقول في المسائل، لا أدري. فأما الآثار، فلم يكن يحفظها. وكان أعبدهم، وأكثرهم اجتهاداً، وصلابة سعد. وكان محمداً من أصحاب الشافعي، وممن يتعلم منه. وله تواليف كثيرة، في فنون العلم، والرد على المخالفين. كلها حسان. ككتاب أحكام القرآن، وكتاب الوثائق والشروط، وكتاب مجالسه أربعة أجزاء وكتاب الرد(4/159)
على الشافعي، فيما خالف فيه الكتاب والسنة، وكتاب الرد على أهل العراق، وكتابه الذي زاد فيه على مختصر أبيه، وكتاب أدب القضاة، وكتاب الدعوات والبينات، وكتاب اختصار كتاب أشهب، وكتاب السبق والدين، وكتاب الرد على بشر المريسي، وكتاب الصوم وكتاب الكفالة، وكتاب الرجوع عن الشهادات، وكتاب المؤيدات. قال ابن حارث: وأرى أنها مولفة عليه. لأنها مسائل منثورة لم تضم لباب كالأسمعة.
ذكر أخباره
ذكر أبو إسحاق الشيرازي محمداً في الشافعية، ولم يذكره في المالكية. ولا أدري لم فعل هذا. والتزامه لمذهب مالك، وإقامته فيه مشهورة. وتواليفه على مذهبه والرد على الشافعي وغيره معروفة، مع أن غيره من أصحاب الشافعي، يذكرون أنه كان أولاً من أصحاب الشافعي، وأنه رجع عنه آخراً. ويذكرون لذلك سبباً، فذكر أبو حامد الطوسي الغزالي في كتاب آداب الصحبة، له: أن سبب ذلك أن أصحاب الشافعي سألوا الشافعي في مرضه لمن يجتمعون إليه بعده، فتطاول بها ابن عبد الحكم، وكان من أحب الناس الى الشافعي وأخصهم به. فحضهم الشافعي على البويطي، فأنكرها ابن عبد الحكم وانحرف عند ذلك عن رأي الشافعي، ورجع الى مذهب أبيه. وهذا كله ظن منهم. وإلا فقد عرف درس ابن عبد الحكم لمذهب أبيه عليه، وعلى أصحابه أكثر من درسه لمذهب الشافعي. بل إنه صحب الشافعي واستفاد منه، واختص به وذكر أنه زار الشافعي في مرضه. فأنشد الشافعي رضي الله عنه:
مرض الحبيب فعدته ... فمرضت من حذري عليه
وأتى الحبيب يعودني ... فبرئت من نظري إليه(4/160)
ذكر أبو عمر الصدفي عن محمد أن أباه قال له: الزم هذا الرجل. يعني الشافعي. فإنه كثير الحجج. فليس بينك وبين أن تقول: قال ابن القاسم فيضحك منك. إلا أن تخرج من هذا البلد الى غيره. فكان كما قال. ما هو إلا أن خرجت للعراق، فتكلمنا في مسألة. فقلت لابن أبي داؤود من يقول بقولك أنت؟ قال: أبو يوسف. وقلت إنما قال ابن القاسم. فقال لي من ابن القاسم؟ قلت: رجل يقال بقوله من مصر الى مغرب الشمس، فكأنه اهتم حيث لم يعرفه. فقال له: كاتب لابن أكتم، هو من عبادهم وفقهائهم. قال البلخي أبو عبد الله: كنت يوماً عند محمد بن عبد الحكم، إذ خرج له صبي صغير عليه حلية ذهب. فقلت ما هذا؟ فقال إنه صبي. فقلت إن لم يكن متعبداً في نفسه، فأنت متعبد فيه، بأن لا تسقيه خمراً ولا تطعمه الخنزير. فقال: إنه من عمل النساء. يعني فعلته بغير أمره. قال محمد بن عبد الحكم: قلت للشافعي: لأي شيء أخذتم أنه إذا مسح الإنسان بعض رأسه، وترك بعضه، أنه يجزيه. قال: من سبب الباء الزائدة. قال الله تعالى: فامسحوا برؤوسكم. ولم يقل رؤوسكم.(4/161)
قلت له: فأي شيء ترى في التيمم، إذا مسح الإنسان بعض وجهه وترك بعضاً. قال: لا يجزيه. فقلت له: لم وقد قال الله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه. فسكت. وكان محمد يقول: التوقر في الزهد، مثل التبذل في الحفلة. قال بعضهم: أنشد محمد بن عبد الحكم:
لما عفوت ولم أحقد على أحد ... أرحت نفسي من غم العداوات
إني أجيء عدوي عند زاويته ... لأدفع الشر عني بالتحيات
وأظهر الشر للإنسان أبغضه ... كما أملي قلبي من محبات
ولست أسلم ممن لست أعرفه ... فكيف أسلم من أهل المودات
وقد ذكر أبو بكر بن خزيمة، قال: جرت بين محمد وبين البويطي وحشة في مرض الشافعي الذي مات منه. فتنازعا مجلس الشافعي. كل واحد منهما يقول: أنا أحق بمجلسه منك. فجاء الحميدي، فقال: قال الشافعي: ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف. يعني البويطي. فكذبه ابن عبد الحكم، فرد عليه الحميدي، فغضب ابن عبد الحكم، وترك مجلس الشافعي. وتقدم فجلس في الطاق الثالث. قال معد بن معاذ: حضرت محمد بن عبد الحكم يفتي في المشي الى مكة، بكفارة يمين. وحكى ذلك عن ابن القاسم أنه أفتى به ابنه، وذكر عنه أن قوماً استشاروه في الحج، أو الجلوس الى السماع. فأشار على بعضهم بالحج وبعضهم بالجلوس. فسأله عن ذلك، الذي أمره بالحج،(4/162)
فقال له: رأيت عند أصحابك فهماً، ورأيتك بخلافهم. وهذا الأمر، برهان. قال: إني ذاكرت الشافعي يوماً بحديث، وأنا غلام. فقال: من حدثك؟ قلت: أنت. فقال: في أي كتاب؟ قلت: في كتاب كذا. فقال: ما حدثتك به من شيء فهو كما حدثتك. وإياك والرواية عن الأحياء. وسئل محمد: هل للجد جزاء في الآخرة، على قدر أعمالهم؟ فقال: نعم. قال الله: " ولكلٍ درجاتٌ مما عمِلوا ". وسئل محمد بن عبد الحكم، كيف يُعزّى الرجل المسلم في أمه النصرانية؟ فقال: يقال له: الحمد لله على ما قضى. قد كنا نحب أن تموت على الإسلام، ويسرك الله بذلك. وسئل أيضاً عن مثل هذا في القريب النصراني، يموت للمسلم. كيف يعزى عنه. فقال: يقول إن الله كتب الموت، والموت حتم على الخلق كلهم.
محنته
قال القاضي عياض أبو الفضل رضي الله عنه: قد تقدم ما جرى عليهم في محنته، في خبر قال الجروي:(4/163)
وأما محنته في القرآن، فذكر أبو إسحق الشيرازي، أنه حمل في المحنة بالقرآن الى بغداد، الى ابن أبي دؤاد. ولم يجب الى ما طلب منه. فرد الى مصر. وقال غيره: ذكر أنه ضرب في ذلك، وأدخل الكبريت تحت ثيابه، وأوقد في جوانب ثيابه، فاحترق ثيابه، فتنحوا عنه، فهرب واستتر في دار امرأة. وقيل إنه علق ودخِّن من تحته. قال أبو عمر الكندي: لما أمر الواثق الناس بالمحنة، في القرآن. ورد كتابه الى أبي بكر الأصم، قاضي مصر. فأخذ الناس بذلك. فلم يبق فقيه ولا مؤذن ولا معلم إلا أخذ بها. فهوى كثير من الناس، ومليت السجون ممن أنكرها، وأمر القاضي أن يكتب المخلوق على أبواب المساجد. فذكر بعضهم، أنه رأى مطراً غلام الأصم، يسوق هارون الأيلي بعمامته. وهي في عنقه وطيلسانه تحت عضده. وهارون ينادي على نفيه بالمخلوق حتى أخرجه من السجن. وطاف به الطرق كلها، كذلك أتى مطر الى محمد بن عبد الحكم، فأخذ برجله، فوثب محمد، فلما همّ مطر أن يتناول قلنسوته، بادر محمد فجعلها في كمه. فأطافه مطر ينادي بالمخلوق، فمضى به على حلقة المعتزلة، فقالوا له: الحمد لله الذي هداك يا عبد الله. ففي هذا يقول الجمل المصري من قصيدة يمدح الأصم:
ومحمد الحكمي أنت أطفته ... وأخاه ينعق بالصياح الأجهر
كل ينادي بالقران وخلقه ... فشهرتهم بمقالة لم تشهر
أعطتك السنة أتتك ضيرها ... وأتتك ألسنة بما لم تضمر(4/164)
ومات في ذي القعدة منتصف سنة اثنتين وثمانين ومائتين فيأتي على هذا أن سماعه من ابن القاسم، كان وهو ابن نحو تسعة أعوام. لأن وفاة ابن القاسم في صفر سنة إحدى وتسعين ومائة. ومن ابن وهب وهو ابن بضعة عشر عاماً. رحمه الله وهذا يضعف ما تقدم فيما حكى ابن القاسم قال: إن قيل محمد لعلم. إذ يبعد أن يقال ذلك لمن هو في هذا السن حمله، ولعل ابن القاسم إنما قاله لأبيه عبد الله. فقد روى عنه كثيراً ابن أخيهم عبد الحكم. والله أعلم.
أخوهما عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم أبو القاسم
روى عن أبيه وعن ابن الماجشون وابن بكير والقعنبي، وعن جماعة من أصحاب مالك، وعن شعيب بن الليث، وزيد بن الحسن. وعبد الله بن صالح، وسعيد بن عفير، وعبد الله بن يزيد المقري، وعن يونس بن يحيى ابن يحيى بن نباته. وادريس بن يحيى الخولاني. ووهب الله بن راشد، وأسد بن موسى، وطلق بن السمح، وهاني بن المتوكل. كتب عنه أبو جعفر الطبري، وأبو عبيد الله الحميدي، وأبو حاتم بمصر. وفتح ابن محرّق. روى عنه أحمد بن بشير الدمشقي، وعيسى بن مسكين، وابراهيم بن أبي روح. له كتاب فتوح مصر، رواه علي بن قرين،(4/165)
وله كتاب آخر، رواه عنه عيسى بن مسكين. قال عبد الرحمن بن الحكم: لما رميت جمرة العقبة، قبل أن أفيض، دعوت ببان فمسيت منه. فقال لي أبي: ما تصنع. قلت ادهن به، فسكت. واتبع عبد الرحمن في ذلك حديث عائشة. كنت أطيّب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي محرمة. قبل أن يحرم، وبحله قبل أن يطوف بالبيت. فقيل لمحمد أخيه أتقول بهذا الحديث. فقال: والله إني لا أعظم أن لا أقول؟ قال ابن أبي دليم: توفي في محرم سنة سبع وخمسين ومائتين. قال أبو زرعة الرازي: هو رجل صالح من أفاضل المسلمين. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم. يقال إنه من الأبدال وهو صدوق.
أخوهم أبو عمر سعد بن عبد الله بن عبد الحكم
أبو القاسم عبد الرحمن. روى عن أبيه وعن ابن الماجشون يروي عن وهب بن راشد، ويحيى بن حسان التنيسي وابن نافع، وعبد الملك بن الماجشون، وعلي بن جعفر بن محمد، وآدم بن أبي إياس العسقلاني وجل روايته عن أبيه. وهو أصغر إخوته. وكان من علماء هذه الطبقة. قال الكندي: كان فاضلاً، قال أبو حاتم: هو صدوق -(4/166)
قال أبو بكر بن خزيمة: كان أعبدهم وأكثرهم اجتهاداً وصلاة، وسمع منه. وتوفي في رجب سنة ثمان وستين ومائتين وفي السنة التي توفي فيها أخوه. وكذا قال ابن أبي دليم. وقال ابن شعبان: توفي قبل أخيه محمد بستة أشهر. وحكى أبو عمر الصدفي، عن النسائي قال: سعد أقدم موتاً من أخيه محمد. وكان موسى بن هارون الحمال ينتحب عليه. وروى عنه محمد بن القاسم المصري، وابراهيم بن محمد الحلواني، وابن أبي حاتم، وأبو بكر بن خزيمة، ومحمد بن الربيع، وعمر بن حفص بن غالب. مولده سنة إحدى وتسعين ومائة.
محمد بن ابراهيم بن رباح الاسكندراني المعروف بابن المواز
قال أبو إسحق الشيرازي: تفقه بابن الماجشون، وابن عبد الحكم، واعتمد على اصبغ وروى محمد أيضًا عن ابن بكير وأبي زيد بن أبي أنعم. والحارث بن مسكين، ونعيم بن حماد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: وقرأت في كتاب القاضي ابن أبي دليم، أنه روى عن ابن القاسم، وابن وهب، وأن مولده في رجب سنة ثمانين ومائة. فإن صح فإنما روى عن ابن القاسم صغيراً، كما ذكرنا في كتاب محمد بن عبد الحكم والله أعلم. قال الشيرازي: والمعول بمصر على قوله. قال ابن حارث: كان راسخاً في الفقه، والفتيا. علماً في ذلك.(4/167)
قال الشيرازي: وطلب في المحنة بالقرآن فخرج هارباً الى الشام. فلزم حصناً بها الى أن مات. قال أبو نصر السوسي: كنت ربما أقول قال محمد بن عبد الحكم: قال سحنون، في هذه المسألة كذا. وأنكر كذا. فيتلقى ذلك بالقبول ويعظم عندي ويترحم عليه. قال: وكان ابن المواز، لا يتلقى ذلك بالقبول. ويقول لي من هذا خرج العلم، ومن عندنا أتاكم. ومثل هذا من القول. وذكر أبو عمر الكندي أن سبب خروجه، أن المعتمد لما خرج للاجتماع بطولون، أمير مصر فخرج أبو أحمد الموفق أخوه، يريد صرف المعتمد عن طريقه ورده الى سر من رأى، ووكل به. فبلغ ذلك ابن طولون بعد خروجه فانصرف الى دمشق، وكتب الى جميع عماله بإحضار الفقهاء والقضاة والأشراف، وكتب إليهم بما جرى من قضية المعتمد، وأنه في حالة المأسور، وأنه يبكي. وقال الخطيب بمصر يذكر ذلك يوم الجمعة، وما قيل في الخليفة. وقال اللهم اكفه من حصره وظلمه، وخرج من مصر بكار بن قتيبة القاضي، ومنهال بن حبيب، وإسحق بن محمد بن معمر وابراهيم المهلبي وفهد بن موسى، ومحمد المواز، وعلي بن محمد بن عبد الكريم وآخرون. فلما اجتمع الناس بدمشق، أمر ابن طولون بالكتاب فيه خلع أبي أحمد الموفق من ولاية العهد، لمخالفته الخليفة وحصره. وأنه قد وجب جهاده على الأمة، وشهد في ذلك جميع من حضر إلا بكار بن قتيبة ومحمد بن المواز وفهد بن موسى(4/168)
فقال البكار: لم يصح عندي ما فعله موسى أبو أحمد. وذلك سنة تسع ومائتين. وله كتابه المشهور الكبير، وهو أجل كتاب ألّفه قدماء المالكيين وأصحها مسائل، وأبسطها كلاماً، وأوعبها. وذكره أبو الحسن القابسي، ورجحه على سائر الأمهات، وقال: لأن صاحبه قصد الى بناء فروع أصحاب المذهب، على أصولهم، في تصنيفه، وغيره. إنما قصد بجمع الروايات ونقل مقصور السماعات ومنهم من نقل عنه الاختيارات في مشروحات أفردها، وجوابات لمسائل سئل عنها، ومنهم من كان قصده الذب عن المذهب، فيما فيه الخلاف، إلا ابن حبيب فإنه قصد الى بناء المذهب عن معان، تأدت إليه، وربما قنع بنص الروايات على ما فيها. وفي هذا الكتاب جدة تكلم وعلى أهل العراق بمسائل من أحسن كلام وأنبله، وهو من رواية ابن ميسر وابن أبي مضر، عنه. وفي بعض النسخ زيادة، كتب على غيرها، ونقص من أصل الديوان، كتب منها الصلاة والطهارة إلا أن له في الصلاة كتاب فيه، من أبواب السهو وقضاء الصلاة، إذا نسيت. وصلاة السفر، وله كتاب الوقوف وإن الكتاب رواه بكماله قوم من أهل مكة(4/169)
وتوفي فيما قاله ابن حارث وابن أبي دليم بدمشق، لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، سنة تسع وستين ومائتين. وقال غيرهما: سنة إحدى ومائتين، ومولده سنة ثمانين ومائة. قال ابن أبي مضر: ومولده في رجب من سنة ثمان ومائة.
محمد بن سلمة بن عبد الله بن أبي فاطمة
ابن الحارث مولى مراد. قال الكندي: كان فقيهاً، روى عن ابن وهب، وابن القاسم، وكان يكتب للحارث بن مسكين في قضائه، وقال ابن أبي دليم: وتوفي سنة ثمان وأربعين ومائة.
عبد الملك بن شعيب بن الليث
ابن سعد، بن عبد الرحمن. مولى خالد بن ثابت الفهمي ثم الكتاني وجده الليث إمام مصر في وقته. وابنه شعيب، من فقهائها. ذكر عبد الملك هذا ابن أبي دليم، وابن حارث، في هذه الطبقة من المالكية. وقال الكندي كان فقيهاً، وكان عسيراً في الحديث. وجل روايته عن أبيه عن جده، وكان من أصحاب ابن وهب، وتوفي سنة ثمان وأربعين ومائتين.
حبيش بن سليمان بن برد التجيبي
مولاهم، تقدم ذكر أبيه، وضبط اسمه بحاء مضمومة وباء موحدة مفتوحة وياء التصغير، وشين معجمة.(4/170)
كنيته أبو القاسم، يروى عن أبي ضمرة. حدث عنه يحيى بن عثمان بن صالح. توفي سنة خمس وأربعين ولسليمان ولد آخر، اسمه؟ لم نجد من ذكرهما في الفقهاء. ولكن ذكر الناس أولادهما وسيأتي ذكر ولده في موضعه إن شاء الله تعالى.
يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسرة حرمله بن يحيى التجيبي
أبو حفص، هو حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة بن عمران بن مراد، مولى بني زميله بزاي معجمة، ذكره ابن أبي دليم، في فقهاء المالكية قال الكندي: كان فقيهاً روي عن ابن عيينة وابن وهب، والشافعي، وبهما تفقه، ويروى عن العلاء بن عاصم، ولم يكن بمصر أكتب عن ابن وهب منه، وكان سبب ذلك أن ابن وهب، حين طلب للقضاء، استخفى في منزله مدة طويلة، وكان أبوه يحيى قد ولي القصص والسوق، وكان مقبولاً عند القضاة، وولي على الجزيرة وجده حرملة بن عمران من فقهاء مصر توفي سنة ست عشرة ومائتين،(4/171)
وكان يحجب الأمراء، ويعرف بالحاجب، حدث عنه عبد الله بن يزيد المقري، وعبد الله بن المبارك، وقال فيه: كان من ذوي الأنساب، قال عبد الله بن يزيد: جئناه في قوم بسبب السماع، فخرج علينا راكباً، وقال: هذا يوم لا أشتغل فيه بغير المنابر، قلنا له: وما تصنع في المنابر؟ قال: أبكي على أصل الشرف، فإنما الدين مع الشرف، إذا ذهب الدين ذهب الشرف، قال ابن حنبل وابن معين: هو ثقة، توفي سنة ستين ومائتين، روى عن حرملة بن يحيى الناس، ومسلم بن الحجاج، وخرج عنه في صحيحه، وذكره البخاري في تاريخه، وروى عنه الرازيان: أبو حاتم، وأبو زرعة، وأبو علي الغساني، والرمادي، ويحيى بن عمر، وابن وضاح، وعده أبو إسحاق الشيرازي في أصحاب الشافعي، وكان راوية كتبه الأخيرة، قال: وكان حافظاً للحديث وصنف المبسوط والمختصر، قال ابن أبي دليم: كان رسخ في مذهبه، وترك الفتيا به، فكان لا يفتي إلا بمذهب مالك، قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، قال يحيى بن معين: كان أعلم الناس بابن وهب، وتكلم فيه،(4/172)
قال الحافظ الحاكم: هو شيخ جليل القدر والمحل، في الحديث والفقه معاً، ومثله لا يترك، وقال ابن وضاح: قلت يوماً لحرملة، مثله يا أبا حفصل مثلك، وأنت تذهب مذهب أصحابك المصريين، تقرأ مثل هذه الكتب، يعني كتب الشافعي، فقال لي: يطلبها مني هؤلاء. فقلت له: أوَكلما طلب منك تخرجه، قال: أستحي والله منهم، قال الكندي: ونظر أشهب الى حرملة، فقال: هذا خير أهل المسجد. قال حرملة: عادني ابن وهب من رمد بي، فقال: يا أبا حفصل إنه لا يعاد من الرمد، ولكنك من أهلي، وشرح حرملة الموطأ، فما سأل عنه ابن وهب قال حرملة: سمعت سفيان. وسئل عن قول الناس السنّة والجماعة، ما تفسير ذلك؟ فقال: الجماعة ما أجمع عليه أصحاب محمد، من بيعة أبي بكر، وعمر، والسنّة: الصبر على الولاة، وإن جاروا، وإن ظلموا. وتوفي حرملة سنة ثلاث وأربعين ومائتين. قال الأمير مولده سنة ستين ومائة.
أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن عبد الله
ابن عمر بن السرح. مولى عتبة بن أبي سفيان. وقيل مولى فيصل مولى عتبة. وكان سرح جده أندلسياً. طباخاً، سكن أسيوط.(4/173)
قال أبو عمرو وجلّ روايته عن ابن وهب. وغلب عليه الحديث، وسمع من ابن عيينة، وبشر بن بكر، وسالم بن ميمون، وغير واحد. وروى عنه أبو زرعة، وأبو داود السجستاني، وأبو حاتم السجستاني، وأبو حاتم، ومسلم، وخرج له في صحيحه. قال أبو حاتم: لا بأس به. كان صدوقاً. قال ابن أبي دليم: هو من متقدمي هذه الطبقة. وكان ثقة. قال الكندي: كان أبو الطاهر فقيهاً، وكان موضحاً كله، وشرح موطأ عبد الله بن وهب. وتوفي سنة خمسين ومائتين. وقيل سنة ثلاث وخمسين. مولده سنة تسعين ومائة.
أبو بكر عبد الكريم بن الحارث بن مسكين
ابن الحارث بن باقية الزهري. مولاهم. وليس بولد الحارث بن مسكين، القاضي. هذا حارث آخر. قال عبد الله بن محمد: هو من أكابر أصحاب ابن وهب. وعنه جلّ روايته. قال الكندي: كان فقيهاً. توفي سنة ثمان وأربعين ومائتين. وبيته بيت جلالة ونباهة بمصر.
يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسره
ابن حفص بن حيان الصدفي. أبو موسى من آل خالد بن يزيد ابن السيد الصدفي.(4/174)
سمع من ابن عيينة، وابن وهب، وأشهب، ومعن بن عيسى، والوليد بن مسلم، ووكيع، وعبد الله بن نافع الصايغ والشافعي، وسفيان بن عيينة. وروى عن العلا بن عاصم، وبشر بن بكر، وقرأ على ورش، وصقلاب وغيرهما. كان أحد الرواة المشهورين، رحل إليه الناس، فسمعوا منه، وطال عمره. قال ابن أبي دليم: وكان ثقة حافظاً، سمع منه أبو زرعة، وأبو حاتم، وابنه، ومحمد بن عبد الله الأنصاري وأبو بكر بن خزيمة، وأبو جعفر الصدفي، وأحمد بن محمد الواسطي، ومحمد بن الربيع، ويونس بن سهل، وأحمد بن كامل، وفتح بن شجر، وأبو بكر النيسابوري، ومسلم بن الحجاج، وخرج عنه، ومن الأندلسيين: سعيد بن عثمان، والأعشابي، وابن خمير، ومحمد بن وليد بن أسلم بن عبد العزيز القاضي. قال أبو حاتم الرازي: قدمت مصر، فلقيت أبا الطاهر بن السراج فقال لي: كم لك هنا؟ قلت شهراً. قال لقيت يونس أبا موسى؟ قلت: لا. فأنكر ذلك علي، وجعل يعظم من شأنه. وقال أبو حاتم الرازي: هو ثقة. ورفع من شأنه. قال الباجي: هو من أجلّ أصحاب ابن وهب.(4/175)
قال الطبري: كان فقيهاً وكان شديد التقشف في أول أمره، مقبولاً عند القضاة. قال ابن علاثة: قال لي أبي، ما يدخل من باب المسجد أعقل من يونس. وقال يحيى بن حسان: يونسكم هذا من أركان الإسلام. قال أبو عبد الله: هو ثقة. وفوق الثقة. ورفع من قدره. وكتب عن سفيان كثيراً، كتبه الناس من حفظه. قال النسائي: هو أوثق أصحاب ابن وهب. قال: وكان فقيراً، وأقطعه محفوظ أرضاً. فكان يزرعها ولا يأخذ منه خراجاً. أقام على ذلك سنين كثيرة. فكان ذلك أول غناه، ولما حكم الحارث بن مسكين، بإخراج بني البنات من حبس بني السائح، وتشكوا الى المتوكل، وأفتى أهل العراق بفسخ حكمه، واستغفر الحارث على ما ذكرناه، وولي القضاء بكار بن قتيبة، ورد كتاب المتوكل عليه في النظر في حكم الحارث، في هذه القضية، وأحضر يونس لها. فاستعظم بكار فسخ القضية، إذ حكم الحارث فيها بمذهب أصحابه المدنيين. فلم يزل به يونس حتى جهر بالحكم، بفسخها. قال يونس: قال لي الحارث: ما علمت أحداً اختلف الى الشافعي، شق علي كما شق اختلافك عليه. قال يونس: إنما أخذت عنه من أحكام القرآن كتاباً واحداً. قال يونس: وجدت غير شيء، فرأيت في المنام قائلاً يقول: اسم الله الأكبر لا إله إلا الله.(4/176)
فقلتها عليه، ومسحت بيدي، فأصبحت معافاً. وقال ابن بكير لرجل شكا إليه الفقر: ألا أتيت يونس، فدعاك، فوالله إني لأجد له بركة وتوفي سنة أربع وستين. وصلى عليه الأمير ابن طولون. وقيل في هذه السنة توفي المزني وابن أخي ابن وهب، وأبي بكر بن الوقار، ويزيد بن سنان وتوفي سنة أربع وستين. مولده سنة إحدى وسبعين ومائة، وقيل سنة سبعين في ذي الحجة.
محنته
قال الكندي، عن ابن عثمان: كان جعفر بن قادم، أوصى الى يونس وكان ذا مال عريض، فحبسه ابراهيم بن الجراح، حتى استخرجها من يده. وقال غيره: أوصى أحمد بن أبي أمية، الى يونس وثلاثة معه، بمال. فصرف اثنان منهم الى يونس، وصيتهما. فطولب يونس بها عند ابن أبي الليث. فسجنه في ذلك. فيقال إنه بقي في السجن ثمان سنين من سنة ثمان وعشرين الى سنة خمس وثلاثين. فلما قدم قوصرة، من عند المتوكل، ليكشف أمر أبي الليث، قيل له: إئت يونساً يشهد عليه وهو في سجنه. فأخرجه وسأله عنه، فقال: ما علمت إلا خيراً. قيل إنه في سجنك منذ كذا وكذا سنة. قال لم يظلمني هو، إذ ظلمني من شهد علي بخلاف قوصرة. ودخل يونس الى منزله، فلما أخرج ابن أبي الليث من السجن ليحكم في قصة بني عبد الحكم، وحكم عليهم. راعى يونس مقاله، وحكم له أنه بريء من تلك الوصية. وكانت عدتها ثلاثة وثلاثين ألف دينار(4/177)
أحمد بن يحيى بن الوزير بن سليمان
ابن المهاجر. مولى الأزد بن رفاعة التجيبي. قال ابن أبي دليم: كان من أكابر أصحاب ابن وهب. قال الكندي: كان فقيهاً من أعلم أهل زمانه بالشعر والغريب، وأيام الناس. مولده سنة إحدى وسبعين ومائة. وتقبل فأنكرَ عليه. قال، فسجنه ابن سدير. وتوفي في السجن بمصر سنة خمسين ومائتين. وأخوه
سليمان بن يحيى
كان صوفياً جلداً، مقبولاً عند قضاة مصر. توفي سنة خمس وثلاثين ومائتين.
أبو جعفر هارون بن سعيد بن الهيثم
ابن محمد بن الهيثم بن فيروز الايلي. مولى عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي، من بني سعد بن بشر بن قيس من أهل أيلة. وأصلهم من بلنس، سمع ابن وهب، وخالد بن نزار، والقاسم بن فيروز، وأسد بن موسى، وأشهب بن عبد العزيز، وأبا زيد بن أبي الغمر.(4/178)
روى عنه مسلم وخرج عنه في صحيحه، والنسائي، وأبو داود، وقال النسائي: هو ثقة. قال الكندي: كان فقيهاً من أصحاب ابن وهب. توفي سنة ثلاث وخمسين ومائتين. وولد سنة تسعين ومائة. قال الكندي: بعد السبعين، وهو أصح. قال الحارث: مات وقد جاوز التسعين.
أبو الربيع سليمان بن داود بن حماد
أبو سعيد المهدي. مولى لهم. ابن أخي رشدين بن سعد، ويعرف بالرشديني، روى عن أشهب، وابن وهب، وسعيد بن الجهم، ويوسف بن عمر، وعن جماعة من أصحاب مالك وغيرهم، وعن أبيه، وبشر بن بكر وأبي الطاهر، وأصبغ بن عبد العزيز، ويوسف بن أبي ظبية، وأبي بشر بن قعنب، والحارث بن مسكين، والتميمي، وعلي بن المبارك، وسعيد الادم، وأبي زيد بن أبي الغمر الدمياطي، وأدرك خاله رشدين بن سعد صغيراً. حدث عنه. قال: وصحب ادريس بن يحيى الخولاني، وفضالة بن صيفي وغيرهم من الزهاد.(4/179)
وألف كتاباً في عباد المصريين. فرويت عنه وليس هو دونه. قاله يحيى بن عمر، وهو رواه عنه. وأخذ القراءات عن ورش، وكان متصدراً فيها. وكان فقيهاً زاهداً، ذكره ابن أبي دليم، وأبو عمر الداني، روى عنه يحيى بن عمر، ومحمد بن النفاخ، وأبو حاتم الرازي، وأبو داود السجستاني، ومحمد بن عبد الرحيم الأصبهاني، وأبو عبد الرحمن النسائي. ولد سنة ثمان وتسعين ومائة. وتوفي سنة ثلاث وخمسين ومائتين. قال أبو الربيع: شهدت جنازة ابن القاسم، وقال أبو الربيع: كنت أمشي مع ادريس بن يحيى، فالتفت إلي، وقال: يا ابن أخي، ما رأيت بلداً قط أفسد لعالم، ولا لقارئ منهم. يعني الفسطاط. إنما يكفيك أن يقال فلان، فاستمسك قال أبو الربيع: حضرت رشدين بن سعد، ليلة توفي، فأخبرت أنه دعا بماء توضأ للصبح، فغسل وجهه فزهت شفتاه، من قرحة أصابته. فرفع يديه وقال: اللهم اقبضني إليك. فما صلى الصبح حتى مات.
محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم بن أبي زرعة
البرقي. مولى بني زهرة. كان من أصحاب الحديث، والفهم، والرواية أغلب عليه.(4/180)
وبيته بمصر بيت علم. وله تأليف في مختصر ابن عبد الحكم الصغير، زاد فيه اختلاف فقهاء الأمصار. وكتاب في التاريخ، وفي الطبقات، وفي رجال الموطأ، وفي غريبه. يروي عن عبد الله بن عبد الحكم ولم يلق ابن وهب فيما قاله الكندي، ويروي أيضاً عن أشهب وابن بكير وعثمان بن صالح، وعبيد الله بن صالح، وعمر بن يوسف، وحبيب كاتب مالك، وسعيد بن أبي مريم، ونعيم بن حماد، وأصبغ بن الفرج، وابن هشام وأسد بن موسى، ويحيى بن حسان التنيسي، وعمرو بن أبي سلمة، وخالد بن نزار، ويحيى بن معين، وادريس بن يحيى الخولاني، ومحمد بن يوسف الفريابي، وسعيد بن منصور، وروى عنه أبو حاتم الرازي، وابن وضاح، وابراهيم بن يوسف، والخشيني ومطرف وعبد الرحمان بن قيس، وعبيد الله بن يحيى بن يحيى، وقاسم بن محمد، ومحمد بن عمر، وأبو علي الجدوى، وقاسم بن أصبغ. توفي سنة تسع وأربعين ومائتين.
وأخوه عبد الرحيم
يروي عن أبي هشام.(4/181)
روى عنه ابن الورد، ومحمد بن بسطام.
أخوهما أحمد
ألف في الصحابة، والتاريخ، والرجال. يروي عن عمرو بن أبي سلمة، والحميدي. وقد روى عنه أيضاً. توفي سنة سبعين ومائتين. سمع منه أبو حفص بن غالب، وابن غالب الصفار، من الأندلسيين، والقاضي أسلم. قال أبو جعفر العقيلي: محمد بن عبد الله البرقي، وإخوته كلهم ثقات. ما بهم من بأس. من بيت علم وخير. وقال غيره: ومحمد أكبرهم وأجلهم قال ابن وضاح: كتبت عنه بمصر حديثاً واحداً، وكان لا يرضاه. والحديث الذي روي عنه، أنه قال: كنت جالساً عند وراق بمصر، فلما أردت القيام خدرت رجلي، فجلست، فقال لي محمد بن البرقي، نادِ بأحبّ الناس إليك، قلت له: تذكر في هذا شيئاً؟ فحدث: وأن رجلاً خدرت رجله عند ابن عمر، فقال له ذلك. فقال: يا محمد، ذهب خدرها. فلما قام، قال لي الوراق: ما رأيت أكذب من هذا. ما حدث به أحد مما رواه الساعة عندي في هذا الكتاب. قال: نص الحديث يروى عن ابن عمر، وأنه هو خدرت رجله، وجرت له القصة.
وأبو القاسم عبيد الله بن محمد بن عبد الله البرقي(4/182)
يروي عن أبيه. وله كتاب مختصر على مذهب مالك، وبعض الناس يضيف إليه زيادة اختلاف فقهاء الأمصار. في مختصر ابن عبد الحكم.
يحيى بن سليمان الجعفي
أصله من الكوفة، وسكن مصر، هو ويحيى بن سليمان بن يحيى بن سعيد بن مسلم بن عبيد الله بن مسلم. ابن ابنة أبي مسلم قديد الأعمش. يكنى أبا سعيد. سمع من ابن وهب، وحفص بن غياث، وأبي بكر بن أبي عياش. قال ابن أبي دليم: وكان ثقة. روى عنه ابن وضاح، وقاسم بن محمد، وأحمد بن رشدين، وروح بن الفرج، وغيرهما. توفي سنة تسع وثلاثين ومائتين.
عبيد الله بن معاوية بن حكم الجفناوي
من أصحاب أصبغ بن الفرج، أبو محمد. مولى قريش. ومن جملة هذه الطبقة. يروي عنه يحيى بن عمر فقهه، ويعتمد عليه. وحكى عنه مسائل. توفي سنة خمسين ومائتين.
أبو محمد الربيع بن سليمان بن داود بن ابراهيم الجيزي
الأزدي مولى قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة. سكن الجيزة. قال ابن أبي دليم: كان فقيهاً ديناً. روى عن ابن وهب ونظرائه. قال الكندي: روى عن ابن وهب ولم يتقن السماع منه. وكان فقيهاً ديّناً.(4/183)
ويروي عن أسد بن موسى، وعبد الله بن عبد الحكم، وهاني بن المتوكل، وابن أبي أويس، وخالد بن نزار، وغيرهم، ثقة. مات سنة ست وخمسين ومائتين. روى عنه ابنه محمد وابراهيم الحلواني وعبد الله بن وهب الدينوري.
أبو محمد عبد الغني بن عبد العزيز بن سلام
المعروف بالغسال. مولى قريش. روى عن ابن عيينة، وابن وهب، والشافعي. وكان حافظاً. وروى عنه روح بن الفرج. وقال: سمعت ابن وهب يقول: قراءة أهل المدينة سنة. قيل له: قراءة نافع؟ قال الكندي: كان فقيهاً مفتياً. وذكره ابن أبي دليم، وتوفي في المحرم سنة أربع وخمسين ومائتين وسيأتي ذكر ابنه، وكان أخوه محمد مقبولاً بمصر.
أبو محمد صالح بن سالم الخولاني
مولى لهم. كان أسود. روى عن ابن وهب والشافعي، وأشهب. وكان حافظاً للفقه، وتفقه بالشافعي، ثم مال الى المالكية.(4/184)
وتوفي سنة سبع وستين ومائتين.
إسحاق بن المتوكل بن إسحاق مولى بني مخزوم
أبو يعقوب. يروي عن ابن وهب ونظرائه. قال ابن أبي دليم: وكان فقيهاً على مذهب مالك. قال الكندي: كان مقبولاً عند قضاة مصر، وولي المظالم. وكان وجهه صغيراً جداً. فكان يلقب لقمة. وتوفي سنة عشرين ومائتين. وقال ابن أبي دليم: توفي سنة خمسين ومائتين.
عبد الله بن أبي رومان
عبد الملك بن يحيى بن هلال المعافري. أبو محمد، مولاهم من أهل الاسكندرية. وأصله من مراقبة. من أصحاب ابن وهب. ذكره في هذه الطبقة: ابن أبي دليم، وابن حارث. قال الكندي: ولم يكن بالمجود في روايته. توفي سنة ثلاث وخمسين ومائتين.
أحمد بن أبي زيد بن أبي الغمر
أبو جعفر. مولاهم. ذكره ابن أبي دليم في هذه الطبقة، وسماه أحمد،(4/185)
ورأيت فيمن روى عنه، ابناه محمد وزيد. والله أعلم. وتوفي أحمد في ربيع الأول سنة خمس وخمسين ومائتين.
أبو محمد اسماعيل بن محمد بن زيد الغافقي
مولى لهم. كان يروي عن أشهب، وكان من أصحابه، وعن ابن وهب. قال ابن أبي دليم. وكان حافظاً لأقاويل الناس. قال الكندي: كان فقيهاً. توفي سنة ثمان وأربعين ومائتين.
مدلج بن عبد العزيز بن رجاء المدلجي
أندلسي. أبو خِندِف. سكن مصر. وكان ذا علم وأدب. ودخل العراق، فسمع بها علماً كثيراً. أخذ عنه بمصر، وتوفي يوم الخميس آخر صفر سنة تسع وخمسين ومائتين. ذكره أبو سعيد المصري وابن أبي دليم في المالكية.
أبو إسحاق ابراهيم بن أبي يعقوب بن عيسى بن عبد الله
القسطال. وقيل ابن عيسى بن عيسى بن أيوب، مولى سلمة بن عبد الملك الطحاوي، مولى الأزد. ويقال مولى قريش. من أصحاب ابن وهب عنه جلّ روايته، وعن الشافعي.(4/186)
وكتب لعيسى بن المنكدر، وهارون الزهري، والحارث بن مسكين، قضاة مصر. وكان من قبطها. قال الكندي وكان فقيهاً. وتوفي في صدر ستين ومائتين.
عيسى بن ابراهيم بن عيسى بن شروح
الغافقي. مولاهم. أبو موسى. يروى عن ابن القاسم، وابن وهب، ورشدين بن سعد، وابن عيينة، وحجاج بن سليمان، وغيرهم. روى عنه النسائي وقال فيه: مصري لا بأس به. توفي سنة إحدى وستين ومائتين. قاله ابن يونس. ذكره في هذه الطبقة، ابن أبي دليم. قال الكندي: كان مقبولاً عند أبي الليث. وكان فقيراً. فقيل له ما حملك على أن شهدت عند ابن أبي الليث؟ فقال كان بي بَرّاً وَصُولاً، ما ذقت الفقر، حتى انقطعت أيامه.
أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمان بن أخي عبد الله بن وهب
جل روايته عن محمد، وروى عن شعيب بن الليث، وبشر بن بكر. قال عنه محمد بن عبد الحكم: ما رأيت إلا خيراً. وقال مثله عبد الملك ابن شعيب بن الليث. وقال أبو حاتم: صدوق. كتبنا عنه. وأمره مستقيم. ثم خلط. ثم جاءنا الخبر أنه رجع عن التخليط. قال أبو زرعة: رجوعه مما يحسّن في حاله، ولا يبلغ به منزلته قبل.(4/187)
وقال العقيلي، والحصري: ليس بمشئ. وقال محمد بن قاسم: ليس بثقة عندي. وأهل مصر يرمونه بالكذب. وكان من مشائخ الأندلس سعد بن معاذ، ومحمد بن فطيس، وسعيد بن عثمان الاعناقي، يحسنون الثناء عليه. وعنف سعيد النسائي في تحامله عليه. قال الأمير، وأخوه عبد العزيز بن عبد الرحمن أبو السري روى عن أسد، وغيره. توفي سنة ثمان وستين وقيل أربع وستين ومائتين.
محمد بن يوسف بن محمد بن عديد الفارسي
أبو محمد. تقدم ذكر أبيه. مولده بمصر. أخذ عن جماعة من أصحاب مالك. يروي عن عبد الله بن المغيرة. توفي سنة ستين ومائتين. وأخوه يزيد بن يوسف. قال ابن يونس: كان هو وأخوه على مسائل الحارث بن مسكين، وأمره كله. وكان يرفع بهما.
شبيب بن حفص بن اسماعيل الفهري
مولاهم. فيما يقال. وأنكر هو ذلك. يكنى بأبي الأصبغ. قال الكندي: كان فقيهاً. توفي بمصر، منصرفه من الحج سنة ست وثلاثين ومائتين وذكره ابن أبي دليم فيهم.(4/188)
بكر بن ادريس بن الحجاج بن هارون
مولى أبي الكنود الأزدي. أبو القاسم، يعرف بالحمراوي. قال ابن أبي دليم: جلّ روايته عن عبد الله بن عبد الحكم. وروى عن غيره. قال الطحاوي: وكان فقيهاً مفتياً. توفي سنة سبع وستين ومائتين.
أبو بكر محمد بن أبي يحيى زكريا الوقار
كان حافظاً للمذهب، وألف كتاب السنة، ورسالته في السنة، ومختصرين في الفقه، الكبير منهما في سبعة عشر جزءاً. قال سلمة بن سعيد الأشج: رأيت أهل القيروان، يفضلون مختصر أبي بكر الوقار، على مختصر ابن عبد الحكم. قال الشيرازي: تفقه بأبيه، وابن عبد الحكم، وأصبغ. روى عنه إسحاق بن نصر ومحمد بن مسلم بن بكار الفيومي، وأبو الطاهر محمد بن سليمان القوصي، وأبو الطاهر محمد بن جعفر البرسمي، وتوفي في رجب سنة تسع وستين ومائتين. وقيل ثلاث. وقيل أربع سنين.
القراطيسي
اسمه بريد بن كامل بن حكيم. مولى عبد العزيز بن مروان. كنيته أبو زيد. وأصله من الروم. ذكره ابن أبي دليم.(4/189)
يروي عن عبد الله بن عبد الحكم، وأسد بن موسى، ويعقوب بن أبي عياد الملزمي. روى عنه ابن أبي الأصبغ، وأبو الورد، وأبو بكر محمد بن يحيى بن حكيم، وأبو العباس الرازي، وأحمد بن مسلمة الهلالي، ومحمد بن كامل الحضرمي، وجماعة. روى عنه الناس. قال أحمد بن خالد: لم ألق من الناس بالمشرق، إلا من مُسّ أو تُكلِّم فيه، إلا القراطيسي، ويحيى بن أيوب العلام، فإنهما ثقتان، لا متكلم فيهما لأحد. والقراطيسي، من أوفى الناس. لم أر مثله. ورفع من شأنه. وعُمِّر. وتوفي سنة سبع وثمانين ومائتين. ومولده سنة سبع وثمانين ومائة.
مسعود بن أبي مسعود
واسم أبي مسعود مسعدة. قال ابن أبي دليم: كان ذا علم ورئاسة، مقدماً في المالكية بمصر. توفي سنة سبع وستين. وهو ابن أربع وستين.
من أهل إفريقية
محمد بن رزين
قال أبو العرب: كان ثقة صالحاً. سكن بسوسة. سمع من أسد، وعبد الله بن عبد الحكم، وابن بكير، وأسد بن موسى، ونعيم بن حماد، وزهير بن عباد، وسمع أيضاً من عبد الله بن نافع الزبيري، وأصبغ بن الفرج وعلي بن معبد وكان عنده حديث كثير(4/190)
سمع منه سليمان بن سالم وبكر بن حماد وسعيد بن إسحاق وأبو الغمر روى سحنون عنه حديثاً يرويه عن نافع فوجه إليه وقال له أنت سمعته من ابن نافع الصايغ؟ فقال له: أصلحك الله إنما سمعت من ابن نافع الزبيري. فقال له: لم دلست؟ ثم قال سحنون: ماذا يخرج بعدي من العقاريب. وذلك أن ابن رزين لم يدرك عبد الله بن نافع الصائغ. وإنما أدرك عبد الله بن نافع الزبيري مات الصائغ قديماً. وتأخر موت الزبيري. وقد ذكرناهما، وكان ابن رزين يقول: ما نزلت في حسرة ما نزلت في محمد بن يوسف الفريابي. وكنت رحلت إليه، فوجدته يقبر. قال: وابن رزين، أول من باع من أهل العلم داراً بسوسة. إذ كانوا لا يرون بيع دورها. قال بعضهم: رأيت محمد بن رزين خرج في عيد، بثياب مهنته. فسألته عن ذلك. قال: رأيت نعيم بن حماد، في عيد كذا. فعلمت أنه تبذل له فيه. فاتبعته. قال ابن حارث في تاريخ الافريقيين: وتوفي ابن رزين بسوسة، سنة خمس وخمسين ومائتين.
محمد بن شبيب
أبو يوسف. من أهل تونس،(4/191)
ذكره ابن أبي دليم في المالكية. قال وله سن عالية، وسمع من أنس بن زياد. وولي القضاء بتونس، وذكره أبو العرب في طبقاته بمثله وشك في سماعه من علي قال: وحدثني عبد الله بن خليل، قال: كنت أجيء الى أبي يوسف، فأجده ملقى من الكبر فأجتذبه حتى أقعده على نفسه. فلم يسمع منه. ولم يذكره إلا بخير. قال ابن حارث: وتوفي سنة ست وسبعين ومائتين. وابن أخيه: محمد بن سعيد ابن شبيب، ولي قضاء صقلية. وذكر عنه خيراً وعفة وعدلاً.
محمد بن تميم
القسطلي، القمري، من أهل قفصه، قسطليه.
قال أبو العرب: كان ثقة. سمع من أنس بن عياض كثيراً، ومن عبد الله بن وهب وابن بكير. وكان يقدم سوسة فيأتيه أهل القيروان، يسمعون منه. روى عنه ابنه هبة الله، وسليمان بن سالم، وأبو جعفر بن زياد، وعمر. توفي سنة ستين ومائتين. ومات ابنه هبة الله قريب من هذا. قال أبو العرب: ولم أسمع أحداً ذكر ابنه بسوء.
عبد الله بن سهل القبرياني
أبو محمد، وضبط اسمه بقاف مكسورة، وباء واحدة ساكنة، وراء مكسورة بعدها ياء، باثنتين تحتها، وبعد الألف نون، من أهل القيروان، وأصله من العجم.(4/192)
قال محمد بن أحمد التميمي: كان شيخنا ثقة فاضلاً، فقيه البدن، صحيح الكتب، لقي ابن الماجشون، وسمع ابن سلام، ويحيى، وأسد بن فرات، وسحنون بن سعيد، وعليه كان اعتماده. وكان معدوداً في قدماء أصحابه، قريباً في السن منه. ولاه سحنون قضاء طليطلة وقفصة ونفزاوه، وعملها. وكان عدلاً في قضائه. وولي بعد سحنون قضاء صقلية. شهد له حماس بالفقه البارع. سمع منه سهل ابنه، وغير واحد، وقال ابن حارث: كان عالماً بالمذهب، حسن الحفظ، جيد القريحة، من ذوي المال والجاه العريض. توفي سنة ثمان وأربعين ومائتين فيما قاله أبو العرب. وذكر ابن أبي دليم: سنة تسع وأربعين. مولده سنة اثنين وسبعين ومائة.
عبد الرحيم بن عبد ربه الربعي
المعروف بالزاهد. أبو محمد. قال أبو العرب: كان ثقة. وكان في السن قريباً من سحنون، في أصحابه. سمع منه، ومن أسد بن فرات. وحكى المالكي أنه: كان أكبر من سحنون بليلتين. وكان سحنون يعرف له فضله، ويعظمه، ويسأله الدعاء له. وكان يقول: رأيت ابن القاسم وفلاناً. وذكر شيوخه. فما رأيت مثل عبد الرحيم. يعني هذا. وذلك أني علمت ظواهر أولئك وعلمت ظواهر هذا، وباطنه.(4/193)
وكان أولاً بزازاً. ثم لزم الرباط، حتى مات. أخذ عنه عيسى، وٌيره من أصحاب سحنون. وقال سحنون لرجل فاته بعض السماع منه: أين أنت من الشيخ؟ يعني عبد الرحيم أسمعها منه، فكأنك سمعت مني. قال ابن حارث: كان ثقة فاضلاً. ويقال إنه مستجاب الدعوة. كان عبد الرحيم كثير التهجد، طول ليله بين راكع وساجد، فكان السهر قد غيره، كأنه مبهوت. ومن كراماته ما حكاه المالكي: أن سحنون بلغه أن عبد الرحيم أقام ستة أشهر، لم يشرب ماءً، فأنكر ذلك سحنون. وركب مع جماعته من الشيوخ إليه فبات عنده وسأله عما بلغه، واستشفع عليه. فقال: ومن يأكل ولا يشرب؟ فلما انصرف عنه سحنون، رجعه، وقال له: سألتني عن شيء، فكتمته. ثم حاسبت نفسي. والذي قيل لك صحيح. ولي ستة أشهر، لم أشرب ماءً. وذلك أني كنت أصلي، فأصابني عطش شديد، فقلت افرغ من حزبك واشرب. فلما فرغت مددت يدي الى القسط، فانقلب، وذهب ما فيه من ماء. وكانت ليلة كثيرة الريح والبرد، والماجل أسفل القصر، فكبر علي النزول. وقلت: يا رب إن هذا أشغلني عن حزبي. فاحمل عني المؤونة. فأجابني من زاوية البيت، ولا أحد فيه، يقول: أنا من مؤمن الجن. أصلي بصلاتك، مدة. فمر هذه الليلة شيطان مارد، وهم علينا أضرّ مما هم عليكم، فحسدك ورمى لك في القسط شيئاً. فلو شربته لعرض في جسمك ما لا طاقة لك به. فلما مددت يدك الى القسط، سبقتك إليه، وأهرقته. قال عبد الرحيم: فأخلصت لله الدعاء، فحمل عني المؤونة. وإن احتجت الماء بعدُ شربتُه.(4/194)
فنزل سحنون الى الناس وقال: عبد الرحيم سأل مولاه حاجته، فقضاها له. وقد ذكرنا رسالته الى سحنون وقد ولي القضاء. قال المالكي: كان من أهل الزهد والاجتهاد. شهر بالإجابة. وكان سحنون يقصده كثيراً. وقصد ابنه بعده. وسنذكر خبره معه. قال عبد الرحيم: لما أراد الخروج الى صقلية، قلت له: على من ترى أعتمد؟ فقال لي: إن أردت الله والدار الآخرة، فعليك بعلم مالك. قال ابن حارث: ومناقبه كثيرة. وذكر أنه كان بقرب قصره، رجل له فرس يطلقه في زرع المرابطيين. فنهوه فلم ينته. فأتوا الى عبد الرحيم، فرفع عينيه الى السماء وقال: اللهم اجعله آية للمسلمين، واكف المسلمين شره. فطارت عين الفرس. وكان سأل الله أن لا يبيت أحداً في قصر زياد بالجوع. فكان بيسر الله لكل من احتاج فيه، ما يأكله. وحدث اللبيدي، عن بعضهم، أنه فني زاده فيه. وأخذه الجوع، فقال: أين ما يذكر عن عبد الرحيم؟ فبينما هو كذلك، إذ دخل عليه صاحب له بطعام واسع، فقلت هذه دعوة عبد الرحيم. وذكر سليمان بن سالم عن محمد بن صباح، قال: سرت أسبح على البحر حتى صرت الى قصر عبد الرحيم، فدخلت إليه، قرب الماء. فلما رآني سلم عليّ، وأجلسني وهو يقول: الحمد لله الذي كنت أنت. فكرر ذلك. فقلت له: ما هذا؟(4/195)
فقال: أرسل إلي أخي بحمام البرية. فأمرت بطبخه، فرأيته سميناً. فقلت اللهم سق إلي ولياً من أوليائك، من يأكل معي. فلما رأيتك، حمدت الله إذ كنت أنت هو. وذكر أنه خرج مرة الى المنستير، فنزل القصر الكبير، فلما كان العشي سمع صر المهارس، فقال: ما هذا؟ قال: المرابطون يدقون التابل لمزورهم. فاسترجع، وقال: ما هكذا أعرف المنستير، حالة أنا أعرفها، عند أهلها شيء من دقيق شعير وزيت. فإذا جاء وقت الإفطار، لثوا الدقيق وأكلوا لبّه، عليّ أن لا أبيت في شيء منه. فخرج منه، فغابت له الشمس بقصر لمطه. ولم يعد إليه بعد ذلك. قال المالكي: وكان يقال له اجتمع مع الخضر، صلى الله عليه وسلم. وذكر اللبيدي أن فقيراً نزل بعبد الرحيم، فلم يجد عنده شيئاً إلا قرصاً، أعدها لإفطاره. فقدمها إليه، وبقي بلا شيء. فقال له: أصلحك الله ما يكون منك وأنت لا تقبل من أحد شيئاً. فقال: اللهم إن الله لا يتركني بلا شيء. فلما كان بعد ساعة سمع كلاماً فدخل عليه. فلم يوجد عنده أحد، وبين يدين قرص سخن، وثمر. فقال عبد الرحيم للرجل: كل، فسأله بالله من أين. فقال أتاني
به الخضر، وقال لي هذا الثمر أتيتك به من اجراينة. قال: وكان عبد الرحيم يأخذ الفتات في يده ويبسطها. فينزل الغراب فيأكله. وأتى رجل الى سحنون يسأله عن مسألة ومعه عبد الرحيم. فسبقه عبد الرحيم بالجواب. فسكت سحنون. فلما ذهب السائل، وقام عبد الرحيم، قال: تجد الرجل يصبر الى الصيام والصلاة، ويتورع فإذا جاءت الفتيا، لم يصبر. قال المؤلف رضي الله عنه: وسكوت سحنون عن جوابه، دليل على صوابه وأنه كان ممن يفتي مع سحنون، وبحضرته. وقال له رجل: أوصني بكلمات، ينفعني الله بها، ويأجرك عليها. فقال أوصيك يا بني أن تتقي الله. وتجتنب محارم الله. وتؤدي فرائض الله. وتحسن الى عباد الله. وإن زدت زادك الله. ويذكر أنه ما تزوج قط. ولا تسرى. وكانت له جاريتان، تقومان به، وتخدمانه. فقيل له ألا تتسرى بإحداهما؟ فإنهما يصلحان لذلك. فحلف أنه لا يعرف صفة وجوههما، لشغله بعبادة ربه عز وجل. وكان يقول: زيادة الاخوان، نقص من العمل. قال بعضهم: يريد أنه يقطع عما يكون فيه الإنسان من عمل، وهو الذي بنى قصر زياد وأنفق فيه اثني عشر ألف دينار، ستة آلاف من عنده، وستة آلاف من عند إخوانه. وكان قد استشار سحنوناً في الخروج الى غزو صقلية ذكر أنه كان له سبعة عشر ألف أصل من الزيتون. وكان لسحنون اثني عشر ألف أصل. وكان لعبد الرحيم ضيعة. قد استشار سحنون في بيع ضيعتيه، والتصدق بهما. فنهاه. وتوفي سنة ست ويقال سبع وأربعين ومائتين. ورثاه بعضهم بقصيدة أولها: الخضر، وقال لي هذا الثمر أتيتك به من اجراينة. قال: وكان عبد الرحيم يأخذ الفتات في يده ويبسطها. فينزل الغراب فيأكله.(4/196)
وأتى رجل الى سحنون يسأله عن مسألة ومعه عبد الرحيم. فسبقه عبد الرحيم بالجواب. فسكت سحنون. فلما ذهب السائل، وقام عبد الرحيم، قال: تجد الرجل يصبر الى الصيام والصلاة، ويتورع فإذا جاءت الفتيا، لم يصبر. قال المؤلف رضي الله عنه: وسكوت سحنون عن جوابه، دليل على صوابه وأنه كان ممن يفتي مع سحنون، وبحضرته. وقال له رجل: أوصني بكلمات، ينفعني الله بها، ويأجرك عليها. فقال أوصيك يا بني أن تتقي الله. وتجتنب محارم الله. وتؤدي فرائض الله. وتحسن الى عباد الله. وإن زدت زادك الله. ويذكر أنه ما تزوج قط. ولا تسرى. وكانت له جاريتان، تقومان به، وتخدمانه. فقيل له ألا تتسرى بإحداهما؟ فإنهما يصلحان لذلك. فحلف أنه لا يعرف صفة وجوههما، لشغله بعبادة ربه عز وجل. وكان يقول: زيادة الاخوان، نقص من العمل. قال بعضهم: يريد أنه يقطع عما يكون فيه الإنسان من عمل، وهو الذي بنى قصر زياد وأنفق فيه اثني عشر ألف دينار، ستة آلاف من عنده، وستة آلاف من عند إخوانه. وكان قد استشار سحنوناً في الخروج الى غزو صقلية(4/197)
ذكر أنه كان له سبعة عشر ألف أصل من الزيتون. وكان لسحنون اثني عشر ألف أصل. وكان لعبد الرحيم ضيعة. قد استشار سحنون في بيع ضيعتيه، والتصدق بهما. فنهاه. وتوفي سنة ست ويقال سبع وأربعين ومائتين. ورثاه بعضهم بقصيدة أولها:
قل للتقى والدين بعد محمد ... جودا على عبد الرحيم فقد غبر
ما كان أتقاه وأحسن أمره ... في الله يسعى قدماً وما عثر
أما النهار فصائم متهجد ... والليل يهتف بالقُران الى السحر
وقال الصدفي في أرجوزته:
وبني بقصر الصائم القوام ... عبد الرحيم الصائم القوام
ما كان إلا علم الإسلام
أبو السري واصل العابد الحمّي من قصر حمّة
قال سعدون الخولاني، وكان يخدمه: كان واصل من رجال مالك. يعني من أصحابه. وذكر غيره سبب طلبه العلم، وكان أولاً مشتغلاً بالعبادة. قال أبو العرب: كان مجتهداً بالعبادة، له مناقب كثيرة، لم أعلم أن العلم روي عنه.(4/198)
قال أبو ميسرة: قال واصل: جئت الى جامع سوسة، يوم جمعة، فصليت وسحنون قريباً مني، فأذّن المؤذن، وقد بقي عليّ شيء من السورة فأتممتها. وقد أخذ الإمام في الخطبة. فلما سلم الإمام سأل سحنون عني. فأخبروه. فنودي بي. فقال من أنت؟ قلت: واصل. قال واصل الذي يقال. قلت اسأل الله بركة ما يقال. فقال لي رأيتك تصلي والإمام يخطب. اطلب شيئاً من العلم. قلت: لا. قال: اطلب العلم أو فلا تسكن في شيء من هذه الحصون. فاختلفت الى عون بن يوسف، سبع سنين. قال المالكي: فتفقه به. وحفظ من العلم ما قمع به الشيطان. ثم شمّر للعبادة، وقيام الليل، وصيام النهار، حتى مات. وكان أبو عبد الله بن سحنون يعظمه. وكان واصل يسكن بقصر الطوب من سوسة.
ذكر عبادته وصومه وزهده
ذكر سعيد بن الحداد، أن واصلاً أقام أربعين سنة لم يدخر شيئاً من الدنيا. وأنه ليقيم الأيام لا يطعم شيئاً. فإذا أجهد خرج فأكل من مثاقل الأرض ثم عاد لمصلاه. وحكى المالكي، أنه خرج ليلة من المسجد، فلما صارت إحدى رجليه خارج المسجد، والأخرى داخله، عرضت له فكرة، فرفع رأسه، وقال(4/199)
لنفسه: أطاعت السماوات والأرض، وما فيها، وعصيته أنت على صغرك. وبقي باهتاً حيناً طويلاً. ثم استرخى وسقط مغشياً عليه. فصادف رأسه الحائط، فجرحه. فحمل وهو على حاله. وذكر أنه قدم الى القيروان، يوم جمعة. فعرض له وهو في صلاته شيء من فهم القرآن، استغرقه حتى خطب الإمام، وصلى. ولم يشعر. فسأله سحنون عن ذلك، فأخبره بما استغرقه. فقال له سحنون: وصلت، والله يا واصل. قال: وقصده رجل من أهل المشرق، سمع به. فقال له: أنت واصل. قال: نعم. قال له فرصتك من أين؟ قال بين الكاف والنون. قال: فأخبرني أنت ساكن في المسجد، وليس لك ماء، ولا غيره. فإذا طبخ المرابطون قدورهم، ودخلوا بها بيوتهم، وسمعت حساً على الداموس، تستشرف نفسك الى من يأتيك بما تأكل؟ فقال واصل: ما لنا عند أحد شيئاً، ننتظره يجيئنا به. فقال: أنت واصل حقاً. وذكر أن واصلاً كان قبل أن يتعبد، يتجر في حانوت بما يوزن، ويكال. فجاءته امرأته فساومته في شيء فخالفها فيه. فقالت له كفاك ما أنت فيه، من مكيال وميزان. فقال لها صدقتني.(4/200)
وترك جميع ما كان فيه. ولزم قصر الرباط، قال أحمد بن أبي سليمان: قلت لواصل، بلغني أنك لم تشرب الماء دهراً. فقال لم أشربه ثمانية أشهر. ثم غلبتُ. وذلك أني كنت في البسبس والموز، والمرق. قلت له: فالخبز. كم لك لم تأكله. قال أكثر من عشرين سنة. فلما استغنيت عنه، تركته تأديباً لنفسي. قلت له: بلغني أن إبليس كلمك. قال: لا. قلت له: فرأيته؟ قال: دخلت عليّ جارية من المسجد في حلي وصياغ، فقمت إليها بالعصا، فهربت. فاتبعتها الى باب القصر فوجدت القصر مسدوداً. فعلمت أنها إبليس.
بعض ما يحكى من كراماته
ذكر أنه لما نزل قصر الرباط، لقي شيئاً أقام فيه أياماً، مقبلاً على الصلاة والصوم. فتبين فيه أهل الحصن، الضعف، من كثرة مداومته، وقلة غذائه. فأتوه ليالي بطعام يفطر عليه، من الشعير والبقل. فلما طال عليهم، تركوه. فأقام ليلة وثانية، لم يطعم فيها شيئاً. فلما كان في الثالثة إذا بضارب يضرب عليهم باب القصر، فسألوه، فقال: غلام فلام، رجل من مشاهير القيروان مذكور بخير،(4/201)
وجّهني الى الشيخ واصل بطعام، وقال لي: إما وصلت إليه هذه الليلة، أنت حر. وكانت الحصون لا تفتح بالليل. فشاوروا واصلاً، فقال: ما عليكم أن تفتحوا له، وتعتقوه. ففتحوا له. فإذا ببغل عليه حمل به دجاج وفراخ، وسنوسج وعجج، وحلو وجرادق، فمد يده الشيخ الى شيء منه. فأكله، ثم قال: اقسموا، جميعه. فقسموه فيما بينهم. وقالوا: إن تطعموه الشعير، ببقل البرية، فقد أطعمكم هذا الطعام الطيب. وقيل في مثل هذه الحكاية عنه: إن امرأة رأت في المنام قائلاً يقول لها: أخوك واصل جائع، فابعثي إليه بطعام. فقالت لعبدها: إن وصلت إليه، فأنت حر. وأتت مراكب للروم عند قصره، فأرادوا أخذ الماء، فمنعهم المسلمون. فلما آيسوا بسطوا الأنطاع واستسقوا فسقوا. فبلغ ذلك واصلاً. فاشتد عليه. وقال اللهم اهزمهم، واجعلهم نقلاً للمسلمين. فأرسل الله عليهم للوقت ريحاً شديدة، فكسرت مراكبهم، ورمت بهم الى البر. فغنمهم المسلمون. قال سعدون: قال لي واصل: مكثت أحد عشر سنة، أتعرف فيها حالي عند الله، كل ساعة. فما علمت أن الشيطان ظهر لي ولا ساعة واحدة، إلا في ثلاث خطوات، خطوتها في طريق. ثم عاد علي العلم ببركته. فرجعت وذلك أني كنت أمشي في طريق الساحل، فلما كان آخر النهار عارضني طريقان، أحدهما الى قرية رجل صالح، غني. والأخرى الى قرية رجل صالح، فقير. وهما صديقان لي.(4/202)
فوقفت أنظر من أقصد. فقالت لي نفسي: إن قصدت الفقير، عساك لا تجد عنده شيئاً يتعشى عياله وأطفاله. وإن كان عنده، ضيعت عليهم، وغممتهم. وإن قصدت الغني، وجدت عنده خبزاً طيباً، من القمح من أرضه الموروثة، وزيتاً من زيتونه، وتيناً فاخراً. عسى يذبح لك خروفاً من غنمه، وهي ترعى في أرضه، وتسره وتجد بغيتك. وتأكل شهوتك. فخطوت في طريقه ثلاث خطوات، ثم استيقظت، فقصدت طريق الفقير، فرحب بي وطيب وأخذ بيدي الى بيته. فلما جلسنا لنتعشى، دقّ الباب علينا. فأتاني بصحبته ثريد من القمح، عليه لحم خروف سمين. فقال لي: كل. فأكلنا حتى شبعنا. وحمل البقية الى عياله. ثم ضرب الباب، فخرج. فإذا بطبق فيه صفحة زيت، وتين فاخر، فأكلنا حتى شبعنا. ثم سألته عن ذلك. فقال لي: أتاني به جار لي. فقلت له: صح به. فسألته عن السبب، فقال: نعم. كان عندنا خروف سمّنّاه، وكنا ننتظر به يوماً نفرح الصبيان بذبحه. فحل ذلك اليوم بقلوبنا. فلما ذبحناه وثردنا ورأيتك نزلت بجارنا قلت لامرأتي لا ينزل بصالح إلا صالح مثله. وليس له طاقة. ونحن نجد العوض في غير يومنا. فهل تري أن نطعمهم إياه، ونسأله دعوة لنا ولأولادنا. فقالت: افعل. فجئناكما بها، من على المائدة. قالت لي الزوجة: لابد من حلاوة. فأعطتني هذا التين والزيت.(4/203)
قال أبو الحسن القابسي: ذكر أن ابن سحنون، كان يوم ضحوة يلقي على أصحابه المسائل، وهو يشرح. إذ وجم ساعة. ثم نهض للقيام. ثم قال من حضرته نية لزيارة الشيخ واصل، فليقم. وخرج من فوره. فوصل عصر غده. فأتى المسجد. فدخل واصل، فصلى بهم. ثم خرج يتنفل الى جانب ابن سحنون. فلما سلم، وسلم ابن سحنون من ركوعه. قال الشيخ لابن سحنون: أعد الركعتين، فإني رأيتك أمررت يدك على لحيتك، وهو عمل في الصلاة. فقال له محمد: وأنت فأعد. لأنك أشغلت سرك بي. فقال له واصل: أظنك
محمد بن سحنون. قال: نعم. فمد يده إليه، وصافحه. وقال سألت الله أمس ضحوة من النهار، أن يجمع بيني وبينك. وأخبار واصل كثيرة. وكانت وفاته سنة اثنين وخمسين ومائتين.
محمد بن سحنون
مرّ نسبه في أبيه. تفقه بأبيه. وسمع من ابن أبي حسان، وموسى بن معاوية، وعبد العزيز بن يحيى المدني، وغيرهم. ورحل الى المشرق، فلقي بالمدينة أبا مصعب الزهري، وابن كاسب. وسمع من سلمة بن شبيب. قال أبو العرب: وكان إماماً في الفقه، ثقة. وكان عالماً بالذب عن مذهب أهل المدينة. عالماً بالآثار، صحيح الكتاب، لم يكن في عصره أحذق بفنون العلم منه، فيما علمت.(4/204)
قال ابن أبي دليم: وكان الغالب عليه الفقه، والمناظرة. وكان يحسن الحجة والذب عن السنة، والمذهب. قال ابن حارث: كان عالماً فقيهاً مبرزاً، منصرفاً في الفقه والنظر ومعرفة اختلاف الناس، والرد على أهل الأهواء، والذب عن مذهب مالك. وكان قد فتح له باب التأليف، وجلس مجلس أبيه بعد موته، قال يحيى بن عمر: كان ابن سحنون من أكثر الناس حجة، وأتقنهم بها، وكان يناظر أباه. وكان يسمع بعض كتب أبيه في حياته، يأخذها الناس عنه قبل خروج أبيه. فإذا خرج أبوه، قعد مع الناس يسمع معهم من أبيه. وقال سحنون: ما أشبهه إلا بأشهب. وقال: ما غبنت في ابني محمد، إلا أني أخاف أن يكون عمره قصيراً. وكان يقول لمؤدبه: لا تؤدبه إلا بالكلام الطيب، والمدح. فليس هو ممن يؤدب بالتعنيف والضرب، واتركه على بختي، فإني أرجو أن يكون إمام وقته، وفريد أهل زمانه. قيل لعيسى بن مسكين: من رأيت في العلم؟ فقال: محمد بن سحنون. وقال أيضاً: ما رأيت بعد سحنون مثل ابنه. وكان رأى جماعة بالمشرق وغيره. قال حمديس القطان: رأيت العلماء بمكة والمدينة ومصر، فما رأيت فيهم مثل سحنون ولا مثل ابنه بعده.(4/205)
وذكر ابن مغيث: أن القاضي اسماعيل بن إسحاق، ذكر له فقال فيه، الإمام ابن الإمام. وذكر مرة، ما ألّفه العراقيون م الكتب، فقال اسماعيل: عندنا من ألّف في مسائل الجهاد عشرين جزءاً، وهو محمد بن سحنون، يفخر بذلك على أهل العراق. قال ابن حارث: كان من الحفاظ المتقدمين المناظرين، المتصرفين. وكان كثير الكتب غزير التأليف. له نحو مائتي كتاب في فنون العلم. ولما تصفح محمد بن عبد الله بن عبد الحكم كتابه، وكتاب ابن عبدوس، قال في كتاب ابن عبدوس: هذا كتاب رجل أتى بعلم مالك على وجهه. وفي كتاب ابن سحنون: هذا كتاب رجل يسبح في العلم سبحاً. قال ابن الجزار: كان ابن سحنون إمام عصره في مذهب أهل المدينة بالمغرب. جامعاً لخلال قل ما اجتمعت في غيره من الفقه البارع، والعلم بالأثر والجدل والحديث، والذب عن مذهب أهل الحجاز. سمحاً بماله، كريماً في معاشرته، نفاعاً للناس، مطاعاً، جواداً بماله وجاهه. وجيهاً عند الملوك والعامة. جيد النظر في الملمات. قال حمديس: جئت يوماً الى محمد بن سحنون فأخرج إلي كتاب الرجوع عن الشهادات. فقال لي: خط مَن هذا؟ فقلت خط سحنون. وكان ابن عبدوس أنكر أن يكون لسحنون. فقال لرجل: امض بالكتاب إليهما، ولا يمساه وأرهما إياه، ورقة، ورقة. وقل لهما خط مَن هو؟ ففعل الرجل ذلك. فقالا: خط سحنون، وما ظننا ذلك.(4/206)
فقال قل لهما يا مساكين مقامي مقامك. وأنا معه في الدار، والله أبداً.
ذكر تآليفه
وألف ابن سحنون كتابه المسند في الحديث. وهو كبير. وكتابه الكبير، المشهور، الجامع. جمع فيه فنون العلم والفقه. فيه عدة كتب، نحو ستين. وكتاباً آخر في فنون العلم. ومنها كتب السير عشرون كتاباً. وكتابه في المعلمين. ورسالته في السنة ورسالته في أدب المناظرة جزآن. وكتاب تفسير الموطأ، أربعة أجزاء. وكتاب الحجة على القدرية. وكتاب الحجة على النصارى. وكتاب الإباحة. وكتاب الرد على البكرية. وكتاب الوردع. وكتاب الإيمان والرد على أهل الشرك. وكتاب الرد على أهل البدع، ثلاثة كتب. وكتاب في الرد على الشافعي، وعلى أهل العراق، وهو كتاب الجوابات، خمسة كتب. وكتاب طبقات العلماء، سبعة أجزاء. وكتاب الأشربة، وغريب الحديث، ثلاثة كتب. وكتاب التاريخ، ستة أجزاء. قال بعضهم: ألف ابن سحنون كتابه الكبير، مائة جزء وعشرون في السير، وخمسة وعشرون في الأمثال، وعشرة في آداب القضاة، وخمسة في الفرائض، وأربعة في الاقرار، وأربعة في التاريخ، والطبقات، والباقي في فنون العلم. قال غيره: وألّف في أحكام القرآن.
ذكر بقية أخباره وفضائله
قال ابن سحنون: دخل علي أبي وأنا أؤلف كتاب تحريم المسكر.(4/207)
فقال: يا بني إنك ترد على أهل العراق، ولهم لطافة أذهان، وألسنة حداد، فإياك أن يسبقك قلمك، لما تعتذر منه. وذكر أبو القاسم البيدي: إن ابن سحنون أتى بعد موت سحنون، هو وأصحابه زائراً، الى عبد الرحمان بن عبد ربه الزاهد، فسلم عليه، فرد عليه السلام، وتركه حيث انتهى به المجلس، ولم يقبل عليه حتى انصرف. فلما كانت الجمعة الأخرى، استنهض محمد أصحابه لزيارته ثانية. فقالوا له: رأيناه لم يقبل عليك. فقال: ليس هذه بغيتي. هو رجل صالح نرجو بركة دعائه. وقد كان سحنون يأتيه، ويتبرك بدعائه، ويلجأ إليه عند المهمات. فعاد إليه ابن سحنون وأصحابه، فلما رآه قام على رجليه، ورحب به وأجلسه في موضعه. ولم يزل مقبلاً عليه، حتى انصرف. فقيل له في ذلك، مع فعله الأول. فقال: والله ما أردت بذلك إلا الله. رأيت اجتماع الناس عليه، فخفت فتنة فعملت ما عملت لأجربه، فرأيت في ليلتي، قائلاً يقول لي، في ذلك: لم تقبل على ابن سحنون، وهو ممن يخشى الله. وفي رواية: وهو ممن يحب الله ورسوله. فبلغت ابن سحنون. فبكى بكاءً شديداً، وقال: لعله يذبّي عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما خرج الى الحج، نزل على أبي رجاء بن أشهب بن عبد العزيز، فقصده علماء مصر، ووجوههم، يسلمون عليه، وابن المزني،(4/208)
فأطال الجلوس معه، ليخلو به. فلما خرج أبو رجاء، سألته عنه فقال: لم أرَ والله أعلم منه، ولا أحدّ ذهناً، على حداثته. ووجه به الى الخليفة. قال عيسى بن مسكين: وما ألف في هذا الفن مثله. قال سليمان بن سالم: واختلف إذ ذاك وهارون بن سعيد الايلي، في مسألة، فتحاكما الى محمد بن سحنون. قال سليمان بن سالم: قدم رجلان من بني كنانة، ليسمعا العلم. ويقصدا ابن أبي المنهال وابن قادم، فيأتيا على ذلك. فرأى أحدهما في المنام أن سائلاً سأله، فأخبره عن قصدهما، ولمن قصدا. فقال لمن قصدكما، من تطلبان؟ قال الرائي فأخذني على طريق منحرفة، حتى أوقفني على مسجد فيه شيخ، والناس حوله. فقال لي: هنا اطلب من العلم من هذا، ولا تعدل. فلما أصبح الرائي قال لصاحبه: سر بنا الى حيث سير بي البارحة. وأخبره بالرؤيا. فمضى معي. وسرت الى الموضع الذي رأيته في المنام. حتى مسجد ابن سحنون، فعرفه بالرؤيا التي رأى، وعرفه، وسلم عليه، ولزمه. حكى بعض سكان القصر: أنه خرج ليلة في القصر بعد العشاء الآخرة. فإذا بقارئ يقرأ في بعض البيوت، وقاسمَهما إني لكما لمنَ النّاصحين. فدلاهُما بغُرور. ويردد الآية.(4/209)
فرجع الرجل الى صلاة الصبح، وهو على حالته. قال وأسمع وقع الدموع على الحصير، الى أن خرج لصلاة الفجر، مستور الوجه. فلم أزل أرتقبه، إذا به محمد بن سحنون. قال عيسى بن مسكين: قلت لابن سحنون: كيف الرشّ؟ يعني النضح. قال: تبسط الثوب ثم ترش عليه، ثم تقلبه، ثم ترش عليه، ثم تجففه. قيل لعيسى: الطاق الواحد من الناحيتين؟ قال: نعم. قال المؤلف رضي الله تعالى عنه: يحتمل والله أعلم أن يكون هذا فيما يشك في نجاسته من الناحيتين أو من إحداهما. ولم يتعين أو شك أن النجاسة داخلته. قال: وقد رأيت لأبي الحسن القابسي، في صفة النضح قال: يرش الموضع المتهوم بيده، رشة واحدة. وإن لم يعمه، لأنه ليس عليه غسل، فيحتاج أن يعمه. قال وإن رشه بفيه أجزاه. قال المؤلف رضي الله تعالى عنه: بعد غسل فيه من البصاق، وتنظيفه. وإلا فإنه يضيف الماء. ويغلب عليه. قال عيسى: كنت قد أخذت منه كتابين، أمهات. فحضرت الصلاة. فقدمني فأخرجتهما من كمي، ووضعتهما، فأخذهما محمد وأدخلهما في كمه، وصلى فأخجلني بفعله.(4/210)
قال أبو اللباد: حج محمد بن سحنون سنة خمس وثلاثين. فغلطوا في يوم عرفة، فأراهم محمد، أن ذاك يجزئ من حجّهم. واختلف فيها قول أبيه. قال المؤلف رحمه الله: حكى ذلك الطائي عن ابن أسلم المالكي. أجمع مالك وأبو حنيفة والشافعي، على أجزاء هذه المسألة. قال بعضهم: كنت عند محمد بن سحنون فجاءه يعقوب الجري فأنشده:
محمد يا من بالعدل قد نفذت قضاياه ... ويا ابن مناصح لله يرجوه ويخشاه
أبوك أب أهاب بجنة الفردوس وهي دنياه ... فمن والى أبوك بوده فالله مولاه
مولاي وقد ينال المرءُ عفواً ما تمناه ... كتاب منك تنجح حاجتي إن كنت أُعطاه
فطل وامنن علي به ... وحطني حاطك الله
فقال له محمد بن سحنون: نعم، وكرامة. وكتب له في حاجته. قال أبو العرب: كان ابن سحنون من أطوع الناس في الناس. سمحاً، كريماً، نفاعاً للناس، إذا قُصِد. قال ابن حارث: كان كريماً في نفسه، جواداً بماله، وجاهه. يصل من قصده بالعشرات من الدنانير. ويكتب لمن يعنى به الى الكور.(4/211)
فيعطى الأموال الجسيمة، مقدماً عند الملوك، وجيهاً عند العامة، نهاضاً بالأثقال، واسع الحيلة، جيد النظر عند الملمات. وهو كان السبب المقيم لسليمان بن عمران، وعبد الله بن طالب، وذلك أنه عني بسليمان حتى استكتبه أبوه. ثم ولاه قضاء باجة. فلما مات سحنون، وولى سليمان بن عمران قضاء القيروان مكانه، فأساء صحبة محمد بن سحنون، وفسدت الحال بينهما، الى أن وجّه به سليمان، فأتاه محمد في خلق ممن تبعه، فأغلظ له سليمان في القول، فحفظ من كلامه: ما أحوجك الى من يُمضِغْك قطن قلنسوتك هذه. ولم يجسر عليه بمكروه. وكان سليمان يلقبه ويؤذيه بالقول. وجاء رجل الى ابن سحنون وقال له: يا أبا عبد الله، الرسول يبلّغ ولا يلام: ابن العيّاد، يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أنبَتّ أقواماً لو أن السماء أمطرت عليهم أربعين خريفاً ما أنبتوا. يعرض بسليمان بن عمران. فقال ابن سحنون: هذا جزاء من فعل شيئاً لغير الله. ولم تزل الحال تتزايد في فساد ما بينهما، الى أن توارى ابن سحنون خوفاً على نفسه. فكتب في تواريه الى الأمير محمد بن الأغلب، بما كتب به عثمان الى علي رضي الله عنهما:
فإن كنت مأكولاً فكن أنت آكلي ... وإلا تداركني ولمّا أمزّق
فقال ابن الأغلب: ومن يمزقه، مزق الله جلده. ثم رفع يد سليمان عنه، وأمنه منه. وقيل إن ابن سحنون لما طال ترقيه، لما ينفعه من الأمير، ركب متنكراً إليه. ولقيه مؤدب أولاد الأمير(4/212)
إذا أذنت لابن سحنون في الخروج، مع من أبقى؟ أخبره: إني قد رفعت يد سليمان بن عمران عنه. فظهر ابن سحنون وشق السماط الأعظم، حتى أتى الجامع، فصلى فيه. فبلغ ذلك سليمان فعلم أنه أمن، ورفعت يده عنه. وظهر محمد بن سحنون، وقامت رئاسته. وشجي به سليمان وجماعة العراقيين، ورد سليمان غضبه على أصحاب ابن سحنون. فأخذ فرات بن محمد فضربه بالسياط. وبينما محمد بن سحنون يمشي يوماً، لقيه صاحب الصلاة بالقيروان، المعروف بابن أبي الحواجب، وكان من أعدائه. فأومأ الى أذنه فأمكنه ابن سحنون منها. فقال له سراً: يا كذا ابن كذا نسباً قبيحاً - فأجابه ابن سحنون جهراً: تُقْضى حاجتك. يغالط من حضره. وسار ابن أبي الحواجب فأخبر سليمان بن عمران بذلك. فقال إن صدقت فتحفظ. وركب ابن سحنون الى أحمد بن محمد الحضرمي، فسأله أن يزين للأمير تولية ابن طالب على الصلاة. فأجابه الأمير إليه. فخرج الحضرمي بذلك الى ابن سحنون فسأله ابن سحنون كتم ذلك الى وقت الخطبة. ووجه ابن سحنون في طلب ابن طالب، فأعلمه بذلك. وقال له: تهيأ. فإذا رأيت ابن أبي الحواجب قد خرج الى المقصورة، فقم بين يديه، وارق المنبر، واخطب. فلما كان يوم الجمعة، هجِر ابن أبي الحواجب الى الجامع، فنزل في المقصورة،(4/213)
وأتى ابن طالب فركع الى جانب ابن سحنون، وسليمان بن عمران عند المنبر. فلما خرج ابن أبي الحواجب الى المقصورة، وهي حجرة قبلي الجامع، ورفع رجله الى درجة المنبر، صعد ابن طالب على المنبر، وقد تقلد السيف، ومد القيّم يده الى ثوب ابن أبي الحواجب، فجبذه، وكان سليمان بن عمران جالساً، وقد نعس حينئذ، فما راعه إلا صوت ابن طالب، وكان فصيحاً، يقول: الحمد لله الذي يشكر على ما به أنعم، والحمد لله الذي عذب على ما لو شاء منه عصم، والحمد لله الذي على عرشه استوى، وعلى ملكه احتوى، وهو في الآخرة يرى. فعلت سليمان بن عمران كآبة، وتهلل وجه ابن سحنون. واستمر ابن طالب في خطبته، وتمت الصلاة. فلما انصرف سليمان الى منزله، جمع شيوخ القيروان، وأمرهم أن يسيروا الى الأمير، ليزكوا عنده ابن أبي الحواجب، ويسألوه رده على الصلاة. فبلغ الخبر ابن سحنون فوجه الى الحضرمي، فأعلمه بالأمر. فلما أطل القوم على القصر، أرسل إليهم الحضرمي، أما تستحيُون أن تسألوا الأمير، أن يحط ابن عمه، ومن أراد التنويه به، وأن يشرف صاحبكم - وكان ابن طالب من بني عم الأمير - انصرفوا. فإنا لا نسألكم عن تزكية، ولا جرحة. فانصرف القوم، فكانت تلك أول نكبة سليمان. ثم لم تزل أمور ابن طالب تنتمي، الى أن عزل سليمان وولي ابن طالب قضاء إفريقية مكانه. ووجه ابن الأغلب في ابن سحنون، فسأله ما تقول في يزيد؟ فقال أصلح الله الأمير. ما أقول ما قالت الإباضية، ولا ما قالت المرجئة. قال: وما قالت؟(4/214)
قال: قالت الإباضية: إن من أذنب ذنباً فهو من أهل النار. وقالت المرجئة: لا تضر الذنوب مع التوحيد. أما يزيد عظيماً جسيماً، ويفعل الله في خلقه ما أحب. ثم انصرف. وذكر أن رجلاً من أصحاب محمد، دخل بمصر، حماماً، عليه رجل يهودي فتناظر معه الرجل فغلبه اليهودي، لقلة معرفة الرجل. فلما حج محمد بن سحنون صحبه الرجل، فلما دخل مصر، قال له: امض بنا، أصلحك الله، الى الحمام الذي عليه اليهودي. فلما دنا خروج محمد، سبقه الرجل. وأنشب المناظرة مع اليهودي، حتى حانت الصلاة. فصلى محمد الظهر، ثم رجع معه الى المناظرة، حتى كانت العصر، فصلاها. ثم كذلك العشاء، ثم الى العشاء الآخرة، ثم الى الفجر، وقد اجتمع الناس وشاع الخبر بمصر، الفقيه المغربي يناظر اليهودي، فلما كانت صلاة الفجر انقطع اليهودي، وتبين له الحق وأسلم. فكبّر الناس وعلت أصواتهم. فخرج محمد وهو يمسح العرق عن وجهه، وقال لصاحبه: لا جزاك الله خيراً. كاد أن يجري على يديك فتنة عظيمة. تناظر يهودياً، وأنت بضعف، فإن ظهر عليك اليهودي، لضعفك، افتتن من قدر الله فتنته، أو كما قال. وذكر أن رجلاً عراقياً كان يؤذي محمد بن سحنون، وينال منه. فاشتد عليه مرة الفقر، فقام بباله قصده. فنهته امرأته لما عرفت منه، فلم يقبل منها. ووصل إليه. فقال: جئت
أستعينك وأستعفيك. فقال: اذكر حاجتك. فقال: ما جئت الى هذا. قال: لابد أن تذكر حاجتك. فشكا إليه حاله. فاسترجع محمد، وقال: يا أخي بلغ منك هذا وأنا في الدنيا. وكتب له رقعة الى صيرفي بعشرين ديناراً. وقال اشتر بها لأهلك ما يحتاجون. ففعل الرجل، وأخبر الرجل بذلك ابن سحنون، فسر، ثم قال له: تقدر على السفر؟ قال: نعم. فكتب له كتباً، وقال له: تمضي بها الى قسطنطينه. فمضى الرجل بها وأوصلها الى أصحابها. فأكرم وأضيف، وأعطي ثلاثمائة دينار. فظن الرجل أنها لمحمد بن سحنون وأنه وجهه وراءها. فلما وصل الى القيروان دفعها لمحمد بن سحنون مع أجوبة القوم. فقال محمد: إنا لله وإنا إليه راجعون. قال القاسم: قال الرجل: يا سيدي، إن كان بقي شيء رجعت إليه، أقتضيه لك. فقال: ليست لي، إنما هي لك. وما عهدناهم كذلك. وجعل يستقلها. وفي حكاية أخرى، أن رجلاً من العراقيين كان يغري به، حتى قيل إن صاحبه يشتمه علانية وسراً، إذا وجده مع الناس، فشتمه يوماً في أذنه، وهو في أصحابه. فقال: نعم وكرامة. إذا تفرّغت تقضي حاجتك. وبلغ ذلك العراقيين. فتهموا صاحبهم وأضاعوه. فشكا حاله الى بعض الصالحين. فدله على محمد بن سحنون. فسار إليه، فأصغى إليه محمد أذنه، وهو يظن أنه يجري على عادته. فقال هو: والله ما جئتك إلا نائباً منيباً. فأجلسه. فلما قضى مجلسه أخذ بيده، وحمله الى منزله، ودفع إليه عشرين ديناراً. ثم كتب له ثلاثين كتاباً الى ثلاثين رجلاً من أصحابه بالساحل، يسأل كل رجل أن يشتري له جارية. فوصلت إليه ثلاثون جارية. فأمر ببيع خمسة منهن. وأصلح بها حال خمس وعشرين، ودفعهن الى الرجل. وحكى المالكي قال: كانت لمحمد بن سحنون، تسعة أسرة. يريد لكل سرير سرية. وكانت له سرية يقال لها أم قدام. فكان عندها يوماً، وقد شغل في تأليف كتاب الى الليل، فحضر الطعام، فاستأذنته، فقال لها: أنا مشغول الساعة. فلما طال عليها، جعلت تلقمه الطعام، حتى أتت عليه. وتمادى هو على ما هو فيه الى أن أذن لصلاة الصبح. فقال: شغلنا عنك الليلة يا أم قدام. هات ما عندك. فقالت قد والله يا سيدي ألقمته لك. فقال لها: ما شعرت بذلك. قال سليمان بن سالم: قال لي محمد بن سحنون: دخلت مسجد مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بحلقة عظيمة، فيها شيخ متكئ، فجلست كما نزلت، بثياب السفر. فوجدتهم يتنازعون في مسألة من أمهات الأولاد. فأدخلت عليهم فيها حرفاً، فنبههم الشيخ عليه، فاسترد جالساً. ثم زدت حرفاً آخر. فقال لي أين بلدك؟ فقلت: أصلحك الله، رجل حاج. فقال أين بلدك؟ قلت إفريقية. فقال ينبغي أن تكون ابن سحنون، أو ابن أخي سحنون. فقام إلي الشيخ في جميعهم فسلموا عليّ، وعتبوني إذ لم أعلمهم بنفسي. فوَالله ما خرجت من المسجد إلا والشيخ يكتب المسألة، وأنا أمليها عليه. ك وأستعفيك. فقال: اذكر حاجتك. فقال: ما جئت الى هذا.(4/215)
قال: لابد أن تذكر حاجتك. فشكا إليه حاله. فاسترجع محمد، وقال: يا أخي بلغ منك هذا وأنا في الدنيا. وكتب له رقعة الى صيرفي بعشرين ديناراً. وقال اشتر بها لأهلك ما يحتاجون. ففعل الرجل، وأخبر الرجل بذلك ابن سحنون، فسر، ثم قال له: تقدر على السفر؟ قال: نعم. فكتب له كتباً، وقال له: تمضي بها الى قسطنطينه. فمضى الرجل بها وأوصلها الى أصحابها. فأكرم وأضيف، وأعطي ثلاثمائة دينار. فظن الرجل أنها لمحمد بن سحنون وأنه وجهه وراءها. فلما وصل الى القيروان دفعها لمحمد بن سحنون مع أجوبة القوم. فقال محمد: إنا لله وإنا إليه راجعون. قال القاسم: قال الرجل: يا سيدي، إن كان بقي شيء رجعت إليه، أقتضيه لك. فقال: ليست لي، إنما هي لك. وما عهدناهم كذلك. وجعل يستقلها. وفي حكاية أخرى، أن رجلاً من العراقيين كان يغري به، حتى قيل إن صاحبه يشتمه علانية وسراً، إذا وجده مع الناس، فشتمه يوماً في أذنه، وهو في أصحابه. فقال: نعم وكرامة. إذا تفرّغت تقضي حاجتك. وبلغ ذلك العراقيين. فتهموا صاحبهم وأضاعوه. فشكا حاله الى بعض الصالحين. فدله على محمد بن سحنون. فسار إليه، فأصغى إليه محمد أذنه، وهو يظن أنه يجري على عادته. فقال هو: والله ما جئتك إلا نائباً منيباً.(4/216)
فأجلسه. فلما قضى مجلسه أخذ بيده، وحمله الى منزله، ودفع إليه عشرين ديناراً. ثم كتب له ثلاثين كتاباً الى ثلاثين رجلاً من أصحابه بالساحل، يسأل كل رجل أن يشتري له جارية. فوصلت إليه ثلاثون جارية. فأمر ببيع خمسة منهن. وأصلح بها حال خمس وعشرين، ودفعهن الى الرجل. وحكى المالكي قال: كانت لمحمد بن سحنون، تسعة أسرة. يريد لكل سرير سرية. وكانت له سرية يقال لها أم قدام. فكان عندها يوماً، وقد شغل في تأليف كتاب الى الليل، فحضر الطعام، فاستأذنته، فقال لها: أنا مشغول الساعة. فلما طال عليها، جعلت تلقمه الطعام، حتى أتت عليه. وتمادى هو على ما هو فيه الى أن أذن لصلاة الصبح. فقال: شغلنا عنك الليلة يا أم قدام. هات ما عندك. فقالت قد والله يا سيدي ألقمته لك. فقال لها: ما شعرت بذلك. قال سليمان بن سالم: قال لي محمد بن سحنون: دخلت مسجد مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بحلقة عظيمة، فيها شيخ متكئ، فجلست كما نزلت، بثياب السفر. فوجدتهم يتنازعون في مسألة من أمهات الأولاد. فأدخلت عليهم فيها حرفاً، فنبههم الشيخ عليه، فاسترد جالساً. ثم زدت حرفاً آخر. فقال لي أين بلدك؟ فقلت: أصلحك الله، رجل حاج. فقال أين بلدك؟(4/217)
قلت إفريقية. فقال ينبغي أن تكون ابن سحنون، أو ابن أخي سحنون. فقام إلي الشيخ في جميعهم فسلموا عليّ، وعتبوني إذ لم أعلمهم بنفسي. فوَالله ما خرجت من المسجد إلا والشيخ يكتب المسألة، وأنا أمليها عليه.
ذكر مذهبه في الإيمان
كان محمد بن سحنون لا يستثني في مسألة الإيمان. وغالبَ ابن عبدوس وغيره. وكان يقول: أنا مؤمن عند الله. وكان ابن عبدوس وأصحابه، وأهل مصر والمشرق ينكرون ذلك عليه وعلى من يقوله. وينسبون قائله الى الأرجاء. وتكلم ذلك مرة رجل بمصر، في حلقة أبي الذكر الفقيه، فأنكروا عليه. فقال أبو الذكر: وعندنا فرقة بالمغرب يقال لها السحنونية تقول ذلك. وكان ابن سحنون يقول: المرء يعلم اعتقاده. فكيف يعلم أنه يعتقد الإيمان، ثم يشك فيه. وبقي بينه هو وأصحابه بعده، وبين أصحاب ابن عبدوس وغيرهم، في المسألة تنازع، ومجادلات، ومطالبات. وكانوا يسمون من خالفهم، الشكوكية، لاستثنائهم.(4/218)
وسيأتي من أخبار بعضهم، وما جرى بينهم، بعد هذا في موضعه، ما يليق بالكتاب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: والمسألة قد كثر الخوض فيها، وكلام الأئمة عليها. والحقيقة فيها، أنه خلاف في ألفاظ لا حقيقة. فمن التفت الى مغيب الحال والخاتمة، وما سبق به القدر، قال، بالاستثناء. ومن التفت الى حال نفسه، وصحة معتقده، في وقته لم يقل به. ثم نشأ بينهم بعد اختلاف آخر، بعد ثلاثمائة سنة، في القول في الغير، هل يقال هو مؤمن من عبد الله. وجرى بين أبي التبان وابن أبي زيد، والمسيسي، وأبي ميسرة، والدراوردي، وغيرهم في ذلك مطالبات ومهاجرة، سنذكر منها في أخبارهم عند ذكر طبقتهم، والصحيح في هذا أيضاً ما قاله أبو محمد بن أبي زيد: إن كانت سريرتك مثل علانيتك، فأنت مؤمن عند الله. زاد الدراوردي، وختم لك بذلك. وأما ابن التبان وغيره، فأطلق القول بأنه مؤمن. سأل محمد بن أبي زيد، وكان يقول: ابن سحنون ورعاً لم ينسب هذا القول الى أبيه.
ذكر وفاته
توفي محمد بن سحنون رحمه الله ورضي عنه بالساحل، سنة ست وخمسين ومائتين بعد موت أبيه بست عشرة سنة.(4/219)
وكانت وفاته بالساحل، وجيء به الى القيروان. فدفن بها. وسنه أربع وخمسون سنة. مولده سنة اثنتين ومائتين. فيما قاله أبو العرب. وقال ابن حارث: مولده على رأس المائتين. وفي رثاء أحمد بن سليمان له:
وقد عاش خمساً بعد خمسين حجة ... يحامي عن الإسلام إلا ثمانيا
وصلى عليه الأمير حينئذ ابراهيم بن أحمد بن الأغلب. وضرب على قبره قبة. وضربت الأخبية حول قبره. وأقام الناس فيها، شهوراً كثيرة، حتى قامت الأسواق، والبيع والشراء، حول قبره، من كثرة الناس، حتى خاف من ذلك ابن الأغلب، وبعث الى ابن عم ابن سحنون، المعروف بابن لبدة، ففرق الناس. ورئي في النوم، فسئل، فقال: زوجتي وبي سبعين حوراء، لما علم من حبي النساء. ورأى بعضهم حين مات، سحابة تظلل القيروان، والناس يعجبون من حسنها، إذ قال قائل: أتدرون ما هي هذه السحابة؟ قلنا لا. قال: محمد بن سحنون، ويده بيد الله تعالى. ورثاه الشعراء بمراثي كثيرة. من ذلك قول محمد بن داود وكان من أصحابه:
اذر الدموع على أخرّ مُحجل ... بسطت له أيدي المنون حبالها
ما ضرها لو متّعت بمحمد ... هيهات رب العالمين قضى لها
يا عين جودي بالدموع على الذي ... نشرت عليه المكرمات ظلالها
ولقد رأيت الأرض يوم رأيته ... فوق المناكب زلزلت زلزالها(4/220)
قل للمنية بعد موت محمد ... تكسو الخليقة بعده إجلالها
يا صاحب القبر الذي لبس البلى ... ورّثت نفسي همها وخبالها
لما رأت تعطيل مسجدك الذي ... بإزاء قبرك غالها ما غالها
ذاك المحل الأرحب العالي إذا ... أعطى البرية ربها أعمالها
وقال آخر:
فقد مات رأس العلم وانهدّ ركنه ... وأصبح من بعد ابن سحنون واهيا
فمن لرواة العلم بعد محمد ... لقد كان بحراً واسع العلم ضافيا
بنى لك سحنون من المجد معجزاً ... وأورثك العلم الذي كان بانيا
وأصبحت مخصوصاً بكل فضيلة ... وشيدت ما قد كان شيخك جانيا
وكنت لأهل العلم حصناً وملجأ ... فأصبح منك اليوم حظك خاليا
وقال أحمد بن أبي سليمان:
ألا فابك للإسلام إن كنت باكيا ... لحلٍ من الإسلام أصبح واهيا
تهدم حصن الديار وانهار ركنه ... عشية أمسى في المقابر ثاويا
إمام حباه الله فضلاً وحكمة ... وفقهه في الدين كهلاً وناشيا
وزوّده التقوى وبصره الهدى ... فكان بلا شك الى النور هاديا
وهي طويلة. قال ابن اللباد: حج محمد بن سحنون سنة خمس وثلاثين، وترك محمد بن سحنون ابنه. وسمي محمد أيضاً. ويكنى بأبي سعيد. له سماع من أبيه. وغلبت عليه العبادة. وسيأتي ذكره.
أحمد بن لبدة
أبو جعفر. ابن أخي سحنون، ولبدة أخو سحنون. سمع من عمه. قال أبو العرب: هو ثقة. أخذ الناس عنه. وكان وجيهاً بإفريقية، ذا فضل ودين. قال ابن حارث: ولم يكن في الفقه هناك، إلا أنه قام له جاه في البلد بعد موت سحنون بأثرته ومكانه منه.(4/221)
قال ابن نصر: كانت المسائل ترد إليه من كل جانب، فمرة يلقيها إليّ، ومرة الى موسى القطان. فنتولى الجواب عنه. وكان أناس يقولون: ابن لبدة عالم الأمير. قال الإيماني: كانت خديجة ابنة سحنون من أحسن النساء وأعقلهن. فذكر لي أبو داود القطان، أن أحمد بن لبدة أرسله لسحنون يخطبها عليه. فذكرت له. فقال: هممت بذلك. فأتاه محمد، يعني ابنه فشاوره، فقال: لا أصنع - ما يحبه - فسكت عنه، الى أن توفي سحنون. فأرسلني الى محمد. فذكرت ذلك له. فقال: كيف أصنع ما لم يصنع أبي؟ فسكت عنه، حتى توفي محمد. فأرسلني إليها. فقالت لي: ما لم يصنع أبي وأخي، أنا أصنعه؟ لا أفعل. فماتت وهي بكر. وتوفي ابن لبدة هذا سنة إحدى وستين ومائتين.
محمد بن ابراهيم بن عبدوس بن بشير
أصله من العجم. قال أبو سعيد المصري: وهو من موالي قريش. قال المؤلف رحمه الله تعالى: هو من كبار أصحاب سحنون، وأئمة وقته. وهو رابع المحمدين الأربعة، الذين اجتمعوا في عصره، من أئمة مذهب مالك، لم يجتمع في زمان مثلهم، اثنان مصريان: محمد بن عبد الحكم، وابن المواز، واثنان قرويان: ابن عبدوس، وابن سحنون.(4/222)
ذكر مكانه من العلم والفضل
قال محمد بن أحمد بن تميم: كان محمد بن عبدوس ثقة، إماماً في الفقه، صالحاً زاهداً، ظاهر الخشوع ذا ورع، وتواضع، بذُّ الهيئة. من أشبه الناس بأخلاق سحنون، في فقهه وزهادته في ملبسه ومطعمه. وكان صحيح الكتاب، حسن التقييد، عالماً بما اختلف فيه أهل المدينة، وما اجتمعوا عليه. قال حماس القاضي: ما رأيت مثل ابن عبدوس، في الزهادة والفقه. وقال مثله محمد بن بسطام. وقال أحمد بن زياد: ما أظن كان في التابعين مثله. يعني في الفضل والزهد. وهذا غلو. قال ابن حارث: كان حافظاً لمذهب مالك، والرواة من أصحابه، إماماً فقيهاً، غزير الاستنباط، جيد القريحة، ناسكاً عابداً متواضعاً. يقال إنه مستجاب الدعوة. وإنه دعا على ابن الأغلب المعروف بأبي الغرانيق، فعرفت استجابته. قال ابن حارث: وكان نظير أحمد بن المواز، وألف كتاباً شريفاً، سمّاه المجموعة على مذهب مالك وأصحابه. وأعجلته المنيّة، قبل تمامه. وكان قرناً لابن سحنون، وجاراً لهم. نشأ معه بين يدي سحنون رحمه الله. وله أيضاً كتاب التفاسير، وله كتب فسر فيها أصولاً من العلم، كتفسير كتاب المرابحة، وتفسير المواضعة، وتفسير كتاب الشفعة، وكتاب الدور.(4/223)
قال أحمد بن زياد: شاهدته يوماً، قد أخذ في شرح أصل من أصول اللعان. فلما توسط كلامه، فهم عمن كان يكلمه أنه لم يفهمه. فقطع كلامه وقال: هذا الأمر يموت مع أصحابه. يعني الفقه الجيد. وذكر مرة عند حماس القاضي، ففضلوه على محمد بن مسحنون. فقال حماس: كان ابن عبدوس يلقي علينا المسائل. فإذا أشكلت شرحها فلا يزال يفسرها، حتى نفقهها. فيسر بذلك. وإن لم يرنا فهمناها غمّه. قال لقمان: بلغ ابن عبدوس، أن محمد بن سحنون قال يوماً: يتكلمون في الفقه، ولعل أحدهم لو سئل عن اسم أبي هريرة ما عرفه. فكان ابن عبدوس، ربما قال للرجل، من أصحابه: أفهم هذه المسألة، فإنها أنفع لك من اسم أبي هريرة. وفي رواية عن حماس: هذا أحب إلي من معرفة اسم أبي سعيد الخدري. تعريضاً بابن سحنون، لعلمه بالرجال. وكان ابن طالب شديد الإعظام لابن عبدوس، عارفاً بحقه، وعليه كان يعتمد في أحكامه ويطالبه بالمشاورة، في كل وقت. وكان سليمان بن عمران يقول لابن طالب: إن مات لك ابن عبدوس ما تصنع؟ قال لقمان: كان وجه ابن طالب الى ابن سحنون، وقلبه الى ابن عبدوس. وكان ابن طالب يقول: اللهم ابقني ما أبقيت محمد بن عبدوس، أقتدي به في ديني ودنياي. وكان يثني عليه. قال حبيب: كنت أسأل في المسائل النازلة لسحنون، فإن تعذّر، فابن عبدوس.(4/224)
وبه تفقه جماعة من أصحاب سحنون، فمن بعدهم. واستجازه آخر في المجموعة. وألف كتبه هذه في المذهب المسماة بالمجموعة. وهي نحو الخمسين كتاباً. وله أيضاً أربعة أجزاء في شرح مسائل من المدونة. ذكرناها. وكتاب الورع، وكتاب فضائل أصحاب مالك. وكتاب مجالس مالك، أربعة أجزاء. وقد تضاف بعض هذه الكتب الى المجموعة. ودخل يوماً محمد بن عبدوس على سحنون وعنده ابنه محمد، وأبو داود، وعبد الله بن الطبية، وعبد الله بن سهل القبرياني، وجماعة من كبار أصحابه. وقد ألقى عليهم مسألة، فبقي عليهم في الجواب. فقال إيش يتكلمون؟ فقال سحنون، فأخبِروه. فقال: قال فيها بعض أصحابنا كذا. وبعضهم كذا. وذكر الجواب والاختلاف. فقال سحنون: نعم. انظروا من يدرس وأنتم تركتم الدرس. وحكى الإيمالي أن ابن عبدوس أقام سبع سنين يدرس، لا يخرج من داره إلا الى الجمعة.
ذكر زهده
ذكر ابن اللباد، أن محمد بن عبدوس صلى الصبح بوضوء العتمة، ثلاثين سنة. خمس عشرة من دراسة. وخمس عشرة من عبادة. وروينا عن غيره أنه رأى في منامه أنه يقال له مضضت؟ فاستوى قائماً. وسأل بعض أهل العلم بالرؤيا. فقال له مضضت على العمل.(4/225)
فقال: وأي عمل أفضل مما أنا فيه، من تأليف المجموعة. ثم لزم العبادة، والعمل. فمات الى سنته. قال أحمد بن نصر: كنت إذا رحلت الى محمد بن عبدوس، وجدته قد جلس محتبياً متواضعاً، زائلاً عن صدر فراشه، فلا يعرفه أنه صاحب المجلس، إلا من يدريه. قال غيره: وكان إذا رأيته يصلي، علمت أنه ممن يخشى الله تعالى. وكان يركب على الشند. قال حماس فعاتبناه على ذلك. وقلنا له: الناس ينظرون إليك ويقصدونك، فما زلنا به حتى اشترى سرجاً دَيْناً كالقتب بعض الشنود خير منه. قال محمد بن بسطام: كان مجلس ابن عبدوس في ركن المسجد، فإذا جاء السائل لم يعرفه؟ حتى يقول من هو؟ وربما كان على رأسه منديل مهلبي، فيركب السلال إذا خرج الى منزله. ولما انصرف من الحج، أعرض عن الكلام في مسائله لئلا ينفتح له باب من الرأي، يظهر له به نقص في حجه. قال محمد بن بسطام: كنت في بيتي ليلة شاتية. إذ دق عليّ الباب، فخرجت. فإذا محمد بن عبدوس، وعليه جبة صوف وقلنسوة صوف. فقال لي: يا محمد ما نمت الليلة غماً لفقر أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وهذه مائة دينار ذهباً، غلة ضيعتي هذا العام، احذر أن يمسي الليل وعندك منها شيء، وانصرف. قال أبو الفضل السبتي: صلى رجل خلف محمد بن عبدوس، فلما سمع قراءته سقط الرجل، فلما فرغ ابن عبدوس، قام الرجل يقضي صلاته. فقال له ابن عبدوس: يا هذا لا تصلي حتى تسبغ الوضوء.(4/226)
فقال ما فقدت عقلي. فقال له ابن عبدوس: فما استحييت أن تقطع صلاة فريضة، غير مغلوب. وكان سحنون استكتبه في جملة من استكتب لأول ولايته. فكتب مدة. ثم أنكر في الديوان أمراً، من فعل غيره. فاعتزل عن الكتابة، وحلف لا أكتبها. فأعفاه سحنون. ويقال بل هرب الى سوسة. وكان صاحب كشف الشهود لسحنون.
ذكر ما يحكى عنه في مسألة الإيمان رحمه الله
ذكر المالكي، أنه لم يكن في أصحاب سحنون أفقه من ابنه، ومن ابن عبدوس. وكان الناس بينهما طائفتين: المحمدية يعني السحنونية، والعبدوسية. كل طائفة تتعصب لصاحبها. ولما وقعت مسألة الاستثناء في الإيمان، حكي عن ابن عبدوس فيها شيء. فشنع عليه. فكان أصحاب ابن سحنون يسمون العبدوسية: بالشكوكية. وحكى أبو الحسن القابسي: أن رجلاً ضرب عليه باب داره، فسأله عن المسألة. فقال ابن عبدوس: أنا مؤمن. فقال: عند الله؟ فقال: قد قلت لك. فأما عند الله فلا أدري، بن يختم لي. فبصق الرجل في وجه محمد بن عبدوس، فعمي الرجل لوقته. والذي صح عن ابن عبدوس أنه قال: أدين بأني مؤمن عند الله في وقتي هذا. ولا أدري ما يختم لي به. وقال أحمد بن أبي سليمان: قلت له: الناس يتكلمون فيك، وزعموا أنك تشك في نفسك، وتقول: لا أدري، وأرجو أن أكون مؤمناً، إن شاء الله.(4/227)
فقال: والله ما قلته قط. فلا جزى الله من حكى هذا عني خيراً. ما شككت قط أني مؤمن عند الله. ولقد مرت علينا. وسأله محمد بن سحنون فما عدا الحق عندي منها حرفاً أكثر مما قلت: لا تتكلموا في هذا. فقلت له: إن ابن سحنون يقول: ذلك بدعة. فقال: والله إني لأخاف أن يكون كفراً. وحكى عنه حماس مثل هذا. قال الداودي: إنه ذكر ذلك لابراهيم بن عبد الله القلانسي، فقال: لم يقل ابن عبدوس كذا. إنما قال: من لم يكن مؤمناً عند الله، فهو عند الله كافر. فظن أن ابن أبي سلمة أنه قال له: نحن مؤمنون عند الله. وإنما عرض له بقوله.
وفاته
وتوفي ابن عبدوس سنة ستين ومائتين. فيما قاله ابن حارث، وغيره. وقال آخرون سنة إحدى وستين. وصلى عليه أخوه. مولده سنة اثنتين ومائتين مع ابن سحنون في سنة واحدة. وقيل بعده بسنة على الخلاف في مولد ابن سحنون، والله أعلم.
إسحاق بن عبدوس أخوه
كان أكبر من محمد بسنة. ولكن محمداً أعلى منه في الزهد والفقه. وهو كان المشهور المقصود في العلم. وقد سمع من إسحاق بشر كثير،(4/228)
وكان سماعه، مع أخيه من سحنون. وكان من أهل الملبس الحسن، والمركب. يروح الى الجمعة راكباً، ويروح محمد في تقشفه راجلاً، تحت ركاب أخيه. ولما حضرت محمداً أخاه الوفاة استجازه إسحاق، محمد عنه. قال ابن اللباد: حضرت جنازة إسحاق بن عبدوس، فصلى عليه ابن طالب. فسمعته يجهر بالدعاء له. وكان من شأنه يجهر بالدعاء على الميت. فسمعته يقول، في التكبيرات الأربع: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. صلى الله عليه وسلم. اللهم ارحمه. اللهم اغفر له. ثم تمادى بالدعاء، على هذا النحو. قال أبو بكر: وكذلك قال أشهب: يبدأ بالحمد لله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. ثم يدعو. قال بعضهم: سمعت إسحاق بن عبدوس وقد ذكرت عند التزكية، فقال: من كف لسانه وأذاه في زمننا، فهو عدل. وتوفي إسحاق في رمضان سنة ست وستين ومائتين. ومولده سنة إحدى ومائتين.
سعيد بن عباد
أبو عثمان. يعرف بابن غلة. أصله من سرت، وسكن القيروان، من أكابر أصحاب سحنون. قال أبو العرب: كان ثقة، فقيه البدن، ذا عبادة، فقيراً متعففاً. قال ابن حارث: وكان الغالب عليه العبادة، والصلاة والتنسك. وكان من أهل النّسك والنية الصالحة،(4/229)
ويقال إنه مستجاب الدعوة. وهو أقدم أصحاب سحنون خوفاً. قال عبد الجبار: كنا نختلف الى سحنون جماعة، فكان والله سعيد خيرنا. قال ابن بسطام: سعيد من المتبتلين، وذكره يحيى، وذكر أنه كانت لامرأة عنده شهادة فأتته فوجدته في خُمرة طين، قد بلغت منه الى فوق الركبتين، وهو يعجنها. فدعته لأداء الشهادة. فقال لها: أنا مستأجر كما تري. وأنت مضطرة. فقال له صاحب البناء: اذهب معها، وأنت في حل. فسلت الطين من ساقيه، وتلفّح في كساء موصول، مرقوع، وقال للمرأة: أين القاضي؟ فعرفت وكيلها، فازدراه. وكان القاضي حنفياً، أشهر من الشمس، ولكنه لم يكن كثيراً، يعرف شخصه. فقالت له المرأة: هذا خير من كل من ترى بأداء الشهادة عند القاضي، ولم يعرفه، فازدراه. وكان القاضي حنفياً. فقال له القاضي: يا شيخ صلاتك بالصيف والشتاء واحدة؟ فقال له: نعم. وذكر له حديثاً. ثم قال له: والفرق يومئذ دار يضرب فيها بالنواقيس، وأنت لعّاب والله، لا شهدت عندك بشهادة أبداً. وقام فارتج عليه، وعرف به. فقال: أنا والله سمعته، والقاضي يصيح وراءه: يا أبا عثمان، يا أبا عثمان. فلم يلتفت إليه. وذكر أبو العرب أن سحنون خلا به يوماً. فقال له: ألست بإمامك؟(4/230)
قال: نعم. قال: وتقبل قولي؟ فقال: نعم. لو لم أقبله لم أختلف إليك. فقال له: هذا قولي، ويميني. فحلف بالله وأراه صرة في يده. ذكر أن فيها ثلاثين ديناراً. وقال له: ما هي من سلطان، ولا من تجارة، ولا وصية. وما هي إلا من ثمرة شجرة غرستها بيدي، فخذها، تتقوى بها على أمر دينك ودنياك. فقال: أنا عنها غني. وكان مفرط الحاجة الى ما دونها. فقال سحنون: خذها سلفاً، فتتزوج منها، وتنفق. فإن رزقك الله ردها أقبلها منك. فإن تعذر ردها فأنت منها في حل. فقال: ما كنت بالذي آخذ ديناً في ذمتي من غير حاجة. فقال سحنون: فإذا أبيت فلا تذكره لأحد ما دمت حياً. قال ابن بسطام: أرسلني ابن عبدوس الى سعيد بعشرين ديناراً. وقال قل له: بلغني أنك تريد الزواج، فخذ هذه إن شئت هدية، أو سلفاً. فجزاه خيراً، وقال: قد عرضها سحنون قبله، ولم نقبل. ولا كنت بالذي يتعجل شهوة بدَين في ذمته. وتوفي سعيد سنة إحدى وخمسين ومائتين.
عبد الله بن الطبنة
قال أبو العرب: كان فقيهاً ثقة، من أصحاب سحنون. روى عنه حماس، وأحسب موته في نحو ستين ومائتين.(4/231)
معتب بن أبي الأزهر
واسم أبي الأزهر، عبد الوارث بن الحسن بن الجند، ينتمي الى الأزد، قيرواني. قال ابن حارث: كنيته أبو أحمد. من أصحاب سحنون. قال أبو العرب: هو ثقة. قريب في السن من سحنون. وتردد العلم في بيته زمناً طويلاً. وسيأتي ذكر ولده في طبقتهم إن شاء الله تعالى. قال معتب: قال لي سحنون يوماً: أحب أن أُسرّ إليك سراً، فإياك أن تفشيه. قال: فقلت له: يا أبا سعيد إن كانت منزلتي عندك، منزلة من يخاف منه، فلا تفش إليّ سرك. فقال لي: ليس الأمر كما ذكرت، ولكن لكل إنسان صديق، يكون موضع ثقته، وراحته، ولذلك الصديق آخر مثله. ومثل هذا يخرج الأسرار. قال: وقال لي أبو القاسم عبد الله بن محمد البغدادي: وما حال صبيانكم؟ قلت: ولع كثير. قال: إن لم يكونوا كذلك فعلِّق عليهم التمائم. يريد أنه لا يكسرهم من اللعب إلا مرض. وتوفي سنة خمس وخمسين ومائتين. ويقال سنة أربع وخمسين.
محمد بن عامر القيسي
أبو عبد الله. أصله من الأندلس.(4/232)
قال أبو العرب: كان عندهم علم كثير. وكان فقيراً متعففاً. وكان صدوقاً. وكان المغامي يستضعفه في عقله. سمع من سحنون ومحمد بن عبد الحكم وغيره من محدّثي أهل المشرق. وسمع منه عبد الله بن خليل المقعد وحسن بن محمد المكي. وذكر أبو سعيد الصدفي في تاريخه، أنه سمع من ابن وهب، وأنه مات بسوسة سنة سبع وخمسين ومائتين. وقال أبو العرب: مات بالقيروان سنة خمس وخمسين ومائتين.
محمد بن حضرم
ويقال محمد بن نصر بن حضرم، من فقهاء القيروان وأصحاب سحنون. قال أبو العرب: كان فقيهاً ثقة. كثير الذب والاجتهاد. كان محمد بن سحنون، يتعلم منه. وكان سحنون يجله ويصله، وكان له ابن يقال له: أبو الحسن، واسمه محمد، أخذ عنه سليمان بن سالم. قال ابن حارث: كان فقيهاً، نظاراً، ذا جدل وصحة. ويقال إنه كان يعلم ابن سحنون النظر. وتوفي بصقلية. فذكر أنه لما بلغت وفاته ابن سحنون قال: رحم الله أبا الحسن لقد كان معلمنا. قيل له: فلم لم تقل هذا في حياته؟ فقال فنظلمه حياً وميتاً.(4/233)
قال ابن حارث: ذكر أهل العلم أن ابن حضرم تذاكر مع قوم، وقال غيره: إنه تناظر مع ابن وهب العراقي فقال له: ما معنى قول مالك في الرجل يقول لامرأته قومي، أو اقعدي ونحوه. يريد بذلك الطلاق؟ فقال: إنها طالق. فأنكر بعضهم هذا من قوله. فقال ابن حضرم: إن ظاهر القول متصل بباطن النية. ألا ترى أن الله قد أمر خلقه، أن يقولوا لا إله إلا الله. فلو قالها قائل ونوى بها المسيح، كان كافراً باتفاق. أفلا ترون كيف حكمت النية الباطنة على القول الظاهر. فما أنكرتم أن يكون هذا مثله. وتوفي في حياة سحنون أو قريباً من وفاته.
أحمد بن يملول
قال الصدفي: هو تنوخي، وكناه بأبي بكر. وقال أحمد بن أحمد: هو من أهل توزر. من بلاد قصطلية. سمع من سحنون ورحل في طلب الحديث. وكان مطاعاً ببلده. كثير الأتباع مذكوراً بالخير، ثقة، مأموناً، قديم الموت. سمع منه بكر بن حماد، وابنه سحنون بن أحمد، وناس كثير من أهل القيروان وغيرهم.
من أهل الأندلس
الأعنائي
قال ابن أبي دليم: كان من أهل الفقه وجيهاً في هذه الطائفة. سئل عنه ابن عبدوس، فقال فيه: ثقة. سمع منه.(4/234)
قال ابن حارث: كان فقيهاً عالماً، حسن المناظرة. وناظره محمد بن عبد الحكم بمصر. قال أبو العرب: ولم أعلمه يختلف في ثقته. وكان أكثر سماعه من الشاميين من أصحاب الوليد بن مسلم، وأصحاب اسماعيل بن عياش. وكان قد امتنع من قضاء طليطلة. وألف رقائق الفضل بن عياض، وكتاب زهد سفيان الثوري، وكتاب فضائل الأوزاعي، وكتاب فضائل طاووس اليماني. وتوفي بتوزر، سنة اثنين وستين ومائتين. وقد حدث الشيخ أبو محمد بن أبي زايد عن أبيه عن سحنون عنه بالإجازة.
الحسن بن اسماعيل القرشاني
أبو علي: من رجال قصطلية، وسكن القيروان. سمع من سحنون قديماً، ومن أصبغ بن الفرج، وسعيد بن أسد بن موسى، وغيرهم. سمع منه أحمد بن أبي سليمان، وموسى بن عبد الرحمن، وغير واحد من أصحاب سحنون. قال أبو العرب: كان ثقة، حسن التقييد، يسير الكتب، لم يختلف في ثقته. قال أحمد بن خالد في كتاب التعريف: كان ثقة، حافظاً للعلم. توفي سنة اثنتين وستين ومائتين. ويقال سنة ثلاث منصرفه من الحج.(4/235)
سعيد بن يحيى يعرف بابن الفرا
كان بصقلية سمع من مطرف والقعنبي وابن سحنون. ومات بصقلية.
عبد الحميد السندي
معروف في أصحاب سحنون. وكان رجلاً صالحاً. توفي في القيروان، سنة ثلاث وخمسين ومائتين.
إبراهيم بن المضاء بن طارق الأسدي
أبو إسحاق. قيرواني، سمع من سحنون. وكان رجلاً صالحاً. وكان له مسجد يجتمع إليه فيه القراء والمعبرون. ولم يقرأ الكتاب عليه. وقال أبو سعيد بن يونس: سمع أيضاً من محمد بن علي الرعيني. وروى عنه يحيى بن محمد حشيش. ذكر بعضهم، قال: كنت في مسجد ابراهيم بن المضاء والقراء والناس مجتمعون، إذ أتى رجل، فقال: يا معشر المسلمين. أنا رجل فقير، ذو بنات، ولي دار جوار عامر بن عمرون بن زرارة، من أصحاب السلطان، وأنه بنى عليه، وفتح أبواباً مطلة على داري، وبناتي منكشفات منها. ما عليهن كبير كسوة. وهو وخدمه مطلون عليهن. فادعوا الله لي عليه أن يكفيني مؤنته. فدعا ابراهيم ودعا الناس، فما برحت حتى أتى رجل، فقال: تفرّقوا لا ينالكم من السلطان مكروه، أو نحو هذا، هدمت عليّة عامر، وضربته سارية، طيرت دماغه، فافترق الناس،(4/236)
ومات ابن المضاء سنة خمسين ومائتين. ومن دعائه: اللهم اجعلنا من الذين خلفوا الدنيا مع نفوسهم وراء ظهورهم. فخففت لهم الأثقال، لما عندهم من الأعراض. أولئك الذين يحجب عنهم البلاء بصبرهم وهانت لهم المصائب بشكرهم.
سعيد الطنبري
أبو عثمان. سمع من سحنون. وكان من المتعبدين المتقشفين. وكان أصحاب سحنون يذكرونه بخير. ويحكون عنه. مات في نحو ستين ومائتين وقيل ثلاث وخمسين. وقيل خمسين.
ابراهيم الزاهد الأندلسي
من سكان القيروان. وكان خياطاً. وله سماع من سحنون. وقد حكى عنه يحيى بن عمر، مسألة لسحنون، وعند ابن عمر، كانت كتبه بعد وفاته أحسبه كان حبسها. قاله أبو العرب.
منصور الصدّام
من قدماء أصحاب سحنون. صحيح الكتاب، حسن التعبير. يحكي عنه أبو عياش، وأبو الحدادي.
موسى السبخي التونسي
قال أبو العرب: سمع أبا مصعب الزهري، وحرملة بن يحيى. قتله ميمون الأسود بتونس، حين دخلها. ذكر أنه من ربيعة. وكان فقيهاً. حدث عنه محمد بن بدر والجذامي، وأثنى عليه. وكان قتله سنة إحدى وثمانين ومائتين.(4/237)
من أهل الأندلس
يحيى بن مزين
مولى رملة ابنة عثمان بن عفان. أصله من طليطلة. وانتقل الى قرطبة عند ثورة أهل طليطلة. فأقطعه الأمير عبد الرحمن قطائع شريفة، وابتنى له داراً، ووصله صلة جزلة. وقيل: بل طالبه أهل طليطلة، وقال ما أقراك لظالم، وأطردك لمؤمن. روى عن عيسى بن دينار، ومحمد بن عيسى الأعشى، ويحيى بن يحيى، وغازي بن قيس، ونظرائهم. ورحل الى المشرق. ولقي مطرف بن عبد الله، وروى عنه الموطأ. ورواه أيضاً عن حبيب كاتب مالك. ودخل العراق وسمع من القعنبي، وأحمد بن عبد الله بن يونس. وسمع بمصر من أصبغ بن الفرج، وغيره. وكان حافظاً للموطأ، فقيهاً فيه، وله حظ من علم العربية، مشاوراً مع العتبي وابن خالد، وطبقتهم. قال أحمد بن عبد البر: كان شيخنا وسماً ذا وقار، وسمت حسن. روى عنه سعيد بن حميد، وسعيد بن عثمان الأعناقي، ومحمد بن عمر بن لبابة. قال أحمد بن عبد البر: كان جميع شيوخنا يصفونه بالفضل، والنزاهة، والدين، والحفظ، ومعرفة مذهب أهل المدينة. وكان يحفظ الموطأ، وكتبه، حفظاً، ويتقن ضبطها. وقال ابن لبابة: أفقه من رأيت في علم مالك، وأصحابه، يحيى بن مزين. وأما العتبي فأحفظهم بمسألة كتاب. وأما قاسم بن محمد فأقومهم بحجة،(4/238)
وأثبتهم في مناظرة، وأعلمهم باختلاف الناس، وأما بقي بن مخلد، فكان بحراً يحسن تأدية ما روى، ولم يكن يتقلد مذهباً، ينتقل مع الأخيار حيث انتقلت. قال ابن حارث: ومكانه من العلم لا يجهل. كان قليل الرواية، متقن الحفظ، جيد العقل، حصينه. ولي قضاء طليطلة. قال ابن أبي دليم: وكان من عقلاء الناس، كتب ابن مزين الى ابن غانم:
جاء الشتاء ووقت همّ الأفرية ... همّ لعمرك من عظيم هموميه
فانظر هداك الله في إيثارنا ... للبرد فرواً من وفير الأفريه
وله تواليف حسان: ككتابه في تفسير الموطأ، وكتاب تسمية رجال الموطأ، وهو كتاب المستقصية، وكتاب فضائل العلم، وكتاب فضائل القرآن. قال أبو عبد الملك: ولم يكن له على ذلك علم بالحديث. ولقاسم بن محمد عليه رد في كتاب المستقصية، ولخطبته لما كتب فيها، وذكر أن القارئ يوماً صحف عليه حرفاً، تصحيفاً منكراً. فلم يبق في المجلس إلا من ضحك إلا الشيخ، فلم يضحك وقال لمن حضر: كذلك كنتم من قبل، فمن الله عليكم. وتوفي في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين ومائتين. وقال ابن أبي دليم، وابن حارث: سنة ستين.
عبد الله بن محمد بن خالد بن مرتيل
أبو محمد. قرطبي تقدم ذكر أبيه. كان عبد الله هذا، من أهل العلم. سمع من أبيه، وعيسى بن دينار، ويحيى بن يحيى،(4/239)
ورحل فسمع من سحنون ابن سعيد بالقيروان الأسدية. قبل أن يدونها. وسمع بمصر من أصبغ بن الفرج وعبد الملك بن هشام، وتفقه، ولم يكن له علم بالحديث. سمع منه أبو صالح، وابن حميد، وابن لبابة، وابن الخراز، ونظرائهم. قال ابن عبد البر: وكان رأس المالكية بالأندلس، والقائم بها. والذب عنها. وكان صليباً متديناً ورعاً، مهيباً، مكيناً من السلطان، معظماً للعلم، لا يرى التقية، ولا يبالي ما دار عليه، وكان العامة والحكام على تعظيمه وتحقيقه جداً. كأن الناس في مجلسه على رؤوسهم الطير، من الإجلال. قال ابن أبي دليم: كان ذا فضل وورع، وحفظ للفقه، وجلالة قدر، وصلابة في الحق، مقدماً على أصحابه، لذلك مع أسوته. قالوا: وكان أشد الناس على بقي بن مخلد، وكان له ابن من أهل العلم، اسمه أحمد، ويكنى أبا عمر وسمع أباه ونظراءه. وروى عنه ابن أيمن. وولي الصلاة بقرطبة. واستسقى بالناس، وكان فاضلاً. وبيتهم بيت جلالة وعلم. وذكر ابن حارث: أن في أخلاقه وعوره. وكانت له صلابة وجلالة. وذكر أن الأمير محمداً وجه فيه ليوجهه الى باجة بصلاح، فأقام بها بين مضر واليمن من العصبية. فحضر بيت الوزارة، وخرجت إليه الوصية. فقال: إني لست أعرف من فيهم من مضر، ولا من اليمن. وقال هاشم الوزير، وكان بينه وبين عبد الله شيء، للرسول: أدّ عنه.(4/240)
فخرجت الوصية، يقول لك الأمير: تكتب الى القاضي رسائلي، يقوم مقامي، والقاضي أحق بالنظر مني أنا. فقال هاشم أد قوله فخرجت الوصية: إنا لم نبعث فيك نشاورك، إنما بعثنا فيك نأمرك فأتمر. فغضب عبد الله، وكان إذا غضب احمرت عيناه. واتقي غضبه، وقال: لم تبعث فيّ تشاورني، إنما بعثت فيّ لتأمرني فأئتمر. امرأته طالق البتة. إن قضيت ثم أبداً. فاغتنمها هاشم، وقال: أدّ عنه. ثم قال له: هكذا عرفتك. شرس ابن أشرس. فقال له عبد الله: هكذا، أنا وأبي. إذا كسانا الله قميصاً، أعراك الله منه أنت وأباك. ثم خرجت الوصية بسجنه، فسجن ثلاثة أشهر، وأربعة. ثم أطلق. فلم يبعث فيه لشيء بعد. وذكر أن القاضي سليمان بن أسود، أرسل في عبد الله بن خالد ليشهده في كتب الأمير محمد، فأبى عبد الله أن يقوم إليه. فكتب القاضي بذلك الى الأمير، وكثر على عبد الله، ووصف تثاقله،(4/241)
فوقع الأمير للقاضي: نحن أحق مَن عظّم العلم وأهله، فإذا أردت أن تشهد في كتبنا، فاجلس الى الفقيه عبد الله بن خالد. وجرى له مرة، مسألة مع هاشم بن عبد العزيز الوزير، وابن عبد البر، وجه فيه من المقصورة ليقوم إليه. فقال للرسول: ما لي إليه حاجة. فقال له الرسول: هو إليك بحاجة. فقال له: فيعنى في حاجته. فقال له: إنها وثيقة للأمير. فقال له: فلينفذ ما أمره به. فرجع الرسول الى هاشم. فلما خرج مرّ به في موضعه. فأشهده. وتوفي عبد الله منتصف رجب سنة ست وخمسين ومائتين، من كتاب ابن الفرضي. وقال ابن حارث: توفي سنة إحدى وستين. وذكر أن الأمير محمداً قال لما مات: الحمد لله الذي كفاناه. ولم ينشبنا منه في شيء. وابناه محمد وعبد الله، من أهل العلم والخير، والفضل. رويا عن أبيهما. وكان محمد أكبر سناً، وحفظاً للفقه. روى ابن أيمن عن أحمد، وولي الصلاة. وتوفي محمد أولاً، سنة إحدى وستين. وهو ابن اثنين وأربعين.
ابراهيم بن حسين بن خالد بن مرتيل
ابن عمه. قرطبي. تقدك ذكر بيته في هذه الطبقة، والتي قبلها.(4/242)
كنيته أبو إسحاق. قال ابن عبد البر: كان خيراً فاضلاً، فقيهاً، عالماً بالتفسير. له رحلة لقي فيها علي بن معبد، وعبد الملك بن هشام، ومطرف بن عبد الله. ولقي سحنون بن سعيد. وروى عنه. قال: قال ابن أبي دليم: وذكره في المالكية. كان من أهل الفقه، بصيراً بطريق الحجة. كان يناظر يحيى بن مزين. قال غيره: ويحيى بن يحيى. ولي الشرطة بقرطبة، للأمير محمد، وكان صلباً في حكمه، عدلاً. وله كتاب مؤلف في تفسير القرآن. قال ابن لبابة: كان ابراهيم يذهب في الشاة إذا بقر بطنها ولم يطمع لها في الحياة، وأدركت ذكاتها، أنها تؤكل. حاج في ذلك سحنوناً، وأعجب ابن لبابة ذلك. وحكى أنه مذهب اسماعيل القاضي. وكان يجيز النكاح، على أن الصداق إجارة. وناظر في ذلك يحيى بن يحيى في جنازة. فقال يحيى لا يجوز. فقال ابراهيم إن الله قد حكاه في كتابه عن نبيين، موسى وشعيب. فقال يحيى: قال الله: " لكلٍ جعلْنا منكم شِرعَةً ومِنهاجاً ". فلا يلزمنا شرعهم. فقال ابراهيم: ذلك إذا أتى عن نبينا، نسخ ذلك. وإلا فعلينا الاقتداء بهم. قال الله " فبهُداهم اقتَدِه ". فسكت يحيى. وكان يذهب الى النظر، وترك التقليد.(4/243)
وحكى ابراهيم عن مطرف بن عبد الله. ليس في الكرسنة زكاة. لأنها علف. قال ابن لبابة: وحضرته وقد ضرب شاهد زور، عند باب الجامع أربعين سوطاً، وحلق لحيته، وسحم وجهه. قال ابن حارث: كان ابراهيم بن حسين صاحب نظر. وكان على سوق قرطبة. فحكم على بني قتيبة بحكم خالف فيه فقهاء وقته: يحيى، وعبد الملك بن حبيب، وزونان. فتظاهروا عليه، وأبانوا خطأه. فاختار الأمير قولهم. وفسخ قاضيه معاذ بن عثمان الشعباني، حكمه في ذلك. وحضر جنازة مع يحيى بن فرس، فسئل يحيى عن ذبيحة رميتْ عقدةُ حلقِها الى أسفل. فقال يحيى: حرام. لا تؤكل. فقال له ابراهيم. لا تقل حرام، إنما الحرام ما حرم الله ورسوله. وأما ما اختلف العلماء فيه، فلا. وقد سمعت مطرف بن عبد الله يقول لا بأس بأكلها. وفيه يقول موسى بن سعيد:
لله درّ أبي إسحاق من حكم ... كم غاية نالها بالعدل لم تنل
يطير من خوفه قلب المخيف له ... إذا بدا يسكن قلب الخائف الوجل
لا يقطع الليل إلا بالقيام إذا ... ذو اللهو قصره باللهو والجزل
للخالدين في الدنيا بدينهم ... فضل على غابر الأيام لم يزل
وكانت وفاته سنة تسع وأربعين ومائتين في رمضان منها.
عثمان بن أيوب بن أبي الصلت
من أهل قطربة. كنيته أبو سعيد، وأصله من الفرس.(4/244)
قال ابن الفرضي: روى عن الغازي بن قيس، ورحل فسمع من سحنون بن سعيد بالقيروان. وهو أول من أدخل المدونة بالأندلس، وسمع بمصر من أصبغ بن الفرج. وكان شيخاً ورعاً فاضلاً، أريد على القضاء فأبى. وكان ابن لبابة يثني عليه، ويصفه بالعلم والورع، وقد سمع منه. قال غيره: وكان صديقاً ليحيى بن يحيى، وأثنى عليه أحمد بن خالد وغيره، ووصفوه بالزهد والفضل. وكان دقيق الأدب، حليماً، حسن الخلق. توفي سنة ست وأربعين، وقيل سبع وستين، وقيل سنة أربعين ومائتين.
أبو وهب عبد الأعلى بن وهب
بن عبد الأعلى. مولى قريش. قرطبي. قال ابن الفرضي: سمع من يحيى بن يحيى ورحل الى المشرق. فسمع من مطرف بن عبد الله بالمدينة. ومن أصبغ. وعلي بن معبد بمصر. ومن سحنون بإفريقية، وانصرف فشور بقرطبة مع الشيوخ، يحيى بن يحيى، وسعيد بن حسان وعبد الملك بن حبيب، وأصبغ بن خليل. وسمع منه ابن لبابة. وصحبه كثيراً، وسمع منه ابن وضاح. وكان رجلاً عاقلاً، حافظاً للقرآن. مشاركاً في النحو واللغة. متديناً زاهداً. ولم يكن له معرفة بالحديث، وكان يُرمى بالقدر. وكان قد طالع كتب المعتزلة، ونظر في كلام المتكلمين، وكان يحيى بن يحيى، وابن حبيب، وابراهيم بن حسين بن عاصم، يطعنون عليه بذلك، أشد الطعن.(4/245)
وقد ذكر أن يحيى كان يشهد عليه أشد شهادة. وكان ابن لبابة صاحبه ينكر ذلك عليه. إلا أنه كان يكتب أنه يقول، بموت الأرواح. وبذلك كان يقول ابن لبابة. قال الصدفي: كان نبيلاً عاقلاً فاضلاً، طيب الخلق عالماً ديّناً، لم يدخل في مطالبته بقي بن مخلد، واحتج عليهم فيها. وله أخبار في ورعه وتديّنه، يطول ذكرها. وكان سبب تقديم ابن وهب الى الشورى تضافره مع الشيخين، يحيى بن يحيى، وسعيد بن حسان على عبد الملك بن حبيب. وذلك أن ابن حبيب، كان يخالفهما كثيراً في الفتيا. فاتفق أن حضروا يوماً عند القاضي، في المجلس، مسألة، فأفتى فيها يحيى وسعيد بفتوى، وخالفهما ابن حبيب، وادعى قوله في رواية عن أصبغ. وكان عبد الأعلى قد لقي أصبغ، فاستكثر منه. فاجتمع به سعيد بن حسان، وسأله عن المسألة، وهل يذكر فيها عن أصبغ شيئاً، فأخبره عن أصبغ بما وافق فتياه وفتيا يحيى، وخالف ما ذكر ابن حبيب، واستظهر بالقرطاس الذي سمع فيه من أصبغ. فاجتمع سعيد ويحيى على أن يسألا القاضي، إعادة الشورى. وإحضار عبد الأعلى. ففعل ذلك فأفتى ابن حبيب، بمثل فتياه، أولاً، عن أصبغ. فقال له عبد الأعلى: كذبت وأخرج كتابه عن أصبغ. فأراه القاضي، فعنّف ابن حبيب، وقال له: إنما تخالف أصحابك بالهوى. فرفع ابن حبيب بالأمر، كتاباً الى الأمير عبد الرحمن، يشكو فيه تحامل يحيى وسعيد عليه، ويغري بالقاضي، وأنه شاور عبد الأعلى دون إذنك.(4/246)
فأنكر الأمير ذلك، وأغلظ للقاضي، ولحقت عبد الأعلى غضاضة. فرفع الى الأمير كتاباً يذكر فيه ولاءه، ويصف رحلته، وما عنده من العلم، ويستقيله من وكسه إياه. ويستشهد بالشيخين، والقاضي. فاستعطفه بذلك، وأمر بإلحاقه مرتبة الشورى. فتقلّدها، الى أن توفي في أيام ابنه محمد. وحضر بإثر هذا في مجلسهم عند الأمير عبد الرحمن، سألهم عبد الرحمن عن مسألة، فبدر عبد الملك بن حبيب، وقال: سمعت أصبغ بن الفرج، يقول فيها: كذا. فقال عبد الأعلى: صدق. سمعت أصبغ يقول مثله. وفعل ذلك أحمد. فعاتبه يحيى وسعيد وغيرهما. وقالا له رجوناك أن تكفناه. فصرت حزباً معه. فقال لهم بالعجمية: لو أني بدأت بتكذيبه استجفاني الأمير. ورأيت ترك ذلك، حتى يظهر مني للأمير علم. ثم لن يفوت هذا، فكان بعد، يكذبه ويخالفه. وكان أحد الأربعة من الفقهاء، الذين يدخلون في الشهادات، وغيرها، على الأمير بقرطبة. هو وابن مطروح. وكان قوالاً للحق، ناصحاً للأمير. سأله الأمير محمد مرة، عن مسائل من الورع، فقال له عبد الأعلى: هو أعود عليه من هذا. قال: وما هو؟ قال يطلب أهل الربض ويرد عليهم مصرياتهم، وما أخذ لهم، أو قيمته. فظهر على الأمير إنكار ذلك، وأمره بالقيام.(4/247)
قال ابن لبابة: كنت يوماً عند ابن وهب، في جنته، بقرب مقبرة قريش. وكان يعتمرها بيده، في نفر من الطلبة، يسمع عليه. إذ أُحضر غذاؤه. فقدمه إلينا فأكلنا معه. إذ استأذن عليهم هاشم بن عبد العزيز الوزير، فأذن له على تكره. ودخل، ونحن نأكل خبزاً، أدمه من بقل الجنة. فجلس، وجعل يداعب الشيخ لظرفه، والشيخ لا ينبسط. ويقول: أبا وهب أما تدعونا ليعامك؟ تخاف أن نلتهمه؟ فقال له: ليس من الأطعمة التي توافقك. قال: وإن لم تكن، فأنا أتبرّك به. ومد هاشم يده الى لقمة من الخبز، فغمسها في البقل، وجعل يلوكها ولا يسيغها. فلما فرّقنا، سأل الشيخ عن مسألة فقه، فأجابه الشيخ. وقام هاشم لينصرف. فتحركت لأقوم معه. فضرب الشيخ على يدي، وأجلسني حتى خرج. ثم قال لي: ما أردت؟ قلت إكرامه، في مجلسك. فقال بئس ما صنعت، إن كنت تطلب العلم لله. فأعزّه يعزّك الله. وإن كنت تطلبه للدنيا، فكن خادماً من خدمة هؤلاء.
فتُصْرف بين أيديهم، فهو أبقى لك عندهم، وأكسد لك عند ربك. فحافظت بعد ذلك على وصيته. وتوفي سنة إحدى وستين في صفر، منها. وقيل في ربيع الأول. ُصْرف بين أيديهم، فهو أبقى لك عندهم، وأكسد لك عند ربك. فحافظت بعد ذلك على وصيته. وتوفي سنة إحدى وستين في صفر، منها. وقيل في ربيع الأول.
محمد بن يوسف بن مطروح بن عبد الملك
ابن أبي اليسرى عبد العزيز بن عبد الله بن مهران، بن عدي، بن بكر بن وائل، من أهل قرطبة. يكنّى أبا عبد الله، وكان أعرجاً. وبذلك يعرف.(4/248)
روى بالأندلس عن غازي بن قبيس، وعيسى بن دينار. ويحيى بن يحيى. وغيرهم. ورحل، فسمع من سحنون بالقيروان، وأصبغ، ومطرف بن عبد الله بالمدينة. وسمع منه الموطأ، وادعى السماع من أبي عبد الرحمن المقرئ بمكة. وكان رحل مع ابن مزين، وابن وهب، وعبد الوهاب بن ناصح الجزيري. وكانوا متوافقين، فذكر ابن مزين وابن وهب، أنهما وجدا المقرئ، قد مات قبل لقائهما بأيام. وكانت الفتيا دائرة عليه مع
أصبغ بن خليل، وعبد الأعلى بن وهب، ولاه الأمير محمد الصلاة، بجامع قرطبة. قال ابن أبي دليم: كان فقيهاً حافظاً. شوّر مع الشيوخ، يحيى وابن حسان وابن حبيب. قال ابن حارث: كان فقيهاً مبرزاً. قال ابن عبد البر. كان شيخاً جليلاً، عالماً بالفقه، فيه صلابة. أخذ عنه أحمد بن خالد، ومحمد بن عمر، وابن لبابة، ومحمد بن أبي بكر، وابن الزرّاد، وأحمد بن بيطير، ونظراؤهم. قال أحمد بن حزم: كان يحلّق بالجامع، ويفتي، ويقرأ عليه العلم. وكانت في ابن مطروح دعابة معروفة. وفي خلقه زعارة. ذُكِر أن خصياً قال له: ما تقول في الكبش الأعرج، أتجوز الضحية به، قال: نعم، والخصي مثله، وشبهه.(4/249)
قال القاضي رضي الله عنه: يريد والله أعلم، إن كان عرجاً خفيفاً. لا يمنعه السير. وقال له رجل: أتخرب جهنم؟ فقال ما أشقاك إن اتكلت على خرابها. وكان أحد الفقهاء الأربعة الداخلين على الأمير للشهادة في أموره. وكان الأمير محمد يكرمه، لسنه ومكانه. قال ابن عبد البرّ: وكان صاحب رئاسة الفتيا، أيام محمد مع أصبغ، وعبد الأعلى. قال غيره: وسأله خصي يوماً عن مسألة. فردد عليه فيها شيئاً. فقال لمن حوله: هذا من الذين قال الله فيهم: وتقطِّعوا أرحامكم. وكتب جامع بن وهب من كتاب محمد بن باز. ثم سار إليه، ليسمعه منه، وابن مطروح في مرتبة أشياخه. فقال له ابن باز: لو بعثت إليّ يا سيدي، مضيت إليك. فقال له: لا. في بيته يؤتى الحكم. وتوفي يوم عاشوراً سنة إحدى وسبعين ومائتين.
أصبغ بن خليل
قرطبي. يكنّى أبا القاسم. سمع بالأندلس من الغازي بن قيس، ويحيى بن مضر، ومحمد بن عيسى والأعشى، ويحيى بن يحيى، ورحل فسمع من أصبغ وسحنون. حدث عنه أحمد بن خالد، وابن أيمن ومحمد بن قاسم. وقاسم بن أصبغ. قال ابن أبي دليم: كان له بصرٌ بالوثائق.(4/250)
قال أحمد بن سعيد: هو من أهل العلم والفقه، والورع والرياسة، فيما قال لي أحمد بن خالد، غير مرة. فطناً بالمسائل والفقه. حسن القريحة والقياس. وقال ابن لبابة: كان والله من الحفاظ، حسن القياس والتمييز. قال ابن الفرضي: وكان حافظاً للرأي على مذهب مالك، وأصحابه. فقيهاً منسوباً الى الصلاح، والورع. بصيراً بالشروط. دارت عليه الفتيا، خمسين عاماً. وطال عمره. قال ابن عبد البرّ: وكان لا يقبل من أحد هدية. وكان مقلاً. وكان الأعشائي يثني عليه. وكان معادياً للآثار. وليس له معرفة بالحديث. شديد التعصب لرأي مالك وأصحابه، ولابن القاسم من بينهم. وبلغ به التعصب فيما قاله ابن الفرضي وغيره: أن افتعل حديثاً في رفع اليدين في الصلاة بعد الإحرام. وزعم أنه راه عن غازي بن قيس. عن سلمة بن وَرْدان، عن ابن شهاب عن الربيع بن خشيم، عن ابن مسعود. قال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف أبي بكر، سنتين وخمسة أشهر. وخلف عمر عشر سنين، وخلف عثمان اثنتي عشرة سنة. وخلف علي بالكوفة خمس سنين. فما رفع واحد منهم يده إلا في تكبيرة الإحرام وحدها. فوقع في خطأ بيّن عظيم، منها: أن الإسناد غير متفق. لأن سلمة بن وردان لم يرو عن ابن شهاب ولا ابن شهاب عن الربيع، ولا رآه. وأعظم منه في المحال ذكره أن ابن مسعود، صلى خلف علي بالكوفة. وهو لم يدرك أيام علي رضي الله عنه. وحدّث أيضاً بحديث آخر، في إسناد القرآن، عن الغازي، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن جبريل، عن الله. فظن أن نافعاً - شيخ الغازي بن قيس - هو مولى ابن عمر. وإنما هو نافع القارئ.(4/251)
قال أحمد بن خالد: إن أصبغ لم يقصد الكذب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ظهر له أنه يريد تأييد مذهبه. وهذا كلام من أحمد لا معنى له. وكل من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم فكأنما كذب لتأييد غرض. ولو قال: إنه إنما كذب في السند وعلى غير النبي. إذ قد روى عن النبي أنه رفع أولاً. ثم لم يرفع بعد، بما جاء في الحديث عن النبي هنا، بمعنى ما أتى به هو، كان أشبه. لكن الكذب في العلم، أي نوع كان مبطلاً لصاحبه مسقطاً له بشهادة الزور. قال قاسم بن أصبغ: سمعت أصبغ بن خليل، يقول: لأن يكون في تابوتي رأس خنزير، أحب إليّ من أن يكون فيه مسند ابن أبي شيبة. وكان يعادي أهل الأثر. وكان قاسم يدعو عليه، ويقول: هو الذي حرمني أن أسمع من بقي بن مخلد. ونهى أبي أن يحملني إليه. وكان يصحف ويقول في أسيد بن الحضير: هو ابن الخضير. تصغير خضر بالخاء. يأبى أن يرجع عنه. توفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين. وعمره ثمان وثمانون سنة. وترك ولداً، اسمه يحيى. سمع من أبيه وطبقته، ورحل فسمع من عبد الله بن أحمد بن حنبل، ونظرائه في سنة خمسين وثلاثمائة.
العتبي
قال القاضي أبو الوليد: محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن عتبة: بن جميل، بن عتبة بن أبي سفيان، صخر بن حرب قرطبي، سكنّى أبا عبد الله. وقيل هو مولى لآل عتبة بن أبي سفيان، وهو أصح.(4/252)
وقيل هو محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن عتبة بن حميد، بن عتبة بن أبي عتبة بن محمد بن عبيد الله بن يزيد، ابن أبي يزيد، مولى عمر بن عتبة ابن أبي سفيان. وقال ابن لبابة: العتبي ليس يتصل نسبه، بعتبة. إنما كان له جد يسمى عتبة. فينسب إليه. سمع بالأندلس من يحيى بن يحيى، وسعيد بن حسان، وغيرهما. ورحل فسمع من سحنون وأصبغ. وكان حافظاً للمسائل، جامعاً لها، عالماً بالنوازل، كان ابن لبابة يقول: لم يكن أحد هاهنا يتكلم مع العتبي في الفقه، ولا كان أحد بعده يفهم فهمه، إلا من تعلّم عنده. قال ابن عبد البر: كان عظيم القدر، عند العامة. معظماً في زمانه. روى عنه محمد بن لبابة، وأبو صالح، وسعيد بن معاذ، والأعناقي، وطبقتهم. قال الصدفي: كان من أهل الخير والجهاد، والمذاهب الحسنة. وكان لا يزول بعد صلاة الصبح من مصلاه، الى طلوع الشمس، ويصلي الضحى. ولا يقوم أحدٌ في الأثر على من أتى قبله.
ذكر المستخرجة
قال ابن لبابة: وهو الذي جمع المستخرجة. وكثر فيها من الروايات المطروحة، والمسائل الشاذة. وكان يأتي بالمسائل الغريبة، فإذا أعجبته، قال: ادخلوها في المستخرجة. وقال ابن وضاح: سألت ابن وهب عن مسألة، فذكر لي فيها عن أصبغ رواية. فمررت بالعتبي، فسألته عنها. فلم يحفظ فيها رواية. فأخبرته بما قال لي عبد الأعلى، عن أصبغ. فدعا بالمستخرجة، فكتبها فيها. ثم لقيت بعد عبد الأعلى، فقال لي: وهمت في المسألة عن أصبغ. ليست كذلك.(4/253)
وقال ابن وضاح: وفي المستخرجة خطأ كثير. وقال أسلم بن عبد العزيز: قال لي محمد بن عبد الحكم: أتيت بكتب حسنة الخط تدعى المستخرجة، من وضع صاحبكم العتبي، فرأيت جلّها مكذوباً. ومسائل لا أصول لها. ولما قد أسقط وطرح، وشواذ من مسائل المجالس، لم يوقف عليها أصحابها. فخشيت أن أموت، فتوجد في تركتي، فوهبتها لرجل يقرأ فيها. قال أحمد بن خالد: قلت لابن لبابة: أنت تقرأ هذه المستخرجة للناس، وأنت تعلم من باطنها ما تعلم فقال: إنما أقرأها لمن أعرف، أنه يعرف خطأها، من صوابها. وكان أحمد، ينكر على ابن لبابة قراءتها للناس، شديداً. وذكر أبو محمد بن حزم الظاهري، المستخرجة. فقال: لها بإفريقية القدر العالي والطيران الحثيث. وتوفي العتبي، في نصف ربيع الأول، وقيل الآخر، سنة خمس، وقيل أربع وخمسين ومائتين.
ابراهيم بن حسين بن عاصم
تقدم نسبه عند ذكر أبيه. ثقفي قرطبي لقي أبا إسحاق. سمع من أبيه، وغيره. ورحل فسمع بالمشرق من جماعة. قال ابن أبي دليم: وكان من أهل الفقه، وتصرف للسلطان في أحكام الشرطة والسوق، أيام الأمير محمد فغلب على أهل الشر، وقتل وصلب بلا مشاورة سلطان، ولا فقيه. قصد بذلك التشديد عام المجاعة. لما كثر من تطاول أهل الشر، وكثر(4/254)
عليه - من الحكام - استطلاع رأيه في الصلب، والقطع وشبهه. فولاه السوق، وعهد إليه التحفظ، وأذن له في العقوبات بلا مؤامرة منه. فكان ابراهيم إذا جيء بالفاسد المفدح، قال له: اكتب وصيتك، ودعا بشهود فأشهدهم عليها. فإذا فعل هذا علم أن ذلك مقتول. ثم يأمر بصلبه، ونحوه. فكان بين يديه من المصلّبين عدد، وأخذ في ذلك بالشدة، حتى تجاوز الحد، وجرت له في ذلك قصة ظريفة، من قوم جاءوا بفتى من جيرانهم؟ يشكون تطاوله. ويريدون زجره. فقال لشيخ منهم: ما يستحق عندك؟ فقال على وجه التغليظ: ما يستحق هؤلاء. وأشار الى المصلّبين، فقال لهم ابراهيم: انصرفوا. وقال للفتى: اكتب وصيتك. فقال له اتق الله فيّ، فلم يبلغ ذنبي القتل. فقال له: بذلك شهد عليك. وصلبه. فلما بلغ الحي ذلك، أتوه وقالوا له: لم نشهد عندك، بما يوجب قتله. فقال ألم تقل يا هذا: كذا. قالوا إنما قاله على المثل. قال: فإثمه في رقابكم. قال أحمد بن سعيد: كان حافظاً فاضلاً ممن عني بالعلم، ورحل فيه، وفيه موسى بن سعيد.
لا يعذر الناس منه لين جانبه ... فلا يبالي بحكم الله من قتلا(4/255)
وتوفي في رجب سنة ست وخمسين ومائتين.
عيسى بن عاصم بن عاصم
ابن عمه سمع من أسد بن موسى، وموسى بن معاوية، وابن أبي شيبة، وسحنون. وتوفي بالأندلس سنة ثمان وخمسين. وابن عمهما عبد الله بن محمد يأتي ذكره بعد هذا.
محارب بن قطن بن عبد الرحمن بن قطن الفهري القرشي
من أهل قرطبة. يكنى أبا نوفل. قال خالد: كان من أهل العناية بالعلم، والحفظ للمسائل، والرأي. ومن خيار الناس وفضلائهم. سمع من سحنون وغيره. وذكره ابن أبي دليم في هذه الطبقة. وتوفي سنة ست وخمسين ومائتين. والله أعلم. وترك ابنين محمد وأحمد.
ابن عمه مالك بن علي بن عبد الملك بن قطن
أبو خالد. ويقال أبو القاسم. يعرف بالقطني. نسب الى جده. روى بالأندلس عن حاتم بن سليمان، ويحيى بن يحيى. وزونان. ورحل فسمع من القعنبي، وأصبغ. وكان زاهداً، ورعاً محتسباً.(4/256)
وكف بصره. فوصف له معالجة ذلك بالقدح. وقال: والله لا أفعل. ضمنت لي الجنة على لسان النبي عليه السلام. فلا أدعها وأطلب ما بعد ذلك. وروى عنه محمد بن لبابة، ومحمد بن أيمن، ومحمد بن محمد الصدفي، وغيرهم. ذكره ابن أبي دليم، في أئمة المالكية. قال هو وغيره: وله عبادة وانقباض وكثرة صلاة. واقتدى به أصحاب له في العبادة، وكثرة الصلاة. قال ابن أيمن: لم يكن جيد الضبط في الحديث، ولا الفقه. قال ابن عبد البر: كان متوسط الفقه، تفقّه بالشيوخ، وكان ابن لبابة يصفه بالفضل العظيم والزهد، ويقدمه على جميع من ورى في ذلك. وأنه كان لا يرفع بصره الى السماء حياء من الله. وكان أصحابه يلتزمون ذلك. وكان له صمت، وعقد الوثائق وكتبها. وقد تكلم فيه ابن وضاح وغيره، وأكذبه، وكذبوه فيما يرويه. قال الحميدي: وله مختصر في الفقه على مذهب مالك رحمه الله. توفي سنة ثمان وستين.
عبد الرحمن بن يزيد بن عيسى
ابن يحيى بن يزيد بن بُرَير. مولى معاوية ابن أبي سفيان. غلبت عليه كنيته، أبو زيد. وهو جد بني أبي زيد لقرطبة، المضاف إليه، الدرب(4/257)
بمقربة جامع قرطبة. وكان يعرف بلسان أهل الأندلس القديم، بابن تارك الفرس. سمع من يحيى بن يحيى، ورحل الى المشرق قديماً، فأدرك ابن كتانة وابن الماجشون. ومطرف بن عبد الله ونظرائهم، من المدنيين. ولقي بمكة أبا عبد الرحمن المقرئ صاحب ابن عيينة، وبمصر أصبغ بن الفرج. وروى عنه محمد بن لبابة. وسعيد بن خمير، وسعيد بن عثمان الأعناقي، وأبو صالح، ومحمد بن سعيد بن الملوّن، ومحمد بن فطيس، وأبو صالح، وغيرهم. وله في سؤاله المدنيين ثمانية كتب، تعرف بالثمانية، مشهورة. وكان عنده حديث كثير. والأغلب عليه الفقه، وكان متقدماً في الشورى، وقد شوّر في حياة يحيى بن يحيى، وهو فتى. قال أحمد بن حزم: كان ابن لبابة والأعناقي يصفانه بالعلم والفقه، والثقة. وذكر الحميدي أنه قال في كنيته: أبو يزيد. وأراه مصحفاً لأن بنيه الى اليوم يعرفون ببني أبي زيد. ودربه بقرب الجامع بقرطبة. يعرف بدرب أبي زيد. وتوفي سنة ثمان وخمسين. وقيل في جمادى الآخرة، سنة تسع وخمسين ومائتين.
ومن نسله محمد بن محمد، يكنى بأبي الوليد
ولي خطة الردّ. كان قليل العلم، توفي سنة ست وثلاثين وثلاثمائة.
وابنه عبد الله بن محمد بن محمد أبو محمد
شاوره ابن أبي عيسى، تنويهاً ببيته. وكان قليل العلم أيضاً. وسمع وسمّع. وله رحلة.(4/258)
ومنهم:
عثمان بن عبد الرحمن بن عبد الحميد بن أبي زيد
ذكره عبد الله بن محمد، قرطبي. متقدم في الفتيا، بها. فحلّق في جامعها. كان نظير أبي زيد في وقته في القدر والعلم، موصوفاً بالفضل.
محمد بن سعيد بن حسان
مولى الحكم بن هشام، من أهل قرطبة. تقدّم ذكر أبيه. سمع من أبيه، ويحيى بن يحيى، وابن حبيب ونظرائهم. ورحل فشرك أباه في بعض رجاله. سمع من أشهب وعبد الله بن نافع الزبيري، وعبد الله بن عبد الحكم. وقدم الأندلس، فكان معدوداً في هذه الطبقة. فعاجلته منيته، سنة ست وستين. وقيل سنة ستين. كذا ذكره ابن حارث، وابن عبد البر، وابن الفرضي، أنه توفي سنة ستين، وأنه عاجلته منيته. قال المؤلف رحمه الله: ولم يدرك أشهب، ولا صاحبيه. وتعلم منهم، ويكون في سن من يرحل للعلم حينئذ، لا تعاجله منيته في هذه المدة. قال بعضهم: ولعله سنة ست ومائتين، والأصح والله أعلم، أن الوهم في قوله عاجلته منيته، لا في وقت وفاته. فإن ابنه عبد الله، كان من حفاظ المذهب، وقد روى عن المشائخ. توفي سنة سبع وثلاثمائة. ولو كانت وفاته ست ومائتين، لكان ابنه معمر والله أعلم.
أبان بن عيسى بن دينار
تقدم نسبه. سكن قرطبة. يكنى أبا القاسم.(4/259)
سمع من أبيه، ورحل، فلقي سحنون بن سعيد، وعلي بن معبد، وغيرهما. ورحل فسمع بالمدينة من ابن كنانة، وابن الماجشون، ومطرف. وروى عنه محمد بن وضاح، وقاسم بن محمد، ومحمد بن لبابة. قال ابن أبي دليم: وكان فقيهاً، وغلب عليه الزهد والورع، وشوّر بقرطبة، مع ابن حبيب، وأصبغ بن خليل، وعبد الأعلى بن وهب. قال الرازي: وولي قضاء طليطلة، وقد كان امتنع، وقال: لا أحسن القضاء. قال محمد بن حارث: ولي للأمير محمد بن عبد الرحمن أياماً قضاء جيان، فأبى واستعفى، فأمر الأمير أن يوكل به الحرس، حتى بلغ به جيان، ويكره على الحكم. ففعلوا ذلك، حتى أجلسوه، وحكم بين الناس يوماً واحداً. فلما أتى الليل هرب على سقوف البيوت، فسقط واندقت فخذه، فأصبح الناس يقولون: هرب القاضي. فانتهى الخبر الى الأمير، وقال: هذا رجل صالح. وأمر أن يبسط له الأمان، وأن يخرج. فلما خرج ولاه الصلاة بقرطبة. وقال: نحن أحق به من غيرنا. سئل أبان عمن له غرفة أراد أن يفتح لها باباً على مقبرة. فقال: لا يجوز أن يفتحه على مقبرة المسلمين. قال أبو عبد الملك: كان الغالب عليه الفقه. وكان كثير العمل، كثير الصيام. قال ابن لبابة: لم أنظر قط لوجه أبان إلا وجدت الموت. وكان يصف فضله وزهده وورعه(4/260)
وأثنى عليه أبو صالح، والأعناقي، وابن خمير، ومحمد بن غالب الصفار، وطبقتهم، ممن بعدهم. وقال أحمد بن حزم: قال الأعناقي: لم أرَ أحداً، ولا سمعت في الدنيا، من كانت له هيبة أبان بن عيسى. وما كان منا من ينظر الى وجه صاحبه، أو يرفع رأسه إليه، فكيف يتكلم. وتوفي نصف ربيع الأول سة اثنين وستين ومائتين.
إخوته عبد الوهاب بن عيسى
ذكره الرازي في الاستيعاب، وقال: كان فقيهاً زاهداً.
وعبد الرحمن بن عيسى أخوهما
قال ابن عبد البر: سمع بالأندلس من مشائخ أبيه وغيرهم. ورحل فسمع من سحنون، وأصبغ، ومحمد بن عبد الرحيم البرقي، ونظرائهم. وكان حافظاً للرأي، معتنياً بالمسائل، روى عنه ابن لبابة وغيره. قال ابن أبي دليم: ولقي محمد بن عبد الحكم. قال قاسم بن محمد: سئل ابن عبد الحكم عن مسألة، فسكت ساعة، فقال له عبد الرحمن بن عيسى: ابن القاسم يقول فيها: كذا، وكذا. فقال له ابن عبد الحكم: لو كان الأمر على ما تقول، كان مستهلاً. إنما يجب علينا أن نتعرف الحق.(4/261)
قال الرازي: وحج حجات. وشور لخالد بن سعيد، وكان من أهل العناية والحفظ والرأي. توفي سنة سبعين ومائتين.
محمد بن عيسى أخوهم
قال الرازي: كان زاهداً، عالماً، وحج. وحضر افتتاح اقريطش، فاستوطنها.
محمد بن عبد الرحمن ابن عمهم
رحل مع ولديه، عبد الواحد، وأرى الآخر عيسى. وروى عنه ابنه عبد الواحد، وسيأتي ذكرهما، إن شاء الله تعالى.
عبد الودود بن سليمان
قرطبي. كان صالحاً. سمع من أصبغ. روى العتبي عنه، سماعه من أصبغ، وأدخله في المستخرجة. وكان من أهل الحفظ للمسائل. ذكره ابن الفرضي، وعده ابن أبي دليم في هذه الطبقة.
محمد بن الحارث بن أبي سعيد
قرطبي. يكنى أبا عبد الله. تقدم ذكر أبيه. روى عنه كثيراً، وعن يحيى بن يحيى، وابن حبيب. وحج فسمع بمصر وبمكة من غير واحد. ولي لعبد الرحمن بن الحكم، أحكام الشرطة الصغرى، التي كانت بيد أبيه، وأقره الأمير محمد عليها، مع حكم السوق، الى أن مات.(4/262)
وكان مشاوراً في أيامه بقرطبة، مع أصبغ بن خليل، وابن مزين، وعظمهم. وكان أحد الثلاثة الذين طلبوا بقي بن مخلد. إلا أنه كان أجلهم في قصته. قال ابن عبد البر: وكان قليل الفقه. توفي سنة ستين ومائتين.
عبد الرحمن بن سعيد التميمي
المعروف بالجزيري. من أهل قرطبة. يكنى أبا زيد. أخذ عن يحيى بن يحيى، وسمع من أصبغ بن الفرج. وزيد ابن أبي الغمر، وحرملة بن المنذر، وغيرهم. وروى التفسير المنسوب الى ابن عباس من رواية الكلبي، عن أبي صالح. وسمعه منه جماعة. قال: وكان يقوم بالرأي قياماً حسناً. قال ابن أبي دليم: عني بالرأي، وحفظ المسائل، وشور بقرطبة. وكان محمد بن فطيس يصفه بالكرم، ويثني عليه. قال أحمد بن حزم: كان ذا مال عظيم، ودنيا. يقف على رأسه الوصفاء يشبه بالملوك ملابس لهم. يأتيهم ويأتونه. وكان فقيهاً عالماً بالمسائل. قال ابن عتاب: وكان من أهل الجود واليسار. وغمِصَ بشيء، الله أعلم به. وذلك أن محمد بن محمد بن وضّاح جاء إليه، فوجد عنده أشياء منكرة. فأخذ ثيابه، وضرب به الأرض، وقام من عنده. فقال أبو زيد: إنما يريد ولد ابن وضاح، يضعفني. وقد سمع مني فلان وفلان، أراه ذكر ابن الفرا. فمضى الى بعض الحكام، وأخذ الشرط، وجعل يطلبها ابن وضاح. ففضح نفسه. توفي في شوال سنة خمس وستين ومائتين(4/263)
وطرح الأعناقي، وبعضهم حديثه. وترك الرواية عنه.
إسحاق بن جابر
قرطبي. لقيته من أصحاب يحيى، وعيسى. ومن خيار الناس وفضلائهم. توفي سنة ثلاث وستين.
عبد الجبار بن فتح بن منتصر البلوي
من أهل فحص البلوط. فقيه زاهد، طلب العلم ابن خمس عشرة سنة، فسمع من الأعشى، وابن حبيب، وأبي زيد، وعبد الأعلى، والعتبي، ورحل. وكان ابن لبابة قد صحبه عند بعضهم. فكان يقول: ما رأيت بقرطبة زاهداً غيره. وعاجلته المنية فتوفي ابن أربعين سنة. وذلك سنة ست وخمسين ومائتين. وقيل ثمان وخمسين.
عبد المجيد بن عفان البلوي
من أصحاب يحيى بن يحيى، وسعيد بن حسان، وابن حبيب، ورحل فسمع من سحنون لأن سحنون لقب وليست اسماً بن سعيد، وأبي الطاهر بن السرح في سنة ثمان وستين ومائتين.
عمر بن موسى الكناني
من كنانة قيس. من أهل البيرة. أبو حفص. كان فقيه البيرة، بعد خروج ابن حبيب عنها. وكن سمع منه، ومن يحيى بن يحيى، وابن حسان، وزونان.(4/264)
ورحل فسمع من الحارث بمصر، وابن أبي إسحاق البرقي، ومن محمد بن عبد الرحيم البرقي. وبالقيروان: من سحنون بن سعيد، وغيرهم. وهو أحد السبعة الذين كانوا في وقت واحد بالبيرة من رواة سحنون. وهم: هؤلاء الذين يأتي ذكرهم على نسق. وكان يحيى بن عمر يثني عليه، ويصفه بالعلم والجلاة. حدث عنه حفص بن عمرو بن نجيح وغيره. توفي سنة سبع وخمسين ومائتين، فيما قاله ابن الفرضي. وقال أبو سعيد بن يونس سنة أربع وخمسين.
سليمان بن نصر بن منصور بن حامل المرّي
جده من غطفان من أهل البيرة. كنيته أبو أيوب. روى عن يحيى بن يحيى، وسعيد بن حسان، وعبد الملك بن حبيب ونظرائهم. ورحل فسمع من أبي مصعب، ومحمد بن عبد الملك، وسحنون. وحج حجات. حدّث عنه حفص بن عمرو بن نجيح، وغيره. توفي سنة ستين ومائتين.
ابراهيم بن شعيب الباهلي
البيري أيضاً كنيته أبو إسحاق روى عن يحيى بن يحيى وسعيد بن حسان وعبد الملك بن حبيب. قال ابن حارث: كان فقيهاً حافظاً وحدث توفي سنة خمس وستين.(4/265)
ابراهيم بن خالد الفهري
أبو إسحاق. سمع من يحيى، وسعيد، وابن حبيب. ورحل فسمع من سحنون وأبي الطاهر وأبي المصعب وزونان. توفي سنة ثمان وستين.
سعيد بن النمر
ويقال: نمر بن سليمان بن الحسن، الغافقي. من أهل بَيرَه. يكنى أبا عثمان. سمع من يحيى بن يحيى، وسعيد بن حسان، وعبد الملك بن حبيب، وزونان. ورحل فسمع من سحنون، وبمصر من ابن عبد الحكم، وأبي الطاهر، والحارث بن مسكين. حدث عنه أحمد بن يحيى بن الشامة وابن مخلوف وحفص بن عمر وغيرهم. قال ابن أبي دليم: كان ذا فقه، وورع، وهو أجلّ هذه الطبقة وأشهرها. وله مسائل جمعت عنه، قد أدخل فيها شيخنا القاضي أبو الوليد، في كتاب البيان طرفاً. قال علي بن الحسن: كان ابن النمر من علية أصحاب سحنون في الفضل، والعلم، وقال غيره: هو من أجل رواة عبد الملك.(4/266)
توفي سنة تسع وستين، وقيل سنة ثلاث وسبعين.
محمد بن عبد الله بن قنون اللبدي
رحل فسمع من أبي المصعب، وسحنون. توفي سنة إحدى، وقيل سنة خمس وستين. وهذا الثامن من رواة سحنون. من أهل البيرة، ممن لم يذكره من تقدم.
أحمد بن سليمان بن أبي الربيع
البيري، أحد السبعة، من الرواة عن سحنون، بالبيرة، في وقت واحد. روى عن يحيى بن يحيى، وسعيد بن حسان، والحارث بن مسكين، وسحنون. قال ابن الفرضي: وكان فقيهاً. قال ابن الحارث: كان فقيهاً حافظاً. وتوفي بحاضرة البيرة سنة سبع وثمانين، وتأخرت وفاته عن أصحابه.
فضل بن فضل بن عمرة بن راشد
العتقي. تدميري. تقدم ذكر أبيه. وكنيته ككنية أبيه أيضاً. أبو العافية. وكان أبوه مات، وترك أمه حبلى به. فسمي باسمه. وكني بكنيته. وولي القضاء ببلده. سمع من يحيى بن يحيى، وسعيد بن حسان وعبد الملك بن حبيب. وتوفي سنة خمس وستين ومائتين.
محمد بن زياد شذوني
رحل فسمع من أصبغ وغيره. وكان عابداً، خاشعاً،(4/267)
وصفه عبد الله أبو الوليد بالعلم، والفضل. وقال: كان من الخاشعين.
سليمان بن حجاج شذوني
قال خالد: كان من أهل التقدم في العلم والورع، نظير محمد بن زياد.
عبد الوهاب بن عباس بن ناصح الثقفي
مولاهم. ويقال أصله بربري. من نفزه. ويقال ناصح بن تلتيت المصمودي. جزيري. من الجزيرة الخضراء. وبيته بيت ذلك البلد في العلم والرياسة. ورحل مع ابن مزين وابن مطروح. في رجالهما. وكان شاعراً. ولي القضاء ببلده، وقضاء شؤونه، وأبوه عباس بن ناصح الشاعر، المشهور، وكنيته أبو العلاء. رحل بعباس أبوه صغيراً. فنشأ بمصر. وتردد بالحجاز طالباً للسان العرب. ثم دخل العراق. فلقي الأصمعي وغيره. ورحل ثانية. فلقي الحسن بن هانئ. فاستنشده. فيقال إن الحسن قضى له على نفسه، بالفضل. حكى ذلك ابن الفرضي. ورجع الى الأندلس. ومدح ملوكها. وكان شاعراً مصقعاً. وشعره مؤلف معروف. مشهور، مشروح. قال ابن الفرضي: وكان ابن عباس من أهل العلم باللغة، والعربية. له حظ من الفقه والرواية. لم يشتهر علمه لغلبة الشعر عليه. وكان يسلك في أشعاره مسالك العرب القديمة.(4/268)
واستقضاه الحكم بن هشام، على شذونة، والجزيرة. وولي القضاء بعده ابنه عبد الوهاب هذا. ثم بعد محمد بن عبد الوهاب. وكان فقيهاً شاعراً، - فهم ثلاثة قضاة على نسق - أديباً وشاعراً، وعالماً. ورابعهم: عبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب بن عباس. فقيه حافظ للرأي والمسائل. متصرف في اللغة والإعراب. توفي سنة ثلاثمائة وثلاثة وعشرين. والنباهة والعلم، باق في بيتهم الى وقتنا هذا، بالجزيرة. وأدركنا منهم أبا عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. كان من فقهائها المشاورين بها. وتوفي بها سنة
سعد بن موسى الطائي
من أهل الجزيرة الخضراء. من أهل العناية بالعلم، والجمع للكتب. ورحل فلقي أصبغ بن الفرج، وحرملة بن يحيى وغيرهما. وكان فقيهاً. موضعه مقصود للسماع فيه.
محبوب بن قطن بن عبد الله
ابن القطني البكري. جياني. روى بالأندلس. ورحل فسمع من عبد الله بن صالح، كاتب الليث بن سعد وغيره. وكان بجيان ذا رئاسة عظيمة في الفقه. نحواً من أربعين سنة. حدث عنه سعد بن معاذ، وكان يلبس الوشي ويخضب قدميه بالحناء.(4/269)
عبد القادر ابن أبي شيبة
واسمه: يونس الكلاعي. مولى لهم. وقال الخولاني: يكن أبا علي، من أهل إشبيلية. سمع من يحيى بن يحيى، وابن حسان وغيرهما. وكان صدراً في الفقهاء ببلده. توفي نحو السبعين.
أسد بن حارث
إشبيلي. مولى لخولان. ولقي أصبغ وابن بكير وكان ذا زهد وفضل. قال ابن حارث: كان له حظ في الفتيا.
داود بن عبد الله القيسي
إشبيلي. لقي ابن بكير. وسمع منه الموطأ، وكثيراً من علم مالك، والليث. وكان من أهل العلم، مرشحاً لقضاء الجماعة، بقرطبة. وتوفي نحو السبعين.
إسحاق بن عبد ربه
باجي. سمع يحيى بن يحيى. وسحنون بن سعيد، وامتحن بالبرص، فاحتجب. وكان مشهوراً بالعلم والفضل. ولي صلاة موضعه.
يحيى بن حجاج
من أهل طليطلة. سمع يحيى وعيسى وسعيد بن حسان ورحل فسمع من سحنون وعَون، وغيرهما من القرويين.(4/270)
قال ابن أبي دليم: كان من أهل العلم. استشهد في المعترك، سنة ثلاث وستين ومائتين. وكان فاضلاً. ذكر أنه كان عنده طعام في بعض سني الشدائد. وكان ذا عيال. فلما رأى نفسه من عدم الرحمة، بخلاف غيره، تصدق بجميعه. فعوتب في ذلك. فقال: لئن حمدت نفسي، فيما ذكرتَ نظرتْ لي، ولمن معي. وآمنت أن تعم العباد رحمة ربي، ولا أن يخصنا سخطه، بما كنا فيه. وكان من المجتهدين، وكان لا يدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة.
يحيى بن القصير طليطلي
صاحب ابن حجاج هذا. ومشاركه في أسمعته. قال ابن حارث: وكان نظيره في فضله وعلمه، واجتهاده. وكان مواظباً على الجهاد. ولما استشهد صاحبه، وسلم هو، كان يغمص نفسه ووبخها، الى أن خرج الناس للغزاة. سنة أربع وستين. فلما اجتمع الجمعان، أحكم أمره، وسلم متاعه، الى رفقائه، وودعهم. وتقدم للحرب طالباً للشهادة. فرزقها، بعد أن أبلى في العدو بلاء ظاهراً.
سعيد بن عياض
أبو عثمان. طليطلي. كنيته: أبو يحيى. رحل، فسمع من سحنون، ومن يحيى بن مزين، وعليه عول. وكان من أهل المسائل والفتيا والفقه. قال ابن الفرضي: وكان من أهل الرواية.(4/271)
قال ابن أبي دليم: كان من أهل الفقه والفتيا، ولي قضاء طليطلة، وصلاتها. ومات داخلها. قال ابن حارث: قتله أهل طليطلة.
حزم بن غالب الرعيني
طليطلي. سمع من عيسى، ويحيى. ورحل الى المشرق فلقي سحنون بن سعيد، وغيره. وكان مفتي بلده وصاحب صلاته وخطبته وأحكام قضائه.
أحمد بن الوليد بن عبد الخالق
ابن عبد الجبار، بن قيس، بن عبد الله، بن عبد الرحمن بن قتيبة، بن مسلم الباهلي. من أصحاب يحيى وعيسى بن دينار، ونظرائهما. طليطلي، رحل فلقي سحنوناً. وولي قضاء طليطلة، وجيان. وبيته بيت جلالة. هو قاضي ابن قاضي ابن قاضي. وولي جميعهم قضاء طليطلة. الأربعة على نسق. ذكره ابن حارث.
عبد الجبار بن محمد بن عمران
من أهل طليطلة سمع من سحنون ونظرائه. قال ابن حارث. وكان من أهل الرواية الكثيرة، والفتيا والعلم والورع والعبادة.
محمد بن عبد الواحد
من أهل طليطلة. يكنى أبا محمد. رحل فسمع من سحنون.(4/272)
وذكره ابن أبي دليم في هذه الطبقة، وقال: كان صاحب فقه. توفي سنة أربع وستين ومائتين.
سعيد بن عفان
أبو محمد، طليطلي. رحل فلقي سحنون بن سعيد، وغيره. قال ابن حارث: كان من أهل العلم والمسائل والفتيا، وكان يتورك في أمره، على يحيى بن مزين.
عمر بن زيد بن عبد الرحمن
طليطلي. أبو حفص. سمع من أصبغ، وسحنون وغيرهما. وكان مفتياً بموضعه. قال ابن أبي دليم كان صاحب رواية وفقه.
حزم بن غالب الرعيني
طليطلي. سمع من عيسى بن دينار. ويحيى بن يحيى، ولقي سحنون وغيره، وكان مفتياً ببلده. وولي أحكام قضائه وصلاته. قال ابن حارث: كان صاحب رواية وفتيا.
منذر بن الصباح بن عصمة
من أهل قَبرة. له رحلة وعناية بالفقه، والحديث. واستقضى بموضعه. وتوفي سنة خمس وخمسين ومائتين.(4/273)
كرز بن يحيى بن كرز الصّدفي
من أهل استجة. روى عن عبد الملك بن حبيب. وكان عبد الملك بن حبيب، يصفه بالذكاء، والفهم، ويفضله على من قدم عليه من أهل البلدان. وكان رجلاً شريفاً، خيراً، فقيه بلده في وقته. توفي، في امرة عبد الرحمن بن الحكم.
كلثوم بن أبيض المرادي
أبو عون من أهل سرقسطة. قال ابن أبي دليم: له رحلة قديمة. وكان فقيهاً فاضلاً. توفي سنة ثلاث وخمسين ومائتين.
يحيى بن عبد الرحمان المعروف بالأبيض
سرقسطي. أبو زكريا. قال ابن الفرضي: سمي بذلك، لأنه كان أبيض الرأس واللحية والحاجبين وأشفار العينين، خلقة، وذكر أن أمه كانت أخت أبيه من الرضاعة. فظهرت فيه هذه الآية. كانت له رحلة قديمة. وكان متصرفاً في ضروب من العلم، متقدماً في النحو واللغة، وألف فيه كتاباً. ذكره ابن أبي دليم في هذه الطبقة، من فقهاء المالكية. قال: وكان حافظاً. أخذ عنه الناس. وتوفي سنة ثلاث وستين ومائتين.
محمد بن عجلان الأزدي
سرقسطي سمع قديماً من سحنون وغيره.(4/274)
قال ابن الفرضي: وكان عالماً فاضلاً. قال ابن حارث: هو من المشهورين بالفضل والخير. بصير بالفرض والحساب بَصَراً جيداً. ووضع فيه كتاباً، حسناً كافياً. وولي قضاء بلده. قال ابن وضاح: قلت لسحنون: ابن عجلان قال: يحلّف اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد، لأني رأيتهم يرهبون ذلك. فقال لي: من أين أخذه؟ قلت: من قول مالك رحمه الله. إنهم يحلفون حيث يعظّمون. فسكت. قال ابن وضاح: كأنه أعجبه. وسيأتي ذكر ابنه بعد هذا.
عبد الله بن أبي النعمان
سرقسطي ولي قضاءها وذكر عنه فضل وخير وكان مشهوراً بالعلم. توفي سنة خمس وستين وقيل سنة خمس وسبعين.
عجنَّس بن اسباط الزبادي
بفتح الزاي، وبعد باء، بواحدة من أسفل. من أهل وشقة. راغب في العلم، فبيته بها، بيت علم. سمع من يحيى بن يحيى. وذكره الصدفي وابن الفرضي وغيرهما. سمع منه ابنه ابراهيم. وسيأتي ذكره وذكر ابنيه في طبقاتهم إن شاء الله تعالى.(4/275)
طبقة ثانية
ثم انتهى الفقه بعد هذه الطبقة الى طبقة أخرى تتلوها، فمنهم
من أهل المدينة
محمد بن إسحاق بن يحيى بن إسحاق بن أيوب
ابن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، القرشي، المعروف بابن مغلق. وهو لقب يحيى، عده من أصحاب أبي مصعب كان بالمدينة، ثم خرج الى العراق، فولي القضاء بفارس، وهناك توفي.
أبو بكر أحمد بن محمد بن أبي بكر
ابن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب التيمي، القرشي. من أصحاب أبي مصعب أيضاً.
من أهل العراق والمشرق
ثم من آل حماد بن زيد أئمة هذا المذهب وأعلامه بالعراق:
إسماعيل بن إسحاق القاضي
ولنبدأ قبل ذكره، بشيء من خبر آل حماد بن زيد على الجملة، وجلالة أقدارهم، وقد ذكرنا قوماً منهم، في الطبقة الأولى. كانت هذه البيت، على كثرة رجالها، وشهرة أعلامها، من أجل بيوت العلم، بالعراق، وأرفع مراتب السؤدد في الدين والدنيا. وهم نشروا هذا المذهب هناك. ومنهم اقتبس.(4/276)
فمنهم من أئمة الفقه والمشيخة في الحديث والسنن عدة، كلهم أجلة، ورجال سنّة. روي عنهم في أقطار الأرض، وانتشر ذكرهم ما بين المشرق والمغرب. وتردد العلم في طبقاتهم، وبيتهم، نحو ثلاثمائة عام، من زمن جدهم الإمام حماد بن زيد، وأخيه سعيد، ومولدهما نحو المائة، الى وفاة آخر من وصف منهم بعلم، المعروف بابن أبي يعلى. ووفاته قرب عام أربعمائة. قال أبو محمد الفرغاني في التاريخ: لا نعلم أحداً من أهل الدنيا، بلغ ما بلغ آل حماد بن زيد. قال أبو محمد الفرغاني: نال بنو حماد من الدنيا، منزلة ومزية رفيعة. وأول نكبة نكبوها، أيام ابن المعتز. ولم يبلغ أحد ممن تقدم من القضاة، ما بلغوا من اتخاذ المنازل، والضياع، والكسوة، والآلة، ونفاذ الأمر، في جميع الآفاق. فكان لا يبقى أمير في أقطار الأرض، شرقاً وغرباً، إلا كاتبوهم. ونفذت أمورهم على أيديهم وكذلك كل من كان بالحضرة، من أرباب الخراج والأعمال، لا يجد بدّاً من أن يصير الى ما يأمرون به. لا يقدر أحد على أن يدفع أمرهم، أو يقصر في حوائجهم. ولما ولي عبد الله بن سليمان الوزارة للمعتضد، وكان سيئ الرأي فيهم، أراد الإيقاع بهم، وأعمل فيهم الحيلة. فلم يقدر على ذلك. الى أن مات اسماعيل بن إسحاق. ففتح لعبد الله في ذلك. فقال: يا أمير المؤمنين، بنو حماد مشاغيل بخدمة السلطان، وأسباب النفقات والمظالم عن الحكم. فلم يقدح ذلك فيهم.(4/277)
ولم يزل به بعد مدة، حتى جعل أبا حازم الحنفي على قضاء الشرقية. وابن أبي الشوارب على قضاء مدينة المنصور. واقتصر بآل حماد، على قضاء عسكر المهدي، ثم بعد ذلك رجع قاضي القضاة لهم، أيام عمر بن الخطيب، مؤدب المعتضد. يعظم أمر آل حماد. وقال: حسبك أن لهم ببادريا، ستمائة بستان. غير ما لهم بالبصرة. وسائر النواحي. وكان فيهم على اتساع الدنيا لهم، رجال صدق وخير، وأئمة ورع وعلم، وفضل. وسيأتي من فضل قصصهم في الطبقات، ما يدل على مكانهم من الدنيا والدين.
ذكر اسماعيل بن اسحاق بن اسماعيل
ابن حماد بن زيد بن درهم، بن بابك الجهضمي، الأزدي. مولى آل جرير بن حازم. قال أبو الفضل القشيري: وابن أبي إسحاق، أصله من البصرة. وبها نشأ، واستوطن بغداد. سمع محمد بن عبد الله الأنصاري، ومسلم بن ابراهيم الفراهيدي، وسليمان بن حرب الواشجي، وحجاج بن منهال الأنماطي، وعمرو بن مرزوق، ومحمد بن كثير، ومسدَّد والقعنبي،(4/278)
وعبد الله بن رجال العداني، وأبو الوليد الطيالسي، وأحمد بن يونس، وابراهيم بن الحجاج، واسماعيل بن أبي أويس، وعلي بن المديني، وإسحاق بن محمد الفروي. وسمع أيضاً من أبيه، ونصر بن علي الجهضمي، وأبي بكر بن أبي شيبة، وابراهيم بن حمزة، وأبي مصعب الزهري، وأبي محمد الحكيمي، وأبي ثابت المدني، وأبي شاكر بن محمد بن مسلمة المدني، وغيرهم. وتفقه بابن المعذِّل. قال الشيرازي: إن القاضي اسماعيل يقول: أفخر على الناس برجلين، بالبصرة: بابن المعذّل يعلّمني الفقه، وابن المديني يعلمني الحديث. روى عنه موسى بن هارون الحافظ، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وأبو القاسم البغوي ويحيى بن صاعد، وابن عمه يوسف بن يعقوب، وابنه أبو عمر، القاضي. وأخوه وابراهيم بن عرفة نفطويه. وابن الأنباري، والمحاملي، ومحمد بن مخلد الدوري، ومحمد بن أحمد الحكيمي. واسماعيل الصفّار، ومحمد بن عمرو الرّزاز، وعبد الصمد الطستي، وأبو عمرو بن السماك، وأحمد بن سليمان النجاد، وأبو سهل بن زياد، وحمزة بن محمد الدهقان، ومكرم بن أحمد القاضي، وأبو بكر الشافعي، وممن تفقه عليه، وروى عنه وسمع منه: ابن أخيه، ابراهيم بن حماد، وابنا بكير، والنسائي وابن العنتاب، وأبو بشر الدولابي، وأبو الفرج القاضي، وأبو يعقوب الرازي، وأبو بكر بن الجهم، وأبو الفضل بن راهويه، وأبو إسحاق الهجيمي، ومحمد بن أحمد الدينوري، وأبو عبد الله التركاني، وبكر القشيري، وابن حسام البصري(4/279)
الطيالسي، وأبو محمد عبد الرحمن بن محمد الزهري، وأبو العباس الجناوي، وعبد الله بن أحمد بن يوسف بن يعقوب الفريابي. وابن مجاهد المقرئ، ويحيى بن عمر الأندلسي، وقاسم بن أصبغ الأندلسي، وخلق عظيم. وبه تفقه أهل العراق من المالكية.
ثناء الناس عليه ومكانه من الإمامة في العلم، وذكر فضله
قال أبو بكر بن ثابت الحافظ، في تاريخ البغداديين: كان اسماعيل فاضلاً عالماً. متفنناً فقيهاً، على مذهب مالك. شرح مذهب، ولخصه، واحتج له، وصنف المسند، وكتباً عديدة من علوم القرآن، وجمع حديث مالك، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأيوب السختياني. قال أبو إسحاق الشيرازي: كان اسماعيل جمع القرآن، وعلوم القرآن، والحديث وآثار العلماء. والفقه والكلام، والمعرفة بعلم اللسان. وكان من نظراء أبي العباس المبرد في علم كتاب سيبويه. وكان المبرد يقول: لولا شغله برئاسة العلم والقضاء، لذهب برئاسة النحو والأدب، ورد على المخالفين من أصحاب الشافعي، وأبي حنيفة، وحُمل من البصرة الى بغداد، وعنه انتشر مذهب مالك بالعراق. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: كان ثقة صدوقاً، وكتب إلينا ببعض حديثه، قال غيره: كان ثقة. هو أول من بسّط قول مالك، واحتج به، وأظهره بالعراق. وكان أبو حازم القاضي الحنفي يقول: لبث اسماعيل أربعين سنة يميت ذكر أبي حنيفة من العراق.(4/280)
قال الشيخ أبو محمد ابن أبي زيد: القاضي اسماعيل شيخ المالكيين في وقته. وإمام تام الإمامة، يقتدى به. قال طلحة بن محمد بن جعفر في تاريخه: اسماعيل بن إسحاق. منشأه بالبصرة. وأذن للفتيا عن أحمد بن المعذّل، وتقدم في العلم حتى صار علماً ونشر من مذهب مالك، وفضله، ما لم يكن بالعراق في وقت من الأوقات، وصنّف في الاحتجاج له، والشرح، ما صار لأهل هذا المذهب معالم يحتذونه، وطريقاً يسلكونه، ويضاف الى ذلك علمه بالقرآن. وهو كتاب لم يسبقه أحد من أصحابه الى مثله. وكتابه في القراءات، وهو كتاب جليل المقدار، عظيم الخطر، وكتابه في معاني القرآن. وهذان الكتابان شهد بتفضيله فيهما: أبو العباس المبرد. وسمعت أبا بكر بن مجاهد، يصف هذين الكتابين. وذكر أن المبرد كان يقول: القاضي أعلم مني بالتصريف. وبلغ من العمر ما صار واحد عصره، في علوم الإسناد. فحمل الناس عنه من الحديث الحسن، ما لم يحمل عن كثير. وكان كثير من الناس يصيرون إليه، فيقتبس منه كل فريق علماً، لا يشاركه فيه الآخرون. فمن قوم يحملون الحديث. ومن قوم يحملون علم القرآن والقراءات والفقه، الى غير ذلك. قال اسماعيل: دخلت يوماً على يحيى بن أكثم، وعنده قوم يتناظرون في الفقه. وهم يقولون: قال أهل المدينة. فلما رآني مقبلاً قال: قد جاءت المدينة. قال نصر بن علي الجهضمي: ليس في آل حماد بن زيد، أفضل من اسماعيل بن إسحاق. قال المبرد: ما رأت عيني في أصحاب السلطان مثل اسماعيل بن إسحاق، وفلان. وذكره ابن كيسان يوماً، في مسألة من النحو فقال له، اسماعيل: نعم ما قلت. لو قاله غيره.(4/281)
فقال له ابن كيسان: إن ما قاله القاضي أعزّه الله، قال به جميع الناس. وقد ذكر أبو علي الفارسي في تذكرته، وغيره، عنه أشياء من العربية. قال القاضي أبو الوليد الباجي: - وذكر من بلغ درجة الاجتهاد، وجمع إليه من العلوم - فقال: ولم تحصل هذه الدرجة بعد مالك، إلا لإسماعيل القاضي. وقال المقرئ أبو عمرو الدّاني، في طبقات القراء. وذكره فقال: أخذ القراءة عن قالون. وله فيه حرف. وعن أبي عبد الرحمن أحمد بن سهل، عن أبي عبيد. وعن نصر بن علي الجهضمي، عن أبيه، عن أبي عمرو، وعن أبيه، عن شبل، عن ابن كثير، وغير واحد. وله فيها كتاب جامع، حسن. وانفرد بالإمامة في وقته. ولم ينازعه أحد في عصره. روى القراءة عن ابن مجاهد، وابن الأنباري، وخلق لا يحصون. وقال ابن السرّاج: اجتمع المبرّد، وأبو العباس ثعلب، عند اسماعيل القاضي، فتكالما في مسألة. فطال بينهما الكلام. فقال المبرد لثعلب: قد رضينا. فسألاه الحكم بينهما، فقال لهما القاضي: لا ينبغي الحكم بينكما، لأنكما خرجتما الى ما لا أعلم. فتكالما. فقال يوسف بن يعقوب: قرأت في توقيع المعتقد الى عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير: استوصِ بالشيخين الخيّرَين القاضيين: اسماعيل بن إسحاق الأزدي. وموسى بن إسحاق الخطمي خيراً. فإنهما ممن إذا أراد الله بأهل الأرض سوءاً دفع عنهم بدعائهما.(4/282)
جمل من أخباره
ذكر أبو عمر والمقرئ عن ابن المتناب القاضي، قال: كنت عند اسماعيل يوماً فسئل: لمَ جاز التبديل على أهل التوراة. ولم يجز على أهل القرآن. فقال: قال الله تعالى، في أهل التوراة: " بما استُحفِظوا من كتاب الله ". فوكل الحفظ إليهم. وقال في القرآن: " إنّا نحنُ نزّلْنا الذِّكر وإنّا له لحافظون ". فلم يجز التبديل عليهم. فذكر ذلك للمحاملي. فقال: ما سمعت كلاماً أحسن من هذا. قال القاضي رحمه الله: وقع لي أيضاً هذا الكلام، مروياً من طريق الأندلسيين، أن نصرانياً، سأل محمد بن وضّاح عن هذه المسألة. فأجابه، بمثل هذا الجواب، وذكر أبو محمد الفرغاني في صلته: أنه اجتمع غلام خليل القاضي، مع اسماعيل القاضي، في وليمة. أرى لبعض الرؤساء. وكان غلام خليل، يشتم القضاة، ويشهد عليهم، أنهم من أهل النار. فلما خرجا، قال له اسماعيل: أنت تعيب القضاة وتشهد عليهم، أنهم من أهل النار، وأصحاب السلطان، فما تصنع هاهنا، قد حضرتك، وحضرتك. ويشمّون يدك، ويشمون يدي، أو نحو هذا. ومن كتاب الخطيب، قال أبو العباس المبرد: توفيت والدة القاضي اسماعيل، فركبت إليه أعزّيه، وأتوجّع له. فألفيت عنده الجلّة من بني هاشم والفقهاء، والعدول، ومستوري بغداد. ورأيت من ولهه ما أبداه، ولم يقدر على ستره، وكلاً يعزيه، وقد كاد لا يسلو.(4/283)
فلما رأيت ذلك منه ابتدأت، بعد التسليم، فأنشدته:
لعمري لئن غال ريب الزما ... ن فينا لقد غال نفساً حبيبه
ولكنّ علمي بما في الثوا ... ب عن المصيبة ينسي المصيبه
فتفهم كلامي، واستحسنه، ودعى بدواة وكتبه. ورأيت بعد قد انبسط وجهه، وزال عنه ما كان فيه من تلك الكآبة، وشدة الجزع. قال نفطويه: كنت عند المبرد، فمر به اسماعيل بن إسحاق، فوثب المبرد إليه وقبّل يده، وأنشد:
فلما بصرنا به مقبلاً ... حللنا الحبسى وابتدرنا القياما
فلا تنكرنّ قيامي له ... فإن الكريم يجل الكراما
قال ابن الأنباري أنشدنا اسماعيل القاضي:
لا تعتبن على النوائب ... فالدهر يرغب كل عاتب
واصبر على حدثانه ... إن الأمور لها عواقب
ولكل صافية كدر ... ولكل خالصة شوائب
كم فرجة مطوية ... لك بين أثناء النوائب
وقال القاضي اسماعيل: ما عرض لي هم فادح فذكرت هذه الأبيات. إلا رجوت من روح الله ما يحل عقالي وينعم بالي. ثم تؤول عاقبة ما أحذره الى فاتحة ما أوثره. وأنشد بعضهم للقاضي اسماعيل:
من كفاه من مساعيه ... رغيف يعتريه
وله بيت يواريه ... وثوب يكتسيه
فلماذا يبذل العرض ... لنذلٍ وسفيه
ولماذا يتمادى ... عند ذي كبر وتيه(4/284)
كل ما منعت البرّ ... أبدى خاذليه
وهو الوارث والوزر ... على مكتسبيه
ذكر أبو عبد الله بن عتاب أن القاضي اسماعيل سئل عن الحد، هل يدخل في المحدود أو لا؟ وذلك إذا باع منه أرضاً. وقال حدُّ هذا من جهة كذا، الشجرة. فتوقّف عن الجواب، ثم قال بعد للسائل: طالعت هذا الباب من كتاب سيبوية. فدلّني على دخولها. وذكر بعضهم قال: اجتمع أبو العباس بن شريح القاضي، وأبو بكر بن داود الأصبهاني، وأبو العباس المبرد على باب القاضي اسماعيل. فأذن لهم: فتقدم ابن شريح وقال: قدّمني العلم والسن، وتأخر المبرد، وقال: أخّرني الأدب. وقال ابن داود: إذا صحّت المودة، سقطت المعاذير. وحدث الدارقطني، أن اسماعيل القاضي، دخل عنده عبدون بن صاعد الوزير، وكان نصرانياً. فقام له ورحب به. فرأى إنكار الشهود ذلك. فلما خرج، قال: قد علمت إنكاركم. وقد قال الله تعالى: " لا ينهاكُمُ اللهُ عن الذين لم يُقاتِلواكُم في الدين " الآية. وهذا الرجل يقضي حوائج المسلمين، وهو سفير، بيننا وبين المعتضد. وهذا من البر. فسكتت الجماعة، عند ذلك.(4/285)
وذكر بعضهم، أن درة جليلة خرجت من دار السلطان ببغداد، لبعض الأمراء. فوصلت لمجلس القاضي اسماعيل، فاستحسنها كل من حضر، وجعل يقلبها، وفي المجلس رجل من المغاربة من أصحاب سحنون، فلم يمد يده إليها، وامتنع من تقليبها، فقال له القاضي اسماعيل: خبرني لمَ لم تفعل. وكأنه فم مراده. وقال له: هي لغير مالكها، وحكمها حكم اللقطة. فلزم ضمانها، ملتقطها، حتى يؤديها الى مالكها. فلو أخذتها. لضمنتها أو نحو هذا من الكلام. فاستحسنه القاضي، ودلّ على فضل قائله. قال ابراهيم بن حماد: كان عمي اسماعيل ينشد:
هِمَمُ الموت عالياً فمن ث ... مّ تخطى الى لُباب اللُّباب
ولهذا قيل الفراق أخو المو ... ت لإقدامه على الأحباب
وذكر الدلائي في كتابه عن ابن أبي ذر، أن المعتضد كانت له حظية يحبها. ولها ابن أخت حجر عليه اسماعيل القاضي بعد موت والد. فشكت أمه ذلك الى أختها. ورغبت سؤال المعتضد، ليأمر القاضي بفكه من الحجر. فلما جاء المعتضد الى حظيته، سألته في ذلك. فكتب رقعة بخطه الى اسماعيل يأمره بفك الحجر عن الغلام، وختمها ووجهها مع وزيره إليه. فعظم ذلك على الوزير، وكتمانه عنه. فلما وصل به اسماعيل، فكه، وكتب على ظهره، وختمه ورده مع الوزير. فكان ما فعله اسماعيل أشد على الوزير. فلما وصل به الخليفة، وفتحه ونظر فيه. بكى. وكان بعيد الدمعة. ثم رمى به الي الوزير، وقال أنظر بما كتب إلينا اسماعيل.(4/286)
فإذا هو قد كتب إليه، بسم الله الرحمين الرحيم: " يا داوُدُ إنّا جعلْناكَ خليفةً في الأرضِ، فاحْكُم بين الناسِ بالحق " الآية. وقال: قل لإسماعيل يعمل ما يرى. فلا أعترض عليه، قال أبو بكر ابن أبي الأزهر: دعاني يوماً علي بن ابراهيم بن موسى - كاتب مسرور - فتشاغلت عنه. فلما كان الغد بكّرت إليه معتذراً. فتلقاني، وقال: انتظرني قليلاً. فإني أريد دخول الحمام. فدخلت الى موضع جلوسه، وتقدّم الى غلمانه، أن يغيّبوا سرج حماري، ولجامه. أراه قال: فلما طال انتظاري، قمت بوجدت الحمار عرياً، فسألتهم. فقالوا: ما ندري. فأقمت أعذل الغلام مرة، وأهم بضربه أخرى. فلما انتصف النهار علمت أنه في دعوة الحسن بن اسماعيل فكتبت إليه:
يا بن قاضي القضاة والحكّام ... وكريم الأصول والأعمام
يا بن من بُيِّنَت به سنن الدين ... وتمّت شرائع الإسلام
أقضِ بيني وبين خلّك والمص ... فّي لك الود من جميع الأنام
أنه كادني بأخذ حماري ... وتعدى في سرجه واللجام
ومنعت الخروج ظلماً والج ... ئت الى الرفق صاغراً بالغلام
مرة أنثني عليه بضرب ... غير مجد ومرة بالكلام
وأشد الأمور أني قد جعت ... كأني محالف للصيام
فتراه أجاز أخذ حماري ... أتراه يجيز منع الطعام(4/287)
قال: وطلبت من يحملها إليه. فرأيت امرأة من دار القاضي، اسماعيل، فدفعت الرقعة إليها، وأمرتها برفعها للحسن، فدفعتها للقاضي نفسه. فلما قرأها، وقع في ظهرها بخطه: يا بني هذا رجل متظلم منكم، فانصفوه. وبعث بها الى ابنه فلما قرأها قال: وجهه إليّ لأحضر معهم، فوافاني الرسول قد انصرفت.
ولما كانت محنة غلام الخليل، ومطالبة الصوفية ببغداد. ونسبتهم الى الزندقة. وأمر الخليفة بالقبض عليهم. وكان ممن قبض عليه شيخهم إذ ذاك أبو الحسن النوري. فلما أدخلوا على الخليفة وأمر بضرب أعناقهم، فتقدم النوري مبتدراً الى السّياف، ليضرب عنقه. فقال له ما دعاك الى هذا، دون أصحابك؟ فقال آثرت حياتهم على حياتي هذه اللحظة. فرفع الأمر الى الخليفة، فردّ أمره الى قاضي القضاة اسماعيل. فقدم إليه النوري، وسأله عن مسائل من العبادات. فأجابه. ثم قال له وبعد هذا. لله عباد يسمعون بالله، وينقطعون بالله، ويصدقون بالله، ويردون بالله، ويأكلون بالله، ويلبسون بالله، فلما سمع اسماعيل مقالاته. بكى بكاءً طويلاً. ثم دخل على الخليفة: إن كان هؤلاء زناديق فليس في الأرض موحّدون. فأمر بإطلاقهم.
ولايته القضاء وسيرته فيه
قال أبو بكر الخطيب: قال أبو العباس الأصم: كان اسماعيل بن إسحاق، نيف وخمسين سنة قاضياً، اعُزل عنها إلا سنتين.(4/288)
قال أبو بكر: وهذا فيه تسامح لم تبلغ ولايته من أولها الى وفاته هذا العدد، وأول ما ولي قضاء الجانب الشرقي، عند وفاة سوار بن عبد الله، أيام المتوكل سنة ست وأربعين وجمع له قضاء الجانبين بعد ذلك، سنة اثنتين وستين، وذكر أن المهتدي بن الواثق، صرف اسماعيل عن القضاء سنة خمس وخمسين، وسخط على أخيه حماد. فاستتر اسماعيل، قال: وفي سنة ست وخمسين بعد قتل المهتدي، أعاد المعتمد، اسماعيل بن إسحاق - وغلب على الموفق - على الجانب الشرقي. فولاه الجانب الغربي. ونقل عنه القاضي البرتي، الى الجانب الشرقي، وذلك سنة ثمان وخمسين. وقال ابن أبي طاهر في تاريخه: إن ذلك كان سنة سبع وخمسين، فلم يزل اسماعيل على الجانب الغربي بأسره، الى سنة اثنين وستين. فجمعت له بغداد كلها. والقاضي بسر من رأى، علي بن محمد بن أبي الشوارب. وكان يدعى بقاضي القضاة. واسماعيل المقدم على سائر القضاة. الى أن توفي. قال ابن أبي طاهر، ولم يجمع قضاء بغداد لأحد قبله، وأضاف إليه قضاء المدائن النهروانات. وذكر ابن حارث وغيره: أنه ولي قضاء القضاة آخراً. ولم يذكره المؤرخون. وهم أقعد بهذا. وكان يكتب له في قضائه، أبو العباس أحمد بن سريج الشافعي. المعروف بالبازي الأشهب. وهو الذي ألف التوسّط بين محمد بن الحسن واسماعيل القاضي. وهو كتاب كبير.(4/289)
وكان حاجبه ابن عمه أبا عمر، محمد بن يوسف بن يعقوب. قال أبو عمرو الدّاني: ولي اسماعيل القضاء اثنتين وثلاثين سنة. قال الفرغاني: ضرب أبو أحمد الموفق اسماعيل بن إسحاق لتحامله على المعتضد. فجاء اسماعيل يوماً برسالة من الموفق الى المعتضد فقال له المعتضد: يا شيخ ولاك الموفق الحكم؟ أي أنه لم يوله هو. وأن الموفق غلبه على الأمر. فسكت اسماعيل، ولم يجبه. فصار الى الموفق، وسأله إعفاءه، فأعفاه. وصيّر مكانه يوسف بن يعقوب.
وذكر القاضي وكيع في كتابه في القضاة، القاضي اسماعيل، فقال: كان عفيفاً صليباً، فهماً. وذكر أن أبا حازم القاضي، كان يقول: ما خرج من البصرة قاضي أسدّ من اسماعيل بن إسحاق في القضاء وحسن مذهبه فيه، وسهولة الأمر عليه، مما كان يلتبس على غيره. ففي شهرته ما يغني عن ذكره. وكان في أكثر أوقاته، وبعد فراغه من الخصوم، متشاغلاً بالعلم. لأنه اعتمد على حاجبه أبي عمر. فكان يحمل عنه، أكثر أمره، من لقاء السلطان، وغيره. وأقبل هو على الحديث والعلم. وكان اسماعيل شديداً على أهل البدع يرى استتابتهم حتى ذكر أنهم تحاموا بغداد في أيامه. وأخرج داود بن علي من بغداد الى البصرة، لإحداثه معه القياس. كما ذكر(4/290)
وحبس أبا سعيد العدوي، لأنه أنكر عليه بعض ما حدث به. وكان القاضي اسماعيل يقول: من لم يكن فيه فراسة، لم يكن له أن يلي القضاء. وقيل له ألا تؤلّف كتاباً في أدب القضاة؟ فقال إعذل ومدّ رجليك في مجلس القضاء. وهل للقاضي أدب غير الإسلام. فقال أبو طالب المكي: كان اسماعيل من علماء الدنيا، وسادة القضاة وعلمائهم. وكان مواخياً لأبي الحسن ابن أبي الورد. وكان هذا من علماء الباطن. فلما ولي اسماعيل القضاة هجره ابن أبي الورد. ثم أفضى أن دخل عليه في شهادة. فضرب يده على كتف اسماعيل وقال: إن علماً أجلسك هذا المجلس لقد كان الجهل خيراً منه. فوضع اسماعيل رداءه على وجهه، وبكى حتى بلّه.
ذكر تواليفه ووفاته
تواليف القاضي اسماعيل كثيرة مفيدة أصول في فنونها. منها موطؤه. وكتاب أحكام القرآن. وكتاب القراءات. وكتاب معاني القرآن، وإعرابه، خمسة وعشرون جزءاً. وكتاب الرد على محمد بن الحسن، مائتا جزء. ولم يتم. وكتبه في الرد على أبي حنيفة، وكتبه في الرد على الشافعي في مسألة الخمس وغيره. وكتاب المبسوط في الفقه، ومختصره. وكتاب الأموال والمغازي، وكتاب الشفاعة. وكتاب(4/291)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. والفرائض، مجلد. وزيادات الجامع من الموطأ أربعة أجزاء. وله كتاب كبير غريب عظيم، يسمى شواهد الموطأ. في عشر مجلدات. وذكر بعضهم أنه في خمسمائة جزء. وكتاب مسند يحيى بن سعيد الأنصاري. ومسند حديث ثابت البناني. ومسند حديث مالك بن أنس. ومسند حديث أيوب السختياني. ومسند حديث أبي هريرة. وجزء حديث أم زرع. وكتاب الأصول. وكتاب الاحتجاج بالقرآن، مجلّدان. وكتاب السنن. وكتاب الشفعة، وما ورد فيها من الآثار. ومسألة المني يصيب الثوب. وكتاب المعاني المذكور. كان ابتدأه أبو عبيد القاسم بن سلام. بلغ فيه الى الحج والأنبياء. ثم تركه. فلم يكمله. وذلك أن ابن حنبل كتب إليه: بلغني أنك تؤلف كتاباً في القرآن، أقمت فيه الفراء وأبا عبيد أئمة يحتج بهما في معاني القرآن؟ فلا تفعل. فأخذه اسماعيل وزاد فيه زيادات. وانتهى الى حيث انتهى أبو عبيد. حكى ابن عتاب، وعلي بن عبد العزيز، وذكر ابن كامل، وابن حارث، أنه توفي فجأة وقد صلى العشاء الآخرة ليلة الأربعاء، لثمان بقين من ذي الحجة. سنة اثنتين وثمانين ومائتين. وهو قاض على جانبي بغداد. وقال ابن أزهر الكاتب، ارتفع المطر فخرج اسماعيل الى المصلى، فصلى ركعتين، بسبّح، وهل أتاك. ثم صعد المنبر، وخطب خطبتين، وحول(4/292)
رداءه. وحدّث بحديث طويل. خشع الناس له، وبكى الناس، وانصرف خاشعاً. فلما كان الى أيام صلى في مسجده، العصر، وهو صحيح. وحكم. ثم انصرف الى داره، ووجد للمغرب ضعفاً فعهد الى ابنه الحسن، والى ابن عمه يوسف بن يعقوب. وتوفي في تلك الليلة. وفي رواية أخرى: أنه توفي من ليلة يوم استسقائه وصلى عليه ابن عمه يوسف. وورث خطبته من الإمامة في الدين والدنيا، بنو عمّه. سيأتي ذكرهم.
مولده
سنة مائتين. توفي وهو ابن اثنتين وثمانين سنة. وخلّف ابناً اسمه الحسن. ويكنى بأبي علي. كان يصحب السلطان معدوداً في جلساء الخليفة، وخاصته، لطيف المكان هناك. قال الخطيب: روى عن أبيه، حدّث عنه علي بن ابراهيم بن حماد الأهوازي. وكان ألفياً لأهل الأدب، معاشراً لأهل الفضل، فهماً. حسن المحاضرة. مليح النادرة. سمح النفس، جميع الأخلاق، لم يسند في الأحاديث إلا يسيراً. توفي سنة تسع وثلاثمائة. وله أربع وتسعون. ويقال سبعون سنة. وصلى عليه القاضي أبو عمر.(4/293)
حماد بن إسحاق
أخو اسماعيل القاضي، شقيقه. أمهما شاخة بنت معاذ العدوسية. وقيل هي أم ولد، اسمها شحيمه. تُكنّى بأم اسماعيل. وسمع من شيوخ أخيه: أبي مصعب الزهري. وأبي محمد الحكمي. والقعنبي. وذكر أنه سمع اسماعيل ابن أبي أويس. وأبا شاكر بن محمد بن مسلمة المخزومي. وإسحاق الفروي. وابن أبا ثابت المديني. وتفقه بابن المعذل وبرع، وتقدم في العلم. روى عنه ابنه ابراهيم، وغيره. وألّف كتباً كثيرة، فيما ذكر منها: كتاب المهادنة. وكتاب الرد على الشافعي. وكانت له مكانة جليلة عند بني العباس. صحب أبا أحمد بن المتوكل، الملقب بالموفق. وجرى مجرى صحابته. قال ابنه، قال: إني لأستعين بكلمة مالك، رحمه الله عند فتياه، وهي: ما شاء الله. لا حول ولا قوة إلا بالله. إذا صعبت عليّ المسألة. فإذا قلتها انكشفت لي. وامتحن على يد المهتدي بالله أمير المؤمنين، محمد بن الواثق في سنة خمس وخمسين. قبض على حماد هذا، وضربه بالسياط، وأطاف به على بغل بسر من رأى لشيء بلغه عنه حينئذ. وصرف اسماعيل عن القضاء، الى أن قتل المهتدي. وتوفي في جمادى سنة سبع وستين ومائتين.(4/294)
محمد بن حماد بن إسحاق ابنه
قال القاضي وكيع: كان كتب علماً كثيراً، وفهم. وكان شاباً عفيفاً سرياً ولي قضاء البصرة. قال: وولاه الموفق، عند خروجه الى محاربة الزنج بالبصرة، قضاء ما رجع من الناس. وقضاء عسكره. وقضاء واسط. وكور دجلة. وكان يصحب الموفق حيث كان مستخلف على البصرة، محمد بن أسيد، رجلاً من أهلها. وتوفي محمد بن حماد سنة ست وسبعين ومائتين. وأما ابنه الآخر، هارون يأتي ذكره، في الطبقة الأخرى إن شاء الله تعالى.
يوسف بن يعقوب بن اسماعيل بن حماد
ابن عمهما. ووالد القاضي أبي عمر، ويكنى أبا محمد. سمع الحديث، ودرس الفقه. وكان أكثر تفقهه مع ابن عمه اسماعيل. وسمع مسلم بن ابراهيم، وسليمان بن حرب، ومحمد بن كثير، وعمرو بن مرزوق، ومحمد ابن أبي بكر المقدسي، وهدبة بن خالد، وأبا الربيع الزهراني، وشيبان بن فروخ. وكان الغالب عليه: الحديث. وكان مسنداً فاضلاً، سمع منه الناس ببغداد، قراءة وإملاءً. أخذ عنه ابنه القاضي، أبو عمر، وأبو عمرو بن السماك، وابن قانع، ودعلج بن أحمد، وأبو بكر الشافعي، وأبو محمد بن ماسي، وكتب عنه الناس علماً كثيراً.(4/295)
قال أبو بكر الخطيب: كان ثقة، سكن بغداد، وحدث بها. قال القاضي وكيع في كتابه: كان يوسف صلباً، عفيفاً، بلغ سناً عالية، وحُمل عنه علم كثير، من المسند وغيره. وذكر ابن كامل في كتاب القاضي: أنه كان غير مطعون عليه، في الحديث. ضعيف الفقه. وأنه كان لا يغير شيبه. وألف فضائل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. ومسند شعبة. وكتاب الصيام والدعاء والزكاة.
ذكر ولايته القضاء وسيرته
كان ذا جلالة وقدر عظيم ببغداد. وأول ما ولي بها: الحسبة، سنة إحدى وسبعين. وولي أيضاً نفقات الموفق، فكان يتولاها دون رأي وزير أو غيره. ولما استعفى اسماعيل، أيام المعتضد من القضاء، وأجيب صير مكانه يوسف هذا. فيما ذكره الفرغاني. ثم ولي البصرة بعده ابن عمه، محمد بن حماد، مع قضاء سائر عمله، الذي مات عنه، في سنة ست وسبعين من قضاء واسط، وكور دجلة. فأقام يوسف ببغداد، واستخلف على البصرة محمد بن جعفر بن أحمد بن العباس بن عبد الله بن الهيثم بن سام، وكان فقيهاً سرياً عالماً متفنناً وعف وحسن أثرُه. ثم توفي محمد بن جعفر، فاستخلف يوسف مكانه، ابراهيم بن المنذر الجارودي. ثم أتى خليفة الفاضل بن الحباب(4/296)
الجمحي، ثم أحمد بن عبد الله بن نصر الذهلي، والد القاضي أبي الطاهر بن علي المالكي. وولي يوسف مع ذلك، المظالم، ببغداد، سنة سبع وسبعين. فلما مات القاضي اسماعيل بن إسحاق منسلخ سنة اثنين ومائتين، قُسِّم عمله، فقلّد يوسف بن يعقوب، قضاء الجانب الشرقي. فلم يزل عليه، الى أن نُكب. وقلد ابنه أبا محمد، بعد مدة، مدينة المنصور. قال ابن عرفة: وذكر ولايته القضاء. قال: فحمدت مذاهبه، وحسُن حكمه. واستقامت طريقته. وكثر الشاكر له. وقال طلحة بن محمد في كتابه: كان يوسف بن يعقوب هذا، رجلاً صالحاً، عفيفاً، خيراً، حسن العلم بصناعة القضاء. شديداً في الحكم. لا يراقب فيه أحداً. وكانت له هيبة، ورئاسة. وكان ثقة أميناً. وذكر الخطيب أبو بكر في تاريخ علماء بغداد. أن خادماً من وجوه خدماء المعتضد، أتى الى القاضي يوسف يوماً، في حكم. فارتفع في المجلس، فأمره الحاجب بموازاة خصمه. فلم يفعل، إدلالاً له بمحلّه. فصاح القاضي عليه، وقال: قفاه، أتؤمر، بموازاة خصمك، فتمتنع؟ يا غلام عمرو النخاس الساعة، يقدَّم إليه يبيع هذا العبد. ويحمل ثمنه لأمير المؤمنين. وقال لحاجبه: خذ بيده، وسوّ بينه وبين خصمه. فأكره على ذلك. فلما انقضى الحكم حدّث الخادم المعتضد بالحديث، وبكى له. فصاح عليه. وقال: لو باعك لأجزت بيعه. وما رددتك أبداً. وليس خصومك لي يزيل مرتبة الحكم. فإنه عمود السلطان. وقوام الأديان.(4/297)
قال أبو جعفر الطبري: لما ولي يوسف بن يعقوب المظالم. أمر أن ينادي: من كانت له مظلمة، قبل الأمير الناصر، وأخذ من الناس، فليحضر. وتقدم الأذن الى صاحب الشرطة، ألا يطلق أحداً من السجن إلا من رأى إطلاقه، بعد أن تُعرَض عليه قصصهم.
بقية أخباره
وقال ابن الخطيب مؤدب المعتضد: حضرت يوماً في مجلس يوسف بن يعقوب، مع أصحاب الحديث، فدخل عليه مؤنس صاحب شرطة بغداد. وكان جبّاراً غاشماً، من كبار خدّام المعتضد، والمكتفي، فقصد الى سرير يوسف. فلم يقم له. فسلّم عليه مؤنس، وهو قائم. فأومأ إليه يوسف، فأجلسه بين يديه. وكان مع مؤنس الى أن قضى حديثه، مع يوسف، ثم انصرف. ولما أشار المعتضد بلعن معاوية وآله، على من أمره. وكتب في ذلك، كتاباً. انتخب له من الكتاب، الذي كان أنشأه المأمون، حين عزم على ذلك. فلم يزل القاضي يوسف يتردد، ويسعى في رد ذلك، حتى ترك الأمر بذلك، وانصرف عنه. فذكر أبو جعفر الطبري: أن يوسف مضى في ذلك الى المعتضد، وقال له: إني أخاف أن تضطرب العامة عند سماعه. فقال: إن تحركت وضعت سيفي. فقال له ما تصنع بالطالبيين، وهم في كل ناحية. يخرجون ويميل إليهم الكثير من الناس. وفي هذا الكتاب إطراؤهم والتفجّع لما نيل منهم، أو كيف؟ قال: فإذا سمعه الناس زادوا فيهم تشيّعاً. وكانوا أثبت حجة. فأمسك المعتضد عما همّ به. فعد الناس هذه من مناقب ابن حماد، بخاصة ليوسف بن يعقوب.(4/298)
قال: فدخل على القاضي يوسف بعض أهل الحديث، يشكره ويقول: جزاك الله خيراً. فإنكم أهل بيت سنة. ولما مات المعتضد، تولى غسله القاضي أبو عمر. وصلى عليه أبوه يوسف هذا. وذكروا أن ابن أبي الدنيا، دخل عليه. وكان مولدهما واحد. فسأل القاضي عن قوته، فقال: أجدني كما قال سيبويه:
لا ينفع الهليون والطريفل ... انخرق الأعلى وجار الأسفل
ونحن في جد وأنت تهزل
فكيف نجدك أنت يا أبا بكر؟ فأنشد:
أراني في انتقاص كل يوم ... ولا يبقى مع النقصان شي
طوى العصران ما نشراه مني ... فأخلق جدّتي نشر وطي
نكبته ووفاته
لما قام عبد الله بن المعتز، لطلب الخلافة أيام المقتدر سنة ست وتسعين، وبايع له من بايع، كان في جملتهم: القاضي أبو عمر: محمد بن يوسف بن يعقوب هذا. وهو شريك لأبيه في القضاء. فلما ظفر بابن المعتز، وانحل أمره، انتشر أبو عمر، وكان من محنته ما يأتي ذكره في خبره. فصرفه المقتدر عن القضاء، وصرف بصرفه ابنه أيضاً. واقتصر على الصرف، فلزم يوسف منذ ذلك منزله. ولم يتول للسلطان عملاً من القضاء، الى أن توفي إثر ذلك، يوم الاثنين، لتسع خلون من رمضان، سنة سبع وتسعين ومائتين، عم عمر، قال ابن كامل، والمسعودي، وهو ابن خمس وتسعين سنة.(4/299)
وقال ابن أبي طاهر: بل تسع وثمانون سنة وثمانية أشهر. قال ابن كامل: مولده سنة ثمان ومائتين. قال ابن طاهر: وصلى عليه ابنه أحمد. وقال ابن كامل: بل ابنه أبو عمر. ودفن في داره. وترك من الولد غير القاضي أبا عمر، محمداً وأبا يعلي الحسيم. وتوفي أبو يعلي سنة ست وثلاثمائة. وتوفي أحمد سنة تسع وتسعين ومائتين وسيأتي ذكرهم.
جعفر بن محمد بن الحسن بن المستفاض
أبو بكر الفريابي. قاضي الدينور. وقال أبو بكر الخطيب فيه: أحد أوعية العلم. ومن أهل المعرفة والفهم. طوف شرقاً وغرباً. ولقي أعلام المحدثين، في كل بلد، وسمع بخراسان وما وراء النهر، والعراق، والحجاز، ومصر، والشام، والجزيرة. واستوطن بغداد وحدث بها عن هدبة بن خالد، ومحمد بن حساب، وعبد الأعلى بن حماد، والجحدري، وابن المديني، وابن المثنى، وعلي بن معاذ، وبندار، ومنجاب، وأبي كريب، وأبي بكر، وعثمان ابني أبي شيبة، وقتيبة، وإسحاق، والقواريري، وزنجويه، وابني(4/300)