أما إنَّ هذا قاتلي. قيل له: فما يمنعك منه؟ قال: " إنه لم يقتلني بعد ". وأُتي علي فقيل له: إنَّ بن مُلجم يسُمُّ سيفه ويقول: إنَّه سيفتك فتكة تُحدِّث بها العرب. فبعث فيه وقال له: " لِمَ تَسُمُّ سيفك؟ " فقال: لعدوِّي وعدوَّك. فَخَلَّى عنه، وقال: " ما قَتَلَني بعد ".
وكان سبب قتل ابن مُلجم لعلي أنه خطب امرأة من بني عِجل بن لُجَيم يقال لها قَطام وقال المُبرَّد: إنها قطام بنت علقمة بن تَيم الرِّباب وكانت ترى رأي الخوارج. وكان عليٌّ قد قتل أباها وإخوتها بالنَّهروان، فلما تعاقد الخوارج على قتل علي وعمرو بن العاصي ومعاوية بن أبي سفيان خرج منهم ثلاثة نفر لذلك. وكان عبد الرحمن بن مُلجم المراديُّ حليفا لهم من تَجوبَ، وقيل من السَّكون من كِندة. وقيل من حِمْير هو الذي اشترط قتل علي منهم. والثاني الحجاج بن عبد الله: وهو البُرَكُ التَّميميُّ الصَّريميُّ اشترط قتل معاوية. والثالث زَاذَوَيهِ: مولى بن العنبر بن عمرو بن تميم. اشترط قتل عمرو بن العاصي. وتواعدوا أن يكون ذلك في ليلة واحدة، وهي ليلة سبع عشرة، وقيل: ثمان عشرة، وقيل: ليلة تسع عشرة من رمضان.
فدخل ابن مُلجم، لعنه الله، الكوفة عازما على ذلك، واشترى لذلك سيفا بألف، وسقاه السُّمَّ فيما زعموا حتى لفظه. وكان في خلال ذلك يأتي عليا، ويستحمله فيحمله. إلى أن وقعت عينه على قَطَام، وكانت امرأة رائعة جميلة، فأعجبته، وكانت معتكفة بالمسجد الأعظم بالكوفة، ووقعت بنفسه فخطبها فقالت: آليت أن لا أتزوج إلا على مهر لا أريد سواه فقال: وما هو؟ قالت: ثلاثة آلاف وعبد وقينَةٌ وقَتْلُ علي بن أبي طالب. فقال: والله قصدتُ لقتل(2/267)
علي بن أبي طالب والفَتكِ به، وما أقدمني إلى هذا المصر غير ذلك. ولكن لما رأيتك آثرت تزويجك. فقالت: ليس إلا الذي قلت. فقال لها: وما يُغنيك أو يُغني منك قتْلُ علي، وأنا أعلم إن قَتَلْتَهُ لم أفُتْ؟. فقالت: إن قتلته ونجوت فهو الذي أردت أن تبلغ شفاء نفسي، ويهنيك العيش معي. وإن قُتلت فما عند الله خير من الدنيا وما فيها. فقال لها: لكِ ما اشترطتِ.
وفي تزوُّج ابن مُلجم لقطام وما دار بينهما في قتل علي يقول شاعر الخوارج:
ولم أرَ مَهراً ساقَهُ ذو سَماحةٍ ... كمهرِ قَطامٍ من فَصيحٍ وأعجمِ
ثلاثةُ آلافٍ وعبدٌ وقَينةٌ ... وضربٌ عليٍّ بالحسامِ المصمِّمِ
فلا مهرَ أغلى من عليٍّ وإن غَلا ... ولا فَتْكَ إلا دونَ فتكِ ابن مُلجمِ
وقيل: إن عدوَّ الله ابن ملجم جلس مع شبيب بن بَجرَة الأشجعي بعد محاورة كانت بينهما في قتل علي قُبالة السدَّة التي يخرج منها علي إلى المسجد. فخرج علي إلى صلاة الصبح فبدره شبيب فضربه فأخطأه، وضربه عبد الرحمن بن ملجم على رأسه وقال: الحكم لله يا علي لا لك ولا لأصحابك. فقال علي: " فزْتُ وربِّ الكعبة. لا يفوتنَّكم الكلب ". فشدَّ عليه الناس من كلِّ ناحية. فلما همَّ الناس به حمل عليهم بسيفه، فأفرجوا له، فتلقَّاه المُغيرة بن نوفل ابن الحارث بن عبد المطلب بقطيفةٍ، فرمى بها عليه واحتمله، وضرب به(2/268)
الأرض، وقعد على صدره، وانتزع سيفه، وكان أيِّداً. ثم حمل ابن مُلجم، وحُبس حتى مات علي، رحمه الله، فقُتِل لا رحمه الله، ورحم الله عليا والمغيرة.
وقال عبد الله بن حبيب أبو عبد الرحمن السُّلميُّ: أتيت الحسن بن عليّ في قصر أبيه، وكان يقرأ عليَّ وذلك في اليوم الذي قُتل فيه علي. فقال لي أنه سمع أباه في ذلك السَّحر يقول له: " يا بُنيَّ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة في نومة نمتها. فقلتُ: يا رسول الله ماذا لقيت من أُمَّتك من الأودِ؟ فقال: ادعُ الله عليهم. فقال: اللهمَّ أبدلني بهم خيرا منهم، وابدلهم بي مَن هو شرٌّ منِّي ". ثم انتبه، وجاء مؤذنه بالصلاة، فخرج، فاعْتَوَره الرجلان. فأما أحدهما فوقعت ضربته في الطاق. وأما الآخر فضربه في رأسه. وذلك في صبيحة يوم الجمعة لسبعَ عشرة من رمضان، صبيحة بدر.
وروى أبو رؤوف عبد الله بن مالك قال: جُمع الأطباء إلى علي رضي الله عنه يوم جُرِح، وكان أبصرهم بالطِّبِّ أُثَيِّر بن عمرو السكونيُّ: وكان يُقال له: أثيِّر بن عُمَريَّا، وكان صاحب كرسي يتطبَّب. وهو الذي تُنسب إليه صحراء أثيِّر فأخذ أثير رئة شاة، فتتبَّع عرقا منها، فاستخرجه وأدخله في جراحة عليٍّ، ثم نفخ العرق فاستخرجه فإذا عليه بياض، وإذا الضربة قد وصلت إلى أمَّ رأسه. فقال: يا أمير المؤمنين أعهد عهدك، فإنك ميِّت. وفي ذلك يقول عمران بن حَطَّان الخارجيُّ:
يا ضَربةً من تَقيٍّ ما أرادَ بها ... إلا ليبلُغَ مِن ذي العرشِ رضْوانا
إني لأذكرُهُ حيناً فأحسِبُهُ ... أوفَى البريَّةِ عندَ اللهِ مِيزاناً(2/269)
كَذَبَ أبعده الله. وقال بكر بن حماد التاهرتيُّ مناهضا له:
قُل لابنِ مُلجمٍ والأقدارُ غالبةٌ ... هدمتَ ويلكَ للإسلامِ أركانا
قَتلتَ أفضلَ مَن يمشي على قدمٍ ... وأوَّل النس إسلاماً وإيمانا
وأعلمَ الناس بالقرآنِ ثمَّ بِما ... أسنَّ الرسولُ لنا شَرعاً وتِبْيَانا
صِهرُ النبيِّ ومولاهُ وناصرُهُ ... أضحتْ مناقبه نوراً وبُرهانا
وكانت منهُ على رغم الحسودِ لهُ ... مكانَ هارونَ من موسى بن عِمْرانا
وكان في الحرب سيفاً صارماً ذَكَراً ... ليثاً إذا لقِيَ القرانُ أقرانا
ذكرتُ قاتلَهُ والدمعُ مُنحدِرٌ ... فقلت: سُبحان ربِّ العرش سُبحانا
إني لأحسِبُه ما كَانَ من بشرٍ ... يَخْشى المعاد ولكن كان شيطانا
أشقَى مُرادٍ إذا عُدَّت قبائلُها ... وأخسرُ الناس عند اللهِ مِيزانا
كعاقِر الناقةِ الأولى التي جَلبتْ ... على ثمودَ بأرضِ الحجْرِ خُسرانا(2/270)
قد كان يُخبِرهُم أنْ سوفَ يَخضِبُها ... قبل المنيَّة أزماناً فأزمانا
فلا عفا اللهُ عنه ما تحمَّله ... ولا سَقَى قَبرَ عِمرَانَ بن حِطَّانا
لقولهِ في شقيٍّ ظلَّ مُخْتبلاً ... ونالَ ما نالَهُ ظلما وعُدوَانا
يا ضَربةً من تَقيِّ ما أرادَ بها ... إلا ليبلغَ من ذي العَرشِ رضوانا
بل ضربةً من شقيٍّ أورَدَتْه لظىً ... مُخَلَّدا قد أتى الرحمنَ غَضْبانا
وروى ابن الهادي عن عثمان بن صهيب، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " مَن أشقى الأولين؟ " قال: الذي عقر الناقة. قال: " صدقت. فمن أشقى الآخرين؟ " قال: لا أدري. قال: " الذي يضربك على هذه " يعني لحيته.
وكان علي، رضي الله عنه، كثيرا ما يقول: ما يمنع أشقاها، أو: ما ينظر أشقاها أن يخضب هذه من دم هذا " ويشير إلى لحيته ورأسه " خضاب دم ولا خضاب عطر وعبير.
وذكر النَّسَّائيُّ من حديث عمار بن ياسر عن النبي عليه السلام أنه قال لعليٍّ: " أشقى الناس الذي عقر الناقة، والذي يضربك على هذه " ووضع يده على رأسه حتى يخضب هذه " يعني لحيته ". وذكره الطبري وغيره، وذكره ابن إسحاق في " السيرة " عن عمار في غزوة ذي العُشَيرَة.
وروى الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن ثعلبة الحِمَّانيُّ، سمع عليَّ ابن أبي طالب يقول: " والذي فلق الحبَّة، وبرأ النسمة، لتخضَبنَّ هذه من دم هذا " يعني رأسه.(2/271)
وقال بكر بن حمَّاد الناهرتي، رحمه الله:
وهزَّ عليٌّ بالعراقينِ لحيةً ... مُصيبتُها جلَّت على كلِّ مُسلمِ
فقال: سيأتيها من الله حادثٌ ... ويَخضِبُها أشقَى البرية بالدَّمِ
فباكرَهُ بالسيف شَلَّتْ يمينُه ... لشؤم قَطامٍ عند ذاكَ ابنُ مُلجِمِ
فيا ضربةً من خاسرٍ ضلَّ سعيهُ ... تَبوَّأ منها مَقْعداً في جهنمِ
ففازَ أميرُ المؤمنينَ بحظِّهِ ... وإن طَرقتْ فيه الخطوبُ بِمَعْظَمِ
ألا إنما الدنيا بلاء وفتنةٌ ... حلاوتُها شِيْبتْ بصابٍ وعَلقمِ
وقال أبو زَبيد الطائيُّ:
إنَّ الكرامَ على ما كانَ من خُلُقٍ ... رهطُ امرئ خارهُ للدّين مُختارُ
طَبِّ بصير بأَضعانِ الرجال ولم ... يُعدل بِحَبْرِ رسولِ اللهِ أحْبارُ(2/272)
وقَطرةٌ قَطرتْ إذ حانَ موعدُها ... وكلُّ شيء لهُ وقتٌ ومِقْدَارُ
حتى تنَصَّلها في مسجدٍ طُهْرٍ ... على إمامِ هُدىً إنُ معشرٌ جاروا
حُمَّت ليدخُلَ جنَّاتٍ أبو حسنٍ ... وأوجِبَتْ بعدَه للقاتلِ النارُ
وقال الكُمَيت:
والوصيُّ الذي أمالَ التَّجوبيْ ... به عرش أمَّةٍ لانهِدامِ
قَتلوا يومَ ذَاكَ إذ قتلوهُ ... حَكَماً لا كغابرِ الحكَّامِ
الإمامَ الزكيَّ والفارسَ المُعْ ... لِمَ تحتَ العجاج غيرَ الكَهامِ
راعياً كانَ مُسْجِحاً فَفَقدْنا ... هُ وفَقْدُ المُسيمِ هُلُك السَّوامِ
وكان قتادة، رحمه الله، يقول: قُتل علي رضي الله عنه على غير مال احتَجْنَه، ولا دنيا أصابها.
وذُكر أن ابن مُلجم لما ضرب عليا، رضي الله عنه، أُدخل منزله فاعترته غَشية، ثم أفاق، فدعا الحسن والحسين فقال: " أوصيكما بتقوى الله تعالى، والرغبة في الآخرة، والزُّهد في الدنيا، ولا تأسفا على شيء فاتكما منها. واعملا الخير، وكونا للظالمين خصما، وللمظلوم عونا ".(2/273)
ثم دعا محمدا فقال: " أما سمعت بما أوصيت به أخويك؟ " قال: بلى. قال: فإني أوصيك به. وعليك ببرِّ أخويك، وتوقيرهما، ومعرفة فضلهما. ولا تقطع أمرا دونهما ". ثم أقبل عليهما فقال: " أوصيكما به خيرا، فإنه سيفكما وابن أبيكما. وأنتما تعلمان أن أباه كان يحبُّه فأحبَّاه ".
ولما أُدخل ابن مُلجم، عدوُّ الله، على عليٍّ رضي الله عنه، قال له الذين أدخلوه: يا عدوَّ الله، لا بأس على أمير المؤمنين. قال: فعلام تبكي إذا أمُّ كلثوم؟ والله لقد ضربته ضربة لو كانت بأهل مِنىً لوسعتهم. ولقد سقيت سيفي السُّمَّ حتى لفظه، وما كان ليخونني.
ولما مُثِّلَ بين يدي عليّ قال: " احبسوه، واحسنوا إساره، فإن أعيش فسأرى فيه رأيي في العفو أو القِصَاص. وإن أمُتْ فقتلُ نفس بنفس، ولا تمثِّلوا به ".
ولما دُفن علي رضي الله عنه أراد الحسن أن يقتل عدوَّ الله ابن ملجم بضربة واحدة. فقال عبد الله بن جعفر: كلا والله حتى أذيقه العذاب الأليم. فقطعه عضوا عضوا حتى مات، لعنه الله.
وروي أن البُرَك الصَّريميُّ وزادوايهِ فارقا ابن ملجم من الكوفة على ما تعاقدوا عليه. فذهب البركُ إلى الشام إلى معاوية للفتك به، فضربه على إليته، وهو في الصلاة. فأمر به، فحُبس، وأراد قتله. فقال له البَرْك: لا تعجل واحبسني فإن في هذه الليلة قُتل علي. فقال: ويلك، وما يُدريك؟ قال: إنا تواعدنا ثلاثة لقتل علي وقتلك وقتل عمرو بن العاصي. فإن وجدت الأمر على خلاف ما قلتُ فاضرب عنقي. فوصل الخبر إلى معاوية بقتل علي، كما ذكره البرك فأطلقه بعدما قطع يده ورجله. ثم قتله بعد ذلك زياد بن سُميَّة بالكوفة.
ودعا معاوية بالطبيب فقال له: إنَّ الضَّربة مسمومة فاختر لي إحدى خَصلتين؛ إما أن تصبر على الكيِّ، وأما أن أسقيك شربة تقطع عنك الولد. فقال: لا صبر لي على النار، ولي يزيد وعبد الله كفاية. فسقاه الشربة، فلم يولد له بعدها.
وذهب زَاذَويهِ إلى مصر للفتك بعمرو بن العاصي. فدخل المسجد فضرب(2/274)
خارجة بن حُذافَة السَّهميُّ، حين كبَّر للصلاة، فقتله. فقبض عليه الناس بعد جولة. وكان عمرو بن العاصي مريضا يشتكي بطنه: فقَدم خارجة ليصلي بالناس. فلما أُدخل الخارجيُّ على عمرو، ورأى الناس يسلمون عليه بالإمرة قال: أو ما قتلتُ عمروا؟ قالوا: لا إنما قتلتَ خارجة. فقال: أردتُ عمرا وأراد الله خارجة، فأمر به عمرو، فقُتِل.
وفي عمرو وخارجة يقول الكاتب الأديب أبو محمد عبد المجيد بن عبدون الأندلسيُّ الطليوسيُّ من قصيدة:
وليتَها إذ فَدَتْ عَمراً بخارجةٍ ... فدت علياً بمن شاءتْ من البشرِ
ومات عليٌّ رضي الله عنه، ليلة إحدى وعشرين من رمضان سنة أربعين. ودُفن في قصر الإمارة بالكوفة عند مسجد الجماعة. وصلى عليه الحسن، هذا قول أبي اليقظان. وقال الواقديُّ: دُفِن ليلاً وعُمِّي قبره.
وروي عن أبي جعفر محمد بن علي أن قبر علي جُهل موضعه. وكانت ولايته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر، وقال ابن قتيبة في " المعارف ". وقالت عائشة، رحمها الله، لما بلغها قتلُ علي: لتصنع العرب ما شاءت، فليس أحد ينهاها. وقال الحسن صبيحة ليلة دفن علي في المسجد الأعظم: " أيها الناس، إنكم فقدتم رجلا لم يسبقه الأولون، ولا يدركه الآخرون. وكان إذا شهد الحرب اكتنفه جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره. ولم يترك إلا ثمان مئة درهم. أو سبع مئة درهم فضلت من عطائه، كان يُعدُّها لخادم يشتريها لأهله.(2/275)
وقال الفضل بن العباس بن عنبة بن أبي لهب يرثي عليا رضي الله عنه:
ما كنتُ أحسبُ أن الأمر مُنصرفٌ ... عن هاشمٍ ثم منها عن أبي الحَسنِ
أليسَ أولَ مَن صلَّى لِقِبلتهِ ... وأعلمَ الناس بالقرآنِ والسُّننِ؟
وقالت أمُّ الهيثم بنتُ العُريان النَّخعيَّة ترثيه:
ألا يا عينُ وَيْحكِ أسعِدِينا ... ألا تَبكي أميرَ المؤمنيِنا
تُبكِّي أمُّ كلثومٍ عليهِ ... بعَبْرتِها وقد رأت القِينا
ألا قُل للخوارج حيثُ كانوا ... فلا قَرَّتْ عيون الشامِتينا
أفي شهرِ الصِّيام فَجعتُمُونا ... بخيرِ الناسِ طُرّاً أجْمعينا؟
قَتَلتم خيرَ مَن ركب المطايا ... وذَلَّلَها ومن رَكب السفينا
ومن لبسَ النعالَ ومَن حذاها ... ومن قرأ المثاني والمِئِينا
وكلُّ مناقبِ الخيراتِ فيهِ ... وحبُّ رسولِ ربِّ العالمينا(2/276)
لقد علمتْ قريشٌ حيث كانتْ ... بأنكَ خيرُها حَسَباً ودِينا
إذا استَقْبَلتَ وجه أبي حُسينٍ ... رأيتَ النورَ فوقَ الناظرينا
وكنا قبلَ مقتلهِ بخيرٍ ... نرى مولى رسول الله فينا
يُقيمُ الحقَّ لا يرتابُ فيه ... ويَعدِل في العِدا والأقربينا
وليس بكاتمٍ علماً لديهِ ... ولم يُخْلقْ من المتجبِّرينا
كأنَّ الناس إذا فقدوا علياً ... نَعامٌ حارَ في بلدٍ سِنينا
فلا تَشْمتْ معاويةَ بن صَخرٍ ... فإنَّ بقيةَ الخلفاء فينا
قاضي عليِّ: شُرَيح. كاتبه: عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. حاجبه: قُنْبُر مولاه.
نعته: كان رضي الله عنه عظيم العينين أدعَجَهُما، عظيم البطن، عريض المنكبين، حسن الوجه، أغيَد، كأنًَّ عنقه إبريق فضَّة، آدم، شديد الأُدمة، أصلع ليس في رأسه شعرٌ إلا من خلفه، لا يتبيَّن عضده من ساعديه، قد أُدمجت إدماجا، شديد الساعد واليد. إذا أمسك بذراعه رجل أمسك بنفسه، فلم يستطع أن يتنفَّس. إذا مشى إلى الحرب هرول ثَبْتَ الجَنان، قويا، شجاعا،(2/277)
منصورا على من لاقاه، أبيض الرأس واللحية، لا يُغيِّر شَيبَه. ورأتهُ امرأة بالكوفة فقالت: مَن هذا الذي كأنه كُسِر ثم جُبِر؟ عمره: خمس وستون، وقيل: ثلاث وستون، قاله أبو نُعَيم الفضل بن دُكَين وغيره. وقيل: ثمان وخمسون، قاله أبو جعفر محمد بن عليّ. واختلفت عنه الرواية في ذلك، رضي الله عن عليّ وعلى آله الأكرمين الطاهرين المنتجبين، آمين.
قال المؤلف: غفر الله له: لقد ذكرتُ من صحيح الآثار والأخبار في مناقب الخلفاء الأربعة ما يملأ الآذان حُسنا، ويمنح مَن سلك سبيلها الزِّيادة والحُسنى، والحمد لله على ما وفق ليه وأعان بفضله عليه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسُنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين، عضُّوا عليها بالنواجذ ".
وفضائلهم رضي الله عنهم ليس لها نفاد، ولا يحصرها تعداد، إذ هم أئمة الهدى، ومصابيح الدُّجى، وأرباب التُّقى، وواضحوا سُبُل سنَّة نبيِّنا محمد المصطفى، نفعنا الله بمحبَّتهم، وحشرنا في زمرتهم آمين.(2/278)
ذكر الستة الباقية من العشرة
رضوان الله عليهم
أبو عبد الله الزبير بن العوام(2/279)
أبو عبد الله الزبير بن العوام
ابن خويلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصيٍّ بن كلاب بن مُرَّة بن كعب ابن لؤي. يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصي بن كلاب.
وينتسب الزبير أسديا إلى أسد بن عبد العُزَّى بن قُصيٍّ وأمه صفية بنت عبد المطلب عمة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعمته خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
أسلم، رضي الله عنه، وهو ابن خمس عشرة سنة. وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سلمة بن سلامة بن وَقش. وهو حواريُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. مسلم: حدثنا عمرو الناقد قال: نا سفيان بن عُيينة، عن محمد بن المُنْكدر، عن جابر بن عبد الله قال: سمعته يقول: ندب رسول الله الناس يوم الخندق. فانتدب الزبير ثم ندبَهُم فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " لكلِّ نبيٍّ حواريُّ وحواريِّ الزبير ".
مسلم: حدثنا إسماعيل بن الخليل وسويد بن سعيد كلاهما عن ابن مُسهِر قال إسماعيل: نا عليُّ بن مُسهر عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بتن الزبير قال: كنت أنا وعمر بن أبي سلمة يوم الخندق مع النِّسوة في أطمِ حسَّان، فكان يُطاطئ لي مرة فينظر كنت أعرف أبي إذا مرَّ على فرسه في السلاح إلى بني قريظة قال: وأخبرني عبد الله بن عروة عن عبد الله بن الزبير، قال: فذكرت ذلك لأبي فقال: ورأيتني يا بُنَيِّ؟(2/281)
قلتُ: نعم. قال: أما والله لقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أبويه. فقال: فداك أبي وأمي.
مسلم: حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: نا ابن نُمَير وعبدة قالا: نا هشام عن أبيه قال: قالت لي عائشة: أبوك والله من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. وقال عليه السلام: " الزبير ابن عمَّتي وحواريِّ من أُمَّتي ". وسمع ابن عمر رجلا يقول: أنا ابن الحواريِّ، فقال: إن كنت ابن الزبير وإلا فلا.
وقال محمد بن سلاَّم: سألت يونس بن حبيب عن قوله عليه السلام: " حواريِّ الزبير ". قال: " خُلْصانُه ". وقال غيره: الحواريُّ الناصر.. وذكر قول الأعور الكلابي:
ولكنَّه ألقى زِمامَ قَلوصِهِ ... فيحيل كريماً أو يموت حَوَارِيَّا
وقال محمد بن عبد السلام الخُشنيُّ: نا محمد بن بشار: نا محمد بن جعفر قال: نا شعبة، قال: سمعت أبا إسحاق السَّبيعيَّ قال: سألت مجلسا فيه أكثر من عشرين رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن كان أكرم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: الزبير وعليُّ بن أبي طالب.
وجاء في صحيح الآثار أنه كان مُعتمرا بعمامة صفراء يوم بدر، فيقال: إنه نزلت الملائكة يوم بدر على سيما الزبير. وروى أبو إسحاق الفزاريُّ عن هشام بن عروة، عن عباد بن حمزة بن الزُّبير. قال: كان على الزبير عمامة صفراء معتجرا بها يوم بدر. ونزلت الملائكة عليها عمائم صُفر.
وكان الزبير تاجرا مجدودا في التجارة. وقيل له يوما: بِمَ كنت في التجارة وما أدركتَ؟ فقال: لأني لم أشتر عيبا ولم أرُدَّ ربحا، والله يبارك لمن يشاء. وقال حسان بن ثابت يمدحه:(2/282)
أقام على عهدِ النبيِّ وهديهِ ... حواريُّهُ والقولُ بالقول يُعدَلُ
أقام على مِنْهاجِهِ وطريقِهِ ... يُوالي وليَّ الحقِّ والحقُّ أعدلُ
هو الفارسُ المشهورُ والبطلُ الذي ... يصولُ إذا ما كانَ يومٌ مُحجَّلُ
وإنَّ امرأ كانت صفيةُ أمَّه ... ومِن أسدٍ في بَيتهِ لَمُرَفَّلُ
لهُ من رسول اللهِ قُربى قَريبةٌ ... ومن نُصرةِ الإسلامِ مجدٌ مؤثَّلُ
فكم كُربةٍ ذَبَّ الزبيرُ بسيفهِ ... عن المصطفى واللهُ يُعطي ويُجزِلُ
إذ كشَّفتْ عن ساقِها الحرثُ حشَّها ... بأبيضَ سبَّاقٍ إلى الموتِ يُرقلُ
فما مثلُه فيهمْ ولا كانَ قبلَهُ ... وليس يكونُ الدهرَ ما دامَ يَدْبُلُ
وحضر الزبير رضي الله عنه يوم اليرموك وأبلى فيه. قال عروة ابن الزبير: إنَّ أصحاب النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالوا للزبير يوم اليرموك: ألا تشدَّ فَنشدَّ(2/283)
معك؟ قال: إني أخاف إذا شددتُ كذبتُم. قالوا: لا نفعل. فحمل عليهم حتى شقَّ صفوفهم، فجاوزهم وما معه أحد منهم. ثم رجع مُقبلا، فأخذوا بلجامه فضربوه ضربتين على عاتقه، بينها ضربة ضربها يوم بدر. قال عروة: فكنت أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب وأنا صغير.
وحضر، رضي الله عنه، فتح مصر مع عمرو بن العاصي، بعثه عمر بن الخطاب من المدينة مددا لعمرو. وشهد الجمل مع عائشة رضي الله عنها، وقُتل بوادي السباع راجعا من حرب الجمل.
وذكر الإمام الحافظ أبو جعفر محمد بن جرير الطبريُّ في تاريخه الكبير عن قتادة قال: سار عليٌّ من الزاوية يريد الزبير وطلحة وعائشة، وساروا من الفَرضَة يريدون عليا، فالتقوا عند موضع قصر عبيد الله بن زياد في النِّصف من جمادى الآخرة سنة ستٍّ وثلاثين يوم الخميس. فلما تراءى الجمعان خرج الزبير على فرس عليه السلاح. فقيل لعلي: هذا الزبير. فقال: أما إنه أحرى الرجلين إن ذُكِّر بالله أن يذكر. وخرج طلحة فخرج إليهما علي، فدنا منهما حتى اختلف أعناق دوابِّهما. فقال علي: لعمري لقد أعددتما سلاحا وخيلا ورجالا إن كنتم أعددتما عند الله عُذراً فاتَّقيا الله ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة إنكاثا، ألم أكن أخاكما في دينكما تحرِّمان دمي وأحرِّم دمائكما، فهل من حدث أحلَّ لكما دمي؟ قال طلحة: ألَّبتَ الناس على عثمان. قال علي: يومئذ يُوفِّيهمُ اللهُ دينهم الحقُّ ويعلمون أن الله هو الحقُّ المبين. يا طلحة تطلب بدم عثمان؟ فلعن الله قتلة عثمان. يا زبير أتذكر يوم مررت بي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فناظر إليَّ فضحك وضحكت إليه، فقلت: لا يدعو ابن أبي طالب زهوه. فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه ليس بمُزْهٍ، ولتُقاتلنَّه، وأنت له ظالم "! فقال اللهمَّ نعم، ولو تذكَّرت ما سرتُ مسيري هذا. والله لا أقاتلك أبدا. فانصرف على إلى أصحابه فقال: أما الزبير فقد أعطى الله عهدا ألاَّ يقاتلكم. ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها: ما كنتُ في موطن منذ عقِلت إلا وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا. فقالت: فماذا تريد أن تصنع؟ فقال: أريد أن(2/284)
أدعهم وأذهب. فقال له ابن عبد الله: جمعت هذين العارين حتى إذا حدَّد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب أحسستَ رايات ابن أبي طالب، وعلمت أنها تحملها فتية أنجاد؟ قال: إني قد حلفت أن لا أقاتله. فأحفظه ما قال له: كفِّر عن يمينك وقاتل. فدعا غلاما له يقال له " مكحول " فأعتقه. فقال رجل من شعرائهم:
يُعتِقُ مَكحولاً لصَونِ دينهِ ... كفَّارةً للهِ عن يمينهِ
والنَّكثُ قد لاحَ على جبينهِ وقال آخر:
لم أَرَ كاليومِ أخَا إخْوانِي ... أعجبَ من مُكفِّرِ الأيمانِ
بالعِتقِ في مَعْصِيَةِ الرَّحمنِ وقال الطبري في خبر آخر مُسند إلى من شهد يوم الجمل قال: لما انهزم الناس عن طلحة والزبير، مضى الزبير حتى مَرَّ بعسكر الأحنف. فلما رأوه وأخبر به قال: والله ما هذا بجبان. فقال للناس: من يأتنا بخبره؟ فقال عمرو بن جرموز لأصحابه: أنا. فتبعه، فلما لحقه نظر إليه الزبير وكان شديد الغضب. فقال: ما وراءك. قال: إنما أردت أن أسألك. فقال غلام للزبير يُدعى عطيَّة كان معه: إنه مُعد. فقال: ما يهولك من رجل. وحضرت الصلاة، فقال ابن جرموز: الصلاة. فقال الزبير: الصلاة. ويستدبره ابن جرموز، فطعنه من خلفه في جربَّان درعه، وأخذ فرسه وخاتمه وسلاحه، وخلَّى عن الغلام، فدفنه بوادي السباع، ورجع إلى الناس بالخبر. فأمَّا الأحنف فقال: والله ما أدري أأحسنت أم أسأت. ثم انحدر إلى عليٍّ، وابن جرموز معه فدخل عليه، فأخبره. فدعا بالسيف فقال: سيف طالما جلَّى الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعث بذلك إلى عائشة.(2/285)
وقال الطبريُّ أيضا: حدثنا محمد بن عمارة الأسديُّ قال: أنا فُضَيل عن شقيق بن عُقبة، عن قُرَّة بن الحارث، عن جون بن قتادة قال قُرَّة بن الحارث: كنتُ مع الحنف، وكان جون قتادة ابن عمي مع الزبير بن العوَّام، فحدَّثني جون بن قتادة قال: كنت مع الزبير فجاء فارس يسير، وكانوا يسلِّمون على الزبير بالإمارة. فقال: السلام عليك أيها الأمير. فقال: وعليك السلام. قال: هؤلاء القوم قد أتوا مكان كذا وكذا. فلم أر قوما أرثَّ سلاحا ولا أقلَّ عددا ولا أرعب قلوبا من قوم أتوك. ثم انصرف عنه، قال: ثم جاء فارس فقال: السلام عليك أيها الأمير. فقال: وعليك السلام. قال: جاء القوم حتى أتوا مكان كذا. فسمعوا ما جمع الله من العدد والعُدَّة والجدِّ. فقذف الله في قلوبهم الرعب، فولَّوا مدبرين. قال الزبير: أيها عنك، فوالله لو لم يجد ابن أبي طالب إلا العرفَجَ دبَّ إلينا فيه. قال: ثم انصرف. قال: ثم جاء فارس، وقد كادت الخيول أن تخرج من الرَّهج. فقال: السلام عليك أيها الأمير. قال: وعليم السلام. قال: هؤلاء القوم قد أتوك، فلقيت عمارا. فقلت له، وقال لي: فقال الزبير: إنه ليس فيهم. فقال: بلى والله إنه لفيهم. قال: لا والله ما جعله الله فيهم. قال: والله لقد جعله الله فيهم. فلما رأى الرجل يخالفه قال لبعض أهله: اركب فانظر أحقٌّ ما يقول؟ قال: فركب معه، فانطلقا، وأنا أنظر إليهما حتى وقفا في جانب الخيل قليلا، ثم رجعا إلينا. فقال الزبير لصاحبه: ما عندك؟ قال: صدق الرجل. قال الزبير: يا جدع أنفاه، أو يا قطع ظهراه. قال محمد بن عمارة: قال عبيد الله: قال فُضَيل: لا أدري أيهما. قال: ثم أخذه أفكل. قال: فجعل السلاح ينتقض. قال فقال جونٌ: ثكلتني أمي، هذا الذي كنت أريد أن أموت معه، أو أعيش. والذي نفسي بيده ما أخذ هذا ما أرى إلا لشيء قد سمعه، أو رآه فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فلما تشاغل الناس انصرف فجلس على دابته، ثم ذهب. قال: ثم جاء فارسان حتى أتيا الأحنف وأصحابه فنزلا فأتياه فأكبَّا عليه. فناجاه ساعه ثم انصرفا، ثم جاء عمرو بن جرموز إلى الأحنف فقال: أدركته في وادي السباع فقتلته. فكان قُرَّة يقول: والذي نفسي بيده إنَّ صاحب الزبير لَلأحنف.(2/286)
وقال غير الطبري: كان الزبير قد انصرف عن القتال نادما مفارقا للجماعة التي خرج فيها منصرفا إلى المدينة. فرآه ابن جرموز فقال: أتى يؤرِِّش بين الناس، ثم تركهم، والله لا تركته. ثم تبعه، فلما لحق بالزبير ورأى أنه يريده أقبل عليه، فقال له ابن جرموز أذكِّرك الله. فكفَّ عنه الزبير حتى فعل ذلك مرارا. فقال الزبير: قاتله الله، يذكِّرنا الله وينساه. ثم غافصه، ابن جرموز فقتله، وذلك يوم الخميس في جمادى الأولى لعشر خلون منه، وهو ابن أربع وستين سنة، هذا قول الواقديّ. وقال أبو اليقظان قُتِل وهو ابن ستين سنة.
وقيل: إن عمرو بن جرموز لما قتل الزبير أتى بلبسه إلى عليٍّ واستأذن عليه، فلم يأذن له. وقال: بشِّروه بالنار. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بشِّروا قاتل ابن صفية بالنار ". وكيف لا يُبشَّر بالنار من قتل حواريَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم غدرا؟ لقد جاء شيئا نُكرا، وباء بإثم عظيم لقتل حواريٍّ كريم.
وقال ابن جرموز حين استأذن على علي رضي الله عنه فلم يأذن له وبشَّره بالنار:
أتَيتُ عليّاً برأسِ الزُّبيْرِ ... أرجو لديهِ بهِ الزُّلفَةْ
فبشَّرَ بالنار إذْ جئتُهُ ... فبئسَ البِشارةُ والتُّحْفَةْ
وسيانِ عندي قَتلُ الزُّبِيرِ ... وضرطةُ عَيْرٍ بذي الجِحْفَةْ
وتزوَّج الزبير بمكة أسماء بنت أبي بكر الصدِّيق، وهي أسنُّ من عائشة، وهي ذات النطاقين. وسميت بذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة نسيت أن تشُدَّ سِفرة الزاد بشيء، فقطعت نطاقها نصفين، فشدَّت(2/287)
بالواحد السُفرَة، وانتطقت بالآخر. فقال لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة ". وزعم ابن إسحاق أن أسماء بنت أبي بكر أسلمت بعد إسلام سبعة عشر إنسانا.
وتوفيت أسماء بمكة في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين بعد قتل ابنها عبد الله بن الزبير بيسير، لم تلبث بعد إنزاله من الخشبة إلا ليالي عشرى، وقيل: عشرين، وقيل: بضعا وعشرين. وماتت وقد بلغت مئة سنة، وعُميت في آخر عُمرها.
وولدت للزبير عبد الله، وبه كان يُكنى، وبه كانت تُكنى عائشة رضي الله عنها، وعروة، وعاصما، ومات عاصم وهو غلام لا عقب له، والمنذر.
فأما عبد الله بن الزبير: فهو أول مولود في الإسلام من المهاجرين، هاجرت أمُّه أسماء وهي به حامل، فوضعته بقباء. مسلم: حدتنا أبو كُرَيب محمد بن العلاء، قال: نا أبو أسامة عن هاشم، عن أبيه، عن أسماء أنها حملت بعبد الله بن الزبير بمكة. قالت: فخرجتُ وأنا مُتِمٌّ، فأتيت المدينة فنزلت بقباء. ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه، فكان أول شيء يدخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حنَّكه بالتَّمرة، ثم دعا له وبرَّك عليه، وكان أول مولود في الإسلام.
مسلم: عن عائشة قالت: جئنا بعبد الله بن الزبير إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لم يحنِّكه، فطلبنا تمرة، فعزَّ علينا طلبها. وخرَّج مسلم أيضا عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتي بالصِّبيان فيُبرِّك عليهم ويحنِّكهم. وقال الطبري: حدَّثني الحارث قال: نا ابن سعد قال: قال محمد بن عمر الواقديُّ: ولد ابن الزبير بعد الهجرة بعشرين شهرا بالمدينة، وكان أول مولود ولد من المهاجرين في دار الهجرة، فكبَّر، فيما ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد، وذلك أن المسلمين كانوا قد تحدَّثوا أن اليهود يذكرون أنهم قد سحروهم، فلا يولد لهم. فكان تكبيرهم ذلك سرورا منهم بتكذيب الله اليهود فيما قالوا من ذلك.(2/288)
الطبري: حدثني الحارث قال: نا ابن سعد قال: أنا محمد بن عمر قال: نا مصعب بن ثابت عن أبي الأسود قال: ذُكر النعمان بن بشير عند عبد الله بن الزبير فقال: هو أسنُّ مني بستَّة أشهر. قال أبو الأسود: وُلد ابن الزبير على عشرين شهرا من مُهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولد النعمان على رأس أربعة عشر شهرا في ربيع الآخر. وقيل: إن عبد الله بن الزبير ولد في السنة الأولى من الهجرة، ذكره ابن عبد البرِّ في " الاستيعاب ". وذكر أيضا ما قال ابن البرِّ محمد بن عمر الواقديُّ ومسلم.
وقال عبد الله بن الزبير: ادخلني الزبير وأنا ابن سبع سنين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعي غلمان في سنيِّ، معهم آباؤهم لنبايعه عليه السلام، فكلُّهم كعُّوا إلا أنا، فإنني تقدّمت. فلما وصلت إليه تبسَّم ومد يده فبايعته، وقال: " إنه ابن أبيه ".
وقال مسلم: حدثنا الحكم بن موسى أبو صالح قال: نا شُعيبُ يعني ابن إسحاق قال: أخبرني هشام بن عروة قال: حدَّثني عروةُ بن الزبير وفاطمة بنت المنذر بن الزبير أنهما قالا: خرجت أسماء بنت أبي بكر حين هاجرت، وهي حُبْلى بعبد الله بن الزبير فقدمت قُباء فنُفِست بعبد الله بقُباء، ثم خرجت حين نُفستْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحنِّكه فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فوضعه في حَجرهِ، ثم دعا بتمرة. قال: قالت عائشة: فمكثنا ساعة نلتمسُها قبل أن نجدها، فمضغها ثم وضعها في فيه. فإنَّ أول شيء دخل بطنه لريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قالت أسماء: ثم مسحه وصلى عليه، وسماه عبد الله. ثم جاء وهو ابن سبع سنين أو ثمان ليبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره بذلك الزبير. فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه مُقبلا إليه، ثم بايعهُ.
وحدَّث أبو زرعة عبد الحمن بن عمرو والدِّمشقيُّ: نا محمد بن شَريكٍ المَكيُّ عن ابن أبي مُليكة، نع عبد الله بن الزبير قال: سُميتُ باسم جدي أبي بكر وكُنِيتُ بكُنيِته. وذُكر أنه كان يلعب مع الغلمان في أول خلافة عمر، فمرَّ عليهم(2/289)
عمر فتفرَّقوا، ربقي عبد الله واقفا. فلما وصل إليه عمر قال: ياعبد الله مالك لا تفرُّ مع أصحابك؟ فقال: يا أمير المؤمنين لم أجْرُمْ فأخافك، ولم يكن بالطريق ضيق فأوسع عليك.
وكان عبد الله مع العسكر الذي استفتح إفريقية، وكان شجاعا بئيسا مُقْدِما مثل أبيه. ويقال: إنه قتل جرجيس ملك أفريقية، ونفَّله عبد الله بن أبي سَرْح ابنة جرجيس. وبعثه ابن أبي سرح بفتح إفريقية إلى عثمان. فلما وصل إلى المدينة ودخل على عثمان، وأجبره عن الفتح قال: يا بن أخي أتقدر أن تتكلم بهذا الكلام على الناس؟ فقال: أنت والله يا أمير المؤمنين أهيب في عيني منهم. فلما كان من الغد صعد عثمان على المنبر، وخطب الناس فقال: إنَّ الله قد فتح عليكم إفريقية، وهذا عبد الله يُخبرُكم خبرها إن شاء الله. ثم جلس عثمان على المنبر وأقام عبد الله إلى جنبه، فتكلم عبد الله في الفتح بكلام بليغ عجب منه الصحابةُ. فلما فرغ من كلامه قام الزبير إليه فاعتنقه وقبَّل بين عينيه وقال: يا بُنَّي إذا نكحت امرأة فانكحها على شبه أبيها أو أخيها؛ فإنها تأتيك بأحدهما، والله مازلت تنطق بلسان أبي بكر حتى صمتَّ.
وشهد الجمل مع أبيه وخالته، وكان شهما شرسا ذا أنفة. ذكر الطبريُّ في تاريخه عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان لا يجيء أحد يوم الجمل فيأخذ بالزِّمام إلا قال: أنا فلان بن فلان، يا أمَّ المؤمنين. فجاء عبد الله بن الزبير فقالت حين لم يتكلم: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله، أنا أبنك، أنا أبن أختك. قالت: وأثكل أسماء " تعنى أختها " وينتهي إلى الجمل الأشتر وعديُّ بن حاتم، فخرج عبد الله بن حكين بن عزام إلى الأشتر، فمشى إليه الأشتر، فاختلفا ضربتين فقتله الأشتر، ومشى إليه عبد الله بن الزبير فضربه الأشتر على رأسه فجرحه جرحا شديدا، وضرب عبد الأشتر ضربة خفيفة، وأعتنق كلُّ واحد منهما صاحبه، وخرَّا إلى الأرض يعتر كان. فقال عبد الله بن الزبير: اقتلوني ومالكا. فكان مالك يقول: ما أحبُّ أن يكون. قال الأشتر: وإن لي حمر النعم. وشدَّ أناس من أصحاب على وأصحاب عائشة، فافترقا، وتنقَّذ كلُّ واحد الفريقين صاحبه. وقال دينار أبو العيزار: طعن عبد الله بن حكيم بن حزام قبل أن يقتله الأشتر عديَّ بن حاتم في عينه، ففقأها.(2/290)
وذكر الطبريُّ أيضا عن الشعبيِّ قال: لزم الخطام يوم الجمل سبعون رجلا من قريش، كلهُّم يقتل، وهو أخذ بالخطام. وحمل الأشتر فاعترض عبد الله بن الزبير، فاختلفا ضربتين، ضربه الأشتر فأمَّه وواثبه عبد الله، فاعتنقه فصرعه. فجعل يقول: اقتلوني ومالكا.. وكان له ألف نفس، ما نجا منها شيء. وما زال يضرب في يدي عبد الله حتى أفلت. وكان الرجل إذا حمل على الجمل ثم نجا لم يعد. وجرح يومئذ مروان وعبد الله بن الزبير.
وذكر الطبريُّ عن عبَّاد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: أمسيت يوم الجمل، وبي سبعة وثلاثون جراحة من طعنة وضربة. وما رأيت مثل يوم الجمل قطُّ، ما ينهزم منا أحد، وما نحن إلا مثل الجبل الأسود، وما يأخذ أحد بخطام الجمل إلا قتله. فأخذ عبد الرحمن بن عتاب فقتل، وأخذه الأسود بن أبي البختريِّ فصرع. وجئت فأخذت بالخطام، فقالت عائشة: من أنت؟ قالت: ابن الزبير. قالت: واثكل أسماء. ومرِّ بي الأشتر، فعرفته فعانقته فسقطنا جميعا. فناديت: اقتلوني ومالكا. فجاء ناس منا ومنهم، فقاتلوا عنا حتى تحاجزنا، وضاع الخطام. ونادى علي: اعقر الجمل، فإنه إن عقر تفرَّقوا. فضربه رجل فسقط، فما سمعت صوتا قطُّ أشدَّ من عجيج الجمل. وأمر علي محمد بن أبي بكر فضرب على عائشة قبَّة، وقال: انظروا هل وصل إليها شيء؟ فأدخل رأسه فقالت: من أنت ويلك؟ قال: أبغض أهلك إليك. قالت: أأنت أبن الخثعمية؟ قال: نعم. قالت: بأبي أنت وأمي الحمد الله الذي عافاك.
وعن دينار أبي العيزار قال: سمعت الأشتر يقول: لقيت عبد الرحمن بن عتَّاب بن أسيد، فلقيت أشدَّ الناس وأحرقه. فما لبثة أن قتلته، ولقيت الأسود بن عوف، فلقيت أشدَّ الناس وأشجعه. فاستعلاني فما كدت أنجو، فتمنيت أني لم أكن لقيته. ولحقني جُندب بن زهير الغامديُّ فضربته، ولقيت عبد الله ابن الزُّبير فلقيت أشدَّ الناس وأروعه فعانقته فسقطنا إلى الأرض جميعا فنادى: اقتلوني ومالكا.
وأوى عبد الله بن الزبير بعد الهزيمة إلى دار رجل من الأزد يُدعى وزيرا(2/291)
وقال: إيت أمَّ المؤمنين فأعلمها بمكاني، وإياك أن يَطَّلع على على ذلك محمد بن أبي بكر. فأتى عائشة، فأخبرها، فقالت: عليَّ بمحمد، فقال يا أمَّ المؤمنين إنه قد نهاني أن يعلم به محمد فأرسلت إليه، فقالت: إذهب مع هذا الرجل حتى تجيئني بابن أختك. فانطلق معه، فدخل الأزديُّ على ابن الزُّبير، فقال: جئتك والله بما كرهت، وأبَت أمُّ المؤمنين إلا ذلك. فخرج عبد الله ومحمد يتشاتمان حتى انتهيا إلى عائشة في دار عبد الله بن خلف. وكان عبد الله بن خلف قُتِل يوم الجمل مع عائشة في طلب من كان جريحا، فضمَّت منهم ناسا، وضمَّت مروان فيمن ضمَّت، وكانوا في البيت.
نبذ من أخبارِ يوم الجمل
أوجب سياقها ذكر أمِّ المؤمنين عائشة وابن أختها عبد الله بن الزبير. الطبري: عن عيسى بن حِطَّان قال: حاص الناسحيصة يعني يوم الجمل ثم رجعنا وعائشة على جمل أحمر في هودج أحمر ما شبَّهته إلا القُنفذ من النَّبل. وحدَّث ابن عون عن أبي رجاء قال: ذكروا يوم الجمل فقال: كأني أنظر إلى خدر عائشة كأنه قُنفُذ مما رُمي فيه من النَّبل فقلت لأبي رجاء: قاتلت يومئذ؟ قال والله لقد رميت بأسهم ما أدري ما صنعن.
وانتهى محمد بن أبي بكر إلى الهودج ومعه عمار، وقطعا الأنساع عن الهودج واحتملاه. فلما وضعاه أدخل محمد يده وقال: أخوك محمد. فقالت: مُذمَّم. قال: يا أُخيَّةُ، هل أصابك شيء؟ قالت: ما أنت من ذاك. قال: فمن إذا الضُّلاَّل؟ قالت: بل الهُداةُ.
وانتهى إليها علي فقال: كيف أنت أي أمَّه؟ قالت: بخير. قال: يغفر الله لكِ. قالت: ولكَ.
وخرج محمد بعائشة حتى أدخلها البصرة فأنزلها في دار عبد الله بن خلف الخُزاعِّي على صفية بنة الحارث بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العُزَّي بن عثمان بن عبد الدار بن قُصي. وأبوها الحارث قُتل يوم أحد كافرا. قتله قُزمان،(2/292)
وهو أخو عثمان بن طلحة الذي دفع إليه النبيُّ عليه السلام مفتاح الكعبة في فتح مكة.
وصفية هي أمَّ طلحة الطَّلحات بن عبد الله بن خلف، وهو الجوادُ الذي رثاه ابن قيس الرُّقَيَّات، وقد تقدَّم ذكره وذكر أبيه وعمِّ سليمان في بني مُليح من خُزاعة.
وكان قتلى الجمل حول الجمل؛ نصفُهم من أصحاب عليٍّ ونصفهم من أصحاب عائشة: من الأزد ألفان ومن سائر اليمن خمسمئة، ومن مضر ألفان: خمسمئة من قيس وخمسمئة من تميم وألف من بني ضبَّة، وخمسمئة من بكر بن وائل. وقُتلمن بني عديِّ الرِّباب يومئذ سبعون شيخا، كلهم قد قرأ القرآن سوى الشباب، ومن يقرأ القرآن.
وقالت عائشة: مازلتُ أرجو النَّصر حتى خُفيت أصوات بني عديٍّ. وصلى عليٌّ على قتلاهم من أهل البصرة، وعلى قتلاهم من أهل الكوفة، وصلى على قريش من هؤلاء وهؤلاء. وكانوا مدنيين وكوفيين ومكيين. وجمع ما كان في العسكر من شيء، ثم بعث به إلى مسجد البصرة؛ أن من عرف شيئا فليأخذه، إلا سلاحا كان في الخزائن عليه سمة السلطان، فإنه لما بقي لم يُعرف قال لأصحابه: خُذوا ما أجْلَبوا به عليكم من مال الله. ولا يحلُّ للمسلم من مال المسلم المتوفيَّ شيء، وإنما كان ذلك السلاح في أيديهم من غير تنفُّل من سلطان.
ودخل عليٌّ البصرة يوم الاثنين، فانتهى إلى المسجد، فصلى فيه، ثم دخل البصرة فأتاه الناس، ثم راح إلى عائشة على بغلته. فلما انتهى إلى دار عبد الله بن خلف، وهي أعظم دار بالبصرة وجد النساء يبكين على عبد الله وسليمان ابني خلف مع عائشة وصفية بنة الحارث زوج عبد الله بن خلف أمِّ طلحة الطَّلحات، مُختَمِرة تبكي. فلما رأته قالت: يا عليُّ يا قاتل الأحبَّة، يا مفرِّق الجمع، أيْتَمَ الله بَنيك منك كما أيتمت ولد عبد الله منه. فلم يردَّ عليها. ولم يزل على حاله حتى دخل على عائشة، فسلم عليها وقعد عندها وقال: جَبَهتنا صفية، وقال: أمَّا إني لم أرها منذ كانت جارية حتى اليوم. فلما خرج عليٌّ أقبلت عليه فأعادت الكلام، فكفَّ بغلتَّه فقال: ألا لَهَمَمْتُ. وأشار إلى أبواب من الدار، أن أفتح هذا الباب(2/293)
وأقتل من فيه ثم هذا وأقتل من فيه. وكان أناس من الجرحى قد لجؤوا إلى عائشة فأخبر عليٌّ بمكانهم عندها، فتغافل عنهم، فسكت فخرج علي فقال له رجل من الأزد: والله لا تُفلِتُنا هذه الرأة. فغضب وقال: صه لاتهتكنَّ سترا، ولا تدخلنَّ دارا، ولا تهيجنَّ امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم، وسفَّهن أمراءكم فإنهنَّ ضعاف. ولقد كنا نُؤمر بالكفِّ عنهنَّ، وإنهنَّ لمشركات، وإنَّ الرجل ليكافئ المرأة ويتناولها بالضَّرب فيغيَّرُ بها عقبة من بعده. فلا يَبْلغني عن أحد عَرَضَ لا مرأة فأُنكِّلَ به شَرار الناس.
وجهَّز عليٌّ عائشة رضي الله عنها بكل شيء ينبغي لها من مركب أو زاد أو متاع، وأخرج معها كلَّ من نجا ممَّن خرج معها إلا من أحب المُفام. واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وقال: تجهَّزْ يامحمد فبلِّغْها. فلما كان اليوم الذي ترتحل فيه جاءها حتى وقف لها، وحضر الناس، فخرجت على الناس، فودَّعوها وودّعتهم وقالت: يابنيَّ، يَعتُبُ بعضنا على بعض استبطاء وزيادة، فلا يَعْتدن أحد منكم على أحد بشيء بلغه من ذلك، أنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وأنه عندي على مَعْتِبتي لَمِنَ الأخيار.
وقال علي: يأيُّها الناس، صدقت وبرَّت، ما كان بيني وبينها إلا ذاك. وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة.
وخرجت يوم السبت غُرة رجب سنة ستٍّ وثلاثين، وشيَّعها عليٌّ أميلا، وسرَّح بنيه معها يوما. وعن جرير بن حازم قال: سمعت أبا يزيد المدنيَّ يقول: قال عمار بن ياسر لعائشة حين فرغ القوم من أمر الجمل: يا أمَّ المؤمنين، ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عُهد إليك! قالت: أبا اليقظان؟ قال: نعم. قالت: والله إنك ما علمت لقوال بالحقِّ. قال: الحمد لله الذي قضى لي على لسانِكِ.
وروى إسماعيل بن عُلية عن أبي سُفيان بن العلاء، عن ابن عتيق قال: قالت عائشة: إذا مرَّ ابن عمر فأرونيهِ. فلما مرَّ ابن عمر قالوا: هذا ابن عمر. فقالت: يا أبا عبد الرحمن ما منعك أن تَنهاني عن مَسيري؟ قال: رأيت رجلا غلب(2/294)
عليك، وظننت أنك لا تخالفينه، يعني ابن الزبير. قالت: أما أنك لو نهيتَني ما خرجت.
البخاري: حدثنا محمد بن بشار: نا شعبة عن الحكم، عم أبي وائل. وحدَّثنا عبد الله بن محمد: نا يحيى بن آدم: نا بكر بن عياش: نا أبو حصين: نا أبو مريم عبد الله بن زياد الأسدي قال: لما سار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة بعث عليٌّ عمار بن ياسر والحسن بن علي زاد شعبة ليستنفرهم، وقدما علينا الكوفة، فصعد المنبر، فكان الحسن على فوق المنبر في أعلاه، وقام عمار أسفل من الحسن. فاجتمعنا إليه فسمعت عمارا يقول: إن عائشة قد سارت إلى البصرة، والله إنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكنَّ الله ابتلاكم ليعلم أإياهُ تُطيعون أم هي ...
البخاريُّ: حدثنا عثمان بن الهيثم: نا عوف عن الحسن، عن أبي بكرة قال: نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجمل بعد أن كدت أن ألحق بأصحاب الجمل، فأقاتل معهم. قال: لما بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنَّ أهل فارس قد ملَّكوا عليهم بنت كسرى قال: " لن يُفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة ". وعن سعيد القُطعيِّ قال: كنا نتحدث أنَّ قتلى أهل الجمل يزيدون على ستة آلاف.
وأمر عليٌّ من نادى يوم الجمل: لا يُتبعنَّ مُدبر، ولا يُجهز على جريح، ولا تسلبوهم ما معهم. فقال له أصحابه: أيحلُّ لنا قتلُهم ولا يحلُّ لنا سلبُهم؟ قال: إنهم من أهل القبلة وليسوا بكفار. وإنما قاتلناهم لبغيهم علينا حتى يفيئوا إلى أمر الله. فلما اكثروا عليه قال: اقترعوا أيُّكم يأخذ عائشة في سهمه. فقالوا معاذ الله أمُّنا! ورضوا بحكمه.
وقال عبد الله بن عباس: لما فرغ علي، رضي الله عنه، من أمر الجمل صعد على ربوة من الأرض وخطب أهل البصرة فقال: يا أنصار المرأة وأصحاب البهيمة، رغا فحننتم، وانخشر فانهزمتم. نزلتم شر بلاد أبعدها من السماء، بها(2/295)
مَغيض كل ماء هي البصرة والبصيرة والموتفكة وتَدْمرُ. أين ابن عباس؟ قال: فدُعيت له من كلِّ جانب. فلما حضرت قال لي: سِرْ إلى الرأة، يعني أمَّ المؤمنين عائشة، وقل لها: تسير إلى الموضع الذي أمرها الله أن تقرَّ فيه. قال ابن عباس: فجئتها، فاستأذنت عليها فلم تأذن لي. فدخلت عليها بغير إذن، وعمدت إلى وساد كان في البيت فجلست عليه، فقالت: تالله ما رأيت مثلك يابن عباس! تدخل بيتي وتجلس على وسادي بغير إذني؟ قال: فقلت لها: والله ما هو بيتك إلا الذي أمرك الله أن تقرِّي فيه، فلم تفعلي. إن أمير المؤمنين يأمرك بالمسير إلى المدينة. فبكت وقالت: رحم الله أمير المؤمنين، ذاك عمر بن الخطاب. فقلت لها: نعم، وهذا أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب. فقالت: أبيتُ أبيتُ. فقلت لها: ما كان إباؤك إلا مثل فواق ناقة بكيَّةٍ، ثم صرت لا تحلين ولا تمُرِّين. فقالت: نعم اسيرُ، إنَّ أبعض البلاد إليَّ بلد أنتم فيه. فقلت: والله ماكان هذا جزاؤنا منك، أن صيَّرناك للمؤمنين أمَّا، وصيَّرنا اباكِ لهم صدِّيقا فقالت: أتمنُّ عليَّ برسول الله يابن عباس؟ قلت: بلى والله نمنُّ عليك بمنٍّ لو كان منك بمنزلته منَّا لمننت به علينا.
وذُكر أن عليا رضي الله عنه جاء إلى هودج عائشة، وهي فيه بعدما عُقر الجمل، فضربه بقضيب كان في يده، وقال لها: كيف رأيت صَنيعَ الله بك؟ فقالت له: مَلكت فأسْجِحْ.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيَّتُكُنَّ صاحبةُ الجمل الأدبَبِ تخرج فتّنْبجها كلاب الحوأب، يُقتل حولها قتلى كثير وتنجو بعدما كادت ". وهذا الحديث من أعلام نبوَّته صلى الله عليه وسلم، وهو حديث مشهور، رواه عكرمة عن ابن عباس.(2/296)
بقية أخبار عبد الله بن الزبير وكيفيةُ إمرتهِ وقتلهِ رحمهُ اللهُ
قال علي رضي الله عنه: ما زال يُعَدُّ منا أهل البيت حتى نشاء عبد الله. وكانت له لسانة وفصاحة، وكان أطلس لا لحية له، ولا شعر في وجهه. وقال عليُّ بن زيد الجُدْعانيُّ: كان عبد الله بن الزبير كثير الصلاة، كثير الصيام، شديد البأس، كريم الجدّات والأمهات والخالات، إلا أنه كانت فيه خصال لا تصلح معها الخلافة لأنه كان بخيلا ضيِّقَ العَطَن سيء الخُلق حسودا، كثير الخلاف. أخرج محمد ابن الحنفية، وسجنه، ونفي عبد الله بن عباس إلى الطائف، وهو القائل من بخلة لجنده: أكلتم تمرى وعصيتم أمري، وفي ذلك قال الشاعر:
رأيت أبا بكر وربُّك غالبٌ ... على أمرهِ يَبغي الخلافةَ بالتَّمرِ
وبويع له بالخلافة سنة خمس وستين، وكان قبل ذلك لا يُدعى باسم الخلافة. وكانت بيعة بعد موت معاوية بن يزيد. واجتمع على طاعته أهل الحجاز واليمن والعراق وخرسان، وحجَّ بالناس ثماني حجج. وروى عيسى عن ابن القاسم عن ... قال: ابن الزبير كان أفضل من مروان، وكان ألى بالأمر من مروان ومن أبنه. وبدأ الحجاج بحصاره من أول ليلة من ذي الحِجَّة سنة اثنين وسبعين. وحج بالناس الحجاجُ في ذلك العام. ووقف بعرفة في تلك السنة، وعليه درع ومغفر، ولم يطوفوا بالبيت ذلك العام. فحاصره ستة أشهر وسبعة عشر يوما، إلى أن قُتل في النصف من جُمادي ىلآخر سنة ثلاث وسبعين.
وعن هشام بن عُروة عن أبيه قال: لما كان قبل قتل عبد الله بن الزبير بعشرة أيام دخل على أمه أسماء وهي شاكية، فقال لها: كيف تَجدِينَك يا أُمَّهْ؟ قالت: ما أجدُني إلا شاكية. فقال لها: إن في الموت لراحة. فقالت: لعلك(2/297)
تمنيت لي ما أحبُّ أن تموت حتى تأتي على أحد طرفيك؛ إمَّا قُتلت فأحتسبك، وإمَّا ظفرت بعدوِّك، فقرَّت عيني. قال عروةُ: فالتفت إليَّ عبد الله فضحك. فلما كان في اليوم الذي قُتل فيه دخل عليها في المسجد. فقالت له: يابُنيَّ لا تقبلن منهم خطَّة تخاف فيها على نفسك الذلَّ مخافة القتل. فوالله لضربة بسيف في عزٍّ خير من ضربة بسوط في مَذَلَّة. قال: فخرج وقد جعل له مصراع عند الكعبة، فكان تحته، فأتاه رجل من قُريش، فقال: ألا نفتحُ لك باب الكعبة؟ فقال عبد الله: من كلِّ شيء تحفظ أخاك إلا من نفسه. والله لو وجدوكم تحت أستار الكعبة لقتلوكم. وهل حُرمة المسد إلا كحُرمة البيت؟ ثم تمثَّل:
ولستُ بمُبتاعِ الحياةِ بسُبَّةٍ ... ولا مُرتَقٍ من خشيةِ الموت سُلَّما
وشد عليه أصحاب الحجاج من أبواب المسجد الحرام. فقال لأصحابه: اكسروا أغماد سيوفكم ولا تسلوا عني فإني في الرَّعيل الأول. قال: ففعلوا. ثم حملوا عليهم وحملوا عليه. فجعل يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من المسجد وهزمهم ثلاث مرات، حتى أقبل عليه حجر من ناحية الصَّفا فضربه بين عينه، فنكَّس رأسه وهو يقول:
لست على الأعقابِ تَدمى كلومُنا ... ولكنْ على أعقابنا يقطر الدَّمُ
هكذا تمثَّل به الزبير بن بكار، قال: ثم أجمعوا عليه، فلم يزالوا يضربونه حتى قتلوه. ولما قُتل كبَّر أهلُ الشام، فقال عبد الله بن عمر: المكبِّرون عليه يوم وُلد خير من المكبِّرين عليه يوم قُتل.
وبعث الحجاجُ برأس عبد الله بن الزبير وعبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف الجُحميِّ ورأس عُمارة بن عمر بن حزم الأنصاريِّ البخاريِّ إلى المدينة، فنُصبوا بها. ثم بعثوا برؤوسهم إلى عبد الملك، وصُلبت جثة ابن الزبير على ثَنيَّةِ أهل المدينة عند المقابر.
مسلم: حدَّثنا عقبةُ بن مُكرَمٍ العَمِّيُّ قال: نا يعقوب يعني ابن إسحاق(2/298)
الحضرميَّ، قال: نا الأسود بن شَيبان عن أبي نوفل قال: رأيت عبد الله بن الزبير على عقبة المدينة، قال: فجعلت قريش تمر عليه والناس حتى مرَّ عبد الله ابن عمر فوقف عليه فقال: السلام عليك أبا ضُبيب، السلام عليك أبا ضبيب، السلامُ عليك أبا ضبيب. أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا. أما والله إن كنت ماعملت صوّاما قوَّاما وصولا للرَّحم. أما والله لأمَّة أنت شرُّها لأمة خير. ثم نفذ عبدُ الله بن عمر فبلغ الحجاج موقف عبد الله وقوله، فأرسل إليه، فأنزل عن جذعه فألقي في قبور اليهود. ثم أرسل إلى أمَّه أسماء بنة أبي بكر الصدِّيق، فأبت أن تأتيهُ، فأعاد عليه الرسول: لتأتينِّي أو لأبعثن إليك من يسحبُك بقرونك، قال: فأبت وقالت: والله لا آتيك حتى تبعث إليَّ من يسحبُني بقروني. قال: فقال: أرُوني سِبْتَيَّ، فأخذ نعليه، ثم انطلق يَتَوذَّف حتى دخل عليها، فقال: كيف رأيتني صنعتُ بعدوِّ الله؟ قالت: رأيتُك أفسدت عليه دُنياهُ وأفسد عليك آخرتك. بلغَني أنك يقول له: يابن ذات النِّطاقين، أنا والله ذات النطاقين، أمَّا أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أبي بكر الصديق من الدوابِّ، وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه. أما إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّثنا أن في ثقيف كذَّابا ومبيرا، فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه. قال: فقام عنها ولم يراجعها.
وقال يعلي بن حرملة: دخلتُ مكة بعدما قُتل ابن الزبير بثلاثة أيام فإذا هو مصلوب، فجاءته امرأة عجوز طويلة مكفوفة البصر تُقاد، فقالت للحجاج: أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟ فقال لها الحجاج: المنافق؟ فقالت: والله ما كان مُنافقا، ولكنه كان صوَّاما قوَّاما بَرَّاً. قال: انصرفي فإنك عجوز وقد خرفت. قالت: لا والله ما خرفت، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج في ثقيف كذابٌ ومُبيرٌ. أما الكذابُ فقد رأيناه، وأما المُبيرُ فأنت المُبيرُ. وقيل: إن الكذاب هو المختار بن أبي عُبيد الثقفيُّ. وذكر أن الحجاج حين ذكرت له هذا الحديث قال لها: اللهمَّ مُبيرٌ لا كذاب.(2/299)
وقال ابن أبي مُلَيْكة واسمه عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مُليكة. واسم أبي ملكية زهير بن عبد الله بن جُدعان التَّيميُّ تيمُ قريش: كنت الآذن لِمن بشَّر أسماء بنزول ابنها عبد الله بن الزبير من الخشبة. فدعت بِمركن وشَبٍّ يمانيٍّ وأمرتني بغسله. فكنا لا نتناول عضوا إلا جاء معنا. فكنا نغسل العضو ونضعه في أكفانه، ونتناول العضو الذي يليه فنغسله ونضعه في أكفانه. حتى إذا فرغنا منه قامت فصلَّت عليه، وكانت تقول قبل ذلك: اللهمَّ لا تمُتْني حتى تُقرَّ عيني بجثَّته، فما أتت عليها جُمعة حتى ماتت.
وقيل: إن عروة بن الزبير رحل من مكة إلى دمشق بعدما قتل الحجاجُ أخاه عبد الله. فلما وقف بباب عبد الملك قال للحاجب، قل لأمير المؤمنين: أبو محمد بالباب. فارتاع الحاجب وقال: ما أجفاك يا هذا! إنَّ أمير المؤمنين لا يُستأذن عليه بالكنى. فقال: إنك إن لم تفعل ما أمرتك به عاقَبَك. فدخل الحاجب مغضبا، فقال له عبد الملك: مالك ويحك؟ قال: يا أمير المؤمنين، بالباب رجل أظنُّه من أهل الحجاز، عليه ثياب غلاظ مُشَمَّرة قال لي قولا أُجلُّ أمير المؤمنين أن أخاطبهُ به. قال: قل ويحك. قال: يقول: قل لأمير المؤمنين أبو محمد بالباب. فضحك عبد الملك، وقال: هو عُروة بن الزبير، إئذن له. فلمَّا دخل عليه رغب إليه في إنزال أخيه من الخشبة، فأسعفه وأكرمه ووصله.
وقال عليُّ بن مجاهد: قُتل مع ابن الزُّبير مئتان وأربعون رجلا، منهم من سال دمه في جوف الكعبة. وقال سفيان بن عُيينة: مكث عامر بن عبد الله بن الزبير بعد قتل أبيه حولا لا يسأل الله لنفسه شيئا إلا الدُّعاء لأبيه.
وولد عبدُ الله عبدَ الله، وكان أشبه القوم بأبيه، وخُبيبا، وبه كان يُكنى أيضا، ولا عقب له، وقيسا ولا عقب له، وعامرا، وعبادا، وحمزة، وثابتا، وموسى. ولهولاء الخمسة أعقاب، وأنجبوا. ويروى عن عامر وعباد وحمزة الحديث.
وكان عامر بن عبد الله من أعبد أهل زمانه. وكانت فيه غفلة. أتيي بعطائه وهو في المسجد، فقام ونسبه في موضعه، فلما سار إلى بيته ذكره، فقال: يا غلام إئتني بعطائي الذي نسيت في المسجد. قال له: وأين يوجد وقد دخل المسجد بعدك جماعة؟ قال: وبَقِيَ أحد أن يأخذ ما ليس له؟ وسُرقت نعله فلم(2/300)
يلبس بعد ذلك نعلا حتى مات. وقال: أكره أن أتَّخذ نعلا، فيجيء من يسرقُها فيأثمُ. وفي هذا الضرب من الناس قال أيوب السِّختيانيُّ: في أصحابي من أرجو بركة دُعائه ولا أجيزُ شهادته. ويكنى عامر أبا الحارث. ولمالك عنه مُشافهة في كتاب الصلاة من الموطأ حديثان مُسندان نصُّهما.
مالك: عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن عمر بن سُليم الزِّرقيِّ، عن أبي قتادة الأنصاريِّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي، وهو حامل أمامة بنت زينب بنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي العاصي بن الربيع بن عبد شمس. فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها.
مالك: عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سُليم الزُّرْقيِّ، عن أبي قتادة الأنصاريِّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دَخل أحدُكم المسجد فليركع رَكعتين قبل أن يجلس، وذلك حسن وليس بواجب ". وروىمالك أيضا عن عَبَّادَ بن عبد الله بن الزبير في جامع الجنائز من الموطأ ما نصُّه: مالك عن هشام بن عروة، عن عبَّاد بن عبد الله بن الزبير أن عائشة زوج النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت، وهو مُسْتَندٌ إلى صدرها، وأصغتْ إليه يقول: " اللهمَّ اغفرْ لي وارحَمْني وألحِقْني بالرفيق ". وروى عباد عن عائشة وأبيه، وروى عنه ابنه يحيى بن عبَّاد.
وأما حمزةُ بن عبد الله بن الزبير: فيكنى أبا عُمارة. وكان من أجواد العرب. وكان عامل أبيه على البصرة وله عقب. وفيه يقول موسى شَهَوات:
حمزةُ المبتاعُ بالمالِ الثَّنا ... ويرى في بَيعهِ أنْ قد غَبَنْ
وهو إن أعطى عطاء كاملاً ... ذا إخاء لم يُكدِّرْهُ بِمَنْ(2/301)
وإذا ما سَنَةٌ مُجحِفَةٌ ... بَرَتِ المالَ كَبْريٍ بالسَّفَنْ
حَسَرتْ عنهُ نقياً عرضُهُ ... طاهرَ الأثوابِ ما فيهِ دَرَنْ
وروى حمزة عن عائشة، وابنه عبد الواحد بن حمزة حمزة روى عن عمِّه عبادِ بن عبد الله [بن] الزبير. وروى عن عبد الواحد عبد العزيز بن محمد الدَّراوَرْدِيُّ وموسى بن عقبة.
وأما ثابتُ بن عبد الله بن الزبير: فكان بذيئاً لسِنا بئيساً. وولد ثابت نافعا ومُصْعبا. ويكنى نافع أبا عبد الله. ومات سنة خمس وخمسين ومئة، وقد بلغ اثنتين وتسعين سنة.
وابنه أبو بكر عبد الله بن نافع: سمع مالك بن أنس، ذكره مسلم في كتاب " الكنى ".
وأما أخوه مصعب بن ثابت: فمات بالمدينة سنة سبع وخمسين ومئة، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة.
وابنه عبد الله بن مصعب: كان عامل مروان بن محمد على المدينة واليمن، وهو والد مصعب بن عبد الله الزُّبيري، وبكار والد الزُّبير بن بكار. وكان الغالب على مصعب بن عبد الله الزُّبيريِّ النسب والأخبار. وله كتاب في نسب قريش، وكذلك ابن أخيه الزبير بن بكار. ووَليَ الزُّبير قضاء مكة.
وأما موسى بن عبد الله بن الزبير: فكان له عقب بالمدينة، منهم: صُدَيقُ ابن موسى، وكان من سَرِواتِ قُريش.
ومن موالي عبد الله بن الزُّبير أبو نُعيم وهْبُ بن كَيسان: وهو من التابعين. روى عن جابر بن عبد الله وعمر بن أبي سَلمة. ولمالك عنه في الموطأ حديثان.
عروةُ بن الزبير: كنيته أبو عبد الله وأبو محمد، كان يُدعى بهما، وأبو عبد(2/302)
الله أشهر. وكان فقيها فاضلا، وهو أحد الفقهاء السبعة. قال عمر بن العزيز: ما أحد أعلم من عروة بن الزبير. وقال ابن شهاب: عروة بحر لا تكدَّرُه الدَّلاء. وكان من الزهَّاد في الدنيا، الراغبين في الآخرة، العالمين بالكتاب والسُّنَّة. تمنىَّ على الله خير أُمنية بصدق نية، فأنعم عليه بما يتمنى، وسهَّل له مطلوبّهُ وسَنَّى.
ذُكر أنه اجتمع عبد الله بن الزبير وعُروة ومُصعب أخواه وعبد الملك بن مروان يوما بمكة في حِجْر إسماعيل عليه السلام. فقال بعضهُم: هلمَّ فَلنْتمنَّ على الله، فإن هذا موضع استجابة للدُّعاء. فقال عبد الله بن الزبير: أتمنَّى أن أملك الحرمين، وأُسمَّى أمير المؤمنين. وقال مصعب بن الزبير: اتمنَّى أن أَلِيَ العراقين، وأن أنكح عائشة بنت طلحة وسُكينة بنت الحسين. وقال عبد الملك بن مروان: أتمنى أن أملك الأرض كلَّها. وقال عروة بن الزبير: لستُ ممَّا أنتم في شيء؛ أتمنى الزُّهد في الدنيا والجنة في الآخرة، وأن أكون مِمَّن يُروى عنه هذا العلمُ. فبلغ كلُّ واحد منهم أُمنيَّتَهُ؛ فكان عبد الملك بن مروان يقول: من سَّرهُ أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى عروة بن الزبير.
وأصابت عُروة الأكِلةُ في رجله، وهو بالشام عند الوليد بن عبد الملك فقُطعت رجله والوليد حاضر فلم يتحرَّك، ولم يشعر الوليد أنها تُقطع حتى كُويَتْ، فوجدوا رائحة الكيِّ، وبقي بعد ذلك ثماني سنين. ولما قُطعت رجله ووُضعت بين يديه قال: الحمد لله الذي أخذ مني واحدة، وأبقى لي ثلاثا، يعني رجله الأخرى ويديه. ولم يدع وِردَةُ تلك الليلة. وقال أيضا:
لعَمرُك ما أهويتُ كفي لريبَةٍ ... ولا حَملتْني نحوَ فاحشةٍ رِجْلي
ولا قادني سمعي ولا بَصري لها ... ولا دلَّني دِيني عليها ولا عقلي
وأَعلمُ أني لم تُصبْني مُصيبةٌ ... منَ الدهر إلا قد أصابت فتىً قبلي
وولد عُروة سنة ست وعشرين ومات سنة أربع وتسعين، قاله مصعب بن(2/303)
عبد الله الزبيريُّ. وكانت تلك السنة تُدعى سنة الفُقهاء، لكثرة من مات منهم فيها. وقال الواقديُّ: مات وهو ابن سبع وستين.
وولد عروة عبد الله وهشاما ومحمدا ويحيى. فأما عبد الله بن عروة فكان من أخطب الناس وأبلغهم. وكان يشبَّه بخالد بن صفوان في البلاغة وقيل له: تركت المدينة دار الهجرة، فلو رجعت لقيت الناس، ولقيك الناس فقال: وأين الناس؟ إنما الناس رجلان. شامت بنكبة أو حاسد لنعمة. وعَمي قبل موته، وأعقب بالمدينة. وروى عنه أخوه هشام.
ومن ولده عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة أبو الحارث. سمع عمَّ أبيه هشاما. روى عنه احمد بن حنبل.
وأما هشام بن عروة: فكان فقيها، وكان من ساكني المدينة، وهو أحد أشياخ مالك. وله عنه في الموطأ خمسون حديثا، منها ستة وثلاثون مُسندة وسائرها مراسل تستند من وجوه صحاح. وقدم الكوفة أيام أبي جعفر فسمع منه الكوفيون. وقدم بغداد في آخر عُمره، فمات بها سنة ست وأربعين ومئة. ودفن في مَقْبرة الخيزُران، وأعقب بالمدينة وبالبصرة. وكان يكنى أبا المنذر. وروى هشام عن أبيه كثيرا. وروى أيضا عن امرأته فاطمة بنة عبد المنذر بن الزبير، وكانت تحته، وكانت أسنَّ منه.
وأما محمد بن عروة: فكان من أجمل الناس ولا عقب له الرجال. وأما يحيى بن عروة فكان له علم بالنَّسب وأيام الناس فذكر إبراهيم بن هشام المخزوميَّ خال هشام بن عبد الملك وواليَهُ على المدينة، قادحا في نسبه. فأمر به هشام فضُرب فمات بعد الضرب. وأعقب بالمدينة.
المنذر بن الزبير: كان يُكنى أبا عثمان، وكان سيدا حليما. وقُتل مع ابن الزبير.
ومن ولده محمد وعاصم. فأما محمد بن المنذر فكان يقال له سيد قُريش ويكنى أبا زيد. وكان إذا مرَّ في الطريق أُطفئت النيران تعظيما له. وانقطع يوما قِبال نعلهِ، فقال برجله هكذا. فنزع الأخرى ومضى، وتركهما ولم يعرِّج(2/304)
عليها. وهو القائل: ماقلَّ سفهاء قوم قطُّ إلا ذلَّوا. وله عقب.
وأما عاصم بن المنذر فمن ولده أبو عبد الله بن الزبير بن أحمد بن سليمان ابن عبد الله بن عاصم بن المنذر بن الزبير بن العوام، مات قبل العشرين وثلاثمئة، وكان أعمى. وله مصنفات في مذهب الشافعي كثيرة مليحة، منها: الكافي، وكتاب النِّية، وكتاب سَترِ العورة، وكتاب الهدية، وكتاب الاستشارة والاستخارة، وكتاب رياضة المتعلم، وكتاب الإمارة.
انقضى ذكر ولد الزبير من أسماء بنت الصديق وأعقابهم.
ذكرُ ولد الزبير من غير أسماء رضي الله عنها، وهم: مصعب، وحمزة، وقتل حمزة مع أخيه عبد الله بمكة، ولا عقب له، وخالد، وعمر، وعبيدة، وجعفر.
فأما مصعب: فكان يكنى أبا عبد الله وأبا عيسى، وكان أجود العرب جميلا، باهر المَرْآةِ، شريف النفس، بعيد الهمَّة غزيزها. وفيه يقول عبيد الله بن قيس الرقيات:
إنما مصعبٌ شهابٌ من الله ... تجلَّتْ عن وجههِ الظُّلماء
مُلكُهُ ملكُ رحمةٍ ليسَ فيه ... جَبروتُ منهُ ولا كِبرياءُ
يتَّقي اللهَ في الأمور وقد أف ... لحَ مَن كان همُّه الاتِّقاء
وولاَّهُ أخوه عبد الله العراقين، فسار إليه عبد الملك، ووجَّه أخاه محمد بن مروان على مقدِّمته. فلقيه مصعب فقاتلهُ، فقتل محمد مصعبا بدير الجاثليق بين الشام والكوفة سنة إحدى وسبعين. وقُتل ابنه عيسى بن مصعب معه. وخطبة أخيه عبد الله حين بلغه قتله مما يُعدُّ من فصاحته وبلاغته. يُروى أنه لما أتى عبد الله بن الزبير قتل مصعب خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعدُ فإنه أتانا خبر مصعب فسُرونا واكتأبنا، فأما السرور فلما قُدِّر له من الشهادة و....(2/305)
له من الثواب. وأما الكآبة فلوعة يجدها الحميمُ عند فراق حميمه. وإذا والله ما نموتُ.
وجمع المصعب بين عَقيلتين لم يجمع بينهما شريف، وهما سُكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله. وكانتا في غاية من الشرف والجمال. وأخبار سُكينة أكثر من أن تُحصى. وكانت سُكينة تحت المصعب حين قتل. ولما كان يوم مَسكين وهرب أكثر الناس عن المصعب دخل إلى سُكينة بنة الحسين وكانت له شديدة المحبة، وكانت تُخفي ذلك عليه، فلبس غِلالة وتوشَّح عليها، وانتضى السيف. فلما رأت ذلك عَلِمت أنه عزم ألا يرجع فصاحت من ورائه: فالتفت إليها، فقال: أوهذا لي في قلبك؟ فقالت: أي والله وأكثر من هذا. فقال: أما لو علمت لكان لي ولك شأن. ثم خرج، فقال لأبنه عيسى: أنجُ إلى نجائك، فإن القوم لا حاجة بهم إلى غيري. فقال: يا أبتاه لا أحرِّف عنك والله أبدا، فقال له؛ وهي الحظوظُ، أما والله لئن فعلت ذلك لما زلت أعرف الكرم في أسرارك وأنت تَقلَّب في مَهدك. فقتل بين يدي أبيه ففي ذلك يقول شاعر أهل الشام من اليمامة:
نحن قتلنا مُصعباً وعيسى
وابنَ الزبير البطلَ الرئيسا
عَمْداً أذٌَْنا مُضَرَ التبئيسا
وقال رجل من أهل الشام يذمُّ رجلا:
فلو كانَ شَهْمَ النَّفس؟ أوذا حفيظةٍ ... رأى ما رأى في الموتِ عيسى بنُ صعبِ
ولما أرادت سُكينة بنت الحسين الرحيل من الكوفة بعد قتل زوجها المصعب حفَّ بها أهل الكوفة، وقالوا: أحسن الله صحابتك يابنة رسول الله. فقالت: لا(2/306)
جزاكم الله خيرا من قوم، ولا أحسن الخلافة عليكم. قتلتم أبي وجدي وعمي وزوجي، أيتمتموني صغيرة وأرملتموني كبيرة.
ومما نُقم على أهل الكوفة أنهم أغدر الناس؛ انتهبوا عسكر الحسن بن غلي وهم من جنده، وخذلوا الحسين بن عليٍّ بعد أن استدعوه حتى قُتل، وشكوا سعد ابن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب، وزعموا أنه لا يحسن أن يُصلي، فدعا عليهم ألاَّ يُرضِيهم الله عن وال، ولا يُرضي واليا عنهم. وقد دعا عليهم عليُّ بن أبي طالب وقال: اللهمَّ ارمهم بالغلام الثَّقفيِّ الذي لايقبل من مُحسنهم ولا يتجازو عن مُسيئهم، وشكوا عمار بن ياسر والمغيرة بن شعبة، وطردوا سعيد بن العاصي والوليد بن عقبة، وقالوا لعثمان: لا حاجة لنا في سعيدك ولا وليدك.
وقال بعض شعرائهم:
يا وَيلتي قد ذهبَ الوليدُ
وجاءنا من بعده سعيدُ
ينقصُ في الصَّاع ولا يزيدُ
ومن أخبار عائشة بنت طلحة: نظر أبو هريرة رضي الله عنه إلى عائشة بنت طلحة فقال: سبحان الله ما أحسن ما غذَّاك أهلُك! والله ما رأيت وجها أحسن من وجهك إلا وجه معاوية على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان معاوية من أحسن الناس وجها. ونظر ابن أبي ذئب إلى عائشة بنة طلحة تطوف بالكعبة فقال لها: من أنت؟ فقالت:
من اللائي لم يَجْجُجْنَ يَعْين حِسبةً ... ولكنْ ليقتلْنَ البريء المُغفَّلا
مثلك أبا عبد الله. قال: صان الله ذاك الوجه عن النار. قيل: أفَتَنتْك أبا عبد الله. قال: لا، ولكنَّ الحسن مرحوم. وعن الشعبيِّ قال: إني لفي المسجد نصف النهار إذ سمعت باب القصر يُفتح، فإذا بمصعب بن الزبير معه جماعة، فقال: يا شعبيُّ اتبعني، فاتبعته فأتى دار موسى بن طلحة، فدخل مقصورة، فأتبعته فإذا امرأة جالسة عليها من الحلي والجواهر مالم أر مثله، ولهي أحسن من الحلي(2/307)
الذي عليها. فقال: ياشعبيُّ، هذه التي يقول فيها الشاعر:
وما زلتُ في ليلي لَدُنْ طَرَّ شاربي ... إلى اليوم أُخفي حبَّها وأداجِنُ
وأحملُ في ليلي لقَومي ضغينةً ... وتُحملُ في ليلي عليَّ الضغائنُ
هذه عائشة بنت طلحة. فقالت: أمَّا إذ جَلَوْتني عليه فأحسن إليه فقال: يا شعبيُّ، رُحِ العشيَّة، فرحتُ. فقال: يا شعبيُّ ما ينبغي لمن جُليت عليه عائشة أن يُنقص من عشرة آلاف شيئا. فأمر لي بها وبكسوة وبقارورة غالية. فقيل للشعبِّي في ذلك اليوم: كيف الحال؟ قال: وكيف حال من صدر عن الأمير ببدرة وكسوة وقارورة غالية ونظر في وجه عائشة بنت طلحة؟ وكانت قبل مصعب عند ابن خالها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصدِّيق، فولدت له طلحة، وكان جوادا، ولم تلد إلا له.
وأصدق المصعب عائشة حين تزوجها ألف ألف درعهم. وفي صداقها قال أنس ابن زُنيم الدُّؤليُّ، وكان مع المصعب بالعراق لأخيه، وكان مع عبد الله بن الزبير بمكة:
أَبلغْ أميرَ المؤمنينَ رسالةً ... من ناصحٍ لكَ لا يريدُ وَداعا
لو لأبي حَفصٍ أقولُ مقالتي ... وأقصُّ شأنَ حديثهم لارتاعا
قوله: أبلغ أمير المؤمنين يعني عبد الله بن الزبير. وقوله: لو لأبي حفص يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد أثبت هذه الأبيات لقائلها في صدر هذا الكتاب عند ذكر بني الدُّئل في كنانة.
وتزوَّجها بعد قتل المصعب عُمر بن عبيد الله بن مَعْمر، وروى مصعب عن أبيه الزبير، كذا قال مسلم في الكنى، وكناه بأبي عبد الله.(2/308)
وولد مصعب عيسى وعُكاشة وجعفر وحمزة، فأما عيسى فقُتل مع أبيه ولا عقب له، وأما عُكاشة فكان له عقب بالمدينة. وابنه مصعب بن عكاشة: قُتل يوم قُديد. وأما جعفر فتزوَّج مُليكة بنت الحسن بن الحسن بن علي فولدت له نساء، وله ولد من غيرها. وأما حمزة فقُتل هو وابنه عُمارة يوم قُديد. وأعقب بالمدينة. ومن ولده: أبو إسحاق إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزبير. سمع والدَّرواورْديَّ وابن وهْبٍ.
وأما خالد بن الزبير: فاستعمله أخوه عبد الله على اليمن. وله عقب منهم خالد بن عثمان بن الزبير. كان خرج مع محمد بن عبد الله الحُسيني، فأخذه أبو جعفر فصلبه.
وأما عمرو بن الزبير: فكان يُكنى أبا الزبير، وكان له قدر كبير. وخالف أخاه عبد الله، فقاتله، ثم جاءه في جُوار عُبيدة أخيه، فقتله. وله عقب.
وابنه عمرو بن عمرو: الذي يقول أبو حُكيم الحزين بن سُليمان:
لو ان اللُّؤمَ كان معَ الثريا ... تناولَ رأسه عمرُو بنُ عمرِو
وقيل: اسم الحزين عمرو بن عبيد من بني ليث بن كنانة. ذكر هذا الواقديُّ. والأولُ قولُ عمر بن شَبَّة. وقال إنه مَوليِّ.
وأما عُبيدة بن الزبير فهو الذي قال لعمرو بن الزبير حين قاتل أخلاه عبد الله: امض معي إليه، وأنت في جواري. فإن أمنك وإلا رددتُك إلى مأمنِك. فمضى معه، فلم يُجر عبد الله أمانه، وأقصَّ منه حتى مات. ولعبيدة عقب.
وأما جعفر بن الزبير فكان من فتيان قريش. وكان صاحب غزل، وابنه محمد بن جعفر روى عن ابن عمِّه عبَّادِ بن عبد الله بن الزبير عن عائشة حديث الرجل الذي وطئ نهارا في رمضان. فقال: احترقت. خرَّجه مسلم. ورواه عنه عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أحد شيوخ(2/309)
مالك. وروى أيضا عن عمِّه عُروة بن الزبير عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَن مات وعليه صيام صام عنه وليُه ".
ومن بنات الزبير رملةُ: وكانت تحت خالد بن يزيد ين معاوية وكان يحبُّها، زفيها يقول:
تجولُ خلاخيلُ النساء ولا أرى ... لرملةَ خَلخالاً يجولُ ولا قُلْبا
فلا تُكثِروا فيها الملامَ فإنني ... تخيَّرتُها منهم زُبيريةً صُلبا
أحب بني العوَّام طُرَّاَّ لحبِّها ... ومن أجلها أحببتُ أخوالها كَلبا
وافتعل على لسان خالد بيت رابع، وهو:
فإنْ تُسْلمي أْسْلمْ وإنْ تَتنصَّري ... يُعلِّقْ رجالٌ بين أعيُنِهم صُلْبا
ويروى أن عبد الملك بن مروان أنشد خالدا البيت فغضب وقال: يا أمير المؤمنين على قائله لعنة الله.
ومن موالي الزبير البَهيُّ الذي يروي عن عائئشة، واسمه عبد الله بن يسار، ويكنى أبا محمد. ونزل الكوفة، فروى عنه الكوفيون. روى البَهيُّ عن عائشة قال: سأل رجل النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس خير؟ قال:....... خرَّج الحديث مسلم.
ومن موالي آل الزبير حُميدُ بن قيس الأعرج المكيُّ أحد أشياخ أبي عمرو ابن العلاء في القراءة. وكان قاريء أهل مكة، كثير الحديث، فارضا، حاسبا. وروى عنه مالك في الموطأ، وقرأ على مجاهد.(2/310)
وأخوه عمر بن قيس يضعَّفُ في حديثه.
وكان الزبير من الإخوة: السائب وعبد الرحمن فأما السائب فكان شقيق الزبير، وشهد أحدا والخندق وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقُتل يوم اليمامة شهيدا.
وأما عبد الرحمن فكان أخا الزبير لأبيه وأسلم عام الفتح، وصحب النبيَّ صلى الله عليه وسلم، واستشهد يوم اليرموك، وقُتل ابنه عبد الله بن عبد الرحمن يوم الدار. وامرأته جميلة بنت عبد العزَّي بن قَطَن من بني المُصْطلِقِ من خزاعة، كانت من المبايعات. ولا نعلم لها رواية. وهي أمُّ ابنه عبد الله بن عبد الرحمن وغيره. وأبوها عبد العزَّي بن قَطنٍ هو الذي شَبَّه به رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجّال في حديث النَّواسِ بن سَمعان. خرَّجه مسلم.(2/311)
أبو محمد
طلحة بن عبيد الله(2/313)
أبو محمد طلحة بن عبيد الله
ابن عثمان نب عمرو بن عامر نب عثمان بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة ابن كعب. نسبه ونسب أبي بكر الصديق واحد، يجتمع معه في كعب بن سعد ابن تميم. وكان يقال له طلحة الخير وطلحة الجُود وطلحة الفيَّاض. وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: " أوجب طلحةُ ".
الترمذي: حدثنا أبو سعيد الأشجُّ: نا يونس بن بُكير عن محمد بن إسحاق، عن عبَّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده عبد الله ابن الزبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعان، فنهض إلى صخرة فلم يستطع، فأقعد تحته طلحة، وصعد النبيُّ صلى الله عليه وسلم، حتى استوى على الصخرة فقال: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: " أوجب طلحة، وكان شهيدا وهو حيٌّ ".
الترمذي: نا قُتيبة: نا صالح بن موسى الطَّلحيُّ من ولد بن عبيد الله، عن السَّلطيِّ بن دينار، عن أبي نضرة قال: قال جابر بن عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " " من سَّره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر طلحة بن عبيد الله ". وكان ممَّن أنزل الله فيه؛ " فمنهم مَن قَضى نحبه ".
الترمذي: حدثنا عبد القدوس بن محمد العطار: نا عمرو بن عاصم، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن عمِّه موسى بن طلحة قال: دخلت على معاوية(2/315)
فقال: ألا أبشِّرُك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " طلحة ممَّن قضى نحبه ". وقال البخاريُّ في كتاب " الفوائد " له: حدثنا أبو كُريب محمد بن العلاء: نا يونس بن بُكير: نا طلحة بن يحيى عن موسى وعيسى ابني طلحة عن أبيهما طلحة أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابيٍّ جاهل: سَله عمَّن قضى نحبه مَن هو؟ وكانوا لا يجترئون هم على مسألته يُوقِّرونه ويهابونه. فسأله الأعرابيُّ فأعرض عنه. ثم إني طلعت من باب المسجد وعليَّ ثياب خضر، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " " أين السائل عمَّن قضى نحبه؟ ". قال الأعرابيُّ: أنا يا رسول الله. قال " " هذا ممَّن قضى نحبه ".
وخرَّج الترمذيُّ هذا الحديث عن البخاري. بسنده ونصِّه. وكان ممَّن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وسلم يوم أحد ووقاه بيده من ضربة قُصد بها فشلَّت يده. حدَّث أحمد بن زهير أبي خيثمة قال: نايحيى بن معين: نا وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال: رأينت يد طلحة شلاَّء.
الترمذي: عن علي بن أبي طالب قال: سمعت أذني من في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " طلحة والزبير جاراي في الجنَّة ". وقال أبو عليٍّ إسماعيل بن القاسم البغداديُّ في " النوادر " له: حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم قال: نا خلف بن عمرو العكْبريُّ قال: نا أبو عبد الرحمن بن عائشة قال: نا عبد الرحمن بن حماد عن طلحة بن يحيى بن طلحة، عن أبيه، عن طلحة بن عبيد الله قال: رمي إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسفرجلة وقال: " دونكها يا أبا محمد فإنها تجمُّ الفؤاد " قال أبو بكر: قال خلف بن عمرو: قال أبو عبد الرحمن ابن عائشة: تجمُّ الفؤاد: تُريحه. قال أبو بكر وقال غيره: تجمُّ الفؤاد معناه تفتحه وتوسِّعه. من جمام الماء وهو اتساعه وكثرته.
ولم يشهد طلحة بدرا. قدم من الشام بعد رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم منبدر. فضرب له صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، فكان كمن(2/316)
شهدها. وهو من المهاجرين الأولين. وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين كعب بن مالك حين آخى بين المهاجرين ةالأنصار. وأمُّ طلحة الصعبة بنت الحضرمي أخت العلاء بن الحضرميِّ. وكانت قبل عُبيد الله عند أبي سفيان بن حرب، فطلقها، ثم تتبَّعتها " نفسه " وقال:
إني وصعبةُ فيما نَرى ... بَعيدانِ والودُّ ودٌّ قريبُ
فإلاَّ يكنْ حسَبٌ ثاقبٌ ... فعند الفتاةِ جمالٌ وطيبُ
فيالَ قُصيٍّ ألا فاعْجبوا ... ألِلْوبَرِ صار الغزالُ الربيبُ؟
كان طلحة أول من بايع عليا عندما قُتل عثمان، وكانت يدُه شلاء. فقال رجل ممَّن " شهد ": يد شلاء بايعت أولا، ما أسرعها للنكث! فكان كما قال.
وحضر الجمل مع عائشة " ومع " مروان بن الحكم. وروى جُويرية بن أسماء عن يحيى بن سعيد عن عمِّه قال: رمى مروان بالسَّهم ثم التفت إلى أبان بن عثمان. فقال: قد كفيناك بعض قتلة أبيك وقال أحمد بن....: نا عبد السلام ابن صالح: نا عليُّ بن مُسهر: نا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم.... أبصر طلحة بن عبيد الله واقفا يوم الجمل. فقال: لا أطلب بثأري بعد اليوم، فرماه، فأصاب فخذه فشكها بسرجة، فانتزع السهم فكان إذا أمسكوا الجرح انتفخت الفخذ وإن خلَّوه سال الدم فقال طلحة: دعوه فإنه سهم من سهام الله أرسله، فمات فدُفن بقنطرة ... رأت عائشة بنته بعد موته بثلاثين سنة في المنام أنه يشكو النَّرَّ، فأمرت به فاستخرج " وتولى " إخراجه عبد الرحمن بن سلامة التميمي فدُفن في داره في الهَجَريِّي بالبصرة ... وقيل: إنهم لما نبشوا عنه وجدوا ما يلي الأرض من " جسمه " مخضرا وقد تحاصَّ شعَرُهُ فاشتروا له دارا(2/317)
من دور أبي بكرة بعشرة آلاف " درهم فدفنوه " فيها. وقيل: وهو ابن ستين سنة. وقيل: ابن اثنين وستين، لعشر خَلون من جُمادي الآخر سنة ست وثلاثين.
وسمع عليٌّ رضي الله عنه رجلا ينشد:
فتىً كان يُدنيهِ الغني من صديقِهِ ... إذا ماهو استغنى ويبعِدُه الفقرُ
قال: ذلك أبو طلحة بن عبيد الله رحمه الله.
وقيل: أنَّه لما انقضى يوم الجمل خرج عليُّ بن أبي طالب في الليلة التالية ليومه ومعه قُنبر، وبيده مشعلة من نار يتصفَّح بها القتلى حتى وقف على رجل قال: أهو طلحة؟ قال: نعم. فلمَّا وقف عليه قال: أعزز عليَّ أبا محمد بأن أراك معفَّرا تحت نجوم السماء، وفي بطون الأودية:
شَفيتُ نفسي، وقتلتُ معشري ... إلى اللهِ أشكو عُجَري وبُجَري
قوله: عُجري وبجري يقول: ما أسرُّ من أمري. قال الأصمعيُّ: وهو قول سائر في أمثال العرب، لَقي فلان فلانا فأبَثَّه عُجرَهُ " وبُجَرهُ ".
وقال الطبريُّ في تاريخه: قال عليٌّ رضي الله عنه حين أمسى من يوم " الجمل " وانحسر عن القتال:
إلَيك أشكو عُجَري وبُجَرَي
ومعشراً أعشَوا علليَّ بصري
قتلْتُ منهم معشراً بمُضَري
شَفيْتُ نفسي وقتلتُ مَعشري(2/318)
وذُكر أن علياً رضي الله عنه لما وقف على مصرع طلحة بكى أخضلَ لحيته بدموعه. ثم قال: إني لأرجو أن أكون أنا وأنت ممَّن قال فيهم:) ونَزعْنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سُررٍ متقابلين (. ووقف على مصرع ابنه السَّجاد فقال: هذا رجل قتله بِرُّه بأبيه.
حلية طلحة: قال موسى بن طلحة " كان " أبيض يضرب إلى الحمرة، مربوعا، هو إلى القصر أقرب، رحب الصدر عظيم المنكبين إذا التفت التفت جميعا، ضخم القدمين لا أخمص لها. وإذا كان الرجل لا أخمص لقدميه فهو أرحُّ. " وقال " الفضل بن دُكين عن قيس بن الربيع عن عمران بن موسى بن طلحة عن أبيه قال: كان في يد " طلحة " خاتم من ذهب، فيه ياقوتة حمراء، وكانت غَلَّته كلَّ يوم ألف درهم واف.
أولاد طلحة: وكانوا عشرة، وهم: محمد وعمران وعيسى وموسى وإسحاق وإسماعيل ويعقوب وزكرياء وصالح.
فأما محمد بن طلحة: فكان من خيار أبنا الصحابة وعُبَّادهم يدعى السَّجاد لكثرة سجوده. وأمُّه حَمْنَة بنت جحش أخت زينب بنت جحش زوج النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فمسح رأسه وسماه محمدا وكناه بأبي القاسم. وروى يزيد ابن هارون عن أبي ش ... بن عثمان، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آلا طلحة. عن عيسى بن طلحة قال: حدَّثتني ظئرُ طلحة قالت: لما وُلد محمد بن طلحة أتينا به النبيَّ عليه السلام فقال: ما سمَّيتموه؟ قلنا: ... [قال:] " هذا سَمِيِّ ". وكنيته أبو القاسم.
وكان عليٌّ قد نهى عن قتله يوم الجمل، وقال: " إياكم وصاحبَ "(2/319)
البرُنُسِ وكان أبوه طلحة قد أمره أن يتقدَّم للقتال. فتقدم ونثل درعه بين " رجليه وقام " عليها. وجعل كلمَّا حمل عليه رجل قال: نشدُّ بحاميم. حتى شدَّ عليه رجل فقتله " فأنشأ يقول ":
وأشعثَ قوَّامٍ بآياتِ ربِّهِ ... قليلِ الأذى فيما تَرى العينُ مُسْلمِ
ضَممتُ إليه بالقناةِ قميصَهُ ... فخرَّ صريعاً لليدينِ وللفَمِ
على غير شيء أنْ ليس تابعاً ... علياً، ومن لا يتْبَعِ الحقَّ يظْلِمِ
يذكِّرني حاميمَ والرمحُ شاجرٌ ... فهلاَّ تلا حاميمَ قبلَ التقدُّمِ
وولد محمد بن طلحة إبراهيم: وكان أصلع أعرج سيدا، يسمَّى أسد الحجاز. و " استعمله " عبد الله بن الزبير على خراج الكوفة، ومات بمكة وهو مُحرم. ويُكنى أبا إسحاق. وسمع عا ... وأبا هُريرة وعمَّه عمر بن طلحة. وروى عنه عبد الله بن محمد بن عقيل ومخرمة بن سُليم ومحمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة.
وولد إبراهيم عمران ويعقوب. وأمُّهما بنت ... بن طلحة، وأمُّها لُبابة بنت عبد الله بن العباس وموسى. فولد " عمران بن " إبراهيم محمد بن عمران، قاضي المدينة لأبي جعفر. وولي القضاء أيضا ابني أمية، وكان جليلا مهيبا صارما. ولما بلغ موته أبا جعفر المنصور قال: اليوم استوت قريش. وكان بخيلا، وهو القائل حين عوتب في البخل: إني لا أجمُدُ عن الحق ولا أذوب في الباطل. ومات وهو على قضاء المدينة سنة اربع وخمسين ومئة.(2/320)
وأما موسى بن إبراهيم بن محمد بن طلحة فولد عبد الله، ويُكنى أبا محمد روى عن أسامة بن زيد اللَّيثيِّ مولى لهم. وروى عنه إبراهيم بن حمزة وإبراهيم بن حمزة وإبراهيم ابن المنذر.
وأما عمران بن طلحة فكان شقيق محمد السجَّاد، وكانت عنده أمُّ كلثوم بنت الفضل بن عباسٍ، ولا عقب له.
وأما عيسى بن طلحة فكان يكنى أبا محمدٍ، وروى عن أبيه وابن عمر وعبد الله بن عمرو. روى عنه الزهريُّ وابن أخيه طلحة بن يحيى وكان عيسى ناسكاً بخيلاً، ووفد إلى عبد الملك بن مروان فكلَّمه مع عمر بن عبد الرحمن بن عوف في عزل الحجاج عن الحجاز فعزلَهُ. وتُوفي في خلافة عمر بن العزيز، وله عقب.
وأما موسى بن طلحة: فكنيته أبو عيسى وسمع أباه وعائشة وأبا هُريرة، روى عنه عبدُ الملك بن عُمير وسماك. ومات موسى بالكوفة سنة أربع ومئة. وكان يشدُّ أسنانه بالذهب، ويخضِب بالسواد.
وابنه محمد بن موسى: كانت أمُّه بنت عبد الرحمن بن أبي بكرٍ الصديق. ووجَّهه عبد الملك بن مروان إلى شَبيبٍ فقتله شبيب.
وأخوه عمران بن موسى: كانت أمُّه أمُّ ولدٍ، وكان سخياً.
وأما إسحاق بن طلحة: فكان معاويةُ استعمله على خراسان شريكاً لسعيد بن عثمان بن عفان. ومات بالريِّ وأعقب عدداً من الولد.
وأما إسماعيل بن طلحة: فكان سَرياً، وكانت عندهُ لُبابةُ بنت عبد الله ابن عباس.
وأما يعقوب بن طلحة: فقُتل يوم الحَرَّة، وأعقب.
وأما يحيى بن طلحة: فكان من خيار ولد طلحة.
وابنه أبو محمد إسحاق بن يحيى بن طلحة: روى عن عمِّه موسى بن طلحة(2/321)
وعن المسيَّب بن رافع. وروى عنه ابن مبارك ووكيع والهيثم بن جميل وعمرو بن عاصم. وأمُّ إسحاق أمُّ إياس بنت أبي موسى الأشعري.
وأخوه طلحة بن يحيى: روى عن عميَّة موسى وعيسى ابني طلحة. وروى عنه يونس بن بكير.
وأما زكرياء بن طلحة: فهو شقيق عائشة بنت طلحة: أمُّهما أمُّ كلثوم بنت أبي بكرٍ الصديق. وكان زكرياء بن طلحة سخياً، وأعقب.
وأما صالح بن بن طلحة: فأمُّه تغلبية، ولم أجد له خبراً يُذكر.
ومن موالي طلحة مسلم بن يسار: وكان لا يفضل عليه أحد في زمانه. وكان إذا غضب، فاشتدَّ غضبه قال: فُرِّق بيني وبينك. وإذا قالها علموا أنه لم يبق بعد ذلك شيء. وتُوفي سنة مئةٍ أو إحدى ومئة.
وابنه عبد الله بن مسلم بن يسار: وقد رُوى عنه. وكان مسلم لا يلعن شيئاً، فإذا غضب على البهيمة قال: أكلت سُمّاً قاضياً. وكان يقول: إني لأكرهُ أن أمسَّ فرجي بيميني، وأنا آخذ بها كتابي.
ومن موالي طلحة أيضاً أبو نُعيم الفضل بن دُكين المحدِّث. كان يروي عن الثوريِّ والأعمش. وتُوفي بالكوفة سنة تسع عشرة ومئتين.
وكان لطلحة إخوة: عبد الرحمن بن عبيد الله وعثمان بن عبيد الله.
فأما عبد الرحمن: فكانت له صحبة، وقُتل يوم الجمل مع أخيه طلحة رحمهما الله. وأما عثمان: فأسلم وهجر وصحب النبيَّ صلى الله عليه وسلم. ولا تُحفظُ له رواية.
وابنه عبد الرحمن بن عثمان: من الصحابة، أسلم يوم الحديبية، وقيل: بل أسلم بعد يوم الفتح. وقُتل مع ابن الزبير بمكة في يومٍ واحد.
ومن ولده محمد بن طلحة بن محمد بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله. وكان أعلم الناس بالنسب والمغازي. وقد روى عنه الحديثُ. وكان لعبد الرحمن(2/322)
أيضا ابنان: مُعاذ وعثمان رويا عنه، وهما أخوا محمد جدِّ النسَّابة محمد بن طلحة بن محمدٍ. وروى عن عبد الرحمن بن عثمان محمد بن المُنكدر وأبو سلمة ابن عبد الرحمن ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب. من حديثه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضيَّة سلك بين الشجرتين اللتين في المَروة مُصعداً. ومن حديثه أيضاً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن لُقطة الحاج. قال محمد بن سعد كاتب الواقديِّ: يقال لعبد الرحمن هذا: شارب الذهب.
ومن خلفاء عثمان بن عبيد الله أبو عامر: جد والد مالك بن أنس بن مالك ابن أبي عامر. ولأبي عامر صحبة. وهو أصبحيٌّ من ذي أصبح من حمير، وإليه تنسب السياطُ الأصبحيَّة. واسمه الحارث بن مالك بن زيد بن قيس بن ضبعي بن حمير الأصغر.
ومالك بن أبي عامر: جد مالك بن أنس لأبيه. روى عن عمر وعثمان وطلحة وأبي هريرة، وكان ثقةً.
وعمُّ مالك أبو سهيل: واسمه نافع. روى عنه الحديث مالك وغيره. مالك: عن عمَّه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال: كنت أرى طنفسةً لعقيل بن أبي طالب يوم الجمعة تُطرح إلى جدار المسجد الغربي، فإذا غشي الطنفسة كلَّها ظلُّ الجدار خرج عمر بن الخطاب فصلى الجمعة. قال: ثم تُرفع بعد صلاة الجمعة ... وقال يحيى بن بكير: مولد مالك بن أنس بذي المروة. وكان أخوهُ يبيع البَزَّ ...(2/323)
أبو محمد
عبد الرحمن بن عوف(2/325)
أبو محمد عبد الرحمن بن عوف
ابن عبد عوف بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لؤي. نسبُه ونسب سعد بن أبي وقاص واحد يجتمع معه في زهرة بن كلاب ويجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يجتمع معه سعدٌ في كلاب بن مرّة، وأمُّه الشِّفاء: زهرية أيضاً أبوها عوف بن عبد " بن " الحارث بن زهرة. فهي بنت عمِّ أبيه، وهو من المهاجرين الأولين. وجمع الهجرتين جميعاً إلى أرض الحبشة، ثم قدِم قبل الهجرة إلى المدينة من أرض الحبشة. وهاجر إلى المدينة، وشهد بدراً، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع.
وكان اسمه في الجاهلية عبد عوف، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن. وكان جواداً كريماً كثير المعروف والصدقة والنفقة في سبيل الله. الترمذي: حدثنا قُتيبة: نا بكر بن مضر عن صخر بن عبد الله بن أبي سلمة، عن عائشة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أمركنَّ عمَّا يُهمِني بعدي، ولن يصبر عليكنَّ إلا الصابرون ". قال: ثم تقول عائشة: فسقى الله أباك من سلسبيل الجنة. تريد عبد الرحمن بن عوف، وكان قد وصل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بمالٍ بيعت بأربعين ألفاً.
وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دُومة الجندل إلى كلب وعمَّمه بيده، وأسدَلها بين كتفيه وقال له: " سِر باسم الله ". وأوصاه بوصاياه لأمراء سَراياهُ، ثم قال له: " إنْ فتح اللهُ عليك فتزوجْ بنتَ مليكِهم " أو قال شريفهم ". وكان الأصبغ بن ثعلبة بن ضَمضَمَ الكلبيُّ شريفهم. فتزوَّج بنتَهُ تُماضر، فهي أمُّ ابنه أبي سلمى الفقيه. وكان عبد الرحمن أحد العشرة الذين شَهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/327)
بالجنة، وأحد الستَّة الذين جعل عمر فيهم الشورى. وأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُوفيَ وهو عنهم راضٍ. وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه في غزوة تبوك. ورُوي عنه عليه السلام أنه قال: " عبد الرحمن بن عوف من سادات المسلمين ". ورُوي عنه عليه السلام أنه قال: " عبد الرحم بن عوف أمينٌ في السماء أمين في الأرض ".
وحدَّث يزيد بن هارون قال: نا أبو المعلَّى الجَزَريُّ عن ميمون بن مِهران، عن ابن عُمر أن عبد الرحمن بن عوف قال لأصحاب الشورى: هل لكم أن أختار لكم وأنتقي منها؟ فقال علي رضي الله عنه: أنا أولُ من رضي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أنت أمين في السماء أمين في أهل الأرض ".
وقال الزبير بن بكار: كان عبد الرحمن بن عوف أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على نسائه. وروى عبد الملك بن عُمير عن قُبيصة بن جابر قال: دخلت على عمر، عن يمينه رجل كأنه قُلب فضة، وهو عبد الرحمن بن عوف، وكان تاجراً مجدوداً في التجارة، وتكسَّب مالاً كثيراً، وخلَّف بعير وثلاثة آلاف شاه ومئة فرس ترعى بالبقيع. وكان يزرع بالجُرف على عشرين ناضحاً، فكان يُدخل من ذلك قوت أهله سنةً. وروى ابنُ عُيينة عن عمرو بن دينار، عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: صالحنا امرأة عبد الرحمن التي طلَّقها في مرضه من ثُلُث الثِّمن بثلاثةٍ وثمانين ألفاً. وقد روى غير ابن عيينة في هذا الخبر أنها صولحت بذلك عن رُبع الثِّمن من ميراثه. وروى الثَّوريُّ عن طارق عن سعيد بن جُبير قال: نا أبو الهيَّاج قال: رأيتُ رجلاً يطوف بالبيت وهو يقول: اللهمَّ قني شحَّ نفسي. فسألتُ عنه فقيل: هذا عبد الرحمن بن عوف.
ورويَ أنه أعتق في يوم واحدٍ ثلاثين عبداً. ولما حضرتْهُ الوفاةُ بكى بكاء شديداً. فسئل عن بكائه فقال: إن مصعب بن عمير كان خيراً مني؛ تُوفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلم يكن له ما يكفَّن فيه. وإن حمزة بن عبد المطلب كان خبراً مني، لم نجد له كفناً. وإني أخشى أنْ أكون ممَّن عُجِّلتْ له(2/328)
طيباتُه في حياة الدنيا. وأخشى أن أحبس عن أصحابي بكثرة مالي.
الترمذي: حدثنا عبد الرحمن بن حُميد: حدثنا محمدُ بن إسماعيل بن أبي فُدَيك: أخبرنا ابن أبي ذيب عن مسلم بن جندب، عن نوفل بن إياس الهُذليِّ قال: وكان عبد الرحمن بن عوف لنا جليساً، وكان نعم الجليسُ، وإنه انقلب بنا ذات يوم، حتى إذا دخلنا بيته، ودخل فاغتسل ثم خرج. وأُتينا بصحفةٍ فيها خبز ولحم. فلما وضعت بكى عبد الرحمن، فقلت له: يا أبا محمد، ما يبكيك؟ فقال: هلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع هو وأهلهُ من خبز الشعير، فلا أرانا أُخِّرنا لما هو خير لنا.
وحدث الإمام أبو عبد الله أحد بن حنبل قال: نا أبو معاوية قال: نا العمش عن سفيان، عن أمِّ سلمة، قال: دخل عليها عبد الرحمن بن عوف قالت: فقالت: يا أمَّه قد خفت أن يُهلكني كثرة مالي؛ أنا أكثر قريش مالاً. قالت: يا بُنيَّ أنفق، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنَّ من أصحابي من لا يراني بعد أن أفارقه ". فخرج عبد الرحمن ولقيَ عمر فأخبرهُ، فجاء عمر فدخل عليها فقال: بالله منهم أنا؟ فقالت: لا والله، ولا أُبِّرئ أحداً بعدك.
حلية عبد الرحمن قال الواقدي: كان رجلاً طويلاً، حسن الوجه، رقيق البشرة، فيه جُمة، أبيض " مُشرباً بحمرةٍ "، ولا يغيِّر رأسه ولا لحيته. وقالت سهلة بنت عاصم بن عدي زوجُه: كان أعين أقنى، طويل الثنيَّتين العُليَين، ربما أدمى نابهُ شفته، جعداً له جمَّة أسفل من أذنيه، أعنق تنظرُ إلى صورة وجهه كانَّ حباب الماء فيها، ضخم الكعبين، غليظ الأصابع. وقال ابن هشام: إنه جُرح يوم أحدٍ عشرين جِراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج.
قال الواقديٌّ: ولد عبد الرحمن بن عوف بعد الفيل بعشر سنين، ومات سنة اثنتين وثلاثين، وهو يومئذ ابن خمس وسبعين سنةً. ورُوي عن أبي سلمة أنه(2/329)
قال: تُوفي أبي وهو ابنُ اثنتين وسبعين سنةً. ودفن بالبقيع، وصلى عليه عثمانُ، وهو أوصى بذلك.
وقال أبو اليقظان: قُسِّم ميراثُه على ستة عشر سهماً، فبلغ نصيب كلِّ امرأةٍ له ثمانين ألف درهم. وولد عبد الرحمن محمداً، وبه كان يُكنى، وإبراهيم، وحُميداً، وزيداً، ولا عقب له، وأمُّهم أمُّ كلثوم بنت عُقبة بن أبي مُعيطٍ، وأبا سلمة الفقيه وأمُّه تُماضر بنت الأصبغ الكلبية، ومُصعباً أمُّه سبيَّةٌ من بهراء، وعثمان وأمُّه غزال بنت كسرى من سبي سعد بن أبي وقاص يوم المدائن، وكان له عقب بالبصرة، وعبد الله الأكبر، وعُروةَ، وسالماً، وعُمر، والمسْوَرَ، وسُهيلاً، وأبا بكرٍ.
فأما محمد: فكان شديد الغَيرة، وولد عبد الواحد. وله عقب.
وأما إبراهيم بن عبد الرحمن: فكان سرياً، قصيراً، مسَّوداً. وتزوَّجَ سُكينة بنت الحسين، فلم تَرض بذلك بنو هاشم فخُلعت منه وكان يُكنى أبا إسحاق. وسمع أباه وعثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص. وروى عنه ابنه سعدٌ والزهريُّ. ومات سنة تسعٍ وستين، وهو ابن خمس وسبعين سنة.
وولد إبراهيم سعداً وصالحاً. فأما سعد بن إبراهيم فأمُّه بنتُ سعد بن أبي وقاص، وكان قاضي المدينة زمن هشام بن عبد الملك. وقال فيه موسى شهواتك:
يتَّقى الناسُ فحشَهُ واذاهُ ... مثلما يتَّقون بَولَ الحمار
لا تَغرَّنَّك سجدةٌ بين عينيه ... حَذاري منها ومنها فِراري
وكان سعد ثقةً من حملة الحديث. والشاعر رُبما أُغضب فهجا ذا الفضل بما ليس فيه لقلة اجتنابه عن اقتراف الإثم وتَوقِّيه. أوَ لا ترى النبيَّ عليه السلامُ(2/330)
لمَّا انشدَه من أطلق في قلَّة الرِّضا في بقسمة عَنانه قال بخُلقه العظيم وصفحه الجميل العميم: " اقطعوا عنه لسانه "؟ ويُكنى سعد أبا إبراهيم. وسمع أباه وعمَّيه حُميداً وأبا سَلمى والقاسم بن محمد. وروى عنه الثوريُّ وشعبةُ. وتُوفي سعد بالمدينة سنة سبع وعشرين ومئة، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.
وابنه إبراهيم بن سعد أبو إسحاق، كان ببغداد على بيت المال، وكان عسراً في الحديث ثقةً. أخرج مسلم عنه، فقال: حدثنا أبو جعفر محمد بن الصَّباح وعبد الله بن عون الهلالي جميعاً عن إبراهيم بن سعد قال ابنُ الصَّباح: نا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: نا أبي عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو.... يعقوب بن إبراهيم يروي عن أبيه، وأخرج البخاريُّ ومُسلم عنهما أحاديث كثيرة. ويروى إبراهيم بن سعد عن أبيه كثيراً وعن ابن شهاب وغيره من الثقات العُدول. وقال إبراهيم بن سعد الزهريُّ: قال لي أبو يوسُف القاضي: ما أعجب أمركم يا أهل المدينة في هذه الأغاني! ما منكم وضيع ولا شريف ينحاش عنها؟ قال: فغضبتُ وقلت: أحداً أُسمع الغِناء فظهر منه ما يَظهرُ من سُفهائكم هؤلاء الذين يشربون المُسكِرَ فيترك أحدهُم صلاته ويطلِّق امرأتَهُ ويَقذف المحصنة من جاراته ويكفرُ بربِّه، فأين هذا من آخر اختار شعراً جيداً، ثم اختار له جِرماً حسناً فردَّده عليه فأطربَهُ وأبهجَهُ، فعفا عن الجرائم وأعطى الرَّغائب؟ قال أبو يوسف القاضي: قطعتني. ولم يُحرْ جواباً.
وأما صالح بن إبراهيم فروى عن أبيه عن جدَّه عبد الرحمن حديث مُعاذ بن عمرو بن الجَموح ومُعاذ بن عفراء في قَتلهما أبا جَهل يومَ بدرٍ، خرَّجه مسلم. وروى صالح أيضاً عن محمود بن لبيدٍ الأنصاريِّ الأشهليِّ. وروى عن صالح عمرو بن دينارٍ ومحمدُ بن إسحاق ويوسف بن الماجشون.
وأما حُميد بن عبد الرحمن فكان له مال وجاه، وحُمل عنه الحديث. سمع عثمان وأبا هُريرة. وروى عنه الزُّهريُّ ويُكنى حُميد أبا عبد الرحمن بابنه(2/331)
عبد الرحمن، وحُمل عنه الحديث. وكان من سَرَوات قريش. وابنه عبد الملك بن حُميد من ولد يعقوب بن محمد بن عيسى بن عبد الملك بن حُميد وكان راوية محدِّثاً، سمع إبراهيم بن سعد والدَّراوَرديَّ وكان ويُكنى أبا يوسف. وتوفي حُميد سنة خمسٍ وتسعين وهو ابنُ ثلاثٍ وسبعين سنةً.
ومن موالي حميدٍ سُليم والد صفوان بن سُليم. ولمالكٍ عن صفوان في الموطأ حديثان مُسندان وخمسةٌ مُرسلةٌ، وأحدُ الحديثين المسندين نصُّه: مالك عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " غسلُ الجمعة واجبٌ على كل مُحتلمٍ ". والثاني عن أبي هُريرة في الوضوء بماء البحر، وكان صفوان من عُبَّادِ أهل المدينة وفضلائهم. ومات بها سنة اثنتين وثلاثين ومئة.
وأما أبو سلمة فهو عبدُ الله الصغر الفقيه. وروى عن عائشة كثيراً، وهي القائلة له حين سألها: ما يوجبُ الغسل؟ هل تدري ما مَثَلُك يا أبا سلمة؟ مثل الفرُّوج يسمع الدِّيكة تصرخ فيصرخ معها. إذا جاوز الختانُ الختان فقد وجَب الغسل. وروى أيضاً عن أبي هُريرة كثيراً، وعن جابر بن عبد اله وابن مسعود. وروى عنه ابنُ شهابٍ وسالم أبو النَّضر مولى عمر بن عُبيد الله. ومات أبو سلمة سنة أربع وتسعين وهو ابنُ اثنتين وسبعين سنةً. وكان له ابنان: عُمر بن أبي سلمةَ وسلمةٌ، وبه كان يُكنى.
فأما عمر فروى عنه الحديث وقتله أبو جعفر بالشام، وكان مع بني أختٍ له من بني أمية، فقتله معه.
وأما سلمةُ فروى عن أبيه، وروى عنه عُقيل بن خالد صاحب ابن شهابٍ.
وأما مصعب بن عبد الرحمن فكان شجاعاً. وقال عبد الملك بن مروان لرجل من أهل الشام: أيُّ فارسٍ لقيته قطُّ أشدُّ؟ قال: مصعبُ بن عبد الرحمن. وقُتل مع ابن الزبير. وكان الواقديُّ يذكر أنه توفِّي ولم يُقتل: وقال الواقديُّ: قَتل مصعب بن عبد الرحمن من أصحاب الحُصين بن نُميرٍ السَّكوني خمسة ثم رجع وسيفُهُ منحنٍ وهو يقول:(2/332)
إنا لنوردُها بيضاً ونُصدرها ... حمراً، وقيها انحناءٌ بعد تقويمِ
وكان مصعب يُكنى أبا زُرارةَ، وروى عن أبيه. وابنه زُرارة يُكنى أبا بكرٍ. وولد زُرارة أحمد وهو أبو مُصعب الزُّهريُّ، وكان من أعلم أهل المدينة، لا تزالون ظاهرين على أهل العراق مادمت لكم حياً. وعاش تسعين سنةً، ومات سنة اثنتين وأربعين ومئتين.
وأما عثمان بن عبد الرحمن فمن عقبه الذين كانوا بالبصرة: سعيدُ بن يحيى بن الحسن بن عثمان بن عبد الرحمن بن عوف، أبو عثمان. سمع عمَّه إبراهيم. وروى عنه يعقوب بن محمدٍ الراوية من ولد حُميد بن عبد العزيز بن عثمان بن عبد الرحمن بن عوف. روى عن الزُّهري وأبي الزناد. وكان مُنكر الحديث غير مَرضِيٍّ.
وأما عبد الله الأكبر بن عبد الرحمن فيُكنى أبا عثمان، وقُتل بإفريقية. فأمُّه وأمُّ أخيه القاسم بنتُ أنس بن رافع الأنصاري من بني عبد الأشهل.
وأما عروة بن عبد الرحمن فقتل أيضا بإفريقية وأمُّه بحيرة بنت هانئ بن قبيصة الشيباني.
وأما سالم بن عبد الرحمن ولقبُه " الصغر " فأمُّه سهلة بنت سُهيل العامريًّ لأمِّه محمد بن أبي حُذيفة بن عُتية بن ربيعة.
وأما عمر بن عبد الرحمن فكان من جُلداء قريش، وهو أحدُ من عمل في أمر الحجَّاج حتى عزله عبد الملك عن المدينة. ومن ولده: محمد بن عبد العزيز قاضي أبي جعفر على المدينة. وله عقب، وكان متروك الحديث.
وأما المسور بن عبد الرحمن فقُتل يوم الحرَّة.(2/333)
وأما سُهيل بن عبد الرحمن فهو الذي تزوَّج الثريا من بني أمية الصغرى. وقد تقدَّم ذكرُها قبل عند ذكر بني عبد شمس بن عبد مناف. وأمُّ سهيل مجد بنت يزيد بن سلامة الحميريِّ.
وابنه عبد المجيد بن سُهيل لمالك عنه حديث واحد مُسند. وهو حديث التمر الجنيب من خيبر. ورواه يحيى بن يحيى بن الأندلسيُّ عبد الحميد، وتابعه قومٌ، وأكثر الرواة يقولون: عبد المجيد، وهو الصواب، وكذلك قال فيه مسلم: عبد المجيد، في حديث التَّمر الجنيب أيضا وغيره. ولعبد المجيد هذا مع بنت زُرارة بن أَوفى الحَرَشِيِّ خبر طريف. الهيثم بن عديٍّ عن عبد الله ابن عيَّاشٍ المعروف بالمنتوف. وقيل له: المنتوف لأنه كان ينتفُ لحيته وكان خاصاً بأبي جعفر المنصور، وقال: أخبرني موسى السلامانيُّ مولى الحضرميِّ، وكان من أسرى تاجرٍ بالبصرة قال: بينا أنا جالس إذ دخل علي غلام لي فقال: هذا رجل من أهل أمك يستأذن عليك، وكانت أمه من ولد عبد الرحمن بن عوف. فقلت: إذن له. فدخل شاب حلو الوجه تعرف في هيئته أنه قرشي، في طمرين. فقلت: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا عبد المجيد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري خال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: في الرحب والقرب. ثم قلت: يا غلام بره وأكرمه وألطفه وأدخله الحمام، ثم كسوته قميصاً رقيقاً ومُبطناً قوهياً ورداء عمرياً، وحذوتُ له نعلين حضرميَّين. فلما نظر الرجل في عِطفيه أعجبته نفسه " قال ": يا هذا أبغني أشرف أيِّمٍ بالبصرة أو أشرف بِكر بها. قلت: يا بن أخي كُفَّ عن هذا. قال: ما أقول لك. قلت: فإن أشرفَ أيِّمٍ بالبصرة هندُ بنت أبي صُفرة أخت عسرةٍ وعمَّةُ مئة، وحلُها في قومها حالُها. وأشرف بِكر بالبصرة المُلاءة بنت زُرارة بن أوفى الحَرشيَِ قاضي البصرة. قال: اخطُبْها عليَّ. قلت: يا هذا إنَّ أباها قاضٍ. قال: انطلق بنا إليه. فانطلقنا إلى المسجد فتقدَّم فجلس إلى القاضي، فقال له: يا بن أخي من أنت؟ قال له: عبد المجيد بن سُهيل بن عبد الرحمن بن عوف خال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: مرحباً ما حاجتك؟ قال: جئتُ خاطباً. قال: ومن ذكرت؟ قال: المُلاءة ابنتك.(2/334)
قال: يا ابن أخي ما بها رغبة، ولكنها امرأة لا يُفتاتُ عليها أمرها، فاخطِبها إلى نفسها. فقام إليَّ. فقلت: ما صنعت؟ قال: كذا وكذا. قلت: ارجع بنا ولا تخطبها. قال: اذهب بنا إليها. فدخلنا دار زُرارة وفيها مقاصيرُ، فاستأذنَّا على أمِّها، فلقيَتْنا بمثل كلام الشيخ. ثم قلت: وهاهي في تلك الحجرة. قلت له: لا تأتِها. قال: أو لست بِكراً؟ قلت: بلى. قال: ادخل بنا إليها. فاستأذنَّا فأذنَ لنا، فوجدناها جالسةً وعليها ثوبٌ رقيقٌ مُعيَّر منه سَراويلُهُ، يُرى منه بياض جسدها كلِّه ومِرْطٌ قد جمعته على فخذيها ومصحف على كرسيٍّ بين يديها، فأشْرجت المصحف ثم نحَّته. فسلَّمنا فرحَّبتْ ثم قالت: من أنت؟ قال: عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدَّ بها صوته. فقالت له: " يا هذا " لسنا بساسين، إنما يُمدُّ الصوت للساسين، قال موسى: فدَخل بعضي في بعض. ثم قالت: ما " حاجتُك؟ قال: " جئتُ خاطباً. قالت: ومن ذكرت؟ قال: ذكرتُك. قالت: مرحباً بك يا أخا أهل الحجاز؟ فما الذي ... " قال ": سهمان بخيبر أعطانا هما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدَّ بها صوته، وعينٌ بمصر، وعبنٌ باليمامة، ومال باليمن. قالت: يا هذا، كلُّ هذا عنّا غائب. ولكن ما الذي يحصل بأيدينا، فإني أظنُّك أردت أن تجعلني كشاة عكرمة، أتدري من عكرمة؟ قلت: لا. قالت: عكرمة بن ربعيٍّ، فإنه كان قد نشأ بالسَّواد. ثم انتقل إلى البصرة وقد تغذَّى باللبن، فقال لزوجته: اشتري لنا شاةً نحتلبها وتصنعين لنا من لبنها شراباً وكامخاً. ففعلت وكانت عندهم الشاةُ إلى أن استحرمت فقالت: يا جارية خُذي بأذن الشاة وانطلقي بها إلى التيَّاس فانْزِي عليها، ففعلت. فقال التيَّاس: درهم. فانصرفت إلى سيدتها فأعلمتها فقالت: إنما رأينا من يدحمُ ويعطى، فأما من يَدحم ويأخذ فلم نره. ولكن يا أخا أهل المدينة أردت أن تجعلني كشاة عكرمة. فلما خرجنا قلتُ له: ما كان أغناك عن هذا. " قال: ما كنت أظنُّ " أن امرأةً تجترئ على مثل هذا.(2/335)
وأما " أبو بكر " بن عبد الرحمن فأمُّه أمُّ حكيم بنت قارظ بن خالد بن عبيد من كنانة.
ومن بنات عبد الرحمن جُويريةُ: زوج المِسْور بن مخرمة، وأمُّها بادية بنت غيلان بن سلمة الثقفيُّ التي نعتها هيت لعبد الله بن أبي أمية، وكان عبد الرحمن خال المسور.
ومن إخوة عبد الرحمن عبد الله والأسود. فأما عبد الله بن عوف فكان من سَرَوات قريش. وابنه أبو عبد الله طلحة بن عبد الله: من حَمَلة الحديث. روى عن أبي بكرة وغيره وروى عنه ابن شهابٍ.
وأما الأسود بن عوف فكانت له صحبة، وهاجر قبل الفتح، ووجده عمر بن الخطاب بمكة شارباً، فأمر به فجُلد الحدَّ. وشهد الجمل مع عائشة فقُتل. وهو والدُ جابر بن السود الذي ولي المدينة لابن الزُّبير. وهو الذي جلد سعيد بن المسيَّب في بيعة ابن الزبير. وقد جرى ذكر جابر هذا في طلاق المكره من الموطأ.(2/336)
أبو إسحاق
سعد بن أبي وقاص(2/337)
أبو إسحاق، سعد بن أبي وقاص
واسم أبي وقاصٍ مالك بن أُهيب بن عبد منافٍ بن زهرة بن كلاب. وأُهيب جدُّ سعدٍ عم آمنةَ أمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخو أبيها وهبٍ. وأمُّه حَمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس بنت عمِّ أبي سفيان بن حرب. سبعةٍ في إسلامه؛ أسلم بعد ستةٍ. ويروى عن عائشة بنت سعدٍ عن سعد قال: أسلمت وأنا ابن تسع عشرة سنةً.
وشهد بدراً والحديبية وسائر المشاهد. وهو أحدُ الستة الذين جعل عمر فيهم الشورى. وكان مُجاب الدَّوة، مشهورا بذلك، تُخاف دعوته وتُرجى لاشتهار إجابتها عندهم. روى ابن عُيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي خازم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: " اللهمَّ أجب دعوته وسدِّد رميته ". وفي حديث آخر: " اللهمَّ سدِّد سهمَه وأجب دعوته ". وجمع له رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه كما فعل مع الزبير. ولم يقل ذلك لغيرهما.
وكان أحد الفرسان الشجعان من قريش الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم مغازيه. مسلم: حدَّثنا منصور بن أبي مُزاحم قال: نا إبراهيم، يعني أبن سعد عن أبيه، عن عبد الله بن شدَّاد قال: سمعت عليا يقول: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد غير سعد بن مالك، فإنه جعل يقول له يوم أحد: " ارم فَداك أبي وأمي ". مسلم: حدثنا محمد بن عباد قال: نا حاتم، يعني ابن إسماعيل عن بُكير بن مسمار عن عامر بن سعد، عن أبيه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم جمع له أبويه يوم أحد قال: كان رجل من(2/339)
المشركين قد أحرق المسلمين، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " ارم فداك أبي وأمي ". قال: فنزعت له يسهم ليس فيه نصل فأصبت جَنبه فسقط فانكشفت عورته، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظرت إلى نواجذه. مسلم حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قَعنب قال: نا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد، عن ... بن عامر بن ربيعة، عن عائشة قالت: أرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: " ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة ". قالت: وسمعنا صوت السلاح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من هذا؟ ". قال: سعد بن أبي وقاص يا رسول الله، جئت أحرسك. قالت عائشة: فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه.
وروى يحيى القطان قال: نا مُجالد قال: نا عامر عن جابر بن عبد الله قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل سعد فقال: " أنت خالي ". وفي حديث آخر أنه عليه السلام قال فيه: " هذا خالي كلُّ رجل بخاله ". وروى وكيع عن إسماعيل بن عبد قيس قال: سمعت سعدا يقول: نا أول رجل من العرب رمى بسهم في سبيل الله في الغزو عند القتال، وهو القائل:
ألا أبلغْ رسولَ الله أني ... حَمَيتُ صحابتي بصدورِ نَبلي
أذود بها عدوَّهم ذِياداً ... بكلِّ حُزونةٍ وبكلِّ سهلِ
فما يعتدُّ رامٍ من مَعدٍّ ... بسهمٍ في سبيل اللهِ قبلي
وهو الذي كوَّفَ الكوفة وتولى قتال فارس، وكان على الناس يوم القادسية. وكان به جراح، فلم يشهد الحرب، واستخلف خليفة، ففتح الله على المسلمين. فقال رجل من بجيلة:
ألم ترَ أن الله أظهر ديَنهُ ... وسعدٌ بباب القادسية مُعصمْ؟(2/340)
فأفْنَي وقد آمَتْ نساءٌ كثيرةٌ ... ونسوةُ سعدٍ ليس منهنٌ أيِّمُ
فقال سعد: اللهمَّ اكفنا يده ولسانه. فأصابته رمْية، فخرس ويبست يده.
وأمَّره عمر بن الخطاب على الكوفة، فشكاه أهلها ورموه بالباطل. فدعا على الذي واجهه بالكذب عليه دعوة ظهرت فيه إجابتها. والخبر مشهر. ثم عزله عمر من الكوفة، ثم أراد أن يُعيده عليها، فأبى عليه وقال: تأمرني أن أعود إلى قوم يزعمون أني لا أحسن أن أصلِّي؟ فلما طُعن عمر وجعله أحد الشورى قال: إن وليها سعد فذلك، وإلا فليستعن به الوالي. فإني لم أعزله عن عجز ولا جبانة. ورامه ابنه عمر بن سعد أن يدعُو إلى نفسه بعد قتل عثمان فأبى.
مسلم: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعباس بن عبد العظيم، واللفظ إسحاق. قال: نا، وقال إسحاق: أنا أبو بكر الحنفيُّ قال: نا بُكير بن مسمار قال: حدثني عامر بن سعد قال: كان سعد بن أبي وقاص في إبله فجاءه ابنه عمر. فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب. فنزل فقال له: أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون المُلك بينهم؟ فضرب سعد في صدره، فقال: اسكت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يحبُّ العبد التقيَّ الغنيَّ الخفيَّ.
وكذلك رامه أيضا ابن أخيه هاشم بن عتبة أن يدعو إلى نفسه فلما أبى عليه صار هاشم إلى علي رحمه الله. وكان سعد ممَّن قعد ولزم بيته في الفتنة، وأمر أهله ألاَّ يُخبروه من أخبار الناس بشيء حتى تجتمع الأمة على إمام.
وتُوفي بالمدينة سنة خمس وخمسين في قصره بالعقيق وبين العقيق والمدينة " سبعة أميال "، وحُمل على رقاب الناس، ودُفن بالبقيع، وهو آخر العشرة موتا. وصلى عليه مروان بن الحكم وهو يومئذ والي المدينة لمعاوية، وبلغ من السِّنِّ بضعا وثمانين سنة. ذكر ذلك أبو زُرعة عبيد الله بن عبد الكريم عن أحمد ابن حنبل. وكان يقول أسلمت وأنا ابن تسع عشرة سنة.(2/341)
حِليةُ سعد: قال الواقديُّ: قالت عائشة بنت سعد: كان أبي رجلا قصيرا دَحداحا غليظا، ذا هامة، شَثنَ الأصابع. وقال عامر بن سعد: كان سعد جعد الشعر، أشعر الجسد، آدم، طويلاً. وذهب بصره في آخر عُمره.
ولد سعد: ولد سعد عامراً ومحمداً ومُصعباً وعمر وموسى وإبراهيم وعائشة، وروت عن أبيها. وفِنْك الذي يُضرب به المثل في البطء مولى عائشة بنت سعدٍ.
وأما عامر بن سعد فكان من كبار فقهاء التابعين. روى عن أبيه وعن أسامة بن زيد وغيرهما من الصحابة. وأخرج عنه الأئمة مالك والبخاريُّ ومسلم وغيرهم. روى عنه من التابعين ابن شهاب ومحمد بن المُنكدر وسالم أبو النصر وعمرو بن دينار وغيرُهم. ومات سنة أربع ومئة. وروى عنه أيضاً ابنه داود بن عامر. وروى عن داود يزيد بن عبد الله بن قسيطٍ الليثيُّ من شيوخ مالكٍ. وفي الموطأ لمالك عنه حديث واحد مُسند. وابن قُسيط مَدنيُّ، وبها كانت وفاته سنة ثلاثٍ وعشرين ومئة، وقيل: سنة اثنتين وعشرين.
وأما محمد بن سعد فخرج مع ابن الأشعث، فقتله الحجاجُ صَبْراً وكان يُلقَّب ظلَّ الشيطان لطوله.
وابنه إسماعيل بن محمد بن سعد من فقهاء قريش وذوي النُّبل منهم. ولمالك عنه في الموطأ حديث واحد مسند ونصُّه: مالك عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن وقاص عن مولى لعمرو بن العاصي، أو لعبد الله بن عمرو العاصي، عن عبد الله بن عمرو العاصي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صلاةُ أحدكم وهو قاعدٌ مثلُ نصف صلاته وهو قائم ". ويُكنى إسماعيل أبا محمد، وكان من ساكني المدينة، وبها مات سنة أربع وثلاثين ومئة في خلافة أبي العباس السفَّاح.
وأما مصعب بن سعد فذكروا أنه بكى عند موت أبيه فقال له: ما يبكيك يا بنِّي؟ إنِّي أُقسم على ربي ألاَّ يعذِّبني. وروى عن أبيه وعن عليٍّ وابن عمر. وروى عنه أبو إسحاق وسماك وعاصم وعبد الملك بن عمير. وكنية مصعب أبو زرارة.(2/342)
وأما عمر بن سعد فكان على مقدمة جيش عبيد الله بن زياد حين خرج لقتال الحسين عليه السلام، وهو تَولى أمر قتاله حين قُتل رضوان الله عليه. وقتل عمر المختار بن أبي عبيد الثقفيُّ مع ابنه حفص بن عمر أخذاً بثأر الحسين. وكان الذي تولى قتل عمر بن سعد بأمر المختار أبو عمرة مولى بجيلة.
وكان المختار أمر قبل قتله نساء من همدان أن يقفن على باب عمر بن سعد وينحُن على الحسين. فعلم عمر أنه مقتول. وحمل أبو عمرة رأسه إلى المختار، وعنده حفص بن عمر بن سعد. فقال له المختار: أتعرف هذا الرأس؟ قال: نعم، هذا رأس أبي حفص. قال: فالحقوا حفصاً بأبي حفصٍ، فقتل. وأمر المختار أيضاً بقتل شمر بن ذي الجَوشن أحد " قتلة الحسين ". ووجَّه إبراهيم بن الأشتر، فقتل عبيد الله بن زيادٍ الدعيَّ بن الدَّعي، وبعث برأسه ورؤوس أصحابه إلى المختار.
وولد حفص عبد الله بن حفص، ويُكنى أبا بكر. سمع ابن عمر وعبد الله بن عامر. وروى عنه شعبةُ وأبان البجليُّ.
وأما موسى بن سعد فله عقب منهم بجاد بن موسى.
وأما إبراهيم بن سعدٍ فروى عن أبيه ورُوي عنه.
وكان لسعدٍ إخوة وهم: عامرٌ وعُمير وعُتبة. فأما عامر فاسلم بعد عشرة رجالٍ، وكان مُهاجر الحبشة، ولم يهاجر إليها سعد.
وأما عُمير فاستشهد يوم بدرٍ وهو ابن ستَّ عشرة سنةً؛ قتلة عمرو بن عبد ودَّ.
وأما عتبة بن أبي وقاص، أبعدهُ اللهُ، فهو الذي كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وذكر رُبيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيدٍ الخُدريِّ عن أبيه، عن أبي سعيد الخُدريِّ أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحدٍ فكسر رباعيته اليمنى والسفلى وجَرح شفته السفلى.
وحدَّث صالح بن كيسان عن من حَدَّثه، عن سعد بن أبي وقاص أنه كان(2/343)
يقول: والله ما حرصت على قتل رجلٍ عتبة بن أبي وقاص. وإن كان ما علمت لسيء الخلق مُبغضاً في قومه. ولقد كفاني منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اشتدَّ غضبُ الله على من دمَّى وجه نبيِّه ".
وحدَّث حُميد الطويل عن أنس بن مالك قال: كُسرت رباعية النبيِّ عليه السلام يوم أُحد، وشجَّ في رأسه فجعل الدمُ يسيل على وجهه وهو يقول: " كيف يُفلحُ قومٌ خَضبوا وجه نبيِّهم، وهو يدعوهم إلى ربِّهم؟ ". فأنزل الله عزَّ وجلَّ عليه في ذلك:) ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم، أو يعذِّبَهم فإنهم ظالمون (.
وقال حسان بن ثابت لعتبة بن أبي وقاص:
إذا الله جازى معشراً بفعالهمْ ... ونصرِهمُ الرحمن ربَّ المشارق
فأخزاكَ ربي يا عُتيبَ بن مالكٍ ... ولقَّاك قبل الموت إحدى الصَّواعق
بَسطتَ يميناً للنبيِّ تَعمُّداً ... فأدميت فاهُ، قُطِّعت بالبوارقِ
فهلا ذكرت اللهَ والمنزلَ الذي ... تَصيرُ إليه عند إحدى البوائقِ
ومات عتبة كافراً قبل فتح مكة، وأوصى إلى أخيه سعدٍ. وكان له ابنان: نافعُ وهاشمٌ.
فأما نافع فأسلم يوم الفتح. وروى عنه جابرُ بن مَسرَّة.(2/344)
وأما هاشم بن عتبة: فيُكنى أبا عروة. قال خليفة بن خياط في تسمية من نزل الكوفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هاشمُ بن عتبة بت أبي وقاص الزهري. وقال الهيثمُ بن عديٍّ مثله. وأسلم هاشم يوم الفتح، ويُعرف بالمِرقال. وكان من الفضلاء الخيار، وكان من الأبطال البُهم، ففقئت عينُه يوم اليرموك. ثم أرسله عمر من اليرموك مع خيل العراق إلى سعد، كتب إليه بذلك، فشهد القادسية.. فقام منه في ذلك ما لم بقم من أحدٍ، وكان سبب الفتح على المسلمين. وهو " الذي " افتتح جلولاء. عقد له سعدٌ لواء، ووجَّهه، ولم يشهدها سعدٌ، وقد " قيل: بل " شهدها.
وكانت جلولاء تسمى فتح الفتوح، بلغت غنائمها ثمانية عشرة ألف ألف. وكانت جلولاء سنة سبع عشرة. وقال قتادة: سنة تسع عشرة.
ثم شهد هاشم مع علي صفين، وابلى فيها بلاء مذكوراً. وبيده كانت رايةُ علي على الرجَّالة يوم صفين. وقُطعت رجلُه يومئذٍ، فجعل يقاتلُ من دنا منه وهو يقول:
الفحلُ يحمي شَولَه مَعقولا
وقاتل حتى قُتل رحمه الله. وفيه يقولُ أبو الطُّفيل عامر بن واثلة:
يا هاشمَ الخيرِ جُزيتَ الجنَّة ... قاتلتَ في اللهِ عدوِّ السُّنَّهْ
أفلحْ بما فُزتَ به من مِنَّهْ
وروى هاشم المرقال عن النبي صلى الله عليه وسلم. الطبري: حدَّثنا أبو كُريب: نا قَبيصةُ عن يونُس بن أبي إسحاق، عن عبد الملك بن عُمير، عن جابر ابن سمُرة، عن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يَظهرُ المسلمون على جزيرة العرب، ويظهر المسلمون على فارس، ويظهر المسلمون على الروم، ويظهر المسلمون على الأعور الدجَّال ".(2/345)
وابنه هاشم بن هاشم لمالك عنه في الموطأ حديث واحد. مالك: عن هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَن حَلف على مِنبري إثماً تبوَّأ مقعدَه من النار ". وقيل فيه: هاشمُ بن هاشم بن هاشم.(2/346)
سعيد بن زيد(2/347)
سعيد بن زيد
ابن عمرو بن نُفيل بن عبد العزَّى بن رياح بن عبد الله بن قُرط بن رَزاح بن عدي بن كعب بن لؤي، وهو ابنُ عمِّ عمر بن الخطاب لأبيه. وأمُّ الخطاب امرأة من فهم، تزوجها عمرو بن نُفيل بعد أبيه، وهو النكاحُ المَقتيُّ في الجاهلية، فولدت زيد بن عمرو والد سعيد. فهو أخو الخطاب لأمه، وابنُ اخيه لبيه، فأمُّ سعيدٍ فاطمة بنتُ بعجة بن مُليح الخُزاعية. وكان إسلامه قديماً قيل عمر، وهاجر هو وامرأته فاطمة بنت الخطاب. ولم يَشهد بدراً لنه كان غائباً بالشام، قدِم منها بعقبِ غزاة بدرٍ، فضرب له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره. وهو أحدُ العشرة المشهود لهم بالجنة.
وقال الواقديُّ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث قبل أن يخرج من المدينة إلى بدرٍ طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى طريق الشام يتجسَّسان الأخبار، ثم رجعا إلى المدينة فقدماها يوم وقعة بدرٍ. فضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهميهما وأجرهما. وكقول الواقدي قال الزبير: في ذلك سواء.
وشهد ما بعد بدرٍ من المشاهد، وكان أبوه زيدُ بن عمرو بن نُفيل طلب دين الحنفية؛ دين إبراهيم. وكان لا يذبح للأنصاب، ولا يأكل الميتَة. وحدَّث إسماعيل بن إسحاق القاضي: نا نصر بن علي: نا الأصمعيُّ عن ابن أبي الزناد قال: قالت أسماء بنت أبي بكر، وكانت أكبر من عائشة بعشر سنين أو نحوها: رأيت زيد بن عمرو بن نُفيل مُسنداً ظهرهُ إلى الكعبة، وهو يقول: يا معشر قريش، والله لا آكلُ ما ذُبح لغير الله، والله ما على دين إبراهيم أحد غيري.(2/349)
وقال محمدُ بن سَنجر: نا عبد الله بت رجاء: نا المسعوديُّ عن ... عن أبيه عن جدِّه ... خرج ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو يطلبان الدِّين حتى مرّا بالشام ... فتنصَّر. وأما زيد فقيل له: إن الذي تطلب أمامك. قال: فانطلق حتى أتى الموصل. فإذا هو براهبٍ فقال: من أين أقبل صاحب الراحلة؟ قال: من بيت إبراهيم. قال: وما تطلبُ؟ قال: الدين. قال: فعرض عليه النصرانية. فقال: لا حاجة لي بها. وأبى ان يَقبل. فقال: إن الذي تطلب سيظهر في أرضك. فأقبل وهو يقول: لبَّيك حقاًن يعبُّداً ورقا، مهما تجشِّمني فإني جاشم، عُذتُ بما عاذ به إبراهيم.
قال: ومرَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو سفيان بن الحارث يأكلان من سُفرةٍ لهما، فدعواه إلى الغداء. فقال: يا ابن أخي إني لا آكل ممَّا ذُبح على النُّصُب.
وذكر ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لقي زيد بن عمرو بن نُفيل بأسفل " بَلدَح " ن وذلك قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحيُ، فقدَّم إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سُفرة فيها لحمٌ، فأبى أن يأكل منه. قال: وأتى النبيَّ عليه السلام سعيد بن زيد فقال: إن زيداً كان كما رأيت وبلغك، فاستغفر له. قال: نعم. فاستغفر له. وقال: " إنه يُبعث يوم القيامة أمةً وحده ". وله يقول ورقةُ بن نوفل في أبيات:
رشِدتَ وأنعمتَ ابن عمرو وإنما ... تجنَّبتَ تنُّوراً من النارِ حاميا
وزيد بن عمرو، هو القائل في أبياته الربعة رحمهُ الله
أسلمتُ وجهي لمن أسلمتْ ... له الأرضُ تحملُ صَخراً ثقالا(2/350)
دَحاها فلما رآها استوتْ ... على الماء أرسى عليها الجِبالا
وأسلمتُ وجهي لمن أسلمت ... له المزنُ تحملُ عذْباً زُلالا
ثم رجع زيد إلى الشام فقتلته نصارى لخم. وكان عثمان قد أقطع سعيداً أرضاً بالكوفة فنزلها وسكنها إلى أن مات، وسكنها بعده من بنيه الأسود بن سعيد. وكان له من الولد عبد الله وعبد الرحمن وزيد والأسود وهشام وكلُّهم أعقب وأنجبَ.
وكان سعيد مُستجاب الدعوة. وخبره مع أروى بنت أُويس، حين دعا عليها لمَّا ادعت أنه ظلمها في أرضها، فأُجيبت دعوته، خبر صحيح مشهور.
وتُوفي في خلافة معاوية بأرضه بالعقيق سنة إحدى وخمسين، وهو يومئذ ابن بضع وسبعين سنةً، وقُبر بالمدينة. ونزل في قبره سعد بن أبي وقاص وابن عمر. وروى عن سعيد من الصحابة ابن عمر وعمر بن حُريث وأبو الطُّفيل عامر بن واثلة وجماعة من التابعين.
حلية سعيد: قال الواقديُّ: كان سعيد رجلاً آدم طُوالاً أشعر.(2/351)
أبو عبيدة
عامر بن عبد الله بن الجراح(2/353)
أبو عبيدة عامر بن الجراح
ابن هلال بن وهيب بن ضَبة بن الحارث بن فهر. يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في فهر، وهو قرشي. ومن فهر تفرَّقتْ ... أمُّه.. من بني الحارث بن فهر، وقد أسلمت، وزوَّجها أبو عبيدة في الإسلام ... بن فهر من المطيَّبين. وأبو عبيدة نُسب إلى جدهِّ الجَّراح، وهو من.. أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو أمينُ هذه الأمة. وغلبت عليه كنيته.
مسلم: حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: نا إسماعيل بن عُليَّة قال: أنا خالد عن أبي قِلابة ٌال: قال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لكل أمة أمينا، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة الجراح ".
مسلم: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار، واللفظ لأبن المثنى، قلا: نا محمد بن جعفر قال: نا شعبة قال: سمعت إسحاق يحدِّث عن صِلة بن زُفر، عن حذيفة قال: جاء أهل نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، ابعثوا إلينا أمينا. فقال: " لأبعثنَّ إليكم رجلا أمينا حقَّ أمين ". قال: فاستشرف لها الناس. قال: فبعث أبا عبيدة بن الجراح.
ورُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتَيَ بطعام. فقال: " نَستحبُّ أن يَبدأ رجل صالح، فخُذْ يا أبا عبيدة ". وقال أبو بكر يوم سقيفة بني ساعدة: رضيتُ لكم أحد صاحبيَّ أبي عبيدة أو عمر. أما أبو عبيدة فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لكل أمة أمينٌ. وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ". وأما عمر فسمعتُه يقول: " اللهمَّ أيِّد الدين بعمر أو بأبي جَهل ".(2/355)
وقال الزبير بن بكار: كان أبو عبيدة أهتَمَ، وذلك أنه نزع الحلقتين اللتين دخلتا في وجهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من المِغفر يوم أحد، فانتزعت ثنيَّتاهُ، فحسَّنَتا فاه. فيقال: مارُئي أهتم أبي عبيدة. وذكره بعضهم فيمن هاجر إلى أرض الحبشة، ولم يختلفوا في شهوده بدرا والحديبية.
وكان أبو عبيدة يُدعى في الصحابة القويَّ الأمين، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجران: " لأرسلنَّ معكم القويَّ الأمين ". وذكر يونس عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من أصحابي أحد إلا لو شئت وجدت عليه إلا أبو عبيدة ".
وذكر ابن عون محمد بن سير قال: لما ولي عمر قال: والله لأنزعنَّ خالدا حتى يعلم أن الله ينصر دينه. وروى حماد بن سلمة عن ثابت، عن أنس أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: ابعث معنا رجلا يعلِّمنا. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد أبي عبيدة بن الجرَّاح وقال: " هذا أمينُ هذه الأمة ".
وقال عمر إذ دخل عليه الشام وهو أميرها: كلنُّا غيَّرته الدنيا يا أب عبيدة. وكان الأمير على أمراء الأجناد بالشام صدرا من خلافة أبي بكر. ثم عزله وولَّى خالد بن الوليد. فلما ولي عمر عزل خالدا وولى أبا عبيدة. فلم يزل أمير على الشام حتى مات في طاعون عَمَواس سنة ثماني عشرة، وهو ابن ثمان وخمسين سنة بالأردنِّ من الشام، وبها قبرُه. وصلى عليه مُعاذ بن جبل، ونزل في قبره معاذ وعمرو بن العاصي والضحاك بن قيس.
وذكر المدائنيُّ عن العجلانيِّ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن حسان قال: مات في طاعون عَمَواسَ خمسة وعشرون ألفا.
حلية أبي عبيدة: قال الواقديُّ: كان رجلا نحبفا، معروق الوجه، خفيف اللحية، طُوالا أحْنأ، " وكان يخضب رأسه ولحيته " بالحنَّاء والكَتمْ.(2/356)
هذا آخر نسب العشرة الكرام البررة المشهود " لهم " المتَّبعين للكتاب والسُّنة. الترمذي: حدثنا قُتيبةُ: نا العزيز بن محمد عن عبد الرحمن بن حميد، عن أبية، عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة وعليٌّ في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة ".
الترمذي: حدثنا صالح بن مسار المرزويُّ: نا ابن أبي فُديك عن موسى ابن يعقوب، عن عمر بن سعيد، عن عبد الحمن بن حميد، عن أبيه أن سعيد ابن زيد حدَّثه، في نفر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عشرة في الجنة: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعليٌّ وعثمان والزبير وطلحة وعبد الرحمن وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص ". قال: فعدَّ هؤلاء التسعة، وسكت عن العاشر. فقال القوم: ننشُدك الله يا أبا الأعور، من العاشر. قال: " نشدْتموني بالله، أبو الأعور في الجنة ".
قال أبو عيسى: أبو الأعور هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل. وكان يقال: من أحبَّ أبا بكر فقد أقام الدين، ومن أحبَّ عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحبَّ عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحبَّ عليَّ بن أبي طالب فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن قال الحسنى في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقد برىء من النفاق.
وعن عبد الرحمن بن عُوَيْم بن ساعدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: " إن الله اختارني واختار لي أصحابا، فجعل لي منهم [أعزّاء] وأنصار وأصهار، فمن سبَّهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عُذلا ".
مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى التميميُّ وأبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء قال يحيى: أنا، وقال الآخران: نا أبو معاوية عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تَسبُّوا أصحابي،(2/357)
فوالذي نفسي بيده لو أنَّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نَصيفه ".
الترمذي: حدثنا محمد بن " زكريا ": نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد: نا عبيدة بن أبي رائطة عن عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن مُغفَّل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهَ اللهَ في أصحابي، اللهَ اللهَ في أصحابي، لا تَّتَّخذوهم غَرَضا بعدي، فمن أحبَّهم فبحبِّي أحبَّهم، ومن أبغضهم فببُغْضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه ".
الترمذي: عن عبد الله:.... عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلا..... يوم القيامة ".
قال المؤلف وفقه الله:.... الأنتهاء من العمل والقول، بالمنَّة منه والطَّول. قد منَّ الله بتمام المرغوب، ونجاح المطلوب ... حمد على ما منَّ به وألهم إليه حمدا كثيرا يَزْلفُ لديه، وينُيلُنا من الخير الذي في يديه. ومنه ... أسال على ما حققْتُه في هذا الكتاب جزيل الثواب، والأمن من الفزع الأكبر يوم ... يَنْفعني به، وينفع القاريء والسامع، فقد حوى بفضل الله ... الجامع، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الكريم، ذي الخلق العظيم، نبيِّ الهُدى والرحمة، وكاشف الخطوب المدْلهمَّة. وعلى آله الطيبِّين بشرفه وفخاره، وأصحابه المهاجرين وأنصاره، وسلِّم تسليما. والحمد لله ربِّ العلمين.(2/358)
كمل كتاب الجوهرة في نسب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه العشرة.
كتبه بخطِّ يده مؤلفُه العبدُ الفقير إلى رحمة ربِّه، المستغفر من ذنبه محمد بن أبي بكر بن عبد الله بن موسى الأنصاريُّ التِّلمسانيُّ، الشهير بالبُرِّي، غفر الله له ذنوبه، وستر عليه في الدارين عيوبه، وأغناه من فضله، وأظلَّه في يوم حشره بظلِّه بمنَّه.
وكان فراغُه من كتاب صدر يوم السبت الثامن لذي حِجَّةَ من سنة خمس وأربعين وستمئة، بثغر " مَنُرقَةَ "، أمَّنه الله.
وفرغ من تأليفه المؤلف، وفقه الله، في صدر يوم الجمعة الخامس والعشرين لذي حجة من سنة أربع وأربعين وستمئة بجزيرة " مَنُرْقَةَ "، كلأها الله. والحمد لله حمدا كثيرا، وسلام على عباده الذين اصطفى.
برسم خزانة الرئيس السيِّد الأكرم الهُمام الأمجد النّقاب الأعظم " أبي عثمان سعيد بن حكم " بن عمر بن حكم القُرشيِّ، أعلى الله يَدهُ ومقامه، وأدام السعيدة أيامه بمنِّه وكرمه.(2/359)