فيها القزويني وهو يبكي وقد اخذته الرعدة فسكنه والدنا وامسكه وقرا عليه وقال له ما لك يا بني قال رأيت في المنام كان ابواب السماء قد فتحت وابن القزويني يصعد اليها فلما كان في صبيحة تلك الليلة سمعنا المنادي ينادي بموته.
وقال ابو الفرج عبد العزيز بن عبد الله الصائغ صليت على ابي الحسين القزويني فهالني كثرة الخلق الذين حضروا جنازته واستعظمتهم فرايته تلك الليلة في المنام وهو يقول لي استعظمت الخلق الذين صلوا علي قد صلى علي من الملائكة في السماء اكثر من ذلك.(1/559)
337- أبو بكر محمد بن عبد الله الدينوري
وكان يسكن الرصافة ببغداد وكان زاهدا حسن العيش.
وكان ابو الحسن القزويني يقول عبر الدينوري قنطرة خلف من بعده وراءه.
قال ابو الوفاء بن عقيل الواعظ كنت شابا حديث السن اتردد الى مجلس ابن بشران الواعظ وكان يعتاد عيني الرمد كثيراً فرآني ذات يوم في المجلس رجل كان يبسط لابن بشران بساط المنبر يقال له بكار فقال لي اراك تدوم على حضور هذا المجلس فقلت لعلي استفيد شيئا ينفعني في ديني فقال لي اجلس حتى ينقضي المجلس فجلست.
فلما انقضى المجلس اخذ بيدي وحملني الى الرصافة وجاء بي إلى باب فطرقه فقال قائل من داخل الدار من فقال انا بكار فقال يا بكار الست قد كنت هاهنا اليوم فقال جئت في حاجة مهمة ففتح الباب وهو يقول لا حول ولا قوة الا بالله.
ثم دخلنا واذا بشيخ جالس مستقبل القبلة على راسه سطح كالطرحة فسلمنا عليه فرد علينا السلام فقال بكار يا سيدي هذا صبي يداوم حضور المجلس ويحب الخير وقد دام مرض عينه فادع له فدعاني فاتيته فادخل خنصره في فيه ثم مسح عيني به فبقيت بعد ذلك نحو ستين سنة لم ترمد عيني فلما خرجت سألت عنه فقيل لي هذا ابو بكر الدينوري صاحب ابن سمعون.
توفي الدينوري في شعبان سنة ثلاثين واربعمائة.(1/559)
338- أبو الطيب طاهر بن عبد الله ابن طاهر الطبري
ولد بآمل في سنة ثمان واربعين وثلاثمائة وسافر في طلب العلم سمع من ابي احمد الغطريفي والدارقطني والمعافي بن زكريا وغيرهم وتفقه على ابي الحسن الماسرجسي وبرع في الفقه وجمع التقوى الى العلم وولي القضاء بربع الكرخ بعد ابي عبد الله(1/559)
الصيمري وقد كان راى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له يا فقيه فكان يفرح ويقول سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيها.
قال احمد بن علي بن ثابت انشدني ابو الطيب الطبري لنفسه:
ما زلت اطلب علم الفقه مصطبرا ... على الشدائد حتى اعقب الخيرا
وكان ما كر من درس ومن سهر ... في عظم ما نلت من عقباه مغتفرا
حفظت ماثورة حفظا وثقبت به ... وما يقاس على الماثور معتبرا
صنفت في كل نوع من مسائله ... غرائب الكتب مبسوطا ومختصرا
اقول بالاثر المروي متبعا ... وبالقياس اذا لم اعرف الاثر
اذا انتضيت بياني عن غوامضه ... حسرت عنها قناع اللبس فانحسرا
وان تحريت طوق الحق مجتهدا ... وصلت منها الى ما اعجز الفكرا
وكنت ذا ثروة لما عنيت به ... فلم ادع ظاهرا منها ومدخرا
وما ابالي اذا ما العلم صاحبني ... ثم القتى فيه ان لا اصحب البشرا
ثنت عناني عنه همة طمحت ... الى الهوى فاستطابت عنده الصبرا
اصدى فلا اتصدى للئيم ولا ... ابيت دون الغنى حزنان منكسرا
اذا اضقت سألت الله معتذرا ... كفايتي فاطاب الورد والصدرا
وقرات بخط الشيخ ابي الوفا بن عقيل قال حكي لي بعض اهل العلم ان القاضي ابا الطيب صعد من سميرية وقد تم له عشر المائة فقفز منها الى الشط فقال بعض من حضر يا سيدنا لا تفعل هذا فان اعضاءك تضعف وربما اورث مثل هذه الطفرة فتقاً في المعى فقال يا هذا ان هذه اعضاءنا حفظناها من معاصي الله فحفظها الله علينا.
وقال ابو الحسن محمد بن أحمد بن عبد الله الفامي ابتدا القاضي ابو الطيب الطبري يدرس الفقه ويتعلم العلم وله اربع عشر سنة فلم يخل به يوما واحدا الى ان مات.
قال الخطيب وتوفي في يوم السبت لعشر بقين من ربيع الاول سنة خمسين واربعمائة ودفن من الغد في مقبرة باب حرب وحضرت الصلاة عليه في المنصور وكان امامنا في الصلاة عليه ابو الحسين بن المهتدي وبلغ من السن مائة سنة وسنتين وكان صحيح العقل ثابت الفهم يقضي ويفتي الى حين وفاته رحمه الله.(1/560)
339- أبو الحسن البرداني
كان من الزهاد المنقطعين بجامع المنصور.
حدثني ابو محمد عبد الله بن علي المقريء قال كان ابو الحسن البرداني صالحا مقيما بدار القطان وكان الناس يزورونه فيقول ترى أي شيء زاد في حتى ازار انا كنت اكارا ولباسي اليوم لباسي الذي كان واكلي اكلي الذي كان وما تركت شيئا من الدنيا احمد على تركه فلماذا ازار؟
قال ابو محمد وكان بجامع المنصور رجل يقال له ابن عبد العزيز من القراء فسمعه البرداني يقول يوما هؤلاء الحشوية يقولون في القرآن كذا فبقي مدة لا يصلي خلفه فلما شاع هذا تعصب له جماعة وجاؤوا بتوقيع من السلطان بتقديمه وتمكينه فجاء ابن عبد العزيز والناس معه فباتوا بباب البصرة فقال خادم البرداني له يا سيدي قد جاء القوم وقد عزموا على تقدميه وتمكينه فقال ما يجيئون وكيف يجيئون.
فقال ابن عبد العزيز في بعض الليلة فؤادي يوجعني ومات من ليلته.(1/561)
340- أبو بكر احمد بن علي العلبي
كان يقريء القرآن ويؤم الناس ويعمل بيده ولا يقبل من أحد شيئا ويذهب بنفسه في كل ليلة الى دجلة فياخذ في كوز له ماء يفطر عليه ويمشي في حوائج نفسه ولا يستعين باحد.
وكان اذا حج يزور القبور بمكة ويجيء الى قبر الفضيل بن عياض ويخط بعصاه ويقول يا رب ها هنا يا رب ها هنا.
فاتفق انه خرج للحج في سنة ثلاث وخمس مائة فشهد عرفة محرما وتوفي عشية ذلك اليوم في ارض عرفات فحمل الى مكة وطيف به حول البيت ودفن يوم منحر الى جانب الفضل بن عياض.(1/561)
341- أبو المعالي الرجل الصالح
ساكن باب الطاق قال ابو الحسن بن مالان وكان ثقة حدثني ابو المعالي الصالح قال ضاق بي الامر في رمضان حتى اكلت فيه ربعين باقلي عزمت على المضي الى رجل من ذوي قرابتي اطلب منه شيئا فنزل طائر فجلس على منكبي وقال يا ابا المعالي انا الملك الفلاني لا تمض إليه نحن ناتيك به فبكر الرجل الي.
وحدثني ابو محمد عبد الله بن المقريء قال كنت عند ابي المعالي الصالح فقيل له:(1/561)
قد جاء سعد الدولة شحنة بغداد فقال اغلقوا الباب فجاء فطرق الباب وقال ها انا قد نزلت عن دابتي وما ابرح حتى تفتح لي ففتح له فدخل فجعل يوبخه على ما هو فيه وسعد الدولة يبكي بكاء كثيرا فانفرد بعض اصحابه وتاب على يده.
وقال لي ابو محمد كان ابو المعالي لا ينام الا جالسا ولا يلبس الا ثوبا واحدا شتاء كان او صيفا وكان اذا اشتد البرد عليه يشد المئزر بين كتفيه.
حدثني ابو محمد ان رجلا توفي وسلم إلى ابن عقيل مالا وامره ان يدفعه الى ابي المعالي الصالح ليقسمه بعد موته فلما مات الرجل بعث ابن عقيل الى ابي المعالي بالمال واخبره بالقصة فقال ما اقبل هذه الوصية فعاوده فابى فبينما هم على ذلك جاء ولد الميت فقال أن ابي اوصى بما لا يخرج من الثلث فقال ابن عقيل والله لقد كوشف ذاك الرجل فهو يقبل خمسة ارطال من الخبز ولولا انه كوشف بهذا ما رده رحمه الله.(1/562)
342- أخو جمادي
كان منقطعا بباب الطاق والناس يزورونه ويتبركون به.
حدثني ابو محمد عبد الله بن المقريء عن اخي جمادي قال خرجت في يدي عيون وانتفخت فاجمع الاطباء على قطعها فبت ليلة على سطح قد رقيت إليه فقلت في الليل يا صاحب هذا الملك الذي لا ينبغي لغيره هب لي شيئا بلا شيء فنمت ف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت يا رسول الله يدي انظر اليها. فقال مدها فمددتها فامر يده عليها واعادها وقال قم فقمت وانتبهت والخرق التي شدت بها مخانق.
فقمت في الليل وذهبت الى باب الازج الى قرابة لي فطرقت الباب فقالت المراة لزوجها قد مات فلان تعنيني وظنت ان مخبرا قد جاء يخبرها بذلك فلما فتحت الباب ورأتني تعجبت.
ورجعت الى باب الطاق فرأيت الناس من عند دار السلطان الى منزلي خلقا لا يحصى معهم الجرار والاباريق فقلت ما لكم فقالوا قيل لنا ان رجلا قد راى النبي صلى الله عليه وسلم ها هنا يتوضأ في بئر.
فقلت في نفسي ان مضيت لم يكن لي معهم عيش فاختفيت في الخرابات طول النهار.(1/562)
343- عبد الوهاب بن المبارك ابن احمد الانماطي
ويكنى ابا البركات سمع الكثير وكتب الكثير وروي لنا عن ابي محمد الصريفيني وابن النقور وخلق كثير من القدماء.
وما عرفنا من مشايخنا اكثر سماعا منه ولا اكثر كتابة للحديث ولا اصبر على الاقراء ولا احسن بشرا ولقاء ولا اسرع دمعة ولا اكثر بكاء.
ولقد كنت اقرا عليه الحديث في زمان الصبا ولم اذق بعد طعم العلم فكان يبكي بكاء متصلا وكان ذلك البكاء يعمل في قلبي وأقل ما يبكي هذا هكذا الا لامر عظيم فاستفدت ببكائه ما لم استفد بروايته.
وكان مجلسه منزها عن غيبة الناس وكان رضي الله عنه على طريقة السلف وكنا نتنظره من يوم الجمعة لياتي من داره بنهر القلائين الى جامع المنصور فلا ياتي على قنطرة باب البصرة وانما يمر على القنطرة العتيقة فسالته عن سبب هذا فقال كانت تلك دار ابن معروف القاضي فلما قبض عليه بنيت قنطرة.
قال وحدثنا ابو محمد التميمي عنه انه احل من يعبر عليها غير اني لا افعل.
وكان مولده في رجب سنة اثنتين وستين وتوفي يوم الخميس الحادي والعشرين من المحرم سنة خمس وثلاثين وخمس مائة.
وعدته في مرضه وقد بلي وذهب لحمه فقال لي ان الله عز وجل لا يتهم في قضائه.(1/563)
ذكر المصطفين من عباد بغداد المجهولين الأسماء
344- عابد
عن أبي عبد الله احمد بن يحيى الجلاء قال سمعت أبي يقول كنت عند معروف في مجلسه فدخل عليه رجل فقال يا أبا محفوظ رأيت في هذه الليلة عجباً قال وما رأيت رحمك الله قال اشتهي علي أهلي سمكا فذهبت إلى السوق فاشتريت لهم سمكة وحملتها مع حمال فمشي معي فلما سمعنا آذان الظهر قال الحمال يا عم هل لك أن نصلي فكأنه أيقظني من غفلة فقلت له نعم نصلي.
فوضع الطبق والسمكة عليه على مستراح ودخل المسجد فقلت في نفسي الغلام قد جاد بالطبق أجود أنا أيضاً بالسمكة فلم يزل يركع حتى اقيمت الصلاة فصلينا جماعة وركع بعد الصلاة وخرجنا فإذا الطبق على حاله موضوع فجئت إلى البيت وحدثت أهلي بهذا فقالوا لي قل له ياكل معنا من هذا السمك فقلت له تأكل معنا من هذا السمك فقال أنا صائم فقتل له فافطر عندنا قال نعم اروني طريق المسجد فاريته فدخل المسجد وجلس إلى ان صلينا المغرب. فجئت إليه وقلت له تقوم رحمك الله فقال أو نصلي عشاء الآخرة فقلت في نفسي هذه ثانية يريد ان فيه خيرا فلما صلينا به إلى منزلي ولنا ثلاث أبيات: بيت فيه أنا وأهلي وبيت فيه صبية مقعدة ولدت كذلك لها فوق العشرين سنة وبيت كان فيه ضيفنا.
فبينا أنا مع أهلي إذ دق داق الباب في آخر الليل فقلت من يدق الباب فقالت أنا فلانة فقلت فلانة قطعة لحم مطروحة في البيت كيف يستوي لها ان تمشي فقالت أنا هي افتحوا لي ففتحنا لها فإذا هي فقلت أي شيء الخبر فقلت سمعتكم تذكرون ضيفنا هذا بخير فوقع في نفسي ان اتوسل إلى الله عز وجل به فقلت اللهم بحق ضيفنا هذا وبجاهه عندك إلا أطلقت اسري: فاستويت وقمت وانا في عافية كما تروني.
فقمت إليه اطلبه في البيت فإذا البيت خال ليس فيه أحد فجئت إلى الباب فوجدته مغلقا بحاله فقال معروف نعم فيهم صغار وكبار يعني الاولياء.(1/564)
345- عابد آخر مجذوم
أبو عبد الله البراثي قال: قال خلف البرزالي: اتيت برجل مجذوم ذاهب اليدين والرجلين اعمى فجعلته مع المجذومين فغفلت عنه أياما ثم ذكرته فقلت يا هذا اني غفلت عنك فكيف حالك فقال لي حبيبي ومن أنا احبه فقد احاطت محبته باحشائي فلا اجد لما أنا فيه من الم مع محبته لا يغفل عني.
فقلت له اني نسيت فقال ان لي من يذكرني وكيف لا يذكر الحبيب حيبيه وهو نصب عينيه تائه العقل والقلب قلت لها الا ازوجك امرأة تنظفك من هذه الاقذار قال فبكي ثم تنفس ورمى ببصره نحو السماء وقال يا حبيب قلبي ثم اغمي عليه.
فافاق فقلت ما تقول فقال كيف تزوجني وانا مالك الدنيا وعروسها قلت أي شيء الذي عندك من ملك الدنيا وانت ذاهب اليدين والرجلين اعمى تأكل كما تأكل البهائم قال رضي عني سيدي إذا ابلى جوارحي واطلق لساني بذكره.
قال فوقع مني بكل موقع فما لبث الا يسيرا حتى مات فأخرجت له كفنا فيه طول فقطعت منه فاتيت في منامي فقيل لي يا خلف بخلت على ولي ومحبي بكفن طويل قد رددنا عليك كفنك وكفناه عندنا بالسندس والاستبراق قال فصرت إلى بيت الاكفان فإذا الكفن ملقى.
346- عابد آخر
قال إبراهيم الاجري الكبير كنت يوما قاعدا على باب المسجد في يوم شات إذ مر بي رجل عليه خرقتان فظننت انه من هؤلاء الذين يسالون فقلت في نفسي لو عمل هذا بيده كان خيرا له قال ومضى الرجل.
فلما كان الليل اتاني ملكان فأخذا بضبعي ثم ادخلاني المسجد الذي كنت على بابه قاعدا فإذا رجل نائم عليه خرقتان فكشف لي عن وجهه فإذا هو الذي مر بي فقالا لي كل لحمه فقلت ما اغتبته قالا لي بلى حدثت نفسك بغيبته ومثلك لا يرضى منه بمثل هذا.
قال فانتبهت فزعا فمكثت ثلاثين يوما اقعد على باب المسجد لا اقوم الا لفرض انتظر ان يمر بي فاستحله.
فلما كان بعد الثلاثين مر بي على حاله والخرقتان عليه فوثبت إليه فغمز وغمزت خلفه(1/565)
فلما خفت ان يفوتني قلت يا هذا قف اكلمك قال فالتفت الي ثم قال يا إبراهيم وانت أيضاً ممن يغتاب المؤمنين بقلبه قال فسقطت مغشياً علي قال فافقت وهو عند راسي فقال اتعود قلت لا ثم غاب عن عيني فلم اره بعد ذلك.
347- عابد آخر
قال الجنيد ارقت ليلة فرمت السكون فما وجدته ثم اجتهدت في قضاء ورد كان لي فلم اقدر ثم حرصت على دراسة شيء من القرآن فلم اقدر فوقع بي انزعاج شديد فأخذت ثوبي على كتفي ثم انصرفت وذاك آخر الليل.
فلما توسطت الدرب عثرت بإنسان ملتف في عباء فرفع راسه وقال إلى الساعة فقلت سيدي عن موعد تقدم فقال لا ولكن سألت محرك القلوب ان يحرك لي قلبك فقلت قد فعل حاجة قال نعم قلت ما هي قال يا أبا القاسم متى يكون الداء دواء فقلت إذا خالفت النفس هواها صار داؤها دواءها قال فتنفس وقال قد اجبتها بهذا الجواب الليلة سبع مرات فقالت لا أو اسمعه من جنيد ها قد سمعت منه ثم مضى فما رايته بعد ذلك.
348- عابد آخر
عبيد الله بن عبد الله قال: كنت عند الجنيد يوم قدم أبو حفص النيسابوري فوثب إلأيه الجنيد وعانقه، فقال للجنيد: دعني من المعانقة، عندك شيء تطعمني؟ فقال له: أي شيء تومي؟ فعين له على شيء يطبخ فالتفت الجنيد إلى ابن زيري فقال: قد سمعت: فمضى ابن زيري فغاب ساعة ثم عاد ومعه ما أراد. فقال الجنيد لأبي حفص: قد حضر ما ذكرت. فقال: يا أخي قد أحببت أن أوثر به، أتساعدني؟ فقال له: أحب ما تحب. فقال الجنيد لابن زيري: قد سمعت فأنفذه إلى مستحق فأقبل ابن زيري إلى الحمال فقال:
أمش بين يدي وحيث أعييت فقف. فمشى الحمال ساعة ووقف بين دارين فدق ابن زيري أقرب الدارين إلى الحمال فإذا نداء من داخل الدار: ادخل إن كان معك كذا كذا وإلا فلا، وعين على ما كان مع الحمال. قال: ففتحت الباب فإذا شيخ قاعد وخيش مرسل على باب، فوضعت ما كان مع الحمال بين يدي الشيخ وصرفت الحمال وقعدت.
فقال لي: وراء هذا الخيش صبيان وبنات يحتاجون إلى هذا الطعام فقلت له: لا أنصرف أو تخبرني بالحال. فقال: هؤلاء الصبيان يسألوني هذا الطعام منذ مدة ولم تسامح نفسي أن(1/566)
أسأل الله تعالى، فوجدت البارحة مسامحة أن أسأل فجعلت علامة إجابة الله إياي وجود المسامحة من السؤال، فلما دققت الباب علمت ما معك.
349- عابد آخر
من بعض قرى بغداد بلغنا عن جنيد قال سمعت السري بن المغلس يقول ان في قرى بغداد لاولياء لا يعرفهم الخلق قال وكنت ادور في القرى لعلي اجد منهم واحداً فبينا أنا يوما في بعض القرى دخلت مسجدا ف رأيت فيه شابا ساكتا فتقدم الي وقال لي اتاذن ان اسالك مسالة فقلت هات فقال مسالة فسال مسالة من احوال القلب دقيقة فاجبته فقلت له يقع لك مثل هذه المسالة فقال كثير فقلت كيف تعمل قال أنا انسان قد لازمت هذا الموضع فإذا وقع لي مثل هذه المسالة قيض الله لي وليا مثلك فيجيبني فعلمت صدق قول السري.
350- عابد آخر
أبو جعفر السقاء قال خرجت يوماً من بيتي في يوم مطير فإذا اسود مطروح على المزبلة مريض فجررته فادخلته إلى بيتي فلما امسينا دعاني فقال يا أبا جعفر لا تفسد ما صنعت اقعد عندي قال وفاح البيت بريح المسك وصار ريح جبتي وكسائي وجرتي وكوزي وكل شيء في البيت ريح المسك.
قال فقال اقعد عندي قال ثم قال بيده هكذا لا تضيق على جلسائي.
قال فسمعته يقول اندك اندك يا بار خداه ارفق بي يا مولاي قال ثم خرجت نفسه.
قال قلت ابيع كسائي ابيع جبتي فاشتري له كفنا قال فطرق بابي قريب من سبعين انسانا كل يقول يا أبا جعفر مات عندك انسان يحتاج إلى كفن.
351- عابد آخر
عن أبي الحسن بن خيرون صاحب أبي بكر عبد العزيز قال لي أبو بكر عبد العزيز:
كنت مع استاذي يعني أبا بكر الخلال وانا غلام مشتد فاجتمع جماعة يتذاكرون بعد عشاء الآخرة فقال بعضهم لبعض اليس مقبل يعني رجلا اسود كان ناطورا بباب حرب لنا مدة ما رايناه فقاموا يقصدونه وقال لي استاذي يعني الخلال لا تبرح احفظ الباب.
فتركتهم حتى مضوا واغلقت الباب وتبعتهم فلما بلغنا بعض الطريق قال استاذي هو ذا(1/567)
ارى وراءنا شخصا آخر قفوا فقالوا لي من أنت فامسكت فزعا من استاذي فقال أحدهم لاستاذي بالله عليك الا تركته فتركني ومضيت معه فدخلنا إلى قراح فيها باذنجان مملوء والاسود قائم يصلي فسلموا وجلسوا إلى ان سلم وأخرج كيسا فيه يابسة وملح جريش قال كلوا فاكلوا وتحدثوا وأخذوا يذكرون كرامات الاولياء وهو ساكت.
فقال واحد من الجماعة يا مقبل قد زرناك فما تحدثنا بشيء فقال أي شيء أنا واي شيء عندي أحدثك أنا اعرف رجلا لو سال الله تعالى ان يجعل هذا القراح الباذنجان ذهبا لفعل.
فوالله ما استم الكلام حتى راينا القراح يتقد ذهبا فقال له استاذي يعني الخلال يا مقبل لأحد سبيل أن يأخذ من هذا القراح اصلا واحداً فقال له خذ وكان القراح مسقيا فأخذ استاذي الاصل فقلعه بعروقه وجميع ما فيه ذهبا فوقعت من الاصل باذنجانه صغيرة وشيء من الورق فأخذته وبقاياه معي إلى يومي.
قال ثم صلى ركعتين وسال الله تعالى فعاد القراح كما كان وعاد مكان ذلك الاصل اصل باذنجان آخر.
352- عابد آخر
محمد بن داود الرقي قال كنت مارا ببغداد وإذا بعض الفقراء يمر في الطريق وإذا مغن يغني ويقول:
امد كفي بالخضوع ... إلى الذي جاد بالصنيع
قال فشهق الفقير شهقة خر ميتا.
قال المؤلف وقد رويت لنا عن الرقي عن غيره.
الحسين بن محمد قال سمعت الرقي يقول سمعت العسقلاني يقول كنت مارا ببغداد فإذا أنا ببعض الفقراء مارا في الطريق ومغن يغني ويقول:
امد كفي بالخضوع ... إلى الذي جاد بالصنيع
قال فشهق الفقير شهقة خر ميتا.
353- عابد آخر
بلغنا عن أبي الصوفي قال دخلت في يوم عيد على بعض مشايخنا فرأيت عنده خلا وهندباء فاشتغل قلبي وخرجت فدخلت على بعض أهل الدنيا فاخبرته فدفع إلى صرة فيها(1/568)
دراهم وقال احملها إليه فقلت جئت بها لتستعين بها على وقتك قال وما الذي رأيت من حالي قلت له رأيت عندك خلا وهندبا فقال كانك افتقدت ذلك لو كان في بيتي امرأة كنت تفتقدها قم فوالله لا كلمتك شهرا.
فخرجت فضرب الباب في وجهي فسال الدم فاتيت الشبلي فقلت له يا أبا بكر رجل مشى في طاعة الله فانفتح وجهه ما سبب هذا فقال لعله اراد ان ياتي إلى شيء صاف يكدره.
354- عابد آخر
عن أبي الحسين بن سمعون قال اجتزت يوما على الصراة ف رأيت امرأة تلتقط ورق البقل الذي ياتي على الماء فقلت لا شك ان هذه امرأة فقيرة. فوقفت حتى رجعت فتبعتها فاتت إلى دار فدخلت فرجعت إلى بيتي فما استقر بي المنزل حتى اتاني خادم معه دنانير ودراهم فقال ادفع هذا إلى محتاج.
فأخذته وقمت فاتيت بيت المراة فطرقت الباب فخرج رجل من خواص مجلسي ومن الملازمين لي فلما راني قال ما لك هكذا فقلت جئتكم بهذه الدنانير تستعينون بها على الوقت فنظر الي مغضبا وقال يا شيخ تحدرنا من الدنيا وتاتينا بها ثم رد الباب في وجهي ودخل فرجعت منكسرا إلى بيتي.
ثم قلت في نفسي لا بد ان اعود إليه فاعتذر فاتيته في اليوم الثاني فطرقت الباب مرارا فلم يجبني أحداً وإذا امرأة من الجيران تقول ما لك يا رجل فقلت لها ما فعل أهل هذه الدار فقالت كان في هذه الدار رجل مع والدته وكنا نتبرك بهم فجاء بالامس شيطان فكلمهم بما كرهوا فانتقلوا عنا.
قال فعدت وانا شديد الحزن على ما فعلت وجعلت اتفقد مجلسي ولا ارى الرجل.
فلما كان يوم عرفة وانا اتكلم على الناس رايته في اوآخرهم فلما انقضى المجلس مضيت إليه وسلمت فرد علي وقال لا تعد ما فات ولا تقل شيئا فلولا اني اعتقد كلامك دواء لقلبي لم احضر وانما غبت عنك لانا انتقلنا إلى مكان آخر حتى لا نعرف فقلت ما اتيت الا معتذرا وما اعود ثم فارقته.(1/569)
ذكر المصطفين من عقلاء المجانين ببغداد
355- سعدون المجنون
قال يحيى بن ايوب خرجت يوما إلى مقابر باب خراسان ثم جلست في موضع ارى منه من يدخل المقابر فنظرت إلى رجل دخل المقابر مقنعا فجعل يجول في المقابر كلما راى قبرا محفوراً أو منخسفاً وقف عليه وبكى.
فقمت رجاء ان انتفع به فلما صرت إليه إذا هو سعدون المعتوه وكان يكون في كوخ مقابر عبد الله بن مالك فقلت له يا سعدون أي شيء تصنع فقال يا يحيى هل لك في ان تجلس فنبكي على بلى هذه الابدان قبل ان تبلي فلا يبكي عليها باك ثم قال يا يحيى البكاء من القدوم على الله عز وجل اولى بنا من البكاء على بلى الابدان ثم قال يا يحيى {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} ثم صاح صيحة شديدة وقال واغوثاه بالله مما يقابلني في الصحف قال يحيى فغشي علي فافقت وهو جالس يمسح وجهي بكمه وهو يقول يا يحيى من اشرف منك لو مت؟.
قال الفتح بن شخرف كان سعدون صاحب محبة لله صام ستين سنة حتى خف دماغه فسماه الناس مجنونا لتردد قوله في المحبة فغاب عنا زمانا فبينا أنا قائم على حلقة ذي النون رايته عليه جبة صوف وعليها مكتوب لا تباع ولا تشترى فسمع كلام ذي النون فصرخ وانشا يقول:
ولا خير في شكوى إلى غير مشتكي ... ولا بد من سلوى إذا لم يكن صبر
احمد بن عبد الله بن ميمون قال سمعت ذا النون المصري يقول خرج الناس إلى الاستسقاء بالبصرة فخرجت فيمن خرج فبينا أنا مار بين الناس إذا بيدين قبضتا على رجلي فقلت من أنت خل عني فقال أنا سعدون المجنون اين تريد يا أبا الفيض قلت اريد المصلى ادعو الله تعالى فقال بقلب سماوي أو بقلب جاف فقلت بقلب سماوي قال انظر يا ذا النون لا تبهرج فان الناقد بصير وقال تدعو الله واؤمن على دعائك أو ادعو الله وتؤمن على دعائي فقلت تدعو أنت واؤمن عليه.
قال فصف قدميه ثم قال الهي بحق البارحة الا امطرتنا قال ذو النون لقد رأيت الغيوم قد ارتفعت عن اليمين والشمال حتى التقت فجاءنا المطر كافواه العزالي فقلت له:(1/570)
بحق معبودك أي شيء كان بينك وبين الله البارحة فقال لي لا تدخل بيني وبين قرة عيني قلت لا بد ان تخبرني فانشا يقول:
انست به فلا ابغي سواه ... مخافة ان اضل فلا اراه
فحسبك حسرة وضنى وسقما ... بطردك عن مجالس أولياه
قال ذو النون رأيت سعدونا في المقبرة في يوم حار وهو يناجي ربه عز وجل بصوت عال ويقول أحد أحد فاتبعته فسلمت عليه فرد علي السلام فقلت له بحق من تناجيه الا وقفت لي وقفة فوقف وقال لي قل واوجز فقلت اوصني بوصية احفظها عنك أو تدعو لي بدعوة فقال:
يا طالب العلم ههنا وهنا ... ومعدن العلم بين جنبيكا
ان كنت تبغي الجنان تدخلها ... فاذرف الدمع فوق خديكا
وقم إذا قام كل مجتهد ... وادع لكيما يقول لبيكا
قال ثم مضى فقال يا غياث المستغيثين اغثني قلت له ارفق بنفسك فلعله يلحظك بلحظة فيغفر لك فنفض يده من يدي وعدا يقول:
انست به فلا أبغي سواه ... مخافة ان اضل فلا اراه
فحسبك حسرة وضنى وسقما ... بطردك عن مجالس اولياه
قال الاصمعي مررت بسعدون المجنون فإذا هو جالس عند راس شيخ سكران يذب عنه فقلت له سعدون ما لي أراك جالساً عند رأس هذا الشيخ فقال انه مجنون فقلت له أنت مجنون أو هو قال لا بل هو قلت من اين قلت ذلك؟ قال لاني صليت الظهر والعصر جماعة وهو لم يصل جماعة ولا فرادى فقلت له فهل قلت في ذلك شيئا فانشأ يقول:
تركت النبيذ لأهل النبيذ ... واصبحت اشرب ماء قراحا
لان النبيذ يذل العزيز ... ويكسو الوجوه النضار الصباحا
فان كان ذا جائزا للشباب ... فما العذر فيه إذا الشيب لاحا؟
فقلت له صدقت وانصرفت.
قال صالح المري قرات بين يدي سعدون المجنون {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} فصرخ ثم قال ملاح والله ثم انشا يقول:(1/571)
ان في الخلد جارية ... هي حسن كما هيه
لو تراها على النما ... رق بالغنج ماشيه
لتمنيّت أنها ... لك ما عشت باقيه
كتبت في شقائق الخد ... سطراً بغاليه
أنا للزاهد الذي ... عينه الدهر باكيه(1/572)
356- بهلول
سري السقطي قال اجتزت يوما بالمقابر فإذا أنا ببهلول قد دلى رجليه في قبر وهو يلعب بالتراب فقلت أنت ههنا قال نعم أنا عند قوم لا يؤذونني وان غبت عنهم لا يغتابوني فقلت يا بهلول الخبز قد غلا فقال والله ما ابالي ولو حبة بمثقال ان علينا ان نعبده كما امرنا وعليه ان يرزقنا كما وعدنا ثم ولى عني وهو يقول:
يا من تمتع بالدنيا وزينتها ... ولا تنام عن اللذات عيناه
افنيت عمرك فيما لست تدركه ... تقول لله مإذا حين تلقاه
عن سري السقطي قال خرجت يوما إلى المقابر ف رأيت بهلولا قد دلى رجليه في قبر وهو يبعث بالتراب فقلت له أي شيء تصنع ههنا فقال أنا عند قوم لا يؤذوني وان غبت عنهم لا يغتابوني فقلت لا تكون جائعاً فولى وانشأ يقول:
نجوع فان الجوع من علم التقي ... وان طويل الجوع يوما سيشبع
فقلت له ان الخبز قد غلا فقال والله ما ابالي ولو بلغت حبة بمثقال علينا ان نعبده كما امر وعليه ان يرزقنا كما وعد ثم ولى وهو يقول.
اف للدنيا فليست لي بدار ... انما الراحة في دار القرار
أبت الساعات الا سرعة ... في بلي جسمي بليل ونهار
عن الفضل بن الربيع قال حججت مع هارون الرشيد فمررنا بالكوفة فإذا بهلول المجنون يهذي فقلت اسكت فقد اقبل امير المؤمنين فسكت فلما حاذاه الهودج قال يا امير المؤمنين حدثني ايمن بن نابل قال انبانا قدامة بن عبد الله العامري قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى على جمل وتحته رحل رث فلم يكن ثم طرد ولا ضرب ولا إليك إليك قلت يا امير المؤمنين انه بهلول المجنون قال قد عرفته قل يا بهلول فقال يا امير المؤمنين:
هب انك قد ملكت الارض طرا ... ودان لك البلاد فكان مإذا؟(1/572)
اليس غدا مصيرك ترب ... ويحثو الترب هذا ثم هذا؟
قال اجدت يا بهلول أفغيره قال نعم يا أمير المؤمنين من رزقه الله جمالا ومالا فعف في جماله واتقى في ماله كتب في ديوان الابرار.
قال فظن انه يريد شيئا قال فانا قد امرنا بقضاء دينك قال لا تفعل يا امير المؤمنين لا تقض دينا بدين اردد الحق إلى أهله واقض دين نفسك من نفسك.
قال أنا قد امرنا ان تجرى عليك جراية قال لا تفعل يا امير المؤمنين لا يعطيك وينساني اجرى علي الذي اجري عليك لا حاجة لي في جرايتك.(1/573)
أخرين
...
357- مجنون آخر يقال له أبو علي المعتوه
خلف بن سالم قال قلت لابي علي المعتوه وكان ينزل في الخرم يا أبا علي ألك مأوى قال نعم قلت وأين مأواك قال في دار يستوي فيها العزيز والذليل قال قلت له واين هذه الدار قال المقابر قلت يا أبا علي ما تستوحش في ظلم الليل قال اني اكثر ذكر ظلم اللحد ووحشته فهون علي ظلم الليل قلت له فربما رأيت في المقابر شيئا تنكره قال ربما ولكن في هول الآخر ما يشغل عن هول المقابر.
قال الاشهلي قلت لابي يا ابة مثل هذا الكلام الجيد الصحيح يتكلم به مجنون قال يا بني هؤلاء قوم كان لهم فضل ودين ومعرفة فزالت عقولهم وبقي ذلك الفضل فلم يختلط فيما اختلط.
358- مجنون آخر
أبو بكر الشبلي قال رأيت يوم الجمعة معتوها عند جامع الرصافة قائما عريانا وهو يقول أنا مجنون الله أنا مجنون الله فقلت له لم لا تدخل الجامع وتتوارى وتصلي فانشد:
يقولون زرنا واقض واجب حقنا ... وقد اسقطت حالي حقوقهم عني
إذا هم راوا حالي ولم يأنفوا لها ... ولم يأنفوا منها انفت لهم مني
358- مجنون آخر
قال لي ابن القصاب الصوفي البغدادي دخلنا جماعة إلى المارستان فرأينا فيه فتى مصابا شديد الهوس فولعنا به وزدنا في الولع فاتعبناه فصاح وقال انظر إلى شعور مطررة واجساد معطرة قد جعلوا الولع بضاعة والسخف صناعة جانبوا العلم راسا فقلنا له تحسن العلم نسالك فقال أي والله اني لاحسن علما جما فسلوني.(1/573)
فقلت له من السخي في الحقيقة فقال الذي رزق امثالكم وانتم لا تساوون قوت يوم فضحكنا وقلنا من اقل الناس شكرا قال من عوفي من بليه فراها في غيره فترك العبرة والشكر إلى الطنز واللهو فكسر قلوبنا بذلك.
فقال له آخر ما الظرف قال خلاف ما انتم عليه ثم بكى وقال يا رب ان لم ترد علي عقلي فرد علي يدي لعلي كنت اصفع واحداً من هؤلاء.
فتركناه وانصرفنا.(1/574)
ذكر المصطفيات من عابدات بغداد
360- جوهرة العابدة البراثية
نَزَلْت بَراثاً مع زوجها أبي عبد الله البراثي.
حكيم بن جعفر قال كانت جوهرة امرأة أبي عبد الله البراثي جارية لبعض الملوك فعتقت فخلعت الدنيا ولزمت أبا عبد الله البراثي فتزوج بها وتعبدت.
أبو عبد الله البراثي قال قالت لي جوهرة يوما يا أبا عبد الله النساء يحلين في الجنة إذا دخلنها قلت نعم قال فصاحت صيحة غشي عليها فلما افاقت قلت ما هذا الذي اصابك قالت ذكرت حالي تلك وما كنت قد نلت من الدنيا فخشيت والله حرمان الآخرة.
أبو عبد الله البراثي قال رات جوهرة في منامها خياما مضروبة فقالت لمن ضربت هذه الخيام فقيل للمجتهدين ب القرآن فكانت بعد ذلك لا تنام.
عن أبي عبد الله البراثي قال كانت جوهرة تنبهني من الليل وتقول يا أبا عبد الله كاروان رفث معناه قد سارت القافلة.
حكيم بن جعفر قال كنا ناتي أبا عبد الله بن أبي جعفر الزاهد وكان يسكن براثا وكانت له امرأة متعبدة يقال لها جوهرة وكان أبو عبد الله يجلس على جلة خوص بحرانية وجوهرة جالسة حذاءه على جلة آخرى مستقبلة القبلة في بيت واحد.
قال فاتيناه يوما وهو جالس على الارض ليست الجلة تحته فقلنا يا أبا عد الله ما فعلت بالجلة التي كنت تقعد عليها قال ان جوهرة ايقظتني البارحة فقالت اليس يقال في الحديث ان الارض تقول لابن ادم تجعل بيني وبينك سترا وانت غدا في بطني قال قلت نعم قالت فأخرج هذه الجلال لا حاجة لنا فيها فقمت والله فأخرجتها.(1/575)
361- زوجة أبي شعيب البراثي العابد
الجنيد بن محمد قال كان أبو شعيب البراثي اول من سكن براثا في كوخ يتعبد فيه فمرت بكوخه جارية من بنات الكبار من ابناء الدنيا كانت ربيت في قصور الملوك فنظرت الي أبي شعيب فاستحسنت حاله وما كان عليه فصارت كالاسير له فعزمت على التجرد من الدنيا والاتصال بابي شعيب.(1/575)
فجاءت إليه قالت اريد ان اكون خادمة فقال لها ان اردت ذلك فغيري هيئت، وتجرّدي عما أنت فيه حتى تصلحي لما اردتِ. فتجردت عن كل ما تملكه ولبست لبسة النساك وحضرته فتزوجها.
فلما دخلت الكوخ رات قطعةَ خِصافٍ كانت مجلس أبي شعيب تقيه من الندى فقالت ما أنا مقيمة فيه حتى تخرج ما تحتك لاني سمعتك تقول ان الارض تقول لابن ادم تجعل اليوم بيني وبينك حجابا وانت غدا في بطني فما كنت لاجعل بين وبينها حجاباً.
فأخذ أبو شعيب الخصاف ورمى بها فمكثت معه سنين كثيرة يتعبدان أحسن عبادة وتوفيا على ذلك متعاونين.
قال المؤلف قد ذكرنا عن جوهرة العابدة مثل هذه الحكاية وهذا قد اتفق لهاتين المرأتين فلا نظن ان الحكيتين واحدة.(1/576)
362- اخوات بشر الحافي
وهن ثلاث مُضغة، ومُخة، زبدة بنات الحارث، واكبرهن مضغة.
قال السلمي اخوات بشر مخة وربذة ومضغة.
وكانت زبدة تكنى ام علي.
وكانت مضغة اخت بشر اكبر منه وماتت قبله وقيل لما ماتت مضغة توجع عليها بشر توجعا شديدا وبكي بكاء كثيرا فقيل له في ذلك فقال قرات في بعض الكتب ان العبد إذا قصر في خدمة ربه سلبه انيسه وهذه كانت انيستي من الدنيا.
قال الخطيب وذكر إبراهيم الحربي ان بشرا قال هذا يوم ماتت أخته مخة والله اعلم.
أبو عبد الله بن يوسف الجوهري قال سمعت بشر بن الحارث يوم ماتت أخته يقول ان العبد إذا قصر في طاعة الله عز وجل سلبه من يؤنسه.
أبو عبد الله القحطبي قال كان لبشر اخت صوامة قوامة.
غيلان القصائدي قال قال بشر بن الحارث تعلمت الورع من أختي فإنها كانت تجتهد الا تأكل ما للمخلوق فيه صنع.
عبد الله بن احمد بن حنبل قال كنت مع أبي يوما من الايام في المنزل فدق داق الباب فقال لي أخرج فانظر من بالباب فخرجت فإذا امرأة فقالت لي استاذن لي على أبي عبد الله قال فاستاذنته قال اخلها.(1/576)
قال فدخلت فسلمت عليه وقالت له يا أبا عبد الله أنا امرأة اغزل بالليل في السراج فربما طفئ السراج فأغزل في القصر فعلي أن أبين غزل القمر من غزل السراج؟ قال فقال لها ان كان عندك بينهما فرق فعليك ان تبيني ذلك قال قالت يا أبا عبد الله انين المريض شكوى قال ارجو الا يكون ولكنه اشتكاء إلى الله عزوجل.
قال فودعته وخرجت فقال يا بني ما سمعت قط انسانا يسال عن مثل هذا اتبع هذه المرأة فانظر اين تدخل قال فاتبعتها فإذا قد دخلت إلى بيت بشر بن الحارث وإذا هي أخته قال فرجعت فقلت له فقال محال ان تكون مثل هذه الا اخت بشر.
قال المصنف قلت هذه المراة التي سألت احمد هي مخة وقد نقلت عنها حكاية سميت فيها تشبه هذه الحكاية.
عبد الله بن احمد بن حبنل ببغداد قال جاءت مخة اخت بشر بن الحارث إلى أبي فقالت اني امرأة راس مالي دانقان اشتري القطن فاغوزله وابيعه بنصف درهم فاتقوت بدانق من الجمعة فمر ابن طاهر الطائف ومعه مشعل فوقف يكلم اصحاب المسالح فاستغنمت ضوء المشعل فغزلت طاقات ثم غاب عني المشعل فعلمت ان لله في مطالبة فخلصني خلصك الله فقال لها تخرجين الدانقين ثم تبقين لا راس مال حتى يعوضك الله خيرا منه.
قال عبد الله قلت لابي يا ابة لو قلت لها لو أخرجت الغزل الذي ادرجت فيه الطاقات فقال يا بني سؤالها لا يحتمل هذا التاويل ثم قال م هذه قلت مخة اخت بشر بن الحارث فقال من ها هنا اتيت.
قرات بخط أبي علي الراذاني قال كانت مخة من بين اخوات بشر تقصد احمد بن حنبل وتساله عن الورع والتقشف وكان احمد يعجب بمسائلها.
السلمي قال قالت زبدة اخت بشر اثقل شيء على العبد الذنوب واخفه عليه التوبة فما له يدفع اثفل شيء باخف شيء؟(1/577)
363- امرأة عبد الله بن الفرج العابد
أبو بكر محمد بن الحسين الاجري قال بلغني ان عبد الله بن الفرج لما مات لم تعلم زوجته اخوانه بموته وهم جلوس بالباب ينتظرون الدخول عليه في علته فغسلته وكفنته في كساء له وأخذت فرد باب من أبواب بيته وجعلته فوقه وشدته بشريط ثم قالت لاخوانه قد مات وقد فرغت من جهازه.
فدخلوا واحتملوه إلى قبره واغلقت الباب خلفهم.(1/577)
364- ميمونة أخت إبراهيم ابن احمد الخواص لامه
كانت تسلك مسلك أخيها إبراهيم في الزهد والتقلل والورع والتوكل.
احمد بن سالم قال دق داق باب إبراهيم الخواص فقالت له أخته من تطلب فقال إبراهيم الخواص فقالت قد خرج فقال متى يرجع فقالت من روحه بيد غيره من يعلم متى يرجع؟(1/578)
365- مؤمنة بنت بهلول
عيسى بن اسحاق الانصاري قال سمعت مؤمنة بنت بهلول تقول ما النعيم الا في الانس بالله والموافقة لتدبيره.(1/578)
366- ام عيسى بنت إبراهيم الحربي
أبو بكر احمد بن علي بن ثابت ذكر لي ان ام عيسى بنت إبراهيم الحربي كانت فاضلة عالمة تفنى في الفقه ودفنت إلى جنب ابيها إبراهيم والسلام.(1/578)
367- أمة الواحد بنت القاضي أبي عبد الله الحسين ابن اسماعيل المحاملي
أبو بكر البرقاني قال كانت بنت المحاملي تفتي مع أبي علي بن أبي هريرة.
أبو الحسن الدارقطني قال امة الواحد بنت الحسين بن اسماعيل بن محمد القاضي المحاملي سمعت اباها واسماعيل بن العباس الوراق وعبد الغافر بن سلامة الحمصي وابا الحسن المصري وحمزة الهاشمي الامام وغيرهم.
وحفظت القرآن والفقه على مذهب الشافعي والفرائض وحسابها والنحو وغير ذلك من العلوم وكانت فاضلة في نفسها كثيرة الصدقة مسارعة في الخيرات وحدثت وكتب عنها الحديث.
وتوفيت في رمضان من سنة سبع وسبعين وثلاثمائة.(1/578)
ذكر المصطفيات من العابدات البغداديات المجهولات الأسماء
368- عابدة
نوح الاسود قال رأيت امرأة تاتي أبا عبد الله البراثي فتجلس تسمع كلامه ولا تكاد تتكلم ولا تسال عن شيء فقلتت لها ذات يوم لا اراك يرحمك الله تتكلمين ولا تسالين عن شيء فقالت قليل الكلام خير من كثيره الا ماكان من ذكر الله والمنصت افهم للموعظة ولن ينصحك امرؤ لا ينصح نفسه وجملة الامر يا اخي ان اردت الله بطاعة ارادك الله برحمة وان سلكت سبيل المعرضين فلا تلم الا نفسك إذا صرت غدا في زمرة الخاسرين.
قال ثم استبكت فقامت وسمعتها تعظ ابنها يوما وتقول:
ويحك يا بني احذر بطالات الليل والنهار فتنقضي مهلات الاعمار وانت غير ناظر لنفسك ولا مستعد لسفرك ويحك يا بني ما من الجنة عوض ولا في ركوب المعاصي ثمن من حلول النار ويحك يا بني مهد لنفسك قبل ان يحال بينك وبين ذلك وجد قبل ان يجد الامر بك واحذر سطوات الدهر وكيد الملعون عند هجوم الدنيا بالفتن وتقلبها بالعبر فعند ذلك يهتم التقي كيفي ينجو من مصائبها.
ثم قالت بؤسا لك يا بني ان عصيت الله وقد عرفته وعرفت احسانه واطعت ابليس وقد عرفته وعرفت طغيانه.(1/579)
فقاموا معها حتى انتهوا إلى النهر فقالت اين غرق فقالوا ههنا فصاحت: ابني محمد فاجابها لبيك يا اماه فنزلت فأخذت بيده ومضت به إلى منزلها.
قال غيلان فالتفت سري إلى الجنيد وقال أي شيء هذا فقال جنيد اقول بمقال سري قال ان المراة مراعية لما لله عز وجل عليها وحكم من كان مراعيا لما لله عز وجل عليه الا تحدث حالة حتى يعلم بذلك فلما لم تكن حادثة تعلمها بذلك فانكرت وقالت ان ربي عز وجل ما فعل هذا.
370- عابدة آخرى
أبو الحسن البحراني صاحب إبراهيم الخواص قال سألت امرأة من المتعبدات إبراهيم الخواص عن تغير وجدته في قلبها وتغير وجدته في حالها فقال لها عليك بالتفقد فقالت قد تفقدت فما رأيت شيئا فاطرق الخواص ساعة ثم رفع راسه وقال اما تذكرين ليلة المشعل فقالت بلى فقال هذا التغير من ذلك.
فبكت وقالت نعم كنت اغزل فوق السطح فانقطع خيطي فمر مشعل للسلطان فغزلت في ضوئه خيطا ثم ادخلت ذلك الخيط في غزل ونسجت منه قميصا ولبسته.
ثم قامت إلى ناحية فنزعت القميص وقالت يا إبراهيم ان أنا بعته وتصدقت بثمنه يرجع قلبي إلى الصفاء فقال ان شاء الله تعالى ذلك.
371- عابدتان بغداديتان
بلغني انه كان ببغداد رجل بزاز له ثروة فبينا هو في حانوته اقبلت إليه صبية فالتمست منه شيئا تشتريه فبينا هي تحادثه كشفت وجهها في خلال ذلك فتحير وقال قد والله تحيرت مما رأيت فقالت ما جئت لاشتري شيئا انما لي أيام اتردد إلى السوق ليقع بقلبي رجل اتزوجه وقد وقعت أنت بقلبي ولي مال فهل لك في التزوج بي فقال لها لي ابنة عم وهي زوجتي وقد عاهدتها الا غيرها ولي منها ولد فقالت قد رضيت ان تجيء الي في الاسبوع نوبتين فرضي وقام معها فعقد العقد ومضى إلى منزلها فدخل بها.
ثم ذهب إلى منزله فقال لزوجته ان بعض اصدقائي قد سالني ان اكون الليلة عنده ومضى فبات عندها وكان يمضي كل يوم بعد الظهر اليها.
فبقي على هذا ثمانية اشهر فانكرت ابنة عمه احواله فقالت لجارية لها إذا خرج فانظري اين يمضي فتبعته الجارية فجاء إلى الدكان فلما جاءت الظهر قام وتبعته الجارية وهو(1/580)
لا يدري إلى ان دخل بيت تلك المراة فجاءت الجارية إلى الجيران فسالتهم لمن هذه الدار فقالوا لصبية قد تزوجت برجل تاجر بزاز. فعادت إلى سيدتها فاخبرتها فقالت لها اياك ان يعلم بهذا أحد ولم تظهر لزوجها شيئا.
فأقام الرجل تمام السنة ثم مرض ومات وخلف ثمانية آلاف دينار فعمدت المرأة التي هي ابنة عمه إلى ما يستحقه الولد من التركة وهو سبعة آلاف دينار فأفردتها وقسمت الألف الباقية نصفين وتركت النصف في كيس وقالت للجارية خذي هذا الكيس واذهبي إلى بيت المرأة واعلميها أن الرجل مات وقد خلف ثمانمائة آلاف دينار وقد أخذ الابن سبعة آلاف بحقه وبقيت آلف فقسمتها بيني وبينك وهذا حقك وسلميه إليها.
فمضت الجارية فطرقت عليها الباب ودخلت وأخبرتها خبر الرجل وحدثتها بموته وأعلمتها الحال فبكت وفتحت صندوقها وأخرجت منه رقعة وقالت للجارية: عودي إلى سيدتك وسلمي عليها عني واعلميها أن الرجل طلقني وكتب لي براءة وردي عليها هذا المال فإني ما استحق في تركته شيئا.
فرجعت الجارية فأخبرتها بهذا الحديث.
انتهى ذكر أهل بغداد.
تم الجزء الأول من كتاب صفة الصفوة.
والحمد لله.(1/581)
المجلد الثاني
(تابع) ذكر المصطفين من التابعين ومن بعدهم على طبقاتهم في بلدانهم
ذكر من اصطفى من أهل المدائن
شعيب بن حرب
...
ذكر من اصطفي من أهل المدائن
372 - شعيب بن حرب
ويكنى أبا صالح.
نزل المدائن واعتزل بها ثم خرج إلى مكة فنزلها إلى أن مات بها.
ابن إسماعيل قال: ذهبنا إلى المدائن، إلى شعيب بن حرب، وكان قاعداً على شط دجلة، وكان قد بنى كوخاً، وخبز له معلق في شريط، ومطهرة يأخذ كل ليلة رغيفاً يبله في المطهرة ويأكله، فقال بيده هكذا، وإنما كان جلداً وعظماً. قال: فقال: أترى ههنا بعد لحماً، والله لأعملن في ذوبانه حتى أدخل القبر وأنا عظام تقعقع أريد السمن للدود والحيات؟ قال: فبلع أحمد بن حنبل قوله فقال: شعيب بن حرب حمل على نفسه الورع.
السري بن المغلس السقطي قال: أربعة كانوا في الدنيا أعملوا أنفسهم في طلب الحلال، ولم يدخلوا أجوافهم إلا الحلال. فقيل له: من هم؟ قال: وهيب بن الورد، وشعيب بن حرب، ويوسف بن أسباط، وسليمان بن الخواص.
عبد الله بن خبيق قال: سمعت شعيب بن حرب يقول: أكلت في عشرة أيام أكلة وشربت شربة.
ابن عبد العزيز: عن شعيب بن حرب قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فجئت فقال: أوسعوا له فإنه حافظ لكتاب الله عز وجل.
إبراهيم بن عبد الملك قال: جاء رجل إلى شعيب بن حرب وهو بمكة فقال: ما جاء بك؟ قال جئت أؤنسك. قال: جئت تؤنسني وأنا أعالج الوحدة منذ أربعين سنة.
الحسن بن صالح قال: سمعت شعيب بن حرب يقول: لا تجلس إلا مع أحد رجلين: رجل جلست إليه يعلمك خيراً فتقبل منه، أو رجل تعلمه خيراً فيقبل منك، والثالث: اهرب منه.
أحمد بن الحواري قال: سمعت شعيب بن حرب يقول لرجل: إن دخلت القبر ومعك الإسلام فأبشر.
__________
372 - هو: شعيب بن حرب المدائني، أبو صالح، نزيل مكة، ثقة عابد، من التاسعة، مات سنة سبع وتسعين ومائة.(2/5)
أحمد بن الفضل قال: رأيت شعيب بن حرب بمكة وعليه جبة صوف رقيقة نظيفة، وعليه إزار خفيف إلى الصفرة، وعمامة، وهو حاف وقد صفر لحيته على لون، ووجهه مصفر، وفي كمه دريهمات تكون مقدار ثلاثين درهماً، وقال: ما أصبحت أملك شيئاً من الدنيا أستطيبه إلا هذه، ورأيته بكى حتى رأيت دموعه تسيل على لحيته.
وقال لي شعيب: أهدى لي رجل صديق لي سكرة واحدة فأنا أتحلى بها بعد عشائي منذ ثمان ليال.
بشر بن الحارث قال: نزل على شعيب بن حرب أخ له يقال له عبدة. فلما نادوا بالنفير خرج عبدة فتبعه شعيب. فلما أراد مفارقته قال له شعيب: اجعلني في حل. قال: من أي شيء؟ قال: من أجل الأخوة فإني لم أقم بأخوتك.
محمد بن عيسى قال: سمعت شعيب بن حرب يقول: من أراد الدنيا فليتهيأ للذل.
عبد الوهاب قال: كان ههنا قوم خرجوا إلى المدائن، إلى شعيب بن حرب، فلما رجعوا إلى دورهم ولقد أقام بعضهم يستقي الماء، وكان شعيب يقول لبعضهم الذي يستقي الماء: لو رآك سفيان لقرت عينه.
قال المروزي: وقلت لأبي عبد الله: أرويه عنك؟ فأجازه.
أبو جعفر الحداد، عن شعيب بن حرب، أنه قال: لا تحقرن فلساً تطيع الله في كسبه، ليس الفلس يراد إنما الطاعة تراد، عسى أن تشتري به بقلاً فلا يستقر في جوفك حتى يغفر لك.
محمد بن عبد الله البزاز قال شعيب بن حرب قال: لك أن تطين الحائط من الخارج وليس لك أن تجصصه، لعله يخرج في الطريق.
وسمعت أبا عبد الله يقول: بلغني عن شعيب بن حرب أنه قال: لا تطين الحائط مما يلي السكة لعله أن يخرج في الطريق - ثم قال أبو عبد الله: لقد دقق شعيب رحمه الله.
عبد الله بن أيوب المخزومي قال: قال شعيب بن الحرب: من طلب الرياسة ناطحته الكباش، ومن رضي أن يكون ذنباً أبى الله إلا أن يجعله رأساً.
سمع شعيب بن حرب من شعبة، وسفيان الثوري، وزهير بن معاوية، في خلق كثير. وكان أحد المفردين بالزهد والتعبد وتوفي بمكة سنة سبع وتسعين ومائة.(2/6)
ذكر المصطفين من أهل واسط
373 - منصور بن زاذان
مولى عبد الله بن أبي عقيل الثقفي.
عن هشام بن حسان قال: كان منصور يأتي المسجد فيصلي ركعتين، ما بين المغرب والعشاء، يختم فيهما القرآن مرتين، ويبلغ من الثالثة إلى الطواسين وكانت عليه عمامة يجعلها كوراً كوراً يمسح بها دموعه، وإذا ابتلت وضعها بين يديه.
قال المؤلف: قلت: هذه الرواية ليست بمحققة وإنما كان هذا الرجل يختم القرآن في الليل والنهار مرتين، مرة بعد المغرب والعشاء ومرة بالنهار. يدل على صحة هذا، عن هشام بن حسان قال: كنت أصلي أنا ومنصور ابن زاذان جميعاً، وكان يختم القرآن ما بين الظهر والعصر ويختم مابين المغرب والعشاء وكان يقوم إلى عمود فيصلي فيختم القرآن، وكان يبكي ويمسح بعمامته عينه فلا يزال يبلها كلها بدموعه ثم يلفها ويضعها بين يديه.
صالح بن عمر قال: كان الحسن يقعد مع أصحابه ولا يقوم حتى يختم منصور بن زاذان القرآن.
شيخ من أهل واسط يكنى أبا سعيد، وكان جاراً لمنصور بن زاذان، قال: رأيت منصوراً توضأ يوماً فلما فرغ دمعت عيناه ثم جعل يبكي حتى ارتفع صوته، قلت: رحمك الله ما شأنك؟ فقال: وأي شيء أعظم من شأني؟ إني أريد أن أقوم بين يدي من لا تأخذه سنة ولا نوم، فلعله أن يعرض عني! قال: فأبكاني والله بقوله.
عمرو بن عون قال: سمعت هشيماً يقول: مكث منصور بن زاذان يصلي الفجر بوضوء عشاء الآخرة عشرين سنة.
عن أبي عوانة قال: لو قيل لمنصور بن زاذان: إنك ميت اليوم أو غداً، ما كان عنده مزيد.
قال هشيم: لو قيل لمنصور بن زاذان إن ملك الموت على الباب، ما كان عنده زيادة في العمل، وذلك أنه كان يخرج فيصلي الغداة في جماعة. ثم يجلس فيسبح حتى تطلع الشمس، ثم يصلي إلى الزوال، ثم يصلي الظهر، ثم يصلي إلى العصر، ثم يصلي العصر، ثم يجلس
__________
373 - هو: منصور بن زادان - بزاي وذال معجمة، الواسطي: أبو المغيرة الثقفي، ثقة ثبت عابد، من السادسة، مات سنة تسع وعشرين على الصحيح.(2/7)
يسبح إلى المغرب، ثم يصلي المغرب، ثم يصلي العشاء ثم ينصرف إلى بيته فيكتب عنه في ذلك الوقت.
عن أبي حمزة قال: رأيت جنازة منصور بن زاذان ورأيت الرجال على حدة، والنساء على حدة، واليهود على حدة، والنصارى على حدة.
قال المؤلف: أرسل منصور الحديث عن أنس، وروى عن الحسن وابن سيرين وعطاء ونظرائهم، وكان قد تحول عن واسط فنزل المبارك على تسعة فراسخ من واسط وتوفي في الطاعون سنة إحدى وثلاثين ومائة. وقيل سنة تسع وعشرين.(2/8)
374 - سيار بن دينار
وقيل: ابن وردان، أبو الحكم العنبري.
عن هشيم قال: دخلنا على سيار أبي الحكم وهو يبكي، فقلنا: ما يبكيك؟ قال: ما أبكى العابدين قبلي.
أبو جعفر الآدمي قال: قال سيار أبو الحكم: الفرح بالدنيا والحزن بالآخرة لا يجتمعان في قلب عبد، إلا إذ سكن أحدهما القلب خرج الآخر.
حسين بن زيادة قال: بعث بعض القضاة إلى سيار بواسط فأتاه فقال له: لم لا تجيء إلينا؟ فقال له: إن أنت أدنيتني فتنتني، وإن باعدتني غممتني، وليس عندك ما أرجوه ولا عندي ما أخافك عليه. ثم قام.
عبد الحميد بن بيان قال: سمعت أبي يقول: خرج سيار إلى البصرة، فقام يصلي إلى سارية في المسجد الجامع، وكان حسن الصلاة، عليه ثياب جياد. فرآه مالك بن دينار فجلس إليه فسلم سيار، فقال له مالك: هذه الصلاة وهذه الثياب؟ فقال له سيار: هذه ترفعني عندك أو تضعني؟ فقال: تضعك. قال: هذا أردت. ثم قال له: يا مالك إني لأحسب ثوبيك هذين قد أنزلاك من نفسك ما لم ينزلك من الله. فبكى مالك وقال له: أنت سيار؟ قال: نعم. فعانقه - وفي رواية أخرى: فجاء مالك فقعد بين يديه.
قال المصنف: يسند سيار عن طارق بن شهاب، ويقال إن طارقاً من أصحابه، وروي عن الشعبي، وأبي حازم، في نظراتهم.
__________
374 - هو: سيار أبو الحكم العنزي -بنون وزاي - وأبوه يكنى أبا سيار واسمه وردان، وقيل: ورد، وقيل: غير ذلك، هو أخو مساور الوراق لأمه، ثقة، وليس هو الذي يروي عن طارق بن شهاب، من السادسة، مات سنة اثنتين وعشرين.(2/8)
375 - المستسلم بن سعيد
أبو سعيد الثقفي الواسطي، ابن أخت منصور مولى يزيد بن هارون قال: مكث المستسلم بن سعيد أربعين سنة لا يضع جنبه إلى الأرض.
قال: وسمعته يقول: لم أشرب الماء منذ خمسة وأربعين يوماً.
وفي رواية أخرى، قال يزيد بن هارون: بت عند المستسلم بن سعيد، وكان لا يكاد ينام، إنما هو قائم وقاعد، وذكر أنه لم يضع جنبه منذ أربعين عاماً، فظننت أنه يعني بالليل، فقيل: ولا بالنهار.
__________
375 - هو: مستسلم بن سعيد الثقفي، الواسطي، صدوق عابد ربما وهم، من التاسعة.
قال الشيخ شعيب: بل صدوق حشن الحديث، فقد وثقه أحمد بن حنبل، وقال النسائي وابن معين في رواية ابن محرز عنه: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما خالف ... التحرير 3/366.(2/9)
376 - هشيم بن بشير بن أبي خازم
واسم أبي خازم: القاسم بن دينار. ويكنى هشيم أبا معاوية السلمي، مولى لبني سليم.
قال أبو إسحاق الحربي: كان هشيم رجلاً كان أبوه صاحب صحناة وكواميخ، يقال له بشير. وطلب ابنه هشيم الحديث فاشتهاه، وكان أبوه يمنعه. فكتب الحديث حتى جالس أبا شيبة القاضي، وكان يناظر أبا شيبة في الفقه، فمرض هشيم، فقال أبو شيبة: ما فعل ذلك الفتى الذي كان يجيء إلينا؟ قالوا: عليل. فقال: قوموا بنا حتى نعوده. فقام أهل المجلس جميعاً يعودونه حتى صاروا إلى منزل بشير، فدخلوا إلى هشيم فجاء رجل إلى بشير ويده في الصحناة فقال: الحق ابنك قد جاء القاضي يعوده. فجاء بشير والقاضي في داره. فلما خرج قال لابنه: يا بني قد كنت أمنعك من طلب الحديث فأما اليوم فلا، صار القاضي يجيء إلى بابي، متى أملت هذا.
قال الحربي: وكان حفاظ الحديث أربعة، هشيم شيخهم، يزعمون أنه ما رئي له إلا دفتر واحد.
عبد الله بن أحمد قال: سمعت أبي يقول: لزمت هشيماً أربع سنين، أو خمس سنين،
__________
376 - هو: هشيم، بالتصغير، ابن بشير، بوزن عظيم، ابن القاسم بن دينار السلمي، أبو معاوية بن أبي خازم - بمعجمتين - الواسطي، ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الخفي من السابعة، مات سنة ثلاث وثمانين، وقد قارب الثمانين.(2/9)
ما سألته عن شيء هيبة إلا مرتين. قال لي: وكان هشيم كثير التسبيح بين الحديث، يقول بين ذلك: لا إله إلا الله، يمد بها صوته.
محمد بن حاتم المؤدب قال: قيل لهشيم، كم كنت تحفظ يا أبا معاوية؟ قال: كنت أحفظ في مجلس مائة ولو سئلت عنها بعد شهر لأجبت.
نصر بن بسام وغيره من أصحابنا قالوا: أتينا أبا محفوظ معروفاً الكرخي فقال لنا: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقول لهشيم: "يا هشيم: جزاك الله عن أمتي خيرا"ً. قال ابن بسام: فقلت: يا أبا محفوظ أنت رأيته؟ قال: نعم، هشيم خير مما نظن، هشيم خير مما نظن، هشيم خير مما نظن رضي الله عن هشيم.
عمرو بن عون قال: مكث هشيم يصلي الفجر بوضوء عشاء الآخرة، قبل أن يموت، عشر سنين.
قال المؤلف: سمع هشيم من عمرو بن دينار، والزهري، ويونس بن عبيد، وأيوب السختياني، وابن عون، وخالد الحذاء، ومنصور بن زاذان، في خلق كثير.
وروى عنه: مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وشعبة، وابن المبارك، ويزيد بن هارون، في جماعة من الكبار. وانتقل عن واسط إلى بغداد فسكنها إلى إن مات بها وكان أبوه بشير طباخ الحجاج بن يوسف كان يعمل الكواميخ والصحناة.
ومات هشيم في يوم الأربعاء، لعشر مضين من شعبان من سنة ثلاث وثمانين ومائة.(2/10)
377 - يزيد بن هارون
يكنى أبا خالد، مولى لبني سليم، وقيل أصله من بخارى.
علي بن المديني قال: ما رأيت رجلاً قط أحفظ من يزيد بن هارون.
قال أبو جعفر أحمد بن سنان: ما رأيت عالماً قط أحسن صلاة من يزيد بن هارون يقوم كأنه أسطوانة، وكان يصلي بين المغرب والعشاء والظهر والعصر لم يكن يفتر من صلاة الليل والنهار، هو وهشيم جميعاً معروفان بطول الصلاة بالليل والنهار.
__________
377 - هو: يزيد بن هارون بن زاذان السلمي مولاهم، أبو خالد الواسطي ثقة متقن، عابد من التاسعة، مات سنة ست ومائتين وقد قارب التسعين.(2/10)
عاصم بن علي قال: كان يزيد بن هارون إذا صلى العتمة لا يزال قائماً حتى يصلي الغداة بذلك الوضوء نيفاً وأربعين سنة.
أبو جعفر محمد بن إسماعيل الصائغ بمكة قال: قال رجل ليزيد بن هارون: كم حزبك؟ فقال: وأنام من الليل شيئاً؟ إذاً لا أنام الله عيني.
محمد بن الربيع بن الحكم قال: سمعت يزيد بن هارون يقول: من طلب الرئاسة في غير أوانها حرمه الله إياها في أوانها.
الحسن بن عرفة قال: رأيت يزيد بن هارون بواسط وهو أحسن الناس عينين، ثم رأيته بعين واحدة، ثم رأيته وقد ذهبت عيناه فقلت: يا أبا خالد ما فعلت العينان الجميلتان؟ فقال: ذهب بهما بكاء الأسحار.
أبو نافع ابن بنت يزيد بن هارون قال: كنت عند أحمد بن حنبل وعنده رجلان، فقال أحدهما: يا أبا عبد الله رأيت يزيد بن هارون في المنام فقلت له: يا أبا خالد ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وشفعني وعاتبني. قال: قلت غفر لك وشفعك قد عرفت، ففيم عاتبك؟ قال: قال لي يا يزيد أتحدث عن حريز بن عثمان؟ قال: قلت يا رب ما علمت إلا خيراً. قال: يا يزيد إنه كان يبغض أبا الحسن علي بن أبي طالب.
قال: وقال الآخر: وأنا رأيت يزيد بن هارون في المنام؟ فقلت له: هل أتاك منكر ونكير؟ قال: إي والله، وسألاني من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ قال: قلت: ألمثلي يقال هذا وأنا أعلم الناس هذا في دار الدنيا؟ فقالا لي: صدقت فنم نومة العروس لا بؤس عليك.
حوثرة بن محمد المقري قال: رأيت يزيد بن هارون في المنام بعد موته بأربع ليال فقلت: ما فعل الله بك؟ تقبل مني الحسنات، وتجاوز عن السيئات، ووهب لي التبعات. قلت: وما كان بعد ذلك؟ قال: هل يكون من الكريم إلا الكرم؟ غفر لي ذنوبي وأدخلني الجنة. قلت: بم نلت؟ قال: بمجالس الذكر وقول الحق وصدقي في الحديث وطول قيامي في الصلاة وصبري على الفقر، قلت: منكر ونكير حق؟ قال: إي والله، والله الذي لا إله إلا هو لقد أقعداني وسألاني: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فجعلت أنفض لحيتي البيضاء من التراب. فقلت: مثلي يسأل؟ أنا يزيد بن هارون الواسطي، وكنت في دار الدنيا ستين سنة أعلم الناس.(2/11)
فقال أحدهما: صدق، هو يزيد بن هارون، من نومة العروس ولا روعة عليك بعد اليوم. قال أحدهما: أكنت تكتب عن حريز بن عثمان؟ قلت: نعم وكان ثقة في الحديث. قال: ثقة ولكنه كان يبغض علياً، أبغضه الله تعالى.
قال المؤلف: أسند يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وسليمان التميمي، وعاصم الأحوال، وحميد الطويل، وداود بن أبي هند، وعبد الله بن عون، وحسين المعلم في خلق كثير. وكان مولده ثمان عشرة ومائة. وتوفي في سنة ست ومائتين وهو ابن سبع أو ثمان وثمانين سنة.
انتهى ذكر أهل واسط(2/12)
ذكر المصطفين من أهل الكوفة من التابعين ومن بعدهم
فمن الطبقة الأولى
378 - سويد بن غفلة بن عوسجة بن عامر
يكنى أبا أمية. رحل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوصل إلى المدينة، وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصحب أبا بكر وعثمان وعلياً.
وروى عنه الشعبي أنه قال: أنا أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنة.
عن عمران بن مسلم قال: كان سويد بن غفلة إذا قيل له أعطي فلان وولي فلان، قال: حسبي كسرتي وملحي.
عن عثمان بن عمران قال: قال سويد بن غفلة: لو استطعت أن أكون مؤذن الحي لفعلت.
عن خثيمة عن سويد بن غفلة قال: إذا أراد أن ينسى أهل النار جعل لكل واحد منهم تابوتاً من نار على قدره ثم أقفل عليهم بأقفال من نار فلا يضرب فيهم عرق إلا وفيه مسمار من نار. ثم يجعل ذلك التابوت في تابوت آخر من نار، ثم يقفل عليه بأقفال من نار ثم تضرم بينهم نار ثم يجعل ذلك في تابوت آخر من نار ثم يقفل بأقفال من نار ثم تضرم نار فلا يرى أحد منهم أن في النار غيره.
عن سويد بن غفلة قال: إن الملائكة تمشي أمام الجنازة وتقول: ما قدم؟ ويقول الناس: ما ترك؟
عن الوليد بن علي عن أبيه قال: كان سويد بن غفلة يؤمنا في شهر رمضان في القيام، وقد أتى عليه عشرون ومائة سنة.
عن عاصم قال: تزوج سويد بن غفلة وهو ابن ستة عشرة ومائة سنة، وكان يمشي، يأتي الجمعة ماشياً.
__________
378 - هو: سويد بن غفلة - بفتح المعجمة والفاء - أبو أمية الجعفي، مخضرم من كبار التابعين، قدم المدينة يوم دفن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مسلما في حياته، ثم نزل الكوفة، ومات سنة ثمانين، وله مائة وثلاثون سنة.(2/13)
حنش بن الحارث قال: رأيت سويد بن غفلة يمر بنا في المسجد إلى امرأة له من بني أسد وهو ابن سبع وعشرين ومائة سنة.
عن عاصم بن كليب قال: تزوج سويد بن غفلة بكراً وهو ابن ست عشرة ومائة سنة وكان يمر بنا إلى الجمعة يمشي وهو ابن ست عشرة ومائة.
قال المؤلف: أسند سويد عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وبلال وغيرهم.
قال محمد بن سعد: مات سويد ابن ثمان وعشرين ومائة سنة في إحدى أو ثنتين وثمانين.(2/14)
379 - الأسود بن يزيد بن قيس بن عبد الله
يكنى أبا عمرو، وهو ابن أخي علقمة بن قيس وهو أكبر من علقمة.
عن منصور عن إبراهيم قال: كان الأسود يختم القرآن في رمضان في ليلتين، وكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يختم القرآن في غير رمضان، في كل ست ليال.
عن أبي إسحق قال: حج الأسود ثمانين من بين حج وعمرة.
عن عبد الرحمن بن تروان الأودي قال: كان الأسود بن يزيد يجهد نفسه في الصوم والعبادة حتى يخضر جسده ويصفر: وكان علقمة يقول له: ويحك لم تعذب هذا الجسد؟ فيقول: إن الأمر جد، إن الأمر جد.
عن علقمة بن مرثد قال: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، منهم الأسود بن زيد. وكان يجتهد في العبادة، ويصوم حتى يصفر ويخضر. فلما احتضر بكى. فقيل له ما هذا الجزع؟ فقال: لا أجزع؟ ومن أحق بذلك مني؟ والله لو أتيت بالمغفرة من الله عز وجل لأهمني الحياء منه بما قد صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه ولا يزال مستحياً منه. قال: لقد حج الأسود ثمانين حجة.
حنش بن الحارث قال: رأيت الأسود وقد ذهبت إحدى عينيه من الصوم، عمارة قال: ما كان الأسود إلا راهباً من الرهبان.
عن الحكم قال: كان الأسود يصوم الدهر.
__________
379 - هو: الأٍود بن يزيد بن قيس النخعي، أبو عمرو أو أبو عبد الرحمن مخضرم، ثقة مكثر فقيه من الثانية، مات سنة أربع أو خمس وسبعين.(2/14)
أسند الأسود عن أبي بكر وعلي وابن مسعود ومعاذ وأبي موسى وسلمان وعائشة ولم يورد عن عثمان شيئاً. وتوفي بالكوفة في سنة خمس وسبعين.(2/15)
380 - مسروق بن الأجدع بن مالك
أبو عائشة الهمداني.
سرق وهو صغير ثم وجد فسمي مسروقاً. وأسلم أبوه الأجدع. ولقي مسروقاً عمر بن الخطاب فقال له: ما اسمك؟ فقال: مسروق بن الأجدع. فقال الأجدع شيطان، أنت مسروق بن عبد الرحمن. فثبت ذلك عليه.
عن مسروق قال: بحسب المؤمن من الجهل أن يعجب بعمله، وبحسب المؤمن من العلم أن يخشى الله.
عن مسروق قال: إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره من الله عز وجل.
عن إسماعيل بن أمية قال: قيل لمسروق: لو أنك قصرت عن بعض ما تصنع، أي من العبادة، فقال: والله لو أتاني آت فأخبرني أن الله لا يعذبني لاجتهدت في العبادة. قيل: وكيف ذلك؟ قال: حتى تعذرني نفسي إن دخلت جهنم لا ألومها، أما بلغك في قوله عز وجل: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} إنما لاموا أنفسهم حين صاروا إلى جهنم واعتقبتهم الزبانية وحيل بينهم وبين ما يشتهون، وانقطعت عنهم الأماني ورفعت عنهم الرحمة وأقبل كل امرئ منهم يلوم نفسه.
عن أبي إسحاق قال: حج مسروق فلم ينم إلا ساجداً على وجهه حتى رجع.
عن أنس وابن سيرين: أن امرأة مسروق قالت: كان يصلي حتى تورم قدماه، فربما جلست خلفه أبكي مما أراه يصنع بنفسه.
عن إبراهيم قال: كان مسروق يرخي الستر بينه وبين أهله ثم يقبل على صلاته ويخليهم ودنياهم.
عن مسلم وغيره، عن مسروق قال: إني أحسن ما أكون ظناً حين يقول الخادم: ليس في البيت قفيز ولا درهم.
__________
380 - هو: مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الوادعي، أبو عائشة الكوفي، ثقة فقيه، عابد، مخضرم، من الثانية مات سنة اثنتين، ويقال: سنة ثلاث وستين.(2/15)
عن مسلم عن مسروق قال: إن المرء لحقيق أن يكون له مجالس يخلو فيها، يتذكر ذنوبه يستغفر منها.
عن علقمة بن مرثد قال: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، منهم مسروق بن الأجدع، فإن امرأته قالت: ما كان يوجد إلا وساقاه قد انتفختا من طول الصلاة فلما احتضر بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: ما لي لا أجزع وإنما هي ساعة ولا أدري أين يسلك بي؟ بين يدي طريقان لا أدري إلى الجنة أم إلى النار؟.
عن الشعبي قال: غشي على مسروق في يوم صائف وهو صائم، فقالت له ابنته: أفطر قال: ما أردت بي؟ قالت: الرفق. قال: يا بنية إنما أطلب الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
أسند مسروق عن عمر وعلي وابن مسعود وخباب وزيد بن ثابت والمغيرة وعبد الله بن عمرو وعائشة ولم يسند عن عثمان شيئاً ولكنه قد رآه ورأى أبا بكر أيضاً، وكان علي بن المديني يقول: لا أقدم على مسروق أحداً من أصحاب ابن مسعود.
ومات مسروق بالكوفة في سنة ثلاث وستين - والسلام.(2/16)
381 - علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك النخعي
يكنى أبا شبل، هو عم الأسود بن يزيد وخال إبراهيم التيمي.
قال أبو ظبيان: أدركت ما شاء الله من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسألون علقمة ويستفتونه.
عن إبراهيم عن علقمة قال: كان عبد الله يشبه النبي صلى الله عليه وسلم في هديه ودله وسمته وكان علقمة يشبه بعبد الله.
قال مرة بن شراحيل: كان علقمة من الربانيين.
عن إبراهيم قال: كان علقمة يختم القرآن في كل خمس.
عن المسيب بن رافع قال: قيل لعلقمة: لو جلست فأقرأت الناس القرآن وحدثتهم قال: أكده أن توطأ عقبي وأن يقال: هذا علقمة، وكان يكون في بيته يعلف غنمه ويقت لهن.
عن مالك بن الحارث قال: قيل لعلقمة: ألا تخرج فتحدث الناس؟ قال: أخرج؟ يتبعون
__________
381 - هو: علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي، الكوفي، ثقة ثبت فقيه عابد، من الثانية، مات بعد الستين، وقيل: بعد السبعين.(2/16)
عقبي ويقولون: هذا علقمة. قالوا: أفلا تدخل على السلطان فتنتفع؟ قال: إني لا أصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من ديني مثله.
ولا تؤذنوا بي أحداً وأغلقوا الباب ولا تتبعني امرأة ولا تتبعوني بنار، وإن استطعتم أن يكون آخر كلامي لا إله إلا الله.
قال المؤلف: أسند علقمة عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وحذيفة وأبي موسى وخباب بن الأرت وسلمان وأبي مسعود وعائشة. وتوفي بالكوفة سنة إحدى وستين، وقيل سنة اثنتين وستين، وقيل ثلاث وستين، وقيل اثنتين وسبعين، وقيل ثلاث وسبعين، وله تسعون سنة - رحمه الله.(2/17)
382 - شقيق بن سلمة الأسدي
يكنى أبا وائل.
عن عاصم أن أبا وائل كان له خص من قصب، وكان يكون فيه هو وفرسه فإذا غزا نقضه وتصدق به وإذا رجع أنشأ بناءه.
عن عاصم قال: ما رأيت أبا وائل يلتفت في صلاة ولا في غيرها قط.
عن إبراهيم قال: ما من قرية إلا وفيها من يدفع عن أهلها به، وإني لأرجو أن يكون أبو وائل منهم.
سعيد بن صالح قال: رأيت أبا وائل يسمع النوح ويبكي.
عن الأعمش، عن أبي وائل قال: إن أهل بيت يضعون على مائدتهم رغيفاً حلالاً لأهل بيت غرباء.
عن مغيرة قال: كان إبراهيم التيمي يذكر في منزل أبي وائل، فكان أبو وائل ينتفض انتفاض الطير.
عن عاصم قال: كان أبو وائل إذا خلا يسبح، ولو جعلت له الدنيا على أن يفعل ذلك وأحد يراه لم يفعل.
عمرو بن قيس قال: كان شقيق بن سلمة يدخل المسجد يصلي ثم ينشج كما تنشج المرأة.
عن عاصم بن أبي النجود قال: كان عطاء أبي وائل ألفين فإذا خرج أمسك ما يكفي أهله
__________
382 - هو: شقيق بن سلمة الأسدي، أبو وائل الكوفي، ثقة مخضرم، مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة.(2/17)
سنة وتصدق بما سوى ذلك.
عن عاصم قال: سمعت شقيق بن سلمة يقول وهو ساجد: رب اغفر لي رب اعف عني، إن تعف عني تطولاً من فضلك، وإن تعذبني تعذبني غير ظالم لي. قال: ثم يبكي حتى أسمع نحيبه من وراء المسجد.
قال المؤلف: أدرك أبو وائل زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلقه، وسمع عن عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وعمارة وخباب وأبي موسى وأسامة بن يزيد، وحذيفة وابن عمر وأبي مسعود وسلمان وأبي الدرداء والبراء والمغيرة بن شعبة وأبي هريرة، وجرير وكعب بن عجرة وسهل بن حنيف وقيس بن أبي غرزة وابن عباس وابن الزبير وعائشة وأم سلمة.
قال سعيد بن صالح: كان أبو وائل يؤم جنائزنا وهو ابن مائة وخمسين سنة.
قال الفضل بن دكين: توفي أبو وائل في زمن الحجاج بعد الجماجم.(2/18)
383 - زيد بن وهب الجهني
أحد بني حسل بن نصر بن مالك، يكنى أبا سليمان عبد الله بن داود قال: خبرتنا مولاة لزيد بن وهب قالت: كان زيد قد أثر الرحل بوجهه من الحج والعمرة.
قال المصنف: رحل زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيد في الطريق، وروى عن عمر وعلي وابن مسعود وكبار الصحابة وتوفي بعد الجماجم.
__________
383 - هو: زيد بن وهب الجهني، أبو سليمان الكوفي، مخضرم، ثقة جليل لخم يصب من قال: في حديثه خلل، مات بعد الثمانين، وقيل: سنة ست وتسعين.
الذي قال ذلك هو يعقوب بن سفيان الفسوي، وتعقبه الذهبي في الميزان تعقبا جيدا، التحرير 1/437.(2/18)
384 - يزيد بن شريك التميمي
وهو أبو إبراهيم.
عن ليث بن أبي سليم، عن إبراهيم التميمي عن أبيه قال: قدمت البصرة فربحت فيها عشرين ألفاً، فما أكثرت بها فرحاً، وما أريد أن أعود إليها لأني سمعت أبا ذر يقول: إن صاحب الدرهم يوم القيامة أخف من صاحب الدرهمين.
عن الأعمش، عن إبراهيم التميمي، عن أبيه أنه خرج إلى البصرة فاشترى رقيقاً بأربعة آلاف، ثم باعهم فربح أربعة آلاف. فقلت يا أبت لو أنك عدت إلى البصرة فاشتريت مثل هؤلاء
__________
384 - هو: يزيد بن شريك التميمي، وهو أبو إبراهيم، العابد المشهور انظر حلية الأولياء 4/234.(2/18)
فربحت فيهم. فقال: يا بني لم تقول هذا؟ فوالله ما فرحت بها حين أصبتها ولا أحدث نفسي أن أرجع فأصيب مثلها، روى يزيد عن عمر وعلي وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود، في خلق كثير.(2/19)
385 - زر بن حبيش الأسدي
يكنى أبا مريم.
عن عاصم بن أبي النجود قال: أدركت أقواماً كانوا يتخذون هذا الليل جملاً، منهم: زر، وأبو وائل.
عن سويد الكلبي أن زر بن حبيش كتب إلى عبد الملك بن مروان كتاباً يعظه فيه، فكان في آخر كتابه: ولا يطعمنك يا أمير المؤمنين في طول الحياة ما يظهر من صحة بدنك، فأنت أعلم بنفسك، واذكر ما تكلم به الأولون.
إذا الرجال ولدت أولادها ... وبليت من كبر أسجادها
وجعلت أسقامها تعتادها ... فذلك زروع قد دنا حصادها
فلما قرأ الكتاب بكى حتى بل طرف ثوبه، ثم قال: صدق زر ولو كتب إلينا بغير هذا كان أرفق.
عن إسماعيل بن أبي خالد قال: افتض زر بن حبيش جارية وهو ابن عشرين ومائة سنة.
قال المؤلف: أسند زر عن عمر وعلي وابن عوف وابن مسعود وأبي بن كعب وحذيفة وصفوان بن عسال. وتوفي وهو ابن اثنتين وعشرين ومائة.
__________
385 - هو: زر بكسر أوله وتشديد الراء - ابن حبيش - بمهملة وموحدة ومعجمة -مصغر، ابن حباشة - بضم المهملة بعدها موحدة ثم معجمة الأسدي، الكوفي، أبو مريم، ثقة جليل مخضرم، مات سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وثمانين، وهو ابن مائة وسبع وعشرين.(2/19)
386 - عمرو بن شرحبيل، أبو ميسرة
عن زبيد سمعت أبا وائل يقول: ما رأيت همدانياً أحب إلي أن أكون في مسلاخه من أبي ميسرة قيل: ولا مسروق؟ قال: ولا مسروق.
عن فضيل بن غزوان، عن امرأة عمرو بن شرحبيل قالت: كان عمرو إذا آوى إلى فراشه قال: وددت أني لم أك شيئاً قط.
قال المؤلف: أسند عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وخباب بن الأرت وغيرهم. والسلام.
__________
386 - هو: عمرو بن شرحبيل الهمداني، أبو ميسرة الكوفي، ثقة عابد، مخضرم مات سنة ثلاث وستين.(2/19)
387 - عبد الله بن أبي الهذيل
يكنى أبا المغيرة.
عن أبي فروة: كنا نجالس عبد الله بن أبي الهذيل، فإذا جاء إنسان فألقى حديثاً من حديث الناس قال: يا عبد الله ليس لهذا جلسنا.
عن خالد أبي سنان قال: شكا عبد الله بن أبي الهذيل يوماً من ذنوبه، فقال له رجل: يا أبا المغيرة أو لست التقي النقي؟ فقال: اللهم إن عبدك هذا أراد أن يتقرب إلي وإني أشهدك على مقته.
عن العوام بن حوشب عن ابن أبي الهذيل قال: لقد شغلت النار من يعقل عن ذكر الجنة.
عن العوام بن حوشب قال: ما رأيت ابن أبي الهذيل إلا وكأنه مذعور.
قال المؤلف: أسند عبد الله بن أبي الهذيل عن أبي بكر وعمر وعلي وعبد الله بن مسعود، إلا أنه أرسل الحديث عنهم وسمع من عمار وخباب بن الأرت وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وجرير وابن عباس وعبد الرحمن بن أبزي.
__________
387 - هو: عبد الله بن أبي الهذيل الكوفي، أبو المغيرة، ثقة، من الثانية، مات في خلافة خالد القشري على العراق.(2/20)
388 - مرة بن شراحيل الهمداني
ويقال له مرة الطبيب، سمي بذلك لعبادته.
حصين قال: أتينا مرة بن شراحيل الطبيب نسأل عنه فقالوا: إنه في غرفة له قد تعبد اثنتي عشرة سنة. فدخلنا عليه.
عن زبيد اليامي قال: كان مرة الهمداني يصلي في اليوم والليلة ستمائة ركعة.
عن عطاء بن السائب قال: كان مرة يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة فلما ثقل وبدن صلى أربعمائة ركعة وكنت أنظر إلى مباركه كأنها مبارك الإبل.
العلاء بن عبد الكريم الأيامي قال: كنا نأتي مرة الهمداني فيخرج إلينا فنرى أثر السجود في جبهته وكفيه وركبتيه وقدميه، فيجلس معنا هنية ثم يقوم قائماً فإنما هو ركوع وسجود.
قال المؤلف: أسند مرة عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وغيرهم.
__________
388 - هو: مرة بن شراحبيل الهمداني، يسكون الميم، أبو إسماعيل الكوفي، هو الذي يقال له: مرة الطبيب، ثقة عابد من الثانية، مات سنة ست وسبعين وقيل بعد ذلك.(2/20)
الحارث الغنوي قال: سجد مرة الهمداني، حتى أكل التراب جبهته، فلما مات رآه رجل من أهله في منامه كأن موضع سجوده كهيئة الكوكب الدري يلمع قال: فقلت له: ما هذا الذي أرى بوجهك؟ قال كسي موضع السجود، بأكل التراب له نوراً. قال: فما منزلتك في الآخرة؟ قال: خير منزلة، دار لا ينقل عنها أهلها ولا يموتون.(2/21)
389 - عمرو بن ميمون الأودي
عن أبي إسحاق قال: كان عمرو بن ميمون إذا دخل المسجد فرئي ذكر الله عز وجل.
عن أبي إسحاق أن عمرو بن ميمون حج مائة حجة وعمرة، كذا رواه إسرائيل ورواه شعبة عن أبي إسحاق أنه حج ستين حجة وعمرة.
قال أبو المليح: قال عمرو بن ميمون ما يسرني أن أمري يوم القيامة إلى أبوي.
قال المصنف: أسند عمرو عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي أيوب وأبي مسعود عقبة بن عمرو، وعبد الله بن عمرو، وأبي هريرة وابن العباس، وآخرين، توفي سنة أربع أو خمس وسبعين، في أول خلافة عبد الملك.
__________
389 - هو: عمرو بن ميمون الأودي، أبو عبد الله، ويقال: أبو يحي، مخضرم مشهور، ثقة عابد، نزل بالكوفة، مات سنة أربع وسبعين، وقيل بعدها.(2/21)
390 - همام بن الحارث النخعي
عن إبراهيم، عن همام بن الحارث أنه كان يدعو: اللهم اشفني من النوم باليسير، وارزقني سهراً في طاعتك، وكان لا ينام إلا هنية وهو قاعد.
عن إبراهيم قال: أصبح همام مترجلاً فقال بعض القوم: إن جمة همام لتخبركم أنه لم يتوسدها الليلة.
عن الأعمش قال: كانوا يأتون همام بن الحارث يتعلمون في هديه وسمته.
قال المؤلف: أسند همام عن عمر وابن مسعود وحذيفة وأبي مسعود وأبي الدرداء وعدي بن حاتم وجرير وعائشة. وتوفي بالكوفة في ولاية الحجاج.
__________
390 - هو: همام بن الحارث بن قيس النخعي، الكوفي، ثقة عابد، من الثانية مات سنة خمس وستين.(2/21)
391 - ربعي بن حراش بن جحش الغطفاني
عبد الله العجلي قال: حدثني أبي قال: إن ربعي بن حراش لم يكذب كذبة قط وكان له
__________
391 - هو: ربعي بن حراش، بكسر المهملة وآخره معجمة، أبو مريم العبسي، الكوفي، ثقة عابد، مخضرم، من الثانية، مات سنة مائة وقيل غير ذلك.(2/21)
ابنان عاصيان على الحجاج، فقيل للحجاج: إن أباهما لم يكذب كذبة قط، لو أرسلت إليه فسألته عنهما. قال: أين ابناك؟ قال: هما في البيت. قال: قد عفونا عنهما بصدقك.
عن الحارث الغنوي قال: آلى ربعي بن حراش أن لا يضحك حتى يعلم في الجنة هو أو في النار؟ قال الحارث الغنوي: فلقد أخبرني غاسله أنه لم يزل مبتسماً على سريره ونحن نغسله حتى فرغنا من غسله.
قال المؤلف: أسند ربعي عن عمر وعلي وحذيفة وأبي بكر وعمران بن حصين. قال أبو نعيم، الفضل بن دكين: وتوفي سنة إحدى ومائة.
وقال المدائني: سنة أربع ومائة، وكذلك قال يحيى بن معين.(2/22)
392 - أخو ربعي بن حراش
ولم يسم لنا.
عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش قال: كنا إخوة ثلاثة، وكان أعبدنا وأصومنا وأفضلنا الأوسط منا. فغبت غيبة إلى السواد. ثم قدمت على أهلي فقالوا: أدرك أخاك فإنه في الموت. فخرجت أسعى إليه فانتهيت إليه وقد قضى وسجي بثوب، فقعدت عند رأسه أبكيه، فرفع يده فكشف الثوب عن وجهه وقال: السلام عليكم. قلت: أي أخي أحياة بعد موت؟ قال: نعم. إني لقيت ربي فلقيني بروح وريحان، ورب غير غضبان، وأنه كساني ثياباً خضراً من سندس وإستبرق، وإني وجدت الأمر أيسر مما تحسبون، ثلاثاً، وإني لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقسم أن لا أبرح حتى آتيه. فعجلوا جهازي. ثم طفئ، فكأنه أسرع من حصاة لو ألقيت في ماء.(2/22)
393 - زياد بن حدير الأسدي
يكنى أبا المغيرة وقيل أبا عبد الرحمن.
عن حفص بن حميد قال: كان الرجل يأتي زياد بن حدير فيقول له: إني أريد رستاق كذا وكذا. فيقول له: اقطع طريقك بذكر الله، عن أبي صخرة عن زياد بن حدير قال: وددت أني في حيز من حديد معي فيه ما يصلحني لا أكلم الناس ولا يكلموني حتى ألقى الله.
روى زياد عن علي وعمر وابن مسعود.
__________
393 - هو: زياد بن حدير، بمهملة مصغر، الأسدي، وله ذكر في الصحيح ثقة عابد من الثانية.(2/22)
394 - شريح بن الحارث بن قيس القاضي
يكنى أبا أمية ولاه عمر الكوفة.
عن ابن عون، عن إبراهيم عن شريح، قال: سيعلم الظالمون حظ من نقصوا، إن الظالم ينتظر العقاب والمظلوم ينتظر النصر.
عن ابن سيرين قال: سمعت شريحاً يحلف بالله ما ترك عبد شيئاً لله فوجد فقده قال ابن سيرين: ولا أرى شريحاً حلف إلا على علم.
عن الأعمش قال: اشتكى شريح رجله فطلاها بالعسل وجلس في الشمس، فدخل عليه عواده فقالوا: كيف تجدك؟ قال: صالحاً. فقالوا: ألا أريتها الطبيب؟ فقال: قد فعلت. فقالوا: فما قال لك؟ قال: وعد خيراً.
عن إبراهيم عن شريح أنه قضى على رجل باعترافه، فقال: يا أبا أمية قضيت علي بغير بينة فقال: أخبرني ابن أخت خالك عن ميسرة عن شريح أنه افتقد ابناً له، فبعث في طلبه فقال لطالبه: أين أصبته؟ فقال: كان يهارش بالكلاب، فقال: صليت؟ قال: لا. فقال للرسول: اذهب به إلى المؤدب وقال:
ترك الصلاة لأكلب يسعى لها ... طلب الهراش مع الغواة النجس
فإذا أتاك فعضه بملامة ... وعظنه موعظة الأديب الكيس
وإذا هممت بضربه فبدرة ... وإذا ضربت بها ثلاثاً فاحبس
واعلم بأنك ما أتيت فنفسه ... مع ما يجرعني، أعز الأنفس
عن عامر: أن ابناً لشريح قال لأبيه: بيني وبين قوم خصومة فانظر فإن كان الحق لي خاصمتهم وإن لم يكن لي الحق لم أخاصمهم، فقص قصته عليه فقال: انطلق فخاصمهم فانطلق إليهم فخاصمهم إليه فقضى على ابنه. فقال له لما رجع إلى أهله: والله لو لم أتقدم إليك لم ألمك، فضحتني. فقال: والله يا بني لأنت أحب إلي من ملء الأرض مثلهم، ولكن الله هو أعز علي منك، أن أخبرك أن القضاء عليك فتصالحهم فتذهب ببعض حقهم.
عن الشعبي قال: شهدت شريحاً وجاءته امرأة تخاصم رجلاً فأرسلت عينيها وبكت
__________
394 - هو: شريح بن الحارث بن قيس الكوفي، النخعي، القاضي، أبو أمية مخضرم ثقة، وقيل: له صحبة، مات قبل الثمانين أو بعدها وله مائة وثمان سنين أو أكثر، يقال: حكم سبعين ينة.(2/23)
فقلت: يا أبا أمية ما أظنها إلا مظلومة. فقال: يا شعبي إن إخوة يوسف جاؤوا أباهم عشاء يبكون.
عن الأعمش قال: سمعتهم يذكرون عن شريح أنه رأى جيراناً له يجولون فقال: ما لكم؟ قالوا: فرغنا اليوم فقال: ما بهذا أمر الفارغ.
عن أبي حيان التيمي قال: أنا أبي قال: كان شريح إذا مات لأهله سنور أمر بها فألقيت في جوف داره ولم يكن لها مثقب شارع إلا في جوف داره اتقاء لأذى المسلمين.
قال أبو نعيم: خرج شريح من عند زياد فلقيه رجل فقال: كبرت سنك ورق عظمك وارتشى ابنك. قال: فرجع إليه فأخبره فقال: من قال لك؟ قال: لا أعرفه فأعفني. قال: لا أعفيك حتى تشير علي برجل. فأشار عليه بأبي بردة فولاه القضاء.
قال المؤلف: أسند شريح عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما. وتوفي سنة ست وسبعين وقيل ثمان وسبعين، وقد بلغ ماية وثمان سنين.(2/24)
395 - شبيل بن عوف بن أبي حية
أبو الطفيل الأحمسي من بجيلة أدرك الجاهلية.
عن إسماعيل بن أبي خالد، عن شبيل بن عوف قال: ما اغبرت رجلاي في طلب دنيا قط.
قال المؤلف: شبيل عن عمر بن الخطاب وزيد بن أرقم وغيرهما.
__________
395 - هو: شبيل بن عوف بن أبي حية أبو الطفيل، الأحمس، ويقال: شبل، بغير تصغير، مخضرم، ثقة، لم تصح صحبته، شهد القادسية.(2/24)
396 - سويد بن شعبة اليربوعي
من بني تميم وكان من الذين اختطوا الكوفة أيام عمر بن الخطاب.
عن أبي حيان التيمي عن أبيه قال: دخلت على سويد بن شعبة، وكان من أصحاب الخطط الذين خط لهم عمر بن الخطاب بالكوفة فإذا هو منكب على وجهه مسجى بثوب، فلولا أن امرأته قالت: أهلي فداؤك، ما نطعمك؟ ما نسقيك؟ ما ظننت أن تحت الثوب شيئاً - فلما رآني قال: يا ابن أخي دبرت الحراقف والصلب فما من ضجعة غير ما ترى، والله ما أحب أني نقصت منه قلامة ظفر.
قال الأصمعي: الحرقفة: مجتمع رأس الورك ورأس الفخذين.(2/24)
397 - معضد بن يزيد العجلي
يكنى أبا ذر.
عن بلال بن سعد عن معضد قال: لولا ثلاث: ظمأ الهواجر، وطول ليل الشتاء، ولذاذة التهجد بكتاب الله عز وجل، ما باليت أن أكون يعسوباً.
عن إبراهيم، عن همام قال: انتهيت إلى معضد وهو ساجد، فأتيته وهو يقول: اللهم اشفني من النوم باليسير. ثم مضى في صلاته.
قال المؤلف: لم يحفظ لمعضد حديث مسند، وإنما كان مشغولاً بالتعبد.
__________
397 - هو: معضد بن يزيد العجلي، يكنى أبا ذر، المتعبد المجتهد، الشهاد المستشهد، رحمه الله حلية الأولياء 4/174.(2/25)
398 - أويس بن عامر بن جرير بن مالك القرني
وقال علقمة بن مرثد: أويس بن أنيس: وقيل أويس بن الحليس.
عن أسير بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتت عليه أمداد أهل اليمن سألهم: هل فيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم.
قال: من مراد ثم قرن؟ قال: نعم. قال: كان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال نعم قال: لك والدة؟ قال نعم. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، وله والدة هو بها بار لو أقسم على الله عز وجل لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل" فاستغفر لي، فاستغفر له.
فقال عمر رضي الله عنه ورحمه الله: أين تريد؟ قال: الكوفة. فقال: ألا أكتب لك إلى عاملها فيستوصي بك قال: لأن أكون في غبر الناس أحب إلي.
قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن أويس: كيف تركته؟ قال: تركته رث الهيئة قليل المتاع. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي عليك أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ إلا موضع
__________
398 - هو: أويس بن عامر القرني - بفتح القاف والراء بعدها نون - سيد التابعين، روى له مسلم من كلامه، مخضرم، قتل بصفين.(2/25)
درهم، له والدة هو بها بر لو أقسم على الله عز وجل لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل".
فلما قدم الكوفة أتى أويساً فقال: استغفر لي. فقال: أنت أحدث عهداً بسفر صالح، فاستغفر لي، لقيت عمر؟ قال: نعم. فاستغفر له. ففطن له الناس فانطلق على وجهه.
قال أسير: وكسوته برداً فكان إذا رآه إنسان عليه قال: من أين لأويس هذا البرد؟ انفرد بإخراج هذا الحديث مسلم.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يحب من خلقه الأصفياء الأخفياء الأبرياء الشعثة رؤوسهم المغبرة وجوههم، الخمصة بطونهم، الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم، وإن خطبوا المتنعمات لم ينكحوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، وإن طلعوا لم يفرح بطلعتهم، وإن مرضوا لم يعادوا، وإن ماتوا لم يشهدوا ".
قالوا: يا رسول الله كيف لنا برجل منهم؟ قال: "ذاك أويس القرني". قالوا: وما أويس القرني؟ قال: "أشهل ذو صهوبة، بعيد ما بين المنكبين معتدل القامة آدم شديد الأدمة ضارب بذقنه إلى صدره، رام ببصره إلى موضع سجوده، واضع يمينه على شماله يتلو القرآن، يبكي على نفسه، ذو طمرين لا يؤبه له متزر بإزار صوف ورداء صوف، مجهول في أهل الأرض، معروف في السماء، لو أقسم على الله لأبر قسمه، ألا وإن تحت منكبه الأيسر لمعة بيضاء، ألا وإنه إذا كان يوم القيامة قيل للعباد: ادخلوا الجنة، ويقال لأويس قف فاشفع، فيشفعه الله عز وجل في مثل ربيعة ومضر. يا عمر، يا علي إذا أنتما لقيتماه فاطلبا إليه أن يستغفر لكما يغفر الله لكما".
قال: فمكثا يطلبانه عشر سنين لا يقدران عليه. فلما كان في آخر السنة التي هلك فيها عمر قام على أبي قبيس فنادى بأعلى صوته:
يا أهل الحجيج من اليمن أفيكم أويس؟ فقام شيخ كبير طويل اللحية فقال: إنا لا ندري ما أويس؟ ولكن ابن أخ لي يقال له أويس وهو أخمل ذكراً وأقل مالاً وأهون أمراً من أن نرفعه إليك، وإنه ليرعى إبلنا، حقير بين أظهرنا. فعمى عليه عمر كأنه لا يريده وقال: ابن أخيك هذا أبحر منا هو! قال نعم. قال: أين يصاب؟ قال: أراك عرفات.
قال: فركب عمر وعلي سراعاً إلى عرفات فإذا هو قائم يصلي إلى شجرة والإبل حوله(2/26)
ترعى. فشدا خماريهما ثم أقبلا إليه فقالا: السلام عليك ورحمة الله فخفف أويس الصلاة ثم قال: السلام عليكما ورحمة الله. قالا: من الرجل؟ قال: راعي إبل وأجير قوم. قالا: لسنا نسألك عن الرعاية ولا عن الإجارة ما اسمك؟ قال: عبد الله. قالا: قد علمنا أن أهل السموات والأرض كلهم عبيد الله ما اسمك الذي سمتك أمك؟ قال: يا هذان ما تريدان إلي؟ قالا: وصف لنا محمد صلى الله عليه وسلم أويساً القرني فقد عرفنا الصهوبة والشهولة وأخبرنا أن تحت منكبك الأيسر لمعة بيضاء فأوضحها لنا، فإن كانت بك فأنت هو. فأوضح منكبه فإذا اللمعة فابتدراه يقبلانه وقالا: نشهد أنك أويس القرني. فاستغفر لنا يغفر الله لك. قال: ما أخص باستغفاري نفسي ولا أحداً من ولد آدم ولكنه في البر والبحر من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات. يا هذان قد شهر الله لكما حالي وعرفكما أمري فمن أنتما؟ قال علي عليه السلام: أما هذا فعمر أمير المؤمنين، وأما أنا فعلي بن أبي طالب فاستوى أويس قائماً وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، وأنت يا علي بن أبي طالب، فجزاكما الله عن هذه الأمة خيراً. قالا: وأنت فجزاك الله عن نفسك خيراً. فقال له عمر: مكانك يرحمك الله حتى أدخل مكة فآتيك بنفقة من عطائي وفضل كسوة من ثيابي، هذا المكان ميعاد بيني وبينك. قال ميعاد بيني وبينك لا أراك بعد اليوم، فعرفني ما أصنع بالنفقة وما أصنع بالكسوة؟ أما ترى علي إزاراً من صوف ورداء من صوف؟ متى تراني أخرقهما؟ أما ترى أن نعلي مخصوفتان؟ متى تراني أبليهما؟ إني قد أخذت من رعايتي أربعة دراهم متى تراني آكلها؟ يا أمير المؤمنين إن بين يدي ويديك عقبة كؤوداً لا يجاوزها إلا ضامر مخف مهزول فأخفف رحمك الله.
فلما سمع عمر ذلك ضرب بدرته الأرض ثم نادى بأعلى صوته: ألا ليت عمر لم تلده أمه، يا ليتها كانت عاقراً لم تعالج حملها، ألا من يأخذها بما فيها ولها؟ ثم قال: يا أمير المؤمنين خذ أنت ها هنا حتى آخذ أنا ها هنا. فولى عمر ناحية مكة وساق أويس إبله فوافى القوم بإبلهم وخلى عن الرعاية وأقبل على العبادة حتى لحق بالله عز وجل.
عن علقمة بن مرثد قال: انتهى الزهد إلى ثمانية منهم أويس القرني، ظن أهله أنه مجنون فبنوا له بيتاً على باب دارهم، فكانت تأتي عليه السنة والسنون لا يرون له وجهاً، وكان طعامه مما يلتقط من النوى فإذا أمسى باعه لإفطاره فإن أصاب حشفة حبسها لإفطاره.(2/27)
فلما ولي عمر بن الخطاب قال بالموسم: أيها الناس قوموا. فقاموا. فقال: اجلسوا، إلا من كان من اليمين: فجلسوا فقال: اجلسوا إلا من كان من مراد. فجلسوا. فقال: إلا من كان من قرن. فجلسوا إلا رجلاً، وكان عم أويس القرني. فقال له عمر: أقرني أنت؟ قال: نعم، قال: أتعرف أويساً؟ قال: وما تسأل عن ذلك يا أمير المؤمنين؟ فوالله ما فينا أحمق ولا أجن ولا أحوج منه.
فبكى عمر ثم قال: بك لا به، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يدخل الجنة بشفاعته مثل ربيعة ومضر".
قال هرم بن حيان: فلما بلغني ذلك قدمت الكوفة فلم يكن لي هم إلا طلبه، حتى سقطت عليه جالساً على شاطئ الفرات نصف النهار، يتوضأ. فعرفته بالنعت الذي نعت لي: فإذا رجل نحيل آدم شديد الأدمة أشعث محلوق الرأس مهيب المنظر، فسلمت عليه فرد علي ونظر إلي، ومددت يدي لأصافحه فأبى أن يصافحني، فقلت: رحمك الله يا أويس وغفر لك، كيف أنت؟ وخنقتني العبرة من حبي إياه ورقتي عليه، لما رأيت من حاله، حتى بكيت وبكى.
قال: وأنت، فحياك الله يا هرم بن حيان، كيف أنت يا أخي؟ من دلك علي؟ قلت: الله. قال: لا إله إلا الله، {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} سورة الإسراء، آية 108. فقلت: ومن أين عرفت اسمي واسم أبي وما رأيتك قبل اليوم ولا رأيتني؟ قال: {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} ، عرفت روحي روحك حين كلمت نفسي نفسك، إن المؤمنين يعرف بعضهم بعضاً ويتحابون بروح الله عز وجل، وإن لم يلتقوا، إن نأت بهم الدار وتفرقت بهم المنازل.
قلت: حدثني رحمك الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني لم أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لي معه صحبة بأبي وأمي رسول الله، ولكني قد رأيت رجالاً قد رأوه ولست أحب أن أفتح على نفسي هذا الباب، أن أكون محدثاً أو قاضياً أو مفتياً، في نفسي شغل عن الناس. فقلت: أي أخي اقرأ علي آيات من كتاب الله عز وجل أسمعها منك، وأوصني بوصية أحفظها عنك، فإني أحبك في الله. فأخذ بيدي فقال: أعود بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم قال ربي، وأحق القول قول ربي عز وجل، وأصدق الحديث حديث ربي عز وجل، ثم قرأ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} إلى قوله {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فشهق شهقة فنظرت إليه وأنا أحسبه قد غشي عليه، ثم قال: يا هرم بن(2/28)
حيان مات أبوك حيان ويوشك أن تموت أنت فإما إلى الجنة وإما إلى النار، ومات أبوك آدم وماتت أمك حواء يا بن حيان، ومات نوح نبي الله، ومات إبراهيم خليل الله، ومات موسى نجي الله، ومات داود خليفة الرحمن، ومات محمد صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء، ومات أبو بكر خليفة رسول الله، ومات أخي وصديقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فقلت له: يرحمك الله إن عمر لم يمت. قال: بلى قد نعاه إلي ربي عز وجل، ونعى إلي نفسي، وأنا وأنت في الموتى.
ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا بدعوات خفاف ثم قال: هذه وصيتي إياك: كتاب الله ونعي المرسلين ونعي صالح المؤمنين، فعليك بذكر الموت ولا يفارقن قلبك طرفة عين ما بقيت، وأنذر قومك إذا رجعت إليهم وانصح للأمة جميعاً، وإياك أن تفارق الجماعة فتفارق دينك وأنت لا تعلم، فتدخل النار، وادع لي ولنفسك.
ثم قال: اللهم إن هذا زعم أنه يحبني فيك وزارني من أجليك فعرفني وجهه في الجنة وأدخله على دارك، دار السلام، واحفظه ما دام حياً، وأرضه من الدنيا باليسير، واجعله لما أعطيته من نعمك من الشاكرين واجزه عني خيراً.
ثم قال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، لا أراك بعد اليوم إن شاء الله تعالى رحمك الله فإني أكره الشهرة، والوحدة أحب إلي لأني كثير الغم ما دمت مع هؤلاء الناس، فلا تسأل عني ولا تطلبني، واعلم أنك مني على بال وإن لم أرك وتراني، واذكرني وادع لي فإني سأدعو لك وأذكرك إن شاء الله، فانطلق أنت ها هنا حتى آخذ أنا ههنا.
فحرصت على أن أمشي معه ساعة فأبى علي ففارقته أبكي ويبكي، فجعلت أنظر إليه حتى دخل بعض السكك.
ثم سألت بعد ذلك وطلبته فلم أجد أحداً يخبرني عنه بشيء، وما أتت علي جمعة إلا وأراه في منامي مرة أو مرتين.
عن أسير بن جابر أن أويساً القرني كان إذا حدث يقع حديثه في قلوبنا موقعاً ما يقع حديث غيره.
عن أسير بن جابر قال: كان محدث بالكوفة يحدثنا، فإذا فرغ من حديثه يقول: تفرقوا. ويبقى رهط فيهم رجل يتكلم بكلام لا أسمع أحد يتكلم بكلام فأحببته. ففقدته، فقلت(2/29)
لأصحابي: هل تعرفون رجلاً كان يجالسنا؟ فقال رجل من القوم: نعم أنا أعرفه وذاك أويس القرني. قلت: وتعرف منزله؟ قال: نعم.
قال: انطلقت معه حتى جئت حجرته خرج إلي فقلت: يا أخي ما حبسك عنا؟ قال: العري. وكان أصحابه يسخرون به ويؤذونه.
قال: قلت: خذ هذا البرد فالبسه. قال لا تفعل فإنهم يؤذونني إذا رأوه.
قال: فلم أزل به حتى لبسه. فخرج عليهم فقالوا: من ترون خدع عن برد هذا. فجاء فوضعه؟ فقال: أترى؟ قال: فأتيت المجلس فقلت: ما تريدون من هذا الرجل؟ قد آذيتموه، الرجل يعرى مرة ويكتسي مرة. فأخذتهم بلساني أخذاً شديداً.
قال: فقضي أن أهل الكوفة وفدوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فوفد رجل ممن كان يسخر به، فقال عمر: قدم علينا أويس فقلت: أنت أخي لا تفارقني. فانملس مني فأنبئت أنه قدم عليكم الكوفة.
فأقبل ذلك الرجل حتى دخل عليه فقال: سمعت عمر يقول فيك كذا وكذا فاستغفر لي يا أويس. قال لا أفعل حتى تجعل لي عليك ألا تسخر بي فيما بعد، وألا تذكر الذي سمعته عن عمر لأحد.
قال أسير: فما لبثنا أن فشا أمره بالكوفة فانملس منهم فذهب.
عمرو بن مرة قال: لما لقي عمر أويساً وظهر عليه هرب فما رئي حتى مات.
عن الشعبي قال: مر رجل من مراد على أويس القرني فقال: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت أحمد الله عز وجل. قال: كيف الزمان عليك؟ قال: كيف الزمان على رجل إن أصبح ظن أنه لا يمسي، وإن أمسى ظن أنه لا يصبح؟ فمبشر بالجنة أو مبشر بالنار.
يا أخا مراد إن الموت وذكره لم يترك لمؤمن فرحاً، وإن علمه بحقوق الله لم يترك له فضة ولا ذهباً، وإن قيامه لله بالحق لم يترك له صديقاً.
عمار بن سيف الضبي قال: لحق رجل بأويس القرني فسمعه يقول: اللهم إني أعتذر إليك اليوم من كل كبد جائعة، فإنه ليس في بيتي من الطعام إلا ما في بطني، وليس في بيتي من شيء من الرياش إلا ما على ظهري.
قال: وعلى ظهره خرقة قد تردى بها وقال: فأتاه رجل فقال له: كيف أصبحت؟ أو كيف(2/30)
أمسيت؟ فقال: أصبحت أحب الله، وأمسيت أحمد الله، وما تسأل عن حال رجل إذا هو أصبح ظن ألا يمسي، وإذا أمسى ظن أنه لا يصبح؟ إن الموت وذكره لم يدع لمؤمن فرحاً، وإن حق الله في مال المسلم، لم يدع له من ماله فضة ولا ذهباً، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدع للمؤمن صديقاً، نأمرهم بالمعروف فيشتمون أعراضنا، ويجدون على ذلك أعواناً من الفاسقين، حتى والله لقد رموني بالعظائم، وأيم الله لا أدع أن أقوم لله فيهم بحقه، ثم أخذ الطريق.
عن قيس بن بشر بن عمرو، عن أبيه قال: كسوت أويساً القرني ثوبين، من العري.
عن مغيرة قال: إن كان أويس القرني ليتصدق بثيابه حتى يجلس عرياناً لا يجد ما يروح فيه إلى الجمعة.
عن أصبغ بن زيد قال: إنما منع أويساً أن يقدم على النبي صلى الله عليه وسلم بره بأمه.
عن أصبغ بن زيد قال: كان أويس القرني إذا أمسى يقول: هذه ليلة السجود فيسجد حتى يصبح، وكان إذا أمسى تصدق بما في بيته من الفضل من الطعام والثياب، ثم يقول: اللهم من مات جوعاً فلا تؤاخذني به، ومن مات عرياناً فلا تؤاخذني به.
الحسن بن عمرو، قال: سمعت بشراً يقول: بلغ من عري أويس أنه جلس في قوصرة.
النضر بن إسماعيل قال: كان أويس القرني يلتقط الكسر من المزابل فيغسلها ويتصدق ببعضها ويأكل بعضها، ويقول: اللهم إني أبرأ إليك من كبد جائع.
قال هرم بن حيان لأويس القرني: أوصني قال: توسد الموت إذا نمت، واجعله نصب عينيك، وإذا قمت فادع الله أن يصلح لك قلبك ونيتك، فلن تعالج شيئاً أشد عليك منهما، بينا قلبك معك ونيتك إذا هو مدبر، وبينا هو مدبر إذا هو مقبل، ولا تنظر في صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظمة من عصيت.
أبو عبد الله الناجي قال: زار هرم بن حيان أويساً، فقال له هرم: يا أويس واصلنا بالزيارة. فقال أويس: قد وصلتك بما هو انفع لك من الزيارة واللقاء: الدعاء بظهر الغيب، لأن الزيارة واللقاء قد يعرض فيهما التزين والرياء.
قلت: كان أويس مشغولاً بالعبادة عن الرواية، غير أنه قد أرسل الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(2/31)
حميد بن صالح قال: سمعت أويساً القرني يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احفظوني في أصحابي، فإن من أشراط الساعة أن يلعن آخر هذه الأمة أولها، وعند ذلك يقع المقت على الأرض وأهلها، فمن أدرك ذلك فليضع سيفه على عاتقه ثم ليلق ربه عز وجل شهيداً فإن لم يفعل فلا يلومن إلا نفسه".
ذكر وفاة أويس القرني:
قال المصنف: قد اختلف في وقت موته.
عن عبد الله بن سالم قال: غزونا آذربيجان زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعنا أويس القرني. فلما رجعنا مرض علينا فحملناه فلم يستمسك فمات، فنزلنا فإذا قبر محفور وماء مسكوب وكفن وحنوط. فغسلناه وكفناه وصلينا عليه. فقال بعضنا لبعض: لو رجعنا فعلمنا قبره، فرحنا فإذا لا قبر ولا أثر.
قال المؤلف: وقد روي أنه عاش بعد ذلك طويلاً.
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: نادى رجل من أهل الشام يوم صفين: أفيكم أويس القرني؟ قال: قلنا نعم، وما تريد منه؟ قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أويس القرني خير التابعين بإحسان".
وعطف دابته فدخل مع أصحاب علي عليه السلام.
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: نادى مناد يوم صفين، أفي القوم أويس القرني؟ فوجد في قتلى علي عليه السلام.
قال المؤلف: هذا هو الصحيح.(2/32)
399 - عبدة بن هلال الثقفي
عن عطاء بن السائب قال: قال عبدة بن هلال الثقفي: لله علي أن لا يشهد علي ليل بنوم ولا شمس بأكل. قال: فأقسم عليه عمر بن الخطاب أن يفطر العيدين.(2/32)
400 - الحارث بن سويد التيمي
عن إبراهيم قال: كان الرجل يأتي الحارث بن سويد فيشتمه، فإذا فرغ قال
__________
400 - هو: الحارث بن سويد التيمي، أبو عائشة، الكوفي، ثقة ثبت من الثانية، مات بعد سنة سبعين.(2/32)
الحارث: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} كفى هذا إحصاء.
عن أبي حيان التميمي عن أبيه قال: صحب عبد الله بن مسعود من التيم سبعين رجلاً، وكان الحارث بن سويد من أعلاهم نفساً.
قال المؤلف: أسند الحارث عن علي بن أبي طالب وابن مسعود، وتوفي بالكوفة في آخر أيام ابن الزبير.(2/33)
401 - أبو عبد الرحمن السلمي
واسمه عبد الله بن حبيب، أبو إسحاق السبيعي قال: أقرأ أبو عبد الرحمن السلمي القرآن في المسجد أربعين سنة.
عن شمر قال: أخذ بيدي أبو عبد الرحمن السلمي فقال: كيف قوتك على الصلاة؟ فذكرت ما شاء الله أن أذكره، فقال أبو عبد الرحمن: كنت مثلك أصلي العشاء، ثم أقوم أصلي، فأنا حين أصلي الفجر أنشط مني أول ما بدأت به.
عن أبي عبد الرحمن أنه كان يؤتى بالطعام إلى المسجد. ربما استقبلوه به في الطريق فيطعمه المساكين، فيقولون: بارك الله فيكم.
فيقول: وبارك الله فيكم. ويقول: قالت عائشة: إذا تصدقتم فردوا حتى يبقى لكم أجر ما تصدقتم.
عن عطاء بن السائب قال: دخلنا على أبي عبد الرحمن في مرضه الذي مات فيه. قال: فذهب بعض القوم يرجيه. فقال: أنا لا أرجو ربي وقد صمت له ثمانين رمضان؟
قال المؤلف: أسند أبو عبد الرحمن عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي الدرداء وغيرهم، وكان يقرئ القرآن بالكوفة من خلافة عثمان إلى إمرة الحجاج، وقدم المدائن في حياة حذيفة. وتوفي في سنة خمس ومائة وله تسعون سنة.
__________
401 - هو: عبد الله بن حبيب بن ربيعة - بفتح الموحدة وتشديد الياء - أبو عبد الرحمن السلمي، الكوفي، المقرئ، مشهور بكنيته، ولأبيه صحبة، ثقة ثبت، من الثانية، مات بعد السبعين.(2/33)
402 - زاذان، أبو عمر ومولى كندة
مولى كندة.
سالم بن أبي حفصة، عن زاذان، أنه كان يبيع الثياب، فإذا عرض الثوب ناول شر الطرفين عن زبيد قال: رأيت زاذان يصلي كأنه جذع قد حفر له.
ابن نمير قال: قال زاذان: يا رب إني جائع فسقط عليه من الروزنة رغيف مثل الرحا. قال المصنف: أسند زاذان عن علي عليه السلام وابن مسعود وابن عمر وجرير وسلمان والبراء بن عازب، في آخرين، وتوفي بالكوفة أيام الحجاج بعد الجماجم.
__________
402 - هو: زاذان، أبو عمرو الكندي البزار، ويكنى أبا عبد الله أيضا، صدوق يرسل وفيه شيعية من الثانية، مات ينة اثنتين وثمانين.
قال الشيخ شعيب: بل ثقة فقد وثقه يحي بن معين، وابن سعد والعجلي، وابن شاهين، والخطيب والذهبي، وانفرد ابن فقال: كان يخطئ كثيرا، ولعل الخطأ ممن روى عنه، فقد قال ابن عدي أحاديثه لا بأس بها إن روى عنه ثقة التحرير 1/409.(2/34)
403 - الربيع بن خثيم الثوري
يكنى أبا يزيد.
عن سعيد بن مسروق قال: قال عبد الله للربيع بن خثيم: لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك.
عن أبي عبيدة قال: كان عبد الله يقول للربيع: ما رأيتك إلا ذكرت المخبتين. وكان الربيع إذا أتى عبد الله لم يكن عليه إذن حتى يفرغ كل واحد منهما من صاحبه. وكان الربيع إذا جاء إلى باب عبد الله يقول للجارية: من بالباب؟ فتقول الجارية ذاك الشيخ الأعمى.
عن حماد بن أبي سليمان قال: كان عبد الله بن مسعود إذا نظر إلى الربيع بن خثيم قال: مرحباً قال: أبا يزيد لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك ولأوسع لك إلى جبنه. ثم يقول: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} .
عن علقمة بن مرثد قال: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، منهم الربيع بن خثيم.
__________
403 - هو: الربيع بن خثعم –بضم المعجمة وفتح المثلثة - ابن عائذ بن عبد الله الثوري، أبو يزيد الكوفي، ثقة عابد، مخضرم، من الثانية، قال له ابن مسعود: لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك، مات سنة إحدى، وقيل: ثلاث وستين.(2/34)
وكان يقول: أما بعد فأعد زادك وخذ في جهازك، وكن وصي نفسك.
وقيل له: ألا تذكر الناس؟ فقال: ما أنا عن نفسي براض فأتفرغ من ذمها إلى أن أذم الناس، إن الناس خافوا الله في ذنوب الناس وأمنوه على ذنوبهم.
وقيل له حين أصابه الفالج: لو تداويت. فقال: لقد عرفت أن الدواء حق ولكني ذكرت عاداً وثمود وقروناً بين ذلك كثيراً كانت فيهم الأوجاع وكان لهم الأطباء، فما بقي المداوي ولا المداوى.
أبو حيان، عن أبيه قال: ما سمعت الربيع بن خثيم يذكر شيئاً من أمر الدنيا، إلا أني سمعته يقول: كم للتيم مسجد.
عن إبراهيم التيمي قال: أخبرني من صحب الربيع بن خثيم عشرين عاماً ما سمع منه كلمة تعاب.
عن بكر بن ماعز قال: ما رئي الربيع متطوعاً في مسجد قومه قط إلا مرة واحدة.
سفيان قال: أخبرتني سرية الربيع بن خثيم قالت: كان عمل الربيع كله سراً إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه.
عن منذر، عن الربيع بن خثيم قال: كل ما لا يبتغى به وجه الله عز وجل يضمحل.
أبو حيان التيمي عن أبيه، قال: ما سمعت الربيع بن خثيم يذكر شيئاً من أمر الدنيا قط.
أحمد بن عبد الله بن مسروق، عن الربيع بن خثيم أنه سرق له فرس أعطي به عشرين ألفاً فقالوا له: ادع الله عليه. فقال: اللهم إن كان غنياً فاغفر له، وإن كان فقيراً فأغنه.
عن سعيد بن مسروق قال: أصاب الربيع بن خثيم حجر في رأسه فشجه، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر له فإنه لم يتعمدني.
عن عيسى بن فروخ قال: كان الربيع بن خثيم إذا كان الليل ووجد غفلة الناس خرج إلى المقابر فيقول: يا أهل المقابر كنا وكنتم. فإذا أصبح فكأنه نشر من قبر.
عن منذر الثوري قال: كان الربيع بن خثيم يقول السرائر التي تختفي على الناس وهي لله بواد، التمسوا دواءهن التمسوا دواءهن. ثم يقول: وما دواءهن؟ دواءهن أن تتوب فلا تعود.
روى عبد الملك بن الأصبهاني، عمن حدثه عن الربيع بن خثيم أنه قال لأصحابه: تدرون(2/35)
ما الداء والدواء والشفاء؟ قالوا: لا. قال: الداء الذنوب، والدواء الاستغفار، والشفاء أن تتوب فلا تعود.
عن نسير قال: بت بالربيع ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ ... } الآية فمكث ليلته حتى أصبح، ما يجوز هذه الآية إلى غيرها، ببكاء شديد.
حماد الأصم، عمن حدثه عن بعض أصحاب الربيع قال: ربما علمنا شعره عند المساء، وكان ذا وفرة ثم يصبح والعلامة كما هي، فتعلم أن الربيع لم يضع جنبه ليلته على فراشه.
أبو حيان قال: حدثني أبي قال: كان ربيع بعد ما سقط شقه يهادي بين رجلين إلى مسجد قومه، وكان أصحاب عبد الله يقولون له يا أبا يزيد لقد رخص الله لك لو صليت في بيتك فيقول: إنه كما تقولون، ولكني سمعته ينادي: حي على الفلاح فمن سمع منكم فليجبه ولو زحفاً، ولو حبواً.
عن محمد، عن رجل من أسلم من المبكرين إلى المسجد، قال: كان الربيع ابن خثيم إذا سجد كأنه ثوب مطروح فتجيء العصافير فتقع عليه.
عن بلال بن المنذر قال: قال رجل للربيع: قتل ابن فاطمة فاسترج ثم تلا هذه الآية: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} قال: ما تقول؟ قال: ما أقول، إلى الله إيابهم وعليه حسابهم.
عن سفيان قال: بلغنا أن أم الربيع كانت تنادي فتقول: يا بني، يا ربيع، ألا تنام، فيقول: يا أماه من جن عليه الليل وهو يخاف البيات حق له أن لا ينام. قال: فلما بلغ ورأت ما يلقى من البكاء والسهر نادته فقالت: يا بني لعلك قتلت قتيلاً؟ فقال: نعم يا والدة، قتلت قتيلاً. فقالت: ومن هذا القتيل يا بني نتحمل على أهله فيعفوك والله لو علموا ما تلقى من البكاء والسهر لقد رحموك. فيقول: يا والدتي هي نفسي.
مالك بن دينار قال: قالت ابنة الربيع بن خثيم: يا أبتاه ما لي أرى الناس ينامون ولا تنام؟ قال: إن جهنم لا تدعني أنام.
مالك قال: قالت ابنة الربيع بن خثيم: يا أبتاه إني أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟ قال: يا بنية إن أباك يخاف البيات.(2/36)
الربيع بن منذر قال: سمعت أبي يقول: كان عند الربيع بن حثيم رهط فجاءته ابنته فقال: يا أبتاه أذهب ألعب؟ فقال: اذهبي فقولي خيراً، غير مرة، قال: فقال القوم: أصلحك الله وما عليك أن تقول لها؟ قال: وما علي أن لا يكتب هذا في صحيفتي.
عن أبي حيان، عن أم الأسود قالت: كانت ابنة الربيع بن خثيم تأتيه فتقول: يا أبتاه ائذن لي ألعب. فيقول: يا بنية، قولي خيراً، قال فتلقنها أمها: قولي: أتحدث فيقول: إني لم أسمع الله رضي لأحد اللعب.
عن سفيان، عن رجل من بني تيم الله، عن أبيه قال: جالست الربيع بن خثيم سنين فما سألني عن شيء مما فيه الناس إلا أنه قال لي مرة: أمك حية؟ كم لكم مسجد؟
عن سعيد الحارثي قال: ضرب الربيع بن خثيم الفالج فطال وجعه فاشتهى لحم دجاج، فكف نفسه أربعين يوماً. ثم قال لامرأته: اشتهيت لحم دجاج منذ أربعين يوماً فكففت نفسي رجاء أن تكف فأبت فقالت له امرأته: سبحان الله وأي شيء هذا حتى تكف نفسك عنه؟ قد أحله لك. فأرسلت امرأته إلى السوق فاشترت له دجاجة بدرهم ودانقين فذبحتها وشوتها واختبزت له خبزاً له أصباغ، ثم جاءت بالخوان حتى وضعته بين يديه، فلما ذهب ليأكل قام سائل على الباب فقال: تصدقوا علي بارك الله فيكم، فكف عن الأكل وقال لامرأته: خذي هذا فلفيه وادفعيه إلى السائل، فقالت امرأته: سبحان الله. فقال: افعلي ما آمرك، قالت: فأنا أصنع ما هو خير له وأحب إليه من هذا. قال: وما هو؟ قالت: نعطيه ثمن هذا وتأكل أنت شهوتك. قال: قد أحسنت ائتيني بثمنه. قال: فجاءت بثمن الدجاجة والخبز والأصباغ فقال: ضعيه على هذا وادفعيه جميعاً إلى السائل.
عن منذر أن الربيع قال لأهله: اصنعوا لي خبيصاً. قال: وكان يكاد لا يشتهي عليهم شيئاً. قال: فصنعوه. قال: فأرسل إلى جار له مصاب، قال: فجعل يأكل ولعابه يسيل قال: فقال أهله: ما يدري هذا ما يأكل. فقال الربيع: لكن الله عز وجل يدري.
عن خوات بن عبيد الله قال: كان السائل إذا أتى الربيع بن خثيم قال: أطعموه مسكراً فإني أحب السكر.
عن سعيد بن مسروق، عن ربيع بن خثيم أنه كان يلبس قميصاً سنبلانياً أراه ثمن ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم قال: فإذا مد كمه يبلغ ظفره، وإذا أرسله بلغ ساعده، وإذا رأى بياض(2/37)
القميص قال: أي عبيد تواضع لربك، ثم يقول: أي لحميه وأي دميه كيف تصنعان إذا سيرت الجبال ودكت الأرض دكاً وجاء ربك والملك صفاً صفاً؟!!.
عن بكر بن ماعز قال: كان بالربيع بن خثيم خبل من الفالج، فكان يسيل من فيه لعاب. قال: فمسحته يوماً. فرآني كرهت ذلك فقال: والله ما أحب أنه بأعتى الديلم على الله عز وجل.
عن حسين، يعني ابن صالح، قال: قيل للربيع بن خثيم: لو جالستنا. فقال: لو فارق قلبي ذكر الموت ساعة فسد علي.
بشر بن الحارث قال: قال الربيع بن خثيم: أنا بعصافير المسجد آنس مني بأهلي.
عن منذر قال: كان الربيع يكنس الحش بنفسه. فقيل له: إنك تكفى هذا. فقال: إني أحب أن آخذ نصيبي من المهنة.
عن أبي وائل قال: خرجنا مع عبد الله بن مسعود، ومعنا الربيع بن خثيم، فمررنا على حداد، فقام عبد الله ينظر حديدة في النار، فنظر الربيع إليها فتمايل ليسقط، فمضى عبد الله حتى أتينا على أتون على شاطئ الفرات فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه قرأ هذه الآية: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} إلى قوله: {ثُبُوراً} فصعق الربيع فاحتملناه فجئنا به إلى أهله قال: ثم رابطه عبد الله إلى الظهر فلم يفق، ثم رابطه إلى العصر فلم يفق، ثم رابطه إلى المغرب فلم يفق، ثم إنه أفاق، فرجع عبد الله إلى أهله.
الأعمش قال: مر الربيع بن خثيم في الحدادين فنظر إلى كير فصعق. قال الأعمش: فمررت بالحدادين لأتشبه به فلم يكن عندي خير.
عن أبي يعلى قال: كان الربيع إذا قيل له: كيف أصبحت يا أبا يزيد؟ قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا.
حفص بن عمر قال: كان الربيع بن خثيم لا يعطي السائل أقل من رغيف، ويقول: إني لأستحي أن يرى في ميزاني أقل من رغيف.
سلام بن أبي مطيع قال: كان الربيع بن خثيم إذا أصبح قال: مرحباً بملائكة الله، اكتبوا، بسم الله الرحمن الرحيم، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
صالح بن موسى، عن أبيه قال: قال الربيع بن خثيم لرجل لا تلفظ إلا بخير فغن العبد مسئول عن لفظه يحصى ذلك عليه كله {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} .(2/38)
الفضيل بن عياض قال: كان الربيع بن خثيم يقول في دعائه: أشكو إليك حاجة لا يحسن بثها إلا إليك.
أبو سليمان قال: بينما الربيع بن خثيم جالس على باب داره إذ جاءه حجر فصك وجهه، فقال: لقد وعظت يا ربيع. فقام ودخل وأغلق الباب وما رئي في ذلك المجلس حتى مات.
حفص بن عمر قال: قال الربيع بن خثيم: إذا تكلمت فاذكر سمع الله إليك، وإذا هممت فاذكر علمه بك، وإذا نظرت فاذكر نظره إليك، وإذا تفكرت فاذكر اطلاعه عليك، فإنه يقول تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} .
عن نسير بن ذعلوق، عن الربيع بن خثيم أنه كان يبكي حتى تبل لحيته من دموعه، ثم يقول: أدركنا أقواماً كنا في جنوبهم لصوصا.
أسند الربيع بن خثيم عن ابن مسعود وغيره، وتوفي بالكوفة في ولاية عبيد الله بن زياد عليها.(2/39)
404 - عمرو بن عتبة بن فرقد السلمي
عن عبد الله بن ربيعة قال: كنت جالساً مع عتبة بن فرقد ومعضد العجلي وعمرو بن عتبة، فقال عتبة بن فرقد: يا عبد الله بن ربيعة ألا تعينني على ابن أخيك، يعينني على ما أنا فيه من عملي؟ قال: فقال عبد الله: يا عمرو أطع أباك. قال: فنظر عمرو إلى معضد العجلي، فقال له معضد: لا تطعهم واسجد واقترب. قال عمرو: يا أباه إنما أنا رجل أعمل في فكاك رقبتي فبكى عتبة ثم قال: يا بني إني أحبك حبين حباً لله وحب الوالد ولده، فقال عمرو: يا أبت إنك قد كنت أتيتني بمال بلغ سبعين ألفاً فإن كنت سائلي عنه فهو هذا فخذه، أو فدعني فأمضيه. قال يا بني فأمضه. فأمضاه حتى ما بقي منه درهم.
عن الأعمش قال: قال عمرو بن عتبة بن فرقد: سألت الله ثلاثاً فأعطاني اثنتين، وأنا أنتظر الثالثة؛ سألته أن يزهدني في الدنيا فما أبالي ما أقبل وما أدبر، وسألته أن يقويني على الصلاة فرزقني منها، وسألته الشهادة فأنا أرجوها.
__________
404 - هو: عمرو بن عتبة بن فرقد السلمي، الكوفي، مخضرم، استشهد في خلافة عثمان.(2/39)
عن السدي قال: اشترى عمرو بن عتبة فرساً بأربعة آلاف درهم فعنفوه، يستغلونه، فقال: ما خطوة يخطوها، يقدمها إلى الغزو، إلا وهي أحب إلي من أربعة آلاف.
عن عبد الحميد بن لاحق، عمن ذكره، قال: كان له، يعني عمرو بن عتبة، كل يوم رغيفان يتسحر بأحدهما ويفطر بالآخر.
بشر بن الحارث قال: كان عمرو بن عتبة يصلي والحمام فوق رأسه، والسباع حوله، تحرك أذنابها.
عن شيخ من قريش قال: قال مولى لعمرو بن عتبة رآني عمرو بن عتبة وأنا مع رجل وهو يقع في آخر، فقال لي: ويلك - ولم يقلها لي قبلها ولا بعدها - نزه سمعك عن استماع الخنا، كما تنزه لسانك عن القول به، فإن المستمع شريك القائل، وإنما نظر إلى شر ما في وعائه فأفرغها في وعائك، ولو ردت كلمة سفيه في فيه لسعد بها رادها كما شقي بها قائلها.
الحسن بن عمرو الفزاري قال: حدثني مولى عمرو بن عتبة قال: استيقظنا يوماً حاراً في ساعة حارة، فطلبنا عمرو بن عتبة فوجدناه في جبل وهو ساجد، وغمامة تظله وكنا نخرج إلى العدو فلا نتحارس، لكثرة صلاته، ورأيته ليلة يصلي فسمعنا زئير الأسد فهربنا وهو قائم يصلي لم ينصرف. فقلنا له: أما خفت الأسد؟ فقال: إني لأستحيي من الله أن أخاف شيئاً سواه.
عن عيسى بن عمرو قال: كان عمرو بن عتبة بن فرقد يخرج على فرسه ليلاً فيقف على القبور فيقول: يا أهل القبور، طويت الصحف، ورفعت الأعمال. ثم يبكي، ثم يصف بين قدميه حتى يصبح فيرجع فيشهد صلاة الصبح.
عن علقمة قال: خرجنا ومعنا مسروق وعمرو بن عتبة ومعضد غازين، فلما بلغنا ماسبذان وأميرها عتبة بن فرقد: قال لنا ابنه عمرو بن عتبة: إنكم إن نزلتم عليه صنع لكم نزلاً ولعله أن يظلم فيه أحداً، ولكن إن شئتم قلنا في ظل هذه الشجرة وأكلنا من كسرنا ثم رحنا. ففعلنا وقطع عمرو بن عتبة جبة بيضاء فلبسها وقال: والله إن تحدر الدم على هذه حسن فرمي، فرأيت الدم يتحدر على المكان الذي وضع يده عليه فمات.
عن عبد الرحمن بن يزيد قال: خرجنا في جيش فيهم علقمة ويزيد بن معاوية النخعي وعمرو بن عتبة ومعضد. قال: فخرج عمرو بن عتبة وعليه جبة جديدة بيضاء، فقال: ما أحسن الدم يتحدر على هذه.(2/40)
فخرج فتعرض للقصر فأصابه حجر فشجه، قال فتحدر عليها الدم ثم مات منها فدفناه. ولما أصابه الحجر فشجه جعل يلمسها بيده ويقول: إنها صغيرة وإن الله ليبارك في الصغير.
عن السدي قال: حدثني ابن عم لعمرو بن عتبة قال: نزلنا في مرج حسن، فقال عمرو بن عتبة: ما أحسن هذا المرج، ما أحسن الآن لو أن منادياً ينادي: يا خيل الله اركبي فخرج رجل، وكان في أول من لقي، فأصيب ثم جيء به فدفن في هذا المرج. قال: فما كان بأسرع من أن نادى منادياً خيل الله اركبي. فخرج عمرو في سرعان الناس في أول من خرج، فأتى عتبة فأخبر بذلك فقال: علي عمراً، علي عمراً. فأرسل في طلبه فما أدرك حتى أصيب، قال: فما أراه دفن إلا في مركز رمحه وعتبة يومئذ على الناس.
هشام صاحب الدستوائي قال: لما مات عمرو بن عتبة دخل بعض أصحابه على أخته فقال: أخبرينا عنه فقالت: قام ليلة فاستفتح {حم} فأتى على هذه الآية {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} فما جاوزها حتى أصبح.
لا يعرف لعمرو بن عتبة مسند. شغلته العبادة عن الرواية، وهذه الغزاة التي استشهد فيها هي غزاة آذربيجان، وذلك في خلافة عثمان بن عفان.(2/41)
405 - عنبس بن عقبة الحضرمي
روى عن ابن مسعود، أنبأنا أبو بكر بن أبي طاهر، عن يزيد بن حيان قال: إن كان عنبس ليسجد حتى إن العصافير ليقعن على ظهره وينزلن، ما يحسبنه إلا جذم حائط.(2/41)
406 - كردوس بن عباس الثعلبي
من غطفان. وقيل كردوس بن هانئ. وقيل ابن عمرو، ويعرف بالقاص، كان يقص على التابعين.
عبد الله بن إدريس قال: سمعت عمي يذكر، قال: كان كردوس يقول: ويقص علينا زمن الحجاج أن الجنة لا تنال إلا بعمل، اخلطوا الرغبة بالرهبة، ودوموا على صالح الأعمال، وألقوا الله بقلوب سليمة وأعمال صادقة، وكان يكثر من أن يقول من خاف أدلج من خاف أدلج.
عن أبي وائل كردوس بن عمرو، قال: فيما أنزل الله عز وجل: إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع صوته.
قال المؤلف: أسند كردوس عن ابن مسعود، وحذيفة.
__________
406 - هو: كردوس الثعلبي - بالمثلثة - واختلف في اسم أبيه، فقيل: عباس، وقيل: عمرو، وقيل: هانئ، وهو مقبول من الثالثة، وقيل هم ثلاثة.(2/41)
407 - الفضل بن بزوان
عن النعمان بن المنذر قال: قال رجل للفضل بن بزوان: إن فلاناً يقع فيك. قال: لأغيظن من أمره، غفر الله له. قيل له: من أمره؟ قال الشيطان.(2/42)
408 - الحارث بن قيس الجعفي
عن خيثمة، عن الحارث بن قيس الجعفي، قال: إذا كنت في أمر الآخرة فتمكث، وإذا كنت في أمر الدنيا فتوخ، وإذا هممت بخير فلا تؤخره، وإذا أتاك الشيطان وأنت تصلي فقال: إنك ترائي فزدها طولاً.
عن الاعمش قال: قال لي خيثمة لقد رؤأيت الحارث بن قيس اجتمع عنده رجلان قام وتركهما.
__________
408 - هو: الحارث بن قيس الجعفي، الكوفي، ثقة، من الثانية، قتل بصفين، وقيل: مات بعد علي.(2/42)
409 - أبو صالح، ماهان الحنفي
واسمه عبد الرحمن بن قيس أخو طليق، كذا ذكره ابن سعد وقال البخاري: يكنى أبا سالم.
إبراهيم، مؤذن بني حنيفة، قال أمر الحجاج بماهان أن يصلب على بابه، فرأيته حين رفع على خشبته يسبح ويهلل ويكبر، ويعقد بيده حتى بلغ تسعاً وعشرين. قال: فطعنه الرجل على تلك الحال. قال: فلقد رأيته بعد شهر معقوداً بيده تسعة وعشرين قال: كنا نرى عنده الضوء بالليل شبه السراج.
عن أبي إسحاق، يعني الشيباني، قال: دنوت من ماهان لما أراد أن يصلب فقال: تنح يا بن أخي لا تسأل عن هذا المقام.
سفيان بن دينار التمار قال: سألت ماهان الحنفي: ما كانت أعمال القوم؟ قال: كانت أعمالهم قليلة، وكانت قلوبهم سليمة.
أسند ماهان عن علي وابن مسعود وحذيفة، في آخرين.
__________
409 - هو: ماهان الحنفي، أبو صالح الكوفي الأعور، ثقة عابد، قتله الحجاج سنة ثلاث وثمانين، ووقع عند النسائي: عن أبي صالح: ماهان عن علي قال: والصواب عبد الرحمن بن قيس، وأما ماهان فكنيته أبو سالم.(2/42)
ومن الطبقة الثانية:
410 - عامر بن شراحيل الشعبي
يكنى أبا عمرو، عن ابن سيرين قال: قدمت الكوفة وللشعبي حلقة عظيمة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ كثير.
عن أبي مجلز قال: ما رأيت أحداً أفقه من الشعبي.
عن ابن شبرمة قال: سمعت الشعبي يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا، ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته، ولا أحببت أن يعيده علي.
عن وادع بن الأسود، عن الشعبي قال: ما أروي شيئاً أقل من الشعر، ولو شئت لأنشدتكم شعراً لا أعيده.
مكحول قال: ما لقيت أحداً أعلم بسنة ماضية من الشعبي.
ابن شبرمة قال: كنت أمشي مع الشعبي إلى أهله فقال لي: احملني أو أحملك، يعني حدثني أو أحدثك.
عن داود بن يزيد الأودي قال: قال لي الشعبي: يا أبا يزيد قم معي حتى أفيدك فمشيت معه وقلت: أي شيء تفيدني؟ قال: إذا سئلت عما لا تعلم فقل: الله أعلم به، فإنه علم حسن.
عن عيسى الخياط، عن الشعبي قال: لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن، فحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبل من عمره رأيت أن سفره لم يضع.
مجالد قال: سمعت الشعبي يقول: العلم أكثر من عدد القطر، فخذ من كل شيء أحسنه.
قال المؤلف: أدرك الشعبي خلقاً كثيراً من الصحابة.
عن منصور بن عبد الرحمن، عن الشعبي قال: أدركت خمس مائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ رحمه الله: وإنما أشار بهذا إلى معاصرتهم لا إلى الأخذ عنهم.
__________
410 - هو: عامر بن شراحبيل –بفتح المعجمة - أبو عمرو، ثقة مشهور فقيه فاضل، من الثالثة، قال مكحول: ما رأيت أفقه منه، مات بعد المائة، وله نحو من ثمانين.(2/43)
وقال إبراهيم الحربي: لقي الشعبي أربعة وثلاثين رجلاً من الصحابة. قال الشيخ رحمه الله: ومن أعلام القوم الذين أدركهم: علي بن أبي طالب عليه السلام، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد وابن عمر، وابن عباس، وعمرو بن العاص، وابنه عبد الله، وأسامة بن زيد، وجابر بن عبد الله، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وأبو سعيد الخدري، والمغيرة بن شعبة، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، والنعمان بن بشير.
وأدرك عائشة وأم سلمة وميمونة أمهات المؤمنين.
وتوفي بالكوفة فجاءة سنة أربع ومائة، وقيل خمس ومائة، وهو ابن سبع وسبعين سنة، وقيل اثنتين وثمانين.(2/44)
411 - سعيد بن جبير
مولى لبني والبة. يكنى أبا عبد الله ابن الحارثية، من بني أسد بن خزيمة.
عن عبد الله بن مسلم قال: كان سعيد بن جبير إذا قام إلى الصلاة كأنه وتد.
عن القاسم بن أبي أيوب الأعرج قال: كان سعيد بن جبير يبكي بالليل حتى عمش.
القاسم بن أبي ايوب قال: سمعت سعيد بن جبير يردد هذه الآية في الصلاة بضعاً وعشرين مرة: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} الآية.
قال يزيد بن هارون: وأنبأنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، أنه كان يختم القرآن في كل ليلتين.
عن هلال بن خباب قال: خرجت مع سعيد بن جبير في أيام مضين من رجب فأحرم من الكوفة بعمرة، ثم رجع من عمرته، ثم أحرم بالحج في النصف من ذي القعدة، وكان يخرج في كل سنة مرتين مرة للحج ومرة للعمرة.
عن أبي سنان، عن سعيد بن جبير، قال: لدغتني عقرب فأقسمت علي أمي أن أسترقي، فأعطيت الراقي يدي التي لم تلدغ، وكرهت أن أحنثها.
أصبغ بن زيد الواسطي قال: كان لسعيد بن جبير ديك كان يقوم الليل بصياحه، قال: فلم يصح ليلة من الليالي حتى أصبح، فلم يصل سعيد تلك الليلة، فشق عليه فقال: ما له
__________
411 - هو: سعيد بن جبير الأسدي مولاهم، الكوفي، ثقة ثبت فقيه من الثالثة، وروايته عن عائشة وأبي موسى ونحوهما مرسلة، قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين، ولم يكمل الخمسين.(2/44)
قطع الله صوته؟ قال: فما سمع له صوت بعدها. فقالت أمه: يا بني لا تدع على شيء بعدها.
عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، قال: إن الخشية أن تخشى الله حتى تحول خشيته بينك وبين معصيتك، فتلك الخشية، والذكر طاعة الله فمن أطاع الله فقد ذكره ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن أكثر التسبيح وتلاوة القرآن.
عن خصيف قال: رأيت سعيد بن جبير صلى ركعتين خلف المقام قبل صلاة الصبح. قال: فأتيته فصليت إلى جنبه وسألته عن آية من كتاب الله فلم يجبني. فلما صلى الصبح قال: إذا طلع الفجر فلا تتكلم إلا بذكر الله حتى تصلي الصبح.
عن يحيى بن عبد الرحمن قال: سمعت سعيد بن جبير يردد هذه الآية: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} حتى يصبح.
عن معاوية بن إسحاق قال: لقيت سعيد بن جبير عند الميضأة فرأيته ثقيل اللسان؟ قال: قرأت القرآن البارحة مرتين ونصفاً.
عن حماد: أن سعيد بن جبير قرأ القرآن في ركعة في الكعبة، وقرأ في الركعة الثانية بقل هو الله أحد.
كثير بن تميم الداري قال: كنت جالساً مع سعيد بن جبير فطلع عليه ابنه عبد الله، وكان به من الفقه فقال: إني لأعلم خير حالاته قالوا: وما هو؟ قال: أن يموت فأحتسبه.
عن جعفر قال: قيل لسعيد: من أعبد الناس؟ قال: رجل اجترح من الذنوب، فكلما ذكر ذنوبه احتقر عمله.
مقتل سعيد بن جبير:
قال المصنف: كان سعيد بن جبير فيمن خرج على الحجاج من القراء، وشهد دير الجماجم. فلما انهزم أصحاب الأشعث هرب فلحق بمكة فأخذه بعد مدة طويلة خالد بن عبد الله القسري، وكان والي الوليد بن عبد الملك على مكة، فبعث به إلى الحجاج.
عن أبي حصين قال: أتيت سعيد بن جبير بمكة فقلت: إن هذا الرجل قادم، يعني خالد بن عبد الله، ولا آمنه عليك، فأطعني واخرج فقال: والله لقد قررت حتى استحييت من الله، قلت: والله إني لأراك، كما سمتك أمك، سعيداً.(2/45)
قال: فقدم مكة فأرسل إليه فأخذه فأخبرني يزيد بن عبد الله قال: أتينا سعيد بن جبير حين جيء به فإذا هو طيب النفس، وبنية له في حجرة، فنظرت إلى القيد فبكت فشيعناه إلى باب الجسر، فقال له الحرس: أعطنا كفلاء فإنا نخاف أن تغرق نفسك. قال يزيد: فكنت فيمن كفل به.
عن داود بن أبي هند قال: لما أخذ الحجاج سعيد بن جبير قال: ما أراني إلا مقتولاً، وسأخبركم أني كنت أنا وصاحبان لي دعونا حين وجدنا حلاوة الدعاء، ثم سألنا الشهادة فكلا صاحبي رزقها وأنا أنتظرها. فكأنه رآى أن الإجابة عند حلاوة الدعاء.
عن عمر بن سعيد قال: دعا سعيد بن جبير حين دعي ليقتل فجعل ابنه يبكي، فقال: ما يبكيك؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة.
عن الحسن قال: لما أتي الحجاج بسعيد بن جبير قال: أنت الشقي ابن كسير؟ قال: بل أنا سعيد بن جبير. قال: بل أنت الشقي ابن كسير قال: كانت أمي أعرف باسمي منك قال: ما تقول في محمد؟ قال: تعني النبي صلى الله عليه وسلم قال: نعم.
قال: سيد ولد آدم، المصطفى، خير من بقي وخير من مضى.
قال: فما تقول في أبي بكر الصديق؟ قال: الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مضى حميداً وعاش سعيداً، ومضى على منهاج نبيه صلى الله عليه وسلم لم يغير ولم يبدل.
قال: فما تقول في عمر؟ قال: عمر الفاروق خيرة الله وخيرة رسوله، مضى حميداً على منهاج صاحبيه لم يغير ولم يبدل.
قال: فما تقول في عثمان؟ قال: المقتول ظلماً، المجهز جيش العسرة الحافر بئر رومة، المشتري بيته في الجنة، صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنتيه، زوجه النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من السماء.
قال: فما تقول في علي؟ قال: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول من أسلم، وزوج فاطمة وأبو الحسن والحسين.
قال: فما تقول في؟ قال: أنت أعلم بنفسك. قال: بث بعلمك قال: إذاً نسوءك ولا نسرك. قال: بث بعلمك. قال أعفني. قال: لا عفا الله عني إن أعفيتك. قال: إني لأعلم أنك مخالف لكتاب الله، ترى من نفسك أموراً تريد بها الهيبة وهي التي تقحمك الهلاك،(2/46)
وسترد غداً فتعلم. قال: أما والله لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحداً قبلك ولا أقتلها أحداً بعدك. قال: إذاً تفسد علي دنياي وأفسد عليك آخرتك. قال: يا غلام السيف والنطع. فلما ولى ضحك. قال: قد بلغني أنك تضحك. قال: قد كان ذلك. قال: فما أضحكك عند القتل؟ قال: من جرأتك على الله عز وجل ومن حلم الله عنك. قال: يا غلام اقتله. فاستقبل القبلة فقال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فصرف وجهه عن القبلة فقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قال: اضرب به الأرض. قال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} قال: اذبح عدو الله فما أنزعه لآيات القرآن منذ اليوم.
قال ابن ذكوان: إن الحجاج بن يوسف بعث إلى سعيد بن جبير فأصابه الرسول بمكة فلما سار به ثلاثة أيام رآه يصوم نهاره ويقوم ليله، فقال الرسول: والله إني لأعلم أني أذهب بك إلى من يقتلك فاذهب إلى أي طريق شئت. فقال له سعيد: إنه سيبلغ الحجاج أنك قد أخذتني فإن خليت عني خفت أن يقتلك، ولكن اذهب بي إليه قال: فذهب به فلما دخل عليه قال له الحجاج: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير. فقال: بل شقي ابن كسير. فقال: أمي سمتني.
قال: شقيت. قال: الغيب يعلمه غيرك. قال له الحجاج: أما والله لأبدلنك من دنياك ناراً تلظى. قال سعيد: لو علمت أن ذلك إليك ما اتخذت إلهاً غيرك.
ثم قال له الحجاج: ما تقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نبي مصطفى، خير الباقين وخير الماضين. قال: فما تقول في أبي بكر الصديق؟ قال: ثاني اثنين غذ هما في الغار أعز الله به الدين، وجمع به بعد الفرقة. قال: فما هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ قال: فاروق وخيرة الله من خلقه، أحب الله أن يعز الدين بأحد الرجلين، فكان أحقهما بالخيرة والفضيلة، قال: فما تقول في عثمان بن عفان؟ قال: مجهز جيش العسرة، والمشتري بيتاً في الجنة والمقتول ظلماً. قال: فما تقول في علي؟ قال: أولهم إسلاماً وأكثرهم هجرة، تزوج بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أحب بناته إليه، قال: فما تقول في معاوية؟ قال: كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فما تقول في الخلفاء منذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن؟ قال: سيجزون بأعمالهم، فمسرور ومثبور ولست عليهم بوكيل.(2/47)
قال: فما تقول في عبد الملك بن مروان؟ قال: إن يكن محسناً فعند الله ثواب إحسانه وإن يكن مسيئاً فلن يعجز الله، قال: فما تقول في؟ قال: أنت بنفسك أعلم.
قال: بث في علمك. قال: إذاً أسوءك ولا أسرك. قال: بث. قال: نعم، ظهر منك جور في حد الله، وجرأة على معاصيه بقتلك أولياء الله. قال: والله لأقطعنك قطعاً وأفرقن أعضاءك عضواً عضواً. قال: إذاً تفسد علي دنياي وأفسد عليك آخرتك، والقصاص أمامك. قال: الويل لك من الله. قال: لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار، قال: اذهبوا به، فاضربوا عنقه، قال سعيد: إني أشهدك أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أستحفظك بها حتى ألقاك يوم القيامة، فلما ذهبوا به ليقتل تبسم فقال له الحجاج: مم ضحكت؟ قال: من جرأتك على الله عز وجل. فقال الحجاج: أضجعوه للذبح فأضجع فقال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} . فقال الحجاج: اقلبوا ظهره إلى القبلة. فقرأ سعيد: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فقال: كبوه على وجهه. فقرأ سعيد: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} : فذبح من قفاه، قال: فبلغ ذلك الحسن بن أبي الحسن البصري فقال: اللهم يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج، فما بقي إلا ثلاثاً حتى وقع في جوفه الدود فمات.
عن خلف بن خليفة، عن أبيه، قال: شهدت مقتل سعيد بن جبير، فلما بان رأسه قال: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله. ثم قالها الثالثة فلم يتمها.
عن يحيى بن سعيد، عن كاتب الحجاج، يقال له يعلى، قال: كنت أكتب للحجاج وأنا يومئذ غلام حديث السن، فدخلت عليه يوماً بعد ما قتل سعيد بن جبير، وهو في قبة لها أربعة أبواب، فدخلت ما يلي ظهره فسمعته يقول: ما لي ولسعيد بن جبير؟ فخرجت رويداً، وعلمت أنه إن علم بي قتلني، فلم ينشب الحجاج بعد ذلك إلا يسيراً.
وفي رواية أخرى: عاش بعده خمسة عشر يوماً، وفي رواية: ثلاثة أيام وكان يقول: ما لي ولسعيد بن جبير؟ كلما أردت النوم أخذ برجلي.
عن عمرو بن ميمون، عن أبيه قال: لقد مات سعيد بن جبير وما على الأرض أحد إلا وهو يحتاج إلى علمه.
قال المؤلف: أسند سعيد بن جبير عن علي عليه السلام، وابن عمر، وابن عمرو، وأبي موسى وابن(2/48)
المغفل، وعدي بن حاتم، وأبي هريرة، وغيرهم. وأكثر رواياته عن ابن عباس، وقتل في سنة أربع وتسعين، وقيل سنة خمس وتسعين.
وفي مدة عمره ثلاثة أقوال: أحدها سبع وخمسون سنة، وقد رويناها آنفاً، والثاني: تسع وأربعون سنة.
قاله أبو نعيم الفضل بن دكين في جماعة، والثالث: اثنتان وأربعون سنة. قاله علي بن المديني.(2/49)
412 - إبراهيم بن يزيد بن الأسود النخعي
يكنى أبا عمران عن الأعمش قال كان إبراهيم يتوقى الشهرة فكان لا يجلس إلى الأسطوان وكان صيرفي الحديث فكنت إذا سمعت الحديث من بعض أصحابنا عرضته عليه.
عن سفيان، عن أبيه، عن إبراهيم قال: سألته عن شيء فجعل يتعجب ويقول احتيج إلي، احتيج إلي.
عن منصور قال: ما سألت إبراهيم قط عن مسئلة إلا رأيت الكراهية في وجهه، ويقول: أرجو أن تكون، وعسى.
عن ميمون أبي حمزة، عن إبراهيم، أنه قال: تكلمت ولو وجدت بداً ما تكلمت، فإن زماناً أكون فيه فقيه الكوفة لزمان سوء.
عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: لقد أدركت أقواماً لو بلغني أن أحدهم توضأ على ظفره لم أعده.
عن محمد بن سوقة قال: زعموا أن إبراهيم النخعي كان يقول: كنا إذا حضرنا جنازة أو سمعنا بميت عرف فينا أياماً لأنا قد عرفنا أنه قد نزل به أمر صيره إلى الجنة أو النار قال: وإنكم في جنائزكم تحدثون بأحاديث دنياكم.
عن الأعمش قال: كنت عند إبراهيم وهو يقرأ في المصحف واستأذن عليه رجل فغطى المصحف وقال: لا يرى هذا أنني أقرأ فيه كل ساعة.
عن مغيرة، عن إبراهيم، أنه كان يلبس الثوب المصبوغ بالزعفران أو بالعصفر، وكان من يراه لا يدري أمن القراء هو أم من الفتيان.
__________
412 - هو: إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي، أبو عمران الكوفي الفقيه، ثقة، إلا أنه يرسل كثيرا، من الخامسة، مات سنة ست وتسعين، وهو ابن خمسين أو نحوها.(2/49)
عن شعيب بن الحبحاب، عن هنيدة امرأة إبراهيم النخعي: أن إبراهيم كان يصوم يوماً ويفطر يوماً.
عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كانوا يجلسون فأطولهم سكوتاً أفضلهم في أنفسهم.
ابن عون، عن إبراهيم قال: إن كانوا ليكرهون إذا اجتمعوا أن يخرج الرجل أحسن حديثه، أو قال أحسن ما عنده.
عن مغيرة، عن إبراهيم قال: كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى صلاته، وإلى هديه، وإلى سمته.
عن أبي هاشم الرماني، عن إبراهيم قال: لا يستقيم رأي إلا برواية، ولا رواية إلا برأي.
عن منصور، عن إبراهيم قال: إذا رأيت الرجل يتهاون بالتكبيرة الأولى فاغسل يدك منه.
سفيان، عن الأعمش قال: جهدنا بإبراهيم أن يستند إلى سارية فأبى علينا.
عن الأعمش قال: كان إبراهيم يتوقى الشهرة، وكان لا يجلس إلى أسطوانة. وكان يجلس مع القوم فيجيء الرجل فيوسع له فإذا اضطره المجلس إلى أسطوانة قام.
عن مغيرة قال: كنا نهاب إبراهيم كما نهاب الأمير.
عن زبيد قال: ما سألت إبراهيم عن شيء إلا عرفت منه الكراهية.
عن أبي الحصين قال: سألت إبراهيم عن شيء فقال: ما وجدت أحداً تسأله فيما بني وبينك غيري؟
أبو بكر قال: سألت الأعمش: أخبرني عن أكثر من رأيت عند إبراهيم قط قال: أربعة أو خمسة.
عن مغيرة قال: كان رجل على حال حسنة فأحدث حدثاً أو أذنب ذنباً فرفضه أصحابه ونبذوه. فبلغ إبراهيم فقال: مه تداركوه وعظوه ولا تدعوه.
عن الأعمش، عن إبراهيم قال: إني لأرى الشيء مما يعاب فما يمنعني من عيبه إلا مخافة أن أبتلى به.
عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون المريض أن يجهد عند الموت.
عن منصور، عن إبراهيم أنه قال: كانوا يستحبون شدة النزع.(2/50)
عن عمران الخياط قال: دخلنا على إبراهيم النخعي نعوده وهو يبكي فقلنا له: ما يبكيك أبا عمران؟ قال: أنتظر ملك الموت لا أدري يبشرني بالجنة أم بالنار.
عن شعيب بن الحبحاب قال: كنت ممن صلى على إبراهيم النخعي ليلاً ودفن في زمان الحجاج، ثم أصبحت فغدوت فقال: دفنتم ذلك الرجل الليلة؟ قلت: نعم. قال: دفنتم أفقه الناس، قلت: ومن الحسن فقال: أفقه من الحسن، ومن أهل البصرة، وأهل الكوفة، وأهل الشام، وأهل الحجاز.
وقال المؤلف: أدرك إبراهيم النخعي جماعة من الصحابة منهم: أبو سعيد الخدري، وعائشة، وعامة ما يروي عن التابعين: كعلقمة ومسروق والأسود.
وتوفي سنة خمس وتسعين. وقيل: ست وتسعين، بالكوفة، وهو ابن تسع وأربعين وقيل ابن نيف وخمسين.
ابن عون قال: مات إبراهيم وهو ما بين الخمسين إلى الستين.(2/51)
413 - إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي
يكنى أبا أسماء الأعمش قال: كان إبراهيم التيمي إذا سجد تجيء العصافير فتنقر على ظهره كأنه جذم حائط.
الأعمش قال لإبراهيم التيمي: بلغني أنك تمكث شهراً لا تأكل شيئاً، قال: نعم وشهرين، ما أكلت منذ أربعين ليلة إلا حبة عنب ناولنيها أهلي فأكلتها ثم لفظتها. فقلت للأعمش أصدقته؟ فقال: إبراهيم بن يزيد التيمي. يريد أنه صدق.
عن أبي حيان، عن إبراهيم التيمي قال: ما عرضت عملي على قولي إلا خشيت أن أكون مكذباً.
سفيان قال: قال التيمي: كم بينكم وبين القوم؟ أقبلت عليهم الدنيا فهربوا وأدبرت عنكم فاتبعوها.
__________
413 - هو: إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي، يكنى أبا أسماء، الكوفي العابد، ثقة إلا أنه يرسل ويدلس، من الخامسة، مات سنة اثنتين وتسعين، وله أربعون سنة.
قال الشيخ شعيب: قوله يدلس وهم منه، فإن أحدا لم يصفه بذلك، بل لم يورده هو في طبقات المدلسين قال: والأصوب أنه توفي سنة 93 التحرير 1/103.(2/51)
العوام بن حوشب قال: ما رأيت رجلاً قط خيراً من إبراهيم التيمي رافعاً بصره إلى السماء في صلاة ولا في غيرها، وسمعته يقول: إن الرجل ليظلمني فارحمه.
عن العوام بن حوشب قال: ما رأيت إبراهيم التيمي رافعاً رأسه في الصلاة ولا في غيرها، ولا سمعته يخوض في شيء من أمر الدنيا قط.
عن بكير أو أبي بكير، عن أبي إبراهيم التيمي قال: ينبغي لمن لا يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار لأن أهل الجنة قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} وينبغي لمن لا يشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة لأنهم قالوا: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} .
العوام بن حوشب، عن أبيه، عن إبراهيم التيمي قال: أعظم الذنب عند الله عز وجل أن يحدث العبد بما ستر الله عليه.
سفيان بن عيينة قال: قال إبراهيم التيمي: مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً. قال: قلت: فأنت في الأمنية فاعملي.
قال المؤلف: أسند إبراهيم التيمي عن أبيه، والحارث بن سويد، في آخرين. وتوفي في حبس الحجاج في سنة اثنتين وتسعين.
علي بن محمد قال: كان سبب حبس إبراهيم التيمي أن الحجاج طلب إبراهيم النخعي. فجاء الذي طلبه فقال: أريد إبراهيم. فقال إبراهيم التيمي: أنا إبراهيم، فأخذه وهو يعلم أنه إبراهيم النخعي. فلم يستحل أن يدله عليه، فجاء به الحجاج فأمر بحبسه في الديماس ولم يكن لهم ظل من الشمس ولا كن من البرد، وكان كل اثنين في سلسلة. فتغير إبراهيم فجاءته أمه في الحبس فلم تعرفه حتى كلمها. فمات في السجن. فرأى الحجاج في منامه قائلاً يقول: مات في هذه الليلة رجل من أهل الجنة، فلما أصبح قال: هل مات الليلة أحد بواسط؟ قالوا نعم، إبراهيم التيمي مات في السجن فقال: حلم نزغة من نزغات الشيطان؟ فأمر به فألقي على الكناسة.(2/52)
414 - خيثمة بن عبد الرحمن ابن أبي سبرة
واسمه يزيد بن مالك الجعفي.
عن الأعمش قال: ورث خيثمة بن عبد الرحمن مائتي ألف درهم فأنفقها على القراء والفقهاء.
الأعمش قال: كان خيثمة يصنع الخبيص والطعام الطيب ثم يدعو إبراهيم، يعني النخعي، ويدعونا معه فيقول: كلوا ما أشتهيه ما أصنعه إلا من أجلكم.
الأعمش قال: ربما دخلنا على خيثمة فيخرج السلة من تحت السرير، فيها الخبيص والفالوذج، فيقول: ما أشتهيه كلوا، أما إني ما جعلته إلا لكم. وكان موسراً، وكان يصر الدراهم، فإذا الرجل من أصحابه مخرق القميص أو الرداء أو به خلة تحينه فإذا خرج من الباب خرج هو من باب آخر حتى يلقاه فيعطيه فيقول: اشتر قميصاً اشتر رداء، اشتر حاجة كذا.
عن طلحة: قال خيثمة: كان يعجبهم أن يموت الرجل عند خير يعمله، إما حج، وإما عمرة وإما غزاة وإما صيام رمضان.
عن الأعمش قال: نفست امرأة المسيب بن رافع وهو غائب، فاشترى لها خيثمة خادماً بستمائة.
عن الحكم عن خيثمة قال: إذا طلبت شيئاً فوجدته، فاسأل الله الجنة فلعله يكون يومك الذي يستجاب فيه.
عن الأعمش، عن خيثمة قال: تقول الملائكة: يا رب عبدك المؤمن تزوي عنه الدنيا وتعرضه للبلاء؟ قال: فيقول للملائكة: اكشفوا لهم عن ثوابه فإذا رأوا ثوابه قالوا: يا رب لا يضره ما أصابه في الدنيا. قال: ويقولون: عبدك الكافر تزوي عنه البلاء وتبسط له الدنيا؟ قال: فيقول للملائكة: اكشفوا لهم عن عقابه. قال: فإذا رأوا عقابه قالوا: يا رب لا ينفعه ما أصابه من الدنيا.
قال المؤلف: وقد روي هذا الكلام عن خيثمة، عن عبد الله بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن الصحيح أنه من قوله خيثمة.
__________
414 - هو: خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة – بفتح المهملة وسكون الموحدة - الجعفي الكوفي، ثقة، وكان يرسل، من الثالثة، مات بعد سنة ثمانين.(2/53)
عن محمد بن خالد الضبي قال: لم نكن ندري كيف يقرأ خيثمة القرآن، حتى مرض فثقل، فجاءته امرأة فجلست بين يديه فبكت. فقال لها: ما يبكيك؟ الموت لا بد منه. فقالت له المرأة: الرجال بعدك علي حرام. فقال لها خيثمة: ما كل هذا أردت منك، إنما كنت أخاف رجلاً واحداً وهو أخي محمد بن عبد الرحمن، وهو رجل فاسق يتناول الشراب فكرهت أن يشرب في بيتي الشراب بعد إذ القرآن يتلى فيه كل ثلاث.
عن سفيان، عن رجل، عن خيثمة: أنه أوصى أن يدفن في مقبرة فقراء قومه.
قال المصنف: أدرك خيثمة علي بن أبي طالب عليه السلام. وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو، وعدي بن حاتم، والنعمان بن بشير، في جماعة من الصحابة. ومات قبل أبي وائل.(2/54)
415 - عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد.
أبو جعفر النخعي، كان يدخل على عائشة.
محمد بن إسحاق قال: قدم علينا عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد حاجاً فاعتلت إحدى قدميه فقام يصلي حتى أصبح على قدم واحدة قال: وصلى الفجر بوضوء العشاء، قال: وقدم علينا ليث بن أبي سليم فصنع مثلها.
__________
415 - هو: عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، ثقة من الثانية، مات سنة تسع وتسعين.(2/54)
416 - القاسم بن مخيمرة الهمداني
كوفي الأصل ثم نزل الشام.
سعيد بن عبد الملك قال: قال القاسم بن مخيمرة: ما اجتمع على مائدتي لونان من طعام واحد، ولا أغلقت بابي ولي خلفه هم.
قال القاسم: وأتيت عمر بن عبد العزيز فقضى عني سبعين ديناراً وحملني على بغلة وفرض لي في كل سنة خمسين. فقلت: أغنني عن التجارة. فسألني عن حديث، فقلت هيبتني يا أمير المؤمنين. كأنه كره أن يحدثه به على هذا الوجه.
عن الأوزاعي، عن القاسم: أنه كره صيد الطير أيام فراخه.
روى القاسم عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وأسند عن خلق من التابعين. وتوفي في خلافة عمر بن عبد العزيز.
__________
416 - هو: القاسم بن مخيمرة، بالمعجمة مصغر، أبو عروة الهمداني، بالسكون الكوفي، نزيل الشام، ثقة فاضل من الثالثة، مات سنة مائة.(2/54)
ومن الطبقة الثالثة:
417 - طلحة بن مصرف بن عمرو بن كعب
يكنى أبا عبد الله وقيل: أبا محمد وكان قارئ أهل الكوفة يقرؤون عليه القرآن فلما رأى كثرتهم عليه كره ذلك فمشى إلى الأعمش وقرأ عليه، فمال الناس إلى الأعمش وتركوا طلحة.
سفيان قال: قال الأعمش: ما رأيت مثل طلحة، إن كنت قائماً فقعدت قطع القراءة، وإن كنت محتبياً فحللت حبوتي قطع القراءة مخافة أن يكون أملني.
ابن أبي غنية قال: حدثني شيخ عمن حدثته قالت: أرسل إلي طلحة بن مصرف: إني أريد أن أوتد في حائطك وتداً. فأرسلت إليه نعم - قالت: ودخلت خادمنا منزل طلحة تقتبس ناراً وطلحة يصلي. فقالت لها امرأته: مكانك يا فلانة حتى نشوي لأبي محمد هذا القديد على قصبتك يفطر عليه. فلما قضى صلاته قال: ما صنعت لا أذوقه حتى ترسل إلى سيدتها لحبسك إياها وشوائك على قصبتها.
عن حريش بن سليم قال: كان طلحة بن مصرف يقول في دعائه: اللهم اغفر لي رئائي وسمعتي.
عبد الصمد بن يزيد قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: بلغني عن طلحة أنه ضحك يوماً، فوثب على نفسه فقال: فيم تضحك؟ إنما يضحك من قطع الأهوال وجاز الصراط. ثم قال: آليت أن لا أفتر ضاحكاً حتى أعلم بم تقع الواقعة. فما رئي ضاحكاً حتى صار إلى الله عز وجل.
عن ليث قال: كنت أمشي مع طلحة فقال: لو علمت أنك أسن مني بليلة ما تقدمتك.
عن عبد الملك بن هانئ قال: خطب زبيد إلى طلحة ابنته. فقال: إنها قبيحة. قال: قد رضيت. قال: إن بعقبها أثراً. قال: قد رضيت.
عبد الرحمن بن عبد الملك بن الحر عن أبيه قال: ما رأيت طلحة بن مصرف في ملأ إلا رأيت له الفضل عليهم.
__________
417 - هو: طلحة بن مصرف بن عمرو بن كعب اليامي - بالتحتانية - الكوفي ثقة قارئ فاضل، من الخامسة، مات سنة اثنتي عشرة أو بعدها.(2/55)
الصلت بن بسطام قال: حدثني رجل من تيم الله، وكان قد جالس الشعبي وإبراهيم، قال: ما رأيت أحداً أملك للسانه من طلحة بن مصرف.
حريش بن سليم قال: سألت زبيداً من أعجب من أدركت إليك؟ قال: ما أدركت أحداً أعجب إلي من طلحة.
عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: يعجبني أخلاق طلحة بن مصرف وزيد وقد جرحتهما.
عن محمد بن فضيل، عن أبيه قال: دخلنا على طلحة بن مصرف نعوده، فقال له أبو كعب: شفاك الله فقال: أستخير الله.
عن ليث قال: حدثني طلحة في مرضه الذي مات فيه أن طاوساً كان يكره الأنين فما سمع طلحة يئن حتى مات رحمه الله.
قال المؤلف: أدرك طلحة جماعة من الصحابة، وسمع من أنس، وعبد الله بن أبي أوفى، وعبد الله بن الزبير. وكان قد خرج مع قراء الكوفة إلى الجماجم أيام الحج، وتوفي بعد ذلك سنة اثنتي عشرة ومائة.(2/56)
418 - زبيد بن الحارث اليامي
يكنى أبا عبد الرحمن، ويقال أبا عبد الله، الأشعث بن عبد الرحمن بن زبيد عن أبيه قال: كان زبيد قد قسم علينا الليل ثلاثا: ثلثاً عليه، وثلثاً علي، وثلثاً على أخي، فكان زبيد يقوم ثلثه ثم يضربني برجله فإذا رأى مني كسلاً قال: من يا بني فأنا أقوم عنك. ثم يجيء إلى أخي فيضربه برجله فإذا رأى منه كسلاً قال: من يا بني فأنا أقوم عنك قال: فيقوم حتى يصبح.
قال الأشج: وحدثني المحاربي عن سفيان قال: دخلنا على زبيد نعوده فقلنا: شفاك الله فقال: أستخير الله.
سفيان قال: كان زبيد إذا كانت الليلة مطيرة أخذ شعلة من النار فطاف على عجائز الحي فقال: أوكف عليكم بيت؟ أتريدون ناراً؟ فإذا أصبح طاف على عجائز الحي فقال: ألكم في السوق حاجة؟ أتريدون شيئاً؟
__________
418 - هو: زبيد – بموحدة - مصغر - ابن الحارث بن عبد الكريم بم عمرو بن كعب اليامي -بالتحتانية - أبو عبد الرحمن الكوفي، ثقة ثبت عابد، من السادسة، مات سنة اثنتين وعشرين أو بعدها.(2/56)
قال وكيع: وحدثني أبي قال: كنت جالساً مع زبيد فأتاه رجل ضرير يريد أن يسأله. فقال له زبيد: إن كنت تريد أن تسأل عن شيء فإن معي غيري.
محمد بن الحسين قال: حدثني سليمان بن أيوب عن بعض أشياخه قال: قام زبيد اليامي ذات ليلة ليتهجد قال: فعمد إلى مطهرة له قد كان يتوضأ منها فغمس يده في المطهرة. فوجد الماء بارداً شديداً كاد يجمد من شدة برده فذكر الزمهرير ويده في المطهرة. فلم يخرجها منها حتى أصبح. فجاءت الجارية وهي على تلك الحال فقالت: ما شأنك يا سيدي لم تصل الليلة كما كنت تصلي وأنت قاعد ها هنا على هذه الحال؟ قال: ويحك أدخلت يدي في هذه المطهرة فاشتد علي برد الماء فذكرت به الزمهرير، فوالله ما شعرت بشدة برد يدي حتى وقفت علي، فانظري لا تحدثني بها أحداً ما دمت حياً. قال: فما علم بذلك أحد حتى مات.
أنبأ سفيان بن زبيد قال: يسرني أن يكون لي في كل شيء نية حتى في الأكل والنوم.
قال سعيد بن جبير: لو خيرت عبداً ألقى الله في مسلاخه اخترت زبيداً الأيامي.
المنذر أبو عبد الله من أهل الكوفة قال: قال لي محمد بن سوقة: لو رأيت طلحة وزبيداً لعلمت أن وجوههما قد أخلقها سهر الليل وطول القيام، وكانا والله ممن لا يتوسد الفراش.
قال المؤلف: أدرك زبيد اليامي جماعة من الصحابة منهم: ابن عمر وأنس. وتوفي في سنة اثنتين وعشرين ومائة. وقيل: في سنة ثلاث وعشرين، في أولها.
حنبل قال: سمعت أبا نعيم يقول: مات زبيد سنة اثنتين وعشرين ومائة. وكان طلحة أكبر من زبيد بعشر سنين، واستوفى زبيد عشر شنين قبل أن يموت.(2/57)
419 - عون بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود الهذلي
مطرف بن معقل الشقري قال: سمعت عون بن عبد الله يقول: ذاكر الله في غفلة الناس، كمثل الفئة المنهزمة يحميها الرجل، لولا ذلك الرجل هزمت الفئة، ولولا من يذكر الله من غفلة الناس هلك الناس.
سفيان قال: قال عون بن عبد الله: صحبت الأغنياء فلم يكن أحد أطول غماً مني إن رأيت أحداً أحسن ثياباً مني وأطيب ريحاً مني، فصحبت الفقراء فاسترحت.
__________
419 - هو: عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي، أبو عبد الله الكوفي، ثقة عابد، من الرابعة، مات قبل سنة عشرين ومائة.(2/57)
عن مسعود قال: قال عون بن عبد الله: كفى بك من الكبر أن ترى لك فضلاً على من هو دونك.
عن أبي هارون قال: كان يحدثنا وللحيته رش بالدموع.
عن المسعودي قال: قال عون بن عبد الله: ما أحسب أحداً تفرغ لعيب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه.
وقال عون: جالسوا التوابين فإنهم أرق الناس قلوباً.
مطرف بن معقل الشقري قال: حدثني عون بن عبد الله قال: الدنيا والآخرة في قلب ابن آدم ككفتي الميزان ترجح إحداهما بالأخرى وما تحاب رجلان في الله إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه.
المسعودي قال: قال عون بن عبد الله: إن من كان قبلنا كانوا يجعلون للدنيا ما فضل عن آخرتهم، وإنكم تجعلون لآخرتكم ما فضل عن دنياكم.
عن عون قال: إن الله ليكره عبده على البلاء كما يكره أهل المريض مريضهم، وأهل الصبي صبيهم، على الدواء، ويقولون: اشرب هذا، فإن لك في عاقبته خيراً.
عن المسعودي، عن فرعون قال: كان رجل يجالس قوماً فترك مجالستهم فأتي في منامه، فقيل له: تركت مجالستهم؟ لقد غفر لهم بعدك سبعين مرة.
عن المسعودي عن عون بن عبد الله أنه كان يقول في بكائه وذكر خطيئته: ويح نفسي، بأي شيء لم أعص ربي؟ ويحي إنما عصيته بنعمته عندي، ويحي من خطيئة ذهبت شهوتها وبقيت تبعتها عندي، ويحي كيف أنسى الموت ولا ينساني؟ ويحي إن حجبت يوم القيامة عن ربي، ويحي كيف أغفل ولا يغفل عني؟ أم كيف تهنئني معيشتي واليوم الثقيل ورائي؟ أم كيف لا تطول حسرتي ولا أدري ما يفعل بي؟ أم كيف يشتد حبي لدار ليست بداري، أم كيف أجمع بها وفي غيرها قراري؟ أم كيف تعظم فيها رغبتي والقليل فيها يكفيني؟ أم كيف أوثرها وقد أضرت بمن آثرها قبلي؟ أم كيف لا أبادر بعملي قبل أن يغلق باب توبتي؟ أم كيف يشتد إعجابي بما يزايلني وينقطع عني؟ أم كيف لا يكثر بكائي ولا أدري ما يراد بي؟ أم كيف تقر عيني مع ذكر ما سلف مني؟ أم كيف تطيب نفسي مع ذكر ما هو أمامي؟ ويحي هل ضرب غفلتي أحداً سواي؟ أم هل يعمل لي غيري عن ضيعت حظي؟ ويحي كأنه قد تصرم أجلي ثم أعاد ربي(2/58)
خلقي كما بدأني، ثم وقفني وسألني، ثم أشهدت الأمر الذي أذهلني وشغلت بنفسي من غيري، وسارت الجبال وليس لها مثل خطيئتي، وجمع الشمس والقمر وليس عليهما مثل حسابي، وانكدرت النجوم وليست تطلب بما عندي، وحشرت الوحوش ولم تعمل مثل عملي، وشاب الوليد وهو أقل ذنباً مني، ويحي ما أشد حالي وأعظم خطري، فاغفر لي واجعل طاعتك همتي ولا تعرض عني يوم تعرض، ولا تفضحني بسرائري ولا تخذلني بكثرة فضائحي، بأي عين أنظر إليك وقد علمت سرائري؟ وكيف أعتذر إليك إذا ختمت على لساني ونطقت جوارحي بكل الذي كان مني، إلهي أنا الذي ذكرت ذنوبي لم تقرعيني، أنا تائب إليك فاقبل ذلك مني، ولا تجعلني لنار جهنم وقوداً بعد توحيدي وإيماني برحتمك.
المسعودي، عن عون بن عبد الله قال: ما أحد ينزل الموت حق منزلته إلا عد غداً ليس من أجله، كم من مستقبل يوماً لا يستكمله، وراج غداً لا يبلغه، لو تنظرون إلى الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره.
عن ابن عجلان، عن عون بن عبد الله قال: إن تمام التقوى أن تبتغي إلى ما قد علمت منها علم ما لم تعلم، وإن النقص فيما قد علمت ترك ابتغاء الزيادة فيه، وإنما يحمل الرجل على ترك ابتغاء الزيادة قلة الانتفاع بما قد علم.
عن زيد العمي، عن عون بن عبد الله قال: كان أهل الخير يكتب بعضهم إلى بعض بهؤلاء الكلمات الثلاث ويلقى بها بعضهم بعضاً: من عمل لآخرته كفاه الله عز وجل دنياه، ومن أصلح ما بينه وبين الناس، أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته.
أبي المحجل الأسدي قال: قال عون بن عبد الله: قلب التائب بمنزلة الزجاجة يؤثر فيها جميع ما أصابها، فالموعظة إلى قلوبهم سريعة، وهم إلى الرقة أقرب، فداووا القلوب بالتوبة، فلرب تائب دعته توبته إلى الجنة حتى أوفدته عليها، وجالسوا التوابين، فإن رحمة الله إلى التوابين أقرب.
عن أبي معشر قال: رأيت عون بن عبد الله في مجلس أبي حازم يبكي ويمسح وجهه بدموعه. فقيل له: لم تمسح وجهك بدموعك؟ قال: بلغني أنه لا تصيب دموع الإنسان مكاناً من جسده إلا حرم الله عز وجل ذلك المكان على النار.(2/59)
قال المؤلف: أدرك عون بن عبد الله جماعة من الصحابة. وسمع من ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة. وجمهور روايته عن أبيه.(2/60)
420 - أبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي
ولد في ولاية عثمان، عن مغيرة قال: كنت إذا رأيت أبا إسحاق ذكرت به الصدر الأول.
أبو بكر بن عياش قال: سمعت أبا إسحاق السبيعي يقول: ذهبت الصلاة مني وضعفت ورق عظمي، إني اليوم أقوم في الصلاة فما أقرأ إلا البقرة وآل عمران.
العلاء بن سام العبدي قال: ضعف أبو إسحاق عن القيام فكان لا يقدر أن يقوم إلى الصلاة حتى يقام، فإذا أقاموه فاستتم قائماً قرأ ألف آية وهو قائم.
سفيان قال: كان أبو إسحاق يقوم ليل الصيف كله، وأما الشتاء فأوله وآخره، وبين ذلك هجعة.
عن سفيان قال: قال أبو إسحاق: أما أنا فإذا استيقظت لم أقلها.
قال المؤلف: أدرك أبو إسحاق خلقاً كثيراً من الصحابة، واسند عن ثلاثة وعشرين منهم، وسمع من علي بن أبي طالب وسعيد بن زيد وابن عمر، وأسامة، وابن الزبير، وانفرد بالرواية عن ثلاثة من الصحابة لم يرو عنهم غيره؛ أحدهم عبدة ابن حزن ويقال: عبيدة ويقال: بشر ويقال: نصر. والثاني: كدير الضبي، والثالث: مطر بن عكامس، فهؤلاء الثلاثة عدهم جماعة من أهل العلم في الصحابة، وأبي قوم أن يكون لهم صحبة.
وتوفي أبو إسحاق في سنة ثمان وعشرين ومائة وقيل تسع وعشرين وهو ابن ثمان أو تسع وتسعين سنة.
__________
420 - هو: عمرو بن عبد الله بن عبيد، ويقال ابن أبي شعيرة الهمداني، أبو إسحاق السبيعي، بفتح المهملة، وكسر الموحدة، ثقة مكثر، من الثالثة، اختلط بآخرة، مات سنة تسع وعشرين ومائة، وقيل قبل ذلك.
قال الشيخ شعيب: قوله اختلط بآخره ليس بجيد، فإنه لم يختلط لكنه شاخ ونسي كما قال الإمام الذهبي.(2/60)
421 - عمرو بن مرة الجملي
من مراد.
قراد قال: سمعت شعبة يقول: ما رأيت بالكوفة شيخاً خيراً من زبيد الأيامي، وما رأيت عمرو بن مرة في صلاته إلا ظننت أنه لا ينصرف حتى يستجاب له.
سفيان قال: قلت لمعمر: من أفضل من رأيت؟ قال: ما يخيل إلي أني رأيت أحداً أفضله على عمرو بن مرة، ما رأيته قط يدعو إلا قلت: يستجاب له.
عن العلاء بن المسيب، عن عمرو بن مرة قال: من طلب الآخرة أضر بالدنيا، ومن طلب الدنيا أضر بالآخرة، فأضروا بالفاني للباقي.
سعيد بن سنان قال: قال عمرو بن مرة ما أحب أني بصير، إني أذكر أني نظرت نظرة وأنا شاب.
عن أبي سنان، عن عمرو بن مرة قال: نظرت إلى امرأة فأعجبتني فكف بصري فأرجو أن يكون ذلك كفارة.
سلام بن سليم قال: كنت أقرأ على عمرو بن مرة، فكنت أسمعه كثيراً يقول: اللهم اجعلني ممن يعقل عنك.
مسعر قال: سمعت عبد الملك بن ميسرة يقول ونحن في جنازة عمرو بن مرة: إني لأحسبه خير أهل الأرض.
قال المصنف: أسند عمرو عن عبد الله بن أبي أوفى وعن خلق من كبار التابعين. وتوفي سنة ست عشرة ومائة، وقيل سنة ثمان عشرة.
__________
421 - هو: عمرو بن مرة بن عبد الله بن طارق الجملي - بفتح الجيم والميم - المرادي، أبو عبد الله الكوفي، الأعمى، ثقة عابد كان لا يدلس، ورمي بالإرجاء، من الخامسة، مات سنة ثماني عشرة ومائة، وقيل قبلها.(2/61)
422 - حبيب بن أبي ثابت الأسدي
مولى لبني كاهل - واسم أبي ثابت: قيس بن دينار.
أبو بكر بن عياش قال: رأيت حبيب بن أبي ثابت ساجداً، فلو رأيته قلت ميت، يعني
__________
422 - هو: حبيب بن أبي ثابت، الإمام الحافظ فقيه الكوفة، أبو يحي القرشي الأسدي مولاهم، واسم أبيه قيس بن دينار، وقيل: قيس بن هند، ويقال: هند.(2/61)
من طول السجود، عن كامل أبي العلاء قال: أنفق حبيب بن أبي ثابت على القراء مائة ألف.
سفيان قال: قال حبيب بن أبي ثابت ما استقرضت من أحد شيئاً أحب إلي من نفسي، أقول لها أمهلي حتى تجيء من حيث أحب.
قال المؤلف: أسند حبيب عن عمر وابن عباس وجابر وحكيم بن حزام وأنس بن مالك وابن أبي أوفى في آخرين وتوفي سنة تسع عشرة ومائة.(2/62)
423 - مجمع بن يسار
أبو حمزة التيمي.
أبو الربيع الواسطي قال: سمعت حفص بن غياث يقول: دخل سفيان الثوري على مجمع التيمي فإذا في إزار سفيان خرق. قال: فأخذ أربعة دراهم فناول سفيان فقال: اشتر به إزاراً. فقال سفيان: لا أحتاج إليها. قال مجمع: صدقت، أنت لا تحتاج ولكني أحتاج. قال: فأخذها فاشترى بها إزاراً فكان سفيان يقول: كساني مجمع جزاه الله خيراً.
وقال سفيان: ليس شيء من عمل أرجو أن يشوبه شيء كحبي مجمعاً التيمي.
سفيان قال: خلف لنا أبو حيان التيمي وما مر من عمله شيء أوثق في نفسه من حبه مجمعاً التيمي.
أبو بكر بن عياش قال: رأيت مجمعاً التيمي في سوق الغنم فقالوا له: كيف شاتك هذه؟ قال: ما أرضاها. قال أبو بكر: ومن كان أورع من مجمع؟
سفيان قال: قال مسعر: جاء مجمع بشاة إلى السوق يبيعها فقال: يخيل إلي أن في لبنا ملوحة.
عن الأعمش، عن مجمع، أنه نزل عليه ضيف فما سأله من أين جئت؟ وما جاء بك؟ حتى خرج من عنده.
قال المؤلف: لا نعلم مجمعاً أسند شيئاً إلا أنه قد روى عن ماهان الزاهد، وروى عنه أبو حيان التيمي وسفيان الثوري، وقال أبو حاتم الرازي: دعا مجمع ربه عز وجل أن يميته قبل الفتنة. فمات من ليلته، وخرج زيد بن علي من الغد.
__________
423 - هو: مجمع بن يسار، أبو حمزة التيمي، ثقة فاضل.(2/62)
424 - الربيع بن أبي راشد
ويكنى أبا عبد الله.
عمر بن ذر قال: كنت إذا رأيت الربيع بن أبي راشد كأنه مخمار من غير شراب.
عن خلف بن حوشب قال: كنت مع الربيع بن أبي راشد في الجبانة قرأ رجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} الآية، فقال الربيع: حال ذكر الموت بيني وبين كثير من مما أريد من التجارة، فلو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لخشيت أن يفسد علي قلبي، ولولا أن أخالف من كان قبلي لكانت الجبانة مسكني إلى أن أموت.
عن خلف بن حوشب قال: قال الربيع بن أبي راشد: اقرأ علي {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} فقرأتها عليه فبكى ثم قال: والله لولا أن تكون بدعة لسحت أو قال: لهمت - في الجبال.
عمر بن ذر قال: قال الربيع بن أبي راشد، ورأى رجلاً مريضاً يتصدق بصدقة فقسمها بين جيرانه، فقال: الهدايا إمام الزيارة. فلم يلبث الرجل إلا أياماً حتى مات. فبكى عند ذلك الربيع وقال: أحسن والله بالموت وعلم أنه لا ينفعه من ماله إلا ما قدم بين يديه.
عن مالك بن مغول قال: قال الربيع بن أبي راشد: لولا ما يأمل المؤمنون من كرامة الله عز وجل لهم بعد الموت لانشقت في الدنيا مرائرهم، ولتقطعت أجوافهم.
عن سفيان قال: لم يكن بالكوفة رجل أكثر ذكراً للموت من الربيع بن أبي راشد إن كان الربيع من الموت لعلى حذر.
قال المؤلف: أسند الربيع عن منذر الثوري، وسمع من سعيد بن جبير، وفي حديثه قلة.
__________
424 - هو: الربيع بن أبي راشد، هو الحاضر الشاهد الذاكر الواجد، انظر حلية الأولياء 5/88.(2/63)
425 - عبدة بن أبي لبابة
مولى قريش. يكنى أبا القاسم، عن الأوزاعي عن عبدة قال: إن أقرب الناس من الرثاء آمنهم له.
__________
425 - هو: عبدة بن أبي لبابة الأسدي مولاهم، ويقال: ولي قريش أبو القاسم البزار، الكوفي، نزيل دمشق، ثقة من الرابعة.(2/63)
وعن عبيدة قال: إذا ختم الرجل القرآن نهاراً صلت عليه الملائكة حتى يمسي، وإذا ختم القرآن ليلاً صلت عليه الملائكة حتى يصبح.
عقبة بن علقمة قال: سمعت الأوزاعي يقول: كان عبدة إذا كان في المسجد لم يذكر شيئاً من أمر الدنيا.
قال المؤلف: أدرك عبدة عبد الله بن عمر وسمع منه.(2/64)
426 - محمد بن جحادة الأودي
مولى لبني أود.
عن سفيان قال: كان محمد بن جحادة من العابدين، وكان يقال إنه لا ينام من الليل إلا أيسره، قال: فرأت امرأة من جيرانه كأن حللاً فرقت على أهل مسجدهم لما انتهى الذي يفرقها إلى محمد بن جحادة دعا بسفط مختوم أخرج منه حلة صفراء. قالت: فلم يقم لها بصري فكساه إياها وقال له: هذه لك بطول السهر. قالت تلك المرأة: فوالله لقد كنت أراه بعد ذلك فأخالها عليه.
روى محمد بن جحادة عن أبي صالح وروى عنه الثوري.
__________
426 - هو: محمد بن جحادة - بضم الميم - وتخفيف المهملة - ثقة من الخامسة، مات سنة إحدى وثلاثين.(2/64)
ومن الطبقة الرابعة:
427 - منصور بن المعتمر السلمي
يكنى أبا عتاب.
عن زائدة بن قدامة قال: صام منصور بن المعتمر أربعين سنة قام ليلها وصام نهارها، وكان الليل يبكي فتقول له أمه: يا بني أقتلت قتيلاً؟ فيقول: أنا أعلم بما صنعت بنفسي قال: فإذا أصبح كحل عينيه ودهن رأسه وبرق شفتيه وخرج إلى الناس. فأخذه يوسف بن عمر عامل الكوفة يريده على القضاء فامتنع. قال: فجاءه خصمان فقعدا بين يديه فلم يسألهما ولم يكلمهما. وقيل ليوسف بن عمر: إنك لو نثرت لحمه لم يل لك قضاء فخلى عنه.
قال المؤلف: هكذا في هذه الرواية صام أربعين سنة - وفي رواية أخرى عن زائدة: صام سنة - وفي رواية: صام ستين سنة.
أبو عوانة قال: لما أجلس منصور بن المعتمر في القضاء كان يأتيه الرجل فيقص عليه، فيقول: قد فهمت ما قلت ولا أدري ما الجواب فيه فكان يفعل ذلك فذكروا ذلك لابن هبيرة، وكان هو الذي ولاه. فقال: هذا أمر لا يصلح إلا أن يعين عليه صاحبه بشهوة فتركه.
أبو بكر بن عياش قال: ربما كنت مع منصور في منزله جالساً فتصيح به أمه، وكانت فظة غليظة. فتقول: يا منصور يريدك ابن هبيرة على القضاء فتأبى عليه؟ وهو واضح لحيته على صدره ما يرفع طرفه إليها.
حسن بن صالح قال: كان منصور في الديوان قال له إنسان: ناولني الطين أختم به. قال: أرني كتابك حتى أنظر أي شيء فيه؟.
العلاء بن سالم العبدي قال: كان منصور، يعني ابن المعتمر، يصلي في سطحه. فلما مات قال غلام لأمه: يا أماه الجذع الذي كان في سطح آل فلان ليس أراه. قالت: يا بني ليس ذاك بجذع، ذاك منصور قد مات.
أبو بشر قال: كانت جارة لمنصور بن المعتمر، وكان لها ابنتان لا تصعدان السطح إلا
__________
427 - هو: منصور بن المعتمر بن عبد الله السلمي، أبو عتاب، بمثناة ثقيلة ثم موحدة، الكوفي، ثقة ثبت، وكان لا يدلس من طبقة الأعمش، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة.(2/65)
بعد ما ينام الناس، فقالت إحداهما ذات ليلة: يا أمتاه، ما فعلت القائمة التي كنت أراها في سطح فلان؟ فقالت: يا بنية لم تكن تلك قائمة إنما كان منصور يحيي الليل كله في ركعة لا يسجد فيها ولا يركع.
قال أبو الأحوص: إن منصور بن المعتمر كان إذا جاء الليل اتزر وارتدى إن كان صيفاً، وإن كان شتاء التحف فوق ثيابه ثم قام إلى محرابه كأنه خشبة منصوبة حتى يصبح.
زائدة بن قدامة قال: كان منصور بن المعتمر إذا رأيته قلت: رجل قد أصيب بمصيبة منكس الطرف، منخفض الصوت، رطب العينين، إن حركته جاءت عيناه بأربع. ولقد قالت له أمه يوماً: ما هذا الذي تصنع بنفسك؟ تبكي الليل عامته لا تكاد تسكت. لعلك يا بني أصبت نفساً لعلك قتلت قتيلاً. قال: فيقول: يا أماه أنا أعلم ما صنعت بنفسي.
عن سفيان قال: كانوا يقولون في ذلك الزمان: إن أطول أهل الكوفة تهجداً طلحة وزبيد وعبد الجبار بن وائل، قال الحميدي: فقلت: فمنصور؟ قال: نعم إنما كان الليل عنده مطية من المطايا متى شئت أصبته قد ارتحله.
سفيان بن عيينة، وذكر منصور بن المعتمر، فقال: قد كان عمش من البكاء.
عن الثوري قال: لو رأيت منصوراً يصلي لقلت يموت الساعة.
خلف بن تميم قال: سمعت أبي تميم بن مالك يقول: كان منصور بن المعتمر إذا صلى الغداة أظهر النشاط لأصحابه فيحدثهم ويكثر إليهم، ولعله إنما بات قائماً على أطرافه، كل ذلك ليخفي عليهم العمل.
عن أبي عمار قال: سمعت عطاء بن جبلة يقول: سألوا أم منصور بن المعتمر عن عمله، فقالت: كان ثلث الليل يقرأ، وثلثه يبكي وثلثه يدعو.
جرير قال: صام منصور وقام فكان يأكل فيرى الطعام في مجراه.
ابن عيينة قال: رأيت منصور بن المعتمر في المنام فقلت: ما فعل الله بك قال: كدت ألقى بعمل نبي.
قال سفيان: إن منصوراً أقام ستين سنة. يقوم ليلها ويصوم نهارها.
قال المؤلف: أدرك منصور بن المعتمر أنس بن مالك، وروى عنه، ورأى ابن أبي أوفى، وروى عن جماعة من التابعين، كالأعمش، وسليمان التيمي، وأيوب السختياني. وتوفي في سنة اثنتين وثلاثين ومائة.(2/66)
428 - ضرار بن مرة الشيباني
يكنى أبا سنان شهاب الدين بن عباد قال: قال أصحابنا: كان البكاؤون بالكوفة أربعة: ضرار بن مرة، وعبد الملك بن أبجر، ومحمد بن سوقة، ومطرف بن طريف. وكان ضراراً قد حفر قبره قبل موته بخمس عشرة سنة، فكان يأتيه فيختم فيه القرآن.
محمد بن فضيل قال: كان ضرار حفر في بيته قبراً كان يتعبد فيه.
المحاربي قال: كان ضرار بن مرة ومحمد بن سوقة إذا كان يوم الجمعة طلب كل واحد منهما صاحبه، فإذا اجتمعا جلسا يبكيان، عبد الله بن الأجلح قال: كان ضرار بن مرة يقول لنا: لا تجيئوني جماعة ولكن ليجيء الرجل وحده فإنكم إذا اجتمعتم تحدثتم، وإذا كان الرجل وحده لم يخل من أن يدرس جزأه أو يذكر ربه.
أبو سنان قال: قال إبليس: إذا استمكنت من ابن آدم ثلاثاً أصبت منه حاجتي: إذا نسي ذنوبه، واستكثر عمله، وأعجب برأيه.
قال المصنف: أسند ضرار عن سعيد بن جبير وغيره.
__________
428 - هو: الباكي اليقظان ضرار بن مرة، ويكنى أبا سنان، شهاب الدين، انظر حلية الأولياء 5/105.(2/67)
429 - محمد بن سوقة
مولى بجيلة، يكنى أبا بكر وكان سوقة بزازاً.
قال سفيان: ما بقي أحد يدفع به عن أهل الكوفة إلا ابن سوقة، كانت عنده عشرون ومائة ألف فقدمها.
قال العباس: وسمعت شهاب بن عباد قال: دخل رجل بيت محمد بن سوقة فرأى على الباب ستر مسح، فجعل ينظر إليه، ففطن ابن سوقة فقال: لعلك ترى أني ندمت، لا ما ندمت.
سفيان بن عيينة قال: نزل محمد بن المنكدر على محمد بن سوقة بالكوفة فحمله على حمار، فسألوه فقالوا: يا عبد الله أي العمل أحب إليك؟ قال: إدخال السرور على المؤمن. قالوا: فما بقي مما يستلذ؟ قال: الإفضال على الإخوان.
__________
429 - هو: محمد بن سوقة – بضم المهملة - الغنوي - بفتح المعجمة والنون الخفيفة - الكوفي العابد، ثقة مرض من الخامسة.(2/67)
عن مهدي بن سابق قال: طلب ابن أخي محمد بن سوقة منه شيئاً فبكى فقال له: والله يا عم لو علمت أن مسألتي تبلغ منك هذا ما سألتك قال: ما بكيت لسؤالك إنما بكيت لأني لم أبتدئك قبل سؤالك.
عن فضيل بن عياض، عن محمد بن سوقة قال: أمران لو لم نعذب إلا بهما لكنا مستحقين بهما لعذاب الله: أحدنا يزاد الشيء من الدنيا فيفرح فرحاً ما علم الله أنه فرحه بشيء زاده قط في دينه، وينقص الشيء من الدنيا فيحزن عليه حزناً ما علم أنه حزنه على شيء نقصه قط في دينه.
قال المؤلف: أدرك محمد بن سوقة عن أنس بن مالك، وأبا الطفيل، وعامة روايته عن كبار التابعين.(2/68)
430 - سليمان بن مهران الأعمش الأسدي
يكنى أبا محمد مولى لبني كاهل.
عن عيسى بن يونس قال: ما رأينا في زماننا مثل الأعمش، ما رأيت الأغنياء والسلاطين في مجلس أحد أحقر منهم في مجلس الأعمش وهو محتاج إلى درهم.
وكيع قال: كان الأعمش قريباً من سبعين سنة لم يفته التكبيرة الأولى، واختلفت إليه قريباً من سبعين فما رأيته يقضي ركعة.
إبراهيم بن عرعرة قال: سمعت يحيى القطان إذا ذكر الأعمش قال: كان من النساك، وكان محافظاً على الصلاة في الجماعة وعلى الصف الأول. قال يحيى: وهو علامة الإسلام.
الوليد بن صالح الطائي قال: قال الأعمش: إني لأحب أن أعافى في إخواني لأنهم إن بلوا بليت معهم إما بالمواساة وفيها مؤونة، وإما بالخذلان وفيه عار.
سفيان قال: لو رأيت الأعمش لقلت: مسكين.
أبو بكر بن عياش قال: دخلت على الأعمش في مرضه الذي توفي فيه فقلت: أدعو لك طبيباً؟ فقال: ما أصنع به؟ فوالله لو كانت نفسي في يدي لطرحتها في الحش، إذا أنا مت فلا تؤذنن بي أحداً واذهب بي فاطرحني في لحدي.
__________
430 - هو: سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي، أبو محمد الكوفي، الأعمش، ثقة حافظ، عارف بالقراءات ورع لكنه يدلس من الخامسة، مات سنة سبع وأربعين، أو ثمان وكان مولده أول سنة إحدى وستين.(2/68)
قال المؤلف: أدرك الأعمش جماعة من الصحابة وعاصرهم، ورأى أنس بن مالك، وسمعه يقرأ، ولم يحمل عنه شيئاً مرفوعاً، وأرسل عن ابن أبي أوفى.
الفضل بن دكين ووكيع قالا: ولد الأعمش يوم قتل الحسين، وذلك يوم عاشوراء سنة ستين، وتوفي سنة ثمان وأربعين ومائة، وهو ابن ثمان وثمانين سنة.
وقد قال يحيى بن عيسى الرملي: ولد سنة ثمان وخمسين. وقال الهيثم بن عدي: مات سنة سبع وأربعين ومائة.(2/69)
431 - أبو حيان بن سعيد التيمي
سمع من الشعبي وكان ثقة صالحاً.
عبد الله بن إدريس قال: ما رأيت الليل على أحد من الناس أخف منه على أبي حيان التيمي، صحبناه مرة إلى مكة، فكان إذا أظلم الليل فكأنه مثل هذه الزنابير إذا هيجت من عشها.
__________
431 - هو: أبو حيان - بتشديد التحتانية - اسمه يحيى بن سعد بن حيان - بمهملة وتحتانية - الكوفي، ثقة عابد من السادسة، مات سنة خمس وأربعين.(2/69)
432 - معروف بن واصل التيمي
أحمد بن عبد الله بن يونس قال: كان معروف إمام مسجد بني عمرو بن سعد، وكان يختم القرآن في كل ثلاث سفراً وحضراً. أم قومه ستين سنة لم يسه في صلاة قط لأنها كانت تهمه.(2/69)
433 - موسى بن أبي عائشة
يكنى أبا بكر، مولى آل جعدة بن هبيرة الكوفي، جرير بن عبد الحميد قال: رأيت موسى بن أبي عائشة، وإذا رأيته ذكرت الله لرؤيته وكان بين عينيه أثر السجود.
أبو بكر القرشي قال: أخبرني إسحاق بن إسماعيل قال: أخبرنا سفيان قال: أخبروني عن عمرو بن قيس قال: ما رفعت رأسي بليل قط إلا رأيت موسى بن أبي عائشة قائماً يصلي. قال القرشي وقال غير إسحاق: وكان يدعى المتهجد، من شدة تغير لونه.
قال المؤلف: رأى عمرو بن حريث، وسعيد بن جبير، وعبد الله بن شداد، وعبيد الله بن عبد الله، في آخرين، وروى عنه الثوري، وكان يثني عليه.(2/69)
434 - خلف بن حوشب
عن عبد السلام بن حرب قال: ما رأيت أصبر على السهر من خلف بن حوشب، سافرت معه إلى مكة فما رأيته نائماً بليل حتى رجعنا إلى الكوفة.
__________
434 - هو: ذو السمت المهذب، والكلام المحبب، أبو عبد الرحمن بن خلف بن حوشب، انظر حلية الأولياء 5/85.(2/70)
435 - كرز بن وبرة
كوفي الأصل، إلا أنه سكن جرجان، محمد بن فضيل بن غزوان عن أبيه قال: دخلت على كرز بن وبرة بيته فإذا عند مصلاه حفيرة وقد ملأها تبناً وبسط عليها كساء من طول القيام، وكان يقرأ القرآن في اليوم والليلة ثلاث مرات.
قال: أنبأ محمد بن فضيل، عن أبيه، أو عن نفسه قال: كان كرز، إذا خرج، يأمر بالمعروف فيضربونه حتى يغشى عليه.
عن شبرمة قال: صحبنا كرزاً الحارثي فكنا إذا نزلنا إلى الأرض فإنما هو قائل ببصره هكذا، ينظر، فإذا رأى بقعة تعجبه ذهب فصلى فيها حتى يرتحل.
قال ابن شبرمة: سأل كرز بن وبرة ربه عز وجل أن يعطيه اسمه الأعظم على أن لا يسأل به شيئاً من الدنيا. فأعطاه ذلك فسأل الله عز وجل أن يقوى حتى يختم القرآن في اليوم والليلة ثلاث مرات.
خلف بن تميم قال: سمعت أبي يذكر قال: قدم علينا كرز بن وبرة الحارثي من جرجان، فانجفل إليه قراء أهل الكوفة فكنت فيمن أتاه وما سمعت منه إلا كلمتين. قال: صلوا على نبيكم صلى الله عليه وسلم فإن صلاتكم تعرض عليه. وقال: اللهم اختم لنا بخير، وما رأيت في هذه الأمة أعبد من كرز، كان لا يفتر، وكان يصلي في المحمل فإذا أنزل من المحمل افتتح الصلاة.
عن صبيح مولى كرز بن وبرة قال: أخبرني أبو سليمان المكتب قال: صحبت كرزاً إلى مكة فكان إذا نزل أدرج ثيابه فألقاها في الرحل ثم تنحى للصلاة، فإذا سمع رغاء الإبل أقبل. قال: فاحتبس يوماً عن الوقت وانبث أصحابه في طلبه، فكنت فيمن طلبه، قال فأصبته في
__________
435 - هو: كرز بن وبرة الحارثي، الزاهد القدوة، أبو عبد الله الكوفي، انظر سير أعلام النبلاء 6/315.(2/70)
وهدة يصلي في ساعة حارة، وإذا سحابة تظله، فلما رآني أقبل نحوي فقال: يا أبا سليمان لي إليك حاجة قلت: وما حاجتك؟ قال: أحب أن تكتم ما رأيت. قال: قلت: ذلك لك. قال: أوثق لي، فحلفت أن لا أخبر به أحداً حتى يموت.
محمد بن فضيل قال: سمعت أبي يقول: لم يرفع كرز بن وبرة رأسه إلى السماء منذ أربعين سنة.
عمرو بن حميد قال: أخبرني رجل من أهل جرجان قال: لما مات كرز رأى رجل فيما يرى النائم كأن أهل القبور جلوس على قبورهم، وعليهم ثياب جدد، فقيل لهم: ما هذا؟ فقالوا، إن أهل القبور كسوا ثياباً جدداً لقدوم كرز عليهم.
أبو داود الحفري قال: دخلت على كرز بن وبرة بيته فإذا هو يبكي فقيل له ما يبكيك؟ قال: إن بابي لمغلق، وإن ستري لمسبل، ومنعت جزئي أن أقرأه البارحة، وما هو إلا من ذنب أذنبته.
قال المؤلف: اسند كرز عن طاوس، وعطاء، والربيع بن خيثم، والقرظي في آخرين.(2/71)
436 - أبو يونس القوي
واسمه الحسن بن يزيد العجلي، إسماعيل بن زبان قال: إنما سمي أبو يونس العجلي القوي لقوته على العبادة، صلى حتى أقعد، وبكى حتى عمي، وصام حتى صار كالحشفة.
وقال البخاري: قال أبو عاصم: قدم علينا أبو يونس فطاف في يوم واحد سبعين طوافاً.
وسمع أبو يونس من أبي سلمة، وسعد بن جبير، ومجاهد.
__________
436 - هو: الحسن بن يزيد بن فروخ الغمري، مكي، سكن الكوفة، ثقة، من السادسة، وقيل: إن فروخا غير أبي يونس.(2/71)
437 - عبد الملك بن سعيد بن أبجر المتطيب.
الوليد بن شجاع قال: حدثني أبي قال: كان ابن أبجر، من شدة التوقي، يقول من لا يعرفه، إنه عيي وما به إلا شدة التوقي.
الوليد بن شجاع قال: حدثني أبي قال: كان ابن أبجر من شدة التوقي إنما يتكلم بالمعاريض.
__________
437 - هو: عبد الملك بن سعيد بن حيان، بالتحتانية، ابن أبجر، بموحدة وجيم، الكوفي، ثقة عابد، من السادسة.(2/71)
عن السليط بن بسطام التميمي. قال: قال لي أبي: ألزم عبد الملك بن أبجر فتعلم من توقيهفي الكلام، فما أعلم بالكوفة أشد حفظاً للسانه منه.
عن جعفر الأحمر قال: كان أصحابنا البكاؤون أربعة: عبد الملك بن أبجر، ومحمد بن سوقة، ومطرف بن طريف، وضرار بن مرة.
سفيان قال: قال سلمة بن كهيل: ما بالكوفة أحد أحب أن أكون في مسلاخه أحب إلي من ابن أبجر.
سفيان الثوري قال: خمسة من أهل الكوفة يزدادون في كل يوم خيراً منهم ابن أبجر.
عن عبد الملك بن أبجر قال: ما من الناس إلا مبتلى بعافية لينظر كيف شكره أو مبتلى ببلية لينظر كيف صبره.
قال المؤلف: أسند ابن أبجر عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، وعن زر بن حبيش والشعبي، في جماعة نظرائهم.(2/72)
438 - عمرو بن قيس الملائي
إسحاق بن خف قال: أقام عمرو بن قيس الملائي عشرين سنة صائماً ما يعلم به أهله يأخذ غداءه ويغدو إلى الحانوت فيتصدق بغذائه ويصوم، وأهله لا يدرون.
قال: وكان إذا حضرته الرقة يحول وجهه إلى الحائط ويقول لجلسائه: هذا الزكام، وإذا نظر إلى أهل السوق قال: ما أغفل هؤلاء عما أعد لهم.
مفضل بن غسان قال: قال عمرو: حديث أرقق به قلبي وأتبلغ به إلى ربي عز وجل أحب غلي من خمسين قضية من قضايا شريح.
أبو خالد الأحمر قال: سمعت عمرو بن قيس الملائي يقول: إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به ولو مرة تكن من أهله.
عبد الرحمن بن الحكم بن بشير بن سليمان قال: أنبأ أبي قال: رأيت سفيان يجيء إلى عمرو بن قيس يجلس بين يديه ينظر إليه لا يكاد يصرف بصره عنه. أظنه يحتسب في ذلك.
صالح بن أحمد بن عبد الله العجلي قال: حدثني أبي عن أبيه عبد الله قال: جاءت امرأة
__________
438 - هو: عمرو بن قيس الملائي، بضم الميم وتخفيف اللام والمد - أبو عبد الله الكوفي، ثقة متقن عابد، من السادسة، مات سنة بضع وأربعين.(2/72)
إلى عمرو بن قيس بثوب فقالت: يا أبا عبد الله اشتر هذا الثوب واعلم أن غزله ضعيف. قال: فكان إذا جاءه إنسان يعرضه عليه، قال: إن صاحبته أخبرتني أنه كان في غزله ضعف حتى جاء رجل فاشتراه وقال: هذا برأناك منه.
عمر بن حفص بن غياث قال: لما احتضر عمرو بن قيس الملائي بكى، فقال أصحابه: على ما تبكي من الدنيا؟ فوالله لقد كنت تبغض العيش أيام حياتك، فقال: والله ما أبكي على الدنيا إنما أبكي خوفاً أن أحرم خوف الآخرة.
المحاربي قال: قال لي سفيان: عمرو بن قيس هو الذي أدبني، علمني قراءة القرآن وعلمني الفرائض، وكنت أطلبه في سوقه فإن لم أجده في سوقه وجدته في بيته إما يصلي وإما يقرأ في المصحف، كأنه يبادر أموراً تفوته، فإن لم أجده في بيته وجدته في بعض مساجد الكوفة في زاوية من زوايا المسجد كأنه سارق قاعداً يبكي. فإن لم أجده وجدته في المقبرة قاعداً ينوح على نفسه. فلما مات عمرو بن قيس أغلق أهل الكوفة أبوابهم وخرجوا بجنازته. فلما خرجوا إلى الجبان وبرزوا بسريره، وكان أوصى أن يصلي عليه أبو حيان التيمي، تقدم أبو حيان وكبر عليه أربعاً، وسمعوا صائحاً يصيح: قد جاء المحسن. وإذا البرية مملوءة من طير أبيض لم ير على خلقتها وحسنها. فجعل الناس يعجبون من حسنها وكثرتها. فقال أبو حيان: من أي شيء تعجبون؟ هذه الملائكة جاءت فشهدت عمراً.
عن عبد الله بن سعيد الجعفي قال: حضرنا جنازة عمرو بن قيس فحضره قوم كثير عليهم ثياب بيض، فلما صلي عليه ذهبوا فلم نرهم.
محمد بن يزيد الرفاعي قال: سمعت من لا أحصى كثرة يقول: مات عمرو بن قيس بناحية فارس، فاجتمع على جنازته ما لا يحصى، فلما دفن نظروا فلم يجدوا أحداً.
أبو خالد، وهو الأحمر، قال: لما مات عمرو بن قيس الملائي رأوا الصحراء مملوءة رجالاً عليهم ثياب بيض فلما صلي عليه ودفن لم نر في الصحراء أحداً. فبلغ ذلك أبا جعفر فقال لابن شبرمة وابن أبي ليلى: ما منعكما أن تذكرا هذا الرجل؟ فقالا: كان يسألنا أن لا نذكره لك.
قال المؤلف: سمع عمرو من عكرمة، وعطاء، والمنهال بن عمرو، وأبي إسحاق السبيعي، وابن المنكدر، في خلق كثير من التابعين، وتوفي بسجستان، ويقال بالكوفة، ويقال بالشام، ويقال ببغداد. والله أعلم.(2/73)
439 - عطوان بن عمرو التميمي
عن سليمان بن حيان، أبو خالد الأحمر، قال: كان عطوان بن عمرو التميمي رجلاً منقطعاً، وكان يلزم الجبان بظهر الكوفة فأتاه قوم يسلمون عليه فوجدوه مغشياً عليه بين القبور، فلم يزالوا عنده حتى أفاق فاستحيا منهم فجعل يقول لهم كهيئة المعتذر: ربما غلب علي النوم، وربما أصابني الإعياء فألقى نفسي هكذا.
محمد بن السماك قال: ما رأيت أحداً أشد حذراً للموت من عطوان بن عمرو.
داود الطائي قال: سألت عطوان بن عمرو التميمي قلت: ما قصر الأمل؟ قال: ما بين تردد النفس.
قال رستم: فحدثت به الفضيل بن عياض فبكى وقال: يقول: يتنفس فيخاف أن يموت قبل أن ينقطع نفسه، لقد كان عطوان من الموت على حذر.(2/74)
440 - قيس بن مسلم الجدلي
سفيان قال: كان قيس بن مسلم يصلي حتى السحر، ثم يجلس فيمسح البكاء ساعة بعد ساعة، وهو يقول: لأمر ما خلقنا، لئن لم نختم الآخرة بخير لنهلكن.
قال: وزار قيس بن مسلم محمد بن جحادة ذات ليلة فأتاه وهو في المسجد بعد صلاة العشاء، قال: ومحمد قائم يصلي، فقام قيس بن مسلم في الناحية الأخرى يصلي. فلم يزالا على ذلك حتى طلع الفجر. وكان قيس بن مسلم إمام مسجده. قال فرجع إلى الحي فأمهم ولم يلتقيا. ولم يعلم محمد مكانه. قال: فقال له بعض أهل المسجد: زارك أخوك قيس بن مسلم البارحة فلم تنفتل إليه. قال: ما علمت بمكانه. قال: فغدا عليه فلما رآه قيس بن مسلم مقبلاً قام إليه فاعتنقه ثم خلوا جميعاً فجعلا يبكيان، روى قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وسعيد بن جبير. ومات سنة عشرين ومائة.
__________
440 - هو: قيس بن مسلم الجدلي – بفتح الجيم - أبو عمرو الكوفي ثقة رمي بالإرجاء، مات سنة عشرين.(2/74)
ومن الطبقة الخامسة:
441 - مسعر بن كدام بن ظهير
يكنى أبا سلمة سفيان بن عيينة قال: ما لقيت أحداً أفضله على مسعر قال سفيان الثوري: لم يكن في زماننا مثله، يعني مسعراً.
أبو خالد الأحمر قال: لم يكن في أترابه أطول صمتاً منه، يعني مسعراً، ومحمد بن مسعر قال: كان أبي لا ينام حتى يقرأ نصف القرآن، فإذا فرغ من ورده لف رداءه ثم هجع هجعة خفيفة، ثم يثب كالرجل الذي قد ضل منه شيء فهو يطلبه، فإنما هو السواك والطهور، ثم يستقبل المحراب كذلك إلى الفجر، وكان يجهد على إخفاء ذلك جداً، عن أبي أسامة قال: سمعت مسعراً يقول: أشتهي أن أسمع صوت باكية حزينة.
محمد بن كناسة قال: سمعت مسعراً يقول: من أهمته نفسه تبين ذلك عليه.
سفيان قال: قال رجل لمسعر: أتحب أن يخبرك الرجل بعيوبك؟ قال: إن كان ناصحاً فنعم، وإن كان يريد أن يؤنبني فلا.
عبد الله بن المغيرة قال: سمعت مسعر بن كدام ينشد:
ألا قد فسد الدهر ... فأضحى حلوه مرا
وقد جربت من أهوى ... فقد أنكرتهم طرا
فألزم نفسك اليأس ... من الناس تعش حرا
عبد الرحمن بن صالح يقول: قال مسعر بن كدام:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها ... من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها ... لا خير في لذة من بعدها النار
الفيض بن الفضل العجلي قال: حدثني جار لمسعر قال: بكى مسعر فبكت أمه فقال لها مسعر: ما أبكاك يا أماه؟ فقالت: يا بني رأيتك تبكي فبكيت فقال: يا أماه لمثل ما نهجم عليه غداً فلنطل البكاء. قالت: وما ذاك؟ فانتحب فقال: القيامة وما فيها. قال: ثم غلبه البكاء فقام.
__________
441 - هو: مسعر بن كدام – بكسر أوله وتخفيف ثانيه، ابن ظهير الهلالي، أبو سلمة، الكوفي، ثقة ثبت فاضل من السابعة، مات سنة ثلاث أو خمس وخمسين.(2/75)
قال: وكان مسعر يقول: لولا أمي لما فارقت المسجد إلا لما لا بد منه، وكان إن دخل بكى، وإن خرج بكى، وإن صلى بكى، وإن جلس بكى.
حسين بن يحيى بن آدم، عن أبيه قال: لما حضرت مسعراً الوفاة دخل عليه سفيان الثوري فوجده جزعاً فقال له: تجزع؟ فوالله لوددت أني مت الساعة! فقال مسعر: أقعدوني. فأعاد سفيان الكلام عليه، فقال: إنك إذاً لواثق بعملك يا سفيان، لكني والله على شاهقة جبل لا أدري أين أهبط. فبكى سفيان وقال: أنت أخوف لله مني.
أحمد بن داود الحراني قال: مصعب بن المقدام يقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، وسفيان الثوري آخذ بيده، وهما يطوفان، فقال الثوري: يا رسول الله مات مسعر بن كدام؟ قال: نعم، واستبشر به أهل السماء.
قال المؤلف: أسند مسعر عن أعلام التابعين، وتوفي بالكوفة سنة اثنتين، وقيل سنة خمس وخمسين ومائة.(2/76)
442 - داود بن نصير الطائي
يكنى أبا سليمان، سمع الحديث وتفقه، ثم اشتغل بالتعبد.
أحمد بن أبي الحواري قال: حدثني بعض أصحابنا قال: كان داود الطائي يجالس أبا حنيفة فقال له أبو حنيفة: يا أبا سليمان أما الأداة فقد أحكمناها. قال داود: فأي شيء بقي؟ قال: بقي العمل به. قال: فنازعتني نفسي إلى العزلة والوحدة، فقلت لها: حتى تجلسي معهم فلا تجيبي في مسئلة. قال: فكان يجالسهم سنة قبل أن يعتزل. قال: فكانت المسئلة تجيء وأنا أشد شهوة للجواب فيها من العطشان إلى الماء فلا أجيب فيها. قال: فاعتزلتهم بعد.
أبو أسامة قال: جئت أنا وابن عيينة داود الطائي فقال: قد جئتماني مرة فلا تعودا إلي.
ابن عائشة قال: مر داود بمقبرة فسمع امرأة وهي تقول: يا حبي ليت شعري بأي خديك بدأ البلى؟ باليمنى أم باليسرى؟ قال: فصعق.
قال: وكان الثوري إذا ذكره قال: أبصر الطائي أمره.
محمد بن حاتم البغدادي قال: سمعت الجماني يقول: كان بدو توبة الطائي أنه دخل المقبرة فسمع امرأة عند قبر وهي تقول:
__________
442 - هو: داود بن نضير الطائي - بضم النون - أبو سليمان الطائي الكوفي ثقة فقيه زاهد، من الثامنة مات سنة ستين، وقيل: خمس وستين.(2/76)
مقيم إلى أن يبعث الله خلقه ... لقاؤك لا يرجى وأنت قريب
تزيد بلى في كل يوم وليلة ... وتسلى كما تبلى وأنت حبيب
أحمد بن أبي الحواري قال: حدثني محمد يحيى عن داود الطائي قال: ما أخرج الله عبداً من ذل المعاصي إلى عز التقوى إلا أغناه بلا مال، وأعزه بلا عشيرة، وآنسه بلا بشر.
عن بكر بن محمد قال: قال لي داود الطائي: فر من الناس كما تفر من الأسد.
محمد بن عثمان الصيرفي قال: جاء أبو الربيع الأعرج إلى داود الطائي من واسط ليسمع منه شيئاً ويراه. فأقام على بابه ثلاثة أيام لا يصل اليد. قال: وكان إذا سمع الإقامة خرج فإذا سلم الإمام وثب فدخل منزله.
قال: فصليت في مسجد آخر ثم جئت فجلست على بابه فلما جاء ليدخل الدار قلت: ضيف رحمك الله. قال: إن كنت ضيفاً فادخل، فدخلت فأقمت عنده ثلاثة أيام لا يكلمني. فلما كان بعد ثلاث قلت: رحمك الله أتيتك من واسط وإني أحببت أن تزودني شيئاً. قال: صم الدنيا واجعل فطرك الموت. قلت: زدني رحمك الله. قال: فر من الناس فرارك من الأسد، غير طاعن عليهم، ولا تارك لجماعتهم. قال: فذهبت أستزيده فوثب إلى المحراب وقال: الله أكبر.
عن أبي الربيع الأعرج قال: أتيت داود الطائي، وكان لا يخرج من منزله حتى يقول: قد قامت الصلاة فيخرج فيصلي فإذا سلم الإمام أخذ نعله ودخل منزله. فلما طال ذلك علي أدركته يوماً فقلت: يا أبا سليمان على رسلك فوقف لي فقلت له أبا سليمان أوصني قال: اتق الله، وإن كان لك والدان فبرهما. ثم قال: ويحك صم الدنيا واجعل الفطر موتك، واجتنب الناس غير تارك لجماعتهم.
عبد الله بن إدريس قال: قلت لداود الطائي: أوصني. قال: أقلل من معرفة الناس. قلت: زدني. قال: ارض باليسير من الدنيا مع سلامة الدين كما رضي أهل الدنيا مع فساد الدين. قلت: زدني. قال: اجعل الدنيا كيوم صمته ثم أفطرت على الموت.
إسحاق بن منصور السلولي قال: دخلت أنا وصاحب لي على داود الطائي وهو على التراب، فقلت لصاحبي: هذا رجل زاهد. فقال داود: إنما الزاهد من قدر فترك، الوليد بن عقبة قال: كان يخبز لداود الطائي ستون رغيفاً يعلقها بشريط، يفطر كل ليلة على رغيفين بملح وماء. فأخذ ليلة فطره فجعل ينظر إليه. قال: ومولاة له سوداء تنظر إليه، فقامت فجاءته بشيء(2/77)
من تمر على طبق فأفطر ثم أحيا ليلته وأصبح صائماً. فلما جاء وقت الإفطار أخذ رغيفيه وملحاً وماء.
قال الوليد بن عقبة: فحدثني جار له قال: جعلت أسمعه يعاتب نفسه ويقول: اشتهيت البارحة تمراً فأطعمتك، واشتهيت الليلة تمراً؟ لا ذاق داود تمراً ما دام في الدنيا.
عن حماد بن أبي حنيفة قال: قالت مولاة لداود الطائي: يا داود لو طبخت لك دسماً. قال: فافعلي. فطبخت له شحماً ثم جاءته به. فقال لها: ما فعل أيتام بني فلان؟ قالت: على حالهم. قال: اذهبي به إليهم فقالت له: فديتك إنما تأكل هذا الخبز بالماء؟ قال: إني إذا أكلته كان في الحش وإذا أكله هؤلاء الأيتام كان عند الله مذخوراً.
صدقة الزاهد قال: خرجنا مع داود الطائي في جنازة بالكوفة، فقعد داود ناحية وهي تدفن فجاء الناس فقعدوا قريباً منه فتكلم فقال: من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آت قريب، واعلم يا أخي أن كل ما يشغلك عن ربك فهو عليك مشؤوم، واعلم أن أهل القبور إنما يفرحون بما يقدمون ويندمون على ما يخلفون. وأهل الدنيا يقتتلون ويتنافسون فيما عليه أهل القبور يندمون.
أبو حفص قال: سمعت ابن أبي عدي يقول: صام داود الطائي أربعين سنة ما علم به أهله، وكان خزازاً، وكان يحمل غذاءه معه ويتصدق به في الطريق ويرجع إلى أهله يفطر عشاء لا يعلمون أنه صائم.
قال الشيخ: وقد رويت لنا هذه الحكاية من طريق أبي حفص الفلاس أيضاً.
عن أبي عدي أن هذا جرى لداود بن أبي هند، وسنذكرها في أخبار البصريين، وهي بذاك أليق من داود الطائي.
وكان متشاغلاً بالعلم ثم انقطع إلى التعبد، ولم ينقل عنه أنه تشاغل بالمعاش، لعل بعض الرواة قال الطائي. والله أعلم.
محمد بن بشر العبدي قال: قال داود يوماً لمولاة له في الدار: أشتهي لبناً فخذي رغيفاً، فائتي به البقال فاشتري به لبناً ولا تعلمي البقال لمن هو؟ فذهبت، فجاءت به فأكل وفطن البقال بعد أنها تريد اللبن لداود، فطيبه له. فقال لها: علم البقال لمن تريدين اللبن؟ فقالت: نعم. قال: ارفعيه. فما عاد فيه.(2/78)
قال: وجاءه فضيل يوماً فلم يفتح له، فجلس فضيل خارج الباب وهو داخل فبكى داود من داخل وفضيل من خارج، ولم يفتح له. قلت لمحمد بن بشر: كيف لم يفتح له الباب؟ قال: قد كان يفتح لهم. وكثروا عليه فغموه فحجبهم كلهم، فمن جاءه كلمه من وراء الباب، وقالت له أمه: لو اشتهيت شيئاً اتخذته لك. فقال: أجيدي يا أماه فإني أريد أن أدعو إخواناً لي. قال: فاتخذت وأجادت. قال: فقعد على الباب لا يمر سائل إلا أدخله. قال: فقدم إليهم فقالت له أمه: لو أكلت. قال: فمن أكله غيري.
قال: وإنما جد واجتهد حين ماتت أمه قسم كل شيء تركت حتى لزق بالأرض، وكانت موسرة.
إسحاق بن منصور قال: حدثني جنيد يعني الحجام قال: أتيت داود الطائي فإذا قرحة قد خرجت على لسانه فبططتها وأخرجت قليل دواء فوضعته في خرقة. فقلت: إذا كان الليل فضعه عليها. فقال: ارفع ذلك اللبد، فرفعته فإذا دينار فقال: خذه. قلت: يا أبا سليمان ليس هذا ثمن هذا، ثمن هذا دانق فوضعت الدواء في كوة وخرجت ثم غدوت بعد يومين فإذا الدواء على حاله. قلت: يا أبا سليمان سبحان الله، لم لم تعالج بهذا الدواء؟ فقال لي: إن أنت لم تأخذ الدينار لم أمسه.
إسماعيل بن زيان قال: حجم حجام داود الطائي أعطاه ديناراً لا يملك غيره.
حدثنا أبو سعيد السكري قال: احتجم داود الطائي فدفع ديناراً إلى الحجام فقيل له: هذا إسراف. فقال: لا عبادة لمن لا مروءة له.
عبادة بن كليب قال: قال رجل لداود الطائي: لو أمرت بما في سقف البيت من نسج العنكبوت فينظف، فقال: أما علمت أنه كان يكره فضول النظر.
الحسن بن عيسى قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: وهل الأمر إلا ما كان عليه داود الطائي.
عبيد الله بن محمود بن سلمة بن معبد قال: لقي داود الطائي رجلاً فسأله عن حديث، فقال: دعني إني أبادر خروج نفسي، وكان الثوري إذا ذكره قال: أبصر الطائي أمره.
أبو خالد الأحمر قال: مررت أنا وسفيان الثوري بمنزل داود الطائي فقال لي سفيان: ادخل بنا نسلم عليه. فدخلنا إليه فما احتفل بسفيان ولا انبسط إليه. فلما خرجنا قلت له: يا أبا عبد الله غاظني ما صنع بك. قال: وأي شيء صنع بي؟ قلت: لم يحفل بك ولم ينبسط إليك. قال: إن أبا سليمان لا يتهم في مودة، أما رأيت عينيه؟ هذا في شيء غير ما نحن فيه.(2/79)
أبو عمران قال: حدثني أسود بن سالم أن داود الطائي كان يقول: سبقني العابدون وقطع بي، والهفاه.
محمد بن أشكاب قال: حدثني رجل من أهل داود الطائي قال: قلت له يوماً: ما أبا سليمان قد عرفت الرحم التي بيننا فأوصني قال: فدمعت عيناه. ثم قال يا أخي إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زاداً لما بين يديها فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك، إني لأقول لك هذا وما أعلم أحداً أشد تضييعاً مني لذلك. ثم قام وتركني.
أبو المهنا الطائي قال: خرج داود الطائي إلى السوق فرأى الرطب فاشتهته نفسه فجاء إلى البائع فقال له: أعطني بدرهم إلى غد. فقال له: اذهب إلى عملك. فرآه بعض من يعرفه فأخرج له صرة فيها مائة درهم وقال: اذهب فإن أخذ منك بدرهم فالمائة لك. فلحقه البائع وقال له: ارجع خذ حاجتك. فقال: لا حاجة لي فيه إنما جربت هذه النفس فلم أرها تساوي في هذه الدنيا درهماً وهي تريد الجنة غداً.
حفص بن عمر الجعفي قال: كان داود الطائي قد ورث عن أمه أربعمائة درهم، فمكت يتقوتها ثلاثين عاماً، فلما نفذت جعل ينقض سقوف الدويرة فيبيعها حتى باع الخشب والبواري واللبن، حتى بقي في نصف سقف. وجاء صديق له فقال: يا أبا سليمان لو أعطيتني هذه فأبضعتها لك لعلنا نستفضل لك فيها شيئاً ينتفع به. فما زال به حتى دفعها إليه، ثم فكر فيها فلقيه بعد العشاء الآخرة فقال: ارددها علي. فقال: ولم ذاك يا أخي؟ قال: أخاف أن يدخل فيها شيء غير طيب فأخذها.
عثمان بن زفر قال: أخبرني ابن عم لداود الطائي قال: ورث داود الطائي من أبيه عشرين ديناراً فأكلها في عشرين سنة، كل سنة ديناراً منه يصل ومنه يتصدق، وورث بيتاً فكان يكون فيه لا يعمره، كلما خربت ناحية تركها وتحول إلى ناحية أخرى فخرب كله إلا زاوية منه كان يكون فيها.
محمد بن إسحاق قال: سمعت محمد بن زكريا يقول: سمعت بعض أصحابنا قال: ورث داود الطائي من مولاة له عشرين ديناراً كفته عشرين سنة.(2/80)
عن عبد الله بن صالح قال: قال داود الطائي: يا بن آدم فرحت ببلوغ أملك وإنما بلغته بانقضاء مدة أجلك ثم سوفت بعملك كأن منفعته لغيرك.
عن قبيصة قال: حدثني صاحب لنا أن امرأة من أهل داود الطائي صنعت ثريدة بسمن ثم بعثت بها إلى داود حين إفطاره مع جارية لها، قالت الجارية: فأتيته بالقصعة فوضعتها بين يديه فسعى ليأكل منها، فجاء سائل فقام إليه فدفعها إليه وجلس معه على الباب حتى أكلها. ثم دخل فغسل القصعة ثم عمد إلى تمر كان بين يديه، قالت الجارية ظننت أنه كان أعده لعشائه، ودفعه إلي وقال: أقرئيها السلام، قالت الجارية: دفع إلى السائل ما جئناه به ودفع إلينا ما أراد أن يفطر عليه. قالت: وأظنه ما بات إلا طاوياً. قال قبيصة: فكنت أراه قد نحل جداً.
ابن زبان قال: قالت داية داود الطائي: يا أبا سليمان أما تشتهي الخبز؟ قال: يا داية بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية.
عبد الله بن صالح بن مسلم العجلي قال: دخلت على داود الطائي في مرضه الذي مات فيه ليس في بيته إلا دن مقير يكون فيه خبز يابس ومطهرة ولبنة كبيرة على التراب يجعلها وسادة وهي مخدته ليس في بيته بوري ولا قليل ولا كثير.
محمد بن بشير قال: قال حماد لداود الطائي: يا أبا سليمان لقد رضيت من الدنيا باليسير. قال: أفلا أدلك على من رضي بأقل من ذلك؟ من رضي بالدنيا كلها عوضاً عن الآخرة، أبو محمد العابد قال: دخل أبو يوسف على داود الطائي فقال له: ما رأيت أحداً رضي من الدنيا بمثل ما رضيت به فقال: يا يعقوب من رضي الدنيا كلها عوضاً عن الآخرة فذاك الذي رضي بأقل مما رضيت.
الحارث بن إدريس قال: قلت لداود الطائي: أوصني؟ فقال: عسكر الموتى ينتظرونك.
إسحاق بن منصور السلولي قال: حدثتني أم سعيد بن علقمة النخعي وكانت طائية، قالت: كان بيننا وبين داود الطائي حائط قصير فكنت أسمع حسه عامة الليل لا يهدأ، قالت: وربما سمعته في جوف الليل يقول: اللهم همك عطل علي الهموم، وحالف بيني وبين السهاد، وشوقي إلى النظر إليك، أوثق مني وحال بيني وبين اللذات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب، قالت: وربما ترنم بالآية فأرى أن جميع نعيم الدنيا جمع في ترنمه.
ابن السماك قال: أوصاني أخي داود الطائي بوصية: انظر لا يراك الله حيث نهاك وأن لا يفقدك من حيث أمرك، واستحيه في قربه منك وقدرته عليك.(2/81)
محمد بن إشكاب قال: قال داود الطائي: اليأس سبيل أعمالنا هذه، لكن القلوب تجر إلى الرجاء، عن الحماني قال: قلت لداود الطائي: ما ترى في الرمي فإني أحب أن أتعلمه؟ فقال: إن الرمي لحسن، ولكن إنما هي أيامك فانظر بما تقطعها.
أبو بكر محمد بن أبي داود قال: سمعت شيدويه يقول لداود الطائي: أرأيت رجلاً دخل على هؤلاء الأمراء فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر؟ قال: أخاف عليه السوط قال: إنه يقوى قال: أخاف عليه السيف. قال: إنه يقوى، قال: أخاف عليه الداء الدفين العجب.
عن أبي نعيم قال: رأيت داود الطائي تدور في وجهه نملة عرضاً وطولاً لا يفطن بها. يعني من الهم.
أبو سعيد قال: حدثني سهل بن بكار قال: قالت أخت لداود الطائي: لو تنحيت من الشمس إلى الظل. فقال: هذه خطى لا أدري كيف تكتب.
عباس الترقفي قال: سمعت معاوية بن عمرو يقول: كنا عند داود الطائي يوماً، فدخلت الشمس من الكوة فقال له بعض من حضر: لو أذنت لي سددت هذه الكوة. فقال: كانوا يكرهون فضول النظر. وكنا عنده يوماً آخر فإذا بفروه قد تخرق وخرج خمله. فقال له بعض من حضر: لو أذنت لي خيطته فقال: كانوا يكرهون فضول الكلام.
أبو سعيد السكري قال: احتجم داود الطائي فدفع إلى الحجام دينارا فقيل له: هذا إسراف فقال: لا عبادة لمن لا مروءة له.
أبو داود الطيالسي قال: حضرت داود عند الموت فما رأيت أشد نزعاً منه، أتيناه من العشي ونحن نسمع نزعه قبل أن ندخل، ثم غدونا إليه وهو في النزع فلم نبرح حتى مات.
حفص بن عمر الجعفي قال: اشتكى داود الطائي أياماً وكان سبب علته أنه مر بآية فيها ذكر النار فكررها مراراً في ليلته فأصبح مريضاً. فوجده قد مات ورأسه على لبنة.
قال ابن السماك، حين مات داود الطائي: يا أيها الناس إن أهل الدنيا تعجلوا غموم القلب وهموم النفس وتعب الأبدان مع شدة الحساب، فالرغبة متعبة لأهلها في الدنيا والآخرة، والزهادة راحة لأهلها في الدنيا والآخرة، وإن داود الطائي نظر بقلبه إلى ما بين يديه فأغشى بصر قلبه بصر العيون فكأنه لم يبصر ما إليه تنظرون، وكأنكم لا تبصرون ما إليه ينظر. فإنكم منه تعجبون وهو منكم يتعجب، فلما نظر إليكم راغبين مغرورين قد ذهبت على الدنيا عقولكم(2/82)
وماتت من حبها قلوبكم وعشقتها أنفسكم وامتدت إليها أبصاركم استوحش الزاهد منكم لأنه كان حياً وسط موتى، يا داود ما أعجب شأنك ألزمت نفسك الصمت حتى قومتها على العدل، أهنتها وإنما تريد كرامتها وأذللتها وإنما تريد إعزازها، ووضعتها وإنما تريد تشريفها وأتعبتها وإنما تريد راحتها، وأجعتها وإنما تريد شبعها، وأظمأتها وإنما تريد ريها، وخشنت الملبس وإنما تريد لينه وجشبت المطعم وإنما تريد طيبه، وأمت نفسك قبل أن تموت، وقبرتها قبل أن تقبر، وعذبتها قبل أن تعذب، وغيبتها عن الناس كي لا تذكر، وغبت بنفسك عن الدنيا إلى الآخرة، فما أظنك إلا قد ظفرت بما طلبت. كأن سيماك في عملك وسرك ولم يكن سيماك في وجهك فقهت في دينك ثم الناس يفتون، وسمعت الأحاديث ثم تركت الناس يحدثون ويروون، وخرست عن القول وتركت الناس ينطقون، لا تحسد الأخيار ولا تعيب الأشرار ولا تقبل من السلطان عطية ولا من الأخوان هدية.
آنس ما تكون آنس ما تكون إذا كنت بالله خالياً، وأوحش ما تكون إذا كنت مع الناس جالساً فأوحش ما تكون آنس ما يكون الناس، وآنس ما تكون أوحش ما يكون الناس جاوزت حد المسافرين في أسفارهم، وجاوزت حد المسجونين في سجونهم، فأما المسافرون فيحملون من الطعام والحلاوة ما يأكلون، فأما أنت فإنما هي خبزتك أو خبزتان في شهرك، ترمي بها في دن عندك فإذا أفطرت أخذت منه حاجتك فجعلته في مطهرتك ثم صببت عليه من الماء ما يكفيك، ثم اصطنعت به ملحاً فهذا إدامك وحلواك، فمن سمع بمثلك صبر صبرك أو عزم عزمك، وما أظنك إلا قد لحقت بالماضين، وما أظنك إلا قد فضلت الآخرين ولا أحسبك إلا قد أتعبت العابدين، وأما المسجون فيكون مع الناس محبوساً فيأنس بهم وأما أنت فسجنت نفسك في بيتك وحدك فلا محدث وجليس معك، ولا أدري أي الأمور أشد عليك، الخلوة في بيتك تمر بك الشهور والسنون أم تركك المطاعم والمشارب، لا ستر على بابك، ولا فراش تحتك، ولا قلة يبرد فيها ماؤك، ولا قصعة يكون فيها غداؤك وعشاؤك؟ مطهرتك قلتك وقصعتك تورك وكل أمرك يا داود عجب. أما كنت تشتهي من الماء بارده ولا من الطعام طيبه ولا من اللباس لينه؟ بلى، ولكنك زهدت فيه لما بين يديك فما أصغر ما بذلت، وما أحقر ما تركت، وما أيسر ما فعلت في جنب ما أملت، أما أنت فقد ظفرت بروح العاجل وسعدت إن شاء الله في الآجل، عزلت الشهرة عنك في حياتك لكي لا يدخلك عجبها ولا يلحقك فتنتها فلما مت(2/83)
شهرك ربك بموتك وألبسك رداء عملك، فلو رأيت اليوم كثرة تعبك عرفت أن ربك قد أكرمك.
إسحاق بن منصور قال: لما مات داود الطائي شيع الناس جنازته. فلما دفن قام ابن السماك على قبره فقال: يا داود كنت تسهر ليلك إذ الناس نائمون، قال: وكنت تسلم إذ الناس يخوضون، وكنت تربح إذ الناس يخسرون فقال الناس جميعاً: صدقت حتى عدد فضائله كلها، فلما فرغ، قام أبو بكر النهشلي فحمد الله ثم قال: يا رب إن الناس قد قالوا ما عندهم ومبلغ ما علموا، اللهم اغفر له برحمتك ولا تكله إلى عمله.
قال المؤلف: أسند داود عن جماعة من التابعين منهم عبد الملك بن عمير، وحبيب بن أبي عمرة، والأعمش، وحميد الطويل، وإسماعيل بن أبي خالد. وتوفي في سنة خمس وستين ومائة في خلافة المهدي.(2/84)
ومن الطبقة السادسة:
443 - سفيان بن سعيد الثوري
عبد الله بن محمد بن أيوف المخرمي قال: سمعت يزيد بن هارون يقول: أخذ العلم عن سفيان الثوري وهو ابن ثلاثين سنة.
يزيد بن عبد الرحمن بن مصعب قال: سمعت أبي يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: لو لم أعلم لكان أقل لحزني.
عن محمد بن يوسف الفريابي قال: قلت لسفيان الثوري: أرى الناس يقولون سفيان الثوري، وأنت تنام الليل. فقال لي: اسكت، ملاك هذا الأمر التقوى.
يحيى بن أيوب المقابري قال: سمعت علي بن ثابت يقول: رأيت الثوري في طريق مكة فقومت كل شيء عليه، حتى نعليه: درهماً وأربعة دوانق.
يحيى بن أيوب قال: سمعت علي بن ثابت قال: لو لقيت سفيان في طريق مكة ومعك فلسان تريد أن تتصدق بهما وأنت لا تعرف سفيان ظننت أنك ستضعهما في يده. وما رأيت سفيان في صدر المجلس قط، إنما كان يقعد إلى جانب الحائط ويستند إلى الحائط ويجمع بين ركبتيه، عن علي بن عثام بن علي قال: سمعت أبي قال: سمعت سفيان الثوري يقول: لقد خفت الله خوفاً عجباً لي، كيف لا أموت لكن لي أجل أنا بالغه، ولقد خفت الله خوفاً وددت أنه خفف عني منه ما أخاف أن يذهب عقلي.
عبد الرحمن بن عبد الله قال: قال سفيان إني لأضع يدي على رأسي من الليل إذا سمعت صيحة فأقول: قد جاءنا العذاب.
عن عبثر قال: قام سفيان يصلي قبل الزوال فمر بهذه الآية: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ، فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} فخرج ناداً فما لحقوه إلا في الحمراء فردوه.
قال السني: وقال عمرو العتابي، عن سفيان: ما من موطن من المواطن أشد علي من سكرة الموت أخاف أن يشدد علي، فاسأل التخفيف فلا أجاب فأفتتن.
__________
443 - هو: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ فقيه عابد إمام حجة، من رءوس الطبقة السابعة، وكان ربما دلس، مات سنة إحدى وستين وله أربع وستون.(2/85)
يوسف بن أسباط قال: قال لي سفيان، وقد صلينا العشاء الآخرة ناولني المطهرة فناولته فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده. ونمت فاستيقظت وقد طلع الفجر فنظرت فإذا المطهرة بيمينه ويساره على خده، فقلت: يا أبا عبد الله هذا الفجر قد طلع. قال: لم أزل منذ ناولتني هذه المطهر أتفكر في أمر الآخرة حتى الساعة.
قال يوسف بن أسباط: كان سفيان الثوري إذا أخذ في الفكر بال الدم.
أبو يزيد محمد بن حسان قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: ما عاشرت في الناس رجلاً أرق من سفيان، وكنت أرمقه الليلة بعد الليلة فما كان ينام إلا أول الليل ثم ينتفض فزعاً مرعوباً ينادي: النار النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، ثم يتوضأ ويقول على إثر وضوئه: اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلم، وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار، إلهي: إن الجزع قد أرقني وذلك من نعمتك السابغة علي، إلهي: لو كان لي عذر في التخلي ما أقمت مع الناس طرفة عين ثم يقبل على صلاته. وكان البكاء يمنعه من القراءة حتى إن كنت لا أستطيع سماع قراءته من كثرة بكائه. وما كنت أقدر أن أنظر إليه استحياء وهيبة منه.
إسحاق بن إبراهيم الحنيني قال: كنا في مجلس الثوري وهو يسأل رجلاً عما يصنع في ليله فيخبره، حتى دار على القوم فقالوا: يا أبا عبد الله قد سألتنا فأخبرناك، فأخبرنا أنت كيف تصنع في ليلك؟ فقال: لها عندي أول الليل نومة تنام ما شاءت لا أمنعها إذا استيقظت فلا أقيلها والله.
صالح بن خليفة الكوفي قال: سمعت سفيان الثوري يقول: إن فجار القراء اتخذوا القرآن إلى الدنيا سلماً. قالوا: ندخل على الأمراء نفرج عن المكروب ونتكلم في محبوس.
علي بن حمزة ابن أخت سفيان قال: ذهبت ببول سفيان إلى الديراني وكان لا يخرج من باب الدير فأريته فقال: ليس هذا بول حنيفي. قلت: بلى والله من أفضلهم. فقال: أنا أجيء معك. فقلت لسفيان: قد جاء بنفسه. فقال: أدخله. فأدخلته فمس وجس عرقه ثم خرج. فقلت: أي شيء رأيت؟ قال: ما ظننت أن في الحنيفية مثل هذا، هذا رجل قد قطع الحزن كبده.(2/86)
عبد الرحمن بن مهدي قال: بات سفيان عندي فلما اشتد به الأمر جعل يبكي، فقال له رجل: يا أبا عبد الله أراك كثير الذنوب. فرفع شيئاً من الأرض فقال: والله لذنوبي أهون عندي من ذا، إني أخاف أن أسلب الإيمان قبل أن أموت.
عبد الرحمن بن مهدي قال ليلة مات سفيان: توضأ تلك الليلة للصلاة ستين مرة فلما كان وجه السحر قال لي: يا ابن مهدي ضع خدي بالأرض فإني ميت يا ابن مهدي ما أشد الموت ما أشد كرب الموت. قال: فخرجت لأعلم حماد بن زيد وأصحابه فإذا هم قد استقبلوني فقالوا: آجرك الله. فقلت: من أين علمتم ذلك؟ فقالوا: إنه ما منا أحد إلا أتي البارحة في منامه فقيل له: ألا إن سفيان الثوري قد مات، رحمه الله.
عن أبي أبجر قال: لما حضرت سفيان الوفاة قال: يا ابن أبجر قد نزل ما بي ما قد ترى فانظر من يحضرني، فأتيتهم بقوم فيهم حماد بن سلمة، وكان حماد من أقربهم إلى رأسه. قال: فتنفس سفيان فقال له حماد أبشر فقد نجوت مما كنت تخاف. وتقدم على رب كريم قال: فقال: يا أبا سلمة أترى الله أن يغفر لمثلي؟ قال: إي والله الذي لا إله إلا هو: قال: فكأنما سري عنه.
عن عبد الرحمن بن مهدي قال: رأيت سفيان الثوري في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: لم يكن إلا أن وضعت في اللحد حتى وقفت بين يدي الله عز وجل فحاسبني حساباً يسيراً ثم أمر بي إلى الجنة، فبينا أنا أدور بين أشجارها وأنهارها ولا أسمع حساً ولا حركة، إذ سمعت قائلاً يقول: سفيان بن سعيد. قال: تحفظ أنك آثرت الله على هواك يوماً، قلت: إي والله. فأخذتني صواني النثار من جميع الجنة.
قال المؤلف: أدرك سفيان الثوري جماعة من كبار التابعين، وروى عن الأعمش، ومنصور، ومحمد بن المنكدر، وعبد الله بن دينار، وعمرو بن دينار، في خلق لا يحصون. ومسانيده أكثر من أن تعد، وكان مولده في سنة سبع وتسعين في خلافة سليمان بن عبد الملك. وتوفي في سنة إحدى وستين ومائة. وكان مستخفياً بالبصرة في خلافة المهدي. وكلامه وأخباره كثيرة وإنما اقتصرنا ها هنا على ما ذكرنا منها لأننا قد جمعناها في كتاب يزيد على ثلاثين جزءاً، فكرهنا الإعادة في التصانيف. والله الموفق.(2/87)
444 - أسيد بن صلهب
عن الحسن بن صالح قال: قال أسيد بن صهلب: إن كنت لأدعو فتصرع لاطير حولي. قال الحسن: لولا أنه قد مات ما حدثت به عنه.(2/88)
445، 446 - علي والحسن ابنا صالح بن حي
قال محمد بن سعد: اسم صالح: حي، وهو صالح بن صالح، والد علي والحسن توأما في بطن واحد، وكان علي تقدمه بساعة. فكان الحسن يعظمه ويقول: قال أبو محمد.
عبد الله بن هاشم الطوسي قال: سمعت وكيع بن الجراح يقول: كان علي والحسن - إبنا صالح بن حي - وأمهم قد جزؤوا اليل ثلاثة أجزاء، فكان علي يقوم الثلث ثم ينام، ويقوم الحسن الثلث ثم ينام، وتقوم أمهما الثلث. فماتت أمهما. فجزءا الليل بينهما، فكانا يقومان به حتى الصباح ثم مات علي فقام الحسن به كله.
وقد روي لنا عن محمد بن صالح العجلي عن أبيه قال: كان يختم القرآن في بيتهم كل ليلة: أمهم ثلث وعلي ثلث وحسن ثلث، فماتت أمهما فكانا يختمانه. ثم مات علي فكان حسن يختم كل ليلة.
يحيى بن آدم قال: قال الحسن بن حي: قال لي أخي علي في الليلة التي توفي فيها: أخي اسقني ماء. وكنت قائماً أصلي. فلما قضيت صلاتي أتيته بماء فقلت: يا أخي. فقال: لبيك. فقلت هذا ماء. قال: قد شربت الساعة. قلت: ومن سقاك وليس في الغرفة غيري وغيرك؟ قال: أتاني جبريل الساعة بماء فسقاني وقال لي: أنت وأخوك وأبوك من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وخرجت روحه.
عن عبد الرحمن بن مطرف قال: كان الحسن بن حي إذا أراد أن يعظ أخا له كتبه في لوح وناوله.
عبد القدوس بن بكر بن خنيس قال: كان الحسن بن صالح وأخوه علي وكان علي يفضل عليه وكانا وأمهما يتعاونون على العبادة بالليل لا ينامون وبالنهار لا يفطرون. فلما ماتت أمهما تعاونا على القيام والصيام عنهما وعن أمهما. فلما مات علي قام الحسن عن نفسه وعنهما. وكان يقال للحسن: حية الوادي، يعني أنه لا ينام بالليل. وكان يقول: إني لأستحيي من الله تعالى أن أنام تكلفاً حتى يكون النوم هو الذي يصرعني وإذا نمت ثم استيقظت ثم عدت نائماً فلا أرقد الله عيني. وكان لا يقبل من أحد شيئاً فيجيء إليه صبية وهو في المسجد فيقول: أنا جائع(2/88)
فيعلله بشيء حتى تذهب الخادم إلى السوق فتبيع ما غزلت هي ومولاتها من الليل، ثم تشتري قطناً وتشتري شيئاً من الشعير فتجيء به فتطحنه ثم تعجنه فتخبز ما يأكل الصبيان والخادم وترفع له ولأهله لإفطارهما. فلم يزل على ذلك حتى مات رحمه الله.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الدراني يقول: ما رأيت أحداً الخوف أظهر على وجهه والخشوع من الحسن بن حي قام ليلة حتى الصباح بعم يتساءلون بآية فيها ثم غشي عليه ثم عاد إليها فغشي عليه فلم يختمها حتى طلع الفجر.
عباد أبو عقبة قال: بعنا جارية للحسن بن صالح فقال: أخبروهم أنها تنخمت عندنا مرة دماً.
قال الحجاج: وسمعت أبا نعيم يقول: قال الحسن بن صالح: فتشنا الورع فلم نجده في شيء أقل منه في اللسان.
سليمان بن إدريس المنقري قال: اشتهى الحسن بن حي سمكاً فلما أتي به ضرب بيده إلى سرة السمكة فاضطربت يده وأمر به فرفع ولم يأكل منه شيئاً. فقيل له في ذلك فقال: إني ذكرت لما ضربت بيدي إلى بطنها أن أول ما ينتن من الإنسان بطنه فلم أقدر أن أذوقه.
عبد الله بن صالح قال: حدثني خلف بن تميم أن حسن بن صالح كان يصلي إلى السحر ثم يجلس فيبكي في مصلاه ويجلي علي فيبكي معه في حجرته. قال: وكانت أمهما تبكي الليل والنهار. قال: فماتت. ثم مات علي. ثم مات حسن قال: فرأيت حسناً في منامي فقلت: ما فعلت الوالدة؟ قال: بدلت بطول ذلك البكاء سرور الأبد. قلت: وعلي؟ قال: وعلي على خير. قلت: فأنت؟ فمضى وهو يقول: وهل نتكل إلا على عفوه؟.
عبيد الله بن موسى قال: كان حسن بن صالح إذا صعد إلى المنارة أشرف على المقابر فإذا نظر إلى الشمس تحوم على القبور صرخ حتى يحمل مغشياً عليه فينزل به.
قال أبو محمد: ورأيت الحسن ذات يوم شهد جنازة فلما قرب الميت ليدفن نظر إلى اللحد فارفض عرقاً. ثم قال: فغشي عليه فحمل على السرير الذي كان عليه الميت فرد إلى منزله.
إسحاق بن منصور السلولي قال: نظر حسن إلى المقابر وهو قائم يؤذن فصرخ وقطع أذانه وسقط مغشياً عليه.(2/89)
قال: حدثني رجل من جيرانه أنه قال: كنا نسمع صراخه ونحيبه إذا صعد إلى الأذان كما نسمع صراخ أهل المصيبة. وقال: وكثيراً ما كان يغشى عليه حتى يؤذن غيره.
قال المؤلف: أسند علي وحسن عن جماعة من التابعين وحديث الحسن أكثر.
حنبل قال: سمعت أبا نعيم يقول: مات علي بن صالح سنة أربع وخمسين. ومات أخوه الحسن بعده بثلاث عشرة سنة.
قال حنبل: وقال يحيى بن معين: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ولد الحسن بن صالح سنة مائة وقال مات سنة تسع وستين ومائة.(2/90)
447 - حمزة بن عمارة الزيات
يكنى أبا عمارة مولى آل عكرمة بن ربعي التميمي. وكان يجلب الزيت من الكوفة إلى حلوان. ويجلب الجبن والجوز إلى الكوفة. وكان صاحب قرآن وسنة وفرائض.
أبو المنذر يعلى بن عقيل قال: كان الأعمش إذا رأى حمزة قد أقبل قال: هذا حبر القرآن.
جرير بن عبد الحميد قال: مر بنا حمزة الزيات فاستسقى فأتيته بماء فقال: أن ممن يحضرنا في القراءة؟ قلت نعم. قال: لا حاجة لي في مائك.
خلف بن هشام البزاز قال: قال لي سليم بن عيسى: دخلت على حمزة بن حبيب الزيات فوجدته يمرغ خديه في الأرض ويبكي. فقلت: أعيذك بالله. فقال: لماذا استعذت؟ رأيت البارحة في منامي كأن القيامة قد قامت وقد دعي بقراء القرآن، فكنت فيمت حضر فسمعت قائلاً يقول بكلام عذب: لا يدخل علي إلا من عمل بالقرآن. فرجعت القهقرى فهتف باسمي: أين حمزة بن حبيب الزيات؟ فقلت: لبيك داعي الله. فبدرني ملك فقال: قل: لبيك اللهم،
__________
447 - هو: حمزة بن حبيب الزيات، القارئ، أبو عمارة، الكوفي، التيمي مولاهم، صدوق زاهد ربما وهم، من السابعة، مات سنة ست أو ثمان وخمسين، وكان مولده سنة ثمانين.
قال الشيخ شعيب: بل ثقة، وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والعجلي وابن حبان، ويعقوب بن سفيان المعرفة: 3/180 وإنما ذمه بعضهم بسبب قراءات نقلت عنه، لكن قال شمس الدين ابن الجزري في غاية النهاية وهو ما هو في هذا الفن: كان إماما حجة ثقة ثبتا رضيا قيما بكتاب الله، بصيرا بالفرائض عارفا بالعربية، حافظا للحديث، عابدا خاشعا، زاهدا ورعا، قانتا لله، عديم النظير التحرير 1/322.(2/90)
فقلت: لبيك، كما قال لي. فأدخلني داراً فسمعت فيها ضجيج القرآن فوقفت أرعد فسمعت قائلاً يقول: لا بأس عليك ارق واقرأ فأدرت وجهي فإذا أنا بمنبر من در أبيض، دفتاه من ياقوت أصفر، مراقيه من زبرجد أخضر فقال لي: ارق واقرأ فرقيت فقال لي: اقرأ سورة الأنعام، فقرأت وأنا لا أدري على من أقرأ. حتى بلغت الستين آية فلما بلغت {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} قال لي: يا حمزة ألست القاهر فوق عبادي؟ فقلت: بلى. قال: صدقت، اقرأ. فقرأت حتى ختمتها ثم قال لي: اقرأ فقرأت الأعراف حتى بلغت آخرها فأومأت إلى الأرض بالسجود فقال لي: حسبك ما مضى، لا تسجد يا حمزة. من أقرأك هذه القراءة؟ فقلت: سليمان. قال: صدقت من أقرأ سليمان؟ قلت: يحيى. قال: صدق يحيى على من قرأ يحيى؟ فقلت: على أبي عبد الرحمن السلمي. قال: صدق أبو عبد الرحمن السلمي، من أقرأ أبا عبد الرحمن؟ فقلت: ابن عم نبيك علي. فقال: صدق علي، فمن أقرأ علياً؟ قلت: نبيك محمد صلى الله عليه وسلم. قال: ومن أقرأ نبيي؟ قال: قلت: جبريل عليه السلام. قال: ومن أقرأ جبريل؟ قال: فسكت. فقال لي: يا حمزة قل أنت. قال: فقلت: ما أجسر أن أقول. فقال: فقلت: أنت. قال: صدقت يا حمزة وحق القرآن لأكرمن أهل القرآن لا سيما إذا عملوا بالقرآن، يا حمزة القرآن كلامي وما أحب أحداً كحبي أهل القرآن. ادن يا حمزة فدنوت فضمخني بالغالية وقال: ليس أفعل بك وحدك، قد فعلت ذاك بنظرائك ممن فوقك ومن دونك. ومن أقرأ القرآن كما أقرته لم يرد بذلك غيري وما خبأت لك يا حمزة عندي أكثر فأعلم أصحابك بمكاني من حبي لأهل القرآن وفعلي بهم فهم المصطفون الأخيار، يا حمزة وعزتي وجلالي لا أعذب لساناً تلا القرآن بالنار، ولا قلباً وعاه، ولا أذناً سمعته، ولا عيناً نظرته.
فقلت: سبحانك سبحانك وأنى ترى؟ فقال: يا حمزة أين نظار المصاحف؟ فقلت: يا رب أفحفاظ هم؟ قال: لا ولكني أحفظه لهم حتى يوم القيامة فإذا لقوني رفعت لهم بكل آية درجة - أفتلومني أن أبكي وأتمرغ في التراب.
قال المؤلف: أسند حمزة عن الأعمش وحمران بن أعين، وسمع منه وكيع وتوفي بحلوان سنة ست وخمسين ومائة.
أبو مسحل قال: رأيت الكسائي في النوم كأن وجهه البدر فقلت: ما فعل الله بك؟ قال:(2/91)
غفر لي بالقرآن. فقلت: ما فعل بحمزة الزيات؟ قال: ذاك في عليين، ما نراه إلا كما يرى الكوكب الدري.(2/92)
448 - محمد بن النضر الحارثي
يكنى أبا عبد الرحمن.
أبو أسامة قال: كان محمد بن النضر من أعبد أهل الكوفة.
الحسن بن الربيع قال: سمعت عبثراً أبا أبا أبا يزيد يقول: اختفى عندي محمد بن النضر من يعقوب بن داود في هذه العلية لعلية على باب داره أربعين ليلة. فما رأيته نائماً ليلاً ولا نهاراً.
الحسن بن الربيع قال: سمعت ابن المبارك يقول: كنت مع محمد بن النضر في سفينة فقلت: بأي شيء أستخرج منه الكلام؟ فقلت: ما تقول في الصوم في السفينة؟ فقال: إنما هي المبادرة. قال: فجاء بفتوى غيره، فتوى النخعي والشعبي.
عن أبي أسامة قال: قلت لمحمد بن النضر: كأنك تكره أن تزار؟ فقال: أجل. قلت: أما تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني.
خالد بن يزيد قال: سمعت محمد بن النضر يقول: شغل الموت قلوب المتقين عن الدنيا، والله ما رجعوا منها إلى سرور بعد معرفتهم بكربه وغصصه.
المبارك قال: كان محمد بن النضر إذا ذكر الموت اضطربت مفاصله حتى تبين الرعدة فيها.
الحسن بن الربيع قال: حدثني رجل من ولد الزبير بن العوام قال: صحبت محمد بن النضر من عبادان إلى الكوفة فما سمعته يتكلم بكلمة حتى افترقنا.
جرير بن زياد الحارثي قال: كنت مسافراً مع محمد بن النضر إلى مكة، وكان إذا قيل له: الرحيل، تقدم على رأس ميلين فلا يزال يصلي حتى إذا سمع حس الإبل تقدم أيضاً فلا يزال كذلك حتى يصلي العصر ثم يركب.
أبو مريم قال: سمعت محمد بن صبيح يقول: قال محمد بن النضر الحارثي: كان يقال: الجوع يبعث على البر كما تبعث البطنة على الأِشر.
__________
448 - هو: محمد بن النضر، أبو عبد الرحمن الحارثي، الكوفي، عابد أهل زمانه بالكوفة، انظر سير أعلام النبلاء 7/463.(2/92)
قال المصنف: كان محمد بن النضر مشغولاً بالعبادة عن الرواية وقد أرسل الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصلها.(2/93)
449 - وراد العجلي
عمرو بن حفص بن غياث، عن أبيه قال: كنا ذات يوم عند ابن ذر وهو يتكلم فذكر رواجف القيامة وزلزالها. فوثب رجل من بني عجل، يقال له وراد، فجعل يبكي ويصرخ ويضطرب فحمل من بين القوم صريعاً: فقال ابن ذر: ما الذي قصر بنا وكلم قلبه حتى أبكاه؟ والله إن هذا يا أخا بني عجل إلا من صفاء قلبك وتراكم الذنوب على قلوبنا.
قال عمر: قال أبي: وكنت أرى وراداً هذا العجلي يأتي إلى المسجد مقنع الرأس فيعتزل ناحية فلا يزال مصلياً وباكياً وداعياً ما شاء الله من النهار ثم يخرج فيعود فيصلي الظهر، فهو كذلك بين صلاة وبكاء حتى يصلي العشاء ثم يخرج لا يكلم أحداً ولا يجلس إلى أحد، فسألت عنه رجلاً من حيه ووصفته له قلت: شاب من صفته، من هيئته. فقال: بخ يا أبا عمر، أتدري عمن تسأل؟ ذاك وراد العجلي، ذاك الذي عاهد الله ألا يضحك حتى ينظر إلى وجه رب العالمين. قال أبي: وكنت إذا رأيته بعد هبته.
قال عمر: وحدثني سكين بن مسكين، رجل من بني عجل، قال: كان بيننا وبين ورادقرابة، فسألت أختاً كانت له أصغر منه فقلت: كيف كان ليله؟ قالت: يبكي عامة الليل ويصرخ. قلت: فما كان طعمه؟ قالت: قرصاً في أول الليل وقرصاً في آخره، عند السحر. قلت: فتحفظين من دعائه شيئاً؟ قالت: نعم، كان إذا كان السحر أو قريب من طلوع الفجر سجد ثم بكى ثم قال: مولاي عبدك يحب الاتصال بطاعتك فأعنه عليها بتوفيقك يا أيها المنال، مولاي عبدك يحب اجتناب سخطك فأعنه على ذلك بمنك أيها المنان، مولاي عبدك عظيم الرجاء لخيرك فلا تقطع رجاءه يوم يفرح الفائزون.
قالت: فلا يزال على هذا ونحوه حتى يصبح.
قال: وكان قد كل من الاجتهاد جداً وتغير لونه.
قال سكين: فلما مات وراد فحمل إلى حفرته نزلوا إليه ليدفنوه في حفرته فإذا اللحد مفروش بالريحان، فأخذ بعض القوم الذين نزلوا إلى القبر من ذلك الريحان شيئاً فمكث سبعين يوماً طرياً لا يتغير. يغدو الناس ويروحون وينظرون إليه: قال: فكثر الناس من ذلك حتى خاف(2/93)
الأمير أن يفتتن الناس، فأرسل إلى الرجل فأخذ ذلك الريحان وفرق الناس.
قال: وفقده الأمير من منزله لا يدري كيف ذهب؟(2/94)
450 - أسيد الضبي
عبد الرحمن بن مالك بن مغول قال: بكى أسيد الضبي حتى عمي، وكان إذا عوتب على البكاء قال: الآن حين لا أهدأ وأنا أموت غداً؟ والله لأبكين ثم لأبكين ثم لأبكين، فإن أدركت بالبكاء خيراً فبمن الله وفضله علي، وإن تكن الأخرى فما بكائي في جنب ما ألقى غداً؟ قال: فكان ربما بكى حتى يتأذى به جيرانه من كثرة بكائه.(2/94)
ومن الطبقة السابعة
بو بكر بن عياش
...
ومن الطبقة السابعة "من أهل الكوفة":
451 - أبو بكر بن عياش
مولى واصل من بن حيان الأحدب الأسدي، وقد اختلفوا في اسمه: فقيل شعبة. وقبل محمد. وقيل مطرف. والصحيح أنه لا يعرف إلا بكنيته.
رستم بن أسامة قال: حدثني إبراهيم بن رستم الخياط، عن أبي بكر بن عياش قال: قال لي رجل مرة وأنا شاب. خلص رقبتك ما استطعت في الدنيا من رق الآخرة، فإن أسير الآخرة غير مفكوك أبداً. قال أبو بكر: فما نسيتها أبداً.
يحيى الحماني قال: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: أتيت زمزم فاستسقيت منها عسلاً وأتيتها فاستسقيت منها لبناً وأتيتها فاستسقيت منها ماء.
دلويه قال: سمعت علياً، يعني ابن محمد ابن أخت يعلى بن عبيد، يقول: مكث أبو بكر بن عياش عشرين سنة قد نزل الماء في إحدى عينيه ما يعلم به أهله، محمد بن الحجاج بن جعفر بن إياس بن نذير الضبي قال: كان أبو بكر بن عياش يقوم الليل في قباء صوف وسراويل وعكازة يضعها في صدره فيتكئ عليها حين كبر فيحيي ليلته.
الحسين بن إدريس قال: قال ابن عمار: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: صمت ثمانين رمضاناً.
إسحاق بن الحسين قال: كان أبو بكر بن عياش لما كبر يأخذ إفطاره ثم يغمسه في الماء في جر كان له في بيت مظلم، ثم يقول: يا ملائكتي طالب صحبتي لكما، فإن كان لكما عند الله شفاعة فاشفعا لي.
عن أبي هشام الرفاعي قال: سمعت أبا بكر بن عياش يقول لي: غرفة قد عجزت عن الصعود إليها وما يمنعني من النزول منها إلا أني أختم القرآن كل يوم وليلة منذ ستون سنة.
__________
451 - هو: أبو بكر بن عياش - بتحتانية ومعجمة - ابن سالم الأسدي الكوفي المقرئ، الحناط، بمهملة ونون - مشهور بكنيته - والأصح أنها اسمه، وقيل اسمه محمد، أو عبد الله أو سالم أو شعبة، أو رؤبة، أو مسلم، أو خداش، أو مطرف، أو حماد، أو حبيب، عشرة أقوال، ثقة عابد إلا أنه لما كبر ساء حفظه وكتابه صحيح، من السابعة، مات سنة أربع وتسعين، وقيل: قبل ذلك بسنة أو سنتين، وقد قارب المائة، وروايته في مقدمة مسلم.(2/95)
أحمد بن نصر قال: سمعت إبراهيم بن رستم يقول: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: من لم يطلب العلم لم يرزق عقلاً.
يزيد بن هارون وذكر عنده أبو بكر بن عياش فقال: كان أبو بكر بن عياش خيراً فاضلاً لم يضع جنبه إلى الأرض أربعين سنة.
أبو عيسى النخعي قال: لم يفرش لأبي بكر بن عياش فراش خمسين سنة.
أحمد بن محمد بن مسروق قال: سمعت الحماني يقول: لما حضرت أبا بكر بن عياش الوفاة بكت أخته فقال لها: ما يبكيك؟ انظري إلى تلك الزاوية التي في البيت قد ختم أخوك في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة.
إبراهيم بن أبي بكر بن عياش قال: بكيت عند أبي حين حضرته الوفاة فقال: ما يبكيك؟ أترى الله يضيع لأبيك أربعين سنة، يختم القرآن كل ليلة؟
الهيثم بن خارجة قال: رأيت أبا بكر بن عياش في النوم، قدامه طبق رطب مسكر. فقلت له: يا أبا بكر ألا تدعونا وقد كنت سخياً على الطعام؟ فقال لي: يا هيثم هذا طعام أهل الجنة لا يأكله أهل الدنيا. قال قلت: وبم نلت؟ قال تسألني عن هذا وقد مضت علي ست وثمانون سنة أختم في كل ليلة منها القرآن؟
أسند أبو بكر بن عياش عن الأعمش ومن في طبقته، وتوفي بالكوفة في جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائة، وقد جاوز التسعين بثلاث سنين، وقيل بست.(2/96)
452 - عبد الله بن إدريس
ابن يزيد بن عبد الرحمن أبو محمد الأودي. عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي ذكر ابن إدريس فقال: كان نسيج وحده، وفي رواية أخرى عن أحمد أنه قال: رأيت عبد الله بن إدريس وعليه جبة لبود وقد أتى عليه الدهور والسنون.
الحسن بن الربيع قال: كنت عند عبد الله بن إدريس فلما قمت قال لي: سل عن سعر الأشنان. فلما مشيت ردني وقال لي: لا تسأل فإنك تكتب عني الحديث وأنا أكره أن أسأل من يسمع عني الحديث حاجة.
__________
452 - هو: عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي - بسكون الواو - أبو محمد الكوفي، ثقة فقيه عابد من الثامنة، مات سنة اثنتين وتسعين، وله بضع وسبعون.(2/96)
حماد بن المؤمل قال: حدثني شيخ على باب بعض المحدثين قال: سألت وكيعاً عن مقدمه هو ابن إدريس وحفص على هارون الرشيد فقال: كان أول من دعا به أنا. فقال لي هارون: يا وكيع إن أهل بلدك طلبوا مني قاضياً وسموك لي فيمن سموا، وقد رأيت أن أشركك في أمانتي فقلت: يا أمير المؤمنين أنا شيخ كبير وإحدى عيني ذاهبة والأخرى ضعيفة. فقال هارون: اللهم غفراً. خذ عهدك أيها الرجل وامض. فقلت: يا أمير المؤمنين، والله لئن كنت صادقاً إنه لينبغي أن يقبل مني، ولئن كنت كاذباً فما ينبغي أن تولي القضاء كذاباً. فقال: اخرج. فخرجت.
ودخل ابن إدريس فسمعنا وقع ركبتيه على الأرض حين برك، وما سمعناه يسلم إلا سلاماً خفياً. فقال له هارون: أتدري لم دعوتك؟ قال: لا. قال: إن أهل بلدك طلبوا مني قاضياً، وإنهم سموك لي فيمن سموا. وقد رأيت أن أشركك في أمانتي وأدخلك في صالح ما أدخل فيه من أمر هذه الأمة، فخذ عهدك وامض، فقال له ابن إدريس: وأنا وددت أني لم أكن رأيتك فخرج.
ثم دخل حفص فقبل عهده، فأتى خادم معه ثلاثة أكياس في كل كيس خمسة آلاف فقال لي: إن أمير المؤمنين يقرئك السلام ويقول لكم: قد لزمتكم في شخوصكم مؤونة فاستعينوا بهذه في سفركم.
قال وكيع: فقلت له أقرئ أمير المؤمنين السلام وقل له: قد وقعت مني بحيث يحب أمير المؤمنين وأنا مستغن عنها. وأما ابن إدريس فصاح به: مر من ها هنا. وقبلها حفص، وخرجت الرقعة إلى ابن إدريس من بيننا: عافانا الله وإياك، سألناك أن تدخل في أعمالنا فلم تفعل، ووصلناك من أموالنا لم تقبل، فإذا جاءك ابني المأمون فحدثه إن شاء الله. فقال للرسول: إذا جاءنا مع الجماعة حدثناه إن شاء الله.
ثم مضينا فلما صرنا إلى الياسرية التفت ابن إدريس إلى حفص فقال: قد علمت أنك ستبلى، والله لا أكلمك حتى تموت فما كلمه حتى مات.
أبو بكر المروزي قال: سمعت علي بن شعيب يقول: لما قدم شعيب بن حرب على يوسف بن أسباط رأى عنده شاباً يكلم يوسف ويغلظ له، أو قال: رفع صوته، فقال له شعيب: ترفع صوتك؟ فقال له يوسف: يا أبا صالح إنه ابن إدريس، إنه يدري من أين يأكل؟.(2/97)
أحمد بن إبراهيم قال: حدثني سهل بن محمود، عن عبد الله بن إدريس قال: لو أن رجلاً انقطع إلى رجل لعرف ذلك له، فكيف بمن له السموات والأرض.
محمد بن المنذر قال: حج الرشيد ومعه الأمين والمأمون، فدخل الكوفة فقال لأبي يوسف: قل للمحدثين يأتونا يحدثونا. فلم يتخلف عنه من شيوخ الكوفة إلا اثنان: عبد الله بن إدريس، وعيسى بن يونس.
فركب الأمين والمأمون إلى عبد الله بن إدريس فحدثهما بمائة حديث. فقال المأمون لعبد الله بن إدريس: يا عم أتأذن لي أن أعيدها عليك من حفظي؟ قال: افعل. فأعادها عليه. فعجب عبد الله. فقال المأمون: يا عم: إلى جانب مسجدك دار إن أذنت لنا اشتريناها ووسعنا بها المسجد. فقال: ما لي إلى هذا حاجة، قد أجزأ من كان قبلي وهو يجزئني فنظر إلى قرح في ذراع الشيخ، فقال: إن معنا متطببين وأدوية، أتأذن أن يجيئك من يعالجك؟ قال: لا، قد ظهر بي مثل هذا وبدأ. فأمر له بمال فأبى أن يقبله.
حسين بن عمرو العنقزي قال: لما نزل بابن إدريس الموت بكت ابنته فقال: لا تبكي فقد ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة.
سمع عبد الله بن إدريس من الأعمش وأبي إسحاق الشيباني وخلق كثير، وجمع بين العلم والزهد، ومولده سنة خمس عشرة ومائة. وتوفي في سنة اثنتين وتسعين ومائة.(2/98)
453 - وكيع بن الجراح بن مليح
يكنى أبا سفيان الرواسي عبيد الله بن ثابت الجزري قال: سمعت عباساً الدوري يقول: قال لي أحمد بن حنبل: لو رأيت وكيعاً لعلمت أنك ما رأيت مثله.
محمد بن أيوب بن المعافى قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول: سمعت أحمد بن حنبل ذكر يوماً وكيعاً فقال: ما رأت عيناي مثله قط، يحفظ الحديث جيداً ويذاكر بالفقه فيحسن، مع ورع واجتهاد، ولا يتكلم في أحد.
بشر بن موسى قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما رأيت رجلاً مثل وكيع في العلم والحفظ والحلم مع خشوع وورع.
__________
453 - هو: وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي –بضم الراء وهمزة ثم مهملة - أبو سفيان الكوفي، ثقة حافظ عابد، من كبار التاسعة مات في آخر سنة ست وأول سنة سبع وتسعين وله سبعون سنة.(2/98)
يحيى بن أكثم قال: صحبت وكيعاً في السفر والحضر، وكان يصوم الدهر ويختم القرآن كل ليلة.
يحيى بن معين قال: ما رأيت أفضل من وكيع بن الجراح، كان يستقبل القبلة، ويحفظ حديثه، ويقوم الليل، ويسرد الصوم.
يحيى بن أيوب قال: حدثني بعض أصحاب وكيع الذين كانوا يلزمونه قالوا: كان وكيع لا ينام حتى يقرأ ثلث القرآن، ثم يقوم في آخر الليل فيقرأ المفصل، ثم يجلس فيأخذ في الاستغفار حتى يطلع الفجر فيصلي ركعتين.
إبراهيم بن وكيع قال: كان أبي يصلي الليل فلا يبقى في دارنا أحد إلا صلى حتى إن جارية لنا سوداء لتصلي.
أحمد بن محمد قال: أخبرني بعض أصحابنا عن وكيع قال: أغلظ رجل لوكيع بن الجراح، فدخل وكيع بيتاً فعفر وجهه في التراب ثم خرج إلى الرجل فقال: زد وكيعاً بذنبه فلولاه ما سلطت عليه.
سلم بن جنادة قال: جالست وكيع بن الجراح سبع سنين فما رأيته بزق ولا رأيته مس حصاة بيده، وما رأيته جلس مجلسه فتحرك، وما رأيته إلا مستقبل القبلة، وما رأيته يحلف بالله.
الحسن بن أبي زيد قال: صاحبت وكيع بن الجراح إلى مكة فما رأيته متكئاً ولا رأيته نائماً في محمله.
علي بن خشرم قال: سمعت وكيع بن الجراح يقول: زكاة الفطر لشهر رمضان كسجدتي السهو للصلاة تجبر نقصان الصوم كما يجبر السهو نقصان الصلاة.
أسند وكيع عن الأئمة الأعلام: كإسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عروة، والأعمش، وابن عون، وابن جريج، والأوزاعي، وشعبة، وسفيان.
وحدث وكيع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وجلس بعد موت الثوري في مكانه. وصنف التصانيف الكثيرة. وكان مولده في سنة تسع وعشرين، وقيل ثمان وعشرين ومائة، وحج سنة ست وتسعين، فلما رجع توفي بفيد في محرم سنة سبع وتسعي، وهو ابن ست وستين سنة.(2/99)
454 - حسين بن علي الجعفي
يكنى أبا عبد الله كان من العلماء العباد، وكان سفيان الثوري إذا رآه عانقه وقال: هذا راهب جعفي. وكان سفيان بن عيينة يعظمه.
وقال أحمد بن حنبل: ما رأيت بالكوفة أفضل من حسين الجعفي كان يشبه بالراهب.
محمد بن عبيد الرحبي قال: سمعت أبا بكر بن سماعة قال: كنا عند ابن أبي عمر العدني بمكة فسمعناه يقول: قدم علينا هارون قدمة إلى هذا المسجد فأخبرني الخادم الذي كان معه قال: كنت معه ومعه جعفر بن يحيى فخرجنا جميعاً حتى صرنا إلى الثنية، فقال لي: سل عن حسين بن علي الجعفي. فلقيت رجلاً فقلت: حسين ابن علي الجعفي. فقال: ها هو ذا يطلع عليك راكباً حماراً وخلفه أسود يقود أجمالاً له، فإذا هو قد طلع فقلت: هذا هو يا أمير المؤمنين. فلما حاذاه قام إليه فقبل يده، أو قال: رجله، فقال له جعفر بن يحيى: يا شيخ تدري من المسلم عليك؟ أمير المؤمنين هارون. فالتفت إليه حسين فقال له: أنت يا حسن الوجه، أنت مسئول عن هذا الخلق كلهم فقعد يبكي.
وأتانا آت ونحن عند ابن عيينة فقال لسفيان: قدم حسين بن علي الجعفي فقام إليه يتلقاه وخرجنا معه. فلما صار في الطريق إلى باب بني لقيه فضيل بن عياض فقال له: أين تريد يا أبا محمد؟ فقال: قدم حسين الجعفي فأردت لقاءه. فقال: أنا معك. فخرجا يمشيان جميعاً ونحن خلفهما. فلما صرنا في أصحاب اللواء إذا حسين راكب حماراً فتقدم إليه فضيل، فقبل رجله وتقدم سفيان فقبل يده، أو قبل سفيان رجله، وقبل فضيل يده. فقال له فضيل: بأبي رجل تعلمت القرآن على يديه، أو علمني الله القرآن على يده، ثم دخل المسجد فطاف بالكنية وجاء إلى الأسطوانة الحمراء فقعد عندها فأكب الناس عليه.
سمع حسين الجعفي من القاسم بن الوليد وزائدة وغيرهما. وتوفي في ذي القعدة سنة ثلاث ومائتين.
__________
454 - هو: حسين بن علي بن الوليد الجعفي، الكوفي، المقرئ، ثقة عابد، من التاسعة، مات سنة ثلاث أو أربع ومائتين وله أربع أو خمس وثمانون سنة.(2/100)
455 - محمد بن صبيح بن السماك
يكنى أبا العباس أحمد بن حماد قال: كان ابن السماك يقول: يا ابن آدم إنما تغدو في كسب الأرباح فاجعل نفسك فيما تكسبه فإنك لم تكسب مثلها.
أبو المغيرة بن شعيب قال: حضرت يحيى بن خالد البرمكي يقول لابن السماك: إذا دخلت على هارون أمير المؤمنين فأوجز ولا تكثر عليه. قال: فلما دخل عليه وقام بين يديه قال: يا أمير المؤمنين إن لك بين يدي الله تعالى مقاماً وإن لك من مقامك منصرفاً، فانظر إلى أين منصرفك، إلى الجنة أم إلى النار؟ قال: فبكى هارون حتى كاد يموت.
إبراهيم بن سلمة الشعبي قال: سمعت ابن السماك يقول: من امتطى الصبر قوي على العبادة، ومن أجمع اليأس استغنى عن الناس، ومن أهمته نفسه لم يول مرمتها غيره ومن أحب الخير وفق له، ومن كره الشر جنبه، ومن رضي الدنيا من الآخرة حظاً فقد أخطأ حظ نفسه.
عبد الله بن صالح قال: سمعت ابن السماك. وكتب إلى أخ له: أما بعد، أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك ورقيبك في علانيتك، فاجعله من بالك على حالك، وخفه بقدر قربه منك وقدرته عليك، واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره فليعظم منه حذرك وليكثر منه وجلك، واعلم أن الذنب من العاقل أعظم من الأحمق ومن العالم أعظم من الجاهل وقد أصبحنا أدلاء بزعمنا والدليل لا ينام في البحر، وقد كان عيسى صلى الله عليه وسلم يقول: حتى متى تصفون الطريق للدالجين وأنتم مقيمون في محلة المتحيرين؟ تصفون البعوض من شرابكم وتسترطون الجمال بأجمالها. أي أخي كم من مذكر بالله ناس لله، وكم من مخوف بالله جريء على الله وكم من داع إلى الله فار من الله. وكم تال لكتاب الله منسلخ من آيات الله. والسلام.
عباية بن كليب قال: سمعت ابن السماك يقول: سبعك بين لحييك تأكل به كل من مر عليك، قد آذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور، فما ترثي لهم وقد جرى البلى عليهم، وأنت ها هنا تنبشهم، إنما نرى أن نبشهم أخذ الخرق عنهم، إذا ذكرت مساويهم فقد نبشتهم، إنه ينبغي لك أن يدلك على ترك القول في أخيك ثلاث خلال: أما واحدة: فلعلك أن
__________
455 - هو: محمد بن صبيح العجلي، ابن السماك الزاهد القدوة، سيد الوعاظ، أبو العباس، مولاهم الكوفي.(2/101)
تذكره بأمر هو فيك فما ظنك بربك إذا ذكرت أخاك بأمر هو فيك؟ ولعلك تذكره بأمر، فيك أعظم منه، قذلك أشد استحكاماً لمقته إياك، ولعلك تذكره بأمر قد عافاك الله منه فهذا جزاؤه إذ عافاك. أما سمعت: ارحم أخاك واحمد الذي عافاك؟
الحسين بن عبد الرحمن قال: كان ابن السماك يقول: من أذاقته الدنيا حلاوتها لميله إليها جرعته الآخرة مرارتها لتجافيه عنها.
أبو الحسين علي بن الحسين الفقيه قال: سمعت عبد الله بن محمد بن السماك يقول: سمعت أبي يقول: إن استطعت أن تكون كرجل ذاق الموت وعاش ما بعده فسأل الرجعة فأسعف بطلبه وأعطي حاجته فهو متأهب مبادر، فافعل فإن المغبون من لم يقدم من ماله شيئاً ومن نفسه لنفسه.
أبو جعفر الربعي قال: لما حضرت ابن السماك الوفاة قال: اللهم إني وإن كنت أعصيك لقد كنت أحب فيك من يطيعك.
أسد بن السماك عن عدة من التابعين منهم: إسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وهشام بن عروة، وروى عنه عن الأئمة حسين الجعفي، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وأحمد بن حنبل، وهو كوفي لكنه قدم بغداد فمكث بها مدة ثم عاد إلى الكوفة فتوفي فيها سنة ثلاث وثمانين ومائة.(2/102)
ومن الطبقة الثامنة
أبو داود الحفري
...
ومن الطبقة الثامنة "من أهل الكوفة":
456 - أبو داود الحفري
واسمه عمر بن سعد، أبو بكر المروزي قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: رأيت أبا داود الحفري وعليه جبة مخرقة وقد خرج القطن منها يصلي بين المغرب والعشاء وهو يترجح من الجوع.
الحسين بن علي الصدائي قال: جئت إلى أبي داود الحفري فدققت الباب عليه فقال: من هذا؟ فقلت: رجل من أصحاب الحديث. فقال لي: اصبر علي. فاطلعت من كوة في الباب فإذا هو متزر بمئزر وهو يغزل صوفاً يتعيش منه. فأخذ الصوف فوضعه في كوة وأخذ عليه ثوباً وأدخلني الدار إلى مسجد له فقعد معي ولم يكن في الدار سقف غير سقف رأيته على الدهليز فأملى علي حتى فني ورقي. وقال لي: ألك حاجة؟ أو تكتب شيئاً آخر؟ فما رأيت رجلاً يحدث لله عز وجل مثله.
قال ابن عبدوية: وسمعت عباساً الدوري يقول: حدثنا أبو داود الحفري، ولو رأيت أبا داود لرأيت رجلاً كأنه اطلع إلى النار فرأى ما فيها.
أسند أبو داود الحفري عن الثوري وغيره. وتوفي سنة ثلاث ومائتين.
__________
456 - هو: عمر بن سعيد بن عبيد، أبو داود الحفري –بفتح المهملة والفاء - نسبة إلى موضع بالكوفة، ثقة عابد، من التاسعة، مات سنة ثلاث ومائتين.(2/103)
457 - بهيم العجلي
يكنى أبا بكر، روى عن أبي إسحاق الفزاري.
داود بن يحيى بن يمان عن أبيه قال: قال بهيم: إنما أخاف أن تدفق علي الدنيا دفقة فتعريني.
معاوية بن عمرو قال: كان بهيم رجلاً طوالاً شديد الأدمة إذا رأيته رأيت رجلاً حزيناً.
شهاب بن عباد قال: رأيت بهيماً العجلي وكان قد بكى حتى سقطت أشفاره، وكان رطب العينين جداً. فقلت لابن أخ له، ما شأنه يمس عينيه كثيراً؟ قال: قد فسدت من كثرة من يبكي، فهي تحكه وتضرب عليه.(2/103)
معاذ بن زياد قال: لما اتخذت عبادان سكنها قوم نساك فيهم رجل يقال له بهيم وكان رجلاً حزيناً يزفر الزفرة فتسمع زفيره.
مخول قال: جاءني بهيم يوماً فقال لي: تعلم لي رجلاً من جيرانك أو إخوانك يريد الحج ترضاه يرفقني؟ قلت: نعم. فذهبت إلى رجل من الحي له صلاح ودين فجمعت بينهما وتواطيا على المرافقة. ثم انطلق بهيم إلى أهله، فلما كان بعد أتاني الرجل فقال: يا هذا أحب أن تزوي عني صاحبك وتطلب رفيقاً غيري. فقلت: ويحك فلم؟ فوالله ما أعلم في الكوفة له نظيراً في حسن الخلق والاحتمال، ولقد ركبت معه البحر فلم أر إلا خيراً. قال: ويحك حدثت أنه طويل البكاء لا يكاد يفتر، فهذا ينغص علينا العيش سفرنا كله. قال: قلت: ويحك إنما يكون البكاء أحياناً عند التذكرة يرق القلب فيبكي الرجل، أو ما تبكي أنت أحياناً؟ قال: بلى ولكنه قد بلغني عنه أمر عظيم جداً من كثرة بكائه. قال: قلت: اصحبه فلعلك أن تنتفع به. قال: أستخير الله.
فلما كان اليوم الذي أرادا أن يخرجا فيه جيء بالإبل ووطئ لهما فجلس بهيم في ظل حائط فوضع يده تحت لحيته وجعلت دموعه تسيل على خديه، ثم على لحيته ثم على صدره حتى والله رأيت دموعه على الأرض.
قال: فقال لي صاحبي: يا مخول قد ابتدأ صاحبك، ليس هذا لي برفيق. قال: قلت: ارفق، لعله ذكر عياله ومفارقته إياهم فرق. وسمعها بهيم فقال: يا أخي والله ما هو بذاك وما هو إلا أني ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة. قال: وعلا صوته بالنحيب.
قال: يقول لي صاحبي: والله ما هي بأول عداوتك لي وبغضك إياي، ما لي ولبهيم؟ إنما كان ينبغي أن ترافق بين بهيم وبين داود الطائي وسلام بن الأحوص، حتى يبكي بعضهم إلى بعض حتى يشتفوا أو يموتوا جميعاً.
قال: فلم أزل أرفق به وأقول: ويحك لعلها خير سفرة سافرتها.
قال: وكان طويل الحج رجلاً صالحاً إلا أنه كان رجلاً تاجراً موسراً مقبلاً على شأنه، لم يكن صاحب حزن ولا بكاء، قال: فقال لي: قد وقعت مرتي هذه ولعلها أن تكون خيرة.
قال: وكل هذا الكلام لا يعلم به بعين ولو علم بشيء منه ما صاحبه.
قال: فخرجا جميعاً حتى حجا ورجعا. ما يرى كل واحد منهما أن له أخاً غير صاحبه. فلما جئت أسلم على جاري(2/104)
قال لي: جزاك الله يا أخي عني خيراً ما ظننت أن في هذا الخلق مثل أبي بكر، كان والله يتفضل علي في النفقة وهو معدم وأنا موسر، ويتفضل علي في الخدمة وأنا شاب قوي وهو شيخ ضعيف، ويطبخ لي وأنا مفطر وهو صائم.
قال: فقلت: فكيف كان أمرك معه في الذي كنت تكرهه من طويل بكائه؟ قال: ألفت والله ذاك البكاء وسر قلبي حتى كنت أساعده عليه، حتى تأذى بنا أهل الرفقة. قال: ثم والله ألفوا ذلك فجعلوا إذا سمعونا نبكي بكوا وجعل بعضهم يقول لبعض: ما الذي جعلهم أولى بالبكاء منا والمصير واحد؟ قال: فجعلوا والله يبكون ونبكي، قال: ثم خرجت من عنده فأتيت بهيماً فسلمت عليه وقلت: كيف رأيت صاحبك؟ قال: كخير صاحب، كثير الذكر لله عز وجل طويل التلاوة للقرآن، سريع الدمعة محتمل الهفوات للرفيق، جزاك الله عني خيراً.(2/105)
458 - عرفجة
عن خلف بن تميم قال: كان فتى من أهل الكوفة متعبد يقال له عرفجة، وكان يحيي الليل صلاة. فاستزاره بعض إخوانه ليلة فاستأذن أمه في زيارته فأذنت له، قالت العجوز: فلما كان الليل إذا أنا في منامي برجال قد وقفوا علي فقالوا: يا أم عرفجة: لم أذنت لإمامنا الليلة.
__________
458 - هو: عرفجة الكوفي، مشهور في القانتين، معروف في العابدين، انظر حلية الأولياء 10/140.(2/105)
ذكر المصطفين من عباد الكوفة مجهولي الأسماء
459 - عابد
أبو سعيد البقال قال: رأيت رجلاً بالكوفة قد استعد للموت منذ ثلاثين سنة قال: ما لي على أحد شئ ولا لأحد عندي شيء، وما أريد أن أكلم أحداً ولا يكلمني أحد من الناس إلا بذكر الله تعالى وكان يأوي الجبان والمقابر.
أيوب بن موسى قال: سمعت شيخاً في المسجد يكنى أبا سهل الترمذي قال: سمعت سفيان الثوري يقول: رأيت شيخاً في مسجد الكوفة يقول: أنا في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة أنتظر الموت أن ينزل بي لو أتاني ما أمرته بشيء ولا نهيته عن شيء ولا لي على أحد شيء ولا لأحد عندي شيء.
460 - عابدان كوفيان
عن الشعبي قال: جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما: اشتريت من هذا داراً فوجدت فيها عشرة آلاف درهم فقال: خذها. فقال له: إنما اشتريت الدار. فقال للبائع: فخذها أنت فقال: ولم؟ وقد بعته الدار بما فيها. فأدار الأمر بينهما فأبيا فأتى زياداً فأخبره فقال: ما كنت أرى أن أحداً هكذا بقي. وقال لشريح: ادخل بيت المال فألق في كل جراب قبضة حتى تكون للمسلمين.
461 - عابد آخر
منصور بن عمار قال: خرجت ذات ليلة فظننت أني قد أصبحت فإذا علي ليل، فقعدت عند باب صغير فإذا بصوت شاب يبكي ويقول: وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وقد عصيتك حيت عصيتك وما أنا بنكالك جاهل ولا لعقوبتك متعرض، ولا بنظرك مستخف، ولكن سولت لي نفسي وغلبتني شقوتي، وغرني سترك المرخى علي، عصيتك بجهلي وخالفتك بجهدي، فالآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من أتصل إن قطعت حبلك عني؟ واسوأتاه على ما مضى من أيامي في معصية ربي، يا ويلي كم أتوب وكم أعود، قد حان لي أن أستحيي من ربي عز وجل.
قال منصور: فلما سمعت كلامه قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(2/106)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} التحريم: 6 الآية، فسمعت صوتاً واضطراباً شديداً فمضيت لحاجتي. فلما أصبحت رجعت وأنا بجنازة على الباب، وعجوز تذهب وتجيء. فقلت لها: من الميت؟ فقالت: إليك عني لا تجدد علي أحزاني. فقلت: إني رجل غريب. فقالت: هذا ولدي مر بنا البارحة رجل لا جزاه الله خيراً فقرأ آية فيها ذكر النار، فلم يزل ولدي يضطرب ويبكي حتى مات، منصور: هكذا والله صفة الخائفين.
462 - عابد آخر
عبد الله بن عمر الكوفي قال: كان عندنا بالكوفة رجل قد خرج عن دنيا واسعة وتعبد. قال: وكان الفضيل بالكوفة في أيامه. قال: فقدم ابن المبارك فقال له الفضيل: إن ها هنا رجلاً من المتعبدين قد خرج عن دنيا فامض بنا إليه ننظر عقله.
قال: فجاءوا إليه وهو عليل وعليه عباء وتحت رأسه قطعة لبنة، قال: فسلم ابن المبارك عليه ثم قال: يا أخي بلغنا أنه ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله ما هو أكثر منه، فما عوضك؟ قال: الرضا بما أنا فيه. فقال ابن المبارك: حسبك. وقاما على ذلك.
463 - عابد آخر
محمد بن منصور قال: كان بالكوفة رجل متعبد يأكل في يوم نصف رغيف وكان قاعداً لا يضطجع ويضع جبهته على ركبتيه من صلاة إلى صلاة لا يتطوع بشيء غير الفرائض، ولا يتكلم البتة. فقلت له: لو تطوعت فقال: افهم ما ألقيه إليك، إني لست أعصيه.(2/107)
من عقلاء المجانين بالكوفة:
464 - نمير المجنون
العباس بن محمد بن عبد الرحمن الأشهلي قال: حدثني أبي عن ابن نمير قال: كان لي ابن أخت سمته أختي باسم أبي نمير، وكان من نساك أهل الكوفة وقد سمع سماعاً حسناً، وكان حسن الطهور حسن الصلاة، يراعي الشمس للزوال. قال: فعرض له فذهب عقله فكان لا يأويه سقف بيت: إذا كان بالنهار فهو بالجبانة وإذا كان بالليل ففي السطح قائماً على رجليه في البرد والمطر والريح، فنزل يوماً مبكراً يريد المقابر فقلت: يا نمير تنام؟ قال: لا. قلت: أي شيء العلة التي تمنعك من النوم؟ قال: هذا البلاء الذي تراه. فقلت: يا نمير أما تخاف الله عز وجل؟ قال: بلى. وقال: أليس يقال: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل؟ قال: قلت له: أنت أعلم مني. قال: كلا ومضى، قال: وصعدت إليه ليلة باردة وهو قائم في السطح وأمه قائمة تبكي فقلت: يا نمير بقي منك شيء لم تنكره؟ قال: نعم. قلت ما هو؟ قال: حب الله عز وجل وحب رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال: وصعدت إليه ليلة في رمضان فقلت له: يا نمير لم أفطر. قال: ولم؟ قلت: أحب أن تراك أختي تأكل معي. قال: أفعل. قال: فأصعد إلينا طعام، فجعل يأكل معي حتى فرغت وفرغ. فلما أردت أن أقوم رحمته من أن يراني مولياً وهو في الظلمة والريح فبكيت فقال: ما يبكيك رحمك الله؟ قلت: أنزل إلى الكن والضوء وأدعك في الظلمة والبرد؟ فغضب وقال لي: إن لي رباً هو أرحم بي منك وأعلم بما يصلحني فدعه يصرفني كيف يشاء، فإني لا أتهمه في قضائه. فقلت له لئن كنت في ظلمة الليل إن جدك في ظلمة اللحد، أريد أن أعزيه وأطيب نفسه. فقال لي ما جعل روح رجل صالح مثل روح رجل متلوث. ثم قال لي: أتاني البارحة أبي وأبوك عبد الله بن نمير فوقف ثم أشار إلى موضع كان أبي يصلي فيه فقال لي: يا نمير أما إنك ستأتينا يوم الجمعة شهيداً.
قال: فدعوت أمه فصعدت إلي فأخبرتها بما قال: فقالت: والله ما جربت عليه كذباً وما هذا مما كان يتكلم به وما قال إلا حقاً. قال: وقال هذه المقالة عشية الأربعاء. فجعلنا نتعجب ونقول غداً الخميس وبعد غد الجمعة، فهبه مرض غداً ومات بعد غد فأين الشهادة؟.(2/108)
فلما كانت ليلة الجمعة في وسط الليل سمعنا هدة فإذا هو قد هاج به ما كان يهيج فبادر الدرجة فزلت قدمه فسقط منها فاندقت عنقه فحفرت له إلى جنب أبي ودفنته، وانكببت على قبر أبي فقلت: يا أبت قد أتاك نمير وجاورك. والله ما قلت هذه المقالة إلا لما كان في قلبي من الغم. ثم انصرفت فلما كان الليل رأيت أبي في النوم كأنه قد دخل علي من باب البيت فقال لي: يا بني جزاك الله خيراً لقد آنستني بنمير، اعلم أنه منذ أتيتمونا به إلى أن جئتك يزوج بالحور، والسلام.(2/109)
ذكر المصطفيات من العابدات الكوفيات المسميات
أم حسان الكوفية
...
ذكر المصطفيات من العابدات الكوفيات
ذكر المسميات منهن والمنسوبات:
465 - أم حسان الكوفية
كان سفيان وابن المبارك وغيرهما يزورونها، عبد الله بن المبارك قال: ذكر سفيان الثوري امرأة بالكوفة يقال لها أم حسان ذات اجتهاد وعبادة. فدخلنا بيتها فلم نر فيه شيئاً غير قطعة حصير خلق فقال لها الثوري: لو كتبت رقعة إلى بعض بني أعمامك لغيروا من سوء حالك. فقالت: يا سفيان قد كنت في عيني أعظم وفي قلبي أكبر مذ ساعتك هذه، إني ما أسأل الدنيا من يقدر عليها ويملكها ويحكم فيها؛ فكيف أسأل من لا يقدر عليها ولا يقضي ولا يحكم فيها؟ يا سفيان والله ما أحب أن يأتي علي وقت وأنا متشاغلة فيه عن الله تعالى بغير الله. فأبكت سفيان، قال عبد الله: فبلغني أن سفيان تزوج بها.(2/110)
466 - أم الأسود بن يزيد
وكيع قال: حدثنا أبي عن منصور عن إبراهيم أن أم الأسود أقعدت من رجليها فجزعت ابنة لها فقالت: اللهم إن كان خيراً فزد.(2/110)
467 - أم مسعر بن كدام
محمد بن سعد قال: كانت لمسعر أم عابدة فكان يحمل لها لبداً ويمشي معها حتى يدخلها المسجد فيبسط لها اللبد فتقوم فتصلي ويتقدم هو إلى مقدم المسجد فيصلي ثم يقعد ويجتمع إليه من يريد فيحدثهم ثم ينصرف إليها فيحمل لبدها وينصرف معها.(2/110)
468 - أم سفيان الثوري
قال وكيع: قالت أم سفيان الثوري لسفيان: يا بني اطلب العلم وأنا أكفيك يمغزلي، وقالت له: يا بني إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى نفسك زيادة في مشيك وحلمك ووقارك فإن لم يزدك فاعلم أنه لا يضرك ولا ينفعك.(2/110)
469 - أم الحسن وعلي ابني صالح بن حي
عبد الله بن هاشم قال: سمعت وكيع بن الجراح يقول: كانت أم علي والحسن ابني صالح تقوم ثلث الليل.(2/110)
عبد الله بن صالح قال: حدثني رجل من بني تميم أن أم الحسن وعلي ابني صالح كانت تبكي بالليل والنهار. قال: فرأيت حسناً بعد موته في المنام فقلت: ما فعلت الوالدة؟ قال: بدلت بطول ذلك البكاء سرور الأبد.(2/111)
470 - أخت فضيل بن عبد الوهاب
قال محمد بن الحسين: حدثني فضيل بن عبد الوهاب قال: سمعت أختي تقول: الآخرة أقرب من الدنيا، وذلك أن الرجل يهم بطلب الدنيا فلعله أن ينشئ لذلك سفراً يكون فيه تعب بدنه وإنفاق ماله، ثم لعله أن لا ينال بغيته. والرجل يطلب الآخرة فمنتهى طلبته في حسن نيته حيث ما كان من غير أن ينشئ سفراً أو ينفق مالاً أو يتعب بدناً، ما هو إلا أن يجمع على طاعة الله فإذا هو قد أدرك ما عند الله.
قال: وسمعتها تقول: ما بيننا وبين أن نرى السرور أو ننادى بالويل والثبور إلا خروج هذه الأرواح من الأبدان، فانظروا أي عبيد تكونون حينئذ؟ قال: ثم صرخت وغشي عليها.
قال فضيل: ما رأيت أحداً قط، رجلاً ولا امرأة، أطول حزناً منها.(2/111)
ذكر المصطفيات من العابدات الكوفيات مجهولات الأسماء
471 - عابدة
مجرز أبو القاسم الجلاب قال: حدثني سعدان قال: أمر قوم امرأة ذات جمال بارع أن تتعرض للربيع بن خثيم فلعلها تفتنه، وجعلوا لها إن فعلت ذلك ألف درهم. فلبست أحسن ما قدرت عليه من الثياب، وتطيبت بأطيب ما قدرت عليه ثم تعرضت له حين خرج من مسجده، فنظر إليها فراعه أمرها فأقبلت عليه وهي سافرة. فقال لها الربيع: كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك؟ أم كيف بك لو قد نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟ أم كيف بك لو قد ساءلك منكر ونكير؟ فصرخت صرخة فسقطت مغشياً عليها. فوالله لقد أفاقت وبلغت من عبادة ربها أنها كانت يوم ماتت كأنها جذع محترق.
472 - عابدة أخرى
عبد الله بن نافع قال: أتى الربيع بن خثيم في منامه فقيل: إن فلانة السوداء زوجتك في الجنة فلما أصبح سأل عنها فدل عليها فإذا هي ترعى أعنزاً لها. فقال: لأقيمن عندها فأنظر ما عملها؟ فأقام عندها ثلاثاً لا يراها تزيد على الفريضة، فإذا أمست جاءت إلى عنيزة لها فحلبت ثم شربت، ثم حلبت فسقته. فقال لها في اليوم الثالث: يا هذه لم لا تسقيني من غير هذه العنز؟ قال: يا عبد الله إنها ليست لي، قال: فلم تسقيني من هذه؟ قالت: إن هذه منحتها أشرب من لبنها واسقي من شئت. قال: يا هذه فليس لك من العمل أكثر مما أرى؟ قالت: لا، إلا أني ما أصبحت على حال قط فتمنيت أني على حال سواها، رضاً بما قسم الله لي، فقال: يا هذه علمت أني رأيت في المنام أنك زوجتي في الجنة. قالت له: أنت الربيع بن خثيم؟ قلت لعبد الله بن نافع: كيف علمت هذا؟ قال: لعلها أن تكون رأت في منامها مثل ما رأى.
473 - عابدة أخرى
محمد بن يحيى بن أبي حاتم قال: حدثني عبد الملك بن شبيب عن رجل من ولد ابن أبي ليلى قال: دخلت على امرأة وأنا أقرأ سورة هود. فقالت لي: يا عبد الرحمن هكذا تقرأ سورة هود؟ والله إني لفيها منذ ستة أشهر ما فرغت من قراءتها.(2/112)
474 - عابدة أخرى
الوضاح بن حسان الأنباري قال: حدثني رجل من أهل الكوفة قال: كانت امرأة من التيم مجتهدة في العبادة، فكانت تفطر في كل ثلاث مرة، ولا تخرج من مسجد الحي إلا لحاجة. فقال لها إبراهيم التيمي: صلاتك في بيتك أفضل من صلاتك في مسجد الحي، ففعلت فلزمت بيتها فلم تزدد إلا خيراً.
475 - عابدتان أختان
محمد بن قدامة قال: سمعت أبا بشر يقول: كانت جارة لمنصور بن المعتمر، وكان لها ابنتان لا تصعدان إلى السطح إلا بعد ما ينام الناس. فقالت إحداهما ذات ليلة: يا أمتاه ما فعلت القائمة التي كنت أراها في سطح فلان؟ فقالت: يا بنية لم تكن تلك قائمة إنما كان ذاك منصور يحيي الليل كله في ركعة لا يسجد فيها ولا يركع. فقالت: يا أمتاه: بلغ به العبادة والفرق من النار هذا؟ فما فعل؟ قالت: مات ودفنوه. قالت: يا أمتاه انطلقي فاشتري لي مدرعة أتعبد فيها فوالله لا يجمع رأس ورأس رجل أبداً رجل لا ينام عشرين سنة فرقاً من النار.
قال: فاشترت لها مدرعة من شعر فدخلت البنت الأخرى معها في العبادة فتعبدتا بعد ذلك عشرين سنة لا تنامان الليل ولا تفطران النهار.
476 - عابدة أخرى
عن سفيان أنه ذكر يوماً امرأة من أهل الكوفة كانت تتعبد، فذكر عنها فضلاً. فقلت: أي شيء تحفظ من كلامها؟ قال: قالوا إنها كانت تقول: لو نادى مناد من السماء ليمت أعظم الناس جرماً لرأيت نفسي أول نفس ذائقة للموت.
وكانت تقول: طول الأمل بطأ بي عن سبيل النجاة.
477 - عابدة أخرى
عن ابن السماك قال: أذنب غلام امرأة من قريش ذنباً فسعت إليه بالسوط فلما قربت منه رمت بالسوط وقالت: ما تركت التقوى أحداً يشفي غيظه.
478 - عابدة أخرى:
أبو بكر بن عبيد قال: حدثني محمد بن الحسين قال: أخبرنا شهاب بن عباد قال: أخبرنا(2/113)
سويد بن عمرو الكلبي قال: كانت امرأة عابدة في غنى، فكانت لا تنام من الليل إلا يسيراً. فعوتبت في ذلك فقالت: كفى بالموت وطول الرقدة في القبور للمؤمنين رقاداً.
قال أبو بكر: وزادني في هذا الحديث عن محمد بن الحسين بإسناده هذا: وكانت تصوم في شدة الحر حتى يسود لونها ويتغير وجهها. فيقال لها في ذلك، فتقول: إنما أدور على طول الري والشبع في الآخرة.
وكانت قد بكت حتى اسود مجاري دموعها من وجهها، فكان يأتيها محمد بن النضر وأصحابه فيحادثها ساعة ثم تقول: قوموا فالحديث هناك يطيب، في دار لا هم فيها ولا موت ولا تعب.(2/114)
ذكر المصطفيات من عقلاء المجانين المتعبدات الكوفيات
479 - ميمونة السوداء
الفضيل بن عياض قال: قال عبد الواحد بن زيد: سألت الله عز وجل ثلاث ليال أن يريني رفيقي في الجنة، فرأت كأن قائلاً يقول: يا عبد الواحد رفيقك في الجنة ميمونة السوداء. فقلت: وأين هي؟ فقال: في آل فلان بالكوفة.
قال: فخرجت إلى الكوفة وسألت عنها فقيل: هي مجنونة بين ظهرانينا ترعى غنيمات لنا، فقلت: أريد أن أراها. قالوا: اخرج إلى الجبان، فخرجت فإذا بها قائمة تصلي، وإذا بين يديها عكاز لها وعليها جبة من صوف، عليها مكتوب: لا تباع ولا تشترى. وإذا الغنم مع الذئاب، فلا الذئاب تأكل الغنم ولا الغنم تخاف الذئاب.
فلما رأتني أوجزت في صلاتها ثم قالت: ارجع يا بن زيد ليس الموعد ها هنا إنما الموعد ثم. فقلت: رحمك الله ومن أعلمك أني ابن زيد؟ فقالت: أما علمت أن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف؟ فقلت لها: عظيني؟ فقالت: واعجباً لواعظ يوعظ ثم قالت: يا بن زيد إنك وضعت معايير القسط على جوارحك لخبرتك بمكتوم مكنون ما فيها، يا بن زيد إنه بلغني أنه ما من عبد أعطي من الدنيا شيئاً فابتغى إليه ثانياً إلا سلبه الله حب الخلوة معه، وبدله بعد القرب البعد وبعد الأنس الوحشة. ثم أنشأت تقول:
يا واعظاً قام لاحتساب ... بزجر قوماً عن الذنوب
ننهى وأنت السقيم حقاً ... هذا من المنكر العجيب
لو كنت أصلحت قبل هذا ... عيبك أو تبت من قريب
كان لما قلت يا حبيبي ... موقع صدق من القلوب
نتهى عن الغي والتمادي ... وأنت في النهي كالمريب
فقلت لها: غني أرى هذا الذئاب مع الغنم، فلا الغنم تفزع من الذئاب، ولا الذئاب تأكل الغنم، فأي شيء هذا؟ فقالت: إليك عني فإني أصلحت ما بيني وبين سيدي فأصلح بين الذئاب والغنم.(2/115)
480 - بخة
عن يحيى بن إسماعيل بن سلمة بن كهيل قال: كانت لي أخت أسن مني فاختلط عقلها فتوحشت فكانت في غرفة في أقصى سطوحنا. فمكثت بذلك بضع عشرة سنة وكانت مع ذهاب عقلها تحرص على الطهور وتفقد الصلوات وربما غلبت على عقلها الأيام فتحفظ ذلك حتى تقضيه.
قال: فبينما أنا نائم ذات ليلة إذا باب بيتي يدق في نصف الليل. فقلت: من هذا؟ قالت: بخة، قلت، أختي؟ قالت: أختك. قلت: لبيك. وقمت ففتحت الباب فدخلت ولا عهد لها بالبيت منذ أكثرأ أكثر من عشر سنين، فقلت لها: يا أختاه خير. قالت: خير، أتيت الليلة في منامي فقيل لي: السلام عليك يا بخة. فقلت: وعليك السلام. فقيل لي: إن الله قد حفظ أباك إسماعيل لسلمة بن كهيل جدك، وحفظك لأبيك إسماعيل. فإن شئت دعوت الله لك فأذهب ما بك، وإن شئت صبرت ولك الجنة، فإن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد شفعا لك إلى الله عز وجل بحب أبيك وجدك إياهما. فقلت: إن كان لا بد من أن أختار أحدهما فالصبر على ما أنا فيه والجنة، والله واسع لا يتعاظمه شيء، إن شاء أن يجمعهما لي فعل. قالت: فقيل لي: قد جمعهما الله لك ورضي عن أبيك وجدك بحبهما أبا بكر وعمر، قومي فانزلي. فأذهب الله ما كان بها.
انتهى ذكر أهل الكوفة ولله الحمد.(2/116)
ذكر المصطفين من أهل البصرة من التابعين ومن بعدهم
من الطبقة الأولى
الأحنف بن قيس
...
ذكر المصطفين من أهل البصرة من التابعين ومن بعدهم
فمن الطبقة الأولى:
481 - الأحنف بن قيس
يكنى أبا بحر وإنما عرف بالأحنف لأنه ولد أحنف.
عن الحسن، عن الأحنف قال: بينا أنا أطوف بالبيت إذ لقيني رجل من بني سليم فقال: أبشرك؟ فقلت: بلى. قال: أتذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومك بني سعد أدعوهم إلى الإسلام، فقلت أنت: ما قال إلا خيراً ولا أسمع إلا حسناً؟ فإني رجعت وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بمقالتك فقال: "اللهم اغفر لأحنف". قال: فما أنا لشيء أرجى مني لها.
قال أبو معاوية بن هشام لخالد بن صفوان: بم بلغ فيكم الأحنف بن قيس ما بلغ؟ قال: إن شئت حدثتك ألفاً وإن شئت حذفت لك الحديث حذفاً. قال: احذفه لي حذفاً. قال: فإن شئت فثلاثاً، وغن شئت فاثنتين، وإن شئت فواحدة. قال: ما الثلاث؟ قال: كان لا يشره ولا يحسد ولا يمنع حقاً. قال: فما الاثنتان؟ قال: كان موقفاً للخير، معصوماً من الشر. قال: فما الواحدة؟ قال: كان أشد الناس على نفسه سلطاناً.
عن الحسن قال: كانوا يتكلمون عند معاوية والأحنف ساكت.
فقالوا: ما لك لا تتكلم يا أبا بحر؟ قال: أخشى الله إن كذبت وأخشاكم إن صدقت.
عن سليمان التيمي قال: قال الأحنف بن قيس: ما ذكرت أحداً بسوء بعد أن يقوم من عندي.
عن سلمة بن منصور، عن مولى لهم كان يصحب الأحنف بن قيس، قال: كنت أصحبه فكان عامة صلاته بالليل الدعاء. وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه ثم يقول: حس. ثم يقول: يا حنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟
__________
481 - هو: الأحنف بن قيس بن معاوية بن معين، الأمير الكبير، العالم النبيل، أبو بحر، التميمي، أحد من يضرب بحلمه وسؤدده المثل، اسمه: ضحاك، وقيل: صخر، وشهر بالأحنف لحنف في رجليه، وهو العوج والميل، كان سيد تميم، أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ووفد على عمر، سير أعلام النبلاء 5/119.(2/117)
عن الحسن قال: قال الأحنف بن قيس: والله ما سمعت كلمة إلا طأطأت لها رأسي لما هو أعظم منها.
الغلابي قال: حدثني رجل من بني تميم قال: قال الأحنف بن قيس: لا مروءة لكذوب، ولا راحة لحسود، ولا حيلة لبخيل، ولا سؤدد لسيئ الخلق، ولا إخاء لملول.
عن مغيرة قال: اشتكى ابن أخي الأحنف إلى الأحنف بن قيس وجع ضرسه فقال له الأحنف: لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة ما ذكرتها لأحد.
قبيصة قال: قيل للأحنف بن قيس: ألا تأتي الأمراء؟ قال: فأخرج جرة مكسورة فكبها فإذا كسر. فقال: من كان يجزئه مثل هذا ما يصنع بإتيانهم؟ وقال محمد بن سعد: كان الأحنف صديقاً لمصعب بن الزبير، فوفد عليه الكوفة ومصعب وإليها يومئذ، فتوفي الأحنف عنده فرئي مصعب في جنازته يمشي بغير رداء.
أسند الأحنف عن عمر وعلي وأبي ذر وغيرهم.(2/118)
482 - أبو عثمان النهدي
واسمه: عبد الرحمن بن مل.
معتمر بن سليمان، عن أبيه قال: إني لأحسب أبا عثمان كان لا يصيب ذنباً. كان ليلة قائماً ونهاره صائماً. وإن كان ليصلي حتى يغشى عليه.
حماد بن سلمة عن ثابت قال: كان أبو عثمان إذا دعا ودعونا يقول: والله لقد استجاب الله عز وجل، قال الله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} غافر: 60.
أدرك أبو عثمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يلقه. وأسند عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وأبي موسى وسلمان أسامة وأبي هريرة في آخرين.
وكان من ساكني الكوفة فلما قتل الحسين عليه السلام تحول إلى البصرة وقال: لا أسكن بلداً قتل فيه ابن بنت رسول الله، وتوفي بالبصرة في أول ولاية الحجاج العراق وهو ابن ثلاثين ومائة سنة.
حماد بن سلمة، عن حميد، عن أبي عثمان قال: بلغت نحواً من ثلاثين ومائة سنة ما من شيء إلا قد عرفت النقص فيه إلا أملي كما هو.
__________
482 - هو: عبد الرحمن بن مل - بلام ثقيلة والميم مثلثة -أبو عثمان النهدي - بفتح النون وسكون الهاء - مشهور بكنيته مخضرم، من كبار الثانية، ثقة ثبت عابد، مات سنة خمس وتسعين، وقيل بعدها، وعاش مائة وثلاثين سنة، وقيل أكثر.(2/118)
483 - حجير بن الربيع العدوي
روى عن عمر بن الخطاب عبد الرحمن عن هلال بن حق قال: كان حجير بن الربيع يصلي حتى ما يأتي فراشه إلا زحفاً، وما يعدونه من أعبدهم.
__________
483 - هو: حجير، بالتصغير، ابن الربيع البصري العدوي، يقال: هو أبو السوار –بتشديد الواو - ثقة من الثالثة.
قال الشيخ شعيب: بل صدوق كما قال الذهبي وهو مقل لم يوثقه سوى ابن حبان والعجلي، وهما ما تعرف بالتوثيق، له في مسلم حديث واحد متابعة "الحياء خير كله" التحرير 1/255.(2/119)
484 - عامر بن عبد الله
وهو الذي يقال له ابن عبد قيس.
يكنى أبا عمرو. وقيل أبا عبد الله، من بني تميم.
جعفر قال: سمعت مالك بن دينار يقول: بلغنا أن كعباً رأى عامر بن عبد قيس فقال: من هذا؟ فقالوا: هذا عامر. فقال: هذا راهب هذه الأمة.
عن علقمة بن مرثد قال: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، منهم: عامر بن عبد الله، إن كان ليصلي فيتمثل إبليس في صورة حية فيدخل تحت قميصه حتى يخرج من جيبه فما يمسه. قيل له: ألا تنحى الحية عنك؟ فقال: إني لأستحيي من الله عز وجل أن أخاف سواه. فقيل له: إن الجنة لتدرك بدون ما تصنع، وإن النار لتتقى بدون ما تصنع. فقال: والله لأجتهدن. ثم والله لأجتهدن، فإن نجوت فبرحمة الله، وإن دخلت النار فبعد جهدي.
فلما احتضر بكى فقيل له: أتجزع من الموت وتبكي؟ فقال: ما لي لا أبكي ومن أحق بذلك مني؟ والله ما أبكي جزعاً من الموت ولا حرصاً على دنياكم، ولكني أبكي على ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء.
وكان يقول: اللهم في الدنيا الهموم والأحزان، وفي الآخرة العذاب والحساب، فأين الروح والفرح.
__________
484 - هو: عامر بن عبد قيس، القدوة الولي، الزاهد أبو عبد الله، ويقال: أبو عمرو التميمي العنبري، البصري، قال العجلي: كان ثقة من عباد التابعين قارئ، انظر سير أعلام النبلاء 5/66.(2/119)
عن عبد الله بن غالب بن عامر بن يساف. قال: سمعت المعلى بن زياد يقول: كان عامر بن عبد الله قد فرض على نفسه في كل يوم ألف ركعة وكان إذا صلى العصر جلس وقد انتفخت ساقاه من طول القيام فيقول: يا نفس، بهذا أمرت ولهذا خلقت، يوشك أن يذهب العناء. وكان يقول لنفسه: قومي يا مأوى كل سوء فوعزة ربك لأزحفن بك زحوف البعير ولئن استطعت أن لا يمس الأرض من زهمك لأفعلن. ثم يتلوى كما تتلوى الحية على المقلى. ثم يقوم فينادي: اللهم إن النار قد منعتني من النوم فاغفر لي.
روى ابن وهب وغيره، يزيد بعضهم على بعض في الحديث، أن عامر بن عبد قيس كان من أفضل العابدين. ففرض على نفسه كل يوم ألف ركعة يقوم عند طلوع الشمس فلا يزال قائماً إلى العصر. ثم ينصرف وقد انتفخت ساقاه وقدماه فيقول: يا نفس إنما خلقت للعبادة يا أمارة بالسوء والله لأعملن بك عملاً، لا يأخذ الفراش منك نصيباً.
قال: وهبط وادياً يقال له وادي السباع وفي الوادي عابد حبشي يقال له حممة. فانفرد عامر في ناحية يصليان، لا هذا ينصرف إلى هذا، ولا هذا ينصرف إلى هذا، أربعين يوماً وأربعين ليلة. إذا جاء وقت الفريضة صليا ثم أقبلا يتطوعان. ثم انصرف عامر بعد أربعين يوماً إلى حممة فقال: من أنت يرحمك الله؟ فقال: دعني وهمي. قال: أقسمت عليك. قال: أنا حممة. قال عامر: لئن كنت أنت حممة الذي ذكر لي لأنت أعبد من في الأرض، فأخبرني عن أفضل خصلة. قال: إني لمقصر ولولا مواقيت الصلاة تقطع علي القيام والسجود لأحببت أن أجعل عمري راكعاً، ووجهي مفترشاً حتى ألقاه، ولكن الفرائض لا تدعني أفعل ذلك فمن أنت يرحمك الله؟ قال: أنا عامر بن عبد قيس. قال: إن كنت عامراً الذي ذكر لي فأنت أعبد الناس. فأخبرني بأفضل خصلة قال: إني لمقصر ولكن واحدة عظمت هيبة الله في صدري حتى ما أهاب شيئاً غيره، واكتنفه السباع فأتاه منها فوثب عليه من خلفه فوضع يديه على منكبيه وعامر يتلو هذه الآية {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} هود: 103 فلما رأى السبع أنه لا يكترث له ذهب. فقال حممة: وبالله يا عامر ما هالك ما رأيت؟ قال: إني لأستحيي من الله عز وجل أن أهاب شيئاً غيره.
قال حممة: لولا أن الله تعالى ابتلانا بالبطن فإذا أكلنا لا بد لنا من الحدث ما رآني ربي إلا راكعاً أو ساجداً.(2/120)
وكان يصلي في اليوم والليلة ثمان مائة ركعة. وكان يقول: إني لمقصر في العبادة وكان يعاتب نفسه.
المعلى بن إياد القردوسي، عن عامر بن عبد قيس أنه مر بقافلة قد حبسهم الأسد من بين أيديهم على طريقهم، فلما جاء عامر نزل عن دابته فقالوا: يا أبا عبد الله إنا نخاف عليك من الأسد. فقال: إنما هو كل من كلاب الله عز وجل، إن شاء أن يسلطه سلطه وإن شاء أن يكفه كفه. فمشى إليه حتى أخذ بيديه أذني الأسد فنحاه على الطريق وجازت القافلة. وقال إني لأستحيي من ربي تبارك وتعالى أن يرى في قلبي أني أخاف من غيره.
محمد بن فضيل بن غزوان قال: أنبأ أبي قال: كان عامر بن عبد قيس يقول: ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، وما رأيت مثل النار نام هاربها، وكان إذا جاء النهار قال: أذهب حر النار النوم فما ينام حتى يمسي، وإذا جاء الليل قال: من خاف أدلج، وعند الصباح يحمد القوم السرى.
سهيل أخو حزم قال: بلغني عن عامر بن عبد قيس أنه كان يقول: أحببت الله عز وجل حباً سهل علي كل مصيبة ورضاني كل قضية، فما أبالي مع حبي إياه ما أصبحت عليه وما أمسيت.
سعيد بن ميمون قال: قيل لامرأة عامر بن عبد قيس، يعني خادمته، كيف كانت عبادة عامر؟ قالت: ما صنعت له طعاماً قط بالنهار، فأكله إلا بالليل، ولا فرشت له فراشاً بالليل فاضطجع عليه إلا بالنهار.
عن الحسن قال: بعث معاوية إلى عبد الله بن عامر أن انظر إلى عامر بن عبد قيس فأحسن إذنه وأكرمه ومره أن يخطب إلى من شاء وأمهر عنه من بيت المال.
قال: فأرسل إليه: إن أمير المؤمنين قد كتب إلي أن أحسن إذنك وأكرمك.
قال: يقول فلان أحوج مني إلى ذلك، يعني رجلاً كان أطال الاختلاف إليهم ولا يؤذن له. وأمرني أن آمرك أن تخطب إلى من شئت وأمهر عنك من بيت المال. قال: أنا في الخطبة دائب. قال: إلى من؟ قال: إلى من يقبل الفلقة والتمرة.
قال: ثم أقبل إلى جلسائه وقال: إني سائلكم فأخبروني: هل منكم من أحد إلا له من قلبه شعبة؟ قالوا: اللهم لا. قال: هل منكم من أحد إلا لأهله من قلبه شعبة؟ قالوا:(2/121)
اللهم لا. قال: هل منكم من أحد إلا لولده من من قلبه شعبة؟ قالوا: اللهم لا. قال: فوالذي نفسي بيده لأن تختلف الأسنة في جوانحي أحب إلي من أن أكون هكذا، أما والله لأجعلن الهم هماً واحداً. قال الحسن: وفعل.
عبد الله بن عياش، مولى بني جشم، عن أبيه، عن شيخ قد سماه، وكان قد أدرك سبب تسيير عامر بن عبد الله، قال: مر برجل من أعوان السلطان وهو يجر ذمياً والذمي يستغيث. فأقبل على الذمي فقال: أديت جزيتك؟ قال: نعم. فأقبل عليه فقال: ما تريد منه؟ قال: أذهب به يكسح دار الأمير. قال: فأقبل على الذمي فقال: تطيب نفسك له بهذا؟ قال: يشغلني عن صنعتي. قال: دعه. قال: لا أدعه. قال له: دعه، قال: لا أدعه. قال: فوضع كساءه فقال: لا يخفر دمة محمد صلى الله عليه وسلم وأنا حي. قال: ثم خلصه منه. قال فتراقى ذلك حتى كان سبب تسييره.
مالك بن دينار قال: قالت المرأة التي نزل عليها عامر بن عبد الله: مالي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ قال: إن ذكر جهنم لا يدعني أن أنام.
عن قتادة قال: سأل عامر بن عبد قيس ربه عز وجل أن يهون عليه الطهور في الشتاء، فكان يؤتى بالماء وله بخار. وسأل ربه أن ينزع شهوة النساء من قلبه فكان لا يبالي ذكراً لقي أم أنثى؟ وسأل ربه أن يحول بين الشيطان وبين قلبه في الصلاة، فلم يقدر على ذلك. وقيل له: هذه الأجمة نخاف عليك منها الأسد. فقال: إني لأستحيي من ربي أن أخشى غيره.
عن المعلى قال: قال عامر بن عبد قيس: أربع آيات من كتاب الله تعالى إذا ذكرتهن لا أبالي على ما أصبحت وأمسيت {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 12] {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 17] و {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق: 7] {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] .
عن مالك بن دينار: عن عامر بن عبد قيس أنه كان يقول: إن أشد أهل الجنة فرحاً في الجنة أطولهم حزناً في الدنيا.
أبو مسكين الغداني قال: قال عامر بن عبد قيس: من خاف الله أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء.(2/122)
عن أبي المتوكل الناجي قال: قال عامر بن عبد قيس: يا أبا المتوكل؟ قلت: لبيك. قال: عليك بما يرغبك في الآخرة ويزهدك في الدنيا ويقربك إلى لاله عز وجل. قلت: ما هو؟ فقالك تقصر عن الدنيا همك وتشحذ إلى الآخرة نيتك، وتصدق ذلك بفعلك، فإذا كنت كذلك لم يكن شيء أحب إليك من الموت، ولا شيء أبغض إليك من الحياة. فقلت: يا أبا عبد الله كنت لا أحسبك تحسن مثل هذا. فقال: كم من شيء كنت أحسنه وددت أني لا أحسنه وما يغني عني ما أحسن من الخير إذا لم أعمل به.
عن بلال بن سعد أن عامراً كان يشترط على رفقائه أن ينفق عليهم بقدر طاقته.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: خرج عامر من البصرة إلى الشام ومعه شكوة فيها ماء يتوضأ منه للصلاة ويشرب منه لبناً إذا شاء.
يزيد بن نعامة قال: كان عامر بن عبد قيس إذا أصبح قال: اللهم غدا الناس إلى أسواقهم وأصبح لكل امرئ منهم حاجة وحاجتي إليك يا رب أن تغفر لي.
عن العلاء بن سالم قال: حدثني من صحب عامر بن عبد قيس أربعة أشهر قال: فما رأيته نام بليل ولا نهار حتى فارقته، وكان له رغيفان قد جعل عليهما ودكاً فيتسحر بواحد ويفطر بآخر. وكان إذا أصبح علمنا القرآن حتى إذا أمكنته الصلاة قام يصلي، فلا يزال يصلي حتى يصلي العصر. قال: ثم يعلمنا القرآن حتى يمسي فإذا صلى المغرب فهي ليلته حتى يصبح.
عن الحسن قال: كان عامر بن عبد قيس إذا صلى الصبح تنحى في ناحية المسجد فقال: من أقرئه؟ قال: فيأتيه قوم فيقرئهم، حتى إذا طلعت الشمس وأمكنته الصلاة قام يصلي إلى أن ينتصف النهار ثم يرجع إلى منزله فيقيل، ثم يرجع إلى المسجد إذا زالت الشمس فيصلي حتى يصلي الظهر، ثم يصلي إلى العصر فإذا صلى العصر تنحى في ناحية المسجد ثم يقول: من أقرئه؟ قال: فيأتيه قوم فيقرئهم حتى إذا غربت الشمس صلى المغرب ثم يصلي حتى يصلي العشاء الآخرة ثم يرجع إلى منزله فيتناول أحد رغيفيه فيأكل ثم يهجع هجعة خفيفة، ثم يقول. فإذا أسحر تناول رغيفه الآخر فأكله ثم شرب عليه شربة من ماء ثم يخرج إلى المسجد.
قال خلف: وحدثني بعض أصحابنا قال: كان منصور بن زاذان يفعل هذا كله ويفضل بخصلة: لا يبيت كل ليلة حتى يبل عمامته بدموعه ثم يضعها.
عن أبي العلاء بن عبد الله بن الشخير قال: أخبرني ابن أخي عامر بن عبد قيس أن(2/123)
عامراً كان يأخذ عطاءه فيجعله في طرف ردائه فلا يلقى أحداً من المساكين يسأله إلا أعطاه. فإذا دخل إلى أهله رمى به إليهم فيعدونها فيجدونها كما أعطيها.
عمارة بن عبد الله العنبري، وابنه، وثابت أبو الفضل، قالوا: ما رأينا عامر بن عبد قيس متطوعاً في مسجدهم قط.
قال وكان آخر من يدخل المسجد، وأول من يخرج منه.
عبد الله بن الشخير قال: كنا نأتي عامر بن عبد الله وهو يصلي في مسجده فإذا رآنا تجوز في صلاته ثم انصرف فقال لنا: ما تريدون؟ وكان يكره أن يرونه يصلي.
عن سحيم مولى بني تميم، قال: جلست إلى عامر بن عبد الله وه يصلي فتجوز في صلاته ثم أقبل علي فقال: أرحني بحاجتك فإني أبادر؟ قلت: وما تبادر؟ قال: ملك الموت رحمك الله؟ قال: فقمت عنه وقام إلى صلاته.
عن أبي عبدة العنبري قال: لما هبط المسلمون المدائن وجمعوا الأقباض أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض فقال الذين معه: ما رأينا مثل هذا قط، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه. فقالوا له: هل أخذت منه شيئاً؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به فعرفوا أن للرجل شأناً: فقالوا: من أنت؟ فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقرظوني، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه فأتبعوه رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس.
أدرك عامر الصدر الأول، وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لكنه اشتغل بالعبادة عن الرواية.(2/124)
485 - أبو العالية الرياحي
واسمه الرفيع. أعتقته امرأة من بني رياح. قال أبو العالية: دخلت المسجد معها فوافقها الإمام على المنبر فقبضت على يدي فقالت: اللهم أدخره عندك ذخيرة، اشهدوا يا أهل المسجد أنه سائبة لله. ثم ذهبت فما تراءينا بعد.
عن عاصم قال: كان أبو العالية إذا جلس غليه أكثر من أربعة قام.
__________
485 - هو: أبو العالية الرياحي –بكسر الراء والتحتانية - اسمه رفيع - بالتصغير - ابن مهران، ثقة كثير الإرسال من الثانية مات سنة تسعين، وقيل ثلاث وتسعين، وقيل بعد ذلك.(2/124)
عن ابن أنس، عن أبي العالية قال: كنت أرحل إلى الرجل مسيرة أيام، فأول ما أتفقده من أمره صلاته، فإن وجدته يقيمها ويتمها أقمت وسمعت منه، وإن وجدته يضيعها رجعت ولم أسمع منه وقلت: هو لغير الصلاة أضيع.
عن عثمان، عن أبي العالية قال: قال لي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا تعمل لغير الله فيكلك الله عز وجل إلى من عملت له.
خالد بن دينار قال: سمعت أبا العالية قال: كنا نعد من أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن ثم ينام عنه حتى ينساه.
سيار بن سلامة قال: دخلت على أبي العالية في مرضه الذي مات فيه فقال: إن أحبه إلي أحبه إلى الله عز وجل.
أسند أبو العالية عن أبي بكر الصديق، وعمر، وعلي، وأبي بن كعب، وأبي موسى، وأبي هريرة، وابن عباس، في جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، إلا أنه أرسل الحديث عن بعض هؤلاء وتوفي في شوال سنة تسعين.
أبو خلدة قال: مات أبو العالية في شوال يوم الاثنين سنة تسعين.(2/125)
486 - عبد الله بن شقيق البصري
أبو عبد الرحمن سمع من عائشة رضي الله عنها وقال: جاورت أبا هريرة سنة. وقد روى عن عمر، عن الجريري قال: كان عبد الله بن شقيق مجاب الدعوى، كانت تمر به السحابة فيقول: اللهم لا تجوز كذا وكذا حتى تمطر. فلا تجوز ذلك الموضع حتى تمطر.
__________
486 - هو: عبد الله بن شقيق العقيلي - بالضم - بصري، ثقة فيه نصب من الثالثة، مات سنة ثمان ومائة.(2/125)
487 - الفضيل بن زيد الرقاشي
غزا سبع غزوات في خلافة عمر، وكان من عباد البصرة.
عن عاصم الأحوال، عن فضيل بن زيد الرقاشي، وكان غزا مع عمر سبع غزوات قال: لا يلهينك الناس عن ذات نفسك، فإن الأمر يخلص إليك دونهم، ولا تقطع النهار بكيت وكيت فإنه
__________
487 - هو: حارس الأوقات، وغارس الأقوات، بالتنصل من الحوبات أبو حسان الفضيل بن زيد الرقاشي، من متقدمي التابعين وعباد أهل البصرة، غزا في أيام عمر بن الخطاب غزوات، انظر حلية الأولياء 3/122.(2/125)
محفوظ عليك ما قلت، ولم أر شيئاً أحسن طلباً ولا أسرع إدراكاً من حسنة حديثة لذنب قديم.
أسند الفضيل عن عبد الله بن مغفل وغيره من الصحابة.(2/126)
488 - هرم بن حيان العبدي
كان عاملاً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قتادة، عن هرم بن حيان قال: ما رأيت كالنار نام هاربها، ولا كالجنة نام طالبها.
عدي بن أبي عمارة قال: قال هرم بن حيان: ما آثر الدنيا على الآخرة حكيم ولا عصى الله كريم.
وعن الأصمعي، عن صالح المري قال: قال هرم بن حيان: صاحب الكلام على إحدى المنزلتين: إن قصر فيه حصر، وإن أغرق فيه أثم.
ابن شوذب قال: قال هرم بن حيان: لو قيل لي إنك من أهل النار لم أترك العمل لئلا تلومني نفسي فتقول: لم فعلت؟ لم ضيعت؟ وفي رواية أخرى: تقول لي ألا صنعت؟ ألا فعلت؟.
عن الحسن قال: خرج هرم بن حيان وعبد الله بن عامر يؤمان الحجاز، فجعلت أعناق رواحلهما تتخالجان الشجر. فقال هرم لابن عامر أتحب أنك شجرة من هذه الشجر؟ فقال ابن عامر: لا والله، لما أرجو من ربي عز وجل. فقال هرم: لكني والله لوددت أني شجرة من هذه الشجر أكلتني هذه الراحلة ثم قذفتني بعراً ولم أكابد الحساب، يا ابن عامر إني أخاف الداهية الكبرى إما إلى الجنة وإما إلى النار، قال الحسن: وكان هرم أفقه الرجلين وأعلمهما بالله عز وجل.
مطر الوراق قال: بات هرم بن حيان العبدي عند حممة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فبات حممة ليلته يبكي كلها حتى أصبح. فلما أصبح قال له هرم: يا حممة ما أبكاك؟ قال: ذكرت ليلة صبيحتها تبعثر القبور فيخرج من فيها.
قال: وبات حممة عند هرم بن حيان فبات ليلته يبكي حتى أصبح فسأله حين أصبح: ما الذي أبكاك؟ قال: ذكرت ليلة صبيحتها تناثر نجوم السماء فأبكاني ذاك. قال: وكانا يصطحبان
__________
488 - هو: هرم بن حيان العبدي، ويقال: الأزدي، البصري، أحد العابدين، ولي بعض الحروب في أيام عمر وعثمان ببلاد فارس، انظر سير أعلام النبلاء 5/90.(2/126)
أحياناً بالنهار فيأتيان سوق الريحان فيسألان الله الجنة ويدعوان ثم يأتيان الحدادين فيعوذان من النار ثم يتفرقان إلى منازلهما.
عن أبي نضرة أن عمر رضي الله عنه بعث هرم بن حيان على الخيل، فغضب رجل فأمر به فوجئت عنقه. ثم أقبل على أصحابه فقال: لا جزاكم الله خيراً ما نصحتموني حين قلت ولا كففتموني عن غضبي، والله لا ألي لكم عملاً. ثم كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين لا طاقة لي بالرعية فابعث إلي عملك.
عن الحسن قال: مات هرم بن حيان في يوم صائف شديد الحر. فما نفضوا أيديهم عن قبره جاءت سحابة تسير حتى قامت على قبره فلم تكن أطول منه ولا أقصر، فرشته حتى روته ثم انصرفت.
عن قتادة قال: أمطر قبر هرم بن حيان من يومه، وأنبت العشب من يومه.
قلت: لا يحفظ لهرم مسند أصلاً.(2/127)
489 - صلة بن أشيم العدوي
يكنى أبا الصهباء. ثابت البناني قال: كان صلة بن أشيم يخرج إلى الجبان فيتعبد فيها فكان يمر عليه شباب يلهون ويلعبون. فيقول لهم: أخبروني عن قوم أرادوا سفراً فحادوا النهار عن الطريق وباتوا بالليل، متى يقطعون سفرهم؟ قال: فكان كذلك يمر بهم فيعظهم. فيمر بهم ذات يوم فقال لهم هذه المقالة. فقال شاب منهم: يا قوم إنه والله ما يعني بهم غيرنا، نحن بالنهار نلهو وبالليل ننام. ثم اتبع صلة فلم يزل يختلف معه إلى الجبان ويتعبد معه حتى مات.
حماد بن زيد قال: حدثنا ثابت أن صلة وأصحابه مر بهم فتى يجر ثوبه فهم أصحاب صلة أن يأخذوه بألسنتهم أخذاً شديداً فقال صلة: دعوني أكفكم أمره. فقال: يا ابن أخي إن لي إليك حاجة. قال: وما حاجتك؟ قال أن ترفع إزارك. قال: نعم ونعمى عين. فرفع إزاره. فقال صلة لأصحابه: هذا كان أمثل مما أردتم، لو شتمتموه لشتمكم.
حماد بن سلمة قال: أنبأ ثابت أن أخاً لصلة بن أشيم مات فجاء رجل وهو يطعم. فقال: يا أبا الصهباء إن أخاك مات، فقال: هلم فكل قد نعي لنا، ادن فكل. فقالك والله ما سبقني إليك أحد، فمن نعاه؟ قال: يقول الله عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} الزمر: 30.
__________
489 - هو: أبو الصهباء صلة بن أشيم العدوي، المنتصح بكتاب الله المتحبب إلى عباد الله، كان عند النوازل محتسبا صابرا، وفي الخنادس منتصبا ذاكرا حلية الأولياء 2/270.(2/127)
عن معاذة قالت: كان أبو الصهباء يصلي حتى ما يستطيع أن يأتي فراشه إلا زحفاً.
حماد بن جعفر بن زيد أن أباه أخبره قال: خرجنا في غزاة إلى كابل، وفي الجيش صلة بن أشيم فنزل الناس عند العتمة. فقلت: لأرمقن عمله فأنظر ما يذكر الناس من عبادته. فصلى العتمة ثم اضطجع فالتمس غفلة الناس حتى قلت هدأت العيون، وثب فدخل غيضة قريباً منه ودخلت في أثره فتوضأ ثم قام يصلي.
قال: وجاء أسد حتى دنا منه. قال فصعدت في شجرة. قال: فتراه التفت؟ أو عده جرذاً. حتى سجد فقلت: الآن يفترسه فجلس ثم سلم فقال: أيها السبع اطلب الرزق من مكان آخر. فولى وإن له لزئيراً تصدع الجبال منه. فما زال كذلك.
فلما كان عند الصبح جلس فحمد الله عز وجل بمحامد لم أسمع بمثلها إلا ما شاء الله. ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، أو مثلي يجترئ أن يسلك الجنة؟ ثم رجع فأصبح كأنه بات على الحشايا وأصبحت وبي من الفترة شيء الله به عليم.
قال: فلما دنوا من أرض العدو قال الأمير: لا يشذن أحد من العسكر. قال فذهبت بغلته بثقلها فأخذ يصلي. فقالوا له: إن الناس قد ذهبوا فمضى ثم قال: دعوني أصلي ركعتين. فقالوا: الناس قد ذهبوا. قال إنهما خفيفتان. قال: فدعا ثم قال: اللهم إني أقسم عليك أن ترد بغلتي وثقلها. قال: فجاءت حتى قامت بين يديه. قال: فلما لقينا العدو وحمل هو وهشام بن عامر فصنعا بهم طعناً وضرباً وقتلاً.
فكسر ذلك العدو فقالوا: رجلان من العرب صنعا بنا هذا فكيف لو قاتلونا؟ فأعطوا المسلمين حاجتهم.
عن أبي السليل: أن صلة بن أشيم حدثه قال: كنت أسير على دابة لي إذ جعت جوعاً شديداً فلم أجد أحداً يبيعني طعاماً وجعلت أتحرج أن أصيب من أحد من الطريق شيئاً. فبينما أنا أسير حسبت أنه قال: أدعو ربي عز وجل وأستطعمه. إذ سمعت وجبة من خلفي فالتفت فإذا أنا بمنديل أبيض فنزلت عن دابتي فأخذت الثوب فإذا فيه دوخلة ملأى رطباً. قال: فأخذته وركبت دابتي فأكلت منه حتى شبعت وأدركني المساء فنزلت إلى راهب في دير له فحدثته الحديث. قال: فاستطعمني من الرطب فأطعمته رطباً: ثم إني مررت على ذلك الراهب فإذا نخلات حسان حمال فقال: إنهن لمن رطباتك التي أطعمتني. وجاء بالثوب إلى أهله فكانت امرأته تريه الناس.(2/128)
عن رجل من بني عدي قال: لما أهديت معاذة إلى صلة أدخله ابن أخيه الحمام ثم أدخله بيتاً مطيباً فقام يصلي فقامت فصلت. فلم يزالا يصليان حتى برق الفجر. قال: فأتيته فقلت: أي عم أهديت إليك ابنة عمك الليلة فقمت تصلي وتركتها؟ فقال: أدخلتني أمس بيتاً أذكرتني به النار، ثم أدخلتني بيتاً أذكرتني به الجنة، فما زالت فكرتي فيهما حتى أصبحت.
عن جعفر بن زيد العبدي أن صلة بن أشيم قال لمعاذة: ليكن شعارك الموت فإنك لا تبالين على يسر أصبحت من الدنيا أم على عسر.
عن الحسن قال: مات أخ لنا فصلينا عليه. فلما وضع في قبره ومد عليه الثوب جاء صلة بن أشيم فأخذ بناحية الثوب ثم نادى: يا فلان ابن فلان:
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيا
قال: فبكى وأبكى الناس.
عن ابن عون قال: قال رجل لصلة بن أشيم: ادع الله عز وجل لي قال: رغبك الله عز وجل فيما يبقى، وزهدك فيما يفنى، ووهب لك اليقين الذي لا يسكن إلا إليه ولا يعول في الدين إلا عليه.
عن ثابت البناني: أن صلة بن أشيم كان في مغزى له ومعه ابن له فقال: أي بني تقدم فقاتل حتى أحتسبك. فحمل فقاتل حتى قتل رحمه الله. ثم تقدم فقتل. فاجتمعت النساء عند امرأته معاذة العدوية فقالت: مرحباً، إن كنتن جئتن لتهنئنني فمرحباً بكم وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن.
لقي صلة بن أشيم جماعة من الصحابة، وأسند عن ابن عباس وغيره. وقتل شهيداً في أول إمرة الحجاج على العراق.(2/129)
490 - أبو رجاء عمران بن ملحان العطاردي
ويقال عمران بن تيم.
يوسف بن عطية عن أبيه قال: دخل أبي على أبي رجاء العطاردي فقال: حدثني أبو رجاء قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم ونحن على ماء لنا وكان لنا صنم مدور. فحملناه على قتب وانتقلنا
__________
490 - هو: عمران بن ملحان – بكسر الميم وسكون اللام بعدها مهملة - ويقال: ابن تيم، أبو رجاء العطاردي، مشهور بكنيته وقيل غير ذلك في اسم أبيه، مخضرم، ثقة، معمر، مات سنة خمس ومائة، وله مائة وعشرون سنة.(2/129)
من ذلك الماء إلى غيره. فمررنا برملة. فانسل الحجر فوقع في الرمل فغاب فيه. فلما رجعنا فقذفنا الحجر فرجعنا في طلبه فإذا هو في رمل قد غاب فيه فاستخرجناه. كان ذلك أول إسلامي فقلت: إن آلهاً لم يمتنع من تراب يغيب فيه لإله سوء، وإن العنز لتمنع حياءها بذنبها. فرجعنا إلى المدينة وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عمارة المغولي قال: سمعت أبا رجاء يقول: كنا نعمد إلى الرمل فنجمعه ونحلب عليه فنعبده، وكنا نعمد إلى الحجر الأبيض فنعبده زماناً ثم نلقيه.
الجعد أبو عثمان اليشكري قال: سألت أبا رجاء العطاردي قلت: يا أبا رجاء أرأيت من أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كانوا يخافون على أنفسهم النفاق! قال: أما أني أدركت بحمد الله عز وجل منهم صدراً حسناً. قال أبو عثمان، وكان أدرك عمر بن الخطاب فقال: نعم شديداً نعم شديداً.
أبو الأشهب قال: كان أبو رجاء يختم بنا في رمضان كل عشرة أيام.
ابن عون قال: سمعت أبا رجاء يقول: ما آسى على شيء أخلفه بعدي إلا أني كنت أعفر وجهي كل يوم وليلة خمس مرار لربي عز وجل.
أسند أبو رجاء عن عمر وابن عباس، وأم قومه أربعين سنة. وتوفي في خلافة ابن عبد العزيز.(2/130)
491 - إياس بن قتادة التميمي
ابن أخت الأحنف بن قيس عن سلمة بن علقمة قال: اعتم إياس بن قتادة وهو يريد بشر بن مروان، فنظر في المرآة فإذا بشيبة في ذقنه فقال: افليها يا جارية. ففلتها فإذا هي بشيبة أخرى. فقال: انظروا من بالباب من قومي فأدخلوه فأدخلوا عليه فقال: يا بني تميم إني قد كنت وهبت لكم شبيبتي فهبوا لي شيبتي، ألا أراني حمير الحاجات وهذا الموت يقرب مني. ثم قال: انقضى العمامة فاعتزل يؤذن لقومه ويعبد ربه ولم يغش سلطاناً حتى مات.
أسند أياس عن قيس بن عباد، وعن أبي بن كعب، وتشاغل بالتعبد عن الرواية.
__________
491 - هو: المستقبل آثامه، المتدارك أيامه، المستأنس بوحدته، المعتبر بشيبته، إياس بن قتادة التميمي، انظر حلية الأولياء 3/131.(2/130)
من الطبقة الثانية
مطرف بن عبد الله بن الشخير
...
ومن الطبقة الثانية "من أهل البصرة":
492 - مطرف بن عبد الله بن الشخير
يكنى أبا عبد الله. سليمان بن المغيرة قال: كان مطرف بن عبد الله إذا دخل بيته سبحت معه آنية بيته.
ثابت قال: قال مطرف: لو أخرج قلبي في يدي هذه اليسار، وجيء بالخير فجعل في هذه اليمنى ما استطعت أن أولج قلبي منه شيئاً حتى يكون الله يضعه.
غيلان قال: كان مطرف يلبس البرانس، ويلبس المطارف، ويركب الخيل ويغشى السلطان غير أنك كنت إذا أفضيت إليه أفضيت إلى قرة عين.
عن ثابت البناني قال: كان مطرف يسكن البادية فإذا كان يوم الجمعة يركب فيجيء إلى الجمعة، قال فمر بمقابر فنعس فرأى أهل القبور على أفواه القبور، فقالوا: هذا يذهب إلى الجمعة. قال: وتعرفون يوم الجمعة من غيره؟ قالوا: نعم، ونعرف ما يقول الطير في جو السماء. قال: ما يقول؟ قالوا: يقول سلام سلام ليوم صالح.
عن ثابت البناني. قال: قال مطرف بن عبد الله: ما مدحني أحد قط إلا تصاغرت إلي نفسي، عن ثابت، عن مطرف قال: لأن يسألني ربي عز وجل يوم القيامة فيقول: يا مطرف ألا فعلت؟ أحب إلي من أن يقول: لم فعلت.
عن ثابت عن مطرف بن عبد الله أنه كان يقول: يا إخوتاه اجتهدوا في العمل فإن يكن الأمر كما نرجو من رحمة الله وعفوه كاهنت لنا درجات في الجنة، وإن يكن الأمر شديداً كما نخاف ونحاذر لم نقل: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} فاطر: 37، نقول قد عملنا فلم ينفعنا ذلك.
عن خلف بن الوليد عن رجل من بني نهشل. قال: قال مطرف بن عبد الله وهو بعرفة: اللهم لا ترد الجميع، من أجلي.
__________
492 - هو: مطرف بن عبد الله بن الشخير – بكسر الشين المعجمة وتشديد المعجمة المكسورة بعدها تحتانية ساكنة ثم راء - العامري الحرشي - بمهملتين مفتوحتين ثم معجمة، أبو عبد الله البعدي، ثقة عابد فاضل، من الثانية مات سنة خمس وتسعين.(2/131)
ثابت قال: مات عبد الله بن مطرف، فخرج مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد ادهن فغضبوا وقالوا: يموت عبد الله ثم تخرج في ثياب مثل هذه مدهناً؟ قال: فأستكين لها وقد وعدني ربي تبارك عليها ثلاث خصال كل خصلة منها أحب إلي من الدنيا كلها؟ قال الله عز وجل: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} البقرة فأستكين لها بعد هذا؟
قال ثابت: وقال مطرف: ما من شيء أعطي به في الآخرة قدر كوز من ماء إلا وددت أنه أخذ مني في الدنيا.
غيلان قال: سمعت مطرفاً يقول: إني وجدت ابن آدم كالشيء الملقى بين يدي الله تعالى وبين الشيطان، فإن أراد الله أن ينعشه اجتره إليه؛ وإن أراد به غير ذلك خلى بينه وبين عدوه.
المعلى بن زياد قال: كان إخوان مطرف بن عبد الله عنده، فخاضوا في ذكر الجنة فقال مطرف: لا أدري ما تقولون؟ حال ذكر النار بيني وبين الجنة.
عن ثابت، عن مطرف، أنه أقبل من مبداه فجعل يسير بالليل فأضاء له سوطه.
عن أبي العلاء، عن مطرف أنه قال: ما أوتي عبد بعد الإيمان أفضل من العقل وكان مطرف يقول: إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم فاطلبوا نعيماً لا موت فيه.
عن بكر بن عبد الله المزني قال: قال مطرف بن عبد الله: لو علمت متى أجلي لخشيت علي ذهاب عقلي، ولكن الله من على عباده بالغفلة عن الموت، ولولا الغفلة ما تهنأوا بعيش ولا قامت بينهم الأسواق.
عن الأعمش قال: قال لي مطرف بن عبد الله: وجدت الغفلة التي ألقاها الله عز وجل في قلوب الصديقين من خلقه رحمة رحمهم بها، ولو ألقى في قلوبهم الخوف على قدر معرفتهم به ما هنأهم العيش.
عن أبي العلاء، عن أخيه يعني مطرفاً، قال: إذا استوت سريرة العبد وعلانيته قال الله عز وجل هذا عبدي حقاً.
محمد بن واسع قال: كان مطرف يقول: اللهم ارض عنا، فإن لم ترض عنا فاعف عنا، فإن المولى قد يعفو عن عبده وهو عنه غير راض.(2/132)
عن سكين بن عبد العزيز، عن أبيه عن مطرف قال: إذا دخلتم على المريض فإن استطعتم أن يدعو لكم، فإنه قد حرك.
سفيان قال: قال مطرف: إن أقبح ما طلب به الدنيا عمل الآخرة.
عن حميد بن هلال قال: كان بين مطرف وبين رجل من قومه شيء، فكذب على مطرف. فقال له مطرف: إن كنت كاذباً فعجل الله حتفك. فمات الرجل مكانه قال: فاستعدي أهله زياداً على مطرف، فقال لهم زياد: هل ضربه؟ هل مسه بيده؟ فقالوا: لا. فقال: دعوة رجل صالح وافقت قدراً. فلم يجعل لهم شيئاً.
أبو بكر السهمي قال: حدثني شيخ لنا يكنى أبا بكر أن مطرف بن الشخير قال لبعض إخوانه: يا فلان إذا كانت لك حاجة فلا تكلمني فيها ولكن اكتبها في رقعة ثم ادفعها إلي فإني أكره أن أرى في وجهك ذل السؤال. وقال الشاعر:
لا تحسبن الموت موت البلى ... وإنما الموت سؤال الرجال
كلاهما موت ولكن ذا ... أشد من ذاك لذل السؤال
وقال أيضاً:
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله ... عوضاً وإن نال الغنى بسؤال
وإذا السؤال مع النوال وزنته ... رجح السؤال وخف كل نوال
فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلاً ... فابذله للمتكرم المفضل
عن غيلان قال: كان مطرف يقول: كأن القلوب ليست منا وكأن الحديث يعنى به غيرنا.
أسند مطرف عن عثمان بن عفان، وعلي، وأبي بن كعب، وأبي ذر، وأبيه عبد الله بن الشخير، في آخرين. وتوفي في ولاية الحجاج العراق بعد الطاعون الجارف. وكان الطاعون سنة سبع وثمانين في خلافة الوليد بن عبد الملك. وكان مطرف أكبر من الحسن البصري بعشرين سنة.(2/133)
493 - صفوان بن محرز المازني
من بني تميم عن الحسن عن صفوان بن محرز قال: إذا أكلت رغيفاً أشد به صلبي، وشربت كوز ماء فعلى الدنيا وأهلها العفاء.
__________
493 - هو: صفوان بن محرز بن زياد المازني، أو الباهلي، ثقة عابد من الرابعة، مات سنة أربع وسبعين.(2/133)
المعلى بن زياد القردوسي قال: كان لصفوان بن محرز سرب يبكي فيه، وكان يقول: قد أرى مكان الشهادة لو تشايعني نفسي.
عن الحسن قال: لقيت أقواماً كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم، ولقد لقيت أقواماً كانوا من حسناتهم أشفق أن لا تقبل منهم من سيآتكم. ولقد صحبت أقواماً كان أحدهم يأكل على الأرض وينام على الأرض، منهم صفوان بن محرز المازني.
وكان يقول: إذا أويت إلى أهلي وأصبت رغيفاً أكلته فجزى الله الدنيا عن أهلها شراً. والله ما زاد على رغيف حتى فارق الدنيا، يظل صائماً ويفطر على رغيف ويشرب عليه من الماء حتى يتروى ثم يقوم فيصلى حتى يصبح، فإذا صلى الفجر أخذ المصحف فوضعه في حجره يقرأ حتى يترجل النهار، ثم يقوم فيصلي حتى ينتصف النهار، فإذا انتصف النهار رمى بنفسه على الأرض فنام إلى الظهر فكانت تلك نومته حتى فارق الدنيا. فإذا صلى الظهر قام فصلى إلى العصر، فإذا صلى العصر وضع المصحف في حجره فلا يزال يقرأ حتى تصفر الشمس.
عن الحسن قال: كان لصفوان بن محرز سرب لا يخرج منه إلا للصلاة.
غيلان بن جرير قال: كانوا يجتمعون، صفوان وإخوانه، فيتحدثون فلا يرون تلك الرقة. فيقولون: يا صفوان حدث أصحابك. قال فيقول: الحمد لله فيرق القوم وتسيل دموعهم، كأنها أفواه المزاد.
ثابت البناني قال: أخذ عبيد الله بن زياد ابن أخ لصفوان بن محرز فحبسه في السجن. فلم يدع صفوان شريفاً بالبصرة يرجو منفعته إلا تحمل به عليه. فلم ير لحاجته نجاحاً. فبات في مصلاه حزيناً. قال: فهوم من الليل فإذا آت قد أتاه في منامه فقال: يا صفوان قم فاطلب حاجتك من جهتها. قال: فانتبه فزعاً فقام فتوضأ ثم صلى ثم دعا. فأرق ابن زياد فقال: علي بابن أخي صفوان بن محرز. فجاء بالحرس وجيء بالنيران ففتحت تلك الأبواب الحديد في جوف الليل، فقال: ابن أخي صفوان أخرجوه فإني منعت من النوم منذ الليلة، فأخرج فأتي به ابن زياد فقال: انطلق بلا كفيل ولا شيء. فما شعر صفوان حتى ضرب عليه ابن أخيه بابه. قال صفوان: من هذا؟ قال: أنا فلان. قال: أي ساعة هذه الساعة؟ فحدثه الحديث.(2/134)
أسند صفوان عن ابن عمر، وأبي موسى، وعمران بن حصين، وحكيم بن حزام، في آخرين. وتوفي بالبصرة في ولاية بشر بن مروان.(2/135)
494 - أبو الحلال العتكي
اسمه زرارة بن ربيعة، من الأزد. عبيد الله بن ثور قال: حدثتني أمي عن عمتها العيناء بنت أبي الحلال قالت: كان أبو الحلال فوق غرفة فيأتي بعض أبوابها فيشرف على شق من ناحية الحي فينادي: يا فلان يا فلان. ثم يقبل على الشق الآخر فينادي: يا فلان يا فلان. ثم يقبل على الشق الآخر فيقول مثله، حتى يأتي على كل الأركان الأربعة. قالت: ثم يقول: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} مريم ثم يقبل على الصلاة.
ومات يوم مات وهو ابن عشرين ومائة سنة. وكان يقول: اللهم لا تسلبني القرآن.
وسمع أبو الحلال من عثمان بن عفان رضي الله عنه.(2/135)
495 - زرارة بن أوفى الحرشي
من بني الحريش بن كعب، يكنى أبا حاجب. بهز بن حكيم قال: صلى بنا زرارة بن أوفى في مسجد بني قشير فقرأ {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} المدثر: 8 فخر ميتاً فحمل إلى داره فكنت فيمن حمله إلى داره.
قال: وكان يقص في داره. وقدم الحجاج وهو يقص في داره.
أبو جناب القصار قال: صلى بنا زرارة بن أوفى الفجر فلما بلغ {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} شهق شهقة فمات. رحمه الله.
أسند زرارة عن جماعة من الصحابة منهم: أبو هريرة، وعمران بن حصين، وابن عباس. وتوفي فجاءة سنة ثلاث وتسعين من خلافة الوليد بن عبد الملك.
__________
495 - هو: زرارة -بضم أوله - ابن أوفى العامري، الحرشي - بمهملة وراء مفتوحتين، ثم معجمة، أبو حاجب، البصري قاضيها ثقة عابد، من الثالثة، مات فجأة في الصلاة سنة ثلاث وتسعين.(2/135)
496 - أبو السوار حسان بن حريث العدوي
من بني عدي بن زيد مناة.
عن أبي التياح قال: سمعت أبا السوار يقول: وقرأ هذه الآية: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ
__________
496 - هو: أبو السوار العدوي، بالقلب زوار، وفي الوجه خوار، وبالوصل فخار، وبالنفس ضرار، انظر حلية الأولياء 2/283.(2/135)
فِي عُنُقِهِ} الإسراء: 13 قال: هما نشرتان وطية، أما ما حييت يا ابن آدم فصحيفتك منشورة فأمل فيها ما شئت، فإذا مت طويت ثم إذا بعثت نشرت {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} الإسراء: 14
محمد بن الحسين قال: إن أبا السوار العدوي أقبل عليه رجل بالأذى، فسكت، حتى بلغ منزله. أو دخل. قال حسبك إن شئت.
عن هشام قال: كان أبو السوار العدوي يعرض له رجل فيشتمه فيقول: إن كنت كما قلت إني إذاً لرجل سوء.
أسند أبو السوار عن علي بن أبي طالب، وعمران بن حصين وغيرهما.(2/136)
497 - خليد بن عبد الله العصري
وعصر بطن من عبد قيس. محمد بن واسع قال: كان خليد العصري يصوم الدهر.
عن قتادة أن خليداً العصري قال: يا إخوتاه هل منكم من أحد لا يحب أن يلقى حبيبه ألا فأحبوا ربكم وسيروا إليه سيراً كريماً.
عن قتادة عن خليد قال: المؤمن لا تلقاه إلا في ثلاث خلال مسجد يعمره، أو بيت يستره، أو حاجة لا بأس بها.
عن محمد بن واسع قال: قال خليد العصري: كلنا قد أيقن بالموت وما نرى له مستعداً. وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملاً، وكلنا قد أيقن بالنار وما نرى لها خائفاً فعلى ما تعرجون، وما عسيتم تنظرون؟ الموت؟ فهو أول وارد عليكم من الله بخير أو بشر. فيا إخواتاه سيروا إلى ربكم سيراً جميلاً.
__________
497 - هو: الذاكر الفكري، خليد بن عبد الله العصري، كان لمحبوبه ذاكرا، وإلى مشاهدته ساهرا، انظر حلية الأولياء 2/263.(2/136)
498 - مسمون بن سياه
عن كهمس بن عبد الله قال: سمعت ميمون ين سياه - وكان أكبر من الحسن - يقول: تذاكروا عندي رجلاً من هؤلاء السلاطين فوقعوا فيه ولم أذكر منه خيراً ولا شراً فانقلبت إلى
__________
498 - هو: ميمون بن سياه – بكسر المهملة بعدها تحتانية - البصري أبو بحر، صدوق عابد يخطئ، من الرابعة.
قال الشيخ شعيب: بل ضعيف يعتبر به في المتابعات والشواهد فقد ضعفه يحيى بن معين، وأبو داود، وابن حيان ويعقوب بن سفيان.... التحرير 3/445.(2/136)
بيتي فرقدت فرأيت فيما يرى النائم كأن بين يدي جيفة زنجي ميت منتفخ منتن، وكأن قائماً على رأسي يقول: كل. قلت: يا عبد الله ولم آكل؟ قال: بما اغتيب عندك فلان قال: قلت ما ذكرت منه خيراً ولا شراً. فقال: ولكنك استمعت ورضيت.
عن حزم قال: كان ميمون بن سياه لا يغتاب ولا يدع أحداً يغتاب عنده، ينهاه فإن انتهى وإلا قام عنه. أسند ميمون عن أنس بن مالك.(2/137)
499 - يزيد بن عبد الله بن الشخير
أخو مطرف. يكنى أبا العلاء. عن بديل بن ميسرة قال: كان مطرف يقول: لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر.
وكان أبو العلاء يقول: اللهم أي ذلك كان خيراً لي فعجل لي.
قال أبو صالح العقيلي: كان يزيد يقرأ في المصحف حتى يغشى عليه. قال: كان يزيد أكبر من الحسن البصري بعشر سنين، وكان مطرف أكبر من يزيد بعشر سنين، وقد حدث يزيد عن أبيه وغيره. وتوفي بالبصرة سنة إحدى عشرة ومائة.
__________
499 - هو: يزيد بن عبد بن الشخير –بكسر المعجمة وتشديد المعجمة - أبو العلاء البصري، ثقة من الثانية، مات سنة إحدى عشرة ومائة، أو قبلها، وكان مولده في خلافة عمر، فوهم من زعم أن له رؤية.(2/137)
500 - الحسن بن أبي الحسن البصري
يكنى أبا سعيد. وكان أبوه من أهل بيسان فسبي فهو مولى الأنصار ولد في خلافة عمر وحنكه عمر بيده، وكانت أمه تخدم أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فربما غابت فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله به إلى أن تجيء أمه فيدر عليه ثديها فيشربه. فكانوا يقولون: فصاحته من بركة ذلك.
إبراهيم بن عيسى اليشكري قال: ما رأيت أطول حزناً من الحسن، وما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة.
__________
500 - هو: الحسن بن أبي الحسن البصري، واسم أبيه: يسار بالتحتانية والمهملة، الأنصاري مولاهم، ثقة فقيه فاضل مشهور، وكان يرسل كثيرا ويدلس، قال البزار: كان يروي عن جماعة لم يسمع منهم فيتجوز ويقول: حدثنا وخطبنا...... هو رأس أهل الطبقة الثالثة، مات سنة عشر ومائة وقد قارب التسعين.(2/137)
عن يونس قال: كان الحسن يقول: نضحك ولعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا فقال: لا أقبل منكم شيئاً.
حكيم بن جعفر قال: قال لي مسمع: لو رأيت الحسن لقلت قد بث عليه حزن الخلائق، من طول تلك الدمعة وكثرة ذلك النشيج.
محمد بن سعد قال: قال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما.
عن حفص بن عمر قال: بكى الحسن فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أخاف أن يطرحني غداً في النار ولا يبالي.
يوسف بن أسباط قال: مكث الحسن ثلاثين سنة لم يضحك، وأربعين سنة لم يمزح. قال: وقال الحسن: لقد أدركت أقواماً ما أنا عندهم إلا لص.
عن حميد قال: بينما الحسن في المسجد تنفس تنفساً شديداً ثم بكى حتى أرعدت منكباه ثم قال: لو أن بالقلوب حياة، لو أن بالقلوب صلاحاً لأبكتكم من ليلة صبيحتها يوم القيامة، إن ليلة تمخض عن صبيحة يوم القيامة ما سمع الخلائق بيوم قط أكثر من عورة بادية ولا عين باكية من يوم القيامة.
روى أبو عبيدة الناجي: أنه سمع الحسن يقول: يا ابن آدم إنك لا تصيب حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب من نفسك فتصلحه، فإذا فعلت ذلك لم تصلح عيباً إلا وجدت عيباً آخر لم تصلحه، فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك، وأحب العباد إلى الله تعالى من كان كذلك.
عن يحيى بن المختار عن الحسن قال: إن المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله عز وجل، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة. إن المؤمن يفجؤه الشيء يعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا. ما لي ولهذا؟ والله لا أعود لهذا أبداً إن شاء الله. إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم. إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وبصره ولسانه وجوارحه.(2/138)
مبارك بن فضالة قال: سمعت الحسن وقال له شاب: أعياني قيام الليل. فقال: قيدتك خطاياك.
عبد المؤمن بن عبيد الله عن الحسن قال: يا ابن آدم إنك ناظر إلى عملك ويوزن خيره وشره فلا تحقرن من الخير شيئاً وإن هو صغر فإنك إذا رأيته سرك مكانه ولا تحقرن من الشر شيئاً فإنك إذا رأيته ساءك مكانه، رحم الله رجلاً كسب طيباً وأنفق قصداً وقدم فضلاً ليوم فقره وفاقته. هيهات! ذهبت الدنيا بحال بالها وبقيت الأعمال قلائد في أعناقكم. أنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم وقد أسرع بخياركم فماذا تنتظرون؟ المعاينة فكأن قد. إنه لا كتاب بعد كتابكم ولا نبي بعد نبيكم، يا ابن آدم بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً ولا تبيعن آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعاً.
روى أبو عبيدة الناجي أنه سمع الحسن بن أبي الحسن يقول: حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور، واقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة وإنها تنازع إلى الشر غاية، وإنكم إن لم تقاربوها لم تبق من أعمالكم شيئاً فتصبروا وتشددوا فإنما هي ليال تعد، وإنما أنتم ركب وقوف يوشك أن يدعى أحدكم فيجيب ولا يلتفت فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم، إن هذا الحق أجهد الناس وحال بينهم وبين شهواتهم وإنما صبر على هذا الحق من عرف فضله ورجا عاقبته.
عن أبي همام الكلاعي، عن الحسن أنه مر ببعض القراء على بعض أبواب السلاطين فقال: أفرحتم حمائمكم وفرطحتم نعالكم وجئتم بالعلم تحملونه على رقابكم إلى أبوابهم فزهدوا فيكم، أما إنكم لو جلستم ببيوتكم حتى يكونوا هم الذين يرسلون إليكم لكان أعظم لكم في أعينهم، تفرقوا فرق الله بين أعضائكم.
عاصر الحسن خلقاً كثيراً من الصحابة فأرسل الحديث عن بعضهم، وسمع من بعضهم. وقد ذكرنا ذلك في كتاب أفردناه لمناقب الحسن وأخباره وهو نحو من عشرين جزءاً لذلك اكتفينا بما ذكرنا ههنا لأننا نكره الإعادة في التصانيف. وتوفي الحسن في سنة عشر ومائة.(2/139)
501 - أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي
عن عمرو بن دينار قال: أخبرني عطاء قال: سمعت ابن عباس يقول: لو نزل أهل البصرة
__________
501 - هو: جابر بن زيد – أبو الشعثاء الأزدي ثم الجوفي - بفتح الجيم وسكون الواو بعدها فاء - البصري، مشهور بكنيته، ثقة فقيه من الثالثة، مات سنة ثلاث وتسعين وقيل ثلاث ومائة.(2/139)
عند قول جابر بن زيد لأوسعهم عما في كتاب الله عز وجل علماً. وقال عمرو: وما رأيت أحداً أعلم من أبي الشعثاء.
عن صالح الدهان، عن جابر بن زيد قال: نظرت في أعمال البر فإذا الصلاة تجهد البدن ولا تجهد المال، والصيام مثل ذلك، والحج يجهد المال والبدن. فرأيت الحج أفضل من ذلك كله.
عن صالح الدهان أ، جابر بن زيد كان لا يماكس في ثلاث: في الكراء إلى مكة، وفي الرقبة يشتريها للعتق، وفي الأضحية. وكان لا يماكس في كل شيء يتقرب به إلى الله عز وجل.
عن ابن سيرين قال: كان أبو الشعثاء مسلماً عند الدينار والدرهم.
عن مطر الوراق، عن جابر بن زيد قال: لأن أتصدق بدرهم على يتيم أو مسكين أحب إلي من حجة بعد حجة الإسلام.
وأسند أبو الشعثاء عن ابن عمر وابن عباس. وتوفي سنة ثلاث ومائة.(2/140)
502 - أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي
عن أيوب، عن أبي قلابة قال: أي رجل أعظم أجراً من رجل ينفق على عيال له صغار يعفهم الله به ويغنيهم.
عن صالح بن رستم قال: قال أبو قلابة: إذا أحدث الله عز وجل لك علماً فأحدث له عبادة ولا يكن همك ما يحدث به الناس. قال: وقال لي: الزم سوقك فإن الغنى من العافية.
حميد الطويل، عن أبي قلابة قال: إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر جهدك، فإن لم تجد له عذراً فقل في نفسك: لعل لأخي عذراً لا أعلمه.
عثمان بن الهيثم قال: كان رجل بالبصرة من بني سعد، وكان قائداً من قواد عبيد الله بن زياد فسقط على السطح فانكسرت رجلاه. فدخل عليه أبو قلابة يعوده فقال له: أرجو أن تكون لك خيرة. فقال له: يا أبا قلابة وأي خير في كسر رجلي جميعاً؟ فقال: ما ستر الله عليك أكثر.
__________
502 - هو: عبد الله بن زيد بن عمرو الجرمي، أبو قلابة البصري، ثقة فاضل كثير الإرسال، قال العجلي: فيه نصب يسير، من الثالثة، مات بالشام هاربا من القضاء سنة أربع ومائة وقيل: بعدها.(2/140)
فلما كان بعد ثلاث ورد عليه كتاب ابن زياد أن يخرج فيقاتل الحسين. فقال للرسول: قد أصابني ما ترى فما كان إلا سبعاً حتى وافى الخبر بقتل الحسين. فقال الرجل: رحم الله أبا قلابة لقد صدق، إنه كان خيرة لي.
عن أيوب قال: مرض أبو قلابة بالشام، فأتاه عمر بن عبد العزيز يعوده فقال: يا أبا قلابة تشدد لا تشمت بنا المنافقون.
أسند أبو قلابة عن أنس وغيره من الصحابة. ومات بالشام سنة أربع أو خمس ومائة.(2/141)
503 - مسلم بن يسار
يكنى أبا عبد الله. مولى طلحة بن عبيد الله التيمي. كذا قال ابن سعد.
وقال البخاري ومسلم بن الحجاج هو مولى بني أمية. وقال أبو بكر الخطيب: مولى عثمان بن عفان.
ميمون بن جابان قال: ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتاً في صلاته قط، خفيفة ولا طويلة. لقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدته وإنه لفي المسجد في صلاة فما التفت.
عبد الجبار بن النضر السلمي قال: حدثني رجل من آل محمد بن سيرين قال: رأيت مسلم بن يسار رفع رأسه من السجود في المسجد الجامع فنظرت إلى موضع سجوده كأنه قد صب فيه الماء من كثرة دموعه.
جعفر بن حيان قال: ذكر لمسلم بن يسار قلة التفاته في الصلاة فقال: وما يدريكم أين قلبي؟.
عن ابن شوذب قال: كان مسلم بن يسار يقول لأهله إذا دخل في صلاته في بيته: تحدثوا فلست أسمع حديثكم.
عبد الحميد بن عبد الله بن مسلم بن يسار عن أبيه قال: كان مسلم إذا دخل المنزل سكت أهل البيت فلا يسمع لهم كلام، وإذا قام يصلي تكلموا وضحكوا.
ابن عون قال: رأيت مسلم بن يسار يصلي كأنه وتد لا يميل على قدم مرة ولا على قدم مرة ولا يتحرك له ثوب ولا يتروح على رجل.
__________
503 - هو: مسلم بن يسار البصري، نزيل مكة، أبو عبد الله الفقيه ويقال له: مسلم سكرة، ومسلم المصبح، ثقة عابد من الرابعة مات سنة مائة أو بعدها بقليل.(2/141)
عن حبيب بن الشهيد أن مسلم بن يسار كان قائماً يصلي فوقع حريق إلى جنبه فما شعر به حتى طفئت النار.
عبد الحميد بن عبد الله بن مسلم بن يسار قال: حدثني أبي قال: رأيت مسلماً وهو ساجد، وهو يقول في سجوده: متى ألقاك وأنت عني راض؟ ويذهب في الدعاء ثم يقول: متى ألقاك وأنت عني راض.
عن ابن عون قال: كان مسلم بن يسار إذا كان في غير صلاة كأنه في صلاة.
ابن المبارك قال: قال مسلم بن يسار لأصحابه يوم التروية: هل لكم في الحج؟ فقالوا خرف الشيخ. وعلى ذلك لنطيعه. قال: من أراد ذلك فليخرج فخرجوا إلى الجبان برواحلهم فقال: خلوا أزمتها. فأصبحوا وهم ينظرون إلى جبال تهامة.
سليمان بن المغيرة قال: جاء مسلم بن يسار إلى دجلة وهي تقذف بالزبد، فمشى على الماء ثم التفت إلى أصحابه فقال: هل تفقدون شيئاً؟.
لقي مسلم بن يسار جماعة من الصحابة. وتوفي في سنة مائة أو إحدى ومائة في خلافة عمر بن عبد العزيز.
مالك بن دينار قال: رأيت أبا عبد الله مسلم بن يسار في منامي بعد موته بسنة؛ فسلمت عليه فلم يرد السلام فقلت: ما يمنعك أن ترد علي السلام؟ فقال: أنا ميت فكيف أرد عليك السلام؟ قال: قلت له فماذا لقيت بعد الموت؟ قال: فدمعت عينا مالك عند ذلك وقال: لقيت والله أهوالاً عظاماً شداداً. قال فقلت: فما كان بعد ذلك؟ قال: وما تراه يكون من الكريم؟ قبل منا الحسنات وعفا لنا عن السيئات وضمن عنا التبعات.
قال: ثم شهق مالك شهقة خر مغشياً عليه. قال: فلبث بعد ذلك أياماً مريضاً من غشيته ثم مات فيرون أنه انصدع قلبه فمات رحمه الله.(2/142)
504 - محمد بن سيرين
يكنى أبا بكر، مولى أنس بن مالك. كاتبه أنس. وقال ابن عائشة: كان سيرين من أهل جرجرايا وكان يعمل قدور النحاس، فجاء إلى عين التمر يعمل بها فسباه خالد بن الوليد.
__________
504 - هو: محمد بن سيرين الأنصاري، أبو بكر بن أبي عمرة البصري ثقة عابد كبير القدر كان لا يرى الرواية بالمعنى، من الثالثة، مات سنة عشر ومائة.(2/142)
عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك قال: هذه مكاتبة سيرين عندنا: هذا ما كاتب عليه أنس بن مالك فتاه شيرون على كذا وكذا ألفاً، وعلى غلامين يعملان عليه.
بكار بن محمد قال: حدثني أبي أن أم محمد بن سيرين صفية مولاة أبي بكر بن أبي قحافة طيبها ثلاث من أزواج رسول الله ودعوته لها، وحضر إملاكها ثمانية عشر بدرياً منهم أبي بن كعب يدعو، وهم يؤمنون.
قال بكار: وأنبأ ابن عون قال: كان محمد بن سيرين إذا حدث كأنه يتقي شيئاً، كأنه يحذر شيئاً.
جرير بن حازم قال: سمعت محمد بن سيرين يحدث رجلاً فقال: ما رأيت الرجل الأسود، ثم قال: أستغفر الله ما أراني إلا قد اغتبت الرجل.
عن ابن عون قال: كانوا إذا ذكروا عند محمد رجلاً بسيئة ذكره محمد بأحسن ما يعلم.
طوق بن وهب قال: دخلت على محمد بن سيرين وقد اشتكيت. فقال: كأني أراك شاكياً. قلت: أجل. قال: اذهب إلى فلان الطبيب فاستوصفه، ثم قال: اذهب إلى فلان فإنه أطب منه. ثم قال: أستغفر الله أراني قد اغتبته.
عاصم الأحول قال: سمعت مورقاً العجلي يقول: ما رأيت رجلاً أفقه في ورعه ولا أورع في فقهه من محمد ابن سيرين.
قال: وقال أبو قلابة: اصرفوه حيث شئتم فلتجدنه أشدكم ورعاً وأملككم لنفسه.
عن أيوب قال: قال أبو قلابة: وأينا يطيق ما يطيق محمد بن سيرين؟ يركب مثل حد السنان.
أبو عوانة قال: رأيت محمد بن سيرين يمر في السوق فيكبر الناس.
قال خلف: كان محمد بن سيرين قد أعطي هدياً وسمتاً وخشوعاً فكان الناس إذا رأوه ذكروا الله.
بسطام بن مسلم قال: كان محمد بن سيرين إذا مشى معه رجل قام وقال: ألك حاجة؟ فإن كان له حاجة قضاها. فإن عاد يمشي معه قام فقال له: ألك حاجة؟.
عن عاصم قال: لم يكن ابن سيرين يترك أحداً يمشي معه.
حماد عن حبيب عن ابن سيرين قال: إذا أراد الله عز وجل بعبد خيراً جعل له واعظاً من قلبه يأمره وينهاه.(2/143)
ابن عون قال: سمعت محمداً يقول في شيء راجعته فيه: إني لم أقل لك ليس به بأس، إنما قلت لك لا أعلم به بأساً.
الأشعث قال: كان محمد بن سيرين إذا سئل عن شيء من الفقه، الحلال والحرام، تغير لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان.
عن هشام قال: أوصى أنس بن مالك أن يغسله محمد بن سيرين. فقيل له في ذلك، وكان محبوساً. فقال: أنا محبوس. قالوا: قد استأذن الأمير فأذن لك في ذلك. قال: فإن الأمير لم يحبسني إنما حبسني الذي له الحق. فأذن له صاحب الحق فخرج فغسله.
عن رجاء بن أبي سلمة قال: سمعت يونس بن عبيد يقول: أما ابن سيرين فإنه لم يعرض له أمران في دينه إلا أخذ بأوثقهما.
عن هشام، عن ابن سيرين أنه اشترى بيعاً فأشرف فيه على ثمانين ألفاً فعرض في قلبه منه شيء فتركه. قال هشام: والله ما هو بربا.
عن السري بن يحيى قال: لقد ترك ابن سيرين ربح أربعين ألفاً في شيء دخله.
قال سري: فسمعت سليمان التيمي يقول: لقد تركه في شيء ما يختلف فيه أحد من العلماء.
سعيد بن عامر قال: سمعت هشام بن حسان يقول: ترك محمد بن سيرين أربعين ألف درهم في شيء ما ترون به اليوم بأساً.
هشام بن حسان يذكره قال: كان ابن سيرين إذا دعي إلى وليمة أو إلى عرس يدخل منزله فيقول: اسقوني شربة سويق. فيقال له: يا أبا بكر أنت تذهب إلى الوليمة أو العرس تشرب سويقاً؟ فيقول: إني أكره أن أحمل حد جوعي على طعام الناس.
عن ابن شوذب قال: كان ابن سيرين يصوم يوماً ويفطر يوماً.
وكان اليوم الذي يفطر فيه يتغدى ولا يتعشى، ثم يتسحر ويصبح صائماً.
موسى بن المغيرة قال: رأيت محمد بن سيرين يدخل السوق نصف النهار يكبر ويسبح ويذكر الهل عز وجل. فقال له رجل: يا أبا بكر في هذه الساعة؟ قال: إنها ساعة غفلة.
روى هشام بن حسان، عن حفصة بنت سيرين قالت: كان محمد إذا دخل على أمه لم يكلمها بلسانه كله تخشعاً لها.(2/144)
عن ابن عون قال: دخل رجل على محمد وهو عند أمه فقال: ما شأن محمد؟ يشتكي شيئاً؟ قالوا: لا ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه.
عن الربيع، عن ابن سيرين قال: ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم وتكتم خيره.
عن ابن عون قال: أرسل ابن هبيرة إلى ابن سيرين فأتاه فقال له: كيف تركت أهل مصرك؟ قال تركتهم والظلم فيهم فاش.
قال ابن عون: كان محمد يرى أنها شهادة يسأل عنها فكره أن يكتمها.
عن جعفر بن مرزوق قال: بعث ابن هبيرة إلى ابن سيرين والحسن والشعبي، قال: فدخلوا عليه فقال لابن سيرين: يا أبا بكر ماذا رأيت منذ قربت من بابنا؟ قال رأيت ظلماً فاشياً. قال: فغمزه ابن أخيه بمنكبه، فالتفت إليه ابن سيرين فقال ابن سيرين: إنك لست تسأل إنما أسأل أنا. فأرسل إلى الحسن بأربعة آلاف، وإلى ابن سيرين بثلاث آلاف، وإلى الشعبي بألفين. فأما ابن سيرين فلم يأخذها.
عن جعفر بن أبي الصلت قال: قلت لمحمد بن سيرين: ما منعك أن تقبل من ابن هبيرة؟ قال: فقال لي: يا أبا عبد الله، أو يا هذا، إنما أعطاني على خير كان يظنه بي، ولئن كنت كما ظن بي فما ينبغي لي أن أقبل، وإن لم أكن كما ظن فبالحري أن لا يجوز لي أن أقبل.
عن ابن عون قال: كان لابن سيرين منازل لا يكريها إلا من أهل الذمة. فقيل له في ذلك فقال: إذا جاء رأس الشهر رعته وأكره أن أروع مسلماً.
عن عبيد الله بن السري قال: قال ابن سيرين: إني لأعرف الذنب الذي حمل به علي الدين ما هو. قلت لرجل منذ أربعين سنة: يا مفلس.
فحدثت به أبا سليمان الداراني فقال: قلت ذنوبهم فعرفوا من أين يؤتون، وكثرت ذنوبي وذنوبك فليس ندري من أين نؤتى؟.
عن عاصم الأحول قال: كان عامة كلام ابن سيرين: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده.
عن هشام بن حسان قال: ربما سمعت بكاء محمد بن سيرين في جوف الليل وهو يصلي.
عن أنس بن سيرين قال: كان لمحمد بن سيرين سبعة أوراد يقرؤها بالليل، فإذا فاته منها شيء قرأه من النهار.(2/145)
عن هشام قال: كان ابن سيرين يحيي الليل في رمضان.
عن دهير قال: كان ابن سيرين إذا ذكر الموت مات كل عضو منه على حدته.
مهدي قال: كنا نجلس إلى محمد فيحدثنا ونحدثه ويكثر غلينا ونكثر إليه فإذا ذكر الموت تغير لونه واصفر وأنكرناه وكأنه ليس بالذي كان.
عن ابن عون أن محمد بن سيرين كان إذا نام وجه نفسه.
أبي قال: كان الرجل إذا سال ابن سيرين عن الرؤيا قال: اتق الله عز وجل في اليقظة ولا يضرك ما رأيت في المنام، بشر بن عمر قال: حدثتنا أم عباد، امرأة هشام بن حسان، قالت: نزلنا مع محمد ابن سيرين في الدار، فكنا نسمع بكاءه بالليل وضحكه بالنهار.
الصقر، يعني ابن حبيب، قال: مر ابن سيرين برآس قد خرج رأساً فغشي عليه.
عن حبيب بن الشهيد قال: كنت أنا وأيوب السختياني عند عمر بن دينار فحلف ما رأى أحداً أفضل من طاوس. فقال أيوب: لو رأى ابن سيرين لم يحلف.
أسند محمد بن سيرين عن زيد بن ثابت، وابن عمر، وابن عباس، وأبي سعيد، وعمران ابن حصين، وجندب. وأنس، وأبي هريرة، وأبي بكرة في آخرين.
قال علي بن المديني: لم يحفظ عن زيد بن ثابت شيئاً إلا أنه سمع كلامه.
وتوفي فس سنة عشر ومائة بعد الحسن بمائة يوم، وهو ابن نيف وثمانين سنة.(2/146)
505 - بكر بن عبد الله المزني
عن كنانة بن جبل قال: قال بكر بن عبد الله: إذا رأيت من هو أكبر منك فقل: هذا سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خير مني، وإذا رأيت من هو أصغر منك فقل: سبقته إلى الذنوب والمعاصي فهو خير مني، وإذا رأيت إخوانك يكرمونك ويعظمونك فقل: هذا فضل أخذوا به، وإذا رأيت منهم تقصيراً فقل: هذا ذنب أحدثته.
عن صالح المري قال: وقف مطرف بن عبد الله بن الشخير، وبكر بن عبد الله المزني بعرفة فقال مطرف: اللهم لا تردهم اليوم من أجلي. وقال بكر: ما أشرفه من مقام وأرجاء لأجله لولا أني فيهم.
عن معاوية بن عبد الكريم، عن بكر بن عبد الله قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا بلغ
__________
505 - هو: بكر بن عبد الله المزني، أبو عبد الله البصري، ثقة ثبت جليل، من الثالثة، مات سنة ست ومائة.(2/146)
المبلغ فمشى في الناس تظله غمامة. قال: فمر رجل قد أظلته غمامة على رجل فأعظمه لما رآه لما آتاه الله عز وجل. قال: فاحتقره صاحب الغمامة، أو قال كلمة نحوها، فأمرت أن تتحول من رأسه إلى رأس الذي عظم أمر الله عز وجل.
عن حميد قال: كان بكر مجاب الدعوة.
عن إبراهيم بن عيسى قال: قال بكر بن عبد الله المزني: من مثلك يا ابن آدم؟ خلي بينك وبين المحراب والماء. كلما شئت دخلت على الله عز وجل ليس بينك وبينه ترجمان.
عن حصين عن بكر بن عبد الله المزني قال: لا يكون العبد تقياً حتى يكون تقي الطمع، تقي الغضب.
المفضل بن غسان عن أبيه قال: قال بكر بن عبد الله: إذا رأيتم الرجل موكلاً بعيوب الناس ناسياً لعيبه فاعلموا أنه قد مكر به.
مسمع بن عاصم قال: حدثني رجل من آل عاصم الجحدري قال: رأيت عاصماً الجحدري بعد موته بسنتين فقلت: أليس قد مت؟ قال: بلى. فقلت: أين أنت؟ قال: أنا والله في روضة من رياض الجنة أنا وتفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزني فنتلاقى في أخباركم، قال: قلت أجسامكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات بليت الأجسام وإنما تتلاقى الأرواح.
أسند بكر عن ابن عمر، وجابر، وأنس، وعبد الله بن مغفل، ومعقل بن يسار، وغيرهم. وتوفي في سنة ثمان، ويقال: سنة ست ومائة.(2/147)
506 - مورق بن المشمرج العجلي
يكنى أبا المعتمر.
عن هشام عن مورق قال: ما تكلمت بشيء من الغضب فندمت عليه في الرضا.
عن حفصة بنت سيرين قالت: كان مورق العجلي يأتينا. فسألته عن أهله وولده فقال: هم والله متوافرون. فقلت: رحمك الله لم تقول هذا؟ قال: إني والله أخشى أن يحبسوني على هلكة.
وكان يقول: ما في الأرض نفس في موتها لي أجر إلا وددت أنها قد ماتت.
__________
506 - هو: مورق - بتشديد الراء - ابن مشمرج –بضم أوله وفتح المعجمة وسكون الميم وكسر الراء بعدها جيم - ابن عبد الله العجلي أبو المعتمر البصري، ثقة عابد، من كبار الثالثة، مات بعد المائة.(2/147)
المعلى بن زياد قال: قال مورق العجلي: ما من أمر يبلغني أحب إلي من موت أحب أهلي إلي.
عن قتادة أن مورقاً قال: ما وجدت للمؤمن مثلاً إلا مثل رجل في البحر على خشبة فهو يدعو: يا رب يا رب، لعل الله عز وجل أن ينجيه.
المعلى بن زياد القردوسي قال: قال مورق العجلي: أمر أنا في طلبه منذ عشرين سنة هم أقدر عليه ولست بتارك طلبه أبداً، قالوا: وما هو يا أبا المعتمر؟ قال: الصمت عما لا يعنيني.
عن جميل بن مرة قال: مستنا حاجة شديدة، وكان مورق العجلي يأتينا بالصرة فيقول: أمسكوا هذه لي عندكم. ثم يمضي غير بعيد فيقول: إن احتجتم إليها فأنفقوها.
جعفر قال: أنبأنا بعض أصحابنا قال: كان مورق يتجر فيصيب المال فلا يأتي عليه جمعة وعنده منه شيء، يلقى الأخ فيعطيه أربعمائة، خمسمائة، ثلثمائة فيقول: ضعها عندك حتى نحتاج إليها. قال: ثم يلقاه بعد ذلك فيقول الأخ: لا حاجة لي فيها. فيقول: إنا والله ما نحن بآخذيها أبداً فشأنك بها.
عن عاصم أن مورقاً العجلي كان يجد نفقته تحت رأسه.
أسند مورق عن أبي ذر وسلمان وغيرهما وتوفي في ولاية عمر بن هبيرة على العراق.(2/148)
507 - غزوان بن غزوان الرقاشي
وقيل غزوان بن زيد عن الحسن قال: قال غزوان بن زيد الرقاشي: لله علي أن لا يراني الله ضاحكاً حتى أعلم أي الدارين داري؟.
قال الحسن: فعزم غزوان أن يفعل، فوالله ما رئي ضاحكاً حتى لحق بالله عز وجل.
عثمان بن عبد الحميد الرقاشي قال: سمعت مشايخنا يذكرون أن غزوان لم يضحك منذ أربعين سنة. وكان غزوان يغزو فإذا أقبلت الرفاق راجعين تستقبلهم أمه فتقول لهم: أما تعرفون غزوان؟ فيقولون: ويحك يا عجوز ذاك سيد القوم.
عبد الواحد بن زيد قال: كان أصحاب غزوان يقولون له: ما يمنعك من مجالسة إخوانك؟ فيبكي عند ذلك ويقول: إني أصبت راحة قلبي في مجالسة من لديه حاجتي.
عن هارون بن رئاب أن غزوان كان في بعض مغازيهم فتكشفت جارية فنظر إليها غزوان فرفع يده فلطم عينه حتى نفرت وقال: إنك للحاظة إلى ما يضرك.(2/148)
508 - مذعور
قال: قال مطرف بن عبد الله: إن كان من هذه الأمة أحد ممتحن القلب فإن مذعوراً ممتحن القلب.
قال سليمان: وأنبأ قتادة قال: قال مطرف إن كان مذعور ليزورنا فيفرح به أهلنا.
قال سليمان وأنبأ غيلان بن جرير، قال: قال مطرف ما تحب اثنان في الله إلا كان أشدهما حباً لصاحبه أفضلهما، وأنا لمذعور أشد حباً وهو أفضل مني، فكيف هذا قال: فلما أمر بالرهط أن يخرجوا إلى الشام أمر مذعور فيهم. قال فلقيني وأخذ بلجام دابتي فجعلت كلما أردت أن أنصرف يحبسني. فقلت: إن المكان بعيد. فجعل يحبسني فقلت: أنشدك الله إلا تركتني فلم تحبسني؟ فلما ناشدته قال كليمة يخفيها جهده مني: اللهم فيك، فعرفت أنه أشد حباً لي مني له.(2/149)
509 - العلاء بن زياد بن مطر العدوي
عن أوفى بن دلهم قال: كان للعلاء بن زياد مال ورقيق فأعتق بعضهم وباع بعضهم وأمسك غلاماً أو اثنين يأكل غلتهما فتعبد فكان يأكل كل يوم رغيفين، وترك مجالسة الناس فلم يكن يجالس أحداً، يصلي في جماعة ثم يرجع إلى أهله ويجمع ثم يرجع إلى أهله، ويشيع الجنازة ويعود المرضى، ثم يرجع إلى أهله فطفئ فبلغ ذلك إخوانه فاجتمعوا فأتاه أنس بن مالك والحسن والناس وقالوا: رحمك الله أهلكت نفسك لا يسعك هذا. فكلموه وهو ساكت، حتى إذا فرغوا من كلامهم قال: إنما أتذلل لله عز وجل لعله يرحمني.
عن حميد بن هلال قال: دخلت مع الحسن على العلاء بن زياد العدوي نعوده وقد سله الحزن، وكانت له أخت يقال لها شادة تندف تحته القطن غدوة وعشية. فقال له الحسن: كيف أنت يا علاء؟ فقال: واحزناه على الحزن. فقال الحسن: قوموا، فإلى هذا والله انتهى استقلال الحزن.
هشام بن زياد، أخو العلاء بن زياد، قال: كان العلاء بن زياد يحيي كل ليلة جمعو. قال: وجد ليلة فترة فقال لامرأته أسماء: إني أجد فترة فإذا مضى كذا وكذا، فأيقظيني. قالت:
__________
509 - هو: العلاء بن زياد بن مطر العدوي، أبو نصر البصري، أحد العباد، ثقة، من الرابعة، مات سنة أربع وتسعين.(2/149)
نعم. فأتاه آت في منامه فأخذ بناصيته فقال: يا بن زياد قم فاذكر الله عز وجل يذكرك. قال: فقام فما زالت تلك الشعرات التي أخذ بها منه قائمة حتى مات.
قتادة، عن العلاء بن زياد قال: إنما نحن قوم وضعنا أنفسنا في النار، فإن شاء الله أن يخرجنا منها أخرجنا.
عن قتادة قال: حدثنا العلاء بن زياد أن رجلاً كان يرائي بعمله فجعل يشمر ثيابه ويرفع صوته إذا قرأ فجعل لا يأتي على أحد إلا سبه ولعنه. ثم رزقه الله تعالى يقيناً بعد ذلك فخفض من صوته وجل صلاته فيما بينه وبين ربه عز وجل، فجعل لا يأتي بعد ذلك على أحد إلا دعا له بخير.
عن قتادة قال: كان العلاء بن زياد يقول: لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه عز وجل فأقاله فليعمل بطاعة الله عز وجل.
عن قتادة قال: كان زياد بن مطر العدوي قد بكى حتى عمي، وبكى ابنه العلاء بن زياد بعده حتى عشي بصره، وكان إذا أراد أن يتكلم أو يقرأ أجهشه البكاء.
جعفر قال: سمعت مالك بن دينار يسأل هشام بن حسان العدوي عن هذا الحديث، فحدثناه يومئذ قال: تجهز رجل من أهل الشام وهو يريد الحج فنام فأتاه آت في منامه فقال له: ائت العراق، ثم ائت البصرة، ثم ائت بني عدي فأت العلاء بن زياد فإنه رجل ربعة أقصم الثنية بسام فبشره بالجنة. قال فقال: رؤيا ليست بشيء. قال: حتى إذا كانت الليلة الثانية رقد فأتاه آت فقال: ألا فأتي العراق؟ ثم تأتي البصرة ثم تأتي بني عدي فتلقى العلاء بن زياد؟ رجل ربعة أقصم الثنية بسام فبشره بالجنة، قال: فأصبح فأعد جهازه إلى العراق فلما خرج من البيوت إذا الذي أتاه في منامه يسير بين يديه يراه ما سار فإذا نزل فقده فلم يزل يراه حتى دخل الكوفة ثم فقده، قال: فتجهز من الكوفة فخرج فرآه يسير بين يديه حتى قدم البصرة فأتى بني عدي فوقف على باب العلاء فسلم، قال هشام: فخرجت إليه فقال لي: أنت العلاء بن زياد؟ قلت: لا، إنزل رحمك الله فتضع رحلك ومتاعك، قال: لا. أين العلاء بن زياد؟ قال: قلت: هو في المسجد. قال: وكان العلاء يجلس في المسجد يدعو بدعوات ويتحدث، قال هشام: فأتيت العلاء فخفف من حديثه وصلى ركعتين ثم جاء فلما رآه العلاء تبسم فبدت ثنيته فقال: هذا والله صاحبي. قال: فقال العلاء: هلا حططت رحل الرجل؟ ألا أنزلته؟ قلت: قد قلت له فأبى. فقال(2/150)
العلاء: انزل رحمك الله. قال: فقال أخلني. قال لدخل العلاء منزله وقال: يا أسماء تحولي إلى البيت الآخر. قال: فتحولت ودخل الرجل فبشره برؤياه ثم خرج فركب وقام العلاء فأغلق بابه فبكى ثلاثة أيام، أو قال سبعة أيام، لا يذوق فيها طعاماً ولا شراباً ولا يفتح بابه.
قال هشام: فسمعته يقول في خلال بكائه: أنا أنا؟ قال: فكنا نهابه أن نفتح بابه، وخشيت أن يموت. فأتيت الحسن فذكرت ذلك له وقلت: لا أراه إلا ميتاً لا يأكل ولا يشرب باكياً، فجاء الحسن حتى ضرب عليه بابه وقال: افتح يا أخي. قال: فلما سمع كلام الحسن قام ففتح بابه وبه من الضر شيء الله به عليم. فكلمه الحسن ثم قال: رحمك الله ومن أهل الجنة إن شاء الله. أفقاتل نفسك أنت؟.
قال هشام: حدثنا العلاء، أخي، لي وللحسن بالرؤيا وقال: لا تحدثوا بها ما كنت حياً.
أسند العلاء عن عمران بن حصين وأبي هريرة، وأرسل عن معاذ بن جبل وأبي ذر وعبادة بن الصامت وتوفي في ولاية الحجاج على العراق.(2/151)
510 - معاوية بن قرة بن إياس
يكنى أبا إياس عن تمام بن نجيح، عن معاوية بن قرة قال: أدركت سبعين رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو خرجوا فيكم اليوم ما عرفوا شيئاً مما أنتم عليه إلا الأذان.
روح قال: أنبأ الحجاج بن الأسود أن معاوية بن قرة قال: من يدلني على بكاء بالليل بسام بالنهار.
عون بن موسى قال: حدثنا معاوية بن قرة قال: كنا عند الحسن فتذاكرنا أي العمل أفضل؟ فكلهم اتفقوا على قيام الليل فقلت أنا: ترك المحارم فانتبه لها الحسن فقال: تم الأمر، تم الأمر.
عن عبد الله بن ميمون البصري قال: سمعت معاوية بن قرة يقول: إن الله عز وجل يرزق العبد رزق شهر في يوم واحد فإن أصلحه أصلح الله على يديه وعاش هو وعياله بقية شهرهم بخير، وإن هو أفسده أفسد الله تعالى على يديه وعاش هو وعياله بقية شهرهم بشر.
مسلم قال: لقيني معاوية بن قرة وأنا جاء من الكلأ فقال لي: ما صنعت؟ فقلت: اشتريت
__________
510 - هو: معاوية بن قرة بن إياس بن هلال المزني، أبو إياس البصري، ثقة من الثالثة، مات سنة ثلاث عشرة، وهو ابن ست وسبعين سنة.(2/151)
لأهلي كذا وكذا. قال: وأصبت من حلال؟ قلت: نعم. قال: لأن أغدو فيما غدوت به أحب إلي من أن أقوم الليل وأصوم النهار.
عن خليد بن دعلج قال: سمعت معاوية بن قرة يقول: إن القوم ليحجون ويعتمرون ويجاهدون ويصلون ويصومون، وما يعطون يوم القيامة إلا على قدر عقولهم.
أسند معاوية عن أبيه، وعن أنس بن مالك: ومعقل بن يسار، وابن عباس.(2/152)
511 - أبو الجوزاء أوس بن خالد الربعي
هشام قال: حدثني أبي عن أبي الجوزاء قال: صحبت ابن عباس ثنتي عشرة سنة ما بقي من القرآن آية إلا سألته عنها. وفي رواية: جاورت ابن عباس ثنتي عشرة سنة في داره.
سليمان الربعي قال: كان أبو الجوزاء يواصل في الصوم بين سبعة أيام ثم يقبض على ذراع الشاب فيكاد يحطمها.
أسند أبو الجوزاء عن ابن عباس وعائشة وغيرهما. وخرج مع ابن الأشعث فقتل أيام الجماجم في ثلاث وثمانين.
__________
511 - هو: أوس بن عبد الله الربعي –بفتح الموحدة - أبو الجوزاء بالجيم والزاي، بصري، يرسل كثيرا، ثقة من الثالثة مات سنة ثلاث وثمانين.(2/152)
512 - طلق بن حبيب العنزي
عن الحجاج بن زيد قال: كان طلق بن حبيب يقول: إني لأحب أن أقوم لله حتى أشتكي ظهري. فيقوم فيبتدئ بالقرآن حتى يبلغ "الحجر" ثم يركع.
روى طلق عن ابن عباس وجابر بن عبد الله.
__________
512 - هو: طلق بن حبيب العنزي - بفتح المهملة والنون - بصري صدوق عابد رمي بالإرجاء، من الثالثة، مات بعد التسعين.(2/152)
الطبقة الثالثة
قتادة بن دعامة السدوسي
...
ومن الطبقة الثالثة من أهل البصرة:
513 - قتادة بن دعامة السدوسي
يكنى أبا الخطاب.
معمر قال: سمعت قتادة يقول: ما سمعت أذناي شيئاً قط إلا وعاه قلبي.
سلام بن أبي مطيع، عن قتادة أنه كان يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة.
عن مطر، عن قتادة قال: من يتق الله يكن الله معه، ومن يكن الله عز وجل معه فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل.
سعيد بن بشير، عن قتادة قال: إن في الجنة كوى إلى النار فيطلع أهل الجنة من تلك الكوى إلى النار فيقولون: ما بال الأشقياء؟ وإنما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم! فقالوا: إنا كنا نأمركم ولا نأتمر، وننهاكم ولا ننتهي.
شهاب بن خراش، عن قتادة قال: باب من العلم، يحفظه الرجل يطلب به صلاح نفسه وصلاح الناس، أفضل من عبادة حول كامل.
أسند قتادة عن أنس وعبد الله بن سرجس وحنظلة الكاتب وأبي الطفيل في آخرين. وكان يرسل الحديث عن الشعبي ومجاهد وسعيد بن جبير والنخعي وأبي قلابة ولم يسمع منهم. وتوفي سنة سبع عشرة ومائة.
__________
513 - هو: قتادة بن دعامة السدوسي، أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت، يقال: ولد أكمه، وهو رأس الطبقة الرابعة، مات سنة بضع عشرة.(2/153)
514 - حميد بن هلال العدوي
يكنى أبا نصر عن قتادة قال: كان حميد بن هلال من العلماء الفقهاء، ولم يكن يذاكر ولا يسأل؛ إنما كان يعتذر في مكان.
موسى بن إسماعيل قال: سمعت أبا هلال يقول: سمعت قتادة يقول: ما كان بالمصرين أعلم من حميد ما أستثني الحسن ولا محمداً.
__________
514 - هو: حميد بن هلال العدوي، أبو نصر البصري، ثقة عالم، توقف فيه ابن سيرين لدخوله في عمل السلطان، من الثالثة.(2/153)
عن الجلد بن أيوب عن حميد بن هلال قال: ذكر لنا أن الرجل إذا دخل الجنة فصور صورة أهل الجنة وألبس لباسهم وحلي حلاهم ورأى أزواجه وخدمه ومساكنه في الجنة يأخذه سوار فرح، لو كان ينبغي أن يموت لمات فرحاً. فيقال له: أرأيت سوار فرحتك هذه؟ فإنها قائمة لك أبداً.(2/154)
ثابت بم مسلم البناني
...
515 - ثابت بن مسلم البناني
يكنى أبا محمد عن بكر بن عبد الله قال: من سره أن ينظر إلى أعبد رجل أدركناه في زمانه فلينظر إلى ثابت البناني، فما أدركنا الذي هو أعبد منه، تراه في يوم معمعاني بعيد ما بين الطرفين يظل صائماً ويراوح ما بين جبينه وقدمه.
عمرو بن محمد بن أبي رزين قال: قال ثابت البناني: كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة.
سلام بن مسكين قال: أنبأ ثابت قال: ما دعا الله عز وجل المؤمن بدعوة إلا وكل بحاجته جبرائيل عليه السلام فيقول: لا تعجل بإجابته فإني أحب أن أسمع صوت عبدي المؤمن، وإن الفاجر يدعو الله عز وجل فيوكل جبرائيل بحاجته فيقول: يا جبرائيل أعجل إجابة دعوته فإني أحب أن لا أسمع صوت عبدي الفاجر.
جعفر قال: أنبأ ثابت البناني عن رجل من العباد أنه قال يوماً لإخوانه: إني لأعلم متى يذكرني ربي عز وجل. قال: ففزعوا من ذلك فقالوا: تعلم حين يذكرك ربك؟ قال: نعم. قالوا: متى؟ قال: إذا ذكرته ذكرني. قال: وإني لأعلم حين يستجيب لي ربي عز وجل. قال: فعجبوا من قوله، قالوا: تعلم حين يستجيب لك ربك؟ قال: نعم. قالوا: وكيف تعلم ذلك؟ قال: إذا وجل قلبي واقشعر جلدي وفاضت عيني وفتح لي في الدعاء فثم أعلم أن قد استجيب لي.
سهل بن أسلم قال: كان ثابت البناني يصلي كل ليلة ثلاث مائة ركعة، فإذا أصبح ضمرت قدماه فيأخذهما بيده فيعصرهما ثم يقول: مضى العابدون وقطع بي والهفاه.
__________
515 - هو: ثابت بن أسلم، الإمام القدوة شيخ الإسلام، أبو محمد البناني مولاهم البصري، وأبناؤه هم بنو سعد بن لؤي بن غالب، ويقال: هو بنو سعد بن ضبيعة بن نزار ولد في خلافة معاوية، سير أعلام النبلاء 6/52، وهو ثقة عابد من الرابعة مات سنة بضع وعشرين وله ست وثمانون.(2/154)
عن شعبة قال: كان ثابت البناني يقرأ القرآن في كل يوم وليلة ويصوم الدهر.
جعفر بن سليمان قال: حدثنا ثابت البناني قال: كان رجل من العباد يقول: إذا أنا نمت ثم استيقظت ثم أردت أن أعود إلى النوم فلا أنام الله عيني إذاً. قال جعفر: كنا نراه يعني نفسه.
حميد قال: كنا نأتي أنس بن مالك ومعنا ثابت، فكلما مر بمسجد صلى فيه فكنا نأتي أنساً فيقول: أين ثابت؟ أين ثابت؟ إن ثابتاً دويبة أحبها.
قال عبد الله: وحدثني أبي قال: بلغني أن أنساً قال لثابت: ما أشبه عينك بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فما زال يبكي حتى عمشت عيناه.
جعفر بن سليمان قال: اشتكى ثابت البناني عينه فقال له الطبيب: اضمن لي خصلة تبرأ عينك قال: وما هي؟ قال: لا تبك قال: وما خير في عين لا تبكي؟
حماد بن زيد قال: رأيت ثابتاً البناني يبكي حتى تختلف أضلاعه.
عن هشام قال: ما رأيت قط أصبر على طول المقام والسهر من ثابت البناني، صحبناه مرة إلى مكة فكنا إن نزلنا ليلاً فهو قائم يصلي وإلا فمتى شئت أن تراه أو تحس به مستيقظاً ونحن نسير إما باكياً وإما تالياً.
مبارك بن فضالة قال: كان ثابت البناني يقوم الليل ويصوم النهار.
وكان يقول: ما شيء أجده في قلبي ألذ عندي من قيام الليل.
جعفر قال: سمعت ثابتاً يقول: ما تركت في المسجد الجامع سارية إلا وقد ختمت القرآن عندها وبكيت عندها.
جعفر قال: أخبرنا محمد بن ثابت البناني قال: ذهبت ألقن أبي وهو في الموت فقلت: يا أبت قل لا إله إلا الله فقال: يا بني خل عني فإني في وردي السادس أو السابع.
شبان بن جسر عن أبيه قال: أنا، والله الذي لا إله إلا هو، أدخلت ثابتاً البناني لحده ومعي حميد الطويل أو رجل غيره، شك محمد، قال: فلما سوينا عليه اللبن سقطت لبنة فإذا أنا به يصلي في قبره. فقلت للذي معي: ألا ترى؟ قال: اسكت فلما سوينا عليه وفرغنا أتينا ابنته فقلنا لها: ما كان عمل ثابت؟ قالت: وما رأيتم؟ فأخبرناها. قالت: كان يقوم الليل خمسين سنة فإذا كان السحر قال في دعائه: اللهم إن كنت أعطيت أحداً من خلقك الصلاة في قبره فأعطنيها. فما كان الله عز وجل ليرد ذلك الدعاء.(2/155)
إبراهيم بن الضمة المهلبي قال: حدثني الذين كانوا يمرون بالجص بالأسحار قالوا: كنا إذا مررنا بجنبات قبر ثابت سمعنا قراءة القرآن.
أسند ثابت عن ابن عمرو وابن الزبير وشداد وأنس في آخرين. وتوفي في ولاية خالد بن عبد الله على العراق.(2/156)
516 - إياس بن معاوية بن قرة المزني
يكنى أبا واثلة. كان قاضياً على البصرة غزير العقل والدين.
داود بن أبي هند قال: قال إياس بن معاوية: كل رجل لا يعرف عيبه فهو أحمق. قالوا: يا أبا واثلة ما عيبك؟ قال: كثرة الكلام.
عن أبي إسحاق بن حفص بن نوح قال: قيل لإياس بن معاوية: فيك أربع خصال: دمامة، وكثرة كلام، وإعجاب بنفسك، وتعجيل بالقضاء. قال: أما الدمامة فالأمر فيها إلى غيري، وأما كثرة الكلام فبصواب أتكلم أم بخطأ؟ قالوا: بصواب. قال: فالإكثار من الصواب أمثل، وأما إعجابي بنفي أفيعجبكم ما ترون مني؟ قالوا: نعم. قال: فإني أحق أن أعجب بنفسي وأما قولكم إنك تعجل بالقضاء فكم هذه؟ وأشار بيده خمسة فقالوا: خمسة. فقال: أعجلتم ألا قلتم واحداً واثنين وثلاثة وأربعة وخمسة؟ قالوا: ما نعد شيئاً قد عرفناه. قال: فما أحبس شيئاً قد تبين لي فيه الحكم.
سمع إياس من أبيه وأنس بن مالك وابن المسيب وغيرهم.
__________
516 - هو: إياس بن معاوية بن قرة بن إياس المزني، أبو واثلة البصري، القاضي المشهور بالذكاء، ثقة، من الخامسة مات سنة اثنتين وعشرين ومائة.(2/156)
517 - أبو عمران عبد الملك.
ابن حبيب الجوني. جعفر بن سليمان الضيعي قال: سمعت أبا عمران الجوني يقول في قصصه: لا يغرنكم م نربكم عز وجل طول النسيئة وحسن الطلب فإن أخذه أليم شديد، حتى متى تبقى وجوه أولياء الله بين أطباق التراب؟ وإنما هم محتبسون ببقية آجالكم أيتها الأمة حتى يبعثهم الله عز وجل إلى جنته وثوابه.
__________
517 - هو: عبد الملك بن حبيب الأزدي، أو الكندي، أبو عمران الجوني مشهور بكنيته، ثقة من كبار الرابعة، مات سنة ثمان وعشرين وقيل بعدها.(2/156)
قال جعفر: وسمعت أبا عمران الجوني يقول: وعظ موسى عليه السلام قومه فشق رجل منهم قميصه، فأوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام: قل لصاحب القميص لا يشق قميصه ولكن ليشرح لي عن قلبه.
جعفر قال: أنبأ أبو عمران الجوني قال: تصعد الملائكة بالأعمال فينادي الملك: ألق تلك الصحيفة: ألق تلك الصحيفة، قال: فتقول الملائكة: ربنا قالوا خيراً وحفظناه عليهم. فيقول تبارك وتعالى: لم يرد به وجهي قال: وينادي الملك: اكتب لفلان كذا وكذا مرتين فيقول: يا رب إنه لم يعمله. فيقول جل وعز إنه نواه نواه.
الحارث بن سعيد قال: كان أبو عمران الجوني إذا سمع الأذان تغير لونه وفاضت عيناه.
عن خشيش أبي محرز قال: قال أبو عمران الجوني وهبك تنجو بعد كم تنجو.
أسند أبو عمران عن أنس بن مالك وجندب بن عبد الله وعائذ بن عمرو وأبي برزة في آخرين.(2/157)
518 - بديل بن ميسرة العقيلي
مالك بن ضيغم قال: سمعت بشر بن منصور يقول: بكى بديل العقيلي حتى قرحت مآقيه. فكان يعاتب في ذلك فيقول: إنما أبكي خوفاً من طول العطش يوم القيامة.
السري بن يحيى عن بديل العقيلي قال: من أراد بعلمه وجه الله عز وجل أقبل الله عليه بوجهه وأقبل بقلوب العباد إليه ومن عمل لغير الله عز وجل أقبل الله عنه وجهه وصرف قلوب العباد عنه.
عن الوليد بن هشام عن بديل العقيلي قال: الصيام معقل العابدين.
سيار قال: قال مهيد بن ميمون: رأيت ليلة مات بديل العقيلي قائلاً يقول: ألا إن بديلاً أصبح من سكان الجنة.
أسند بديل عن أنس وغيره، وتوفي سنة ثلاثين ومائة.
__________
518 - هو: بديل - مصغر - العقيلي - بضم العين - ابن ميسرة البصري، ثقة، من الخامسة، مات سنة خمس وعشرين، أو ثلاثين.(2/157)
519 - أبو ريحانة عبد الله بن مطر
روى عن ابن عمر وسفينة عن فروة الأعمى مولى سعد بن أبي أمية المقري قال: ركب أبو ريحانة البحر وكان يخيط فيه بإبرة معه فسقطت إبرته في البحر فقال: عزمت عليك يا رب إلا رددت علي إبرتي. فظهرت حتى أخذها.
قال: واشتد عليهم البحر ذات يوم وهاج فقال: اسكن أيها البحر فإنما أنت عبد حبشي. فسكت حتى صار كالزيت.
__________
519 - هو: عبد الله بن مطر، أبو ريحانة البصري، مشهور بكنيته، صدوق تغير بآخرة، من الثالثة، ويقال: اسمه زياد.(2/158)
520 - محمد بن واسع بن جابر
يكنى أبا عبد الله شبابة قال: أخبرني موسى بن بشار قال: صحبت محمد بن واسع من مكة إلى البصرة فكان يصلي الليل أجمع، يصلي في المحمل جالساً يومئ برأسه إيماء وكان يأمر الحادي يكون خلفه ويرفع صوته حتى لا يفطن له وكان ربما عرس من لاليل فينزل فيصلي فإذا أصبح أيقظ أصحابه.
عبد الملك بن قريب قال: حدثني نسيب لهشام القردوسي قال: قال رجل: دخلنا على محمد بن واسع فقالت علجة في داره فذكرت كلمات بالأعجمية معناها: هذا رجل إذا جاء الليل لو كان قتل أهل الدنيا ما زاد.
عبد الواحد بن زيد قال: شهدت حوشباً جاء إلى مالك بن دينار فقال: يا أبا يحيى رأيت البارحة كأن منادياً يقول: يا أيها الناس، الرحيل الرحيل. فما رأيت أحداً يرتحل إلا محمد بن واسع. قال: فصاح لمالك صيحة وخر مغشياً عليه.
قال مضر: كان الحسن يسمي محمد بن واسع زين القرآن.
مخلد قال: كان محمد بن واسع مع قتيبة بن مسلم في جيش، وكان صاحب خراسان، وكانت الترك خرجت إليهم فبعث إلى المسجد ينظر من فيه؟ فقيل له ليس فيه إلا محمد بن واسع رافعاً إصبعه، فقال قتيبة: إصبعه تلك أحب إلي من ثلاثين ألف عنان.
__________
520 - هو: محمدج بن واسع بن جابر الأخنس الأزدي، أبو بكر أو أبو عبد الله البصري، ثقة عابد كثير المناقب، من الخامسة مات سنة ثلاث وعشرين ومائة.(2/158)
جعفر قال: كنت إذا وجدت من قلبي قسوة نظرت إلى وجه محمد بن واسع نظرة، وكنت إذا رأيت وجه محمد بن واسع حسبت أن وجهه وجه ثكلى.
علي بن بزيع الهلالي قال: قال مطر الوراق: ما اشتهيت أن أبكي قط حتى أشتفي إلا نظرت إلى وجه محمد ابن واسع، وكنت إذا نظرت إلى وجهه كأنه ثكل عشرة من الحزن.
عن ابن شوذب قال: كان إذا قيل: من أفشل أهل البصرة؟ قالوا: محمد بن واسع، ولم يكن يرى كثير عبادة وكان يلبس قميصاً وساجاً وكان له علية فإذا كان الليل دخل ثم أغلقها عليه.
عن يونس قال: سمعت محمد بن واسع يقول: لو كان يوجد للذنوب ريح ما قدرتم أن تدنوا مني، من نتن ريحي.
الحارث بن نبهان قال: سمعت ابن واسع يقول: واصحاباه، ذهب أصحابي. فقلت: يرحمك الله أليس قد نشأ شباب يصومون النهار ويقومون الليل ويجاهدون في سبيل الله عز وجل؟ قال: بلى ولكن أخ، وتفل، أفسدهم العجب.
عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: رأيت في يد محمد بن واسع قرحة فكأنه رأى ما شق علي منها فقال: تدري ما لله علي في هذه القرحة من نعمة؟ قال: فسكت. فقال: حيث لم يجعلها على حدقتي ولا على طرف لساني ولا على طرف ذكري. قال: فهانت علي قرحته.
عن ابن شوذب قال: قسم أمير البصرة على أهل البصرة، فبعث إلى مالك بن دينار فقبل وأتاه محمد بن واسع فقال: يا مالك قبلت جوائز السلطان قال: فقال: يا أبا بكر سل جلسائي، فقالوا: يا أبا بكر اشتري بها رقاباً فأعتقهم، فقال له محمد بن واسع: أنشدك الله أقلبك الساعة له على ما كان قبل أن يجيزك؟ قال: اللهم لا، قال: ترى أي شيئ دخل عليك؟ فقال مالك لجلسائه: إنما مالك حمار، إنما يعبد الله مثل محمد بن واسع.
عن ليث بن أبي سليم عن محمد بن واسع قال: إذا أقبل العبد بقلبه إلى الله عز وجل أقبل الله عز وجل إليه بقلوب المؤمنين.
سليمان التيمي: ما أحد أحب إلي أن ألقى الله عز وجل بمثل صحيفته إلا محمد بن واسع.
حماد بن زيد قال: دخلنا على محمد بن واسع نعوده في مرضه فجاء يحيى البكاء يستأذن فقالوا: يحيى البكاء فقال: إن شر أيامكم يوم نسبتم إلي البكاء.(2/159)
عمران بن خالد قال: سمعت محمد بن واسع يقول: إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم.
إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت الفضيل بن عياض قال: قال مالك بن دينار: إني لأغبط الرجل يكون عيشه كفافاً فيقنع به فقال محمد بن واسع: أغبط والله عندي من ذلك أن يصبح جائعاً ويمسي جائعاً وهو عن الله عز وجل راض.
محمد بن عبد الله الزراد قال: رأى محمد بن واسع ابناً له وهو يخطر بيده. فقال: ويحك تعال، تدري من أنت؟ أمك اشتريتها بمائتي درهم، وأبوك فلا أكثر الله في المسلمين مثله تمشي هذه المشية؟.
محمد بن مهزم قال: كان محمد بن واسع يصوم الدهر ويخفي ذلك.
حيان بن يسار قال: قال محمد بن واسع: اللهم إن كان أخلق وجهي كثرة ذنوبي فهبني لمن أحببت من خلقك.
ابن سلام قال: قال محمد بن واسع: ما آسى من الدنيا إلا على ثلاث: صاحب إذا اعوججت قومني، وصلاة في جماعة يحمل عني سهوها وأفوز بفضلها وقوت من الدنيا ليس لأحد فيه منة ولا لله عز وجل فيه تبعة.
زياد بن الربيع، عن أبيه قال: رأيت محمد بن واسع بسوق مرو يعرض حماراً له على البيع. فقال له رجل: أترضاه لي؟ قال: لو رضيته لك ما بعته.
قاسم الخواص قال: قال محمد بن واسع لرجل: أبكاك قط سابق علم الله عز وجل فيك.
أبو عامر قال: حدثني صاحب لنا قال: لما ثقل محمد بن واسع كثر الناس عليه في العيادة. قال: فدخلت فإذا قوم قيام وآخرون قعود. فأقبل علي فقال: أخبرني ما يغني هؤلاء عني إذا أخذ بناصيتي وقدمي غداً وألقيت في النار؟ ثم تلا هذه الآية: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} .
يونس بن عبيد قال: دخلنا على محمد بن واسع نعوده فقال: ما يغني عني ما يقول الناس إذا أخذ بيدي ورجلي فألقيت في النار؟.
عن حزم قال: قال محمد بن واسع وهو في الموت: يا إخوتاه تدرون أي يذهب بي؟ يذهب بي - والله الذي لا إله إلا هو - إلى النار أو يعفو عني.(2/160)
محمد بن عبد الله، مولى الثقفيين، قال: دخلنا على محمد بن واسع وهو يقضي. فقال: يا إخوتي يا إخوتاه هبوني وإياكم سألنا الله الرجعة فأعطاكموها ومنعنيها فلا تخسروا أنفسكم.
أسند محمد بن واسع عن أنس بن مالك، وروى عن جماعة من كبار التابعين كالحسن وابن سيرين. وتوفي بعد الحسن بعشر سنين كأنه مات سنة عشرين ومائة.(2/161)
521 - فرقد بن يعقوب السبخي
يكنى أبا يعقوب. الهيثم بن معاوية قال: حدثني شيخ لي قال: اجتمع عباد من أهل الكوفة فقالوا: تحدروا بنا إلى البصرة فننظر إلى عبادتهم. فقال بعضهم لبعض: اغدوا بنا إلى فرقد السبخي فدخلوا عليه فحدثهم ساعة ثم قالوا: يا أبا يعقوب، الغداء. قال: إنما طولت حديثي لتجوعوا فتأكلوا ما عندي أنزلوا تلك القفة فأخرجوا منها كسر خبز شعير أسود فقالوا له: ملح يا أبا يعقوب. فقال: قد طرحنا في العجين ملحاً مرة لم تعنوني أن أطلب لكم؟.
عن جعفر بن سليمان قال: قال فرقد السبخي: إن ملوك بني إسرائيل كانوا يقتلون قراءهم على الدين وإن ملوككم إنما يقتلونكم على الدنيا فدعوهم والدنيا.
جعفر قال: سمعت فرقداً السبخي يقول: قرأت في التوراة: من أصبح حزيناً على الدنيا أصبح ساخطاً على ربه عز وجل، ومن جالس غنياً فتضعضع له ذهب ثلثا دينه، ومن أصابته مصيبة فشكا إلى الناس فإنما يشكو ربه عز وجل.
عن عبد الواحد بن زيد قال: سمعت فرقداً السبخي يقول: ما انتهيت من نومي إلا خفت أن أكون قد مسخت.
جعفر قال: سمعت فرقداً السبخي يقول: اتخذوا الدنيا ظئراً واتخذوا الآخرة أماً. ألم تروا إلى الصبي يلقي نفسه على الظئر فإذا ترعرع وعرف والدته ترك ظئره وألقى نفسه على والدته؟ وإن الآخرة والدتكم يوشك أن تجركم.
عن ابن شوذب قال: سمعت فرقداً يقول: إنكم لبستم ثياب الفراغ قبل العمل، ألم تروا
__________
521 - هو: فرقد بن يعقوب السبخي –بفتح المهملة والموحدة وبخاء معجمة - أبو يعقوب البصري، صدوق عابد لكنه لين الحديث كثير الخطأ من الخامسة مات سنة إحدى وثلاثين.
قال الشيخ شعيب: بل ضعيف فقد ضعفه أيوب السختياني، ويحيى بن سعيد القطان وعلي بن المديني، والبخاري، والنسائي وأبو حاتم..... التحرير 3/155.(2/161)
إلى الفاعل إذا عمل كيف يلبس أدنى ثيابه، فإذا فرغ اغتسل ولبس ثوبين تقيين؟ وأنتم تلبسون ثياب الفراغ قبل العمل.
أسند فرقد عن أنس بن مالك وسمع من جماعة من كبار التابعين: كسعيد بن جبير ومرة وإبراهيم النخعي وأبي الشعثاء. وشغله التعبد عن حفظ الحديث فلذلك يعرض النقلة عن حديثه ومات في أيام الطاعون بالبصرة سنة إحدى وثلاثين ومائة.(2/162)
522 - مالك بن دينار
يكنى أبا يحيى مولى لامرأة بني سامة بن لؤي. كان يكتب المصاحف.
جعفر قال: سمعت مالك بن دينار يقول: ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر الله تعالى.
قال: وسمعته يقول: يا حملة القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ فإن القرآن ربيع لامؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض، وقد ينزل الغيث من السماء إلى الأرض فيصيب الحش فيكون فيه الحبة فلا يمنعها نتن موضعها أن تهتز وتخضر وتحسن، فيا حملة القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ أين أصحاب سورة أين أصحاب سورتين؟ ماذا عملتم فيهما؟.
قال: وسمعته يقول: يا هؤلاء، جهالكم كثير لولا ذلك للبست المسوح، يا هؤلاء لا تجعلوا بطونكم جرباً للشيطان يوعي فيها إبليس ما شاء.
يوسف بن عطية الصفار، عن مالك بن دينار قال: من دخل بيتي فأخذ منه شيئاً فهو له حلال، أما أنا فلا أحتاج إلى قفل ولا إلى مفتاح.
وكان يأخذ الحصاة من المسجد ويقول: لوددت أن هذه أجزأتني في الدنيا ما عشت، لا أزيد على مصها من الطعام ولا الشراب.
وكان يقول: لو صلح لي أن آكل الرماد لأكلته، ولو صلح لي أن أعمد إلى بوري فأقطعه بقطعتين فأتزر بقطعة وأرتدي بقطعة لفعلت.
جعفر بن سليمان قال: قال مالك بن دينار: لقد هممت أن آمر إذا مت أن أغل فأدفع إلى ربي مغلولاً كما يدفع الآبق إلى مولاه.
__________
522 - هو: مالك بن دينار البصري، الزاهد، أبو يحيى، صدوق عابد من الخامسة، مات سنة ثلاثين أو نحوها.
قال الشيخ شعيب: بل ثقة، وثقه النسائي، وابن سعد والدارقطني ولا نعرف فيه جرحا إلا قول الأزدي "تعرف وتنكر" وهو شبه لا شيء.(2/162)
جعفر قال: سمعت مالك بن دينار يقول: ينطلق أحدكم فيتزوج ديباجة الحرم، يعني أجمل الناس، أو ينطلق إلى جارية قد سمنها أبوها كأنها زبدة، فيتزوجها فتأخذ بقلبه فيقول لها: أي شيء تريدين؟ فتقول: خمار خز، وأي شيء تريدين؟ فتقول كذا وكذا.
قال مالك: فتمرط والله دين ذلك القارئ ويدع أن يتزوجها يتيمة ضعيفة فيكسوها فيؤجر ويدهنها فيؤجر.
قال: وسمعت مالكاً يقول: كان حبر من أحبار بني إسرائيل قال: فرأى بعض بنيه يوماً غمز النساء، فقال: مهلاً يا بني. قال: فسقط من سريره، فانقطع نخاعه فأسقطت امرأته وقتل بنوه في الجيش، وأوحى الله تعالى إلى نبيهم أن أخبر فلاناً الحبر أني لا أخرج من صلبك صديقاً أبداً ما كان غضبك لي إلا أن قلت: مهلاً يا بني مهلاً.
رياح بن عمرو القيسي قال: سمعت مالك بن دينار يقول: ما من أعمال البر شيء إلا دونه عقبة فإن صبر صاحبها أفضت به إلى روح، وإن جزع رجع.
عثمان بن إبراهيم قال: سمعت مالك بن دينار يقول لرجل من أصحابه: إني لأشتهي رغيفاً بلبن رائب. قال: فانطلق فجاء به قال: فجعله على الرغيف. فجعل مالك يقلبه وينظر إليه ثم قال: اشتهيتك منذ أربعين سنة فغلبتك حتى كان اليوم، وتريد أن تغلبني؟ إليك عني وأبى أن يأكله.
مسلم قال: قال مالك بن دينار: منذ عرفت الناس لم أفرح بمدحهم. ولم أكره مذمتهم. قيل: ولم ذاك؟ قال: لأن حامدهم مفرط وذامهم مفرط.
سلام بن أبي مطيع قال: دخلنا على مالك بن دينار ليلاً وهو في بيت بغير سراج وفي يده رغيف يكدمه. فقلنا له: أبا يحيى ألا سراج؟ ألا شيء تضع عليه خبزك؟ فقال: دعوني فوالله إني لنادم على ما مضى.
أبو حفص عمر بن أحمد قال: قال مالك بن دينار: مثل قراء هذا الزمان كمثل رجل نصب فخاً ونصب فيه برة فجاء عصفور فقال: ما غيبك في التراب؟ قال: التواضع. قال: لأي شيء انحنيت؟ قال: من طول العبادة. قال: فما هذه البرة المنصوبة فيك؟ قال: أعددتها للصائمين. فقال: نعم الجار أنت. فلما كان عند المغرب دنا العصفور ليأخذها فخنقه الفخ. فقال العصفور: إن كان العباد يخنقون خنقك فلا خير في العباد اليوم.(2/163)
جعفر بن سليمان قال: مر والي البصرة بمالك بن دينار يرفل فصاح به مالك: أقل من مشيتك هذه فهم خدمه به. فقال: دعوه، ما أراك تعرفني. فقال له مالك: ومن أعرف بك مني، أما أولك فنطفة مذرة وأما آخرك فجيفة قذرة، ثم أنت بين ذلك تحمل العذرة. فنكس الوالي رأسه ومشى.
عن جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار أنه كان يرى يوم التروية بالبصرة ويوم عرفة بعرفات.
عون بن الحكم عن أبيه عن مالك بن دينار قال: قدمت من سفر لي فلما صرت بالجسر قام العشار فقال لا يخرجن من السفينة ولا يقوم أحد من مكانه. فأخذت ثوبي فوضعته على عنقي ثم وثبت فإذا أنا على الأرض. فقال لي: ما أخرجك؟ قلت: ليس معي شيء. قال: اذهب. فقلت في نفسي: هكذا أمر الآخرة.
محمد بن عبد العزيز بن سلمان قال: سمعت أبي يقول: سمعت مالك بن دينار يقول: عجباً لمن يعلم أن الموت مصيره والقبر مورده كيف تقر بالدنيا عينه؟ وكيف يطيب فيها عيشه؟ قال: ثم يبكي مالك حتى يسقط مغشياً عليه.
أبو سمير عن مالك قال: إن لكل شيء لقاحاً وإن الحزن لقاح العمل الصالح، إنه لا يصبر أحد على هذا الأمر إلا بحزن، فوالله ما اجتمعا في قلب عبد قط: حزن بالآخرة وفرح بالدنيا، إن أحدهما ليطرد صاحبه.
عن جعفر بن سليمان قال: قال مالك بن دينار: إذا ذكر الصالحون فأف لي وتف.
سعيد بن عصام قال: سمعت مالك بن دينار يقول: كان الأبرار يتواصون بثلاث: بسجن اللسان، وكثرة الاستغفار، والعزلة.
أبو الحسن البصري قال: دخل مالك بن دينار على رجل محبوس قد أخذ بخراج خرج عليه وقيد. فقال: يا أبا يحيى أما ترى ما أنا فيه من هذه القيود؟ فرفع مالك رأسه فإذا سلة قال: لمن هذه السلة؟ قال: لي. قال: فمر بها فلتنزل، فأنزلت فوضعت بين يديه فإذا دجاج وأخبصة فقال: هذه وضعت القيود في رجلك لا هم وقام عنه.
قال: وكان مالك بن دينار يطوف بالبصرة في الأسواق فينظر إلى أشياء يشتهيها فيرجع فيقول لنفسه: أبشري فوالله ما حرمتك ما رأيت إلا لكرامتك علي.(2/164)
جعفر قال: سمعت مالك بن دينار يقول: إن البدن إذا سقم لا ينجع فيه طعام ولا شراب ولا نوم ولا راحة، وكذلك القلب إذا علق حب الدنيا لم ينجع فيه المواعظ.
وسمعته يقول: بقدر ما تحزن للدنيا كذلك يخرج هم الآخرة من قلبك وبقدر ما تحزن للآخرة فكذلك يخرج هم الدنيا من قلبك.
عن جعفر بن سليمان قال: جاء محمد بن واسع إلى مالك بن دينار فقال: يا أبا يحيى إن كنت من أهل الجنة فطوبى لك. فقال: ينبغي لنا إذا ذكرنا الجنة أن نخزى.
عبد العزيز بن سلمان العابد قال: انطلقت أنا وعبد الواحد بن زيد إلى مالك بن دينار فوجدناه قد قام من مجلسه فدخل منزله وأغلق عليه باب الحجرة فجلسنا ننتظره ليخرج أو لنسمع له حركة فنستأذن عليه. فجعل يترنم بشيء لم نفهمه. ثم بكى حتى جعلنا نأوي له من شدة بكائه. ثم جعل يشهق وتنفس حتى غشي عليه.
قال: فقال لي عبد الواحد: انطلق ليس لنا مع هذا اليوم عمل، هذا رجل مشغول بنفسه.
الحارث بن سعيد قال: كنا عند مالك بن دينار وعندنا قارئ يقرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} الزلزلة فجعل مالك ينتفض وأهل المجلس يبكون ويصرخون حتى انتهى إلى هذه الآية: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} الزلزلة قال: فجعل مالك، والله، يبكي ويشهق حتى غشي عليه فحمل بين القوم صريعاً.
عبد الله بن مرزوق قال: بلغني أن مالك بن دينار دخل المقابر ذات يوم فإذا رجل يدفن، فجاء حتى وقف على القبر فجعل ينظر إلى الرجل وهو يدفن فجعل يقول: مالك، غداً هكذا يصير وليس له شيء يتوسده في قبره. فلم يزل يقول: غداً مالك هكذا يصير، حتى خر مغشياً عليه في جوف القبر فحملوه فانطلقوا به إلى منزله مغشياً عليه.
مسمع بن عاصم قال: قال مالك بن دينار، ورأى إنساناً يضحك، فقال: ما أحب أن قلبي فرغ لمثل هذا وأن لي ما حوت البصرة من الأموال والعقد.
عبد الله العبدي قال: حدثنا جعفر عن مالك قال: إن في بعض الكتب أن الله عز وجل يقول: إن أهون ما أنا صانع بالعالم إذا أحب الدنيا أن أخرج حلاوة ذكري من قلبه.(2/165)
عبد الملك بن قريب قال: حدثني رجل صالح من أهل البصرة قال: وقع حريق في بيت مالك بن دينار فأخذ المصحف وأخذ القطيفة فأخرجهما. فقيل له: يا أبا يحيى، البيت. فقال: ما فيه إلا السندانة ما أبالي أن يحترق.
قال الدورقي، وذكر عبد الله بن المبارك، قال: وقع حريق بالبصرة فأخذ مالك بن دينار بطرف كسائه وقال هلك أصحاب الأثقال.
مجالد بن عبيد الله قال: حدثني عمر عن مالك بن دينار أنه كان يقول: إن الله عز وجل إذا أحب عبداً انتقصه من دنياه وكف عنه ضيعته، ويقول: لا تبرح من بين يدي قال: فهو متفرغ لخدمة ربه عز وجل، وإذا أبغض عبداً دفع في نحره شيئاً من الدنيا ويقول: اعزب من بين يدي فلا أراك بين يدي فتراه معلق القلب بأرض كذا وبتجارة كذا.
الحسين بن زياد قال: سمعت منيعاً يقول: مر تاجر بعشار فحبسوا عليه سفينته فجاء إلى مالك بن دينار فذكر ذلك له، قال: فقام مالك فمشى إلى العشار فلما رأوه قالوا: يا أبا يحيى ألا تبعث إلينا حاجتك؟ قال: حاجتي أن تخلوا سفينة هذا الرجل. قالوا: قد فعلنا. قال: وكان عندهم كوز يجعلون فيه ما يأخذون من الناس من الدراهم قالوا: ادع الله لنا يا أبا يحيى. قال: قولوا للكوز يدعو لكم، كيف أدعو لكم وألف يدعون عليكم؟ أترى يستجاب لواحد ولا يستجاب لألف؟.
محمد بن عبد الله، عن أبي قدامة الحارث بن عبيد قال: سمعت مالكاً يقول: لو أن القوم كلفوا الصحف لأقلوا المنطق.
السري بن يحيى، عن مالك بن دينار قال: والله لو وقف ملك بباب المسجد وقال: يخرج شر من في المسجد، لبادرتكم إليه.
رياح بن عمرو القيسي قال: سمعت مالك بن دينار يقول: دخل علي جابر بن زيد وأنا أكتب فقال: يا مالك ما لك عمل إلا هذا؟ تنقل كتاب الله عز وجل من ورقة إلى ورقة؟ هذا والله الكسب الحلال.
جعفر بن سليمان قال: سمعت المغيرة بن حبيب أبا صالح ختن مالك بن دينار يقول: قلت لنفي: يموت مالك بن دينار وأنا معه في الدار لا أدري ما عمله؟ قال: فصليت معه العشاء الآخر ثم جئت فلبست قطيفة في أطول ما يكون من الليل. قال: وجاءه مالك فدخل(2/166)
فقرب رغيفه فأكل ثم قام إلى الصلاة فاستفتح، ثم أخذ بلحيته فجعل يقول: يا رب إذا جمعت الأولين والآخرين فحرم شيبة مالك بن دينار على النار. قال: فوالله ما زال كذلك حتى غلبتني عيني، ثم انتبهت فإذا هو قائم على تلك الحال يقدم رجلاً ويؤخر رجلاً ويقول: يا رب إذا جمعت الأولين والآخرين فحرم شيبة مالك بن دينار على النار. فما زال كذلك حتى طلع الفجر. فقلت في نفسي: والله لئن خرج مالك بن دينار فرآني لا تبلني عنده بالة أبداً. فجئت إلى المنزل وتركته.
جعفر بن سليمان قال: سمعت مالك بن دينار يقول: كفى بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة، وكفى بالمرء شراً أن لا يكون صالحاً ويقع بالصالحين.
سلم الخواص قال: قال مالك بن دينار: خرج أهل الدنيا من الدنيا ولم يذوقوا أطيب شيء فيها. قالوا: وما هو؟ قال: معرفة الله عز وجل.
قطر بن حماد بن واقد قال: أنبأ أبي قال: سمعت مالك بن دينار يقول: قولوا لمن لم يكن صادقاً لا يتعنى.
جعفر قال: سمعت مالك بن دينار يقول: إن القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب كما أن البيت إذا لم يسكن خرب.
جعفر قال: سمعت مالكاً يقول: اتقوا السحارة، اتقوا السحارة، فإنها تسحر قلوب العلماء.
قال: وسمعته يقول: لو أعلم أن قلبي يصلح على كناسة لذهبت حتى أجلس عليها.
وسمعته يقول: وددت أن الله عز وجل أذن لي يوم القيامة إذا وقفت بين يديه أن أسجد سجدة فأعلم أنه قد رضي عني، ثم يقول لي: يا مالك كن تراباً.
وسمعته يقول: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا.
وسمعته يقول: إنك إذا طلبت العلم لتعمل به كسرك العلم وإذا طلبته لغير العمل به لم يزدك إلا فخراً.
قال: وكانت الغيوم تجيء وتذهب ولا تمطر فيقول مالك: أنتم تستبطئون وإنما أستبطئ الحجارة، إن لم تمطر حجارة فنحن بخير.
جعفر قال: أنبأ مالك بن دينار قال: لما وقعت الفتنة أتيت الحسن ثلاثة أيام أسأله:(2/167)
يا أبا سعيد ما تأمرني، فلا يجيبني. قال: فقلت يا أبا سعيد أتيتك ثلاثة أيام أسألك وأنت معلمي فلا تجيبني، فوالله لقد هممت أن آخذ الأرض بقدمي وأشرب من أفواه الأنهار وآكل من بقل البرية حتى يحكم الله عز وجل بين عباده. قال: فأرسل الحسن عينيه باكياً ثم قال: يا مالك ومن يطيق ما تطيق، ولكنا والله ما نطيق هذا.
قال جعفر: وكنت عند مالك بن دينار فجاء هشام بن حسان، وكان يأتيه هشام ابن حسان وسعيد بن أبي عروبة وحوشب يطلبون قلوبهم، فجاء هشام فقال: أين أبو يحيى؟ قلنا: عند البقال. قال: قوموا بنا إليه. قال: فحانت منه نظرة إلى هشام فقال: يا هشام إني أعطي هذا البقال كل شهر درهماً ودانقين فآخذ منه كل شهر ستين رغيفاً كل ليلة رغيفين فإذا أصبتهما سخناً فهو أدمهما، يا هشام إني قرأت في زبور داود: إلهي رأيت همومي وأنت من فوق العلى، فانظر ما همومك يا هشام.
عن السري بن يحيى عن مالك بن دينار قال: أخذ السبع صبياً لامرأة فتصدقت بلقمة. فألقاه، فنوديت: لقمة بلقمة.
جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال: إن الله جعل الدنيا دار مفر والآخرة دار مقر فخذوا لمقركم وأخرجوا الدنيا من قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم، ففي الدنيا حييتم ولغيرها خلقتم؛ إنما مثل الدنيا كالسم أكله من لا يعرفه واجتنبه من عرفه ومثل الدنيا مثل الحية مسها لين وفي جوفها السم القاتل يحذرها ذوو العقول ويهوي إليها الصبيان بأيديهم.
الحارث بن نبهان قال: قدمت من مكة فأهديت إلى مالك بن دينار ركوة. قال: فكانت عنده فجئت يوماً فجلست في مجلسه. فلما قضاه قال لي: يا حارث تعال خذ الركوة، فقد شغلت علي قلبي. فقلت: يا أبا يحيى إنما اشتريتها لك تتوضأ فيها وتشرب. فقال: يا حارث إني إذا دخلت المسجد جاءني الشيطان فقال لي: يا مالك إن الركوة قد سرقت فقد شغلت علي قلبي.
جعفر قال: قلنا لمالك بن دينار، ألا تدعو قارئاً؟ قال: إن الثكلى لا تحتاج إلى نائحة. فقلنا له ألا تستقي؟ فقال: أنتم تستبطئون المطر لكني أستبطئ الحجارة.
جعفر قال: رأيت مالك بن دينار يتقنع بعباء، أو قال بكساء، ثم يقول: إله مالك، قد علمت(2/168)
ساكن الجنة من ساكن النار فأي الدارين دار مالك وأي الرجلين مالك؟ ثم يبكي، وسمعته يقول: لو استطعت أن لا أنام لم أنم مخافة أن ينزل العذاب وأنا نائم، ولو وجدت أعواناً لفرقتهم ينادون في منار الدنيا كلها يا أيها الناس النار النار.
وسمعته يقول: لو كان لأحد أن يتمنى لتمنيت أن يكون لي في الآخرة خص من قصب فأروى من الماء وأنجو من النار.
وسمعته يقول للمغيرة بن حبيب، وكان ختنه: يا مغيرة كل أخ وجليس وصاحب لا تستفيد منه في دينك خيراً فانبذ عنك صحبته.
وسمعته يقول: يا إخوتاه بحق أقول لكم: لولا البول ما خرجت من المسجد.
وسمعته يقول: إنما العالم الذي إذا أتيته في بيته فلم تجده قص عليك بيته: رأيت حصيرة للصلاة، ومصحفه ومطهرته في جانب البيت، ترى أثر الآخرة.
وسمعته يقول: إن الأبرار لتغلي قلوبهم بأعمال البر، وإن الفجار تغلي قلوبهم بأعمال الفجور، والله يرى همومكم، فانظروا ما همومكم رحمكم الله.
وسمعته يقول: إن الصديقين إذا قرئ عليهم القرآن طربت قلوبهم إلى الآخرة.
وسمعته يقول: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب.
وسمعته يقول: إن لله تعالى عقوبات فتعاهدوهن من أنفسكم في القلوب والأبدان وضنك في المعيشة ووهن في العبادة وسخطة في الرزق.
جعفر عن مالك بن دينار قال: خرج سليمان بن داود عليه السلام في موكبه فمر ببلبل على غصن شوك يصفر ويضرب بذنبه فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه يقول: قد أصبت اليوم نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء.
فضيل بن عياض قال: رأى مالك بن دينار رجلاً يسيء صلاته فقال: ما أرحمني لعياله. فقيل له: يسيء هذا صلاته وترحم عياله؟ قال: إنه كبيرهم ومنه يتعلمون.
الحسن بن عمرو قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: قال رجل لمالك بن دينار: يا مرائي، قال: متى عرفت اسمي؟ ما عرف اسمي غيرك.
الحسين بن علي الحلواني قال: دخل اللصوص إلى بيت مالك بن دينار فلم يجدوا في البيت شيئاً فأرادوا الخروج من داره فقال مالك: ما عليكم لو صليتم ركعتين.(2/169)
حزم القطيعي قال: دخلنا على مالك بن دينار في مرضه الذي مات فيه وهو يكيد بنفسه فرفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لبطن ولا لفرج.
أبو عيسى قال: دخلنا على مالك بن دينار عند الموت فجعل يقول: لمثل هذا اليوم كان دؤوب أبي يحيى.
عمارة بن زاذان قال: أن مالك بن دينار لما حضره الموت قال: لولا أني أكره أن أصنع شيئاً لم يصنعه أحد كان قبلي لأوصيت أهلي إذا أنا مت أن يقيدوني وأن يجمعوا يدي إلى عنقي فينطلقوا بي على تلك الحال حتى أدفن كما يصنع بالعبد الآبق.
وقال غير أحمد بن محمد: فإذا سألني ربي تعالى أي رب لم أرض لك نفسي طرفة عين قط.
حصين بن القاسم قال: قلت لعبد الواحد بن زيد ما كان سبب موت مالك بن دينار؟ قال: أنا كنت سببه، سألته عن رؤيا رأى فيها مسلم بن يسار فقصها علي فانتفضت فجعل يشهق ويضطرب حتى ظننت أن كبده قد تقطعت في جوفه ثم هدأ فحملناه إلى بيته فلم يزل مريضاً يعوده إخوانه حتى مات منها. فهذا كان سبب موته.
أسند مالك بن دينار عن أنس بن مالك وعن جماعة من كبار التابعين: كالحسن وابن سيرين والقاسم بن محمد وسالم بن عبيد الله.
وتوفي قبل الطاعون بيسير. وكان الطاعون سنة إحدى وثلاثون ومائة.(2/170)
523 - هارون بن رئاب
يكنى أبا الحسن بن عيينة قال: كان هارون بن رئاب يخفي الزهد، وكان يلبس الصوف تحت ثيابه.
سفيان بن عيينة قال: رأيت هارون بن رئاب وكأن النور على وجهه.
عن ابن شوذب قال: كنت إذا رأيت هارون بن رئاب فكأنما أقلع عن البكاء.
أسند هارون عن أنس وغيره.
__________
523 - هو: هارون بن رئاب – بكسر الراء وتحتانية مهموزة ثم موحدة، التميمي، أبو بكر أو أبو الحسن، ثقة عابد من السادسة، اختلف في سماعه من أنس.(2/170)
524 - يزيد بن أبان الرقاشي
عن أشعث بن سوار قال: دخلت على يزيد الرقاشي فقال: دخلت على يزيد الرقاشي فقال: يا أشعث تعال نبكي على الماء البارد في يوم الظمأ.
قال: وجعل يقول: سبقني العابدون وقطع بي والهفاه. وقد صام اثنتين وأربعين سنة.
عن هشام قال: قال لي ثابت البناني: ما رأيت أحداً أصبر على طول القيام والسهر من يزيد بن أبان.
عن عبد الخالق بن موسى اللقيطي قال: جوع يزيد نفسه لله عز وجل ستين عاماً حتى ذبل جسمه ونهك بدنه وتغير لونه. وكان يقول: غلبني بطني فما أقدر له على حيلة.
عن أبي إسحاق الخميسي قال: كان يقول في قصصه: ويحك يا يزيد من يترضى عنك ربك؟ ومن يصوم لك أو يصلي لك؟ ثم يقول: يا معشر من القبر بيته والموت موعده ألا تبكون؟ قال: فبكى حتى سقطت أشفار عينيه.
زهير السلولي قال: كان يزيد الرقاشي قد بكى حتى تناثرت أشفاره وأحرقت الدموع مجاريها من وجهه.
سلمة بن سعيد قال: قالوا ليزيد الرقاشي: أما تسأم من كثرة البكاء؟ فبكى وقال: والله لوددت أن أبكي بعد الدموع الدماء وبعد الدماء الصديد.
وكان يقول: ابك يا يزيد على نفسك قبل حين البكاء. يا يزيد من يصلي لك بعدك؟ أو من يصوم؟ يا يزيد من يضرع لك إلى ربك بعدك ومن يدعو؟
وكان يقول: يا إخوتاه ابكوا فإن لم تجدوا بكاء فارحموا كل بكاء.
أبو محمد علي بن الحسن قال: قيل لابن يزيد الرقاشي: أكان أبوك يتمثل من الشعر شيئاً؟ قال: كان يتمثل:
إنا لنفرح بالأيام نقطعها ... وكل يوم مضى يدني من الأجل
أسند يزيد عن أنس بن مالك، وروى عن الحسن وغيره إلا أن التعبد شغله عن حفظ الحديث فأعرضت النقلة عما يروي.
__________
524 - هو: يزيد بن أبان الرقاشي - بتخفيف القاف ثم معجمة - أبو عمرو البصري، القاص -بتشديد المهملة - زاهد ضعيف، من الخامسة، مات قبل العشرين.(2/171)
525 - الأسود بن كلثوم
عن حميد بن هلال قال: كان منا رجل يقال له الأسود بن كلثوم.
وكان إذا مشى لا يجاوز بصره قدميه، فكان يمر بالنسوة، وفي الجدر يومئذ قصر، ولعل إحداهن أن تكون واضعة ثوبها أو خمارها، فإذا رأينه راعهن. ثم يقلن: كلا إنه الأسود بن كلثوم.
فلما قرب غازياً قال: إن نفسي هذه تزعم في الرخاء أنها تحب لقاءك، فإن كانت صادقة فارزقها ذلك، وإن كانت كارهة فاحملها عليه وإن كرهت، وأطعم لحمي سباعاً وطيراً.
فانطلق في خيل فدخلوا حائط فنذر بهم العدو فجاءوا فأخذوا بثلمة الحائط، فنزل الأسود عن فرسه فضربها حتى عادت فخرج وأتى الماء فتوضأ ثم صلى.
قال: يقول العجم: هكذا استسلام العرب إذا استسلموا ثم تقدم فقاتل حتى قتل. قال: فمر عظم الجيش بعد ذلك بذلك الحائط فقيل لأخيه لو دخلت فنظرت ما بقي من عظام أخيك ولحمه قال: لا، دعا أخي بدعاء فاستجيب له فلست أعرض في شيء من ذلك.
__________
525 - هو: المستشهد الملثوم، الأسود بن كلثوم، خلت دعوته فعجلت كرامته، انظر حلية الأولياء 2/288.(2/172)
ومن الطبقة الرابعة:
526 - أيوب بن أبي تميمة السختياني
يكنى أبا بكر، مولى لعنزة، واسم أبي تميمة كيسان.
حماد بن زيد قال: قال أيوب: عن قوماً يريدون أن يرتفعوا فيأبى الله إلا أن يضعهم وآخرين يريدون أن يتواضعوا ويأبى الله إلا أن يرفعهم.
قال: وكان النساك يومئذ يشمرون ثيابهم وكان أيوب لا يفعل.
حماد بن زيد قال: كنت أمشي مع أيوب فيأخذ في طرق - إني لأعجب له كيف يهتدي لها - فراراً من الناس أن يقال هذا أيوب.
ميمون الغزال قال: كنا عند الحسن فجاء أيوب فسلم عليه فلما مضى، وكان حيث لا يسمع، قال الحسن: هذا سيد الفتيان.
وفي رواية أخرى: قال الحسن: أيوب سيد شباب أهل البصرة.
حجاج قال: سمعت شعبة يقول: ربما ذهبت مع أيوب في الحاجة أمشي معه فلا يدعني، فيخرج ههنا وههنا لكي لا يفطن له.
وقال شعبة: قال أيوب: ذكرت وما أحب أن أذكر.
الحميدي قال: لقي سفيان بن عيينة ستة وثمانين من التابعين، وكان يقول: ما رأيت مثل أيوب.
سلام بن أبي مطيع قال: كان أيوب يقوم الليل يخفي ذلك فإذا كان قبيل الصبح رفع صوته كأنه إنما قام تلك الساعة.
عن وهيب بن خالد قال: قال أيوب السختياني: إذا ذكر الصالحون كنت منهم بمعزل.
بشر بن منصور قال: كنا عند أيوب فلغطنا وتكلمنا. فقال لنا أيوب: كفوا، لو أردت أن أخبركم بكل شيء تكلمت به اليوم لفعلت.
__________
526 - هو: أيوب بن أبي تميمة: كيسان السختياني، بفتح المهملة بعدها معجمة ثم مثناة ثم تحتانية وبعد الألف نون، أبو بكر البصري، ثقة ثبت حجة من كبار الفقهاء العباد، من الخامسة، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة وله خمس وستون.(2/173)
عن معمر قال: كان في قميص أيوب بعض التذييل فقيل له، فقال: الشهرة اليوم في التشمير.
صالح بن أبي الأخضر قال: قلت لأيوب: أوصني، قال: أقل الكلام.
عبد الله بن بشر قال: إن الرجل ربما جلس إلى أيوب السختياني فيكون لما يرى منه أشد اتباعاً منه لو سمع حديثه.
حماد بن زيد قال: لو رأيتم أيوب ثم استسقاكم شربة من ماء على النسك لما سقيتموه، له شعر وافر وشارب وافر وقميص جيد هروي يشم الأرض، وقلنسوة جيدة وطيلسان جيد ورداء عدني.
حماد بن زيد قال: سمعت أيوب يقول: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.
عبيد الله بن شميط قال: سمعت أيوب السختياني يقول: لا ينبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان: بالعفة عما في أيدي الناس والتجاوز عما يكون منهم.
عن المبارك بن إسماعيل قال: آذى رجل أيوب السختياني وأصحابه أذى شديداً. فلما تفرقوا قال أيوب: إني لأرحمه أنا نفارقه وخلقه معه.
حماد قال: رأيت أيوب لا ينصرف عن سوقه إلا معه شيء يحمله لعياله حتى رأيت قارورة الدهن بيده يحملها. فقلت له في ذلك فقال: إني سمعت الحسن يقول: إن المؤمن أخذ عن الله عز وجل أدباً حسناً فإذا أوسع عليه أوسع وإذا أمسك عنه أمسك.
حماد بن زيد قال: ما رأيت رجلاً قط أشد تبسماً في وجوه الرجال من أيوب.
إسحاق بن محمد قال: سمعت مالك بن أنس يقول: كنا ندخل على أيوب السختياني فإذا ذكرنا له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى نرحمه.
عن هشام بن حسان قال: حج أيوب السختياني أربعين حجة.
عبد الواحد بن زيد قال: كنت مع أيوب على جراء فعطشت عطشاً شديداً حتى رأى ذلك في وجهي فقال: ما الذي أرى بك؟ قلت: العطش، قد خفت على نفسي: قال تستر علي؟ قلت: نعم. فاستحلفني فحلفت له أن لا أخبر عنه ما دام حياً. قال: فغمز برجله على حراء فنبع الماء فشربت حتى رويت وحملت معي من الماء. قال: فما حدثت به أحداً حتى مات.(2/174)
عن أبي بكر بن الفضل قال: سمعت أيوب يقول: والله ما صدق عبد إلا سره أن لا يشعر بمكانه.
عن سلام بن أبي مطيع قال: قال رجل من أهل الأهواء لأيوب: ألا أكلمك بكلمة؟ قال: لا، ولا نصف كلمة.
عن هشام بن حسان عن أيوب السختياني قال: ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا زاد من الله عز وجل بعداً.
محمد بن عمر الباهلي قال: سمعت ابن عيينة يقول: قال أيوب: إنه ليبلغني موت الرجل من أهل السنة فكأنما يسقط عضو من أعضائي.
حماد بن زيد قال: كان أيوب ربما حدث بالحديث فيرق فيلتفت فيمتخط ويقول: ما أشد الزكام.
الحسن بن عمرو قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: دخل بديل على أيوب السختياني، أظنه قال: يعوده وقد مد على فراشه سبنية حمراء يدفع بها الرثاء، فقال له بديل: ما هذا؟ فقال أيوب: هذا خير من هذا الصوف الذي عليك.
يحيى العبدي قال: سمعت حماد بن زيد يقول: كان أيوب يطلب العلم حتى مات.
أسند أيوب عن أنس بن مالك وعمرو بن سلمة الجرمي وروى عن أبي عثمان النهدي وأبي رجاء العطاردي وأبي العالية والحسن وابن سيرين وأبي قلابة. وتوفي في الطاعون بالبصرة سنة إحدى وثلاثين ومائة.
حنبل قال: سمعت سليمان بن حرب يقول: مات أيوب وهو ابن ثلاث وستين.(2/175)
527 - يحيى بن سليم
أبو مسلم البكاء. ويقال يحيى بن مسلم.
عن معاذ بن زياد قال: كان يحيى بن مسلم البكاء قد اعتم بعمامة فأدارها على حلقه وجعل لها طرفين. فكان يبكي حتى يبل هذا الطرف ثم يبكي حتى يبل الطرف الآخر، ثم يحلها من رأسه ويبكي وينتحب حتى يبل العمامة بأسرها ثم يبكي وينتحب حتى يبل أردانه.
__________
527 - هو: يحيى بن مسلم، أو ابن سليم، مصغر، وهو ابن أبي خليد البصري المعروف بيحيى البكاء - بتشديد الكاف - الحداني -بضم المهملة وتشديد الدال - مولاهم، ضعيف من الرابعة مات سنة ثلاثين ومائة.(2/175)
528 - سليمان بن طرخان التيمي
يكنى أبا المعتمر. محمد بن سعد قال: سمعت يزيد بن هارون يقول: ليس سليمان بتيمي ولكنه مري ومنزله في التيم فنسب إليهم. وكان من العباد المجتهدين يصلي الغداة بوضوء العشاء الآخرة.
وكان هو وابنه المعتمر يدوران بالليل في المساجد فيصليان مرة في هذا المسجد ومرة في هذا حتى يصبحا.
حنبل قال: أنبأنا علي يعني ابن المديني قال: سمعت يحيى يعني ابن سعيد، وذكرنا التيمي، فقال: ما جلست إلى رجل أخوف لله منه.
محمد بن عبد الأعلى قال: سمعت معتمر بن سليمان التيمي يقول: لولا أنك من أهلي ما حدثتك عن أبي بهذا، مكث أبي أربعين سنة يصوم يوماً ويفطر يوماً ويصلي الصبح بوضوء العشاء وربما أحدث الوضوء من غير نوم.
الهيثم أبو علي المفلوج قال: صلى سليمان التيمي الغداة بوضوء العتمة أربعين سنة.
حماد بن سلمة قال: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله عز وجل فيها إلا وجدناه مطيعاً فإن كان في ساعة صلاة وجدناه مصلياً، فإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إما متوضئاً أو عائداً مريضاً أو مشيعاً لجنازة أو قاعداً يسبح في المسجد. قال: فكنا نرى أنه لا يحسن أن يعصي الله عز وجل.
قال السراج: وسمعت سوار بن عبد الله يقول: سمعت المعتمر يقول: مات صاحب لي كان يطلب الحديث فجزعت عليه فرآى أبي جزعي عليه فقال: يا معتمر كان صاحبك هذا على السنة؟ قلت: نعم. قال: فلا تجزع عليه ولا تحزن عليه.
أسود بن سالم قال: سمعت معتمر بن سليمان التيمي قال: سقط بيت لنا كان أبي يكون فيه فضرب فسطاطاً فكان فيه حتى مات. فقيل له: لو بنيته. فقال: الأمر أعجل من ذاك، غداً الموت.
عن يحيى بن سعيد القطان قال: مكث سليمان التيمي في قبة لبود ثلاثين سنة أو نحواً من ثلاثين.
__________
528 - هو: سليمان بن طرفان التيمي، أبو المعتمر البصري، نزل في التيم فنسب إليهم، ثقة عابد، من الرابعة، مات سنة ثلاث وأربعين وهو ابن سبع وتسعين.(2/176)
محمد بن عبد الله الأنصاري قال: كان التيمي عامة زمانه يصلي العشاء والصبح بوضوء واحد وليس وقت صلاة إلا وهو يصلي، وكان يسبح بعد العصر إلى المغرب، ويصوم الدهر.
أبو علي البصري عن معمر، مؤذن التيمي، قال: صلى إلى جنبي سليمان التيمي العشاء الآخرة وسمعته يقرأ: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} الملك: 1 قال: فلما أتى على هذه الآية: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الملك: 27 جعل يرددها حتى خف أهل المسجد وانصرفوا. قال: فخرجت وتركته.
قال: وعدت لأذان الفجر فإذا هو في مقامه. قال: فتسمعت فإذا هو لم يجزها وهو يقول: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
الفضيل بن عياض قال: قيل لسليمان التيمي أنت أنت من مثلك؟ قال: لا تقولوا هكذا لا أدري ما يبدو لي من ربي عز وجل؟ سمعت الله تعالى يقول: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} الزمر.
عن إبراهيم بن إسماعيل قال: كان بين سليمان التيمي وبين رجل شيء فنازعه، فتناول الرجل سليمان فغمز بطنه فجفت يد الرجل.
الأصمعي عن معتمر عن أبيه قال: إن الرجل ليذنب الذنب فيصبح وعليه مذلته.
ضمرة قال: السري بن يحيى حدثناه قال: قدح سليمان التيمي عينه قال: فنهاه الطبيب أن يمس ماء قال: فمس فرجه قال: وكان يرى الوضوء من مس الفرج. قال: فنزع القطنة عن عينه وتوضأ وأعاد القطنة على حالها. قال: فجاء الطبيب فنظر فلم ير شيئاً ينكر. قال: انظر هل ترى شيئاً؟ قال: ما أرى شيئاً أنكره. قال: فإني قد توضأت. قال: فإن الله قد رزقك العافية.
سوار بن عبد الله قال: سمعت المعتمر يقول: قال لي أبي حين حضره الموت: يا معتمر حدثني بالرخص لعلي ألقى الله عز وجل وأنا حسن الظن به.
عن رقبة قال: رأيت رب العزة في المنام فقال: وعزتي لأكرمن مثوى سليمان، يعني التيمي.
وبلغنا من طريق آخر عن رقبة أنه قال: رأيت رب العزة تبارك وتعالى في النوم فقال: يا رقبة وعزتي وجلالي لأكرمن مثوى سليمان التيمي فإنه صلى أربعين سنة على ظهر العتمة،(2/177)
قال: فجئت إلى سليمان فحدثته فقال: أنت رأيت هذا؟ قلت: نعم، قال: لأحدثنك بمائة حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جئتني به من البشارة. قال: فلما كان بعد مديدة مات فرأيته مات في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدناني وقربني وغلفني بيده وقال: هكذا أفعل بأبناء ثلاث وثمانين.
أسند سليمان التيمي عن أنس بن مالك وعن أبي مالك النهدي وأبي مجلز والحسن وابن سيرين وأبي العالية في آخرين وتوفي بالبصرة سنة ثلاث وأربعين ومائة.(2/178)
529 - داود بن أبي هند
يكنى أبا بكر، مولى لآل الأعلم القشيريين وكان يفتي في زمان الحسن. واسم أبي هند: دينار.
عن عمرو بن علي قال: سمعت ابن أبي عدي يقول: صام داود أربعين سنة لا يعلم به أهله. وكان خزازاً يحمل معه غداءه من عندهم فيتصدق به في الطريق ويرجع عشياً فيفطر معهم.
سفيان قال: سمعت داود بن أبي هند يقول: أصابني يعني الطاعون فأغمي علي فكأن اثنين أتياني فغمز أحدهما عكدة لساني وغمز الآخر أخمص قدمي فقال: أي شيء تجد؟ فقال: تسبيحاً وتكبيراً وشيئاً من خطو إلى المسجد وشيئاً من قراءة القرآن. قال: ولم أكن أخذت القرآن حينئذ، وكنت أذهب في الحاجة فأقول: لو ذكرت الله حتى آتي حاجتي فعوفيت فأقبلت على القرآن فتعلمته.
أسند داود عن أنس بن مالك، وروى عن كبار التابعين كسعيد بن المسيب وابي عثمان النهدي وأبي العالية والحسن وغيرهم، وتوفي في سنة تسع وثلاثين ومائة.
__________
529 - هو: داود بن أبي هند القشيري مولاهم، أبو بكر أو أبو محمد البصري، ثقة متقن كان يهم بأخرة، من الخامسة مات سنة أربعين وقيل قبلها.(2/178)
530 - عاصم بن سليمان الأحول
يكنى أبا عبد الرحمن مولى لبني تميم كان قاضياً بالمدائن في خلافة أبي جعفر، وكان على الحسبة في المكاييل والموازين بالكوفة.
__________
530 - هو: عاصم بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصري، ثقة لم يتكلم فيه إلا ابن القطان فكأنه بسبب دخوله في الولاية، مات بعد سنة أربعين(2/178)
محمد بن عباد قال: حدثني أبي قال: ربما رئي عاصم الأحول وهو صائم ثم يفطر فإذا صلى العشاء تنحى فصلى فلا يزال يصلي الفجر لا يضع جنبه.
أسند عاصم عن أنس بن مالك وعبد الله بن سرجس، وروى عن أبي عثمان النهدي وابن سيرين وغيرهما، وتوفي سنة إحدى أو اثنتين وأربعين ومائة.(2/179)
531 - يونس بن عبيد
يكنى أبا عبد الله. مولى لعبد القيس.
رسته قال: سمعت زهيراً يقول: كان يونس بن عبيد خزازاً فجاء رجل يطلب ثوباً فقال لغلامه: انشر الرزمة. فنشر الغلام الرزمة وضرب بيده عليها وقال: صلى الله على محمد. ارفعه ارفعه، وأبى أن يبيعه مخافة أن يكون مدحه.
مؤمل بن إسماعيل قال: جاء رجل من أهل الشام إلى سوق الخزازين فقال مطرف: بأربعمائة. فقال يونس بن عبيد: عندنا بمائتين. فنادى مند بالصلاة فانطلق يونس إلى بني قشير ليصلي بهم.
فجاء وقد باع ابن أخيه المطرف من الشامي بأربعمائة. فقال يونس: ما هذه الدراهم؟ قال: ذلك المطرف بعناه من هذا الرجل. قال يونس: يا عبد الله المطرف الذي عرضت عليك بمائتي درهم، فإن شئت فخذه وخذ مائتين، وإن شئت فدعه. قال: من أنت؟ قال: رجل من المسلمين. قال: بل أسألك بالله من أنت وما اسمك؟ قال: يونس بن عبيد. قال: فوالله إنا لنكون في نحر العدو فإذا اشتد الأمر علينا قلنا: اللهم رب يونس فرج عنا. أو شبيه هذا. فقال يونس: سبحان الله سبحان الله.
بشر بن المفضل قال: جاءت امرأة بمطرف خز إلى يونس بن عبيد فألقته إليه تعرضه عليه في السوق. فنظر إليه فقال لها: بكم؟ قالت: بستين درهماً. قال: فألقاه إلى جار له: كيف تراه بعشرين ومائة؟ قال: أرى ذلك ثمنه أو نحواً من ثمنه. قال: فقال لها: اذهبي فاستأمري أهلك في بيعه بخمس وعشرين ومائة. قالت: قد أمروني أن أبيعه بستين. قال: ارجعي إليهم فاستأمريهم.
__________
531 - هو: يونس بن دينار العبدي، أبو عبيد البصري، أبو عبيد البصري، ثقة ثبت فاضل ورع، من الخامسة، مات سنة تسع وثلاثين.(2/179)
أسماء بن عبيد قال: سمعت يونس بن عبيد يقول: ليس شيء أعز من شيئين: درهم طيب ورجل يعمل على سنة.
قال: وسمعت يونس يقول: إنما هما درهمان، درهم أمسكت عنه حتى طال لك فأخذته، ودرهم وجب لله وجل عليك فيه حق فأديته.
جعفر بن برقان قال: بلغني عن يونس بن عبيد فضل وصلاح فكتبت إليه: يا أخي بلغني عنك فضل وصلاح فأحببت أن أكتب إليك، فاكتب إلي بما أنت عليه.
فكتب إلي: أتاني كتابك تسألني أن أكتب إليك بما أنا عليه، وأخبرك أني عرضت على نفسي أن تحب للناس ما تحب لها وأن تكره لهم ما تكره لها فإذا هي من ذلك بعيد ثم عرضت عليها مرة أخرى ترك ذكرهم إلا من خير فوجدت الصوم في اليوم الحار الشديد الحر بالهواجر بالبصرة أيسر عليها من ترك ذكرهم، هذا أمري - يا أخي - والسلام.
عن سلام بن أبي مطيع أو غيره قال: ما كان يونس بأكثرهم صلاة ولا صوماً ولكن لا والله ما حضر حق من حقوق الله عز وجل إلا وهو متهيئ له.
إسحاق بن إبراهيم قال: نظر يونس بن عبيد إلى قدميه عند موته فبكى فقيل له: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قال: قدماي لم تغبرا في سبيل الله عز وجل.
قال غسان: وحدثنا سعيد بن عامر عن يونس بن عبيد قال: إنك تكاد تعرف ورع الرجل في كلامه إذا تكلم.
مبارك بن فضالة عن يونس بن عبيد قال: لا تجد شيئاً من البر واحداً يتبعه البر كله غير اللسان فإنك تجد الرجل يكثر الصيام ويفطر على الحرام، ويقوم الليل ويشهد بالزور، وذكر شيئاً نحو هذا، ولكن لا تجده لا يتكلم إلا بحق فيخالف ذلك علمه أبداً.
غسان بن المفضل قال: حدثني بعض أصحابنا من البصريين قال: جاء رجل إلى يونس بن عبيد فشكا إليه ضيقاً من حاله ومعاشه واغتماماً منه بذلك فقال له يونس: أيسرك ببصرك هذا الذي تبصر به مائة ألف؟ قال: لا. قال: فسمعك الذي تسمع به يسرك به مائة ألف؟ قال: لا. قال: فؤادك الذي تعقل به يسرك به مائة ألف؟ قال: لا. قال: فيداك يسرك بهما مائة ألف؟ قال: لا. فرجلاك؟ قال: فذكره نعم الله عز وجل عليه. فأقبل عليه يونس فقال: أرى لك مئين ألوفاً وأنت تشكو الحاجة.(2/180)
عن حماد بن زيد قال: شكا رجل إلى يونس بن عبيد وجعاً يجده في بطنه فقال له يونس: يا عبد الله هذه دار لا توافقك، فالتمس داراً توافقك.
عن جسر قال: دخلت على يونس بن عبيد فقال: منذ دخلت علينا قد مضى من آجالنا.
أمية بن بسطام قال: جاءت يونس بن عبيد امرأة بجبة خز فقالت له: اشترها فقال: بكم تبيعينها؟ قالت: بخمس مائة. قال: هي خير من ذلك. قالت: بستمائة. قال: هي خير من ذلك. فلم يزل يقول: هي خير من ذلك حتى بلغت ألفاً وقد بذلتها بخمس مائة.
قال أمية: وكان يونس بن عبيد يشتري الابرسيم من البصرة فيبعث به إلى وكيله بالسوس. فكان وكيله يبعث إليه بالخز.
فإن كتب وكيله إليه: أن المتاع عندهم زائد لم يشتر منهم أبداً حتى يخبرهم أن وكيله كتب إليه أن المتاع عندهم زائد.
أمية قال: كان يونس بن عبيد إذا طلب المتاع أرسل وكيله بالسوس أن أعلم من تشتري منه أن المتاع يطلب. وكلاماً ذا معناه.
أحمد بن سعيد الدارمي قال: سمعت النضر بن شميل وسعيد بن عامر يقولان: غلا الحرير. وقال أحدهما: بالخز في موضع كان إذا غلا هناك غلا بالبصرة. وكان يونس بن عبيد خزازاً علم بذلك فاشترى من رجل متاعاً بثلاثين ألفاً فلما كان بعد ذلك قال لصاحبه: هل كنت قد علمت أن المتاع قد غلا بأرض كذا وكذا؟ قال: لا ولو علمت لم أبع قال: هلم هلم إلى مالي وخذ مالك. ورد عليه الثلاثين ألفاً.
عبيد الله بن سلام الباهلي قال: سمعت يونس بن عبيد يقول: لو أصبت درهماً حلالاً من تجارة لاشتريت به براً ثم صيرته سويقاً ثم سقيته المرضى.
ضمرة عن ابن شوذب قال: اجتمع يونس بن عبيد وعبد الله بن عون فتذاكروا الحلال. فكلاهما يقول ما أرى في بيتي درهماً حلالاً.
سليمان بن المغيرة قال: سمعت يونس بن عبيد يقول: ما أعلم شيئاً أقل طيب ينفقه صاحبه في حق، أو أخ يسكن إليه في الإسلام وما يزدادان إلا قلة.
عن هشام بن حسان قال: ما رأيت أحداً يطلب بالعلم وجه الله عز وجل إلا يونس بن عبيد.(2/181)
عن ضمرة عن ابن شوذب قال: سمعت يونس بن عبيد يقول: خصلتان إذا صلحتا من العبد صلح ما سواهما من أمره: صلاته ولسانه.
حماد بن زيد قال: مرض يونس بن عبيد فقال أيوب السخيتاني: ما في العيش بعدك من خير.
سكن الحرشي قال: جاءني يونس بن عبيد بشاة فقال: بعها وابرأ من أنها تقلب العلف وتنزع الوتد ولا تبرأ بعد ما تبيع بل قل لمن تبيع.
حماد بن سلمة قال: سمعت يونس بن عبيد يقول: ما أهم رجلاً كسبه إلا أهمه أين يضعه.
قال ابن عائشةك وثنا سعيد بن عامر قال: قال يونس بن عبيد: ما لي تضيع لي الدجاجة فأجد لها وتفوتني الصلاة فلا أجد لها.
منصور بن بشر قال: سمعت يونس بن عبيد يقول: ما من الناس أحد يكون لسانه منه على بال إلا رأيت ذلك صلاحاً في سائر عمله.
عن معاذ بن الأعلم عن يونس ابن عبيد قال: ما شبهت الدنيا إلا كرجل نائم في منامه ما يكره وما يحب، فبينما هو كذلك إذا انتبه.
بشر بن الحارث قال: قال يونس بن عبيد: إني لأعرف مائة خصلة من البر ما في منها واحدة.
حماد بن زيد قال: قال لنا يونس بن عبيد: احفظوا عني ثلاثاً مت أو عشت: لا يدخلن أحدكم على سلطان يعظه، ولا يخل بامرأة شابة وإن أقرأها القرآن، ولا يمكن سمعه من ذي هوى.
أسند يونس بن عبيد عن أنس بن مالك وروى كثيراً عن الحسن وابن سيرين وعطاء وعكرمة ونظرائهم، وتوفي في سنة تسع وثلاثين ومائة. قيل سنة أربع وثلاثين.(2/182)
532 - عبد الله بن عون بن أرطبان
يكنى أبا عون مولى عبد الله بن ذرة المزني.
بكار قال: ما رأيت ابن عون بمازح أحداً ولا يماري أحداً. وكان مشغولاً بنفسه. وكان
__________
532 - هو: عبد الله بن عون بن أرطبان، أبو عون البصري، ثقة ثبت فاضل من أقران أيوب في العلم والعمل والسن، من السادسة، مات سنة خمسين على الصحيح.(2/182)
إذا صلى الغداة مكث مستقبلاً القبلة في مجلسه يذكر الله عز وجل فإذا طلعت الشمس صلى ثم أقبل على أصحابه وما رأيته شاتماً أحداً قط عبداً ولا أمة ولا دجاجة ولا شاة ولا رأيت أحداً أملك للسانه منه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً حتى مات.
وكان إذا توضأ لا يعينه أحد وكان طيب الريح لين الكسوة وكان إذا خلا في منزله إنما هو صامت لا يزيد على الحمد لله ربنا وما رأيته دخل حماماً قط وكان إن وصل إنساناً بشيء وصله سراً، وإن صنع شيئاً صنعه سراً يكره أن يطلع عليه أحد وكان له سبع يقرؤه كل ليلة فإذا لم يقرأه بالليلة أتمه بالنهار وكان لا يحفي شاربه وكان يأخذه أخذاً وسطاً.
سعيد بن عامر قال: لم تر بعينيك كوفياً ولا بصرياً مثل ابن عون يحيى القطان قال: ما ساد ابن عون الناس أن كان أتركهم للدنيا ولكن ابن عون إنما ساد الناس بحفظ لسانه.
معاذ بن معاذ قال: حدثني غير واحد من أصحاب يونس بن عبيد قال: إني لأعرف رجلاً منذ عشرين سنة يتمنى أن يسلم له يوم من أيام ابن عون فلا يقدر عليه، وليس ذلك أن يسكت رجل يوماً لا يتكلم، ولكن يتكلم فيسلم كنا يسلم ابن عون.
بكار بن محمد قال: صحبت ابن عون دهراً من الدهر حتى مات وأوصى إلى أبي، فما سمعته حالفاً على يمين برة ولا فاجرة حتى فرق بيننا الموت.
ابن مهدي قال: ما كان بالعراق أحد أعلم بالسنة من ابن عون.
أبو بكر بن أصرم قال: قيل لابن المبارك ابن عون بما ارتفع؟ قال: بالاستقامة.
عن خارجة، يعني ابن مصعب، قال: صحبت عبد الله يعني ابن عون أربعاً وعشرين سنة فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة.
محمد بن إسحاق الثقفي قال: سمعت محمد بن عبيد الله المنادي يقول: سمعت روحاً يعني اب عبادة يقول: ما رأيت رجلاً أعبد من ابن عون.
بكار بن محمد قال: كان ابن عون لا يغضب وإذا أغضبه الرجل قال: بارك الله فيك.
الأصمعي عن ابن عون قال: لو أن رجلاً انقطع إلى هؤلاء الملوك في الدنيا لانتفع فكيف بمن ينقطع إلى من له السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى؟.
أبو مالك بشر بن الحسن قال: نازع ابن عون رجل فقال: لولا أن يكتب علي لقلت.(2/183)
حماد بن زيد عن ابن عون قال: كانت له حوانيت يكريها. فكان لا يكريها من المسلمين. فقيل له في ذلك فقال: إن لهذا إذا جاء رأس الشهر روعة وإني أكره أن أروع المسلم.
هشام بن حسان قال: حدثني من لم تر عيناي مثله فقلت في نفسي اليوم يستبين فضل الحسن وابن سيرين. قال: فأشار بيده إلى ابن عون وهو جالس.
قال الربالي: فذكرته للخليل بن شبان فقال: سمعت عمر بن حبيب يقول: عثمان البتي يقول: ما رأت عيناي مثل ابن عون.
محمد بن عمر بن حرب قال: قال لنا بعض أصحابنا عن ابن عون أن نادته أمه فأجابها فعلا صوته صوتها فأعتق رقبتين.
قرة بن خالد قال: كنا نعجب من ورع ابن سيرين فأنساناه ابن عون.
أبو عاصم قال: سألت ابن عون فقلت: حدثني بهذا الحديث إن خف عليك. فقال: لا تقل: إن خف. فقلت له: لمه؟ قال: أكره أن أحدثك ولا يخف علي فيكون على خلاف ما سألت.
أبو بكر المروزي قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل، وذكر ابن عون، فقال: كان لا يكري دوره من المسلمين. قلت: لأي علة؟ قال: لئلا يروعهم.
قال: وكان لابن عون جمل يستقي الماء فإذا غلام ابن عون قد ضرب الجمل فذهب بعينه فجاء الغلام وقد أرعب وظن أنهم قد شكوه. فلما رآه قد أرعب قال: اذهب فأنت حر لوجه الله عز وجل.
أشعث بن سعيد قال: قال ابن عون: لن يصيب العبد حقيقة الرضا حتى يكون رضاه عند الفقر كرضاه عند الغنى، كيف تستقضي الله في أمرك ثم تسخط إن رأيت قضاءه مخالفاً لهواك ولعل ما هويت من ذلك لو وفق لك فيه هلكك، وترضى قضاءه إذا وافق هواك؟ ما أنصفت من نفسك ولا أصبت باب الرضا.
محمد بن عيسى قال: قدم ابن المبارك قدمة فقيل له: إلى أين تريد؟ قال: إلى البصرة. قيل له: من بقي؟ قال: ابن عون آخذ من أخلاقه، آخذ من آدابه.
أدرك ابن عون أنس بن مالك وصحبه ويقال إنه أسند عنه وروى عن الحسن وابن سيرين وأبي رجاء العطاردي والقاسم بن محمد ومجاهد ونافع في آخرين.(2/184)
محمد بن سعد قال: أخبرنا بكار قال: كان ابن عون في مرضه أصبر من أنت راء، ما رأيته يشكو شيئاً من علته حتى مات، ومات في رجب سنة إحدى وخمسين ومائة.(2/185)
533 - هشام بن حسان
أبو عبد الله القردوسي من الأزد.
حماد بن زيد قال: حدثتني فارسية كانت تكون مع هشام في الدار قالت: أي ذنب عمل هذا، من قتل هذا؟ الليل كله يبكي.
روى هشام عن عطاء وغيره وقال: جاورت الحسين عشر سنين، وتوفي في أول يوم من صفر سنة ثمان وأربعين ومائة. وقيل سنة سبع وأربعين ومائة.
__________
533 - هو: هشام بن حسان الأزدي القردوسي - بالقاف وضم الدال - أبو عبد الله البصري، ثقة من أثبت الناس في ابن سيرين، وفي روايته عن الحسن وعطاء مقال لأنه قيل كان يرسل عنهما، من السادسة مات سنة سبع - أو ثمان - وأربعين.(2/185)
534 - عمران بن مسلم القصير
أبو معاوية الغلابي قال: حدثني رجل قال: كان عمران القصير يقول لجلسائه: ألا حر كريم يصبر أياماً قلائل؟
عبد الله بن مغيث بن سعدان اليشكري قال: حدثتني أمينة بنت عمران من أبيها، وكان قد عاهد الله أن لا ينام بليل أبداً إلا مستغلباً، قالت: قال إني حببت إلي طاعة الله تعالى طول الحياة ولولا الركوع والسجود وقراءة القرآن ما باليت أن لا أعيش في الدنيا فواقاً. قالت: فلم يزل مجهوداً على ذلك حتى مات رحمه الله.
قالت: فرأيته في منامي فقلت: يا أبت إنه لا عهد لي بك منذ فارقتنا قال: يا بنية وكيف تعهدين من فارق الحياة وصار إلى ضيق القبور وظلمتها؟ قالت: فقلت: يا أبت كيف حالك منذ فارقتنا؟ قال: خير حال بؤئنا المنال ومهدت لنا المضاجع ونحن ها هنا يغدى ويراح برزقنا من الجنة. قالت: فقلت: فما الذي بلغك هذا؟ قال: الصبر الصالح وكثرة التلاوة لكتاب الله تعالى.
ذكر هذه الحكاية أبو نعيم في ترجمة عمران القصير، وقد ذكرها ابن أبي الدنيا في كتاب المنامات عن عمران ابن زيد.
__________
534 - هو: عمران بن مسلم المقري - بكسر الميم وسكون النون - أبو بكر القصير، البصري، صدوق ربما وهم، قيل: هو الذي روى عن عبد الله بن دينار، بل هو غيره، وهو مكي من السادسة.(2/185)
عبد الله بن مغيث اليشكري قال: حدثتني أمينة بنت عمران بن زيد عن أبيها. فذكر الحكاية.
وهذا عمران بن زيد هو أبو يحيى الملائي الطويل، وهذا أليق بالصواب.
أسند عمران القصير عن أنس بن مالك وعن كبار التابعين كالحسن وابن سيرين وأبي رجاء العطاردي ونافع ونظرائهم.(2/186)
535 - كهمس بن الحسن القيسي
يكنى أبا عبيد الله. الهيثم بن معاوية عن شيخ من أصحابه قال: كان كهمس يصلي ألف ركعة في اليوم والليلة فإذا مل قال لنفسه: قومي يا مأوى كل سوء فوالله ما رضيتك لله ساعة قط.
عبد الملك بن قريب قال: كان كهمس يعمل في الجص كل يوم بدانقين، فإذا أمسى اشترى به فاكهة فأتى بها إلى أمه.
يحيى بن كثير صاحب البصري قال: اشترى كهمس دقيقاً بدرهم فأكل منه، فلما طال عليه كاله فإذا هو كما وضعه فجعل بعد لا يأخذ منه شيئاً إلا نقص حتى فني.
موسى بن هلال العبدي قال: قال لي كهمس بمكة: كان لي جار يشتري هذا التمر والرطب ويسأل لي عن الحوائط فمذ مات تركت التمر.
أحمد بن الفتح قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: خرج يوماً كهمس ومعه دينار فسقط منه وطلبه فوجده. قال: فتركه وقال: لعل هذا الدينار غير ذاك الدينار، وأكل ذات يوم سمكاً فأخذ من حائط جاره طيناً فغسل به يده فقال: أنا اليوم منذ أربعين سنة أبكي على ذاك الطين لم أخذته بغير علمه؟.
عمارة بن زازان قال: قال لي كهمس بن الحسن: يا أبا سلمة أذنبت ذنباً وأنا أبكي عليه أربعين سنة. قلت وما هو يا أبا عبد الله؟ قال: زارني أخ لي فاشتريت له سمكاً بدانق فلما أكل قمت إلى حائط جار لي فأخذت منه قطعة طين فغسل بها يده، فأنا أبكي عليه منذ أربعين سنة.
أبو عطاء الرملي قال: كان كهمس يقول في جوف الليل: أتراك معذبي وأنت قرة عيني يا حبيب قلباه؟.
أحمد بن الفتح قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: كان كهمس يصلي حتى يغشى عليه.
__________
535 - هو: كهمس بن الحسن التميمي، أبو الحسن البصري، ثقة من الخامسة، مات سنة تسع وأربعين.(2/186)
عن إسحاق بن إبراهيم قال: دخلنا على كهمس العابد فقرب إلينا إحدى عشرة بسرة حمراء وقال: هذا الجهد من أخيكم والله المستعان.
أسند كهمس عن خلق كثير من التابعين منهم: عبد الله بن شقيق العقيلي وعبد الله بن بريدة ومحمد بن عمر ومصعب بن ثابت. وكان مشغولاً بخدمة أمه مع تعبده، فلما ماتت خرج إلى مكة فأقام إلى أن مات هناك.(2/187)
536 - حبيب أبو محمد الفارسي
كان مجاب الدعوى حضر مجلس الحسن فتأثر بموعظته فخرج عما كان يملك.
يونس بن محمد قال: سمعت مشيخة يقولون: وكان الحسن يجلس في مجلسه الذي يذكر فيه في كل يوم، وكان حبيب أبو محمد يجلس في مجلسه الذي يأتيه فيه أهل الدنيا والتجار وهو غافل عما فيه الحسن لا يلتفت إلى شيء من مقالته. إلى أن التفت إليه يوماً فذكره الحسن بالجنة وخوفه من النار فانصرف من عنده فلم يزل في تبديد ماله حتى لم يبق له شيء ثم جعل بعد يستقرض على الله.
قال يونس: وجاء رجل إلى أبي محمد فشكا إليه ديناً عليه فقال: اذهب فاستقرض وأنا أضمن. فأتى رجلاً فأقرضه خمس مائة درهم وضمنها أبو محمد. ثم جاء الرجل فقال: يا أبا محمد دراهمي، فقد أضر بي حبسها. فقال: نعم غداً. فتوضأ أبو محمد ودخل المسجد ودعا الله تعالى. وجاء الرجل فقال له: اذهب فإن وجدت في المسجد شيئاً فخذه. فذهب فإذا في المسجد صروة فيها خمس مائة درهم فذهب فوجدها تزيد على خمس مائة فرجع إليه فقال: يا أبا محمد تلك الدراهم تزيد. فقال اذهب فهي لك، من وزنها وزنها راجحة.
جعفر بن سليمان قال: سمعت حبيباً يقول: أتانا سائل وقد عجنت عمرة وذهبت تجيء بنار تخبزه فقلت للسائل: خذ العجين فاحتمله.
فجاءت عمرة فقالت: أين العجين؟ فقلت: ذهبوا به يخبزونه. قال: فلما أكثرت علي أخبرتها فقالت: سبحان الله لا بد لنا من شيء نأكله قال: فإذا رجل قد جاء بجفنة عظيمة مملوءة خبزاً ولحماً. فقالت عمرة: ما أسرع ما ردوه عليك قد خبزوه وجعلوا معه لحماً.
__________
536 - هو: حبيب أبو محمد الفارسي، من ساكني البصرة، كان صاحب كرامات، مجاب الدعوات، حاية الأولياء 6/161.(2/187)
جعفر قال: كان حبيب أبو محمد رقيقاً من أكثر الناس بكاء. فبكى ذات ليلة كثيراً فقالت عمرة بالفارسية: لم تبكي يا أبا محمد؟ فقال لها حبيب: دعيني فإني أريد أن أسلك طريقاً لم أسلكه قبل.
قال: وسمعت حبيباً يقول والله إن الشيطان ليلعب بالقراء كما يلعب الصبيان بالجوز. ولو أن الله دعاني يوم القيامة فقال: يا حبيب فقلت: لبيك، فقال: جئني بصلاة يوم أو صوم يوم أو ركعة أو سجدة أو تسبيحة اتقيت عليها من إبليس أن يكون طعن فيها طعنة فأفسدها، ما استطعت.
وسمعت حبيباً يقول: لا تقعدوا فراغاً فإن الموت يليكم.
جميل أبو علي قال: قال حبيب: إن من سعادة المرء إذا مات ماتت معه ذنوبه.
خلف بن الوليد قال: اشترى حبيب الفارسي نفسه من ربه أربع مرات بأربعين ألف درهم. أخرج بدرة فقال: يا رب اشتريت منك نفسي بهذه. ثم أخرج بدرة أخرى فقال: إلهي إن كنت قبلت تلك فهذه شكر لها. ثم أخرج الثالثة فقال: إلهي إن كنت لم تقبل الأولى والثانية فاقبل هذه. ثم أخرج الرابعة فقال: إلهي إن كنت قبلت الثالثة فهذه شكر لها.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: كان حبيب أبو محمد يأخذ متاعاً من التجار يتصدق به فأخذ مرة فلم يجد شيئاً يعطيهم فقال: يا رب كأنه، أي ينكسر وجهي عندهم فدخل فإذا هو بجوالق من شعر كأنه نصب من أرض البيت إلى قريب السقف مملوءاً دراهم فقال: يا رب ليس أريد هذا، فأخذ حاجته وترك البقية.
مسلم بن إبراهيم قال: إن رجلاً أتى حبيباً فقال: إن لي عليك ثلاثمئة درهم قال: من أين؟ قال: لي عليك ثلاثمئة درهم. قال حبيب: اذهب إلى غد. فلما كان من الليل توضأ وصلى وقال: اللهم إن كان صادقاً فأد إليه وإن كان كاذباً فابتله في بدنه. قال: فجيء بالرجل من غد قد حمل وقد ضرب شقه الفالج. فقال: ما لك؟ قال: أنا الذي جئتك بالأمس، لم يكن لي عليك شيء وإنما قلت يستحيي من الناس فيعطيني. فقال له: تعود؟ قال: اللهم إن كان صادقاً فألبسه العافية. فقام الرجل على الأرض كأن لم يكن به شيء.
عن السري بن يحيى قال: اشترى أبو محمد حبيب طعاماً في مجاعة أصابت الناس فقسمه على المساكين ثم خاط أكيسة فجعلها تحت فراشه ثم دعا الله فجاء أصحاب الطعام يتقاضونه فأخرج تلك الأكيسة فإذا هي مملوءة دراهم فوزنها فإذا هي حقوقهم فدفعها إليهم.(2/188)
عن السري بن يحيى قال: كان حبيب أبو محمد يرى يوم التروية بالبصرة ويرى يوم عرفة بعرفات.
عن حماد قال: شهدت حبيباً الفارسي يوماً فجاءته امرأة فقالت: يا أبا محمد. كأنها طلبت منه شيئاً. فقال لها: كم لك من العيال؟ فقالت: كذا وكذا. فقام حبيب أبو محمد إلى وضوئه فتوضأ ثم جاء إلى مصلاه فصلى بخضوع وسكون. فلما فرغ قال: يا رب إن الناس يحسنون ظنهم بي وذاك من سترك علي فلا تخلف ظنهم بي، ثم رفع حصيره فإذا بخمسين درهماً فأعطاه إياها. ثم قال: يا حماد اكتم ما رأيت حياتي.
عبد الواحد بن زيد قال: كنا عند مالك بن دينار ومعنا محمد بن واسع وحبيب أبو محمد. فجاء رجل فكلم مالكاً فأغلظ في قسمة قسمها وقال: وضعتها في غير حقها وتتبعت بها أهل مجلسك ومن يغشاك لتكثر غاشيتك وتصرف وجوه الناس إليك. قال: فبكى مالك وقال: والله ما أردت هذا. قال: بلى والله لقد أردت هذا. فجعل مالك يبكي والرجل يغلظ له. فلما كثر ذلك عليهم رفع حبيب يديه إلى السماء ثم قال: اللهم إن هذا قد شغلنا عن ذكرك فأرحنا منه كيف شئت. قال: فسقط والله الرجل على وجهه ميتاً فحمل إلى أهله على سرير، وكان يقال: إن أبا محمد مستجاب الدعوة.
أبو قرة محمد بن ثابت قال: قال حبيب أبو محمد: لا قرة عين لمن لم تقر عينه بك، ولا فرح لمن لم يفرح بك. وعزتك إنك لتعلم أني أحبك.
عبيد الله بن محمد التيمي قال: أصحابنا قالوا: كان حبيب أبو محمد يخلو في بيته ويقول: من لم تقر عينه بك فلا قرت، ومن لم يأنس بك فلا أنس.
إسماعيل بن زكريا. وكان جاراً لحبيب أبي محمد، قال: كنت إذا أمسيت سمعت بكاءه وإذا أصبحت سمعت بكاءه. فأتيت أهله فقلت: ما شأنه يبكي إذا أمسى ويبكي إذا أصبح. قال: فقالت لي: يخاف والله إذا أمسى أن لا يصبح، وإذا أصبح أن لا يمسي.
أبو زكريا قال: قالت امرأة حبيب أبي محمد كان يقول: إن مت اليوم فأرسلي إلى فلان يغسلني وافعلي كذا واصنعي كذا. فقيل لامرأته أرأى رؤيا؟ قالت: هذا يقوله كل يوم.
عن عبد الواحد بن زيد أن حبيباً أبا محمد جزع جزعاً شديداً عند الموت فجعل يقول بالفارسية: أريد أن أسافر سفراً ما سافرته قط، أريد أن أسلك طريقاً ما سلكته قط، أريد أن(2/189)
أزور سيدي ومولاي وما رأيته قط، أريد أن أشرف على أهوال ما شاهدت مثلها قط، أريد أن أدخل تحت التراب فأبقى تحته إلى يوم القيامة.
ثم أوقف بين يدي الله فأخاف أن يقول لي: يا حبيب هات تسبيحة واحدة سبحتني في ستين سنة لم يظفر بك الشيطان فيها بشيء. فماذا أقول وليس لي حيلة أقول: يا رب هو ذا قد أتيتك مقبوض اليدين إلى عنقي.
قال عبد الواحد: هذا عبد الله ستين سنة مشتغلاً به ولم يشتغل من الدنيا بشيء قط فأي شيء حالنا؟ واغوثاه بالله.
أحمد بن عبد الله قال: كان حبيب مشغولاً بالتعبد ولا نعرف له حديثاً مسنداً. قال: وقد قيل أنه أسند عن الحسن وابن سيرين وهو وهم من قائله، فإن حبيباً الذي أسند عنهما حبيب المعلم ويحفظ له حكاية عن الفرزدق.(2/190)
537 - عبد الواحد بن زيد
حاتم بن سليمان قال: شهدت عبد الواحد بن زيد في جنازة حوشب فلما دفن قال: رحمك الله يا أبا بشر فلقد كنت حذراً من مثل هذا اليوم رحمك الله يا أبا بشر فلقد كنت من الموت جزعاً أما والله لئن استطعت لأعملن رجلي بعد مصرعك هذا. قال: ثم شمر بعد واجتهد.
الحارث بن عبيد قال: كان عبد الواحد بن زيد يجلس إلى جنبي عند مالك بن دينار فكنت لا أفهم كثيراً من موعظة مالك لكثرة بكاء عبد الواحد.
زيد بن عمر قال: شهدت مجلس عبد الواحد بن زيد بعد العصر فكنت أنظر إلى منكبيه ترتعد ودموعه تتحدر على لحيته وهو ساكت والناس يبكون فقال: ألا ستتحيون من طول ما لا تستحيون؟ وفي القوم فتى فغشي عليه فما أفاق حتى غربت الشمس. فأفاق هو يقول: ما لي ما لي؟ كأنه يعمي على الناس أمره. ثم خرج فتوضأ.
مسمع بن عاصم قال: شهدت عبد الواحد ذات يوم وهو يعظ. قال: فمات يومئذ في ذلك المجلس أربعة أنفس قبل أن يقوم. قال مسمع: فأنا شهدت جنازة بعضهم.
__________
537 - هو: عبد الواحد بن زيد البصري الزاهد، شيخ الصوفية وواعظهم، قال البخاري: عبد الواحد صاحب الحسن تركوه، وقال الجوزجاني: سيئ المذهب، ليس من معادن الصدق، ميزان الإعتدال 4/424.(2/190)
مالك بن ضيغم قال: سمعت بكر بن مصاد يقول: عبد الواحد بن زيد يقول: إخوتاه ألا تبكون شوقاً إلى الله عز وجل؟ ألا إنه من بكي شوقاً إلى سيده لم يحرمه النظر إليه، يا إخوتاه ألا تبكون خوفاً من النار؟ ألا إنه من بكى خوفاً من النار أعاذه الله منها. يا إخوتاه ألا تبكون؟ بلى فابكوا على الماء البارد أيام الدنيا لعله يسقيكموه في حظائر العرش مع خير الندماء والأصحاب من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. قال: ثم جعل يبكي حتى غشي عليه.
حصين بن القاسم الوزان يقول: لو قسم بث عبد الواحد بن زيد على أهل البصرة لوسعهم فإذا أقبل سواد الليل فطرت إليه كأنه فرس رهان مضمر متحزم. ثم يقوم إلى محرابه كأنه رجل مخاطب.
حبان الأسود قال: حدثني عبد الواحد بن زيد قال: أصابتني علة في ساقي فكنت أتحامل عليها للصلاة. قال: فقمت عليها من الليل فأجهدت وجعاً فجلست ثم لففت إزاري في محرابي ووضعت رأسي عليه فنمت فبينما أنا كذلك إذا بجارية تفوق الدمى حسناً تخطر بين جوار مزينات حتى وقفت علي وهن خلفها. فقالت لبعضهن: ارفعنه ولا تهجنه فأقبلن نحوي فاحتملنني عن الأرض وأنا أنظر إليهن في منامي. ثم قالت لغيرهن من الجواري اللائي معها: افرشنه ومهدنه ووطئن له ووسدنه. قال: ففرشن تحتي سبع حشايا لم أر لهن في الدنيا مثلاً ووضعن تحت رأسي مرافق خضراً حساناً. ثم قالت للائي حملنني: اجعلنه على الفرش رويداً لا تهجنه. قال: فجعلت على تلك الفرش وأنا أنظر إليها وما تأمر به من شأني. ثم قالت: احففنه بالريحان قال: فأتي بياسمين فحفت به الفرش. ثم قامت إلي فوضعت يدها على علتي التي كنت أجد في ساقي فمسحت ذلك المكان بيدها ثم قالت: قم شفاك الله إلى صلاتك غير مضرور. وقال: فاستيقظت والله كأني قد أنشطت من عقال فما اشتكيت تلك العلة ليلتي تلك ولا ذهبت حلاوة منطقها من قلبي: قم شفاك الله إلى صلاتك غير مضرور.
أحمد بن أبي الحواري قال: قال لي أبو سليمان الداراني: أصاب عبد الواحد بن زيد الفالج فسأل الله أن يطلقه في وقت الوضوء. فإذا أراد أن يتوضأ انطلق وإذا رجع إلى سريره عاد عليه الفالج.
محمد بن عبد الله الخزاعي قال: صلى عبد الواحد بن زيد الغداة بوضوء العتمة أربعين سنة.(2/191)
قال أبو سليمان الداراني: ذكر لي عن عبد الواحد بن زيد قال: نمت عن وردي ليلة فإذا أنا بجارية لم أر أحسن وجهً منها عليها ثياب حرير خضر وفي رجليها نعلان والنعلان يسبحان والزمامان يقدسان، وهي تقول: يا ابن زيد جد في طلبي فإني في طلبك ثم جعلت تقول:
من يشتريني ومن يكن سكني ... يأمن في ربحه من الغبن
فقلت: يا جارية ما ثمنك؟ فأنشأت تقول:
تودد الله مع محبته ... وطول فكر يشاب بالحزن
فقلت: لمن أنت يا جارية؟ فقالت:
لمالك لا يرد لي ثمناً ... من خاطب قد أتاه بالثمن
فانتبه وآلى على نفسه أن لا ينام الليل.
أسند عبد الواحد عن الحسن البصري وأسلم الكوفي.(2/192)
538 - عطاء السليمي
أبو عبد الله بن أبي عبيدة قال: سمعت عفيرة تقول: لم يرفع عطاء رأسه إلى السماء ولم يضحك أربعين حجة. فرفع رأسه مرة ففتق في بطنه فتق.
بشر بن منصور قالف: كنت أوقد بين يدي عطاء السليمي في غداة باردة. فقلت له: يا عطاء أيسرك الساعة لو أنك أمرت أن تلقي نفسك في هذه النار ولا تبعث إلى الحساب؟ فقال لي: إي ورب الكعبة قال: والله مع ذلك لو أمرت به لخشيت أن تخرج نفسي فرحاً قبل أن أصل إليها.
نعيم بن مورع قال: كان عطاء السليمي إذا فرغ من وضوئه انتفض وارتعد وبكى بكاء شديداً فقيل له فقيل له في ذلك فقال: إني أريد أن أقدم على أمر عظيم، إني أريد أن أقوم بين يدي الله تعالى.
عن صالح المري قال: كان عطاء السليمي قد أضر بنفسه حتى ضعف قال: قلت له: إنك قد أضررت بنفسك وأنا متكلف لك شيئاً فلا ترد كرامتي، قال: افعل؛ قال: فاشتريت له سويقاً
__________
538 - هو: عطاء السليمي، قتل مع ابن الأشعث، قال الذهبي: لا يدرى من عطاء هذا الذي ذكره البخاري أنه قتل مع الأشعث ولم يسند شيئا، قال ابن عدي: هذا يعد من زهاد البصرة، وله كلام دقيق في الزهد ميزان الاعتدال 5/98.(2/192)
من أجود ما وجدت وسمناً فجعلت له شريبة ولينتها وحليتها وأرسلتها مع ابني وكوزاً من ماء وقلت له لا تبرح حتى يشربها. فرجع فقال: قد شربها. فلما كان من الغد جعلت له نحوها ثم سرحت بها مع ابني فرجع بها لم يشربها.
قال فأتيته فلمته فقلت: سبحان الله رددت علي كرامتي؟ إن هذا مما يعينك ويقويك على الصلاة وعلى ذكر الله. قال: فلما رآني قد وجدت من ذلك قال: يا أبا بشر لا يسوءك الله قد شربتها أول ما بعثت بها فلما كان الغد راودت نفسي على أن تسيغها فما قدرت على ذلك، إذا أردت أن أشربها ذكرت هذه الآية: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} إبراهيم فبكى صالح عند هذا وقال: قلت لنفسي: ألا أراني في واد وأنت في آخر؟.
العلاء بن محمد قال: دخلت على عطاء السليمي وقد غشي عليه فقلت لامرأته أم جعفر: ما شأن عطاء؟ فقالت: سجرت جارتنا التنور فنظر إليه فخر مغشياً عليه.
إبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثتني عفيرة العابدة وكانت قد ذهب بصرها من العبادة قالت: كان عطاء إذا بكى بكى ثلاثة أيام وثلاث ليال.
قالت عفيرة: وحدثني إبراهيم المحلمي قال: أتيت عطاء السليمي فلم أجده في بيته. قال: فنظرت فإذا هو في ناحية الحجرة جالس وإذا حوله بلل، قال: فظننت أنه أثر وضوء توضأه. فقالت: لي عجوز معه في الدار: أثر دموعه.
سوار أبو عبيدة قال: قالت لي امرأة عطاء السليمي: عاتب عطاء في كثرة البكاء، فعاتبته فقال لي: يا سوار كيف تعاتبني في شيء ليس هو إلي؟ إني إذا ذكرت أهل النار وما ينزل بهم من عذاب الله وعقابه تمثلت لي نفسي بهم فكيف لنفس تغل يدها إلى عنقها وتسحب في النار؟ ألا تصيح فتبكي؟ وكيف لنفس تعذب ألا تبكي؟ ويحك يا سوار وما أقل غناء البكاء عن أهله إن لم يرحمهم الله.
بشر بن منصور قال: قلت لعطاء السليمي: يا عطاء لماذا الحزن؟ قال: ويحك الموت في عنقي، والقبر بيتي، وفي القيامة موقفي، وعلى جسر جهنم طريقي، وربي لا أدري ما يصنع(2/193)
بي، ثم تنفس فغشي عليه. فترك خمس صلوات. فلما أفاق أخبرته فقال: ويحك إذا ذهب عقلي تخاف علي شيئاً؟ ثم تنفس فغشي عليه فترك صلاتين.
العلاء بن محمد البصري قال: شهدت عطاء السليمي خرج في جنازة فغشي عليه أربع مرات حتى صلي عليه كل ذلك يغشى عليه ثم يفيق فإذا نظر إلى الجنازة خر مغشياً عليه.
بشر بن منصور قال: كنت أسمع عطاء السليمي كل عشية بعد العصر يقول: غداً عطاء في القبر.
عن إبراهيم بن أدهم قال: كان عطاء يمس جسده بالليل خوفاً من ذنوبه مخافه أن يكون قد مسخ.
معاوية الكندي قال: كان عطاء عند حجام والمحاجم على عنقه فمر صبي معه شعلة نار فأصابت النار الريح فسمع ذلك منها فخر مغشياً عليه فحمل إلى منزله ما يعقل.
عبد الخالق قال: قال رجل لعطاء يوماً: ما هذا الذي تصنع بنفسك؟ قتلت نفساً؟ أي شيء صنعت؟ قال: اصطدت حماماً لجار لي منذ أربعين سنة، قال: ثم قال: أما إني قد تصدقت بثمنه. كأنه لم يعرفه صاحبه.
عبد الخالق بن عبد الله العبدي قال: كان عطاء إذا جن عليه الليل خرج إلى المقابر فوقف على أهل القبور ثم قال: يا أهل القبور متم فواموتاه. ثم يبكي ويقول: يا أهل القبور عاينتم ما عملتم فواعملاه. فلا يزال كذلك حتى يصبح.
عن حماد بن زيد قال: رجعنا من جنازة فدخلنا على عطاء السليمي فلما رآنا كأنه خائف أن يدخله شيء أي لكثرتنا. فقال: اللهم لا تمقتنا أو اللهم لا تمقتني.
ثم قال: سمعت جعفر بن زيد يقول: مر رجل بمجلس فأثنوا عليه خيراً. فلما جاوزهم قام وقال: اللهم إن كان هؤلاء لا يعرفونني فأنت تعرفني.
علي بن بكار قال: مكث عطاء السليمي أربعين سنة على فراشه لا يقوم من الخوف ولا يخرج.
أبو جعفر بن الطباع قال: سمعت مخلداً يقول: ما رأيت أحداً كان أفضل من عطاء السليمي، ولقد كانت الفاكهة تمر لا يعلم سعرها ولا يعرفها.(2/194)
عن أبي جعفر السائح قال: كان عطاء السليمي يقول: التمسوا لي هذه الأحاديث في الرخص عسى الله أن يروح عني بعض ما أنا فيه من الغم.
محمد بن معاوية الأزرق قال: حدثني بعض أصحابنا قال: قيل لعطاء السليمي ما تشتهي؟ قال: أشتهي أن أبكي حتى لا أقدر على أن أبكي. قال: وكان يبكي الليل والنهار وكانت دموعه الدهر سائلة على وجهه.
أبو يزيد الهدادي قال: انصرفت ذات يوم من الجمعة فإذا عطاء السليمي وعمر بن درهم يمشيان، وكان عطاء قد بكى حتى عمش، وكان عمر قد صلى حتى دبر، فقال عمر لعطاء: حتى متى نسهو ونلعب وملك الموت في طلبنا لا يكف؟ قال: فصاح عطاء صيحة خر مغشياً عليه فأنشج موضحة واجتمع الناس وعقد عمر عند رأسه فلم يزل على حاله حتى المغرب. ثم أفاق فحمل.
سوار أبو عبيدة قال: انقطع عطاء السليمي قبل موته بثلاثين سنة.
قال: وما رأيت عطاء إلا وعيناه تفيضان. قال: وما كنت أشبه عطاء إذا رأيته إلا بالمرأة الثكلى. قال: وكأن عطاء لم يكن من أهل الدنيا.
عن صالح المري قال: كان عطاء السليمي لا يكاد يدعو إنما يدعو بعض أصحابه ويؤمن هو، قال: فحبس بعض أصحابه. فقيل له: ألك حاجة؟ قال: دعوة من عطاء أن يفرج الله عني، قال صالح: فأتيته فقلت: يا أبا محمد أما تحب أن يفرج الله عنك؟ قال: بلى والله إني لأحب ذلك، قلت: فإن جليسك فلاناً قد حبس فادع الله أن يفرج عنه. فرفع يديه وبكى وقال: إلهي قد تعلم حاجتنا قبل أن نسألكها قاقضها لنا، قال صالح: والله ما برحنا من البيت حتى دخل الرجل.
صالح المري قال: قلت لعطاء السليمي ما تشتهي؟ فبكى وقال: أشتهي والله يا أبا بشر أن أكون رماداً لا تجتمع منه سفة أبداً في الدنيا ولا في الآخرة. قال صالح: فأبكاني والله وعلمت أنه إنما أراد النجاة من عسر الحساب.
بشر بن منصور قال: كان عطاء السليمي يقول: رب ارحم في الدنيا عربتي، وفي القبر وحدتي وطول مقامي غداً بين يديك.(2/195)
أدرك عطاء السليمي أيام أنس بن مالك. ولقي الحسن ومالك بن دينار وخلقاً من تلك الطبقة، وشغلته العبادة عن الرواية.
صالح بن بشير المري قال: لما مات عطاء السليمي حزنت عليه حزناً شديداً فرأيته في منامي فقلت: يا أبا محمد ألست في زمرة الموتى؟ قال: بلى، قلت: فماذا صرت إليه بعد الموت؟ قال: صرت والله إلى خير كثير ورب غفور شكور. قال: فقلت أما والله لقد كنت طويل الحزن في دار الدنيا. فتبسم فقال: أما والله يا أبا بشر لقد أعقبني ذلك راحة طويلة وفرحاً دائماً. قلت: ففي أي الدرجات أنت؟ قال: أنا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.(2/196)
539 - أبو جهير مسعود الضرير
صالح المري، وساق الحديث للحراز قال: قال مالك بن دينار. اغد علي يا أبا صالح إلى الجبان فإني قد وعدت نفراً من إخواني بأبي جهير مسعود الضرير نسلم عليه.
قال صالح المري: وكان أبو جهير هذا رجلاً قد انقطع إلى زاوية يتعبد فيها ولم يكن يدخل البصرة إلا يوم الجمعة في وقت الصلاة ثم يرجع من ساعته.
قال فغدوت لموعد مالك إلى الجبان فانتهيت إلى مالك وقد سبقني وإذا معه محمد بن واسع. وإذا ثابت البناني وحبيب فلما رأيتهم قد اجتمعوا قلت: هذا والله يوم سرور. قال: فانطلقنا نريد أبا جهير.
قال: فكان مالك إذا مر بموضع نظيف قال: يا ثابت صل ههنا لعله أن يشهد لك غداً. فكان ثابت يصلي، قال: ثم انطلقنا حتى أتينا موضعه فسألنا عنه فقالوا: الآن يخرج إلى الصلاة. فانتظرناه قال: فخرج علينا رجل إن شئت قلت قد نشر من قبره. قال: فوثب رجل فأخذ بيده حتى أقامه عند باب المسجد ثم أمهل يسيراً ثم دخل المسجد فصلى ما شاء ثم أقام الصلاة فصلينا معه.
فلما قضى صلاته جلس كهيئة المهموم فتوامر القوم في السلام عليه. فتقدم محمد بن واسع فسلم عليه فرد عليه السلام وقال: من أنت لا أعرف صوتك؟ قال: أنا من أهل البصرة. قال: ما اسمك يرحمك الله؟ قال: أنا محمد بن واسع. قال: مرحباً بك وأهلاً، أنت الذي(2/196)
يقول هؤلاء القوم - وأومأ بيده إلى البصرة - إنك أفضلهم، لله أنت إن قمت بشكر ذلك. اجلس فجلس.
فقام ثابت البناني فسلم عليه فرد عليه السلام وقال: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا ثابت البناني. قال: مرحباً بك يا ثابت البناني، أنت الذي يزعم أهل هذه القرية أنك من أطولهم صلاة؟ اجلس فقد كنت أتمناك على ربي.
قال: فقام إليه حبيب أبو محمد فسلم عليه فرد عليه السلام وقال: من أنت رحمك الله؟ قال أنا حبيب أبو محمد. قال: مرحباً بك يا أبا محمد أنت الذي يزعم هؤلاء القوم أنك لم تسأل الله شيئاً إلا أعطاك فهلا سألته أن يخفي لك ذلك؟ اجلس يرحمك الله.
قال: وأخذ بيده فأجلسه إلى جنبه: قال: فقام إليه مالك بن دينار فسلم عليه فرد عليه السلام وقال: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا مالك بن دينار. قال: بخ بخ أبو يحيى، إن كنت كما يقولون، أنت الذي يزعم هؤلاء القوم أنك أزهدهم؟ اجلس فالآن تمت أمنيتي على ربي في عاجل الدنيا.
قال صالح: فمت إليه لأسلم عليه فأقبل علي القوم فقال: انظروا كيف تكونون غداً بين يدي الله في مجمع القيامة. قال: فسلمت عليه فرد علي وقال: من أنت يرحمك الله؟ قلت أنا صالح المري، قال: أنت الفتى القارئ، أنت أبو بشر؟ قلت: نعم، قال: اقرأ يا صالح فابتدأت فقرأت فما استتممت الاستعاذة حتى خر مغشياً عليه. ثم أفاق إفاقة فقال عد في قراءتك يا صالح، فعدت فقرأت: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} الفرقان قال: فصاح صيحة ثم انكب لوجهه وانكشف بعض جسده فجعل يخور كما يخور الثور ثم هدأ فدنونا منه ننظر فإذا هو قد خرجت نفسه كأنه خشبة.
قال: فخرجنا فسألنا: هل له أحد؟ قالوا: عجوز تخدمه تأتيه الأيام فبعثنا إليها فجاءت فقالت: ما له؟ قرئ عليه القرآن فمات قالت: حق له والله، من ذا الذي قرأ عليه؟ لعله صالح القارئ؟ قلنا: نعم وما يدريك من صالح؟ قالت: لا أعرفه غير أني كثيراً ما كنت أسمعه يقول: إن قرأ علي صالح قتلني. قلنا: فهو الذي قرأ عليه قالت: هو الذي قتل حبيبي فهيأناه ودفناه. رحمه الله.(2/197)
540 - عبد الله بن غالب الحداني
المغيرة بن حبيب قال: قال عبد الله بن غالب الحداني لما برز للعدو: على ما آسى من الدنيا فوالله ما فيها للبيب جذل، والله لولا محبتي لمباشرة السهر بصفحة وجهي وافتراش الجبهة لك يا سيدي والمراوحة بين الأعضاء في ظلم الليل رجاء ثوابك وحلول رضوانك لقد كنت متمنياً لفراق الدنيا وأهلها.
قال: ثم كسر جفن سيفه ثم تقدم فقاتل حتى قتل، قال: فحمل من المعركة وإن به لرمقاً فمات دون العسكر، فلما دفن أصابوا من قبره رائحة المسك، قال: فرآه رجل من إخوانه في منامه فقال: يا أبا فراس ما صنعت؟ قال: خير الصنيع قال: إلى ما صرت؟ قال: إلى الجنة. قال: ثم قال: بحسن اليقين وطول التهجد وظمأ الهواجر. قال: فما هذه الرائحة الطيبة التي توجد من قبرك؟ قال: تلك رائحة التلاوة والظمأ. قال: قلت أوصني. قال: اكسب لنفسك خيراً لا تخرج عنك الليالي والأيام عطلاً.
عن مالك بن دينار قال: نزلت في قبر عبد الله بن غالب فأخذت من ترابه فإذا هو مسك. وقال: فتن الناس به فبعث إلى قبره فسوي.
__________
540 - هو: عبد الله بن غالب الحداني - بمهملتين مضمومة ثم مشدودة - الأزدي البصري، العابد، صدوق قليل الحديث، من الثالثة، قتل مع ابن الأشعث سنة ثلاث وثمانين.
قال الشيخ شعيب: بل ثقة عابد، وثقه النسائي، والعجلي، وابن حبان وابن خلفون وابن عبد البر التحرير 2/251.(2/198)
541 - أشعث الحداني
حزم قال: قال لنا أشعث الحداني: انطلقوا إلى حبيب أبي محمد نسلم عليه، قال: وذاك عند ارتفاع النهار. فانطلقنا معه فسلم فخرج حبيب أبو محمد فأخذ في البكاء فما زالوا يبكون حتى حضرت الظهر. قال: فصلينا. فأخذوا في البكاء فما زالوا يبكون حتى حضرت العصر. فما زالوا يبكون حتى حضرت المغرب. ثم أدنينا حماره فركب فقال لنا: إن ناساً ينهون عن هذا فأطيعهم؟ قلنا: أنت أعلم. قال: إذاً والله لا أطيعهم.
__________
541 - هو: أشعث بن عبد الله بن جابر الحداني - بمهملتين مضمومة ثم مشدودة - الأزدي البصري، يكنى أبا عبد الله، وقد ينسب إلى جده وهو الخملي - بضم المهملة وسكون الميم - صدوق من الخامسة.(2/198)
542 - الحجاج بن فرافصة
عن سفيان: قال: بت عند الحجاج بن فرافصة اثنتي عشرة ليلة ما رأيته أكل ولا شرب ولا نام.
عن سفيان الثوري قال: بت عند الحجاج بن الفرافصة إحدى وعشرين يوماً فما أكل ولا شرب ولا نام. هكذا في حديث أبي نعيم أحد وعشرين. وفي رواية أخرى إحدى عشرة ليلة.
إبراهيم بن فراسة يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: بت عند الحجاج بن فرافصة إحدى عشرة ليلة فلا أكل ولا شرب ولا نام.
أبو موسى الأنصاري قال: سمعت النضر بن شميل يقول: مكث الحجاج بن الفرافصة أربعة عشر يوماً لا يشرب ماء.
قال أبو موسى: قد سمع النضر منه ورآه.
عن ابن شوذب قال: رأيت الحجاج بن فرافصة واقفاً في السوق عند أصحاب الفاكهة فقلت: ما تصنع ههنا؟ قال: انظر إلى هذه المقطوعة الممنوعة.
أسند الحجاج عن أنس وغيره.
__________
542 - هو: الحجاج بن فرافصة - بضم الفاء الأولى وكسر الثانية بعدها صاد مهملة - الباهلي، البصري صدوق عابد تيم من السادسة.(2/199)
543 - حسان بن أبي سنان
محمد بن عبد الله الزراد قال: خرج حسان إلى العيد فقيل له لما رجع: يا أبا عبد الله ما رأينا عيداً أكثر نساءً منه. فقال: ما تلقتني امرأة حتى رجعت.
غسان بن المفضل قال: أنبأ شيخ لنا يقال له أبو حكيم قال: خرج حسان يوم العيد فلما رجع قالت له امرأته: كم امرأة حسنة قد نظرت إليها اليوم؟ فلما أكثرت قال: ويحك ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت من عندك حتى رجعت إليك.
عبد الله قال: كتب غلام لحسان بن أبي سنان إليه من الأهواز أن قصب السكر أصابته آفة فاشتر السكر فيما قبلك. قال: فاشتراه من رجل، فلم يأت عليه إلا القليل فإذا اشترى ربح ثلاثين ألفاً.
__________
543 - هو: حسان بن أبي سنان البصري، صدوق عابد، من السادسة.(2/199)
قال فأتى صاحب السكر فقال: يا هذا إن غلامي كان كتب إلي ولم أعلمك فأقلني فيما اشتريت منك - قال الآخر: قد أعلمتني الآن وطيبته لك. قال: فرجع فلم يحتمل قلبه. قال: فأتاه فقال: يا هذا إني لم آت الأمر من وجهه فأحب أن تسترد هذا البيع. قال: فما زال به حتى رد عليه.
عبد المؤمن بن عباد قال: لقي حسان بن أبي سنان رجل به رهق وكان مع حسان رجل قال: فسأله حسان مساءلة لطيفة، فقال له الرجل: تساءل هذا مثل هذه المساءلة حتى يظن في نفسه أي شيء؟ قال: وما يدريك لعله تكون في هذا خصلة يحبها الله وفيك خصلة يبغضها الله عز وجل قال: فقال يا أبا عبد الله وما هذه الخصلة التي فيه يحبها الله عز وجل؟ وما الخصلة التي في يبغضها الله عز وجل؟
قال: لعله أن يكون حين رآك حدثته نفسه أنك خير منه ولعلك حين رأيته حدثتك نفسك أنك خير منه.
عن جعفر بن سليمان أن رجلاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: "لو أن حساناً دعا أن يتحول جبل لحول".
الوليد بن بشار قال: جاءت امرأة فسألت حسان بن أبي سنان.
فقال لشريكه هكذا، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى. فذهب شريكه يزن لها درهمين فوزن لها مائتين، فقالوا: يا أبا عبد الله كنت ترضي بهذا كذا وكذا من سائل. فقال: إني ذهبت في شيء لم تذهبوا فيه، إني رأيت بها بقية من الشباب وخشيت أن تحملها الحاجة على بعض ما أكره.
قال مهدي بن ميمون: رأيت حسان بن أبي سنان، أحسبه قال في مرضه، فقيل له: كيف تجدك؟ قال: بخير عن نجوت من النار. فقيل له: فما تشتهي؟ قال: ليلة بعيدة ما بين الطرفين أحيي ما بين طرفيها.
أبو يحيى الزراد قال: كنت أسمع حسان بن أبي إسحاق يتمثل كثيراً:
لا صحة المرء في الدنيا تؤخره
ولا يقدم يوماً موته الوجع
قال ابن شوذب: كان حسان بن أبي سنان رجلاً من تجار أهل البصرة له شريك بالبصرة وهو مقيم بالأهواز يجهز على شريكه بالبصرة ثم يجتمعان على رأس كل سنة يتحاسبان ثم يقتسمان الربح. فكان يأخذ قوته من ربحه ويتصدق بما بقي، وكان صاحبه يبني الدور ويتخذ(2/200)
الأرضين. قال: فقدم حسان البصرة قدمة ففرق ما أراد أن يفرق فذكر له أهل بيت لم تكن حاجتهم ظهرت. فقال: أما تخبرونا؟ فاستقرض لهم ثلاث مائة درهم فبعث بها إليهم.
موسى بن هلال قال: حدثني رجل كان جليساً لنا وكانت امرأة حسان مولاة له قال: حدثتني امرأة حسان بن أبي سنان قالت: كان يجيء فيدخل معي في فراشي، قالت: ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها فإذا علم أني قد نمت سل نفسه فخرج ثم يقوم فيصلي، قالت: فقلت له يا أبا عبد الله: كم تعذب نفسك؟ أرفق بنفسك، فقال: اسكتي ويحك فيوشك أن أرقد رقدة لا أقوم منها زماناً.
عبد الله بن عيسى قال: أخبرني أبي قال: كان حسان بن أبي سنان يحضر مسجد مالك بن دينار فإذا تكلم مالك بكى حسان حتى يبل ما بين يديه ولا يسمع له صوت.
عن عبد الجبار بن النضر السلمي قال: مر حسان بن أبي سنان بغرفة فقال: متى بنيت هذه؟ ثم أقبل على نفسه فقال: تسألين عما لا يعنيك؟ لأعاقبنك بصوم سنة فصامها.
عمارة بن زاذان قال: كان حسان يفتح باب حانوتة فيضع الدواة وينشر حسابه، ويرخي ستره، ثم يصلي، فإذا أحس بإنسان قد جاء يقبل على الحساب يريه أنه كان في الحساب.
قال أبو داود: وثنا سلام بن أبي مطيع قال: كان حسان بن أبي سنان يقول: لولا المساكين ما اتجرت.
يحيى بن سطام الأصفر التميمي - وكان جاراً لحسان بن أبي سنان قال: وكان حسان يصوم الدهر، ويفطر على قرص ويتسحر بآخر، فنحل وسقم جسمه جداً حتى صار كهيئة الخيال. فلما مات فأدخل مغتسله ليغسل، كشف الثوب عنه فإذا هو كهيئة الخيط الأسود قال: وأصحابه حوله يبكون.
قال حريث: فحدثني يحيى بن مسلم البكاء وإبراهيم بن محمد القيسي قال: لما نظرنا إلى حسان وما قد أبلاه الدؤوب أكبرنا ذلك جداً واستدمع أهل البيت وعلت أصواتهم. ثم هدؤوا. فإنا لكذلك إذ سمعنا قائلاً يقول من ناحية البيت:
تجوع للإله لكي يراه ... نحيل الجسم من طول الصيام
قال: فوالله ما رأيناه في البيت إلا باكياً.
قال حريث: كانوا يرون أن بعض الجن بكاه.
كان حسان كثير الرواية عن الحسن وثابت البناني. ويقال: أنه أسند عن أنس، غير أنه اشتغل بالعبادة عن الرواية.(2/201)
544 - شميط بن عجلان
أبو عبد الله، ويقال أبو همام.
عن سيار قال: أنبأ عبيد الله بن شميط قال: سمعت أبي يقول: بادروا بالصحة السقم وبالفراغ الشغل، وبادروا بالحياة الموت.
وسمعته يقول لي: بئس العبد عبد خلق للعاقبة فصدته العاجلة عن العاقبة فزالت عنه العاجلة وشقي في العاقبة.
وسمعته يقول: أعطيت ما يكفيك وأنت تطلب ما يطغيك؟ لا بقليل تقنع ولا بكثير تشبع، كيف يعمل للآخرة من لا تنقضي من الدنيا شهوته؟ العجب العجب كل العجب لمصدق بدار الحق وهو يسعى لدار الغرور.
وسمعته يقول: إن الله عز وجل جعل قوة المؤمن في قلبه ولم يجعلها في أعضائه. ألا ترون أن الشيخ يكون ضعيفاً يصوم الهواجر ويقوم الليل والشاب يعجز عن ذلك.
وسمعته يقول: يعمد أحدهم فيقرأ القرآن ويطلب العلم حتى إذا علمه أخذ الدنيا فضمها إلى صدره وحملها على رأسه فنظر إليه ثلاثة ضعفاء: امرأة ضعيفة وأعرابي جاهل وأعجمي، فقالوا: هذا أعلم بالله منا لو ير في الدنيا ذخيرة ما فعل هذا. فرغبوا في الدنيا وجمعوها.
وسمعته يقول: من رضي بالفسق فهو من أهله، ومن رضي أن يعصى الله عز وجل لم يرفع له عمل.
أبو معاوية الغلابي قال: حدثني رجل قال: قالت امرأة شميط: يا أبا همام إنا نعمل الشيء فيبرد فنشتهي أن تأكل منه معنا فلا تجيء حتى يفسد ويبرد. فقال: والله إن أبغض ساعاتي إلي الساعة التي آكل فيها.
جعفر قال: سمعت شميطاً يقول: رأس مال المؤمن دينه حيثما زال معه لا يخلفه في الرجال ولا يأمن عليه الرجال.
جعفر بن سليمان قال: سمعت شميطاً يقول: من جعل الموت نصب عينيه لم يبال بضيق الدنيا ولا بسعتها.
__________
544 - هو: شميط بن عجلان، الومق الولهان، الواعظ اليقظان، أبو همام، وقيل: أبو عبيد الله، انظر حلية الأولياء 3/149.(2/202)
إبراهيم بن عبد الملك قال: قال شميط بن عجلان: إن الله عز وجل وسم الدنيا بالوحشة ليكون أنس المطيعين به.
عبيد الله بن شميط بن عجلان، عن أبيه أنه كان يقول في مواعظه: إذا أصبحت آمناً في سربك معافى في بدنك، عندك قوت يومك فعلى الدنيا العفاء وعلى من يحزن عليها، إن المؤمن يقول لنفسه: إنما هي ثلاثة أيام فقد مضى أمس بما فيه وغداً أمل لعلك لا تدركيه، إنما هو يومك هذا فإن كنت من أهل غد برزق غد إن دون غد يوماً وليلة تخترم فيه أنفس كثيرة فلعلك المخترم فيه.
كفى كل يوم همه ثم حملت على قلبك الضعيف هم السنين والدهور والأزمنة وهم الغلاء والرخص وهم الشتاء قبل أن تجيء وهم الصيف قبل أن يجيء، فماذا أبقيت من قلبك الضعيف للآخرة؟ ما تطلب الجنة بهذا، متى تهرب من النار؟ كل يوم ينقص من أجلك ثم لا تحزن.
أعطيت ما يكفيك وأنت تطلب ما يطغيك، لا بقليل تقنع ولا من كثير تشبع، فكيف لا يستبين للعالم جهله، وقد عجز عن شكر ما هو فيه، وهو مفتن في طلب الزيادة؟ أم كيف يعمل للآخرة من لا تنقضي من الدنيا شهوته ولا تنقطع عنها رغبته فالعجب كل العجب لمن صدق بدار الحيوان كيف يسعى لدار الغرور.
وكان يقول: إن أولياء الله آثروا رضا ربهم تعالى على هوى أنفسه، فأرغموا أنفسهم كثيراً في رضا ربهم فأفلحوا والله وأنجحوا، وإن المنافق عبد هواه وعبد بطنه وعبد فرجه وعبد جلده، عبد الدنيا وعبد أهل الدنيا.
وكان يقول: الناس رجلان، فمتزود من الدنيا ومتنعم فيها فانظر أي الرجلين أنت. إني أراك تحب طول البقاء في الدنيا فلأي شيء تحبه؟ أن تطيع الله عز وجل وتحسن عبادته وتتقرب إليه بالأعمال الصالحة؟ فطوبى لك، أم لتأكل وتشرب وتلهو تلعب وتجمع الدنيا وتثمرها وتنعم زوجتك وولدك؟ فلبئس ما أردت له البقاء.
وكان يقول إذا وصف المؤمنين: أتاهم عن الله تبارك وتعالى أمر وقذهم عن الباطل فأسهروا الأعين وأجاعوا البطون وأظمأوا الأكباد وأنفقوا الأموال واهتضموا التالد والطارف في طلب ما يقربهم إلى الله عز وجل وفي طلب النجاة مما خوفهم به.(2/203)
وكان يقول: إن المؤمن اتخذ كتاب الله عز وجل مرآة فمرة ينظر إلى ما نعت الله عز وجل به المؤمنين، ومرة ينظر إلى ما نعت الله عز وجل به المغترين، ومرة ينظر إلى الجنة وما وعد الله عز وجل فيها، ومرة ينظر إلى النار وما أعد الله عز وجل فيها. تلقاه حزيناً كالسهم المرمى به شوقاً إلى ما شوقه الله عز وجل إليه وهرباً مما خوفه الله عز وجل منه.
وكان يقول: بلغنا أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام، يا داود ألا ترى إلى المنافق كيف يخدعني وأنا أخدعه؟ يسبحني ويوقر بلسانه وقلبه مني بعيد، يا داود قل للملأ من بني إسرائيل لا يدعوني والخطايا في أضبانهم. ليضعوها ثم ليدعوني أستجب لهم.
وكان يقول: اللهم اجعل القليل من الدنيا يكفينا كما يكفي الكثير أهله، اللهم ارفع رغبتنا إليك واقطع رجاءنا ممن سواك، اللهم اجعل طاعتك ألذ عندنا من الطعام عند الجوع، ومن الشراب عند الظمأ، اللهم اجعل غفلة الناس لنا ذكراً ومرح الناس لنا شكراً، اللهم إذا تنعم المتنعمون بالدنيا فاجعلنا نتنعم بذكرك.
وكان يقول: بالدراهم والدنانير أزمة المنافقين تقودهم إلى السوءات.
وكان يقول: تلقى أحدهم عنده فضول يغلق بابه دون جاره وذوي رحمه، ثم يخرج على القوم يحدثهم بما أكل وشرب ولعل جاره الفقير وذا رحمه المحتاج يكون في القوم يسمع ما يقول، ويحك ما كفاك أن غلقت بابك دونه فلم تواسه ولم تذكره حتى قعدت فأخبرته بما أكلت وشربت؟ فإذا أنت قد جمعت إساءة بعد إساءة.
وكان يقول: إن المؤمن أبصر الدنيا فأنزلها فإن هي أقبلت عليه قال: لا مرحباً ولا أهلاً والله ما أراك جئت بخير وما فيك من خير إلا أن تطلب بك الجنة، ويفتدى بك من النار، فإن هي أدبرت عنه قال: عليك العفاء وعلى من يتبعك، الحمد لله الذي خار لي وصرف عني فتنتك وشغلك.
وكان يقول إذا وصف أهل الدنيا: حيارى سكارى فارسهم يركض ركضاً وراجلهم يسعى سعياً، لا غنيهم يشبع، ولا فقيرهم يقنع.
وكان يقول إذا وصف المقبل على الدنيا: دائب البطنة قليل الفطنة إنما همه بطنه وفرجه وجلده، حتى أصبح فآكل وأشر وألهو وألعب، متى أمسى فأنام، جيفة بالليل بطال بالنهار ويحك ألهذا خلقت؟ أم بهذا أمرت؟ أم بهذا تطلب الجنة وتهرب من النار؟.(2/204)
وكان يقول: إن العافية سترت البر والفاجر، فإذا جاءت البلايا استبان عندها الرجلان فجاءت البلايا إلى المؤمن فأذهبت ماله وخادمه ودابته حتى جاع بعد الشبع ومشى بعد الركوب وخدم نفسه بعد أن كان مخدوماً فصبر ورضي بقضاء الله عز وجل، وقال: هذا نظر من الله عز وجل لي، هذا أهون لحسابي غداً. وجاءت البلايا إلى الفاجر فأذهبت ماله وخادمه ودابته فجزع وهلع وقال: والله ما لي بهذا طاقة، والله لقد عودت نفسي عادة ما لي عنها صبر من الحلو والحامض والحار والبارد ولين العيش، فإن هو أصابه من الحلال وإلا طلبه من الحرام والظلم ليعود إليه ذلك العيش.
وكان يقول: إنسانان معذبان في الدنيا: غني أعطي دنيا فهو بها مشغول، وفقير زويت عنه فهو يتبعها نفسه فنفسه تقطع عليها حسرات.
وكان يقول: الناس ثلاثة: فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا، فهذا المقرب. ورجل ابتكر عمره بالذنوب وطول الغفلة ثم راجع توبة، فهذا صاحب يمين، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه ثم لم يزل فيه حتى خرج من الدنيا، فهذا صاحب شمال.
أبو عمر الضرير قال: أنبأنا عبيد الله بن شميط قال: سمعت أبي يقول: أيها المغتر بطول صحته أما رأيت ميتاً قط من غير سقم؟ أيها المغتر بطول المهلة أما رأيت مأخوذاً قط من غير عدة، أبالصحة تغترون؟ أم بطول العافية تمرحون؟ أم بالموت تأمنون؟ أم على ملك تجترئون؟ إن ملك الموت إذا جاء لم يمنعه منك ثروة مالك ولا كثرة احتشادك. أما علمت أن ساعة الموت ذات كرب شديد وغصص وندامة على التفريط؟ ثم يقول: رحم الله عبداً عمل لساعة الموت. رحم الله عبداً عمل لما بعد الموت، رحم الله عبداً نظر لنفسه قبل نزول الموت.
أسند شميط عن جماعة من التابعين.(2/205)
545 - خويل بن محمد الأزدي
عن الهيثم بن عدي قال: سمعت خويل بن محمد، وكان عابداً يقول: كأن خويلاً قد وقف للحساب فقيل له: يا خويل قد عمرناك ستين سنة، فما صنعت فيها فجمع نوم سنة مع قائلة النهار فإذا قطعة من عمري نوم وجمعت ساعات أكلي فإذا قطعة من عمري قد ذهبت في الأكل وجمعت ساعات وضوئي فإذا قطعة من عمري قد ذهبت فيه، ثم نظر في صلاتي فإذا صلاتي منقوصة وصوم مخرق. فما هو إلا عفو الله أو الهلكة.(2/205)
الطبقة الخامسة
هشام بن أبي عبد الله
...
ومن الطبقة الخامسة من أهل البصرة:
546 - هشام بن أبي عبد الله
واسمه سنبر الدستوائي مولى لبني سدوس.
سعيد بن عامر قال: كان هشام بن أبي عبد الله قد أظلم بصره من طول البكاء، وكنت تراه ينظر إليك فلا يعرفك إلا أن تكلمه.
شاذ بن فياض قال: بكى هشام الدستوائي حتى فسدت عينه فكانت مفتوحة وهو لا يكاد يبصر بها.
محمد بن حفص التيمي قال: كان هشام إذا فقد السراج من بيته تململ على فراشه. وكانت امرأته تأتيه بالسراج فقالت له في ذلك فقال: إذا فقدت السراج ذكرت ظلمة القبر.
عبد الصمد قال: مات هشام بن عبد الله سنة ثنتين وخمسين.
زيد بن الحباب قال: دخلت على هشام الدستوائي سنة ثلاث وخمسين يعني ومائة ومات بعد ذلك بأيام.
__________
546 - هو: هشام بن أبي عبد الله: سنبر - بمهملة ثم نون موحدة - وزن جعفر، أبو بكر البصري الدستوائي، بفتح الدال وسكون السين المهملتين وفتح المثناة ثم مد -ثقة ثبت وقد رمي بالقدر، من كبار السابعة، مات سنة أربع وخمسين وله ثمان وسبعون سنة.(2/206)
547 - شعبة بن الحجاج بن ورد
من الأزد: مولى للأشاقر عتاقة. يكنى أبا بسطام، وهو أكبر من الثوري بعشر سنين.
عمرو بن علي الفلاس قال: سمعت أبا بحر البكراوي يقول: ما رأيت أعبد من شعبة، لقد عبد الله حتى جف جلده على عظمه ليس بينهما لحم.
قال عمرو بن هارون: كان شعبة يصوم الدهر كله لا يرى عليه.
وكان سفيان الثوري يصوم ثلاثة من الشهر ترى عليه.
__________
547 - هو: شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي مولاهم، أبو بسطام الواسطي، ثم البصري، ثقة حافظ متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال وذب عن السنة وكان عابدا من السابعة مات سنة ستين.(2/206)
أبو قطن قال: ما رأيت شعبة ركع قط إلا ظننت أنه قد نسي، ولا قعد بين السجدتين إلا ظننت أنه قد نسي.
مسلم بن إبراهيم قال: ما دخلت على شعبة في وقت صلاة قط إلا رأيته يصلي.
سليمان بن حرب قال: لو نظرت إلى ثياب شعبة لم تكن تساوي عشرة دراهم: إزاره وقميصه ورداءه، وكان كثير الصدقة.
أبو قطن قال: كانت ثياب شعبة لونها لون التراب، وكان كثير الصلاة، كثير الصيام سخي النفس.
أبو حميد عبد الله بن محمد المصيصي قال: سمعت حجاجاً يقول: ركب شعبة حماراً له فلقيه سليمان بن المغيرة فشكا إليه شعبة، والله ما أملك إلا هذا الحمار. ثم نزل عنه ودفعه إليه.
قراد أبو نوح قال: رأى شعبة علي قميصاً فقال: بكم أخذت هذا؟ قلت بثمانية دراهم. قال لي: ألا اشتريت قميصاً بأربعة دراهم وتصدقت بأربعة.
رأى شعبة الحسن وابن سيرين، وسمع من قتادة ويونس بن عبيد وأيوب وخالد الحذاء وخلق كثير من التابعين. وتوفي بالبصرة في أول سنة ستين ومائة، وهو ابن سبع وسبعين سنة.(2/207)
548 - صالح بن بشير أبو بشر المرئي
كان مملوكاً لامرأة من بني مرة بن الحارث من بني عبد القيس فأعتقته.
قال عبد الرحمن بن مهدي: كنت أذكر صالحاً المري لسفيان فيقول القصص القصص، كأنه يكرهه. فكان إذا كانت له حاجة بكر فيها. فبكر يوماً وبكرت معه فجعلت طريقنا على مسجد صالح المري فقلت: يا أبا عبد الله ندخل فنصلي في هذا المسجد. فدخل فصلينا وكان يوم مجلس صالح، فلما صلوا ازدحم الناس فبقينا لا نقدر أن نقوم، وتكلم صالح فرأيت سفيان يبكي بكاءً شديداً، فلما فرغ وقام قلت له: يا أبا عبد الله كيف رأيت هذا الرجل؟ فقال: ليس هذا بقاص هذا نذير قوم.
عفان بن مسلم قال: كنا نأتي مجلس صالح المري نحضره وهو يقص، وكان إذا أخذ في
__________
548 - هو: صالح بن بشير بن وادع المري -بضم الميم وتشديد الراء - أبو بشر البصري، القاص الزاهد، ضعيف من السابعة، مات سنة اثنتين وسبعين وقيل بعدها.(2/207)
قصصه كأنه رجل مذعور يفزعك أمره، من حزنه وكثرة بكائه كأنه ثكلى، وكان شديد الخوف من الله كثير البكاء.
أحمد بن إسحاق الحضرمي قال: سمعت صالحاً المري يقول: للبكاء دواع: الفكرة في الذنوب فإن أجابت على تلك القلوب وإلا نقلتها إلى الموقف وتلك الشدائد والأهوال، فإن أجابت على ذلك وإلا فاعرض عليها التقلب في أطباق النيران. قال: ثم صاح وغشي عليه وتصايح الناس من نواحي المسجد.
الأصمعي قال: شهدت صالحاً المري عزى رجلاً على ابنه فقال: لئن كانت مصيبتك لم تحدث لك موعظة في نفسك فمصيبتك بابنك جلل في مصيبتك في نفسك، فإياها فابك.
أسند صالح عن الحسن وابن سيرين وثابت وقتادة وبكر بن عبد الله في خلق كثير من التابعين. وتوفي سنة ست وسبعين ومائة.(2/208)
549 - الربيع بن عبد الرحمن
ويعرف بالربيع بن برة.
محمد بن سنان قال: سمعت الربيع بن برة يقول: ابن آدم إنما أنت جثة منتنة طيب نسيمك ما ركب فيك من روح الحياة فلو قد نزع منك روحك ألقيت جثة ملقاة وجيفة منتنة وجسداً خاوياً. قد جيف بعد طيب رائحة واستوحش منه بعد الأنس بقربه أي الخليفة منك أعجب إذ كنت تعلم أن هذا مصيرك وأن التراب مقيلك ثم أنت بعد هذا الطول جهلك تقر بالدنياعيناً. أسمعته يقول: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} "سبأ" أما والله ما حداك على الصبر والشكر إلا لعظم ثوابهما عنده لأوليائه فمن أعظم منك غفلة أو من أطول في القيامة منك حسرة إذ كنت ترغب عما رغب لك فيه مولاك وأنت تقرأ في الليل والنهار {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} .
عباد بن الوليد القرشي قال: قال الربيع بن برة: عجبت للخلائق كيف ذهلوا عن أمر حق تراه عيونهم وتشهد عليه معاقد قلوبهم إيماناً وتصديقاً بما جاء به المرسلون؟ ثم ها هم في غفلة عنه سكارى يلعبون.
__________
549 - هو: الربيع بن برة، عن الحسن، قال العقيلي: قدري داعية، ولا مسند عنده، ميزان الاعتدال 3/61 ط. دار الكتب العلمية.(2/208)
ثم يقول: وأيم الله ما تلك الغفلة إلا رحمة من الله لهم ونعمة من الله عليهم. ولولا ذلك لألفي المؤمنون طائشة عقولهم طائرة أفئدتهم منخلقة علوبهم لا ينتفعون مع ذكر الموت بعيش أبداً.
داود بن المحبر عن أبيه قال: مر بنا الربيع بن برة ونحن نسوي نعشاً لميت فقال: من هذا الغريب الذي بين أظهركم؟ قلنا ليس بغريب بل هو قريب حبيب. قال: فبكى وقال: من أغرب من الميت بين الأحياء؟ قال: فبكى القوم جميعاً.
عن محمد بن سلام قال: سمعت الربيع بن عبد الرحمن يقول: رضيت لنفسك، وأنت الحول القلب، أن تعيش عيش البهائم، نهارك هائم وليلك نائم والأمر أمامك جد.
محمد بن سلام الجمحي قال: كان الربيع بن برة يقول: نصب المتقون الوعيد من الله أمامهم فنظرت إليه قلوبهم بتصديق وتحقيق فهم والله في الدنيا منغصون، ووقفوا ثواب الأعمال الصالحة خلف ذلك فمتى سمت أبصار القلوب إلى ثواب الأعمال تشوقت القلوب وارتاحت إلى حلول ذلك، فهم والله إلى الآخرة متطلعون بين وعيد هائل ووعد حق صادق لا ينفكون من خوف وعيد إلا رجعوا إلى شوق موعود. فهم كذلك وعلى ذلك في الموت جعلت لهم الراحة. ثم بكى.
عاصم الخلقاني قال: قال الربيع بن عبد الرحمن: إن لله عباداً أخمصوا له البطون عن مطاعم الحرام، وغضوا له الجفون عن مناظر الآثام، وأهملوا له العيون لما اختلط عليهم الظلام رجاء أن ينير لهم قلوبهم إذا تضمنتهم الأرض بين أطباقها، فهم في الدنيا مكتئبون وإلى الآخرة متطلعون، نفذت أبصار قلوبهم بالغيب إلى الملكوت فرأت فيه ما رجت من عظيم ثواب الله فازدادوا لله بذلك جداً واجتهاداً عند معاينة أبصار قلوبهم ما انطوت عليه آمالهم فهم الذين لا راحة لهم في الدنيا وهم الذين تقر أعينهم غدا ًبطلعة ملك الموت عليهم. قال: ثم يبكي حتى يبل لحيته بالدموع.
محمد بن سلام الجمحي قال: سمعت الربيع بن عبد الرحمن يقول في كلامه: قطعتنا غفلة الآمال عن مبادرة الآجال فنحن في الدنيا حيارى لا ننتبه من رقدة إلا أعقبتنا في أثرها غفلة، فيا إخوتاه نشدتكم بالله هل تعلمون مؤمناً بالله أغر ولنقمته أقل حذراً من قوم هجمت بهم العبر على مصارع النادمين فطاشت عقولهم وضلت حلومهم مما رأوا العبر(2/209)
والأمثال، ثم رجعوا عن ذلك إلى غير قلعة ولا نقلة؟ فبالله لتبلغن من طاعة الله ورضاه أو لتنكرن به ماتعرفون من حسن بلائه وتواتر نعمائه - إن تحسن أيها المرء يحسن إليك وإن تسيء فعلى نفسك بالعتب فارجع فقد بين وحذر وأعذر فما للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً.
زعم بعض نقلة الحديث أن الربيع بن برة أسند عن الحسن، وذكر له حديثاً. وإنما الربيع المذكور في ذلك الحديث هو الربيع بن صبيح، وأما ابن برة فلا نعلم له مسنداً.(2/210)
550 - الحجاج العابد
محمد بن صالح التميمي قال: قال أبو عبد الله مؤذن مسجد بني جدار: جاورني شاب فكنت إذا أذنت للصلاة وأقمت كأنه في نقرة قفاي. فإذا صليت صلى ثم لبس نعليه فدخل منزله. فكنت أتمنى أن يكلمني أو يسألني حاجة. فقال لي ذات يوم: يا أبا عبد الله عندك مصحف تعيرني أقرأ فيه؟ فأخرجت إليه مصحفاً فدفعته إليه فضمه إلى صدره ثم قال: ليكونن اليوم لي ولك شأن.
ففقدته ذلك اليوم فلم أره يخرج. فأقمت المغرب فلم يخرج. وأقمت العشاء الآخرة فلم يخرج. فساء ظني فلما صليت العشاء الآخرة جئت إلى الدار التي هو فيها فإذا فيها دلو ومطهرة وإذا على بابه ستر فدفعت الباب فإذا به ميت والمصحف في حجرة. فأخذت المصحف من حجرة واستعنت بقوم على حمله حتى وضعناه على سريره.
وبقيت ليلتي أفكر من أكلم حتى أكفنه فأذنت الفجر بوقت ودخلت المسجد لأركع، فإذا بضوء في القبلة فدنوت منه فإذا كفن ملفوف في القبلة فأخذته وحمدت الله عز وجل وأدخلته البيت وخرجت فأقمت الصلاة فلام سلمت إذا عن يميني ثابت البناني ومالك بن دينار وحبيب الفارسي وصالح المري، فقلت لهم يا إخواني ما غدا بكم؟ قالوا: مات في جوارك الليلة أحد؟ قلت: مات شاب كان يصلي معي الصلوات. فقالوا لي: أرناه. فلما دخلوا عليه كشف مالك بن دينار الثوب عن وجهه قبل موضع سجوده ثم قال: بأبي أنت يا حجاج إذا عرفت في موضع تحولت منه إلى موضع غيره حتى لا تعرف، خذوا في غسله. وإذا مع كل واحد منهم كفن، فقال كل واحد منهم: أنا أكفنه، فلما طال ذلك منهم قلت لهم: إني فكرت في أمره(2/210)
هذه الليلة فقلت: من أكلم حتى يكفنه. فأتيت المسجد فأذنت ثم دخلت لأركع فإذا كفن ملفوف لا أدري من وضعه؟ فقالوا: يكفن في ذلك الكفن فكفناه وأخرجناه، فما كدنا نرفع جنازته، من كثرة من حضره من الجمع.(2/211)
551 - ضيغم بن مالك
أبو مالك العابد. أبو أيوب مولى ضيغم بن مالك قال: قال لي ضيغم ليلة: لو أعلم أن رضاه أن أقرض لحمي لدعوت بالمقراض فقرضته.
قال: قال سيار رأيت ضيغماً صلى نهاره أجمع وليله حتى بقي راكعاً لا يقدر أن يسجد فرأيته رفع رأسه إلى السماء ثم قال: قرة عيني، ثم خر ساجداً فسمعته يقول وهو ساجد: إلهي كيف عزفت قلوب الخليقة عنك؟ قال: وربما أصابته الفترة فإذا وجد ذلك اغتسل ثم دخل بيتاً فأغلق بابه وقال: إلهي إليك جئت. قال: فيعود إلى ما كان من الركوع والسجود.
قال: وسمعت سيار بن حاتم يقولك كان ورد ضيغم كل يوم أربعمائة ركعة.
عبيد الله بن عمر قال: أتيت صاحباً لي يقال له عمران بن مسلم فأراني موضعين مبتلين في مسجده أحدهما بحذاء الآخر فقلت: ما هذا؟ قال: هذا والله من دموع ضيغم البارحة بين المغرب والعشاء وهو راكع.
أزهر بن مروان الرقاشي قال: رأيت ضيغماً العابد وكنت إذا رأيته رأيت رجلاً لا يشبه الناس من الخشوع والضر وطول الحزن.
قال القرشي: وحدثني شيخ يكنى بأبي يعقوب عن سعيد البكاء قال: قال رجل لأم ضيغم: ما أطول حزن ضيغم. فبكت وقالت: لمثل ما ندب إليه فليحزن، ذهب الحسن وأصحابه بالحزن وهل رأيت يا بني محزوناً.
محمد بن الحسين قال: حدثني مالك بن ضيغم قال: قالت أمه، يعني ضيغماً، ذات يوم: ضيغم! قال: لبيك يا أماه. قالت: كيف فرحك بالقدوم على الله؟ قال: فحدثني غير واحد من أهله أنه صاح صيحة لم يسمعوه صاح مثلها قط وسقط مغشياً عليه، فجلست العجوز تبكي عند رأسه وتقول: بأبي أنت ما نستطيع أن نذكر بين يديك شيئاً من أمر ربك.
__________
551 - هو: ضيغم بن مالك، العالم الزاهد الرباني، أبو بكر الراسبي البصري، أخذ عن التابعين، توفي ضيغم سنة ثمانين ومائة، سير أعلام النبلاء 7/630.(2/211)
قال: وقالت له يوماً: ضيغم! قال: لبيك يا أماه. قالت: تحب الموت؟ قال: نعم يا أماه. قالت: ولم يا بني؟ قال: رجاء خير ما عند الله قال: فبكت العجوز وبكى فتسامع أهل الدار فجلسوا يبكون لبكائهم.
قال: وقالت له يوماً آخر: ضيغم! قال: لبيك يا أماه. قالت: تحب الموت؟ قال: لا أماه. قالت: لم يا بني؟ قال: لكثرة تفريطي وغفلتي عن نفسي، قال: فبكت العجوز وبكى ضيغم واجتمع أهل الدار وجعلوا يبكون، وكانت أمه عربية كأنها من أهل البادية.
مالك بن ضيغم قال: حدثني الحكم بن نوح قال: بكى أبوك ليلة من أول الليل إلى آخره لم يسجد فيها سجدة ولم يركع فيها ركعة ونحن معه في البحر، فلما أصبحنا قلنا: يا مالك لقد طالت ليلتك لا مصلياً ولا داعياً، قال: فبكى ثم قال: لو يعلم الخلائق ما يستقبلون غداً ما لذوا بعيش أبداً، والله إني لما رأيت الليل وهوله وشدة سواده ذكرت به الموقف وشدة الأمر هناك، وكل امرئ يومئذ تهمه نفسه: {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} قال: ثم شهق ولم يزل يضطرب ما شاء الله.
مالك بن ضيغم قال: حدثتني خالتي حبابة بنت ميمون العتكية قالت: رأيت أباك ضيغماً نزل ذات ليلة من فوق البيت بكوز وقد برد له حتى صبه ثم اكتاز من الحب ماء حاراً فشرب فقلت له بعد ذلك: بأبي أنت قد رأيت الذي صنعت فمم ذاك؟ قال: حانت مني مرة نظرة إلى امرأة فجعلت على نفسي أن لا تذوق الماء البارد أيام الدنيا. فقلت: أنغص عليها الحياة.
محمد بن مالك بن ضيغم قال: حدثني مولانا أيوب قال: قال لي أبو مالك يوماً: يا أبا أيوب احذر نفسك على نفسك فإني رأيت هموم المؤمنين في الدنيا لا تنقضي، وأيم الله لئن لم تأت الآخرة المؤمن بالسرور لقد اجتمع عليه الأمران: هم الدنيا وشقاء الآخرة. قال قلت: بأبي أنت وكيف لا تأتيه الآخرة بالسرور وهو ينصب لله في دار الدنيا ويدأب؟ قال: يا أبا أيوب فكيف بالقبول وكيف بالسلامة؟ ثم قال: كم من رجل يرى أنه قد أصلح شأنه، قد أصلح قربانه، قد أصلح همته، قد أصلح عمله، يجمع ذلك يوم القيامة ثم يضرب به وجهه.
يحبى بن بسطام قال: قلت لجار ضيغم: هل سمعت أبا مالك يذكر من الشعر شيئاً؟ قال: ما سمعته يذكر إلا بيتاً واحداً. قلت: ما هو؟ قال:(2/212)
قد يخزن الورع التقي لسانه ... حذر الكلام وإنه لمفوه
سعيد الوراق قال: حدثني ابن ثعلبة، وكان من العابدين، قال: رأيت ضيغماً في منامي بعد موته فقال لي: يا ابن ثعلبة أما صليت علي؟ قال: فذكرت علة كانت، فقال: أما لو كنت صليت علي لقد كنت ربحت رأسك.(2/213)
552 - حماد بن سلمة
يكنى أبا سلمة مولى لبني تميم، وهو ابن أخت حميد الطويل.
عبد الرحمن بن مهدي قال: لو قيل لحماد بن سلمة إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً.
مقاتل بن صالح الخراساني قال: دخلت على حماد بن سلمة فإذا ليس في البيت إلا حصير، وهو جالس عليه، ومصحف يقرأ فيه، وجراب فيه علمه، ومطهرة يتوضأ منها، فبينما أنا عنده جالس إذ دق داق الباب فقال: يا صبية اخرجي فانظري من هذا؟ فقالت: رسول محمد بن سليمان. قال: قولي له يدخل وحده. فدخل فناوله كتاباً فإذا فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من محمد بن سليمان إلى حماد بن سلمة. أما بعد فصبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته: وقعت مسألة فأتنا نسألك عنها والسلام.
قال: يا صبية هلمي الدواة. ثم قال لي: اقلب الكتاب واكتب: أما بعد وأنت فصبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته، إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحداً فإن كانت وقعت مسألة فإتنا واسألنا عما بدا لك وإن أتيتني فلا تأتني إلا وحدك ولا تأتني بخيلك ورجلك فلا أنصحك، ولا أنصح نفسي والسلام.
فبينا أنا عنده دق داق الباب فقال: يا صبية اخرجي فانظري من هذا؟ فقالت: محمد بن سليمان. قال: قولي له ليدخل وحده، فدخل فسلم ثم جلس بين يديه فقال: ما لي إذا نظرت إليك امتلأت رعباً فقال حماد: سمعت ثابتاً البناني يقول: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله عز وجل هابه كل
__________
552 - هو: حماد بن سلمة بن دينار البصري، أبو سلمة، ثقة عابد أثبت الناس في ثابت وتغير حفظه بآخرة، من كبار الثامنة، مات سنة سبع وستين.(2/213)
شيء، وإذا أراد أن يكتنز به الكنوز هاب من كل شيء" 1 فقال: أربعون ألف درهم تأخذها تستعين بها على ما أنت عليه؟ قال: قال ارددها على من ظلمته بها. قال: والله ما أعطيتك إلا ما ورثته. قال: لا حاجة لي فيها ازوها عني زوى الله عنك أوزارك. قال: فتقسمها. قال: فلعلي إن عدلت في قسمتها أن يقول بعض من لم يرزق منها لم يعدل، ازوها عني زوى الله عنك أوزارك.
موسى بن إسماعيل قال: لو قلت لكم إني رأيت حماد بن سلمة ضاحكاً قط صدقتكم كان مشغولاً بنفسه، إما أن يحدث وإما أن يقرأ وإما أن يسبح، وإما أن يصلي. كان قد قسم النهار على هذه الأعمال.
سوار بن عبد الله قال: حدثنا أبي قال: كنت آتي حماد بن سلمة في سوقه فإذا ربح في ثوب حبة أو حبتين شد جونته فلم يبع شيئاً. فكنت أظن أن ذلك يقوته. فإذا وجد قوته لم يزد عليه شيئاً.
يونس بن محمد قال: مات حماد بن سلمة في المسجد وهو يصلي.
أسند حماد بن سلمة عن خلق لا يحصون من التابعين. وتوفي في سنة ثمان وستين ومائة.
أبو عبد الله التميمي عن أبيه قال: رأيت حماد بن سلمة في النوم فقلت: ما فعل بك ربك؟ قال: خيراً. قلت: وماذا؟ قال: قيل لي طال ما كددت نفسك فاليوم أطيل راحتك وراحة المتعوبين في الدنيا، بخ بخ ماذا أعددت لهم.
__________
1 ذكره العلامة الهندي في كنز العمال وعزاه لابن عساكر وابن النجار كنز العمال 46131.(2/214)
553 - الحسن بن أبي جعفر
أبو سعيد الجفري. واسم أبي جعفر عجلان.
أبو عمران التمار قال: غدوت يوماً قبل الفجر إلى مسجد الجفري فإذا باب المسجد مغلق وإذا حسن جالس يدعو، وإذا ضجة في المسجد وجماعة يؤمنون على دعائه وحسن يدعو. قال: فجلست على باب المسجد حتى فرغ من دعائه فقام فأذن وفتح باب المسجد فلم أر في
__________
553 - هو: الحسن بن أبي جعفر الجفري -بضم الجيم وسكون الفاء - البصري، ضعيف الحديث مع عبادته وفضله، من السابعة مات سنة سبع وستين.(2/214)
المسجد أحداً، فلما أصبح وتفرق عنه الناس قلت له: يا أبا سعيد إني والله رأيت عجباً. قال: ما رأيت؟ فأخبرته بالذي رأيت وسمعت. فقال: أولئك جن من أهل نصيبين يجيئون فيشهدون معي ختم القرآن كل ليلة جمعة ثم ينصرفون.
أسند الجفري عن أبي الزبير وثابت البناني وغيرهما. وتوفي سنة ستين وقيل سنة سبع وستين ومائة.(2/215)
554 - شداد المجذوم
عن مخلد بن الحسين قال: كان بالبصرة رجل يقال له شداد، أصابه الجذام فتقطع فدخل عليه عواده من أصحاب الحسن فقال: كيف تجدك؟ قال: بخير: أما إنه ما فاتني جزئي بالليل، وقد سقطت وما بي إلا أني لا أقدر أن أحضر صلاة الجماعة.
__________
554 - هو: شداد المجذوم، مشهور ومذكور في الراضين من العباد، انظر حلية الأولياء 10/153.(2/215)
الطبقة السادسة
حماد بن زيد بن درهم
...
ومن الطبقة السادسة من أهل البصرة:
555 - حماد بن زيد بن درهم
يكنى أبا إسماعيل.
عبد الرحمن بن مهدي قال: ما رأيت أحداً أعرف بالسنة من حماد بن زيد.
أمية بن بسطام قال: سمعت يزيد بن زريع يقول يوم مات حماد بن زيد: مات اليوم سيد المسلمين.
أسند حماد بن زيد عن خلق كثير من التابعين، وتوفي لعشر ليال خلون من رمضان سنة تسع وسبعين ومائة وهو ابن إحدى وثمانين سنة.
__________
555 - هو: حماد بن زيد بن درهم الأزدي الجهضمي، أبو إسماعيل البصري ثقة ثبت فقيه، قيل إنه كان ضريرا ولعله طرأ عليه، لأنه صح أنه كان يكتب، من كبار الثامنة مات سنة تسع وسبعين وله إحدى وثمانون سنة.(2/216)
556 - يزيد بن زريع
أبو معاوية العيشي، من بني عائش وهم من ولد بكر بن وائل.
أبو بكر المروزي قال: سمعت عبد الوهاب يقول: سمعت أبا سليمان الأشقر، وكفاك بأبي سليمان، يقول: تنزه يزيد بن زريع عن خمس مائة ألف من ميراث أبيه فلم يأخذه.
وقال المروزي: وسمعت أمية بن بسطام ابن عم يزيد بن زريع يقول: كان يزيد يعمل الخوص، وكان يكون في هذا البيت، وأشار إلى بيت لطيف في المسجد، وسمعت أبا الخطاب يذكر أن زريعاً كان والياً.
قال أحمد بن حنبل: يزيد بن زريع كان يعمل الخوص وكان أبوه زريع والي البصرة، ولم يكن يأكل من ماله شيئاً وما أتقنه وما أحفظه، وصدوق متقن.
سمع يزيد من أيوب ومن ابن عروبة وغيرهما. وتوفي بالبصرة سنة اثنتين وثمانين وقيل سنة سبع وسبعين ومائة.
__________
556 - هو: يزيد بن زريع -بتقديم الزاي - مصغر - البصري، أبو معاوية ثقة ثبت، من الثامنة، مات سنة اثنتين وثمانين.(2/216)
557 - يحيى بن سعيد القطان
يكنى أبا سعيد.
عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: حدثني يحيى القطان: وما رأت عيناي مثله.
سفيان قال: قال علي: كان يحيى يختم القرآن في يوم وليلة ما بين المغرب والعشاء.
يحيى بن معين قال: أقام يحيى بن سعيد عشرين سنة يختم القرآن في كل ليلة ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة، وما رئي يطلب جماعة قط.
عمرو بن علي قال: قلت ليحيى في مرضه الذي مات فيه، يعاقبك الله. فقال: أحبه إلي أحبه إلى الله عز وجل.
علي بن عبد الله قال: كنا عند يحيى بن سعيد فقال لرجل: اقرأ. فقرأ {حم} الدخان فلما أخذ في القراءة نظرت إلى يحيى بن سعيد يتغير فلما بلغ: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} الدخان صعق يحيى وغشي عليه وارتفع صدره من الأرض وتقوص وانقلب فأصاب الباب فقار ظهره وسال الدم وصرخ النساء. فخرجنا فوقفنا بالباب حتى أفاق بعد كذا وكذا. ثم دخلنا عليه فإذا هو نائم على فراشه وهو يقول: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} قال علي: فما زالت به تلك القرحة حتى مات رحمه الله.
أسند يحيى بن سعيد عن كبار الأئمة كالأعمش وابن جريج والثوري ومالك وغيرهم. وتوفي بالبصرة سنة ثمان وتسعين ومائة.
علي بن المديني قال: سنح لي ليلة خالد بن الحارث فقلت له: ما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي، إن الأمر شديد. قلت: فما فعل يحيى بن سعيد القطان؟ قال: نراه كما ترون، الكوكب الدري في أفق السماء.
__________
557 - هو: يحيى بن سعيد بن فروخ -بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وسكون الواو ثم معجمة - التميمي، أبو سعيد القطان البصري، ثقة متقن حافظ إمام قدوة، من كبار التاسعة، مات سنة ثمان وتسعين وله ثمان وسبعون.(2/217)
558 - رياح بن عمرو القيسي
يكنى أبا المعاصر.
يحيى بن راشد قال: حدثني محمد بن الحرب بن عبد ربه القيسي، وكان ذا قرابة لرياح، قال: كنت أدخل عليه المسجد وهو يبكي وأدخل عليه البيت وهو يبكي وآتيه في الجبان وهو يبكي، فقلت له يوماً: أنت دهرك في مأتم، فبكى ثم قال: يحق لأهل المصائب والذنوب أن يكونوا هكذا.
معاذ بن عون الضرير قال: كنت أكون قريباً من الجبان فكان يمر بي رياح القيسي بعد المغرب إذا خلت الطريق فكنت أسمعه وهو يتشنج بالبكاء وهو يقول: إلى كم يا ليل يا نهار تحطان من أجلي وأنا غافل عم يراد بي؟ إنا لله إن الله. فهو كذلك حتى يغيب عن وجهه.
علي بن الحسين بن أبي مريم قال: قال رياح القيسي: لي نيف وأرعون ذنباً قد استغفرت لكل ذنب مائة ألف مرة.
عن محمد بن يحيى قال: قال رياح القيسي، كما لا تنظر الأبصار إلى شعاع الشمس، كذلك لا تنظر قلوب محبي الدنيا إلى نور الحكمة أبداً.
مالك بن ضيغم قال: جاء رياح القيسي يسال عن أبي بعد العصر فقلنا هو نائم. فقال: أنوم في هذه الساعة؟ أهذا وقت نوم؟ ثم ولى منصرفاً. فأتبعناه رسولاً فقلنا: قل له ألا نوقظه لك؟ قال: فأبطأ علينا الرسول. ثم جاء وقد غربت الشمس فقلنا: أبطأ جداً. فهل قلت له؟ قال: هو كان أشغل من أن يفهم عني شيئاً، أدركته وهو يدخل المقابر وهو يعاتب نفسه ويقول: قلت: نوم هذه الساعة؟ أفكان هذا عليك؟ ينام الرجل متى شاء. وقلت: هذا وقت نوم؟ وما يدريك أن هذا ليس بوقت نوم؟ تسألين عما لا يعنيك وتتكلمين بما لا يعنيك، أما إن لله علي عهداً لا أنقضه أبداً. ألا أوسدك الأرض لنوم حولاً إلا لمرض حائل أو لذهاب عقل زائل، سوءة لك سوءة لك، أما تستحيين؟ كم توبخين وعن غيك لا تنتهين.
__________
558 - هو: رباح بن عمرو القيسي، رجل سوء قاله أبو داود، قال الذهبي: قلت: هو من زهاد المبتدعة بالكوفة، روى عن مالك بن دينار، وعنه روح بن عبد المؤمن، قال أبو زرعة: صدوق، قال عبيد الآجري: سألت أبا داود عنه فقال: هو وأبو حبيب وحيان الجريري ورابعة رابعتهم في الزندقة ميزان الاعتدال 3/91 ترجمة 2817.(2/218)
قال وجعل يبكي وهو لا يشعر بمكاني، فلما رأيت ذلك انصرفت وتركته.
محمد بن عبد الله قال: صليت مع رياح القيسي الظهر، فصليت إلى جانبه فجعلت دموعه تقع على البواري مثل الوكف: طق طق. قال وكان رياح ربما أخذ حفنة من تراب ثم يضعها على البوري ويسجد عليها. وربما وجد رياح في بعض السكك، وقد غشي عليه فيحمل إلى أهله مغشياً عليه.
محمد بن مسعر قال: كان لرياح القيسي غل من حديد قد اتخذه وكان إذا جنه الليل وضعه في عنقه وجعل يتضرع ويبكي حتى يصبح.
عثمان قال: أخبرتني مخة وكانت إحدى العوابد قالت: رأيت رياح بن عمرو القيسي ليلة خلف المقام فذهبت فقمت خلفه حتى أزحفت ثم اضطجعت وهو قائم، وأنا أنظر إليه، فقلت بصوت حزين: سبقني العابدون وبقيت وحدي، والهف نفساه، فإذا رياح قد شهق وانكب على وجهه مغشياً عليه. فامتلأ فمه رملاً، فما زال كذلك حتى أصبحنا ثم أفاق.
الحارث بن سعيد قال: أخذ بيدي رياح فقال: هلم يا أبا محمد حتى نبكي على مر الساعات ونحن على هذه الحال. قال وخرجت معه إلى المقابر، فلما نظر إلى القبور صرخ ثم خر مغشياً عليه، قال: فجلست والله عند رأسه أبكي فأفاق فقال: ما يبكيك؟ قلت: لما أرى بك. قال: لنفسك فابك. ثم قال: وانفساه، وانفساه، ثم غشي عليه.
قال: فرحمته والله مما نزل به فلم أزل عند رأسه حتى أفاق فوثب وهو يقول: {تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} {تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} النازعات.
ومضى على وجهه وأنا أتبعه لا يكلمني حتى انتهى إلى منزله فدخل وأصفق بابه ورجعت إلى أهلي ولم يلبث بعد ذلك إلا يسيراً حتى مات.
أسند رياح عن حسان بن أبي سنان وغيره.(2/219)
559 - عتبة الغلام وهو عتبة بن أبان بن صمعة
وإنما سمي بالغلام لجده واجتهاده لصغر سنه. وكان يفتل الشريط.
سوار أبو عبيدة قال: بكى عتبة الغلام في مجلس عبد الواحد بن زيد تسع سنين لا يفتر
__________
559 - هو: عتبة الغلام الزاهد، الخاشع، الخائف، عتبة بن أبان البصري، كان يشبه في حزنه بالحسن البصري انظر أعلام النبلاء 7/51.(2/219)
بكاء من حين يبتدئ عبد الواحد في الموعظة إلى أن يقوم لا يكاد يسكت عتبة. فقيل لعبد الواحد إنا لا نفهم كلامك من بكاء عتبة. قال: فأصنع ماذا؟ يبكي عتبة على نفسه وأنهاه أنا، لبئس واعظ قوم أنا.
سليم الحنيف قال: رمقت عتبة ذات ليلة بساحل البحر فما زاد ليلته تلك حتى أصبح على هذه الكلمات وهو قائم يقول: إن تعذبني فإني لك محب وإن ترحمني فإني لك محب، فلم يزل يرددها ويبكي حتى طلع الفجر.
أبو توبة قال: كان عتبة الغلام يأكل خبزاً وملحاً ويقول: العرس في الدار الأخرى.
عبد الله بن الفرج العابد قال: كان عتبة يعجن دقيقه ويجففه في الشمس ثم يأكله ويقول: كسرة وملح حتى نهنأ في الدار الأخرى الشواء والطعام الطيب.
سلمة الفراء قال: كان عتبة الغلام من نساك أهل البصرة وكان من أصحاب الفلق. وكان قد قوت لنفسه ستين فلقة يتعشى كل ليلة بفلقة ويتسحر بأخرى، وكان يصوم الدهر ويأتي السواحل والجبابين.
عن مخلد بن الحسين قال: كان عتبة يجالسنا فقال لنا يوماً: إنه لا يعجبني رجل لا يكون في يده حرفة. فقلنا: ما نراك تحترف. فقال: بلى رأس مالي طسوج أشتري به خوصاً أعمله وأبيعه بثلاثة طساسيج فطسوج رأس مالي وقيراط خبزي.
أبو عمر الضرير قال: سمعت رياحاً القيسي يقول: قال لي عتبة: يا رياح إن كنت كلما دعتني نفسي إلى الكلام تكلمت فبئس الناظر لها أنا. يا رياح إن لي موقفاً تغتبط فيه بطول الصمت عن الفضول.
مسلمة بن عرفجة العنبري قال: سمعت عنبسة الخواص يقول: كان عتبة الغلام يزورني فربما بات عندي. قال ذات ليلة فبكى من السحر بكاءاً شديداً فلما أصبح قلت له: قد فزعت قلبي الليلة ببكائك. فمم ذاك يا أخي؟ قال: يا عنبسة إني والله ذكرت يوم العرض على الله.
ثم مال ليسقط فاحتضنته فجعلت أنظر إلى عينيه تتقلبان قد اشتدت حمرتهما.
قال: ثم أزبد وجعل يخور فناديته: عتبة عتبة! فأجابني بصوت خفي: قطع ذكر يوم العرض على الله أوصال المحبين.
قال: ثم جعل يحشرج بالبكاء ويردد حشرجة الموت ويقول: تراك مولاي تعذب محبيك وأنت الحي الكريم؟ قال: فلم يزل يرددها حتى والله أبكاني.(2/220)
داود بن المحبر قال: سمعت عبد الواحد بن زيد يقول: ربما سهرت مفكراً في طول حزن عتبة، وقد كلمته ليرفق بنفسه فبكى وقال: إنما أبكي تقصيري.
الخليل بن عمرو البكري قال: سمعت مهدي بن ميمون يقول: خرجت في بعض الليالي إلى الجبان فإذا عتبة الغلام، فقال لي جئت؟ قد دعوت الله أن يجيء بك. قلت: أطعمنا رطباً. قال: فدعا فإذا دوخلة رطب بين أيدينا فأكلنا منه.
زيدان قال: قال عتبة الغلام: كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة.
عبد الله بن مبشر قال: دعا عتبة الغلام ربه أن يهب له ثلاث خصال في دار الدنيا: دعا الله أن يمن عليه بصوت حزين، ودمع غزير، وغذاء من غير تكلف.
قال: فكان إذا قرأ بكى وأبكى، وكانت دموعه جارية دهره، وكان يأوي إلى منزله فيصيب قوته لا يدري من أين يأتيه.
الحسن بن دعامة قال: رأيت عتبة الغلام إذا استحسن الطير دعاه فيجيء حتى يسقط على فخذه فيمسه ثم يسيبه فيطير.
عن عبد الواحد بن زيد قال: انطلقت أنا وعتبة الغلام في حاجة حتى إذا كنا برحبة القصابين جعلت أنظر إلى عتبة يعرق عرقاً شديداً حتى رشح وذلك في يوم شات شديد البرد فقلت: عتبة ترشح عرقاً في مثل هذا اليوم الشديد البرد؟ فسكت ولم يخبرني فقلت: بالذي بيني وبينك، ولم أزل به، فقال: ذكرت ذنباً أذنبته في هذا الموضع.
إبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي قال: سألت يوسف بن عطية فقلت له: ما كان لباس عتبة؟ قال: كان يلبس كساءين يأتزر بواحد ويرتدي بآخر، إذا رأيته قلت بعض الأكرة.
قال إبراهيم: كان عتبة عربياً شريفاً من عوذ.
قال إبراهيم: وحدثني مضر قال: قال رجل لعبد الواحد بن زيد، تعلم أحداً يمشي في الطريق مشتغلاً بنفسه؟ قال: ما أعرف إلا رجلاً واحداً الساعة يدخل عليكم. فدخل عتبة. قال: وطريقه على السوق فقال له: يا عتبة من تلقاك في الطريق؟ قال: ما رأيت أحداً.
قال عبد الواحد: وكان عتبة يسجد السجدة الطويلة على الحصا يوم الجمعة فما أراه يعقل بحره.
أحمد بن زهير المروزي قال: ركب عتبة في زورق مع قوم فأراد الملاح أن يعدل ببعضهم(2/221)
السفينة فلم يجد أحداً منهم أحقر في عينيه من عتبة: فضرب جنبه فقال: استو فقال عتبة: الحمد لله الذي لم ير فيهم أحقر في عينه مني.
أبو عبد الله الشحام قال: كان عتبة يبيت عندي. فقلت له: ما كانت عبادته؟ قال: كان يستقبل القبلة فلا يزال في فكر وبكاء حتى يصبح، وربما جاءني مساء فيقول: أخرج إلي شربة من ماء وتمرات أفطر عليها فيكون لك مثل أجري.
عبد الخالق العبدي قال: كان لعتبة بيت يتعبد فيه فلما خرج إلى الشام أقفله وقال: لا تفتحوه إلى أن يبلغكم موتي، فلما بلغهم قتله فتحوه فأصابوا فيه قبراً محفوراً وغلاً حديداً.
اشتغل عتبة بالعبادة عن الرواية وقتل شهيداً في بعض الغزوات.
قدامة بن أيوب، وكان من أصحاب عتبة، قال: رأيت عتبة الغلام في المنام فقلت: ما صنع الله بك؟ قال: يا قدامة دخلت الجنة بتلك الدعوات المكتوبة في بيتك، فلما أصبحت أتيت إلى بيتي فإذا خط عتبة في الحائط مكتوب: يا هادي المضلين وراحم المذنبين ومقيل عثرات العاثرين، ارحم عبدك ذا الخطر العظيم والمسلمين كلهم أجمعين، واجعلنا مع الأحياء المرزوقين، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين رب العالمين.(2/222)
560 - بشر بن منصور السليمي
العباس بن الوليد قال: أتينا بشر بن منصور بعد العصر فخرج إلينا وكأنه متغير. فقلت له: يا أبا محمد لعلنا شغلناك عن شيء؟ فرد رداً ضعيفاً ثم قال: ما أكتمكم، أو كلمة نحوها، كنت أقرأ في المصحف فشغلتموني. ثم قال: ما أكاد ألقى أحداً فأربح عليه شيئاً.
غسان بن المفضل قال: كان بشر بن منصور من الذين إذا رؤوا ذكر الله وإذا رأيت وجهه ذكرت الآخرة، رجل منبسط ليس بمتماوت ذكي فقيه، وكان بشر رجلاً من العرب وعلم بنيه عمل الخوص.
أسيد بن جعفر ابن أخي بشر بن منصور قال: ما رأيت عمي بشر بن منصور ما فاتته التكبيرة الأولى قط ولا رأيته قام في مسجدنا سائل قط فلم يعط شيئاً إلا أعطاه.
__________
560 - هو: بشر بن منصور السليمي -بفتح المهملة وبعد اللام تحتانية - أبو محمد الأزدي البصري، صدوق عابد زاهد من الثامنة، مات سنة ثمانين.(2/222)
زهير السجستاني قال: سمعت بشر بن منصور يقول: ما جلست إلى أحد ولا جلس إلي فقمت من عنده أو قام من عندي إلا علمت أني لو لم أقعد إليه أو يقعد إلي كان خيراً لي.
عبد الخالق أبو همام الزهراني قال: قال بشر بن منصور لرجل: أقلل من معرفة الناس فإنك لا تدري ما يكون، فإن كان شيء، يعني فضيحة في القيامة، كان من يعرفك قليلاً.
قال علي بن المديني: بلغني عن عبد الرحمن بن مهدي قال: قال بشر بن منصور: إني لأذكر الشيء من أمر الدنيا ألهي به نفسي عن ذكر الآخرة أخاف على عقلي.
عن ابن عيينة قال: قال رجل لبشر بن منصور: عظني، قال: عسكر الموتى ينتظرونك.
عبيس بن مرحوم قال: حدثتني عبدة بنت أبي شوال قالت: رأيت رابعة في المنام فقلت: ما فعل ضيغم: قالت: يزور الله عز وجل متى شاء. فقلت: ما فعل بشر بن منصور؟ قالت: بخ بخ أعطي والله فوق ما كان يأمل.
أسند بشر عن الثوري وغيره.(2/223)
561 - عبد العزيز بن سلمان
ويكنى أبا محمد.
أبو طارق التبان قال: كان عبد العزيز بن سلمان إذا ذكر القيامة والموت صرخ كما تصرخ الثكلى ويصرخ الخائفون من جوانب المسجد. قال: وربما رفع الميت والميتان من جوانب مجلسه.
مسمع بن عاصم قال: بت أنا وعبد العزيز بن سلمان وكلاب بن جري وسلمان الأعرج على ساحل من بعض السواحل فبكى حتى خشيت أن يموت، ثم بكى عبد العزيز لبكائه. ثم بكى سلمان لبكائهما. وبكيت والله لبكائهم لا أدري ما أبكاهم.
فلما كان بعد سألت عبد العزيز فقلت: أبا محمد ما الذين أبكاك ليلتك؟ قال: إني نظرت والله إلى أمواج البحر تموج فذكرت أطباق النيران وزفراتها فذاك الذي أبكاني. ثم سألت كلاباً وسلمان فقالا لي نحواً من ذلك.
قال مسمع: ما كان في القوم شر مني، ما كان بكائي إلا لبكائهم رحمة لما يصنعون بأنفسهم.
__________
561 - هو: عبد العزيز بن سلمان، الواله الهيمان، الخوف أضناه، والرجاء أسلاه، حلية الأولياء 6/262.(2/223)
عن محمد بن عبد العزيز بن سلمان قال: كان أبي إذا قام من الليل ليتهجد سمعت في الدار جلبة شديدة واستسقاء للماء الكثير. قال فنرى أن الجن كانوا يستيقظون للتهجد فيصلون معه.
محمد بن عبد العزيز سلمان العابد البصري قال: سمعت دهثماً، وكان من العابدين، يقول: اليوم الذي كنت لا آتي فيه عبد العزيز كنت مغبوناً فأبطأت عليه ذات يوم ثم أتيته فقال: ما الذي أبطأ بك؟ قلت: خير. قال: على حال. قلت: شغلنا العيال، كنت ألتمس لهم شيئاً. قال: فوجدته لهم؟ قلت: لا. قال: هلم فلندع، قال: فدعا وأمنت ودعوت وأمن. ثم نهضنا لنقوم فإذا والله الدنانير والدراهم تتناثر في حجورنا. فقال: دونكها ومضى ولم يلتفت إلي.
قال: فأخذتها فإذا مائة دينار ومائة درهم. قال محمد: فقلت له: ما صنعت بها؟ قال: احتبست قوت عيالي جمعة حتى لا يشغلني عن عبادته وشكره وخدمته فكر في شيء من عرض الدنيا، ثم أمضيتها والله في سبيل الله.
قال محمد: يحق والله أن يرزقوا بغير حساب.
أحمد بن أبي الحواري قال: أنبأنا عبد العزيز بن عمير قال: قيل لعبد العزيز الراسبي، وكانت رابعة تسميه سيد العابدين، ما بقي مما تلذ به؟ قال: سردان أخلو به فيه.
محمد بن عبد العزيز بن سلمان قال: حدثتني أمي قالت: قال أبوك: ما للعابدين وما للنوم؟ لا نوم والله في دار الدنيا إلا نوم غالب. قال: فكان والله لا يكاد ينام إلا مغلوباً.
محمد بن الحسين قال: حدثني محمد بن عبد العزيز بن سلمان قال: حدثني واقد الصفار قال: دعا عبد العزيز بن سلمان يوماً لمقعد كان في مجلسه وأمن إخوانه، قال: فوالله ما انصرف المقعد إلى أهله إلا ماشياً على رجليه.(2/224)
562 - مطهر السعدي
عبد العزيز بن سلمان العابد، وكان يرى الآيات والأعاجيب.
قال: حدثني مطهر السعدي، وكان قد بكى شوقاً إلى الله تعالى ستين عاماً، قال: أريت كأني على ضفة نهر يجري بالمسك الأذفر، حافتاه شجر لؤلؤ وقضبان الذهب، فإذا أنا بجوار مزينات يقلن بصوت واحد: سبحان المسبح بكل لسان، سبحانه، سبحان الموجود بكل مكان، سبحانه، سبحان الدائم في كل الأزمان، سبحانه.(2/224)
قال: فقلت: من أنتن؟ فقلن: خلق من خلق الرحمن سبحانه فقلت: ما تصنعن ههنا فقلن:
ذرانا إله الناس رب محمد ... لقوم على الأطراف بالليل قوم
يناجون رب العالمين إلههم ... فتسري هموم الدنيا والناس نوم
قال: فقلت: بخ بخ لهؤلاء، من هؤلاء؟ لقد أقر الله أعينكم بكن، فقلن: أو ما تعرفهم؟ قلت: لا والله ما أعرفهم. قلن: بلى هؤلاء المتهجدون أصحاب القرآن والسهر.(2/225)
563 - كلاب بن جري
حكيم بن جعفر قال: كان مسمع يحدثني بحالات كلاب بن جري فأسمع شيئاً ما كنت أرى أن يكون في هذه الأمة مثله، من شدة الخوف وطرب الشوق، فقلت له: يا أبا سيار فكيف كان ليله؟ قال: شهدته ليلة في بعض السواحل وهو يصرخ من أول الليل إلى آخره. فلما كان بعد ذلك قلت له: رحمك الله لقد أويت لك من طول ما كنت فيه ليلتك. قال: فبكى ثم قال: يا أبا سيار فبمن أستغيث إذاً؟ قال: فأبكاني والله.(2/225)
564 - عبد الله بن ثعلبة الحنفي
محمد بن علي الهاشمي قال: قال عبد الله بن ثعلبة الله يحفظك بأحراسه فإذا أصبحت غدوت على معاصيه خلافاً له؟ فإذا أمسيت أعاد حراسه عليك لا يمنعه ما كان منك.
يوسف بن أبي عبد الله قال: سمعت عبد الله بن ثعلبة يقول: تضحك؟ ولعل أكفانك قد خرجت من عند القصار.
عن حامد بن عمرو البكراوي قال: سمعت عبد الله بن ثعلبة يقول لسفيان بن عيينة: يا أبا محمد واحزناً على الحزن. فقال سفيان: هل حزنت قط لعلم الله فيك، فقال عبد الله: آه آه تركتني لا أفرح أبداً.
أبو الحسن البصري قال: أنا أبو عروة، وكان جاراً لعبد الله بن ثعلبة الحنفي حتى انمحق خداه من الدموع، وكان يقول:
لكل أناس مقبر بفنائهم ... فهم ينقصون والقبور تزيد
__________
564 - هو: التائه الكلفي، عبد الله بن ثعلبة الحنفي، هيمه الحب وتيمه القرب، انظر حلية الأولياء 6/264.(2/225)
وما إن تزال دار حي قد أخرجت ... وبيت لميت بالفناء جديد
فهم جيرة الأموات أما مزارهم ... فدان وأما الملتقى فبعيد
ولا نعرف لعبد الله مسنداً.(2/226)
565 - ناشرة بن سعيد الحنفي
مسمع بن عاصم قال: انطلقت أنا وعبد العزيز بن سلمان إلى ناشرة بن سعيد الحنفي؛ وكان قد بكى حتى أظلمت عيناه، فاستأذنا عليه فأذن لنا فدخلنا فسلم عليه عبد العزيز، فقال له ناشرة: أبو محمد؟ قال: نعم. قال: ما جاء بك؟ قال: نبكي معك على ما تقدم من سالف الذنوب. قال: فشهق شهقة خر مغشياً عليه، وجلس عبد العزيز يبكي عند رأسه.
قال: وتنادى أهله فجعلوا يبكون حوله وهو صريع بينهم. فلما رأيت البكاء قد كثر انسللت فخرجت.(2/226)
الطبقة السابعة
عبد الرحمن مهدي
...
ومن الطبقة السابعة من أهل البصرة:
566 - عبد الرحمن بن مهدي
يكنى أبا سعيد العنبري.
ويقال: هو مولى للأزد. ولد في سنة خمس وثلاثين ومائة.
علي بن المديني قال: كان عبد الرحمن بن مهدي يختم في كل ليلتين، وكان ورده في كل ليلة نصف القرآن.
هارون بن سفيان قال: سمعت عبيد الله بن عمر القواريري يقول: أملي علي عبد الرحمن بن مهدي عشرين ألف حديث حفظاً.
عبد الرحمن بن عمر قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: كان يقال إذا لقي الرجل من فوقه في العلم: كان يوم غنيمة، وإذا لقي من هو مثله دارسه وتعلم منه، وإذا لقي من هو دونه تواضع له وعلمه. ولا يكون إماماً في العلم في العلم من يحدث بكل ما سمع ولا يكون إماماً في العلم من يحدث عن كل أحد، ولا يكون إماماً في العلم من يحدث بالشاذ من العلم والحفظ والإتقان.
قال: وسمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: لولا أني أكره أن يعصى الله تمنيت أن لا يبقى في هذا المصر أحد إلا وقع في واغتابني، فأي شيء أهنأ من حسنة يجدها الرجل في صحيفته يوم القيامة لم يعملها ولم يعلم بها.
وسمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول، وأراد أن يبيع أرضاً له فقال الدلال: أعطيت بالجريب خمسين ومائتي دينار ولكن نظر إلى أرض خراب ونخل بادية العروق، فلولا كانت مسمدة رجوت أن أبيع الجريب بفضل خمسين ديناراً وهذا كثير أربعة آلاف دينار؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} المائدة: 100 لا ولا كذا. أظنه قال: ولا مائة ألف.
__________
566 - هو: عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري مولاهم، أبو سعيد البصري ثقة ثبت حافظ عارف بالرجال والحديث، قال ابن المديني: ما رايت أعلم منه، من التاسعة، مات سنة ثمان وتسعين وهو ابن ثلاث وسبعين.(2/227)
قال عبد الرحمن بم عمر: وحدثني يحيى بن عبد الرحمن بن مهري أن أباه كان يحيى الليل كله.
قال عبد الرحمن بن عمر: وسمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: والله لا تجد فقد شيء تركته ابتغاء وجه الله، كنت أنا وأخي شريكين فأصبنا مالاً كثيراً فدخل قلبي من ذلك شيء فتركته لله وخرجت منه فما خرجت من الدنيا حتى رد الله علي ذلك المال عامة إلي وإلى ولدي، زوج أخي ثلاث بنات من بني وزوجت ابنتي من ابنه، ومات أخي فورثه أبي، ومات أبي فورثنه أنا، فرجع ذلك كله إلي وإلى ولدي في الدنيا.
أسند عبد الرحمن عن الأئمة كمالك بن أنس والثوري وشعبة والحمادين، وقد أدرك جماعة من التابعين منهم: جرير بن حازم، والمثنى بن سعيد، وصالح بن درهم. وتوفي بالبصرة في جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائة، وهو ابن ثلاث وستين سنة.(2/228)
567 - عفان بن مسلم أبو عثمان الصفار
جمع بين العلم والتقى.
صالح بن أحمد بن عبد الله العجلي قال: ثنا أبي قال: عفان بن مسلم بصري ثقة ثبت، صاحب سنة، جعل له عشرة آلاف دينار على أن يقف عن تعديل رجل ولا يقول: عدل ولا غير عدل. فأبى وقال: لا أبطل حقاً من الحقوق.
حنبل بن إسحاق قال: سمعت عفان يقول: دعاني إسحاق بن إبراهيم فقرأ علي الكتاب الذي كتب به المأمون وإذا فيه: امتحن عفان وادعه إلى أن يقول: القرآن كذا وكذا. فإن قال ذلك فأقرأه على أمره وإن لم يجبك فاقطع عنه الذي يجري عليه وكان يجري عليه خمسمائة درهم كل شهر.
قال عفان: فقال لي: ما تقول؟ فقرأت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} الإخلاص: 1 حتى ختمتها وقلت: مخلوق هذا؟ فقال: إن أمير المؤمنين يقول إن لم تجبه يقطع عنك ما يجرى عليك فقلت يقول الله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} الذاريات فسكت عني، فانصرفت.
__________
567 - هو: عفان بن مسلم بن عبد الله الباهلي، أبو عثمان الصفار، البصري ثقة ثبت، قال ابن المديني: كان إذا شك في حرف من الحديث تركه، وربما وهم، وقال ابن معين: أنكرناه في صفر سنة تسع عشرة، ومات بعدها بيسير، من كبار العاشرة.(2/228)
أسند عفان عن جماعة من الأئمة كشعبة والحمادين. وتوفي ببغداد في سنة عشرين ومائتين، وقيل تسع عشرة، وله خمس وثمانون سنة.(2/229)
568 - زهير بن نعيم الباني
يكنى أبا عبد الرحمن.
أحمد بن عصام قال: قال زهير بن نعيم: عن هذا الأمر لا يتم إلا بشيئين: الصبر واليقين، فإن كان يقين ولم يكن معه صبر لم يتم، وإن كان صبر ولم يكن معه يقين لم يتم، وقد ضرب لهما أبو الدرداء مثلاً فقال: مثل اليقين والصبر مثل فدادين يحفران الأرض فإذا جلس واحد جلس الآخر.
قال أحمد بن عصام: وسمعت خالي عبد العزيز بن يوسف يقول: أردت الخروج من البصرة فبدأت بيحيى بن سعيد فودعته ثم ودعت عبد الرحمن بن مهدي، ثم ودعت زهيراً فقلت: هل من حاجة؟ فقال: نعم إلا أنها مهمة. قال: ففرحت. فقال: إتق الله، فوالله لأن يتقيه عبد أحب غلي من أن تتحول هذه السواري كلها ذهباً.
عبد الرحمن بن عمر قال: انتهى إلينا يوماً رجل من هؤلاء الخبثاء القدرية فقال له: يا أبا عبد الرحمن بلغني انك رجل زنديق. فقال له زهير: أما زنديق فلا، ولكني رجل سوء.
عبد الله بن عبد الغفار الكرماني قال: سمعت زهير بن نعيم الباني يقول: لوددت أن جسدي قرض بالمقاريض وأن هذا الخلق أطاع الله.
عبد الله بن عبد الغفار الكرماني قال: دخلت على زهير بن نعيم الباني وقد سقط من سطح، وقد تهشم وجهه، وهو مكفوف فقلت: يا أبا عبد الرحمن كيف خبرك قال: هو ذا تراني كيف أنا وهي الدنيا فليجهد جهدها.
محمد بن يونس بن موسى قال: سمعت زهير بن نعيم الباني. وقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن توصي بشيء؟ قال: نعم إحذر أن يأخذك الله وأنت على غفلة.
__________
568 - هو: زهير بن نعيم البابي -بموحدتين - السلولي، أبو عبد الرحمن السجستاني، نزيل البصرة عابد من كبار العاشرة مات بعد المائتين.
قال الشيخ شعيب: لم يذكر مرتبته، وليس له رواية في الكتب الستة وإنما روى له أبو داود في كتاب الشمائل عن سلام بن أبي مطيع قوله: الجهمية كفار لا يصلى خلفهم ويغلب على الظن أنه إلى الضعف أقرب، التحرير 1/421.(2/229)
569 - أبو عبد الله الحربي الزاهد
إبراهيم بن شبيب بن شيبة قال: كنا نتجالس في الجمعة فأتى رجل عليه ثوب واحد ملتحف به فجلس إلينا فألقى مسألة فما زلنا نتكلم في الفقه حتى انصرفنا. ثم جاءنا في الجمعة المقبلة فأحببناه وسألناه عن منزله فقال: أنزل الحربية فسألناه عن كنيته فقال: أبو عبد الله. فرغبنا في مجالسته ورأينا مجلسنا مجلس فقه.
فمكثنا بذلك زماناً ثم انقطع عنا فقال بعضنا لبعض: ما حالنا؟ قد كان مجلسنا عامراً بأبي عبد الله وقد صار موحشاً فوعد بعضنا بعضاً إذا أصبحنا أن نأتي الحربية فنسأل عنه. فأتينا الحربية وكنا عدداً فجعلنا نستحي أن نسأل عن أبي عبد الله فنظرنا إلى صبيان قد انصرفوا من الكتاب فقلنا: أبو عبد الله. فقالوا: لعلكم تعنون الصياد؟ قلنا نعم. قالوا هذا وقته الآن يجيء. فقعدنا ننتظره فإذا هو قد أقبل مؤتزراً بخرقة وعلى كتفه خرقة ومعه أطيار مذبحة وأطيار أحياء. فلما رآنا تبسم إلينا وقال: ما جاء بكم؟ فقلنا: فقدناك وقد كنت غمرت مجلسنا فما غيبك عنا؟ قال: إذاً أصدقكم.
كان لنا جار كنت أستعير منه كل يوم ذاك الثوب الذي كنت آتيكم فيه وكان غريباً فخرج إلى وطنه فلم يكن لي ثوب آتيكم فيه هل لكم أن تدخلوا المنزل فتأكلوا مما رزق الله عز وجل؟ فقال بعضنا لبعض: ادخلوا منزله فجاء إلى الباب فسلم ثم صبر قليلاً ثم دخل فأذن لنا فدخلنا فإذا هو قد أتى بقطع من البواري فبسطها لنا فقعدنا فدخل إلى المرأة فسلم إليها الأطيار المذبحة وأخذ الأطيار الأحياء ثم قال: أنا آتيكم إن شاء الله عن قريب فأتى السوق فباعها واشترى خبزاً فجاء وقد صنعت المرأة ذلك الطير وهيأته فقدم إلينا خبزاً ولحم طير فأكلنا فجعل يقوم فيأتينا بالملح والماء فكلما قام قال بعضنا لبعض: رأيتم مثل هذا؟ ألا تغيرون أمره وأنتم سادة أهل البصرة؟ فقال أحدهم: علي خمسمائة. وقال الآخر: علي ثلثمائة. وقال هذا وقال هذا، وضمن بعضهم أن يأخذ له غيره. فبلغ الذي جمعوا في الحساب خمسة آلاف درهم فقالوا: قوموا بنا نذهب فنأتيه بهذا ونسأله أن يغير بعض ما هو فيه.
فقمنا فانصرفنا على حالنا ركباناً فمررنا بالمربد فإذا محمد بن سليمان أمير البصرة قاعد في منظرة له فقال: يا غلام ائتني بإبراهيم بن شبيب بن شيبة من بين القوم. فجئت فدخلت عليه فسألني عن قصتنا ومن أين أقبلنا فصدقته الحديث. فقال: أنا أسبقكم إلى بره،(2/230)
يا غلام ائتني ببدرة دراهم فجاء بها فقال: ائتني بغلام فراش فجاء فقال: احمل هذه البدرة مع هذا الرجل حتى تدفعها إلى من أمرنا.
ففرحت ثم قمت مسرعاً فلما أتيت الباب سلمت فاجابني أبو عبد الله ثم خرج إلي. فلما رأى الفراش والبدرة على عنقه كأني سفيت في وجهه الرماد وأقبل علي بغير الوجه الأول فقال: ما لي ولك يا هذا؟ أتريد أن تفتنني؟ فقلت: يا عبد الله اقعد حتى أخبرك أنه من القصة كذا وكذا، وهو الذي تعلم أحد الجبارين، يعني محمد بن سليمان، ولو كان أمري أن أضعها حيث أرى لرجعت إليه فأخبرته إني قد وضعتها. فالله الله في نفسك. فازداد علي غيظاً وقام فدخل منزله وأصفق الباب في وجهي، فجعلت أقدم وأؤخر ما أدري ما أقول للأمير. ثم لم أجد بداً من الصدق فجئت فأخبرته الخبر فقال: حروري والله، يا غلام علي بالسيف. فجاء بالسيف فقال له: خذ بيد هذا الغلام حتى يذهب بك إلى هذا الرجل فإذا أخرجه إليك فاضرب عنقه وائتني برأسه، قال إبراهيم: فقلت أصلح الله الأمير، الله الله، فوالله لقد رأينا رجلاً ما هو من الخوارج ولكني أذهب فآتيك به وما أريد بذلك إلا افتداء منه. قال فضمننيه فمضيت حتى أتيت الباب فسلمت فإذا المرأة تحن وتبكي، ثم فتحت الباب وتوارت فأذنت لي فدخلت فقالت: ما شأنكم وشأن أبي عبد الله؟ فقلت: ما حاله؟ قالت: دخل فمال إلى الركى فنزع منها ماء فتوضأ ثم سمعته يقول: اللهم اقبضني إليك ولا تفتني. ثم تمدد وهو يقول ذلك.
فلحقته وقد قضى فهو ذاك ميت. فقلت: يا هذه إن لنا قصة عظيمة فلا تحدثوا فيه شيئاً. فجئت محمد بن سليمان وأخبرته الخبر فقال: أنا أركب فأصلي على هذا.
قال: وشاع خبره بالبصرة فشهده الأمير وعامة أهل البصرة. رحمة الله عليه.(2/231)
وممن تأخر عن هذه الطبقة
أبو الحسن البصري
...
وممن تأخر عن هذه الطبقات:
570 - أبوا الحسن البصري
أصله من مكة وسكن البصرة وإنما يعرف بالمكي.
أنبأنا محمد بن أبي القاسم علي بن المحسن التنوخي عن أبيه قال: كان أبو الحسن المكي يسف الخوص وكان لا يملك إلا داراً فلما ضعف عن سف الخوص باعها على شرط أن يكريه المشتري إياها وأودع الثمن عند المشتري، وكان يأخذ منه في كل شهر خمسة دراهم لنفقته ويعطي المشتري أجرة الدار. فمات قبل أن ينفذ الثمن، وكانت له جبة صوف بيضاء أقامت معه عشرين سنة شتاء وصيفاً ما لبس غيرها، وكانت في نهاية الحسن والنقاء والنظافة والصحة. وكان موته حوالي سنة خمسين وثلثمائة وكانت جنازته عظيمة.
__________
570 - هو: أبو الحسن البصري، علي بن بكار المصيصي،..... صدوق من العاشرة مات في حدود الأربعين.(2/232)
ذكر المصطفين من عباد البصرة المجاهيل الأسماء
571 - عابد
عن الحسن قال: احترقت أخصاص بالبصرة وبقي في وسطها خص لم يحترق وأمير البصرة يومئذ أبو موسى الأشعري. فخبر بذلك فبعث إلى صاحب الخص فأتي به فإذا شيخ فقال: يا شيخ ما بال خصك لم يحترق؟ قال: إني أقسمت على ربي أن لا يحرقه فقال أبو موسى: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يكون في أمتي رجال طلس رؤوسهم، دنس ثيابهم، لو أقسموا على الله لأبرهم" 1.
572 - عابد آخر
قال إبراهيم بن عبد الله بن المديني: قيل للحسن: ههنا رجل لم نره قط جالساً إلى أحد إنما هو أبداً خلف سارية وحده. فقال الحسن: إذا رأيتموه فأخبروني به. قال فمر به ذات يوم ومعهم الحسن فأشاروا له إليه فقالوا: ذلك الرجل الذي أخبرناك. فقال: امضوا حتى آتيه. فلما جاءه قال: يا عبد الله أراك قد حببت إليك العزلة فما يمنعك من مخالطة الناس؟ قال: ما أشغلني عن الناس. قال: فيأتي هذا الرجل الذي يقال له الحسن فتجلس إليه. قال ما أشغلني عن الحسن وعن الناس. قال: له الحسن: فما الذي شغلك -يرحمك الله - عن الناس وعن الحسن؟ قال: إني أمسي وأصبح بين ذنب ونعمة، فرأيت أن أشغل نفسي عن الناس بالاستغفار للذنب والشكر لله على النعمة. فقال له الحسن: أنت يا عبد الله أفقه عندي من الحسن، الزم ما أنت عليه.
573 - عابد آخر
عطية بن سليمان قال: صليت الجمعة ثم انصرف فجلست إلى يونس بن عبيد حتى صلينا العصر فقال: هل لكم في جنازة فلان؟ فمشينا إلى ناحية بني سعد فصلينا على الجنازة ثم قال: هل لكم في فلان العابد نعوده فأتينا رجلاً قد وقعت في فيه الخبيثة حتى أبدت عن أضراسه فكان إذا أراد أن يتكلم دعا بعقب من ماء وبقطنة فيبل لسانه حتى يبتل ثم يتكلم بكلمات يحسن فيهن.
__________
1 أخرجه الديلمي في مسنده انظر كنز العمال 3/158 رقم 5954.(2/233)
فلما دخلنا عليه دعا بالقدح ليفعل ما كان يفعل، فبينا هو يبل لسانه سقطت حدقتاه في القدح فأخذهما فمر بهما بيده ثم قال: إني لأجد فيهما دسماً وما كنت أظنه بقي فيهما. ثم استقبل القبلة فقال: الحمد لله الذي أعطانيهما وأمتعني بهما شبابي وصحتي حتى إذا أفنيت أيامي وحضر أجلي أخذهما مني ليبدلني بهما إن شاء الله خيراً منهما. فقال له يونس: قد كنا تهيأنا لنعزيك فنحن الآن نهنئك فقال خيراً ودعا. ثم خرجنا من عنده.
574 - عابد آخر
محمد بن عبد الرحمن عن الرجل الذي حدثه أنهم كانوا بالبصرة في شدة قحط الناس فيها وغلا سعرهم واحتبس عنهم المطر فخرجوا يستسقون، وخرجت اليهود والنصارى، فاعتزلت اليهود معهم التوراة، واعتزلت النصارى معهم الإنجيل، واعتزل المسلمون، كلهم يدعون وانصرفوا يومهم ذلك.
قال: فبينا أنا بعد ذلك أمشي في طريق المريد نظرت فإذا بين يدي فتى عليه أطمار، تقيلة النفس فهو يمشي وأنا خلفه حتى خرج إلى الجبان فدخل بعض تلك المساجد التي بالقرب من المقابر ودخلت خلفه تحول بيني وبينه أركان المسجد فصلى ركعتين ثم رفع يديه يدعو، وقال في دعائه: يا رب استغاث بك عبادك فلم تسقهم، يا رب الآن شمتت بنا اليهود والنصارى، أقسمت عليه يا رب إلا سقيتنا الساعة ولم تردني.
قال: فما برح يدعو حتى جاءت السحابة ومطرنا فخرج وخرجت في أثره لأعرف موضعه فجاء إلى دار فيها أخصاص وأكواخ فيها سكان فدخل بيتاً منها فعرفت موضعه. فانصرفت عنه وهيأت دراهم في صرة ثم جئت فاستأذنت عليه فدخلت فإذا ليس في البيت إلا قطعة حصير ومطهرة فيها ماء وإذا هو قاعد يعمل الخوص فسلمت فرحب بي وبش فتحدثت ساعة ثم أخرجت الصرة وقلت: رحمك الله انتفع بهذه فتبسم وقال: جزاك الله خيراً أنا في غنى عنها. فألححت عليه فجعل يدعو ويأبى أن يأخذها. فلما أكثرت عليه تنكر لي وقال: حسبك الآن ليس بي إليها حاجة. قال: فأقبلت عليه وقلت: رحمك الله إن لي عليك حقاً قال: وما هو رحمك الله؟ قلت: كنت أسمع دعاءك حين خرجت إلى الجبان. قال: فاصفر وجهه حتى أنكرته وساءه ما قلت له. ثم خرجت من عنده.
فلما كان بعد ذلك بأيام أتيته فلما دخلت الدار جعل سكان الدار يصيحون بقيم الدار: هو(2/234)
ذا هو قد جاء. فجاء إلي فتعلق بي وقال: يا عدو نفسه ما صنعت بذاك الفتى الذي جئته اليوم الأول؟ أي شيء أسمعته؟ قلت: لا تعجل حتى أخبرك بالحديث، فقال: إنك لما خرجت من عنده قام في الحال فأخذ حصيره ومطهرته وودعنا وخرج ولم يعد إلينا إلى الساعة لا ندري أين توجه؟
575 - عابد آخر
عن مالك بن دينار قال: احتبس علينا المطر بالبصرة فخرجنا يوماً بعد يوم نستسقي فلم نر أثراً لإجابة. فخرجت أنا وعطاء السليمي وثابت البناني ومحمد بن واسع وحبيب الفارسي وصالح المرب وآخرين حتى صرنا إلى المصلى بالبصرة فاستسقينا فلم نر أثراً لإجابة. وانصرف الناس وبقيت أنا وثابت في المصلى فلما أظلم الليل إذا بأسود دقيق الساقين عظيم البطن عليه مئزران من صوف، فجاء إلى ماء فتمسح ثم صلى ركعتين خفيفتين ثم رفع طرفه إلى السماء فقال: سيدي إلى كم ترد عبادك فيما لا ينقصك أنفد ما عندك؟ أقسمت عليك بحبك لي إلا ما سقيتنا غيثك الساعة الساعة.
فما أتم الكلام حتى تغيمت السماء وأخذتنا كأفواه القرب فما خرجنا حتى خضنا الماء. فتعجبنا من الأسود فتعرضت له فقلت: أما تستحيي ما قلت؟ قال: وما قلت؟ قلت قولك: بحبك لي، وما يدريك أنه يحبك؟ قال: تنح عن همتي يا من اشتغل عنه بنفسه أين كنت أنا حين خصني بتوحيده ومعرفته؟ أتراه بدأني بذلك إلا لمحبته لي؟ ثم بادر يسعى. فقلت: ارفق بنا. قال: أنا مملوك علي فرض من طاعة مالكي الصغير. فدخل دار نحاس فلما أصبحنا أتيت النحاس فقلت له: عندك غلام تبيعنيه للخدمة؟ قال: نعم عندي مائة غلام فجعل يخرج إلى واحداً بعد واحد وأنا أقول غير هذا. إلى أن قال: ما بقي عندي أحد فلما خرجنا إذا الأسود قائم في حجرة خربة فقلت: يعني هذا. قال: هذا غلام مشؤوم لا همة له إلا بالبكاء فقلت: ولذلك أريده فدعاه وقال لي: خذه بما شئت بعد أن تبرئني من عيوبه. فاشتريته بعشرين ديناراً. فلما خرجنا قال: يا مولاي لماذا اشتريتني؟ قلت: لنخدمك نحن. قال: ولم ذاك؟ قلت: أليس أنت صاحبنا البارحة في المصلى؟ قال: وقد اطلعت على ذلك فجعل يمشي حتى دخل مسجداً فصلى ركعتين ثم قال: إلهي وسيدي سر كان بيني وبينك أظهرته للمخلوقين، أقسمت عليك إلا قبضت روحي الساعة. فإذا هو ميت فبقبره نستسقي ونطلب الحوائج إلى يومنا هذا.(2/235)
576 - عابد آخر
حصين بن قاسم الوزان قال: كنا عند عبد الواحد وهو يعظ فناداه رجل من ناحية المسجد كف يا أبا عبيدة فقد كشفت قناع قلبي فلم يلتفت عبد الواحد ومر في الموعظة. فلم يزل الرجل يقول: كف يا أبا عبيدة فقد كشفت قناع قلبي وعبد الواحد يعظ ولا يقطع وموعظته حتى والله حشرج الرجل حشرجة الموت، ثم خرجت نفسه.
قال: فأنا والله شهدت جنازته يومئذ فما رأيت بالبصرة يوماً أكثر باكياً من يومئذ.
577 - عابد آخر
عن يزيد الرقاشي قال: دخلت على عابد بالبصرة وإذا أهل بيته حوله فإذا هو مجهود قد أجهده الاجتهاد. قال: فبكى أبوه فنظر إليه ثم قال: أيها الشيخ، ما الذي يبكيك؟ قال: يا بني أبكي فقدك وما أرى من جهدك. قال: فبكت أمه. فقال: أيتها الوالدة الشفيقة الرفيقة ما الذي يبكيك؟ قال: يا بني أبكي فراقك وما أتعجل من الوحشة بعدك.
قال: فبكى أهله وصبيانه. فنظر إليهم ثم قال: يا معشر اليتامى بعد قليل، ما الذي يبكيكم؟ قالوا: يا أبانا نبكي فراقك وما نتعجل من اليتم بعدك. قال: فقال: أقعدوني أقعدوني ألا أرى كلكم يبكي لدنياي أما فيكم من يبكي لآخرتي؟ أما فيكم من يبكي لما يلقاه في التراب وجهي؟ أما فيكم من يبكي لمساءلة منكر ونكير وإياي؟ أما فيكم من يبكي لوقوفي بين يدي الله ربي؟ قال: ثم صرخ صرخة فمات.
578 - عابد آخر
عبد الواحد بن زيد قال: خرجت إلى ناحية الحربية فإذا إنسان أسود مجذوم قد تقطعت كل جارحة له بالجذام وعمي وأقعد وإذا صبيان يرمونه بالحجارة حتى دموا وجهه. فرأيته يحرك شفتيه فدنوت منه لأسمع ما يقول فإذا هو يقول: يا سيدي إنك لتعلم أنك لو قرضت لحمي بالمقاريض ونشرت عظامي بالمناشير ما ازددت لك إلا حباً فاصنع بي ما شئت.
579 - عابد آخر
فضيل أبو حاتم قال: لما كان حريق عرماز، كان رجل في خص له يسف خوصاً، والنار قد أحدقت به فلم يضره. فقيل له في ذلك فقال: إني عزمت على رب النار أن لا يحرقني بالنار. قيل له فاعزم عليه أن يطفئها. قال: ففعل. فلم تلبث النار أن طفئت.(2/236)
580 - عباد سبعة
عن صالح المري قال: قدم علينا ابن السماك مرة فقال لي: أرني بعض عجائب عبادكم فذهبت به إلى رجل في بعض الأحياء في خص له فاستأذنا عليه فدخلنا، فإذا رجل يعمل خوصاً له فقرأت {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} غافر فشهق الرجل فإذا هو قد يبس مغشياً عليه.
فخرجنا من عنده وتركناه على حاله وذهبنا إلى آخر فاستأذنا عليه فقال: ادخلوا إن لم تشغلونا عن ربنا. فدخلنا فإذا رجل جالس في مصلى له فقرأت: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} إبراهيم فشهق شهقة بدر الدم من منخريه ثم جعل يتشحط في دمه حتى يبس، فخرجنا من عنده وتركناه على حاله، حتى أدرته على ستة أنفس، كل نخرج من عنده وهو على هذه الحالة.
ثم أتيت به السابع فاستأذنت فإذا امرأة له من وراء الخص تقول: ادخلوا. فدخلنا فإذا شيخ فان جالس في مصلاة فسلمنا فلم يعقل سلامنا. فقلت بصوت عال: إن للخلق غداً مقاماً. فقال الشيخ بين يدي من ويحك؟ ثم بقي مبهوتاً فاتحاً فاه شاخصاً بصره يصيح بصوت له ضعيف حتى انقطع. فقالت امرأته: اخرجوا عنه فإنكم ليس تنتفعون به الساعة.
فلما كان بعد ذلك سألت عن القوم فإذا ثلاثة قد أفاقوا وثلاثة قد لحقوا بالله عز وجل، وأما الشيخ فإنه مكث ثلاثة أيام على حالته مبهوتاً متحيراً لا يؤدي فرضاً فلما كان بعد ثالثة عقل.
581 - عابدان
ابن سماك قال: دخلت البصرة فقلت لرجل كنت أعرفه دلني على عبادكم. فأدخلني على رجل عليه لباس الشعر، طويل الصمت لا يرفع رأسه إلى أحد. قال فجعلت أستنطقه الكلام فلا يكلمني. فخرجت من عنده فقال لي صاحبي: ههنا ابن عجوز هل لك فيه؟ قال: فدخلنا عليه فقالت العجوز: لا تذكروا لابني شيئاً من ذكر جنة ولا نار فتقتلوه علي فإنه ليس لي غيره، قال: فدخلنا على شاب عليه من اللباس نحو مما على صاحبه منكس الرأس طويل الصمت فرفع رأسه فنظر إلينا ثم قال: أما إن للناس موقفاً لا بد أن يقفوه قال: فقلت بين يدي من رحمك الله؟ قال: فشهق شهقة فمات، قال ابن السماك فجاءت العجوز فقالت: قتلتم ولدي. قال: فكنت فيمن صلى عليه.(2/237)
582 - عابد آخر
أبو عبد الله خرزي قال قلت لمحمد بن السماك: أخبرني عن أعجب شيء رأيته من الخائفين. قال: اشتقت إلى عباد البصرة فأتيت الربيع بن صبيح فنزلت عليه ثم قلت له: هل تعرف ههنا أحداً من الخائفين؟ قال: نعم ههنا زاهد يقال إنه من الخائفين قلت له فبكر بنا إذا صلينا. قال فبكرنا إلى بعض زوايا البصرة فدق باباً فخرجت عجوز فسلم عليها ثم قال: ما فعل ابنك؟ قالت إن ابني قد نسي الدنيا. قال: أتأذنين لنا أن ندخل عليه؟ قالت: بشرط أن لا تذكروا له القيامة. قال: فأذنت لنا فدخلنا فإذا شاب عليه مدرعة شعر، في عنقه طوق وسلسلة مشدودة بسارية البيت، فإذا قبر محفور وإذا هو جالس على شفير قبره ينظر في لحده فقال الربيع: يا هذا أخوك محمد بن السماك المذكر أتاك زائراً. فالتفت إليه فقال: ما أنت قائل؟ فتلجلج لساني وهنت فجهدت الجهد أن أنطلق فما قدرت. فخرجنا يومئذ ثم عدت في اليوم الثاني فإذا هو على حالته التي رأيناها أمس فالتفت إلي فقال: ما أنت قائل؟ فتلجلج لساني. ثم قلت إن للعباد مقاما. قال: ويحج عند من؟ قلت: عند مالك الملوك. فشهق شهقة فإذا هو ميت في قبره.(2/238)
ومن عقلاء المجانين بالبصرة:
583 - رجل لم يعرف اسمه
أبو أحمد بن روح قال حدثني بعض أصحابنا قال: رأيت مجنوناً بالبصرة قد نظر إلى جنازة فأنشأ يقول:
وصف الطبيب فهم بما ... وصف الطبيب يعالجونه
يرجون صحة جسمه ... هيهات مما يرتجونه
قال: ثم غلبه البكاء ومضى.(2/239)
ذكر المصطفات من عابدات البصرة
معاذة بنت عبد الله العدوية
...
ذكر المصطفيات من عابدات البصرة
584 - معاذة بنت عبد الله العدوية
وتكنى أم الصهباء.
محمد بن فضيل قال: حدثنا أبي قال: كانت معاذة العدوية إذا جاء النهار قالت: هذا يومي الذي أموت فيه، فما تنام حتى تمسي وإذا جاء الليل قالت: هذه ليلتي التي أموت فيها فلا تنام حتى تصبح وإذا جاء البرد لبست الثياب الرقاق حتى يمنعها البرد من النوم.
الحكم بن سنان الباهلي قال: حدثتني امرأة كانت تخدم معاذة العدوية قالت: كانت تحيي الليل صلاة فإذا غلبها النوم قامت فجالت في الدار وهي تقول: يا نفس، النوم أمامك لو قدمت لطالت رقدتك في القبر على حسرة أو سرور. قالت: فهي كذلك حتى تصبح.
قال عبد الرحمن بن عمرو الباهلي: وحدثتنا دلال ابنة أبي المدل قالت: حدثتني آسية بنت عمرو العدوية قالت: كانت معاذة العدوية تصلي في كل يوم وليلة ستمائة ركعة وتقرأ جزءها من الليل تقوم به. وكانت تقول عجبت لعين تنام وقد عرفت طول الرقاد في ظلم القبور.
الحسن بن علي بن مسلم الباهلي قال: سمعت أبا السور العدوي يقول: بنو عدي أشد أهل هذه البلدة اجتهاداً، هذا أبو الصهباء لا ينام ليله ولا يفطر نهاره، وهذه امرأته معاذة ابنة عبد الله لم ترفع رأسها إلى السماء أربعين عاماً.
عن زهير السلولي، عن رجل من بني عدي، عن امرأة منهم أرضعتها معاذة ابنة عبد الله قالت: قالت لي معاذة: يا بنية كوني من لقاء الله عز وجل على حذر ورجاء، وإني رأيت الراجي له محقوقاً بحسن الزلفى لديه يوم يلقاه، ورأيت الخائف له مؤملاً للأمان يوم يقوم الناس لرب العالمين ثم بكت حتى غلبها البكاء.
حماد بن سلمة قال: أنبأ ثابت البناني أن صلة بن أشيم كان في مغزى له ومعه ابن له، فقال: أي بني تقدم فقاتل حتى أحتسبك. فحمل فقاتل حتى قتل ثم تقدم فقتل فاجتمعت النساء عند امرأته معاذة العدوية فقالت: مرحباً، إن كنتن جئتن لتهنئتي، فمرحباً بكن وإن كنتن جئتن بغير ذلك فارجعن.
__________
584 - هي: معاذة بنت عبد الله، أم الصهباء البصرية، ثقة، من الثالثة.(2/240)
سلمة بن حسان العدوي قال: أنبأ الحسن أن معاذة لم توسد فراشاً بعد أبي الصهباء حتى ماتت.
عمران بن خالد قال: حدثتني أم الأسود بنت زيد العدوية وكانت معاذة قد أرضعتها قالت: قالت لي معاذة لما قتل أبو الصهباء وقتل ولدها والله يا بنية ما محبتي للبقاء في الدنيا للذيذ عيش ولا لروح نسيم، ولكن والله أحب البقاء لأتقرب إلى ربي عز وجل بالوسائل لعله يجمع بيني وبين أبي الصهباء وولده في الجنة.
روح بن سلمة الوراق قال: سمعت عفيرة العابدة تقول: بلغني أن معاذة العدوية لما احتضرها الموت بكت ثم ضحكت. فقيل لها: مم بكيت ثم ضحكت فمم البكاء ومم الضحك؟ قالت: أما البكاء الذي رأيتم فإني ذكرت مفارقة الصيام والصلاة والذكر فكان البكاء لذلك، وأما الذي رأيتم من تبسمي وضحكي فإني نظرت إلى أبي الصهباء قد أقبل في صحن الدار وعليه حلتان خضراوان وهو في نفر والله ما رأيت لهم في الدنيا شبهاً فضحكت إليه ولا أراني أدرك بعد ذلك فرضاً.
قال فماتت قبل أن يدخل وقت الصلاة.
أدركت معاذة عائشة وروت عنها. وروى عن معاذة الحسن البصري وأبو قلابة، ويزيد الرشك.(2/241)
585 - حفصة بنت سيرين
عن عاصم الأحول قال: كنا ندخل على حفصة بنت سيرين وقد جعلت الجلباب هكذا وتنقبت به فنقول لها: رحمك الله قال الله: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} النور: 60 وهو الجلباب. قال فتقول لنا: أي شيء بعد ذلك؟ فنقول: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} النور: 60 فتقول: هو إثبات الجلباب.
هشام بن حسان قال: كانت حفصة تقول لنا: يا معشر الشباب خذوا من أنفسكم وأنتم شباب فإني ما رأيت العمل إلا في الشباب.
قال: قرأت القرآن وهي ابنة اثنتي عشرة سنة وماتت وهي ابنة تسعين.
عن هشام أن حفصة كانت تدخل في مسجدها فتصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء
__________
585 - هي: حفصة بنت سيرين، أم الهذيل الأنصارية، البصرية ثقة من الثالثة، ماتت بعد المائة.(2/241)
والصبح ثم لا تزال فيه حتى يرتفع النهار وتركع ثم تخرج فيكون عند ذلك وضوءها ونومها، حتى إذا حضرت الصلاة عادت إلى مسجدها إلى مثلها.
عن مهدي بن ميمون قال: مكثت حفصة في مصلاها ثلاثين سنة لا تخرج إلا لحاجة أو لقائلة.
عن هشام أن ابن سيرين كان إذا أشكل عليه شيء من القراءة قال: اذهبوا فسلوا حفصة كيف تقرأ.
هشام بن حسان. قال كان الهذيل بن حفصة يجمع الحطب في الصيف فيقشره ويأخذ القصب. فيفلقه قالت حفصة: وكنت أجد قرة فكان إذا جاء الشتاء جاء بالكانون فيضعه خلفي وأنا في مصلاي ثم يقعد فيوقد بذلك الحطب المقشر وذاك القصب المفلق وقوداً لا يؤذي دخانه ويدفئني. نمكث بذلك ما شاء الله. قالت: وعند من يكفيه لو أراد ذلك.
قالت: وربما أردت أنصرف إليه فأقول: يا بني ارجع إلى أهلك ثم أذكر ما يريد فأدعه.
قالت حفصة: فلما مات رزق الله عليه من الصبر ما شاء أن يرزق غير أني كنت أجد غصة لا تذهب، قالت: فبينا أنا ذات ليلة أقرأ سورة النحل إذ أتيت على هذه الآية {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} النحل قالت: فأعدتها فأذهب الله ما كنت أجد.
قال هشام: وكانت له لقحة. قالت حفصة: كان يبعث إلى بحلبة بالغداة فأقول: يا بني إنك لتعلم أني لا أشربه، أنا صائمة. فيقول: يا أم الهذيل إن أطيب اللبن ما بات في ضروع الإبل، اسقيه من شئت.
عن هشام بن حسان قال: اشترت حفصة جارية أظنها سندية فقيل لها: كيف رأيت مولاتك؟ فذكر إبراهيم كلاماً بالفارسية تفسيره أنها امرأة صالحة إلا أنها أذنبت ذنباً عظيماً فهي الليل كله تبكي وتصلي.
عبد الكريم بن معاوية قال: ذكر لي عن حفصة أنها كانت تقرأ نصف القرآن في كل ليلة وكانت تصوم الدهر وتفطر العيدين وأيام التشريق.(2/242)
عن هشام بن حسان قال: قد رأيت الحسن وابن سيرين وما رأيت أحداً أرى أنه أعقل من حفصة.
عن هشام عن حفصة قال: كان لها كفن معد فإذا حجت وأحرمت لبسته وكانت إذا كانت العشر الأواخر من رمضان قامت من الليل فلبسته.
عن هشام قال: حدثتني أم سليم بنت سيرين قالت: ربما نور لحفصة بنت سيرين بيتها.
عن هشام قال: كانت حفصة بنت سيرين تسرج سراجها من الليل ثم تقوم في مصلاها فربما طفئ السراج فيضيء لها البيت حتى تصبح.(2/243)
586 - كريمة بنت سيرين
أخت حفصة.
عن مهدي بن ميمون قال: مكثت كريمة بنت سيرين أخت حفصة بنت سيرين خمس عشرة سنة ما تخرج من مصلاها إلا لقضاء حاجة.(2/243)
587 - منيبة البصرية وابنتها
أبو عياش القطان قال: كانت امرأة بالبصرة متعبدة يقال لها منيبة، وكانت لها ابنة أشد عبادة منها. فكان الحسن ربما رآها وتعجب من عبادتها على حداثتها.
فبينا الحسن ذات يوم جالس إذ أتاه آت فقال: أما علمت أن الجارية قد نزل بها الموت فوثب الحسن فدخل عليها فلما نظرت الجارية إليه بكت. فقال لها يا حبيبتي ما يبكيك؟ قالت له: يا أبا سعيد التراب يحثى على شبابي ولم أشبع من طاعة ربي يا أبا سعيد انظر إلى والدتي وهي تقول لوالدي: احفر لا بنتي قبراً واسعاً وكفنها بكفن حسن، والله لو كنت أجهز إلى مكة لطال بكائي، كيف أنا أجهز إلى ظلمة القبور ووحشتها وبيت الظلمة والدود؟.(2/243)
588 - رابعة العدوية
عبد الله بن عيسى قال: دخلت على رابعة العدوية بيتها فرأيت على وجهها النور وكانت كثيرة البكاء فقرأ رجل عندها آية من القرآن فيها ذكر النار فصاحت ثم سقطت.
__________
588 - هي: رابعة العدوية البصرية، الزاهدة، العابدة، الخاشعة، أم عمرو، رابعة بنت إسماعيل، ولاؤها للعتكيين، ولها سيرة في جزء لابن الجوزي، توفيت سنة ثمانين ومائة سير أعلام النبلاء 7/508.(2/243)
ودخلت عليها وهي جالسة على قطعة بوري خلق فتكلم رجل عندها بشيء فجعلت أسمع وقع دموعها على البوري مثل الوكف، ثم اضطربت وصاحت فقمنا وخرجنا.
مسمع بن عاصم ورياح القيسي قالا: شهدنا رابعة وقد أتاها رجل بأربعين ديناراً فقال لها: تستعينين بها على بعض حوائجك. فبكت ثم رفعت رأسها إلى السماء فقال: هو يعلم أني أستحيي منه أن أسأله الدنيا وهو يملكها، فكيف أريد أن آخذها ممن لا يملكها؟.
محمد بن عمرو قال: دخلت على رابعة وكانت عجوزاً كبيرة بنت ثمانين سنة كأنه الشن تكاد تسقط ورأيت في بيتها كراخة بواري ومشجب قصب فارسي طوله من الأرض قدر ذراعين، وستر البيت جلد وربما كان بورياً، وحب وكو ولبد هو فراشها وهو مصلاها. وكان لها مشجب من قصب عليه أكفانها وكانت إذا ذكرت الموت انتفضت وأصابتها رعدة وإذا مرت بقوم عرفوا فيها العبادة.
وقال لها رجل: ادعي، فالتصقت بالحائط وقالت: من أنا يرحمك الله؟ أطع ربك وادعه فإنه يجيب المضطرين.
سجف بن منظور قال: دخلت على رابعة وهي ساجدة فلما أحست بمكاني رفعت رأسها فإذا موضع سجودها كهيئة الماء المستنقع من دموعها. فسلمت فأقبلت علي فقالت: يا بني ألك حاجة؟ فقلت: جئت لأسلم عليك، قال: فبكت وقالت: سترك اللهم سترك ودعت بدعوات ثم قامت إلى الصلاة وانصرفت.
العباس بن الوليد قال: قالت رابعة: أستغفر الله من قلة صدقي في قولي، أستغفر الله.
أزهر بن مروان قال: دخل على رابعة رياح القيسي، وصالح بن عبد الجليل وكلاب، فتذاكروا الدنيا فأقبلوا يذمونها فقالت رابعة: إني لأرى الدنيا بترابيعها في قلوبكم. قالوا: ومن أين توهمت علينا؟ قالت: إنكم نظرتم إلى أقرب الأشياء من قلوبكم فتكلمتم فيه.
أبو جعفر المديني، عن شيخ من قريش قال: قيل لرابعة: هل عملت عملاً ترين أنه يقبل منك؟ قالت: إن كان فمخافتي أن يرد علي.
جعفر بن سليمان قال: أخذ بيدي سفيان الثوري وقال: مر بنا إلى المؤدبة التي لا أجد من أستريح إليه إذا فارقتها. فلما دخلنا عليها رفع سفيان يده وقال: اللهم إني أسألك السلامة فبكت رابعة. فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: أنت عرضتني للبكاء. فقال: وكيف؟ قالت: أما علمت أن السلامة من الدنيا ترك ما فيها فكيف وأنت متلطخ بها؟.(2/244)
وقال الثوري بين يدي رابعة: واحزناه، فقالت: لا تكذب. قل: واقلة حزناه، لو كنت محزوناً ما هناك العيش.
جعفر بن سليمان قال: سمعت رابعة تقول لسفيان: إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل وأنت تعلم، فاعمل.
عبيس بن مرحوم العطار قال: حدثتني عبدة بنت أبي شوال، وكانت من خيار إماء الله، وكانت تخدم رابعة. قالت: كانت رابعة تصلي الليل كله فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة: يا نفس كم تنامين؟ وإلى كم تقومين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور.
قالت: فكان هذا دأبها دهرها حتى ماتت. فلما حضرتها الوفاة دعتني قالت: يا عبدة لا تؤذني بموتي أحداً وكفنيني في جبتي هذه، جبة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون.
قالت: فكفناها في تلك الجبة وخمار صوف كانت تلبسه.
قالت عبدة: رأيتها بعد ذلك بسنة أو نحوها في منامي عليها حلة إستبرق خضراء وخمار من سندس أخضر لم أر شيئاً قط أحسن منه. فقلت: يا رابعة: ما فعلت الجبة التي كفناك فيها والخمار الصوف؟ قالت: إنه والله نزع عني وأبدلت به هذا الذي ترينه علي. وطويت أكفاني وختم عليها ورفعت في عليين لكيل لي بها ثوابها يوم القيامة.
قالت: فقلت لها: لهذا كنت تعملين أيام الدنيا؟ قالت: وما هذا من كرامة الله عز وجل لأوليائه. قالت فقلت: فما فعلت عبدة بنت أبي كلاب؟ فقالت: هيهات هيهات، سبقتنا والله إلى الدرجات العلى. قالت قلت: وبم وقد كنت عند الناس؟ أي أكثر منها. قالت: إنها لم تكن تبالي على أي حالة أصبحت من الدنيا وأمست. قالت: فقلت: فما فعل أبو مالك؟ تعني ضبغماً. قالت: يزور الله متى شاء. قالت قلت: فما فعل بشر بن منصور؟ قالت: بخ بخ أعطي والله فوق ما كان يأمل.
قالت قلت: فمريني بأمر أتقرب به إلى الله عز وجل. قالت عليك بكثرة ذكره، أوشك أن تغتبطي بذلك في قبرك.
قلت: اقتصرت ههنا على هذا القدر من أخبار رابعة لأني قد أفردت لها كتاباً جمعت فيه كلامها وأخبارها.(2/245)
589 - عجردة العمية
رجاء بن مسلم العبدي قال: كنا نكون عند عجردة العمية في الدار. قال: فكانت تحيي الليل صلاة. وربما قال: تقوم من أول الليل إلى السحر فإذا كان السحر نادت بصوت لها محزون: إليك قطع العابدون دجى الليالي بتبكير الدلج إلى ظلم الأسحار يستبقون إلى رحمتك وفضل مغفرتك، فبك إلهي لا بغيرك أسألك أن تجعلني في أول زمرة السابقين إليك، وأن ترفعني إليك في درجة المقربين، وأن تلحقني بعبادك الصالحين، فأنت أكرم الكرماء، وأرحم الرحماء، وأعظم العظماء، يا كريم. ثم تخر ساجدة فلا تزال تبكي وتدعو في سجودها حتى يطلع الفجر فكان ذلك دأبها ثلاثين سنة، عبد الرحمن بن عمرو الباهلي قال: حدثتني دلال بنت أبي المدل قالت: حدثتني أمي آمنة بنت يعلى بن سهيل قالت: كانت عجردة العمية تغشانا فتظل عندنا اليوم واليومين. قالت: فكانت إذا جاء الليل لبست ثيابها وتقنعت ثم قامت إلى المحراب فلا تزال تصلي إلى السحر ثم تجلس فتدعو حتى يطلع الفجر.
قالت: فقلت لها، أو قال لها بعض أهل الدار: لو نمت من الليل شيئاً. فبكت وقالت: ذكر الموت لا يدعني أنام.
جعفر بن سليمان قال: حدثني بعض نسائي، أمي أو غيرها من أهلي قالت: رأيت عجردة العمية في يوم عيد عليها جبة صوف، وقناع صوف، وكساء صوف. قالت: فنظرت فإذا هي جلد وعظم. قالت: وسمعتهم يذكرون عنها أنها لم تفطر ستين عاماً.(2/246)
590 - حبيبة العدوية
عن عبد الله المكي أبي محمد قال: كانت حبيبة العدوية إذا صلت العتمة قامت على سطح فشدت عليها درعها وخمارها. فقالت: إلهي غارت النجوم، ونامت العيون وغلقت الملوك أبوابها، وبابك مفتوح، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك.
فإذا كان السحر قالت: اللهم وهذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري هل قبلت مني ليلتي فأهنى أم رددتها علي فأعزى، فوعزتك لهذا دأبي ودأبك أبداً ما أبقيتني، وعزتك لو انتهرتني ما برحت من بابك ولا وقع في قلبي غير جودك وكرمك.(2/246)
591 - أم الأسود بنت زيد العدوية
أبو عبد الرحمن السلمي قال: كانت معاذة العدوية أرضعت أم الأسود. وقالت أم(2/246)
الأسود: قالت لي معاذة العدوية: لا تفسدي رضاعي بأكل الحرام، فإني جهدت جهدي حين أرضعتك حتى أكلت الحلال فاجتهدي أن لا تأكلي إلا حلالاً لعلك أن توفقي لخدمة سيدك والرضا بقضائه.
فكانت أم الأسود تقول: ما أكلت شبهة إلا فاتتني فريضة أو ورد من أورادي.(2/247)
592 - مريم البصرية
كانت تخدم رابعة العدوية، وكانت إذا سمعت علوم المحبة طاشت فحضرت بعض المذكرين فتكلم في المحبة. فماتت في المجلس.
عبد العزيز بن عمير قال: قامت مريم البصرية المتعبدة من أول الليل فقالت: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} الشورى: 19. ثم لم تجزه حتى أصبحت.
وقالت مريم: ما اهتممت بالرزق ولا تعبت في طلبه منذ سمعت الله عز وجل يقول: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} الذاريات.(2/247)
593 - عفيرة العابدة
روح بن سلمة الوراق قال لعفيرة العابدة: بلغني أنك لا تنامين بالليل؛ فبكت، ثم قالت: ربما اشتهيت أن أنام فلا أقدر عليه، وكيف ينام أو كيف يقدر على النوم، من لا ينام عنه حافظاه ليلاً ولا نهاراً؟ قال: فأبكتني والله، وقلت في نفسي: أراني في شيء وأراك في شيء.
يحيى بن بسطام قال: دخلت مع نفر من أصحابنا على عفيرة، وكانت قد تعبدت وبكت حتى عميت. فقال بعض أصحابنا لرجل إلى جنبه: ما أشد العمى على من كان بصيراً. فسمعت عفيرة فقالت له: يا عبد الله عمى القلب، والله، عن الله أشد من عمى العين عن الدنيا، والله وددت أن الله وهب لي كنه محبته وأنه لم تبق مني جارحة إلا أخذها.
عبد الوهاب بن صالح قال: سمعت محمد بن عبيد يقول: دخلنا على امرأة بالبصرة يقال لها عفيرة، فقيل لها: ياعفيرة ادعي الله لنا. فقالت: لو خرس الخاطئون ما تكلمت عجوزكم، ولكن المحسن أمر المسيء بالدعاء، جعل الله قراكم من بيتي الجنة، وجعل الموت مني ومنكم على بال.
مالك بن ضيغم قال: سمعت عفيرة تقول عصيتك بكل جارحة مني على حدتها، والله لئن أعنت لأطيعنك ما استطعت بكل جارحة عصيتك بها.(2/247)
قال محمد بن الحسين: وحدثني سعيد العمي قال: قلت لعفيرة: أما تسأمين من طول البكاء قال: فبكت ثم قالت: يا بني كيف يسأم ذو داء من شيء يرجو أن له فيه من دائه شفاء قال: ثم بكت. فقمت فخرجت وتركتها.
بلغني عن يحيى بن راشد أنه قال: كنا عند عفيرة العابدة فقدم ابن أخ لها كانت طالت غيبته فبشرت به، فبكت فقيل لها: ما هذا البكاء؟ اليوم يوم فرح وسرور، فازدادت بكاء ثم قالت: والله ما أجد للسرور في قلبي مسكناً مع ذكر الآخرة، ولقد أذكرني قدومه يوم القدوم على الله، فمن بين مسرور ومثبور. ثم غشي عليها.(2/248)
594 - عبيدة بنت أبي كلاب
شعيب بن محرز قال: حدثتني سلامة العابدة قالت: بكت عبيدة بنت أبي كلاب أربعين سنة حتى ذهب بصرها.
عن يحيى بن بسطام الأصغر قال: حدثني سلمة الأفقم، وكان ينزل الطفاوة، قال: قلت لعبيدة بنت أبي كلاب ما تشتهين؟ قالت: الموت. قلت: ولم؟ قالت: لأني والله في كل يوم أصبح أخشى أن أجني على نفسي جناية يكون فيها عطبي أيام الآخرة.
عبد العزيز بن سلمان قال: اختلفت عبيدة وأبي إلى مالك بن دينار عشرين سنة. قال أبي: فما سمعتها تسأل مالكاً عن شيء قط إلا مرة، قالت: يا أبا يحيى متى يبلغ المتقي الدرجة العليا التي ليس فوقها درجة؟ قال مالك: بخ بخ يا عبيدة إذا بلغ المتقي تلك الدرجة العليا التي ليس فوقها درجة لم يكن شيء أحب إليه من القدوم على الله. قال: فصرخت عبيدة صرخة سقطت مغشياً عليها.
داود بن المحبر قال: سمعت البراء الغنوي يقول يوم ماتت عبيدة بنت أبي كلاب: ما خلفت بالبصرة أفضل منها.
عبد الله بن رشيد السعدي، وكان قد صحب عبد الواحد بن زيد، قال: رأيت الشيوخ والشباب والرجال والنساء من المتعبدين فما رأيت امرأة ولا رجلاً أفضل ولا أحسن عقلاً من عبيدة بنت أبي كلاب.
عبيس بن مرحوم قال: حدثتني عبدة بنت أبي شوال قالت: رأيت رابعة في المنام فقلت: ما فعلت عبيدة بنت أبي كلاب؟ فقالت: هيهات سبقتنا والله إلى الدرجات العلى،
قلت: وبم وقد كنت عند الناس؟ أي أكثر منها. قالت: إنها لم تكن تبالي على ما أصبحت من الدنيا أو أمست.(2/248)
595 - عمرة امرأة حبيب العجمي
الحسين بن عبد الرحمن قال: حدثني بعض أصحابنا قال: قالت امرأة حبيب أبي محمد، وانتبهت ليلة وهو نائم؛ فأنبهته في السحر وقالت له: قم يا رجل فقد ذهب الليل وجاء النهار وبين يديك طريق بعيد وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا ونحن قد بقينا.
مسلم بن إبراهيم قال: سمعت سهيلاً أخا حزم قال: كانت لحبيب أبي محمد امرأة يقال لها عمرة، فاشتكت عينها فقيل لها: كيف تجدينك؟ قالت: وجع قلبي أشد من وجع عيني.(2/249)
596 - بردة الصريمية
كانت إذا قيل لها: كيف أصبحت؟ تقول: أصبحنا أضيافاً منتجعين بأرض غربة ننتظر إجابة الداعي.
أشرس أبو شيبان، وكان عابداً من البكائين، عن ثابت البناني أن امرأة من الصدر الأول كان يقال لها بردة، وكانت تكثر البكاء حتى فسد بصرها. فقيل لها: اتقي الله، أما تخافين على بصرك أن يذهب؟ قالت: دعوني فإن أكن من أهل النار فأبعدني الله وأبعد بصري، وإن أكن من أهل الجنة فسيبدلني الله عينين خيراً من عيني.
عن موسى بن سعيد، أو غيره، قال: قيل للحسن: يا أبا سعيد إن ههنا امرأة يقال لها بردة قد فسدت عيناها من البكاء، فدخل عليها فقال لها: يا بردة إن لبدنك عليك حقاً، وإن لبصرك عليك حقاً. قالت: يا أبا سعيد إن أكن من أهل الجنة فسيبدلني الله بصراً خيراً من بصري، وإن أكن من أهل النار فأبعد الله بصري.
عن عطاء بن المبارك قال: كانت بالبصرة امرأة جليلة متعبدة يقال لها بردة، وكانت تقوم الليل، فإذا سكنت الحركات وهدأت العيون نادت بصوت لها حزين: هدأت العيون وغارت النجوم وخلا كل حبيب بحبيبه، وقد خلوت بك يا محبوبي أفتراك تعذبني وحبك في قلبي؟ لا تفعل يا حبيباه.
قال القرشي: وقال محمد بن الحسين حدثني شاذ بن فياض قال: حدثني رجل أدرك(2/249)
الحسين قال: كانت امرأة في زمن الحسن إذا سمعت القرآن صرخت، فربما تكلمت بما لا تريد. فقيل لها في ذلك، فقالت ربما سمعت القرآن فأرى ملك بني مروان قد حوي لي. وكانت تبكي حتى يرحمها من رآها.
وذكر محمد بن الحسين أن الحميدي حدثه قال: ذكر سفيان يوماً بردة فقال: رحمها الله ما كان ههنا من أولئك النساء المجاورات أشد اجتهاداً منها بكت حتى ذهب بصرها.
قال سفيان: كانت إذا سمعت صوت الصواعق صرخت ولم تزل تصيح حتى يغشى عليها.(2/250)
597 - أم طلق
محمد بن سنان الباهلي قال: سمعت شعبة بن دخان يذكر أن أم طلق كانت تصلي في كل يوم وليلة أربعمائة ركعة، وتقرأ من القرآن ما شاء الله.
شيبة بن الأرقم قال: سمعت عاصماً الجحدري يقول: كانت أم طلق تقول: ما ملكت نفسي ما تشتهي منذ جعل الله لي عليها سلطاناً.
عن سفيان بن عيينة قال: قالت أم طلق لطلق: ما أحسن صوتك بالقرآن فليته لا يكون عليك وبالاً يوم القيامة. فبكى حتى غشي عليه.
عن سلمة الأيهم قال: سمعت عاصماً الجحدري يقول: كانت أم طلق تقول: النفس ملك إن أتبعتها ومملوك إن أتعبتها.(2/250)
598 - أمة الجليل بنت عمرو العدوية
أبو بكر بن عبيد قال: قرأت في كتاب محمد بن الحسين بخطه: حدثني حليم بن جعفر قال: حدثني مسمع بن عاصم قال: اختلف العابدون عندنا في الولاية، فقال بعضهم إذا استحقها عبد لهم يهم بشيء إلا ناله، في دين كان أو دنيا. وقال الآخر: الولي لا يعصي، غير أنه لا يدرك الشيء الذي يريده من الدنيا بهمته ولا يدركه إلا بطلبه، كأنهم يقولون يدعو فيجاب. وقال آخرون: المستحق للولاية لا يعرض لانتقاص حقه من الآخرة.
فتكلموا في ذلك بكلام كثير فأجمعوا على أن يأتوا امرأة من بني عدي يقال لها أمة الجليل بنت عمرو العدوية، وكانت منقطعة جداً من طول الاجتهاد. فأتوها. قال مسمع: وأنا
__________
597 - هي: أم طلق، لا يعرف حالها، من الثانية.(2/250)
يومئذ مع أصحابنا فاستأذنوا عليها فأذنت، فعرضوا عليها اختلافهم وما قالوا. فقالت: ساعات الولي ساعات شغل عن الدنيا ليس للولي في الدنيا حاجة. ثم أقبلت على كلاب فقالت: بنفسي أنت يا كلاب من حدثك أو أخبرك أن وليه له هم غيره فلا تصدقه.
قال مسمع: فما كنت أسمع إلا الصارخ من نواحي البيت.(2/251)
599 - أم حيان السلمية
عن أبي خلدة قال: ما رأيت رجلاً قط ولا امرأة أقوى ولا أصبر على طول القيام من أم حيان السلمية، إن كانت لتقوم في مسجد الحي كأنها نخلة تصفقها الرياح يميناً وشمالاً.
مكي البصري قال: حدثتني سوادة السلمية قالت: كانت أم حيان تقرأ القرآن في كل يوم وليلة، وكانت لا تتكلم إلا بعد العصر فإنها تأمر بالحاجة والشيء تريده.(2/251)
600 - أم إبراهيم العابدة
عبد المؤمن بن عبد الله القيسي قال: ضربت أم إبراهيم العابدة دابة فكسرت رجلها، فأتاها قوم يعزونها. فقالت: لولا مصائب الدنيا وردنا الآخرة مفاليس.
أبو موسى الشواء قال: كنت مع أم إبراهيم العابدة. فلما صرنا عند الجمار رأت الناس قد أقبلوا على الشراء والبيع، فرفعت رأسها إلى السماء وقالت: حبيبي أقبلوا على الدنيا وتركوك. قال: ثم صاحت واجتمع الناس فغطيتها بثوبي. ثم قلت للناس: أصابها شيء وأوهمتهم أن بها علة. قال: ثم أقمت عليها حتى أفاقت فرفعت رأسها فقلت لها: يا أم إبراهيم أي شيء هذه الشهرة؟ فقالت: يا بطال إذا كان هو يقسم الثناء فلمن يتصنع؟(2/251)
601 - بحرية العابدة
رباح بن أبي الجراح قال: رأيت بحرية العابدة تبكي وتقول تركتك وأنا رطبة، وأتيتك وأنا حشفة فاقبل الحشفة على ما كان منها.
وكان بها مسحة من جمال، وكان الجرع قد أضر بها ومكثت أربعين يوماً لم تأكل فيها شيئاً إلا شيئاً من حمص وكانت مجتهدة وكان لها مجلس تذكر فيه، وكانت إذا تكلمت اضطربت واقشعرت.
أحمد بن أبي الحواري قال: حدثتني عجوز من أهل البصرة قالت: سمعت بحرية تقول: إذا ترك القلب الشهوات ألف العلم واتبعه واحتمل كل ما يرد عليه.(2/251)
602 - أم الحريش
رياح بن الجراح قال: رأيت أم الحريش، وكانت من عباد الناس، وابتليت بزوج من الجند، فكانت لا تأكل من طعامه، تعد لنفسها شيئاً تأكله، وكان ربما لم يقبل منها حتى تأكل معه، فكانت تقعد تريه أنها تأكل فتضع أصابعها خارج القصعة.(2/252)
603 - حسنة العابدة
عن محمد بن قدامة قال: بلغنا أن امرأة كان يقال لها حسنة تركت نعيم الدنيا فأقبلت على العبادة فكانت تصوم النهار وتحيي الليل وليس في بيتها شيء، كلما عطشت خرجت إلى النهر فشربت بكفيها.
وكانت جميلة فقالت لها امرأة: تزوجي فقالت: هات رجلاً زاهداً لا يكلفني من أمر الدنيا شيئاً وما أظنك تقدرين عليه، فوالله ما في نفسي أن أعبد الدنيا ولا أتنعم مع رجال الدنيا، فإن وجدت رجلاً يبكي ويبكيني، ويصوم ويأمرني، ويتصدق ويحضني عليها، فبها ونعمت، وإلا فعلى الرجال السلام.(2/252)
604 - زجلة العابدة مولاة معاوية
أحمد بن سهل الأزدي قال: دخل على زجلة العابدة نفر من القراء فكلموها في الرفق بنفسها فقالت: ما لي وللرفق بها؟ فإنما هي أيام مبادرة، فمن فاته اليوم شيء لم يدركه غداً. والله يا إخوتاه لأصلين له ما أقلتني جوارحي، ولأصومن له أيام حياتي، ولأبكين له ما حملت الماء عيناي. ثم قالت: أيكم يأمر عبده بأمر فيحب أن يقصر فيه؟.
عباد بن عباد، أبو عتبة الخواص، قال: دخلنا على زجلة العابدة، وكانت قد صامت حتى اسودت، وبكت حتى عمشت، وصلت حتى أقعدت، وكانت صلاتها قاعدة. فسلمنا عليها ثم ذكرناها شيئاً من العفو، أردنا أن نهون عليها الأمر هناك. فشهقت ثم قالت: علمي بنفسي قرح فؤادي، وكلم قلبي. والله لوددت أن الله لم يخلقني ولم أك شيئاً مذكوراً. ثم أقبلت على صلاتها وتركناها فخرجنا من عندها.
كليب بن عيسى بن أبي حجير قال: كانت زجلة لا ترفع بصرها إلى السماء، وكانت تخرج إلى الساحل فتغسل ثياب المرابطين.
قال كليب: وسمعت سعيد بن عبد العزيز يقول: ما بالشام ولا بالعراق أفضل من زجلة.(2/252)
605، 606 - غضنة وعالية
أبو الوليد العبدي قال: ربما رأيت غضنة وعالية تقوم إحداهما من الليل فتقرأ البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف في ركعة.(2/253)
607 - مطيعة العابدة
محمد بن الحسين قال: حدثني صاحب لي من البصريين قال: بكت مطيعة أربعين عاماً، فعوتبت على كثرة البكاء فقالت: لا أزال أبكي حتى أعلم على أي الحالين أنا عند الله؟.
محمد بن الحسين قال: دخلنا على مطيعة العابدة في الجبان بالبصرة فجعلنا نذاكرها شيئاً من الخير فلا نستبين كثيراً من كلامها، من كثرة بكائها. فلما رأينا ذلك خرجنا من عندها وتركناها.
قال محمد: وسألت مطيعة قلت: منذ كم أنت ههنا في الجبان؟ فبكت ثم قالت: يا بني منذ أربع وخمسين سنة.(2/253)
608 - كردوية بنت عمرو البصرية
أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين قال: كانت كردوية تخدم شعوانة. فقيل لها: ما الذي أصابك من بركات خدمة شعوانة؟ قالت: ما أحببت الدنيا منذ خدمتها، ولا اهتممت لرزقي، ولا عظم في عيني أحد من أرباب الدنيا لطمع لي فيه، وما استصغرت أحداً من المسلمين قط.(2/253)
609 - راهبة
عثمان بن سودة الطفاوي، وكانت أمه من العابدات، يقال لها راهبة، قال: لما احتضرت رفعت رأسها إلى السماء فقالت: يا ذخري وذخيرتي، ويا من عليه اعتمادي في حياتي وبعد موتي، لا تخذلني عند الموت، ولا توحشني في قبري.
قال: فماتت. فكنت آتيها في كل جمعة فأدعو لها وأستغفر لها ولأهل القبور. قال: فرأيتها ذات ليلة في منامي فقلت: يا أماه كيف أنت؟ قالت: أي بني إن للموت لكربة شديدة وأنا بحمد الله لفي برزخ محمود نفترش فيه الريحان ونتوسد فيه السندس والإستبرق إلى يوم النشور فقلت: ألك حاجة؟ قالت: نعم. قالت: لا تدع ما أنت عليه من زيارتنا والدعاء لنا فإني لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من عند أهلك، يقال لي: يا راهبة هذا ابنك قد أقبل من أهله زائراً لك فأسر بذلك ويسر ذلك من حولي من الأموات.(2/253)
610 - سلمى
خلف بن الوليد الجوهري قال: قالت سلمى، امرأة بصرية: إلهي علمي بشدة عقوبتك ونكالك قطع عني لذاذة الدنيا ونعيمها، ومعرفتي بسعة رحمتك وسعت علي خلقي فيما بيني وبين عبادك.(2/254)
611 - مسكينة الطفاوية
إسحاق بن إبراهيم قال: أخبرنا عمار الراهب، وكان والله من العاملين لله في دار الدنيا، قال: رأيت مسكينة الطفاوية في منامي وكانت من المواظبات على حلق الذكر، فقلت: مرحباً يا مسكينة مرحباً. فقالت: هيهات يا عمار ذهبت المسكنة وجاء الغنى الأكبر. قلت: هيه.. قالت: ما تسأل عمن أبيح الجنة بحذافيرها يظل منها حيث يشاء. قال: قلت: وبم ذاك يرحمك الله؟ قالت: بمجالس الذكر والصبر على الحق. قال عمار: وكانت تحضر معنا مجلس عيسى بن زاذان بالأبلة، تنجدر من البصرة حتى تأتيه قاصدة. قال عمار: قلت يا مسكينة ما فعل عيسى؟ فضجت ثم قالت: كسي حلة البهاء، وطافت بأباريق حوله الخدام، ثم حلي وقيل: يا قارئ ارق فلعمري لقد برأك الصيام، وكان عيسى قد صام حتى انحى وانقطع صوته.(2/254)
612 - غنضكة
عن يوسف بن بهلول قال: كانت امرأة بالبصرة يقال لها غنضكة العابدة تصلي عامة الليل، ثم تقول: أعوذ بالله من ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فإذا قضت صلاتها قالت: هذا الجهد مني وعليك التكلان.(2/254)
وما إن تزال دار حي قد أخرجت
ذكر المصطفيات من عابدات البصرة المعروفات بغيرهن
امرأة أبي عمران الجوني
...
ذكر المصطفيات من عابدات البصرة المعروفات بغيرهن
613 - امرأة أبي عمران الجوني
عويد بن أبي عمران الجوني قال كانت أمي تقوم من الليل تصلي حتى تعصب ساقيها بالخرق فيقول لها أبو عمران الجوني: دون هذا يا هذه، فتقول: هذا عند طول القيام في الموقف قليل فيسكت عنها.(2/255)
614 - امرأة رياح القيسي
أبو يوسف البزاز قال: تزوج رياح القيسي امرأة فبنى بها.
فلما أصبح قامت إلى عجينها. فقال: لو نظرت إلى امرأة تكفيك هذا. فقالت: إنما تزوجت رياحاً القيسي ولم أرني تزوجت جباراً عنيداً. فلما كان الليل نام ليختبرها. فقامت ربع الليل ثم نادته: قم يا رياح. فقال: أقوم. فقامت الربع الآخر ثم نادته فقالت: قم يا رياح. فقال: أقوم. فلم يقم. فقامت الآخر ثم نادته فقالت: قم يا رياح فقال أقوم. فقالت: مضى الليل وعسكر المحسنون وأنت نائم، ليت شعري من غرني بك يا رياح. قال: وقامت الربع الباقي.
عبد الله بن الحارث قال: زوج شميط بن العجلان رياحاً القيسي امرأة. فبينا هو قاعد معها إذ نظرت إلى السماء فشهقت شهقة فخرت مغشياً عليها.
وقال رياح: اغتممت مرة في شيء من أمر الدنيا. فقالت أراك تغتم لأمر الدنيا غرني منكم شميط. ثم أخذت هدبة من مقنعتها فقالت: الدنيا أهون علي من هذه.
عن سيار قال: حدثني رياح قال: ذكرت لي امرأة فتزوجتها، فكانت إذا صلت العشاء الآخرة تطيبت وتدخنت ولبست ثيابها ثم تأتيني فتقول: ألك حاجة؟ فإن قلت: نعم، كانت معي، وإن قلت: لا، قامت فنزعت ثيابها ثم صفت بين قدميها حتى تصبح. قال رياح: ففحتني والله.(2/255)
615 - ابنة أم حسان الأسدية
عن سفيان الثوري قال: دخلت على بنت حسان الأسدية وفي جبهتها مثل ركبة العنز من(2/255)
أثر السجود. فقلت لها: يا بنة أم حسان ألا تأتين عبد الله بن شهاب بن عبد الله؟ فلو رفعت إليه رقعة فلعله أن يعطيك من زكاة ماله ما تغيرين به بعض الحاجة التي أراها بك. فدعت بمعجر فاعتجرت به وقال: يا سفيان قد كان لك في قلبي رجحان كثير فقد أذهب الله برجحانك من قلبي، يا سفيان تأمرني أن أسأل الدنيا من لا يملكها؟.
قال سفيان: وكان إذا جن عليها الليل دخلت محراباً لها وأغلقت عليها ثم نادت: إلهي خلا كل حبيب بحبيبه، وأنا خالية بك يا محبوب، فما كان من سخن يسخن من عصاك إلا جهنم، ولا عذاب إلا النار.
قال سفيان، فدخلت عليها بعد ثلاث فإذا الجوع قد أثر في وجهها. فقلت لها: يا بنت أم حسان إنك لن تؤتي أكثر مما أوتي موسى والخضر عليهما السلام، إذ أتيا أهل قرية استطعما أهلها.
فقالت: يا سفيان قل الحمد لله. فقلت: الحمد لله. فقالت: اعترفت له بالشكر؟ قلت: نعم. قالت: وجب عليك من معرفة الشكر شكر وبمعرفة الشكرين شكر لا ينقضي أبداً.
قال سفيان: فقصر، والله علمي وفه لسانه فوليت أريد الخروج. فقالت: يا سفيان كفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعلمه، وكفى بالمرء علماً أن يخشى الله. اعلم أنه لن تنقى القلوب من الردى حتى تكون الهموم كلها في الله هماً واحداً.
قال سفيان فقصرت إلي والله نفسي.(2/256)
616 - مملوكة لإبراهيم النخعي
أبو الأحوص، عن مغيرة أو غيره، قال: كانت مولاة لإبراهيم تعمد إلى اليوم الشديد الحر فتصومه. فقيل لها: إنك تعمدين إلى أشد الأيام حراً فتصومينه؟ فقالت: إن السعر إذا رخص اشتراه كل أحد.(2/256)
617 - جارية عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة
عبد الله بن الحسن القاضي العنبري قال: كانت عندي جارية أعجمية وضيئة، وكنت بها معجباً. فكانت ذات ليلة نائمة إلى جنبي فانتبهت فلم أجدها. فالتمستها فإذا هي ساجدة تقول: بحبك لي اغفر لي. فقلت: يا جارية لا تقولي بحبك لي، قول: بحبي لك اغفر لي. فقالت:(2/256)
يا بطال، حبه لي أخرجني من الشرك إلى الإسلام، فأيقظ عيني وأنام عينك. فقلت: اذهبي فأنت حرة لوجه الله. قالت: يا مولاي أسأت إلي، كان لي أجران فصار لي أجر واحد.(2/257)
618 - جارية خالد الوراق
بلغنا عن خالد الوراق أنه قال: كانت لي جارية شديدة الاجتهاد فدخلت عليها يوماً فأخبرتها برفق الله وقبوله يسير العمل. فبكت ثم قالت يا خالد إني لأؤمل من الله تعالى آمالاً لو حملتها الجبال لأشفقت من حملها كما ضعفت عن حمل الأمانة وإني لأعلم أن في كرم الله مستغاثاً لكل مذنب، ولكن كيف لي بحسرة السباق؟ قال: قلت: وما حسرة السباق؟ قالت: غداة الحشر إذا بعثر ما في القبور وركب الأبرار نجائب الأعمال فاستبقوا إلى الصراط. وعزة سيدي لا يسبق مقصر مجتهداً أبداً، ولو حبا المجد حبواً. أم كيف لي بموت الحزن والكمد إذا رأيت القوم يتراكضون وقد رفعت أعلام المحسنين وجاز الصراط المشتاقون ووصل إلى الله المحبون وخلفت مع المسيئين المذنبين؟ ثم بكت وقالت: يا خالد انظر لا يقطعك قاطع عن سرعة المبادرة بالأعمال فإنه ليس بين الدارين دار يدرك فيها الخدام ما فاتهم من الخدمة، فويل لمن قصر عن خدمة سيده ومعه الآمال، فهلا كانت الأعمال توقظه إذا نام البطالون؟(2/257)
619 - الماوردية
ذكر أبو الحسن محمد بن هلال بن المحسن في تاريخه قال: كانت عجوز صالحة زاهدة بالبصرة تعرف بالماوردية قاربت ثمانين سنة، بقيت خمسين سنة لم تفطر ولم تنم بالليل، ولم تأكل خبزاً ولا رطباً ولا تمراً وإنما تطحن لها باقلاً وتخبز لها خبزاً تقتات به، وتأكل التين اليابس دون الرطب، وتنال من الزيت والعنب واللحم الشيء اليسير، وكانت تكتب وتقرأ وتعظ النسوان وكانت كثيرة الخير والبركة.
وتوفيت يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة سنة ست وستين وأربعمائة وتبع جنازتها أكثر الناس. ودفنت خارج البلد عند قبور الصالحين.(2/257)
ذكر المصطفيات من عابدات البصرة المجهولات
620 - عابدة
عن يعلى بن حكيم قال: قال سعيد بن جبير: ما رأيت أرعى لحرمة هذا البيت ولا أحرص عليه من أهل البصرة، ولقد رأيت جارية منهم ذات ليلة تعلقت بأستار الكعبة فجعلت تدعو وتبكي وتتضرع حتى ماتت.
621 - عابدة أخرى
عون بن أبي عمارة البصري قال: قال أبو محرز الطفاوي: شكوت إلى جارية لنا ضيق المكسب علي وأنا شاب فقالت لي: يا بني استعن بعز القناعة عن ذل المطالب، فكثيراً، والله ما رأيت القليل عاد سليماً.
قال أبو محرز: ما زلت بعد أعرف بركة كلامها في قنوعي.
622 - عابدة أخرى
عن عبد الواحد قال: أتينا امرأة متعبدة في ناحية البصرة لنسلم عليها فقيل لنا لا تصلون إليها. قلنا: ولم ذاك؟ قالوا: قد غلقت عليها الباب منذ ثلاث تبكي. قلنا: ولم ذاك؟ قالوا: قتلت نملة.
623 - عابدة أخرى
عن سعيد بن عطارد قال: ذكرت لي امرأة بالبصرة متعبدة فأتيتها فوجدتها تصلي فانصرفت. فقالت: ما اسمك؟ فقلت: سعيد. قالت: يا سعيد، كل شيء شغلك عن الله فهو عليك مشوم. ثم أقبلت على صلاتها وتركتني.
624 - عابدة أخرى
علي بن الحسن قال: كانت امرأة بالبصرة تقول لقلبها. فقدتك من قلب، ما أنساك! أصبحت لعظمة الله ناسياً إلهي كيف لي بالقرب منك غداً وقاسي القلب منك بعيد؟.
625 - عابدة أخرى
عن صالح بن عبد الكريم قال: رأيت امرأة سوداء بالبصرة، والناس مجتمعون عليها، ثم قامت فدخلت داراً فدخلوا معها وأحدقوا بها، فدنوت منها فقلت: يا هذه أما تخافين(2/258)
العجب؟ فرفعت رأسها فنظرت إلي ثم قالت: كيف يعجب بعمله من لا يدري لعله قد رد عليه؟.
626 - عابدة أخرى
الحسين بن جعفر قال: سمعت أبي قال: صليت العيد في الجبان ثم انفردت فإذا أنا بعجوز رافعة يديها وهي تقول: انصرف الناس ولم أشعر قلبي اليأس، يا صاحب الصدقة ها أناذه منصرفة، فليت شعري ما زودتني؟ رب ارحم ضعفي وكبر سني، خرجت أرجوك فلا تخيب حسن ظني بك. وهي تبكي فما انتفعت بنفسي يومي.
627 - عابدة أخرى
حماد بن سلمة قال: خرجت في ليلة ظلماء ذات برد وريح ومطر ومعي شوي، قلت: أقسمه في جيراني. قال: فإذا أنا بامرأة قد خرجت وهي تقول: يا رفيق ارفق بنا.
قال: قلت: ما لك رحمك الله؟ قالت: يا حماد إنه دخل هذا المطر على يتامى تحت فرشهم فقلت: يا رفيق ارفق بنا، فدخلت فوجدته أيبس مما كان. فقلت: هاك رحمك الله هذا الشيء فأنفقيه على نفسك وعلى أيتامك. فقالت: إليك عني يا حماد فإني إنما أسأل أجود الأجودين.
عفان بن مسلم قال: قال لي حماد بن سلمة: ألح المطر علينا سنة من السنين، وفي جواري امرأة من المتعبدات، لها بنات أيتام، فوكف السقف عليهم فسمعتها تقول: يا رفيق ارفق بي. فسكن المطر؛ فأخذت صرة فيها عشرة دنانير وقرعت بابها. فقالت: اجعله حماد بن سلمة. فقلت: أنا حماد، سمعتك وقد تأذيت بالمطر فقلت يا رفيق ارفق بنا، فما بلغ من رفقه بك؟ فقالت: سكن المطر وأدفأ الصبيان وجفف البيت.
قال فأخرجت الدنانير وقلت: انتفعي بهذه. فإذا صبية عليها مدرعة من صوف تستبين خروقها، قد خرجت علي وقالت: ألا تسكت يا حماد تعترض بيننا وبين ربنا ومولانا؟ ثم قالت: يا أماه قد علمنا أنا لما شكونا مولانا أنه سيبعث إلينا بالدنيا ليطردنا من بابه ألصقت خدها بالتراب ثم قالت: أما أنا وعزتك لا زايلت بابك وإن طردتني.
ثم قالت: يا حماد رد عافاك الله دنانيرك إلى الموضع الذي أخرجتها منه فإنا رفعنا حوائجنا إلى من يقبل الودائع ولا يبخس المعاملين.(2/259)
عن عبيد الله بن محمد القرشي قال: كانت امرأة من عباد أهل البصرة، وكان لها أولاد فأصابها مطر في بعض الليل فوكف عليها البيت، فجعلت تنقل أولادها من موضع إلى موضع، فلا يزداد الوكف إلا شدة. فلما أذلقها ذلك قالت: يا رفيق ارفق بي.
قال: فما أصابها من ذلك المطر قطرة واحدة.(2/260)
ومن المصطفيات من عاقلات المجانين بالبصرة
628 - جارية
عن عبد الواحد قال: قال عتبة الغم: خرجت من البصرة فإذا أنا بخباء أعراب قد زرعوا، وإذا أنا بخيمة، وفي الخيمة جارية مجنونة عليها جبة صوف عليها مكتوب: لا تباع ولا تشترى. فدنوت فسلمت عليها فلم ترد علي السلام، ثم وليت. فسمعتها تقول:
زهد الزاهدون والعابدونا ... إذ لمولاهم أجاعوا البطونا
أسهروا الأعين القريحة فيه ... فمضى ليلهم وهم ساهرونا
حيرتهم محبة الله حتى ... علم الناس أن فيهم جنونا
هم ألبا عقول ولكن ... قد شجاهم جميع ما يعرفونا
قال: فدنوت إليها فقلت: لمن الزرع؟ فقالت: لنا إن سلم، فتركتها وأتيت بعض الأخبية فأرخت السماء كأفواه القرب. فقلت: والله لآتينها فأنظر قصتها في هذا المطر، فإذا أنا بالزرع قد غرق وإذا هي قائمة وهي تقول: والذي أسكن قلبي من طرف صفاء مودة محبته إن قلبي ليوقن منك بالرضا. ثم التفتت إلي فقالت: يا هذا إنه زرعه فأنبته وأقامه فسنبله وركبه فشققه وأرسل عليه غيثاً متغطمطاً فسقاه، واطلع عليه فحفظه فلما دنا حصاده أهلكه. ثم رفعت رأسها نحو السماء فقالت: العباد عبادك، وأرزاقهم عليك، فاصنع ما شئت فقلت لها: كيف صبرك؟ فقالت: اسكت يا عتبة:
إن إلهي لغني حميد ... في كل يوم منه رزق جديد
الحمد لله الذي لم يزل ... يفعل بي أكثر مما أريد
قال عتبة: فوالله ما ذكرت كلامها إلا هيجتني.
انتهى ذكر أهل البصرة.(2/261)
ذكر المصطفين من أهل الأبلة
629 - عابد
أبو إسحاق الهروي قال: كنت مع ابن الخروطي بالبصرة فأخذ بيدي وقال: قم حتى نخرج إلى الأبلة، فلما قربنا ونحن نمشي على شاطئ الأبلة في الليل والقمر طالع، إذ مررنا بقصر لجندي فيه جارية تضرب بالعود، فوقفنا في فناء القصر نستمع وفي جانب القصر الآخر في ظل القمر فقير بخرقتين واقف، فقالت الجارية:
كل يوم تتلون ... غير هذا بك أجمل
فصاح الفقير وقال: أعيديه فهذا حالي مع الله تعالى، فنظر صاحب الجارية إلى الفقير فقال لها: اتركي العود وأقبلي عليه فإنه صوفي فأخذت تقول، والفقير يقول: هذا حالي مع الله تعالى، والجارية تردد إلى أن زعق الفقير زعقة خر مغشياً عليه فحركناه فإذا هو ميت فقلنا: مات الفقير.
فلما سمع صاحب القصر بموته نزل فأدخله القصر فاغتممنا وقلنا: هذا يكفنه من غير وجهه، فصعد الجندي وكسر كل ما كان بين يديه فقلنا: ما بعد هذا إلا خير ومضينا إلى الأبلة وبتنا وعرفنا الناس.
فلما أصبحنا رجعنا إلى القصر وإذا الناس مقبلون من كل وجه إلى الجنازة كأنما نودي في البصرة حتى خرج القضاة والعدول وغيرهم، وإذا الجندي يمشي خلف الجنازة حافياً حاسراً حتى دفن.
فلما هم الناس بالانصراف قال الجندي للقاضي والشهود: اشهدوا أن كل جارية لي حرة لوجه الله تعالى وكل ضياعي وعقاري حبس في سبيل الله وفي صندوق لي أربعة آلاف دينار وهي في سبيل الله.
ثم نزع الثوب الذي كان عليه فرمى به وبقي بسراويله، فقال القاضي: عندي مئزران من وجههما تقبلهما فقال: شأنك. فحملهما إليه فاتزر بواحد واتشح بالآخر، وهام على وجهه فكان بكاء الناس عليه أكثر من بكائهم على الميت.(2/262)
ذكر المصطفيات من عابدات الأبلة
630 - شعوانة
معاذ بن الفضل، أبو عون، قال: بكت شعوانة حتى خفنا عليها العمى، فقلنا لها في ذلك، فقالت: أعمى والله في الدنيا من البكاء أحب إلي من أن أحب أحأعمى في الآخرة من النار.
مالك بن ضيغم قال: كان رجل من أهل الأبلة يأتي أبي كثيراً فيذكر له شعوانة وكثرة بكائها فقال له أبي يوماً: صف لي بكاءها.
فقال: يا أبا مالك أصف لك، هي والله تبكي الليل والنهار لا تكاد تفتر قال: ليس عن هذا أسألك، كيف تبتدئ بالبكاء؟ قال: نعم يا أبا مالك تسمع الشيء من الذكر فترى الدموع تنحدر من جفونها كالقطر. قال: فمجاري الدموع من المآق الذي على الأنف أكثر أم مؤخر العين مما يلي الصدغ؟ قال يا أبا مالك إن دموعها أكثر من أن يعرف هذا من هذا، ما هي إلا أن تسمع الذكر فتجيء عيناها بأربع نجوماً متبادرة جداً.
فبكى أبي وقال: ما أرى الخوف إلا قد أحرق قلبها كله، ثم قال: كان يقال إن كثرة الدموع وقلتها على قدر احتراق القلب، حتى إذا احترق القلب كله لم يشأ الحزين أن يبكي إلا بكى، والقليل من التذكرة يحزنه.
قال مالك بن ضيغم: وقال لي أبي يوماً انطلق مع منبوذ حتى تأتي هذه المرأة الصالحة فتنظر إليها، يعني شعوانة، فانطلقت أنا وأبو همام إلى الأبلة ثم غدونا عليها فدخلنا فسلم علياه منبوذ وقال: هذا ابن أخيك ضيغم. فرحبت بي وتحفت وقالت مرحباً بابن من لم نره ونحن نحبه، أما والله يا بني إني لمشتاقة إلى أبيك وما يمنعني من إتيانه إلا أني أخاف أن أشغله عن خدمة سيده، وخدمة سيده أولى به من محادثة شعوانة.
قال: ثم قالت: ومن شعوانة؟ وما شعوانة؟ أمة سوداء عاصية.
قال: ثم أخذت في البكاء فلم تزل تبكي حتى خرجنا وتركناها.
يحيى بن بسطام قال: كنت أشهد مجلس شعوانة كثيراً فكنت أرى ما تصنع بنفسها، فقلت لصاحب لي يقال له عمران بن مسلم: لو أتيناها إذا خلت. قال: فانطلقنا أنا وهو إلى الأبلة فاستأذنا عليها فأذنت لنا فإذا منزل رث الهيئة أثر الجدب عليه بين. فقال لها صاحبي: لو رفقت(2/263)
بنفسك فقصرت عن هذا البكاء شيئاً كان أقوى لك على ما تريدين. قال: فبكت ثم قالت: والله لوددت أني أبكي حتى تنفد دموعي، ثم أبكي الدماء حتى لا تبقى في جسدي جارحة فيها قطرة من دم، وأنى لي البكاء؟ قال: فلم تزل تردد ذلك حتى انقلبت حدقتاها، ثم مالت ساقطة مغشياً عليها. فقمنا فخرجنا وتركناها على تلك الحال.
روح بن سلمة قال: قال لي مضر: ما رأيت أحداً أقوى على كثرة البكاء من شعوانة، ولا سمعت صوتاً قط أحرق لقلوب الخائفين من صوتها إذا هي نشجت ثم نادت: يا موتى وبني الموتى وأخوة الموتى.
قال محمد: وقلت لأبي عمر الضرير: أتيت شعوانة؟ قال: قد شهدت مجلسها مراراً ما كنت أفهم ما تقول من كثرة بكائها. قلت: فهل تحفظ من كلامها شيئاً؟ قال: ما حفظت من كلامها شيئاً أذكره الساعة إلا شيئاً واحداً، قلت: وما هو؟ قال: سمعتها تقول: من استطاع منكم أن يبكي فليبك وإلا فليرحم الباكي فإن الباكي إنما يبكي لمعرفته بما أتى إلى نفسه.
عن الحارث بن المغيرة قال: كانت شعوانة تنوح بهذين البيتين:
يؤمل دنيا لتبقى له ... فوافى المنية قبل الأمل
حثيثاً يروَّي أصول الفسيل ... فعاش الفسيل ومات الرجل
الحسن بن يحيى قال: كانت شعوانة تردد هذا البيت فتبكي وتبكي النساك معها، تقول:
لقد أمن المغرور دار مقامه ... ويوشك يوماً أن يخاف كما أمن
عن فضيل بن عياض قال: قدمت شعوانة فأتيتها فشكوت إليها وسألتها أن تدعو بدعاء، فقالت: يا فضيل أما بينك وبين الله ما إن دعوته استجاب لك؟ قال: فشهق الفضيل وخر مغشياً عليه.
عن محمد بن عبد العزيز بن سلمان قال: كانت شعوانة قد كمدت حتى انقطعت عن الصلاة والعبادة فأتاها آت في منامها فقال:
أذري جفونك إما كنت شاجية ... إن النياحة قد تشفي الحزينينا
جدي وقومي وصومي الدهر دائبة ... فإنما الدوب من فعل المطيعينا
فأصبحت فأخذت في الترنم والبكاء وراجعت العمل.
إبراهيم بن عبد الملك قال: قدمت شعوانة وزوجها تمكة فجعلا يطوفان فإذا أكل أو أعيا(2/264)
جلس وجلست خلفه فيقول هو في جلوسه: أنا العطشان من حبك لا أروى. وتقول هي بالفارسية: أنبت لكل داء دواء في الجبال، ودواء المحبين في الجبال لم ينبت. رضي الله عنها.(2/265)
631 - خشة الأبلية
يعقوب بن محمد قال: قالت خشة الأبلية: إن الذنوب أقل في جودك من أن لا تغفرها، من ثم خلا قلبي من الذنوب لمحبتك. رضي الله عنها.(2/265)
ومن عقلاء المجانين بالأبلة:
632 - ريحانة
أبو القاسم بن سعيد قال: سمعت صالحاً المري يقول: رأيت ريحانة المجنونة فسلمت عليها فقالت لي: يا صالح اسمع:
بوجهك لا تعذبني فإني ... أؤمل أن أفوز بخير دار
وأنت مجاور الأبرار فيها ... ولولا أنت ما طاب المزار
عن الربيع قال: بت أنا ومحمد بن المنكدر وثابت البناني عند ريحانة المجنونة بالأبلة فقامت أول الليل وهي تقول:
قام المحب إلى المؤمل قومة ... كاد الفؤاد من السرور يطير
فلما كان جوف الليل سمعتها تقول أيضاً:
لا تأنسن بمن توحشك نظرته ... فتمنعن من التذكار في الظلام
واجهد وكد وكن في الليل ذا شجن ... يسقيك كأس وداد العز والكرم
قال: ثم نادت: واحرباه واسلباه. فقلت: مم ذا؟ فقالت:
ذهب الظلام بأنسه وبألفه ... ليت الظلام بأنسه يتجدد
انتهى ذكر أهل الأبلة رضي الله عنهم.(2/266)
ذكر المصطفين من عباد عبادان رضي الله عنهم
سعيد بن عطارد
...
ذكر المصطفين من عباد عبادان رضي الله عنهم
أبو بكر المروزي قال: سمعت عبد الصمد يقول: قال لي بشر بن الحارث: عبادان ميدان العباد.
قال المروزي: وقال لي أبو عبد الله بن حنبل: ما زال العباد يأتونها وقد رأيت بها هداباً العابد.
محمد بن نعيم بن الهيصم قال: سمعت بشر بن الحارث قال: من أراد الزهد والعمل فليأت عبادان، وددت أني في زاوية من زوايا عبادان في عافية، حرسها الله تعالى.
633 - سعيد بن عطارد رضي الله عنه
إسحاق بن عباد قال: سمع سعيد بن عطارد ضجة في مسجد أبي عاصم بالليل، فقام فقال: تذهب بهذا الدرهم السوق تلقيه في هذه الجياد لعل الله عز وجل يتجاوز به.
عبد الصمد قال: كان سعيد بن عطارد بكاء. رضي الله عنه.(2/267)
634 - عابد من بني سعد
أبو عاصم العباداني قال: كان رجل من بني سعد يقدم علينا في أول مااتخذت عبادان فكانت إذ ذاك وبيئة قال: فكان يصلي الليل والنهار لا يكاد يفتر، فإذا كان السحر احتبى واستقبل البحر فجعل يبكي وينوح على نفسه.
قال: فإذا أحس بإنسان أمسك. قال: فخرجت ذات ليلة إلى الساحل فإذا أنا بصوته وإذا هو يبكي ويقول في بكائه:
ألا يا عين ويحك أسعديني ... بطول الدمع في ظلم الليالي
لعلك في القيامة أن تفوزي ... بخير الدهر في تلك العلالي
قال فلما أحس أمسك فرجعت وتركته.(2/267)
عباد مجهولين الأسماء
...
635 - عابد آخر
سلم بن زرعة بن حماد أبو المرضي، شيخ بعبادان له عبادة وفضل، قال: ملح الماء عندنا منذ ينف وستين سنة وكان ههنا رجل من أهل الساحل له فضل قال: ولم يكن في الصهاريج شيء وحضرت المغرب فهبطت لأتوضأ للصلاة من النهر، وذلك في رمضان وحر(2/267)
شديد فإذا أنا به وهو يقول: سيدي أرضيت عملي حتى أتمنى عليك أم رضيت طاعتي حتى أسألك؟ سيدي غسالة الحمام لمن عصاك كثير، سيدي لولا أني أخاف غضبك لم أذق الماء ولقد أجهدني العطش.
قال: ثم أخذ بكفيه فشرب شرباً صالحاً فتعجبت من صبره على ملوحته فأخذت من الموضع الذي أخذ فإذا هو بمنزلة السكر فشربت حتى رويت.
قال أبو المرضي: فقال لي هذا الشيخ يوماً: رأيت فيما يرى النائم كأن رجلاً يقول لي: قد فرغنا من بناء دارك لو رأيتها قرت عيناك وقد أمرنا بنجدها والفراع منها إلى سبعة أيام واسمها السرور، فأبشر بخير فلما كان اليوم السابع وهو يوم الجمعة بكر للوضوء فنزل في النهر وقد مد فزلق فغرق فأخرجناه بعد الصلاة فدفناه.
قال أبو المرضي فرأيته بعد ثالثة في النوم وهو يجيء إلى القنطرة وهو يكبر وعليه حلل خضر فقال لي: يا أبا المرضي أنزلني الكريم دار السرور فما أعد لي فيها؟ فقلت: صف لي فقال: هيهات يعجز الواصفون عن أن تنطق ألسنتهم بما فيها، فاكتسب مثل الذي اكتسبت وليت أن عيالي يعلمون أن قد هيئ لهم منازل معي، فيها كل ما اشتهت أنفسهم، نعم وإخواني وأنت معهم إن شاء الله. ثم انتبهت.
636 - عابد آخر
العطار قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: رأيت رجلاً على ساحل عبادان قد قطع الجذام يديه ورجليه وقد ذهب بصره فجعلت أنظر إليه وأقول في نفسي: مجذوم مكفوف قال: فصاح وقال: من ذا المتكلف الذي يدخل بيني وبين مولاي قال بشر فأدبني قوله.
637 - عابد آخر
علي بن سعيد العطار قال: مررت بعبادان بمكفوف مجذوم وإذا الزنبور يقع عليه فيقطع لحمه فقلت الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفتح من عيني ما أغلق من عينك.
قال: بينما أنا أردد الحمد إذ صرخ، فبينا هو يتخبط نظرت إليه فإذا هو مقعد فقلت مكفوف يصرع مقعد مجذوم. قال: فما استتممت حتى صاح: يا متكلف ما دخولك فيما بيني وبين ربي؟ دعه يفعل بي ما شاء. ثم قال: وعزتك وجلالك لو قطعتني إرباً إرباً أو صببت علي البلاء صباً ما ازددت لك إلا حباً رضي الله عنه.(2/268)
638 - عابد آخر
عابد بعبادان قال: مكثت ستة أيام لم أطعم شيئاً. قال: قلت أجرب نفسي على الصبر. فلما كانت الليلة السابعة دخل في قلبي من ذلك سرور، ورأيت أني قد صبرت وعملت شيئاً فإذا بقائل يقول: لم تبلغ كنه الصابرين، إنما الصابرون المستقلون لأعمالهم، الخائفون عليها من فسادها، الوجلون من ردها عليهم، فأولئك هم الصابرون.
639 - عابد آخر
أحمد بن محمد البزاز قال: كنت بعبادان وكانت ليلة عاشوراء، فدخلت إلى دار السبيل فرأيت فقيراً جالساً يأكل خبز الشعير وملحاً جريشاً فاحترق قلبي عليه وكان معي ألف دينار للتفرقة بعبادان فسألت عنه فقيل: هو أفضل من ههنا في الزهد ومنازلة الفقر فقلت في نفسي: أعطيه الدنانير التي معي فإني لا أعرف المستحقين.
فلما أصبحنا قصدته وسلمت عليه وجلست إليه وباسطني وباسطته فقلت له: رأيت الشيخ البارحة يأكل خبز الشعير وملحاً جريشاً وأعلم أنه كان صائماً فحملت إليه شيئاً ليتحكم فيه. وقدمت إليه الكيس وقلت له: هو ألف دينار فشدد النظر وقال: خذه فإن هذا جزاء من أفشى سره إلى الناس.
640 - عابد آخر
أبو الخير الأسود المعروف بالعسقلاني قال: كان بعبادان رجل زنجي مفلفل الشعر يأوي الخربات، فحملت معي شيئاً وطلبته فلما رفع بصره تبسم وأشار بيده إلى الأرض، فرأيت حولي حيث أرى دراهم ودنانير تلمعان. ثم قال لي: هات ما معك فناولته وهربت وهالني أمره.
641 - عابد آخر
عبد الله بن محمد قال: كتب إلي إسحاق بن موسى الأنصاري يذكر أن عباد بن كليب حدثهم قال: كنت بعبادان فرأيت شاباً من قريش عليه جبة صوف فسمعته يقول: إن لله عباداً يستروحون إلى الغموم فقلت: يرحمك الله تلبس الصوف؟ فقال: إنما أنا عبد فإذا أعتقت لبست فذكرت ذلك لشريك فقال: ما أكره الصوف لمثل هذا، ما خرج هذا الكلام إلا من كنز.(2/269)
642 - عابد آخر
بحر أبو يحيى العابد قال: رأيت عابداً بعبادان يبكي عامة الليل والنهار فقلت له: يا أخي كم تبكي فازداد بكاء ثم قال لي: فما أصنع إذا لم أبك؟ فما أصنع إذا لم أبك؟ وغشي عليه.(2/270)
ومن عابدات عبادان:
643 - عابدة
صالح بن عبد الله قال: خرجنا من عبادان منذ نحو من ستين سنة، فلما صرنا عند الجبل في بعض تلك السكك ومعنا قارئ لنا فقرأ فإذا امرأة على سطح فصرخت ثم سقطت من السطح فحملت فأدخلت داراً ثم مما برحنا حتى ماتت.
قال: ونودي في أهل البصرة فما رأيت يوماً أحسن ولا أكثر جمعاً من ذلك اليوم.
انتهى ذكر أهل عبادان.(2/271)
644 - ذكر مجنون بمهرجان قذق
أبو همام، إسرائيل بن محمد القاضي قال: كان بمهرجان قذق رجل يقال له سابق وكان معتوهاً ذاهب العقل قد توحش فكان مأواه الخربات والغياض والمقابر قال: وكنت أحب أن أكلمه وأسمع جوابه. فقيل لي يوماً: هو في المقابر. فقمت حافياً فدخلت المقابر فإذا أنا به منكس رأسه في قبر، فلم يعلم حتى سلمت فرفع رأسه فقال: وعليكم السلام.
قال: وهبته فانقطعت ولم أتكلم، فرأى ذلك في فقال: يا إسرائيل خف الله خوفاً لا يشغلك عن الرجاء فإنك إن ألزمت قلبك الرجاء شغلته عن الخوف، وفر إلى الله ولا تفر منه فإنه مدركك ولن تعجزه، ولا تطع المخلوق في معصية الخالق واعلم أن لله تعالى يوماً تشخص فيه القلوب والأبصار، مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء.
قال: ثم قام فتخطى حائطاً ومضى في الخرابات فقلت للذي يحفر القبور: إذا جاء فأتني فأعلمني.
فمكث شهراً أو أكثر. قال: وأتاني الرجل فقال: قد دخل الساعة المقابر فقمت إليه في غير نعل ولا رداء، فلما بصر بي ولى وأسرعت فقلت: يا سابق لا أعود إليك بعد اليوم. فوقف فقلت: علمني كلمات أدعو بهن فقال: إن آخذ الكلام للقلوب ما جاء من القلوب وإن أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس. ثم قال: قل اللهم اجعل نظري عبرة، وسكوتي فكرة، وكلامي ذكراً ثم ولى مسرعاً.(2/271)
ذكر من اصطفي من أهل تستر
645 - سهل بن عبد الله بن يونس التستري
يكنى أبا محمد رضي الله عنه.
العباس بن أحمد قال: سمعت سهل بن عبد الله يقول: آلة الفقير ثلاثة أشياء: حفظ سره، وأداء فرضه، وصيانة فقره.
أبو بكر الجوزي قال: سمعت سهل بن عبد الله يقول: ليس كل من عمل بطاعة الله صار حبيب الله، ولكن من اجتنب ما نهى الله عنه صار حبيب الله ولا يجتنب الآثام إلا صديق مقرب وأما أعمال البر فيعملها البر والفاجر.
أخبرنا محمد. قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله قال: سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول: سمعت أبا بكر محمد بن المنذر يقول: قال سهل بن عبد الله: من دق الصراط عليه في الدنيا عرض عليه في الآخرة، ومن عرض عليه الصراط في الدنيا دق له في الآخرة.
أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سلمة قال: سمعت سهل بن عبد الله يقول: استجلب حلاوة الزهد بقصر الأمل، واقطع أسباب الطمع بصحة اليأس، وتعرض لرقة القلب بمجالسة أهل الذكر، واستفتح باب الحزن بطول الفكر، وتزين لله بالصدق في كل الأحوال، وإياك والتسويف فإنه يغرق الهلكى، وإياك والغفلة فإن فيها سواد القلب، واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر.
أبو حفص بن شاهين قال: قرأت على جعفر بن محمد الثقفي، سمعت سهل بن عبد الله يقول: أول الحجاب الدعوى فإذا أخذوا في الدعوى حرموا.
أبو بكر أحمد بن محمد السائح قال: سمعت القاسم بن محمد صاحب سهل يقول: سمعت سهل بن عبد الله يقول: ليس بين العبد وبين الله حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق أقرب إليه من الافتقار.
__________
645 - هو: سهل بن عبد الله بن يونس، شيخ العارفين، أبو محمد التستري، الصوفي الزاهد، توفي سنة ثلاث وثمانين، ويقال: عاش ثمانين سنة أو أكثر سير أعلام النبلاء 10/649.(2/272)
علي بن سالم قال: سمعت سهل بن عبد الله، وقيل له: أي شيء أشد على النفس؟ فقال: الإخلاص، لأنه لها فيه نصيب.
محمد بن الحسن بن الصباح قال: سمعت سهل بن عبد الله يقول: أمس قد مات، واليوم في النزع، وغد لم يولد.
أبو العباس الخواص، جارنا بالدور، قال: كنت عند سهل بن عبد الله وكنت أحب شيئاً من أمره الذي كان يسره، وقد كنت سألت جماعة من أصحابه: من أين يقتات؟ فلم يقف أحد منهم على شيء فيخبرني به، فجئت ليلة إلى مسجده وهو قائم يصلي فوقفت طويلاً وهو لا يرجع حتى جاءت شاة فزحمت باب المسجد وأنا أراها، فلما سمع سهل حركة الباب ركع وسجد وسلم وخرج إلى باب المسجد ففتحه وقدم الشاة إليه ومسح يده عليها، وقد كان أخرج معه قدحاً أخذه من طاق في المسجد فحلب وشرب ثم مسح يده عليها وكلمها بالفارسية فذهبت في الصحراء، ودخل هو إلى المسجد وقام في محرابه.
محمد بن الحسن بن الصباح قال: قال سهل بن عبد الله التستري: من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء ويجيء الرجل فيقول: يا فلان أي شيء تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا؟ فيقول: طلقت امرأته، ويجيء آخر فيقول: بم تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا؟ فيقول: ليس يحنث بهذا القول. وليس هذا إلا لنبي أو لعالم فاعرفوا لهم ذلك.
أسند سهل عن خاله محمد بن سوار، ولقي ذا النون، وتوفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وقيل ثلاث وسبعين رضي الله عنه.(2/273)
ومن المصطفين من أهل شيراز:
646 - أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي
ولد في سنة ثلاث وتسعين وثلاث مائة، وتفقه على جماعة منهم أبو الطيب الطبري، ودخل بغداد في سنة خمس عشرة وأربعمائة، وسمع الحديث من البرقاني وأبي علي بن
__________
646 - هو: أبو إسحاق الشيرازي، الشيخ الإمام القدوة، المجتهد، شيخ الإسلام، أبو إسحاق، إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزابادي الشيرازي، الشافعي، نزيل بغداد، قيل: لقبه جمال الدين، مولده في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة.(2/273)
شاذان، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه، فقال له: يا شيخ فكان يفرح ويقول سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم شيخاً.
وقال: كنت أعيد كل درس مائة مرة وإذا كان في المسئلة بيت يستشهد به حفظت القصيدة كلها لأجله، وكان عاملاً بالعلم وصابراً على خشونة العيش.
وقال يوماً لبعض أصحابه: وكلتك في أن تشتري لي دبساً بهذا القرص على وجه الآخر. فمضى واشترى وجاء به وشك بأي القرصين اشترى؟ فما أكل الشيخ، وقال: لا أدري هل اشتريت بالقرص الذي وكلتك فيه أم بالآخر؟.
وكان يوماً يمشي ومعه بعض أصحابه فعرض في الطريق كلب فزجره الصاحب، فنهاه أبو إسحاق وقال: لم طردته عن الطريق؟ أما علمت أن الطريق بيني وبينه مشترك.
وقال أبو الوفاء بن عقيل: شاهدت شيخنا أبا إسحاق لا يخرج شيئاً إلى فقير إلا أحضر النية. ولا يتكلم في المسألة إلا قدم الاستعانة بالله وإخلاص القصد في نصرة الحق دون التحسن للخلق، ولا صنف مسألة إلا بعد أن صلى ركعات، فلا جرم شاع اسمه وانتشرت تصانيفه شرقاً وغرباً هذه بركات الإخلاص.
وتوفي أبو إسحاق في سنة ست وسبعين وأربعمائة. ورئي في المنام وعليه ثياب بيض وعلى رأسه تاج فقيل له: ما هذا البياض؟ فقال: شرف الطاعة. قيل: والتاج؟ قال عز العلم. رضي الله عنه.(2/274)
ومن المصطفين من أهل كرمان:
647 - شاه بن شجاع الكرماني
يكنى أبا الفوارس كان من أبناء الملوك فتزهد رضي الله عنه.
أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت جدي أبا عمرو بن نجيد يقول: كان شاه بن شجاع حاد الفراسة. وقيل: ما أخطأت فراسته.
وكان يقول: من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشهوات، وعمر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعود نفسه أكل الحلال لم تخط له فراسة.
__________
647 - هو: أبو الفوارس الكرماني شاه بن شجاع، تعرى من الأعراض وتحرز من الأعراض، كان من أبناء الملك، وتشمر للسلوك وتخفف للاستباق، متحققا بالاشتياق، انظر حلية الأولياء 10/252.(2/274)
ابن الحشا قال: قال شاه الكرماني: من صحبك ووافقك على ما يحب، وخالفك فيما يكره، فإنما يصحب سواه، ومن صحب هواه فهو يطلب راحة الدنيا.
أبو علي الأنصاري قال: سمعت شاه بن شجاع الكرماني يقول: لأهل الفضل فضل ما لم يروه، فإذا رأوه فلا فضل لهم، ولأهل الولاية ولاية ما لم يروها، فإذا رأوها فلا ولاية لهم.
صحب شاه بن شجاع أبا تراب النخشي وأبا عبيد البسري وغيرهما، ولا نعلمه أسند حديثاً.
وحكى السلمي عن عبد الله بن محمد الرازي قال: أظنه مات بعد سبعين ومائتين رضي الله عنه.(2/275)
ومن المصطفين من أهل أرجان:
648 - عابدة
عبد ربه الخواص قال: قالت كان بأرجان امرأة فارسية تقول: يا مولاي تدبرت حكمتك في خلقك فإذا العدل منك يقصمهم، ثم رجعت بعد إلى معرفتي بسعة رحمتك. فعلمت أن عفوك يسعهم، مولاي أخرت الخاطئين فلم تعجل عليهم بالعقوبة فلقد أطمعهم حسن إنظارك لهم في حسن عفوك عن جرائم الخاطئين، وما يمنعهم من ذلك وقد تقدم إلى الأمم إحسانك قبل ذلك؟
قال وكانت تنوح على نحو هذا الكلام وتبكي -رضي الله عنها -.(2/275)
ومن المصطفين من أهل سجستان:
649 - أبو داود السجستاني
واسمه سليمان بن الأشعث بن إسحاق كان من أكبر أئمة المحدثين وعلمائهم بالنقل وعلله، ولم يسبقه أحد إلى مثل تصنيفه كتاب السنن، وعرضه على أحمد بن حنبل فاستحسنه.
وقال إبراهيم الحربي: ألين الحديث لأبي داود كما ألين الحديد لداود، وجمع مع علمه الورع والتقوى.
أبو بكر بن راشد قال سمعت أبا داود يقول: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس مائة
__________
649 - هو: سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد الأزدي السجستاني، أبو داود، ثقة حافظ مصنف السنن وغيرها، من كبار العلماء، من الحادية عشرة، مات سنة خمس وسبعين.(2/275)
ألف حديث وانتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب، يعني كتاب السنن، جمعت فيه أربعة ألف وثمان مائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه وما يقاربه، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث، إحداها: قوله صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنيات" 1.
والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه" 2.
والثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه" 3.
والرابع: قوله صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات ... " 4 الحديث.
عبيد الله بن أحمد بن يعقوب المقري قال: أخبرني محمد بن بكر بن عبد الرزاق في كتابه قال: كان لأبي داود السجستاني كم واسع وكم ضيق، فقيل له: يرحمك الله ما هذا؟ قال: الواسع للكتب والآخر لا يحتاج إليه.
عن إبراهيم عن علقمة قال: كان عبد الله يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه ودله، وكان علقمة يشبه بعبد الله.
وقال جرير بن عبد الحميد: كان إبراهيم يشبه بعلقمة وكان منصور يشبه بإبراهيم.
وقال غير جرير: كان سفيان يشبه بمنصور.
وقال عمر بن أحمد: قال أبو علي القوهستاني: كان وكيع يشبه بسفيان. وكان أحمد بن حنبل يشبه بوكيع، وكان أبو داود يشبه بأحمد بن حنبل -رضي الله عنهم.
أبو بكر بن أبي داود قال: سمعت أبي يقول: الشهوة الخفية حب الرياسة.
كتب أبو داود عن العراقيين والخراسانيين والشاميين والبصريين والجزريين وغيرهم،
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري في بدء الوحي باب "1" الحديث "1" ومسلم في كتاب الإمارة الحديث "155" وأبو داود في الطلاق باب "11".
2 حسن: أخرجه الترمذي في كتاب الزهد حديث "2317" باب "11" وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه، وابن ماجة في كتاب الفتن باب "12" من حديث أبي هريرة، وأحمد في المسند الحديث "1732".
3 صحيح: أخرجه البخاري في كتاب الإيمان الحديث "13" ومسلم في كتاب الإيمان الحديث "71، 72".
4 صحيح: أخرجه البخاري في الإيمان الحديث "52" باب "39" فضل من استبرأ لدينه، ومسلم في كتاب المساقاة الحديث "107، 108".(2/276)
وسمع من مسلم بن إبراهيم وسليمان بن حرب وخلق لا يحصون، وكتب عنه أحمد بن حنبل حديثاً واحداً واصله من سجستان ثم سكن البصرة وقدم بغداد مراراً.
وتوفي بالبصرة سنة خمس وسبعين ومائتين.(2/277)
من المصطفين من أهل ديبل
أبو عبد الله الديبلي
...
650 - أبو عبد الله الديبلي
محمد بن منصول الطوسي قال: سمعت أبا عبد الله الديبلي يقول: كلمني بعض إخواني مرة أن أشتري لعيالي داراً فاشتريت لهم داراً وكان الله تعالى قد وهب لي طي الأرض، فقص جناحي، فبعث إلي بعض إخواني: إلقنا الليلة في موضع كذا وكذا على مسافة من الأرض، فبعثت إليهم قد قص جناحي فادعوا لي فبعثوا إلي صلة من الموضع الذي انقص فرجعت فحرقت الصك فرد الله علي ما كان ذهب مني.(2/277)
ذكر المصطفين من عباد البحرين:
651 - خليفة العبدي
هلال بن دارم قال: كان خليفة العبدي جاراً لنا بالبحرين فكان يقوم إذا هدأت العيون فيقول: اللهم إليك قمت أبتغي ما عندك من الخيرات. ثم يعمد إلى محرابه لا يزال يصلي حتى يطلع الفجر.
قال: وحدثتني عجوز كانت تكون معه في الدار قالت: كنت أسمعه يدعو في السجود يقول: هب لي إنابة إخبات وإخبات منيب وزيني في خلقك بطاعتك، وحببني لديك بحسن خدمتك، وأكرمني إذا وقد إليك المتقون فأنت خير مسؤول وخير معبود وخير مشكور وخير محمود.
وقالت: كنت أسمعه إذا دعا في السحر يقول: قام البطالون وقمت معهم، قمنا إليك ونحن متعرضون لجودك، فكم من ذي جرم عظيم قد صفحت له عن جرمه، وكم من ذي كرب عظيم قد فرجت له عن كربه، وكم من ذي ضر كثير قد كشفت له عن ضره، فبعزتك ما دعانا إلى مسألتك بعد ما انطوينا عليه من معصيتك إلا الذي عرفتنا من جودك وكرمك، فأنت المؤمل لكل خير، والمرجو عند كل نائبة.(2/277)
بكر بن مصادر قال: قال خليفة العبدي، وكان ممن ينظر بنور الله وينطق بحكمته: أصبح الخلق على خطر من الله عظيم، وهم عن ذاك معرضون فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال: وكان خليفة قد أخلقه الدؤوب والكلال.
يحيى بن بسطام قال: قال ضيغم صلى خليفة العبدي حتى انشقت قدماه.(2/278)
عابدان
...
652 - عابد آخر
إبراهيم بن عيسى اليشكري قال: دخلت على رجل بالبحرين قد اعتزل الناس وتفرغ لنفسه فذاكرته شيئاً من أمر الآخرة وذكر الموت، قال: فجعل والله يشهق حتى خرجت نفسه وأنا أنظر إليه قال: فدخل الناس عليه فقالوا: يا عبيد الله ما أردت إلى هذا؟ لعلك أن تكون ذاكرته بشيء من أمر الموت. قال: قلت أجل والله لقد كان ذلك. قال: فبكى رجل من جيرانه وقال: رحمك الله لقد خفت أن يقتلك ذكر الموت حتى والله لقد قتلك، قال: ثم جهزناه ودفناه رضي الله عنه.
653 - عابد آخر
قال مسمع: سمعت عابداً من أهل البحرين يقول في جوف الليل، ونحن على بعض السواحل، قرة عيني، وسرور قلبي، ما الذي أسقطني من عينك يا مانح العصم قال: ثم صرخ وبكى ثم نادى طوبى لقلوب ملأتها خشيتك واستولت عليها محبتك فمحبتك مانعة لها من كل لذة غير مناجاتك، والاجتهاد في خدمتك، وخشيتك قاطعة لها عن كل معصية خوفاً لحلول سخطك، ثم بكى وقال: يا إخوتاه ابكوا على خوف فوت الآخرة حيث لا رجعة ولا حيلة.(2/278)
ذكر المصفيات من عابدات البحرين
منيفة بنت أبي طارق
...
ذكر المصطفيات من عابدات البحرين
654 - منيفة بنت أبي طارق
مسمع بن عاصم المسمعي قال: كانت بالحبرين امرأة عابدة يقال لها منيفة، فكانت إذا هجم الليل عليها قالت: بخ بخ يا نفس قد جاء سرور المؤمن، فتتحزم وتلبس وتقوم إلى محرابها فكأنها الجذع القائم حتى تصبح؛ فإذا أصبحت وأمكنت الصلاة فإنما هي في صلاة حتى ينادى بالعصر، فإذا صلت العصر هجعت إلى غروب الشمس هذا دأبها، قيل لها: لو جعلت هذه النومة في الليل كان أهدأ لبدنك، فقالت: لا والله لا أنام في ظلمة الليل ما دمت في الدنيا.
قال أبو سفيان فحدثني رجل من أهلها قال: فمكثت كذلك أربعين سنة ثم ماتت.
قال أبو سفيان: فحدثني رجل من البحرين يقال له عامر بن مليك قال: رأيت منيفة بعد موتها في منامي فقلت: يا منيفة ما حال الناس هناك؟ فأقبلت علي وقالت: عن أي حالهم تسأل؟ الدار واحدة لأهل الطاعة يتعالون فيها بالأعمال، ولا تسأل عن حال أهل النار. قال: فبكيت والله من قولها لا تسأل عن حال أهل النار. ثم وليت فأتبعتني صوتاً: يا عامر عليك بالجد والاجتهاد لعلك أن تجري في مساعي السابقين غداً. قال عامر: فمرضت والله من هذه الرؤيا شهراً.
قال أبو سيار: وحدثني عامر بن مليك البحراني عن أمة قالت: بت ذات ليلة عند منيفة ابنة أبي طارق فما زادت على هذه الآية من أول الليل إلى آخره ترددها وتبكي وتقول: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} آل عمران.(2/279)
655 - ماجدة القرشية
المنهال بن يحيى البصري قال: حدثني إياس بن حمزة، رجل من أهل البحرين، قال: قالت امرأة من قريش يقال لها ماجدة، كانت تسكن البحرين: طوى أملي طلوع الشمس وغروبها، فما من حركة تسمع ولا من قدم توضع إلا ظننت أن الموت في أثرها.
وكانت تقول: سكان دار أوذنوا بالنقلة وهم حيارى يركضون في المهلة كأن المراد(2/279)
غيرهم، أن التأذين ليس لهم والمعني بالأمر سواهم، آه من عقول ما أنقصها، ومن جهالة ما أتمها بؤساً لأهل المعاصي ماذا غروا به من الإمهال والاستدراج؟.
وكانت تقول: بسطوا آمالهم فأضاعوا أعمالهم، ولو نصبوا الآجال وطووا الآمال خفت عليهم الأعمال.
وكانت تقول: لم ينل المطيعون ما نالوا من حلول الجنان ورضا الرحمن إلا بتعب الأبدان لله والقيام لله بحقه في المنشط والمكره.
وكانت تقول: كفى المؤمنين طول اهتمامهم بالمعاد شغلاً.
وكانت تقول: لو رأت أعين الزاهدين ثواب ما أعد الله لأهل الإعراض عن الدنيا لذابت أنفسهم شوقاً إلى الموت لينالوا من ذلك ما أملوا من تفضله تعالى، رضي الله عنها.(2/280)
ذكر المصطفيات من عابدات البحرين المجهولات الأسماء
656 - عابدة
عن عبد الواحد بن زيد قال: رأيت امرأة بالبحرين تنشج على الآخرة نشيجاً، كلما نشجت نشجة قلت: نفسها خارجة معها، قال: فحرصت على أن أجاريها شيئاً من الخير فلم أقدر على ذلك فكان أول ما حفظت عنها وآخره أن قالت: تشاغل أيها المرء بنفسك، فوالله ما هممت قط بموعظة أعظ بها غيري إلا حال تقصيري فيما بيني وبين ذلك، ولئن كان المرء لا يعظ أحداً حتى يتعظ، لقد أمكن إبليس من نفسه يقوده حيث يشاء، والله ما أنا بحامدة لنفسي في ذلك ولود إبليس أنه قدر على ذلك من جميع الخلق كما قدر عليه مني، فلم يكن أحد يحض على طاعة الله ولكن مر أيها المرء بالبر وإن لم تستطعه، واحذر أن تنهى عن الشر وتأتيه.(2/281)
ومن المصطفين من أهل اليمامة
يحيى بن أبي كثير مولى لطيء
...
ومن المصطفين من أهل اليمامة:
657 - يحيى بن أبي كثير مولى لطيئ
كان من أهل البصرة فتحول إلى اليمامة ويكنى أبا نصر. كذا قال البخاري.
البخاري قال: قال موسى: سمعت وهيباً يقول: سمعت أيوب يقول: ما بقي على وجه الأرض مثل يحيى بن أبي كثير.
مسدد قال: سمعت عبد الله بن يحيى بن أبي كثير قال: سمعت أبي يقول: لا يأتي العلم براحة الجسد.
مسدد: ثنا عبد الله بن يحيى بن كثير قال: سمعت أبي يقول: ميراث العلم خير من الذهب، والنفس الصالحة خير من اللؤلؤ.
__________
657 - هو: يحيى بن أبي كثير الطائي مولاهم، أبو نصر اليمامي، ثقة ثبت لكنه يدلس ويرسل، من الخامسة، مات سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: وقبل ذلك.
قال الشيخ شعيب: أرسل عن أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله الأنصاري والحكم بن مينا، وعروة بن الزبير، وأبي أمامة الباهلي وأبي سلام الحبشي، فروايته عن الصحابة منقطعة التحرير 4/99.(2/281)
حميد الكندي قال: سمعت يحيى بن أبي كثير يقول: تعلم الفقه صلاة، وقراءة القرآن ودراسته صلاة.
الأوزاعي قال: حدثني يحيى بن أبي كثير قال: العالم من يخشى الله عز وجل.
يحيى بن عبد الله قال: أنبأ يحيى بن أبي كثير قال: يقول الناس: فلان الناسك، وإنما الناسك الورع.
عن أبي عمرو، عن يحيى بن أبي كثير قال: ما صلح منطق رجل إلا عرفت ذلك في سائر عمله.
الوليد قال: سمعت الأوزاعي يقول: قال يحيى بن أبي كثير: إن ذكرك حسناتك ونسيانك سيئاتك غرة.
عن الأوزاعي عن يحيى أنه قال له رجل: إني أحبك، قال: قد عرفت ذلك من نفسي.
عامر بن يساف قال: كان يحيى بن أبي كثير حسن اللباس حسن الهيئة، ومات ولم يترك إلا ثلاثين درهماً كفنوه بها.
أسند يحيى عن أنس وابن أبي أوفى وغيرهما من الصحابة، وتوفي سنة تسع وعشرين ومائة.
قال أبو نعيم الفضل بن دكين: وقال ابن المديني: سنة ثنتين وثلاثين ومائة.(2/282)
658 - عابدة من البحرين أو اليمامة
عن ابن يسار يعني مسلماً قال: قدمت البحرين أو اليمامة في تجارة فإذا أنا بالناس مقبلين ومدبرين نحو منزل، فقصدت إليه فإذا أما بامرأة جالسة في مصلى لها، عليها ثياب غليظة وإذا هي كئيبة محزونة قليلة الكلام، وإذا كل ما رأيت ولدها وخولها وعبيدها والناس إليها بالبياعات والتجارات. فقضيت حاجتي ثم أتيتها فودعتها فقالت: حاجتنا إليك أن تأتينا إن عدت إلينا لحاجة فتنزل بنا حاجتك.
قال: فانصرفت فلبثت حيناً ثم إني توجهت إلى بلدها في حاجة فلما قدمتها لم أر دون منزلها شيئاً مما كنت رأيت، فأتيت منزلها فلم أر أحداً. فأتيت فاستفتحت فإذا أنا بضحك امرأة وكلامها ففتح لي فدخلت فإذا بها جالسة في بيت وإذا عليها ثياب حسنة رقيقة وإذا الضحك الذي سمعت ضحكها وكلامها، وإذا امرأة معها في بيتها فقط، فاستنكرت وقلت:(2/282)
لقد رأيتك على حالين فيهما عجب: حالك في قدمتي الأولى وحالك هذه! قالت: لا تعجب فإن الذي رأيت من حالي الأولى أني كنت فيما رأيت من الخير والسعة، وكنت لا أصاب بمصيبة في ولد ولا في خول ولا مال ولا أوجه في تجارة إلا سلمت، ولا يبتاع لي شيء إلا أربح فيه فتخوفت أن لا يكون لي عند الله عز وجل خير، فكنت مكتئبة لذلك، وقلت: لو كان لي عند الله خير ابتلاني. فتوالت علي المصائب في ولدي الذي رأيت، وخولي ومالي، فما بقي لي منه شيء، ورجوت أن يكون الله عز وجل قد أراد بي خيراً فابتلاني، وذكرني ففرحت لذلك وطابت نفسي.
قال: فانصرفت فلقيت عبد الله بن عمر فأخبرته خبرها فقال: أرى والله هذه ما فاتها أيوب النبي صلى الله عليه وسلم إلا بقليل، لكني قد تخرق مطرفي هذا، أو كلمة نحوها، فأمرت به أن يصلح فلم يعمل كما كنت أريد فأحزنني ذلك. انتهى ذكر أهل البحرين.(2/283)
ذكر المصطفين من أهل الدينور:
659 - ممشاد الدينوري رضي الله عنه
أبو بكر الرازي قال: قال ممشاد: طريق الحق بعيد والصبر مع الحق شديد.
وقال: ما أقبح الغفلة عن طاعة من لا يغفل عن برك، وعن ذكر من لا يغفل عن ذكرك.
وقال: صحبة أهل الصلاح تورث في القلب الصلاح، وصحبة أهل الفساد تورث فيه الفساد.
صحب ممشاد يحيى الجلاء ونظراءه من المشايخ، وتوفي في سنة تسع وتسعين ومائتين رضي الله عنه.
__________
659 - هو: الدينوري ممشاد، حارس همته العالية، وغارس خطراته الآتية، كان يقول: ما أقبح الغفلة عن طاعة من لا يغفل عن برك، وما أقبح الغفلة عن ذكر من لا يغفل عن ذكرك حلية الأولياء 10/377.(2/283)
660 - أبو الحسن علي بن محمد بن سهل الصائغ الدينوري
ممشاد قال: خرجت ذات يوم إلى الصحراء فبينما أنا مار إذا أنا بنسر قد فتح جناحه فتعجبت منه فاطلعت فإذا بأبي الحسن الصائغ الدينوري قائم يصلي والنسر يظله.
أبو عثمان المغربي قال: لم أر فيمن رأيت من المشايخ أكثر هيبة من أبي الحسن الصائغ.
أسند أبو الحسن الحديث وتوفي بمصر سنة ثلاثين وثلاث مائة.(2/283)
661 - أبو جعفر الدينوري رضي الله عنه
أبو بكر الكتاني قال: رأيت كأن القيامة قد قامت، فأول من خرج من عند الله عز وجل أبو جعفر الدينوري وكتائبه بيمينه وهو يضحك، ثم خرج إبراهيم الخواص بعده وكتابه بيمينه وهو يدرس القرآن.(2/284)
ومن المصطفين من أهل همذان:
662 - يوسف بن أيوب الهمذاني رضي الله عنه
قدم بغداد بعد الستين والأربعمائة، وتفقه على أبي إسحاق الشيرازي حتى برع في الفقه والنظر، ثم اشتغل بالتعبد فاجتمع في رباطه بمر وخلق زائد على الحد من المنقطعين إلى الله تعالى.
وكان يقول: دخلت جبل زر لزيارة عبد الله الخوني فوجدت ذلك الجبل كثير المياه والشجر معموراً بالأولياء، على رأس كل عين واحد من الرجال مشتغل بالمجاهدة، فطفت عليهم ولا أعلم في ذلك الجبل حجراً لم تصبه دمعتي.
ثم عاد يوسف ودخل بغداد في سنة ست وخمسمائة ووعظ بها ووقع له القبول التام، فقام إليه رجل متفقه يقال له ابن السقاء، فآذاه في مسألة فقال له: اجلس فإني أجد من كلامك رائحة الكفر ولعلك تموت على غير دين الإسلام.
فاتفق بعد مدة أن ابن السقاء خرج إلى بلاد الروم وتنصر. وقام يومئذ إلى يوسف شابان فقيهان فقالا له: إن كنت تتكلم على مذهب الأشعري وإلا فلا تتكلم. فقال: اجلسا لا متعكما بشبابكما. فماتا ولم يبلغا الشيخوخة.
ومن المصطفين من أهل قزوين:
__________
662 - هو: يوسف بن أيوب بن يوسف بن حسين بن وهرة، الإمام العالم الفقيه القدوة التقي، شيخ الإسلام أبو يعقوب الهمذاني الصوفي، شيخ مرو، ولد في حدود سنة أربعين وأربعمائة سير أعلام النبلاء 14/542.(2/284)
من المصطفين من أهل قزوين
والان بن عيسى، أبو مريم القزويني رضي الله عنه
...
663 - والان بن عيسى، أبو مريم القزويني رضي الله عنه
السري بن يحيى بعبادان، عن والان بن عيسى أبي مريم، عن رجل من أهل قزوين كان من الصالحين قال: غرني القمر ليلة فخرجت إلى المسجد فصليت لما قضى الله لي وسبحت(2/284)
ودعوت. فغلبتني عيناي، فرأيت جماعة أعلم أنهم ليسوا من الآدميين بأيديهم أطباق عليها أرغفة ببياض الثلج، فوق كل رغيف در أمثال الرمان، فقالوا: كل. قلت: أريد الصوم، قالوا: يأمرك صاحب هذا البيت أن تأكل. فأكلت وجعلت آخذ ذلك الدر لأحتمله فقيل لي: دعه نغرسه لك شجراً ينبت لك خيراً من هذا. فقلت: أين؟ فقيل: في دار لا تخرب، وثمر لا يتغير، وملك لا ينقطع، وثياب لا تبلى، فيها رضى وغنى وقرة العين أزواج وضيئات مرضيات راضيات، لا يغرن ولا يغرن، عليك بالانكماش فيما أنت فيه، فإنما هي غفوة حتى ترتحل فتنزل الدار.
فما مكث إلا جمعتين حتى توفي.
قال السري بن يحيى، فرأيته في الليلة التي توفي فيها وهو يقول لي: لا تعجب من شيء غرس لي يوم حدثتك وقد حمل. قلت: حمل بماذا؟ قال: لا تسأل بما لا يقدر على صفته أحد، لم ير مثل الكريم إذا حل به مطيع. رضي الله عنه.(2/285)
ذكر المصطفين من أهل أصبهان:
664 - محمد بن يوسف بن معدان
أبو عبد الله الأصبهاني رضي الله عنه كان ابن المبارك يسميه عروس الزهاد.
يحيى بن سعيد القطان قال: ما رأيت رجلاً أفضل من محمد بن يوسف الأصبهاني.
وسمعت ابن مهدي يقول: ما رأيت مثل محمد بن يوسف الأصبهاني.
يحيى بن سعيد القطان قال: كنت إذا نظرت إلى محمد بن يوسف رأيت رجلاً كأنه قد عاين الموت.
قال الدورقي: وسمعت رجلاً من أهل أصبهان يحدث عن عبد الرحمن بن مهدي قال: كتب أخو محمد بن يوسف إلى محمد بن يوسف يشكو إليه جور العمال، فكتب إليه: يا أخي بلغني كتابك تذكر ما أنتم فيه وإنه ليس ينبغي لمن عمل بالمعصية أن ينكر العقوبة وما أرى ما أنتم فيه إلا شؤم الذنوب.
عطاء بن مسلم الحلبي قال: كان محمد بن يوسف الأصبهاني يختلف إلي عشرين سنة لم
__________
664 - هو: محمد بن يوسف بن معدان، الزاهد، العابد، القدوة أبو عبد الله الأصبهاني، عروس الزهاد، له حديث واحد، وهو منكر، سير أعلام النبلاء 8/76.(2/285)
أعرفه، يجيء إلى الباب فيقول: رجل غريب يسأل حتى رأيته يوماً في المسجد فقيل لي: هذا محمد بن يوسف الأصبهاني، فقلت: هذا يختلف إلي منذ عشرين سنة لم أعرفه.
أبو حاتم قال: بلغني عن ابن المبارك قال: قلت لابن إدريس: أريد الثغر، فدلني على أفضل رجل به. فقال: عليك بمحمد بن يوسف الأصبهاني. فقلت فأين يسكن؟ قال: المصيصة ويأتي السواحل.
فقدم عبد الله بن المبارك المصيصة فسأل عنه فلم يعرف فقال ابن المبارك: من فضلك لا تعرف.
يوسف بن زكريا قال: كان محمد بن يوسف لا يشتري زاده من خباز واحد، ولا من بقال واحد، وقال: لعلهم يعرفوني فيحابوني فأكون ممن يعيش بدينه.
سعيد بن عبد الغفار قال: قلت لمحمد بن يوسف: أوصني. فقال: إن استطعت أن لا يكون شيء أهم إليك من ساعتك فافعل.
أيوب بن معمر قال: حدثوني بالبصرة أن محمد بن يوسف كان يأوي بالليل إلى دار امرأة. قالت: فكان يدخل بعد العشاء ثم يخرج عند طلوع الفجر فلا ينصرف إلى العشاء. قالت: وكان يدخل بيتاً في الدار ويرد على نفسه الباب. قالت: فذهبت ليلة فاطلعت في البيت فرأيت عنده سراجاً يزهر قالت: ولم يكن في البيت سراج قالت: ففطن محمد أنا اطلعنا عليه فخرج من الغد ولم يعد إلينا.
قال عبد الرحمن بن مهدي: رأيت محمد بن يوسف في الشتاء والصيف، فلم يكن يضع جنبه.
محمد بن أبي رجاء ومحمد بن قتيبة أو أحدهما: أن محمد بن يوسف خرج في جنازة بالمصيصة فنظر إلى قبر أبي إسحاق الفزاري ومخلد بن الحسين، وبينهما موضع قبر. فقال لو أن رجلاً مات فدفن بينهما.
قال: فما أنت عليه إلا عشرة أيام أو نحوها حتى دفن في الموضع الذي أشار إليه.
أدرك محمد بن يوسف التابعين: فروى عن يونس بن عبيد الأعمش، وقد روى عن الثوري والحمادين وصالح المري وغيرهم إلا أنه لم يكد يسند حديثاً إنما كان يرسل الحديث شغلاً بالتعبد عن الرواية.
وتوفي سنة أربع وثمانين ومائة ولم يكمل له أربعون سنة.(2/286)
665 - أبو إسحاق إبراهيم بن عيسى الأصبهاني
كانت عبادته تشبه عبادة الملائكة: قليلة يقوم إلى قريب الفجر ثم يركع ويتمها ركعتين، وليلة يركع إلى قريب الفجر ثم يسجد ويتمها ركعتين، وليلة يسجد إلى قريب الفجر ثم يركع ويتمها ركعتين، ثم يدعو في آخر الليل لجميع الناس، ولجميع الحيوان والبهائم والوحش، ويقول: في اليهود والنصارى: اللهم اهدهم، ويقول في التجار: اللهم سلم تجاراتهم.
وصحب معروفاً الكرخي وتوفي سنة تسع وأربعين ومائتين.
__________
665 - هو: إبراهيم بن عيسى الزاهد، صحب معروفا الكرخي، وسمع من أبي داود الطيالسي، ومحمد بن المقرئ توفي سنة تسع وأربعين ومائتين، حلية الأولياء 1/425.(2/287)
666 - أبو عبيد الله محمد بن يوسف البناء
كان يفتي الناس بالأجرة فيأخذ منها دانقاً لنفقته ويتصدق بالباقي، ويختم كل يوم ختمة. ولقي ستمائة شيخ، وكتب الحديث الكثير.
وبلغني عن أبي علي بن شاذان قال: سمعت أبا جعفر محمد بن قتادة يقول: سمعت محمد بن يوسف يقول: كنت بمكة فكنت أدعو الله عز وجل وأقول: يا رب إما أن تدخل قلبي المعرفة أو اقبضني إليك، فلا حاجة لي في الدنيا والحياة بلا معرفة.
قال: فرأيت في النوم كأن قائلاً يقول: إن أردت هذا فصم شهراً ولا تكلم أحداً من الناس فيه، ثم ادخل قبة زمزم وسل الحاجة. ففعلت ذلك وختمت كل يوم ختمة. فلما انقضى الشهر على ذلك دخلت قبة زمزم ورفعت يدي ودعوت الله عز وجل، وسألته الحاجة فسمعت من البئر هاتفاً يقول: يا ابن يوسف اختر أيما أحب إليك: العلم مع الغنى والدنيا أم المعرفة مع الفقر والقلب؟ فقلت: المعرفة مع الفقر والقلب. فسمعت من البئر، قد أعطيت، قد أعطيت.
وكان محمد بن يوسف من المتدينين الأتقياء، توفي في سنة ست وثمانين ومائتين.(2/287)
667 - أبو جعفر أحمد بن مهدي بن رستم
محمد بن حيان قال: كان أحمد بن مهدي ذا مال كثير نحو ثلثمائة ألف درهم، فأنفقه كله على العلم، وذكر أنه لم يعرف له فراش أربعين سنة.
__________
667 - هو: أحمد بن مهد، بن رستم، الإمام القدوة العابد الحافظ المتقن، أبو جعفر الأصبهاني، توفي سنة اثنتين وسبعين ومائتين، سير أعلام النبلاء 10/403.(2/287)
قال أحمد بن مهدي: جاءتني امرأة ببغداد ليلة من الليالي فذكرت أنها من بنات الناس، وأنها امتحنت بمحنة وسألك بالله أن تسترني. فقلت: وما محنتك؟ فقالت: أكرهت على نفسي، وأنا حبلى، وذكرت للناس أنك زوجي وأن ما بي من الحبل منك، فلا تفضحني، استرني سترك الله. فسكت عنها ومضت. فلم أشعر حتى وضعت وجاء إمام المحلة في جماعة الجيران يهنئوني بالولد فأظهرت لهم التهلل ووزنت في اليوم الثاني دينارين ودفعتهما إلى الإمام فقلت: أبلغ هذا إلى تلك المرأة لتنفقه على المولود فإنه سبق ما فرق بيني وبينها. فكنت أدفع كل شهر دينارين وأوصله إليها بيد الإمام وأقول: هذه نفقة المولود إلى أن أتى على ذلك سنتان ثم توفي المولود فجاءني الناس يعزوني، فكنت أظهر لهم التسليم والرضا فجاءتني المرأة ليلة من الليالي بعد شهر ومعها تلك الدنانير التي كنت أبعث بها بيد الإمام فردتها وقالت: سترك الله كما سترتني. فقلت: هذه الدنانير كانت صلة مني للمولود، وهي لك فإنك ربيته فاعملي فيها ما تريدين.
أسند أبو جعفر الحديث الكثير.(2/288)
668 - علي بن سهل بن الأزهر أبو الحسن الأصبهاني
كان من المترفين فتزهد فكان يبقى الأيام الكثيرة لا يأكل.
أبو حامد أحمد بن عبد الله بن رسته وكان من أصحاب علي بن سهل، قال: قال علي بن سهل: استولى علي الشوق فألهاني عن الأكل.
أبو بكر محمد بن عبد الله الطبري قال: سمعت علي بن سهل بن الأزهر يقول: المبادرة إلى الطاعات من علامات التوفيق، والتقاعد عن المخالفات من علامات حسن الرعاية، ومراعاة الأسرار من علامات التيقظ، وإظهار الدعاوى من رعونات البشرية، ومن لم تصح مبادي إرادته لا يسلم في منتهى عواقبه.
أحمد بن عبد الله قال: سمعت أبي وغيره من أصحاب علي بن سهل أنه كان يقول: ليس موتي كموتكم بأعلال وأسقام، إنما هو دعاء وإجابة أدعى فأجيب، فكان كما قال: كان يوماً قاعداً في جماعة فقال: لبيك ووقع ميتاً.
أبو جعفر الأصبهاني قال: قال علي بن سهل بن أزهر، أستاذي رحمة الله عليه: إني لا أموت كما يموت أحدكم، يمد رجلاً ويرفع أخرى، إنما يصاح بي يا علي بن سهل! فأقول: لبيك.(2/288)
فبينا هو جالس ذات يوم قال: لبيك، وتمدد فإذا هو ميت أو كما قال.
قلت: كان علي بن سهل من أحسن الناس إشارة، وكان يكاتب الجنيد فيقول الجنيد: ما أشبه كلامه بكلام الملائكة، وتوفي سنة سبع وثلاثمائة.(2/289)
669 - عابد أصبهاني
عن عبد الواح بن زيد قال: خرجنا أنا وفرقد السبخي ومحمد بن واسع ومالك بن دينار نزور أخاص لنا بأرض فارس. فلما جاوزنا مهرمز إذا نحن برجل مجذوم متفطر قيحاً ودماً. فقال له بعضنا: يا هذا لو دخلت هذه المدينة فتداويت وتعالجت من بلائك هذا. فرفع طرفه إلى السماء ثم قال: إلهي أتيت بهؤلاء ليسخطوني عليك؟ لك الكرامة والعتبى بأن لا أخالفك أبداً.(2/289)
ذكر المصطفين من أهل الري:
670 - جرير بن عبد الحميد بن جرير الرازي
علي بن المديني قال: كان جرير بن عبد الحميد الرازي صاحب ليل، وكان له رسن يقولون: إذا أعيا تعلق به. يريد أنه كان يصلي.
سفيان بن عيينة قال: قال لي ابن شبرمة: عجباً لهذا الرازي، يعني جرير بن عبد الحميد، عرضت عليه مائة درهم في الشهر من الصدقة فقال: يأخذ المسلمون كلهم مثل هذا؟ قلت: لا. قال: فلا حاجة لي فيها.
ولد جرير سنة عشر ومائة وفيها مات الحسن، ورأى أيوب السختياني وسمع من مغيرة وحسين ومنصور بن المعتمر، في خلق كثير، وتوفي سنة ثمان وثمانين ومائة.
__________
670 - هو: جرير بن عبد الحميد بن قرط -بضم القاف وسكون الراء بعدها طاء مهملة - الضبي الكوفي، نزيل الري وقاضيها ثقة، صحيح الكتاب، قيل: كان في آخر عمره يهم من حفظه مات سنة ثمان وثمانين، وله إحدى وسبعون سنة.(2/289)
671 - المعلى بن منصور الرازي
يحيى بن معين قال: كان المعلى بن منصور الرازي يوماً يصلي فوقع على رأسه كور الزنابير فما التفت ولا انفتل حتى أتم صلاته فنظروا فإذا رأسه قد صار هكذا من شدة الانتفاخ.
__________
671 - هو: معلى بن منصور الرازي، أبو يعلى، نزيل بغداد، ثقة سني فقيه طلب للقضاء فامتنع، أخطأ من زعم أن أحمد رماه بالكذب، من العاشرة، مات سنة إحدى عشرة على الصحيح.(2/289)
772 - أبو إسحاق الدولابي
صاحب كرامات، محمد بن منصور الطوسي قال: جئت مرة إلى معروف الكرخي فعض أنامله وقال: هاه لو لحقت أبا إسحاق الدولابي، كان هنا الساعة يسلم علي فذهبت أقوم فقال لي: اجلس لعله قد بلغ منزله بالري.(2/290)
673 - أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد الرازي
كان من كبار الحفاظ وسادات أهل التقوى.
عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: ما جاوز الجسر أحفظ من أبي زرعة.
أبو عبد الله محمد بن مسلم بن واره يقول: كنت عند إسحاق بن إبراهيم، فقال رجل من أهل العراق: سمعت أحمد بن حنبل يقول: صح من الحديث سبعمائة ألف حديث وكسر، وهذا الفتى - يعني أبا زرعة - قد حفظ ستمائة ألف.
محمد بن إسحاق الصاغاني قال في حديث ذكره من حديث الكوفة فقال: هذا أفادنيه أبو زرعة. فقال له بعض من حضر: يا أبا بكر أبو زرعة من أولئك الحفاظ الذين رأيتهم، وذكر جماعة من الحفاظ منهم الفلاس. فقال: أبو زرعة أعلاهم لأنه جمع الحفظ مع التقوى والورع، وهو يشبه بأحمد بن حنبل.
أبو العباس محمد بن جعفر بن حمدويه الرازي قال: سئل أبو زرعة الرازي عن رجل حلف بالطلاق أن أبا زرعة يحفظ مائتي ألف حديث هل حنث؟ فقال: لا. ثم قال أبو زرعة: أحفظ مائتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} الإخلاص: 1 وفي المذاكرة ثلاثمائة ألف.
أحمد بن سعيد الدارمي قال: صلى أبو زرعة الرازي في مسجده عشرين سنة بعد قدومه من السفر، كان يوم من الأيام قدم عليه قوم من أصحاب الحديث، فنظروا فإذا في محرابه كتابة، قالوا له: كيف تقول في الكتابة والمحاريب؟ فقال: قد كرهه قوم ممن مضى. قالوا له: هو ذا في محرابك كتابة أو ما علمت به؟ قال: سبحان الله، رجل يدخل على الله تعالى ويدري ما بين يديه.
__________
673 - هو: عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ، أبو زرعة الرازي، إمام حافظ ثقة مشهور، من الحادية عشرة مات سنة أربع وستين، وله أربع وستون.(2/290)
أبو جعفر التستري قال: حضرنا أبا زرعة وكان في السوق، وعنده أبو حاتم ومحمد بن مسلم والمنذر بن شاذان وجماعة من العلماء، فذكروا حديث التلقين، وقوله عليه السلام: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" 1 فاستحيوا من أبي زرعة وهابوا أن يلقنوه، فقالوا: تعالوا نذكر الحديث فقال محمد بن مسلم أنبأ الضحاك بن مخلد عن عبد الحميد بن جعفر بن صالح ولم يجاوز، والباقون سكتوا، فقال أبو زرعة وهو في السوق: ثنا بندار قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبي غريب، عن كثير بن مرة الحضرمي، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله ... " وتوفي رحمه الله"2.
أسند أبو زرعة عن خلاد بن يحيى، وأبي نعيم، وقبيص، وخلق كثير، وجالس أحمد بن حنبل وذاكره. وكان أحمد إذا ذاكره يترك الشغل ويشتغل بمذاكرته.
وتوفي بالري آخر يوم نمن ذي الحجة سنة أربع وستين ومائتين، وكان مولده سنة مائتين.
أحمد بن محمد، أبو العباس المرادي قال: رأيت أبا زرعة في المنام فقلت يا أبا زرعة ما فعل الله بك؟ فقال: لقيت ربي عز وجل فقال لي: يا أبا زرعة إني أوتي بالطفل فآمر به إلى الجنة فكيف بمن حفظ السنن على عبادي؟ تبوأ من الجنة حيث شئت.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم في كتاب الجنائز الحديث "917" باب "1 - 10" تلقين الميت، والدعاء له، والبكاء عليه والصبر عند الصدمة الأولى والميت يعذب ببكاء أهله، وأبو داود في كتاب الجنائز حديث "3117" باب في التلقين.
2 صحيح: أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز حديث "3116" باب في التلقين، وأحمد في المسند حديث "22095" والحاكم في المستدرك "1/315" وصححه ووافقه الذهبي.(2/291)
674 - يحيى بن معاذ بن جعفر الرازي
يكنى أبا زكريا. نزيل الري، ثم انتقل إلى نيسابور فسكنها وبها مات وكانوا ثلاثة أخوة: إسماعيل ويحيى وإبراهيم، فإسماعيل أكبرهم سناً، ويحيى أوسطهم، وإبراهيم أصغرهم، وكانوا كلهم زهاداً.
محمد بن محمود السمرقندي قال: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: الكلام الحسن
__________
674 - هو: يحيى بن معاذ بن جعفر الرازي، المادح الشاكر، القانع الصابر الراجي الجآر، الواعظ الذكار، انظر حلية الأولياء 10/53.(2/291)
حسن، وأحسن من الحسن معناه وأحسن من معناه استعماله وأحسن من استعماله ثوابه، وأحسن من ثوابه رضا من يعمل له.
قال: وسمعت يحيى يقول: إلهي حجتي حاجتي وعدتي فاقتي، وسيلتي إليك نعمتك علي، وشفيعي إليك إحسانك إلي.
طاهر بن إسماعيل قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: الذي حجب الناس عن التوبة طول الأمل، وعلامة التائب إسبال الدمعة، وحب الخلوة، والمحاسبة للنفس عند كل همة.
عن أبي عمران قال: سمعت يحيى بن معاذ يدعو: اللهم لا تجعلنا ممن يدعو إليك بالأبدان ويهرب منك بالقلوب، يا أكرم الأشياء علينا لا تجعلنا أهون الأشياء عليك.
الحسن بن علويه يقول: سمعت يحيى بن معاذ يقول: عمل كالسراب، وقلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمل والتراب، ثم تطمع في الكواعب الأتراب؟ هيهات، أنت سكران بغير شراب، ما أكملك لو بادرت أملك، ما أجلك لو بادرت أجلك، ما أقواك لو خالفت هواك.
محمد بن إسماعيل بن موسى قال: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: كيف أمتنع بالذنب من الدعاء ولا أراك تمتنع بذنبي من العطاء؟
أبو بكر بن طاهر قال: كان ليحيى بن معاذ أخ يقال له إسماعيل، وكان أكبر منه، فقال رجل: مع من يريد أن يعيش أخوك يحيى وقد هجر الخلق؟ قال: فذكر ذلك ليحيى فقال له يحيى: ألا قلت له: مع من هجرهم فيه؟
الحسن بن علويه الدامغاني قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: ذنب أفتقر به إليه أحب إلي من طاعة أفتخر بها عليه.
عبد الله بن سهل قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: ليكن حظ المؤمن منك ثلاثاً: إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه.
الحسن بن علويه قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: على قناطر الفتن جاوزوا إلى خزائن المنن. وسمعته يقول: إلهي كيف أفرح وقد عصيتك؟ وكيف لا أفرح وقد عرفتك؟ وكيف أدعوك وأنا خاطئ؟ وكيف لا أدعوك وأنت كريم؟
جامع بن أحمد قال: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: ليكن بيتك الخلوة وطعامك الجوع، وحديثك المناجاة فإما أن تموت بدائك أو تصل إلى دوائك.(2/292)
مكحول بن الفضل النسفي قال: قال يحيى بن معاذ: مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلهما: في ماله عند موته. قيل ما هما؟ قال يؤخذ منه كله ويسأل عنه كله.
عبد الله بن سهل قال: قال يحيى بن معاذ الكيس من عمال الله يلهج بتقويم الفرائض والجاهل يعني بطلب الفضائل وتقويم الأعمال في تصحيح العزائم.
الحسن بن علويه قال: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: هلم يا ابن آدم إلى دخول جوار الله تعالى بلا عمل ولا نصب ولا عناء، أنت بين ما مضى من عمرك وما بقي، فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم وليس شيئاً عملته بالأركان فإذا أنت إنما هو أمر نويته وتمتنع فيما بقي من الذنوب وامتناعك إنما هو شيء نويته وليس شيئاً عملته بالأركان فإذا أنت نجوت بغير عمل مع القيام بالفرائض وهذا ليس بعمل وهو أكبر الأعمال لأنه عمل القلب والجزاء لا يكون إلا على عمل القلب.
الحسن بن علويه قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: دواء القلب خمسة أشياء، قراءة القرآن بالتفكر، وخلاء البطن وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين.
وسمعته يقول: إذا كنت لا ترضى عن الله كيف تسأله الرضا عنك؟
الحسن بن علي بن يحيى قال: قال يحيى بن معاذ: لولا أن العفو من أحب الأشياء إليه ما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه.
عبد الله بن سهل الرازي قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: كم من مستغفر ممقوت وساكت مرحوم. ثم قال يحيى: هذا أستغفر الله وقلبه فاجر، وهذا سكت وقلبه ذاكر.
أحمد بن عبد الجبال المالكي قال: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: حقيقة المحبة أنها لا تزيد بالبر ولا تنقص بالجفاء.
السري بن سهل قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: الناس ثلاثة: رجل شغله معاده عن معاشه، ورجل شغله معاشه عن معاده ورجل مشتغل بهما جميعاً، فالأولى درجة الفائزين، والثانية درجة الهالكين، والثالثة درجة المخاطرين.
الحسن بن علويه قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من ربه العفو.
عبد الله بن صالح قال: قال يحيى بن معاذ: الزاهدون غرباء الدنيا والعارفون غرباء الآخرة.(2/293)
محمد بن الحسين بن المعلى البلخي قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: يا بن آدم طلبت الدنيا طلب من لا بد له منها، وطلبت الآخرة طلب من لا حاجة له إليها، والدنيا قد كفيتها وإن لم تطلبها، والآخرة بالطلب منك تنالها فاعقل شأنك.
عبد الله بن سهل الرازي قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: مفاوز الدنيا تقطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تقطع بالقلوب - وسمعته يقول: يا ابن آدم لا يزال دينك متمزقاً ما دام قلبك بحب الدنيا متعلقاً.
وسمعته يقول: وقيل له من أي شيء دوام غمك؟ قال: من شيء واحد قيل: ما هو؟ قال: خلقني ولا أدري لم خلقني.
وسمعته يقول: لا يفلح من شممت منه رائحة الرياسة.
وسمعته يقول: من سعادة المرء أن يكون خصمه فهماً وخصمي لا فهم له. قيل له: ومن خصمك؟ قال: نفسي تبيع الجنة بما فيها من النعيم المقيم بشهوة ساعة.
وسمعته يقول: للتائب فخر لا يعادله فخر، فرح الله بتوبته.
أبو العباس بن حكمويه الرازي قال: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: لا تستبطئ الإجابة إذا دعوت وقد سددت طرقاتها بالذنوب.
وسمعته يقول: إلهي إن كانت ذنوبي عظمت في جنب نهيك فإنها قد صغرت في جنب عفوك.
وسمعته يقول: لو سمع الخلق صوت النياحة على الدنيا في الغيب من ألسنة الفناء لتساقطت القلوب منهم حزناً، ولو رأت العقول بعيون الإيمان نزهة الجنة لذابت النفوس شوقاً، ولو أدركت القلوب كنه المحبة لخالقها لانخلعت مفاصلها ولهاً، ولطارت الأرواح إليه من أبدانها دهشاً، سبحان من أغفل الخليقة عن كنه هذه الأشياء، وألهاهم بالوصف عن حقائق هذه الأنباء.
الحسن بن علي قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: الليل طويل فلا تقصره بمنامك، والنهار نقي فلا تدنسه بآثامك.
عبد الله بن سهل قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: حفت الجنة بالمكاره وأنت تكرهها، وحفت النار بالشهوات وأنت تطلبها، فما أنت إلا كالمريض الشديد الداء، إن صبر نفسه على مضض الدواء اكتسب بالصبر عافية وإن جزعت نفسه مما يلقى طالت به علة الضنا.(2/294)
عبد الله بن محمد بن وهب قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: ألا إن العاقل المصيب من عمل ثلاثاً: ترك الدنيا قبل أن تتركه، وبنى قبره قبل أن يدخله، وأرضى ربه قبل أن يلقاه.
وسمعته يقول: الدنيا خراب، وأخرب منها قلب من يعمرها، والآخرة دار عمران، وأعمر منها قلب من يطلبها.
وسمعته يقول: أخوك من عرفك العيوب، وصديقك من حذرك من الذنوب.
وسمعته يقول: عجبت ممن يحزن على نقصان ماله كيف لا يحزن على نقصان عمره؟.
وسمعته يقول: على قدر خوفك من الله يهابك الخلق، وعلى قدر حبك لله يحبك الخلق، وعلى قدر شغلك بالله يشتغل الخلق بأمرك.
محمد بن محمود السمرقندي قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: إن قال لي يوم القيامة: عبدي، ما غرك بي؟ قلت: إلهي برك بي.
وسمعته يقول، وسئل: أرنا عارفاًن قال: وأين أنتم فأريكم؟ عجباً لقوم عموا عن العرفاء يطلبون الخلفاء.
وسمعته يقول: استسلم القوم عندما فهموا.
وسمعته يقول: من قوة اليقين ترك ما يرى لما لا يرى.
وسمعته يقول: أيها المريدون إن اضطررتم إلى طلب الدنيا فاطلبوها ولا تحبوها، وأشغلوا بها أبدانكم وعلقوا بغيرها قلوبكم، فإنها دار ممر وليست بدار مقر، الزاد منها والمقيل في غيرها.
وسمعته يقول: رضي الله عن قوم فغفر لهم السيئات، وغضب على قوم فلم يقبل منهم الحسنات.
وسمعته يقول: يا ابن آدم، ما لك تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت؟ وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت؟
وسمعته يقول: التوحيد في كلمة واحدة، ما تصور في الأوهام فهو بخلافه.
وسمعته يقول: طاعة لا حاجة بي إليها لا تمنعني مغفرة لا غناء بي عنها.
وسمعته يقول: هو ألقاهم في الذنب يوم سمى نفسه العفو الغفور.
وسمعته يقول: ذنب أفتقر به إليه أحب إلي من عمل أدل به عليه.(2/295)
وسمعته يقول: إلهي كيف لا أرجوك تغفر لي ذنباً رجاؤك ألقاني فيه؟
وسمعته يقول: إن الحكيم يشبع من ثمار فيه.
وسمعته يقول: كيف أحب نفسي وقد عصتك؟ وكيف لا أحبها وقد عرفتك؟
وسمعته يقول: إن وضع علينا عدله لم تبق لنا حسنة، وإن أتى فضله لم تبق لنا سيئة.
وسمعته يقول: إن غفرت فخير راحم، وإن عذبت فغير ظالم.
وسمعته يقول: إلهي ضيعت بالذنب نفسي، فارددها بالعفو علي.
وسمعته يقول: إلهي ارحمني لقدرتك علي أو لحاجتي إليك.
وسمعته يقول: مسكين من علمه حجيجه ولسانه، وفهمه القاطع لعذره.
وسمعته يقول: ذنوب مزدحمة على عاقبة مبهمة.
ثم قال: إلهي سلامة إن لم تكن كرامة.
وسمعته يقول: وسئل ما العبادة؟ فقال: حرفة حانوتها الخلوة وربحها الجنة.
وسمعته يقول: ما من رباني في الطريق ينعمه، وأشار لي في الورود إلى كرمه معرفتي بك دليلي عليك، وحبي لك شفيعي إليك.
وسمعته يقولك ما من أعطانا خير ما في خزائنه الإيمان به قبل السؤال، لا تمنعنا عفوك مع السؤال.
وسمعته يقول: إلهي إن إبليس لك عدو وهو لنا عدو، وإنك لا تغيظه بشيء هو أنكأ له من عفوك، فاعف عنا يا أرحم الراحمين.
وسمعته يقول: يا من يغضب على من لا يسأله، لا تمنع من قد سألك.
وسمعته يقول: لا تقع للمؤمن سيئة إلا وهو خائف أن يؤخذ بها، والخوف حسنة فيرجو أن يعفى عنها والرجاء حسنة.
وسمعته يقولك إلهي لا تنس لي دلالتي عليك وإشارتي بالربوبية إليك، رفعت إليك يداً بالذنوب مغلولة، وعيناً بالرجاء مكحولة، فاقبلني لأنك ملك لطيف، وارحمني لأني عبد ضعيف.
وسمعته يقول: هذا سروري بك خائفاً، فكيف سروري بك آمناً؟ هذا سروري بك في المجالس فكيف سروري بك في تلك المجالس، هذا سروري بك في دار الفناء فكيف يكون سروري بك في دار البقاء؟(2/296)
عبد الله بن سهل قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: من أحب زينة الدنيا والآخرة فلينظر في العلم ومن أحب أن يعرف الزهد فلينظر في الحكمة، ومن أحب أن يعرف مكارم الأخلاق فلينظر في فنون الآداب، ومن أحب أن يستوثق من أسباب المعاش فليستكثر من الإخوان، ومن أحب أن لا يؤذي فلا يؤذين، ومن أحب رفعة الدنيا والآخرة فعليه بالتقوى.
وسمعته يقول: من خان الله عز وجل في السر هتك سره في العلانية.
أبو محمد الإسكاف قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: لست آمركم بترك الدنيا، آمركم بترك الذنوب - ترك الدنيا فضيلة وترك الذنوب فريضة، وأنتم إلى إقامة الفريضة أحوج منكم إلى الحسنات والفضائل.
الحسن بن علويه يقول: سمعت يحبى بن معاذ يقول: لا تكن ممن يفضحه يوم موته ميراثه، ويوم حشره ميزانه.
الحسن بن علويه قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لا يفيق إلا في عسكر الموتى نادماً بين الخاسرين.
محمد بن محمود السمرقندي قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول، وقال له بعض الملحدين: أخبرني عن الله ما هو؟ قال: إله واحد. قال كيف هو؟ قال: ملك قادر. قال: أين هو؟ قال: بالمرصاد. قال ليس عن هذا سألتك. قال يحيى: فذاك إذاً صفة المخلوقين، وأما صفة الخالق فما أخبرتك به.
سمع يحيى بن معاذ من إسحاق بن إبراهيم الرازي ومكي بن إبراهيم البلخي وعلي بن محمد الطنافسي، وتوفي بنيسابور سنة ثمان وخمسين ومائتين والسلام.(2/297)
675 - إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل الخواص
يكنى أبا إسحاق. أصله من سر من رأى، لكنه أقام بالري ومات بها.
جعفر بن محمد الخلدي في كتابه قال: سمعت إبراهيم الخواص يقول: سلكت البادية إلى مكة سبعة عشر طريقاً فيها طريق من ذهب، وطريق من فضة.
أبو مسلم السقاء قال: سمعت بعض أصحابنا يحكي عن إبراهيم الخواص أنه قال: كان
__________
675 - هو: إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل الخواص، المتبتل المتوكل، أبو إسحاق، له في التوكل الحال المشهور والذكر المنشور حلية الأولياء 10/347.(2/297)
لي وقت فترة، فكنت أخرج كل يوم إلى شط نهر كبير كان حواليه الخوص، وكنت أقطع شيئاً من ذلك وأسفه قفافاً وأطرحه في ذلك النهر فأتسلى بذلك وكأني كنت مطالباً به، فجرى وقتي على ذلك أياماً كثيرة فتفكرت يوماً وقلت: أمضي خلف ما أطرحه من الماء من القفاف لأنظر أين تذهب فمضيت على شاطئ النهر ساعات ولم أعمل ذلك اليوم فإذا عجوز قاعدة على شط النهر تبكي، قلت: ما لك تبكين؟ فقالت: لي خمسة من الأيتام مات أبوهم فأصابني الفقر والشدة فأتيت يوماً هذا الموضع فجاء على رأس الماء قفاف من الخوص فأخذتها وبعتها وأنفقت عليهم، وأتيت اليوم الثاني والثالث والقفاف تجيء على رأس الماء فكنت آخذها وأبيعها، واليوم ما جاءت. قال إبراهيم: فرفعت يدي إلى السماء وقلت: اللهم لو علمت أن لي خمسة من العيال لزدت في العمل. وقلت للعجوز: لا تغتمي فإني الذي كنت أعمل ذلك. فمضيت معها فكانت فقيرة فقمت بأمرها وبأمر عيالها سنين. أو كما قال.
محمد بن زياد المقيم بكلواذي وكان قد بكى حتى ذهبت عيناه. قال: سألت إبراهيم الخواص عن أعجب ما رآه في البادية فقال: كنت ليلة من الليالي في البادية فنمت على حجر فإذا أنا بشيطان قد جاء وقال: قم من ها هنا. فقلت: اذهب. فقال: إني أرفسك فتهلك. فقلت: افعل ما شئت. فرفسني فوقعت رجله علي كأنها خرقة، فقال: أنت ولي الله، من أنت؟ قلت: أنا إبراهيم الخواص. قال: صدقت. ثم قال: يا إبراهيم معي حلال وحرام، فأما الحلال فرمان من الجبل المباح، وأما الحرام فحيتان، مررت على صيادين وهما يصطادان فتخاونا فأخذت الخيانة فكل أنت الحلال ودع الحرام.
حامد الأسود قال: كنت مع إبراهيم الخواص في سفر فدخلنا إلى بعض الغياض فلما أدركنا الليل إذا بالسباع قد أحاطت بنا فجزعت لرؤيتها وصعدت إلى شجرة، ثم نظرت إلى إبراهيم وقد استلقى على قفاه فأقبلت السباع تلحسه من قرنه إلى قدميه، وهو لا يتحرك. ثم أصبحنا وخرجنا إلى منزل آخر وبتنا في مسجد فرأيت بقة وقعت على وجه إبراهيم فلسعته، فقال: أخ. فقلت: يا أبا إسحاق أي شيء هذا التأوه؟ أين أنت من البارحة؟ فقال: ذاك حال كنت فيه بالله، وهذا حال أنا فيه بنفسي.
علي بن محمد الحلواني قال: كان إبراهيم الخواص جالساً في مسجد الري وعنده جماعة إذ سمع ملاهي من الجيران، فاضطرب من ذلك من كان في المسجد وقالوا: يا أبا(2/298)
إسحاق ما ترى؟ فخرج إبراهيم من المسجد نحو الدار التي فيها المنكر فلما بلغ طرف الزقاق إذا كلب رابض فلما قرب منه إبراهيم نبح عليه وقام في وجهه. فرجع إبراهيم إلى المسجد وتفكر ساعة ثم قام مبادراً وخرج فمر على الكلب فبصبص الكلب له فلما قرب من باب الدار خرج إليه شاب حسن الوجه وقال: أيها الشيخ لم انزعجت؟ كنت وجهت ببعض من عندك فأبلغ كل ما تريد، وعلي عهد الله وميثاقه لا شربت أبداً وكسر الجميع ما كان عنده من الشراب وآلته وصحب أهل الخير ولزم العبادة، ورجع إبراهيم إلى مسجده فلما جلس سئل عن خروجه في أول مرة ورجوعه، ثم خروجه في الثانية وما كان من أمر الكلب، فقال: نعم، إنما نبح علي الكلب لفساد كان قد دخل علي في عقد بيني وبين الله لم أنتبه له في الوقت، فلما رجعت إلى الموضع ذكرته فاستغفرت الله عز وجل منه. ثم خرجت الثانية فكان ما رأيتم، وهكذا كل من خرج لإزالة منكر فتحرك عليه شيء من المخلوقات فلفساد عقد بينه وبين الله عز وجل، فإذا وقع الأمر على الصحة لم يتحرك عليه شيء.
أبو بكر بن محمد بن عبد الله الأنصاري قال: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن أحمد الخواص يقول: من لم يصبر لم يظفر، وإن لإبليس وثاقين ما أوثق بنو آدم بأوثق منهما: خوف الفخر والطمع.
الأزدي قال: سمعت إبراهيم الخواص يقول: دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين.
وقال: على قدر إعزاز المرء لأمر الله يلبسه الله من عزه، ويقيم له العز في قلوب المؤمنين.
جعفر بن محمد الخلدي قال: سمعت إبراهيم الخواص يقول: من لم تبك الدنيا عليه لم تضحك الآخرة إليه.
خير النساج قال: سمعت إبراهيم الخواص وقد رجع من سفره، وكان غاب عني سنين، فقلت له: ما الذي أصابك في سفرك؟ فقال: عطشت عطشاً شديداً حتى سقطت من شدة العطش فإذا أنا بماء قد رش على وجهي فلما أحسست ببرده فتحت عيني فإذا برجل حسن الوجه والزي، وعليه ثياب خضر، على فرس أشهب فسقاني حتى رويت، ثم قال: ارتدف خلفي وكنت بالحاجر. فلما كان بعد ساعة قال: أي شيء ترى؟ قلت: المدينة. فقال انزل(2/299)
واقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وقل: أخوك الخضر يسلم عليك، وقد رويت لنا هذه الحكاية من طريق آخر وفيها: قل له: رضوان يقرأ عليك السلام كثيراً.
عمر بن سفيان المنبجي قال: اجتاز بنا إبراهيم الخواص فقلت له: حدثني بأعجب ما رأيت في أسفارك. قال: لقيني الخضر فسألني الصحبة فخشيت أن يفسد علي سر توكلي بسكوني إليه، ففارقته.
محمد بن عبد الله الرازي قال: مرض إبراهيم الخواص بالري في مسجد الجامع وكان به علة القيام. وكان إذا قام يدخل الماء ويغتسل ويعود إلى المسجد فيركع ركعتين. فدخل مرة ليغتسل فخرجت روحه وتوفي وسط الماء.
قلت: كان الخواص من أقران الجنيد والثوري، وصحب أبا عبد الله المغربي، ولا نعرف له مسنداً. وتوفي في جامع الري إحدى وتسعين ومائتين، ويقال سنة أربع وثمانين، وتولى أمره في غسله ودفنه يوسف بن الحسين الرازي.(2/300)
676 - يوسف بن الحسين الرازي
يكنى أبا يعقوب.
محمد بن موسى الرازي قال: سمعت بن الحسين يقول: علم القوم أن الله يراهم، واستحيوا من نظره أن يراعوا شيئاً سواه.
وقال: يتولد الإعجاب بالعمل من نسيان رؤية المنة.
فارس البغدادي قال: سمعت يوسف بن الحسين يقول: على قدر خوفك من الله يهابك الخلق، وعلى قدر حبك لله عز وجل يحبك الخلق، وعلى قدر شغلك بأمر الله يشغل الخلق بأمرك.
قال أبو الحسن علي بن إبراهيم البغدادي: سمعت أبا عبد الله الخناقاباذي يقول: حضرنا يوسف بن الحسين الرازي وهو يجود بنفسه، فقيل له: يا أبا يعقوب قل شيئاً. فقال: اللهم إني نصحت خلقك ظاهراً وغششت نفسي باطناً، فهب لي غشي لنفسي لنصحي لخلقك. ثم خرجت روحه.
__________
676 - هو: يوسف بن الحسين الرازي، الإمام العارف، شيخ الصوفية أبو يعقوب مات سنة أربع وثلاثمائة انظر سير أعلام النبلاء 11/277.(2/300)
أبو الحسن علي إبراهيم الرازي قال: حكى لي أبو خلف الوزان عن يوسف بن الحسين أنه رئي في المنام فقيل له: ماذا فعل الله بك؟ قال: غفر لي ورحمني.
فقيل: بماذا؟ قال: بكلمة أو كلمات قلتها عند الموت: قلت: اللهم إني نصحت الناس قولاً وخنت نفسي فعلاً فهب خيانة فعلي لنصح قولي.
سمع يوسف بن الحسين من أحمد بن حنبل وذي النون وغيرهما وتوفي سنة أربع وثلثمائة.(2/301)
677 - أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري
ولد بالري، إلا أنه خرج إلى نيسابور مع شيخه شاه بن شجاع يزوران أبا حفص النيسابوري فزوجه أبو حفص ابنته وتوطن نيسابور ومات بها.
أبو عمرو بن نجيد قال: كنت أختلف إلى أبي عثمان مدة في وقت شبابي، وكنت قد حظيت عنده. فقضي من القضاء أني اشتغلت بشيء مما يشتغل به الفتيان، فنقل ذلك إلى أبي عثمان وانقطعت عنه بعد ذلك. وكنت إذا رأيته في الطريق اختفيت فدخلت يوماً سكة من السكك فخرج علي أبو عثمان من عطفة فلم أجد عنه محيصاً، فتقدمت إليه وأنا دهش متشور. فقال لي: يا أبا عمرو لا تثقن بمودة من لا يحبك إلا معصوماً.
محمد بن حمدويه الحافظ قال: سمعت أمي تقول: سمعت مريم امرأة أبي عثمان تقول: كنا نؤخر اللعب والضحك والحديث إلى أن يدخل أبو عثمان في ورده من الصلاة فإنه كان إذا دخل الخلوة لم يحس بشيء من الحديث وغيره.
محمد بن نعيم الضبي قال: سمعت أمي تقول: سمعت مريم امرأة أبي عثمان تقول: صادفت من أبي عثمان خلوة فاغتنمتها فقلت: يا أبا عثمان أي عملك أرجى عندك؟ فقال: يا مريم لما ترعرت وأنا بالري كانوا يريدونني على التزويج فأمتنع، فجاءتني امرأة فقالت: يا أبا عثمان قد أحببتك حباً أذهب نومي وقراري، وأنا أسألك بمقلب القلوب وأتسول به إليك
__________
677 - هو: أبو عثمان الحيري، الشيخ الإمام المحدث الواعظ القدوة شيخ الإسلام، الأستاذ، أبو عثمان، سعيد بن إسماعيل بن سعيد بن منصور النيسابوري الحيري الصوفي، مولده سنة ثلاثين ومائتين بالري، انظر سير أعلام النبلاء 11/150.(2/301)
أن تتزوج بي. قلت: ألك والد؟ قالت: نعم، فلان الخياط في موضع كذا وكذا فراسلت أباها أن يزوجها مني ففرح بذلك وأحضرت الشهود فتزوجتها. فلما دخلت بها وجدتها عوراء عرجاء شوهاء الخلق. فقلت: اللهم لك الحمد على ما قدرته لي. وكان أهل بيتي يلومونني على ذلك وأزيدها براً وإكراماً إلى أن صارت بحيث لا تدعني أخرج من عندها. فتركت حضور المجالس إيثاراً لرضاها وحفظاً لقلبها. ثم بقيت معها على هذه الحال خمس عشرة سنة وكأني في بعض أوقاتي على الجمر وأنا لا أبدي لها شيئاً من ذلك، إلى أن ماتت فما شيء أرجى عندي من حفظي عليها ما كان في قلبها من جهتي.
أبو عمرو بن حمدان قال: سمعت أبا عثمان الحيري يقول: من أمر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة لقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} النور: 54.
قال ابن حمدان: وقرأت بخط أبي: سمعت أبا عثمان يقول: الخوف من الله يوصلك إليه، والعجب يقطعك عنه، واحتقار الناس في نفسك مرض لا يداوى.
وقال أبو عثمان: حق لمن أعزه الله بالمعرفة أن لا يذل نفسه بالمعصية.
أبو الحسين الوراق قال: سمعت أبا عثمان يقول، وقد سئل عن الصحبة، فقال: الصحبة مع الله عز وجل بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة، والصحبة مع الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع سنته، ولزوم ظاهر الحكم، والصحبة مع أولياء الله بالاحترام والخدمة، والصحبة مع الأهل والولد بحسن الخلق، والصحبة مع الإخوان بدوام البشر والانبساط ما لم يكن إثماً، والصحبة مع الجهال بالدعاء لهم والرحمة عليهم ورؤية نعمة الله عليك إذ عافاك مما ابتلاهم به.
محمد بن أحمد بن يوسف قال: سمعت أبا عثمان يقول: الذكر الكثير أن تذكر في ذكرك أنك لا تصل إلى ذكره إلا به وبفضله.
عبد الكريم بن هوران قال: سمعت أبا عثمان السلمي يقول: سمعت عبد الله بن محمد الشيرازي يقول: سمعت أبا عثمان يقول: منذ اربعين سنة ما أقامني الله تعالى في حال فكرهته، ولا نقلني إلى غيره فسخطته.
أبو عمرو بن مطر قال: حضرت مجلس أبي عثمان الخيري فخرج ثم قعد على موضعه(2/302)
الذي كان يقعد فيه للتذكير، فسكت حتى طال سكوته فناداه رجل: ترى أن تقول في سكوتك شيئاً؟ فأنشا يقول:
وغير تقي بأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي والطبيب مريض
فارتفعت الأصوات بالبكاء والضجيج.
عبد الله الرازي قال: لما تغيرت الحال على عثمان وقت وفاته، مزق ابنه أبو بكر قميصاً كان عليه ففتح أبو عثمان عينه وقال: يا بني خلاف السنة في الظاهر من رياء في باطن القلب الباطن.
أسند أبو عثمان عن حمدون القصار، وتوفي يوم الثلاثاء لعشر بقين من ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين ومائتين.
انتهى ذكر أهل الري.(2/303)
ومن عباد دامغان:
678 - فاطمة بنت عمران
كانت كثيرة الاجتهاد.
الحسن بن علي قال: قدم علينا أبو محمد الرملي فلقي فاطمة فقال هذه زاهدة وقتها وكانت مستجابة الدعوة مقيمة على تعهد الفقراء إلى أن ماتت.(2/303)
ذكر المصطفين من أهل بسطام
679 - أبو يزيد البسطامي
واسمه طيفور بن عيسى بن سروشان - وكان سروشان مجوسياً فأسلم وكان لعيسى ثلاثة أولاد: أبو يزيد وهو أوسطهم، وآدم، وهو أكبرهم، وعلي وهو أصغرهم، وكانوا كلهم عباداً زهاداً.
إبراهيم الهروي قال: سمعت أبا يزيد البسطامي يقول: غلطت في ابتدائي في أربعة أشياء: توهمت أني أذكره، وأعرفه، وأحبه، وأطلبه. فلما انتهيت رأيت ذكره سبق ذكري، ومعرفته تقدمت معرفتي، وطلبه لي أولاً حتى طلبته.
قال منصور وسمعت أبا عمران موسى بن عيسى يقول: سمعت أبي يقول: قال أبو يزيد عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئاً أشد علي من العلم ومتابعته، ولولا اختلاف العلماء لتعبت، واختلاف العلماء رحمة إلا في تجريد التوحيد.
وقال أبو يزيد: لا يعرف نفسه من صحبته شهوته.
إبراهيم الهروي قال: سمعت أبا يزيد البسطامي، وسئل ما علامة العارف؟ قال: أن لا يفتر من ذكره، ولا يمل من حقه، ولا يستأنس بغيره.
وقال: إن الله أمر العباد ونهاهم فأطاعوا فخلع من خلعه فاشتغلوا بالخلع عنه، وإني لا أريد من الله إلا الله.
وقال منصور: وسمعت موسى بن عيسى يقول: سمعت عمي يقول: سمعت أبا يزيد يقول: لو صفت لي تهليلة ما بليت بعدها بشيء.
إبراهيم الهروي قال: سمعت أبا يزيد يقول: هذا فلاحي بك وأنا أخافك فكيف فرحي بك إذ أمنتك؟.
وسئل بما نالوا المعرفة؟ قال: بتضييع مالهم والوقوف مع ما له.
__________
679 - هو: أبو يزيد البسطامي، سلطان العارفين، أبو يزيد، طيفور بن عيسى بن شروسان البسطامي، أحد الزهاد أخو الزاهدين: آدم وعلي، وكان جدهم شروسان مجوسيا، فأسلم، توفي أبو يزيد ببسطام سنة إحدى وستين ومائتين، انظر سير أعلام النبلاء 10/483.(2/304)
وقال: اطلع الله على قلوب أوليائه، فمنهم من لم يكن يصلح لحمل المعرفة صرفاً، فأشغلهم بالعبادة.
العباس بن حمزة قال: صليت خلف أبي يزيد البسطامي الظهر، فلما أراد أن يرفع يديه ليكبر لم يقدر إجلالاً لاسم الله، وارتعدت فرائصه حتى كنت أسمع تقعقع عظامه، فهالني ذلك.
عن أبي موسى عن أبي يزيد البسطامي قال: ليس العجب من حبي لك وأنا عبد فقير؛ بل إنما العجب من حبك لي وأنت ملك قدير.
قال: وقال أبو يزيد: لم أزل ثلاثين سنة كلما أردت أن أذكر الله أتمضمض وأغسل لساني إجلالاً لله أن أذكره.
قال: وقال أبو يزيد: إن في الطاعات من الآفات ما لا يحتاجون إلى أن يطلبوا في المعاصي.
قال: وقال أبو يزيد: ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شر منه فهو متكبر.
قال: وقال أبو يزيد أشد المحجوبين عن الله ثلاثة بثلاثة، أولهم: الزاهد بزهده، والثاني: العابد بعبادته، والثالث: العالم بعلمه. ثم قال: مسكين الزاهد، لو علم أن الله عز وجل سمى الدنيا كلها قليلاً فكم ملك من الدنيا؟ وفي كم زهد مما ملك؟ وأما العابد فلو رأى منه الله عليه في العبادة عرف عبادته في المنة، وأما العالم فلو علم أن جميع ما أبدى الله عز وجل من العلم سطر واحد من اللوح المحفوظ فكم علم هذا العالم من ذلك السطر؟ وكم عمل مما علم؟.
قال: سمعت أبا يزيد يقول: ما ذكروه إلا بالغفلة ولا خدموه إلا بالفترة.
وقال: أكثر الناس إشارة إليه أبعدهم منه.
وسأله رجل: من أصحب؟ فقال: من لا تحتاج أن تكتمه شيئاً مما علمه الله منك.
قال عبيد بن عبد القاهر: قال أبو يزيد، غبت عن الله عز وجل ثلاثين سنة وكانت غيبتي عنه ذكري إياه، فلما خنست عنه وجدته في كل حال: فقال له رجل: ما لك لا تسافر؟ قال: لأن صاحبي لا يسافر، وأنا معه مقيم. فقال السائل: إن الماء القائم قد كره الوضوء منه. فقال أبو يزيد: لم يروا بماء البحر بأساً، هو الطهور ماؤه الحل ميتته. ثم قال: قد ترى الأنهار(2/305)
تجري لها دوي وخرير حتى إذا دنت من البحر وامتزجت به سكن خريرها وحدتها ولم يحس بها ماء البحر، ولا ظهرت فيه زيادة، ولا إن خرجت منه استبان فيه.
قاسم الحداد قال: خرج أبو يزيد البسطامي في بعض سياحته فوقف على دجلة فالتقى به الشيطان فحول وجهه ثم قال: وعزتك إنك تعلم أني ما عبدتك قط لهذا، فلا تحجبني به عنك.
عبد الصمت بن محمد عن أبي يزيد أنه صعد ليلة سور بسطام فلم يزل يدور على السور إلى وقت طلوع الفجر، يريد أن يقول لا إله إلا الله فيغلبه ما يريد عليه من هيبة الاسم فلا يستطيع أن يطلق بها لسانه، فلما كان وقت طلوع الفجر نزل فبال الدم.
الحسن بن علويه قال: قال أبو يزيد: قعدت ليلة في محرابي فمددت رجلي فهتف بي هافت من يجالس الملوك فينبغي أن يجالسهم بحسن الأدب.
الحسن بن علي قال: قال أبو يزيد: أبعد الخلق من الله أكثرهم إشارة إليه.
عبيد قال: قال أبو يزيد طلقت الدنيا ثلاثاً بتاتاً لا رجعة لي فيها، وصرت إلى ربي وحدي فناديته بالاستغاثة: إلهي أدعوك دعاء من لم يبق له غيرك. فلما عرف صدق العداء من قلبي، اليأس من نفسي، كان أول ما ورد علي من إجابة هذا الدعاء أن أنساني نفسي بالكلية ونصب الخلائق بين يدي مع إعراضي عنهم.
أبو الحسن المروزي قال: سمعت امرأة أبي يزيد تقول: سمعت أبا يزيد يقول: دعوت نفسي إلى الله فأبت علي واستعصت، فتركتها ومضيت إلى الله عز وجل.
أبو موسى الديبلي قال: سمعت أبا يزيد يقول: الناس كلهم يهربون من الحساب ويتجافون عنه، وأنا أسأل الله تعالى أن يحاسبني فقيل له: لم؟ قال: لعله أن يقول لي فيما بين ذلك: يا عبدي، فأقول: لبيك. فقوله لي: عبدي أعجب إلي من الدنيا وما فيها. ثم بعد ذلك يفعل بي ما شاء.
علي بن المثنى قال: سمعت عمي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا يزيد يقول: رأيت رب العزة تبارك وتعالى في المنام، فقلت: يا بار خدا، كيف الطريق إليك؟ قال: اترك نفسك ثم تعال.
أبو موسى الديبلي قال: سمعت رجلاً يسأل أبا يزيد فقال: دلني على عمل أتقرب به إلى(2/306)
ربي عز وجل، فقال: أحبب أولياء الله تعالى ليحبوك فإن الله تعالى ينظر إلى قلوب أوليائه فلعله أن ينظر إلى اسمك في قلب وليه فيغفر لك.
عيسى بن آدم ابن أخي أبي يزيد قال: كان أبو يزيد يعظ نفسه فيصيح عليها فيقول: يا مأوى كل سوء، المرأة إذا حاضت طهرت بثلاثة أيام أو أكثره بعشرة، أنت يا نفس قاعدة منذ عشرين وثلاثين سنة بعد ما طهرت فمتى تطهرين؟ إن وقوفك بين يدي طاهر ينبغي أن يكون طاهراً.
أبو موسى الديبلي قال: سمعت أبا يزيد يقول: عرج قلبي إلى السماء فطاف ودار ورجع، فقلت: بأي شيء جئت معك؟ قال: المحبة والرضا.
عن أبي موسى الديبلي، عن أبي يزيد قال: نظرت فإذا الناس في الدنيا متلذذون بالنكاح والطعام والشراب، وفي الآخرة بالمنكوح والملذوذ، فجعلت لذتي في الدنيا ذكر الله عز ول وفي الآخرة النظر إلى الله عز وجل.
أبو موسى الديبلي قال: قلت لأبي يزيد: من أصحب؟ قال: من إذا مرضت عادك، وإذا أذنبت تاب عليك ومن يعلم منك ما يعلمه الله منك.
جعفر بن علي الترمذي أن أحمد بن خضرويه قال: رأيت رب العزة في منامي فقال لي: يا أحمد، كل الناس يطلبون مني غلا أبا يزيد فإنه يطلبني.
ذكر أبو نعيم الأصبهاني أنه لا يعرف لأبي يزيد حديث مسند أصلاً إلا حديث واحد رواه أبو الفتح الحمصي بإسناد له عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله" 1.
قال أبو نعيم: وهو مركب على أبي يزيد، وليس من حديثه، والحمل فيه على الحمصي فقد عثر منه على غير حديث ركبه.
قلت وهذا الحديث الذي أشار إليه أبو نعيم هو الذي ذكره له أبو عبد الرحمن السلمي، ووجدت أنا لأبي يزيد ثلاثة أحاديث أخر مسندة، منها حديثان لا يثبتان فلم أذكرهما، والثالث قريب الحال فاقتصرت عليه.
__________
1 ضعيف: أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 10/42 رقم "14460 - 14461" وضعفه السيوطي في الجامع الصغير وتابعه المناوي في فيض القدير 2/539 رقم 2493.(2/307)
قال أبو موسى الديبلي، ابن أخت أبي يزيد البسطامي، أنبأ أبو يزيد البسطامي، يعني طيفور بن عيسى، قال: أنبأ محمد بن منصور الطوسي، قال: أخبرنا سفيان ابن عيينة عن محمد بن سوقة، عن نافع بن جبير، عم أم سلمة قالت: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش الذي يخسف بهم، فقالت أم سلمة: لعل فيهم المكره. قال: إنهم يبعثون على نياتهم.
توفي أبو يزيد سنة إحدى وستين ومائتين، وله ثلاث وسبعون سنة.(2/308)
680 - أبو محمد البسطامي
أبو بكر محمد بن ثوابة المعبر قال: كنت مصاعداً إلى الجبل في باب حلوان أيام الشتاء وعلي دثار وسروالان، أحدهما مبطن، على غاية مما يكون من الشدة، فلقيني رجل عليه خرقتان لا يتوارى بغيرهما. فعارضته مراراً ويروغ مني، فقلت له: لأي شيء تفر مني أنا سبع؟ فقال: لو لقيني سبعون سبعاً كان أهون علي من لقائك. فقلت أنا أمر كذا وأنت تمضي كذا قل لي شيئاً ومر في ودائع الله تعالى. فقال: تسمع؟ فقلت: نعم. فأنشأ يقول:
إذا ما عدت النفس ... عن الحق زجرناها
وإن مالت إلى الدنيا ... عن الأخرى منعناها
تخادعنا ونخدعها ... وبالصبر غلبناها
لها خوف من الفقر ... وفي الفقر أنخناها
قال: فجئت إبراهيم بن شيبان بعد أربعة أيام أو خمسة، وقد فرقت جميع ما علي من الدثار. فلما دخلت عليه قال: من لقيت فوصفت له. فقال: أبو محمد البسطامي في ذلك اليوم خرج من عندنا. وقال: أي شيء جرى بينك وبينه؟ فحدثته فأمر ابنه إسحاق فكتبها.
انتهى ذكر أهل بسطام.(2/308)
ذكر المصطفين من أهل نيسابور
681 - يحيى بن يحيى النيسابوري
يكنى أبا زكريا.
أبو بكر المروزي قال: ذكر أبو عبد الله أحمد بن حنبل يوماً ابن المبارك فقال: ما رفعه الله إلا بخبيئة كانت له، ما أخرجت خراسان مثل ابن المبارك، ولا بعد ابن المبارك، مثل يحيى بن يحيى.
قال المروزي: سمعت بعض الخراسانية يقول: إن يحيى بن يحيى شرب شربة دواء، فقالت له امرأته: لو قمت فترددت في الدار. فقال يحيى: ما أدري ما هذه المشية أنا أحارب نفسي منذ أربعين سنة.
أبو علي الحسن بن علي بن بندار الزنجاني قال: كان يحيى بن يحيى يحضر مجلس مالك فانكسر قلمه فناوله المأمون قلماً من ذهب أو مقلمة ذهب. فامتنع عن قبوله، فقال له المأمون: ما اسمك؟ قال: يحيى بن يحيى النيسابوري. فقال: تعرفني؟ قال: نعم، أنت المأمون ابن أمير المؤمنين. قال: فكتب المأمون على ظهر جزئه ناولت يحيى بن يحيى النيسابوري قلماً في مجلس مالك فلم يقبله.
فلما أفضت الخلافة إليه بعث إلى عامله بنيسابور وأمره أن يولي يحيى بن يحيى القضاء فبعث إليه يستدعيه فقال بعض الناس: إنه يمتنع من الحضور وليته أذن للرسول، فأنفذ إليه كتاب المأمون فقرئ عليه فامتنع من القضاء فرد إليه ثانياً وقال: إن أمير المؤمنين يأمرك بشيء وأنت من رعيته وتأبى عليه؟ فقال: قل لأمير المؤمنين ناولتني قلماً وأنا شاب فلم أقبله فتجبروني الآن على القضاء وأنا شيخ؟ فرفع الخبر إلى المأمون.
قال: قد علمت امتناعه ولكن ول القضاء رجلاً تختاره. فبعث إليه العامل في ذلك فاختار رجلاً فولي القضاء، ودخل على يحيى وعليه سواد فضم يحيى فراشاً كان جالساً عليه
__________
681 - هو: يحيى بن بكر بن عبد الرحمن التميمي، أبو زكريا، النيسابوري ثقة ثبت إمام، من العاشرة، مات سنة ست وعشرين على الصحيح.(2/309)
كراهية أن يجمعه وإياه. فقال: أيها الشيخ ألم تخترني؟ قال: إنما قلت: اختاروه، وما قلت لك: تقلد القضاء.
روى يحيى بن يحيى عن مالك والليث بن سعد وغيرهما. وتوفي في يوم الأربعاء سلخ صفر سنة ست وعشرين ومائتين.(2/310)
682 - إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم
أبو يعقوب الحنظلي ويقال له ابن راهويه، أحد أئمة الإسلام، رحل إلى العراق والحجاز واليمن والشام وعاد فاستوطن نيسابور.
محمد بن أسلم الطوسي قال: حين مات إسحاق الحنظلي: ما أعلم أحداً كان أخشى لله من إسحاق، وكان أعلم الناس، ولو كان سفيان الثوري في الحياة لاحتاج إلى إسحاق.
قال محمد بن عبد السلام: فأخبرت بذلك محمد بن يحيى الصفار فقال: والله لو كان الحسن البصري في الحياة لاحتاج إلى إسحاق في أشياء كثيرة.
الحسن بن عبد الصمد قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول: أحفظ سبعين ألف حديث كأنها نصب عيني.
أبو عبد الرحمن الجوزجاني قال: سمعت أحمد بن حنبل، وذكر إسحاق، فقال: لا أعلم ولا أعرف لإسحاق بالعراق نظيراً.
أبو داود الخفاف قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لم يعبر الجسر مثل إسحاق.
الفضل بن عبد الله الحميري قال: سألت أحمد بن حنبل عن رجال خراسان فقال: أما إسحاق بن راهويه فلم ير مثله.
أبو يحيى الشعراني قال: ما رأيت بيد إسحاق كتاباً قط، ما كان يحدث إلا حفظاً.
وقال: كنت إذا ذاكرت إسحاق العلم وجدته فيه فرداً فإذا جئت إلى أمر الدنيا رأيته لا رأي له.
أسند إسحاق عن جرير بن عبد الحميد، وإسماعيل بن عليه، وسفيان بن عيينة، ووكيع، في خلق لا يحصون. وتوفي بنيسابور ليلة النصف من شعبان سنة ثمان وثلاثين ومائتين.
__________
682 - هو: إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أبو محمد بن راهويه المروزي، ثقة حافظ مجتهد، قرين أحمد بن حنبل، ذكر أبو داود أنه تغير قبل موته بيسير، مات سنة ثمان وثلاثين، وله اثنتان وسبعون.(2/310)
683 - محمد بن رافع بن أبي يزيد
أبو عبد الله النيسابوري القشيري.
زكريا بن دلويه قال: بعث طاهر بن عبد الله إلى محمد بن رافع بخمسة آلاف درهم على يد رسوله، فدخل عليه بعد صلاة العصر وهو يأكل الخبز مع الفجل، فوضع الكيس بين يديه فقال: بعث الأمير طاهر بهذا المال إليك لتنفقه على أهلك. فقال: خذ، خذ، لا أحتاج إليه، فإن الشمس قد بلغت رءوس الحيطان إنما تغرب بعد ساعة وقد جاوزت الثمانين، إلى متى أعيش؟ فرد المال ولم يقبل. فأخذ الرسول المال وذهب فدخل عليه ابنه فقال: يا أبة ليس لنا الليلة خبز. قال: فذهب بعض أصحابه خلف الرسول ليرد المال إلى حضرة صاحبه فزعاً من أن يذهب ابنه خلف الرسول فيأخذ المال.
قال زكريا: ربما يخرج إلينا محمد بن رافع في الشتاء الشاتي وقد لبس لحافه الذي يلبسه بالليل.
كان محمد بن رافع رفيق أحمد بن حنبل، وقد حدث عن عبد الرزاق، ومحمد بن إسماعيل بن أبي فديك، ووهب بن جرير وغيرهم. وأخرج البخاري ومسلم عنه في الصحيحين. وتوفي سنة خمس وأربعين ومائتين.
__________
684 - هو: محمد بن رافع القشيري، النيسابوري، ثقة عابد، من الحادية عشرة، مات سنة خمس وأربعين.(2/311)
684 - أبو حفص النيسابوري
واسمه عمرو بن سلم. وقيل عمرو بن سلمة.
وهو من أهل قرية على باب نيسابور يقال لها كورداباذ.
الخلدي قال: سمعت الجنيد، وذكر عنده أبو حفص النيسابوري، فقال: كان رجلاً من أهل الحقائق، ولو رأيته لاستغنيت، وقد يتكلم من طور بعيد كان من أهل العلم البالغين، ولقد قال له يوماً رجل من أصحابه: كان من مضى لهم الآيات الظاهرة وليس لك من ذلك شيء،
__________
685 - هو: أبو حفص، النيسابوري، الإمام القدوة الرباني، شيخ خراسان، أبو حفص، عمرو بن سلم، وقيل: عمر وقيل: عمرو بن سلمة، النيسابوري الزاهد، توفي سنة أربع وستين ومائتين، وقيل: سنة خمس، رحمه الله.(2/311)
فقال له: تعالى فجاء به إلى سوق الحدادين، إلى كؤر محمى عظيم فيه حديدة فأدخل عظيمة يده فأخذها فبردت في يده. فقال له: يجزيك؟ فأعظم ذلك وأكبره ثم مضى.
أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الرازي قال: دخلت مع أبي حفص على مريض فقال المريض: آه فقال: ممن؟ فسكت. فقال: مع من؟.
أبو عثمان قال: دخل أبو حفص النيسابوري على مريض، فقال المريض: آه. فقال ممن؟ فسكت المريض. فقال: أبو حفص مع من؟ فقال له المريض: كيف أكون وماذا أقول؟ فقال له أبو حفص: لا يكون أنينك شكوى ولا سكوتك تجلداً، ولكن بين ذلك.
قال محمش الجلاب: صحبت أبا حفص اثنتين وعشرين سنة ما رأيته ذكر الله عز وجل على حد الغفلة والانبساط، ما كان يذكر إلا على سبيل الحضور والتعظيم والحرمة. وكان إذا ذكر الله تعالى تغيرت عليه حاله حتى كان يرى ذلك منه جميع من حضره.
وقال مرة، وقد ذكر الله تعالى وتغيرت عليه حاله، فلما رجع قال: ما أبعد ذكرنا من ذكر المحققين. فما أظن أن محقاً يذكر لله على غير غفلة ثم يبقى بعد ذلك حياً إلا الأنبياء فإنهم أيدوا بقوة، وخواص الأولياء بقوة ولاياتهم.
قال السلمي: وسمعت جدي يقول: كان أبو حفص إذا غضب تكلم في حسن الخلق حتى يسكن غضبه، ثم يرجع إلى حديثه.
محفوظ بن أحمد قال: قال أبو حفص: حرست قلبي عشرين سنة ثم حرسني قلبي عشرين سنة، ثم وردت حالة صرنا فيها محروسين جميعاً.
قال السلمي: وسئل أبو حفص: من الولي؟ قال: من أيد بالكرامات وغيب عنها.
وقال: ما ظهرت حالة عالية إلا من ملازمة أصل صحيح.
وقال: لا تكن عبادتك لربك سبباً لن تكون معبوداً.
أبو علي الثقفي قال: كان أبو حفص يقول: من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتهم خواطره، فلا تعده في ديوان الرجال.
أبو أحمد بن عيسى قال: سمعت أبا حفص يقول: حسن أدب الظاهر عنوان حسن أدب الباطن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه".(2/312)
وسئل من الرجال؟ قال: القائمون مع الله بوفاء العهود، قال الله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} الأحزاب: 23.
وسئل عن العبودية؟ فقال: ترك مالك والتزام ما أمرت به.
أبو محمد المرتعش قال: سمعت أبا حفص النيسابوري يقول: ما استحق اسم السخاء من ذكر العطاء ولا من لمحه بقلبه، وإنما يستحقه من نسيه حتى كأنه لم يعط.
أبو عثمان النيسابوري قال: خرجنا جماعة مع أستاذنا أبي حفص النيسابوري إلى خارج نيسابور، فجلسنا، فتكلم علينا الشيخ فطابت أنفسنا. ثم بصرنا بأيل قد نزل من الجبل حتى برك بين يدي الشيخ. فأبكاه ذلك بكاء شديداً. فلما هدأ الشيخ سألناه فقلنا له: يا أستاذ تكلمت علينا وطابت قلوبنا فلما جاء هذا الوحش وبرك بين يديك أزعجك وأبكاك فأحببنا أن نعرف فقه ذلك؟ فقال: نعم رأيت اجتماعكم حولي وقد طابت قلوبكم، فوقع في قلبي لو أن شاة ذبحتها ودعوتهم عليها. فما تحكم هذا الخاطر حتى جاء هذا الوحش فبرك بين يدي فخيل لي أني مثل فرعون الذي سأل ربه أن يجري له النيل، فأجراه له. قلت: فما يؤمنني أن يكون الله تعالى يعطيني كل حظ لي في الدنيا وأبقى في الآخرة فقيراً لا شيء لي؟ فهذا الذي أزعجني.
توفي أبو حفص سنة سبعين ومائتين. ويقال سنة سبع وستين، ويقال أربع وستين، ويقال خمس وستين، ولا نعرف له مسنداً إلا أنه قد رافق أحمد بن خضرويه البلخي وغيره من العباد. والسلام.(2/313)
685 - علي بن شعيب السقاء
حج نيفاً وخمسين حجة. أحرم في كل حجة من نيسابور، وكان يصلي في البادية عند كل ميل ركعتين، ثم يقول: قال اله عز وجل: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} الحج: 28 وهذه منافع حجي والسلام.(2/313)
686 - أبو صالح حمدون بن أحمد بن عمارة القصار
عبد الله بن مبارك قال: قيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا،
__________
686 - هو: حمدون القصار، شيخ الصوفية، أبو صالح، حمدون بن أحمد بن عمارة النيسابوري، قدوة الملامتية: وهو تخريب الظاهر وعمارة الباطن، مع التزام الشريعة سير أعلام النبلاء 10/459.(2/313)
قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق.
وقال: كفايتك تساق إليك من غير تعب ولا نصب، وإنما التعب في الفضول.
عبد الله بن مبارك قال: سفه رجل على حمدون، فسكت حمدون عنه وقال: يا أخي لو نقصتني كل نقص لم تنتقصني كنقصي عندي. ثم قال: سفه رجل على إسحاق الحنظلي فاحتمله وقال: لأي شيء تعلمنا العلم؟ عبد الله الحجام قال: قال حمدون: إذا رأيت سكراناً فتمايل لئلا تنعي عليه فتبتلى بمثل ذلك.
قال السلمي: وقال حمدون: من نظر في سير السلف عرف تقصيره وتخلفه عن درجات الرجال.
وقال: لا تفش على أحد ما تحب أن يكون مستوراً منك.
وقال: من استطاع منكم أن لا يعمى عن نقصان نفسه فليفعل.
أسند حمدون عن إبراهيم الزراد عن ابن نمير، وصحب أبا تراب النخشي، وتوفي سنة إحدى وسبعين ومائتين بنيسابور.(2/314)
687 - أبو بكر عبد الله بن محمد بن زيد بن واصل النيسابوري
جمع بين علم الحديث وافقه والتقوى، وسمع من محمد بن يحيى الذهلي والحسن بن محمد الزعفراني وعباس الدوري، في خلق كثير، وكان من الحفاظ المتقنين.
كان الدارقطني يقول: ما رأينا في مشايخنا أحفظ منه للأسانيد والمتون، وكان أفقه المشايخ.
أبو بكر النيسابوري قال: أعرف من أقام أربعين سنة لم ينم الليل ويتقوت كل يوم بخمس حبات، ويصلي صلاة الغداة على طهارة عشاء الآخرة. ثم قال: أنا هو وهذا كله قبل أن أعرف أم عبد الرحمن، أي شيء أقول لمن زوجني؟ ثم يقول في اثر هذا: ما أراد إلا الخير.
توفي أبو بكر النيسابوري في شهر ربيع الآخر من سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
__________
687 - هو: عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري، الإمام الحجة الحافظ العلامة شيخ الإسلام، أبو بكر النيسابوري، مولى أمير المؤمنين عثمان بن عفان، الأموي الحافظ، صاحب التصانيف انظر سير أعلام النبلاء 11/527.(2/314)
ذكر المصطفين من عابدات نيسابور
688 - فاطمة النيسابورية
محمد بن الحسن بن علي بن خلف قال: سمعت ابن ملوك وكان شيخاً كبيراً رأى ذا النون المصري قال: وسألته من أجل من رأيت؟ قال: ما رأيت أجل من امرأة رأيتها بمكة يقال لها فاطمة النيسابورية وكانت تتكلم في فهم القرآن، وتعجبت منها، فسألت ذا النون عنها فقال لي: هي ولية من أولياء الله عز وجل وهي أستاذي. فسمعتها تقول: من لم يكن الله عز وجل منه على بال فإنه يتخطى في كل ميدان ويتكلم لكل لسان، وما كان الله منه على بال أخرسه إلا عن الصدق وألزمه الحياء منه والإخلاص.
قال: وقالت فاطمة: الصادق المقرب في بحر تضطرب عليه أمواج، يدعو ربه دعاء الغريق يسأل ربه الخلاص والنجاة.
وقالت فاطمة: من عمل لله على المشاهدة فهو عارف، ومن عمل على مشاهدة الله إياه فهو مخلص.
قال السلمي: كانت فاطمة النيسابورية من قدماء نساء خراسان أتى إليها أبو يزيد البسطامي، وسألها ذو النون عن مسائل، وكانت مجاورة بمكة، وربما دخلت إلى بيت المقدس ثم رجعت إلى مكة.
وقال أبو يزيد البسطامي: ما رأيت في عمري إلا رجلاً وامرأة، والمرأة فاطمة النيسابورية، ما أخبرتها عن مقام من المقامات إلا وكان الخبر لها عياناً.
وقال لها ذو النون: عظيني، وقد اجتمعا ببيت المقدس، قالت له: الزم الصدق وجاهد نفسك في أفعالك.
ماتت فاطمة بمكة في طريق العمرة سنة ثلاث وعشرين ومائتين.(2/315)
689 - عائشة بنت أبي عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري النيسابوري
أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي قال: كانت عائشة بنت أبي عثمان من أزهد أولاد أبي عثمان وأورعهم وأحسنهم حالاً ووقتاً. وكانت مجابة الدعوة، سمعت ابنتها أم(2/315)
أحمد بنت عائشة تقول: قالت لي أمي: لا تفرحي بفان، ولا تجزعي من ذاهب، وافرحي بالله عز وجل، واجزعي من سقوطك من عين الله عز وجل.
وسمعتها تقول: قالت لي أمي: الزمي الأدب ظاهراً وباطناً فما أساء أحد الأدب في الظاهر إلا عوقب ظاهراً ولا أساء أحد الأدب باطناً إلا عوقب باطناً.
وقالت عائشة: من استوحش من وحدته فذاك لقلة أنسه بربه.
وقالت من تهاون بالعبد فهو من قلة معرفته بالسيد فمن أحب الصانع أحب صنعته.
ماتت عائشة سنة ست وأربعين وثلاثمائة.
انتهى ذكر أهل نيسابور بحمد الله ومنه.(2/316)
ذكر المصطفين من أهل طوس
690 - محمد بن أسلم، أبو الحسن الطوسي
أبو عبد الله محمد بن القاسم الطوسي، خادم ابن أسلم، قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: لم أسمع بعالم منذ خمسين سنة كان أشد تمسكاً بأثر النبي صلى الله عليه وسلم من محمد بن أسلم.
قال أبو عبد الله وكتب إلي احمد بن نصر أن اكتب إلى بحال محمد بن أسلم فإنه ركن من أركان الإسلام.
قال أبو عبد الله: وقال لي محمد بن أسلم: يا أبا عبد الله ما لي ولهذا الخلق؟ كنت في صلب أبي وحدي، ثم صرت في بطن أمي وحدي ثم دخلت الدنيا وحدي، ثم يقبض روحي وحدي، ثم أدخل في قبري وحدي، ثم يأتيني منكر ونكير فيسألاني وحدي فإن صرت إلى خير صرت وحدي، ثم يوضع عملي وذنوبي في الميزان وحدي، وإن بعثت إلى الجنة بعثت وحدي، وإن بعثت إلى النار بعثت وحدي فما لي وللناس؟ ثم تفكر ساعة فوقعت عليه الرعدة حتى خشيت أن يسقط. وصحبته نيفاً وعشرين لم أره يصلي حيث أراه ركعتين من التطوع إلا يوم الجمعة، ولا يسبح ولا يقرأ حيث أراه ولم يكن أحد أعلم بسره وعلانيته مني.
وسمعته يحلف كذا كذا مرة: لو قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت، ولكني لا أستطيع ذلك خوفاً من الرياء.
وكان يدخل بيتاً ويغلق بابه ويدخل معه كوزاً من ماء فلم أدر ما يصنع؟ حتى سمعت ابناً له صغيراً يحكي بكاءه فنهته أمه فقلت لها: ما هذا البكاء؟ فقالت: إن أبا الحسن يدخل هذا البيت فيقرأ القرآن ويبكي فيسمعه الصبي فيحكيه.
وكان إذا أراد أن يخرج غسل وجهه واكتحل ولا يرى عليه أثر البكاء.
وكان يصل قوماً ويعطيهم ويكسوهم فيبعث إليهم ويقول للرسول: انظر أن لا يعلموا من بعثه إليهم؟ ويأتيهم هو بالليل فيذهب به إليهم، ويخفي نفسه فربما بليت ثيابهم ونفذ ما عندهم
__________
690 - هو: محمد بن أسلم بن سالم بن يزيد، الإمام الحافظ الرباني، شيخ الإسلام، أبو الحسن، الكندي، مولاهم الخراساني، الطوسي، مولده في درود سنة ثمانين ومائة، انظر سير أعلام النبلاء 10/154.(2/317)
ولا يدرون من الذي أعطاهم؟ ولا أعلم منذ صحبته وصل أحداً بأقل من مائة درهم إلا أن لا يمكنه ذلك، وكنت أخبز له فما نخلت له دقيقاً إلا أن أعصيه. وكان يقول لي: اشتر شعيراً أسود قد تركه الناس فإنه يصير إلى الكنيف، ولا تشتري لي إلا ما يكفيني يوماً بيوم.
وكان يقول: والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت نفساً تصلي إلى القبلة شراً عندي من نفسي. ودخلت عليه قبل موته بأربعة أيام بنيسابور، فقال: يا أبا عبد اللهتعال أبشرك بما صنع الله بأخيك من الخير، قد نزل بي الموت قد من الله علي أنه ليس عندي درهم يحاسبني الله عليه، وقد علم ضعفي فإني لا أطيق الحساب فلم يدع عندي شيئاً يحاسبني عليه. ثم قال: أغلق الباب ولا تأذن لأحد علي حتى أموت، واعلم أني أخرج من الدنيا وليس أدع ميراثاً غير كسائي ولبدي وإنائي الذي أتوضأ فيه، وكتبي.
وكانت معه صرة فيها نحو ثلاثين درهماً فقال: هذا لابني أهداه إليه قريب له ولا أعلم شيئاً أحل له منه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنت ومالك لأبيك" 1 فكفنوني منها فإن أصبتم لي بعشرة دراهم ما يستر عورتي فلا تشتروا بخمسة عشر، وابسطوا على جنازتي لبدي وغطوا علي بكسائي، وتصدقوا بإنائي، أعطوه مسكيناً يتوضأ منه. ثم مات اليوم الرابع.
سمع أبو الحسن بن أسلم من أصحاب الأعمش وأصحاب الثوري والأوزاعي في آخرين - وتوفي فصلى عليه ألف ألف تقريباً.
__________
1 صحيح: أخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات الحديث "2291" باب "64" ما للرجل من مال ولده، وأحمد في المسند الحديث "6902 - 6678" والطبراني في الثلاثة، وانظر الروض الداني 1/23 الحديث "2"، 2/152 الحديث 947، ومجمع الزوائد 4/154 - 155".(2/318)
691 - أبو العباس أحمد بن محمد بن مسروق الطوسي
أصله من طوس، لكنه سكن بغداد ومات بها.
جعفر بن محمد بن نصير قال: سمعت أبا العباس بن مسروق يقول: قدم علينا شيخ فكان يتكلم علينا بكلام حسن، وكان عذب اللسان جيد الخاطر، فقال لنا في بعض كلامه: كل ما
__________
691 - هو: أبو العباس أحمد بن محمد الطوسي، ابن مسروق، الشيخ الزاهد الجليل، الإمام أبو العباس، البغدادي، شيخ الصوفية، توفي في صفر سنة ثمان وتسعين ومائتين، وعاش أربعا وثمانين سنة رحمه الله.(2/318)
وقع لكم في خواطركم فقولوا لي. فوقع في قلبي أنه يهودي وكان الخاطر يقوى ولا يزول فذكرت ذلك للحريري فكبر عليه ذلك فقلت: لا بد من أن أخبر الرجل بذلك. فقلت له: تقول كل ما وقع في خاطركم فقولوه لي: إنه يقع لي أنك يهودي. فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: صدقت أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وقال: قد مارست جميع المذاهب، فأنتم على الحق وحسن إسلامه.
أبو سعيد بن عطاء قال: إن الجنيد رأى فيما يرى النائم قوماً من الأبدال فسأل: هل ببغداد أحد من الأولياء؟ فقالوا: نعم أبو العباس بن مسروق. قال: فقلت متعجباً: أبو العباس بن مسروق؟ فقالوا: نعم أبو العباس بن مسروق من أهل الأنس بالله عز وجل.
علي بن عبد الله بن جهضم قال: أنا المفيد، قال: سمعت أحمد بن مسروق يقول: كانت والدتي إذا كان يوم الجمعة تبكي، تعلم أني لا أنصرف من الجمعة إلا عليلاً لما قد سمعته من الشيوخ وكنت أنظر إلى شيوخي فتكون رؤيتي لهم قوتي من الجمعة إلى الجمعة.
جعفر بن محمد بن نصير قال: سئل ابن مسروق ما التوكل؟ قال: اعتماد القلب على الله.
قال السلمي: وقال ابن مسروق: من راقب الله في خطرات قلبه عصمه الله في حركات جوارحه.
وقال: أنت في هدم عمرك منذ خرجت من بطن أمك.
أسند ابن مسروق الكثير، وروى عن محمد بن بكار وشيبان بن فروخ وخلق كثير، وصحب البرجلاني ومحمد بن منصور الطوسي والحارث المحاسبي وسرياً السقطي.
وتوفي في صفر سنة ثمان وتسعين ومائتين، ودفن في مقابر باب حرب وبلغ أربعاً وثمانين سنة.
انتهى ذكر أهل طوس بحمد الله ومنه.(2/319)
ذكر المصطفين من أهل هراة
أبراهيم بن هطمان
...
ذكر المصطفين من أهل هراة
692 - إبراهيم بن طهمان
ولد بهراة ونشأ بنيسابور ورحل في طلب العلم، وكان حسن الخلق سخياً واسع النفس، مطعم الطعام كل من أتاه من أهل العلم.
أبو زرعة قال: سمعت أحمد بن حنبل، وذكر عنده إبراهيم بن طهمان، وكان متكئاً من علة فاستوى جالساً وقال: لا ينبغي أن يذكر الصالحون، فيتكأ. ثم قال أحمد: حدثني رجل من أصحاب ابن المبارك قال: رأيت ابن المبارك في المنام، ومعه شيخ مهيب فقلت: من هذا معك؟ قال: أما تعرف هذا؟ هذا سفيان الثوري، فقلت: من أين أقبلتم؟ قال: نحن نزور في كل يوم إبراهيم بن طهمان. قلت: فأين تزورونه؟ قال: دار الصديقين دار يحيى بن زكريا.
أسند إبراهيم بن طهمان عن جماعة من التابعين كعبد الله بن دينار وأبي الزبير وأبي حازم وغيرهم، وأقام بمكة حتى توفي بها في سنة ثلاث وستين ومائة.
المسعودي قال: سمعت مالك بن سليمان يقولك مات إبراهيم بن طهمان سنة ثلاث وستين بمكة ولم يخلف مثله.
__________
692 - هو: إبراهيم بن طهمان الخراساني، أبو سعيد، سكن نيسابور ثم مكة، ثقة يغرب، وتكلم فيه للإرجاء، ويقال رجع عنه، من السابعة، مات سنة ثمان وستين.(2/320)
693 - أبو عبيد القاسم بن سلام
كان أبوه عبداً رومياً لرجل من هراة، وولد أبو عبيد بهراة ورحل في طلب العلم، فسمع من إسماعيل بن جعفر، وشريك، وإسماعيل بن عياش، وهشيم، وسفيان بن عيينة، وإسماعيل بن علية، ويزيد بن هارون، في خلق كثير، وكان عالماً بالقراءات واللغة والغريب، وصنف الكتب الكثيرة في فنون، وكان ذا فضل ودين وورع وجود.
عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: عرضت كتاب غريب الحديث لأبي عبيد على أبي فاستحسنه وقال جزاه الله خيراً.
__________
692 - هو: إبراهيم بن طهمان الخراساني، أبو سعيد، سكن نيسابور ثم مكة، ثقة يغرب، وتكلم فيه للإرجاء، ويقال رجع عنه، من السابعة، مات سنة ثمان وستين.
693 – هو: القاسمبن سلام -بالتشديد - البغدادي، أبو عبيد الغمام المشهور، ثقة فاضل، مصنف، من العاشرة مات سنة أربع وعشرين، ولم أر له في الكتب حديثا مسندا، بل من أقواله في شرح الغريب.(2/320)
ابن عرعرة قال: كان طاهر بن عبد الله ببغداد، فطمع في أن يسمع من أبي عبيد وطمع في أن يأتيه في منزله. فلم يفعل أبو عبيد حتى كان هو يأتيه. فقدم علي بن المديني وعياش العنبري فأرادا أن يسمعا غريب الحديث فكان يحمل كل يوم كتابه ويأتيهما في منزلهما فيحدثهما به.
أبو بكر بن الأنبازي قال: كان أبو عبيد يقسم الليل أثلاثاً: فيصلي ثلثه، وينام ثلثه، ويضع الكتب ثلثه.
أبو حاتم قال: قال أبو عبيد القاسم بن سلام: مثل الألفاظ الشريفة والمعاني الظريفة مثل القلائد اللائحة في الترائب الواضحة.
سمعت إسحاق بن إبراهيم الحظلي يقول: أبو عبيد أوسعنا علماً وأكثرنا أدباً وأجمعنا جمعاً وإنا نحتاج إلى أبي عبيد، وأبو عبيد لا يحتاج إلينا.
ثعلب قال: لو كان أبو عبيد في بني إسرائيل لكان عجباً.
أحمد بن كامل القاضي قال: كان أبو عبيد القاسم بن سلام فاضلاً في دينه وعلمه ربانياً متفنناً في أصناف علوم الإسلام، من القرآن والفقه والعربية والأخبار، حسن الرواية صحيح النقل لا أعلم أحداً من الناس طعن عليه في شيء من أمره ودينه.
عبد الله بن طاهر قال: كان الناس أربعة: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والقاسم بن معن في زمانه وأبو عبيد القاسم بن سلام في زمانه.
إبراهيم الحربي قال: أدركت ثلاثة لن يرى مثلهم أبداً تعجز النساء أن يلدن مثلهم، رأيت أبا عبيد القاسم بن سلام، ما مثلته إلا بجبل نفخت فيه روح، ورأيت بشر بن الحارث، ما شبهته إلا برجل عجن من قرنه إلى قدمه عقلاً، ورأيت أحمد بن حنبل فرأيت كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف، يقول ما شاء ويمسك عما شاء.
أقام أبو عبيد ببغداد مدة طويلة ثم ولي القضاء بطرسوس ثم خرج إلى مكة في سنة تسع عشرة ومائتين وأقام بها، وتوفي بها في سنة ثلاث وعشرين وقيل أربع وعشرين ومائتين وهو ابن سبع وستين سنة.(2/321)
694 - إبراهيم بن علي الخراساني الهروي
إبراهيم الخواص قال: نزلت إلى مشرعة الساج من بغداد وكان الماء مداً والريح تلعب بالموج، فرأيت رجلاً بين الموج يمشي على الماء، فسجدت وجعلت بيني وبين الله تعالى أن لا أرفع رأسي حتى أعلم من الرجل؟ فلم أطل في السجود حتى حركني وقال لي: قم ولا تعاود فأنا إبراهيم بن علي الخراساني.
عبد الله الخياط قال: قال إبراهيم الخراساني: احتجت يوماً إلى الوضوء فإذا أنا بكوز من جوهر، وسواك من فضة رأسه ألين من الخز، فأمسكت بالسواك، وتوضأت بالماء وتركتهما وانصرفت.
أبو سعيد الخراز قال: قال لنا إبراهيم الهروي: بينما أنا في بعض سياحاتي وقد بقيت أياماً كثيرة لم أر فيها أحداً من الناس ولا طائراً ولا ذا روح، وكنت في تلك الحال مستقلاً بلا طعام ولا شراب، فوقع في نفسي أني في معنى فخرج علي شخص مع الخاطر لا أدري من أين خرج؟ فقال لي: يا إبراهيم، ذلك المرائي تعرفه؟ قلت: أنا هو. قال: وكان إلى جنبي شجرة فقال لي: قل لهذه الشجرة تحمل دنانير. قلت: احملي دنانير. فلم تحمل. ثم قال لها: احملي. فإذا بشماريخ دنانير معلقة فاشتغلت أنظر إليها ثم التفت فلم أر الشخص وذهبت الدنانير من الشجرة.
قال أبو سعيد: وسمعته يقول: بينما رجل في مسير له في يوم صائف إذ عدل إلى شعب فأصاب فيه مغارة. قال: فدخلت فيها فما لبثت أن دخل علي ثعبان كأنه النخلة فتطوق في شق المغارة فجعل ينظر إلى فقلت في نفسي: لعلي رزق له، وهالني أمره، فما لبث أن خرج من المغارة. ثم أقبل إلي وفي فيه رغيف حواري قد ذهبت منه عضة، فوضعه عند رأسي ورجع إلى موضعه فتطوق فيه. فقمت فأكلت الرغيف فلما برد النهار خرجت فسرت فلقيني رفقة، فقالوا: من أين جئت؟ قلت: من هذا الشعب. قالوا: هل رأيت ما رأينا؟ قلت: وما هو؟ قالوا: اعترض علينا في الرفقة ثعبان وقام على ذنبه ونفح وكان معنا إنسان ظريف فيه أدب فقال: أظن هذا جائعاً. فرمى إليه رغيفاً حواري فأخذه الثعبان ومضى. فقلت: أنا أكلت الرغيف. ومضيت وخليتهم.
انتهى ذكر أهل هراة.
__________
694 – هو: إبراهيم الهروي، أبو إسحاق، يعرف بستنبه، صحب إبراهيم بن أدهم من أقران أبي يزيد، من المذكورين بالتوكل والتجريد، توفي بقزوين، وكان أهل هراة يعظمونه، انظر حلية الأولياء 10/44.(2/322)
ذكر المصطفين من أهل مرو
695 - عبد الله بن المبارك
يكنى أبا عبد الرحمن كان أبوه تركياً عند رجل من التجار من بني حنظلة، وكانت أمه تركية خوارزمية. ولد سنة ثماني عشرة ومائة، وقيل تسع عشرة.
الحسن قال: كانت أم ابن المبارك تركية، وكان الشبه لهم بيناً فيه، وكان ربما خلع قميصه فلا أرى على صدره وجسده كثير شعر. وأخبرني غير واحد من أهله أنه ما دخل الحمام قط.
قال: وكانت دار ابن المبارك بمرو كبيرة صحن الدار نحو خمسين ذراعاً في خمسين ذراعاً، فكنت لا تحب أن ترى في داره صاحب علم أو صاحب عبادة أو رجلاً له مروءة وقدر بمرو إلا رأيته في داره، يجتمعون في كل يوم خلقاً يتذاكرون حتى إذا خرج ابن المبارك انضموا إليه. فلما صار ابن المبارك بالكوفة نزل في دار صغيرة وكان يخرج إلى الصلاة ثم يرجع إلى منزله لا يكاد يخرج منه ولا يأتيه كثير أحد، فقلت له: يا أبا عبد الرحمن ألا تستوحش ها هنا مع الذي كنت فيه بمرو؟ فقال: إنما فررت من مرو من الذي تراك تحبه، وأحببت ما ها هنا للذي أراك تكرهه لي، فكنت بمرو لا يكون أمر إلا أتوني فيه ولا مسألة إلا قالوا: اسألوا ابن المبارك، وأنا ها هنا في عافية من ذلك.
قال: وكنت مع ابن المبارك يوماً فأتينا على سقاية والناس يشربون منها، فدنا منها ليشرب ولم يعرفه الناس فزحموه ودفعوه فلما خرج قال لي: ما العيش إلا هكذا. يعني حيث لم نعرف ولم نوقر.
قال: وبينا هو بالكوفة يقرأ عليه كتاب المناسك، انتهى إلى حديث وفيه: قال عبد الله وبه نأخذ. فقال: من كتب هذا من قولي؟ قلت: الكاتب الذي كتبه. فلم يزل يحكه بيده حتى درس. ثم قال: ومن أنا حتى يكتب قولي؟
قال الحسن وكنا على باب سفيان بن عيينة يوماً وأصحاب الحديث وهم يرون أن عنده
__________
695 - هو: عبد الله بن المبارك المروزي، مولى بني حنظلة، ثقة ثبت فقيه عالم جواد مجاهد، جمعت فيه خصال الخير، من الثامنة، مات سنة إحدى وثمانين وله ثلاث وستون.(2/323)
بعض هؤلاء الكبار يحدثه. فقال رجل: أعياني أن أرى رجلاً يسوي بين الناس في علمه. فقال له آخر: هذا عبد الله بن المبارك. قال: نعم هات غيره، أتعرف غيره؟
فلما قدمت الكوفة ذكرت لابن المبارك قول الرجل وأنه فلان ولم أعلمه أنهم سموه. فقال أفلا قالوا الفضيل ابن عياض؟
قال الحسن: ورأيت في منزل ابن المبارك حماماً طيارة. فقال ابن المبارك: قد كنا ننتفع بفراخ هذه الحمام فليس ننتفع بها اليوم قلت: ولم ذلك؟ قال: اختلطت بها حمام غيرها فتزاوجت بها فنحن نكره أن ننتفع بشيء من فراخها من أجل ذلك.
قال الحسن: وصحبت ابن المبارك من خراسان إلى بغداد فما رأيته أكل وحده.
قال: وزوج النضر بن محمد ولده دعي بن المبارك. فلما جاء قام ابن المبارك ليخدم الناس فأبى النضر أن يدعه وحلف عليه حتى جلس.
عبيد بن جناد قال: قال عطاء بن مسلم: يا عبيد رأيت عبد الله بن المبارك؟ قلت: نعم قال: ما رأيت مثله ولا يرى مثله.
عبد الرحمن بن مهدي قال: ما رأت عيناي مثل سفيان ولا أقدم على عبد الله بن المبارك أحداً.
عبد الرحمن بن عبيد الله قال: كنا عند الفضيل فنعي إليه ابن المبارك فقال: رحمه الله أما أنه ما خلف بعده مثله.
عبد الرحمن بن مهدي قال: ما رأت عيناي أنصح لهذه الأمة من عبد الله بن المبارك.
نعيم بن حماد قال: كان عبد الله بن المبارك يكثر الجلوس في بيته فقيل له: ألا تستوحش؟ فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم؟
شقيق بن إبراهيم قال: قيل لابن المبارك: إذا صليت معنا لم تجلس معنا؟ قال: أذهب أجلس مع الصحابة والتابعين. قلنا له: ومن أين الصحابة والتابعون؟ قال: أذهب أنظر في علمي فأدرك آثارهم وأعمالهم، ما أصنع معكم؟ أنتم تغتابون الناس، فإذا كانت سنة مائتين فالبعد من كثير من الناس أقرب إلى الله، وفر من الناس كفرارك من أسد، وتمسك بدينك يسلم لك.
الحسين بن الحسن المروزي قال: قال عبد الله بن المبارك: كن محباً للخمول كراهية(2/324)
الشهرة ولا تظهر من نفسك أنك تحب الخمول فترفع نفسك فإن دعواك الزهد من نفسك هو خروجك من الزهد لأنك تجر إلى نفسك الثناء والمدحة.
أشعث بن شعبة المصيصي قال: قدم هارون الرشيد الرقة فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك وتقطعت النعال وارتفعت الغبرة وأشرفت أم ولد أمير المؤمنين من برج من قصر الخشب فلما رأيت الناس قالت: ما هذا؟ قالوا: عالم من أهل خراسان قدم الرقة يقال له عبد الله بن المبارك. فقالت: هذا والله الملك لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان.
سويد بن سعيد قال: رأيت عبد الله بن المبارك بمكة أتى زمزم فاستقى منها ثم استقبل الكعبة فقال: اللهم إن ابن أبي الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ماء زمزم لما شرب له" 1 وهذا أشربه لعطش القيامة، ثم شربه.
نعيم بن حماد قال: كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق فكأنه بقرة منحورة، من البكاء، لا يجترئ أحد منا أن يدنو منه أو يسأله عن شيء.
قال سفيان: إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة واحدة مثل عبد الله بن المبارك فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام.
عمران بن موسى الطرسوسي قال: جاء رجل فسأل سفيان الثوري عن مسألة، فقال له من أين أنت؟ قال: من أهل المشرق. قال: أوليس عندكم أعلم أهل المشرق؟ قال: ومن هو يا أبا عبد الله؟ قال: عبد الله بن المبارك. قال: وهو أعلم أهل المشرق؟ قال: نعم وأهل المغرب.
قال ابن عيينة: نظرت في أمر الصحابة وأمر ابن المبارك فما رأيت لهم عليه فضلاً إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم وغزوهم معه.
حبان بن موسى قال: عوتب ابن المبارك فيما يقري من المال في البلدان ولا يفعل في أهل بلده كذلك، فقال: إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق طلبوا الحديث وأحسنوا
__________
1 صحيح: أخرجه ابن ماجة الحديث 3062 والدارقطني في سننه الحديث 2/289 والحاكم في المستدرك 1/473 والخطيب في تاريخ بغداد 3/179 وتلخيص الحبير 2/268.(2/325)
الطلب، فاحتاجوا، فإن تركناهم ضاع علمهم وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم.
عبد الله بن ضريس قال: قيل لعبد الله بن المبارك: يا أبا عبد الرحمن إلى متى تكتب هذا الحديث؟ فقال: لعل الكلمة التي أنتفع بها ما كتبتها بعد.
الحسين بن الحسن المروزي قال: سمعت ابن المبارك يقول: أهل الدنيا خرجوا من الدنيا قبل أن يتطعموا أطيب ما فيها. قيل له: وما أطيب ما فيها؟ قال: المعرفة بالله عز وجل.
قطن بن سعيد قال: ما أفطر ابن المبارك ولا رئي نائماً قط.
علي بن الحسن بن شقيق قال: سمعت ابن المبارك يقول: لأن أرد درهماً من شبهة أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف ومائة ألف، حتى بلغ ستمائة ألف.
عبد الله بن خبيق قال: قيل لابن المبارك: ما التواضع؟ قال: التكبر على الأغنياء.
عياش بن عبد الله قال: قال عبد الله بن المبارك: لو أن رجلاً أبقى مائة شيء ولم يبق شيئاً واحداً لم يكن من المتقين. ولو تورع عن مائة شيء ولم يتورع عن شيء واحد لم يكن ورعاً ومن كان فيه خلة من الجهل كان من الجاهلين. أما سمعت الله تعالى قال لنوح عليه السلام لما قال: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} هود: 45 فقال الله تعالى: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} هود؟.
علي بن الحسن قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: لا يقع الكسب على العيال شيء، ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل.
عبد الله بن عمر السرخسي قال: قال لي ابن المبارك: ما أعياني شيء كما أعياني أني لا أجد أخاً في الله عز وجل.
سليمان بن داود قال: سألت ابن المبارك من الناس؟ قال: العلماء، قلت: فمن الملوك؟ قال: الزهاد. قلت: فمن الغوغاء؟ قال: خزيمة وأصحابه. قلت: فمن السفلة؟ قال: الذين يعيشون بدينهم.
فضيل بن عياض قال: سئل ابن المبارك: من الناس؟ قال: العلماء. قال: فمن الملوك؟ قال: الزهاد. قال: فمن السفلة: قال: الذي يأكل بدينه.(2/326)
أحمد بن جميل المروزي قال: قيل لعبد الله بن المبارك: إن إسماعيل بن علية قد ولي الصدقات. فكتب إليه ابن المبارك:
يا جاعل العلم له بازيا ... يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها ... بحيلة تذهب بالدين
فصرت مجنونا بها بعد ما ... كنت دواء للمجانين
فصرت رواياتك في سردها ... عن ابن عون وابن سيرين؟
أين رواياتك والقول في ... لزوم أبواب السلاطين؟
إن قلت أكرهت فماذا كذا ... زل حمار العلم في الطين
فلما قرأ الكتاب بكى واستعفى.
محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال: سمعت أبي يقول: كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو فيقولون: نصحبك يا أبا عبد الرحمن فيقول لهم: هاتوا نفقاتكم. فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق ويقفل عليها ثم يكتري لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد، فلا يزال ينفق عليهم ويطعمهم أطيب الطعام وأطيب الحلواء. ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي وأكمل مروءة، حتى يصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا صاروا إلى المدينة قال لكل رجل منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة، من طرفها؟ فيقول: كذا. ثم يخرجهم إلى مكة فإذا وصلوا إلى مكة فقضوا حوائجهم قال لكل رجل منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة؟ فيقول: كذا وكذا. فيشتري لهم ويخرجهم من مكة. فلا يزال ينفق عليهم حتى يصيروا إلى مكة فإذا وصلوا إلى مرو جصص أبوابهم ودورهم. فإذا كان بعد ثلاثة أيام صنع لهم وليمة وكساهم فإذا أكلوا وشربوا دعا بالصندوق ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته بعد أن كتب عليها اسمه.
قال أبي: أخبرني خادمه أنه عمل آخر سفرة سافرها دعوة فقدم إلى الناس خمسة وعشرين خواناً فالوذجاً.
قال: وبلغنا أنه قال للفضيل بن عياض: لولاك وأصحابك ما اتجرت.
قال أبي: وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم.
محمد بن عيسى قال: كان عبد الله بن المبارك كثير الاختلاف إلى طرسوس، وكان ينزل(2/327)
الرقة في خان، فكان شاب يختلف إليه ويقوم بحوائجه ويسمع منه الحديث. قال: فقدم عبد الله الرقة مرة فلم ير ذلك الشاب وكان مستعجلاً، فخرج في النفير فلما قفل من غزوته ورجع إلى الرقة سأل عن الشاب فقالوا: إنه محبوس لدين ركبه. فقال عبد الله: وكم مبلغ دينه؟ قالوا عشرة آلاف درهم فلم يزل يستقصي حتى دل على صاحب المال فدعا به ليلاً ووزن له عشرة آلاف درهم وحلفه أن لا يخبر أحداً ما دام عبد الله حياً. وقال: إذا أصبحت فأخرج الرجل من الحبس.
وأدلج عبد الله وأخرج الفتى من الحبس، وقيل له: عبد الله بن المبارك كان ها هنا وكان يذكرك، وقد خرج. فخرج الفتى في أثره فلحقه على مرحلتين أو ثلاث من الرقة، فقال: يا فتى أين كنت؟ لم أرك في الخان؟ قال: نعم يا أبا عبد الرحمن كنت محبوساً بدين. قال: وكيف كان سبب خلاصك؟ قال: جاء رجل وقضى ديني ولم أعلم به حتى أخرجت من الحبس. فقال له عبد الله: يا فتى احمد الله على ما وفق لك من قضاء دينك. فلم يخبر ذلك الرجل أحداً إلا بعد موت عبد الله.
سلمة بن سليمان قال: جاء رجل إلى عبد الله بن المبارك فسأله أن يقضي ديناً عليه، فكتب إلى وكيل له، فلما ورد عليه الكتاب قال له الوكيل: كم الدين الذي سألت فيه عبد الله أن يقضيه عنك؟ قال: سبعمائة درهم، فكتب إلى عبد الله: إن هذا الرجل سألك أن تقضي سبعمائة درهم فكتبت له بسبعة آلاف، وقد فنيت الغلات. فكتب إليه عبد الله: إن كانت الغلات قد فنيت فإن العمر أيضاً قد فني فأجر له ما سبق به قلمي.
وقد رويت لنا هذه الحكاية أبسط من هذا. فأخبرنا المحمدان ابن ناصر وابن عبد الباقي قالا: أنبأ أحمد قال أنبأ أحمد بن عبد الله قال نبأ أبي قال: نبأ محمد بن أحمد بن إبراهيم قال: نبأ علي بن محمد بن روح قال: سمعت المسيب بن واضح يقول: كنت عند عبد الله بن المبارك جالساً إذ كلموه في رجل يقضي عنه سبعمائة درهم ديناً. فكتب إلى وكيله: إذا جاءك كتابي هاذ وقرأته فادفع إلى صاحب هذا الكتاب سبعة آلاف درهم. فلما ورد الكتاب على الوكيل وقرأه التفت إلى الرجل فقال: أي شيء قضيتك؟ فقال: كلموه أن يقضي عني سبعمائة درهم ديناً. فقال: قد أصبت في الكتاب غلطاً، ولكن اقعد موضعك حتى أجري عليك من مالي وأبعث إلى صاحبي فأوامره فيك.(2/328)
فكتب إلى عبد الله بن المبارك: أتاني كتابك وقرأته وفهمت ما ذكرت فيه؛ وسألت صاحب الكتاب فذكر أنه كلمه في سبع مائة درهم وها هنا سبعة آلاف. فإن يكن منك غلط فاكتب إلي حتى أعمل على حسب ذلك. فكتب إليه: إذا أتاك كتابي هذا وقرأته وفهمت ما ذكرت فيه فادفع إلى صاحب الكتاب أربعة عشر ألفاً. فكتب إليه: إن كان علي هذا الفعال تفعل فما أسرع ما تبيع الضيعة، فكتب إليه عبد الله بن المبارك: إن كنت وكيلي فأنفذ ما آمرك به، وإن كنت أنا وكيلك فتعال إلى موضعي حتى أصير إلى موضعك فأنفذ ما تأمرني به.
ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فاجأ من أخيه المسلم فرحة غفر الله له" فأحببت أن أفاجئه فرحة على فرحة.
معاذ بن خالد قال: تعرفت إلى إسماعيل بن عياش بعبد الله بن المبارك فقال إسماعل بن عياش: ما على وجه الأرض مثل عبد الله بن المبارك، ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وجعلها في عبد الله بن المبارك، ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة فكان يطعمهم الخبيص، وهو الدهر صائم.
عبد الله بن حبيق قال: قال رجل لابن المبارك: أوصني، فقال: اعرف قدرك.
سعيد بن يعقوب الطالقاني قال: قال رجل لابن المبارك: هل بقي من ينصح؟ قال فقال: وهل تعرف من يقبل؟
عبدة بن سليمان قال: كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله، ثم آخر فقتله؛ ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله؛ فازدحم عليه الناس وكنت فيمن ازدحم عليه فإذا هو ملثم وجهه بكمه فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو عبد الله بن المبارك فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا.
أبو وهب قال: مر ابن المبارك برجل أعمى فقال: أسألك أن تدعو الله أن يرد بصري. قال: فدعا الله فرد عليه بصره وأنا أنظر.
الحسن بن عرفة قال: قال لي ابن المبارك: استعرت قلماً بأرض الشام فذهب على أن أرده إلى صاحبه فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي، فرجعت يا أبا علي إلى أرض الشام حتى رددته على صاحبه.(2/329)
شريح بن مسلمة قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: كاد الأدب أن يكون ثلثي الدين.
أبو بكر بن عبد الله بن حسن قال: قال ابن المبارك: طلبنا العلم للدنيا فدلنا على ترك الدنيا.
أحمد بن الزبرقان قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: إن الصالحين فيما مضى كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفواً وإن أنفسنا لا تكاد تواتينا إلا على كره فينبغي لنا أن نكرهها.
عن القاسم بن محمد قال: كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيراً ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي: بأي شيء فضل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة؟ إن كان يصلي إنا نصلي، ولئن يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو فإنا لنغزو، وإن كان يحج إنا لنحج.
قال: فكنا في بعض مسيرتنا في طريق الشام ليلة نتعشى في بيت إذ طفئ السراج فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج يستصبح فمكث هينهة ثم جاء بالسراج فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع، فقلت في نفسي: بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا، ولعله حين فقد السراج فصار إلى الظلمة ذكر القيامة.
قال المروزي: وسمعت أبا عبد الله بن حنبل قال: ما رفع الله ابن المبارك إلا بخبيئة كانت له.
قال المروزي: وأخبرت عن داود بن رشيد قال: كان ابن المبارك عند أبي الأحوص فجاء رسول فلان الهاشمي بعض الولاة فقال: يقرئك السلام ويقول: يا أبا الأحوص هذا شهر رمضان وقد وسعنا على عيالنا وهذه ألف درهم توسع بها عليهم في هذا الشهر. قال أبو الأحوص: فعل الله به وفعل به. وقال: قل له يدعها عنده حتى إذا احتجنا إليها بعثنا فأخذناها.
قال: وانسل ابن المبارك إلى منزله فجاء بألف فقال: يا أبا الأحوص هذه الألف تنفقها فإني لا آمن أن يكون قد بلغ أهلك فيخاصمونك، وهذه من وجه أرجو أن تكون أطيب فقبلها.
الحسن بن الربيع قال: سمعت ابن المبارك حين حضرته الوفاة وأقبل نصير يقول له: يا أبا عبد الرحمن، قل لا إله إلا الله. فقال له: يا نصير قد ترى شدة الكلام علي فإذا سمعتني قلتها فلا تردها علي حتى تسمعني قد أحدثت بعدها كلاماً، فإنما كانوا يستحبون أن يكون آخر كلام العبد ذلك.
أدرك ابن المبارك جماعة من التابعين منهم: هشام بن عروة، وإسماعيل بن أبي خالد،(2/330)
والأعمش، وسليمان التيمي، وحميد الطويل، وعبد الله بن عون، وخالد الحذاء، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وموسى بن عقبة، في آخرين.
وروى عن كبار الأئمة. كالثوري وشعبة والأوزاعي والحمادين في نظرائهم، وكان أحد أئمة المسلمين.
وتوفي بهيت منصرفاً من الغزو لثلاث عشة خلت من رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة، وهو ابن ثلاث وستين سنة.
محمد بن فضيل بن عياض قال: رأيت عبد الله بن المبارك في المنام فقلت: أي الأعمال وجدت أفضل؟ قال: الأمر الذي كنت فيه. قلت: الرباط والجهاد؟ قال: نعم - قلت: فأي شيء صنع بك ربك؟ قال: غفر لي مغفرة ما بعدها مغفرة وكلمتني امرأة من أهل الجنة أو امرأة من الحور العين.(2/331)
696 - أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي الفقيه
لبث مع أمه ثلاثين شهراً. أبوه مروزي. وولد هو ببغداد، ونشأ بنيسابور، واستوطن سمرقند، وكان عالماً بالحديث والفقه.
أبو محمد الثقفي عبد الله بن محمد قال: سمعت جدي يقول: جالست أبا عبد الله المروزي أربع سنين فلم أسمعه طول تلك المدة يتكلم في غير العلم.
أبو بكر أحمد بن إسحاق قال: ما رأيت أحسن صلاة من أبي عبد الله المروزي، ولقد بلغني أن زنبوراً قعد على جبهته فسال الدم على وجهه ولم يتحرك.
محمد بن نصر قال: خرجت من مصر ومعي جارية لي، فركبت البحر أريد مكة، فغرقت وذهب مني ألفا جزء، وصرت إلى جزيرة أنا وجاريتي ما رأينا فيها أحداً، وأخذني العطش فلم أقدر على الماء، فأجهدت فوضعت رأسي على فخذ جاريتي مستسلماً للموت فإذا رجل قد جاءني ومعه كوز. فقال لي: هاه. فأخذت وشربت وسقيت الجارية. ثم مضى فما أدري من أين جاء ولا أين ذهب؟.
أسند المروزي عن عبدان ويحيى بن يحيى وإسحاق بن راهويه وخلق كثير يطول ذكرهم، وكان مولده في سنة ثنتين ومائتين، وتوفي سنة أربع وتسعين.
__________
696 - هو: محمد بن نصر المروزي الفقيه، أبو عبد الله، ثقة حافظ إمام جبل، من كبار الثانية عشرة، مات سنة أربع وتسعين.(2/331)
697 - عبد الله بن أحمد الرباطي المروزي
لبث مع أمه خمس سنين وهو الذي يقال له ابن شبويه.
سافر مع أبي تراب النخشبي، وكان الجنيد يمدحه ويقول: هو رأس فتيان خراسان.
مصعب بن أحمد بن مصعب قال: قدم أبو محمد المروزي إلى بغداد يريد مكة، وكنت أحب أن أصحبه، فأتيته واستأذنته في الصحبة فلم يأذن لي في تلك يكون أحدنا الأمير لا يخالفه الآخر. فقلت أنت الأمير، فقال: لا بل أنت فقتل: أنت أسن وأولى. فقال: لا تعصني. فقلت: نعم. فخرجت معه وكان إذا حضر الطعام يؤثرني فإذا عارضته بشيء قال: ألم أشرط عليك أن لا تخالفني؟ فكان هذا دأبنا حتى ندمت على صحبته لما يلحق نفسه من الضرر.
فأصابنا في بعض الأيام مطر شديد ونحن نسير فقال لي: يا أبا أحمد اطلب الميل. ثم قال لي: اقعد في أصله فأقعدني في أصله وجعل يديه على الميل وهو قائم قد حنا علي، وعليه كساء قد تجلل به يظلني من المطر حتى تمنيت أني لم أخرج معه لما يلحق نفسه من الضرر. فلم يزل هذا دأبه حتى دخل مكة رحمة الله عليه.(2/332)
698 - عبد الله بن المنير المروزي
لبث في بطن أمه ما شاء الله.
يحيى بن بدر القرشي قال: كان عبد الله بن منير يوم الجمعة قبل الصلاة بقزوين فإذا كان في وقت صلاة الجمعة يرونه في مسجد آمل فكان الناس يقولون: إنه يمشي على الماء. فقيل له: يا أبا محمد إنك تمشي على الماء؟ قال: أما المشي على الماء فلا أدري، ولكن إذا أراد الله عز وجل جمع حافتي النهر حتى يعبر الإنسان.
قال: وكان عبد الله بن منير إذا قام من المجلس يخرج إلى البرية مع قوم مع أصحابه يجمع شيئاً مثل الأشنان وغيره فيدخل السوق فيبيع ذلك فيتعيش به.
قال: فخرج يوماً مع أصحابه فإذا هو بالأسد رابض على الطريق، فقيل له: هذا الأسد فقال لأصحابه: قفوا. ثم تقدم هو وحده إلى الأسد فلا ندري ما قال له، فمر الأسد، فقال لأصحابه مروا.
انتهى ذكر أهل مرو رضي الله عنهم.
__________
698 - هو: عبد الله بن منير – آخره راء - أبو عبد الرحمن المروزي الزاهد، ثقة عابد، من الحادية عشرة، مات سنة إحدى وأربعين، ويقال: بعدها.(2/332)
ذكر المصطفين من أهل بلخ
699 - الضحاك بن مزاحم الهلالي يكنى أبا القاسم
حملت به أمه سنتين، وكان يعلم ولا يأخذ أجرا، أصله من الكوفة ثم أقام ببلخ.
قبيصة بن قيس العنبري قال: كان الضحاك بن مزاحم إذا أمسى بكى فيقال له: ما يبكيك؟ فيقول: لا أدري ما صعد اليوم من عملي.
توفي الضحاك سنة ثنتين وقيل سنة خمس ومائة.
__________
699 - هو: الضحاك بن مزاحم الهلالي، أبو القاسم، أبو أبي محمد الخراساني، صدوق كثير الإرسال، من الخامسة، مات بعد المائة.(2/333)
700 - عطاء بن أبي مسلم
حملت به أمه ثلاث سنين.
وفي اسم أبيه قولان: أحدهما ميسرة والثاني عبد الله. وفي كنية عطاء قولان: أحدهما أبو عثمان، والثاني أيوب وأصله من بلخ، وكان من أهل العلم والصلاح.
عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: كنا نغازي عطاء الخراساني فكان يحيي الليل كله صلاة فإذا ذهب من الليل ثلثه أو نصفه نادانا وهو في فسطاطه يسمعنا: يا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، يا يزيد بن يزيد، يا هشام بن الغاز يا فلان بن فلان، قوموا فتوضؤا وصلوا فإن قيام هذا الليل وصيام هذا النهار أيسر من شرب الصديد ومقطعات الحديد، الوحي الوحي النجاء النجاء ثم يقبل على صلاته.
عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد ابن جابر قال: حدثني عمي، يزيد بن يزيد بن جابر، عن عطاء الخراساني أنه كان يقول: إني لا أوصيكم بدنياكم، أنتم بها مستوصون، وأنتم عليها حراص، وإنما أوصيكم بآخرتكم فخذوا من دار الفناء لدار البقاء، واجعلوا الدنيا كشيء فارقتموه، فوالله لتفارقنها، واجعلوا الموت كشيء ذقتموه، فوالله لتذوقنه، واجعلوا الآخرة كشيء نزلتموه فوالله لتنزلنها، وهي دار الناس كلهم ليس من الناس أحد يخرج لسفر إلا أخذ
__________
700 - هو: عطاء بن أبي مسلم، أبو عثمان الخراساني، واسم أبيه ميسرة، وقيل عبد الله، صدوق يهم كثيرا ويرسل ويدلس، من الخامسة، مات سنة خمس وثلاثين، لم يصح أن البخاري أخرج له.(2/333)
له أهبته، فمن أخذ لسفره الذي يصلحه اغتبط، ومن خرج إلى سفر له أهبته ندم فإذا ضحي لم يجد ظلاً، وإذا ظمي، لم يجد ماء يتروى به، وإنما سفر الدنيا منقطع، وأكيس الناس من قام يتجهز لسفر لا ينقطع.
يزيد بن سمرة أنه سمع عطاء الخراساني يقول: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام.
الأوزاعي قال: حدثني عطاء الخراساني قال: ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له يوم القيامة وبكت عليه يوم يموت.
عن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: إن أوثق عملي في نفسي نشري للعلم.
عمر بن أبي خليفة قال: سمعت عطاء الخراساني، وصلى معنا المغرب فأخذ بيدي حين انصرفنا، فقال: ترى هذه الساعة ما بين المغرب والعشاء؟ فإنها ساعة الغفلة وهي صلاة الأوابين.
أسند عطاء عن ابن عمر، وابن عباس، وأنس، وأبي هريرة، في آخرين. وتوفي سنة خمس وثلاثين ومائة.(2/334)
701 - إبراهيم بن أدهم
يكنى أبا إسحاق.
يونس بن سليمان البلخي قال: كان إبراهيم بن أدهم من الأشراف وكان أبوه كثير المال والخدم، فخرج إبراهيم يوماً في الصيد مع الغلمان والخدم والجنائب والبزاة. فبينا إبراهيم في ذلك وهو على فرسه يركضه، إذا هو بصوت من فوقه: يا إبراهيم ما هذا العبث؟ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} المؤمنون اتق الله وعليك بالزاد ليوم الفاقة. قال: فنزل عن دابته ورفض الدنيا وأخذ في عمل الآخرة.
بشير بن المنذر قال: كنت إذا رأيت إبراهيم بن أدهم كأنه ليس فيه روح لو نفخته الريح لوقع قد اسود متدرع بعباء.
إبراهيم بن بشار قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: ما كان لي مؤونة قط على أصحابي ولا على غيرهم إلا في شيء واحد. فقلت: أي شيء يا أبا إسحاق؟ فقال: ما كنت أحسن
__________
701 - هو: إبراهيم بن أدهم بن منصور العجلي، وقيل: التميمي: أبو إسحاق البلخي الزاهد، صدوق، من الثامنة مات سنة اثنتين وستين.(2/334)
أكري نفسي في الحصادين، فيحتاجون إلى أن يكروني، ويأخذون لي الأجرة، فهذه كانت مؤونتي عليهم.
قال ابن بشار: ومضيت مع إبراهيم بن أدهم إلى مدينة يقال لها طرابلس ومعي رغيفان ما لنا شيء غيرهما وإذا سائل يسأل، فقال لي: ادفع إليه ما معك فتلبثت. فقال لي: ما لك؟ أعطه، فأعطيته وأنا متعجب من فعله، فقال لي: يا أبا إسحاق إنك تلقى غداً ما لم تلقه قط واعلم أنك تلقى ما أسلفت ولا تلقى ما خلفت. فمهد لنفسك فإنك لا تدري متى يفجؤك أمر ربك. قال: فأبكاني كلامه وهون علي الدنيا. فلما نظر إلي أبكي، قال: هكذا فكن.
قال ابن بشار: وخرجت أنا وإبراهيم بن أدهم، وأبو يوسف الغسولي، وأبو عبد الله السنجاري، نريد الإسكندرية فمررنا بنهر يقال له نهر الأردن فقعدنا تستريح وكان مع أبي يوسف كسيرات يابسات. فألقاها بين أيدينا فأكلناها وحمدنا الله عز وجل. فقمت أسعى أتناول ماء لإبراهيم فبادر إبراهيم فدخل النهر حتى بلغ الماء إلى ركبتيه. فقال بكفيه في الماء فملأهما ثم قال: بسم الله، وشرب الماء ثم قال: الحمد لله، ثم إنه خرج من النهر فمد رجليه ثم قال: يا أبا يوسف لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم والسرور لجالدونا عليه بالسيوف أيام الحياة، فقلت: يا أبا إسحاق طلب القوم الراحة والنعيم فأخطأوا الطريق المستقيم. فتبسم وقال: من أين لك هذا الكلام؟
قال ابن بشار: مررنا مع إبراهيم بن أدهم بمقبرة فتقدم إلى قبر فوضع يده عليه ثم قال: رحمك الله يا فلان، ثم تقدم إلى آخر فقال مثل ذلك، فعل ذلك بسبعة من القبور ثم قام قائماً بين تلك القبور فنادى يا فلان يا فلان، بأعلى صوته، لقد متم وخلفتمونا ونحن بكم سريعاً لاحقون. ثم بكى وغرق في فكره ثم رجع بعد ساعة فأقبل إلينا بوجهه، ودموعه تنحدر كاللؤلؤ الرطب وقال: إخوتي، عليكم بالمبادرة والجد والاجتهاد، سارعوا وسابقوا فإن نعلاً فقدت أختها سريعة اللحاق بها.
شقيق بن إبراهيم قال: بينا نحن ذات يوم عند إبراهيم بن أدهم إذ مر به رجل فقال إبراهيم: أليس هذا فلان؟ فقيل: نعم. فقال لرجل: أدركه فقل له قال لك إبراهيم: لم لم تسلم؟ فقال له، فقال: والله إن امرأتي وضعت وليس عندي شيء، فخرجت شبه المجنون، قال: فرجعت إلى إبراهيم فقلت له، فقال؛ إنا لله، كيف غفلنا عن صاحبنا حتى نزل به هذا(2/335)
الأمر؟ وقال: يا فلان إيت صاحب البستان فاستسلف منه دينارين، فادخل السوق فاشتر له ما يصلحه بدينار، وادفع الدينار الآخر.
فدخلت السوق فأوقرت بدينار من كل شيء وتوجهت إليه فدققت الباب فقالت امرأته: من هذا؟ قلت: أنا، أردت فلاناً. قالت: ليس هو ههنا. قلت: فمري بفتح الباب وتنحي. قال: ففتحت الباب فأدخلت ما على البعير وألقيته في صحن الدار وناولتها الدينار. فقالت: على يدي من بعث هذا؟ فقلت: قولي على يد أخيك إبراهيم بن أدهم. فقالت: اللهم لا تنس هذا اليوم لإبراهيم.
قال شقيق: وقلت لإبراهيم: يا إبراهيم تركت خراسان. فقال: ما تهنيت بالعيش إلا في بلاد الشام، أفر بديني من شاهق إلى شاهق، ومن جبل إلى جبل، فمن يراني يقول: هو موسوس، ومن يراني يقول: هو جمال، ثم قال لي: يا شقيق لم ينبل عندنا من نبل بالحج والجهاد إنما نبل من كان يعقل ما يدخل جوفه، يعني الرغيفين، من حله، يا شقيق ماذا أنعم الله على الفقراء؟ لا يسألهم يوم القيامة لا عن زكاة ولا عن حج ولا عن جهاد ولا عن صلة رحم، إنما يسأل هؤلاء المساكين، يعني الأغنياء.
أحمد بن داود قال: مر يزيد بإبراهيم بن أدهم وهو ينظر كرماً، فقال: ناولنا من هذا العنب، قال: ما أذن لي صاحبه. قال: فقلت السوط فجعل يقنع رأسه. فطأطأ إبراهيم رأسه وقال: اضرب رأساً طالما عصى الله عز وجل فأعجز الرجل عنه.
علي بن بكار قال: كنا جلوساً بالمصيصة وعندنا إبراهيم بن أدهم، فقدم رجل من خراسان فقال: أيكم إبراهيم بن أدهم؟ فقال القوم: هذا، قال: إن إخوتك بعثوني إليك فلما سمع ذكر إخوته قام فأخذ بيديه فنحاه فقال: ما جاء بك؟ فقال: أنا مملوكك، معي فرس وبغلة وعشرة آلاف درهم بعث بها إليك إخوتك. فقال: إن كنت صادقاً فأنت حر، وما معك لك، اذهب فلا تخبر أحداً. فذهب.
يحيى بن الكدير بن أسود الكلابي من أهل عسقلان قال: كان إبراهيم بن أدهم أجيراً في بستان لي سنة أبتذله فيما يبتذل الأجير. فزارني إخوان لي في بستاني فقلت لإبراهيم: إيتنا برمان حلو. فجاء برمان لم نحمده. فقلت له: أنت في هذه البستان منذ سنة لا تعرف موضع الجيد الحلو من الحامض؟ قال: فأي موضع هو من البستان؟ فوصفته له فأنكرت أمره، وإذا رجل قد أقبل على نجيب يسأل عن إبراهيم بن أدهم. فأخبر بمكانه عندي. فنزل إليه فرأيته قد(2/336)
قبل يديه وعظمه. فقال له إبراهيم: ما جاء بك؟ فقال: مات بعض مواليك فجئتك بميراثه ثلاثين ألف ردهم. فقال: ما لكم وأتباعي؟ فقال الرجل: قد تعنيت من بلخ فاقبلها مني. فقال للرجل: ابسط إزارك، وصب عليه ما معك. ففعل، فقال إبراهيم: اقسمه ثلاثة أقسام. فقسمه. فقال: ثلث لك لعنائك من بلخ إلى ها هنا وثلث اقسمه على المساكين ببلخ، وثلث أنت يا يحيى اقسمه في مساكين أهل عسقلان.
أبو سليمان الداراني قال: صلى إبراهيم بن أدهم خمس عشرة صلاة بوضوء واحد. عن مخلد بن الحسين قال: ما انتبهت من الليل إلا أصبت إبراهيم بن أدهم يذكر الله فأغتم ثم أتعزى بهذه {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} المائدة: 54.
عبد الملك بن سعد الدمشقي قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: أعربنا الكلام فما نلحن، ولحنا في الأعمال فما نعرب.
عبد الله بن الفرج العابد قال: اطلعت على إبراهيم بن أدهم بالشام في بستان وهو نائم وعند رأسه أفعى في فيها طاقة نرجس تذب عنه.
موسى بن طريف قال: ركب إبراهيم بن أدهم البحر فأخذتهم ريح عاصف فأشرفوا على الهلكة فلف إبراهيم رأسه في عباءة ونام. فقالوا له: ما ترى ما نحن فيه من الشدة؟ فقال: ليس ذا شدة. قالوا: ما الشدة؟ قال: الحاجة إلى الناس. ثم قال: اللهم أريتنا قدرتك فأرنا عفوك. فصار البحر كأنه قدح زيت.
خلف بن تميم قال: كنت عند أبي رجاء الهروي في مسجده فأتى رجل على فرس فنزل فسلم عليه وودعه. فأخبرني أبو رجاء عنه أنه كان مع إبراهيم بن أدهم في سفينة في غزاة في البحر، فعصفت عليهم الريح وأشرفوا على الغرق فسمعوا في البحر هاتفاً يهتف بأعلى صوته: تخافون وفيكم إبراهيم؟.
إبراهيم بن عبد الله بن محمد البلخي، عن إبراهيم بن أدهم قال: وجدت يوماً راحة فطاب قلبي لحسن صنيع الله بي فقلت: اللهم إن كنت أعطيت أحداً من المحبين لك ما سكنت به قلوبهم قبل لقائك فأعطني ذلك لفقد أضر بي القلق، قال إبراهيم: فرأيت الله تعالى في النوم، فوقفني بين يديه وقال لي: يا إبراهيم ما استحييت مني؟ تسألني أن أعطيك ما تسكن به قلبك قبل لقائي، وهل يسكن قلب المشتاق إلى غير حبيبه؟ أم هل يستريح الحب إلى غير من اشتاق إليه؟ فقلت: يا رب تهت في حبك فلم أدر ما أقول.(2/337)
اقتصرنا من أخبار إبراهيم على هذا القدر لأنا قد وضعنا كتاباً جمعنا فيه أخباره فكرهنا الإعادة في التصانيف.
وقد روى إبراهيم عن جماعة من التابعين: كأبي إسحاق السبيعي وأبي حازم وقتادة ومالك بن دينار وأبان والأعمش وغيرهم، وقد روى عن خلق من تابعي التابعين إلا أنه شافه بعض من روى عنه، وأرسل الرواية عن بعض، وتوفي بالجزيرة، فحمل إلى صور فدفن هنالك.(2/338)
702 - داود البلخي
لبث مع أمه أربعين شهراً.
إبراهيم بن أدهم قال: لقيت أسلم بن زيد الجهني فقلت له: إنس صحبت رجلاً من الكوفة إلى مكة فرأيته إذا مشى يصلي ركعتين ثم يتكلم بكلام خفي بينه وبين نفسه فإذا جفنة بن ثريد عن يمينه وكوز ماء، وكان يأكل ويطعمني، فبكى وقال: يا بني ذاك أخي داود ومسكنه من قرى بلخ بقرية يقال لها المازرة الطيبة، وإنها تفاخر البقاع بكينونة داود فيها، يا غلام: ما قال لك وما علمك؟ قلت: علمني اسم الله الأعظم. قال: وما هو؟ قلت: إنه يتعاظم علي أن أنطق به فإنني سألت به مرة فإذا برجل آخذ بحجرتي فقال: سل تعطه، فراعني ذلك وفزعت فزعاً شديداً فقال: لا روع عليك أنا أخوك الخضر، إن أخي داود علمك اسم الله الأعظم فإياك أن تدعو به على رجل بينك وبينه نزع فتهلكه هلاك الدنيا والآخرة، ولكن ادع الله أن يثبت به قلبك، ويشجع به جبنك، ويقوي به ضعفك ويؤنس به وحشتك، ويؤمن به روعتك.
__________
702 - هو: داود البلخي، من متقدمي شيوخ المشرق، انظر حلية الأولياء 10/46.(2/338)
703 - شقيق بن إبراهيم البلخي
لبث في بطن أمه ستة وثلاثين شهراً يكنى أبا علي.
أحمد بن عبد الله الزاهد قال: قال علي بن محمد بن شقيق: كان لجدي ثلثمائة قرية ولم يكن له كفن يكفن فيه، قدم ذلك كله بين يديه، وثيابه وسيفه إلى الساعة معلق يتبركون به، وكان قد خرج إلى بلاد الترك لتجارة وهو حدث فدخل إلى بيت أصنامهم، فقال لعاملهم: إن هذا الذي أنت فيه باطل، ولهذا الخلق خالق ليس كمثله شيء رازق كل شيء. فقال له
__________
703 - هو: شقيق بن إبراهيم الأزدي، البلخي، الإمام الزاهد، شيخ خراسان، صحب إبراهيم بن أدهم، قتل شقيق في غزاة كولان سنة أربع وتسعين ومائة، انظر سير أعلام النبلاء 8/200.(2/338)
الخادم: ليس يوافق قولك فعلك، فقال له شقيق: كيف؟ قال: زعمت أن لك خالقاً قادراً على كل شيء، وقد تعنيت إلى ها هنا لطلب الرزق. قال شقيق: فكان سبب زهدي كلام التركي، فرجع فتصدق بجميع ما ملك وطلب العلم.
قال أبو عبد الله: سمعت شقيق بن إبراهيم يقول: خرجت من ثلثمائة ألف درهم وكنت مرابياً ولبست الصوف عشرين سنة وأنا لا أعلم، حتى لقيت عبد العزيز بن أبي رواد، فقال لي: يا شقيق ليس الشأن في أكل الشعير، ولا لباس الصوف والشعر، الشأن في المعرفة، وأن تعبد الله تلا تشرك به. فقتل: فسر لي هذا؟ قال: يكون جميع ما تعمله لله خالصاً. ثم تلا: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} الكهف.
محمد بن أبي عمران قال: سمعت حاتماً الأصم يقول: كنا مع شقيق البلخي ونحن مصافوا الترك في يوم لا أرى فيه إلا رؤوساً تندر، وسيوفاً تقطع، فقال لي شقيق ونحن بين الصفين: يا حاتم كيف ترى نفسك في هذا اليوم؟ تراها مثلها في الليلة التي زفت إليك امرأتك؟ فقلت: لا والله. فقال: لكني والله أرى نفسي في هذا اليوم مثلها في الليلة التي زفت فيها امرأتي. قال: ثم نام بين الصفين ودرقته تحت رأسه، حتى سمعت غطيطه.
حاتم الأصم قال لي شقيق البلخي: إصحب الناس كما تصحب النار، خذ منفعتها واحذر أن تحرقك.
حاتم قال: سمعت شقيقاً يقول: مثل المؤمن كمثل رجل غرس نخلة وهو يخاف أن تحمل شوكاً ومثل المنافق كمثل رجل زرع شوكاً وهو يطمع أن يحصد تمراً هيهات، كل من عمل حسناً فإن الله لا يجزيه إلا حسناً، ولا ينزل الأبرار منازل الفجار.
أسند شقيق عن عباد بن كثير وغيره، وصحب إبراهيم بن أدهم.(2/339)
704 - حاتم الأصم
واختلفوا في اسم أبيه: فقيل حاتم بن عنوان، وقيل حاتم بن يوسف؛ وقيل حاتم بن عنوان بن يوسف. يكنى أبا عبد الرحمن، وهو مولى للمثنى بن يحيى المحاربي، صحب شقيقاً.
__________
704 - هو: حاتم الأصم الزاهد القدوة الرباني، أبو عبد الرحمن، حاتم بن عنوان بن يوسف، البلخي الواعظ الناطق بالحكمة الأصم، له كلام جليل في الزهد والمواعظ والحكم، كان يقال له: لقمان هذه الأمة.(2/339)
محمد بن أبي عمران قال: سمعت حاتماً الأصم، وسأله رجل على ما بنيت أمرك هذا في التوكل على الله؟ قال: على خصال أربع: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله حيث كنت فأنا مستحي منه.
رباح بن الهروي قال: مر عاصم بن يوسف بحاتم الأصم وهو يتكلم في مجلسه فقال: يا حاتم كيف تصلي؟ قال حاتم: أقوم بالأمر، وأمشي بالسكينة، وأدخل بالنية، وأكبر بالعظمة، وأقرأ بالترتيل والتفكر، وأركع بالخشوع، وأسجد بالتواضع، وأسلم بالسنة وأسلمها بالإخلاص إلى الله عز وجل، وأخاف أن لا تقبل مني. قال تكلم فأنت تحسن تصلي.
عبد الله بن سهل قال: سمعت حاتماً الأصم يقول: اختلفت إلى شقيق ثلاثين سنة، فقال لي يوماً: أي شيء تعلمت؟ فقتل: رأيت رزقي من عند ربي فلم أشتغل إلا بربي، ورأيت أن الله تعالى وكل بي ملكين يكتبان علي كل ما تكلمت به فلم أنطق إلا بالحق، ورأيت أن الخلق ينظرون إلى ظاهري والرب تعالى ينظر إلى باطني، فرأيت مراقبته أولى وأوجب، فسقطت عني رؤية الخلق، ورأيت أن الله مستحثاً يدعو الخلق إليه فاستعددت له متى جاءني لا أحتاج يقتلني، يعني ملك الموت. فقال لي: يا حاتم ما خاب سعيك.
الحسن بن علي العابد قال: سمعت حاتماً يقول: لو أن صاحب خبر جلس إليك ليكتب كلامك لاحترزت منه، وكلامك يعرض على الله تعالى فلا تحترز.
أبو تراب النخشبي قال: سمعت حاتماً يقول: لي أربع نسوة وتسعة من الأولاد، ما طمع الشيطان أن يوسوس لي في شيء من أرزاقهم.
حامد اللفاف قال: سمعت حاتماً الأصم يقول: ما من صباح إلا والشيطان يقول لي: ما تأكل؟ وما تلبس؟ وأين تسكن؟ فأقول: آكل الموت وألبس الكفن وأسكن القبر.
قال: وقال رجل لحاتم ما تشتهي؟ قال: أشتهي عافية يوم إلى الليل، فقيل له: أليست الأيام كلها عافية؟ قال: إن عافية يومي أن لا أعصي الله فيه.
قال: وقال حاتم: تعهد نفسك في ثلاثة مواضع: إذا عملت فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلمت فاذكر سمع الله إليك، وإذا سكت فاذكر علم الله فيك.
عن علي بن الموفق قال: سمعت حاتماً يقول: لقينا الترك وكان بيننا جولة فرماني تركي بوهق فقلبني عن فرسي ونزل عن دابته فقعد على صدري وأخذ بلحيتي هذه الوافرة وأخرج(2/340)
قال: وسئل أحمد: أي الأعمال أفضل؟ فقال: رعاية السر عن الالتفات إلى شيء غير الله عز وجل.
محمد بن حامد قال: كنت جالساً عند أحمد بن خضرويه وهو في النزع الأخير، وكان قد أتى عليه خمس وتسعون سنة فسئل عن مسألة فدمعت عيناه وقال: يا بني باب كنت أدقه خمساً وتسعين سنة هو ذا يفتح لي الساعة، لا أدري أيفتح لي بالسعادة أو بالشقاوة أنى لي أوان الجواب؟.
وكان قد ركبه من الدين سبعمائة دينار، وحضره غرماؤه فنظر إليهم فقال: اللهم إنك جعلت الرهون وثيقة لأرباب الأموال وأنت تأخذ عنهم وثيقتهم فأد عني. فدق داق الباب وقال: هذه دار أحمد بن خضرويه؟ فقالوا: نعم. قال: أين غرماؤه؟ قال: فخرجوا فقضى عنه ثم خرجت روحه.
أسند أحمد بن خضرويه عن محمد بن عبدة المروزي وتوفي سنة أربعين ومائتين.(2/342)
من خفه سكيناً ليذبحني. فوحق سيدي ما كان قلبي عنده ولا عند سكينه، إنما كان قلبي عند سيدي أنظر ماذا ينزل به القضاء منه. فقلت: سيدي قضيت علي أن يذبحني هذا فعلى الرأس والعين، إنما أنا لك وملكك فبينا أنا أخاطب سيدي وهو قاعد على صدري آخذ بلحيتي ليذبحني، إذ رماه بعض المسلمين بسهم فما أخطأ حلقه، فسقط عني فقمت أنا إليه فأخذت السكين من يده فذبحته، فما هو إلا أن تكون قلوبكم عند السيد حتى تروا من عجائب لطفه ما لم تروا من الآباء والأمهات.
أسند حاتم الحديث ولا أعرف له إلا ما أخبرنا به محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا حمد بن أحمد قال: أنا أحمد بن عبد الله؟ قال: حدثنا أبو الحسين محمد بن محمد بن أحمد المؤذن قال: حدثنا محمد بن الحسين بن علي قال: حدثنا محمد بن علويه قال: حدثنا ابن الحارث قال: حدثنا حاتم الأصم قال: حدثنا سعيد بن عبد الله الماهياني قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان قال: حدثنا مالك عن الزهري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار، وسلم إذا دخلت بيتك يكثر خير بيتك" 1.
__________
1 أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 8/86 رقم 11445.(2/241)
705- أحمد بن الخضر
وهو المعروف بابن خضرويه البلخي.
يكنى أبا حامد، صحب أبا تراب النخشبي وحاتماً الأصم، ورحل إلى يزيد وأبي حفص النيسابوري.
وقال أبو حفص: ما رأيت أحداً أكبر همة ولا أصدق حالاً من أحمد بن خضرويه.
محمد بن الفضل قال: قال أحمد بن خضرويه: القلوب جوالة إما أن تجول حول العرض وإما أن تجول حول الحش
.محمد بن حامد الترمذي قال: أحمد بن خضرويه: الصبر زاد المضطرين، والرضا درجة العارفين. قال: وقال رجل لأحمد بن خضرويه، أوصني. فقال: أمت نفسك حتى تحييها. قال: وقال أحمد: لا نوم أثقل من الغفلة، ولا رق أملك من الشهوة، ولولا ثقل الغفلة لم تظفر بك الشهوة.
__________
705 - هو: أحمد بن خضرويه، الزاهد الرباني الشهير، أبو حامد البلخي، من أصحاب حاتم الأصم، توفي سنة أربعين ومائتين، انظر سير أعلام النبلاء 9/634.(2/241)
706 - محمد بن الفضل بن العباس
أبو عبد الله البلخي.
أبو بكر محمد بن عبد الله الرازي قال: سمعت محمد بن الفضل يقول: العجب ممن يقطع الأودية والمفاوز والقفار ليصل إلى بيته وحرمه لأن فيه آثار أنبيائه كيف لا يقطع نفسه وهواه حتى يصل إلى قلبه لأن فيه آثار مولاه؟.
الحسن بن علويه قال: قال محمد بن الفضل: أنزل نفسك منزلة من لا حاجة له فيها ولا بد له منها، فإن من ملك نفسه عز، ومن ملكته ذل.
إبراهيم الخواص قال: قال لي محمد بن الفضل: ما خطوت أربعين سنة خطوة لغير الله عز وجل، وما نظرت أربعين سنة في شيء أستحسنه حياء من الله عز وجل، وما أمليت على ملكي ثلاثين سنة شيئاً، ولو فعلت ذلك لاستحييت منهما.
أسند محمد بن الفضل عن قتيبة بن سعيد، وصحب أحمد بن خضرويه وغيره، وانتقل إلى سمرقند فمات بها في سنة تسع عشرة وثلاثمائة.
__________
706 - هو: محمد بن الفضل بن العباس، واعظ بلخ، الإمام الكبير، شيخ الإسلام، أبو عبد الله، نزيل سمرقند، سير أعلام النبلاء.(2/342)
707 - أبو بكر الوراق
واسمه محمد بن عمر، ويقال له الحكيم وأصله من ترمذ لكنه أقام ببلخ.
أبو بكر بن أجيد البلخي قال: سمعت أبا بكر الوراق يقول: لو قيل للطمع من أبوك؟ قال: الشك المقدور، ولو قيل: ما حرفتك؟ قال: اكتساب الذل ولو قيل: ما غايتك؟ قال: الحرمان.
غيلان السمرقندي قال: دخل رجل على أبي بكر الوراق فقال: إني أخاف من فلان. فقال: لا تخف منه فإن القلب من تخافه بيد من ترجوه.
محمد بن حامد قال: قلت لأبي بكر الوراق: علمني شيئاً يقربني إلى الله، ويقربني من الناس. فقال: أما الذي يقربك من الله فمسألته، وأما الذي يقربك من الناس فترك مسألتهم.
أسند أبو بكر الوراق الحديث عن موسى بن حزام الترمذي.(2/343)
708 - عابد بلخي لم يعرف اسمه
عبد الوهاب قال: بينا أنا جالس في الحدادين ببلخ إذ مر رجل فنظر إلى النار في الكور فسقط فقمنا فنظرنا إليه فإذا هو قد مات.(2/343)
709 - عابدة بلخية رضي الله عنها
أبو بلال الأسود قال: خرجت حاجاً فلما صرت في بعض الطريق إذا أنا بامرأة ليس معها زاد ولا إداوة. فقلت لها: من أين أنت؟ قالت: من بلخ. فقلت لها: ما أرى معك زاداً ولا تحملين فيه الزاد. فقالت: لي: خرج معي من بلخ عشرة دراهم وقد بقي بعضها، فقلت لها: إذا نفذت ما تصنعين؟ فقالت: علي هذه الجبة أبيعها وآخذ دونها وأنفق ما بين ذلك. قلت: إذا فني ما تصنعين؟ قالت: أبيع هذا الخمار وآخذ دونه وأنفق ما بين ذلك. قلت: فإذا فني ما تصنعين؟ قالت: يا بطال أسأله فيعطيني. قلت: ألا سألته قبل ذلك؟ قالت، ويحك إني أستحيي أن أسأله شيئاً من الدنيا ومعي فضل من عرضها. قلت: اعقبي على هذا الحمار عقبة. فقالت: دعه. فتركته معها وتخلفت لحاجة. فلما قضيت حاجتي أسرعت في أثرها فإذا أنا بالحمار واقف والخرج مملوء فرآني حواري لم أر بحسنه فطلبتها بعد ذلك فما رأيتها.
انتهى ذكر أهل بلخ بحمد الله ومنه.
__________
707 - هو: الحكيم أبو بكر محمد بن عمر الوراق البلخي، له الكتب في المعاملات، أسند الحديث، انظر حلية الأولياء 10/251.(2/343)
ذكر المصطفين من أهل ترمذ
710 - علي بن رزين أبو الحسن
خراساني، أصله من ترمذ، ويقال من هراة كان أستاذ أبي عبد الله المغربي.
كان علي بن رزين قد صحب الحسن البصري فيما يذكر والله أعلم، وكان يدخل إلى قرميسين فيما بلغني فيكتب عنه، وشاع في الناس ذكره أنه يشرب في كل أربعة أشهر شربة ماء، فسأله رجل من أهل قرميسين عن هذا؟ فقال: نعم وأي شيء في هذا؟ سألت الله عز وجل أن يكفيني مؤونة بطني فكفاني.
عاش علي بن رزين مائة وعشرين سنة، وتوفي سنة خمس وعشرين ومائتين، ودفن على جبل الطور، ودفن إلى جانبه صاحبه أبو عبد الله المغربي.
__________
710 - هو: الممكن المكين، أبو الحسن علي بن رزين، كان عن الأطعمة والأشربة معدولا، وفي المشاهدة مقبولا ومحمولا، انظر حلية الأولياء 10/243.(2/344)
711 - محمد بن علي بن الحسين الترمذي
يكنى أبا عبد الله، من كبار مشايخ خراسان، له التصانيف المشهورة. وكان يقول ما صنفت شيئاً لينسب إلي لكن كنت إذا اشتد علي وقتي أتسلى بمصنفاتي.
منصور بن عبد الله قال: قال محمد بن علي الترمذي ليس في الدنيا حمل أثقل من البر لأن من برك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك.
الحسن بن علي قال: سمعت محمد بن علي الترمذي يقول: من جهل أوصاف العبودية فهو بنعت الربوبية أجهل.
أبو الحسين الفارسي قال: سمعت محمد بن علي الترمذي يقول: المؤمن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، والمنافق حزنه في وجهه وبشره في قلبه.
وقال: اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك، واجعل شكرك لمن لا تنقطع عنك نعمته، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه.
أسند محمد بن علي عن محمد بن رزام الأيلي.
انتهى ذكر أهل ترمذ بحمد الله ومنه.
__________
711 - هو: الحكيم الإمام الحافظ العارف، الزاهد، أبو عبد الله، محمد بن علي بن الحسن بن بشر، الحكيم الترمذي، انظر سير أعلام النبلاء 11/14.(2/344)
ذكر المصطفين من أهل بخارى
712 - محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري
يكنى أبا عبد الله.
أبو جعفر محمد بن أبي حاتم الوراق قال: قلت لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري: كيف كان بدو أمرك في طلب الحديث؟ قال: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب. قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك فقال: عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من الكتاب بعد العشر فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره. فقال يوماً، فيما كان يقرأ للناس: سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم. فقلت له: يا أبا فلان إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك. فدخل فنظر فيه ثم خرج فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم. فأخذ القلم مني فأحكم كتابه وقال: صدقت. فقال له بعض أصحابه: أبن كم كنت إذ رددت عليه؟ قال: ابن إحدى عشرة سنة. فلما طعنت في سن ست عشرة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، ثم خرجت مع أمي وأخي إلى مكة فلما حججت رجع أخي وتخلفت بها في طلب الحديث، فلما طعنت في ثمان عشرة جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم، وصنفت كتاب التاريخ عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليالي المقمرة.
أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن البخاري قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل يقول: لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم من أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر.
السعداني قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: قال محمد بن إسماعيل أخرجت هذا الكتاب، يعني الصحيح، من زهاء ستمائة ألف حديث.
محمد بن يوسف الفربري قال: قال محمد بن إسماعيل: ما وضعت في كتاب الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين.
بكر بن منير قال: كان حمل إلى محمد بن إسماعيل بضاعة أنفذها إليه فلان. فاجتمع
__________
712 - هو: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي، أبو عبد الله البخاري، جبل الحفظ، وإمام الدنيا في فقه الحديث، من الحادية عشرة، مات سنة ست وخمسين في شوال، له اثنتان وستون سنة.(2/345)
713 - عابد بخاري
إبراهيم بن أحمد الخواص قال: سلكت البادية ستة عشر طريقاً على غير الجادة، فأعجب ما رأيت رجل ليس له يدان ولا رجلان، وعليه من البلاء أمر عظيم وهو يزحف زحفاً فتحيرت منه وسلمت عليه، فقال لي: وعليك السلام يا إبراهيم. قال: فقلت له: بم عرفتني ولم ترني(2/346)
قبلها؟ فقال: الذي جاء بك عرف بيني وبينك. فقتل: صدقت، إلى أين تريد؟ فقال: إلى مكة، قلت: ومن أين أنت؟ قال: من بخارى فبقيت متعجباً أنظر إليه. فنظر إلي شزراً وقال: يا إبراهيم تعجب من قوي يحمل ضعيفاً ويرفق به؟ ثم دمعت عيناه وأرسل الدموع فقلت: لا يا حبيبي، فتركته على حاله ومضيت أنا. فلما دخلت مكة رأيته يطوف وهو يزحف زحفاً.
انتهى ذكر أهل بخارى.(2/347)
ومن المصطفين من فرغانة:
714 - أبو بكر بن إسماعيل الفرغاني
محمد بن داود قال: ما رأيت في الفقراء أحسن من أبي بكر بن إسماعيل الفرغاني، وكان ممن يظهر الغنى في الفقر، يلبس قميصين أبيضين ورداء وسراويل ونعلاً لطيفة وعمامة، وفي يده مفتاح كبير حسن، وليس له بيت، ينطرح في المساجد، ويطوي الخمس والست دائماً.(2/347)
ومن المصطفين من نخشب
أبو تراب النخشبي
...
ومن المصطفين من نخشب:
715 - أيوب تراب النخشبي
واسمه عسكر بن الحصين، ويقال عسكر بن محمد بن حصين أبو عبد الله الجلاء قال: لقيت ستمائة شيخ ما رأيت فيهم مثل أربعة أولهم أبو تراب.
أبو علي الحسن بن خيران الفقيه قال: مر أبو تراب النخشبي بمزين فقال له: تحلق رأسي لله عز وجل؟ فقال له: اجلس، فجلس. ففيما يحلق رأسه مر به أمير من أهل بلده فسأل حاشيته فقال لهم: أليس هذا أبا تراب؟ قالوا: نعم. فقال: أي شيء معكم من الدنانير؟ فقال له رجل من خاصته: معي خريطة فيها ألف دينار. فقال: إذا قام فأعطه واعتذر إليه وقل له: لم يكن معنا غير هذه، فجاء الغلام إليه فقال له: إن الأمير يقرأ عليك السلام وقال لك: ما حضر معنا غير هذه الدنانير. فقال له: ادفعها إلى المزين. فقال المزين: أي شيء أعمل بها؟ فقال: خذها. فقال: لا والله ولو أنها ألفا دينار ما أخذتها. فقال له أبو تراب: مر إليه فقل له إن المزين ما أخذها فخذها أنت فاصرفها في مهماتك.
أبو عبد الله الجلاء قال: قدم أبو تراب مرة إلى مكة فقلت له: يا أستاذ أين أكلت؟ قال: جئت بفضولك، أكلت أكلة بالبصرة، وأكلت أكلة بالنباج، وأكلة عندكم.
__________
715 - هو: النخشبي، الإمام، القدوة شيخ الطائفة، أبو تراب عسكر بن الحصين النخشبي، أبو تراب بطريق الحج، انقطع فنهشته السباع في سنة خمس وأربعين ومائتين "السير".(2/347)
إسماعيل بن نجيد قال: كان أبو تراب يقول: بيني وبين الله عز وجل عهد أن لا أمد يدي إلى حرام إلا قصرت يدي عنه.
منصور بن عبد الله قال: سمعت أبا تراب النخشبي يقول: ألفت القلوب الإعراض عن الله عز وجل صحبتها الوقيعة في الأولياء.
أبو العباس الشرقي قال: كنا مع أبي تراب النخشبي في طريق مكة فمرض فعدل عن الطريق إلى ناحية فقال له بعض أصحابه: أنا عطشان. قال: فضرب برجله فإذا عين من ماء زلال: فقال الفتى: أحب أن أشربه في قدح، فضرب بيده الأرض فناوله قدحاً من زجاج أبيض كأحسن ما رأيت، فشرب وسقانا وما زال القدح معنا إلى مكة.
قال: فقال لي يوماً: ما يقول أصحابك في هذه الأمور التي يكرم الله عز وجل بها عباده؟ فقلت: ما رأيت أحداً إلا وهو يعطى الإيمان بها. فقال: إنما سألتك من طريق الأحوال. قلت: ما أعرف لهم قولاً فيه. فقال: بلى قد زعم أصحابك إنها خدع من الحق وليس الأمر كذلك إنما الخدع في حال السكون إليها، فأما من لم يعرج على الملك في اعتناق الحقائق فتلك مرتبة الربانيين.
أسند أبو تراب عن محمد بن نمير ويعمر بن حماد وغيرهما. وتوفي بالبادية نهشته السباع في سنة خمس وأربعين ومائتين.(2/348)
ومن المصطفين من أهل منجوران وهي قري ببلخ
علي بن محمد المنجواني
...
ومن المصطفين من أهل منجوران وهي قري ببلخ:
716 - علي بن محمد المنجوراني
أحمد بن سهل قال: مات أبو علي المنجوراني فخرجنا نعزي ابنه علي بن محمد فلما رجعنا من دفن أبيه نزع ثيابه ودخل الماء في نهر، وقال: اشهدوا أني لا أملك اليوم شيئاً مما ورثت عن أبي، لأنه يتخالج في صدري، فإن واسيتموني بقميص حتى أخرج من الماء فعلتم قال وكان لنا صديقاً مؤانساً فألقوا إليه قميصاً فخرج من الماء. وكان أبوه ترك مالاً لا يحصى.(2/348)
ذكر المصطفين من عباد خراسان والمشرق الذين لم تعرف أسماؤهم
...
ذكر المصطفين من عباد خراسان والمشرق الذين لم تعرف بلادهم ولا أسماؤهم.
717 - عابد
صالح بن عبد الكريم قال: أتى رجل من إخوان فضيل من أهل خراسان فجلس إلى فضيل في المسجد الحرام فحدثه قال: فقام الخراساني يطوف، فسرقت منه دنانير، ستين أو سبعين، قال: فخرج الخراساني يبكي، فقال له فضيل: مالك؟ قال: سرقت الدنانير، قال: عليها تبكي؟ قال: لا، قال الخراساني: مثلتني وإياه بين يدي الله عز وجل فأشرفت على إدحاض حجته فبكيت رحمة له.
718 - عابد آخر
صالح بن أحمد قال: جئت يوماً إلى المنزل فقيل لي: قد وجه أبوك أمس في طلبك. فقلت: وجهت في طلبي؟ فقال: جاءني رجل أمس كنت أحب أن تراه، بينا أنا قاعد في نحر الظهيرة إذا أنا برجل يسلم بالباب وكأن قلبي ارتاح فقمت ففتحت الباب فإذا أنا رجل عليه فروة وعلى أم رأسه خرقة، ما تحت فروته قميص ولا معه ركوة ولا جراب ولا عكاز، قد لوحته الشمس، فقلت: ادخل. فدخل الدهليز فقلت: من أين أقبلت؟ قال: من ناحية المشرق، أريد بعض هذه السواحل ولولا مكانك ما دخلت هذا البلد إلا نويت السلام عليك. قال: قلت: على هذه الحال؟ قال نعم، ما الزهد في الدنيا؟ قلت: قصر الأمل. قال: وجعلت أعجب منه، فقلت في نفسي: ما عندي ذهب ولا فضة، فدخلت البيت فأخذت أربعة أرغفة وخرجت إليه فقلت: ما عندي ذهب ولا فضة وإنما هذا من قوتي. قال: أويسرك أن أقبل ذلك يا أبا عبد الله؟ قلت: نعم. فأخذها فوضعها تحت حضنه وقال: أرجو أن تكفيني هذه زادي إلى الرقة. أستودعك الله. فلم أزل قائماً أنظر إليه إلى أن خرج. وكان يذكره كثيراً.
719 - عابد آخر
أحمد بن علي الأخميمي قال: كنا ذات يوم عند ذي النون، وقد ذكر كرامات الله عز وجل لأوليائه، فقال بعض من حضره: أنت رأيت منهم أحداً يا أبا الفيض؟ فقال ذو النون: كان عندي فتى من أهل خراسان أعجمي بقي عندي في المسجد سبعة أيام لا يطعم الطعام، وكنت أعرض عليه الطعام فيأبى، فبينا نحن جلوس ذات يوم دخل سائل يطلب شيئاً، فقال له(2/349)
الخراساني: لو قصدت الله عز وجل دون خلقه أغناك، فقال السائل: ما لي هذا المكان، فقال له الخراساني: أي شيء تريد؟ فقال: ما سد فاقتي وستر عورتي. فقام الخراساني إلى المحراب وصلى ركعتين ثم أتاه بثوب جديد وطبق فيه فاكهة وأعطاه السائل. قال ذو النون: فقلت له: يا عبد الله لك هذا الجاه عند الله عز وجل وأنت منذ سبعة أيام لم تطعم شيئاً؟ فجثا على ركبتيه وقال: يا أبا الفيض، كيف نبسط الألسن بالمسألة والقلوب ممتلئة بأنوار الرضا عنه؟.
قال ذو النون: فقلت له: فالراضون لا يسألون شيئاً. فقال: منهم من يسأل من باب الإدلال، ومنهم من يملؤه غنى به، ومنهم من يستخرج المسألة منه عطفه على غيره. ثم أقيمت الصلاة فصلى معنا العشاء الآخرة وأخذ ركوته وخرج من المسجد كأنه يريد الطهارة. فلم أره بعد ذلك رضي الله عنه وأرضاه.
720 - عابد من وراء النهر
عبد الله بن الفرج قال: حدثني إبراهيم بن أدهم بابتدائه كيف كان، قال: كنت يوماً في مجلس لي له منظرة إلى الطريق فإذا أنا بشيخ عليه أطار، وكان يوماً حاراً فجلس في فيء القصر ليستريح فقلت للخادم: اخرج إلى هذا الشيخ فأقرئه مني السلام وسله أن يدخل إلينا فقد أخذ بمجامع قلبي. فخرج إليه فقام فدخل إلي فسلم فرددت عليه السلام واستبشرت بدخوله؛ وأجلسته إلى جانبي وعرضت عليه الطعام فأبى أن يأكل. فقلت له: من أين أقبلت؟ فقال: من وراء النهر. فقتل: أين تريد؟ قال: الحج إن شاء الله. قال وكان ذلك أول يوم من العشر أو الثاني. فقلت: في هذا الوقت؟ قال: يفعل الله ما يشاء. فقلت: فالصحبة؟ فقال: إن أحببت ذلك. حتى إذا كان الليل قال لي: قم فلبست ما يصلح للسفر وأخذ بيدي وخرجنا من بلخ فمررنا بقرية لنا فلقيني رجل من الفلاحين فأوصيته ببعض ما أحتاج إليه فقدم إلينا خبزاً وبيضاً، وسألنا أن نأكل فأكلنا، وجاء بماء فشربنا ثم قال: بسم الله قم، فأخذ بيدي فجعلنا نسير وأنا أنظر إلى الأرض تجذب من تحتنا كأنها الموج فمررنا بمدينة بعد مدينة فجعل يقول: هذه مدينة كذا، وهذه مدينة كذا، هذه الكوفة، ثم إنه قال لي: الموعد ها هنا في مكانك هذا في الوقت الفلاني، يعني من الليل. حتى إذا كان الوقت إذا به قد أقبل فأخذ بيدي وقال: بسم الله. باسم الله. قال: فجعل يقول: هذا منزل كذا، هذا منزل كذا، وهذا منزل كذا، وهذه فيدور، هذه المدينة. وأنا أنظر إلى الأرض تجذب من تحتنا كأنها الموج. فصرنا إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فزرناه ثم فارقني وقال لي: الوعد في الوقت من الليل في المصلى، حتى(2/350)
إذا كان الوقت خرجت فإذا به في المصلى فأخذ بيدي ففعل كفعله في الأولى والثانية حتى أتينا مكة في الليل، ففارقني فقبضت عليه فقلت: الصحبة؟ فقال: إني أريد الشام. فقتل: أنا معك. فقال لي: إذا انقضى الحج فالموعد ها هنا عند زمزم. حتى إذا انقضى الحج إذا أنا به عند زمزم فأخذ بيدي فطفنا بالبيت ثم خرجنا من مكة ففعل كفعله الأول والثاني والثالث، فإذا نحن ببيت المقدس. فلما دخل المسجد قال لي: عليك السلام أنا على المقام ههنا إن شاء الله تعالى، ثم فارقني فما رأيته بعد ذلك ولا عرفني اسمه.
قال إبراهيم: فرجعت إلى بلدي أسير سير الضعفى منزلاً بعد منزل حتى رجعت إلى بلخ فكان أول أمري. قلت: قد انتهينا بحمد الله ومنه إلى نهاية المشرق ونحن نعود إلى مركزنا وهو مدينة السلام بغداد فنرتقي إلى ديار الشام والمغرب والله الموفق.(2/351)
ذكر المصطفين من أهل عكبرا
ابو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطه
...
فمن المصطفين من أهل عكبراء:
721 - أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة
وكان عالماً عابداً.
القاضي أبو حامد أحمد بن محمد اللؤلؤي قال: لما رجع أبو عبد الله بن بطة من الرحلة لازم بيته أربعين سنة فلم ير يوماً منها في السوق ولا رئي مفطراً إلا في يومي الأضحى والفطر، وكان أماراً بالمعروف، ولم يبلغه خبر منكر إلا غيره. أو كما قال.
أحمد بن علي قال: أخبرني القطيعي قال: توفي أبو عبيد الله بن بطة في المحرم سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وكان شيخاً صالحاً مستجاب الدعوة.
__________
721 - هو: عبيد الله بن محمد حمدان العكبري الحنبلي، ابن بطة، الإمام القدوة العابد، الفقيه المحدث، شيخ العراق مصنف كتاب "الإبانة الكبرى" في ثلاث مجلدات، انظر سير أعلام النبلاء 12/538.(2/351)
ذكر المصطفين من أهل الموصل:
722 - المعافى بن عمران أبو مسعود الأزدي
جمع العلم والتقوى والورع.
علي بن خشرم قال: سمعت بشراً الحافي، وقال له رجل: ألا أراك عاشقاً للمعافى بن عمران، فقال: ما لي لا أعشقه، وكان الثوري يسميه الياقوتة.
__________
722 - هو: المعافى بن عمران الأزدي، أبو مسعود الموصلي، ثقة عابد فقيه، من كبار التاسعة، مات سنة خمس وثمانين، وقيل: سنة ست.(2/351)
وقال: حضرته يوماً فنعي إليه ابناه، فما حل حبوته قال: ظالمين أو مظلومين؟ قيل: مظلومين. فحل حبوته وخر ساجداً، ثم رفع رأسه وقال: كيف كانت قصتهما؟
بشر بن الحارث قال: قتل للمعافى بن عمران ابنان في وقعة الموصل فجاء إخوانه يعزونه من الغد فقال لهم: إن كنتم جئتم لتعزوني فلا تعزوني ولكن هنئوني. قال فهنئوه، قال: فما برحوا حتى غداهم وغلفهم بالغالية.
يعقوب بن يوسف قال: قال بشر: كان المعافى صاحب كمد، أصيب بابنين له قتلا وأصيب بماله، فما رئي عليه أثر حزن ولا سمع في داره صوت.
محمد بن مودود الموصلي قال: قيل لمعافى بن عمران: ما ترى في الرجل يقرض الشعر ويقوله؟ قال: هو عمرك فأفنه بما شئت.
بشر بن الحارث قال: سمعت المعافى بن عمران يقول: عز المؤمن استغناؤه عن الناس، وشرفه قيامه بالليل.
مرداد بن جميل قال: سأل عمرو بن إسماعيل، رجل من أصحاب الحديث، المعافى بن عمران فقال له: يا أبا عمران أي شيء أحب إليك: أسهر وأصلي، أو أكتب الحديث؟ فقال: كتابة حديث واحد أحب إلي من صلاة ليلة.
أسند المعافى عن مغيرة بن زياد وأسامة بن زيد وصالح بن أبي الأخضر والثوري، وابن أبي ذئب، ومالك، وابن جريج ومسعر والليث بن سعد وغيرهم، وأكثر ملازمة الثوري وتأدب بآدابه وصنف كتباً في السنن والزهد والأدب وتوفي في سنة أربع وثمانين ومائة. وقيل خمس وثمانين وقيل ست والله أعلم.(2/352)
723 - فتح بن محمد بن وشاح الأزدي الموصلي
ويكنى أبا محمد.
محمد بن الوليد قال: سمعت فتح بن محمد الأزدي يقول في جوف الليل: رب أجعتني وأعريتني، وفي ظلم الليل أجلستني، فبأي وسيلة أكرمتني هذه الكرامة؟ وكان يبكي ساعة ويفرح ساعة.
__________
723 - هو: فتح الموصلي "الكبير" زاهد زمانه، فتح بن محمد بن وشاح الأزدي الموصلي، أحد الأولياء، ويكنى أبا محمد توفي سنة سبعين ومائة، وقيل: سنة خمس وستيني انظر حلية الأولياء 7/265.(2/352)
المعافى بن عمران قال: دخلت على فتح الموصلي فرأيته قاعداً في الشمس وصبية له عريانة وابن له مريض، فقلت له: ايذن لي حتى أكسو هذه الصبية. قال: لا، قلت: ولم؟ قال: دعها حتى يرى الله عز وجل ضرها وصبري عليها فيرحمني.
قال: فتجاوزت إلى الصبي فقعدت عند رأسه فقلت: حبيبي ألا تشتهي شيئاً حتى أحمله؟ قال: ومن أنت؟ قلت: معافى بن عمران فرفع رأسه إلى السماء وقال: مني الصبر ومنك البلاء.
أبو غسان المؤذن قال: خرجنا حجاجاً فأردنا غسل ثيابنا بمكة فأرشدنا إلى رجل له صلاح من أهل فارس، يغسل للناس ثيابهم ويتجر على الضعفاء فيغسل ثيابهم بغير أجرة فأتيناه فقال: ممن أنتم؟ قلنا: من أهل الموصل: قال: تعرفون فتحاً؟ قلنا: نعم. قال: ما فعل؟ قلنا: مات، قال: فتوجع عليه وأظهر حزناً، فقلنا: كيف تعرفه وأنت رجل من أهل فارس وهو بالموصل؟ قال: رأيت في منامي عدة ليال أن إيت فتحاً الموصلي فإنه من أهل الجنة. فخرجت من فارس حتى أتيت الموصل فسألت عنه فقيل لي هو على الشط، فأتيته فإذا رجل ملتف بكسائه وقد ألقى شصاً له في الماء فسلمت عليه فرد علي فقلت له: أتيتك زائراً. قال: فلف الشص وقام فدخلنا المسجد وغربت الشمس وصلينا وتفرق الناس. فأتى بطعام فأكلنا ثم نودي بالعشاء الآخرة فصلينا وتفرق الناس وقام فتح في صلاته ورميت بنفسي فإذا رجل قد دخل علينا المسجد فسلم وصلى إلى جنب فتح ركعتين وقعد فسلم عليه فتح رسالة، فقال له الرجل: متى عهدك بأبي السري؟ قال: ما لي به عهد منذ أيام. قال: فقم بنا إليه فإنه معتل. قال: فخرجنا من المسجد وأنا أنظر إليهما حتى مضيا إلى دجلة يمشيا على الماء فقعدت أنظر رجوعهما فجاء أحدهما في آخر الليل فإذا هو فتح فدخلت عليه المسجد فرميت نفسي كأني نائم، فلما أسفر الصبح وصلينا وتفرق الناس قمت إليه فقلت: يا أبا محمد قد قضيت من زيارتك وطراً وقد رأيت الرجل الذي أتاك البارحة وما كان منكما، فجعل يعارضني. فلما علم أني قد علمت الخبر أخذ علي العهود أن لا أعلم بذلك أحداً ما علمت أنه حي، وقال لي: ذاك الخضر وأبو السري حمزة الخولاني، وهو رجل صالح في هذه القرية، وأشار بيده إليها، وقال: اجعل طريقك عليه فالقه وسلم عليه فمضيت إليه وسلمت عليه. ذكر المعافى بن عمران أنه لم يلق أحداً أعقل من فتح هذا.
وقال أبو نصر التمار توفي في سنة سبعين ومائة رحمة الله عليه.(2/353)
724 - فتح بن سعيد الموصلي
يكنى أبا نصر، وقد يشتبه هذا بالذي قبله إذا قيل: فتح الموصلي، وهما اثنان معروفان عند أهل العلم وإذا فرق بينهما بالكنية أو باسم الأرب تبايناً. وقد حكي عن هذا نحو الحكاية التي حكيناها عن الأول في حق أولاده ويحتمل أن يكون عن الأول.
أبو بكر بن عفان قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: بلغني أن بنتاً لفتح الموصلي عريت فقيل له: ألا تطلب من يكسوها؟ فقال: لا، أدعها حتى يرى الله عز وجل عريها وصبري عليها. قال: فكان إذا كان ليالي الشتاء جمع عياله وقال بكسائه عليهم ثم قال: اللهم أفقرتني وأفقرت عيالي، وجوعتني وجوعت عيالي، وأعريتني وأعريت عيالي؛ فبأي وسيلة توسلتها إليك، وإنما تفعل هذا بأوليائك وأحبائك، فهل أنا منهم حتى أفرح.
إبراهيم بن نوح الموصلي قال: رجع فتح الموصلي إلى أهله بعد العتمة وكان صائماً فقال: عشوني، فقالوا: ما عندنا شيء نعشيك به. قال: فما لكم جلوساً في الظلمة؟ قالوا ما عندنا شيء نسرج ولا سراج؟ بأي يد كانت مني؟ فما زال يبكي إلى الصباح.
أبو بكر بن عفان قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: بلغني عن فتح الموصلي أنه كان يتجزأ بفلس في اليوم يشتري به نخالة.
إبراهيم بن عبد الله قال: صدع فتح الموصلي، ففرح وقال: يا رب ابتليتني ببلاء الأنبياء، فشكر هذا أن أصلي الليلة أربعمائة ركعة.
بشر بن حارث قال: قال فتح الموصلي: من أدام النظر بقلبه ورثه ذلك الفرح بالمحبوب، ومن آثره على هواه ورثه ذلك حبه إياه، ومن اشتاق إليه وزهد فيما سواه ورعى حقه وخافه بالغيب، ورثه ذلك النظر إلى وجهه الكريم.
أبو جعفر، ابن أخت بشر بن الحارث، قال: كنت يوماً واقفاً ببابنا إذا أقبل شيخ ثائر الشعر ملتف بالعباء فقال لي: بشر في البيت؟ قلت: نعم فقال: ادخل فقل: فتح بالباب. قال: فخرج مسرعاً فصافحه واعتنقه فقال له الشيخ: يا أبا نصر إني ذكرتك البارحة فاشتقت إلى لقائك. قال: فدفع إلي درهماً فقال: خذ بأربعة دوانيق خبزاً، ويكون جيداً، وبدانقين تمراً. قال الشيخ:
__________
724 - هو: فتح الموصلي، الزاهد، الولي العابد، أبو نصر، فتح بن سعيد الموصلي، توفي سنة عشرين ومائتين انظر سير أعلام النبلاء 9/179.(2/354)
قل له: يكون شهريزاً فجئته به. فقال الشيخ: قل له يأكل معنا. فقال: كل معنا فأكلت معهم. فلما أكلنا أخذ ما فضل في طرف العباء ومضى، فخرج خالي معه يشيعه إلى حرب. فلما رجع قال لي: يا بني. تدري من هذا؟ قلت لا، قال: هذا فتح الموصلي.
محمد بن الصلت قال: كنت عند بشر بن الحارث فجاء رجل فسلم على بشر، فقام بشر غليه فقمت لقيامه، فمنعني. فلما سكن الرجل أخرج بشر درهماً صحيحاً وقال: أخرج واشتر خبزاً وزبداً وتمر برني. قال: فخرجت واشتريت وحملته فوضعته بين يديه، فأكل الرجل وحمل الباقي وقام فخرج، فلما خرج قال لي بشر: يا بني تدري لم منعتك عن القيام له؟ قلت لا. قال: لأنه لم يكن بينك وبينه معرفة فكان قيامك لقيامي فأردت أن لا يكون قيامك إلا لله خالصاً، وتدري لماذا دفعت إليك الدرهم وقلت اشتر كذا وكذا؟ قلت: لا. قال: إن طيب الطعام يستخرج خالص الشكر لله تعالى، وتدري لم حمل الباقي؟ قلت لا - قال: عندهم إذا صح التوكل لم يضر الحمل، وهذا فتح الموصلي جاءنا زائراً.
عن أحمد بن أبي الحواري أنه قال: سمعت شيخاً من أصحاب فتح الموصلي قال: كانت لفتح الموصلي بضاعة عند أخ له يعمل بها في البر والبحر، فبعث فتح فاستردها وأنفقها وقال: رأيت قلبي يميل إليها فكرهت أن تكون ثقتي سواه.
إبراهيم بن موسى قال: رأيت فتحاً الموصلي يوم عيد وقد رأى على الناس الطيالس والعمائم. قال: فقال لي: يا إبراهيم إنما ترى ثوباً وجسداً يأكله الدود غداً، هؤلاء أنفقوا خزائنهم على بطونهم وظهورهم ويقدمون على ربهم مفاليس.
عبد الله بن الفرج قال: قال فتح الموصلي: كبرت على خطاياي وكثرت حتى لقد آيستني من عظيم عفو الله عز وجل قال: ثم قال: وإني آيس منك وأنت الذي جدت على السحرة بعد أن غدوا كفرة فجرة؟ وإني آيس منك وأنت ولي كل نعمة وأني آيس منك وأنت المؤمل لكل فضل ومعروف، وأني آيس منك وأنت المغيث عند الكرب ولم يزل يقول: آيس منك، حتى سقط مغشياً عليه.
عمران بن موسى الطرسوسي قال: مر فتح الموصل بصبيين مع أحدهما كسرة عليها عسل ومع الآخر كسرة عليها كامخ. فقال الذي معه الكامخ للذي معه العسل: أطعمني من خبزك قال: إن كنت كلباً لي أطعمتك. قال: نعم. فأطعمه من خبزه وجعل في فمه خيطاً وجعل يقوده فقال فتح: لو رضيت بخبزك ما كنت كلباً لهذا.
قال أبو موسى: فهكذا الدنيا.(2/355)
عثمان بن عمارة قال: غبت غيبة فلما قدمت لقيت فتحاً الموصلي في حانوت سالم الدورقي. فقال لي: يا بصري أي شيء رأيت في غيبتك؟ فقلت: رأيت عجائب كثيرة وأخباراً مختلفة. فصاح صيحة. فقلت: أنت تصيح من الخبز، فكيف لو شاهدت القيامة أو شاهدت صاحب القيامة؟ فشهق شهقة ووثب من الحانوت فخر مغشياً عليه فحملناه فأدخلناه الحانوت فما زال مغشياً عليه إلى العصر، فلما صليت العصر تنفس ثم فتح عينيه.
رياح بن الجراح العبدي قال: جاء فتح الموصلي إلى منزل صديق له يقال له عيسى التمار فلم يجده في المنزل، فقال للخادمة: أخرجي إلى كيس أخي، فأخرجته فأخذ منه درهمين، وجاء عيسى إلى منزله فأخبرته الجارية بمجيء فتح وأخذه الدرهمين فقال: إن كنت صادقة فأنت حرة. فنظر فإذا هي مصادفة فعتقت.
محمد بن عبد الرحمن بن حبيب الطفاوي قال: دخلت على فتح الموصلي وهو يوقد بالآجر. وكان فتح رجلاً من العرب، وكان شريفاً زاهداً.
عبد الله بن الفرج العابد قال: كان بالموصل رجل نصراني يكنى أبا إسماعيل.
قال: فمر ذات ليلة برجل وهو يتهجد على سطحه وهو يقرأ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} آل عمران قال: فصرخ أبو إسماعيل صرخة غشي عليه فلم يزل على حاله تلك حتى أصبح فلما أصبح أسلم ثم أتى فتحاً الموصلي فاستأذنه في صحبته فكان يصحبه ويخدمه.
قال: وبكى أبو إسماعيل حتى ذهبت إحدى عينيه وعشي من الأخرى، فقلت له ذات يوم: حدثني ببعض أمر فتح الموصلي، قال فبكى ثم قال: أخبرك عنه: كان والله كهيئة الروحانيين، معلق القلب بما هناك، ليست له في الدنيا راحة. قلت: على ذاك قال: شهدت العيد ذات يوم بالموصل ورجع بعد ما تفرق الناس ورجعت معه فنظر إلى الدخان يفور من نواحي المدينة فبكى ثم قال: قد قرب الناس قربانهم، فليت شعري ما فعلت في قرباني عندك أيها المحبوب؟ ثم سقط مغشياً عليه.
فجئت بماء فمسحت به وجهه، فأفاق ثم مضى حتى دخل بعض أزقة المدينة رفع رأسه إلى السماء ثم قال: قد علمت طول غمي وحزني وتردادي في أزقة الدنيا، فحتى متى تحبس أيها المحبوب؟ ثم سقط مغشياً عليه فجئت بماء فمسحت على وجهه فأفاق. فما عاش بعد ذلك إلا أياماً حتى مات رحمه الله.
إبراهيم بن موسى قال: رأيت فتحاً الموصلي في يوم عيد أضحى وقد شم ريح(2/356)
القتار، فدخل إلى زقاق فسمعته يقول: تقرب المتقربون بقربانهم وأنا أتقرب إليك بطول حزني يا محبوب، كم تتركني في أزقة الدنيا محبوساً؟ ثم غشي عليه وحمل فدفناه بعد ثلاث.
إسماعيل بن هشام، عن بعض أصحاب فتح الموصلي قال: دخلت عليه يوماً وقد مد كفيه يبكي، حتى رأيت الدموع من بين أصابعه تنحدر. فدنوت منه لأنظر إليه فإذا دموعه قد خالطتها صفرة. فقلت: بالله يا فتح بكيت الدم؟ فقال: لولا أنك حلفتني بالله عز وجل ما أخبرتك، بكيت دماً. فقلت: على ماذا بكيت الدموع؟ وعلى ماذا بكيت الدم؟ فقال: بكيت الدموع على تخلفي عن واجب حق الله عز وجل، وبكيت الدم على الدموع خوفاً أن تكون ما صحت لي الدموع.
قال الرجل: فرأيت فتحاً بعد موته في المنام. فقلت: ما صنع الله بك؟ فقال غفر لي، قلت: فما صنع في دموعك؟ فقال: قربني ربي عز وجل وقال لي: يا فتح؛ الدمع على ماذا؟ قلت: يا رب على تخلفي عن واجب حقك. قال: فالدم لم بكيت؟ فقلت: يا رب على دموعي خوفاً أن لا تصح لي فقال لي: يا فتح ما أردت بهذا كله؟ وعزتي لقد صعد إلي حافظاك أربعين سنة بصحيفتك ما فيها خطيئة.
أدرك فتح عيسى بن يونس وأقرانه وأسند عن عيسى وتوفي سنة عشرين ومائتين.(2/357)
725 - سباع الموصلي
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت المضاء يقول لسباع الموصلي يا أبا محمد إلى أي شيء أفضى بهم الزهد؟ قال: إلى الأنس به.
__________
725 - هو: سباع الموصلي، له الحفظ النفيس في التمتع برياض التأنيس: انظر حلية الأولياء 10/141.(2/357)
726 - أحمد الموصلي
عن أحمد الميموني، من ولد ميمون بن مهران، قال: قدم علينا أحمد الموصلي فأتيته فقال لي: يا أحمد إن تعمل فقد عمل العاملون قبلك، وإن تعبد فقد تعبد المتعبدون قبلك، أولئك الذين قربوا الآخرة وباعدوا الدنيا، أولئك الذين ولي الله إقامتهم على الطريق فلم يأخذوا يميناً ولا شمالاً، فلو سمعت نغمة من نغماتهم المختمرة في صدورهم، المتغرغرة في حلوقهم لغيبت عليك عيشك، ولطردت عنك البطالة أيام حياتك.
__________
726 - هو: أحمد الموصلي، كان من عباد الشاميين، شرب شراب المشتاقين، انظر حلية الأولياء 10/139.(2/357)
ذكر المصطفيات من عابدات الموصل
727 - ألوف الموصلية
أبو سليمان قال: خطب رجل امرأة من أهل الموصل يقال لها ألوف فقالت للرسول: قل له ما يسرني أنك لي عبد وجميع ما تملكه لي، وأنك شغلتني عن الله عز وجل طرفة عين.(2/358)
728 - رقية
عبيد الله بن عمر بن عبيد المعمري قال: أنبأ جدي قال: سمعت فتحاً الموصلي يقول: سمعت امرأة متعبدة عندنا تقول: إلهي وسيدي ومولاي لو أنك عذبتني بعذابك كله لكان ما فاتني من قربك أعظم عندي من العذاب، ولو نعمتني بنعيم أهل الجنة كلهم كانت لذة حبك في قلبي أكثر.
قلت: هذه العابدة هي رقية.
منصور بن محمد قال: قالت رقية الموصلية: إني لأحب ربي حباً شديداً فلو أمر بي إلى النار ما وجدت للنار حرارة مع حبه، ولو أمر بي إلى الجنة لما وجدت للجنة لذة مع حبه، لأن حبه هو الغالب علي.
محمد بن كثير المصيصي قال: قالت رقية العابدة، وكانت بالموصل: حرام على قلب فيه رهبانية المخلوقين أن يذوق حلاوة الإيمان، شغلوا قلوبهم بالدنيا عن الله عز وجل ولو تركوها لجالت في الملكوت ورجعت إليهم بطرف الفوائد.
وكانت تقول تفقهوا في مذاهب الإخلاص ولا تفقهوا فيما يؤديكم إلى الركوب على القلاص.(2/358)
729 - أمية بنت أبي المورع
أبو الوليد، رياح بن أبي الجراح العبدي، قال: ما رأيت قط مثل أمية بنت أبي المورع الموصلية، وكانت من الخائفين، وكانت إذا ذكرت النار قالت: أدخلوا النار، وأكلوا من النار، وشربوا من النار، وعاشوا. ثم تبكي، وكان بكاؤها أطول من ذلك، وكانت كأنها جبة على مقلي، وكانت إذا ذكرت النار بكت وأبكت دماً وما رأيت أحداً أشد خوفاً ولا أكثر بكاء منها.(2/358)
730 - موافقة ويقال موفقة
أبو عبد الله الحصري قال: سمعت فتحاً الموصلي يقول مرت بي امرأة متعبدة يقال لها: موافقة، فعثرت فسقط ظفر إبهامها، فضحكت، فقيل لها يا موافقة يسقط إبهامك وتضحكين؟ فقالت: إن حلاوة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه.
عبد الله بن حبيق قال: مرت بفتح الموصلي امرأة يقال لها: موفقة، فعثرت فسقط ظفر إبهامها فضحكت، فقيل لها يا موفقة سقط ظفر إبهامك وتضحكين؟ فقالت: والله إن حلاوة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه.
وقد روي أن هذه القصة جرت لامرأة فتح الموصلي.
قال زيد بن أبي الزرقاء: عثرت امرأة فتح الموصلي فانقطع ظفرها فضحكت فقيل لها فأين ما تجدينه من حرارة الوجع؟ فقالت: إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه.(2/359)
731 - راهبة الموصلية
أحمد بن أبي الحواري قال: حدثتني امرأتي رابعة قالت: دخلت على أخت لي عاتق بالموصل، فقالت لي: هل تدرين ما معنى قوله: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} الشعراء؟ قالت: قلت لا، قالت: القلب السليم الذي يلقى الله عز وجل وليس فيه شيء غير الله عز وجل قال أحمد: حدثت بهذا أبا سليمان فقال: ليس هذا كلام الراهبة هذا كلام الأنبياء.
انتهى ذكر أهل الموصل بحمد الله ومنه.(2/359)
ذكر المصطفين من أهل الرقة
732 - ميمون بن مهران
يكنى أبا أيوب.
مولى بني نصر - وقيل مولى الأزد ولد سنة أربعين.
عن جعفر عن ميمون بن مهران قال: قال لي عمر بن عبد العزيز مواليك؟ قلت: كانت أمي مولاة للأزد وكان أبي مكاتباً من لبني نصر. فقال لي عمر: يا ميمون أنت مولى للأزد.
خلف بن حوشب قال: تكارينا مع ميمون بن مهران دواب إلى مكان فقال ميمون: لولا أن الدواب بكراء لمررنا على آل فلان.
جعفر بن برقان قال: قال ميمون بن مهران: يا جعفر قل لي في وجهي ما أكره فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره.
أبو المليح عن ميمون قال: لا تضرب المملوك في كل ذنب، ولكن احفظ ذلك له فإذا عصى الله عز وجل فعاقبه على معصية الله، وذكره الذنوب التي أذنب بينك وبينه.
أبو المليح قال: ما رأيت أحداً أفضل من ميمون بن مهران، قال له رجل يوماً: يا أيوب أي شيء تشتكي أراك مصفراً؟ قال: نعم لما يبلغني في أقطار الأرض.
عبد الملك الميموني قال: سمعت أبي يقول: سمعت عمي عمر يقول: ما كان أبي يكثر الصيام ولا الصلاة ولكنه كان يكره أن يعصي الله عز وجل.
قال: وسمعت أبي يقول: وددت أن إصبعي قطعت من ها هنا وأني لم أل. فقلت: ولا لعمر؟ قال: لا لعمر ولا لغيره.
أبو المليح قال: سمعت ميموناً يقول: لا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين: رجل نائب، ورجل يعمل في الدرجات.
جعفر بن برقان قال: سمعت ميمون بن مهران يقول: إن العبد إذا أذنب ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء فإذا تاب محيت من قلبه فترى قلب المؤمن مجلواً مثل المرآة، ما يأتيه
__________
732 - هو: ميمون بن مهران الجزري، أبو أيوب، أصله كوفي، نزل الرقة، ثقة فقيه، ولي الجزيرة لعمر بن عبد العزيز، وكان يرسل، من الرابعة، مات سنة سبع عشرة.(2/360)
الشيطان من ناحية إلا أبصره، وأما الذي يتتابع في الذنوب فإنه كلما أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء فلا يزال ينكت في قلبه حتى يسود قلبه فلا يبصر الشيطان من حيث يأتيه.
قال: وسمعت ميمون بن مهران يقول: لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه، حتى يعلم من أين مطعمه؟ ومن أين ملبسه؟ ومن أين مشربه؟ أمن حل ذلك أم من حرام؟.
أبو المليح عن ميمون قال: الصبر صبران، والذكر ذكران: فذكر الله عز وجل باللسان حسن، وأفضل منه أن تذكر الله عز وجل عندما تشرف عليه من معاصيه، والصبر عند المصيبة حسن وافضل منه أن تصبر نفسك على ما تكره من طاعة الله عز وجل وإن ثقل عليك.
قال ميمون: وأدركت من لم يتكلم إلا بحق أو يسكت، وقد أدركت من لم يكن يتكلم بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس إلا بما يصعد، وقد أدركت من لم يملأ عينيه من السماء فرقاً من ربه عز وجل، ولو أن بعض من أدركت نشر حتى يعاينكم ما عرف منكم شيئاً إلا قبلتكم.
عيسى بن كثير الأسدي قال: مشيت مع ميمون بن مهران حتى إذا أتى باب داره ومعه ابنه عمرو، فلما أردت أن أنصرف قال له عمرو: يا أبة ألا تعرض عليه العشاء؟ قال ليس ذلك من نيتي. أسند ميمون عن ابن عمر، وابن عباس، وغيرهما. وتوفي في سنة سبع عشرة ومائة.(2/361)
733 - حناذ القلاء
حذيفة المرعشي قال: مررت بالرقة بأصحاب السويق، ورجل يبيع السويق عليه بتة وهو مقبل على غلامين، وعلى رأسه كمة دنسة فقلت: لو ألقيت هذه الكمة.
فقال: أصبت قلبي يصلح عليها. قلت: أراك مقبلاً على الغلامين أفمن حبهما؟ قال: إني أجل الله عز وجل أن أشغل قلبي بحب أحد مع حبه، ولكن أرحمهما.
حذيفة العابد، صاحب يوسف بن أسباط، قال: لما اصطلح الروم والعرب قلت: فما أصنع الآن في الرباط؟ فخرجت حتى أتيت الرقة فجئت إلى قوم قلائين، فقلت أعمل معكم فتنظرون إلى عمل فتجزون من الكراء بقدر ما أستحقه. قالوا نعم. فجعلت أعمل معهم. وكان ثم شيخ جالس بين يديه زنبيل سويق يبيع، على رأسه قلنسوة سوداء مخرقة وفرو مخرق وبين يديه صبيان يلعبان ويقتتلان، وهو متشاغل بهما يزجرهما وينهاهما.
قال: فقلت له: أني أحسبك تحبهما. قال: لا والله ما أحبهما، ولكن أرحمهما، وما أحد أحب إلي من الله عز وجل. قال: فأعجبني قوله وأنست به، وكان ثم شباب رفث بعضهم على بعض فقلت له: ألا تنهى هؤلاء الشباب؟ فقال: إني لأجل الله عز وجل أن أذكره عند(2/361)
مثل هؤلاء، قال: فأعجبتني مقالته فقلت: كيف حبك لمدحة الناس؟ قال: ما أحب أن لي ملء بيت دنانير وأنه يقع في قلبي حب مدحة الناس لي، فقلت: فما هذه القلنسوة على رأسك؟ قال: وجدت قلبي يصلح عليها.
قال حذيفة: فلم أر أحداً إن شاء الله كان أصدق منه. قيل له: أين كان من يوسف بن أسباط؟ قال: ما كان يوسف بن أسباط يصلح إلا شاكرداً لذلك.
قال أبو عمر: فذكرت ذلك لبعض الرقيين فقال: ذاك حناذا القلاء.(2/362)
734 - توبة بن الصمة
عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا قال: حدثني رجل من قريش، ذكر أنه من ولد طلحة بن عبيد الله، قال: كان توبة بن الصمة بالرقة وكان محاسباً لنفسه، فحسب فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم فصرخ وقال: يا ويلتا: ألقى المليك بأحد وعشرون ألف ذنب، كيف؟ وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب ثم خر مغشياً عليه فإذا هو ميت. فسمعوا قائلاً يقول: يا لك ركضة إلى الفردوس الأعلى رضي الله عنه.(2/362)
735 - إبراهيم بن داود القصار أبو إسحاق الرقي
أبو بكر بن شاذان قال: سمعت إبراهيم القصار يقول: المعرفة إثبات الرب عز وجل خارجاً عن كل موهوم.
وقال إبراهيم: الأبصار قوية والبصائر ضعيفة.
وقال: من اكتفى بغير الكافي افتقر من حيث استغنى.
وقال: الكفايات تصل إليك بلا تعب والأشغال والتعب في الفضول.
وقال: أضعف الخلق من ضعف عن رد شهواته، وأقوى الخلق من قوي على ردها.
إبراهيم بن أحمد بن المولد يقول: سأل رجل إبراهيم القصار فقال: هل يبدي المحب حبه؟ أو هل ينطق به؟ أو هل يطيق كتمانه؟ فأنشأ يقول متمثلاً:
ظفرتم بكتمان اللسان فمن لكم ... بكتمان عين دمعها الدهر يذرف
حملتم جبال الحب فوقي وإنني ... لأعجز عن حمل القميص وأضعف
قال السلمي: إبراهيم بن داود من جلة مشايخ الشام، من أقران الجنيد وابن الجلاء عمر، وصحبه أكثر مشايخ الشام، وكان لازماً للفقر مجرداً فيه، محباً لأهله. توفي سنة ست وعشرين وثلاثمائة.
__________
735 - هو: إبراهيم بن داود القصار، أبو إسحاق، ذو الهم المخزون والبيان الموزون: انظر حلية الأولياء 10/378.(2/362)
ذكر المصطفيات من عابدات الرقة
736 - عابدة
عبيد الله بن الخالق قال: سبى الروم نساء مسلمات، فبلغ الخبر الرقة وبها هارون الرشيد أمير المؤمنين، فقيل لمنصور بن عمار: لو اتخذت مجلساً بالقرب من أمير المؤمنين فحرضت الناس على الغزو، ففعل، فبينا هو يذكرهم ويحرض إذا نحن بخرقة مصرورة مختومة قد طرحت إلى منصور، وإذا كتاب مضموم إلى الصرة ففك الكتاب فقرأه فإذا فيه: إني امرأة من أهل البيوتات من العرب، بلغني ما فعل الروم بالمسلمات، وسمعت تحريضك الناس على الغزو، وترغيبك في ذلك، فعمدت إلى أكرم شيء من بدني وهمنا ذؤابتاي فقطعتهما وصررتهما في هذه الخرقة المختومة، وأناشدك بالله العظيم لما جعلتهما قيد فرس غاز في سبيل الله، فعل الله العظيم أن ينظر إلي على تلك الحال نظرة فيرحمني بها. قال: فبكى وأبكى الناس، وأمر هارون أن ينادى بالنفير، فغزا بنفسه فأنكى فيهم وفتح الله عليهم. قلت: هذه امرأة حسن قصدها وغلطت في فعلها، لأنها جهلت أن ما فعلت منهي عنه، فلينظر إلى قصدها.
737 - عابدة أخرى
من أهل الشام نقل عنها مثل هذه.
بلغنا عن أبي قدامة الشامي قال: كنت أميراً على الجيش في بعض الغزوات، فدخلت بعض البلدان فدعوت الناس إلى الغزو ورغبتهم في الثواب، وذكرت فضل الشهادة وما لأهلها. ثم تفرق الناس وركبت فرسي وسرت إلى منزلي فإذا أنا بامرأة من أحسن الناس تنادي: يا أبا قدامة، فقلت: هذه مكيدة من الشيطان. فمضيت ولم أجب. ما هكذا كان الصالحون، فوقفت، فجاءت ودفعت إلي رقعة وخرقة مشدودة وانصرفت باكية. فنظرت إلى الرقعة فإذا فيها مكتوب: إنك دعوتنا إلى الجهاد ورغبتنا في الثواب، ولا قدرة لي على ذلك فقطعت أحسن ما في، وهما ضفيرتاي وأنفذتهما إليك لتجعلهما قيد فرسك، لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله فيغفر لي.
فلما كانت صبيحة القتال فإذا بغلام بين يدي الصفوف يقاتل فتقدمت إليه وقلت: يا فتى غلام غر راجل ولا آمن أن تجول الخيل فتطأك بأرجلها فارجع عن موضعك هذا فقال:(2/363)
أتأمرني بالرجوع؟ وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} الأنفال.
فحملته على هجين كان معي فقال: يا أبا قدامة أقرضني ثلاثة أسهم فقلت: أهذا وقت قرض؟ فما زال يلح علي حتى قلت بشرط: إن من الله بالشهادة أكون في شفاعتك، قال: نعم. فأعطيته ثلاثة أسهم فوضع سهماً في قوسه وقال: السلام عليك يا أبا قدامة. ورمى به فقتل رومياً. ثم رمى بالآخر وقال: السلام عليك يا أبا قدامة فقتل رومياً. ثم رمى بالآخر وقال: السلام عليك سلام مودع.
فجاءه سهم فوقع بين عينيه فوضع رأسه على قربوس سرجه. فتقدمت إليه وقلت: لا تنسها. فقال: نعم ولكن لي إليك حاجة: إذا دخلت المدينة فأت والدتي وسلم خرجي إليها وأخبرها فهي التي أعطتك شعرها لتقيد به فرسك، وسلم عليها فإنها العام الأول أصيبت بوالدي، وفي هذا العام بي ثم مات.
فحفرت له ودفنته. فلما هممنا بالانصراف عن قبره قذفته الأرض فألقته على ظهرها. فقال أصحابي: إنه غلام غر ولعله خرج بغير إذن أمه. فقتل: إن الأرض لتقبل من هو شر من هذا. فقمت وصليت ركعتين ودعوت الله عز وجل فسمعت صوتاً يقول: يا أبا قدامة اترك ولي الله.
فما برحت حتى نزلت عليه طيور فأكلته، فلما أتيت المدينة ذهبت إلى دار والدته فلما قرعت الباب خرجت أخته إلي فلما رأتني عادت وقالت: يا أماه هذا أبو قدامة ليس معه أخي، فقد أصبنا في العام الأول بأبي، وفي هذا العام بأخي.
فخرجت أمه إلي فقالت: أمعزياً أم مهنئاً؟ فقلت: ما معنى هذا؟ فقالت: إن كان مات فعزني، وإن كان استشهد فهنئني. فقلت: لا بل مات شهيداً. فقالت: له علامة فهل رأيتها؟ قلت: نع لم تقبله الأرض ونزلت الطيور فأكلت لحمه وتركت عظامه فدفنتها فقالت: الحمد لله. فسلمت إليها الخرج ففتحته فأخرجت منه مسحاً وغلاً من حديد، وقالت: إنه كان إذا جنه الليل لبس هذا المسح وغل نفسه بهذا الغل وناجى مولاه، وقال في مناجاته: أحشرني من حواصل الطيور. فقد استجاب الله دعاءه.
انتهى ذكر أهل الرقة بحمد الله ومنه.(2/364)
ذكر المصطفين من أهل الشام
من الطبقة الأولى من التابعين ومن بعدهم:
738 - عمرو بن الأسود السكوني
عن حكيم وضمرة بن حبيب قالا: قال عمر بن الخطاب: من سره أن ينظر إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هدي عمرو بن الأسود1. عن يحيى بن جابر الطائي قال: قال عمرو بن الأسود: لا ألبس مشهوراً أبداً ولا أملأ جوفي من طعام بالنهار أبداً حتى ألقاه.
ابن عياش، عن شرحبيل أن عمرو بن الأسود كان يدع كثيراً من الشبع مخافة الأشر، وكان إذا خرج من بيته إلى المسجد قبض يمينه على شماله مخافة الخيلاء.
أبو بكر بن عبد الله الغساني، عن المشيخة، أن عمرو بن الأسود يشتري الحلة بمائتين ويصبغها بدينار ويخمرها النهار كله، ويقوم فيها الليل كله.
أسند عمرو عن معاذ، وعبادة، والعرباض، في آخرين.
__________
738- هو: عمرو بن الأسود العنسي -بالنون - وقد يصغر، يكنى أبا عياض، حمصي سكن داريا، مخضرم ثقة عابد، من كبار التابعين، مات في خلافة معاوية.
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم 115.(2/364)
739 - أبو عبد الله الصنابحي واسمه: عبد الرحمن بن عسيلة
عن محمود بن الربيع قال: كنا عند عبادة بن الصامت فأقبل الصنابحي فقال عبادة: من سره أن ينظر إلى رجل كأنما رقي به فوق سبع سموات فعمل ما عمل على ما رأى فلنظر إلى هذا، أسند الصنابحي عن أبي بكر الصديق، ومعاذ، وعبادة في آخرين.
__________
739 - هو: عبد الرحمن بن عسيلة -بمهملتين - مصغر، المرادي، أبو عبد الله الصنابحي، ثقة، من كبار التابعين، قدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أيام، مات في خلافة عبد الملك.(2/365)
740 - يزيد بن الأسود يكنى أبا الأسود الجرشي
عن سليم بن عامر الخبائري أن الشام قحطت فخرج معاوية بن أبي سفيان وأهل دمشق
__________
740 - هو: الجرشي، يزيد بن الأسود، ويقال: أبو عمرو الجرشي من سادة التابعين بالشام، يسكن بالغوطة، بقرية زبدين أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وله دار بداخل باب شرقي، انظر سير أعلام النبلاء 5/156.(2/365)
يستسقون، فلما قعد معاوية على المنبر قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فناداه الناس، فأقبل يتخطى، فأمره معاوية فصعد المنبر فقعد عند رجليه. فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود، يا يزيد ارفع يديك إلى الله. فرفع يديه ورفع الناس، فما كان أوشك أن ثارت سحابة في الغرب كأنها ترس وهبت لها ريح فسقتنا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم.
عن علي بن أبي جملة قال: أصاب الناس قحط بدمشق، وعلى الناس الضحاك بن قيس الفهري، فخرج بالناس يستسقي، فقال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فلم يجبه أحد، ثم قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فلم يجبه أحد، ثم قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فلم يجبه أحد ثم قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ عزمت عليه إن كان يسمع كلامي إلا قام وعليه برنس فاستقبل الناس بوجهه ورفع جانبي برنسه على عاتقيه ثم رفع يديه، ثم قال: اللهم يا رب إن عبادك تقربوا إليك فاسقهم، قال: فانصرف الناس وهم يخوضون الماء. فقال: اللهم إنه قد شهرني فأرحني منه. قال: فما أتت عليه جمة حتى قتل الضحاك.(2/366)
741 - شرحبيل بن السمط بن الأسود أبو يزيد الكندي
بكر بن سوادة قال: كان رجل يعتزل الناس، إنما هو وحده، فجاءه أبو الدرداء فقال: أنشدك الله عز وجل ما يحملك على أن تعتزل الناس؟ قال: إني أخشى أن أسلب ديني وأنا لا أشعر. فحدثت بذلك رجلاً من أهل الشام فقال: ذاك شرحبيل بن السمط.
قلت: ذكر محمد بن سعد شرحبيل بن السمط في التابعين بعد يزيد بن الأسود، وقد قال البخاري: له صحبة.
__________
741 - هو: شرحبيل بن السمط -بكسر المهملة وسكون الميم - الكندي، الشامي، جزم بن سعد بأن له وفادة - ثم شهد القادسية وفتح حمص، وعمل عليها لمعاوية ومات سنة أربعين أو بعدها.(2/366)
742 - كعب الأحبار بن ماتع
يكنى أبا إسحاق، وهو من حمير من آل ذي رعين.
كان يهودياً فأسلم وقدم المدينة ثم خرج إلى الشام فسكن حمص.
عبد الله بن بريدة قال: قال كعب الأحبار: ما كرم عبد على الله عز وجل إلا زاد البلاء
__________
742 - هو: كعب بن ماتع الحميري، أبو إسحاق المعروف بكعب الأحبار، ثقة من الثانية مخضرم، كان من اليمن، فسكن الشام، مات في آخر خلافة عثمان، وقد زاد على المائة، وليس له في البخاري إلا حكاية لمعاوية فيه، وله في مسلم رواية لأبي هريرة، عنه، من طريق الأعمش عن أبي صالح.(2/366)
عليه شدة، وما أعطى رجل زكاة فنقصت من ماله، ولا حبسها فزادت في ماله، ولا سرق سارق إلا حسب له من رزقه.
عن عبد الله بن شقيق قال: قال كعب: إن لسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، دوياً حول العرش كدوي النحل، يذكرن بصاحبهن والعمل الصالح في الخزائن.
عن عبد الله بن الحارث، عن كعب قال: ما استقر لعبد ثناء في الأرض حتى يستقر في السماء.
عن أبي العوام، عن كعب الأحبار، قال: جاء رجلان فوقفا بباب المسجد فدخل أحدهما ولم يدخل الآخر وقال: مثلي لا يدخل بيت الله وقد عصيته، فأوحى الله إلى نبي من أنبياء إسرائيل أنني قد جعلته صديقاً بإزرائه على نفسه.
عن يزيد بن قودر، عن كعب أنه قال: مؤمن عالم أشد على إبليس وجنوده من مائة ألف مؤمن عابد، لأن الله يعصم بهم من الحرام.
عن عبد الله بن شقيق العقيلي، عن كعب قال: لأن أبكي من خشية الله حتى تسيل دموعي على وجنتي أحب إلي من أن أتصدق بوزني ذهباً، والذي نفس كعب بيده ما بكى عبد من خشية الله حتى تقع قطرة من دموعه إلى الأرض فتمسه النار أبداً حتى يعود قطر السماء الذي وقع إلى الأرض من حيث جاء، ولن يعود أبداً.
عن علقمة بن مرثد، عن كعب قال: من يعبد الله عز وجل حيث لا يراه أحد يعرفه خرج من ذنوبه كما يخرج من ليلته، عن الأعمش، عن زياد عن كعب: قال: المتخلق إلى أربعين يوماً ثم يعود إلى خلقه الذي هو خلقه.
عن كرز بن وبرة قال: بلغني أن كعباً قال: إن الملائكة ينظرون من السماء إلى الذين يصلون بالليل في بيوتهم كما تنظرون أنتم إلى نجوم السماء.
أسند كعب عن عمر بن الخطاب وصهيب وعائشة. وتوفي بحمص سنة ثنتين وثلاثين في خلافة عثمان.(2/367)
743 - يزيد بن مرثد أبو عثمان الهمداني
عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: قلت ليزيد بن مرثد: ما لي أرى عينيك لا تجف؟
__________
743 - هو: يزيد بن مرثد، أبو عثمان الهمداني، الصنعاني، من صنعاء دمشق، ثقة من الثالثة، وله مراسيل.
قال الشيخ شعيب: بل مقبول في المتابعات والشواهد فقد روى عنه ثلاثة فقط، وذكره ابن حبان وحده في الثقات انظر تحرير تقريب التهذيب 4/119.(2/367)
قال: وما مسألتك عنه؟ قلت: عسى الله عز وجل أن ينفعني به. قال: يا أخي إن الله عز وجل قد توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار، والله لو لم يتواعدني أن يسجنني إلا في الحمام لكنت حرياً أن لا تجف لي عين.
قال: فقلت له: فهكذا أنت في خلواتك؟ قال: وما مسألتك عنه؟ قلت: عن الله عز وجل أن ينفعني به. قال: والله إن ذلك ليعرض لي حين أسكن إلى أهلي فيحول بيني وبين ما أريد، وإنه ليوضع الطعام بين يدي فيعرض لي فيحول بيني وبين أكله، حتى تبكي امرأتي ويبكي صبياننا، ما يدرون ما أبكانا؟ ولربما أضجر ذلك امرأتي فتقول: يا ويحها ما خصت به من طول الحزن معك في الحياة الدنيا، ما تقر لي معك عين.
عن الوضين بن عطاء قال: أراد الوليد بن عبد الملك أن يولي يزيد بن مرثد فبلغ ذلك يزيد فلبس فروة وقلبها فجعل الجلد على ظهره والصوف خارجاً وأخذ بيده رغيفاً وعرقاً وخرج بلا رداء ولا قلنسوة ولا نعل ولا خف، وجعل يمشي في الأسواق ويأكل. فقيل للوليد: إن يزيد قد اختلط. وأخبر بما فعل فتركه.
أسند يزيد بن مرثد عن معاذ، وأبي الدرداء، وغيرهما.(2/368)
744 - عبد الله بن محيريز، أبو محيريز
عن بشير بن صالح قال دخل ابن محيريز حانوتاً بدانق وهو يريد أن يشتري ثوباً، فقال رجل لصاحب الحانوت: هذا ابن محيريز فأحسن بيعه فغضب ابن محيريز وخرج، وقال: إنما نشتري بأموالنا، لسنا نشتري بديننا.
عن رجاء بن حيوة قال: أتانا نعي ابن عمر، ونحن في مجلس ابن محيريز فقال ابن محيريز: والله إن كنت لأعد بقاء ابن عمر أماناً لأهل الأرض، وقال رجاء بن حيوة بعد موت ابن محيريز: وأنا والله إن كنت لأعد بقاء ابن محيريز أماناً لأهل الأرض.
وعن ضمرة، عن رجاء قال: كان ابن محيريز يجيء بالكتاب إلى عبد الملك فيه النصيحة فيقرئه إياه ثم لا يقره في يده.
أيوب بن سويد قال: نبأ أبو زرعة أن عبد الملك بن مروان بعث إلى ابن محيريز بجارية،
__________
744 - هو: عبد الله بن محيريز، بمهملة وراء آخره زاي -مصغر، ابن جنادة بن وهب الجمحي - بضم الجيم وفتح الميم بعدها مهملة المكي، كان يتيما في حجر أبي محذورة بمكة، ثم نزل بيت المقدس، ثقة عابد، من الثالثة، مات سنة تسع وتسعين، وقيل: قبلها.(2/368)
فترك ابن محيريز منزله فلم يكن يدخله، فقيل له: يا أمير المؤمنين تغيب ابن محيريز عن منزله. قال: ولم؟ قيل: من أجل الجارية التي بعثت بها إليه. قال: فبعث عبد الملك فأخذها.
عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال: كان ابن محيريز إذا مدح قال: وما يدريك؟ وما علمك؟.
وعن ضمرة عن عمر بن عبد الرحمن بن محيريز قال: كان جدي ابن محيريز يختم في كل سبع.
عن عبد الله بن عوف القارئ قال: لقد رأيتنا برودس وما في الجيش أحد أكثر صلاة من ابن محيريز في العلانية ثم أقصر عن ذلك حين شهر وعرف.
وعن ضمرة، عن الأوزاعي، قال: كان ابن زكريا يقدم فلسطين فيلقى ابن محيريز فتتقاصر إليه نفسه لما يرى من فضل ابن محيريز.
عبد الواحد بن موسى قال: سمعت ابن محيريز يقول: اللهم إني أسألك ذكراً خاملاً.
عن خالد بن دريك قال: كانت في ابن محيريز خصلتان ما كانتا في أحد ممن أدركت في هذه الأمة: كان أبعد الناس أن يسكت عن حق بعد أن يتبين له، يتكلم فيه غضب من غضب، ورضي من رضي، وكان من أحرص الناس أن يكتم من نفسه أحسن ما عنده.
عبد الله بن المبارك عن طليق قال: سمعت أن ابن محيريز يقول: من مشى بين يدي أبيه فقد عقه، إلا أن يمشي فيميط له الأذى عن طريقه، ومن دعا أباه باسمه أو بكنيته فقد عقه إلا أن يقول: يا أبه.
أسند ابن محيريز عن أبي سعيد الخدري، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبي محذورة وفضالة بن عبيد وغيرهم - وتوفي في ولاية الوليد بن عبد الملك.(2/369)
745 - أبو مسلم الخولاني
واسمه عبد الله بن ثوب.
طرحه الأسود العنسي المتنبي باليمن في النار فلم تضره فكان يشبه بالخليل عليه السلام.
__________
745 - هو: أبو مسلم الخولاني، الزاهد الشامي، اسمه: عبد الله بن ثوب -بضم المثلثة وفتح الواو بعدها موحدة - وقيل: بإشباع الواو وقيل: ابن أثوب، بمثلثة، وزن أحمر، ويقال: ابن عوف أو ابن منشكم، ويقال: اسمه يعقوب بن عوف، ثقة عابد من الثانية، رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يدركه وعاش إلى زمن يزيد بن معاوية.(2/369)
عن شرحبيل بن مسلم الخولاني قال: تنبأ الأسود بن قيس العنسي باليمن فأرسل إلى أبي مسلم فقال له: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: فتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. قال: فتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع. قال: فأمر بنار عظيمة فأججت وطرح فيها أبو مسلم فلم تضره فقال له أهل مملكته: إن تركت هذا في بلادك أفسدها عليك. فأمره بالرحيل فقدم المدينة وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر. فقام إلى سارية من سواري المسجد يصلي فبصر به عمر بن الخطاب، فقال: من أين الرجل؟ قال: من اليمن - قال: فما فعل عدو الله بصاحبنا الذي حرقه بالنار فلم تضره؟ قال: ذاك عبد الله بن ثوب. قال: نشدتك بالله عز وجل أنت هو؟ قال: اللهم نعم. قال: فقبل ما بين عينيه، ثم جاء به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرحمن، عليه السلام.
عن علقمة بن مرثد قال: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين منهم أبو مسلم الخولاني، فإنه لم يكن يجالس أحداً يتكلم في شيء من أمر الدنيا إلا تحول عنه، فدخل ذات يوم المسجد فنظر إلى نفر قد اجتمعوا فرجا أن يكونوا على ذكر الله تعالى، فجلس إليهم وإذا بعضهم يقول: قدم غلامي فأصاب كذا وكذا. وقال آخر: جهزت غلامي، فنظر إليهم وقال: سبحان الله أتدرون ما مثلي ومثلكم؟ كمثل رجل أصابه مطر غزير وابل فالتفت فإذا هو مبصراعين عظيمين فقال: لو دخلت هذا البيت حتى يذهب هذا المطر، فدخل فإذا البيت لا سقف له. جلست إليكم وأنا أرجو أن تكونوا على ذكر وخير فإذا أنتم أصحاب دنيا، قال: وقال له قائل، حين كبر ورق: لو قصرت عن بعض ما تصنع. فقال: أرأيتم لو أرسلتم الخيل في الحلبة ألستم تقولون لفارسها دعها وارفق بها حتى إذا رأيتم الغاية لم تستبقوا منها شيئاً؟ قالوا: بلى، قال: فإني قد أبصرت الغاية وإن لكل ساعة غاية، وغاية كل ساعة الموت، فسابق ومسبوق.
أبو بكر بن أبي مريم قال: حدثني عطية بن قيس أن ناساً من أهل دمشق أتوا أبا مسلم الخولاني في منزله وهو غاز بأرض الروم، فوجدوه قد احتقر في فسطاطه جوبة ووضع في الجوبة نطعاً وأفرغ فيه ماء يتصلق فيه وهو صائم، فقالوا له: ما يحملك على الصيام وأنت مسافر وقد رخص لك في الفطر في السفر؟ فقال: لو حضر قتال لأفطرت وتقويت للقتال، إن الخيل لا تجري إلى الغايات وهي بدن إنما تجري وهي ضمر، إن بين أيدينا أياماً لها نعمل.(2/370)
عن شرحبيل بن مسلم أن رجلين أتيا أبا مسلم الخولاني في منزله فقال بعض أهله: هو في المسجد، فأتياه فوجداه يركع فانتظرا انصرافه وأحصيا ركوعه، فأحصى أحدهما أنه ركع ثلثمائة والآخر أربعمائة قبل أن ينصرف فقالا له: يا أبا مسلم كنا قاعدين خلفك ننتظرك، قال أما إني لو علمت مكانكما لانصرفت إليكما، وما كان لكما أن تحفظا علي صلاتي، فأقسم لكما إن كثرة السجود خير ليوم القيامة.
حميد قال: قال أبو مسلم الخولاني: ما عملت عملاً أبالي من رآه إلا أن يخلو الرجل بأهله أو يقضي حاجة غائط.
محمد بن زياد عن أبي مسلم أنه كان إذا غزا أرض الروم فمروا بنهر قال: أجيزوا بسم الله. قال: ويمر بين أيديهم. قال: فيمرون بالنهر الغمر، فربما لم يبلغ من الدواب إلا إلى الركب، أو بعض ذلك أو قريباً من ذلك، فإذا جازوا قال للناس: هل ذهب لكم من شيئ؟ من ذهب له شيء فأنا له ضامن. قال: فألقى بعضهم مخلاة عمداً فلما جازوا قال الرجل: مخلاتي وقعت في النهر. قال له: اتبعني، فإذا المخلاة تعلقت ببعض أعواد النهر.
عن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: قالت امرأة أبي مسلم يعني الخولاني: يا أبا مسلم ليس لنا دقيق. قال: عندك شيء؟ قالت: درهم بعنا به عزلاً، قال: ابغينيه وهاتي الجراب، فدخل السوق فوقف على رجل يبيع الطعام. فوقف عليه سائل فقال: يا أبا مسلم تصدق علي، فهرب منه فأتى حانوتاً آخر فتبعه السائل فقال: يا أبا مسلم، فهرب منه فأتى حانوتاً آخر فتبعه السائل فقال: تصدق علي، فلما أضجره أعطاه الدرهم، ثم عمد إلى الجراب فملأه نجارة النجارين مع التراب ثم أقبل إلى باب منزله فنقر الباب وقلبه مرعوب من أهله، فلما فتحت الباب رمى بالجراب وذهب، فلما فتحته إذا هي بدقيق حواري، فعجنت وخبزت. فلما ذهب من الليل الهوي جاء أبو مسلم لنقر الباب فلما دخل وضعت بين يديه خواناً وأرغفة. فقال: من أين لكم هذا؟ قالت له يا أبا مسلم من الدقيق الذي جئت به، فجعل يأكل ويبكي.
عن عثمان بن عطاء، عن أبيه قال: كان أبو مسلم الخولاني إذا انصرف من المسجد إلى منزله كبر على باب منزله فتكبر امرأته فإذا كان في صحن داره كبر فتجيبه امرأته، فإذا بلغ إلى باب بيته كبر فتجيبه امرأته فانصرف ذات ليلة فكبر عند باب داره فلم يجبه أحد، فلما كان في الصحن كبر فلم يجبه أحد، فلما كان في باب بيته كبر فلم يجبه أحد، وكان إذا دخل بيته أخذت امرأته رداءه ونعليه ثم أتته بطعامه قال: فدخل فإذا البيت ليس فيه سراج وإذا امرأته جالسة منكسة تنكت بعود معها. فقال لها مالك؟ فقالت: أنت لك منزلة من معاوية وليس لنا(2/371)
خادم فلو سألته فأخدمنا وأعطاك، فقال: اللهم من أفسد امرأتي فأعم بصره، قال: وقد جاءتها امرأة قبل ذلك فقالت: زوجك له منزلة من معاوية فلو قلت له يسأل معاوية أن يخدمه ويعطيه عشتم، قال: فبينا تلك المرأة جالسة في بيتها إذ أنكرت بصرها فقالت: ما لسراجكم طفئ؟ قالوا: لا. فعرفت ذنبها، فأقبلت إلى أبي مسلم تبكي وتسأله أن يدعو الله عز وجل لها يرد عليها بصرها. قال: فرحمها أبو مسلم فدعا الله عز وجل لها فرد عليها بصرها.
الحسن قال: قال أبو مسلم الخولاني، وكان ذا أمثال: أرأيتم نفساً إذا أكرمتها وودعتها ونعمتها ذمتني غداً عند الله وإن أنا أهنتها وأنصبتها وأعملتها مدحتني عند الله غداً؟ قالوا: من تيك يا أبا مسلم؟ قال تيك والله نفسي.
عن شرحبيل بن مسلم، عن أبي مسلم الخولاني، أنه كان إذا وقف على خربة قال: يا خربة أين أهلك؟ ذهبوا وبقيت أعمالهم، وانقطعت الشهوة، وبقيت الخطيئة، ابن آدم! ترك الخطيئة أهون من طلب التوبة.
أبو بكر بن أبي الأسود قال: قال أبو مسلم الخولاني: ما طلبت شيئاً من الدنيا قط فولي لي، حتى لقد ركبت مرة حماراً فلم يمش فنزلت عنه وركبه غيري فعدا. قال: فأريت في منامي كأن قائلاً يقول لي: لا يحزنك ما زوي عنك من الدنيا وإنما يفعل ذلك بأوليائه وأحبائه وأهل طاعته. قال: فسري عني.
روى شرحبيل بن مسلم، عن عمير بن سيف، أنه سمع أبا مسلم الخولاني يقول: لأن يولد لي مولود يحسن الله عز وجل نباته حتى إذا استوى على شبابه وكان أعجب ما يكون إلي، قبضه مني، أحب إلي من أن تكون لي الدنيا وما فيها.
عن عثمان بن أبي العاتكة قال: كان من أمر أبي مسلم الخولاني أن علق سوطاً في مسجده ويقول: أنا أولى بالسوط من الدواب، فإذا دخلته فترة مشق ساقه سوطاً أو سوطين. وكان يقول: لو رأيت الجنة عياناً ما كان عندي مستزاد، ولو رأيت النار عياناً ما كان عندي مستزاد.
بلال بن كعب قال: ربما قال الصبيان لأبي مسلم الخولاني: ادع الله أن يحبس علينا هذا الطائر، فيدعو الله عز وجل فيحبسه، فيأخذوه بأيديهم.
أدرك أبو مسلم أبا بكر وعمر، وأسند عن معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وتوفي في خلافة يزيد بن معاوية - كذا قال محمد بن سعد. وقال البخاري توفي في خلافة معاوية.(2/372)
ومن الطبقة الثالثة:
746 - رجاء بن حيوة أبو المقدام الكندي
عن مطر الوراق قال: ما رأيت شامياً أفضل من رجاء بن حيوة.
أبو أسامة قال: كان ابن عون إذا ذكر من يعجبه ذكر رجاء بن حيوة.
ابن عون قال: ثلاثة لم أر مثلهم كأنهم التقوا فتواصوا: ابن سيرين بالعراق، والقاسم بن محمد بالحجاز، ورجاء بن حيوة بالشام.
عبيد بن السائب قال: أنبأ أبي قال: ما رأيت أحداً أحسن اعتدالاً في صلاته من رجاء بن حيوة.
عن عبد الرحمن بن عبد الله أن رجاء بن حيوة قال لرجلين وهو يعظهما: انظرا الأمر الذي تحبان أن تلقيا الله عز وجل عليه، فخذا فيه الساعة، وانظرا الأمر الذي تكرهان أن تلقيا الله عز وجل عليه فدعاه الساعة.
أسند رجاء عن عبد الله بن عمرو، وأبي الدرداء، وأبي أمامة، ومعاوية، وجابر، وكان يصحب الخلفاء ويأمرهم بالمعروف. فلما مات عمر بن عبد العزيز انقطع عن صحبتهم. فسأله يزيد بن عبد الملك أن يصحبه فأبى واستعفاه. فقيل له: نخاف عليك من هؤلاء. فقال: يكفينهم الذي تركتهم له.
__________
746 - هو: رجاء بن حيوة -بفتح المهملة وسكون التحتانية وفتح الواو - الكندي، أبو المقدام، ويقال: أبو نصر، الفلسطيني، ثقة فقيه، من الثالثة، مات سنة اثنتي عشرة.(2/373)
747 - عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية
عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: كان عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية خلاً لعبد الملك بن مروان، فلما مات عبد الملك بن مروان وتصدع الناس عن قبره وقف عليه فقال: أنت عبد الملك الذي كنت تعدني فأرجوك، وتوعدني فأخافك، أصبحت وليس معك من ملكك غر ثوبيك، وليس لك منه غير أربعة أذرع في عرض ذراعين.
ثم انكفأ إلى أهله واجتهد في العبادة حتى صار كأنه شن بال فدخل عليه بعض أهله فعاتبه
__________
747 - هو: عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، صدوق من الثالثة، أرسل حديثا، مات على رأس المائة.(2/373)
في نفسه وإضراره فقال للقائل: أسألك عن شيء تصدقني عنه؟ قال: نعم. قال: أخبرني عن حالتك التي أنت عليها أترضاها للموت؟ قال: اللهم لا، قال: أفعزمت على انتقال منها إلى غيرها؟ قال: ما انتصحت رأيي في ذلك، قال: أفتأمن من أن يأتيك الموت على حالك التي أنت عليها؟ قال: اللهم لا، قال: حال ما أقام عليها عاقل. ثم انكفأ إلى مصلاه.
روى عبد الرحمن عن ثوبان.(2/374)
748 - خالد بن معدان الكلاعي. يكنى أبا عبد الله
عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان قال: إياكم والخطران فإنه قد تنافق يد الرجل من سائر جسده. قيل: وما الخطران؟ قال: ضرب الرجل بيده إذا مشى.
عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان قال: ما من عبد إلا وله أربع أعين: عينان في وجهه يبصر بهما أمر الدنيا، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر الآخرة، فإذا أراد الله بعبد خيراً فتح عينيه اللتين في قلبه فيبصر بهما ما وعد بالغيب. قال: وهما غيب فآمن الغيب بالغيب، وإذا أراد الله بعبد غير ذلك تركه ما هو عليه ثم قرأ: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} محمد.
عبد الله بن واقد، عن أم عبد الله، عن أبيها قال: خلقت القلوب من طين وإنها تلين في الشتاء.
صفوان بن عمرو قال: كان خالد بن معدان إذا عظمت حلقته قام فانصرف. قلت لصفوان: ولم كان يقوم؟ قال: كان يكره الشهرة.
أسند خالد بن معدان عن أبي عبيدة ومعاذ وعبادة وأبي ذر وغيرهم.
محمد بن سعد قال: أنبأ يزيد بن هارون قال: مات خالد وهو صائم، قال ابن سعد: وتوفي سنة ثلاث ومائة وقال عفير بن معدان: توفي خالد سنة أربع ومائة، والسلام.
__________
748 - هو: خالد بن كعدان الكلاعي الحمصي، أبو عبد الله، ثقة عابد يرسل كثيرا من الثالثة، مات سنة ثلاث ومائة وقيل: بعد ذلك.(2/374)
749 - عبادة بن نسي الكندي
توفي سنة ثمان عشرة ومائة.
عن رجاء قال: كان بين رجل وبين عبادة بن نسي منازعة فأسرع إليه الرجل فلقي رجاء بن
__________
749 - هو: عبادة بن نسي -بضم النون وفتح المهملة الخفيفة - الكندي أبو عمر الشامي، قاضي طبرية، ثقة فاضل، من الثالثة، مات سنة ثماني عشرة.(2/374)
حيوة عبادة فقال: بلغني أن فلاناً كان منه إليك فأخبرني، فقال: لولا أن تكون غيبة مني لأخبرتك بما كان منه.(2/375)
750 - عبد الله بن أبي زكريا الخزاعي
كان صاحب غزو من أهل دمشق.
عن الأوزاعي قال: لم يكن بالشام رجل يفضل على عبد الله بن أبي زكريا. قال: عالجت لساني عشرين سنة قبل أن يستقيم لي.
علي بن أبي جملة قال: قال عبد الله بن أبي زكريا الدمشقي: عالجت الصمت عما لا يعنيني عشرين سنة قبل أن اقدر منه على ما أريد. قال: وكان لا يدع أحداً يغتاب في مجلسه أحداً. يقول: إن ذكرتم الله أعناكم وإن ذكرتم الناس تركناكم.
عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر أن عبد الله بن أبي زكريا كان يقول: لو خيرت بين أن أعمر مائة سنة في طاعة الله أو أن أقبض في يومي هذا أو في ساعتي هذه لاخترت أن أقبض شوقاً إلى الله عز وجل وإلى رسوله وإلى الصالحين من عباده.
الوليد بن سليمان الدمشقي قال: سمعت أبي بكر يذكر قال: كان عبد الله بن أبي زكريا إذا خاض جلساؤه في غير ذكر الله كأنه ساه، وإذا خاضوا في ذكر الله كان من أحسن الناس استماعاً.
أسند عبد الله عن عبادة بن الصامت وأبي الدرداء في آخرين، وتوفي سنة سبع عشرة ومائة.
__________
750 - هو: عبد الله بن أبي زكريا الخزاعي، أبو يحي الشامي، واسم أبيه إياس، وقيل: زيد، ثقة فقيه عابد، من الرابعة، مات سنة تسع عشرة.(2/375)
ومن الطبقة الرابعة:
751 - بلال بن سعد
عبد الله بن المبارك قال: كان محل بلال بن سعد بالشام ومصر كمحل الحسن بالبصرة.
الأوزاعي قال: سمعت بلال بن سعد يقول: واحزناه على أني لا أحزن. الأوزاعي عن بلال بن سعد قال: إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا أهلها وإذا أظهرت فلم تغير ضرت العامة.
عن الأوزاعي قال: سمعت بلالاً يقول: لا تكن ولياً لله تعالى في العلانية وعدوه في السر.
قال: وسمعت بلالاً يقول في مواعظه: يا أهل الخلود ويا أهل البقاء، إنكم لم تخلقوا للفناء وإنما خلقتم للخلود والأبد، ولكنكم تنقلون من دار إلى دار.
عن الأوزاعي عن بلال بن سعد قال: إن الله يغفر الذنوب، ولكن لا يمحوها من الصحيفة حتى يقفه عليها يوم القيامة وإن تاب.
سعيد بن عمرو قال: قال بلال بن سعد: ذكرك حسناتك ونسيانك سيئاتك غرة.
الأوزاعي قال: هلك ابن لبلال بن سعد فجاء رجل يدعي عليه ببضعة وعشرين ديناراً فقال له بلال: ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك كتاب؟ قال: لا. قال: فتحلف؟ قال: نعم. قال: فدخل منزله فأعطاه الدنانير، فقال: إن كنت صادقاً فقد أديت عن ابني، وإن كنت كاذباً فهي عليك صدقة.
الأوزاعي قال: سمعت بلال بن سعد يقول: رب مسرور مغبون يأكل ويشرب ويضحك وقد حق له في كتاب الله عز وجل أنه من وقود النار.
الأوزاعي قال: سمعت بلال بن سعد يقول: أخ لك كلما لقيك ذكرك بحظك من الله خير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك ديناراً.
عن الأوزاعي قال: سمعت بلال بن سعد يقول: لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر من عصيت.
__________
751 - هو: بلال بن سعد بن تميم الأشعري، أو الكندي، أبو عمرو أو أبو زرعة، الدمشقي، ثقة عابد فاضل من الثالثة مات في خلافة هشام.(2/376)
سعيد بن عبد العزيز قال: قال بلال بن سعد: الذك رذكران: ذكر لله عز وجل باللسان حسن جميل، وذكر الله أحل وحرم أفضل.
الضحاك بن عبد الرحمن قال: سمعت بلال بن سعد يقول: يا أولي الألباب ليتفكر متفكر فيما يبقى له وينفعه، أما ما وكلكم الله عز وجل به فتضيعون، وأما ما تكفل لكم به فتطلبون، ما هكذا نعت الله عباده المؤمنين، أذوو عقول في طلب الدنيا وبله عما خلقتم له؟ فكما ترجون الله بما تؤدون من طاعته فكذلك أشفقوا من عذاب الله بما تنتهكون من معاصيه.
قال: وسمعت بلال بن سعد يقول: عباد الله، اعلموا أنكم تعملون في أيام قصار لأيام طوال، وفي دار زوال لدار مقام، وفي دار نصب وحزن لدار نعيم وخلد، ومن لم يعمل على اليقين فلا يتعن، عباد الرحمن، هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئاً من أعمالكم تقبل منكم أو شيئاً من أعمالكم تغفر لكم؟.
عن الأوزاعي عن بلال بن سعد قال: أدركتهم يشتدون بين الأغراض، ويضحك بعضهم إلى بعض فإذا كان الليل كانوا رهباناً.
أسند بلال عن أبيه سعد بن تميم السكوتي وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله في آخرين.(2/377)
752 - عمير بن هانئ أبو الوليد الشامي
قال البخاري: سمع من ابن عمر، وزعم آل عمير أنه أدرك ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سعيد بن عبد العزيز قال: قلت لعمير بن هانئ: أرى لسانك لا يفتر من ذكر الله عز وجل فكم تسبح كل يوم؟ قال: مائة ألف إلا أن تخطئ الأصابع.
__________
752 - هو: عمير بن هانئ العنسي –بسكون النون ومهملتين - أبو الوليد الدمشقي الدارني، ثقة، من كبار الرابعة، قتل سنة سبع وعشرين وقيل: قبل ذلك.(2/377)
753 - أبو عبد رب واسمه عبيدة بن المهاجر
عن ابن جابر أن أبا عبد رب كان من أكثر أهل دمشق مالاً فخرج إلى أذربيجان في تجارة فأمسى إلى جانب مرعى ونهر فنزل به. قال: فسمعت صوتاً يكثر حمد الله عز وجل في ناحية فاتبعه فرأيت رجلاً في حفير من الأرض، ملفوفاً في حصير، فسلمت عليه وقلت: من أنت؟
__________
753 - هو: الزاهد المفارق للمشاجر، المسابق للمتاجر، أبو عبد رب عبيدة بن مهاجر، انظر حلية الأولياء 5/183.(2/377)
قال: رجل من المسلمين. فسألته أن يقوم معي إلى المنزل فأبى، فانصرفت وقد تقاصرت إلي نفسي ومقتها أني لم أخلف بدمشق رجلاً في العين يكاثرني وأنا ألتمس الزيادة فقلت: اللهم إني أتوب إليك من سوء ما أنا فيه، فبت ولم يعلم إخواني بما قد أجمعت عليه فلما كان السحر رحلوا فركبت دابتي وضربتها إلى دمشق فقال: ما أنا بصادق التوبة إن مضيت في متجري.
قال ابن جابر: فلما قدم تصدق بصامت ماله وجهز به في سبيل الله عز وجل. قال ابن جابر فحدثني بعض إخواني قال: ما كست صاحب عباء بدانق من عباء أعطيته ستة وهو يقول: سبعة. فلما أكثرت قال: ممن أنت؟ قلت: من أهل دمشق. قال ما تشبه شيخاً وفد علي أمس يقال له أبو عبد رب اشترى مني سبعمائة كساء بسبعة سبعة ما سألني أن أضع له درهماً وما زال يفرقها بين فقراء الجيش فما دخل إلى منزله منها بكساء. قال ابن جابر: وكان أبو عبد رب تصدق بصامت ماله وباع عقدة فتصدق بها، إلا داراً بدمشق ثم باعها بمال وفرقه. ثم مات فما وجدوا من ثمنها إلا قدر الكفن. وكان يقول: والله لو أن نهركم هذا سال ذهباً وفضة، من شاء خرج إليه فأخذ، ما خرجت إليه، ولو قيل: من مس هذا العود مات لسرني أن أقوم إليه شوقاً إلى الله عز وجل وإلى رسوله.
أسند أبو عبد رب عن معاوية بن أبي سفيان.(2/378)
ومن الطبقة الخامسة:
أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني
بقية قال: خرجنا إلى أبي بكر بن أبي مريم نسمع منه في ضيعته، وكانت كثيرة الزيتون، فخرج علينا نبطي من أهلها فقال لي: من تريدون؟ فقلنا: نريد أبا بكر بن أبي مريم فقال: الشيخ؟ فقلنا: نعم، فقال: ما في هذه القرية شجرة من زيتون إلا وقد قام إليها ليلته جمعاء.
يزيد بن هارون قال: كان أبو بكر من العباد المجتهدين، فحضره الموت وهو صائم، فلم يزل يجهد حتى قشروا له تفاحة فأفطر عليها وقيل لامرأته ألا تفلين ثيابه؟ قالت: أية ساعة أفليها؟ ما يلقيها عنه ليلاً ولا نهاراً. تقول لاشتغاله بالصلاة.
الحسن بن علي بن مسلم السكوني قال: كان لأبي بكر بن أبي مريم في خديه مسلكان من الدموع، يزيد بن عبد ربه قال: عدت أبا بكر بن أبي مريم وهو في النزع فقلت له: رحمك الله لو جرعت جرعة ماء. فقال بيده: لا ثم جاء الليل فقال: أذن؟ فقلت: نعم. فقطرنا في فمه قطرة ماء ثم مات، أسند أبو بكر عن عبد الله ابن بسر وغيره.
__________
754 - هو: أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني الشامي، وقد ينسب إلى جده قيل اسمه بكير، وقيل: عبد السلام، ضعيف، وكان قد سرق بيته فاختلط من السابعة مات سنة ست وخمسين.(2/379)
يصاحب في سفره ولا يعان في حاجته، وركعتان يستن فيهما العبد خير من سبعين ركعة لا يستن فيها.
أسند حسان عن أنس وشداد بن أوس، وأرسل عن ابن مسعود وأبي ذر وحذيفة في خلق كثير.(2/380)
يصاحب في سفره ولا يعان في حاجته، وركعتان يستن فيهما العبد خير من سبعين ركعة لا يستن فيها.
أسند حسان عن أنس وشداد بن أوس، وأرسل عن ابن مسعود وأبي ذر وحذيفة في خلق كثير.(2/380)
755 - حسان بن عطية يكنى أبا بكر
عن الأوزاعي قال: ما رأيت أحداً أكثر عملاً منه في الخير. يعني حسان بن عطية.
عن الأوزاعي قال: كان حسان بن عطية يتنحى إذا صلى العصر في ناحية المسجد، فيذكر الله عز وجل حتى تغيب الشمس.
عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية قال: من أطال قيام الليل يهون عليه طول القيام يوم القيامة.
الأوزاعي قال: حدثني حسان قال: يعذب الله الظالم بالظالم ثم يدخلهما النار جميعاً.
وحدثني حسان قال: إن العبد إذا عمل سيئة وقف الملك فلم يكتبها ثلاث ساعات، فإن لم يستغفر كتبت وإن استغفر لم تكتب. وإن الرجل إذا سافر يوم الجمعة دعي عليه أن لا
__________
755 - هو: حسان بن عطية المحاربي، مولاهم، أبو بكر الدمشقي، ثقة فقيه عابد، من الرابعة، مات بعد العشرين ومائة.(2/379)
756 - أمية الشامي
عن سفيان بن عيينة قال: كان أمية رجلاً من أهل الشام يقوم فيصلي هناك مما يلي باب بني سهم، فينتحب ويبكي حتى يعلو صوته وحتى تسيل دموعه على الحصى. قال: فأرسل إليه الأمير: إنك تفسد على المصلين صلاتهم بكثرة بكائك وارتفاع صوتك، فلو أمسكت قليلاً. فبكى ثم قال: إن حزن يوم القيامة ورثني دموعاً غزاراً، فأنا أستريح إلى ذريها أحياناً. وكان أمية يقول: ألا إن المطيع لله ملك في الدنيا والآخرة. وكان يدخل الطواف فيأخذ في البكاء والنحيب، وربما سقط مغشياً عليه.
__________
757 - هو: أبو سليمان الداراني الإمام الكبير، زاهد العصر، أبو سليمان عبد الرحمن بن أحمد، وقيل: عبد الرحمن بن عطية، وقيل ابن عسكر العنسي الداراني، ولد في حدود الأربعين ومائة، انظر: سير أعلام النبلاء 8/472.(2/380)
ومن الطبقة السادسة:
757 - أبو سليمان الداراني
واسمه عبد الرحمن بن أحمد بن عطية العنسي، ودارياً قرية من قرى دمشق، وقيل ضيعة إلى جنب دمشق.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان عبد الرحمن بن أحمد العنسي يقول: مفتاح الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع، وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله، وإن الله يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب، وإن الجوع عنده في خزائن مدخرة، ولا يعطي إلا من أحب خاصة، ولأن أدع من عشائي لقمة أحب إلي من أن آكلها وأقوم أول الليل إلى آخره.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان يقول: لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، وما أحب البقاء في الدنيا لتشقيق الأنهار ولا لغرس الأشجار.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان يقول: سمعت أبا جعفر يبكي في خطبته
__________
757 - هو: أبو سليمان الداراني الإمام الكبير، زاهد العصر، أبو سليمان عبد الرحمن بن أحمد، وقيل: عبد الرحمن بن عطية، وقيل ابن عسكر العنسي الداراني، ولد في حدود الأربعين ومائة، انظر: سير أعلام النبلاء 8/472.(2/380)
يوم الجمعة، فاستقبلني الغضب وحضرتني نية أن أقوم فأعظه بما أعرف من فعله إذا نزل. قال: فتفكرت أن أقوم إلى الخليفة فأعظه والناس جلوس يرمقوني بأبصارهم. فيعرض لي تزين فيأمر بي فأقتل على غير تصحيح. فجلست وسكت.
قال أحمد: وسمعت أبا سليمان يقول: كنت بالعراق أعمل، وأنا بالشام أعرف. قال أحمد: فحدثت به ابنه سليمان فقال: إنما معرفة أبي بالله تعالى بالشام لطاعته بالعراق، ولو ازداد لله بالشام طاعة لازداد لله معرفة.
ابن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان يقول: كل ما شغلك عن الله عز وجل من أهل ومال أو ولد فهو عليك مشوم.
مسعود بن أبي جميل قال: سمعت أبا سليمان يقول: إنما عصى الله عز وجل من عصاه لهوانهم عليه، ولو كرموا عليه لحجزهم عن معاصيه.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان يقول: كلما ارتفعت منزلة القلب كانت العقوبة إليه أسرع.
أحمد بن أبي الحواري قال: قال لي أبو سليمان: من أي وجه أزال العاقل اللائمة عمن أساء إليه؟ قلت: لا أدري، قال: من أنه قد علم أن الله تعالى هو الذي ابتلاه به.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان يقول كنت ليلة باردة في المحراب فأفاقني البرد فخبأت إحدى يدي من البرد وبقيت الأخرى ممدودة، فغلبتني عيني فهتف بي هاتف: يا أبا سليمان قد وضعنا في هذه ما أصابها، ولو كانت الأخرى لوضعنا فيها ما أصابها. فآليت لا أدعو إلا ويداي خارجتان.
أحمد بن أبي الحواري قال: قال لي أبو سليمان الداراني: يا أحمد إني محدثك بحديث فلا تحدث به أحداً حتى أموت: نمت ذات ليلة عن وردي فإذا أنا بحوراء تنبهني وتقول: يا أبا سليمان تنام وأنا أربى لك في الخدور منذ خمسمائة عام؟.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: بينا أنا ساجد إذ ذهب بي النوم فإذا أنا بها، يعني الحوراء، قد ركضتني برجلها فقالت: حبيبي أترقد عيناك والملك يقظان ينظر إلى المتهجدين في تهجدهم؟ بؤساً لعين آثرت لذة النوم على لذة مناجاة العزيز، قم فقد دنا الفراغ ولقي المحبون بعضهم بعضاً، فما هذا الرقاد؟ حبيبي وقرة عيني، أترقد عيناك وأنا أربي لك في الخدور منذ كذا وكذا؟ فوثبت فزعاً وقد عرقت استحياء من توبيخها إياي وإن حلاوة منطقها لفي سمعي وقلبي.(2/381)
أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: ما ضرك في غرك إذا أعقبك ما سرك.
موسى بن عمران قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: إن النفس إذا جاعت وعطشت صفا القلب ورق، وإذا شبعت ورويت عمي القلب.
موسى بن عمران قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: ما يسرني أن لي من أول الدنيا إلى آخرها أنفقه في وجوه البر وأني أغفل عن الله عز وجل طرفة عين.
عن أحمد بن أبي الحواري قال: قال سليمان الداراني: لو أن الدنيا كلها في لقمة ثم جاءني أخ لي لأحببت أن أضعها في فيه.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: إذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزحمها، وإذا كانت الدنيا في القلب لم تزحمها الآخرة، لأن الآخرة كريمة والدنيا لئيمة.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: من حسن ظنه بالله عز وجل ثم لا يخاف الله فهو مخدوع.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: أرجو أن أكون قد رزقت من الرضا طرفاً لو أدخلني النار لكنت بذلك راضياً.
محمد بن هشام قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: يوحي الله عز وجل إلى جبريل عليه السلام: اسلب عبدي ما رزقته من لذة طاعتي فإن افتقدها فردها عليه، وإن لم يفتقدها فلا تردها عليه أبداً.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول في مناجاته: إنك إن طالبتني بشري طالبتك بكرمك، وإن أخذتني بذنوبي أتيتك بتوحيدك، وإن أسكنتني النار بين أعدائك لأخبرنهم بحبي لك.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان يقول: كنت أنظر إلى الأخ من إخواني بالعراق فأعمل على رؤيته شهراً. وسمعته يقول: إنما الأخ الذي تعظك رؤيته قبل أن يعظك بكلامه.
أحمد بن أبي الحواري قال: بات أبو سليمان ذات ليلة فلما انتصف الليل قام ليتهيأ، فلما أدخل يده في الإناء بقي على حالته حتى انفجر الصبح، وكان وقت الإقامة. فخشيت أن تفوته الصلاة فقلت: الصلاة يرحمك الله. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم قال:(2/382)
يا أحمد أدخلت يدي في الإناء فعارضني معارض من سري: هب أنك غسلت بالماء ما ظهر منك فبماذا تغسل قلبك؟ فبقيت متفكراً حتى قلت بالغموم والأحزان فيما يفوتني من الأنس بالله عز وجل.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان يقول: ما يسر العاقل أن الدنيا له منذ خلقت إلى أن تفنى، يتنعم فيها حلالاً لا يسأل عنه يوم القيامة وأنه حجب عن الله عز وجل ساعة واحدة، فكيف بمن حجب أيام الدنيا وأيام الآخرة؟.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان يقول: ربما مثل لي رأسي بين جبلين من نار، وربما رأيتني أهوي فيها حتى أبلغ قرارها وكيف تهنئ الدنيا من كانت هذه صفته؟ وسمعته يقول: إنما ارتفعوا بالخوف، فإن ضيعوا نزلوا وينبغي لعاقل وإن بلغ أعلى درجة أن يفزع قلبه بأسفل درجة من ذكر الموت والمقابر والبعث.
وقلت لأبي سليمان إني قد غبطت بني إسرائيل. قال: بأي شيء ويحك؟ قلت: بثمانمائة سنة بأربعمائة ينن حتى يصيروا كالشنان البالية وكالأوتار. قال: ما ظننت إلا أنك قد جئت بشيء، لا والله لا يريد الله عز وجل منا أن تيبس جلودنا على عظامنا ولا يريد منا إلا صدق النية فيما عنده، هذا إذا صدق في عشرة أيام نال ما نال ذاك في عمره.
وسمعت أبا سليمان، وذكر له رجل، فقال: لقد وقع على قلبي ولكن صف لي حاله. فقلت: إنه نشأ في الصوف والقرآن وأكل الملة. فقال: قد كنت أحب أن يكون ممن وجد طعم الدنيا ثم تركها، لأنه إذا وجد طعمها ثم تركها لم يغتر بها، وإذا كان ممن لم يجد طعمها لم آمن عليه إذا وجد طعمها أن يرجع إليها.
وسمعت أبا سليمان يقول: لأهل الطاعة في ليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم، ولولا اللل ما أحببت البقاء في الدنيا.
وسمعت أبا سليمان يقول: لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره إلا على لذة ما فاته من الطاعة فيما مضى، كان ينبغي له أن يبكيه حتى يموت.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان يقول: ما عمل داود عليه السلام عملاً قط كان أنفع له من خطيئته، ما زال منها خائفاً هارباً حتى لحق بربه عز وجل.
قال: ورأيت أبا سليمان أراد أن يلبي فغشي عليه. فلما أفاق قال: يا أحمد بلغني أن الرجل إذا حج من غير حله فقال: لبيك اللهم لبيك، قال له الرب: لا لبيك ولا سعديك حتى ترد ما في يديك، فما يؤمنني أن يقال لي هذا؟ ثم لبى.(2/383)
وسمعت أبا سليمان يقول: أقمت عشرين سنة لم أحتلم. فدخلت مكة فأحدثت بها حدثاً، فما أصبحت حتى احتلمت. فقلت له: فأي شيء كان ذلك الحدث؟ قال: تركت صلاة العشاء في المسجد الحرام في الجماعة، والاحتلام عقوبة.
وسمعته يقول: حيل بيني وبين قيام الليل - قال أحمد: كان الذكر يغلب عليه - وإني لأمرض فأعرف الذنب الذي أمرض به.
وسمعته يقول: ما حجوا ولا رابطوا ولا جاهدوا إلا فراراً من البيت، وما يرون ما تقر به أعينهم إلا في البيت.
أحمد بن أبي الحواري قال: قال أبو سليمان: لو اجتمع الخلق جميعاً على أن يضعوني كاتضاعي عند نفسي ما قدروا على ذلك.
أحمد بن أبي الحواري قال: قال أبو سليمان الداراني: من صفي صفي له ومن كدر كدر عليه.
أخبرنا ابن ناصر قال: أنبأ علي بن خلف قال: أنبأ أبو عبد الرحمن السلمي قال: أنبأ عبد الله بن محمد الرازي قال أنبأ إسحاق بن إبراهيم بن أبي حسان الأنماطي. قال: سمعت أبا سليمان يقول: من أحسن في نهاره كوفئ في ليله، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن صدق في ترك الشهوة ذهب الله بها من قلبه، والله أكرم من أن يعذب قلباً بشهوة تركت له.
الجنيد قال: قال أبو سليمان الداراني: ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياماً فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان يقول: وقد دخلت عليه وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال لي: يا أحمد ولم لا أبكي، وإذا جن الليل ونامت العيون، وخلا كل حبيب بحبيبه، وافترش أهل المحبة أقدامهم، وجرت دموعهم على خدودهم، وقطرت في محاريبهم، أشرف الجليل سبحانه، فنادى جبريل عليه السلام بعيني من تلذذ بكلامي، فلم لا ينادي فيهم ما هذا البكاء؟ هل رأيتم حبيباً يعذب أحبابه؟ أم كيف يجمل بي أن أعذب قوماً إذا جنهم الليل تملقوني، فبي حلفت إذا وردوا علي القيام لأكشفن لهم عن وجهي الكريم حتى ينظروا إلي وأنظر إليهم.
أحمد بن أبي الحواري قال: قال لي أبو سليمان: ليس العبادة عندنا أن تصف قدميك وغيرك يفت لك، ولكن ابدأ برغيفيك فأحرزهما ثم تعبد، ولا خير في قلب يتوقع قرع الباب يتوقع إنساناً يجيئه يعطيه شيئاً.(2/384)
قال: وقلت لأبي سليمان: سهرت ليلة في ذكر النساء إلى الصباح. قال: فتغير وجهه وغضب علي وقال: ويحك أما استحييت منه؟ يراك ساهراً في ذكر النساء؟ ولكن كيف تستحيي ممن لا تعرف.
قال: وسمعت أبا سليمان يقول: إذا لذت لك القراءة فلا تركع ولا تسجد، وإذا لذ لك السجود فلا تركع ولا تقرأ، الزم الأمر الذي يفتح لك فيه.
وسمعت أبا سليمان يقول: من كان يومه مثل أمس فهو في نقصان وسمعت أبا سليمان يقول: ما أتي من إبليس وقارون وبلعم إلا أن أصل نياتهم غش فرجعوا إلى الغش الذي في قلوبهم، والله أكرم من أن يمن على عبد بصدق ثم يسلبه إياه.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: إذا ذكرت الخطيئة لم أحب الموت وقلت: أبقى لعلي أتوب.
أبو عمران، موسى بن عيسى الجصاص قال: قال أبو سليمان رد سبيل العجب بمعرفة النفس، وتخلص إلى إجمام القلب بقلة الخلطاء، وتعرض لرقة القلب بمجالسة أهل الخوف، واستجلب نور القلب بدوام الحزن، والتمس باب الحزن بدوام الفكرة، والتمس وجوه الفكرة في الخلوات، وتحرز من إبليس بمخالفة هواك، وتزين الله بالإخلاص والصدق في الأعمال، وتعرض للعفو بالحياء منه والمراقبة، واستجلب زيادة النعم بالشكر، واستدم النعم بخوف زوالها، ولا عمل كطلب السلامة، ولا سلامة كسلامة القلب، ولا عقل كمخالفة الهوى، ولا فقر كفقر القلب، ولا غنى كغنى النفس، ولا قوة كرد الغضب، ولا نور كنور اليقين، ولا يقين كاستصغار الدنيا، ولا معرفة كمعرفة النفس، ولا نعمة كالعافية من الذنوب، ولا عافية كمساعدة التوفيق، ولا زهد كقصر الأمل، ولا حرص كالمنافسة في الدرجات، ولا طاعة كأداء الفرائض، ولا تقوى كاجتناب المحارم، ولا عدم كعدم العقل، ولا فضيلة كالجهاد، ولا جهاد كمجاهدة النفس، ولا ذل كالطمع، ومن لم يحسن رعاية نفسه أسرع به هواه إلى الهلكة، ولا ينفع الهالك نجاة المعصوم، ومرارة التقوى اليوم حلاوة في ذلك اليوم، والهالك من هلك في آخر سفره وقد قارب المنزل، والخاسر من أبدى للناس صالح عمله وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان يقول: وسأله رجل فقال: يا أبا سليمان(2/385)
ما أقرب ما تقرب به إليه؟ ثم قال: مثلي يسأل عن هذا؟ أقرب ما تقرب به إليه أن يطلع من قلبك على أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو.
وسمعت أبا سليمان يقول: ربما أقمت في الآية الواحدة خمس ليال ولولا أني أدع الفكر فيها ما جزتها أبداً ولربما جاءت الآية من القرآن تطير العقل فسبحان الذي رده إليهم، قال أحمد: وقلت لأبي سليمان: إن فلاناً وفلاناً لا يقعان على قلبي. قال: ولا على قلبي، ولكن لعلنا أتينا من قلبي وقلبك فليس فينا خير وليس نحب الصالحين.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان يقول: إذا اعتقدت النفوس ترك الآثام جالت في الملكوت وعادت بطرائف الحكمة من غير أن يؤدي إليها عالم علماً. قلت سمع أبو سليمان الداراني الحديث الكثير ولقي سفيان الثوري وغيره، ولكنه اشتغل بالتعبد عن الرواية إلا أنني وجدت له ثلاثة أحاديث مسندة: الحديث الأول: أبو سليمان الداراني قال: سمعت علي بن الحسن بن أبي الربيع الزاهد يقول: سمعت إبراهيم ابن أدهم يذكر عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى قبل الظهر أربعاً غفر له ذنوب يومه ذلك" 1.
قال الخطيب: لا أحفظ لأبي سليمان حديثاً مسنداً غيره.
الحديث الثاني: أبو سليمان الداراني قال: أنبأ علي بن الحسن بن أبي الربيع قال حدثنا إبراهيم بن أدهم قال: سمعت محمد بن عجلان يذكر عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من تواضع لله عز وجل رفعه الله" 2.
الحديث الثالث: أبو سليمان الداراني قال: حدثني شيخ بساحل دمشق يقال له علقمة بن يزيد بن سويد الأزدي قال: حدثني أبي عن جدي سويد بن الحارث قال: وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة من قومي، فلما دخلنا عليه وكلمنا أعجبه ما رأى من سمتنا وزينا. فقال: "ما أنتم؟ " قلنا مؤمنون، فتبسم وقال: "إن لكل قول حقيقة فما حقيقة قولكم وإيمانكم؟ " قال سويد: قلنا خمس عشرة خصلة: خمس منها أمرتنا رسلك أن نؤمن بها، وخمس منها أمرتنا رسلك أن نعمل بها، وخمس منها تخلفنا بها في الجاهلية، فنحن عليها إلا أن تكره منها
__________
1 أخرجه ابن أبي شيبة 11/42 - 43 وانظر إتحاف السادة 9/327 وكنز العمال 36989.
2 ضعيف: أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 8/48 رقم 11339 والتبريزي في مشكاة المصابيح رقم 5119 ومجمع الزوائد 8/82 والخطيب في تاريخ بغداد 2/110.(2/386)
شيئاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما الخمس التي أمرتكم رسلي أن تؤمنوا بها؟ " قلنا: أمرتنا رسلك أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت. قال: "وما الخمس التي أمرتكم أن تعملوا بها؟ " قلنا: أمرتنا رسلك أن نقول: لا إله إلا الله ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ونصوم رمضان ونحج البيت من استطاع إليه سبيلا. قال: "وما الخمس التي تخلقتم بها أنتم في الجاهلية؟ " قلنا: الشكر عند الرجاء، والصبر عند البلاء، والصدق في مواطن اللقاء، والرضا بمر القضاء، والصبر عند شماتة الأعداء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "علماء حكماء كادوا من صدقهم أن يكونوا أنبياء". ثم قال صلى الله عليه وسلم: "وأنا أزيدكم خمساً فتتم لكم عشرون خصلة: إن كنتم كما تقولون فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا في شيء أنتم عنه تزولون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون وفيه تخلدون". قال أبو سليمان: وقال لي علقمة بن يزيد: فانصرف القوم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظوا وصيته وعملوا بها، ولا والله يا أبا سليمان ما بقي من أولئك النفر ولا من أولادهم أحد غيري. قال وما بقي إلا أيام قلائل ثم مات رحمه الله. توفي أبو سليمان الداراني سنة خمس ومائتين وقال أبو عبد الرحمن السلمي سنة خمس عشرة. والأول أصح.(2/387)
758 - عبد العزيز بن عمير
أصله من خراسان لكنه سكن دمشق.
أحمد بن محمد بن أبي موسى الأنطاكي قال: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت عبد العزيز بن عمير يقول: ترى نور الجلال عليهم وأثر الخدمة بين أعينهم. ثم قال عبد العزيز: إن الرجل لينقطع إلى بعض ملوك أهل الدنيا فيرى أثره عليه، فكيف بمن ينقطع إلى الله عز وجل كيف لا يرى أثره عليه.
قال أحمد بن وديع: سمعت عبد العزيز بن عمير يقول: الصيام سجن المؤمن عن الدنيا.
أبو خزيمة قال: سمعت عبد العزيز بن عمير يقول: النفس أمارة بالسوء، فإذا جاء العزم من الله عز وجل كانت هي التي تنازعك إلى الخير.(2/387)
759 - مروان بن محمد
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت مروان بن محمد يقول: إني أخبرك بشيء يا أحمد ما كلمت به أحداً قط قبلك: ما أنا لشيء أخوف مني من أن يختم لي بكفر.(2/387)
ومن الطبقة السابعة:
760 - مضاء بن عيسى
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت مضاء بن عيسى يقول: خف الله يلهمك، واعمل له لا يلجئك إلى دليل.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت مضاء بن عيسى يقول: إذا وصلوا إليه لم يرجعوا عنه، إنما رجع من رجع من الطريق.
قاسم الجوعي قال: سمعت مضاء بن عيسى يقول: من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه، ومن أحب شيئاً آثره على غيره.
أسند مضاء عن شعبة. وسمع من غيره رضي الله عنه.
__________
760 - هو: مضاء بن عيسى الشامي، كان من العاملين، اجتذبه الحب، واستلبه الخوف، انظر حلية الأولياء 9/338.(2/388)
761 - أبو كريمة العبدي
عيسى بن الهذيل قال: سمعت أبا كريمة، وكان من عباد أهل الشام، يقول: ابن آدم ليس لما بقي من عمرك ثمن.
__________
762 - هو: بشير الطبري، سكن الشام، كان محفوظا فيما امتحن مستسلما فيما ابتلي به، انظر حلية الأولياء 10/135.(2/388)
762 - بشير الطبري
سكن الشام أبو عمرو الكندي قال: أغارت الروم على جواميس لبشير الطبري نحواً من أربعمائة جاموس، فركبت معه أنا وابن له فلقينا عبيده الذين كانت معهم الجواميس معهم عصيهم فقالوا: يا مولانا ذهبت الجواميس فقال: وأنتم أيضاً اذهبوا معها فأنتم أحرار لوجه الله تعالى. فقال له ابنه: يا أبه أفقرتنا. قال: اسكت إن ربي اختبرني فأردت أن أزيده.
__________
762 - هو: بشير الطبري، سكن الشام، كان محفوظا فيما امتحن مستسلما فيما ابتلي به، انظر حلية الأولياء 10/135.(2/388)
ومن الطبقة الثامنة:
763 - القاسم بن عثمان الجوعي
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت القاسم الجوعي الكبير يقول: شبع الأولياء بالمحبة عن الجوع ففقدوا لذاذة الطعام والشهوات ولذات الدنيا لأنهم تلذذوا بلذة ليس فوقها لذة فقطعتهم عن كل لذة، وإنما سميت قاسماً الجوعي لأن الله تعالى قواني على الجوع، فلو تركت ما تركت ولم أوت بالطعام لم أبال رضت نفسي حتى لو تركت شهراً وما زاد لم تأكل ولم تشرب، لم تبال، أنا عنها راض أسوقها حيث شئت، اللهم أنت فعلت بي ذلك فأتمه علي.
أحمد بن عبد الله الحافظ قال: كان القاسم يقول: حب الرياسة أصل كل موبقة، وقليل العمل مع المعرفة خير من كثير العمل بلا معرفة، ورأس الأعمال الرضا عن الله عز وجل والورع عماد الدين، والجوع مخ العبادة، والحصن الحصين ضبط اللسان.
سعيد بن عبد العزيز الحلبي قال: سمعت قاسماً الجوعي يقول: أصل الدين الورع، وأفضل العبادة مكابدة الليل، وأفضل طرق الجنة سلامة الصدر.
عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي قال: دخلت دمشق على كتبة الحديث فمررت بحلقة قاسم الجوعي فرأيت نفراً جلوساً حوله وهو يتكلم عليهم، فهالني منظرهم، فتقدمت إليه فسمعته يقول: اغتنموا من زمانكم خمساً: إن حضرتم لم تعرفوا، وإن غبتم لم تفتقدوا، وإن شهدتم لن تشاوروا وإن قلتم شيئاً لم يقبل قولكم، وإن عملتم شيئاً لم تعطوا به. أوصيكم بخمس أيضاً، إن ظلمتم لم تظلموا، وإن مدحتم لم تفرحوا، وإن ندمتم لم تجزعوا، وإن كذبتم فلا تغضبوا، وإن خانوكم فلا تخونوا. قال: فجعلت هذا فائدتي في دمشق.
أسند قاسم عن سفيان بن عيينة وغيره.
__________
763 - هو: الجوعي، الإمام، القدوة الولي المحدث، أبو عبد الملك القاسم بن عثمان العبدي الدمشقي، شيخ الصوفية انظر: سير أعلام النبلاء 10/79.(2/389)
764 - أحمد بن أبي الحواري
يكنى أبا الحسن. واسم أبي الحواري: ميمون، سكن دمشق وكان له ابن يقال له عبد
__________
764 - هو: أحمد بن عبد الله بن ميمون بن العباس بن الحارث التغلبي –بفتح المثناة وسكون المعجمة وكسر اللام - يكنى أبا الحسن بن أبي الحواري - بفتح المهملة والواو الخفيفة وكسر الراء - ثقة زاهد، من العاشرة، مات سنة ست وأربعين.(2/389)
الله من الزهاد، وأخ يقال له محمد يشبهه في الورع والزهد. وأبوه أبو الحواري من أهل الورع أيضاً. فبيتهم بيت الورع والزهد.
وكان الجنيد يقول: أحمد بن أبي الحواري ريحانة الشام.
يحيى بن معين، وذكر أحمد بن أبي الحواري فقال: أظن أهل الشام يسقيهم الله الغيث به.
محمود بن خالد، وذكر أحمد بن أبي الحواري فقال: ما أظنه بقي على وجه الأرض مثله.
العباس بن حمزة قال: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: من أحب أن يعرف بشيء من الخير أو يذكر به فقد أشرك في عبادته، ومن عبد على المحبة لا يحب أن يرى خدمته سوى محبوبه. وقال: إني لأقرأ القرآن فأنظر في آية آية فيحار عقلي فيها فأعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم ويسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا وهم يتلون كلام الرحمن؟ أما لو فهموا ما يتلون وعرفوا حقه وتلذذوا به واستحلوا المناجاة به لذهب عنهم النوم فرحاً بما رزقوا.
العباس بن حمزة قال: قال أحمد بن أبي الحواري: كلما ارتفعت منزلة القلب كانت العقوبة إليه أسرع.
أسند أحمد بن أبي الحواري عن حفص بن غياث وأبي معاوية ووكيع ونظرائهم. وتوفي في سنة ثلاثين ومائتين.(2/390)
765 - محمد بن سمرة السائح
يوسف بن أسباط قال: كتب إلي محمد بن سمرة السائح بهذه الرسالة: أي أخي، إياك وتأمير التسويف على نفسك وإمكانه من قلبك فإنه محل الكلال وموئل التلف، وبه تقطع الآمال وفيه تنقطع الآجال، فإنك إن فعلت ذلك أدلته من عزمك فاجتمع وهواك عليك فغلبا واسترجعا من بدنك من السآمة ما قد ولي عنك، فعند مراجعته إياك لا تنتفع نفسك من بدنك بنافعة، وبادر يا أخي فإنك مبادر بك، وأسرع فإنك مسروع بك، وجد فإن الأمر جد، وتيقظ من رقدتك وانتبه من غفلتك، وتذكر ما أسلفت وقصرت، وأفرطت وجنيت وعملت فإنه(2/390)
مثبت محصي، وكأنك بالأمر قد بغتك فاغتبطت بما قدمت وندمت على ما فرطت، فعليك بالحياء والمراقبة والاعتزال وقلة الملاقاة. فإن السلامة في ذلك موجودة - وفقنا الله وإياك لأرشد الأمور ولا قوة بنا وبك إلا بالله وصلى الله على سيدنا محمد نبينا وعلى آله الطاهرين.(2/391)
766 - أبو عباد الشامي
إبراهيم بن منصور بن عمار قال: سمعت أبي يقول: قال لي رجل بالشام: يا أبا السري عندنا رجل من العباد من أهل واسط العراق لا يأكل إلا من كد يديه، وقد دبرت من سف الخوص صفحة يديه ولو رأيته لوقذك النظر إليه، فهل لك أن تمضي بنا إليه؟ قلت: نعم فأتيناه فدققنا عليه بابه فخرج إلى الباب فسمعته يقول: اللهم إني أعوذ بك ممن جاء ليشغلني عما أتلذذ به من مناجاتك، ثم فتح الباب فدخلنا فإذا رجل ترى به الآخرة، وإذا قبر محفور ووصيته قد كتبها في الحائط، وكساؤه قد أعده لكفنه. فقلت أي موقف لهذا الخلق؟ فقال: بين يدي من؟ قال: ثم صاح وخر لوجهه. ثم أفاق من غشيته فقال له صاحبي: يا أبا عباد هذا أبو السري منصور بن عمار، فقال لي: مرحباً يا أخي ما زلت إليك مشتاقاً. أعلمك أن بي داء قد أعيا المتطببين قبلك قديماً، فهل لك أن تتأتى له برفقك وتلصق عليه بعض مراهمك لعل الله أن ينفع بك؟.
قال: قلت: وكيف يعالج مثلي مثلك وجري أنغل من جرحك؟ قال: وإن كان كذلك فإني مشتاق إلى ذلك. قال: قلت: إن كنت تمسكت باحتفار قبرك في بيتك وبوصية رسمتها بعد وفاتك وبكفن أعددته ليوم موتك، فإن لله عز وجل عباداً اقتطعهم خوفه عن النظر إلى قبورهم. قال: فصاح صيحة ووقع في قبره، وجعل يفحص برجليه، وبال فعرفت ذهاب عقله. فخرجت إلى طحان على بابه فقلت ادخل فأعنا على هذا الشيخ، فاستخرجناه من قبره وهو في غشيته فقال لي الطحان: ويحك ما صنعت؟ فخرجت وتركته صريعاً، فلما كان الغد عدت إليه فإذا بسلخ في وجهه، وإذا بشريط قد شد به رأسه لصداع وجده. فلما رآني قال: يا أبا السري المعاودة رحمك الله، فقلت له: أين بلغت أيها المتعبد من أحزانك بالله؟ لكأني أنظر إلى آكل الفطير والصابر على خبز الشعير، يأكل ما اشتهى ويسعى عليه بلحم طير، ويسقى من الرحيق المختوم فشهق شهقة فحركته فإذا هو قد فارق الدنيا.(2/391)
767 - علي بن الفتح الحلبي
أبو زرعة الدمشقي قال: خرج علي بن الفتح الحلبي يوم النحر، فرأى الناس يتقربون إلى الله تعالى. فقال: يا رب أرى الناس يتقربون إليك بألوان الذبائح وإني تقربت إليك بحزني، ثم غشي عليه فأفاق، ثم قال: إلهي، إلى متى ترددني في دار الدنيا محزوناً؟ فاقبضني إليك. فوقع من ساعته ميتاً.(2/392)
768 - علي بن عبد الحميد الغضائري
محمد بن الحسن اليقطيني، ومحمد بن إبراهيم، يقولان: سمعنا علي بن عبد الحميد الغضائري يقول: دققت على السري بن مغلس بابه فسمعته يقول: اللهم من شغلني عنك فاشغله بك عني. فكان من بركة دعائه أني حججت من حلب ماشياً على قدمي أربعين عاماً. وكان يعد من الأبدال.
أسند الغضائري الحديث عن سوار بن عبد الله.
__________
768 - هو: الغضائري، الإمام الثقة العابد، أبو الحسن، علي بن عبد الحميد بن عبد الله بن سليمان الغضائري، محدث حلب ومسند الشام، توفي في شوال سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، انظر سير أعلام النبلاء 11/400.(2/392)
769 - جابر الرحبي
أبو جعفر الخصاف قال: حدثني جابر الرحبي قال: أكثر علي أهل الرحبة ينكرون علي ما يعطي الله عز وجل أولياءه، فخرجت إلى خارج فركبت السبع ودخلت إلى الرحبة وأنا أقول: أين الذين يكذبون أولياء الله عز وجل؟ فكفوا عني بعد ذلك.
وقال أبو جعفر الخصاف: قال لي جابر يوماً وأنا أماشيه مر بنا نتسابق، مر أنت هكذا حتى أمر أنا هكذا. قال: فمررت أنا على الجسر. فلما حصلت على الجسر التفت فإذا هو يمشي على الماء. فلما التقينا قلت: من لا يحسن مثل هذا؟ أمشي أنا على الجسر وتمشي أنت على الماء. قال: فقال: وقد رأيتني؟ قلت: نعم. قال: أنت رجل صالح.
__________
769 - هو: جابر الرحبي، له الأحوال الرفيعة، والألطاف البديعة، انر حلية الأولياء 10/174.(2/392)
770 - أبو عبيد البسري
وبسرى فوق دمشق، عن محمد، غلام أبي عبيد، قال: ودعت أبا عبيد حين أردت(2/392)
الحج. فقال لي: معك شيء؟ قلت: لا، ليس معي غير هذه الركوة. فقال: إذا أردت شيئاً أو جعت أو عطشت فصل ركعتين واجعلها على يمينك، فإذا سلمت رأيت كل ما تحب، قال: فجئت إلى بعض المنازل وليس فيه ماء، والناس يصيحون: العطش. فقلت في نفسي: قد قال أبو عبيد ما قال وهو صادق. فأخذت الركوة فرميت بها في مصنع وصليت ركعتين، فما سلمت إلا والرياح تذهب بها وتجيء على رأس الماء. فنزلت فأخذت الركوة ثم صحت بالناس فجاءوا واستقوا حتى رووا.
أبو بكر بن معمر قال: سمعت ابن أبي عبيد البسري يحدث عن أبيه أنه غزا سنة من السنين، فخرج في السرية. فمات المهر الذي كان تحته وهو في السرية فقال: يا رب أعرنا إياه حتى نرجع إلى بسرى يعني قريته. فإذا المهر قائم. قال: فلما غزا ورجع إلى بسرى، قال: يا بني خذ السرج عن المهر. قال: قلت يا أبه هو عرق. فقال لي: يا بني هو عارية فلما أخذت السرج وقع المهر ميتاً.
أبو زرعة قال: كان أبو عبيد البسري بعرفة وإلى جانبه ابنه. فقال له: يهنئك الفارس، فقال له: يا أبه وأي فارس؟ فقال له: ولد لك الساعة غلام، فلما صرنا إلى بسرى وجدت زوجتي قد ولدت غلاماً يوم عرفة.
عبد الله غلام لأبي عبيد قال: كنت معه يوماً قاعداً بدمشق أنا وجماعة من إخوانه، إذ مر رجل على دابة وخلفه غلام له يعدو، وقدامه بيده غاشية. فلما حاذى أبا عبيد قال: اللهم أعتقني وأرحني منه. ثم قال: ادع الله عز وجل لي. فقال أبو عبيد: اللهم أعتقه من النار ومن الرق. فعثرت الدابة بمولاه فسقط إلى الأرض. فالتفت إلى الغلام وقال له: أنت حر لوجه الله عز وجل. قال: فرمى بالغاشية إليه وقال: يا مولاي أنت لم تعتقني وإنما أعتقني هؤلاء. فصحب أصحابنا وتوفي بينهم.
ابن أبي حسان قال: قال لي أبو عبيد البسري يوماً: يا أبا حسان ما غمي ولا أسفي إلا أن يجعلني مما عفا عنه. فقلت: يا أخي، الخلق على العفو تذابحوا. فقال: أجل. ولكن أي شيء اقبح بشيخ مثلي يوقف غداً بين يدي الله عز وجل، فيقال له: شيخ سوء كنت، اذهب فقد عفوت عنك؟ إنما أنا أملي في الله عز وجل أن يهب لي كل من أحبني.(2/393)
771 - أبو بكر الهلالي
محمد بن علي الصوري قال: سمعت أبا القاسم الحسن بن عبد الله بن أحمد بن هاشم الشيخ الصالح قال: سمعت أبا بكر الهلالي يقول: من عني بمجاهدة الأسرار اشتغل عن الحكايات والأخبار.
وسمعته يقول، رموا بهممهم إلى أعلى الفضائل، وضيعوا الفرائض، فلا إلى هممهم وصلوا، ولا قاموا بقليل ما به وكلوا، ومن قام بقليل ما وكل به اؤتمن على الكثير، ومن لم يقم بقليل ما وكل به لم يؤتمن على قليل ولا كثير.
وسمعته يقول: وأشار إلى شجرة في منزله فقال: هذه الشجرة ما نظرت إليها نظرة فرجع طرفي إلا بعقوبة أو توبيخ في سري، يقال لي: تكون بين أيدينا وتنظر إلى سوانا؟.
وسمعته يقول: كنت أتمنى على الله أن يريني أبا العباسي الخضر عليه السلام. فلما كان بعد مدة إذا أنا بالباب يدق علي. فقلت: من هذا؟ فقال لي: أنا الذي تتمناني على الله عز وجل أنا لاخضر. فقلت له: الذي طلبناك له قد وجدناه. ارجع إلى حال سبيلك.(2/394)
ذكر المصطفين من عباد بيت المقدس
772 - إدريس بن أبي خولة الأنطاكي
عمر بن واصل، عن سهل بن عبد الله قال: مرض رجل من أولياء الله عز وجل مرضاً مشكلاً. فكان الناس إذا رأوه قالوا: به جنة فأكثر عليه القول فلما عظم كلام من تكلم في أمره قالوا له: نعالجك؟ فقال لهم: يا قوم اعلموا أن لي طبيباً إن سألته داوى كل عليل، لكني أنا لا أسأله أن يداويني، فقيل له: ولم ذاك وأنت تحتاج إلى الدواء؟ فقال: أخشى إن برأت من هذه العلة طغيت. فقيل له: فإن لنا مجنوناً فسل طبيبك هذا أن يداويه. فقال: نعم إيتوني به، فأتوه برجل في عنقه غل عظيم ويداه مشدودة إلى عنقه في قيد ثقيل، قد استمكنت منه العلة. فقال لهم: خلوني معه.
فعمد جهال القوم إلى يده فحلواها وأدخلوه معه في البيت الذي كان فيه، وأغلقوا عليه الباب وهم يظنون أن سيفضي إليه بمكروه، فلما كان بعد ساعة صاحوا به فأجابهم وخرج إليهم وكلمهم كلام عاقل وهو يبكي بكاء شديداً. فقالوا له: خبرنا بقصتك وما كان، فقال: دخلت على هذا الرجل وأنا على ما قد علمتم من علتي لا أعقل شيئاً كما رأيتموني، فقربني منه وأدناني وجعل يده على صدري والأخرى على رأسي، فأحسست بطعم البرء يدب في جسمي حتى زال ما بي. فقالوا له: ادخل معنا إليه فسله يدعو الله عز وجل لنا، فدخل مع القوم إليه فلم يجدوه في البيت وستره الله عز وجل عنهم، فمن عقل منهم عظمت ندامته وكثر أسفه. قال سهل: وهذا الرجل من بيت المقدس يقال له إدريس بن أبي خولة الأنطاكي.(2/395)
773 - عبد العزيز المقدسي
أبو بكر بن شاذان قال: سمعت عبد العزيز المقدسي يقول: وكان من الأبدال: لما بلغت الحلم أخذت على نفسي أن أروضها وأمنعها من الآثام واستوفقت الله تعالى فوفقني، واستعنت به فأعانني. ولقد حاسبت نفسي من يوم بلوغي إلى يومي هذا فإذا زلاتي لا تجاوز ستة وثلاثين زلة. ولقد استغفرت الله عز وجل لكل زلة مائة ألف مرة، وصليت لكل زلة ألف ركعة، ختمت في كل رجعة منها ختمة، وإني مع ذلك غير آمن سطوة ربي عز وجل أن يأخذني بها وأنا على خطر قبول التوبة.(2/395)
ذكر المصطفين من العباد المقدسيين المجهولين الأسماء
774 - عباد ثلاثة
بشر بن بشار المجاشعي، وكان من العابدين، قال: لقيت عباداً ثلاثة ببيت المقدس، فقلت لأحدهم: أوصني قال: ألق نفسك مع القدر حيث ألقاك، فهو أحرى أن يفرغ قلبك ويقل همك، وإياك أن تسخط ذلك فيحل بك السخط وأنت منه في غفلة لا تشعر به. وقلت للآخر: أوصني، قال: ما أنا بمستوص فأوصيك - قلت: على ذاك عسى الله عز وجل أن ينفع بوصيتك. قال: أما إذ أبيت إلا الوصية فاحفظ عني: التمس رضوانه في ترك مناهيه فهو أوصل لك إلى الزلفى لديه. قال: فقلت للآخرة: أوصني فبكى واستحر سفحاً للدموع ثم قال: أي أخي لا تبتغ من أمرك تدبيراً غير تدبيره فتهلك فيمن هلك، وتضل فيمن يضل.
775 - عباد سبعة
أحمد بن محمد الصوفي قال: قال لي أستاذي أبو عبد الله بن أبي شيبة: كنت ببيت المقدس وكنت أحب أن أبيت في المسجد وما كنت أترك. فلما كان في بعض الأيام بصرت في الرواق بحصر قائمة، فلما أن صليت العتمة وراء الإمام أتيت الحصر فاختبأت وراءها، وانصرف الناس والقوام، ثم خرجت إلى الصحن فلما سمعت غلق الأبواب وقعت عيني على المحراب فنظرت إليه وقد انشق ودخل منه رجل وثاني وثالث إلى أن تم سبعة واصطف القوم وزال عقلي، فلم أزل واقفاً في موضعي شاخصاً زائل العقل إلى أن انفجر الصبح فخرج القوم على الطريق الذي دخلوا.
776 - عابد آخر
كلاب بن جري قال: رأيت شاباً ببيت المقدس قد عمش من طول البكاء، فقلت له: يا فتى كم تكون العين سليمة على هذا البكاء؟ قال: فبكى ثم قال: كما شاء ربي فلتكن، وإذا شاء سيدي فلتذهب فليست أكرم علي من بدني، إنما أبكي رجاء السرور والفرح في الآخرة، وإن تكن الأخرى فهو والله شقاء الدهر وحزن الأبد والأمر الذي كنت أخافه وأحذره على نفسي، وإني احتسبت على الله عز وجل غفلتي عن نفسي وتقصيري عن حظي، ثم غشي عليه.(2/396)
777 - عابد آخر
عباد بن عباد، أبو عتبة الخواص، قال: رأيت شيخاً في مسجد بيت المقدس كأنه قد احترق بالنار، عليه مدرعة سوداء، وعمامة سوداء، طويل الصمت، كريه المنظر، كثير الشعر، شديد الكآبة. فقلت: رحمك الله لو غيرت لباسك هذا، فقد علمت ما في البياض. فبكى ثم قال: هذا أشبه بلباس أهل المصيبة، فإنما أنا وأنت في الدنيا في حداد، وكأني بي وبك قد دعينا. قال: فما تم كلامه حتى غشي عليه.
778 - عابد آخر
أبو مدرك عثمان بن وكيع العبدي قال: جاء رجل إلى بيت المقدس فمد كساءه في ناحية المسجد فكان فيه الليل والنهار، طعيمه خلف ذلك الكساء الذي قد مده. قال: فيبيت ليله أجمع يصلي فإذا طلع الفجر مد بصوت له: عند الصباح يغبط القوم السرى. قال: وكان يقال له: ألا ترفق بنفسك؟ فيقول: إنما هي نفسي أبادرها أن تخرج.
779 - عابد آخر
ذو النون قال: نظرت إلى رجل في بيت المقدس قد استفرغه الوله فقلت له: ما الذي أثار منك ما أرى؟ قال: ذهب الزهاد والعباد بصفو الإخلاص وبقيت في كدر الانتقاص، فهل من دليل مرشد أو من حكيم موقظ؟.
780 - عابد آخر
سمنون قال: كنت ببيت المقدس في برد شديد، وعلي جبة وكساء، وأنا أجد البرد والثلج يسقط، فرأيت شاباً عليه خرقتان في الصحن يمشي، فقلت: يا حبيبي لو استترت ببعض هذه الأروقة فيكنك من البرد. فقال لي: يا أخي سمنون:
ويحسن ظني أنني في فنائه ... وهل أحد في كنه يجد البردا(2/397)
ومن عقلاء المجانين ببيت المقدس:
781 - شاب
بلغنا عن أبي الجوال المغربي قال: كنت ببيت المقدس جالساً مع رجل صالح وإذا قد طلع علينا شاب والصبيان حوله يقذفونه بالحجارة ويقولون: مجنون فدخل المسجد وهو ينادي اللهم أرحني من هذه الدار. فقلت له: هذا كلام حكيم فمن أين لك هذه الحكمة؟ فقال: من أخلص له في الخدمة أورثه طرائف الحكمة وأيده بأسباب العصمة، وليس بي جنون وولق؛ بل قلق وفرق. ثم جعل يقول:
هجرت الورى في حب من جاد بالنعم ... وعفت الكرى شوقاً إليه فلم أنم
وموهت دهري بالجنون عن الورى ... لأكتم ما بي من هواه فما انكتم
فلما رأيت الشوق والحب بائحاً ... كشفت قناعي ثم قلت: نعم نعم
فإن قيل: مجنون فقد جنني الهوى ... وإن قيل: مسقام فما بي من سقم
وحق الهوى والحب والعهد بيننا ... وحرمة روح الأنس في حندس الظلم
لقد لامني الواشون فيك جهالة ... فقلت لطرفي أفصح العذر فاحتشم
فعاتبهم طرفي بغير تكلم ... وأخبرهم أن الهوى يورث السقم
فبالحلم يا ذا المن لا تبعدنني ... وقرب مزاري منك يا بارئ النسم
فقلت له: أحسنت لقد غلظ من سماك مجنوناً، فنظر إلي وبكى وقال: أولا تسألني عن القوم كيف وصلوا فاتصلوا؟ فقلت: بلى أخبرني؟ فقال: طهروا له الأخلاق، ورضوا منه بيسير الأرزاق، وهاموا من محبته في الآفاق، وائتزروا بالصدق، وارتدوا بالإشفاق، وباعوا العاجل الفاني بالآجل الباقي، وركضوا في ميدان السباق، وشمروا تشمير الجهابذة الحذاق، حتى اتصلوا بالواحد الرزاق، فشردهم في الشواهق وغيبهم عن الخلائق، لا تؤويهم دار ولا يقرهم قرار، فالنظر إليهم اعتبار، ومحبتهم افتخار، وهم صفوة الأبرار، ورهبان أخيار، مدحهم الجبار ووصفهم النبي المختار، إن حضروا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، وإن ماتوا لم يشهدوا. ثم أنشأ يقول:
كن من جميع الخلق مستوحشاً ... من الورى تسري إلى الحق
واصبر فبالصبر تنال المنى ... وارض بما يجري من الرزق
واحذر من النطق وآفاته ... فآفة المؤمن في النطق(2/398)
وجد في السير ممراً كما ... شمر أهل السبق للسبق
أولئك الصفوة ممن سما ... وخيرة الله من الخلق
قال: فأنسيت الدنيا عند حديثه، ثم ولى هارباً فأنا متأسف عليه.(2/399)
ذكر المصطفيات من عابدات بيت المقدس
782 - طافية
عن عطاء الخراساني قال: كانت امرأة عابدة يقال لها طافية تأتي بيت المقدس تتعبد فيه، وكان وهب بن منبه يقول: يا طافية ما أشد العمل عليك؟ فتقول: ما أجدني أجد شيئاً أشد علي من طول الفكر. قال: وكيف ذلك؟ قالت: إني إذا تفكرت في عظمة الله عز وجل وأمر الآخرة طاش عقلي وأظلم علي بصري، واسترخت لذلك مفاصلي. فقال لها وهب بن منبه: إذا أنت وجدت ذاك فافزعي إلى قراءة القرآن في المصحف.
783 - لبابة
محمد بن روح قال: قالت لبابة المتعبدة في بيت المقدس: إني لأستحي منه أن يراني مشتغلة بغيره.
محمد بن رواح قال: قالت لبابة المتعبدة: ما زلت مجتهدة في العبادة حتى صرت أستروح بها، وإذا تعبت من لقاء الخلق آنسني بذكره، وإذا أعياني الخلق روحني التفرغ لعبادة الله عز وجل والقيام إلى خدمته.
وقال لها رجل: هو ذا أريد الحج فماذا أدعو بالموسم؟ فقالت: سل الله تعالى شيئين: أن يرضى عنك ويبلغك منزل الراضين عنه، وأن يجعل ذكرك فيما بين أوليائه.(2/400)
ذكر المصطفيات من المجهولات الأسماء
784 - عابدة
عن أبي جعفر السائح قال: رأيت عجوزاً في بيت المقدس تقول: حججت ماشية اثنتي عشرة حجة ما ركبت فيها، أشتري كل سنة بأربعة دراهم سقطاً فيكون زادي في ذهابي ومنصرفي. قال: فقلت لها: في بيت المقدس مثلك من المتعبدات؟ قال فذكرت نسوة يفعلن مثل ما تفعل. قالت: فإذا رجعنا حملنا مغازلنا إلى المسجد فلا نخرج منه إلا لحدث أو لحاجة. قلت: وكم بقي اليوم من هذه الصفة؟ قالت: نحو من عشرة. قلت: فمن أعبدكن؟ قالت: امرأة من قريش ما نراها تكلم أحد إنما هي في الصلاة قائمة وراكعة وساجدة يأتيها أهلها بما يصلحها.
785 - عابدة أخرى
عن أبي سليمان الداراني قال: حدثني سعيد الإفريقي قال: كنت ببيت المقدس مع أصحاب لي فيالمسجد فإذا أنا بجارية عليها درع شعر وخمار من صوف، فإذا هي تقول: إلهي وسيدي ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله وأوحش خلوة من لم تكن أنيسه. فقلت: يا جارية ما قطع الخلق عن الله عز وجل؟ قالت: حب الدنيا إلا أن لله عز وجل عباداً أسقاهم م نحبه شربة فولهت قلوبهم فلم يحبوا مع الله عز وجل غيره. ثم قالت تنشد:
تزود قريناً من فعالك إنما ... قرين الفتى في القبر ما كان يعمل
ألا إنما الإنسان ضيف لأهله ... يقيم قليلاً عندهم ثم يرحل
786 - عابدة أخرى
عن أبي جعفر السائح قال: رأيت امرأة في بيت المقدس في متعبد لها عليها مدرعة من شعر وخمار من شعر، وسوار من حديد، وكان لها سلسلة تعلق بها نفسها بالليل. فقلت لها: منذ متى أخذت فيما أنت فيه؟ قالت: منذ ثمان سنين.
قال: ورأيت نسوة كثيرة عليهم مدارع صوف وخمر، معتكفات في المسجد لا يتكلمن بالنهار.(2/401)
787 - عابدة أخرى
عثمان الرجاني قال: خرجت من بيت المقدس أريد بعض القرى في حاجة فلقيتني عجوز عليها جبة صوف وخمار صوف. فسلمت عليها فردت علي السلام. ثم قالت: يا فتى من أين أقبلت؟ فقلت: من هذه القرية. قالت: وأين تريد؟ قلت: إلى بعض القرى في حاجة. قالت: كم بينك وبين أهلك ومنزلك؟ قلت: ثمانية عشر ميلاً. قالت: ثمانية عشر ميلاً في حاجة؟ إن هذه لحاجة مهمة، قلت: أجل. قالت: فما اسمك؟ قلت: عثمان. فقالت: يا عثمان ألا سألت صاحب القرية أن يوجه إليك بحاجتك ولا تتعنى؟ قال: ولم أعلم الذي أرادت، قلت: يا عجوز ليس بيني وبين صاحب القرية معرفة، قالت: يا عثمان وما الذي أوحش بينك وبين معرفته وقطع بينك وبين الاتصال به؟ فعرفت الذي أرادت فبكيت، فقالت: من أي شيء تبكي؟ من شيء كنت فعلته ونسيته أو من شيء أنسته وذكرته؟ قلت: لا بل من شيء كنت أنسيته وذكرته. قالت: يا عثمان أحمد الله عز وجل الذي لم يتركك في حيرتك، أتحب الله عز وجل؟ قلت: نعم. قالت: فاصدقني، قلت: إي والله إني لأحب الله عز وجل. قالت: فما الذي أفادك من طرائف حكمته إذ أوصلك إلى محبته؟ قالت: فبقيت لا أدري ما أقول؟ فقالت: يأبى الله عز وجل أن يدنس طرائف حكمته وخفي معرفته ومكنون محبته بممارسة قلوب البطالين. قلت: رحمك الله لو دعوت الله عز وجل أن يشغلني من محبته. فنفضت يديها في وجهي. فأعدت القول أقتضي الدعاء. فقالت: يا عبد الله امض لحاجتك، فقد علم المحبوب ما ناجاه الضمير من أجلك. ثم ولت وقالت: لولا خوف السلب لبحث بالعجب. ثم قالت أوه من شوق لا يبرأ إلا بك، ومن حنين لا يسكن إلا إليك، فأين لوجهي الحياء منك؟ وأين لعقلي الرجوع إليك؟.
قال عثمان: فوالله ما ذكرت إلا بكيت وغشي علي.(2/402)
ذكر المصطفين من أهل جبلة
مالك بن قيس الجبلي
...
ذكر المصطفين من أهل جبلة
788 - مالك بن القاسم الجبلي
عبد العزيز الأهوازي قال: قال لي سهل بن عبد الله: مخالطة الولي للناس ذل، وتفرده عز، قلما رأيت ولياً لله إلا منفرداً، إن عبد الله بن صالح كان رجلاً له سابقة جليلة وموهبة جزيلة وكان يفر من الناس من بلد إلى بلد حتى أتى مكة فطال مقامه فيها، فقلت له: لقد طال مقامك بها. فقال لي: لم لا أقيم بها ولم أر بلداً ينزل فيه من الرحمة والبركة أكثر من هذا البلد؟ فأحببت أن أكون فيه مقيماً والملائكة تغدو فيه وتروح وإني أرى فيه أعاجيب كبيرة وأرى الملائكة يطوفون به على صور شتى لا يقطعون ذلك. ولو قلت: كل ما رأيت لصغرت عنه عقول قوم ليسوا بمؤمنين. فقلت له: أسألك إلا خبرتني بشيء من ذلك؟ فقال: ما من ولي لله تعالى صحت ولايته إلا وهو يحضر في هذا البلد في كل ليلة جمعة لا يتأخر عنه، فمقامي ها هنا لأجل من أراه منهم، ولقد رأيت رجلاً يقال له: مالك بن القاسم، جبلي، وقد جاء ويده غمرة، فقلت له: إنك قريب العهد بالأكل؟ فقال لي: أستغفر الله فإنني منذ أسبوع لم آكل، ولكن أطعمت والدتي وأسرعت لألحق صلاة الفجر. وبينه وبين الموضع الذي جاء منه سبعمائة فرسخ، فهل أنت مؤمن بذلك؟ فقلت: نعم. فقال: الحمد لله الذي أراني مؤمناً موقناً.(2/403)
789 - إبراهيم الجبلي
عبد الواحد بن محمد بن أبان الفارسي قال: لقيت إبراهيم الجبي بمكة بعد رجوعه إلى وطنه وتزويجه بابنة عمه وكان قد قطع البادية حافياً. فحدثني أنه لما رجع إلى بلده وتزوج شغف بابنة عمه شغفاً شديداً حتى ما كان يفارقها لحظة. قال: فتفكرت ليلة في كثرة ميلي إليها وشغفي بها فقلت: ما يحسن بي أن أرد القيامة وفي قلبي هذه، فتطهرت وصليت ركعتين وقلت: سيدي رد قلبي إلى ما هو أولى. فلما كان من الغد أخذتها الحمى وتوفيت يوم الثالث ونويت الخروج حافياً من وقتي إلى مكة.(2/403)
ذكر المصطفين من أهل العواصم والثغور
790 - أبو عمرو الأوزاعي
واسمه عبد الرحمن بن عمرو، والأوزاع بطن من همدان. كذلك ذكره محمد بن سعد. وقال البخاري في تاريخه: الأوزاع: قرية بدمشق إذا خرجت من باب الفراديس.
ولد سنة ثمان وثمانين وسكن بيروت وبها مات.
يحيى بن عبد الملك بن أبي عتبة، قال: كتب الأوزاعي إلى أخ له: أما بعد، فإنه قد أحيط بك من كل جانب، واعلم أنه يسار بك في كل يوم وليلة فاحذر الله والمقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به والسلام.
عباس بن الوليد قال: أخبرني أبي قال: سمعت الأوزاعي يقول: ليس ساعة من ساعات الدنيا إلا وهي معروضة على العبد يوم القيامة يوماً فيوماً وساعة فساعة، ولا تمر به ساعة لم يذكر الله فيها إلا وتقطعت نفسه عليها حسرات، فكيف إذا مرت به ساعة مع ساعة ويوم إلى يوم؟.
عن ضمرة عن الأوزاعي قال: الناس عندنا أهل العلم.
عن الهقل بن زياد، عن الأوزاعي أنه وعظ فقال في موعظته: أيها الناس، تقووا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، فإنكم في دار الثواء فيها قليل وأنتم فيها مؤجلون خلائف من بعد القرون الذين استقبلوا من الدنيا أنفها وزهرتها فهم كانوا أطول منكم أعماراً وأمد أجساماً وأعظم آثاراً فخددوا الجبال وجابوا الصخور ونقبوا في البلاد مؤيدين ببطش شديد وأجسام كالعماد فما لبثت الأيام والليالي أن طوت مددهم وعفت آثارهم وأخوت منازلهم وأنست ذكرهم، فما تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزاً، كانوا بلهو الأمل آمنين لبيات قوم غافلين أو لصباح قوم نادمين، ثم إنكم قد علمتم الذي نزل بساحتهم بياتاً من عقوبة الله عز وجل فأصبح كثير منهم في ديارهم جاثمين وأصبح الباقون ينظرون في آثار نقمة وزوال نعمة ومساكن خاوية فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم وعبرة لمن يخشى، وأصبحتم من بعدهم من أجل منقوص وديناً مقبوضة في زمان قد ولى عفوه
__________
790 - هو: عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الأوزاعي، أبو عمرو، الفقيه، ثقة جليل، من السابعة، مات سنة سبع وخمسين.(2/404)
وذهب رخاؤه فلم تبق منه إلا حمة شر وصبابة كدر، وأهاويل عبر، وعقوبات غير وأرسال فتن، وتتابع زلازل ورذالة خلف بهم ظهر الفساد في البر والبحر، فلا تكونوا أشباهاً لمن خدعه الأمل وغر بطول الأجل وتبلغ بالأماني. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن وعي نذره وانتهى، وعقل سراه فمهد لنفسه.
عن موسى بن أعين قال: قال لي الأوزاعي: يا أبا سعيد كنا نمزح ونضحك فأما إذ صرنا يهتدي بنا ما أرى يسعنا التبسم.
بشر بن الوليد قال: رأيت الأوزاعي كأنه أعمى من الخشوع.
عبد الملك بن محمد قال: كان الأوزاعي لا يكلم أحداً بعد صلاة الفجر حتى يذكر الله فإن كلمه أحد أجابه.
أحمد بن أبي الحواري قال: بلغني أن نصرانياً أهدى إلى الأوزاعي جرة عسل وقال له: يا أبا عمرو، تكتب إلى والي بعلبك، فقال: إن شئت رددت الجرة وكتبت لك وإلا قبلت الجرة ولم نكتب لك. قال: فرد الجرة وكتب له فوضع عنه ثلاثين ديناراً.
عن أبي أيوب الزيادي، عن الأوزاعي. قال: العافية عشرة أجزاء، تسعة منها صمت، وجزء منها الهرب من الناس.
مروان بن محمد قال: قال الأوزاعي: من أطال قيام الليل هون عليه موقفه يوم القيامة.
قال أحمد: قال لي مروان: ما أحسب الأوزاعي أخذه إلا من هذه الآية: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} الإنسان: 26 إلى قوله: {يَوْماً ثَقِيلاً} الإنسان: 27.
أبو حفص عمرو بن أبي سلمة، عن الأوزاعي قال: من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير، ومن علم أن منطقه من عمله قل كلامه.
يوسف بن موسى القطان يحدث أن الأوزاعي قال: رأيت رب العزة في المنام، فقال لي: يا عبد الرحمن أنت الذي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قلت: بفضلك يا رب. فقلت: يا رب أمتني على الإسلام. فقال: وعلى السنة.
المعافي بن عمران، عن الأوزاعي قال: كان يقال يأتي على الناس زمان أقل شيء في ذلك الزمان أخ مؤنس أو درهم من حلال أو عمل في سنة.
مسلمة بن علي، عن الأوزاعي قال: كان السلف إذا صدع الفجر أو قبله بشيء كأنما على(2/405)
رؤوسهم الطير مقبلين على أنفسهم حتى لو أن حميماً لأحدهم غاب عنه حيناً ثم قدم ما التفت إليه، فلا يزالون كذلك حتى يكون قريباً من طلوع الشمس ثم يقوم بعضهم إلى بعض فيتحلقون، وأول ما يفيضون فيه أمر معادهم وما هم صائرون إليه ثم يتحلقون إلى الفقه والقرآن.
أسند الأوزاعي عن محمد بن علي بن الحسين، ويحيى بن أبي كثير، والزهري، ومحمد بن المنكدر وأبي الزبير وغيرهم. وتوفي ببيروت سنة سبع وخمسين ومائة في خلافة أبي جعفر وهو ابن سبعين سنة. كذلك قال محمد ابن سعد. وقال علي بن المديني وتوفي الأوزاعي سنة إحدى وخمسين ومائة.
عن يزيد بن مذكور قال: رأيت الأوزاعي في منامي فقلت: يا أبا عمرو دلني على أمر أتقرب به إلى الله تعالى. فقال لي: ما رأيت هناك درجة أرفع من درجة العلم. فقلت: ثم من بعدها؟ قال: درجة المحزونين.(2/406)
791 - أبو إسحاق الفزاري
واسمه إبراهيم بن محمد بن الحارث. كان صاحب سنة وعزو.
الفضيل بن عياض قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وإلى جنبه فرجة، فذهبت لأجلس فيها. فقال: هذا مجلس أبي إسحاق الفزاري. فقلت لأبي أسامة: أيهما كان أفضل؟ فقال: كان فضيل رجل نفسه وكان أبو إسحاق رجل عامة.
محمد بن هارون، أبو نشيط، قال: قال أبو صالح، يعني الفراء: لقيت الفضيل ابن أبي عياض فعزاني في أبي إسحاق وقال: لربما اشتقت إلى المصيصة ما بي فضل الرباط إلا أرى أبا إسحاق.
أبو صالح قال: سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول: إن من الناس من يحسن عليه الثناء، وما يساوي عند الله جناح بعوضة.
عباد الغنوي عن أبي إسحاق الفزاري قال: من قال: الحمد لله على كل حال فإن كانت نعمة كان لها كفاء وإن كانت مصيبة كان لها عزاء.
أبو يحيى قال: سمعت أبا عبيد يقول لما مات أبو إسحاق الفزاري بكى عطاء ثم قال: ما دخل على الإسلام من موت أحد ما دخل عليه من أبي إسحاق.
__________
791 - هو: إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حصين بن حذيفة الفزاري الإمام، أبو إسحاق، ثقة حافظ له تصانيف، من الثامنة، مات سنة خمس وثمانين، وقيل: بعدها.(2/406)
أسند الفزاري عن عبد الملك بن عمير، وإسماعيل بن أبي خالد، وعطاء بن السائب، والعمش، وهشام بن عروى في خلق كثير من التابعين، وحدث عن الفزاري سفيان الثوري والأوزاعي، وتوفي بالمصيصة سنة ثمان وثمانين ومائة، وقيل خمس وثمانين.(2/407)
792 - عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي
من همدان، يكنى أبا عمرو وهو من الكوفة تحول إلى الثغر فنزل الحديث.
عن جعفر بن يحيى بن خالد قال: ما رأينا في القراء أحداً مثل عيسى بن يونس، أرسلنا إليه فأتانا بالرقة فاعتل قبل أن يرجع. فقلت: يا أبا عمرو قد أمر لك بعشرة آلاف فقال: هي، فقلت: هي خمسون ألفاً. قال: لا حاجة لي فيها. فقلت: لم؟ أما والله لأهنئنكها هي والله مائة ألف. قال: لا والله لا يتحدث أهل العلم أني أكلت للسنة ثمناً، ألا كان هذا قبل أن ترسلوا إلي؟ فأما على الحديث فلا والله ولا شربة ماء ولا هليلجة.
أبو بكر المروزي قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل، وذكر ورع عيسى بن يونس، قال: قدم فأمر له بمائة ألف، أو قال: بمال، فلم يقبل، وتدري ابن كم كان عيسى؟ أراد أنه كان حدث السن.
محمد بن المنكدر قال: حج الرشيد فدخل الكوفة فركب الأمين والمأمون إلى عيسى بن يونس فحدثهما، فأمر له المأمون بعشرة آلاف درهم. فأبى أن يقبلها فظن أنه استقلها. فأمر له بعشرين ألفاً. فقال عيسى: لا والله ولا إهليلجة ولا شربة ماء على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو ملأت لي هذا المسجد ذهباً إلى السقف.
الحداني قال: قال ابن المبارك لرجل: اكتب نفس هذا الشيخ، يعني عيسى بن يونس.
رأى عيسى بن يونس جده أبا إسحاق إلا أنه لم يسمع منه شيئاً، وسمع من إسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عروة، والأعمش وخلق كثير، وتوفي بالحدث من أرض الثغر في شعبان سنة سبع وثمانين، وقيل ثمان وثمانين ومائة. وقيل: إحدى وتسعين.
__________
792 - هو: عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي -بفتح المهملة وكسر الموحدة - أخو إسرائيل، كوفي نزل الشام مرابطا، ثقة مأمون، من الثامنة، مات سنة سبع وثمانين، وقيل: سنة إحدى وتسعين.(2/407)
793 - يوسف بن أسباط
من قرية يقال لها شيح
عبد الله بن حبيق قال: قال لي يوسف بن أسباط: عجبت كيف تنام عين مع المخافة، أو
__________
793 - هو: يونس بن أسباط الزاهد، من سادات المشايخ، له مواعظ وحكم، انظر سير أعلام النبلاء 8/106.(2/407)
يغفل قلب مع اليقين بالمحاسبة؟ من عرف وجوب حق الله عز وجل على عباده لم تستحل عيناه أبداً إلا بإعطاء المجهود من نفسه، خلق الله تعالى القلوب مساكن الذكر فصارت مساكن للشهوات، الشهوات مفسدة للقلوب وتلف للأموال، وإخلاق للوجوه، ولا يمحو الشهوات من القلوب إلا خوف مزعج أو شوق مقلق.
شعيب بن حرب قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: الزهد في الرياسة أشد من الزهد في الدنيا.
موسى بن طريف قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: لي أربعون سنة ما حك في صدري شيء إلا تركته.
قال ابن حبيق: وقال ابن بشار: قال لي يوسف بن أسباط: تعلموا صحة العمل من سقمه فإني تعلمته في اثنتين وعشرين سنة.
قال ابن حبيق: وقال يوسف، خرجت من شيح راجلاً حتى أتيت المصيصة، وجرابي على عنقي، فقام ذا من حانوته يسلم علي، وذا يسلم، فطرحت جرابي ودخلت المسجد أصلي ركعتين فأحدقوا بي، واطلع رجل في وجهي، فقلت في نفسي: كم بقاء قلبي على هذا؟ فأخذت جرابي ورجعت بعرقي وعنائي إلى شيح فما رجع إلي قلبي إلى سنتين.
عبد الله بن حبيق قال: قال يوسف بن أسباط: إني أخاف أن يعذب الله الناس بذنوب العلماء. وقال: الأشياء ثلاثة، حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين ذلك، فالمؤمن إذا لم يجد الحلال تناول من الشبهات ما يقيمه.
قال ابن حبيق: وسمعت يوسف بن أسباط يقول: كان يقال: اعمل عمل رجل لا ينجيه إلا عمله، وتوكل توكل رجل لا يصيبه إلا ما كتب له.
وسمعت يوسف يقول: لي أربعون سنة ما ملكت قميصين.
وسمعته يقول: لا يقبل الله عز وجل عملاً فيه مثقال حبة من رئاء.
وكان يوسف يقول: اللهم عرفني نفسي، ولا تقطع رجاءك من قلبي.
قال ابن حبيق: وقال أبو جعفر الحذاء: كتبت إلى يوسف بن أسباط أشاوره في التحويل إلى الحجاز. فكتب إلي: أما ما ذكرت من تحويلك إلى الحجاز فليكن همك خبزك، وما أرى موضعك إلا أضبط للخبز من غيره، وما أحسب أحداً يفر من شر إلا وقع في أشر منه، وإنما يطيب الموضع بأهله، فقد ذهب من يؤنس به ويستراح إليه، وإذا علم الله منك الصدق رجوت أن لا يضيع لك، وإن كان الصدق قد رفع من الأرض.(2/408)
قال حذيفة المرعشي: كتب إلي يوسف بن أسباط: أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله، والعمل بما علمك الله عز وجل، والمراقبة حيث لا يراك أحداً إلا الله عز وجل، والاستعداد لما ليس لأحد فيه حيلة، ولا تنفع الندامة عند نزوله، فاحسر عن رأسك قناع الغافلين، وانتبه من رقدة الموتى، وشمر للسباق غداً فإن الدنيا ميدا المتسابقين، ولا تغتر بمن أظهر النسك، وتشاغل بالوصف، وترك العمل بالموصوف واعلم يا أخي أنه لا بد لي ولك من المقام بين يدي الله عز وجل، يسألنا فيه عن الدقيق الخفي وعن الجليل الجافي، ولست آمن أن يسألني وإياك عن وساوس الصدور، ولحظات العيون، وإصغاء الأسماع، وما عسى أن يعجز مثلي عن صفته، واعلم أنه مما وصف به منافقو هذه الأمة أنهم خالطوا أهل الدنيا بأبدانهم وطابقوهم عليها بأهوائهم، وخضعوا لما طمعوا من نائلهم، وداهن بعضهم بعضاً في القول والفعل، فأشر وبطر قولهم، ومر خبيث فعلهم، تركوا باطن العمل بالتصحيح فحرمهم الله تعالى بذلك الثمن الربيح، واعلم يا أخي أنه لا يجزي من العمل القول، ولا من البذل العدة، ولا من التقوى ولا من التوقي التلاوم، وقد صرنا في زمان هذه صفة أهله فمن كان كذلك فقد تعرض للمقت وصد عن سواء السبيل. وفقنا الله عز وجل وإياك لما يحب ويرضى.
عبد الله بن حبيق قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: يرزق الصادق ثلاث خصال: الحلاوة والملاحة والمهابة.
المسيب بن واضح قال: قدم ابن المبارك فاستأذن على يوسف فلم يأذن له، فقلت له: ما لك لم تأذن له؟ قال: إني إن أذنت له أردت أن أقوم بحقه ولا أفي به.
ابن حبيق قال: قال يوسف بن أسباط: إذا رأيت الرجل قد أشر وبطر فلا تغبطه فليس للعظة فيه موضع.
افقرقساني قال: أتى يوسف بن أسباط بباكورة ثمرة فقبلها ثم وضعها بين يديه وقال: إن الدنيا لم تخلق لينظر إليها وإنما خلقت لينظر بها إلى الآخرة.
أبو جعفر الحذاء قال: سألت شعيب بن حرب عن يوسف بن أسباط فقال: ما أقدم عليه أحداً من هذه الأمة. البر عشرة أجزاء تسعة منها في طلب الحلال وسائر البر في جزء واحد، وقد أخذ يوسف التسعة وشرك الناس في العاشر.
تميم بن سلم قال: قلت ليوسف بن أسباط: ما غاية الزهد؟ قال: لا تفرح بما أقبل، ولا تأسف على ما أدبر، قلت: فما غاية التواضع؟ قال: أن تخرج من بيتك فلا تلقى أحداً إلا رأيت أنه خير منك.(2/409)
عبد الله بن حبيق عن أبيه قال: قال لي يوسف بن أسباط: خرجت سحراً لأؤذن، فإذا علي ليل. فقعدت فإذا أسود مقبل وفي يده حجر يريد أن يضربني ووراءه شيء أبيض، بيده حجر يريد أن يصرفه عني فصرفه. فقلت: هذان شيطانان يريدان أن يرياني أني رجل صالح. فقلت: كلاكما شيطانان. فطارا.
أدرك يوسف بن أسباط حبيب بن حسان، ومحل بن خليفة، والسري بن إسماعيل، وعابد بن شريح والثوري في آخرين. وقالت زوجته: كان يقول: أشتهي من ربي ثلاث خصال. قلت: وما هن؟ قال: أشتهي أن أموت حين أموت وليس في ملكي درهم، ولا يكون علي دين، ولا على عظمي لحم. قالت: فأعطي ذلك كله. ولقد قال لي في مرضه: أبقي عندك نفقة؟ فقلت: لا. قال: فماذا ترين؟ قلت: أخرج هذه الخابية للبيع. فقال: يعلم الناس بحالنا ويقولون ما باعوها إلا وثم حاجة شديدة. فأخرج إلي شيئاً كان أهداه إليه بعض إخوانه فباعه بعشرة دراهم، وقال: اعزلي منها درهماً لحنوطي وأنفقي باقيها. فمات وما بقي غير الدرهم.
وتوفي يوسف بن أسباط قبل المائتين بسنة.(2/410)
794 - مخلد بن الحسين
يكنى أبا محمد. كان من أهل البصرة فتحول فنزل المصيصة.
عبدة بن عبد الله قال: قال مخلد بن الحسين: ما تكلمت بكلمة أريد أن أعتذر منها، منذ خمسين سنة.
محمد بن بشير الدعاء قال: ذكر عند مخلد بن الحسين أخلاق من أخلاق الصالحين فقال:
لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
سنيد بن داود قال: ثنا مخلد بن الحسين قال: ما ندب الله تعالى العباد إلى شيء إلا اعترض فيه إبليس بأمرين ما يبالي بأيهما ظفر: إما غلواً فيه وإما تقصيراً عنه.
أسند مخلد عن هشام بن حسان وتوفي بالمصيصة سنة إحدى وتسعين ومائة. والله أعلم.
__________
794 - هو: مخلد بن الحسين: بالضم، الأزدي المهلبي، أبو محمد البصري نزيل المصيصة، ثقة فاضل، من كبار التاسعة، مات سنة إحدى وتسعين.(2/410)
795 - علي بن بكار البصري
يكنى أبا الحسن، سكن المصيصة مرابطاً وكان فقيهاً، موسى بن طريف قال: كانت
__________
794 - هو: مخلد بن الحسين: بالضم، الأزدي المهلبي، أبو محمد البصري نزيل المصيصة، ثقة فاضل، من كبار التاسعة، مات سنة إحدى وتسعين.
795 - هو: علي بن بكار البصري، الزاهد، نزيل الثغر مرابطا، صدوق عابد، من التاسعة، مات قبل المائتين أو بعدها.(2/410)
الجارية تفرش لعلي بن بكار، فيلمسه بيده ويقول: والله إنك لطيب، والله إنك لبارد، والله لا علوتك الليلة، فكان يصلي الغداة بوضوء العتمة.
أبو الحسن بن أبي الورد قال: قال رجل: أتينا علي بن بكار فقلنا له: حذيفة المرعشي يقرأ عليك السلام، فقال: عليكم وعليه السلام، إني لأعرفه يأكل الحلال منذ ثلاثين سنة، ولأن ألقى الشيطان أحب إلي من أن ألقاه. قلت له في ذلك، فقال: أخاف أن أتصنع له فأتزين لغير الله فأسقط من عين الله عز وجل.
يوسف بن مسلم قال: بكى علي بن بكار حتى عمي، وكان قد أثرت الدموع في خديه.
فيض بن إسحاق قال: جئت إلى علي بن بكار وأنا أريد الخروج فقلت: أوصني فقال: اتق الله وألزم بيتك، وأمسك لسانك، واترك مخالطة الناس تنزل عليك الحكمة من فوقك.
يحيى زكريا قال: كنا عند علي بن بكار فمرت سحابة. فسألته عن شيء؟ فقال اسكت أما تخشى أن تكون فيها حجارة.
أبو عبد الله قال: خرج أبو إسحاق الفزاري وعلي بن بكار يحتطبان. فأبطأ علي بن بكار على أبي إسحاق فدار أبو إسحاق في الجبل خلفه فجاء فنظر إليه وهو متربع وفي حجره رأس سبع وهو نائم يذب عنه، فقال له أبو إسحاق: ما قعودك ههنا؟ فقال: لجأ إلي فرحمته فأنا أنتظره لينتبه فألحقك.
وقد بلغنا عن علي بن بكار أنه طعن في بعض مغازيه فخرجت أمعاؤه على قربوس سرجه فردها إلى بطنه وشدها بالعمامة وقاتل حتى قتل ثلاثة عشر علجاً.
أسند علي بن بكار عن هشام بن حسان وأبي إسحاق الفزاري، وأبي خلدة في آخرين، وصحب إبراهيم بن أدهم. وتوفي بالمصيصة سنة تسع وتسعين ومائة.(2/411)
796 - حذيفة بن قتادة المرعشي
عبد الله بن خبيق قال: قال حذيفة: إن لم تخش أن يعذبك الله على أفضل عملك فأنت هالك، وقال حذيفة: لو نزل علي ملك من السماء يخبرني أني لا أرى النار بعيني، وأني أصير إلى الجنة إلا أني أقف بين يدي ربي تعالى يسائلني ثم أصير إلى الجنة، لقلت: لا أريد الجنة ولا أقف ذلك الموقف، ولو جاءني رجل فقال لي: والله الذي لا إله إلا هو، ما عملك عمل
__________
796 - هو: حذيفة بن قتادة المرعشي، العابد المتواضع، الخاضع المتوادع، حذيفة بن قتادة، صحب سفيان الثوري وسمع منه، انظر حلية الأولياء 8/295.(2/411)
من يؤمن بيوم الحساب لقلت له: يا هذا لا تكفر عن يمينك فإنك لم تحنث، وسمعت حذيفة يقول: إني لأستغفر الله من كلامكم إذا خرجتم من عندي خمسين مرة.
قال ابن خبيق: وقال لي حذيفة: إنما هي أربعة، عيناك، ولسانك، وهواك، وقلبك، فانظر عينيك لا تنظر بهما إلى ما لا يحل لك، وانظر لسانك لا تقل به شيئاً يعلم الله خلافه من قلبك، وانظر قلبك لا يكن فيه غل ولا دغل على أحد من المسلمين، وانظر هواك لا تهوى شيئاً، فما لم تكن فيك هذه الأربع الخصال فالرماد على رأسك.
موسى بن المعلى قال: قال حذيفة: يا موسى، ثلاث خصال إن كن فيك لم ينزل من السماء خير إلا كان لك فيه نصيب: يكون عملك لله عز وجل وتحب للناس ما تحب لنفسك، وهذه الكسرة تحر فيها ما قدرت.
عن عبد الله بن عيسى الرقي قال: قال لي حذيفة: هل لك أن أجمع لك الخير كله في حرفين؟ قتل: ومن لي بذلك؟ قال: مداراة الخبز من حله وإخلاص العمل لله عز وجل حسبك.
يوسف بن أسباط قال: سمعت حذيفة بن قتادة المرعشي يقول: لو أصبت من يبغضني على حقيقة في الله لأوجبت على نفسي حبه.
يوسف بن أسباط قال: قال لي حذيفة المرعشي: ما أصيب أحد بمصيبة أعظم من قساوة قلبه.
قال يوسف: وقال حذيفة: كان يقال: إذا رأيتم الرجل قد جلس وحده فانظروا لأي شيء جلس؟ فإن كان جلس ليجلس إليه فلا تجلسوا إليه.
عن بشر بن الحارث قال: سمعت المعافي بن عمران يقول: كان عشرة ممن مضى من أهل العلم ينظرون في الحلال النظر الشديد لا يدخلون بطونهم إلا ما يعرفون من الحلال، وإلا استفوا التراب، منهم حذيفة المرعشي.
الفيض بن إسحاق قال: ذكر عند حذيفة المرعشي الوحدة وما يكره منها. فقال: إنما يكره ذلك للجاهل، فأما عالم يعرف ما يأتي فلا. وقال: ما أعلم من أعمال البر أفضل من لزومك بيتك، ولو كانت لك حيلة لهذه الفرائض لكان ينبغي لك أن تحتال لها.
عبد الله بن حبيق قال: قال حذيفة المرعشي إياكم وهدايا الفجار والسفهاء فإنكم إن قبلتموها ظنوا أنكم قد رضيتم فعلهم.(2/412)
بشر بن الحارث قال: كتب حذيفة إلى يوسف بن أسباط: يا أخي إني أخاف أن يكون بعض محاسننا أضر علينا في القيامة من مساوئنا.
قال: وكتب إليه أيضاً: لا حتى تكون في موضع إذا جئت إلى البقال فقلت أعطني مطهرتك قال: هات كساءك.
ابن أبي الدرداء قال: قلت لحذيفة: أوصني، قال: انظر خبزك من أين تأكل، ولا تجالس من يرخص لك ويعطيك، ثم قال: إن أطعت الله في السر أصلح قلبك، شئت أو أبيت.
نبهان بن المغلس قال: أخبرني حذيفة بن قتادة المرعشي قال: كنت في المركب فكسر بنا، فوقعت أنا وامرأة على لوح من ألواح المركب فمكثنا سبعة أيام. فقالت المرأة: أنا عطشى، فسألت الله تعالى أن يسقينا. فنزلت علينا من السماء سلسلة فيها كوز معلق فيه ماء. فشربت، رفعت رأسي إلى السلسلة فرأيت رجلاً جالساً في الهواء متربعاً فقلت: من أنت؟ قال: من الأنس. قلت: فما الذي بلغك هذه المنزلة؟ قال: آثرت مراد الله عز وجل على هواي فأجلسني كما تراني.
لا نحفظ لحذيفة مسنداً، وكان مشغولاً بالرعاية عن الرواية. وقد صحب الثوري. وتوفي سنة سبع ومائتين.(2/413)
797 - أبو معاوية الأسود
واسمه اليمان: نزل طرسوس.
أحمد بن وديع قال: قال أبو معاوية الأسود: إخواني كلهم خير مني. قيل له: وكيف ذلك يا أبا معاوية؟ قال: كلهم يرى الفضل لي على نفسه، ومن فضلني على نفسه فهو خير مني.
أحمد بن فضيل العتكي قال: غزا أبو معاوية الأسود. فحصر المسلمون حصناً فيه علج لا يرمي بحجر ولا نشاب إلا أصاب. فسكوا إلى أبي معاوية فقرأ {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} الأنفال: 17. ثم قال: استروني منه. فلما وقف قال: أين تريدون بإذن الله؟ قالوا: المذاكير قال: يا رب سمعت ما سألوني فأعطني ما سألوني. بسم الله، ثم رمى فمر السهم حتى إذا قرب من الحائط ارتفع حتى أخذ العلج مذاكيره
فوقع. فقال: شأنكم به.
__________
797 - هو: أبو معاوية الأسود، من كبار أولياء الله، صحب سفيان الثوري، وإبراهيم بن أدهم، وغيرهما، وكان يعد من الأبدال وقيل: إنه ذهب بصره، فكان إذا أراد التلاوة في المصحف أبصر بإذن الله، انظر سير أعلام النبلاء 8/43.(2/413)
جعفر بن محمد بن الحسين بن زيد بن مسلم الرامهرمزي قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبا معاوية الأسود يقول، وهو على سور طرسوس، من جوف الليل، يبكي ويقول: ألا من كانت الدنيا من أكبر همه طال في القيامة غداً همه. ومن خاف ما بين يديه ضاق في الدنيا ذرعه. ومن خاف الوعيد، لهي من الدنيا عما يريد، يا مسكين إن كنت تريد لنفسك الزيل، فأقلل نومك بالليل إلا القليل، أقبل من اللبيب الناصح، إذا أتاك بأمر واضح، لا تهتمن بأرزاق من تخلف، فلست أرزاقهم تكلف، وطن نفسك للمقال، إذا وقفت بين يدي رب العزة للسؤال، قدم صالح الأعمال، ودع عنك كثرة الأشغال، بادر ثم بادر، قبل نزول ما تحاذر، إذا بلغ روحك التراقي، وانقطع عنك من أحببت أن تلاقي، كأني بها وقد بلغت الحلقوم، وأنت في سكرات الموت مغموم، وقد انقطعت حاجتك إلى أهلك، وأنت تراهم حولك. وبقيت مرتهناً بعملك، الصبر ملاك الأمر، وفيه أعظم الأجر، فاجعل ذكر الله من جل شأنك، واملك فيما سوى ذلك لسانك. ثم بكى أبو معاوية بكاء شديداً. ثم قال: أوه من يوم يتغير فيه لوني، ويتلجلج فيه لساني، ويجف فيه ريقي، ويقل فيه زادي. فقيل له: يا أبا معاوية من قال هذا الكلام؟ فقال لحكيم.
أبو حمزة، نصير بن الفرج الأسلمي، وكان خادماً لأبي معاوية الأسود قال: كان أبو معاوية قد ذهب بصره، فكان إذا أراد أن يقرأ فتش المصحف وفتحه فيرد الله عليه بصره، وإذا أطبق المصحف ذهب بصره.
عن أبي الزاهرية قال: قدمت طرسوس، فدخلت على أبي معاوية الأسود وهو مكفوف البصر، وفي منزله مصحف معلق. فقلت: رحمك الله مصحف وأنت لا تبصر؟ قال: تكتم علي يا أخي حتى أموت؟ قال: قلت: نعم. قال: إني إذا أردت أن أقرأ القرآن فتح لي بصري.
عبد الرحمن بن عبد الله قال: استطال رجل على أبي معاوية الأسود فقال له رجل: مه. فقال أبو معاوية: دعه يشتفي. ثم قال: اللهم اغفر الذنب الذي سلطت علي به هذا.
أبو موسى المغازلي قال: كنت أسمع أبا معاوية الأسود إذا قام من الليل يستقي الماء، يقول: ما ضرهم ما أصابهم في الدنيا. جبر الله لهم كل مصيبة بالجنة.
يحيى بن المعين قال: رأيت معاوية السود وهو يلتقط الخرق من المزابل فيلفقها ويغسلها، فقيل له: يا أبا معاوية إنك تكسي. فقال: ما ضرهم ما أصابهم في الدنيا، جبر الله عز وجل لهم بالجنة كل مصيبة. قال أبو علي فرأيت يحيى يبكي.
لا نعرف لأبي معاوية مسنداً.(2/414)
798 - سليمان الخواص
مضاء بن عيسى قال: مر سليمان الخواص بإبراهيم بن أدهم، وهو عند قوم قد أضافوه وأكرموه فقال: نعم الشيء هذا يا إبراهيم إن لم تكن تكرمة على دين.
أحمد بن وديع قال: قال سليمان الخواص: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة. ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه.
يزيد بن سعيد قال: دخل سعيد بن عبد العزيز على سليمان الخواص فقال له: أراك في ظلمة، قال: ظلمة القبر أشد من هذا، قال: أراك وحدك، قال: إن للصاحب على الصاحب حقاً فخفت أن لا أقوم بحق صاحبي، قال: فأخرج سعيد صرة فيها شيء، فقال له: تنفق هذا وأنا أحلف لك بين يدي الله تعالى أنه حلال، قال: لا حاجة لي فيها. فقال له يرحمك الله ما ترى ما الناس فيه دعوى! قال: فصرخ سليمان صرخة ثم قال: ما لك يا سعيد فتنتني بالدنيا وتفتنني بالدين؟ ما لي والدعاء؟ من أنا؟ فخرج سعيد فأخبر بما كان الأوزاعي. فقال الأوزاعي: دعوا سليمان، لو كان سليمان من الصحابة كان مثلاً.
لا نعلم لسليمان مسنداً، كان مشغولاً بالعبادة.
__________
798 - هو: سليمان الخواص، من العابدين الكبار بالشام، وهو الفطن الخواص، انظر سير أعلام النبلاء 7/466 وحلية الأولياء 8/305.(2/415)
799 - سلم بن ميمون الخواص
من أهل طبرية. وبها مات.
إسماعيل بن أبي سلمة قال: رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، وكأن منادياً ينادي: ألا ليقم السابقون. فقام سفيان الثوري ثم نادى الثانية: ألا ليقم السابقون فقام سلم الخواص. ثم نادى الثالثة: ألا ليقم السابقون. فقام إبراهيم بن أدهم.
أحمد بن ثعلبة قال: سمعت سلماً الخواص يقول: كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة. فقلت لنفسي: اقرئيه كأنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فجاءت حلاوة قليلة، ثم قلت لنفسي: اقرئيه كأنك سمعته من جبريل يخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فازددت الحلاوة. قال: ثم قلت لها اقرئيه كأنك سمعته منه حين يتكلم به. فجاءت الحلاوة كلها.
__________
799 - هو: سلم بن ميمون الخواص: هو أصغر من سليمان الخواص، قال ابن حبان: كان من كبار عباد أهل الشام، غلب عليه الصلاح حتى غفل عن حفظ الحديث وإتقانه، فلا يحتج به، انظر سير أعلام النبلاء 7/466.(2/415)
قاسم الجوعي قال: جئت سلماً الخواص فقدم إلي نصف بطيخة ونصف رغيف وقال لي: كل يا قاسم، نزلت على أخ لي فقدم لي نصف خيارة ونصف رغيف وقال لي: كل يا سلم فإن الحلال لا يحتمل السرف، ومن درى من أين يكسب دري كيف ينفق.
أسند سلم عن مالك بن أنس وابن عيينة وأقرانهما.(2/416)
800 - أبو عبيدة الخواص واسمه عباد بن عباد
وقد اشتهر بأبي عبيدة وإنما هو أبو عتبة، كذلك ذكره البخاري وغيره.
أبو موسى الصوري قال: كتب بن عباد الخواص إلى إخوانه يعظهم: إنكم في زمان قد رق فيه الورع وقل فيه الخشوع، وحمل العلم مفسدوه فأحبوا أن يعرفوا بحمله، وكرهوا أن يعرفوا بإضاعة العمل به، فنطقوا فيه بالهوى ليزينوا ما دخلوا فيه من الخطر، فذنوبهم ذنوب لا يستغفر منها، وتقصيرهم تقصير لا يعترف به. أحبوا الدنيا وكرهوا منزلة أهلها فشاركوهم في العيش وزايلوهم بالقول.
أبو عبيد العسقلاني قال: رأيت أبا عبيدة الساحلي لم يضحك أربعين سنة. فقيل له: لم لا تضحك؟ فقال: كيف أضحك أنا وفي أيدي المشركين من المسلمين أحد.
عبد الأعلى بن سليمان قال: رأيت أبا عبيدة الخواص على سرته خرقة، وعلى رقبته خرقة وهو يمشي في طريق البصرة. وهو يقول واشوقاه إلى من يراني ولا أراه.
أحمد بن الحواري قال: دخل عباد الخواص على إبراهيم بن صالح وهو أمير فلسطين، فقال له: يا شيخ عظني؟ فقال: بم أعظك أصلحك الله؟ بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الموتى، فانظر ما يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عملك. فبكى حتى سالت الدموع من لحيته.
عن بشر بن الحارث قال: رأيت على جبال عرفة رجلاً قد ولع به الوله وهو يقول:
سبحان من سجدنا بالعيون له ... على شبا الشوك والمحمى من الإبر
لم نبلغ العشر من معشار نعمته ... ولا العشير ولا عشراً من العشر
هو الرفيع فلا الأبصار تدركه ... سبحانه من مليك نافذ القدر
سبحان من هو أنسي إذ خلوت به ... في جوف ليلي، وفي الظلماء والسحر
أنت الحبيب وأنت الحب يا أملي ... من لي سواك ومن أرجوه يا ذخري
__________
800 - هو: عباد بن عباد الرملي، الأرسوفي -بمهملة وفاء - أبو عتبة الخواص، صدوق يهم، أفحش ابن حبان فقال: سيتحق الترك، من التاسعة.(2/416)
ثم أنشد أيضاً:
كم قد زللت فلم أذكرك في زللي ... وأنت يا سيدي في الغيب تذكرني
كم اكشف الستر جلاً عند معصيتي ... وأنت تلطف بي حقاً وتسترني
لأبكين بدمع العين من أسف ... لأبكين بكاء الوله الحزن
قال: ثم غاص من خلال الناس فلم أره فسألت عنه فقيل: هذا أبو عبيدة الخواص منذ سبعين سنة لم يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله عز وجل.
عقبة بن فضالة قال: سمعت أبا عبيدة الخواص بعد ما كبروا هو آخذ بلحيته يبكي ويقول: قد كبرت فأعتقني.
أسند عباد عن الأوزاعي، وأبي بكر بن أبي مريم، وغيرهما.(2/417)
801 - أبو يوسف الغسولي
جنيد قال: سمعت سرياً يذكر أن أبا يوسف الغسولي كان يلزم الثغر ويغزو، وكان إذا غزا مع الناس ودخلوا بلاد الروم أكل أصحابه من ذبائح الروم ومن فواكههم، وكان أبو يوسف لا يأكل فيقال له: يا أبا يوسف تشك أنه حلال؟ فيقول هو حلال. فيقال له: فكل من الحلال. فيقول: إنما الزهد في الحلال.
حرمي بن يونس قال: سمعت أبا يوسف الغسولي يقول: أنا أتفقه في مطعمي من ستين سنة.
قال المروزي: وسمعت بعض المشيخة يقول: سمعت أبا يوسف الغسولي يقول: إنه ليكفيني في السنة اثنا عشر درهماً، في كل شهر درهم، وما يحملني على العمل إلا ألسنة هؤلاء القراء. يقولون: أبو يوسف من أين يأكل؟
قال المروزي: وسمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: أبو يوسف الغسولي قد خلف ابن إدريس. يعني في الورع.(2/417)
802 - أحمد بن عاصم الأنطاكي
يكنى أبا علي. ويقال أبا عبد الله. من متقدمي مشائخ الثغور وكان يقال له جاسوس القلوب.
__________
802 - هو: أحمد بن عاصم الأنطاكي، أبو عبد الله، صاحب مواعظ وسلوك، انظر حلية الأولياء 9/293.(2/417)
أحمد بن أبي الحواري قال: أنا أحمد بن عاصم الأنطاكي قال: إذا صارت المعاملة إلى القلب استراحت الجوارح.
قال: وسمعته يقول: هاه غنيمة باردة أصلح فبما بقي يغفر لك ما قد مضى.
وسمعته يقول: ما أغبط أحداً إلا من عرف مولاه واشتهى أن لا أموت حتى أعرفه معرفة العارفين الذي يستحبونه لا معرفة التصديق.
أحمد بن عبد الله قال: سمعت أبي يقول: سمعت خالي عثمان بن محمد بن يوسف يقول: سمعت أبي يقول: قال أحمد بن عاصم: أنفع اليقين ما عظم في عينيك ما به أيقنت وأنفع الخوف ما حجزك عن المعاصي، وأطال منك الحزن على ما فات، وألزمك الفكر في بقية عمرك وخاتمة أمرك، وأنفع الصدق أن تقر لله عز وجل بعيوب نفسك، وأنفع الحياء أن تستحيي أن تسأله ما تحب وتأتي ما يكره، وأنفع الصبر ما قواك على خلاف هواك وأفضل الجهاد مجاهدتك نفسك لتردها إلى قبول الحق، وأوجب الأعداء منك مجاهدة أقربهم منك دنوا وأخفاهم عنك شخصاً وأعظم لك عداوة وهو إبليس. قلت: فما ترى في الأنس بالناس؟ قال: إن وجدت عاقلاً مأموناً فأنس به واهرب من سائرهم كهربك من السباع. قلت: فما أفضل ما أتقرب به إلى الله عز وجل؟ قال: ترك معاصيه الباطنة - قلت: فما بال الباطنة أولى من الظاهرة؟ قال: لأنك إذا اجتنبت الباطنة بطلت الظاهرة والباطنة، قلت: فما أضر الطاعات لي؟ قال: ما نسيت بها مساوئك، وجعلتها نصب عينيك إدلالاً بها وأمناً.
قال: وسمعته يقول: استكثر من الله عز وجل لنفسك قليل الرزق تخلصاً إلى الشكر، واستقلل من نفسك لله عز وجل كثير الطاعة إزراء على النفس وتعرضاً للعفو، واستجلب شدة التيقظ بشدة لاخوف؛ وادفع عظيم الحرص بإيثار القناعة، واقطع أسباب الطمع بصحة اليأس؛ وسد سبيل العجب بمعرفة النفس، وطلب راحة البدن بإجمام القلب، وتخلص إلى إجمام القلب بقلة الخلطاء، وتعرض لرقة القلب بدوام مجالسة أهل الذكر، وبادر بانتهاز البغية عند إمكان الفرصة، وأحذرك سوف.
قلت: لأحمد بن عاصم كلام كثير انتخبنا منه ما ذكرنا ولا نعلم له مسنداً.(2/418)
803 - أبو عبد الله النباجي
واسمه سعيد بن يزيد.
قال محمد بن أبي الورد: قال أبو عبد الله النباجي من خطرت الدنيا بباله لغير القيام بأمر الله حجب عن الله.
وقال ابن أبي الورد: صلى أبو عبد الله النباجي يوماً بأهل طرسوس فصيح النفير، فلم يخفف الصلاة، فلما فرغوا قالوا: أنت جاسوس. قال: ولم؟ قالوا: صيح بالنفير وأنت في الصلاة فلم تخفف. قال: ما حسبت أن أحداً يكون في الصلاة فيقع في سمعه غير ما يخاطبه الله عز وجل.
الحسين بن عبد الرحمن، عن أبي عبد الله النباجي قال: قال لي قائل في منامي: أو يحسن بالحر المريد أن يتذلل للعبيد، وهو واجد عند مولاه كل ما يريد؟
أحمد بن أبي الحواري عن أبي عبد الله النباجي قال: إن في خلق الله عز وجل خلقاً يستحيون من الصبر لو يعلمون أقداره تلقفوها تلقفاً.
أحمد بن محمد بن بكر القرشي قال: سمعت أبا عبد الله النباجي يقول: اطلبوا النظر في الرضا عن الله عز وجل وتساءلوا عنه بينكم إنكم إن ظفرتم منه بشيء علوتم به الأعمال كلها، قال: وسمعته يقول: لا تستكثروا الجنة للمؤمن، فإنه قد وافى بأعظم قدر عنده من الجنة: معرفة الله والإيمان به.
وسمعته يقول: الذي جعل الله عز وجل المعرفة عنده يتنعم مع الله عز وجل في كل أحواله.
أبو عبيد الله الإمام قال: سمعت أبا عبد الله النباجي يقول: إذاكان عندك ما أعطى الله عز وجل نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً صلى الله عليه وسلم لا تراه شيئاً وإنما تريد ما أعطى الله نمرود وفرعون وهامان فمتى تفلح؟.
لا نعرف للنباجي مسنداً، وإنما كان مشغولاً بالزهد والتعبد، وقد حكى عن الثوري والفضيل وغيرهما.
__________
803 - هو: العجاج الناجي، أبو عبد الله الساجي سعيد بن يزيد، كان يعج من نفسه إلى ربه عجيجا، ويشتاق إليه شاكيا أنينا وضجيجا، انظر حلية الأولياء 9/223.(2/419)
804 - عبد الله بن خبيق بن سابق
أبو محمد. أصله من الكوفة. ثم سكن أنطاكية واستفاد من يوسف بن أسباط.
محمد بن المسيب الأرغياني قال: أنا عبد الله بن خبيق قال: أنت لا تطيع من يحسن إليك فكيف تحسن إلى من يسيء إليك.
عمر بن عبد الله الهجري قال: سمعت عبد الله بن خبيق يقول: لا تغتم إلا من شيء يضرك غداً، ولا تفرح بشيء لا يسرك غداً، وأنفع الخوف ما حجزك عن المعاصي وأطال منك الحزن على ما فاتك، وألزمك الفكرة في بقية عمرك.
أسند ابن خبيق عن يوسف بن أسباط وغيره.
__________
804 - هو: عبد الله بن خبيق بن سابق، الصادق الواثق المشمر اللاحق، تخرج على يوسف بن أسباط فأعرض عن الشبهات وأماط، سكن من الثغور أنطاكية، انظر حلية الأولياء 10/176.(2/420)
805 - أبو الحارث الأولاسي
واسمه فيض بن الخضر كان شاباً يغني في أول أمره وقال: بينا أنا في غفلتي رأيت عليلاً مطروحاً على قارعة الطريق، فدنوت منه فقلت: هل تشتهي شيئاً؟ قال: نعم رماناً. فجئته برمان فلما وضعته بين يديه رفع بصره وقال: تاب الله عليك. فما أمسيت حتى تغير قلبي عما كنت عليه، وخرجت إلى الحج وأنا أسير بالليل إذا بقوم يشربون، فما رأوني ذهلوا فأجلسوني وعرضوا علي الطعام والشراب. فقلت: أحتاج إلى البول فذهبت فوقعت في غابة فإذا سبع. فقلت: اللهم إنك تعلم ما تركت ومماذا خرجت وفيما ذا خرجت فاصرف عني شر هذا السبع، فولى السبع ودخلت مكة فلقيت بها من انتفعت به، منهم إبراهيم بن سعد العلوي.
الحسن بن خلف قال: قال لي أبو الحارث الأولاسي فيض بن الخضر: رأيت إبليس له جمة شعر فأقبلت أتملقه واقول: ويحك ما أنا في هذا الخلق؟ خلني وربي. فقال: هيهات هيهات، كيف أخليك وفيك وفي أبيك هلكت، لا أو تهلكوا معي. قال: فأخذت برأسه فجعلته على حجر وأخذت بحلقه أخنقه ثم قلت: كيف أقدر على قتله وقد أخره الله عز وجل إلى يوم القيامة؟ ولكن أرفق به فجعلت أتملقه وهو يأبى. فقلت له: دلني على ما ينفعني؟ فقال: أدلك على السكر والحملان والجوذابات والدنانير والدراهم أن تكثر منها. فقلت له: يا ملعون أنا أسألك أن تدلني على شيء ينفعني في أمر آخرتي، تدلني على الدنيا وما أصنع أنا بهذا(2/420)
وما حاجتي إليه؟ فقال: من ههنا صار رأسي وحلقي في يدك تقلبه كيف شئت وتلعب به. قلت: أفدتني علماً، لا جرم إني لأرجو أن لا أنال منها شيئاً إلا ما لا غنى بي عنه فقال: إن تركتك فاصعد العقبة وسأستعين عليك بولد جنسك الذين زينت في أعينهم ما قبح في عينك فأجابوني إليه فبهم أستعين عليك فيأتوك من مأمنك.
توفي أبو الحارث بطرسوس سنة سبع وتسعين ومائتين.(2/421)
806 - أبو الخير التيناتي
أصله من المغرب وسكن تينات، وهي قرية من قرى أنطاكية. ويقال له الأقطع، لأنه كان مقطوع اليد. وكان سبب ذلك أنه كان في جبال أنطاكية وحواليها يطلب المباح وينام بين الجبال وأنه عاهد الله تعالى أن لا يأكل من ثمر الجبال إلا ما طرحته الريح. فبقي أياماً لم تطرح إليه الريح شيئاً. فرأى يوماً شجرة كمثرى فاشتهى منها فلم يفعل. فأمالتها الريح إليه فأخذ واحدة. واتفق أن لصوصاً قطعوا هنالك الطريق وجلسوا يقتسمون. فوقع عليهم السلطان فأخذهم وأخذ معهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وقطعت يده، فلما هموا بقطع رجله عرفه رجل فقال للأمير: أهلكت نفسك، هذا أبو الخير. فبكى الأمير وسأله أن يجعله في حل. ففعل وقال: أنا أعرف ذنبي.
منصور بن عبد الله قال: قال أبو الخير: الدعوى رعونة لا يحتمل القلب إمساكها، فليلقها إلى اللسان فتنطق بها ألسنة الحمقى. قال: وسمعته يقول: دخلت مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنا بفاقة فأقمت خمسة أيام ما ذقت ذوماأ فتقدمت إلى القبر فسلمت على النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وقلت أنا ضيفك الليلة يا رسول الله وتنحيت فنمت خلق المنبر فرأيت في النوم النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر عن يمينه، وعمر عن شماله، وعلي ابن أبي طالب بين يديه. فحركني علي وقال لي: قم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمت إليه وقبلت بين عينيه، فدفع إلي رغيفاً فأكلت نصفه وانتبهت وإذا في يدي نصف رغيف.
إبراهيم بن محمد المراغي قال: سمعت أبا الخير التيناتي يقول: بقيت بمكة سنة فأصابني ضر وفاقة، فكلما أردت أن أخرج إلى المسألة هتف بي هاتف يقول: الوجه الذي يسجد لي تبذله لغيري؟.
__________
806 - هو: أبو الخير الأقطع التيناتي، له الآيات، توفي بعد الأربعين، كان الهوام والسباع يأنسون بمجالسته ويأوون إليه، كان ينسج الخوص إحدى يديه، انظر حلية الأولياء 10/407.(2/421)
أخبرنا المحمدان بن عبد الملك وابن ناصر قال أنبأ أحمد بن الحسن بن خيرون قال: قرأت على أبي الحسين علي بن محمود الصوفي أخبركم علي بن المثنى، وأخبرنا أبو بكر العامري قال: أنبأ علي بن أبي صادق قال: أنا ابن باكويه قال: أخبرني إبراهيم بن أحمد المراغي قالا: سمعنا أبا الخير التيناتي الأقطع يقول: ما بلغ أحد إلى حالة شريفة إلا بملازمة الموافقة ومعانقة الأدب وأداء الفرائض وصحبة الصالحين وخدمة الفقراء الصادقين.
محمد بن الفضل قال: خرجت من أنطاكية ودخلت تينات ودخلت على أبي الخير الأقطع على غفلة منه بغير إذن فإذا هو ينسج زنبيلاً بيديه، تعجبت، فنظر إلي وقال: يا عدو نفسه، ما الذي حملك على هذا؟ فقلت: هيجان الوجد لما بي من الشوق إليك. فضحك ثم قال لي: اقعد لا تعد إلى شيء من هذا بعد اليوم. ثم قال: استر علي في حياتي، ففعلت.
قال ابن باكويه، وسمعت إبراهيم بن محمد السباك برها يقول: كنا نطلع على أبي الخير التيناتي من الخوخة وهو يسف الخوص بيديه فإذا خرج رأيناه أقطع.
أبو الحسن البغراسي قال: قال لي أبو الخير التيناتي: إياك وكثرة السفر فإنه يقسي القلب ويذهب بالدين.
أبو بكر المصري قال: سمعت بعض أصحابنا فقيراً يعرف بالأنصاري يقول: دخلت على أبي الخير فناولني تفاحتين فجعلتهما في جيبي وقلت: لا أتناولهما وأتبرك بهما لموضع الشيخ عندي فكانت تجري علي فاقات لا أتناولهما فأجهدتني الفاقة فأخرجت واحدة أكلتها وأدخلت يدي لأخرج الثانية إذا التفاحتان مكانهما، فما زلت آكل منهما حتى دخلت الموصل فجزت على خراب وإذا بعليل ينادي من الخراب: يا ناس أشتهي تفاحة، ولم يكن وقت التفاح، فأخرجت التفاحتين فناولتهما إياه فأكل وخرجت روحه من وقته. فعلمت أن الشيخ أعطاني من أجل ذلك العليل.
صحب أبو الخير التيناتي أبا عبد الله بن الجلاء وغيره من المشايخ. ولا نعلمه أسند شيئاً من الحديث. وتوفي بعد الأربعين وثلاث مائة.(2/422)
ذكر المصطفين من عباد الثغور المجهولي الأسماء
807 - عابد طوسوسي
أبو سليمان المغربي قال: كنت أحمل الحطب من الجبل وأتقوت منه، وكان طريقي فيه التوقي والتحري، قال: فرأيت جماعة من البصريين في النوم، منهم الحسن ومالك بن دينار وفرقد السبخي، فسألتهم عن علم حالي فقلت: أنتم أئمة المسلمين دلوني على الحلال الذي ليس لله فيه تبعة ولا للخلق فيه منه، فأخذوا بيدي فأخرجوني من طرسوس إلى مرج فيه خبازي فقالوا لي: هذا الحلال الذي ليس لله عز وجل فيه تبعة ولا للمخلوق فيه منه. قال: فمكثت آكل منه نصف سنة، ثلاثة أشهر في دار السبيل، وكنت آكله نياً ومطبوخاً فصار لي حديث، فقلت: هذه فتنة. فخرجت من دار السبيل فكنت آكله ثلاثة أشهر أخر. فأوجدني الله عز وجل قلباً طيباً حتى قلت: إن كان أهل الجنة بهذا القلب الذي لي فهم والله في شيء طيب، وما كنت آنس بكلام الناس، فخرجت يوماً من باب قلمية إلى صهريج يعرف بالمدنف فجلست عنده فإذا أنا بفتى قد أقبل من ناحية لامش يريد طرسوس وقد بقي معي قطيعات من ثمن الحطب الذي كنت أجيء به من الجبل فقلت: أنا قد قنعت بهذا الخبازي، أعطي هذه القطع هذا الفقير إذا دخل طرسوس اشترى بها شيئاً وأكله، فلما دنا مني أدخلت يدي إلى جيبي حتى أخرج الخرقة فإذا أنا بالفقير قد حرك شفتيه وإذا كل ما حولي من الأرض ذهب يتقد حتى كاد يخطف بصري، ولبسني منه هيبة فجاز ولم أسلم عليه من هيبته. قال الشيخ أبو بكر: وزادني أبو الفرج بن أبان في هذه الحكاية قال: فقلت له: فرأيته بعد ذلك؟ فقال: نعم، خرجت يوماً خارج طرسوس إذا بالفتى جالس تحت برج من الأبرجة وبين يديه ركوة فيها ماء فسلمت عليه ثم استدعيت منه موعظة فمد رجله فقلب الماء، ثم قال لي: كثرة الكلام تنشف الحسنات كما أنشفت الأرض هذا الماء. قم يكفيك.
808 - عابد آخر
علي بن الحسن بن موسى قال: قال رجل: لأمتحنن أهل البلاء. قال: فدخلت على رجل بطرسوس وقد أكلت الآكلة أطرافه. فقلت له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت والله وكل عرق(2/423)
وكل عضو يألم على حدته من الوجع، وإن ذلك لبعين الله أحبه إلي أحبه إلى الله، وما قدر ما أخذ ربي مني؟ وددت أن ربي قطع مني الأعضاء التي اكتسبت بها الإثم، وأنه لم يبق مني إلا لساني يكون له ذاكراً. قال: فقال له رجل: متى بدأت بك هذه العلة؟ فقال: الخلق كلهم عبيد الله وعياله، فإذا نزلت بالعباد علة فالشكوى إلى الله ليس يشتكى إلى العباد.
809 - عابد مصيصي
علي بن الحسن قال: كان رجل بالمصيصة ذاهب نصفه الأسفل لم يبق منه إلا روحه في بعض جسده، ضرير على سرير مثقوب فدخل عليه داخل فقال له: كيف أصبحت يا أبا محمد؟ قال: ملك الدنيا، منقطع إلى الله عز وجل ما لي إليه من حاجة إلا أن يتوفاني على الإسلام.
810 - عابد من أهل بيروت
أبو عبد الرحمن الأزدي قال: كنت أدور على حائط بيروت فمررت برجل متدلي الرجلين في البحر وهو يكبر. فاتكأت على الشرافة التي إلى جنبه فقلت: يا شاب مالك جالساً وحدك؟ قال: اتق الله ولا تقل لي إلا حقاً، ما كنت قط وحدي منذ ولدتني أمي، إن معي ربي حيث ما كنت، ومعي ملكان يحفظان علي، وشيطان ما يفارقني فإذا عرضت لي حاجة إلى ربي عز وجل سألته إياها ولم أسأله بلساني، فجاءني بها.
ومن المصطفيات من عابدات الثغور:
811 - زينب الطبرية
هارون بن الحسن قال: سمعت سلماً الخواص يقول: كانت عندنا جارية يقال لها زينب، وكانت تحسن خدمة مولاها، فذهبت أسلم عليها فقالت: يا أبا محمد كنت منذ ليال قائمة أخدم مولاي فغلبتني عيني فسمعت قائلاً يقول:
صلاتك نور والعباد رقود ... قومي فصلى للغفور الودود
قال: وخرجت يوماً في حاجة فعثرت فانقطع إصبع من أصابعها قال: فاجتمعنا رجالاً ونساء نعزيها في إصبعها، فقالت: يا إخوتي وأخواتي أنساني لذة ثوابها وجعها فوهب الله لي ولكم الرضا والعفو عما مضى، قوموا حتى نخدم من الطريق عليه غداً.(2/424)
ذكر المصطفين من عباد أهل الشام المجهولي الأسماء
812 - عابد يقال له الديلمي
محمد بن المبارك الصوري قال: سمعت الوليد بن مسلم يقول: غزا المسلمون غزوة فيهم الديلمي، فأسرته الروم وصلبوه على الدقل، لما رآه المسلمون مصلوباً حملوا على الروم حملة فأخذوا المركب الذي فيه الشيخ فأنزلوه عن الدقل. فقال لهم: أعطوني ماء أصب علي. فقالوا: لم تصب عليك؟ فقال: إني جنب، لأنهم لما صلبوني أخذتني نعسة فرأيت نفسي كأني على نهر فيه وصائف فمددت يدي إلى واحدة منهن فافترعتها فأصابتني جنابة.
813 - عابد آخر
عن معروف الكرخي قال: رأيت رجلاً في البادية شاباً حسن الوجه، له ذؤابتان حسنتان، وعلى رأسه رداء قصب وعليه قميص كتان، وفي رجله نعل طاق. قال معروف: فتعجبت منه في مثل ذلك المكان ومن زيه فقلت: السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال: وعليك السلام ورحمة الله يا عم، فقلت: الفتى من أين؟ فقال: من مدينة دمشق. قلت: ومتى خرجت منها؟ قال: ضحوة النهار. قال معروف: فتعجبت وكان بينه وبين الموضع الذي رأيته فيه مراحل كثيرة فقلت له: وأين المقصد؟ فقال: مكة، فعلمت أنه محمول فودعته ومضى ولم أره. حتى مضت ثلاث سنين. فلما كان ذات يوم وأنا جالس في منزلي أتفكر في أمره وما كان منه إذا بإنسان يدق الباب فخرجت إليه فإذا أنا بصاحبي فسلمت عليه وقلت: مرحباً وأهلاً. وأدخلته المنزل فرأيته منقطعاً والهاً تالفاً عليه زرمانقة حافياً حاسراً فقلت: هيه أي هيه أي شيء الخبر؟ فقال: يا أستاذ لاطفني حتى أدخلني الشبكة ورماني، فمرة يلاطفني ومرة يهددني، ويجيعني مرة ويكرمني أخرى، فليته وقفني على بعض أسرار أوليائه ثم ليفعل بي ما شاء. قال معروف: فأبكاني كلامه فقلت له: فحدثني ببعض ما جرى عليك منذ فارقتني. فقال: هيهات أن أبديه وهو يريد أن نخفيه، ولكن بدياً ما فعل، في طريقي إليك، مولاي وسيدي، ثم استفرغه البكاء فقلت: وما فعل بك؟ قال: جوعني ثلاثين يوماً ثم جئت إلى قرية فيها مقثأة قد نبذ منها المدود وطرح، فقعدت آكل منه فبصر بي صاحب المقثأة فأقبل إلي بضرب ظهري وبطني، ويقول: يا لص ما خرب مقثأتي غيرك، منذ كم أنا أرصدك حتى وقعت عليك؟ فبينا(2/425)
هو يضربني إذ أقبل فارس نحوه مسرعاً إليه وقلب السوط في رأسه وقال: تعمد إلى ولي من أولياء الله عز وجل فتقول له: يا لص؟ فأخذ صاحب المقثأة بيدي فذهب بي إلى منزله فما أبقى من الكرامة شيئاً إلا عمله واستحلني وجعل مقثأته لله عز وجل ولأصحاب معروف فقلت له: صف لي معروفاً، فوصف لي فعرفتك بما قد كنت شاهدته من صفتك. قال معروف؛ فما استتم كلامه حتى دق صاحب المقثأة الباب ودخل إلي وكان موسراً فأخرج جميع ماله وأنفقه على الفقراء وصحب الشاب سنة وخرجا إلى الحج فماتا بالربذة.
814 - عابد آخر
داود بن رشيد قال: حدثني الصبيح والمليح، شابان كانا يتعبدان بالشام، سميا الصبيح والمليح لحسن عبادتهما، قالا: جعنا أياماً، فقلت لصاحبي، أو قال لي: أخرج بنا إلى الصحراء، لعلنا نرى رجلاً نعلمه بعض دينه، لعل الله عز وجل أن ينفعنا به. فلما أصحرنا استقبلنا أسود على رأسه حزمة حطب. فدنونا منه فقلنا له: يا هذا - من ربك؟ فرمى الحزمة عن رأسه وجلس عليها وقال: لا تقولا لي من ربك؟ ولكن قولا لي: أين محل الإيمان من قلبك فنظرت إلى صاحبي ونظر إلي صاحبي، ثم قال: سلا، سلا، فإن المريد لا تنقطع مسائله، فلما رآنا لا نحير جواباً قال: اللهم إن كنت تعلم أن لك عباداً كلما سألوك أعطيتهم فحول حزمتي هذه ذهباً، فرأيناها قضبان ذهب تلتمع، ثم قال: اللهم إن كنت تعلم لك عباداً الإخمال أحب إليهم من الشهرة فردها حطباً. فرجعت والله حطباً. ثم حملها على رأسه ومضى فلم نجترئ أن نتبعه.
815 - عابد آخر
عن عبد السلام بن حرب قال: ذكر الحسن بن حي رجلاً من أهل الشام فذكر عبادته، قال له خلف بن حوشب: فكيف كانت رقته؟ قال: ذهبت رقته، أما رأيت الثكلى تكمد؟
816 - عابد آخر
بكر العابد قال: كان عابد من أهل الشام قد حمل على نفسه في العبادة. فقالت له أمه: يا بني عملت ما لم يعمل الناس أما تريد أن تهجع؟ فأقبل يردد عليها ويقول: ليتك كنت لي عقيماً، إن لبنيك في القبر حبساً طويلاً.
817 - عابد آخر
أبو بكر الكتاني وجماعة من المشايخ. قالوا: كان لأبي جعفر الدينوري أخ يكون بالشام،(2/426)
وكان لا يقيم في قرية ولا بمدينة أكثر من ليلة أو يوم ثم يخرج، فدخل إلى قرية فاعتل فيها سبعة أيام لم يأكل ولم يشرب ولم يكلمه أحد، فمات فأصبح القوم في اليوم الثامن فوجدوه ميتاً فغسلوه وحنطوه وكفنوه وصلوا عليه، وحملوه ليدفنوه، فجاء الناس من كل قرية إليهم وقالوا: سمعنا صائحاً يصيح: من أراد أن يحضر جنازة ولي من أولياء الله عز وجل فليحضر قرية كذا وكذا. قال: فصلوا عليه ودفنوه. فلما كان من الغد وجدوا الكفن والحنوط مصروراً في محرابهم ومعه كتاب فيه مكتوب: لا حاجة لنا في كفنكم هذا، يقيم بين أظهركم ولي من أولياء الله عز وجل سبعة أيام، لا عدتموه ولا عللتموه ولا أطعمتموه ولا سقيتموه ولا كلمتموه؟ قال الكتاني: فجعل أهل تلك القرية فيها بيتاً للضيافة.(2/427)
من عقلاء مجانين الشام:
818 - عابد
عبد الواحد بن زيد قال: خرجت إلى الشام في طلب العباد فجعلت أجد الرجل بعد الرجل شديد الاجتهاد حتى قال لي رجل: قد كان ها هنا رجل من النحو الذي تريد، ولكنا فقدنا من عقله، فلا ندري، يريد أن يحتجب من الناس بذلك أم هو شيء أصابه؟ قلت: وما أنكرتم منه؟ قال: إذا كلمه أحد قال: الوليد وعاتكة، لا يزيده عليه. قال: قلت فكيف لي به؟ قال: هذه مدرجته. فانتظرته فإذا برجل واله، كريه الوجه، كريه المنظر، وافر الشعر، متغير اللون وإذا الصبيان حوله وخلفه وهو ساكت يمشي، وهم خلفه سكوت يمشون وعليه أطمار دنسة. قال: فتقدمت إليه فسلمت عليه، فالتفت إلي فرد علي السلام. فقلت: يرحمك الله إني أريد أن أكلمك. فقال: الوليد وعاتكة. قلت: قد أخبرت بقصتك.
فقال الوليد وعاتكة، ثم مضى حتى دخل المسجد ورجع الصبيان الذين كانوا يتبعونه فاعتزل إلى سارية فركع فأطال الركوع ثم سجد، فدنوت منه فقلت: رحمك الله، رجل غريب يريد أن يكلمك ويسألك عن شيء، فإن شئت فأطل وإن شئت فأقصر، فلست ببارح حتى تكلمني. قال وهو في سجوده، يدعو ويتضرع، ففهمت عنه، وهو يقول: سترك سترك، قال: فأطال السجود حتى سئمت فدنوت منه فلم أسمع له نفساً ولا حركة. قال: فحركته فإذا هو ميت كأنه قد مات من دهر طويل.
قال فخرجت إلى صاحبي الذي دلني عليه فقلت: تعال فانظر إلى الذي زعمت أنك أنكرت من عقله. وقصصت عليه قصته. قال فهيأناه ودفناه.(2/427)
ذكر المصطفيات من عابدات الشام
819 - أم الدرداء
واعلم أن أم الدرداء اثنتان: فالكبرى تسمى خيرة بنت أبي حدرد، زوجة أبي الدرداء، لها صحبة ورواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال إنها ماتت قبل أبي الدرداء. وأم الدرداء الصغرى: اسمها هجيمة بنت حيي الوصابية، قبيلة من حمير، وهي زوجة أبي الدرداء أيضاً. ويقال فيها جهيمة وهي التي خطبها معاوية بعد موت أبي الدرداء فأبت أن تتزوجه.
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: الكبرى لها صحبة، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أحاديث، والصغرى لا صحبة لها، روت عن أبي الدرداء وكلتاهما زوجة أبي الدرداء.
وقال أبو القاسم الطبري: يروي عن الصغرى: إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، وزيد بن أسلم، وطلحة ابن عبد الله بن كريز، وصفوان بن عبد الله بن صفوان، وعثمان بن حيان الدمشقي، وسالم بن أبي الجعد، ويونس بن ميسرة بن حلبس.
قلت: وكان لأبي الدرداء بنت تسمى الدرداء، وليست من هذه ولا من هذه، بل من امرأة أخرى على ما ذكر محمد بن سعد. وقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث صفوان بن عبد الرحمن قال: قدمت الشام فأتيت أبا الدرداء في منزله فلم أجده ووجدت أم الدرداء فقالت: أتريد الحج العام: فقلت: نعم. قالت: فادع لنا بخير فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل". قال: فخرجت إلى السوق فلقيت أبا الدرداء فقال لي مثل ذلك يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه مسلم في كتاب الدعاء. وأخرج متصلاً به ليدل على أن الحديث من روايتها عن أبي الدرداء، من حديث طلحة بن عبد الله ابن كريز، قال: حدثتني أم الدرداء قالت: حدثني سيدي، يعني أبا الدرداء، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من دعا لأخيه بظهر الغيب قال الملك الموكل به: ولك بمثل". قال أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي: قال أبو بكر البرقاني: وهذه أم الدرداء الصغرى التي روت هذا الحديث وليس لها صحبة ولا سماع من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من مسند أبي الدرداء. فأما أم الدرداء الكبرى فلها صحبة وليس لها في الكتابين حديث والله أعلم.
__________
819 - هي: أم الدرداء زوج أبي الدرداء، اسمها هجيمة، وقيل: جهيمة، الأوصابية، الدمشقية، وهي الصغرى، وأما الكبرى فاسمها خيرة، والصغرى ثقة فقيهة من الثالثة، ماتت سنة إحدى وثمانين.(2/428)
قلت: فإذ قد كشفنا عن هاتين الكنيتين على ما يوجبه النظر في النقل فالأخبار التي نوردها عن الصغرى لا عن الكبرى والله أعلم.
عبد الله بن أحمد قال: حدثتني خديجة أم محمد، وكانت تجيء إلى أبي تسمع منه ويحدثها، قالت: حدثنا إسحاق الأزرق قال: حدثنا المسعودي عن عون بن عبد الله قال: كنا نجلس إلى أم الدرداء فنذكر الله عندها فقالوا: لعلنا قد أمللناك قال: تزعمون أنكم قد أمللتموني؟ فقد طلبت العبادة في كل شيء فما وجدت شيئاً أشفى لصدري ولا أحرى أن أصيب به الذي أريد من مجالس الذكر.
عن عون بن عبد الله قال كنا نأتي أم الدرداء فنذكر الله عندها. قال: فاتكأت ذات يوم. فقيل لها: لعلنا أن نكون قد أمللناك يا أم الدرداء، فجلست فقالت: رعمتم أنكم قد أمللتموني؟ فقد طلبت العبادة بكل شيء فما وجدت أشفى لصدري ولا أحرى أن أدرك منه ما أريد من مجالسة أهل الذكر.
عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: قلت لأم الدرداء ادعي لنا قالت: أو بلغت أنا ذلك؟.
عن ميمون بن مهران قال: ما دخلت على أم الدرداء في ساعة صلاة إلا وجدتها مصلية.
يونس بن ميسرة بن حلبس قال: كنا نحضر أم الدرداء وتحضرها نساء متعبدات يقمن الليل كله حتى إن أقدامهن قد انتفخت من طول القيام.
شيخ من بني تميم قال: حدثني هزان قال: قالت لي أم الدرداء: يا هزان هل تدري ما يقول الميت على سريره؟ فقلت: لا. قالت: فإنه يقول يا أهلاه ويا جيراناه وياحملة سريراه، لا تغرنكم الدنيا كما غرتني، ولا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي فإن أهلي لا يحملون عني من وزري شيئاً، ولو حاجوني عند الجبار لحجوني. ثم قالت أم الدرداء الدنيا أسحر لقلوب العابدين من هاروت وماروت، وما آثرها عبد قط إلا أضرعت خده.
عن أبي عمران الأنصاري قال: كنت أقود دابة أم الدرداء فيما بين بيت المقدس ودمشق فقالت لي: يا سليمان أسمع الجبال وما وعدها الله عز وجل فأرفع صوتي بهذه الآية: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ....} الكهف: 47.
سعيد بن عبد العزيز قال: أشرفت أم الدرداء على وادي جهنم ومعها إسماعيل بن عبيد الله فقالت: يا إسماعيل اقرأ فقرأ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا(2/429)
لا تُرْجَعُونَ} المؤمنون فخرت أم الدرداء على وجهها وخر إسماعيل على وجهه فما رفعا رؤوسهما حتى ابتل ما تحت وجوههما من دموعهما.
عن خالد بن ذكوان قال: أخبرتني أمي أن ابنة لأبي الدرداء توفيت فصلت عليها أم الدرداء ثم رجعت فدعت بالمجمر فوضعته تحت ثيابها ثم ناولتنيه.
وقال يحيى بن معين: ماتت الدرداء قبل أم الدرداء، فلام دفنتها قالت: اذهبي إلى ربك وأذهب إلى ربي. فدخلت المسجد.
عن ميمون بن مهران قال: خطب معاوية أم الدرداء فأبت أن تزوجه وقالت سمعت أبا الدرداء يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المرأة في آخر أزواجها" أو قال: "لآخر أزواجها" أو كما قال ولست أريد بأبي الدرداء بدلاً.
عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء قالت: إنما الوجل في قلب ابن آدم كاحتراق السعفة، أما تجد لها قشعريرة؟ قال: بلى. قالت: فادع الله إذا وجدت ذلك، فإن الدعاء يستجاب عند ذلك.(2/430)
820 - عثامة
عن محمد بن سليمان أن عثامة كف بصرها. وكانت متعبدة.
قال الجروي: حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن سعيد بن عبد العزيز قال: ما نعلم أحداً أحنث في مشي فمشى إلا عثامة فإنها حنثت فمشت إلى مكة فأنفقت خمسمائة دينار.
محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء أن أمه عثامة كف بصرها فدخل عليها ابنها يوماً وقد صلى، فقالت: أصليتم أي بني؟ قال: نعم. فقالت:
عثام مالك لاهيه ... حلت بدارك داهية
أبكي الصلاة لوقتها ... إن كنت يوماً باكية
وأبكي القرآن إذا تلي ... قد كنت يوماً تالية
تتلينه بتفكر ... ودموع عينك جارية
فاليوم لا تتلينه ... إلا وعندك تاليه
لهفي عليك صبابة ... ما عشت طول حياتيه(2/430)
821 - أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان أخت عمر
عن علي بن أبي جملة قال: سمعت أم البنين ابنة عبد العزيز بن مروان تقول: أف للبخل، لو كان قميصاً ما لبسته، ولو كان طريقاً ما سلكته.(2/430)
سعيد بن مسلمة بن هشام الأموي قال: كانت أم البنين ابنة عبد العزيز بن مروان تبعث إلى نسائها فيجتمعن ويتحدثن عندها وهي قائمة تصلي ثم تنصرف إليهن فتقول: أحب حديثكم فإذا قمت في صلاتي لهوت عنكن ونسيتكن. قال: وكانت تكسوهن الثياب الحسنة وتعطيهن الدنانير وتقول: الكسوة لكن والدنانير اقسمنها بين فقرائكن. وكانت تقول: جعل لكل قوم نهمة في شيء، وجعلت نهمتي في البذل والإعطاء، والله للصلة والمواساة أحب إلي من الطعام الطيب على الجوع، ومن الشراب البارد على الظمأ، وكانت تقول: وهل ينال الخير إلا باصطناعه؟ وكانت تقول: ما حسدت أحداً قط على شيء، إلا أن يكون ذا معروف فإني كنت أحب أن أشركه في ذلك.
أحمد بن سهل قال: حدثني منصور، مولى بني أمية، قال: كانت أم البنين تعتق في كل جمعة رقبة، وتحمل على فرس في سبيل الله عز وجل.
قال محمد: وحدثني يوسف بن الحكم قال حدثني مروان بن محمد بن عبد الملك بن مروان قال: دخلت عزة على أم البنين. فقالت لها: يقول كثير:
قضى كل ذي دين علمت غريمه
وعزة ممطول معنى غريمها
ما كان هذا الدين يا عزة؟ فاستحيت. فقالت: علي ذلك. قالت: كنت وعدته قبلة فتحرجت منها. فقالت أم البنين: أنجزيها له وإثمها علي.
قال محمد: وقال لي يوسف بن الحكم: حدثني رجل من بني أمية يكنى أبا سعيد قال: بلغني أن أم البنين أعتقت لكلمتها هذه أربعين رقبة وكانت إذا ذكرتها بكت وقالت: ليتني خرست ولم أتكلم بها.
قال يوسف: وحدثني سعيد بن مسلمة بن هشام بن عبد الملك قال: حدثتني امرأة من أهلي قالت: سمعت أم البنين تقول: ما تحلى المتحلون بشيء أحسن عليهم من عظم مهابة الله في صدورهم.(2/431)
822 - عبدة أخت أبي سليمان الداراني
أبو سليمان قال: وصفت لأختي عبدة قنطرة من قناطر جهنم، فأقامت يوماً وليلة في صيحة واحدة ما تسكت. ثم انقطع عنها بعد. فكلما ذكرت لها صاحت. قلت: من أي شيء كان صياحها؟ قال: مثلت نفسها على القنطرة وهي تكفأ بها.
وقد روى أحمد بن الحواري عن أبي سليمان أنه قال: سمعت أختي تقول: الفقراء كلهم أموات إلا من أحياه الله تعالى بعز القناعة والرضا بفقره.(2/431)
وذكر أبو عبد الرحمن السلمي أنه كان لأبي سليمان أختان: عبدة وآمنة قال: وكانتا من العقل والدين بمحل عظيم.(2/432)
823 - رابعة بنت إسماعيل زوجة أحمد بن أبي الحواري
كذا نسبها أبو بكر بن أبي الدنيا. وقد ذكر أبو عبد الرحمن السلمي أن رابعة العدوية تشارك هذه في اسمها واسم أبيها وعموم ما يأتي في الحديث عن زوجة أحمد أنها رابعة بالباء، والعدوية بصرية وهذه شامية، وقد أخبرنا ابن ناصر قال: أنبأ أبو الغنائم بن النرسي قال: رابعة بالباء بنقطة من تحتها بصرية، ورابعة بالياء باثنتين من تحتها شامية.
أحمد بن أبي الحواري قال: قلت لرابعة، وهي امرأتي وقد قامت بليل: قد رأينا أبا سليمان وتعبدنا معه، ما رأينا من يقوم من أول الليل. فقالت: سبحان الله مثلك يتكلم بهذا؟ إنما أقوم إذا نوديت. قال: وجلست آكل وجعلت تذكرني. فقلت لها: دعينا يهنينا طعامنا. قالت: ليس أنا وأنت ممن يتبغص عليه الطعام عند ذكر الآخرة.
أحمد بن أبي الحواري قال: قالت لي رابعة: أي أخي أعلمت أن العبد إذا عمل بطاعة الله أطلعه الجبار على مساوئ عمله فيتشاغل به دون خلقه؟.
عن أحمد بن أبي الحواري قال: كانت لرابعة أحوال شتى فمرة يغلب عليها الحب، ومرة يغلب عليها الأنس، ومرة يغلب عليها الخوف فسمعتها تقول في حال الحب:
حبيب ليس يعدله حبيب ... ولا لسواه في قلبي نصيب
حبيب غاب عن بصري وشخصي ... ولكن عن فؤادي ما يغيب
وسمعتها في حال الأنس تقول:
ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي ... وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس ... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
وسمعتها في حال الخوف تقول:
وزادي قليل ما أراه مبلغي ... أللزاد أبكي أم لطول مسافتي؟
أتحرقني بالنار يا غاية المنى ... فأين رجائي فيك؟ أين محبتي؟
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت رابعة تقول: إني لأضن باللقمة الطيبة أن أطعمها نفسي، وإني لأرى ذراعي قد سمن فأحزن. قال: وربما قلت لها: أصائمة أنت اليوم؟ فتقول: ما مثلي يفطر في الدنيا. قال: وربما نظرت إلى وجهها ورقبتها فيتحرك قلبي على رؤيتها ما لا(2/432)
يتحرك مع مذاكراتي أصحابنا من أثر العبادة. وقالت لي: لست أحبك حب الأزواج إنما أحبك حب الإخوان، وإنما رغبت فيك رغبة في خدمتك، وإنما كنت أحب وأتمنى أن يأكل ملكي ومالي مثلك ومثل إخوانك.
قال أحمد: وكانت لها سبعة آلاف درهم فأنفقتها علي. فكانت إذا طبخت قدراً قالت: كلها يا سيدي فما نضجت إلا بالتسبيح. وقالت لي: لست أستحل أن أمنعك نفسي وغيري، اذهب فتزوج. قال: فتزوجت ثلاثاً، وكانت تطعمني اللحم وتقول: اذهب بقوتك إلى أهلك. وكنت إذا أردت جماعها نهاراً قالت: أسألك بالله لا تفطرني اليوم، وإذا أردتها بالليل قالت: أسألك بالله لما وهبتني لله الليلة.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت رابعة تقول: ما سمعت الأذان إلا ذكرت منادي القيامة، ولا رأيت الثلج إلا رأيت تطاير الصحف، ولا رأيت جراداً إلا ذكرت الحشر.
أحمد بن أبي الحواري قال: قالت لنا رابعة: نحوا عني ذلك الطست، فإنما عليه مكتوب: مات أمير المؤمنين هارون الرشيد.
قال أحمد: فنظروا فإذا هو مات ذلك اليوم.
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت رابعة تقول: ربما رأيت الجن يذهبون ويجيئون، وربما رأيت الحور العين يستترن مني بأكمامهن. وقالت بيدها على رأسها.
قال أحمد: ودعوت رابعة فلم تجبني، فلما كان بعد ساعة أجابتني وقالت: إنما منعني من أن أجيبك أن قلبي قد كان امتلأ فرحاً بالله، فلم أقدر أن أجيبك.(2/433)
824 - أم هارون
عبد العزيز بن عمير قال: قالت أم هارون، وكانت من الخائفين العابدين: قد أنزلت الدنيا منزلتها. وكانت تأكل الخبز وحده. قالت: بأبي الليل لما أطيبه، إني لأغتم بالنهار حتى يجيء الليل، فإذا جاء الليل قمت أوله، فإذا جاء السحر دخل الروح قلبي.
قال أحمد بن أبي الحواري: وخرجت أم هارون من قريتها تريد موضعها. فصاح صبي بصبي خذوه. فسقطت أم هارون فوقعت على حجر فدميت، فظهر الدم من مقنعتها.
قال: وقال أبو سليمان: من أراد أن ينظر إلى صعق صحيح فلينظر إلى أم هارون.
وقال أبو سليمان: ما كنت أرى أنه يكون بالشام مثلها.
قال أحمد بن أبي الحواري: وقالت لي رابعة: ما دهنت أم هارون رأسها منذ عشرين سنة. فإذا كشفنا رؤوسنا كان شعرها أحسن من شعورنا.(2/433)
وبالإسناد قال أبو بكر القرشي: وبلغني عن القاسم الجوعي قال: مرضت أم هارون فأتينا نعودها أنا وصاحب لي، فدخلنا عليها وهي على طرف الدرجة فسألناها عن حالها. فقلت لها: أم هارون أيكون من العباد من يشغله خوف النيران عن الشوق إلى الجنان؟ فقالت: آه وسقطت عن الدرجة مغشياً عليها.
قال قاسم: وكانت أم هارون تأتي بيت المقدس من دمشق كل شهر مرة على رجليها. فدخلت عليها فقالت: يا قاسم كنت أمشي ببيسان فإذا قد عرض لي هذه الكلب الأسد فمشى نحوي. فلما قرب مني نظرت إليه فقتل: تعال يا كلب، إن كان لك رزق فكل. فلما سمع كلامي أقعى ثم ولى راجعاً.
أحمد بن أبي الحواري قال: قلت لأم هارون: أتحبين الموت؟ قالت: لا. قلت: ولم؟ قالت: لو عصيت آدمياً ما أحببت لقاءه، فكيف أحب لقاء الله وقد عصيته.(2/434)
825 - ثويبة بنت بهلول
ابن أبي الحواري قال: سمعت ثويبة بنت بهلول، وكانت زاهدة دمشق، تقول قرة عيني ما طابت الدنيا والآخرة إلا بك فلا تجمع علي فقدك والعذاب.(2/434)
826 - حمادة الصوفية
علي بن أبي الحر قال: دخلت أنا وخشيش الموصلي من باب الجابية وفي يدي كتاب جاءني من حمادة الصوفية. فقرأت فيه: أبلغ كل مخزون بالشام عني السلام. فانتحب خشيش على رؤوس الناس.(2/434)
827 - البيضاء بنت المفضل
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أسماء الرملية، وكانت من العابدات، تقول: سألت البيضاء بنت المفضل، فقلت: يا أختي هل للمحب لله دلائل يعرف بها؟ قالت: يا أختي والمحب للسيد يخفى؟ لو جهد المحب للسيد أن يخفى ما خفي. قلت: صفيه لي. قالت: لو رأيت المحب لله عز وجل لرأيت عجباً عجيباً من واله ما يقر على الأرض، طائر مستوحش أنسه في الوحدة، قد منع الراحة، طعامه الحب عند الجوع، وشربه الحب عند الظمأ، لا يمل من طول الخدمة لله تعالى.(2/434)
828 - آمنة الرملية
جعفر بن محمد، صاحب بشر، قال: اعتل بشر بن الحارث فعادته آمنة الرملية من(2/434)
الرملة. فإنها لعنده إذ دخل أحمد بن حنبل يعوده. فقال: من هذه؟ فقال: هذه آمنة الرملية. بلغها علتي فجاءت من الرملة تعودني. قال: فسلها تدعو لنا. فقالت: اللهم إن بشر بن الحارث وأحمد بن حنبل يستجيرانك من النار فأجرهما. قال أحمد: فانصرفت فلما كان من الليل طرحت إلي رقعة مكتوب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم. قد فعلنا ولدينا مزيد.(2/435)
التجار إليه بالعشية فطلبوها منه بربح خمسة آلاف درهم. فقال لهم: انصرفوا الليلة فجاءه من الغد تجار آخرون فطلبوا منه تلك البضاعة بربح عشرة آلاف درهم فردهم وقال: إني نويت البارحة أن أدفع إليهم بما طلبوا، يعني الذين طلبوا أول مرة، ففعل وقال: لا أحب أن أنقض نيتي.
مسبح بن سعيد قال: كان محمد بن إسماعيل البخاري إذا كان في أول ليلة من رمضان يجتمع إليه أصحابه فيصلي بهم فيقرأ في كل ركعة عشرين آية، وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، فيختم عند السحر في كل ثلاث ليال، ويقول عند كل ختمة: دعوة مستجابة.
علي بن محمد بن منصور قال: سمعت أبي يقول: كنا في مجلس أبي عبد الله محمد بن إسماعيل، فرفع إنسان من لحيته قذاة فطرحها على الأرض، فرأيت محمد بن إسماعيل ينظر إليها وإلى الناس فلما غفل الناس رأيته مد يده فرفع القذاة من الأرض فأدخلها في كمه. فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها فطرحها على الأرض.
محمد بن أبي حاتم قال: كنت أرى أبا عبد الله يقوم في ليلة واحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة في كل ذلك يأخذ القداحة فيوري ناراً ويسرج ثم يخرج أحاديث فيعلم عليها ثم يضع رأسه. وكان يصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة يوتر منها بواحدة.
بكر بن منير قال: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً.
قلت: فضائل البخاري كثيرة، وحفظه للحديث حفظ غزير قد شهد له الأكابر به حتى قال أحمد بن حنبل: ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل. وكان نحيف الجسم ليس بالطويل ولا بالقصير. ولد يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة لثلاث عشرة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائة.
وتوفي ليلة السبت عند صلاة العشاء ليلة الفطر، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر وذلك لغرة شوال من سنة ست وخمسين ومائتين وقبره بخرتنك.(2/436)
ذكر المصطفيات من عابدات الشام المجهولات الأسماء
829 - مولاة لأبي أمامة - شامية
عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثتني مولاة أبي أمامة قالت: كان أبو أمامة يحب الصدقة ويجمع لها، ولا يرد سائلاً ولو ببيضة، ولو بتمرة أو بشيء مما يؤكل، فأتاه سائل ذات يوم وقد أقفر من ذلك كله وما عنده إلا ثلاثة دنانير. فسأله فأعطاه ديناراً. ثم أتاه سائل فأعطاه ديناراً. ثم أتاه سائل فأعطاه ديناراً. قالت: فغضبت وقلت: لم تترك لنا شيئاً. قالت: فوضع رأسه للقائلة. قالت: فلما نودي الظهر أيقظته فتوضأ ثم راح إلى مسجده. قالت: فرققت عليه وكان صائماً، فاقترضت ما جعلت له عشاء وسرجت له سراجاً وجئت إلى فراشه لأمهد له فإذا بذهب فعددتها فإذا ثلثمائة دينار. قالت قلت: ما صنع الذي صنع إلا ولقد وثق بما خلف. فأقبل بعد العشاء فلما رأى المائدة والسراج تبسم وقال: هذا خير من غيره. قالت: فقمت على رأسه حتى تعشى، فقلت: رحمك الله خلفت هذه النفقة في سبيل مضيعة ولم تخبرني فأرفعها؟ قال: وأي نفقة؟ ما خلفت شيئاً. قالت: فرفعت الفراش فلما أن رآه فرح واشتد تعجبه. قالت: فقمت فقطعت زناري وأسلمت. قال ابن جابر: فأدركتها في مسجد حمص وهي تعلم النساء القرآن والسنن والفرائض وتفقههن في الدين.
830 - عابدة أخرى
أحمد بن أبي الحواري يقول: بينا أنا ذات يوم في بلاد الشام في قبة من قباب المقابر ليس عليها باب، إلا كساء قد أسبلته. فإذا أنا بامرأة تدق الحائط، فقلت: من هذا؟ قالت: امرأة ضالة، دلني على الطريق رحمك الله، قلت: عن أي الطريق تسألين؟ فبكت ثم قالت: عن طريق النجاة، قلت: هيهات، إن بيننا وبين طريق النجاة عقاباً وتلك العقاب لا تنقطع إلا بالسير الحثيث، وتصحيح المعاملة، وحذف العلائق الشاغلة من أمر الدنيا والآخرة. قال: فبكت بكاءً شديداً ثم قالت: يا أحمد سبحان من أمسك عليك جوارحك فلم تنقطع، وحفظ عليك فؤادك فلم يتصدق، ثم خرت مغشياً عليها. فقلت لبعض النساء: انظرن أي شيء حال هذه الجارية؟ فقمن إليها ففتشنها فإذا وصيتها في جيبها: كفنوني في أثوابي هذه فإن كان لي(2/436)
عند الله خير فهو أسور لي، وإن كان غير ذلك فبعداً لنفسي. وحركوها فإذا هي ميتة. فقلت: لمن هذه الجارية؟ قالوا جارية قرشية كانت تشكو إلينا وجعاً بجوفها فكنا نصفها لمتطيبي الشام، فكانت تقول: خلوا بيني وبين الطبيب الراهب، تعني أحمد بن أبي الحواري، أشكو إليه بعض ما أجد من بلائي، لعله يكون عنده شفائي.
831 - عابدة أخرى
محمد بن سعد التيمي قال: رأيت جارية سوداء في بعض مدن الشام وبيدها خوص تسفه، وهي تقول مع سفها:
لك علم بما يجن فؤادي ... فارحم اليوم ذلتي وانفرادي
فقلت: يا سوداء ما علامة المحب؟ فإذا رجل قد صرع بالقرب منها. فنظرت إلي وإلى الرجل وقالت: يا بطال، علامة المحب الصادق لله في حبه أن يقول لهذا المجنون قم فيقوم. فإذا الرجل قد قام وإذا الجنية تقول لها على لسانه: وحق صدق حبك لربك لا رجعت إليه أبداً.
انتهى ذكر أهل الشام بحمد الله ومنه.(2/437)
ومن المصطفين من أهل عسقلان:
832 - آدم بن أبي إياس العسقلاني
واسم أبي إياس ناهية، وقال البخاري: هو آدم بن عبد الرحمن بن محمد. ويكنى أبا الحسن، مولى. أصله من خراسان ومنشؤه ببغداد وبها طلب العلم، وكتب عن شيوخها ثم رحل إلى الكوفة والبصرة والحجاز والشام واستوطن عسقلان فعرف بالعسقلاني، وكان من الصالحين متمسكاً بالسنة.
أبو علي المقدسي قال: لما حضرت آدم بن أبي إياس الوفاة ختم القرآن وهو مسجى، ثم قال: بحبي لك رفقت بي في هذا المصرع كنت آملك لهذا اليوم كنت أرجوك. ثم قال: لا إله إلا الله. ثم قضى نحبه.
أسند آدم عن شعبة والليث بن سعد وخلق كثير، وتوفي سنة عشرين ومائتين.(2/438)
ذكر المصطفين من أهل مصر
833 - حيوة بن شريح، أبو يزيد النجيبي
وقال أبو زرعة: سمع من عقبة بن مسلم، وروى عنه الليث.
خالد بن الفزر قال: كان حيوة بن شريح دعاء، من البكائين، وكان ضيق الحال جداً. فجلست إليه ذات يوم وهو متخل وحده يدعو. فقلت: رحمك الله لو دعوت الله عز وجل فوسع عليك في معيشتك. قال: فالتفت يميناً وشمالاً فلم ير أحداً فأخذ حصاة من الأرض فقال: اللهم اجعلها ذهباً. قال: فإذا هي والله تبرة في كفه، ما رأيت أحسن منها. قال: فرمى بها إلي وقال: ما خير في الدنيا إلا الآخرة. ثم التفت إلي فقال: هو أعلم بما يصلح عباده. فقلت: ما أصنع بهذه؟ قال: استنفقها. فهبته والله أن أراده.
__________
833 - هو: حيوة –بفتح أوله وسكون التحتانية وفتح الواو - ابن شريح بن صفوان التجيبي، أبو زرعة المصري، ثقة ثبت فقيه زاهد، من السابعة، مات سنة ثمان وقيل: تسع وخمسين.(2/439)
834 - سليم بن عتر
عن الحارث بن يزيد أن سليم بن عتر كان يقرأ القرآن كل ليلة ثلاث مرات.
__________
834 - هو: سليم بن عتر، الإمام الفقيه قاضي مصر، وواعظها وقاصها وعابدها أبو سلمة التجيبي المصري، وكان يدعى الناسك لشدة تألهه، توفي سليم سنة خمس وسبعين، انظر سير أعلام النبلاء 5/153.(2/438)
835 - الليث بن سعد
يكنى أبا الحارث، مولى لقيس.
ولد سنة ثلاث وتسعين، واستقل بالفتوى والكرم بمصر.
أبو صالح قال: كنا على باب مالك بن أنس فامتنع علينا. فقلنا: ليس يشبه صاحبنا قال: فسمع مالك كلامنا فأدخلنا عليه فقال لنا: من صاحبكم؟ قلنا: الليث بن سعد. فقال: تشبهوني برجل كتبنا إليه في قليل عصفر نصبغ به ثياب صبياننا وثياب جيراننا فأنفذ إلينا ما صبغنا به ثيابنا وثياب صبياننا وثياب جيراننا وبعنا الفضلة بألف دينار؟.
__________
835 - هو: الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، أبو الحارث، المصري، ثقة ثبت فقيه إمام مشهور، من السابعة، مات في شعبان سنة خمس وسبعين.(2/439)
محمد بن موسى الصائغ قال: سمعت منصور بن عمار يقول: تكلمت في جامع مصر يوماً فإذا رجلان قد وقفا على الحلقة فقالا: أجب الليث. فدخلت عليه فقال: أنت المتكلم في المسجد؟ قلت: نعم: قال رد علي الكلام الذي تكلمت به. فأخذت في ذلك المجلس بعينه. فرق وبكى حتى رحمته. ثم قال: ما اسمك؟ قلت: منصور، قال: ابن من؟ قلت: ابن عمار. قال: أنت أبو السري؟ قلت: نعم. قال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيتك. ثم قال: يا جارية. فجاءت فوقفت بين يديه فقال لها: جيئي بكيس كذا وكذا فجاءت بكيس فيه ألف دينار فقال: يا أبا السري خذ هذا إليك وصن هذا الكلام أن تقف به على أبواب السلاطين، ولا تمدحن أحداً من المخلوقين بعد مدحتك لرب العالمين، ولك علي في كل سنة مثلها. فقلت: رحمك الله إن الله قد أحسن إلي وأنعم. قال: لا ترد علي شيئاً أصلك به، فقبضتها وخرجت. قال: لا تبطئ علي، فلما كان في الجمعة الثانية أتيته فقال لي: اذكر شيئاً فتكلمت، فبكا وكثر بكاؤه فلما أردت أن أقوم قال: انظر ما في ثني هذه الوسادة وإذا خمسمائة دينار. فقلت: عهدي بصلتك بالأمس. قال: لا تردن علي شيئاً أصلك به. متى رأيتك؟ قلت: الجمعة الداخلة. قال: كأنك فتت عضواً من أعضائي. فلما كانت الجمعة الداخلة أتيته مودعاً فقال لي: خذ في شيء أذكرك به، فتكلمت، فبكا وكثر بكاؤه. ثم قال لي: يا منصور انظر ما في ثني الوسادة، إذا ثلثمائة دينار قد أعدها للحج. ثم قال: يا جارية هاتي ثياب إحرام منصور، فجاءت بإزار فيه أربعون ثوباً. قلت: رحمك الله أكتفي بثوبين. فقال لي: أنت رجل كريم ويصحبك قوم فأعطهم. وقال للجارية التي تحمل الثياب معه: وهذه الجارية لك.
سليم بن منصور قال: سمعت أبي يقول: دخلت على الليث بن سعد يوماً فإذا على رأسه خادم، فغمزه فخرج، ثم ضرب الليث بيده إلى مصلاة فاستخرج من تحته كيساً فيه ألف دينار، ثم رمى بها إلي. ثم قال: يا أبا السري لا تعلم ابني فتهون عليه.
الحسن بن عبد العزيز قال: قال لي الحارث بن مسكين اشترى قوم من الليث بن سعد ثمرة استغلوها فاستقالوه فأقالهم. ثم دعا بخريطة فيها أكياس فأمر لهم بخمسين ديناراً، فقال له الحارث ابنه في ذلك، فقال: اللهم غفراً إنهم كانوا قد أملوا فيها أملاً فأحببت أن أعوضهم عن أملهم بهذا.(2/440)
سعيد الآدم قال مررت بالليث بن سعد فتنحنح لي فرجعت إليه، فقال لي يا سعيد خذ هذا الفنداق، فاكتب لي فيه من يلزم المسجد ممن لا بضاعة له ولا غلة. قال: فقلت: جزاك الله خيراً يا أبا الحارث. وأخذت منه الفنداق ثم صرت إلى المنزل، فلما صليت أوقدت السراج وكتبت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثم قلت: فلان بن فلان. ثم قلت: فلان. فبينا أنا على ذلك إذ أتاني آت فقال: ها الله يا سعيد تأتي إلى قوم عاملوا الله عز وجل سراً فتكشفهم لآدمي؟ مات الليث ومات شعيب بن الليث، أليس مرجعهم إلى الله الذي عاملوه؟ قال فقمت ولم أكتب شيئاً، فلما أصبحت أتيت الليث بن سعد فلما رآني تهلل وجهه فناولته الفنداق فنشره فأصاب فيه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ثم ذهب ينشره. فقلت له: ما فيه غير ما كتبت فقال لي: يا سعيد وما الخبر؟ فأخبرته بصدق عما كان. فصاح صيحة، فاجتمع عليه الخلق فقالوا: يا أبا الحارث أليس خيراً؟ فقال: ليس إلا خير. ثم أقبل علي فقال: يا سعيد تبينتها وحرمتها صدقت - مات الليث أليس مرجعهم إلى الله؟.
قال علي بن محمد: سمعت مقدام بن داود يقول: سعيد الآدم هذا يقال إنه من الأبدال، وقد كان رآه مقدام.
عبد الملك بن يحيى بن بكير قال: سمعت أبي يقول: وصل الليث بن سعد ثلاثة أنفس بثلاثة آلاف دينار: احترقت دار ابن لهيعة فبعث إليه بألف دينار، وحج فأهدى إليه مالك بن أنس رطباً على طبق فرد إليه على الطبق ألف دينار، ووصل منصور بن عمار بألف دينار، وقال: لا يسمع بهذا ابني فتهون عليه، فبلغ ذلك شعيب بن الليث فوصله بألف دينار إلا ديناراً، وقال: إنما نقصتك هذا الدينار لئلا أساوي الشيخ في العطية.
محمد بن رمح قال: كان دخل الليث بن سعد في كل سنة ثمانين ألف دينار وما وجب الله تعالى عليه زكاة قط.
سليم بن منصور قال: سمعت أبي يقول: كان الليث بن سعد يستغل في كل سنة خمسين ألف دينار فيحول عليه الحول وعليه دين.
أسند الليث عن خلق كثير من التابعين كعطاء، ونافع، وأبي الزبير، والزهري. وقيل إنه أدرك نيفاً وخمسين تابعياً.(2/441)
وتوفي يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من شعبان من سنة خمس وسبعين ومائة ودفن بعد الجمعة.(2/442)
836 - المفضل بن فضالة القتباني
وقتبان من اليمن. قاضي مصر سمع عقيل بن خالد - كذا ذكره البخاري.
ابن رغبة قال كان مفضل بن فضالة قاضياً علينا، وكان مجاب الدعوة، وكان مع ضعفه طويل القيام، وحدثني من أثق به أنه دعا الله عز وجل أن يذهب عنه الأمل، فذهب عنه فلم يصبر فدعا الله أن يرده عليه.
__________
836 - هو: المفضل بن فضالة بن عبيد بن ثمامة القتباني -بكسر القاف وسكون المثناة بعدها موحدة - المصري، أبو معاوية القاضي، ثقة فاضل عابد أخطأ ابن سعد في تضعيفه، من الثامنة، مات سنة إحدى وثمانين.(2/442)
ومن الطبقة التي تلي هؤلاء:
837 - عبد الله بن وهب مولى لقريش
أحمد بن سعيد الهمداني قال: دخل ابن وهب الحمام فسمع قارئاً يقرأ: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} غافر: 47 فسقط مغشياً عليه فغسلت عنه النورة وهو لا يعقل.
خالد بن خداش قال: قرئ على عبد الله بن وهب كتاب أهوال القيامة فخر مغشياً عليه. فلم يتكلم بكلمة حتى مات بعد ذلك بأيام، وذلك بمصر سنة سبع وتسعين ومائة.
أسند ابن وهب عن الأئمة كالثوري ومالك وشعبة.
__________
837 - هو: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم، أبو محمد المصري الفقيه، ثقة حافظ عابد، من التاسعة، مات سنة سبع وتسعين، وله اثنتان وسبعون سنة.(2/443)
838 - أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي
أبو الوليد بن أبي الجارود قال: كان أبو يعقوب البويطي جاري. قال: فما كنت أنتبه ساعة من الليل إلا سمعته يقرأ ويصلي.
قال الربيع: كان أبو يعقوب أبداً يحرك شفتيه، يذكر الله عز وجل أو نحو ما قال.
الربيع بن سليمان قال: رأيت البويطي على بغل في عنقه غل، وفي رجليه قيد، وبين الغل والقيد سلسلة حديد فيها طوبة وزنها أربعون رطلاً، وهو يقول: والله لأموتن في حديدي هذا حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم، ولئن أدخلت إليه لأصدقنه. يعني الواثق.
أسند البويطي عن عبد الله بن وهب والشافعي وغيرهما. وكان قد جمع بين الفقه والتقوى وامتحن فلم يجب.
علي بن عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى المصري قال: حدثنا أبي قال: حمل البويطي من مصر أيام الفتنة والمحنة بالقرآن إلى العراق فأرادوه على الفتنة فامتنع فسجن ببغداد وقيد وأقام مسجوناً إلى أن توفي في السجن والقيد ببغداد سنة اثنتين وثلاثين ومائتين - وقال غيره: سنة أحدى وثلاثين.
__________
838 - هو: يوسف بن يحيى القرشي مولاهم، أبو يعقوب البويطي صاحب الشافعي، ثقة فقيه، من أهل السنة، مات في المحنة ببغداد سنة إحدى أو اثنتين وثلاثين.(2/443)
839 - ذو النون المصري ابن إبراهيم، أبو الفيض
أصله من النوبة وكان من قرية من قرى صعيد مصر يقال لها إخميم. نزل مصر ويقال اسمه الفيض. ويقال ثوبان، وذو النون لقب. وكان أبوه إبراهيم مولى لإسحاق بن محمد الأنصاري، كان له أربعة بنين: ذو النون، وذو الكفل، وعبد الباري، والهميسع.
ابن الجلاء قال: لقيت ستمائة شيخ ما لقيت فيهم مثل أربعة: أحدهم ذو النون.
أبو بكر محمد بن خلف المؤدب قال: رأيت ذا النون المصري على ساحل البحر فلما جن الليل خرج فنظر إلى السماء والماء فقال: سبحان الله ما أعظم شأنكما، بل شأن خالقكما أعظم منكما ومن شأنكما. لما تهور الليل لم يزل ينشد هذه الأبيات إلى أن طلع عمود الصباح:
اطلبوا لأنفسكم ... مثل ما وجدت أنا
قد وجدت لي سكناً ... ليس في هواه عنا
إن بعدت قربني ... أو قربت منه دنا
يوسف بن الحسن يقول: سمعت ذا النون يقول: بصحبة الصالحين تطيب الحياة والخير مجموع في القرين الصالح إن نسيت ذكرك، وإن ذكرت أعانك.
إسرافيل قال: حضرت ذا النون في الحبس، وقد دخل الجلواز بطعام له فقام ذو النون فنفض يده فقيل له: إن أخاك جاء به. فقال: إنه على يدي ظالم. قال: وسمعت رجلاً سأل ذا النون فقال: رحمك الله ما الذي أنصب العباد وأضناهم؟ فقال له: ذكر المقام، وقلة الزاد، وخوف الحساب. ولم لا تذوب أبدان العمال وتذهل عقولهم، والعرض على الله أمامهم وقراءة كتبهم بين أيديهم، والملائكة وقوف بين يدي الجبار ينتظرون أمره في الأخيار والأشرار؟ ثم قال: مثلوا هذا في نفوسهم وجعلوه نصب أعينهم. قال: وسمعت رجلاً يسأل ذا النون: متى تصح عزلة الخلق؟ فقال: إذا قويت على عزلة النفس.
يوسف بن الحسين قال: قلت لذي النون في وقت مفارقتي له: من أجالس؟ قال: عليك
__________
739 - هو: ذو النون المصري، الزاهد، شيخ الديار المصرية، ثوبان بن إبراهيم، وقيل: فيض بن أحمد، وقيل: فيض بن إبراهيم النوبي، الإخميمي، يكنى أبا الفيض، ويقال: أبو الفيض ولد في أواخر أيام المنصور، انظر سير أعلام النبلاء 10/17.(2/444)
بصحبة من تذكرك الله عز وجل رؤيته، وتقع هيبته على باطنك، ويزيد في عملك منطقة، ويزهدك في الدنيا عمله، ولا تعصي الله ما دمت في قربه، يعظك بلسان فعله، ولا يعظك بلسان قوله.
وسمعت ذا النون يقول سقم الجسد في الأوجاع، وسقم القلوب في الذنوب، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه، كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب. وسمعته يقول: من لم يعرف قدر النعم سلبها من حيث لا يعلم.
يوسف بن الحسين قال: سمعت ذا النون يقول: ما خلع الله عز وجل على عبد من عبيده خلعة من العقل، ولا قلده قلادة أجمل من العلم، ولا زينه بزينة أفضل من الحلم، وكمال ذلك كله التقوى.
عبد القدوس بن عبد الرحمن قال: سمعت ذا النون يقول: إلهي لو أصبت موئلاً في الشدائد غيرك، أو ملجأ في النوازل سواك لحق لي أن لا أعرض إليه بوجهي عنك، ولا أختاره عليك لقديم إحسانك إلي وحديثه، وظاهر منتك علي وباطنها، ولو تقطعت في البلاء إرباً إرباً أو انصبت علي الشدائد صباً صباً ولا أجد مشتكى لبثي غيرك ولا مفرجاً لما بي سواك، فيا وارث الأرض ومن عليها، ويا باعث جميع من فيها ورث آملي فيك مني أملي، وبلغ همتي فيك منتهى وسائلي.
محمد بن أحمد بن سلمة النيسابوري قال: سمعت ذا النون يقول: احذر أن تنقطع عنه فتكون مخدوعاً. قلت: فكيف ذلك؟ قال: لأن المخدوع من ينظر إلى عطاياه فينقطع عن النظر إليه بالنظر إلى عطاياه. ثم قال: تعلق الناس بالأسباب تعلق الصديقون بولي الأسباب.
ثم قال: علامة تعلق قلوبهم بالعطايا طلبهم منه العطايا، ومن علامة تعلق قلب الصديق بولي العطايا انصباب العطايا عليه وشغله عنها به. ثم قال: ليكن اعتمادك على الله عز وجل في الحال، لا على الحال مع الله. ثم قال: اعقل فإن هذا من صفة التوحيد.
محمد بن أحمد بن سلمة قال: سمعت ذا النون يقول، وقد سألته عند الفراق أن يوصيني فقال: لا يشغلنك عيوب الناس عن عيب نفسك، لست عليهم برقيب. ثم قال: إن أحب عباد الله إلى الله عز وجل أعقلهم عنه، وإنما يستدل على تمام عقل الرجل وتواضعه في عقله بحسن استماعه للمحدث إن كان به عالماً وسرعة قبوله للحق وإن كان ممن هو دونه، وإقراره على نفسه بالخطأ إذا جاء منه.(2/445)
سعيد بن عثمان قال: سمعت ذا النون يقول: من ذكر الله على حقيقة نسي في جنبه كل شيء، ومن نسي في جنب الله كل شيء حفظ الله عز وجل عليه كل شيء، وكان له عوضاً من كل شيء. قال: وسمعته يقول: أكثر الناس إشارة إلى الله في الظاهر أبعدهم من الله، قال: وسمعته يقول: إلهي إن كان صغر في جنب طاعتك عملي فقد كبر في جنب رجائك أملي.
وسئل عن الآفة التي يخدع بها المريد عن الله عز وجل فقال: برؤية الكرامات. قيل فبم يخدع قبل وصوله إلى هذه الدرجة؟ قال: بوطء الأعقاب وتعظيم الناس له. قال: وسمعته يقول: من ذبح الحنجرة الطمع بسيف اليأس، وردم خندق الحرص؛ ظفر بكيمياء الخدمة، ومن استقى بحل الزهد على دلو المعروف؛ استقى من جب الحكمة، ومن سلك أودية الكمد جنى حياة الأبد، ومن حصد عشب الذنوب بمنجل الورع أضاءت له روضة الاستقامة، ومن قطع لسانه بشفرة الصمت وجد عذوبة الراحة، ومن تدرع درع الصدق قوي على مجاهدة عسكر الباطل، ومن فرح بمدحة الجاهل ألبسه الشيطان ثوب الحماقة.
أبو عثمان، سعيد بن عثمان، قال: سمعت ذا النون يقول: ما طابت الدنيا إلا بذكره، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه، ولا طابت الجنة إلا برؤيته.
يوسف بن الحسين قال: سمعت ذا النون يقول: دوام الفقر إلى الله تعالى مع التخليط أحب إلي من دوام الصفاء مع العجب.
محمد بن عبد الملك قال: سمعت ذا النون يقول: ما أعز الله وجل عبداً بعز هو أعز له من أن يدله على ذل نفسه، وما أذل الله عز وجل عبداً بذل هو أذل له من أن يحجبه عن ذل نفسه.
هلال بن العلاء قال: قال ذو النون: من تطأطأ لقط رطباً ومن تعالى لقي عطباً.
سعيد بن عثمان قال: سمعت ذا النون يقول: لا تثقن بمودة من لا يحبك إلا معصوماً.
وقال: من صحبك ووافقك على ما تحب، وخالفك فيما تكره فإنما يصحب هواه، ومن صحب هواه فإنما هو طالب راحة الدنيا.
وسمعته يقول: كل مطيع مستأنس، وكل عاص مستوحش، وكل محب ذليل، وكل خائف هارب، وكل راج طالب.
يوسف بن الحسين قال: سمعت ذا النون يقول: أنت ملك مقتدر وأنا عبد مفتقر،(2/446)
أسألك العفو تذللاً فأعطنيه تفضلاً. وسمعته يقول: من المحال أن يحسن منك الظن ولا يحسن منه المن.
أبو عثمان، سعيد بن عثمان الخياط، يقول: سمعت ذا النون يقول: لم أر شيئاً أبعث لطلب الإخلاص مثل الوحدة، لأنه إذا خلا لم ير غير الله، فإذا لم ير غير الله لم يحركه إلا حكم الله، ومن أحب الخلوة فقد تعلق بعمود الإخلاص.
قال الفتح بن شخرف: دخلت على ذي النون عند موته فقلت له: كيف تجدك؟ فقال:
أموت وما ماتت إليك صبابتي ... ولا رويت من صدق حبك أوطاري
مناي المنى كل المنى أنت لي منى ... وأنت الغني كل الغنى عند إقتاري
وأنت مدى سؤلي وغاية رغبتي ... وموضع آمالي ومكنون إضماري
تضمن قلبي منك ما لك قد بدا ... وإن طال سري فيك أو طال إظهاري
وبين ضلوعي منك ما لا أبثه ... ولم أبد باديه لأهل ولا جار
سرائر لا يخفى عليك خفيها ... وإن لم أبح حتى التنادي بأسراري
فهب لي نسيماً منك أحيا بروحه ... وجدلي بيسر منك يطر إعساري
أنرت الهدى للمهتدين ولم يكن ... من العلم في أيديهم عشر معشار
وعلمتهم علماً فباتوا بنوره ... وبانت لهم منه معالم أسرار
معاينة للغيب حتى كأنها ... لما غاب عنها منه حاضرة الدار
وأبصارهم محجوبة وقلوبهم ... تراك بأوهام حديدات أبصار
جمعت لهم الهم المفرق والتقى ... على قدر والهم يجري بمقدار
ألست دليل القوم إن هم تحيروا؟ ... وعصمة من أمسى على جرف هار
قال الفتح بن شخرف: فلما ثقل قلت له: كيف تجدك؟ فقال:
ومالي سوى الإطراق والصمت حيلة ... ووضعي على خدي يدي عند تذكاري
وإن طرقتني عبرة بعد عبرة ... تجرعتها حتى إذا عيل تصباري
أفضت دموعاً جمة مستهلة ... أطفي بها حراً تضمن أسراري
فيا منتهى سؤل المحبين كلهم ... أبحني محل الأنس مع كل زوار
ولست أبالي فائتاً بعد فائت ... إذا كنت في الدارين يا واحدي جاري
أسند ذو النون أحاديث كثيرة من مالك والليث بن سعد وسفيان بن عيينة والفضيل(2/447)
ابن عياض وابن لهيعة وغيرهم. وتوفي بالجيزة وحمل في مركب إلى الفسطاط خوفاً عليه من زحمة الناس على الجسر، ودفن في مقابر أهل المعافر، وذلك في يوم الاثنين لليلتين خلتا من ذي القعدة من سنة ست وأربعين ومائتين.(2/448)
940 - الحسن بن الخليل بن مرة
أحمد بن صالح قال: سمعت عبد الله بن وهب، وذكر الحسن بن الخليل بن مرة، فقال: ذاك رجل صدق قد شغلته العبادة.
قال الحسن بن محمد بن باذا: وثنا عبد الله بن صالح قال: ما رأيت بمصر من أفضله على الحسن بن الخليل في زهده وورعه، ولقد رأيته يحمل دقيقاً في جراب للناس بأجرة يتقوت بها في كل جمعة يحمل يوماً، ثم زاد أمره فلم يكن يدخر لوقت يأتي، وعليه مدرعة قيمتها أقل من درهم، وأجمع أهل مصر أنه مستجاب الدعوة.
قال الحسين: وسمعت محمد بن رمح يقول: أتيت الحسن بن الخليل لأسمع منه شيئاً فإذا هو يقرأ سورة [ق]
ويبكي. ثم غشي عليه. فتركته وقمت وكان قد شغلته العبادة عن الحديث. وعدت إليه غير مرة فلم يكن فيه فضل، وكان مصفر اللون كثير البكاء.
قال الحسين: وحدثنا يحيى بن بكير قال: اعتل الحسن بن الخليل فجاء الليث بن سعد يعوده ونحن معه فقرأ على رأسه ثم قمنا من عنده فقال هذا أعبد من رأيت.
موسى بن هارون قال: رأيت الحسن بن الخليل بن مرة بعرفات وكلمته. ثم رأيته يطوف بالبيت قلت: ادع الله لي أن يقبل حجي. فبكى ودعا لي، ثم أتيت مصر فقلت: إن الحسن كان معنا بمكة. فقالوا: ما حج العام. وقد كان يبلغني أنه يمر إلى مكة في كل ليلة، فما كنت أصدق، حتى رأيته فعاتبني وقال: شهرتني، ما كنت أحب أن تحدث بها عني، فلا تعد بحقي عليك.(2/448)
841 - محمد بن عمرو الغزي
أبو زرعة قال: كان يأتي على محمد بن عمرو الغزي ثمانية عشر يوماً لا يذوق فيها ذواقاً ولا طعاماً ولا شراباً. ما رأيت بمصر أصلح منه.
__________
841 - هو: محمد بن عمرو الغزي، العابد الزاهد، روى عن: القطاف بن خالد، والوليد بن مسلم، وجماعة، انظر سير أعلام النبلاء 9/618.(2/448)
إبراهيم بن أبي أيوب قال: حدثنا محمد بن عمرو الغزي، وكان يأكل في كل شهر رمضان أكلتين من غير تكلف، يأكل في كل خمسة عشر يوماً مرة.
أسند الغزي عن الوليد بن مسلم وعثمان بن سعيد وعطاف بن خالد في آخرين.(2/449)
842 - أبو علي الحسن بن أحمد
المعروف بابن الكاتب من كبار الصالحين من مشايخ المصريين.
أحمد بن علي بن جعفر قال: سمعت أبا علي الكاتب يقول: إذا انقطع العبد إلى الله تعالى بالكلية فأول ما يفيده الله عز وجل الاستغناء به عمن سواه. وكان يقول: قال الله عز وجل: من صبر علينا وصل إلينا.
وكان يقول: إذا سكن الخوف في القلب لم ينطق اللسان إلا بما يعنيه.
أبو القاسم المصري قال: قال أبو علي ابن الكاتب إن الله عز وجل يرزق العبد حلاوة ذكره، فإن فرح به وشكره آنسه بقربه، وإن قصر في الشكر أجرى الذكر على لسانه وسلبه حلاوته.
صحب أبو علي ابن الكاتب أبا علي الروذباري وغيره وتوفي بعد الأربعين والثلاثمائة، والله أعلم.
__________
842 - هو: الحسن بن أحمد بن أبي علي المعروف بابن الكاتب من شيوخ المصريين، انظر حلية الأولياء 10/385.(2/449)
ذكر المصطفين من عباد مصر المجهولي الأسماء
843 - عابد
يوسف بن الحسين قال: كنت قاعداً بين يدي ذي النون وحوله ناس، وهو يتكلم عليهم، والناس يبكون، وشاب يضحك. فقال له ذو النون: ما لك أيها الشاب؟ الناس يبكون وأنت تضحك. فأنشأ يقول:
كلهم يعبدون من خوف نار ... ويرون النجاة حظاً جزيلا
ليس لي في الجنان والنار رأي ... أنا لا أبتغي بحبي بديلاً
فقيل له: فإذا طردك فماذا تفعل؟ فأنشأ يقول:
فإذا لم أجد من الحب وصلاً ... رمت في النار منزلاً ومقيلا
ثم أزعجت أهلها ببكائي ... بكرة في ضرامها وأصيلا
معشر المشركين نوحوا علي ... أنا عبد أحببت مولى جليلا
لم أكن في الذي ادعيت محقاً ... فجزاني به العذاب الطويلا
يوسف بن الحسين قال: كان شاب يحضر مجلس ذي النون بن إبراهيم المصري مدة. ثم انقطع عنه زماناً. ثم حضر عنده وقد اصفر لونه ونحل جسمه وظهرت آثار العبادة والاجتهاد عليه فقال ذي النون: يا فتى، ما الذي أكسبتك خدمة مولاك واجتهادك من المواهب التي منحك بها فوهبها لك واختصك بها؟ فقال الفتى: يا أستاد وهل رأيت عبداً اصطنعه مولاه من بين عبيده واصطفاه وأعطاه مفاتيح الخزائن ثم أسر إليه سراً أيحسن أن يفشي ذلك السر؟ ثم أنشأ يقول:
من شاوروه فأبدى السر مجتهداً ... لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
وباعدوه فلم يسعد بقربهم ... وأبدلوه من الإيناس إيحاشا
لا يصطفون مذيعاً بعض سرهم ... حاشا ودادهم من ذالكم حاشا(2/450)
844 - عابد آخر
عبد الملك بن هاشم قال: قلت لذي النون صف لنا من خيار من رأيت فذرفت عيناه وقال: ركبنا مرة البحر نريد جدة، معنا فتى من أبناء نيف وعشرين سنة قد ألبس ثوباً من الهيبة، فكنت أحب أكلمه فلم أستطع فبينا نراه مصلياً نراه قارئاً ونراه مسبحاً. إلى أن رقد ذات يوم ووقعت في المركب تهمة فجعل الناس يفتش بعضهم بعضاً إلى أن بلغوا إلى الفتى النائم. فقال صاحب الصرة: لم يكن أحد أقرب إلي من هذا الفتى النائم.
فلما سمعت ذلك قمت فأيقظته، فما كلمني حتى توضأ للصلاة وصلى أربع ركعات، ثم قال: يا فتى ما تشاء؟ فقلت: إن تهمة وقعت في المركب وإن الناس لم يزل يفتش بعضهم بعضاً حتى بلغوا إليك فالتفت إلي صاحب الصرة فقال: أكما يقول: فقال: نعم لم يكن أحد أقرب إلي منك، فرفع الفتى يديه يدعو وخفت على أهل المركب من دعائه فيخيل إلينا أن كل حوت في البحر، قد خرجت في فم كل حوت درة، فقام الفتى إلى جوهرة في في حوت فأخذها فألقاها إلى صاحب الصرة وقال: في هذه عوض مما ذهب منك وأنت في حل.
وقد رويت لنا هذه الحكاية على وجه آخر:
يوسف بن الحسين قال: لما استأنست بذي النون المصري قلت: أيها الشيخ ما كان بدو شأنك وما أنت فيه؟ قال: كنت شاباً صاحب لهو ولعب، ثم إني تبت وتركت ذلك كله وخرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام ومعي بضيعة فركبت في المركب مع تجار من مصر، وركب معنا شاب صبيح كأنه يشرق وجهه. فلما توسطنا فقد صاحب المركب كيساً فيه مال، فأمر بحبس المركب وفتش من فيه وأتعبهم. فلما وصلوا إلى الشاب ليفتش، وثب وثبة من المركب حتى جلس على موج من أمواج البحر، وقام له الموج سرير على مثال وهو جالس عليه ننظر إليه من المركب. ثم قال: يا مولاي إن هؤلاء اتهموني وإني أقسم يا حبيب قلبي أن تأمر كل دابة في هذا المكان أن تخرج رؤوسها وفي أفواهها جوهر. قال ذو النون: فما تم كلامه حتى رأينا دواب البحر أمام المركب وحواليه قد أخرجت رؤوسها وفي فم كل واحدة منها جوهر مضيء يتلألأ ويلمع، ثم وثب الشاب من الموج إلى البحر وجعل يتبختر على متن الماء ويقول {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} حتى غاب عن عيني.(2/451)
845 - عابد آخر
حكيم من الحكماء قال: مررت بعريش من مصر وأنا أريد الرباط، فإذا أنا برجل في مظلة قد ذهبت عيناه ويداه ورجلاه، وبه أنواع البلاء وهو يقول: الحمد لله حمداً يوافي محامد خلقك بما أنعمت علي وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلاً. فقلت: لأنظرن أشيء علمه أم ألهمه الله إلهاماً؟ فقلت: على أي نعمة من نعمه تحمده؟ أم على أي فضيلة تشكره؟ فوالله ما أرى شيئا من البلاء إلا وهو بك، فقال: ألا ترى ما قد صنع بي؟ فوالله لو أرسل السماء علي ناراً فأحرقتني، وأمر الجبال فدكدتني، وأمر البحار فغرقتني ما ازددت له إلا حمداً وشكراً وإن لي إليك حاجة: بنية لي كانت تخدمني وتتعاهدني عند إفطاري انظر هل تحس بها؟
وقال عبد الوهاب بني كان لي فقلت: والله إني لأرجو أن يكون لي في قضاء حاجة هذا العبد الصالح قربة إلى الله عز وجل. فخرجت أطلبها بين تلك الرمال فإذا السبع قد أكلها. فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، من أين آتي هذا العبد الصالح أخبره بموت ابنته؟ فأتيته فقلت له: أنت أعظم عند الله منزلة أم أيوب عليه السلام؟ ابتلاه الله في ماله وولده وأهله وبدنه حتى صار عرضاً للناس؟ فقال: لا بل أيوب. قلت: فإن ابنتك التي أمرتني أن أطلبها أصبتها وإذا السبع قد أكلها. فقال: الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا وفي قلبي منها شيء. فشهق شهقة فمات. فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، من يعينني على غسله ودفنه؟ فإذا أنا بركب يريدون الرباط، فأشرت إليهم فأقبلوا إلي فأخبرتهم بالذي كان من أمره فغسلناه وكفناه ودفناه في مظلته تلك، ومضى القوم. وبت ليلتي في مظلته آنساً به حتى إذا مضى من الليل قد ثلثه إذا أنا به في روضة خضراء، وإذا عليه حلتان خضراوان، وهو قائم يتلو القرآن. فقلت ألست صاحبي بالأمس؟ فقال: بلى. فقلت: فما صيرك إلى ما أرى؟ قال: وردت من الصابرين على درجة لم ينالوها إلا بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء.
846 - عابد آخر
عمرو بن عثمان المكي قال: لقيت رجلاً بين قرى مصر يدور. فقلت: ما لي أراك لا تقر بمكان؟ قال: وكيف يقر مطلوب؟ فقلت له: أو ليس أنت في قبضته في كل مكان؟ قال: بلى، ولكن أخاف أن أستوطن الأوطان فيأخذني على غرة الاستيطان مع المغرورين.(2/452)
847 - عابد آخر
أبو بكر المصري قال: خرجت من عينونة أريد الرملة. فبينا أنا أمشي إذا بفقير يمشي حافي القدمين حاسر الرأس، وعليه خرقتان متزر بإحداهما مرتد بالأخرى ليس معه زاد ولا ركوة فقلت في نفسي لو كان مع هذا ركوة وحبل، فإذا ورد الماء توضأ وصلى كان خيراً له.
فلحقت به وقد اشتدت الهاجرة فقلت له: يا فتى لو جعلت هذه الخراقة التي على كتفيك على رأسك تتوقى بها الشمس كان خيراً لك، فسكت ومشى، فلما كان بعد ساعة قلت له: أنت حاف، أي شيء ترى في نعل تلبسها ساعة وأنا ساعة؟ فقال: أراك كثير الفضول لم تكتب الحديث؟ قلت: بلى. قال: فلم تكتب عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" فسكت ومشى. وعطشت وأنا على ساحل البحر فالتفت إلي فقال: أنت عطشان؟ فقلت: لا. فمشى ساعة وقد كظني العطش ثم التفت إلي فقال: أنت عطشان؟ فقلت: نعم، وما تقدر أن تعمل في مثل هذا الموضع؟ فأخذ الركوة مني ودخل البحر وعرف الماء وجاءني به، وقال: اشرب. فشربت ماء أعذب من ماء النيل وأصفى لوناً وفيه حشيش، فقلت في نفسي هذا ولي الله ولكني أدعه حتى إذا وافينا المنزل سألته الصحبة. فوقف وقال: أيما أحب إليك تمشي أو أمشي؟ فقلت: إن تقدم فاتني ولكن أتقدم أنا وأجلس في بعض المواضع، فإذا جاء سألته الصحبة. فقال: يا أبا بكر إن شئت تقدم واجلس وإن شئت تأخر فإنك لا تصحبني، ومضى وتركني، دخلت المنزل وكان لي به صديق وعندهم عليل فقلت لهم: رشوا عليه من هذا الماء. فرشوا عليه فبرأ وسألتهم عن الشخص فقالوا: ما رأيناه.
848 - عابد آخر
عبد العزيز بن عمير قال: كان في خرابات القبائل بمصر رجل مجذوم وكان شاب من أهل مصر يختلف إليه ويتعاهده ويغسل خرقه ويخدمه. فتقرأ فتى من أهل مصر فقال للذي كان يخدمه: إنه بلغني أنه يعرف اسم الله الأعظم فأنا أحب أن أجيء معك إليه فأتاه فسلم عليه وقال: يا عم إنه بلغني أنك تعرف اسم الله الأعظم فلو سألته أن يكشف ما بك؟ فقال: يا بن أخي، هو الذي أبلاني فأنا أكره أن أراده.(2/453)
ومن عقلاء المجانين بمصر:
849 - رجل من أصحاب ذي النون
أبو الحسن الفارسي قال: بلغنا أن رجلاً من أصحاب ذي النون أصيب بعقله فكان يطوف ويقول: آه أين قلبي؟ أين قلبي؟ من وجد قلبي؟ من وجد قلبي؟ والصبيان قد أولعوا به يرمونه من كل جانب.
فقضي أنه دخل يوماً بعض سكك مصر وقد هرب من الصبيان فجلس يستريح ساعة إذ سمع بكاء صبي تضربه والدته ثم أخرجته من الدار وأغلقت دونه الباب. فجعل الصبي يلتفت يميناً وشمالاً لا يدري أين يذهب؟ وإلى أين يقصد؟ فلما سكن ما به عاد ناكصاً على عقبيه حتى رجع إلى باب دار والدته فوضع رأسه على عتبة الدار فذهب به النوم. ثم انتبه فجعل يبكي ويقول: يا أماه من يفتح لي الباب إذا أغلقت عني بابك؟ ومن يدنيني من نفسه إذا طردتني من نفسك؟ ومن الذي يربيني بعد أن غضبت علي؟
قال: فرحمته أمه فقامت فنظرت من خلل الباب فوجدت ولدها تجري الدموع على خديه متمعكاً في التراب. ففتحت الباب وأخذته حتى وضعته في حجرها وجعلت تقبله وتقول: يا قرة عيني ويا عزيز نفسي، أنت الذي حملتني على نفسك، وأنت الذي تعرضت لما حل بك، لو كنت أطعتني لم تلق مني مكروهاً.
قال: فتواجد الفتى وصاح حتى اجتمع عليه الخلق فقالوا: ما الذي أصابك؟ فقال: قد وجدت قلبي، قد وجدت قلبي. فلما بصر بذي النون قال: يا أبا الفيض قد وجدت قلبي في سكة كذا وكذا عند فلانة. وسماها. ثم لم يزل إذا تواجد يقول ذلك.(2/454)
ذكر المصطفيات من عابدات مصر
850 - فاطمة بنت عبد الرحمن بن عبد الغفار الحراني
علي بن أبي سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى المصري قال: أنبأ أبي قال: فاطمة بنت عبد الرحمن تكنى أم محمد، مولدها ببغداد، وقدم بها إلى مصر وهي حدثة. سمعت من أبيها وطال عمرها حتى جاوزت الثمانين، وكانت تعرف بالصوفية لأنها أقامت تلبس الصوف ولا تنام إلا في مصلاها بلا وطاء فوق ستين سنة.
توفيت سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة.(2/455)
851 - أم أيمن بنت علي
امرأة أبي علي الروذباري واسمها عزيزة.
أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: كانت عزيزة امرأة أبي علي تقول: كيف لا أرغب في تحصيل ما عندك وإليك مرجعي؟ وكيف لا أحبك وما لقيت خيراً إلا منك؟ وكيف لا أشتاق إليك وقد شوقتني إليك؟.
وحكي عنها أنها قالت: لا ينتفع العبد بشيء من أفعاله كما ينتفع بطلب قوته من حلال.
قال: وخرجت يوماً من مصر وقت خروج الحاج والجمال تمر بها وهي تبكي وتقول: واضعفاه. وتنشد على أثره وتقول:
فقلت: دعوني وأتباعي ركابكم ... أكن طوع أيديكم كما يفعل العبد
وما بال رغمي لا يهون عليهم ... وقد علموا أن ليس لي منهم بد
وتقول: هذه حسرة من انقطع عن الوصول إلى البيت، فكيف ترى حسرة من انقطع عن الوصول إلى رب البيت؟(2/455)
852 - تحية النوبية
أبو عبد الرحمن محمد بن الحسن السلمي قال: سمعت الماليني الصوفي يقول: دخلت على تحية زائراً فسمعتها من داخل البيت وهي تناجي وتقول في مناجاتها: يا من يحبني وأحبه.
فدخلت إليها وسلمت عليها وقلت: يا تحية إنك تحبين الله تعالى فمن أين تعلمين أنه يحبك؟ فقالت: نعم إني كنت في بلد النوبة وأبواي كانا نصرانيين، وكانت أمي تحملني(2/455)
إلى الكنيسة وتجيء بي عند الصليب وتقول: قبلي الصليب، فإذا هممت بذلك أرى كفاً تخرج فترد وجهي حتى لا أقبله. فعلمت أن عنايته بي قديمة.(2/456)
ومن المجهولات الأسماء:
853 - عابدة
أبو عبد الله، محمد بن شجاع الصوفي قال: كنت بمصر أيام سياحتي فتاقت نفسي إلى النساء فذكرت ذلك لبعض إخواني فقال لي: ههنا امرأة صوفية لها ابنة مثلها جميلة قد ناهزت البلوغ. قال: فخطبتها وتزوجتها، فلما دخلت إليها وجدتها مستقبلة القبلة تصلي. قال: فاستحييت أن تكون صبية في مثل سنها تصلي وأنا لا أصلي. فاستقبلت القبلة وصليت ما قدر لي حتى غلبتني عيني فنمت في مصلاي ونامت في مصلاها. فلما كان في اليوم الثاني كان مثل ذلك أيضاً، فلما طال علي قلت: يا هذه ألاجتماعنا معنى؟ قال: فقالت لي: أنا في خدمة مولاي ومن له حق فما أمنعه. قال: فاستحييت من كلامها وتماديت على أمري نحو الشهر. ثم بدا لي في السفر، فقلت لها: يا هذه. قالت: لبيك. قلت: إني قد أردت السفر. قالت: مصاحباً بالعافية.
فقمت فلما صرت عند الباب قامت فقالت لي: يا سيدي كان بيننا في الدنيا عهد لم يقض بتمامه عسى في الجنة إن شاء الله. فقلت لها: عسى. فقالت لي: أستودعك الله خير مستودع. قال: فتودعت منها وخرجت.
قال: ثم عدت إلى مصر بعد سنين فسألت عنها فقيل لي: هي على أفضل مما تركتها عله من العبادة والاجتهاد.
انتهى ذكر أهل مصر.(2/456)
ذكر المصطفين من عباد الإسكندرية
854 - أسلم بن زيد الجهني
إبراهيم بن أدهم قال: لقيت رجلاً بالإسكندرية يقال له أسلم بن زيد الجهني. فقال: من أنت يا غلام؟ فقلت: شاب من أهل خراسان. قال: ما حملك على الخروج من الدنيا؟ فقلت: زهداً فيها ورجاء ثواب الله تعالى. فقال: إن العبد لا يتم رجاؤه لثواب الله تعالى حتى يحمل نفسه على الصبر. فقال له رجل ممن كان معه: وأي شيء الصبر؟ فقال: إن أدنى منازل الصبر أن يروض العبد نفسه على احتمال مكاره الأنفس. قال: قلت ثم مه؟ قال: إذا كان محتملاً للمكاره أورث الله عز وجل قلبه نوراً، قلت: فماذا النور؟ قال: سراج يكون في قلبه يفرق بين الحق والباطل والمتشابه. ثم قال: يا غلام إياك إذا صحبت الأخيار وجاريت الأبرار أن تغضبهم عليك، لأن الله تعالى يغضب لغضبهم ويرضى لرضاهم، وذلك أن الحكماء هم العلماء، هم الراضون عن الله إذا سخط الناس. يا غلام احفظ عني واعقل واحتمل، ولا تعجل، إياك والبخل. قلت: وما البخل؟ قال: أما البخل عند أهل الدنيا فهو أن يكون الرجل ضنيناً بماله، وأما عند أهل الآخرة فهو الذي يضن بنفسه عن الله. ألا وإن العبد إذا جاد بنفسه لله أورث الله قلبه الهدى والتقى، وأعطي السكينة والوقار والحلم الراجح والعقل الكامل.(2/457)
855 - عابد آخر
العباس بن يوسف الشكلي قال: دخلت الإسكندرية فسألت: هل بها أحد من الزهاد؟ فقالوا: فتى قد كان يصوم النهار ويقوم الليل فإذا أفطر على الشهوات، فرأى رؤيا هالته فأخذ في التقلل وصار فطره في خمسة عشر يوماً مرة. فقلت فعلى أي شيء يفطر إذا أفطر؟ فقيل لي: على شيء من الكسب وتمرات يعجنها فهي فطره من الوقت إلى الوقت. فقلت: فما الرؤيا التي رآها؟ قالوا: رأى فتى وقف عليه فقال له:
تجوع فإن الجوع يورث أهله ... مصادر بر خيرها الدهر دائم
ولا تك ذا بطن رغيب وشهوة ... فتصبح في الدنيا وقلبك هائم(2/457)
856 - عابدة
عن حجاج بن ربان قال: دخلت أنا ابن أبي رفاعة مسجد الإسكندرية فإذا أنا بامرأة قد اعتزلت عن النساء وجعلت حولها حظيرة من حجارة، فتقدم إليها ابن أبي رفاعة فقال لها: ما لي أراك قد اعتزلت النساء وجعلت حولك هذه الحجارة؟ فقالت: يا أبا عبد الرحمن كلمة من هذه، وكلمة من هذه، وقد ذهب الصيام قال: فالتفت إلي ابن أبي رفاعة فقال: أترى هذه سمعت من مالك بن أنس شيئاً؟ يعني أن الله تعالى هو الذي بصرها.(2/458)
ومن المصطفين من أهل أيلة
857 - أبو صخر يزيد بن أبي سمية الأيلي
محمد بن عمر قال: كان أبو صخر من العباد، وكان يصلي ليله أجمع ويبكي. وكانت معه في الدار امرأة يهودية ساكنة تبكي رحمة له، فقال ليلة في دعائه: اللهم إن هذه اليهودية قد بكت رحمة لي ودينها مخالف لديني فأنت أولى برحمتي. وكان يوافي الموسم عام مع محمد بن المنذر وصفوان بن سليم ويزيد بن خصيفة وأبي حازم، فيلقون عمر بن ذر فيقص عليهم ويذكرهم أمر الآخرة. فلا يزالون كذلك حتى ينقضي الموسم ثم لا يلتقون بعد إلا في كل موسم.
__________
857 - هو: أبو صخر، يزيد بن أبي سمية، بمهملة مصغرة، أبو صخر الأيلي بفتح الهمزة وسكون التحتانية، مقبول من الرابعة.(2/459)
ذكر المصطفين من أهل المغرب
858 - أبو عبد الله المغربي واسمه محمد بن إسماعيل
إبراهيم بن شيبان قال: سمعت أبا عبد الله المغربي يقول: ما رأيت ظلمة منذ سنين كثيرة. قال إبراهيم: وذلك أنه كان يتقدمنا بالليل المظلم ونحن نتبعه وهو حاف حاسر، وكان إذا عثر أحدنا يقول يميناً وشمالاً، ونحن لا نرى ما بين أيدينا، فإذا أصبحنا نظرنا إلى رجله كأنها رجل عروس خرجت من خدرها. وكان يقعد لأصحابه يتكلم عليهم فما رأيته انزعج إلا يوماً واحداً: كنا على الطور وهو قد استند إلى شجرة خروب وهو يتكلم علينا. فقال في كلامه لا ينال العبد مراده حتى ينفرد فرداً بفرد. فانزعج واضطرب ورأيت الصخور قد تدكدكت، وبقي في ذلك ساعات فلما أفاق كأنه نشر من تبر.
إبراهيم بن شبيان قال: سمعت أبا عبد الله المغربي يقول: أفضل الأعمال عمارة الأوقات في الموافقات. وقال: أغظم الناس ذلاً فقير داهن غنياً وتواضع له.
أسند أبو عبد الله المغربي الحديث عن عمرو بن أبي غيلان وتوفي على جبل الطور في سنة تسع وتسعين، وقيل تسع وسبعين ومائتين، وأوصى أن يدفن إلى جانب أستاذه علي بن رزين. وعاش كل واحد منهما عشرين ومائة سنة. وفهما على جبل الطور، وكان المغربي أستاذ إبراهيم الخواص.
__________
858 - هو: أبو عبد الله المغربي: كان من المعمرين، صحب علي بن رزين، قيل: إنه توفي عن مائة وعشرين سنة، وقبره بجبل طور سينا، عند قير استاذه علي بن رزين، كان من المحققين، له النكت الوثيقة والاستغاثة على الطريقة.(2/460)
ذكر المصطفين من عباد المغرب المجهولي الأسماء
859 - عابد
سعيد بن عثمان قال: سمعت ذا النون قال: بينا أنا سائر في بلاد المغرب إذا أنا برجل على عريش من البلوط وعنده عين ماء تجري فأقمت عليه يوماً وليلة أريد أن أسمع كلامه. فأشرف علي بوجهه، فسمعته يقول: شهد قلبي لله بالنوازل، وكيف لا يشهد قلبي بذلك؟ هيهات هيهات لقد خاب لديك المقصرون، سيدي ما أحلى ذكرك، أليس قصدك مؤملوك فنالوا ما أملوا، وجدت لهم بالزيادة على ما طلبوا؟ فقلت له: يا حبيبي إني مقيم عليك منذ يوم وليلة أريد أن أسمع كلامك. فقال لي: قد رأيتك يا بطال حين أقبلت، ولكن ما ذهب روعك من قلبي إلى الآن. فقلت له: ولم ذلك؟ وما الذي أفزعك مني فقال: بطالتك يوم عملك وتركك الزاد ليوم معادك، ومقامك على المظنون. فقلت له: يا حبيبي ما ها هنا فتية تستأنس بهم، فقال: بلى، ها هنا فتية متفرقون في رؤوس الجبال. قلت: فما طعامهم في هذا المكان؟ قال: أكلهم الفلق من خبز البلوط، ولباسهم الخرق من الثياب، قد يئسوا من الدنيا ويئست الدنيا منهم، أعطوا المجهود من أنفسهم، فلما دبرت المفاصل من الركوع وقرحت الجباه من السجود وتغيرت الألوان من السفر ضجوا إلى الله عز وجل بالاستغاثة.
860 - عابد آخر
يوسف بن الحسين قال: قال ذو النون، وصف لي رجل بالمغرب وذكر لي من حكمته وكلامه ما حملني على لقائه، فرحلت إليه إلى المغرب فأقمت على بابه أربعين صباحاً على أن يخرج من منزله إلى المسجد ويقعد، فكان يخرج وقت كل صلاة يصلي، ويرجع كالواله لا يكلم أحداً فقلت له يوماً: يا هذا إني مقيم ها هنا منذ أربعين صباحاً لا أراك تكلمني. فقال لي: يا هذا لساني سبع إن أطلقته أكلني. فقلت له: عظني رحمك الله بموعظة أحفظها عنك. قال: وتفعل؟ قلت: نعم إن شاء الله، قال: لا تحب الدنيا وعد الفقر والغنى والبلاء من الله نعمة، والمنع من الله عطاء، والوحدة مع الله أنساً، والذل عزاً والطاعة حرفة والتوكل معاشاً والله تعالى لكل شديدة عدة.(2/461)
ثم مكث بعد ذلك شهراً لا يكلمني، فقلت له: رحمك الله إني أريد الرجوع إلى بلدي فإن رأيت أن تزيدني في الموعظة فقال: اعلم أن الزاهد في الدنيا قوته ما وجد ومسكنه حيث أدرك ولباسه ما ستر الخلوة مجلسه، والقرآن حديثه، والله الجبار العزيز أنيسه والذكر رفيقه، والصمت جنته، والخوف سجيته، والشوق مطيته، والنصيحة نهمته والصبر وساده، والصديقون إخوانه والحكمة كلامه، والعقل دليله، والجوع أدمه والبكاء دأبه، والله عز وجل عدته. قلت بما تتبين الزيادة من النقصان؟ قال: عند المحاسبة للنفوس.
861 - عابدة من أهل إفريقية
محمد بن حفص قال: مررت على أخ لي من أهل مصر ونحن بالثغر، فأخرج إلي شكالاً. فقال: انظر من أي شيء هذا الشكال؟ فنظرت فإذا شكال من شعر، كأنه من صفائه وشدة سواده قد دهن بالدهن. فقلت: هذا عندي من أعراف الخيل العتاق الكرام. فقال: لا. والله، ولكنه من شعر امرأة من أهل إفريقية جعلت منه شكالاً، ثم أرسلت به إلي فقالت: اجعله شكال فرس غاز في سبيل الله عز وجل فإني طالما تمتعت به في غير طاعة الله قلت: إنما ينظر إلى ذل هذه المرأة لله تعالى وقصدها لا إلى صورة فعلها لأنها جهلت أن هذا الفعل لا يجوز.(2/462)
ذكر المصطفين من عباد الجبال
ذكر المصطفين من عباد جبل اللكام
إسحاق بن إبراهيم الجمال
...
ذكر المصطفين من عباد الجبال
الجبال على ضربين: جبال مسماة معروفة، وجبال غير مسماة. فنبدأ بالمعرفة.
ذكر المصطفين من عباد جبل اللكام
وهم قسمان: من يعرف اسمه، ومن لا يعرف.
فمن المعرفين:
862 - إسحاق بن إبراهيم الجمال
كان ينزل جبل اللكام عبد الله بن محمد الزنجاني قال: دخلت جبل اللكام فغلطت فوقعت على شيخ متزر بجلد متشح بمسح فقال: الله أكبر، جني أم إنسي؟ قلت: بل إنسي. قال: ضللت الطريق؟ قلت: نعم. قال: فعلمني كليمات. ودفع إلي عصا وقال: خذ هذه العصا فإنها تدلك على الطريق فإذا بلغت مرادك فألق العصا، فمشيت قليلاً فإذا أنا على باب أنطاكية فألقيت العصا. فلا أدري كيف كان ذلك؟ فرآني قوم فقالوا: من أين؟ قلت: من اللكام، ضللت الطريق فوقعت على شيخ فدلني وعلمني كلمات وقال لي: منذ ثلاثين سنة ما رأيت إنسياً. قالوا: نعم، كان ها هنا أخوان يقطعان الطريق فوقعا على هذا الشيخ فدعا لهما فتابا فليس اليوم في هذه النواحي أصلح منهما. وهذا الشيخ إسحاق بن إبراهيم الجمال.(2/463)
القسم الثاني: من لا يعرف اسمه من عباد جبل اللكام:
863 - عابد
أبو سليمان الداراني قال: مررت في جبل اللكام في جوف الليل فسمعت رجلاً يقول في دعائه: يا سيدي وأملي ومؤملي ومن به تم عملي أعوذ بك من بدن لا ينتصب بين يديك، وأعوذ بك من قلب لا يشتاق إليك، وأعوذ بك من دعاء لا يصل إليك، وأعوذ بك من عين لا تبكي عليك فعلمت أنه عارف فقلت له: يا فتى إن للعارفين مقامات، وللمشتاقين علامات. قال: وما هي؟ قلت: كتمان المصيبات، وصيانة الكرامات، فقال لي عظني. فقلت: اذهب فلا ترد الدنيا، واتخذ الفقر غنى، والبلاء من الله عز وجل شفاء، والتوكل معاشاً، والجوع جرفة، واتخذ الله لكل شدة عدة صعق صعقة فتركته.
864 - عابد آخر
جعفر بن محمد سهل السامري قال: سمعت ذا النون يقول: بينا أنا سائر في جبل اللكام مررت على واد كثير الأشجار والنبات. فبينا أنا واقف أتعجب من حسن زهرته ومن خضرة العشب في جنباته إذ سمعت صوتاً أهطل مدامعي وهيج بلابل حزني، فاتبعت الصوت حتى وقفني بباب مغار في سفح ذلك الوادي، فإذا الكلام يخرج من جوف المغار فاطلعت فيه فإذا أنا برجل من أهل التعبد والاجتهاد. فسعته يقول: سبحان من أخرج قلوب المشتاقين في رياض الطاعة بين يديه، سبحان من أوصل الفهم إلى عقول ذوي البصائر فهي لا تعتمد إلا عليه، سبحان من أورد حياض المودة نفوس أهل المحبة فهي لا تحن إلا إليه. ثم أمسك فقلت: السلام عليك يا حليف الأحزان وقرين الأشجان. فقال: وعليك السلام، ما الذي أوصلك إلي من قد أفرده خوف المسألة عن الأنام، واشتغل بمحاسبة نفسه من التنطع في الكلام؟ قلت: أوصلني إليك الرغبة في التصفح والاعتبار. فقال: يا فتى إن لله عز وجل عباداً قدح في قلوبهم زندا الشغف نار الومق فأرواحهم لشدة الاشتياق تسرح في الملكوت، وتنظر إلى ما ذخر لها في حجب الجبروت. قلت: صفهم لي. قال: أولئك قوم آووا إلى كنف رحمته. ثم قال: يا سيدي بهم فألحقني. ولأعمالهم فوفقني. قلت: ألا توصيني(2/464)
بوصية؟ قال: أحب الله عز وجل شوقاً إلى لقائه فإن له يوماً يتجلى فيه لأوليائه. وأنشأ يقول:
قد كان لي دمع فأفنيته ... وكان لي جفن فأدميته
وكان لي جسم فأبليته ... وكان لي قلب فأضنيته
وكان لي يا سيدي ناظر ... أرى به الجو فأعميته
عبدك أضحى سيدي موثقاً ... لو شئت قبل اليوم داويته
865 - عابد آخر
يوسف بن الحسين قال: سمعت ذا النون يقول: مررت برجل بجبل اللكام وهو ساجد يقول في سجوده: إلهي، بك عرفتك فما حاجتي إلى غيرك.
866 - عابد آخر
أبو إبراهيم الزهري قال: كنت جائياً من المصيصة، فمررت باللكام فأحببت أن أراهم، يعني المتعبدين، هناك فقصدتهم ووافيت صلاة الظهر، وأحسبه رآني فيهم إنسان عرفني. فقلت له: فيكم رجل تدلوني عليه؟ فقالوا: هذا الشيخ الذي يصلي بنا. فحضرت معهم صلاة الظهر والعصر. فقال له ذلك الرجل: هذا رجل من ولد عبد الرحمن بن عوف وجده أبو أمه سعد بن معاذ. قال: فبش بي وسلم علي كأنه كان يعرفني قال: فقلت له: من أين تأكل؟ فقال لي: أنت مقيم عندنا قلت: أما الليلة فأنا عندكم. قال: ثم مضيت معه فجعل يحدثني ويؤانسني حتى جاء إلى كهف جبل فقعدت ودخل فأخرج قعباً يسع رطلاً ونصفاً، قد أتى عليه الدهور. فوضعه وقعد يحدثني حتى إذا كادت الشمس تغرب اجتمعت حواليه ظباء فاعتقل منها ظبية فحلبها حتى ملأ ذلك القدح، ثم أرسلها. فلما سقط القرص حساه. ثم قال: ما هو غير ما ترى، وربما احتجت إلى الشيء من هذا فتجتمع حولي هذه الظباء فآخذ حاجتي وأرسلها. قلت: أبو إبراهيم اسمه أحمد بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، معروف بالعلم والزهد، وكان أحمد بن حنبل إذا رآه قام قائماً.
867 - عابد آخر
أبو صالح الدمشقي قال: كنت أدور في جبل اللكام أطلب الزهاد والعباد فرأيت رجلاً عليه مرقعة جالساً على حجر مطرقاً إلى الأرض، فقلت له: يا شيخ ما تصنع ها هنا؟ قال أنظر(2/465)
وأرعى. فقلت له: ما أرى بين يديك إلا الحجارة، فما الذي تنظر وترعى؟ قال: فتغير لونه ثم نظر إلي مغضباً وقال: أنظر خواطر قلبي، وأرعى أوامر ربي وبحق الذي أظهرك علي إلا جزت عني. فقلت: كلمني بشيء أنتفع به حتى أمضي. فقال: من لزم الباب أثبت في الخدم، ومن أكثر ذكر الذنوب أكثر من الندم، ومن استغنى بالله أمن العدم. ثم تركني ومضى.
868 - عابد آخر
سري السقطي قال: مكثت أربعين سنة أسأل الله عز وجل أن يريني ولياً من أوليائه، قال: فلم أر أحداً. فخرجت إلى الثغر وصعدت جبل اللكام بينما أنا أمشي في المحجة إذ رأيت قوماً جلوساً نحو ثلاثين نفساً مرضى، عليهم ثياب خلقان، فسلمت عليهم ووقفت فقلت: لأي شيء أنتم جلوس في هذا القفر؟ قالوا: نحن من هذه المدينة التي في أسفل الجبل إذا كان رأس كل شهر في مثل هذا اليوم في مثل هذا الموضع نجلس، فإذا كان الظهر أقبل علينا رجل من هذا الموضع فنقوم إليه فيدعو الله لنا. فقعدت معهم. قال: فلما أن كان الظهر أقبل رجل أسمر شديد السمرة عليه مئزر صوف، فقرأ على كل واحد قال: فلحقته قلت له: قف علي يرحمك الله أكلمك. فالتفت إلي وقال: يا سري لا تعامل غيره فتسقط من عينه.
869 - عابد آخر
بلغنا عن بعض السلف أنه قال: مضيت إلى جبل اللكام فما رأيت أعبد من شاب أصفر اللون، كان يصف قدميه فيصلي ركعتين من أول الليل إلى آخره فيختم فيها القرآن ثم يجلس فيعتذر إلى الصباح.(2/466)
870 - ومن عقلاء المجانين بجبل اللكام
بلغنا عن ذي النون المصري قال: وصف لي رجل من أهل المعرفة في جبل اللكام، فقصدته فلقيني جماعة من المتعبدين فسألتهم عنه؟ فقالوا: يا ذا النون تسأل عن المجانين؟ فقلت: وما الذي رأيتم من جنونه؟ قالوا: نراه في أكثر أوقاته هائماً ساهياً يكلم فلا يجيب، ويتكلم فلا نفقه ما يقول، وينوح في أكثر أوقاته على نفسه ويبكي فقلت في نفسي: ما أحسن أوصاف هذا المجنون. ثم قلت لهم: دلوني عليه. فقالوا: إنه يأوي في الوادي الفلاني. انطلقت إلى الوادي فأشرفت على واد وعر، فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فإذا أنا بصوت محزون شج من وجد قلب وهو يقول:(2/466)
يا ذا الذي أنس الفؤاد بذكره ... أنت الذي ما إن سواه أريد
تفنى الليالي والزمان بأسره ... وهواك غض في الفؤاد جديد
قال ذو النون: فاتبعت الصوت فإذا أنا بفتى حسن الوجه حسن الصوت، وقد ذهبت تلك المحاسن وبقيت رسومها، نحيل قد اصفر واحترق وهو شبيه بالواله الحيران. فسلمت عليه فرد السلام وبقي شاخصاً يقول:
أعميت عيني عن الدنيا وزينتها ... فأنت والروح شيء غير مفترق
إذا ذكرتك وافى مقلتي أرق ... من أول الليل حتى مطلع الفلق
وما تطابقت الأجفان عن سنة ... إلا رأيتك بين الجفن والحدق
ثم قال: يا ذا النون ما لك وطلب المجانين؟ قلت: أومجنون أنت؟ قال: قد سميت به. فقلت: مسألة؟ فقال: سل، قلت: أخبرني ما الذي حبب إليك الانفراد وقطعك عن المؤانسين وهيمك في الأودية؟ قال: حبي له هيمني، وشوقي إليه هيجني، ووجدي به أفردني. ثم قال: يا ليت شعري يا فتى إلى متى تتركني مقلقلاً في محبتي؟ فقلت: أخبرني أين محل الحب منك؟ وأين مسكن الشوق فيك؟ فقال: مسكن الحب سواد الفؤاد. قلت: فما الذي تجد في خلوتك؟ قال: الحق سبحانه. قلت: كيف تجده؟ قال: بحيث لا حيث. ثم قال: يا ذا النون أعجبك كلام المجانين؟ قلت: إي والله وأشجاني، ثم قلت له: ما صدق وجدانك للحق تعالى؟ فصرخ صرخة ارتج لها الجبل. ثم قال: يا ذا النون هكذا موت الصادقين. ثم سقط إلى الأرض ميتاً فتحيرت في أمره، لا أدري ما أصنع به، وإذا به قد غاب عني فلا أدري أين ذهب.(2/467)
ذكر المصطفين من عباد جبل لبنان
علي الجرجرائي
...
ذكر المصطفين من عباد جبل لبنان
وهم على ضربين: معروف ومجهول فنبدأ بالمعروف:
871 - علي الجرجرائي
كان من أستاذي بشر الحافي. وكان ينزل جبل لبنان.
القاسم بن القاسم قال: بلغني أن بشراً الحافي لقي علياً الجرجرائي بجبل لبنان على عين ماء. قال: فلما أبصرني قال: بذنب مني لقيت اليوم إنسياً. فعدوت خلفه وقلت: أوصني. فالتفت إلي وقال: أمستوص أنت؟ عانق الفقر، وعاشر الصبر، وعاد الهوى، وعاف الشهوات، واجعل بيتك أحلى من لحدك يوم تنقل إليه، على هذا طاب المسير إلى الله عز وجل.
__________
871 - هو: المتخلي من الشهوات، والمتحلي بالخلوات، تخلى من الجزع والهلع واستحلى الفزع والضرع، علي الجرجرائي، من قدماء المتعبدين، انظر حلية الأولياء 10/113.(2/468)
ذكر المصطفين من المجهولين الأسماء من عباد جبل لبنان
872 - عابد
محمد بن حسان قال: بينا أنا أدور في جبل لبنان إذ خرج علي شاب قد أحرقته السموم والرياح، عليه طمر رث، وقد سقط شعر رأسه على حاجبيه. فلما نظر إلي ولى هارباً مستوحشاً. فقلت له: يا أخي، موعظة لعل الله عز وجل أن ينفعني بها. فالتفت إلي وهو مار فقال: يا أخي، احذر الحق فإنه غيور، ولا يحب أن يرى في قلب عبده سواه.
873 - عابد آخر
إبراهيم بن الجنيد قال: حدثني أبو فروة السائح قال: بينا أنا أسح في جبل لبنان إذ جن الليل علي وأنا في بعض أوديته، فإذا بصوت محزون وهو يقول: يا من آنسني بقربه، وأوحشني من خلقه، وكان عند مسرتي ارحم اليوم عبرتي، فدنوت منه فإذا شيخ قد سقط حاجباه على عينيه. فلما أحس بي نفر وقال: إنسي أنت؟ قلت: إنسي. قال: إليك عني، فمنك فررت.
874 - عابد آخر
يوسف بن الحسين قال: سمعت ذا النون يقول: بينا أنا أسير على جبل لبنان في جوف الليل إذا أنا بعريش من ورق البلوط، وإذا شاب قد أخرج رأسه من العريش بوجه أحسن من القمر. فقال: شهد لك قلبي في النوازل بمعرفة درجة الفضل لك، وكيف لا يشهد لك قلبي بذلك ولا يحسن بقلبي أن يألف غيرك؟ هيهات لقد خاب لديك المقصرون عنك. ثم أدخل رأسه في عريشه وفاتني كلامه، فلم أزل واقفاً إلى أن طلع الفجر ثم أخرج رأسه فنظر إلى القمر فقال: إلهي أشرقت بنورك السموات، وأنارت بنورك الظلمات، وحجبت جلالك عن العيون فوصلت به معارف القلوب، ثم قال: بالتجائي إليك في حزني انظر إلي نظرة من ناديته فأجاب، فوثبت إليه فسلمت عليه فرد علي السلام. فقلت: رحمك الله أسألك عن مسألة؟ قال: لا. قلت: ولم ذاك؟ قال: ما خرج روعك من قلبي. قلت: حبيبي وما الذي أفزعك مني؟ قال: بطالتك في يوم شغلك، وتركك الزاد ليوم معادك، ووقوفك على الظنون يا ذا(2/469)
النون. فوقعت مغشياً علي. فما أفقت إلا بحر الشمس. ثم رفعت رأسي فلم أره ولا العريش. فقمت فسرت وفي منه حسرة.
875 - عابد آخر
عن أبي الحارث الأولاسي قال: بلغني أن بجبل لبنان رجلاً تطوى له الأرض من يومه إلى بيت المقدس، ووصف لي مكانه فصرت إليه فإذا هو رجل قد ألبس سلامة. فسألته من أين المطعم؟ فدعا بظبية كانت قريباً منه في الجبل فجاء بها إلى صخرة فيها نقرة فحلبها وسقاني من اللبن.(2/470)
ومن عقلاء المجانين بجبل لبنان:
876 - شيبان المصاب
محمد بن أحمد بن سلمة قال: حدثني سالم قال: بينا أنا سائر مع ذي النون في جبل لبنان إذا قال لي: مكانك يا سالم حتى أعود إليك. فغاب عني في الجبل ثلاثة أيام وأنا أنتظره، إذا هاجت علي النفس أطعمتها من نبات الأرض وسقيتها من ماء الغدران، فلما كان بعد الثالث رجع إلي متغير اللون ذاهب العقل، فقلت له بعد أن رجعت إليه نفسه: يا أبا الفيض أسبع عارضك؟ فقال: لا. دعني من تخويف البشرية، إني دخلت كهفاً من كهوف هذا الجبل فرأيت رجلاً أبيض الرأس واللحية أشعث أغبر نحيفاً نحيلاً كأنما أخرج من قبره، ذا منظر مهول وهو يصلي، فسلمت عليه بعد ما سلم. فرد علي السلام وقام إلى الصلاة فما زال راكعاً وساجداً حتى صلى العصر واستند إلى حجر حذاء المحراب يسبح، لا يكلمني. فبدأته بالكلام فقلت له: رحمك الله توصيني بشيء، ادع الله عز وجل لي بدعوة؟ فقال: يا بني آنسك الله تعالى بقربه. ثم سكت. فقلت: زدني. فقال: يا بني من آنسه الله بقربه أعطاه أربع خصال: عزاً من غير عشيرة، وعلماً من غير طلب، وغنى من غير مال، وأنساً من غير جماعة.
ثم شهق شهقة فلم يفق إلا بعد ثلاثة أيام حتى توهمت أنه ميت، فلما كان بعد ثلاثة أيام قام فتوضأ من عين ماء إلى جنب الكهف وقال لي: يا بني كم فاتني من الفرائض؟ صلاة أو صلاتان أو ثلاث؟ قلت: قد فاتتك صلاة ثلاثة أيام بلياليهن فقال:
إن ذكر الحبيب هيج شوقي ... ثم حب الحبيب أذهب عقلي
وقد استوحشت من ملاقاة المخلوقين، وقد أنست بذكر رب العالمين، انصرف عني بسلام. فقلت له: يرحمك الله وقفت عليك ثلاثة أيام رجاء الزيادة. وبكيت فقال: أحبب مولاك ولا ترد بحبه بدلاً، فالمحبون لله تعالى هم تيجان العباد وعلم الزهاد، وهم أصفياء الله وأحباؤه.
ثم صرخ صرخة فحركته فإذا هو قد فارق الدنيا. فما كان إلا هنية وإذا بجماعة من العباد منحدرين من الجبل حتى واروه تحت التراب. فسألت: ما اسم هذا الشيخ؟ قالوا: شيبان المصاب. قال سالم: فسألت أهل الشام عنه فقالوا: كان مجنوناً خرج من أذى الصبيان،(2/471)
قلت: تعرفون من كلامه شيئاً؟ قالوا: نعم، كلمة واحدة كان يغني بها إذا ضجر: إذا بك لم أجن يا حبيبي فبمن؟ قال سالم: فقلت عمي والله عليكم.
877 - عباس المجنون
عن ابن المبارك قال: صعدت جبل لبنان فإذا برجل عليه جبة صوف مفتقة الأكمام، عليها مكتوب، لا تباع ولا تشترى، قد ائتزر بمئزر الخشوع، واتشح برداء القنوع. فلما رآني اختفى وراء شجرة. فناشدته بالله فظهر فقلت: إنكم معاشر العباد تصبرون على الوحدة، وتقاسون هذه القفار الموحشة، فضحك ووضع كمه على رأسه وأنشأ يقول:
يا حبيب القلوب من لي سواكا ... ارحم اليوم مذنباً قد أتاكا
أنت سؤلي ومنيتي وسروري ... قد أبى القلب أن يحب سواكا
ليس سؤلي من الجنان نعيم ... غير أني أريدها لأراكا
قال: ثم غاب عني فتعاهدت ذلك الموضع سنة لأقع عليه فلم أره. فلقيني غلام أبي سليمان الداراني فسألته عنه وأعطيته صفته فبكى وقال: واشوقاه إلى نظرة أخرى منه. فقلت: من هو؟ قال: ذاك عباس المجنون، يأكل في كل شهر أكلتين من ثمار الشجر ونبات الأرض، يتعبد منذ ستين سنة.
__________
877 - هو: عباس المعروف بالمجنون، في الشوق مضنون، وعن الخلق مخزون، كان لمحبوبه ساهرا، وعن بني جنسه سائرا، انظر حلية الأولياء 10/152.(2/472)
ومن عباد جبل الطور:
878 - عابد
سهل بن عيسى الجبلي قال: كنت عند إبراهيم بن شيبان فسألوه عن وصف العارف؟ فقال: كنت على جبل الطور مع شيخي أبي عبد الله المغربي ومعنا نحو من سبعين رجلاً، أقل أو أكثر. فأتانا ذات يوم شاب عليه أثر الخشوع فكنا إذا صلينا قام فصلى معنا، وإذا تجارينا العلم قعد يستمع إلينا فبينا نحن ذات يوم قعود تحت شجرة في مكان فيه عشب، وكانت أيام الربيع، فتكلم الشيخ علينا في علوم المعارف فرأيت الشاب يتنفس، فاحترق ما بين يديه من العشب. ثم غاب فلم أره بعد ذلك. فقال الشيخ: هذا هو العارف، وهذا وصفه.(2/472)
ومن عباد جبال بيت المقدس:
879 - عابد:
محمد بن أحمد النيسابوري قال: سمعت ذا النون يقول: بينا أنا في بعض جبال بيت المقدس سمعت صوتاً وهو يقول: ذهبت الآلام عن أبدان الخدام وولهت بالطاعة عن الشراب والطعام، وألفت أبدانهم طول القيام بين يدي الملك العلام. فتبعت الصوت فإذا شاب أمرد قد علا وجهه اصفرار يميل ميل الغصن إذا ميلته الريح، وعليه شملة قد اتزر بها، وأخرى قد اتشح بها. فلما رآني توارى عني بالشجر فقلت له: أيها العالم، الجفاء ليس من أخلاق المؤمنين. فكلمني وأوصني. فخر ساجداً وجعل يقول: هذا مقام من لاذ بك واستجار بمعرفتك، وألف محبتك فيا إله القلوب وما تحويه من جلال عظمتك احجبني عن القاطعين لي عنك. قال ذو النون: ثم غاب عني فلم أره.(2/473)
ومن عابدات جبال بيت المقدس:
880 - عابدة
محمد المبارك الصوري قال: بينما أنا أجول في بعض جبال بيت المقدس إذا أنا بشخص منحدر من جبل، فإذا هي امرأة عليها مدرعة من صوف وخمار من صوف. فسلمت فردت فقالت: يا هذا من أين أقبلت؟ فقلت: رجل غريب. قالت: يا سبحان الله، وهل تجد مع سيدك وحشة الغربة وهو مؤنس الغرباء ومحدث الفقراء؟ فبكيت، فقالت: مم بكاؤك، ما أسرع ما وجدت طعم الدواء؟ فقلت: أو لا يبكي العليل إذا وجد طعم العافية؟ قالت: لا. قلت: لم؟ قالت: لأنه ما خدم القلب خادم هو أحب إليه من البكاء، ولا خدم البكاء خادم هو أحب إليه من الشهيق والزفير في البكاء. قلت: علميني رحمك الله فإني أراك حكيمة. فأنشأت تقول:
دنياك غرارة فذرها ... فإنها مركب جموح
دون بلوغ الجهول منها ... منيته، نفسه تطيح
لا تركب الشر واجتنبه ... فإنه فاحش قبيح
والخير فاقدم عليه ترشد ... فإنه واسع فسيح
فقلت: زيديني. فقالت: أحبب ربك شوقاً إلى لقائه، فإن له يوماً يتجلى فيه لأوليائه.(2/473)
ومن عقلاء المجانين مجنونة في جبل من جبال بيت المقدس يقال لها:
881 - زهراء الوالهة
محمد بن سلمة قال: سمعت ذا النون المصري يقول: بينا أنا في بعض أودية بيت المقدس إذ سمعت صوتاً يقول: يا ذا الأيادي التي لا تحصى، ويا ذا الجود والبقاء متع بصر قلبي من الجولان في بساتين جبروتك، واجعل همتي متصلة بجود لطفك يا لطيف، وأعذني من مسالك المتحيرين بجلال بهائك يا رؤوف، واجعلني لك في جميع الحالات خادماً وطالباً، وكن لي يا منور قلبي وغاية طلبي في الفضل صاحباً. قال ذا النون: فطلبت الصوت حتى ظهر لي، فإذا امرأة كأنها العود المحترق، وعليها درع من الصوف، وخمار من الشعر أسود قد أضناها الجهد وأفناها الكمد وذوبها الحب، وقتلها الوجد. فقلت لها: السلام عليك. فقالت: وعليك السلام يا ذا النون فقلت: لا إله إلا الله كيف عرفت اسمي ولم تريني؟ قالت: كشف عن سري الحبيب فرفع عن قلبي حجاب العمى فعرفني اسمك. فقلت: ارجعي إلى مناجاتك. فقالت: أسألك يا ذا البهاء أن تصرف عني شر ما أجد فقد استوحشت من الحياة. ثم خرت ميتة. فبقيت متحيراً متفكراً. فأقبلت عجوز كالوالهة فنظرت إليها ثم قالت: الحمد لله الذي كرمها. قلت: من هذه؟ فقالت: ألم تسمع بزهراء الوالهة؟ هذه ابنتي توهم الناس منذ عشرين سنة أنها مجنونة وإنما قتلها الشوق إلى ربها.(2/474)
ومن عباد جبال المغرب:
882 - عابد
عن ذي الكفل أخي ذي النون قال: سمعت ذا النون يقول: بينا أنا في جبال المغرب إذ وقعت على رجل عابد في رأس جبل، فسلمت عليه؛ فأطرق إلى الأرض ثم رفع رأسه وقال: عليكم السلام. قال ذو النون فقلت له: ما مقامك في هذا المكان؟ فقال: معي بضيعة قد هربت بها من الأسواق وقد جئت بها لأدفنها في هذا المكان. قلت: وما بضاعتك هذه؟ قال: عقد توحيدي وخالص ضمير مكنوني قلت: لو أنست بالناس. قال: منهم هربت، وقد قصدت إلى من قصده غيري من الراجين. فوجدوه مؤنساً. ثم رفع طرفه نحو السماء ثم قال: أنت أنت. قال ذو النون: فرفعت طرفي في موضع رفع طرفه ورددت طرفي فلم أره.(2/474)
ومن عباد جبال الإسكندرية:
883 - عابد
جعفر بن النعمان الرازي قال: قال إبراهيم بن أدهم ذات يوم: يا أهل الشام تعجبون مني؟ وإنما العجب من الرجل الإسكندراني، فإني طلبته في جبال الإسكندرية حتى وقعت عليه بعد ثمانية أيام وهو يصلي كأنه مدهوش. ثم حانت منه التفاتة إلي فقال لي: من أنت؟ قلت: رجل أعرابي. قال: هل عندك حديث تحدثنا به؟ قال: فحدثته بخمسة أحرف فغشي عليه وأنا أنظر، ثم أفاق فقال: خذ أنت ها هنا حتى آخذ أنا ههنا. فطلبته بعد فلم أقدر عليه.(2/475)
ومن عباد جبل المقطم:
884 - يوسف بن الحسين قال: سمعت ذا النون المصري يقول: وصف لي رجل في جبل المقطم فقصدته فرأيت رجلاً متعبداً، فمكثت معه أربعين يوماً لا أكلمه. ثم استخرت الله تعالى يوماً في كلامه، وسألت الله أن يوفقه لي، فقلت: أيها الشيخ فما النجاة؟ فقال: في التقوى والمراقبة. فقلت: زدني، فقال: فر من الخلق ولا تستأنس بهم. فقلت له: زدني. فقال: إن لهل عباداً نظروا إلى باطن الدنيا لما نظر الخلق إلى ظاهرها، فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم؟ إنهم قوم صافوه بالعقول ودققوا له الفطن فسقاهم كأساً من محبته فهم في عطشهم أروياء، وفي ربهم عطاش. قال: فقلت له: زدني. فقال: إنهم أقوياء في توكلهم.(2/475)
من عباد جبل الأقرع:
885 - عابد
قال بشر بن الحارث: كنت ماراً في جبال الشام فأتيت على رجل يقال له الأقرع، فإذا أنا بشاب قد نحل جسمه ورق جلده، وعليه ثوب من صوف، فسلمت عليه فرد علي. فقلت في نفسي: أقول له عظني وأبلغ. فقال لي قبل أن أكلمه فأجاب عن سري: عظ نفسك بنفسك، وفك نفسك من حبسك، ولا تشتغل بموعظة غيرك من جنسك، واذكر الله في الخلوات يقك السيئات، وعليك بالجد والاجتهاد. ثم بكى وجعل يقول: شغلت النفوس بالقليل الفاني ونحبت الأبدان بالتسويف والأماني. ثم قال: يا بشر، وما رآني وما عرفني قبل ذلك، إن لله عباداً خالط قلوبهم الحزن، فأسهر ليلهم وأظمأ نهارهم، وأبكى عيونهم، كما وصفهم ربهم في كتابه: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} الذاريات.(2/476)
ذكر المصطفين من عباد جبال الشام المجهولة الأسماء
886 - حميد بن جابر، الأمير الشامي
إبراهيم بن بشار قال: كنت يوماً ماراً مع إبراهيم بن أدهم في صحراء إذ أتينا على قبر مسنم فترحم عليه وبكى، فقلت: من هذا؟ فقال: هذا قبر حميد بن جابر أمير هذه المدن كلها، كان غرقاً في بحار الدنيا ثم أخرجه الله عز وجل منها فاستنقذه. لقد بلغني أنه سر ذات يوم بشيء من ملاهي ملكه ودنياه وغروره وفتنته. قال: ثم نام في مجلسه ذلك مع من يخصه من أهله. قال: فرأى رجلاً واقفاً على سريره وبيده كتاب فناوله ففتحه فإذا فيه كتاب بالذهب مكتوب: لا تؤثرن فانياً على باق، ولا تغترن بملكك وقدرتك وسلطانك وخدمك وعبيدك ولذاتك وشهواتك، فإن الذي أنت فيه جسيم لولا أنه عديم، وهو ملك لولا أن بعده هلك وهو فرح وسرور لولا أنه لهو وغرور، وهو يوم لو كان يوثق له بغد، فسارع إلى أمر الله عز وجل فإن الله قال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران] . قال: فانتبه فزعاً وقال: هذا تنبيه من الله عز وجل وموعظة. فخرج من ملكه لا يعلم به، وقصد هذا الجبل فتعبد فيه. فلما بلغتني قصته وحدثت بأمره قصدته فسألته فحدثني ببدو أمره وحدثته ببدو أمري، فما زلت أقصده حتى مات ودفن ههنا. فهذا قبره رحمه الله.
887 - عابد آخر
بشر بن الحارث قال: استقبلني رجل في طريق الشام وعليه عباءة قد عقدها مستوفزاً كأنه وحشي. فقلت له: رحمك الله من أين جئت؟ قال لي: جئت من عنده. فقلت: وإلى أين تذهب؟ فقال: غليه فقلت له: ففيم النجاة رحمك الله؟ قال: في التقوى والمراقبة لمن أنت له مبتغ، قلت: فأوصني. قال: لا أراك تقبل. قلت: أرجو أن أقبل إن شاء الله. قال: فر منهم ولا تأنس بهم واستوحش من الدنيا فإنها تعرضك للعطب. ثم قال: من عرف الدنيا لم يطمئن إليها ومن أبصر ضررها أعد لها دواءها، ومن عرف الآخرة ألح في طلبها، ومن توهمها اشتاق إلى ما فيها فهان عليه العمل.(2/477)
ثم قال: فكيف لو توهمت من يملكها ومن زخرفها ومن قال لها: فكانت وتزيني فتزينت؟ والتشوق إلى مالكها أولى بقلوب المشتاقين، وأطيب لعيش المستأنسين.
ثم قال: قد أنسوا بربهم فالأمر فيما بينهم سليم، صافوه بالعقول، ودققوا له الفطن، فسقاهم من كأس حبه شربة فظلوا في عطشهم أروياء، وفي ربهم عطاشاً.
ثم قال: يا هذا أتفهم ما أقول وإلا فلا تتبعني؟ قلت: بلى رحمك الله إني أفهم جميع ما قلت. قال: الحمد لله الذي فهمك. قال: ورأيت في وجهه السرور ثم قال: خذ إليك نعم هم الذين لا يملون كاساته من تحفه، فالحكمة إلى قلوبهم سائلة متواصلة، لأنهم الأكياس الذين لم تدنسهم المطامع ولم تقطعهم عن الله عز وجل القواطع، ليوث في تعززهم، أغنياء في توكلهم، أقوياء في تقلبهم، قد قطعتهم الخشية وولهتهم الغربة، نعيمهم اليقين، وروحهم السكون، ألين الخلق عريكة وأشده حياء، وأشرفه مطلباً. لا يركنون إلى الدنيا جزعاً. ولا يتطاولون ولا يتماوتون، فهم صفوة الله عز وجل من خلقه، وضائن من خالص عباده. ثم قال لي أن القلوب الحية من دون هذا لها مقنع. نفعنا الله وإياك بما علمنا وسلمنا وإياك بما علمنا، السلام عليك ورحمة الله. قال بشر: فطلبت إليه فأبى علي وقال: لست أنساك فلا تنسني. ثم مضى وتركني. قال بشر: فلقيت عيسى بن يونس فحدثته بقصته فقال لي: لقد أنس بك ذلك الرجل الصالح، إنه رجل من خيار الناس يأوي في الجبل وإنما يدخل إلى المدينة في كل جمعة لصلاة الجمعة ويبيع في ذلك اليوم حطباً يكفيه إلى الجمعة الأخرى، وعجباً له كيف كلمك؟ لقد حفظت عنه كلاماً حسناً.
888 - عابد آخر
ابن مسروق قال: سمعت سرياً يقول: بينا نحن نسير في بلاد الشام ملنا عن الطريق ناحية جبل عليه عابد، فقال رجل من القوم: إنا قد ملنا عن الطريق، وها هنا عابد فميلوا بنا إليه نسأله، لعل الله عز وجل يوفقه يكلمنا. فملنا إليه فوجدناه يبكي. قال سري: فقلت له ما أبكى العابد؟ قال: ما لي لا أبكي؟ وقد توعرت الطرق وقل السالكون فيها، وهجرت الأعمال وقل الراغبون فيها، وقل الحق ودرس هذا الأمر فلا أراه إلا في لسان كل بطال ينطق بالحكمة، ويفارق الأعمال، قد افترش الرخصة وتمهد التأويل، واعتل بزلل العاصين ثم صاح صيحة وقال: كيف سكنت قلوبهم إلى روح الدنيا، وانقطعت عن روح ملكوت السماء؟ ثم جعل(2/478)
يقول: واغماه من فتنة العلماء، واكرباه من حيرة الأدلاء. وجال جولة ثم قال: أين الأبرار من العلماء؟ بل أين الأخيار من الزهاد؟ ثم بكى وقال: شغلهم والله ذكر طول الوقوف، وهم الجواب عن ذكر الجنة والنار والثواب. ثم قال: أنا أستغفر الله من شهوة الكلام. تنحوا عني. فخليناه يبكي وقد ملئنا منه غماً وهماً.
889 - عابد آخر
محمد بن أحمد الشمشاطي قال: سمعت ذا النون يقول: بينا أنا سائر بين جبال الشام إذا بشيخ على تلعة من الأرض قد تساقطت حاجباه على عينيه كبراً. فتقدمت إليه فسلمت عليه فرد علي السلام ثم جعل يقول: يا من دعاه المذنبون فوجدوه قريباً، ويا من قصده الزاهدون فوجدوه حبيباً، ويا من استأنس به المجتهدون فوجدوه مجيباً ثم أنشأ يقول:
وله خصائص مصطفون لحبه ... اختارهم في سالف الأزمان
اختارهم من قبل فطرة خلقه ... فهم ودائع حكمة وبيان
890 - عابد آخر
أبو عثمان سعيد بن الحكم قال: سمعت ذا النون يقول: بينا أنا أسير في بلاد الشام فإذا أنا بعابد قد خرج من بعض الكهوف فلما نظر إلي استتر بين تلك الأشجار. ثم قال: أعوذ بك سيدي ممن يشغلني عنك، يا حبيب التوابين، ومعين الصادقين، وغاية أمل المحبين، ثم صاح: واغماه من طول البكاء وطول الحزن واكرباه من طول المكث في الدنيا. ثم قال: سبحان من أذاق قلوب العارفين به حلاوة الانقطاع إليه، فلا شيء ألذ عندهم من ذكره والخلوة بمناجاته. ثم مضى وهو يقول: قدوس قدوس قدوس. فناديته: أيها العابد قف لي. فوقف وهو يقول: اقطع عن قلبي كل علاقة، واجعل شغله بك دون خلقك. فسلمت عليه ثم سألته أن يدعو الله لي فقال: خفف الله عليك مؤن نصب السير إليه، وأداك إلى رضاه حتى لا يكون بينك وبينه علاقة. ثم سعى بين يدي كالهارب من السبع.(2/479)
ومن عابدات جبال الشام:
891 - عابدة
عبد الملك بن هاشم قال: سمعت ذا النون يقول: كنت سائراً في بعض جبال الشام فإذا أنا بكوخ فقصدته فإذا أنا بعجوز قد عميت من البكاء. فدنوت منها فسلمت وقلت: يا عجوز حدثيني ما الغنى؟ قالت: الزهد في الدنيا. قلت: فما الزهد في الدنيا؟ قالت ترك طلب المفقود حتى يفقد الموجود.(2/480)
ذكر المصطفين من عباد جبال غير معروفة المكان
892 - عابد في جبل
عن مسعر أن عابداً كان يتعبد في جبل، يؤتى بقوته كل يوم قرصين. قال سفيان: وقال غير مسعر: كان يأتيه طير أبيض. قال فأتاه ذات يوم بقوته فجاءه سائل فأعطاه أحد القرصين. ثم أتاه سائل آخر فكسر القرص الثاني نصفين فأعطاه النصف وبقي النصف لنفسه، ثم قال والله: ما هذا النصف بالذي يغني عن هذا شيئاً، ولا هذا النصف بالذي يكفيني، ولأن يشبع واحد خير من أن يجوع اثنان. فسلم القرص كله للسائل وبات طاوياً، فأتي في منامه فقيل له: سل. فقال: أسأل المغفرة. فقيل له: هذا شيء قد أعطيته فسل. قال أسأل أن يغاث الناس. قال: وكان عام جدب فأغيثوا.
893 - عابد آخر على جبل
أبو الهيثم عن عبد الله بن غالب أنه حدثه قال: خرجت إلى الجزيرة فركبت السفينة فأرفت بنا إلى ناحية قرية عادية في سفح جبل خراب ليس فيها أحد. قال: فخرجت فطوفت في ذلك الخراب أتأمل آثارهم وما كانوا فيه إذ دخلت بيتاً يشبه أن يكون مأهولاً. قال فقلت: إن لهذا البيت لشأناً. قال: فرجعت إلى أصحابي فقلت: إن لي إليكم حاجة. قالوا: وما هي؟ قلت: تقيمون علي ليلة. قالوا: نعم. قال: فدخلت ذلك البيت، فقلت: إن يكن له أهل فسيأوون إليه إذا جاء الليل. فلما أن جاء الليل سمعت صوتاً قد انحط من رأس الجبل، يسبح الله ويحمده ويكبره. فلم يزل الصوت يدنو كذلك حتى دخل البيت. قال: ولم أر في ذلك البيت شيئاً إلا جرة ليس فيها شيء، ووعاء ليس فيه طعام. فصلى ما شاء الله أن يصلي، ثم انصرف إلى ذلك الوعاء فأكل منه طعاماً، ثم حمد الله تعالى. ثم أتى تلك الجرة فشرب منها شراباً. ثم قام فصلى حتى أصبح.
فلما أصبح أقام الصلاة فصليت معه فقال: رحمك الله دخلت بيتي بغير إذني؟ قال: قلت رحمك الله لم أرد إلا الخير. وقلت: رأيتك أتيت هذا الوعاء فأكلت منه طعاماً وقد نظرت قبل ذلك فلم أر فيه شيئاً، وأتيت تلك الجرة فشربت منها شراباً وقد نظرت قبل ذلك فلم أر فيها(2/481)
شيئاً. قال: أجل ما من طعام أريده من طعام الناس إلا أكلته من هذا الوعاء، ولا شراب أريده من شراب الناس إلا شربته من هذه الجرة. قال: قلت: وإن أردت السمك الطري؟ قال: وإن أردت السمك الطري. فقلت: رحمك الله إن هذه الأمة لم تؤمر بالذي صنعت، أمرت بالصلاة في الجماعة وعيادة المريض، واتباع الجنائز. فقال: ههنا قرية فيها كل ما ذكرت وأنا منتقل إليها. قال: فكاتبني حيناً ثم انقطع عني كتابه فظننت أنه مات. وكان عبد الله بن غالب لما مات وجد من قبره ريح المسك.
894 - عابد آخر على جبل
قال محمد بن الحسين: حدثني أحمد بن سهل قال: حدثني أبو فروة السائح، وكان والله من العاملين لله عز وجل بمحبته، قال: بينا أنا أطوف في بعض الجبال إذ سمعت صدى جبل فقلت: إن ها هنا لأمراً ما. فاتبعت الصوت فإذا أنا بهاتف يهتف: يا من آنسني بذكره وأوحشني من خلقه، وكان لي عند مسرتي. ارحم اليوم عبرتي وهب لي من معرفتك ما أزداد به تقرباً إليك. يا عظيم الصنيعة إلى أوليائه اجعلني اليوم من أوليائك المتقين.
قال: ثم سمعت صرخة ولم أر أحداً. فأقبلت نحوها فإذا أنا بشيخ مغشي عليه قد بدا بعض جسده، فغطيته ثم لم أزل عنده حتى أفاق، فقال: من أنت رحمك الله؟ قلت: رجل من بني آدم. قال: إليكم عني فمنكم هربت، قال: ثم بكى وقام، فانطلق وتركني. فقلت: رحمك الله دلني على الطريق. فأومأ بيده إلى السماء.
895 - عابد آخر على جبل
محمد بن أبي عبد الله الخزاعي قال: حدثني رجل من أهل الشام أنه دخل كهف جبل في ناحية عن طريق الناس. فإذا هو بشيخ مكتوب على وجهه، وإذا هو يقول: إن كنت تطيل جهدي في دار الدنيا وتطيل شقائي في الآخرة فلقد أهملتني وأسقطتني من عينك أيها الكريم، قال: فسلمت فرفع رأسه فإذا دموعه قد بلت الأرض. فقال: ألم تكن الدنيا لكم واسعة وأهلها لكم أناساً؟ فلما رأيت من عقله ما رأيت قلت له: رحمك الله اعتزلت الناس واغتربت في هذا الموضع؟ فقال: وأنت يا أخي، فحيثما ظننت أنه أقرب لك إلى الله عز وجل فابتغ إلى ذلك سبيلاً فلن يجد مبتغوه من غيره عوضاً. قال: قلت: فالمطعم؟ قال: أقل ذلك عند الحاجة إليه إذا أردنا ذلك: فنبت الأرض وقلوب الشجر. قال: فقلت: ألا أخرجك من هذا الموضع فآتي(2/482)
بك أرض الريف والخصب؟ قال: فبكى ثم قال: إنما الريف والخصب حيث يطاع الله عز وجل، وأنا شيخ كبير أموت الآن، لا حاجة لي بالناس.
896 - عابد آخر في جبل
أبو حفص عمر بن عبد الله المؤذن قال: قال قاسم الجرعن: خرجت حاجاً على طريق الشام، فبينا أنا أسير في الليل إذ غلطت الطريق فسمعت صيحة فإذا أنا بجماعة قد مسهم من الغلط مثل الذي مسني، وقد وقفوا على رجل من المتعبدين في جبل وهو يبكي ويقول في بكائه: أترى بكائي نافعي عندك ومنقذ رقبتي من حكمك؟ أتراك آخذاً من نفسي بحقك وموبخها على رؤوس الأشهاد بما ضيعت من أمرك؟ ثم صاح: آوه لكشف سترك عني، آوه لوقوفي بين يديك يا سيداه، فقال له بعض القوم: إنا غلطنا الطريق. فقال: وأنا أيضاً قد غلطت الطريق، فمن لي ولكم بالاستقامة على وجهها؟ ثم قال: يا دليل الأدلاء دلني ودلهم ولا تحيرني وإياهم.
قال: فكشف لنا عن الطريق فسلكناها وتركناه واقفاً في صومعته.
897 - عابد آخر في جبل
بلغنا عن أبي الحارث أحمد بن الحارث الأولاشي أنه قال: رأيت رجلاً على رأس جبل كأنه شن بال شاخصاً ببصره نحو السماء لا يفتر عن الذكر. فسألته المقام معه. فقال: إن أطقت ما طوقت فأقم وإلا فامض عني، قلت: وما هو؟ قال: يكون الذهب والفضة عندك كالحصى والمدر، والسباع والهوام كالطير والأنعام، وخوفك من جنسك كخوفك من السباع، وخوفك من صحبتهم على دينك كخوفك من الشطان، فلعلك تنال ما تريد، ومتى كان الذهب والفضة أكبر في قلبك فإنك ستميل إلى الأكبر، ومتى هبت السباع أوشك أن تبعد إلى الأمن، ومتى أنست بالمخلوقين أوشك أن تهرب من الوحشة. وثلاثة أشياء هن تمام الأمر: أن تعلم أنك مبتلي لا محالة، وأن لك رزقاً مقسوماً وكذلك أجل معلوم، والثالث: أن تقصر الأمل، فهنالك لا تبالي أين حللت من البلاد ولا من شاهدت من العباد فتقدم إن شئت على بصيرة وإلا فتأخر على علم بضعف وعجز. قلت: صف لي ما يزيد في صبري. قال: تعلم أن الله عز وجل ناظر إليك، قد روي في بعض الأخبار: بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي، وما يكابد المكابدون في طلب مرضاتي فإذا علمت أن صبرك يرضي مولاك صبرت. قلت: فما السبيل إلى الرضاء؟ قال: علم القلب بأن المولى عادل في قضائه غير متهم(2/483)
فيما حكم. قلت: فما معنى الرضاء؟ قال: سرور القلب بمر القضاء؟ ثم قال: لا تنم إلا نوم يقظان، وكيف يأمن من لم يأته الأمان؟ وبادر قبل الفوت، واستعن على تصفية الطعمة بالقلة والتمس الصمت بقلة الخلطاء، واتبع قول الرسول صلى الله عليه وسلم وقول السلف، ولا تميلن إلى محدثات الأمور، فكل محدثة بدعة، واعلم أن الله يراك فاتقه، وقم له بالقسط على نفسك، وتفرد بالفرد إذ كنت له عبداً، وتجرد من الهموم الشاغلة، واجعل الهم واحداً تروح في العاجلة والآجلة.
898 - عابد آخر في جبل
بلغنا عن بعض السلف أنه قال: رأيت في بعض الجبال شاباً أصفر اللون غائر العينين، مرتعش الأعضاء، لا يستقر على الأرض، كأن به وخز الأسنة، ودموعه تتحادر. فقلت له: من أنت؟ فقال: آبق من مولاه. قلت: فتعود وتعتذر. فقال: العذر يحتاج إلى إقامة حجة فكيف يعتذر المقصر؟ فقلت: تتعلق بمن يشفع فيك. فقال: كل الشفعاء يخافون منه؟ قلت: فمن هو قال: مولاي رباني صغيراً فعصيته كبيراً، شرط لي فوفاني، وضمن لي فأعطاني، فخنته في ضماني، وعصيته وهو يراني، فواحيائي من حسن صنعه وقبيح فعلي. فقلت: أين هذا المولى؟ فقال: أين توجهت لقيت أعوانه، وأيت استقرت ف قدمك ففي داره. فقلت: ارفق بنفسك فربما أحرقك هذا الخوف. فقال: الحريق بنار خوفه - لعله يرضى - أحق وأولى. ثم أنشأ يقول:
لم يبق خوفك لي دمعاً ولا جلداً ... لا شك أني بهذا ميت كمدا
عبد كئيب أتى بالعجز معترفاً ... وناره تحرق الأحشاء والكبدا
ضاقت مساكنه في الأرض من وجل ... فهب لي منك لطفاً إن لقيت غدا
فقلت: يا غلام، الأمر أسهل مما تظن. فقال: هذا من فتنة البطالين، هبه تجاوز وعفا، أين آثار الإخلاص والصفاء؟ ثم صاح صيحة، فخرجت عجوز من كهف الجبل، عليها ثياب رثة. فقالت: من أعان على البائس الحيران؟ فقلت: يا أمة الله دعوته إلى الرجاء؟ فقالت: قد دعوته إلى ذلك فقال: الرجاء بلا صفاء شرك. قلت: من أنت منه؟ قالت: والدته. فقلت: أقيم عندك أعينك عليه؟ فقالت: خله ذليلاً بين يدي قاتله عساه يراه بعين معين فيرحمه. فلم أدر مما ذا أعجب؟ من صدق الغلام في خوفه أو من قول العجوز وصدقها. انتهى ذكر عباد الجبال بحمد الله ومنه.(2/484)
ذكر المصطفين من عباد الجزائر
899 - عابد
عبيد الله بن أبي نوح قال: لقيت رجلاً من العباد في بعض الجزائر منفرداً فقلت: يا أخي ما تصنع ها هنا وحدك؟ أما تستوحش؟ قال: الوحشة في غير هذا الموضع أعم. قلت: مذ كم أنت ها هنا؟ قال: منذ ثلاثون سنة. قلت: فمن أين المطعم؟ قال: من عند المنعم. قلت: فها هنا في القرب منك شيء تعول عليه إذا احتجت إليه من المطعم رجعت إليه. قال: ما أكرثك بما قد كفيته وضمن لك. قلت: أخبرني بأمرك. قال: ما لي أمر غير ما ترى، غير أني أظل في هذا الليل والنهار متكلاً على كرم من لا تأخذه سنة ولا نوم.
قال: ثم صاح صيحة أفزعني فوثبت وسقط مغشياً عليه. فتركته على تلك الحال ومضيت.
900 - عابد آخر
بلغنا عن عبد الواحد بن زيد أنه قال: ركبنا في مركب فطرحتنا الريح إلى جزيرة، فإذا فيها رجل يعبد صنماً، فقلنا له: من تعبد؟ فأومأ إلى الصنم. فقلنا: إن معنا في المركب من يسوي مثل هذا. ليس هذا بإله يعبد. قال: فأنتم لمن تعبدون؟ قلنا: الله عز وجل قال: وما الله؟ قلنا: الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي الأحياء والأموات قضاؤه فقال: كيف علمتم به؟ قلنا: وجه هذا الملك إلينا رسولاً كريماً فأخبرنا بذلك. قال: فما فعل الرسول؟ قلنا: لما أدى الرسالة قبضه الله. قال: فما ترك عندكم علامة؟ قلنا: بلى ترك عندنا كتاب الملك. قال: أروني كتاب الملك، فينبغي أن تكون كتب الملوك حساناً. فأتيناه بالمصحف فقال: ما أعرف هذا. فقرأنا عليه سورة من القرآن فلم نزل نقرأ ويبكي حتى ختمنا السورة. فقال: ينبغي لصاحب هذا الكلام أن لا يعصى. ثم أسلم وحملناه معنا وعلمناه شرائع الإسلام وسوراً من القرآن. فلما جن علينا الليل وصلينا العشاء أخذنا مضاجعنا. فقال لنا: يا قوم هذا الإله الذي دللتموني عليه إذا جن عليه الليل ينام؟ قلنا: لا يا عبد الله، هو عظيم قيوم لا ينام. قال: بئس العبيد أنتم، تنامون ومولاكم لا ينام. فأعجبنا كلامه. فلما قدمنا عبادان قلت لأصحابي: هذا قريب عهد بالإسلام فجمعنا له دراهم وأعطيناه فقال: ما هذه؟(2/485)
قلنا: تنفقها، قال لا إله إلا الله، دللتموني على طريق ما سلكتموها، أنا كنت في جزائر البحر أعبد صنماً من دونه ولم يضيعني - يضيعني وأنا أعرفه. فلما كان بعد أيام قيل لي: إنه في الموت. فأتيته فقلت: هل من حاجة؟ فقال: قضى حوائجي من جاء بكم إلى جزيرتي. قال عبد الواحد: فحملتني عيني فنمت عنده. فرأيت مقابر عبادان روضة وفيها قبة وفي القبة سرير عليه جارية لم نر أحسن منها. فقالت: سألتك بالله إلا ما عجلت به فقد اشتد شوقي إليه، فانتبهت فإذا به قد فارق الدنيا فغسلته وكفنته وواريته. فلما جن الليل نمت فرأيته في القبة مع الجارية وهو يقرأ: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد] .(2/486)
ذكر المصطفين من عباد السواحل
901 - عابد بسيراف
سعيد بن ثعلبة الوراق قال: بينا أنا ذات ليلة مع رجل من العابدين على الساحل بسيراف فأخذ في البكاء، فلم يزل يبكي حتى خفنا طلوع الفجر، ولم يتكلم بشيء. ثم قال: جرمي عظيم، وعفوك كثير، فاجمع بين جرمي وعفوك يا كريم. قال: فتصارخ الناس من كل ناحية.
902 - عابد آخر
أحمد بن فارس قال: حدثني أبو بكر الكتاني قال: كنت أنا وأبو سعيد الخراز، وعباس بن المهتدي، وآخر، نسير بالشام على ساحل البحر. إذا شاب يمشي معه محبرة ظننا أنه من أصحاب الحديث.
فقال له أبو سعيد: يا فتى على أي طريق تسير؟ فقال: ليس أعرف إلا طريقين: طريق الخاصة وطريق العامة. فأما طريق العامة الذي أنتم عليه. وأما طريق الخاصة فباسم الله. وتقدم إلى البحر ومشى حيالنا على الماء فلم نزل نراه حتى غاب عن أبصارنا.
903 - عابد آخر
عباد، أبو عتبة الخواص، قال: حدثني رجل من الزهاد ممن يسيح في الجبال قال: لم تكن لي همة في شيء من الدنيا ولا لذة إلا في لقياهم، يعني الأبدال والزهاد. قال فبينا أنا ذات يوم على ساحل من سواحل البحر ليس يسكنه الناس ولا ترقى إليه السفن إذا أنا رجل قد خرج من تلك الجبال. فلما رآني هرب وجعل يسعى واتبعته أسعى خلفه فسقط على وجهه وأدركته، فقلت: ممن تهرب رحمك الله؟ فلم يكلمني. فقلت: إني أريد الخير فعلمني. فقال: عليك بلزوم الحق حيث كنت، فوالله ما أنا بحامد لنفسي فأدعوك إلى مثل عملها. ثم صاح صيحة فسقط ميتاً فمكثت لا أدري كيف أصنع به؟ قال: وهجم الليل علينا فتنحيت فنمت ناحية عنه. فرأيت في منامي أربعة نفر هبطوا عليه من السماء على خيل فحفروا له وكفنوه وصلوا عليه ثم دفنوه. فاستيقظت فزعاً للذي رأيت. فذهبت عني وسنة النوم بقية الليل. فلما أصبحت انطلقت إلى موضعه فلم أره فيه. فلم أزل أطلب أثره وأنظره حتى رأيت قبراً جديداً فظننت أنه القبر الذي رأيت في منامي.(2/487)
904 - عابد آخر
أبو عبد الرحمن المغازلي قال: قال رجل ببلاد الشام في بعض تلك السواحل: لو بكى العابدون على الإشفاق حتى لم يبق في أجسادهم جارحة إلا أدت ما فيها من الدم والودك دموعاً جارية، وبقيت الأبدان يبساً خالية تتردد فيها الأرواح إشفاقاً ووجلاً من يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت. لكانوا محقوقين بذلك. ثم غشي عليه.
905 - عابد آخر
إسرافيل قال: سمعت ذا النون يقول: سمعت بعض المتعبدين بساحل بحر الشام يقول: إن لله تعالى عباداً عرفوه بيقين من معرفته فشمروا وقصدوا إليه، احتملوا فيه المصائب لما يرجون عنده من الرغائب، صحبوا الدنيا بالأشجان، وتنعموا فيها بطول الأحزان، فما نظروا إليها بعين راغب، ولا تزودوا منها إلا كزاد الراكب، خافوا البيات فأسرعوا، ورجوا النجاة فأزمعوا، بذلوا مهج أنفسهم في رضا سيدهم، نصبوا الآخرة نصب أعينهم، وأصغوا إليها بآذان قلوبهم، فلو رأيتهم رأيت قوماً ذبلاً شفاههم، خمصاً بطونهم، حزينة قلوبهم، ناحلة أجسامهم، باكية أعينهم، لم يصحبهم التعليل والتسويف وقنعوا من الدنيا بقوات طفيف، لبسوا من اللباس أطماراً بالية، وسكنوا من البلاد قفراً خالية، وهربوا من الأوطان، واستبدلوا الوحدة من الأخدان، فلو رأيتهم لرأيت قوماً قد ذبحهم الليل بسكاكين السهر، وفصل الأعضاء منهم بخناجر التعب، خمصاً لطول السرى، شعثاً لفقد الكرى، قد وصلوا الكلال بالكلال، وتأهبوا للنقلة والارتحال.
906 - عابد آخر
محمد بن إبراهيم الأخرم قال: خرجت من مصر وأنا على ساحل البحر، فرأيت امرأة خرجت من برية. فقلت: إلى أين يا أمة الله؟ قالت: إلى صومعة ها هنا لي فيها ابن، فمشيت معها فسمعت صوتاً من صومعة يقول:
ومشتاق وليس له قرار ... نفور ليس يملكه العذار
ومؤنس قلبه ليل طويل ... يلذ به ويوحشه النهار
قضى وطراً به فأفاد علماً ... فنهمته التعبد والفرار
ألا صبراً على دنياك صبراً ... فكل أمورها فيها اعتبار
فقلت لها: منذ كم صار ابنك ها هنا؟ قالت: منذ وهبته منه وقبله مني.(2/488)
907 - جماعة من العباد في السواحل
عن عبد الرحمن بن زيد قال: لم أر مثل قوم رأيتهم. هجمنا مرة على نفر من العباد في بعض سواحل البحر، فتفرقوا حين رأونا فبتنا تلك الليلة وارفينا في تلك الجزيرة، ما كنت أسمع عامة الليل إلا الصراخ والتعوذ من النار. فلما أصبحنا طلبناهم واتبعنا آثارهم فلم نر منهم أحداً.(2/489)
ذكر المصطفيات من عابدات السواحل
908 - عابدة
محمد بن جعفر القنطري قال: قال ذو النون بينا أنا أسير على ساحل البحر إذ بصرت بجارية عليها أطمار شعر وإذا هي ذابلة ناحلة، فدنوت منها لأسمع ما تقول، فرأيتها متصلة الأحزان بالأشجان، وعصفت الرياح فاضطربت المواج فصرخت، ثم سقطت إلى الأرض فلما أفاقت نحبت ثم قالت: يا سيدي بك تفرد المتفردون في الخلوات، ولعظمتك سبحت النينان في البحار الزاخرات، ولجلال قدسك اصطفقت الأمواج المتلاطمات، أنت الذي سجد لك سواد الليل وضوء النهار والفلك الدوار، والبحر الزخار، والقمر النوار، وكل شيء عندك بمقدار.
يا مؤنس الأبرار في خلوتهم ... يا خير من حطت به النزال
فقلت: زيدينا من هذا. فقالت: إليك عني، ثم رفعت طرفها نحو السماء وقالت:
أحبك حبين حب الوداد ... وحب لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الوداد ... فحب شغلت به عن سواكا
وأما الذي أنت أهل له ... فكشفك للحجب حتى أراكا
فما الحمد في ذا ولا ذاك لي ... ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
ثم شهقت شهقة فإذا هي قد فارقت الدنيا. فبقيت أتعجب مما رأيت منها فإذا أنا بنسوة قد أقبلن عليهن مدارع الشعر فاحتملنها فغيبنها عني فغسلنها ثم أقبلن بها في أكفانها فقلن لي: تقدم فصل عليها. فتقدمت فصليت عليها وهن خلفي ثم احتملنها ومضين.
909 - عابدة أخرى
محمد بن أحمد السوسي الشمشاطي. قال: سمعت ذا النون المصري يقول: بينا أنا أسير على شاطئ النيل إذا أنا بجارية تدعو وتقول: يا من هو عند ألسن الناطقين، ويا من هو عند قلوب الذاكرين، ويا من هو عند فكر الجامدين، قد علمت ما كان مني يا أمل المؤملين. ثم صرخت وخرت مغشياً عليها.(2/490)
ذكر المصطفين من عباد البوادي والفلوات
910 - أبو حبيب البدوي
عن الثوري قال: أتيت أبا حبيب البدوي أسلم عليه، ولم أكن رأيته، فقال لي أنت سفيان الثوري الذي يقال؟ قال: قلت نعم نسأل الله تعالى بركة ما يقال. قال: فقال لي: يا سفيان ما رأينا خيراً قط إلا من ربنا. قلت: أجل، قال: فما لنا نكره لقاء من لم نر خيراً قط إلا منه. ثم قال: يا سفيان منع الله عز وجل إياك عطاء منه لك، وذاك أنه لم يمنعك من بخل ولا عدم، وإنما منعه نظر منه واختبار، يا سفيان إن فيك لأنساً ومعك شغل، قال: ثم اقبل على غنيمته وتركني.
__________
910 - هو: الغريب الشجوي أبو حبيب البدوي، حلية الأولياء 8/318.(2/491)
911 - شيبان الراعي
عن محمد بن حمزة الربضي قال: كان شيبان الراعي إذا أجنب وليس عنده ماء دعا ربه فجاءت سحابة فأظلته فاغتسل منها. وكان يذهب إلى الجمعة فيخط على غنمه فيجيء فيجدها على حالتها لم تتحرك.
زيد بن العباس قال: لما حج هارون الرشيد قيل له: يا أمير المؤمنين قد حج شيبان العام. قال: اطلبوه لي، فطلبوه فأتوه به فقال له: يا شيبان عظني؟ قال: يا أمير المؤمنين أنا رجل ألكن لا أفصح بالعربية فجئني بمن يفهم كلامي حتى أكلمه، فأتي برجل يفهم كلامه فقال له بالنبطية: قل له: يا أمير المؤمنين إن الذي يخوفك قبل أن تبلغ المأمن أنصح لك من الذي يؤمنك قبل أن تبلغ الخوف.
فقال: قل له: أي شيء تفسير هذا؟ قال: قل له: الذي يقول لك: يا هذا اتق الله عز وجل فإنك رجل من هذه الأمة، استرعاك الله عليها وقلدك أمورها وأنت مسئول عنها فاعدل في الرعية واقسم بالسوية، وانفر في السرية، واتق الله في نفسك، هذا الذي يخوفك فإذا بلغت المأمن أمنت، هو أنصح لك ممن يقول: أنتم أهل بيت مغفور لكم، وأنتم قرابة نبيكم
__________
911 - هو: المنيب الواعي، أبو محمد الراعي، كان في العبادة فائقا، وبالتوكل على ربه عز وجل واثقا، حلية الأولياء 8/354.(2/491)
وفي شفاعته، فلا يزال يؤمنك حتى إذا بلغت الخوف عطبت. قال: فبكى هارون حتى رحمه من حوله. ثم قال: زدني. قال: حسبك. ثم خرج.
عبد الله بن عبد الرحمن قال: حج سفيان الثوري مع شيبان الراعي فعرض لهم سبع، فقال له سفيان الثوري: أما ترى هذا السبع؟ قال: فقال: لا تخف. قال: فلما سمع السبع كلام شيبان بصبص، فأخذ شيبان أذنه فعركها فبصبص وحرك ذنبه.
قال سفيان: ما هذه الشهرة؟ قال: أو هذه شهرة؟ لولا مكان الشهرة ما وضعت زادي إلا على ظهره.
سيار قال: قرأ رجل على شيبان الراعي: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} الزلزلة قال: فذهب على وجهه فلم ير سنة. فلما كان بعد الحول لقيه رجل فقال له: من أين؟ فقال: من ذلك الحساب الدقيق {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} .(2/492)
ذكر المصطفين من عباد البوادي والفلوات المجهولين الأسماء
912 - عابد
عن سعيد بن أبي عروبة قال: حج الحجاج فنزل بعض المياه بين مكة والمدينة ودعا بالغداء فقال لحاجبه: انظر من يتغدى معي وأسأله عن بعض الأمر. فنظر نحو الجبل فإذا هو بأعرابي بين شملتين من شعر، نائم. فضربه برجله وقال: إيت الأمير. فأتاه فقال له الحجاج: اغسل يديك وتغد معي. فقال: إنه دعاني من هو خير منك فأجبته. قال: ومن هو؟ قال: الله تبارك وتعالى، دعاني إلى الصوم فصمت. قال: في هذا الحر الشديد؟ قال: نعم صمت ليوم أشد حراً من هذا اليوم. فقال: فأفطر وصم غداً. قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد. قال: ليس ذاك إلي. قال: فكيف تسألني عاجلاً بآجل لا تقدر عليه؟ قال: إنه طعام طيب. قال: لم تطيبه أنت ولا الطباخ، إنما طيبته العافية.
913 - عابد آخر
سعيد بن سالم قال: نزل روح بن زنباع منزلاً بين مكة والمدينة في حر شديد. فانقض عليه راع من جبل. فقال: يا راعي هلم إلى الغداء. قال: إني صائم. قال: وإنك لتصوم في هذا الحر الشديد؟ قال: أفأدع أيامي تذهب باطلاً؟ قال روح: لقد ضنت بأيامك يا راع إذ جاد بها روح بن زنباع.
914 - عابد آخر
السري بن يحيى قال: حدثنا عبد الله بن عبيد بن عمير قال: خرجت مع أبي فكنا في أرض فلاة. فرفع لنا سواد فظنناه شجرة. فلما دنونا إذا رجل قائم يصلي، فانتظرناه لينصرف فيرشدنا إلى القرية التي نريد، فلما لم ينصرف قال له أبي: إنا نريد قرية كذا وكذا فأوم لنا قبلها بيدك. قال ففعل. قال: فإذا له حوض محوض يابس ليس فيه ماء وإذا قربه يابسة. فقال له أبي: إنا نراك بأرض فلاة وليس عندك ماء، أفنجعل في قربتك من هذا الماء الذي عندنا؟ فأومأ أن لا، فلم نبرح حتى جاءت سحابة فمطرت فامتلأ حوضه ذلك. فلما أن دخلنا القرية ذكرناه لهم فقالوا: نعم ذاك فلان لا يكون في موضع إلا سقي. قال: فقال أبي: كم من عبد لله عز وجل صالح لا نعرفه.(2/493)
915 - عابد آخر
أحمد بن أبي الحواري قال: حججت أنا وسليمان فبينا نحن نسير إذ سقطت السطيحة مني، وكان برد عظيم. فلما افتقدت السطيحة قلت: بقينا بلا ماء. فأخبرت أبا سليمان فقال: سلم وصل على محمد صلى الله عليه وسلم وقل: يا راد الضالة ويا هادياً من الضلالة رد الضالة فإذا بواحد ينادي: من ذهبت له سطيحة فأخذتها منه فقال لي أبو سليمان: لا يتركنا بلا ماء. فبينا نحن نسير إذا برجل عليه طمران رثان وقد تدرعنا بالفراء من شدة البرد، وهو يرشح عرقاً. فقال له أبو سليمان: ألا ندثرك ببعض ما معنا؟ فقال الرجل: يا داراني الحر والبرد خلقان لله تعالى إن أمرهما أن يغشياني أصاباني وإن أمرهما أن يتركاني تركاني، يا داراني تصف الزهد وتخاف من البرد؟ أنا أسيح في هذه البرية منذ ثلاثين سنة ما انتفضت ولا ارتعدت، يلبسني في البرد فيحا من محبته، ويلبسني في الصيف مذاق برد محبته. ثم ولى وهو يقول: يا داراني تبكي وتصيح وتستريح إلى الترويح؟ فكان أبو سليمان يقول: لم يعرفني غيره.
916 - عابد آخر
قال الأصمعي: حدثنا شبيب بن شيبة قال: كنا بطريق مكة وبين أيدينا سفرة لنا نتغدى في يوم قائظ، فوقف علينا أعرابي ومعه جارية له زنجية. فقال: يا قوم أفيكم أحد يقرأ كلام الله عز وجل حتى يكتب لنا كتاباً؟ قال: قلت له: أصب من غدائنا حتى نكتب حتى نكتب لك ما تريد. قال: إني صائم. فعجبنا من صومه في البرية، فلما فرغنا من غدائنا دعونا به فقلنا: ما تريد؟ فقال: أيها الرجل إن الدنيا قد كانت ولم أكن فيها، وستكون ولا أكون فيها. وإني أردت أن أعتق جاريتي هذه لوجه الله عز وجل ثم ليوم العقبة، تدري ما يوم العقبة؟ قول الله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ} البلد اكتب ما أقول لك، ولا تزيدن علي حرفاً: هذه فلانة خادم فلان قد أعتقها لوجه الله عز وجل ليوم العقبة.
قال شبيب: فقدمت البصرة وأتيت بغداد فحدثت بهذا الحديث المهدي فقال: مائة نسمة تعتق على عهد الأعرابي.
917 - عابد آخر
بهيم العجلي قال: ركب معنا شاب من بني مرة من أهل البدو في البحر، فجعل يبكي الليل والنهار. فعاتبه أهل المركب على ذلك وقالوا: إرفق بنفسك قليلاً. فقال: إن أقل ما ينبغي أن(2/494)
يكون لنفسي عندي أن أبكيها وأبكي عليها أيام الدنيا لعلمي بما يمر عليها غداً. قال: فما بقي في المركب أحد إلا بكى.
918 - عابد آخر
من بني تيم الله.
مسكين بن دينار قال: كان في بني تيم الله شيخ متعبد يجتمع إليه فتيان الحي ونساكهم قال: فيذكرهم، فإذا أرادوا أن يتفرقوا قال: يا إخوتاه قوموا قيام قوم قد يئسوا من المعاودة لمجلسهم خوفاً من خطفات الموكل بالنفوس. قال: فيبكي والله ويبكي.
919 - عابد آخر
الأصمعي قال: كنت بالبادية أعلم القرآن فإذا أنا بأعرابي بيده سيف يقطع الطريق، لما دنا مني ليأخذ ثيابي قال لي: يا حضري، ما أدخلك البدو؟ قلت: أعلم القرآن، قال: وما القرآن؟ قلت: كلام الله. قال: ولله كلام؟ قلت: نعم. قال: فأنشدني منه بيتاً فقلت: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} الذاريات قال: فرمى بالسيف من يده وقال: أستغفر الله، رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض، ثم لقيته بعد سنة في الطواف فقال: ألست صاحبك بالأمس؟ قلت: بلى. قال: فأنشدني بيتاً آخر فقلت: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} الذاريات قال: فوقف وبكى وجعل يقول: ومن ألجأه إلى اليمين؟ فلم يزل يرددها حتى سقط ميتاً.
920 - عابد آخر
الأصمعي قال: قال أعرابي إني لبمضلة من الأرض إذ بصرت بأعرابي قد افترس الأسد ابنه ونفر به بعيره فدق فخذه وذلك بعد أن نازل الأسد فجد له فسمعته يقول: لله درك من مصيبة جللت فلطفت وكبرت فصغرت، لئن كنت أحللت قلبي ترحاً لقد أورثتني فرحاً، وكيف لا تكونين كذلك وقد زوي بك عني عظيم وقد أورثتني صبراً جسيماً؟ فقلت: الله يا أعرابي ما رأيت أربط منك جأشاً ولا أصعب منك مراساً. فقال: يا هذا إن الصبر والجزع ضدان أحدهما بصيرة بنجدة والآخر تهور بغرة، وليس بحزم تتبع ما فات تطلبه وعزت أوبته. ثم أنشأ يقول:
وكذا أشتهي لحادث ريب الد ... هر إذ كان أن يكون عظيماً(2/495)
921 - عابد آخر
عبد الرحمن بن أبي نوح قال: ذكر لي عن رجل من العرب فهم وخير، فقصدت له في بعض البوادي حتى أصبته يسنو على بعير له. فقلت: قل لي كلاماً أحفظه عنك يرحمك الله. قال: لا تطلق لسانك فإن الفعل أولى بك من القول. قلت: رحمك الله إن دليل العمل القول ومفتاحه المعرفة. فأعجب بقولي. ثم أقبل علي فقال: يا أخي إن الشفقة لم تزل بالمؤمن حتى أوفدته على خير حال، وإن الغفلة لم تزل بالفاجر حتى أسلمته إلى شر حال، وما خير عمر امرئ لا يدري ما عاقبة أمره، وما خير عيش لا يكمل ما حفظ منه، ولئن كانت الرغبة في الدنيا هي المستولية على قلوبنا كما استولت على أبداننا لقد خبنا غداً في القيامة وخسرنا.
922 - عابد آخر
يحيى بن معاذ قال: كنت في سياحتي، فبينا أنا في بعض الفلوات إذ لاح لي كوخ من قصب، فقصدت نحوه فإذا أنا بشيخ مبتلي، قد أكل الدود لحمه، فوقع له في قلبي رحمة، فقلت له: يا شيخ أتحب أن أسأل الله تعالى أن يبرئك؟ قال: فرفع رأسه وهو أعمى فنظر إلي وقال: يا يحيى بن معاذ الرازي وإن لك عنده هذه الدالة فلم لا تسأله أن يبغض إليك شهوة الرمان؟ قال يحيى: وكنت قد اعتقدت مع الله عز وجل ترك الشهوات ما خلا الرمان فلم أقدر على تركه لحبي له. ثم نظر إلي وقال لي: يا يحيى بن معاذ احذر أن تتعرض لأولياء الله فتفتضح عندهم.
923 - عابد آخر
أبو القاسم النصر آباذي قال: سمعت إبراهيم بن شيبان يقول: بقي إبراهيم سنة في البادية ما أكل ولا شرب ولا اشتهى شيئاً. فقال: عارضتني نفسي أن لي عند الله عز وجل رتبة فلم أشعر أن كلمني رجل عن يميني فقال: يا إبراهيم ترائي الله في سرك؟ فنظرت إليه فقلت: قد كان ذلك. فقال: بحمد الله كم لي ههنا لم آكل ولم أشرب ولم أشته شيئاً وأنا زمن مطروح؟ قلت: الله أعلم. قال: ثمانين يوماً وأنا أستحي من الله عز وجل أن يقع لي خاطرك، ولو أقسمت على الله عز وجل أن يجعل هذا الشجر ذهباً لجعله، فكانت بركة رؤيته تنبيهاً لي ورجوعاً إلى حالتي الأولى.(2/496)
924 - عابد آخر حجازي
أبو عبد الرحمن المغازلي قال: دخلت على رجل مبتلى بالحجاز فقلت: كيف تجدك؟ قال: أجد عافيته أكثر مما ابتلاني به، وأجد نعمه علي أكثر من أن أحصيها. قلت: أتجد لما أنت فيه ألماً شديداً؟ فبكى ثم قال: سلي نفسي ألم ما بي: ما وعد عليه سيدي أهل الصبر من كمال الأجور في شدة يوم عسير. قال: ثم غشي عليه. فمكث ملياً ثم أفاق فقال: إني لأحسب أن لأهل الصبر غداً في القيامة مقاماً شريفاً لا يتقدمه من ثواب الأعمال شيء، إلا ما كان من الرضا عن الله تعالى.
925 - عابد آخر
الخلدي قال: خرجت سنة من السنين إلى البادية فبقيت أربعة وعشرين يوماً لم أطعم فيها طعاماً، فلما كان بعد ذلك رأيت كوخاً وفيه غلام فقصدت الكوخ فرأيت الغلام قائماً يصلي فقلت في نفسي: بالعشي يجيء إلى هذا طعام فآكل معه. فبقيت تلك الليلة والغد وبعد غد، ثلاثة أيام لم يجئه أحد بطعام ولا رأيت أحداً. فقلت: هذا شيطان ليس هذا من الناس. فتركته وانصرفت. فلما كان بعد أشهر، أنا قاعد في منزلي إذا داق يدق الباب. قلت: من هذا؟ أدخل، فدخل الغلام وقال لي: يا جعفر أنت كما سميت، جاع فر.(2/497)
ذكر المصطفيات من عابدات العرب وأهل البادية
926 - خنساء بنت عمرو النخعية
عن عبد الرحمن بن مغراء الدوسي، عن رجل من خزاعة قال: لما اجتمع الناس بالقادسية دعت خنساء بنت عمرو النخعية بنيها الأربعة فقالت: يا بني إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم والله ما نبت بكم الدار ولا أقحمتكم السنة، ولا أرداكم الطمع، والله الذي لا إله إلا هو، إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم؛ ولا غيرت نسبكم ولا أوطأت حريمكم، ولا أبحت حماكم فإذا كان غداً إن شاء الله، فاغدوا لقتال عدوكم مستنصرين الله، مستبصرين، فإذا رأيتم الحرب قد أبدت ساقها وقد ضربت رواقها فتيمموا وطيسها وجالدوا خميسها، تظفروا بالمغنم والسلامة، والفوز والكرامة في دار الخلد والمقامة، فانصرف الفتية من عندها وهم لأمرها طائعون، وبنصحها عارفون فلما لقوا العدو شد أولهم وهو يقول:
يا إخوتا إن العجوز الناصحة ... قد أشربتنا إذ دعتنا البارحة
نصيحة ذات بيان واضحة ... فباكروا الحرب الضروس الكالحة
فإنما تلقون عند الصائحة ... من آل ساسان كلاباً نابحة
قد أيقنوا منكم بوقع الجائحة ... فأنتم بين حياة صالحة
أو ميتة تورث غنماً رابحة
ثم شد الذي يليه وهو يقول:
والله لا نعصي العجوز حرفا ... قد أمرتنا حدباً وعطفا
منها وبراً صادقاً ولطفاً ... فباكروا الحرب الضروس زحفا
حتى تكفوا آل كسرى كفا ... وتكشفوهم عن حماكم كشفا
إنا نرى التقصير عنهم ضعفا ... والقتل فيهم نجدة وعرفا
ثم شد الذي يليه وهو يقول:
لست لخنساء ولا للأخزم ... ولا لعمرو ذي السناء الأقدم(2/498)
إن لم تزر في آل جمع الأعجم ... جمع أبي ساسان جمع رستم
بكل محمود اللقاء ضيغم ... ماض على الهول خضم خضرم
إما لقهر عاجل أو مغنم ... أو لحياة في السبيل الأكرم
نفوز فيها بالنصيب الأعظم
ثم شد الذي يليه وهو يقول:
إن العجوز ذات حزم وجلد ... والنظر الأوفق والرأي السدد
قد أمرتنا بالصواب والرشد ... نصيحة غنها وبراً بالولد
فباكروا الحرب نماء في العدد ... إما لقهر واحتياز للبلد
أو ميتة تورث خلداً للأبد ... في جنة الفردوس في عيش رغد
فقاتلوا جميعاً حتى فتح الله عز وجل للمسلمين، وكانوا يعطون ألفين يجيئون بها فيصبونها في حجرها فتقسم ذلك بينهم حفنة حفنة، فما يغادر واحد من عطائه درهماً.
927 - منفوسة بنت زيد الفوارس
الأصمعي قال: حدثني رجل من بني ثعل قال: كنت ببعض نواحي نجد فرفعت لي فيه قبة من أدم فقصدتها فإذا أصوات نساء معولات، فدنوت منهن وسألتهن عن شأنهن؟ فقلن: منفوسة بنت زيد الفوارس أصيبت بابنها، وإذا هو في حجرها وهي تقول: والله لتقدمك أمامي أحب إلي من تأخرك ورائي، ولصبري عنك أجدى من جزعي عليك، وما حظ مصيبة تحل من التلف محلك، وتورث من العطب مثل مضجعك، ولئن كان فراقك حسرة إن توقع أجرك لخيرة.
ثم قالت: لله در عمرو بن معدي كرب حيث يقول:
وإنا لقوم لا تفيض دموعنا ... على هالك منا وإن قصم الظهرا
928 - عاتكة المخزومية
إبراهيم بن محمد المخزومي قال: بكت امرأة من بني مخزوم يقال لها عاتكة حتى ذهب بصرها. فعوتبت في ذلك وقيل لها: ما بعد ذهاب البصر شيء؟ فقالت: ما ينبغي للمخوف بالنار أن تجف له دمعة حتى يعرف موقع الأمان من ذلك. فلم تزل على ذلك البكاء حتى ماتت عليه.(2/499)
929 - منيرة السدوسية
وبالإسناد حدثنا أبو بكر القرشي قال: حدثني محمد بن الحسين قال: حدثني عبد الله بن محمد بن حميد بن أبي الأسود قال: حدثني أبو سلمة، رجل من بني سدوس، قال: كانت لنا عجوز في الحي لم ندركها نحن، أدركها أشياخنا يقال لها: منيرة، فكانت تقول إذا جاء الليل: قد جاء الهول، قد جاءت الظلمة، قد جاء الخوف ما أشبه هذا بيوم القيامة. ثم تقوم فلا تزال تصلي حتى تصبح.
930 - طلحة العدوية
وبالإسناد حدثنا القرشي قال: حدثنا عبد الله بن عيسى الطفاوي قال: أرسلني أبي إلى طلحة العدوية. فدخلنا عليها وبين يديها زنبيلان أحدهما فيه زبيب ونبق وباقلي، فقيل لي: إنها تسبح به وتأكل منه أحياناً.
931 - أم سالم الراسبية
وبالإسناد حدثنا القرشي قال: قال محمد بن الحسين: حدثني أبو سمير، رجل من الأزد، قال: أتيت أم سالم الراسبية بين الظهر والعصر، فاستأذنت عليها فأذنت لي، فدخلت عليها وإذا هي تصلي قائمة فلم تنفتل من صلاتها ولم تلتفت إلي حتى نودي بصلاة العصر فخرجت فصليت ثم دخلت عليها فقالت: إذا كانت لك حاجة فلا تأتني في هذا الوقت فإن الذي يدع الصلاة في هذا الوقت فإنما يضيع حظ نفسه.
932 - أم نهار العدوية
عن عتبة بن صالح الهلالي قال: شهدت أعرابية بالجفر، جفر بني عدي، يقال لها أم نهار العدوية واقفة على قبر رجل ونحن ندفنه. فقالت: أيها الناس إنكم من الله عز وجل في نعمة ستر، ومن الناس بمحل تزكية، فإياكم ومصاداة زخاريف الرخاء فإنها ليست من صفة الألباء فأجلوا شماذير الغفلة عن قلوبكم، وتأملوا أهل هذه العرصات الخرس والربوع الصموت وارجعوها صوراً بوهمكم: تتنسمون روح الحياة فنادوهم يسمعوا واسألوهم يخبروا. فاحيوا بموتهم وتيقظوا لغفلاتهم وخذوا خوفكم من أمنهم، وحذركم من غرورهم، وانظروا بهم إلى أثر البلى في أجسامكم، والخراب في مساكنكم، وكيف حكم فيهم التراب إذ ولي الحكم
__________
931 - هي: أم سالم بنت مالك الراسبية، مقبولة، من الثالثة.(2/500)
فيهم، فأبدلهم بالنطق خرساً وبالسمع صمماً وبالحركات سكوناً. رحم الله امرءاً أبصر فتدبر، واتعظ فاعتبر، وعمل ليوم الحساب وخشي وقت العقاب. ثم قالت:
الموت يفني ولا يبقي على أحد ... ما أحسب الموت يبقي جدة الأبد
يا موت كم من كريم قد فجعت به ... من أقربيه ومن أهل ومن ولد
ثم قالت: تغمدكم الله بالرحمة وبلغ بكم شرف الهمة.
933 - عاتكة الغنوية
وبالإسناد حدثنا القرشي قال: ذكر محمد بن الحسين قال: حدثني عبيد الله بن محمد التيمي قال: حدثني جليس لنا كان يقال له ضرار الطفاوي، قال: لقيتني امرأة من غني عابدة يقال لها عاتكة. فقالت: يا ضرار توسل إلى مولاك بجميع ما يمكنك من الوسائل، فإنك تجد ذلك لك موفراً عند حلول الأمور الجلائل، وانقطع إليه في حوائجك لديه يأت لك عليها على غير تعب منك ولا نصب. واعلم أنه لن ينال المطيعون في الدنيا لذة أحلى في صدورهم من الازدياد لله في طاعته بقربه، ولحلاوة ساعة من مطيع ألذ في قلوب المريدين من جميع ما أخرج إلى الدنيا من زهرة ولذة، ولن يجد المريد؟ فقد شيء تركه رجاء ثواب الله. فجد أي أخي قبل أن لا يمكنك الجد، وبادر قبل فوات المبادرة فإن الدنيا لا تطيب لعارفها وإنما تورطها أهل الغرة وعما قليل فسوف يعلمون. قال: أمسكت فقامت.
934 - عليلة بنت الكميت
أبو خالد القرشي قال: استأذنا على عليلة بنت الكميت وكانت من العابدات قال: وذلك وقت الظهر. فقالوا: هي تصلي فلم نزل ننتظرها إلى العصر فلما صلت العصر أذنت لنا، فدخلنا عليها فقلنا: رحمك الله لم نزل عقوداً منذ الظهر ننتظرك. قالت: سبحان الله قعوداً لم تصلوا بين الظهر والعصر؟ قلنا لا. قالت: ما ظننت أن أحداً لا يصلي بين الظهر والعصر؟ قال: وانقبضت عنا انقباضاً شديداً.
935 - هنيدة
عامر بن أسلم الباهلي، عن أبيه قال: كانت لنا جارية في الحي يقال لها: هنيدة فكانت تقوم إذا مضى من الليل ثلثه أو نصفه فتوقظ ولدها وزوجها وخدمها فتقول لهم: قوموا فتوضأوا وصلوا فستغتبطون بكلامي هذا، فكان هذا دأبها معهم حتى ماتت. فرأى زوجها في(2/501)
منامه: إن كنت تحب أن تزوجها هناك فاخلفها في أهلها بمثل فعلها، فلم يزل دأب الشيخ حتى مات، فأتى أكبر ولده في منامه فقيل له: إن كنت تحب أن تجاور أبويك في درجتهما من الجنة فاخلفهما في أهلهما بمثل عملهما. قال: فلم يزل ذلك دأبه حتى مات. فكانوا يدعون القوامين.(2/502)
ذكر المصطفيات من عابدات العرب وأهل البادية المجهولات الأسماء
936 - عابدة من بني عبد القيس
عن أبي بكر الهذلي قال: كانت عجوز من بني عبد القيس متعبدة. فكانت تقول: عاملوا الله على قدر نعمه عليكم وإحسانه إليكم، فإن لم تطيقوا فعلى قدر ستره، فإن لم تطيقوا فعلى الحياء منه فإن لم تطيقوا فعلى الرجاء لثوابه، فإن لم تطيقوا فعلى خوف عقابه.
عن أبي بكر الهذلي قال: كانت عجوز في عبد القيس متعبدة فكان إذا جاء الليل تحرمت ثم قامت إلى المحراب. وكانت تقول المحب لا يسأم من خدمة حبيبه، فإذا جاء النهار خرجت إلى القبور. فبلغني أنها عوتبت في كثرة إتيانهاالمقابر، فقالت: إن القلب القاسي إذا جفا لم يلينه إلا رسوم البلى، وإني لآتي القبور فكأني أنظر وقد خرجوا من بين أطباقها، وكأني أنظر إلى تلك الوجوه المتعفرة وإلى تلك الأجسام المتغيرة وإلى تلك الأكفان الدسمة. فيا له من منظر كريه لو أشربه العباد قلوبهم ما أثكل مرارته للأنفس وأشد إتلافه للأبدان.
937 - عابدة أخرى
الأصمعي قال: مات ابن لأعرابية فما زالت تبكي حتى خد الدمع في خدها. ثم استرجعت فقالت: اللهم إنك قد علمت فرط حنو الوالدين على ولدهما فلذلك لم تأمرهما ببره، وقد علمت قدر عقوق الولد لوالديه من أجل ذلك حضضته على طاعتهما، وألزمته برهما. وقد كان ولدي من البر بوالديه على ما يكون الوالدان بولدهما، فأجره بذلك مني صلاة ولقه سروراً ونضرة. فقال لها أعرابي: نعم ما دعوت له، لولا أنك شبته من الجزع بما لا يجدي عليه. فقالت: إذا وقعت الضرورات لم يجر عليها حكم المكتسبات، وجزعي على ابني غير ممكن في الطاقة صرفه، ولا في القدرة منعه، والله ولي عذري بفضله فقد قال عز وجل: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} البقرة.
938 - عابدة أخرى
أبو عبد الرحمن القرشي، عن رجل من بني ثعلب، قال: شهدت امرأة من أهل البادية توصي ابناً لها وأراد سفراً فقالت: يا بني أوصيك بتقوى الله، فإن قليلها أجدى عليك من كثير عقلك وإياك والنمائم فإنها تزرع الضغائن وتفرق بين المحبين، ومثل لنفسك ما تستحسنه(2/503)
من غيرك مثالاً ثم اتخذه إماماً واعلم أنه من جمع بين الحياء والسخاء فقد استجاد الحلة إزارها ورداءها.
939 - عابدة أخرى
الصلت بن حكيم قال: حدثني ابن السماك أن نفراً وردوا على عجوز في بعض البوادي يسألونها بيع شاة. فقالت: ما كنت لأبيع ابن السبيل شيئاً، ولكن خذوها على ما عند الله، ثم بكى أبو العباس يعني ابن السماك، وقال: رحمها الله فقهت في بدوها.
940 - عابدة أخرى
أبو بكر الشيرازي قال: تهت في بادية العراق أياماً كثيرةً فلم أجد شيئاً أرتفق به، فلما كان بعد أيام رأيت في الفلا خباء شعر مضروباً فقصدته فإذا بيت وعليه ستر مسبل، فسلمت فردت علي عجوز من داخل الخباء وقالت: يا إنسان من أين أقبلت؟ قلت: من مكة قالت: وأين تريد؟ قلت: الشام. فقالت: أرى شبح إنسان بطال ألا لزمت زاوية تجلس فيها إلى أن يأتيك اليقين؟ ثم تنظر هذه الكسرة من أين تأكلها؟ ثم قالت: تقرأ القرآن؟ قلت: نعم فقالت: اقرأ علي آخر سورة الفرقان فقرأتها فشهقت وأغمي عليها فلما أفاقت بعد هوي قرأت هي الآيات فأخذت مني قراءتها أخذاً شديداً. ثم قالت: يا إنسان اقرأها ثانية فقرأتها فلحقها مثل ما لحقها في الأول، وصبرت أكثر من ذلك ولم تفق، فقلت: أستكشف حالها ماتت أم لا؟ فتركت البيت على حاله ومشيت أقل من نصف ميل فأشرفت على واد فيه أعراب فأقبل إلي غلامان معهما جارية، فقال أحد الغلامين: يا إنسان أتيت البيت في الفلاة؟ قلت: نعم، قال: وتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: قتلت العجوز ورب الكعبة. فمشيت مع الغلامين حتى أتينا البيت فدخلت الجارية فكشفت عنها فإذا هي ميتة. فأعجبني خاطر الغلام فقلت للجارية: من هذان الغلامان؟ فقالت: هذان جعافرة وهذه أختهم منذ ثلاثين سنة ما تستأنس بكلام الناس، إذا نزلنا تواري بيتها في الفلاة تأكل في كل ثلاثة أيام أكلة وشربة.
941 - عابدة أخرى
عن هشام، يعني ابن حسان، قال خرجنا حجاجاً فنزلنا منزلاً في بعض الطريق فقرأ رجل كان معنا هذه الآية {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} الحجر فسمعت امرأة فقالت: أعد رحمك الله. فأعادها. فقالت: خلفت لي في البيت سبعة أعبد أشهدكم أنهم أحرار، لكل باب واحد منهم.(2/504)
942 - عابدة أخرى
مسمع قال: قالت امرأة من العرب ذات عقل ودين: سبحانك إلهي، إمهالك المذنبين أطمعهم في حسن عفوك عنهم، سبحانك إلهي، لم يزل قلبي يشهد برضاك لمن نال عفوك، سبحانك إلهي تفضلاً منك وامتناناً على خلقك.
943 - عابدة أخرى
ابن عائشة قال: نظرت أعرابية إلى فتى حسن الوجه بضه فقالت إني لأرى وجهاً ما غضنه بدد وضوء السحر.
944 - عابدة أخرى
الأصمعي قال: قال أعرابي: خرجت في ليلة ظلماء فإذا أنا بجارية كأنها علم، فأردتها فقالت: ويلك أما لك زاجر من عقل إذ لم يكن لك ناه من دين؟ فقلت: إيها والله ما يرانا إلا الكواكب. فقالت: وأين مكوكبها؟
945 - عابدة أخرى
محمد بن سلام الجمحي قال: سمعت خارجة بن زياد، رجلاً من بني سليم، يذكر قال: هويت امرأة من الحي فكنت أتبعها إذا خرجت إلى المسجد فعرفت ذلك مني فقالت لي ذات ليلة: ألك حاجة؟ قلت: نعم. قالت: وما هي؟ قلت: مودتك قالت: دع ذلك ليوم التغابن قال: فأبكتني والله فما عدت إلى ذلك.
946 - عابدة أخرى
بلغنا عن أبان بن تغلب أنه قال: رأيت أعرابية تمرض ابناً لها وهو لما به. فلما فاظ أغمضته ثم تنحت عن مقعدها عند رأسه ورجعت إلى مجلسها تجاهه فقالت: يا فلان ما حق من ألبس العافية وأسبغت عليه النعمة وأطيلت له النظرة أن يعجز عن التوثق لنفسه قبل حل عقدته والحلول بعقوبته، والحيال بينه وبين نفسه قال: فأجابها أعرابي: إنا لم نزل نسمع أن الجزع إنما هو للنساء فلا يجز عن رجل بمصيبة بعدك ولقد كرم صبرك، وما أشبهت النساء. فأقبلت عليه بوجهها ثم قالت: ما ميز رجل بين الصبر والجزع إلا أصاب بينهما منهجين بعيدي التفاوت في حاليهما، أما الصبر فحسن العلانية محمود العاقبة، وأما الجزع فغير معوض مع مأثمه، ولو كانا رجلين في صورة، كان أولاهما بالغلبة وحسن الصورة مع كرم الطبيعة في عاجله من الدين وآجله من الثواب، وكفى ما وعد الله عز وجل فيه لمن ألهمه إياه.
انتهى ذكر أهل البوادي.(2/505)
ذكر المصطفين من العباد الذين لم يعرف لهم مستقر وإنما لقوا في أماكن
ذكر المصطفين ممن لقي منهم في طريق مكة:
947 - عابد
أبو يوسف عبيد الله بن أبي نوح، وكان من العابدين، قال: صحبت شيخاً في بعض طريق مكة فأعجبتني هيئته. فقلت: إني أحب أن أصحبك. قال: أنت وما أحببت. قال: فكان يمشي بالنهار فإذا أمسى أقام في منزل كان أو غيره، قال: فيقوم الليل يصلي، وكان يصوم في شد ذلك الحر فإذا أمسى عمد إلى جريب معه فأخرج منه شيئاً فألقاه إلى فيه مرتين أو ثلاثاً. وكان يدعوني فيقول هلم فأصب من هذا فأقول في نفسي والله ما هذا بمجزيك أنت، فكيف أشركك فيه؟ فلم يزل على ذلك ودخلت له في قلبي هيبة عندما رأيت من اجتهاده وصبره. قال: فبينا نحن في بعض المنازل إذ نظر إلى رجل يسوق حماراً فقال لي: انطلق فاشتر ذلك الحمار، فانطلقت وأنا أقول في نفسي: والله ما معي ثمنه ولا أعلم معه ثمنه فكيف أشتريه؟ قال: فأتيت صاحب الحمار فساومته به فأبى أن ينقصه من ثلاثين ديناراً، قال: فجئت إليه وقلت: قد أبى أن ينقصه من ثلاثين ديناراً قال خذه. واستخر الله قلت: الثمن؟ قال: سم الله ثم أدخل يدك في الجراب فخذ الثمن فأعطه. قال: فأخذت الجراب ثم قلت: بسم الله وأدخلت يدي فيه فإذا صرة فيها ثلاثون ديناراً لا تزيد ولا تنقص. قال: فدفعتها إلى الرجل وأخذت الحمار وجئت به فقال لي: اركب فقلت له: أنت أضعف مني فاركب أنت. قال فلم يرادني الكلام، وركب فكنت أمشي مع حماره فحيث أدركه الليل أقام. فإنما هو راكع وساجد حتى أتينا عسفان، فلقيه شيخ فسلم عليه ثم خلوا فجعلا يبكيان. فلما أراد أن يتفرقا قال صاحبي للشيخ: أوصني، قال: نعم، ألزم التقوى قلبك وانصب دكر المعاد أمامك. قال: زدني. قال: استقبل الآخرة بالحسنى من عملك، وباشر عوارض الدنيا بالزهد من قلبك، واعلم أن الأكياس هم الذين عرفوا عيب الدنيا حين عمي على أهلها والسلام عليكم ورحمة الله. قال: ثم افترقا فقلت لصاحبي: من هذا الشيخ رحمك الله، فما رأيت أحسن كلاماً منه؟ فقال: عبد من عبيد الله. قال فخرجنا من عسفان حتى أتينا مكة فلما انتهينا إلى الأبطح نزل(2/506)
عن حماره وقال لي: اثبت مكانك حتى أنظر إلى بيت الله نظرة ثم أعود إليك إن شاء الله. قال: فانطلق وعرض لي رجل فقال: تبيع الحمار؟ قلت: نعم. قال: بكم؟ قلت: بثلاثين ديناراً. قال: قد أخذته منك. قلت: يا هذا والله ما هو لي وإنما هو لرفيق لي وقد ذهب إلى المسجد ولعله أن يجيء الآن قال: فإني لأكلمه إذ طلع الشيخ فقمت إليه فقلت: إني قد بعت الحمار بثلاثين ديناراً. قال أما إنك لو كنت استزدته لزادك إن شاء الله فأما إذا بعت فأوجر. فأخذت من الرجل ثلاثين ديناراً ودفعت الحمار إليه وجئت بالدنانير فقلت: ما أصنع بها؟ قال: هي لك فأنفقها. قلت: لا حاجة لي بها، قال: فألقها في الجراب. قال: فألقيتها في الجراب. قال: فطلبنا منزلاً بالأبطح فنزلناه فقال أبغني دواة وقرطاساً. فأتيته بدواة وقرطاس. قال: فكتب كتابين ثم شدهما إلي وقال: انطلق به إلى عباد بن عباد وهو نازل في موضع كذا وكذا فادفعه إليه وأقرئه مني السلام ومن المسلمين. ثم دفع الآخر إلي وقال: ليكن هذا معك فإذا كان يوم النحر فاقرأه إن شاء الله. قال: فأخذت الكتاب فأتيت به عباد بن عباد وهو قاعد يحدث وعنده خلق كثير، فسلمت ثم قلت: رحمك الله، كتاب بعض إخوانك إليك، فأخذ الكتاب فإذا فيه، بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد يا عباد فإني أحذرك الفقر يوم يحتاج الناس إلى الذخر، فإن فقر الآخرة لا يسده غنى وإن مصاب الآخرة لا تجبر مصيبته أبداً، وأنا رجل من إخوانك وأنا ميت الساعة إن شاء الله فاحضرني لتليني وتول الصلاة علي وإدخالي حفرتي وأستودعك الله وجميع المسلمين، واقرأ السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليكم جميعاً السلام ورحمة الله. قال فلما قرأ عباد الكتاب قال: يا هذا أين هذا الرجل؟ قلت: بالأبطح. قال: فمريض هو؟ قلت: لا، تركته الساعة صحيحاً قال: فقام وقام الناس معه حتى دخل عليه فإذا هو مستقبل القبلة ميت مسجى، عليه عباءة. فقال لي عباد: وهذا صاحبك؟ قلت: نعم. تركته الساعة صحيحاً؟ قال: فجلس يبكي عند رأسه ثم أخذ في جهازه وصلى عليه ودفنه. قال: واحتشد الناس في جنازته، فلما كان يوم النحر قلت: والله لأقرأن الكتاب كما أمرني ففتحته فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: وأنت يا أخي فنفعك الله بمعروفك يوم يحتاج الناس إلى صالح أعمالهم، وجزاك عن صحبتنا خيراً فإن صاحب المعروف تجده لجنبه يوم القيامة مضطجعاً وأن حاجتي إليك إذا قضى الله نسكك أن تنطلق إلى بيت المقدس فتدفع ميراثي إلى وارثي والسلام عليك ورحمة الله. قال: فقلت في نفسي كل أمرك رحمك الله(2/507)
عجب وهذا من أعجب أمرك. كيف آتي بيت المقدس ولم تسم لي أحداً ولم تصف لي موضعاً، ولا أدري إلى من أدفعه؟ قال: وخلف قدحاً وجرابه ذلك وعصاً كان يتوكأ عليها، قال: وكفناه في ثوبي إحرامه ولففنا العباء فوق ذلك. قال: فلما انقضى الحج قلت: والله لأنطلقن حتى أتيت بيت المقدس، فدخلت المسجد، وثم حلق قوم فقراء مساكين. قال؛ فبينا أنا أدور لأتصفح الناس، لا أدري عمن أسأل، إذ ناداني رجل من بعض تلك الحلق باسمي: يا فلان. فالتفت إليه فإذا شيخ كأنه صاحبي قال: هات ميراث فلان. قال: فدفعت إليه العصا والقدح والجراب ثم وليت قال: فوالله ما خرجت من المسجد حتى قلت لنفسي: تضرب من مكة إلى بيت المقدس وقد رأيت من الشيخ الأول ما رأيت، ورأيت من هذا الشيخ الثاني ما رأيت، ولا تسأل هؤلاء القوم أي شيء قصتهم وتسألهم عن أمرهم ومن هم؟ قال: فرجعت ومن رأيي أن لا أفارق هذا الشيخ الآخر حتى يموت أو أموت. قال: فجعلت أدور الحلق وأجهد على أن أعرفه أو أقع عليه فلم أقع عليه. قال: وجعلت أسأل عنه، وأقمت أياماً ببيت المقدس أطلبه وأسأل عنه، فلم أجد أحداً يدلني عليه. فرجعت منصرفاً إلى العراق.
948 - عابد آخر
محمد بن سهل بن عسكر البخاري قال: كنت أمشي في طريق مكة إذ رأيت رجلاً مغربياً على بغل، وبين يديه مناد ينادي: من أصاب همياناً له ألف دينار قال: وإذا إنسان أعرج عليه أطمار رثة خلقان يقول للمغربي: أي شيء علامة الهميان؟ قال: كذا وكذا. وفيه بضائع لقوم وأنا أعطي من مالي ألف دينار. فقال الفقير: من يقرأ الكتابة؟ قال ابن عسكر: فقلت: أنا. فقال: إعدلوا بنا ناحية من الطريق. فعدلنا فأخرج الهميان فجعل المغربي يقول: حبتان لفلانة ابنة فلان بخمسمائة دينار، وحبة لفلانة بمائة دينار وجعل يعدد فإذا هو كما قال: فحل المغربي هميانة وقال: خذ ألف الدينار التي وعدت على وجادة الهميان. فقال الأعرج: لو كانت قيمة الهميان الذي أعطيتك عندي بعرتين ما كنت تراه، فكيف آخذ منك ألف دينار على ما هذا قيمته؟ وقام ومضى ولم يأخذ منه شيئاً.
948 - عابد آخر
أبو الحسن اللؤلؤي، وكان خيراً فاضلاً قال: كنت في البحر فانكسر المركب وغرق كل ما(2/508)
فيه، وكان في وطائي لؤلؤ قيمته أربعة آلاف دينار. وقربت أيام الحج وخفت الفوات، فلما سلم الله عز وجل روحي ونجاني مشيت، فقال لي جماعة كانوا في المركب: لو توقفت عسى يجيء من يخرج شيئاً فيخرج لك من رحلك شيئاً. فقلت: قد علم الله عز وجل ما م رمني، وكان في وطائي شيء قيمته أربعة آلاف دينار وما كنت بالذي أوثره على وقفة بعرفة. فقالوا: وما الذي ورثك هذه المنزلة؟ فقلت: أنا رجل مولع بالحج، أطلب الربح والثواب، حججت في بعض السنين وعطشت عطشاً شديداً فأجلست عديلي في وسط المحمل، ونزلت أطلب الماء والناس معطشون أيضاً. فلم أزل أسأل رجلاً رجلاً ومجمعاً مجمعاً: أمعكم ماء؟ والناس شرع واحد حتى صرت في ساقة القافلة بميل أو ميلين فمررت بمصنع مصهرج وإذا رجل فقير جالس في أرض المصنع وقد غرز عصاه في أرض المصنع، والماء ينبع من موضع العصا وهو يشرب فنزلت إليه وشربت حتى رويت وجئت إلى القافلة والناس قد نزلوا، فأخرجت قربة ومضيت فملأتها ورجعت. فلما رآني الناس والقربة على كتفي مملوءة فكأنه نودي فيهم أن الماء وراءكم فتبادروا إليه بالقرب. فلما روي الناس عن آخرهم وسارت القافلة جئت لأنظر فإذا البركة ملأى تلتطم بأمواجها والناس يرمون الدلاء ويرتجزون عليه فموسم يحضره مثل هؤلاء، يقولون: اللهم اغفر لمن حضر الموقف ولجماعة المسلمين أوثر عليه أربعة آلاف دينار؟ لا والله ولا الدنيا بأسرها وترك اللؤلؤ وجميع ما فيه، قال الشيخ: فبلغني أن قيمة ما كان غرق له خمسون ألف دينار.
950 - عابد آخر
لقي بين الثعلبية والخزيمية.
إبراهيم بن المهلب، أبو الأشهب السائح، قال: رأيت بين الثعلبية والخزيمية غلاماً قائماً يصلي عند بعض الأميال. قد انقطع عن الناس. فانتظرته حتى قطع صلاته ثم قلت له: ما معك مؤنس؟ قال: بلى. قلت: وأين هو؟ قال: أمامي وخلفي ومعي وعن يميني وعن شمالي وفوقي. فعلمت أن عنده معرفة. قلت: أما معك زاد؟ قال: بلى. قلت: وأين هو؟ قال: الإخلاص لله عز وجل، والتوحيد والإقرار بنبيه صلى الله عليه وسلم وإيمان صادق، وتوكل واثق. قلت: هل لك في مرافقتي؟ قال: الرفيق يشغل عن الله عز وجل ولا أحب أن أرافق أحداً فأشتغل به عنه طرفة عين فيقطعني عن بعض ما أنا عليه. قلت: أما تستوحش في هذه البرية وحدك؟ قال: إن الأنس بالله عز وجل قطع عني كل وحشة حتى لو كنت بين السباع ما خفتها(2/509)
ولا استوحشت منها. قلت: فمن أين تأكل؟ فقال: الذي غذاني في ظلم الأحشاء والأرحام صغيراً قد تكفل برزقي كبيراً. قلت: ففي أي وقت تجيئك الأسباب؟ قال: لي حد معلوم ووقت مفهوم إذا احتجت إلى الطعام أصبته في أي موضع كنت، وقد علم ما يصلحني وهو غير غافل عني. قلت: ألك حاجة؟ قال: نعم. قلت: وما هي؟ قال: إن رأيتني فلا تكلمني ولا تعلم أحداً أنك تعرفني. قلت: لك ذلك، فهل حاجة غيرها؟ قال: نعم. قلت: وما هي؟ قال: إن استطعت أن لا تنساني في دعائك عند الشدائد إذا نزلت بك فافعل، قلت: كيف يدعو مثلي لمثلك وأنت أفضل مني خوفاً وتوكلاً؟ قال: لا تقل هذا إنك قد صليت لله عز وجل وصمت قبلي ولك حق الإسلام والمعرفة الإيمان. قلت: فإن لي أيضاً حاجة. قال: وما هي؟ قلت: ادع الله لي. فقال: حجب الله طرفك عن كل معصية، وألهم قلبك الفكر فيما يرضيه حتى لا يكون لك هم إلا هو. قلت: يا حبيبي متى ألقاك؟ وأين أطلبك؟ فقال: أما في الدنيا فلا تحدث نفسك بلقائي فيها وأما الآخرة فإنها مجمع المتقين فإياك أن تخالف الله فيما أمرك وندبك إليه، وإن كنت تبتغي لقائي فاطلبني مع الناظرين إلى الله تبارك وتعالى في زمرتهم. قلت: وكيف علمت ذاك؟ قال: بغض طرفي له عن كل محرم، واجتنابي فيه كل منكر ومأثم، وقد سألته أن يجعل جنتي النظر إليه. ثم صاح وأقبل يسعى حتى غاب عن بصري.
951 - عابد آخر
صالح بن عبد الكريم قال: رأيت غلاماً أسوداً في طريق مكة عند ميل يصلي فقلت له: عبد أنت؟ قال: نعم. قلت: فعليك ضريبة؟ قال: نعم. قلت: أفلا أكلم مولاك أن يضع عنك؟ قال: وما الدنيا كلها فأجزع من ذلها؟ قال: فاشتريته وأعتقته. فقعد يبكي وقال لي أعتقتني؟ قلت: نعم. قال: أعتقك الله يوم القيامة. وقعد يبكي ويقول: اشتد علي الأمر. فناولته دنانير فأبى أن يأخذها. قال: فحججت بعد ذلك بأربع سنين فسألت عنه فقالوا: غاب عنا فمذ غاب قحطنا وصار إلى جدة.
952 - عابد آخر
جعفر الخلدي قال: حججت سنة من السنين فصحبني بعض الصوفية، وكان ممن يشار إليه بالعلم والمعرفة. فأضافنا الطريق إلى جبل، وكنا جماعة فاستسقيناه ماء ولم يكن في(2/510)
القرب ماء، فأخذ ركوة وأومأ بها إلى الجبل فسمعت خرير الماء يأذني حتى امتلأت الركوة فسقى الجماعة. وكانت عيني إلى الموضع فلا أرى للماء أثراً ولا شقاً في الجبل. قال أبي: فسألت جعفراً عن هذا فقال: كرامة الله عز وجل لأوليائه.
953 - عابد آخر
محمد بن المبارك الصوري قال: خرجنا حجاجاً فإذا نحن بشاب ليس معه زاد ولا راحلة. فقلت: حبيبي، في مثل هذا الطريق بلا زاد ولا راحلة. فقلت: حبيبي، في مثل هذا الطريق بلا زاد ولا راحلة؟ فقال لي: تحسن تقرأ؟ قلت: نعم. فقرأت: بسم الله الرحمن الرحيم {كهيعص} مريم فشهق شهقة خر مغشياً عليه، ثم أفاق فقال: ويحك تدري ما قرأت؟ كاف من كاف، وهاء من هاد، وعين من عليم، وصاد من صادق، فإذا كان معي كاف وهاد وعليم وصادق ما أصنع بزاد وراحلة؟ ثم ولى وهو يقول:
يا طالب العلم ها هنا وهنا ... ومعدن العلم بين جنبيكا
إن كنت ترجو الجنان تسكنها ... فمثل العرض نصب عينيكا
إن كنت ترجو الحسان تخطبها ... فأسبل الدمع فوق خديكا
وقم إذا قام كل مجتهد ... وادعه كيما يقول لبيكا
954 - عابد آخر
وبالإسناد قال عمر بن بحر: وسمعت أبا الفيض يقول: كنت في تيه بني إسرائيل أريد الحج فرأيت غلاماً أمرد على المحجة يؤم البيت العتيق بلا زاد ولا راحلة. فقلت لرفيقي: إن كان مع هذا الغلام يقين وإلا هلك. فلحقته فقلت: يا فتى. فقال: لبيك. فقلت: في مثل هذا الموضع، في هذا الوقت، بلا زاد ولا راحلة؟ قال: فنظر إلي ثم قال: يا شيخ ارفع رأسك، انظر هل ترى غيره؟ فقلت: يا حبيبي اذهب إلى حيث شئت.
955 - عابد آخر
قال ذو النون: حججت سنة إلى بيت الله الحرام فضللت عن الطريق ولم يكن معي ماء ولا زاد فأشرفت على الهلكة، فلاحت لي أشجار كثيرة ومحراب، فطرحت نفسي في ظل شجرة. فلما غربت الشمس إذا أنا بشاب متغير اللون نحيل يؤم المحراب، فركل برجله ربوة من الأرض فظهرت عين تبض بماء عذب. فشرب وتوضأ وقام في محرابه فقمت إلى العين فشربت ماء عذباً وتوضأت وقمت أصلي بصلاته، حتى برق عمود الصبح، فلما رأى الصبح(2/511)
وثب قائماً على قدميه ونادى بأعلى صوته: ذهب الليل بما فيه، وأقبل النهار بدواهيه ولم أقض من خدمتك وطراً، آه، خسر من أتعب، لغيرك بدنه، وألجأ إلى سواك هممه. فلما أراد أن يمضي ناديته: بالذي منحك لذيذ الرغب وأذهب عنك ملال التعب إلا خفضت لي جناح الرحمة فإني غريب أريد البيت الحرام وقد ضللت. فقال: يا بطال وهل قطع بوفده دون البلوغ إليه؟ ثم قال: اتبعني فرأيت الأرض تطوى من تحت أرجلنا حتى رأيت المحجة وسمعت ضجة فقال: ها قومك. ثم أنشأ يقول:
من عامل الله بتقواه ... وكان في الخلوة يرعاه
سقاه كأساً من صفا حبه ... يسلبه لذة دنياه
فأبعد الخلق وأقصاهم ... وانفرد العبد بمولاه
ومن المصطفين الذين لقوا عند الإحرام:
956 - عابد
عبد الله بن الجلاء قال: كنت بذي الحليفة وأنا أريد الحج والناس يحرمون، فرأيت شاباً قد صب عليه الماء يريد الإحرام وأنا أنظر إليه. فقال: يا رب أريد أن أقول: لبيك اللهم لبيك، وأخشى أن تجيبني لا لبيك ولا سعديك.
وبقي يردد هذا القول مراراً كثيراً وأنا أتسمع عليه. فلما أكثر قلت له: ليس لك بد من الإحرام فقل فقال: يا شيخ أخشى إن قلت لبيك اللهم لبيك أجابني بلا لبيك ولا سعديك. فقلت له: أحسن ظنك وقل معي: لبيك اللهم لبيك. فقال: لبيك اللهم. وطولها، وخرجت نفسه مع قوله اللهم، فسقط ميتاً.
ذكر المصطفين من العباد الذين لقوا بعرفة:
957 - عابدان
عن ثابت البناني قال: إنا لوقوف بجبل عرفة فإذا شابان عليهما العباء القطواني، نادى أحدهما صاحبه: يا حبيب، فأجابه الآخر: لبيك أيها المحب. قال ترى الذي تحاببنا فيه وتواددنا فيه معذبنا غداً في القيامة: قال: فسمعنا منادياً، سمعته الآذان ولم تره الأعين، يقول: لا، ليس بفاعل.(2/512)
958 - عابد آخر
يحيى بن كامل القرشي قال: أخبرني سفيان الثوري قال: سمعت أعرابياً وهو متعلق بعرفة، وهو يقول: إلهي من أولى بالزلل والتقصير مني، وقد خلقتني ضعيفاً؟ من أولى بالعفو عني منك وعلمك في سابق، وأمرك بي محيط؟ أطعتك بإذنك والمنة لك علي، وعصيتك بعلمك والحجة لك، فأسألك بوجوب حجتك وانقطاع حجتي، وبفقري إليك وغناك عني أن تغفر لي وترحمني، إلهي لم أحسن حتى أعطيتني، ولم أسيء حتى قضيت علي. اللهم إنا أطعناك بنعمتك في أحب الأشياء إليك. شهادة أن لا إله إلا الله ولم نعصك في أبغض الأشياء إليك، الشرك بك، فاغفر لي ما بينهما، اللهم سري إليك مكشوف، وأنا إليك ملهوف، إذا أوحشتني الغربة آنسني ذكرك، وإذا صببت علي الهموم لجأت إليك استجارة بك، علماً بأن أزمة الأمور بيدك وأن مصدرها عن قضائك.
959 - عابد آخر
أحمد بن أبي الحواري قال: دخلت على أبي سليمان الداراني فقال لي: يا أحمد، لي أيام ما بكيت. فقلت له: حدثني محمود بن خلف أنه رأى رجلاً عشية عرفة على رأس جبل، فلما دنا الانصراف سمعه يقول: الأمان الأمان قد دنا الانصراف، ليت شعري ما صنعت في حاجة المساكين؟ قال: فبكى حتى جعلت الدموع تثب من عينيه ولا تسيل على خده.
960 - عابد آخر
أبو الأديان قال: ما رأيت خائفاً إلا رجلاً واحداً: كنت بالموقف فرأيت شاباً مطرقاً منذ وقف الناس إلى أن سقط القرض فقلت: يا هذا ابسط يديك بالدعاء. فقال لي: ثم وحشة. قلت له: فهذا يوم العفو عن الذنوب. قال: فبسط يده، ففي بسط يده وقع ميتاً.
961 - عابدة لقيت بعرفة
عبد الله بن داود الواسطي قال: بينا أنا واقف بعرفات إذ أنا بامرأة وهي تقول: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فما له من هاد. فقلت: امرأة ضالة. فنزلت عن بعيري وقلت لها: يا هذه ما قصتك؟ فقالت: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء] فقلت في نفسي: حرورية لا ترى كلامنا: فقلت لها: من أين أنت؟ فقرأت: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ(2/513)
الْأَقْصَى} الإسراء: 1. فأركبتها بعيري وقفلت بها أريد رحال المقدسيين. فلما توسطت قلت لها: يا هذه لمن أصوت؟ فقرأت: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} ص: 26، {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} مريم: 7. {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} مريم: 12. فناديت: يا زكريا، يا يحيى، يا داود. فخرج غلي ثلاثة فتيان من بين الرجال فقالوا: أمنا ورب الكعبة ضلت منذ ثلاث، وأنزلوها وأكرموني. فقلت لهم: ما لها لا تتكلم؟ قالوا: ما تكلمت، منذ ثلاثين سنة مخافة أن تزل. قلت: هذه امرأة صالحة المقصد إلا أنها لقلة علمها لم تدر أن هذا الفعل منهي عنه لأنها استعملت القرآن فيما لم يوضع له. قال ابن عقيل: لا يجوز أن يجعل القرآن بدلاً من الكلام لأنه استعمال له في غير ما وضع له، كما لو أراد استعمال المصحف في الوزن به أو توسده. قال: ويكره الصمت إلى الليل لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صمت يوم إلى الليل.
ذكر المصطفين من عباد لقوا في الطواف:
962 - عابد
قاسم بن عثمان يقول: رأيت في الطواف رجلاً لا يزيد على قوله: إلهي قضيت حوائج المحتاجين وحاجتي لم تقض، فقلت له: ما لك لا تزيد على هذا الكلام؟ فقال: أحدثك، كنا سبعة أنفس من بلدان شتى، ترافقنا وغزونا أرض العدو. فاستؤسرنا كلنا. فاعتزل بنا بطريق إلى موضع ليضرب رقابنا، فنظرت إلى السماء فإذا سبعة أبواب مفتوحة في السماء، عليها سبع جوار من الحور العين، على كل باب جارية. فقدم رجل منا فضربت عنقه. فرأيت جارية في يدها منديل قد هبطت إلى الأرض حتى ضربت أعناق الستة وبقيت أنا وبقي باب واحد فلما قدمت لتضرب رقبتي استوهبني بعض رجاله فوهبني له. فسمعتها هي تقول: أي شيء فاتك يا محروم؟ وأغلقت الباب. فأنا يا أخي متحسر على ما فاتني. قال قاسم الجوعي: أراه أفضلهم لأنه رأى ما لم يروا وترك يعمل على الشوق.
963 - عابد آخر
عمار بن عثمان قال: سمعت هداباً يقول: رأيت رجلاً يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول في بكائه:
تمن على ذي العرش ما شئت إنه ... غني كريم لا يخيب سائلا(2/514)
قال: ثم شهق شهقة حتى ظننت أن نفسه ستخرج. قال: فقلت له: ما شأنك رحمك الله؟ قال أعظم الشأن شأني، إني ندبت إلى أمر فقصرت عنه. قال: ثم غشي عليه.
964 - عابد آخر
عن محمد بن صالح قال: بينا أنا في الطواف إذ نظرت إلى أعرابي بدوي متعلق بأستار الكعبة، وقد شخص بصره نحو السماء، وهو يقول: يا خير من وفد الأنام إليه، ذهبت أيامي، وضعفت قوتي، وقد وردت إلى بيتك المعظم المكرم بذنوب كثيرة لا تسعها الأرض ولا تغسلها البحار، مستجيراً بعفوك منها، وحططت رحلي بفنائك، وأنفقت مالي في رضاك، فماذا الذي يكون من جزائك يا مولاي؟ ثم أقبل على الناس بوجهه فقال: يا معشر الناس ادعوا لمن وكزته الخطايا وغمرته البلايا. ارحموا أسير ضر وغريب فاقة. سألتكم بالذي عمتكم الرغبة إليه، إلا سألتم الله تعالى أن يهب لي جرمي ويغفر لي ذنوبي. ثم عاود فتعلق بأستار الكعبة وقال: إلهي وسيدي، عظيم الذنب مكروب، وعن صالح الأعمال مردود، وقد أصبحت ذا فاقة إلى رحمتك يا مولاي. قال محمد بن صالح: ثم رأيته بعرفات وقد وضع يساره على أم رأسه يصرخ ويبكي ويشهق ويقول: إلهي وسيدي ومولاي أضحكت الأرض بالزهر، وأمطرت السماء بالرحمة، والذي أعطيت الموحدين إن نفسي لواثقة لي ولهم منك بالرضا، وكيف لا يكون كذلك، وأنت حبيب من تحبب إليك، وقرة عين من لاذ بك وانقطع إليك؟ يا مولاي حقاً حقاً أقول؛ لقد أمرت بمكارم الأخلاق فاجعل وفودي إليك عتق رقبتي من النار.
965 - عابد آخر
إبراهيم الخواص قال: رأيت شاباً في الطواف متزراً بعباءة، متشحاً بأخرى كثير الطواف والصلاة. فوقع في قلبي محبته ففتح علي بأربعمائة درهم فجئت بها إليه وهو جالس خلف المقام فوضعتها على طرف عبائه وقلت له: يا أخي اصرف هذه القطيعات في بعض حوائجك. فقام وبددها في الحصا وقال: يا إبراهيم اشتريت هذه الجلسة من الله تعالى بسبعين ألف دينار عين، تريد أن تخدعني عن الله عز وجل بهذا الوسخ؟ قال إبراهيم: فما رأيت أعز منه وهو ينظر، وأذل مني وأنا أجمعها من بين الحصى. ثم قام وذهب.
966 - عابد آخر
أبو عبد الله بن طاهر قال: رأيت في الطواف شيخاً أعجمياً والناس يتضرعون ويدعون وهو ساكت. فقلت له: ألا تدعو؟ فمد يده ورفع بها شيبته قال: يا خداه شيخ، ولم يزد على ذلك.(2/515)
ومن عقلاء المجانين الذين لقوا في الطواف:
967 - ولهان المجنون
أبو عبد الله المغربي قال: كنت في الطواف فرأيت ولهان المجنون وهو يقول: حبك قتلني، وشوقك أيقظني، والاتصال بك أسقمني، فعدمت قلباً يحب غيرك وثكلت خواطر أنست بسواك.
ذكر المصطفيات من عابدات رئين في الطواف
968 - عابدة
مالك بن دينار قال: بينا أنا أطوف بالبيت إذا أنا بجويرية متعبدة، فإذا هي تقول: يا رب كم شهوة قد ذهبت لذتها وبقيت تبعتها، يا رب ما كان لك عقوبة ولا أدب إلا النار. قال: فوالله ما زال ذلك مقامها حتى طلع الفجر. قال مالك، فوضعت يدي على رأسي ثم صرخت وجعلت أقول: ثكلت مالكاً أمه وعدمته، جويرية منذ الليلة قد بطلته.
969 - عابدة أخرى
عن محمد بن يزيد بن حبيش قال: قال وهيب بن الورد: بينما امرأة في الطواف ذات يوم وهي تقول: يا رب ذهبت اللذات وبقيت التبعات، يا رب سبحانك، وعزتك إنك لأرحم الراحمين: يا رب مالك عقوبة إلا النار. فقالت صاحبة لها كانت معها: يا أخية دخلت بيت ربك اليوم؟ قالت: والله ما أرى هاتين القدمين، وأشارت إلى قدميها، أهلاً للطواف حول بيت ربي، فكيف أراهما أهلاً أطأ بهما بيت ربي؟ وقد علمت حيث مشتا وإلى أين مشتا؟
970 - عابدة أخرى
عن الحسن قال: رأيت بدوية دخلت الطواف فقالت: يا حسن الصحبة، جئتك من بعيد، أقبلت أسألك سترك الذي لا تخرقه الرماح ولا تزيله الرياح.
971 - عابدة أخرى
عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: دخل قوم حجاج ومعهم امرأة تقول: أين بيت ربي؟ فيقولون: الساعة ترينه. فلما رأوه قالوا: هذا بيت ربك أما ترينه؟ فخرجت تشتد وتقول: بيت ربي بيت ربي حتى وضعت جبهتها على البيت. فوالله ما رفعت إلا ميتة.(2/516)
972 - عابدة أخرى
إبراهيم بن مسلم المخزومي قال: وقفت امرأة متعبدة في جوف الليل فتعلقت بأستار الكعبة: ثم بكت وقالت: يا كريم الصحبة، ويا حسن المعونة، أتيتك من شقة بعيدة متعرضة لمعروفك الذي وسع خلقك، فأنلني من معروفك معروفاً تغنيني به عن معروف من سواك يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة. قال: ثم صرخت صرخة سقطت لوجهها فحملت مغشياً عليها.
973 - عابدة أخرى
عن سعيد الأزرق الباهلي أنه قال: دخلت الطواف ليلاً، فبينا أنا أطوف وإذا بامرأة في الحجر ملتزمة للبيت قد علا نشيجها، فدنوت منها وهي تقول: يا من لا تراه العيون ولا تخالطه الأوهام والظنون، ولا تغيره الحوادث ولا يصفه الواصفون، يا عالماً بمثاقيل الجبال ومكاييل البحار وعدد قطر الأمطار، وورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار، لا تواري منه سماء سماء، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعر، ولا بحر ما في قعره، أسألك أن تجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاك، وخير ساعاتي مفارقة الأحياء من دار الفناء إلى دار البقاء التي تكرم فيها من أحببت من أوليائك، وتهين فيها من أبغضت من أعدائك أسألك إلهي عافية جامعة لخير الدنيا والآخرة منا منك علي وتطولاً يا ذا الجلال والإكرام. ثم صرخت وغشي عليها.
974 - عابدة أخرى
محمد بن زيد قال: سمعت ذا النون يقول: خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام فبينا أنا في الطواف إذ أنا بشخص متعلق بأستار الكعبة يبكي ويقول في بكائه: كتمت بلائي من غيرك، وبحت بسري إليك، واشتغلت بك عمن سواك، عجبت لمن عرفك كيف يسلو عنك؟ ولمن ذاق حبك كيف يصبر عنك؟ ثم أقبل على نفسه فقال: أمهلك فما ارعويت، وستر عليك فما استحييت، وسلبك حلاوة المناجاة فما باليت، ثم قال: عزيزي ما لي إذا قمت بين يديك ألقيت علي النعاس ومنعتني حلاوة الخدمة؟ لم قرة عيني لمه؟ ثم أنشأ يقول:
روعت قلبي بالفراق فلم أجد ... شيئاً أمر من الفراق وأوجعا
حسب الفراق بأن يفرق بيننا ... ولطالما قد كنت منه مفزعا
قال: فلم أتمالك أن أتيت الكعبة مستخفياً فلما أحس بي تجلل بخمار كان عليه ثم قال: يا ذا النون غض بصرك فإني حرام. فعلمت أنها امرأة فقلت: والله قد شغلني قولك عن كثير(2/517)
مما كنت فيه. فقالت: ولم عافاك الله؟ أما علمت أن لله عباداً لا يشغلهم سواه ولا يميلون إلى ذكر غيره؟.
975 - عابدة أخرى
عن ذي النون المصري قال: كنت في الطواف فسمعت صوتاً حزيناً وإذا بجارية متعلقة بأستار الكعبة وهي تقول:
أنت تدري يا حبيبي ... من حبيبي أنت تدري
ونحول الجسم والدمع ... يبوحان بسري
يا عزيزي قد كتمت الحب ... حتى ضاق صدري
قال ذو النون: فشجاني ما سمعت حتى انتحبت وبكيت. ثم قالت: إلهي وسيدي ومولاي، بحبك لي إلا ما غفرت لي. قال: فتعاظمني ذلك وقلت: يا جارية أما يكفيك أن تقولي: بحبي لك، حتى تقولي بحبك لي؟ فقالت: إليك عني يا ذا النون، أما علمت أن لله عز وجل قوماً يحبهم قبل أن يحبوه؟ أما سمعت الله عز وجل يقول: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} المائدة: 54. فسبقت محبته لهم قبل محبتهم له؟ فقلت: من أين علمت أني ذو النون؟ فقالت: يا بطال جالت القلوب في ميدان الأسرار فعرفتك. ثم قالت: انظر من خلفك. فأدرت وجهي، فلا أدري السماء اقتلعتها أم الأرض ابتلعتها.
976 - عابدة أخرى
أبو عبد الملك قال: رأيت امرأة متعلقة بأستار الكعبة وهي تقول: اللهم إني أستعديك على نفسي.
977 - عابدة أخرى
أبو الأشهب السائح قال: بينا أنا في الطواف إذا بجويرية قد تعلقت بأستار الكعبة وهي تقول: يا وحشتي بعد الإنس، ويا ذلي بعد العز، ويا فقري بعد الغنى. فقلت لها: ما لك؟ أذهب لك مال أو أصبت بمصيبة؟ قالت: لا ولكن كان لي قلب ففقدته، قلت: هذه مصيبتك؟ قالت: وأي مصيبة أعظم من فقد القلوب وانقطاعها عن المحبوب؟ فقلت لها: إن حسن صوتك قد عطل على من سمع الكلام الطواف. فقالت: يا شيخ، البيت بيتك أم بيته؟ قلت: بل بيته. قالت: فالحرم حرمك أم حرمه؟ فقلت: بل حرمه، قالت: فدعنا نتدلل عليه على قدر ما استزارنا إليه. ثم قالت: بحبك لي إلا رددت علي قلبي. قال: فقلت من أين(2/518)
تعلمين أنه يحبك؟ فقالت: جيش من أجلي الجيوش وأنفق الأموال وأخرجني من دار الشرك وأدخلني في التوحيد، وعرفني نفسه بعد جهلي إياه، فهل هذا إلا لعناية، قلت: كيف حبك له؟ قالت: أعظم شيء وأجله، قلت: وتعرفين الحب؟ قالت: فإذا جهلت فأي شيء أعرف؟ إنه الحلو المجتنى ما اقتصر، فإذا أفرط عاد خبلاً قاتلاً، أو فساداً معطلاً، وهو شجرة غرسها كريه ومجناها لذيذ. ثم ولت. وأنشأت تقول:
وذي قلق لا يعرف الصبر والعزا ... له مقلة عبرى أضر بها البكا
وجسم نحيل من شجى لاعج الهوى ... فمن ذا يداوي المستهام من الضنا
ولا سيما والحب صعب مرامه ... إذا عطفت منه العواطف بالفنا
978 - عابدة أخرى
الجنيد قال: حججت على الوحدة فجاورت بمكة، فكنت إذا جن الليل دخلت الطواف. فإذا أنا بجارية تطوف وتقول:
أبى الحب أن يخفى وكم قد كتمته ... فأصبح عنيد قد أناخ وطنبا
إذا اشتد شوقي هام قلبي بذكره ... وإن رمت قرباً من حبيبي تقربا
ويبدو فأفنى ثم أحيا به له ... ويسعدني حتى ألذ وأطربا
قال: فقلت لها: يا جارية أما تتقين الله تعالى في مثل هذا المكان تتكلمين بمثل هذا الكلام؟ فالتفتت إلي وقالت: يا جنيد:
لولا التقى لم ترني ... أهجر طيب الوسن
إن التقى شردني ... كما ترى عن وطني
أفر من وجدي به ... فحبه هيمني
ثم قالت: يا جنيد تطوف بالبيت أم برب البيت؟ فقلت: أطوف بالبيت. فرفعت رأسها إلى السماء وقالت: سبحانك ما أعظم مشيئتك في خلقك، خلق كالأحجار يطوفون بالأحجار. ثم أنشأت تقول:
يطوفون بالأحجار يبغون قربة ... إليك وهم أقسى قلوباً من الصخر
وتاهوا فلم يدروا من التيه من هم ... وخلوا محل القرب في باطن الفكر
فلو أخلصوا في الود غابت صفاتهم ... وقامت صفات الود للحق بالذكر
قال الجنيد: فغشي علي من قولها. فلما أفقت لم أرها.(2/519)
ومن المصطفين الذين لقوا عند المقام:
979 - عابد
أيوب بن محمد اليمامي قال: حدثني أبو عبد الرحمن العجلي أنه رأى رجلاً قائماً خلف المقام يصلي. فافتتح القرآن فلم يزل يقرأ حتى أتى على آخر القرآن ونودي النداء الأول فجلس فسلم ثم قام فركع ركعة، قال: حسبتها وتره. ثم قال وهو يرى أنه لا يسمعه أحد: عند ورود المنهل يغبط الركب الدلجة. قال: ثم تنحى من مكانه فاختلط بالناس.
ومن المصطفين الذين لقوا بين مكة والمدينة:
980 - عابد
الخلدي قال: حج عبد الله الأقطعع على فرد قدم. قال: فلما بلغت بين المسجدين وقع في سري أنه لم يحج مثلي فإذا أنا بمقعد يحبو فوقفت عليه أعجب منه. فقال لي: ما لك تتعجب من قوي يحمل ضعيفاً.
ذكر المصطفين ممن لقي في طريق الغزاة
981 - عابد
عبد الله بن قيس، أبو أمية الغفاري قال: كنا في غزاة لنا فحضر عدوهم، فصيح في الناس فهم يثوبون إلى مصافهم، إذا رجل أمامي رأس فرسي عند عجز فرسه، وهو يخاطب نفسه ويقول: أي نفس ألم أشهد مشهد كذا وكذا؟ فقلت لي: أهلك وعيالك، فأطعتك ورجعت؟ ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت؟ والله لأعرضنك اليوم على الله، أخذك أو تركك. فقلت: لأرمقنه اليوم. فرمقته فحمل الناس على عدوهم فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا فكان في حماتكم ثم إن الناس حملوا فكان في أوائلهم، ثم حمل العدو وانكشف الناس فكان في حماتهم. قال: فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعاً. فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة.
982 - عابد آخر
عن شقيق قال: خرجنا في غزاة لنا في ليلة مخوفة، فإذا رجل نائم فأيقظناه، فقلنا: تنام في مثل هذا المكان؟ فرفع رأسه فقال: إني لأستحيي من ذي العرش أن يعلم أني أخاف شيئاً دونه، ثم ضرب برأسه فنام.(2/520)
983 - عابد آخر
أبو غالب قال: صحبنا شيخ في بعض المغازي، فكان يحيي الليل حيث كان على ظهر دابته أو على الأرض وكان إذا نظر إلى الفجر قد لمع ضوؤه نادى: يا إخوتاه عند بلوغ الماء يفرح الواردون بتعجيل الرواح، هنالك تنقطع كل همة.
984 - عابد آخر اسمه سعيد
عباس بن يوسف قال: قال ميسرة الخادم: غزونا في بعض الغزوات فصادفنا العدو، فإذا بفتى إلى جانبي مقنع في الحديد، فحمل على الميمنة حتى ثناها، وحمل على الميسرة حتى ثناها، وحمل على القلب حتى ثناه. ثم أنشأ يقول:
أحسن بمولاك سعيد ظنا ... هذا الذي كنت له تمنى
تنح يا حور الجنان عنا ... ما لك قاتلنا ولا قتلنا
لكن إلى سيدنا اشتقنا ... قد علم السر وما أعلنا
قال: فحمل فقاتل فقتل منهم عدداً، ثم رجع إلى مصافه فتكالب عليه العدو فإذا به قد حمل على الناس وأنشأ يقول:
قد كنت أرجو، ورجائي لم يخب ... أن لا يضيع اليوم كدي والتعب
يا من ملا تلك القصور باللعب ... لولاك ما طابت ولا طاب الطرب
فحمل فقتل منهم عدداً ثم رجع إلى مصافه فتكالب عليه العدو فحمل الثالثة وأنشأ يقول:
يا لعبة الخلد قفي ثم اسمعي ... ما لك قاتلنا فكفي واربعي
ثم ارجعي إلى الجنان فأسرعي ... لا تطمعي، لا تطمعي، لا تطمعي
قال: فحمل فقاتل حتى قتل.(2/521)
ذكر المصطفين من عباد لقوا في طريق سفر وطريق سياحة
985 - عابد
عن ابن جابر أن أبا عبد رب كان أكثر أهل دمشق مالاً، فخرج إلى أذربيجان في تجارة فأمسى إلى جانب مرعى ونهر فنزل به، قال أبو عبد رب: فسمعت صوتاً يكثر حمد الله في ناحية فاتبعته فرأيت رجلاً في حفير من الأرض ملفوفاً في حصير فسلمت عليه وقلت: من أنت يا عبد الله؟ قال: رجل من المسلمين. قلت: وما حالك هذه؟ قال: حال نعمة يجب علي حمد الله عز وجل فيها، قال: قلت: وكيف وإنما أنت في حصير؟ قال: ومالي لا أحمد الله أن خلقني فأحسن خلقي، وجعل مولدي ومنشئي في الإسلام، وألبسني العافية في أركاني وستر علي ما أكره نشره؟ فمن أعظم نعمة ممن أمسى في مثل ما أنا فيه قلت: رحمك الله إن رأيت أن تقوم معي إلى المنزل فإنا نزول على النهر ها هنا. قال: ولمه؟ قال: قلت: لتصيب من الطعام، ونعطيك ما يغنيك عن لبس الحصير. قال: فأبى. قال الوليد: فحسبت أنه قال: إن لي في أكل العشب كفاية، قال أبو عبد رب: فأردته أن يتبعني فأبى وقال: ما لي به من حاجة. فانصرفت وقد تقاصرت إلي نفسي. فذكر أنه رجع من تجارته وتصدق بماله.
986 - عابد آخر
ذو النون قال: رأيت رجلاً في البرية يمشي حافياً وهو يقول: المحب مجروح الفؤاد لا راحة له. فسلمت عليه فقال: وعليك السلام يا ذا النون. فقلت: عرفتني قبل هذا؟ قال: لا. قلت، فمن أين لك هذه الفراسة؟ فقال: ممن يملكها. ليست مني، هو الذي نور قلبي بالفراسة حتى عرفني إياك من غير معرفة سبقت لي، يا ذا النون قلبي عليل وجسمي مشغول، وأنا سائح في البرية أسير فيها منذ عشرين سنة ما أعرف بيتاً، ولا يكنني سقف يسترني من الشمس إذا كظت، ويحفظني من الرياح إذا هبت، فصف لي بعض ما أنا فيه إن كنت وصافاً. فقلت: القلب إذا كان عليلاً جالت الأحزان والأسقام فيه، ليس للقلب مع ذلك دواء. فصرخ صرخة ثم قال: ما لي وللشكوى؟ ثم قال: ما صحبت صاحباً منذ صحبته. أصحبك اليوم. فقلت: قم بنا. فقمنا جميعاً نسير بلا زاد، فلما أوغلنا في البرية وطوينا ثلاثاً قال لي: قد جعت؟ قلت: نعم، قال: فأقسم عليه حتى يطعمك. قلت: لا، والذي فلق الحبة وبراً النسمة لا سألته شيئاً، إن شاء أطعم وإن شاء ترك. فتبسم وقال: إمض الآن، فلقد أفيض علينا من أطايب(2/522)
الأطعمة ولذيذ الأشربة حتى دخلنا مكة سالمين. ثم فارقني وفارقته. فكان ذو النون كلما ذكره بكى وتأسف على صحبته.
987 - عابد آخر
ذو النون قال: بينا أنا سائر في بعض الطرق فإذا فتى حسن الوجه، أثر التهجد بين عينيه. فقلت: حبيبي من أين قدمت؟ فقال: من عنده. فقلت: وإلى أين؟ فقال: إلى عنده. قال: فعرضت عليه النفقة فنظر إلي مغضباً ثم ولى وأنشأ يقول:
وكافر بالله أمواله ... تزداد أضعافاً على كفره
ومؤمن ليس له درهم ... يزداد إيماناً على فقره
لا خير فيمن لم يكن عاقلاً ... يمد رجليه على قدره
988 - عابد آخر
عن طاهر المقدسي قال: خرجت من عسقلان أريد غزة في طلب البدلاء، فإذا أنا فتى عليه أطمار رثة ماراً على ساحل البحر. قال: فكأني لم أعبأ به. فالتفت إلي فقال:
لا تنب عني بأن ترى خلقي ... فإنما الدر داخل الصدف
علمي جديد وملبسي خلق ... ومنتهى اللبس منتهى الصلف
989 - عابد آخر
محمد بن الحسين الآجري قال: حدثني بعض أصحابنا عن أبي الفضل الشكلي قال: رأيت شاباً في بعض الطريق، وعليه خلق فكأني لم أحفل به، فالتفت إلي ثم قال:
لا تنب عني بأن ترى خلقي ... فإنما الدر داخل الصدف
علمي جديد وملبسي خلق ... ومنتهى اللبس منتهى الصلف
قال: فجعلت ألوذ به وأنست به.
990 - عابد آخر
بلغنا عن محمد بن رافع قال: أقبلت من بعض بلاد الشام فبينا أنا في بعض الطريق رأيت فتى عليه جبة من صوف، وبيده ركوة، فقلت: أين تريد؟ فقال: لا أدري. قلت: فمن أين جئت؟ قال: لا أدري، فظننته موسوساً فقلت: من خلقك؟ فاصفر حتى خلته صبغ بالزعفران، ثم قال: خلقني من لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فقلت: رحمك الله أنا من إخوانك وممن يأنس إلى أمثالك فلا تنقبض مني. فقال: كيف لا؟ إني والله أود لو جاز لي ترك الجماعات حتى أنفرد في شاهق منيف صعب المرتقى، أو في غار(2/523)
موحش لعلي أجد قلبي ساعة يسلو عن الدنيا وأهلها. فقلت: وما جنت عليك الدنيا حتى استحقت هذا البغض منك؟ فقال: جناياتها العمى عن جناياتها. فقلت: هل من دواء أتعالج به من هذا العمى الذي قد حجب عني ما يراد بي؟ قال: ما أراك تقدر على العلاج فاستعمل من الدواء أيسره. قلت: صف لي دواء لطيفاً. قال: فما داؤك؟ قلت: حب الدنيا. فتبسم وقال: أي قرحة أعظم من هذه؟ ولكن اشرب السموم الطرية والمكاره الصعبة. قلت: ثم ماذا؟ قال: مر الصبر الذي لا جزع فيه والتعب الذي لا راحة فيه، قلت: ثم ماذا؟ قال السلو عما تريد والصبر عما تحب، فإن أردت فاستعمل هذا وإلا فتأخر واحذر الفتن كأنها قطع الليل المظلم. قلت: فدلني على عمل يقرب إلى الله عز وجل. فقال: يا أخي قد نظرت في جميع العبادات فلم أر أنفع من الفرار من الناس وترك مخالطتهم، يا أخي رأيت القلوب عشرة أجزاء، فتسعة مع الناس وجزء مع الدنيا. فمن قوي على الانفراد حاز تسعة أجزاء من القلب. ثم غاب عني فلم أره.(2/524)
ذكر المصطفيات من عابدات لقين في طريق السياحة
991 - عابدة
ذو النون المصري قال: بينا أنا سائر في البادية إذ رأيت امرأة متعبدة، فلما أن دنت مني سلمت علي فرددت عليها السلام، فقالت: من أين أقبلت؟ فقلت: من عند حكيم لا يوجد مثله، فصاحت وقالت: ويحك كيف فارقته وهو أنيس الغرباء؟ فأوجع قلبي كلامها فبكيت، فقالت لي: مم بكاؤك؟ قلت: وقع الدواء على الداء، فأسرع في نجاحه، قالت: فإن كنت صادقاً فلم بكيت؟ قلت: والصادق لا يبكي؟ قالت: لا، لأن البكاء راحة القلب وهذا نقص عند ذوي العقول يا بطال، قلت: علميني شيئاً ينفعني الله به. قالت: ويحك ما أفادك الحكيم من الفوائد ما تستغني به عن طلب الزوائد؟ فقلت: إن رأيت أن تعلميني شيئاً فعلت، فقالت: اخدم مولاك شوقاً إلى لقائه. فإن له يوماً يتجلى فيه لأوليائه وإنه تعالى سقاهم في الدنيا من محبته كأساً لا يظمئون بعدها أبداً، ثم أقبلت تبكي وتقول: سيدي إلى كم تدعني في دار لا أجد فيها من يساعدني على بلائي؟ ثم مضت وهي تقول:
إذا كان داء العبد حب مليكه ... فمن دونه يرجو طبيباً مداوياً؟(2/524)
قلت: وقد رويت لنا هذه الحكاية بألفاظ أخر:
أنبأ عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أنبأ أحمد بن علي بن ثابت قال: أنبأ القاضي أبو القاسم عبد الواحد بن محمد البجلي قال: أنبأ جعفر بن محمد الخلدي قال: حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق قال: سمعت ذا النون المصري قال: بينا أنا في بعض مسيري لقيتني امرأة فقالت لي: من أين أقبلت؟ قلت: رجل غريب. فقالت لي: ويحك وهل توجد مع الله أحزان الغربة وهو مؤنس الغرباء ومعين الضعفاء؟ فبكيت، فقالت لي: ما يبكيك؟ قلت: وقع الدواء علي داء قد قرح فأسرع في نجاحه، قالت: إن كنت صادقاً فلم بكيت؟ قلت: والصادق لا يبكي؟ قالت: لا، قلت: ولم؟ قالت: إن البكاء راحة القلب وملجأ يلجأ إليه، وما كتم القلب شيئاً أحق من الشهيق والزفير، فإذا أسبلت الدمعة استراح القلب، وهذا ضعف عند الأولياء يا بطال، فبقيت متعجباً من كلامها، فقالت لي: ما لك؟ قلت: تعجباً من هذا الكلام. قالت: وقد أنسيت القرحة التي سألت عنها؟ قلت: لا، علميني شيئاً ينفعني الله به. قالت: وما أفاد الحكيم في مقامك هذا من الفوائد ما تستغني به عن طلب الزوائد؟ قلت لا، ما أنا بمستغن عن طلب الزوائد. قالت: صدقت، أحبب ربك واشتق إليه فإن له يوماً يتجلى فيه على كرسي كرامته لأوليائه وأحبائه فيذيقهم من محبته كأساً لا يظمئون بعدها أبداً. قال: ثم أخذت في البكاء والزفير والشهيق وهي تقول: سيدي إلى كم تخلفني في دار لا أجد فيها أحداً يسعدني على البكاء أيام حياتي، ثم تركتني ومضت.
992 - عابدة أخرى
ذو النون قال رأيت امرأة بنحو أرض البجة. قال: فناديتها. فقالت: وما للرجال أن يكلموا النساء؟ لولا ضعف عقلك لرميتك بشيء، فقلت لها: بالله كيف تعرفين الزيادة؟ قالت: بتفقد الأحوال انصرف. قال: فما ناطقتها بعد ذلك.
993 - عابدة أخرى
ذو النون بن إبراهيم قال: كنت في تيه بني إسرائيل ومعي صاحب لي، فرأيت امرأة عليها مدرعة من شعر وخمار من صوف، وفي كفها عكاز من حديد فقلت: السلام عليك ورحمة الله. فقالت: وعليك السلام، ما للرجال وخطاب النساء عافاك الله؟ فقلت: أخوك ذو النون المصري. فقالت: مرحباً حياك الله بالسلام. قلت: ما تصنعين ها هنا؟ قالت: كلما أتيت إلى بلدة يعصى فيها الحبيب ضاق علي ذلك البلد، فأنا أطلب بقعة طاهرة أخر عليها ساجدة أناجيه بقلب ذاب من شدة الشوق إلى لقائه. فقلت: ما سمعت أحداً يذكر الحبيب أحسن من ذكرك،(2/525)
فأي شيء المحبة؟ قالت: سبحان الله أنت الحكيم الواعظ وتسألني؟ أول المحبة يبعث على الكد الدائم، حتى إذا وصلت أرواحهم إلى أعلى الصفا جرعهم من محبته لذيذ الكؤوس، ثم صرخت وخرت مغشياً عليها فأفاقت وهي تقول:
أحبك حبين حب الرضا ... وحب لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الرضا ... فذكر شغلت به عن سواكا
وأما الذي أنت أهل له ... فكشفك للحجب حتى أراكا
فما الحمد في ذا ولا ذاك لي ... ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
994 - عابدة أخرى
ذو النون المصري قال: بينا أنا أسير في جبال أنطاكية فإذا أنا بجارية كأنها مجنونة وعليها جبة من صوف، فسلمت عليها فردت علي السلام، ثم قالت: ألست ذا النون المصري؟ قلت: عافاك الله كيف عرفتني؟ فقالت: عرفتك بمعرفة حب الحبيب، ثم قالت: أسألك عن مسألة، قلت: سلي، فقالت: أي شيء السخاء؟ قلت: البذل والعطاء. قالت: هذا سخاء في الدنيا فما السخاء في الدين؟ قلت: المسارعة إلى طاعة الله تعالى. قالت: فإذا سارعت إلى طاعة الله فهو أن يطلع على قلبك وأنت لا تريد منه شيئاً، ويحك يا ذا النون إني أريد أن أطلب منه شهوة منذ عشرين سنة، فأستحيي منه مخافة أن أكون كأجير السوء، إذا عمل طلب الأجر، ولكن اعمل تعظيماً لهيبته وعز جلاله ومرت وتركتني.
995 - عابدة أخرى
ذو النون المصري قال بينما أنا أسير في تيه بني إسرائيل إذا أنا بجارية سوداء قد استلبها الوله من حب الرحمن، شاخصة ببصرها نحو السماء. فقلت: السلام عليك يا أختاه فقالت: وعليك السلام يا ذا النون. فقلت لها: من أين عرفتني يا جارية؟ فقالت: يا بطال إن الله عز وجل خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ثم أدارها حول العرش، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، فعرفت روحي روحك في ذلك الجولان. قلت: إني لأراك حكيمة، علميني شيئاً مما علمك الله عز وجل، فقالت: يا أبا الفيض ضع على جوارحك ميزان القسط حتى يذوب كل ما كان لغير الله، ويبقى القلب مصفى ليس فيه غير الرب عز وجل، فبعد ذلك يقيمك لي الباب ويوليك ولاية جديدة ويأمر الخزان لك بالطاعة. فقلت: يا أختاه زيديني، فقالت: يا أبا الفيض خذ من نفسك لنفسك وأطع الله عز وجل إذا خلوت يجيبك إذا دعوت.(2/526)
ذكر المصطفين من عباد لم يعرفوا باسم ولا مكان
996 - عابد
عن شقيق قال: كنت في زرع لي إذ أقبلت سحابة ترهيأ قال: فسمعت فيها صوتاً: أمطري زرع فلان قال: فأتيت الرجل فسألته: ما تصنع بزرعك؟ قال: أبذر ثلثه، وآكل ثلثه، وأتصدق بثلثه.
997 - عابد آخر
مضر القاري قال: كان رجل من العباد قلما ينام من الليل قال: فغلبته عينه ذات ليلة فنام عن جزئه، فرأى فيما يرى النائم كأن جارية وقفت عليه، كأن وجهها القمر المستتم قال ومعها رق فيه كتاب. فقالت: أتقرأ أيها الشيخ؟ قلت: نعم. قالت: فاقرأ هذا الكتاب. قال فأخذته من يدها ففتحته فإذا فيه مكتوب:
ألهتك لذة نومة عن خير عيش ... مع الخيرات في غرف الجنان
تعيش مخلداً لا موت فيها ... وتنعم في الجنان مع الحسان
تيقظ من منامك إن خيراً ... من النوم التهجد بالقرآن
قال: فوالله ما ذكرتها قط إلا ذهب عني النوم.
998 - عابد آخر
عن البختري بن حارثة قال: دخلت على عابد مرة فإذا بين يديه نار قدأججها وهو يعاتب نفسه. فلم يزل يعاتبها حتى مات.
999 - عابد آخر
عن رياح القيسي قال: كان عندنا رجل يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة حتى أعقد من رجليه. وكان يصلي جالساً ألف ركعة فإذا صلى العصر احتبى واستقبل القبلة ويقول: عجبت للخليقة كيف أنست بسواك، بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبهم بذكر سواك.
1000 - عابد آخر
عن ميمون بن سياه قال: كنت أنا وخالد الربعي ونفر من أصحابنا نذكر الله، فوقف علينا رجل أسود فقال: هل ذكرتم الموت فيما كنتم فيه؟ قلنا: إنا لنذكره كثيراً وما ذكرناه يومنا هذا،(2/527)
قال: فبكى وقال: لقد أغفلتم ما لا يغفلكم، ونسيتم ما تحصى عليكم الأنفاس لقدومه عليكم. قال: ثم مال ليسقط وسانده رجل من القوم فخرجت نفسه وإنا لننظر إليه. قال: فنظرنا لم نجد أحداً يعرفه. قال: فغسلناه وحنطناه وكفناه ودفناه.
1001 - عابد آخر
أسلم بن عبد الملك، وكان شيئاً عجيباً، قال: صحب رجل رجلاً شهرين فلم يره نائماص بليل ولا نهار، فقال له: ما لي لا أراك تنام؟ قال: إن عجائب القرآن أطرن نومي، ما أخرج من أعجوبة إلا وقعت في غيرها.
1002 - عابد آخر
عبد الله بن داود قال: حدثني رجل منذ خمسين سنة أو نحو خمسين سنة قال: كان مملوك لامرأة فكان يصلي الليل كله، فقالت له: ليس تدعنا ننام الليل؟ فقال لها: لك النهار ولي الليل، إذا ذكرت النار طار نومي، وإذا ذكرت الجنة طال حزني.
1003 - عابد آخر
شعيب بن حرب قال: صحبني رجلان في سفينة فأخذ أحدهما حبة من حنطة فألقاها في فيه، فقال له صاحبه: مه أي شيء صنعت؟ قال: سهوت. قال: لأن تأكلني السباع أحب إلي من أن أصحب رجلاً يسهو عن الله عز وجل. قال: ثم قال: يا ملاح قرب. قال: فخرج. قال شعيب: فسمعنا زئير الأسد من الغيضة فما ندري ما حال الرجل. قال شعيب: فالتفت إلي صاحبه فقال: إن هذا صاحبي منذ أربعين سنة أو نيف وأربعين سنة ما رأى علي زلة قبلها.
1004 - عابد آخر
عن أيوب الحمال قال: كان فتى ينتحل التوكل، وكان عزيزاً عند الأخذ من الناس، وكان إذا احتاج إلى قوته وجده موضوعاً. فقيل له: احذر لا يكون الشيطان يخدعك. فقال: أنا إلى الله تعالى ناظر ومنه آخذ ما رزقني، فإن كان عدوي قد سخر لي فلا فرج الله عنه، وأي شيء أحسن مني؟ يخدمني عدوي وأنا أسكن إلى الله عز وجل لا إليه.
1005 - عابد آخر
قال ممشاد الدينوري: رأيت في بعض أسفاري شيخاً توسمت فيه الخير. فقلت له: يا سيدي كلمة تزودني بها. قال: همتك فاحفظها فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها صلح له ما وراءها من الأعمال والأحوال.(2/528)
1006 - عابد آخر
حيدرة بن عبيد قال: دخلنا على رجل من العباد نعوده فقلنا له: كيف تجدك؟ فقال: ذنوب كثيرة ونفس ضعيفة وحسنات قليلة وسفرة طويلة وغاية مهولة، قال: فقلنا: ما معك من الزاد لما ذكرت؟ قال: معي الأمل في السيد الكريم. ثم قال: اللهم لا تقطع يمؤملك في تلك الغمرات، وارحمه في تلك الحيرة والحسرات إذا انخلعت القلوب يوم الندامات. وجعل يتشهد حتى مات.
1007 - عابد آخر
عن أبي عبد الله الدينوري أنه كان يوماً جالساً فدخل عليه فقير عليه آثار الضر، قال: فطالبتني نفسي أن أجيئه بشيء، فهممت أن أرهن نعلي فمنعتني نفسي وقالت: كيف تتم لك طهارة مع الحفا؟ فقلت: أرهن ركوتي. فمنعتني أيضاً وقالت: بأي شيء تتوضأ، فهممت أن أرهن منديلي فمنعتني وقالت: تبقى مكشوف الرأس. فقلت وما في ذلك؟ وجعلت أراجعها في ذلك؟ فقام الفقير فشد وسطه وأخذ عصاه بيده ثم التفت إلي وقال: يا خسيس احفظ منديلك فإني خارج، فاعتقدت مع الله عز وجل أني لا آكل الخبز حتى ألقاه. فقيل: إنه أقام ثلاثين سنة لم يأكل الخبز.(2/529)
ذكر المصطفيات من العابدات اللواتي لم يعرفن باسم ولا مكان
1008 - عابدة
عن الوليد بن مسلم قال: كانت امرأة من التابعين تقول: اللهم أقبل بما أدبر من قلبي، وافتحخ ما أقفل منه حتى تجعله هشاً مرتاحاً لذكرك.
1009 - عابدة أخرى
وبالإسناد: حدثنا أبو بكر القرشي قال: حدثنا الحارث بن محمد التيميمي قال: حدثنا علي بن محمد القرشي، عن جويرية ابن أسماء أن إخوة ثلاثة من بني قطيعة شهدوا يوم تستر فاستشهدوا. فخرجت أمهم يوماً إلى السوق لبعض شأنها فتلقاها رجل قد حضر أمر تستر فعرفته فسألته عن بنيها فقال: استشهدوا. فقالت: أمقبلين أم مدبرين؟ فقال: مقبلين. فقالت: الحمد لله نالوا الفوز وحاطوا الذمار، بنفسي هم وأبي وأمي.
1010 - عابدة أخرى
عن القاسم بن معن أنه أتته امرأة فقالت: أنا امرأة فلان ما أتيك حتى خفت أن يضيق علي أن لا آتيك، فقال القاسم لبعض أصحابه: بقي من ذلك المال شيء؟ قال: مائتي درهم. قال: ادفعه إليها، فأخذته وانصرفت، وقال له: إذا جاءني شيء فأذكرنيها. قال: فجاءه مال ففرقه فذكرها وقد بقي منه سبعمائة درهم. فقال: اذهب به إليها وسل عنها أهل المسجد الذي خلف منزلها والمسجد الذي دونه، ففعل فأخبر بعفاف عنها وعن بنات لها. قال: فأتيتها فقلت: رسول القاسم بن معن. فقالت: مرحباً بالقاسم وبرسوله. حاجتك قلت: هذه السبعمائة درهم أرسل بها إليك القاسم. فقالت: أقرئه السلام وقله له: قد أخذنا تلك المائتين فنحن نغزل منها ونبيع وقد عشنا بها واستغنينا فلا حاجة لنا في هذه. فأتيت القاسم فأخبرته فقال: ويحك ألا سيبتها في باب الدار؟ وقال بيده هكذا. ثم حول وجهه إلى القبلة وقال: اللهم إن بلوتني بخلف فاجعله هكذا.
1011 - عابدة أخرى
أبو جعفر السائح قال: بلغنا عن امرأة متعبدة كانت تصلي الضحى مائة ركعة كل يوم، وكانت تقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} بالنهار عشرة آلاف مرة. وكانت تصلي بالليل لا تستريح. وكانت(2/530)
تقول لزوجها: قم ويحك إلى متى تنام؟ قم يا غافل قم يا بطال، إلى متى أنت في غفلتك؟ أقسمت عليك أن لا تكسب معيشتك إلا من حلال، أقسمت عليك أن لا تدخل النار من أجلي، بر أمك، صلا رحمك، لا تقطعهم فيقطع الله بك.
1012 - عابدة أخرى
الحسين بن جعفر قال: سمعت أبي قال: صليت العيد في الجبان ثم تفردت، فإذا أنا بعجوز رافعة يديها وهي تقول: انصرف الناس ولم أشعر قلبي اليأس يا صاحب الصدقة، ها أناذه منصرفة فليت شعري ما زودتني، رب ارحم ضعفي وكبر سني، خرجت أرجوك فلا تخيب ظني بك. وهي تبكي فما انتفعت بنفسي يومي كله.
1013 - عابدة أخرى
أبو عياش القطان بلغنا أنه كان ملك كثير المال وكانت له ابنة لم يكن له ولد غيرها، وكان يحبها حباً شديداً. وكان يلهيها بصنوف اللهو. فمكث كذلك زماناً، وكان إلى جانب الملك عابد، فبينا هو ليلة يقرأ إذ رفع صوته وهو يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} التحريم: 6 فسمعت الجارية قراءته فقالت لجواريها: كفوا. فلم يكفوا وجعل العابد يردد الآية والجارية تقول لهم: كفوا. فلم يكفوا. فوضعت يدها في جبيها فشقت ثيابها فانطلقوا إلى أبيها فأخبروه بالقصة. فأقبل إليها فقال: يا حبيبتي ما حالك منذ الليلة؟ ما يبكيك؟ وضمها إليه. فقالت: أسألك بالله يا أبه، لله عز وجل دار فيها نار وقودها الناس والحجارة؟ قال: نعم. قالت: وما يمنعك يا أبه أن تخبرني؟ والله لا أكلت طيباً ولا نمت على لين حتى أعلم أين منزلي في الجنة أو النار؟
1014 - عابدة أخرى
سعيد أبو عثمان، ثقة من أهل العلم، قال: نظر رجل إلى امرأة فقال: ما رأيت مثل هذا الحسن وهذه النضارة، وما ذاك إلا من قلة الحزن. فقالت: يا عبد الله، والله إني ليذبحني الحزن ما يشركني فيه أحد. قال: وكيف؟ قالت: ذبح زوجي شاة مضحياً، ولي صبيان يلعبان، فقال أكبرهما للأصغر: أريك كيف صنع أبي بالشاة؟ فعلقه فذبحه فما شعرنا به إلا متشحطاً، فلما استعلت الضجة هرب الغلام ناحية الجبل فرهقه ذئب، فأكله، ونحن لا نعلم، وابتعه أبوه يطلبه فمات عطشاً، فأفردني الدهر، قال: فكيف صبرك؟ قالت: لو رأيت في الجزع مدركاً ما اخترت عليه.(2/531)
1015 - عابدة أخرى
أبو بكر بن عبيد قال: حدثني عبيد الله بن محمد أنه سمع امرأة من المتعبدات تقول وبكت: والله لقد سئمت من الحياة حتى لو وجدت الموت يباع لاشتريته شوقاً إلى الله وحباً للقائه. قال: قلت لها: أفعلى ثقة أنت من عملك؟ قالت: لا والله، ولكن لحبي إياه وحسن ظني به، أفتراه يعذبني وأنا أحبه؟
1016 - عابدة أخرى
عن الحسن بن جعفر أنه سمع أباه يقول: مررت بدار فإذا أنا بعجوز مكفوفة تبكي وتقول: يا حليم تقرب الناس إليك بالأعمال يدعونك بها، فكيف أدعوك بالذنوب ولا عمل أرضاه؟ يا رب هب لي من حلمك ما تكفيني به وتنجيني من عذابك. قال: فوقفت عليها فوعظتها وقلت: هل لك ولد؟ قالت: لا. قلت: من معك في دارك؟ قالت: سبحان الله. معي من أناجيه، فهل علي وحشة معه وهو أنيسي؟ قال: فأبكتني، فقلت لها: ما معاشك؟ قالت: دع عنك ما لا تحتاج إليه بلغت السن فما أحوجني إليك ولا إلى غيرك، أما تقرأ القرآن: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} الشعراء فقلت: إيذني لي في زيارتك. فقالت: أعزم عليك إن فعلت أو ذكرت لي اسماً. ثم أجافت الباب.
1017 - عابدة أخرى
عن العباس بن سهم أن امرأة من الصالحات أتاها نعي زوجها وهي تعجن، فرفعت يدها من العجين وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء.
1018 - عابدة أخرى
وبالإسناد عن ابن روح عن بعض أهل العلم أن امرأة أتاها نعي زوجها والسراج يقد فأطفأت السراج وقالت: هذا زيت قد صار لنا فيه شريك.
1019 - عابدة أخرى
عبد الملك بن شبيب، عن رجل من ولد عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: دخلت على امرأة وأنا أقرأ سورة هود، فقالت لي: يا عبد الرحمن هكذا تقرأ سورة هود؟ والله إني فيها منذ ستة أشهر وما فرغت من قراءتها.(2/532)
1020 - عابدة أخرى
أبو الوليد القاضي قال: سمعت امرأة تقول: فقدتك من قلب أصبحت قاسياً ولعظمة الله ناسياً كيف تقر عيني وقد أخبرني أن قاسي القلب مني بعيد؟
1021 - عابدة أخرى
سري السقطي قال: بلغني أن امرأة كانت إذا قامت من الليل قالت: اللهم إن إبليس عبد من عبيدك، ناصيته بيدك، يراني من حيث لا أراه، وأنت تراه من حيث لا يراك، اللهم إنك تقدر على أمره كله، وهو لا يقدر من أمرك على شيء، اللهم إن أرادني بشر فأرده، وإن كادني فكده، أدرأ بك في نحره، وأعوذ بك من شره. ثم بكت حتى ذهبت إحدى عينيها، فقيل لها: اتقي الله لا تذهب الأخرى. فقالت: إن كانت عيني من عيون أهل الجنة فسيبدلني بها ما هو أحسن منها، وإن كانت من عيون أهل النار فأبعدهما الله تعالى.
1022 - عابدة أخرى
عن بكر بن عبد الله المزني قال: كانت امرأة متعبدة، فكانت إذا أمست قالت: يا نفس، الليلة ليتلك لا ليلة لك غيرها، فاجتهدي. فإذا أصبحت قالت: يا نفس اليوم يومك لا يوم لك غيره فاجتهدي.(2/533)
ذكر المصطفيات من بنيات صغار تكلمن بكلام العابدات الكبار
1023 - صبية
زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده أسلم، قال: بينا أنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يعس المدينة إذ عيي فاتكأ إلى جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة تقول لابنتها: يا ابنتاه قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء. فقالت لها: يا أماه أو ما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم؟ قالت: وما كان من عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر مناديه فنادى أن لا يشاب اللبن بالماء. فقالت لها: يا بنية قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر، فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء.
1024 - صبية أخرى
عفان بن مسلم قال: قال لي حماد بن سلمة: ألح علينا المطر سنة من السنين وفي جواري امرأة من المتعبدات لها بنات أيتام، فوكف السقف عليهم، فسمعتها تقول: يا رفيق ارفق بي. فسكن المطر فأخذت صرة فيها دنانير وقرعت بابها. فقالت: اللهم اجعله حماد بن سلمة. قلت: أنا حماد بن سلمة، وأخرجت الدنانير وقلت لها: انتفعي بهذه، فإذا صبية عليها مدرعة من صوف تستبين خروقها قد خرجت علي وقالت: ألا تسكت يا حماد؟ تعترض بيننا وبين ربنا؟ ثم قالت: يا أماه قد علمنا أنا لما شكونا مولانا أنه سيبعث إلينا بالدنيا ليطردنا عن بابه. ثم ألصقت خدها على التراب وقالت: أما أنا وعزتك لا زايلت بابك وإن طردتني، ثم قالت: يا حماد رد دنانيرك عافاك الله إلى الموضع الذي أخرجتها منه فإنا رفعنا حوائجنا إلى من يقبل الودائع ولا يبخس العاملين.
1025 - صبية أخرى
بشر بن الحارث يقول: أتيت باب المعافي بن عمران فدققت الباب فقيل: من ذا؟ فقلت: بشر الحافي، فقالت له بنية له من داخل: لو اشتريت نعلاً بدانقين ذهب عنك هذا الاسم.(2/534)
1026 - صبية أخرى
عبد الله بن محمد بن وهب قال: كان ليحيى بن معاذ ابنة صغيرة السن جداً، فطلبت من أبيها شيئاً فقال لها: يا بنتي اطلبي ذاك من الله. فقالت: يا باه أوما أستحيي من الله أن أتقدم إليه في شيء يؤكل؟
1027 - صبية أخرى
أبو العباس بن مسروق قال: كنت باليمن فرأيت صياداً يصطاد السمك على بعض السواحل، وإلى جنبه ابنة له. فكلما اصطاد سمكة فتركها في دوخلة معه ردت الصبية السمكة إلى الماء، فالتفت الرجل فلم ير شيئاً، فقال لابنته: أي شيء عملت بالسمك؟ فقالت: يا أبي أليس سمعتك تروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقع سمكة في شبكة إلا إذا غفلت عن ذكر الله عز وجل" فلم أحب أن نأكل شيئاً غفل عن ذكر الله تعالى. فبكى الرجل ورمى الصنارة.
1028 - صبية أخرى
بلغنا أن أمير بلدة حاتم الأصم اجتاز على باب حاتم فاستسقى ماء فلما شرب رمى إليهم شيئاً من المال، فوافقه أصحابه، ففرح أهل الدار سوى بنية صغيرة فإنها بكت. فقيل لها: ما يبكيك؟ قالت: مخلوق نظر إلينا فاستغنينا فكيف لو نظر إلينا الخالق سبحانه وتعالى؟
1029 - صبية أخرى
خزيمة أبو محمد قال: قال بنات رجل لأبيهن: يا أبه لا تطعمنا إلا الحلال فإن الصبر على الجوع أيسر من الصبر على النار. فبلغ ذلك سفيان الثوري فقال: ما لهن رحمهن الله؟(2/535)
1030 - ذكر المصطفين من عباد الجن
سهل بن عبد الله قال: كنت ناحية ديار عاد إذ رأيت مدينة من حجر منقور، في وسطها قصر من حجارة، منقورة سقوفه وأبوابه تأويه الجن، فدخلت معتبراً فإذا شيخ عظيم الخلق يصلي نحو الكعبة وعليه جبة صوف فيها طراوة، فلم أتعجب من عظم خلقه كتعجبي من طراوة جبته، فسلمت عليه فرد علي السلام وقال: يا سهل إن الأبدان لا تخلق الثياب وإنما تخلقها روائح الذنوب ومطاعم السحت، وإن هذه الجبة علي منذ سبعمائة سنة بها لقيت عيسى بن مريم ومحمداً صلى الله عليه وسلم فآمنت به. فقلت له: من أنت؟ قال: أنا الذي نزلت فيك: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} الجن: 1.
سلمة بن شبيب قال: عزمت على النقلة إلى مكة فبعت داري، فلما فرغتها وسلمتها وقفت(2/535)
على بابها فقلت: يا أهل الدار جاورناكم فأحسنتم جوارنا جزاكم الله خيراً، وقد بعنا الدار ونحن على النقلة إلى مكة فعليكم السلام ورحمة الله. قال: فأجابني من الدار مجيب فقال: وأنتم جزاكم الله خيراً ما رأينا منكم إلا خيراً ونحن على النقلة أيضاً، فإن الذي اشترى الدار رافضي يشتم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.
سري بن إسماعيل يذكر عن يزيد الرقاشي أن صفوان بن محرز المازني كان إذا قام إلى تهجده من الليل قام معه سكان داره من الجن، فصلوا بصلاته واستمعوا لقراءته. قال السري فقلت ليزيد: وأنى علم؟ قال: كان إذا قام سمع لهم ضجة فاستوحش لذلك فنودي: لا ترع أبا عبد الله فإنما نحن إخوانك نقوم للتهجد كما تقوم فنصلي بصلاتك، قال: فكأنه أنس بعد ذلك إلى حركتهم.
يحيى بن عبد الرحمن العصري قال: حدثتني امرأة خليد عن خليد قال: كنت قائماً أصلي فقرأت هذه الآية {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 35] فرددتها مراراً، فناداني مناد من ناحية البيت: كم تردد هذه الآية؟ فلقد قتلت بها أربعة نفر من الجن لم يرفعوا رؤوسهم إلى السماء حتى ماتوا من تردادك هذه الآية. قالت: فوله خليد بعد ذلك ولهاً شديداً. وأنكرناه حتى كأنه ليس الذي كان.
مهدي بن ميمون قال: كان واصل مولى أبي عيينة جاراً لي، وكان يسكن في غرفة، فكنت أسمع قراءته من الليل، وكان لا ينام من الليل إلا يسيراً، قال: فغاب غيبة إلى مكة وكنت أسمع القراءة من غرفته على نحو من صوته كأني لا أنكر من الصوت شيئاً. قال: وباب الغرفة مغلق، فلم يلبث أن قدم من سفره فذكرت له ذلك، فقال: وما أنكرت من ذلك؟ هؤلاء سكان الدار يصلون بصلاتنا ويسمعون لقراءتنا. قال: قلت: أفتراهم؟ قال لا. ولكني أحس بهم وأسمع تأمينهم عند الدعاء، وربما غلب علي النوم فيوقظوني.
قال القرشي: وحدثني خلف قال: كان فتى من أهل الكوفة متعبداً يقال له عرفجة، وكان يحيي الليل صلاة. قال: فاستزاره بعض إخوانه ذات ليلة فاستأذن أمه في زيارته فأذنت له: قالت العجوز: فلما كان الليل إذا أنا في منامي برجال قد وقفوا علي فقالوا: يا أم عرفجة! لم أذنت لإمامنا الليلة؟
أبو عمران التمار قال: غدوت يوماً قبل الفجر إلى مسجد الحسن الحفري فإذا باب المسجد مغلق، وإذا الحسن جالس يدعو، وإذا ضجة في المسجد وجماعة يؤمنون على دعائه،(2/536)
فجلست على باب المسجد حتى فرغ من دعائه ثم قام فأذن وفتح باب المسجد فدخلت فلم أجد في المسجد أحداً، فلما أصبح وتفرق من عنده قلت له: يا أبا سعيد إني والله رأيت عجباً، قال: وما رأيت؟ فأخبرته بالذي رأيت وسمعت. فقال: أولئك جن من أهل نصيبين يجيئون يشهدون معي ختم القرآن كل ليلة جمعة ثم ينصرفون.
محمد بن عبد العزيز بن سلمان العابد قال: كان أبي إذا قام من الليل يتهجد سمعت في الدار جلبة شديدة واستسقاء للماء كثيراً. قال: فنرى أن الجن كانوا يتيقظون لتهجده فيصلون معه.
سري السقطي قال: بدوت يوماً من الأيام وأنا حدث فطاب وقتي وجن علي الليل وأنا بفناء جبل لا أنيس به فناداني مناد من جوف الجبل: لا تدور القلوب في الغيوب حتى تذوب النفوس من مخافة فوت المحبوب. قال: فتعجبت وقلت جني يناديني أم إنسي؟ قال: بل جني مؤمن بالله عز وجل ومعي إخواني، قال: قلت فهل عندهم ما عندك؟ قال: نعم وزيادة. قال: فناداني الثاني منهم: لا تذهب من البدن الفترة إلا بدوام الغربة، قال: فقلت في نفسي: ما أبلغ كلامهم. فناداني الثالث منهم: من أنس به في الظلام لا يبقى له اهتمام. قال: فصعقت، فما أفقت إلا برائحة الطيب فإذا أترجة على صدري فشممتها فأفقت فقلت: وصية يرحمكم الله جميعاً؟ فقالوا جميعاً أبى الله أن تحيا به إلا قلوب المتقين، فمن طمع في غير ذلك فقد طمع في غير مطمع، ومن تبع طبيباً مريضاً دامت علته، وودعوني ومضوا وقد أتى علي حين ولا أزال أرى بركة كلامهم موجودة في خاطري.
وبلغني عن أبي الفتح محمد بن محمد الخزيمي قال: قال أبو علي الدقاق: كنت بنيسابور مقيماً للوعظ فظهر بي رمد فاشتقت إلى أولادي فرأيت ليلة من الليالي في المنام كأن شخصاً دخل علي فقال: أيها الشيخ ما يمكنك الرجوع بهذه السرعة فإن جماعة من شباب الجن يحضرون مجلسك ويستمعون منك، وهم بعد في بدو الإرادة فما لم ينتهوا إلى إرادتهم لا يمكنك أن تفارقهم فلعل الله عز وجل أن يحييهم فأصبحت وكأنه ما بعيني رمد.
1031 - ومن متعبدات الجن
صالح بن عبد الكريم قال: كنت أحب أن ألقى شيئاً من الجن فأكلمه، فرأيت امرأة فتعلقت بها فقلت: عظيني. قالت: اكتب: تقول غزالة: اشتغل بأولى الأمور بك ولا تغفل عن ساعة إن فاتتك لم تدركها.(2/537)
آخر كتاب صفة الصفوة، والحمد لله وحده، وصلواته على خير خلقه محمد وآله وصحبه. كتبه لنفسه، ثم لمن شاء الله يعده، فقير رحمة ربه إبراهيم بن يحيى بن حسن بن طرخان بن تميم العسقلاني الخبيلي، عفا الله عنهم بكرمه، في مدة آخرها يوم الخميس بين الصلاتين بالقاهرة المحروسة بالوراقين، الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من سنة سبع وسبعين وستمائة، أحسن الله خاتمتها.
والحمد لله وحده، وسلام على عباده الذين اصطفى.(2/539)