بدعوته (1). ولم يك شك في أن عقد مثل هذه المعاهدة كان خطوة كبيرة في سبيل القضاء على مملكة غرناطة، وقد وضع فرديناند برنامجه المحكم لكي يستغلّ أسر ملك غرناطة ويستعين به على تنفيذ برنامجه المدمّر. وكان أبو عبد الله أميراً ضعيف العزم والإدارة، قليل الحزم والخبرة، ولم يكن يتمتع بشيءٍ من الخلال الباهرة التي امتاز بها أسلافه وأجداده العظام من بني الأحمر. وكان الملك والحكم غايته، يبتغيها بأي الأثمان والوسائل. وقد ألفى ملك قشتالة القوي في ذلك الأمير الضعيف الطموح، أداة صالحة يوجهها كيفما شاء، فاتخذه وسيلة لبث دعوته بين أنصاره ومؤيديه في غرناطة وغيرها، وليقنع المسلمين بأن الصلح مع ملك قشتالة خير وأبقى. وسيَّر ملك قشتالة في نفس الوقت قواته في أنحاء مملكة غرناطة لكي تنتزع أثناء الاضطراب العام، كل ما يمكن انتزاعه من القواعد والحصون الإسلامية. وزحف القشتاليون على منطقة الغربية (غربي ولاية مالقة) في أوائل سنة (890 هـ) واستولوا على حصن قرطبة وحصن ذكوين وعدة حصون أخرى تقع شمال غربي مالقة في منتصف الطريق بينها وبين رندة، وبذلك عزلت مدينة رندة، وأصبح الطريق ممهّداً للاستيلاء عليها. وعلى أثر ذلك زحف القشتاليون على رندة، وهي معقل الأندلس في قاصية الغرب وهاجموها، وضربوها بالأنفاط حتى هدمت أسوارها، وكانت حاميتها بقيادة حامد الثغري زعيم قبيلة غمارة. ولم يستطع أهل رندة أن يثبتوا طويلاً لعدم استعدادها للدفاع، ولبعدهم عن العاصمة، ويأسهم من تلقي الإمداد السريع، فطلبوا الأمان، وغادروا المدينة بأمتعتهم، واستولى القشتاليون على رندة في (جمادى الأولى سنة 890 هـ - نيسان - أبريل 1485 م)، ثم استولوا بعد ذلك على سائر الأماكن والحصون الواقعة في تلك المنطقة، وكان سقوط هذه المدينة الأندلسية التالدة ضربة شديدة للمسلمين، وبسقوطها انهارت كل
_______
(1) أخبار العصر (18).(2/214)
وسيلة للدفاع عن منطقة الغربية، وأصبح القشتاليون بذلك يهددون ثغر مالقة من الغرب (1). وحاول القشتاليون بعد ذلك مهاجمة حصن مكلين الواقع شمال غربي غرناطة، وكان به الأمير أبو عبد الله الزغل في قوة من الغرناطيين ليصلح أسواره ويتم تحصينه. ونشبت بين الفريقين معركة شديدة، وكان القشتاليون بقيادة الكونت دي قبرة الظافر في معركة اللّسانة، وكادت الدائرة تدور في البداية على المسلمين، ولكنهم بذلوا جهد المستميت بقيادة أميرهم الباسل، وانتهت المعركة بأن رُدّ النصارى بخسائر فادحة في الرجال والعُدد (شعبان سنة 890 هـ - تموز - يوليه 1485 م)، وعاد الأمير وجنده إلى غرناطة (2).
ولكن كان من سوء الطالع، أنه لم يمض قليل على ذلك، حتى نشبت في غرناطة حرب أهلية جديدة. وكان الملكان الكاثوليكيان قد أطلقا سراح أبي عبد الله في تلك الآونة بالذات، بعد أن وقّع معاهدة الخضوع والطاعة كما ذكرنا، والواقع أن الحرب الأهلية كانت تضطرم في الأندلس خلال أسر أبي عبد الله، وكان الزغل بعد أن تربّع على عرش غرناطة، يحاول استخلاص الأندلس كلها لنفسه، وكان الأمير يوسف أبو الحجاج شقيق أبي عبد الله، قد استقر في ألمرية يحاول منازعة عمّه الزغل، فسار الزغل إلى ألمرية، وثار بها أنصاره، وغلبوا على خصومهم، وفتحوا له أبواب المدينة، وقُتل يوسف أثناء ذلك. ويقال: إن قتله كان بوحي من أبيه أبي الحسن أو عمّه الزغل. وما كاد الزغل يعود إلى غرناطة، حتى اضطرمت الفتنة من جديد. وكان أبو عبد الله حينما أُطلق سراحه قد سار إلى بعض الحصون الشرقية، فقامت بدعوته، وكان يشيد بمزايا الصلح المعقود مع ملكي قشتالة، وأنه يضمن للمسلمين الاستقرار والسلم، وأنه يطبق في سائر الأنحاء التي تدخل في طاعته، وكان قد سار إلى منطقة ....................................................
_______
(1) أخبار العصر (15).
(2) أخبار العصر (17).(2/215)
بلش (1) في شرقي بسطة، وأعلن نفسه ملكاً من جديد.
وكان من الواضح أن اضطرام الفتنة في غرناطة، في هذا الوقت بالذات، لم يكن بعيداً عن وحي أبي عبد الله وحزبه، وقام أهل ربض البيازين - وهو حي غرناطة الشعبي، الواقع في شمالها الشرقي تجاه مدينة الحمراء - بدعوة أبي عبد الله. وكان أهل البيازين دائماً، عنصراً من عناصر الاضطراب والشغب، وكان لهم دائماً ثورة وفتنة (2). وشُغِل ملك غرناطة أبو عبد الله الزغل بإخماد هذه الفتنة الجديدة عن مقاتلة النصارى. وبذلك تحقق الغرض الذي يرمي إليه ملكا قشتالة، وكان ذلك في أوائل سنة (891 هـ - أوائل سنة 1486 م). واشتدت الفتنة، ونصب الزغل على البيازين المجانيق والأنفاط، ودافع أهل البيازين عن أنفسهم دفاعاً شديداً، وكان أبو عبد الله خلال ذلك يبعث رسله إليهم، ويعدهم بمقدمه. وطالت هذه الفتنة أكثر من شهرين، ثم بدأت المفاوضة بين أبي عبد الله وبين عمِّه الزغل (ملك غرناطة) في عقد الصلح، وارتضى أبو عبد الله أن ينزل عن دعواه في العرش، وأن يدخل في طاعة عمه (3). وفي رواية أخرى أنهما اتفقا على تقسيم المملكة إلى قسمين، فيختص الزغل بحكم غرناطة ومالقة وألمرية وبلش مالقة والمنكب، ويختص أبو عبد الله بحكم الأنحاء الشرقية (4).
وعلى أي حال، فقد انتهز ملك قشتالة، فرصة هذه الفتنة، للزحف على مدينة لوشة. وهنا تتفق الروايات الإسلامية والقشتالية، على أن أبا عبد الله، حينما علم بتهديد النصارى لـ (لوشة)، سار إليها وتحصّن بها، مع نخبة من
_______
(1) المقصود هنا بمنطقة بلش بلدتا: بلش الحسناء ( Velez Rubio) وبلش البيضاء ( Velez Blanco) وكلتاها تقع على مقربة من الأخرى. في شمال شرقي مدينة بسطة.
(2) أخبار العصر (18) ونفح الطيب (2/ 611)، وأنظر: Gaspar Y Remiro; ibid; P. 23-24 and 30
(3) أخبار العصر (16).
(4) Gaspar Y Remiro; ibid. P. 24.(2/216)
أنجاد الفرسان. وهاجم النصارى مدينة لوشة، وشدّوا الحصار عليها، وسلّطوا على أسوارها الأنفاط والعُدد، وأبدى المسلمون بسالة فائقة في الدفاع عن مدينتهم. وتقول الروايات القشتالية: إن أبا عبد الله بذل في هذا الدفاع مجهوداً عظيماً. وإنه جرح أثناء ذلك (1)، ولكن لم نعثر على ما يؤيد ذلك في الروايات الإسلامية. يكتفي صاحب أخبار العصر بالقول: بأن أبا عبد الله كان في لوشة وقت حصارها (2)، ويروي صاحب نفح الطيب على ذلك بأن أهل غرناطة أذاعوا بأن أبا عبد الله ما جاء للوشة إلاّ ليسلِّمها لملك قشتالة (3).
وعلى أي حال، فإن بسالة المسلمين، في الدفاع عن لوشة، لم تغن شيئاً أمام القوة القاهرة، وفتك الأنفاط والعُدد الثقيلة، فاضطروا إلى التسليم، وذلك بالشروط التالية: أن يؤمَّن أهل لوشة الذين يرغبون في مغادرتها في أنفسهم، وفيما يستطيعون حمله من أموالهم، وأن يسمح لمن يشاء منهم أن يعيش في قشتالة أو أراغون أو بلنسية بذلك، وأن تسلم المدينة إلى ملك قشتالة مع سائر الأسرى النصارى. ودخل القشتاليون لوشة في (26 جمادى الأولى سنة 891 هـ - مايس - مايو سنة 1486 م)، وسار معظم أهلها إلى غرناطة، بأمتعتهم وخيلهم وسلاحهم.
وأما ما يتعلق بأبي عبد الله، فتقول الرواية القشتالية: إن موقفه في الدفاع عن لوشة، اعتبر منافياً لتعهداته للملكين الكاثوليكيين، ونكراناً لحسن الصنيعة، ومع ذلك فقد ارتضيا الصّفح عنه، وأن يسمح له بالاحتفاظ بلقب ملك غرناطة، وأن يمنح لقب: "صاحب وادي آش"، إذا استطاع أن يستولي عليها، وإذا أراد الالتجاء إلى قشتالة، فإنه يسمح له أن يعيش هناك آمناً على نفسه، وإن شاء العبور إلى المغرب أمدّه ملك قشتالة بوسائل الانتقال (4).
_______
(1) Gaspar. Y Remiro; ibid, P. 32
(2) أخبار العصر (19).
(3) نفح الطيب (2/ 611).
(4) Gaspar Y Remiro; ibid, P. 32(2/217)
على أننا نرى - على ضوء الرواية الإسلامية، وسير الحوادث أيضاً، وتحيّز ملكي قشتالة لأبي عبد الله دون مسوِّغ - أن موقف أبي عبد الله من حوادث لوشة كان موقفاً مريباً. والواقع أنه كان يبذل جلّ جهده للدعوة إلى قضيته، وإلى مقاومة عمّه ونزعه عن العرش. وكان يمزج الدعوة لنفسه بالدعوة لملك قشتالة، ويشيد بمزايا الصلح المعقود معه، ولم يكن خافياً أنه كان يستظلّ بمظاهرة النصارى وتأييدهم، وأنه غدا آلة في يد ملك قشتالة يعمل بوحيه وتوجيهه (1)، فهو عميل للأجنبي كما يبدو.
ولما غادر ملك قشتالة لوشة، أخذ معه أبا عبد الله إما أسيراً - حسبما يذكر صاحب أخبار العصر - أو أنه سار معه ليستمدّ عونه في تنفيذ خطته للاستيلاء على عرش غرناطة، وهي خطة يؤيدها ملك قشتالة ويشجعها، لأنها تخدم أغراضه ومطامعه في القضاء على تلك المملكة الصغيرة التي مزّقتها الحرب الأهلية.
ولم يُغفل فرديناند تلك الفرصة الذهبية لانتزاع ما يمكن انتزاعه من أراضي مملكة غرناطة، فبينما الحرب الأهلية تضطرم في العاصمة وحولها، إذ سار النصارى إلى حصن إلورة الواقع شمال غربي غرناطة، وحاصروه وضربوه بالأنفاط حتى اضطروا أهله إلى التسليم والخروج عنه، ثم سار إلى حصن مكلين الواقع شمال شرقي إلورة وهاجموه. ونشبت بينهم وبين المدافعين عنه معركة عنيفة، انتهت بتحطيم أسواره بفعل الأنفاط واستيلائهم عليه، وخروج أهله عنه إلى غرناطة. ثم استولى النصارى بعد ذلك على حصن قلمبرة الواقع شرقي مكلين بالأمان (2)، إذ رأى أهله ما نزل بغيرهم، ففضّلوا التسليم دون قتال. واستولوا بعده على سلسلة أخرى من
_______
(1) نهاية الأندلس (196).
(2) حصن إلورة أو بلدة إلورة: هي بالإسبانية Illora، وموكلين أو مكلين هي بالإسبانية Maclin، وقلمبرة هي Colomera، وهي اليوم من بلاد منطقة غرناطة الشمالية الغربية.(2/218)
القلاع والحصون التي تحمي مشارف غرناطة، وأصلحوها وشحنوها بالرجال والمؤن، لتؤدي دورها فيما بعد في التضييق على العاصمة وتهديدها (1).
وهنا نقف قليلاً لنتساءل عن حقيقة هذه "الأنفاط" التي توالى ذكرها في سير هذه المعارك، خاصة في لوشة ورندة والحصون المجاورة، والتي كانت فيما يبدو عمدة النصارى في التفوق على المسلمين في تحطيم تلك الحصون القوية. وقد أشارت الرواية الإسلامية عن سقوط غرناطة إلى الأنفاط، وهي رواية صاحب أخبار العصر، وهي التي كتبها بعد وقوع تلك الأحداث بنحو نصف قرن فقط، وكان شاهداً ومشاركاً فيها، إلى تلك الأنفاط في عدة مواضع، ثم وصفها لنا بهذا الوصف: "وكان له (أي ملك قشتالة) أنفاط يرمى بها صخوراً من نار، فتصعد في الهواء، وتنزل على الموضع، وهي تشتعل ناراً، فتهلك كل مَن نزلت عليه وتحرقه، فكان ذلك من جملة ما كان يخذِّل في أهل المواضع التي كان ينزل فيها" (2).
ونحن نعرف أن مسلمي المشرق كانوا منذ أيام الحروب الصليبية، يحذقون استعمال الرمي بالنار والأنفاط، وأن هذه النار كانت ترمى من آلات قاذفة تعرف بالحراقات، على معسكرات العدو وحصونه وسفنه في البحر فتفتك بها. وقد لعبت هذه النار دوراً مهماً في الحروب الصليبية، وألفت فيها مصر سلاحاً منيعاً لردّ عدوان الصليبيين وتمزيق حملاتهم. والظاهر أن هذا السلاح الذي استأثر به المسلمون مدى حين في الشرق، قد عرفه مسلمو إفريقية والأندلس منذ منتصف القرن السابع الهجري، واستعملوه في محاربة أعدائهم نصارى إسبانيا. ففي حصار لبلة (655 هـ - 1257 م) استعمل الموحّدون لدفع جيوش الفونسو العاشر ملك قشتالة، آلات تقذف حجارة ومواد ملتهبة يصحبها دوي كالرعد. وقد كان استعمال هذه النار أو الأنفاط الفتاكة يتطوّر بلا ريب مع العصور. ومنذ منتصف القرن الثامن الهجري
_______
(1) أخبار العصر (22).
(2) أخبار العصر (22).(2/219)
(الرابع عشر الميلادي) نرى مسلمي الأندلس يستعملون لمقاتلة النصارى آلات تقذف اللهب والحجارة، ويصحبها دوي مخيف (1). وظهرت براعة الأندلسيين في استعمال هذه الآلات في عدّة مواقع. ففي حصار بياسة سنة (724 هـ - 1324 م) في عهد السلطان أبي الوليد إسماعيل، أطلق المسلمون على المدينة الحديد والنار من آلات قاذفة تشبه المدافع، واستعملت مثل هذه الآلات في موقعة وادي لكُّهُ (ريو سليتو) سنة (740 هـ - 1340 م)، وفي الدفاع عن الجزيرة سنة (742 هـ - 1342 م) وذلك في عهد السلطان أبي الحجاج يوسف. والظاهر من وصف هذه الآلات أنها كانت نوعاً من المدافع السّاذجة التي تُحشى بالحديد والحجارة وبعض المواد الملتهبة، التي كانت فيما مضى عماد الحرّاقات أو الأنفاط الشرقية. وليس بعيداً أن يكون مسلموا الأندلس قد وفِّقوا في هذا العصر أيضاً إلى العثور على سرّ البارود، قبل أن يقف على سرِّه القس الألماني برتولد شفارتز في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي. ومن المرجّح أن النصارى الإسبان قد نقلوا سرّ الأنفاط عن مسلمي الأندلس وحذقوا في استعمالها مع الزمن. ولما غلب الضعف على مملكة غرناطة تضاءلت نشاطاتها الدفاعية، ونقصت مواردها من السلاح والذّخيرة، خصوصاً بعد أن فقدت معظم قواعدها الصناعية. بيد أنه من المحقق أن المسلمين كانوا يستعملون الأنفاط أيضاً في محاربة أعدائهم، وإن يك ذلك بنسبة صغيرة تتفق مع ضآلة مواردهم. أما القشتاليون فقد كانت لديهم الأنفاط بكثرة، وكانت السلاح المفضّل في مهاجمة القواعد والحصون الإسلامية. وهناك ما يدل على أن هذه الأنفاط التي كان يستعملها القشتاليون لم تكن سوى المدفع في صورته البدائية، فالرواية الغربية تحدثُنا عن اهتمام ملك قشتالة بصنع "المدافع" لمحاربة المسلمين، وتقول لنا: إن هذه المدافع كانت تصنع في مدينة وشقة، وإنّ كميات كبيرة من القنابل الخاصة بها كانت
_______
(1) مواقف حاسمة - ط3 (108 - 109).(2/220)
تضع في جبال قسنطينة (1)، وتحدثنا الرواية الإسلامية المعاصرة عن البارود، وتقول: إن النصارى حينما نشبت الثورة في ربض البيازين، أمدّوا فريقاً من الثوار بالرجال والأنفاط والبارود (2) إذكاءً منهم للفتنة بين المسلمين. وهكذا نرى أن الأنفاط التي تنوّه الرواية الإسلامية بفتكها بحصون المسلمين وصفوفهم في معارك غرناطة، إنما هي المدافع بذاتها، وأن تفوق القشتاليين في استعمال هذا السلاح كان له أعظم الأثر في التعجيل بإخضاع مملكة غرناطة والقضاء عليها.
ولنعد إلى قصة الحرب الأهلية في غرناطة، فقد ثار أهل البيازين - كما ذكرنا بتحريض من دعاة أبي عبد الله وأمّه الأميرة عائشة - والتفَّ معظم الشعب الغرناطي حول أميره أبي عبد الله الزغل، واستمرت المعارك سجالاً بين الفريقين مدى أشهر، وفي أثناء ذلك استولى النصارى على لوشة وعلى كثير من الحصون الشمالية الغربية. وسار أبو عبد الله بعد سقوط لوشة مع ملك قشتالة، ولم يمض سوى قليل حتى عاد إلى الأنحاء الشرقية، إلى منطقة بلش، وأخذ يدبّر خططه. وفي أوائل شوال (891 هـ - أيلول - سبتمبر 1486 م) غادر أبو عبد الله محمد الأنحاء الشرقية، وظهر فجأة في ربض البيازين. واجتمع حوله أنصاره من الثوار، وأذاع أنه عقد الصلح مع النصارى، وأمدّه حليفه فرديناند بالرجال والعُدد والذخائر والمؤن، ومنها الأنفاط (3)، فزادت الفتنة اضطراماً. وشدَّد أبو عبد الله الزغل الضغط على أهل البيازين، وبينما هو على وشك تمزيقهم وإبادتهم، إذ بلغه أن ملك قشتالة قد سيَّر قواته على مدينة بلش مالقة ( Velez Malaga) وذلك في (ربيع الثاني سنة 892 هـ - آذار - مارس 1487 م) (4)، وكان من الطبيعي أن ينتهز فرديناند
_______
(1) Sierra Constantina وراجع Prescott; ibid; 223
(2) أخبار العصر (24).
(3) Gaspar Y Remiro ; ibid; P. 42
(4) أخبار العصر (22 - 24) ونفح الطيب (2/ 612).(2/221)
الخامس فرصة اشتغال المسلمين بفتنتهم القاضية، وكانت بلش حصن مالقة، وسقوطها يعرّض مالقة لأشد الأخطار. وأدرك مولاي الزغل في الحال أهمية بلش، فهرع إليها في بعض قواته، وترك البعض الآخر لقتال أبي عبد الله محمد وأهل البيازين. ولكن إقدام الزغل وعزمه وشجاعته، واستبسال أهل بلش في الدفاع عن مدينتهم لم تُغن شيئاً، وسقطت بلش مالقة بيد النصارى في (جمادى الأولى سنة 892 هـ - نيسان - أبريل 1487 م) وعاد الزغل بجنده ميمماً صوب غرناطة. ولكنه علم أثناء مسيره أن غرناطة قامت أثناء غيابه بدعوة أبي عبد الله، وأنه دخلها وتبوأ العرش مكانه (5 جمادى الأولى - 28 نيسان - أبريل). وكان أهل غرناطة يحبّون الزغل، ويقدِّرون بطولته وحبه لوطنه، واستبساله في مقاومة النصارى، ولكنهم تحولوا عنه إلى تأييد أبي عبد الله لمحالفته للنصارى، وأملهم بذلك في اتِّقاء عدوانهم على أرباضهم وقراهم، وصون أنفسهم ومصالحهم، وهكذا أيقن الزغل عبث المحاولة، وارتدّ بصحبه إلى وادي آش، وامتنع فيها بقواته، وبذلك انقسمت مملكة غرناطة الصغيرة إلى شطرين، يتربّص كل منهما بالآخر: غرناطة وأعمالها يحكمها أبو عبد الله محمد بن السلطان أبي الحسن، ووادي آش وأعمالها يحكمها عمّه الأمير محمد بن سعد (أبو عبد الله الزغل). وتحقق بذلك ما كان يبتغيه ملك قشتالة، من تمزيق البقية الباقية من دولة الإسلام بالأندلس، تمهيداً للقضاء عليها (1).
بداية النِّهاية
1 - مع أبي عبد الله محمد ثانيةً
تبوّأ أبو عبد الله محمد بن السلطان علي أبي الحسن عرش غرناطة للمرة
_______
(1) نهاية الأندلس (174 - 200).(2/222)
الثانية، عقب عوده من الأسر بنحو عام، ولكنّه لم يكن يحكم تلك المرة سوى مملكة صغيرة، وكان المفروض فوق ذلك أن يحكمها باسم ملك قشتالة وتحت حمايته، وكانت الخطوب والفتن توالت على مملكة غرناطة قد مزّقتها، ولم يبق منها بيد المسلمين سوى بضع مدن وقواعد متناثرة، مختلفة الرأي والكلمة، ينضوي بعضها تحت لوائه، وتشمل الأنحاء الشمالية والغربية، وينضوي بعضها الآخر تحت لواء عمّه محمد بن سعد (الزغل)، وتشمل الأنحاء الشرقية والجنوبية. وكان واضحاً أن مصير المملكة الإسلامية أصبح يهتزّ بيد القدر، بعد أن نفذت جيوش النصرانية إلى قلبها، واستولت على كثير من قواعدها وحصونها الداخلية، مثل الحامة ورندة ولوشة وبلش مالقة وغيرها. وكان ملك قشتالة يحرص على المضي في تحقيق خططه لسحق البقية الباقية من دول الإسلام في الأندلس، قبل أن يعود إليها اتحاد الكلمة، فيبعث إليها روحاً جديدة من العزم والمقاومة. وكان من الطبيعي أن يُؤثِر البدء بغزو القواعد الشرقية والجنوبية التي يسيطر عليها مولاي الزغل، لأن الزغل لم يكن يدين بطاعته، وكان يبدي في مقاومته عزماً لا يلين ولا يخبو، ولأنه من جهة أخرى يرتبط بأمير غرناطة بصلح يمتد إلى عامين، وقد أراد أن يسبغ على عهوده مسحة غادرة من الوفاء، وأخيراً لأنه كان يريد أن يعزل غرناطة، وأن يطوّقها من كل صوب، قبل أن يسدّد إليها الضربة الأخيرة.
وقد رأينا كيف سقطت قاعدة بلش حصن مالقة من الشرق في يد النصارى، بعد دفاع عنيف (في جمادى الأولى سنة 892 هـ - أيار - مايو 1487 م). وعلى أثر سقوطها غادرها معظم أهلها، وتفرّقوا في أنحاء الأندلس الأخرى الباقية بيد المسلمين، وجاز كثير منهم إلى عدوة المغرب، واستولى النصارى على جميع الحصون والقرى المجاورة، ومنها حصن قمارش وحصن مونتميور، واستطاعوا بذلك أن يشرفوا على مالقة من كل صوب. وكانت مالقة ما تزال أمنع ثغور الأندلس، وقد أضحت بعد سقوط(2/223)
جبل طارق عِقْد صلتها الأخيرة بعدوة المغرب، وكان فرديناند يحرص على أن يقطع كل وسيلة ناجعة لقدوم الإمداد من إفريقية وقت الصراع الأخير، وكان الاستيلاء على مالقة يحقق هذه الغاية، ومن ثمَّ فإنه ما كاد النصارى يظفرون بالاستيلاء على بلش والحصون المجاورة، حتى زحفوا على مالقة وطوّقوها من البر والبحر بقوات كثيفة، وذلك (في جمادى الثانية سنة 892 هـ - حزيران - يونية 1487 م). وامتنع المسلمون داخل مدينتهم، وكانت تموج بالمدافعين، وعلى رأسهم نخبة ممتازة من أكابر الفرسان، ومعهم بعض الأنفاط والعُدد الثقيلة. وكانت مالقة تدين بالطاعة للأمير محمد بن سعد (الزغل) صاحب وادي آش، ولكنه لم يستطع أن يسير إلى إنجادها بقواته خوفاً من غدر ابن أخيه أمير غرناطة، فترك مالقة إلى مصيرها وهو يذوب تحسّراً وأسىً. ولكنه فكر في وسيلة أخرى لعلّها تجدي في إنقاذ الأندلس من خطر الفناء الداهم، وهي أن يستغيث بملوك الإسلام لآخر مرة، فأرسل رسلاً إلى أمراء إفريقية وإلى سلطان مصر الأشرف قايتباي. ولم يكن من المنتظر إزاء بعد المسافة أن تصبر مالقة على ضغط النصارى حتى يأتيها المدد المنشود. وكان يتولى الدفاع عن الثغر المحصور جند غمارة وزعيمهم حامد الثّغري. وأبدى المسلمون في الدفاع عن ثغرهم أروع ضروب البسالة والجلد، وحاولوا غير مرّة تحطيم الحصار المضروب عليهم، وفتكوا بالنصارى في بضع مواقع محليّة، ومع ذلك فقد ثابر النصارى على ضغطهم وتشديد نطاقهم، حتى قطعت كل علاقة للمدينة المحصورة مع الخارج، ومنعت عنها سائر الإمداد والأقوات، وعانى المسلمون داخل مدينتهم أهوال الحصار المروّع، واستنفدوا كل ما وصلت إليه أيديهم من الأقوات، وأكلوا الجلود وأوراق الشجر، وفتك بهم الجوع والإعياء والمرض، ومات كثيرون من أنجاد فرسانهم، ولم يجدوا لهم في النهاية ملاذاً سوى التسليم، على أن يؤمِّنوا على أنفسهم وأموالهم. وهكذا سقطت مالقة - بعد دفاع مجيد استمر ثلاثة أشهر - في أيدي النصارى، وذلك (في أواخر شعبان 892 هـ - 18 آب(2/224)
- أغسطس 1487 م). ولم يحافظ فرديناند على ما بذله لأهلها من عهود لتأمين النفس والمال، وأصدر قراراً ملكياً باعتبار أهلها المسلمين رقيقاً يجب عليهم افتداء أنفسهم ومتعهم. ويفرض على كل مسلم أو مسلمة مهما كان السن والظروف، الأحرار منهم والعبيد الذين في خدمتهم، فدية للنفس والمتاع، قدرها ثلاثون دوبلاً من الذهب الوازن اثنين وعشرين قيراطاً، أو ما يوازي هذا القدر من الذهب والفضة واللآلئ والحلي والحرير، وأنه يسمح لمن أدّوا هذه الفدية، إذا شاءوا بالعبور إلى المغرب، وتقدّم لهم السفن لنقلهم، وأنه لا يسمح للمسلمين ذكوراً وإناثاً بالعيش أو الإقامة في مملكة غرناطة. ولكن يسمح لهم أن يعيشوا أحراراً آمنين في أية ناحية من نواحي قشتالة، وأنه لا يتمتع بهذه المنح بنو الثغري وزوجاتهم وأولادهم، وبعض أفراد أشار إليهم القرار (1). ودخل النصارى المدينة دخول الفاتحين، وعاثوا فيها وسَبَوْا النساء والأطفال، ونهبوا الأموال والمتاع، وفرّ مَن استطاع من المسلمين إلى غرناطة أو وادي آش أو جاز إلى العدوة. وكان هذا النموذج من التصرف نموذجاً لما يضمره ملك النصارى نحو معاملة المسلمين المغلوبين، ولِما تنطوي عليه سياسته من نكث للوعود والعهود. وتقول الرواية الإسلامية المعاصرة في وصف محنة أهل مالقة: "وكان مصابهم مصاباً عظيماً تحزن له القلوب، وتذهل له النفوس، وتبكي لمصابهم العيون" (2).
ولنعد لقصة السفارات التي أوفدها أبو عبد الله الزغل إلى ملوك إفريقية ومصر والقسطنطينية يستغيث بهم، ويلتمس نجدتهم ونصرتهم. والتجاء الأندلس إلى ملوك العدوة في طلب الغوث والنجدة أمر طبيعي، وتقليد
_______
(1) هذا ما ورد ضمن محفوظة بدار المحفوظات الإسبانية العامة Archivo general de Simancas; P. R. 11-5
(2) أخبار العصر (27 - 28).(2/225)
أندلسي قديم، ولكن دول المغرب كانت يومئذ في ضعف وتفرّق، لم تكن في استطاعتها أن تهرع إلى إنجاد الأندلس، كما فعلت في الماضي غير مرّة. ولم يُلب نداء مولاي الزغل، سوى شراذم ضئيلة من المجاهدين المتطوعين، جازت البحر إلى الأندلس.
وأما استغاثة الأندلس بمصر، فلم تقع إلاّ في عهد متأخر، وذلك حينما ضعف أمر بني مرين ملوك العدوة الأقوياء، وانقطعوا عن العبور إلى الأندلس، وشغلوا بأمر الدفاع عن أنفسهم. وقد بعث السلطان أبو عبد الله الأيسر سفارة إلى مصر سنة (844 هـ - 1440 م) لم تسفر عن أية نتائج عملية. على أنه لم يكن ثمة ريب في أن الحوادث الأندلسية المفجعة، كانت قد ذاعت يومئذ في أنحاء العالم الإسلامي، واهتزّ لمصابها حكام المسلمين قاطبة، وكان صداها يتردد في بلاط القاهرة وغيره، وكان أمراء الأندلس وزعماؤها مذ لاح لهم شبح الخطر الداهم، يتّجهون بأبصارهم إلى دول المغرب والمشرق معاً، وكانت كتبهم ونداءاتهم في تلك الآونة العصيبة تترى على مراكش والقاهرة والقسطنطينية. وفي مصادر العصر ما يدل على أن مصر كانت بنوع خاص تتابع حوادث الأندلس باهتمام وجزع، فإن ابن إياس مؤرخ مصر في ذلك العصر، لم يفته أن يدوِّن في حولياته هذه الحوادث تباعاً، فيقول في حوادث ذي الحجة سنة (886 هـ - 1481 م): "وفيه جاءت الأخبار من بلاد الغرب أن أبا عبد الله محمد بن أبي الحسن بن علي ابن سعد بن الأحمر، قد ثار على أبيه الغالب بالله صاحب غرناطة وملكها من أبيه، وجرت بينهما أمور يطول شرحها، وآل الأمر بعد ذلك إلى خروج الأندلس عن المسلمين، ومَلَكَها الفرنج، والأمر لله في ذلك". وفي حوادث رجب سنة (890 هـ - 1485 م): "وفي رجب جاءت الأخبار بوفاة ملك الأندلس صاحب غرناطة، وهو الغالب بالله أبو الحسن". وفي حوادث جمادى الآخرة سنة (891 هـ - 1486 م): "إن صاحب غرناطة أبا عبد الله توجه إلى عمه أن يرسل له نجدة تعينه في قتال صاحب قشتالة، وإن الفتن هناك قائمة،(2/226)
والأمر لله" (1). وهكذا كانت حوادث الأندلس تتردد رغم بعد المسافة وصعوبة المواصلات في مصر، ويدوّنها مؤرخ مصر المعاصر، وإن كان في إيرادها ما تنقصه الدقة والوضوح. وكانت مصر ترتبط يومئذٍ مع ثغور الأندلس ولا سيما مالقة وألمرية بعلائق تجارية وثيقة، وكان لمصر هيبتها بين دول النصرانية منذ الحروب الصليبية، وبالأخص لأنها تحكم البقاع النصرانية المقدسة وبين رعاياها الملايين من النصارى. ولم يكن غريباً في تلك الآونة، أن تُفكّر الأندلس إبّان محنتها القاسية مرة أخرى، في الاستعانة بمصر، بعد أن رأت قصور الدول المغربية عن إنجادها. وكان من الطبيعي أن تهتم دول الإسلام بمصير المسلمين في الأندلس، وأن تفكّر في التماس السبيل إلى غوثهم إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً. ولا تشير المصادر الإسلامية إلى فكرة أو سياسة معيّنة، وضعتها أو اعتزمتها الدول الإسلامية لتحقيق هذه الغاية، ولكنها تشير فقط إلى سفارة أندلسية وفدت على بلاط مصر. على أن المصادر الغربية، تشير بالعكس إلى أن خطة كهذه قد وضعت ونظمت، وخلاصتها: أن المشرق كله اهتزّ لحوادث الأندلس وسقوط قواعدها السريع في يد النصارى، وأن بايزيد الثاني سلطان العثمانيين والأشرف قايتباي سلطان مصر، تهادنا مؤقتاً بالرغم مما كان بينهما من خصومات مضطرمة وحروب دموية، وعقدا محالفة لإنجاد الأندلس وإنقاذ دولة الإسلام فيها، ووضعا لذلك خطة مشتركة خلاصتها: أن يرسل بايزيد الثاني أسطولاً قوياً لغزو صقلية التي كانت يومئذ من أملاك إسبانيا، ليشغل بذلك اهتمام فرديناند وإيزابيلا، وأن تبعث سرايا كثيرة من الجند من مصر وإفريقية تجوز البحر إلى الأندلس لتنجد جيوشها وقواعدها (2). ومن الصعب أن نعتقد بأن مثل هذه الخطة الموحّدة، يمكن أن يتّفق عليها بين مصر والقسطنطينية، في مثل الظروف التي كانت تمرّ بها علائق البلدين يومئذٍ، فقد كانت علائق جفاء
_______
(1) أنظر ابن إياس - تاريخ مصر (بولاق) - (2/ 216 و 230 و 237).
(2) أنظر: Irving: Conquest of Granada , P. 172(2/227)
وقطيعة، وكان العثمانيون يتربصون بمصر ويطمحون إلى غزوها، وكانت مصر تخشى العدوان ويسودها التوجّس والحذر، وكان انفصام العلائق بين مصر والعثمانيين على هذا النحو، أبعد من أن يسمح بعقد مثل هذا التحالف بينهما، وكل ما يمكن قوله في هذا الشأن، هو أن فكرة إنجاد الأندلس كانت تلقى في بلاط القاهرة والقسطنطينية نفس العطف، وإن لم يتفاهما في ذلك على خطة موحدّة.
وعلى كل حال، فمن المحقق الذي لا ريب فيه أن مصر تلقت استغاثة الأندلس، ووضعت خطة سياسية خاصة لإسعافها وإنجادها. وقد وصلت سفارة الأندلس إلى مصر في أواخر سنة (892 هـ - 1487 م)، ويصف ابن إياس هذه السفارة بما يأتي: "وفي ذي القعدة من سنة (892 هـ) جاء قاصد من عند ملك المغرب صاحب الأندلس، وعلى يده مكاتبة من مُرْسِلِه تتضمن أن السلطان يرسل له تجريدة تعينه على قتال الفرنج، فإنهم أشرفوا على أخذ غرناطة، وهو في المحاصرة معهم، فلما سمع السلطان ذلك، اقتضى رأيه أن يبعث إلى القسوس الذين بالقيامة التي بالقدس بأن يرسلوا كتاباً على يد قسيس من أعيانهم، إلى ملك الفرنج صاحب نابولي، بأن يكاتب صاحب إشبيلية بأن يحل عن أهل غرناطة ويرحل عنهم، وإلاّ يشوّش السلطان على أهل القيامة، ويقبض على أعيانهم، ويمنع جميع طوائف الفرنج من الدخول إلى القيامة ويهدمها، فأرسلوا قاصدهم وعلى يده كتاب إلى صاحب نابولي كما أشار السلطان، فلم يفد ذلك شيئاً، وملك الفرنج مدينة غرناطة فيما بعد" (1). وفي رواية ابن إياس شيء من اللّبس، ذلك أن حصار النصارى الأخير لغرناطة، لم يبدأ إلاّ في مارس سنة (1491 م) الموافق جمادى الثانية سنة (896 هـ)، فالأمر لم يكن متعلّقاً إذاً بإنقاذ غرناطة. وكانت جيوش فرديناند وإيزابيلا منذ بداية سنة (892 هـ) تتدفق كما رأينا على أراضي مولاي الزغل لكي تنتزع منه
_______
(1) تاريخ مصر (2/ 246).(2/228)
الثغور الجنوبية. وقد استولت على بلش مالقة في جمادى الأولى من هذا العام (أيار - مايو - 1487 م)، ثم زحفت مباشرة على مالقة وضربت حولها الحصار في جمادى الثانية (حزيران - يونيه 1487 م)، وقد وصل صريخ الأندلس إلى مصر سنة (892 هـ)، وذلك بعد أن سقطت مالقة في يد النصارى بنحو ثلاثة أشهر. وإذاً فمن الواضح أن هذا الصريخ كان متعلّقاً بإنقاذ مالقة، وأنه كان صادراً من مولاي الزغل بطل الأندلس والمدافع عنها يومئذٍ، والمشفق عليها من السقوط، ولم يصدر من صاحب غرناطة وهو ابن أخيه أبو عبد الله محمد، وقد كان يومئذٍ يعيش آمناً في ظل الهدنة الغادرة التي عقدها مع النصارى.
ولم يكن من الميسور على مصر أن تلبي نداء الأندلس بطريقة فعالة، فترسل إليها الإمداد أو المساعدات المادية على ما بينهما من بعد الشقة، وعلى ما كان يشغل مصر يومئذٍ من الحوادث الداخلية، وتوجّسها من عدوان العثمانيين على حدودها الشمالية. ولكن مصر حاولت مع ذلك أن تعاون الأندلس بالطرق السياسية والضغط السياسي، وسلك بلاط القاهرة في ذلك خطة تدل على ذكاء وحزم، وتدل خاصة على وقوف على مجرى الشئون الخارجية، وتطور العلائق الدبلوماسية في هذا العصر (1).
وأرى أن مصر لم تقم بواجبها كما ينبغي، وأنها أسوة بغيرها كانت مشغولة بمصالحها الذاتية وحدها، وكان بالإمكان أن تعين الأندلسيين مادياً ومعنوياً، ولكنها اكتفت بالتمني وبما لا يضر ولا يفيد وبالكلام وحده.
فقد أجاب سلطان مصر الملك الأشرف على سفارة الأندلس، بتوجيه سفارة مصرية إلى البابا وملوك النصرانية، واختار لأدائها راهبين من رعاياه النصارى، أحدهما القس انطونيو ميلان رئيس دير القديس فرنسيس في بيت المقدس وعهد إليهما بكتب إلى البابا، وهو يومئذ إنوصان الثامن، وإلى ملك
_______
(1) نهاية الأندلس (206).(2/229)
نابولي فرديناند الأول وإلى فرديناند وإيزابيلا ملكي قشتالة وأراغون. وفي هذه الكتب يعاتب سلطان مصر ملوك النصارى على ما ينزل بأبناء دينه المسلمين في مملكة غرناطة، وعلى توالي الاعتداء عليهم، وغزو أراضيهم، وسفك دمائهم، في حين أن رعاياه النصارى في مصر وبيت المقدس، وهم ملايين، يتمتّعون بجميع الحريات والحمايات، آمنين على أنفسهم وعقائدهم وأملاكهم. ولهذا فهو يطلب إلى ملك قشتالة وأراغون الكف عن هذا الاعتداء، والرحيل عن أراضي المسلمين، وعدم التعرض لهم، وردّ ما أخذ من أراضيهم، ويطلب من البابا وملك نابولي أن يتدخلا لدى ملكي قشتالة وأراغون، لردهما عن إيذاء المسلمين والبطش بهم، هذا وإلاّ فإن ملك مصر سوف يضطر إزاء هذا العدوان أن يتبع نحو رعاياه النصارى سياسة التنكيل والقصاص، ويبطش بكبار الأحبار في بيت المقدس، ويمنع دخول النصارى كافة إلى الأراضي المقدسة، بل ويهدم قبر المسيح ذاته وكل الأديار والمعابد والآثار النصرانية المقدسة (1).
وغادر القس أنطونيو ميلان وزميله الديار المصرية، لتأدية سفارة مصر إلى ملوك النصرانية، ولسنا نعرف موعد هذا الرحيل بالضبط، ولكن السفيرين وصلا إلى إسبانيا في خريف سنة (1489 م)، أعني لنحو عام ونصف من وصول صريخ الأندلس إلى القاهرة. وكانت مالقة قد سقطت بيد النصارى منذ عامين، واستولوا على طائفة أخرى من الحصون والقواعد، ثم تحولوا بعد ذلك إلى بسطة وضرب فرديناند حولها الحصار. وهناك أمام أسوار بسطة وفد القس أنطونيو ميلان وزميله إلى معسكر النصارى في أواخر سنة (1489 م)، فاستقبلهما فرديناند بحفاوة وترحاب، وتسلم كتاب السلطان،
_______
(1) ابن إياس في تاريخ مصر (3/ 246)، وأنظر Prescott: Ferdinand and Isabella. P. 278 وأنظر Irving: ibid. P. 227 والظاهر أنّ في رواية ابن إياس عن تأليف سفارة مصر بعض النقص، ولكن ملخصه لمحتويات الكتب السلطانية في منتهى الدقّة.(2/230)
واستمع إلى رسالتهما بعناية. وكان السفيران قد عرّجا في طريقهما على رومة ونابولي أولاً، وقدّما كُتُبَ السلطان إلى البابا إنوصان الثامن وإلى ملك نابولي، فكتب البابا إلى فرديناند وإيزابيلا يسألهما عما يجيب به على مطالب السلطان ووعيده، وكتب ملك نابولي (فرديناند الأول) إليهما يستفهم عن سير الحرب الأندلسية، ويلومهما على اضطهاد المسلمين، وينصح بالكفّ عنهم، حتى لا يتعرض نصارى المشرق إلى قصاص السلطان. ويرجع تدخل ملك نابولي على هذا النحو إلى خلاف بينه وبين ملك أرغون على حقوق عرش نابولي، وإلى تخوّفه من أن يرتد فرديناند إلى محاربته متى تمَّ ظفره بما تبقى للمسلمين في الأندلس. ثم زار القسّان أيضاً مدينة جيّان حيث كانت الملكة إيزابيلا، وأبلغاها موضوع سفارتهما، ولقيا منها نفس الحفاوة والترحاب (1).
ولم ير فرديناند وإيزابيلا في مطالب السلطان ووعيده ما يحملهما على تغيير خطتهما، في الوقت الذي أخذت فيه قواعد الأندلس الباقية تسقط تباعاً في أيديهما، واقترب فيه النصر النهائي، ولكنّهما رأيا مع ذلك إجابة السلطان، فكتبا إليه في أدب ومجاملة: "إنهما لا يفرِّقان في المعاملة بين رعاياهما المسلمين والنصارى، ولكنهما لا يستطيعان صبراً على ترك أرض الآباء والأجداد في يد الأجانب، وأن المسلمين إذا شاءوا حياة في ظلّ حكمهما راضين مخلصين، فإنهم سوف يلقون منهما، نفس ما يلقاه الرعايا الآخرون من الرعاية"، وبذا ارتد القسّان إلى المشرق، يحملان جواب الملكين إلى السلطان، ومعهما طائفة من التحف والهدايا.
ومن الواضح، أن وعيد سلطان مصر كان كاذباً، كما أن جواب الملكين له كان كاذباً أيضاً، لا يصدقه كاتبه ولا غيره، في الوقت الذي كان المسلمون في الأندلس يعانون الهول من النصارى، دون أن يتجاوب المسلمون الآخرون معهم إلاّ بالتظاهر وضياع الوقت سدىً والكذب والزور.
_______
(1) Prescott: ibid; P. 278 وأنظر Irving: ibid; P. 258(2/231)
ولسنا نعرف ما كان مصير رسالة الملكين، ونرجّح أنها وصلت إلى بلاط القاهرة، وإن كنا لا نلمس لها أثراً في حوادث العصر. وليس في تصرّفات حكومة مصر يومئذ ما يدل على أن السلطان نفّذ وعيده، باتخاذ إجراءات معينّة ضد النصارى، أو ضدّ الآثار النصرانية المقدسة، فقد كان وعيد السلطان وعيداً فارغاً، ولو علم ملكا النصارى في إسبانيا أن وعيده حق، لتغيّر الموقف برمته، كما تغير موقف هرقل ملك الروم حين هدّده عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأنه إذا لم يُعد نصارى تغلب الذين هاجروا إلى الروم، فإنه سيخرج النصارى من بلاد المسلمين، فانصاع هرقل لوعيد عمر بن الخطاب لأنه يعلم أنه صادق، ولم ينصع الملكان لوعيد سلطان مصر، لأنهما يعلمان أن وعيده كاذب. والواقع أن القاهرة كانت مشغولة يومذاك بحركات بايزيد الثاني، وصدّ غاراته المتكررة على الحدود الشمالية. وكان الاضطراب من جهة أخرى يسود شئون مصر الداخلية، ومن ثمّ فإن محاولة مصر إنقاذ الأندلس قد وقفت عند هذا الحد: كلام في كلام، ولم تقم مصر بمظاهرة دولية لاستغلال الظروف والمؤثرات الدينية، فاخفقت محاولة مصر السياسية، وتركت الأندلس إلى قضائها المحتوم.
وكان سقوط مالقة أمنع الثغور الأندلسية في يد النصارى ضربة أليمة للمملكة الإسلامية الممزّقة، يحرمها من كثير من ضروب الإمداد والغوث التي كانت تأتيها من وراء البحر، وكان واضحاً أن ملك قشتالة كان يرمي إلى قطع هذا الإمداد بكل الوسائل. ولم يكن باقياً بعد ضياع جبل طارق ومالقة من الثغور بيد المسلمين سوى ألمرية والمنكب، وإليهما كانت تفد جموع المتطوعة والمجاهدين، بالرغم من بعدهما عن شاطئ العدوة، وكان لابد من الاستيلاء عليهما قبل أن تقطع كل صلة للأندلس نهائياً بعدوة المغرب وشمالي إفريقية. وقضى فرديناند قبل تنفيذ هذه الخطة زهاء عام، يعمل على تطهير منطقة مالقة والاستيلاء على ما بقي من الحصون الشرقية والغربية، حتى استولى عليها جميعاً، ولم يبق منها بيد المسلمين شىء.(2/232)
وفي ربيع سنة (893 هـ - 1488 م) زحف فرديناند على أطراف مملكة غرناطة الشرقية، وكانت لبعدها عن العاصمة أقل استعداداً للدفاع، واستولت هذه الحملة باستيلاء النصارى على بيرة، والبلشين، وأشكر (1) وغيرها من القواعد الشمالية الشرقية، وذلك بالرغم من أن أهلها كانوا داخلين في الصلح المعقود مع أبي عبد الله، وكان على ملك قشتالة لو أنه أوفى بعهوده، أن يتركهم حتى ينتهي أمد الصلح المذكور (2)، وهناك عهد أصدره الملكان الكاثوليكيان لأهل أشكر، هو نموذج لباقي العهود التي صدرت لباقي البلاد المستولى عليها في هذه المنطقة، وفيه يتعهد الملكان بقبول أهل أشكر بين رعاياهما وتحت حمايتهما، وأن لا يؤخذ شيء من أمتعتهم أو يصيبهم أي مكروه، وألاّ يدفعوا من الضرائب إلاّ ما كانوا يؤدونه لملوكهم المسلمين، وألاّ يرغموا على محاربة إخوانهم مسلمي غرناطة، وأن يسمح لهم باستبقاء زعمائهم وفقهائهم وعوائدهم وشريعتهم، وأن يحق لهم الإقامة في أي جزء من مملكة قشتالة، كما يحق لهم العبور إلى المغرب أحراراً دون أي قيد، وأن يعامل السكان جميعاً ذكوراً وأناثاً بالرفق والكرامة، وألاّ يغصبهم أحد في دورهم أو يسيء إليهم أو يتلف شيئاً من أمتعتهم ومحاصيلهم، وألاّ يعاشر نصراني مسلمة، أو مسلم نصرانية، ومن فعل ذلك يعاقب بالموت وتصادر أملاكه، وأن يُدفع الكراء العادل لمن يطلب منهم العمل في بناء حصن المدينة (3)، وسنرى فيما يلي من الحوادث أن الملكين الكاثوليكيين يغدقان أمثال هذه العهود لسائر البلاد المُستولى عليها، ولكن دون أيّة نية صادقة في
_______
(1) بيرة، وفي الإسبانية: ( Vera) تقع شمال شرقي ألمرية على مقربة من البحر الأبيض المتوسط، والبلشان هي بلش الحسناء ( Velez Rubio) ، وبلش البيضاء ( Velez Blanco) ، وهما تقعان شمال شرقي مدينة بسطة ( Baza) ، وأشكر هي بالإسبانية ( Huescar) تقع شمال غربي البلشين.
(2) Gaspar Y Remiro ; ibid; P. 43.
(3) تحفظ هذه الوثيقة ببلدية أشكر، أنظر مجموعة: Documentos Ineditos Para la Historia de Espana. vol. V111, P. 170-175.(2/233)
الوفاء بها، بالعكس فالنية هي الغدر، وويل للمغلوب.
وفي الوقت الذي اقتربت فيه القوات القشتالية من مدينة بسطة، أمنع قاعدة في ولايات غرناطة الشرقية، لتضرب حولها الحصار، سار فرديناند في بعض قواته إلى ثغر المنكب (1)، الواقع في منتصف المسافة بين مالقة وألمرية، وحاصره، وكان يدافع عنه القائد محمد بن الحاج. ومع أنه لم يك ثمة شك في النتيجة المحتومة، فقد دافع المسلمون عن ثغرهم، واعتصموا به نحو ثلاثة أشهر، وكبدوا القشتاليين بعض الخسائر. ثم وقعت المفاوضات في التسليم، وأصدر الملكان الكاثوليكيان للقائد ابن الحاج ومعاونه الفقيه أبي عبد الله الزليخي، عهداً خلاصته: أنه إذا سلّم القصبة وكل حصونها في ظرف تسعة أيام، فإنه يُقْبَلُ هو وولده وصحبه وقرباه، كما يُقبل الوزراء والقواد والفقهاء وسائر أهل المنكب بين رعايا قشتالة، وأنهم يُتركون آمنين في ديارهم وأنفسهم وأموالهم، ويحتكمون إلى شريعتهم، ونترك لهم مساجدهم وصوامعهم، ولا يؤخذ منهم خيلهم أو سلاحهم إلاّ طلقات البارود، وأنه إذا تمّ التسليم في الموعد المذكور، فإنه تُقدّم إلى القائد هبة قدرها ثلاثة آلاف دوبلاً قشتالياً، وأنه إذا شاء العبور إلى المغرب مع ولده وأسرته، فإنه تُقدّم إليه سفينة حسنة للجواز فيها مع سائر متاعه دون كراء أو مغرم، وأنه لا تمسّ أملاك الأهالي، ولهم بيعها أو قبض ريعها إذا عبروا إلى المغرب. وهكذا سلّم ثغر المنكب إلى القشتاليين في شهر (محرم سنة 895 هـ - كانون الأول - ديسمبر سنة 1489 م)، ولم يبق للمسلمين من الثغور سوى ألمرية التي طوّقها العدو في نفس الوقت بقواته، وأصبحت تحت رحمته وشيكة التسليم.
ولما تم قطع علائق الأندلس على هذا النحو مع عدوة المغرب وشمالي إفريقية، بدأ فرديناند بتنفيذ خطته النهائية للقضاء على ما بقي في الداخل من المملكة الإسلامية. وكانت مملكة غرناطة قد انقسمت كما رأينا إلى شطرين:
_______
(1) المنكب: وهي بالإسبانية ( Almunecar) .(2/234)
الأنحاء الشرقية وتشمل وادي آش وأعمالها، ويحكمها الأمير أبو عبد الله محمد بن علي، فقرر فرديناند أن يبدأ بالاستيلاء على الأنحاء الشرقية، وأن يقضي أولاً على السلطان أبي عبد الله الزغل لما كان يخشاه من عزمه وشديد بأسه. فما كاد ينتهي من إخضاع ثغر المنكب وتطويق ثغر ألمرية، حتى قرر تضييق الخناق على مدينة بسطة، وكانت قواته تطوّقها حسبما تقدم، وكانت الملكة إيزابيلا مع حاشيتها في جيَّان على مقربة من الجيش الغازي، وكانت بسطة أهمّ القواعد التي يسيطر عليها مولاي الزغل بعد وادي آش مقرّ حكمه. ولم يستطع الزّغل مغادرة مقرّ حكمه في وادي آش للدفاع عن بسطة، خشية أن يهاجمه ابن أخيه أبو عبد الله في غيبته فأرسل إليها حامية مختارة من أنجاد الفرسان بقيادة صهره الأمير يحيى النيار الذي تعرّفه التواريخ القشتالية: (بسيدي يحيى). وحاول القشتاليون الإطباق على بسطة ومحاصرتها، فردّهم المسلمون عن أسوارها غير مرّة، ونشبت بين الفريقين خارج الأسوار عدة معارك حامية مُنِي فيها النصارى بخسائر فادحة. ومع أن النصارى بدأوا هجومهم على بسطة في (شهر رجب سنة 894 هـ - حزيران - يونيه 1489 م)، فإنهم لم يستطيعوا تطويقها ومحاصرتها بصورة فعلية إلاّ بعد ثلاث أشهر وهنا امتنع المسلمون داخل المدينة بعد أن أثخنوا في عدوِّهم غير مرة، واستنفدوا قواتهم المدّخرة. وضيَّق النصارى الحصار على بسطة لمدة ثلاثة أشهر أخرى، حتى ضاق أهلها بالحصار ذرعاً. وقلَّت الأقوات واشتد الكرب. ولما رأى المسلمون أنه لم يبق في الدفاع ثمة أمل، وقد نفدت المؤن، وفتك الجوع والمرض بالعامة، اعتزموا مفاوضة القشتاليين في التسليم. وبالرغم مما أبداه زعيمهم يحيى النيار في البداية من براعة في تنظيم الدفاع عن بسطة وألمرية، وبالرغم من ما أبداه من بسالة في المعارك التي نشبت ضد القشتاليين، فإنه في النهاية رأى أن يترك هذا الصراع اليائس، وأن يفوز من المعركة بأحسن مما يستطيع لنفسه وذويه. وهذه هي الوثيقة السرية التي عقدها القائد يحيى مع مندوب الملك فرديناند الدون جوتييري دي(2/235)
كارديناس، تعرض لنا بمحتوياتها المثيرة صورة من ذلك الدرك المؤلم الذي يدفع اليأس إليه أولئك القادة الذين يغدون بعد حياة حافلة بالإخلاص والبسالة، تحت إغراء العدو وهباته، خونة مارقين مرتدين. وقد حُرّرت هذه الوثيقة في المعسكر الملكي قرب مدينة ألمرية في (25 كانون الثاني - ديسمبر 1489 م)، وفيها يؤكد فرديناند للقائد يحيى النيار زعيم بسطة وألمرية بأنه سوف يستقبله تحت حمايته هو وولده وأبناء عمه، وينزلهم في داره، ويعاملهم بما يليق بهم معاملة أشراف مملكته، ويدافع عنهم وعن أتباعهم، ثم يقول ملك قشتالة مخاطباً يحيى: "وإنه إذا صحّت عزيمتكم حقاً على اعتناق النصرانية، وعلى أن تخدمني وتعاونني برجالك، فإني سوف أكتم ذلك طول مدة السيطرة على بسطة، حتى لا يتقوّل عليك رجالك، ولهذا فإنك تستقبل التعميد المقدس سراً في غرفتي، حتى لا يعرفه المسلمون إلاّ بعد تسليم وادي آش، وإن الكروم والقرى والحصون التي تؤول لك بالميراث عن والدك أمير ألمرية، أهبها لك لتملكها وتتصرف فيها كما تشاء، وعهدي لك بذلك أنا والملكة زوجي. وأنه لن تدفع أنت وابنك وأبناء عمك وأعقابك وحشمك أي مغرم أو جزية في سائر مملكتي إلى الأبد، وإنه تشريفاً لشخصك، يُسمح لك بأن يصحبك عشرون فارساً مسلّحون بكل ما يرغبون، وأن تتجول بهم حيث شئت في أنحاء مملكتي، ويتمتع ولدك بمثل ذلك. وإنه إذا تنازل صهرك ملك وادي آش عن نصف الملاحات التي أهبها إليه، فإني أهبك دخلاً قدره خمسمائة وخمسون ألف مرافيدي من ملاحات دلاية، وفضلاً عن ذلك فإنه إذا تم تسليم وادي آش المتفق عليه، فإني مكافأة لك على جهودك في خدمتي لدى ملك وادي آش وغيره من القادة، أهبك عشرة آلاف ريال، وأقدم لك سائر البراءات بما تقدم" (1).
وتعهد الملكان الكاثوليكيان في نفس الوقت لأهل بسطة، بإقرار ما طلبوا
_______
(1) Archivo General de Simancas ; P. R. 11-11.(2/236)
من الشروط، وفي مقدمتها: أن يؤمنوا في النفس والمال، وأن يحتفظوا بدينهم وشريعتهم وعوائدهم. وهكذا سلّمت بسطة، ودخلها النصارى في (العاشر من محرم 895 هـ - أوائل كانون الأول - ديسمبر 1489 م) وغادرها معظم أهلها إلى وادي آش، حاملين ما استطاعوا من أمتعتهم وأموالهم، وهرعت جميع الحصون والمحلات القريبة إلى التسليم والدخول في طاعة ملك النصارى، وسلّمت ألمرية بعد ذلك بقليل (ربيع الأول - شباط - فبراير 1490 م)، ومنحت للتسليم شروطاً خلاصتها: أن يحتفظ المسلمون بدينهم وشريعتهم وأموالهم، وأن تخفّف عنهم أعباء الضرائب، وألا يولّى عليهم يهودي، وألاّ يدخل في "الجماعة"، وأن يختار الأولاد الذين يولدون من أمهات من النصارى لأنفسهم الدين الذي يريدون عند البلوغ، وغير ذلك من المنح المغرية الخادعة التي بذلت لسائر البلاد المسلمة المستولى عليها. وهكذا بسط فرديناند سلطانه على قواعد الأندلس الشرقية كلها من البحر إلى الشمال، ولم يبق خارجاً عن طاعته غير وادي آش مقر مولاي الزغل.
ولم تمض أسابيع قلائل، حتى أثمرت خيانة يحيى النيار ثمرتها لدى صهره أبي عبد الله الزغل، فسارع بدوره إلى الانضواء تحت لواء النصارى، وكان الزغل منذ التجأ إلى وادي آش، يرقب سير الحوادث بجزع، ويرى قواعد الأندلس تسقط بالتعاقب، دون أن ينجدها منجد، ويرى أمل الإنقاذ يخبو تباعاً. فلما سقطت بسطة آخر القواعد التي يسيطر عليها، واتجه النصارى نحو آش معقله الوحيد الباقي، ورأى بالرغم من شجاعته وبسالته أنه يغالب المستحيل، وأن جيوش النصارى تحيط به من كل صوب، اعتزم أمره، وسار إلى معسكر ملك النصارى يعرض عليه طاعته، والانضواء تحت لوائه، فأجاب فرديناند إلى مطالبه، وبايعه الزغل وسائر قادته بالخضوع والطاعة، ودخل النصارى مدينة وادي آش (في أوائل صفر سنة 895 هـ - 30 كانون الأول ديسمبر 1489 م). وعقد الزغل مع ملكي قشتالة معاهدة سرية على غرار المعاهدة التي عقدها صهره يحيى، ونصّ فيها على طائفة من المنح(2/237)
والامتيازات، خلاصتها أن يستقر الزغل سيداً في مدينة أنْدَراش وما إليها، وأن يكون له ألفا تابع من بني وطنه، وأن يمنح معاشاً سنوياً كبيراً، وأن يمنح دخل نصف ملاحات مدينة الملاحة، وأن يرسل في استحضار أبنائه الأمراء من غرناطة نظراً لخصومته مع ملكها، وأن تكون جميع أملاكه وأملاك ذويه في غرناطة حرّة من كل حق ومغرم، وأن تكون هذه العهود ملزمة لملكي قشتالة ولعقبهما من بعدهما، وأخيراً أن يوافق البابا على هذه العهود (1). بيد أنه لم يمضِ قليل على ذلك، حتى شعر مولاي الزغل أنه يستحيل عليه الاستمرار في ذلك الوضع المهين، فنزل لفرديناند عن حقوقه وامتيازاته لقاء مبلغ ضخم، وجاز البحر إلى المغرب، ونزل في وهران أولاً، ثم انتقل إلى تلمسان، واستمرّ يقضي بها بقية حياته في غمرات من الحسرات والندم، ولبث عقبه هناك قروناً يُعرَفون ببني سلطان الأندلس، وجاز معه كثيرون من الكبراء الذين أيقنوا أن نهاية الإسلام في الأندلس قد غدت قضاءً محتوماً (2).
وقد نقل إلينا صاحب أخبار العصر، رواية مفادها أن تسليم مولاي الزغل لملك قشتالة، كان نوعاً من الخيانة المقصودة، وأنه تنازل هو وقواده عن البلاد التي كانت تحت أيديهم طوعاً مقابل قبض ثمنها، وذلك لكي ينتقم الزغل من ولد أخيه الأمير أبي عبد الله محمد بن علي صاحب غرناطة، فتصبح بعد خضوع سائر أنحاء الأندلس وحيدة تحت رحمة النصارى، وترغم على التسليم إليهم، وينتهي بذلك إمارة أميرها وحكمه (3)، وهي رواية لا تتفق مع مآثر الزغل من ضروب العزم والبسالة والشهامة والغيرة الإسلامية، التي رأيناها ماثلة خلال معاركه المشرّفة، وإنما استسلم الزغل وخضع، وحاول
_______
(1) Archivo general de Simancas. P. R. 11-12 وأنظر أيضاً: Gaspar Y Remiro; ibid. 48
(2) أخبار العصر (31) ونفح الطيب (2/ 613 - 614)، وأنظر: Prescott, ibid. p. 285.
(3) أخبار العصر (32).(2/238)
إنقاذ ما يمكن إنقاذه، نزولاً على حكم ظروف قاهرة، لم ير إلى مغالبتها سبيلاً (1).
_______
(1) نهاية الأندلس (201 - 214).(2/239)
الصراع الأخير
1 - مع أبي عبد الله محمد أخيراً
لم يبق على ملكي قشتالة وأراغون فرديناند وإيزابيلا، بعد أن دانت لهما سائر الثغور والقواعد الأندلسية الجنوبية والشرقية، لإتمام خطتهما في القضاء على دولة الإسلام بالأندلس، سوى الاستيلاء على غرناطة، آخر القواعد الباقية بيد المسلمين، ولم تكن غرناطة يومئذ مملكة أو دولة، بل كانت رمزاً للدولة الإسلامية الذاهبة فقط، وكانت واسطة عقد تصرّمت سائر حبّاته، وكانت كالمصباح المرتجف يخبو ضوؤه سراعاً، فلم يكن يقتضي إطفاؤه سوى الضربة الأخيرة.
وقد رأى فرديناند وإيزابيلا أن الوقت قد حان لتسديد هذه الضربة، عقب استسلام مولاي الزغل وسقوط وادي آش وبسطة وألمرية. ونحن نعرف أنه على أثر سقوط مدينة لوشة في يد النصارى في (شهر مايس - مايو سنة 1486 م)، وحصول أبي عبد الله في أيدي الملكين الكاثوليكيين للمرة الثانية، عقد أبو عبد الله معهما معاهدة صلح جديدة لمدة عامين، تطبق في غرناطة والبلاد التي تدخل في طاعة أبي عبد الله. وفي ظل هذا الصلح المسموم، دخل أبو عبد الله غرناطة، واسترد العرش ومن ورائه تأييد فرديناند وعونه. ومن الواضح أن فرديناند قد قبض في نصوص هذا الصلح، ثمن التأييد والعون. والظاهر أن هذا الصلح قد تجدد لمدة عامين آخرين، حسبما تدل وثيقة صادرة عن أبي عبد الله نفسه (في المحرم سنة 895 هـ - كانون الأول - ديسمبر 1489 م) وهي عبارة عن خطاب موجه منه إلى قادة وأشياخ بلدة أجيجر، وفيه ينوّه أبو عبد الله بهذا "الصلح السعيد" المعقود لعامين، ويدعو إلى الدخول فيه، وينعي على معارضيه مواقفهم، التي انتهت بسقوط بسطة: "التي أفجعت المسلمين، وفلّت غرب ....................................(2/240)
الدين" (1).
وبالرغم من أننا لا نعرف نصوص هذا الصلح مفصّلة، فإن بعض الروايات القشتالية تذكر لنا أن أبا عبد الله قد تعهد في هذا الصلح بأن يسلم مدينة غرناطة للملكين الكاثوليكيين متى تم تسليم بسطة وألمرية ووادي آش (2). وعلى أي حال ففي فاتحة سنة (1490 م) - أوائل صفر (895 هـ) أرسل الملكان الكاثوليكيان إلى السلطان أبي عبد الله سفارة على يد فارسين هما: كونثالو- فرنانديث قائد حصن إليورة، ومرتين ألاركون قائد حصن موكلين، ليخاطباه في موضوع التسليم (3). وتقول الرواية الإسلامية المعاصرة: إن ملك قشتالة لم يطلب تسليم غرناطة ذاتها، ولكنه اكتفى بأن طلب إلى أبي عبد الله تسليم مدينة الحمراء أو قصور الحمراء مقر الملك والحكم، وأن يبقى مقيماً في غرناطة، في طاعته وتحت حمايته، أسوة بما فعلته سائر نواحي الأندلس (4)، أو أن يقطعه أية مدينة أخرى من مدن الأندلس يختار الإقامة فيها، وأن يمدّه بمال جزيل (5).
فماذا كان جواب أبي عبد الله؟ لقد كان في سابق مواقفه، وممالأته لملك قشتالة، ومحالفته إياه، ودخوله في طاعته، وما يدين له به من تغلّبه على عمّه ومنافسه الزغل، وجلوسه على العرش، ما يحمل الملكين الكاثوليكيين، على توقع استسلامه وخضوعه، ولكن حدث عكس ما توقعه الملكان. ولدينا وثيقة توضح لنا موقف أبي عبد الله في هذه المناسبة، وهي عبارة عن خطاب
_______
(1) نشر هذه الوثيقة جسبار ريميرو في كتابه الذي سبقت الإشارة إليه Documentos Arabes de la Corta Nazan de Granada وقد استخرجها مع وثائق أخرى صادرة عن أبي عبد الله من مجموعة فرناندو دي ثافرا سكرتير الملكين الكاثوليكيين.
(2) Prescott: Ferdenand and Isabella, P. 284.
(3) راجع رواية Fernando de Boeza القشتالية المنشورة بعناية المستشرق ميللر ضمن أخبار العصر (ص: 92).
(4) أخبار العصر (33).
(5) نفح الطيب (2/ 614).(2/241)
صادر منه إلى الملكين الكاثوليكيين، يشير فيه إلى قدوم "القائد غنضال والقائد مرثين" بكتبهما إليه، وأنه أرسل إليهما خديمه "القائد أبا القاسم المليح"، ليحدِّثهما في هذا الموضوع. وبالرغم من اللهجة المهذّبة، المقرونة بعبارات الخضوع والطاعة، التي اختتمت بها الرسالة، فقد كان جواب أبي عبد الله للملكين الكاثوليكيين، رفضاً لما طلباه. وتاريخ هذه الرسالة هو (29 صفر سنة 895 هـ - 22 كانون الثاني - يناير 1490 م) (1). والظاهر أن رسول أبي عبد الله لم ينجح في مهمته، وعاد إلى مليكه ليخبره بإصرار الملكين الكاثوليكيين على طلبهما. وهنا تقول الرواية القشتالية: إن أبا عبد الله اشتدّت دهشته، لإصرار الملكين الكاثوليكيين، واعتزم أن يشهر عليهما الحرب، لولا أن نصحه بعض الأكابر بالروية والتريث. وعلى ذلك فقد أرسل أبو عبد الله وزيره يوسف بن كماشة، ومعه تاجر كبير من سراة غرناطة، له علائق طيبة بالنصارى، يدعى إبراهيم القيسي إلى الملكين الكاثوليكيين في إشبيلية، لإقناعهما بالعدول عن مطلبهما، ولكنهما عادا خائبين، وعلى ذلك فقد استؤنفت الحرب بين المسلمين والنصارى (2).
وهنا نقف قليلاً لنتأمل الموقف الجديد، من جانب أبي عبد الله. لقد كانت الخطوب والمحن التي جازتها الأندلس في تلك الأعوام المليئة بالحوادث الجسام، قد جعلت من أبي عبد الله رجلاً آخر، وكان هذا الأمير الضعيف يرقب سير الحوادث جزعاً، ويستشف من ورائها القدر المحتوم؛ وكان قد تخلص بانسحاب عمّه من الميدان من منافسه القوي، ولكنه فقد في الوقت نفسه أقوى عضد يمكن الاعتماد عليه في الدفاع والمقاومة، وكانت سائر قواعد الأندلس الأخرى قد غدت نهائياً من أملاك دولة قشتالة، وعين لها حكّام من النصارى، وتدجّن أهلها الباقون فيها أو غدوا مدجّنين
_______
(1) نشرت هذه الرسالة ضمن المجموعة الثي نشرها جسبار ريميرو في كتابه السالف الذكر.
(2) راجع رواية: Hernando de Baeza المنشورة في أخبار العصر (ص: 93).(2/242)
( Mudejores) يدينون بطاعة ملك النصارى، وذاعت بها الدعوة النصرانية، وارتد كثير من المسلمين عن دينهم حرصاً على أوطانهم ومصالحهم أو اتقاء الريب والمطاردة، ولكن كثيراً منهم ممن أشفقوا على أنفسهم ودينهم، جازوا البحر إلى المغرب، وهرعت جموع غفيرة منهم إلى غرناطة معقل الإسلام الوحيد الباقي، حتى غدت الحاضرة تموج بسكانها الجدد، وحتى أصبحت تضم بين أسوارها وأرياضها أكثر من أربعمائة ألف نفس. وكانت موجة عامة من اليأس والنقمة تغمر هذه الألوف، التي أوذيت في الأوطان والنفس والولد والمال، دون أن تجني ذنباً أو جريرة، وكانت فكرة التسليم للعدو الباغي أو مهادنته، تلقى استنكاراً عاماً. ولم يكن أبو عبد الله يجهل هذا الاتجاه العام، فلما وفد إليه سفيرا ملكي قشتالة في طلب التسليم ثارت نفسه لهذا الغدر والتجني، وأدرك وربما لأول مرة، فداحة الخطأ الذي ارتكبه في محالفة هذا الملك الغادر، ومعاونته على بني وطنه ودينه. ولما أصرّ فرديناند على تجنيه، جمع أبو عبد الله الكبراء والقادة، فأجمعوا على رفض ما طلبه الملكان النصرانيان، وأعلنوا عزمهم الراسخ على الدفاع حتى الموت عن وطنهم ودينهم (1)، وأبلغ أبو عبد الله ملك قشتالة بأنه لم يعد له القول الفصل في هذا الأمر، وأن الشعب الغرناطي يأبى تسليم أو مهادنة، ويصمم على المقاومة والدفاع (2).
هكذا كان جواب أبي عبد الله لملكي قشتالة، وهكذا حمل الأمير الضعيف بعزم شعبه، من الاستكانة والمهادنة إلى التحدي والمقاومة. وهنا يبدو لنا أبو عبد الله شخصية أخرى تنزع عنها صفات الخور والاستسلام والخضوع الذي يقرب من الخيانة، لتتّشح بثوب من العزة والكرامة، والحميّة الدينية والوطنية. ودوّت غرناطة بصيحة الحرب والجهاد، وخرجت سرايا من المسلمين لتعيث في الأراضي النصرانية القريبة. وفي ربيع سنة (895 هـ -
_______
(1) أخبار العصر (34) ونفح الطيب (2/ 614).
(2) Prescott: ibid; P. 290.(2/243)
1490 م) خرج ملك قشتالة بقواته وهو يضطرم سخطاً، وزحف على بسائط غرناطة، فعاث فيها، وانتسف الزرع واستاق الماشية، وخرّب الضياع والقرى، ووصل في عبثه وتخريبه حتى أسوار الحاضرة ذاتها. وبرز المسلمون لقتاله، وعلى رأسهم أبو عبد الله، ووقعت بين الفريقين في ظاهر غرناطة عدّة ملاحم دموية ارتحل النصارى على أثرها. ولم يستطيعوا الدنو من المدينة (رجب 895 هـ - 1490 م)، وعمد فرديناند حين العودة إلى تحصين بعض الحصون القريبة من غرناطة، مثل برج الملاحة وبرج رومة وغيرهما، وشحنها بالرجال والعدد استعداداً للمعارك القادمة.
وعلى أثر ارتحال القشتاليين، خرج أبو عبد الله في قواته يحاول استرداد بعض الحصون والمراكز القريبة، فاستولى على قرية البذول عنوة، ثم استولى على غيرها من القرى، ودبت في المسلمين في تلك الأنحاء روح جديدة، وثار أهل البشرّات (البشرة) وما حولها على حكامهم النصارى، وثار أهل وادي آش في الوقت نفسه، واضطرموا لما رأوه من وثبة أبي عبد الله وعزمه بنزعة جديدة إلى المقاومة، وبعثوا إليه يطلبون عونه. وسار أبو عبد الله بقواته يريد حصن أندَرَش (1) لما علمه من ثورة المسلمين هناك، وكان عمه محمد بن سعد (الزغل) لا يزال به، فلما سمع بمقدمه خرج مع صحبه إلى ألمرية، وبقي بها إلى أن جاز البحر إلى المغرب كما ذكرنا، واستولى أبو عبد الله على اندرش وغيرها من المحلاّت والحصون القريبة منها (2)، ورتّب فيها حاميات من المسلمين للدفاع عنها (شعبان 895 هـ).
واستمرت هذه المعارك المحليّة سجالاً مدى حين بين المسلمين والنصارى، فاسترد النصارى حصن أندراش لأسابيع قليلة من فقده، وغادره الفرسان المسلمون، إذ كانوا قلّة لم تستطع للعدوّ دفعاً. وفي شهر رمضان من سنة (895 هـ) - (آب - أغسطس 1490 م) خرج أبو عبد الله في قواته إلى قرية
_______
(1) أندرش: Andarax جنوب شرقي غرناطة على مقربة من البحر الأبيض.
(2) أخبار العصر (36 - 37).(2/244)
همدان القريبة (1)، فافتتحها واخترق المسلمون أبراجها الكثيفة، وكانوا يخشون أن تمتنع عليهم لكثافتها، واغتنموا منها مقادير وفيرة من الذخائر والأطعمة، وأسروا من حاميتها نحو مائتين، وعاد المسلمون إلى غرناطة فرحين ظافرين، وغمرت الحاضرة المسلمة موجة من البشر والتفاؤل. وفي أواخر رمضان، خرج أبو عبد الله في قواته يريد افتتاح ثغر المنكب، وإعادة الصلة بين الأندلس وشواطئ المغرب، وهي صلة يعلّق عليها المسلمون أهمية خاصة، ويعتبرونها من أبواب الغوث والإنقاذ، واستولى أبو عبد الله في طريقه على حصن شلوبانية (2) الواقع شرقي المنكب بعد قتال عنيف، وعلم النصارى بمحاولة أبي عبد الله، فهرعت حاميات بلش ومالقة إلى المنكب لإنجادها. ورأى أبو عبد الله أنه لا يستطيع مهاجمتها، وترامت إليه الأنباء بأن ملك قشتالة قد عاد بجنده إلى مرج غرناطة يعيث فيه فساداً وتخريباً، فارتد أدراجه، وكان فرديناند قد هاله ما حدث من الاضطراب والتصدع في المناطق المستولى عليها، فاعتزم السير من قرطبة بجيشه إلى تلك الأنحاء. والواقع أن بوادر الانتقاض والثورة كانت قد اشتدّت في وادي آش وما حولها من الضياع والقرى، وأخذ ظفر المسلمين في تلك المعارك المحلية يذكي عزم الثوار ويشجعهم. وخشي النصارى عواقب هذه الحركة، فضاعفوا قوى الحاميات في تلك الأنحاء، واحتالوا على أهل وادي آش، فأخرجوا معظمهم من المدينة إلى السهول المجاورة (3)، واستجاب أبو عبد الله إلى نداء أهل وادي آش وعاونهم بالرجال والدواب على نقل أمتعتهم وأموالهم، وعلى الرحيل بالأهل والأموال إلى غرناطة، ونقل من تلك القرى والضياع مقادير وافرة من الحبوب والأطعمة وغيرها. وما كادت جموع المسلمين ترتد راجعة إلى
_______
(1) تقع قرية همدان جنوب غربي غرناطة على قيد بضعة كيلو مترات منها، وهي: ( Alhendin) ، أنظر الخريطة.
(2) بالإسبانية ( Salobrena) .
(3) Lafuente Alcantara ; ibid; n. 111. P. 53.(2/245)
غرناطة، حتى ظهر فرديناند بجيشه أمام وادي آش، ورأى أن يأخذ الأمر باللّين والرفق، فأذاع الأمان لمن عاد إلى وطنه، وأذن لمن شاء بالرّحيل، وغادر المسلمون وادي آش وأعمالها. وحدث مثل ذلك في ألمرية وبسطة، فترك المسلمون بيوتهم وأوطانهم حاملين ما استطاعوا من أمتعتهم وأموالهم، وسارت جموع غفيرة إلى غرناطة، وجازت جموع أخرى البحر إلى المغرب، وأقفرت تلك الأنحاء من معظم سكانها المسلمين، وبعث إليها ملك قشتالة بجموع من النصارى لتعميرها، فانتهز أبو عبد الله فرصة هذا الاضطراب، فاستولى على حصن أندراش للمرة الثانية، واستولى على عدد آخر من الحصون الهامة (1). وقد أيقن ملك قشتالة أنه لابد لاستتباب الأمور في المناطق الإسلامية المفتوحة، من الاستيلاء على غرناطة التي ما زالت تثير بمثلها وصلابتها روح الثورة في تلك الأوطان المغلوبة على أمرها، فقضى الشتاء كله من سنة (1490 م) في الاستعداد والأهبة. وفي أوائل سنة (1491 م) خرج فرديناند في قواته معتزماً أن يقاتل الحاضرة الإسلامية حتى ترغم على التسليم. ويُقدر بعض المؤرخين هذا الجيش الذي أُعدّ للاستيلاء على غرناطة بخمسين ألف مقاتل من الفرسان والمشاة، ويقدره بعضهم الآخر بثمانين ألفاً (2)، وزوّد فرديناند جيشه بالمدافع والعدد الضخمة والذخائر والأقوات الوفيرة. وأشرف ملك قشتالة بجيشه على فحص غرناطة ( La Vega) الواقع جنوب غربي الحاضرة الإسلامية في اليوم (الثالث والعشرين من نيسان - أبريل سنة 1491 م - 12 جمادى الثانية 896 هـ) وعسكر على ضفاف نهر شنيل، علي قيد فرسخين من غرناطة في ظاهر قرية تسمى: "عتقة". وأرسل في الحال بعض جنده إلى حقول البشرات القريبة التي تمدّ غرناطة بالمؤن فأتلفوا زرعها وهدموا قراها، وأمعنوا في أهلها قتلاً وأسراً،
_______
(1) أخبار العصر (38 - 48) ونفح الطيب (2/ 614)، وأنظر: Prescott ; ibid; P. 290-291، ويوجد فرق يسير بين الروايتين الإسلامية والنصرانية في التفاصيل.
(2) Prescott: ibid; P. 291.(2/246)
وحوّلوا المرج الأخضر إلى بسيط من القفر الموحش، وقطعوا بذلك عن غرناطة مورداً من أهم مواردها (1).
وضرب فرديناند حول الحاضرة الإسلامية الحصار الصارم، وصمم على استمراره حتى يستولي عليها أو تستسلم، وقرّر تأكيداً لهذا العزم أن ينشئ لجيشه في المكان الذي عسكر فيه، مدينة مسوّرة تقيه برد الشتاء إذا ما حلّ، وتم بناء هذه المدينة الجديدة في ثلاثة أشهر، وأسمتها الملكة إيزابيلا (سانتا في Santa Fe) وبالعربية "شنتفي" أو الإيمان المقدس، وذلك تنويهاً بالمغزى الديني لهذه الحرب الصليبية، وما زالت هذه المدينة التاريخية تقوم حتى اليوم، في المكان الذي أنشئت فيه، على قيد مسافة قريبة من جنوب غربي غرناطة، ويصفها المؤرخ الإسباني، بأنها: "المدينة الإسبانية الوحيدة التي لم تطأها قط قدم مسلم" (2). وهكذا بدأ الفصل الأخير من الصراع بين النصرانية والإسلام في إسبانيا، ولم يك ثمة شك في نتيجة هذا الصراع الذي أعدت له إسبانيا النصرانية عدّتها الحاسمة، ومهّدت له جميع الوسائل والسبل. وغرناطة يومئذٍ بلد إسلامي وحيد هو البقية الباقية من دولة عظيمة تالدة، يحيط بها العدو كالموج من كل ناحية، مزوّداً بالعدد والمؤن الموفورة، وقد قطعت كل موارده وصلاته بالخارج. وكان هذا هو موقف غرناطة آخر الحواضر الإسلامية بالأندلس في صيف سنة (1491 م). على أن غرناطة لم تكن مع ذلك غنماً سهلاً، فقد كانت منيعة بموقعها وظروفها، تحميها من الشرق آكام جبل شلير "سيرا نافادا" الشامخة، وتحميها من الجنوب، أي من الجهة المواجهة للمعسكر النصراني، أسوار وأبراج في منتهى الكثافة والمناعة، وكانت غرناطة يومئذ تموج بالوافدين إليها من مختلف القواعد الإسلامية الذاهبة، وتضم بين أسوارها من السكان أكثر من مائتي ألف نفس، ومع أن هذا العدد الضخم من الأنفس كان عبئاً ثقيلاً على مواردها المحدودة،
_______
(1) أخبار العصر (44)، وأنظر: Prescott: ibid; P. 294
(2) Prescott; ibid; P. 295.(2/247)
فقد كان من بينهم على الأقل زهاء عشرين ألفاً من الصفوة المختارة من فرسان الأندلس التي ألفت ملاذها الأخير في العاصمة المحصورة (1). ومن جهة أخرى فقد كانت الحاضرة الإسلامية منذ بعيد تلمح شبح الخطر الداهم يتربص بها دائماً، وكانت تعيش في أهبة دائمة لمواجهته، وتجمع ما استطاعت من الأقوات والمؤن، فلما دهمها الحصار، كانت على أهبة تامة للدفاع عن حريتها وأرضها وعرضها دفاعاً طويل الأمد. وكانت غرناطة تستشعر قَدَرها المحتوم، ولكنها لم ترد أن تستسلم إلى هذا القَدَر القاهر، قبل أن تستنفد في اجتنابه كل وسيلة بشرية، ومن ثم كان دفاعها هو أمجد ما عرف في تاريخ المدن المحصورة والقواعد الذاهبة، ولم يكن هذا الدفاع قاصراً على تحمّل ويلات الحصار مدى أشهر، بل كان يتعداه إلى ضروب رائعة من الإقدام والبسالة، فقد خرج المسلمون خلال الحصار، لقتال العدو المحاصِر مراراً عديدة، يهاجمونه ويثخنون في مواقعه، ويفسدون عليه خططه وتدابيره. وتشير الروايتان: الإسلامية والنصرانية، إلى هذه المعارك الأخيرة التي وقعت في بسائط غرناطة بين المسلمين والنصارى (2)، وتنوّه الرواية النصرانية بما كان يبديه الفرسان المسلمون من الشجاعة والإقدام والبراعة، أولئك الأنجاد البواسل هم البقية الباقية من الفروسية الأندلسية، التي لبثت قروناً زهرة الفروسية في العصور الوسطى.
وكان روح الفروسية المسلمة في تلك الآونة العصيبة فارس رفيع المنبت والخلال، وافر العزم والبراعة، هو موسى بن أبي الغسّان، وهو سليل إحدى الأسر العريقة التي تتصل ببيت الملك، وأحد هذه الأصول العربية القديمة التي عرفت بروائع فروسيتها، وعميق بغضها للنصارى، والتي كانت ترى الموت خيراً ألف مرة من أن يصبح الوطن العزيز مهاداً للكفر، ولم يكن بين أهل غرناطة يومئذٍ مَن هو أبرع من موسى في الطعان والفروسية، وكان مذ
_______
(1) نهاية الأندلس (215 - 223).
(2) أخبار العصر (45) وانظر: Irving: ibid. 293 and fall(2/248)
تبوّأ أبو عبد الله محمد عرش غرناطة، ينقم منه استكانته وخضوعه لملك النصارى، ويعمل بكل ما وسع لإذكاء روح الحماسة والجهاد، وتنظيم الفروسية الغرناطية وتدريبها، وقيادة السرايا إلى أرض العدو، ومفاجأة حصونه في الأنحاد المجاورة. ولما بعث فرديناند الخامس إلى أبي عبد الله يطلب تسليم الحمراء، كان موسى من أشدّ المعارضين في إجابة هذا الطلب المهين، وكان لعزمه وحماسته أكبر أثر في تطوّر الموقف، وحمل الأمير والشعب على اعتزام الجهاد، والدفاع إلى آخر رمق، وكان قوله المأثور يومئذٍ: "ليعلم ملك النصارى أن العربي قد وُلد للجواد والرّمح، فإذا طمح إلى سيوفنا فليكسبها وليكسبها غالية. أما أنا، فخير لي قبر تحت أنقاض غرناطة، في المكان الذي أموت دفاعاً عنه، من أفخم قصور نغنمها بالخضوع لأعداء الدين".
وهكذا دوّت غرناطة بصيحة الحرب. ولما أشرف ملك قشتالة بجموعه على مرج غرناطة، كان موسى قدوة الجند والشعب، وكان زعيم الفروسية المسلمة، يقودها كلما سنحت الفرصة إلى الحصون والقلاع النصرانية المجاورة فتثخن فيها، وكانت عودته الظافرة تثير في الشعب أيما حماسة؛ وكان فرديناند يرسل جنده لإتلاف المزارع والحقول المجاورة، فكان موسى ينظم السرايا لإزعاج قواته، وقطع مواصلاته، وانتزاع مؤنه؛ ولكن جيوش النصارى ما لبثت أن ملأت فحص شنيل ( La Vega) وطوّقت غرناطة، وشدّدت في حصارها، واضطر المسلمون إلى الامتناع بمدينتهم صابرين جلدين؛ وقُسِّم الدفاع عن المدينة بين قادة الجيش وزعماء الأسر، فتولى موسى قيادة الفرسان يعاونه نعيم بن رضوان ومحمد بن زائدة. وتولى آل الثغرى حراسة الأسوار، وتولى زعماء القصبة والحمراء حماية الحصون. ولم تكن المعارك الجريئة التي كان يخوضها المسلمون خارج الأسوار من آن لآخر، سوى عنوان أخير لفروسيتهم وبسالتهم، ولكنها لم تكن لتغني شيئاً أمام ضغط العدو وتفوّقه وتصميمه. ذلك أن ملك قشتالة لم يترك وسيلة(2/249)
لإحكام الحصار وإرهاق المدينة المحصورة وإرغامها على التسليم؛ فقطع جميع علائقها مع الخارج سواء من البر أو البحر، ورابطت السفن الإسبانية في مضيق جبل طارق، وعلى مقربة من الثغور الجنوبية، لتحول دون وصول أي مدد من إفريقية. والواقع أنه لم يكن ثمة أي أمل أمام الغرناطيين في الغوث والإنقاذ من هذه الناحية، ذلك أن معظم ثغور المغرب الشمالية والغربية، ومنها سبتة وطنجة، كانت قد سقطت بأيدي البرتغاليين، وكانت دولة بني وطّاس التي قامت يومئذٍ ما تزال ضعيفة في بدايتها، وكانت أبعد في التفكير عن القيام بأي عمل حربي خطير ضد النصارى. هذا إلى أن إمارات المغرب الواقعة في الضفة الأخرى، كانت كلّها في حالة ضعف وتفكّك، وكانت تخشى بأس قوة إسبانيا البحرية، وتسعى إلى كسب صداقتها وحمايتها، وعلى ذلك فقد كان حصار غرناطة محكماً من البر والبحر. ولم يبق أمامها سوى طريق البشرّات الجنوبية من ناحية جبل شلير (سيرانفادا) تجلب منها بعض الأقوات والمؤن بصعوبة. وبقيت المدينة المحصورة تعاني مصائب الحصار صابرة جلدة، حتى دخل الشتاء، وغصت هذه الوهاد والشِعَب بالثلوج، واشتد الجوع والبلاء بالمحصورين. عندئذ تقدّم حاكم المدينة أبو القاسم عبد الملك ذات يوم إلى مجلس الحكم، وقرّر أن المؤن الباقية لا تكفي إلاّ لأمد قصير، وأن اليأس قد دبّ إلى قلوب الجند والعامة، وأن الاستمرار في الدفاع عبث لا يجدي (1)، ولكن موسى بن أبي الغسّان، اعترض كعادته بشدّة، وقرّر أن الدفاع ممكن وواجب. وبثّ بادرة جديدة من الحماسة في الرؤساء والقادة. فاستسلم السلطان أبو عبد الله محمد إلى تلك الروح، وسلّم إلى القادة أمر الدفاع، وتولّى موسى كعادته قيادة الفرسان، وكان في مقدمة مساعديه فارسان من أنجاد العصر هما: نعيم بن رضوان، ومحمد بن زائدة. ثم أمر بفتح الأبواب، وأعدّ فرسانه أمامها ليل نهار، فإذا
_______
(1) Lafuente Alcantera; ibid; V. 111. p. 67.(2/250)
اقتربت سرية من النصارى دهمها الفرسان المسلمون، وأثخثوا فيها. ومزّقت على هذا النحو صفوف من النصارى، وكان موسى يقول لفرسانه: "لم يبق سوى الأرض التي نقف عليها، فإذا فقدناها فقدنا الاسم والوطن". وأخيراً رأى ملك قشتالة أن يزحف بقواته على أسوار المدينة، فخرج المسلمون إلى لقائه، وعلى رأسهم أبو عبد الله وموسى، ونشبت بين الفريقين في فحص غرناطة عدّة معارك دموية، وكان الفرسان المسلمون وعلى رأسهم موسى روح المعركة وقوامها، وكان أبو عبد الله يقود الحرس الملكي، وكان القتال رائعاً خضب فيه كل شبر من الأرض بدماء الفريقين، ولكن المشاة المسلمين كانوا ضعافاً لا يعتمد عليهم، فمزقوا بسرعة، وتبعهم فرسان الحرس الملكي إلى أبواب المدينة وعلى رأسهم أبو عبد الله، وعبثاً حاول موسى أن يجمع شمل الجند، وأن يدعوهم للزود عن أوطانهم ونسائهم وكل ما هو مقدّس لديهم، وألفى نفسه وحيداً في الميدان مع فرسانه المخلصين، وقد تضاءل عددهم وأثخن الباقون منهم جراحاَّ، فاضطر عندئذٍ أن يرتدّ إلى المدينة وهو يرتجف غضباً ويأساً.
وهنا أوصد المسلمون أبواب المدينة وامتنعوا بأسوارها جزعين مكتئبين، يرون شبح النهاية المحتومة ماثلاً، فلم تبق سوى أيام أو أسابيع قلائل، حتى يصبح سقوط الوطن في يد العدو أمراً واقعاً، وحتى تصبح أنفسهم وأموالهم وحرياتهم ودينهم رهناً في يد من لا يرحمهم. وكان قد مضى على حصار غرناطة منذ بدأ الربيع حتى دخول الشتاء زهاء سبعة أشهر، والمسلمون يغالبون أهوال الحصار، وتتفاقم محنتهم شيئاً فشيئاً. فلما جاءت خاتمة المعارك مبدّدة لكل أمل في الإنقاذ، واشتد فتك الجوع والحرمان والمرض، ودبّ اليأس إلى قلوب الناس جميعاً، لم يبق مناص من إعادة النظر في الموقف. فدعا أبو عبد الله مجلساً من كبار الجند والفقهاء والأعيان، فاجتمعوا في بهو الحمراء الكبير "بهو قمارش"، واليأس بادٍ في وجوههم، وشرح لهم أبو القاسم عبد الملك كيف وصل الخطب إلى ذروته، فهلكت(2/251)
أنجاد الفرسان، وخبت قوى الدفاع، ونضبت الأقوات والمؤن، واشتد البلاء بالناس، وغاض كل أمل في تلقي الإمداد من عدوة المغرب، وصرّح "الجماعة" بأن الشعب لا يقوى بعد على تحمل ويلات الدفاع، وأنه لم يبق سوى التسليم أو الموت، واتفق الجميع على وجوب التسليم (1)، ولم يرتفع بالاعتراض غير صوت واحد هو صوت موسى بن أبي الغسّان، فقد حاول كعادته أن يبث بكلماته الملتهبة قبساً أخيراً من الحماسة، وكان مما قال: "لم تنضب كل مواردنا بعد، فما زال لدينا مورد هائل للقوة كثيراً ما أدّى إلى المعجزات: ذاك هو يأسنا، فلنعمل على إثارة الشعب، ولنضع السلاح في يده، ولنقاتل العدو حتى آخر نسمة، وإنه خير لي أن أُحصى بين الذين ماتوا دفاعاً عن غرناطة، من أن أُحصى بين الذين شهدوا تسليمها".
على أن كلماته لم تؤثر في هذه المرة، فقد كان يخاطب رجالاً نضب الأمل في قلوبهم، وغاضت فيهم كل حماسة، ووصلوا إلى حالة من اليأس لا تنجع فيها البطولة، ولا يحسب للأبطال حساب، بل يعلو نصح الشيوخ ويغلب. وهكذا حدث، فإن السلطان أبا عبد الله فوّض الأمر للجماعة، واتفق الجماعة من خاصة وعامة على مفاوضة ملك قشتالة في التسليم، واختير الوزير القائد أبو القاسم عبد الملك للقيام بتلك المهمة، وكان ذلك في أواخر سنة (896 هـ - تشرين الأول - أكتوبر 1491 م).
_______
(1) أخبار العصر (48 - 49) ونفح الطيب (2/ 615).(2/252)
2 - مفاوضات التسليم ومعاهدة التسليم
وهنا يسدل الستار على تلك المناظر الرائعة المؤثرة، التي تقدمها الرواية لنا عن بسالة المسلمين في الدفاع عن مدينتهم وعلى ذلك الموقف الباهر الذي اتخذه أبو عبد الله مدى حين، واتّشح بثوب البطل المدافع عن ملكه وأمّته ودينه، وتبرز لنا طائفة من الحقائق المؤلمة التي تصم أولئك الزعماء والقادة، الذين جنحوا في النهاية إلى المساومة بحقوق أمتهم، واستغلالها لمآربهم الخاصة.
يقول صاحب أخبار العصر: إن كثيراً من الناس زعموا أن أمير غرناطة ووزيره وقواده، كان قد تقدم الكلام بينهم وبين ملك قشتالة سرّاً في تسليم غرناطة، ولم يجرأوا على المجاهرة بعزمهم خشية انتقاض الشعب، وإنهم لبثوا حيناً يلاطفون الشعب ويملقونه، حتى ألفوا السبيل ممهّداً للعمل برضاء الشعب وموافقته، ويستشهد أصحاب هذه الرواية بما حدث من انقطاع المعارك بين المسلمين والنصارى حيناً قبل بدء المفاوضة في التسليم، وتزيد الرواية على ذلك، بأن القوّاد المسلمين الذين اضطلعوا بهذه المفاوضة، تلقّوا تحفاً وأموالاً جزيلة من ملك قشتالة (1).
وفي نفس الوقت الذي اتجه فيه رأي الجماعة إلى المفاوضة في التسليم، كانت تبذل في الخفاء مساع أخرى لتحقيق ما يمكن تحقيقه من الضمانات والمغانم الخاصة لأبي عبد الله وأفراد أسرته ووزرائه، وكان الملكان الكاثوليكيان يرميان إلى استخلاص غرناطة بأي ثمن غير الحرب، ولا يدّخران وسعاً في بذل أية تضحية أو منحة لإغراء الزعماء والقادة لتذليل هذه المهمة. وهكذا كلّلت هذه المساعي الخفية بالنجاح، وفي نفس الوقت الذي عقدت فيه معاهدة التسليم، عقدت معاهدة سريّة أخرى يمنح فيها أبو عبد الله
_______
(1) أخبار العصر (48 - 49) ونفح الطيب (2/ 615).(2/253)
وأفراد أسرته ووزراؤه منحاً خاصة بين ضياع وأموال نقدية وحقوق مالية وغيرها. وقد أبقيت هذه المعاهدة في طي الكتمان، ولم يقف عليها سوى نفر من الخاصة، وهذا يثبت ما يشير إليه صاحب أخبار العصر.
ولم يك ثمة سبيل سوى الموت أو مفاوضة العدو الظافر، وقد اختار زعماء غرناطة المفاوضة، ولو أنهم اختاروا الموت تحت أنقاض مدينتهم دفاعاً عنها لأحرزوا لذكراهم الخلود وإعجاب التاريخ، ولكن يبدو أنه لم يكن ثمة لدى أبي عبد الله ومن معه إرادة القتال التي يتّسم بها الشعب الغرناطي المجاهد.
وبالطبع يحلو للمصادر الأجنبية أن تدفع الشكوك عن أبي عبد الله ومن حوله، فيقول مارمول الذي كتب روايته بعد ذلك بنحو سبعين عاماً: "ولما رأى الزّغيبي (أبو عبد الله) أن مدينة غرناطة لا تستطيع دفاعاً، ولا تأمل الغوث والإمداد، ونزولاً على رغبة السواد الأعظم من الشعب، الذي لم يعد يصبر على هذا الأمر الفادح، أرسل يطلب الهدنة من الملكين الكاثوليكيين، لكي يستطيع خلالها أن يتفاهم على شروط الصلح التي يمكن التسليم بمقتضاها" (1).
ويقول لافونت ألقنطرة: "اشتدت وطأة الجوع على المحصورين، وأصبحت الجماهير الصاخبة تجوب أنحاء المدينة تنذر الأغنياء بالويل، وتبعث الرجفة إلى أبي عبد الله وأولاده وأعوانه. وإزاء هذا التهديد، دعا الأمير مجلساً من الزعماء والقادة، وطلب إليهم البحث فيما يمكن عمله لتجنّب الأخطار التي تهدد المدينة من الداخل والخارج. وقال الشيوخ والفقهاء: إنه لم يبق سبيل سوى التسليم أو الموت، وأشار أهل الرأي بأن يقوم أبو القاسم بإذن أبي عبد الله بمفاوضة النصارى" (2).
لقد كان موقف أبي عبد الله موقفاً مريباً - ذلك الموقف الذي وقفه هو
_______
(1) Luis del Marmol ; ibid ; Lib. 1., Cap. XIX.
(2) Lafuente Alcantra; ibid; V. 111. P. 97.(2/254)
ووزراؤه - فحاولوا أن يحققوا لأنفسهم فيه مغانم خاصة، والذي يدل على الأثر والخور والضعف الإنساني، والتعلق بأسباب السلامة، وانتهاز الفرص، وهي ليست سمات المسؤول حقاً عن أمة وشعب ووطن.
وسار القائد أبو القاسم عبد الملك، مندوب أبي عبد الله إلى معسكر الملكين الكاثوليكيين ليؤدي مهمته الأليمة، وقد اضطلع هذا القائد فضلاً عن المفاوضة في تسليم غرناطة، بالمفاوضة في سائر الاتفاقات اللاحقة التي عقدت بين أبي عبد الله وبين ملكي قشتالة، ونرى اسمه مذكوراً في معظم الوثائق القشتالية الغرناطية التي أبرمت في تلك المدّة، باعتباره دائماً مندوب أبي عبد الله المفوّض. ولم نعثر على تفاصيل تخص شخصية هذا الوزير أو نشأته، ولكن الذي يبدو لنا من مواقفه وتصرفاته، أنه كان سياسياً عملياً، يؤمن إيماناً راسخاً بسياسة التسليم والخضوع للنصارى، وانتهازياً يرى انتهاز الفرص بأي الأثمان (1)، واستقبل فرديناند مندوب ملك غرناطة، وندب لمفاوضته أمينه فرناندو دى ثاخرا، وقائده جونزالفودي كردوبا، وكان خبيراً بالشئون الإسلامية، عارفاً باللغة العربية، وجرت المفاوضات بين الفريقين بمنتهى التكتّم، أحياناً في غرناطة، وأحياناً في قرية بزليانة (2)، القريبة الواقعة جنوب شرقي سنتمافيه. ويبدو من الخطابات التي تبودلت بين أبي عبد الله وبين ملكي قشتالة في تلك الأيام الدقيقة من حياة الأمة الأندلسية، أن حديث المفاوضة قد بدأ بين الفريقين في أوائل (أيلول - سبتمبر 1491 م)، وأن القائد أبا القاسم بن عبد الملك كان يعاونه في المفاوضة الوزير يوسف بن كُماشة، وقد كان مثله من خاصة أبي عبد الله ومن أنصار سياسة التسليم، وأن أبا عبد الله
_______
(1) يذكر اسم أبي القاسم عبد الملك في الوثائق القشتالية محرّفاً: أبو القاسم عبد المليح أو أبو القاسم المليخ، وهو الأكثر شيوعاً: Bulacaen, Bulcasem al Muleh. ومن الغريب أنّ هذا التحريف غلب فيما بعد على كتابة اسمه بالعربية، فتراه يكتب في بعض الوثائق: أبو القاسم المليخ.
(2) هي اليوم قرية Churiana، وهي من ضواحي غرناطة.(2/255)
طلب في خطاب أرسله إلى ملكي قشتالة، أن تكون المفاوضات سرية حتى تتحقق غايتها المرجوّة، وذلك خشية انتفاض الشعب الغرناطي ونزعاته، هذا إلى أن الوزيرين الغرناطيين كتبا إلى ملكي قشتالة خطاباً يؤكدان فيه إخلاصهما وولاءهما واستعدادهما لخدمتهما حتى تتحقق رغباتهما كاملة، وفي ذلك كله ما يلقي ضوءاً واضحاً على الموقف المريب الذي وقفه أبو عبد الله ووزراؤه من مسألة التسليم (1). واستمرت المفاوضات بضعة أسابيع، وانتهى الفريقان إلى وضع معاهدة للتسليم وافق عليها الملكان، ووقعت في (اليوم الخامس والعشرين من شهر تشرين الثاني - نوفمبر سنة 1491 م - محرم سنة 897 هـ).
وقد تضمنت هذه الوثيقة الشهيرة، التي قرّرت مصير آخر القواعد الأندلسية ومصير الأمة الأندلسية، شروطاً عديدة بلغت ستاً وخمسين مادة. وقد لخّصت لنا الرواية الإسلامية معظم محتوياتها مع شيء من التحريف (2). ولكننا ننقل إلى العربية محتويات هذه المعاهدة عن نصوصها القشتالية الرسمية في توسع وإفاضة، وهذه هي مضمون المحتويات:
أن يتعهد ملك غرناطة، والقادة، والفقهاء، والوزراء، والعلماء، والناس كافة، سواء في غرناطة والبيازين وأرياضهما، بأن يسلّموا طواعية واختياراً، وذلك في ظرف ستين يوماً تبدأ من تاريخ هذه المعاهدة، قلاع الحمراء والحصن، وأبوابها وأبراجها، وأبواب غرناطة والبيازين، إلى الملكين الكاثوليكيين، أو أي مَن يندبانه من رجالهما، على ألاّ يسمح لنصراني أن يصعد إلى الأسوار القائمة بين القصبة والبيازين، حتى لا يكشف أحوال
_______
(1) تحفظ الصورة القشتالية لهذه الخطابات ضمن مجموعة فرناندو دي ثافرا ببلدية غرناطة، وقد نشرها Garrido Atienza في مجموعة الوثائق الخاصة بتسليم غرناطة المسماة Para la Entrega de Granada (Granada 1910) P. 200-214 Las Capitulocibnes.
(2) أخبار العصر (48 - 50) ونفح الطيب (2/ 615 - 616).(2/256)
المسلمين، وأن يعاقب مَن يفعل ذلك. وضماناً لهذا التسليم، يقدم الملك المذكور مولاي أبو عبد الله والقادة المذكورون، إلى جلالتيهما، قبل تسليم الحمراء بيوم واحد، خمسمائة شخص صحبة الوزير ابن كماشة، من أبناء وأخوة زعماء غرناطة والبيازين، ليكونوا رهائن في يديهما لمدة عشرة أيام، تصلح خلالها الحمراء. وفي نهاية هذا الأجل يرد أولئك الرهائن أحراراً. وأن يقبل حلالتهما، ملك غرناطة وسائر القادة والزعماء وسكان غرناطة والبشرات وغيرهما من الأراضي، رعايا وأتباعاً تحت حمايتهما ورعايتهما "1".
وأنه حينما يرسل جلالتهما رجالهما لتسلم الحمراء المذكورة، فعليهم أن يدخلوا من باب العشاء ومن باب نجدة، ومن طريق الحقول الخارجية، وألاّ يسيروا إليها من داخل المدينة، حينما يأتون لتسلمها وقت التسليم "2".
وأنه متى تم تسليم الحمراء والحصن، يردّ إلى الملك المذكور مولاي أبي عبد الله ولده المأخوذ رهينة لديهما، وكذلك سائر الرهائن المسلمين الذين معه، وسائر حشمه الذين لم يعتنقوا النصرانية "3".
ويتعهد جلالتهما، وخلفاؤهما إلى الأبد، بأن يترك الملك المذكور أبو عبد الله والقادة، والوزراء، والعلماء، والفقهاء، والفرسان، وسائر الشعب، تحت حكم شريعتهم، وألاّ يؤمروا بترك شيء من مساجدهم وصوامعهم، وأن تترك لهذه المساجد مواردها كما هي، وأن يُقْضَى بينهم وفق شريعتهم وعلى يد قضاتهم، وأن يحتفظوا بتقاليدهم وعوائدهم "4".
وألاّ يؤخذ منهم خيلهم أو سلاحهم الآن أو فيما بعد، سوى المدافع الكبيرة والصغيرة، فإنها تسلم "5".
وأنه يحق لسائر سكان غرناطة والبيازين وغيرهما، الذين يريدون العبور إلى المغرب، أن يبيعوا أموالهم المنقولة لمن شاءوا، وأنه يحق للملكين شراءها بمالهما الخاص "6".
وأنه يحق للسكان المذكورين، أن يعبروا إلى المغرب، أو يذهبوا أحراراً(2/257)
إلى أية ناحية أخرى، حاملين أمتعتهم وسلعهم، وحليّهم من الذهب والفضة وغيرها. ويلتزم الملكان بأن يجهّزوا في بحر ستين يوماً من تاريخه، عشر سفن في موانيهما يعبر فيها الذين يريدون الذهاب إلى المغرب. وأن يقدما خلال الأعوام الثلاثة التالية السفن، لمن شاء العبور، وتبقى السفن خلال هذه المدة تحت طلب الراغبين فيه، ولا يُقْتضَى منهم خلال هذه المدة أي أجر أو مغرم، وأنه يحق العبور لمن يشاء بعد ذلك، نظير دفع مبلغ (دوبل) واحد عن كل شخص، وأنه يحق لمن لم يتمكن من بيع أملاكه، أن يوكل لإدارتها، وأن يقتضي ريعها حيثما كان "7".
وألاّ يرغم أحد من المسلمين أو أعقابهم، الآن أو فيما بعد، على تقلد شارة خاصة بهم "8".
وأن ينزل الملكان، للملك أبي عبد الله المذكور، ولسكان غرناطة والبيازين وأرياضهما، لمدة ثلاث سنوات تبدأ من تاريخه، عن سائر الحقوق التي يجب عليهم أداؤها عن دورهم ومواشيهم "9".
وأنه يجب على الملك أبي عبد الله، وسكان غرناطة والبيازين وأرياضهما والبشرات وأراضيها، أن يسلّموا وقت تسليم المدينة طواعية ودون أية فدية، سائر الأسرى النصارى الذين تحت أيديهم "10".
وأنه لا يسمح لنصراني، أن يدخل مكاناً لعبادة المسلمين دون ترخيص، ويُعاقَب من فعل ذلك "12".
وألاّ يولى على المسلمين مباشرة يهودي، أو يمنح أية سلطة أو ولاية عليهم "13".
وأن يعامل الملك أبو عبد الله المذكور، وسائر السكان المسلمين، برفق وكرامة، وأن يحتفظوا بعوائدهم وتقاليدهم، وأن يؤدي للفقهاء حقوقهم المأثورة وفقاً للقواعد المرعية "14".
وأنه إذا قام نزاع بين المسلمين، فصل فيه وفقاً لأحكام شريعتهم، وتولاه قضاتهم "15".(2/258)
وألاّ يكلفوا بإيواء ضيف أو تؤخذ منهم ثياب أو دواجن أو أطعمة أو ماشية أو غيرها دون إرادتهم "16".
وأنه إذا دخل نصراني منزل مسلم قهراً عنه، عوقب على فعله "17".
وأنه فيما يتعلق بشئون الميراث، يحتفظ المسلمون بنظمهم، ويحتكمون إلى فقهائهم وفقاً لسنن المسلمين "18".
وأنه يحق لسائر سكان غرناطة والبشرات وغيرهما الداخلين في هذا العهد، الذين يعلنون الولاء لجلالتهما، في ظرف ثلاثين يوماً من التسليم، أن يتمتعوا بالإعفاءات الممنوحة، مدى السنوات الثلاث "19".
وأنه يبقى دخل الجوامع والهيئات الدينية أو أية أشياء أخرى مرصودة على الخير، وكذا دخل المدارس متروكاً لنظر الفقهاء، وألاّ يتدخل جلالتهما بأية صورة، في شأن هذه الصدقات، أو يأمران بأخذها في أي وقت "20".
وأنه لا يؤخذ أي مسلم بذنب ارتكبه شخص آخر، فلا يؤخذ والد بذنب ولده، أو ولد بذنب والده، أو أخ بذنب أخيه، أو ولد عم بذنب ولد عمه، ولا يُعاقَب إلاّ مَن ارتكب الجرم "21".
وأنه إذا كان مسلم أسيراً، وفرّ إلى مدينة غرناطة أو البيازين أو أرباضهما أو غيرها، فإنه يعتبر حراً، ولا يسمح لأحدٍ بمطاردته إلاّ إذا كان من العبيد أو من الجزائر"24".
وألاّ يدفع المسلمون الضرائب أكثر مما كانوا يدفعون لملوكهم المسلمين "25".
وأنه يحق لسكان غرناطة والبيازين والبشرات وغيرها، ممن عبروا إلى المغرب، أن يعودوا خلال الأعوام الثلاثة التالية، وأن يتمتعوا بكل ما في هذا الاتفاق "28".
وأنه يحق لتجار غرناطة وأرياضها والبشرات وسائر أراضيها، أن يتعاملوا في سلعهم آمنين، عابرين إلى المغرب وعائدين، كما يحق لهم دخول النواحي التابعة لجلالتيهما، وألاّ يدفعوا من الضرائب سوى التي يدفعها(2/259)
النصارى "29".
وإنه إذا كان أحد من النصارى - ذكراً أو أنثى - اعتنق الإسلام، فلا يحق لإنسان أن يهدّده أو يؤذيه بأية صورة، ومَن فعل ذلك يُعاقَب "30".
وأنه إذا كان مسلم قد تزوج بنصرانية واعتنقت الإسلام، فلا ترغم على العودة إلى النصرانية، بل تُسئل في ذلك أمام المسلمين والنصارى، وألاّ يرغم أولاد الروميات ذكوراً أو إناثاً، على اعتناق النصرانية "31".
وأنه لا يرغم مسلم ولا مسلمة قط على اعتناق النصرانية "32".
وأنه إذا شاءت مسلمة متزوجة أو أرملة أو بكر اعتناق النصرانية بدافع الحب، فلا يقبل ذلك حتى تسئل وتوعظ وفقاً للقانون. وإذا كانت قد استولت خلسة على حلي أو غيرها من دار أهلها أو أي شىءٍ آخر، فإنها تردّ لصاحبها، وتتخذ الإجراءات ضد المسئول "33".
وألاّ يطلب الملكان، أو يسمحا بأن يطلب إلى الملك المذكور مولاي أبي عبد الله، أو خدمه، أو أحد من أهل غرناطة أو البيازين وأرباضهما والبشرات وغيرها، من الداخلة في هذا العهد، بأن يردّوا ما أخذوه أيام الحرب من النصارى أو المدجّنين، من الخيل أو الماشية أو الثياب أو الفضة أو الذهب أو غيرها، أو من الأشياء المزروعة، ولا يحق لأحد يعلم بشيءٍ من ذلك أن يطالب به "34".
وألاّ يطلب إلى أي مسلم، يكون قد هدّد أو جرح أو قتل أسيراً أو أسيرة نصرانية، ليس أو ليست في حوزته، ردّه أو ردّها الآن أو فيما بعد "35".
وألاّ يدفع عن الأملاك والأراضي السلطانية، بعد انتهاء السنوات الثلاث الحرّة، من الضرائب إلاّ وفقاً لقيمتها، وعلى مثل الأراضي العادية "36".
وأن يطبق ذلك أيضاً على أملاك الفرسان والقادة المسلمين، فلا يدفع أكثر عن الأملاك العادية "37".
وأن يتمتع يهود من أهل غرناطة والبيازين وأرباضهما، والأراضي التابعة لها، بما في هذا العهد من الامتيازات، وأن يسمح لهم بالعبور إلى المغرب(2/260)
خلال ثلاثة أشهر، تبدأ من يوم 18 كانون الثاني - ديسمبر "38".
وأن يكون الحكام والقواد والقضاة، الذين يعينون لغرناطة والبيازين والأراضي التابعة لهما، ممن يعاملون الناس بالكرامة والحسنى، ويحافظون على الامتيازات الممنوحة، فإذا أخلّ أحدهم بالواجب، عوقب وأحلّ مكانه مَن يتصرّف بالحق "39".
وأنه لا يحق للملكين أو لأعقابهما إلى الأبد، أن يسألوا الملك المذكور أبا عبد الله، أو أحداً من المسلمين المذكورين، بأية صورة، عن أي شيءٍ يكونوا قد عملوه حتى حلول يوم تسليم الحمراء المذكورة، وهي مدة الستين يوماً المنصوص عليها "40".
وأنه لا يولّى عليهم أحد من الفرسان أو القادة أو الخدم، الذين كانوا تابعين لملك وادي آش (1) "41".
وأنه إذا وقع نزاع بين نصراني أو نصرانية ومسلم أو مسلمة، فإنه ينظر أمام قاضٍ نصراني وآخر مسلم، حتى لا يتظلم أحد مما يقضي به "42".
وأن يقوم الملكان بالإفراج عن الأسرى المسلمين ذكوراً وإناثاً، من أهل غرناطة والبيازين وأرباضهما وأراضيهما، إفراجاً دون أية نفقة من فدية أو غيرها، وأن يكون الإفراج عمن كان من هؤلاء الأسرى بالأندلس في ظرف خمسة الأشهر التالية؛ وأما الأسرى الذين بقشتالة فيفرج عنهم خلال الثمانية أشهر التالية. وبعد يومين من تسليم الأسرى النصارى لجلالتيهما يفرج عن مائتي أسير مسلم، منهم مائة من الرهائن، ومائة أخرى "44".
وأنه إذا دخلت أية محلّة من نواحي البشرات في طاعة جلالتيهما، فإنها يجب أن تسلّم إليهما كل الأسرى النصارى ذكوراً وإناثاً، في ظرف خمسة عشر يوماً من تاريخ الانضمام، وذلك دون أية نفقة "46".
وأن تعطى الضمانات للسفن المغربية الراسية الآن في مملكة غرناطة، لكي
_______
(1) المقصود هنا مولاي الزّغل.(2/261)
تسافر في أمان على ألاّ تكون حاملة أي أسير نصراني، وألاّ يحدث أحد لها ضرراً أو إتلافاً، وألاّ يؤخذ منها شيء، ولا ضمان لمن تحمل منها أسرى من النصارى، ويحق لجلالتيهما إرسال مَن يقوم بتفتيشها لذلك الغرض "47".
وألاّ يدعى أو يؤخذ أحد من المسلمين إلى الحرب رغم إرادته، وإذا شاء جلالتهما استدعاء الفرسان الذين لهم خيول وسلاح للعمل في نواحي الأندلس، فيجب أن يدفع لهم الأجر من يوم الرحيل حتى يوم العودة "48".
وأنه يجب على كل مَن عليه دين أو تعهد، أن يؤديه لصاحب الحق، ولا يحق لهم التحرر من هذه الحقوق "52".
وأن يكون المأمورون والقضائيون الذين يعينون لمحاكم المسلمين أيضاً مسلمين، وألاّ يتولاّها نصراني الآن وفي أي وقت "54".
وأن يقوم الملكان في اليوم الذي تسلم إليهما فيه الحمراء والحصن والأبواب كما تقدم، بإصدار مراسيم الامتيازات للملك أبي عبد الله وللمدينة المذكورة، ممهورة بتوقيعهما، ومختومة بخاتمهما الرصاص ذي الأهداب الحريرية، وأن يصدّق عليها ولدهما الأمير والكاردينال المحترم دسبينا، ورؤساء الهيئات الدينية، والعظماء والدوقات، والمركيزون والكونتات والرؤساء، حتى تكون ثابتة وصحيحة الآن وفي كل وقت (56 ثافرا) - (43 سيمانقا).
وقد ذيِّلت المعاهدة، بنبذة خلاصتها، أن ملكي قشتالة يؤكدان ويضمنان بدينهما وشرفهما الملكي، القيام بكل ما يحتويه هذا العهد من النصوص، ويوقعانه باسميهما ويمهرانه بخاتمهما، وعليها تاريخ تحريرها وهو يوم (25 تشرين الثاني - نوفمبر 1491 م) (1). ثم ذيلت بعد ذلك بتاريخ لاحق هو يوم
_______
(1) نهاية الأندلس (230 - 235)، وقد ترجمها المؤلف ولخّصها من نصوص معاهدة التسليم في الوثيقتين الرسميتين اللتين تضمنتا نصوص هذه المعاهدة، وهما: أولاًَ الوثيقة المحفوظة بدار المحفوظات العامة في (سيمانقا Archivo general de Simancas) وتحمل رقم P. R. 11-207 ضمن مجموعة ( Capitulaciones =(2/262)
(30 كانون الثاني - يناير 1492 م) أعني بعد تسليم غرناطة بشهرين، بتوكيد جديد، يأمر فيه الملكان ولدهم الأمير وسائر المملكة بالمحافظة على محتويات هذا العهد، وألاّ يعمل ضده شيء، أو ينقص منه شيء، الآن إلى الأبد، وأنهما يؤكدان ويقسمان بدينهما وشرفهما الملكي بأن يحافظا، ويأمرا بالمحافظة على كل ما يحتويه بنداً بنداً إلى الأبد، وقد ذيّل هذا التوكيد بتوقيع الملكين، وتوقيع ولدهما وجمع كبير من الأمراء والأحبار والأشراف والعظماء (1).
وفي نفس اليوم الذي وقِّعت فيه معاهدة تسليم غرناطة، وهو (يوم 25 تشرين الثاني 1491 م) (2)، وفي نفس المكان الذي وقّعت فيه، وهو المعسكر الملكي بمرج غرناطة، أبرمت معاهدة أخرى أو ملحق سرّي للمعاهدة الأولى، يتضمن الحقوق والامتيازات والمنح، التي تعطى للسلطان أبي عبد الله، ولأفراد أسرته وحاشيته، وذلك متى نفذ تعهداته التي تضمنتها المعاهدة من تسليم غرناطة والحمراء وحصونها. وتتلخص هذه الحقوق والامتيازات والمنح فيما يأتي:
أن يمنح الملكان الكاثوليكيان لأبي عبد الله وأولاده وأحفاده وورثته إلى الأبد، حق الملكية الأبدية، فيما يملكان من محلاّت وضياع في بلاد برجة، ودلاية، ومرشانة، ولوشار، وأندراش، وأجيجر، وأرجبة، وبضعة بلاد
_______
= Con Moros Y) - (Caballeros de Castilla) ، وهي تملأ إحدى عشرة لوحة كبيرة ومحرّرة بالقشتالية القديمة. وثانياً الوثيقة المعروفة بوثيقة فرناندو دي ثافرا أمين الملكين الكاثوليكيين، وتحفظ بمجموعة دي ثافرا ببلدية غرناطة Las Capitulaciones Para la Entraga, Por Miguel Garrido Arinza (Granada 1910) P. 269-295.
(1) أنظر مجموعة وثائق تسليم غرناطة السالفة الذكر (289 - 290).
(2) تحفظ النسخة القشتالية لهذه المعاهدة السرّية التي عقدت بين الملكين الكاثوليكيين وأبي عبد الله بدار المحفوظات العامّة في سيمانقا ( Archivo general de Simancas) وتحمل رقم: ( Fol.206,P.R.leg.11) .(2/263)
أخرى مجاورة، وكل ما يخصها من الضرائب وحقوق الريع، وما بها من الدور والأماكن والقلاع والأبراج، لتكون كلها له ولأولاده وأعقابه وورثته بحق الملكية الأبدية، يتمتع بكل ريعها وعشورها وحقوقها، وأن يتولى القضاء في النواحي المذكورة باعتباره سيدها، وباعتباره في الوقت نفسه تابعاً وخاضعاً لجلالتيهما، وله حق بيع الأعيان المذكورة ورهنها، وأن يفعل بها ما يشاء ومتى شاء، وأنه متى أراد بيعها، فإنه يعرض ذلك أولاً على جلالتيهما، فإذا لم يريدا شراءها، فله أن يبيعها لمن شاء.
وأن يحتفظ جلالته بقلعة إدرة، وسائر القلاع الواقعة على الشاطئ.
وأن يعطي جلالتهما إلى الملك مولاي أبي عبد الله هبة قدرها ثلاثون ألف جنيه قشتالي من الذهب (كاستيليانو)، يبعثان بها إليه عقب تسليم الحمراء وقلاع غرناطة الأخرى التي يجب تسليمها، وذلك في الموعد المحدّد.
وأن يهب جلالتهما للملك المذكور، كل الأراضي والرّحى والحدائق والمزارع التي كان يملكها أيام أبيه السلطان أبي الحسن، سواء في غرناطة أو في البشرات، لتكون ملكاً له ولأولاده ولعقبه وورثته، ملكية أبدية، وله أن يبيعها أو يرهنها وأن يتصرّف فيها كيفما يشاء.
وأن يهب جلالتهما، إلى الملكة والدته، والملكات أخواته وزوجته، وإلى زوجة أبي الحسن، كل الحدائق والمزارع والأراضي والطواحين والحمامات، التي يملكنها في غرناطة والبشرات، تكون ملكاً لهنّ ولأعقابهن إلى الأبد، ولهن بيعها أو رهنها والتمتع بها وفقاً لما تقدم.
وأن تكون سائر الأراضي الخاصة بالملك المذكور والملكات المذكورات وزوجة مولاي أبي الحسن معفاة من الضرائب والحقوق الآن وإلى الأبد.
وأن لا يطلب جلالتهما أو أعقابهما إلى ملك غرناطة أو حشمه أو خدمه ردّ ما أخذوه في أيامهم سواء من النصارى أو المسلمين من الأموال والأراضي.
وأنه إذا شاء الملك المذكور أبو عبد الله والملكات المذكورات، وزوجة مولاي أبي الحسن وأولادهم وأحفادهم وأعقابهم وقوادهم وخدمهم وأهل(2/264)
دارهم وفرسانهم وغيرهم، صغاراً وكباراً، العبور إلى المغرب، فإن جلالتهما يجهزان الآن وفي أي وقت سفينتين لعبور الأشخاص المذكورين، متى شاءوا، تحملهم وكل أمتعتهم وماشيتهم وسلاحهم، وذلك دون أي أجر أو نفقة.
وأنه إذا لم يتمكن الملك المذكور وأولاده وأحفاده وأعقابه، والملكات المذكورات، وزوجة مولاي أبي الحسن والقواد والحشم والخدم، وقت عبورهم إلى المغرب، من بيع أملاكهم المشار إليها، فإن لهم أن يوكلوا من شاءوا لقبض ريعها، وإرسالها حيث شاءوا دون أي قيد أو مغرم.
وأنه يحق للملك المذكور، متى خرج من غرناطة، أن يسكن أو يقيم متى شاء، في الأراضي التي قطعت له، وأن يخرج هو وخدمه وقواده وعلماؤه وقضاته وفرسانه، الذين يريد الخروج معه، بخيلهم وماشيتهم، متقلدين أسلحتهم، وكذلك نساؤهم وخدمهم، وألاّ يؤخذ منهم شىء سوى المدافع، وألاّ يفرض عليهم الآن أو في أي وقت، وضع علامة خاصة في ثيابهم أو بأية صورة، وأن يتمتعوا بسائر الإمتيازات المقررة في عهد تسليم غرناطة. وأنه في اليوم الذي يتم فيه تسليم الحمراء وحصونها، يصدر جلالتهما المراسيم اللازمة بالمنح المذكور، موقعة ومختومة، ومصدّقاً عليها من ابنهما الأمير والكردينال وسائر العظماء (1).
تلك هي الشروط التي وضعت لتسليم آخر القواعد الأندلسية، وتلك هي الامتيازات والمنح التي منحت لآخر ملوك الأندلس. فأما فيما يتعلق بغرناطة ومصاير الأمة المغلوبة، فقد كانت هذه المسهبة، والتي اشتملت على سائر الضمانات المتعلقة بتأمين النفس والمال، وسائر الحقوق المادية، وصون الدين والشعائر، والكرامَة الشخصية، أفضل ما يمكن الحصول عليه في مثل هذه المحنة، لو أخلص العدو الظافر في عهوده، ولكن هذه العهود لم تكن
_______
(1) Prescott: ibid; P. 296.(2/265)
في الواقع، حسبما أيّدت الحوادث فيما بعد، سوى ستار الغدر والخيانة، وقد نقضت هذه الشروط الخلاّبة كلها لأعوام قلائل من تسليم غرناطة، ولم يتردد المؤرخ الغربي نفسه في أن يصفها: (بأنها أفضل مادة لتقدير مدى الغدر الإسباني فيما تلا من العصور). وقد بذل فرديناند ما بذل من عهود وضمانات وامتيازات لأهل غرناطة، بعد ما لقيت جيوشه من الصعاب، وما منيت به من الخسائر الفادحة، أمام أسوار مالقة وبسطة، ولأنه كان يعلم أن الحاضرة الأندلسية الأخيرة كانت تموج بعشرات الألوف من المدافعين، وأنه يقتضي لأخذها عنوة بذل جهود مضنية، وتحمل تضحيات عظيمة، وقد لجأ فرديناند إلى جانب إرهاق غرناطة بالحصار الصارم، إلى البذل والرشوة لإغراء الزعماء والقادة، وعلى رأسهم أبو عبد الله، وذلك لكي يصل إلى غايته المنشودة بطريقة سليمة مأمونة، وجاءت نصوص المعاهدة السرية مؤيدة لما أشارت إليه الرواية الإسلامية المعاصرة من ريب وشكوك تحيط بموقف أبي عبد الله ووزرائه وقادته.
وعاد أبو القاسم عبد الملك والوزير ابن كُماشة يحملان شروط التسليم، وصحبهما فرناندو دى ثافرا أمين ملك قشتالة ومبعوثه، وأُدخل سرّاً إلى قصر الحمراء؛ وجمع أبو عبد الله الفقهاء وأكابر الجماعة في بهو الحمراء الكبير (بهو قمارش)، وبعد مناقشات طويلة عاصفة، تمت الموافقة على المعاهدة، وحملها دي ثافرا ممهورة بتوقيع أبي عبد الله إلى معسكر ملك قشتالة.
وقد انتهت إلينا عن هذه الجلسة الحاسمة في تاريخ الأمة الأندلسية، وعن موقف فارس غرناطة موسى بن أبي الغسّان، رواية قشتالية مؤثرة، تنم عن روح الانتقاض والسّخط التي كانت تضطرم بها بعض النفوس الأبية الكريمة التي كانت ترى الموت خيراً من التسليم لأعداء الوطن والدين.
تقول الرواية المذكورة: إنه حينما اجتمع الزعماء في بهو الحمراء الكبير ليوقّعوا عهد التسليم، وليحكموا على دولتهم بالذهاب، وعلى أمتهم بالفناء والمحو، عندئذٍ لم يملك كثير منهم نفسه من البكاء والعويل. ولكن موسى(2/266)
لبث وحده صامتاً عابساً وقال: "أتركوا العويل للنساء والأطفال، فنحن رجال لنا قلوب لم تخلق لإرسال الدمع، ولكن لتقطر الدماء. وإني لأرى روح الشعب قد خبت حتى ليستحيل علينا أن ننقذ غرناطة؛ ولكن ما زال ثمة بديل للنفوس النبيلة، ذلك هو موت مجيد، فلنمت دفاعاً عن حرياتنا، وانتقاماً لمصائب غرناطة، وسوف تحتضن أمّنا الغبراء أبناءها من أغلال المستعبد وعسفه، ولئن لم يظفر أحدنا بقبر يستر رفاته، فإنه لن يعدم سماء تغطيه، وحاشا الله أن يقال: إن أشراف غرناطة خافوا أن يموتوا دفاعاً عنها" (1).
ثم صمت موسى، وساد المجلس سكون الموت، وسرح أبو عبد الله البصر حوله، فإذا اليأس ماثل في تلك الوجوه التي أضناها الألم، وإذا كل عزم قد غاض في تلك القلوب الكبيرة الدامية. وعندئذٍ صاح أبو عبد الله: (الله أكبر، لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله، ولا رادّ لقضاء الله. تالله لقد كُتب عليّ أن أكون شقياً، وأن يذهب الملك على يديّ). وصاحت الجماعة على أثره: (الله أكبر ولا رادّ لقضاء الله)، وكرروا جميعاً: إنها إرادة الله، ولتكن، وأنه لا مفرّ من قضائه ولا مهرب، وأن شروط ملك النصارى أفضل ما يمكن الحصول عليه. فلما رأى موسى أن اعتراضه عبث لا يُجدي، وأن الجماعة قد أخذت فعلاً في توقيع صك التسليم، نهض مغضباً وصاح: "لا تخدعوا أنفسكم، ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة ملكهم. إن الموت أقل ما نخشى، فأمامنا نهب مدننا وتدميرها، وتدنيس مساجدنا، وتخريب بيوتنا، وهتك بناتنا ونسائنا، وأمامنا الجور الفاحش، والتعصب الوحشي، والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والأنطاع والمحارق. هذا ما سوف نعاني من مصائب وعسف، وهذا ما سوف تراه على الأقل تلك النفوس الوضيعة التي تخشى الآن الموت الشريف. أما أنا، فوالله لن أراه". ثم غادر المجلس، واخترق بهو الأسود (كورة السباع) عابساً حزيناً، وجاز إلى أبهاء
_______
(1) Conde , ibid; V. 111. P. 256-257.(2/267)
الحمراء الخارجية، دون أن يرمق أحداً، أو يفوه بكلمة، ثم ذهب إلى داره، وغطى نفسه بسلاحه، واقتعد غارب جواده المحبوب، واخترق شوارع غرناطة حتى غادرها من باب إلبيرة، ولم يره إنسان أو يسمع به بعد ذلك قط، هذا ما تقوله الرواية القشتالية عن نهاية موسى بن أبي الغسان (1)، ولكن مؤرخاً إسبانياً هو القس أنطونيو أجابيدا يحاول أن يلقي ضوءاً على مصيره فيقول: إن سرية من الفرسان النصارى تبلغ الخمسة عشر، التقت ذلك المساء بعينه، على ضفة نهر شنيل بفارس مسلم قد دجّجه السلاح من رأسه إلى قدمه، وكان مغلقاً خوذته شاهراً رمحه، وكان جواده غارقاً مثله في رداء من الصلب. فلما رأوه مقبلاًَ عليهم، طلبوا إليه أن يقف، وأن يعرف بنفسه، فلم يجب الفارس المسلم، ولكنه وثب إلى وسطهم، وطعن أحدهم برمحه وانتزعه عن سرجه فألقاه إلى الأرض، ثم انقضَّ على الباقين يثخن فيهم طعاناً، وكانت ضرباته ثائرة قاتلة، وكأنه لم يشعر بما أثخنه من جراح، ولم يرد إلاّ أن يقتل وأن يسيل الدم، وكأنه إنما يقاتل للانتقام فقط، وكأنّه يتوق إلى أن يُقتل دون أن يعيش لينعم بظفره. وهكذا لبث يبطش بالفرسان النصارى حتى أفنى معظمهم، غير أنه أصيب في النهاية بجرح خطر، ثم سقط جواده من تحته بطعنة أخرى، فسقط إلى الأرض، ولكنه ركع على ركبتيه واستل خنجره، وأخذ يناضل عن نفسه. فلما رأى أن قواه قد نضبت، ولم يرد أن يقع أسيراً في يد خصومه ارتد إلى ما وراءه بوثبة أخيرة، وألقى بنفسه إلى مياه النهر، فابتلعته لفوره، ودفعه سلاحه الثقيل إلى الأعماق. وهذا الفارس الملثم هو موسى بن أبي الغسّان، وإن بعض العرب المتنصرين في المعسكر عرفوا جواده المقتول (2).
وما كادت أنباء الموافقة على عهد التسليم تذاع، حتى عمّ الحزن ربوع
_______
(1) هذه هي رواية كوندي فيما نقل عن مصادر عربية غير معروفة. Conde; ibid. V. 111. P. 257.
(2) Irving: Conquest of Granada ; ch. 97.(2/268)
غرناطة، وتسرّبت في الوقت نفسه أنباء غامضة عن المعاهدة السرّية، وعما حققه أبو عبد الله ووزراؤه لأنفسهم من المغانم الخاصة، وسرى الهمس بين العامة، واضطرم سواد الشعب يأساً وسخطاً على قادته، ولا سيما أبي عبد الله الذي اعتبر مصدر كل مصائبه ومحنه، وتعالى النداء بوجوب الدفاع عن المدينة حتى الرمق الأخير، وحدثت حركة انتقاض، خشي أبو عبد الله والقادة أن تقضي على خططهم وتدابيرهم، ولكنها انهارت قبل أن تنتظم، وأضحى كل فرد يفكر في مصيره.
واستقبل المسلمون عهود ملك قشتالة في تردّد وتوجّس، والشك يساورهم في إخلاص أعدائهم، وإزاء ذلك أعلن الملكان الكاثوليكيان في يوم 29 تشرين الثاني - نوفمبر، مع قسم رسمي بالله أن جميع المسلمين سيكون لهم مطلق الحرية في العمل في أراضيهم أو حيث شاءوا، وأن يحتفظوا بشعائر دينهم ومساجدهم كما كانوا، وأن يسمح لمن شاء منهم بالهجرة إلى المغرب. ولكن الأيمان والعهود لم تكن - حسبما تقدّم - عند ملكي قشتالة، سوى ذريعة للخيانة والغدر، ووسيلة لتحقيق المآرب بطريق الخديعة الشائنة. وقد كانت هذه أبرز صفات فرديناند الكاثوليكي، فهو لم يتردّد قط في أن يعمل لتحقيق غاياته بأي الوسائل، أو أن يقطع أي عهد أو يقدّم أي تأكيد، دون أن ينوي قط الوفاء بما تعهّد.
ولكن الشعب الغرناطي استمرّ في وجومه وتوجسه ويأسه، ولم تهدأ الخواطر المضطرمة، وكان أبو عبد الله والقادة يخشون تفاقم الأحوال، وإفلات الأمر من أيديهم، فاعتزموا العمل على التعجيل بالتسليم، حرصاً على سلامة المدينة وسلامة الزعماء، وألاّ ينتظروا مرور الستين يوماً التي نصت عليها المعاهدة. وفي 20 كانون الأول - ديسمبر، أرسل أبو عبد الله وزيره يوسف كماشة إلى فرديناند مع خمسمائة من الرهائن من الوجوه والأعيان، تنفيذاً لنص المعاهدة، وليعرب له عن حسن نية مليكه واستعداده، كما حمل إليه هدية تتألف من سيف ملوكي وجوادين عربيين مسرجين بعدد(2/269)
ثمينة. واتفق مع ملك قشتالة على تسليم المدينة (في الثاني من كانون الثاني - يناير 1492 م) أي لتسع وثلاثين يوماً فقط من توقيع عهد التسليم.
وفي صباح يوم احتلال القشتاليين غرناطة، كان العسكر النصراني في شنتفى يموج بالضجيج والابتهاج، وكانت الأوامر قد صدرت، والأهبة قد اتخذت لاحتلال المدينة. وكان قد اتفق بين أبي عبد الله والملك فرديناند أن تطلق من الحمراء ثلاثة مدافع تكون إيذاناً بالتسليم. ولم يشأ فرديناند أن يسير إلى الحاضرة الإسلامية بنفسه، قبل التحقق من خضوعها التام، واستتباب الأمن والسلامة فيها، فأرسل إليها قوة من ثلاثة آلاف جندي وسرية من الفرسان، وعلى رأسها الكاردينال بيدرو دى مندوسا مطران إسبانيا الأكبر. وكان من المتفق عليه أيضاً بين فرديناند وأبي عبد الله، ألاّ يخترق الجيش النصراني شوارع المدينة، بل يسير توّاً إلى قصبة الحمراء، حتى لا يقع حادث أو شغب، ومن ثم فقد اخترق الجند القشتاليون الفحص إلى ضاحية أرميليا ( Armilla) - ( أرملة) الواقعة جنوبي غرناطة، ثم عبروا نهر شنيل واتجهوا توّاً إلى قصر الحمراء من ناحية التل المسمى: (تل الرّحى)، الواقع غربي المدينة وجنوبي غربي الحمراء ( Quest de los Molinos) .
وسار الملك فرديناند في الوقت نفسه في قوّة أخرى، ورابط على ضفة شنيل، ومن حوله أكابر الفرسان والخاصة في ثيابهم الزاهية، حتى يمهد الكاردينال الطريق لمقدم الركب الملكي. وانتظرت الملكة إيزابيلا في سرية أخرى من الفرسان في أرميليا على قيد مسافة قريبة. ووصل الجند القشتاليون إلى مدينة غرناطة من هذه الطريق المنحرفة نحو الظهر. وكانت أبواب الحمراء قد فتحت وأخليت أبهاؤها استعداداً للساعة الحاسمة.
وهنا تختلف الرواية، فيقال: إن الذي استقبل الكاردينال مندوسا وصحبه هو الوزير ابن كماشة، الذي ندب للقيام بتلك المهمة المؤلمة، وسلم الحرس المسلمون السلاح والأبراج. وكان يسود المدينة كلها، ويسود القصبة والقصر وما إليه، سكون الموت.(2/270)
وفي رواية أخرى، إن أبا عبد الله قد شهد بنفسه تسليم الحمراء، وأنه حينما تقدم القشتاليون من تل الرحى صاعدين نحو الحمراء، تقدم أبو عبد الله من باب الطباق السبع راجلاً، يتبعه خمسون من فرسانه وحشمه، فلما عرف الكاردينال أبا عبد الله، ترجّل عن جواده، وتقدّم إلى لقائه، وحيّاه باحترام وحفاوة، ثم ابتعد الرجلان قليلاً، وتحدّثا برهة على انفراد. ثم قال أبو عبد الله بصوت مسموع (1): "هيا يا سيدي، في هذه الساعة الطيبة، وتسلّم هذه القصور - قصوري - باسم الملكين العظيمين اللذين أراد لهما الله القادر، أن يستوليا عليها، لفضائلهما، وزلاّت المسلمين"، فوجّه الكاردينال إلى أبي عبد الله بعض عبارات المواساة، ودعاه لأن يقيم في خيمته في المعسكر الملكي طيلة الوقت الذي يمكثه في شنتفي، فقبل أبو عبد الله شاكراً.
وتم تسليم القصور الملكية والأبراج على يد الوزير ابن كماشة الذي ندبه أبو عبد الله للقيام بهذه المهمة، وما كاد الكاردينال وصحبه يجوزون إلى داخل القصر الإسلامي المنيف، حتى رفعوا فوق برجه الأعلى، وهو المسمى (برج الحراسة) - ( Torre de la Vela) صليباً فضياً كبيراً، هو الذي كان يحمله الملك فرديناند خلال حرب غرناطة، كما رفعوا إلى جانبه علم قشتالة وعلم القديس ياقب، وأعلن المنادي فوق البرج بصوت جهوري ثلاثاً: أن غرناطة أصبحت ملكاً للملكين الكاثوليكيين، وأطلقت المدافع تدوي في الفضاء. ثم انطلقت فرقة الرهبان الملكية ترتل صلاة: (الحمد لله) Te Deian laudam على أنغام الموسيقى. وهكذا كان كل ما هنالك يؤكد الصفة الصليبية العميقة لهذه الحرب التي شهرتها إسبانيا النصرانية على الأمة الأندلسية، وعلى الإسلام في إسبانيا.
وفي أثناء ذلك، كان أبو عبد الله في طريقه إلى لقاء الملك الكاثوليكي،
_______
(1) المفروض أنَّ أبا عبد الله كان يتحدّث القشتالية، وهي لغة يجيد التكلّم بها. فإذا كان قد تكلّم بالعربية، فمن المفروض أن الكاردينال يحسنها، وكانت العربية شائعة ليس في الأندلس حسب، بل عالمياً.(2/271)
وكان فرديناند يرابط - كما قدّمنا - على ضفة نهر شنيل على مقربة من المسجد، الذي حوّل فيما بعد إلى كنيسة "سان سبستيان"، وهناك لقي عبد الله عدوّه الظافر، وسلّمه مفاتيح الحمراء. وكذلك قدّم أبو عبد الله خاتمه الذهبي الذي كان يوقع به على الأوامر الرسمية، إلى الكونت دى تندليا الذي عُيِّن محافظاً للمدينة.
وسار في صحبه بعد ذلك في طريق شنتفى، يتبعه أهله، أمّه وزوجه وأخواته، وكان موكباً مؤسياً، وعرّج في طريقه على محلّة الملكة إيزابيلا في أرميليا، فاستقبلته وأسرته برقّة ومجاملة، وحاولت تخفيف آلامه، وسلّمته ولده الصغير الذي كان ضمن رهائن التسليم.
وهنا تعود الرواية، فتختلف اختلافاً بيناً، فيقول بعضهم: إن الملكين الكاثوليكيين دخلا قصر الحمراء في نفس اليوم. وينفي بعضهم ذلك، ومنهم صاحب "أخبار العصر"، ويقول: "إنهما لم يدخلا إلاّ بعد ذلك ببضعة أيام".
تقول الرواية الأولى: إن إيزابيلا سارت على أثر استقبالها لأبي عبد الله، وانضمت بصحبها إلى الملك فرديناند، ثم سار الإثنان إلى الحمراء، بينما انتشر الجند القشتاليون في الساحة المجاورة، ودخل الملكان من "باب الشريعة"، حيث استقبلهما الكاردينال مندوسا والوزير ابن كماشة، وأعطى مفاتيح الحمراء إلى الكونت ديجو دى تندليا الذي عُين حاكماً للمدينة، وبعد أن تجوّل الملكان قليلاً في القصر، وشهدا جماله وروعته، عادا إلى شنتفى وبقي الكونت دي تندليا في الحمراء مع حامية قوية في خمسمائة جندي. ثم عاد الملكان، فزارا الحمراء زيارتهما الرسمية في 6 كانون الثاني - يناير، وسارا في موكب فخم من الأمراء والكبراء وأشراف العقائل، ودخلا غرناطة من باب إلبيرة، ثم جازا إلى الحمراء من طريق غمارة، ودخلا قصر الحمراء، وجلسا في بهو قمارش أو المشور (1)، حيث كان يجلس الملوك المسلمون في
_______
(1) وهو المسمى أيضاً بهو السفراء.(2/272)
نفس المكان على عرشهم، على عرش أعدّه الكونت دى تندليا، وهناك أقبل أشراف قشتالة للتهنئة، وكذلك بعض الفرسان المسلمين، الذين أتوا ليقدموا شعائر التحية والتجلة لسادتهم الجدد. وفي خلال ذلك كان الملكان الكاثوليكيان قد أفرجا عن رهائن المسلمين الخمسمائة، وفي مقدمتهم ولد أبي عبد الله، وأفرج المسلمون من جانبهم عن الأسرى النصارى، وعددهم نحو سبعمائة أسير رجالاً ونساء، وتعهّد القشتاليون من جانبهم أن يطلقوا سراح الأسرى المسلمين في سائر مملكة قشتالة، في ظرف خمسة أشهر بالنسبة للأسرى الموجودين في الأندلس، وثمانية أشهر بالنسبة للأسرى الموجودين في بقية أراضي قشتالة.
تلك هي خلاصة الرواية القشتالية عن تسليم غرناطة ومدينة الحمراء للملكين الكاثوليكيين. بيد أن هناك رواية أخرى لشاهد عيان، كتبها فارس فرنسي كان يقاتل في صفوف الجيش القشتالي، وشهد بنفسه حفلات التسليم، ونشرت روايته في القرن السادس عشر ضمن مؤلف عنوانه ( La Mar de las Historias بحر التواريخ)، وهذه خلاصتها: إن الذي أوفده الملكان لاستلام الحمراء في يوم 2 كانون الثاني - يناير، هو الأستاذ الأعظم، رئيس جمعية شنت ياقب، جوتيري دى كارديناس، وليس الكاردينال مندوسا حسبما تروي التواريخ القشتالية، وأنه تسلم القصر والأبراج، وأخرج منها الحرس المسلمين، ووضع بها الحرس النصارى، وأنه رفع الصليب الكبير فوق برج الحراسة ثلاث مرات، والمسلمون من أسفل يصعدون الزفرات ويذرفون الدموع، ثم لوّح بعد ذلك بعلم شنت ياقب ثلاث مرات، ونصب إلى جانب الصليب، وصاح المنادي بعد ذلك: القديس يعقوب ثلاثاً، قشتالة ثلاثاً، غرناطة لسيدنا الدون فرناندو ودوينا إيزابيلا ثلاثاً.
وأن الملك فرديناند لما رأى الصليب، وهو في جنده، من أسفل، ترجّل وجثا على ركبتيه، وجثا الجند جميعاً شكراً لله، ثم أطلقت المدافع ابتهاجاً.
وفي اليوم التالي: الثالث من كانون الثاني - يناير، سار الكاردينال مندوسا(2/273)
والكونت دى تندليا، الذي عُيّن محافظاً للحمراء، إلى قصبة الحمراء في نحو ألف فارس وألفي راجل، وسلّم إليه الأستاذ الأعظم مفاتيح القصر والحصن، وفي اليوم الثامن من كانون الثاني - يناير، سار الملكان الكاثوليكيان إلى غرناطة في موكب حافل من الأمراء والأكابر والأحبار والأشراف، وتسلّم الملكان مدينة الحمراء بصفة رسمية، وأقيم القداس في الجامع الأعظم، وحُوِّل الجامع منذ ذلك اليوم إلى كتدرائية غرناطة. وفي ذلك اليوم أقيمت مأدبة عظيمة في قصر الحمراء، ومدّت الموائد الحافلة في أبهاء القصر العظيمة، وجلس إليها الملكان والأمراء والعظماء، وكانت مأدبة رائعة.
ويستخلص من هذه الرواية التي يؤيدها مؤرخون آخرون، أن أبا عبد الله لم يستقبل الملكين الكاثوليكيين، ولا مندوبيهما وقت التسليم، ولم تقع بينه وبين الكاردينال ولا بين الملكين، الأحاديث التي سبقت الإشارة إليها.
وإلى جانب ذلك، يرى بعض النقدة المحدثين، أن أبا عبد الله حينما خرج للقاء الملكين الكاثوليكيين، قد فعل ذلك وهو في صحبه وحشمه فقط دون أهله، وأنه خرج يومئذٍ من داره الملكية الخاصة بحي البيازين، ولم يخرج من قصر الحمراء، وأنه كان يعيش في هذه الدار مع أهله وولده مذ عاد من الأسر، حتى أعلن الخلاف والحرب على الملكين الكاثوليكيين، وأنه كان يشعر وهو في هذه الدار، أنه بين أنصاره ومؤيديه. وأخيراً أنه كان قد أمر بإخلاء قصر الحمراء، وندب مَن يقوم بمهمّة التسليم في اليوم الثاني من كانون الثاني - يناير. وفي هذا اليوم، خرج في نفر من صحبه ليقدّم إلى الملكين الكاثوليكيين شعائر التحية والخضوع، ثم عاد إلى داره فبقي بها أياماً، حتى سويت مسألة مصيره مع الملكين الكاثوليكيين. على أنه يبدو لنا من تتبع حوادث حصار غرناطة، وما تلاه من مفاوضات على التسليم، أن الرواية الراجحة في هذا الشأن، هو أن أبا عبد الله، حتى مع افتراض أنه لم يشهد رسوم التسليم، ولم يقم بها بنفسه، كان يقيم بقصر الحمراء، يحيط به وزراؤه وقواده طيلة هذه الأحداث الخطيرة، أو على الأقل مذ بدأت(2/274)
مفاوضات التسليم بينه وبين الملكين الكاثوليكيين، ومذ أبرمت بينهما معاهدة التسليم، حتى يوم الحسم النهائي الذي تمّ فيه ذلك التسليم، وأنه خرج في ذلك اليوم المشهود من الحمراء للقاء عدوّه الظافر؛ ومن المعقول أن تكون الحمراء قد أخليت قبل ذلك استعداداً لتسليمها لسادتها الجدد، وذلك حسبما يشير إليه صاحب: "أخبار العصر" (1).
وتلقي الرواية الإسلامية المعاصرة لتلك الأحداث ضوءاً على دخول ملك قشتالة مدينة غرناطة، وتصفه على النحو التالي: "فلما كان اليوم الثاني لربيع الأول عام سبعة وتسعين وثمانمائة (2 كانون الثاني - يناير سنة 1492 م) أقبل ملك الروم بجيوشه، حتى قرب من البلد، وبعث جناحاً من جيشه فدخلوا مدينة الحمراء، وأقام هو ببقية الجيوش خارج البلد لأنه كان يخاف من الغدر، وكان طلب من أهل البلد حين وقع الاتفاق على ما ذكر، رهوناً من أهل البلد ليطمئن بذلك، فأعطوه خمسمائة رجل منهم، وأقعدهم بمحلته. فلما اطمأن من أهل البلد، ولم ير منهم غدراً، سرّح جنوده لدخول البلد والحمراء، فدخل منهم خلق كثير، وبقي خارج البلد، وأشحن الحمراء بكثير من الدقيق والطعام والعُدّة، وترك فيها قائداً من قواده، وانصرف راجعاً إلى محلته ... ثم إن ملك الروم سرّح الناس الذين كانوا عنده مرتهنين، ومؤمنين في أموالهم وأنفسهم مكرّمين، وأقبل في جيوشه حين أطمأن، فدخل مدينة الحمراء في بعض خواصه، وبقي الجند خارج البلد، وبقي يتنزه في الحمراء في القصور والمنازه المشيدة إلى آخر النهار، ثم خرج بجنوده وصار إلى محلته، فمن غدٍ أخذ في بناء الحمراء وتشييدها، وتحصينها، وإصلاح شأنها، وفتح طرقها، وهو مع ذلك يتردّد على الحمراء بالنهار ويرجع بالليل، فلم يزل كذلك إلى أن اطمأنت نفسه من غدر المسلمين، فحينئذٍ دخل البلد، ودار فيه في نفر من قومه وحشمه ... " (2).
_______
(1) أخبار العصر (50).
(2) أخبار العصر (50 - 51).(2/275)
وهكذا اختتمت المأساة الأندلسية، واستولى القشتاليون على غرناطة آخر الحواضر الإسلامية في إسبانيا، وخفق علم النصرانية ظافراً فوق صرح الإسلام المغلوب، وانتهت بذلك دولة الإسلام بالأندلس، وطويت إلى الأبد تلك الصفحة المجيدة المؤثرة من تاريخ الإسلام، وقضي على الحضارة الأندلسية الباهرة، وآدابها وعلومها وفنونها، وكل ذلك التراث الشامخ، بالفناء.
شهد المسلمون احتلال العدو الظافر لحاضرتهم ودار ملكهم وموطن آبائهم وأجدادهم، وقلوبهم تتقطر حزناً وأسى، على أن هذه المناظر المحزنة، كانت تحجب مأساة أليمة أخرى، تلك مأساة الملك التعس أبي عبد الله آخر ملوك بني الأحمر وآخر ملوك الإسلام بالأندلس. فقد تقرّر مصيره وبُيٍّنت حقوقه وامتيازاته وفقاً للمعاهدة السريّة التي عقدت بينه وبين الملكين الكاثوليكيين. وقد نصت المعاهدة المذكورة على أن يُقطَع أبو عبد الله طائفة من الأراضي والضياع في: برجة، ودلاية، وأندراش، وأجيجر، وأرجبة، ولوشار، وبضعة بلاد أخرى من أعمال منطقة البشرات، وهذه البلاد يقع بعضها في جنوب غربي ولاية ألمرية، وبعضها الآخر قبالتها في جنوب شرقي ولاية غرناطة، وأن يحكم أبو عبد الله في هذه المنطقة باسم ملك قشتالة وتحت حمايته، ويتمتع بدخلها وسائر غلاتها وحقوقها. وقد حُدّدت إقامته أو اختار هو الإقامة في إحداها وهي بلدة أندرش الواقعة على النهر المسمى بهذا الاسم شمال برجة.
ولما اقترب اليوم المروّع - يوم التسليم - قام أبو عبد الله باتخاذ أهبته للرحيل مع أهله وحشمه وخاصته. وفي صباح اليوم الثاني من كانون الثاني - يناير 1492 م، في الوقت الذي اقترب فيه النصارى من أسوار غرناطة، كان أبو عبد الله قد غادر قصره وموطن عزّه ومجد آبائه إلى الأبد، في مناظر تثير الأسى والشجن.
وهناك روايتان، فهل خرج أبو عبد الله عندئذٍ لآخر مرة من الحمراء مع أهله(2/276)
وحشمه وأمتعته؟ أم خرج بمفرده في صحبه من الحمراء للقاء الملكين الكاثوليكيين، ثم لحق به بعد ذلك ركب أهله وأمتعته؟ وهل سار تواً إلى طريق البشرات حيث تعيَّن محل إقامته، أم عرّج على المعسكر القشتالي الملكي في شنتفى، فلبث فيه مع أهله أياماً، ثم سار بعد ذلك إلى البشرات؟
أما الرواية الأولى، وهي أكثر الروايات ذيوعاً لدى المؤرخين القشتاليين، فتقول: في فجر اليوم الثاني من كانون الثاني - يناير، وهو اليوم الذي حُدّد لتسليم الحمراء. كان ضجيج البكاء يتردّد في غرف قصر الحمراء وأبهائه، وكانت الحاشية منهمكة في حزم أمتعة الملك المخلوع وآله، وساد الوجوم كل محيّا، واحتبست الزفرات في الصدور. وما كادت تباشير الصبح تبدو، حتى غادر القصر ركب قاتم مؤثر، وهو ركب الملك المنفى، يحمل أمواله وأمتعته، ومن ورائه أهله وصحبه القلائل، وحوله كوكبة من الفرسان المخلصين. وكانت أمّه الأميرة عائشة تمتطي صهوة جوادها، يشع الحزن من محيّاها الوقور، وكان باقي السيدات من آله وحشمه، يرسلن الزفرات العميقة والدموع السخينة. واخترق الركب غرناطة في صمت البكور وستره، وحين بلغ الباب الذي سيغادر منه المدينة إلى الأبد، ضجّ الحراس بالبكاء لرؤية هذا المنظر المؤلم، ثم اتجه الركب شطر نهر شنيل في طريق البشرات. وأما أبو عبد الله، فقد اتجه إلى وجهة أخرى ليتجرّع كأسه المرّة إلى الثمالة، وكان قد تقرر اللقاء في صباح ذلك اليوم بينه وبين ملك قشتالة، فخرج من باب مدينة الحمراء المسمى: باب الطباق السبع ( Siete Svelos) ، وفي طريقه إلى لقاء عدوه الظافر وسيده الجديد، في نفرٍ من الفرسان والخاصة. فاستقبله فرديناند بترحاب وحفاوة في محلّته على ضفة نهر شنيل، وحين لمح أبو عبد الله فرديناند همّ بترك جواده، ولكن فرديناند بادر بمنعه، وعانقه بعطف ومودّة، فقبل أبو عبد الله ذراعه اليمنى إيماءة الخضوع. ثم قدم إليه مفتاحي البابين الرئيسيين للحمراء قائلاً: "إنهما مفتاحي هذه الجنّة. وهما الأثر الأخير لدولة المسلمين في إسبانيا، وقد أصبحت أيها الملك سيّد تراثنا وديارنا(2/277)
وأشخاصنا، وهكذا قضى الله، فكن في ظفرك رحيماً عادلاً". وتناول فرديناند المفتاحين قائلاً: "لا تشك في وعودنا، ولا تعوزنك الثقة خلال المحنة، وسوف تعوّض لك صداقتنا ما سلبه القدر منك" (1). بيد أن مؤرخاً قشتالياً عاش قريباً من ذلك العصر، يقدم إلينا رواية أخرى ربما كانت أقرب إلى الصحة والمعقول، وهي أن مفاتيح الحمراء قدَّمها القائد ابن كماشة مأمور التسليم إلى الملك فرديناند حينما وصل إلى الباب الرئيس، وأن فرديناند ناولها إلى قائده كونت دي مندوسا (كونت دي تندليا) الذي عيّنه حاكماً عسكرياً لغرناطة (2). وسار أبو عبد الله بعد ذلك صحبة فرديناند، إلى حيث كانت الملك إيزابيلا في ضاحية أرمليا، فقدم إليها تحياته وطاعته، ثم ارتد إلى طريق البشرات، ليلتحق بأسرته وخاصته. وأشرف أثناء مسيره في شعب تلّ البذول (بادول) على منظر غرناطة، فوقف يسرح نظره لآخر مرة في هاتيك الربوع العزيزة التي ترعرع فيها وشهدت عزّه وسلطانه، فانهمر في الحال دمعه، وأجهش بالبكاء، فصاحت به أمه عائشة: "أجل! فلتبك كالنساء، ملكاً لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال"، وتعرف الرواية الإسبانية تلك الأكمة التي كانت مسرحاً لذلك المنظر المحزن باسم شعري مؤثِّر هو: "زفرة العربي الأخيرة"، وما تزال قائمة معروفة حتى اليوم، يعينها سكان تلك المنطقة للسائح المتجوّل.
والباب الذي خرج منه أبو عبد الله لآخر مرة، وهو باب الطباق السبع، قد سُدّ بعد خروجه منه برجاء منه إلى ملك قشتالة، وبني مكانه حتى لا يجوزه من بعده إنسان (3). وما زالت الرواية تعيّن لنا مكان هذا الباب بين الأطلال
_______
(1) تردّد معظم التواريخ القشتالية اللاّحقة وصف هذا المنظر وذكر قصة أبي عبد الله أنظر: L. Alcantra; ibid; V. 111. P. 73
(2) Luis del Marmol: Rebelian Y Costigo de los Moriscos de Granada, Lib. 1, Cor. XX.
(3) Marmol ; ibid. 1; Cor. XX; L. Alcantra, ibid; V. 111. P. 80.(2/278)
الدارسة. وهو يقع في طرف الهضبة في الجنوب الشرقي منها على مقربة من: (برج الماء)، والذي رآه يشهد أنه قد سد فراغه حقيقة بالبناء.
وأما الرواية الأخرى، وهي الأقل ذيوعاً، فخلاصتها أن أبا عبد الله خرج من الحمراء صبيحة يوم التسليم بمفرده وفي نفرٍ من صحبه إلى لقاء الملكين الكاثوليكيين، وخرج بعد ذلك ركب أهله وأمتعته من الدار الملكية بحي البيازين ليلتقي به بعد انتهاء مهمته، وأنه لم يسر بعد ذلك توّاً إلى البشرات، بل سار بأهله وأمتعته إلى المعسكر القشتالي في شنتفى، فقضى به أياماً، حتى سوّيت المسائل المتعلقة بمصيره، ثم سار الجميع بعد ذلك إلى أندراش التي اختارها أبو عبد الله مقراً ومقاماً.
3 - عاقبة الملك المتخاذل
كان لسقوط غرناطة وانتهاء دولة الإسلام في الأندلس، وقع عميق في الضفة الأخرى من البحر، في أمم المغرب التي لبثت عصوراً ترتبط بالأندلس بأوثق الروابط، وفي سائر العالم الإسلامي.
وكان له أيضاً وقعه العميق في سائر الأمم النصرانية، فقد ابتهجت له أيّما ابتهاج، واعتبرته من بعض الوجوه عوضاً لسقوط القسطنطينية في قبضة الإسلام قبل ذلك بأربعين عاماً. ورحبت سائر قصور أوروبا بالنبأ، وأقامت لإحيائه الحفلات الدينية والمدنية منوهة بفضل فرديناند وإيزابيلا في تحقيق هذه الأمنية العظيمة (1).
ولنبدأ الحديث عن مصير الملك المنكود أبي عبد الله محمد بن علي آخر ملوك الأندلس، دقد غادر غرناطة ساعة استيلاء النصارى عليها، وسار مع آله وصحبه وحشمه إلى منطقة البشرات، واستقر هناك في بلدة أندراش، وهي
_______
(1) Prescott: Ferd and Isabella. P. 299 والهامش.(2/279)
إحدى البلاد التي أقطعت له في تلك المنطقة ليقيم فيها في ظل ملك قشتالة وتحت حمايته. وصحبه إلى وطنه الجديد كثير من الفرسان والسادة والفقهاء، وفي مقدمتهم وزيراه: يوسف بن كماشة، وأبو القاسم عبد الملك (المليخ)، وكانا ألصق الناس به، وأقربهم إلى ثقته. وكانت أسرة السلطان المنفي تتألف من والدته السلطانة عائشة، وأخته عائشة، وزوجه مريم (أو مريمة)، وولده الصغير (1). أما أخوه الأصغر يوسف، فكان قد قتل في ألمرية أيام الفتنة بتحريض أبيه السلطان أبي الحسن أو عمه أبي عبد الله الزغل.
وكان أبو عبد الله، عندئذ فتى في نحو الثلاثين من عمره، وبالرغم من أننا لا نعرف بالضبط تاريخ مولده، فإن صديقه المؤرخ القشتالي هرناندو دى بايثا يقول لنا: إنه كان في نحو العشرين، يوم استطاع الفرار من سجن أبيه السلطان أبي الحسن في سنة (887 هـ - 1482 م)، وبذلك يكون سنّه يوم تسليم غرناطة نحو الثلاثين (2). وقد تركت لنا الرواية القشتالية المعاصرة تلك، وصفاً لشخص أبي عبد الله، خلاصتها أنه كان ممشوق القد، حسن الطلعة، شاحب اللّون، له عينان سوداوان نجلاوان، ولحية قوية (3). وعاش أبو عبد الله وآله
_______
(1) تشير بعض الوثائق المعقودة بين الملكين الكاثوليكيين وأبي عبد الله إلى: أخواته، مما يدلّ على أنه كانت له أكثر من أخت، والمرجّح أن عائشة كانت كبراهنّ.
(2) راجع رواية: Hernando de Baeza القشتالية المنشورة ضمن كتاب: أخبار العصر (63).
(3) Lafuente Alcantra, ibid, V. 111. P. 74.، وقد انتهت إلينا لأبي عبد الله صورتان إسبانيتان، كانت تحفظ إحداهما بمتحف جنة العريف قبل إلغائه، وفيها يبدو أبو عبد الله بوجه وسيم ولون جميل وشعر أصفر ولحية مفروقة، ويرتدي ثوباً أصفر، يظلّله حرير أسود، وعلى رأسه قلنسوة عالية. والصورة الثانية تحفظ اليوم بمتحف غرناطة المسمى: ( Casa de las Tivos) والمعروف أنّها رُسمت لأبي عبد الله حينما كان في أسر الملكين الكاثوليكيين، عقب معركة اللسانة، وهي عبارة عن لوحة صغيرة الحجم، وفيها يبدو أبو عبد الله فتى في عنفوانه، بوجه عريض وأنف منسّق، وعينين خضراوين ونظرات حادّة، تغشاها الكآبة، وشعر كستني غزير، ولحية صغيرة مفروقة، وقد رسمت حول عنقه حلقة رمزية لوقوعه في الأسر.(2/280)
وصحبه في تلك المملكة الصغيرة الذليلة حيناً، وأنشأ له في أندراش بلاطاً صغيراً، وكان يعيش هناك في ترف ورغد، وكان يعشق الصيد ويقضي فيه كثيراً من أوقاته، ويجوب أطراف مملكته الصغيرة فوق جواده (1).
وكان فرديناند وإيزابيلا، بالرغم من انتصارهما وقضائهما الأخير على المملكة الأندلسية، قد لبثا يتوجسان من أعماق نفسيهما، من بقاء السلطان المخلوع في الأراضي الإسبانية، ويخشيان أن يكون مثار القلاقل والفتن، ويتوقان إلى إبعاده وحاشيته عنها، مبالغة في الحيطة، واتقاءً لكل خطر. وكان يفرضان على أبي عبد الله رقابة صارمة، ويتلقيان أدق التقارير والأنباء، عن حركاته وسكناته، وكانت عيناهما الساهرة على رقابته، الوزيرين الماكرين يوسف كماشة وأبو القاسم عبد الملك. ولم يمض على إقامة أبي عبد الله في أندراش زهاء عام، حتى بدأ الملكان الكاثوليكيان يسعيان سراً في تحقيق غايتهما الأخيرة، وكان سبيلهما إلى ذلك ابن كماشة وأبا القاسم عبد الملك. ففي شهر آذار - مارس سنة (1493 م) وقعت مفاوضات جديدة بين الوزيرين وبين فرناندو دى ثافرا أمين الملكين الكاثوليكيين، في شأن مغادرة أبي عبد الله الأراضي الإسبانية، والعبور إلى المغرب. ويقال: إن أبا عبد الله لم يأذن لوزيريه في إجراء هذه المفاوضات، ولم يعلم بها حتى تمخضت عن مشروع جديد؛ يُقِرُّ فيه أبو عبد الله بتنازله عن جميع حقوقه وأملاكه، نظير ثمن معين، ويتعهد بالعبور إلى المغرب. ويقال: إن الملك المنكود حينما عرض عليه ابن كماشة هذا الاتفاق، ثار لعقده، وكاد يبطش بوزيره، ولكنه عاد فاستمع إلى نصح الوزير وشرحه، بأن البقاء في أرض العدو، وفي ظل العبودية والهوان، لم يبق له محل، وأنه ليس مكفول السلامة والطمأنينة، وأن العبور إلى أرض الإسلام خير وأبقى. ولعلّ أبا عبد الله نفسه قد أدرك، كما أدرك عمّه مولاي الزغل من قبل، أن تلك الحياة الذليلة التي
_______
(1) Lafuente Alcantra, ibid, V. 111. P. 74.(2/281)
فرضت عليه، لا تخلق له ولا تجمل، وأنه يستحيل عليه البقاء في هذا الوضع المؤلم، كتابع لملك قشتالة. وعلى أي حال، فقد اقتنع أبو عبد الله، بوجهة نظر وزيره، ولكنه أرسل أمينه ومدير شئونه أبا القاسم عبد الملك (المليخ) ليسعى إلى تعديل الاتفاق لمصلحته. وبعد مفاوضات جديدة، وُضع الاتفاق النهائي، الذي قبله السلطان المخلوع. وخلاصته: أنه يتعهد بالعبور إلى المغرب، في موعد أقصاه نهاية شهر تشرين الأول - أكتوبر سنة (1493 م)، وأنه يتنازل عن سائر ضياعه، في أندرش، ولوشار، وبرشينا وغيرها، وكذلك عن أملاكه الأخرى في غرناطة، بالبيع للملكين الكاثوليكيين، وذلك نظير ثمن إجمالي قدره واحد وعشرون ألف جنيه قشتالي (كاستليانو) من الذهب الحر، أو الدوقات المضروبة من الذهب الخالص. كما يتنازل أبو عبد الله عن اختصاصه المدني والجنائي، ويحمل إليه المال قبل رحيله بثمانية أيام، ويقدم إليه الملكان عربتين لحمل متاعه، وسفناً ينتقل عليها مع صحبه إلى المغرب. ويتضمن الاتفاق نصوصاً أخرى ببيع الأميرات لأملاكهن إلى الملكين الكاثوليكيين وكذلك يبيع الوزير ابن كماشة والوزير أبو القاسم كلَّ أملاكه، نظير مقادير من المال.
ويحمل هذا الاتفاق تاريخ (15 نيسان - أبريل سنة 1493 م)، كما يحمل في ذيله موافقة أبي عبد الله بالعربية ممهورة بتوقيعه وخاتمه، وهي تدل بألفاظها ومعانيها على كثير من العبر المؤلمة: "الحمد لله إلى السلطان والسلطانة أضْيَافي، أنا الأمير محمد بن علي بن نصر خديمكم، وصلتني من مقامكم العلي. العقد وفيه جميع الفصول التي عقدها عني وبكم التقديم، من خديمي القائد أبو القاسم المليخ، ووصلت بخط يدكم الكريمة عليها، وبطابعكم العزيزة، كيف هي مذكورة بهذا الذي هي تصلكم. وإني نوفى ونحلف أني رضيت بها، بكلام الوفا مثل خديم جيد. وترى هذا خط يدي وطابعي أرقيته عليها، لتظهر صحّة قولي. ووصلت بتاريخ الثالث والعشرين من شهر رمضان المعظم عام ثمانية وتسعون وثمانمائة. أنا كاتبه محمد بن(2/282)
علي بن نصر، رضيت وقبلت جميع ما في هذا المكتوب الثابت وتقبل بيدي إلى أضيافي السلطان والسلطانة مُدَّ لي هناكما".
وتوفيت زوجته قبل رحيله، فلم يحل هذا الرزء دون مضيّه في اتخاذ أهبة الرحيل، وفي أوائل شهر تشرين الأول - أكتوبر سنة (1493 م) غادر أبو عبد الله الوطن في غمرة من الحسرات والأسى، وجاز إلى المغرب بأسرته وأمواله وحشمه، من ثغر أدرة الصغير الواقع جنوبي برجة، في سفينة كبيرة أُعدّت لرحيله، وعبر في نفس الوقت من ثغر المنكب عدد كبير من الوزراء والقادة والأكابر، في صحبته ممن آثروا الرحيل، وبلغ جميع الذين عبروا مع الملك المخلوع ألفاً ومائة وثلاثين شخصاً (1).
_______
(1) Lafuente Alcantra, ibid; V. 111. P. 81.، ويقول صاحب أخبار العصر: إنَّ الذين رحلوا مع أبي عبد الله بلغوا نحو سبعمائة فقط.(2/283)
4 - أبو عبد الله في المغرب ودفاعه عن نفسه
نزل أبو عبد الله أولاً في مليلة، ثم قصد إلى فاس واستقر بها (1)، وتقدّم إلى ملكها السلطان أبي عبد الله محمد الشيخ، زعيم وَطّاس (2) الذين خلفوا بني مرين في الملك مستجيراً به، مستظلاً بلوائه ورعايته، معتدْراً عما أصاب الإسلام في الأندلس على يده، متبرئاً مما نسب إليه من إثم وتفريط في حق الوطن والدين.
وهذا الدفاع الشهير الذي يقدّمه أبو عبد الله إلينا عن موقفه وتصرفه، هو قطعة رائعة من الفصاحة السياسية والبيان الساحر، وهو يدل في روحه وقوته وروعته، على فداحة التبعة التي شعر آخر ملوك الأندلس أنه يحملها أمام الله والتاريخ، وأمام الأمم الإسلامية والأجيال القادمة كلها، على أن هذا الأمير المنكود لم يرد أن ينحدر إلى غمرة النسيان والعدم، محكوماً عليه دون أن يبسط للتاريخ قضيته، فيصدر حكمه فيها على ضوء أقواله ودفاعه.
وقد كتب هذا الدفاع الشهير الفريد في التاريخ الإسلامي، على لسان أبي عبد الله وزيره وكاتبه، محمد بن عبد الله العربي العقيلي، في رسالة مستفيضة مؤثرة، موجهة إلى ملك فاس، وجعل لها عنواناً شعرياً مشجياً هو: "الروض العاطر الأنفاس في التوسل إلى المولى الإمام سلطان فاس". وقد كان العقيلي من أعلام البلاغة في هذا العصر. ولما عوّل أبو عبد الله على الرّحيل إلى
_______
(1) أزهار الرياض (1/ 67 و 71).
(2) هم بطن من بطون بني مرين، وقد ظهروا في بداية أمرهم بتولي الوزارة، ونشأت بينهم وبين بني مرين فيما بعد خصومة ومنافسة. وقام كبيرهم ومؤسس دولتهم أبو عبد الله محمد الشيخ بن زكريا أولاًَ في ثغر أصيلا، واستفحل أمره ثم زحف على فاس واستولى عليها في سنة (876 هـ) = (1472 م) ثم غلبت على سائر الجهات والقبائل المحيطة بها وقامت فوق أنقاض ملك بني مرين دولة مغربية جديدة.(2/284)
المغرب، جاز العقيلي البحر مع أميره، وجازت قبل سقوط غرناطة وبعده إلى المغرب جمهرة كبيرة من أقطاب العلم والأدب، هم البقية الباقية من مجتمع الأندلس الفكري (1). وللعقيلي آثار في النثر والنظم تبدو لروعتها كأنها نفثات أخيرة، لآداب الأندلس المحتضرة، وكان دفاع أبي عبد الله من أبدعها وأروعها.
وقد قدم كاتب هذا الدفاع، لدفاعه بعد الديباجة بقصيدة رائعة في مطلعها:
مولى الملوك ملوك العرب والعجم ... رعياً لِما مثله يرعى من الذّمم
وهي قصيدة طويلة في أكثر من مائة بيت، وفيها يعطف الشاعر بعد ذلك على مديح ملوك فاس، وجهادهم في الأندلس، والإشادة بعلائقهم ببني الأحمر ملوك غرناطة، فيقول:
تضيء آراؤهم في كل معضلة ... إضاءة السّرج في داج من الظُّلم
هذا ولو من حياء ذاب محتشم ... لذاب منهم حياءً كل محتشم
أنسى الخلائف في حلم وفي شرف ... وفي سخاء وفي علم وفي فهم
وناصر الدين في الإقبال فاق وفي ... محبة العلم أزرى بابنه الحكم
أفعال أعدائه معتلة أبداً ... متى يرم جزمها بالحذف تنجزم (2).
ويلي القصيدة الطويلة دفاع أبي عبد الله المنثور، في أسلوب يفيض قوة وبياناً، وفيه يشير أبو عبد الله إلى حوادث الأندلس، ويعتذر عن محنته،
_______
(1) أزهار الرياض (1/ 71).
(2) أنظر المقري في كتابيه: نفح الطيب (2/ 617 - 628) وأزهار الرياض (72 - 102).(2/285)
ويعترف بخطئه في عبارات مؤثرة. يقول بعد الديباجة موجهاً خطابه إلى سلطان فاس "هذا مقام العائذ بمقامكم المتعلِّق بأسباب ذمامكم، المترجي لعواطف قلوبكم، وعوارف إنعامكم، المقبِّل الأرض تحت أقدامكم، المتلجلج اللّسان عند مفاتحة كلامكم. وماذا يقول مَن بوجهه خجل، وفؤاده وجل، وقضيته المقتضية عن التنصّل والاعتذار تجل. بيد أني أقول لكم ما أقوله لربي، واجترائي عليه أكثر، واحترامي إليه أكبر: اللهم لا بريء فأعتذر، ولا قوي فانتصر، لكني مستقبل مستنيل، مستعتب مستغفر، وما أبرّئ نفسي إنّ النفس لأمارة بالسوء. على أني لا أنكر عيوبي، فأنا معدن العيوب، ولا أجحد ذنوبي، فأنا جبل الذنوب، إلى الله أشكو عجري وبجري وسقطاتي وغلطاتي .. ".
بيد أنه يدفع عنه تهم التفريط والزّيغ والخيانة، ويقول: "فمثلي كان يفعل أمثالها. ويحمل من الأوزار المضاعفة أحمالها، ويهلك نفسه ويحبط أعمالها، عياذاً بالله من خسران الدين، وإيثار الجاحدين والمعتدين، وقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين. وأيم الله لو علمت شعرة في فودي تميل إلى تلك الجهة لقلعتها، بل لقطفت ما تحت عمامتي من هامتي وقطعتها. غير أن الرعاع في كل وقت وأوان، للملك أعداء وعليه أحزاب وأعوان ... وأكثر ما تسمعه الكذب، وطبع جمهور الخلق إلاّ مَن عصمه الله إليه منجذب، ولقد قُذِفنا من الأباطيل بأحجار، ورُمينا بما لا يُرمى به الكفار، فضلاً عن الفجار، وجرى من الأمر المنقول على لسان زيد وعمرو، ما لكم منه حفظ الجبار ... أكثر المكثرون، وجهد في تعثيرنا المتعثرون، ورمونا عن قوس واحدة، ونظمونا في سلك الملاحدة. أكفراً أيضاً كفراً؟! غفراً اللهمّ غفراً، وهل زدنا على أن طلبنا حقّنا ممن رام محقه ومحقنا، فطاردنا في سبيله عُداة كانوا لنا غائظين، فانفتق علينا فتق لم يمكنا له رتق، وما كنا للغيب حافظين".
ثم يقول أبو عبد الله، لئن كان قد نزل به القضاء فثلّ عرشه، ونُكس لواؤه، ومُلك مثواه، فهو مِثْلُ من سواه في ذلك. ولئن كان مروّعاً مصير غرناطة(2/286)
ومصير ملكها وأنجادها، فإنها لم تنفرد بين قواعد الإسلام بذلك المصير المحزن. ألم يقتحم التتار بغداد، عروس الإسلام ومثوى الخلافة، ومهد العلوم، ويستبيحوا ذمارها وحُرَمها، ويسحقوا الخلافة وكل معالمها ورسومها؟ وماذا كانت تستطيع غرناطة إزاء قدر محتوم، وقضاء لا مردّ له؟: "والقضاء لا يردّ ولا يصد، ولا يغالب ولا يطالب، والدائرات تدور، ولابد من نقص وكمال للبدور، والعبد مطيع لا مطاع، وليس يطاع إلاّ المستطاع، وللخالق القدير جلّت قدرته، في خليقته علم غيب، للأذهان عن مداه انقطاع".
ثم يعطف إلى التجائه إلى ساحة السلطان بقوله: "وأبيها لقد أرهقتنا إرهاقاً، وجرّعتنا من صاب الأوصاب كأساً دهاقاً، ولم نفزع إلى غير بابكم المنيع الجناب، المتفتح حين سُدّت الأبواب، ولم نلبس غير لباس نعمائكم، حين خلعت ما ألبسنا الملك من الأثواب، وإلى أمّه يلجأ الطفل لجأ الله فان، وعند الشدائد تمتاز السيوف من الأجفان، ووجه الله يبقى، وكل ما عليها فان".
ويشير أبو عبد الله إلى ما عرضه عليه ملك إسبانيا، من الإقامة في كنفه وتحت حمايته فيقول: "ولقد عرض علينا صاحب قشتالة مواضمع معتبرة خير فيها، وأعطى من أمانه، المؤكد فيه خطه بأيمانه، ما يقنع النفوس ويكفيها، فلم نر ونحن من سلالة الأحمر، مجاورة الصُّفر، ولا سوّغ لنا الإيمان، الإقامة بين ظهراني الكفر، ما وجدنا عن ذلك مندوحة ولا شاسعة، وأمنا من المطالب المشاغب، سمة سرّ لنا لا سعة".
ثم يشير إلى إنه تلقى كذلك دعوات كريمة من المشرق للذهاب والإقامة، ولكنه آثر الجواز إلى المغرب، دار آبائه من قبل، وملاذهم دائماً عند النوائب، ولم يرتض سوى الانضواء الاّ لذلك الجناب، أعني سلاطين المغرب، الذين أوصى آباؤه وأجداده بالانضواء إليهم، وقت الخطر الداهم.
ويختم أبو عبد الله دفاعه، برثاء مؤثر لِمُلْكه ومصيره، فيقول: "ثم عزاء(2/287)
حسناً وصبراً جميلاً، عن أرض أورثها مَن شاء من عباده، معقباً لهم ومديلاَّ، سادلاً عليهم من ستور الإملاء الطويلة سدولاً: (سنة الثه التي خلت من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلا) فليطر طائر الوسواس المرفرف مطيراً، كان ذلك في الكتاب مسطوراً، ولم نستطع عن مورده صدوراً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً".
ويعود أبو عبد الله بعد هذا الدفاع المستفيض المؤثر، إلى الإشادة بخلال سلاطين فاس ومآثرهم، ويقرر أن يضع نفسه تحت حماية السلطان ورعايته: "منتظماً في سلك أوليائه، متشرفاً بخدمة عليائه"، ليقضي عمره في كنفه مصوناً من المخاطر والضيم.
تلك خلاصة الدفاع الشهير الذي تركه آخر ملوك الأندلس للخلف من بعده، وهو دفاع حار مؤثر، يذكرنا بتلك الاعتذارات الشهيرة، التي لجأ إليها الأقدمون في ظروف مختلفة، لتسويغ بعض المواقف والآراء. وقد يقف أبو عبد الله موقف المذنب البريء معاً، فهو لا يتنصّل من جميع الأخطاء، ولكنه يتنصّل من تبعة ما حدث، ويصوّر نفسه قبل كل شيء ضحيّة القدر، ويدفع عن نفسه بالأخص تهمة التفريط والخيانة والزّيغ. فإلى أي حد تتفق هذه الصورة مع الحقيقة، ومع منطق الحوادث والظروف التي وقعت فيها المأساة؟ لقد تبوّأ أبو عبد الله عرش غرناطة لأول مرة وهو فتى في الحادية والعشرين، ثم عاد إلى تبوّئه بعد ذلك بعدّة أعوام، وكان جلوسه في كل مرة نتيجة حرب أهلية مخرّبة طاحنة. وقد نشأ هذا الأمير الضعيف في بلاط منحل، يضطرم بصنوف الدسّ والخصومة، ولم تهيئه تربيته وصفاته للاضطلاع بمهام الملك الخطيرة، ولاسيما في مثل تلك الظروف الدقيقة، التي كانت تجوزها مملكة محتضرة. لقد كانت الأندلس تسير إلى قدرها المحتوم، قبل حلول المأساة بزمن بعيد، ولم يك ثمة شك في مصير غرناطة بعد أن سقطت جميع القواعد الأندلسية الأخرى في يد العدو القوي الظافر، ولكن ليس من شك أيضاً في أن الأواخر من ملوك غرناطة، يحملون كثيراً من التبعة، في التعجيل بوقوع(2/288)
المأساة، فنراهم يجنحون إلى الدعة والخمول، ويتركون شئون الدفاع عن المملكة، ويجنحون إلى حروب أهلية، يمزّق فيها بعضهم بعضاً، والعدو وراءهم متربص متوثب يرقب الفرص. وقد كان هذا شأن مملكة غرناطة وشأن بني الأحمر، ولاسيما منذ أوائل القرن التاسع الهجري أو أوائل القرن الخامس عشر الميلادي، ومنذ عهد الأمير علي أبي الحسن، تبلغ الحرب الأهلية ذروتها الخطرة، ويغدو مصير المملكة الإسلامية رهين رحمة القدر، وقد شاء القدر أن يكون السلطان أبو الحسن، وأخوه محمد بن سعد المعروف بالزغل، وولده أبو عبد الله محمد أبطال المأساة الأخيرة، حملتهم نفس الأطماع والأهواء الخطرة، فانحدروا إلى معترك الحرب الأهلية، وشغلتهم الحرب الأهلية طول الوقت عن أن يقدروا حقائق الموقف، وأن يستشعروا الخطر الداهم، وأن يستجمعوا قواهم المشتركة لمواجهة العدو المشترك. وانحدر أبو عبد الله إلى أخطر ما في هذه المعركة المميتة من وسائل الإغراء والتفوق، فجنح إلى محالفة العدو الخالد، ولم يحجم عن أن يستعدي ملك النصارى على أبيه وعمه، كي ينتزع الملك لنفسه، فلما ظفر بعرش غرناطة بمؤازرة ملك قشتالة، لم يكن سوى صنيعته وأسير وحيه. وكان عمّه الزغل قد بسط سلطانه على الأنحاء الشرقية والجنوبية، فلم يحجم عن مهاجمته في نفس الوقت الذي هاجمه فيه ملك النصارى لينتزع منه ما تحت يده، وكان الزغل في الواقع بطل المعركة الأخيرة، وقد أبدى في مقاومة العدو بسالة رائعة خلدتها سير العصر. ولم يشعر أبو عبد الله بفداحة خطئه إلاّ بعد تحوّل حليفه الغادر ملك قشتالة بجيشه الضخم، ليحاصر غرناطة ويضربها الضربة الأخيرة، وكانت قوى غرناطة ومواردها قد بدّدت في حروب أهلية عقيمة، فلم يغن دفاعها شيئاً أمام القوة القاهرة والقدر المحتوم، فكانت النكبة وكانت الخاتمة المؤسية. ولم يكن موقف أبي عبد الله خلال تلك اللّحظات الحاسمة في مصيره ومصير أمته، سوى موقف الأمير الضعيف المتخاذل، الذي يسعى إلى سلامة نفسه وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ذلك التراث العريض الذي أصبح(2/289)
وشيك الزوال، وهو موقف لم يكن بلا شك مشرّفاً، ولا متّفقاً مع سمات البسالة والتضحية والشهامة.
أليس لنا بعد ذلك أن نحكم على آخر ملوك الأندلس؟ إن أبا عبد الله يحمل أمام الله والتاريخ تبعة لا ريب فيها، بيد أنه من الحق أيضاً أن نقول: إنها ليست تبعة الخيانة المقصودة أو الجريمة العمد، بل هي تبعة التفريط، والتخاذل، والخطأ، وعدم التبصّر في العواقب.
على أن أبا عبد الله، على ما يستحقه من لوم التاريخ وإدانته على النحو المتقدم، يستحق في نظرنا تقديراً خاصاً، لما وفّق إليه من الاحتفاظ بدينه ودين آبائه وأجداده. والواقع أن فداحة المحنة التي نزلت به، وظروف الإغراء التي كانت تحيط به والتي حملت بعض أكابر الزعماء والقادة المسلمين على التنصّر، وسعى الملكان الكاثوليكيان إلى تنصير مَن يمكن تنصيره من الزعماء المسلمين، بكل الوسائل، هذه الظروف كلها كانت خليقة بأن تحمل أبا عبد الله على الاستجابة إلى دواعي التحريض والإغراء، فتزل قدمه إلى الدرك السحيق الذي انحدر إليه بعض قادته ووزرائه، ولكنه استطاع أن يخرج من هذه المحنة معتصماً بدينه المتين، وهو ما يشير إليه في دفاعه المتقدِّم.
واستقر أبو عبد الله بعد جوازه إلى فاس في ظل بني وطّاس، وشيَّد بها قصوراً على طراز الأندلس، ويُروَى أنه لما نزل أبو عبد الله وصحبه مدينة فاس، أصابت الناس فيها شدّة عظيمة من الجوع والغلاء والوباء، حتى غادرها كثير من أهلها، ورجع كثير من الأندلسيين إلى بلادهم، وتقاعس كثير منهم عن الجواز إلى المغرب خوف الشدّة والفاقة (1)، وعاش أبو عبد الله في منفاه طويلاً يجرع كأسه المرّة حتى الثمالة، ويتقلّب في غمر الحسرات والذكريات المفجعة، ويشهد خلال تلك الأيام المؤلمة، جهود السياسة الإسبانية في سحق الإسلام بالأندلس، وسحق مدنيته وكلّ رسومه وآثاره،
_______
(1) أزهار الرياض (1/ 68).(2/290)
ويشهد يد الفناء والمحو، تعمل لاستئصال هذا الشعب الأندلسي النبيل التالد، من الأرض التي لبث يرعاها ثمانية قرون، ونثر في أرجائها فيض عبقريته.
وتختلف الرواية في تاريخ وفاة أبي عبد الله اختلافاً بيناً. فيقول لنا المقري في نفح الطيب: إنه توفى بفاس سنة أربعين وتسعمائة (1534 م)، وإنه دفن بإزاء المصلى خارج باب الشريعة (1). وتؤكد لنا الرواية القشتالية القريبة من ذلك العصر، أن أبا عبد الله توفي قتيلاً في موقعة أبي عقبة الشهيرة التي نشبت بين السلطان أحمد أبي العباس الوطاسي حفيد أبي عبد الله محمد الوطاسي وبين خصومه السعديين الأشراف الخوارج عليه، واشترك فيها أبو عبد الله محارباً إلى جانب أصدقائه وحماته الوطاسيين، وقد حدثت هذه الموقعة في سنة (943 هـ - 1536 م) وهزم فيها بنو وطّاس هزيمة شديدة (2). ويذكر المقري في أزهار الرياض فيقول: إنه توفي بفاس سنة أربع وعشرين وتسعمائة هجرية (1518 م) (3)، فإذا صحت الرواية الثانية، فإن أبا عبد الله يكون قد مات في نحو الخامسة والسبعين من عمره. ونرجح رواية المقري الأولى، وهي أن أبا عبد الله توفى بقصره في فاس سنة (940 هـ)، أما روايته الثانية، وهي أنه توفى في سنة (924 هـ) فالمرجح أنها تحريف رقمي للأولى. وترك أبو عبد الله ولدين هما أحمد ويوسف، واستمر عقبه مستمراً معروفاً بفاس مدى أحقاب، ولكنهم انحدروا قبل بعيد إلى هاوية البؤس والفاقة. ويذكر لنا المقري أنه رآهم سنة (1037 هـ - 1628 م) معدمين يعيشون على أموال الصدقات (4).
ويعرف أبو عبد الله آخر ملوك الأندلس، في الرواية الإسبانية، بمحمد الحادي عشر، وبالملك الصغير تمييزاً عن عمّه أبي عبد الله الزغل، ويلقّب
_______
(1) نفح الطيب (2/ 617) والاستقصا (2/ 168).
(2) الاستقصا (2/ 177).
(3) أزهار الرياض (1/ 168).
(4) نفح الطيب (2/ 617).(2/291)
أيضاً بالزغيبي، ومعناها: المنكود، أو عاثر الجدّ، تنويهاً بأحداث حياته المؤسية، وبما أصاب الإسلام على يديه من الخطوب والمحن (1).
وهكذا انتهت حياة أبي عبد الله المتخاذل، كما انتهت حياة موسى بن أبي الغسان دفاعاً عن دينه ووطنه، وشتّان بين انتهاء الحياتين، فليكن أبو عبد الله درساً للمتخاذلين حيث لم يشرّف نفسه ولم يشرّف أحداً، وكان وسيبقى لطخة عار في التاريخ، وليكن موسى بن أبي الغسّان درساً للأبطال، حيث شرّف نفسه، وشرّف دينه وقومه وبلاده بموقفه، فكان وسيبقى مفخرة للعرب والمسلمين وصفحة مشرقة في التاريخ.
ماتا، وكل حي إلى موت، ولكن شتان بين الموتين.
_______
(1) الزغيبي: مصغر زغبي، ومعناها في لهجة أهل غرناطة: المنكود أو التعيس، ومعناها كما ذكره مارمول: التعس الصغير أو الرجل المسكين، أنظر دوزي Supp. Aux Dict. Arabes P. 594(2/292)
ثمرات المعاهدة الغادرة
1 - مأساة الأندلس ونقص الروايات العربية عن المأساة
لم يكن ظفر إسبانيا النصرانية بالاستيلاء على غرناطة، وسحق دولة الإسلام بالأندلس، سوى بداية النهاية في مصير الأمة الأندلسية، ولم يكن فقد السيادة القومية، وفقد الاستقلال والحرية، والذلة السياسية، والاضطهاد الديني والاجتماعي، وهي المحن التي تنزل عادة بالأمم المغلوبة، سوى لمحة صغيرة يسيرة مما كتب على الأمة الأندلسية أن تعانيه على يد إسبانيا النصرانية، فقد كان مصير مسلمي الأندلس بعد ضياع دولتهم وزوال ملكهم، من أسوأ ما عرفت الأمم الكريمة المغلوبة، وكان مأساة من أبلغ مآسي التاريخ.
تلك هي مأساة الموريسكيين أو العرب المتنصرين، ومن الأسف أن الرواية الإسلامية لم تخص الأمة الأندلسية بعد سقوط غرناطة بكثير من عنايتها، ولم ينته إلينا عن تلك المأساة سوى رسائل وشذور يسيرة، بل لم ينته إلينا سوى القليل عن مراحل الأندلس الأخيرة قبل سقوط غرناطة، ولا توجد لدينا عن تلك المرحلة سوى رؤية إسلامية واحدة هي كتاب: "أخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر" الذي كتبه في سنة (947 هـ - 1540 م) أعني بعد سقوط غرناطة بخمسين سنة، كاتب مجهول فيما يبدو، من أشراف غرناطة الذين بقوا فيها، وأُرغموا على التنصّر، ولكنهم بقوا مع ذلك مسلمين في روحهم وسريرتهم. وقد كانت هذه الرواية أساساً لكل ما كتبه المسلمون المتأخرون عن سقوط غرناطة. ولم تصل إلينا إلى جانب هذه الرواية الوحيدة، سوى رسائل وشذور وقصائد نقلها المقري في كتابه: "أزهار الرياض"، ومعظمها مما كتبه أدباء المغرب عقب وقوع المأساة بقليل.(2/293)
ونستطيع أن نرجع هذا النقص في الرواية الإسلامية عن حوادث المأساة الأندلسية إلى عاملين: الأول هو أنه في عصور الانحلال والسقوط، تخمد الحركات الأدبية والفكرية، وتقل العناية بالتدوين التاريخي، كما تقلّ في جميع نواحي التفكير والأدب، وأن نظام الطغيان المطبق والاضطهاد المروّع، الذي فُرِض على العرب المتنصرين، كان كفيلاً بإخماد كل صوت وتحطيم كل قلم، والثاني: وهو ما نرجحه هو فقدان معظم الكتب والوثائق العربية التي وضعت في هذا الوقت، والتي استطاع المقري أن ينقل شذرات منها، مما يدل على أن بعضها كان موجوداً حتى عصره، أعني في القرن السابع عشر الميلادي. ومن الغريب أن صاحب: "أخبار العصر" لم يقدم إلينا عن مأساة العرب المتنصرين سوى نبذة يسيرة، مع أنه عاصر معظم حوادثها، وشهدها على الأغلب. ولسنا نجد ما نفسّر به هذا الصّمت من جانب الرواية الإسلامية الوحيدة، التي انتهت إلينا عن سقوط غرناطة، وما تلاه من الحوادث والخطوب، إلاّ نظام الإرهاب الشامل، الذي سحق كل متنفّس للشعب المغلوب. ومن الواضح أن هذا الإرهاب يضاعف الرقابة على أصحاب الأقلام، ولا يرحم من يعلم أنه يسجل عليهم جورهم وأعمالهم الشنيعة الظالمة، ويحرص على كمّ الأفواه للسكوت عن الظلم، وعدم التفوّه باللّسان أو بالقلم بما يدور من أحداث ظالمة شنيعة.
على أن هذه المرحلة المؤلمة من تاريخ الأمة الأندلسية، تشغل بالعكس في تاريخ إسبانيا القومي، حيّزاً كبيراً يمتدّ زهاء قرن وربع، وتخصّه الرواية الإسبانية بكثير من عنايتها. ولكن الرواية الإسبانية، تتأثر دائماً بالعوامل القومية والدينية إلى أبعد حدّ، وتنظر دائماً إلى ذلك الاستشهاد المفجع، الذي فرضته إسبانيا على العرب المتنصرين، وإلى تلك الأعمال المروّعة التي كانت ترتكبها محاكم التحقيق (1) باسم الدين، وإلى تلك الوسائل البربرية
_______
(1) هي المعروفة خطأ بمحاكم التفتيش: Inquisition , Inquisicion(2/294)
التي اتخذت لتشريد العرب المتنصرين وإبادتهم، بعين الكبرياء والرضى، وترى منها دائماً نوعاً من الإنقاذ القومي، وتطهيراً للدين والوطن من آثار الإسلام الخيرة. وهي تحيط هذه المرحلة من تاريخ إسبانيا بكثير من القصص والأساطير الحماسية، التي تشيد بظفر إسبانيا النصرانية، وبما أسبغت العناية الإلهية على خطتها وسياستها، في إبادة تراث العرب والإسلام، وفي القضاء إلى الأبد على آثار تلك الدولة الإسلامية المجيدة، التي ازدهرت في إسبانيا زهاء ثمانية قرون، وعلى حضارتها وآدابها، وكل ذلك التراث العظيم الباهر.
على أن الرواية الإسبانية، بالرغم من تأثرها العميق بالعوامل القومية والدينية، تعرض علينا حوادث هذا النضال الأخير في أسلوب مؤثر. وقد لا تضنّ في بعض المواطن والمواقف بعطفها، وأحياناً بإعجابها، على تلك الأمة المغلوبة الباسلة، التي لبثت تناضل حتى الرمق الأخير عن كرامتها، وعن تراثها القومي والروحي.
ولسنا نظلم كتاب الإسبان النصارى، إذا قلنا: إنهم يمثلون التعصب الأعمى تمثيلاً عملياً، حتى كأن التعصب تصوّر فيهم أناساً يمشون على الأرض ويكتبون، فهم يتعصبون تعصباً أعمى لا مزيد عليه في القضايا الدينية والقومية، ويتعصبون تعصباً أعمى لا مزيد عليه على كل مسلم وكل عربي، ويرون حسناً ما ليس بالحسن، حتى يلمس من يقرأ آثارهم بوضوح انحرافهم الشنيع عن جادة الحق وابتعادهم الواضح الصريح عن كل نوع من أنواع المناهج العلمية في البحث والتأليف، فهم بقدر تعصبهم لقومهم ودينهم، متعصبون على غيره من القوميات الأخرى والأديان وبخاصة العرب والإسلام.
إن الدراسات الإسبانية الخاصة بالإسلام والعرب، التي كتبها الإسبان، لا يعتمد عليها ولا يوثق بها عامة، وهذا هو القاعدة، ولا عبرة بالاستثناء.
2 - التنصير وحرق الكتب العربية(2/295)
لبثت السياسة الإسبانية مدة قصيرة، بعد سقوط غرناطة، تلتزم جانب الروية والاعتدال. واتخذت الأهبة لنقل المسلمين الراغبين في الهجرة إلى المغرب، وهاجر كثير من أشراف غرناطة، بعد بيع أملاكهم بأبخس الأثمان (1). وفي مقدمة المهاجرين بنو سراج وأنجاد غرناطة القدماء. فأقفرت مناطق بأسرها من أعيان المسلمين، ولا سيما منطقة البشرات، وكان تدفق سيل المهاجرين دليلاً على أن الشعب المغلوب لم يكن واثقاً من ولاء سادته الجدد، وأنه كان ينظر إلى المستقبل بعين التوجس والريب.
وقد كان ممن هاجر من غرناطة إلى العدوة عقب سقوطها بقليل جماعة من أهلها برئاسة زعيم جندي هو أبو الحسن المنذري، وكان من أكابر جند الجيش الغرناطي، فعمروا مدينة تطوان وكانت يومئذ خربة، وكان ذلك في سنة (898 هـ - 1492 م). ومن ذلك الحين تغدو تطوان ملاذاً لكثير من الأسر الأندلسية التي أرغمت على التنصير ثم آثرت الهجرة إلى دار الإسلام فراراً من اضطهاد الإسبان ومحاكم التحقيق، وعادت إلى دينها القديم، وما زالت أعقابهم بها إلى اليوم (2).
ولكن السياسة الإسبانية كانت تخشى دائماً هذا الشعب الذكي النّابه، وكانت الكنيسة تجيش دائماً بنزعتها الصليبية القديمة، وتضطرم رغبة في القضاء على البقية الباقية من الأمة الإسلامية في إسبانيا، وكانت مملكة غرناطة ما تزال تضم كتلة مسلمة كبيرة، تربطها بثغور المغرب صلات وثيقة، هذا عدا ما كان من جموع المدجنين في منطقة بلنسية، وفي منطقة سرقسطة وغيرها من بلاد أراغون، وكان كثير من أولئك المدجنين، إلى ما بعد سقوط غرناطة بأعوام عديدة، يحتفظون بدينهم الإسلامي. وكان وجود هذه الكتلة المسلمة في قلب إسبانيا النصرانية، شغلاً شاغلاً للسياسة الإسبانية.
والظاهر أن السياسة الإسبانية، لبثت مدى حين مترددة في انتهاج المسلك
_______
(1) أزهار الرياض (1/ 67).
(2) الاستقصا (2/ 162) ومختصر تاريخ تطوان - محمّد داءود (14 - 17).(2/296)
الذي تسلكه إزاء المسلمين، وقد كانوا من أهم عوامل النشاط والرخاء والعرفان فى إسبانيا، وكانت براعتهم قدوة في الزراعة والصناعة والعلوم والفنون، وخلالهم قدوة في النشاط والمثابرة والزهد والعفّة والرفق، وكانوا على الجملة من أفضل العناصر الذين يمكن أن تضمهم دولة متمدنة (1). ولكن الكنيسة كانت تضطرم حماسة في سبيل تحقيق مُثلها، ولم تكن السياسة الإسبانية في تلك الأيام من تاريخ إسبانيا سوى أداة لينة في يد الكنيسة، التي بلغت عندئذٍ ذروة قوّتها ونفوذها.
ويصف لنا مؤرخ إسباني، عاش قريباً من ذلك العصر، نيات الكنيسة نحو المسلمين في قوله: "إنه منذ استولى فرديناند على غرناطة، كان الأحبار يطلبون إليه بإلحاح، أن يعمل على سحق طائفة محمد في إسبانيا، وأن يطلب إلى المسلمين الذين يودون البقاء، إما التنصير، أو بيع أملاكهم والعبور إلى المغرب، وأنه ليس في ذلك خرق للعهود المقطوعة لهم، بل إنقاذ لأرواحهم، وحفظ لسلام المملكة، لأنه من المستحيل أن يعيش المسلمون في صفاء وسلام مع النصارى، أو يحافظوا على ولائهم للملوك، ما بقوا على الإسلام، وهو يحثهم على مقت النصارى أعداء دينهم" (2).
ولم تكن هذه السياسة في الواقع بعيدة، عما يخالج ملكي إسبانيا، فرديناند الخامس، وزوجته الملكة المتعصبة إيزابيلا الكاثوليكية، من شعور نحو المسلمين، ولم تكن العهود التي قطعت للمسلمين بتأمينهم في أنفسهم وأموالهم، واحترام دينهم وشعائرهم، لتحول دون تحقيق السياسة القومية. ذلك أن فرديناند لم يحجم قط عن أن يقطع العهود والمواثيق متى كانت سبيلاً لتحقيق مآربه، وأن يسبغ على سياسته الغادرة ثوب الدين والورع، ولكنه لم يعتبر نفسه قط ملزماً بعهود يقطعها متى أصبحت تعارض سياسته وغايته.
_______
(1) Dr. Lea: The Moriscos ; P. 7.
(2) Luis del Marmol: Rebelion Y Costigo de los Moriscos de Granada; 1. Cap. XX11(2/297)
ويعلّق الناقد الغربي الحديث على ذلك بقوله: "لو نفذت العهود (التي قطعت لمسلمي غرناطة) بولاء، لتغير مستقبل إسبانيا كل التغيير، ولتفوّقت المملكة الإسبانية في فنون الحرب والسلم، وتوطّدت قوّتها ورخاؤها. ولكن ذلك كان غريباً على روح العصر الذي انقضى، وأفضى التعصّب والجشع إلى المطاردة والظلم، وأنزلت الكبرياء القشتالية بالمغلوبين ذلّة مروّعة، فاتسعت الهوّة بين الأجناس على كرّ الزمن، حتى استعصى الموقف، وأدّى إلى علاج كان من جرّائه أن تحطّم رخاء إسبانيا" (1).
وأخذت سياسة الإرهاب تجرف في طريقها كل شيء، ونشط ديوان التحقيق ( Inquisition) أو الديوان المقدس، يدعمه وحي الكنيسة وتأييد الملك، إلى مزاولة قضائه المدمّر، وكانت مهمّة هذه المحاكم الكنسية المروعة أن تعمل على حماية الدين (الكثلكة) ومطاردة الكفر والزّيغ بكل ما وسعت، وكان جلّ ضحاياها في البداية من يهود والمسلمين، ثم الموريسكيين أو العرب المتنصرين، وكانت إجراءات هذه المحاكم تنافي كل عدالة وكل قضاء متمدن.
وهكذا فإنه لم تمض أعوام على تسليم غرناطة، حتى بدت نيات السياسة الإسبانية واضحة للمسلمين، وكانت الكنيسة تحاول خلال ذلك أن تعمل لتحقيق غايتها، أعني تنصير المسلمين، بالوعظ والإقناع، ومختلف وسائل التأثير المادية، ولكن هذه الجهود لم تسفر عن نتائج تذكر، فجنحت الكنيسة عندئذٍ إلى سياسة العنف والمطاردة، وأذعنت السياسة الإسبانية لوحي الكنيسة، ولم تذكر ما قطعت من عهود موكّدة للمسلمين باحترام دينهم وشعائرهم، وكان روح هذه السياسة العنيفة حبران كبيران هما: الكاردينال خمنيس مطران طليطلة، ورأس الكنيسة الإسبانية، والدون ديجوديسا، المحقق العام لديوان التحقيق (2).
_______
(1) Dr. Lea: The Moriscos. P. 22.
(2) كان المحقق العام ( General Inquisitor) وهو قاضي قضاة الديوان، يمثل يومئذ =(2/298)
وحاولت السياسة الإسبانية من جانبها أن تسبغ على هذه التصرفات ثوب الحق والعدالة، فأخذت في تحوير العهود والنصوص التي تضمنتها معاهدة التسليم، وتعديلها وتفسيرها بطريق التعسف والتحكم، ثم خرقها نصّاً فنصّاً، واستلاب الحقوق والضمانات الممنوحة تباعاً، فأغلقت المساجد، وحظر على المسلمين إقامة شعائرهم، وانتهكت شعائرهم وعقائدهم وشريعتهم (1). وأدرك المسلمون ما ترمي إليه السياسة الكنسية من محو دينهم ولغتهم وشخصيتهم، ودوَّت في آذانهم تلك الكلمة الخالدة والنبوءة الصادقة، التي ألقاها إليهم فارس غرناطة موسى بن أبي الغسّان يوم اعتزموا التسليم للعدو: "أتعتقدون أن القشتاليين يحفظون عهودهم، وأن يكون لهذا الملك الظافر من الشهامة والكرم ما له من حسن الطالع؟ لشدّ ما تخطئون. إنهم جميعاً ظمئون إلى دمائنا، والموت خير ما تلقون منهم. إن ما ينتظركم شر الإهانات، والانتهاك والرق، ينتظركم نهب منازلكم، واغتصاب نسائكم وبناتكم، وتدنيس مساجدكم. تنتظركم المحارق الملتهبة، لتجعل منكم حطاماً هشيماً".
وكان فرديناند يخشى في البداية عواقب التسرع في تنفيذ هذه السياسة، لأن الأمن لم يكن قد توطّد بعد في المناطق المستولى عليها، ولأن المسلمين لم يُنزَع سلاحهم تماماً، وقد يؤدي الضغط إلى الثورة، فتعود الحرب كما كانت، ولكن انتهى إلى الخضوع إلى رأي الكنيسة، واستدعى الكاردينال خمنيس إلى غرناطة ليعمل على تحقيق مهمّة تنصير المسلمين، فوفد عليها في (شهر حزيران - يوليه سنة 1499 م - 905 هـ)، ودعا أسقفها الدون تالافيرا إلى اتخاذ وسائل فعّالة لتنصير المسلمين، وأمر بجمع فقهاء المدينة، ودعاهم إلى اعتناق النصرانية، وأغدق عليهم التحف والهدايا، فأقبل بعضهم على التنصير، وتبعهم جماعة كبيرة من العامة، واستعمل الوعد والوعيد والبذل
_______
= أعظم السلطات الدينية والقضائية في إسبانيا.
(1) أخبار العصر (54).(2/299)
والإرغام، في تنصير بعض أعيان المسلمين.
وكان قد اعتنق النصرانية قبل سقوط غرناطة وبعدها، جماعة من الأمراء والوزراء، وفي مقدمتهم الأميران سعد ونصر، ولدا السلطان أبي الحسن، من زوجه النصرانية أليزابيث دى سوليس المعروفة باسم ثريا، فقد تنصّرا ومنحا ضياعاً في أرجبة، وتسمى أحدهما باسم: الدوق فرديناند دى جرانادا أي صاحب غرناطة، وخدم قائداً في الجيش القشتالي، واشتهر في غيرته بخدمة العرش، وتسمَّى الثاني باسم: دون خوان دى جرانادا (1). وتنصّر سيدي يحيى النيار قائد ألمرية وابن عم مولاي الزغل، عقب تسليمه لألمرية، وتسمَّى باسم: الدون بيدرو دى جرانادا فنيجاس، وتزوج من دونيا خوانادى مندوثا وصيفة الملكة. وتنصر الوزير أبو القاسم بن رضوان بنيغش ومعظم أفراد أسرته، وعادت أسرته تحمل لقبها القشتالي القديم: ( Los Venegas) واشتهرت في تاريخ إسبانيا الحديث، وأنجبت كثيراً من القادة والأحبار. وتنصَّر آل الثغري الذين اشتهروا في الدفاع عن مالقة وغرناطة قسراً، وسُمِّي عميدهم باسم: جونثالفو فرنانديث ثجري. وتنصر الوزير يوسف كُماشة، وانتظم في سلك الرهبان، وهكذا اجتاحت موجة التنصير كثيراً من الأكابر والعامة معاً.
وتمركزت حركة التنصير في غرناطة بالأخص في حي البيازين، حيث حُوِّل مسجده في الحال كنيسة سميت باسم، سان سلفادور (2). واحتجّ بعض أكابر المسلمين على هذه الأعمال، ولكن ذهب احتجاجهم وتمسكهم بالعهود المقطوعة سدى. وثار أهل البيازين، وتحصّنوا بحيّهم، وندّدوا بخرق العهود، فبذل الكاردينال خمنيس وحاكم المدينة، جهوداً فادحة لإقناعهم بالهدوء والسكينة، وبذلوا لهم من التأكيدات والضمانات الكلامية
_______
(1) Hernando de Baeza , ibid , P. 65.
(2) ما تزال كنيسة سان سلفادور ( San Salvador) تقوم حتى اليوم على موقع مسجد البيازين القديم، ولا تزال توجد في مؤخرتها بعض عقود المسجد القديمة.(2/300)
ما شاءوا (1).
ولم يقف الكاردينال خمنيس عند تنظيم هذه الحركة الإرهابية، التي انتهت بتوقيع التنصير المغصوب، على عشرات الألوف من المسلمين قسراً، ولكنه قرنها بارتكاب عمل بربري شائن، هو أنه أمر بجمع كل ما يستطاع جمعه من الكتب العربية من أهالي غرناطة وأرباضها، ونظمت أكداساً هائلة في ميدان باب الرّملة، أعظم ساحات المدينة، ومنها كثير من المصاحف البديعة الزخرف، وآلاف من كتب الآداب والعلوم، أُضرمت النار فيها جميعاً ولم يستثن منها سوى ثلاثمائة من كتب الطب والعلوم، حملت إلى الجامعة التي أنشأها في مدينة ألكالا دى هنارس، وذهبت ضحية هذا الإجرام الهمجي عشرات الألوف من الكتب العربية، هي خلاصة ما بقي من تراث الفكر الإسلامي في الأندلس (2).
وليس المؤلفون العرب والمسلمون وحدهم الذين يصفون عمل خمنيس بالبربرية والهمجية، بل قالها ويقولها المنصفون من الغربيين، فمثلاً يشير المستشرق الإيطالي الأب سكيابرللي ( Schiaparelli) في مقدمة إحدى كتبه إلى: "التعصب الكاثوليكي، وثورات خمنيس البربرية، التي ترتب عليها حرق المصاحف والكتب الإسلامية الأخرى لمسلمي غرناطة، وذلك لكي يتوسل إلى تنصيرهم".
ويقول المؤرخ الأمريكي وليم برسكوت: "إن هذا العمل المحزن لم يقم به همجي جاهل وإنما جد مثقف، وقد وقع لا في ظلام العصور الوسطى،
_______
(1) Luis del Marmol; ibid. 1. Cap. XX111.
(2) يختلف المؤرخون الإسبان في تقدير عدد الكتب العربية التي أحرقت، فيقدرها دي روبلس E. de Robles الذي كتب بعد ذلك بقرن كتاباً عن حياة الكاردينال خمنيس: بمليون وخمسة آلاف كتاب. ويقدرها برمندث دي بدراثا B. de pedraza الذي كتب بعده بقليل بمائة وخمسة وعشرين ألفاً، ويقدرها كوندي بثمانين ألفاً، أنظر: Isabella: p. 451-453 and notis and Prescott: Fexd(2/301)
ولكن في فجر القرن السادس عشر، وفي قلب أمة مستنيرة، تدين إلى أعظم حدّ بتقدمها، إلى خزائن الحكمة العربية ذاتها". ثم يشير إلى ما ترتب على هذا العمل بقوله: "لقد غدت الآداب العربية نادرة في مكتبات نفس البلد الذي نشأت فيه، وإن الدراسات العربية التي كانت من قبل زاهرة في إسبانيا، حتى في العصور الأقل لمعاناً، انهارت لأنها عدمت عذاء يؤدها، وهكذا كانت النتائج المحزنة للمطاردة التي يراها بعضهم أشد تقويضاً من تلك التي توجه إلى الحياة ذاتها (1).
على أن هذا العمل الذي يثير النقد الغربي الحديث وزرايته، يجد مع ذلك بين العلماء الإسبان من يسوّغه، بل ويمجّده. وقد تولى المستشرق سيمونيت الدفاع عن الكاردينال خمنيس، الذي يصفه بأنه أحد أمجاد الكنيسة الإسبانية، في رسالة عنوانها: "الكاردنال خمنيس دى سيسنيرس والمخطوطات العربية الغرناطية" (2)، يقول فيها: إن ما قام به الكاردينال من حرق الكتب أمر لا غبار عليه، إذ هو إعدام للشيء الضار، وهو بالعكس أمر محمود، كما يعدم عناصر العدوى وقت الوباء، وإن الملكين الكاثوليكيين قد أمرا بعد تنصير المسلمين أن تؤخذ منهم كتب الشريعة والدين، لكي تحرق في سائر مملكة غرناطة، أن يسلموا سائر الكتب العربية التي لديهم سواء في الدين أو الشريعة أو كتب الطب والفلسفة والتاريخ أو غيرها إلى قاضي الجهة، وذلك في ظرف خمسين يوماً من تاريخ هذا الأمر، لكي يفحصها القضاة، وتؤخذ منها كتب الدين والسنة، ويرخص القضاة بعد ذلك بحيازة غيرها. ويدافع سيمونيت عن تصرف الكاردينال خمنيس بحماسة ويقول: إن إحراقه للكتب، يمكن أن يقارن بما وقع من أعمال مماثلة خلال الثورات الحديثة، منذ الثورات البروتستانية الإنكليزية والألمانية إلى الثورة الفرنسية، وأنه خلال هذه
_______
(1) Prescott; ibid. P. 453-454.
(2) F. Javier Simonce Cardinal Ximenez de Cisneroz Y Los Manuscritos Arabigo-Granadinos.(2/302)
الثورات قد أحرق أو أتلف كثير من الآثار الأدبية والفنية في كثير من البلاد الأوروبية، وأنه لا يمكن مقارنة عمل خمنيس، بما وقع من إحراق مكتبة الإسكندرية (المزعوم) بأمر الخليفة عمر، وأن معظم الكتب العربية قد أخرج من إسبانيا مع الهجرة ومع من هاجر من المسلمين من القواعد الأندلسية المختلفة، وأخيراً أن كثيراً منها قد جمع أيام الملك فيليب الثاني وأودع بقصر الأسكوريال (1). ذلك هو ملخص رسالة المستشرق سيمونيت في الدفاع عن تصرف الكاردينال خمنيس، وهو دفاع يبدو ركيكاً مصطنعاً، إزأء النقد الغربي الحديث، وتطبعه نزعة تحيّز وتعصب واضحة، كما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يأمر بإحراق مكتبة الإسكندرية كما أثبت أكثر من مستشرق منصف، وأصبحت معروفة لدى الغربيين وغيرهم. ويبدو تعصّب وتحيز هذا المستشرق الإسباني واضحاً في كل ما كتب عن الأمة الأندلسية المسلمة، وهو لا يمكن - مهما أسبغ على دراسته من المقارنات - أن يزيل أثر هذه الوصمة المشينة من حياة خمنيس، أو من التاريخ الإسباني.
وما حدث في غرناطة من تنصير المسلمين، حدث في باقي البلاد والنواحي الأخرى، فتنصر أهل البشرات وألمرية وبسطة ووادي آش في العام التالي، أعني في سنة (1500 م)، وعمّ التنصير في سائر أنحاء مملكة غرناطة. على أن هذه الحركة التي نظمت لتنصير بقية الأمة الأندلسية، والتي لم تدخر فيها أساليب الوعود والوعيد والإغراء والإكراه، لم تقع دون قلائل واضطرابات عديدة. وكان الإغراء بالتنصير يتخذ أحياناً، شكل هبات ومنح جماعية لبلدة أو منطقة بأسرها، كما حدث بالنسبة لأهل وادي ألكرين (الإقليم) ولنخرون والبشرات، فقد أصدر الملكان الكاثوليكيان مرسوماً في (30 حزيران - يوليه سنة 1500 م) بإبراء سائر أهالي النواحي المذكورة، الذين تنصروا أو يتنصرون، من جميع الحقوق والتعهدات المفروضة على
_______
(1) Simonet; ibid. P. 3, 8-10, 17, 18, 20-24 and 31.(2/303)
الموريسكيين العرب المتنصرين - لصالح العرش، ورفعها عن منازلهم وأراضيهم وسائر أملاكهم المنقولة والثابتة، وهبتها لهم، وإلغاء ضريبة الرأس المفروضة عليهم لمدة ست سنوات، وإقالتهم من الغرامة التي فرضت عليهم من جرّاء ثورتهم، وقدرها خمسون ألف دوقية، هذا إلى منح وبراءات أخرى تضمنها المرسوم (1).
وصدر كذلك مرسوم مماثل من الملكين الكاثوليكيين في (30 أيلول - سبتمبر سنة 1500 ام) إلى المسلمين القاطنين بحيّهم ( Moreria) بمدينة بسطة، بإقالة الذين تنصروا أو يتنصرون، من جميع الفروض والمغارم التي فرضت على الموريسكيين، وتحريرهم منها سواء بالنسبة لأنفسهم أو منازلهم أو أموالهم الثابتة والمنقولة من يوم التنصير، وألاّ يدخل أحد منازلهم ضد إرادتهم، ومن فعل عوقب بغرامة فادحة، وأن يُعفوا من سائر الذنوب التي ارتكبت ضد خدمة العرش، وأن تحترم جميع العقود والمحررات التي كتبت بالعربية وصادق عليها فقهاؤهم وقضاتهم، وأن يعامل المتنصرون منهم كسائر النصارى الآخرين في بسطة، ولهم أن ينتقلوا وأن يعيشوا في أي مكان آخر من أراضي قشتالة، دون قيد أو عائق، إلى غير ذلك من المنح والامتيازات (2).
وصدر أخيراً مرسوم بالعفو عن جميع سكان حي المسلمين، ( Moreria) بغرناطة والقرى الملحقة بها، بالنسبة لجميع الذنوب والأخطاء التي ارتكبت حتى يوم تنصيرهم، وألاّ يُتخذ في شأنهم أي إجراء سواء ضد أشخاصهم أو أملاكهم (3).
ولم تقدم لنا الرواية الإسلامية المعاصرة لأحداث التنصير كثيراً من
_______
(1) يحفظ هذا المرسوم بدار المحفوظات الإسبانية العامة برقم Archivo general de Simancas, P. R. 11-98
(2) Archivo general de Simancas; P. R. 11-107.
(3) Arch gen, Leg. 28; Fol. 22(2/304)
التفاصيل عن هذه الحوادث والتطورات، ولكنها تكتفي بأن تجمل مأساة تنصير المسلمين في هذه الكلمات المؤثرة: "ثم بعد ذلك دعاهم (أي ملك قشتالة) إلى التنصير، وأكرههم عليه، وذلك في سنة أربع وتسعمائة، فدخلوا في دينهم كرهاً، وصارت الأندلس كلها نصرانية، ولم يبق فيها مَن يقول: "لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله"، إلاّ مَن يقولها في قلبه، وفي خفية من الناس، وجعلت النواقيس في صوامعها بعد الأذان، وفي مساجدها الصور والصلبان، بعد ذكر الله وتلاوة القرآن، فكم فيها من عين باكية وقلب حزين، وكم فيها من الضعفاء والمعذورين، لم يقدروا على الهجرة واللّحوق بإخوانهم المسلمين، قلوبهم تشتعل ناراً، ودموعهم تسيل سيلاً غزيراً، وينظرون إلى أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان، ويسجدون للأوثان، ويأكلون الخنزير والميتات، ويشربون الخمر التي هي أم الخبائث والمنكرات، فلا يقدرون على منعهم ولا على نهيهم، ولا على زجرهم، ومَن فعل ذلك عوقب بأشد العقاب؛ فيالها من فجيعة ما أمرّها، ومصيبة ما أعظمها، وطامة ما أكبرها"، ثم يختتم بقوله: "وانطفأ من الأندلس الإسلام والإيمان، فعلى هذا فليبك الباكون، ولينتحب المنتحبون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، كان ذلك في الكتاب مسطوراً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً" (1).
ونقل لنا المقري نبذة من رسالة أخرى يشير كاتبها إلى تنصير مسلمي الأندلس هي: "وتعرفنا من غير طريق، وعلى لسان غير فريق، أن قطر الأندلس طرق أهله خطب لم يجد في سالف الدهر. وذلك أنهم أُكرهوا بالقتل إن لم يقع منهم النطق بما يقتضي في الظاهر الكفر، ولم يقبل منهم الأسر. وكان الابتداء في ذلك من أهل غرناطة، وخصوصاً أهل واسطتها لقلة الناس، وكونهم من الرعيّة الدهماء، مع عدم العصبية بسبب اختلاف الأجناس، وعلم النصارى بأن مَن بقي بها من المسلمين إنما هم أسارى
_______
(1) أخبار العصر (54 - 56).(2/305)
بأيديهم، وعيال عليهم، وبعد أن انتزعوا منهم الأسلحة والمعاقل، وعتوا فيهم بالخروج والجلاء، ولم يبق من المسلمين طائل، ونقض اللعين طاغية النصارى عهوده، ونشر بمحض الغدر بنوده .. الخ" (1).
وجاء في رواية أخرى، هذا الوصف لمأساة التنصير: "إن طاغية قشتالة وأراغون، صدم غرناطة صدمة، وأكره على الكفر مَن بقي بها من الأمة، بعد أن هيض جناحهم، وركدت رياحهم، وجعل بعد جنده الخاسر على جميع جهات الأندلس ينثال، والطاغية يزدهي في الكفر ويختال، ودين الإسلام تنثر بالأندلس نجومه، وتطمس معالمه ورسومه، فلو رأيتم ما صنع الكفر بالإسلام بالأندلس وأهليه، لكان كل مسلم يندبه ويبكيه، فقد عبث البلاء برسومه، وعفى على أقماره ونجومه، ولو حضرتم مَن جبر بالقتل على الإسلام، وتوعّد بالنكال والمهالك العظام، ومَن يعذب في الله بأنواع العذاب، ويدخل به من الشدّة في باب ويخرج من باب، لأنساكم مصرعه، وساءكم مفظعه، وسيوف النصارى إذ ذاك على رءوس الشرذمة القليلة من المسلمين مسلولة، وأفواه الذاهلين محلولة، وهم يقولون: ليس لأحدٍ بالتنصر أن يمطل، ولا يلبث حيناً ولا يمهل، وهم يكابدون تلك الأهوال، ويطلبون لطف الله على كل حال".
وقد تردد صدى هذه المحنة التي نزلت بمسلمي الأندلس بسرعة في سائر جنبات العالم الإسلامي، فنرى ابن إياس مؤرخ مصري، وهو راوية معاصر، يدوّن في حوادث (صفر سنة 906 هـ - آب - أغسطس 1500 م)، أعني عقب محنة التنصير بأشهر قلائل ما يأتي: "وفيه جاءت الأخبار من المغرب، بأن الإفرنج قد استولوا على غرناطة التي هي دار ملك الأندلس، ووضعوا فيها السيف بالمسلمين، وقالوا: مّن دخل ديننا تركناه، ومَن لم يدخل قتلناه، فدخل في دينهم جماعة كثيرة من المغاربة خوفاً على أنفسهم من القتل، ثم ثار
_______
(1) أزهار الرياض (1/ 69 - 71).(2/306)
عليهم المسلمون ثانياً وانتصفوا عليهم بعض شيء، واستمر الحرب ثائراً بينهم، والأمر لله تعالى في ذلك" (1).
أما المسلمون الذين بقوا في مملكة البرتغال، فقد كان مصيرهم فيما يبدو أفضل من مصير إخوانهم مسلمي الأندلس، فقد قضى العرش البرتغالي بإخراجهم من أراضي المملكة في سنة (1496 م)، والسماح لهم بالعبور إلى المغرب أو إلى حيث شاءوا، ونظراً لما لقوه من صعاب في اختراق الأراضي الإسبانية، فقد أصدر الملكان الكاثوليكيان، تحقيقاً لرغبة ملك البرتغال مرسوماً في (نيسان - أبريل سنة 1497 م) يصرح فيه للمسلمين البرتغاليين ونسائهم وأولادهم وخدمهم، أن يخترقوا أراضي قشتالة، وأن يذهبوا بأموالهم وأمتعتهم إلى البلاد الأخرى، وأن يبقوا في أرض قشتالة الوقت الذي يرغبون، ثم يغادرونها بأموالهم متى شاءوا، وفقط لا يسمح لهم بحمل الذهب والفضة إلى الخارج، ويؤمنون في أنفسهم وأموالهم ضد كل اعتداء، ولا يؤخذ منهم شيء بلا حق (2).
تلك هي المأساة التي استحالت فيها بقية الأمة الأندلسية بالتنصير المفروض إلى طائفة جديدة عرفت من ذلك التاريخ بالموريسكيين ( Moriscos) أو المسلمين الأصاغر، أو العرب المتنصرين (3). وقد فرض التنصير على المسلمين فرضاً، ولم تحجم السلطات الكنسية والمدنية، عن اتخاذ أشدّ وسائل العنف. ولم يستكن المسلمون إلى هذا العنف دون تذمّر ودون مقاومة، وسرت إليهم أعراض الثورة ولاسيما في المناطق الجبلية، حيث كان ما يزال ثمة قبس من الحماسة الدينية. وكانت السياسة الإسبانية تلتمس الوسيلة للتخلص نهائياً من العهود المقطوعة، فألفت من
_______
(1) ابن إياس (2/ 392).
(2) Arch. gen. de Simancas, P. R. Leg. 28 Fol. 3.
(3) Moriscos هي تصغير كلمة Moros، ومعناها: المسلمون، أو العرب الأصاغر، رمزاً إلى ما انتهت إليه الأمة الأندلسية من السقوط والانحلال.(2/307)
التذمّر والمقاومة سندها، وقرر مجلس الدولة بأن المسلمين أصبحوا خطراً على الدين والدولة، ولا سيما بعد ما تبين من جنوحهم إلى الثورة، ومحاولتهم الاتصال بإخوانهم في المغرب ومصر والقسطنطينية، وقضى بوجوب اعتناق المسلمين للنصرانية، ونفي المخالفين منهم من الأراضي الإسبانية. وهكذا حاول مجلس الدولة أن يسبغ صفة الحق والعدالة على التنصير القسري، وعلى كل ما يتخذ لتحقيقه من إجراءات العسف والإرهاق.
وقع هذا القرار على المسلمين وقع الصاعقة، وسرعان ما سرت إليهم الحمية القديمة، فأعلنوا الثورة في معظم نواحي غرناطة، وفي ريفي البيازين، وفي البشرات، واشتدّ الهياج بالأخص في بلفيق وفي أندراش حيث نسف حاكم البلدة مسجدها، بالبارود، وفي فيحار وجويجار وغيرها، واعتزم المسلمون الموت في سبيل دينهم وحريتهم، ولكنهم كانوا عزلاً، وكانت جنود النصرانية صارمة شديدة الوطأة فمزقتهم بلا رأفة، وكثر بينهم القتل، وسبيت نساؤهم، وقضى بالموت على مناطق بأسرها، ما عدا الأطفال الذين هم دون الحادية عشرة، فقد حُولوا إلى نصارى. وحمل التعلّق بالوطن وخوف الفاقة وهموم الأُسرة كثيراً منهم على الإذعان والتسليم. فقبلوا التنصير المغصوب ملاذاً للنجاة، ولجأت الحكومة بعد إخماد الهياج في غرناطة والبيازين إلى أساليب الرّفق، فبعثت بالعمال والقسس في مختلف الأنحاء، ولم يدّخر هؤلاء وسعاً في اجتذاب المسلمين بالوعيد والوعود، وهكذا ذاع التنصير في سائر مملكة غرناطة القديمة (1).
وفي نفس الوقت، اضطر المسلمون المدجّنون في آبلة وسمورة وبلاد أخرى في جليقية إلى اعتناق النصرانية، وكانوا حتى ذلك الوقت يحتفظون بدينهم القديم.
ونشط فرديناند إلى إخماد الهياج حيث يقع، وفي الوقت الذي غدا فيه
_______
(1) Marmol ; ibid, 1. Cap. XXV11. وكذلك Prescott: ibid; P. 462(2/308)
التنصير أمراً محتوماً، وأضحى فرديناند يعتبر نفسه في حلّ من عقوده المقطوعة للمسلمين، تقدّم إليه ديسا المحقق العام بوجوب إنشاء ديوان للتحقيق في غرناطة، يعاون على مطاردة الزَّيغ بوسائله الفعّالة، فألِّفت لجنة ملكية للتحقيق في حوادث غرناطة، وقبض على كثير من المسلمين بتهمة التحريض، وهرع آلاف منهم أُخر إلى اعتناق النصرانية خيفة السجن والمطاردة. وعارض فرديناند وإيزابيلا في إنشاء ديوان التحقيق في غرناطة ذاتها، واقترحوا أن تحال شئونها إلى اختصاص ديوان التحقيق في قرطبة، وألاّ يقدم المسلمون أو الموريسكيون إلى الديوان إلاّ لتهم خطيرة، ولكن الكنيسة لم تقنع باتخاذ الإجراءات الجزئية، ومضت تعمل لغايتها الشاملة، وكان فرديناند من جهة أخرى لا يزال يتوجّس من المسلمين شرّاً، ويرى في منطق الكنيسة قوة، وهو أن احتفاظ المسلمين بدينهم يقوّي الروابط بينهم وبين إخوانهم في إفريقية، وأن إسبانيا ما تزال تضمّ بين جوانحها عدواًّ يخشى بأسه، وأن في تنصير المسلمين أو إخراجهم من إسبانيا، سلام إسبانيا ونقاء دينها.
وكانت الكلمة للكنيسة دائماً، ففي (20 حزيران - يوليه سنة 1501 م) أصدر فرديناند وإيزابيلا أمراً ملكياً خلاصته: "أنه لما كان الله قد اختارهما لتطهير مملكة غرناطة من الكفرة، فإنه يحظر وجود المسلمين فيها، فإذا كان بها بعضهم فإنه يحظر عليهم أن يتصلوا بغيرهم، خوفاً من أن يتأخر تنصيرهم، أو بأولئك الذين نُصِّروا لئلا يفسدوا إيمانهم، ويعاقب المخالفون بالموت أو مصادرة الأموال".
وحاول المسلمون في يأسهم أن يلجأوا إلى معاونة سلطان مصر، فأرسلوا إليه كتبهم يصفون إكراههم على التنصير، ويطلبون إليه أن ينذر ملك إسبانيا، بأنه سوف ينكّل بالنصارى المقيمين في مملكته، إذا لم يكف عنهم، فنزل سلطان مصر عند هذه الرغبة، وأرسل إلى فرديناند يخطره بما تقدّم. وانتهز فرديناند هذه الفرصة، فأوفد إلى بلاط القاهرة (سنة 1501 م) سفارته التي(2/309)
تحدثنا عنها فيما تقدم والتي كان سفيره فيها بيترو مارتيري الحبر الكاتب المؤرخ، فأدى مارتيري سفارته ببراعة، واستطاع أن يقنع السلطان بما يلقاه مسلمو الأندلس من الرعاية، وأن يطمئنه على مصيرهم (1).
وهكذا خبت آمال المسلمين تباعاً، ولم تستمر ثورة المسلمين إلاّ في المنطقة الجبلية الواقعة بين آكام فليا لونجاو وسيرافرمليا (الجبال الحمراء) بجوار رندة، حيث احتشدت بعض البطون المغربية، وحيث استطاع الثوار أن يقتحموا شعب الجبال، وأن يفتكوا بعمال الحكومة وجندها. وسيَّر فرديناند إلى تلك المنطقة حملة قوية تحت قيادة قائده الشهير ألونسو دي آجيلار دوق قرطبة، ونفذ الجند الإسبان إلى شعب فليالونجا، ووقعت المعركة الحاسمة بين المسلمين والنصارى، فهُزِم النصارى هزيمة فادحة، وقتل منهم عدد ضخم، وكان قائدهم دى آجيلار وعدة آخرون من السادة الأكابر، في مقدمة القتلى (آذار - مارس 1501 م)، فكان لهذه النكبة التي نزلت بالجنود الإسبان وقوادهم، أعمق وقع في البلاط الإسباني. وهرع فرديناند إلى غرناطة، ورأى بالرغم مما كان يحدوه من عوامل السّخط والانتقام، أن يجنح إلى اللّين والمسالمة، فأعلن العفو عن الثوار بشرط أن يعتنقوا النصرانية في ظرف ثلاثة أشهر، أو يغادروا إسبانيا تاركين أملاكهم للدولة، فآثر معظمهم النفي والجواز إلى إفريقية، وهاجرت منهم جموع كبيرة إلى فاس ووهران وبجاية وتونس وطرابلس وغيرها، وقدمت الحكومة الإسبانية السفن اللازمة لنقلهم مغتبطة لرحيلهم (2)، إذ كانوا أشد الناس مراساً وأكثرها نزوعاً إلى الثورة. واستقر الباقون وهم الكثرة الغالبة من المسلمين في البلاد، خاضعين مستسلمين، وقد وصفهم دى بداراثا، وهو مؤرخ من أحبار الكنيسة عاش قريباً من ذلك العصر بقوله: "إنهم شعب ذو مبادئ أخلاقية متينة، أشراف في معاملاتهم وتعاقدهم، ليس بينهم عاطل، وكلهم عامل، يعطفون أشدّ
_______
(1) أنظر: Prescott: ibid; P. 287 وكذلك: Dr. Lea: The Moriscos. P. 36
(2) Prescott. ibid; P. 467.(2/310)
العطف على فقرائهم" (1).
ولم تفت الرواية الإسلامية أن تشير إلى هذه الصفحة الأخيرة من جهاد المسلمين الباسل في سبيل دينهم، فقد نقل عنها المقري ما يأتي: "وبالجملة فإنهم (أي أهل غرناطة) تنصّروا عن آخرهم بادية وحاضرة، وإمتنع قوم عن التنصّر واعتزلوا النصارى فلم ينفعهم ذلك، وامتنعت قرى وأماكن كذلك، منها بلفيق، وأندراش وغيرها، فجمع لهم العدو الجموع، واستأصلهم عن آخرهم قتلاً وسبياً إلاّ ما كان من جبل بلنقة (أي فليا لونجا)، فإن الله تعالى أعانهم على عدوّهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، مات فيها صاحب غرناطة، وأُخرجوا على الأمان إلى فاس بعيالهم وما خفّ من أموالهم دون الذخائر. ثم بعد هذا كان من أظهر التنصير من المسلمين، يعبد الله خفية ويصلي، فشدّد عليهم النصارى في البحث، حتى أنهم أحرقوا منهم كثيراً بسبب ذلك، ومنعوهم من حمل السكين الصغيرة، فضلاً عن غيرها من الحديد، وقاموا في بعض الجبال على النصارى مراراً، ولم يقيّض الله تعالى لهم ناصراً" (2).
وصدق صاحب نفح الطيب، إذ لم يجد مسلموا الأندلس في محنتهم ناصراً، فلم يعاونهم المغاربة ولا سلطان مصر ولا سلطان القسطنطينية حتى بالكلام، ولو أن سلطان مصر، هدّد بمعاملة نصارى بلاده بالمثل، وجعل الملكين الكاثوليكيين يصدّقون وعيده - خاصة وأن فلسطين كانت تحت حكمه - لتبدّل الحال غير الحال، ولعُومل المسلمون من النصارى الإسبان بالحسنى. والقول إن سفير فرديناند استطاع إقناع سلطان مصر، بأن إسبانيا تعامل المسلمين بالحسنى، إدّعاء فارغ لا يصدّقه العقل ويرفضه المنطق، فقد كانت معاملة ملك النصارى في إسبانيا للمسلمين الظالمة معروفة لدى القاصي والداني في بلاد المسلمين، وقد وصلت أخبارها مصر، وسجلها
_______
(1) R de Pedraza: Hist (Eclestica) : Vida Religiosa de Los Mariscos (P.L11) P. Longas (cit
(2) نفح الطيب (2/ 616)، وأنظر أخبار العصر (55).(2/311)
مؤرخها ابن إياس، فكيف يجهلها السلطان ويقتنع بأن ملك إسبانيا النصراني يعامل المسلمين معاملة حسنة؟! إن حكام المسلمين يومئذٍ، الذين لم يمدّوا يد العون إلى إخوانهم المضطهدين في الأندلس، مقصِّرون أمام الله وأمام الناس تقصيراً لا يمكن الدفاع عنه ولا السكوت، وقد تظاهر سلطان مصر بأنه اقتنع بادعاء سفير ملك إسبانيا بأنه يعامل المسلمين بالحسنى، وهو لم يقتنع أبداً، ولكنه لم يكن عازماً على مدّ يد العون لمسلمي الأندلس.
ومضت السياسة الإسبانية في اضطهاد المسلمين والموريسكيين بمختلف الوسائل، وكان من الإجراءات الشاذة التي اتخذت في هذا السبيل، تشريع أصدره فرديناند بإلزام المسلمين والموريسكيين في المدن، بالسكنى في أحياء خاصة بهم، على نحو ما كان متّبعاً نحو اليهود في العصور الوسطى، ونفّذ هذا التشريع في غرناطة عقب حركة التنصير الشامل، وأفرد بها للمسلمين والمتنصِّرين حيّان، أحدهما يضمّ نحو خمسمائة منزل، وهو الحي الصغير وهو داخل المدينة، والثاني يضم نحو خمسة آلاف منزل، ويشمل ضاحية البيازين، وكانت الأحياء التي يشغلها المسلمون أو المتنصّرون في المدن الأندلسية تسمى: (موريريا Moreria) أو أحياء الموريسكيين، على نحو ما كانت أحياء يهود الخاصة تسمى: (الجيتو Ghetto) وكانت تفصل بينها وبين أحياء النصارى أسوار كبيرة، وكان عدد المسلمين الذين بقوا في غرناطة يبلغ في ذلك الحين نحو أربعين ألفاً (1).
وصدر في نفس الوقت في (أيلول - سبتمبر 1501 م) قانون يحرّم على المسلمين إحراز السلاح علناً أو سراً، وينص على معاقبة المخالفين لأول مرة
_______
(1) Dr. Lea. The Moriscos, p. 31, 151-152، ويبدو هذا الالتزام بسكنى المسلمين في أحياء خاصة في غرناطة وغيرها من المدن الأندلسية القديمة في كثير من المراسيم الملكية التي صدرت منذ سنة 1500 م، مثال ذلك المرسوم الصادر بالإعفاء لأهل بسطة Arch Ar gln، والمرسوم الصادر بالعفو عن حيّ المسلمين ( Moreria) في غرناطة.(2/312)
بالحبس والمصادرة، تم الموت بعد ذلك، وهو قانون تكرّر صدوره بعد ذلك غير مرّة في ظروف وعصور مختلفة، وكان يطبق بصرامة بالأخص كلما حدث من الموريسكيين هياج أو مقاومة مسلحة تخشى عواقبها (1).
وكانت السياسة الإسبانية تخشى احتشاد الموريسكيين وتجمعاتهم في مملكة غرناطة، ولهذا صدر في (شباط - فبراير 1515 م) مرسوم ملكي أعلن في طليطلة، وفيه يحرّم بتاتاً على المسلمين المتنصرين حديثاً والمدجنين من أي جهة من مملكة قشتالة، أن يخترقوا أراضي غرناطة، ويعاقب المخالفون بالموت والمصادرة. ونصّ هذا المرسوم أيضاً أن يحرم بتاتاً على المتنصرين حديثاً في مملكة غرناطة أو في أية جهة أخرى من المملكة، أن يبيعوا أملاكهم لأي شخص دون ترخيص سابق، ومن فعل عوقب بالموت، والمصادرة، وذلك لأنه تبين كما ورد في المرسوم، أن كثيراً من المسلمين المتنصرين يبيعون أملاكهم، ويحصلون أثمانها، ثم يعبرون إلى المغرب، وهناك يعودون إلى الإسلام (2).
3 - ديوان التحقيق (3) الإسباني
ومهمته في إبادة الأمة الأندلسيّة
أ - قام ديوان التحقيق ( La Inquisicion) في مطاردة الموريسكيين بأعظم دور، وترك في مأساتهم أعمق الأثر، لذلك يجدر التحدث عن تاريخ هذه المحاكم الشهيرة، ونظمها وأعمالها الرهيبة.
ويرجع قيام محاكم التحقيق إلى فكرة الرقابة القديمة على العقيدة
_______
(1) نفس المصدر السابق.
(2) Archivo general de Simancas , P. R. Legejo. 8, Fol. 120. ... وأنظر تفاصيل هذه الدراسة في: نهاية الأندلس (292 - 310).
(3) يطلق عليها خطأً: محاكم التفتيش، واسمها أعلاه هو الصواب.(2/313)
والتحقيق عن سلامتها ونقائها. وقد ظهرت فكرة التحقيق على العقائد في الكنيسة الرومانية في عصر مبكّر جداً، وبُدىء بتطبيقها منذ أوائل القرن الثالث عشر، فكان البابا يعهد إلى الأساقفة وإلى الآباء الدومنيكيين، في تعقّب المارقين والكفرة ومعاقبتهم. وطبق هذا النظام منذ البداية في إيطاليا وألمانيا وفرنسا. وكان مندوبو البابوية يتجولون في مختلف الأنحاء، لتقصّي أخبار الكفرة والقبض عليهم ومعاقبتهم، وكانت تعقد لذلك مجالس كنسية مؤقتة كانت هي النواة الأولى لمحاكم التحقيق، تعمل حيث يعمل الكفرة والملاحدة، ثم تُحلّ متى تمّت مهمّة مطاردتهم والقضاء عليهم.
ثم أنشئت بعد ذلك مراكز ثابتة لمحاكم التحقيق، أقيم معظمها في أديار الآباء الدومنيكيين والفرنسيسكانيين. ولم تك ثمة في هذه العصور سجون خاصة أو مراكز خاصة لمحاكم التحقيق، وإنما كان يتخذ من أي مكان صالح مركزاً أو سجناً. وكان الأساقفة يتولون رئاسة هذه المحاكم، ولهم سلطة مطلقة. وكانت التحقيقات والمرافعات تجري بطريقة سرية، وتصدر الأحكام على المتهمين نهائية غير قابلة للطعن، وكان يسمح للنساء والصبيان والعبيد بالشهادة ضدّ المتهم وليس له، ويؤخذ الاعتراف من المتهم بالخديعة والتعذيب. وكان التعذيب يعتبر طبقاً للقوانين الكنسية وسيلة غير مشروعة للاعتراف، ولكن البابوية لم تجد بأساً من إقرار هذه الوسيلة. وكانت السجون التي يستعملها ديوان التحقيق مظلمة رهيبة، يموت فيها الكثيرون من المرض والآلام النفسية. وكان السجناء يصفدون عادة بالأغلال الثقيلة، وكانت العقوبات الرئيسية هي السجن المؤبد والإعدام والمصادرة. وكانت السلطات الدينية والبابوية تحصل على أوفر نصيب من الأموال المصادرة، وتحصل السلطات المدنية أيضاً على نصيبها منها. وألفى ديوان التحقيق ميداناً خصباً لمطاردة الألبيين (1) وغيرهم من الملاحدة الذين ظهروا
_______
(1) نسبة إلى: (ألبي)، وهي مدينة بجنوبي فرنسا، وكانت من أهم مراكز هذه الطائفة الملحدة.(2/314)
منذ أوائل القرن الثالث عشر في جنوبي فرنسا. وفي عهد لويس التاسع ملك فرنسا وضع أول قانون ينظم إجراءات هذه المحاكم الكنسية الجديدة. وكان ديوان التحقيق في تلك العصور يصدر أيضاً أحكامه ضد الكتب المحرّمة، ويأمر بإحراقها، ومن ذلك أحكام صدرت بإحراق التلمود وبعض كتب أرسطو وغيرها من كتب الفلسفة في العهد القديم.
ثم اتسع اختصاص محاكم التحقيق بمضي الزمن، فلم تبق مهمتها قاصرة على مطاردة الكفر والزيغ في العقيدة، بل تعددته إلى مطاردة السحر والسحرة والعرّافة والعرّافين، وشُبِّه هؤلاء بالكفر. وجاء بعد ذلك دور يهود، فاتهموا بسبّ النصرانية وأخذت عليهم مزاولة الربا وتتبّعهم ديوان التحقيق بالمطاردة والعقاب، على أن الديوان لم ينس دائماً أن مهمته الأصلية تنحصر في مطاردة الكفر والزّيغ، والمحافظة على سلامة العقيدة الكاثوليكية ونقائها.
ب - تلك هي الظروف التي قامت فيها محاكم التحقيق الأولى، في مختلف أنحاء أوروبا: في إيطاليا وألمانيا وفرنسا. ويرجع قيام ديوان التحقيق الإسباني إلى نفس البواعث الدينية، ولكنه نشأ مع ذلك نشأة مستقلة، وأحاطت بقيامه ظروف خاصة. وقد أنشئت محاكم التحقيق في مملكة أراغون منذ القرن الثالث عشر، ووضعت لها في سنة (1242 م) إجراءات جديدة، كان لها فيما بعد أكبر الأثر في صوغ ديوان التحقيق الإسباني. وعرف هذا الديوان الأرغوني بالديوان القديم، وعكف حيناً على مطاردة الألبيين وإخماد دعوتهم في أراغون، ولم يلبث أن غدا سلطانه، وغدت وسائله وإجراءاته مثار الرهبة والرّوع.
على أن هذه لم تكن سوى بداية محدودة لنشاط ديوان التحقيق الإسباني، ذلك أن ظروف إسبانيا النصرانية في ذلك العصر، واضطرام الصراع الأخير بينها وبين إسبانيا المسلمة، ورجحان كفتها في ميدان الحرب والسياسة، كان كلها تذكي النزعة الصليبية، التي كانت تجيش بها إسبانيا دائماً. وكانت الأمة الأندلسية قد استحالت منذ القرن الرابع عشر إلى طوائف كبيرة من(2/315)
المدجنين في مهاد عزّها القديم، في قشتالة وأراغون، ولم تبق سوى بقية أخيرة تحتشد في مملكة غرناطة الصغيرة، الذي كان مصيرها المحتوم يلوح قوياً في الأفق. وكان تفوّق إسبانيا النصرانية ونصرها المضطرد، يذكي عوامل التعصب الديني الذي تبثه الكنيسة وترعاه، وتتخذه إسبانيا الظافرة يومئذٍ شعارها المفضّل في ميدان السياسة. وكانت موجة من التعصب تضطرم في هذا الوقت بالذات، حول طوائف المتنصرين من يهود ( Conoersos) وكان أولئك المحدثون في النصرانية، قد سما شأنهم، ووصل كثير منهم إلى المناصب الكنسية الكبيرة، وإلى مجلس الملك، وتبوّأوا بأموالهم ونفوذهم مكانة قوية في الدولة والمجتمع، وكان أحبار الكنيسة ينظرون إليهم بعين الرّيب، ويعتبرونهم شرّاً من يهود الخلّص أنفسهم، ويتهمونهم بالإلحاد والزّيغ، ومزاولة شعائرهم القديمة سراً، ولما تفاقم الإتهام من حولهم، صدر في سنة (1465 م) في عهد الملك هنري الرابع ملك قشتالة، أمر ملكي إلى الأساقفة بالاستقصاء والبحث في دوائرهم، وتتبع هذا اللّون من المروق والزيغ، ومعاقبة المارقين، وتلا ذلك موجة من الاضطهاد، اتخذت صورة المحاكمات الدينية، وأحرق عدد من أولئك المتنصرين. ولكن قشتالة التي شغلت يومئذٍ بمشاكلها الداخلية، لم تعن بأمر المتنصّرين ولم تزعجهم. وهنا تدخّل البابا سكستوس ( SIXTO) الرابع، وحاول أن يدخل نظام التحقيق في قشتالة، فأرسل إليها مبعوثاً بابوياً مزوّداً بكل السلطات، للتحقيق والقبض على المارقين ومعاقبتهم. ولكن فرديناند وإيزابيلا وقفا في وجه هذه المحاولة حرصاً على سلطانهما، وحدَّا من سلطان الكنيسة، وأغضت إيزابيلا مدى حين عن تحريض الأحبار، على مطاردة الكبراء المنتمين إلى أصل يهودي، إذ كانت تثق بهم وبصادق نياتهم وغيرتهم في خدمة الدولة والعرش.
على أن هذه المقاومة لم تلبث طويلاً، ذلك لأن كل الظروف كانت تمهّد لظفر السياسة الكنسية، فلم تلبث أن غلبت مساعي الأحبار، وقَبِل الملكان(2/316)
إنشاء ديوان التحقيق في قشتالة، ليضطلع في مثل المهام الخطيرة التي يضطلع بها في أراغون. وهنا يقال: إن الفضل في إقناع الملكة إيزابيلا بتحقيق هذه الفكرة يرجع إلى القس توماس دى تُركيمادا رئيس دير الآباء الدومنيكان في سانتا كروث بشقوبية. وقد كان معترف الملكة وله عليها نفوذ قوي، فقيل: إنه استطاع أن يحصل منها قبل اعتلائها العرش، على وعد بأنها متى ظفرت بالملك، فإنها تكرِّس حياتها لسحق الكفر وحماية الكثلكة، وأنه كان أكثر العاملين على إقناعها بالموافقة على إنشاء ديوان التحقيق. وفي سنة (1478 م) أرسل فرديناند وإيزابيلا سفيرها إلى البابا للحصول على المرسوم البابوي، وصدر المرسوم بالفعل في (تشرين الثاني - نوفمبر 1478 م) بالتصريح بإنشاء ديوان التحقيق في قشتالة، وتعيين المحققين لمطاردة الكفر ومحاكمة المارقين)، واتخذت الخطوة الحاسمة لتنفيذ المرسوم في (أيلول - سبتمبر 1480 م)، حيث ندب المحققون الثلاثة الأُول، وأنشئت محكمة التحقيق الأولى في إشبيلية. وهكذا بدأ ديوان التحقيق الإسباني نشاطه المروّع في قشتالة.
ج - وبدأ الديوان أعماله في إشبيلية بإصدار قرارات يحث فيها كل شخص أن يساعد الديوان، في البحث عن الملحدين والكفرة، وكل مَن في عقيدتهم زيغ، وفي جمع الأدلة على إدانتهم، وفي التبليغ عنهم بأية وسيلة. وانقضّت العاصفة بالأخص على يهود المتنصرين، وكانت منهم طائفة كبيرة في إشبيلية، فلم يمض عام حتى بلغت ضحاياهم ألوفاً أحرق معهم عدد كبير، وعوقب الكثيرون بالسجن والغرامات الفادحة والمصادرة والتجريد من الحقوق المدنية.
وحاول كثير من المتنصرين النجاة بالفرار إلى ضياع الأشراف، فصدر أمر ملكي بتسليم الهاربين إلى محكمة التحقيق، وهُدِّد الأشراف بفقد وظائفهم والنّفي من الكنيسة، إذا تخلّوا عن تنفيذ الأمر. وحاول بعض أكابر المتنصرين في الوقت نفسه تدبير مؤامرة، لمقاومة محكمة التحقيق، والفتك بأعضائها،(2/317)
ولكن المؤامرة اكتشفت وقبض على كثير منهم، وقضي بإعدام بعضهم حرقاً. وبذلك سحقت كل مقاومة لنشاط الديوان الجديد. واتسع نشاط الديوان بسرعة، واستصدر الملكان من البابا مرسوماً بتعيين سبعة من: (المحققين) الجدد (شباط - فبراير 1482 م)، وأنشئت على أثر ذلك محاكم التحقيق في قرطبة وجيّان وشقوبية وطليطلة وبلد الوليد، وشمل نشاط الديوان سائر أنحاء المملكة الإسبانية (قشتالة وأراغون).
وكان فرديناند وإيزابيلا يرميان أن تسبغ الصفة القومية على ديوان التحقيق، وأن يكون سلطانه مستمداً من العرش، أكثر مما هو مستمد من البابوية. ولتحقيق هذه الغاية؛ رُؤى أن ينظم الديوان على أسس جديدة. وكان الديوان قد غدا في الواقع أداة هامة مرهوبة الجانب، ولابد لهذه الأداة من سلطة عليا تقوم بالتوجيه والإرشاد. ومن ثم فقد صدر المرسوم البابوي في سنة (1483 م) بإنشاء مجلس أعلى لديوان التحقيق ( Suprema) له اختصاص مطلق في كل ما يتعلق بشئون الدين. ويتألف من أربعة أعضاء، منهم الرئيس، وأطلق على منصب الرئيس: (المحقق العام) - ( Inquisitor General) وصدر المرسوم البابوي في (تشرين الأول - أكتوبر 1483 م) بتعيين القس توماس دى تُركيمادا معترف الملكين في هذا المنصب الخطير، وخوِّل في الوقت نفسه سلطة مطلقة في وضع دستور جديد للديوان المقدّس.
وكان القس تركيمادا شديد التعصب، وافر العزم والبأس، فبذل في تنظيم الديوان وتوطيد سلطانه جهوداً عظيمة، وبث فيه روحاً من الصرامة. وكان جلّ غايته أن يجعل من ديوان التحقيق الإسباني، أداة قومية تعمل وفقاً لحاجات إسبانيا، وقد وفِّق إلى تحقيق هذه الغاية إلى أبعد حدّ. وبُدئ بوضع دستور الديوان الجديد في سنة (1485 م) على يد جمعية من المحققين العامين عقدت في إشبيلية، ووضعت طائفة من القرارات واللوائح، ثم عقدت بعد ذلك جمعية أخرى في بلد الوليد سنة (1488 م) وضعت عدّة لوائح جديدة، وعقدت جمعية ثالثة في آبلة سنة (1498 م). وتولى المجلس(2/318)
الأعلى (السوبريما) بعد ذلك صياغة اللّوائح وتنقيحها. وكان هذا التنظيم عظيم الأثر في تطور ديوان التحقيق الإسباني. ذلك أنه غدا من ذلك الحين محكمة قومية مستقلة، وغدا سلطة يخافها أعظم العظماء في إسبانيا، ويرتجف لذكرها الفرد العادي، وأضحى نشاطها الرهيب، وقضاؤها المدمر، عنصراً بارزاً في التاريخ الإسباني، يقوم بدوره الفعال في دفع إسبانيا إلى شفا المنحدر، الذي لبثت تترى في غمرته زهاء ثلاثة قرون.
ولبث تركيمادا في منصب المحقق العام حتى توفي في سنة (1498 م)، وفي عهده اشتد نشاط محاكم التحقيق واتسعت أعمالها. وكان هذا القس المتعصب بالرغم من تقشّفه، يعتبر بعد العرش أعظم سلطة في إسبانيا، ويعيش في قصور باذخة، وله حرس كبير من الفرسان والمشاة. وكان من جرّاء شدّته وعسفه، أن ندب البابا سنة (1494 م) إلى جانبه خمسة من المحققين العامين، يتمتع كل منهم بنفس سلطته. ولما توفي خلفه في منصب المحقق العام ديجو ديسا أسقف جيّان، واستمر في منصبه حتى سنة (1507 م).
د - ونقدِّم الآن عرضاً موجزاً لإجراءات ديوان التحقيق، وسنرى أنها بأصولها وتفاصيلها، أبعد ما تكون عن مبادئ المنطق وأشد ما تكون عسفاً وقسوة وهمجية.
تبدأ قضايا الديوان أو محاكماته الفرعية، بالتبليغ أو ما يقوم مقامه، كورود عبارة في قضية منظورة تلقي شبهة على أحدٍ ما. ولا فرق أن يكون التبليغ من شخص معين أو يكون غفلاً. ففي الحالة الأولى يُدعَى المبلّغ ويذكر أقواله وشهوده، وتعتبر أقوال المبلّغ وشهوده (تحقيقاً تمهيدياً). كذلك يمكن التبليغ بواسطة (الاعتراف) الذي يتلقاه القُسس، ولهم أن يبلِّغوا عما يقعون عليه في حالة الاشتباه في العقائد، وذلك بالرغم مما يقتضيه الاعتراف من الكتمان، ويُقسِم المبلغون يميناً بالكتمان، ولا توضح لهم الوقائع التي يسألون عنها بل يُسألون بصفة عامة، عما إذا كانوا قد رأوا أو سمعوا شيئاً(2/319)
يناقض الدين الكاثوليكي أو حقوق الديوان. ويقوم الديوان في الوقت نفسه بإجراء التحريات السريّة المحلية عن المبلغ ضدّه، ثم تعرض نتائج التحقيق التمهيدي على (الأحبار المقرِّرين) ليقرِّروا ما إذا كانت الوقائع والأقوال المنسوبة إلى المبلَّغ ضده تجعله مرتكباً لجريمة الكفر أو تلقي عليه فقط شبهة ارتكابها، وقرارهم يحدّد الطريقة التي تتبع في سير القضية. ويقسم المقررون يمين الكتمان أيضاً، وكان معظم أولئك المقررين من القُسس الجهلاء المتعصِّبين. ومن ثم فقد كانت أخلاقهم وآراؤهم، بل ذمّتهم وشرفهم مثاراً للريب، وكان رأيهم الإدانة دائماً إلاّ في أحوال نادرة.
وعلى أثر صدور هذا التقرير، يُصدر النائب أمره بالقبض على المبلَّغ ضدّه وزجّه إلى سجن الديوان السري. وكانت سجون الديوان المخصصة لاعتقال المتهمين بالكفر أو الزيغ، وهي المعروفة بالسجون السرية، غاية في الشناعة والسوء، تتصل مباشرة بغرف التحقيق والعذاب، عميقة رطبة مظلمة، تغصّ بالحشرات والجرذان، ويُصفَّد المتهمون بالأغلال (1). ويقول لورنتي مؤرخ ديوان التحقيق الإسباني: إن أفظع ما في أمر هذه السجون هو أن مَن يزج إليها، يسقط في الحال في نظر الرأي العام، وتلحقه وصمة لا تلحقه من أي سجن آخر مدني أو ديني، وفيها يسقط في غمار حزن لا يوصف وعزلة عميقة دائمة، ولا يعرف إلى أي مدى وصلت قضيته، ولا ينعم بتعزية مدافع عنه، غير أن لورنتي ينفي تصفيد المتهمين بالأغلال الثقيلة في أرجلهم وأيديهم وأعناقهم، ويقول: إن هذا الإجراء لم يكن يُتّبع إلاّ في أحوال نادرة (2).
ويقول الدكتور لي: "كان القبض الذي يجريه ديوان التحقيق في ذاته عقوبة خطيرة، ذلك أن أملاك السّجين كلها تُصادَر وتُصفَّى على الفور، وتقطع
_______
(1) Dr. Lea: History of the Inquisition of Spain, V. 1. Chap.1V.
(2) Don. S. A. Liorente: Historia Critica de la Inquisicion de Espana (1815-1817) ، وهو مؤلف نقدي ضخم، ويمتاز بكون مؤلفه إسبانيّ، وهو حبر خدم ديوان التحقيق أعواماً طويلة، وكان في آخر حياته يشغل فيه السكرتير العام.(2/320)
جميع علائقه بالعالم حتى تنتهي محاكمته، وتستغرق المحاكمة عادة من عام إلى ثلاثة، لا يعرف السجين أو أسرته خلالها شيئاً عن مصيره، وتدفع نفقات سجنه من ثمن أملاكه المصفاة، وكثيراً ما تستغرقه المحاكمة" (1). ولا يُخطر المتّهم بالتهم المنسوبة إليه، ولكنه يمنح عقب القبض عليه ثلاث جلسات في ثلاثة أيام متوالية، تعرف بجلسات الرأي أو الإنذار، وفيها يطلب إليه أن يقرِّر الحقيقة، ويُوعد بالرأفة إذا قرر وفق ما ينسب إليه، وينذر بالشدّة والنكال إذا كذب أو أنكر، لأن (الديوان المقدس) لا يقبض على أحد دون قيام الأدلة الكافية على إدانته، وهي طريقة غادرة محيّرة. فإذا اعترف المتّهم بما ينسب إليه ولو كان بريئاً، اختصرت الإجراءات، وقُضي عليه بعقوبة أخف، ولكنه إذا اعترف بأنه كافر مطبق، فإنه لا ينجو من عقوبة الموت، مهما كانت الوعود التي بذلت له بالرأفة والعفو. فإذا أبى المتّهم الاعتراف بعد الجلسات الثلاث، وضع له النائب قرار الاتهام طبقاً لما ورد في التحقيق من الوقائع، وذلك مهما كانت الأدلة المقدّمة من الركاكة والضعف بمكان. بيد أن أفظع ما يحتويه القرار، هو إحالة المتهم على التعذيب، وغالباً ما يطلب النائب هذه الإحالة، وذلك بالرغم من اعتراف المتهم بما يُنسَب إليه، لأنه يفترض دائماً أنه أخفى أو كذب في اعترافه. وتصدر المحكمة قرار التعذيب مجتمعة بهيئة غرفة مشورة. وكان قرار التعذيب في العصور الأولى يصدر عقب الاشتباه والقبض فوراً. وقد استعمل التعذيب في محاكم التحقيق للحصول على الاعتراف، منذ القرن الثالث عشر، وكان التعذيب في قشتالة إجراء يسوّغه القضاء العادي، وكان يعتبر وسيلة مشروعة لنيل الاعتراف، فلم يكن غريباً أن يدمجه ديوان التحقيق في دستوره، وقد نوّه كثير من المؤرخين بروعة الإجراءات والوسائل التي كانت تلجأ إليها محاكم التحقيق في توقيع العذاب. ويعلق عليه دون لورنتي بقوله: "لست أقف لأصف ضروب التعذيب التي كان
_______
(1) Dr Lea: the Moriscos of Spain.(2/321)
يوقعها ديوان التحقيق على المتهمين، فقد رواها بما تستحق من الدقة كثير من المؤرخين، ولكني أصرِّح أن أحداً منهم لا يمكن أن يُتّهم بالمبالغة فيما روى. ولقد تلوت كثيراً من القضايا، فارتجفت لها اشمئزازاً وروعاً، ولم أر في المحققين الذين التجأوا إلى تلك الوسائل إلاّ رجالاً بلغ جمودهم حدّ الوحشية" (1). بيد أن مؤرخاً حديثاً لديوان التحقيق هو الدكتور لي يرى في هذه الأقوال مبالغة، ويقول لنا: إن ديوان التحقيق لم يكن في إجراءاته الخاصة بالتعذيب، أكثر قسوة أو إرهاقاً من القضاء العادي، وأن ديوان التحقيق الروماني، كان في إجراءاته أشد قسوة وفظاعة من الديوان الإسباني (2)، ومن الواضح أن هذا الدفاع متهافت، (لأن دون لورنتي) ليس متهماً بالنسبة لمسئولي ديوان التحقيق، فقد عمل فيه حتى نهاية حياته، وقد عاش أحداثه، فلا مجال للشك في أقواله أو الرد عليه، وهي تصف الواقع الذي لا غبار عليه.
وكانت معظم أنواع التعذيب المعروفة في العصور الوسطى، تستعمل في محاكم التحقيق، ومنها تعذيب الماء، وهو عبارة عن توثيق المتهم فوق أداة تشبه السلّم، وربط لساقيه وذراعيه إليها، مع خفض رأسه إلى أسفل، ثم توضع في فمه من زلعة جرعات كبيرة، وهو يكاد يختنق، وقد يصل ما يتجرعه إلى عدة لترات. وتعذيب (الجاروكا)، وهو عبارة عن ربط يدي المتهم وراء ظهره، وربطه بحبل حول راحتيه وبطنه، ورفعه وخفضه معلقاً، سواء بمفرده أو مع أثقال تربط معه. وتعذيب الأسياخ المحمية للقدم، والقوالب المحمية للبطن والعجز، وسحق العظام بآلات ضاغطة، وتمزيق الأرجل، وفسخ الفك، وغيرها من الوسائل البربرية المثيرة. ولم يك ثمة حدود مرسومة لروعة التعذيب وآلامه، ولما كان التعذيب يعتبر خطراً لا تؤمن عواقبه، نظراً لاختلاف المتهمين في قوّة البنية والاحتمال المادي والعقلي،
_______
(1) Liorente: ibid.، أنظر نهاية الأندلس (318).
(2) Dr Lea: The History of the Inquisition. V. 111. Ch. V11.(2/322)
فإنه لم يك ثمة قواعد معينة تتبع فى إجراء التعذيب، بل كان الأمر يترك لتقدير القضاء وحكمتهم وضمائرهم (1). ولا يحضر التعذيب سوى الجلاّد والأحبار المحققون، والطبيب إذا اقتضى الأمر، ولا يُخطر المتهم بأسباب إحالته على التعذيب، ولا يسأل ليقرر وقائع معينة، بل يعذب ليقرر ما يشاء، ولكن الطعن في القرار بطريق الاستئناف أمام المجلس الأعلى (السوبريما) إلاّ في أحوال استثنائية. ولكن الطعن لا يقبل ولا ينظر، حيثما كان القانون صريحاً في وجوب إجراء التعذيب. وقد يأمر الطبيب بإيقاف التعذيب إذا رأى حياة المتهم في خطر، ولكن التعذيب يستأنف متى عاد المتهم إلى رشده أو جفّ دمه، فإذا اعترف المتهم واعتبر القضاء اعترافه صحيحاً، بمعنى أنه يتضمن عنصر التوبة، كف عن تعذيبه. وإذا استطاع المتهم احتمال العذاب وأصرّ الإنكار، لم يفده ذلك شيئاً، لأن القضاة يتخذون غالباً من الوقائع المنسوبة للمتهم أدلة على الإدانة، ويحكم عليه طبقاً لهذا الاعتبار. ويجب أن يؤيد المتهم ما قاله وقت التعذيب، باعتراف حر يقرره في اليوم التالي، وذلك حتى يؤكد صحة الاعتراف، فإذا أنكر أو غيّر شيئاً، أعيد إلى التعذيب.
وبعد انتهاء التعذيب، يحمل المتهم ممزقاً دامياً إلى قاعة الجلسة، ليجيب عن التهم التى توجه إليه لأول مرة، ويسأل عند تلاوة كل تهمة عن جوابه عنها مباشرة، ثم يسأل عن دفاعه. وكان مبدأ الدفاع أمراً مقرراً من الوجهة النظرية، فإن كان له دفاع، اختارت له المحكمة محامياً من المقيدين في سجل الديوان للدفاع عنه، وقد يسمح للمتهم باختيار محام من الخارج في بعض الأحوال الاستثنائية، ويقسم المحامي اليمين بأن يؤدي مهمته بأمانة، وألاّ يعرقل الإجراءات بسوء نيّة، وأن يتخلى عن موكله إذا تبين له في أية مرحلة من مراحل الدعوى، أن الحق ليس في جانبه. على إن الدفاع لم يكن في الغالب سوى ضرب من السخرية، ولم يكن عملاً مأمون العاقبة، ولم يكن يسمح للمحامي أن يطّلع على أوراق القضية الأصلية، أو يتصل بالمتهم على
_______
(1) Dr Lea: ibid; V. 111. P. 22.(2/323)
انفراد، بل تقدم إليه خلاصة التحقيق مرفقة بقرار الإحالة وقرار الإتهام. وكان المحامي الذي يبدي في تأدية مهمته غَيْرة خاصة، يخاطر بأن يقع تحت سخط الديوان.
وبعد المراجعة واستجواب المتهم، تحال القضية على الأحبار المقررين ليبدوا فيها رأيهم من جديد. وكانت هذه خطوة حاسمة في الواقع، لأنها تمهيد إلى الحكم النهائي. ويصدر الأحبار المقررون قرارهم، وقلما كان يختلف عن القرار الأول. فإذا كان الحكم بالإدانة، كان للمتهم فرصة الاستئناف أمام المجلس الأعلى (السوبريما). بيد أنها كانت على الأغلب فرصة عقيمة، إذ قلما كان المجلس الأعلى ينقض حكماً من الأحكام. وكان للمتهم أيضاً أن يلتمس العفو من الكرسي الرسولي، وكانت الخزانة البابوية تغنم من هذه الالتماسات أموالاً طائلة، فكانت فرصة لا يستفيد منها سوى ذوي الغنى الطائل. وقلما يصدر حكم البراءة أو (الإقالة)، إذ أن أقل شك في براءة المتهم براءة مطلقة، كان يوجب اعتباره مذنباً من النوع الخفيف ( De Levi) وعندئذٍ تصدر عليه عقوبات تتناسب مع ذنبه، ويقضى عليه أن يتطهّر من كل شبهة للكفر وفقاً لإجراءات معينة. وإذا قضى بالبراءة - وهو ما يندر وقوعه - أطلق سراح المتهم، وأُعطِيت له شهادة لطهارته من الذنوب، وهي كل ما يعوَّض به عما أصابه في شخصه وفي شرفه وماله، من ضروب الأذى والألم.
وأما إذا قُضِي بالإدانة، فإن الحكم لا يبلغ للمتهم إلاّ عند التنفيذ، وهو إجراء من أشنع الإجراءات الجنائية التي عرفت، فيؤخذ المتهم من السجن دون أن يعرف مصيره الحقيقي، ويجوز رسوم الإيمان (الأوتو دا في Auto-da-Fe) وهي الرسوم الدينية التي تسبق التنفيذ، وخلاصتها أن يلبس الثوب المقدّس، ويوضع في عنقه حبل، وفي يده شمعة، ويؤخذ إلى الكنيسة ليجوز رسوم التوبة، ثم يؤخذ إلى ساحة التنفيذ، وهناك يُتلَى عليه الحكم لأوّل مرة. وقد يكون الحكم في حالة التهم الخطيرة بالسجن المؤبد(2/324)
والمصادرة، أو بالإعدام حرقاً في حالة "الكفر الصريح". وقد يكون في حالة الذنوب الخفيفة بالسجن لمدة محدودة أو بالغرامة، وهو ما يسمى حكم "التوفيق". وكانت أحكام الإعدام هي الغالبة في عصور الديوان الأولى في قضايا الكفر. وكان التنفيذ يقع في ساحات المدن الكبيرة، وفي احتفال رسمي يشهده الأحبار والكبراء بأثوابهم الرسمية، وقد يشهده الملك. وكان يقع على الأغلب جملة، فينفذ حكم الحرق في عدد من المحكوم عليهم، وقد يبلغ العشرات أحياناً، وينتظم الضحايا في موكب "الأوتودافي" التي اشتهرت في إسبانيا منذ القرن الخامس عشر، والتي كانت بالرغم من مناظرها الرهيبة من الحفلات العامة، التي تهرع لشهودها جموع الشعب. ومما يذكر في ذلك، أن فرديناند الكاثوليكي، كان من عشّاق هذه المواكب الرهيبة، وكان يسره أن يشهد حفلات الإحراق، وكان يمتدح الأحبار المحققين كلما نظمت حفلة منها (1).
وكان قضاء محاكم التحقيق بطيئاً، يبث اليأس في النفوس، وكان الأمر يترك لهوى القضاة في تحديد مواعيد دعوى المتهم، والسير بإجراءات الدعوى، وكانت الإجراءات والمرافعات تستغرق وقتاً طويلاً، وقد تستغرق الأعوام أحياناً، وقد يموت المتهم في سجنه قبل أن يصدر الحكم في قضيته.
وكان دستور ديوان التحقيق يجيز محاكمة الموتى والغائبين. وتصدر الأحكام في حقهم وتوقع العقوبات عليهم كالأحياء، فتصادر أموالهم، وتعمل لهم تماثيل تنفذ فيها عقوبة الحرق، أو تنبش قبورهم وتستخرج رفاتهم، لتحرق في موكب " الأوتودافي".
وكذلك يتعدى أثر الأحكام الصادرة بالإدانة من المحكوم عليه إلى أسرته وولده، فيقضي بحرمانه من تولي الوظائف العامة، وامتهان بعض المهن الخاصة، وبذا يؤخذ الأبرياء بذنب المحكوم عليهم (2).
_______
(1) Dr Lea: ibid; V. 1.
(2) نهاية الأندلس (311 - 321).(2/325)
هـ - هذا استعراض موجز لإجراءات تلك المحاكم الكنسية الشهيرة، التي سوّدت بقضائها المروّع صحف التاريخ الإسباني زهاء ثلاثة قرون، وقد بث ديوان التحقيق منذ قيامه بقضائه وأساليبه حوله جواً من الرهبة والروع، ولما ذاع بطشه وعسفه، عمد كثير من النصارى المحدثين من يهود ومسلمين إلى الفرار، حتى اضطرت الحكومة أن تصدر سنة (1502 م) قرارأً يحرم على ربّان أية سفينة وأي تاجر، أن ينقل معه نصرانياً محدثاً دون ترخيص خاص، وقبض بهذه الصورة على كثير من النصارى المحدثين، في مختلف الثغور الإسبانية، وأحيلوا إلى محاكم التحقيق. وكان أعضاء محاكم التحقيق يتمتعون بحصانة خارقة، وسلطان مطلق، تنحني أمامه أية سلطة، وتحمي أشخاصهم وتنفذ أوامرهم بكل وسيلة. وكان من جرّاء هذه السلطة المطلقة، وهذا التحلل من كل مسئولية، أن ذاع في هذه المحاكم العسف وسوء استعمال السلطة، والقبض على الأبرياء دون حرج، بل كثيراً ما وجد بين المحققين رجال من طراز إجرامي، لا يتورّعون عن ارتكاب الغصب والرشوة وغيرها لملء جيوبهم، وكانت أحكام الغرامة والمصادرة أخصب مورد، لاختلاس المحققين والمأمورين وعمال الديوان وقضاته، وكانت الخزينة الملكية ذاتها تغنم مئات الألوف من هذا المورد، هذا بينما يموت أصحاب هذه الأموال الطائلة في السجن جوعاً (1). وكان يبلغ من عسف الديوان أحياناً، أن يبسط حكم الإرهاب في بعض المناطق، وهذا ما حدث في قرطبة على يد المحقق العام لوسيرو الذي يعتبر من أشدّ المحققين قسوة وإجراماً. ففي عهده ذاعت جرائم النهب واغتصاب البنات والزوجات، وتعالت الصيحة بالشكوى من هذا العدوان الفظيع الذي يجري باسم الديوان المقدس وفي ظله، والذي يصم اسم الديوان والحكومة، واستغاث كبراء قرطبة بالملك، وجرت في الموضوع تحقيقات طويلة، انتهت بالقبض على المحقق العام وعزله (2).
_______
(1) Dr Lea: ibid; V. 1. P. 190-192.
(2) Dr Lea: ibid , V. 1. P. 210(2/326)
وكان العرش يعلم بأمر هذه الآثام المثيرة التي تصم سمعة الديوان والمحققين، ولا يستطيع دفعاً لها، لما بلغه الديوان من السلطان الذي لا يناهضه سلطان آخر، ولأن العرش كان يرى فيه في الوقت نفسه، أصلح أداة في تنفيذ سياسته في إبادة الموريسكيين. وفي الوصية التي تركها فرديناند الكاثوليكي عند وفاته في (كانون الثاني - يناير 1516 م)، لحفيده شارل الخامس، ما يلقي ضياءً على هذه الحقائق، ففيها بحث عن حماية الكثلكة والكنيسة، واختيار المحققين ذوي الضمائر الذين يخشون الله، لكي يعملوا في عدل وحزم، لخدمة الله وتوطيد الدين الكاثوليكي، كما يجب أن يضطرموا حماسة لسحق طائفة محمد (1).
ولما توفي فرديناند، كان المحقق العام هو الكاردينال خمنيس مطران طليطلة، الذي أبدى من الحماسة في مطاردة المسلمين وتنصيرهم، ما سبقت الإشارة إليه. وقد حاول خمنيس أن يطهر قضاء الديوان وسمعته، فعزل كثيراً من المحققين الذين لا يُرغب فيهم، ولكنه ولم يعش طويلاً ليتم خطته في الإصلاح، فعادت المساوئ القديمة أشدّ مما كانت، وسار الديوان في قضائه المدمّر وأساليبه المثيرة، لا يلوي على شيء. ولما جلس شارل الخامس على العرش، كتب إلى مجلس قشتالة يقول: إن سلام المملكة، وتوطيد سلطانه، يتوقفان على تأييده لديوان التحقيق، ولم ير شارل بعد مدة من التردد، إلاّ أن ينزل عند هذا النصح، وأن يفسح الطريق لسلطان الديوان القاهر وذهبت كل الجهود للحد من عسف الديوان وعبثه سدى، وتوطد سلطان الديوان بقشتالة مدى قرون ثلاثة، كانت في الواقع أخطر ما في حياة الشعب الإسباني (2).
و- وقد رأينا كيف أنشئ ديوان التحقيق الإسباني في الأصل، لمطاردة الكفر وحماية الكثلكة من شبه المروق والزّيغ، وكان إنشاؤه في قشتالة قبل
_______
(1) Dr Lea: ibid; Cit. Mariana; V. 1. P. 215.
(2) Dr Lea: ibid ; V. 1. P. 250.(2/327)
انهيار مملكة غرناطة بقليل، وكان يهود الذين تمتعوا عصوراً بالحرية والأمن، في ظل الحكم الإسلامي، أوّل ضحايا سياسة الإرهاق والمحو التي رسمتها إسبانيا الجديدة. ذلك أنه ما كادت تسقط غرناطة في أيدي الملكين الكاثوليكيين، وما كاد يهود ينتقلون إلى الحكم الجديد، حتى شهرت عليهم السياسة الإسبانية حربها الصليبية، وأصدر الملكان قرارهما الشهير في (30 آذار - مارس سنة 1492 م) وهو يقضي بأن يغادر سائر يهود - الذين لم يتنصروا - من أي سن وظرف، أراضي مملكة قشتالة في ظرف أربعة أشهر من تاريخ القرار، وألاّ يعودوا إليها قط، ويعاقب المخالفون بالموت والمصادرة، ويجب ألاّ يقوم أحد من سكان مملكة قشتالة على حماية وإيواء أي يهودي أو يهودية سراً أو جهراً متى انتهى هذا الأجل، ولليهود أن يبيعوا أملاكهم خلال هذه المدة، وأن يتصرّفوا فيها وفق مشيئتهم (1). فأذعن كثير من يهود للتنصير إشفاقاً على الوطن والمال، وهلك كثير منهم في سجون الديوان المقدس ومحارقه، أو شرِّدوا في مختلف الأقطار بعد التشريد والحرمان. بل لم ينج المتنصرون منهم، من المطاردة والإرهاق لأقل الشبهة كما ذكرنا. ولقيت طوائف المدجّنين من بقايا الأمة الأندلسية، وهي التي بقيت في بعض مدن قشتالة وأراغون في ظل الحكم النصراني، نفس المصير المحزن. وبدأ ديوان التحقيق نشاطه في قشتالة منذ سنة (1480 م)، وقبيل انهيار مملكة غرناطة بقليل، وأقيمت محارقه الأولى في إشبيلية عاصمة المملكة. فلما سقطت غرناطة، وطويت بسقوطها صفحة الدولة الإسلامية في الأندلس، ووقع ملايين المسلمين في قبضة إسبانيا النصرانية، ولما أكره المسلمون على التنصير، واستحالت بقايا الأمة الأندلسية إلى طوائف الموريسكيين، ألفى ديوان التحقيق في هذا المجتمع النصراني المحدث أخصب ميدان لنشاطه، وغدت محاكم التحقيق يد الكنيسة القوية في تحقيق غايتها البعيدة. ذلك أن هذه المحاكم الشهيرة كانت تضطلع بمهمة مزدوجة
_______
(1) Archivo general de Simancas: P. R. Legajo 28; Fol. 6.(2/328)
دينية وسياسية معاً، فكانت تعمل باسم الدين لتحقيق أغراض السياسة، وكان للسياسة الإسبانية بعد ظفرها النهائي بإخضاع الأمة الأندلسية أمنية أخطر وأبعد مدى، هي القضاء على بقايا هذه الأمة المسلمة، وسحق دينها وكل خواصها الجنسية والاجتماعية، وإدماجها في المجتمع النصراني. ولم تشأ السياسة الإسبانية أن تترك تحقيق هذه الغاية لفعل الزمن والتطور التاريخي، بل رأت نزولاً على وحي الكنيسة وتوجهها المباشر، أن تعجِّل بإجراءات التنصير والقمع، وأن تذهب في ذلك إلى حدود الإسراف والغلوّ، هي التي أسبغت على مأساة الموريسكيين أو العرب المتنصرين صبغتها المفجعة، كما أسبغت على السياسة الإسبانية المعاصرة وصمة عار، لم يمحها إلى اليوم كرّ الأجيال والعصور، وستبقى تلك الوصمة ما بقيت الحياة.
وقد اضطلع ديوان التحقيق الإسباني بأعظم قسط من هذه الإجراءات الهمجية، التي أريد بها تنفيذ حكم الإعدام في أمة بأسرها، وأخضعت غرناطة لديوان التحقيق منذ سنة (1499 م) أعني مذ أُكره المسلمون على التنصير، ولكنها جُعلت من اختصاص محكمة التحقيق في قرطبة، وهكذا بدأ الديوان المقدس أعماله في غرناطة، بحماسة يذكيها احتشاد الضحايا من حوله. ولم تغفل الرواية الإسلامية أن تشير إلى محارق ديوان التحقيق، أو إحراق المسلمين بتهمة المروق أو الزّيغ، ولم يجد المسلمون الذين آثروا البقاء في الوطن القديم، وأُكرهوا على التنصر واعتناق الدين الجديد، ملاذاً أو عاصماً من الاضطهاد والمطاردة. ذلك أن الموريسكيين أو العرب المتنصرين لبثوا دائماً موضع البغض والريب، وأبت إسبانيا النصرانية بعد أن أرغمتهم على اعتناق دينها، أن تضمهم إلى حظيرتها، وأبت الكنيسة الإسبانية أن تؤمن بإخلاصهم لدينهم الجديد، ولبثت تتوجَّس من رجعتهم وحنانهم لدينهم القديم، وترى فيهم دائماً منافقين مارقين. وهكذا كانت السياسة الإسبانية، كما كانت الكنيسة الإسبانية، أبعد من أن تقنع بتنصير المسلمين الظاهري، وإنما كانت ترمي إلى إبادتهم، ومحو آثارهم ودينهم وحضارتهم، وكل(2/329)
ذكرياتهم.
والواقع أن الموريسكيين لبثوا بالرغم من تنصيرهم، نزولاً على حكم القوة والإرهاب، مخلصين في سرائرهم لدينهم الإسلامي، ولم تستطيع الكنيسة بالرغم من جهودها الفادحة أن تحملهم على الولاء لدين قاسوا في سبيل اعتناقه ضروباً مروِّعة من الآلام النفسية والاضطهاد المضني. وإليك ما يقوله مؤرخ إسباني كتب قريباً عن ذلك العصر، وأدرك الموريسكيين، وعاش بينهم حيناً في غرناطة: "كانوا يشعرون دائماً بالحرج من الدين الجديد، فإذا ذهبوا إلى القدّاس أيام الآحاد، فذلك فقط من باب مراعاة العرف والنظام، وهم لم يقولوا الحقائق قط خلال الاعتراف. وفي يوم الجمعة يحتجبون ويغتسلون ويقيمون الصلاة في منازلهم المغلقة، وفي أيام الآحاد يحتجبون ويعملون. وإذا عُمِّد أطفالهم عادوا فغسلوهم سراً بالماء الحار، ويسمّون أولادهم بأسماء عربية، وفي حفلات الزواج متى عادت العروس من الكنيسة بعد تلقي البركة، تنزع ثيابها النصرانية، وترتدي الثياب العربية، ويقيمون حفلاتهم وفقاً للتقاليد العربية" (1).
وقد انتهت إلينا وثيقة عربية هامة تلقي ضوءاً كبيراً على أحوال الموريسكيين في ظل التنصير، وتعلقهم بدينهم الإسلامي، وكيف كانوا يتحيّلون لمزاولة شعائرهم الإسلامية خفية، ويلتمسون من جهة أخرى سائر الوسائل والأعذار الشرعية التي يمكن أن تسوِّغ مسلكهم، وتشفع لهم عند ربّهم، مما يرغمون عليه من اتباعه من الشعائر النصرانية. وهذه الوثيقة هي عبارة عن رسالة وجِّهت من أحد فقهاء المغرب إلى جماعة العرب المتنصِّرين ممن يسميهم: (الغرباء)، يقدم لهم بعض النصائح التي يعاون اتباعها على تنفيذ أحكام الإسلام خفية، وبطريق التورية والتستر. وتاريخ هذه الرسالة هو غرة رجب سنة (910 هـ) = (28 تشرين الثاني - نوفمبر 1504 م)، وإليك نص
_______
(1) Marmol , ibid. 11; Cap. 1.(2/330)
هذه الوثيقة: "الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً، إخواننا القابضين على دينهم كالقابض على الجمر، مَن أجزل الله ثوابهم، فيما لقوا في ذاته، وصبروا النفوس والأولاد في مرضاته، الغرباء القرباء إن شاء الله، من مجاورة نبيه في الفردوس الأعلى من جنّاته، وارثو سبيل السّلف الصالح، في تحمّل المشاق، وإن بلغت النفوس إلى النزاق، نسأل الله أن يلطف بنا، وأن يعيننا وإياكم على مراعات حقّه، بحسن إيمان وصدق، وأن يجعل لنا ولكم من الأمور فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً. بعد السلام عليكم، من كاتبه إليكم، من عبيد الله أصغر عبيده، وأحوجهم إلى عفوه ومزيده، عبيد الله تعالى أحمد بن بو جمعة المغراوي ثم الوهراني، كان الله للجميع بلطفه وستره، سائلاً من إخلاصكم وغربتكم حسن الدعاء، بحسن الخاتمة والنجاة من أهوال هذه الدار، والحشر مع الذين أنعم الله عليهم ( F.2) من الأبرار، ومؤكداً عليكم في ملازمة دين الإسلام، آمرين به مَن بلغ من أولادكم. إن لم تخافوا دخول شر عليكم من إعلام عدوكم بطويتكم، فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، وإن ذاكر الله بين الغافلين كالحي بين الموتى؛ فاعلموا أن الأصنام خشب منجور، وحجر جلمود، لا يضر ولا ينفع، وأن المُلك ملك الله ما اتّخذ الله من ولد، وما كان معه من إله، فاعبدوه، واصطبروا لعبادته، فالصلاة ولو بالإيماء، والزكاة ولو كأنها هدية لفقيركم أو رياء، لأن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم، والغسل من الجنابة ولو عوماً في البحور، وإن منعتم فالصلاة قضاء بالليل لحق النهار، وتسقط في الحكم طهارة الماء، وعليكم بالتيمم ولو مسحاً بالأيدي للحيطان، فإن لم يكن فالمشهور سقوط الصلاة وقضاؤها لعدم الماء ( F.3-1) والصعيد إلاّ أن يمكنكم الإشارة إليه بالأيدي والوجه إلى تراب طاهر أو حجر أو شجر مما يتيمم به، فاقصدوا بالإيماء، ثقله ابن ناجي في شرح الرسالة لقوله عليه السلام: فأتوا منه ما استطعتم. وإن أكرهوكم في وقت صلاة إلى السجود للأصنام أو حضور صلاتهم فأحرموا بالنية، وانووا(2/331)
صلاتكم المشروعة، وأشيروا لما يشيرون إليه من صنم، ومقصودكم الله، وإن كان لغير القبلة تسقط في حقكم كصلاة الخوف عند الالتحام، وإن أجبروكم على شرب خمر، فاشربوه لا بنية استعماله، وإن كلفوا فيكم خنزيراً فكلوه ناكرين إياه بقلوبكم ومعتقدين تحريمه، وكذا إن أكرهوكم على محرَّم، وإن زوّجوكم بناتهم فجائز لكونهم أهل الكتاب، وإن أكرهوكم على ( F.3-2) إنكاح بناتكم منهم، فاعتقدوا تحريمه لولا الإكراه، وإنكم ناكرون لذلك في قلوبكم، ولو وجدتم قوّة لغيّرتموه. وكذا إن أكرهوكم على ربا أو حرام، فافعلوه منكرين بقلوبكم، ثم ليس لكم إلاّ رءوس أموالكم، وتتصدقون بالباقي، إن تبتم إلى الله تعالى. وإن أكرهوكم على كلمة الكفر، فإن أمكنكم التورية والألغاز فافعلوا، وإلاّ فكونوا مطمئني القلوب بالإيمان إن نطقتم بها ناكرين لذلك، وإن قالوا: اشتموا محمداً، فإنهم يقولون له: مُمَد، فاشتموا مُمَد، ناوين أنه الشيطان أو مُمَد يهود فكثير بهم اسمه. وإن قالوا: قولوا عيسى ابن الله، فقولوها إن أكرهوكم وانووا إسقاط مضاف، أي عبد اللاّه مريم معبود بحق. وإن قالوا: قولوا المسيح ابن الله، فقولوها إكراهاً، وانووا بالإضافة للملك كبيت الله لا يلزم أن يسكنه أو يحلّ به، وإن قالوا: قولوا مريم زوجة له، فانووا بالضمير ابن عمها الذي تزوجها في بني إسرائيل ثم فارقها قبل البناء. قاله السهيلي في تفسير المبهم من الرجال في القرآن، أو زوجها الله منه بقضائه وقدره. وإن قالوا عيسى توفي بالصلب، فانووا بالتوفية والكمال والتشريف من هذه، وإماتته وصلبه وإنشاد ذكره، وإظهار الثناء عليه بين الناس، وأنه استوفاه الله برفعه إلى العلوّ، وما يعسر عليكم فابعثوا ( F.4.1) فيه إلينا نرشدكم إن شاء الله على حسب ما تكتبون، وأنا أسأل الله أن يزيل الكره للإسلام حتى تعبدوا الله ظاهراً بحول الله من غير محنة ولا وجلة، بل بصدمة الترك الكرام. ونحن نشهد لكم بين يدي الله أنكم صدقتم الله ورضيتم به. ولا بد من جوابكم والسلام عليكم جميعاً. بتاريخ غرة رجب عام عشرة وتسعمائة، عرف الله خيره".(2/332)
"يصل إلى الغرباء إن شاء الله تعالى" (1).
ومن ثم فقد لبث الموريسكيون، شغلاً شاغلاً للكنيسة وللسياسة الإسبانية، فهم عنصر بغيض في المجتمع الإسباني وهم خطر على الدولة وعلى الوطن، وهم بالرغم من ردّتهم ما زالوا أعداء للدين في سريرتهم. وكان يذكي هذا البغض والتحامل ضد الموريسكيين كل تذمر من جانبهم. فلما دفعهم اليأس إلى الثورة في مفاوز البشرّات، ولما آنست السياسة الإسبانية أن هذه البقية الممزّقة من الأمة الأندلسية القديمة ما زالت تجيش برمق من الحياة والكرامة، رأت أن تضاعف إجراءات القمع والمطاردة، ضد هذا الشعب المهيض الأعزل، حتى لا ينبض بالحياة مرة أخرى. وكانت ثورة البشرات نذير فورة جديدة من هجرة الموريسكيين إلى ما وراء البحر، فجازت منهم إلى إفريقية جموع عظيمة، ولكن الكثرة الغالبة منهم بقيت في الوطن القديم، هدفاً للاضطهاد المنظم، والقمع الذريع المدني والديني، إلى جانب الأوامر الملكية بمنع الهجرة، وحظر التصرف بالأملاك وحمل السلاح وغيرها من القوانين المقيِّدة للحقوق والحريات، كان ديوان التحقيق من جانبه يشدِّد الوطأة على الموريسكيين، ويرقب كل حركاتهم وسكناتهم، ويغمرهم بشكوكه وريبه، ويتخذ من أقل الأمور والمصادفات ذرائع لاتهامهم بالكفر والزيغ، ومعاقبتهم بأشد العقوبات وأبلغها. وقد نقل إلينا الدون لورنتي مؤرخ ديوان التحقيق الإسباني، وثيقة من أغرب الوثائق القضائية، تضمنت طائفة من القواعد والأصول التي رأى الديوان المقدس أن يُؤخذ بها العرب
_______
(1) نهاية الأندلس (325 - 327) وقد عثر مؤلف الكتاب على هذه الوثيقة خلال بحوثه في مكتبة الفاتيكان الرسولية برومة، وهي تقع ضمن مجموعة خطية من المخطوطات البورجوانية ( Borgiani) ، وقد وصف هذا المخطوط في فهرست مكتبة الفاتيكان (فهرس دللافيدا) بأنّه: "المقدمة القرطبية". وفي صفحة عنوانه بأنّه: "كتاب نزهة المستمعين". وتشغل هذه الوثيقة في المخطوط المشار إليه أربع صفحات (136 - 139)، ولهذه الوثيقة ترجمة قشتالية، أنظر:
P.Longas: La Vida Religiosa de las Moriscos (P. 305-307) .(2/333)
المتنصرون في تهمة الكفر والمروق، وهذه هي الوثيقة الغريبة:
"يعتبر الموريسكي أو العربي المتنصر قد عاد إلى الإسلام، إذا امتدح دين محمدٍ وقال: إن يسوع المسيح ليس إلهاً، وليس إلاّ رسول، أو إن صفات العذراء أو اسمها لا تناسب أمه، ويجب على كل نصراني أن يبلغ عن ذلك، ويجب عليه أيضاً أن يبلغ عما إذا قد رأى أو سمع، بأن أحداً من الموريسكيين يباشر بعض العادات الإسلامية، ومنها أن يأكل اللحم في يوم الجمعة، وهو يعتقد أن ذلك مباح، وأن يحتفل يوم الجمعة بأن يرتدي ثياباً أنظف من ثيابه العادية، أو يستقبل المشرق قائلا باسم الله، أو يوثق أرجل الماشية قبل ذبحها، أو يرفض أكل تلك التي لم تذبح، أو ذبحتها امرأة، أو يختن أولاده، أو يسميهم بأسماء عربية، أو يعرب عن رغبته في اتباع هذه العادة، أو يقول: إنه يجب ألاّ يعتقد إلاّ في الله وفي رسوله محمد، أو يقسم بأيمان القرآن، أو يصوم رمضان ويتصدّق خلاله، ولا يأكل ولا يشرب إلاّ عند الغروب، أو يتناول الطعام قبل الفجر (السحور)، أو يمتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، أو يقوم بالوضوء والصلاة بأن يوجّه وجهه نحو الشرق، ويركع ويسجد ويتلو سوراً من القرآن، أو أن يتزوج طبقاً لرسوم الشريعة الإسلامية، أو ينشد الأغاني العربية، أو يقيم حفلات الرقص والموسيقى العربية، أو أن يستعمل النساء الخضاب في أيديهن أو شعورهن، أو يتبع قواعد محمد الخمس، أو يملّس بيديه على رءوس أولاده أو غيرهم تنفيذاً لهذه القواعد، أو يغسل الموتى ويكفنهم بأثواب جديدة، أو يدفنهم في أرض بكر، أو يغطي قبورهم بالأغصان الخضراء أو أن يستغيث بمحمد عند الحاجة، مُنعِتاً إياه بالنبي رسول الله، أو يقول: إن الكعبة أول معابد الله، أو يقول: إنه لم ينصّر إيماناً بالدين المقدس، أو: إنّ آباءه وأجداده قد غنموا رحمة الله، لأنهم ماتوا مسلمين ... الخ" (1).
_______
(1) Don Antonio Liorente: Historia Critica de la Inquisicion de Espana وأيضاً Dr Lea: The Moriscos, P. 130-131.(2/334)
كانت هذه الشُّبه وأمثالها تتخذ ذريعة للتنكيل بالموريسكيين، بالرغم من تنصرهم وانتمائهم إلى دين سادتهم الجدد. ومن الطبيعي أن يكون موقف المسلمين الذين آثروا الاحتفاظ بدينهم أدق وأخطر، وكانت قد بقيت منهم جماعات كبيرة في غرناطة وبلنسية وغيرها، يعيشون في غمرة من الجزع الدائم، وكانت محارق ديوان التحقيق تلتهم الكثير من هؤلاء، لأقل الشبه والوشايات. ولقد كان الإسراف في مطاردة المسلمين والموريسكيين نذير السخط والثورة، ولكن الثورة أخمدت، ولم تعدل السياسة الإسبانية عن مسلكها، وضاعفت محاكم التحقيق إجراءات القمع والتنكيل. وقد اتصل المسلمون في الأندلس بملوك مصر والمغرب والقسطنطينية، يستغيثون بهم ويطالبونهم بنصرة إخوانهم من ظلم إسبانيا النصرانية وديوان التحقيق، وكانت أخبار ما يعانيه المسلمون والعرب المتنصرون في إسبانيا النصرانية شائعة في الأقطار الإسلامية وفي غيرها دون أن يمدّ الحكام المسلمون العون لمسلمي الأندلس وللعرب المتنصرين، كأن الأمر لا يعنيهم من بعيد ولا قريب. وقد كتب المسلمون الأندلسيون رسائل إلى حكام المسلمين، فكانت السياسة الإسبانية تتخذ من هذه الرسائل التي يوجهها العرب المتنصرون والمسلمون إلى إخوانهم المسلمين فيما وراء البحر، كلما تفاقمت آلامهم ومحنتهم وازداد الضغط عليهم، ذريعة للاشتداد في مطاردتهم واعتبارهم خطراً على سلامة الدولة لأنهم يأتمرون بها مع ملوك الدول الإسلامية أعداء إسبانيا النصرانية (1).
_______
(1) نهاية الأندلس (311 - 331).(2/335)
4 - ذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين
أ - لبث الموريسكيون في عهد فرديناند الخامس (الكاثوليكي) زهاء عشرين عاماً، يتراوحون بين الرجاء واليأس، ويرزحون تحت وطأة المطاردة المنظمة. كان هذا الشعب المهيض الذي تنصّر قسراً، والذي أنكرته مع ذلك إسبانيا سيدته الجديدة، وأنكرته الكنيسة التي عملت على تنصيره، يحاول أن يروّض نفسه على حياته الجديدة. وأن يتقبل مصيره المنكود بإباء وجلد. ولكن إسبانيا النصرانية، لبثت ترى في هذه البقية الباقية من الأمة الأندلسية، عدوّها القديم الخالد، وتتصوّر أن هذا المجتمع المهيض الأعزل، الذي أحكمت أغلالها في عنقه ما يزال مصدر خطر دائم على سلامتها وطمأنينتها، ومن ثم كان هذا الإمعان في مطاردته وإرهاقه، بمختلف الفروض والقيود والمغانم، وفي انتهاك عواطفه وحياته، وفي تعذيبه وتشريده، وكان يلوح أن ليس لهذا الاستشهاد الطويل المؤثر من آخر سوى الفناء ذاته.
توفي فرديناند الكاثوليكي في (13 كانون الثاني - يناير 1516 م) بعد أن عانت بقية الأمة الأندلسية من غدره وعسفه ما عانت، وكانت زوجه الملكة إيزابيلا قد سبقته إلى القبر قبل ذلك بأحد عشر عاماً، في (26 تشرين الثاني - نوفمبر سنة 1504 م)، ودفنت تحقيقاً لرغبتها في غرناطة. في دير سان فرانسيسكو القائم فوق هضبة الحمراء، ودفن فرديناند إلى جانب زوجته بالحمراء، تحقيقاً لوصيته، ثم نقل رفاتهما فيما بعد إلى كنيسة غرناطة العظمى، التي أقيمت فوق موقع مسجد غرناطة الجامع، في عهد حفيدهما الإمبراطور شارلكان، وأقيم لهما فيها ضريح رخامي فخم، ما يزال حتى اليوم في مقدمة مزارات غرناطة النصرانية. وفي دفن مستعبدي غرناطة الإسلامية في حرم غرناطة القديم، مغزى خاص ينطوي على تنويه ظاهر بظفر إسبانيا، وظفر النصرانية على الإسلام.(2/336)
وقد كان الغدر والرياء، أبرز صفات هذا الملك العظيم المظفّر، الذي أتيح له القضاء على دولة الإسلام بالأندلس. وقد نوّه بهذه الصفة الذميمة أكابر المؤرخين المعاصرين واللاّحقين، ومنهم المؤرخون القشتاليون أنفسهم. فمثلاً يقول المؤرخ ثوريتا ( Zurita) وهو من أكابر المؤرخين الإسبان في القرن السادس عشر في وصفه: "وكان مشهوراً، لا بين الأجانب فقط، ولكن بين مواطنيه أيضاً، بأنه لا يحافظ على الصدق، ولا يرعى عهداً قطعه، وأنه كان يفضل دائماً تحقيق صالحه الخاص على كل ما هو عدل وحق" (1). ويقول معاصره مكيافيللي فيه: "إن فرديناند الأرغوني غزا غرناطة في بداية حكمه، وكان هذا المشروع دعامة سلطانه. وقد استطاع بمال الكنيسة والشعب أن يمدّ جيوشه، وأن يضع بهذه الحرب أسس البراعة العسكرية التي امتاز بها بعد ذلك، وقد كان دائماً يستعمل الدين ذريعة ليقوم بمشاريع أعظم، وقد كرّس نفسه بقسوة تسترها التقوى لإخراج المسلمين من مملكته وتطهيرها منهم، وبمثل هذه الذريعة غزا إفريقية، ثم هبط إلى إيطاليا، ثم هاجم فرنسا .. " (2). وكانت سياسة فرديناند الكاثوليكي مثال الغدر المثير في جميع ما اتخذه نحو معاملة المسلمين عقب تسليم غرناطة، وما تلاه من حوادث تنصيرهم قسراً، ثم اضطهادهم، ومطاردتهم بأقسى الوسائل، وأشدّها إيلاماً لمشاريعهم وأرواحهم.
فلما توفي فرديناند، وخلفه حفيده شارل الخامس (الإمبراطور شارلكان) بعد مدة قصيرة من وصاية الكاردينال خمنيس على العرش، تنفّس الموريسكيون الصعداء، وهبت عليهم ريح جديدة من الأمل، ورجوا أن يكون العهد الجديد خيراً من سابقه. وأبدى الملك الجديد في الواقع شيئاً من اللّين والتسامح نحو المسلمين والموريسكيين، وجنحت محاكم التحقيق إلى نوع من الاعتدال في مطاردتهم، وكفت عن التعرّض لهم في أراغون بسعي النبلاء
_______
(1) أنظر: Prescott, Cit. Zurita (Bnalesa ; ibid; P. 697 (note)
(2) Machiavelli: The Prince (Everyman) , P. 177-178.(2/337)
والسادة الذين يعمل المسلمون في ضياعم. ولكن هذه السياسة المعتدلة لم تدم سوى بضعة أعوام، وعادت العناصر الرجعية في البلاط وفي الكنيسة، فغلبت كلمتها؛ وصدر مرسوم جديد في (12 آذار - مارس سنة 1524 م) يحتم تنصير كل مسلم بقي على دينه، وإخراج كل من أبى النصرانية من إسبانيا، وأن يعاقب كل مسلم أبى التنصير أو الخروج في المهلة الممنوحة بالرق مدى الحياة، وأن تقلب جميع المساجد الباقية إلى كنائس.
عندئذ استغاث المسلمون بالإمبراطور، والتمسوا عدله وحمايته، على يد وفد منهم بعثوه إلى مدريد، ليشرح للمليك ظلامتهم وآلامهم (سنة 1526 م)، فندب الإمبراطور محكمة كبرى من النواب والأحبار والقادة وقضاة التحقيق، برئاسة المحقق العام لتنظر في ظلامة المسلمين، ولتقرر ما إذا كان التنصير الذي وقع على المسلمين بالإكراه، يعتبر صحيحاً ملزماً، بمعنى يحتم عقاب المخالف بالموت أم يطبق عليهم القرار الجديد كمسلمين. وقد أصدرت المحكمة قرارها بعد مناقشات طويلة، بأن التنصير الذي وقع على المسلمين صحيح لا تشوبه شائبة، لأنهم سارعوا بقبوله اتقاء ما هو شرّ منه، فكانوا في ذلك أحراراً في قبوله. ويعلق المؤرخ الغربي النصراني على ذلك القرار بقوله: "وهكذا اعتبر التنصير الذي فرضه القوي على الضعيف، والظافر على المغلوب، والسيد على العبد، منشئاً لصفة لا يمكن لإرادة معارضة أن تزيلها" (1). وعلى أثر ذلك صدر أمر ملكي بأن يرغم سائر المسلمين الذين نصروا كرهاً، على البقاء في إسبانيا، باعتبارهم نصارى، وأن ينصر كل أولادهم، فإذا ارتدوا عن النصرانية، قضى عليهم بالموت والمصادرة، وقضى الأمر في الوقت نفسه أن تحول جميع المساجد الباقية في الحال إلى كنائس. فكان لهذه القرارات لدى المسلمين أسوأ وقع، وما لبثت الثورة أن نشبت في معظم الأنحاء التي يقطنها المسلمون، في أحواز
_______
(1) راجع تاريخ De Marles الذي وضعه بالاقتباس من تاريخ كوندي: Domination des Arabes en Espagne; V.111. P. 389 Hist.de la(2/338)
سرقسطة وفي منطقة بلنسية وغيرها، وأخمدت هذه الثورات المحلية الضئيلة تباعاً. ولكن بلنسية كان لها شأن آخر، ذلك أنها كانت تضم حشداً كبيراً من المسلمين، يبلغ سبعة وعشرين ألف أسرة (1)، وكان وقوعها على البحر يمهّد للمسلمين سبل الإتصال بإخوانهم في المغرب، ومن ثم فقد كانت دائماً في طليعة المناطق الثائرة، وكانت الحكومة الإسبانية تنظر إليها باهتمام خاص، فلما فرض التنصير العام، أبدى المسلمون في بلنسية مقاومة عنيفة، ولجأت جموع كبيرة منهم إلى ضاحية (بني وزير Benagwacil) واضطرت الحكومة أن تجرد عليهم قوة كبيرة مزوّدة بالمدافع، وأرغم المسلمون في النهاية على التسليم والخضوع، وأرسل إليهم الإمبراطور إعلان الأمان على أن ينصروا، وعدّلت عقوبة الرق إلى الغرامة (2). وفي باقي أراغون، أشفق السادة والنبلاء على مصالحهم وضياعهم من الخراب، إذا اضطهد المسلمون ومزّقوا، كما حدث في بلنسية، فأوضحوا للإمبراطور خطأ هذه السياسة، وأكدوا له أن المسلمين في أراغون جماعة عاملة هادئة ذلولة، لم ترتكب جرماً قط، ولم تبدر منهم خطيئة دينية أو سياسية، ومعظمهم زراع في أراضي الملك والسادة، ومنهم صناع مهرة، فإخراجهم من أراغون خسارة فادحة، ولا داعي لإرغامهم على التنصير، لأن ذلك لا يعني إخلاصهم للدين الجديد، ومن الخير أن يتركوا في سلام، ولكن مساعي السادة النبلاء في هذا السبيل ذهبت عبثاً، وأصرّ الإمبراطور على أن يطبق التشريع الجديد على جميع مسلمي أراغون، وأصدر أوامره إلى ديوان التحقيق، أن يقوم بتلك المهمة، فأذعن المسلمون إلى التنصير راغمين، وبذلك تم تنصيرهم جميعاً (سنة 1526 م). وتوالت الأوامر والقوانين المرهقة، فصدر قانون يحظر على الموريسكيين بيع الحرير والذهب والفضة والحلي والأحجار الكريمة، وحتم على كل مسلم بقي على دينه أن يحمل شارة زرقاء في قبعته، وحظر عليهم حمل السلاح
_______
(1) Liorente, ibid.
(2) Dr Lea: The Moriscos; 91-92.(2/339)
إطلاقاً، وإلاّ عوقب المخالفون بالجلد، وأمروا أن يسجدوا في الشوارع متى مرّ كبير الأحبار. وفي بلنسية صدر قرار بأن يغادر المسلمون الأراضي الإسبانية من طريق الشمال، وحظر على السادة أن يبقوهم في ضياعهم، وإلاّ عوقبوا بالغرامة الفادحة. فعاد المسلمون في بلنسية إلى الثورة، وقاوموا جند الحكومة حيناً، ولكن الثورة ما لبثت أن أُخمِدت وتقدم المسلمون خاضعين على يد وفد منهم مثل في البلاط، يعرضون الدخول في النصرانية، على أن تحقق لهم بعض المطالب والظروف المخففة، فلا يمتد إليهم قضاء ديوان التحقيق مدى أربعين عاماً، لا في أنفسهم ولا في أموالهم، وأن يحتفظوا خلال هذه المدة بلغتهم وملابسهم القومية، وبعض حقوقهم في الزواج والميراث طبقاً لتقاليدهم، وأن ينفق على مَن كان منهم من الفقهاء مِن دخل الأراضي التي وقفها المسلمون لأغراض البر، ويرصد الباقي لإنشاء الكنائس الجديدة، وأن يسمح لهم بحَمْل السلاح وتخفيض الضرائب (1). ولكن مجلس الدولة رأى أن يطبق عليهم سائر الأوامر، التي على الموريسكيين في غرناطة وغيرها، وأن يسمح لهم بالاحتفاظ بلغتهم وأزيائهم مدى عشرة أعوام فقط، وأن يمنحوا بعض الإمتيازات فيما يتعلق بالزواج ودفع الضرائب. وكانت هذه المنح أفضل ما يمكن نيله في هذه الظروف، فأقبل المسلمون في منطقة بلنسية على التنصير أفواجاً، عدا أقلية صغيرة آثرت المضي في المقاومة، ومزقتها جند الإمبراطور بعد حين قليل، وألفت محاكم التحقيق غير بعيد في مجتمع الموريسكيين في بلنسية ميداناً خصباً لنشاطها.
وحذا الموريسكيون في غرناطة حذو إخوانهم في بلنسية، فسعوا لدى البلاط في تخفيف الأوامر والقوانين المرهقة التي فرضت عليهم، وانتهزوا فرصة زيارة الإمبراطور لغرناطة سنة (1526 م)، فقدّموا إليه على يد ثلاثة من أكابرهم هم: الدون فرديناند بنجاس، والدون ميشيل دراجون، وديجولويز
_______
(1) P. Longas ; vida Religi sa de Los Moriscos , P. XL11.(2/340)
بنشارا، وهم من سلالة أمراء غرناطة الذين نُصِّروا منذ الفتح، مذكرة يشرحون فيها ظلامتهم، وما يعانونه من آلام المطاردة والإرهاق المستمر، ولا سيما من أعمال القسس والقضاء الديني، فندب الإمبراطور لجنة محلية للتحقيق في أمر الموريسكيين في سائر أنحاء غرناطة، ثم عرضت نتائج بحثها على مجلس ديني قرر ما يأتي: أن يترك الموريسكيون استعمال لغتهم العربية وثيابهم القومية، وأن يتركوا استعمال الحمامات، وأن تفتح منازلهم أيام الحفلات وأيام الجمع والسبت، وألاّ يقيموا رسوم المسلمين أيام الحفلات، وألاّ يتسمّوا بأسماء عربية، ولكن هذه القرارات أُرجِىء بأمر الإمبراطور؛ ثم أعيد إصدارها، ثم أُرجئ تنفيذها مرة أخرى.
وصدرت عدة أوامر ملكية بالعفو عن الموريسكيين فيما تقدم من الذنوب، فإذا عادوا طبقت عليهم أشد القوانين والفروض، فأذعن الموريسكيون لكل ما فرض عليهم، ولكنهنم افتدوا من الإمبراطور بمبلغ طائل من المال، حق ارتداء ملابسهم القومية، وحق الإعفاء من المطاردة إذا اتهموا بالردّة (1).
وكان الإمبراطور شارلكان حينما أصدر قراره بتنصير المسلمين قد وعد بتحقيق المساواة بينهم وبين النصارى في الحقوق والواجبات، ولكن هذه المساواة لم تحقق قط، وشعر العرب المتنصرون من الساعة الأولى، أنهم مازالوا موضع الرّيب والاضطهاد، وفرضت عليهم فروض وضرائب كثيرة لا يخضع لها النصارى، وكانت وطأة الحياة تثقل عليهم شيئاً فشيئاً، وتترى ضدهم السعايات والاتهامات، وقد غدوا في الواقع أشبه بالرقيق منهم بالرعايا الأحرار. ولما شعرت السلطات بميل الموريسكيين إلى الهجرة، وفشت فيهم هذه الرغبة، صدر قرار في سنة (1541 م) يحرّم عليهم تغيير مساكنهم، كما حرّم عليهم النزوح إلى بلنسية، التي كانت دائماً طريقهم المفضّل إلى ركب البحر، ثم صدر قرار بمنع الهجرة من أي الثغور إلاّ
_______
(1) Dr Lea: The Moriscos ; P. 214-215, P. Longas,ibid,P.XL111.(2/341)
بترخيص ملكي نظير رسم فادح. وكانت السياسة الإسبانية تخشى اتصال الموريسكيين بمسلمي المغرب، وكان ديوان التحقيق يسهر دائماً على حركة الهجرة، ويعمل على قمعها بمنتهى الشدّة. ومع ذلك فقد كانت الأنباء تأتي من سفراء إسبانيا في البندقية وغيرها هن الثغور الإيطالية، بأن كثيراً من الموريسكيين الفارين يمرون بها في طريقهم إلى إفريقية والعالم الإسلامي (1).
وخلال هذا الاضطهاد الغامر، كانت السياسة الإسبانية في بعض الأحيان، تجنح إلى شيء من الرِّفق، فنرى الإمبراطور في سنة (1543 م) يبلِّغ المحققين العامين، بأنه تحقيقاً لرغبة مطران طليطلة والمحقق العام، قد أصدر عفوه عن المسلمين المتنصرين من أهل (مدينة ولكامبو) و (أريفالو) فيما ارتكبوا من ذنوب الكفر والمروق، وأنه يكتفي بأن يطلب إليهم الاعتراف بذنوبهم أمام الديوان (ديوان التحقيق)، ثم تردّ إليهم أملاكهم الثابتة والمنقولة التي أخذت منهم إلى الأحياء منهم، ويسمح لهم بتزويج أبنائهم وبناتهم من النصارى الخلّص، ولا تصادر المهور التي دفعوها للخزينة بسبب الذنوب التي ارتكبوها، بل تبقى هذه المهور للأولاد الذين يولدون من هذا الزواج، وأن يتمتع بهذا الامتياز النصرانيات الخلّص اللاّتي يتزوجن من الموريسكيين، بالنسبة للأملاك التي يقدِّمها الأزواج الموريسكيون برسم الزواج أو الميراث (2). وهكذا لبثت السياسة الإسبانية أيام الإمبراطور شارلكان (1516 م- 1555 م) إزاء الموريسكيين، تتردّد بين الإقدام والإحجام، واللّين والشدّة. بيد أنها على العموم كانت أقل عسفاً وأكثر اعتدالاً، منها أيام فرديناند وإيزابيلا، وفي عهده نال الموريسكيون كثيراً من ضروب الإعفاء والتسامح الرفيقة نوعاً ما، ولكنهم لبثوا في جميع الأحوال موضع القطيعة والريب، عرضة للإرهاق والمطاردة، ولبثت محاكم التحقيق تجد فيهم دائماً
_______
(1) Dr Lea: ibid ; P. 187-189.
(2) Arch. gen. de Simancas ; P. R. Leg. 28, Fol. 49.(2/342)
ميدان نشاطها المفضّل.
ب - على أن هذه السياسة المعتدلة نوعاً ما، لم يتح لها الاستمرار في عهد ولده وخلفه فيليب الثاني (1555 م - 1598 م). وكان التنصير قد عمّ الموريسكيين يومئذٍ، وغاضت منهم كل مظاهر الإسلام والعروبة، ولكن قبساً دفيناً من دين الآباء والأجداد كان لا يزال يجثم في قرارة هذه النفوس الأبية الكليمة، ولم تنجح إسبانيا النصرانية بسياستها البربرية في اكتساب شيء من ولائها المغصوب. وكان الموريسكيون يحتشدون جماعات كبيرة وصغيرة في غرناطة وفي بسائطها، وفي منطقة البشرات الجبلية، تتوسطها الحاميات الإسبانية والكنائس، لتسهر الأولى على حركاتهم، وتسهر الثانية على إيمانهم وضمائرهم، وكانوا يشتغلون بالأخص في الزراعة والتجارة، ولهم صلات تجارية واجتماعية وثيقة بثغور المغرب، وهو ما كانت ترقبه السلطات الإسبانية دائماً بكثير من الحذر والريب. وكانت بقية من التقاليد والمظاهر القديمة، ما زالت تربط هذا الشعب الذي زادته المحن والخطوب اتحاداً، وتعلقاً بتراثه القومي والروحي، وكانت الكنيسة تحيط هذا الشعب العاق، الذي لم تنجح تعاليمها في النفاذ إلى أعماق نفسه، بكثير من البغضاء والحقد. فلما تولى فيليب الثاني ألفت فرصتها في إذكاء عوامل الاضطهاد والتعصّب التي خبت نوعاً ما في عهد أبيه شارل الخامس. وكان هذا الملك المتعصب جداً في قرارة نفسه، يخضع لوحي الأحبار والكنيسة، ويرى في الموريسكيين ما تصوره الكنيسة والسياسة الرجعية، عنصراً بغيضاً خطراً دخيلاً على المجتمع الإسباني فلم تمض أعوام قلائل على تبوئه الملك، حتى ظهرت بوادر التعصب والتحريض ضد الموريسكيين، في طائفة من القوانين والفروض المرهقة. وكانت مسألة السلاح في مقدمة المسائل التي كانت موضع الاهتمام والتشدد. وقد عنيت السياسة الإسبانية منذ البداية بتجريد الموريسكيين من السلاح، واتخذت أيام فرديناند إجراءات لينة نوعاً ما، فكان يسمح بحمل أنواع معينة من السلاح المنزلي كالسكين وغيرها، وذلك(2/343)
بترخيص ورسوم معينة. ولكن الحكومة خشيت بعد ذلك عواقب هذا التسامح، فأخذت تشدِّد في الترخيص، وجُرِّد المسلمون في بلنسية من سلاحهم جملة، وقيل لهم حينما أذعنوا للتنصير: إنهم سيعاملون كالنصارى في سائر الحقوق والواجبات، ويردّ لهم سلاحهم، ولكن الحكومة لم تفِ بعهدها. وفي سنة (1545 م) صدر قرار بمنع السلاح كافة، ولكنه نفِّذ بشيءٍ من اللين. وفي سنة (1563 م) في عهد فيليب الثاني، صدر قانون جديد يحرّم حمل السلاح على الموريسكيين إلاّ بترخيص من الحاكم العام، وأحيط تنفيذه بمنتهى الشدّة، فأثار صدوره سخط الموريسكيين، وكان السلاح ضرورياً للدفاع عن أنفسهم في محلاّتهم المنعزلة النائية.
بيد أن قانون تحريم السلاح، لم يكن سوى مقدمة لقانون أقسى وأشدّ إيلاماً، هو القانون الخاص بتحريم استعمال اللغة العربية، وارتداء الثياب العربية، على الموريسكيين. وقد لبثت اللغة والتقاليد العربية في الواقع للموريسكيين، من أوثق الروابط بماضيهم وتراثهم، وكانت عماد قوّتهم المعنوية، ومن ثم كانت عناية السياسة الإسبانية بالعمل على محوها بطريق التشريع الصارم، والقضاء بذلك على آخر الروابط التي تربط الموريسكيين بماضيهم وتراثهم القومي. وقد فكر بعض أحبار الكنيسة أن يتعلم القسس الذين يقومون بحركة التنصير اللغة العربية، لكي يستطيعوا إقناع الموريسكيين بلغتهم والنفاذ إلى أعماق نفوسهم، ولكن فيليب الثاني لم يوافق على هذا الرأي، وآثر أن يتعلم القشتالية أبناء الموريسكيين متذ طفولتهم؛ وكانت السياسة الإسبانية قد حاولت تنفيذ مشروعها منذ عهد الإمبراطور شارلكان، فصدر في سنة (1526 م) قانون يحرم على الموريسكيين التخاطب باللغة العربية وارتداء الثياب العربية، واستعمال الحمامات، وإقامة الحفلات على الطريقة الإسلامية، ولكنه لم ينفذ بشدة، والتمس الموريسكيون في بلنسية وغرناطة وقف تنفيذه أربعين عاماً، يحتفظون خلالها بلغتهم وثيابهم القومية، وقرنوا ملتمسهم بمطالب أخرى تتعلق بتطبيق شريعتهم وتقاليدهم، وتخفيف(2/344)
الضرائب عن كاهلهم، وبالرغم من أن مطالبهم لم تُجب يومئذ كلها، فإن قانون تحريم اللغة والثياب القومية، نظير ضريبة معينة، أرجئ تنفيذه مرة أخرى، وأجيز للموريسكيين استعمال اللغة والثياب القومية نظير تلك الضريبة، واستمر هذا المنح سارياً حتى عهد فيليب الثاني، وكان يُجمَع من هذه الضريبة مبلغ طائل. ولكن فيليب الثاني كان ملكاً شديد التعصب، كثير التأثر بنفوذ الأحبار، وكانت الكنيسة ترى أن بقاء اللغة العربية من أشدّ العوامل لمنع تغلغل النصرانية في نفوس الموريسكيين، وأنه لابد من القضاء على ذلك الحاجز الصخري الذي تتحطم عليه جهود الكنيسة؛ وكانت قد مضت فوق ذلك أربعون عاماً مذ صدر قانون التحريم في عهد الإمبراطور شارلكان، ولم يبق للموريسكيين في ذلك حجة ولا ملتمس، وانتهت الكنيسة كالعادة بإقناع الملك بصواب رأيها، فلم يلبث أن استجاب لتحريضها، وأمر في (أيار - مايو سنة 1566 م) بأن يجدّد القانون القديم بتحريم الثياب العربية واللغة العربية، وهكذا حاول بطريق التشريع أن يسدّد الضربة الأخيرة للغة الموريسكيين وتقاليدهم العربية، فأصدر هذا القانون الهمجي الذي لم يسمع بصدور مثله في تاريخ المجتمعات المتمدنة. ويقضي هذا القانون بأن يمنح الموريسكيون ثلاثة أعوام لتعلم اللغة القشتالية، ثم لا يسمح بعد ذلك لأحد أن يتكلم أو يكتب أو يقرأ العربية أو يتخاطب بها، سواء بصفة عامة أو بصفة خاصة، وكل معاملات أو عقود تجري بالعربية تكون باطلة، ولا يُعتدّ بها لدى القضاء أو غيره. ويجب أن تسلم الكتب العربية، من أية مادة، في ظرف ثلاثين يوماً إلى رئيس المجلس الملكي في غرناطة، لتفحص وتقرأ، ثم يردّ غير الممنوع منها إلى أصحابها، لتحفظ لديهم مدى الأعوام الثلاثة فقط. وأما الثياب فيمنع أن يصنع منها كل جديد وأي جديد مما كان يستعمل أيام المسلمين، ولا يصنع منها إلاّ ما كان مطابقاً لأزياء النصارى، وحتى لا يتلف منها ما كان من زي المسلمين، فإنه يسمح بارتداء الثياب الحريرية منها لمدة عام، والصوفية لمدة عامين، ثم لا يسمح(2/345)
باستعمالها بعد ذلك. ويحظر التحجّب على النساء الموريسكيّات، وعليهن أن يكشفن وجوههنّ، وأن يرتدين عند خروجهنّ، المعاطف والقبّعات على نحو ما تفعل النساء الموريسكيات في أراغون. ويحظر في الحفلات إجراء أية رسوم إسلامية، ويجب أن يجري كل ما فيها طبقاً لعرف الكنيسة وعرف النصارى، ويجب أن تفتح المنازل أثناء الاحتفال، وفي أيام الجمعة وأيام الأعياد، ليستطيع القسس ورجال السلطة أن يروا ما يقع في داخلها من المظاهر والرسوم المحرمة. ويُحرم إنشاد الأغاني القومية، ولا يشهر الزّمر (الرقص العربي) أو ليالي الطرب بالآلات أو غيرها من العوائد الموريسكية، ويحرم الخضاب بالحناء. ولا يسمح بالاستحمام في الحمامات، ويجب أن تهدم جميع الحمامات العامة والخاصة. ويحرم استعمال الأسماء والألقاب العربية، ومَن يحملها يجب عليه المبادرة بتركها. ويجب أخيراً على الموريسكيين الذين يستخدمون العبيد السود، أن يقدّموا رخصهم باستخدامهم، للنظر فيما إذا كان حرياً بأن يسمح لهم باستبقائهم (1).
هذه هي نصوص ذلك القانون الهمجي الذي أريد به تسديد الضربة القاضية لبقايا الأمة الأندلسية، وذلك بتجريدها من مقوماتها القومية الخيرة. وقد فرضت على المخالفين عقوبات فادحة، تختلف من السجن إلى النفي والإعدام، وكان إحراز الكتب والأوراق العربية ولاسيما القرآن الكريم، يعتبر في نظر السلطات من أقوى الأدلة على الردّة، ويعرض المتهم لأقسى أنواع العذاب والعقاب.
وأعلن هذا القانون المروّع في غرناطة في يوم (أول كانون الثاني - يناير سنة 1567 م)، وهو اليوم الذي سقطت فيه غرناطة، واتخذته إسبانيا عيداً قومياً لها تحتفل به في كل عام، وأمر ديسا رئيس المجلس الملكي بإذاعته في غرناطة، وسائر أنحاء مملكتها القديمة، وتولى إذاعته موكب من القضاة شقَّ
_______
(1) Marmol; ibid; 11. Cap. VI.، وأنظر أيضاً: P. Lognas, ibid; P. XLV - XLV1(2/346)
المدينة، ومن حوله الطبل والزمر، وعلّق في ميدان باب البنود أعظم ميادينها القديمة، وفي سائر ميادينها الأخرى، وفي ربض البيازين، فوقع لدى الموريسكيين وقع الصاعقة، وفاضت قلوبهم الكسيرة سخطاً وأسىً ويأساً، وأحيط تنفيذه بمنتهى الشدّة، فحطّمت الحمامات تباعاً. واجتمع زعماء الموريسكيين وتباحثوا فيما يجب عمله إزاء هذه المحنة الجديدة، وحاولوا أن يسعوا بالضراعة والحسنى لإلغاء هذا القانون، أو على الأقل لتخفيف وطأته، ورفعوا احتجاجهم أولاً إلى الرئيس ديسا على يد رئيس جماعتهم مولاي فرنسيسكو نونيز، فخاطب الرئيس ديسا، وبيّن له ما في القانون من شدة وتناقض، وخرق للعهود، وطلب إرجاء تنفيذه. وحمل رسالتهم إلى فيليب الثاني، وإلى وزيره الطاغية الكاردينال أسبينوسا، سيد إسباني نبيل من أعيان غرناطة يدعى الدون خوان هنريكس، وكان يعطف على هذا الشعب المنكود، ويرى خطر السياسة التي اتبعت لإبادته، وسار معه إلى مدريد اثنان من أكابرهم هما: خوان هرناندث من أعيان غرناطة، وهرناندو الحبقي من أعيان وادي آش، والتمس الوفد إلى الملك إرجاء تنفيذ القانون، كما حدث أيام أبيه، وبعث الدون هنريكس، بمذكرة إلى جميع أعضاء مجلس الملك يبيِّن فيها ما يترتب على تنفيذ القانون من حرج واضطراب، ولكن مساعيه كلها ذهبت عبثاً، وأجاب الكاردينال اسبينوسا بأن جلالته مصمم على تنفيذ القانون، وأنه أصبح أمراً واقعاً، وكذا عرض المركيز دى مونديخار حاكم غرناطة على الملك اعتراض الموريسكيين، وأوضح له خطورة الموقف، وأن اليأس قد يدفعهم إلى الثورة، وأن الترك قد أصبحوا في شواطئ المغرب على مقربة من إسبانيا، وأن الموريسكيين شعب عدو لا يدين بالولاء، فلم تفد هذه الاعتراضات شيئاً، وقيل إن الموريسكيين شعب جبان، ولا سلاح لديه ولا حصون. وهكذا حملت سياسة العنف والتعصب في طريقها كل شيء، ونفذت الأحكام الجديدة في المواعيد التي حدّدت لها، ولم تبد السلطات في تنفيذها أي رفق أو ...................................................(2/347)
مهادنة (1).
ولم يحظ بلمحة من الرفق سوى الموريسكيين في بلنسية، وكان زعيمهم وكبير أشرافهم كوزمي بن عامر من المقربين إلى البلاط، فسعى للتخفيف عنهم، وكلّلت مساعيه بالنجاح في بعض النواحي، وهو أن يعامل الموريسكيون بالرفق في حالة اتهامهم بالردّة، ولا تنزع أملاكهم بتهمة المروق، وذلك على أن يدفعوا إتاوة سنوية قدرها ألفان وخمسمائة مثقال لديوان التحقيق (2).
وأما في غرناطة، فقد بلغ اليأس بالموريسكيين ذروته، فتهامسوا على المقاومة والثورة، والذود عن أنفسهم إزاء هذا العسف المضني، أو الموت قبل أن تنطفئ في قلوبهم وضمائرهم، آخر جذوة من الكرامة والعزّة، وقبل أن تقطع آخر صلاتهم بالماضي المجيد والتراث العزيز، وكانت نفوسهم ما تزال تضطرم ببقية من شغف النضال والدفاع عن النفس، وكانوا يرون في المناطق الجبلية القريبة ملاذاً للثورة، ويؤملون أن يصلوا بالمقاومة إلى إلغاء هذا القانون الهمجي أو تخفيفه. وهنا يبدأ الصراع الأخير للموريسكيين وإسبانيا النصرانية، ومن المؤسف أنه لم تذكر المصادر العربية عن هذه المرحلة شيئاً، فهي تقف عند محنة التنصير الأولى عقب سقوط غرناطة، فلا بد من الرجوع إلى المصادر النصرانية حول ذلك.
سرى إلى الموريسكيين يأس بالغ يذكيه السخط العميق، فعوّلوا على الثورة، مؤثرين الموت على ذلك الاستشهاد المعنوي الهائل ونبتت فكرة الثورة في غرناطة أولاً حيث يقيم أعيان الموريسكيين، وحيث كانت جمهرة كبيرة منهم تحتشد في ضاحية البيازين. وكان زعيم الفكرة ومثير ضرامها
_______
(1) Marmol; ibid; 11. Cap. وأنظر: Prescott: Philip 11 of Spain; V. 111. P. 12-89 وأنظر: Dr. Lea: The Moriscos; P. 150-151 and 230-234.
(2) Dr Lea: ibid. P. 126.(2/348)
موريسكي يدعى: فرج بن فرج، وكان فرج صباغاً بمهنته، ولكنه حسبما تصفه الرواية القشتالية، كان رجلاً جريئاً وافر العزم والحماسة، يضطرم بغضاً للنصارى، ويتوق إلى الانتقام الذريع منهم، ولا غرو فقد كان ينتسب إلى بني سراج، وهم كما رأينا من أشراف غرناطة وفرسانها الأنجاد أيام الدولة الإسلامية. وكان ابن فرج كثير التردد على أنحاء البشرات، وثيق الصلة بمواطنيه، فاتفق الزعماء على أن يتولى حشد قوّة كبيرة منهم، تزحف سراً إلى غرناطة، وتجوز إليها من ضاحية البيازين، ثم تفاجئ حامية الحمراء وتسحقها وتستولي على المدينة، وحدّدوا للتنفيذ (يوم الخميس المقدس)، من شهر نيسان - أبريل سنة (1568 م) إذ يشغل النصارى يومئذ باحتفالاتهم وصلواتهم. ولكن أنباء هذا المشروع الخطير تسرّبت إلى السلطات منذ البداية، فاتخذت الاحتياطات لدرئه، وعزّزت حامية غرناطة وحاميات الثغور، واضطر الموريسكيون إزاء هذه الأهبة، أن يرجئوا مشروعهم إلى فرصة أخرى.
ووضع أديب من زعماء الثورة، يدعى باسمه المسلم محمد بن محمد بن داود، قصيدة ملتهبة، يصف فيها آلام بني وطنه، ويستمدّ فيها الغوث والعون من الله ومن ونبيه عليه الصلاة والسلام، فضبطت معه في ثغر أدرة، وأرسلت إلى البلاط مع ترجمتها القشتالية، وهذا هو ملخص ما ورد في تلك القصيدة التي تعتبر كأنها صرخة ألم أخيرة لشعب شهيد: (تفتتح القصيدة بحمد الله والثناء عليه والتنويه بقدرته، وخضوع جميع الناس والأشياء لحكمه، ثم يقول: استمعوا إلى قصة الأندلس المحزنة، وهي تلك الأمة العظيمة التي غدت اليوم ضعيفة مهيضة، يحيط بها الكفرة من كل صوب، وأضحى أبناؤها كالأغنام الذين لا راعي لهم. وفي كل يوم نسام سوء العذاب، ولا حيلة لنا سوى المصانعة، حتى ينقذنا الموت مما هو شرّ وأدهى. وقد حكّموا فينا يهود الذين لا عهد لهم ولا ذمام، وفي كل يوم يبحثون عن ضلالات وأكاذيب وخدع وانتقامات جديدة.(2/349)
"ونرغم على مزاولة الشعائر النصرانية وعبادة الصور، وهي مسخ للواحد القهار، ولا يجرؤ أحد على التذمر أو الكلام. وإذا ما قرع الناقوس، ألقى القس عِظَته بصوت أجشّ، وفيها يشيد بالنبيذ ولحم الخنزير، ثم تنحني الجماعة أمام الأوثان دون حياء ولا خجل ... ".
"ومَن عَبَدَ الله بلغته قُضى عليه بالهلاك، ومَن ضُبط أُلقِي إلى السجن وعُذّب ليل نهار، حتى يرضخ لباطلهم".
ثم يصِف وسائل إرهاقهم والتضييق عليهم، من التسجيل والتفتيش وغيرها، وما يفرض عليهم من الضرائب الفادحة، وكيف تُؤدى عن الحي والميت، والكبير والصغير، والغني والفقير، وكيف يرهقهم القضاة الظلمة، ولا يفلت من ظلمهم كائن، وكيف يُلقى بهم في السجن، ويرغمون على التنصير بالاعتقال والتعذيب، وكيف تهشّم أوصال الفرائس، ثم تحمل إلى الميدان لتحرق أمام الجمع الحاشد. وكيف تكدّس المظالم على رءوسهم تكديساً، ويسومهم الخسف أصاغر النصارى، وكل منهم يفتنُّ في ضروب الاضطهاد.
ثم يقول: "ولقد علّقوا يوم العيد (عيد سقوط غرناطة) في ميدان باب البنود، قانونا جديداً، وأخذوا يدهمون الناس في نومهم، ويفتحون كل باب، يزمعون تجريدنا من ثيابنا وقديم عاداتنا، ويمزقون الثياب، ويحطمون الحمامات".
"ونحن إذ نيأس من عدل الإنسان، نستغيث بالنبي (عليه الصلاة والسلام)، معتمدين على ثواب الآخرة، وقد حثنا شيوخنا على الصلاة والصوم، وأن نقصد وجه الله، فهو الذي يرحمنا في نهاية الأمر" (1).
وضبط في نفس الوقت مع ابن داود خطاب موجه من أحد زعماء البيازين
_______
(1) أورد مارمول ترجمة قشتالية كاملة لهذه القصيدة، والترجمة للأستاذ محمد عبد الله عنّان نقلاً عن: نهاية الأندلس (345 - 346)، أنظر: Marmol; ibid; 111. Cap. 1X(2/350)
إلى زعماء المغرب ورؤسائهم وإخوانهم في الدين. وكان هذا الكتاب واحداً من كتب عديدة، وجّهت خفية إلى أمراء الثغور في المغرب، يطلبون إليهم الغوث والعون، فحمل الكتاب إلى حاكم غرناطة، وفيه يناشد كاتبه إخوانه بالمغرب، ويستحلفهم الغوث بحق روابط الدين والدم، ويصف ما قرره النصارى من إرغامهم على ترك اللّغة، وتَرْكُها فَقْدٌ للشريعة، وكشف الوجوه الحيية المحتشمة، وفتح الأبواب، وما أنزل بهم من محن السجن والأسر ونهب الأملاك، ويطلب إليهم أن يبلغوا استغاثتهم إلى سلطان المشرق قاهر أعدائه، ثم يقول: "لقد غمرتنا الهموم، وأعداؤنا يحيطون بنا إحاطة النار المهلكة. إن مصائبنا لأعظم من أن تحتمل، ولقد كتبنا لكم في ليالٍ تفيض بالعذاب والدّمع، وفي قلوبنا قبس من الأمل، إذا كانت ثمة بقية من الأمل في أعماق الروح المعذّب" (1). ولكن الحكومات المغربية كانت مشغولة بمشاكلها الداخلية، فلم يلب داعي الغوث سوى جماعة من المتطوعين، الذين نفذوا سراً إلى إخوانهم في البشرات، ومنهم كثير من البحارة المجاهدين، الذين كانوا حرباً عواناً على الثغور والسفن الإسبانية في ذلك العصر.
واستمر الموريسكيون على عزمهم وأهبتهم، وأرسلت خطابات عديدة من ابن فرج وزملائه إلى مختلف الأنحاء يدعون فيها إخوانهم إلى التأهب وإخطار سائر إخوانهم. وفي شهر (كانون الأول - ديسمبر 1568 م) وقع حادث كان نذير الانفجار، إذ اعتدى الموريسكيون على بعض المأمورين والقضاة الإسبانيين في طريقهم إلى غرناطة، ووثبت جماعة منهم في نفس الوقت بشرذمة من الجند، كانت تحمل كمية كبيرة من البنادق، ومثلت بهم جميعاً. وفي الحال سار ابن فرج على رأس مائتين من أتباعه، ونفذ إلى المدينة ليلاً، وحاول تحريض مواطنيه في (البيازين) على نصرته، ولكنهم أَبَوْا أن يشتركوا
_______
(1) أورد مارمول ترجمة قشتالية كاملة، أنظر: Marmol, ibid, 111, Cap. 1X(2/351)
في مثل هذه المغامرة الجنونية. ولقد كان موقفهم حرجاً في الواقع، لأنهم يعيشون إلى جانب النصارى على مقربة من الحامية، وهم أعيان الطائفة، ولهم في غرناطة مصالح عظيمة يخشون عليها من انتقام الإسبان، بيد أنهم كانوا يؤيدون الثورة؛ يؤيدونها برعايتهم ونصحهم ومالهم، فارتد ابن فرج على أعقابه، واجتاز شعب جبل شلير (سيرانفادا) إلى الهضاب الجنوبية فيما بين بلش وألمرية، فلم تمض بضعة أيام، حتى عمّ ضرام الثورة جميع الدساكر والقرى الموريسكية في أنحاء البشرات، وهرعت الجموع المسلحة إلى ابن فرج، ووثب الموريسكيون بالنصارى القاطنين فيما بينهم، ففتكوا بهم ومزّقوهم شرّ ممزق.
ج - اندلع لهيب الثورة في أنحاء الأندلس، ودوّت بصيحة الحرب القديمة، وأعلن الموريسكيون استقلالهم، واستعدوا لخوض معركة الحياة أو الموت، وبدأ الزعماء باختيار أمير يلتفّون حوله، ويكون رمز ملكهم القديم، فوقع اختيارهم على فتى من أهل البيازين يدعى: الدون فرناندو دى كردوبا فالور (1). وكان هذا الاسم النصراني القشتالي، يحجب نسبة عربية رفيعة. ذلك أن فرديناند فالور كان ينتمي في الواقع إلى بني أمية، وكان سليل الملوك والخلفاء الذين سطعت في ظلهم الدولة الإسلامية في الأندلس، زهاء ثلاثة قرون. وكان فتى في العشرين، تنوِّه الرواية القشتالية المعاصرة بوسامته ونبل طلعته، وكان قبل انتظامه في سلك الثوار مستشاراً ببلدية غرناطة، ذا مال ووجاهة. وكان الأمير الجديد يعرف خطر المهمة التي انتدب لها. وكان يضطرم حماسة وجرأة وإقداماً، ففي الحال غادر غرناطة سراً إلى الجبال، ولجأ إلى شيعته آل فالور في قرية بزنار ( Beznar) فهرعت إليه الوفود والجموع من كل ناحية، واحتفل الموريسكيون بتتويجه في (29 كانون الأول - ديسمبر سنة 1568 م) في احتفال بسيط مؤثر، فرشت فيه على الأرض أعلام
_______
(1) كردوبا أي قرطبة، وفالور قرية غرناطية تقع على مقربة من أجيجر.(2/352)
إسلامية ذات أهلّة، فصلى عليها الأمير متّجها نحو مكة، وقبّل أحد أتباعه الأرض رمزاً للخضوع والطاعة، وأقسم الأمير أن يموت في سبيل دينه وأمته، وتسمَّى باسم ملوكي عربي هو محمد بن أميّة صاحب الأندلس وغرناطة، واختار عمه المسمى: فرناندو الزغوير (الصغير) واسمه المسلم ابن جوهر قائداً عاماً لجيشه، وقد كان صاحب الفضل الأكبر في اختياره للرياسة، وانتخب ابن فرج كبيراً للوزراء، ثم بعثه على رأس بعض قواتها إلى هضاب البشرات، ليجمع ما استطاع من أموال الكنائس، واتخذ مقامه في أعماق الجبال في مواقع منيعة، وبعث رسله في جميع الأنحاء، يدعون الموريسكيين إلى خلع طاعة النصارى والعود إلى دينهم القديم (1).
ووقعت نقمة الموريسكيين بادئ ذي بدء، على النصارى المقيمين بين ظهرانيهم في أنحاء البشرات، ولا سيما القسس وعمال الحكومة، وكان هؤلاء يقيمون في محلاّت متفرقة سادة قساة، يعاملون الموريسكيين بمنتهى الصرامة والزراية، وكان القسس بالأخص سبب بلائهم ومصائبهم، ومن ثم كانوا ضحايا الثورة الأولى. وانقض ابن فرج ورجاله على النصارى في تلك الأنحاء ومزقوهم تمزيقاً، وقتلوا القسس وعمال الحكومة، ومثّلوا بهم أشنع تمثيل. وكانت حسبما تقول الروايات القشتالية مذبحة عامة، لم ينج منها حتى الأطفال والنساء والشيوخ. وذاعت أنباء المذبحة الهائلة في غرناطة، فوجم لها الموريسكيون والنصارى معاً، وكل يخشى عواقبها الوخيمة؛ وكان الموريسكيون يخشون أن يبطش بهم النصارى انتقاماً لإخوانهم ومواطنيهم، وكان النصارى يخشون أن يزحف جيش الموريسكيين على غرناطة، فتسقط المدينة بأيديهم، وعندئذ يحل بهم النكال المروِّع. بيد أن الرواية القشتالية تنصف هنا محمد بن أمية فتقول: إنه لم يحرِّض على هذه المذابح، ولم يوافق عليها، بل لقد ثار لها، وحاول أن يحول دون وقوعها، وعزل نائبه ابن فرج
_______
(1) Marmol ; ibid; 1V , Cap. V11.(2/353)
عن القيادة، فنزل راضياً واندمج في صفوف المجاهدين، وهنا يختفي ذكره ولا يبدو على مسرح الحوادث من جديد (1).
د - وكانت غرناطة في أثناء ذلك ترتجف سخطاً وروعاً، وكان حاكمها المركيز منديخار يتخذ الأهبة لقمع الثورة منذ الساعة الأولى. بيد أنه لم يكن يقدّر مدى الانفجار الحقيقي. فغصّت غرناطة بالجند، ووضع الموريسكيون أهل البيازين تحت الرقابة، رغم احتجاجهم وتوكيدهم بأن لا علاقة لهم بالثائرين من مواطنيهم. وخرج منديخار من غرناطة بقواته، في (2 كانون الثاني - يناير سنة 1569 م) تاركاً حكم المدينة لابنه الكونت تندليا، وعبر جبل شلير (سيرا نفادا) وسار توّاً إلى أعماق البشرات، حيث يحتشد جيش الثوار. وكانت الثورة الموريسكية في تلك الأثناء قد عمّت أنحاء البشرات الشرقية والجنوبية، واضطرمت في أجيجر وبرجة وأدرة وأندراش ودلاية ولوشار ومرشانة وشلوبانية وغيرها من البلاد والقرى، واستطاع الموريسكيون أن يتغلبوا بسهولة على معظم الحاميات الإسبانية المتفرقة في تلك الأنحاء، بل لقد سرت الثورة إلى أطراف مملكة غرناطة القديمة، حيث أندلع لهيبها في وادي المنصور وفي قراه ودساكره، ولم يتخلّف عن المشاركة في الثورة سوى رندة ومربلة ومالقة، وكانت بها حاميات إسبانية قوية، ونشبت الثورة في معظم أنحاء ألمرية، وهكذا عمّت الثورة الموريسكية معظم أنحاء الأندلس، واشتد الأمر بنوع خاص في بسطة ووادي آش وألمرية (2).
وكان محمد بن أمية متحصناً بقواته في آكام بوكيرا الوعرة، وكان الموريسكيون رغم نقص مواردهم وسلاحهم، قد حذقوا حرب الجبال ومفاجآتها، فما كاد الإسبان يقتربون حتى انقضوا عليهم، ونشبت بين الفريقين معركة عنيفة، ارتد الموريسكيون على أثرها إلى سهول بطرنة،
_______
(1) Prescott:Philip 11; V. 111. Ch. 11 وكذلك Dr Lea: The Moriscos; P. 237
(2) Marmol ; ibid, 1V , Cap. XXXV1(2/354)
وتخلّف كثيرون منهم، ولا سيما النساء، ففتك الإسبان بهم فتكاً ذريعاً. وحاول منديخار أن يتفاهم مع الثائرين على العفو، وأن يخلدوا إلى السكينة، وبعث إليهم بعض المسالمين من مواطنيهم. وكتب الدون ألونسو فنيجاس (بنيغش) سليل الأسرة الغرناطية القديمة إلى محمد بن أمية يعاتبه، وأنه قد جانَبَ العقل والحزم في القيام بهذه الحركة التي تعرضه وتعرض أمته للهلاك، ونصحه بالتوبة والتماس العفو، وكان محمد بن أمية يميل إلى الصلح والتفاهم، وتبودلت بالفعل المكاتبة بينه وبين المركيز منديخار في أمر التسليم، ولكن المتطرفين من أنصاره ولا سيما المتطوعين المغاربة، رفضوا الصلح، فاستؤنفت المعارك، ورجحت كفّة الإسبان، وهزم الموريسكيون مرة أخرى، وأعلن المركيز دى منديخار أن الأسرى الموريسكيين يعتبرون رقيقاً وفرّ محمد بن أمية، وأسرت أمه وزوجه وأخواته، وأصيب الإسبان بهزيمة شديدة فى آكام (جواخاريس)، وقتل منهم مائة وخمسون جندياً مع ضابطهم، ولكن الموريسكيين آثروا الارتداد، وقتل الإسبان مَن تخلّف منهم أشنع قتل، وكان ممن تخلف منهم زعيم باسل يدعى (الزمار) أسره الإسبان مع ابنته الصغيرة، وأرسلوه إلى غرناطة حيث عذّبوه عذاباً وحشياً، إذ نزع لحمه من عظامه حياً، ثم مزّقت أشلاؤه، وهكذا كانت أساليب الإسبان النصارى ومحاكم التحقيق إزاء العرب المتنصرين.
واختفى محمد بن أمية مدى حين في منزل قريبه (ابن عبو) وكان من أنجاد الزعماء أيضاً، وطارده الإسبان دون أن يظفروا به. على أن هذه الهزائم لم تنل من عزم الموريسكيين، فقد احتشدوا في شرقي البشرات في جموع عظيمة، وأخذوا يهدّدون ألمرية، فسار إليهم المركيز "لوس فيليس" على رأس جيش آخر، ووقعت بين الفريقين عدة معارك شديدة، قثل فيها كثير من الفريقين، ومزّق الموريسكيون، وفتك الإسبان كعادتهم بالأسرى، وقتلوا النساء والأطفال قتلاً ذريعاً.
ووقعت في نفس الوقت في غرناطة مذبحة مروّعة أخرى فقد كان في(2/355)
سجنها العام نحو مائة وخمسين من أعيان الموريسكيين، اعتقلوا رهينة وكفالة بالطاعة، فأذاع الإسبان أن الموريسكيين سيهاجمون غرناطة لإنقاذ السجناء، بمؤازرة مواطنيهم في البيازين، وعلى ذلك صدر الأمر بإعدام السجناء، فانقضّ الجند عليهم وذبحوهم في مناظر مروّعة في سفك الدماء الفظيع.
وكان لهذه الحوادث الأخيرة أثر في إذكاء الثورة، وكان نذيراً جديداً للموريسكيين بأن الموت في ساحة الحرب خير مصير يلقون، فسرى إليهم لهب الثورة بأشد من قبل، وطافت بهم صيحة الانتقام، فانتفضوا على الحاميات الإسبانية المبعثرة في أنحاء البشرات ومزّقوها تمزيقاً، وهزموا قوة إسبانية تصدّت لقتالهم، واحتشدت جموعهم مرة أخرى تملأ الهضاب والسهل، وعاد محمد بن أمية ثانية إلى تبوء عرشه الخطر، والتف حوله الموريسكيون أضعاف ما كانوا، وبعث أخاه عبد الله إلى القسطنطينية يطلب العون من سلطانها، وأرسل في نفس الوقت إلى أمير الجزائر، وإلى سلطان مراكش الشريفي يطلب الإنجاد والغوث، ولكن سلاطين القسطنطينية لم يلبّوا ضراعة الموريسكيين بالرغم من تكرارها منذ سقوط غرناطة، وأرسل أمير الجزائر مشجعاً ومعتذراً عن عدم إمكان إرسال السفن، ووعد سلطان مراكش بالمساعدة والغوث، ولكن هذا الصريخ المتكرر من الموريسكيين لم ينتج أثره المنشود، ولم يلبه غير إخوانهم المجاهدين في إفريقية، فقد استطاعت جموع جريئة مخاطرة، أن تجوز إلى الشواطئ الإسبانية، ومنهم فرقة من الترك المرتزقة، وأن تهرع إلى نصرة المنكوبين.
وهكذا عاد الجهاد إلى أشدّه. وخشي الإسبان من احتشاد الموريسكيين في البيازين ضاحية غرناطة، فصدر قرار بتشريدهم في بعض الأنحاء الشمالية. وكانت مأساة جديدة مزّقت فيها هذه الأسر التعسة، وفُرِّق فيها بين الأبناء والآباء والأزواج والزوجات، في مناظر مؤثرة تذيب القلب، وسار المركيز لوس فيليس في نفس الوقت إلى مقاتلة الموريسكيين، في سهول المنصورة على مقربة من أراضي مرسية، ونشبت بينه وبينهم وقائع غير(2/356)
حاسمة، ولم يستطع متابعة القتال لنقص الأهبة والمؤن، وكان بينه وبين زميله منديخار خصومة ومنافسة، كانتا سبباً في اضطراب الخطط المشتركة. واتُّهِم منديخار بالعطف على الموريسكيين، فاستُدعِي إلى مدريد، وأُقِيل من القيادة، واتخذت مدريد خطوتها الجديدة الحاسمة في هذا الصراع الذي لا رحمة فيه ولا هوادة.
وبينما كانت هذه الحوادث والمعارك الدموية تضطرم في هضاب الأندلس وسهولها، وتحمل إليها أعلام الخراب والموت، إذ وقع في المعسكر الموريسكي حادث خطر، هو مصرع محمد بن أمية. وكان مصرعه نتيجة المؤامرة والخيانة، وكانت عوامل الخلاف والحسد، تحيط هذا العرش بسياج من الأهواء الخطرة، وكان محمد بن أمية يثير بين مواطنيه بظرفه ورقيق شمائله كثيراً من العطف، ولكنه كان يثير بصرامته وبطشه، الحقد في نفوس نفر من ضباطه. وتقص علينا الرواية القشتالية سيرة مقتله فتقول: إنه كان ثمة ضابط من هؤلاء يدعى ديجو الجوازيل (الوزير) له عشيقة حسناء تسمى: زهرة، فانتزعها منه محمد قسراً، فحقد عليه وسعى لإهلاكه بمعاونة خليلته، فزوّر على لسانه خطاباً إلى القائد العام (ابن عبو) يحرِّضه على التخلّص من المرتزقة الترك، وكان ثمة منهم فرقة في المعسكر الموريسكي، فعلم الترك بأمر الخطاب، واقتحموا المعسكر إلى مقر ابن أمية وقتلوه، بالرغم من احتجاجه وتوكيده براءته، واستقبل الجند الحادث بالسكون. وفي الحال اختار الزعماء ملكاً جديداً هو ابن عبو، واسمه الموريسكي: ديجو لوبيث، وهو ابن عم الملك القتيل، فتسمى: بمولاي عبد الله محمد، وأُعلن ملكاً على الأندلس بنفس الاحتفال المؤثر الذي وصفناه. وكان مولاي عبد الله أكثر فطنة وروية وتدبّراً، فحمل الجميع على احترامه، وشُغل مدى حين بتنظيم الجيش، واستقدم السلاح والذخيرة من ثغور المغرب، واستطاع أن يجمع حوله جيشاً مدرّباً قِوامه زهاء عشرة آلاف، بين مجاهد ومرتزق ومغامر.
وفي أواخر (تشرين الأول - أكتوبر 1569 م) سار مولاي عبد الله بجيشه(2/357)
صوب (أرجبة)، وهي مفتاح غرناطة واستولى عليها بعد حصار قصير، فذاعت شهرته، وهرع الموريسكيون من شرق البشرات إلى إعلان طاعته، وامتدت سلطته جنوباً حتى بسائط رندة ومالقة، وكثرت غارات الموريسكيين على فحص غرناطة ( La Vega) وقد كانت قبل سقوطها ميدان المعارك الفاصلة بين المسلمين والنصارى، وكان فيليب الثاني حينما رأى استفحال الثورة الموريسكية، وعجز القادة المحليين عن قمعها، قد عين أخاه الدون خوان قائداً عاماً لولاية غرناطة، ولما رأى الدون خوان اشتداد ساعد الموريسكيين، اعتزم أن يسير لمحاربتهم بنفسه في أواخر (أيلول - ديسمبر) على رأس جيشه، وسار صوب وادي آش، وحاصر بلدة (جليرا)، وهي من أمنع مواقع الموريسكيين، وكان يدافع عنها زهاء ثلاثة آلاف موريسكي، منهم فرقة تركية، فهاجمها الإسبان عدة مرات، وصوبوا عليها نار المدافع بشدّة، فسقطت بأيديهم بعد معارك هائلة، أبدى فيها الموريسكيون والنساء الموريسكيات أعظم ضروب البسالة، وقتل عدد من الأكابر الإسبان وضباطهم، ودخلها الأسبان دخول الضواري الكواسر المفترسة، وقتلوا كل من فيها من الرجال والأطفال والنساء، وكانت مذبحة مروّعة (شباط - فبراير 1570 م)، وتوغل بعد ذلك دون (1) خوان في شعب الجبال الواقعة على مقربة من بسطة، وكانت هناك قوة من الموريسكيين بقيادة زعيم يدعى: (الحبقي) تبلغ بضعة آلاف، ففاجأت الإسبان في سيرون ومزّقت بعض سراياهم، وأوقعت الرّعب والخلل في صفوفهم، وقتل منهم عدد كبير، ولم يستطع الدون خوان أن يعيد النظام إلاّ بصعوبة، فجمع شتات جيشه، وطارد الموريسكيين، واستمر في سيره جنوباً حتى وصل إلى أندراش في (أيار - مايو سنة 1570 م).
وهنا رأت الحكومة الإسبانية أن تجنح إلى شيء من اللّين، خشية عواقب هذا الجهاد الرائع، فبعث الدون خوان رسله إلى الزعيم (الحبقي) يفاتحه بأمر
_______
(1) دون ( DON) تعني السيد في اللغة الإسبانية.(2/358)
الصلح، وصدر أمر ملكي بالوعد بالعفو التام عن جميع الموريسكيين الذين يقدمون خضوعهم في ظرف عشرين يوماً من إعلانه، ولهم أن يقدموا ظلاماتهم، فتبحث بعناية، وكل من رفض الخضوع، ما عدا النساء والأطفال دون الرابعة عشرة، قُضي عليه بالموت، فلم يصغ إلى النداء أحد، ذلك أن الموريسكيين أيقنوا نهائياً أن إسبانيا النصرانية لا عهد لها ولا ذمام، وأنها لا تفي بوعودها، فعاد الدون خوان إلى استئناف المطاردة والقتال، وانقض الإسبان على الموريسكيين محاربين ومسالمين، يمعنون فيهم قتلاً وأسراً، وسارت قوة بقيادة دون سيزا إلى شمال البشرَّات، واشتبكت مع قوات مولاي عبد الله في معارك غير حاسمة، وسارت مفاوضات الصلح في نفس الوقت عن طريق الحبقي، وكان مولاي عبد الله قد رأى تجهّم الموقف، ورأى أتباعه ومواطنيه يسقطون من حوله تباعاً، والقوة الغاشمة تجتاح في طريقها كل شيء، فمال إلى الصلح والمسالمة، واستخلاص ما يمكن استخلاصه من براثن القوّة القاهرة.
وتقدّم للتوسط بين الثوار وبين الدون خوان كبير من أهل وادي آش يدعى: الدون هرناندو دى براداس، وكانت له صلات طيبة مع الموريسكيين قبل الثورة. وقد انتهت إلينا وثيقة مؤثرة هي عبارة عن خطاب كتبه مولاي عبد الله إلى دون هرناندو هذا يعرض استعداده للصلح والمفاوضة، وفيه تبدو لغة الموريسكيين العربية في دور احتضارها، ويبدو أسلوب اللّهجة الغرناطية التي انتهى الموريسكيون إلى التحدث والكتابة بها، بعد نحو ثمانين عاماً من الكبت والمطاردة. وإليك ما ورد في هذا الخطاب الذي ربما كان آخر وثيقة عربية عثر بها البحث الحديث:
1 الحمد لله وحده قبل الكلم
2 اسلم الكرمو على من أكرمهو الكرمو سيديا وحبيبي وعزا سر عنديا دن هرنندو وفي نعلم حرمتكم ين(2/359)
3 أكن نت تقول يجى عند أخيكم وحببك وتجى مطمن وكل ميجكم فمليا
4 وذيمتى وكن أنت تريد تترطل فذى المبرك مين سُلح كل متعمل تعملو معى ونى
5 نعمل معك كل مَترِيد بحق وبِل غدر وذَهَر لى مين الحبقى بن اشمَكِن يعمل
6 معلمن وتطلعنى على حق وذهر لى بن اشم طلب يرحو وينسو ويسحبو وبعد رعى
7 ودين انى نعرف حرمتك بهذا شى وحرمتك اعمل الذى يذهر لكم وعمل ميسُلح بنترر
8 وبين وعسى يقذيا الله خير بينين وتكن حرمتكم اسّبّبْ فداشى وعملن فعد لكم بل اش
9 كن معى من يكتب لى يل كينكن كتبت لكم أكثر وسلموا عليكم ورحمتو الله وبركتو الله
10 كِتيب الكتب يوم الثليث فشهر وليو فعم ..
ملاى عبد الله (1)
وكتب الدون ألونسو دى فينجاس (بنيغش) أيضاً إلى مولاي عبد الله يحثه على المسالمة، والتنكّب عن هذا الطريق الخطر، وردّ عليه عبد الله يلقي
_______
(1) نشر هذا الخطاب وصورته الفوتغرافية المستشرق M. Alacron في مجموعة بالإسبانية عنوانها: Miscelaneo de Estudios Y. Textos Arabes (Madrid 1915) ; P. 691، وقد وجد هذا الخطاب في مجموعة المخطوطات الشرقية للمركيز بينافلور Bena Flor، وتحفظ نسخته العربية فيها برقم 246، وتحفظ ترجمته القشتالية برقم 245، وقد أورد مارمول ترجمته القشتالية في الكتاب التاسع الفصل التاسع. أنظر نهاية الأندلس (355).(2/360)
المسئولية على أولي الأمر، وعلى ما أحدثوه من بدع جعلت الحياة مستحيلة على الشعب الموريسكي (1). وجرت المفاوضات بين الزعيم الحبقي قائد قوات الثورة، وبين الدون هرناندو دى براداس، واتفق في النهاية على أن يتقدم الحبقي إلى الدون خوان بإعلان خضوعه، وطلب العفو لمواطنيه، فيصدر العفو العام عن الموريسكيين، وتكفل الحكومة الإسبانية حمايتها لهم أينما ارتأت مقامهم. وفي ذات مساء، سار الحبقي في سرية فرسانه إلى معسكر الدون خوان في أندراش، وقدم له الخضوع، وحصل على العفو المنشود.
ولكن هذا الصلح لم يرض مولاي عبد الله وباقي الزعماء، لأنهم لمحوا فيه نيّة إسبانيا النصرانية على نفيهم ونزعهم عن أوطانهم، ففيم كانت الثورة إذن وفيم كان الجهاد؟! لقد ثار الموريسكيون، لأن إسبانيا أرادت أن تنزعهم لغتهم وتقاليدهم، فكيف بها إذ تعتزم أن تنزعهم ذلك الوطن العزيز، الذي نشأوا في ظلاله الفيحاء، والذي يضم تاريخهم وكل مجدهم وذكرياتهم؟ أنكر الموريسكيون ذلك الصلح المجحف، وارتاب مولاي عبد الله في موقف الحبقي، إذ رآه يروّج لهذا الصلح بكل قواه، ويدعو إلى الخضوع والطاعة للعدو، فاستقدمه لمعسكره بالحيلة، وهناك أُعدم سراً.
ووقف الدون خوان على ذلك، بعد أسابيع من الانتظار والتريث، وبعث رسوله إلى مولاي عبد الله، فأعلن إليه أن يترك الموريسكيين أحراراً في تصرفاتهم، بيد أنه يأبى الخضوع ما بقي فيه عرق ينبض، وأنه يؤثر أن يموت مسلماً مخلصاً لدينه ووطنه، على أن يحصل على مُلك إسبانيا بأسره. والظاهر أن مولاي عبد الله، كانت قد وصلته إمدادات من المغرب شدّت أزره وقوّت أمله، وعادت الثورة إلى اضطرامها حول رندة، وأرسل مولاي عبد الله أخوه الغالب ليقود الثوار في تلك الأنحاء، وثارت الحكومة الإسبانية لهذا
_______
(1) Marmol ; ibid; V111 ; Cap. XXV11.(2/361)
التحدي، واعتزمت سحق الثوار بما ملكت، فسار الدون خوان في قواته إلى وادي آش، وسار جيش آخر من غرناطة بقيادة دون ركيصانص إلى شمالي البشرات، وسار جيش ثالث إلى بسائط رندة، واجتاح الإسبان في طريقهم كل شيء، وأمعنوا في التقتيل والتخريب. وعبثاً حاولت السرايا الموريسكية أن تقف في وجه هذا السيل، فمُزِّقت تباعاً، وهدم الإسبان الضياع والقرى والمعاقل، وأتلفت الأحراش والحقول، حتى لا يبقى للثائر من مثوى أو مصدر للقوت، وأخذت الثورة تنهار بسرعة، وفرّ كثير من الموريسكيين إلى إخوانهم في إفريقية، ولم يبق أمام الإسبان سوى مولاي عبد الله وجيشه الصغير. بيد أن مولاي عبد الله لبث معتصماً بأعماق الجبال، يحاذر الظهور أمام هذا السيل الجارف. (وفي 28 تشرين الأول - أكتوبر سنة 1570 م) أصدر فيليب الثاني قراراً بنفي الموريسكيين من مملكة غرناطة إلى داخل البلاد، ومصادرة أملاكهم العقارية، وترك أملاكهم المنقولة يتصرفون فيها، ويقضي هذا القرار بأن الموريسكيين في غرناطة والفحص ووادي الكرين (الإقليم) وجبال بونتوقير حتى مالقة، وجبال رندة ومربلة يؤخذون إلى ولاية قرطبة، ومن هناك يفرقون في أراضي ولايتي استرامادورة وجليقيه. والموريسكيون في وادي آش وبسطة ووادي المنصورة يؤخذون إلى جنجالة والبسط ثم يفرقون في أراضي قلعة رباح ومونتيل. والموريسكيون في ألمرية يؤخذون إلى ولاية إشبيلية. ونفذ القانون الجديد بمنتهى الصرامة والتحوّط، وجمع الموريسكيون المسالمون من غرناطة وبسطة ووادي آش وغيرها، وسيقوا إلى الكنائس أكداساً، يحيط بهم الجند من كل مكان، ونزعوا من أوطانهم وربوعهم العزيزة، وشتتوا على النحو المتقدم في مختلف أنحاء قشتالة وليون (1).
ووقعت أثناء تنفيذ هذا القرار مناظر دموية، حيث جنح رجال الحكومة في
_______
(1) Marmol ; ibid; X; Cap. V1.(2/362)
بعض الأنحاء، ولا سيما في رندة، إلى نهب المنفيين، والفتك بالنساء والأطفال. ولما سمع الموريسكيون المعتصمون بالجبال هذه الأنباء، انحدروا إلى السهل وقتلوا كثيراً من الجند المثقلين بالغنائم. وكان مصير المنفيين مؤلماً، إذ هلك منهم من المشاق والمرض، وعانى الذين سلموا منهم مرارة غربة جديدة مؤلمة، ونصّ على وضعهم تحت الرقابة الدائمة، وتسجيلهم وتسجيل مساكنهم في سجلات خاصة، وعين لهم حيث وجدوا مشرفاً خاصاً يتولى شئونهم، وحرّم عليهم أن يغيروا مساكنهم إلا بتصريح ملكي، وحرم عليهم بتاتاً أن يسافروا إلى غرناطة، وفرضت على المخالفين عقوبات شديدة تصل إلى الموت. وهكذا شرِّد الموريسكيون في مملكة غرناطة أفظع تشريد، وانهار بذلك مجتمعهم القومي المتماسك في الوطن القديم (1).
ولم يبق إلاّ أن يسحق مولاي عبد الله وجيشه الصغير، وكان هذا الأمير المنكود يرى قواه وموارده تذوب بسرعة، وقد انهار كل أمل في النصر أو السلم الشريف، بيد أنه لبث مختفياً في أعماق جبال البشرات بين آكام برشول وترفليس مع شرذمة من جنده المخلصين. (وفي مارس - آذار 1571 م) كشف بعض الأسرى مخبأه السري للإسبان، فأوفدوا رسلهم إلى معسكره في بعض المغاير. وهناك استطاعوا إغراء ضابط مغربي من خاصته يدعى جونثالفو (الشنيش)، وكان الشنيش يحقد عليه لأنه منعه من الفرار إلى المغرب، وأغدق الإسبان له المنح والوعود، وقطعوا له عهداً بالعفو الشامل، وضمان النفس والمال، وأن ترد إليه زوجته وابنته الأسيرتان، إذا استطاع أن يسلمهم مولاي عبد الله حياً أو ميتاً. وكان الإغراء قوياً مثيراً، فدبر الضابط الخائن خطته لاغتيال سيّده، وفي ذات يوم فاجأه مع شرذمة من أصحابه، فقاوم مولاي عبد الله ما استطاع، ولكنه سقط أخيراً مثخناً بجراحه، فألقى الخونة جثته من
_______
(1) Dr Lea. The Moriscos. P. 256-257 , 265(2/363)
فوق الصخور، لكي يراها الجميع، ثم حملها الإسبان إلى غرناطة، وهناك استقبلوها في حفل ضخم، ورتبوا موكباً أُسندت فيه الجثة إلى بغل، وعليها ثياب كاملة كأنها هي إنسان حيّ، ومن ورائها أفواج كثيرة من الموريسكيين الذين سلموا بعد مصرع زعيمهم، ثم حملت إلى النطع وأجري فيها حكم الإعدام، فقطع رأسها ومُزِّقت، ثم جُرَّتْ في شوارع غرناطة، مبالغة في التمثيل والنكال، ومزقت أربعاً، وأحرقت بعد ذلك في الميدان الكبير، ووضع الرأس في قفص من الحديد، رفع فوق سارية في ضاحية المدينة تجاه جبال البشرات (1).
وهكذا انهارت الثورة الموريسكية وسحقت، وخبت آخر جذوة من العزم والجهاد، في صدور هذا المجتمع الأبي المجاهد وقضت المشانق والمحارق والمحن المروِّعة، على كل نزعة إلى الخروج والنضال، وهبّت روح من الرهبة والاستكانة المطلقة، على ذلك المجتمع المهيض المعذّب، وعاش الموريسكيون لا يسمع لهم صوت، ولا تقوم لهم قائمة، في ظل العبودية المطلقة الشاملة والإرهاق المطلق الثقيل، حقبة أخرى (2).
_______
(1) Marmol; ibid, X; Cap. V111.
(2) نهاية الأندلس (332 - 359).(2/364)
نهاية النهاية
1 - توجّس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية
كان انهيار الثورة الموريسكية وسحق الموريسكيين، خاتمة عهد الكفاح المرير بين شعب مهيض أعزل، يحاول أن يحتفظ بشخصيته وكرامته وحقه في الحياة، وبين القوة الغاشمة، التي تريد أن تسحق في بقية الأمة المغلوبة كل أثر للحياة الحرّة الكريمة. ولكن الثورة الموريسكية كانت من جهة أخرى، نذيراً عميق الأثر للسياسة الإسبانية. ذلك أن الموريسكيين لبثوا بالرغم من تجريدهم من كل مظاهر القوة المادية، قوة أدبية واجتماعية يخشى بأسها. وكان هذا الشعب المستكين الأعزل ما يزال رغم ضعفه وذلته، يملأ جنبات الجزيرة بفنونه ونشاطه المنتج، ويحتلّ مكانة بارزة في الشئون الإقتصادية. وكانت الكنيسة ما تزال تنفث إلى الدولة تحريضها البغيض، على مجتمع لم تطمئن لولائه وصدق إيمانه. وقد وصف المطران جرّيرو ( GUERRERO) الموريسكيين في سنة (1565 م) بقوله: "إنهم خضعوا للتنصير، ولكنهم لبثوا كفرة في سرائرهم، وهم يذهبون إلى القداس تفادياً للعقاب، ويعملون خفية في أيام الأعياد، ويحتفلون يوم الجمعة أفضل من احتفالهم بيوم الأحد، ويستحمّون حتى في كانون الثاني - ديسمبر، ويقيمون الصلاة خفية، ويقدّمون أولادهم للتنصير خضوعاً للقانون، ثم يغسلونهم لمحو آثار التنصير، ويجرون ختان أولادهم، ويطلقون عليهم أسماء عربية، وتذهب عرائسهم إلى الكنيسة في ثياب أوروبية، فإذا عدن إلى المنزل استبدلنها بثياب عربية، واحتفل بالزواج طبقاً للرسوم العربية" (1). وهذه الأقوال تنطوي على كثير من الصّدق، ذلك أن الأمة الموريسكية المهيضة، بقيت بالرغم مما يصيبها من شنيع العسف
_______
(1) Marmol; ibid, 11. Cap. 1 وكذلك Dr Lea: The Moriscos; P. 213-214(2/365)
والإرهاق متعلِّقة بتراثها الروحي القديم. بالرغم مما فرض على الموريسكيين من نبذ دينهم ولغتهم، فقد لبث الكثير منهم مسلمين في سرائرهم، يزاولون شعائرهم القديمة خفية، ويكتبون أحكام الإسلام والأدعية والمدائح النبوية بالقشتالية الأصلية، أو بالقشتالية المكتوبة بحروف عربية، وهي التي تعرف بالألخميادو ( Aljamiado) أي (الأعجمية). وقد وصلت إلينا كثير من الكتب الدينية والأدعية والمدائح الإسلامية الموريسكية مكتوبة بالألخميادو، وكثير منها يدور حول سيرة النبي العربي عليه الصلاة والسلام، وشرح تعاليم القرآن والسنة، يتخللّها كثير من الخرافات والأساطير المقدسة (1)، بيد أنها تدلي بما كانت تجيش به هذه النفوس المعذّبة من إخلاص راسخ لدينها القديم وإن التبست عليهم أصوله وشعائره بمضي الزمن.
وقد لبث ديوان التحقيق على نشاطه ضد الموريسكيين طوال القرن السادس عشر، ولم يفتر هذا النشاط حتى أواخر هذا القرن، مما يدل على أن آثار الإسلام بقيت بالرغم من كرّ الأعوام وتوالي المحن، دفينة في قلب الشعب المضطهد، تنضح آثارها من آن لآخر، يدل على ذلك ما تسجله محفوظات الديوان، من أن قضايا الموريسكيين أمام محاكم التحقيق، بلغت في سنة (1591 م)، (291) قضية، وبلغت في العام التالي (117) قضية، وظهر في حفلة: (الأوتو دا في Auto-da-Fe) التي أقيمت في (5 أيلول - سبتمبر سنة 1604 م) ثمانية وستون موريسكياً، نفذت فيهم الأحكام. وظهر في حفلة (7 كانون الثاني - يناير 1607 م) ثلاثة وثلاثون موريسكياً، واستعمل التعذيب في محاكمتهم خمس عشرة مرة، وكان الاتهام يوجه أحياناً إلى الموريسكيين جملة، على أثر بعض الحملات الفجائية على المحلات الموريسكية؛ فقد حدث مثلاً في سنتي (1589 و 1590 م) أن سجلت في قرية
_______
(1) وضع القس الإسباني Pedro Loges عن حياة الموريسكيين الدينية كتابه Vida Religiose de Los Moriscos (Madrid 1915) وفيه يورد كثيراً من رسومهم وعوائدهم الدينية، وكثيراً من الآيات والمدائح النبوية بالقشتالية.(2/366)
مسلاته الموريسكية بالقرب من بلنسية مائة قضية، وسجلت في قرية كارليت مائتان، واتهم أربعون أسرة بصوم رمضان. والواقع أنه كان من الصعب على مَن بقيت في نفوسهم جذوة أخيرة من دين الآباء. ولم يخمدها تعاقب جيلين أو ثلاثة من النصرانية المفروضة، أن يكونوا دائماً بمنجاة من الاتهام، ولهذا كان الشعب الموريسكي بأسره أينما وُجد، عرضة للاتهام بالحق أو الباطل، وإذا كانت ثمة أوقات يهدأ فيها نشاط محاكم التحقيق، فذلك يرجع بالأخص إلى استعمال الرشوة مع المأمورين، أو الحصول على براءات الحصانة بالمال. وتوضح لنا قضية بني عامر زعماء الموريسكيين في بلنسية هذه الحقيقة أتم وضوح. كانت أسرة بني عامر من أعرق الأسر المسلمة القديمة، التي أُكرهت على التنصير، وكان زعماؤها إخوة ثلاثة، هم: دون كوزمي، ودون خوان، ودون هرناندو بني عامر، ومنزل الأسرة في بنجوازيل (بني وزير) ضاحية بلنسية. وكان الثلاثة من ذوي المكانة والنفوذ، يسمح لهم بحمل السلاح وامتيازات أخرى محرمة على الموريسكيين. ففي (مارس - مايو سنة 1567 م) صدر قرار محكمة التحقيق باتهامهم، وتقرر القبض عليهم، ولكن بعد أن وافقت المحكمة العليا (سوبريما) نظراً لخطر مكانتهم، فاختفى الإخوة الثلاثة حيناً، ولكن الدون كوزمي قدّم نفسه للسلطات في (كانون الثاني - يناير 1568 م)، وقرر في التحقيق أنه يعتقد أنه نصّر طفلاً، ومع ذلك فإنه لا يعتبر نفسه نصرانياً بل مسلماً، وأنه جرى خلال حياته على مراعاة الشعائر الإسلامية، ولم يذهب إلى المعترف إلاّ خضوعاً للأوامر، على أنه ينبغي أن يكون في المستقبل نصرانياً، وأن يؤدي ما يطلبه المحققون إليه، ولم يقدم دون كوزمي خلال محاكمته أي دفاع، ولكنه أفرج عنه في (15 حزيران - يوليه) بضمان قدره ألفا دوق، على أن يبقى في بلنسية ولا يبرحها. ومع ذلك سافر دون كوزمي إلى مدريد، وحصل على عفو عنه وعن أخويه من الملك والمحكمة العليا، نظير فداء قدره سبعة آلاف دوق، واستطاع فوق ذلك بنفوذه القوي، أن يحصل للموريسكيين في بلنسية على(2/367)
قرار التوفيق الصادر في سنة (1571 م) كما قدمنا.
وفي سنة (1577 م) جدِّدت التهم القديمة ضد بني عامر، وقبض على كوزمي وأخيه خوان، وحوكم كوزمي وشرح عقيدته الدينية، وهي مزيج من الإسلام والنصرانية، وعقدت الجلسات الأولى، ولكن القضية أوقفت قبل أن يصل التحقيق إلى مرحلة التعذيب، مما يدل على أن بني عامر بالرغم من سوء حالتهم المالية يومئذ استطاعوا أن يحصلوا على براءتهم وإطلاق سراحهم بدفع مبلغ آخر من المال (1).
وهكذا نرى أن الموريسكيين استطاعوا بالرغم من العسف المنظم، الذي فرضته الدولة والكنيسة عليهم زهاء قرن، أن يحتفظوا في قرارة نفوسهم الكليمة ببقية راسخة من تراثهم الروحي القديم.
هذا من ناحية الدين والعقيدة، أما من الناحية الاجتماعية فقد كان الموريسكيون يكوّنون مجتمعاً متماسكاً متضامناً قوياً بنشاطه ودأبه وذكائه، وقد بلغ عددهم في أواخر القرن السادس عشر وفقاً لتقدير سفير البندقية زهاء ستمائة ألف نفس، وقدّر بعضهم الآخر عددهم يومئذ بأربعمائة ألف نفس، وهو عدد ضخم بالنسبة لسكان إسبانيا في ذلك الوقت، وهو لم يتعد الثمانية ملايين. ووصفهم سفير البندقية في سنة (1595 م) - أي بعد قرن من سقوط غرناطة - بأنهم شعب ينمو باضطراد في العدد والثروة، وأنهم لا يذهبون إلى الحرب، ولكن يكرسون نشاطهم للتجارة واجتناء الربح. وذكر الكاتب الإسباني الكبير ثرفانتيس (2) في بعض رسائله، أن الموريسكيين يتكاثرون وكلهم يتزوج، ولا يدخلون أولادهم قط في سلك الكهنوت أو الجيش، ويقتصدون في الإنفاق، ويكتنزون المال، فهم الآن أغنى الطوائف في إسبانيا. وأما عن الناحية الاقتصادية، فقد قيل: إن الموريسكيين كانوا
_______
(1) Dr Lea: History of the Inquisition; V. 111. P. 362-365.
(2) مجيل ثرفانتس دي سافدرا (1547 - 1616) من أعظم كتّاب إسبانيا وشعرائها، وهو مؤلف قصة الفروسية الشهيرة: "دون كيخوتي دي لامانشا".(2/368)
يحتكرون تجارة الأغذية، ويضعون يدهم على المحاصيل عند نضجها، ومنهم تجار البقالة والماشية، ومنهم القصابون والخبازون وأصحاب الفنادق وغيرهم، ولا يشترون العقارات احتفاظاً بحرية استعمال أموالهم، وقد كان ذلك من أسباب غناهم وقوتهم الاقتصادية (1).
كانت إسبانيا النصرانية إذاً أبعد من أن تطمئن إلى مجتمع العرب المتنصرين، فقد كانوا في نظر الكنيسة أبداً كفرة مارقين، وكانت الدولة من جانبها تلتمس المعاذير لاضطهاد هذا المجتمع الدخيل ومطاردته، فهي تخشى أن يعود إلى الثورة، وهي تخشى من صلاته المستمرة مع مسلمي إفريقية ومع سلطان الترك، وهي مازالت تحلم بتطهير إسبانيا من الآثار الأخيرة للشعب الفاتح، والقضاء إلى الأبد على تلك الصفحة من تاريخ إسبانيا.
والواقع أن صلات الموريسكيين مع أعداء إسبانيا، لبثت شغلاً شاغلاً للسياسة الإسبانية. وقد كانت المماليك والإمارات المغربية في الضفة الأخرى من البحر، على استعداد دائماً لأن تصغي إلى هذا الشعب المنكود، سليل إخوانهم الأمجاد في الدين، وأن تعاونه كلما سنحت الفرص. وكان سلاطين الترك يتلقون من الموريسكيين صريخ الغوث من آن لآخر، وكانت المنافسة بين الترك وإسبانيا يومئذ على أشدها، في مياه البحر الأبيض المتوسط، وكانت طوائف الموريسكيين تعيش على مقربة من الثغور الشرقية والجنوبية، وأكثر من ذلك أن السياسة الإسبانية كانت تخشى دسائس فرنسا خصيمتها القوية يومئذ، وتخشى تفاهمها المحتمل مع الموريسكيين. وكانت هذه الظروف كلها تحمل إسبانيا النصرانية، على أن تعتبر الموريسكيين خطراً قومياً يجب التحوّط منه، والعمل على درئه بكل الوسائل.
وتسوق إلينا الرواية الإسبانية دلائل هذا الخطر في حوادث كثيرة، ففي سنة
_______
(1) Dr Lea: The Moriscos. P. 204 , 210.(2/369)
(1583 م) وقفت السلطات الإسبانية، على أنباء مفادها أن أمراء تلمسان والجزائر يدبرون حملة بحرية لمهاجمة (المرسى الكبير) في مياه بلنسية، يعاونهم الموريسكيون فيها بالثورة، ولذا بادرت السلطات بنزع السلاح من الموريسكيين في بلنسية، وقيل بعد ذلك: إن هذه الحملة المغربية كانت ستقترن بغزوة فرنسية لأراغون، ينظمها حاكم بيارن الفرنسي، وأن سلطان الترك وسلطان الجزائر كلاهما يؤيد المشروع، وأن أساطيل الغزو كانت تزمع النزول في مياه برشلونة وفي دانية، وفيما بين مرسية وبلنسية، وأن الفضل في إخفاق هذا المشروع كله يرجع إلى حزم الدون خوان ونزع سلاح الموريسكيين. ومما يدل على أن إسبانيا لبثت حيناً على توجسها من فرنسا ودسائها لدى الموريسكيين، ما تسوقه الرواية الإسبانية من أن هنري الرابع ملك فرنسا، كانت له في ذلك مشاريع خطرة، ترمي إلى غزو إسبانيا من ناحية بلنسية، حيث يوجد حشد كبير من الموريسكيين، وأن زعماء الموريسكيين وعدوا بإضرام نار الثورة، وتقديم عدد كبير من الجند، ولم يطلبوا سوى السلاح، وكان من المنتظر أن تقوم الثورة الموريسكية في سنة (1605 م)، ولكن المؤامرة اكتشفت في الوقت المناسب وانهار مشروع الغزو. وهذه الروايات العديدة التي جمعها (ديوان التحقيق) الإسباني على يد أعوانه وجواسيسه، تنقصها الأدلة التاريخية الحقة (1).
على أن الخطر الحقيقي، كان يتمثل في غارات المجاهدين من خوارج البحر المسلمين على الثغور والشواطئ الإسبانية. وتملأ سير هذه الغارات فراغاً كبيراً في الرواية الإسبانية، وتسبغ عليها الرواية صفة الانتقام للأندلس الشهيدة. وقد لبثت هذه الغارات طوال القرن السادس عشر، واستمرت دهراً بعد إخراج العرب المتنصرين من إسبانيا. ويشير المقري مؤرخ الأندلس إلى مغزى هذه الغارات البحرية بعد إخراج الموريسكيين، فيقول: إنهم انتظموا
_______
(1) Dr. Lea: The Moriscos; P. 281-284 and 286-288.(2/370)
في جيش سلطان المغرب، وسكنوا مدينة سلا، وكان منهم من الجهاد في البحر ما هو مشهور الآن (1). ويجب أن نذكر أن مياه البحر المتوسط شرقه وغربه، خلال العصور الوسطى كانت دائماً مسرحاً سهلاً للأساطيل الإسلامية. فمنذ أيام الأغالبة والفاطميين، ومنذ خلافة قرطبة ثم المرابطين والموحدين، كانت الأساطيل الإسلامية تجوس أواسط البحر المتوسط وغربيه، وكانت الدول الإسلامية الأندلسية والمغربية، ترتبط مع الدول النصرانية الواقعة في شمال هذا البحر، مثل البندقية وجنوة وبيزة، بمعاهدات ومبادلات تجارية هامة، وكان التسامح يسود يومئذ علائق المسلمين والنصارى وتغلب المصالح التجارية والمعاملات المنظمة، على النزاعات الدينية والمذهبية. وقد كانت المغامرات البحرية الحرّة وأعمال (القرصنة)، توجد في هذه العصور دائماً، إلى جانب نشاط الأساطيل الرسمية. وكان البحر المتوسط منذ أقدم العصور مسرحاً لهذه المغامرات، وكان معظم خوارج البحر (القراصنة) يومئذ من الأمم التي غزت البحر في عصور متقدمة، مثل اليونان وأهل سردينيا وجنوة ومالطة. وفي أيام الصليبيين ازدهرت المغامرات في البحر الأبيض المتوسط، واستمر النصارى عصوراً زعماء هذه المهنة. ولم تكن ثمة بحريات منظمة تقوم بمطاردة أولئك الخوارج. وكانت المغانم الوفيرة من الاتجار في الرقيق، والبضائع المهرّبة، وافتداء الرقيق، تذكي عزمهم، وتدفع إليهم بسيل من المغامرين من سائر الأمم. ولما ظهرت الأساطيل الكبرى منذ القرن الرابع عشر، ضعف أمر أولئك المغامرين. ولم تكن هذه المياه خلواً من نشاط المغامرين المسلمين، ولكنهم لم يظهروا في هذا الميدان إلاّ منذ القرن الخامس عشر، حينما ضعف أمر الأندلس والدول المغربية وسادَتْها الفوضى، واضطربت العلائق البحرية والتجارية المنظمة بين المغرب والدول النصرانية. وكانت الشواطئ المغربية تقدم إليهم
_______
(1) نفح الطيب (2/ 617)، وقد أنجز المقري كتابه سنة 1630 م.(2/371)
المراسي الصالحة. ولما اشتد ساعد البحرية التركية بعد استيلاء الترك على القسطنطينية، زاد نشاط المغامرين المسلمين في البحر. وكان سقوط غرناطة واضطهاد الأسبان النصارى للمسلمين، إيذاناً بتطور هذه المغامرات البحرية، ونزول الأندلسيين والموريسكيين المنفيين إلى ميدانها، واتخاذها مدى حين، صورة الجهاد والانتقام القومي والديني، لما نزل بالأمة الأندلسية الشهيدة من ضروب العسف والإرهاق (1).
وقد بدأت هذه الغارات البحرية على السواحل الإسبانية، عقب استيلاء الإسبان على غرناطة، وإكراههم للمسلمين على التنصير. في ذلك الحين غادر الأندلس آلاف من الأندلسيين المجاهدين، أنفوا العيش في الوطن القديم، في مهاد الذلَّة والاضطهاد، تحت نير الإسبان، وعبروا البحر إلى عدوة المغرب، وقلوبهم تفيض حقداً ويأساً، واستقروا في بعض القواعد الساحلية، مثل وهران والجزائر وبجاية، ووهب الكثيرون منهم حياتهم للجهاد في سبيل الله والانتقام من أولئك الذين قضوا على وطنهم، وظلموا أمتهم، وانتهكوا حرمة دينهم. وكان البحر يهيء لهم هذه الفرصة التي لم تهيؤها لهم الحرب البرية، وكانت شواطئ المغرب بطبيعتها الوعرة، وثغورها ومراسيها وخلجانها الكثيرة، التي تحميها وتحجبها الصخور العالية، أصلح ملاذ لمشاريع أولئك التجار المجاهدين والقراصنة المغيرين. وكانت الجزائر وبجاية وتونس أفضل قواعدهم للرسو والإقلاع، وكانت هذه الغارات البحرية تعتمد بالأخص على عنصر المباغتة، وتنجح في معظم الأحيان في تحقيق غاياتها.
ويصف بيترو مارتيري هذه الغارات بإسهاب ويقول: إن فرديناند الخامس أمر في سنة (1507 م) للتحوط ضد هذه الغارات، بإخلاء الساحل الجنوبي من جبل طارق إلى ألمرية لمدى فرسخين إلى الداخل. ثم صدرت مراسم
_______
(1) Lane-Poole: The Barbary Corsairs ; P. 26 and 27.(2/372)
متعددة تحظر على الموريسكيين السفر على أبعاد معينة من الشواطئ، ولكن هذا التحوط لم يغن شيئاً، واستمرت الغارات على حالها. وكان اللّوم يلقى في ذلك منذ البداية على الموريسكيين ولاسيما أهل بلنسية. وكان الموريسكيون كلما اشتدّ عليهم وطأة الاضطهاد والمطاردة، اتجهوا إلى إخوانهم في المغرب يستصرخونهم للتدخل والانتقام. وكان المجاهدون المغاربة يغيرون بسفنهم على الشواطئ الإسبانية، ويخطفون النصارى الإسبان، ويجعلونهم رقيقاً يباع في أسواق المغرب، وكان الموريسكيون يزودون الحملات المغيرة بالمعلومات الوثيقة، عن أحوال الشواطئ ومواضع الضعف فيها، ويمدّونها بالأقوات والمؤن. وكانت الحملات تجهز في أحيان كثيرة لنقل الموريسكيين الراغبين في الهجرة، وقد استطاعت خلال القرن السادس عشر، أن تنقل منهم إلى الشواطئ الإفريقية جماعات كثيرة.
وقد ظهر منذ أوائل القرن السادس عشر الميلادي في الميدان عنصر جديد، أذكى موجة الغارات البحرية في هذه البحار. ذلك أن البحارة الترك، وعلى رأسهم الأخوان الشهيران عروج وخير الدين (1)، اندفعوا من شرقي البحر المتوسط إلى غربيه، في طلب المغامرة والكسب. وفي سنة (1517 م) سار عروج في قوة برية وبعض السفن إلى الجزائر واستولى عليها. ولما قتل في العام التالي في معركة نشبت بينه وبين الإسبان، استولى أخوه خير الدين على الجزائر، ثم استولى على معظم الثغور المغربية الساحلية، وعينه السلطان سليم حاكماً على هذه الأنحاء، وأمدّه بالسفن والجند. وتألق نجم خير الدين في ذلك الحين، وأصبح اسمه يقرن بذكر أعظم أمراء البحر في ذلك العصر، وكان من معاونيه نخبة من أمهر الربابنة الترك، مثل طرغود الذي
_______
(1) ويعرف كلاهما في الرواية الأوروبية: "بربروسا" أو ذو اللحية الحمراء، وقد انتهى إلينا عن مغامرات هذين الأخوين الشهيرين وغاراتهما البحرية كتاب بالعربية، منقول عن أصل تركي، نشر في الجزائر سنة (1934) بعنوان: "غزوات عروج وخير الدين". والظاهر أنّه من تأليف راوية معاصر، أو قريب من العصر.(2/373)
خلفه في الرئاسة فيما بعد، وصالح ريس، وسنان اليهودي، وإيدين ريس وغيرهم من المغامرين، الذين اشتهروا بالجرأة والبراعة. وبسط أولئك البحارة الترك سلطانهم على معظم جنبات البحر الأبيض المتوسط، واشتهروا بغاراتهم على الشواطئ الإيطالية والإسبانية، والتفّ حولهم معظم المجاهدين والمغامرين من المغاربة والموريسكيين. وبدأ خير الدين غاراته في المياه الإسبانية بمهاجمة الشواطئ الشرقية، وقطع خلال هذه الغارة ثلاثة أشهر، عاث فيها في البقاع الساحلية، وجمع في سفنه كثيراً من الموريسكيين الراغبين في الهجرة، وأسر كثيراً من الإسبان. وعرج أثناء عوده على جزيرة منورقة. وكان من أهم الغارات التي نظمها خير الدين على الشواطئ الإسبانية، غارة وقعت في سنة (1529 م)، وذلك أن جماعة من الموريسكيين في بلنسية فاوضوه لكي ينقلهم خلسة إلى عدوة المغرب، فأرسل عدّة سفن بقيادة نائبيه: إيدين ريس، وصالح ريس، إلى المياه الإسبانية، ورست السفن المغيرة ليلاً عند أوليفا الواقعة شمال غربي دانية أمام مصب نهر (ألتيا)، ونزلت منها إلى البر قوة استطاعت أن تجمع من الأنحاء المجاورة نحو ستمائة من الموريسكيين الراغبين في الهجرة، وهنا فاجأت السفن المغيرة عدة من السفن الإسبانية الكبيرة، وطاردتها حتى مياه الجزائر الشرقية (البليار). ولكن سفن بربروسا انقلبت فجأة من الدفاع إلى الهجوم، وانقضت على السفن الإسبانية وأغرقت بعضها، وأسرت بعضها الآخر، وسارت سالمة إلى الجزائر تحمل الموريسكيين الفارين، وعدداً من أكابر الإسبان أخذوا أسرى، ومعها عدة من السفن الإسبانية الفخمة. وكان صريخ الموريسكيين يتوالى إلى خير الدين وحلفائه من أمراء المغرب، ولا سيما أيام الثورات المحلية التي تشتد فيها وطأة الإسبان على الأمة المغلوبة، ومن ثم فقد توالت بعوث خير الدين وغاراته على الشواطئ الإسبانية، وتتابعت الفرص لدى الموريسكيين، للفرار والهجرة رفق السفن المغيرة، حتى بلغ ما نقلته سفن خير الدين منهم إلى شواطئ المغرب نحو سبعين(2/374)
ألفاً (1).
وكان سلطان خير الدين وزملائه البحارة الترك في المياه المغربية، عاملاً في تحطيم كثير من مشاريع إسبانيا البحرية في المغرب. وكان الإسبان قد استولوا على ثغر وهران منذ سنة (1505 م)، واحتلوا مياه تونس سنة (1535 م)، بانضواء أميرها الحفصي المعزول تحت لوائهم، وكان كثير من أمراء الثغور والقواعد المغربية الذين يهدد الترك سلطانهم يتجهون بأبصارهم إلى الإسبان للاحتفاط برياستهم. ولدينا صور من عدة وثائق موجهة من هؤلاء الأمراء إلى الإمبراطور شارلكان، يستنصرون به، ويقطعون العهد على أنفسهم بطاعته، والانضواء تحت حمايته، وهي تدلي بموضوعها وأسلوبها بما انتهت إليه الجبهة الإسلامية في المغرب في هذا العهد من التخاذل والتفرق المؤلم.
وفي سنة (1559 م) قام أمير البحر التركي طرغود، الذي خلف خير الدين في الرياسة، بغارة كبيرة على الشواطئ الإسبانية، واستطاع أن يحمل معه ألفي وخمسمائة موريسكي، في سنة (1570 م) استطاعت السفن المغيرة أن تحمل معها جميع الموريسكيين في بالميرا، وفي سنة (1584 م) سار أسطول من الجزائر إلى بلنسية وحمل ألفين وثلاثمائة موريسكي وفي العام التالي، استطاعت السفن المغيرة أن تحمل جميع سكان مدينة كالوسا. وبلغت
_______
(1) راجع كتاب الأستاذ لاين بول The Barbary Corsairs في الفصول الأول والثاني والثالث، حيث يورد كثيراً من التفاصيل المهمة، عن هذه الغارات البحرية، وعن مغامرات أوروج وخير الدين، وراجع كتاب "غزوات عروج وخير الدين في ص (19 و 48 و 81 و 82). وخير الدين وأخوه مجاهدان لا غبار على جهادهما، بذلا جهدهما في الدفاع عن المستضعفين من المسلمين الأندلسيين، وانتقما ممن ظلم أولئك المستضعفين، وأنقذا عشرات الألوف من المسلمين الأندلسيين المضطهدين من براثن الإسبان النصارى، فهما مجاهدان بالنسبة لنا، وقراصنة بالنسبة للمستشرقين وغير المسلمين، ولا عبرة باتهامهما من أعداء الإسلام بالقرصنة، ولكنّ على المسلمين ألاّ ينقلوا اتهام النصارى وأعداء المسلمين ويصدقونها.(2/375)
الغارات البحرية التي وقعت على الشواطئ الإسبانية بين سنتي (1528 م و1584 م) ثلاثاً وثلاثين غارة. هذا عدا الغارات المحلية التي كانت تقوم بها سفن صغيرة لحمل جماعة من الموريسكيين المهاجرين. وقد وصف لنا الكاتب الإسباني الكبير ثرفانتيس هذه الغارات البحرية المروّعة في صور مثيرة شيّقة، ولا غرو فقد كان هو أيضاً من ضحاياها، إذ أُسر في الغارات التي وقعت سنة (1575 م)، وحمل أسيراً إلى الجزائر، ولبث يرسف في أسره بضعة أعوام، حتى تم افتداؤه في سنة (1580 م) (1).
وكان ممن عمل في البحر مجاهداً في تلك الأيام ضد الإسبان، بعض أكابر الزعماء الموريسكيين المنفيين الذي غدوا من أثر الاضطهاد من ألدّ أعداء إسبانيا، مثل الريس بلانكيو Blanquillo والرئيس أحمد أبو علي من أشونَة، ومراد الكبير جواد يانو من مدينة ثيوداد ريال (المدينة الملكية) وغيرهم، وقد أبلى هؤلاء الزعماء الموريسكيون في البحر خير بلاء، وكانوا خير مرشد لإحكام الغارات البحرية على الشواطئ الإسبانية، ومضاعفة عصفها وعيثها.
ووقعت في سنة (1602 م) غارة كبيرة، قام بها بحار مغامر يدعى: مراد الريس على مدينة لورقة الواقعة غربي قرطاجنة على مقربة من الشاطئ، وحمل عدداً من الأسرى، وكثرت الغارات في الأعوام التالية على الشاطئ الجنوبي، وظهر فيما بعد أن منظمها بحار انكليزي مغامر، يحشد في سفنه نواتية من المغاربة، وكان يعيث في الشواطئ الأندلسية، ويقتنص الأسرى النصارى، ويبيعهم عبيداً في أسواق المغرب.
وكانت ثغور تونس في ذلك الوقت نفسه، في أيام حاكمها عثمان باي (سنة 1007 هـ،- 1019 هـ = 1598 م - 1610 م) ملاذاً لطائفة قوية من البحارة المغامرين، كانت تتكرر غاراتهم على الشاطئ الإسباني بلا انقطاع. وكان من أشهر أولئك البحارة يومئذ، عمر محمد باي الذي اشتهر بجرأته وبراعته،
_______
(1) Dr Lea: History of the Inquisition in Spain; V. 111. P. 363.(2/376)
وقد قام بعدة غارات جريئة على شواطئ إسبانيا الجنوبية، وكان في كل مرة يعود مثقلاً بالغنائم والسّبي. وهكذا لبثت الغارات البحرية عصراً من الزمان، تزعج الحكومة الإسبانية، وقد زاد عددها واشتد عيثها، بالأخص منذ منتصف القرن السادس عشر، وكان هذا غريباً في الواقع، إذ كانت إسبانيا سيدة البحار، وكانت أساطيلها الضخمة تجوب مياه الأطلنطي حتى بحر الشمال وجزائر الهند الغربية، وتسيطر على مياه البحر الأبيض المتوسط الغربية، بيد أنها لم تستطع أن تقمع هذه الغارات البحرية الصغيرة المفاجئة، التي كان يقوم بها على الأغلب جماعات مجاهدة، من رجال البحر المغاربة، في سفن صغيرة، تدفعهم روح من المغامرة والاستبسال، وكان اللوم في ذلك يلقى دائماً على الموريسكيين، ولاسيما سكان الثغور منهم، فهم الذين يمدّون هذه الحملات المغيرة بالمعلومات، ويزودونها بالمؤن والعون، ويعينون لها مواقع الرسو والإقلاع، وقد كانت تأتي على الأغلب لمعاونتهم على الفرار إلى ثغور المغرب، وقد كان الموريسكيون بالرغم من اضطهادهم والتشدد في مراقبتهم، على اتصال دائم بمسلمي إفريقية وأمراء المغرب جميعاً.
لبثت هذه الغارات البحرية عصراً شغلاً شاغلاً للحكومة الإسبانية لا تجد سبيلاً إلى قمعها والتخلص من آثارها. وكان اقترانها خلال القرن السادس عشر بنضال الموريسكيين، عنصراً بارزاً في تنظيمها وتوجهها، وكانت فكرة الانتقام للأمة الشهيدة، تجثم في معظم الأحيان وراء هذه الغارات المجاهدة. ولما تمَّ نفي الموريسكيين من إسبانيا، زادت هذه الفكرة وضوحاً، واشتدت وطأة الغارات بما انتظم في صفوف المجاهدين من المنفيين، وغدت مدينة سلا بالأخص، مركزاً لأولئك المبعدين، ومنها توجه أقوى الحملات المغيرة على الشواطئ الإسبانية (1).
_______
(1) نفح الطيب (2/ 617).(2/377)
ولبث البحارة الترك عصراً، يتزعمون هذه الغارات بالبحرية، وجلّ اعتمادهم على النواتية المغامرين من المغاربة والموريسكيين، ثم أخذت هذه الغارات تفقد هدفها القديم بمرور الزمن، وتنقلب إلى حملات ناهبة، تنظم على الشواطئ الإيطالية، كما تنظم على الشواطئ الإسبانية، وترمي قبل كل شيء إلى تغذية أسواق المغرب والشرق الأدنى، بأسراب الرقيق. وكان يشترك مع البحارة الترك والمغاربة، مغامرون من الأفرنج من سائر الأمم. وألفى الباشوات أو الدايات الترك - الذين بسطوا حكمهم منذ أواخر القرن السادس عشر على طرابلس الغرب والجزائر - في هذه الحملات الناهبة، فرصة سانحة للغنم، فكانوا يمدون الرؤساء والزعماء بصنوف العون، عند الإنزال والإقلاع في ثغورهم، وكان الرؤساء من جانبهم، يقدمون إلى خزينة الباشا أو الداي عشر الغنائم. واسترق بهذه الطريقة عشرات الألوف من النصارى، واستمرت بعد ذلك هذه الغارات زمناً طويلاً (1).
وحدثت في تلك الآونة - التي اشتدت فيها الغارات البحرية على الشواطئ الإسبانية، في أوائل عهد فيليب الثالث في عدوة المغرب - أحداث أخرى، زادت في توجس السياسة الإسبانية من مساعي الموريسكيين في استعداء مسلمي إفريقية. ذلك أن الحرب الأهلية نشبت في مراكش، بين السلطان زيدان بن المنصور، وأخيه الشيخ المأمون، وتعددت المعارك بينهما، وانتهت بهزيمة الشيخ. وفر الشيخ مع أسرته وأمه الخيزران إلى إسبانيا، واستغاث بملكها فيليب الثالث، وتعهد بتقديم ثغر العرائش إلى إسبانيا نظير
_______
(1) استمرت تلك الغارات في البحر المتوسط طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وكانت بعض الدول الأوروبية تعمل على تشجيعها لمضايقة بعضها الآخر، والإضرار بتجارتها. ومنذ القرن السابع عشر تعمل إنكلترا وهولندة وفرنسة على مقاومة هذه الحملات البحرية الجريئة والقضاء عليها، وذلك بمهاجمة الشواطئ المغربية وتدمير ثغورها، ولا سيما تونس والجزائر. على أنها لم تنقطع نهائياً إلاّ بعد أن غزت فرنسا الجزائر واستولت عليها في سنة 1830 م.(2/378)
معاونته. وكان ذلك في أوائل سنة (1608 م - 1017 هـ) (1). وهنا أرسل الموريسكيون في بلنسية، رسلهم إلى مولاي زيدان، يوضحون له سهولة غزو إسبانيا ومحاربتها، وأنهم على استعداد ليقدموا له مائتي ألف مقاتل، متى أقدم على الغزو وفتح أحد الثغور الإسلامية الهامة، ولكن السلطان زيدان لم يحفل بهذا العرض، وأجاب الرسل بأنه لن يحارب خارج بلاده (2). واستجاب فيليب لدعوة الشيخ، وأرسل معه بعض سفنه إلى شاطئ المغرب، واستولى الإسبان على ثغر العرائش، فاشتد السخط على الشيخ، وانفض عنه كثير من أنصاره، ومازال الشيخ في مغامراته حتى قتل على مقربة من تطوان سنة (1022 هـ - 1613 م)، وانتهى بذلك أمره (3). واستمر السلطان زيدان حتى وفاته في سنة (1037 هـ - 1627 م) أعني بعد نفي الموريسكيين بنحو تسعة عشر عاماً، في كفاح دائم مع إسبانيا. وحدث خلال هذا الكفاح ذات مرة في سنة (1612 م) أن غنمت السفن الإسبانية في مياه المغرب، على شاطئ الأطلنطي فيما بين آسفي وأغادير، مركباً لمولاي زيدان شحنت بالتحف، وفيها ثلاثة آلاف سفر من كتب الدين والآداب والفلسفة (4)، وكان مولاي زيدان قد غادر مراكش تحت ضغط الحوادث، وركب البحر ملتجئاً إلى الجنوب، وحمل معه مكتبته الثمينة وتحفه، فانتهبها الإسبان على هذا النحو، وحملت هذه الكتب إلى إسبانيا، وضمت فيما بعد إلى مجموعة الكتب الأندلسية بقصر الإسكوريال (5).
_______
(1) الاستقصا (3/ 102).
(2) Dr Lea: The Moriscos; P. 289-290.
(3) الاستقصا (3/ 106).
(4) الاستقصا (3/ 130).
(5) نهاية الأندلس (362 - 375).(2/379)
2 - مأساة النّفي
أ - تلك هي البواعث والظروف التي حملت إسبانيا النصرانية، على التوجس من العرب المتنصرين، واعتبارهم خطراً قومياً يجب العمل على درئه والتخلص منه؛ وكان هذا التوجس يزيد على كرّ الأعوام، وتذكيه الحوادث المتوالية: ثورات الموريسكيين ولا سيما ثورة غرناطة الكبرى، وغارات المجاهدين البحرية على الشواطئ الإسبانية، وصلات الموريسكيين الدائمة بمسلمي إفريقية وبلاط القسطنطينية. وسواء أكان هذا الخطر حقيقة يهدد سلامة إسبانيا، أم كان للتحامل والبغض أثر في تصويره، فقد غدت قضية العرب المتنصرين، غير بعيد في نظر السياسة الإسبانية، مشكلة قومية خطيرة يجب التذرع لمعالجتها بأشد الوسائل وأنجعها.
وكانت السياسة الإسبانية، تعتزم منذ أواخر عهد فيليب الثاني، أن تتخذ خطوتها الحاسمة في شأن الموريسكيين، وكان هذا الملك المتعصب نفى الموريسكيين بعد الذي عانته إسبانيا في قمع ثورتهم، ووضع بالفعل في سنة (1582 م) مشروعاً لنفيهم، ولكن مشاغل السياسة الخارجية حالت دون تحقيق مشروعه. وكان قد مضى يومئذ زهاء قرن على سقوط غرناطة، واستحالت بقية الأمة الأندلسية إلى شعب جديد، لا تكاد تربطه بالماضي سوى ذكريات غامضة. وكان التنصير قد عم الموريسكيين يومئذ، وغدا أبناء قريش ومضر بحكم القوة والضغط والإرهاب، نصارى يشهدون القداس في الكنائس، ويتكلمون القشتالية، غير أنهم لبثوا مع ذلك في معزل، وأبت إسبانيا النصرانية، بعد أن فرضت عليهم دينها ولغتها ومدنيتها، أن تضمهم إلى حظيرتها القومية. وكانت ما تزال ثمة منهم جموع كبيرة في بلنسية ومرسية وغرناطة، وغيرها من القواعد الأندلسية القديمة، وكانوا مايزالون رغم العسف والإرهاق والاضطهاد والتشريد والذلّة، قوة أدبية واجتماعية خطيرة، وعنصراً بارزاً في إنتاج إسبانيا القومي، ولا سيما في الصناعات والفنون. ولكن السياسة الإسبانية كانت(2/380)
تخشاهم بالرغم من ضعفهم وخضوعهم، بعد أن أخفقت بوسائلها الهمجية البغيضة في كسب محبتهم وولائهم. وكان ديوان التحقيق من جهة أخرى، ومن ورائه الأحبار والكنيسة، يعتبرهم بالرغم من تنصرهم، أبداً وصمة في نقاء النصرانية، وتتصور الإسلام دائماً يجري كالدم في عروقهم.
وقد تضاربت آراء الساسة والأحبار الإسبان في شأن الخطوة الحاسمة التي يجب اتخاذها، للقضاء على خطر الموريسكيين، ورأى بعض أكابر الأحبار أن خطر الموريسكيين لا يزول إلاّ بالقضاء على الموريسكيين أنفسهم. وكان مما اقترحه المطران ربيرا ( RIVERA) أن يُقضَى عليهم بالرق، وأن يؤخذ منهم كل عام بضعة آلاف للعمل في السفن ومناجم الهند، حتى يتم إفناؤهم بهذه الطريقة؛ وذهب بعضهم الآخر إلى وجوب قتل الموريسكيين دفعة واحدة أو قتل البالغين منهم، واسترقاق الباقين وبيعهم عبيداً، وكان مما اقترحه بعض وزراء فيليب الثاني، أن يُجمَع الموريسكيون، ويُحمَلوا على السفن ثم يُغرَقوا في عرض البحر (1). واستمرت السياسة الإسبانية حيناً من الزمن تتلمس المخرج وسط هذه الحلول الهمجية، حتى تُوفي فيليب الثاني (سنة 1598 م) وخلفه ولده فيليب الثالث وكان هذا الملك الفتى، ضعيف الرأي والإرادة، يتأثر كأبيه بنفوذ الأحبار، ويخضع لنفوذ وزيره وصفيّه الدوق دى ليرما. وكان الدوق من أشد أنصار القضاء على الموريسكيين، وقد أشار بها منذ (سنة 1599 م)، ووضع لتنفيذها مشروعاً خلاصته: أن الموريسكيين إنما هم عرب، ويجب أن يعدم الشبان والكهول منهم، ما بين الخامسة عشرة والستين، أو أن يُسترَقوا ويُرسَلوا للعمل في السفن، وتُنزَع أملاكهم. أما الرجال والنساء الذين جاوزوا الستين، فيُنفَوا إلى المغرب، وأما الأطفال فيؤخذوا ويربوا في المعاهد الدينية، وهو مشروع أقرّه مجلس الدولة، وأخذ يعمل سراً لحشد القوى اللازمة لحصر عدد الموريسكيين في إسبانيا.
_______
(1) Dr. Lea: The Moriscos. P. 296-299.(2/381)
وفي سنة (1601 م)، قدم المطران ربيرا تقريراً إلى الملك يقول فيه: إن الدين هو دعامة المملكة الإسبانية، "وإن الموريسكيين لا يعترفون، ولا يتقبلون البركة ولا الواجبات الدينية الأخيرة، ولا يأكلون لحم الخنزير، ولا يشربون النبيذ، ولا يعملون شيئاً من الأمور التي يعملها النصارى"، ثم يوضح الأسباب التي تدعو إلى عدم الثقة في ولائهم بقوله: "إن هذا المروق العام، لا يرجع إلى مسألة العقيدة، ولكنه يرجع إلى العزم الراسخ العام في أن يبقوا مسلمين، كما كان آباؤهم وأجدادهم، ويعرف المحققون العامون، أن الموريسكيين بعد أن يعتقلوا عامين وثلاثة، وتشرح لهم العقيدة في كل مناسبة، يخرجون دون أن يعرفوا كلمة منها، والخلاصة أنهم لا يعرفون العقيدة، لأنهم لا يريدون معرفتها، ولأنهم لا يريدون أن يعملوا شيئاً يجعلهم يبدون نصارى" (1)، ثم يقول المطران في تقرير آخر: إن الموريسكيين كفرة متعنتون يستحقون القتل، وإن كل وسيلة للرفق بهم قد أخفقت، وإن إسبانيا تتعرض - من جراء وجودهم فيها - إلى أخطار كثيرة، وتتكبد في رقابتهم والسهر على حركاتهم، وإخماد ثوراتهم، كثيراً من الرجال والمال. ثم يقترح أن تؤلف محكمة سرية من الأحبار، تقضي بردّة الموريسكيين وخيانتهم، ثم تحكم علناً بوجوب نفيهم ومصادرة أملاكهم، وأنه لا ضير على الملك في ذلك ولا حرج. ولكن مشروع المطران لم ينفذ، لأن مجلس الدولة كان يرى أن يسير في تحقيق غايته سراً، وألاّ تصطبغ إجراءاته في ذلك بالصبغة الدينية.
ومضت بضعة أعوام أخرى، والفكرة تُبحَث وتختمر وتتوطد، حتى كانت حوادث المغرب في أواخر سنة (1607 م) وما نسب للموريسكيين من صلة بمولاي زيدان ومشاريعه لغزو إسبانيا، وعزمهم على الثورة. عندئذ بادر مجلس الدولة بالاجتماع في أواخر (كانون الثاني - يناير 1608 م)، واستُعرِضت جميع الآراء والمشاريع السابقة، وبُحِثت جميع الاقتراحات، وكرّر المطران ربيرا اقتراحه بوجوب نفي الموريسكيين إلى المغرب، وقال: إن
_______
(1) P. Longas. Vida Religiosa de Los Moriscos; P. LXV111.(2/382)
النفي أرفق ما يمكن عمله، وأيد رأيه معظم الأعضاء الآخرين، وذكروا أن نفي الموريسكيين أصبح ضرورة لا مفر منها، لأنهم يتكاثرون بسرعة، بينما يتناقص عدد النصارى القدماء. وبحثت تفاصيل المشروع ووسائله، وما يجب اتخاذه من التحوطات لضمان تنفيذه، خصوصاً وقد بدأت أنباء المشروع تتسرب إلى الموريسكيين، وظهرت بينهم أعراض الهياج في سرقسطة وبلنسية. وكانت الخطوة التالية أن عُهد بدرس المشكل كلّه، إلى لجنة خاصة على رأسها الدوق دى ليرما، ووضعت هذه اللجنة أسس المشروع التمهيدية بعد كبير جدل، وخلاصتها أن يمنح الموريسكيون شهراً لبيع أملاكهم ومغادرة إسبانيا إلى حيث شاءوا، فمن جاز منهم إلى إفريقية منح السفر الأمين، ومَن جاز إلى أرض نصرانية أُوصِي به خيراً، ومَن تخلف عن الرحيل بعد انقضاء هذه المدة عوقب بالموت والمصادرة؛ ولم يعترض أحد على هذه الأسس بذاتها، ولكن هذه الأسس الرفيقة نوعاً ما لم يؤخذ بها.
وفي كانون الثاني - يناير من سنة (1609 م) بحث مجلس الدولة المسألة لآخر مرة، وقدم تقريراً ينصح فيه بوجوب نفي الموريسكيين لأسباب دينية وسياسية فصّلها، وأهمها تعرّض إسبانيا يومئذ لخطر الغزو من مراكش وغيرها. وقيام الأدلة على أن الموريسكيين جميعاً خونة مارقون، يستحقون الموت والرق، ولكن إسبانيا تؤثر الرفق بهم، وتكتفي بنفيهم من أراضيها. وتقرر أن ينفذ المشروع كله هذا العام في الخريف منه، وأرسلت الأوامر إلى حكام صقلية ونابولي وميلان، بإعداد جميع السفن الممكنة لنقل الموريسكيين، وجمع القوات اللازمة لحوراستهم، واجتمعت منذ أوائل الصيف في مياه ميورقة، عشرات السفن المطلوبة، وسارت أهبة التنفيذ بسرعة ونشاط.
وهكذا انتهت السياسة الإسبانية بعد مدة من التردد، إلى اتخاذ خطوتها الحاسمة في القضاء على البقية الباقية من الموريسكيين، وتحقيق أمنيتها القديمة في (تطهير) إسبانيا نهائياً من آثار الإسلام وآثار العرب، ومحو تلك(2/383)
الصفحة الأخيرة لشعب عظيم تالد.
ب - وفي (22 أيلول ت سبتمبر سنة 1609 م) أعلن قرار (مرسوم) النفي النهائي للموريسكيين أو العرب المتنصرين، فساد بينهم الروع والاضطراب، وإليك نص هذا القرار الشهير في صحف المآسي والاستشهاد:
يبدأ القرار بالتنويه بخيانة الموريسكيين، واتصالهم بأعداء إسبانيا، وإخفاق كل الجهود التي بذلت لتنصيرهم، وضمان ولائهم، وما استقر عليه رأي الملك من نفيهم جميعاً إلى بلاد البربر (المغرب). وبناء على ذلك فإنه يجب على جميع الموريسكيين من الجنسين، أن يرحلوا مع أولادهم في ظرف ثلاثة أيام من نشر هذا القرار من المدن والقرى إلى الثغور التي يعينها لهم مأمورو الحكومة، والموت عقوبة المخالفين، وأن لهم أن يأخذوا من متاعهم ما يستطاع حمله على ظهورهم، وأن السفن قد أعدت لنقلهم إلى بلاد المغرب، وسوف تتكفل الحكومة بإطعامهم أثناء السفر، ولكن عليهم أن يأخذوا ما استطاعوا من المؤن، وأنهم يجب عليهم أن يبقوا خلال مهلة الأيام الثلاثة في أماكنهم رهن إشارة المأمورين، ومَن وُجد متجولاً بعد ذلك يكون عرضة للنهب والمحاكمة، أو الإعدام في حالة المقاومة. وقد منح الملك السادة كل الأملاك العقارية والأمتعة الشخصية التي لم تحمل، فإذا عمد أحد إلى إخفاء الأمتعة أو دفنها، أو أضرم النار في المنازل أو المحاصيل، عوقب جميع سكان الناحية بالموت. ونص القرار على إبقاء ستة في المائة فقط من الموريسكيين للانتفاع بهم في صون المنازل، والعناية بمعامل السكر، ومحصول الأرز، وتنظيم الري، وإرشاد السكان الجدد، وهؤلاء يختارهم السادة من بين الأسر الأكثر خبرة وأشد ولاء للنصرانية. أما الأطفال فإذا كانوا دون الرابعة، فإنه يسمح لهم بالبقاء إذا شاءوا (كذا) ورضي آباؤهم وأولياؤهم، وإذا كانوا دون السادسة سمح لهم بالبقاء إذا كانوا من أبناء النصارى القدماء (أعني من غير العرب المتنصرين)، وسمح كذلك بالبقاء لأمهم الموريسكية، فإذا كان الأب موريسكياً والأم نصرانية أصيلة، نُفِي الأب(2/384)
وبقي الأولاد دون السادسة مع أمهم. كذلك يسمح بالبقاء للموريسكيين الذين أقاموا بين النصارى مدى عامين، ولم يختلطوا (بالجماعة)، إذا زكّاهم القسس. وحظر القرار إخفاء الهاربين أو حمايتهم. ويُعاقَب المخالف بالأشغال الشاقة لمدة ستة أعوام. كذلك حظر على الجنود والنصارى القدماء أن يتعرضوا للموريسكيين أو يهينوهم بالقول أو الفعل، وهدّد المخالفون بالعقاب الصارم. وأخيراً نص القرار على السماح لعشرة من الموريسكيين بالعودة عقب كل نقلة، لكي يشرحوا لإخوانهم كيف تم النقل إلى المغرب على أحسن حال.
وقع قرار النفي على الموريسكيين وقوع الصاعقة، ونهكت قواهم، وسادهم الوجوم والذهول. وكان عصر الثورة والمقاومة قد ولّى، إذ انهارت معنوياتهم، ونضبت مورادهم. وكانت الحكومة الإسبانية قد اتخذت عدتها للطوارئ، وحشدت قواتها في جميع الأنحاء الموريسكية، واجتمع زعماء الموريسكيين وفقهاؤهم في بلنسية، فقرّوا أنه لا أمل لهم في المقاومة، وأنه لا مناص لهم من الخضوع، واستقر الرأي على أن يرحلوا جميعاً، وألاّ يبقى منهم أحد، ولا حتى نسبة الستة بالمائة التي سمح ببقائها، وأن مَن بقي منهم اعتبر مرتداً مارقاً، ومع ذلك فقد وقعت ثورات محلية، وتأهبت بعض الجماعات المحتشدة في المناطق الجبلية للمقاومة، وعاثت في الأنحاء المجاورة، ولكنها كانت فورة المحتضر، فأخمدت حركاتهم بسرعة، وقتل منهم عدد كبير.
وتظلم كثير من المدجنين من قرار النفي، وقالوا إنهم اعتنقوا النصرانية طوعاً قبل التنصير الإجباري، وغدوا نصارى وإسبانيين قبل كل شيء، فصدر الأمر إلى الأساقفة ببحث ظلامتهم، وأن يسمح بالبقاء لمن توفرت فيه منهم شروط الولاء والإخلاص (1).
_______
(1) Dr. Lea: History of the Inquisition in Spain; Vol. 111. P. 399(2/385)
أما الكثرة الساحقة من الموريسكيين، فقد هرعت إلى اتخاذ أهبة الرحيل، وأخذوا في بيع ما تيسر بيعه من المتاع، وتدفقت السلع على الأسواق، من الماشية والحبوب والسكر والعسل والملابس والأثاث وغيرها، لتباع بأبخس الأثمان. بُدئ بتنفيذ قرار النفي في الجهات التي نشر فيها أولاً، وهي أعمال بلنسية، وذلك منذ أوائل (تشرين الأول - أكتوبر سنة 1609 م)، وخرجت أول شحنة من هذه الكتلة البشرية المعذّبة على سفن الحكومة من ثغر دانية وبعض الثغور القريبة، وقدّرت بثمانية وعشرين ألف نفس، حملوا إلى ثغر وهران في الضفة الأخرى من البحر، وقد كان يومئذ بيد الإسبان، ثم نقلوا إلى تلمسان بحماية فرقة من الجند المرتزقة، وهناك استظلوا بحماية السلطان. وعاد بعضهم إلى إسبانيا، ليروي عن رحيل الراحلين، وكيف وصلوا في أمن وسلام. ومع ذلك فقد آثر معظم المهاجرين السفر بأجر، في سفن غير التي عينتها الحكومة الإسبانية لنقل المهاجرين وإطعامهم دون أجر، واضطرت الحكومة نتيجة لذلك أن تستدعي عدداً كبيراً من السفن الحرّة إلى مياه بلنسية، ورحل بهذه الطريقة من ثغر بلنسية زهاء خمس عشر ألفاً، معظمهم من الموسرين والمتوسطين، ورحل المنفيون من ثغر لقنت على عزف الموسيقى ونشيد الأغاني، وهم يشكرون الله على العود إلى أرض الآباء والأجداد، ولما سئل فقيه من زعمائهم عن سبب اغتباطهم، أجاب: بأنهم كثيراً ما سعوا إلى شراء قارب أو سرقته للفرار إلى المغرب، مستهدفين لكثير من المخاطر، فكيف إذا عرضت لنا فرصة السفر الأمين مجاناً، ألا ننتهزها للعود إلى أرض الأجداد، حيث نستظل بحماية سلطاننا، سلطان الترك، وهناك نعيش أحراراً مسلمين، لا عبيداً كما كنا؟!
وكانت الجنود تحرس المنفيين في معظم الأحوال، حماية لهم من جشع النصارى الإسبان، الذين انتظموا في عصابات لمهاجمة المنفيين ونهبهم وقتلهم أحياناً. وفضلاً عن ذلك فإن تنفيذ قرار النفي لم يجرِ دائماً في يسر وسهولة، فقد أبى كثير من الموريسكيين في الجبل الخضوع للأوامر لعدم(2/386)
ثقتهم بولاء الحكومة، وفضلوا المقاومة حتى الموت، واحتشدوا بالأخص في وادي أجوار، حيثا اجتمع منهم زهاء خمسة عشر ألفاً، وفي مويادي كورتيس حيث اجتمع منهم تسعة آلاف، فبادرت الحكومة إلى محاصرتهم، وفتكت بالموريسكيين العزل، وقتلت منهم بضعة آلاف، ومات كثير منهم من الجوع والبرد. وأخيراً سلم من بقي منهم، وحملوا قسراً إلى ميناء السفر، وسَبَى الجند منهم كثيراً من النساء والأطفال باعوهم رقيقاً، ولم يصل منهم إلى شواطئ المغرب سوى القليل. وفي مويادي كورتيس لم يبق منهم عند الإبحار سوى ثلاثة آلاف، ولبثت فلولهم تقاوم مستميتة، وثبت الاضطراب نحو عام، حتى قضي عليها بعد جهد جهيد (1).
وصدر قرار النفي في قشتالة في (15 أيلول - سبتمبر سنة 1609 م)، ولكن أجل تنفيذه حتى ينفذ أولاً في بلنسية، ولم ينفذ بالفعل إلاّ في أوخر (كانون الأول - ديسمبر)، ومنح الموريسكيون فيه شهراً للسفر، بنفس الشروط التي تضمنها قرار النفي في الأندلس، وسافر منهم شمالاً إلى حدود فرنسا نحو أربعة آلاف عائلة، وسافر إلى قرطبة نحو عشرة آلاف بحجة السفر إلى الأراضي النصرانية، وذلك لكي يحتفظوا بأولادهم الصغار، ولكن تسرب الكثير منهم إلى الثغور المغربية.
وبلغ عدد المنفيين في الثلاثة أشهر الأولى زهاء مائة وخمسين ألفاً، وسافر منهم ألوف كثيرة من الأغنياء والموسرين على نفقتهم الخاصة، وقصدت جموع كثيرة من الموريسكيين في أراغون - قدّرت بنحو خمسة وعشرين ألفاً - إلى ولاية نافاد الفرنسية، ودخل فرنسا من قشتالة نحو سبعة عشرة ألفاً، وسمح لهم هنري الرابع ملك فرنسا بالتوطن فيما وراء نهر الكارون، بشرط بقائهم على دين الكثلكة، وأن تهيأ السفن لمن أراد السفر منهم إلى شواطئ المغرب.
_______
(1) Dr. Lea: History of the Inquisition in Spain; V. 111. P. 397-398.(2/387)
أما في غرناطة وأنحاء الأندلس، فقد أعلن قرار النفي في (12 كانون الثاني - يناير سنة 1610 م) بعد أن عدِّلت بعض أحكامه، وفيه يمنح الموريسكيون للرحيل ثلاثين يوماً، ويباح لهم بيع سائر أملاكهم المنقولة وأخذها ثمنها، على أن يقتنى بها عروض أو بضائع إسبانية، ولا يسمح لهم بأن يحملوا معهم من النقد أو الذهب أو الحلي، إلاّ ما يكفي نفقات الرحلة بالبر والبحر، وأما الأملاك العقارية، فتصادر لجهة العرش. وقد استقبل الموريسكيون في الأندلس قرار النفي بالاستبشار والرضى، ويقدر مَن نزح منهم إلى المغرب سواء على سفن الحكومة أو السفن الحرة، بنحو مائة ألف نفس، وقد نزح معظمهم إلى مراكش.
ثم توالى إعلان قرارات النفي في جميع الجهات التي تضم مجتمعات موريسكية، في سائر أنحاء المملكة الإسبانية: في قطلونية، وأراغون في (أيار - مايو - 1610 م)، ثم في إشبيلية واسترمادورة ( EXTREMADURA) ، ثم في مرسية وغيرها. وتأخر تنفيذه في مرسية نحو أربعة أعوام حتى (كانون الثاني - يناير 1614 م)، وخرج من مرسية زهاء خمسة عشر ألفاً، واتجهت جموع كثيرة من الشمال إلى الثغور الجنوبية.
واتجهت بعض الجماعات إلى الثغور الإيطالية مباشرة، أو عن طريق فرنسا، ومنها أبحرت إلى مصر والشام والقسطنطينية (1). وبلغ السلطان أحمد سلطان الترك، ما أصاب الكثير منهم في أرض فرنسا من الاعتداء والنهب، فأرسل إلى ملكتها (وهي يومئذ ماري دى مريتشي الوصية على ولدها لويس الثالث عشر) يحتج على هذا الإيذاء، ويطلب حماية المنفيين (2). وكان بين هؤلاء الذين اتجهوا إلى المشرق، بعض طوائف من يهود الأندلس، ولا سيما طائفة (الحسديم) التي مازالت تقيم حتى اليوم في القسطنطينية، ويقيم بعضها في مصر.
_______
(1) نفح الطيب (2/ 617).
(2) Dr Lea: The Moriscos; P. 364.(2/388)
ونفذت قرارات النفي في كل مكان بصرامة ووحشية واستمرت السفن شهوراً بل أعواماً، تحمل أكداساً من الكتل البشرية المعذّبة، فتلقي بها هنا وهناك، في مختلف الثغور الإفريقية، في جو من المناظر المروّعة المفجعة.
وقد اختلف المؤرخون اختلافاً كبيراً في عدد الموريسكيين الذين أُخرجوا من إسبانيا تطبيقاً لقرار النفي، فيقول نفاريتي وهو من أعظم مؤرخي إسبانيا: إنه نُفِي من إسبانيا في مختلف الأوقات، نحو مليوني يهودي، وثلاثة ملايين موريسكي. ويقدر آخرون عدد المنفيين من الموريسكيين بأربعمائة ألف أو تسعمائة ألف ويقدرهم دون لورنتي مؤرخ "ديوان التحقيق" بمليون نسمة، ويقدرهم المستشرق فون هامار بثلاثمائة ألف وعشرة آلاف نسمة. وفي الرواية العربية الموريسكية يقدر عدد الموريسكيين المنفيين بستمائة ألف. ونحن نميل إلى أن عددهم لا يمكن أن يتجاوز هذا القدر، وقد كان مجموعهم في أواخر القرن السادس عشر ستمائة ألف حسبما قدّمنا. ويقدر عدد من هلك من الموريسكيين أو استُرِق منهم أثناء مأساة النفي بنحو مائة ألف (1).
وقد عاد معظم الموريسكيين الذين نفوا إلى إفريقية والمشرق، إلى الإسلام دين الآباء والأجداد، ولم تخمد مائة عام من التنصير القسري، والإرهاق المستمر، جذوة الإسلام في نفوسهم، وقد لبث على كرّ العصور متغلغلاً في أعماق سرائرهم.
وبذلك ينتهي الفصل الأخير، من مأساة الموريسكيين، وتُطوَى إلى الأبد صفحة شعب، من أنبل وأمجد شعوب التاريخ، وحضارة من أزهر الحضارات.
ج - وتقدّم لنا الرواية المغربية، تفاصيل ضافية عن مأساة الموريسكيين، من بدايتها إلى نهايتها، وتخصها بكثير من النقد والتعليق. ولكن الرواية
_______
(1) Dr Lea: The Moriscos ; P. 259.(2/389)
الإسلامية مُقِلَة حول ذلك، شأنها في تاريخ الأندلس منذ سقوط غرناطة، فهي لا تُعنَى بتتبع مصير العرب المتنصرين، كما تعني الرواية الغربية بها، ولا تقدم لنا عن مأساة النفي سوى بعض الشذرات والإشارات الموجزة.
وأهم وأوفى ما وقفنا عليه من ذلك، رواية معاصرة عن أحوال الموريسكيين، ومساعيهم السريّة للمحافظة على دينهم، وظروف نفيهم، كتبها موريسكي، عاش في جيان في أوخر عهد الموريسكيين، ثم هاجر إلى تونس قبيل النفي بقليل، وكتب فيما بعد هذه الرسالة دفاعاً عن الموريسكيين المهاجرين، وشرف نسبهم، وتوكيداً لحسن إسلامهم وتمسكهم بالإسلام، ووردت خلالها حقائق تاريخية هامة، عن النفي وأسبابه وملابساته، ننقل منها ما يلي:
"لقد كثر الإنكار علينا معشر أشراف الأندلس، من كثير من إخواننا في الله، بهذه الديار الإفريقية من التونسيين وغيرهم، حفظهم الله، بقولهم: من أين لهم هذا الشرف. وقد كانوا ببلاد الكفار، دمّرهم الله، ولهم مئون من السنين كذا وكذا، ولم يبق فيهم مَن يعرف ذلك من مدة الإسلام، وقد اختلطوا مع النصارى، أبعدهم الله تعالى، إلى غير ذلك من الكلام ... ".
"مع أني صغير السن، حين دخولنا هذه الديار، عمّرها الله تعالى بالإسلام وأهله، فقد أطلعني الله تعالى على دين الإسلام بواسطة والدي، رحمة الله عليه، وأنا ابن ستة أعوام وأقل، مع أني كنت إذ ذاك أروح إلى مكتب النصارى لأقرأ دينهم، ثم أرجع إلى بيتي فيعلمني والدي دين الإسلام، فكنت أتعلم فيهما معاً، وسنّي حين حملت إلى مكتبهم أربعة أعوام. فأخذ والدي لوحاً من عود الجوز، فكتب لي فيه حروف الهجاء، وهو يسألني حرفاً حرفاً عن حروف النصارى تدريباً وتقريباً، فإذا سميت له حرفاً أعجمياً كتب لي حرفاً عربياً، فيقول حينئذٍ: هكذا حروفنا، حتى استوفى جميع حروف الهجاء في كرتين، فلما فرغ من الكرّة الأولى، أوصاني أن أكتم ذلك حتى عن والدتي وعمي وأخي، وجميع قرابتنا، وأمرني ألاّ أخبر أحداً من الخلق ... ".(2/390)
وقد كان والدي رحمه الله يلقنني حينئذ ما كنت أقوله حين رؤيتي للأصنام .... فلما تحقق والدي أنني أكتم أمور دين الإسلام عن الأقارب فضلاً عن الأجانب، أمرني بإفشائه لوالدتي وعمتي، وبعض أصحابه الأصدقاء فقط، وكانوا يأتون إلى بيتنا فيتحدثون في أمر الدين، وأنا أسمع، فلما رأى حزمي مع صغر سنّي، فرح غاية الفرح، وعرّفني بأصدقائه وأحبّائه وإخوانه في دين الإسلام، فاجتمعت بهم، وسافرت الأسفار لأجتمع بالمسلمين الأخيار، من جيان مدينة ابن مالك، إلى غرناطة، وإلى قرطبة وإشبيلية، وطليطلة، وغيرها من مدن الجزيرة الخضراء، أعادها الله تعالى للإسلام، فتلخص لي من معرفتهم أني ميزت سبعة رجال كانوا كلهم يحدّثونني بأمور غرناطة وما كان بها في الإسلام حينئذٍ، فباجتماعي بهم حصل لي خير كثير، وقد قرأوا كلهم على شيخ من مشايخ غرناطة، أعادها الله للإسلام، يقال له: الفقيه اللوطوري، رحمه الله تعالى ونفعنا به، فإنه كان رجلاً صالحاً، ولياً لله، فاضلاً ورعاً، زاهداً، قد قرأ القرآن الكريم في مكتب الإسلام بغرناطة، قبل استيلاء أعداء الله عليها، وهو ابن ثمانية أعوام، ثم بعد مدة يسيرة، انتزعت غرناطة من أيدي المسلمين أجدادنا، وقد أذن العدو في ركوب البحر لمن أراده، وبيع ما عنده، وإتيانه لهذه الديار الإسلامية، وذلك في مدة ثلاثة أعوام، ومَن أراد أن يقيم على دينه وماله فليفعل، بعد شروط اشترطوها، وإلزامات كتبها عدو الدين على أهل الإسلام. فلما تحرك لذلك أجدادنا، وعزموا على ترك ديارهم وأموالهم، ومفارقة أوطانهم للخروج من بينهم، وجاز إلى هذه الديار التونسية، والحضرة الخضراء بغتة مَن جاز إليها حينئذٍ، ودخلوا في زقاق الأندلس المعروف الآن بهذا الاسم، وذلك سنة اثنتين وتسعمائة، وكذا للجزائر وتطوان وفاس ومراكش وغيرها، ورأى العدو العزم فيهم، لذلك نقض العهد، فردّهم رغم أنوفهم من سواحل البحر إلى ديارهم، ومنعهم قهراً عن الخروج واللحوق بإخوانهم وقرابتهم بديار الإسلام، وقد كان العدو يظهر شيئاً ويفعل بهم شيئاً آخر، مع أن المسلمين أجددنا(2/391)
استنجدوا مراراً ملوك الإسلام، كملك فاس ومصر حينئذٍ، فلم يقع من أحدهما إلاّ بعض مراسلات، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
ثم بقي العدو يحتال عليهم بالكفر غصباً، فابتدأ يزيل لهم اللباس الإسلامي، والجماعات، والحمامات، والمعاملات الإسلامية شيئاً فشيئاً، مع شدّة امتناعهم والقيام عليهم مراراً، وقتالهم إياه، إلى أن قضى الله سبحانه ما قد سبق من علمه، فبقينا بين أظهرهم، وعدو الدين يحرق بالناس من لاحت عليه إمارة الإسلام، ويعذّبه بأنوع العذاب، فكم أحرقوا؟ وكم عذّبوا؟ وكم نفوا من بلادهم، وضيعوا من مسلم؟ حتى جاء النصر والفرج من عند الله سبحانه، وحرّك القلوب للهروب، وكان ذلك في سنة ثلاث عشرة وألف، فخرج منا بعض للمغرب، وبعض للمشرق خفية، متطهراً من دين الكفار أبعدهم الله، فخرج بعض أحبابنا وإخواننا وهو الفقيه الأجل محمد أبو العباس أحمد الحنني، المعروف بعبد العزيز القرشي، ومعه أحد أخوانه، إلى مدينة بلغراد من عمالة القسطنطينية، فالتقيا بالوزير مراد باشا وزير السلطان المعظم المرحوم السلطان أحمد بن السلطان محمد آل عثمان نصرهم الله تعالى وأيدهم، فأخبراه بما حل بإخواننا بالأندلس من الشدة بفرنسا وغيرها، فكتب أمراً لصاحب فرنسا دمرها الله، بإعلام السلطان يأمره بأن يُخرج مَن كان عنده من المسلمين بالأندلس، ويوجههم إليه في سفن من عنده، مع ما يحتاجون إليه. فلما قرئ الأمر السلطاني في ديوان الفرنسيس، فسمعه مَن كان مرسلاً من قبل صاحب الجزيرة الخضراء، وهو اللعين فيليب الثالث، فأرسل لسيده يخبره بالواقع، وأن السلطان أحمد آل عثمان، أرسل أمره إلى فرنسا، وأمر صاحبها أن يخرج مَن كان عنده من الأندلس، فقبل كلامه، وأمر بإخراج المسلمين، وأذن لمن جاء من الأندلس بأن لا بأس عليهم، وأن يركبوا عنده في سواحله مراكبه، ويبلغهم إلى حيث شاءوا من بلاد المسلمين. فلما أحسّ بهذا الأمر عدوّ الله فيليب صاحب إسبانية، دخله الرعب والخوف الشديد، وأمر حينئذٍ مجمع أكابر القسيسين والرهبان والبطارقة، وطلب منهم(2/392)
الرأي، وما يكون العمل عليه في شأن المسلمين الذين هم ببلاده كافة، فبدأ الشأن في أهل بلنسية، فأخذ الرأي، فأجمعوا كلهم على إخراج المسلمين كافة من مملكته، وأعطاهم السفن، وكتب أوامر وشروطاً في شأنهم، وفي كيفية إخراجهم، وشدّد على عماله بالوصية، والاستحفاظ على كافة المسلمين من الأندلس. نعم أريد أن أذكر لك نبذة يسيرة اختصرتها وترجمتها من جملة أسباب ذكرها الملك الكافر أبعده الله، في أوامره التي كتبها في شأن إخواننا الأندلسيين حين إخراجهم من الجزيرة الخضراء، لتكون على بصيرة من أمرهم، وتعلم بعض الأسباب التي أخرجوا لأجلها على التحقيق، لا كما يزعم بعض الحاسدين.
قال الملك الكافر، أبعده الله وزلزله آمين: لما كانت السياسة السلطانية الحسنة الجيدة موجبة لإخراج مَن يكدّر المعاش على كافة الرعيّة النصرانية، في مملكتها التي تعيش عيشاً رغداً صالحاً، والتجربة أظهرت لنا عياناً، أن الأندلسيين الذين هم متولدون من الذين كدّروا مملكتنا فيما مضى، بقيامهم علينا، وقتلهم أكابر مملكتنا، والقسيسين والرهبان الذين كانوا بين أظهرهم، وقطعهم لحومهم، وتمزيقهم أعضاءهم، وتعذيبهم إياهم بأنواع العذاب، الذي لم يسمع فيما تقدم مثله، مع عدم توبتهم فيما فعلوه، وعدم رجوعهم رجوعاً صالحاً من قلوبهم لدين النصرانية، وأنه لم تنفع فيهم وصايانا، ورأينا عياناً أن كثيراً منهم قد أُحرقوا بالنار، لاستمرارهم على دين المسلمين، وظهر منهم العناد بعيشهم فيه خفية، واستنجادهم كذلك عون السلطان العثماني لينصرهم علينا، وظهر لي أن بينهم وبينه مراسلات إسلامية، ومعاملات دينية، وقد تيقنت ذلك من إخبارات صادقة وصلت إليّ، ومع هذا أن أحداً منهم لم يأت إلينا ليخبرنا بما هم يدبرونه هذه المدة بينهم، وفيما سبق من السنين، بل كتموه بينهم؛ علمت بذلك أن كلهم قد اتفقوا على رأي واحد، ودين واحد، ونيتهم واحدة، وظهر لي أيضاً ولأرباب العقول والمتدينين من القسيسين والرهبان والبطارقة الذين جمعتهم لهذا الأمر واستشرت، مع أن من(2/393)
إبقائهم بيننا ينشأ عنه فساد كبير، وهول شديد بسلطتنا، وأن بإخراجهم من بيننا يصلح الفساد الناشئ من إبقائهم بمملكتي، أردت إخراجهم من سلطتنا جملة، ليزول بذلك الكدر الواقع، والمتوقع للنصارى، الذين هم رعيتنا، طائعين لأوامرنا وديننا، ورميهم إلى بلاد المسلمين أمثالهم، لكونهم مسلمين.
"فانظر رحمك الله، كيف شهد عدو الدين، الملك الكافر، بأنهم مسلمون، واعترف أنه لم يقدر على إزالة دينهم من قلوبهم، وإنهم متمسكون كلهم به، مع أنه كان يحرق منهم من ظهر عليه الدين، ثم وصفهم بالعناد لرؤيته فيهم لوائح المسلمين وأماراتهم، فأي علامة أكبر من صبرهم على النار لدين الحق، ومن استنجادهم بملك دين الإسلام المؤيّد لحماية الدين، أمير المسلمين السلطان أحمد آل عثمان نصرهم الله تعالى، فهذا غاية الخير والعزّ والبركة لهذه الطائفة الطاهرة الأندلسية".
"فخرجوا كلهم سنة تسعة عشر (كذا) وألف. ووجد في دفاتر السلطان الكافر، أبعده الله تعالى، أن جملة مَن أُخرِج من أهل الأندلس كافة، نيف وستمائة ألف نسمة، كبيراً وصغيراً، فكانت هذه الواقعة منقبة عظيمة، وفضيلة عجيبة لجماعتنا الأندلسيين زادهم الله شرفاً بمنّه، وأمر أيضاً بإخراج مَن كان مسجوناً في كافة مملكته، وكل مَن كان أمر بإحراقه فأخرجه وعفا عنه، وزوّده وأرسله إلى بلاد الإسلام سالماً، فيالها من أعجوبة ما أعظمها، ومن فضيله ما أشرفها، ومن كرامة ما أجملها، ومن نعمة ما أكبرها، فما سُمِعَ من أول الدنيا إلى آخرها مثل هذه الواقعة" (1).
_______
(1) كاتب هذه الرسالة، هو النّسابة محمد بن عبد الرفيع الأندلسيّ المتوفَّى سنة (1062 هـ-1652 م)، أي بعد نفي الموريسكيين بإثنين وأربعين عاماً، وقد وردت في آخر كتابه المسمى: "الأنوار النبويّة في أخبار البريّة"، وهو لا يزال مخطوطاً. وقد نقل الرسالة المذكورة الشاعر أبو عبد الله محمد بوجندار في كتابه المسمى: "مقدمة الفتح في تاريخ رباط الفتح" (الرباط 1345 هـ)، والرسالة منقولة عن هذا الكتاب مع =(2/394)
وقد صدر قرار النفي - كما قدمنا - في (22 أيلول - سبتمبر سنة 1609 م) وهو يوافق جمادى الثانية سنة (1018 هـ)، ولكن الرواية الإسلامية تضع تاريخ القرار أحياناً سنة (1016 هـ أو 1017 هـ)، وهو تحريف واضح.
قال المقري - وهو مؤرخ الأندلس، وقد كان معاصراً للمأساة -: "إلى أن كان إخراج النصارى إياهم (أي العرب المتنصرين) بهذا العصر القريب أعوام سبعة عشر وألف، فخرجت ألوف بفاس، وألوف أُخَر بتلمسان من وهران، وجمهورهم خرج بتونس، فتسلط عليهم الأعراب ومَن لا يخشى الله تعالى في الطرقات، ونهبوا أموالهم، وهذا ببلاد تلمسان وفاس. ونجا القليل من هذه المضرّة. وأما الذين خرجوا بنواحي تونس فسلم أكثرهم، وهم لهذا العهد عمروا قراها الخالية وبلادها، وكذلك بتطوان وسلا وفيجة الجزائر. ولما استخدم سلطان المغرب الأقصى جيشاً جراراً وسكنوا سلا، كان منهم من الجهاد في البحر، ما هو مشهور الآن. وحصنوا قلعة سلا، وبنوا بها القصور والحمامات والدور، وهم الآن بهذه الحال. ووصل جماعة إلى القسطنطينية العظمى، وإلى مصر والشام وغيرها من بلاد الإسلام، وهم لهذا العهد على ما وصفت" (1).
وقال ابن دينار التونسي - وقد كتب بعد المأساة بنحو سبعين عاماً في أخبار سنة (1017 هـ) -: "وفي هذه السنة والتي تلتها، جاءت الأندلس من بلاد النصارى، نفاهم صاحب إسبانيا، وكانوا خلقاً كثيراً، فأوسع لهم عثمان باي في البلاد، وفرّق ضعفاءهم على الناس، وأذن لهم أن يعمروا حيث شاءوا، فاشتروا الهناشير، وبنوا فيها، واتسعوا في البلاد، فعمرت بهم، واستوطنوا في عدة أماكن، وعمروا نحو عشرين بلداً، وصارت لهم مدن عظيمة، وغرسوا الكروم والزيتون والبساتين، ومهّدوا الطرقات، وصاروا يعتبرون من أهل .....................................................................
_______
= بعض التصرف (ص: 200 - 214).
(1) نفح الطيب (2/ 617).(2/395)
البلاد" (1).
وقال صاحب الخلاصة النقية - وهو من الكتاب المتأخرين -: "وفي سنة ست عشرة وألف، قدمت الأمم الجالية من جزيرة الأندلس، فأوسع لهم صاحب تونس عثمان باي كنفه، وأباح لهم بناء القرى في مملكته، فبنوا نحو العشرين قرية، واغتبط بهم أهل الحضرة، وتعلموا حُرفهم، وقلّدوا ترفهم" (2).
وهذه النصوص الموجزة، هي كل ما تقدم إلينا الرواية الإسلامية عن نفي العرب المتنصرين، وقد لبثت رواية المقري عن المأساة، مصدراً لكل ما كتبه الكتاب المتأخرون (3). وربما كان هذا النقص راجعاً إلى أنه لم يعن أحد من كتاب المغرب المعاصرين، باستيفاء التفاصيل الضافية المؤثرة عن المأساة، أو لعله قد ضاع ما كتبه المعاصرون عنها فيما ضاع، مما كتب عن المراحل الأخيرة لتاريخ الأندلس والعرب المتنصرين، ولم تصلنا على يد المقري سوى لمحات يسيرة.
وهكذا بذلت إسبانيا النصرانية كل ما وسعت لإخراج البقية الباقية من فلول الأمة الأندلسية، ولم تدخر وسيلة بشرية للقضاء على آثار الموريسكيين إلاّ اتخذتها، ومع ذلك فإن آثار الموريسكيين لم تنقطع بعد النفي بصورة نهائية. فقد رأينا أن كثيراً من المنفيين قد عادوا إلى إسبانيا، فراراً مما لَقَوْا في رحيلهم من ضروب الاعتداء المفزع، وأسلموا أنفسهم رقيقاً يقتنى. كذلك كانت ثمة جماعات في الأسرى المسلمين، من مغاربة وغيرهم، ممن يؤخذون في المعارك البحرية مع المغيرين يباعون رقيقاً في إسبانيا، ويفرض عليهم التنصير. ومع أنه صدر قرار يحظر وجودهم في العاصمة الإسبانية، فإنه كان من الصعب إخراجهم من المملكة. نظراً لما ترتب لأصحابهم عليهم من
_______
(1) المؤنس في أخبار إفريقية وتونس (ص: 193).
(2) الخلاصة النقية (تونس) (ص: 91).
(3) أنظر الاستقصا (3/ 101)، حيث تنقل هذه النصوص.(2/396)
الحقوق. وكان بعضهم يفلح في ابتياع حريته، ويعيد حياة الموريسكيين سراً، وأخيراً توجّست الحكومة الإسبانية من وجودهم، فصدر في سنة (1712 م) قرار بنفيهم، خلال المدد التي يحدّدها القضاة المحليون وسمح لهم بأن يأخذوا معهم أسرهم وأموالهم إلى إفريقية.
وقد كان من المستحيل بعد ذلك كلّه، أن يبقى في البلاد أحد الموريسكيين أو سلالتهم، وقد كانت ذكراهم أو أشباحهم، تثير حولها أيّما توجّس وتعصب. وكان من المتعذّر أن يفلت أحد منهم من بطش ديوان التحقيق. وكان الديوان المقدّس أبداً على أهبته لضبط أية قضية ضد موريسكي مختف أو عبد متنصر، ولكن هذه القضايا كانت نادرة، مما يدل على انقراض هذا العنصر بمضي الزمن. بيد أن أسرى المعارك الحربية بحراً الذين كانوا يُكرهون على التنصير، كان بعضهم ينبذ النصرانية خفية، وكان معظم هؤلاء من الموريسكيين الذين عادوا إلى الإسلام، وخرجوا إلى الجهاد في البحر، وكان ديوان التحقيق طوال القرن السابع عشر الميلادي، يجد بينهم فرائس من آن لآخر. وعلى الجملة فإن آثار الموريسكيين والإسلام لم تختف نهائياً من إسبانيا، وقد لبث كثير من الأسرى والأفراد الموريسكيين الذين اندمجوا في المجتمع الإسباني، على صلاتهم الخفية بالماضي البعيد، وقد ضبطت خلال القرن الثامن عشر أمام محاكم التحقيق بعض القضايا الخاصة بالموريسكيين، كانوا يجرون شعائر الإسلام خفية، وضبط في سنة (1769 م) مسجد صغير في قرطاجنة، أنشأه المتنصرون المحدثون، مما يدل على أنه كانت ما تزال ثمة آثار ضئيلة للموريسكيين والإسلام.
ولا تقدم لنا محفوظات ديوان التحقيق منذ أواخر القرن الثامن عشر، أي ذكر للموريسكيين، أو الإسلام والمسلمين، مما يدلّ على أن الآثار الأخيرة لمأساة الموريسكيين قد غاضت، وأسبل عليها الزمن عفاءه إلى الأبد (1).
_______
(1) Dr Lea: The Moriscos; P. 391-392.(2/397)
على أن ما يقال أخيراً أنه ما زالت ثمة إلى اليوم، في بلنسية وفي غرناطة ومقاطعة لامنشا، جماعات من الإسبان، تغلب عليهم تقاليد الموريسكيين في اللباس والعادات، ويجهلون الطقوس النصرانية الخالصة (1).
والحقيقة أنه يصعب على الباحث، أن يعتقد أن إسبانيا النصرانية، قد استطاعت حقاً بكل ما لجأت إليه، من الوسائل المغرقة في الظلم، أن تقضي نهائياً على آثار السلالة العربية والحضارة الإسلامية، بعد أن لبثت ثمانية قرون تغمر النصف الجنوبي لشبه الجزيرة، فإن تاريخ الحضارة يدلّنا على أنه من المستحيل أن تجتثّ آثار السلالات البشرية، خصوصاً إذا لبثت آماداً مختلفة متداخلة، على أن حضارة أمة من الأمم إنما هي خلاصة لتفاعل الأجيال المتعاقبة. وفي وسع مؤرخ الحضارة أن يلمس في تكوين المجتمع الإسباني الحاضر، ولاسيما في الجنوب، في ولايات الأندلس القديمة، وفي خصائصه وتقاليده، وفي حياته الإجتماعية، وفي حضارته على العموم، كثيراً من الخلال والظواهر، التي ترجع في روحها إلى تراث العرب والحضارة الإسلامية (2).
تأمّلات في آثار المأساة الأندلسية
أ - تلك هي قصة الموريسكيين أو العرب المتنصرين: قصة مؤسية تفيض بألوان الاستشهاد المحزن والصبر الجميل، ولكن تفيض في نفس الوقت بصحف من الإباء والبسالة والجلد، تخلق بأعظم وأنبل الشعوب. وقد لبثت السياسة البربرية التي اتبعتها إسبانيا النصرانية، واتبعها ديوان التحقيق الإسباني، إزاء العرب المتنصرين على كرّ العصور، مثار الإنكار والسخط،
_______
(1) Dr Lea: ibid. P. 395.
(2) نهاية الأندلس (376 - 392).(2/398)
يدمغها المفكرون الغربيون والإسبان منهم أنفسهم، حتى يومنا هذا، بأقسى النعوت والأحكام.
ويرى النقد الحديث، أن العمل على إبادة الموريسكيين، كان ضربة شديدة لعظمة إسبانيا ورخائها، ولم تنهض إسبانيا قط من عواقب هذه السياسة الغاشمة، بل انحدرت منذ نُفيَ الموريسكيين من أوج عظمتها التي سطعت في عصر شاركان وفيليب الثاني، إلى غمرة التدهور والانحلال، التي ما زالت تلازمها حتى هذه الأيام.
بل ترجع عوامل هذا الانحلال، إلى ما قبل مأساة الموريسكيين ببعيد، أو بعبارة أخرى إلى السياسة التي اتبعتها إسبانيا النصرانية، نحو الأمة الأندلسية، منذ بداية عصر الغلبة والتوسع والاستيلاء، في القرن الثالث عشر. فقد كانت القواعد والولايات الإسلامية الزاهرة، تسقط تباعاً في يد إسبانيا النصرانية، ولكنها كانت تفقد في نفس الوقت أهميتها العمرانية والاقتصادية، إذ كانت العناصر الإسلامية الذكية النشطة من السكان، تغادرها إلى القواعد الإسلامية الباقية، فراراً من عسف النصارى، وتغادرها حاملة أموالها وفنونها وصنائعها، تاركة وراءها الخراب والفقر والضيق الاقتصادي. واستمر سيل هذه الهجرة المخرِّبة زهاء قرنين حتى سقطت غرناطة، واحتشدت البقية الباقية من الأمة الأندلسية في المنطقة الجنوبية، وفي بعض القواعد الأندلسية القديمة، مثل بلنسية ومرسية، وهاجرت قبل سقوط غرناطة وبعده جموع غفيرة من المسلمين إلى إفريقية، واستحالت الأمة الأندلسية غير بعيد، إلى شعب مهيض ممزّق، هو شعب الموريسكيين أو العرب المتنصرين، ومع ذلك فقد لبثت هذه الأقلية الأندلسية المضطهدة، عاملاً خطيراً في اقتصاد إسبانيا القومي، وفي ازدهار زراعتها وتجارتها وفنونها وصناعتها، وكان الموريسكيون يحملون كثيراً من تراث الأمة المغلوبة، وإلى نشاطهم ودأبهم يرجع ازدهار الضياع الكبيرة التي يملكها السادة الإقطاعيّون. فلما اشتد بهم الإضطهاد والعسف، وأخذت يد الإبادة تعمل لتمزيق طوائفهم، وسحق(2/399)
نشاطهم، وقتل مواهبهم. ولما اتخذت إسبانيا النصرانية أخيراً خطوتها الحاسمة بإخراجهم، كانت الضربة القاضية لرخاء إسبانيا ومواردها، فانحط الإنتاج الزراعي الذي برع الموريسكيون فيه، وخربت الضياع الكبيرة بفقد الأيادي الماهرة، وكسدت التجارة التي كان الموريسكيون من أنشط عناصرها، وركدت ريح الصناعة، وعفت كثير من الصناعات التالدة التي كانوا أساتذتها، وغاضت الفنون الرفيعة التي استأثروا بها منذ أيام الدولة الإسلامية. وأحدثت هذه العوامل بمضي الزمن نتائجها المخرِّبة، فتناقص عدد السكان، وانكمشت المدن الكبيرة، وذوي العمران، وتضاءلت موارد الخزينة العامة، وشلّت يد الإصلاح والتقدّم، ولم يمض على إخراج الموريسكيين زهاء قرن، حتى أصبح تعداد سكان المملكة الإسبانية كلها ستة ملايين نسمة، وكان سكان قشتالة وحدها أيام سقوط غرناطة سبعة ملايين نسمة، وفقدت معظم المدن الكبرى - مثل قرطبة وإشبيلية وطليطلة وغرناطة - أربعة أخماس سكانها، وعمّ الفقر والخراب مئات المناطق والمدن، وخيّم على إسبانيا كلها جوّ من الفاقة والركود والانحلال.
وقد ظهرت هذه الآثار المخرِّبة، بالأخص في محيط الزراعة والصناعة، وكان تدهور إيراد الضياع الكبيرة، وإيراد الكنائس والأديار، دليلاً على ما أصاب قوة إسبانيا المنتجة: الزراعية والصناعية، بسبب نفي طائفة كبيرة من أنشط طوائف السكان وأغزرهم إنتاجاً. وكان من الحقائق المعروفة أن السكان الإسبان كانوا يبغضون الأعمال الزراعية والفنية، ويعتبرونها أمراً شائناً، وأن الإسباني لا يربي أولاده لمزاولة العمل الشريف، وأن أولئك الذين لا يجدون لهم عملاً في الجيش أو الحكومة، يلحقون بالكنيسة. ويبدي المؤرخ الإسباني الكبير نافاريتي أسفه لوجود أربعة آلاف مدرسة في عصره (أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر) يتعلم فيها أبناء الفلاحين، بينما تهجر الحقول، ولأن أولئك الذين لا يجدون منهم عملاً في الكنيسة لنقص تعليمهم، يحترفون التسول أو التشرد أو السرقة. وقد كتب(2/400)
سفراء البندقية منذ القرن السادس عشر إلى حكومتهم ينوّهون بهذه الحقائق، ويصفون الإسبان بأنهم زرّاع وعمال كُسالى، يحتقرون العمل اليدوي، حتى أن ما يمكن عمله في البلاد الأخرى في شهر، يعمله الإسبان في أربعة أشهر (1).
ويردّد الوزير محمد بن عبد الوهاب الغسّاني سفير سلطان المغرب مولاي إسماعيل إلى إسبانيا، وقد زارها في سنة (1691 م)، أعني بعد النفي بثمانين عاماً، عن الإسبان مثل هذا الرأي، إذ يقول في رحلته: "وبحصول هذه البلاد (الهندية) - يقصد أمريكا - ومنفعتها وكثرة الأموال التي تجلب منها، صار هذا الجنس الاسبنيولي اليوم أكثر النصارى مالاً، وأقواهم مدخولاً، إلاّ أن الترف والحضارة غلبت عليهم، فقلّما تجد أحداً من هذا الجنس يتاجر أو يسافر للبلدان بقصد التجارة كعادة غيرهم من أجناس النصارى مثل الفلامنك والإنكليز والفرنسيين والجنويين وأمثالهم، كذلك الحرفة التي يتداولها السقطة والرعاع وأراذل القوم، يتأبى عنها هذا الجنس، ويرى لنفسه فضيلة على غيره من الأجناس المسيحيين" (2).
وقد كان النبلاء والأحبار، وأصحاب الضياع الكبيرة بوجه عام، يعتمدون في تعهد أراضيهم وفلاحتها، على نشاط الموريسكيين وبراعتهم، فلما وقع النفي جمد النشاط الزراعي، وخلت معظم الضياع من الزراع، وأقفر كثير من القرى، وهدمت ضياع كثيرة لخلوها من السكان ولا سيما عن منطقة بلنسية، واضطر النبلاء إلى استقدام العمال الزراعيين من الجزائر الشرقية (البليار) وأنحاء البرنية وقطلونية، ومع ذلك فقد حدث نقص ملحوظ في غلاّت الضياع الكبيرة، ولم ينتفع النبلاء بما أصابوه من الاستيلاء على الأراضي التي نزعت، وتعذر عليهم تعميرها وفلاحتها، وحاق بهم الضيق، حتى اضطر
_______
(1) Dr Lea. The Moriscos ; P. 379-381.
(2) رحلة الوزير الغسّاني المسمّاة: "رحلة الوزير في افتكاك الأسير" (العرائش 1940) ص: 44 - 45.(2/401)
العرش إلى منح كثير منهم نفقات سنوية من خاصة أمواله، هذا فضلاً عما أصاب طوائف السكان الأخرى، التي كانت تتصل بالموريسكيين في المعاملات والتبادل من العسر والضيق.
وكما انحط دخل الكنائس والأديار، فكذلك خسر ديوان التحقيق شطراً كبيراً من دخله، مما كان يصيبه من مصادرة أموال الموريسكيين والحكم عليهم بالغرامات الفادحة، واضطرت الحكومة أن تعول كثيراً من محاكم التحقيق التي أوشكت على الإفلاس، من جراء اختفاء الجماعة التي كانت تزدهر بمطاردتها واستصفاء أموالها. وقد بيعت أموال الموريسكيين وأراضيهم بمبالغ كبيرة، ولكن العرش استولى عليها، ووزّع معظمها على أصفيائه من الوزراء والنبلاء والأحبار، ولم ينل ديوان التحقيق سوى الجزء اليسير منها.
ويقدمون مثلاً لما أصاب إسبانيا من الخراب نتيجة (للنفي) هو مثل مدينة: ثيوداد ريال "المدينة الملكية" (1) عاصمة لامنشا، فقد أسس هذه المدينة الفونسو العالم في القرن الثالث عشر، ومنح سكانها شروطاً حرّة مغرية، شجعت كثيراً من يهود ومسلمين على النزوح إليها. وفي سنة 1290 م، كان دافعوا الضرائب فيها من يهود (8828)، فلما أخرج يهود منها في سنة (1492 م)، حلّ محلّهم الموريسكيون في غرناطة، ولما أُخرج منها هؤلاء مع المدجنين القدماء، خربت المدينة وعفا رخاؤها، وانحطت زراعتها، وخربت صناعة النسيج التي أنشأها الموريسكيون فيها، وهبط عدد سكانها في سنة (1621 م) إلى (5060) نسمة وإلى نحو ألف أسرة فقط، في حين أنها كانت تضم من السكان قبل (النفي) اثنتي عشرة ألف أسرة (2).
وكان مما ترتب على نفي الموريسكيين أيضاً، ذيوع العملة الفضية الزائفة، وقد تركوا منها وراءهم مقادير عظيمة، وكانت لهم بصنعها براعة خاصة.
_______
(1) Ciudad Real.
(2) Dr Lea: The Moriscos. P. 372-384.(2/402)
وأحدث ذيوع النقد الزائف اضطراباً شديداً في المعاملات، وحاولت الحكومة جمعه والعقوبة عليه وعلى ترويجه بعقوبات رادعة بلغت حدّ الإعدام، ولكنها لم تفلح في استئصال الشرّ، واستمرت هذه الحركة أعواماً طويلة، وعمد الإسبان بدورهم إلى التزييف، وعوقب كثير منهم أمام محاكم التحقيق والمحاكم المدنية، وعانى التجار والمتعاملون كثيراً من الضرر والإرهاق.
ولم تمض أعوام قليلة على نفي الموريسكيين، حتى ظهرت هذه الآثار المخرِّبة كلها في حياة المجتمع الإسباني بصورة مزعجة، وهال العرش والحكومة ما أصاب الأمة من ضروب البؤس والخراب، وطلب رئيس الحكومة الدوق دى ليرما في سنة (1618 م) إلى مجلس الدولة أن ينظر في هذا الأمر، ويعمل على تحقيقه ومعالجته، وقدم مجلس الدولة تقريره بعد عام، وأشير فيه إلى خراب المدن والقرى، ولكن لم يشر إلى نفي الموريسكيين، وإلى تكاثر عدد رجال الدين وتزييف العملة وبغض الشعب للعمل الشريف، بل حاول أن يرجع الشر إلى فداحة الضرائب، وإلى الترف الذي تعيش فيه الطبقات المختارة، وإسراف الملك في الإغداق على أصفيائه؛ وكذلك اهتم مجلس النواب (الكورتيس) بالأمر، وقدم عنه تقريراً إلى الملك، ومع أن التقارير الحكومية التي وضعت عن هذه المحنة، لم تشر إلى نفي الموريسكيين كعامل أساس فيما أصاب إسبانيا من الخراب والفقر، فقد كان في القرارات الملكية ما ينطق بهذه الحقيقة. ففي سنة (1622 م) أصدر الملك فيليب الرابع، قراراً بخفض الضرائب على بلنسية، أشار فيه إلى هجرة السكان، وإلى ما خسرته المدينة من ضروب الدخل، التي كانت تجبى على ما يستهلكه الموريسكيون، وما خسره التجار من انقطاع التعامل معهم.
على أن جهود العرش والحكومة، لم تُجْدِ شيئاً في تخفيف هذه الضائقة، التي طافت بالمجتمع الإسباني، وشملت سائر الطبقات سواء في الإنتاج أو(2/403)
الاستهلاك، ومضى وقت طويل قبل أن تستقر الأحوال نوعاً ما، وتفيق الزراعة والصناعة والتجارة من الضربة التي أصابتها.
يقول الدكتور لي: "إنه لا يمكن لفريق من السكان، كان يعتمد عليه مدى القرون، في القيام بقسط عظيم من الإنتاج والتنظيمات المالية في البلاد، أن يُمزَّق فجأة ويُنبَذ، دون أن يبثّ ذلك الخراب الواسع، ويثير معتركاً من المشاكل يمتد أثرها إلى أجيال مرهقة". ثم ينعي على السياسة الإسبانية تخبطها وقصر نظرها فيقول: "وإنه لمن خواص السياسة الإسبانية في ذلك العصر، أنه لم يفكر أحد في هذه الشئون ولم يحتط أحد في المباحثات الطويلة التي جرت في قضية الموريسكيين. وقد حدثت ثمة مناقشات لا نهاية لها حول مختلف المشاريع ومزاياها، والوسائل التي ينفذ بها النفي، وماذا يسمح به للمنفيين، وماذا يكون مصير الأطفال. ولكن النتائج المحتملة تركت للمصادفة، واحتقرت التفاصيل العملية، واحتقر رخاء الفرد، وهو ما يوضح إخفاق السياسة الإسبانية" (1).
وجواباً على هذا التساؤل، فإن الذي حجب التفكير السليم عن الذين بيدهم الأمر في إسبانيا يومئذ؛ وهم رجال الدين والنبلاء المقربون للملك، الذين كانوا هم صانعي القرار، هو أمران: التعصب الأعمى المتسم بالجهل المطبق والمتمثل في كره الإسلام والمسلمين، ومحاولة القضاء عليهم قضاءاً مبرماً. والثاني هو حرص أولئك الزمرة على أموال الموريسكيين المنقولة وغير المنقولة، ورغبتهم الجامحة في اغتصابها لأنفسهم في غطاء من القرارات الملكية، دفاعاً عن حاضر إسبانيا ومستقبلها ظاهرياً، واقتناصاً للمكاسب المادية لأنفسهم واقعياً، حتى ولو أدى جشعهم إلى الإضرار ببلدهم عامة، ورخاء الفرد الإسباني خاصة. ولم يكن نشاط الموريسكيين مجهولاً على النطاقين الحكومي والشعبي في إسبانيا، فنشاطهم واضح
_______
(1) Dr Lea: The Moriscos ; P. 387.(2/404)
معروف لا يخفى على أحد، وقد مرّ بنا أن قسماً من النبلاء فاتحوا الملك في محاذير نفي الموريسكيين على الزراعة في إسبانيا، فلم يفلحوا في توسطهم، ويبدو أن هؤلاء النبلاء كانوا من الإقطاعيين الذين يستفيدون من مهارة الموريسكيين الفذة في الزراعة، وتوقعوا أن مزارعهم سيتسرب إليها الخراب بعد نفي الموريسكيين، وهذا ما حدث فعلاً، وعلى نفسها جنت براقش التي أعماها التعصب والجشع، فقد كان صانعوا القرار الإسباني يومئذ متعصبين أولاً ومنتفعين ثانياً، فخرّب تعصبهم بلادهم، وانتفعوا بعددهم المحدود، وأضروا الشعب بأسره، وعلى رأسهم صفوته الموريسكيون بلا مراء.
تلك هي النتائج المادية الواضحة، الاقتصادية والاجتماعية، التي جنتها إسبانيا النصرانية من جراء سياستها المبيتة لإبادة الأمة الأندلسية. فقد لبثت إسبانيا زهاء قرن تعمل بأقسى وسائل الإرهاق والمطاردة، على استصفاء ما بقي من فلول الأمة الأندلسية في الأرض التي بسطت عليها ظلها زهاء ثمانية قرون، ظلال الرخاء والأمن، وضوء العلم والعرفان، ولم تطق حتى بعد أن استحالت هذه الفلول إلى شراذم معذَّبة مهيضة، وأكرهت على نبذ دينها ولغتها وتقاليدها، أن تبقي عليها، وعلى ما تبقى لها من مواهب وقوى منتجة، ورأت في سبيل أسطورة من التعصب والجهالة، أن تقضي عليها بالتشرد والنفي النهائي، وأن تخرج من بين سكانها زهاء نصف مليون من أفضل العناصر العاملة. وكان من سوء طالع إسبانيا أن جاء نفي الموريسكيين في وقت أخذت فيه عظمة إسبانيا ورخاؤها ينحدران سراعاً إلى الحضيض، وجنح المجتمع الإسباني إلى حياة الدّعة والخمول، وأخذ سكانها في التدهور، فجاء نفي الموريسكيين ضربة جديدة لحيوية إسبانيا، التي أخذت في التفكك والذبول، وتركت وراءها جرحاً عميقاً لم يقو الزمن على محو آثاره بصورة حاسمة. ومن ثم فإنه من الواضح أن يعلق النقد الحديث أهمية بالغة على نفي الموريسكيين، ويعتبره عاملاً بعيد المدى فيما أصاب إسبانيا الحديثة، من ضروب التفكك والانحلال.(2/405)
ب - على أن التفكير الإسباني يختلف في هذا الرأي وتقدير مداه، ويهاجمه وينكره - بالأخص رجال الدين - وقد كانوا منذ البداية روح هذه السياسة المخرِّبة، وأكبر العاملين على تنفيذها. وقد استقبل رجال الدين نفي الموريسكيين بأعظم مظاهر الغبطة والرضى، واعتبروه ذروة النصر الديني؛ ويقول أحدهم وهو القس بليدا - وهو مؤرخ من مؤرخي القرن الماضي، في كتابه الذي نشره دفاعاً عن هذه الإجراءات -: "بأن عصر إسبانيا الذهبي، بدأ بذهاب الموريسكيين، وأن إسبانيا قد حققت به وحدتها الدينية، وأنقذت من مشاغلها الداخلية، وأن النفي كان أعظم حادث بعد بعث المسيح، واعتناق إسبانيا للنصرانية" (1). ويقول حبر آخر: "لقد زعم الموريسكيون أن رخاء إسبائيا قد ذهب مذ أكرهوا على التنصير، ولكن الرخاء قد عمّ بنفيهم، وازدهرت التجارة، وساد الأمن في الداخل والخارج" (2). ويقول الحبر فثنتي دى لا فونتي ( VICENTE DE LA FUENTE) في تاريخه الديني: إنه من السخرية أن يقال: إن نفي الموريسكيين كان سبباً في انحطاط إسبانيا، فإن أمة قد تفقد مائة وخمسين ألفاً في وباء أو حرب أهلية. ثم يتسائل في تهكم: لماذا ينحى على فيليب الثالث بمثل هذا اللوم؟! على أنه يعترف مع ذلك بأن النفي كان سبباً في تدهور دخل الأشراف والكنائس (3). ويروي آخرون من الأحبار، أن إسبانيا قد دفعت بالنفي ثمناً باهظاً، ولكن تحملهم نزعة فلسفية فيقولون: إن وفرة الرخاء، تذهب بالفضائل، وإنه لا بأس من التقشف مع الإيمان، وأن الفقراء استطاعوا بعد إجلاء الموريسكيين أن يجدوا أعمالاً (4).
ولكن حبراً ومؤرخاً إسبانياً كبيراً، هو دون لورنتي مؤرخ ديوان التحقيق، يحدثنا عن وسائل الديوان، ونفي الموريسكيين في قوله: "كانت هذه
_______
(1) Bleda: Difensio Fidei in Cavsa Neophglorum olive Morishorum in Hispanios.
(2) Dr Lea: The Moriscos , P. 366.
(3) Dr Lea: ibid , P. 394-396.
(4) Dr Lea: ibid , P. 367.(2/406)
الوسائل بقسوتها الشائنة، تذكي روع الموريسكيين من تلك المحكمة الدموية، وكانوا بدلاً من التعلّق بالنصرانية - وهو ما كانت تؤدي إليه معاملتهم بشيء من الإنسانية - يزدادون مقتاً لدين لم تحملهم إلى اعتناقه سوى القوة. وكان هذا سبب الاضطرابات التي أدت فى سنة (1609 م) إلى نفي هذا الشعب، وعدده يبلغ المليون يومئذٍ، وهي خسارة فادحة لإسبانيا تضاف إلى خسائرها الفادحة، ففي مائة وتسع وثلاثين سنة، انتزع ديوان التحقيق من إسبانيا ثلاثة ملايين، ما بين يهود، ومسلمين، وموريسكيين" (1).
ويقول الكاردينال ديشليو الفرنسي، وهو من أعظم أحبار الكنيسة في مذكراته، وكان معاصراً للمأساة: "إنها أشدّ ما سجلت صحف الإنسانية جرأة ووحشية".
هذا عن الأحبار، أما عن آراء البحث الإسباني الحديث، فإنها تختلف في تقدير آثار نفي الموريسكيين اختلافاً بيناً، بيد أنها تميل على الأغلب إلى الاعتراف بفداحة الآثار المخرّبة التي أصابت إسبانيا من جرائه، وإلى اعتباره عاملاً قوياً في تدهور إسبانيا وانحلالها، بيد أنها مع ذلك تحاول الاعتذار عن النفي، ويرى بعضهم أنه كان إجراء طبيعياً، وضرورة لا محيص عنها، وينكر بعضهم الآخر أنه كان كارثة أو أنه ترتبت عليه آثار مخربة، ونورد هنا طائفة من آراء عدد في المؤرخين والمفكرين الإسبان المحدثين، بدقة وإفاضة تسمحان بفهم الروح الإسبانية إزاء هذا الحدث التاريخي الخطير، وتقديرها على حقيقتها.
يقول دانفيلا إى كوليادو: "وهكذا تحقق نفي الموريسكيين الإسبان، بغض النظر عن كونهم شباباً أو شيوخاً، صالحين أو عقماء، مذنبين أو أبرياء. وكانت مسألة الوحدة السياسية تحمل في ثنيتها ضرورة الوحدة الدينية، وضع خطتها الملكان الكاثوليكيان، وحاول تحقيقها الإمبراطور
_______
(1) Liorente: Historia Critica de la Inquisiciande Espana (1817-1815) .(2/407)
شارل الخامس (شارلكان) وفيليب الثاني، ولكنهما ارتدا خشية من عواقبها. أما فيليب الثالث، فكان يزاول سلطانه على يد أصفيائه، ولذا ألفى سلطة العرش الدينية والسياسية، أيسر وأهون، وكانت الحرب الدينية تضطرم ضد الجنس الأندلسي، وقد ألفت عواطف الروح الرقيقة نفسها، وجهاً لوجه أمام المسألة السياسية. ودخلت الإنسانية والدين في صراع، وخرج الدين ظافراً، وفقدت إسبانيا أنشط أبنائها، وانتزع الأبناء من جحور أمهاتهم وحنان آبائهم، ولم يلق الموريسكي أية رأفة أو رحمة. ولكن الوحدة الدينية بدت ساطعة رائعة في سماء إسبانيا، واغتبطت الأمة إذ أضحت واحدة في جميع مشاعرها العظيمة".
"وكان الموريسكيون شديدي المراس، وكان الوطن ينشد وحدة معنوية، تغدو متممة للوحدة السياسية، التي تحققت باندماج سائر العروش في شبه الجزيرة، وكان عنصر تناقض قوي، كالذي تمثله طائفة الموريسكيين، لا يكون فقط عقبة شديدة يصعب تذليلها، ولكنه كان استحالة مطلقة، تحول دون تحقيق الغاية، التي تتجه إليها الحركة العامة للفكر القومي؛ وكانت الصعوبة كلها تجثم في الدين، ولم تكن اللغة التي كانت تبدو خاصة قومية أخرى، تكون يومئذ أو في أي وقت عقبة بمثل هذه الخطورة، ففي شمال إسبانيا، وفي شرقها، توجد اللهجات المختلفة، من الجليقية والقطلونية والميورقية والبلنسية وغيرها. وكذلك يوجد مثل هذا التباين في النظم القضائية، والثياب والعادات الخاصة بكل منطقة، ولكن ذلك لم يكن عقبة كأداء في سبيل وحدة الدين والروح القومي، ولم يخلق مثل المعضلة الدائمة التي خلقها الدين بالنسبة للموريسكيين، والتي جعلتهم دائماً في حالة دائمة من التربّص والتوجّس. إن ما بذله شارل الخامس وفيليب الثاني لإخضاع الموريسكيين للنصرانية، مما لا يمكن وصفه، ولكن جهودهم كلها ذهبت عبثاً، ذلك أنه بعد ثلاثة قرون من الخضوع، لبث الموريسكيون في عهد فيليب الثالث، يضطرمون بنفس الروح المتمردة، التي كانت لأسلافهم الذين(2/408)
أخضعوا بالسيف، وقد ارتضوا حالتهم كمحنة مؤقتة عابرة، ولم ينبذوا الأمل قط، ولم يتركوا قط الوسائل التي يعتقدون أنها تمكنهم ذات يوم من الأخذ بالثأر، واسترداد استقلالهم وسيادتهم". ثم يقول: "وإنها لخرافة أن يقال: إن الموريسكيين كانوا عنصراً مفيداً في إنتاج إسبانيا، ولو أنهم كانوا كذلك، لحملوا الرخاء إلى بلد المغرب حيث ذهبوا" (1).
ويقول المؤرخ الكبير موديستو لا فونتي - وسنرى أنه يذهب في الصراحة وتقدير الحقائق المنزهة إلى أبعد حد -: "وعلى أي حال، فإن مراسيم فيليب الثالث الشهيرة ضد الموريسكيين، قد جرّدت إسبانيا - وقد كانت يومئذ جدّ مقفرة من السكان، بسبب الإدارة السيئة والحروب المستمرة - من طائفة كبيرة من السكان، أو بعبارة أخرى من السكان الزراعيين والتجاريين والصناعيين من السكان المنتجين، أولئك الذين يساهمون بأكبر قسط في الضرائب. وكان أقل ما في ذلك تسرّب الملايين من الدوقيات التي حملتها الطائفة المنفية معها، في الوقت الذي كانت فيه المملكة تعاني من قلة النقد، فكان نقص الذهب الفجائي على هذا النحو أشد وطأة عليها. كذلك وقع ضرر أفدح بذيوع النقد المزيف أو المنقوص، الذي روّجه المنفيون بسوء قصد قبل رحيلهم. وأسوأ ما في ذلك كله هو: أنه فُقِد برحيلهم العنصر العامل الذكي المتمرس في الفنون النافعة. وهم قد بدأوا بالزراعة وزراعة السكر والقطن والحبوب التي كان لهم بإنتاجها التفوق الجمّ، وذلك لنظامهم المدهش في الرّي بواسطة السواقي والقنوات، وتوزيع المياه بواسطة هذه الشرايين توزيعاً مناسباً، كان له أثره في الإنتاج العظيم الذي امتازت به مروج بلنسية وغرناطة، ثم تابعوا بنسج الأصواف والحرائر، وصنع الورق والجلود المدبوغة، وهي صناعات برع الموريسكيون فيها أيما براعة، وانتهوا بمزاولة الحرف الآلية، وهي حرف كان الإسبان لكسلهم وتكبّرهم يحتقرونها، ومن ثم فقد احتكرها
_______
(1) M. Danvila Y Collado: La Expululsin de Los Moriscos Espanoles (Madrid 1889) P. 320-322.(2/409)
الموريسكيون واختصّوا بها. وقد عانى كل شيءٍ من نقص في السواعد في البراعة، وهو نقص جعلت المفاجأة من المستحيل تداركه، ثم غدا بعد ذلك ملؤه مبهظاً بطيئاً صعباً".
"ويقول نفس المؤرخ البلنسي الذي شهد النفي، وكتب عقب إتمامه أنه ترتب على ذلك أن بلنسية، وهي حديقة إسبانيا الغناء، استحالت إلى قفر جاف موحش. وحدث هنالك كما حدث في قشتالة، وفي باقي البلاد، أن بدأ شبح الجوع الداهم، وبالرغم من أنه قد جيء بسكان جدد إلى الأماكن التي هجرها الموريسكيون، لكي يتدربوا على العمل في الحقول والمصانع والمعامل، إلى جانب أولئك القلائل الذين ارتضوا البقاء (هو اعتراف مخجل بلا ريب). على أن مثل هذا التمرن لم يؤت نتائجه السريعة، والتدرب والدأب ليسا من الفضائل التي ترتجل، ولم يكن من السهل أن يعوّض مثل هذا الجنس من البشر، وهو الذي استطاع بعبقريته، ومركزه الخاص في البلاد، ووفرة براعته وجَلَده، أن يحقق ما يشبه قهر الطبيعة، واستغلالها لسائر مبتكراته. وهكذا حلّ مكان ضجيج القرى، الصّمتُ الموحش في الأماكن المهجورة. وإذا كان ثمة بعض السادة الإقطاعيين قد غنموا من تراث المنفيين، فقد كان عدد الذين خسروا أعظم بكثير، وبلغ الأمر ببعضهم أن طلبوا نفقات للطعام. أما الذين غنموا، فقد كانوا بلا شك هم الدوق دى ليرما وأسرته، وقد استولوا على نصيب مما تحصل من بيع منازل الموريسكيين".
"ومن ثم فقد اعتبر نفي الموريسكيين من الناحية الاقتصادية بالنسبة إلى إسبانيا، أفدح إجراء مخرِّب يمكن تصوّره، وإنه ليمكن أن تُغض الطرف عن المبالغة التي دفعت بأحد الساسة الأجانب، وهو الكاردينال ريشليو، أن يسميه: (أعرق إجراء في الجرأة البربرية مما عرفه التاريخ في أي عصر سابق)، والحق أن الصدع الذي أصاب ثروة إسبانيا العامة من جرائه، كان من الفداحة بحيث أنه ليس من المبالغة أن نقول: إنه لم يبرأ حتى عصرنا".
"فأما من الناحية الدينية، فقد كان الإجراء ثمرة الأفكار التي سادت في(2/410)
إسبانيا قبل ذلك بقرون، وثمرة البغض التقليدي المتأصّل، الذي يكنّه الشعب لغالبيه وأعدائه الألداء القدماء. وليس مما يمكن إنكاره، إنه كان مؤيداً لفكرة الوحدة الدينية، التي دأب على العمل لتحقيقها وإكمالها الملوك الإسبان والشعب الإسباني. بيد أنا نعتقد أنه كان من البراعة (ما عدا اعتباره صراعاً مقدّراً هو من خصائص العصور الوسطى) أن نصل إلى الوحدة الدينية بطريق إفناء أولئك الذين يعتنقون عقائد أخرى. وقد كانت البراعة أن نعمل على اجتذاب المخالفين المعاندين، بالتعاليم والإقناع، والحزم، والرفق، وتفوّق الحضارة".
"وأما كونه إجراء سياسياً، قصد به إلى تحقيق سلامة الدولة وسلامها، فقد كان ممكناً أن نسوِّغ اتخاذه لو كانت المؤامرة حقيقية وخطيرة، وكانت الخطط شنيعة، وكانت الوسائل قوية، والخطر داهماً، وذلك كما افتراض الوزير المقرّب والأسقف ربيرا والنصحاء الآخرون. أجل لم يك ثمة شك في أنه كانت هناك مكاتبات وعلائق ومشاريع معادية لإسبانيا، بين بعض الموريسكيين البلنسيين وبين المغاربة والترك، بل بينهم وبين بعض الفرنسيين. بيد أننا لم نقتنع بأن هذه الخطط كانت من الجسامة والخطر بمثل ما كان يصوِّرها أنصار النفي، ولم نقتنع بأن النصارى المحدثين في بلنسية كان لهم من القوة ما يمكن أن يثير مخاوف ذات شأن، كما أنه لم يكن ما يثير المخاوف من جانب الموريسكيين في أراغون وفي مرسية، مثلما زعمت الوفود التي أتت من هذين الإقليمين، وكذلك لم يكن الموريسكيون في قشتالة يعرفون التآمر أو يقدرون عليه، وعلى أي حال فإنه متى ذكرنا، أننا بعد مضي أكثر من قرن على قهر الموريسكيين وإخضاعهم لقوانين المملكة، وتفريقهم ومزجهم بالإسبان والنصارى، لم نوفق إلى تأليفهم في العادات والعقائد، أو أن ندمج بقية الأمة المغلوبة في الكتلة الكبرى للأمة الغالبة، ولم نوفق إلى جعلهم نصارى وإسبانيين، ثم لجأنا بلا ضرورة إلى وسيلة إفناء جيل برمّته، متى ذكرنا ذلك، فإنا لا نستطيع أن ننظر بعطف إلى مهارة فيليب(2/411)
الثالث والملوك الذين سبقوه، ولا إلى حزمهم أو سياستهم" (1).
ويقول فلورثيو خانير - وهو يحذو حذو لافونتي في تقديره وتعليله، وينقل بعض أقواله -: "ومع ذلك، فإنه لمصلحة الدين، والسلام الداخلي، وسلامة الدولة، قد وقع الإغضاء عن المزايا التي كان يسبغها الموريسكيون على الصناعة والتجارة والزراعة، بل وعلى ثروة الأمة الإسبانية كلها، وذلك حينما أخرج بواسطة مراسيم فيليب الثالث، آلاف من الصناع الموريسكيين، يحملون معهم بذور الحضارة والحرث". وقد قال كامبومانس الشهير: "إن بدء تدهور صناعاتنا يرجع إلى سنة (1609 م) حينما بدئ بنفي الموريسكيين. فمن ذلك الحين تبدأ مع خراب المصانع صيحات الأمة المتوالية، وعبثاً يحاول ساستنا أن ينسبوا بؤس القرن السابع عشر، إلى أسباب أخرى، فهي وإن كانت جزئية، لا يمكن أن تضارع ضربة بهذه المفاجأة، وهي ضربة لم تستطع الأمة حتى اليوم أن تنهض من عثارها" ... "ولقد أحدثت مزاولة العرب للمهن الفنية في الإسبان أثرين سيئين الأول: أنهم اعتبروا هذه المهن من الأمور الشائنة. والثاني: أنهم لم يتعلموا شيئاً منها حتى لا يتشبهوا بأولئك الذين يزاولونها. وهم قد بدأوا بالزراعة وزراعة السكر والقطن والحبوب، التي كان للموريسكيين فيها التفوق الجم، وذلك لنظامهم المدهش في الري بواسطة السواقي والقنوات، وتوزيع المياه بواسطة هذه الشرايين توزيعاً مناسباً، كان له أثره في الإنتاج العظيم الذي امتازت به مروج بلنسية وغرناطة الخصبة.
"ثم تابعوا بنسج الأصواف والحرائر، وصنع الورق والجلود المدبوغة، وهي صناعات برع فيها الموريسكيون أيما براعة، وانتهوا بمزاولة الحرف الآلية، وهي حرف كان الإسبان لكسلهم وتكبرهم يحتقرون مزاولتها؛ ومن ثم فقد كان الموريسكيون يحتكرونها؛ وقد وقع من جراء ذلك نقص في
_______
(1) Modesto Lafuente: Historia general de Espana (Madrid 1862) T. V111. P. 211-214.(2/412)
الأيدي وفي المهارة كان من المستحيل ملؤها في الحال، ثم غدا بعد ذلك ملؤها مبهظاً بطيئاً صعباً. وقد بلغ النقص في الأنفس - وفقاً للدراسات التي قمنا بها لنتائج الحادث - على الأقل نحو مليون. ثم يأتي بعد ذلك نقص العملة الذهبية، بسبب الكميات الكبيرة التي حملوها معهم من الدوقيات، وأخيراً يأتي ذيوع النقد الزائف أو ناقص الوزن، وهو الذي ملأوا به المملكة قبل نزوحهم منها، على أن الضرر الفادح الذي لم يعوّض لسنين بعيدة، هو بلا ريب ما أصاب الزراعة والصناعة والتجارة".
"ومن ثمّ ففي وسعنا أن نقول عن بلادنا بحق: إن بلاد العرب السعيدة، قد استحالت إلى بلد العرب القفراء، وعن بلنسية بوجه خاص إن حديقة إسبانيا الغناء قد استحالت إلى صحراء جافة مشوّهة. وقد حلّ شبح الجوع بالاختصار في كل مكان، وحلّ محل المرح الصاخب للقرى العامرة، الصمت الموحش في الأمكنة المهجورة؛ وبدلاً من أن ترى أمامك العمال والصناع، فإنك تغامر بأن تقابل قطّاع الطرق يملؤونها ويجثمون في أطلال القرى المهجورة. ولئن كان ثمة فريق من السادة الملاك الذين أفادوا من مخلّفات المنفيين، فقد كان ثمة عدد أكبر بكثير ممن خسروا، وانتهى بعضهم إلى الموقف المؤلم، بأن يلتمسوا من الحكومة نفقة لإطعامهم، ولم يك بينهم أحد قط ممن غنم كما غنم الدوق دى ليرما وأسرته، وقد استولوا على جزء من أثمان بيع منازل الموريسكيين، بلغ نحو خمسة ملايين ونصف ريال".
"وإذاً فقد كان نفي الموريسكيين من الناحية الاقتصادية، يعتبر بالنسبة إلى إسبانيا، أفدح إجراء مخرِّب يمكن تصوره، وإنه ليمكن أن نتسامح في المبالغة التي يصفه بها سياسي أجنبي هو الكاردينال ريشليو، حيث يصفه بأنه: "أعرق إجراء في الجرأة البربرية مما عرفه التاريخ في أي عصر سابق". والحقّ أن الصدع الذي منيت به ثروة إسبانيا العامة من جرائه، كان من الفداحة بحيث أنه ليس من المبالغة أن نقول: إنه لم يبرأ حتى(2/413)
يومنا" (1). بيد أن خانير مع ذلك يقول: إن النفي كان ضرورة دينية وسياسية، وإن الوحدة الدينية، تغدو اليوم أسطع جوهرة للأمة الإسبانية.
ويعلق المؤرخ الاجتماعي بكاتوستي، في الفصل الذي عقده عن (بؤس إسبانيا العام) في كتابه: (عظمة إسبانيا وانحلالها) على نفي الموريسكيين، فيقول: (كان نفي الموريسكيين من أفدح المصائب التي نزلت بإسبانيا. أجل، لقد وجد أيام الملكين الكاثوليكيين بعض المتعصبين الذين كانوا يقترحون هذا النفي ويعملون له. ولكنهم وجدوا عقبة كأداء في معارضة الملكة إيزابيلا. وفي سنة (1529 م) بذل أسقف إشبيلية جهوداً مضنية مضاعفة في هذا السبيل، وكذا طوال حكم فيليب الثاني كان هذا الموضوع يثار من وقت إلى آخر، ولكن أمكن فقط في عصر فيليب الثالث المحزن، أن يرتكب هذا الخطأ الفادح.
"والمسئولية الكبرى التي تقع على عاتق الملك، وعلى نصحائه وأسلافه تتلخص في أنهم لم يحملو مصالح الموريسكيين المادية، فيمهّدوا لتلك الطائفة العاملة سبل الحياة المستقرة الهادئة، ولم يكن لهم من القوة أو الكياسة أو الحزم ما يمكنهم من إخضاع هذه الطائفة المتمردة، التي عاشت في إسبانيا في أوقات، كانت فيها الأحقاد في أوج اضطرامها بين الغالبين والمغلوبين".
"وقد أثار الإسراف في فرض الضرائب وبخس الأعمال، والاضطهاد الديني، ومساوئ ديوان التحقيق، هذه الأرواح التي قابلت حكومة ضعيفة التدبير، حتى أنه أضحى من المحتوم أن يتخذ هذا الإجراء الشاذ المتطرّف".
"إن المؤرخين والساسة الذين دافعوا عن نفي الموريسكيين، بعضهم للدفاع عن أخطاء هذه المدرسة، وبعضهم لكي يشيد بالعمل الرائع، إنما يدافعون عن أمور سيئة، أو يرغبون في أن يضعوا السياسة والسلطة فوق رأس
_______
(1) D. Florecio Janer: Condicion Sociad de Los Moriscos de Espana (Madrid 1853) . P. 100-101.(2/414)
الأمة، وهم في تسويغ مثل هذا الإجراء، لم يراعوا إلاّ ضرورة الساعة. وإذا فرضنا جدلاً ضرورته للسياسة باسم السلام والسكينة العامة، وهي التي اتخذت لتسويغ كثير من الأخطاء، بل كثير من الجرائم، فإنا لا نستطيع أن ننسى أن هذا الموقف المحزن، قد خلقته أخطاء السلطة التي واجهت تلك المشكلة القاسية، ورأت أن تقصي الموريسكيين عن إسبانيا، لأنها شعرت أنها عاجزة عن إخماد ثوراتهم المستمرة".
"إن فقد هذه السواعد في الأعمال الزراعية، وفي كثير من الفنون والأعمال، والازدهار الذي كان الإسبان يضمرونه لهذه الطائفة ولنشاطها، والسرعة التي وقعت بها هذه الخسارة، وعدم تحوّط الحكومة، التي لم تحاول بأية وسيلة أن تعوض عن نشاطها، وزيادة الضرائب وغيرها من المغارم التي أضحى عبؤها يقع فقط على عاتق الشعب الإسباني، لكي يعوّض ذلك ما خسرته الدولة مما كان يؤديه الموريسكيون؛ هذه ربما كانت الأسباب السريعة للبؤس العام".
"ولقد قام بعض المؤرخين ببحوث مدهشة لتقدير عدد المنفيين، ونحن لا نجاريهم في ذلك، إذ يبدو لنا العدد أمراً لا أهمية له. وسواء كان المنفيون كثرة أو قلة، فقد كانوا هم الوحيدين الذين يعملون، وقد أحدث خروجهم من المملكة اضطراباً خطيراً".
"يمثل هذا العوامل، وصل البؤس الداخلي في المملكة إلى حدّ لا يمكن تصوّره، ولا تمكن مقارنته، هذا بينما كان البلاط يغرق في الحفلات الشائقة، وينسب إلى فيليب الرابع ما كان يمكن صدوره من فيليب الثاني أو شارل الخامس" (1).
ويرى العلامة مننديث بلايو ( MENENDEX PELAYO) ، وهو من أعظم المفكرين، والنقدة الإسبان المحدثين، أن نفي الموريسكيين كان نتيجة
_______
(1) D. Felipe Picatost: Estudios Sobere la Granadez Y de cadencia de Espana (Madrid 1887) . P. 101-102.(2/415)
محتومة لسير التاريخ، ويشرح في كتابه عن: (الخوارج الإسبان) على النحو الآتي: "ولنقل الآن رأينا في مسألة النفي، بكل وضوح وإخلاص، وذلك بالرغم من أنه يستطيع أن يتكهن به مَن تتبع القصة السابقة، بروية وبلا تحيّز. ولن أتردد بالجهر به، وإن كان من المؤسف أن يكون ثمة ما أخّر إبداءه. فهل كان من الممكن أن يقوم الدين الإسلامي بيننا في القرن السادس عشر؟ من الواضح أن لا، بل ولا يمكن أن يكون ذلك الآن في أي جزء من أوروبا. فكيف يستسيغ وجوده في تركيا أولئك الإنسانيون الأجانب الذين يصفوننا بالبربرية لأننا قمنا بإجراء النفي؟ وإنهم لأسوأ مائة مرة من المسلمين الخلّص، مهما كان دينهم عائقاً لكل تمدّن، أولئك النصارى المنافقون، والمرتدون المارقون، الذين لم يحسن إخضاعهم، وأولئك الإسبان الأوغاد الأعداء الداخليون خميرة كل غزو أجنبي، الجنس الذي لا يقبل الاندماج، كما أثبتت ذلك التجارب المحزنة مدى قرن ونصف، فهل يعتبر ذلك تسويغاً للذين مزّقوا عهود غرناطة، أو لأولئك الثوار الذين أضرموا الهياج في بلنسية، ونصروا الموريسكيين بصورة منافية للدين؟ كلا على الاطلاق. بيد أنه وقد سادت الأمور منذ البداية على هذا النحو، فإنه لم يكن من الممكن أن تكون ثمة نتيجة أخرى، فقد كانت الأحقاد والشكوك المتبادلة تضطرم باستمرار بين النصارى القدامى والمحدثين، وقد لطخت بقاع البشرّات بالدماء غير مرة، وفقد الأمل في تحقيق التنصير بالوسائل السليمة، وذلك بالرغم من تسامح ديوان التحقيق (كذا!!) والغيرة الطيبة التي أبداها رجال مثل تلافيرا، وفيلانيفا، وربيرا، وإذاً فلم يك ثمة محيص من النفي. وأكرر أن فيليب الثاني قد أخطأ في كونه لم ينفذه في الوقت المناسب. وإنه لمن الحمق أن نعتقد أن الصراع من أجل البقاء، والمعارك والمذابح بين الأجناس، تنتهي بصورة أخرى غير النفي أو الفناء، ذلك أن الجنس الأدنى ينهار دائماً، ويفوز بالنصر مبدأ القومية الأقوى".
"وأما أن النفي كان حدثاً مقوِّضاً، فهذا ما لا ننكره، فإنه من المقرر أنه في(2/416)
العالم يمتزج الخير والشر دائماً، وخسارة مليون بأسره من الناس، لم تكن هي السبب الأساسي في إقفار بلادنا من السكان، وإن كان لها أثر في ذلك. وبعد، فإن ذلك يجب ألاّ يُعدّ إلاّ كإحدى قطرات الماء في جانب نفي يهود، واستعمار أمريكا، والحروب الخارجية في مائة مكان معاً، وعدد الجند النظاميين الضخم، وهي أسباب نوّه بها كلها بإيجاز اقتصاديونا القدامى، ومنهم مَن لم يتردد كالحبر فرديناند نفاريتي في نقد نفي الموريسكيين بعد وقوعه بأعوام قليلة، وما كانت، بل وليست الأجزاء المقفرة من السكان في إسبانيا، هي التي تركها العرب، كما أنها ليست أسوأ زراعة، وهو ما يدل على أن الخسارة التي لحقت بالزراعة من جراء نفي كبار الزراع المسلمين، لم تكن عميقة أو باقية الأثر، كما قد يتبادر إلى الذهن لو أننا وقفنا فقط عند عويل أولئك الذين تأملوا الحقول المروية غداة تنفيذ أوامر النفي. ونحن أبعد من أن نعتقد مع الشاعر الساذج الشيوعي نوعاً حسبار دى أجيلار، أنه لم يخسر بالنفي سوى السادة الذين فقدوا أتباعهم المسلمين، وأن الكثرة من الناس قد غنمت وغدا:
الأغنياء فقراء، والفقراء أغنياء
والصغار كبارا، والكبار صغارا
"ذلك أن مثل هذه النظريات، وإن أملاها الإخلاص والحماسة الشعبية، اللذان يضطرم بهما الشاعر، ليست إلاّ من أسخف وأضل ضروب الاقتصاد السياسي. ذلك أن مملكة بلنسية كلها كان لزاماً أن تخسر، وقد خسرت برحيل مثل هذا العدد الجم من عمال مهرة هادئين مثابرين، وقد كانوا حسبما يصفهم السكرتير فرنسيسكو أدياكيث: "يكفون وحدهم لإحداث الخصب والرخاء في سائر الأرض، لبراعتهم في الزراعة، وقناعتهم في الطعام". هذا بينما يصف هذا السكرتير النصارى القدماء بقوله: "إنهم قليلوا الخبرة في الزراعة". على أنه من المحقق أنهم تعلموا، وأن بلنسية قد عمرت فيما بعد، وأن سائر الطرق الزراعية ونُظم الري البديعة، - التي ربما كان من الخطأ أن(2/417)
تنسب إلى العرب وحدهم - قد أحييت في هذه المناطق حتى يومنا، وإذا كان تدهور الزراعة مما لا ينكر، ولعله مبالغ فيه، فإن تأثر الصناعة كان أقل. ذلك لأن الصناعة كانت قبل ذلك بنصف قرن قد أصيبت باضمحلال واضح، وكذلك لأن الصناعات الرئيسة، إذا استثنينا الورق والحرير، لم تكن في أيدي الموريسكيين، وقد كانوا دائما عمالاً أكثر منهم صناعاً. فإذا قيل مثلاً: إن المناسج التي بلغ عددها من قبل في إشبيلية ستة عشر ألفاً، لم يبق منها في عهد فيليب الخامس سوى ثلاثمائة، ونسب ذلك كله إلى واقعة النفي، فإن أصحاب هذا القول ينسون أنه لم يكن في إشبيلية أحد من الموريسكيين، وأن هذه المصانع كانت قد تركت قبل النفي بخمسين عاماً، كأنما آثر أجدادنا أن يحققوا الثراء بالحرب في إيطاليا وبلاد الفلاندر، وبغزو أمريكا، وكأنهم كانوا ينظرون باحتقار سخيف مؤسف للفنون والأعمال الصناعية. إن اكتشاف العالم الجديد، والثروات التي كانت تتدفق من هناك، فتثير الجشع، وتذكي أطماعاً يسهل تحقيقها. ذلك هو السبب الحقيقي الذي أسكت مناسجنا وأمحل زراعتنا، وجعل منا أول طائفة من المغامرين المحظوظين، ثم بعد ذلك شعباً من الأشراف المتسولين، وانه لمن المضحك أن ننسب إلى سبب واحد، ربما كان أقل الأسباب، ما كان نتيجة لأخطاء اقتصادية يعسر علينا أن نتبين علاقتها بالتعصب الديني".
"والخلاصة، أنه متى تدبّرنا المزايا والمضار، فإننا ننظر إلى إجراء النفي العظيم، بنفس الحماسة التي امتدحه بها لوبي دى فيجا وثرفانتس، وكل إسبانيا في القرن السابع عشر، باعتباره ظفراً لوحدة الجنس ووحدة الدين واللغة والتقاليد. أما الأضرار المادية، فقد شفاها الزمن، وقد استحال ما كان صحراء بلقع قاتمة، إلى مهاد خصبة وحدائق غناء. وأما الذي لا يشفى، وأما الذي يترك دائماً الأحقاد الدموية الأبدية، فهي جرائم تشبه جرائم الوندال. ولما هدأت آثار النفي، أضحى النفي ليس فقط إجراء محموداً، بل كذلك إجراء ضرورياً. ولم يكن ميسوراً أن تحل العقدة، فكان لابد من قطعها،(2/418)
ومثل هذه النتائج تقترن دائماً بالانقلابات المفروضة" (1).
ومن الواضح أن هذا الدفاع عن النفي، يصدر عن تعصب أعمى، ومع ذلك لم يستطع أن يحجب أضرار النفي على إسبانيا فيما كتب، ولو أنه اعترف بذلك في ثنايا رده المتهافت بصورة غير مباشرة.
ويعلّق الدكتور لي، وهو من أحدث الباحثين في هذا الموضوع، على آراء المفكرين والمؤرخين الإسبان بقوله: "إذا كان نفي الموريسكيين، كما يقول مننديث إى بلايو، نتيجة محتومة لقانون تاريخي، وإذا كان قد غدا ضرورة في عهد فيليب الثالث، فقد كانت ضرورة مصطنعة، خلقها تعصب القرن السادس عشر، وإذا كان وجود المدجّنين منذ أيام ملوك ليون وقشتالة وأراغون في الأراضي الإسبانية، من الأمور المأمونة، وذلك في الوقت الذي كان فيه زعماء إسبانيا النصرانية يشغلون بحروب أهلية مضطرمة، ويواجهون دول العرب والمرابطين والموحدين القوية، وإذا كان في وسع الملوك النصارى في هذه العصور المضطربة أن يركنوا إلى ولاء رعاياهم المسلمين أثناء الحرب، وأن يفيدوا من نشاطهم أثناء السلم، فإن الضرورة السياسية للوحدة الدينية، بعد أن غدت إسبانيا دولة قوية موحدة، وغدا المسلمون طوائف ممزقة، لم تكن بلا ريب سوى ضرب من الخيال المغرق الذي يخلقه التعصب. وقد كان هذا التعصب نتيجة لتعاليم الكنيسة المستمرة، وهي التعاليم التي اعتنقتها إسبانيا مذ غدت قوة عالمية. وما إن انحدرت إسبانيا إلى طريق التعصب، حتى دفعه توقد المزاج الإسباني إلى نهايته المحتومة باكتمال لا نظير له. ولما قضت غطرسة الكاردينال خمنيس العنيفة على ثقة المسلمين في عدالة إسبانيا وشرفها، اتخذت الطريق الخطوة المحتومة في طريق لم تكن له سوى نهاية واحدة ... ولقد كان الموريسكيون بالضرورة أعداء في الداخل، حملوا بكل وسيلة على بغض دين فرض عليهم بالقوة،
_______
(1) M. Menendez Y Pelayo: Historia de Los Heterodoxes Espanoles. P. 339-343.(2/419)
وتبلورت مثله في الظلم والاضطهاد وفظائع ديوان التحقيق، وكان من المستحيل في ظل المؤثرات الدينية، التي غلبت على السياسة الإسبانية، أن يعامل الموريسكيين بالرفق والتسامح، وبها فقط كان يمكن العمل على إرضائهم، وتحقيق رخائهم وبث محبّة النصرانية في قلوبهم. وقد كانت كل محاولة لتلطيف الموقف، تزيده سوءاً حتى غدوا إغراء لاتصال كل عدو من الخارج، ومثاراً دائماً لجزع السياسة الإسبانية. فلما اضمحلت قوة إسبانيا، وفقد حكامها الثقة بالنفس، لم يكن ثمة بدّ من أن يتوجّ قرن من الغدر والظلم، بالنفي والإبعاد. وقلما يقدّم لنا التاريخ مثلاً كوفئت فيه السيئة بأمثالها، وطمت كوارثه، كذلك الذي ترتب على جهود الكاردينال خمنيس بما يطبعها من تعصب مضطرم".
ثم يقول: " على أنه مهما كان من فداحة الضربة، فقد كان من الميسور تداركها بسرعة، لو أن إسبانيا كانت تملك الحيوية القوية، التي مكّنت أمماً أخرى من أن تنهض من كوارث أشدّ. إن انحلال إسبانيا لا يرجع فقط إلى خسارتها لجزء من السكان، بنفي اليهود والعرب المتنصرين، فقد كان من المستطاع أن تعوّض هذه الخسارة، ولكن الخطب يرجع إلى أن اليهود والعرب المتنصرين، كانوا من الناحية الاقتصادية أقيم عنصرين بين سكانها، وكان نشاطهم معيناً لحياة الآخرين، وبينما كانت أمم أوروبا الأخرى تنهض وتسير إلى الأمام في مضمار التقدم، كانت إسبانيا وشعارها أن تضحي بكل شيء في سبيل الوحدة الدينية، تنحدر سراعاً إلى غمر البؤس والشقاء، وتغدو جنّة للأحبار والقساوسة، وعمال ديوان التحقيق، تخمد فيها كل نزعة إلى الرقي العقلي، وتقطع فيها كل صلة مع العالم الخارجي، ويشل فيها كل جهد يبذل في سبيل التقدم المادي. وقد كان من العبث أن تنهمر ثروات العالم الجديد إلى أيدي شعب لا تقل مواهبه الطبيعية عن أي شعب آخر، وإلى أرض كانت مواردها عظيمة، مثلما كانت حينما جعلتها براعة العرب ونشاطهم في طليعة الأمم الأوربية ازدهاراً. ومهما كانت قيمة الخدمات التي(2/420)
أدتها إيزابيلا الكاثوليكية والكاردينال خمنيس، فإن السيء في عملهما يفوق الحسن، لأنهما علّما الأمة أن الوحدة الدينية هي أول غاية يجب تحقيقها، وقد ضحّت في سبيل هذه الغاية برخائها المادي ورقيها العقلي" (1).
وأخيراً يجمل الدكتور لي خلاصة بحثه المستفيض في مأساة الموريسكيين في هذه العبارة الموجزة القوية: "إن تاريخ الموريسكيين لا يتضمّن فقط مأساة تثير أبلغ عطف، ولكنه أيضاً خلاصة لجميع الأخطاء والأهواء التي اتحدت لتنحدر بإسبانيا في زهاء قرن من عظمتها أيام شارل الخامس إلى ذلّتها في عصر شارل الثاني" (2).
ويقول سكوت: "لقد كانت نتائج هذه الجريمة التي ارتكبت ضد الحضارة، سواء البعيد منها والمباشر، ضربة لإسبانيا. فقد عصفت بموارد عيشها، ودفع بها القحط إلى الخراب، وأضحى من الضرورة أن تمدّ الحكومة يد الغوث إلى كثير من الأسر النبيلة، التي أودى بثروتها تصرف العرش الانتحاري، وخيّم الصمت والوجوم على مناطق شاسعة، كان يغمرها الخصب الأخضر، وظهر اللصوص والخوارج على القانون، مكان الزراع والصناع، وحل الجزاء المروّع عقب مأساة لم تقدم على مثلها لحسن الطالع أية أمة أخرى، مأساة أنزلت منذ وقوعها بالأمة التي ارتكبت فظائعها، كل صنوف الدمار والويل حتى الجيل الأخير" (3).
ويمكن تلخيص رأي النقد الإسباني المعاصر، بما سمعه الأستاذ محمد عبد الله عنان من الأستاذ مننديث بيدال الذي نقلنا رأيه فيما سلف، وهو من أعظم المؤرخين والنقدة الإسبان في هذا العصر، فقد حدّثه الأستاذ عنان في مدريد عن قضية الموريسكيين ونفيهم، فقال: "لاريب أن إسبانيا قد منيت من جراء نفي الموريسكيين بخسارة مادية، لأنها خسرت بإخراجهم شعباً مجداً
_______
(1) Dr Lea: The Moriscos; P. 395-397 and 399-401.
(2) Dr Lea: The Moriscos ; P. V.
(3) Scott: the Moorish Empire in Europe; V. 111. P. 328.(2/421)
عاملاً بارعاً في الزراعة والصناعة، ولكن الواقع أن حركة الإنقلاب البروتستانتي حملت إسبانيا على أن تتبع من جانبها سياسة كاثوليكية شديدة، وكان من جراء ذلك أن اشتدت في معاملة الموريسكيين، ويمكن أن نصف هذه السياسة بأنها كانت عنيفة مغرقة".
"ولم يكن نفي الموريسكيين خطوة موفقة، وكانت أيضاً من آثار الرجعية الكاثوليكية، وما كان ملك قوي مثل فيليب الثاني ليقدم على اتخاذ مثل هذه الخطوة، ولكن ولده فيليب الثالث كان ملكاً ضعيفاً يعوزه الذكاء والحصافة. وقد غلبت السياسة الدينية والكنسية في هذه المسألة. ويبدو خطأ هذه السياسة - بالأخص من الناحية العنصرية - فإن العلامة ربيرا يعتقد مثلاً أن الموريسكيين كان نصفهم على الأقل من الإسبان الخلّص الذين اتخذوا الإسلام في عهود مختلفة، ثم أرغموا على التنصير بعد سقوط غرناطة، وصاروا موريسكيين".
ويسلم الأستاذ بيدال بأن نفي الموريسكيين كان من عوامل انحلال إسبانيا، ولكنه يرى من المبالغة أن يقال: إنه السبب الرئيسي لهذا الانحلال، ثم يقول: "والواقع إن هذه مسألة معقدة، وأعتقد أن من أهم أسباب انحلال إسبانيا، عنف السياسة الكنسية المناهضة لحركة الإصلاح الديني - البروتستانتية - وهو عنف لم يقع مثله في أي بلد أوروبي آخر، بل انفردت به إسبانيا والكنيسة الإسبانية" (1).
ويبدي دى مارليس الذى اتخذ مؤلف كوندي أساساً لكتابه عن (تاريخ دولة المسلمين في إسبانيا والبرتغال) حماسة في تقدير تراث الأمة الأندلسية وما أصاب إسبانيا من جراء القضاء عليها، ويعلق في خاتمة تاريخه على مأساة الموريسكيين في تلك العبارات الشعرية المؤثرة: "وهكذا اختفى من الأرض الإسبانية إلى الأبد، ذلك الشعب الباسل اليقظ الذكي المستنير، الذي
_______
(1) نهاية الأندلس (412).(2/422)
أحيا بهمته وجدّه تلك الأراضي التي أسلمتها كبرياء القوط الخاملة إلى الجدب، فدرّ عليها الرخاء والفيض، واحتفر لها العديد من القنوات، ذلك الشعب الذي أحاطت شجاعته الفياضة في أيام الرخاء والشدة معاً، عرش الخلفاء بسياج من البأس، والذي أقامت عبقريته بالمران والتقدم والدرس، في مدنه صرحاً خالداً من الأنوار، الذي كان ضوؤها المنبعث ينير أوروبا، ويبث فيها شغف العلم والعرفان، والذي كان روحه الشّهم يطبع كل أعماله بطابع لا نظير له من العظمة والنبل، ويسبغ عليه في نظر الخلف، لوناً غامضاً من العظمة الخارقة، ودهاناً سحرياً من البطولة، يذكرنا بعصور هومير السحرية، ويقدّم لنا فهم أنصاف الآلهة اليونان".
"ولكن شيئاً لا يدوم في هذا العالم، فإن هذا الشعب قاهر القوط، الذي كان يبدو أنه صائر خلال القرون، إلى أقصى الأجيال، قد ذهب ذهاب الأشباح، وعبثاً يسائل اليوم السائح الفريد قفار الأندلس المحزنة، التي كان يعمرها من قبل شعب غني منعَّم. ظهر العرب فجأة في إسبانيا كالقبس الذي يشق عباب الهواء بضوئه، وينشر لهبه في جنبات الأفق، ثم يفيض سريعاً في عالم العدم، ظهروا في إسبانيا، فملؤوها فجأة بنشاطهم وثمار براعتهم، وأظلها كوكب من المجد شملها من البرنية إلى صخرة طارق، ومن المحيط إلى شاطئ برشلونة، ولكن.(2/423)
أسباب انهيار الفردوس المفقود
هناك أساب لانهيار الفردوس المفقود نحاول إجمالها، وقد أغفل المؤرخون المحدثون بخاصة ذكر هذه الأسباب لأن الذين كتبوا عن الأندلس أكثرهم من الغربيين الذين لا يذكرون الأثر المهم في فتح الأندلس وانهيارها.
والمؤرخون العرب المحدثون ساروا على منوال المؤرخين الأجانب، ولكن المؤرخين القُدامى من المسلمين ذكروا أسباب انهيار الأندلس بشكل غير مباشر، أي أنّ هذه الأسباب وردت في خضمّ السرد الطويل، فمثلاً كتاب (نفح الطيب) للمقري، تطرق إلى هذه الأسباب ولكن في مجال سرد الحوادث، والذي يريد اكتشاف هذه الأسباب عليه أن يقرأ ذلك الكتاب الضخم بأجزائه الكثيرة، وهذا ليس متيسّراً إما لضيق الوقت عند بعض الناس أو لصعوبة قراءة هذا الكتاب الضخم والانتباه إلى أسباب سقوط الأندلس.
وقد لجأت إلى كثير من المؤرخين المعروفين من أساتذة الجامعات والمختصين لكي أجد لديهم أسباب سقوط الأندلس، فلم أحظ بجوابٍ شافٍ بالرغم من كثرة مَن استفسرت منهم، لذلك سأحاول إيجاز هذه الأسباب لتكون دروساً للمسلمين في حاضرهم ومستقبلهم، لأنني أعتقد أن أهمية التاريخ تكمن في العبرة من دراسته، لا في الاستمتاع به كحوادث وقصص وأحداث.
لقد فتح المسلمون الأندلس حين كانوا يتمتعون بعقيدتهم التي قادتهم إلى النصر، فلما تخلّوا عن هذه العقيدة تخلّى عنهم النصر وأصبح نصيبهم الهزائم. لقد كان قائد فتح الأندلس (طارق بن زياد) بربرياً، يقود جيشاً من العرب ومن البربر، يسود بينهم الانسجام الروحي والنفسي لأنه يسيطر عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا فرق بين عربي وأعجمي إلاّ بالتقوى" وكما جاء في القرآن الكريم ((*إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ*)).(2/424)
وبعد أن جعل الفاتحون الدين وراءهم ظِهريّاً وفرّقوا بين الناس - المسلمين - بالجنس والمال والمناصب، أصبحوا ضعفاء في كل مكان.
كانت تسيطر على البلاد العربية إمبراطوريتان عظيمتان، الإمبراطورية الساسانية التي كانت تسيطر على العراق والمشرق، والإمبراطورية البيزنطية المسيطرة على سورية ولبنان وشرقي الأردن وفلسطين ومصر وشمالي إفريقية، ومع سعة أملاك هاتين الإمبراطوريتين وعظمة مظاهرهما، وطول مدة حكمهما، إلاّ أنه كان فيهما الكثير من عوامل الضعف والانحلال. من هذه العوامل: ضعف العقيدة، واختلال النظام، ونقص القيادة، وعواقب الترف وتفرق الآراء .. ولكن البلاء الأكبر إنما حاق بتلك الإمبراطوريتين من آفة الغرور الباطل والاستخفاف بالخصم المقاتل ... ! فكانت دولة الفرس لا تنظر إلى البادية العربية إلاّ نظرة السيّد المبجّل إلى الغوغاء المهازيل ... !، الذين يحتاجون إما إلى العطاء وإما إلى التهذيب. لقد كانت عوامل الفناء قد اصطلحت على هدم الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية قبيل الإسلام وأيام الفتح الإسلامي.
ولكن العوامل التي قضت على الفرس والروم بالهزيمة - كائنة ما كانت - ليست هي العوامل التي قضت للعرب المسلمين بقيام دولة، وانتشار عقيدة، لأنّ استحقاق دول للزّوال لا ينشئ لغيرها حق الظهور والبقاء.
كذلك لم يكن انتصار العرب على الفرس والروم لأنهم عرب وكفى ... ! فقد كان في أرض هاتين الدولتين عرب كثيرون يدينون لهما بالطاعة، وينظرون إليهما نظرة الإكبار والمهابة، وكان القادرون منهم على القتال أوفر من مقاتلة المسلمين وأمضى سلاحاً، وأقرب إلى ساحات القتال من أولئك النازحين إليها من الجزيرة العربية.
وقد كان هناك عرب كثيرون انهزموا أمام المسلمين وهم كذلك أوفر في العدد والسلاح، وأغنى بالخيل والإبل والأموال.
بل إنّ الفئة القليلة من العرب المسلمين انتصروا على الفئة الكثيرة من(2/425)
العرب غير المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ومَن بعده في أيام الرِّدّة وأيام الفتح الأول في عهد الخليفة الراشد أبي بكر الصديق ومَن بعده من الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين، فهي نصرة عقيدة لا مراء. ولكن القول بانتصار العقيدة هنا لا يغني عن كل قول، فالواقع أن الذين انتصروا بالعقيدة كانوا رجالاً أولي خبرة وقدرة يؤمنون بها ويعرفون كيف يتغلبون بها على أعدائهم؛ عقيدة منشئة يذود عنها حماة قادرون.
ْكان العرب قبل الإسلام ماهرين في حروب العصابات، ماهرين في استخدام السلاح والفروسية، لهم قابلية ممتازة على الحركة من مكان لآخر بسهولة وسرعة، وبأقل تكاليف إدارية، ولكنهم كانوا متفرقين، بأسهم بينهم شديد، لهذا كانت خبرتهم الحربية وشجاعتهم الفطرية تذهب عبثاً في الغارات والمناوشات المحليّة.
فلما جاء الإسلام، وحّد عقيدتهم، ونظّم صفوفهم، وغرس فيهم روح الضبط والطّاعة، وطهّر نفوسهم، ونقّى أرواحهم، وأشاع بينهم انسجاماً فكرياً، فأصبحت قوتهم المبعثرة وجهودهم المضاعة قبل الإسلام تعمل بنظام دقيق وضبط متين بعد الإسلام بقيادة واحدة لهدف واحد، وأصبح المؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها إخوة يتحابون بنور الله ويهتدون بهديه، وهم أمة واحدة تحيتها السلام ورايتها السلام، ودينها الإسلام.
كما دفعت هذه العقيدة إلى نفوس المسلمين جميعاً حمية سمت بهم إلى الإيمان بأنهم لا غالب لهم من دون الله، وحبّبت إليهم الاستشهاد في سبيل الحق، وجعلتهم يرون هذا الاستشهاد نصراً دونه كل نصر، كما بعثت فيهم روح الاعتزاز بالنفس، والشعور بأن عليهم رسالة واجبة الأداء للعالم. كما غرست هذه العقيدة في نفوس المسلمين الإيمان المطلق بالقضاء والقدر، لذلك استهانوا بالموت، وأقدموا عليه فرحين مستبشرين.
إنّ مجمل عوامل انتصار الفاتحين المسلمين هي نشاط العرب ومثلهم البربر وخفّة أثقالهم، وشجاعتهم، وحسن تدريبهم على أسلحتهم، ومهارتهم في(2/426)
الفروسية، واكتفاؤهم الذاتي بأبسط القضايا الإدارية وأقلها، وقابليتهم الممتازة على تطوير أساليب قتالهم، وحفظ خطّ رجعتهم، فهم لذلك جنود ممتازون.
وتيسر قادة أكفاء قادرون على قيادة رجالهم بحزم وجدارة، وانتشار العقيدة الإسلامية بين صفوفهم، وما كانت عليه أحوال الدّول التي فتحوها من اعتلال واختلال، كما أن تسامح المسلمين ونشرهم العدل، وتركهم البلاد المفتوحة على ما هي عليه من دين ومعاملات.
لقد انتصر المسلمون أولاً وقبل كل شيء بعقيدتهم المنشّئة البناءة التي حملها إلى الناس حماة قادرون قادة وجنوداً.
وحين جاء الفاتحون المسلمون للأندلس كانا الحكم فيها ضعيفاً، وكان من بين المسيطرين مَن استعان بالمسلمين على أهل بلاده، ودار الزمن دورته، فأصبح المسلمون متفرقين، يستعين الأخ على أخيه بالأجنبي، كما أنّ المسلم الذي أهمل عقيدته أصبح مشغولاً بالترف والمال، لذلك تخلخلت نخوتهم، وأصبحوا مسلمين جغرافيين، لا مسلمين حقيقيين.
فتح المسلمون الأندلس حين كانت عقيدتهم (عبادة)، فلما تخلّوا عن عقيدتهم وأهملوها، وأصبحت عندهم (عادة)، لذلك سهل عليهم التفريط في بلادهم، والاستعانة بالأجنبيّ على أبناء دينهم، ولعل خير شاهد على ما نقوله ما سجّله (ابن حزم الأندلسي) - وهو من أوثق مؤرخي الأندلس - قال في كتابه، نَقَط العروس - واصفاً عصر ملوك الطوائف -: "لقد شغل عصر الطوائف من حياة الأمة في تحطيم الأخلاق واختلاط الحق بالباطل، والحلال بالحرام" وكل ذلك يجمله ابن حزم في كلمة واحدة، هي المحنة أو الفتنة، ثم يصوّر لنا المحنة أو الفتنة في كلمات قليلة، ولكنها قوية ورائعة، فيصف ابن حزم في (رسالة التلخيص في وجوه التخليص) فيقول: "وأما ما سألت من أمر هذه الفتنة وملابسة الناس بها مع ما ظهر من تربص بعضهم ببعض، فهذا أمر امْتُحِنَّا به، نسأل الله السلامة وهي فتنة سواء، أهلكت الأديان إلاّ مَن وقى الله من وجوه(2/427)
كثيرة يطول لها الخطاب، وعمدة ذلك أن كل مدبّر مدينة أو حصن في أندلسنا هذه، أولها عن آخرها، محارب لله تعالى ورسوله، وساعٍ في الأرض لفساد، والذي ترونه عياناً من شنّهم الغارات على أبناء المسلمين من الرعيّة التي تكون في ملك مَن ضارّهم، وإباحتهم لجندهم قطع الطريق على الجهة التي يقضون على أهلها، وأنهم ضاربون للمكوس والجزية على رقاب المسلمين، مسلطون لليهود على القوارع طرق المسلمين في أخذ الجزية، والضريبة من أهل الإسلام، معتذرين بضرورة لا تبيح ما حرّم الله، غرضهم فيها استدامة نفاذ أمرهم ونهيهم، فلا تغافلوا أنفسكم، ولا يغرنكم الفسّاق والمنتسبون إلى الفقه، اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المزيّنون لأهل الشرّ شرّهم، الناصرون لهم على فسقهم"، وقد كان الفقهاء في الواقع في هذا العصر الذي ساد فيه الانحلال والفوضى الأخلاقية والاجتماعية أكبر عضد لأمراء الطوائف، في تصويغ طغيانهم وظلمهم وتزكية تصرفاتهم الجائرة وابتزازهم لأموال الرعيّة، فقد كانوا "يأكلون على كل مائدة، ويتقلبون في خدمة كل قصر، ليحرزوا النفوذ والمال ويضعون خدماتهم الدينية والفقهية لتأييد الظلم والجور وخديعة الناس باسم الشرع، وقد انفسح لهم بالأخص في ظل الطوائف مجال العمل والدّسّ والاستغلال، واحتضنهم الأمراء الطغاة، وأغدقوا عليهم العطاء"، وقد فطن إلى ذلك إلى جانب ابن حزم قرينه ومعاصره المؤرخ (ابن حيّان) فحمل على الفقهاء ونوّه بصمتهم عن فضح الظلم الذي يرتكبه الأمراء لأنهم على حد قوله: "قد أصبحوا بين آكلٍ من حلوائهم وخابطٍ في أهوائهم" وينوّه ابن حزم باختلاط الحلال بالحرام في مجتمع الطوائف ثم يعود وهو بصدد الإجابة عن وجه السلام في المطعم والملبس والمكسب، وينوّه بما كان يسود مجتمع الطوائف من اختلاط الحرام بالحلال في جباية الضرائب ومجانبتها لحكم الشرع، وهي حالة يقدم لنا عنها الصورة التالية: "وأما الباب الثاني فهو باب قبول المتشابه، وهو في غير زمننا، هذا باب جديد لا يؤثم صاحبه ولا يؤجر، وليس على الناس أن يبحثوا عن أصول ما يحتاجون(2/428)
إليه من أقواتهم ومكاسبهم إذ كان الأغلب هو الحلال، وكان الحرام مغموراً، وأما في زماننا هذا وبلادنا هذه فإنما هو باب: أغلق عينيك واضرب بيديك ولك ما تخرجه، إما تمرة وإما جمرة، وإنما فرّقت بين زماننا هذا والزمان الذي قبله لأن الغارات في أيام الهدنة لم تكن غالبة ظاهرة كما هي اليوم، والمغارم التي كان يقبضها السلاطين إنما كانت على الأرضين خاصّة، وأما اليوم فهي جزية على رؤوس المسلمين يسمونها بالقطيعة، ويؤدونها مشاهرة، وضريبة على أموالهم من الغنم والدّوابّ والنّحل برسم على كل رأس وعلى كل خلية شيء ما، وقبالات ما يؤدّى على كل ما يباع في الأسواق، وعلى إباحة بيع الخمر من المسلمين في البلاد، هذا كل ما يقبضه المتغلبون، وهذا هتك الأستار، ونقض لشرائع الإسلام من شعوبهم عروة عروة، وإحداث دين جديد بعيد عن تعاليم الله". ويبلغ ابن حزم ذروة حملته على أمراء الطوائف - هذا وإن ابن حزم ليبلغ الذروة على أمراء الطوائف في تهاونهم في أحكام الدّين وما اتسموا به من تهاون في الدين والعقيدة حتى يقول: "والله لو علموا أن في عبادة الشيطان بقاؤهم لبادروا إليها، فيعتمدون على النصارى، ويمكنونهم بتدوين المسلمين، فيمكنونهم منهم ويحملونهم إسارهم، وربما أعطوهم المدن والقلاع فعمروا البلاد بالنواقيس".
ونستطيع أن نتصور مجتمع الطوائف منحلاّ انحلالاً شاملاً من الناحية الاجتماعية مستهتراً يتّسم بضعف الإيمان وجنوحهم إلى مخالفة تعاليم الدين الحنيف.
وابن حزم يدفع ملوك الطوائف ولا يستثني منهم أحداً بيد أن هذه الملاحظات التهكميّة اللاّذعة وأمثالها، تستحيل بعد ذلك عند ابن حزم إلى نظرات تحليلية عميقة لأحوال مجتمع الطوائف، وأحكام قاسية يصدرها على هذا المجتمع المستهتر التي تقضم أسسه عوامل الانحلال والتفكك المادي والأدبي، ويلتزم ابن حزم التعميم في نظراته وأحكامه، ولكنه صريح لا يلجأ إلى مداجاة أو توريةٍ، وهو يدمغ ملوك الطوائف لا يستثني منهم أحداً، وكان(2/429)
ابن حزم قد اصطدم بوزير غرناطة اليهودي، وقد وردت هذه الأحكام بالأخص في موضعين من رسائله:
الأول: في مستهل رسالته في الرّدّ على ابن التغريدي أو ابن نغرالة وزير غرناطة اليهودي، وإليك ما يقوله الفيلسوف في هذا الموضع: "اللَّهم إنا نشكو إليك تشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا بدنياهم عن إقامة دينهم، وبعمارة قصور يتركونها عمّا قريب عن عمارة شريعتهم اللازمة لهم في معادهم ودار قرارهم، وبجمع أموالهم، ربما كانت سبباً في انقراض أعمالهم وعوناً لأعدائهم عليهم عن حياطة ملتهم التي بها عزّوا في عاجلتهم وبها يرجون الفوز في آجلتهم، حتى استشرف لذلك أهل القلّة والذمّة، وانطلقت ألسنة أهل الكفر والشرك بما لو حقق النظر أرباب الدنيا لاهتمّوا بذلك ضعف همّنا، لأنهم مشاركون لنا من الامتعاض للديانة الزهراء، والحميّة للملّة الغراء، ثم هم بعد ذلك متردّدون بما يؤول إليه إهمال هذه الحال من فساد سياستهم، والقدح في رئاستهم فللأسباب أسباب، وللمداخلة إلى البلاد أبواب والله أعلم بالصواب".
من الواضح أن ابن حزم يقصد من كلامه أمراء الطوائف وهو هنا يركز اهتمامه حول رمي هؤلاء الأمراء بإهمال حياطة الدّين والذّود عنه، لمناسبة ما حدث من قيام (إسماعيل بن نغرالة) اليهودي، بتأليف رسالة في الإسلام، رأى فيها ابن حزم طعناً في بعض آيات القرآن، ورأى تقصير (باديس بن حبوس) أمير غرناطة في ردع وزيره وفي الدفاع عن الدين، بيد أنه لا يتّجه إلى ذكر باديس دون غيره، وإنما يتّجه إلى مخاطبة أمراء الطوائف جميعاً واتهامهم بنفس الاتهام المرّ، فهم جميعاً في نظره سواء في التقصير في حق دينهم، وفي الاشتغال عن صونه ببناء القصور والشؤون الفانية.
مما تقدّم من شهادة ابن حزم وهو مؤرخ ثبت وفقيه وفيلسوف وأديب أن ملوك الطوائف كانوا متفرقين، بأسهم بينهم شديد يستعينون بالعدو على إخوانهم المسلمين، ويستعينون بأعداء دينهم على أهل دينهم.(2/430)
والاستعانة بالأجنبي له خطورة عظيمة جداً، فهذا الأجنبي يطلع على عورات المسلمين، ويستطلع أرضهم، ويعرف نقاط الضعف فيهم، ويطّلع على اختلافاتهم، فهو يعرف بذلك مداخل المدن والحصون ونواقصها والأمكنة التي يمكن الاستيلاء عليها منها، كما يعرف تفرق كلمة المسلمين، وتشتّت قوتهم وصفوفهم، وأنهم أصبحوا أعداء بعضهم، وهم لا يقاومون كما ينبغي.
لذلك يمكن اعتبار مدة ملوك الطوائف هي المدة التي فتحت أبواب الأندلس للعدو المتربّص بهم، فلذلك كانت المدن الأندلسية العظيمة تتساقط بالتتابع، بينما يبقى المسلمون الآخرون متفرّجين غير متعاونين على صد العدو، وربّما أعان المسلم عدوه على أخيه المسلم، وما هكذا تورد يا سعد الإبل كما يقول المثل ... !
يمكن تلخيص أسباب سقوط الأندلس بما يلى:
1 - تهاون المسلمين في دينهم الذي قادهم للنصر المؤزّر.
2 - تعاون المسلمين مع أعدائهم.
3 - عدم تعاون المسلمين فيما بينهم في حرب أعدائهم.
4 - اهتمام المسلمين بالتّرف على الاهتمام بالتدريب العسكري.
5 - اهتمام المسلمين بالقصور والمال أضعاف اهتمامهم بالجهاد.
6 - ضعف قياداتهم العسكرية والدينيّة.
7 - تفرّق كلمة المسلمين وظهور الاختلاف العنصري والقبلي.
8 - التناحر والتنافس على السلطة.
9 - انتشار الاضطرابات الداخلية.
10 - تمكين أعداء المسلمين من رقاب المسلمين.
11 - تشتت المسلمين بالثورات الداخلية والاستعانة بالعدو على المسلمين.(2/431)
12 - اتحاد نصارى الإسبان مع نصارى أوربا وتحت إشراف البابا على كسر المسلمين وإخراجهم من الأندلس.
لقد كان المسلمون الفاتحون الأوّلون يعملون لقلوبهم فأصبح المسلمون الجغرافيون بعد ذلك يعملون لجيوبهم، ولن يكون العمل للجيوب غير الهزيمة والخسران، وما على المسلمين اليوم أن يتعلموه أن يكونوا من أصحاب القلوب لا من أصحاب الجيوب.
لم يكن هناك ارتباط قوي بين العناصر التي وفدت إلى الأندلس فالعرب كانوا في جانب، والبربر كانوا في جانب، والعرب ليسوا وحدة واحدة، وإنّما كانوا شيعاً وأحزاباً، وكذلك كان البربر. ثم نبعت عناصر إسلامية في الأندلس من الصقالبة ومن السكان الأصليّين، ولكل من هؤلاء وأولئك طابع واتجاهات، ويمكننا أن نقول بوجه مجمل:
إن الصّخب والاضطرابات والحروب بين هذه العناصر بدأ مبكّراً واستمرّ استمراراً متّصلاً ولم يهدأ إلا تحت ضغط القوة، وكان يهدأ ليبدأ ثورة عارمةً عندما تتوانى أو تضعف هذه القوّة.
وقد تيسّر القادة الأقوياء الذين سيطروا، ثم ضعف أولئك القادة وأصبحوا يهتمّون بأنفسهم أكثر من اهتمامهم بشعوبهم فكانت الكارثة.
لقد كان الشعب الأندلسي شعوباً جمعها الإسلام، فلما تخلّوا عنه أصبحوا أعداء متفرقين لا شعباً واحداً.(2/432)
فهرس الجزء الثاني
الموضوع ...................................................... الصفحة
السمح بن مالك الخولاني، فاتح شطر جنوبي فرنسة
- نسبه وأيامه الأولى ............................................... 5
- الفاتح ........................................................... 6
- الإنسان ......................................................... 10
- القائد ........................................................... 16
- السمح في التاريخ ................................................ 21
عبد العزيز بن موسى بن نصير
- نسبه وأيامه الأولى ................................................ 23
- الفاتح ............................................................ 28
- الإنسان .......................................................... 38
- القائد ............................................................ 45
- عبد العزيز في التاريخ ............................................. 52
عبد الأعلى بن موسى بن نصير
- نسبه وأيامه الأولى ................................................ 69
- الفاتح ............................................................ 57
- الإنسان القائد .................................................... 59
- عبد الأعلى في التاريخ ............................................ 63
عبد الله بن موسى بن نصير
- نسبه وأيامه الأولى ................................................ 64
- الفاتح ............................................................ 69
- الإنسان .......................................................... 76
- القائد ............................................................ 83
- عبد الله فى الماريخ ................................................. 87
جزيرتا ميورقة ومنورقة
1 ميورقة، منورقة ..................................................... 89
نهاية الألدلس
- مستهل .......................................................... 91
- مملكة غرناطة .................................................... 95
- نشأة مملكة غرناطة وقيام الدولة النصرية ......................... 101
طوانف الأندلسيين في عصر الانحلال
1 مملكة غرناطة وحدودها ........................................ 114
2 عناصر السكان ................................................ 115
3 المدجنون تاريخهم .............................................. 116
4 التكوين العنصري لسكان مملكة غرناطة ........................ 123
طبيعة الصراع بين الأندلس وإسبانيا النصرانية(2/433)
1 حرب الاسترداد ومولد مملكة غرناطة ............................. 125
2 طبيعة الصراع الإسلامي النصراني في الأندلس ..................... 128
مملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر
1 ولاية محمد الفقيه وأحداث أيامه .................................. 136
2 أبو عبد الله محمد الملقب بالمخلوع وأحداث أيامه ...... ........... 152
3 نصر بن محمد الفقيه وحوادث أيامه ............................... 155
مملكة غرناطة في النصف الأول من القرن الثامن الهجري
1 أبو الوليد إسماعيل وحوادث أيامه ................................. 158
2 أبو عبد الله محمد بن إسماعيل وحوادث أيامه ....................... 161
3 أبو الحجاج يوسف بن أبي الوليد وأحداث أيامه .................... 165
الأندلس بين المد والجزر
1 ولاية محمد الغني بالله وحوادث أيامه .............................. 173
2 يوسف أبو الحجاج وحوادث أيامه ................................ 181
3 محمد بن يوسف وحوادث أيامه ................................... 183
4 يوسف بن يوسف ................................................ 185
5 أبو عبد الله محمد الأيسر بن يوسف ............................... 187
6 السلطان يوسف الخامس وحوادث أيامه .......................... 194
نهاية دولة الإسلام في الأندلس
1 علي أبو الحسن وأحداث أيامه ................................... 200
2 أبو عبد الله محمد بن علي وأحداث أيامه ......................... 210
بداية النهاية
1 مع أبي عبد الله محمد ثانية ....................................... 222
الصراع الأخير
1 مع أبي عبد الله محمد أخيراً ...................................... 240
2 مفاوضات التسليم ومعاهدة التسليم ............................ 253
3 عاقبة الملك المتخاذل ........................................... 279
4 أبو عبد الله في المغرب ودفاعه عن نفسه ........................ 284
ثمرات المعاهدة الغادرة
1 مأساة الأندلس ونقص الروايات العربية عن المأساة .............. 293
2 التنصير وحرق الكتب العربية .................................. 295
3 ديوان التحقيق الإسباني ومهمته في إبادة الأمة الأندلسية ......... 313
4 ذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين ............................ 336
نهاية النهاية
1 توجس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية .... 365
2 مأساة النفي .................................................. 380
تأملات في آثار المأساة الأندلسية ................................. 398
أسباب انهيار الفردوس المفقود ................................... 424(2/434)