مقدمة التحقيق
هذا هو القسم الثاني من الذخيرة وهو يشمل تراجم أدباء الجانب الغربي من الأندلس، أي أهل حضرة إشبيلية وما اتصل بها من بلاد ساحل المحيط الرومي، وقد اعتمدت في تحقيقه على أربع مخطوطات (1) يمكن أن تمثل فئتين - تضم الفئة الأولى:
(1) مخطوطة الخزانة العامة بالرباط (رقم: D 1324) وقد رمزت لها بالحرف (ط) ومجموع ورقاتها 157 ورقة، وهي مكتوبة بخط أندلسي جميل محلى بشكل جزئي، وعدد السطور في الصفحة الواحدة ثلاثون سطراً، ومعدل الكلمات في السطر الواحد اثنتا عشرة كلمة، ومسطرتها 27 × 19.5 وعلى هوامشها قراءات من نسخة أخرى، وتعليقات بعضها بخط الناسخ نفسه، وبعضها بخط متأخر في الزمن مختلف عن خط الناسخ، وقد أثبت من القراءات المقارنة ما رمز إليه الناسخ بالحرف (خ) ، وحذفت ما صرح الناسخ بأنه ليس من أصل الذخيرة، كما حذفت التعليقات والإضافات المتأخرة.
وقد فرغ الناسخ من كتابة هذا القسم من الذخيرة في زوال يوم الأربعاء 24 ذي القعدة عام 1055، وهو الذي قام بنسخ القسم الأول والثالث من هذا الكتاب أيضاً، واسمه أحمد بن الحاج علي بن الحاج أبي القاسم بن محمد بن سودة الأندلسي. ولما كانت هذه النسخة هي خير النسخ التي حصلت عليها ضبطاً ودقة فقد أثبت أرقام أوراقها في سياق هذه الطبعة. ومع أنها
__________
(1) هناك نسخة مغربية خامسة إلا أني استبعدتها لأنها غير واضحة.(3/1)
- نسبياً - متأخرة في الزمن، فإنها تعد من أقدم النسخ المتيسرة من الذخيرة وهذه مشكلة لم أستطع التغلب عليها، فأنا - حتى اليوم - لم أستطع العثور على نسخ تتمتع بقدم واضح، أو حتى على الأصل الذي أخذت عنه (ط) أياً كان تاريخه.
(2) مخطوطة بغداد، وقد رمزت لها بالحرف (د) وتحتوي 331 صفحة، مكتوبة بخط نسخي مشرقي حديث وعدد السطور في الصفحة الواحدة 29 سطراً ومعدل الكلمات في السطر الواحد إحدى عشرة كلمة، ومسطرتها 25 × 14.5، وقد كتب على الصفحة الأخيرة منها: " نجز ولله الحمد تسويد هذا الجزء من الذخيرة لابن بسام عليه الرحمة على نسخة قديمة بخط مغربي مغلط، وقد اجتهدت بتصحيحها حسب الإمكان، والله المستعان. وقد وافق ذلك اليوم الحادي والعشرين من شهر المحرم سنة أربع وعشرين وثلثمائة وألف هجرية، على يد أفقر الورى للطف ربه المنان: عبد اللطيف ثنيان، في بغداد المحمية، صانها الله عن كل بلية، آمين ".
إذن فهذه النسخة حديثة جداً، وقد صرح ناسخها بأنه نقلها عن أصل مغربي، ولا ندري حتى اليوم من أمر هذا الأصل شيئاً، ولكني أستطيع أن أقول إن (د) منقولة عن أصل يشبه (ط) للتماثل الدقيق بين القراءات حتى في الخطأ، وللتطابق التام في طول كل ترجمة، وفيما نقص من تراجم كاملة أو أجزاء من تجمات، كما سيأتي بيانه بعد قليل، وكل الفرق بين النسختين أن ناسخ (د) حاول أن يجتهد في بعض القراءات، التي عدها خطأ في الأصل، ولم يسلم من إضافة أخطأ جديدة، مما قد يلحق الناسخ عن طريق السهور.
وتضم الفئة الثانية من المخطوطات:
(3) مخطوطة الخزانة الملكية بالرباط (رقم: 9144) وقد رمزت لها بالحرف (م) وتقع في 245 ورقة، وهي مكتوبة بخط أندلسي، ومسطرتها(3/2)
19.5 - × 23، وعدد السطور في الصفحة الكاملة 22 سطراً، ولكن هذا لا يطرد لأن الناسخ يراوح كثيراً بين الكتابة بخط ذي حجم عادي والكتابة بخط كبير جداً حتى إن عدد الأسطر في الصفحة الواحدة لا يزيد عن أحد عشر سطراً. وهذه الكتابة بالخط الكبير لا تقتصر على عنوانات الفصول بل تشمل كل ما ظنه الناسخ بداية فقرة جديدة. وتظهر في هذه النسخة آثار الأرضة بكثرة، وفيها خروم ضاعت بسببها أوراق كثيرة كما تنبهم الفوارق فيها بين عدد من الحروف المتقاربة في صورها، وهي لا تشمل كل القسم الثاني، وإنما تنتهي عند أوائل ترجمة ابن عبدون ثم تجيء في خاتمتها صورة تملك على هذا النحو: " الحمد لله: تملك هذا الكتاب عبده تعالى أبي [كذا] بكر بن أحمد بن علي أعانه الله على طاعته ". إلا أنها لا تحمل تاريخاً.
ورغم ما في هذه المخطوطة من عيوب فقد كانت ذات دور هام في ما قدمته من عون أثناء تحقيق هذا القسم، لانفرادها عن (ط) واعتمادها على أصل آخر، وهذا ما جعلها تحفل بزيادات غير موجودة في (ط) وقرينتها (د) ومنها زيادة في ترجمة عبد الجليل بن وهبون وأخرى في ترجمة أبي بكر ابن عبد العزيز كما أنها تنفرد إذا قورنت بالنسختين السابقتين بإيراد ترجمة ابن مرزقان.
(4) نسخة المكتبة الوطنية بباريس رقم: 3322 (ورمزها: س) ، وهي منسوخة عن نسخة عدد أوراقها 222 ورقة مثبتة أرقامها على هوامش الصفحات، وتقع (س) في 265 ورقة، وعدد السطور في كل صفحة عشرون سطراً، ومعدل الكلمات في السطر الواحد 12 كلمة، وخطها نسخي حديث، ويبدو أن كاتبها أجنبي، يدل على ذلك نوع الخط، ومحاولة رسم الكلمات دون إدراك لمعناها، وكثرة الأخطاء في الصفحة الواحدة، وقد تم نسخها في 11 أكتوبر سنة 1884.(3/3)
ولا ريب في أن الأصل الذي نقلت عنه (س) قريب الشبه بالنسخة (م) وقد احتفظت النسخة الباريسية أيضاً بالزيادات التي جاءت في نسخة الخزانة الملكية بالرباط؛ وكان لابد من الاعتماد على (س) لأن قرينتها (م) غير كاملة، فاستطاعت نسخة باريس أن تمدنا بترجمة لم ترد في مخطوطات الفئة الأول وأعني بذلك ترجمة الأعمى التطيلي. أما فيما عدا ذلك فإنه ليس في مقدور أي محقق أن يثبت جميع الفروق التي تتمتع بها (س) لأن أكثرها قائم على الخطأ المحض، وإنما كان أكثر الاعتماد عليها استئناساً بطبيعة السياق، وترجيحاً إن أمكن الترجيح.
وبعد: فقد كان هذا القسم من الذخيرة معداً للنشر في النصف الأول من سنة 1975، وبعد الانتهاء من طبع القسم الثالث ولكن كان يمنعني من دفعه إلى المطبعة إحساسي بأن هناك شيئاً ينقصه ويتمثل هذا في مواطن:
1 - ترجمة أبي الوليد الباجي، فقد كتب ف هامش ط أن الترجمة لا يزال ينقصها ورقة ونصف الورقة، وهو شيء لم أسطتع العثور عليه في (م) أو (س) رغم انتمائهما إلى فئة مختلفة.
2 - إن ترجمة الوزير أبي عبيد البكري لا يمكن أن تكون كاملة، فإن ابن بسام لم يورد شيئاً من نثره أو شعره.
3 - إن فهرست الذخيرة (في صدر القسم الأول) ينص على وجود ترجمة لمن اسمه " الوزير الخطيب الأديب أبو عمر ابن حجاج " تقع بعد ترجمة أبي عبيد البكري ولا وجود لها في المخطوطات الأربع، أليس من المعقول أن تكون موجودة في مخطوطة أو مخطوطات أخرى - وفي هامش (ط) ما ينبئ بأنها ناقصة، وكاتب هذا التعليق بخط متأخر، ربما فعل ذلك لأنه رآها في مخطوطة أخرى.
4 - إن الزيادات التي وردت في نسختي (م) و (س) قد تشير(3/4)
إلى أن استكشاف مخطوطات أخرى قد يتيح العثور على زيادات جديدة.
لهذا كله آثرت التريث؛ وغادرت بيروت في سبتمبر (أيلول) 1975 إلى جامعة برنستون، واشتدت وطأة الأحداث المؤسفة في أثناء ذلك على لبنان، وكان أن سعى بعض أصدقائي - جزاهم الله خيراً - إلى تصوير مسودة القسم الثاني، كما تركتها محققة، وإرسالها لتودع عند صديقي العلامة يوسف فإن اس، بجامعة توبنجن بألمانيا، ولم أستطع رؤية هذا القسم من الذخيرة إلا بعد عودتي إلى بيروت في حزيران (يونيه) 1977؛ وفي أثناء هذه الغيبة صدر من هذا القسم قطعة تستغرق حتى آخر ترجمة أبي العلاء بن زهر، قام بتحقيقها الدكتور لطفي عبد البديع (1) ، ولما قارنتها بما كنت حققته وجدت مصداق بعض ما قدرته فقد احتوت تلك القطعة (اعتماداً على النسخة الكتانية) ما تفتقده النسخ من ترجمة أبي الوليد الباجي، ولعل هذه النسخة الفريدة (أعني الكتانية) أن تكون قد احتفظت أيضاً بكل ما قدرته من نقص في النسخ التي تيسرت لي، أو بمعظمه.
إنني أكتب هذه المقدمة، قد قطع هذا القسم شوطاً غير قليل في المطبعة، ولهذا رأيت أن أضيف إليه ما جاء من زيادة في ترجمة الباجي مستمداً من القطعة التي حققها الدكتور عبد البديع، وأن أصنع لترجمة البكري تحشية مما ورد في المصادر من شعره ونثره، أميزها عما عداها لأنها ليست من أصل الذخيرة، راجياً إذا أتيح لي الإطلاع على النسخة الكتانية - وهو شيء لا أظنه سهلاً - أو غيرها من النسخ، أن أثبت الزيادات وفروق القراءات في نهاية هذا الجزء.
لقد كنت أظن أن الصعوبات ستصبح مذللة لإخراج هذا القسم على نحو أكثر تحقيقاً للرضى، ولكني حين اعتبر هذه الفترة الطويلة التي مضت على
__________
(1) الهيئة المصرية العامة للكتاب: 1975.(3/5)
الذخيرة - ولعلها أن تكون أهم مصدر من مصادر الأدب الأندلسي - دون أن تيسر للقراء والدارسين، أحس أن إخراجها على هذا النحو خير من التمادي في تأخير احتجابها حتى تكتمل جميع الوسائل.
ولقد كان العبء في هذا القسم - كما كان في القسمين: الأول والثالث - يستنزف موفر الطاقة، ومذخور الجهد، فالذخيرة لا يمثل نصاً سهلاً، يتفق كل الناس على قراءته - وبخاصة للتباعد بين المخطوطات - ولا يمكن الإسراف فيه في ناحية على حساب ناحية أخرى؛ بل لابد من الموازنة بين الشرح والتعليق والتخريج وترجيح القراءات، والاقتصار على الضروري، مع مراعاة الربط بين الذخيرة والمصادر الأندلسية (وأحياناً غير الأندلسية) الأخرى. وقد تلقيت العون في تحقيق هذا القسم من اثنين يستحقان كل شكري وتقديري وهما الدكتور وداد القاضي التي لم تأل جهداً في تدقيق الملازم الطباعية، وتوجيه بعض القراءات التي أعياني أمرها، والإشراف على الفهارس المفصلة الدقيقة، والدكتور ألبير مطلق، الذي بذل جهداً طيباً في معاونتي على مقارنة النسخ، والتضحية بوقته في تقديم كل ما يعين على إنجاز القسم.
فإليهما مرة أخرى، تقدير عارف بمدى ما بذلاه من جهد مخلص، والله يوفقنا جميعاً إلى ما فيه الخير.
بيروت في أيلول (سبتمبر) 1977 إحسان عباس(3/6)
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله
فصل في ذكر الأعيان المشاهير، من أرباب صناعة المنظوم والمنثور، بحضرة إشبيلية ونواحيها، وما يصاقبها ويدانيها، من بلا ساحل البحر المحيط الرومي، وهو الجانب الغربي من جزيرة الأندلس، وإيراد ما بلغني من غرر أشعارهم، ومستطرف أخبارهم، مع ما يتعلق بها، ويذكر بسببها.
قال ابن بسام: وحضرة إشبيلية على قدم الدهر كانت قاعدة هذا الجانب الغربي من الجزيرة، وقرارة الرياسة ومركز الدول المتداولة، ومنها مهدت البلاد، وانبثت الجياد، عليها الفرسان، كأنها العقبان، وبهذا الأفق نزل جند حمص من المشرق فسميت حمص، ولما كانت دار الأعزة والأكابر، ثابت فيها الخواطر، وصارت مجمعاً لصوب العقول وذوب العلوم، وميداني فرسان المنثور والمنظوم، لا سيما من أول المائة الخامسة من الهجرة حين فرح كل حزب بما لديه، وغلب كل رئيسٍ(3/11)
على ما في يديه، بعد الدولة العامرية، فأضحت أقطار الجزيرة يومئذٍ كبني الأعيان، وأهلها كما قال أخو بني عدوان:
عذير الحي من عدوا ... ن كانوا حية الأرض
بغى بعضهم بعضاً ... فلم يبقوا على بعض فاشتمل هذا القطر الغربي لأول تلك المدة على بيتي حسب، وجمهوري أدب، مملكتان من لخم وتجيب، مصرتا بلاده، وأكثرتا رواده، فأتاه العلم من كل فج عميق، وتبادره العلماء من بين سابق ومسبوق، وكلما نشأ من هذين البيتين أمير كان إلى العلم أطلب، وفي أهله أرغب، والسلطان سوق يجلب إليه، ما ينفق لديه، حتى اجتمع في الجانب الغربي على ضيق أكنافه، وتحيف العدو قصمه الله لأطرافه، ما باهى الأقاليم العراقية، وأنسى بلغاء الدولة الديلمية، فقلما رأيت فيه ناثراً غير ماهر، ولا شاعراً غير قاهر، دعوا حر الكلام فلبى، وأرادوه فما تأبى، وطريقته في الشعر الطريقة المثلى التي هي طريقة البحتري في السلاسة والمتانة، والعذوبة والرصانة.
وأنا أورد في هذا القسم بعض ما انتهى إليّ من حر كلامهم، في نثرهم ونظامهم، مشوباً ذلك كله بفنون فوائد ومعارف من أخبار يحسن الوقوف عليها. على أن الذي بلغني من شعر كل قطر، ثماد من بحر، ونقطة من قطر، ولقد فاتني كثير من الكتاب والوزراء(3/12)
وجملة من أعيان الشعراء، ممن كان في ذلك التاريخ، منهم من لم أسمع بذكره، ومنهم من لم يسمح نقدي بإثبات ما بلغني من شعره، وربما أجريت ذكر أحدهم غير مبوب عليه، ولا مشير إليه، إما لشيء أجاد فيه، وإما أن يتعلق ذكره بذكر من أجريه، وقد أبدأ بذكر الرجل لمكانه من الإحسان، لا لتقدمه من الزمان، أو لبعض ما يدعو إليه القول من نسق خبر، أو موجب نظر، فأول ما ابتدأت به من أهل حمص آل عباد لنباهة ذكرهم، مع جودة شعرهم.
فصل في ذكر القاضي أبي القاسم محمد بن عباد وإيراد
جملة من أخباره، واجتلاب قطعة من أشعاره
قال ابن بسام: كان ذو الوزارتين القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل ابن عباد المتغلب على إشبيلية ممن له في العلم والأدب باع، ولذوي المعارف عنده بها سوق وارتفاع، وكان يشارك الشعراء والبلغاء في صنعة الشعر وحوك البلاغة، بسطاً لهم، وإقامة لهممهم، ولما كان في طبعه من ذلك أيضاً، وقد ذكر الوزير أبو رافع الفضل بن علي بن أحمد بن حزم الفارسي(3/13)
في كتابه الموسوم ب - " الهادي إلى معرفة النسب العبادي " كيف طلع نجمه، وثبت في ديوان الملوك اسمه، وقد أثبت من ذلك ما امتد بي إليه سبب، واتصل بينه وبين ما أنا بسبيله نسب، ووصلت به ما لم أجد لأبي رافع زيادة على ما بين، وتماماً على الذي أحسن.
قال أبو رافع: القاضي ابن عباد هو أبو القاسم محمد بن ذي الوزارتين أبي الوليد إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن قريش بن عباد بن عمرو بن أسلم بن عمرو بن عطاف بن نعيم، وعطاف هو الداخل منهم بالأندلس في طالعة بلج بن بشر القشيري، وكان عطاف من أهل حمص من صقع الشام لخمي النسب صريحاً، وموضعه من حمص العريش، والعريش في آخر الجفار بين مصر والشام؛ ونزل بالأندلس بقرية يومين من إقليم طشانة من أرض إشبيلية.
قال ابن حيان: وإسماعيل بن عباد قاضيهم القديم الولاية، ورجل الغرب قاطبةً، المتصل الرئاسة في الجماعة والفتنة، وكان أيسر مكور بالأندلس وقته، ينفق من ماله وغلاته، لم يجمع درهماً قط من مال(3/14)
السلطان ولا خدمه، وكان واسع اليد بالمشاركة، آوى صنوف الجالية من قرطبة عند احتدام الفتنة، وكان معلوماً بوفور العقل وسبوغ العلم والركانة، مع الدهاء وبعد النظر وإصابة القرطسة.
فأما ذو الوزارتين أبو القاسم ابنه فأدرك متمهلاً، وسما بعد إلى بلوغ الغاية فخلط ما شاء وركب الجراثم الصعبة، وكان القاسم بن حمود قد اصطنعه بعد مهلك أبيه إسماعيل، ورد عليه ميراثه من قضاء بلده بعد بعده عنه مدة، [2ب] وحصل منه بمنزلة الثقة، فخانه تخون الأيام عند إدبارها عنه، إيثاراً للحزم وطلباً للعافية، فصده عن إشبيلية بلده لما قصده من قرطبة مفلولاً؛ وكان الذي وطد له ذلك نفر من أكابرها المرتسمين بالوزارة، مناغين في ذلك لوزراء قرطبة، على تحميلهم لابن عباد كبر ذلك، لإنافته عليه في الحال وسعة النعمة، وإحسائهم عليه ملك ثلث إشبيلية ضيعةً وغلةً، يخادعونه بذلك عن نشبه، إبقاءً منهم على نعمهم، وهو يشتري بذلك أنفسهم ولا يشعرون، إلى أن وقعوا في الهوة، وكانوا جماعةً منهم بنو أبي بكر الزبيدي النحوي وبنو يريم صنائع ابن عاد وغيرهم، راض بهم الأمور واستمال العامة، فلما توطأت له قبض أيدي أصحابه هؤلاء، وسما بنفسه فأسقط جماعتهم(3/15)
وجرت له في تدبيرهم أمور يشق إحصاؤها، ركب فيها أحزم طرق طلاب الدول، حتى انفرد بسابقته ومهد لدولته، واجتمع أهل عمله على طاعته، فدانوا له، وسلك سيرة أصحاب الممالك بالأندلس لأول وقته، وقام بأصح عزمٍ وأيقظ جد، واخترع في الرياسة وجوهاً تقدم فيها كثيراً منهم، وامتثل رسم ابن يعيش صاحب طليطلة من بينهم في تمسكه بخطة القضاء وارتسامه باسمه، وأفعاله على ذلك أفعال الجبابرة، وأقبل لأول وقته يضم الرجال الأحرار من كل صنف، ويشتري العبيد، والجد يساعده والأمور تنقاد له، إلى أن ساوى ملوك الطوائف وزاد على أكثرهم بكثافة سلطانه، وكثرة غلمانه، فنفع الله به كافة رعيته ونجاهم من ملك البرابرة؛ وتدرج في تدبير ذلك أولاً أولاً، ومارسه شأناً شأناً، إلى أن استولى على أمده، ومهد، قواعد سلطانه، وشد أواخيه. وأخباره مأثورة مشهورة.
قال ابن حيان: ومن أشهر أخباره أنه نظر في شأن من بقي من فتيان بني مروان يومئذ فسقط إليه خبر الدعي المشبه بهشام بن الحكم، وكان قد تحدث أنه أفلت من يدي سليمان قاهره، وإنه غاب ببلاد المشرق(3/16)
مدته الطويلة ثم عاد إلى الأندلس، فقدح ذلك في قلوب الناس لمقدمات سلفت في ذكر هذا الرجل والشك في موته، إذ كان سليمان قاتله قد ترك إبداءه للناس، حسبما فعلته خدمة الملوك قبل فيمن خلعوه، إما استخفافاً من سليمان يومئذ بمن ملك نواصيهم بالقهر، أو ما شاء الله من غلط أصاب المقدار قصده، لقضاء سبق في علم أم الكتاب، فلم تزل طائفة من شيعته تنفي موته، وتروي في ذلك روايات تبعد عن الحقيقة، وتصدر عن نسوان وخصيان من أهل القصر بقرطبة، إلى أن علق ذلك بمن فوقهم من شيع المروانية، فشدوا أواخي خلاصه، وقطعوا على حياته، ووصفوا أنه اضطرب بقرطبة في دولة البرابر ممتهنا نفسه في طلب المعيشة، ثم زعموا بعد حين أنه عبر إلى أرض المشرق، وانساح في ذلك الأفق، وقضى كل المناسك هنالك، ووطئ كل بقعة، ثم كر راجعاً إلى دياره لأمد محدود ولكرة الدولة المروانية، لتحدث على يديه الأنباء البديعة، فدانوا - كما تسمع - بالرجعة دينونة الشيعة، وتاهوا في ذلك تيه تضليل، سخر منهم أهل التحصيل، إلى أن ظهر على زعمهم بالمرية سنة ست وعشرين في أيام زهير الصقلبي.
ولم تزل قصة هذا المشبه بهشام في قلوب الناس دبيب النار في الفحم، فدبر ابن عباد خبره، واهتبل الغرة في ذلك، وأنه أقل ما يجيء له(3/17)
منه دفع مكروه ابن حمود، ونظم الناس على حربه، [3أ] فأخبر أنه حصل هشام عنده، وجمع من بقي بإشبيلية من نساء القصر والحرم، فاعترف به أكثرهم ووقفوا على عينه، وأومأ إلى ثقاتهم عنده بما يريد فيه، فاجتنبوا خلافه وابتغوا موافقته، فوجد ابن عباد بذلك السبيل إلى ما دبره من حرب ابن حمود، وحجبه عن أعين الناس، وبث كتبه بذلك إلى جميع الرؤساء، واستنهضهم إلى الاجتماع على هذا الخليفة المخبوء لفك الرقاب وكرة الأيام، والجهاد دونه، فكثر الخوض بالأندلس في ذلك، ومالت نفوس أهل قرطبة في نصبه إماماً للجماعة، وأشخصوا الرسل للوقوف على عين هشام، وتثبيت الشهادة فيه، وزور ابن جهور وغيره في ذلك شهادات، على علم منهم، ابتغاء عرض الدنيا وإذعاناً من ابن جهور أيضاً لما رآه من دفع ابن حمود الفاغر فاه على حضرة قرطبة، فرجع منه سريعاً إلى الاعتراف بالخطأ بقية عمره بعد عظيم ما انبعثت في ذلك من الفتن، وجرت من المحن، وصرع من الجبابرة، ونقل من الدول؛ انتهى كلام ابن حيان.
قال ابن بسام: وكان القاضي ابن عباد - كما وصف - زاخر العباب متألق الشهاب، أذكى من قاس وقلد، وأدهى من أتهم وأنجد، يأخذ وكأنه يدع، ويطير فيحسب أنه وقع، فتغلب على إشبيلية وليس له أوان ذلك معقل إلا وله شر راتب، وعليه أمير غالب، فدار الأمر بها عليه لتميزه بخطة القضاء التي لم يجاذب رداءها، ولا سلم لأحدٍ(3/18)
بعد لواءها، إلى أن استوثق الأمر ليحيى بن علي الحمودي - حسبما تقدم - فاضطر أهل إشبيلية إلى الإذعان لطاعته، والدخول فيما دخل فيه الناس من جماعته، وأدارهم لأمور جرت على رهون تكون بيده، فضن كل بولده، وبادر القاضي فراهنه ابنه عباداً، فانفرد بالتدبير، واستولى على الأمور، واستظهر على ذلك بهدم البيوتات، وتشتيت ذوي الهيئات، وأول ما بدأ به من ذلك نكبة شيخي المصر يومئذ الزبيدي وابن يريم، طواهما طي السجل، وقبضهما قبض الظل، فأيد القاضي يومئذ بحبيب وزيره، ودارت عليه رحى تدبيره، رجلٍ من أهل بادية إشبيلية لم تكن له نباهة مذكورة، ولا سابقة مشهورة، أوسع أهل زمانه شراً، وأوسعهم خديعة ومكراً، وأيد أيضاً بابنه إسماعيل طود أصالةٍ، وجني بسالة، محش تلك النار، وسابق ذلك المضمار، فبين هذين استوسقت له الأمور، وتدفقت تلك البحور؛ وله أخبار مشهورة، وقصص مأثورة، فيها بعض الطول، وهي عادلة عن تلك السبيل، لكني ألمع منها بلمعةٍ.
قال ابن حيان: تعطلت قصبة باجة في ذلك الأوان بسبب فتنة البرابرة وخربت، على قدم بنائها في الجاهلية، واتصال عمرانها في الإسلام، ومكانها من طيب الميرة واتساع الخطة، وكانت آفاتها من اختلاف أهلها قديماً، وبقاء شؤم العصبية بين العرب منهم والمولدين إلى آخر الأيام(3/19)
فسما لها ابن عباد وابن مسلمة المعروف بابن الأفطس، وذهبا يومئذ إلى عمارتها، فاستظهر القاضي ابن عباد في ذلك بحليفه محمد بن عد الله البرزيلي صاحب قرمونة، وجرد ابنه إسماعيل لبنائها، فسبقه ولد ان مسلمة إليها الملقب بالمظفر، وجاء مدداً لابن طيفور صاحب ميرتلة من أمراء الساحل، فنزل ابن عباد عليه بباجة، وضربت خيلة إلى ناحية يابرة والغرب فهتكت أستاراً، وخربت دياراً، واتصل الحصار بابن الافطس بباجة، وانصدع الجمع عن أسره وقتل كبار رجاله، وبعث بالأسرى إلى أبيه، وكان في جملتهم أخ لابن طيفور صلب بإشبيلية، وحبس ولد ابن الأفطس عند [3ب] صاحب قرمونة ابن عبد الله، وبلغت هذه الغارة من ان الأفطس الغاية، وتجاوز البلاء في جهته النهاية، وهيض جناحه بأسر ابنه، ووهن ابن طيفور بقتل أخيه، وكان ابن عبد الله بقرمونة، قطب رحى الفتنة، كثيراً ما يحرض القاضي ابن عباد على الخروج إلى بلد ابن الأفطس، وإلى قرطبة، فيعما الجهات كلها تدويخاً، كلما آبا من جهة صارا إلى سواها، حتى أثرا آثاراً قبيحة، فارتفع طمع وزراء قرطبة المدبرين لها منه، لأنه كان لا يوافقهم على دعوة أموي لفرط(3/20)
شروده عن الجماعة، وإنما كان مذهبه طمس رسم الخلافة من معانها بقرطبة، وتصيرها أسوة إشبيلية في إسنادها إلى رئيس من أهلها، وطرد قريش عن سلطانه، إبطالاً للإمامة ورسوخاً في الخارجية ودفعاً لأمر الله، فقطع سيل قرطبة وشد حصرها، فتمسك الوزراء بحبل بعض البرابر من بني برزيل بجهة شذونة، وكانوا على قديم الأيام جمرة زناتة بأساً وصرامةً، واعتضدوا بهم مدة، واعتضد أيضاً ابن الأفطس بطائفة أخرى منهم، فكان في كل بلدٍ جملة منها سالت عن أهل البلاد سيول بها، وخلطوا الشر بين رؤسائها، واستخرجوا بذلك ما اطمروه من دنانيرهم وخلعهم، وجاحوا ذات أيديهم، وعلموهم كيف تؤكل الكتف، فطال العجب عندنا بقرطبة وغيرها من صعاليك قليلٍ عددهم، منقطع مددهم، اقتسموا قواعد الأرض في وقت معاً، مضربين بين ملوكها، راتعين في كلأها، باقرين عن فلذتها، حلوا محل الملح في الطعام ببأسهم الشديد، وقاموا مقام الفولاذ في الحديد، فلا يقتل الأعداء إلا بهم، ولا تعمر الأرض إلا في جوارهم، فطائفة عند ابن الأفطس تقاوم أصحابها قبل ابن عباد، وطائفة عندنا بقرطبة تحيز أهلها عن الأضداد، فسبحان الذي أظهرهم، ومكن في الأرض لهم، إلى وقت وميعاد.
وكان انطلاق المظفر من يد ابن عبد الله في ربيع الأول من سنة إحدى(3/21)
وعشرين في خبر طويل، وعرض عليه ابن عبد الله يوم أطلقه أن يجتاز على القاضي ابن عباد [ليشركه] في المن عليه بفكه، فأبى من ذلك وقال: مقامي في أسرك أشرف عندي من تحمل منته، فأما انفردت باليد عندي وإلا أبقتني على حالي، فأعجب ابن عبد الله بمقاله، ونافس في إسداء اليد عنده لكمال خصاله، وأكرم تشييعه، فنفذ إلى أبيه يومئذ ببطليوس وقد هذبته محنتهن وتمت أدواته وقويت حنكته، وكان مرجلاً معقلاً أديباً عالماً، فرجع إلى مقاومة ابن عباد.
فلما كان في سنة خمس وعشرين وجه ابن عباد بابنه إسماعيل مع عسكر إلى أرض العدو تحت معاقدة بينه وبين ابن الأفطس، فلما أوغل إسماعيل ببلده يريد أرض غليسية، وابن الأفطس مضمر الغدر به، بادر بجميع رجال ثغره، ورصده في شعب ضيق في طريق قفوله، ولم يعلم ابن عباد بشيء من تدبيره حتى حصل في الأنشوطة، فبادر إسماعيل بالنجاة لنفسه، وأسلم جميع عسكره له، وجرت عليه في مهربه مع جملة من أصحابه شدة لجأ فيها إلى ذبح خيله والاغتذاء بلحومها، ونحا بذمائه إلى مدينة أشبونة آخر عمله من ساحل البحر المحيط، فاصطلم ابن الأفطس عسكره اصطلاماً لم يسمع بمثله، ووقع سرعان العدو من النصارى على كثير منهم فاقتصوهم اقتناصاً، وقتلوا منهم أمة، وكانت حادثة شنيعة بقيت بها عداوتهما إلى آخر وقتهما.(3/22)
قال ابن بسام: ومن شعر ذي الوزارتين قوله:
يا حبذا الياسمين إذ يزهر ... فوق غصون رطيبةٍ نضر
قد امتطى للجبال ذروتها ... فوق بساطٍ من سندس أخضر
كأنه والعيون ترمقه ... زمرذ في خلاله جوهر وقال:
وياسمين حسن المنظر ... يفوق في المرأى وفي المخبر
كأنه من فوق أغصانه ... دراهم في مطرف أخضر وقال:
ترى ناضر الظيان فوق غصونه ... إذا هو من ماء السحائب يغتذي
وحفت به أوراقه في رياضه ... وقد قد بعض مثل بعض وقد حذي
كصفرٍ من الياقوت يلبسن بالضحى ... منضدةً من فوق قضب الزمرذ فصل في ذكر المعتضد بالله عباد ابن ذي الوزارتين
القاضي أبي القاسم محمد بن عباد وسياقة مقطوعات
من أشعاره، مع جملة من عجائب أخباره
قال ابن بسام: ثم أفضى الأمر إلى عباد ابنه سنة ثلاث وثلاثين(3/23)
وتسمى أولاً بفخر الدولة ثم المعتضد، قطب رحى الفتنة، ومنتهى غاية المحنة، من رجل لم يثبت له قائم ولا حصيد، ولا سلم عليه قريب ولا بعيد، جبار أبرم الأمور وهو متناقض، وأسد فرس الطلى وهو رابض، متهور تتحاماه الدهاة، وجبار لا تأمنه الكماو، متعسف اهتدى، ومنبت قطع فما أبقى، ثار والناس حرب، وكل شيءٍ عليه إلب، فكفى أقرانه وهم غير واحد، وضبط شانه بين قائم وقاعد، حتى طالت يده، واتسع بلده، وكثر عديده وعدده؛ افتتح أمره بقتل وزير أبيه حبيب المذكور، طعنةً في ثغر الأيام، ملك بها كفه، وجباراً من جبابرة الأنام، شرد به من خلفه، فاستمر يفري ويخلق، وأخذ يجمع ويفرق، له في كل ناحية ميدان، وعلى كل رابية خوان، حربه سم لا يبطئ، وسهم لا يخطئ، وسلمه شر غير مأمون، ومتاع إلى أدنى حين.
وذكره ابن حيان فقال: وعشي يوم الأربعاء لست خلت لجمادى الآخرة سنة إحدى وستين، طرق قرطبة نعي المعتضد عباد زعيم جماعة أمراء الأندلس في وقته، أسد الملوك، وشهاب الفتنة، وراحض العار، ومدرك الأوتار، وذو الأنباء البديعة، والحوادث الشنيعة، والوقائع المبيرة، والهمم العلية، والسطوة الأبي، فرماه الله بسهم من مراميه(3/24)
المصمية، أجل ما كان اعتلائه، وأرقى ما كان إلى سمائه، وأطمع ما كان في الاحتواء على الجزيرة، محتفزاً لها عند تشميره الذيل بفتنة لا كفاء لها، فتوفاه الله على فراشه من علة ذبحة قصيرة الأمد، وحية الإجهاز، اتفقت الحكايات أنها كانت شبه البغت. وكانت ولايته بعد موت أبيه القاضي يوم الاثنين غرة جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين، وقضى نحبه يوم السبت الثاني من جمادى الآخرة سنة [4ب] إحدى وستين، ودفن عشي يوم الأحد بعده، تغمد الله خطاياه، فلقد حمل عليه على مر الأيام، في باب فرط القسوة وتجاوز الحدود، والإبلاغ في المثلة، والأخذ بالظنة، والإخفار للذمة، حكايات شنيعة لم يبد في أكثرها للعالم بصدقها دليل يقوم عليها، فالقول ينساغ في ذكرها؛ ومهما برئ من مغبتها فلم يبرأ من فظاعة السطوة وشدة القسوة، وسوء الاتهام على الطاعة، سجايا من جبلة لم يحاش فيها ذوي رحم واشجة.
وقد كان تقيل سيرة أحمد بن أبي أحمد بن المتوكل أحد أشداء خلفاء العباسيين الذي ضم نشر المملكة بالمشرق، وسطا بالمنتزين عليها، وبفقده انهدمت الدولة، فحمل عباد سمته المعتضدية، وطالع بفضل(3/25)
نظره أخباره السياسية التي أضحت عند أهل النظر أمثلة هاديةً إلى الاحتواء على أمد الرياسة، في صلابة العصا وشناعة السطا، فجاء منها بمهولات يذعر من سمع بها فضلاً عن من عاينها، نسبوا إلى هذا الأمير الشهم عباد امتثالها من غير دلالة، وقد انطوى علم الله فيها وتقرر إرصاده للمكافأة بها؛ ولم يقصر عباد في دولته التي مهدها فوق أطراف الأسنة وصير أكثر شغله فيها شب الحروب، وكياد الملوك وإهراج البلاد، وإحراز التلاد، من توفر حظه الأوفى من الأمور الملوكية، والعدد السلطانية، والآلات الرياسية، فابتنى القصور السامية، واعتمر العمارات المغلة، واكتسب الملابس الفاخرة، وغالى الأعلاق السنية، وارتبط الخيول السابحة، واقتنى الغلمان الروقة، واتخذ الرجال الذادة، تناقهم من كل فرقة، فساس طبقاتهم ما بين إدرار الأعطية وضمان الزيادة على صدق الصيال، والوفاء بالوعيد على النكول عن العدو، سياسة أعيت على أنداده من أملاك الأندلس، فخرج منهم رجالاً مساعير حروب، أباد بهم أقتاله.
ومن نادره أخباره المتناهية في الغرابة أن نال بغيته وأهلك تلك الأمم العاتية، وإن لغائب عن مشاهدتها، مترفه عن مكابدتها، مدبر فوق أريكته، منفذ لحيلها من جوف قصره، ما إن مشى إلى عدو أو مغلوب من أقتاله غير مرة أو اثنتين، ثم لزم عريسته يدبر داخلها أموره، جرد نهاره لإبرام التدبير، وأخلص ليله لتملي السرور، فلا يزال تدار عليه مؤوس الراح، ويحيا عليها بقبض الأرواح، التي لأناسيها من(3/26)
أعدائه بباب قصره حديقة تطلع كل وقت ثمراً من رؤوسهم المهداة إليه، مقرطة الآذان برقاع الأسماء المنوهة بخاملها، ترتاح نفسه لمعاينتها، والخلق يذعرون من التماحها، وهو واصل نعيم ليله بإجالة كيده، ومستدع نشاط لهوه بقوة أيده، له في كل شأن شؤين، وعلى كل قلب سمع وعين، ما إن سبر أحد من دهاة رجالة غوره، ولا أدرك قعره، ولا أمن مكره، لم يزل ذلك دبه منذ ابتدائه إلى انتهائه.
وكان محمد بن عبد الجبار الملقب بالمهدي، مفرق الجماعة بقرطبة، ومبتعث تلك الفتنة المبيرة، سبق عباداً إلى اتخاذ مثل هذه الحديقة المطلعة لرؤوس أعدائه، أيام أكثر له واضح الخصي العامري من إرسال برؤوس الخارجين عليه، لأول وقته، وأصلح بهم باب مدينته سالم، فغرس منها فوق الخشب المعلية لها بشط النهر حذاء قصره حديقة هول عريضةً طويلة الخطة، جمة عدد الصفوف المسطورة، فأضحت شغلاً للنظارة، وذكرتها شعراؤه مثل قول صاعد بن الحسين، من قصيدة أولها:
جلاء العين مبهجة النفوس ... حدائق أطلعت ثمر الرؤوس
هناك الله مهدي المساعي ... جنى الهامات من تلك الغروس
فلم أر قبلها وحشاً جميلاً ... كريه روائه أنس الأنيس
فماذا يملأ الأسماع منها ... إذا ملئت من انباء الطروس وقد كانت لعباد وراء هذه الحديقة المالئة قلوب البشر ذعراً، مباهاة بخزانة بلوى، أكرم لديه من خزانة جوهره، مكنونة جوف قصره(3/27)
أودعها هام الملوك الذين أبادهم بسيفه، منها رأس محمد بن عبد الله البرزيلي شهاب الفتنة، ورؤوس الحجاب ابن خزرون وابن نوح وغيرهم الذين قرن رؤوسهم برأس إمامهم الخليفة يحيى بن علي بن حمود، سابقهم إلى تلك الرفعة، فخص رؤوسهم بالصون بعد إذالة جسومهم الممزقة، وبالغ في تطييبها وتنظيفها للثواء لا للكرامة، وأودعها المصاون الحافظة لها، فبقيت عنده ثاويةً تجيب سائلها اعتباراً؛ انتهى كلام ابن حيان.
قال ابن بسام: فلما افتتحت إشبيلية وخلع المعتمد، حدثت أنه وجد جوالق مطبوع عليه، وظن أنه مال أو ذخيرة، فإذا هو مملوء رؤوساً، فأعظم ذلك وهال أمره، فدفع كل رأس منها لمن كان بقي من عقبهم بالحضرة، أخبرني من رأى رأس يحيى بن علي بن حمود يومئذ ثابت الرسم متغير الشكل، فدفع إلى بعض ولده فدفنه.
قال ابن حيان: وكان عباد أوتي أيضاً من جمال الصورة، وتمام الخلقة، وفخامة الهيئة، وسباطة البنان، وثقوب الذهن، وحضور الخاطر، وصدق الحس، ما فاق أيضاً به على نظرائه. ونظر مع ذلك في الأدب، قبل ميل الهوى به إلى طلب السلطان، أدنى نظر بأذكى طبع، حصل منه لثقوب ذهنه على قطعة وافرة علقها من غير تعهد لها، ولا إمعان في غمارها، ولا إكثار من مطالعتها، ولا منافسة في اقتناء صحائفها، أعطته نتيجتها على ذلك ما شاء من تحبير الكلام، وقرض قطع من الشعر ذات طلاوة، في معان أمدته فيها الطبيعة، وبلغ فيها الإرادة، واكتتبتها(3/28)
الأدباء للبراعة - جمع هذه الخلال الظاهرة والباطنة إلى جود كف بارى بها السحاب. وأخبار عباد في جميع أفعاله وضروب أنحائه - عالناته وخافياته - غريبة بعيدة، وكان على تجرده في إحكام التدبير لسلطانه ذا كلف بالنساء، فاستوسع في اتخاذهن، وخلط في أجناسهن، فانتهى في ذلك إلى مدىً لم يبلغه أحد من نظرائه، قيل إنه خلف من صنوفهن السريريات خاصة نحوا من سبعين جارية، إلى حرته الحظية لديه الفذة من حلائله بنت مجاهد العامري أخت علي بن مجاهد أمير دانية، ففشا نسل عباد لتوسعه في النكاح وقوته عليه، فذكر أنه كان له من ذكور الولد نحو من عشرين ومن الإناث مثلهم؛ انتهى كلامه.
قال ابن بسام: وكان المعتضد - كما وصف - ينفث بأبيات من الشعر فيما يعن له من أمر، ورأيت ابن أخيه إسماعيل قد جمع شعر عمه هذا في ديوان، وسأجري هاهنا طرفاً منه.
جملة من أشعاره
مع ما ينخرط في سلكها من عجائب أخباره
قال:
كأنما ياسميننا الغض ... كواكب في السماء تبيض
والطرق الحمر في جوانبه ... كخد عذراء مسها عض(3/29)
وقال:
إشرب على وجه الصباح ... وانظر إلى نور الأقاح
واعلم بأنك جاهل ... ما لم تقل بالإصطباح
فالدهر شيء بارد ... إن لم تسخنه براح وقال:
أتتك أم الحسن ... تشدو بصوتٍ حسن
تمد في ألحانها ... مد الغناء المدني
تقود مني سلسلاً ... كأنني في رسن
أوراقها أستارها ... إذا شدت في فنن [5ب] ومعنى هذا البيت كقول ابن المعتز:
ذرى شجر للطير فيه تشاجر ... كأن سقيط الطل فيها جواهر
كأن القماري والبلابل حولنا ... قيان وأوراق الغصون ستائر وقال بعض أهل عصرنا وهو الوزير أبو محمد بن عبدون:
يا نفحة الزهر من مسراك وافاني ... خلوص رياك في أنفاس آذار
والأرض في حلل قد كاد يحرقها ... توقد النور لولا ماؤها الجاري
والطير في ورق الأشجار شادية ... كأنهن قيان خلف أستار(3/30)
ومعنى بيت ابن عبدون الثاني من متداولات المعاني، منها قول الآخر ونقله إلى الدموع:
لولا الدموع وفيضهن لأحرقت ... أرض الوداع حرارة الأكباد وأشبه منه قول ابن رباح:
نار يغذيها السحاب بمائه ... فلذاك لم تك ترتمي بشرار ومن أحسن شعر المعتضد قوله:
شربنا وجفن الليل يغسل كحله ... بماء صباح والنسيم رقيق
معتقة كالتبر أما نجارها ... فضخم وأما جسمها فدقيق وقال يخاطب مجاهداً:
خلي أبا الجيش هل يقضى اللقاء لنا ... فيشتفي منك طرف أنت ناظره
شط المزار بنا والدار دانية ... يا حبذا الفال لو صحت زواجره وقال من جملة قصيدة يخاطب بها أباه القاضي:
أطعتك في سري وجهري جاهداً ... فلم يك لي إلا الملام ثواب
ولما كبا جدي إليك ولم يسغ ... لنفسي على سوء المقام شراب(3/31)
فررت بنفسي أبتغي فرجةً لها ... على أن حلو العيش بعدك صاب
وما هزني إلا رسولك داعياً ... فقلت أمير المؤمنين مجاب
فجئت أغذ السير حتى كأنما ... تطير بسرجي في الفلاة عقاب
وما كنت بعد البين إلا موطناً ... بعزمي على أن لا يكون إياب
" ولكنك الدنيا إليّ حبيبة ... فما عنك لي إلا إليك ذهاب "
أصب بالرضى عني مسرة مهجتي ... وإن لم يكن في ما أتيت صواب وكان المعتضد كثيراً ما يرتاح في شعره إلى ذكر الطائفة التي كانت يومئذ تحاربه، فمن ذلك قوله:
لقد حصلت يا رنده ... فصرت لملكنا عقده
أفادتناك رماح ... وأسياف لها حده
وأجناد أشداء ... إليهم تنتهي الشده
غدوت يرونني مولىً ... لهم وأراهم عده
سأفني مدة الأعدا ... ء إن طالت بي المده
[6أ] فكم من عدةٍ قتل ... ت منهم بعدها عده
نظمت رؤوسهم عقداً ... فحلت لبة السدة وأعجب المعتضد يومئذ بهذه القطعة الرندية، عجب حسان بن ثابت بقصيدته الميمية، وأخذ الناس بحفظها، وحملهم على ضبط معانيها ولفظها.(3/32)
وعلى ذكرها وذكرهم، فلنلمع بشيء من أمرهم. بدأ بغرب إشبيلية وبها عدة رؤساء، وجماعة خلفاء، فكانوا دخان ناره، وزبد تياره، إلا ما كان من ثبوت قدم قريعه المظفر بن الأفطس، فإنه نازعه لبوها، وعاطاه إلى آخر أيامه كؤوسها، ولهما في ذلك غير مجال وميدان، وقد سرد قصصهما أبو مروان ابن حيان، وسألمع بعيونها، وأقلب ظهورها لبطونها.
جملة من حروبه مع المظفر وغيره من أمراء الغرب
قال ابن حيان: وأول ما ظهر من تفاسد عباد والمظفر أن ابن يحيى صاحب لبلة عند هجوم عباد عليه استجار بالمظفر بن الأفطس، فأجاره وانزعج له، ووصل يده وعطل ثغره، وجمع جيشه وأقبل إلى لبلة ناصراً لابن يحيى، مضيعاً لمن خلفه يوقد نار فتنة كان في غنى عنها، حتى نزل بنفسه على ابن يحيى ودافع ابن عباد عنه، وحرك في ذلك في حلفائه البرابرة جماعةً، فسارعوا إليه غير ناظرين في عاقبة أمرهم، وتقدموا في تحريك يعسوبهم محمد بن القاسم فانتظم به أمرهم، وتقدم بهم إلى إشبيلية ورحاهم تدور على قريعهم باديس بن حبوس، مدرههم في الجلى ومفزعهم في النائبة، يسلمون لرأيه ويزحمون بركنه، فأشفق الوزير ابن جهور من حركتهم تلكن على عادته في التقلقل لأمثالها، وجهد جهده في صرفهم، وأرسل ثقات رسله إلى عامتهم، إلا ما كان من الدائلين منهم عباد داعية المروانية ومحمد بن إدريس صاحب مالقة دائل الحمودية، فإنه تنكبها(3/33)
بعاداً من الظنة، إذ كان هو وجماعة قرطبة متوقفين على كل دعوة، فلما وصلت رسله إليهم ما زادهم إلا لجاجاً. ولم يزل ابن جهورٍ يضرب لهم الأمثال، ويخوفهم من سوء العاقبة والمآل، حتى صار فيهم كمؤمن آل فرعون وعظاً وتذكرة، يجد منهم الأطواد الراسية، ويرقي الحيات المتصامة. واستن القوم في ميدان الغي؛ فلما صح عند ابن عباد خروجه للبلة بجشيه دفعاً عن ابن يحيى منتظراً لخلطائه، جرد خيلاً ضربت على بلد ابن الأفطس، وغارت وأنجدت، وفعلت فعلات تكأن القلوب، وقرفت الندوب، ثم نهض ابن عباد بنفسه إلى لبلة للقائه، فجرت بينهما على بابها وقعة عظيمة صعبة، استهما فيهما النصر في مقام واحد شق على الأبلمة، وكانت أولاً على ابن الأفطس، فولى الدبر وخاض واديها دون مخاضة، وقيل قتل من رجاله عدد كثير، ثم رجعت له على ابن عباد كرة فكشف رجاله وأصاب منهم نفراً، ثم افترقوا ولحق بعد باديس بجمعه وخاض وادي قرطبة وجاز إلى الشرف، وتجمع بحلفائه، وعاثوا في نظر إشبيلية، وانقطعت السبل جملة، وكثر القتل والهرج والسلب، وأمسى الناس في مثل عصر الجاهلية، ثم والى ابن يحيى بعد ذلك كله المعتضد لضرورة دفعته إلى ذلك، فكاشفه المظفر وخانه فيما كان ائتمنه عليه من ماله وأودعه عنده، [6ب] أيام تورطه في حرب المعتضد، فانبتت(3/34)
بينهم العصمة، وضربت خيل المظفر على صاحب لبلة، فاستغاث المعتضد فلحق به خيله واقتتلت مع خيل المظفر، وكان ابن جهور كثيراً ما يوالي رسله إلى الاصطلاح بينهما، فتصدر عنهما وتخبر أن ابن الأفطس قرب إلى الملام، بامتطاء قعود اللجاج في القطيعة.
ومن النوادر المحفوظة بينهما أن المعتضد والى حربه في شهور سنة اثنتين وأربعين فعبر بلده، وفتح عدة حصون ضمها إلى عمله، وشدها برجاله، ودمر عمارات واسعة أفسد غلاتها، وأوقع رعيته ف امجاعة الطويلة، وعجز المظفر عن دفاعه شبراً واحداً فما دونه، استكانةً للحادثة التي هدت ركنه، وأفنت حماة رجاله، فاعتصم بحصنه بطليوس، ولم يخرج من خيله فارساً، وجعل يشكو به إلى حلفائه، فلا يجد ظهيراً ولا نصيراً.
فلما قضى المعتضد من تدويخ بلاده وطره، وكر راجعاً إلى إشبيلية في شوال من العام، وردت علينا بقرطبة يومئذ غريبة، وذلك أن رسول المظفر في أثر هذه الوقائع عليه يلتمس شراء وصائف ملهيات يأنس بهن، نافياً بذلك الشماتة عن نفسه، ولم يكن له عادة بمثله، فنقب له رسوله عن ذلك، وكن قد عدمن بقرطبة يومئذ، فوجد له صبيتين ملهيتين عند بعض التجار لا طائل فيهما، فاشتراهما له، وأقام رسوله يلتمس الخروج بهما فلم يستطع، لقطع خيل المعتضد جميع الطرق، فأقام مدةً بقرطبة إلى أن شيع بخيل كثيفة ومضى بهما، وأولوا(3/35)
النهى يعجبون ويعجبون مما شهر به نفسه من البطالة، أيام الحروب المحرمة لأطهار النساء على فحول الرجال العاقدة للأزرة، وعلى ما كان يدعيه لنفسه من الأدب والمعرفة، وبحثت على هذه الأعجوبة وما الذي حمله على هذا افن فإذا به ناغى كاشحه المعتضد المرتاح بعد الظفر لاجتلاب قينة عبد الرحيم الوزير من قرطبة، إثر وفاته يومئذ، وقد استدعاها لما وصفت له بالحذق في صنعتها، فوجهت نحوه، فنقيله المظفر في إظهار الفراغ وطلب الملهيات، وقد علم العالم أنه لفي شغل عنهن. فامتد شأو هذين الأميرين يومئذ في الغي وتباريا في القطيعة حتى أفنيا العالمين، إلى أن سنى الله بينهما الصلح، في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين، بسعي ابن جمهور أمير قرطبة، كعادته بينهما، بعد كتب ورسل في ذلك، والمظفر يمتطي اللجاجة هنالك.
فلما سكنت الحال بينهما فرغ المعتضد إلى حرب الأمراء الأصاغر بالغرب، كابن يحيى وابن هارون وابن مزين والبكري، وأتيح له من الظفر عليهم ما حاز به أملاكهم وضمها جملةً إلى عمله، ثم مد يده بعد إلى القاسم بن حمود صاحب الجزيرة الخضراء، فرضة المجاز من الأندلس(3/36)
إلى أرض العدوة التي كان منها فتحها ومن قبلها ما أتاها على قدم الدهر، وذلك أنه لما وجد هذا الفتى، على نباهته وجلالة عمله، أضعف أمراء البرابرة شوكةً وأقلهم رجالاً، صمد له وحصره، فاستغاث القاسم حلفاءه بالأندلس وصاحب سبتة سقوت البرغواطي مولى ابن حمود، فأبطأ عليه حتى سقط في يده، ونزل على أمان، وآل أمره إلى أن لحق بقرطبة وأسكنها تحت كنف ابن جهور مع نظرائه من المخلوعين.
فلما كانت سنة إحدى وخمسين، وقد أتيح له من الظفر ما أتيح، اتصلت الأنباء عندنا بقرطبة بصموت منابره في جميع أعماله عن ذكر إمامه هشام بن الحكم، صاحب الرجعة، الذي اتصل الدعاء له على منابره من عهد قيام والده إلى آخر هذه السنة، يومئ إليه بالحياة في غياهب الحجب من غير ظهور لخاصة ولا عامة، ودعوته على ذلك كله [7أ] مرفوعة عند من ائتسى بالمعتضد من أمراء شرق الأندلس، إلى أن قطعها قاطع الأعناق عليها ابن عباد، فذكر أنه دعا وجوه حضرته فنعى لهم إمامهم هشاماً، وكشف إليهم تقدم وفاته من علة زمانية، ووصف أن الحال التي كان بسبيلها من اشتداد الفتنة بينه وبين من تظاهر عليه من أمراء الأندلس الدانين منه عاقه يومئذ عن البوح بوفاة هذا الإمام والشهرة لدفنه، إعطاء للحزم بقسطه، فلما سكنت الحال وجب التصريح بالحق، وعطف - زعموا - بكلامه على شحذ بصائرهم في التمسك بحبل الإمامة، والفرار عن الميتة الجاهلية. وذكر أنه خاطب من كان تحت دعوة هذا المنعي هشام من أمراء الأندلس ناعياً له، داعياً إلى التعوض منه، فارتفعت الدعوة منذ ذلك الوقت، وصارت هذا الميتة لحامل(3/37)
هذا الاسم الميتة الثالثة، وعساها تكون إن شاء الله الصادقة، فكم قتل وكم مات، ثم انتفض من التراب، ومزق الكفن قبل نفخة الصور ووقعة الواقعة، فقد اكن مات في يد أول خالعيه محمد بن هشام بن عبد الجبار ودفن علانيةً، ثم نشر بيد واضح الصقلبي فتى بني أبي عامر ودال مديدةًن ثم قتله خالعه الثاني سليمان المستعين ودفنه خفيةً، ثم أبرز صداه علي حمود الحسني المنتزي، يذكي الطلب بثأره على الدولة، ودفنه الدفنة التي خلناها حقيقةً، فلم يلبث أن نجم حياً بإشبيلية بعد حقب، فبقي هنالك ملكاً ودال قرناً إلى أن وقعت عليه الميتة الثالثة، فما نقول ونعتقد في الفرق بين هذه الميتات المتواليات، إذ كان مائتها واحداً، وليس إلا السيوف عليها أدلة، غير إخلاص الدعاء لكلمة المسلمين في الائتلاف لما فيه الصلاح؛ انتهى ما لخصته من كلامه.
قال ابن بسام: ثم غمس المعتضد يده بعد في من كان يليه من أقتاله البازلة فصدم شرهم بشرهم، وضرب زيدهم بعمرهم؛ وقد كان عندما تسعرت نار الحرب، بينه وبين رؤساء الغرب، هادنهم على دخن، ومتح لهم حتى ضربوا حوله بعطن، ليقتلهم بسيوفهم، ويستدرجهم إلى حتوفهم، فلما استقرت قدمه بشلب، قاصية قواعد الغرب، كان أول ما بدأ به من حربهم هجومه على الحاجب ابن نوح(3/38)
المنتزي منهم - كان - بكورة مورور في غير كتيبةٍ نظمها، ولا مقدمة إليه قدمها، إلا فتيان ينبهان عليه، ويحملان الأموال بين يديه، تجاسراً على ركوب الخطر الذي تحاماه اللبيب، واستنامةً لصرف القدر وهو لا يدري أيخطئ أم يصيب، فخلص إلى ابن نوح هذا: من رجلٍ لا يبالي دم من تجرع، ولا يحفل بأي شيء يصنع، فبالغ ابن نوح في بره، وتضاءل لأمره، وحمل ذلك من فعله على آكد أسباب السلامة، وأتم وجوه الاستنامة، وفض المعتضد يومها من صميم ماله، في وجوه حماة ابن نوح ورؤوس رجاله، ما استمال به قلوبهم، واسنصح به جيوبهم.
ثم صار إلى ابن أبي قرة برندة فسامه مثلها، وحذا له نعلها، فتلك اعتد عليهم يداً، وجعلها لما أراد من مكروههم أمداً. وقد كان أحد أجنادهم أشار بالرأي في أكره، وأراد أن يطلع عليه من ثنية مكره، فواطأهم يومئذ بغدره، ورمز لهم بالاستراحة من شره، ففهمها المعتضد وجعل تلك الكلمة دبر أذنه، وأثبتها في ديوان إحنه، حتى حلي بطائلها، واستقاد بعد مديدة من قائلها، وجأجأ بالحاجبين المذكورين لأول تمكنه من الغرة، وساعةً صدره من مركزه من الحضرة، فتهافتا تهافت الفراش على الجمرة، وجاءا مجيء الحائن إلى الشفرة؛ وتطفل عليهما الحائن ابن خزرون المنتزي - كان - وقته بأركش، فلله أبوه وافداً(3/39)
لم تجزه الوفادة، وواهاً له قتيلاً لم يحل بطائل الشهادة، فجرع الكل [7ب] الحتوف، وحكم في عامتهم السيوف، واستمر بعد ذلك على حرب بقاياهم، وتتبع أخراهم، حتى تغلب على بلادهم، وألوى بطارفهم وتلادهم، في أخبار طويلة استوفاها ابن حيان، هي خارجة عن غرض هذا الديوان؛ وقد ألمعت منها بما فيه كفاية، إذ لا يتسع هذا المجموع لاستقصاء الغاية.
والسبب الذي كان يغربه بطلبهم، ويبعثه على التمرس بهم، أن بعض من نظر بمولده كان أخبره أن انقضاء دولته يكون على أيدي قوم يطرؤون على الجزيرة من غير سكانها، فكان لا يشك أنهم تلك البرازلة الطارئون عليها في عهد ابن أبي عامر، فأعمل في نكالهم وجوه سياسته، وشغل بقتالهم أيام رياسته؛ واتفق أن دخل عليه يوماً بعض وزرائه وبين يديه كتاب قد أطال فيه النظر، فإذا كتاب سقوت المنتزي يومئذ بسبتة، يذكر أن القوم الملثمين المدعوين بالمرابطين قد وصلت مقدمتهم رحبة مراكش، فقال له ذلك الوزير المذكور كلاماً معناه: وأين رحبة مراكش - دخلوها فكان ماذا - ومات الحجاج فمه -! ودونهم اللجج الخضر، والمهامه الغبر، والليالي والأيام، والجماهير العظام، فقال له المعتضد: هو والله الذي أتوقعه وأخشاه، وإن طالت بك حياة فستراه، اكتب إلى فلان - يعني عامله على الجزيرة - باحتراس جبل طارق حتى يأتيه أمري(3/40)
وأخذ يريش في تحصينه، ووضع أرصاده هنالك وعيونه، ويبري، ولله عزائم لا تقيها الحصون، ولا يهتدي إليها الأرصاد والعيون، ولكل شيء أمد مكتوب، وميقات مضروب، ويبلغ الكتاب أجله.
فصل في ذكر المعتمد على الله محمد بن عباد
واجتلاب جملة من شعره، مع ما يتعلق من الأخبار السلطانية بذكره
قال ابن بسام: ثم استوسق الأمر بعد المعتضد لابنه المعتمد، وكان مع اشتغاله بالحرب، وسعة مجاله بين الطعن والضرب، وعلى أن أباه عباداً ما انفك يدير عليه الرحى، ويقرع إليه كلما قرعت عصاً عصاً، حتى صار أسوة لنجوم ليلها، وحلساً لمتون خيلها:
لا يشرب الماء إلا من قليب دمٍ ... ولا يبيت له جار على وجل فقد كان متمسكاً من الأدب بسبب، وضارباً في العلم بسهم، وله شعر كما انشق الكمام عن الزهر، لو صدر مثله عمن جعل الشعر صناعة، واتخذه بضاعة، لكان رائعاً معجباً، ونادراً مستغرباً، فما ظنك برجلٍ(3/41)
لا يجد إلا راثياً، ولا يجيد إلا عابثاً، وهو مع ذلك يرمي فيصيب، ويهمي فيصوب، وشعره يوضح ما شرح ويعبر عما ذكره، مع أنه قد رويت أشعار أولي النباهة والأعيان، على قديم الزمان، لشرف قائلها، مع قلة طائلها، وقد رأيت أبا بكر الصولي أثبت لملوك بني أمية وخلفاء بني العباس، ما لو صدر مثله لصغار الناس لا ستهجن، أو طرأ لضعفاء السوق لا ستصغر، فلنا في الصولي أسوة في إثبات هذا النوع من الشعر إن وقع في كتابنا هذا. [8أ] والعجب من المعتمد أنه مرى سحابه في كلتا حاليه فصاب، ودعا خاطره فأجاب، ولا تراجع له من طبع، ولا بعد الخلع، بل يومه في هذا الشأن دهر، وحسنته في هذا الديوان عشر، فإن أجاد فما أولى، وإن قصر فعذره أوضح وأجلى.
والمبيت المتقدم من جملة قصيد، للمخزومي أبي سعد، وإنما أشار في معناه إلى قول بشار:
فتىً لا يبيت على دمنةٍ ... ولا يشرب الماء إلا بدم وقال أبو الطيب:
ولا ترد الغدران إلا وماؤها ... من الدم كالريحان تحت الشقائق وقال محمد بن هانئ:
لا يوردون الماء سنبك سابحٍ ... أو يكتسي بدم الفوارس طحلبا(3/42)
جملة من شعر المعتمد في النسيب وما يناسبه
قال:
داري الغرام ورام أن يتكتما ... وأبى لسان دموعه فتكلما
رحلوا وأخفى وجده فأذاعه ... ماء الشؤون مصرحاً ومجمجما
سايرتهم والليل غفل ثوبه ... حتى تراءى للنواظر معلما
فوقفت ثم محيراً وتسلبت ... مني يد الإصباح تلك الأنجما وكأن معنى هذا البيت الأخير، إلى قول المجنون بشير:
فأصبحت من ليلى الغداة كناظرٍ ... مع الصبح في أعقاب نجمٍ مغرب وله في أم الربيع وقد مرضت فلم يعدها:
مرضتم فأمسكت الزيارة عامداً ... وما عن قلىً اأمسكتها لا ولا هجر
ولكنني أشفقت من أن أزوركم ... وأبصر آثار الخسوف على البدر(3/43)
وقال المعتمد:
أكثرت هجري غير أنك ربما ... عطفتك أحياناً عليّ أمور
فكأنما زمن التهاجر بيننا ... ليل وساعات الوصال بدور وهو ينظر إلى قول الأسعد بن بليطة:
تتنفس الصهباء في لهواته ... كتنفس الريحان في الآصال
وكأنما الخيلان في لباته ... ساعات هجرٍ في زمان وصال وقال:
تظن بنا أم الربيع سآمةً ... ألا غفر الرحمن ذنباً تواقعه
أأهجر ظبياً في فؤادي كناسه ... وبدر تمامٍ في ضلوعي مطالعه
وروضة حسنٍ أجتنيها وبارداً ... من الظلم لم تحظر علي شرائعه
إذن عدمت كفي نوالاً تفيضه ... على معتفيها أو عدواً تقارعه وناوله بعض نسائه كأس بلور مترعاً خمراً ولمع البرق فارتاعت فقال:
ريعت من البرق وفي كفها ... برق كم القهوة لماع
يا ليت شعري وهي شمس الضحى ... كيف من الأنوار ترتاع وقال:(3/44)
قامت لتحجب قرص الشمس قامتها ... عن ناظري حجبت عن ناظر الغير
[8ب] علماً لعمرك منها أنها قمر ... هل تحجب الشمس إلا غرة القمر وقال:
عفا الله عن سحرٍ على كل حالةٍ ... ولا حوسبت عني بما أنا واجد
أسحر ظلمت النفس واخترت فرقتي ... فجمعت أحزاني وهن شوارد
وكانت شجوني باقترابك نزحاً ... فها هن لما أن نأيت شواهد وقال:
فإن تستلذي برد مائك بعدنا ... فبعدك ما ندري متى الماء بارد وقال:
يا غرة الشمس التي ... قلبي لها أحد البروج
لولاك لم أك مؤثراً ... فرش الحرير على السروج وقال:(3/45)
تم له الحسن بالعذار ... واقترن الليل بالنهار
أخضر في أبيض تبدى ... ذلك آسي وذا بهاري
فقد حوى مجلسي تماماً ... إن يك من ريقه عقاري هذا كقول ابن وكيع:
شادن خده وعي ... ناه وردي ونرجسي
إن يجد لي بخمرةٍ ... فلقد تم مجلسي ما أخرجته من مقطوعاته السلطانية التي
أجراها مجرى الإخوانيات
بات الوزير أبو الأصبغ بن أرقم على قرب من إشبيلية، وأعلمه أنه وافد عليه صبيحة غدٍ، فكتب إليه المعتمد:
أهلاً بكم صحبتكم نحوي الديم ... إن كان لم يتجنح لي بكم حلم
حلوا المطي ولو ليلاً بمجهلةٍ ... فلن تضلوا ومن بشري لكم علم
سأكتم الليل ما ألقاه من بعدٍ ... وأسأل الصبح عنكم حين يبتسم وأدخلت إليه يوماً باكورة نرجس، فكتب إلى ابن عمار يستدعيه:(3/46)
قد زارنا النرجس الذكي ... وآن من يومنا العشي
ونحن في مجلسٍ أنيقٍ ... وقد ظمئنا وثم ري
ولي نديم غدا سميي ... يا ليته ساعد السمي فأجابه ابن عمار:
لبيك لبيك من منادٍ ... له الندى الرحب والندي
ها أنا في الباب عبد قن ... قبلته وجهك السني
شرفه والداه باسمٍ ... شرفته أنت والنبي وسأله الوزير أبو عمرو بن غطمش أن يشرفه بالسير معه إلى منزله، فاجتمع الندماء بالقصر، [9أ] بعد صلاة العصر، لينتقلوا ليلاً بانتقالها إلى دار الوزير المذكور، فبدت من ابن عمار حينئذ هنة أوجنت أن رماه المعتمد ببعض الآنية، فافترقوا بعد نومه ووقوع اليأس من سيره، ومضت الجماعة إلى دار الوزير المذكور، فلما استيقظ المعتمد من السكر، أخبر بما وقع من الأمر، فكتب إليهم بهذين البيتين:
لولا عيون من الواشين ترمقني ... وما أحاذره من قول حراس
لزرتكم لأكافيكم بجفوتكم ... مشياً على الوجه أو حبواً على الراس وله يستعطف أباه المعتضد إذ دخل مالقة وأخرج منها، في قصيدة أوله:(3/47)
سكن فؤادك لا تذهب بك الفكر ... ماذا يعيد عليك البث والحذر
وإن يكن قدر قد عاق عن وطر ... فلا مرد لما يأتي به القدر
وإن تكن خيبة في الدهر واحدة ... فكم غزوت ومن أشياعك الظفر
إن كنت في حيرة عن جرمٍ محترم ... فإن عذرك في ظلمائها قمر ومنها:
يا ضيغماً يقتل الفرسان مفترساً ... لا توهنني فإني الناب والظفر
قد أخلفتني صروف أنت تعلمها ... وعاد مورد آمالي به كدر
وحلت لوناً وما بالجسم من سقمٍ ... وشبت رأساً ولم يبلغني الكبر
لم يأت عبدك ذنباً يستحق به ... عتباً وهاهو قد ناداك يعتذر
ما الذنب إلا على قوم ذوي دغل ... وفى لهم عهدك المعهود إذ غدروا ومنها:
لم أوت من زمني شيئاً ألذ به ... فلست أعرف ما كأس ولا وتر
ولا تملكني دل ولا خفر ... ولا سبى خلدي غنج ولا حور
رضاك راحة نفسي لا فجعت به ... فهو العتاد الذي للدهر يدخر
وهو المدام التي أسلو بها فإذا ... عدمتها عبثت في قلبي الفكر(3/48)
ذكر الخبر عن حديثه يومئذ بمالقة ودخوله إياها،
وانصرافه مفلولا دون ما تخيل من التخييم في ذراها،
وأمل من الاستباحة لحماها
قال ابن بسام: لما سما باديس بن حبوس إلى قصبة مالقة بعد تقلص الظلال الحمودية عن أرجائها، وأفول النجوم العلوية في سمائها، في خبر خلا منه هذا المجموع حين لم يتعلق بذيله مما وقع إليّ نظم ولا نثر، ولا أشرق في ليله مما حصل في يدي للأدب كوكب ولا بدر، فلذلك أضربت [9ب] عنه، وأخليت كتابي منه، وأتيت بخبر المعتمد فيها حين أنبأ به شعر، وجرى له على لسان الأدب ذكر، وفاءً بالشرط، وتوفيةً بالقسط:
كان أهل مالقة إذا جرى ذكر عباد ارتاحوا إليه ارتياح الغصون تحت النسيم، ورفعوا أصواتهم بالصلاة عليه والتسليم، هذا على ما كان يقذي عيونهم من قبح آثاره، ويصك أسماعهم من هو أخباره، ويلفح وجوههم من وهج ناره، تشيعاً لم يكن له أصل إلا شؤم الحمية، ولؤم العصبية، فاهتبلوا غرةً من باديس أميرهم، وناجوا عباداً بذات صدورهم، وألقوا إليه بأيدي تأميلهم وتأميرهم، فجأجأوا لظمآن لا يروي على طول الشرب، وهزوا سيفاً يكاد يهتك الضريبة قبل الضرب، فجد فيها وشمر، ونادى أهلها وحشر، وكان المعتضد إذا طول اختصر(3/49)
وإذا تحدث عنه على البعد حضر، ولبى دعاة أهل مالقة بالخيل بين الجلال واللبود، وبالأبطال أثناء الحرير والحديد، وأنفذ إليهم شوكته الوحي سمها، وأطلع عليهم كتيبته البعيد همها، القاسط حكمها، معصبة بابنيه جابرٍ ومحمد، فلأول إطلال عسكره عليها هبت له ريح فتحها، وضحك في وجه بشر صبحها، فحل لأول وقته بحريمها، وتحكم في ظالمها ومظلومها، إلا فرقةً من السودان المغاربة لاذوا بذروة قصبتها وهي بحيث ينشأ تحتها الدجن، ويعجز دون مرامها الظن، إنافة مكان، وإطالة بنيان؛ وقد كان أهل مالقة أشاروا على ابني المعتضد، حين خلوا بينهما وبين البلد، بإذكاء العيون، وإساءة الظنون، وضبط ما حولها من المعاقل والحصون، فغفلا، واستصرخ السودان المغاربة أميرهم باديس فلباهم بزخرة من تياره، وأقبسهم شرارة من ناره، فلم يرع ابني عباد، إلا صهيل الجياد، وتداعي الأجناد، بشعار الجلاد، فلم تر إلا أسيراً أو قتيلاً، أو فازعاً إلى الفرار ما وجد إليه سبيلاً، وامتلأت أيدي الباديسيين من السلاح والكراع، ورفلوا بين خيار البز وفاخر المتاع، ولجأ ابنا عباد إلى رندة وقد انغمسا في عارها، وصليا بنارها، ورأيا وجه الموت في لمعان أسنتها وشفارها، ومن ثم خاطب المعتمد أباه بالشعر المتقدم الذكر، وقد أخفر ذممه، ونذر دمه، ولولا أنه استجار - زعموا - يومئذ برجلٍ من العباد كان هنالك لتبت يداه، ولحق إسماعيل أخاه.(3/50)
ورفع إلى المعتمد صدر دولته شعر، عزي إلى بعض الأصحاب، من الوزراء الكتاب، يعرض بأبي الوليد بن زيدون فيه، أوله:
يا أيها الملك العلي الأعظم ... اقطع وريدي كل باغٍ ينئم
[واحسم بسيفك داء كل منافقٍ ... يبدي الجميل وضد ذلك يكتم]
لا تتركن للناس موضع شبهةٍ ... واحزم فمثلك في العظائم يحزم
قد قال شاعر كندة فيما مضى ... بيتاً على مر الليالي يعلم
" لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم " فلما سمعها المعتمد، عرف الغرض الذي إليه قصد، ووقع على ظهر الرقعة، بهذه القطعة، وهي من جيد نظامه، وحر كلامه:
كذبت مناكم صرحوا أو جمجموا ... ألدين أمتن والمروة أكرم
خنتم ورمتم أن أخون وإنما ... حاولتم أن يستخف يلملم
وأردتم تضييق صدرٍ لم يضق ... والسمر في ثغر الصدور تحطم
وزحفتم بمحالكم لمجرب ... ما زال يثبت في المحال فيهزم
أنى رجوتم غدر من جربتم ... منه الوفاء وجور من لا يظلم(3/51)
أنا ذاكم لا البغي يثمر غرسه ... عندي ولا مبنى الصنيعة يثلم
كفوا وإلا فارقبوا لي بطشةً ... يلقى السفيه بمثلها فيحلم ولأبي الوليد على ذلك جواب شكرٍ من جملة قصيد، قال فيه:
قل للبغاة المنبضين قسيهم ... سترون من تصميه تلك الأسهم
أسررتم فرأى نجي غيوبكم ... شيحان مدلول عليه ملهم
ما كان حلم محمد ليحيله ... عن عهده دغل الضمير مذمم
فرق عوت فزأرت زأرة زاجرٍ ... راع الكليب بها السبنتى الضيغم
لي منك فليذب الحسود تلظياً ... لطف المكانة والمحل الأكرم
لم تلف صاغيتي لديك مضاعفةً ... كلا ولا ضاع اصطناعي الأقدم
بل أوسعت حفظاً وصدق رعاية ... ذمم موثقة العرى لا تفصم
فليخرقن الأرض شكر منجد ... مني تناقله المحافل متهم ومن كلام المعتمد الجزل، قوله يوم كبل يخاطب الكبل:
إليك فلو كانت قيونك أشعرت ... تصرم منها كل كف ومعصم
مهابة من كان الرجال بسيبه ... ومن سيفه في جنة أو جهنم ومما قاله بعد زوال سلطانه وتضعضع بنيانه، لما دخل عليه البلد يوم الثلاثاء منتصف رجب سنة أربع وثمانين، خرج مدافعاً عن ذاته، وذاباً عن حرماته، وظهر يومئذ من بأسه، ومن تراميه - زعموا - على الموت(3/52)
بنفسه، ما لا مزيد لبشرٍ عليه، ولا تناهي لخلق إليه، وفي ذلك يقول:
لما تماسكت الدموع ... وتنبه القلب الصديع
قالوا الخضوع سياسة ... فليبد منك لهم خضوع
وألذ من طعم الخضوع ... على فمي السم النقيع
إن تستلب عني الدنا ... ملكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه ... لم تسلم القلب الضلوع
لم أستلب شرف الطبا ... ع أيسلب الشرف الرفيع
قد رمت يوم نزالهم ... إلا تحصني الدروع
وبرزت ليس سوى القمي ... ص على الحشا شيء دفوع
وبذلت نفسي كي تسي ... ل إذا يسيل بها النجيع
أجلي تأخر لم يكن ... بهواي ذلي والخضوع
ما سرت قط إلى القتا ... ل وكان من أملي الرجوع
شيم الأول أنا منهم ... والأصل تتبعه الفروع [10ب] قوله: " ما سرت قط إلى القتال " ... البيت، كقول قيس بن الخطيم:
وإني في الحرب الضروس موكل ... بتقديم نفسٍ لا أريد بقاءها(3/53)
وروى ابن قتيبة قال، قال أبو دلامة: كنت في عسكر مروان بن محمد أيام زحف إلى شيبان، فلما التقى الزحفان خرج رجل منهم ينادي إلى البراز، فلم يخرج إليه أحد إلا أعجله ولم ينهنهه، فغاظ ذلك مروان، فجعل يندب الناس على خمسمائة، فقتل أصحاب الخمسمائة، فندبهم على الألف، ولم يزل يزيد حتى نادى بخمسة آلاف، قال أبو دلامة: وكان تحتي فرس لا أخاف خونه، فلما سمعت بخمسة آلاف اقتحمت الصف، فلما نظر إليّ الخارجي علم أني خرجت للطمع، فبرز إليّ وهو يقول:
وخارج أخرجه حب الطمع ... فر من الموت وفي الموت وقع ... من كان ينوي أهله فلا رجع ... فلما وقرت في أذني انصرفت عنه هارباً، فجعل مروان يقول: من هذا الفاضح - إيتوني به، ودخلت في غمار الناس.
وقيل كان أبو دلامة مع أبي مسلم في بعض حروبه مع بني أمية، فدعا رجل إلى البراز فقال له أبو مسلم: أخرج إليه، فأنشأ يقول:(3/54)
ألا لا تلمني إن هربت فإنني ... أخاف على فخارتي أن تحطما
فلو أنني أبتاع في السوق مثلها ... وجدك ما باليت أن أتقدما وحدث أيضاً أبو دلامة قال: أتي بي المنصور وأنا سكران، فحلف أن يخرجني في بعث حرب، فأخرجني مع روح بن حاتم المهلبي لقتال الثراة، فلما التقى الجمعان قلت لروح: لو أن تحتي فرسك ومعي سلاحك لأثرت اليوم في عدوك أثراً ترضيه، فنزل عن فرسه ونزع سلاحه، فلما حصل ذلك في يدي وزالت حلاوة الطمع أنشدته:
إني استجرتك أن أقدم في الوغى ... لتطاعن وتنازل وضراب
فهب السيوف رأيتها مشهورة ... فتركتها ومضيت في الهراب
ماذا تقول لما تجيء ولا ترى ... من بادرات الموت بالنشاب قال: دع عنك هذا، وبرز رجل من الخوارج فقال: اخرج إليه، قلت: أنشدك الله في دمي أيها الأمير، إن هذا أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا، وأنا والله جائع ما تنبعث مني جارحة من الجوع، فأمر برغيفين ودجاجة، فأخذت ذلك وبرزت إلى الصف، فلما رآني الخارجي أقبل نحوي وتحدثنا، وقلت: إن معي زاداً أحببت أن تأكله معي وما أريد قتالك، فجعلنا نأكل على ظهور دوابنا والناس يضحكون، فلما استوفيناه ودعني، فلما انصرفت قلت لروح: قد كفيتك قرني فقل لغيري يكفيك قرنه. ثم خرج آخر إلى المبارزة فقال: اخرج إليه فقلت:(3/55)
إني أعوذ بروح أن يقدمني ... إلى القتال فتخزى بي بنو أسد
إن البراز إلى الأقران أعلمه ... مما يفرق بين الروح والجسد [11أ]
إن المهلب حب الموت أورثكم ... وما ورثت اختيار الموت من أحد
لو أن لي مهجة أخرى لجدت بها ... لكنها خلقت فرداً فلم أجد فضحك وأعفاني.
رجع: ثم التوت بالمعتمد الحال أياماً يسيرة، والناس بحضرة إشبيلية قد استولى علهم الفزع، وخامرهم الجزع، يقطعون سبلها سياحةً، ويخوضون نهرها سباحةً، ويترامون من شرفات الأسوار، ويتولجون مجابي الأقذار، حرصاً على الحياة، وحذراً من الوفاة، فلما كان يوم الأحد الموفي عشرين من رجب المؤرخ، دخل البلد على المعتمد بعد أن جد الفريقان في القتال، واجتهدت الفئتان في النزال، وفي أثناء تلك الحال، وما كان يناجي باله من البلبال، خاطب أبا بكر المنجم الخولاني بهذه الأبيات:
أرمدت أم بنجومك الرمد ... قد عاد ضداً كل ما تعد
هل في حسابك ما نؤمله ... أم قد تصرم عندك الأمد
قد كنت تهمس إذ تخاطبني ... وتخط كرهاً إن عصتك يد
فالآن لا عين ولا أثر ... أتراك غيب شخصك البلد
وتراك بالعذراء في عرسٍ ... أم إذ كذبت سطا بك الأسد
الملك لا يبقى على أحد ... والموت لا يبقى له أحد ثم أخرج المعتمد في ذلك اليوم إلى أن أطلقت إليه جميع أمهات أولاده وبنيه، وكل ما يختص به من أقرابه وذويه، وعمر بهم مركب فركبوا(3/56)
البحر ورزقوا السلامة فيه، إلى أن وصلوا إلى أمير المسلمين وناصر الدين، أبي يعقوب يوسف بن تاشفين، رحمه الله، فبقوا هنالك في كمفه وذرى فضله، تحت إحسان عميم، وبذل نائلٍ جسيم، حتى انقرضت هنالك أيامه، ووافاه حمامه، بعد مرض شديد أصابه، وكانت وفاته في ربيع الأول سنة ثمان وثمانين، وكان مولده في ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين.
ومن النادر الغريب أنه نودي في جنازته بالصلاة على الغريب، بعد عظيم سلطانه، وجلالة شانه، فتبارك من له البقاء، والعزة والكبرياء. وبلغني أنه لما أحس بالوفاة، رثى نفسه بهذه الأبيات:
قبر الغريب سقاك الرائح الغادي ... حقاً ظفرت بأشلاء ابن عباد
بالطاعن الضارب الرامي إذا اقتتلوا ... بالخصب أجدبوا بالري للصادي
نعم هو الحق وافاني به قدر ... من السماء فوافاني لميعاد [11ب]
ولم أكن قبل ذاك النعش أعلمه ... أن الجبال تهادى فوق أعواد
فلا تزل صلوات الله نازلةً ... على دفينك لا تحصى بتعداد ثم وصى بأن تثبت على قبره.
وتنازعت يومئذ لمة من أهل الأدب بأغمات، ورثوه بقصائد مطولات، منهم أبو بحر بن عبد الصمد رثاه بقصيد أوله:(3/57)
ملك الملوك أسامع فأنادي ... أم قد عدتك عن السماع عواد
لما نقلت من القصور فلم تكن ... فيها كما قد كنت في الأعياد
قبلت في هذا الثرى لك خاضعاً ... وجعلت قبرك موضع الإنشاد وأنشد على قبره وفعل ما ذكر: قبل الترب ومرغ جبينه وعفر، فأبكى من حضر.
وبلغني أيضاً عن بعض بني عباد أنه أنشد في النوم قبل حلول الفاقرة بهم هذه الأبيات:
ما يعلم المرء والدنيا تمر به ... بأن صرف ليالي الدهر محذور
بينا الفتى مترد في مسرته ... وافى عليه من الأيام تغيير
وفر من حوله تلك الجيوش كما ... تفر إن عاينت صقراً عصافير
وخر خسراً فلا الأيام دمن له ... ولا بما وعد الأحرار محبور
من بعد سبعٍ كأحلام تمر وما ... يرقى إلى الله تهليل وتكبير
يحل سوء بقوم لا مرد له ... وما ترد من الله المقادير وكذلك حكي عن رجل أنه رأى في منامه إثر الكائنة عليهم كأن رجلاً صعد منبر جامع قرطبة واستقبل الناس ينشدهم:
رب ركب قد أناخوا عيسهم ... في ذرى مجدهم حين بسق
سكت الدهر زماناً عنهم ... ثم أبكاهم دماً حين نطق(3/58)
فلما سمع المعتمد ذلك أيقن أنه نعي لملكه، وإعلام بما انتثر من سلكه، فقال:
من عزا المجد إلينا قد صدق ... لم يلم من قال مهما قال حق
مجدنا الشمس سناءً وسناً ... من يرم ستر سناها لم يطق
أيها الناعي إلينا مجدنا ... هل يضير المجد إن خطب طرق
لا ترع للدمع في آماقنا ... مزجته بدمٍ أيدي الخرق
حنق الدهر علينا فسطا ... وكذا الدهر على الحر حنق
قد مضى منا ملوك شهروا ... شهرة الشمس تجلت في الأفق
نحن أبناء بني ماء السما ... نحونا تطمح ألحاظ الحدق
وإذا ما اجتمع الدين لنا ... فحقير ما من الدنيا افترق قال ابن بسام: والبيتان اللذان أنشدا في المنام رواهما الرواة [12أ] في خبر النعمان بن المنذر، وهو أنه نزل تحت شجرة، ومعه عدي بن زيد فقال له: أتدري ما تقول هذه الشجرة أيها الملك - قال تقول:
رب ركبٍ قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال
ثم أضحوا لعب الدهر بهم ... وكذاك الدهر حال بعد حال فتكدر على النعمان نعيم يومه الذي كان فيه.(3/59)
ويتعلق بذيل هذا الخبر الآخر: سل الأرض من غرس أشجارك وشق أنهارك، وجنى ثمارك، فإن لم تجبك حواراً، أجابتك اعتباراً. وقال بعض الحكماء: أشهد أن في السموات والأرض آيات ودلالات، وشواهد قائمات، كل تؤدي عنه الحجة، وتشهد له بالربوبية.
وجلس أبو العتاهية بحانوت وراقٍ فأخذ كتاباً وكتب على ظهره:
أيا عجباً كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده جاحد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد فلما انصرف اجتاز بالموضع أبو نواس فقال: لمن هذه - لودتها لي بجميع شعري، قيل له: لأبي العتاهية: فكتب تحتها:
سبحان من خلق الخل ... ق من ضعيفٍ مهين
فصاغه في قرار ... إلى قرارٍ مكين
يجول شيئاً فشيئاً ... في الحجب دون العيون
حتى بدت حركات ... مخلوقة من سكون وإلى هذا المعنى ذهب أبو الطيب بقوله:(3/60)
تنشد أثوابنا مدائحه ... بألسن ما لهن أفواه
إذا مررنا على الأصم بها ... أغنته عن مسمعيه عيناه ومنها قول نصيب:
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكنوا أثنت عليك الحقائب وقال أبو تمام، وله بهذا المعنى بعض الإلمام:
من القلاص اللواتي في حقائبها ... بضاعة غير مزجاةٍ من الكلم وأخذه بعض أهل عصرنا، وهو الوزير أبو محمد بن عبدون، فقال للمتوكل:
فجاءته لم تبصر سوى البشر هادياً ... وسله ولم يسمع سوى الشكر حاديا
هوادٍ على أعجازها قيم الندى ... فأربح بها مشري حمد وشاريا وهذا المعنى الذي افتنوا فيه نظماً ونثراً هي النصبة الدالة بذاتها التي وصفها الجاحظ في أقسام البيان.
رجع: وكان أبو بكر الداني مائلاً لبني عباد بطبعه، إذ كان المعتمد(3/61)
الذي جذب بضبعه، وله في البكاء على أيامهم، وانتثار نظامهم، عدة مقطوعات، وقصائد مطولات، يشتمل عليها جزء لطيف، صدر عنه في صيغة تأليف، وهيئة تصنيف، ضل فيه وأضل " والذر يعذر في القدر الذي حمل " سماه ب - " نظم السلوك، في وعظ الملوك " ترجمة رائقة بلا معنى،، ليست من الغرض الذي نحاه ولا المغزى؛ على أنه كان شاعرا يتصرف، وقادرا لا يتكلف، فوفد هنالك على المعتمد وفادة وفاء، ولا وفادة استجداء، وانقطع إليه انقطاع وداد، لا انقطاع استرفاد، وله أشعار سائرة، ومعه أخبار نادرة، تدل على كرم طعمته، وبعد همته، وأنا أورد هاهنا منها ما يليق بالديوان، ويروق في السماع والعيان.
حدث الداني عن نفسه قال: لما أردت الانفصال عنه هنالك بعث إلي بعشرين مثقالا وشقة رازي بغدادي، وكتب مع ذلك:
إليك النزر من كف الأسير ... فإن تقبل تكن عين الشكور
تقبل ما يذوب له حياء ... وإن عذرته حالات الفقير
ولا تعجب لخطب غض منه ... أليس الخسف ملتزم البدور
ورج بجبره عقبى نداه ... فكم جبرت يداه من كسير
وكم أعلت علاه من حضيض ... وكم حطت ظباه من أمير
وكم من منبر حنت إليه ... أعالي مرتقاه ومن سرير
زمان ترجعت عن جانبيه ... جياد الخيل بالموت المبير(3/62)
فقد نظرت إليه عيون نحس ... مضت منه بمعدوم النظير
نحوس كن في عقبي سعود ... كذاك تدور أقدار القدير قال الداني: فرددت عليه صلته وكتبت إليه مع ذلك:
سقطت من الوفاء على خبير ... فذرني والذي لك في ضميري
تركت هواك وهو شقيق ديني ... لئن شقت برودي عن غدور
ولا كنت الطليق من الرزايا ... لئن أصبحت أجحف بالأسير
أسير ولا أصير إلى اغتنام ... معاذ الله من سوء المصير
أنا أدرى بفضلك منك إني ... لبست الظل منه في الحرور
غني النفس أنت وإن ألحت ... على كفيك حالات الفقير
تصرف في الندى حيل المعالي ... فتسمح من قليل بالكثير
أحدث منك عن نبع غريب ... تفتح عن جنى زهر نضير
جذيمة أنت والزباء خانت ... وما أنا من يقصر عن قصير
وأعجب منك أنك في ظلام ... وترفع للعفاة منار نور
[رويدك سوف توسعني سرورا ... إذا عاد ارتقاؤك للسرير
وسوف تحلني رتب المعالي ... غداة تحل في تلك القصور
تزيد على ابن مروان عطاء ... بها وأزيد ثم على جرير
تأهب أن تعود إلى طلوع ... فليس الخسف ملتزم البدور](3/63)
قال الداني: فراجعني المعتمد بهذه الأبيات:
رد بري بغيا علي وبرا ... وجفا فاستحق لوما وشكرا
حاط نزري إذ خاف تأكيد ضري ... فاستحق الجفاء إذ حاط نزرا
فإذا ما طويت في الحمد بعضا ... عاد لومي في البعض سرا وجهرا
يا أبا بكر الغريب وفاء ... لا عدمناك في المغارب ذخرا
أي نفع يجدي احتياط شفيق ... مت ضرا فكيف أرهب ضرا [13 أ] وهذا المصراع الأخير، كأنه إلى بيت أبي الطيب يشير:
أنا الغريق فما خوفي من البلل ... قال الداني: فراجعته:
أيها الماجد السميدع قدرا ... صرفي البر إنما كان برا
حاش لله أن أجيح كريما ... يتشكى فقرا وكم سد فقرا
ليت لي قوة أو آوي لركن ... فترى للوفاء مني سرا
أنت علمتني السيادة حتى ... صرت أرقى على الكواكب قدرا
ربحت صفقة أزيل برودا ... عن أديمي بها وألبس فخرا
وكفاني كلامك الرطب نيلا ... كيف ألفي درا وأطلب تبرا
لم تمت إنما المكارم ماتت ... لا سقى الله بعدك الأرض قطرا(3/64)
قال الداني: وبلغت حالي عنده من التقريب والترحيب أن أفرطت في الإدلال، وانبسطت في الاسترسال، وخاطبته في أن يكون زادي من نعمائه، وأن يحاول صنعه بعض إمائه، حرصا مني على التشريف، وسعيا إلى الاستزادة من شكر المعروف، فكان ذلك على أحسن وجه، وشكر غاية الشكر ابنساطي، وتحقق به صحة ارتباطي، وكنت خاطبته في ذلك بهذه القطعة:
وداع ولكني أقول سلام ... وللنفس في ذكر الوادع حمام
أخادع نفسا إن تحققت النوى ... فليس لها بين الضلوع مقام
قد ائتلفت أهواؤها بك جملة ... كما ائتلفت في وكرهن حمام
وشقت عن النصح المبين جيوبها ... كما شققت عن زهرهن كمام
أكرر لحظي في محياك إنه ... لنور الهدى فيه عليك قسام
وأحمل من تقبيل كفك سؤددا ... على عاتق الجوزاء منه حسام
أملبسي النعمى قديما ومثلها ... حديثا وأحداث الزمان عظام
لأجلستني حتى اتكأت ولم يزل ... يدل على المولى الكريم غلام
عسى عند حمل العيس رحلي في غد ... يهيأ من زادي لديك طعام
وميلي إلى الطاهي وطيب إرادة ... ليثبت لي في وصف ذاك كلام
وكيف أزيد المجد صحف محاسن ... سهرت لها والعالمون نيام قال: فأجابني بقوله:
كلامك حر والكلام غلام ... وسحر ولكن ليس فيه حرام
ودر ولكن بين جنبيك بحره ... وزهر ولكن الفؤاد كمام(3/65)
وبعد فإن ودعتني بخداعة ... فحقي أن يجني عليك ملام
أعني على نفسي بتزويد نفسها ... بل قول لا شيء علي حرام
فدونكه إذ لم أجد لي حيلة ... وقلبي فاعلم في الطعام طعام
فهنئته زادا وفي الصدر وقدة ... وللصبر من دون الفؤاد مرام
لقد كان فأل من سمائك مؤنس ... وقد عاد ضدا فالعزاء رمام
تحليت بالداني وأنت مباعد ... فيا طيب بدء لو تلاه تمام
ويا عجبا حتى السمات تخونني ... وحتى انتباهي للصديق منام
أضاء لنا أغمات قربك برهة ... وعاودها حين ارتحلت ظلام
تسير إلى أرض بها كنت مضغة ... وفيها اكتست باللحم منك عظام
وأبقى أسام الذل في أرض غربة ... وما كنت لولا الغدر ذاك أسام
فبلغتها في ظل أمن وغبطة ... وسني لي مما يعوق سلام قال ابن بسام: وكان الحصري المكفوف القروي قد طرأ على الأندلس في مدة ملوك طوائفها، فتهادته تهادي الرياض للنسيم، وتنافسوا فيه تنافس الديار في الأنس المقيم، ولما خلعوا وأخوت تلك النجوم، وطمست للشعر تلك الرسوم، اشتملت عليه مدينة طنجة وقد ضاق ذرعه، وتراجع طبعه، فتصدى إلى المعتمد في طريقه، وهو في تلك الحال، من الاعتقال، بأشعار له قديمة صدرها في الرباب وفرتنى، وعجزها في الاستجداء وطلب اللهى، خارجة عن الغرض والمغزى، مما كان فيه المعتمد يومئذ، وألح عليه بالوصول بتلك الأشعار إليه، فندبه كرم جبلته إلى مقارضته(3/66)
عند مفاوضته، فطبع على ثلاثين مثقالا لم يمكنه سواها، وأدرج قطعة شعر طيها معتذرا من نزرها، راغبا في قبول أمرها، فلم يجاوبه الحصري عما حصل حينئذ من قبله لديه، فكتب المعتمد بهذه الأبيات إثر ذلك إليه:
قل لمن قد جمع العل ... م ومن أحصى صوابه
كان في الصرة شعر ... فتنظرنا جوابه
قد أثبناك فهلا ... جلب الشعر ثوابه واتصل فعل المعتمد بالحصري إلى جماعة من زعانف الشعراء، وكل طالب حباء، من مشحوذ المدية، في الكدية، فتعرضوا له بكل قارعة طريق، وجاءوه من كل فج عميق، يحسبون الدفلى من حاله نور اجتناء، ويعتقدون السراب في أمره غدير ماء، وطي الحال، كان ما لا مزيد عليه من الاختلال، وعند ذلك قال:
شعراء طنجة كلهم والمغرب ... ذهبوا من الأغراب أبعد مذهب
سألوا العسير من الأسير وإنه ... بسؤالهم لأحق فأعجب وأعجب
لولا الحياء وعزة لخمية ... طي الحشا ناغاهم في المطلب
قد كان أن سئل الندى يجزل وإن ... نادى الصريخ ببابه اركب يركب(3/67)
وعند ذلك قال:
قل لمن يطمع في نائله ... قد أزال اليأس ذاك الطمعا
راح لا يملك إلا دعوة ... رحم الله العفاة الضيعا وسأله رجل يعرف بابن الزنجاري أن يزوده من شعره فكتب إليه [14 أ] :
لو أستطيع على التزويد بالذهب ... فعلت لكن عداني طارق النوب
يا سائل الشعر يجتاب الفلاة به ... تزويدك الشعر لا يغني عن السغب
زاد من الريح لا ري ولا شبع ... غدا له مؤثراً ذو اللب والأدب
أصبحت صفراً يدي مما تجود به ... ما أعجب القدر المقدور في رجب
ذل وفقر أدالا عزةً وغنى ... نعمى الليالي من البلوى على كثب
قد كان يستلب الجبار مهجته ... بطشي ويحيا قتيل الفقر في طلبي
والملك يحرسه في ظل واهبه ... غلب من العجم أو شم من العرب
فحين شاء الذي آتاه ينزعه ... لم يجد شيئاً قراع السمر والقضب
فهاكها قطعةً طوى لها حسداً ... " السيف أصدق إنباء من الكتب " ومما قاله في ابنيه، وتعجب من حاليه، قال:
بكت أن رأت إلفين ضمهما وكر ... مساء وقد أخنى على إلفها الدهر
بكت لم ترق دمعاً وأسبلت عبرةً ... يقصر عنها القطر مهما همى القطر
وناحت وباحت واستراحت بسرها ... وما نطقت حرفاً يبوح به سر(3/68)
فما لي لا أبكي أم القلب صخرة ... وكم صخرة في الأرض يجري بها نهر
بكت واحداً لم يشجها غير فقده ... وأبكي لألاف عديدهم كثر
بني صغير أو خليل موافق ... يمزق ذا قفر ويغرق ذا بحر
ونجمان زين للزمان احتواهما ... بقرطبة النكداء أو رندة القبر
غدرت إذن إن ضن جفني بقطرةٍ ... وإن لؤمت نفسي فصاحبها الصبر
فقل للنجوم الزهر تبكيها معي ... لمثلهما فلتحزن الأنجم الزهر قال ابن بسام: وهذه القطعة يشبه أولها قطعة عوف بن محلم، وما أراه إلا بها ألم، وعلى منوالها سدى وألحم، وهي:
وأرقني بالري نوح حمامةٍ ... فنحت وذو الشجو الغريب ينوح
على أنها ناحت ولم تذر عبرةً ... ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحت وفرخاها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مهامه فيح وقال المعتمد أيضاً يبكيهما بما يفت الكبد، ويفت العضد:
يقولون صبراً لا سبيل إلى الصبر ... سأبكي وأبكي ما تطاول بي عمري
هوى الكوكبان الفتح ثم شقيقه ... يزيد فهل عند الكواكب من خبر
ترى زهرها في مأتم كل ليلةٍ ... تخمش لهفاً وسطه صفحة البدر
ينحن على نجمين، أثكلت ذا وذا ... وأصبر ما للقلب في الصبر من عذر
[14ب] أفتح لقد فتحت لي باب رحمة ... كما بيزيد الله قد زاد في أجري
توليتما والسن بعد صغيرة ... ولم تلبث الأيام أن صغرت قدري(3/69)
توليتما حين انتهت بكما العلا ... إلى غايةٍ، كل إلى غاية يجري
فلو عدتما لاخترتما العود في الثرى ... إذا أنتما أبصرتماني في الأسر
يعيد على سمعي الحديد نشيده ... ثقيلاً فتبكي العين بالجس والنقر
مع الأخوات الهالكات عليكما ... وأمكما الثكلى المضرمة الصدر
فتبكي بدمعٍ ليس للقطر مثله ... وتزجرها التقوى فتصغي إلى الزجر
أبا خالدٍ أورثتني الحزن خالداً ... أبا النصر مذ ودعت ودعني نصري
وقبلكما قد أودع القلب حسرةً ... تجدد طول الدهر ثكل أبي عمرو قوله: " فلو عدتما لاخترتما العود في الثرى.. " البيت، كأنه من أشعار النساء، وأراه ينظر إلى قول الخنساء في صيغة المبنى، وإن خالفه في المعنى، وهو:
فلولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي وأبو عمرو الذي ذكره هو ابنه المقتول بقرطبة على يدي ابن عكاشة، حسبما يأتي شرحه في موضعه من هذا المجموع إن شاء الله.
قال أيضاً فيهما يندبهما بما يوقد الضلوع، ويسكب الدموع:
يا عين عيني أقوى منك تهتانا ... أبكي لحزن وما حملت أحزانا
ونار برقك تخبو إثر وقدتها ... ونار قلبي تلفى الدهر بركانا
نار وماء صميم القلب أصلهما ... متى حوى القلب نيراناً وطوفانا(3/70)
ضدان ألف صرف الدهر بينهما ... لقد تلون في الدهر ألوانا
بكيت فتحاً فإذ ناديت سلوته ... لقد تلون في الدهر ألوانا
يا فلذتي كبدي يأبى تقطعها ... عن وجدها بكما ما عشت سلوانا
لقد هوى بكما نجمان ما رميا ... إلا من العلو بالألحاظ كيوانا
مخفف عن فؤادي أن ثكلكما ... مثقل لي يوم الحشر ميزانا
يا فتح قد فتحت تلك الشهادة لي ... باب الطماعة في لقياك جذلانا
ويا يزيد لقد زاد الرجا بكما ... أن يشفع الله بالإحسان إحسانا
كما شفعت أخاك الفتح تتبعه ... لقاكما الله غفراناً ورضوانا
مني السلام ومن أم مفجعة ... عليكما أبداً مثنى ووحدانا
أبكي وتبكي ونبكي غيرنا أسفاً ... لدى التذكر نسواناً وولدانا واجتاز يوماً عليه بموضع ثقافه سرب القطا فهاج وجده، وأثار من لاعج الشوق ما عنده، فقال:
بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي ... سوارح لا سجن يعوق ولا كبل
[15أ] ولم تك والله العليم حسادةً ... ولكن حنيناً أن شكلي لها شكل
فأسرح لا شملي صديع ولا الحشا ... وجيع ولا عيناي يبكيهما ثكل
هنيئاً لها أن لم يفرق جميعها ... ولا ذاق منها البعد من أهلها أهل
وأن لم تبت ليلاً تطير قلوبها ... إذا اهتز باب السجن أو صلصل القفل
وما ذاك مما يعتريني وإنما ... وصفت الذي في جبلة الخلق من قبل(3/71)
لنفسي إلى لقيا الحمام تشوق ... سواي يحب العيش في ساقه كبل
ألا عصم الله القطا في فراخها ... فإن فراخي خانها الماء والظل ومعنى البيت الخامس منها يشبه قو أبي عامر بن شهيد القرطبي:
وما اهتزت باب السجن إلا تفطرت ... قلوب لنا خوف الردى وكبود
ولست بذي قيد يرن وإنما ... على اللحظ من سخط الإمام قيود وقال السمهري العكلي من شعراء الدولة الأموية بالعراق:
لقد جمع الحداد بين عصابةٍ ... تساءل في الأقياد ماذا ذنوبها
بمنزلة أما اللئيم فسامن ... بها وكرام الناس بادٍ شحوبها
إذا حرسي قعقع اللباب أرعدت ... فرائص أقوام وطارت قلوبها
نرى الباب لا نسطيع شيئاً وراءه ... كأنا قناً أسلمتها كعوبها وتجوز المعتمد في قوله: " وما ذاك مما يعتريني " ... البيت، وأجاد فيه ما أراد.
وقال من جملة قصيد، وقد دخل عليه بناته للسلام يوم عيد:(3/72)
في ما مضى كنت بالأعياد مسرورا ... فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعةً ... يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة ... أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية ... كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
أفطرت في العيد لا عادت إساءته ... فكان فطرك للأعياد تفطيرا
قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً ... فردك الدهر منهياً ومأمورا
من بات بعدك في ملك يسر به ... فإنما بات بالأحلام مغرورا ودخل عليه ابنه أبو هاشم وهو يرسف في قيوده، ويتقلب في حديده، فخنقت الطفل العبرة، وكان أحبهم إليه، وأحظاهم على صغره لديه، وفيه يقول يوم الجمعة المشهور، إذ أبلى في قتال النصارى:
أبا هاشم هشمتني الشفار ... فلله صبري لذاك الأوار
ذكرت شخصيك ما بينها ... فلم يثني حبه للفرار وعند بكائه قال:
[15ب] قيدي أما تعلمني مسلما ... أبيت أن تشفق أو ترحما
دمي شراب لك واللحم قد ... أكلته لا تهشم الأعظما
يبصرني فيك أبو هاشمٍ ... فينثني والقلب قد هشما
ارحم طفيلاً طائشاً لبه ... لم يخش أن يأتيك مسترحما(3/73)
وارحم أخيات له مثله ... جرعتهن السم والعلقما
منهن من يفهم شيئاً فقد ... خفنا عليه للبكاء العمى
والغر لا يفهم شيئاً فما ... يفتح إلا لرضاعٍ فما وذكرت بقوله: " فكرت شخصيك " ... البيت، بيتين أنشدنيهما الوزير أبو بكر - هما لأخيه أبي الحسن البطليوسي - لنفسه:
ذكرت سليمى وحر الوغى ... كقلبي ساعة فارقتها
وأبصرت بين القنا قدها ... وقد ملن نحوي فعانقتها ومن شعره في الندبة على نفسه قال:
غنتك أغماتية الألحان ... ثقلت على الأرواح والأبدان
قد كان كالثعبان رمحك في الوغى ... فغدا عليك القيد كالثعبان
متمدداً يحميك كل تمدد ... متعطفاً لا رحمةً للعاني
قلبي إلى الرحمن يشكو بثه ... لا خاب من يشكو إلى الرحمن
يا سائلاً عن شأنه ومكانه ... ما كان أغنى شأنه عن شاني
هاتيك قينته وذلك قصره ... من بعد أي مقاصر وقيان
من بعد كل غريرةٍ رومية ... تخزي الحمائم في ذرى الأغصان(3/74)
وقال من قصيدة:
تبدلت من عز ظل البنود ... بذل الحديد وثقل القيود
وكان حديدي سناناً ذليقاً ... وعضاً رقيقاً صقيل الحديد
فقد صار ذاك وذا أدهماً ... يعض بساقي عض الأسود وقال:
غريب بأرض المغربين أسير ... سيبكي عليه منبر وسرير
وتندبه البيض الصوارم والقنا ... وينهل دمع بينهن غزير
إذا قيل في أغمات قد مات جوده ... فما يرتجى للجود بعد نشور
مضى زمن والملك مستأنس به ... وأصبح عنه اليوم وهو نفور
برأي من الدهر المضلل فاسد ... متى صلحت للصالحين دهور
أذل بني ماء السماء زمانهم ... وذل بني ماء السماء كثير
فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... أمامي وخلفي روضة وغدير
بمنبتة الزيتون مورثة العلا ... تغني قيان أو ترن طيور
[16أ] بزاهرها السامي الذرى جاده الحيا ... تشير الثريا نحونا ونشير
ويلحظنا الزاهي وسعد سعوده ... غيورين والصب المحب غيور
تراه عسيراً أم يسيراً مناله ... ألا كل ما شاء الإله يسير
قضى الله في حمص الحمام وبعثرت ... هنالك عنا للنشور قبور(3/75)
والثريا وسعد السعود والزاهي الذي ذكر في هذا الشعر أسماء قباب ومصانع سلطانية كان تأنق في بنيانها من قصور إشبيلية. وعلى هذا الشعر أجابه أبو محمد الصقلي المعروف بابن حمديس بأبيات قال فيها:
تجيء خلافاً للأمور أمور ... ويعدل دهر في الورى ويجور
أتيأس من يومٍ يناقض أمسه ... وزهر الدراري في البروج تدور
وقد تنخي السادات بعد خمولها ... وتخرج من بعد الكسوف القمر ومن هذا الجواب يقول:
ولما رحلتم بالندى في أكفكم ... وقلقل رضوى منكم وثبير
رفعت لساني بالقيامة قد دنت ... فهذي الجبال الراسيات تسير ونعبت غربان بجدار المكان الذي كان فيه، ثم ورد إثر ذلك النبأ بقدوم بعض نسائه عليه فقال:
غربان أغمات لا تعد من طيبةً ... من الليالي وأفناناً من الشجر
تظل زغب فراخ تستكن بها ... من الحرور وتكفيها أذى المطر
كما نعبتن لي بالفال يعجبني ... مخبرات به عن أطيب الخبر
أن النجوم التي غابت قد اقتربت ... منا مطالعها تسري إلى القمر
علي إن صدق الرحمن ما زعمت ... ألا يروعن من قوسي ولا وتري
والله والله لا نفرت واقعها ... ولا تطيرت للغربان بالعور
ويا عقاربها لا تعدمي أبداً ... شدخاً وعقراً ولا نوعاً من الضرر(3/76)
كما ملائن قلبي مذ حللت بها ... مخافة أسلمت عيني إلى السهر
ماذا رمتك به الأيام يا كبدي ... من نبلهن ولا رام سوى القدر
أسر وعسر ولا يسر أؤمله ... أستغفر الله كم لله من نظر وقال أيضاً وهو بتلك الحال، من الاعتقال:
لك الحمد من بعد السيوف كبول ... بساقي منها في السجون حجول
وكنا إذا حانت لنحر فريضة ... ونادت بأوقات الصلاة طبول
شهدنا فكبرنا فظلت سيوفنا ... تصلي بهامات العدا فتطيل
سجود على إثر الركوع متابع ... هناك بأرواح الكماة تسيل ومما قيل فيه بعد خلعه من ملكه وانتثار سلكه
من ذلك قصيد لأبي بكر الداني أنشده [16ب] إياه حين فكت عنه القيود، أوله:
تنشق رياحين السلام فإنما ... أفض بها مسكاً عليك مختما
وقل لي مجازاً إن عدمت حقيقة ... لعلك في نعمى فكم كنت منعما
أفكر في عصر مضى لك مشرقٍ ... فيرجع ضوء الصبح عندي مظلما
وأعجب من أفق المجرة إذ رأى ... كسوفك شمساً كيف أطلع أنجما
لئن عظمت فيك الرزية إننا ... وجدناك منها في البرية أعظما(3/77)
قناة سعت للطعن حتى تقصدت ... وسيف أطال الضرب حتى تثلما
بكى آل عباد ولا كمحمد ... وأبنائه صوب السحائب إذ همى
حبيب إلى قلبي حبيب لقوله ... " عسى طلل يدنو بهم ولعلما "
وكنا رعينا العز حول حماهم ... فقد أجدب المرعى وقد أقفر الحمى
كأن لم يكن في أنيس ولا القتى ... به الوفد جمعاً والخميس عرمرما
ولا حلت الآمال فيك ثباً ثباً ... فقامت إليها المكرمات لماً لما
ولا اخضر روض في رباها فخلته ... توشح منهم لا من النور أنعما
ولا انعطفت فيه الغصون فعانقت ... وشيجاً بأيدي الدارعين مقوما
ولا تخفق الرايات فيها فأشبهت ... قوادم طيرٍ في ذرى الجو حوما
ولا جر فيها صعدة الرمح خلفه ... فتاها فقلت الصل أتبع ضيغما وفيها يقول:
مؤيد لخمٍ هل تؤمل رجعةً ... فكم أمل أضحى إلى النجح سلما
حكيت وقد فارقت ملكك مالكاً ... ومن ولهٍ أحكي عليك متمما
تدبتك حتى لم يخل لي الأسى ... دموعاً بها أبكي عليك ولا دما
وإني على رسمي مقيم فإن أمت ... سأترك للباكين رسمي مرسما
بكاك الحيا والريح شقت جيوبها ... عليك وباح الرعد باسمك معلما
ومزق ثوب البرق واكتست الدجى ... حداداً وقامت أنجم الليل مأتما
ينجيك من نجى من الجب يوسفاً ... ويؤويك من آوى المسيح بن مريما(3/78)
قوله: " ندبتك " ... البيت، أغار فيه على إبراهيم الشاشي وقصر باعه، وضاقت فيه ذراعه، وخلى السبيل له حيث يقول:
لا ترحلن فما أبقيت من جلدي ... وما أستطيع به توديع مرتحل
ولا من الغمض ما أقري الخيال به ... ولا من الدمع ما أبكي على طلل ومن هذه القصيدة:
لله جسمي فما أبقى حشاشته ... على الحوادث والأسقام والعلل
يغدو سقامي على مثل الخيال ضنى ... ويقرع الخطب مني صفحة الجبل
[17أ] ولا يرى في فراشي شبحاً ... وأملك السرج في وجه القنا الذبل
ولا يقل ردائيب عاتقي دنفاً ... ويحمل الدرع مسلوباً عن البطل ورأى أبو بكر الداني حفيد المعتمد، وهو غلام وسيم، قد اتخذ الصياغة صناعة، وكان لقب في دولتهم من الألقاب السلطانية بفخر الدولة، فنظر إليه وهو ينفخ النار بقصبة الصائغ، فقال من جملة قصيدة:
شكاتنا فيك يا فخر العلا عظمت ... والرزء يعظم في من قدره عظما
طوقت من نائبات الدهر مخنقةً ... ضاقت عليك وكم طوقتنا نعما
وعاد كونك في دكان قارعةٍ ... من بعد ما كنت في قصر حكى إرما
صرفت في آلة الصواغ أنملة ... لم تدر إلا الندى والسيف والقلما
يد عهدتك للتقبيل تبسطها ... فتستقل الثريا أن تكون فما
يا صائغاً كانت العليا تصاغ له ... حلياً وكان عليه الحلي منتظما(3/79)
للفنح في الصور هول ما حكاه سوى ... هول رأيتك فيه تنفخ الفحما
وددت إذ نظرت عيني إليك به ... لو أن عيني تشكو قبل ذا عمى
ما حطك الدهر لما حط من شرفٍ ... ولا تحيف من أخلاقك الكرما
لح في العلا كوكباً إن لم تلح قمراً ... وقم بها ربوةً إن لم تقم علما
[واصبر فربتما أحمدت عاقبةً ... من يلزم الصبر يحمد غب ما لزما]
والله لو أنصفتك الشهب لانكسفت ... ولو وفى لك دمع الغيث لانسجما
بكى حديثك حتى الدار حين غدا ... يحكيك رهطاً وألفاظاً ومبتسما وله فيهم أيضاً من قصيدة يرثيهم أولها:
تبكي السماء بدمع رائحٍ غادي ... على البهاليل من أبناء عباد
على الجبال التي هدت قواعدها ... وكانت الأرض منهم ذات أوتاد
عريسة دخلتها النائبات على ... أساود لهم فيها وآساد
وكعبة كانت الآمال تعمرها ... فاليوم لا عاكف فيها ولا باد
أن يخلعوا فبنو العباس قد خلعوا ... وقد خلت قبل حمص أرض بغداد
نسيت إلا غداة النهر كونهم ... في المنشآت كأموات بألحاد
والناس قد ملأوا العبرين واعتبروا ... من لؤلؤ طافياتٍ فوق أزباد(3/80)
حط القناع فلم تستر مخدرة ... ومزقت أوجه تمزيق أبراد
حان الوداع فضجت كل صارخةٍ ... وصارخ من مفداةٍ ومن فاد
سارت سفائنهم والنوح يصحبها ... كأنها إبل يحدو بها الحادي
كم سال في الماء من دمع وكم حملت ... تلك القطائع من قطعات أكباد ومحاسن الداني كثيرة، وفي القسم الثالث من شعره جملة موفورة، ومحاسن المعتمد أيضاً أكثر من أن تعد فقد استوفيتها في كتابي المترجم ب - " الاعتماد على ما ضح من شعر المعتمد بن عباد ".
[17ب] باب يشتمل على طائفة من الوزراء والأعيان، ممن كان
بدولة المعتمد من أرباب هذا الشأن، واجتلاب ملح وطرف
لشعراء كانوا بذلك الأوان، مع ما يتعلق بها،
ويذكر بسببها
فصل في ذكر الوزير الفقيه أبي حفص عمر بن الحسن الهوزني وإثبات
فصول من نثره، مع ما ينخرط في سلكها من شعره،
وإيراد جملة من أخباره، وحميد آثاره
هو أبو حفص عمر بن الحسن بن عبد الرحمن بن عمر بن عبد الله أبي(3/81)
سعيد الداخل بجزيرة الأندلس، وهو كان صاحب صلاة الجماعة بقرطبة على عهد عبد الرحمن بن معاوية وهشام الرضي ابنه. وهوزن الذي نسب إليه، وغلب اسمه عليه، بطن من ذي الكلاع الأصغر.
وأفضى أمر إشبيلية إلى عباد، حسبما تقدم به الإيراد، وأبو حفص يومئذ ذات نفسها، وإياة شمسها، وناجذها الذي عنه تبتسم، وواحدها الذي بيده ينقض ويبرم. وكان بينه وبين عباد قبل إفضاء الأمر إليه، ومدار الرياسة عليه، إئتلاف الفرقدين، وتضافر اليدين، واصتال الأذن بالعين. ولما ثبتت قدم المعتضد في الرياسة، ودفع إلى التدبير والسياسة، أوجس منه ذعراً، وضاق بمكانه من الحضرة صدراً، وأحس بها أبو حفص وكان ألمعياً، وذكياً لوذعياً، لو أخطأ الحازم أجله، ونفعت المحتال حيله، فاستأذن المعتضد في الرحلة سنة أربعين وأربعمائة، فصادف غرته، وكفي إلى حينٍ معرته، واحتل صقلية تضيق عن فخره الآفاق، وتهادى عجائب ذكره الشام والعراق، ثم رحل إلى مصر وله هنالك صوت بعيد، ومقام محمود، ووصل إلى مكة، وروى في طريقه كتاب الترمذي في الحديث وعنه أخذه أهل المغرب، ثم رجع إلى الأندلس واستأذن المعتضد في سكنى مرسية: رأياً رآه، وبلداً اختاره وتوخاه، وأميرها يومئذ ابن طاهر؛ فلما غلب الروم على مدينة بربشتر سنة ست وخمسين، وقرف الندب، وتفاقم الخطب، وضاق عن ساكنه(3/82)
الشرق والغرب، خاطب المعتضد برقعة يحضه فيها على الجهاد، ويستشيره إلى أين ينتقل من البلاد، فراجعه برسالة من إنشاء الوزير الكاتب أبي الوليد ابن المعلم، وهي ثابتة في أخباره من هذا القسم، يشير عليه فيها بالرجوع إلى بلداه، لا بل استدرجه إلى ملحده، فأذهله عما كان استشعر، وأنساه ما كان حذر، أجل قريب، وحمام مكتوب، ومصرع، لم يكن عنه مدفع؛ فاستقر بإشبيلية سنة ثمان وخمسين، ولقيه المعتضد فأعلى المحل، وفوض إليه في الكثر والقل، وعول عليه في العقد والحل. فلما كان يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة لربيع الأول سنة ستين أحضره القصر، وقد غلب [18أ]- زعموا - عليه السكر، وأمر خادمين من فتيانه بقتله، فكلاهما أشفق من سوء فعله، وفر، لا يبالي سيء عباد أو سر، فقام إليه هو بنفسه وباشر قتله بيده، فلم ينل عباد بعده سولاً، ولا متع بدنياه إلا قليلاً، وإلى الله الإياب، وعليه الحساب.
فصل من رقعة كان خاطب بها المعتضد من مرسية واستفتحها بهذه الأبيات:
أعباد جل الرزء والقوم هجع ... على حالة من مثلها يتوقع
فلق كتابي من فراغك ساعةً ... وإن طال فالموصوف للطول موضع
إذا لم أبث الداء رب دوائه ... أضعت وأهل للملام المضيع(3/83)
وفي فصل منها: وكتابي عن حالة يشيب لشهودها مفرق الوليد، كما غير لورودها وجه الصعيد، بدؤها ينسف الطريف والتالد، ويستأصل الوليد والوالد، تذر النساء أيامى، والأطفال يتامى، فلا أيمة إذا لم تبق أنثى، ولا يتيم والأطفال في قيد الأسرى، بل تعم الجميع جما جما، فلا تخص، وتزدلف إليهم قدماً قدماً، فلا تنكص، طمت حتى خيف على عروة الإيمان الانقضاض، وسمت حتى توقع على جناح الدين الانهياض.
وفي فصل منها: كأن الجميع في رقدة أهل الكهف، أو على وعدٍ صادق من الصرف والكشف، وأنى لمثلها بالدفاع عن الحريم، ولما نمتثل أدب العزيز الحكيم في قوله: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} (البقرة: 251) وقوله تعالى: {لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، ولينصرن الله من ينصره} (الحج: 40) ومن أين لنا دفعهم بالكفاية أو كيف، ولم نمتط إليهم الخوف، ونساجلهم السيف، بل لما يرأب من صدوعهم ثلم، ولا دووي من جراحهم كلم، ولا رد في نحورهم سهم، إن حاربوا موضعاً أرسلناه، أو انتسفوا قطراً سوغناه، وإن هذا لأمر له ما بعده، إلا أن يسني الله على يديك دفعه وصده:(3/84)
فكم مثلها جأواء نهنهت فانثنت ... وناظرها من شدة النقع أرمد
فمرت تنادي الويل للقادح الصفا ... لبعض القلوب الصخر أو هي أجلد
وألقت ثناءً كاللطائم نشره ... تبيد الليالي وهو غض يجدد وفي فصل منها: والحرب في إجتلائها حسناء عروس تطبي الأغمار بزتها، وفي بنائها شمطاء عبوس تختلي الأعمار غرتها، فالأقل للهبها وارد، والأكثر عن شهبها حائد، فأخلق بمحيدٍ عن مكانها، وعزلةٍ في ميدانها، فوقودها شكة السلاح، وفرندها مساقط الأشباح، وقتارها متصاعد الأرواح، فإن عسعس ليلها مدةً من الانصارم، أو انبجس وبلها ساعةً لانسجام، فيومها غسق يرد الطرف كليلاً، ونبلها صيب يزيد الجوف غليلاً:
أعباد ضاق الذرع واتسع الخرق ... ولا غرب للدنيا إذا لم يكن شرق
ودونك قولاً طال وهو مقصر ... فللعين معنىً لا يعبره النطق
[18ب] إليك انتهت آمالنا فارم ما دهى ... بعزمك، يدمغ هامة الباطل الحق وما أخطأ السبيل من أتى البيوت من أبوابها، ولا أرجى الدليل من ناط الأمور بأربابها، ولرب أمل بين أثناء المحاذير مدمج، ومحبوب في طي المكاره مدرج، فانتهز فرصتها فقد بان من غيرك العجز، وطبق مضاربها فكأن(3/85)
قد أمكنك الحز، ولا غرو أن يستمطر الغمام في الجدب، ويستصحب الحسام في الحرب، فالسهام تطيش فتختلف، والرماح تلين وتنقصف، فإن جعجعت أيها الساعي المخب في بغاء الفرج، وتحققت بالحث على جلاء تلك اللجج، ووجدت في فتح ذلك الباب المرتج:
فنادٍ: أعباد ذا عائذ ... وقدك، على حينها تنصرم
تجبك أسود على ضمرٍ ... معودة ما بغت أن يتم
كأن المقادير حزب له ... فيمضي على رأيه ما حكم
سقته الحمية جريالها ... وصحت مناقبه في الكرم
فصاب لأعدائه ممقر ... وغيث لراجيه حلو الديم
كنوه بما مد في عمره ... وكان نحور العدا يخترم
تقيدنا حر أفعاله ... وكنيته تقتضي ما رسم
فمن ذين تفريع أوصافه ... وبالرمز نعني الذكي الفهم وفي فصل منها: وما زلت أعتدك لمثل هذه الجولة وزراً، وأدخرك في ملمها ملجأ وعصراً، لدلائل أوضحت فيك الغيب، وشواهد رفعت من أمرك الريب، فالنهار من الصباح، والنور من المصباح، ولئن كان ليل الفساد مما دهم قد أغدف جلبابه، وصباح الصلاح بما ألم قد قدّ إهابه، فقد كان ظهر قديما من اختلال الأحوال ما أيأس، وتبين من فساد التدبير ما أبلس، حتى تدارك فتق ذلك سلفك، فرتقه جميل نظرهم ورأبه، وصرفه مشكور أثرهم وشعبه:(3/86)
فعاد الشمل منتظماً هنيا ... وآض الصدع ملتئماً سويا ثم توليت فكفيت، وخلفت فأربيت، وبرعت فأوريت، فالناس مذ بوأتهم رحب جنابك في عطن يربي على لين الدمقس، وتحت منن تعلو على منى النفس، وفي زمان كالربيع اعتدل هواؤه، وتشاكهت أرضه وسماؤه، واخضر بالنبت أديمها فكأنها الرقيع، وتعميم بالنور جميمها فتقول هو الترصيع، ففضلكم في الأعناق أطواق، ومجدكم للآفاق إشراق، وحيثما حللت: الأرض عراق، فأنا أول من هو إلى تلك الحضرة مشتاق، فلا تحرمني وصلاً كنت جاهداً في إنباطه، ولا تصدني عن منهل كنت صدراً في فراطه، فأحق الورى بجزيل تلك الآلاء، وأخلقهم بمنزل تلك السماء، أنصحهم له جيباً، وأصحهم فيه غيباً:
أعباد كلاً قد علوت فضائلاً ... تقاصر عنها كل أروع ماجد
فأولها جود أرانا أكفهم ... جموداً ككف لم تؤيد بساعد
وسعي لما تبغي يخيل سعيهم ... تلاعب ولدان أطافت بوالد
ونصر لمن واليت يردي عدوه ... ردى أهل جو في وقيعة خالد
[19أ] منعت بني جالوت ما قد أباحهم ... سواك بحربٍ قيدت كل شارد
فمن شاء فلينظر أسوداً بروضةٍ ... تراعي عصا راعٍ وتعنو لرائد
عجائب مجدٍ أعجزت من سواكم ... ومن سرها المشهور صدق المواعد(3/87)
فإن راث أمري فادركني برحلةٍ ... إلى مأمن فالخوف أعجل طارد
وحد مكاناً آته فرضاكم ... هواي وإن أغشى كريه الموارد
فقد جد أمر هد شرع محمدٍ ... وما مخبر عن حالة مثل شاهد
لكل يبين الرأي عند وفاته ... وهل من دواء بعد نهش الأساود
أضاعوا وجوه الحزم يوماً فعزهم ... على أمرهم من ليس عنه بهاجد وفي فصل منها: فالثمرة من ساقها، والجياد على أعراقها، ولئن لذت تلك الثمرة لذائق، وشدخت غرة تلك القرحة لرامق، لما يبين كنه المجتبى قبل تفطر أكمامه، ومما يصحح عتق الجنين قبل أوان فطامه، فلذوي الأبصار أدلة على العتق لائحة، ولأولي الألباب شواهد على الكرم واضحة، وبحق أدركت، فعلى السوابق سلكت، وبمشاعر المعالي نسكت فتنسكت:
" وما يك من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل "
" وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل "
وقول رسول الله أعدل شاهد ... فحكمته شرع ومنطقه فصل
يقول: بنو الدنيا معادن، خيرها ... إذا ما زكوا من كان قدماً له الفضل(3/88)
وصلى الله على رسوله فقد نبه بتصحيح، ودل دلالة نصيح، فإن المعادن لا تؤتي غير معهود فلزها، كما لا تصح الدوائر إلا على نقطة مركزها، فمن طلب النبل في غير معادنه، واستثار الخير من غير مكانه، أعجزه من مطلبه مرامه، وطاشت في سهمته أقلامه، بل قد ضل قصد السبيل، واعتسف الفلاة بغير دليل، فسقط العشاء به على سرحان، وأفضى القضاء به إلى الطوفان، وإنما هو الفجر أو البحر.
ومن شعره أيضاً يحض على الجهاد،
ويستنفر كواف البلاد
قوله:
بيت الثر فلا يستزل ... طرق النوام سمع أزل
فثبوا واخشوشنوا واحزئلوا ... كل ما رزءٍ سوى الدين قل
صرح الشر فلا يستقل ... إن نهلتم جاءكم بعد عل
بدء صعق الأرض نشء وطل ... ورياح ثم غيم أبل(3/89)
قد رجت عاد سحاباً يهل ... فإذا ريح دبور محل
نقبوا فالداء يحل ... واغمدوا سيفاً عليكم يسل ومنها:
يدنا العليا وهم ويك شل ... فلم استرعى الأعز الأذل
عجب الأيام ليث صمل ... ذعرته نعجة إذ تصل
" خبر ما جاءنا مصمئل ... جل حتى دق فيه الأجل " قوله: " فثبوا واخشوشنوا ... " من قول عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: " اخشوشنوا واخشوشنوا وعليكم باللبسة المعدية "؛ وقوله: " بدء صعق الأرض نشء وطل " ... معنى مبتذل، ومنه المثل " السقط يحرق الحرجة "، وقال الأول:
والشيء تحقره وقد ينمي ... وقال الفرزدق:(3/90)
قوارص تأتيني وتحتقرونها ... وقد يملأ القطر الإناء فيفعم [19ب] وقال نصر بن سيار من أبيات كتب بها لمروان:
فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب مبدأها الكلام وقال أبو تمام، وعليه عول الفقيه، ولكنه استحقه بما زاد فيه، وهو:
كم من قليلٍ حدا كثيراً ... كم مطرٍ بدؤه مطير وأخذه أبو عبادة فقال:
وأول الغيث طل ثم ينسكب ... وقال ابن الرومي:
ولا تحقرن سبيباً ... قد قاد خيراً سبيب وقال أبو العلاء، وحرفه إلى بعض الأنحاء، ولكنه إليه أشار، وحواليه دار.
فأول ما يكون الليث شبل ... ومبدأ طلعة البدر الهلال وكان له فيه إلمام، بقول أبي تمام:(3/91)
إن الهلال إذا رأيت نموه ... أيقنت أن سيكون بدراً كاملا وقال العباس بن الأحنف وقصد به قصده، وكان ينفق مما عنده:
الحب أول ما يكون لجاجةً ... تأتي به وتسوقه الأقدار
حتى إذا اقتحم الفتى لجج الهوى ... جاءت أمور لا تطاق كبار وقال الآخر، وكأنه نحا به نحواً غريباً، ولكنه نظر إلى المعنى نظراً مريباً:
فلا تحقرن عدواً رماك ... وإن كان في ساعديه قصر
فإن السيوف تحز الرقاب ... وتعجز عما تنال الإبر ومن كلام المحدثين ما أجروه مجرى الأمثال: " رب عشق جني بلفظة، وصبابة غرست من لحظة ". إلى غير ذلك مما لا يحد شهرةً، ولا يحصى كثرةً.
وقال الوزير أبو حفص من جملة قصيدة:
أيا أسفاً للدين إذ ظل نهبةً ... بأعيننا والمسلمون شهود
أفي حرم الرحمن يلحد جهرةً ... ويجعل أشراك الإله يهود
ويثلب بيت الله بين بيوتكم ... وقادره عن رد ذاك قعيد
ويوضع للدجال بيت بمكة ... ويخفى عليكم منزع وقصود(3/92)
أعيذك أن تدهنوا فيمسكم ... عقاب كما ذاق العذاب ثمود
وأقبح بذكر يستطير لأرضكم ... يؤم به أقصى البلاد وفود
ولا عجب أن جانس الحوض ضفدع ... وقدماً تساوي مطلب وشهود
يقود امرءاً طبع إلى علم شكله ... كما انمازت الأرواح وهي جنود وهذا المصراع الأخير، إلى معنى الحديث يشير: " قلوب المؤمنين أجناد مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف "، وأخذه السحن فقال:
إن القلوب لأجناد مجندة ... لله في الأرض بالأهواء تعترف
فما تعارف منها فهو مؤتلف ... وما تناكر منها فهو مختلف [20أ] وقال الوزير أبو حفص من أخرى:
تبارك من تفرد بالبقاء ... وأسلك خلقه سبل الفناء
وشتت شملهم بعد انتظامٍ ... وكدر وردهم إثر الصفاء
ولم يجر الأمور على قياسٍ ... فليست دارنا دار الجزاء
فتبصر محسناً يجزى بقبح ... وذا ضعةٍ يقاد إلى السناء
وقد كنت اعتلقت اجل ملكٍ ... وأعمهم بنقب أو هناء(3/93)
ومن يجهد لدنياه حريصاً ... فليس بحائر غير العناء
ومن يثق الزمان يجده خباً ... ويصرعه على حين الرجاء
إذا كان الدواء به اعتلالي ... فأي الخلق أرجو للشفاء وهذا كبيت عدي بن زيد:
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري وأرى الوزير أبا حفص إنما عول فيه قول أبي بكر رضي الله عنه وقد قيل له: لو سلنا لك الطبيب، فقال: " الطبيب أعلني ".
فصل في ذكر الفقيه القاضي أبي الوليد الباجي، من باجة الأندلس،
والإتيان بلمعةٍ من أخباره التي زاحمت في بيوت شرفها الكواكب،
وقطعةٍ من أشعاره التي ملأت بفوائدها وطرفها المشارق والمغارب
قال ابن بسام: نشأ أبو الوليد هذا وهمته في العلم تأخذ بأعنان السماء(3/94)
ومكانه من النثر والنظم يسامي مناط الجوزاء، وبدأ في الأدب فبرز في ميادينه، واستظهر أكثر دواوينه، وحمل لواء منثوره وموزونه، وجعل الشعر بضاعته فوصل له الأسباب بالأسباب، ونال به مأكل القحم الرغاب، حتى جن الإحسان بذكره، وغنى الزمان بغرائب شعره، واستغنت مصر والقيروان بخبره عن خبره، ولم تزل أقطار تلك الآفاق تواصله، وعجائب الشام والعراق تغازله، حتى أجاب، وشد للركاب، وودع الأوطان والأحباب، فرحل سنة ست وعشرين، فما حل بلداً إلا وجده ملآن بذكره، نشوان من قهوتي نظمه ونثره، ومال إلى علم الديانة، وقد كان قبل رحلته تولى إلى ظله، ودخل في جملة أهله، فمشى بمقياس، وبنى على أساس، فلم يبعد أن أصبح نسيج وحده، في حله وعقده، حتى صار كثير من العلماء يسمعون منه، ويرتاحون إلى الأخذ عنه، وحتى علم العلم أن له أشكالاً، وتيقن أهل العراق بالأندلس رجالاً، ثم كر، وقد نفع وضر، وأحلى وأمر، واستقضي بطريقه بحلب، فأقام بها نحواً من عام، ثم نازعه [20ب] هوى نفسه، إلى مسقط رأسه، ومنبت غرسه، من أرض الأندلس، فورد وعشب بلادها ناب وظفر، وصوب عهادها دم هدر، ومالها لا عين ولا أثر، وملوكها أضداد، وأهواء أهلها ضغائن وأحقاد، وعزائمهم في الأرض فساد وإفساد، فأسف على ما ضيعه، وندم لو أجدى عليه ذلك أو نفعه، على أنه لأول قدومه رفع صوته بالاحتساب، ومشى بين ملوك أهل الجزيرة بصلة ما انبت من تلك الأسباب، فقام مقام مؤمن آل فرعون لو صادف أسماعاً واعية، بل نفخ في عظامٍ ناخرة(3/95)
وعكف على أطلال دائرة، بيد أنه كلما وفد على مهلك منهم في ظاهر أمره لقيه بالترحيب، وأجزل حظه بالتأنس والتقريب، وهو في الباطن يستجهل نزعته، ويستثقل طلعته، وما كان أفطن الفقيه، رحمه الله، بأمورهم، وأعلمه بتدبيرهم، لكنه كان يرجو حالاً تثوب، ومذنباً يتوب، ولم يخل مع ذلك من تأليف الدواوين وتدريسها، وتشييد المكارم وتأسيسها.
بلغني عن الفقيه أبي محمد بن حزم أنه كان يقول: لم يكن لأصحاب المذهب المالكي بعد عبد الوهاب مثل أبي الوليد الباجي، وقد ناظره بميورقة ففل من غربه، وسبب إحراق كتبه، ولكن أبا محمد وإن كان اعتقد خلافه، فلم يطرح إنصافه، أو حاول الرد عليه، فلم ينسب التقصير إليه.
وتوفي أبو الوليد الباجي، رحمه الله، سنة أربع وسبعين، وهو بسبيله من تصنيف الدواوين، في علوم الدين؛ وقد أخرجت ما وجدت من كلامه في هذا الفن الذي أنا في إقامة أوده.
ووجدت للوزير الكاتب أبي محمد بن عبد البر رقعةً كتبها عن مجاهد أمير دانية، وقته، إلى المظفر ببطليوس في صفته، يقول في فصل منها: الآفاق - أيدك الله - وإن وارت الأنوار والشهب، والأبعاد وإن كثفت(3/96)
الأستار والحجب، فلن تحجب أنوار الفضل والكرم، ولن تسد مطالع المآثر والهمم، ولن تقطع تعمال التواصل والوداد، وتدآب التضافر والإنجاد، وتلك حالنا فإننا على بعد الدار، وشحط المزار، ننطوي على أنفس متجاورة متلاصقة، ونأوي إلى مذاهب متوافقة، والفقيه الحافظ أبو الوليد الباجي غذي نعمتك، ونشأة دولتك، هو من آحاد عصره في علمه، وأفراد دهره في فهمه، وما حصل أحد من علماء الأندلس متفقهاً على مثل حظه وقسمه، وقد تقدم له بالمشرق صيت وذكر، وحصل بجزيرتنا ولك فيه جمال وفخر، فإنه إليك تنعطف أسبابه، وعليك تلتقي وتلتف آرابه، لكن شددت عليه يدي، وجعلته علم بلدي، يشاور في الأحكام، ويهتدى إليه في الحلال والحرام، فقد ساهمتك به، وشاركتك فيه، كما تساهمنا وتشاركنا في الأحوال السلطانية، والأمور الدنياوية.(3/97)
ما أخرجه من أشعاره في أوصاف شتى
فمن ذلك قوله:
إذا كنت أعلم علماً يقيناً ... بأن ميع حياتي كساعه
فلم لا أكون ضنيناً بها ... وأجعلها في صلاح وطاعه وقوله في صفة قلم:
وأسمر ينطق في مشيه ... ويسكت مهما أمر القدم
على ساحة ليلها مشرق ... منير وأبيضها مدلهم
وشبهتها ببياض المشيب ... يخالط نور سواد اللمم [ودخل بغداد والحرمان قد كساه سرابيل، ورماه بطير أبابيل، وقاضي(3/98)
قضاتها السمناني ناصح الدين تاج الإسلام يباري القطر، ويحلي ديباج الفقر، فقلده معهود تحفيه، وسقاه ماء أمانيه، وأهبه من نوم فاقته، وطبه بجودٍ أسرع في إفاقته، واشتمل عليه اشتمالاً مع صون ماء وجهه عن إراقته، أناله ما أحسبه والله وأكسبه، فاقتصر على نداه، واهتصر أفنان جناه. وقال يمدحه:
يا بعد صبرك أتهموا أم أنجدوا ... هيهات منك تصبر وتجلد
يأبى سلوك بارق متألق ... وشميم عرف عرارة ومغرد
في كل أفق لي علاقة خولةٍ ... تهدي الهوى وبكل أرض ثمهد
ما طال عهدي بالديار وإنما ... أنسى معاهدها أسىً وتبلد
ولقد مررت على المعاهد بعد ما ... لبس البداوة رسمها المتأبد
فاستنجدت ماء الدموع لبينهم ... فتتابعت حتى توارى المنجد
طفقت تسابقني إلى أمد الصبا ... تلك الربى ومنال شأوي يبعد
لو كنت أنبأت الديار صبابتي ... نحل الصفا بفنائها والجلمد
لله أيام الشباب وحسنها ... وغصونهن المائسات الميد
أيام أنفض للمراح ذؤابتي ... بين اللدات ودرع بردي مجسد
أتقنص الظبيات في سبل الصبا ... فيصيدهن لي العذار الأسود(3/99)
حتى علاني الشيب قبل تحلمٍ ... وأبر ما سبق المشيب المولد
وحجيت سن الحلم في زمن الصبا ... وبصرت فالتاح السبيل الأقصد
وسقتني الدنيا زعاق خمارها ... وسعى إليّ من الخطوب معربد
ما هالني صعب المرام ولا الذي ... تستبعد الأيام عندي يبعد
استقرب الهدف البعيد بهمةٍ ... أدنى منازلها السها والفرقد
أسري إذا اعتكر الظلام وقادني ... أمل مطالبه العلا والسؤدد ومن مديحه:
حيث التقت ظبة السماحة والعلا ... ورست قواعده وحل المقود
فجنابه لا يستباح وجاره ... لا يستضام ونبعه لا يقصد
حرم المكارم لا [ينال] فناءه ... ذام ولا للفضل عنه مبعد
عالي محل النار في كلب الشتا ... إذ بالحضيض لغيره مستوقد
هذا الشهاب المستضاء بنوره ... علم الهدى هذا الإمام الأوحد
هذا الذي قمع الضلالة بعد ما ... كانت شياطين [الضلال] تمرد وله في المعتضد بالله:
عباد استبعد البرايا ... بأنعم تبلغ النعائم
مديحه خيم كل نفسٍ ... حتى تغنت به الحمائم(3/100)
وله يرثي ابنيه:
رعى الله قلبين استكانا ببلدة ... هما أسكناها في السواد من القلب
لئن غيبا عن ناظري وتبوءا ... فؤادي لقد زاد التباعد في القرب
وأبكي وأبكي ساكنيها لعلني ... سأنجد من صحب وأسعد من سحب
فما ساعدت ورق الحمام أسى ... ولا روحت ريح الصبا عن أخي كرب
ولا استعذبت عيناي بعدهما كرى ... ولا ظمئت نفسي إلى البارد العذب
أحن ويثني نفسي على الأسى ... كما اضطر محمول على المركب الصعب وله يرثي ابنه محمدا:
أمحمد إن كنت بعدك صابرا ... صبر السليم لما به لا يسلم
ورزئت قبلك بالنبي محمد ... ولرزؤه أدهى لدي وأعظم
فلقد علمت بأنني بك لاحق ... من بعد ظني أنني متقدم
لله ذكر لا يزال بخاطري ... متصرف في صفوه متحكم
فإذا نظرت فشخصه متخيل ... وإذا أصخت فصوته متوهم
وبكل أرض لي من أجلك روعة ... وبكل قبر عبرة وترنم
فإذا دعوت سواك حاد عن اسمه ... ودعاه باسمك مقول بك مغرم(3/101)
حكم الردى ومناهج قد سنها ... لأولي النهى والحذق قبل متمم
فلئن جزع فإن ربي عاذر ... ولئن صبرت فإن صبري أكرم وله يمدح الأمير معز الدولة أبا علوان ابن أسد الدولة:
محل الهوى من سر حبك آهل ... وصرف النوى عن شمل شوقي غافل
ولله طيف لا يلم كأنما ... له من سهادي في الزيارة عاذل
غدا نافرا لا أستطيع اقتناصه ... ولو أن لي يوم الكثيب حبائل
تبيت جفوني صاديات من الكرى ... ولكنها من ماء دمعي نواهل
لئن أمطرت روض الخدود سحابها ... لقد صديت منا قلوب مواجل
خليلي ها فاستعرضا الركب منهما ... فقد درجت في الريح منها رسائل
أسروا إلى الليل البهيم سراهم ... فنمت عليه في الشمال شمائل
متى نزلوا ثاوين في الخيف من منى ... بدت للهوى بالمأزمين مخايل
فلله ما ضمت منى وشعابها ... وما ضمنت تلك الربى والمنازل
ولما التقينا للجمار وأبرزت ... أكف لتقليب الحصى وأنامل
أسرت إلينا بالغرام محاجر ... وباحت به منا جسوم نواحل
سقى أثلاث الجزع من أم مالك ... عشار سحاب مترعات حوافل(3/102)
وله يمدحه:
لرياهم في عرف ربعك عنوان ... ومن حسنهم في حسن مغناك تبيان
وفيك من الحي الذين تحملوا ... مخايل أغصان تميس وكثبان
وكم ليلة فيها تعسفت حولها ... وكالئها مني مشيح ويقظان
سرينا كما يسري الخيال وغضضت ... على ركبنا من ناظر الليل أجفان
لبسنا برود الليل حتى تشققت ... جيوب تضيء بالصباح وأردان
حويت معز الدولة الملك فاعتزى ... بذكرك في الآفاق ملك وسلطان
فللمجد سلك قد أجيد نظامه ... وأنت لذاك السلك در ومرجان وله:
تجنب بجهدك ما صوروا ... وإن كان في ستر أو [ميثره]
فإن الرسول عليه السلام ... أحق العذاب لمن صوره وله:
تبلغ إلى الدنيا بأيسر زاد ... فإنك عنها راحل لمعاد
وغض عن الدنيا وزخرف أهلها ... جفونك واكحلها بطول سهاد
وجاهد عن اللذات نفسك جاهدا ... فإن جهاد النفس خير جهاد
فما هذه الدنيا بدار إقامة ... فيعتد من أغراضها بعتاد
وما هي إلا دار لهو وفتنة ... وإن قصارى أهلها لنفاد وله:(3/103)
يا قلب إما تلهني كاذبا ... أو صادفا عن الهدى جائرا
تشغلني عن عمل نافع ... في موقف ألقاك لي ضائرا
أحر بأن تسلمني نادما ... إن لم ألق الله لي عاذرا
وحاق بي ما جاء عن ربنا ... (ووجدوا ما عملوا حاضرا) وله في معنى السفر:
إذا كنت ربي في طريقي صاحبا ... وتخلفني في الأهل ما دمت غائبا
فسهل سبيلي وزاو عني شرها ... وشر الذي ألقاه في الأهل آبيا وله في معنى الحمد والشكر:
الحمد لله ذي الآلاء والنعم ... ومبدع السمع والأبصار والكلم
من يحمد الله يأتيه المزيد ومن ... يكفر فكم نعم آلت إلى نقم وله:
الحمد لله حمد معترف ... بأنه نعماه ليس نحصيها
وأن ما بالعباد من نعم ... فإن مولى الأنام موليها
وإن شكري لبعض أنعمه ... من خير ما نعمة يواليها وله في قيام الليل:
قد أفلح القانت في جنح الدجى ... يتلو الكتاب العربي النيرا
فقائما وراكعا وساجدا ... مبتهلا مستعبرا مستغفرا
له حنين وشهيق وبكا ... يبل من أدمعه ترب الثرى(3/104)
إنا لسفر نبتغي نيل المدى ... ففي السرى بغيتنا لا في الكرى
من ينصب الليل ينل راحته ... عند الصباح يحمد القوم السرى وله:
وتيقن بأنك الدهر تملي ... في كتاب المستحفظين الكرام
ثم تؤتى يوم الكتاب كتابا ... ناطقا بالفجور والآثام
وأرى عثرة اللسان، وإن لم ... تبد، أنكى من عثرة الأقدام
وأرى القول كالسهام فإن كا ... ن قبيحا عادت علي سهامي
ومن الغي أن أصاب بسهم ... وأنا مالك يمين الرامي] الوزير أبو عامر بم مسلمة:
طائل الدهر، وعلم بردة ذلك العصر، وأحد جهابذة الكلام، وجماهير النثار والنظام، من قوم طالما ملكوا أزمة الأيام، وخصموا بألسنة السيوف والأقلام، لم يزالوا أقمارا في آفاق الكتائب، وصدورا في صدور المراتب، وكان أبو عامر هذا من شرفهم بمنزلة الفص من الخاتم، وبمكان السر من صدر الحازم. ولما ثلت تلك العروش الأموية، واختلت تلك الدولة القرطبية، تحيز إلى المعتضد، لأملاك قديمة كانت له في البلد، فعاش بفضل وفره، وتصون عن الدخول في شيء من أمره، إلا عن زيارة(3/105)
لمام، ومنادمة في بعض الأيام، جذبه إليها، وغلبه مضطرا عليها، ولم يزل يتخادع له عن ذلك استدفاعا لشره، ومداراة على بقية عمره، حتى مات مستورا بماله، مبقي على أشكاله، وله منظوم مطبوع، ونثر بديع، وقد وقع إلي من إملاءاته، وغرائب أداوته، تأليف جمعه للمعتضد سماه على ما اقتضاه مطابقة الزمان، ومذهب الأوان " حديقة الارتياح في صفة حقيقة الراح " دل على كثرة روايته [21 أ] وجودة عنايته، إلى غير ذلك من نظمه ونثره، وأوردت منه طرفا شاهدا على ما أجريت من ذكره.
جملة من شعره
نقلت من خطه قال: كتبت يوما بهذه الأبيات إلى الأديبين أبي علي إدريس وأبي جعفر بن الأبار مستدعيا لهما:
أيا شقيقي إخاء ... ويا قسيمي صفاء
ومن هما في ذوي الفه ... م جوهر الأدباء
تفضلا وأجيبا ... إلى ندي نداء
لتأنسا بحديث ... وقهوة وغناء(3/106)
قال، فأجابني إدريس:
يا صنو ماء السماء ... في رقة وصفاء
ويا سراج ضياء ... يجلو دجى الظلماء
بهرت سيما ذكاء ... في بهجة وذكاء
وحزت في العلياء ... قوادم الجوزاء
يا حاتم الكرماء ... وأحمد الشعراء
بادهتنا بلآل ... سواطع اللألاء
قريض حسن كدر ... على طلى الحسناء
يقود في كل معنى ... معنى الغنى والغناء
وقد أجبنا إلى ما ... دعوت من آلاء
[لا زال] نجمك أسمى ... من نجم كل سماء قال الوزير أبو عامر: وبعث إلي أبو الأصبغ بن عبد العزيز باكور بهار وكتب معها:
وبهار ألم قبل الأوان ... في بهاء يروق رأي العيان
أمكن القطف في مدى شهر تشري ... ن على غير عادة الإمكان
سبق الزهر في الفضائل طرا ... وكسا بالجمال فضل الزمان قال، فأجبته:(3/107)
يا إماما في السبق يوم الرهان ... كل حين يؤمني بالأمان
وصل النرجس المكر يحكي ... سبق عباد المليك اليماني
يا بهار الرياض أنت بهار ... باهر الأنوار والريحان قال الوزير أبو عامر: وأعلمت ابن الأبار بخبر البهارة، وكان عليلا وقلت له: إني نادمتها ليلتي، وجعلتها مؤنستي على قهوتي، فكتب إلي:
بالله كيف النديمه ... يا ذا السجايا الكريمه
عذراء تعبق شما ... وأنت تعبق شيمه
أحبب بها بكر نور ... من البهار يتيمه
فتلك عندي والعو ... د لا نديما جذيمه
فاصبب فديت عليها ... من المدامة ديمه
والدهر يمضي فبادر ... من الزمان غنيمه
وانعم بدولة ملك ... ثنى الغيوث لئيمه
عباد المنصف المج ... د باللهى المظلومه وله في وصف مشروب زبيب:
مزة ماتت زمانا ... بحجاب يحتويها
لبثت في بطن أم ... غيبتها عن بنيها
ألحدتها الشمس دهرا ... ثم عاد الروح فيها
كان ماء المزن عيسى ... إذ وضعناه بفيها(3/108)
فانبرى منها سراج ... رائق من يجتليها
وبدت منها شموس ... غربت في مطلعيها
عزبت ألبابنا إذ ... غربت في شاربيها والمصحفي قبله القائل:
[21 ب] ولما تولى بابنة الكرم جائر ... عليها فأصلها بزعمكم الشمسا
ولم يبق من جثمانها غير جلدها ... غدت للذي تحويه من روحها رمسا
وصلت بها الماء القراح محافظا ... فراح لها جسما وراحت له نفسا وذكر الوزير أبو عامر أنه ما رآه، ولا نظر إليه، ولا اعتمد عليه، ولا قصده، ولو سمعه لما أورده.
وقال:
ومهفهف غض الشباب منعم ... فيه أطرت إلى الجماح جناحي
قد جاء يسعى بالمدام فقلت لا ... إني هجرت تعاطي الأقداح
لا تسقني راح الكؤوس وسقني ... سحر العيون يقم مقام الراح
فأقام لي من لحظه ورضابه ... راحا وقام الخد بالتفاح
وضللت في ليلي فأبدى غرة ... أغنت عن المصباح والإصباح قال: وبلغني أن ابن الأبار صد عنه يوما من يهواه، وواصل سواه، فكتبت إليه:(3/109)
قد هجر الأنس والسرور ... إذ هجر الشادن النفور
وغيضت غيضة التمني ... فطرف نوارها حسير
وأقفر الربع بعد أنس ... فعمر لهو الفتى قصير قال: فراجعني بهذه الأبيات:
يا من به تزدهي الدهور ... ومن له تخضع البدور
ومن إذا احتل في علاه ... فكل جفن به قرير
قد عوتب الشادن الغرير ... فعاد من وصله اليسير
ومن لي بالجواب تيها ... وهو بما قلته خبير
فافتر عن واضح شنيب ... فيه لميت الهوى نشور
ثم تلاقت لنا عيون ... تخالفت تحتها الصدور
ترجم بالثغر عن معان ... ضن بإعلانها الضمير
ولم نزل نعمل الحميا ... واللحظ ما بيننا سفير
مدامة أفنت الليالي ... وأرضعت ثديها الدهور
تخالها في الكؤوس سرا ... وهي لشرابها سرور
حتى إذا ما الصدود أودى ... تناولت مزجها الثغور
فاهنأ بما قد هنا محب ... خطرك في نفسه خطير
كان لك الله من وفي ... وفى به دهرنا الغرور
إن الورى أصبحوا أجاجا ... وإنك السائغ النمير(3/110)
لطفت ظرفا وطبت حتى ... ترجم عن خلقك العبير
لا زلت بالفضل لي مليا ... فإنني بالثنا فقير [122 أ] وقال الوزير أبو عامر:
أهلا وسهلا بوفود الربيع ... وثغره البسام عند الطلوع
كأنما أنواره حلة ... من وشي صنعاء السري الرفيع
أحبب به من زائر زاهر ... دعا إلى اللهو فكنت السميع
بث على الأرض درانيكه ... فكل ما تبصر فيها بديع قال الوزير أبو عامر: وكتبت إلى ابن الأبار يوما بهذه الأبيات:
قل لأبي جعفر المنتقى ... من سر قحطان وخولان
انظر إلى الظبي الأنيق الذي ... يختال في أبراد إحسان
كأنما مقلته بابل ... حفت بسحر الإنس والجان
كأنما شاربه بهجة ... زمرد من فوق مرجان
كأنما أردافه عالج ... وقده غصن من البان قال، فأجابني منها قوله:
وابأبي ذاك الغزال الذي ... يجول في سر وإعلان
مقرطق يبسم عن لؤلؤ ... رصعه الحسن بمرجان
أفديه من أحور أجفانه ... نامت لكي تسهر أجفاني(3/111)
لما بدا لي جيده متلعا ... قلت لمن قد ظل يلحاني
لا فزت منه بجميع المنى ... إن كان هذا عند رضوان
من أين للظبي كأجفانه ... أو مثل ذاك الخوط للبان
ما هو إلا [ ... ] برهان ... وحجة اللوطي على الزاني قال: وكتب إلي ابن الأبار أيضاً بهذه الأبيات:
يا مفصح الكف واللسان ... بالطول طورا والبيان
عندي من عنده فؤادي ... ومن تجنيه قد براني
أظنها نومة لقردي ... أو غفلة الغر من زماني
وليس سر السرور إلا ... ضرة أخلاقك الحسان قال فأجبته:
يا مالك السحر والبيان ... وناظم الدر والجمان
أكرم بمولى أجاب عبدا ... فأقبل الدهر بالأمان
وانتزحت دولة التنائي ... واقتربت دولة التداني
وكل شيء يكون عندي ... ملكك يا ناظر الزمان
وقد بعثت المدام تحكي ... جزءا من اخلاقك الحسان الوزير أبو الوليد محمد بن عبد العزيز المعلم:
بديع ذلك الزمان، أحد وزراء المعتضد الكتاب الأعيان، وممن(3/112)
شهر بالإحسان، في صناعة النظم والنثر، ولم أقع له عند نقلي هذه النسخة إلا على التافه النزر، وعلى ذلك فقد كتبت له منهما ما يشهد أنه كان من أهل الرواية والعلم، وذوي الدراية والفهم.
فصول له من مقامة
قال في أولها: سقى عهدك أيتها الدمنة الزهراء كل عهد، وجاد قطرك أيتها الروضة الغناء كل قطر، وسال عليك من أدمعي كل ملث هطال، وتناوحت عليك من أضلعي كل جنوب وشمال، منشرة أنوارك، لا معفية آثارك، ومهدية أرجك ونسيمك، لا مغيرة أطلالك ورسومك، فكم لنا في واديك من بلهنية زمان أنيق، وفي مغانيك من رفاهية عيش رقيق، نعل بكأسي عتبا وإعتاب، ونرتع في جنبتي صبا وتصاب، غدونا من عشيق إلى صديق، ورواحنا من صبوح إلى غبوق، وخليلنا مساعد، وعدونا مباعد، ورقيبنا أعمى، وزماننا أعشى؛ حتى إذا استيقظ الدهر من هجعته، وهب من غطيط رقدته وسكرته، ضرب فوقنا بجرانه، وصرف إلينا لهذم سنانه، ولبس لنا جلدة النمر، وقلب لنا ظهر المجن، وألقى علينا بعاعه، وطمس ذوننا شعاعه، مستردا ما وهب وأعطى، ومكدرا ما منح وأصفى:
أبدا تسترد ما تهب الدن ... يا فيا ليت جودها كان بخلا(3/113)
فما لبث أن صدع مروتنا، وفصم عروتنا، وحل عقدنا، ونثر عقدنا.
وفي فصل منها: وكان لي أليف، وعقيد شريف، من صرحاء الإخوان، وصيابة الفتيان، ومصاص أعيان الزمان، وحين سولت لي همتي ما سولت، وخيلت لي أمنيتي ما خيلت، أجلنا قداح الرأي، وأسهمنا بين القرب والنأي، شاور في أمري قريحته، ونخل لي نصيحته، وقال: أرى أن لا تريم بيضتك وأرومتك، وأن توطن أرضك ولا تفارق عشيرتك، وأربأ بك عن مضلات المنى، وأعيذك من ترهات لعل وعسى، فتحسب كل بيضاء شحمة، وتظن كل سوداء تمرة، وربما سقط العشاء بك على سرحان، وكل الناس بكر، وفي كل واد بنو سعد:
والرفق يمن والأناة سعادة ... فاستأن في رفق تلاق نجاحا وإن أبيت إلا التحول، فعليك من الرؤساء، بأحلم الحلماء، ومن القرباء بأشرف الشرفاء، ولا تغرنك المناصب، دون المناسب، ولا المقول(3/114)
دون المعقول، ولا الدراهم دون المكارم، وازهد في أكثر كل عين، واذكر قول [ابن] الحسين:
وما رغبتي في عسجد أستفيده ... ولكنها في مفخر أستجده فلما سمعت ووعيت، ارتكنت وتوليت، ثم أبيت قبولا، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وناقضت نصحه بقول حبيب:
وإن صريح العزم والرأي لامرئ ... إذا بلغته الشمس أن يتحولا ومغترا بقول الثاني:
تلقى بكل بلاد أنت نازلها ... أهلا بأهل وجيرانا بجيران وفي فصل منها: وصرح لي الدهر عن أهله، ووجدت الناس اخبر تقله، من أمير لا أسميه، ووزير أقحمت الواو فيه، وكاتب أمي، وقاض جبلي، وأمة مبورة، في قرية مصورة، وإذا اختلفوا أنشدوا:
ومن تكن الحضارة أعجبته ... فأي رجال بادية ترانا(3/115)
[23 أ] فبينا أقرع السنين، وأعض الكفين، وأخضب بلا حناء، وأنشد في الأمراء:
وإذا نظرت إلى أميري زادني ... كلفا به نظري إلى الأمراء إذ قرع البشير بابي، وطرق المستأذن حجابي، فائل: رسول مولاك، وكتابه وافاك، فقمت أتساقط من الجذل، وأعثر في دعاثر العجل، مقبلا فاه، وصائحا: زاه.
وفي فصل منها: وأفضنا في وصف معاليه، واستنشدني فأنشدته ما قلته فيه، فقال: بزاعة الفصحاء، وبراعة الشعراء، دعني من زخرف شعرك، وصفه لي بمنصف نثرك، فللمنظوم رونق، وأنت فيه ذو طولق، فقلت: على الخبير سقطت، وأنا الكفيل بما سألت وشرطت، وأسمعته سجعا لا نظما، ونثرا لا شعرا، فقلت: هو الإمام الطاهر، والكوكب الزاهر، والأسد الخادر، والبحر الزاخر، أوهب الملوك للذخائر، وأعفاهم عن الجرائر، وأرفعهم قدرا، وأوسعهم صدرا، وأطيبهم ذكرا، أعطر من العنبر، في كل منبر، وأفوح من المسك الذكي(3/116)
في كل ندي، الحليم فما يغضب، والجواد وما يرغب، والشجاع وما يرهب، والقوي وما يعنف، واللين وما يضعف، والرفيق إذا ساس، والمصيب إذا قاس، ينبوع كل جذل، ودافع كل وجل، وحسبك بي عنده من جليس رئيس، أكلم منه سحبان، وآخذ عن لقمان، وأستنزل كيوان:
له كبرياء المشتري وسعوده ... وسطوة بهرام وظرف عطارد وقمر إلا أنه بشر، وجبل إلا أنه رجل، بحر علم، وطود حلن، وعالم في عالم؛ الأصمعي عنه ناقل، ولجاحظ عنده باقل، إذا ركب ضاق عنه الأفق، وإذا تبدى وسع الدهر ندى، وإن نطق بين وصدق، وإن كتب أبدع وأغرب، نداه سحائب، وكتبه كتائب، مشرفياته من لسانه وبيانه، وخطياته من أقلامه وبنانه، تمشق فيها جياد فهمه، ويمري درر أشوالها من آدابه وعلمه، ويسحب لها من فكره مضمارا، ويثير من مداده قسطلا وغبارا، ويرتب فيها الحروف، ترتيب الصفوف، ويمشق بها في المهارق، مشقه في الطلى والمفارق، هذا إلى روحانية ملك، في تجلة ملك. فاستطير فرحا، وازدهي مرحا، وخف فقام إلي، ورف يقبل بين عيني، وكأنه إنما نشر من قبر، أو صحا من سكر، وقال: أصبت والله القرطاس، وبنيت على أساس، وفزت بالقدح المعلى، وتحليت من الجلى، والحديث ذو شجون: متى الحركة - وفيم التلوم(3/117)
والمقام - وكنت شاكيا فقلت: رويد الإبلال، وبعيد الإقلال، قال: فسر في كنف السلامة، إلى وطن الكرامة.
وله من رقعة كتبها عن المعتضد إلى الوزير الفقيه أبي حفص الهوزني، قال فيها: وردني كتابك الأثير المقابل بين النثر البليغ والنظم البديع، تصرفت فيهما تصرف من إذا حاك الكلام طرز، وإذا غشي ميدان البيان برز، وأخذ بآفاق العلوم، وأشرقت خواطره فيها كإشراق النجوم، وإنها لفضيلة بعد فيها شأوك، وفات جهد لمجارين لك عفوك؛ فأما ما صدرته به من بالغ إطراء، وسابغ ثناء، فأمر أعلم أنه صدر عن عهد كريم، ومعتقد سليم، أنا معتقد عليهما بجميل القرض، والمجازاة الحسنة بهما في وكيد الفرض. واقتضيت ما تلا ذلك من وعظك المبرور، واحتسابك المشكور، في الحال التش أشرت إليها فأقنعت، ورمزت بها فأسمعت، بصحة دينك، وبرد يقينك، حتى نظرت إلى ما دهم المسلمين من كلب العدو عليهم: يجوسون البسيط من ديارهم، ويستبيحون المحوط من ذمارهم، ليس إلى الانقياد عن أحكامهم دفاع، ولا سوى الانحياز من أمامهم امتناع، قد تبين لهم أن تخاذلنا لهم علينا ناصر، وتواكلنا مظاهر مؤازر، فلا يعدمون من يتخلى لهم(3/118)
عن بلد، أو يعطيهم الجزية عن يد {ولو شاء الله لانتصر منهم، ولكن ليبلو بعضكم ببعض} (محمد: 47) .
ولقد شرحت من تلك [23 ب] النصب ما يسهر النواظر، ويبلد الخواطر، ولا يدع ركن عز إلا أوهاه، ولا بناء جلد إلا أرداه، ولا عد صبر إلا أغاضه، ولا ثمد دمع إلا أفاضه، وإن الحذر أن تغشى التي لا شوى لها، وتفجأ التي لا لعا منها، فيرام من ذلك استكفاف سيل من التلف قد انحدر، وينظر في أعقاب نجم من التلافي قد انكدر، إلا أن يعود الله علينا برحمته، ويهيأ لنا أسباب عصمته.
وأما ما ندبت إليه، وحضضت عليه، من إحفاد السعي فيما يقمع المشركين - بددهم الله - ويجمع عليه كلمة المسلمين، فيعلم الله أني قد ناجيت بذلك وناديت، وراوحت فيه وغاديت، وبثثت رسلي إلى ذلك داعين يصلون التذكرة، ويوكدون التبصرة، ويتلون المواعظ، ويستشيرون الحفائظ، فصمت المسامع، واتفقت في التثاقل المنازع، وخلج بالخذلان، وتجوزت الجمجمة في ذلك الإعلان، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى.
وفي فصل منها: وأما إزماعك للتنقل، وأن أرسم لك مكان التحول، فأي مكان يكون ذلك سوى وطنك الذي تعرفت فيه سابغ الأمن(3/119)
وتلقيت فيه طائر اليمن، ولم تعدم المحل الرفيع، والجانب المنيع، والسكون مني إلى من لم يزل يعتمدك بإيثاره، ويشاركك في خاص أسراره، ويرفع قدرك فوق أقدار الأكفاء، ويحط عن منزلتك منازل النظراء، وإن كان قد جرى قدر بمارقة فكانت سليمة لم يتبعها إلا حال لك محوطة محفوظة، وساقة بعين الصيانة مكلوءة ملحوظة.
وهذه أيضاً جملة من شعره
له في المعتضد من قصيد أوله:
دون الأحبة بالوعساء أعداء ... وسلم كل بعيد الهم هيجاء
والحب كالمجد لا ينفك من كبد ... فيه يلذ لنا بؤس ونعماء
حفيظة منك عين الله تكلؤها ... وشيمة شيم منها العين والطاء
وهيبة لم تزل تعنو إليك بها ... والدين يخبط منه الليل عشواء
مدوا إليك أكف البغي فانجذمت ... وقد خلت منهم بالسيف أقفاء
وقادة في وجوه القوم أخجلها ... من حد سيفك توبيخ وإدماء
أبناء دأية من مقطوف هامهم ... على الجذوع لها وقع وإقعاء
قوم هم نبذوا الإسلام قاطبة ... عنهم كما نبذ الأموات أحياء ومعنى البيت الثاني منها كقول حبيب:(3/120)
كأنه كان ترب الحب مذ زمن ... فليس يعجزه قلب ولا كبد وأخذه أبو الطيب فقال:
وقد صغت الأسنة من هموم ... فما يخطرن إلا في فؤاد وقال من أخرى:
سحبت على أثر الخيال ذيولا ... وسرت تعود من الصدود عليلا
عللت منك بكل وعد كاذب ... وسرى خيالك بالرضى تخييلا
لو كنت صادقة رحلت إلى الصبا ... وخضبت شيبي بالشباب محيلا
سقيا لعهدك والشباب ملاءة ... تثني عيون عني حولا [24 أ]
أيام أمرح في الصبابة خالعا ... رسني وأسحب في المجون ذيولا
وأصيد بين حمائلي وحبائلي ... صيدا وغيدا ما يدين قتيلا ومنها:
يا هذه عني إليك فإن لي ... أملا بأعنان السماء كفيلا
من لم يبت عند ابن عباد فقد ... ضل السبيل وأخطأ التأميلا ومنها في وصف حربه مع صاحب سبتة:
فأرح جيادك فهي أطلاح السرى ... وقد الجيوش إلى العدا أسطولا
أنشأتهن سفائنا ومدائنا ... وجنبتهن كتائب ورعيلا
دهم تخال البيض في أوساطها ... بلقا وفي أطرافها تحجيلا
قرعت بأسواط الرياح فأسرعت ... في الماء تعمل كلكلا وتليلا(3/121)
قوله: " لو كنت صادقة " ... البيت، نقل لفظه من قول أبي الطيب:
خلقت ألوفا لو رددت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا وقال محمد بن هانئ:
لخططت شيبا من عذاري كاذبا ... ومحوت محو النقس عنه شبابا
وخضبت مبيض الحداد عليكم ... لو أنني أجد البياض خضابا وله من أخرى في المعتمد:
أشمت البرق بات له ائتلاق ... تضيء به الأماعز والبراق
وبين جوانحي قلب مطار ... جناحاه ادكار واشتياق ومنها:
ولم أنس الكثيب وليلته ... كأنهما اختلاس واستراق
نجوم الراح في أفلاك راح ... مشارقها المطرفة الرقاق
وشدو تطرب الألفاظ عنه ... كما نفضت من الدر الحقاق
وأفصح من أبان النصح عنه ... يد نيطت بها قدم وساق
تذكرت الصبابة والتصابي ... هنالك إذ تروق ولا تراق
ونحن كأننا غصنا أراك ... قد اشتبكا وضمهما اعتناق
ذراعاه على عنقي نجاد ... وساقاه على كشحي نطاق(3/122)
إذا ما الشمس ورسها أصيل ... أدال الإصطباح لها اغتباق
ومن نعم ابن عباد كؤوس ... نعل بها وأقداح تتاق
ومن كف الربيع لنا ربيع ... يصوب حيا ومن حمص عراق وله فيه وقت انصراف قرطبة إليه، وقتل ابن عكاشة على يديه:
صفا لك الشرب كانت فيه أقذاء ... وعاد برء على ما أفسد الداء
ولن يعجل مقدور له أجل ... وللأمور مواقيت وآناء [24 ب]
وقد تباطأ وحي الله آونة ... عن النبي وغابت عنه أنباء
فليهنك الصنع قد راقت عواقبه ... وشفعت عنه بالآلاء آلاء
فتح كما وضح الإصباح منه على ... آفاق ملكك إشراق ولألاء ومنها في رثاء ابنه:
الظافر الذفر الذكرى معطرة ... منه المنابر ألقاب وأسماء
رزئته فاحتسبته عند خالقه ... زلفى بذلك تقريب وإدناء
ولو أفاد عليك الحزن فائدة ... لكان صخرا وكل الناس خنساء
تشرفت بك دولات وأزمنة ... وفاخرت بك أموات وأحياء ومن مرثية له في المعتضد:
عليك أبا عمرو سلام مودع ... له كبد بين الضلوع دخيل
عممت الورى بالثكل فيك رزية ... وقبحت وجه الصبر وهو جميل
فمن شاء فلينظر بعين حقيقة ... ففيك لنا وعظ مداه طويل
يرى الأرض فيها الأرض كيف تزلزلت ... بنا ويرى الأطواد كيف تزول
أفلت فعادت حمص بعدك دجنة ... كأنك شمس والزمان أصيل(3/123)
وكتب إلى الوزير أبي عامر بن مسلمة من جملة أبيات:
يا ابن الكرام السادة الخلص ... قولا بلا إفك ولا خرص
ماذا ترى في القصف متكئا ... مع رنة الطنبور والرقص
فلعلني أشفي بريقتها ... من عارض في الصدر كالغصص
وألذ عند سماع مبهجها ... من طيب الأخبار والقصص
أهل العراق على مذاهبها ... لا تلق منهم غير مرتخص فأجابه أبو عامر بأبيات منها:
يا جهبذا قد قال بالرخص ... القصف عندي غاية الفرص
مع ماجد حلو شمائله ... ذي حنكة للهو والقنص
فإذا مضت للفطر ثانية ... أرسلت خيل اللهو للقنص
فجرت لدى الميدان جامحة ... وجريت في لبب من الرخص
في مجلس قد طاب مجلسه ... خال من التكدير والنغص الأديب أبو الوليد إسماعيل بن محمد الملقب بحبيب:
كان سديد سهم المقال، بعيد شأو الروية والارتجال، والأديب(3/124)
أبو جعفر ابن الأبار هو الذي أقام قناته، وصقل - زعموا - مرآته، فأطلعه شهابا ثاقبا، وسلك به إلى فنون الآداب طريقا لاحبا، ولو تحاماه صرف الدهر، وامتد به قليلا طلق العمر، لسد طريق الصباح، وغبر في وجوه الرياح. وتوفي ابن اثنتين وعشرين [25 أ] سنة، فذهب بأكثر ما كان في ذلك الوقت من حسنة، وقد أعرب عن ذلك من أمره بأبيات شعر قرأتها على قبره، وله كتاب سماه ب - " البديع في فصل الربيع " جمع فيه أشعار أهل الأندلس خاصة، أعرب فيه عن أدب غزير، وحظ من الحفظ موفور، وقد أخرجت من نثره ونظمه، ما يشهد بغزارة علمه وفهمه.
فصل من نثره
قال في صدر التأليف الموصوف: فصل الربيع آرج وأبهج، وآنس وأنفس، وأبدع وأرفع، من أن أحد حسن ذاته، وأعد بديع صفاته، وهو مع سماته الرائقة، وآلائه الفائقة، لم يعن بتأليفها أحد، وما انفرد بتصنيفها منفرد.
وله فصل من أخرى إلى أبيه: لما خلق الربيع من أخلاقك الغر، وسرق زهره من شيمك الزهر، حسن في كل عين منظره، وطاب في سمع خبره، وتاقت النفوس إلى الراحة فيه، ومالت إلى الإشراف(3/125)
على بعض ما يحتويه، من النور الذي كسا الأرض حللا، لا يرى الناظر في أثنائها خللا، فكأنها نجوم نثرت على الثرى، وقد ملئت مسكا وعنبرا، إن تنسمتها فأرجة، أو توسمتها فبهجة، تروق العيون أجناسها، وتحيي النفوس أنفاسها:
فالأرض في بردة من يانع الزهر ... تزري إذا قستها بالوشي والحبر
قد أحكمتها أكف المزن واكفة ... وطرزتها بما تهمي من الدرر
تبرجت فسبت منا العيون هوى ... وفتنة بعد طول الستر والخفر فأوجدني سبيلا إلى إعمال بصري فيها، لأجلو بصيرتي بمحاسن نواحيها، والفصل على أن يكمل أوانه، وينصرم وقته وزمانه، فلا تخلني من بعض التشفي منه، لأصدر نفسي متيقظة عنه، فالنفوس تصدأ كما يصدأ الحديد، ومن أجمها فهو السديد الرشيد.
وله من أخرى إلى بعض إخوانه: قد علم سيدي أن بمرآه يكمل جذلي، ويدنو أملي، وقد خللت محلا عني الجو بتحسينه، وانفرد الربيع بتحصينه، فكساه حللا من الأنوار، بها ينجلي صدأ البصائر والأبصار، فمن مكتوم يعبق مسكه، ولا يمنعه مسكه، ومن باد يروق مجتلاه، ويفوق مجتناه، في مرآه ورياه، فتفضل بالخفوف نحوي، وتعجيل اللحاق بي، لنجدد من الأنس مغاني درست، ونفك من السرور معاني قد أشكلت وألبست(3/126)
ونشكر للربيع، ما أرانا من البديع.
قال ابن بسام: ووجدت لأبي الوليد هذا رسالة عارض بها أبا حفص ابن برد في رسالته في تقديم الورد على سائر الأزهار، فخرج فيها أبو الوليد - خروج أبي حفص بن برد - على الورد، ودعا إلى البهار، وأسمع سائر الأنوار، فنصبه إماما، ولولا اشتهار فضل الورد لكانت لزاما، وقد اقتضبت من الرسالتين قبض فصول، تخفيفا للتثقيل، وجمعا للشمل،، ومقابلة للشكل، وقدمت رسالة ابن برد، على حكم الإحسان ومقتضى النقد، وهي رقعة خاطب بها ابن جهور قال فيها:
أما بعد، يا سيدي ومن أنا أفديه، فإنه ذكر بعض أهل الأدب المتقدمين فيه، وذوي الظرف المعتنين بملح معانيه، أن صنوفا من الرياحين، وأجناسا من أنوار البساتين، جمعها في بعض الأزمنة خاطر خطر بنفوسها، وهاجس هجس في ضمائرها، لم يكن لها بد من التفاوض فيه والتحاور، والتحاكم من أجله والتناصف، وأجمعت على أن ما ثبت في ذلك العهد، ونفذ من الحلف، ماض على من غاب شخصه، ولم يئن منها وقته، فقام منها قائمها فقال: يا معشر الشجر، وعامة الزهر، إن الله تعالى اللطيف الخبير [25 ب] الذي خلق المخلوقات، وذرأ البريات، باين بين أشكالها وصفاتها، وباعد بين منحها وأعطياتها، فجعل عبدا وملكا، وخلق قبيحا(3/127)
وحسنا، فضل بعضا على بعض حتى اعتدل بعدله الكل، واتسق على لطف قدرته الجميع، فجعل لكل واحد منها جمالا في صورته، ورقة في محاسنه، واعتدالا في قده، وعبقا في نسيمه، ومائية في ديباجته، وقد عطفت علينا الأعين، وثنت إلينا الأنفس، وزهت بمحضرنا المجالس، حتى سفرنا بين الأحبة، ووصلنا أسباب القلوب، وتحملنا لطائف الرسائل، وصيغ فينا القريض، وركبت على محاسننا الأعاريض، فطمح بنا العجب، وازدهانا الكبر، وحملنا تفضيل من فضلنا، وإيثار من آثرنا، على أن نسينا الفكر في أمرنا، والتمهيد لعواقبنا، والطيبب لأخبارنا، وادعينا الفضل بأسره، والكمال بأجمعه، ولم نعلم أن فينا من له المزية علينا، ومن هو أولى بالرئاسة منا، وهو الورد الذي إن بذلنا الإنصاف من أنفسنا ولم نسبح في بحر عمانا، ولم نمل مع هوانا، دنا له، ودعونا إليه، فمن لقيه منا حياه بالملك، ومن لم يدرك زمن سلطانه، ودولة أوانه، اعتقد ما عقد عليه، ولبى ما دعي إليه، فهو الأكرم حسبا، والأشرف زمنا، إن فقد عينه لم يفقد أثره، أو غاب شخصه لم يغب عرفه، وهو أحمر والحمرة لون الدم، والدم صديق الروح، وهو كالياقوت المنضد، في أطباق الزبرجد، وعليها فرائد العسجد، وأما الأشعار فبمحاسنه حسنت، وباعتدال جماله وزنت.(3/128)
وفي فصل منها: وكان ممن حضر هذا المجلس من رؤساء الأنوال والأزهار، النرجس الأصفر والبهار، والبنفسج والخيري النمام. فقال النرجس الأصفر: والذي مهد لي حجر الثرى، وأرضعني ثدي الحيا، لقد جئت بها أوضح من لبة الصباح، وأسطع من لسان المصباح، ولقد كنت أسر من التعبد له والشغف به، والأسف على تعاقب الموت دون لقائه، ما أنحل جسمي، ومكن سقمي، وإذ قد أمكن البوح بالشكوى، فقد خف ثقل البلوى.
ثم قام البنفسج فقال: على الخبير سقطت، أنا والله المتعبد له، والداعي إليه، المشغوف به، وكفى ما بوجهي من ندوب، ولكن في التأسي بك أنس.
ثم قام البهار فقال: لا تنظرن إلى غضارة منبتي، ونضارة ورقي ورقتي، وانظروا إلي وقد صرت حدقة باهتة تشير إليه، وعينا شاخصة تندى بكاء عليه:
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي ثم قام الخيري فقال: والذي أعطاه الفضل دوني، ومد له بالبيعة يميني، ما اجترأت قط إجلالا له، واستحياء منه، على أن أتنفس نهارا، أو أساعد في لذة صديقا أو جارا، فلذلك جعلت الليل سترا، واتخذت جوانحه كنا.(3/129)
فلما استوت آراؤها قالت: إن لنا أصحابا، وأشكالا وأترابا، لا نلتقي بها في زمن، ولا نجاورها في وطن، فهلم فلنكتب بذلك عقدا ينفذ على الأقاصي والأداني؛ فكتبوا رقعة نسختها: هذا ما تحالف عليه أصناف الشجر، وضروب الزهر، وسميها وشتويها، وربيعيها وقيظيها، حيث ما نجمت من وهاد أو ربوة، وتفتحت من قرارة أو حديقة، عندما راجعت من بصائرها، وألهمت من مراشدها، [واعترفت بما سلف] من هفواتها، وأعطت للورد قيادها، وملكته أمرها، وعرفت أنه أميرها المقدم لخصاله فيها، والمؤمر لسوابقه عليها، واعتقدت له السمع والطاعة، والتزمت له الرق والعبودية، وبرئت من كل زهر نازعته نفسه المباهاة له، والانتزاء عليه، في كل وطن، ومع كل زمن، فإنه زهرة قضى عليها لسان الأيام هذا الحلف، فلتعرف أن إرشادها فيه، وقيام أمرها به.
وأما رسالة أبي الوليد فخاطب [26 أ] بها المعتضد يومئذ [قال] فيها: فأول من رأى ذلك الكتاب، وعاين الخطاب، نواوير فصل الربيع التي هي جيرة الورد في الوطن، وصحابته في الزمن، ولما قرأته أنكرت(3/130)
ما فيه، وبنت على هدم مبانيه، ونقض معانيه، وعرفت الورد بما عليه، فيما نسب إليه، من استحقاقه ما لا يستحقه، واستئهاله ما لا يستأهله، ورأت أن مخاطبة من أخطأ تلك الخطية، وأدنى من نفسه تلك الدنية، تدبير دبري، ورأي غير مرضي، فكتبت إلى الأقحوان والخيري الأصفر كتابا قالت فيه: لو استحق الورد إمامة، واستوجب خلافة، لبادرتها آباؤنا، ولعقدها أوائلنا، التي لم تزل تجاوره في مكانه، وتجيء معه في أوانه؛ ولا ندري لأي شيء أوجبت تقديمه، ورأت تأهيله، بما غيره أشكل له وأحق به، وهو نور البهار، البادي فضله بدو النهار، والذي لم يزل عند علماء الشعراء، وحكماء البلغاء، مشبها بالعيون التي لا يحول نظرها، ولا يحور حورها، وأفضل تشبيه الورد بنضرة الخد عند من تشيع فيه؛ وأشرف الحواس العين، إذ هي كل متول عين، وليس الخد حاسة، فكيف تبلغه رئاسة -:
أين الخدود من العيون نفاسة ... ورئاسة لولا القياس الفاسد وأصح تشبيه الورد وأقربه من الحق قول ابن الرومي في الشعر الطائي ولقد وافق ووفق، وشبه فحقق.(3/131)
وطول أبو الوليد في رسالته هذه، وختمها بمبايعة الأزهار للبهار، فرجعت عن تقديم الورد في خبر طويل.
ومن شعر أبي الوليد في أوصاف شتى
قال يصف وردا بعث به إلى أبيه:
يا من تأزر بالمكارم وارتدى ... بالمجد والفضل الرفيع الفائق
انظر إلى خد الربيع مركبا ... في وجه هذا المهرجان الرائق
ورد تقدم إذ تأخر واغتدى ... في الحسن والإحسان أول سابق
وافاك مشتملا بثوب حيائه ... خجلا لأن حياك آخر لاحق وقال فيه:
إنما الورد في ذرى شجراته ... كأجل الملوك في هيئاته
نفحة المسك من شذا نفحاته ... خجل الخد من سنا خجلاته
مزجت حمرة اليواقيت بالدر ... فجاءت به على حسب ذاته
مثل ما جاء من سماح وبأس ... خلق الحميري سم عداته
إن يعد فالوفاء حتم عليه ... فرضه في صلاته كصلاته وقال:(3/132)
أتى الباقلاء الباقل اللون لابسا ... لبرد سماء من سحائبها غذي
ترى نوره يلتاح في ورقاته ... كبلق جياد في جلال زمرذ وقال:
كأن نور الكتان حين بدا ... وقد جلا حسنه صدا الأنفس
أكف فيروزج معاصمها ... قد سترتهن خضرة الملبس [26 ب]
أو لا فزرق الياقوت قد وضعت ... على بساط يروق من سندس وقال:
وقهوة لا يحدها مبصر ... رقت وراقت في أعين النظر
إذا دنت فالسرور مبتسم ... وإن نأت فالسرور مستعبر
كأنها والحباب يحجبها ... بحر من التبر يقذف الجوهر
غنيت عنها فلست أقربها ... بناظر منه يسكر المسكر وبيته الثالث في هذه من التشبيه الذي ما له من شبيه، وأما بيته الأخير منها فمن قول ذي الرمة:
وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولان بالألباب ما تفعل الخمر وزاد أبو الوليد زيادة حسنة: لم يقنع أن يفعل ناظره فعل الخمر حتى أسكرها منه. وقال:(3/133)
وكأس لها كيس على اللب والعقل ... شمول تريك الأنس مجتمع الشمل
كأن حباب الماء في جنباتها ... دروع لجين قد جلتها يد الصقل
تزيد ذوي الألباب فضلا ولم تزل ... تديل بطبع الجود من طبع البخل
غنيت بمن أهواه عن نشواتها ... فمن طرفه خمري ومن ريقه نقلي وقال:
حمام بلحظك قد حم لي ... فما زال يهدي إلى مقتلي
وإن لم تغثني بمعنى الحياة ... من ريق مبسمك السلسل
فها أنا قاض بداء الهوى ... وقاضي جمالك لم يعدل
فيا ليت قبري حيث الهوى ... فأكرم بذلك من منزل
عسى من تلفت بحبي له ... يرق على ذي بلاء بلي
فإن جاد بالوصل بعد الوفاة ... رجعت إلى عيشي الأول
فيا صاحبي هناك احفرا ... ولا تحفرا لي بقطربل
إذا ما أدرت كؤوس الهوى ... ففي شربها لست بالمؤتلي
مدام تعتق بالناظرين ... وتلك تعتق بالأرجل وهذا البيت مما أغرب به على الألباب، وأعرب فيه عن موضعه من الصواب، وبينه وبين قول أبي الطيب شبه بعيد، ولكن لأبي الوليد فضل التوليد، وحسن من النقل ليس عليه مزيد، وهو قوله:(3/134)
انظر إذا اختلف السيفان في رهج ... إلى اختلافهما في الخلق والعمل
هذا أعد لريب الدهر منصلتا ... وعد ذاك لرأس الفارس البطل وقال الآخر وإن لم يكن به:
بالهند تطبع أسياف الحديد وفي ... بغداد تطبع أسياف من الحدق الأديب أبو جعفر أحمد بن الأبار
أحد شعراء المعتضد المحسنين المتقين [27 أ] انتحل الشعر فافتن وتصرف، وعني بالعلم فجمع وصنف، وله في صناعة النظم فضل لا يرد، وإحسان لا يعد، وقد كتبت طرفا مما أبدع، ليكون أعدل شاهد على أنه تقدم وبرع.
ما أخرجته من شعره في أوصاف شتى
قال:
لم تدر ما خلدت عيناك في خلدي ... من الغرام ولا ما كابدت كبدي(3/135)
أفديك من زائر رام الدنو فلم ... يسطعه من غرق في الدمع متقد
خاف العيون فوافاني على عجل ... معطلا جيده إلا من الغيد
عاطيته الكأس فاستحيت مدامتها ... من ذلك الشنب المعسول بالبرد
حتى إذا غازلت أجفانه سنة ... وصيرته كفك يد الصهباء طوع يدي
أردت توسيده خدي وقل له ... فقال كفك عندي أفضل الوسد
فبات في حرم لا غدر يذعره ... وبت ظمآن لم أصدر ولم أرد
بدر ألم وبدر التم ممتحق ... والأفق محلولك الأرجاء من حسد
تحير الليل فيه أين مطلعه ... أما درى الليل أن البدر في عضدي قال ابن بسام: وقد رأيت من يروي هذه القطعة لإدريس بن اليماني، وهو الأشبه بما له من الألفاظ والمعاني، وهي لمن كانت له منهما رائقة، ومتأخرة سابقة، في التزام العفاف مع السلاف؛ وما سمعت بأبدع منها لأحد من أهل هذا الأفق. وإنما أثبت هنا بعض مقطوعات في معناها لأهل المشرق ثم أعود لإيراد ملح أهل أفقنا، وأرجع إليها وأكر بعد عليها، وأقدم أولا الحديث: " من أحب فعف ومات فهو شهيد "، والعفاف مع البذل، كالاستطاعة مع الفعل، ولله در صريع الغواني، فهو صاحب بديع في أكثر المعاني، كقوله:
ألا رب يوم: صادق العيش نلته ... بها ونداماي العفافة والبذل(3/136)
وقال الآخر:
وبتنا فويق الحي لا نحن منهم ... ولا نحن بالأعداء مختلطان
وبات يقينا ساقط الطل والندى ... من الليل بردا يمنة عطران
نعدي بذكر الله في ذات بيننا ... إذا كان قلبانا بنا يردان
ونصدر عن ري العفاف وربما ... نقعنا غليل النفس بالرشفات وقال الصمة القشيري:
بنفسي من لو مر برد بنانه ... على كبدي كانت شفاء أنامله
ومن هابني في كل شيء وهبته ... فلا هو يبداني ولا أنا سائله وقال القس المكي:
أهابك أن أقول بذلت نفسي ... ولو أني أطعت القلب قالا [27 ب]
حياء منك حتى سل جسمي ... وشق علي كتماني وطالا وقال العباس بن الأحنف:
أتأذنون لصب في زيارتكم ... فعندكم شهوات السمع والبصر
لا يضمر السوء إن طالت إقامته ... عف الضمير ولكن فاسق النظر(3/137)
ولبعض الطالبيين:
رموني وإياها بشنعاء هم بها ... أحق أدال الله منهم وعجلا
بأمر تركناه ورب محمد ... جميعا فإما عفة أو تجملا وقال سعيد بن حميد:
زائر زارنا على غير وعد ... مخطف الكشح مثقل الأرداف
غالب الخوف حين غالبه الشو ... ق وأخفى الهوى وليس بخاف
غض طرفي عنه تقى الله واختر ... ت على بذله بقاء التصافي
ثم ولى والخوف قد هز عطفي ... هـ ولم نخل من لباس العفاف وأنشد الصولي لأبي حاتم السجستاني في أبي العباس المبرد، وكان يلزم حلقته، وهو غلام وسيم:
ماذا لقيت اليوم من ... متمجن خنث الكلام
وقف الجمال بوجهه ... فسمت له حدق الأنام
حركاته وسكونه ... تجنى بها ثمر الأثام
وإذا خلوت بمثله ... وعزمت فيه على اعتزام
لم أعد أفعال العفا ... ف وذاك أكرم للغرام
نفسي فداؤك يا أبا ال ... عباس حل بك اعتصامي
فارحم أخاك فإنه ... نزر الكرى بادي السقام
وأنله ما دون الحرا ... م فليس يطمع في الحرام(3/138)
وكان أبو حاتم يتصدق كل يوم بدينار، ويختم القرآن في كل أسبوع.
واجتمع أبو العباس بن سريج الشافعي وأبو بكر بن داود القياسي في مجلس الوزير ابن الجراح فتناظر في الايلاء، فقال له ابن سريج: أنت بقولك " من كثرت لحظاته دامت حسراته "، أبصر منك بالكلام في الإيلاء؛ فقال أبو بكر: لئن قلت ذلك فإني أقول:
أنزه في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما
وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه ... يصب على الصخر الأصم تهدما
وينظر طرفي عن مترجم خاطري ... فلولا اختلاسي رده لتكلما
رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم ... فلست أرى حبا صحيحا مسلما فقال أبو العباس: لم تفتخر علي، ولو شئت أنا أيضاً لقلت: [128 أ]
ومطاعم للشهد من نفثاته ... قد بت أمنعه لذيذ سناته
ضنا بحسن حديثه وكلامه ... وأكرر اللحظات في وجناته
حتى إذا ما الصبح لاح عموده ... ولى بخاتم ربه وبراته فقال أبو بكر: يحفظ عليه ما قال، حتى يقيم عليه شاهدي عدل أنه ولى بخاتم ربه، قال أبو العباس: يلزمني في ذلك ما يلزمك في قولك:
أنزه في روض المحاسن مقلتي ... البيت. ...(3/139)
فضحك الوزير ابن الجراح، وقال لقد اجتمعنا ظرفا ولطفا وفهما وعلما.
وقال الشريف الرضي:
بتنا ضجيعين في ثوبي هوى وتقى ... يلفنا الشوق من قرن إلى قدم
وبات بارق ذاك الثغر يوضح لي ... مواقع اللثم في داج من الظلم
وباتت الريح كالغيرى تجاذبنا ... على الكثيب فضول الريط واللمم
يولع الطل بردينا وقد نسمت ... رويحة الفجر بين الضال والسلم
وأكتم الصبح عنها بردا وهي عافلة ... حتى تكلم عصفور على علم
فقمت أنفض بردا ما تعلقه ... غير العفاف وراء الغيب والكرم وقال المتنبي:
وأشنب معسول الثنيات واضح ... سترت فمي عنه فقبل مفرقتي
وأجياد غزلان كجيدك زرنني ... فلم أتبين عاطلا من مطوق وقال:
يرد يدا عن ثوبها وهو قادر ... ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد وهذا المعنى في شعرهم أكثر من أن يحصى.
وأثبت هنا أيضاً مقطوعات أبيات ليغر واحد ممن تقدم ابن الأبار في(3/140)
ذكر العفاف، ثم أعود بعد إلى ماله من الأشعار في سائر الأوصاف:
قال الرمادي:
وليلة راقبت فيها الهوى ... على رقيب غير وسنان
والراح ما تنزل من راحتي ... وقتا ومن راحة ندماني
ورب يوم قيظه منضج ... كأنه أحشاء ظمآن
أبرز في خديه لي رشحه ... طلا على ورد وسوسان
وكان في تحليل أزراره ... أقود لي من ألف شيطان
فتحت الجنة من جيبه ... فبت في دعوة رضوان
مروة في الحب تنهى بأن ... يجاهر الله بعصيان وقال من أخرى:
ليالي بعت العاذلين إمامتي ... بفتكي ووليت الوشاة أذاني
وإذ لي ندمانان: ساق وقينة ... رشيقان بالأرواح يمتزجان
أمد إلى الطاووس في تارة يدي ... وفي تارة آوي إلى الورشان
وكنت أدير الكأس حتى أراهما ... يميلان من سكر ويعتدلان [28 ب]
فكانا بما في الجسم من رقة الضنى ... يكادان عند الضم يلتقيان
ونفضي إلى نوم فإن كنت جاهلا ... مكاني فوسطى العقد كان مكاني
فلو تبصر المضنى وبداره حوله ... لقلت السها من حوله القمران
وما بي فخر بالفجور وإنما ... نصيب فجوري الرشف والشفتان وقال الحصري الكفيف:(3/141)
قالت وهبتك مهجتي فخذ ... ودع الفراش ونم على فخذي
وثنت إلى مثل الكثيب يدي ... فأجبتها نعم الأريكة ذي
وهممت لكن قال لي أدبي ... بالله من شيطانها استعذ
قالت: عففت فعفت، قلت لها ... مذ شبت باللذات لم ألذ ولابن فرج الجياني:
وطائعة الوصال عففت عنها ... وما الشيطان فيها بالمطاع
بدت في الليل سافرة فباتت ... دياجي الليل سافرة القناع
وما من لحظة إلا وفيها ... إلى فتن القلوب لها دواعي
فملكت الهوى جمحات شوقي ... لأجري في العفاف على طباعي
وبت بها مبيت الطفل يظما ... فيمنعه الفطام عن الرضاع
كذاك الروض ما فيه لمثلي ... سوى نظر وشم من متاع
ولست من السوائم مهملات ... فأتخذ الرياض من المراعي قال ابن بسام: وابن فرج هذا ممن تقدمني في نشر محاسن أهل هذه الجزيرة، وإظهار خبايا فضائلهم المشهورة؛ فعارض كتاب " الزهرة " للأصبهاني بتصنيف رائق ترجمة ب - " كتاب الحدائق "، فإن لا يكن سبق بالزمان، فلقد زاحم بالإحسان، وله شعر مشهور له فيه إحسان كثير كقوله، وهو من مليح الوصف في العفاف عن الطيف:(3/142)
بأيهما أنا في الحب باد ... بشكر الطيف أم شكر الرقاد
سرى فازداد بي أملي ولكن ... عففت فلم أنل منه مرادي
وما في النوم من حرج ولكن ... جريت من العفاف على اعتيادي أخذه من قول المتنبي:
يرد يدا عن ثوبها وهو قادر ... البيت. ... كأنه لما عف في اليقظة جرى على عادته في النوم.
ولابن الأبار في هذا عدة أشعار، منها قوله:
ومعرض بالغصن في حركاته ... تسل القلوب العفو من لحظاته
عاطيته كأسا كأن سلافها ... من ريقه المعسول أو وجناته
حتى إذا ما السكر مال بعطفه ... وعنا بحكم الوصل في نشواته
هصرت يدي منه بغصن ناعم ... لم أجن غير الحل من ثمراته [29 أ]
وأطعت سلطان العفاف تكرما ... والمرء مجيول على عاداته وقال:
ومنعم غض القطاف ... عذب الغروب للارتشاف
قد صيغ من در الجما ... ل وصين في صدف العفاف
وسقته أندية الشبا ... ب بمائها حتى أناف
فتروضت عنه الريا ... ض وسلفت منه السلاف(3/143)
مهما أردت وفاقه ... يوما تعرض للخلاف
لما تصدى للصدو ... د ومال نحو الإنحراف
هيأت من شركي له ... فعل اللطاف من الظراف
فسقيته ماء بها ... وأدرت صافية بصاف
حتى ترنح مائلا ... كالغصن مال به انعطاف
فوردت جنة نحره ... ونعيمها داني القطاف
وضممت ناعم عطفه ... ضم المضاف إلى المضاف
فورعت في حين الجنى ... وكففت عن فوق الكفاف
وعصيت سلطان الهوى ... وأطعت سلطان العفاف وما أملح هذه الملح، وما أقبح ما أنشدت في ضدها لعبد الجليل، حيث يقول:
تعرض لي ليسقط في حبالي ... سقوط تعمد شبه اتفاق
وبات على المدامة لي نديما ... وبين جفونه للغنج ساقي
إلى أن مال من سنة الحميا ... وقام الليل ممدود الرواق
وحل معاقد الهميان عنه ... بسبط كان يعقدها رقاق
وصار على كرامته بساطا ... ولفت بيننا ساق بساق وبعده ما أضربت عنه، وصنت كتابي منه.(3/144)
وأنشدني أبو بكر الداني لنفسه:
أتوب لله من هوى رشأ ... غيره بالعطاء من غير
ليس معي خاتم ولا فنك ... ولا شراب إناؤه عنبر
وإنما كان شرطه قدحا ... وكان شرطي عليه أن يسكر وممن رأيته أولع بهذه الأوصاف وشغف، وصرف فيها الكلام فتصرف، الأديب أبو القاسم المعروف بالمنيشي الاشبيلي، أنشدني لنفسه من جملة قصيدة:
وعجزاء حوراء وفق الهوى ... تحيرت فيها وفي أمرها
غلامية ليس في جسمها ... مكان دقيق سوى خصرها
إذا أدبرت أو إذا أقبلت ... ففي فرها الموت أو كرها
ولما خلونا ورق الكلام ... دفعت بكفي في صدرها [29 ب]
ومن لا أسميه مثل القناة ... فألقت ذراعا على عشرها
فما زلت أجمع طعنا وضربا ... على زيدها وعلى عمرها
وصارفتها العين هذا بذاك ... وقد شدت السوق من أزرها
فأعطيتها المحض من فضتي ... وأعطتني المحض من تبرها قوله: " ولما خلونا ورق الكلام "، من قول امرئ القيس:(3/145)
وصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ... ورضت فذلت صعبة أي إذلال وأخذه الآخر فقال يصف كتاباً:
وفيه الوصل يشرق جانباه ... وقد رق التشكي والخطاب وقال ابن الرومي:
كادت لعرفان النوى ألفاظها ... من رقة الشكوى تكون دموعا وقوله: " غلامية " ... البيت، معنىً كثر ترداده، وطال منهم تعمده واعتماده، وأرى أيضاً أن أول من أشار إليه ونبه عليه الملك الضليل، حيث يقول:
متى ما ترق العين فيه تسهل ... البيت ... غير أنه ورد مقلص الذيل، بهيم الليل، وقد بينه بقوله:
له أيطلا ظبي وساقا نعامةٍ ... ثم نقله الشعراء بعد كل على مقدار ما أوتي من البيان، ووهب من الإحسان، فقال الأعرابي:
عقيلية أما ملاث إزارها ... فدعص وأما خصرها فبتيل وقال الآخر:(3/146)
تساهم ثوبها ففي الدرع رادة ... وفي المرط لفاوان ردفهما عبل وقال ابن ربيعة:
خود وقير نصفها ... ونصفها مهفهف ونسخه أبو تمام فقال:
تشكى الأين من نصف سريع ... إذا قامت ومن نصف بطي وقال الأخطل:
أسيله مجرى الدمع أما وشاحها ... فيجري وأما القلب منها فلا يجري وهذا كقول خالد بن يزيد:
تجول خلاخيل النساء ولا أرى ... لرملة خلخالا يجول ولا قلبا ومدحهم بضمور الكشح، وجولان الوشح، وصموت القلب والخلخال، وامتناع الخدام من الحجال، كثير، ومنه قول النابغة:
على أن حجليها وإن قلت أوسعا ... صموتان من ملء وقلة منطق وقال الطائي:(3/147)
من الهيف لو أن الخلاخيل صيرت ... لها وشحا جالت عليها الخلاخل وقال ابن أبي زرعة:
استكتمت خلخالها ومشت ... تحت الظلام به فما نظقا
حتى إذا ريح الصبا نسمت ... ملأ العبير بنشرها الطرقا وقال المتنبي:
وخصر تثبت الأبصار فيه ... كأن عليه من حدق نطاقا وقلبه الناجم فقال:
مسلولة الكل غير بطن ... مثقل فهي عنكبوت
حجولها الدهر في اصطخاب ... ووشحها كظم صموت وما أحسن قول القائل فإنه ترك اللفظ المطروق، واختصر على كافة الشعراء الطريق:
أبت الروادف والثدي لقمصها ... مس البطون وأن تمس ظهورا
وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... نبهن حاسدة وهجن غيورا وحسنه بعض أهل أفقنا فقال:
إن العزيز علي خصرك إنه ... بالردف حمل منك ما لا يحمل(3/148)
وإنما أخذه من قول المتنبي:
أعارني سقم عينيه وحملني ... من الهوى ثقل ما تحوي مآزره قال ابن بسام: وهذا الباب واسع الميدان، متلف الأغصان، وإنما ألمع مع كل معنى بيسير، وأثير حصاة من ثبير.
وقول أبي القاسم المذكور: " على زيدها وعلى عمرها " من الكنايات المختارة، والسامع يفهم الإشارة، وإنما نبهته على هذا التعريض، وأرته كيف يأخذ في هذه العروض، إحدى من جاهرت بالصبوة، وتجاوزت طلق الجموح في ميدان الشهوة فقالت: إن ضم قضقض، وإن دسر أغمض، وإن أخل أحمض.
وقال أبو القاسم من أخرى:
وخشفية الألحاظ والجيد والحشا ... ولكن لها فضل القبول على الخشف
ثتنى على مثل العنان إذا التوى ... وقد عقدوها للفسوق على النصف
وليس كما قال الجهول تقسمت ... فبعض إلى غصن وبعض إلى حقف ومنها:
سعت في سبيل الفتك والفتك بيننا ... إشارة لحظ تنسخ النكر بالعرف(3/149)
ومنها:
وما شئت من عض الحلي ورضه ... وما شئت من صك الخلاخل والشنف قوله: " خشيفة الألحاظ " معنى مشهور، ومنه قول مجنون بني عامر:
أيا شبه ليلى لا تراعي فانني ... لك اليوم من وحشيةٍ لصديق وقوله: " وما شئت من عض الحلي " ... البيت، كقول الآخر:
باعتناقٍ يذوب منه حصى اليا ... قوت ضما وتطمئن النهود وقال أبو بكر الداني:
ضممتها ضم مشتاقٍ إلى كبدي ... حتى توهمت أن الحلي ينكسر [30ب] وقال ابن عمار:
ضماً ولثماً يغني الحلي بينهما ... كما تجاوب أطيار بأطيار وقوله: " وما شئت من صك الخلاخل بالشنف " فانه صك به وجه بعض أهل عصرنا حيث يقول:
وجمعت بين القرط والخلخال ... ومن مجون ابن الأبار قوله مما يضارع ما تقدم:
زارني خيفة الرقيب مريبا ... يتشكى القضيب منه الكثيبا(3/150)
رشأ راش لي سهام المنايا ... من جفونٍ يصمي بهن القلوبا
قال لي: ما ترى الرقيب مطلاً ... قلت ذره أتى الجناب الرحيبا
عاطه أكؤس المدام دراكاً ... وأدرها عليه كوباً فكوبا
واسقنيها بخمر عينيك صرفاً ... واجعل الكأس منك ثغراً شنيبا
ثم لما أن نام من نتقيه ... وتلقى الكرى سميعاً مجيبا
قال لا بد أن تدب إليه ... قلت أبغى رشاً وآخذ ذيبا -!
قال فابدأ بنا وثن عليه ... قلت كلا لقد دفعت قريبا
فوثبنا على الغزال ركوبا ... ودببنا إلى الرقيب دبيبا
فهل آبصرت أو سمعت بصب ... محبوبه وناك الرقيبا قال ابن بسام: ولقد ظرف ابن الأبار واستهتر ما شاء وندر، وأظنه لو قدر على إبليس الذي تولى له نظم هذا السلك، وأوطأ له ثبج هذا الملك، لدب إليه، ووثب أيضاً عليه، وأبو نواس، سهل هذا السبيل للناس، حيث يقول:
نكنا رسول عنانٍ ... والرأي فيما فعلنا
فكان خبزاً بملحٍ ... قبل الشواء أكلنا(3/151)
ومن أناشيد الثعالبي:
لي أبر أراحني الله منه ... صار همي به عريضاً طويلا
نام إذ زارني الحبيب عناداً ... ولعهدي به ينك الرسولا
حسبت زورةً لشقوة جدي ... فافترقنا وما شفينا غليلا وقرأت في بعض الملح خبراً له بهذا الموضع، بعض موقع؛ قال بعضهم: مشيت فإذا أنا بصديقٍ من أهل اليسار خارجاً من دار بغي، فقلت له: أيكون عندك أربع حرائر، وأكثر من ستين سرية، وتأتي مثل هذه الدنية -! فقال: اسكت. مثل الكلب ينابح من طرأ عليه ولا يتعرض لمن اختلط به.
وقد قلت إن الحسن بن هاني، أكثر من هذه المعاني، حتى منعه الأمين محمد بن هارون عن ذلك؛ وله في وصف الشراب، وما يتعلق بهذه الأسباب، شعر كثير، كقوله:
قد هجرت المدام والندمان ... وتمتعت ما كفاني زمانا
ونهاني خليفة الله أن لا ... أقرب الخندريس والغلمانا [31أ]
وخشيت الهلاك إن لم أطعه ... ودعتني نفسي إليهم عيانا(3/152)
وغزال سقيته الراح حتى ... أضعفت منه مقلةً ولسانا
قال: لا تسكرنني بحياتي ... قلت: لا بد أن ترى سكرانا
إن لي حاجةً إذا نم - ... ت فإن شئت فاقضها يقظانا
فتلكا تلكؤا بانخناثٍ ... ثم أصغى لما أردت فكانا واشتهار شعره، يمنعني من ذكره.
وممن سلك أيضاً هذه السبيل من الشعراء المجاهرين بالمجون، الناطقين بألسن الشياطين، الفرزدق، بقوله:
هما دلتاني من ثمانين قامةً ... كما انقض باز أفتخ الريش كاسره وهو قصيد مشهور، وقد عيره به جرير فقال:
تدلى ليزني من ثمانين قامةً ... وقصر عن باع العلا والمكارم ومن محاورات امرئ القيس التي تقدم الناس فيها قوله:
تقوله وقد جردتها من ثيابها ... كما رعت مكحول المدامع أتلعا
وعيشك لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا وزاد فيه ابن أبي ربيعة فقال:(3/153)
ناهدة الثديين قلت لها اتكي ... على الأرض في ديمومةٍ لم توسد
فقالت على اسم الله أمرك طائع ... وإن كنت قد عودت ما لم أعود وذكرت بقوله: " على اسم الله " ما أنشده ثابت في كتابه " في خلق الإنسان " مما له بهذا بعض تعلق:
تقول إذ أعجبها عتوره ... وغاب في كعثبها جذموره أستقدر الله وأستخيره ... وقال أبو نواس أيضاً:
فبتنا يرانا الله شر عصابةٍ ... نجرر أذيال الفسوق ولا فخر وهو القائل:
عصابة شرٍ م تر الدهر مثلهم ... وإن كنت منهم لا برياً ولا صفرا
إذا ما أتى وقت الصلاة رأيتهم ... يحثونها حتى تفوتهم سكرا وقال والبة بن الحباب:(3/154)
قلت لندماني على خلوةٍ ... أدن كذا رأسك من رأسي
ونم على جنبك لي ساعةً ... إني امرؤ أنكح جلاسي وقال سحيم:
وبتنا وسادانا إلى علجانة ... وحقف تهاداه الرياح تهاديا
توسدني كفاً وتثني بمعصم ... عليّ وتلوي رجلها من ورائيا [31ب] وممن كنى ولم يصرح ابن المعتز بقوله:
وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر قال ابن بسام: والباب طويل والاكثار مملول، وتتبع كل معنىً يعترض، يخرج بي عن الغرض، فإن سكت فترفيهاً، وان ألمعت بشيءٍ فدلالةً على الأدب وتنبيهاً.
سائر أشعار ابن الأبار في أوصاف شتى
غني يوماً بشعر ابن الرومي حيث يقول:
وحديثها السحر الحلال لو أنه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز فسأله الوزير الشيخ أبو الوليد ابن المعلم الزيادة فيها، فقال:(3/155)
راق الرياض بزهره وبزهوه ... فتحيرت في معجبٍ بل معوز
عاقرت من طربٍ عليه عقارةً ... صفراء تعزى للنحول وأعتزي
لكن تميز في الكؤوس بنورها ... وبهائها، وبقيت غير مميز وقال:
نطق العود فعاتب من نطق ... واصطحبها مزةً أو فاغتبق
لا تدعها قهوةً كرخيةً ... لم يدعها نوح إذ خاف الغرق
خلتها في كأسها إذ شعشعت ... شفقاً تلبس أثواب الفلق
قهوة رقت وراقت كأبي ... عمرو الرائق خلقاً وخلق
حاجب ما إن ثنى أنمله ... بالعطايا والمنايا تندفق
هو والإفضال روض وصبا ... هو والعلياء عقد وعنق
هو والأملاك إن قيسوا به ... مهيع بين بنيات الطرق قوله: " لم يدعها نوح " أشار إلى ما روي في بعض الأحاديث: إن الشجرة التي أكل آدم عليه السلام منها في الجنة المنهيّ عنها شجرة العنب. وروي أيضاً أن نوحتً عليه السلام لما نزل عن السفينة نازعه إبليس أصل العنب، فاصطلحا على أن لنوح الثلث، ولإبليس الثلثان، وإلى هذا أشار يوسف بن هارون الرمادي بقوله، وهي من ملحه:
أفي الخمر لامت خلتي مستهامها ... كفرت بكأسي أن أطعت ملامها
لمحمولةٍ في الفلك من جنة المنى ... قد أوصي نوح غرسها وضمامها
فخادعه إبليس عنها لعلمه ... بها فرأى كتمانها واغتنامها(3/156)
ففاز بثلثيها ونوح بثلثها ... ولولا مغيبي عنه لم يك رامها
له حظ أنثى وهو حظ مذكر ... قليل لعيني أن تطيل انسجامها
وإنا لوراث، وقد مات جدنا ... غبيناً، وإنا لا نجيز اقتسامها ومن قصائد ابن الأبار الطويلة في المدح
له من قصيدة في إسماعيل [32أ] بن عباد قال فيها:
حييت من برق يجن جنانه ... وجداً إلى أهل الدخول دخيلا
كالأته سهراً وبات مكالئي ... حتى رأيت اللحظ منه كليلا
والصبح يشهر من سناه صوارماً ... والليل يرفع من دجاه سدولا
وكأن جنح الليل طرف أدهم ... متضمن من صبحه تحجيلا
وكأن غائرة النجوم بأفقها ... عن وجهه تغضي عيوناً حولا
وكأنما الجوزاء إذ بصرت به ... ألقت إليه نطاقها محلولا
عذلوا ولو عدلوا أو اسطاع الهوى ... نطقاً لكان العاذل المعذولا
لا تكثروا فالحب في حوبائه ... كالحمد في أسماع اسماعيلا
ملك إذا الهبوات أظلم جنحها ... في معرك جعل الحسام دليلا
راعت وقائع بأسه حتى لقد ... ترك الحمام بنفسه مشغولا
إن كانت الأسد الضواري لا تخا ... ف صياله فلم اتخذن الغيلا(3/157)
إن كانت البيض الصوارم لم تهم ... في حبه فلم اكتسبن نحولا
لم يبتسم ثغر الحجابة زاهياً ... حتى غدا لجبينها إكليلا
لو تخفر العشاق بيض سيوفه ... لم يتركوا عند العيون ذحولا وما أحسن قول (أبي الفضل ابن شرف) :
لم يبق للظلم في أيامهم أثر ... إلا الذي في عيون الغيد من حور وقال المتوكل بن الأفطس في صفة سيفٍ وأخبر عنه:
لولا الفتور بألحاظ الظباء إذن ... لقلت إني أمضي من ظبا الحدق ومن قصيدة ابن الأبار:
غضوا الملاحظ إن نور جبينه ... يعشى العيون ويبهر المعقولا
ولقد خشيت على الثرى وعلى الورى ... لما دنوا من كفه تقبيلا
هل كان يعصم منه إلا عفوه ... لو أن أنمله جرين سيولا الأديب أبو الحسن علي بن حصن الاشبيلي
من مشاهير شعراه المعتضد أيضاً، أحد من راش سهام الألفاظ بالسحر(3/158)
الحلال، وشق كمائم المعاني عن أبين من محاسن ربات الحجال، بين طبع أرق من الهواء، وأعذب من الماء، وعلمٍ أغزر من القطر، وأوسع من الدهر، إذا ذكر شعراً ظن أنه صانعه، أو ديواناً توهم أنه مؤلفه وجامعه واني لأعجب من قومٍ من أهل أفقنا لم يعرفوه ولم ينضفوه، فأضربوا عن ذكره، وزهدوا في أعلاق شعره، ولعلهم حاسبوه بخزعبلاتٍ كان يعبث بها بين مجونه وسكره، وهيهات فضله أشهر، وإحسانه أكثر، ولو تأملوا قوله من قصيدة في إسماعيل بن عباد: [32ب]
بكرت سحرةً قبيل الذهاب ... تنفض المسك عن جناح الغراب وقوله على أنها من عبثاته:
عليّ أن أتذلل ... له وأن يتدلل
خد كأن الثريا ... عليه قرط مسلسل لعلموا أنه رأس الصناعة، وإمام الجماعة.
ولما هيت المعتضد بأبي الوليد بن زيدون فانحط في حبله، وتولى إلى ظله - حسبما قدمت ذكره في أخباره من القسم الأول - أفرج له عن صدر النادي، وخلى بينه وبين بحبوحة الوادي، وهو يظن أن سيجري بالخلاء، ويستولي على حمل اللواء، فانتحاه من ابن حصن هذا شيطان مريد، وطلع عليه منه رقيب عتيد، وطفق ينازعه الراية، ويسابقه إلى(3/159)
الغاية، وإن كان أبو الوليد ربما غمره بمكانه، وتمكنه من سلطانه. وكان المعتضد، لشذوذ مناحيه، وفضل عربدة كانت فيه، ربما أغرى بينهما إذا اجتمعا في مجلسه، فيتمكن لابن حصن التقدم عليه، بسعة ذرعه، ورضاه بالعفو من طبعه؛ وكان ابن زيدون قد جرى من الكلام إلى غاية لا يتعداها، ولا يرضى من نفسه إلا بلوغ أقصاها، ولا يمكنه ذلك منها إلا في مهلةٍ طويلة، وعلى كلفة ثقيلة، فربما كبا جواده، وتأخر مراده، ولم يزل الوليد يطرق ويحلم، ويسدي في أمره ويلحم، وابن حصنٍ يغتر ويقدم، ففاز ابن زيدون بحمله وتوقره، وهوى نجم ابن حصنٍ بين اغتراره وتهوره، فزلت قدمه، وطاح دمه، في خبر مشهورٍ مذكور، " وعند الله تجتمع الخصوم " واليه ينتهي الظالم والمظلوم.
جملة من أشعاره في صفات مختلفة
قال:
ألا قل لبدر الدجى ما عداه ... مما بدا من نوال نوى لي
وهات اشفين غلتي بالمدام ... فإن بنات الدوالي الدوا لي وقال:(3/160)
ورب شعلة نار ... شفيت منها أواري
أليس ذاك عجيبا ... يطفى الغليل بنار -!
كأنما عصرت من ... شقائق الجلنار
إذا بدت لك في قط ... عة من البلار
حسبتها شفقا ص ... ب في زجاج نهار وقال:
قم يا غلام فسقنيها واطرب ... واشرب عتبت عليك إن لم تشرب
من قهوة صفراء ذات أسرة ... في الكأس تأتلق ائتلاق الكوكب
خضبت بنان مديرها بشعاعها ... فعل العرارة في شفاه الربرب وقال:
مالي وللراح وأخلاقها ... ولائمي فيها لإخلاقها
هات اسقنيها الآن تبرية ... تحكي سنا الشمس بإشراقها
راح متى راحت بكفي فقد ... قامت لي الدنيا على ساقها وقال:
ولي نديم راقد ليله ... أعدى من الحين على الأنفس
نادى به مازحنا في الدجى ... والورد مقرون مع النرجس
قلت له: دعه فلا بد من ... نيلوفر في وسط المجلس(3/161)
وقال:
قد شغل الناس بذكري وما ... شغلي إلا الكأس والآس
ماذا على الناس من الناس ما ... أحمق بعض الناس يا ناس [33أ] ومن مستظرف مجونه قوله:
بأبي ظبي صغير الس - ... ن حازت ثلث سني
سرني أن ليس يدري ... مذهبي فيه فني
فهو يدعوني عماً ... وأنا أدعوه يا ابني
ذاك عندي وأبي أطر ... ف ما مر بأذني
قلت لما أن بدا لي ... وجهه (من) تحت بطني
قال ماذا قلته لي - ... قلت خيراً فيك أعني
أنا صب فيك ميت ... فاتق الله وصلني
لست أخشى الموت إلا ... خوف أن تبعد عني
فاكتست وجنته رو ... ضة وردٍ فتنتني
لو ترى مجلس لهوي ... قلت ذا جنة عدن
ومدامي خندريس ... لم يشبها ماء مزن
لو تراني قلت هذا ... ملك ماذا ابن حصن(3/162)
ومعي مسمعة تش - ... رب كأساً وتغني
وإذا ما شربت كأ ... ساً من الراح سقتني
قهوتي خمرٍ وعينٍ ... بهما قد أسكرتني
قلت للمازج خذ صا ... فيةً منها ومني
فاسقينها بكبير ... فإن آعيا فبدن
فلقد شاق فؤادي ... رنة العود المرن
فتساقينا إلى أن ... جاز جوز الليل عني
قمت نشوان وقامت ... في تهادٍ وتثني
ونضت عنها قميصاً ... ثم لما ضاجعتني
قلبت بطناً لبطنٍ ... قلت لا ظهراً لبطن
فانثنت في خجلٍ قا ... ئلةً عند التثني
أنا حانوت بوجهين ... فلط إن شئت وازن
لم أنل من كل ما فهم - ... ت به غير التمني
إنما الشعر فكاها ... ت وحسبي حسن ظني قوله: " قلت لما أن بدا لي وجهه " ... البيت، مما أراد أن يصهل(3/163)
فيه فنهق، وأن يتغزل فزلق، وإنما أراد قول عمر فقصر، وما أورد ولا أصدر، حيث يقول:
قلت يوماً لها وحركت العو ... د بمضرابها فغنت وغنى
ليتني كنت ظهر عودك يوماً ... فإذا ما احتضنته كنت بطنا
فبكت ثن أعرضت ثم قالت ... من بهذا أتاك في اليوم عنا
قلت لما رأيت ذلك منها ... بأبي ما عليك أم أتنمى وقال ابن حصن:
أمت إليه فما يسعف ... وأشكو جفاه فما ينصف
غزال كحيل له ريقة ... يشاب بها المسك والقرقف
كأن العذار على خده ... نجاد ومقلته مرهف وهذا كقول ابن رشيق القيرواني، وهو من متداولات المعاني:
وهل على عارضيه إلا ... قلائد قلدت حساما وقال في الشقر:
وبستانٍ أعدت الطرف عنه ... على شقر كمثل لحى الديوك
كأن حباب ثاوي الطل فيه ... جمان فوق تيجان الملوك(3/164)
وقال:
شربناها كميت اللون حتى ... رأيت الفجر قد وضع النقابا [33ب]
عجوز عتقت حججاً ولكن ... تروقك كلما شابت شبابا
وأحسب أنها كانت عقيقاً ... جرت أنفاسنا فيه فذابا وقال:
يجحف عنها الدن فاستعبرت ... جرياً كما قوس إكليل
كأنها في الكأس مبيضةً ... خيط من الفضة مفتول وقال:
طل على خده العذار ... فافتضح الآس والبهار
وابيض هذا واسود هذا ... واجتمع الليل والنهار
وقد جرى للنعيم فيه ... ماء بأحشاي منه نار
أقام من فوقه حباب ... يطير من تحته شرار
أغض جفني عنه لأني ... عليه من مقلتي أغار
رشا أعار الغزال لحظاً ... فحسنه منه مستعار
شربت من خمر مقلتيه ... كأسين لي منهما خمار
متى أرم سلوةً نهاني ... غنج بعينيه واحورار(3/165)
عذاره قائم بعذري ... فليس لي في الهوى اعتذار
حكى غزال الفلا نفاراً ... فشأنه التيه والنفار وكان يوماً على وادي قرطبة في مجلس أنس فتذكر اشبيلية، فقال:
ذكرتك يا حمص ذكرى هوىً ... أمات الحسود وتعنيته
كأنك والشمس عند الغروب ... عروس من الحسن منحوته
غدا النهر عقدك والطود تاجك ... والشمس (في) أعلاه ياقوته وقال:
اشرب على طيب نسيم السحر ... وانظر إلى غرة ذاك القمر
كأنه ماء غدير صفا ... والمحق فيه مثل ظل الزهر ومنها:
أنشدكم شعري كمن قد قرا ... سورة ياسين على من كفر
في نفر أستغفر الله بل ... في بقر لولا اختلاف الصور ما أخرجته من قصائده المطولة في المدح وما يتشبث به
قال من قصيدة:
وما راعني إلا ابن ورقاء هاتفا ... على فنن بين الجزيرة والنهر(3/166)
مفستق طوق لازوردي كلكل ... موشى الطلى أحوى القوادم والظهر
أدار على الياقوت أجفان لؤلؤ ... وصاغ من العقيان طوقا على الشعر
حديد شبا المنقار داج كأنه ... شبا قلم من فضة مد في حبر
توسد من عود الأراك أريكة ... ومال على طي الجناح مع النحر
ولما رأى دمعي مراقا أرابه ... بكائي فاستولى على الغصن النضر
فحث جناحيه فصفق طائرا ... فطار فؤادي حيث طار ولا أدري ومنها في المدح:
جواد يرى أن العلا خير ما اقتنى ... وأن ادخار الحمد من أفضل الذكر
يرى أنه عريان من كل ملبس ... إذا لم يكن يختال في حلل الشكر
طموح إلى العلياء كاس من التقى ... غضيض عن الفحشاء عار من الوزر
يروقك منه خلقة وخليقة ... متى شئت إطراء أرتك بما تطري وهذا مما ذهب به مذهب أبي الطيب وقصر عنه:
وأخلاق كافور إذا شئت مدحه ... وإن لم أشأ تملي علي وأكتب وقال من أخرى:
أقام قناة الدين واقتعد العلا ... وشد عرى الإسلام واخترم الشركا(3/167)
يضيق الفضا عن أن يكون لبانه ... وتدنو الثريا أن تكون له سمكا
أدرت وقد دارت رحى الحرب عزمة ... أبادت ذوي الشحناء صولتها هلكا
فآبوا وسمر الخط سائلة دما ... وأجسامهم ينضحن من صدأ سهكا
قبائل ما انفكت تغادر في العدا ... وقيعة غسان غداة غزت عكا ومنها في الحرباء:
تظل ترى الحرباء فيها مرفعا ... يدي كاتب ما زال يدعو وما انفكا قال ابن بسام: وقد أكثر الناس في وصف الحرباء وانتصابها، وكنوا بكل شيء عن تلونها وانقلابها، فممن أحسن في التشبيه، وذهب بهذا المعنى مذهبا من الحسن لا شك فيه، ابن الرومي بقوله:
ما بالها قد حسنت ورقيبها ... أبدا قبيح، قبح الرقباء
ما ذاك إلا أنها شمس الضحى ... أبدا يكون رقيبها الحرباء وقال ابن بابك في غير هذا المعنى، ولكنه في ذكرها معه التقى:
بغرة كشعاع الشمس لو برزت ... في ظلمة الليل للحرباء لانتصبا ونقله بعض أهل عصرنا فقال في صفة بيداء:(3/168)
يبيت حرباؤها ضحيان منتصبا ... وإن أظل فلم ينظر إلى نور وقال:
بحيث ترى الحرباء بالشمس كافرا ... ولو أنه جاءته من جنتي عدن
ولو يستطيع التف في ظل عوده ... على وشك ما يعني وقلة ما يعني وقال أبو العلاء:
أوفى بها الحرباء عودي منبر ... للظهر إلا أنه لم يخطب
فكأنه رام الكلام ومسه ... عي فأسعده لسان الجندب وقال أيضاً:
وساحرة الأقطار يجني سرابها ... فتصلب حرباء بريا على جذع وقال عبد الجليل المرسي:
بقلب كحرباء الظهيرة لا يني ... مع الشمس من ذاك الشعاع يدور وأرى أول من ذكرها ذو الرمة في قوله:
غدا أكهب الأعلى وراح كأنه ... من الضح واستقباله الشمس أغبر(3/169)
وقال ابن حصن من قصيدة أولها:
أعاجوا المهارى بالعقيق فمنعج ... وأوضح منهم توضح كل منهج [34 ب]
على نؤي دار الركب عرج فإنه ... حرام علينا السير إن لم نعرج
على نؤي دار قد تبقى كأنه ... وقد مح منه شطره نصف دملج ومنها:
بعيدة مهوى القرط مصمتة البرى ... لطيفة طي الكشح ريا المدملج
تعض على العناب بالبرد الشهي ... وتمسح ماء الطل فوق البنفسج
جلت بعقيق جوهرا فتبسمت ... وذبت عن الورد الندي بصولج ومنها:
فقلت صلي قد ضقت ذرعا بهجركم ... فقالت صه قد ضقت ذرعا بدملجي وهذا المعنى مشهور، هو في شعرهم كثير، إلا أنه غوره وأبعده، وأوعر لفظه وعقده، والذي إليه أشار، وعليه دار، قول أبي تمام:
يعيرني أن ضقت ذرعا ببينه ... ويجزع أن ضاقت عليه خلاخله ومن مدح هذه القصيدة:
جزيل التقى يمشي الهوينا تواضعا ... ويهتز إعظاما له كل خنج(3/170)
وهذا المعنى مما ركب فيه ابن حصن رأسه وحكم هواه، والمعنى مشهور في من وصف بالنسك ومدح بالانسلاخ عن أبهة الملك، ومن ذلك ما قال أبو تمام:
يقول فيسمع ويمشي فيسرع ... ويضرب في ذات الإله فيوجع ورأت عائشة رضي الله تعالى عنها رجلا ناسكا يداني الخطى ويخفض الصوت فقالت: ما بال هذا - قيل: هو ناسك، قالت: عمر والله كان أنسك منه، ولكنه كان إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب في ذات الله أوجع، وأبو تمام بهذا الكلام ألم، وبه ترنم. وفي الحديث أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ كأنه ينحدر من صبب.
وقال من أخرى:
خليلي من يضحي إلى البدر شافعي ... فما لي على وجدي به من تبصر
يعز على واديهم أن أزورهم ... فلا يردون الماء غير مكدر
وما شفني واد تضوع عنبرا ... سواه ولا ماء يشاب بسكر
تدرج عطفيه الرياح فينثني ... تثني أعطاف النزيف المخصر(3/171)
وإلا فلي منهم بمنعرج اللوى ... علائم لا تخفى على المتبصر
معرس صيدان وأعطان بزل ... ومسرح غزلان وآري ضمر
معاهد لم أعهد بها علل الصبا ... ثمادا وفينان الهوى غير مثمر
وصلت بها عيشا كأني قطعته ... على ظهر خوار الجديلين مجفر
فكم غمرة جلى شكرت لها الدجى ... وعنفت أوضاح الصباح المشهر
وما استيقظت إلا لقرع حجالها ... وجرس جربان الحسام المفقر
وقالت: هو الهيمان ما باله انتهى ... ومن دوننا أهوال بيد ومعشر
إلى كم أناجي كل أبيض صارم ... هوى كل أحوى بالصريمة أحور
وحتام أستدعي الظبا سلما إلى ... لقا كل ظبي بالسماوة أعفر [35 أ] ومنها:
تحامى هداجا بالظبا كل هودج ... له واشتجارا بالقنا كل مشجر
وقائع تغتال النفوس كأنها ... وقائع عباد لدى كل عسكر
فتى كفرند السيف أرهف حده ... يهولك في مرأى نبيل ومخبر
أخو الحرب مشاء إليها ترهوكا ... إذا سهك الأبطال تحت السنور
إذا شهد الهيجا فأول مورد ... حرائبها علا وآخر مصدر
يفاجيك عفوا منه جود بنانه ... بأغدق من صوب الغمام وأغزر
ويغشاك دون الستر نور جبينه ... بأشرق من ضوء الصباح وأنور(3/172)
تكفكفت الأبصار عنه بمؤدم ... أغر طليق الوجه أروع مبشر
مقابل أطراف العمومة مخول ... مقدس أعراق الأروم مطهر
أمستخبري عنه، عن الدهر لا تسل ... فقبلي قد أعيا على كل مخبر
أأرقى إلى السبع الشداد تخرصا ... وأنى بما في قعر سبعة أبحر ومنها في وصف قصيدته:
تذكرت ليلى للقوافي فلم تزل ... تساعدني عفوا ولم تعتذر
فدونك عذراء المعاني ابتدعتها ... عوان القوافي خيرة المتخير
إذا ما الرواة استنشدتها تبرقعت ... لها أوجه من حشمة وتغير ومنها في التعريض بابن زيدون:
وينكل عنها شاعر المصر كله ... ألا فاضحكن من شاعر المصر واسخر
ودونك فاحكم بين نظمي ونظمه ... بذهن ذكي ثم قدم وأخر
ولست بكاسيها مدى الدهر حلة ... بنغمة إنشاد ولا بمكرر
وما أنت ممن يحمد السيف عنده ... بجودة صقل وهو غير مذكر وله من أخرى:(3/173)
أبى أبدا إلا اصطحاب ثلاثة ... أبى كرم الأخلاق إلا اصطحابها
حسام ويعبوب وسمراء لدنة ... أعارت قلوب العاشقين اضطرابها
أجال على الصحراء أجرد سابحا ... فباهى به أعرابها وعرابها
طليعة عيني منه أذن حديدة ... أعارته آذان الظباء انتصابها
شكت ظلمه ظلمان كل مفازة ... وعاقب فيها ذيبها وعقابها
وصاغ من الإكليل حليا لنحره ... وأما الثريا فازدادها وعابها
أصرف منه في الأعنة بارقا ... وتحتسب الجوزاء رجلي ركابها ومنها:
أحن إلى البرق اليماني إذا انتحى ... لأن إلى البرق اليماني انتسابها
متى حسب الأملاك من كل أمة ... عقدنا بعباد الحسيب حسابها [35 ب]
به نسخت أيدي الليالي ملوكها ... وكانوا خطاياها فأضحى صوابها وقال من أخرى:
جفا الأبردين الماء والظل وارفا ... وهجر يجتاب البلاد تنائفا
معنى بأحباب يسائل عنهم ... مرابع أقوت بعدهم ومصايفا
ثنى ذكره المثنى مخايل دمعة ... هواتن تمريها الحمام هواتفا
أسى بالتي من أجلها اقتحم القنا ... لفائف واجتاب البلاد نفانفا
محش وغى وراد ما حمت القنا ... ورود كمي لا يهاب المتالفا
تبوأ أفياء القنا وكفى بها ... طرافا ومسرود الحديد مطارفا ومنها:
وأبيض مهو لم تجده إذا انتمى ... إلى الشرف العادي يعدو المشارفا(3/174)
أعارته أنفاسي التهاباً ورقرقت ... عليه جفوني موج دمعي ذارفا
وراق العذارى حسنه فأعرنه ... دماج خصورٍ وائتلاف سوالفا
تخال مذاب التبر فوق لجينه ... سواكاً بأفواه الكواغب لاصفا ومنها:
يذكرني البرق اليماني إذا انتحى ... لدى الهز برقاً من حفافيه خاطفا
على عاتقي ثهلان منه غمامة ... إذا أسدف الليل استهلت سدائفا ومنها:
سقى عهدها بالخيف غادٍ ورائح ... وأيامنا بالجزع منه السوالفا
فكم ليلة نازعت كف المنى بها ... جنى الوصل حلو الطعم والعيش غاضفا
معاهد أستسقي لها أنجع الحيا ... وفاءً وأستصحى الدموع الذوارفا
تحملني ما لا أطيق وطالما ... عرفت صبوراً في الملمات عارفا
بما بيننا ما بال قلبك لا يرى ... على عطفك المضني بردفك عاطفا
رويدك بالغصن الخضيد فإنها ... روادف يتركن الجبال رواجفا
وفكي أسيراً من ثقافك إنها ... مضارب ألحاظ بهرن المثاقفا
إذا جن ليل أو ترنم طائر ... حسبت به طيفاً من الجن طائفا
طوى نحوك الأجزع يرعى خلالها ... صفائف والأجزع تندى صفاصفا
تبدل من ريح القرنفل بالضحى ... ذواري من أرواحها وذوارفا
ومن فدن غنته شدواً قيانه ... ثقائل من ألحانها وخفائفا(3/175)
وبالرمل مرتجاً وبالبان مائسا ... روادف يملأن الملا ومعاطفا
وبالنفس النفاح من نحو أرضهم ... غوالي يلقين الرياح غوالفا
وبالأمل [الملقي] بأطرافه على ... أبي عمرو الأعلى تليداً وطارفا
فتىً ترد الأملاك سدة بابه ... كما ترد الماء الحمام عوائفا
تخالهم من كل شرقٍ ومغرب ... طوائف بالبيت العتيق طوائفا
يؤمن بحراً يترك البحر جوده ... غريقاً، وبدراً يترك البدر خاسفا [26أ]
مكارم تنبي حد ذهني وتغتدي ... مصابيح فكري في دجاها توالفا
نماه إلى العلياء كل مدججٍ ... يراح إلى المعروف جذلان عارفا
وآساد آجام تهب رياحهم ... غداة الوغى في الناكثين حراجفا
إذا ما انتضوا بيض السيوف حسبتهم ... شموس ضحىً تبدي بروقاً خواطفا
يهزون بالسمر اللدان أشجعاً ... عواري بالطعن التؤام عوارفا
ترى البشر منهم في صحائف أوجه ... قرأنا عليها للنجاح صحائفا
يصونون أحسابا كراماً وأوجهاً ... حساناً وأحلاماً حصاناً حصائفاً
تلافي هضيم المجد فاخضر عوده ... ولولا تلافيه لأصبح تالفا
إذا جمدت كف الكرام عن الندى ... وخلفها مر السنين جلائفا
وجدت أبا عمرو على كل حالةٍ ... جواداً بما يحويه سمحاً ملاطفا(3/176)
وأصبحت للدنيا وللدين كالئا ... وللمجد والعليا وللملك كانفا
رمتني صروف الدهر خيفا عيونها ... فأمنتني منهن ما كنت خائفا
وأصلحت أحوالي وكن فواسدا ... وأحييت آمالي وكن توالفا
وأوردتني صداء ودك سلسلا ... وأرعيتني سعدان برك وارفا
وأرضت أطماعي وكن خشاشيا ... وجددت آمالي وكن خشائفا
وإني وإن أحكمت نظم جواهر ... وألقاك منها بالنفيس متاحفا
لملق سبيك العسجد المحض منك في ... يدي صيرفي يسترك الصيارفا
وأنشدك السحر الحلال مخاطرا ... كمن قلد الليث المهيج مواقفا
وأجنيك من شكري بورد مضاعف ... وودي فتعطيني العطاء مضاعفا
وتمنحني بده الكريم وتارة ... تجازي بإطرائي فتعطي مجازفا وله من أخرى أيضاً:
عل الظن أني عنك سال ولم أكن ... سلوت ولكن عن صبوح أرقق
ومن فرقي لا تعجبي وتعلمي ... بأني ملدوغ من الحبل أفرق
وإني وإن عاقت عوائق دوننا: ... رقيب عتيد أو فراق مفرق
ليذكرنيك المسي والصبح والدجى ... وجوز الضحى، كل إليك مشوق
مشم ذكي عرفه، ومقبل ... شهي، وصدر ناهد، ومعنق(3/177)
وخد غدا يستغفر الله كلما ... تخلله لحظي يعيث ويفسق
يخادعه مكرا فيحسب أنه ... يناجيه سرا وهو يزني ويسرق
وليل زمان الوصل منك لحقته ... بيوم به كل الأماني تلحق
نرقرق من نظم الكلام ونثره ... سلافا تسقاها الجرشى وتغبق
حديثا كعرف العنبر الورد بيننا ... مع المسك مفتوقا يذر ويسحق [36 ب]
جلت وهي عبرى عن محيا نقابها ... كما انحل خيط المزن والشمس تشرق
تكاد بلحظ الوهم تندى غضارة ... وتعقد لينا بالبنان وتطلق
ومما يغيظ الخيزرانة أنها ... بعقدتها فوق الحشا تتمنطق
إذا طفقت تمشي الهوينا تهاديا ... كما انساب مشحونا على الماء زورق
أرتك الهوى رشدا ولم تعد أنها ... أراك على وعساء بالحلي تورق
وإن سفرت تفتر عما بجيدها ... وعن مثل ما تفتر من ذاك تنطق
سمعت قلوب العاشقين كأنها ... بنود أبي عمرو مع الريح تخفق
مليك له مرأى جميل ومخبر ... نبيل وفعل مستطاب ومنطق
تلوذ بحقويه الملوك كأنها ... كواكب بالشمس المنيرة تحدق
إذا صال كاد النجم من شد صوله ... يخرق جلباب الدجى ويمزق
وإن لقي الأعداء ولت كأنها ... بغاث رأت في الجو صقرا يحلق
له من نبيل الرأي سيف وذابل ... ومن حزمه درع حصين ويلمق
ذكي إذا حاك الكلام رأيته ... يصمم في أوصاله ويطبق(3/178)
يشقق أبكار المعاني كأنها ... جيوب بأيدي الثاكلات تشقق
يطيب نسيم الشعر من طيب ذكره ... وتعذب أفواه الرواة وتعبق
متى حكمت فيه الشعر بت وليلتي ... من الروضة الغنا أنم وأعبق
به دمر الرحمن دمر وانطوى ... بنو يفرن أعدى الأعادي وأمرق
ومن آل يرنيان أنكث أمة ... لعهد وميثاق وأغوى وأفسق
ثلاثة رهط بدد الله شملهم ... أثافي كانوا للفساد ففرقوا
وصيرهم قبل انقاضء حديثهم ... حديثا به ظهر الجدالة يخرق
وكل غدا رهنا بما كان عاملا ... وكل على ما خيلت سوف يغلق
فأشكل ملبوس تخيرته لهم ... جوامع أغلال بها يتأنق
وأفضل مركوب عليه حملتهم ... أداهم إلا يعنقوا ليس تعنق
هم وردوا الحوض الذي عنه ذدتهم ... ووارد ذاك الماء لا بد يعلق
هم نقضوا ميثاق عهدك عنوة ... فأوثقهم في بقة الأسر موثق
هم أنضجوا ذاك الشواء فرمدوا ... وهم طبخوا ذاك القديد فأزعقوا ومنها:
بمعتضد بالله أشرقت الدنا ... وأطلقها من ربقة الجور مطلق
ورقت حواشي الدهر حتى كأنها ... رداء عروس بالعبير مرقرق(3/179)
ومنها:
لأغرقتني من أن أكون بشكرها ... أقوم، على أني أقوم فأغرق
ولو كل عضو في أو كل شعرة ... بجسمي لما أوليت بالشكر تنطق [37 أ]
أتتني يد بيضاء منك كأنها ... سنا الصبح تجلو الهم والصبح مشرق
ومشتاقة عذراء شد خناقها ... ولم أر عذرا مثلها كيف تخنق
عليها من اسم الملك عقد منظم ... ومن خاتم الملك اليماني بخنق
تلاقيتها بشرا ملاقاة شيق ... إليها فقل إلف تلقاه شيق
أقبلها طورا وطورا أضمها ... إلى كبد تحنو عليها وتشفق
إلى أن تشفينا عناقا وخفت أن ... يضر بها ذاك الرباط المخنق
قطعت عليها عقدها فتناثرت ... دنانير أمثال الكواكب تشرق
كحلت بها حولاء عيني فاغتدى ... بها حور يزهي العيون ويونق ومنها في ذكر قصيدته:
وأيقظت أفراخي لها فتطايروا ... سرورا بآباط علي تصفق
فيا لك من لهو وطيب وفرحة ... ويوم سرور حسنه متألق
لو أن جريرا والفرزدق أنشدت ... لأدى جرير حقها والرزدق
وهن وإن كانت قوافي تنتقى ... جبال بإجهاد القرائح تنتق وله فيه من أخرى:
وليل كأكباد العداة وصلته ... بنوم كسا الآفاق منه وصائل
ويوم عماسي بليل ذعرته ... كما فاجأ الرعديد في الحرب باسلا(3/180)
وجرية ماء كالمجرة جللت ... من البرك بدورا كواملا
تشادي به ورق الحمائم بالضحى ... بلابل يبعثن الأسى والبلابلا ومنها:
أحمج شري الخطب جروا ومخطبا ... وألمج بنت الدهر جداء حافلا
وألقى بأمثال الخطوب خطوبها ... من الهمة الطولى تليلا وكاهلا
ومن يشك ما أشكو إلى نصب السرى ... من الراحة استمرى السموم القواتلا
ومن يرج عباد بن عباد الرضا ... رجائي لم يلق الليالي خاملا
فتى تدري الهيجاء أرواقها به ... على نكل حرب لا يرى الدهر ناكلا
وتسفر منه المشكلات نقابها ... إلى فيصل يستشعر القول فاصلا
وما أصعب الأشياء حتى يرومها ... برأي يريه آجل الأمر عاجلا
يذل له الأمر العسير فكاد أن ... يكلفه أن يرجع العام قابلا ومنها:
وطوقني دون السؤال اهتباله ... أيادي حلتني وقد كنت عاطلا
فأينع لي ما جف من عود مطلبي ... وعاد أجاجي منه عذبا سلاسلا
تراسل في الجلى أسرة وجهه ... نجيعا وطورا سؤددا وطوائلا(3/181)
يد تسع الدنيا بما وسعت ولا ... أحاشي بهابرا بحرا وسواحلا [37 ب]
يقل أبان أن يرى فص خاتم ... لها والبحور الزاخرات أناملا
أمستوصفي عنه ابن بجدتها أجل ... لقد جل عن وصفي علا وفواضلا
مساع إذا ما الوصف حاول بعضها ... ذهبن به في كل واد محاولا
خلعن على سحبان حلة باقل ... فساوى بها سحبان في العي باقلا
سوى العجز لا يجدي تناول وصفها ... علي وقولي عزت المتناقلا
وإن زمانا جاد فينا بمثله ... جدير بأن يدعى الجواد المناولا
فهذا مكان الوصف إن كنت واصفا ... وهذا مكان القول إن كنت قائلا
فما يهب الآمال إلا حواليا ... إذا وهب الناس العطايا عواطلا
وإن خاتلت أعداؤه أفتا لهم ... بمأقط حرب لم تجده مخاتلا
فما ينظم الآراء إلا دآديا ... ولا يبعث الرايات إلا قوائلا ومنها:
هم القوم طابوا أبطنا وعمائرا ... وطابوا شعوبا قوبلت وقبائلا
ضراغم آجام تهب لدى الوغى ... شمائلهم في المأزقين شمائلا
فما حملوا إلا بنصر حمائلا ... ولا عملوا إلا بنجح عواملا
ولا ادرعوا غير القلوب سوابغا ... ولا سكنوا غير السروج معاقلا ومنها:
ودونكها مصبوحة رسل مقول ... أزف بها بكرا عوانا مراسلا(3/182)
قوافي أمثال الصخور بعثتها ... قديما على أسماع قوم معاولا
حوامل للآمال أجمل من غدت ... مطافيل بالمعنى النفيس حواملا
إذا أنشدت في محفل القوم أعربت ... من الغيظ في أضلاع قوم محافلا
بيان هو السحر الحلال تجودت ... به فكرة أضحت لبابل بابلا وله من أخرى في إسماعيل بن عباد:
هوى بي هوى الغيد الحسان فللجوى ... بكل فؤاد من فؤادي تمكن
وزين عندي حلة السقم أنها ... نحور بها زهر الحلى تتزين
أما وعيون العين يوم النوى لقد ... سبى قلبي الغصان منهن أغصن
أمرضعها كأس الملامة مدمنا ... أقل علي اللوم كم أنت تدمن
نفضت يدي عن كل ورد وسوسن ... لخد به ورد أنيق وسوسن
وأغضيت إلا أن يلوح لناظري ... محيا به أيقنت أني محين
وألعس معسول الثنايا من المنى ... ألذ ومن شمس الظهيرة أحسن
حبيب رقيب الحسن فوق جبينه ... يتيه، ومعشوق الملاحة يمجن
حشا كحلا عينيه مسك عذاره ... فلاح به وجه من العذر بين
سأهواه ما اهتز الأراك وأصبحت ... أنامل إسماعيل بالجود تهتن [38 أ]
صقيل فرند السيف يبيض ليله ... إذا اربد من ليل الكريهة موهن
تنبل منه كل مرأى ومخبر ... فقد فتنت فيه قلوب وأعين
تلين له الأيام وهي شدائد ... وتعنو وجوه الحادثات وتذعن(3/183)
فلا تيأسن منه بلين عريكة ... فقد يقطع الصماصم والمتن لين
نماه إلى العلياء آباء عزة ... رأى حسن مسعاهم فما زال يحسن
ميامن أمجاد مآمين لم تكن ... وقائعهم في كل هيجاء تؤمن
ترقرق منهم بالسماحة أوجه ... وتنثال منهم بالفصاحة ألسن
كفاهم بإسماعيل مجدا مؤثلا ... وعزا مكينا لا يني يتمكن
تظن به في المشكلات كهانة ... وليس كذا لكنه يتظنن
توقد ذهن في خمود سكينة ... ذكي كمثل النار في الزند تكمن وله من أخرى:
ما بين البين يوم الخوف مذموم ... إلا إشارة عناب وتسليم
وآية الحب في الأجفان واضحة ... والستر منتهك والصبر معدوم
هي الغزالة لولا ضيق دملجها ... حملتها ضعف ما يلقى بها الريم ومنها:
ساروا وقلبي أسير في القباب وقد ... حداهم كل رهو السير مخطوم
وفي الغبيط الموشى شادن خرق ... أحوى المحاجر طاوي الكشح مهضوم
مخدد الخد بالأوهام ناعمه ... كأنه المحاجر طاوي الكشح مهضوم
بدر بديباجتيه عجمتا سبج ... تحفه طرتا ليل وتعميم
غصن من الورق الماذي يجذبه ... للين حقف من الكافور مركوم
يهدي لك الدر من لفظ ومبتسم ... ضربان منتثر منه ومنظوم(3/184)
يجني الذنوب وأحنو أن أواخذه ... من أجل ذلك قيل الحسن مرحوم
ما هاج برح الهوى إلا مطوقة ... كأنها من نحول شفها جيم
ترنمت ودموع الصب آية أن ... يهل ساجمها بين وترنيم
أيا حمامة ذا الوادي أثرت جوى ... تنقض منقدة منها الحيازيم
إلا يكن واديا حلت ركابهم ... به وإلا فما واديك مأموم
هم أناخوا بجزعيه جمالهم ... وأنهلوا وهن الطلح الهيم
[هلم] نسري اعتسافا حيث عن لنا ... منهن وهنا سنا نار وتخييم
نغشي بهن بنات الوخد سابحة ... تخدي وقد هم بالسمار تهويم
ينضي سرى الليل تأويب النهار ولل ... هجير من لهب الرمضاء تضريم
والآل عند هيام القيظ مضطرب ... كأنه في بساط القاع محموم [38 ب]
يزاحم الليل والخرقاء موضعة ... والقفر مثل طراد السيف ديموم
مزقته وثرياه تلوح كما ... لاحت بأنمل زنجي خواتيم
وقد محا سنة البدر الخسوف كما ... محا سنا رونق المرآة تسهيم ومن المدح:
حوى من الفخر ما لم يحوه ملك ... وحاز ما لم يحزه العرب والروم
أغر مبتهج فاح الزمان به ... كأنما دهرنا بالمسط مرثوم
هو الجواد الذي أضحى السماح له ... ريطا كأن العطايا فيه تعليم(3/185)
قد كفل الخلق جدواهم فعمهم ... كأنما الرزق من كفيه مقسوم
إذا نبا حادث للدهر عن له ... عزم ثنى المتن منه وهو مفصوم
يا ها أمية لا تقرب لحمص حمى ... محمد ما تحامى فهو ترخيم
كذاك آباؤه الماضون هم أكما ... ت العز ما ظلموا يوما ولا ضيموا
إذا نظرت فأشكال البدور وإن ... خبرتهم فهم الأسد الضراغيم
نماك للمجد عباد فأنت له ... نجل سمت بكما الصيد اللهاميم
هذي الليالي على حكم وإن رغمت ... زمامها بكلا كفيك مزموم ومنهم اوزير الكاتب أبو عمر بن الباجي
قال ابن بسام: وكان أبو عمر يوسف بن جعفر المعروف بابن الباجي من بلغاء الكتاب، وأغرب شأو جده الباجي في الولادة كل الإغراب، في صلة حبل البلاغة على جميع كتاب الإسلام، لأنه أنسل أربعة من حملة الأقلام وفرسان الكلام، أولهم جده يوسف، وابنه جعفر بن يوسف، وعبد الله ويوسف ابنا ابنه جعفر، ويوسف هذا هو المكني بأبي عمر. فأما أبوه جعفر فكتب صدر الفتنة المؤرخة أول هذا الكتاب لعدة(3/186)
من كبار أملاكها آخرهم يحيى بن إسماعيل بن ذي النون، ولديه توفي بمدينة سالم سنة خمس وثلاثين. وكان أبو عمر هذا إنما تصرف كاتبا، وطلع شهابا ثاقبا، بأفق المشرق، وإنما ذكرته هنا لأن بلده وبلد سلفه باجة، إحدى مدن الجانب الغربي من الأندلس، وقاعدة بلاد ساحل البحر المحيط الرومي.
ونقلت ما أثبت في هذا المجموع من رسائل بني الباجي من قراطيس تعاليق، وبطائق وقعت إلي تفاريق، منسوبة لهم في الجملة، وربما اختلطت رسائل الابن والأب لهذا السبب، وهذا الذي أصف وأشرح، مما لا يضر ولا يقدح، لا سيما في رواية حكاية لا يخل بها نسبتها إلى من يحكها، يحكها، وفي نشر نسيجة لا يغض من بهجتها إضافتها إلى من لم يحكها، وإنما هي ملح منثور أو منظوم، وليست بحقائق علوم، فنتكلف في صحة الأسانيد، والفرق بين سعيد وسعيد، والفصل ما بين عبيد وعبيد. وعلى أي حال ورد هذا المجموع، من مجهول أو معلوم، في منثور أو منظوم، فبديع رائق، ومخر إن شاء الله سابق.
جملة من رسائله في أوصاف مختلفة
له من رقعة عن ابن هود إلى المعتضد:
كثرت - أيدك الله - محامدك فصارت زاد الرفاق، وأشرقت(3/187)
محاسنك فرمت بساطع نورها إلى الآفاق، ففي كل سبيل طليعة من ثنائك مرحل، وفي كل أفق بريد من أنبائك يتعلل، [39 أ] ولفضائلك المأثورة حملة يتباينون في القدر، ويتفاضلون في النشر، وكلهم موجز وإن حاول أن يطنب، ومقتصد وإن حاول أن يسهب، والله يصون ما ألبسك من المكرمات، ويزيد فيما خولك من الصالحات، بمنه.
وأنا لا أزال بفضل خلوصي إليك، وصدق انجذابي لك، وشدة اغتباطي بموهبة الله السنية فيك، مصيخا إلى كل داع بشعارك، وحامل لآثارك، مستهديا لطيب أحاديثك ومبهج أخبارك، فإذا ظفرت بمحدث عنك فقد نلت جذلي، وإذا وقفت على خبر من لدنك فذلك من أملي.
وفلان لحق بجهتي، طاعتك، وعنده أوفى بضاعة من رفيع ثنائك، وأحسن إشاعة بجميل أنبائك، وهو الناطق القؤول، والصادق المقبول، فعرض تلك البضاعة الزكية في معرض نفاقها، وقصد بها أقوم أسواقها، وأهدى ذلك العلق السني إلى مستهديه، وأداه إلى يد مقتنيه؛ ولما أن صدر عنها، بعد انقضاء وطره منها، وقد ضمخها بذكرك، وقام فيها بشكرك، تقت إلى مواصلتك معه، وتجديد العهد الكريم على يده، فأصحبته كتابي هذا مخبرا عن مقامه في بث مناقبك، وواصفا لحاله في نشر محامدك، ومحيلا عليه في وصف ودي، والإخبار عما عندي.
وله من تعزية إلى ابن أبي عامر في ابنه المعتز: بأي لسان - أيدك الله(3/188)
أخاطبك مذكرا، أو بأي مقال ألاطفك مصبرا، وقد أذهلتني فجأة الخطب، وتركتني طائر القلب واللب، وقد رماني ساعد الزمان حين رماك، وأصماني سهمه كما أصماك، وثارت إلي فجائعه من حيث ثارت إليك، ودارت علي وقائعه من حيث دارت عليك. ولو كان ما طالعني خطرة حلم، لكفى به داعية بث وألم، فكيف إذا كان يقينا يقطع أمل المؤمل، ويبطل رجاء المرتجي المتعلل -!
وورد كتابك الجليل ناطقا بلسان الرزية، مقصدا سهم الفجيعة في المعتز بالله، ابنك، ومعتمدي - كان - فإنا لله! ! أي زرء ما أفظعه في القلوب، وأي خطب ما أشنعه في الخطوب، وأي مصاب ما أحقه بالأسى ونبذ الأسى، لولا أمر الله تعالى. ولا أجد - أيدك الله - لهذه الفادحة قدرا، ولا أقيس بها أمرا، ولا أكاد أقول في مثلها صبرا، فإنها سالبة الأذهان، وجامعة الأحزان، وخبيثة الحدثان، وكبيرة نوائب الزمان.
وفي فصل منها: ونحن مأمور فينا، ومحكوم علينا، يملكنا خير المالكين، ويحكم فينا أعدل الحاكمين، ولو شاء الله لم يخلقنا، فضلا عمن خلق منا ولنا، وقد أنعم عليك بنعمى متعك بها ما شاء، ثم صنع في بعض ما شاء، فإن تقابل بالاحتساب قدره النازل، وبالتفويض(3/189)
قضاءه العادل، فأحر بحزنك أن يعود سرورا، وبصدعك أن يكون بثواب الله مجبورا.
وله من أخرى مثله: كتابي عن نفس مستطارة بلوعتها، وكبد مذابة بروعتها، وعن قلب شعاره برح الجوى، وأعشاره نهب الأسى، تفجعا لما فجعك، واشتراكا في عظيم المصاب معك، وأسفا على من فقدناه فقدان السمع والبصر، ورمينا فيه بأفظع الحوادث والغير، فأنا لله وإنا إليه راجعون، بها يعتصم العارفون، وإلى حقيقتها يرجع المسلمون.
وإن كتابك ورد منبئا عن صورة حالك، وتوفية رزئك حقه من الأسف، وإعطاء مصابك بقدره من اللهف، فسد على نفسي - فاديتك - ثنايا الصبر، ووقع منها موقع الهيثم من الجمر، ولعمر الله إنه الرزء، [فليس كمثله الأرزاء، التي] يحسن فيها العزاء، وإنك بالبث والحزن لحقيق، ثم إنك بالصبر والاحتساب لخليق، ولولا أني أثق برجوعك إليه، وتأييد الله تعالى في الاحتمال عليه، لسلكت في الذكرى طريق المحتشد [39 ب] ، وأنفدت فيها وسع المجتهد، على أني باستهدائها(3/190)
جدير، وإلى سماعها فقير. وما اقتباسي إلا منك، ولا اقتدائي إلا بك، جعلك الله في تلقي هذا الزرء، وتحمل هذا العبء، قدرة رشدٍ للجازعين، وأسوة هدىً للغافلين.
وله من أخرى إلى ابن هود بعد خروجه عنه: كتب مملوكه الملتحف في نعمائه، المتقلب في الآئه، من فلانة، وما قطع مرحلةً، ولا احتل منزلة، إلا ودأبه وصف معاليه، ونشر أياديه؛ وأما مفارقة ذراه فيكاد الإشفاق يصمي الجنان، ويدمي الأجفان، وينفي السلوان، وهو أمر حم واقترب، وقضاء سبق وغلب، وأنا مع انفصالي عن ذلك الكنف الجليل المأمول، والفناء العزيز الموصول، الذي عمرته في ظل الإكرام والتوجيه، ومهاد الإنعام والترفيه، غير خارج من عداد متن يتقلب فيه، وجملة من يراوحه ويغاديه، لأن فضلة بي حيث كنت محيط، وأملي به منوط، وتشيعي له مشهور، واعترافي بعوارفه لدي مأثور، وسيعلم مولاي أني صحبت فاعتدلت، ثم فاقرت وما اختللت، بل أعظمت وأجللت، وأثنيت فاحتفلت، والله الحسيب بالنيات والأعمال، الشهيد على الأقوال والأفعال.
ومن أخرى له: سيدي، ومن أبقاه الله للكرم يتبوأ سطته، والشرف يدرع بردته، والعز يلبس سرباله، والفخر يسحب أذياله، بأي لسان - أعزك الله - أناجيك على بعد الدار، وقد أخرست عن واجب الشكر لساني، وطمست على وجوه بياني، بما أضيفت من حلل برك التي(3/191)
أخجلتني، وطوقتني من مننك التي ألجمتني، بالهدية السنية التي لا يزال الدهر ينثرها، وأيدي الثناء تنشرها، فكم من علقٍ نفيسٍ شافهني منها بلسان إلي نجوم السماء، ودان لها تفويت كل روضة غناء، وتحدث بها الكرم المحض، وأشاد بذكرها الثناء الغض، وحق لهدية أهداتها أناملك المستهلة السحائب، وجادت بها راحتك الثرة المواهب، أن يعنو لها القمران، ويحاسن بها زماننا كل زمان، فلو أن البحر عاينها طامياً لما ساجلك، والغمام شاهدها هامياً لاما طاولك.
وله من جواب على كتاب عتاب: المودات - أعزك الله - إنما تثبت دلائلها، وتصح مخيلها، بمضمرات الفؤاد، لا بمزورات المداد، وبمعتقدات الحقائق، لا بمعهودات البطائق، وفي علمه تعالى أني من الاعتداد بمجدك، والاعتلاق بحبل ودك، والإسناد إلى كرم عهدك، بمنزلةٍ لا يتعاطى إدراكها أحد، ولا تطول يد صفائي فيها يد، وفي نفسك النفسية من ذلك أعدل شاهد، وأصدق رائد.
وقد ورد كتابك ففضضته عن مثل عقارب لاسبةٍ، وسهام نافذة صائبة، من عتاب صدع قلبي، وفت في عضدي، وتقريع لم أقف ببابه، ولا جذبت بأسبابه، ومعاني العتاب - أعزك الله - إذا وردت على سليم منها، نزيه عنها، متحفظ من وقوعها، متحرز من جميعها، أساءت(3/192)
ظنه، وأطالت فكره، واشغلت سره، ولا سيما على بعيد الدار، نائي المحل، مشتاق إلى الإخوان، متأسفٍ على فقد الخلصان، مستشعر حرماناً لزم، وزماناً جار وظلم. وأما الهنات التي أطلقت عنان العتب عنها في ميدانٍ فسيح، وجريت في إيرادها جري الشفيق النصيح، فليست بهنات مخلقة لعرضٍ، ولا قاطعة عن فرضٍ، وربما غيرت عندك صفتي فتنكرت عليك، ومثلك من حكم الخبر على الخبر، وقنع بالعين دون الأثر.
وله من أخرى عن ابن هود إلى ابن ذي النون [40أ] يشكره باطلاق ابن غصن من السجن: كتابي - أيدك الله - كتاب أعريته من ذكر الوداد، وعدلت فيه عن وصف الاعتقاد، خرقاً لعادة المتوددين، وصفحاً عن طريق المتصنعين، على أني - علم الله - في الصدر المقدم ممن يواليك، والرعيل الأول ممت يتشيع فيك، وأفردته بشكر يدك البيضاء، وحميد صنيعتك الغراء، التي طوقت بها جيد الأدب، طوقاً يبقى على الحقب، ووضعت على نار الذكاء، وقوداً يسطع بطيب الثناء، مزاحماً بفضل همتك كلكل الزمان، وقد أناخ على الفهم بجران، ومحافظاً على حرمة الكرم وقد أعرض عن ثقلها الثقلان، أنفةً من أن يضيع حذاء نظرك حق أديبٍ، وتقطع بمرأى عينك نفس لبيب، وأنت عين الآداب، وعمدة ذوي الألباب، فيعود عليك من أهلها ملام، ويقول قائلها ضاع عند أوفى البرية ذمام، فلله همتك التي أبت إلا الحفاظ السليم، وشيمتك التي لم ترض إلا لمقام الكريم، ويدك التي أنتعشت(3/193)
بها الأديب أبا مروان بن غصن من هوة العثار، وفككته من قبضة الإسار، فأحييته وهو مشفٍ على البوار، فإنها يد مسيح الكرام، ومبدعة حسنة الأيام، فلو كانت للمكارم صورة لكانت هذه الصنيعة كحل طرفها، أو كانت للجد روضة لكنت المستبد بطيب عرفها، أو لو نطقت ألسن الآداب لفدتك، أو أرسلت نخبة الثناء لما تعدتك، وإن كثير الشكر ليقل في جنب ما أسديت، وبالغه ليقصر عن الغاية التي لها تصديت، لأنك ضمنت حياة نفس، ونشرت دفين رمسٍ، فكأنك أحييت جميع الورى، ونشرت كلب مستودع في الثري، وأنى يقاوم هذا الصنيع، ولو تظاهر على فرضه الجميع، وعند الله كفاء ما أوليت من جميل الفعل، وجزاء ما أتيت في سبيل الفضل.
وله من أخرى على لسان البهار إلى ابن هود: أطال الله بقاء المقتدر بالله، مولاي وسيدي، ومعلي حالي ومقيم أودي، وأعذني من خيبة العناء وعصمني معه من إخفاق الرجاء، ولا اشمت بي عدواً من الرياض يناصبني، وحاسداً من النواوير يراقبني، وقد علم الورد موقع إمارتي، وغنى بلطيف إيمائي عن عبارتي، وإنها تحية الزهر حياك بها، وخبيئة ذخرها لك وأهلك لها، وقد أتيت في أواني، وحضرت وغاب أقراني، ولم أخل من خدمتك رتبتي ومكاني، ولم أعر من الحضور بين يديك نوبتي وزماني، وأنا عبد مطيع مسخر، ومملوك يتصرف مدبر، حقيق بأن يحسن إلي فأدنى، وجدير بأن تهتبل بي ولا أجفى، لأني سابق حلبة النوار، وأول(3/194)
طلائع الأزهار، وأنا ناظر الفضل وعينه، ونضار الروض ولجينه، وقائد الظرف وفارسه، وعاقد مجلس الأنس وحارسه.
وفي فصل منها: فهل لمولاي أن يحسن إليّ صنيعاً، ويكرم النور جميعاً، ويدنيني فأرقى إلى أختي الثريا سريعاً، في مجلس قد أخلصته سحائبه، وأفرغت الحسن عليه والطيب ضرائبه، وجهك بدره، وغرتك فجره، وأخلاقك زهره، وثناؤك دره وعطره؛ وتعمل في أمر الدنيا رأيك، وتترك الهموم حيث تركها الناس قبلك، ولو صلح الكمد لأحد لكنت أنا أحق من لزمه، وأثبت عليه قدمه، لأني سريع الذبول، وشيك الأفول، لا يصحبني الظهور إلا قليلاً، ولا أمنح من متاع السرور إلا تعليلاً، غير أني مغتنم لساعاتي، آخذ من الأنس بقدر استطاعاتي، وقديماً أكرمني مولاي فلا يهني، ووصلني فلا يصرمني، ومنحني فلا يحرمني:
لا تهني بعدما أكرمتني ... فشديد عادة منتزعه [40ب] ولابن الحناط رقعة في وصف هذه الرسالة، منها فصل قال فيه: بعثت إليك برسالة الوزير الكاتب أبي عمر الباجي في البهار، منقولة بخطي على اختلاله، واختلاف أشكاله، إلا أن حسن الرسالة، وموضعها من البلاغة والجزالة، يغطي على قماءة خطي، ودناءة ضبطي، فاجتلها - أعزك الله - عروس فكر، لحظها حبر، ولفظها سحر، ومعناها بديع، ومنتهاها رفيع، ومرماها سديد، ركب اللفظ الغريب فاعتن له المراد البعيد، يطمع ويؤيس، ويوحش ويؤنس، فأما إطماعها فيما تحرز من لدونة(3/195)
ألفاظها وسهولة أغراضها، وأما إياسها فبما يعجز من امتثالها، ويبعد من منالها، والله يمتعك برياض الآداب تجتني أزهارها، وتنتقي خيارها.
ولأبي عمر في نزول الغيث بعد القحط: إن الله تعالى قضايا واقعة بالعدل، وعطايا جامعةً للفضل، ومنحاً يبسطها إذا شاء إنعاماً وترفيهاً، ويقبضها إذا أراد إلهاماً وتنبيهاً، ويجعلها لقوم صلاحاً وخيراً، ولآخرين فساداً وضيراً، {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته، وهو الولي الحميد} (الشورى: 28) .
وإنه كان من امتساك السقايا، وتوقف الحيا، ما ريع به الآمن، واستطير به الساكن، ورجفت الأكباد فزعاً، وذهلت الألباب جزعاً، وأذكت ذكاء حرها، ومنعت السماء درها، واكتست الرياض غبرةً بعد خضرةٍ، ولبست شحوباً بعد نضرة، وكادت برود الرياض تطوى، ومدود نعم الله تزوى، ثم نشر تعالى رحمته، وبسط نعمته، وأتاح منته، وأزاح محنته، فبعث الرياح لواقح، وأرسل الغمام سوافح، بماء دفق، ورواء غدق، من سماءٍ طبق، استهل جفنها فدمع، وسمح دمعها فهمع، وصاب وبلها فنقع، فاستوفت الأرض رياً(3/196)
واستكملت من نباتها ورئيا، فزينة الأرض مشهورة، وحلة الزهر منشورة، ومنة الرب موفورة، والقلوب ناعمة بعد بوسها، والوجوه ضاحكة بعد عبوسها، وآثار الجزع ممحوة، وسور الشكر متلوة، ونحن نستزيد الواهب نعمة التوفيق، ونستهديه في قضاء الحقوق، إلى سواء الطريق، ونستعيذ به من المنة أن تعود فتنةً، ومن المنحة أن تعود محنة.
وإحسان بني الباجي كثير، وترسيلهم مشهور، اندرج لهم فيه بديع، ولا يتسع لاستيفائه هذا المجموع.
وهذه أيضاً جملة من شعر أبي عمر
قال من قصيدة في المعتمد، وقد طاعت له غافق والمدور أولها:
أنارت لك الدنيا ووجهك أنور ... وجلت عطاياها وقدرك أكبر
ودار كما شئت القضاء مساعداً ... فجاءت ولاءً غافق والمدور
أزرتها بحر الكتائب مزبداً ... فألقت عنان الطوع رضوى وصنبر ومنها:(3/197)
يقول مثارو الجن إذ ذعروا به ... هي الأرض تسعى أم هو البحر يزخر
سرى فاستطيروا خيفةً من نذيره ... ولم تك ليلاً قبله الجن تذعر
فتوح يموت الحاسدون شجىً بها ... فليت حليف الغي يحيا فيخبر ومنها:
لئن جهد المداح فيك فأطنبوا ... فإنك أعلى في النفوس وأخطر [41أ]
فدتك مسوك لا ملوك كما ادعوا ... إذا ظفروا يوماً زهوا وتجبروا
ولله منك القول والعقد صحةً ... إذا سد مسموع وخالف مضمر
وعصر تحلى منك بالأحد الذي ... له في يد السبق اللواء المشهر
وأيام سعد في ظلالك أوطنت ... تراح بها الآمال دأباً وتمطر
نفى حسنها عن ناظري طائف الكرى ... فأنعم ساعاتي بها حين أشهر
وأمتعني جو نضير وسلسل ... نمير وممتد المطارف أخضر
وكم مورد في الأرض يشفى به الصدى ... ولكن نداك الغمر أحلى وأنضر
أهنيك أم هذا الأنام بأنعمٍ ... جميعهم في حليها يتبختر
وهل تلتقي الأجفان إلا على الرضى ... وأنت على الدنيا الإمام المؤمر وله فيه من أخرى أولها:
لا زال عزك يخضع الأطوادا ... ويذل في آجامها الآسادا
لله أيام بقربك أنعمت ... ما ضرها أن لم تكن أعيادا(3/198)
راقت محاسنها وطاب نعيمها ... فأتى الزمان حدائقاً وعهادا
أسفي على زمنٍ مضى في غيرها ... يا ليت ذاهبه استعيد فعادا وهذا كقول أبي العلاء:
وأطربني الشباب غداة ولى ... فليت سنيه صوت يستعاد وفيها يقول ابن الباجي:
من مبلغ عني الأحبة إذ نأت ... أوطانهم والمعشر الحسادا
أني وجدت الجو طلقاً بعدهم ... والماء مصقول الأديم برادا
فليكبت الأعداء أنك واحد ... رجح الجموع وقلل الأعدادا
لله معتمد عليه مؤيد ... بالنصر منه عفا وجاد وذادا
لا يصرف النصحاء عزم سماحه ... سبحان من طبع الجواد جوادا
جود يفيض البحر منه ومنة ... في البأس يدهش ذكرها الأنجادا
وأناة حلمٍ في إباء حفيظةٍ ... كالأرض تطلع سوسناً وقتادا وله من قصيدة في تأبين المقتدر بن هود، أولها:
كأنك ما اتخذت القصر دارا ... ولا أوقدت بالعلياء نارا
ولا غدت الجموع عليك خرسا ... يهابون السكينة والوقارا
سكينة ألمعي في حباها ... شمائل تكسب الأنس النوارا
خلائق يستنير الفضل منها ... رياض الحزن سامرت القطارا [41ب](3/199)
تعالى الله كيف هوى ثبير ... ووافى البحر مسقطه مغارا
أسر الدهر مقتدر المعالي ... فلم يا بدر فارقت السرارا -!
أباح لهاجم الحدثان منه ... زعيماً لم يزل يحمي الذمارا
وطال به الزمان وكان قدماً ... يجير على الزمان من استجارا
ربيب وقائعٍ بليت عليه ... حمائله وما حمل العذارا
لتبك الخيل مرسلها رياحاً ... تلوث بمفرق الشمس الغبارا
وبيض الطبع مصلتها بروقاً ... وصفر النبع مقدحها شرارا في ذكر الأديب أبي الحسن ابن الاستجي
وكان شاعراً مجيداً، وإماماً في سائر التعاليم محموداً، وله سبق لا ينكر، وحق لا يؤخر، وإحسان لا يزال يذكر، أنشد له أبو الوليد ابن عامر في كتابه المسمى ب - " البديع في فصل الربيع " قال، أنشدني أبو الحسن ابن الاستجي لنفسه:
قد قلت للروض ونواره ... نوعان تبري وفضي
وعرفه مختلف طيبه ... صنفان خمري ومسكي
ووجه عبد الله قد لاح لي ... وهو من البهجة دري(3/200)
شم غرسك الأرضي إن الذي ... أبصرته غرس سماوي
حسنك نوري بلا مريةٍ ... وحسن عبد الله نوري ومعنى البيت الرابع من هذه ناظر إلى قول الآخر:
لا تقس غرس ربنا ... بالذي يغرس البشر وقال يمدح المعتضد ويصف الشقائق:
إن الشقائق من حم الخدود قد اش ... تقت ومسودها من حالك اللمم
كأنها في المروج الخضر آنية ... حمر قد اضطربت من قانئ الأدم
يا ابن الذي قد حماها في منابتها ... فلم تزل في حمى منه وفي حرم
معروفة باسمه في كل مطلعٍ ... محفوظة المنتمى مرعية الذمم
جدد لها من وكيد العهد حرمتها ... وصل لها محدث الإكرام بالكرم أشار إلى أن جده كان النعمان الذي نسب إليه الشقائق، وروي أنه مشى يوماً في بعض شأنه، فأفضى إلى موضع فيه من هذه الشقائق كثير فقال: احموها، فحميت، فسميت بذلك شقائق النعمان، حكى ذلك أبو حنيفة ورفعه إلى الأعشى، وذكر أنه كان حاضر النعمان يومئذ.
وأذكرها هاهنا قطعاً من الشعر، ما ضرها أن لم تكن قطعاً من الزهر(3/201)
تعلقت بذكر ابن الاستجي هذا، بارى بالمعارضة فيها صدور الرتب، وأفراد أهل الأدب ممن كان بإشبيلية في ذلك الزمان، أخرجتها من كتاب " البديع في فصل الربيع " لأبي الوليد بن حبيب المذكور.
قال أبو الوليد: أنشدني أبو الحسن ابن الاستجي لنفسه يمدح القاضي ابن عباد من جلة قصيدة: [42أ]
كأنما الورد لما ... وشت يد المزن أرضه
كواكب في سماءٍ ... من الزبرجد غضه
كأن طل الأقاحي ... مدامع من فضه
أو لؤلؤ فوق أرضٍ ... من المها مبيضه
كأنما الورد صدر ... أبقى به اللثم عضه
كأنما النهر نصل ... جلا الصياقل عرضه
كأنما الشمس في الجو ... حين تقطع عرضه
وجه ابن عباد الند ... ب حين تأمل قرضه
حوى بطول يديه ... طول الثناء وعرضه ومن شعر أبي الوليد ابن عامر في معارضته من جملة قصيدة:(3/202)
انظر إلى النهر واعجب ... بحسن مرآه وارضه
قد حل بين رياض ... من النواوير غضه
من نرجس مثل لون ال ... مهجور فارق غمضه
وأقحوان أنيقٍ ... بروده مبيضه
كأنما النهر أفق ال ... سماء عانق أرضه
وقد كسا عدوتيه ... بحومة الزهر مخضه
كما ابن عباد الند ... ب قد كسا الصون عرضه وقال ابن القوطية في ذلك:
بشاطئ النهر نور ... كسا الدرانك أرضه
نمارق وزرابٍ ... من النواوير غضه
فالورد وجنة خود ... غراء بيضاء بضه
كما البنفسج خد ... أبقى به اللثم عضه
والياسمين نجوم ... حازت من الحسن محضه
حكى سجايا ابن عبا ... د الكريم وعرضه وقال ابن الأبار من جملة أبيات:(3/203)
شقائق شق قلبي ... رواؤها وافتضه
كأنما الأرض منها ... خريدة مفتضه
ونرجس متغاضٍ ... كأنما الحزن مضه
يرنو بطرفٍ كليلٍ ... كمن يحاول غمضه
وسوسن إن تشمه ... فكالوذائل بضه
أو ألسن الدر صيغت ... أو الطلى المبيضه
والأقحوان نجوم ... ليس ترى منقضه ثم خرج إلى المدح بأبيات حذفتها لطولها.
وقال أبو الاصبغ بن عبد العزيز:
يا من تأمل نوراً ... فيه النواوير غضه
وعاين الحسن منها ... قد زين البعض بعضه
فالنرجس الغض تبر ... في صفرة منه محضه
والأقحوان بياضاً ... كأنه سمط فضه
والورد ماء ونار ... سالا على وجه بضه
ضدان في صحن خد ... قد ألفا بعد بغضه(3/204)
والمدح حذفته.
وعارضهم القاضي ابن عباد بسطاً لأمانيهم، وعجباً بما أوردوا من ألفاظهم ومعانيهم، وكأنه نقد على ابن عبد العزيز هذا شيئاً في التشبيه، فقال يعرض به ويعاتبه فيه:
أبلغ شقيقي عني ... مقالةً لتمضه
بأن وصف الأقاحي ... الذي وصفت لم ارضه
هلا وصفت الأقاحي ... بأكؤسٍ من فضه
أو النجوم تساقط ... ن في المها المبيضه في أبيات غير هذه.
وقال ابن حصن في ذلك:
نبه جفونك للرو ... ض واهجرن كل غمضه
قد نبه الطل منه ال ... جفن الذي كان غضه
من بين ورد كخد ال ... حبيب حاولت عضه
وسوسنٍ قد حكي لي ... سوالف الغيد بضه
ومن بهارٍ تدلى ... جماجم منه غضه(3/205)
كأنه معرض عن ... محدث لم يرضه [42ب]
ومن أقاح يباهي ... مصفره مبيضه
كأنه نقر التب ... ر في مداهن فضه ولم أسلك في هذه الأشعار طريق الاختيار، إذ ليس فيها حظ لمختار، وإنما أثبتها لما تعلق بها، وذكرت بسببها، ولا أعطل جيد التأليف من مخشلبها.
فصل يشتمل على مقطوعات أبيات لجماعة من الأدباء
كانوا بعصر المعتضد عباد، ولم أجد لهم أشعاراً تفسح لي
في طريق الاختيار، إلا ما أثبت لهم الوزير أبو عامر
ابن مسلمة في عرض كتابه المترجم ب - " الحديقة " فكل
ما أثبت لهم في هذا الفصل فمن كتابه نسخت،
ومن خط يده نقلت
فمنهم الوزير أبو الأصبغ بن عبد العزيز أنشد له في قفول الخيري ورحلة البهار:
رحل الربيع عليه بند موال ... وأقيم للخيري راية وال
في شهر كانون أديل وقوضت ... أيام بهجته فهن خوالي(3/206)
فاشكر أوائله فهن نوافج ... واحمد أواخره فهن غوالي
وإذا سررت بخل صدقٍ وافدٍ ... ورضيته فانظر إلى الترحال وأنشد له:
هام قلبي بغزالٍ ... أتمنى منه عطفه
شرب الكأس وأبقى ... عامداً في الكأس نطفه
فعلمنا أنه ير ... غب أن يمنح رشفه
كشفت لي لولا الحميا ... ما خصصناك بتحفه
كشفت من سره ما ... لم تكن تأمل كشفه
وبدا في الخد منه ... خجل خالط طرفه
فجني الورد فيه ... وأنا أمنع قطفه قال أبو عامر: وكتب إليّ وإلى ابن الأبار وقد رأى معنا غلاماً فيما سلف وسيماً، ثم عذر وأدبر، بأبيات أولها:
أمفترسي ظبيٍ أغر غرير ... ومقتنصي بدرٍ أنار منير
لئن نلتما بالسحر من كل غرة ... ففي مقل الغزلان كل غرور
وقد رحم الرامي المصيب فريسة ... ويرزقها بالسحر كل سحور
أثرت من الصيد الذي قد عقرتما ... وكم عاقر للصيد غير مثير
وسعد الفتى في عمره جالب المنى ... إليه وفي الحرمان كل عسير
فطيبا جميعاً واطربا وتمكنا ... فليس الذي أدركتما بيسير
هل الراح إلا وجهه ورضابه ... فإن جمعت حلت بغير نكير(3/207)
فأجابه ابن الأبار:
لعمرك إن الظبي غير غرير ... وإن محيا البدر غير منير
بدت لحية في وجهه هي لحنة ... أتاحت له موتاً بغير نشور [43أ] ومنها:
إذا لم أقل إلا براحٍ وراحةٍ ... فما قدر ذنبي في اغتفار قدير
ساقعد عن ناهي النهى في اجتنابها ... وإن قام في فودي شاهد زور
هل العيش إلا أن أقبل ثغرها ... وأصغي إلى بم أجش وزير
خبرت بني الأيام شرقاً ومغرباً ... فآثرتها إذ لم أفز بأثير وأنشد له أيضاً بما خاطب به ابن الأبار:
أما وخد له معذر ... ومبسم الخاتم المجوهر
وخصره المتعب المعنى ... بثقل ما ضاق عنه مئزر
ولمةٍ أسبلت أثيثاً ... كأنه وابل معطر
وورد خديه بعد سكرٍ ... والغنج من حظه المحير
إن لعينيه في فؤادي ... أشد من وقع كل خنجر
إن خلته ضيغماً قطوباً ... أو أسداً عابساً غضنفر
فهو من الحسن كل بدر ... وهو من الطيب كل عنبر
ريقته خمرة ولكن ... شيب شذاها بطعم سكر
لو كان في الخلد مثل هذا ... تاه على الحور أو تكبر
في شبهه قال مثل هذا ... من أحسن الوصف ثم ندر
" مظفر كاسمه مظفر ... أخلاق ليث وخلق جؤذر "(3/208)
فأجابه ابن الأبار بهذه الأبيات:
لست بصاب إلى معذر ... بل أنا في حبه معذر
لا أعشق الظبي ذا لجام ... لأنه في الظباء منكر
أهواه والخد منه صبح ... حتى إذا ما دجا تغير
أحسن ما فيه أن تراه ... بين مهاةٍ وبين جؤذر
متوجاً لمةً تبدى ... بتاج كسرى وملك قيصر
إن ماس فالمرط منه مثر ... بما حوى والوشاح معسر
يرفق بالخلق حين يغضي ... وينظر الموت حين ينظر
متى يلم عاذل عليه ... يبدو له وجهه فيعذر
كم علني الراح ثم حيا ... أحوى مريض الجفون أحور
كأنما سحر وجنتيه ... نوم اجفانه لتسهر
ما زلت أشتفها ونقلي ... طلاه والمبسم المجوهر
أمكن من طرةٍ وثغرٍ ... فصرت في جنةٍ وكوثر وأنشد للوزير أبي الاصبغ بن سعيد:
وما أنس لا أنس المدامة بيننا ... يناولنيها وهو بالسحر نافث
ويجعل نقلي ريقه بعد رشفها ... فيا لك من طيب على السكر باعث
فسكران من خمرٍ ومن رشف ريقه ... وبينهما من سحر عينيه ثالث(3/209)
وأنشد له:
يا أيها الساقي الذي بعثت لنا ... يمناه من مزن الغمام رذاذا
لا تسقنيها دون ملء كؤوسها ... وإذا سجدت بها إليك فماذا
إني اتخذت الغي رشداً والهوى ... ديناً ولذت عن الرشاد لواذا
فامزج بريقك لي الكؤوس وقل لنا ... خذ، تلقني لكبارها أخاذا وأنشد له:
بالغت في عذلي وفي تأنيبي ... وفي الراح حين وعظتني بمشيبي
هيهات لست بتائب عن شربها ... ما دام شربها أقل ذنوبي
إن كان أكربني المشيب فإنها ... راح تروح بكربة المكروب
فلأشربن لكي أدافع كربها ... عني وأطرب فوق كل طروب وأنشد لأبي إسحاق بن خيرة الصباغ [43ب]
يوم كأن سحابه ... لبست غمامي المصامت
فالغيث يبكي الضحى ... كمثال أجنحة الفواخت
والرعد يخطب مفصحاً ... والجو كالمحزون ساكت
والروض يسقيه الحيا ... والنور ينظر مثل باهت
فاطرب ولذ بحسنه ... واشرب فإن العمر فائت(3/210)
صرفاً كأن حبابها ... در على العقيان نابت
تحكي خلال الحاجب الز ... اكي المغارس والمنابت
عباد السامي الذرى ... والمجد حيث النجم ثابت
ملك إذا نطقت علا ... هـ بمعرك فالخطب صامت
أو طاش عقل معاشرٍ ... في ضنك حرب فهو ثابت وأنشد له أيضاً:
انبذ مقال النصيح ... ودن بشرب الصبوح
ورح وباكر مداماً ... كالشمس وقت الجنوح
خرقاء يلثغ منها ... لسان كل فصيح
إذا تناولت منها ... حسنت كل قبيح
رقت على ظهر كسرى ... وعهد عادٍ ونوح
فليس توجد إلا ... بنور لونٍ وريح وأنشد له:
رب ليلٍ طال لا صبح له ... ذي نجوم أقسمت أن لا تغور
في دجى ليلٍ بهيمٍ حالك ... يستوي الأكمه فيه والبصير
فتراها حائرات في الدجى ... زاهرات كمصابيح تنير
قد هتكنا جنحه عن فلقٍ ... من خمورٍ ووجوه من بدور
إذ بدت شبهتها في كأسها ... نار إبراهيم في برد ونور
وامتطينا للملاهي مرحاً ... خيل راحٍ بمنايانا تدور
صرعتنا إذ علونا ظهرها ... في ميادين التصابي والسرور(3/211)
فنعانا العود في ميتتنا ... بأبح البم إسعافاً وزير
فرفعنا من كؤوس نكسٍ ... وفتحنا من عيون بفتور
فكأن حين قمنا معشر ... نشروا بعد مماتٍ من قبور وأنشد لأبي بكر بن نصر الإشبيلي:
أهدت إليّ روحي براح يمينها ... راحاً أرق من الهواء وأعتقا
فكأن حب حبابها في وجهها ... در على أرض النضار تفرقا
وكأن شخص الكأس شمس وشحت ... قمراً فغاض شعاعها وتمزقا
لله درك من زمان لم يزل ... حلو الحلى رحب الجناب معتقا
زمن هصرنا عيشه فكأنه ... من جود إسماعيل كان منمقا
الحاجب الملك الذي حجب الورى ... عن كل مكروهٍ يخاف ويتقى
وكأنه بيديه صور نفسه ... فأجادها كيف اشتهى وتأنقا وأنشد لمحمد بن ديسم الإشبيلي:
امزح حمياً الكؤوس واشرب ... بنفثةٍ من رضاب ألعس
راحاً تمطى بطون راح ... لها خلال الضلوع مكنس
يدير منها البنان خمراً ... صبغة ماء اللجين ملبس
ملك زها رفعةً ومجداً ... كما زكا محتداً ومغرس [44أ](3/212)
تطلع أنواره شهاباً ... إن عارض للخطوب عسعس
ويذعن الموت حين يسطو ... ويبسم الموت حين يعبس وأنشد له في ترك الشراب:
تجافيت عن شربي لها لا لعفةٍ ... ولم يك إقصائي لها عن تحرج
وإن أك قد عرجت عن حق حبها ... فما أنا عن تفصيلها بمعرج وأنشد له في مثله:
ولم أجتنب شرب المدام لعفةٍ ... ولم ألحق الصهباء ذماً ولا عذلا
تنافرني أن صرت ضداً لشكلها ... فليست لنا أهلاً ولسنا لها أهلا وأنشد لأحمد بن محمد البلمي الإشبيلي:
ولقد رشفت مدامةً ... أشهى من الثغر البرود
بكراً ولكن عهدها ... من عهد عادٍ أو ثمود
لانت لنا لكن لها ... بعقولنا بطش شديد
تبدو وقد نظم المزا ... ج من الحباب لها عقود
وإذا توارت بالحلو ... ق بدا سناها في الخدود
وكأنني مولى الورى ... والناس كلهم عبيد(3/213)
ومدامة ورسيةٍ أعملتها ... عرضت علي بشربها أعمالي
فكؤوسها بصفائها كلآلئٍ ... وشرابها في جوفها كالآل وأنشد له صاحب كتاب " البديع ":
انظر ونزه ناظريك بروضةٍ ... غناء ما زالت تراح وتمطر
لتريك من صنعاء صنعة وشيها ... بمطارف من تستر لا تستر
ألوانها مثنى وطيب نسيمها ... يقصى العبير بها وينسى العنبر وقال:
أما ترى النرجس الغض الذكي بدا ... كأنه عاشق ذابت ذوائبه
أو المحب اشتكى لما أضر به ... فرط السقام فعادته حبابئه وقال:
رب نيلوفر غدا يخجل الرا ... ئي إليه نفاسةً وغرابه
كمليك للزنج في قبةٍ بيضا ... ء يدنو الدجى فيغلق بابه(3/214)
وأنشد للوزير أبي بكر بن القوطية في تجنيس القوافي، عارض بها طريقة أبي الفتح البستي:
سقاني كأسه ولها ... دبيب زادني ولها
غزال إن رأى ولهي ... زها عن قصتي ولها وقال:
ومنادم لم أرض من أشري به ... فندمت إذ أصبحت غير شريبه
يا ليت ما ألقاه من أرقي به ... وسهادي انفردا بعين رقيبه وقال:
ومدل بسقيه يتلقى ... ندماه بسطوة واقتدار
فمن أسأل الرجوع لداري ... قال لي: اشرب فلست في وقت دار وقال في المردقوش:
عنبري اللون في الخلقة قد ... فاق طيباً كل مشموم وبذ
ذو جلابيب له قلصها ... فأتت خلقاً كآذان الجرذ [44ب](3/215)
ولذا سموه إذ أشبهها ... مردقوشاً باشتقاق يومئذ أشار إلى ما حكاه بعضهم أن المراد بالفارسية: الأذن، والقوش: الفأر.
وقال في الترنجان:
وأخضر فستقي اللون غض ... يروق بحسن منظره العيونا
ذكي العرف مشكور الأيادي ... كريم عرفه يسلي الحزينا
أغار على الترنح وقد حكاه ... فزاد على اسمه ألفاً ونونا وأراه سمع قول صاعد اللغوي فيه، حيث يقول:
من طيبه سرق الأترج نكهته ... يا قوم حتى من اشجار سراق ولكنه عكسه، إذا اقتبسه، وترك الرائحة ومال إلى الاسم.
وقال في التفاح:
وجلنارية مسكية النفس ... كأنها جذوة في كف مقتبس
قد أشربت من صباغ الله حمرتها ... كأنها غرة أوفت على لعس
كريمة من بنات الفرع ما حضرت ... إلا وحضت على اللذات والأنس
حافت فنكستها لما كلفت بها ... فإن دعوت أجابت باسم منتكس قوله: " حافت " هو " تفاح " مقلوب.
وقال في السفرجل:(3/216)
وزعفرانية في ثوب محزون ... تروق طعماً وشماً في البساتين
مصفرةٍ من بنات الحسن تحسبها ... في زغبها ميتاً في ثوب تكفين
قد رنحت فوق أغصان ترجحها ... وفلكت كثدي الربوب العين وقال في الأترج:
جسم من النور في ثوب من النار ... كأنه ذهب من فوق بلار
فابيض باطنها واصفر ظاهرها ... كأنها درهم من تحت دينار
محفوفة برماح من منابتها ... مشحونة بين أرواح وأمطار
عطرية لم تطيب للقاء ولا ... مدت يميناص إلى حانوت عطار وقال في الخوخ:
وطيب الريق عذب آب في آب ... وزار مشتملاً في زي أعراب
مخمل الثوب لم تخمل رئاسته ... بين الفواكه من نقصٍ ولا عاب
خالسته نظري فاحمر من خجلٍ ... خداه ثم انثنى عني كمرتاب
من اسمه فيه مقلوباً ومبتدئاً ... أربى على اللوز في تطريز جلباب يريد أن الخوخ يقرأ من طرفيه؛ وفيه يقول:
لم أر كالفرسك جلبابا ... كأنه قد سكن الزابا
من طرفيه يتأتى اسمه ... فإن تفطنت له ثابا وقال في الفستق: [45أ]
صدف أبيض نقي ... ذو بهاءٍ ورونق
متفر عن جوهر ... أخضر فيه مطبق
كل صبغٍ يعزى إلى ... لونه قيل فستقي(3/217)
وقال في العناب:
أما ترى ثمر العناب موقرةً ... بكل أحمر لماعٍ من الخرز
وقد تدلت به الأغصان مائلةً ... مثل العثاكيل من صدر إلى عجز
وقد حمتها عن الأيدي أسنتها ... حذار مفترس أو خوف منتهز وقال:
ما طلعت في قوسها ... إلا بدا قوس قزح
نفس وما من نفسٍ ... روح ولكن لا شبح
شرارة تلمحها ... قرارة لمن لمح
ولست من شرابها ... ولا لها بمقترح
ولا أنا مغتبق ... بها ولا بمصطبح
لكنني أمدحها ... تظرفاً في من مدح الوزير أبو العلاء زهر بن عبد الملك بن زهر الايادي
أحد الأفراد امجاد من إياد، وهو وإن كان في وقتنا البحر الذي لم يبلغ بالتحصيل، والصبح الذي لا يفتقر معه إلى دليل، فإني أجريت ذكره في نفس هذا الديوان نفساً، واجتلبت قطعةً من شعره أقمتها للآداب عرساً، وجعلتها لألباب الشعراء والكتاب مدوساً، مع أنه أعلى قدراً، وأبهر ذكراً، من أن يعبر الدهر عن علاه، أو يدعي الشعر أنه من حلاه؛ ولم أظفر عند تحريري هذه النسخة بشيء من نثره، فلذلك اقتصرت على جملة من شعره، جعلتها ذريعةً إلى إجراء ذكره، ولولا ترتيب اقتضاه(3/218)
هذا التأليف، وقضى به التصنيف، لحل ذكره من هذا الديوان محل زحل من الفلك، والتاج من مفرق الملك.
وقد قدمت في أخبار القاضي ابن عباد من إظلام أفقه - كان - على الأشكال، واجتماع فرقه من الأغفال، بما أغنى عن إعادة المقال. وكان الفقيه جده محمد بن مروان بن زهر، منشأ تلك الدولة العبادية أول من تثنى عليه الخناصر، وتشير إليه القلوب والنواظر، وتفتقر إلى ما لديه الألباب والبصائر، فضاقت دولته عن مكانه، ضيق صدر العاشق عن كتم أشجانه، واسترابت لجلالة شانه، استرابة المنافق بتلجلج لسانه؛ وأهمه أمره حتى أخرجه عن بلده، واستصفى ذات يده، فلحق بشرق الأندلس، وأقام بها بقية عمره، بين جاهه ووفره، وفي حصنٍ حصينٍ من سلامة سره وجهره.
ونشأ ابنه الوزير أبو مروان عبد الملك بن محمد فما بلغ أشده، حتى سد مسده، بل ما خلع تمائمه، حتى استوفى مناقبه ومكارمه، وورث مباديه وخواتمه، ومال إلى التفنن في أنواع التعاليم من الطب وغيره من العلوم، فجمع شعاعها، واستوفى أجناسها وأنواعها، وجذب بضبعها، وفرق بين غربها ونبعها، ورحل إلى المشرق لأداء حج الفريضة فملأ البلاد جلالةً، ورجح الأطواد أصالةً، ولم يلق أحداً من زعماء تلك الأقطار إلا عول على ما عنده، وتجاوز في الأخذ عنه عفوه وجهده.(3/219)
ونشأ أبو العلاء زهر بن عبد الملك فاخترع فضلاً لم يكن في الحساب، وشرع نبلاً قصرت عنه نتائج الألباب، وكنا نتوقع الحمام حتى سطا، وننتجع الغمام إلى أن أعطى، لو ساجل البحر لفضحه، أو وازن الدهر لرجحه، نشأ بشرق الأندلس والآفاق تتهادى عجائبه، والشام والعراق تتدارس بدائعه وغرائبه، ومال إلى علم الأبدان، فلولا جلالة قدره، لقلنا جاذب هاروت طرفاً من سحره، ولولا أن الغلو آفة المديح، لتجاوزت طلق الجموح، ولكن اكتفيت بالكناية عن التصريح، وصلوات الله على المسيح. [45ب] ولم يزل مقيماً بشرق الأندلس إلى أن كان من غزوة أمير المسلمين وناصر الدين، أبي يعقوب يوسف بن تاشفين، في من انضم إليه من ملوك الطوائ إلى حصن لييط ما كان، فشخص الوزير أبو العلاء معهم، فلقيه المعتمد واستماله واستهواه، وكاد يغلب على سره ونجواه، وصرف عليه بعض أملاكه، فحن إلى وطنه، حنين النجيب إلى عطنه، والكريم إلى سننه، ونزع إلى مقر سلفه، نزوع الكوكب إلى بيت شرفه، إلا أنه لم يستقر بإشبيلية إلا بعد خلع المعتمد، ودعا به أمير المسلمين، رحمه الله، فلباه، وحل من نفسه محلاً لم يحله الماء من الظمآن، ولا الروح من جسد الجبان، وقد أخرجت من ملح أشعاره ما يعطل شذا الزهر، ويخجل سنا الأنجم الزهر.(3/220)
جملة من مقطوعاته الاخوانيات
كتب إليه حسام الدولة ابن رزين بهذه الأبيات:
عاد اللئيم فأنت من عدائه ... ودع الحسود بغله وبدائه
لا كان إلا من غدت أعداؤه ... مشغولةً أفواههم بجفائه
أأبا العلاء لئن حسدت لطالما ... حسد الكريم بجوده ووفائه
فخر العلاء فكنت من آبائه ... ونأى السناء فكنت من أبنائه
كن كيف شئت مشاهداً أو غائباً ... لا كان قلب لست في سودائه
وإليك كأساً من ودودٍ ممحضٍ ... مملوءة من وده وصفائه فأجابه الوزير أبو العلاء بقوله:
يا صارماً حسم العلا بمضائه ... وتعبد الأحرار حر وفائه
ما أثر العضب الحسام بذاته ... إلا بأن سميت من أسمائه
ولقد غدا رأي الزمان بمعزلٍ ... حتى استمد الرشد من آرائه
عنت الملوك لفضله وعلائه ... وتبرقعت شمس الضحى لسنائه
شرفت ذا أمل بكأسٍ لو غدت ... سماً لما قابلتها بدوائه
كيما أكون الدهر مكلوءاً به ... وأرى رهين الرمس من شهدائه قال ابن بسام: قول ابن رزين: " فخر العلاء فكنت من آبائه " ...(3/221)
البيت، للشعراء تصرف في اشتقاق المدائح من أسماء الممدوحين، ومنه قول ابن الرومي:
كأن أباه حين سماه صاعداً ... رأى كيف يرقى في المعالي ويصعد ولما سمع البحتري هذا البيت قال: مني أخذه في العلاء بن صاعد:
سماه أسرته العلاء وإنما ... قصدوا بذلك أن تتم علاه وقال ابن البين البطليوسي في الوزير أبي الأصبغ بن المنخر:
شم الأنوف لذاك ما سموا بها ... ومن المسمى تؤخذ الأسماء وقال أبو بكر بن سوار في القاضي ابن حمدين: [46أ]
من معشر حمدوا فأحمد سعيهم ... فلذاك ما سموا بني حمدين وقال الصاحب بن عباد: وقد قتل المتنبي من هذا حبلاً اختنق به، فقال:
في رتبة حجب الورى عن نيلها ... وعلا فسموه علي الحاجبا وقال أبو الوليد بن حزم في الوزير أبي العلاء المذكور:(3/222)
أما العلاء فلن تزاحمك العدا ... فيه وحسبك أن دعيت له أبا ومن جواب الوزير أبي العلاء له:
أجريت طرفك في العتاب وربما ... - وقيت - من أجرى بلا قصد كبا
عتبي ولا عتب لدي، وإن بنا ... استبدلت برقاً شام لحظك خلبا
لخبا وضمن من سجايا ذاته ... نفحات غدرٍ ضمن هبات الصبا
ولطالما فيه انخدعت إخاله ... نصلاً فلما أن ضربت به نبا
ما كل ناضر دوحةٍ روضاً ولا ... كل ضياء راق حسناً كوكباً وقول الوزير أبي العلاء: " وربما وقيت "، من مليح الالتفات، وهو عند بعض أهل النقد تتميم، والالتفات أول به وأشك بمعناه، ومنه قول كثير:
لو أن الباخلين وأنت منهم ... رأوك تعلموا منك المطالا وقوله: " وأنت منهم " التفات، وقد سماه ابن المعتز: " اعتراضاً " وجعله باباً على حدته بعد الالتفات، وغيره جمع بينهما. وقال النابغة:
ألا زعمت بنو عبسٍ بأني، ... ألا كذبوا، كبير السن فان(3/223)
فقوله: " ألا كذبوا " اعتراض؛ وقال بعض العرب:
فظلوا بيومٍ دع أخاك بمثله ... على مشرع يروي ولما يصرد فقوله: " دع أخاك بمثله " التفات مليح؛ وقال عوف بن محلم:
إن الثمانين، وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان وقال إسحاق الموصلي: سألني الأصمعي وقال: أتعرف التفاتات جرير - قلت: وما هي - فأنشدني:
أتنسى إذ تودعنا سليمى ... بفرع بشامةٍ سقي البشام وقال لي: أما تراه مقبلاً على شعره ثم التفت إلى البشام فدعا له - وأنشد له ابن المعتز:
متى كان الخيام بذي طلوحٍ ... سقيت الغيث أيتها الخيام وأحسن ابن المعتز في العبارة عن الالتفات، حيث قال: هو انصراف المتكلم عن الإخبار إلى المخاطبة، وعن المخاطبة إلى الإخبار وتلا قوله تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريحٍ طيبةٍ وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف} (يونس: 22) وأنشد لأبي عطاء السندي يرثي عمر بن هبيرة:(3/224)
وإنك لم تبعد على متعمدٍ ... بل كل من تحت التراب بعيد وهو عندهم استدراك؛ وأنشد ابن المعتز في هذا النوع لبشار: [46ب]
نبئت فاضح أمه يغتابني ... عند الأمير، وهل علي أمير - وما أملح قول نصيب:
وكدت ولم أخلق من الطير إن بدا ... سنا بارقٍ نحو الحجاز أطير فقوله: " ولم أخلق من الطير " عجب. ولما سمعت التي قيل فيها هذا البيت تنفست تنفساً شديداً، فصاح ابن أبي عتيق: أواه، زاه!! قد والله أجابته بأحسن من شعره، والله لو سمعك لنعق وطار، فجعله ابن أبي عتيقٍ غراباً لسواده، وأنشدوا للعباس بن الأحنف:
إن تم ذا الهجر يا ظلوم، ولا ... تم، فما لي في العيش من أرب وقال عدي بن زيد، وهو في حبس النعمان:
فلو كنت الأسير، ولا تكنه، ... إذاً علمت معد ما أقول واستقصاء ذكر هذا الباب، مما يضخم حجم الكتاب.(3/225)
وقول الوزير أبي العلاء: " ما أثر العضب الحسام بذاته " ... البيت، من مليح المدح في حسن التعرف بجنس السيفية؛ وأبو الطيب ممن اتخذ سبباً إلى سمائها وعرج، وقرع بابها حتى دخل كيف شاء وخرج، كقوله:
لقد رفع الله من دولةٍ ... لها منك يا سيفها منصل وكقوله:
لولا سمي سيوفه ومضاؤه ... لما سللن لكن كالأجفان وكقوله:
تسمى الحسام وليست من مشابهةٍ ... وكيف يشتبه المخدوم والخدم وقال:
قلد الله دولةً سيفها أن ... ت حساماً بالمكرمات محلى
فإذا اهتز للندى كان بحراً ... وإذا اهتز للوغى كان نصلا وقال:
وإن الذي سمى علياً لمنصف ... وإن الذي سماه سيفاً لظالمه
وما كل سيف يقطع الهام حده ... وتقطع لزبات الزمان مكارمه وقال:
إن الخليفة لم يسمك سيفه ... حتى بلاك فكنت عين الصارم
وإذا تتوج كنت درة تاجه ... وإذا تختم كنت فص الخاتم(3/226)
وقال:
من للسيوف بأن يكون سميها ... في أصله وفرنده ومضائه
طبع الحديد فكان من أجناسه ... وعلي المطبوع من آبائه ولما أفضت الحال، بالمعتمد إلى الاعتقال، وحبس بأغمات، اعتلت بعض كرائمه في أثناء ذلك، والوزير أبو العلاء هنالك، فبادر إلى مرغوبه، وسارع إلى تأتي مطلوبه، ولم يلتفت إلى ما كان سلف بين سلفيهما من معانٍ، قضتها صروف الزمان، واقتضتها حماية السلطان، فلاطف علاجها ورفع قدر المعتمد بالتبجيل، ودعا له بالبقاء الطويل، وكتب إليه المعتمد إثر ذلك بهذه الأبيات، وذكر قصة غريبة وهي: أن أكرم بناته ألجأها الحين إلى استدعاء غزل بأجرة تسد بعض خلتها، فأدخل إليها في جملة ما أخرج غزل لبنت عريف شرطته المنتقل إليه من دولة غرناطة، وعلم الأمر بعد ذلك فتعجب من تقلب الدهر، وفي ذلك يقول للوزير المذكور: [47أ]
دعا لي بالبقاء وكيف يهوى ... أسير أن يطول به البقاء
أليس الموت أروح من حياةٍ ... يطول على الشقي بها الشقاء
[أأرغب أن أعيش أرى بناتي ... عواري قد أضر بها الحفاء]
خوادم بنت من قد كان أعلى ... مراتبه - إذا أبدو - النداء
وطرد الناس بين يدي مروري ... وكفهم إذا غص الفناء(3/227)
وركض عن يمين أو شمال ... إذا اختل الأمام أو الوراء
ولكن الدعاء إذا دعاه ... ضمير خالص نفع الدعاء
جزيت أبا العلاء جزاء بر ... نوى براً وصاحبك العلاء
سيسلي الكل عما فات علمي ... بأن الكل يدركه الفناء فأجابه الوزير أبو العلاء بأبيات، قال فيها:
تنافست المراتب فيك حتى ... حللت العسر إذ نحب الشقاء
عزيز أن ينال البحر نهي ... وتسقي الكوثر العذب الرشاء
ويلقى في متون الرمل ماء ... وتشكو غاية المحل السماء
ولكن الزمان بلؤم طبعٍ ... على الحر الشريف له اعتداء
ومجدك إنه قسم عظيم ... به وجد السنا وله السناء
لكنت الغيث إن محل تبدى ... وكنت الليث إن عن اللقاء
ومثلك، عز قدرك عن مثيل ... يؤمل أن يطول له البقاء
لأنك في سماء المجد نجم ... به لنواظر الدنيا جلاء
وغاية كل شيءٍ لانتهاءٍ ... وأنت لغاية المجد انتهاء وخاطبه الوزير أبو محمد بن عبدون برقعةٍ خطب فيها وده، فتخلف عن جوابه لشغل عرض، فأعاد عليه ثانية بهذه الأبيات:
نصيبي من الدنيا مودة ماجدٍ ... أهيم به سراً وأخدمه جهرا(3/228)
له الخير إن يأذن أقل غير عاذل ... وإن يأب اسكت عنه لا طالباً عذرا
خطبت إليه من هواه عقيلةً ... وأعطيت من شكري وأغل به مهرا
فأطرق لم ينبس بحرفٍ ولم يعد ... إليّ جواباً منه نظماً ولا نثراً
وما الصمت في هذا المكان لسنةٍ ... فإني لم أخطب مودته بكرا
فإن زفها دوني إلى كل خاطبٍ ... فلم ير مثلي لا وفاء ولا برا
وإن حدثت منه إليّ إجابة ... عذرت عن الأولى ولم أكفر الأخرى فأجابه الوزير أبو العلاء:
وفاؤك ما أسنى وفضلك ما أسرى ... ومجدك ما أسمى وزندك ما أورى
إذا رمت نثراً جئت بالسحر ناثراً ... وإن حكت شعراً جئت بالآية الكبرى
بسطت بعفو القول يمنى ولمت أن ... قبضت ولم أمدد إليها يداً يسرى
ولو نهضت بي نحو سؤلي قدرة ... إذن لم أدع في الشكر نظماً ولا نثراً
عقيلة نظمٍ عن يسار زففتها ... لكفؤ ودادٍ ولم تجد كفؤه مهرا
فما لجميل الظن يحسب أنني ... صمت لكبر حين عدت به سرا
أنزه ذاك الفضل عن كشف سوءة ... لجأت إليها حين أرهقني عسرا ما وجدته من شعر أبي العلاء في النسيب
كلفه حسام وصف غلام قائم على رأسه. فقال:(3/229)
تضاعف وجدي إذ تبدى عذاره ... وتم فخان القلب مني اصطباره [47ب]
وقد كان ظني أن سيمحق ليله ... بدائع حسنٍ هام فيها نهاره
فأظهر ضد ضده فيه إذ وشت ... بعنبر صدغيه على الخد ناره وقال فيه:
محيت آية النهار فأضحى ... بدر تمٍ وكان شمس نهار
كان يعشي العيون نوراً إلى أن ... شغل الله خده بالعذار كأنه ألم في هذا بقول الآخر:
حلقوا رأسه ليزداد قبحاً ... حذراً منهم عليه وشحا
كان قبل الحلاق ليلاً وصبحاً ... فمحوا ليله وأبقوه صبحا وقال فيه:
عذار ألم فأبدى لنا ... بدائع كنا لها في عمى
ولو لم يجن النهار الظلام ... لم يستبن كوكب في سما وقال فيه:
تمت محاسن وجهه وتكاملت ... لما استدار عليه صبح مونق
وكذلك البدر المنير جماله ... في أن تكنفه جمال أزرق(3/230)
وهذا كقول ابن برد وقد تقدم:
يا ثوبه الأزرق الذي قد ... فاق العراقي في السناء
كأنه فيه بدر تم ... يشق في زرقة السماء وإنما أخذه من قول ابن المعتز:
الآن صرت البدر حي ... ن لبست ثوب سمائه وله وهو مما طبق المفصل في الغرض واستوفى معنى لم أر أحداً يستوفيه، وجمعه من ألفاظ أدبية، ومعانٍ فلسفية، وأبرزه في صورة من الحسن يوسفية:
يا راشقي بسهام ما لها غرض ... إلا فؤادي وما منها له غرض
وممرضي بجفون لحظها غنج ... صحت وفي صنعها التمريض والمرض
امنن ولو بخيال منك يؤنسني ... فقد يسد مسد الجوهر العرض(3/231)
ومنهم الوزير الفقيه أوبع عبيد البكري
وكان بأفقنا آخر علماء الجزيرة بالزمان، وأولهم بالبراعة والإحسان، وأبعدهم في العلوم طلقاً، وأنصعهم في المنثور والمنظوم أفقاً، كأن العرب استخلفته على لسانه، أو الأيام ولته زمام حدثانها، ولولا تأخر ولادته، وعهدة في زيادته، لأنسى ذكر كنيه المتقدم الأوان، ذرب لسان، وبراعة إتقان، ولا يجمع الزمان حبه، إلا كما يؤلف كتبه، ولا يهز البرق حسامه، إلا كما يصرف أقلامه، ولا يتدفق البحر إلا كما يجيش صدره، ولا يكون السحر إلا كما يروق نظمه ونثره، وله تقدم سبقٍ. وسلف صدقٍ. وقد كان لسلفه بغربي جزيرة الأندلس إمرة قعدوا منها مقعد أكابر الأمراء من الخروج عن الطاعة، والاستبداد عن الجماعة، ولهم في ذلك، وللمعتضد قريع أقرانهم، الذي طم واديه على(3/232)
قريانهم، أخبار ذكرها ابن حيان، وقد ألمعت منها بلمع ليتصل الكلام، ويستقيم النظام.
- فصل في أخبار البكريين من أمراء الغرب
[48أ] قال ابن حيان: لما تولى الوزير أبو الوليد بن جهور الإصلاح بين ابن الأفطس والمعتضد، بعد امتداد شأوهما في الفتنة، وسنى الله السلم بينهما في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين، اعتدى بعد ذلك المعتضد على جاريه ابن يحيى أمير لبلة، وأبي زيد البكري أمير شلطيش وأنبة فأخرجهما عن سلطانهما الموروث، وحصل له عملهما بلا كبير مؤنة، وضمه إلى سائر عمله العريض، وازداد بذلك المعتضد سلطاناً وقوة، وذلك أنه لما خلا وجهه من المظفر بن الأفطس فرغ لابن يحيى بلبلة وصمم في قصده بنفسه، فنزل ابن يحيى له عن لبلة وخرج عن البلد، وانزعج إلى قرطبة: وردها مسلوب الإمارة، لائذاً بكنف ابن جهور ساد الخلة(3/233)
ومأوى الطريد. وكان من الغريب النادر أن شاركه المعتضد بقطعةٍ من خيله أوصلته إلى مأمنه بقرطبة.
ثم سقط إلينا النبأ بعد امتداد يده إلى البكري بولبة وشلطيش؛ وكان هذا الفتى أبو زيد البكري وارث ذلك العمل لأبيه، وكان أبوه من بيت الشرف والحسب والجاه والنعمة، والاتصال القديم بسلطان الجماعة، وكان له ولسلفه قبل إسماعيل بن عباد جد المعتضد وسائل وأذمة خلفاها في الأعقاب اغتر بها عبد العزيز البكري، فبادر البعثة إلى المعتضد ساعة دخل لبلة يهنئه بما تهيأ له منها، وذكره بالذمام الموصول بينهما، واعترف بطاعته، وعرض عليه التخلي عن ولبة، وإقراره بشلطيش إن شاء، فوقع له ذلك من المعتضد موقع إرادة، ورد الأمر إليه فيما يعزم عليه، وأظهر الرغبة في لقائه، وخرج نحوه يبغي ذلك، فلم يطمئن عبد العزيز إلى لقائه، وتحمل بسفنه بجميع ماله إلى جزيرة شلطيش، وتخلى للمعتضد عن ولبة، فحازها حوزه للبلة، وبسط الأمان لأهلها، واستعمل عليها ثقةً من رجاله، ورسم له القطع بالبكري، ومنع الناس طراً من الدخول إليه، فتركه محصوراً وسط الماء إلى أن ألقى بيده من قربٍ ولم يغرب عنه الحزم، فسأل المعتضد أن ينطلق انطلاق صاحبه، فأمنه، ولحق بقرطبة، وبوشر منه رجلاً سرياً عاقلاً عفيفاً أديباً يفوت صاحبه ابن يحيى خلالاً وخصالاً إلى زيادة عليه ببيت السرو والشرف، وبابن له من الفتيان بز الأقران جمالاً وبهاءً وسرواً وأدباً ومعرفة، يكنى أبا عبيد. وتحدث الناس من حزم عبد العزيز يومئذ أنه لما احتل بشلطيش علم أنه لا(3/234)
يقارع عباداً، فأخذ بالحزم أولاً، وتخلى له عنها بشروط وفى له بها، فباع منه سفنه وأثقاله بعشرة آلاف مثقال، واحتل قرطبة في كنف ابن جهور المأمون على الأموال والأنفس، وصفت لعبادٍ تلك البلاد، لو أن شيئاً يدوم صفاؤه، والملك لله وحده.
[فصل من نثره
له من كتاب يهنئ فيه المعتمد بالفتح الذي كان سنة تسع وسبعين وأربعمائة: أطال الله بقاء سيدي ومولاي الجليل القدر، الجميل الذكر، ذي الأيادي الغر، والنعم الزهر، وهنأ ما منحه من فتح ونصر، واعتلاء وقهر؛ بالطالع السعد يا مولاي أبت، وبسانح اليمن عدت، وبكنف الحرز عذت، وفي سبيل الظفر سرت، وبقدم البر سعيت، وبجنة العصمة أتيت، وبسهم السداد رميت فأصميت، صدر عن أكرم المقاصد، وأشرف المشاهد، وعود بأجل ما ناله عائد، وآب به وارد، فتوح أضحكت مبسم الدهر، وسفرت عن صفحة البشر، وردت ماضي العمر، وأكبت واري الكفر، وهزت أعطاف الأيام طربا، وسقت أقداح السرور نخبا، وثنت آمال الشرك(3/235)
كذبا، وطوت أحشاء الطاغية رهبا، فذكرها زاد الراكب، وراحة اللاغب، ومتعة الحاضر ونقلة المسافر:
بها تنهض الأحلاس في كل منزلٍ ... وتعقد أطراف الحبال وتطلق شملت النعمة، وجبرت الأمة، وجلت الغمة، وشفت الملة، وبردت الغلة وكشفت العلة.
كان داء الإشراك سيفك واشت ... دت شكاة الهدى وكان طبيبا فغدا الدين جديداً، والإسلام سعيداً، والزمان حميداً، وعمود الدين قائماً، وكتاب الله حاكماً، ودعوة الإيمان منصورة، وعين الملك قريرة، فهنأ الله مولانا وهنأنا هذه المنح البهية مطالعها، الشهية مواقعها، المشهورة آثارها، المأثورة أخبارها، ونصر الله أعلامه ففي البر تحل وتعقد، وعضد حسامه فبالقسط يسل ويغمد، وأيد مذاهبه فبالتحزم تسدى وتلحم، وأمد كتائبه ففي الله تسرج وتلجم، فكم فادح خطب كفاه، وظلام كرب جلاه، وميت حق أحياه، وحي باطل أرداه، وكم جاحم ضلالة أطفأ ناره، وناجم فتنة قلم أظفاره، ومغلول أسنة أرهف شفاره، ومستباح حرمة حمى ذماره.
فلله هذه المساعي الكريمة، والمنازع القويمة، المتبلجة عن ميمون النقيبة ومحمود العزيمة، فقد تمثل بها العهد الأول والقرن الأفضل الذي أخرج للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والذي سطع هذا السراج، وانتهج هذا المنهاج، فلا زالت الفتوح تتوالى عليه، وصنائع الله تتصل لديه، إدالةً من مشاقيه، وإذالة لمحاربيه، وإبادة لمناوئيه، وإن أجل هذه النعم في الصدور، وأحقها بالشكر الموفور، ما من الله به من سلامة مولاي التي هي(3/236)
جامعة لعز الدين، وصلاح كافة المسلمين، بعد أن صلي من الحرب نيرانها، فكان أصبت أركانها، وأصبر أقرانها:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمةً ... ووجهك وضاح وثغرك باسم فلله الحمد والإبداع والإلهام، وله المنة وعلينا متابعة الشكر والدوام، وفازت الكف الكليم، بأعلى قداح المكلوم لدى المقام الكريم، وإنها لهي التالية للأصبغ الدامية، في المنزلة العالية:
بصرت بالراحة العليا فلم ترها ... تنال إلا جسرٍ من التعب جملة من شعر أبي عبيد البكري
قال يخاطب أبا الحسن إبراهيم بن محمد المعروف بابن السقاء وزير ابن جهور، وقد خرج رسولاً إلى اديس بن حبوس بغرناطة:
كذا في بروج السعد ينتقل البدر ... ويحسن حيث احتل آثاره القطر
وتقتسم الأرض الخطوط فبقعة ... لها وافر منها وأخرى لها نزر
لذل مكان غاب عنه مملكي ... وعز مكان حله ذلك البدر
فلو نقلت أرض خطاها لأقبلت ... تهنيه بغداد بقربك أو مصر وله في المعتمد عندما أجاز البحر مستجيراً بأمير المسلمين وناصر الدين:(3/237)
يهون علينا مركب الفلك أن يرى ... محيا العلا لما نبا مركب الجرد
فجزنا أجاج البحر نبغي زلاله ... وذقنا جنى الشريان نبغي جنى الشهد
يذكرنا ذاك العباب إذا طمى ... ندى كفك الهامي على القرب والبعد ومنها:
محمد يا ابن الأكرمين أرومة ... ليهنك تشييد المكارم والمجد
فلو خلد الإنسان بالمجد والتقى ... وآلائه الحسنى لهنئت بالخلد وله:
أجد هوى لم يأل شوقاً تجددا ... ووجداً إذا أتهم الحب أنجدا
وما زال هذا الدهر يلحن في الورى ... فيرفع مجروراً ويخفض مبتدا
ومن لم يحط بالناس علماً فإنني ... بلوتهم شتى مسوداً وسيدا وله، وكان مولعاً بالخمر:
خليلي إني قد طربت إلى الكاس ... وتقت إلى شم البنفسج والآس
فقوما بنا نلهو ونستمع الغنا ... ونسرق هذا اليوم سراً من الناس
فليس علينا، في التعلل ساعة ... وإن وقعت في عقب شعبان من باس](3/238)
في ذكر ذي الوزارتين الفقيه الكاتب أبي بكر محمد بن سليمان
المعروف بابن القيصرة
وهو في وقتنا جمهور البراعة، وبقية أئمة الصناعة، وعذبة اللسان العربي، وسويداء قلب هذا الإقليم الغربي، بحر علمٍ لا ينزح، وجبل حلمٍ لا يزحزح، من بعض كور إشبيلية، نشأ في دولة المعتضد، شهر بالعفاف فلزمه، ويسر للعلم فتعلمه وعلمه، وكانت له نفس تأبى إلا مزاحمة الأعلام، والخروج على الأيام، وهو دائباً يغض عنانها فتجمح، ويطأطئ من غلوائها فتتطاول وتطمح، ممتنعاً من خدمة السلطان، قاعداً بنفسه عن مرتبة نظرائه من الأعيان، بين عفة تزهده، وهيبة من المعتضد تقعده، حتى فطن له ذو الوزارتين ابن زيدون، فلم يزل يضرح قذى العطله عن مائه، ويعلي رماد تلك الهيبة عن نار ذكائه، إلى أن نبه عليه المعتضد [48ب] آخر دولته، فتصرف فيها قليلاً على تقية من تلك البقية(3/239)
وتقشف من ذلك التعفف، إلى أن أفضى الأمر إلى المعتمد، وأحسبه قد كان في أيام أبيه، من بعض من يداخله ويصافيه، فحباه من علاه بنصيب، وسقاه من نداه ببحرٍ لا بذنوب، وأنهضه إلى مثنى الوزارة، وأكثر ما عول عليه في السفارة، فسفر غير ما مرةٍ بينه وبين حلفائه من ملوك الطوائف بأفقنا، حتى انصرفت وجوه آمالهم إلى أمير المسلمين وناصر الدين، أبي يعقوب يوسف بن تاشفين، رحمه الله، فسفر ذو الوزارتين بينهما مراراً فكثر صوابه، واشتهر في ذات الله مجيئه وذهابه، واضطر المعتمد إليه قريباً من آخر دولته، فعظمت حاله، واتسع مجاله، واستولى على الدولة استيلاء قصر عنه أشكاله، إلى أن كان من خلعه ما كان، فكان ذو الوزارتين أحد من حرب، وفي جملة من نكب. وأقام على تلك الحال، نحواً من ثلاثة أحوال، حتى تذكره أمير المسلمين بما كان عهد من حسن خليقته، وسداد طريقته؛ وقد حدثت أن سبب ذلك الذكر، كتاب كان ورد من صاحب مصر، لم يكن بد من الجواب عليه والإنصاف منه، وتفقد يومئذ أعلام المشاهير، فكان ذو الوزارتين أقرب مذكور، فاستدعاه لحينه، وولاه كتبة دواوينه، ورفع شانه، حتى أنساه زمانه، وقد أثبت من كلامه مما أنشأه في الدولتين، ما يملأ ذكره الخافقين.(3/240)
جملة من إنشاءاته السلطانيات مع ما يتعلق بها
ويذكر بسببها
له من رقعة وردت على الجناح بهزيمة الطاغية اذفونش، قصمه الله، يوم الجمعة المشهور، الذي أباد الله فيه عبدة الطواغيت على يدي أمير المسلمين وناصر الدين، أبي يعقوب يوسف بن تاشفين، رحمه الله، قال فيها:
كتبت صبيحة يوم السبت الثالث عشر من رجب، وقد أعز الله الدين، وأظهر المسلمين، وفتح لهم بفضله على يدي مسعانا الفتح المبين، بما يسر الله في أمسه وسناه، وقدره سبحانه وقضاه، من هزيمة أذفونش بن فرذلند، أصلاه الله - إن كان طاح - الجحيم، ولا أعدمه - إن كان أمهل - العيش الذميم، كما قنعه الخزي العظيم، وإتيان القتل على أكابر رجاله وحماته، وأخذ النهب في سائر اليوم والليلة المتصلة به إلى جميع محلاته، وحضور العدد الوافر بين يدي من رؤوسهم، ولم يحتز منها إلا ما قرب، وامتلاء الأيدي مما قبض ونهب، واتخذ الناس هاماتهم صوامع يؤذنون عليها، ويشكرون الله تعالى على ما صنع فيها، والتتبع بعد في آثارهم، وتمادي الطلب من وراء فرارهم؛ والذي لا مرية فيه أن الناجي منهم قليل، والمفلت(3/241)
من سيوف الهند بسيوف الجوه والبعد مقتول، ولم يصبني بحمد الله إلا جرح أشوى، وعنت رغب حسن المآل عندي وزكى، فلا يشتغل لك بذلك بال، ولا تتوهم فيه غير ما أشرت إليه، والحمد لله على ما صنع حق حمده، وهو أهل المزيد الذي لا يرجى إلا من عنده.
قال ابن بسام: وشهر رجب الذي ذكره كان سنة تسع وسبعين.
ثم ورد بعد كتاب من إنشائه يشرح جمل هذا الفتح وتفصيله، قال في بعض فصوله: وقد علم ما كنا قبل مع عدو الله اذفونش بن فرذلند، قصمه الله، من تطأطؤنا واستعلائه، وتقامئنا وإنتخائه، وأنا لم نجد لدائه دواء، ولا لبلائه انقضاءً، ولا لمدة الامتحان به فناءً، إلى أن سنى اتلله تعالى من استصراخ أمير المسليمن وناصر الدين، أبي يعقوب يوسف بن تاشفين، معقلي الأحمى - أيده الله - ما سنى، وأدنى من نأي دياره وشحط مزاره ما أدنى، فلم أزل أصل بيني وبينه الأسباب، وأستفتح إلى ما كنت أتخيل من نصره الأبواب، إلى أن ارتفعت الموانع قبله، وانتهجت السبل القصية له؛ ثم أجاز - على بركة الله وعونه - يريش ويبري، وصار بعد قدماً يخلق ويفري، ويتتبع وجوه الحزامة [49أ] كيفما اتجهت ويستقري، وأنا أنجده بوسعي، وأسعده على حسب ما يطيقه ذرعي، إلى أن صرنا معشر الحلفاء(3/242)
ببطليوس - حرسها الله - واتفق رأينا بعد تشاورٍ على قصد قورية - حرسها الله - وسمع العدو - لعنه الله - بذلك، فصمد من محتشده إليها في جيوش تملأ الفضاء، وتسد الهواء، وتمنع أن تقع على ما تحت راياته ذكاء، قد تحصنوا بالحديد من قرونهم إلى أقدامهم، واتخذوا السلاح ما يزيد في جرأتهم وإقدامهم، ولما أشرف على جنابها، ولسنا بها، ودنا من أعلامها، ولم يتجه لنا بعد ما أردنا من إلمامها، دعاه تعاظمه إلى مواجهة سبيلنا، وحمله نفجه وتهوره على السلوك في مدرج سيولنا.
وفي فصل منها: فدنونا إليه بمحلاتنا - نصرها الله - ثم اضطربناها بازائه، وأطللنا عليه براياتنا حتى كدنا نركزها بفنائه، ورأى - لعنه الله - ما اعتمدناه من إصغاره وإخزائه، فأجمع مضطراً على اللقاء، وقدم بعض أخبيته دهشاً في الرقعة التي كانت بيننا على صغرها من بساط الفضاء، وقد تيقن أنه إن أخذ المسلمون مصافهم، ورتبوا في مواقعهم كوافهم، اصطلم عن آخره جمعه، واجتث أصله وفرعه، فاهتبل فيما قدر غرةً، وحمل ولم يكن - بحمد الله - ما استشعره مرةً، فتنادى المسلمون بشعارهم المنصور، وقبلوا عليه وعلى من معه في حالٍ مؤذنةٍ بالظهور والوفور، فتواقف قليلاً الجمعان، وتجاول ملياً الفريقان، وللسيوف حكمها، ومن الحتوف حدها المفهوم ورسمها، ثم صدق أمير المسلمين وناصر(3/243)
الدين - أيده الله - الحملة، وصدم في جمعٍ لم يكثر عدد الجملة، فلم يلبث أعداء الله أن ولوا الأدبار، واستصرخوا الفرار، واتبعهم خيل المسلمين - نصرهم الله - بقية اليوم والليلة، تقتلهم في كل غورٍ ونجد، وتقتضي أرواحهم على حالين من كالئ ونقد، ولم يخلص منهم على أيدي المتبعين - آجرهم الله - إلا من سيلتهمه البعد، ويأتي على حشاشته الجهد، وأما محلتهم فانتهبت في أول وهلة، وشربت بأسرها في نهلة.
وفي فصل منها:
ولم يصب بحمد الله من المسلمين - وفرهم الله - على هول المقام، وشدة الاقتحام، كثير، ولا مات من أعلامهم تحت تلك الجولة إلا عدد يسير، فإن كان اذفونش - لعنه الله - لم يمت تحت السيوف بدداً، فسيموت لا محالة أسفاً وكمداً، ونحمد الله على ما يسره من هذا الفتح الجليل وسناه، ومنحه من هذا الصنع الجميل وأولاه.
قول أبي بكر فيما كتب به عن المعتمد يومئذ: " ولم يصبني إلا جرح أشوى " تواتر النبأ أنه جرحت يده في ضنك ذلك المأزق.
وقيل في يوم الجمعة أشعار سارت بالمغارب والمشارق؛
أخبرني أبو بكر الخولاني المنجم قال: كتب إليّ أبو عبد الله بن عبادة(3/244)
من المرية بقصيدته في صفة يوم اجمعة، فارتفعت إلى المعتمد على يدي، وهي التي يقول فيها:
وقالوا كفه جرحت فقلنا ... أعاديه تواقعها الجراح
وما أثر الجراحة ما رأيتم ... فترهبها المناصل والرماح
ولكن فاض سيل البأس منها ... ففيها من مجاريه انسياح
وقد صحت وسحت بالأماني ... وفاض الجود منها والسماح
رأى منه أبو يعقوب فيها ... عقاباً لا يهاض لها جناح
فقال له لك القدح المعلى ... إذا ضربت بمشهدك القداح [49ب] وفي ذلك اليوم يقول عبد الجليل، ويمدح أمير المسلمين وناصر الدين، رحمه الله تعالى:
فثار إلى الطعان حليف صدق ... تثور به الحفيظة والذمام
نمي في حمير ونمتك لخم ... وتلك وشائج فيها التحام
فيوسف يوسف إذ أنت منه ... كيامن، لا وهي لكما نظام
نهجت لسيله نهجاً فوافى ... وفي آذيه الطامي عرام(3/245)
فهيل به كثيب الكفر هيلاً ... وكل رفيغةٍ منه ركام
وصاروا فوق ظهر الأرض أرضا ... كأن وهادها منهم اكام
عديد لا يشارفه حساب ... ولا يحوي جماعته زمام
تألفت الوحوش عليه شتى ... فما نقص الشراب ولا الطعام
فإن ينج اللعين فلا كحر ... ولكن مثلما ينجو اللئام وكان اذفونش قد اضطره الخور يومئذ للفرار، فتسنم قنن الجبال الشاهقة والأوعار، إلى أن جنة ثوب الظلام، فنجا منجى الحارث بن هشام، برأس طمرة ولجام، ودخل طليطلة - أعادها الله - مع شرذمةٍ من أتباعه قليلة، وبقية من طائفةٍ لخ مخذولة مغلولة، فوصف ذلك كله عبد الجليل في هذه القصيدة، فقال:
فأين العجب يا أذفونش هلا ... تجنبت المشيخة يا غلام
ستسألك النساء ولا رجال ... فتخير ما وراءك يا عصام وهذا لفظ أبي فراس في سيف الدولة، وننشد ما قبله لاتصال المعنى به:
سلي عني سراة بني كلابٍ ... ببالس عند مشتجر العوالي(3/246)
لقيناهم بأسياف قصار ... كفين مؤونة الأسل الطوال
تدور به نساء بني قريظٍ ... وتسأله النساء عن الرجال وفي هذه القصيدة يقول كأنه يخاطب أذفونش:
أقمت لدى الوغى سوقاً فخذها ... مناجزةً، وهون ما تسام
فإن شئت اللجين فثم سام ... وإن شئت النضار فثم حام
رأيت الضرب تصليباً فصلب ... فأنت على صليبك لا تلام
أنام رجالك الأشقون - كلا ... وهل يحلو بلا رأس منام
رفعنا هامهم في كل جذعٍ ... كما ارتفعت على الأيك الحمام
سيعبد بعدها الظلماء لما ... أتيح له بجانبها اكتتام
ولا ينفك كالخفاش يغضي ... إذا ما لم يباشره الظلام
نضا أدراعه واجتاب ليلاً ... يود لو أن طول الليل عام
وليس أوان للأيم انسلاخ ... ولكن في ضمائره احتدام وقوله: " سيعبد بعدها الظلماء " ... البيت، كقول المتنبي: [150أ]
وكم لظلام الليل عندك من يدٍ ... تخبر أن المانوية تكذب وكقول أبي تمام:(3/247)
جفا الشرق حتى ظن من كان جاهلاً ... بدين النصارى أن قبلته الغرب وقوله: " يود لو ان طول الليل عام "؛ من قول المعري، وقصر عنه:
يود أن ظلام الليل دام له ... البيت؛ ونقله التهامي نقلاً مليحاً فقال:
وتود وجعلت سواد قلوبها ... وسواد عينيها سواد عذار وكانت طوائف الروم، مدة ملوك الطوائف بأفقنا قد كلب داؤهم بكل إقليم، فلاطفوهم بالاحتيال، واستنزلوهم بالأموال، فلم يزل دأبهم الإذعان والانقياد، ودأب النصارى التسلط والعناد، حتى استصفوا الطريف والتلاد، وأتى على الظاهر والباطن النفاد، بما كانوا ضربوا على أنفسهم من الضريبة، إلى ما يتبعها من هديات ونفقات، وشعر العصر، شاهد بالأمر، كقول حسان بن المصيصي يمدح المعتمد ويهون عليه تلك الإتاوات، من جملة أبيات:
ولم تطو دون المسلمين ذخيرةً ... تهين كرام المنفسات لتكرما
تحيل في فك الأسارى وإنما ... تعاقد كفاراً لتطلق مسلما
ما كنت ممن شح بالمال والقنا ... فتكنز ديناراً وتركز لهذما
فترسله للصفر أصفر عسجداً ... وإن خالقوا أرسلت أبيض مخذما(3/248)
وفي ذلك يقول أبو بكر الداني من جملة قصيدة:
في نصرة الدين لا أعدمت نصرته ... تلقى النصارى بما تلقى فتنخدع
تنيلهم نعماً في طيها نقم ... سينضر بها من كان ينتفع
وقل ما تسلم الأجسام من عرضٍ ... إذا توالى عليها الري والشبع
لا يخبط الناس عشوا عند مشكلةٍ ... فأنت أدرى بما تأتي وما تدع وهذا مدح غرور، وشاهد زور، وملق معتف سائل، وخديعة طالب نائل، وهيهات!! بل حلت الفاقرة بعد بجماعتهم " حين أيقن النصارى بضعف المنن، وقويت أطماعهم بافتتاح المدن، واضطرمت في كل جهة نارهم، ورويت من دماء المسلمين أسنتهم وشفارهم، ومن أخطأه القتل منهم فإنما هو بأيديهم سبايا، يمتحنونهم بأنواع المحن والبلايا، حتى دنوا مما أرادوه من التوثب، وأشرفوا على ما أملوه من التغلب ". وحصلت مدينة قورية وسرتة أولاً في يد العدو، إلى عدة حصونٍ وقلاع، كلها في غاية من الحصانة والامتناع، ثم لم يزل التخاذل يتزايد، والتدابر يتساند، حتى حلت الفاقرة، وقضيت القضية، وتعجلت البلية، بحصول مدينة طليطلة في أيدي النصارى، وذلك في سنة ثمان وسبعين، وهي من الجزيرة كنقطة الدائرة، وواسطة القلادة، تدركها من جميع نواحيها، ويستوي في الأضرار بها قاصياً ودانيها. وفي ذلك يقول(3/249)
بعض الشعراء:
حثوا مطاياكم عن أرض أندلسٍ ... فما المقام بها إلا من الغلط [50ب]
فالثوب ينسل من أطرافه وأرى ... ثوب الجزيرة منسولاً من الوسط ولعمري لو قضى بالسماع على العيان، واستغنى بالإقناع عن البرهان، واطمأن قلبه إلى التمويه، وقد رآه محضاً لا شك فيه؛ لكان كلام الداني أبي بكر، في ذلك المعنى المتقدم الذكر، برتبة ذلك أليق، وفي حلبته أجمح وأسبق، حتى لو سمعه الحارث بن هشام، لعلم أنه ثد ترك في حمد المذموم، ومعارضة الصحيح بالسقيم، طلقاً شاسعاً، ومجالاً واسعاً.
وأول من حسن الفرار، فما وقع ولا طار، الملك الضليل حيث يقول:
وما جبنت خيلي ولكن تذكرت ... مرابطها من بربعيص وميسرا ثم تتابع الشعراء في خدع العقول، بالتمويه المستحيل، فمن محسنٍ برز، ومن مقصر عجز، ومن أحسن ما ورد في ذلك قول حسان:(3/250)
نوليها الملامة إن ألمنا ... إذا ما كان مغث أو لحاء
ونشربها فتتركنا ملوكاً ... واسداً ما ينهنهنا اللقاء الأبيات، حتى قال الحارث بن هشلام قطعته في حسن الفرار، التي صارت نهايةً في العجب، وشهادةً في تحسين نتائج الهرب، وهي قوله:
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى علوا فرسي بأشقر مزبد
ونشيت ريح الموت من تلقائهم ... في مأزق والخيل لم تتبدد
وعلمت أني إن أقاتل واحداً ... أقتل، ولا يضرر عدوي مشهدي
فصددت عنهم والأحبة فيهم ... طمعاً لهم بعقاب يومٍ سرمد وسمعها بعض العجم فقال: قاتلكم الله معشر العرب، حسنتم كل شيءٍ حتى الفرار.
ومن أسحر ما ورد في ذلك للألباب، وأخدعه عن الصواب، قول ابن الرومي في سوداء، وقد تقدم في ما مر من الكتاب:
أكسبها الحب أنها صبغت ... صبغة حب القلوب والحدق إلى ما لا يحصى عدده، ولا يستقصى أمده.(3/251)
ومن المشاهد أيضاً على ما تقدم من الأوصاف رقاع رأيتها تكتب يومئذ بأحد بيوت الأشراف، خوطب بها العمال، في استعجال قبض تلك الأموال، منها رقعة عن المعتمد قيل فيها:
الحال مع العدو - قصمه الله - بينة لا تخفى، ومداراته - ما لم تمكن مضاهاته - أولى وأحرى، والتزم له في الصلح المتفق عليه جملة مالٍ رسم عليك منه - بعد النظر لحالك، والتحاشي من الإجحاف بمالك - كذا؛ فعجل النظ فيه، وابعثه بكتاب تجاوب على ظهره بوصوله، وبحسب تعجيلك أو تأخيرك يكون الاستدلال على طيب نفسك، وصدق ضميرك، فتدارك بالمشاركة في هذا الخطب الملم المهم الذي لا محيد عنه، ولا بد منه.
وأخرى خوطب عنه بها قواد البلاد في هذا المعنى: الحال مع العدو - قصمه الله - بينه لا تحتاج إلى جلاءٍ ولا كشف، معروفة لا تفتقر إلى نعتٍ ولا وصفٍ، ومن لا يمكن مقاواته ومخاشنته، فليس إلا مداراته وملاينته. وكان - فل الله حده، وفض جنده - قد اعتقد الخروج في هذا العام إلى بلادنا - عصمها الله - بأكثف من جموعه في العام الفارط وأحفل، وأبلغ في استعداده وأكمل، إلا أن الله تعالى يسر من إنابته إلى السلم ما يسر، ونظر لنا من حيث لا نستطيع أن ننظر، ووقع [51أ] الاتفاق معه على جملةٍ من المال تقدم إليه، ونستكف بها الشر(3/252)
المرهوب لديه، فكم حالٍ كانت بخروجه تتلف، ونعمةٍ بأيدي طاغيته تنتسف؛ والرعية - حاطها الله - في هذا العام على ما يقتضيه ما عم البلاد من الفساد، وشملها من جائحة القحط والجراد، وتكليفها أداء شيء من المال الذي التزم مرتفع، وأخذها بالمعونة على ما ناب ممتنع، فلم يبق إلا أن نميل بهذه الكلفة على الخدمة ميل العموم، ونجريهم فيها على أحسن مجاري التحرير والتقويم، وهي حال تقتضي من كل من أحسن التأمل المعونة فيها، والمبادرة بحسب طاقته إليها، وقد أدرجت طي رقعتي هذه قنداقاً تسمى الخدمة قبلك فيه، ورسم على كل واحدٍ منهم ما توجبه حاله وتقتضيه، فتقدم في ما نصصته من الحال إليهم، وكلمهم بما يخفف الحال عندهم ويسهلها لديهم، ولتقبض ذلك كله في أعجل ما يمكن، فالحاجة إليه وكيدة، والضرورة حافزة شديدة.
قال: ولما كلب العدو - قصمه الله - في ذلك التاريخ، وأعضل داؤه، وجعل يطأ بلاد المسلمين، آمناً لا يخاف، وآنساً لا يستوحش، مقدماً لا يكع، ومجترئاً لا يرتدع، ينزل بساحات القواعد الرفيعة، والقلاع المنيعة، فيعفي الآثار، ويستبيح الدمار، ويهتك مصون الأستار، ورمت(3/253)
لها الأنوف، واستعذبت معها الحتوف، وحميت منها النفوس الأبية، والعدو في كل ذلك ثلج الفؤاد، رابط الجأش، لا يرقب سنان دافع، ولا يبدو له وضح سيف مدافع، لأن أكثر ملوك هذا الإقليم، كانوا يداخلون طوائف الروم، ويكتري كل واحد منهم عسكراً بجملة من المال، يخرجه إلى بلد كاشحه، ويسلطه على معانده ممن يجاوره من البلاد، حسداً له وطمعاً في بلده أن يصير طوع يده، فكانت نيران الفتنة بينهم مشتعلة، والرعية مهملةً، لأن جملة غلاتهم، وجميع اعتمالاتهم، كانت تتلف بأيدي تلك الطواغيت، الخارجة إليهم في أكثر المواقيت؛ وما كان يفلت من الخراب يغرمونهفي المغارم، وما يجشمونه من المجاشم، فقطعوا أيامهم بقرع الظنابيب، وشرع الأنابيب، نكايات قعدة، لا نكايات مردةٍ، إذ كان كل واحد منهم يختفي عن قرنه بقصره، ويطيل الهز لسيف غيره، ويسله على جاره، حتىغدا ذلك السيف مسلولاً عليه، كما قال أبو تمام:
عبأ الكمين له فظل لحينه ... وكمينه الملقى عليه كمين لأن النصارى لما اطلعوا على عوراتهم، زحفوا بطوائفهم إليهم، ولما لم يبق إلا نفس خافت ورمق زاهق، ورأى المسلمون أنهم بالجزيرة على طرف، وفي سبيل تمام وتلف، استصرخوا أمير المسلمين وناصر(3/254)
الدين، أبا يعقوب يوسف بن تاشفين، رحمه الله، فأجاز إلى جزيرة الأندلس في صدر سنة تسع وسبعين، وبادر بنفسه وجماعته عجالاً، وتداركوها ركباناً ورجالاً، ونفروا نحوها خفافاً وثقالاً، والنجح يقدمهم، والفلج يصحبهم، فكان من الفتح يوم الجمعة المؤرخ ما كان: صرع الله فيه عبدة الطواغيت، ووفد عليه عوضاً من آلاف دنانير الأموال، ضعفهم من الفرسان الأبطال، ففي ذلك يقول عبد الجليل من جملة قصيدة:
أتنكر العجم أن العرب سادتها ... وتشهد البيض والخطية السمر
لما تعارض دون الشكر كفرهم ... عادت بوادر فيهم تلكم البدر
وهب عن كل دينار لهم بطل ... كالخالص التبر مسبوك ومختبر
فليقلبوها ألوفاً من أسود وغىً ... تزكو على السبك لا جبن ولا خور
وليرقبوا من أمير المسلمين ومن ... مؤيد الدين ليلاً ما له سحر [51ب]
لم يهشموا الثغر إذ عاثت أكفهم ... لو يعقلون ولكن تلكم الثغر
وليس ما غيروا إلا لأنفسهم ... كأنما نبهوا إذ نامت الغير قوله: " وهب عن كل دينار لهم بطل " ... البيت، نبهه على هذا المعنى المتنبي بقوله:
ولو كنت في أسر غير الهوى ... ضمنت ضمان أبي وائل
فدى نفسه بضمان النضار ... وأعطى صدور القنا الذابل
ومناهم الخيل مجنونةً ... فجئن بكل فتىً باسل(3/255)
وفي يوم الجمعة يقول أيضاً ابن جمهور من جملة قصيدة:
لم تعرف العجم إذ جاءت مصممةً ... يوم العروبة أن اليوم للعرب وهذا ينظر إلى قول أبي تمام:
لئن كان نصرانياً النهر آلس ... لقد وجدوا وادي عقرقس مسلما وفي ملوك الأندلس يقول أبو الحسن ابن الجد يمدح أمير المسلمين وناصر الدين، رحمه الله:
في كل يوم غريب فيه معتبر ... نلقاه أو يتلقانا به خبر
أرى الملوك أصابتهم بأندلس ... دوائر السوء لا تبقي ولا تذر
قد كنت أنظرها والشمس طالعة ... لو صح للقوم في أمثالها النظر
ناموا وأسرى لهم تحت الدجى قدر ... هوى بأنجمهم خسفاً وما شعروا
وكيف يشعر من في كفه قدح ... تحدو به مذهلات الناي والوتر(3/256)
صمت مسامعه عن غير نغمته ... فما تمر به الآيات والسور
تلقاه كالعجل معبوداً بمجلسه ... له خوار ولكن حشوه خور
وحوله كل مغتر وما علموا ... أن الذي زخرفت دنياهم غرر
فقل لمن نام أصبحت، انتبه، فلقد ... مضى لك الليل بحتاً وانقضى السحر
وانظر إلى الصبح سيفاً في يدي ملكٍ ... في الله من جنده التأييد والظفر
يرعى الرعايا بطرفٍ ساهرٍ يقظ ... كما رعاها بطرف ساهرٍ عمر
ردوا موارد قد أوردتم حنقاً ... بها الأنام ولكن ما لكم صدر
كأنني بكم قد صرتم سمراً ... وما لكم في الورى عين ولا أثر
أمانكم قبل موتٍ سوء فعلكم ... وكيف بالذكر إذ لم تحسن السير رجعت إلى إيراد فصول من ترسيل ذي الوزارتين المذكور
فصول من رقعةٍ كتبها عنه إلى صاحب القلعة، قال فيها:
ورد كتابك الذي أنقذته من وادي منى منصرفك من الوجهة التي استظهرت عليها [52أ] بأضدادك، وأجحفت فيها بطارفك وتلادك، واخفقت من مطلبك ومرادك، فوقفنا على معانيه، وعرفنا المصرح به والمشار إليه فيه، ووجدناك تتجني وتثرب على من لم يستوجب التثريب(3/257)
وتجعل سيئك حسناً، ومنكرك معروفاً، وخطأك صواباً بيناً، وتقضي لنفسك بفلج الخصام، وتوليها الحجة البالغة في جميع الأحكام، ولم تنأول أن وراء كل حجةٍ أدليتها ما يدحضها، وإزاء كل دعوى أبرمتها ما ينقضها، وتلقاء كل شكوى صححتها ما يمرضها، ولولا استنكاف الجدال، واجتناب تردد القيل والقال، لنصصنا فصول كتابك أولاً فأولا، وتقريناها تفاصيل وجملاً، وأضفنا إلى كل فصل ما يبطله، ويخجل من ينتحله، حتى لا يدفع لصحته دافع، ولا ينبو عن قبول أدلته راءٍ ولا سامع، ولا يختلف اعترافاً به دانٍ ولا شاسع.
وفي فصل منها: وننشدك الله الذي ما تقوم السماء والأرض إلا بأمره، ألم نكن عندما نزغ الشيطان بينك وبين أبي عبد الله محمد بن يوسف، رحمه الله، وفاقم الشنآن، قد توفرنا على ما كان بالحال من إقلاق، وتأخرنا عما كانت النصبة تستقدم إليه من بدارٍ أو سباق، ولم نمد الجهة حق إمدادها، ولا كثرنا فوق ما كان يلزم من جماهير أعدادها، ولا عدلنا(3/258)
عن جهاد المشركين، ولا أقبلنا إلا على ما يحوط حريم المسلمين، رجاء أن يثوب استبصار، أو يقع إقصار، وأنت خلال ذلك تحتفل وتحشد، وتقوم بحميةٍ وتقعد، وتبرق غضباً وترعد، وتستدعي ذؤبان العرب وصعاليكهم من مبتعد ومقترب، فتعطيهم ما في خزائنك جزافاً، وتنفق عليهم ما كنزه أوائلك إسرافاً، وتمنح أهل العشرات مئين وأهل المئين آلافاً، كل ذلك تعتضد بهم، وتعتمد على تعصبهم لك وتألبهم، وتعتقد أنهم جنتك من المحاذير، وحماك دون المقادير، وتذهل عما في الغيب من أحكام العزيز القدير.
ونحن أثناء ما فعلت، وخلال ما عقدت وحللت، نؤم العدو - قصمه الله - فنجبهه ونكافحه، فنقدعه ونناطحه، ونتحفه من أقطاره، ونغزوه بدءاً وتعقيباً في عقر داره، إلى أن استجمعت أخيراً واستجشت، وترجعت إلى عرفانك وأجهشت، ولولا ماؤك الذي ثمدوه، وشارفوا إلى أن يستنفدوه، ما أووا لشكواك، ولزادوك ضغثاً على إبالة بلواك، وإنك لمتداوٍ منهم بسمٍ، ومستريح إلى غم، فبلغت معهم ما بلغت، وأرغت بهم ما أرغت، واستقبلتنا بما أثبت عن العدو ولقد أخذناه بمخنقه، وأضفنا(3/259)
أنشوطة وهق الخزي على عنقه، وأشفى على انقطاع ذمائه ورمقه، ففرجت عنه كربة لم يظنها تنفرج، ونهجت له منها وجه مخلص لم يحسبه ينتهج، وأخليت وجهه لأذى المسلمين يبدئه ويعيده، وبسطت فيهم يده وكانت في جامعة تقصره عما يريده، ولو أن صاحب رومة المشتمل معه بعباءة الكفر والشرك، المنتحل ما ينتحله من كلمة الزور والإفك، يكون مكانك من جوارنا، ويصاقب كما صاقبت قاصية دارنا، ما أتى من نصره فوق ما أتيت، ولا تولى من انتشاله، والسعي ف استقلاله، إلا بعض ما توليت، ولا أنحى على المسلمين من مضاره إلا بدون ما أنحيت، ولا بغاهم خبالاً بأكثر مما بغيت.
وما في تلك الجزيرة - عصمها الله - من صالحٍ ولا طالح إلا ما يعرضك على الله تعالى، ويرفع إليه فيك عقيرته بالشكوى، وكل ما سفك من دم، وانتهك من محرمٍ، واستهلك من ذمم، فإليك منسوب، وعليك محسوب، وفي صحيفتك مكتوب، وموعد الجزاء غداً وإنه لقريب، فانظر ما أنجح أثرك، وأربح متجرك، وأصلح موردك ومصدرك.
وله من أخرى عنه إلى الفقيه قاضي الجماعة [52ب] بقرطبة أبي عبد الله بن حمدين: وصل كتابك فوقفنا على معانيه، وأحصينا المجمل والمفضل(3/260)
مما ذكرته فيه، والذي أومأت إليه من أن الأمر الذي وليته ذو شغوب مشغبة، واشغال على محاولها صعبةٍ، حق لا امتراء فيه، ولا غطاء عليه من محصليه، ولذلك ما اختير له، على وجه الزمان، أهل المنن من أولي الديانة والصيانة، الذين نرجو أن تكون منهم محسوباً، وفي صدر ديوانهم مكتوباً، فاستهد الله يهدك، واستعن بالله يعنك في صدرك ووردك، وتول القضاء القضاء الذي ولاكه الله بجد وحزم، وجلد وعزم، وأمض القضايا على ما أمضاها الله تعالى في كتابه وسنة نبيه، ولا تبال برغم راغم، ولا تشفق من ملامة لائم، وآس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع قوي في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، ولا يكن عندك أقوى من الضعيف حتى تأخذ الحق له، ولا أضعف من القوي حتى تأخذ الحق منه، وانصح لله تعالى ولرسوله عليه السلام، ولنا ولجماعة المسلمين.
وقد عهدنا إلى جماعة المرابطين أن يسلموا لك في كل حق تمضيه، ولا يعترضوا عليك في قضاء تقضيه، ونحن أولاً وكلهم آخراً مذ صرت قاضياً، سامعون منك، غير معترضين في حق عليك، والعمال والعرية كافةً سواء في الحق، فإن شكت إليك بعامل وصح عندك ظلمه لها، ولا يتجه في ذلك عمل غير عزله، فاعزله، وإن شكا العامل من رعية خلافاً(3/261)
في الواجب فأشكه منها وقومها له، ومن استحق من كلا الفريقين الضرب والسجن فاضربه واسجنه، وإن استوجب الغرم في ما استهل فأغرمه، واسترجع الحق شاء أو أبى من لدنه، والأمر في استكفاء من يكفيك، ويغني في بعض الأمور عنك، إليك، ولا نشير بشيء عليك، وتصرفك أحياناً في إصلاح صنعتك وترقيح معاشك، غير مضيقٍ عليك فيه، فاعلمه.
وله من أخرى عن المعتمد إلى ابن صمادح: إنما أشاركك - أيدك الله - في النعمة بأسوغها، وأطالعك في الهمة بأبلغها، لما أعلمه علم اليقين، وأتوسمه توسم الصبح المبين، إنك بكريم عهدك، وسليم ودك، تأخذ من ذلك بالحظ الأوفى، وتضرب في الارتياح له بالقدح المعلى، وأنفذته من حصن لييط - سها الله مرامه، وأعاد إلى يد المسلمين زمامه - وقد جرى بين فرسان من النصارى وبين سرعان من الجند - نصرهم الله - عند إطلالي عليه تناوش أطمع فيهم، ودل بأنه قد سقط في أيديهم، ثم صوبحوا يوم كذا بالحرب، وكوفحوا إلى أخرة بالغرب، بالطعن والضرب، وانصرفوا ولاذوا بالانجحار، واحتجزوا بالجدران والأسوار، ولم يكن واحد منهم يثور إلا إلى حمام، ولا يبدي جارحة إلا إلى سهم(3/262)
رام، وفي خلال ذلك ما أمرت بشربهم فغورت منابعه، وقطعت مشارعه، وحصلوا منا ومن العطش تحت محاربين: ظاهرٍ وباطن، وعرضةً لمجاولين: مستترٍ وعالن.
وغير ذاهب على أحد ما تقتضيه هذه الحال المبهجة بما يخالفها على علو كعب الإسلام، وينصب على الشرك وأهله من سوء الانتقام، بعد البلوغ من الشكر لله تعالى إلى الغاية القصوى، من اختصاص أمير المسلمين وناصر الدين، أبي يعقوب حليفنا الأعز - أيده الله - بقسمٍ من الشكر وافر، وحظ من الثناء والنثر ظاهر، فإنه الذي نهج بنفسه الكريمة - سناها الله - هذه السبيل، وتجشم فيها المجاشم حتى أذل من المشركين العزيز وأعز من المسلمين الذليل، ثم لم يشغله - دام تأييده - عن صلة أيدينا بعد ذلك أمر، ولا ثناه عن النظر لنا عذر.
وفي فصل منها: وكان نفوذي إليها من لورقة بعد أن تملكت قصابها، وتولجت على ما اقترحت أبوابها، وكان تخلي سعد الدولة أبي الأصبغ ابن لبون عنها على أفضل حال وأجمعها، بما [53أ] شئت من إلطاف(3/263)
وإجمال: ياسر وتساهل، وتقاصر حيث كان له أن يتطاول، رأياً أدرك منه على صغره، وقصر ما قطعه من مسافة عمره، ما يعجز عنه الكهل المجرب، ويقصر دونه الحول القلب. وتأملت ذلك منه - أبقاه الله - حق التأمل، ونظرت إليه بعين الملتفت المحصل، فوفيته الجزاء، وسرت معه حسبما سار معي إلى ما شاء، فحصل لي من الناحية ما لا يضاهى معقلاً وبسيطاً، وعاد الشمل محوطاً والأمر مبسوطاً، والعاجز الكاسل حازماً نشيطاً، ورجع الضيق بها سعة، والهرج بحمد الله دعةً.
ومن جواب ابن صمادح، من إنشاء ابن الوكيل كاتبه: إلى مخاطبتك - أيدك الله - تسكن النفس، وبمطالعتك يتمكن الأنس. فما تزال - والله يعلي كعبك، ويجعل الأيام والليالي أنصارك وحزبك - تطلع من الاهتبال، في وفق الإجمال، ما يبدو ويتبين مع البكر والآصال - لا أعدمك الله معلوةً تبديها، ومنقبةً تنافس همم الكرام فيها -.
وورد كتابك مفتتحاً بما كان من صنعه تعالى الكفيل، وبلائه الجميل، ومنه المتتابع الموصول، في احتلالك بلييط - يسره الله، وأحل الهلاك بمن احتواه - وما كان من ذلك التناوش الذي أبدى مخايل الاعتلاء، وأذن بالملك والاستيلاء، ولا شك أن من سعى لله وحده، ولم يرد الظفر والظهور(3/264)
إلا بما عنده، أن حزبه منصور، وماله موصول بها التسهيل والتيسير، والحمد لله تعالى على ما منح متعين، وموضع الضراعة إليه في الازدياد ظاهر بين، على ما أولى من نعم، أظهرت الإسلام بعد خمول، والشكر له على قسمٍ، أعزت الدين وقد كان جد ذليل.
وتوجه على ما ذكرت شكر أمير المسلمين وناصر الدين أبي يعقوب، حليفنا الأعز - أيده الله - على ما أجرى إليه بدءاً من الخفوف بنفسه النفيسة - نسأها الله - وما اعتمده عوداً من الاهتبال الذي توخاه، فهو الذي نهج السبيل، وبرد اللوعة والغليل، وأعاد الحزب اللعين بعد عزته الحقير الذليل.
ورأيت - أراك الله مناك - أن حركتك الميمونة كانت إلى هناك من لورقة بعد أن تملكت قصابها، وتولجت على اختيارك أبوابها، على الصورة التي وصفتها، من متابعة أهلها، وانطياع من فيها، نعمة يعلم الله تعالى أن نصيبي منها النصيب الأوفر، وذنوبي منها الذنوب الأكبر، وكل نعمة أناخت بجنابك، وحطت رحلها ببابك، فإني فيها الخليط المساهم، والمشارك المقاسم، على ما يقتضيه الإخاء، ويستدعيه الانتظام والصفاء.(3/265)
وله من أخرى عنه: قل ما ينفع صلاح الظاهر إذا فسدت الدخلة، ولا يغني اندمال الخارج ما كانت العلة، وكتابي هذا يوم كذا وفي ليلة طلع علي الخبر بما يستغربه من غدر أهل فلانة لي، وعقد السلم بيننا لم يجف مداده، وعهد التواثق لم يكد ينفصل أشهاده، فانظر فعلهم ما أقبحه، وتأمله فما أفضحه، واعلم أن غائلتهم لا تطفأ أبداً نائرتها، ولا يؤمن على حالٍ ثائرتها.
وله عنه من أخرى، إثر دخول ابن عكاشة قرطبة، وقتله لابنه عباد، وقد وجدت هذه الرقعة في بعض التعاليق منسوبة لابن الباجي: كتبت على أثر النازل الشنيع، والرزء الفظيع، الذي صدع كبدي، وفت في عضدي، وأثكلني من كان القرة لعيني، ما جرى على الفقيد الشهيد عباد ابني مجلك - كان - رحم الله مصرعه، وبرد مضجعه، وقتل قاتليه، ووفر لي أجر المصاب فيه.
وشرح هذه الفاجعة، والقاصمة الهاجمة: تسببت من مثابرة العدو المبين المفتون، جاري الذميم الجوار القبيح الآثار، ومجاهرة الفاسق المعروف بابن عكاشة، دليله في سبيل التسلط والعدوان، وسهمه إلى أغراض(3/266)
التمرد والطغيان، على السعي الخبيث الذي لا يصر على مثله إلا منحرف عن الملة، منسلخ عن [53أ] الخبر بالجملة، طلب الغرة في قرطبة حتى أصابها، وارتقب الفرصة حتى ولج بابها، ليلاً في زمرة من أخابيث أصحابه، بعد أن هيئ له فتحه، ودخل المدينة، وصادف السرب آمناً غريراً، والعدد قليلاً نثيراً، ويمم موضع المطهر بالشهادة، فنذر بهم وخرج مطالعاً للأمر، فلم يبعد أن غشيه المردة فثبت لها مدافعاً عن نفسه حتى أفيظت - رحم الله موقعه فريداً مسلماً، وأقره في جواره العزيز سعيداً مكرماً.
ثم عاث المذكور في البلد، واستثار أشباهه من السفلة الأراذل، في استباحه المنازل، فأجابوه وانضمو إليه، وصار جمعه منهم وبتوت أمره بهم، وأما سائر الأعلام والأسواط فرءاء من هذه القصة، ناؤون عن المشاركة في هذه الدنية، بغتهم من الحال ما لم يعلموا، ففوضوا وسلموا؛ وبادرت إلى عرض ما وقع على فضل تأملك، لترى جد هذا العدو المطالب، المشاق المناصب، وإكبابه على التسلط والتمرد، إلى أن انتهك الحرمة(3/267)
ووتر في الولد، غير مبال ببعيد ولا قريب، ولا ممسكٍ مخافة إنكارٍ، ولا تثريب، والرب لبغيه بالمرصاد، والقاطع بأمله في الانبساط والازدياد.
ذكر الخبر عما دار به نجم قرطبة يومئذ،
من ثعلب ابن ذي النون عليها،
وعودة المعتمد بعد إليها
قال ابن بسام: قد قدمت من عجب المعتمد بذاته، وتوفره - كان - على لذاته، وتقديره أنه يضبط أزمة البلاد، ويملك رقاب العباد، وخيله في الأجلال،وكأسه في يد الساقي المختال، على مكانه من العلم، ووفور حظه من الحلم، ما فيه كفاية لمن استغنى، وآية لمن تدبر واجتلى. وعندما أخرج قرطبة من أيدي بني جهور، في خبر قد شرح في القسم الأول وفسر، ولاها ابنه عباداً، وكان محش حربٍ، ونشأة طعنٍ وضرب، فتىً لا يبالي من لقي، ولا إلى أي شيء دعي، عاجم ابن ذي النون في بعض نهداته إلى قرطبة، وجيشه قد ملأ الفضاء، وفات الإحصاء، ففل أجناده، واستباح طارفه وتلاده، ونجا ابن ذي النون منجى أبي نصر، بعد ما أعطى على القسر، وترجح بين القتل والأسر، لا يحفل بما أخر، ولا يلوي على من تعذر.(3/268)
غير أن المعتمد لما تهيأت له على ابن ذي النون الجسرة، وأمكنته منه تلك الغرة، أدار أمر قرطبة، وأميرها ابنه، على أحد عبيده المتجندين، محمد بن مرتين، وكان شهاباً لا يصطلي بناره، وأسداً لا يستقر على زاره، إلا أنه كان من الإدلال ببأسه، والإهمال لنفسه، والإقبال على كيسه وكأسه، والغفلة عن عادة الله في جنسه، آيةً من آيات الله الذي وكله إلى سوء القدر، وقتله بيد أضعف البشر، أحد الرجالة المتلصصين، والدائرة المتمردين، المتصرفين في صغار المهن، النابتين في مدارج سيول الفتن، رجلٍ كان يعرف بابن عكاشة، لم تكن له سابقة قديمة، ولا نباهة معلومة، فراشة طارت حول نار الفتنة المبيرة، المهتكة لمحارم هذه الجزيرة، فترقى من سكنى الشعاب، والسكون إلى الذئاب، وانتهاز الفرصة إن أمكنته في الطارق المنتاب، إلى تسنم المعاقل، وتدبير الأمور الجلائل، وأذكاه ابن ذي النون عيناً على قرطبة، في أحد الحصون المصاقبة لها، وأبعد آماله كانت إخافة سبلها، وتحيف عملها؛ وكان إحدى الأعاجيب ذكاء لبٍ، وصرامة قلب، وتقدماً إلى ضرب، لا يحل إلا ريثما يرحل، ولا يقول إلا بعد ما يفعل، وابن مرتين في خلال ذلك خال بشيطانه، ساع في شانه، بين بطالته وطغيانه، كلما حدث عن ابن عكاشة بغرةٍ اهتبلها، وأشير عليه في أمره بنصيحةٍ كي(3/269)
يقبلها [54أ] أعرض عن الصادق الخبير، ودفع في صدر الناصح المشير.
حدثني من أثق بخبره، ممن كان بعض أبواب قرطبة يومئذ إلى نظره، أن ابن عكاشة كان يسري تحت الليل إلى أحد حراسها فيخرج إليه بعض مردتها، فيطعمهم ويسقيهم، ويدبر كيف يفتح البلد على أيديهم، ويوليهم الأعمال ويقطعهم النفوس والأموال، فأخبر بذلك عباد بن المعتمد، فقال له: الق ذا الوزارتين الأعلى ابن مرتين، وكان لا يستبد عليه، ولا يقطع أمراً إلا بين يديه، فأدى ما كان عنده من ذلك إليه، فأظهر السرور، ووعد الجد والتشمير، وقال له: تقدم إلى فلان وفلان، جماعةٍ كانت بالحضرة من الأعيان، فليكونوا عندك في العدد الوافر، والسلاح الظاهر، فأمرهم عنه فأتمروا، وتقدم إليهم بالحضور فحضروا:
في ليلةٍ من جمادي ذات أنديةٍ ... لا يبصر الكلب في ظلمائها الطنبا وأقاموا منتظرين لأمره حتى بدا النور، وتكلم العصفور، وهو مشغول بجر ذيوله، وعصيان عذوله، فيئسوا من نصره، وجعلوا بعد يلحدون في أمره، وتم لابن عكاشه تدبيره، واستوسق له عبيره ونفيره، فانتهك حرمة قرطبة، سنة سبع وستين، في شرذمةٍ قليلة، وشباةٍ كليلة، معلنين بشعارهم، متلبثين بين تغريرهم واغترارهم، لم تكن لهم همة(3/270)
إلا دار عباد، فثار إليهم عندما أحس بهم ولا أهبة إلا إقدامه، ولا صاحب إلا حسامه، فجادلهم بالسيف صلتاً، حتى أذاقوه الموت بحتاً؛ ثم نهدوا إلى دار ابن مرتين وهو في منزل راحته، غافلاً عما نزل بساحته. ذكر أنه كان ساعتئذٍ يلعب بين يديه بالكرج، فعول على الفرار، واستتر مديدةً في بعض الأقطار، حتى انفضت أيامه، وعثر عليه حمامه، أخرج من قرطبة كأنه يحمل إلى ابن ذي النون، وقد تقدم إلى حملته، فطووا خبره، ومحوا أثره.
وبات ابن عكاشة ليلته يطرق دور الأعيان من أهل قرطبة، يتودد إليهم، ويعرض نفسه عليهم، فمن أجابه قبله، ومن أبى عليه لم يعرض له؛ وأصبح قد انضاف إليه من بني المحن، وطغام الفتن، من منع منه، وحسم الأطماع عنه. ودعا الكافة إلى المسجد الجامع فأتوه خفافاً وثقالاً، وبايعوه بطاءً وعجالاً، وانثالت إليه طوائف الأمداد، وقواد الأجناد، فانتظم له الأمر، واستوسق له المصر، ولحق ابن ذي النون بعد ذلك وهو يرى أنه قد وطئ صلعة النسر، وأخذ بمخنق الدهر، أملاً طالما عللته به المطامع، وهزته إليه المضاجع، ولم يزل في يوم دخوله قرطبة يعمل الحيلة في إقصاء ابن عكاشة من دولته، وإخراجه عن جملته.
بلغني أنه دخل على ابن ذي النون يوماً، وقد رفل في الشارة، وتقلد مثنى الوزارة، فرحب به وأدناه، وهش إليه وناجاه، فلما خرج تنفس الصعداء، وأتبعه نظرةً شوهاء، وهينم بكلمةٍ عوراء(3/271)
فكأن بعض الحاضرين أنكر عليه وجعل يطري ابن عكاشة، ويذكر حسن بلائه، وينبه على مكانه من الدولة وغنائه، فلما أكثر قال له ابن ذي النون: دع عنك، من أجترأ على الملوك لم يصلح للملوك.
ثم لم يلبث ابن ذي النون إلا شهراً لم تتعب كف العاقد، ولا أطالت غم الحاسد، حتى أتي من مأمنه، أغبط ما كان بسيئه وحسنه، وسقاه السم الوحي - زعموا - بعض ثقاته، فاستقل بجسده تابوته، وطار به إلى طليطلة جنه وعفاريته، وخلا وجه قرطبة بعد ذلك للمعتمد وعاد إليه ملكها، وانتظم في يديه سلكها، وأخذ بثار ابنه عبادٍ بقتله لابن عكاشة فلم يكن كما قال دريد بن الصمة:
قتلنا بعبد الله خير لداته ... ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب ومما كتب عن المعتمد بعود قرطبة إليه، وقتل ابن عكاشة على يديه رقعة منها: وأنفذته عندما عادت الحضرة إلى يدي، وانتظمت ببلدي، على صورةٍ من التيسير ضاعفت [54ب] حسن مواقع العارفة بها، وبشرت بلواحق النصر المترادف بعقبها، وذلك أن أهلها الصادقة في محبتنا أهواؤهم، المتفقة على طاعتنا آراؤهم، لم يزالوا على مثل الجمر تقلباً مما جرى قبل على غير اختيارهم، وتوجعاً لما كان انقضى علينا في جوارهم، نابين عمن ولي أمرهم بعدنا، مستقصرين لشانه عندنا، إلا النفر اليسير، والتافه الحقير، من سفهائهم الذين سببوا تلك الوهلة، وظاهروا على تلك الغفلة(3/272)
ولم يكن لهم أولاً علم بما سدوه وألحموا، ولا ضوا آخراً بما جنوه وارتكبوا فتحركت من وقتي، ولم أكد أطل على أفقهم إلا والإشارة علينا، بأثوابهم إلينا: أن أقدموا وصمموا، فاقتحمت من النهر مخاضةً توازي الربض الشرقي منها، وثار أهلها معي، داعين بشعاري، معلنين بانتصاري، وكلمة ثاري، يكسرون بين يدي كل غلق يعترضني، ويفتحون كل مرتج يتنصب دوني، وأحس ابن عكاشة ومن معه من الشيعة المفلوجة بمكاني ففروا بأرواحهم، وألقوا ما كان معهم من سلاحهم. وقد كنت أحطت بنواحي الحضرة خيلاً ترصدهم، وتقطع من النجاة سببهم، فوقعوا فيها وأتى على آخرهم، وسبق إليّ رأس ابن عكاشة؛ وكان الحبيب إليّ، أن يمثل بين يدي، فأبسط له من العذاب ما كان أشفى لنفسي، وأثلج لصدري.
وفي هذا الفتح أنشده حسان بن المصيصي قصيدته التي يقول فيها، ووصف إشارة الناس يومئذ من سور المدينة:
وليسوا بغرقي قد أشاروا لساحلٍ ... ولكنهم غرقى أشاروا إلى بحر وله عنه من أخرى إثر فتح مرسية على يدي ابن عمار، وإخراج بني طاهرٍ منها: لم يغب عنك من مجرى الحال بمرسية وجه أجلوه، ولا انطوى من فحواه أمر أنشره وأبديه، وها أنا أعرض عليك من باطنها ما ربما خفي، وأنهي إليك من نجواه ما لعله لم ينم على وجهه ولا أنهي(3/273)
وذلك أن الإفرنج أيام تلومهم على صاحبها، وإحداقهم بجانبها، أشخصوا إليّ من أعيانهم من قرب عليّ وجه مرامها، فاستجبت لندائهم، ولم يكد يختلج ببالي شك في صدق أنبائهم، وإذا الأمر بخلاف ما ذكروه، وعلى غير ما سهلوه، ووقع من المطاولة ما وقع، وآلت الحال معهم إلى ما قد فشا وسمع، فأعدت إليها الخيل مع فلان لإطالة حصرها، والإناخة بعقرها، وصاحبها مع ذلك عمٍ عن رشده، يقدم رجلاً ويؤخر أخرى في إعطاء صفقة يده، ليقضي الله تعالى قدره، ويبلغ أمره، فلما رأى أهلها الممتحنون بسوء نظره، المصابون من خطل تدبره، أن غماءهم لا تقرح، وظلماءهم لا تنجلي ولا تليح، أبدو إليه، ما كانوا ينطوون له عليه، فتألبةوا وثاروا وطيروا بالخبر من كان فيها من الأولياء إلى فلان، وكان على مقربة منها، غير متراخ عنها، فانصب إليها كالشؤبوب الماطر، وانقض عليها كالعقاب الكاسر، ووافاها وقد بولغ في حصاره، وانبسطت أيدي النهب في دياره، فكشفهم عن مكانه، ونفس عنه فانتشى ريح أمانه. ثم نقله وابن أخيه إلى أدنى معقلٍ إليهما، وآمنه عليهما(3/274)
وأخذ في ضبط الحصون، وما يغني به الحزم من وجوه التحصين، وأظهر أهل البلد [من] الاغتباط بمآلهم، والاستبشار بمفاتحة حالهم، ما يظهر من خرج من ضيقٍ إلى سعة، وانتقل من هرجٍ إلى دعةٍ.
ومن أخرى له عنه: ومن أحدث نعم الله الممنوحة عهداً، وأبعدها في التمام والوفور حداً، ما أتاحه الله في المغالط المعجب، القوي المجيء والذهب، فلان - ضاعف الله إذلاله وإخزاءه، ووفاه على ذميم السعي جزاءه - فإن حاله جرت على ما أصفه: سلف من ضلالته في موالاة التعريض للحضرة وسائر أعمالها، ما أثاره الحسد المدوي لصدره، والقلق الغالب على صبره، واتفق له من [55أ] إمهال الله تعالى إياه، وتنكيب الحوادث عن ذراه، مدةً عنه، اتفاق أجره رسنه، وأسلكه في الغواية سننه، حتى ظن أن الحوادث لا تريبه، والنوائب لا تنويه، وحسب أن الأيدي لا تمد إلى مطالبته، والآمال لا تطمح إلى معارضته، وقديماً خان هذا المعتقد أهله، وأبان لمن سكن إليه جهله.
وفي فصل منها: ولم يبعد أن خرج في شهر رمضان على عادته من الاستخفاف بعظيم حرمته، وترك المراقبة لأهل الإسلام وذمته، بعد أن تأهب، واستنجد واستمد، والعجب قد أطغاه وأبطره، والشره قد غطى سمعه وبصره، والمطامع قد تشغبت عليه، وبسطت في(3/275)
انتهاز الفرصة يديه، فأخرجت ابني الظافر مستعيناً بالله معولاً عليه، متبرئاً من الحول والقوة إليه، فلما دنا من المحلة الذميمة واصطفوا إزاءها، اقتحم سرعان رجالنا نهراً كان بينهم، مبادرين غير هابين، ونشأت بين الفريقين حرب أجلت عن أعداد صرعى من أصحاب المخذول، ثم تلا ذلك عيون كافة العسكر وصدقت الحملة على الخائنين، فلم يلبثوا أن ولوا مدبرين، وألقوا بأيديهم منهزمين، والأسنة تحفزهم، والجلاد يزعجهم، فانحجزوا بالحصن وأسلموا محلتهم، فحيز جميعها، وغنم من كراعهم وسلاحهم وسائر أسلابهم جمل تفوت الحصر، وتعجز الوصف، وبقي المخاذيل إلى آخر النهار، ثم خرجوا مع المغيب، وشعر بفعلهم، فاتبعتهم الخيل إلى النهر، فتهافتوا فيه تهافت الفراش في النار، وفروا على عاجل البوار، وكان الشاذ منهم من سليم، والجم الغفير من غرق وتلف، والله حسيب من أورطهم وأغراهم، والمنتقم ممن قادهم إلى مناياهم. وأما المخذول المعهود خوره، والشديد تهوره، فإنه سقط عن مركبه في تلك الصدمة سقوطاً أوهنه وكلمه، ولولا من كر عليه حتى أقل واحتمل لحصل في ربقة الأسر، ولغلق رهنه إلى آخر الدهر.
وله من أخرى: وقد كانت نشأت بيننا وبين فلان، النطف الود، السيء العهد - جزاه الله جزاء من خاس بذمامه، ونثر عقد الوفاء بعد انتظامه - مداخلة توسطها رؤساء، وتقلد وزراء، طالت زمناً لا ينتهج فيها(3/276)
إلى السلم سبيل، ولا يبدو من الوفاق دليل، ولا يلوح للنجاح وجه مقبول، بما كان السفراء يلقونه من تشطط في غير كنهه، ومقابلتي بما كان يأتي من شبهه، إلى أن تطأطأ من سموه، وتقاصر من علوه، ونضا عنه ثوب الرياء، وأبدى وجه حاجته إلى الانقياد والاستبقاء، فأنبت إنابة من يؤثر الهدنة على الفتنة، وتأتيت إرادة من يريد إدالة المودة من الإحنة، وأنا أعتقد أنه مصحح فيما أراه، صادق في الذي أعطاه، أقضي على الظاهر، ولا أتجاوز تصفح الحاضر، وإذا ما هو مصر غدرةً شوهاء، لو تهيأ مراده منها لأغصت بالريق، وللفت السوق بالسوق، ولكن الله بما عودنا من فضلة نبه على الغامض، وأبان عن برق الخلب الوامض، فرأيت مكنون الضمير، بعين التفكير، ونشرت مطوي الجوانح بيد التدبير، فإذا كل ما عقد منحل، وما أبرم مضمحل، فرددت عندما خلج عقده إليه، وقلبت غير مليم ظهر المجن إليه.
ومن أخرى عنه: كنت قد هادنت أهل غرناطة - لا زالوا في أذيال مكرهم عاثرين، وفي أيدي غوائلهم مستأسرين - مهادنةً دعوني إليها فأجبت، واستدنوني نحوها فدنوت، فلما أشرقت على التمام، وآذنت بالانصرام، راسلوني في تماديها فساعدت، وأرادوني على اتصالها فانفعلت وأنفذت، وانعقد بيننا عقد بولغ في تأكيده، وتنوهي في إحكام مواثيقه وعقوده(3/277)
ولم تكد صحيفته تطوى، ولا شهيده يتولى، حتى غدروني في الحصن الفلاني باستنامة من كان فيه من قبل إلى السلم، وإضاعته استشعار الحزم، فلم أعجل بالتنكر، ولا سارعت بالتنمر، ورأيت الاستيناء، وآثرت الاستبقاء، رجاء أن يفكروا في العواقب، فيفيئوا إلى الواجب، ويعطفوا [55ب] إلى الرأي الصائب، وأعدت إليهم من أمكنني إعادته من السفراء، فلقوا منهم بدهة وإباءً، والتواءً وانزواء، ولما رأيت ذاهب رشادهم لا يرجع، ودواء استصلاحهم لا ينجع، وثأي نصفتهم لا يرأب، وغائب فيأتهم لا يرتقب، عملت على الإيثار، واستجمعت لذي الانتصار، وسقيتهم بمثل كاسهم، ورميتهم عن نظائر قياسهم، فلم يطل أمد، ولا كثر من ماضي الأيام عدد، حتى حصل من وجوه قوادهم، ورؤوس أجنادهم، فلان وفلان، إلى ستةٍ وعشرين رجلاً أحيط بهم أسراً، وتقبض عليهم طراً، وجعلوا قراهم البث واللهف، وأبا مثواهم الهون والخسف.
وله من أخرى عنه: شر الناس لنفسه من جهل مقدارها، ولم يتهم اختيارها، وقفا إذا شرهت وعميت آثارها، وطار بجناح طمعها، إلى(3/278)
ذميم طبعها، واتبع رائد جشعها، إلى وخيم مرتعها، وعاد إلى الصالح من خلطائه فاستفسده، وإلى الصفي فأحقده، وإلى المستنيم فأوحشه وشرده، ولا سيما في حال تحض على استدناء البعداء، وتبعث على مصادفة الأعداء، ومع نصبة قد أنذرت بمآلها، وحذت من بغتة اغتيالها، بل والله قد نفحت رجومها، ولفحت سمومها، وصرح بالبأساء شومها.
وليس يذهب عنك أني، بما أشرت إليه وردت حواليه، إلى صاحب طليطلة ناظر، وإلى قبح ما عاملني به شاهر، وذلك أنه منذ زمن يتمرس بجانبي، ويقوم في وجه ما لا يريبه من مذاهبي؛ فمن ذلك ما نعلمه من خفوفه إلى بسطة للقاء فلان - أخذه الله بما ألبسته من حرمةٍ فجر دها، وأوليته من نعمةٍ فغمطها وجحدها - وبقائه هنالك يشجعه على غدري، ويشيعه من مخالفة أمري، وتوثق له أنه إذا انصرم مني، وانخزل ببعض عمله عني، كان له إن هممت به سنداً، ووصل به إن وصلت يداً، فحينئذ صنع فلان ما صنع، وحاول أن يطير فوقع، من تلك الجهة التي كانت انخرطت في سلك بلدي وعملي، واطردت في منابرها الخطبة(3/279)
لي، حتى انصات فيها فواق بكية حكمه، وذكر على أعوادها اسمه، " ولكن قليلاً ما بقاء التثاؤب " ووسمه، إلى غير ذلك من قوارص القول والفعل، وستصل إليك على ألسنة الرسل، وأنا في كل ذلك أحتمل الأذى، وأغضى على القذى، وأقبض يد الأنتصار، طمعاً في الاقتصار والاستبصار، وذهاباً مع عادة الأناة والإنظار. وربما ألمحت في بعض الأحايين بعتابٍ، وتكلمت بكلمات غضاب، فظن أن ذلك قصاري في إنكاري، ومنتهى وسعي واقتداري، فزاد الاعتداء والاستهداف، وعظم الازدراء والاستحفاف، ولولا نظري من هذه الجزيرة - عصمها الله - إلى ما ينظر إليه، وإشفاقي منها على ما لا يشفق عليه، لأسكنت أول انبعاثه ذلك النزوان، وردعت قبل احتفاله ذلك الاستنان.
وفي فصل منها: ثم ختم تلك الهنات، وتلا تلك السيئات، بخبر صاحب فلانة، كنت أوطاته، على علمك رقاب أهلها، وجعلت إليه القبض والبسط فيها، ولم أشرك معه أحداً في معنى، فخان بما ائتمن، وفرط في ما احتجن، وخاف عاقبة ذلك فنغل واضطغن، وأراد أن يفوز ببطنته(3/280)
وما جمع، وينجو مما حذر عليه وتوقع، فأزمع على الانحراف والانزواء، واستجمع للخلاف والانتزاء، وداخل فلاناً يعرض عليه مما ذهب إليه، ليؤيده على قبوله بما في يديه، فنأى عنه بجانب النزيه الكريم، وأعرض إعراض الحر الصميم، فانصرف إلى المذكور وهو لمناها مستمطر متوكف، وإلى مثلها مستوقف مستشرف، فما دعاه حتى لباه، ولا أومي إليه حتى تهافت عليه، لا يتهيب حالاً، ولا يتوقع مآلاً، وبلغني الخبر وكفى به مزعجاً، ولا كمثله مبرماً محرجاً، فصبرت حتى أعذرت، وتأنيت حتى أبليت، ثم اعتزمت على الانتصار، وتقدمت لطلب، الثار، مستخيراً وعد الله لمن بغي عليه، مقتضياً حكمه العدل فيمن تسبب إليه، فتقدمت في معسكر ألفته يد الإعجال، [56أ] وحالت البديهة بينه وبين الاحتفال، فأنخت به على بلده أياماً، قطعت فيها دونه كل الرفاق، ولم أبق حوله سقفاً على جدار ولا قائمةً على ساق، ثم مررت إلى جهة فلانة أجوس خلالها، وأتقرى بالنهب والإحراق أعمالها، وأتسنم معاقلها، وأجعل أعاليها أسافلها، إلى أن وقفت بجانبها منازلاً، وزحفت إلى بابها مقاتلاً، وصاحبها يرى الخوي ملء عينيه، ويقلب على خسارة صفقته كفيه، ولا يعاين إلا ناراً تضطرم عليها، وتصطلم حواليها، فلو أصغينا لسمعنا قعقعة أضراسه، واستشعرنا لوجدنا حر أنفاسه؛ وكل كمي عنده - وكانوا عدداً لفيفاً، وجمعاً كثيفاً - فد نسخ جباناً، ومسخ هداناً، لا يكاد يقبل حتى يدبر، ولا يبرز حتى ينجحر:(3/281)
تلقى الحسام على جراءة حده ... مثل الجبان بكف كل جبان ثم انكفأت، على غير الطريق التي كنت أنشأت، عائداً بمثل ما بدأت، واطئاً ما لم أكن قبل وطئت، فتخيل سبيلي، في وجهتي وقفولي، وتمثل أثري، في وردي وصدري. وكنت قد وجهت أسطولاً بلغ في ساحل بلده أقصى المبالغ من الإفساد والتدمير، والتغيير والتأثير، ثم انصرف بحمد الله كما انصرفت على غاية الوفور والظهور.
وله عنه من أخرى: وإن فلاناً جارنا - لا أجاره الله من ريب الزمان، ولا صرف عنه صروف الحدثان - يأبى الله أن يراه حائداً عن فسادٍ، وعائداً إلى رشاد، ومقلعاً عن قبيح، ومستمعاً من نصيح، فهو - والأيام قد وعظته لو اتعظ، والأحوال قد نبهته لو انتبه واستيقظ، وحجة علو السن قد قامت عليه، ووجهوه غير الدهر قد سفرت إليه، بمنزلة الغر العابث، في مسلاخ السفيه العائث، ولا يقصر ولا يبصر، ولا يرعوي ولا بفكر.
واتفق الآن، بمساعيه الخبيثة، ومحاولاته الذميمة، أن تسبب إلى مداخلة الحصن الفلاني، على يدي خبيث من أهلها، قد دبر الحيلة حتى اتجهت في مثلها، وأنفذ إليه قائداً من وجوه عبيده، واتصل بي الخبر، فطيرت من ناشبهم الحرب، فوهب الله لأوليائي الظهور، ووقى الله المحذور، من مضرةٍ(3/282)
كان الجاهل المطاول قرع بابها، وأحصد في ظنه أسبابها، فتأمل كيف دؤوب هذا الموصوف بحقائق صفاته، المتابع لقبائح هناته، على إضرام نار الفتن، باستثارة دواعي الإحن، وتعريض المسلمين - عصمهم الله - للحوادث والمحن، وكيف لا يزداد على الأيام إلا جماعاً في ميدانه، وانقياداً لشيطانه، واستكثاراً من سوء عمله، على قريب أجله؛ وليشكر الله حق شكره من لم يضعه هذه الضيعة الورهاء الشوهاء، ويشعره هذه البصيرة العمياء الصماء، ومن طبع على قلبه، بمجاهرة عصيان ربه، فشره أبداً عتيد، وشيطانه مريد.
وفي فصل من أخرى: ورد كتابك مبيناً عن ود كماء المزن، وعهد كروض الحزن، مع بر حافلٍ وفيته، إلطاف بالغٍ أحفيته، مجلوين في معرض سيادة لاحظت ضميري لها عيون حور، وجاذبته منها ألفاظ أو انس نور، أرتني البيان كيف يدب سحره، والافتنان كيف يطم بحره، وزهر الآداب كيف يطلع من كمامه، ولؤلؤ الكلام كيف يتسق من نظامه، كل ذلك سافر عن وجهه طويةٍ سائلة غرة الإمحاض، سليمة جوهر الصفاء، مع علوقٍ مستحيلة الأعراض.
وله عنه منه أخرى إلى صاحب المهدية: إنني - أيدك الله - على ما بيننا من لججٍ خضرٍ، وفياف غير، لمستكثر من إخائك، مستظهر بوفائك(3/283)
متوفر على إجمال ذكرك وثنائك، وقياماً بما يتعين من مجدك وسنائك، ويعلم الله انه ما أملي الأبعد، وعملي الأحمد، إلا أنه يؤم أفقك الطلق - صان الله بهاءه، وحسن أرجاءه - من الخواص النبلاء، والأعيان الفضلاء، من يبلغك كتابي، وينوب في إنهاء طاعتي إليك منابي.
وكان فلان [56ب] قد ألم بي زائراً، وتلوم لدي مجاوراً، فأقبلته وجه البشر، وألحفته جناح البر، وبخلال رائعة، وخصال بارعة، لنفائس المحاسن جامعة، منها - وهي أحظى وسائله لدي، وأدنى فضائله إليّ - إدمانه نشر نشر معاليك، وإعلانه بث أياديك، وكنت متى تشوف لمعاودة وطنه، واستشرف لمطالعة سكنه، أقوم في وجه زماعه، وأغض من طرف نزاعه، استمناحاً بما يثيره من ميامنك، واستدامةً لما يتلوه من آيات محاسنك، إلى أن جد به التوق، واستولى على مقادته الشوق، ولم يكن في صده عمل، ولا برده قبل، فأصبحته كتابي هذا إليك مجدداً رسم الوداد، وعامراً سبيل حسن الاعتقاد، ومعلماًبما بلوت من صدق تشيعه لمجدك، وخفة لسانه بحمدك، ومشيراً إلى ما عنده من كنه إجلال لك، وحقيقة استكثار منك، ثقةً بأنه يحسن إنهاءه، ويوفي أداءه إن شاء الله.
قال ابن بسام: ومحاسن ذي الوزارتين أبي بكر أكثر من أن تحصى، وآياته أبين وأبهر من أن نستقصي، وإنما ظفرت منها بطرف، وحصلت(3/284)
منها على نتفٍ، ولم يقع إليّ من شعره ما أوشح هذا المجموع بذكره، ولا بأس باثباته إن حصل، وبالله أستعين وعليه أتوكل.
ومنهم الوزير الفقيه الكاتب أبو القاسم
محمد بن عبد الله بن الجد
قريع وقتنا، وواحد عصرنا، ممن استمرى أخلاف النظم والنثر، فدرت له بالبيان أو بالسحر، فإن تكلم فأبو بحر، أو نظم فكلثوم بن عمرو، حتى إذا أخذ في الجدال، أو تفقه في علم الحرام والحلال، فرويدك حتى ترى الصبح كيف يسفر، وثبج البحر كيف يزخر وهو على نباهة الذكر، وعلو القدر وشرف المحل من فهر، قد لزم داره، وطوى أخباره، واقتصر على عفة من المعيشة رزقها، فهو يتبرض جميعها، لا بل يتزود نسيمها، والشمس، وأن سترها الضباب فغير خفية السناء، ولا مجهولة الغناء. وكان على عهد المعتمد قد تقلد وزارة ابنه يزيد، فلم(3/285)
يزل معه عليّ الشان، نابه المكان، حتى كان من أمره ما كان. وهو اليوم في وقتنا قد اضطر إليه أهل قاعدة لبلة فولوه خطة الشورى، وألقوا إليه مقاليد الفتوى، فمهد لذلك جانباً متن كفايته، واحتسب فيه جزءاً من عنايته، على كرهٍ منه شديد، ومرام في التزايد من العلم بعيد. وعلى ذلك فلم يدع مساجلة الإخوان، ومراسلة من يرتسم بهذا الديوان، من بني الأوان، بما يشهد له أنه بديع الزمان، وفارس الميدان، وقد أثبت له بهذا الديوان، ما يقيم له أوضح برهان.
جملة من رسائله في أوصاف شتى
فصول له من رقعة أنشأها على لسان من صدر من بيت الله الحرام وزيارة قبر نبيه عليه السلام: صلوات الله على خاتم الرسل، وناهج السبل، وناسخ جميع الملل، ومجلي الظلم والظلم، ومحيي القلوب بنور الهدى والحكم، ومقلد النذارة والسفارة إلى كواف الأمم، وعليه من لطائف التسليم، ما يربى على عدد النجوم، ويزري بالمسك المختوم، ويقتضي باتصاله واحتفاله رضى الحي القيوم.
كتبت يا أكرام الأنبياء وسائل، وأعظمهم فضائل، وأعمهم فواضل، وأتمهم فرائض ونوافل، وقلبي بحبك معمور ومأهول، وعلى الإيمان بك مفطور ومجبول، ويتمثل ما عاينته من عظيم آثارك مهول مشغول(3/286)
ومن لي بمقولٍ [57أ] لا يتخلله خلل، ولا يدركه في الصلاة عليك والدعاء لك ملل، ولا يشغله عن ذكر الله تعالى وذكرك سهو ولا خطل، حتى أقطع بذلك آناء ليلي ونهاري، وآصالي وأسحاري، وأجعله شعاري ودثاري، وهجيراي في إعلاني وغسراري؛ اللهم ألهمني من تحميدك وتسبيحك، والصلاة على رسولك الأمين ونصيحك، ما يشغل لساني، ويثقل ميزاني، ويبسط يوم الفزع الأكبر من أماني؛ اللهم وفر حظي من شفاعته، وأحسن عوني على طاعتك وطاعتهن واحشرني في عداد زمرته وجماعته.
ولما صدرت يا رسول الله عن زيارتك الكريمة، وقد ملأت هيبتك ومحبتك أرجاء فكري، وفضاء صدري، وغشيني من نور برهانك ما بهر لبي، وعمر قلبي، لحقني من الأسف لبعد مزارك، والحنين إلى شرف جوارك، ما أودع جوانحي التهاباً، وأوسع جوارحي اضطراباً، وأشعر أملي عوداً إلى محلك المعظم وإياباً، وكيف لا أحن إلى قربك، وأتهالك في حبك، وأعفر خدي في مقدس تربك، وبك اقتديت فاهتديت، ولولاك ما صمت ولا صليت، ولا سعيت ولا طفت، بل كيف لا يتحرك نحوك نزاعي، ويتأكد انقطاعي، وبك استشفاعي، واليك مفزعي يوم الداعي. فلا تنس لي يا رسول الله عياذي بك ولياذي، وإسراعي إلى زيارتك وإغذاذي، واذكرني في اليوم العظيم المشهور، عند حوضك المورود، وظلك الممدود، ومقامك المحمود.(3/287)
اللهم كما أعنتني على حج بيتك المحرم، وزور نبيك المكرم، فاجعله لي شفيعاً، وتوفني على ملته مطيعاً، ويسر لي كرةً إلى مواطنه المقدسة ورجوعاً، إنك على ذلك قدير، وبحقيقة دعائي عليم خبير، والسلام المردد والمؤكد على نبي الرضوان، وصفي الرحمن، ما تعاقب الملوان، وتناوب العصران.
وله من أخرى خاطب بها بعض من قدم من الحجاز: كتبت وقد هزني وافد البشرى، واستخفي رائد المسرة الكبرى، بما سناه الله من قدومك محوط الجوانب والأرجاء، منوط الفخار بذوائب الجوزاء، محطوط الآثار في مواطن الرسل ومواطئ الأنبياء، فيا لها حجةً مبرورة ما أتم مناسكها، وأوضح في مناهج البر مسالكها، لقد شهد فيه الميقات بخلوص إهلالك وإحرامك، واهتز البيت العتيق لطوافك واستلامك، ورضيت المروة والصفا عن كمال أشواطك، وتهلل بطن المسيل لسعيك فيه وانحطاطك ثم بالموقف الأعظم من عرفة سطع عرف تخشعك ودعائك، وارتفع خفض تضرعك واستخذائك، وفي البيت الأكرم من المزدلفة حظي تقربك وتزلفك، وزكا تهجدك وتنفلك، وعند الإفاضة فاضت الرحمة عليك، وكملت النعمة لديك؛ وأما منىً ففيها قضيت مناك وأوطارك، وقبلت هداياك وجمارك، وحطت خطاياك وأوزارك، فما صدرت عن تلك المعالم المكرمة، والشعائر المعظمة، وإلا وهي راضية عن عجك وثجك(3/288)
شاهدة لك بكمال حجك، مشفقة من فراقك وبعدك، متعلقة لو أمكنها ببردك، وقبل أو بعدما تأنست بك يثرب، ورفع لك جناحها مضرب، فشافهن منازل التنزيل، وطالعت معاهد الرسول، وقضيت من زيارة القبر الكريم واجباً، وقمت بينه وبين المنبر ضارعاً راغباً، فما حجب عنه عليه السلام زورك وإلمامك، وقصدك وائتمامك، وصلاتك وسلامك، بل كان لكل ذلك راعياً سامعاً، ويكون لك بحول الله شاهداً شافعاً، فهنأك الله ما منحك من جزيل الأجر في مواقف الحرمين، وأطار لك من جميل الذكر في الخافقين.
ولما قعد عن قصدك ما قعد، ولم يمكني الوفود عليك في جملة من وفد، استنبت كتابي منابي [75ب] .
وله من أخرى في صفة مطر بعد قحط: لله تعالى في عباده أسرار، لا تدركها الأفكار، وأحكام، لا تنالها الأوهام، تختلف والعدل متفق، وتفترق والفضل مجتمع متسق، ففي متحها نفائس المأمول، وفي منحها مداوس العقول، وفي أثناء فوائدها حدائق الإنعام رائقة، وبين أرجاء شدائدها بوارق الإنذار والأعذار خافقة، وربما تفتحت كمائم النوائب، عن زهرات المواهب، وانسكبت غمائم الرزايا، بنفخات العطايا، وصدع ليل اليأس صبح الرجاء، وخلع عامل البأس والي الرخاء، ذلك تدبير اللطيف الخبير، وتقدير العزيز القدير.
ولما ساءت بتثبط الغيث الظنون، وانقبض بتبسط الشك اليقين(3/289)
واسترابت حياض الوهاد، بعهود العهاد، وتأهبت رياض النجاد، لبرود الحداد، واكتحلت أجفان الأزهار، بإثمد النقع المثار، وتعطلت الأنوار، من حلي الديمة المدرار، أرسل الله تعالى بين يدي رحمته ريحاً بليلة النجاح، سريعة الإلقاح، فنظمت عقود السحاب، نظم السخاب، وأحكمت برود الغمام، رائقة الأعلام؛ وحين ضربت تلك المخيلة في الأفق قبابها، ومدت على الأرض أطنابها، لم تلبث أن انهتك رواقها، وانبتك وشيكاً نطاقها، وانبرت مدامعها تبكي بأجفان المشتاق، غداة الفراق، وتحكي بنان الكرام، عند أريحية المدام، فاستغربت الرياض ضحكاً ببكائها، واهتزت رفات النبات طرباً لتغريد مكائها، فكأن صنعاء قد نشرت على بسيطها بساطاً مفوفاً، وأهدت إليها من زخارف بزها ومطارف وشيهاً ألطافاً وتحفاً، وخيل للعيون أن زواهر النجوم، قد طلعت من مواقع التخوم، ومباسم الحسان، قد وصلت بافترار الغيطان، فيا برد موقعها على القلوب والأكباد، ويا خلوص ريها إلى غلل النفوس الصواد؛ كأنما استعارت أنفاس الأحباب، أو ترشفت شنباً من الثنايا العذاب، أو تحملت ماء الوصال، إلى نار البلبال، أو سرت على أنداء الأسحار وريحان الآصال. لقد تبين للصنع الجميل(3/290)
من خلال ديمها تنفس ونصول، وتمكن للشكر الجزيل في ظلال نعمها معرس ومقيل؛ فالحمد لله على ذلك ما انسكب قطر، وانصدع فجر، وتوقد قبس، وتردد نفس، وهو الكفيل تعالى باتمام النعمى، وصلة أسباب الحياة، بعزته.
وله من رقعة خاطب بها الوزير الفقيه أبا القاسم الهوزني إثر قدومه من حضرة أمير المسلمين، رحمه الله تعالى، غب نبوة خلصت إلى غربه، وروعةٍ كادت تطير بسربه:
وكم نعمةٍ لا يستقل بشكرها ... إلى الله في طي المكاره كامنه قد يجتنى - أغرك الله - من شجر المساءة ثمر المسرة، ويجتلى وجه المحبوب غب المكروه مشرق الأسرة، وربما تجهم القدر وضميره مبتسم، وتصلب الزمن وعقده محتشم، وإنما ينظر إلى موقع الأقدار في الإصدار، وتحمد مجاري الأعمال عند المآل؛ وفي هذه المقدمة دلالة على النبوة التي ما اعتكر جنحها، إلا ريثما وضح صبحها، ولا نعب بالبعد غرابها، حتى التفت إلى سانح السعد ركابها، ولا استطار لها في قلب الولي صدع، حتى اشتمل منها على أنف العدو جدع؛ وما ذاك(3/291)
إلا لأن سلطان الحق أنجدك وأيدك، وبرهان الفضل قام معك وأطال يدك، وحاشا للعلم أن يلبس حامله خمولاً، أو يحث له نحو الاذالة حمولاً، فوشكان ما استقلت بك يدي الآثار، في صدر العثار، وخاصمت عنك ألسن السنن، عوارض المحن، وما سرت إلا وظل الكرامة عنك ظليل، وصنع الله لك رسيل وبك كفيل، فلئن أوحش مسيرك، لقد آنس ظهورك، ولئن حسن اقترابك، لقد سمج اغترابك، ولئن سخنت العين بعدك، لقد بين البين فقدك؛ فالحمد لله الذي أوشك مقدمك، وأعلى قدمك، ورفع في كل مكرمة ومأثورة علمك، [58أ] وإياه تعالى أسأل أن يهنيك ويهنئ فيك عارفة السلامة، ويبقيك بعيد الصيت رفيع القدر في الظعن والإقامة، ولولا ترددي في عقابل ربعٍ لزمت جسمي شهوراً، واتخذته ربعاً معموراً، لما استنبت في التهنئة خطاباً، ولحثثت نحوك ركاباً، وأنت بسروك توسع العذر قبولاً، وتقبله وجهاً جميلاً.
وله من أخرى يهنئ بمولود: إن أحق ما انبسط فيه للتهنئة لسان، وتشرف في ميادين معانيه بيان وبنان، أمل رجي فتأبى زماناً، واستدعي فلوى عناناً، وطاردته المنى فأتعبها حيناً، وغازلته الهمم فأسعرها حنيناً، ثم طلع غير مرتقب، وورد من صحبة المباهج في عسكر لجب، فكان كالمشير إلى ما يعده من مواكب الآمال، والدليل على ما وراءه(3/292)
من كواكب الإقبال، أو كالصبح افترت عن أنوار الشمس مباسمه والبرق تتابعت إثر وميضه غمائمه، وفي هذه الجملة ما دل على المولود المجدود، المؤذن بترادف الحظوظ وتضاعف السعود. فيا له نجم سعادةٍ، تطلع في أفق سيادة، وغصن سناء، تفرع من دوحة علاء، لقد تهللت وجوه المحاسن باستهلاله، وأقبلت وفود الميامن باستقباله، ونظمت له قلائد التمائم، من جوهر المكارم، وخص بالثدي الحوافل، بلبان الفضائل. وما كان منبت الشرف بانفراد تلك الأرومة الكريمة إلا مقشعر الربى، مغبر الثرى، متهافت أغصان الرضى، فأما وقد اهتز في أيكة السيادة قضيب، ونشأ من بيتة النجابة نجيب، فأخلق بذلك المنبت أن تعاوده نضرته، وترف عليه حبرته، ويراجعه رونقه وبهاؤه، وتضاحكه أرضه وسماؤه، فالحمد لله على ما أتاحه من انثناء الأمل بعد جماحه، واختيال الجذل في حلية غرره وأوضاحه، وهو المسؤول أن يهنيك منه صنعاً يحسن في مثله الحسد، ويتمنى لفضله النسل والولد.
وله من أخرى خاطب بها ذا الوزارتين الكاتب أبا بكر بن القصيرة وقد قربت بينهما المسافة، حسبما ذكر، ولم يتفق التقاؤهما:
لم أزل - أعزك الله - أستنزل قربك براحة الوهم، عن ساحة النجم، وأنصب لك شرك المنى، في خلس الكرى، وأعللك فيه نفس الأمل، بضرب سايق المثل:(3/293)
ما أقدر الله أن يدني على شحطٍ ... من داره الحزن ممن داره صول فما ظنك بي وقد نزل عىل مسافة يوم، وطالما نفر عن خياله نوم، ودنا حتى هم بالسلام، وقد كان من خدع الأحلام، وناهيك من ظمأي وقد حمت حول الورد الخصر، وذمت الرشاء بالقصر، ووقف ب ناهض القدر، وقفة العير بين الورد والصدر، فهلا وصل ذلك الأمل بباع، وسمح الزمان باجتماع، وطيت بيننا رقعة أميال، كما زويت مراحل أيام وليال، وما كان على الأيام لو غفلت قليلاً، حتى أشفي بلقائك غليلاً، وأتنسم من روح مشاهدتك نفساً بليلاً؛ ولئن أقعدتني بعوائقها عن لقاء حر، وقضاء بر، وسفرٍ قريب، وظفر غريب، فما تحيفت ودادي، ولا ارتشفت مدادي، ولا غاضت كلامي، ولا أحفت أقلاني، وحسبي بلسان النبل رسولاً، وكفى بوصوله أملاً وسولا، ففي الكتاب بلغة الوطر، ويستدل على العين بالأثر.(3/294)
على أني إنما وحيت وحي المشير باليسير، وأحلت فهمك على المسطور في الضمير، وإن فرغت للمراجعة ولو بحرف، أو لمحة طرف، وصلت صديقاً، وبللت ريقاً، وأسديت يداً، وشفيت صدىً، لا زالت أياديك بيضاً، وجاهك عريضاً، ولياليك أسحاراً، ومساعيك أنواراً.
ثم ختم رقعته بهذه الأبيات:
هو الدهر لا يفتا يمر ويحلو لي ... وسيان عندي ما يجد وما يبلي [58ب]
إذا أشكلت يوماً عليه ملمة ... فمن ظهر قلبي يستمد ويستملي
سألقى بحد الصبر صم خطابه ... وإن صيغ فيها الشيب من حدق النبل
وأعرض عن شكواه إلا شكيةً ... بها من هو مرآك ضرب من الخبل
روى لي أحاديث المنى فيه غضة ... ولكنها لم تخل من غلط النقل
وجاد بقرب الدار غير متممٍ ... ويا رب جودٍ قد من شيم البخل
تراءى لي العذب النمير فليتني ... بردت لهاتي منه في نغبة النهل
أتحجب شمس العلم بردة ليلةٍ ... ولو وصلت أردانها ظلمة الجهل
ويخشن مسراها لموطئ أخمصي ... ولو نبتت في جنحها إبر النحل
أجل قيد هذا الدهر أضيق حلقة ... وأقصر للخطو الوساع من الكبل
سأبعث طيفي كل حين لعله ... يصادف من نجوى خيالك ما يسلي
ودونك من روض السلام تحيةً ... تنسيك غض الورد في راحة الطل(3/295)
قوله: " ويا رب جود قد من شيم البخل " يشبه قول الآخر:
الدهر ليس له صنيع يشكر ... شرب له يصفو وشرب يكدر
يهب القليل وقد نوى استرجاعه ... هبة البخيل أقل منه وأنزر وكأن هذا من قول بشار:
أما البخيل فلست أعذله ... كل امرئٍ يعطي على قدره فراجعه ذو الوزارتين برقعة نسختها: كتبت ولسان القلم يتلعثم، وقدم الكلم يتأخر أكثر مما يتقدم، هيبة لانتقادك، وعجزاً عن مواقع إصدارك وإيرادك، وإن متعاطي جرائك، ومناهض إعادتك أو إبدائك، لجدير بالتقصير، وخليق بحرمان حظ البسوق والظهور، والله يزيدك فضلاً، ويجعلك لكل جليلةٍ من الخصال ونبيلة من الأحوال أهلاً، بمنه.
ووصل إليّ - وصل الله اعتلاءك، وأثل مجدك وسناءك - خطابك الكريم نظماً ونثراً، فأهدى براً، واقتضى ما لا يستطاع شكراً، ويعلم الله الذي لا ينطوي دونه سر، ولا يفوت إحصاءه أمر، أني أجد من الشوق إليك، مثل ما أخبرت به لديك، وأحس من التشوق إلى لقائك، بنحو ما أطلعته من تلقائك، والله وليك حيث كنت، وكلئك وكالئي(3/296)
فيك أقمت أو ظعنت، وإياه أسأل أن يبلغك أوطارك، ويؤتيك من كل أمل وفي كل مورد ومصدرٍ اختيارك، بعزته.
وأنا أعتذر من الاقتضاب، وأن لا ألم في النظم بجواب، بما لا يذهب عليك من الأعذار ولا يستتر دونك من الأسباب، وأنت بمعاليك تقبل العذر، وتتأول أجمل تأول الأمر.
وله من أخرى: لم أزل مذ جد اغترابك، ونعب غرابك، أتعجب من تحولك، وأتشوف إلى ما يراد من قبلك، فلم أظفر من خبرك بيقين، ولا حصلت من كيفية مقرك على ثلج مبين، إلى أن ورد جهينة أخبارك، وعيبة أسرارك، فلان، فكشف من صورة أمرك ما التبس، ووصف من جملة حالك ما سر وأنس، وذكر أن ذلك القطر - حرسه الله - رحبت بك معاهده، وعذبت لك موارده [59أ] واشتملت عليك أفياؤه، وتهللت إليك أرجاؤه، ولا غرو من نفاقك حيث احتللت، وقبولك أيما انتقلت، فمن تحلى بمثل حلاك، لم يضع كيف تصرف، ولا عدم اللطف أينما انحرف؛ والله تعالى يصنع لك جميلاً، وينيلك حيثما كنت أملاً وسولا.
ووصل خطابك الخطير فجلا وجه برك وسيماً، وشخص عهدك عميماً، وأهدى إليّ من رياض ودك نسيماً، ومن عرار حمدك شميماً، فيا حسن موقعه من الضمير، ويا نبل منزعه الجميل المشكور.
وله من أخرى: قد يرد من تحف الإخوان ما لم يراقب له مورد، ولا(3/297)
ضرب فيه موعد، ولا غازله ضمير، ولا تقدم فيه بشير، فيكون لجامع الأنس أجلب، ولمجامع النفس أذهب، وعلى صفحات الفؤاد أندى وأبرد، وإلى تلعات الوداد أهدى وأقصد، لا سيما إذا ورد وللوحشة جثوم، وبين الجوانح كلوم، كمورد خطابك، فإنه هجم ولا تأهب له خلد، ونجم وفي جفن الأنس رمد، فأذكرني حسنه زمن الصبا، ونفس الصبا، وأنساني عهده زهر الربى، وثمر المنى، وجدد من رسم الصبابة والمقة قديماً، وأحيا من شخص القرابة رفاتاً رميماً، ونشر من واشجها ما دفنته الأيام خمولاً، ووصل من مقطوع أسبابها ما لم يكن قبل موصولا، فلله در عهدك ما أجمل محياه، وأنم في روض الوفاء رياه، وسقياً لمغرس مجدك فما أذكى ثراه، وأطيب جناه، وصل الله ما بيننا يوم تقطع الأسباب والأنساب، وجعله ميراثاً في الأخلاف والأعقاب، وأبقاك أنساً لذوي الألباب، ومعدنا للكرم اللباب، بمنه.
وتلقيت المنزع الجميل في جهة فلان، المسند إلى مجدك بأحسن وجوه الإجمال، وأتم معاني البر المتوال، وأقبلت عليه، إقبال المصغي إليه، المستوفي ما لديه، فنشر من أياديك الجميلة مآثر، وشب بمندل ذكرك الطيب مجامر، وعمر بأوصاف معاليك مشاهد ومحاضر، وجعلت أهتز لسماعها طرباً، وأستعيد من أغانيها نوباً، وأستزيده من محاسنها عجباً وعجباً، فأمتع بشهيها أذني، وأذكر بلذيذها معسف زمني، ورأيته حسن الأداء، لمعاني الثناء، متصرف اللسان، في شكر الإحسان، والله يعمر بوفود الأمل جنابك، ويمد في ساحة الكرم أطنابك، بعزته.(3/298)
وله من أخرى: قد كنت - أدام الله عزك - بتواتر السماع، وتظاهر الإجماع، أتقلد فضلك، وأشهد بالسبق لك، وأود أن يسفر بيننا خطاب، ويتفق للمفاتحة أسباب، رغبةً في الانتظام، ولو بسفارة الأقلام، واجتلاء بالإخاء، ولو بالرقم صفح الماء، إلى أن وافاني خطابك ففتح للمداخلة باباً، وأوضح في المواصلة شعاباً، وتضمن من أدلة الود ما لا يكذب رائده، ولا يحرج شاهده، بل يقضى بشهادته ويحكم، ويقطع على عدالته ويختم.
فأما ما نحلتنيه من الوصف الجميل، ومنحتنيه من الغرر والحجول، فإنما هي حلاك، أعرتها أخاك، وأوصافك تبرع، بها إنصافك، وسماتك، تجافت عنها مكرماتك، وقد تقلدتها حلية جمالٍ، ورفلت منها في حلة أجمال، واعتقدتها ذخيرة أيام وليال. والله تعالى يؤكد بيننا دواعي الوداد، ويجعل خلتنا من عدد المعاد، ويعين على شكر برك المبدأ المعاد.
واجتليت منه افشارة الكريمة في جهة فلان، فمهدت له عندي كنفاً رحيباً، وبوأته لدي محلاً قريباً، وشغلت لحظي برعاية أمره، وبسطت يدي في شد أزره؛ ومما أكد حقوقه علي تشيعه في علائك، وتحدثه بآلائك، وتقلبه برهةً من الزمن في ظل حرمك وفنائك، والله تعالى يبقيك مؤثراً للحسنة، محموداً بجميع الألسنة، ولا يخليك من الشيمة الدمثة والكلمة اللينة.
وله من أخرى: إذا عددت [59ب] أعزك الله - أعيان الزمان، وأفاضل(3/299)
الإخوان، ثنيت عليك خنصري، وطمحت إليك ببصري، وطرت في جوك ووقعت، وانحططت في شعبك وربعت، لأنك - والله يبقيك - حامل آداب ومعارف، ولابس من خلع الفضل مطارف، ومتميز بفضول محاسن منحت جمالها، ومتفرد بخواص فضائل جمعت كمالها، لا أعدمني الله منك جملة فضل، وزهرة نبلٍ، وذخر وفاء، وعلق سناء، بمنه.
وطلع علي خطابك مع فلان عبدك، ولسان حمدك، فأهب من روح الأنس بك نسيماً، وجدد عهود سلفت ورسوماً، وأجناني من رياض برك نوراً عطراً، وسقاني من حياض ودك عذباً خصراً.
فيا شبعي برونقه وريي ... وأنهى إليّ المذكور ما تنسمه من أرج ثنائك، واجتلاه من تبلج إخائك، فاتصل البر واتسق، وتتابع الفضل على نسق، ثم استطرد إلى شكر ما أوليته من غر أياد، وإجمال متمادٍ، واستنفد في ذلك جهد لسانه، وجرى في ميدانه ملء عنانه، فأحمدت مقطعه ومنزعه، ووجدت العرف واقعاً فيه موقعه، وأنت بسروك تؤكد فضلك عنده، وتصل إجمالك معه، لا أخلاك الله من بث صنائع، في أصناف مواقع، وأشتات مواضع.
ومن أخرى له: كتبت وأنا في عقابل شكوى سدكت بي منذ أشهر(3/300)
سدك الغريم، وعركتني بأكف آلامها وأيدي سقامها عرك الأديم، حتى لقد فغرت علي فاها المنون، واستوت في اليأس مني الظنون، إلا أنه تعالى بلطفه من بالإقالة والإرجاء، ونقلني عن جهة اليأس إلى جانب الرجاء، له الحمد متواترا، والشكر أولا وآخرا، وهو المسؤول، عز وجهه، أن يمليك أطول الأعمار، ويزوي عنك مكروه الأقدار، بمنه.
وكان خطابك قد وافى في عنفوانها، وصد رنزوانها، فخفف من أوصابها، وخلع بعض أثوابها، وكأنما ورد عائدا ملطفا، أو وفد زائرا متحفا، ورمت المراجعة فلم تساعدني يد، ولا نهض بي جلد، ولما نضوت برد الاعتلال، وشمت برق الإبلال، وجب إنهاء العذر المعترض، وتعين قضاء الحق المفترض. وأما شكري لما تضمنه الكتاب الكريم من لطائف البر والثناء، ونتائج الفضل والسناء، فمسحوب الأذيال، في طريق الاحتفال، مأخوذ الأنفاس، من زهر الرملة الميعاس، ويعلم الله تعالى المطلع على خواطر الضمير، وهواجس الصدور، استنامتي إلى كرم نواحيك، وثقتي بشرف مناحيك، واغتباطي بما أحكم بيننا من نظام التآلف، ورفع لنا من أعلام التعارف؛ واجتليت من مختم الكتاب سلام الوزير الكاتب ناثر درره(3/301)
وراقم حبره، ولك الفضل في إبلاغه من تحيتي ما يضاهي تنفس الأزهار، في وجوه الأسحار.
وكتب كعتنياً بأحد الأدباء الشعراء: لئن كانت الأيام - أعزك الله - قد قلصت أذيال أحوالك، وسلطت هجيرها على برد ظلالك، وكدرت بأقذاء صروفها صفو زلالك، فما استلانت نبعك، ولا أحالت عن عادة الجميل طبعك، ولا عفت في منازل السناء والثناء ربعك، فقد يجري الجواد وهو منكوب، ويتجمل الحر وبه ندوب، والله تعالى يجبر الصدع، ويجمل الصنع، بعزته.
ويتأدى من يد فلان، وفي علمك ما دهي به وطني من خطوب الزمن، وضروب المحن، وتقلب عباد الوثن، ودفعته الضرورة إلى استرفاد الأحرار، والتكسب بالأشعار، وهو ممن يتصرف في الصناعة بلسانٍ صنع، ويأوي فيها إلى طبع غير طبع، وله في قبول عفو المنيل إجمال، وعنده في شكر العرف المختصر احتفال.
ولما عرف ما بيننا من عهدٍ لا يفارق نصابه كرم، ولا يلحق شبابه هرم، اتخذ خطابي هذا عنوان شعره، ولسان أمره، ودليلاً على موضعه، ومشيراً إلى مقصده ومنزعه، وأنت بسروك تصدق أمله، وتبيض وجه [60أ] الصنيعة قبله.
وله من أخرى في مثله: العهد وإن قدمت أحكامه، وسلفت أيامه(3/302)
إذا استجد عاد جديداً، ونشأ حميداً، لا سيما إذا غرس في تربة وفاء، وسقي بنطفة صفاء، وتردد في نصاب كرم، وتشبث بأطناب ذمم؛ وكان بين سلفنا ما لا ينسى ماضيه، وإن خلت لياليه، ولا يهجر حسنه، وإن بعد زمنه، وإنه لمسطور في صحيفة تذكري، وملحوظ بعين تصوري، ولئن لم يجمعنا مكان، ولا سلف للمداخلة عنوان، فإن ذلك غير قادحٍ في الضمير، ولا مكدر من العذب النمير.
وموصله فلان، ونشأة نعمتك، توسم رعايتك لها فسألها، وتخيل تحفيك بنواحيها فرغب فيها، وما أجبته إليها إلا وقد علمت أنك تشفع شفيعها، وتؤثر ترفيعها، وبوروده، عليك تجتلي وجه منزعه ومذهبه، وتقف على جليه أمله ومطلبه، وأنت بفضلك تصدق مخيلته، وتراعي وسيلته، وتتجمل معه، وتضع العرف موضعه، مقتضياً بذلك من شكري أبرعه، ومن ذكري أطيبه وأضوعه.
ومن أخرى في مثله: أما وكنفك وساع، وشرفك يفاع، والتحدث يتدفق أدبك ونشبك إجماع، فلا غرو أن تقصد بتحف القصيد، وتطوى نحوك صحف البيد، ويجري من يعتمدك في مضمار تأميلك إلى الأمر البعيد، لا سيما من قد اعتمدك، فأحمدك وانتقدك، كفلان، فإنه رتع في برك، واكتحل برهة ببشرك، واشتمل بضافي عطافك، وكرع في صافي نطافك، فهو إذا عد غرر العصر ولمع الدهر، بدأ بذكرك وختم، وطار في جوك وجثم، وله في نشر المحاسن والفضائل لسان ذرب، وعنده شكر الصنائع والودائع مقام درب، ولما عضه العسر(3/303)
ومسه الضر، وجب أن ينتجع جنابك، ويستمطر سحابك، ويؤم فناءك، ويجبر ثناءك، وهو بانتحائك مسرور، وبين يديه من رجائك نور، وقد سفر له قناع السفر، عن أسرة الظفر، وجليت عليه صورة الأمل، في معارض النص والزمل، فما أجدره بأن يجد ظلك سجسجا، ومحلك منبجا، ويجتني رباك غضة النور والزهر، وينثني عن مشرب نداك حامد الورد والصدر؛ لا زال مقرك معتمد الزوار، ومنزع الأحرار، ومحصب جمار الأشعار.
وله من أخرى في مثل ذلك: كتبت عن كلال ذهن، واتصال وهن، وركود خلد، وفتور جلد، لترددي في أذيال العلة التي عرفت صفتها، واجتليت من خطابي المتقدم صورتها، ولا مزيد عى ما عندي من الإجمال لذكرك، والاحتفال في شكرك، والتسحب على حواشي مجدك، والانحطاط في غورك ونجدك.
وموصله فلان، لم يتفق له في غير الجهة الحالية بك أمل، ولا اعتلق به في سواها عمل، فحن إلى ما عهده فيها من حسن رائك، وكريم اعتنائك، ورحب جنابك وخصب فنائك، واستنهض مخاطبتي لتبوئه تحت ظلك كنفا، وتؤكد له سببا مؤتنفا.(3/304)
وله من أخرى: كتبت وريحان العهد بمائه، ويتأود في غلوائه، لم يلم به مع القدم ذبول، ولا انسحب عليه للزمن ذيول، وكيف لا يرف ورقه، وينم عبقه، وفي روض وفائك يرتع أسحار وأصلا، ومن ثغب صفائك يشرب عللا ونهلا، ولذلك ما يقع الإعتاب بالخطاب، ويجتزى بتناجي القلوب وتصافي الغيوب عن الكتاب؛ والله يبقي ما بيننا معقودا بذوائب النجوم، محجوبا عن كلفة العبوس والوجوم.
وفلان لم يجد من ذلك الأفق بدلا، ولا غرس في سواه أملا، ولا ألفى في تربة غيره ترى ولا بللا، فعاد إليه يحمد عهده، ويذم ما لقي بعده، وسألني مخاطبتك بهذه الحروف، ليتزيد بها من رأيك الشريف وفضلك المعروف.
وله في مثله إلى الفقيه أبي القاسم ابن المناصف بقرطبة: أما وأحاديث فضلك صحيحة الإسناد، وأدلة سروك مزلة العناد، ومطالب علمك وفهمك ساطعة الأنوار [60 أ] ومناهج هديك وسعيك واضحة الصوى والمنار، فلا عجب أن تحوم على شرعة مداخلتك حوائم الألباب، وتنتهز في التماس مواصلتك فرص الدواعي والأسباب. ولم أزل أولع برائق صفاتك، وألتمس سبب معرفتك، حرصا على التجمل بختلك، ورغبة في التيمن بصلتك، لأنك - والله يبقيك - أحق من احتذي على(3/305)
مثاله، واقتدى بصالح أعماله، واستقريت آثار البر من مواقع خطاه، وانتسخت أخبار الزهد والقصد من صحائف هداه، وأحر بمن اتخذك صاحبا، وسلك من سبلك أثرا لاحبا، أن يأمن في جدد مسالك العثار، ويعدم في جوارك نقع الفتن المثار، والله يبقيك لأشتات الفضائل نظاما، وفي كل صالحة إماما، ويوسع النعمة بك وفيك سبوغا وتماما.
ولما اتفق شخوص فلان إلى الحضرة، وعلمت أن انجذابه إلى جنباتك، ووعيت عنه جملا حسانا من صفاتك، رأيت أن أصحبه خطابا، وأمد في ساحة الانتظام بك أطنابا، حرصا على أن يتأكد في ذات الله إخاؤنا، وتتفق في سبل مرضاته وطرق طاعته أنحاؤنا؛ وحملته مع ذلك من لطائم الحمد، ونخائل الود، ما إذا أعرته ناظري تأملك، وصادق تخيلك، علمت به خلوص ضميري، وصفاء نميري، وسلامة عهودي، ودماثة تهائمي ونجودي.
وهذا الرجل يشكر إجمالك معه شكر روض الحزن، لعارفة المزن، ويود أن يستظهر على ذلك بكل لسان، ويستنجز فيه كل ناء ودان، وقد جاريته في مضمار شكرك طلقا، وسعيت معه في ميدان الثناء عليك خببا وعنقا، فبيني وبينه من شابك القربى، ما يقتضي أن آخذ من مشاركتك له بالقسم الأوفى والسهم الأعلى؛ وقد عرفت ما مني به من عض الزمان، ومس الحرمان، ورأى أن يصرف وجه همته إلى تلك الحضرة ليدرك بها أملا، ويعلق من أعمالها عملا، ومعوله في موارده ومصادر عليك(3/306)
ونظره في مطامح أغراضه وألحاظه إليك، وأنت بمجدك تسدد سهمه، وتؤيد عزمه، متمما يدك البيضاء، ومتبعا دلوك الرشاء.
وله في مثله إلى الفقيه القاضي بها: إن كانت المداخلة بيننا لم يفتح لها باب، ولا علقت بها أسباب، ولا رمي لنا في محصبها جمار، ولا عطف بنا نحو كعبتها اعتمار، فقد جمعتنا في معرف المعروفة مواقف، وضمتنا من معالم العلم معاهد ومآلف، ووشجت بيننا من أواصر الأدب أنساب، وضربت علينا في مدارج الطلب قباب، ولا غرو من تداني القلوب على تنائي الديار، وإئتلاف النفوس مع اختلاف النجار، فقد يتعارف الأنداد على البعاد، ويتناكر الأضداد مع قرب السواد والوساد، وربما ألف تشاكل الشيم والأخلاق، بين مستوطن الش وساكن العراق، ودأباً حن زهر الغور إلى نسيم نجد، وامتزج عبر الشحر بمسك الهند. على أني لا أدعي رتبتك في فنون العلم والآداب، ولا أتعاطى صحبتك إلا بشرط الانقياد والإصحاب، ومن يضاهي محل الفرقد، بمنبت الغرقد، أو يشبه رتبة التقليد، بدرجة النظر والوليد، أو يقرن بين الالتباس والبيان، ويعارض قوة القياس بضعف الاستحسان -! لكني وإن لم أعد في رعيلك، ولا أضيف مبرمي إلى سحليك، فعندي من بضائع الكلم ما نفق في(3/307)
سوقك، ولدي من سوامي الهمم ما يعبق ببسوقك، وعل بعض كلامي يسجد في ذراك، ويحظى برضاك، ويادف عندك رأياً جميلاً، ويستوقف لحظك لو قليلاً، بقيت حليةً للدهر فائقةً، وغرةً في وجه الزهر رائقة.
ولما علم فلان، أن القيم عندك بحسب الإنسان، وعلى قدر تصرف اليد واللسان، وأن أحظى ما قرع به بابك، ورفع له حجابك، رقعة تشير بها إلى علم وأدب، ولا يخل بوجهها وشم ندب، استنهضني شفيعاً، فأجبته سريعاً، حرصاً على المداخلة أسم غفلها، والمواصلة أفتح قفلها، ورغبة في مشاركة الرجل المذكور ول بشفعة الكلام، وسفارة الأقلام، فبيني وبينه نسب موصول، وثرى مبلول، وآصرة رحم، وعاطفة سهم.
وكان له بتلك الحضرة النيرة بعدلك فيما سلف ظهور، وتصرف [61أ] مشهور، ثم ألقت عليه العطلة ثقل جرانها، وجرت به ملء عنانها حتى انسفت ما كان بيده، وحلت جميع عقده؛ وقد دفعته الأيام إلى جميل نظرك، وطيب مكسرك؛ وهو بكرم الصنيعة خليق، ولحمل المنن مطيق، وغرضه ن يصرف في بعض وجوه العمل، ويختبر حاله في الشد والزمل، وأنت بمجدك تفرص له من شرف عنايتك نصيباً، وتوليه من رعايتك وجهاً خصيباً؛ وما أسديت إليه فلي فيه مفخر، وهو عند الله مدخر، والله يبقيك للحسنات تعرس بأبكارها، والمآثرات تخلد كرم آثارها، منه.
وله من أخرى يشفع لبعض الشعراء: لا غرو أن يقصدك - أثل الله(3/308)
سؤددك - مهدي حمدٍ، ومقتضي رفد، ويلم بك مستوجب معروف، ومعاني صروف، فقديماً غشيت منازل الكرماء، وثبيت فضائل العلماء، وهزت أعطاف الكبراء، بنغم الثناء والإطراء، وقد أصغى إلى الأشعار، جلة الأخيار، وأثاب على المديح، من بعد عن التجريح، ومثلك سلك تلك السبيل، وآثر الجميل، وراعى التأميل.
وموصله - وصل الله اعتلاءك، وحرس أرجاءك - فلان، وهو ممن اضطره كلب الحرمان، ونوب الزمان، إلى اعتماد الكرام واستفرفاد الأعيان، وه من صناعة القريض، وبضعة التفريض، حظ موفور، ونده لأوجه الصنائع إذ برقعها الكفور، ظهور وسفور، وقد قصد تلك الجهة فيما سلف منتجعاً، وارتضع من أفاويق درها جرعاً، وما عدم منك تنويلاً، ورأياً جميلاً، لكن العود أحمد، ورب العرف أوجب وأوكد، ولا يذهب العرف بين الله والناس، وليس ممن يسأل شططاً، ويتعسف غلطاً، وإنه ليتبلغ بالنسيم، ويستنجز الوعد بالتسليم، وحسبه ما يرقع جانب خلته، وينقع بعض غلته، وأنت بفضلك تشفق لما مني به من الاغتراب والاضطراب، وتحافظ على ما قبله من الوسائل والأسباب.(3/309)
وله من أخرى إلى الفقيه أبي الحسن ابن الأخضر: إذا كان عهد الإخاء مما رقمته يد الطلب، في صفحة الأدب، لم يسنخ له الدهر حكماً، ولا أحال الزمن منه رسماً، بل يتجدد على تقادم الأحقاب، ويتردد أبداً في عصر الشباب، وإنما هو في الحقيقة نسب لا يخفى، ورحم لا يجف له ثرى، وذمام تثنى عليه الخناصر، والتحام تشير إليه الأوار، فالأديب صنو الأديب، وكفى بتمازج القلوب، وفي علمك ما سلف بيننا من العهد، المزري حسنه بزمن الورد، سقاه الله صوب العهاد، ولا زال مخضر الماد، فما كان إلا غرةً انتهزت من تهاتف البيض الغرائر، ولمعةً كأنما اقتبست في تضاحك الترائب تحت سود الغدائر.
ولما علم فلان، حليف شكرك، وأليف برك، ما بيننا من المناسب الروحانية، والمذهب الأدبي، استنهضني لشكر ما خصصته له من تقريب محل، وتخفيف كل، فنهضت في ذلك نهوض المبدي المعيد، واحتبيت برداء الثناء عليك في المحفل الشهود، وسرني كون هذا الفتى الدميث الخليقة، السديد الطريقة، من إنشاء تخريجك وتفهيمك، وأغصان تثقيفك وتقويمك، فإنه ممن ستصور مقدار ما تسدي إليه، ويفي بصون ما تودعه لديه، وليس كل من أولي جميلاً يشكر، ولا كل شجر وإن سقي يثمر، وأنت بسروك توسع قريحته ذكاء، وصحيفته جلاء،، حتى يخلص خلوص(3/310)
الذهب، ويتخصص بحلية الأدب، محرزاً في ذلك ذكراً يشيع خبره، ويفوح عنبره، والله يبقيك لهذا الشان تذيع أسراره، وترفع مناره، بعزته.
وله من أخرى عناية بأحد الأدباء الشعراء: من دفعته الأيام - أعزك الله - إلى التقلب في الأقطار، والتكسب بالأشعار، لم يخف عليه مواضع الأحرار، في النجود والأغوار، على أن رسم الشعر قد درس أو كاد، ومرتاد البر قد عدم المراد والمراد، إلا أن صاحب هذا الشأن لابد أن يتصرف، أنجح أو أخفق، ويتسوق كسد أو نفق.
وممن دخل ذلك الصقع فأحمده، وتخيل بمن معاودته [61ب] فاعتمده، فلان، وله في صنعة القريض باع، وبشكر ما يوالاه اضطلاع، وبين فكيه لسان كشقة مبرد، أو ظبة حسام فرد، ولما كنت - أعزك الله - مقدماً في أعلام مصرك، وأعيان عصرك، وعلم ما بيننا من سهم الوداد، وكرم الاعتداد، سألني مخاطبتك راغباً في أن تسدد له هنالك غرضاً، وتسهل من حياض أمله فرضاً، وترفع له في سبيل التزكية مناراً، وتقلده من صوغ التحلية طوقاً وسواراً، فأجبته لما يمت به إليّ من وكيد ذمامٍ(3/311)
وحميد إلمام، والثقة بنزول رغبتي لديك على طرف ثمام، وشرف اهتمام، وأنت بسروك تدنيه من كنفي قبولك وإقبالك، ولا تخليه من الأنس بتهممك واهتبالك، حتى يصدر وهجيراه شكر إجمالك، ونشر صنيعة من جاهك أو مالك، إن شاء الله.
وله من أخرى في مثله: من عهد - أعزك الله - أنس فنائك، وحسن اعتنائك، وألف برد أفيائك، ولين أرجائك، لم يحبسه عنك سكن ولا وطن، ولا لذ له في غير حجرك وظلك وسن، فمولي الجميل محبوب، ومكان الأنس مطلوب، والنفوس على علمك تلتمس الرجحان، وتعتمد الفضل حيث كان.
وفلان، ممن قيده إحسانك، واستعبده امتنانك، فهو لا يعدل بك أحداً، ولا يحل عن عصمة تأميلك يداً، فإذا بعد عن جنابك لم يسغ له قرار، ولا اطمأنت به دار، وقد بعثه صدق الانقطاع إليك على حسم العلق الموجبة لبعده عن ظل جناحك، وأنس التماحك، ولم يبق له في غير مكانك سيب يجذمه، ولا أمل يصدقه أو يكذبه، وأنت بمجدك توالي اصطناعه، وتراعي انقطاعه، وتلحظ بعين تهممك ضياعه.(3/312)
وله فصل من جواب خاطب به بعض الأدباء الشعراء: وردتني لك قطعتان من القريض، كقطع الروض الأريض، أو نغم معبد والغريض، تبسمتا عن ثغر وفاء، وأهتدتا إليّ روح شفاء، فأشعلت بذكر تهممك مجمراً، ووضعت عليه من ثنائي نداً وعنبراً، ورأيت ما ذكرته من إزماعك على الرحيل، واستجماعك لركوب ظهر السبيل، فاسترجعت بذكر البين، ما وهبت من أنس السعدين، والله يرد ذلك الصعب ذلولاً، والحزن سهولاً، ولا يعدمك ممن ترجوه ترحيباً وتسهيلاً.
وله أيضاً من جواب على كتاب في مثله: تكلفت المراجعة وحسي القريحة مثمود، وفي جو الذهن ركود وجمود، وبين أثناء الضمائر خطوب مثول، وفي صفائح الخواطر ثلوم وفلول، وما قصدت معارضة التبريز بالتقصير، ولا حاولت مناهضة الخطو الوساع بالباع القصير، وإني لممن ينصف ويعترف، ويرى مدى السابق فيقف، ولست ممن يجهل فضل ما بين النبع والغرب، ويذهل عن فرق ما بين الشبه والذهب، على أن عذري في الصناعة مقبول، ونبي في ساحة القريض محمول، فإني لم أقرع له باباً، ولا شددت به عصاباً، وإنما يعد من أهله، من سلك مضايق سبله، ويكتب في فرسانه، من تصرف في ميدانه.(3/313)
ومن رسائله في التعزيات
نسخة رقعةٍ كتب بها إلى الوزير الفقيه أبي القاسم الهوزني يعزيه عن أخيه:
لا بد من فقدٍ ومن فاقد ... هيهات ما في الناس من خالد
كن المعزى لا المعزى به ... إن كان لا بد من الواحد إذا لم يكن بد من تجرع الحمام، وتشتت النظام، وانصداع شمل الكرام، فمن الاتفاق السعيد، والقدر الحميد، أن يرث أعمار البيتة الكريمة مشيد علاها، وتسلم من القلادة وسطاها، فمدار الكفاية على معلاها، وفخار الحلبة بمحرز مداها. وفي هذه النبذة إشارة إلى من فرط من الإخوة الفضلاء، ودرج من السادة النجباء، فإنهم وإن كانوا في رتبة الفضل صدوراً، وغدوا في سماء النبل بدوراً، فإن شمس علائك أبهر أضواء وأزهر أنواراً، وظل جنابك على بنيهم ومخلفيهم أندى آصالاً وأبرد أسحاراً [62أ] .
ونعي إليّ - أوشك الله سلوانك، ولا أخلى من شخصك الكريم مكانك - الوزير أبو فلان - برد الله ثراه وأكرم مثواه - فكأنما طعن ناعيه في كبدي، وظعن باكيه بذخيرة خلدي، لا جرم أني دفعت إلى غمرةٍ من(3/314)
التلدد لو صدم بها النجم لحار، أو دهم بمثلها الحزم لخار، ثم ثابت إليّ نفسي وقد قذها الجزع، وعضها الوجع، فأطلت الاسترجاع، وجمعت الجلد الشعاع؛ وها أنا عند الله أحتسيه جماع فضائل، وجمال محافل، وحديقة مكارم صوجت، وصحيفة محاسن درست وامحت، وما اقتصرت من رسم التعزية المألوفة، على القليل المحذوف، إلا لعلمي، بأن المعزي لا يورد عليك غريباً، ولا يسمعك من موعظة عجيباً، فبك يقتدي اللبيب، وعلى مثلك يحتذي الأديب، وإلى غرضك في كل موطنٍ يرمي المصيب، وفي تجافي الأقدار عن حوبائك، وسقوطها دون فنائك، ما يدعو إلى حسن العزاء، ويهون جلائل الأرزاء، لا صدع الله جمعك، ولا قرع بنبأة المكروه سمعك، بعزته.
وله من أخرى في مثله: وردني - أعزك الله، وأشعرك الصبر لما قضاه - خطابك الخطير، فاستقبلني، أوله ببشرٍ وسيم، وبر جسيم، وتلقاني آخره بوجه شتيم، ورزء أليم، فيا قرب ما انصرفت عن نهج الاستبشار، إلى سمت الاعتبار والاستعبار، وانقلبت من مطالعة صفحة العهد الواضحة، إلى ملاحظة صورة الوجد الكالحة، فما وقع سانح البشرى، حتى أطاره بارح المنعى، ولا افتر صغر النعمى، حتى اكفهر وجه البوسي، بما ختمت به الكتاب الكريم، وكان أحق بالتقدم، من ذكر وفاة الحسيب الأديب، أخيك، ومحل صنوي، كان - رحمه الله، وألحفه رضاه - فيا له رزءاً، حملني عبئاً، ومصاباً، جرعني صاباً، وعند الله أحتسبه جملة عفافٍ، وبقية أشراف.
ومما أوقد لوعتي، وأكد روعتي، أن درج وللشباب عليه سربال(3/315)
وللأمل في تراخي مدته مجال، فاغتبط النفوس أفجع، وبغت المقادير أوجع وأشنع، وهي الآجال: فمعمر إلى أقصاها، ومختضر دون مداها، ولا يزال المؤجل تتحيف نواحيه، وتختطف أدانيه، ويفجع بأحبائه، ويروع بأترابه، حتى يكون هو الغرض المصاب، والمحل المنتاب، والسواد المخترم، والخيال المستقدم. فمن تصور الدنيا تصورك، وأوسعها تدبرك، لم يرعه هاجم كرب وإن كلح وجلح، ولا هزه واقع خطب وإن طمح وجمح، ولعلمي بمضاء جنانك، على مصادرة زمانك، واتساع صدرك، لمضايقة دهرك، سلكت في التعزية مسلك التخفيف، واقتصرت من معاني التسلية على اليسير اللطيف، ولو شهدت لحملت عنك بعض الأتراح، وشاركت في زيارة الغدو والرواح، والله يعوضك العزاء الجميل، ويضفي على ساقته - جبرها الله - ظلك الظليل، ويديم إمتاعك بمن بقي معك من أخٍ كريم، وقريبٍ حميم، بعزته.
وله من أخرى في مثله: محن الدنيا - وسع الله لاحتمالها ذرعك، وأنس في إيحاشها ربعك - ضروب، ولسان العبر بها خطيب، ونوائبها أطوار وفنون، ومصائبها أبكار وعون، والمرء غرض لأخياف سهامها، ومعرض لاختلاف أحكامها، فإن أخطأه منها صائب الحمام، وتخطاه واثب الاخترام، رشقته بنبل أرزائها، وطرقته بمضل أدائها(3/316)
وعرقته بعصل أنيابها، وأشرقته بمر شرابها، وأودعته من صنوف التصاريف، آلاماً وأوصاباً، وجرعته من فراق الأحبة صبراً وصاباً؛ فمن فهم معاني صروفها فهمك، وعجم عود خطوبها عجمك، لم يتضعضع منه لصدمتها جلد، ولا تروع له عند ظلمتها خلد، ولا شقت لصبره في مآتها جيوب، ولا طار بقلبه في ملامحها وجيب، بل وجدته مشيع الجنان، ثابت الأركان، متهلل الجبين، مشرق اليقين، متسع الجوانب، لزحام النوائب، مستقل الكاهل، بأعباء النوازل.
فلئن نفذ القدر بوفاة من كنت تأنس بحياتها، وتتيمن على القرب والبعد بيمن صلاتها وصلاتها، وتضاعف الوجد بما افترق من فرقة المنون، وحرقة [62ب] النوى الشطون، وانتظم من شحط المزار، ونفوذ حتم المقدار، ففي تجلدك لتحامل الخطبين محتمل، ولتصبرك في سوم الخطتين تصرف وعمل، وبجسيم عظيم المصاب، وكرم الاحتساب، يكون حسن الثواب، ويمن المآب، فللرزايا قيم وأثمان، وللحسنات في موازنتها خفوف ورجحان، فلا تمكن من يد الجزع مقادك، ولا تسكن زفرة الأسف فؤادك، واعتصم عند الصدمة الأولى بعروة الصبر(3/317)
الوثقى، وتجنب ما يقدح في كرم النصاب، ويقبح عند ذوي الألباب، واحتسب فقيدتك - قدس الله روحها، وأنس ضريحها - حديقة أنس، نقلت إلى جنة قدس، وذخيرة إيمان، ضمنت أكرم صوان، ولا تذهب نفسك حسراتٍ، ولا يتدارك نفسك زفرات:
فقد فارق الناس الأحبة قبلنا ... وأعيا دواء الموت كل طبيب وإذا كنا أهداف المنايا، وأخلاف الرزايا، وأبناء الأحلام، وأنداء الغمام، فاي معنىً في الجزع على من فرط، والتوجع لمن شحط، ونحن عن قريب نقدم على من تقدم ونلحق بمن سبق.
وهذه جملة من شعره
خاطبه بعض الأدباء والشعراء بنظم ونثر، فراجعه بقوله من جملة أبيات:
لئن راق مرأىً للحسان ومسمع ... لحناؤك الغراء أبهى وأمتع
عروس جلاها مطلع الفكر فانثنت ... إليها النجوم الزاهرات تطلع
زففت بها بكراً تأرج طيبها ... وما طيبها إلا الثناء المضوع(3/318)
لها من طراز الحسن وشي مهلهل ... ومن صيغة الإحسان تاج مرصع
تبغيت منها متعة اللحظ فانزوت ... وقالت أدون المهر يبغى تمتع
لئن لم تجد نقداً لمثلي عاجلاً ... فما لكم عن قيمة البضع منزع
فدونك ذاك الحكم منها فانه ... تضاء لعمري عادل ليس يدفع
ولي همة لو طاوع الدهر حكمها ... لكنت بفتوى الجود في ذاك أقطع وخاطبه أيضاً بعض أدباء العصر بشعر، فراجعه بقوله:
سلام كعرف المسك أو عبق الندّ ... على من عدا بالفضل فذاً بلا ندّ
سلام كأنفاس الأحبة موهناً ... سرت بشذاها العنبري صبا نجد
سلام كإيماض الغزالة بالضحى ... إلى الروضة الغناء غب الحيا العد
على من تحداني بمعجز شعره ... فأعجز أدنى عفوه منتهى جهدي
غزاني من حوك اللسان بلأمةٍ ... مضاعفة التأليف محكمة السرد
دلاص من النظم البديع حصينةٍ ... ترد سنان النقد منثلم الحد
عليها من الإحسان والحسن رونق ... كما ديس متن السيف من صدأ الغمد
وفيها على الطبع الكريم دلالة ... كما افتر ضوء السقط من كرم الزند
إذا خف منها جانب الهزل كفه ... ووقر من أعطافه ثقل الجد
أبا عامرٍ لا زال ربعك عامراً ... بوفد الثناء الحر والسؤدد الرغد(3/319)
لقد سمتني في حومة القول خطةً ... " لففت لها رأسي حياء من المجد " [63أ]
زففت هدياً من ثنائك حرةً ... يقصر ملك الأرض عن مهرها عندي
عقيلة مجدٍ أتلع الفخر جيدها ... فأغناه ذاك الحلي عن حلية العقد
وكلفتني أن أستقل بحقها ... وهيهات من إدراك أيسره وحدي
فلم أر براً أرتضيه لقدرها ... سوى الود محمولاً على كاهل الحمد
فعذراً فما عذري بمحتجب السنا ... ولا وجهه عند الجلاء بمسود
فإن كنت قد أحجمت عنك مقصراً ... فلا غرو في الإحجام عن أسدٍ ورد وكتب إليه أيضاً الأديب أبو عامر الذي ذكره بشعر أوله:
أعدها علينا أيها الناس الحبر ... هدي قواف مسك صفحتها الحبر فأجابه الوزير أبو القاسم بقوله:
أما ونسيم الروض طاب به فجر ... وهب له من كل زاهرةٍ نشر
تجافي له عن سره زهر الربى ... ولم يدر أن السر في طيه جهر
ففي كل سهبٍ من أحاديث طيبه ... نمائم لم يعلق بحاملها وزر(3/320)
لقد فغمتني من ثنائك نفحة ... ينافسني في طيب أنفاسها العطر
تضوع منها العنبر الورد فانثنت ... وقد أوهمتني أن منزلي الشحر
سرى الكبر في نفسي بها ولربما ... تجانف عن مسرى ضرائبي الكبر
وشيب بها معنىً من الراح مطرب ... فخيل لي أن ارتياحي لها سكر
أبا عامر أنصف أخاك فإنه ... وإياك في محض الهوى الماء والخمر
أمثلك يبغي في سمائي كوكباً ... وفي جوك الشمس المنيرة والبدر
ويلتمس الحصباء في ثغب الحصى ... ومن بحرك الفياض يستخرج الدر
عجبت لمن يهوى من الصفر تومةً ... وقد سال في أرجاء معدنه التبر
تطلبتها مردودةً اللحظ برزةً ... تردد في أسمال أثوابها الدهر
هي الثيب استعصت عليّ وإنما ... تطوع لمن يحوي ولايتها البكر
فدونكها عذراء لم يعد وجهها ... حجاب ولم يهتك لحرمتها ستر
بذلت لها نقداً من الدر غالياً ... فلم يجزها مهر ولم يخزها صهر
وإني لصب بالتلاقي وإنما ... يصد ركابي عن معاهدك العسر
أذوب حياءً من زيارة صاحبٍ ... إذا لم يساعدني على بره الوفر قوله: " ففي كل سهب من أحاديث طيبه " كقول أبي المغيرة ابن حزم:(3/321)
ورنت بألحاظٍ تدبر كؤوسها ... فينا فنشربها حلالاً مسكرا وقوله: " أمثلك يبغي " ... البيت، كقول الآخر:
أعندك الشمس تسري في مطالعها ... وأنت مشتغل الألحاظ بالقمر [63ب] واراه عكس قول حبيب:
إذا الشمس لم تغرب فلا طلع البدر ... وقال أبو الطيب:
خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل انتهى ما أثبته من كلام الوزير أبي القاسم، وهو أبهى من النجوم وأبهر، وأسرى من النسيم وأسير، وكنت جديراً باستقصاء أخباره، وحميد آثاره، لا سيما ومزاره كثب، وبيني وبينه من ذمام الأدب، والتزام الطلب، سبب ونسب، ولكن النوائب زاحمت ضائري، وضربت وجوه خواطري، فما دفع إليّ عفواً تلقيته ووعيته، وما كانت فيه أدنى كلفة رجوته وأرجيته، ولا بأس من الزيادة إن انتهجت سبيل، ولله نظر جميل، وفيه مطمع وتأميل.(3/322)
فصل في ذكر ذي الوزارتين الكاتب أبي القاسم
محمد بن عبد الغفور صاحب المعتمد
وكانا قبل تمكن السلطان، رضيعي لبان، أمهما الكأس، وفرسي رهان، ميدانهما الأنس؛ فلما أفضى الأمر إليه، وأديرت رحى التدبير عليه، أرعاه تلاعه، وعصب به خلافه وإجماعه. وتوفي ذو الوزارتين في عنفوان شباب ذلك الملك، وهو منه بمكان الواسطة من السلك، فقال المعتمد فيه من جملة أبيات يرثيه:
أبا قاسم قد كنت دنيا صحبتها ... قليلاً، كذا الدنيا قليل متاعها وقد وجدت لأبي القاسم شعراً إن لا يكن شديد المتن، أزور الركن، فإنه مليح الاطراد، سلس القياد، يقرب من متناوله، ويدل على قائله، ولم يقع إليّ وقت تحريري هذه النسخة شيء من نثره؛ وفيما(3/323)
أثبت هنا من مقطوعات شعره، شاهد صادق على ما أجريت من ذكره.
فمن شعره يخاطب أحد أعبان بني الدب:
يا وزيراً تعنو له الوزراء ... ضاق ذرعي وبان مني العزاء
أمن الحق أن أكون سقيماً ... لست أرجى وفي يديك الشفاء
يا كبيري وسيدي وظهيري ... كن نصيري على أناس أساءوا
قد توقفت في الشهادة حتى ... حرم اليأس ما أحل الرجاء
ولقد تعلمن محض ودادي ... وثنائي، وقل فيك الثناء
ولكم سائل أطال سؤالي ... هل على الأرض من لديه وفاء
فجعلت الجواب منه مقالي ... ليس يخفى على العيون ذكاء
إن جهلت الوفاء في أهل حمصٍ ... فبنو الدب سادة زعماء
فيهم عفة وفيهم وفاء ... ولهم ذمة وفيهم حياء
وزراء أكابر كرماء ... علماء أفاضل حلماء
أي قومٍ وأي أعلام مجدٍ ... أنجبتهم إلى العلا آباء
يفخر الدهر منهم بأناسٍِ ... ليس إلا لهم يد بيضاء [64أ]
من يجار الوزير أعني أبا مر ... وان في الفضل طال منه العناء
من يجاريه فغي متانة دينٍ ... وعليه من الحياء رداء
أورث المجد والمكارم نجلاً ... منه هامت بمثله العلياء(3/324)
فات أهل الزمان فضلاً ومجداً ... وذكاءً وأين منه الذكاء
ألمعياً مهذباً لوذعياً ... للمروءات في يديه لواء
وإذا ما اعتزى لأكرم خالٍ ... وقف الفضل عنده والسناء
ولعمر العلا وسمر العوالي ... إنه خير من تظل السماء
يا عمادي ومن عليه اعتمادي ... عش كما شئت مدركاً ما تشاء
ولئن كانت النفوس فدائي ... إن نفسي لمثلكم لفداء في ذكر الوزير الكاتب أبي محمد عبد الغفور،
ابن ذي الوزارتين أبي القاسم المذكور،
واجتلاب قطع من شعره، ولمع من نثره
وأبو محمد هذا في وقتنا عارض إذا همع استوشلت البحار، ونجم إذا طلع تضاءلت الشموس والأقمار، وهو أحد من آوى من الحسب باشبيلية إلى ثبجٍ عظيم، ومشى من الأدب على منهج قويم، سابق(3/325)
لا يسمح وجهه إلا بهيادب الغيوم، وصارم لا يحلى غمده إلا بأفراد النجوم؛ وكان نشأ بين يدي أبيه من دولة المعتمد، بحيث يفيء عليه ظلالها، ويتشوف إليه قبولها وإقبالها، وانشفت تلك السماء قبل أن ينوب مناب سلفه في سرجها، ويحل بيت شرفه من أبرجها، ولله هو، فلئن كان نبا به الأوان، وضاق عنه السلطان، فلقد نهض به جنان يتدفق بالغرائب، ولسان يفري شبا النوائب، وإحسان يملأ أقاصي المشارق والمغارب. وقد أخرجت من غرائب نظمه ونثره ما يخجل الخدود، ويعطل السوالف الغيد.
فصول من كلامه في أوصاف شتى
له من رقعة خاطب بها بعض أهل عصره، وافتتحها بهذين البيتين:
لولا عدىً غاظوا الصدي - ... ق بنفيهم عني الكتابه
لم أوذ سمعك بالهرا ... ء ولا انحرفت عن المهابه لعمري - وإن كان نفى منفياً، وتقرع صديقاً حفياً - لرب أعجم ضجر فأفصح، وأجذم عير فقدح؛ وإن لم يستألفا بعد(3/326)
الإفصاح، وما شق من كلفة التحامل في الاقتداح، لم يؤمنا على ذكر ميت، وإحراق بيت؛ فلله من احتال لتخلصه، ولم يعجب بتخصصه، ودفع بيد جلده، في صدر حسده. وفي هذه الجملة بلاغ لو ارتضيت بها متنقصاً، ولم يرني بالاقتصار عليها متخرصاً، في الكتابة متلصصاً، إذ لعله ممن يظن الإيجاز حصراً وانقطاعاً، ولا يعتقد الإجادة مع الاسهاب شيئاً موجوداً ولا مستطاعاً. لا جرم أني بحكم هذه التقية سأطيل قصصاً، وأتطلب فيما لم يطرق من القول قنصاً، ليعلم من ناف، ومن جلف جافٍ، بل من نزرٍ حقيرٍ خافٍ، أنني من كتابه وقته، وإن زعم أنف مقته، والله ما عرفته إلى اليوم، ولعلي سأعثر عليه في النوم، فأعرفه: من أرعن ناقص الوزن والصرف فأصرفه، بسمةٍ من الهون تشغله بنفسه، وتخجله في رمسه، والله يفنيه، [64ب] ولا يعرفنيه، وينزه عن شخصه الوضر الدنس عائر سهامي، ومن عرضه القذر النجس طاهر كلامي.
وكأني بفارس هذه الصناعة، ومالك أزمة البلاغة والبراعة، قد سمع هذري، وضحك من ضجري، وعجب كريمة وده(3/327)
وعقيلة عهده، من خاطبٍ، بسخفٍ مخاطب، في ليلٍ من الجهل حاطب، لم يأت خطبتها من بابها، ولا رفق في طلابها، وهيهات لمرتقب الشعرى، من ملابسة الكرى، ولمثل أملي في ذلك السماء، من تقصير في الاحتفاء، ولكن صدر التحبير، بما يشتمل على الضمير، فمتى سمح لغيره بمكانه، فقد صرم فجاء قبل أوانه، وكلف نضجاً ولات حين أبانه وسأمهرها من جميل الثناء مهراً تشمه زهراً، وتختمه نجوماً زهراً، وترده كوثراً، وتحمده عيناً وأثراً، وتحمل من بهائه تاجاً تعنو الشمس لضيائه، وتغرق في لجة لألائه، فيكون بدعاً من المهور، ويفخر دهره على سائر الدهور، بمقتضى ما التزمت شروط الوفاء فيه، وحرمت من غدر بني الأيام صحة مبانيه، ولو اكتفيت بما مضى عليه سلفنا الكريم، وتبعت ولم ترم مركزها منه أعظمهم البالية الرميم، من صفاء ودّ يعدي الجار فضلاً عن البنين، ووفاء عقد يثني النار عن أن تحرق بالطبع أو بالمماسة عدد سنين، أحرزت من الفضل نصاباً تجب فيه الزكاة، وحويت من الفصل قصاباً لا تدركها الكفاة، ولا تبلغها العفاة؛ على أنه لا شيء أغرب من عقلٍ يمتار ما في يديه، ولا يحتاج إلى صدقة عليه، ولا من فضل يتجاوز غلوة سهمٍ، فضلاً عن غاية شهم.
وكنت قد استغنيت بما أصلوا، ولم أقطع بهذا الاستئناف ما وصلوا، إلا أني وجدت نسب أدبه قد كل، ورسم سببه قد اضمحل، والكلالة(3/328)
في الآداب، أمس منها في الأنساب، فاعتمدت بهذه النأمة سداد خلل، وعمارة طلل؛ وشائع مجده كان أولى بهذه الرتبة من التهمم، وأهدى إلى سنن التفضل والتكرم، إذ كان أفسح في القول طلقاً، وأحسن في در كلمه العذب سرداً ونسقاً، فكيف تزل لي عن صهوة الانتداب، وتوفر علي خطة الاقتداء، هذا إذا قدرت، وما أراها إلا كأختها قد تعذرت، ليس إلا لمكاني من الحرمان والخمول، وكل عذر يدفع به في نحر هذا الصدق فغير مقبول.
وقد حطبت وخطبت، وسببت بل ضربت، وتكاتبت حتى كتبت، ولو خططت في صفحة البدر، بأنملي العشر، أو في الشمس، بالمعهودة الخمس، وصغت لفظاً للرقعتين، محاسن الجديدين، لقيل رمى الغرض فكاد، ولو نسج على منوال فلان وفلان لأجاد، وفلان إذا نقل الأقاويل توسط، وإذا رفع إلى فطرته الفطيرة تورط، فإن رأى أن يراجع بالقبول، وبما لديه من الرأي الحسن الجميل، بشرط العدول عن التفريط المخجل، واللفظ المشترك المحتمل، واعتقاد تجريحي في الصناعة بمجرد التبصير، وتنزيه خطوه الوساع فيها عن معارضة خطوي القصير، دل على موضعي من إيثاره، وطار اسمي الواقع بيمن جواره، عمر الله ربعه بالتأمل(3/329)
وسمعه بالتكريم والتبجيل، وصدأ هذا الزمان معدٍ كل عقلٍ، وفي ما أتوكف من جوابٍ كريمٍ مدوس إمهاء وصقل، وأزال جاهل شبحي لما عليه من الأقذاء، حتى أجتلي صورة حقيقته في رونق الجلاء، وحبذا تعجيله قبل استيلاء العجب القبيح، وتكاتف حجب الغي على متن الصفيح، فيعز صقاله، ويعجز انتقاله، فرأيك انتقاله، فرأيك في ذلك مسدداً إن شاء الله.
فتخلف المخاطب عن المجاوبة، فأعاد عليه ثانيةً بخطابٍ قال فيه:
وكنت أعتقد أنه - أعزه الله - بجوابه لا يبخل عليّ، وقد بسطت لنيلي به الأمل يدي، ومددت لاجتلاء السرور عيني، وحتى الآن فلم يرتد طرفي الشيق إليّ، بل قيد بشطور، تشوفاً إلى بهجة تلك السطور، فما ظنه بصفر اليدين من الأمل، ناظر إلى [65أ] أحد الشقين كالمختبل، بل ما ظنه بقومٍ يكثرون عنه السؤال، ويضربون فيه الأمثال، يودون لو قعد تحت الريبة من تأخر الجواب، وأطاع داعي الظنة في قطع رحم الآداب، لشد ما قدحوا زند الوحشة فصادفوه - والحمد لله - جد شحاحٍ، وأكبوا لنار الفرقة فلم يستضيئوا منها بمصباح، وظنوا أنه قد(3/330)
ورد من جواب كريمٍ فكتمته كتم الأرض، ولم أهش لنافلة الشكر عليه فضلاً عن الفرض، وهيهات لوجه الصبح المتبرج من كتم، ولنسيم زهره المتأرج من ختم؛ غير كلمه العذب، بل لؤلؤه الرطب، يجهل للخمول سراه، فلا يفضل عن ستر الراح سناه، ولا يحمل مثقلات الرياح من طيب شذاه، فليحينا منه بقطف يجنينا ثمر السرور، ويعفينا من وصمة التقصير بنا والقصور، فما زلت - أراه الله ما تمناه - أكرم بني الأيام عهداً، وأحكمهم عقداً، وأبعدهم من الآفات وداً، وأحمدهم قرباً حميداً وبعداً، وأصبعهم على الزمان الغادر مراماً، وأشدهم أنفه وعراماً، من أن ينقاد طوع زمامه، ويتصرف - وقد جئت خاطب وده في تضريح أنفي بدمٍ - على أحكامه، لا هم إلا أن يكون ذلك منه - صرف الله صروف الليالي والأيام عنه - ستراً على ما عهده من تأخر كلمي، وتعثر قلمي، واستعجام بناني، وقيام بناني، وقيام ظل البلادة دون إحساني؛ فهل شعر أنه قد نبل الناس، وظهر النسناس، وكلم الرمل الهزج، وسيط غير ما شيء فامتزج! ! ولذلك ما أقدم بي قدم الاعجاب، واستؤذن لي على دولة الكتابة بعد طول حجاب، فافتتحت مطالعة حضرته البهية، أراني بنيل هذه الرتبة العلية للنجم راكباً، وللسعد مواكباً، وإن كنت متكاتباً لا كاتباً، وقاعداً حين تطارد فرسان الكتابة لا جائياً معهم ولا ذاهباً؛ ما ضره لو قارضني على الجد ولو هازلاً، وسابقني إلى غاية الود وأنا الراكب المنبت فيسبق مستريحاً نازلاً، بل ما ضره لو فتق لهاتي وقد همت، وسدد سهام كلماتي وقد ألمت، بمكنون الدر، من ألفاظه الغر، ومخجل الزهر، من حكمه الزهر، فيدني من ذي حرص عليه(3/331)
أمله، ويبعث جذله، ويكون جمال إصابته له؛ فلم حرمني جوابه، وتغافل عني وقد قرعت بيد الثقة بابه، ألا سلم للأيام، في إحالتها طباع الكرام، وأنشد:
ومن صحب الدنيا طويلاً تقلبت ... على عينه حتى يرى صدقها كذباً كلا، لا أسلم لها فيه، ولا أوجدها السبيل إلى شين معاليه، ولو ضاعت هذه الثانية ضياع سراجٍ في شمس، ولقيت من إعراضه عنها ما لقيت أختها بالأمس، فليصل من وصله، وليعذر في الاقتضاء من مطله، ولو غيره عاملني مثل هذا الانزواء، وقابلني بأيسر كبر وجفاء لنظرت إلى كلمة أبي الطيب:
لا تحسبوا ربعكم ولا طلله ... أول حيٍ فراقكم قتله فكنت أقول:
لا تحسبوا قولكم ولا عممه ... أول ركنٍ بناصلٍ هدمه ورب كاتب أثقف مبانٍ، وأشرف أبيات معان؛ ولكنه عيني التي بها أبصر، وعضدي التي بها أنتصر، فمن ذا الذي يعتمد بسوء بصره(3/332)
ويقلع نابه حين يجني عليه أو ظفره.
وله من رقعة: توفي الصبر فهششت لإقامة رسم العزاء، ثم تذكرت فتأخرت، وأن نفسي - فاديته - عيرتني ترك المقال، وقالت: أين ما ذخرت لهذه الحال - فقلت: أحسن الله عزاء من بكاه، وأرضى بقبض ذلك الظل من اشتكاه، حتى يهدي إليه غفراناً، يلحقه رضواناً، ويحفه روحاً شهياً وريحاناً، ليعلم الهالك - رحمه الله - حيث تصفو العقول، وتنسى الحسائف السالفة والذحول، أن الباقي بعده قد عطف على الأول، وإلى ما يقربه إلى الله زلفى، فأهدى سنا المغفرة، إلى عظامه النخرة، وكره الشمات، ولم يحقد على من مات، وإن كانت العرب قد هجت قتلاها، وشمتت على مر الدهور بموت عداها. قال الحصين يهجو من قلته.
[65ب] فلما علمت أنني قد قتلته ... وقال غيره يشمت:
وإن بقاء المرء بعد عدوه ... ولو ساعةً من عمره لكثير(3/333)
وقال حبيب:
يا أسد الموت تخلصته ... من بين لحيي أسد القاصره وقال أبو الطيب:
قالوا لنا: مات اسحق فقلت لهم: ... هذا الدواء الذي يشفي من الحمق والله يعمر السيد حتى يرث أولياءه وأعداءه، ويقتضي على الأيام علاءه وسناءه، فليس لهذه المدة منتهى، ولا يبلغ منها مدى.
ومن أخرى: وإنما هو دأب فلكي، وجري سليكي، يتأكد ويتصل، وتتولد أسبابه فلا تفني ولا تنفصل؛ قال الأول:
فيوماً على سربٍ نقي جلوده ... ويوماً على بيدانةٍ أم تولب وتلك المنى لو أننا نستطيعها ... وأنا أقول: فيوماً في سوق فليق، ويوماً في طحن دقيق، ويوماً أقتات فيه بسخت السويق، ويوماً أقطعه على الريق، ويوماً في شهيق، ويوماً(3/334)
بالجامدة ويوماً بالسليق، سبعة ألقاب، لسبعة تأكل شلو الأحقاب، تسع جميع الشهر، وتجري كالروح في هذا الدهر، فأنا آلم من السليم بوجعه، وأشغل بهذا الكد منه بأشجعه، حتى آوي إلى عجوز، لنوبها المترادفة من يجوز، آونة تطلب بمبيت سور، وآونة ببنيان جسور، وما في إناء رزقها المكسور، منت بلالة سور، ولم يبق على هذا القياس بعد مغرم الثغور والدروب، إلا أن تشمر عن ساق للحروب، وإنما عليهن جر الذيول، وعلينا إجراء الخيول، فإن رأى - أعزه الله - أن يعفيها ويكفيها، فلها أمثال، في ربات الحجال، وفي ذوي اليسار من الرجال، وقد تقدم أمر الأمير بإعفاء النساء، بيمن فالقوادم فالحساء، فما شأن هذه المرأة تخص بالغرامة، وتستثنى بهذه الحضرة من الكرمة - أفتراها التي دلت على ضيف لوط، فتسعط من قاتل الظلم هذا السعوط -! كلا ولكنها أم كاتب هذه الرقعة التي لو فسرت لفصحاء يونان، لعضوا من حسرة التقصير عنها البنان.
وله من أخرى: جعلت فداك، هل ظفرت بمطلوب يداك - كلا ولكنك رأيت سراباً، فحسبته شراباً، وغرتك دمائة، تحتها غثاثة(3/335)
وسكون، لا يصلح إلى جانبه ركون، وبحكم الرغبة والحرص، كانت فراستك في ذلك اللص، وإلا فصموت عيي، لا يذهب على ألمعي، ودمع فاجر، لا تروى منه المحاجر: وإذ قد نبا حد عتابك من قرع ذلك الحجر الصلد، كما أعيا قبل ذلك على ذي مرة جلد، فمن العناء معاناته، ومن الدناءة قربه ومداناته، فاستشعر اليأس منه، واصرف عنان التثريب والعذل عنه، فإنما هو كذئب في ثلة، بأرض مذلة، في ليلة بعيدة مسافة الصباح، قعيدة روعات الصراخ والنباح، يتملأ من دمائها، ويهزأ هذا الخبيث من ثغائها، بل هو أعق من ضب حرب، في حجر خرب، يخاف على حرشائه من الحرش، ولا يعتصم من أعدائه كعقرب الخرش، فهو إلى عقوقه أنزق من ذي خرق، وقع في حبالة ثم أبق، أحسن الله فيه العزاء حيا، وطوى بيد السلو لهجي بشكياته طيا(3/336)
حتى أنساه، ولا أعرفه حين أراه، وفراستي في سواه أصدق من نار الفرس في الصدق، وأبصر في ظلمة الاشتباه من طالع الأفق.
وله من أخرى: وصل جوابك فشفى عليلا، وبرد غليلا، ونسم من روح الظفر بالأمل نفسا بليلا، وما كان لشرب ودادك العذب أن يستحيل صابا، ولا لمحل مجدك الموفي على الشهب أن ينحط نصابا، ولا لوفاء منك رسا ثبيرا، أن يذهب مع الرياح هباء مستطيرا؛ عقدة ودك أحصف، وحجاب مجدك أضفى من أن يسترق وأكثف، بقيت لغماء تجليها، ونعماء توليها، وعلياء تنافس فيها، وإن أتبع سيدي فرس البر بي لجامها، وقرع عارض المسرة تكاتفها والتئامها، فقد أمكن من الإحضار، وروى ظماء آمالي بمنهل القطار [66أ] .
وله من أخرى: من الأمور الشائعة، والمعاني المتفقة الواقعة، ما يعدل له في الكتب عن قصد السبيل، ويؤخذ في أساليب التطويل، وشعاب التمثيل أو التعليل، فيقوم عذر الكاتب، ويرجى الفلاح للمكاتب؛ كالرأي المستحكم مني في جانبك - أعزك الله - دون سبب أحكمه، وأرب قضى لما عن فأبرمه، ولكن فطرة في الميلاد، وحكمة من خلاق العباد، خفيت عن أذهان منا حداد، وضرب بيننا وبين سرها المكتوم بسد بل بعدة أسداد، فمنا - معشر الإنس - من يجيب المار الأجنبي لسلامه، ويبغض البار الحفي من أخواله وأعمامه، وربما زاد سوء المقدار، في(3/337)
ذميم هذا الاختيار، فهجر أحد أبويه أو كليهما، وقد علم أن طلب الجنة تحت قدميها، ففضله النوع البهيمي بقفو أثر مرضعه، وقد غني عن رضاعها، وزاد على خطوة باعها، وتبرأ منه الجنس الإنسي بموجب عقله، ومقتضى دليلي برهانه عن الله تعالى ونقله، فلا هو من البشر في شكر المحسن إليه، ولا من البقر في إلف القائم ولا من الشجر، بل هو أقسى من الحجر، {وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء} (البقرة: 74) فيكون بإذن الله موردا، وتلطف منه الأجزاء فيكحل إثمدا.
وقد لعمري منيت بهذا النوع من الولد، وكمدت به أبرح كمد، واشتغال نفسي بقسوه، بعد حنوه، وببعده بعد طول دنوه، مزج شكيتي، بالبسط لأمنيتي، حتى هرفت بما لم أعقد عليه نيتي، ولا قصدته في هذا المقام برويتي: كالهارف: " اصبحوا الركب أغبقوا الركب "، والهارفة: " زوجوني زوجوني ".
إن اللسان على الفؤاد دليل ... والله يحسن فيه العزاء حيا، ويطوي بيد السلو نهجي بهذه الشكاية طيا، حتى أنساه، ولا أعرفه حين أراه، وفراستي في سواه، أصدق من نار الفرس في الصدق، وأبصر في ظلمة الاشتباه من طالع الأفق.(3/338)
وفي فصل منها: وإذا اتفق من المشاكلة ما صدرنا الكتاب به، المماثلة ما قد ائتلفت نفوسنا بسببه - وهي كما قال عليه السلام: " أجناد مجندة " - فمن حقنا أن نأتلف ولا نختلف، ونتعاون أعضاء وآراء، وأقوالا وأفعالا، ونطيب نفوسنا، ونستوي في حسن العشرة أقداما ورؤوسا، فنصرف على الأيام جمال أنبائها، ونرتسم في جريدة وفائها، ونتسربل من الحمد لبوسا، ونقمع من استيلاء الذم معرة وبوسا.
ومن أخرى: من طال - أعزك الله - أمد ارتياده، ودوم به جناح جده واجتهاده، في طلب كريم الأخلاق، ثم قدر له به تلاق، فما أحراه وقد وجده، أن يشد على علق منه يده، حتى إذا اعتمد اختياره، وأحمد في كل الضرائب آثاره، شد عليه بالعشر، وسجد له سجدة الشكر، وصان منه بعد تميمة تاج، وفارج رتاج، فأسكنه في جفن ناظر كريم، وربأ به عن جفن متحذ من الأديم.
وأنت حقيقة ذلك العلق الشريف المشدود عليه، ومجازا شبه العضب المشرفي المشار إليه، من أحرزك أغنيته، أو هزك شفيته، أو استكفاك خطبا مستليما كفيته، ولتناهي ودادي فيك، وتشيعي الشائع لمعاليك، أقتصر معك على لقية في العام، وأعتمدها في سني الإنعام.(3/339)
وفي فصل منها: وإنما يثابر على عمارة ما غرس، ويترجح في الإقامة على ما أسس، من استراب بخبث التربة التي احتلها بغرسه، واختطها لوقاية نفسه، وأما من أحمد ثراه، فقد طابت يقظته وكراه؛ على أن لقاء سيدي ومشافهته، ومحادثته ومفاكهته، كان أحب إلي، وأمتع لمسمعي، وأجلب لقرة عيني، ولكني مشغول بيومي، مدفوع إلى تقويت قومي:
" أحارب خيلا من فوارسها الدهر " ... ولا عدة إلا التجلد والصبر قد عدت أعرى من نواة، وكنت أكسى من قطاة، فإذا لقيت ذا هيئة خجلت خجل بخراء [66 ب] اضطرت إلى سرار، وفوهاء همت بافترار، ووزير بل أمير دفع بعد ركوب الفاره إلى ركوب حمار.
ومن أخرى: ربما كان من الالطاف ما لا سبب له، إلا تنفيق كتب كاسدة، وتسويق سلع فاسدة، لا أن الملطف أحوج بسوء عشرة إلى تقويم، أو غلظ قشرة إلى ترقيق أديم، ولا أن الشيء المهدى يسمن ولا يغني من جوع، فيمنع بالفرح له أو الترح عليه عينا من الهجوع(3/340)
لا هم إلا أن يكون طلوع ذلك الشيء النزر، من ودود بر، أو مودود رفيع القدر، فهو أوفر ما يقني، وأبعد ما يتمنى.
وفي فصل منها: فالمودات، ما خلت من تهاد مكررة، كطبيخ خلا من اللحم يدعى مزورة، والمهدى بين يدي هذه الأحرف عدد كذا من سفرجل، وتصحيفه عندي سفرجل، وإذا سفر عن ثغره جل، فالظفر بطارق الهم مجل، يشبه صور العذارى ضمخت بالعبير، وثديهن بالتقييس والتقدير، كأنما لبست من الحرير سرقا، أو شكت بألوانها وجدا قد برح بها وأرقا، بل كأنما سرقت الثدي طوابع مسك أحم، ضمت عليه جوانحها إذ خافت الذم، أقداح غرب، علت بماء ذهب، طبع من العنبر نواها، وناب عن شذاها الفائح للشرب ساطع شذاها، وربما(3/341)
فضلت شهي التفاح، وفتكت بأدواء المعد فتكة السفاح، وإن فاكهة تشبه الثدي، وتشرك في بعض صفاتها الهدي، لجديرة بأن يحفظها عناقا، ولا يعدل بالواحدة منها عناقا، بل يجعل فدية قضمها أن تشد وثاقا، وتضرب أعناقا. وإن محلك من نفسي لخصيب جناب الصفاء، نقي جلباب الوفاء، فصيح طير الثناء، نصيح جيب الصناعة والولاء، ودادا لا يبلغ مداه، ولا توبس هواجر البعد ثراه، والله يلحفه من التمهيد ظلالا، ويزيد يانع روضة نضرة وجمالا، حتى لا تكرى عيون أزهاره، ولا تعيا ألسنة أطياره، ولا يعرى من ورق عوده، ولا تخشى من حل نظام عقوده.
وفي فصل: وعذب شيم، لو أنطقها الله لقالت: معشر الأنيس على شفا، لن تجدوا في غيري مرتشفا، فردوا نميرا سائغا، وتفيأوا ظلا سابغا.
وغرضت عليه رسالة أبي عمر الباجي وأبي القاسم بن الجد المتقدمين في صفة المطر بعد القحط، فعارضهما برقعة قال فيها:
ولله جلت عظمته أوامر تحيل المنيرة عن طابعها، وتسلب من حصى المعزاء فضل شعاعها، وترد في خلف تمريه حلب ارضاعها، لا(3/342)
تلحق بسوابق الرهان، في ميادين الأذهان، ولا تدرك بقداح القمار، من معليات الأبصار، تطلع المنح من ثنيات المحن، وتخول العاجز الزمن، منفسات الزمن، وقد تذهب بما تهب، وتغير على ما به تغير، حكمة بهرت حقيقتها زواهر الأفكار، وغمرت دقيقتها زواخر بحار الاعتبار، له الخلق والأمر، وبيده النفع والضر؛ وإن أحق النعم بشكر لا تنضب مدوده، وحمد تتجاوز حد المعهود حدوده، نعمى أحيت بالسقيا أرضا مواتا، وأنشرت بدر الحيا أملا رفاتا؛ وقد غبط طير الماء ضباب اليهماء، وحجب كاسف الرجاء نيرات النعماء، وشابت مفارق الرياض، وغاضت مفعمات الحياض، واقشعرت الربى، وحل نبت الحاجر عقد الحبا، وباتت أزهار الغيطان، عليلات الأجفان، تستقي نجوم السماء، وتتوسل بالشبه إلى ذوات الأنواء، فعندما أمست البسيطة على شفا، وأجبل المحتفر ولم يجد مرتشفا، أرسل الله تلك النعمة، بين يدي الرحمة، ريحا لينة هبوب النسيم، في الروض الهشيم، شديدة حفز الغمائم، لتدارك ما في الكمائم، فنسجت بإذنه ملاءها، ورمت أمراسها ودلاءها، فلما لمت قزعها، ووصلت بقدرة الخلاق قطعها، سفحت عيون تلك النجوم، بمكفهر الغيوم، رحمة لعليل النبات، ورقة لأليل المهجات، فنمنم وشي التلاع، بيد لطيفة [67 أ] صناع، ورصع(3/343)
تيجان الأكام، بنطف الغمائم السجام، فاهتزت القطارية لذلك القطار، واشتملت على محسنها من الأوطار، وضحك ثغر الروض بعد عبوس، ونقل إلى سعة الرحمة من ضنك البوس، وسحبت فواهق الأنهار مذانبها، ونشرت عرائس الأزهار ذوائبها، ناظمة من لآلئ الطل عقودها، مالئة لبتها من جوهره الرائق وجيدها، تفوح مجامر أزهارها، وتلوح خفيات خفيات أسرارها، في مرائي أنوارها، فترمي الذاهل برياها، وتحيي النائم وما حياها، مؤذنة بادراكها، على لسان مسكها في ساحة مداكها، وقام من مترنم الأطيار، على منابر الأشجار، خطيب يتلو ما جر من الثناء، على سابغ النعماء، وسائغ رحيق الآلاء. فيا لها نعمة ما أحسن موقعها، ورحمة ما ألطف محلها، من النفوس وموضعها، لقد بردت حر الأكباد، وشفت غليل القلوب الصواد، وفديت بنفائس النفوس والأولاد، نفست خناق الآمال، وحلت عقال الإقبال، وكادت تجري الأرواح في الرمم البوالي والحمد كما لله حض عليه منتهى الحمد، ومبلغ الوسع والجهد، وما لا يحصره العد، وما شاء تعالى من شيء بعد.(3/344)
ووصف له أحد إخوانه امرأة ومدحها وحضه على أن ينكحها، وكان لذلك الصديق امرأة سوادء، فكتب إليه ابن عبد الغفور:
بينما كنت ناظرا في المرآة من شعر أحم، ورأس أجم، لا أخاف معه الذم، إذ تقدم رسولك إلي، يخطب بنت فلان علي، ويرغب منها في سعة مال، وبراعة جمال، ويقسم أنها لبرة بالزوج بالزوج بريكة، لا تحوجه عند النوم إلى أريكة، ولو يسرت - وعياذا بالله - لهذا النكاح، لرزقت قبل الولد منها آلة النطاح، ولا حاجة لي بعد الدعة والسكون، إلى حرب زبون، وقراع بالقرون، ولو حملت إلي تاج كسرى وكنوز قارون. فاطلب لهذه السلعة المباركة مشتريا غيري، ولا تسوقها ولا في النوم على أيري، وابتعها ولو بأرفع الأثمان لنفسك، وأضف عاجها النفيس إلى أبنوس عرسك، ولا عذر لها في النشوز والإعراض، فإنما حسن السواد الحالك بالبياض، والله يمدك بقرنين قبل الحين، ويصنع لك صنعين وبيلين، فيسقطك بهذا النكاح الثاني كما أسقطك بالأول لليدين.(3/345)
ومن أخرى: بلغني من ثناء الوزير الجليل، النقاب العلامة النبيل، سيدي وسيد أهل مصره، بل وقته وأعصار خالية قبل عصره، ما فغم أنوف النجوم، وأرغم معطس حاسدي بمذلة الوجوم، وإنما يثني من رهين شكره، ومعظم شأنه الرفيع وقدره، على سهم ذربه، أو شهم قد دربه، أو تلميذ أدبه وعلمه، فكان له الفضل الأكمل بأن كلمه، فكأنه - أعزه الله، بحكم جلاله - أمير شهد لنفسه فتوقف بين حد القبول، وبين ما في رد شهادته من خوف الخبول، وهبه من كلم مكلوم الهاجس، مكدوم السيات والمعاجس، قد صحت فيه الدعوى لصاحب، ومحت الشبهة في سبقه بأوضح لاحب، أي خلل سد، وأي سلب استرد، لا بل أي خطب درأ، ووطب ملأ -! فإذ قد اعترض على ما قد انحل من الإحسان، مقدور الحرمان، فإذا في حيرتي به حسرتي، وفي الفقرة الطالعة فاقرتي، وفي حطي لها حظي، ولا فائدة لهذه الأسجاع، سوى تحيرك أشجان وتوليد أوجاع، فإن رأى - أعزه الله - أن أنبذها بالعراء، وأطلق منها داعية الضراء، فقد وافق إرادتي، واختار لي أجدى من مكذوب إجادتي، والله يقدر الوزير الجليل - سيدي وسيد أهل عصره - حتى يشكي من شكا، كما لم يزل يرق لمن بكى، ويصيخ للمكروب إذا شكا، بعزته.(3/346)
وكان الوزير أبو الحسين بن سراج قد خاطب بعض أهل العصر برقعة يشفع لرجل يعرف بالزريزير يقول في فصل منها:
كتبت أحرفي هذه، والود صقيل الوذائل، مطلول الخمائل، جميل البكر [67 ب] والأصائل، والله تعالى يزيد أزهاره وضوحا وأطياره صدوحا، وظباءه تيامنا وسنوحا، بمنه.
ويصل به - وصل الله علوك، وكبت عدوك - شخص من الطيور يعرف بالزريزير، أقام لدينا أيام التحسير، وزمان التبلغ بالشكير، فلما وافى ريشه، ونبت بأفراخه عشوشه، أزمع عنا فطوعا، وعلى ذلك الأفق اللدن تدليا ووقوعا، رجاء أن يلقى في تلك البساتين معمرا، وعلى تلك الغصون حبا وثمرا، وأنت بجميل تأتيك، وكرم معاليك تصنع له هنالك وكونا، وتستمع من نغم شكره على ذلك أغاريد ولحونا، دون أن يلتقط في فنائك حبة، أو يسترط من مائك غبة:
وإذا امرؤ أهدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله وانتهت هذه الرقعة إلى الوزير أبي القاسم ابن الجد فعارضها برسالة قال فيها:(3/347)
حسنت لك يا سيدي أبا الحسين ضرائب الأيام، وتشوفت نحوك غرائب الكلام، واهتزت لمكاتبتك أعطاف الأقلام، وجادت على محلك ألطاف الغمام، وأشادت بفضلك ونبلك أصناف الأنام، فإن كان روض العهد - أعزك الله - لم يصبه من تعهدنا طل ولا وابل، ولا سجعت على أيكه ورق الوفاء ولا بلابل، فإن أزهاره على شرب الصفاء نابتة، وأشجاره في ترب الوفاء راسخة ثابتة، وقد آن الآن لعقم شجره أن تطلع من الثمر ألونا، ولعجم طيره أن تسمع من النغم ألحانا، بما سقط إلي، ووقع علي، من طائر شهي الصفير، مبني الاسم على التصغير، فإنه رجع بذكرك حنينا، وابتدع في نوبة شكرك تلحينا، وحرك من شوقي إليك سكونا، ودمث في قلبي لودك وكونا، ثم أسمعني أثناء ترنمه كلاما وصف به نفسه، لو تغنت به الورقاء، لأذنت له العنقاء، أو ناح بمثله الحمام، لبكى لشجوه الغمام، أو سمعه قيس بن عاصم في ناديه، وبين أعاديه، لحل الزمع حباه، واسترد الطرب صباه، فتلقيت فضل صاحبه بالتسليم، واعترفت بسبقه اعتراف الخبير العليم.
وبعد فإني أعود إلى ذكر ذلك الحيوان الغريد، والشطيان المريد فأقول: لئن سمي بالزريزير، لقد صغر للتكبير، كما قيل " حريقيص "، وسقطه(3/348)
يحرق الحرج، و " دويهية " وهي تلتهم الأرواح والمهج؛ ومعلوم أن هذا الطائر الصافر يفوق جميع الطيور في فهم التلقين، وحسن اليقين، فإذا علم الكلام لهج بالتسبيح، ولم ينطلق لسانه بالقبيح، ثم تراه يقوم كالنصيح، ويدعو إلى الخير بلسان فصيح، فمن أحب الاتعاظ، لقي منه قس إياد بعكاظ، أو مال إلى سماع البسيط والنشيد، وجد عنده نخب الموصلي للرشيد، فطورا يبكيك بأشجى من مراثي أربد، وحينا يسليك بأحلى من أغاني معبد، فسبحان من جعله هاديا خطيبا، وشاديا مطربا مطيبا.
ولما طار ببلاد الغرب ووقع، وزقا في أكنافها وصقع، وعاين ما اتفق فيها هذا العام من عدم الزيتون، في تلك البطون والمتون، أزمع عنها فرارا، ولم يجد بها قرارا، لأن هذا الثمر بهذا الأفق هو قوام معاشه، وملاك انتعاشه، إليه يقطع، وعليه يقع، كما يقع على العسل الذباب، وتقطع إلى العراد الضباب، فاستخفه هائج التذكار، نحو تلك الأوكار، حيث يكتسي ريشه حريرا، ويحتشي جوفه بريرا، ويحتسي قراحا(3/349)
نميرا، ويغتدي على رهطه أميرا. فخذه إليك، نازلا لديك، ماثلا بين يديك، يترنم بالثناء، ترنم الذباب في الروضة الغناء، وقد هز قوادم الجناح، لعادة الاستمناح، وحبر من لمع الأسجاع، ما يصلح للانتجاع، واثقا بأن ذلك القطر الناضر ستنفحه حدائقه، ولا تلفحه ودائقه، لا سيما وفضلك دليله إلى ترع رياضه، وفرض حياضه، مع أنه لا يعدم في جنابك حبا نثيرا، وخصبا كثيرا، وعشا وثيرا: [68 أ] :
فإذا ما أراد كنت رشاء ... وإذا ما أراد كنت قليبا والله تعالى يكفيه، فيما ينويه، شر الجوارح، ويقيه شؤم الجابه والبارح، بمنه.
وبعد هذا الهزل العجاب، جد كالظلام المنجاب، وبروز صفحة الشمس من الحجاب، أخطب به من رسائلك بكرا، أجعل نقدها شكرا، وأبذل بها لها من ودي مهرا، وأمتع بها لحظي دهرا، فإن فرجت لحظتي بابا، ووصلت في مواصلتي أسبابا، جددت للعهد شبابا، واستوجب من الحمد محضا لبابا. واقرأ على سيدي سلاما أعطر من مسك دارين، وأكثر من رمل يبرين، يحييه مع العشي شروقا، ومع النجم طروقا، والسلام المعاد الموصول، ما عضدت الفروع الأصول، وألفت الجفون النصول، على سيدي، ورحمة الله.(3/350)
وله من أخرى: إن عجبا بر الوزير بالزعانف والزرازير، وحظره على قلب يكاد من الشوق إليه يطير، ومن الظمأ يتشكى قطعا ويستطير، وإنه مع عرضه على نار الجفاء غدوا، ونبو مضجع الاحتفاء به هدوا، ووصمة التقصير في جزائه، وممارسة، جرع أرزائه واختزائه، إن لهج فبذكره، أو هزج فبأفانين شكره؛ فكيف به لو ضاحك من خفي بره فرض شؤبوب شنان، غمر بذوب عزاليه نوع الإنسان -!
ثم نبدأ من شأن الحيوان بزرزور، لا يعرف حقا من زور، مشهور في الطير بالضرع، كثير العادية قليل الورع، كأنما رهطه عبيد للبلابل، ولغطه وقع الحصى المتقابل، وفي غيره من ذوات الريش، النازحة بكل ضراء وعريش، أنجب منه على اللغن، وأحسن تصريف لسان وذقن، كببغا لا تلعثم في عويص اللغى، وشفنين، يثير اللوعة بالرنين، كأنما عاسرته عند التلقين الراء، وداخله بعد الظفر بها امتراء، فاستظهرها بالنكير، استظهار قين بكير، وبهمة في المصاع بكرير؛ وورق كالقيان، خضبت أرجلها بالعقيان، فوارت لآلئ في الأجياد، وزبرجدا أنعلت به حوافر الأجياد، تستتر بورق الغصون، وتشهر بحرق الوجد(3/351)
المصون، ويصقع مشتاقها كالخطيب، ويقع على قاس من الأيك ورطيب، فيلين لشجوه ويميد، ويكاد يذوب له العميد؛ ورب عصفور، صفر لذات سفور، فحكت نقر الزير، وبعثت العين على الدمع الغزير، وبلبل حرك بلابل واقدات، وشك القلوب بمعابل نافذات، وكائن من غرد، حران قلب أو صرد، يفوت مدى العد، ويملأ ديار معد، ولو تقصينا لما أحصينا، ونضب عد الكلام على ثرارته، وعصب ريق الأقلام على غزارته، فلتسهب بما تشهد لفضله رجاح الألباب، ولتغرب من مدارك ثمره بلباب اللباب، حتى تبر على الغريض، بنسق كالاغريض، وتدل بسر التعريض، على سر الأضرب والأعاريض، على أني قد تحوميت وما نوغيت، أي كأني من الحقارة ألغيت، ولا نعيم لعين الوهم وقد وضحت شاكلة اليقين للمتوهم، وسأطفل على السمع، وأبذل مذخور الدمع، فأبث شجونا، وأنبذ النواة مجونا، فلا أرق البهارة، ولا أخفض الجهارة، ولا أصف أزاهر، ولا أنعت القمر الزاهر، بل أندب ربوعا، وأحرز العمر أسبوعا:(3/352)
وأبكي على فقد الدراهم إذ لها ... أبا قاسم غيري من الناس يكرم وما سلف للأدب مع الذهب إخاء، ولا هاله منه انتخاء، هذا خالد موجود، لا يلحق جوهره بيود، وذلك قد راب منه الشحوب، وأخلق ذيل عمره المسحوب، فيا لمياه أسجاع هذا النقاب تطرد لغير حائم، ولأجناء ثمر منها مع ذوات الثقاب تتهدل على غير طاعم، ولعرائس نورها تضاحك ثغرا عابسا، وتستدر جلمدا يابسا، تبرج وليس من فعل النوار، وتأرج لأنف لا يعرف فضل الصوار، وتعاظم على أكفائها، وتسرع إلى ما دون الحضيض لانكفائها، وحسبك من نهودها ليهودها، وشرودها تعثر في أذيال برودها، فعلة والله ينكرها الشرف، وينبل عنها المنصرف، فلتحدث العلياء منها متاباً، ولتكتف بقرع هذه العصا عتاباً. فشد ما منحت البر عقوقاً، ومنعت التشيع لها حقوقاً.
طالعت - أعزك الله - بهذه الشكاية مستريحاً، ومثلت لها قلباً قريحاً، وهو بحكم جلالها يودعها من الكتمان ضريحاً، ويرضعها من أخلاف التجاوز محضاً صريحاً، فيسره الله لبر حر، وجعله بنجوة من كل ضر.
وله من رقعة شفاعة للزريزير المذكور: لله قطر باهي بك على الأقطار، واستغنى بخضل ظلك عن صوب القطار، أذكر نعيم الجنان بنضرته، وسكن نافر الجنان، بلألاء زهرته، أي محسب أنيس وطير، ومائحٍ(3/353)
من النعم زخارٍ من الخير، وآها لقاطعٍ، قطع به مع الفجر الساطع، وبحي خلص من بحرٍ لجي، فاهتاج طرب الجذل النجي، لهفاً يعثر في البيت على الجني، سبح فقبح للشرب الصبح، وصدح فقدح لهم من نار الغي ما قدح، ولربما نطق بالتوحيد، ويحيد عن سجدة الشكر كل محيد، ويهزج ويسنح، وإلى رهطين من الطير يجنح، مرهوب الصقع في الديار، ومحبوب السجع بأعالي الأشجار، يمتع بشتى أفانين، ويخجل البلابل والشفانين.
وفي فصل منها: حتى اشتد منه الفقار، واسود فرعه والمنقار، ولم يكن به العول افتقار، فنهض وكسب، وأعرب عن نجرته وانتسب، وأخذ بالطباع في التوليد، وصدح غرداً ببيت الوليد، إلا ما غير منه وأحال، ولا يعرف الممكن ولا المحال:
لك الله عشاً ليلاً بأفرخٍ ... بعلياء فرع الأثلة المتهدل فيا للعجب العجيب، ولسان هذا الزرزور النجيب، أنطقه فضل الوزير بلسانٍ، نقله من نوع الزرازير إلى نوع الانسان، فشكر وشعر(3/354)
حتى غلا مرجل أشره استعر، وأخذ عن وكنه في الرحيل، وباع مبرماً من العيش بسحيل، فرشق السماح من جسمه بسهم، وسبق الرياح عن عزمه بمثل الوهم، فما احتل من الجانب الغربي شرقاً، حتى اعتقد إلى الجناب المرضي منصرفاً، وشغل عن النظر في عطفيه، بالنظر في أسرار كفيه، يا له من عازم، خوافي عادت باللائمة على القوادم، يتمنى لغرغرته بالندم، أن يخضب من أوداجه بدم، لأنه سقط من شجر زيتونه، بعقم بطونه، في هذا العام ومنونه، على خاليات من المير، موحشاتٍ مثل جوف العير. ولما نشر جناحاً للإياب وخفت، وتنفس الصعداء والتفت، أشفقت منه لغريب غربيب، وصعدت فيه وصوبت نظر المستثيب، فشفعت له بهذا الكتاب، يقيه من السيد الأوحد حر العتاب، وقد تقلده تميمةً تكفيه اختطاف الجوارح في الهواء، وتثنيه عن إطاعة البوارح في الالتواء، وهو بمجده الصميم، وبره العميم، يشفع ويرفع ويسوغه قراحاً وقرواحاً، ليمرح في هذه مراحاً، وينال من هذه الربى مغدىً ومراحاً، ولو اقتصر من مذنب على مقتضى المتاب، لغني عند سيده عن شفاعة الكتاب.
وفي فصل منها: ولو صرفت فيها الأنفاس كلاماً، والأشجار أقلاماً(3/355)
والبسيطة قرطاسا، والدجنة أنفاسا، لرأيتني مقصرا لم أبلغ ما أريد، وكنت أسأل عونا واستزيد، وبودي لتناهي المحبة والولاء، واعترافي بالأيادي الجسيمة والآلاء، لو أضحي مكان كتابي، فاسعد بالوفود عليه، وأخترم من حيف الزمن الغشوم بالمثول بين يديه، ولكنه قد حيل بين عبده لبائس وبين مراده، وشغل بقوت يومه لنفسه الشقية وأولاده، فتأخر عن حضرته السنية تأخر الكسير، ونظر إلى سنا حوزته البهية نظر الأسير.
وله من أخرى: مثلك من لم يعدل [به] شح التجارة، عن كرم الوزارة، ولا شره المكسب، عن شرف المنتسب، فرأى الخطير بعين نزاهة نفسه حقيرا، والجليل [69 أ] بحكم جلالة منتسبه فتيلا؛ ولم أوقظك بهذا التنبيه من سنة، ولا نفسي عن إباء المنية بالعاجزة الزمنة، وقد أوفيت رسولك الميزان حتى رضي، وإنه لمحض النصيحة فليحظ عندك فيمن حظي، بصرنا الله الرشد فيمن بصره، وحبب إلينا تجنب ما مقته من الشح وحظره.
وفي فصل من أخرى: ورد لسيدي أي كتاب، بل أي قطف من ثمرات الألباب، حيا به على البعاد، وبرد غلة قلوب صواد، فهجرنا له الزلال، وحسبناه السلسبيل الحلال، ودر دره من كاتب أقسم بالطور، لقيد عيني بشطور، تشوقا إلى بهجة تلك السطور، وفيها من شغف بها أقول:(3/356)
سطور أفادت كل خال بوجنة ... كما خطفت منها لماها المباسم سحبت ذيلا على بلاغة سحبان، وسرت ليلا فيا فوح ما بين قرطبة وبينه أن ييبس، لما ناضلت فائز كلمه بمعراض، ولا ضاهيت جواهره الخالدة بأعراض، والله يصله في الأحفاد، ويحرسه في حوادث الآباد، ويعمر ببشره بشرة الجماد، ويعلم به مجاهل الأجياد.
وفي فصل منها: شفع الله تلك الغزوة الميمونة بغزوات، وكتب لنا في ساحات أعدائه عدة مواطئ وعدوات، حتى يحرز أسيرا ذا التاج، ويفرج عن شخصه مغلق الرتاج، ونؤوب بغير رضى الكندي، بل على وصف النابغة سمي الجعدي، راضين عن كل عقيلة، نيرة أسرة القسمات صقيلة، كريمة مثل الديمة، تذري دمعا على الأجفان، وتخفي ترائب كترائب الجفان، صقلت بالنعيم، وصافح عنهن الصفيح كل بطريق زعيم، إن اصطفيت لم تجئ بفسل، وتنجب بإذن الله النسل، كعلي بن الحسين وسالم، والمعتصم المشهور العين في المكارم، وغيرهم(3/357)
من أمير وخليفة، وذي منزلة في الفضل منيفة، ورب فخور مختال، يدفع في هذا ببيت القتال:
- أما الإماء فلا يدعونني ولدا ... إذ ترامى بنو الإموان بالعار وليس كما زعم، من عار، لابس ثوب الكبر المستعار:
لا تزرين بفتى من أن تكون له ... أم من الروم أو سوداء دعجاء
فإنما أمهات الناس أوعية ... مستودعات وللأبناء آباء ما كل الحرائر، ببريات من الجرائر، ولا كل الإماء بمخلات في الانتماء، وإني مع ذلك لأتوفر على الرهط، ولا أرغب في رقي عنه ولا هبط، وأنشد:
إني على شغفي بما في خمرها ... لأعف عما في سراويلاتها والله يصرف المعترضات دون الواجبات، ويسمع عنا الخير في المحيا والممات.(3/358)
وفي فصل: وما زلت معتزيا إلى أدبه ونسبه، منفقا من غرب كلمه الرائق وذهبه، مقرا بفضله، معترفا بتبريز خصله، مرتسما في جريدة من أدبه ودربه، وأرهفه وذربه، ولقنه وعلمه، وكان له الفضل الأكمل بأن كلمه: فليصل مني ولدا ثانيا " وليجبر كسيرا وانيا، وليأس بالكلام العذب، بل اللؤلؤ الرطب، كلما داميا، أصاب والعذار مبقل، وما أجلب والشيب علي مشتمل. وليمن على وليه، وغذي وسميه، برقعة يضمنها وجه الحيلة، في مداخلة تلك الدولة الجليلة، أيد الله سلطانها، ووطد أركانها، ليبني على ما أسس، ويجتني من ثمر النجاح ما رشح وغرس.
وله من أخرى: ما ظنه بعليل ذلة وقلة، وهما أشد مرض وعلة، علم داؤه ودواؤه، وتعذر برؤه وشفاؤه، وقد أوجب النظر الطبي والقياس الصناعي إذا علم الداء ووجد الدواء، ولم تعترض منية أن يكون الشفاء، فهو بحكم وصبه، وتقطع أسباب الفرج به، أنزق من فحل مخفور، أو ذئب محصور، قد ثقل على ذويه، وأبغضه محبه(3/359)
فضلاً عن مجتويه، ولم ألهج بذكر قلةٍ على الإطلاق، ولا خشيت مع القنوع من إملاق، فأنا رأس الأغنياء، وعندي من كيميائه فوق الكيمياء، وفي ذلك قلت: [69ب]
عيرتني بفقار عاطلٍ ... حليت جداً بدمعٍ سجما
بفمي عزة نفسٍ لكتها ... ملأت مني بطناً وفما وجعلت مدة باب صلت بكتبه، ضراً من النظر لقلبه، ولقلبي المنقطع القرين، في حبه، إذ كنت لا أخلي أجوبتها من صحيح الشكاة، ولا أقتصر على ما عنده من سقيم الحكاة، فأكون قد صدعت صميمه بتعديدٍ ألقاه، وبت غريمه بما عسى أن يتكلفه من السعي ويتولاه.
وله من أخرى: جائز ف حكم الثقة بقدر الله أن ترجى الممتنعات، وتترقب بطلوعها الساعات، مع استيلاء اليأس على انفس، كعقد هذا البيع، الذي عقد الصيف بالربيع، فكأنما وقف الزمان فلا جزؤه الواقع وقع، وماضيه انقطع، ومنتظره اطلع، وإنما هو جزء دائم، ونفوس على الورد حوائم، وعهدي بعزة الفقيه مطلع بشائر، فلا يذكر المثل السائر:
وحتى يؤوب القارظان كلاهما ... وينشر في الموتى كليب لوائل(3/360)
وفي فصل من أخرى: سألت الفقيه - أعزه الله - حاجة منذ عامين، وأخرى مذ شهرين، ولم تكونا بكبيرتين، وفي كليهما نفض من ودي اليدين، فليت شعري على أي ود بعد ودي يشدهما، أو إلى أي عقد مثل وثيق عقدي مدهما، تالله ليدفعن من بني الأيام، إلى لئام غر كرام، أغر من السراب، وأغدر من الذئاب، وأعق من الضباب، وأوهى حبلاً من مضمحل الضباب، وسأسأله ثالثةً والثالثة الصادقة، فإن قضاها شكرته ما ذرت شارقة، وإن أباها فخيل عتابي إليه سارية طارقة.
وفي فصل من أخرى: أنا في فرط بري بالوزير الجليل - صنع الله له كل صنع جميل - إذا رماني ببهي شخصه الطريق، عصب من استحيائه بفي الريق، فلم أكد في التسليم عليه أبين، وجعلت معترضات حاجاتي إليه تفرق وتبين، حتى كأني ما بت لها أرقا، ولا طويت بها كشحا محترفا. وكيف لا أستحييه - أعزه الله - وإنما ألقاه باسط راحة، أو سائل إراحة - ولولا بشر له يؤنس، وتهلل من وصمة الود يعصم ويؤيس، لما انبسطت عليه في أمر، ولو مسني مهمه بألذع من جمر، وكنت قد أعددت لسعة كرمه أربع حوائج، ولعلها عند حرصه على الفضل أربع نتائج، سلاهيب او مرابيع، أشباهها للجري ينابيع، ونأمت بعد بهذا المنظوم وجعا، وإن كنت متصرفا لا مضطجعا، ولو سريت من(3/361)
الصحة بدليل، لاهتديت إلى ما يليق بقدره السامي الجليل.
ومن أخرى: فما ظنه بأمد يوم يشيب الوليد، ويستخف الحليم الجليد، ولعمري لئن الوالدان من جهة شيبا، ليردن الشيخ اليفن من أخرى قشيبا.
ومن المنظوم الذي ذكر فيها:
يا حبذا قصد الوزي ... ر وإن تكلف في الهجير
ذكري له ظل يرف ... وبشره ماء نمير
نفسي الفداء لنفسه ... من كل دائرة تدور
شهم حوى قصب العلا ... دون الورى ببها وخير
وأقامها بيراعة ... أمضى من السيف الطرير
يهني الأمير حصوله ... منه على العلق الخطير
فعليه واقية ترد ... قنا اللهاذم تستطير
يا سامياً وهو الصغي ... ر بعزمة الرجل الكبير
مهلاً فضحت معاشراً ... خانوا الأمانة في الدهور
وبنيت ما هدموا فهل ... خجلوا لذلك في القبور(3/362)
وعليك من كلف بما ... يسديه رأيك أو ينير
عدد النجوم تحيةً ... ولربما قل الكثير وله من أخرى: يا سيدي الذي به أفاخر الشرفاء، وأكاثر منهم العدد الجم واللفاء، فمن أنوف تسعط بالرغام، ومن ألوف تسقط كحروف الإدغام، بلغني من ثنائك علي ما به أهرف، وبالتقصير في جميعه أعترف، ما يزيد منه [70أ] النشر على مسك دارين، ويقل عليه الشكر عدد رمل يبرين. لله فضل نزه ذلك المنطق الشرف عن القدح، واستعمله فيما استولى عليه الشح، من التقريظ والمدح، لقد ألبسني من السرور بتكرمه أضفي جلباب، وكاد يطفئ المشيب في تضرمه بكرماء الشباب، لم تدنه الفضائل من الحسد، فشهدنا له فيها بقوة المسد، ولولا أن أكون مادح نفسه لقلت: شتان بين منصف ومتعسف، وطالع من بين الكلام ومنكسف؛ وقد لعمري كنت مضطراً، وكدت أحكم لنفسي على معاصريها طرا، وذلك بحكم معاشرة قوم، يستعذبون في جنب الغص من كلمي مر عض اللوم، أيقاظ هم أم رقود - أم ليس بين الشبه والذهب نقود - فيا مطلعي بقرة عين، لا منصفي لتعين دين، در در علائك حتى تصبح لك الجوزاء داراً، وتسحب بها البدر إزاراً، وتعقد(3/363)
عليك الشمس أزراراً، فتفوق محلاً وتهول مقداراً.
وأنفذته من كتاب، غب قصد الخجل المرتاب، بنفسي فاديته، لينظر حين مشافهته، كيف عمل آلاتها، في شكر موالاتها، فكان من الشقاء، ما تعذر من محبوب اللقاء؛ وحملته المتطبب أبا فلان، كريمة رهطه، النابه الذكر في أعلام سبطه، زعيم يهود، المسود فيهم المسود، بحكم التوقف عن الملة الحنيفية، والتردد في المذاهب الأحبارية، وطويته على كلم جاش به صدر مكلوم، وهاجس بمقارعة أقران الهموم، مصدوع مثلوم، وأريد تحقق كيفية حسنه، بالنظر في مرآة ذهنه الصقيلة، وتعلم كمية وزنه، بسجية إربه الراجحة الثقيلة، فإن كلفت بعد هذا به العيون، ولم يشل منه الجرم الموزون، فبيمن الاقتداء به، والاهتداء بنجم أدبه، لا زال علماً نهتدي بمناره، ونعشو إلى ضوء ناره، والسلام عليه ما تلألأت الفور، وصر العصفور، تحيةً تزاحمها في سمعه تحيات السعود، وتملأ رحب ربعه بإنجاز مودود منها وموعد.
وله من أخرى: أطال الله بقاء الفقيه الجليل ما زخرت أودية الكلام، وانتشرت أردية الغمام، وصرت في القراطيس الأقلام، وسرت إلى النائمين الأحلام، ولو علمت مزيداً له في البقاء، ومحلاً فوق أرفع الكواكب(3/364)
في الارتقاء، سألته ضارعاً إلى الخالق، ولو قرنت الإجابة فيه بالتردي من حالق، بادرت ذلك غير رعديد، وأقدمت منه على الخطب الشديد، والله ينير منار الأيام، وينسخ بإثبات عينه آثار اللثام. وإن العاقل والمتعاقل لينضج بصبابة صبره، حر لاعج الهم المعترض في صدره، فربما أدنى له ذلك نازح منى، وأثمر أحلى من ضرب العسل جنى؛ وقد آثرت هذا النوع من المعاشرة، وانتبذت بحمد الله من كل نزق ومعاسرة، مشبهاً بهما وإن كنت عن توقيهما بمعزل، كما ألفيت الجمجمة البيضاء ثالثة أثافي المنزل، فدعيت أثفيةً، وكم باتت بطارقها المستطعم حفية، فصبرت عن اقتضائه موعوده، وحميت لإرضائه كاذب طيفي المشفق أن يعوده، مبالغةً في أدب لا تنصفه الأيام، ولا تسعفه في أرب وقد جد به الهيام؛ وإني إلى لقائه - أعزه الله - لأشوق من الساجعة، ومن لذات الأرق براحة الهاجعة -! ولو شاء لأغنى بيسر إيماء، وأدال من غلظة الحرة برقة الإماء؛ والآن حين فعم الماء الحوض(3/365)
وغمر الترعة وشمل الروض، ومشيت على قدمي الأميال، ودست والله بهما ماء المنى السيال، وليت ببيعي صيدح، قضى عني ديناً فدح، ولكن شفع خمول العطلة، بخجل الرحلة، فقبض لي إصران، وخصصت بالشقوة من بين الأقران، وقد كان وعد في حالي بجميل نظر، ولما طال علي أمد ذلك الوعد المنتظر، رأيت أن أذكر:
وإني لأدري كيف أرضى وأقتضي ... ولكنه الحرمان يقضي بأن ألحى [70ب]
وأصرف عن وردٍ قد غمر الندى ... خفيف عذارٍ والهبنقة الألحى
ومن عجب أن يقطعا كل نخةٍ ... وأمنع للقرص الذي فاتني الملحا وليس - أعزه الله - قرص بر ولا شعير، فإنه قد يكون مرتع بعير، ومستوقد سعير، إنما عنيت أريضة ضيقةً الساحة، تكاد تشتمل بظل الراحة، وتلغى في كسور المساحة، ضعفت عن عمارتها، وطمس الكلأ عين إمارتها، فلولا ضدها من جنة جارٍ، خبيث الطعمة لئيم النجار، جرى له بالجرأة قدر جارٍ، فمتى صدئت له صفة أرض صقلها، ول اشتكت إليه نبو المنزل لنقلها، لأصبحت هذه اليابسة ضالة أنشدها في القرى، ولو وقع منها اليأس لانقطع مني القرا.(3/366)
كتبت وإنما يكتب الخلي، ولا يحس غير عويله الشجي، ومن لا يملك لجده زماماً، فأحرى بأن تصير يداه الباطشتان أكماماً، وكأني به - أعزه الله - قد قال: بل تنفع الأكمام وتضر، ويطرد بها الحر والقر، وإنما أردت الأهم والأعم، وما ينفي الغم، ويحرز المعنى الأتم، لا قراً صابرته حتى انصرم وتولى، ولا حراً ما أرم عندي ذبابه ولا تغنى، لأنه إنما يألف منازل أهل الترف، ويحوم على ما فيها من صنوف مآكل وضروب طرف، وإما لائك بسباس وحشيش، مؤتدم بزيتٍ مبارك وملح جريش، فما ضجر منها لغددة، ولا جاء نطاسياً شاكياً بردة، فمن حيث صح اعتراضه، لم يحل بإصابة الشاكلة مقراضه؛ وكنت أجدع هذا الماقل لو لم أخف عليه تطويلاً، وإن تطارد لي ما أمل منه شيئاً قليلاً، فسوف أعد في البلغاء، وأحسن سجع ذوات الأطواق بعد الرغاء.
وله من أخرى: بيني وبين الفقيه النبيه - صنع الله له كل ما يشتهيه - ما لا زيادة لتنميق البيان فيه، من ود مضى عليه الأسلاف، ولم يعترض فيه على من تخلفوا بنوعٍ من أنواع التداني خلاف، إذ السبب في فساد أكثر الأشياء دنو وامتزاج، ولم يجن على الصعدة أن تبيت طعمة للنار إلا الزجاج، كبكر الراح، أمنت حولاً مجرماً من عاب التخليل، حتى منيت من الماء الفراح بأشأم خليل، فجرى لها مقدور التلاق، بكراهة(3/367)
مذاق، وشراسة أخلاق، وإنهما بلا مينٍ، لمن عنصرين كريمين، سلالة غمام، وسلافة مدام، وأي شيء اصطحب إلا انتخب -! الراحة - أعزك الله - في الانفراد، ولابد من الإصدار لذوي الإيراد، فاحمد الله على نوع من الوداد، غريب الميلاد، كأنما أصبح حبيساً على الأبناء، واستمر من الوفاء به على مثال حال البناء، فما تغيرت له حركة قط، وأنى ذلك ولا يرفع ولا يحط، بل تجدد نضارته، وتؤكد - وقد أجدب ثرى كل ودٍ - غضارته، فما شئت لروح ذلك العلاء من شذاً ذكي، وعرف من زهر الثناء مسكي، تندى بذكره ألذ الشفاه، وتحترم من الخلوف الأفواه.
ومنهم ذو الوزارتين أبو بكر محمد بن عمار
وكان غربي المطلع، شلبي المقطع، شنبوسي المصيف والمربع، إلا أن(3/368)
شعره غرب وشرق، وأشأم في نغم الحداة وعلى ألسنة الرواة وأعرق؛ لا جرم فإنه كان شاعراً لا يجارى، وساحراً لا يبارى، إذا مدح استنزل العصم، وإن هجا أسمع الصم، وإن تغزل، ولا سيما في المعذرين من الغلمان، أسمع سحراً لا يعرفه البيان، وكيف لا يرغب في شعره، ويتنافس فيما ينفث به من سحره، وهو يضرب في انواع الإبداع بأعلى السهام، ويأخذ من التوليد والاختراع بأوفر الأقسام، وقد أثبت منه في هذا الديوان، ما يشتمل على غرائب الحسن والإحسان، وأدرجت في أثناء مقطوعات أشعاره، نكثاً ولمعاً من نوادر أخباره، وذكرت آخر أمره مع المعتمد ومباشرة قتله [71أ] له بيده، وأجريت شرح صفة الحال، من المبدأ إلى المآل.
وكان قد نشأ والشعر بأفقنا أنفق ما عهدت سوقه، وأعمر ما كانت إلى الجاه والمال طريقه، فاتخذه مدةً صناعته، ثم خلع بعد طاعته، رغبةً عن نحلةٍ سؤددها سؤال، وأجودها كذب ومحال، وكان أبو بكر من نقائذ البوس، ونوافض الجد اليبيس، أحد من امترى أخلاف الحرمان، وقاسى شدائد الزمان، وبات بين الدكة والدكان، واستحلس دهليز فلان وأبي فلان، جرت على رأسه من ذلك أحوال، دلت على أن الدنيا إدبار وإقبال، وأن عيش المرء فيها تهاويل وأهوال.
بلغني عنه أنه لزته إحدى لياليه النكرات، في أيامه المنكرات، إلى انتجاع بعض أعيان شلب، أحد من طرفت عنه أعين النوب(3/369)
وسعد بما كان ابن عمار شقي به من الأدب، فاعتمده بأبيات عملها على سبيلٍ قد تنكرت له وتنكر لها، وبنفسٍ لولا نفاستها لقتلها، واتفق أن قصده بها يومئذ حين جنحت ذكاء، وصبغت الغيطان لونها السماء، ولم يبق من النهار إلا تعلة عليل، وبلغة ابن سبيل، أضيق من عذر الجبان في الفرار، وأقصر مما بين اللحية والعذار، فلما أنشده قطعة شعلاره، وهتك له الحجاب ساعتئذٍ عن وجه عذره، أسر إلى غلامه بكلامٍ قصير، فغاب عنه غير كبير، ثم خرج عليه وفي يده مخلاة شعير،وقال له: خذ ما حضر، وأنت أحق من عذر. فجاشت نفس ابن عمارٍ جيشةً أذهلته عن اسمه، وكادت تسيل عرقاً على جسمه، وهم بصرف نائله النزر إليه، ففكر في مهيرٍ كان يركب عليه، فاحتمل الغضاضة في قبول ذلك النيل، راجعاً بالملامة على هجوم الليل، محتجاً بكل بيتٍ كان حفظه في إيثار الخيل، وقام يخد الأرض برجليه، ويدمي بالعض يديه. فلما صار ابن عمار إلى الحال التي وسوست للعصفور بصيد العقاب، وسولت للكبير ارتجاع الشباب، هجم على منزل ذلك الرجل، وقد صارت إليه أعناق الدول، وغصت الأرض حواليه بالخيل والخول، فقام يفديه بماله، ويحسبه يومئذ خطرةً بباله، أو خلوةً بطيف خياله، فذكره ذلك الزمان، وقرره على ما كان، والرجل يتلاشى بين الوجل والحياء، ويتمنى لو ابتغى نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء، ولم يرمه أبو بكر، حتى أخرج إليه قطعة الشعر، فبرئ إليه ابن عمار من تلك الدنية، وأعطاه مخلاةً مملوءة بدراهم قاسمية، وقال له: لولا حرمتك(3/370)
لأوجعتك أدباً، ولو ملأت تلك أمس برا، لملأت لك اليوم هذه تبراً. فسبحان من لا منازع له في خلقه، ولا اعتراض عليه في قسمة رزقه، له النعمة السابغة، والحجة البالغة.
ثم لحظ ابن عمار الإقبال، وحالت به الحال، وقلد الأعمال السلطانية فأتهم فيها وأنجد، وقام بأعبائها وقعد، ثم لحق آخر عمره، وبين يدي إدبار أمره، بثغر سرقسطة بعد خروجه من مرسية - في خبر سيأتي ذكره - ولم يزل بذلك الثغر يتردد، وفساد حاله عند المعتمد يتزيد، إلى أن كان من خبره ما كان، حسبما يأتي الشرح والتبيان.
وأول تعلقه بالمعتمد كان حين وجهه لحرب شلب أبو المعتضد فنزع ابن عمار إليه، وبلغ من المنزلة لديه، أن غلب عليه؛ وبعد انتباذه شلب، وفراغه من تلك الحرب، صحبه بحضرة إشبيلية، وأحضره معه مجالس أنسه، إلى أن أوجس خيفةً في نفسه من أبيه المعتضد، ففر عن البلد، ولحق بشرق الأندلس، وتمكن بها من المؤتمن يوسف بن أحمد بن هود، فخاطب المعتمد بهذا القصيد الفريد، وقد أثبت أكثره لاشتماله على البدائع، فإنه من كلامه الرائق الرائع، وأوله:(3/371)
علي وإلا ما نياح الحمائم ... وفي وإلا ما بكاء الغمائم
وعني أثار الرعد صرخة طالبٍ ... لثار وهز البرق صفحة صارم
وما لبست زهر النجوم حدادها ... لغيري ولا قامت له في مآثم [71ب]
وهل شققت هوج الرياح جيوبها ... لغيري أو حنت حنين الروائم
خذوا بي إن لم تهدأوا كل سابح ... لريح الصبا في إثره أنف راغم
من العابسات الدهم إلا التفاتةً ... إلى غرة أهدت له ثغر باسم
طوى بي عرض البيد فوق قوائم ... توهمتني منهن فوق قوادم
وخاض بي الظلماء حتى حسبته ... له مربط بين النجوم العواتم
ألا قاتل الله الجياد فإنها ... نأت بي عن أرض العلا والمكارم
أشلب ولا تنساب عبرة مشفق ... وحمص ولا تعتاد زفرة نادم
كساها الحيا برد الشباب فإنها ... " بلاد بها عق الشباب تمائمي "
ذكرت بها عهد الصبا فكأنما ... قدحت بنار الشوق بين الحيازم
ليالي لا ألوي على رشد لائمٍ ... عناني، ولا أثنيه عن غي هائم
أنال سهادي عن جفون نواعس ... وأجني عذابي من غصون نواعم
وليل لنا بالسد بين معاطف ... من النهر ينساب انسياب الأراقم(3/372)
بحيث اتخذنا الروض جاراً تزورنا ... هداياه في أيدي الرياح النواسم
يبلغنا أنفاسه فنردها ... بأعطر أنفاس وأذكى لناسم
تسير إلينا ثم عنا كأنها ... حواسد تمشي بيننا بالنمائم
سقتنا بها الشمس النجوم ومن بدت ... له الشمس في قطع من الليل فاحم
وبتنا بلا واشٍ يحس كأنما ... حللنا مكان السر من صدر كاتم
هو العيش لا ما أشتكيه من السرى ... إلى كل ثغرٍ آهلٍ مثل طاسم
وصحبة قومٍ لم يهذب طباعهم ... لقاء أديب أو نوادر عالم
صعاليك هاموا بالفلا فتدرعوا ... جلود الأفاعي تحت بيض النعائم
ندامى وما غير السيوف أزاهري ... لديهم وما غير الغمود كمائمي يجري ابن عمار في أكثر ما له من الأشعار جري الجموح، ولا يقنع بالكناية عن مذهبه إلا بالتصريح، لأنه كان - سمح الله له - مع مكن في دهره من تدبير الإقليم، أو انبسطت بنانه في التأخير والتقديم، واجترأ على الأيام، واقتاد من الجماهير العظام، زير قيان وغلمان، وصريع راح وريحان، أمله - زعموا - كان بين شرب كاس، وشم آس، وجذله في نصب حبالة، لغزال أو غزالة، ترى ذلك كثيراً في أشعاره، وتسمعه أثناء أخباره، حتى ثل ذلك عرشه، وأوهن بطشه، وطأطأ من سموه، وساقه صاغراً إلى يد عدوه، ألا تراه كلما نظم أو نثر، بالناي(3/373)
والوتر، وتحلى بالحسن والحور، وعاب على أهل سرقسطة وأنكر، من هيئات الثغور ما عرف، ووصفهم بما وصف، كأنه لم يسمع قول الأول:
ومن تكن الحضارة أعجبته ... فأي رجال باديةٍ ترانا ولا قول أبي العلاء:
من كل أروع لم تأشر ضمائره ... للثم خد ولا تقبيل ذي أشر [72أ]
لكن يقبل فوه مسمعي فرسٍ ... مقابل الخلق بين الشمس والقمر إلى غير ذلك مما هو أوضح، من أن يشرح، في أكثر الأشعار؛ وما ينقضي عجبي من ابن عمار أن ينكر تلك الهيئة، على أهل ثغرٍ، أبناء قتلى وبقايا أسر، قلما خلوا من هيعةٍ من النصارى، إذ مسافة ما بينهم أقصر من إبهام الحبارى، وبلدهم مجر عواليهم، وموقد صاليهم، ومخفق أعلامهم، ودرية سهامهم.
وفي هذه القصيدة يقول:
وما حال من خلى بلاد أعارب ... وألقت به الأقدار أرض أعاجم(3/374)
يقبح لي قوم مقامي عندهم ... وقد رسفت رجل السرى في الأداهم
يقولون لي دع أيدي العيس إنها ... تؤدي إلى أيدي الملوك الخضارم
فديتهم لم يبعثوا حرص عاجزٍ ... ولا نبهوا إذ نبهوا طرف نائم
ولكنها الأيام غير حوافلٍ ... بإرب أريب أو حزامة حازم
وإني لأدعو لو دعوت لسامعٍ ... مجيب وأشكو لو شكوت لراحم
أريد حياة البين، والبين قاتلي ... وأرجو انتصار الدهر، والدهر ظالمي
ونبئت إخوان الصفاء تغيروا ... وذموا الرضى من عهدي المتقادم
لقد عبتاو ظلماً على غير عاتبٍ ... عليهم ولاموا ضلةً غير لائم
ولو أن عفواً من هنالك زارني ... لزرت وما عدو الزمان بدائم
أجر ذيول الليل سابغة الدجى ... وأركب ظهر العزم صعب الشكائم
فأورد ودي صافياً كل شامتٍ ... وألبس حمدي ضافياً كل شائم
وأغضي لمن يلقى بوجه مكاره ... حياءً فألقاه بوجه مكارم
وما هو إلا لثم كف محمد ... وتمكين كفي من نواصي المظالم
إن اتفقت لي فالعدو مساعدي ... على كل حال والزمان مسالمي
وأي حياء طيه أي سورةٍ ... كما كمنت في الروض دهم الأرقم وفيها يقول:(3/375)
له هزة في الجود معتضدية ... تهز إلى التشتيت شمل الدراهم
إذا نشرت لخم بذكراه فخرها ... طوت طيء من خجلة ذكر حاتم
أبى أن يراه الله غير مقلد ... حمالة سيف أو حمالة غارم
ومن مثل عباد ومن مثل قومه ... ليوث حروب أو بدور مواسم
ألكني بالتسليم منهم إلى فتى ... تهادى به جرد العتاق الصلادم
إذا ركبوا فانظره أول طاعنٍ ... وإن نزلوا فارصده آخر طاعم
أغر مكين في القلوب محبب ... إليها عظيم في نفوس الأعاظم
تبوأ من لخم وناهيك مقعداً ... مكان رسول الله من آل هاشم
أبا القاسم أقبلها إليك فإنما ... ثناؤك مسكي والقوافي لطائمي
محملة عذراً فإنك جملة ... من الفضل لم أستوفها بتراجم [72ب]
أنا العبد في ثوب الخضوع لو أنني ... أرى البدر تاجي والنجوم خواتمي
وما عز في الدنيا مراد لمجدب ... ولا اعتاص في الآفاق ورد لحائم
ولكن ذاك الظل أندى غضارةً ... لضاحٍ وذاك البرق أشفى لشائم
وإني إذا أنصفت بعدك خادم ... لدهري وكان الدهر عندك خادمي
لعمري لقد أفحمت كل مفاخرٍ ... لما فيك من تلك السجايا الكرائم
نازعه فيك الثناء فينثني ... كأني نازعت الكؤوس منادمي
تراك تنسمت الذي قد أذعته ... فأرضاك أم غابت عليك مقادمي(3/376)
ولا غرو أن حيتك بالطيب روضة ... سمحت لها بالعارض المتراكم قال ابن بسام: أما معاني هذه القصيدة فمحجة مسلوكة، ومضغة ملوكة، قد كثر تجاذب الشعراء أهدابها، وقرعوا بابها، حتى صارت كالجمل المذلل، والمهيع من السبل. فممن سلك من أهل أفقنا هذا السنن، أبو الاصبغ عيسى بن الحسن، من شعر كتب به من سجن ابن أبي عامر، يقول فيه:
وإن سمعت أذناك للورق رنةً ... فحزني يبكيها وفرط تفجعي
وإن هطلت يوماً على الأرض مزنة ... فلي سمحت بالدمع في كل مربع وهو شعر ضعيف، بين التكليف.
وقال يوسف بن هارون الرمادي:
على كمدي تهمي السحاب وتذرف ... ومن شجني تبكي الحمام وتهتف(3/377)
وما أحسن قول أبي الوليد بن زيدون من قصيدة قد تقدمت، أولها:
ألم يأن أن تبكي الغمام على مثلي ... ويطلب ثأري البرق منصلت النصل ولما قتل الوزير الفقيه أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بمدينة الأشبونة، رفع الله منازله، وقتل قاتله، قال بعض أهل العصر فيه يرثيه:
عليك ابن إبراهيم تبكي الغمائم ... وفيك إذا ناحت تنوح الحمائم
فلا يأمنوا رعد السماء وبرقه ... فما هي إلا أنصل وغماغم
وقل لنعش سار شلوك فيه أن ... يرى لبني نعش عليك مآتم
وأن تلبس الزهر النجوم حدادها ... عليك وتبكيك العلا والمكارم
وتنثر الجوزاء من نظم عقدها ... وتسقط من كف الثريا الخواتم وقول ابن عمار: " لريح الصبا في إثره أنف راغم " هو أيضاً من متداولات المعاني، منها قول محمد بن هاني:
وأجل علم البرق فيها أنها ... مرت بحاشيته وهي ظنون وقال المعري:
ولما لم يسابقهن شيءً ... من الأشياء سابقن الظلالا(3/378)
وقوله: " من العابسات الدهم ... " كقول ابن نباتة يصف فرساً أغر محجل الأربع:
وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فخاض في أحشائه على أن ابن الرومي قرب له مرماه، وإن كان في غيره معناه، حيث يقول في صفة الشمول: [73أ]
أخذت من رؤوس قوم كرامٍ ... ثارها عند أرجل الأعلاج وقوله: " تسير إلينا ثم عنا " ... البيت، ينظر من طرف خفي، إلى قول الرضي:
وأمست الريح كالغيرى تجاذبنا ... على الكثيب فضول الريط واللمم والذي عول عليه الرض ي قول ابن المعتز:
والريح تجذب أطراف الرداء كما ... أفضى الشفيق إلى تنبيه وسنان وبهذا ألم ابن نباتة في قوله:
إذا ما الصبح أسفر نبهتني ... جنوب مسها مس الشفيق(3/379)
وقوله: " تمكين كفي من نواصي المظالم " مغتصب من قول أبي الطيب:
كأن رحيلي كان من كف طاهر ... فأثبت كوري في ظهور المواهب
لا تغرنك هذه الأوجه الغر ... فيا رب حيةٍ في رياض وقوله: " إذا ركبوا فانظره أول طاعن " ... البيت، معنى قديم، وأول من أثاره، ورفع مناره، عنترة بقوله:
يخبرك من شهد الوقائع أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم ولما قتل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، عمرو بن ود يوم الأحزاب وسقط وانكشف، قال:
وعففت عن أثوابه ولو أنني ... كنت المقطر بزني أثوابي وقال أبو تمام:(3/380)
إن الأسود أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب وقال المعري:
أدنى الفوارس من يغير لمغنم ... فاجعل مغارك للمكارم تكرم والتناسب في الألفاظ والمعاني حبل يتصل ولا ينفصل، وإنما نلمع منها باليسير اللطيف، وقد اندرج منها جملة وافرة في تضاعيف هذا التصنيف.
وقال ابن عمار من قصيدة في المعتضد عباد أولها:
حبيب برق أم جفاك حبيب ... فليلك فضفاض الرداء رحيب يقول فيها:
إلى الله أشكو أن مالك في دمي ... شريك وما لي في هواك نصيب
أتدرين من كلفت عينيك قتله ... وقلت: فتى لا يستفيد غريب
ستنصره من مهرة الخيل ترتمي ... بأعلام نصر في الوغى وتؤوب
تساموا بلخم فاستهلت سماؤهم ... بغيمين منها ذائب ومذيب
بدور ولكن السماء محارب ... وأسد ولكن العرين حروب
مزحت فإنني يا ابنة القيل لم أكن ... لأفشي سراً ضمنته قلوب
سأشهد قومي أن طرفك من دمي ... بريء وإن كان الفتور يريب(3/381)
وكيف أرى في الغدر نهجاً لسالك ... وعهدي باللك الوفي قريب
فتىً نسخ العذر اقتضاء وفائه ... فلا تحكمي أن الوفاء غريب
أغر ينير الملك منه بكوكبٍ ... له في سماء المشكلات ثقوب [73ب] وله فيه من أخرى:
أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى ... والنجم قد صرف العنان عن السرى
والصبح قد أهدى لنا كافوره ... لما استرد الليل منا العنبرا
والروض كالحسنا كساه زهره ... وشياً وقلده نداه جوهرا
أو كالغلام زها بورد رياضه ... خجلاً وتاه بآسهن معذرا
روض كأن النهر فيه معصم ... صاف أطل على رداء أخضرا
وتهزه ريح الصبا فتظنه ... سيف ابن عباد يبدد عسكرا
عباد المخضر نائل كفه ... والجو قد لبس الرداء الأغبرا
قداح زند المجد لا ينفك من ... نار الوغى إلا إلى نار القرى
يختال أني من ذراه بجنةٍ ... لما سقاني من نداه الكوثرا
وعلمت حقاً أن ربعي مخصب ... لما سألت به الغمام الممطرا
من لا توازنه الجبال إذا احتبى ... من لا تسابقه الرياح إذا جرى(3/382)
ماضٍ وصدر الرمح يكسهم والظبا ... تنبو، وأيدي الخيل تعثر في البرى
لا خلق أقرأ من شفار حسامه ... إن كنت شبهت المواكب أسطرا
السيف أصدق من زياد خطبةً ... في الحرب إن كانت يمينك منبرا
وإليكها كالروض زارته الصبا ... وحنا عليها الطل حتى نورا
تمقتها وشياً بذكرك مذهباً ... وفتقتها مسكاً بحمدك أذفرا
من ذا ينافحني وذكرك مندل ... أوردته من نار فكري مجمرا
فلئن وجدت نسيم حمدي عاطراً ... فلقد وجدت نسيم برك أعطرا قوله: " لا خلق أقرأ من شفار حسامه " ... البيت، كأنه من قول محمد بن هانئ:
ولم أر أنفذ من كتبه ... إذا جعل السيف حيث القلم وذكر أن المعتمد أقام برهة بقرطبة يرفع بعض الأمور السلطانية فسئم طلقه، وتذكر على عادته خلقه، ودعته دواعي نفسه، إلى قينته وكأسه، فاستشار يومئذ ابن عمار، وكان خاطبه في ذلك بشعر، وطن عنده أهبة(3/383)
إذا كانت عليه منه بعض الرقبة، فوجده أهتك ستراً، وأقل عن اللذات صبراً، وأشار عليه بتعطيل الثغر، وإضاعة الأمر، وجاوبه على ذلك بهذه الشعر:
مولاي عندي لما تهوى مساعدةً ... كما تتابع خطف البارق الساري
إن شئت في البحر فاركب ظهر سابحة ... أو شئت في البر فاركب ظهر طيار
حتى تحل وحفظ الله يكلؤنا ... رحاب قصرك واتركني إلى داري
وقبل خلع نجاد السيف فاسع إلى ... ذات الوشاح وخذ للحب بالثار
ضماً ولثماً يغني الحلي بينكما ... كما تجاوب أطيار بسحار [74أ] ومعنى البيت الرابع من هذه القطعة ينظر إلى قول عبد المحسن الصوري وأنشد الأبيات لحسنها:
أفدي الذي زارني بالسيف مشتملاً ... ولحظ عينيه أمضى من مضاربه
فما خلعت نجادي في العناق له ... حتى كساني نجاداً من ذوائبه
وكان أسعدنا في نيل بغيته ... من كان في الحب أشقانا بصاحبه وقال ابن عمار للمعتضد:
الكأس ظامئة إلى يمناكا ... والروض مرتاح إلى لقياكا
والده جارٍ في عنانك لم تقل ... هات المنى إلا أجاب يهاكا
فأدر بآفاق الزجاج كواكباً ... تخذت أكف سقاتها أفلاكا(3/384)
راحاً إذا هب النسيم حسبتها ... مسروقة الأنفاس من رياكا
في مجلسٍ بسط الربيع بساطه ... زهراً ورقرقه عليك أراكاً
سقط الندى فيه سقوط نداكما ... وجلت عليه الشمس مثل سناكا
يسري على ريحانه نفس الصبا ... سحراً فيوهم أنه ذكراكا
رد مورد اللذات عذباً صافياً ... فلقد وردت المجد قبل كذاكا قال ابن بسام وأخبرني الحكيم النديم أبو بكر ابن الاشبيلي، قال: حضرت مجلس أنس مع أبي بكر بن عمار بقصر الرشيد بن المعتمد، فلما دارت الكأس، وتمكن الأنس، وغنيته أصواتاً، وذهب به الطرب كل مذهب، قال ابن عمار ارتجالاً:
ما ضر أن قيل إسحاق وموصله ... ها أنت أنت وذي حمص وإسحاق
أنت الرشيد ودع من قد سمعت به ... وإن تشابه أخلاق وأعراق
لله درك داركها مشعشعةً ... واحفز بساقيك ما قامت بنا ساق وقال في المعتمد في حين نزوله بعض الحصون:
على اليمن والطائر السانح ... نزلت وغيرك للبارح
وما اهتجت إلا وقد هيجتك ... دواعٍ إلى البلد النازحٍ
وإلا فكم خف من خف جهلاً ... فما هز من حلمك الراجح(3/385)
تطلب حقوقك لا لائم ... فقد بين الصبح للامح
ومن يعترضك بأوداجه ... فكله إلى سعدك الذابح
وكم يزجرون وكم ينصحون ... فما يقبلون من الناصح
وما كان أنصفهم لو رموا ... زناد الوغى ليد القادح
ولا عجب لثبوت القلاع ... على بأسك الهادم الناطح
فلولا امتناع الفتاة الكعاب ... لما كملت لذة الناكح [74ب]
خلعت الكرى في طلاب العلا ... على نائم دونها طافح
هنيئاً فأنت مليك الملوك ... فقد صرح الجد للمازج
وما أخرتني عنك النجوم ... يا غرة القمر اللائح
ولا النهر لم يثني عن ورود ... ندى بحرك الزاخر الطافح وهذا البيت الأخير، كأنه إلى بيت المتنبي يشير:
قواصد كافورٍ توارك غيره ... ومن قصد البحر استقل السواقيا وقوله: " ومن يعترضك بأوداجه " من قول الآخر في سعدٍ، حاجب ابن خاقان:
يا حاجب الوزراء إنك عندهم ... سعد ولكن أنت سعد الذابح(3/386)
وفيه أيضاً يقول البحتري:
سماه سعداً للتفاؤل باسمه ... حقاً لقد ألفاه سعد الذابح والمعري القائل ما هو شبيه به، وإن كان في غير مذهبه:
يا سعد أخبية الذين تحملوا ... لما ركبت دعيت سعد المركب وقوله: " زناد الوغى ليد القادح، وقد بين الصبح، للامح " من المثلين المضروبين وهو قولهم: " قد بين الصبح لذي عينين " و " أعط القوس باريها ".
وقوله: " فلولا امتناع الفتاة الكعاب " ... البيت، كقول كشاجم:
لولا اطراد الصيد لم تك لذة ... فتطاردي لي بالوصال قليلا وأصل هذا المعنى المثل السائر: " تمنعي أشهى لك ".(3/387)
ما وجد من شعره في النسيب وما يناسبه
قال في غلام من عبيد ابن هود:
وأحور من ظباء الروم عاط ... بسالفتيه من دمعي فريد
نبيل الخلق جافي الخلق عبد ... هو المولى ونحن له عبيد
بكيت وقد دنا ونأى رضاه ... " قد يبكي من الطرب الجليد "
قسا قلباً وسن عليه درعاً ... فباطنه وظاهره حديد
وإن فتى تملكه بنقدٍ ... وأحرز رقه لفتىً سعيد وسجن المؤتمن يوماً هذا الغلام لبعض الأمر فتخلف ابن عمار عن الركوب للقصر، وكتب إليه:
أنا المطبق المسجون لا من سجنته ... وأطبقته فانظر لعبدك أو دع
حرام حرام أن تراني عين من ... تراه فان شئت ارتجاعي فارجع
ويا حسن حال الود إن سمحت يد ... ولقبت فيها بالشفيع المشفع فضحك المؤتمن وأخرج ذلك الغلام.(3/388)
وساير ابن عمار في بعض الأسفار غلامين من بني جهور، أحدهما أشقر والآخر عذاره أخضر، فكان يميل بحديث من ظهر دابته إلى الذي وصف منهما في هذه القطعة، وهي من ملحه النادرة، وغرائبه السائرة:
تعلقته جهوري النجار ... حلو اللمى جوهري الثنايا
من النفر البيض جروا الزمان ... رقاق الحواشي كرام السجايا [75أ]
ولا غرو أن تغرب الشارقات ... وتبقى محاسنها بالعشايا
ولا وصل إلا جمان الحديث ... نساقطه من ظهور المطايا
شنئت المثلث للزعفران ... وملت إلى خضرة في التفايا ومعنى البيت الثالث منها من مشهور المعاني، ومنها قول الطليق المرواني:
وإذا ما غربت في فمه ... تركت في الخد منه شفقا ومعنى البيت الرابع يشبه قول البحتري، ويتعلق به خبر حكاه الصولي(3/389)
عن يحيى ابنه، قال: لما ابتدأ أبي بعمل قصيدته في أبي الصقر ويهجو أحمد ابن صالح، التي أولها:
أمن أجل أن أقوى الغوير فواسطه ... قلت له: لم ركب هذه القافية الصعبة مع رجل لا حظ لك معه - اركب قافية سهلة، فقال: لعمري إن الكلام في القوافي السهلة أمكن، إلا أن الحاذق لا يعمل إلا جيداً في أي شيء أخذ، ثم رأيته قال في نسيبها:
ولما التقينا واللوى موعد لنا ... تعجب رائي الدر حسناً ولاقطه
فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه فطابت نفسي وقلت: ليقل بعد هذا ما أراد، فقد أجاد وزاد.
وشبيه بهذا قول بعضهم:
كلمتني فقلت: در سقيط ... فتأملت عقدها هل تناثر
وازدهاها تبسم فأرتني ... نظم در من التبسم آخر وقال ابن عمار في مثل ما تقدم من صفته لأهل العذار:(3/390)
وهويته يسقي المدام كأنه ... قمر يدور بكوكب في مجلس
متأرج الحركات تندى ريحه ... كالغصن هزته الصبا بتنفس
يسقي بكأس في أنامل سوسنٍ ... ويدير أخرى من محاجر نرجس
عنا بكأسك قد كفتنا مقلة ... حوراء قائمة بسكر المجلس
يا حامل السيف الطويل المرتدى ... ومصرف الفرس القصير المحبس
إياك إياك الوغى من فارس ... خشن القناع على عذار أملس
جهم وإن حسر اللثام فإنما ... رفع الظلام عن النهار المشمس
سلم فقد قصف القنا غصن النقا ... وسطا بليث الغاب ظبي المكنس ومعنى البيت الرابع منها كقول ذي الوزارتين ابن الحضرمي، في رثاء غلام وسيم وكان اسمه فعال، كان المتوكل يهواه، ومات الغلام فرثاه، فقال:
أودى فعال فلهفي ... له ولهفي عليه
غالته أيدي المنايا ... وكن في مقلتيه
وكان يسقي الندامى ... بطرفه ويديه
غصن ذوى وهلال ... جار الكسوف عليه(3/391)
وقال ابن عمار:
غزا القلوب غزال ... حجت إليه العيون
قد خط في الخد نون ... وآخر الحسن نون وكان له غلام وسيم إليه يميل إليه، فعتب في بعض الأمر عليه، وزال عنه إلى دار الوزير أبي المطرف ابن الدباغ، فشفع له أبو المطرف برقعة وصلها ذلك الغلام، فكتب ابن عمار إلى الوزير المذكور: [75ب]
قرأت كتابك مستشفعاً ... لوجه أبي الحسن من رده
ومن قبل فضي ختم الكتاب ... قرأت الشفاعة في خده وقال من قصيدة:
قالوا: أضر بك الهوى فأجبتهم ... يا حبذاه وحبذا إضراره
قلبي هو اختار السقام لجسمه ... زياً فخلوه وما يختاره
من قد قلبي إذ تثنى قده ... وأقام عذري إذ أطل عذاره
أم من طوى الصبح المنير نقابه ... وأحاط بالليل البهيم خماره منها:(3/392)
عيرتموني بالنحول وإنما ... شرف المهند أن ترق شفاره
فوحسنه لقد ابتديت لوصفه ... بالبخل لولا أن حمصاً داره
بلد متى أذكره تهتج لوعتي ... وإذا قدحت الزند طار شراره ومن مقطوعاته الإخوانيات
اجتاز على بني عبد العزيز ببلنسية، وكانوا يضمرون عداوته، فأخرجوا إليه ضيافات، وتخلفوا عن لقائه، وناب في ذلك عنهم أقوام عوام، فكتب إليهم:
تناهيتم في برنا لو سمحتم ... بوجه صديق في اللقاء وسيم
وسلسلتم راح البشاشة بيننا ... فما ضر لو ساعدتم بنديم
سألتمس العذر الجميل عن العلا ... وأحتال للمجد احتيال كريم
وأثني على روض الطلاقة بالجنى ... وإن لم أفز من طيبه بنسيم
ضننتم بأعلاق الرجال على النوى ... فلم تصلونا منهم بزعيم(3/393)
واستهدى منه بعض إخوانه خمراً، فبعث بها مع تفاحتين ورمانتين وكتب مع ذلك:
خذوها مثل ما استهديتموها ... عروساً لا تزف، إلى اللثام
ودونكم بها ثديي فتاةٍ ... أضفت إليهما خدي غلام وأهدى إلى ذي الوزارتين ابن لبون تفاحاً وإجاصاً، وكتب معهما:
خذها كما سفرت إليك خدود ... أو أوجست في راحتيك نهود
حذراً من التفاح نشراً بينها ... ولها بأغصان الجنان عقود
وشفعت بالإجاص قصداً إنه ... شكل الجمال وحده المحدود
عذراً إليك فإنما هي أوجه ... بيض تقابلها عيون سود
إيه وعندي من فراقك لوعة ... يعزى إليها ثابت ويزيد
أفطرت من صومي بغرتك التي ... كانت هلالاً كان عنه العيد
لله ليلتنا التي من أجلها ... هذا الزمان بمثله محسود وكتب إليه ابن لبون بهذه الأبيات:
ختمت بعصرك أعصر الأجواد ... وعنت لذكرك ألسن الوراد
وسبقت أملاك الزمان إلى مدىً ... ضلوه حتى كنت أنت الهادي(3/394)
وغدوت أكثرهم حسوداً في العلا ... إن الكريم طليبة الحساد [76أ]
وبدا بفضلك نقص كل معاند ... تتبين الأشياء بالأضداد
وأتتك بمغناك العيون فقابلت ... أسد العرين به وبدر النادي
وأتتك وافدة الركاب فقابلت ... أمل الحريص ومنية المرتاد
وصدرن قد حملن عنك عوارفاً ... أصبحن كالأطواق في الأجياد
فضل أرانا جود حاتم طيئٍ ... وفخار كعب في قبيل إياد
إيه أبا بكر أتظلم ساحتي ... ظلماً وصبح العدل عندك بادي
عجباً لوعدك كيف تمسكه يد ... موصولة الأفعال بالأوعاد
ولسيب جودك كيف لم تسمح به ... لصحيح ظني أو صريح ودادي
إني لمعتقد إخاءك موئلي ... وأرى وفاءك معقلي وسنادي
وأصول منك على الزمان بمنصل ... جعل الطلى بدلاً من الأغماد
فسقى ديارك نائياً أو دانياً ... صوب الغمام المستهل الغادي
ولئن رحلت لقد حللت بمنزلٍ ... من نور عيني أو سواد فؤادي فأجابه ابن عمار بهذه القصيدة الفريدة التي برز فيها، وأحسن ما شاء في ألفاظها ومعانيها، وأولها:
عطلت من حلي السروج جيادي ... وسلبت أعناق الرجال صعادي
وثنيت عزمي عن مسير هزني ... سعدي إليه وحثني إسعادي(3/395)
وسللت من ثوب المروة والوفا ... ثوبي وحلت على بني عباد
إن لم أحللك من فؤادي منزلاً ... ينبيك أنك مالك لقيادي
وأخص جانبك الرفيع بخدمةٍ ... أسقيك صفو أحبةٍ وأعاد
وأرد بذكرك من ثاني روضةً ... غناء حالية بنور ودادي
حتى تبين أن غرسك قد دنا ... بجنى وزرعك قد أنى لحصاد قال ابن بسام: وكأن هذه الأقسام التي جرت على لسانه وحلف بها أجيبت عنه، فإنه لم يرجع إلى إشبيلية بعد سفرته تلك لشيء صفا له، ولا رفا لابن عباد ولا وفى له.
وذكرت بهذه الفسام - إذ الشيء بالشيء يذكر، إذا كان من واديه، أو تعلق بألفاظه ومعانيه - خيراً نقلته من خط الوزير أبي عامر ابن مسلمة، في كتابه المترجم ب - " الحديقة " قال: كنا يوماً في مجلس أنس مع أبي جعفر ابن الأبار، فغني بشعر الأشتر في التحريض على معاوية، حيث يقول:
بقيت وفري وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس
إن لم أشن على ابن هند غارةً ... لم تخل يوماً من نهاب نفوس(3/396)
قال أبو عامر: فسألت ابن الأبار الرد عليه، والإنضمام على السلامة من ذكر أحد، حمية للأموة وولاء إلى الحربية، فقال على الارتجال، وقد أخذت منه الجريال:
غادرت عرضي عرضة وأبحته ... وتركت نهب نفائس ونفوس
وقذفت أم المؤمنين تمرداً ... وكفرت من حرب بكل رئيس
إن لم نصبحكم بكل مصممٍ ... وبكل ذمر في اللبوس عبوس
خيل كأمثال الأجادل فوقها ... ليس غطارف غامدون لليس [76ب]
فإذا كسوناكم حداد مآتم ... أبنا بصافية الأديم عروس
نسقيكم خمر الردى بصوارم ... ونعل من خمر المنى بكؤوس قال أبو عامر: وقد سلم ابن الأبار لتلك الطائفة المردود عليها، وتخلص ألطف تخلص، على أن الاشتر ما سلم ولا كرم.
قال ابن بسام: والذي وصف الوزير أبو عامر من الحمية للأموية، وولائه لآل الحربية صحيح، لأن جدهم الأول أبان بن عبيد المعروف بالشرخ مولى لمعاوية بن أبي سفيان، أهدي إليه من سبي البربر، وأبان بن عبيد هو الداخل مع عبد الرحمن بن معاوية، فأنزله بربض الرصافة من حضرة قرطبة، وتلك النزل دور يتوارثها بنو مسلمة من تاريخ دخول عبد الرحمن إلى وقتنا هذا، لها بأيديهم نيف على أربعمائة سنة.(3/397)
وفي هذه القصيدة يقول ابن عمار:
يا سيدي وأنا الذي ناديته ... لرضى فلبى منك خير منادي
أعطاك فضل الإبتداء ولو جرى ... ظلم لأنكر أن تكون البادي
لله در عقيلةٍ أبرزتها ... من خدر فكرك في حلى الإنشاد
فرعاء عاطرة الذوائب واللمى ... غيداء حالية الطلى والهادي
وصلت إليّ مع المساء فعارضت ... صلى الحبيب أتى بلا ميعاد
خط من النظم البديع أفادني ... حظ الكرام وخطة الأمجاد
يفدي الصحيفة ناظري فبياضها ... ببياضه وسوادها بسواد
أهدى تحيتك الزكية طيبها ... كافور قرطاس ومسك مداد
وشي سخت يدك الصناع برقمه ... فكسوتنيه مذهباً بأيادي
ولقد تعين لو أعانت قدرة ... حسن الجزاء بها وهز النادي
لكن عجزت فما استقل بنشأتي ... ماء الفرات ولا ثرى بغداد
عذراً ففيك لكل طالب حجة ... خصم ألد ووجه عذر بادي
بك فاخر القلم القصير فطاول ال ... رمح الطويل كتابةً بطراد
فلك الفصاحة أو لسيفك كلما ... استمطيت متني منبر وجواد
ثنيت عليك حلى الوزارة مثلما ... حمل الحسام عليه ثني نجاد
وتتوجت منك القيادة بالذي ... ترك الرياسة مهنة القواد
أنت الحلال الحلو رق طبيعةً ... وصفا مزاجاً كالسحاب الغادي(3/398)
امن معشر تتشرف الأذوا بهم ... كتشرف الأيام بالأعياد
جلوا فحلوا في الأنام مكانةً ... كمكانة الآلاف في الأعداد
أفديك من حر تعبد بره ... شكري وقل له الفدا والفادي
ولقد ظفرت من اقتبالك بالمنى ... وبلغت أقصى غايتي ومرادي
وأرحت من تعبي بعهدك في ندى ... ظل ونمت على وثير مهاد
وشددت منك يدي بعلق مضنة ... ونفضتها بزعانف أنكاد
يتعللون من الوفاء بعلةٍ ... ضحك الطبيب لها مع العواد
جمحوا إلى ظلمي فسست جماحهم ... ولقيت شدته بلين قياد
واستبطنوا حقداً وبين جوانحي ... طبع يسل سخائم الأحقاد
ولكم دعي في الإخاء أعرته ... جذب ابن سفيان بضبع زياد
حتى إذا رفض الوفاء رفضته ... واعتضت منه بطيب الميلاد
لا ذنب لي في طر سائمة الهوى ... منه على السرح الوبيل الصادي
أنا قد رضيتك فارضني وأعدني ... إن كنت محتاجاً إلى الإعداد
إني لممن إن دعوت لنصرةٍ ... يوماً بساطي حجة وجلاد [77أ]
أذكيت دونك للعدا حدق القنا ... وخصمت عنك بألسن الأغماد
صلني أصلك وصل فديتك بي أصل ... بك واعتمدني اتخذك عمادي
ولئن بدرت إلى رضاي فربما ... وافيتني لرضاك بالمرصاد
وعلى تظاهرنا الضمان بقلة ال ... أعداء ثم بكثرة الحساد(3/399)
إيه وقلت إلى الوفاء محركاً ... إيه فما خطرت بعطف جماد
وزعمت تظلم ساحة ما بيننا ... ظلماً وصبح العدل عندي بادي
كلاً فما التسويف من خلقي ولا ... لي الجميل بعادةٍ من عادي
وهل التوت بهواك إلا لقية ... أحلى لعيني من لذيذ رقاد
أخطرتها وأكر بعد إلى التي ... يدعو المطي لها ويشدو الحادي
لابد من ذاك السفار وإن عدت ... عنه الليالي إنهن عوادي
سفر إذا استبعدته فسأمتطي ... حرصي، وأجعل من ثنائك زادي
خذها نتيجة منكر لودادها ... برم بها قال لها متفادي
حذراً من الرد المخل فإنها ... بعث الزيوف إلى بدي نقاد وكان بينه وبين حسام الدولة أبي مروان بن رزين تمكن أنس، فاتفق أن اجتاز على مقربة من بلده، ولم يلتقيا، فعتب ابن رزين عليه، فكتب ابن عمار إليه:
لقاؤك النجح لو أعقبته سفري ... ووجهك الصبح لو أقبلته نظري
وقصرك البيت لو أني قصدت به ... حجمي ويمناك منه موضع الحجر
لم تثن عنك عناني سلوة خطرت ... على فؤادي ولا سمعي ولا بصري(3/400)
لكن عدتني عنكم خجلة عرضت ... كفاني العذر فيها بيت معتذر
" لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر " وما قيل في العجز عن الشكر، بكثرة البر، أحسن من بيت المعري هذا، وقد تضمنه ابن عمار أحسن تضمين.
ونزل ابن عمار في بعض حركاته بحصن شقورة، وانقبضوا عن لقائه استيحاشا منه، فكتب إليهم:
أإخواننا هل حال من دوننا أمر ... تراءى لكم أم وحشة جرها الدهر
بخلتم بلقيانا وكان نزولنا ... على جفوة منكم وإن عظم البر
وما هو إلا مقطع كهوائكم ... عصيب وخلق مثل منزلكم وعر
ثقوا بي إذا عن اللقاء فما اعتزى ... إلى شيمتي غدر ولا بيدي سحر وكتب منه إلى أبي الفضل بن حسداي يصف حصن شقورة وحصانته:
أدرك أخاك ولو بقافية ... كالطل يوقظ نائم الزهر
فلقد تقاذفت الركاب به ... في غير موماة ولا بحر
طفحت صحابته بلا سنة ... وتمايلت سكرا بلا خمر [77 ب](3/401)
ومنها في صفة الحصن:
وحش تناكرت الوجوه به ... حتى استربت بصفحة البدر
متجبر سال الوقار على ... عطفيه من كبر ومن كبر
عال كأن الجن إذ مردت ... جعلته مرقاة إلى السر وكتب في ذلك إلى ابن المطرز:
تراء لعيني إن أردت مبرتي ... وسبب إلى الحسنى ولو بقسيم
فما شم عرف المسك دون تنشق ... ولا اهتز عطف الغصن دون نسيم وكان في ضيافة المعتصم صاحب المرية، بالمنية الصمادحية، فلما أزمع على الرحيل استسرحه بهذه الأبيات:
يا واثقا وصل السماح الجود في فضل السماح ... ومطابقا يأتي وجوه الجد من طرق المزاح ... أسرفت في بر الضياف فجد قليلا بالسراح ... فأجابه المعتصم:
يا فاضلا في شكره ... أصل المساء مع الصباح
هلا رفقت بمهجتي ... عند التكلم بالسراح
إن السماح بمثلكم ... والله ليس من السماح(3/402)
فلما أزمع على الرحيل، وشرع في سلوك السبيل، وحضر المعتصم لوداعه، أنشده عمار جوابا على أبياته الثلاثة:
ألفظك أم كأس الرحيق المعتق ... وخطك أم روض الربيع المنمق
ونظمك أم سلك من الدر ناصع ... يروق على جيد العروس المطوق
بعثت بها يا قطعة الروض قطعة ... شممت بها عرف النسيم المخلق
ثلاثة أبيات وهيهات إنما ... بعثت بها الجوزاء في صفح مهرق
هي السحر أسرى في النفوس من الهوى ... وكيف يكون السحر في لفظ متق
أمعتصما بالله والحرب ترتمي ... بأبطالها والخيل بالخيل تلتقي
دعتني المطايا للرحيل وإنني ... لأفرق من ذكر النوى والتفرق
وإني إذا غربت عنك فإنما ... جبينك شمسي والمرية مشرقي وكتب إليه المعتصم يوما بنثر وشعر يقول فيه:
وزهدني في الناس معرفتي بهم ... وطول اختباري صاحبا بعد صاحب
فلم ترني الأيام خلا تسرني ... مباديه إلا ساءني في العواقب
ولا قلت أرجوه لدفع ملمة ... من الدهر إلا كان إحدى المصائب فأجابه ابن عمار بقوله:(3/403)
فديتك لا تزهد وثم بقية ... سترغب فيها عند وقع التجارب [78 أ]
وأبق على الخلصان إن لديهم ... على البدء كرات بحسن العواقب
تكنفتني بالنثر عاتبا ... وسقت علي القول من كل جانب
وقد كان لي لو شئت رد وإنما ... أجر لساني ذكر تلك المواهب
ولا بد من شكوى ولو بتنفس ... يسكن من حر الحشا والترائب
كتبت على رسمي وبعد نسيئة ... قرأت جوابي من سطور المواكب
ثلاثة أبيات وهيهات إنما ... بعثت إلى حربي ثلاث كتائب
وكيف يلذ العيش من عتب سيد ... وما لذتي يوما على عتب صاحب
وقبل جرت عن بعض كتبي جفوة ... ألحت على وجهي بغمز الحواجب
سلكت سبيلي للزيارة إثرها ... فقابلت دفعا في صدور الركائب
وما كنت مرتادا ولكن لنفحة ... تعودت من ريحان تلك الضرائب
ولو لمعت لي من سمائك برقة ... ركبت إلى مغناك هوج الجنائب
فقبلت من يمناك أعذب مورد ... وقضيت من لقياك أوكد واجب
وأبت خفيف الظهر إلا من النوى ... وخليت للعافي ثقال الحقائب
سواك يعي قول الوشاة من العدا ... وغيرك يقضي بالظنون الكواذب(3/404)
تلخيص التعريف بآخر أمره وكيفية مقتله
كان حب الرياسة في رأسه يدور، وأما انتزاؤه بمريسة فمشهور، وأفضت الحال بالرشيد هنالك إلى الاعتقال، بأيدي نصارى الإفرنجة، في جملة من المال كانوا أكثروا بها، فحبسوا الرشيد بسببها، إلى أن افتكه أبوه المعتمد في خبر طويل، وابن عمار صاحب ذلك الرعيل، والملوم في المعلوم من أمره والمجهول، وفساد حاله عند المعتمد يتزايد، وتدابره يتساند. وفي أثناء ما وقع من تدبير تلك الأمور، ونجوم ذلك الاستيحاش والتغيير، خاطبه المعتمد عاتبا متمثلا بهذين البيتين، وكان قد خرج عنه:
تغير لي في من تغير حارث ... وكل خليل غيرته الحوادث
أحارث إن شوركت فيك فطالما ... نعمنا وما بيني وبينك ثالث فأجابه ابن عمار بقوله:(3/405)
لك المثل الأعلى وما أنا حارث ... ولا أنا ممن غيرته الحوادث
ولا شاركت الشمس في وإنه ... لينأى بخطتي منك ثان وثالث
فديتك ما للبشر لم يسر برقه ... ولا نفحت تلك السجايا الدمائث
أظن الذي بيني وبينك أذهبت ... حلاوته عني الرجال الأخابث
تنكرت لا أني لفضلك ناكر ... لدي ولا أني لعهدك ناكث
ولكن ظنون ساعدتها نمائم ... كما ساعدت مثنى المثاني المثالث
أبعد مضت خمس وعشرون حجة ... تجافت بنا تلك الخطوب الكواررث [78 ب]
مضت لم ترب مني أمور شوائب ... ولا تليت مني مساع خبائث
حللت يدا بي هكذا وتركتني ... نهابا وللأيام أيد عوابث
وهل أنا إلا عبد طاعتك التي ... إذا مت عنها قام بعدي وارث
أعد نظرا لا توهن الرأي إنه ... قديما نبا هاف وأدرك رائث
ستذكرني إن بان حبلي وأصبحت ... تئن بكفيك الحبال الرثائث
وتطلبني إن غاب للرأي حاضر ... وقد غاب مني للخواطر باعث
أعوذ بعهد نطته بك أن ترى ... تحل عراه العاقدات النوافث قوله: " قديما نبا هاف وأدرك رائث " معنى مشهور، القول فيه كثير، ومن أشهره قول عبيد:(3/406)
قد يدرك المبطئ من حظه ... والخير قد يسبق جهد الحريص وقال القطامي:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل ولما سمعه أعرابي قال: هذا ضبط الناس، هلا قال بعد هذا:
وربما ضر بعض الناس بطئهم ... وكان خيرا لهم لو أنهم عجلوا وفي ثناء تلك الحال، التي أفضت بالرشيد إلى الاعتقال، كتب إلى المعتمد بهذه الأبيات:
أصدق ظني أم أصيخ إلى صبحي ... وأمضي عزيمي أم أعوج مع الركب
إذا انقدت في رأيي مشيت مع الهوى ... وإن أتعقبه نكصت على عقبي
وإني لتثنيني إليك مودة ... يغيرها ما قد تعرض من ذنب
فما أعجب الأيام في ما قضت به ... تريني بعدي عنك آنس من قربي
أخافك للحق الذي لك في دمي ... وأرجوك للحب الذي لك في قلبي وهذا البيت على سهولة مبناه، من أحسن ما قيل في معناه، وبمثله(3/407)
فلتنخدع الألباب، وتستعطف الأعداء للأحباب، إلا أن المصراع الأول كأنه شيء تكهنه من شأنه، وطيرة ألقاها الله تعالى على لسانه، وصدق كان له في عنقه ربق، وفي دمه حق، احتال له فناله، والمرء يعجز لا المحالة. وفيها يقول:
وكم قد فرت يمناك بي من ضريبة ... ولا بد يوما أن يفلل من غربي
ولا بد ما بيني وبينك من ثنا ... يطبقها ما بين شرق إلى غرب
وأعلم أن العفو منك سجية ... فلم يبق إلا أن تخفف من عتب
فلي حسنات لو أمت ببعضها ... إلى الدهر لم يرتع لنائبة سربي فأجابه المعتمد بقوله:
تقدم إلى ما اعتدت عندي من الرحب ... ورد تلقك العتبى حجابا العتب
متى تلقيني تلق الذي قد بلوته ... صفوحا عن الجاني رؤوفا على الصحب
سأوليك مني ما عهدت من الرضى ... وأصفح عما كان إن كان من ذنب
فما أشعر الرحمن قلبي قسوة ... ولا صار نسيان الأذمة من شعبي [79 أ]
تكلفته أبغي به لك سلوة ... فليس يجيد الشعر مشترك اللب(3/408)
فلم يزده جواب المعتمد هذا إلا توحشا ونفارا، وتوقفا عن اللحاق به وازورار، ولله در أبي الطيب في قوله:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى محبيه لقول عداته ... وأصبح في ليل من الشك مظلم ونقله المتنبي من قول أعرابي:
أسأت إلي فاستوحشت مني ... ولو أحسنت ما استبعدت عني
أسأت فساء ظنك بي لجاجا ... وما أولى المسيء بسوء ظن وقول المعتمد: " تكلفته أبغي به لك سلوة "، صدق فيما وصف، وزاد على التكلف.
وقول ابن عمار: " فلي حسنات لو أمت ببعضها، إلى الدهر " مما ردد لفظه ومعناه، وأصله فيما أراه من قول الفيلسوف: " قد تكلمت بكلام لو مدح به الدهر لما دارت علي صروفه "، وأخذه الناجم فقال:
ولي في أحمد أمل بعيد ... ومعنى حين أنشده ظريف
مدائح لو مدحت بها الليالي ... لما دارت علي لها صروف وقال المتنبي:(3/409)
في فيلق من حديد لو رميت به ... صرف الزمان لما دارت دوائره وكانت حال ابن عمار، حين تردد بتلك الأقطار من بلد بني هود، قد تمكن منهم بالمؤتمن، إلا أن بني عبد العزيز كانوا يشرقونه بريقه، ويوعرون عليه السهل من طريقه، ويبلغه عنهم ما تتوقد له ضلوعه، وتنسكب منه دموعه. بلغه عنه وعن ابن طاهر أنهما ندرا فيه بسبب خاتمين كان المؤتمن ختمه بأحدهما، والآخر اذفونش بن فرذلند، فكتب ابن عمار إلى ابن عبد العزيز:
قل للوزير وليس رأي وزير ... أن يتبع التندير بالتندير
إن الوزارة مذ لبست رداءها ... وقف على التغيير والتزوير
وأرى الفكاهة جل ما تأتي به ... رحماك في التعجيز والتصدير
بلغت دعابتك التي أهديتها ... في خاتم التأمين والتأمير
وأظنها للطاهري فإن تكن ... فجديرة التقديس والتطهير(3/410)
فرسا رهان أنتما فتجاريا ... بالقول في التقديم والتأخير
وإذا سلكت سبيله فحقيقة ... كي تتبع التصفير بالتصفير
وأرى بلنسية وأنت قدارها ... سينالها التدمير من تدمير وفي بني عبد العزيز أيضاً يقول مغريا بهم، خاطبا لنفسه، ونحلها ابن المطرز الشاعر:
بشر بلنسية وكانت جنة ... أن قد تدلت في سواء النار
جازوا بني عبد العزيز فإنهم ... جروا إليكم أسوأ الأقدار
ثوروا بهم متأولين وقلدوا ... ملكا يقوم على العدو بثار
هذا محمد أو فهذا أحمد ... وكلاهما أهل لتلك الدار [79 ب]
جاء الوزير بها يكشف ذيله ... عن سوءة سوأى وعار عار
وأوى لينصر من نبا المثوى به ... ودهاه خذلان من الأنصار(3/411)
نكث اليمين وحاد عن سنن التقى ... وقضى على الإقبال بالادبار
ما كنتم إلا كأمة صالح ... فرماكم من طاهر بقدار
هذا وخصكم بأشأم طائر ... ورمى دياركم بألأم جار
بر اليمين ولم يعرض نفسه ... ونفوسكم بمصارع الفجار
لا بد من مسح الجبين فإنما ... لطمته غدرا غير ذات سوار
هيهات يطمع بالنجاة لطالب ... ساع إذا ونت الكواكب سار
كيف التفلت بالخديعة من يدي ... رجل الحقيقة من بني عمار
رجل تطعمه الزمان فجاءه ... طرفين في الإحلاء والامرار
سلس القياد إلى الجميل وإن يهج ... فدع العنان لهبة التيار
طبن بأعراض الأمور مجرب ... فطن لأسرار المكايد دار
ماض إذا برزت إليه مصمم ... حول إذا التفت عليه مدار
ما زال مذ عقدت يداه إزاره ... فسما فأدرك خمسة الأشبار
كشاف مظلمة وسائس أمة ... نفاع أهل زمانه ضرار
عجبا لأشمط راضع ثدي الوغى ... منه، وطود في القنا الخطار
شارب أكواس المدام وتارة ... شراب أكواس الدم الموار
جرار أذيال القنا، ظنوا به ... قد زاركم في الجحفل الجرار
وكأنكم بنجومه ورجومه ... تهوي إليكم من سماء غبار
وأنا النصيح فإن قبلتم فاتركوا ... آثارها خبرا من الأخبار
قوموا إلى الدار الخبيثة فانهبوا ... تلك الذخائر من خبايا الدار(3/412)
وتعوضوا من صفرةٍ خبيثة ... بأغر وضاح الجبين نضار ولما سمع العتمد هذا القصيد، وقرع سمعه فخار ابن عمار، قال هذه الأبيات، وهي من مليح التعريض، ومقلوب التقريض، وأضافها إلى بيت ابن عمار حيث قال عن نفسه:
كيف التفلت بالخديعة من يدي ... رجل الحقيقة من بني عمار فقال المعتمد:
الأكثرين مسوداً ومملكاً ... ومتوجاً في سالف الأعصار
المكثرين من الكباء لنارهم ... لا يوقدون بغيره للساري
والمؤثرين على العيال بزادهم ... والضاربين لهامة الجبار
الناهضين من المهود إلى العلا ... والمنهضين الغار بعد الغار
إن كوثروا كانوا الحصى أو فوخروا ... فمن الأكاسر من بني الأحرار
يضحي مؤملهم يؤمل سيبه ... ويبيت جارهم عزيز الجار
تبكي عليهم شنبوس بعبرةٍ ... كأتيها المتدافع التيار
يبكي بها القصر المنيف تلألأت ... شرفاته في خضرة الأشجار
ما ضاحكته الشمس إلا خلته ... نضحت جوانبه بماء نضار
يا شمس ذاك القصر كيف تخلصت ... فيه اليك طوارق الأقدار [80أ]
لما تنلك شعوب حتى جاوزت ... غلب الرجال وسامي الأسوار
كم كان من أسدٍ هنالك خادرٍ ... لك حارس بأسنة وشفار(3/413)
من قومك الزهر الوجوه إذا الوغى ... كست الوجوه الغر ثوب القار
من كل أشوس خائض في لجةٍ ... نحو الكماة بشعلة من نار
لما نماهم للعلا عمارهم ... تركوا العداة قصيرة الأعمار وشنبوس التي ذكر هي اسم قرية ببادية شلب، كانت مقر سلف ابن عمار.
وقوله: " يا شمس ذاك القصر " كانت والدة ابن عمار - زعموا - تدعى بشمس مصغرة.
فلما بلغ ابن عمار شعر المعتمد هذا، وقد بلغ من التندير فيه الغاية، وتجاوز من الطنز عليه النهاية، فل حد صبره، ولم يشك أنه من شعره، فشاعت في اناس أشعار، عزيت إلى ان عمار، في القدح في المعتمد وآله وذويه وعياله، منها قصيدة أولها:
ألا حي بالغرب حيا حلالا ... أناخوا جمالا وحازوا جالا
وعرج بيومين أم القرى ... ونم فعسى أن تراها خيالا
لتسأل عن ساكنيها الرماد ... ولم تر للنار فيها اشتعالا وبعده ما أضربت عنه، رغبةً بكتابي عن الشين، وبنفسي أن(3/414)
أون أحد الهاجيين، فقد قالوا: الراوية أحد الشاتمين.
وقوله: " وعرج بيومين " هي أيضا اسم قرية بقطر إشبيلية كانت أولية بني عباد منها.
فلم قرعت الأسماع تلك الأشعار، ونسبت لابن عمار، اشتد حنق المعتمد عليه، ونفوذ المقدور يتسبب لموته على يديه، فلم يزل المعتمد يرتصد فيه الغوائل، وينصب له الحبائل، إلى أن لاح لابن عمار عند صاحب شقورة برق خلب، وكان قد تجاوز بطمعه في الرئاسة طمع أشعب، فول للمؤتمن ابن هود امتطاء صهوتها، وسهل له تسم ذروتها، وإنما أراد أن يخدعه كما خدع ان عباد، فدفع في صدره، وحاق به سيء مكره؛ فلما طرق إليه ولحق بحصنه، لم يلبث أن حصل في سجنه، غدراً به، فجعل ابن عمار لاطفه ويسترحم، وينشده الله في حقن الدم، ووعده في نفسه وضمن له أموالاً، فلم يصغ إليه وشد صفاده اعتقالاً، وطير إلى المعتمد بالخبر، واتفق أن اجتاز الوزير أبو جعفر ابن جرج بذلك الأفق، وابن عمار في المطبق، فخاطبه بهذه الأبيات:
كأني أراك أبا جعفر ... تقول وتبسم نحوي مشيرا
سفرت ليرجع هذا معي ... وزيراً فلم أر إلا أسيرا(3/415)
وهل يملك المرء من أمره ... قبيلاً فينفذه أم دبيرا
هو القدر الحتم يعمي الفتى ... وإن كان بالدهر طباً بصيرا واتفق أيضاً وقت القبض عليه يومئذ دخول المعتمد حصن بياسة، وتطارح أهلها عليه، وحصول تلك الجهة في يديه، ورأيت رقعة صدرت عنه في ذلك إلى أحد بينه، وذكر الخائن ابن عمار في فصل منها قال فيه:
كتابي يوم كذا، وفي أمسه ورد كتاب المأمون أخيك من داخل حصن بياسة، وأن أهلها لما بلغهم تأهبي لمحاصرتهم، واحتفالي لمنازلتهم، وعلموا أن تدبيرهم قد اضمحل في أيديهم، وأن صريخهم قد خرس عن إجابة داعيهم، وتيقنوا أني إذا نويت مضيت، وإذا لججت حججت، خامرهم الفزع، وضاق بهم المتسع، ومشى بعضهم إلى بعض يتشاورون كيف المصنع، وأين المنزع، فلم يروا لأنفسهم طريقاً أنجى، ولا مهرباً أجدى [80ب] بالخلاص وأحجى، من الترامي علي، والاستسلام إليّ، فبادروا نحوي رجالاً وركباناً، وتسربوا قبلي زرافات ووحداناً، ولم أرد حضرة قرطبة إلا وقد لحق بها منهم أفواج، وسالت بمن وراءهم أباطح وفجاج، كل يستعطف ويستنزل، ويسأل لمن وراءه عفواً يعم ويشمل، فأقبلت وقبلت، وعذرت واغتفرت، وبالغت في تأنيسهم، وتطبيب نفوسهم، والحمد لله على ما من وتطول، وأنعم وأفضل.
ووافى هذا الصنع الجميل، والفتح الجليل، آخر تقدمه خطا(3/416)
وكان له - ونعم ما كان - فرطاً، وذلك بقبض عتاد الدولة ابي محمد ابن سهيل على الغادر الملحد ابن عمار، قطع الله به وبمن أوى إليه وآل بكل من سعى سعيه او نزع منزعه مآله، بحبائل نصبناها له هنالك حتى علقته، وغوائل أرصدناها حتى أوبقته، وتلك عادة الله الحسنى عندنا، في من غمط نعمتنا ونكث عهدنا، فله الحمد دائباً، والشكر واصباً.
قال ابن بسام: وكان القبض على ابن عمار بشقورة يوم الجمعة لست بقيت لربيع الآخر سنة سبع وسبعين، وورد على المعتمد غير ما خطابٍ في معناه ووجه الشفاعة فيه، وجبر صدعه وتلافيه، فسد بابا الشفاعة في ذلك، وشد صفاده هنالك. وممن كان شفع له يومئذ ذو الوزارتين ابن محقور صاحب شاطبة، بخطاب مشهور معروف، ورأيت عليه الجواب من إنشاء ابي الوليد ابن طريف، قال فيه:
وقفت على الإشارة الموضوعة من قبلك على أخلص وجوه السلامة، المستنام فيها شرف محتدك وصفاء معتقدك أكرم(3/417)
استنامةٍ، في الشفاعة في من أساء لنفسه حظ الاختيار، وسبب لها سبب النكبة والعثار، بغمطه لعظيم النعمة، وقطعه لعلائق العصمة، وتخبطه في سنن غيه واستهدافه، وتجاوزه في ارتكاب الجرائم وإسرافه، حتى لم يدع للصلح موضعاً، وخرق ستر الإبقاء بينه وبين مولى النعمة عنده فلم يترك مرقعاً، وقد كان قبل استشراء دائه، وكشفه لصفحة المعاندة وإبدائه، عذره في جميع جناياته مقبول، وجانب الصفح له معرض مبذول، لكن غيرته الغواية، عن طريق الهداية، فاستمر على ضلاله، وزاغ عن سنن اعتداله، وأظهر المناقضة، وتعرض - بزعمه - إلى المساورة والمعارضة، فلم يزل يريغ الغوائل، وينصب الحبائل، ويركب في العناد أصعب المراكب، ويذهب منه في أوعر المذاهب، حتى علقته تلك الأشراك الني نصبها، وتشبث به مساوئ المقدمات التي جرها وسببها، فذاق وبال فعله {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله} (فاطر: 43) ولم يحصل في الأنشوطة التي تورطها، والمنحسة التي اشتملت عليه وتوسطها، إلا ووجه العفو له قد أظلم، وباب الشفاعة فيه قد أبهم، ومن تأمل أفعاله الذميمة، ومذاهبه اللئيمة، رأى أن الصفح عنه بعيد، والإبقاء عليه داء حاضر عتيد؛ ومثلك في رجاحة ميزانه، ومعرفته بأبناء زمانه، لم يجهل بدأة حاله من القل والضعة، وارتقاءه منها إلى الرفعة والسعة، وإنشائه من ذل الخمول، إلى العز العريض الطويل، وتسويغه عقائل الأموال، وجلائل الأحوال.
وفي فصل منها: ففوق لمناضله الجولة نباله، وأعمال في مكايدتها(3/418)
جهده واحتياله، ثم لم يقتصر على ذلك، بل تجاوزه إلى إطلاق لسانه بالذم الذي صدر عن لؤم نجاره، والطعن الشاهد بخبث طويته وإضماره، ومن جهل مقدار تلك النعمة التي كان سوغها أولاً، أخلق به أن لا يعرف مقدار العفو عنه آخراً، ومن فسد هذا الفساد كيف يرجى استصلاحه - ومن استبطن مثل غله كيف يؤمل فلاحه، ومن لك بسلامة الأديم النغل، وصفاء القلب الدغل -! وعلى ذلك فلا أعتقد عليك [81أ] فيما عرضت به من وجه الشفاعة غير الجميل، ولا أتعدى فيه حسن التأويل، ولو وفدت شفاعتك في غير هذا الأمر الذي سبق فيه السيف العذل، وأبطل غافل الأقدار فيه الألطاف والحيل، لتلقيت بالإجمال، وقوبلت ببالغ المبرة والاهتبال.
ما أخرجته من سري نظمه وجزل مقاله مدة اعتقاله
من ذلك أبيات خاطب بها صاحب المرية يقول فيها:
أصبحت في السوق ينادى على ... رأسي بأنواعٍ من المال
فهل فتىً يبتاعني ماجد ... أخدمه مدة إمهالي
تالله لا جار على نقده ... من ضمني بالثمن الغالي(3/419)
أربح بها مولاي من صفقةٍ ... في سلعة من برك العالي وكتب أيضاً إلى المعتمد:
نفسي نحن إلى فداء ... تفديك نفسي من شراء
فاسبق بنقدك وعدهم ... مسترخصاً لي بالغلاء
ثم امض في على اختيا ... رك من فناءٍ او بقاء
والله ما أدري إذا ... قالوا: غداً يوم اللقاء
ما أقتل الحالين لي ... إن كان خوفي أو حيائي وكتب إليه أيضاً:
سجاياك إن عافيت أندى وأسمح ... وعذرك إن عاقبت أجلى وأوضح
وإن كان بين الخطتين مزية ... فأنت إلى الأدنى من الله أجنح
حنانيك في أخذي برأيك لا تطع ... عداي ولو أثنوا علي وأفصحوا
فإن رجائي أن عندك غير ما ... يخوض عدوي اليوم فيه ويمرح
ولم لا وقد أسلفت وداً وخدمةً ... يكران في ليل الخطايا فيصبح
وهبني قد أعقبت أعمال مفسدٍ ... أما تفسد الأعمال ثمت تصلح(3/420)
أقلني لما بيني وبينك من رضى ... له نحو روح الله باب مفتح
وعف على آثار جرمٍ سلكته ... بهبة رحمى منك تمحو وتصفح
ولا تلتفت رأي الوشاة وقولهم ... فكل إناء بالذي فيه يرشح
سيأتيك في أمري حديث وقد أتى ... برأي بني عبد العزيز موشح
تخيلتهم لا در لله درهم ... أشاروا تجاهي بالشمات وصرحوا
وقالوا: سيجزيه فلان بذنبه ... فقلت: وقد يعفو فلان ويصفح
ألا إن بطشاً للمؤيد يرتمي ... ولكن حلماً للمؤيد يرجح
وماذا عسى الواشون أن يتزيدوا ... سوى أن ذنبي ثابت متصحح
نعم لي ذنب غير أن لحلمه ... صفاةً يزل الذنب عنها فيسفح
سلام عليه كيف دار به الهوى ... إليّ فيدنو أو علي فينزح
ويهنيه إن مت السلو فإنني ... أموت ولي شوق إليه مبرح
وبين ضلوعي من هواه تميمة ... ستنفع لو أن الحمام يجلح(3/421)
قال ابن بسام: بلغني أنه لما وصلت هذه القصيدة إلى المعتمد جعل من بحضرته [81ب] من أعداء ابن عمار ينتقدونه، ويطلبون به عيباً لو يجدونه، فجعلوا يقولون: أي معنى أراد، ما قال شيئاً ولا كاد، فقال لهم المعتمد: مهما سلبه الله من المروة والوفاء، فلم يسلبه الشعر، إنما قلب بيت الهذلي فأحسن، وهو قوله:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمةٍ لا تنفع فسكت القوم في ناديهم، وسقط في أيديهم. فير أن أبا سالم العراقي جعل يتمضغ بقوله: " يكران في ليل الخطايا " وقال: ما معناه - وهلا بدل هذا اللفظ بسواه - فقال له المعتمد، وأراه طنز عليه، وأشار بالتقصير إليه: أبا سالم، أنزله، وإن استطعت بفضلك فأبد له! فأحجم وتلعثم، ولم يتأخر ولا تقدم. وكذلك قوله: " فماذا عسى الواشون أن يتزيدوا "، وهو لفظ المجنون:
وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا ... سوى أن يقولوا إنني لك عاشق وإن كان المعنى مختلفاً فحذو اللفظ واحد.
ولحق بشقورة بعد القبض على ابن عمار يزيد بن المعتمد الملقب بالراضي(3/422)
فكتب إليه ابن عمار:
قالوا أتى الراضي فقلت لعلها ... خلعت عليه من سمات أبيه
فأل جرى فعسى المؤيد واهب ... لي من رضاه ومن أمان أخيه
قالوا نعم، فوضعت خدي في الثرى ... شكراً له وتيمناً ببنيه
يا أيها الراضي وإن لم يلقني ... من صفحة الراضي بما أدريه
هبك احتجبت لوجه عذرٍ بينٍ ... بذل الشفاعة أي عذر فيه
خفف على يدك الكريمة أسطراً ... في من أسرت فتنثني تفديه ثم صدر عن شقورة، وجاء به إلى قرطبة يوم الجمعة السادس من رجب من العام، وقد برز الناس لدخول الراضي، وابن عمار في ذلك الحفل، في قيوده، على دابى هجينة، حاسراً في ثوب خلق بين عدلي تبنٍ، عظةً لمن اعتبر مجاري الليالي والأيام، ولعبها بالأنام، فكم دخل قرطبة قبل في أبهة الرؤساء، يسحب ذيل الكبرياء، فسبحان من يبسط للمحسن والمسيء عدله، ولا تدوم العزة إلا له.
حدثني الوزير أبو عمر الفرضي كاتب حشم المتوكل أنه شهد دخول ابن عمار يومئذ قرطبة، فلم ير زعيماً من زعماء البلد، ولا عظيماً من أهل دولة المعتمد، إلا وهو يمسح عطفه، ويمشي بين يديه أو خلفه، توقعاً(3/423)
لكرته، واستدفاعاً لمضرته، فقد كان أكثرهم لا يشك أن غضب المعتمد عليه، نار يطفئها نظره إليه، وتيار يكفه مثوله بين يديه، فقد كان من قلبه بمكان، ومن إيثار قربه في شان.
وأخبرني الوزير المذكور أن ابن عمار كان يباهي يومئذ بذلته وقلته، عدد آسره الراضي وعدته، ويقاوم بهوانه وامتهانه بأسه وشدته، حتى كأنه أحد خدمه، أو بعض حشمه. قال: وكتب في أثناء ذلك إلى المأمون بهذه القصيدة الفريدة، وهي من حر النظام، وجزل الكلام، وأولها:
هلا سألت شفاعة المأمون ... أو قلت ما في نفسه يكفيني
ما ضر لو نبهته بتحيةٍ ... يسري النسيم بها على دارين
وهززت منه فقد يقلب سيفه ... يوم الجلاد الحين بعد الحين [82أ]
ما لي أنبه ناظراً لم يغف عن ... حظيه من دنيا ولا من دين
وأهز من عطفٍ ثناه عطفه ... حتى خشيت عليه فرط اللين
بيدي من المأمون أوثق عصمةٍ ... لو أن أمري في يد المأمون
أمري إلى مولى إليه أمره ... وكفاك من فوق كفاك ودون
حيث استوى الخصمان حقاً والتقى ... عز الغني بذلة المسكين
ملك طوى سر المهابة شخصه ... لولا أسرة وجهه الميمون(3/424)
جبل سما بذوائبه إلى العلا ... ورسا بهضبته على التمكين
متوقد الجنبات كلل دوحه ... بجنى وفجر صفحه بعيون
ذلت لأيدي المجتنين قطوفه ... ودنا إليهم من ظلال غصون
ونأى لأبصار العصاة فإنما ... يتوهمون نعيمه بظنون
بحر إذا ركب العفاة سكونه ... وهب الغنى في عزةٍ وسكون
وإذا طمى للذنب لم يسمع به ... إلا الدعاء يعان بالتأمين
كم أسكب العذب الفرات على فمي ... ورمى يدي باللؤلؤ المكنون
واليوم قد أصبحت في غمراته ... إن لم تغثني رحمة تنجيني
بعدت سواحله علي وأدركت ... أمواجه فتلاعبت بسفيني
لا شك في أني غريق عبابه ... إن لم يمد الفتح لي بيمين
يا فتح جردها عناية فارسٍ ... بطلٍ على حرب الولي أمين
متقدم من جده بكتيبة ... مستظهر من لفظه بمكين
واقرن شفاعتك الكريمة عنده ... بتواضعٍ عن عزةٍ لا هون
في شكة من هيبة وسكينةٍ ... وبضجةٍ من رحمةٍ وحنين
فأبوك من تغشى الملوك بساطه ... شوساً فما يرمونه بعيون
ما يعرض الجبار منه لحاجةٍ ... إلا برفع يدٍ ووضع جبين
يا فتح إن نازلته مستنزلاً ... فاهنأ بفتح من رضاه مبين(3/425)
وليخلصن إليك من أعلاقه ... علق يشد عليك كف ضنين وكان قد كتب أيضاً يومئذ إلى الرشيد بهذا القصيد، وهو من قصائده الحرة وقلائده المبرة:
قل لبرق الغمام مطو البريد ... قاصداً بالسلام قصر الرشيد
فتقلب في جوه كفؤادي ... وتناثر في صحنه كالفريد
وانجذب في صلاصل الرعد تحكي ... ضجتي في سلاسلي وقيودي
فجزاك الإله من ملكٍ حر ... بقاء التمكين والتمهيد
من مطيع عهد الوفاء مطاعٍ ... وودودٍ على النوى مودود [82ب]
كنت أشدو عليك يا دوحة المج ... د ويا روضة الندى والجود
إذ جناحي ندٍ بظلك طلق ... ولساني رطب على التغريد
وأنا اليوم تحت ظل عقابٍ ... لقوة مخوت الجناح صيود(3/426)
أتقيها بناظرٍ خافق اللح ... ظ مروعٍ وخاطر مزؤود
غير أني سأصطفي لم جهدي ... من ثنا طيبٍ وذكرٍ حميد
في قليل من القوافي كثيرٍ ... وذلول من المعاني شرود
كلماتٍ كأنها الدر نظماً ... طوقت منك أي طوق وجيد
أنت بدر النجوم تحت سنا الشم ... س أتتكم على سماء السعود
أنت ريحانة العلا لبني عبا ... د السادة الكرام الصيد
أنت إما اعترضتم درة التا ... ج فرند الحسام وسطى الفريد
وإذا ما مدحتم نكتة الخط ... بة فص الحديث بيت القصيد
وإذا ما ركبتم الخيل صدر الجي ... ش عين اللواء قلب الحديد
أنت فيهم إن يعتموا ليلة القدر ... وإذ يصبحون يوم العيد
فهنيئاً أبا الحسين خلال ... وصفات جلت عن التحديد
وشفوف على الجميع بسن ... وسناء إلى سنا ممدود
وهنيئاً من المؤيد حظ ... لا مزيد عليه للمستزيد
لك في نفسه العزيزة حب ... شاب فيه حلاوة التوحيد
وعلى لحظه النزيه طلوع ... كطلوع البشير بالتأييد
وإذا ما شدا بذكرك شادٍ ... قال أحسنت هزة المستعيد
فعلام السرى بصبح رضاه ... مع سنا وجهك الأغر السعيد
وإلى أين في الشفيع إذا ما ... لم ألذ منك عنده بالرشيد
بفتىً نازح المكان مطلٍ ... غائب الشخص ذي اعتناء عتيد(3/427)
مشفقٍ يستجيب لي من قريبٍ ... وأنا أستغيثه من بعيد
لو أطلت علي رحمة عيني ... هـ انجلت شدتي وذاب حديدي قال ابن بسام: فصدرت هذه الأشعار، يومئذ عن ابن عمار، وهو في قيود الحديد، وقالها على البديه والارتجال، في تلك الحال، من شدة الاعتقال، وبالٍ يناجيه البلبال، قد تيقن أنه لا يفلت، ولا ينظر إلا إلى عدو يشمت، والموت يلاحظه من حيث لا يلتفت، إذ كان المعتمد قد أحضره في تلك الحال غير ما مرة بين يديه، ويعدد ذنوبه عليه، ولو قال كل قصيد ورواه حولاً كاملاً، في أكن ودعة، وفرط شهوة أو شدة حمية وعصبية، لما زاد على ما أجاد، فكانت هذه القصائد القلائد، مع ما تشتمل من البدائع الروائع، رقىً لم تنفع، ووسائل لم تنجع، وإذا سبق القدر، فلا ورد ولا صدر. [83أ] .
أخبرت عمن صحب الراضي في وجهته يومئذ من شقورة وكان ممن رقب على ابن عمار، فجعل يكلأوه في طريقه، خوفاً على نفسه ومراعاةً أيضاً لسالف حقوقه، فلما انتهى إلى قرطبة وسلم للقصر، دعي ذلك الرجل مع أصحابه بعد العصر، في سلاح شاكٍ وتعبئة ظاهرة ليصحبوه إلى إشبيلية، فبينما هم عند باب السدة ينتظرون إلى أن يسلم إليهم ابن عمار، وقد انسلخ النهار، إذ أوجسوا نبأةً، فإذا المعتمد قد خرج والشمع بين يديه(3/428)
وخدمه حواليه، وابن عمار بينهن على بغلٍ يهزأن به ويتضاحكن، فأعربت حاله يومئذٍ بمباديها، على سوء العاقبة فيها.
وحدثني أبو بكر الخولاني المنجم قال: لما وصل المعتمد إلى إشبيلية من وجهته تلك، سجن ابن عمار داخل القصر على قرب منه، وأحضره مراراً بين يديه، يعدد ذنوبه عليه، فبقي مدةً كذلك، في سجنه هنالك، لا يتنفس ولا يتحرك إلا تحت سمعٍ وعينٍ، فاستدعى يوماً سحاءة ودواةً فبعث إليه بزوجٍ كاغدٍ، فكتب إلى المعتمد شعراً استرحمه فيه، فعطف عليه، وأحضره ليلته تلك، ووعده بالعفو عنه، فخاطب ابن عمار من حينه الرشيد بذلك، فلمح تلك المخاطبة عيسى بن الأعلم وزيره يومئذ، فتحدث بالأمر، وذاع السر، وانتهى الخبر إلى الوزير أبي بكر بن زيدون صاحب الدولة وقته، وعداوته لابن عمار أوضح من أن تشرح، فدمغته من ذلك دامغة، وبات بليلة النابغة، وتخلف عن الركوب إلى القصر صبيحة الغد، حتى ورده رسول المعتمد، وحدس أن مجلس سره مع ابن عمار وصل إليه، واستفهمه فوجد نص المجلس عنده(3/429)
فازداد حنقاً على ابن عمار الحائن، وحرك ضغنه الساكن، فقال لأحد الصقالب: سل ابن عمار كيف وجد السبيل، مع عظيم الترقيب، إلى إفشاء ما أخذت معه فيه، فلما سأله أنكر، قال المعتمد: فما أراد بالكاغد الذي طلب - قال: إنه أخبر أنه كتب إليك فيه بشعر، قال: هو في ورقة مفردة، فما فعل بالأخرى من الزوج الكاغد المبعوث به إليه - قال: كتب مسودة ذلك الشعر، قال المعتمد: خذها منه لأقف على ذلك؛ فلما لم يجد بداً من النطق بالصدق، رجع إلى الحق، وقال: إني خاطبت الرشيد بما وعدني به مولانا من العفو، فاتقد المعتمد، وقام من فوره كما كان، وأخذ طبرزيناً، وجاء إلى موضع ابن عمار الذي كان فيه مسجوناً، ودخل إليه، ففزع - كما كان في قيوده - إلى تقبيل رجليه، فضربه به، ثم أمر بأن يم عليه، وأخرج ووري في قيوده، خارج باب القصر المبارك المعروف في إشبيلية بباب النخيل، فمضى رحمه الله على هذا السبيل. واتفق بأن وقع حفر بموضع رمسه من ذلك المكان، لبنيان عرض فيه بعد نيف على عشرين سنة من مقتله، فأخبرني من شهد إخراج جمجمته وأعظم ساقيه بكبله وهي رميم، " وعند الله تجتمع الخصوم ". وما وقفت في(3/430)
تأبين ابن عمار على شعر لأحدٍ من أهل العصر، غير بيت مفردٍ شهد أن المعتمد باشر قتله بيده، وهو لعبد الجليل حيث يقول:
عجباً لمن أبكيه ملء مدامعي ... وأقول لا شلت يمين القاتل وكان عبد الجليل متعصباً لابن عمار، مائلاً إليه بطبعه، إذ كان الذي جذب بضبعه، ونوه بذكره، ونفق من شعره، وعرفه بالمعتمد حتى استخلصه لنفسه، وأحضره مجالس أنسه.
ويتعلق بهذا القتل الشنيع، خبر غيب المسموع، في ذلك الأوان، وحديث ظريف من الحدثان، أخبرت به عن غير واحد من وزراء المعتمد، وذلك أنه لما مضت لقتل ابن عمار أيام،، حضروا مع المعتمد في مجلس أنس، فلما طابت الأنفس، وأخذت [83ب] منهم حميا الأكؤس، وارتاح المعتمد وهز عطفه، وبدا على قسماته عطفه، سئل عن هذا الخبر المستظرف، الذي كانوا سمعوه من بعض السلف، وأقسموا عليه بتخليد ملكه في أن يحدثهم بحديثٍ كان إليه ينسب، وقالوا: هو من فم مولانا أطيب، فقال لهم كلاماً معناه لعل هذا الاستخبار عن شأن ابن عمار، قالوا: أجل، وطفقوا يفدونه بالأنس، وأكثروا في وداده من شربٍ الأكؤس، فأخبرهم أنه كان أيام مقامه بشلب، قد غلب ابن عمار على نفسه، وأخذ بمجامع أنسه، فأمره وأخذ عليه - إذا دعا أصحابه - أن يكون أول داخلٍ وآخر خارج، ليانس به ويتمتع بأدبه، فيجده ينفر(3/431)
نفار الشارد، ويتسلل من مجلسه تسلل الطريدة من يد الصائد؛ فلما أبى إلا اطراداً عن أصله، وطال ذلك عليه من فعله، تقدم إلى أصحاب سدته ليلة في ترقبه من مذهبه، وأنذر وتهدد، وأقام في ذلك وأقعد، وقام ابن عمار كعادته، فلم يحفل المعتمد ليلته بمكانه، لما كان قدم في شانه؛ فلما انفض من كان عنده، التمسه ففقده، وطلبه منتهى جهده فما وجده، وأحضر من كان أوصى فيه إليه، فأخبر أنه لم تقع له عين عليه، فرابه أمره، وخفي عنه سره، فشهر فيما بلغني سيفه وأخذ الشمع بين يديه وجعل يطلبه حيث يحسبه ولا يحسبه، فلما انتهى إلى بعض الدهاليز إذا بحصير مطوي، وابن عمار فيه أغمض من سرٍ خفي، عريان كالأفعوان، فأمر بحمله، وهو قد تعجب من فعله، فلما استقر بالمعتمد المجلس، جعل يبسط جانب ابن عمار ويؤنس، وابن عمار يبكي فيضحك، ويشكو فيشكك، فلما سكن قليلاً، وأفرخ روعه، ورقأ دمعه، سأله عن شأنه فأخبر أنه كلما كانت تأخذ منه الشمول سمع كأن قائلاً يقول: يا مسكين، هذا يقتلك ولو بعد حين، كلاماً هذا معناه، فلا يزال يطلب الأنس بوسعه فيبعد عليه ذلك ويمتنع، حتى يصنع ما يصنع، إلى أن كان له معه الذي قدر.
ومن مقاله في أثناء اعتقاله هذه القطعة البديعة:
يقول قوم إن المؤيد قد ... أحال في فديتي على نقده(3/432)
يا قوم ماذا الشراء ثانيةً ... ترى لمعنى يريب من عنده -!
أوحشني والسماح عادته ... سماحه بالغلاء في عبده
الحمد لله إن يكن حرجاً ... فليس في مثله سوى حمده
وحيلة إن وصلت حضرته ... جعلتها رغبةً إلى جنده
لو سامحوا في الفرند أرمقه ... من طرفه لم أخفه من غمده
يا رب بشر برحمةٍ وحياً ... يؤنس من برقه ومن رعده ومنهم الوزير الكاتب أبو الوليد حسان بن المصيصي
وهو أيضاً من شلب، ومن ذلك الأفق طلعت نجوم الكلام، فأضاءت البلاد، ونشأت غيوم النثار والنظام، فطبقت الهضاب والوهاد؛ إلا أن حساناً هذا وصاحبيه أبوي بكر: ابن عمار وابن الملح كانوا هنالك رؤساء الأمة، ورؤوس إجماع الأئمة، ونجمت دولة المعتمد ابن عباد بتلك البلاد وهم أغصان دوحةٍ، وأخدان غدوةٍ إلى طلب العلم وروحةٍ، يتدارسون(3/433)
آياته، ويتبارون إلى أبعد غاياته، ولكل دليل في السنا مشتهر، وسبيل إلى العلياء مختصر. ونهض تصريف المقدار منهم بابن عمار، فشب عن طوفه، بالحمل وأوقه، وبلغ المبلغ الذي استغنى باشتهاره عن تكراره، وتبعه هذان في الانقطاع إلى الدولة، يحسبان كل بيضاء شحمة، ويتخيلان كل ضوء نجمة، ولله في بريته أقدار يمضيها، ومن مشيئته أسرار يتفرد بها فيخفيها؛ فلم يحصلا إلا على لبس ما خلع [84أ] والارتسام حيث أشار ووضع؛ فأما ابن الملح فإنه نفر نفرة الأنف، وفر فرار الحنق الأسف، مؤثراً للانزواء، على الاستخذاء، مكتفياً بالدون، من التصرف على الهون، وكانت له خلال ذلك مدائح يهديها، ورحل إلى الحضرة يحمل على نفسه الأبية فيها، فيطرأ جديداً، ويصادف عهداً بها بعيداً، فيؤوب ضخم العياب، محمود المقام والإياب. وأما حسان هذا فصدق الحملة، ولزم الجملة، مغتبطاً بما خول، جاعلاً نفسه حيث جعل، ورضي من ابن عمار بوطء عقبه، ولزوم مركبه، وابن عمار يرعاه لمكانه، ويخاف انتباه المعتمد لشانه، حتى زاحمه أخيراً بالأديب أبي محمد عبد الجليل، فأقرا له بالفرق، وأخذ منهما جميعاً قصبات السبق. وكان ابن عمار بعد ذلك كله(3/434)
كلما مر ذكر عبد الجليل ألقى بيديه، وشهد له بالفضل عليه، وليست الحظوظ بالأقدار، ولا الأمور على الاختيار، ولما أنشأ المعتمد لابنه الفتح، دولته بقرطبة المتقدمة الشرح، أصحبه حساناً هذا كاتب سره، وصاحب أكثر أمره. وقد أخذت من شعره أعدل شاهدٍ على ما أجريت من ذكره.
جملة من شعره في المدح وما يتصل به
له من قصيدة أولها:
أضاء بك الأفق الذي كان أظلما ... وقد لحت في الإكليل بدراً متمما
على أي وجهٍ لم يشعشع طلاقةً ... وفي أي ثغرٍ لم ينور تبسما
وقد صغت من ذاك المحيا وحسنه ... صباحاً ومن تلك الخلائق أنجما
إذا غبت عن ارضٍ تمثل أهلها ... " عسى وطن يدنو بهم ولعلما " ومنها:
ألا قل لأرباب المخائض أهملوا ... فظل ابن عباد عليهن أينما
فهل تقتدي الأعلام فيك بحارها ... لتحظى بعقد السلم منك فتسلما
مع الله يمضو إن مضوا مع غيره ... ولله أحرى أن يفل ويغنما
ولدت مع الإقدام في ساعةٍ معاً ... ففداك في الهيجاء كونك توأما(3/435)
ولله عادات لديك جميلة ... يفيدك أرياً حيث تحسب علقما
ولو جبلي طي رميت بفرقةٍ ... لجاء أجا سلمى إليك مسلما
لذاك ابن عمار ثنى اذفونش طائعاً ... بسعدك حتى لو أمرت لأسلما
ولم يبق رومياً بفضلك مشركا ... وإن أشركوا بالله عيسى بن مريما
تفاءلت باسم الفتح لما لقيته ... لتفتح أمراً خاله الناس مبهما
تلاقيتما للسعد بدراً وكوكباً ... أباً لا يبارى في المكارم وابنما ومنها:
أراه وأرجوه وأنشر فضله ... فيملأ مني العين والكف والفما ومعنى هذا البيت الأخير كقول ابن شرف:
سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل وغلى هذا المعنى أيضاً ينظر قول الحسن على رأي بعض من فسر وهو:
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر ... وقوله: " ولم يبق رومياً بفضلك مشركاً " كقول محمد بن هانئ:(3/436)
لم يشركوا في أنه خير الورى ... ولذي البرية عندهم شركاء [84ب] وله من أخرى فيه، أولها:
من استطال بغير السيف لم يطل ... ولم يخب من نجاح سائل الأسل
أعدتك صحبتك الأرماح شيمتها ... فانفذ نفوذ القنا في الأمر واعتدل
وإن أتتك أمور لم تعد لها ... فانهض برأيك بين الريث والعجل
أقدم على عجل وارغب على زهد ... واغلظ على رقة واسفر على خجل
حاز المؤيد مما قلت أفضله ... وزاد للفرق بين القول والعمل وهذا البيت الأخير مما بعد شأوه، وفات سروره، وتجاوز أكثر الحد عفوه.
ملك تواصله الدنيا ويهجرها ... سراً ويلبس تقوى الله في الحلل
لا تحمدن زهد من لم يعط رغبته ... لعلة غض من جفنيه ذو الحول
وكم له سنة ضاء الزمان بها ... ضوءاً بلا لهب كالشمس في الطفل
تعطي الهواء ومتن الأرض غرته ... نوراً ونوراً عطاء الشمس في الحمل وهذا البيت لحسان من حسنات شعره، وأبين آيات ذكره، فيه توليد، شهد أنه شاعر مجيد:(3/437)
تنهاه عفته عن أمر بطشته ... فالمشرتي عنده قاضٍ على زحل وهذا البيت أيضاً من مليح المنظوم، وله اختصاص حسن بأحكام النجوم؛ ومنها:
يطوي على نور إيمان جوانحه ... فالنفس من كوكب والجسم من رجل
لم يعق يوماً ولا احلولى لمسترطٍ ... وإنما هو بين الصاب والعسل
جر الذيول ولكن من جحافله ... على القتاد ولكن من شبا الأسل وهذا البيت أيضاً مما برز في لفظه ومعناه، وأراده كثير من الشعراء فأعياه:
فلم يطأ غير ما تحكي شمائله ... مع الجزالة من سهلٍ ومن جبل
جلالة أدخلت أملاك أندلس ... تحت الخناعة والإحجام والفشل
كأن ملكك أسنى من ممالكهم ... وأن دولتك العليا على الدول
لما دعا الغادر المضعوف قال له ... أخوه عنك: أخي لا تبك في طلل
صفحت عنه لآمال له سلفت ... وربما كره التفصيل للجمل
قد يدخل المسلم المخطي الجنان غداً ... بنيتي أرتجي الغفران لا عملي وهذا البيت مما خلص فيه يقينه، وحسنت بخالقه ظنونه، وعسى الله أن يلقيه مآلها، فرب مرحومٍ بكلمة قالها.
وما أحسن أيضاً ما أنشدته للحسن بن رشيق، وقد منح من التوفيق(3/438)
لسلوك هذا الطريق:
إذ أتى الله يوم الحشر في ظلل ... وجيء بالأمم الماضين والرسل
وحاسب الخلق من أحصى بقدرته ... أنفاسهم وتوفاهم إلى أجل
ولم أجد في كتابي غير سيئةٍ ... تسوءني وعسى الإسلام يسلم لي
رجوت رحمة ربي وهي واسعة ... ورحمة الله لي أرجى من العمل [85أ] وفي هذه القصيدة يقول حسان:
لولا الكتائب لم تنظم مواكبها ... نظم العقود لكان الدهر ذا عطل
من كل معتقل بالبأس مخترطٍ ... للعزم، مدرع للحزم مشتمل
يقودهم من بني قحطان ذو بدعٍ ... من الندى والمعالي لا من النحل
ينبيك سؤدده عن صيد معشره ... فليس يزري أخير المجد بالأول
لا تعجبنك عليا لا قديم لها ... ولا تخل غرة ما ابيض بالكفل
بيض يمانون إن سلوا يمانيةً ... لم يعرف السيف في الهيجا من الرجل
وكم جلوا بالندى من ليل مفتقرٍ ... كأنه دمعة في جفن مكتحل
إذ كل نابتةٍ شوك بلا ثمرٍ ... وكل طائرةٍ شور بلا عسل
طلبت مثلهم في غير حيهم ... فلم أجد غرر الأفراس في الإبل
ما زال يندى على كفي بنائله ... حتى مسحت عللا عيني من بلل
من مبلغ يده أني نظمت لها ... شكراً جعلت قوافيه من القبل
شكراً ذكرت به من جوده سرفاً ... كأنه مفرغ في قالب العذل(3/439)
لعل عذري في ذا الغزو قد عرفت ... أسراره بلسان صادقٍ مذل
وما الحروب ومثلي أن يشاهدها ... وإنما أنا حسان وأنت علي قال ابن بسام: وأظن حساناً هذا لم يكن له علم بالسير، ولا تصرف بعلم الخبر، وقد رأيت جماعةً من أهل الأدب ينسبون حسان ابن ثابت رحمه الله إلى الجبن، ويخرجونه من أهل الضرب والطعن، يحتجون في ذلك بقعوده عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في مغازيه وسراياه، وينشدون له في ذلك شعراً أظنهم نحلوه إياه، وهي هذه الأبيات على رواية بعض الرواة:
أيها الفارس المشيح المطير ... إن قلبي من السلاح يطير
ليس لي قوة على رهج الخي ... ل إذا ثور الغبار مثير
أنا في ذا وعند ذاك بليد ... ولبيب في غيره نحرير ولا أمتري أنها منحولة إليه، ومفتعلة عليه؛ وبلغ من حججهم على ذلك حديثه في شأن اليهودي يوم الأحزاب المطيف بالأطم الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم، أحرز فيه النساء والأبناء، وإن حساناً حض صفية بنت عبد المطلب على قتله وأخذ سلاحه، ويقولون لم تكن به قوة على سلبه، فضلاً عن حربه، وذهب عليهم أن حساناً، رحمه الله، كان(3/440)
قد أصيب في بعض حروبهم في الجاهلية، فقطع أكحله، وفي ذلك يقول:
وخان قراع يدي الأكحل ... ومن أدل شيءٍ على ذلك أنه هاجى في الجاهلية والإسلام أكثر من ثمانين شاعراً، لم يصفه أحد بالجبن ولا عيره به، ولم يكن شيء يتعايرون به أشد. ولحسان أيام مشهورة، ومواطن في الحروب مذكورة، وكان ممن له كنيتان في السلم والحرب، كما كان الأبطال تفعل على عهده، كان يكنى في السلم بأبي الوليد، وفي الحرب بأبي نعامة.
وقد أولع ابن المصيصي [85ب] بهذا المعنى فأعاده وأبداه، وألحمه وأسداه، وأعجبه ما اتفق له منه، حتى أخرجه إلى ما كان في مندوحةٍ عنه، والشعر ميدان ربما دعا الأرن إلى المراح، وأخرج السابق إلى الجماح، فقال من قصيدة يمدح بها المعتمد، وذكر نفسه وابن عمار:
كأن أبا بكر أبو بكر الرضى ... وحسان حسان وأنت محمد فأراد أن يعرب فأعجم، وأحب أن يضيء فأظلم، ونعوذ بالله من الخطل في القول، ونبرأ إليه من القوة والحول.(3/441)
وقول ابن المصيصي: " من مبلغ يده " ... البيت كقول ابن عبدون:
بلغ سلام فمي يدي ملكٍ ... غاب الملوك عن العلا وشهد وكرره ابن عبدون في موضعٍ آخر، فقال:
وبلغ عن فمي يده سلاماً ... كما أدنى الأزاهير الرباب وقول حسان: " ويلبس تقوى الله في الحلل " لفظ أبي الطيب:
وكساني الدرع في الحلل ... وقوله: " لا تحمدن زهد من لم يعط رغبه " ... البيت، معنى قد أكثر الناس فيه، وإن كان لحسان فضل بزيادة التشبيه؛ ومن شهوره قول حبيب:
إذا المرء لم يزهد وقد صبغت له ... بعصفرها الدنيا فليس بزاهد وقد أحسن فيه أبو الطيب بقوله:
والظلم في خلق النفوس فإن تجد ... ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلم وقال بعض أهل عصري:
تورعوا بين لا عزٍ ولا ظفر ... وأكثر الضعف محسوب على الورع(3/442)
وقوله: " كالشمس في الطفل " معنى بين النقصان، قصير الباع في مدى الإحسان، وفيه نقد أعرب عنه بعض أهل زماننا، ومن في طبقة ديواننا، وهو أبو حاتم الحجازي، وزاد فيه بقوله:
فكفى من الدينار صفرة وجهه ... الشمس صفرتها من اجل زوالها وقد نقله بعض أهل عصري إلى النسيب، فقال:
يعيبونها عندي لصفرة وجهها ... فقلت الهرقليات أوجهها صفر وقوله للمعتمد: " فلم يطأ غير ما تحكي شمائله ". البيت، أرى حساناً مما بلح فيه سيره، ووقع طيره، هذا يطأ المعتمد فليت شعري ما يطأ غيره -!
وقوله: " من كل معتقل بالبأس مخترط " ... البيت من التقسيم المليح في القريض، الذي كثيراً ما يتفق في هذه العروض، وهو شبيه بقول أبي سعد المخزومي:
ما يريدون لولا الحين من رجلٍ ... بالليل مدرعٍ بالجمر مكتحل وشبيه أيضاً بقول أبي تمام:(3/443)
تدبير معتصمٍ، بالله منتقم ... في الله مرتغب، لله مرتقب إلى غير ذلك مما لا يحصى، والإحاطة لله تعالى.
وقال حسان من قصيدة أولها:
بياض أياديك تحكي الصفاح ... ومثل نفاذك تحذو الرماح [86أ]
وأنبتت الحرب شوك القتاد ... وفتحت الورد فيها الجراح
وكم لك في السلم وجه حيي ... وكم لك في الحرب وجه وقاح
فما غير أصلك عود نضار ... ولا غير لخمك حي لقاح
فجودك صرف عداه المزاج ... وطبعك جد عداه المزاح
فلو كان خيمك من ماء كرمٍ ... لما شابه فيك ماء قراح
ألم تر غادر اسطبة ... حوى الخسر صفقته لا الرباح
سيدعى براقش أصحابه ... فقد دل منه عليهم نباح
فداسوا على قصد الذابلات ... تبكي دماءً عليها الصفاح
وغنى الحمام برقص الرؤوس ... ولذ اغتباق وطاب اصطباح
أيخفى علاك على ذي جفون ... ويطمع يبدو إليه الصباح
ولما زجرت بذكرك شعري ... تبين ينثال فيها المراح(3/444)
ولولا أياديك خابت يدي ... ولم يور من زند فكري اقتداح
برقة معناه يسري كلامي ... إذا الخصر رق يجول الوشاح
وجدت معاليك أصلاً لشعري ... وهل نظم الدر لولا النصاح
لك الفضل أن طاب شكري ونشري ... بطيب الرياض تفوح الرياح وله فيه أيضاً من قصيدة:
ليس العلا إلا على كرمٍ ... أيقوم خط ما له سطح
من لخم أصلك يا مملك أم ... في الخط نبتك أيها الرمح
كأس المسرة قد سكرت بها ... والحد يلزمني متى أصحو
شد في الوغى لك منزلاً خشناً ... لا يهلك الديباج والصرح
ودع الرياض لمن يلذ بها ... ما إن لغير مكارم نفح
أذكى من الآس النضير قناً ... وأنم من ورد الربى جرح
إن النصاح من الورى خلق ... حتى الكواكب بينها النطح قال أبو الحسن: وهذه المقطوعة له من التحريض الحسن، لولا اعتراض المقادير أن تمر بأذن.(3/445)
وقال فيه من أخرى:
غنى الحمام ولو رآني ناحا ... وأعارني نحو الحبيب جناحا
ونعم كلانا فاقد محبوبه ... قلق، ولكني كتمت وباحا ومنها:
ثم انثنى ليعلمني ريقاً ومن ... قدمات سكراً كيف يشرب راحا
فعففت عن رشفي مدام رضابه ... وجنيت من وجناته التفاحا
وثلاثةٍ خالطتها بثلاثةٍ ... ما ينتشق منه المتيم فاحا
المسك والشعر الملخلخ والدجى ... والوجه والكافور والإصباحا [86ب]
ليس الملاحة في الوجوه تروقني ... يوماً إذا الأخلاق كن قباحا
سبحان من خص المؤيد بالعلا ... كملاً وعم بحبه الأرواحا
ملأت بطاعته القلوب أناته ... أضعاف ما ملأت لهاه الراحا
يا أهل قرطبة اغرفوا من بحره ... فطالما خضضتم الضحضاحا
هل لي إلى الشعراء من ذنبٍ سوى ... سبقي إلى عليائك المداحا
ومنابذ ناءٍ حذرت أناته ... ما غرني لما أتى وانزاحا
لا تأمنن مكر العدو لبعده ... إن امرأ القيس اشتكى الطماحا قال ابن بسام: وخبر الطماح على ما ذكر الرواة: رجل من بني(3/446)
أسد كان امرؤ القيس قتل أخاه، فلما توجه إلى أرض الروم مع صاحبه عمرو بن قيثمة الذي يقول:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... ووصل إلى قيصر وأكرمه، ووجه معه جيشاً فيه أبناء الملوك، فلما فصل أتى الطماح فوشى بع إلى قيصر، وقال: إنه أعرابي عاهر يشبب بابنتك في شعره، ويشهرها عند العرب، فبعث إليه قيصر بحلة منسوجة بالذهب مسمومة، وقال: إني أرسلت إليك بحلتي تكرمةً، فالبسها باليمن والبركة، فسر بذلك ولبسها، فأسرع إليه السم، وسقط جلده، ولذلك سمي ذا القروح، وقال في ذلك:
لقد طمح الطماح من بعد أرضه ... ليلبسني من دائه ما تلبسا
ولو أنها نفسي تموت جميعةً ... ولكنها نفس تساقط أنفسا وقد كرر معنى هذا البيت وأوجزه بقوله:
وإن كنت قد أزمعت قتلي فأجملي ... أي اقتليني جملة ولا تنوعيه. وإلى هذا المعنى ينظر من طرف مريب(3/447)
قول عبدة بن الطيب:
فما كان قيس هلكه هلكٍ واحدٍ ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما هذا على تفسير من جعل هلكه هلك جميع من اتبعه وعاش في رفده، كما قال الآخر:
ولكن الرزية فقد قرمٍ ... يموت لموته خلق كثير وأبين منه وأولى بقول امرئ القيس قول المجنون:
وعروة مات موتاً مستريحاً ... وها أنا ميت في كل يوم لا بل أشبههم عندي بقول امرئ القيس ذي القروح، قول قيس ابن الذريح:
تساقط نفسي حين ألقاك أنفساً ... يردن فما يصدرن إلا صوايا وتمام الحديث عن امرئ القيس أنه رأى هنالك حين احتضر قبر امرأة من بنات الملوك، في سفح جبلٍ يقال له عسيب، وأخبر بقصتها فقال:(3/448)
أجارتنا إنا غريبان ها هنا ... وكل غريبٍ للغريب نسيب ومات فدفن إلى جنب تلك المرأة. وروي أن امرأ القيس دفن بأنقرة الروم، وأنهم اتخذوا صورته كما يفعلون بمن يعظمونه. وحدث المأمون أنه مر بأنقرة ورأى صورة أمرئ القيس قال: فإذا رجل مكلثم الوجه، يريد مستديره؛ وقيل المدفون بعسيب صخر أخو الخنساء، وهو القائل:
وإني مقيم ما أقام عسيب ... رجع:
وقال حسان بن المصيصي:
روض الشباب تناوبت أزهاره ... وليّ بنفسه وجاء بهاره [87أ]
ود المها لو أن أسود لحظه ... أضحى خضاباً حين شاب عذاره
قد كان يعجبهن خفة حلمه ... فالآن ساء الغانيات وقاره
ترك الذي اشتمل الكثيب إزارها ... منه الذي اشتمل العفاف إزاره ومنها:
إني على هذا لأسمع بالصبا ... فيسرني ممن صبا أخباره(3/449)
ومنها في المدح:
هو أعرف الكرماء، إن سميتهم ... جهلوا، ودل على اسمه إضماره
لا تعذلنه على إهالته اللهى ... في كيمياء المجد بان نضاره
لا تغترر بالبشر من سطواته ... فالسيف فيه فرنده وغراره
يأبى لمولاي الهوان وظلمه ... كأبي عرارٍ إذ أهين عراره
لا يستطيع النكس ينطق باسمه ... وانظر كما حمل اسمه ديناره
قل للمؤيد إذ تقليه ابنه ... إن الدجى متشابه أقماره
يحكيك في شأو العلاء وإنما ... تجري إلى أمد الجواد مهاره
إن تمضه رمحاً فأنت وشيجه ... أو توره قبساً فأنت عفاره وقال يداعب ابن جمهور:
شكوت إليه بفرط الدنف ... فأنكر من علتي ما عرف
وقال الشهود على المدعي ... وأما أنا فعلي الحلف(3/450)
فجئنا ابن جمهورٍ المرتضى ... فقيه الملاح وقاضي الكلف
وكان بصيراً بحكم الملاح ... ويعلم من أين أكل الكتف
فأومى إلى الخد أن يجتنى ... وأومى إلى الريق أن يرتشف
وقال له جاهداً في انتصافي ... دعوا يا مخنيث هذا الصلف
كذا تقتلون مشاهيرنا ... إذا مات هذا فأين الخلف -! وأرى حساناً أراد أن يسلك من هذه السبيل، مسلك ابن معمرٍ جميل، في قصيدته حيث يقول:
وقلت لها: اعتديت بغير جرمٍ ... وغب الظلم مرتعه وبيل فجاء بين الشعرين ما بين الشاعرين، وبين القطعتين ما بين الزمانين؛ على أن محاسن حسانٍ كثيرة، وحسناته مشهورة، وإنما ألمعت منها بقليل، لزهدي في التطويل.(3/451)
ومنهم الوزير الفقيه أبو بكر بن الملح
قال ابن بسام: وأبو بكر، فرد من أفراد العصر، وهو من بيت أصالة، وبحبوحة جلالة، وفارس ميداني الزهد والبطالة، وشاعر ناد، وخطيب أعواد، غبر صدراً من زمانه لا يحفل بعاذل، ولا يصغي في الفتوة إلى قول قائل، وكان في ذلك أحسن من التوريد في الخد، وبمكان الحلمة من النهد، والدين في أثناء [87ب] تلك الوهلة، وبين خصاصات تلك الغفلة، يستطيل غيبته، وينتظر أوربته، فلما أقصر باطله، وأسمعه عذاله وعواذله، تلقاه باليمين، واشتراه بالثمن الثمين، فأصبح سجير عنزة ومنبر، وأمسى سمير مصحف ودفتر؛ وفي ذلك يقول من أبيات:
وكنت فتى الكاس عهد الشباب ... فصيرني الشيب شيخ الدعاء ومد لأبي بكر هذا العمر وعاش إلى وقت تحريري هذا المجموع سنة خمسمائة، وتوفي رحمه الله في شهر رمضان منها؛ وقد أثبت من شعره ما يملأ الأسماع بياناً، ويبهر الطباع حسناً وإحساناً.(3/452)
ما أخرجته من شعره في النسيب وما يناسبه
قال:
حسب القوم أنني عنك سالي ... أنت تدري سريرتي ما أبالي
قمري أنت كل حين وبدري ... فمتى كنت قبل هذا هلالي
أنت كالشمس لم تغير ولكن ... حجبت ليلها حذار الملال
ما مللنا فكان ذا غير أنا ... قد حسبناه من صروف الليالي وقال:
ظبي يموج الهوى بناظره ... حتى إذا ما رنا به انبعثا
مبتدع البخل لا كفاء له ... يعد شكوى صبابتي رفثا
أنكر سقمي وما قصدت له ... وما تعرضت للهوى عبثا
أقسم في الحب أن أموت به ... فما قضى بره ولا حثا وقال:
حبيب إلينا أن نراك على طيب ... حراماً بشرب الراح من كل تأنيب
تكسبك الصهباء فضل خلائقٍ ... وعندك فضل آخر غير مكسوب(3/453)
ومن قصائد ابن الملح المطولات في المدح
قال من قصيدة في المعتمد أولها:
سكن اشتياقك ما عدا عما بدا ... أرويت أم حمت الخطوب الوردا
لم يطف وجدك إنما هي شعلة ... كالسيف جرده المقام وأغمدا
والعضب يستره القراب وربما ... خشنت مضاربه الرقاق من الصدا
والروض يبعث بالنسيم كأنما ... أهداه يضرب لاصطحابك موعدا
سكران من ماء النعيم وكلما ... غناه طائره وأطرب رددا
يأوي إلى زهرٍ كأن عيونه ... رقباء تقعد للأحبة مرصدا
زهر يفوح به اخضرار نباته ... كالزهر أسرجها الظلام وأوقدا
ويبيت في فنن توهم ظله ... بالصبح في عين القرارة مرودا
قد خف موقعه لديه وربما ... سمح النسيم بعطفه فتأودا
أعلى محل الشعر أن قصائدي ... جعلت مديحك بالمعاني مقصدا [88أ]
خطبته تركب بطن كفي منبرا ... ودعتك تعمر ظهر كفك مسجدا
أثقلت أعناق المآرب لؤلؤاً ... وملأت آماق البصائر إثمدا(3/454)
كم قد ركبت إليك كاهل همةٍ ... كادت تغالط في أخيه الفرقدا
أبغي لديك العيش أخضر يانعاً ... فأجوب جنح الليل أسفع أسودا
يقظان تحسبني الكواكب ناظراً ... فيها يراقب للغزالة مولدا
وإذا تكنفني النهار لبسته ... وهجاً لفوحاً أو سراباً مزبدا
رطب الجوانح في اليباب كأنما اس ... تهديت في الماء الخفي الهدهدا قال ابن بسام: لو قطع المفازة التي اهتدى فيها أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ببيت الضليل حيث يقول:
تيممت العين التي عند ضارجٍ ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي ما زاد على ما وصف، فكيف في رقعة من الأرض مساحتها يومان، لراكب أتان، أكثر بلاد الله ماءً، وأرطبها هواء، إلا أنه والله قال فأجاد، وخيل فسحر وزاد. ولبس هذا البيت في شعر امرئ القيس في أكثر الروايات. وفي العرب عشرة رجال يسمون كلهم بامرئ القيس.
وروى ابن الكلبي قال: جاء قوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فضلوا في طريقهم ووقفوا على غير ماء، فمكثوا ثلاثاً لا يقدرون على الماء، فجعل رجل منهم يستذري فروع السمر والطلح، فبينما هم كذلك إذ أقبل رجل راكب على بعير، فأنشد بعض القوم بيت امرئ القيس المتقدم الذكر، فقال الراكب: ما كذب، هذا والله ضارج عندكم، وأشار إليه، فأتوه(3/455)
فإذا ماء غدق غطاه العرمض، والظل يفيء عليه، فشربوا منه وارتووا، فلما بلغوا النبي، صلى الله عليه وسلم، وأخبروه القصة، قال لهم: ذلك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها، خامل في الأخرى منسي فيها، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار.
وقال ابن الملح من أخرى في المعتضد بالله:
نشرت للحمد طيباً عن شذا نفسٍ ... بعثته عن ضمير غير متهم
فنورت بالقوافي روضة أنف ... في تربة العقل تسقى وابل النعم
لي الثواب فلم أرجع لمشكلةٍ ... عن اليقين ولم أعكف على صنم
لي همة ما يزال الدهر يطلبها ... وما تزال من التأميل في حرم
وما تحملتها في ظهر فاحشةٍ ... ولا وقفت بها في برزخ التهم
ما لي وللناس عمت لي منابتهم ... تباين اللمس ولم تضغط بمزدحم
تمزقت بردة الإنصاف بينهم ... في منكبي ولم تضغط بمزدحم
ليقصر الدهر خصمي لست مكترثاً ... من الخصوم وفي بيت الندى حكمى وله فيه من أخرى:
قد صرت في أخرى المقاصد فانصرف ... وشرعت في شتى الموارد فاصدر [88ب]
واختر لهذا الدر أجياد العلا ... يزدن فحسن الجيد زين الجوهر
واشهد صروف الدهر تظفر عندها ... بالظافر ابن أبي الكرام وتنصر
فصغير مرأى العين عن بعد المدى ... كالنجم أصغره تنائي المنظر(3/456)
وهذا كقول المعري:
والنجم تستصغر الأبصار صورته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر وقال منها:
حاز السناء وما أسن وإنما ... نمت الفروع بطيب ماء العنصر
من معشر يمسي ويصبح طفلهم ... من حب [ ... ] العلا في معشر
ألفوا مضاجعة الظبا بمهودهم ... وولوا مطاولة الوشيج الأسمر
فلتحفظ الأيام منهم عصبةً ... سكنت بأرجاء الوغى والمنبر
ثبتوا على الأصل القديم فأثبتوا ... نسب الكواكب في قبائل حمير
وبنوا على السعي الجميل فبينوا ... أن المكارم في تراث المئزر
ولتحفظ الأيام سالف أمةٍ ... ملأت مفاخرهم فروج الأعصر
بقي الثناء عليهم فكأنما ... ركبوا المنابر في بطون المقبر ومنها:
أهدى إليك الود عبد يدعي ... شرفاً بصهر في بنات المحبر
طابت موارده لديك كأنما ... وقفت ركائبه بريف الكوثر
وسما يبلغه إليك كأنما ... قطع المراحل في بروج المشتري(3/457)
نقل الوداد على قطار قصائدٍ ... رتعت زماناً في جناب الدفتر
يحملن طيب الحمد فيك كأنما ... ينشرن بالفلوات طيب العنبر وله فيه من أخرى:
ضمانك ملء الأرض كالأخذ باليد ... لذلك هول الأمر بالغد في الغد
لذلك يبدو الموت ناراً ولجةً ... على صفحتي صمصامك الواقد الندي
لذلك مادت بالرماح صعادها ... وليست لوهي في الكعوب بميد
يهز بها أعطافه كل باسلٍ ... رحيب ذراع أو طويل مقلد
على شزبٍ لو سايرتها خطوبها ... عرضن عليها من وجوه التجلد
يصلن السرى والماء غور كأنما ... حملن عصا موصى على كل جلمد ومنها:
له جدول من صارم متسلل ... إلى غصن من ذابل متأود
هناك ربيع للسيوف مرجس ... قريب أوان من ربيع مورد وهذا كقول أبي العلاء:
روض المنايا على أن الدماء بها ... وإن تخالفن أبدال من الزهر وقال ابن شهيد من شعر قد تقدم: [89أ] :(3/458)
فذا جدول في الغمد تسقى به المنى ... وذا غصن في الكف يجنى فيثمر وقال المتنبي:
أأخلع المجد عن كتفي وأطلبه ... وأترك الغيث في غمدي وأنتجع وقال ابن الملح من أخرى:
أوطأن في ظبة الحسام توسدي ... ومزجن كأسي في لهاة الأرقم
وإليك من نار الحياء بوجنتي ... وهجاً تحف به عيون المرزم
ولكم لقيت الهم يملأ أرضه ... بأحم طامي اللجتين عرمرم
وتركت ذاك الجيش نهباً للظبا ... متخاذل الأنصار مطلول الدم
حتى إذا رمت الليالي جانبي ... من كل ناحية بكل الأسهم
خطمت بحبل الشيب أنف شبيبة ... قد كان قبل صروفها لم يخطم
لو كنت أقدر قادرٍ لم أجزها ... إني لأزهد في عقاب المجرم
إني لأقبض في مراجعها يدي ... ولو احتديت بها فروع الأنجم
وأرد عزمي والحقيقة مطلبي ... وأبيح حظي والكريمة مغنمي
أنا ضاحك للدهر ضحكة شامتٍ ... إن كان يعبس للندى المتبسم
قصد الزمان الآملين بحربه ... وأتيت في الغمرات أول مقدم
وعلمت أني إن أصل بمحمد ... أنفذ على ضيق المكر وأسلم
الله أكبر لو قضى لخليفةٍ ... بمزية العلم الذي لم يعلم(3/459)
لرووا حديث النفس غير مرجمٍ ... وتيقنوا التنزيل غير مترجم
يا أيها البشر المنزه جملةً ... للمجد قبل إشارة المتكلم
خذ بالندى والبأس أعدل وجهةٍ ... وافرض ليومك بالمآثر واقسم
واحطم عداك مكايداً ومكابداً ... واثأر بسيفك للقنا المتحطم
واقنع بعذر من قناك فإنه ... نبأ لرمح ربيعة بن مكدم
بيديك صعدته، وكل قبيلة ... جثم وكل الأرض وادي الأخرم وله من أخرى في المعتضد بالله:
سروا تحت ليلٍ في الظلام بهيم ... مكلل آفاق كليل نجوم
تواصوا بأعمال الشقاوة بينهم ... وعاذروا بشيطان هناك رجيم
مقامة شربٍ ما قضوا حق مجلسٍ ... ولا فرحوا في سكرهم بنديم
ولا وجدوا برد السرور كأنما ... أديرت على الأقوام كأس حميم
مذاهب سوء غيرت من معاشرٍ ... نفوساً فلم تسلم لها بجسوم
تحاموا بلاداً مزقتهم كأنما ... مضت في رباها عاصف بهشيم [89ب]
سروا تحت أطراف الرماح كأنها ... شياطين ضلت تحت رصد نجوم
ومالوا على حد السيوف كأنما ... تميل إلى آذانهم بنميم
كأن المنايا دانت نفوسهم ... فحلت على عسر حلول غريم(3/460)
ومنها:
ألا فخاطبوا للعقول فإنها ... وإن رخصت يوماً بنات كريم
ولا تبخسوها في المهور فإنها ... إباء سنيٍ في الملوك عظيم وقال من أخرى أيضاً:
كم قصر أنس لهونا في مطالعه ... قد عاد والعهد دانٍ موحش الطلل
فمن مغن بألحان المنى غرد ... وشارب بين طاسات الهوى ثمل
وغافل بالصبا عن قطع مدته ... قد راش أجنحة الأيام بالجذل
حتى إذا جئت آمالي تحرف لي ... خطب دفعت به في غرة الأمل
إذا الهوى فاض طوفاناً ركبت له ... فلك العزاء ولم آوي إلى جبل
لولا الحياء وقد شبت معاركه ... لقد كشفت لثام الصبر عن بطل ومنها:
ضاق الزمان بما حطت من قضب ... في رعيهن وما قصدت من أسل
لا تغمد البيض إلا في ضرائبها ... حتى لقد عادت الأغماد للقلل
رواق ملكك بالأسياف ذو طنب ... وبرد مجدك بالأرماح ذو خمل
وباب حربك مفتوح لقارعه ... عن قسور أهرت الشدقين ذي عصل
كأنه بكم والله يكلؤكم ... يقضي على الدهر أو يختار للدول
لو كانت الشمس من خدام دولتكم ... والعدل ما العدل لم تبرح من الحمل(3/461)
قال ابن بسام: ولم أسمع بمثل هذا البيت لمن سبق، فإن كان اتباعاً فما أحسن ما أرق، وإن يكن اختراعاً فما أولى وأخلق.
وفي هذه القصيدة يقول:
كم حطتم من ضياع في الأنام وكم ... وصلتم من شتيت غير متصل
بسنة كسنان الرمح ماضيةٍ ... ومذهب كقناة الرمح معتدل
مدحتكم حيث لا فخر أزيدكم ... فقد كحلت عيوناً جمة الكحل كما أن هذا البيت أشار فيه أبو بكر إلى التقصير، فلعله أراد أن يجعله في شعره تميمة من الفتور، وأحسن مما انتحاه، قول بعضهم في معناه:
لم أفدك المديح إلا لنفسي ... ليس للسيف إربة في الصقال وقال ابن الملح:
لا حد للوجد إلا أنت عارفه ... كأن قلبك للأشواق ميزان
ولا صبابة إلا أنت واسعها ... كأن صدرك للأشجان ميدان [90أ] ومنها:
سرنا نراقب إعلان الصباح بنا ... كأننا في ضمير الليل كتمان وهذا كقول الصاحب بن عباد:
كأني سر والظلام ضمير ...(3/462)
وقال أبو الطيب:
سريت وكنت السر والليل كاتمه ... وقال أبو الوليد بن زيدون:
سران في خاطر الظلماء يكتمنا ... حتى يكاد لسان الصبح يفشينا وفيها يقول ابن الملح في المدح:
هو المقر العلا والخيل سارحة ... واللابس الحمد والصمصام عريان
والمبصر الرشد في أقصى مطالبه ... والناس من فتنة الأهواء عميان
تاهت بمجدك قحطان وعدنان ... وقد تخاضع يونان وساسان
وسار ذكرك والأفواه تنقله ... حتى تطارح فيه الإنس والجان
وشك في العصر أقوام فقلت لهم ... فلان في ثقليها لا سليمان
ذكيت جودك حربا والعدا جزر ... وسيفك النار والأطيار ضيفان
همى عليها من الموت الزعاف حيا ... مجلجل بصليل البيض حنان
وماج فيه وريح البأس تنسجه ... جيش هو اليم والأسياف خلجان
وللدماء غدير فوق ضفته ... للجيش دوح وسمر الخط أغصان وله من أخرى يصف حلبة الخيل:
خوافق قد ريشت بأجنحة الهدى ... فطارت ببحر الروم كل مطار
فهن بشد الجري عقبان شاهق ... وهن بألحان الصهيل قماري(3/463)
بكل مباه بالسلاح كأنما ... يجر من الخطي فضل إزار
مهين لدنياه يظن حياته ... إذا لم يمت في الله دار بوار
تسنم جدران المكاره فانتهى ... مآثر لم تحجب له بجدار
سقى من قليب الحرب أشجار مفخر ... تدلت له من ساعة بثمار ومنها:
فمن سابح ورد تجلبب خلقة ... بنسج دم قبل النتاج ممار
وأبلق كالريم المدمى مفضض ... تخال بشقيه مسال نضار
وأشهب تجلوه المعاني كأنما ... تزين منه زندها بسوار
وأشقر نوري يهب كأنه ... وقد قدحته الحرب مقبس نار
وأدهم كالليل البهيم تعلقت ... به تحت كم الفجر كف نهار
إذا ما علاه راكب فكأنه ... بغرته تحت المطالب سار
بلبته خيط المجرة فصلت ... له موهنا أوساطه بدراري
سفينة بر سخرت غير أنها ... تجوب من الإلهاب لج غبار [90 ب]
تطأطأ من عون الطباع بحاذف ... وتهنأ من لون الأديم بقار
له خلق لولا توارد غيره ... على عتقه لم ينحرف لنفار ومن الحسن في تشبيه الخيل بالبحر، قول بعض أهل العصر، وهو الأديب أبو بكر ابن العطار اليابسي، من شعر أنشدنيه لنفسه ببطليوس(3/464)
سنة ست وثمانين:
والجيش قد جعلت أبطاله مرحا ... تختال عن خيلاء السبق العتق
إذا تسعرت الهيجاء أخمدها ... ما في معاطفها من ندوة العرق
هي البحور ولكن في كواثبها ... عند الكريهة منجاة من الغرق والشيء يذكر بالشيء إذا ناسبه أو قاربه؛ كان للمتوكل فرس أخضر أغر محجل، وعلى كفله ست نقط بيض، فتناغت لمة من الشعراء يومئذ ببطليوس في صفته، فكل جهد جهده، وبذلك ما عنده، فما سبق إلى الغاية، ولا أخذ الراية إلا النحلي، على أنه مزجى البضاعة، في هذه الصناعة، فقال:
حمل البدر جواد سابح ... تقف الريح لأدنى مهله
لبس الليل قميصا سابغا ... فالثريا نقط في كفله
وكأن الصبح قد خاض به ... فبدا تحجيله من بلله
كل مطلوب وإن طالت به ... رجله، من أجله في أجله بيته الثاني أراه أخذ من قول ابن صاحب الاسفيريا معناه:(3/465)
لبس الظلام أديمه فبدا لنا ... من بين عينيه سنا جوزائه والثالث نبه عليه ابن نباتة ببيته:
وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فخاض في أحشائه وما أراه نقل إلا لفظ ابن شهيد ومعناه، من جملة قصيد له قد أنشدناه، وهو قوله:
وكأنما خاض الصباح فجاء مبيض القوائم ... وقال فيه أبو بكر الداني:
لله طرف جال بابن محمد ... فحوت به حوباؤه التأميلا
لما رأى أن الظلام أديمه ... أهدى لأربعة الهدى تحجيلا
وكأنما في الردف منه مباسم ... تبغي هناك لوجهه تقبيلا ولأبي عبد الله بن عبد البر الشنتريني فيه جملة أبيات:
فعلى المحيا كوكب متلألئ ... وعلى القطاة بنات نعش تسطح
وكأنما عمر على صهواته ... قمر تسير به الرياح الأربع(3/466)
ولم يحضرني من شعر أهل العصر في وصف هذا الطرف إلا ما أثبت، وكانت لهم عندي في صفته عدة مقطوعات وجملة أبيات، سقطت من ذكري، وطارت من شرك صدري، وتعلق بحفظي أشعار لمن تقدمهم من أهل هذا الأفق، ممن تقدم زمانه، وشهر إحسانه بالقول، في صفة الخيل، رأيت إثباتها، إذ لها موقع بهذا الموضع.
قال يوسف بن هارون الرمادي: [91 أ] .
وأبلق من شرط الطراد لزينة ... وأخوان ميدان ويوم قتال
فخضرته ثلث وثلثاه شهبة ... فأخضر قدام وأشهب تال
له لهب من دهمة فيه شبهة ... كعام صدود فيه يوم وصال
تدرع بدر التم حسنا وبهجة ... فألزم في حيزومه بهلال وقال أبو عامر بن عبدوس في صفة أشهب، حاشا عرفه كان أحمر:
يا حسن هذا الجواد حين بدا ... في شية لم تكن لذي بلق
قام عليه النهار مدعيا ... فاعترفت عرفه يد الشفق(3/467)
وقال أبو بكر بن حجاج:
وأشهب صافي بياض الأديم ... له شية زانها عرفه
كبدر سماء بدا زاهرا ... وقد مس في شفق طرفه وقال ابن فتوح:
طرف يفوت الطرف شأوا عدوه ... ويضيق وسع الأرض عند مجاله
بيدي سواد الليل في إدباره ... ويريك وجه الصبح في إقباله
متبخرا تيها كأن لجامه ... إكليل كسرى لاح فوق قذاله
عقد الجياد بشأوه وجرى على ... عرق نماه علا إلى عقاله
ذرعت متن الأرض منه بذراع ... كادت تكون الأرض من أمياله
تعيا الرياح وراءه في لأيه ... ويكل شأو الدهر دون كلاله وقال الرمادي:
ومعارض للريح في حركاته ... لولا اللجام لجال كل مجال
ذو منظر حسن تضمن مخبرا ... حسنا وكان لزينة وقتال
حسنت به الحركات والمعشوق لا ... يصبي لغير براعة ودلال
حطمت حوافره السلام صلابة ... فكأنه من أوجه البخال(3/468)
وهذا كقول حبيب:
أيقنت إن لم تثبت أن حافره ... من صخر تدمر أو من وجه عثمان وأخذه البحتري فقال:
ما إن يعاف قذى ولو أوردته ... يوما خلائق حموديه الأحوال وقال القسطلي:
سامي التليل كأن عقد عذاره ... في رأس غصن البانة المياد
يهدي بمثل الفرقدين وناب عن ... رعي السماك بقلبه الوقاد
فكأنما أطأ الأباطح والربى ... بعقاب شاهقة وحية وادي [91 ب]
وكأنه من تحت سوطي خارجا ... في الروع شعلة قادح بزناد وقال يحيى بن هذيل:
في خضرة مفترة في غرة ... كالصبح كشف عنه ليل أليل
يمشي العرضنة فهو يحكي بالطلى ... كيف الصدود عن الحبيب فيقبل(3/469)
وقال أبو تمام بن رباح من أهل عصرنا:
وأقب تنقد البروق إذا جرى ... من غيظها حسدا بأن لم تلحق
ملك الرياح قوائما فجرى بها ... فيكاد يأخذ مغربا في مشرق وقال فيه:
وتحتي ريح تسبق الريح إن جرت ... وما خلت أن الريح ذات قوائم
لها في المدى سبق إلى كل غاية ... كأن لها فيه نفوذ عزائم
وهمة نفس نزهتها عن الوجى ... فيا عجبا حتى العلا في البهائم رجع:
بقية ملح ابن الملح:
له من قصيدة عتاب قال فيها:
لقد ظلمتني أمة ما خمشتها ... بلحظ وقد عمت حشاي ندوبا
توهمتهم سلما فسولمت ظاهرا ... وشبوا على ظهر المغيب حروبا
وثقت بهم في النائبات فأخلوا ... وكانوا إلى جنب الخطوب خطوبا
فكم صاحب منهم يبيت بقلبه ... بعيدا ويغدو باللسان قريبا
إذا لاح خير ذادني عن حياضه ... كما ذادت الزجر العرامس نيبا
وإن عن شر قادني نحو ضنكة ... جنيبا وأنى لي أقاد جنيبا(3/470)
وآخر قد فاجأته الود أولاً ... بديهة ساعٍ ماجدٍ وأديبا
سريت له من حسن ظني بطالعٍ ... أمنت له حتى الممات غروباً
وكنت أذا بل الوداد بلفظةٍ ... أدرت عليه بالمحبة كوبا
جفاني ولكني أهب بعشرتي ... شمالاً إذا هب الصديق جنوباً
وآخر لم أسأل به من ولا ابن من ... فلست لما يرتاب منه طلوبا
نشرت له برد الإخاء كأنما ... خضبت بها في العارضين مشيبا
وكنت إذا رثت من الود بردة ... عليه صرفت الاهتبال قشيبا
سقى كأس حقدٍ فوق لحق نميمةٍ ... تشق قلوباً لا تشق جيوبا
فماذا يرى العبدان في ذنب أمة ... رأت حسناتي في الوفاء ذنوبا
ومن ينكر الشكوى إلى الله منهم ... وقد ملأوا الصدر الرحيب وجيبا
سأغفر لا عجزاً ولكن سجية ... نمتني نجيبا أو ورثت نجيبا ومن شعره في الأوصاف
قال يصف سوار فضة مذهباً، وأخبر عنه:
أنا من الفضة البيضاء خالصةً ... لكن دهتني خطوب غيرت جسدي [92أ]
علمت عضي بما أحوي فأحسدني ... جري الوشاح فهذي صفرة الحسد وقال في شمامة فضة منيلة:(3/471)
أنا المدارة بين الكأس والطبق ... والمستعارة للآناف والحدق
أكون للورد والخيري آونةً ... وتارةً لغصون الآس والحبق
لولا صيانة جسمي عن مجاذبة ... لثارت الحرب بين النور والورق
خفت الزمان على تغيير عهدتها ... ففي إهابي آثار من الحرق
كأنني نقطة في الصحو صافية ... قد غيرت بعض لوني خضرة الورق وكان في بعض قصور المعتمد باشبيلية في من جملة التصاوير صورة من خالص اللجين على صورة الفيل، وهو الذي يقول فيه عبد الجليل:
ويفرغ فيه مثل النصل بدع ... من الأفيال لا يشكو ملالا
رعى رطب اللجين فجاء صلداً ... وقاحاً قلما يخشى هزالا فجلس المعتمد يوماً على البحيرة والماء يسيل، من فم ذلك الفيل، وقد أوقدت شمعتان من جانبيه، ومعه ابن الملح، فقال في ذلك عدة مقطوعات منها قوله:
كأنما النار عند الشمعتين سنا ... والماء من نفذ الأنبوب ينسكب
غمامة تحت جنح الليل هامعة ... في جانبيها جناح البرق يضطرب(3/472)
وقال في ذلك:
ومشعلين من الأضواء قد قرنا ... بالماء والماء بالدولاب منزوف
لاحا لعيني كالنجمين بينهما ... خط المجرة ممدود ومعطوف وقال فيه:
وأنبوب ماءٍ بين نارين ضمنا ... هوىً لكؤوس الراح تحت الغياهب
كأن اندفاع الماء بالماء حية ... يحركها بالليل لمع الحباحب وقال فيه:
كأن سراجي شربهم في التظاهما ... وأنبوب ماء الحوض في سيلانه
كريم تولى كبره من كليهما ... لئيمان في إنفاقه يعذلانه
إذا هزه للجود برد سماحة ... أصرا على تثريبه يحرقانه في ذكر الأديب أبي محمد عبد الجليل بن هبون المرسي
شمس الزمان وبدره، وسر الإحسان وجهره، ومستودع البيان ومستقره(3/473)
آخر من أفرغ في وقتنا فنون المقال، في قوالب السحر الحلال، وقيد شوارد الألباب، بأرق من ملح العتاب، وأرق من غفلات الشباب؛ وكورة تدمير أفقه الذي منه طلع، وعارضه الذي فيه لمع، وإنما ذكرته في هذا القسم الغربي مع أهل إشبيلية لأنها بيت شرفه المشهور، ومسقط عيشه المشكور، طرأ عليها منتحلاً للطلب، وقد شدا طرفاً من الأدب، وكان الأستاذ أبو الحجاج الأعلم يومئذ زعيم البلد، وأستاذ ولد المعتمد فعول عليه من رحلته، وانقطع إليه بتفصيله وجملته، وكانت له في أثناء ذلك همة تترامى به إلى العلا، ترامي السيل من أعالي الربى، وكان بين الأستاذين أبي الحجاج وأبي مروان بن سراج ما يكون بين فحلين في هجمة، وزعمين [92ب] من أمة، فاتفق أن كتب ابن سراجٍ إلى المعتمد بشعرٍ بائي من شطر الوافر يمدحه فيه، وكأنه - زعموا - عرض بقرنه ومباريه، وأعلم بذلك الأعلم، فصمت عن جوابه وأحجم، وولاها عبد الجليل فأطلعه في أفقها قمراً، ونبه منه لحربها عمراً، فقال قصيدته البائية التي أولها:(3/474)
هوى بين النجوم له قباب ... ومع أنها ليست لاحقةً بعيون شعره، لما سعها ابن عمارٍ خادم الدولة يومئذ طار بذكره، وأجناه ثمارها، وباهى به أقمارها، وخلع عليه أصائلها وأسحارها، ووافق من المعتمد ناقداً بصيراً، وعاشقاً قديراً، فأغلى بتلك الأعلاق، وأقام له الدنيا على ساق، وقصر عبد الجليل على هواه، فلم يرحل إلى ملك سواه.
وكانت له كل عامٍ رحلة، يتعهد فيها بلده وأهله، فحدثني غير واحد أنه اجتاز بالمرية، في بعض رحله الشرقية، وملكها يومئذ قبلة الأمال، وقطب رحى الآمال، ومرمى جمار المدائح، أبو ابن صمادح، فاهتز لعبد الجليل واستدعاه، وعرض له بجملة وافرة من عرض دنياه، فلم يعرج على صفده، وبادر العيد - وكان قريباً - بالارتحال عن بلده، وقال في ارتجال:
دنا العيد لو تدنو لنا كعبة المنى ... وركن المعالي من ذؤابة يعرب
فيا أسفا للشعر ترمى جماره ... ويا بعد ما بيني وبين المحصب ولما ابتدأت الفتنة بالمعتمد، بادر الخروج عن البلد، فلم يغن عنه نفاره وأدركه مقداره، على قربٍ من مرسية، لقي قطعةً من خيل النصارى فتورط فيهم، وقضى الله له بالشهادة على أيديهم.(3/475)
وذكرت بمقتل عبد الجليل - رحمه الله - ومفره أعجوبةً من الزمان وحديثاً ظريفاً من الحدثان: كان بحضرة إشبيلية أيام ماجت بها على المعتمد الفتنة، ودارت عليه رحى المحنة، أبو القاسم ابن مرزقان، من شعراء الدولة، ونبهاء أهل الحضرة، ممن مت إليها بقديم جوار، لا ببارع أشعار، وأدل عليها باسم مرزقانه، لا بفضل بيانه، وكان في بني عباد عجب بكثرة عددهم، وعصبية لأهل بلدهم، وكان أبو القاسم هذا حلو الحوار، نادر الأخبار، وكان به على ذلك توهم يخرجه إلى حين الفرار السلمي، وغفلة تشهد عليه بلوثة أبي حية النمري، وكان هو وعبد الجليل من بين سائر أهل القريض، في طرفي نقيض، هذا يتعصب لسلطانه بهواه، وعبد الجليل يقفو الصواب يزعمه ويتحراه، فكانا ربما اجتمعا فيكون بينهما بون بعيد، وشقاق شديد: فأما عبد الجليل فقد ذكرت الخبر عما فعل، وشرحت كيف قتل، وأما أبو القاسم هذا فإنه غرة القتال فأقدم عليه، وهيت له القتل فبرز إليه، على حال لو تخيل بها المجد لجحده، وفي يوم لو رآه دون الماء لما ورده، فأدركه سوعان الرجالة(3/476)
فهبروه بالسيوف، وجرعوه أكره ما كان له من الحتوف، فصار حديثهما عجباً من الخبر عجيباً، ومثلاً في تصرف القدر مضروباً، وكلاهما أنهب نفسه الأقتال، وذاق منيته على يدي من خال.
ولابن مرزقان هذا أخبار طريفة، ونوادر في الشعر معروفة، ونأخذ فيما بعد بطرف مستطرف منها، إن شاء الله.
وقد أثبت هنا من شعر عبد الجليل في مدحه الفائقة، وأوصافه الرائقة، ما يشهد أنه سابق الحلبة، وصدر الرتبة، وضاق ذرع هذا المجموع، عن تضمين ما له من البديع، فجمعت شعره على حروف المعجم في تصنيف ترجمته ب - " كتاب الإكليل المشتمل على شعر عبد الجليل " وكذلك فعلت في سائر أعيان الوزراء الكتاب، لم يتسع لاستيفاء محاسنهم هذا الكتاب، فجمعت في تأليف ترجمته ب - " سلك الجواهر [93 أ] من نوادر ترسيل ابن طاهر " وفي تصنيف رابع وسمته ب - " كتاب الاعتماد على ما صح من أشعار المعتمد بن عباد " وفي كتاب خامس ترجمته ب - " نخبة الاختيار من أشعار ذي الوزارتين أبي بكر بن عامر ". ولبعض الناس إلى كلام بعض صغو، وذلك الكلام عند آخرين - على جودته - لغو، وإنما كان ذلك لتباين النحائز، واختلاف الغرائز، فاستوفيت في هذه التواليف لكل فرقة مرادها، وخلصت لها موادها، إن شاء الله.(3/477)
ما أخرجته من شعر عبد الجليل في شتى الفنون
من ذلك ما له في الرثاء والتأبين
من ذلك قصيدته في الأستاذ أبي الحجاج يوسف بن عيسى المعروف بالأعلم، أولها:
سبق الفناء فما يدوم بقاء ... تفنى النجوم وتسقط البيضاء يقول فيها:
نفسي وحسي إن وصفتهما معا ... آل يذوب وصخرة خلقاء
لو تعلم الأجبال كيف مآلها ... علمي لما امتسكت لها أرجاء
إنا لنعلم ما يراد بنا فلم ... تعيا القلوب وتغلب الأهواء
طيف المنايا في أساليب المنى ... وعلى طريق الصحة الأدواء
بتعاقب الأضداد مما قد ترى ... جلبت عليك الحكمة الشنعاء
ماذا على ابن الموت من إبصاره ... ولقائه هل عقت الأبناء
أيغرني أن يستطيل بي المدى ... وأبي بحيث تواصت الغبراء(3/478)
لم ينكر الإنسان ما هو ثابت ... في طبعه لو صحت الآراء
ونظبر موت المرء بعد حياته ... أن تستوي من جنه الأعضاء
دنف يبكي للصحيح وإنما ... أمواتنا لو تشعر الأحياء
وسواء أن تجلى اللحاظ من القذى ... أو تنتضى من شخصها الحوباء
ما النفس إلا شعلة سقطت إلى ... حيث استقل بها الثرى والماء
حتى إذا خلصت تعود كما بدت ... ومن الخلاص مشقة وعناء قال ابن بسام: لعل عبد الجليل اكتسب في هذا البيت والذي قبله العمل بحقيقة النفس ما جهله في وصفه لها قبل أنها " آل يذوب " وما أعجب أيضاً قوله عن جسمه بأنه صخرة خلقاء، اللهم إلا إن كان عنى بذلك رأسه كان يلقب بالمدمغة. وذهب هنا من صفة النفس إلى مذهب كلامي، كقول بعض أهل بلدنا، وهو أبو عامر ابن سوار الشنتريني، من جمة أبيات:
يا لقومي دفنوني ومضوا ... وبنوا في الطين فوقي ما بنوا
ليت شعري إذ رأوني ميتاً ... وبكوني أي جزأي بكوا
أنعوا جسمي فقد صار إلى ... مركز التعفين أم نفسي نعوا
كيف ينعون نفوساً لم تزل ... قائمات بحضيض وبجو
ما أراهم ندبوا في سوى ... فرقة التأليف إن كانوا دروا(3/479)
وهذا معنى فلسفي، قلما عرج عليه عربي، وإنما فزع إليه المحدثون من الشعراء، حين [93ب] ضاق عنهم منهج الصواب، وعدموا رونق كلام الأعراب، فاسترحوا إلى هذا الهذيان استراح الجبان إلى تنقص أقرانه، واستجادة سيفه وسنانه؛ وقد قال بعض أهل النقد إنه عيب في الشعر والنثر أن يأتي الشاعر أو الكاتب بكلمة من كلام الأطباء، أو بألفاظ الفلاسفة القدماء؛ وإني لأعجب من أبي الطيب، على سعة نفسه، وذكاء قبسه، فإنه أطال قرع هذا الباب، والتمرس بهذه الأسباب، وذكاء المعري: كثر به انتزاعه، وطال إليه إيضاعه، حتى قال فيه أعداؤه وأشياعه، وحسبك من شر سماعه، وإلى الله مآله، وعليه سؤاله.
وإنما سلك عبد الجليل في هذا المعنى سبيل القائل حيث يقول:
يا سالكاً موئلاً يكلمنا ... عرج أخبرك خالص الفائد
حسمك والنفس خلتا عرضٍ ... وكل خل لخله قائد
والنفس تلقى الخلود إن خلصت ... والجسم لا باقياً ولا خالد وقال المتنبي:
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب
فقيل تخلص نفس المرء سالمةً ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب وقال:(3/480)
إلف هذا الهواء أوقع في الأن ... فس أن الحمام مر المذاق
والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون بعد الفراق وقال:
تمتع من سهاد أو رقادٍ ... ولا تأمل كرىً تحت الرجام
فإن لثالث الحلين معنى ... سوى معنى انتباهك والمنام وقال:
تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمان هن من كسبه
فهذه الأرواح من جوه ... وهذه الأجسام من تربه
يموت راعي الضأن في جهله ... ميتة جالينوس في طبه
وربما زاد على عمره ... وزاد في الأمن على سربه وإنما نقل أبو الطيب هذا المعنى من قول أبي غسان المتطبب:
حكم كأس المنون أن يتساوى ... في حماها الغبي والألمعي
ويحل البليد تحت ثرى الأر ... ض كما حل تحتها اللوذعي
أصبحا رمةً تزايل عنها ... فصلها الجوهري والعرضي(3/481)
وتلاشى كيانها الحيواني ... وأدى تقويمها المنطقي وهذا كلام من الإلحاد، على غاية الإضمحلال والفساد، فليس تساوي الناس في الموت والفناء، حجةً في عدم البقاء، والمراتب في دار الجزاء.
ومن شعر أبي العلاء، في هذه الأنحاء، التي ولع بها أيضاً وشغف، وصرف كلامه فيها فتصرف، قوله:
والنفس أرضية في قول طائفةٍ ... وعند قوم ترقى في السموات
وكونها في طريح الجسم أحوجها ... إلى ملابس عنتها وأقوات وقال:
وأوصال جسم للتراب مآلها ... ولم يدر دارٍ أين تذهب روحها وقال:
والروح تنأى ولا يدري بموضعها ... وفي التراب لعمري يرفت الجسد [وقال] :(3/482)
والعيش كالماء يغشاه حوائمنا ... فصادرون وقوم إثرهم وردوا [94أ]
ومد وقتي مثل القصر غايته ... وفي الهلاك تساوى الدر والبرد وقال:
أما الصحاب فقد مروا وما عادوا ... وبيننا في لقاء الموت ميعاد
سيران ضدان من روح ومن جسد ... هذا هبوط وهذا فيه إصعاد وقال:
وفكري سل حب المال مني ... ووجدي بالحياة أطال شعفي
ستضربني الحوادث في نظري ... فتمحقني ولا يزداد ضعفي رجعت إلى ما قطعت من قصيدة عبد الجليل.
وفيها يقول:
كذبت حياة المرء عند وجودها ... وجد الحمام ومنه كان الداء
لله أي غنيمة غنم الردى ... ومن الفجائع غارة شعواء
من كان غرة جنسه حتى أمحت ... فإذا البرية كلها دهماء
جبل تقوض لو تشخص عظمه ... لتواصت الغبراء والخضراء
ومغيض ما قد غاض منه شاهد ... أن لا يدوم بحاله الدأماء(3/483)
أكبرت نعي جلاله فنفيته ... وهو الجلية ما عليه خفاء
مات ابن عيسى من يقول به عسى ... شفقاً وليس مع الحمام رجاء ومنها:
أفلا حمته فضائل موفورة ... وجلالة تعنو لها العظماء
وأذمة في سر لخمٍ طالما ... خدمت رعاية حقها الأمراء
شهروا سلاح الدمع خلف سريره ... إذ لم يكن للباترات غناء
رحنا به بل بالسيادة والعلا ... والشمس نجم والنهار مساء
نطأ القلوب على سواء سبيله ... فالسير مهل والعثار ولاء
أخذ الأسى فيه البرود بثاره ... مما جناه الزهو والخيلاء
حتى إذا بلغوا به ملحوده ... قمنا به لو أنه الجوزاء
ضرب الهدى في لحده بيمينه ... فتناولته عرصة فيحاء
وأظله التنزيل يتلو نفسه ... بتلاوةٍ لم يؤتها القراء
مستصحباً أعماله متأنساً ... بزواهرٍ هي والنجوم سواء
ولربما استخلصت منا أنفساً ... ملأت ضريحك والصدور جلاء
وهناك لو كشف الغطاء لناظرٍ ... حول القليب حديقة غناء
في الجب إذ يحوي سميك أسوة ... لو حم منك وقد حجبت لقاء
يا تربة استبقى سناه، ويا فلا ... لا تلحقنك جريمة شنعاء
الله في وفي جوانح رطبةٍ ... لم تخل من شفقاتها الأعداء
أبنيه نحن وأنتم شرع به ... وعلى المصاب بفقده شركاء(3/484)
هزوا قوادمكم إلى عليائه ... قد رشحت أبناءها الفتخاء [94ب]
أما وقد شبهت ماثل رسمه ... سطرا فثم الحكمة الغراء
واعجب لذاك الخطك في صفح الثرى ... أن حاز علماً ما له إحصاء
أنى وسعت وأنت مضجع واحدٍ ... من هذه الآفاق منه ملاء
يا زائريه تكلحوا بصعيده ... كحل البصائر تلكم البوغاء
فغرت له فاها الجدالة فانطوى ... في طيها الإسهاب والإيماء
قسم الأنام تراث علمك فاستوى ... في نيله البعداء والقرباء
كنا عبيدك في اعتقاد نفوسنا ... إذ في اعتقادك أننا أبناء
يا ملبس النعمى يجر ذيولها ... لبست ثراك غمامة وطفاء
وبكت عليك الشمس حق بكائها ... أن كان قد تتفاقد النظراء
خذها علالة خاطر دلهته ... من حيث ينشط جاءه الإعياء
قامت تناوح فيك كل قصيدة ... ثقفتها وقناتها زوراء أنشدتها على توالي الانتخاب، حسبما صنعته في أكثر أشعار هذا الكتاب.
قوله: " أيغرني أن يستطيل بي المدى " ... البيت، يلمح من بعض الوجوه، وإن لم يشبهه كل التشبيه، قول أبي العلاء:
وقبيح بنا وإن قدم العه - ... د هوان الآباء والأجداد(3/485)
وأبو العلاء إنما ذهب إلى قول أبي الطيب:
يدفن بعضنا بعضاً ويمشي ... أواخرنا على هام الأوالي وقوله: " وسواء آن تجلى اللحاظ " ... البيت، كقول التهامي:
واستل من أترابه ولداته ... كالمقلة استلت من الأشفار إلا أن عبد الجليل قد نفخ فيه روحاً، وسلك به مسلكاً مليحاً، وولد له إحساناً صريحاً.
وأما قوله: " أكبرت نعي جلاله " ... البيت، فقل أحد من الشعراء قال بيتاً في الرثاء، إلا ولهذا المعنى أشار، وحواليه دار، لأنه من متداولات المعاني، قال صريع الغواني:
تأمل أيها الناعي المشيد ... أحق أنه أودى يزيد
أتدري من نعيت وكيف فاهت ... به شفتاك كان بها الصعيد وقال أبو الطيب:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر ... فزعت فيه بآمالي إلى الكذب(3/486)
وقال أبو إسحاق بن معلى من أهل عصرنا:
وتلجلج الناعي به فسألته ... عن ذا الحديث لعله يرتاب وقال أبو الحسن ابن الجد:
تصاممت عنها مستريحاً إلى المنى ... وقلت عساها في الأحاديث بهتان وقال أيضاً بعض أهل عصرنا:
ونبهني ناع مع الصبح كلما ... تشاغلت عنه عن لي وغناني [95 أ]
أغمض أجفاني كأني نائم ... وقد لجت الأحشاء في الخفقان ولبعضهم أيضاً في قريب منه وإن لم يكن به:
أيحيى وما أدعوك إلا تعلة ... نغالط فيك النفس حينا من الدهر
وإنا لندري أنه لا يجيبنا ... ولكن تخلينا فما ندري وقوله: " شهروا سلاح الدمع " ... البيت، كقول أبي الطيب:
يبكي ومن شر السلاح الأدمع ...(3/487)
وقوله: " والشمس نجم " ... البيت، معنى أحسن فيه وإن لم يكن اخترع، فقد أحسن وأبدع اتبع.
وقوله: " نطأ القلوب " ... البيت، من قول التهامي:
كأن وخد مطاياهم إذا وخدت ... يطأن في حر وجهي أو على بصري وقوله: " أخذ الأسى فيه البرود " ... البيت، نبهه عليه ابن الرومي بقوله:
أخذت من رؤوس قوم كرام ... ثارها عند أرجل الأعلاج وقوله: " يا تربة استبقي " ... البيت، من قول المعري:
فيا قبر واه من ترابك لينا ... عليه وآه من جنادلك الخشن
لأطبقت إطباق المحارة فاحتفظ ... بلؤلؤة المجد الحقيقة بالخزن وقوله: " أنى وسعت وأنت مضجع واحد " ... البيت، كقول أشجع السلمي:(3/488)
فأصبح في لحد من الأرض ميتا ... وكان به حيا تضيق الصحاصح وأجمع أثمة الأدباء، أنه لا فرق بين المدح والرثاء، إلا أن يقال:
أودى وعدم به كيت وكيت وشبهه، مما يعلم أن الممدوح ميت، هذا إذا كان المؤبن ملكا أو ذا صيت وقدر، كقول النابغة في حصن بن حذيفة بن بدر:
يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم ... فكيف بحصن والجبال جنوح وألفاظ النساء، أشجى في باب الرثاء، من كثير من الشعراء، لما ركب في طباعهن من الخور والهلع، وألفاظ الناس مبنية على كثرة التفجع كما قال حبيب:
لولا التفجع لادعى هضب الحمى ... وصفا المشقر أنه محزون ولذلك عروا المراثي من ألفاظ النسيب، وجرت بذلك سنة البعيد والقريب، على قديم الزمان، إلا ابن مقبل فإنه قال في رثائه لعثمان بن عفان رضي الله عنه:(3/489)
لم تنسي قتلي قريش ظعائناً ... تحملن حتى كادت الشمس تغرب ودريد في تأبين أخيه، تغزل أيضاً فيه، والشاذ لا يلتفت إليه، ولا يعول عليه.
ومن أشد الرثاء صعوبةً على الشعراء، تأبين الأطفال والنساء، ألا ترى أبا الطيب - وهو الذي قال، فأصاخت الأيام والليال، قد عابوا قوله في رثائه أم سيف الدولة:
سلام الله خالقنا حنوط ... على الوجه المكفن بالجمال وقالوا: ما له هذه العجوز يصف جمالها - وتعصب له بعضهم وقال: إنها استعارة، فقيل: إنها استعارة حداد في عرس، وكذلك قوله في أخته:
ولا ذكرت جميلاً من فعائلها ... إلا بكيت ولا ود بلا سبب [95ب] ولولا الإطالة، وأنها تفضي إلى الملالة، لزدنا، فلنرجع إلى ما وعدنا(3/490)
من شعر عبد الجليل في المدح، وهو فيه فائز القدح
قال من قصيدة في المعتمد بالله، أولها:
بيني وبين الليالي همة جلل ... لو نالها البدر لاستخذى له زحل
سراب كل يباب عندها شنب ... وهول كل ظلام عندها كحل
من أين أبخس لا في ساعدي قصر ... عن المساعي ولا في مقولي خطل
ذنبي إلى الدهر إن أبدى تعنته ... ذنب الحسام إذا ما أحجم البطل
يا طالب الوفر إني قمت أطلبها ... عليها تغنى بها الأسماع والمقل
لا كان للعيش فضل لا يجود به ... يكفي المهند من أسلابه الخلل
لكن بخلت بأنفاس مهذبةٍ ... تروي العقول وهن الجمر والشعل
إذا مدحت ففي لخمٍ وسيدها ... عن الأنام وعما زخرفوا شغل
وإن وصفت فكاليوم الذي عرفت ... بك الفرنجة فيه كنه ما جهلوا
وقد دلفت إليهم تحت خافقة ... قلب الضلالة منها خائف وجل
فراعهم منك وضاح الجبين وعن ... نشر الحسام يكون الرعب والوهل
وحين أسمعت ما أسمعت من كلم ... تمثلت لهم الأعراب والرعل
وكلما نفحت ريح الهوى خمدت ... ذماؤهم وسيوف الهند تشتعل(3/491)
جيش فوارسه بيض كأنصله ... وخيله كالقنا عسالة ذبل
يمشي على الأرض منهم كل ذي مرحٍ ... كأنما التيه في أعطافه كسل ومنها:
أشباه ما اعتقلوه من ذوابلهم ... فالحرب جاهلة من منهم الأسل
لولا اعتراضك سداً بين أعينهم ... لكان يغرق فيها السل والجبل
أنسيتها النظر الشزر الذي عهدت ... فكل عين بها من دهشة قبل
ترسلوا آل عبادٍ فربتما ... لم يدرك الوصف ما تأتون والمثل
إذا أسرتم فما في أسركم قنط ... وإن عفوتم فما في عفوكم خلل
يقبل الغل مرتاحاً أسيركم ... فهو البشير له أن تسحب الحلل قوله: " ذنب الحسام إذا ما أحجم البطل "، أشار إلى قول حبيب:
وقد يكهم السيف المسمى منية ... وقد يرجع المرء المظفر خائبا
فآقة ذا أن لا يصادف مضرباً ... وآفة ذا أن لا يصادف ضاربا وأخذه البحتري فقال:
وعذرت سيفي في تبو غراره ... إني ضربت فلم أقع بالمضرب ونعم ما نقله بعض أهل عصرنا، وهو أبو الفضل ابن شرف، وزاد(3/492)
فيه حسن النقل وبراعة التشبيه فقال:
تقلدني الليالي وهي مدبرة ... كأنني صارم في كف منهزم وقال ابن عبد الصمد السرقسطسي: [96أ]
ذل في ذا الزمان نظمي ونثري ... ذلة السيف في يمين الجبان وإن كان أبو الطيب سلك سبيلها، وكان في حسن مذهبه دليلها، حيث يقول:
أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم وقال أبو تمام:
نظرت في السير اللائي مضت فإذا ... وجدتها أكلت باكورة الأمم فجمع ابن شرف المعنيين، واتخذ طريقاً معلماً بين الطريقين، وأجاد المعري في هذا المعنى ما أراد وزاد، حيث يقول:
تمتع أبكار الزمان بأيده ... وجئنا بوهنٍ بعدما خرف الدهر(3/493)
فليت الفتى كالبدر جدد عمره ... يعود هلالاً كلما فني الشهر وقال:
كأنما الخير ماء كان وارده ... أهل العصور وما أبقوا سوى العكر وقال ابن شماخ من أهل عصرنا:
صفا للألى قبلي أتوا در دهرهم ... فلم يصف لي مذ جئت بعدهم عمر
فجاءوا إلى الدنيا وعصرهم ضحى ... وجئت وعصري من تأخره عصر وقال أبو جعفر المحدث من أهل عصرنا:
لقي الناس قبلنا غرة الدهر ولم نلق منه إلا الذنابى ... وقال عبد الجليل من قصيدة في ابن عمار:
قتلت بني الأيام خبراً فباطني ... مشيب وما يبدو علي شباب
ولما رأيت الزور في الناس فاشياً ... تخيل لي أن الشباب خضاب
وآليت لولا ملك لخم محمد ... لما كان ملك في الأنام لباب
ولولا ابن عمار وفاضل سعيه ... لأصبح ربع المجد وهو خراب
وما كان يؤتى المجد من حيث يبتغى ... ولا كان يدري للحوادث باب(3/494)
ولا أحرقت أرض العدو صواعق ... ولا مطرت أرض العفاة سحاب
وما كان هارون أصح وزارةً ... لموسى، وهل دون السحاب حجاب
بعيد الرضى في النصح ما كان راضياً ... لو أن له السبع الشداد قباب
نهوض ولو أن الأسنة مركب ... ورود ولو أن الحمام شراب
مضى مثلما يمضي القضاء وهزه ... همام يهز الجيش وهو هضاب
كما اقترنت بالبدر شمس منيرة ... له عن سناها في الخطوب مناب
فكايله صاع المودة وافياً ... وكل مثيبٍ بالوفاء مئاب
ومن كأبي بكرٍ السماكين همة ... أناف عليها عنصر ونصاب
فلفظته يوم المهابة خطبة ... ولحظته يوم اللقاء ضراب [96ب]
له سنة في الجد والهزل مثلما ... تدار كؤوس أو تدق حراب ومنها في وصف كلامه:
رقيق كما غنت حمامة أيكةٍ ... وجزل كما شق الهواء عقاب وله من أخرى:
أطلت في الدهر تصعيدي وتصويبي ... ودهر ذي اللب مضمار التجاريب
ورب أخرق لا يهدى إلى فمه ... أصاب غرة مأمول ومرغوب
وآفتي أدب بادٍ فضيلته ... من حيث يشفع لي قد صار يغري بي
كفى من اللحظ أني لا أنافس في ... حظٍ ومخبرتي تكفي وتجريبي
وقد أرى صوراً في الناس مائلةً ... أشيمها بين تحقيق وتكذيب(3/495)
لما ملأت يدي منهم لأخبرهم ... نفضت كفي بأشباه اليعاسيب
بيض وجوههم، سود ضمائرهم ... فما حصلت على عرب ولا نوب
الصدق أولى بمن يبدي ضغينته ... لا تجعل الصدق في نعت الأصاحيب ومن المدح:
في حسن رأي عبيد الله لي عوض ... وفضله بدل من كل مطلوب
وإن صحبت فتأميلي لغرته ... وذكره خير مألوف ومصحوب
بذلك الوجه تجلى كل غاشيةٍ ... عن ناظرٍ بوجوه اللوم محصوب
عاد المصلى بوضاح أسرته ... تنبيك عن خلد بالفهم مشبوب
فاستقبلت قبلة الإسلام بدر علاً ... يمسي له البدر نجماً غير محسوب
وغرةً تطلب الآمال قبلتها ... بين المحارب طراً والمحاريب
أدنى المؤيد إذ شطت منازله ... فضلاً بفضل وتهذيباً بتهذيب
كالطرف والقلب فيما بين ذاك وذا ... مسرى الضمير وتبعيد كتقريب يتطرف هذا، وإن لم يكن به، قول ابن الرومي:
كضمير الفؤاد يلتهم الدنيا وتحويه دفتا حيزوم ... ومنها:
فبت من وصفه في غاية قذف ... والطبع ينجدني والفكر يسري بي
كأنني واجد من عرف سؤدده ... ريح القميص سرت في نفس يعقوب(3/496)
وله من أخرى:
يعز على العلياء أني خامل ... وإن أبصرت مني خمود شهاب
وحيث يرى زند النجابة وارياً ... فثم يرى زند السعادة كابي ألم في هذا بقول أبي الطيب:
وما الجمع بين الماء والنار في يدي ... بأصعب من أن أجمع الوفر والفهما بل إلى قول الآخر أشار، وحواليه دار، وهو:
إذا جمعت بين امرأين صناعة ... فأحببت أن تدري الذي هو أحذق
فحيث يكون الجهل فالرزق واسع ... وحيث يكون النبل فالرزق ضيق وفي هذه القصيدة يقول عبد الجليل: [97أ]
وإني لفي دهر فرائس أسده ... سدىً عبثت فيه نيوب كلاب
أتخفى على الأيام غر مناقبي ... وقد بذ شأوي شأو كل نقاب
ويركبني رسم الخمول وقد غدت ... خصال العلا والمجد طوع ركابي(3/497)
سأرقى بهماتي قصارى مراتبي ... وإن كان أدناها يطيل طلابي
لتعلم أطراف الأسنة أنني ... كفيل بها عند الصدا بشراب
وتشهد أطراف اليراعات أنني ... بهن مصيب فصل كل خطاب
وليس نديمي غير أبيض صارمٍ ... وليس سيميري غير شخص كتاب
مضمخة لا بالخلوق أناملي ... مزعفرة لا بالعبير حرابي
ولكن بنفح يخجل الروض زاهراً ... ولكن بدعس في كلىً ورقاب ومنها:
ومن لم يخضب رمحه ي عداته ... تساوت به في الحي ذات خضاب
ومن لم يخضب رمحه في عداته ... تساوت به في الحي ذات خضاب
ومن لم يحل السيف من بهم العدا ... تحلى بخزي في الحياة وعاب
إذا ورق الفولاذ هز تساقطت ... ثمار حتوف أو ثمار رغاب
ومن يتخذ غير الحسام مخالباً ... فما هو إلا وارد بسراب
ومن غره من ذا الأنام تبسم ... فبالعقل قد أضحى أحق مصاب وله من أخرى أولها:
لولا تبسم ذاك الظلم والبرد ... قبلت نصحك إلا في هوى الغيد
بل لا أطيعك في غصن أهيم به ... كأنه نابت في طي معتقدي
وأين بي وبصبري عن حفون رشا ... غوامض السحر لا ينفثن في العقد
يعدي على اللوم قلبي وهي تؤلمه ... كما تضر كمياً شكة الزرد(3/498)
وهذا من قول أبي الطيب:
بنو كعب وما أثرت فيها ... يد لم يدمها إلا السوار
لها من قطعه ألم ونقص ... وفيها من جلالته افتخار ومن قصيدة عبد الجليل حيث يقول:
قل للرشيد وقد هبت نوافحها ... أسرفت يا ديمة المعروف فاقتصد
أشكو إليك الندى من حيث أحمده ... لو فاض فيضاً علي البحر لم يزد قال ابن بسام: وأخبرني من لا أرد خبره أنه دخل على عبد الجليل يوماً وقد تطاول حتى كاد يمس رأسه السماء، فقال له: قد أتيت [ببيت] فلم أزد، وما أحسب حسنه لأحد، وأنشد هذا البيت؛ قال الحاكي، فقلت له: فأين أنت من قول أبي عبادة:
تنصب البرق مختالاً فقلت له ... لو جدت جود بني يزداد لم تزد قال: فبدا عبوسه، وتضاءل حتى كدت أدوسه، وقال: كسرتني والله، لو خطر هذا على بالي ما قلت [97ب] ذلك.
وفيها يقول:(3/499)
يا قاتل الشكر بالإحسان يعمره ... مهلاً أما لقتيل الجود من قود
عجبت من كرمٍ في راحتيك بدا ... إشراقه كيف لم يعز إلى الفند
جادت سحابك إذ جادت على أملي ... فقال أشياعها جادت على بلد
أثريت عندك من جاه ومن نشب ... حتى وجدت الغنى في همتي ويدي
يا واحداً تقتضي آلاؤه جملاً ... برحت بي وبنظم الشكل فاتئد
للناس بعدك في العليا منازلهم ... والواحد الفرد يحوي مبدأ العدد
يدعى الرشيد ولم تعدم به صفة ... يا من هو الفصل بين الغي والرشد
لك الرشادة أخلاقاً وتسمية ... مثل البسالة إذ تعزى إلى الأسد
أي الفضائل تستوفيه مكتهلاً ... وذا شبابك قد ربى على الأمد
بادهتني بأيادٍ لا يقوم بها ... ما في لساني من قصد ومن لدد
عاد الزمان بما أوليتني غصناً ... غضاً فقمت مقام الطائر الغرد
ما عذر طبعي أن ينبو وما تركت ... به أياديك من أمت ومن أود وله من أخرى في المعتمد أولها:
قالوا صحا وأدال الغي بالرشد ... من لي بذاك الصبا في ذلك الفند
لئن صحوت فعن كره وقد علموا ... بأي علقٍ من الدنيا فتحت يدي
لم يقصد الدهر إصلاحي ولي مثل ... في الغصن تذهب عنه صورة الغيد(3/500)
ومنها:
طوى الزمان لييلات نعمت بها ... رنا بعين الرضى منها ولم يكد
وقاتل الله أدوار السنين فكم ... مزجن بالسم ما أحلولى من الشهد
لم يرسم الشيب في فودي خطته ... إلا ترحلت اللذات من خلدي
ضيف الوقار أفدنا منه تكرمةً ... بما تثقف من أمت ومن أود
وأسمر الخط لا تبدو فضيلته ... بغير أزرق كالنبراس متقد
للدهر عندي بنات من تجاربه ... أولى وأجدر بي من بيضها الخرد
الحر يزرأ إلا فضل شيمته ... وإن تقلب بين البؤس والنكد
وما الغنى في يد مملوءة عرضاً ... لكنه في وفور العزم والجلد
أو في رجاء ابن عباد وقد رغبت ... أيدي الملوك عن الإفضال والصفد
استوثق الناس مما في أكفهم ... وربما نفثوا بخلاً على العقد
ولا يرى العقد إلا في أذمته ... وما حوته يداه غير منعقد
بقية الفضل في دنيا قد ارتضعت ... ورحمة الله في سلطانه النكد
مستجمع الفكر لا ينحو معانده ... على بوائد من آرائه بدد [98أ]
إذا استخفت حلوم القوم وقرها ... يقظان يسعى إليهم سعي متئد
يكفي المؤيد في الأعداء أن له ... عيناً من الله لا تغفى من الرصد(3/501)
تلقى به صل أصلالٍ وآيته ... أن تستبين عليه قشرة الزرد
وما تمر بأدهى من ليوث وغى ... يتبعن منه أباناً وافر اللبد
يجر من شجر الخطي غابته ... وذاك ما لم تسعه عزمة الأسد ومنها:
جاريتم الدهر في مضمار حلبتها ... جرياً سواءً إلى أقصى من الأمد
لكن تحيتها قدماً وقد شهدت ... " يا دار مية بالعلياء فالسند "
لخم ابن يعرب أولى أن يضاف إلى ... سناء معتضد فيكم ومعتمد
أنت الجميع وأنت الفرد قد علموا ... سريرة لم تكن في واحد العدد ومنها:
يا أشبه الناس آداباً بما لك من ... جمال وجه تحدتني وفضل يد
من أين لي قدم في الفضل سابقة ... لو أن طبعي في واديك لم يرد
هذا الأتي لذاك المزن منتسب ... عاري الأديم من الأقذاء والزبد
أرسلتها في سماء المجد طائرةً ... عن غير جهد وفيها متعة الأبد
تصحي النهى أبداً من حيث تسكرها ... وتسمع اللحظ صوت البلبل الغرد
لو أن لقمان يعطى عمرها بك لم ... يخن عليها الذي أخنى على لبد
طبعتها ولك التبر الذي طبعت ... منه فأسلمتها في كف منتقد وله وقد توقف مرتبه عند العامل:(3/502)
ألستم معشر الأملاك طائفةً ... تقضي بتخليدها هذي الأناشيد
فإن نقضتم أناساً من نوالكم ... فحق منكم لأهل الشعر تزييد
لكم خلقنا ولم نخلق لأنفسنا ... فإنما نحن تحميد وتمجيد
يا صاحب المجد إن المجد سائمة ... تضل إن لم يكن بالشعر تقييد
خذني بما شئت من غراء شاردة ... يصغي الأصم إليها وهو مفؤود
واعذر بتقصيره من لا يزال له ... في ساقة الرزق إرقال وتوخيد
لا يدرك القوت مما أنت واهبه ... حتى يطول من العمال تنكيد
وليس للشعر إلا خاطر يقظ ... يهزه منك ترفيه وتأييد
وما المدائح إلا بالملوك وهل ... يبدي سنا العقد إلا النحر والجيد وهذا كقول أبي الطيب:
وفي عنق الحسناء يستحسن العقد ... وله من أخرى إذ جاز المعتمد البحر إلى أمير المسلمين وناصر الدين، أولها:
عزم تجرد فيه النصر والظفر ... وفكرة خمدت من تحتها الفكر وقال فيها:(3/503)
ركبت في الله حتى البحر حين طما ... آذيه وبسوط الريح ينحصر [98ب]
طرف يزل عليه سرج فارسه ... وليس مما تضم الحزم والعذر
كأن راكبه في متن ذي لبد ... غضبان تقدح من أنفاسه الشرر
حملت نفسك فيه فوق داهيةٍ ... دهياء لا ملجأ منها ولا وزر
عذرت لو أنه ميدان معركةٍ ... يسمو له رهج في الجو منتشر
في حيث للكر والإقدام مضطرب ... وحيث تملك ما تأتي وما تذر
عساك خلت حباب الماء من زرد ... تعود الخوض فيه طرفك الأثر
أو قلت في الموج خرصان معرضة ... تحارب الجيش أو مصقولة بتر
هي البسالة إلا أنها سرف ... تنفي الحذار، ومما يؤثر الحذر
لا تحمل الدين والدنيا على خطر ... وليس يحمد في أمثالك الغرر
إن كان ثوبك مختصاً بلابسه ... فقد تعلق من أذياله البشر
هلا رحمت نفوساً حام حائمها ... عليك واستولت الأشواق والذكر
وعاد أجبنها من كان أشجعها ... شحاً عليك وأحيا ليله السهر
إنا لفي حمص نستقري محاضرها ... وللقلوب بذاك اللج محتضر
لا نحسن الظن إشفاقاً وقد ضمنت ... لنا مساعيك أن يعنو لك القدر
كأنما النهر لما سرت سار إلى ... ذاك المجاز فأجرى فلكك النهر
كأنما قمت بالجدوى تساجله ... فناله دهش أو نابه حصر(3/504)
أحاط جودك بالدنيا فليس له ... إلا المحيط مثال حين يعتبر
وما حسبت بأن الكل يحمله ... بعض، ولا كاملاً يحويه مختصر
لم تثن عنك يداً أرجاء ضفته ... إلا ومدت يداً أرجاؤه الأخر
تواصل اللحظ حسرى من هنا وهنا ... وليس غير ادعاء الجص والحجر
فصرت فوق دفاع الله تهصره ... براحة البر والتقوى فينصهر
كأنما كان عيناً أنت ناظرها ... وكل شط بأشخاص الورى شفر وهذا قول أبي الحسن السلامي، وقد دخل مع بعض إخوانه دجلة، فقال:
وميدان تجول به خيول ... تقود الدارعين وما تقاد
ركبت به إلى اللذات طرفاً ... له جسم وليس له فؤاد
جرى فظننت أن الأرض وجه ... ودجلة ناظر وهو السواد وعبد الجليل أيضاً الذي يقول في صفة الأسطول:
يا حسنة يوماً شهدت زفافها ... بنت الفضاء إلى الخليج الأزرق
ورقاء كانت أيكة فتصورت ... لك كيف شئت من الحمام الأورق(3/505)
حيث الغراب يجر شملة عجبه ... وكأنه من عزةٍ لم ينعق [99أ]
من كل لابسة الشباب ملاءة ... حسب اقتدار الصانع المتأنق
شهدت لهن العين أن شواهناً ... أسماؤها فتصحفت في المنطق
من كل ناشرةٍ قوادم أفتخٍ ... وعلى معاطفها فراهة شوذق
زأرت زئير الأسد وهي صوامت ... وزحفن زحف مراكب في مأزق
ومجادف تحكي أراقم ربوةٍ ... نزلت لتكرع في غديرٍ متأق
والماء في شكل الهواء فلا ترى ... في شكلها إلا جوارح تلتقي ومن البديع في وصف الأسطول قول محمد بن هانئ الأندلسي من جملة قصيد، قال فيه:
قباب كما ترخى القباب على المها ... ولكن من ضمت عليه أسود
أنافت بها آطامها وسما بها ... بناء على غير العراء مشيد
من الطير إلا أنهن جوارح ... وليس لها إلا النفوس مصيد
إذا زفرت غيظاً ترامت بمارجٍ ... كما شب من نار الجحيم وقود(3/506)
وقال علي بن محمد الإبادي يصف أسطول القائم من كلمة يقول فيها:
يتنزل الملاح منه ذؤابة ... لو رام يركبها القطا لم يركب
وكأنما رام استراقة مقعدٍ ... للسمع إلا أنه لم يشهب
وكأنما جن ابن داود هم ... ركبوا جوانبها بأعنف مركب
من كل مسجور الحريق إذا انبرى ... من سجنه انصلت انصلات الكوكب
عريان يقدمه الدخان كأنه ... صبح يكر على ظلام غيهب
ولواحق مثل الأهلة جنحٍ ... لحق المطالب فائتات المهرب
يذهبن فيما بينهن لطاقةً ... ويجئن فعل الطائر المتقلب
كنضانض الحيات رحن لواغباً ... حتى نقعن ببرد ماء المشرب
شرعوا جوانبها مجادف أتعبت ... شأو الرياح لها ولما تتعب
تتضاع من كئبٍ كما نفر القطا ... طوراً وتجمتع اجتماع الربوب
والبحر يجمع بينها فكأنه ... ليل يقرب عقرباً من عقرب رجع:(3/507)
وقال عبد الجليل من قصيدة أولها:
محل ألبس الدنيا جمالاً ... وإن فضح المقاصر والخلالا
بناه كما بنى العلياء بانٍ ... يشيد مآثراً ويبيد مالا ومنها في وصف القصر:
وللزاهي الكمال سناً وحسناً ... كما وسع الجلالة والكمالا
يحاط بشكله عرضاً وطولاً ... ولكن لا يحاط به جمالا
تواصلت المحاسن فيه شتى ... فوفد اللحظ ينتقل انتقالا [99ب]
وقور مثل ركن الطود ثبت ... ومختال من الحسن اختيالا
تدافع من جوانبه ائتلافاً ... فكاد المستبين يقول مالا
فلو أدنوا حرام السحر منه ... لأضحى يعبد السحر الحلالا
سماء ترتمي بعباب بحرٍ ... كأن بها إكاماً أو تلالا
فقد كاد اللبيب يهال منه ... ويحسب أن بحر الجو سالا
فما أبقى شهاباً لم يصوب ... ولا شمساً تنير ولا هلالا
وللبهور البهي سماء نور ... تمثل شكلها حلقاً دخالا
مزخرفة كأن الوشي ألقى ... عليها من طرائفه خيالا(3/508)
وما خلت الهواء يكون روضاً ... ولا سقفاً يكون كذاك آلا
بلى حققت أن النار كانت ... له ظئراً وعنصره زلالا
فلم أعدل بجامده مذاباً ... ولم أنكر لندوته اشتعالا
وكل مصور حي جماد ... تبين فيه زهواً أو دلالا
له عمل وليس له حراك ... وإفهام وما أدى مقالا ومنها:
ويفرغ فيه مثل النصل بدع ... من الأفيال لا شكو ملالا
رعى رطب اللجين فجاء صلداً ... وقاحاً قلما يخشى هزالا
كأن به على الحيوان عتباً ... فلم يرفع لرؤيتها قذالا
وأوصى بالرياحين اغتراساً ... همام طالما اغترس الرجالا
وكان الغرس والإثمار وقفاً ... لمن جعل الندى والوعد حالا
وقامت يوم قمنا منشدات ... فغضت من رويتنا ارتجالا ومنها:
براعة مصنع جلبت فاضحت ... براعة منطقي منها مثالا
فكم طلب العويص فما تأبى ... وكم قلب العيان فما استحالا
ولكن المؤيد عز وصفاً ... وأعيتني حقيقته منالا(3/509)
إذا استوضحته أبصرت دهراً ... لو أن الدهر لم ينسخ فعالا
أقام لها معاليها شموساً ... ومد لنا مساعيه ظلالا
وآراء ينتجها رزاناً ... فيرسلهن أقداراً عجالا
وفيه أناة مقتدر حليم ... تكاد تغر بالأسد النمالا
ويبطش بطشة تنبي الأعادي ... أكفهم وما حملوا اعتقالا
من البيض الذين إذا تولوا ... صنيعاً لم تجد فيهم شمالا
وبينا نجتلي منهم بدوراً ... إذا بهم قد اعتضروا جبالا
تألق وجهه وزكت نهاه ... فقلت مثاله محق الضلالا [100أ]
وما يوم العروبة يوم سر ... لقد نطق الزمان به فقالا
عجزنا أن نحقق منه وصفاً ... وما عجز الرشيد له امتثالا
يعارضه بكل سبيل مجدٍ ... فتحسبه ينافسه خلالا
ولما لم يطق يثني صباه ... أحال على شمائله اكتهالا
وكاد يكونه حتى تراه ... بجاذبه ولا يقوى انفصالا
وأبهجنا طولعهما بدستٍ ... طلوع الأصل والفرع اتصالا
فلم أر قبله بدراً كساه ... جوار الشمس تماً واكتمالا(3/510)
وفي يقول:
أتتك على خلاقها جيادي ... وإن كان الضياع لها شكالا
وما يبليك ذهن أحوذي ... إذا أصبحته جداً تفالى
تزاحمت الهموم خلال صدري ... فما تركت لأنفاسي مجالا
وما خلت النسيم يكون ثقلاً ... ولا نفحاته تأتي وبالا
كأني كلما استنشقت منه ... أرد به إلى كبدي نصالا
وكيف يصح ذو قلب أبي ... إذا كان الإباء له نكالا
مضى ماء الشبيبة في الأماني ... ومن ولى فما يرجو اقتبالا
وكنتم خير من يرجى فما لي ... وجدت يقين آمالي محالا
ولم أحمل ودادكم ادعاءً ... ولا أظهرت مدحكم انتحالا احتذى عبد الجليل فيما وصف به الرشيد من تقيله لمذهب أبيه قول الخنساء، وقد قيل لها مدحت أخاك حتى هجرت أباك، فقالت:(3/511)
جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الحضر
حتى إذا جد الجراء وقد ... ساوى هناك العذر بالعذر
وعلا هتاف الناس أيهما ... قال المجيب هناك لا أدري
برقت صحيفة وجه والده ... ومضى عل غلوائه يجري
أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السن والكبر
وهما كأنهما وقد برزا ... صقران قد حطا إلى وكر وقيل لأبي عبيدة: ليس هذا في مجموع شعر الخنساء، فقال: العامة أسقط من أن يجاد عليها بمثل هذا.
وقد أحسن البحتري حيث يقول:
جد كجد أبي سعيد إنه ... ترك السماك كأنه لم يشرف
قاسمته أخلاقه وهي الردى ... للمعتدي، وهي الندى للمعتفي
فإذا جرى في غاية وجريت في ... أخرى التقى شأوا كما في المنصف وقول الخنساء: " يتعاوران ملاءة الحضر " أبدع استعارة، وأنصع عبارة. وقال عدي بن الرقاع: [100ب](3/512)
يتعاوران من الغبار ملاءةً ... غبراء محكمة هما نسجاها
تطوى إذا وردا مكاناً جاسياً ... وإذا السنابك أسهلت نشراها وإلى هذا أشار حبيب بقوله:
يثير عجاجة في كل ثغرٍ ... يهيم بها عدي بن الرقاع وأول من نظر إلى هذا المعنى شاعر من بني عقيل فقال من جملة أبيات:
قفار مرورات يحار بها القطا ... ويمشي بها الجأبان يقتريان
يثيران من نسج الغبار عليهما ... قميصين أسمالاً ويرتديان وقول عبد الجليل: " يثير مآثراً ويبيد مالا "، سماه بعض أهل النقد معاقدة، وهو أن يشترط الشاعر شروطاً في معان يريد التوفيق بينها، فيعقد لكل صف منها ما يشاكله ويماثله، ومن عجيب ذلك قول جنوب أخت عمرو ذي الكلب:
فأقسمت يا عمرو لو نبهاك ... إذاً نبها منك داءً عضالا(3/513)
إذاً نبها ليث عريسةٍ ... مفيتاً مفيداً نفوساً ومالا فعاقدت بين مفيت ومفيد.
وقال المجنون:
وأذنيتني حتى إذا ما سبيتني ... بقول يحل العصم سهل الأباطح
تجافيت عني حين لا حاجة لي حيلة ... وخليت ما خليت بين الجوانح فعاقد بين قوله: " أدنيتني " و " تجافيت عني " حيث تشابها رسماً وشكلاً، وعاقد أيضاً بقوله: " وخليت ما خليت " وبقوله: " يحل العصم سهل الاباطح ".
وإلى هذا أشار العباس بن الأحنف بقوله:
أشكو الذين أذاقوني مودتهم ... حتى إذا أيقظوني في الهوى رقدوا ومن مليح هذا لبعض أهل أفقنا قول يحيى بن هذيل القرطبي:
لما وضعت على قلبي يدي بيدي ... وصحت في الليل الظلماء واكبدي
ضجت كواكب ليلي في مطالعها ... وذابت الصخرة السماء من جلدي(3/514)
فعاقد بين قوله: " يدي بيدي " و " ذابت الصخرة الصماء من جلدي "؛ وذكر أن المتنبي أنشد من شعر أهل الأندلس، حتى أنشد هذين البيتين، فقال: هذا أشعر القوم.
ولما سمع المعتمد بن عباد قصيدة عبد الجليل هذه ووعاها، سرت في نفسه حمياها، وكانت سبباً لصلة من كان ببابه من الشعراء، غير أنه وفى لبعد الجليل في الحباء.
وكانت يوماً بدار أبي بكر الخولاني المنجم، فاتفق أن دخل علينا عبد الجليل وفي كمه صلة المعتمد من ضرب السكة لديه، قيمتها ثلاثة آلاف درهم، فرفع إليه إثر ذلك قصيدته التي أولها:
ما الشعر مرتجلاً أو غير مرتجل ... ببالغ كنه ذاك السؤدد الجلل
بأي لفظ أحلي منك ذا شيم ... لولا حلاها لكان الدهر ذا عطل
لا حلة الشمس مما قد أحاوله ... ولا نظام النجوم الزهر من عملي
وسائلين أجدا في مباحثتي ... خذا حديثي عن الأملاك والدول [101أ]
جيش المؤيد يقضي من خلائقه ... أن الملوك له ضرب من الخول
فالفرق بينهما في كل معلوةٍ ... كالفرق يوجد بين النقص والكمل
سل المكارم عنه كيف تعلمه ... أو لا فسل شفرات البيض والأسل(3/515)
أحد من ذهنه في كل معضلة ... إذا تعثر في العسالة الذبل
واري البصيرة لا تزري الأناة به ... ولا تعود عليه آفة العجل
لذلك الحلم في الأعداء قد علموا ... فتك يسد طريق الأمن بالوجل
صاحي النهى عربدت فيهم مكايده ... فطار عنهم خمار السكر والثمل
يجيزنا كلما حكنا مدائحه ... والصبح عريان مستغن عن الحلل
لله آذار من شهر سموت به ... حتى لقيت عليه الشمس في الحمل
ما بين نور جبين منك مؤتلق ... وبين فضل طباع منه معتدل
ونائل أسدي النوء طوع يدي ... يسطو على القرن أو يسطو على البخل
فديت موسومة باليمن مد بها ... فكان تقبيلها أسنى النهى قبلى
لثمتها فرشفت العز ممتزجاً ... فيه الغنى وأخذت الري في النهل وقال عبد الجليل أيضاص من قصيدة في المعتمد، أولها:
أربع [الندى] تهمي [به] وتصوب ... ومغنى العلا نأوي له ونثوب
بحيث استقل المجد فوق سريره ... وقام لسان المجد وهو خطيب
سقاك غمام مثل ودي ضاحك ... كأن سماء الصحو منه تذوب(3/516)
ولا فاء ظل العيش وهو مقلص ... عليك ولا صافيه وهو مشرب
ولا آل مزوراً عليك غديةً ... زمان يمسي الصفحتين طروب
ولا انفك للخطي حولك هزة ... وللأعوجيات الجياد دبيب
لقد رقت حتى قيل إنك رحمة ... وإن أكف الضارعين قلوب
كأنك بيت نادر وأكفهم ... خواطر أورى زندهن حبيب
طلعت كريعان الشبيب روقة ... فكذب في دعوى البياض مشيب ومنها يخاطب الربع:
أراق على عطفيه منه طلاوةً ... مدى الدهر ملتاح الجبين مهيب
إذا رسبت يوماً حلاه فإنما ... سماك العلا في منتداك رسوب ومنها:
فيا أيها القصر المبارك لا تزل ... وأنت جديد الحلتين قشيب
ويا أيها الملك المؤيد دم به ... ليترع كوب أو يثار عكوب
أسم فيه سرح اللحظ من طرف باسل ... مراد الوغى في ناظريه عشيب
ستظأره أم النجوم تحله ... لها كوكب لا حان منه غروب(3/517)
محيط بما أحببت من كل صورةٍ ... تروقك حتى شكلهن قريب
ومن حبك دون السموك كأنها ... أفاريد روض الحزن وهو هضيب
إلى طرر تحكي أصائل ملكه ... تكاد بأنداد النضار تصوب
ومن مرمرٍ أحذاه رونقه المها ... فأخطأ فيه اللحظ وهو مصيب
وبحر عليه للرياحين فيئة ... كيمناك مخضر البرود لحوب
لئن كان مكظوماً كغيظك إنه ... كعرضك مصقول الأديم خشيب
أرى حور الأحداق أو رونق الطلى ... طلاه ففيه للعقول خلوب
أجل إنما يجتاب منك بشاشةً ... لها جيئة من فوقه وذهوب
وإلا فمن آدابك الزهر يجتلي ... فرنداً له در عليه رطيب
كما ضاع من أهداب ثوبك نشره ... وكل صعيد مس وطؤك طيب
وكل هواء تحت ظلك سجسج ... وكل مكان في ذراك خصيب
إليك أشارت أعين وأنامل ... وفيك أجيلت ألسن وقلوب
كأنك من طبع الحياة مركب ... فأنت إلى كل النفوس حبيب
مليك كما تهواه أما دلاصه ... فغاو، وأما برده فمنيب
موفر أعطاف السيادة لم يزل ... بأفئدة الأعداء منه وجيب
إذا ضاق في الهيجا مجر سنانه ... فإن مناط السيف منه رحيب ومنها:(3/518)
لهم حارك للملك ثم حنيفه ... سما كاهل منه وسال سبيب
وكانوا عليه في الزمان فوارساً ... علته وشبان تروق وشيب
وسنة مجد من نعيمٍ وشدة ... على الدهر منها محكة وقطوب
ليخضب منها اليوم والأفق أشيب ... وينصل ثوب الليل وهو خضيب ومنها في صفة بنية:
ثغور على المجد التليد ضواحك ... وأيد إلى المجد التليد تصوب
ترقرق عنه الملك واهتز عطفه ... كما اهتز مخشوب الغرار قضيب
مشابه لا تخطي علاك سهامها ... فتهوي إلى أغراضها فتصيب
تملأ أثناء النداء مهابةً ... وتبسم عنها الحرب وهو قطوب
ويهنيك عيد للصيام ذخرته ... كفيل بأن الله عنه مثيب
وعيد عليه منك رسم طلاقةٍ ... كأوب حبيب طال منه مغيب
خلعت عليه من بهائك حلةً ... كما عصفرت فوق العروس جيوب
ونمت عليه من مديحك فوحة ... كما مسحت فوق الرياض جنوب(3/519)
الوزير الأديب أبو القاسم بن مرزقان
هو أكثر القوم قولاً وإصابة، فإنه يوفق في إصابة الأغراض، وكلامه سهل قريب، فمما أخرجت من شعره في أصناف شتى قوله في وصف شمعة، محكمة الصنعة، على صورة مدينة، أهديت إلى المعتمد على الله بالمحددة:
مدينة في شمعةٍ صورت ... قامت حماة فوق أسوارها
وما رأينا قبلها روضةً ... تتقد النار بنوارها
تصير الليل نهاراً إذا ... ما أقبلت ترفل في نارها
كأنها بعض الأيادي التي ... تحت الدجى تسري بأنوارها
من ملك معتمد ماجد ... بلاده أوطان زوارها
أكف ذات الشعر تغنى به ... وشعره حلي لأشعارها وأصبح المعتمد على الله على حال راحته في القصر المبارك، ودخل إليه(3/520)
الرشيد ابنه، فتبادل الأنس معه، ثم أمر بإحضار من جرت عادته بمشاهدة المجلس الكريم من الأصحاب، فحضروا، فقال لهم المعتمد بعد كلام حذفناه للاختصار طلباً للمعنى: قلت البارحة بيت شعر وهو:
بعثنا بالغزال إلى الغزال ... وبالشمس المنيرة للهلال وذلك أن المعتمد على الله قد أمر بصناعة غزالين من ذهب، فصنعا معاً من سبعمائة مثقال خالصة، فأهدى أحدهما إلى الرشيد ابنه، والآخر إلى السيدة العروس بنت ابن مجاهد، فقال في ذلك البيت المذكور، وأحب أن يذيل، فذيل هذا البيت ممن هذا المجلس ذلك اليوم وممن لم حضره، منهم أبو القاسم ابن مرزقان، وأصاب الغرض، فقال:
بعثنا بالغزال إلى الغزال ... وبالشمس المنيرة للهلال
فذا سكني أسكنه فؤادي ... وذا نجلي أقلده المعالي
شغلت بذا وذا خلدي ونفسي ... ولكني بذاك رخي بال
زففت إلى يديه زمام ملك ... محلى بالصوارم والعوالي
فقام يقر عيني في مضاء ... ويسلك مسلكي في كل حال
فدمنا للعلاء ودام فينا ... فإنا للكفاح وللنزال ورفع أبو القاسم ابن مرزقان قطعة شعر في ذلك أيضاً وهي:
عاطني القهوة مثل الجلنار ... حملتها أكؤس مثل البهار(3/521)
وأدرها بين زهر عبق ... واسقني ود كبيرٍ بكبار
ملك إن قلت من رب العلا ... فإليه كل مخلوق أشار
لخمي ماجد معتمد ... كل عسر حين تلقاه يسار
ما دجا ليل على آمله ... كل ليل بأياديه نهار
بين كفيه وفي ناديه ... ظبية ريقتها صرف العقار
عجبي منها وهذا أسد ... كيف لا تبعد عنه بنفار
أنست من أنها مرسلة ... باتصال الوصل من أشرف دار
ولها عد إلى غرتها ... أنهم قد صوروها من نضار
في قدود تتهادى بها ... سترى في حرم ذات الفقار
لا عدت موضع لهوٍ ودد ... فلقد تنهض في خير سفار(3/522)
نشر دوزي هذا الفصل من الذخيرة الخاص ببني عباد، في المجموع الذي ضم ما جاء من هذه الأسرة في المصادر العربية، وذلك في الجزء الأول ص 201 - 223.
هو ذو الإصبع العدواني، انظر الأغاني 3: 85.
ط س: بكى.
ط س: الذي.
س: يسمع نفسي.
لا مجال لحصر المصادر المعتمدة في أخبار بني عباد، فقد جمع منها دوزي في كتابه:
Historia Abbadidorum (Leiden، 1846) .
قسطاً وافراً، وإنما نذكر هنا بأهم المصادر مثل البيان المغرب والقلائد والصلة والمغرب والمعجب والمطرب والإحاطة والروض المعطار ونفح الطيب وبدائع البدائه وتاريخ ابن خلدون وتاريخ ابن الأثير والخريدة وابن خلكان والنويري، وتعد مقارنة هذا النص بما ورد في الحلة السيراء والبيان المغرب أمراً ضرورياً، لاعتماد المصدرين على كتاب ابن بسام.
هو ولد الحافظ الفقيه أبي محمد ابن حزم، روى عن أبيه وأبي عمر ابن عبد البر وغيرهما، وكتب بخطه علماً كثيراً، وكان عنده أدب ونباهة وذكاء، وتوفي بالزلاقة سنة 479 (الصلة: 440) .
انظر الحلة 2: 34 والبيان المغرب 3: 194.
بكسر العين وتخفيف الطاء (الحلة) .
ط د م س ودوزي: طاعة.
صوابه " الشام ".
طشانة (Tocina) تقع في كورة إشبيلية.
الحلة 2: 35.
ط د س: قديم.
المكور: المعمم.
واضح من هذا القول أنه لم يعد توليه القضاء من الخدم السلطانية.
د والحلة: والزكانة.
هذه هي قراءة م؛ والجرثومة: أصل الشجرة، وقد يفهم من ذلك أنه تجشم صعاب الأمور وفي ط د والحلة: الجرائم؛ س: الجراثيم.
ط د م س: بخون.
ط س: بريم؛ م: ابريم، د: ابرم، البيان: مريم.
ط م د: توطدت (وهي قراءة جيدة أيضاً) ؛ س: اتواطأت.
ط د م س: واجمع.
الحلة ودوزي: الذين بالأندلس.
هو يعيش بن محمد بن يعيش أحد رؤساء طليطلة عند نشوب الفتنة، وقد استطاع أول الأمر إبعاد منافسيه من رؤساء المدينة ولكن مدته في الحكم لم تطل، فأخرجه أهلها، وخاطبوا إسماعيل بن ذي النون لتسلم البلد، وقد ترجم له ابن بشكوال (الصلة: 650) وقال إنه بعد خروجه من بلده صار إلى قلعة أيوب وتوفي بها سنة 418 أو أوائل 419 (انظر الحلة 2: 37 - 38 التعليق رقم: 5) .
البيان المغرب 3: 197.
البيان: حزمة.
قد تقرأ في ط: وارتاح؛ البيان: وساح.
ط د س والبيان: وقصر.
ط: على يده.
ط: بطل؛ دوزي: تقليد؛ البيان: بتضليل؛ س: تغليل.
ط م: ابن عباد، وبياض في د.
ط س ودوزي: وثبتت.
س م: مما.
هو محمد بن أحمد بن عامر الحميري الملقب بحبيب والد إسماعيل مؤلف كتاب " البديع في وصف الربيع " (وسيترجم ابن بسام لابنه في ما يلي من هذا القسم) .
دوزي: وجبير؛ س: وجنبي.
زاد هنا في م: وكان القاضي ابن عباد زاخر العباب متألق الشهاب، وقد مرت آنفاً.
عمارتها: موضعها بياض في د س وعند دوزي، ويكثر البياض في هذه القطعة، إلا أنه في م ط محشى بخط مختلف عن خط الأصل.
تكتب أيضاً: البرزلي والبرزالي. وقد بويع البرزالي هذا بقرمونة سنة 404 فعمرت، وكان فارساً مهيباً ثم بايعته استجه والمدور وأشونة ولم يزل يتولى أمورها حتى سنة 434 (البيان 3: 211 - 312) .
ميرتلة: مدينة تقع إلى الشرق من باجة (الروض المعطار: 193) .
ورد النص على الأفراد في م س: فيعم ... كلما آب ... الخ.
س ودوزي: شذوذه.
المعان: المنزل؛ ط: مغانها؛ م س: مغانيها؛ د: مكانها.
ط: قدم.
من طمر بمعنى تحت الأرض؛ س: أظهروه.
تقاوم أصحابها: سقطت من ط.
انظر البيان المغرب 3: 203.
زيادة من البيان.
ط د م س: مصر.
ط د م س: تعده.
وردت هذه المقطعات في الحلة 2: 38 - 39، والأولى منه في النفح 4: 242.
الحلة ودوزي: يلمعن.
انظر الحلة 2: 39
ط د م ودوزي: وجبان.
البيان المغرب 3: 204 والحلة 2: 40.
الحلة: الأحد؛ والسبب في هذا الخلاف أنه توفي السبت ودفن يوم الأحد (كما سيبين في ما يلي) ولكن الخبر لم يطرق قرطبة إلا يوم الأربعاء.
ط د م س: وداحض.
الحلة: والجرائر.
س ط د والبيان: أجد، الحلة: أمد.
م: المتل (دون إعجام للتاء) ؛ س: الأمل.
ط د س ودوزي: مغيبها.
ط د م س: فلم يبرأ من شدة القسوة.
الحلة: جبلته.
دوزي والحلة: فيهن.
هو الملقب بالمعتضد (279 - 289) .
دوزي والحلة: خلائف.
ط د م س: الشظا.
دوزي: مرتين.
ط د: عريشته؛ س: عن بيته.
ط د م س: ةومبتدع، والتصويب عن البيان.
ط د س: وقعه.
البيان: الوقعة؛ وقد تقرأ في ط كذلك.
س: تطبيقها.
نقل لسان الدين بعض هذا النص في أعمال الأعلام: 155.
قد تقرأ في م: يعتن.
انظر البديع في وصف الربيع: 91 والحلة 2: 49 وأعمال الأعلام: 157.
البديع: ناله؛ الحلة: مسه.
نفح الطيب 4: 243.
نفح الطيب 4: 242.
النفح: ساكناً.
ط د م س: شوال.
الحلة 2: 49 والنفح 4: 242 وأعمال الأعلام: 157 والبيان 3: 208 وقد وردا في الذخيرة 1: 18 منسوبين لابن برد الأصغر.
ط: الصباح.
الحلة 2: 47 والبيان 3: 208.
دانية بمعنى قريبة كما إنها اسم البلد حيث مجاهد العامري أبوء الجيش.
الحلة 2: 46.
بيت مضمن وهو للمتنبي، انظر ديوانه: 482.
البيان 3: 208 والنفح 4: 243 والحلة 2: 49.
رندة: (Ronda) مدينة قديمة من مدن تاكرنا (الروض: 79) .
لعله يعني قصيدته التي يقول فيها:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما البيان: وجرية.
البيان 3: 209.
ط: متوقعين؛ البيان: مترفعين؛ س: متوفقين.
ط: يحدو؛ د: يحذر؛ س: يجدوا.
ط د م س: الذنوب؛ وقرفت الندوب: قشرت الجروح.
عظيمة: سقطت من ط د والبيان.
زيادة من دوزي.
ط: فكشفه.
في النسخ: بغير.
ط م: عمرات؛ س: غمرات.
زيادة من البيان المغرب.
ويعجبون: من م وحدها.
البيان: قينة ابن الرميمي.
ط د م س: بينهم.
ابن يحيى صاحب ليلة، وقد مر من خبره ما يكفي، وابن هارون هو سعيد بن هارون صاحب اكشونبة، توفي سنة 434 وخلفه ابنه ومن يده أخذ المعتضد اكشونية سنة 449؛ وابن مزين هو عيسى بن محمد بن مزين صاحب شلب، حكم فيها سنة 440 ووالى عباد الحروب ضده وقتله سنة 445 وانتزع مدينة شلب منه، وأما البكري صاحب شلطيش وأونبة فسيورد ابن بسام خبره مع بني عباد في ما يلي.
سيأتي خبر سقوت في هذا القسم من الذخيرة.
البيان المغرب 3: 214.
س ودوزي: فضرب.
هو محمد بن نوح الدمري الملقب بعز الدولة ثار بمورور سنة 433 إلى أن أنهى المعتضد حكمه سنة 445، وسجنه وتوفي في سجنه 449.
مورور (Moron) : مدينة صغيرة إلى الجنوب الغربي من قرمونة، بولاية إشبيلية (الروض المعطار رقم: 181) .
م س والبيان ودوزي: الاستقامة.
في النسخ: يوماً.
هو أبو النور هلال ابن أبي قرة اليفرني.
س ط: فواطنهم (لعلها: فراطنهم؛ وهي قراءة توفق قوله " ورمز ") .
انظر الحلة 2: 50.
ط د س: المتلثمين.
ط م س: وجلوها (اقرأ: وحلوها) .
ويبري معطوقة على " يريش ".
يقرع (من الثلاثي) فيه معنى المشاورة، وإذا كان مضارعاً للرباعي (أقرع) : ففيه معنى الرجوع تقول: أقرع إلى الحق أي رجع؛ ولولا شخصية المعتضد وما تنطوي عليه من الاعتداد لصح أن تكون القراءة " ويفزع إليه ".
البيت لأبي سعد المخزومي واسمه عند المرزباني (معجم الشعراء: 98) عيسى بن خالد بن الوليد وقيل إنه دعي في مخزوم (طبقات ابن المعتز: 295 - 298) وكان يهاجي دعبل بن علي الخزاعي؛ وقد ورد بيته في معجم المرزباني وديوانه: 53.
ط: المقدم.
ط د م س: أبي سعيد.
ديوان بشار: 217 (جمع العلوي) .
دوزي: هدنة.
ديوان المتنبي: 390.
ديوان ابن هانئ: 189.
تتردد أشعار المعتمد في كثير من المصادر التي ترجمت له، وقد جمع ديوانه الأستاذان: أحمد أحمد بدوي وحامد عبد المجيد (القاهرة 1951) وأرى أن أكتفي بمراجعة ما جاء في الذخيرة على هذا الديوان، إلا استثناءات قليلة.
الديوان: 26.
ديوان المجنون: 79.
هذه العبارة والبيتان التاليان من هامش ط، وهما مكتوبان بخط الأصل، وأمام العبارة لفظة: " طرة "؛ وهما معهما بيت ثالث في المقتطف من أزاهر الطرف لابن سعيد الورقة: 44، ولم ترد هذه الأبيات في الديوان أو في النسخ الأخرى.
ديوان المعتمد: 13 ومختارات الصيرفي: 111.
ترجمته في القسم الأول من الذخيرة ص: 790.
ديوان المعتمد: 20 ومختارات الصيرفي: 111.
الديوان: جفوني (عن المطرب والخريدة) .
الديوان: 21 ومعاهد التنصيص 2: 114 والمعجب: 161 ومختارات الصيرفي: 111.
الديوان: 15 ورايات المبرزين: 37 (10 غرسيه غومس غ) والمعجب: 161.
الديوان: ضوء الشمس.
الديوان: 8.
عد هذا البيت في الديوان لاحقاً بالأبيات السابقة.
الديوان: 5.
الديوان: 17.
لم يردا في ديوانه المجموع.
انظر ترجمته في الذخيرة 3: 360.
الديوان: 60.
هذه هي قراءة م، وفي ط د: يتنحنح؛ الديوان: يتبحح؛ س: يتحتح.
الديوان: 64 وقد أثبت هنالك جواب ابن عمار أيضاً؛ ومختارات الصيرفي: 110.
كنيته في ط د: أبو عمر؛ وقد مر ذكره عند المقري (النفح 4: 77) في رسالة كتبها المعتمد نفسه إلى الأعلم الشنتمري يقول له فيها " سألك الوزير الكاتب أبو عمرو ابن غطمش سلمه الله عن المسهب وزعم أنك تقول بالفتح والكسر ... الخ ".
الديوان: 587 والمسالك: 397 وابن خلكان 5: 26.
الديوان: 36 وابن خلكان 5: 24 والحلة 2: 56 والقلائد: 19 ومنها بيت واحد في رايات المبرزين: 10 (غ) .
ط والديوان: أخلقتني.
الحلة: ولا تمرس بي (ولم تثبت هذه القراءة في الديوان) .
ط م س: الذي.
انظر البيان المغرب 3: 273.
ط د م س: فحاجوا الظمآن.
س ودوزي: الغائظ.
ط د: وجه.
دوزي: اتقان.
انظر ديوان ابن زيدون: 306 والقلائد: 14 والإعلام 2: 315.
زيادة من دوزي.
ديوان المتنبي: 218.
ديوان المعتمد: 67 والقلائد: 15 والإعلام 2: 316.
الديوان: النحور (عن القلائد) .
ط د م س: ورجعتم لمحالكم، وبهامش ط " وزحفتم ".
دوزي والقلائد: وظلم.
د والديوان ودوزي: تهدم (عن القلائد) .
ديوان ابن زيدون: 314 والقلائد: 16.
ط م: غوت.
ديوان المعتمد: 112.
ديوانه: 88 وبعضها في القلائد: 22 والمعجب: 202 والإعلام 2: 314 ومختارات الصيرفي: 120.
الديوان والقلائد: إن يسلب القوم العدا.
ديوان قيس بن الخطيم: 10.
ديوان قيس: باقدام.
انظر الشعر والشعرا: 661 والأغاني 10: 256 - 257.
ثار في زمن مروان اثنان كل منهما يعرف بشيبان وهما شيبان بن عبد العزيز اليشكري وشيبان بن سلمة (المعروف بشيبان الأصغر) ، وفي م س والأغاني: سنان؛ د: سنار؛ ط: سناس.
انظر شعر الخوارج: 221 (الطبعة الثانية) .
ط د م س: يهوى.
الأغاني 10: 280.
الأغاني: فررت.
الأغاني 10: 255.
الأغاني: واردات؛ ط م س: باردات.
ديوان المعتمد: 87.
ديوانه: 96 والمعجب: 222 والأعلام 2: 320 - 321.
ترجمته في القسم الثالث: 809.
أبياته في القلائد: 31 والنفح 4: 224، 259 والإعلام 2: 321.
قارن بقوله في القلائد: ".. وقال بعد أن طاف بقبره والتزمه، وخر على تربه ولثمه، فانحشر الناس إليه وانجلفوا، وبكوا لبكائه وأعولوا ".
الحلة: 2: 63.
الحلة 2: 64 والمعجب: 217.
المصدر نفسه.
ط م س: الذي.
ط م د س: علي.
عيون الأخبار 2: 182 وكتاب الصناعتين: 14 وزهر الآداب: 333.
زهر الآداب: 332.
ديوانه: 104 وزهر الآداب: 332.
زهر الآداب: 332 - 333.
ط م د س: فصاغها.
ط د س: تجول.
ديوان المتنبي: 239.
ديوان نصيب: 59.
ديوان أبي تمام 3: 186.
ترد ترجمته في ما يلي من هذا القسم وفيها البيتان.
في النسخ: هاديا، وصوبناه ما سيجيء ترجمة ابن عبدون.
ط د: نثراً ونظماً.
النصبة هي الحال الدالة التي تقوم مقام الدلالات الأخرى من لفظ وإشارة وعقد وخط (البيان 1: 76) ، وفي ط د س م: النسبة.
ديوان المعتمد: 102 والمعجب: 219 والإعلام 2: 322.
ط د م س: عض.
ط د م س: يداه.
دوزي: تزاحفت.
انظر ديوان المعتمد: 103 والمعجب: 220 والخريدة 2: 41 والنفح 4: 96 - 97 والإعلام 2: 322 ومختارات الصير في: 120 - 121.
يشير هنا إلى أن جرير مدح الأمويين بأنهم أعطوا " هنيدة " وهي مائة من الإبل.
هذه الأبيات زيادة من دوزي.
ديوان المعتمد: 104 والمعجب: 221.
م والديوان: عاف؛ س: خاف.
م ط د س: بت.
ديوانه: 328، وصدر البيت: " والهجر أقتل لي مما أراقبه ".
ديوان المعتمد: 104 والمعجب: 221 وبعضها في النفح 4: 97.
الديوان ودوزي: ناهضت همتي.
هامش ط: في أخرى: محيا لنور الهدي فيه قسام.
خ بهامش ط: من كفيك مجدا وسؤددا.
ديوان المعتمد: 113.
ط م: أن يحنى عليه.
ط: أعين.
ط م د س: وقول.
ديوان المعتمد: 91 والمعجب: 206 والإعلام 2: 315.
ديوان المعتمد: 91 والمعجب: 206 والحلة 2: 67 ومختارات الصيرفي: 119.
الديوان: لحكاهم.
ط د م س: الغنى.
من أبيات في ديوانه: 108.
الديوان: جبر.
ديوانه: 92.
ديوانه: 68 والقلائد: 21.
طبقات ابن المعتز: 187 وابن خلكان 3: 86.
ديوان المعتمد: 105 ومختارات الصيرفي: 120.
ط م د: صبر؛ س: صهر.
أبو عمرو ابنه الملقب سراج الدولة، وسيأتي الحديث عنه في ما يلي.
انظر السمط: 145.
ديوان المعتمد: 69 ومختارات الصيرفي: 120.
العين: مطر أيام لا يقلع.
ط م د س: يلقى.
الديوان: فإذ ما رمت.
ديوان المعتمد: 110 والقلائد: 28.
ط م د س: الأهل.
م س: الحبيب.
ديوان ابن شهيد: 100 - 101.
هو السمهري بن بشر بن أويس العكلي ويكنى أبا الديلم (الأغاني 21: 257) .
الأبيات في الأغاني 21: 264.
الأغاني: فشامت؛ وهو خطأ: والسامن: الذي يكتسب سمنة.
ط م د س: قسي أسلمتها؛ وقد غيرته اعتماداً على الأغاني.
ديوان المعتمد: 100 والقلائد: 25 ومختارات الصيرفي: 119.
ديوان المعتمد: 48.
ديوانه: 112 وانظر الإعلام 2: 324.
ترد ترجمتهما في ما يلي من هذا القسم، وكذلك البيتان وانظر الغيث 2: 19.
هذه القطع الثلاث المتوالية ترد في الديوان: 115، 94، 98 وانظر الإعلام 2: 324.
في هامش ط أبيات مطلعها:
تؤمن للنفس الشجية فرجة ... وتأبى الخطوب السود إلا تماديا وبعدها قطعة قافية، وهي بخط الناسخ نفسه، ولكنه كتب عليها: " من غير الأصل " فلذا لم أثبتها.
ديوان ابن حمديس: 268.
ديوان المعتمد: 100.
ديوان المعتمد: 111.
ط م س: وفود.
في هامش ط قطعتان بخط الناسخ ولكنهما من غير الأصل.
انظر نفح الطيب 4: 257 ومختارات الصيرفي: 121.
مضمن من قول حبيب أبي تمام (ديوانه 3: 232) :
عسى وطن يدنو بهم ولعلما ... وأن تعتب الأيام فيهم فربما ط س: الشاسي.
المعجب: 223 والنفح 4: 97 - 98 والإعلام 2: 322 ومنها أبيات في معاهد التنصيص 3: 20 ومختارات الصيرفي: 124.
في أصل ط: توقد، وخ بهامشها: تنفخ.
خ بهامش ط: شكت [من] .
زيادة من دوزي.
القلائد: 23 والنفح 4: 214 والمعجب: 209 ومختارات الصيرفي: 122.
القلائد والنفح: بمزن.
فوقها في ط: منهم.
القلائد والنفح: تخدمها.
انظر الذخيرة 3: 666 وما بعدها.
أبو حفص عمر بن الحسن الهوزني (392 - 460) طلب العلم على شيوخ الأندلس ثم ارتحل سنة 444 (وابن بسام يقول سنة 440) وأخذ عن علماء المشرق، وأصبح متفنناً في العلوم؛ ولما قتله عباد بيده أمر بدفنه بثيابه وقلنسوته وهيل عليه التراب داخل القصر من غير غسل ولا صلاة (انظر الصلة: 381 والنفح 2: 93 ومسالك الأبصار 11: 416 والمغرب 1: 234 وفيه نقل عن الذخيرة، وترتيب المدارك 4: 825) .
المغرب: وتناصر.
انظر التعليق رقم: 2 على الصفحة السابقة.
م: مدينة ابن بشتر، وانظر الكائنة على مدينة بربشتر في الذخيرة 3: 179.
في الصلة: لأربع عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر.
الأبيات في المغرب وترتيب المدارك وهي وبعض الرسالة في النفح 2: 93.
ترتيب المدارك: يتقنع.
المغرب: نجادة؛ النفح: شكاية.
د: والتليد ... الوالد والوليد.
دفعهم: سقطت من ط س.
م د س: الأمر.
الجأواء: الكتيبة التي يعلوها لون السواد لكثرة الدروع، ط س: شهواء.
م: مجدد.
ط: قول.
س م: يعترها.
بهامش ط بخط مغاير: مفاصلها، وكذلك هي في بعض أصول النفح.
م س: تخترم؛ أصل ط: تتخرم.
س م: ألبس.
م: بالروض.
د: من هوى؛ وسقط من م س، وموضعه في ط كلمة غير واضحة.
د: تصرفني.
جو: اليمامة، ووقيعة خالد فيهم في حروب الردة مشهورة.
بعد هذا البيت في م س: ومنها.
في النسخ: فغرهم.
ط م: لما تبين؛ س: لما يبين؛ وسقطت من د، وأثبتنا ما في هامش ط.
م س وهامش ط: المجتنى.
م ط س: وبمعاشر.
البيتان الأولان لزهير بن أبي سلمى، ديوانه: 115.
ط م د س: واستشار.
المثل في فصل المقال: 362 والميداني 1: 221 والعسكري 1: 415 (تحقيق أبو الفضل) والمستقصى: 226 واللسان (سرح) وجمهرة ابن دريد 2: 132.
من كلام أبي بكر الصديق، يقول: إن انتظرت حتى يضيء لك الفجر أبصرت قصدك وإن خبطت الظلماء وركبت العشواء هجما بك على المكروه، يضرب الفجر والبحر مثلاً لغمرات الدنيا (اللسان - فجر) وانظر الذخيرة 1: 394.
ط م: آل البلاد؛ س د: إلى البلاد.
النفح: رش: ط ك د س: نشو.
النفح: خفضوا فالداء رزء أجل.
م ط: بك.
في النسخ: استوى.
ط د: عجبوا.
مضمن من الحماسية رقم: 273 في شرح المرزوقي.
فثبوا: سقطت من م ط.
ط د: نشو؛ م: نشى.
صدره: إن يأبروا نخلا لغيرهم، الحماسية رقم: 54 للحارث بن وعلة الجرمي.
حماسة البحتري: 136 والمختار: 172.
مروج الذهب 6: 62 وفصل المقال: 69، 233.
المختار: 172 وزهر الآداب: 573.
صدره: وأزرق الفجر يبدو قبل أشهبه، ديوان البحتري: 171 والمختار: 172.
ديوان ابن الرومي: 146 وزهر الآداب: 573 وروايته: كم جر (كم قاد) .
شروح السقط: 1718.
ديوان أبي تمام 4: 115.
ديوان العباس: 116.
النفح 3: 231، وردا غير منسوبين، وهما في التمثيل والمحاضرة: 115 لابن نباتة السعدي وانظر نهاية الأرب 3: 104 واليتيمة 2: 396.
في الميداني (1: 214) رب صبابة غرست من لحظة، رب حرب شبت من لفظة.
في النسخ: شهود.
م: البيت.
في صحيح مسلم 2: 295 - 296 الأرواح جنود مجندة ما تعارف ... الخ الحديث.
ديوان أبي نواس: 428.
في النسخ: تختلف.
في النسخ: اعتقلت، وما أثبته من هامش ط.
يشير إلى المثل: " يضع الهناء مواضع النقب " والهناء: القطران، والنقب: الجرب، يضرب مثلاً للحاذق البصير في الأمور، هو من شعر دريد بن الصمة في الخنساء، وصدر البيت " متبذلاً تبدو محاسنه ".
في النسخ، لدى، وما أثبته من هامش ط.
ديوان عدي: 93.
أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد (أو سعدون) بن أيوب التجيبي، أحد أقطاب المذهب المالكي، وصاحب المؤلفات الفقهية القيمة، منها المنتقى وإحكام الفصول في أحكام الأصول وغيرهما، توفي بالمرية سنة 474 (انظر ترتيب المدارك 4: 802 والديباج المذهب: 120 والمرقبة العليا: 95 وبغية الملتمس رقم: 777 والصلة: 197 والقلائد: 188 والمغرب 1: 404 وتهذيب ابن عساكر 6: 248 ومعجم الأدباء 11: 246 والإكمال 1: 486 وتذكرة الحفاظ: 1178 وابن خلكان 2: 408 والشذرات 3: 334 ونفح الطيب 2: 67 ومرآة الجنان 3: 108 وفوات الوفيات 2: 64 وعبر الذهبي 3: 280 والروض المعطار: 75.
باجة الأندلس (Beja) : تقع في البرتغال على بعد 140 كم إلى الجنوب الشرقي من لشبونة.
م ط س: ومال.
هو أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر القاضي (- 422) (انظر في ترجمته ترتيب المدارك 4: 691 وطبقات الشيرازي: 168 وتبيين كذب المفتري: 249 وتاريخ بغداد 11: 31 والديباج المذهب: 159 وابن خلكان 3: 219 والمرقبة العليا: 40 والفوات: 2 419 وستأتي ترجمته في القسم الرابع من الذخيرة؛ وانظر كذلك مصادر أخرى ذكرت في حاشيتي الوفيات والفوات) .
في النسخ: كشفت.
د: التظافر.
في النسخ: فإنك.... تنطوي ... وتأوي.
د: وغرس.
د: بحوزتنا.
بهامش ط: جملة من شعر أبي الوليد، وليس في النسخ شعر أو نثر له؛ وقد جاء في هامش ط المقطوعتان الأوليان الثابتتان هنا، وهنالك ما يفيد أنهما نقلتا من نسخة عتيقة؛ ثم كتب بهامش النسخة نفسها بخط مغاير كثيراً لخط الأصل: " بل بقي نحو الورقة ونصف " وكتب عند نهاية الترجمة، " بقيت خمسة أبيات "، وهذا الذي أثبته هنا إنما جاء في الطبعة المصرية (1975) اعتماداً على النسخة الكتانية؛ وقوله " ما أخرجه " - بضمير الغائب - دليل على أنه ملحق بجهد رجل آخر عدا ابن بسام، لعله وجده في مسودات ابن بسام نفسه، أو لعله أضافه مشاكهاً عمل ابن بسام في المقدمات المسجوعة، وما جاء به مسجوعاً هنا يقارب طريقة ابن بسام، ولكنه لا يطابقها تماماً. هذا وقد خالفت قراءة الطبعة المصرية في عدة مواضع، دون أن أشير إلى ذلك.
وردت القطعة في ابن عساكر والقلائد والمغرب والفوات وبغية الملتمس والصلة والمرقبة العليا وابن خلكان ومعجم الأدباء والنفح وترتيب المدارك والديباج المذهب والروض المعطار.
هو القاضي أبو جعفر بن أحمد بن محمد السنماني - سمنان العراق - كان فقيهاً متكلماً على مذهب الأشعري وقد أخذ عنه الباجي علم الكلام بالموصل لا ببغداد، وتوفي سنة 444 (اللباب والمنتظم 8: 156) .
منها بيتان في معجم الأدباء 11: 249 والنفح 2: 76.
في البيت إشارة إلى مطلع معلقة طرفة.
النفح ومعجم الأدباء: رق.
حجيت: لزمت وتمكست ب -.
هذا البيت قلق القراءة.
معجم الأدباء 11: 259 والنفح 2: 76.
النعائم: منزلة من منازل القمر.
معجم الأدباء والنفح: ضمن؛ والخيم: الخليفة والطبع.
المغرب 1: 405 والقلائد: 189 ومعجم الأدباء 11: 250 - 251 وترتيب المدارك 4: 807 ومنها بيتان في ابن خلكان 2: 408.
ترتيب المدارك: وأمطر.
القلائد: 189 والنفح 2: 75.
القلائد والنفح: لوعة ... وقفة وتلوم.
القلائد والنفح: والحزن.
منها أبيات في نفح الطيب 2: 84؛ وممدوح الباجي هذا هو ثمال بن صالح المرداسي صاحب حلب، فهذه القصيدة مما قاله بالمشرق.
النفح: بالخيف.
النفح: لتقبيل (وما هنا أصوب) .
النفح: أشارت (وما هنا أصوب) .
انظر النهي عن التصاوير في الستر في سنن النسائي 8: 212. والميثرة كهيئة المرفقة أو الثوب تجلل به الثياب؛ وهذه القراءة تقديرية.
الأبيات في ابن عساكر 6: 250 (ما عدا الثاني) .
انظر المثل في فصل المقال: 254، 334 والميداني 1: 303 والفاخر: 158 والعسكري (بهامش الميداني) 2: 64.
ترجمته في الجذوة: 61 (والبغية رقم: 107) والمطمح: 23 والمغرب 1: 96.
م س: على ما أخرجت.
أبو علي إدريس بن اليماني ترد ترجمته في الذخيرة 3: 336 وابن الأبار سترد ترجمته في هذا القسم: 135.
م ط س: بحقك.
سيأتي طرف من خبره في هذا القسم: 206.
م ط د س: الدهر.
كذا في م ط د س، وهو مختل، ولعل صوابه " باهري الأنوار ".
م ط س: فيها.
هو الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، منافس المنصور بن أبي عامر، وقد قضى عليه المنصور سنة 367 (وأخباره في المصادر التاريخية المتعلقة بتلك الحقبة، وانظر المطمح: 4 - 8) .
يسعى: سقطن من ط م س.
موضع هذا الشطر بياض في ط د س وقد جاء في م بخط مختلف عن خط الأصل.
س م: السرور.
منها ثلاثة أبيات في المغرب 1: 97.
المغرب: أزهاره.
الدرانيك: البسط.
ذكره صاحب الجذوة مرتين: 65، 283 (البغية رقم: 383، 1572) فقال في الموضع الأول إنه أديب شاعر يروي عنه ابنه عبد العزيز، وأن ابن حزم ذكره، وأورد له في الموضع الثاني أبياتا من قصيدة طويلة قالها في القاضي أبي الفرج ابن العطار.
م س: جنبي.
ط د: لنا.
البيت للمتنبي، ديوانه: 400.
ط د س: ببيضتك.
انظر المثل " ما كل بيضاء شحمة " و " ما كل سوداء تمرة " في العسكري 2: 287 (تحقيق أبو الفضل) والميداني 2: 169.
انظر فصل المقال: 362 والميداني 1: 223 والعسكري 1: (أبو الفضل) والفاخر: 206 وقد مر تخريجه ص: 83.
انظر العسكري 1: 61 والميداني 1: 36.
بيت شعر للنابغة الذبياني (انظر اللسان والأساس: أنى؛ وفصل المقال: 328) .
ديوان المتنبي: 454.
م ط س: ارتكبت.
ديوان أبي تمام 3: 106.
م ط س: ومعنى القول الثالث.
هذا من الحديث، والهاء في " تقله " هاء السكت: ولفظ الحديث لفظ الأمر، ومعناه الخبر، أي من خبرهم أبغضهم (التاج: قلى) .
جبلي نسبة إلى جبل وقاضيها يضرب به المثل في الجهل (ثمار القلوب: 236) .
وفي النسخ: حني.
البيت للقطامي، ديوانه: 76.
ط: فيها.
م ط: وأنشدوا.
البيت لعدي بن الرقاع العاملي، انظر الشعر والشعراء: 517 وتمام المتون: 339 - 340.
طولوق: انظر في شرح هذه اللفظة 1: 268، 3: 653 من الذخيرة، وهو هناك شرح استنتاجي، وقد جاء في شرح القصيدة الساسانية لصفي الدين الحلي أن الطولوق درج فيه تصاوير وتماثيل، انظر: C. E. Bosworth: The Mediaeval Islamic Underworld part II p. 73 (Arabic Part) ، p. 329 (Eng. Trans) .
ط: قدرا.
د: أطيب.
س ط د م: والرقيق.
م ط س: عندهم.
ديوان أبي تمام 2: 71.
م ط س: وخاف.
رويد الابلال: الإقلال: بياض في م د س: وثبت في ط بخط مغاير لخط الأصل.
في النسخ: وإحسانك، وأثبت ما في هامش ط.
ط د: وزمرت.
م ط د س: ويحرمون.
د: ويستحيون؛ م ط س: ويستحبون.
خ بهامش ط: مضافر.
د: بحر.
م: تمشي.
في النسخ: إجهاد؛ والاحفاد: الإسراع.
م: وجلح؛ س: وحلج.
هذا يعني أن الهوزني قد خلف له أقرباء في اشبيلية حين ارتحل عنها.
ط س: معطوف.
ديوان أبي تمام 2: 18.
ديوان المتنبي: 79.
وقع هنا خرم في م.
ديوان المتنبي: 440.
ديوان ابن هانئ: 199.
الديوان: مسود.
في المعتمد: لم ترد في ط س.
س ط: السحر.
س ط: وأحداق نشاق؛ وتتاق: مخففة من تتأق أي تملأ.
م: باللهو.
أبو الوليد إسماعيل بن محمد بن عامر بن حبيب، الملقب بحبيب، وقال ابن الأبار إن أباه كان يلقب بذلك، توفي في حدود 440 وهو ابن اثنتين وعشرين سنة (وقال ابن سعيد: ابن تسع وعشرين سنة) ؛ وذهب ابن سعيد إلى أن المعتضد هو الذي قتله، وكان له أخ اسمه محمد بن محمد بن عامر وهو شيخ أبي بكر ابن العربي؛ وكانت لأبيه قدم في الرياسة عند المعتضد كما أشار ابن بسام في هذا الجزء. (انظر الجذوة: 152 والبغية رقم: 534 والتكملة: 180 والمغرب 1: 245 والنفح: 3: 427 والمسالك 11: 215) ؛ وكتابه " البديع في فصل الربيع " نشر بتحقيق هنري بيريس، الرباط: 1940.
البديع: 1.
البديع: بتأليفه ... بتصنيفه.
البديع: 28 - 29 والنفح 3: 427 والعطاء الجزيل في كشف غطاء الترسيل ص: 4.
البديع والعطاء: لكل.
البديع: 29.
البديع: 30 والعطاء الجزيل: 4.
البديع: مكموم.
في النسخ: وأبلست.
ط م د س: الربيع.
هو أبو الوليد ابن جهور، وفي العطاء الجزيل: ابن جمهور.
البديع: 52 (وابن بسام يوجز في النقل) وانظر أيضاً العطاء الجزيل: 126 - 127 ونهاية الأرب 11: 196.
العطاء: إن اللطيف الخبير.
البديع والعطاء: فضل على بعض بعضا.
البديع والعطاء: منا.
البديع: نرتكض.
العطاء: عليها.
العطاء: وهو النمام.
د: رونقي.
للخنساء، ديوانها: 152.
العطاء: الخيري النمام.
ط م: زمنا في زمن.
العطاء: تلعة.
زيادة من البديع والعطاء الجزيل.
العطاء: بخالصه.
العطاء: بسوابقه.
ط م د س: نازعه المباهاة.
البديع: 58 والعطاء الجزيل: 127.
البديع: أكبرت.
العطاء: لا يجول ... ولا يحول.
البديع: منول؛ وفي النسخ: مثول عون، وآثرت قراءة العطاء الجزيل.
البيت لابن الرومي، انظر ديوانه 2: 644 وتشبيهات ابن أبي عون: 193 وديوان المعاني 2: 21 وحلبة الكميت: 202؛ وعند هذا البيت ينتهي ما جاء من هذه الرسالة في العطاء الجزيل.
يشير إلى قول ابن الرومي في هجاء الورد (حلبة الكميت: 211) :
وقائل لم هجوت الورد معتمدا ... فقلت من قبحه عندي ومن سخطه
كأنه سرم بغل حين يخرجه ... البراز وباقي الروث في وسطه البديع: 128 ونفح الطيب 3: 428.
البديع: 129.
البديع: 105 والمسالك 11: 215 والنفح 3: 428.
البديع: أرى.
البديع: برود.
البديع: 157 والمسالك نفسه.
منها بيتان في المسالك.
ديوان ذي الرمة: 478.
د: أردت؛ ط س: رأيت.
هذا البيت والذي يليه في المغرب 1: 245 ورايات المبرزين: 39 (11 غ) والنفح والمسالك.
ديوان المتنبي: 330.
الديوان: هذا المعد.
الديوان: أعد هذا.
هو أحمد بن محمد الخولاني الاشبيلي (- 433) ، كان كثير الشعر (انظر ترجمته في ابن خلكان 1: 141 والجذوة: 107 وبغية الملتمس رقم: 364 والمغرب 1: 243 والمسالك 11: 418 والوافي 8: 137 وله أشعار في النفح والبديع في فصل الربيع) .
انظر الوافي 8: 137 ومنها بيتان في المسالك.
الوافي: أفديه.
الوافي: الجيد.
الوافي: والبرد.
روى بن بسام منها بيتين لإدريس في الذخيرة 1: 87.
زهر الآداب: 272 وديوان صريع الغواني: 91.
انظر الزهرة: 66.
ط د: ديمة.
هما ليزيد الطثرية في ابن خلكان 6: 369 والأغاني 8: 164.
الأغاني 8: 337.
ط د م س: بذات.
زهر الآداب: 727 والزهرة: 67 وديوانه: 147.
زهر الآداب: 727 والروض المعطار (بيروت 1975) : 194.
زهر الآداب: 727.
متابع لزهر الآداب: 727.
متابع لزهر الآداب: 728 وانظر ابن خلكان 4: 260 والوافي 3: 58 ومصارع العشاق 2: 137.
ط: تفخر.
وبراته: مخفف من " وبراءته ".
ديوان الرضي 2: 274.
ديوان المتنبي: 335، 310.
أبيات الرمادي في المطرب: 3 - 4.
هو أبو أحمد بن فرج الجياني صاحب كتاب الحدائق، وأبياته في الجذوة: 97 والمطمح: 80 والشريشي 1: 211 والمغرب 2: 56 والنفح 3: 191، 437 واليتيمة 2: 17.
في أصل ط: غدوت.
في أصل ط: السقم؛ وفي الحاشية: السقب.
م ط: أمتي.
انظر هذه القطعة في المصادر المذكورة سابقا.
تسل: مخفف من " تسأل ".
انظر المسالك 11: 418 - 419.
المسالك: أيام.
د: قده.
المسالك: خده.
المسالك: حتى في الخنا (اقرأ: الجنى) .
هو ابن اللبانة، وترجمته في القسم الثالث: 666.
هو المعروف بعصا الأعمى لأنه كان يقود الأعمى التطيلي (انظر ترجمته في المطمح: 88 والمغرب 1: 289 والرايات: 23 غ) وأبياته قد وردت في المغرب 1: 290.
عند هذا الحد ينتهي الحرم في النسخة م.
المغرب: لفاء.
ديوان امرئ القيس: 22.
فقال: سقطت من م.
البيت من قصيدة لابن الطثرية في وفيات الأعيان 6: 368 والحماسية رقم: 541 وزهر الآداب: 854 وقيل لأبي كبير الهذلي، وأدرجت في ديوان ابن الدمينة: 186 وخرجها محقق الديوان ص: 256.
هو الحكم الحضرمي، انظر الأغاني 2: 250.
ديوان ابن أبي ربيعة: 252.
ديوان أبي تمام 3: 352.
ديوان الأخطل: 129.
الديوان: الحجل.
زهر الآداب: 393 ووفيات الأعيان 2: 224.
زهر الآداب: 393 وديوان النابغة: 184.
زهر الآداب: 393 وديوان أبي تمام 3: 115.
زهر الآداب: 393 والمختار: 98.
زهر الآداب: 394 وديوان المتنبي: 279.
زهر الآداب: 394.
أمالي القالي 1: 23.
هو النحلي، الذخيرة 1: 384.
ديوان المتنبي: 36.
انظر المغرب 1: 290.
المغرب: إذا انثنى.
المغرب: الهتك.
ديوان المجنون: 206.
هو صالح الشنتمري، كما سيجيء في ترجمته.
انظر المسالك: 419 والفوات 3: 406 والنفح 3: 47 ومعاهد التنصيص 1: 95 - 96.
الفوات: المكان.
النفح: من خمر.
المسالك: ثم لما نام الرقيب سريعاً، الفوات: نام من بعد نعس.
ط: وأحذر؛ م: وأخاف؛ س: وأخشى.
م: واستشر؛ ط د س: واشتهر، والتصويب عن المسالك.
المسالك 11: 420 وديوان أبي نواس 1: 84 (تحقيق فاجنر) .
الأبيات للمفجع البصري، انظر اليتيمة 2: 363 ومعجم الأدباء 17: 182 والمسالك 11: 420.
نقل العمري هذه الحكاية 11: 420.
م: من ذلك قوله؛ وانظر ديوانه: 354، وما هنا أتم.
الديوان: وتفتيت.
م ط س: ونهانا.
الديوان: عاطيته الكأس.
الديوان: فترت.
ديوان الفرزدق: 212.
ديوان جرير: 1001.
الديوان: تدليت تزني ... وقصرت.
ديوان امرئ القيس: 241 وقراضة الذهب: 42.
ديوان ابن أبي ربيعة: 113 وقراضة الذهب: 42.
انظر كتاب ثابت: 287 واللسان (عتر) .
عتر الذكر: إذا اشتد إنعاظه واهتز.
ثابت: فقرتها.
ديوانه: 273.
الديوان: فقمنا إليه واحداً بعد واحد.
ديوانه: 274.
انظر ترجمة والبة في الأغاني 18: 43 وتاريخ بغداد 13: 518 وطبقات ابن المعتز 87 والفوات 4: 247 وقد ورد بيتاه في معظم المصادر المذكورة.
ديوان سحيم: 19 - 20.
الديوان: وتحوي.
ديوان ابن المعتز 3: 50.
المختار: 41 وزهر الآداب: 9.
انظر الشريشي 2: 21 - 22.
م: فأوصى؛ الشريشي: قد أوحى لنوح.
المسالك: 419 وفي المغرب منها أبيات.
المسالك: تسهد ليله.
المغرب: جعل الحسام إلى الحمام.
المغرب: لم اتخف من بأسه.
م: سيوفهم.
انظر المغرب 2: 232 والنفح 4: 67.
له ترجمة في الجذوة: 296، 371 (البغية رقم: 1232، 1523) والمغرب 1: 245، وذكره في رايات المبرزين 11 (غ) ؛ ونقل ابن سعيد عن الحجاري قوله إن ابن حصن نشأ مع المعتضد فاستوزره إلا أنه كان فيه طيش أداه إلى حتفه؛ وانظر أيضاً النفح 3: 266، 429 وبدائع البدائه: 367 والمسلك 11: 217.
المسالك: أفتن.
المغرب: تنفض الماء، د: غراب، والبيت في المسالك.
انظر النفح 3: 429.
فيه إشارة إلى المثل: كل مجر في خلاء يسر.
عجز بيت من الشعر، وصدره " إلى ديان يوم الذين نمضي " والبيت لأبي العتاهية في ديوانه: 353 والأغاني 4: 53 وهو دون نسبة في ابن خلكان 6: 229.
س م: نوال.
المسالك 11: 217.
ط: أليس ذا عجبا أن.
وردت في المغرب 1: 246 والمسالك، والأخير منها في رايات المبرزين: 40 (11 غ) .
ط: تحوي.
سقط هذا البيت من م.
وردت أبيات منها في المغرب 1: 246 وتحفة العروس: 168.
كذا في النسخ، على التأنيث، ولعله " حاذي ".
ط م د س: تنأ.
ط: مالك.
المغرب: بتهاد.
م: ضجعتني.
المغرب: لظهر.
أصبح هذا مثلاً عند الأندلسيين، انظر المثل رقم: 836 من أمثال الزجالي (2: 190) .
م س: ظن.
أود البيت كاملاً في النسخ، وذلك لا يلتئم مع إثباته لفظة: " البيت " التي تشير إلى حذف.
ديوان عمر: 439.
الديوان: احتضنتني.
ط د: النوم.
منها بيتان في المسالك ومعاهد التنصيص 3: 82.
ديوانه: 169 ووفيات الأعيان 2: 366 - 367.
الوفيات: وهل ترى ... حمائلا.
الشقر: شقائق النعمان.
وردت في المسالك 11: 218.
وردا في المسالك.
ط م د س: يحجب؛ المسالك، حجب؛ ويجحف: يقشر.
المغرب: من صبها؛ المسالك: منصبة (وهي قراءة جيدة) .
وقد جرى: سقطت من م س ط.
عنه لأني: موضعها بياض في م ط س.
البيتان في المغرب 1: 246 والمسالك.
انظر المغرب 1: 247 والمسالك 11: 219 وسرور النفس: 102 وعنوان المرقصات: 26 ونهاية الأرب 10: 267 وحلبة الكميت: 286 ورايات المبرزين: 39 (11 غ) .
خ بهامش ط: هاجني، وكذلك هو في سرور النفس.
ط: التبر.
خ بهامش ط: فرع، وكذلك هو في سرور النفس.
سرور النفس: تؤاما.
ديوان المتنبي: 465.
م ط س: واعتزم.
ط د: ويدنو.
يريد قبيلة عك.
ديوان ابن الرومي 1: 63 والتشبيهات لابن أبي عون: 21 والشريشي 2: 180.
اليتيمة 3: 379.
اليتيمة: ذو غرة ... لو برقت ... في صفحة.
م: أطل.
شروح السقط: 1133.
شروح السقط: 1351.
ط م د س: وساجرة.
ديوان ذي الرمة 2: 633.
الديوان: أخضر.
منها أربعة أبيات في المسالك.
ديوان أبي تمام 3: 24.
الديوان: يعنفني.
الخنج: الضخم؛ وفي ط: خنج.
ديوان أبي تمام: 326.
ورد في طبقات ابن سعد 3: 29 منسوبا للشفاء ابنه عبد الله.
انظر مسند أحمد 1: 89، 96، 101؛ 3: 228، 270.
منها خمسة أبيات في المسالك.
المسالك: أزوره.
د: الغزال المخصر، م: المحصر.
د ط س: جريان؛ وجربان السبف: غمده أو هو قراب ضخم يضع المرء فيه السيف وأدوات أخرى، والمفقر: السيف الذي فيه حزوز مطمئنة عن متنه.
د: بالصرائم.
المسالك: تختار.
م ط س: تركوها؛ الترهوك: مشي الذي كأنه يموج في مشيته.
هو مؤدم مبشر: وصف للرجل الكامل أي جمع لين الأدمة ونعومتها وهي باطن الجلد وشدة البشرة وخشونتها وهي ظاهر الجلد؛ ويقولون امرأة مؤدمة مبشرة إذا حسن منظرها وصح مخبرها.
ط: وإنما؛ س د: وأنا.
ومنها ... قصيدته: وقع في د قبل قوله " أأرقى إلى السبع ... ".
د: خودا للمعاني.
المهو من السيوف: الرقيق، وقيل هو الكثير الفرند.
لصف: برق وتلألأ.
الغاضف: الناعم البال.
د: صفاصف؛ وأرجح أن تكون القراءة " فصافص ".
ط م س: عوالفا.
د: وبالأمن.
تنبي: تسبب فيه نبوة.
الحرجف: الريح الباردة.
ط د س: قرانا.
م: حصافاً؛ م ط: حضائفاً.
جلائف: مقطوعة مستأصلة.
س ط: سراد.
فيه إشارة إلى المثل: " ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان ".
ط: أبرضت؛ وأرضت: جعلتها أريضة ممرعة، والخشاشي: الأرض الصلبة ذات الحصى، والخشائف: اليابسة.
من المثل: " أعن صبوح ترقق " يضرب لمن يعرض بشيء وهو يريد غيره. انظر فصل المقال: 75 والضبي: 53.
في النسخ، جرشى، ولا وجه لإسقاط " ال " التعريف فيه.
م ط د: ترقرق ... ونعبق، والبيت متصل بما بعده.
ط د م س: الحيا.
ط م: اطفقت.
بنور يفرن من زناتة، استولوا بعد الفتنة على تاكرنا وكانت قلعتهم رندة، وكان زعيمهم أبو نور بن أبي قرة حليفا لعباد، ثم غدر بهم عباد في حديث طويل، (انظر البيان المغرب 3: 270 وما بعدها) وقوله: " دمر " هي أحد فروع اليفرنيين، وفي النسخ: تدمر.
وردت في النسخ: يرقيان، وعند ابن عذارى (3: 271) يرنيان، وكان أميرهم عبدون بن خزرون صاحب أركش وشذونة، وقد قام عباد بالقضاء عليهم أيضاً وأباد أكثرهم سنة 458.
الجدالة: الأرض.
موضع هذه العبارة بياض في م ط س.
في د ط: جدوا؛ ويحمج: يحدق النظر، (وفي النسخ: يجمح) والشري: الحنظل، والجرو: الحنظل حين يكون صغيرا، والمخطب: الحنظل حين يصفر.
في النسخ: ألمح؛ وألمج: أرضع؛ الجداء: القليلة اللبن، والحافل: الضرع الممتلئ باللبن.
في النسخ: تزدري؛ ولا معنى له.
نكل حرب: قوي عليها، وفي النسخ: حزب.
م ط: ابتهاله؛ س: اهتبالها.
أبان: اسم جبل.
س م: أفة.
المأقط: المعترك.
م: أحمل.
ساقط في ط م س؛ وفي د: بكل فؤاد من فؤادي؛ ولا أراه دقيقا، ولعل الصواب " بكل قسيم من فؤادي " أو " بكل فؤادي علقة وتمكن " أو ما أشبه من قراءة.
لعل الصواب: " ذكاء ".
س ط: حدا بهم.
العجمة: الثقطة؛ السبج: الخرز الأسود.
س م ط: أفة أن.
بياض في م د س؛ وفي ط كلمة لعلها مزيدة بخط غير خط الأصل.
ط م س: يضني؛ د: يقي.
مرثوم: مخلق ملطخ بالطيب.
التعليم: جعله معلما أي مخططا.
ط د م: وما.
ذكر ابن سعيد (المغرب 1: 405) أن يوسف بن جعفر الباجي كان فقيها جليل القدر رحل إلى المشرق وحج وولي قضاء حلب، وعاد إلى الأندلس فجل قدره عند المقتدر بن هود ملك سرقسطة، وقد ذكره ابن بشرون الصقلي وعنه ينقل العماد (الخريدة 2: 313) وذكر أن له مؤلفات وتصانيف شرعية؛ وعاد العماد فذكره (2: 380) نقلا عن القلائد: 102 وفيها أن كنيته " أبو عمرو "، وانظر المسالك 11: 420.
هكذا يقول ابن بسام، ولكن هذا من التجوز الذي يلحق ضررا بالدراسة الدقيقة، والمؤلف إنما ينتحل لنفسه عذرا، وقد علق العمري على هذا بقوله: " وهبهم أهل بيت واحد، أليس يفرق بينهم التفاوت -! ".
كذا في النسخ.
يد: سقطت من ط.
وردت هذه الرسالة في العطاء الجزيل: 62.
العطاء الجزيل: بطول الأسى.
في النسخ: وكثيرة.
في النسخ: منحك، والتصويب عن العطاء الجزيل، وزاد فيه بعد اللفظة " الله ".
وردت في العطاء الجزيل: 63.
العطاء الجزيل: في توفية.
ط م س: فشد.
في النسخ: الحبر.
ط م د س: لرزء يسهل فيها، وأثبت ما في العطاء الجزيل.
ط م د س: للبث.
ط م د س: في الاحتساب.
م س: باستدانها، ط: باستمدانها.
في النسخ: هاد للعاقلين، والتصويب عن العطاء الجزيل.
م ط: أفحمتني، س: أفجعتني.
م ط س: وفضضته.
ط: الكتاب.
كان المأمون بن ذي النون قد سجن أبا مروان ابن غصن الحجاري، انظر أخباره فقي القسم الثالث: 331 وما بعدها.
ط د: صبيح.
تقع هذه الرسالة في سلسلة الرسائل " الزهرية " التي مرت منها نماذج في ترجمة أبي الوليد إسماعيل الملقب بحبيب: 127.
هو محمد بن سليمان الرعيني أبو عبد الله، راجع ترجمته في القسم الأول: 437.
ط د م س: فاعتزله.
قارن بالقلائد: 103 والخريدة 2: 382، ووردت أيضاً في العطاء الجزيل: 129.
القلائد والخريدة: ترفيهاً وإنعاماً ... تنبيهاً وإلهاماً.
القلائد والخريدة: وعلى آخرين.
العطاء الجزيل: له.
م: أنعم.
م د س ط: فقنع.
العطاء الجزيل: إثر.
القلائد والخريدة: الحمد.
غافق: حصن حصين كان بقرب حصن بطروش (الروض: 139) والمدور حصن آخر (Almodovar del Ria) قريب من قرطبة، وانظر الحديث عن المدور في المغرب 1: 222.
صنبر: اسم جبل، ذكره البحتري " أعلام رضوى أو شواهق صنبر "، وفي المسالك: وألقت عنان الطوع وهي تحسر.
المسالك: تطوى.
المسالك: الأمير.
منها أربعة أبيات في المسالك.
شروح السقط: 284.
م د ط س: صوب.
منها أربعة أبيات في المسالك.
ط م د س: حام.
هو علي بن عبد الله بن علي المعروف بابن الاستجي؛ ذكره الحميدي مرتين (الجذوة: 295، 370) وتصحف اسمه في الموضع الثاني إلى " الاشجعي " وكان فقيهاً نحوياً من أهل قرطبة، سكن إشبيلية (انظر البغية رقم: 1221، 1522 والمسالك 11: 42) .
انظر البديع: 18 والجذوة: 371 والمسالك والبغية.
البديع: 151.
م: الشعر.
البديع: أبنية ... اصطلمت.
س د م ط: جرد، والتصويب عن البديع.
يعني أبا حنيفة الدينوري صاحب كتاب النبات.
البديع: 40 - 41.
البديع: الروض.
البديع: محضه.
البديع: مرفضه.
سقط البيت من م.
م ط د: يأمل؛ ط د: فرضه.
البديع: 41 - 42.
ط د م س: عضه؛ خ بهامش ط: مخضه؛ البديع: من الأزاهر مخضه.
البديع: 43.
م ط س: كما (كمى) .
البديع: بيضاء غراء.
البديع: الهشم.
بعد هذا حدث سقط في م.
البديع: 43.
البديع: واقتضه.
ط د س: الحسن.
في النسخ: يشمه.
هنا ينتهي السقط في م.
البديع: 46.
ط د م س: سلا.
س ط: بعض.
البديع: 47.
ورد البيت في م:
بأن وصف الأقاحي ... بأكؤس من فضه البديع: 48.
هذا البيت والذي يليه سقطا من م.
س ط م د: نقد.
ذكره الحميدي (الجذوة: 367 والبغية رقم: 1513) في من ذكروا بالكنية ولم يتحقق من أسمائهم، والحميدي يعتمد أيضاً كتاب الحديقة لأبي عامر ابن مسلمة.
د: فريضة.
ط: سأبعد.
انظر الجذوة: 367 (البغية رقم: 1512) ووصفه بأنه رئيس أديب شاعر؛ وانظر النفح 3: 485؛ وذكر الحميدي: 164 الأصبغ بن سيد وكناه أبا الحسن، وقال إنه، شاعر إشبيلي رآه قبل 450، ولعل الشخصين شخص واحد، وإنما الخطأ واقع بين الاسم والكنية.
م ط س: ريقها.
هو إبراهيم بن خيرة أبو إسحاق يعرف بابن الصباغ، من شعراء إشبيلية (الجذوة: 145 والبغية رقم: 501 والغرب 1: 260 والنفح 3: 485) وفي المصادر بعض أبياته التائية؛ وقد نسبت الأبيات في المطمح: 23 لأبي عامر ابن مسلمة نفسه.
س والجذوة: بمثال.
س: طال.
أبو بكر ابن نصر الإشبيلي، ذكره الحميدي في الكنى اعتماداً على ابن مسلمة (الجذوة: 369 والبغية رقم: 1519) .
ذكره ابن سعيد نقلاً عن الحجاري وإنه من شعراء الدولة المعتضدية، معتمداً على أبي عامر ابن مسلمة (المغرب 1: 259) .
وردا في المغرب 1: 259.
م ط د س: ولم.
انظر ترجمته في المغرب 1: 259 والنفح 3: 484.
البديع: 29.
م ط س: يقضي العبور.
هما في المغرب والنفح؛ وقال ابن سعيد أن صاحب البديع انشدهما له، ولكنهما لم يردا في المصدر المذكور.
البديع: 146 والمغرب والنفح.
البديع: الأحبوش.
المشهور بهذا الاسم أبو بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز المعروف بابن القوطية صاحب كتاب الأفعال وكتاب افتتاح الأندلس، أصله من إشبيلية وسكن قرطبة، وكان عالماً بالنحو حافظاً للغة وأخبار الأندلس وأحوال فقائها وشعرائها، وطال عمره، وكانت وفاته سنة 367، ولا يمكن أن يكون هو المذكور هنا، فلعل هذا حفيد له، ولهذا وضعه الحميدي في باب الكنى (الجذوة: 369 والبغية رقم: 1518) ، وقد كان أبو بكر هذا هو صاحب الشرطة وذكر أنه شاعر متأخر (بالنسبة لزمان الحميدي) ، وقد أكثر له صاحب البديع من المختاات الشعرية.
يسمى أيضاً المرزنجوش والمرزجوش، وهو بنات كثير الأغصان ينبسط على الأرض، وله ورق مستدير عليه زغب، وهو طيب الرائحة جداً.
البيت في الذخيرة 4، الورقة: 34.
في النسخ: مدرسا.
توفي الفقيه محمد بن مروان بن زهر سنة 422 (انظر المطرب: 293 والصلة: 487 والبغية ص: 120 والوافي 5: 16 وعبر الذهبي 3: 150) .
راجع ترجمة أبي مروان عبد الملك في الذيل والتكملة 5: 37 والتكملة رقم: 1691 وطبقات صاعد: 84 وابن أبي أصيبعة: 64 والمغرب 1: 265.
انظر في أخبار زهر بن عبد الملك كتاب التكملة: 334 والمطرب: 203 والنفح 3: 246، 432 (نقلاً عن الذخيرة) . وبدائع البدائه: 310 وابن أبي أصيبعة 2: 64 - 66. وكانت وفاته 525 ودفن بإشبيلية باب الفتح.
انظر النفح 3: 432 - 433.
النفح: حسن.
ديوان ابن الرومي 2: 591 ورسالة الصاحب: 242.
ديوان البحتري: 2405.
ستجيء ترجمته في هذا القسم: 799.
ستجيء ترجمته في هذا القسم: 811.
رسالة الصاحب: 242.
ديوان المتنبي: 101.
ترجمته في ما يلي من هذا القسم.
ديوان كثير: 507 ومعه مصادر تخريجه، ويضاف إليها: بديع أسامة: 130 وبديع ابن المعتز: 60 وإعجاز الباقلاني: 150 ومعاهد التنصيص 1: 125 وشرح النهج 2: 407.
بديع ابن المعتز: 59.
يريد ابن رشيق في العمدة 2: 54، وهو يتابعه في أمثلته.
لم يرد في ديوان النابغة الذبياني وقال صاحب العمدة: ورواه آخرون للجعدي، وهو في ديوانه: 162 وروايته، ألا زعمت بنو كعب.
العمدة 2: 45، وكذلك سائر هذا الفصل عن الالتفات.
س م ط د: يوفي.
طبقات أبن المعتز: 188.
ديوان جرير: 279، 278.
بديع ابن المعتز: 59.
هذا كلام ابن رشيق، وانظر ابن المعتز: 58.
ديوان بشار: 111 (جمع العلوي) .
ديوان نصيب: 91.
انظر الأغاني 1: 213.
ديوان العباس: 33.
م د: السحر.
لم يرد في ديوانه.
هنا آخر النقل عن العمدة لابن رشيق.
انظر في هذه الأبيات ديوان المتنبي: 297، 413، 355، 401، 249، 278، 344 على التوالي.
م ط س: شرطه.
ديوان المعتمد: 90 والمعجب: 218.
زيادة من الديوان لاستيفاء المعنى.
في المعجب:
وركض عن يمين أو شمال ... لنظم الجيش أن رفع اللواء
يعنيه أمام أو وراء ... إذا اختل الإمام أو الوراء م ط د: سيبلي؛ س: سنبلي؛ المعجب: سيبلي النفس.
د: أعقبني.
بدائع البدائه: 310 - 311.
م ط د س: يغشى.
ط م د س: يستبق، والتصويب عن بدائع البدائه.
بدائع البدائه: لما استدار به عذار مونق.
بدائع البدائه: استنار.
أورد ابن بسام هذين البيتين في القسم الأول: 506 وهما هنالك منسوبان لابن الرومي، وانظر ديوانه: 137.
م: الأزرق.
الفقيه: زيادة من ط.
أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز البكري (- 487) صاحب المؤلفات اللغوية البارعة مثل شرح الأمالي وفصل المقال، والكتب الجغرافية مثل: المسالك والممالك ومعجم ما استعجم؛ انظر مقدمة السمط التي جميع فيها الأستاذ الميمني ما ورد عنه في الصلة والقلائد وبغية والحلة والوافي وعد مؤلفاته، وانظر دراسة عنه في الجغرافيين في الأندلس: 107 - 148؛ وقد نقل الأستاذ الميمني نص الذخيرة هذا أيضاً في مقدمة السمط.
بأفقنا: سقطت من م ط س.
ط م س: وأبدعهم؛ الميمني: وأبرعهم.
يعني أبا عبيد القاسم بن سلام.
ونثره: سقطت من م س.
م ط: أميرة.
نقل دوزي هذا الفصل عن الذخيرة في مجموعه عن بني عباد 1: 252 وانظر البيان المغرب 3: 240 والحلة السيراء 2: 180 - 182.
أونبة اسم آخر لمدينة ولبة (Huelva) وهي وشلطيش (Saltes) في كورة اكشونبة في الركن الجنوبي الغربي من شبه جزيرة ايبرية، وتسمى المديرية اليوم مديرية ولبة. وفي ساحلهما جزر صغيرة أكبرها جزيرة شلطيش (انظر الروض المعطار، الترجمة الفرنسية: 44، 135.
لبلة (Niebla) تقع شمال اقليم اكشونبة وتبعد عن اشبيلية إلى الغرب مسافة خمسين كيلومتراً (الروض: 203) .
م س: وردها.
دوزي: جلالا وخلالا.
بهامش ط الأيسر بخط غير خط الأصل: " بقي منها نحو نصف ورقة " وعلى الهامش الأيمن " هنا ترجمة للوزير الفقيه أبي عمر أحمد بن محمد بن حجاج ". ولكن مما يلفت النظر أن النسخ المعتمدة لم تورد ترجمة ابن حجاج كما أنها لم تورد للبكري شعراً أو نثراً، وهي في الأرجح ناقصة عما رسمه ابن بسام نفسه، لهذا أثبت هنا بعض نثر البكري وشعره ليكون ذلك في نسق مع طبيعة كتاب الذخيرة.
نهاية الأرب 5: 145 ونقله الميمني في مقدمة السمط.
للأعشى: ديوانه: 149 والذخيرة 1: 835.
ديوان أبي تمام 1: 78.
انظر الحلة السيراء 2: 186 وما بعدها، ومقدمة السمط.
هنا تقع ترجمة أبي عمر أحمد بن محمد بن حجاج، وقد نقل ابن سعيد شيئاً منها عن الذخيرة (المغرب 1: 251) وفيها يقول: " كان بحر علوم، وسابق ميدان منثور ومنظوم " وأورد له ابن سعيد رسالة أو قطعة من رسالة، أثبتها البلوي أيضاً على نحو أتم في العطاء الجزيل (ص: 5؛ وأرجو أن أوفق إلى العثور على الترجمة كاملة وإلحاقها بها القسم من الذخيرة) .
أبو بكر محمد بن سليمان الكلاعي الاشبيلي (- 508) كان من أهل التفنن في العلوم كاتباً بارع الخط، وسافر رسولاً عن المعتمد بن عباد إلى الملوك غير مرة، وقبيل وفاته أدركه الخرف؛ انظر ترجمته في الصلة: 104 والمغرب 1: 350 والمطرب: 81 واعتاب الكتاب: 222 والمعجب: 227 والوافي 3: 128 والمحمدون من الشعراء: 358 والخريدة 3: 383 والذيل والتكملة 6: 227 والنفح 4: 361، 365، 366 والإحاطة 2: 516.
من هنا نقل ابن الأبار نص ابن بسام في ترجمة ابن القصيرة (أعتاب الكتاب: 222) حتى قوله: تقعده؛ ثم لخص بعد ذلك حتى آخر الترجمة.
الأعتاب: فعلمه.
ذكر مؤلف المعجب: 228 أن ابن القصيرة كان على طريقة قدماء الكتاب من إيثار جزل الألفاظ وصحيح المعاني من غير التفات إلى الأسجاع التي أحدثها متأخرو الكتاب، اللهم إلا ما جاء في رسائله من ذلك عفواً من غير استدعاء.
فيه مشابه مما أورده صاحب الروض المعطار (مادة: الزلاقة) ونقله المقري في النفح 4: 369، وانظر أيضاً القسم الثالث من كتاب أعمال الإعلام: 245.
م: وقدره ممتناً وقضاه، س: وسناه ممتناً وقضاه.
أعلام: إن كان قد أمهله.
أشوى: أصاب الشوى أي الأطراف، ولم يكن قاتلاً.
هذه العبارة قلقة هنا، وكذلك هي في الروض والنفح وأعمال الإعلام.
ط د م: القيمة (ولعل الصواب: العصية) .
م س: الخلفاء.
قورية (Coria) قريبة من ماردة (الروض المعطار رقم: 153) وفي س م: مورية.
م ط: تعاطيه.
م د: أخطرناها.
م: برايتنا.
الكالئ: النسيئة والسلفة، والنقد: الدفع المعجل.
م: أعاليهم.
يعني أبا عبد الله محمد بن عبادة المعروف بابن القزاز.
انظر أبياتاً منها في القسم الثالث من أعمال الإعلام: 249 وفي القلائد: 13 والمغرب والخريدة وهي من قصيدة وردت في ترجمة ابن عبادة القزاز في القسم الأول من الذخيرة: 308.
م س: تواقعه.
منها أبيات في المسالك 11: 221 والخريدة 2: الورقة: 99 (في ترجمة عبد الجليل ابن وهبون) والمطرب: 120 - 121 والقسم الثالث من أعمال الإعلام: 247 - 248 والقلائد: 13.
كيامن: مثل يامن (يعني بنيامين أخا يوسف الصديق) وفي أعمال الإعلام: كبا بزلا وما لكما نظام (وهو غريب) .
ط: رفيقة؛ م: رقيقة؛ والرفيغة: التراب اللين.
فيه إشارة إلى قول حسان بن ثابت يعير الحارث بن هشام بالفرار:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... ننجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأسي طمرة ولجام هو مثلن انظر جمهرة العسكري 2: 255 (تحقيق أبو الفضل) والميداني 2: 143 واللسان (عصم) .
ديوان أبي فراس: 306.
الديوان: إماء من قريظ.
م س: لليل.
ديوان المتنبي: 464 والخريدة 2: 100.
ديوان أبي تمام 1: 199.
تمامه: وزيد فيه سواد القلب والبصر (شروح السقط: 119) .
ديوان التهامي: 55.
م: التصليط.
ستأتي ترجمته في هذا القسم: 433.
ط م س: تسام.
ط د: المتن.
وضعنا هذا النص بين أقواس، لأنه سيرد من بعد في رسالة لمحمد بن أيمن، فهو ليس من كلام ابن بسام، وإنما أورده مقتبساً.
هو ابن العسال الزاهد عبد الله بن فرج اليحصبي، انظر النفح 4: 352.
في النسخ: لقد.
م: عار.
ديوان امرئ القيس: 70.
قيل إن بربعيص بنواحي حلب؛ وفيها وفي ميسر كانت وقعة فيما يبدو.
ديوان حسان 1: 17.
المغث: القتال؛ اللحاء: السباب؛ ألمنا: فعلنا ما نلام عليه.
م: أبهر.
انظر زهر الآداب: 230 وتشبيهات ابن أبي عون: 236 والقسم الأول من الذخيرة: 150 والغيث 2: 160.
ط م د: تكن.
م: وأجدى.
ط: الموهوب.
ط: متداماً؛ م س: قنداماً؛ وبياض في د؛ والقنداق لفظة يونانية تعني " بيان " أو " براءة " مدرجة ضمن رسالة أو رقعة، كما يفهم من النص أعلاه.
قال: سقطت من م د س.
في النسخ: كمل.
ط: ومجرماً.
كذا ولعلها " الديار "، وهي غير واضحة في م.
قرع للأمر ظنبوبه (وهو عظم الساق) : استعد له وتهيأ.
ديوان أبي تمام 3: 320.
الديوان: المخفى.
ط: نافق؛ س م: راهق.
م د: سيل.
د: تعرض.
ديوان المتنبي: 259.
م ط: غير أسر، وهي رواية أخرى.
في النسخ ابن جهور، والتصويب عن الحلة 2: 101 حيث ذكر أنه أحد أدباء إشبيلية. وابن جهور ليس من إشبيلية، وقد عرف محقق الحلة بمن اسمه عبد الله بن أحمد بن جمهور ومن المستعبد أن يكون هو الشاعر المقصود هنا، لأن عبد الله ولد سنة 516 أي بعد الزلاقة بثماني وثلاثين سنة.
ديوان أبي تمام 3: 242.
نهر آلس ووادي عقرقس ببلاد الروم، وكان عند الأول نصر للروم وعند الثاني نصر للمسلمين.
ترجم ابن سعيد (المغرب 1: 6340) لبي الحسن محمد بن محمد بن الجد، الذي سيترجم له ابن بسام في هذا الجزء ويكنيه بأبي احسين (والكنيتان تتبادلان في المخطوطات) فلعله هو المعني هنا.
سقط البيت من م.
م ط: صوت.
هذه الرسالة موجهة إلى صاحب قلعة بني حماد على لسان يوسف بن تاشفين؛ كذا قال في القلائد: 105 والخريدة 3: 285.
القلائد والخريدة: ونكرك.
القلائد والخريدة: وخلافك.
م ط س: بصلح.
القلائد: لقصصنا؛ الخريدة: لفضضنا.
ط: ويخجل من حجته.
القلائد والخريدة: حجته.
د والقلائد: لا.
د: القصة.
م ط: امتدادها.
القلائد: ولا عنانا غير.
القلائد والخريدة: غيظاً.
القلائد والخريدة: وحماتك.
م ط س: القادر.
س د: فنندهه (اقرأ: فنبدهه) .
م س ج وخ بهامش ط: مالك.
ظ: وشاربوا.
ط م: وأجليت.
س م ط: ولولا صاحب رومة.
هو محمد بن علي بن عبد العزيز بن حمدين التغلبي، أبو عبد الله، كان من أهل التفنن في العلوم، حافظاً ذكياً تولى القضاء بقرطبة سنة 490 وبقي في منصبه إلى أن توفي سنة 508 (الصلة: 439 - 540) وانظر القسم الأول: 839 (الحاشية: 4) وفي ما جاء هنا تصحيح لما ورد هنالك حول أبي عبد الله قاضي الجماعة.
س ط د: وتولى.
وجلد وعزم: سقطت من م.
ط د م س: تبالي.
م: وعالك.
س: لديك.
م ط س: إشارتك: خ بهامش ط: أشاركك.
د: وأطلعك.
خ بهامش ط: المستبين.
م ط س: سط؛ د: لبيط (وهذا الوجه الأخير يكثر وروده) .
ط: بالضرب.
م د: فعورت.
ط د: خليفنا.
كذا ورد في م ط د.
لورقة (Lorca) من أكبر مدن ولاية مرسية (الروض رقم: 162) .
ط: ليون؛ وأبو الأصبغ سعد الدولة هذا ذكره ابن سعيد في المغرب (2: 275) وذكر أنه ولي لورقة بعد أخيه أبي عيسى ابن لبون (الذي ترجم له ابن الأبار في الحلة 2: 167) ثم صارت للمعتمد كما يذكر ابن القصيرة في هذه الرسالة.
د: والأمل.
ط: والحرج (وهي قراءة مقبولة) .
لعل المعنى هنا هو أبو بكر عيسى بن الوكيل اليابري الذي عاش إلى أيام دولة المرابطين واستعمل على الكتابة بغرناطة (أعتاب الكتاب: 224) .
د: أفق.
د: بلبيط؛ ط س م: بليط.
س ط م د: الحتوف.
كذا في النسخ، ولعلها: مشايعة.
ط م د س: وانطباع.
ط م د س: الداخلة.
قص الفتح في القلائد: 10 - 12 كيف استولى المعتمد على قرطبة بمداخلة أهلها وولاها ابنه الملقب بالظافر " ولم يزل فيها آمراً وناهياً، غافلاً من المكر ساهياً ... إلى أن ثار فيها ابن عكاشة ليلاً وجر إليها حرباً وويلاً " وقتل الظافر؛ وانظر أيضاً النفح 1: 623 - 627 وأعمال الأعلام: 151، 158 واسم ابن عكاشة " حكم " وانظر ما يلي: 268.
م ط س: تم.
يشير بهذا إلى ابن ذي النون، كما سيذكر ابن بسام في ما يلي.
قد تقرأ في م: " سني ".
م: غشيته.
ط: أفيضت.
ط د س: واستشار.
م: ومتون؛ س: وتيمور.
زاد في د: معهم.
د: إلا أنهم بغتهم.
قد تقرأ في م: والبابه؛ د: والبائه؛ وفي ط: واكبابه والبابه.
د: البلد.
نقل دوزي مهذا الفصل في ما جمعه من أخبار بني عباد 1: 322 وانظر أعمال الإعلام: 149 - 152.
م ط ودوزي: الآجال.
أنظر القسم الأول: 610 - 614.
أبو بكر محمد بن مرتين: ذكره الحجاري وقال إنه كان ينادم ابن افتتاح (المغرب 1: 243) وقد ذكر في النفح 3: 406 ولقب بالقائد، وانظر 3: 474، وذكره ابن الخطيب في أعمال الأعلام: 151، 158 وأشار إلى أنه وزر للظافر أثناء توليه قرطبة، وهو ما يتحدث عنه ابن بسام في هذا الفصل.
دوزي: أمكنت.
م: أحد.
بعد هذه اللفظة بياض عند دوزي، ولا وجود له في النسخ المعتمدة.
من جمادي: سقطت من ط م س.
البيت لمرة بن محكان التميمي، شاعر مقل اسلامي، انظر الحماسية رقم: 675.
س م ط د ودوزي: وشناة.
م ط: وهدته؛ خ بهامش ط: وهزته.
م ط د س: وحسنته.
البيت من قصيدة في الأصمعيات (رقم: 29) : 117 - 119، وانظر حماسة ابن الشجري: 13 والسمط: 690 والخزانة 3: 166.
م: ويقتحمون.
د: البحر.
ط: نهي.
ط م د س: والإباحة.
م: غماتهم.
م س: تنقدح؛ ط: تتفدح: تصبح قرحاء أي ذات غرة، والأقرح: الصبح لأنه بياض في سواد.
الياء غير معجمة في النسخ؛ وهي من ألاح بمعنى أضاء وبدا وتلألأ؛ ويمكن أن تكون قراءة هذه العبارة على النحو الآتي: " أن غماءهم لا تتفرج، وظلماءهم لا تنجلي ولا تتبلج "، ولكن آثرت ما هو أقرب إلى الأصل.
د: عنهم.
هذه القراءة من هامش ط؛ وفي النسخ: فانثنى.
م: حرج (واللفظتان تتبادلان في النسخ) .
د: التعرض.
م: المظفر.
م: ومعولاً.
م ط س: تبدو عن.
د: والاستيفاء.
م ط س: الأحة.
د: الخاطر.
م: شهراء.
ط: فيعسوا.
البدهة: المباغتة والمفاجأة؛ س ط د: بديهة.
م ط د س: وثاني؛ ط: نصيفتهم.
خ بهامش ط: تتمة عشرين.
م ط: أسرى.
ط: الجهون وفوقها " كذا "، وشكلها قريب من ذلك في م س.
س م ط د: خشعها.
د: نعلم.
بسطة (Basa) واسمها في القديم (Basti) ، وهي اليوم أكبر مدينة في ولاية غرناطة وتبعد 123 كم إلى الشمال الشرقي من غرناطة نفسها (الروض رقم: 46) .
من حرمة: سقطت من م.
م: عن مخالفته؛ س: عن مخالفة.
س م ط: ذلك.
انصات: استقام؛ س م: اقضات؛ د: اتصلت.
عجز لأحمد بن أبي فتن، وصدره: " تثاءبت كي لا ينكر الدمع منكر " (زهر الآداب: 1012 وقد مر تخريجه في القسم الأول: 323 وورد هنالك برواية مختلفة) .
ط م س: التشاوب اسمه استقال؛ د: في اسمه.
ط م د س: قوارض.
د: الاقصار.
م ط د: والاستهراف.
كذا في النسخ.
م ط: اسق ... مقفاً.
أجوس ... وقفت: سقط من م س.
م ط: بجانبها.
البيت للمتنبي، ديوانه: 416.
م س: السيف.
م: فتطيرت.
س د م: وأحصل.
زاد في م: شاء.
لقبائح: موضعها بياض في م.
ط م د: باستثارة.
النشر: الرائحة؛ وقد انفردت بها ط ولعلها مكررة إذ المعنى يتم دونها.
م: واستولى مقادة.
محمد بن عبد الله بن يحيى بن فرح بن الجد الفهري: شلبي الأصل سكن اشبيلية، ويعرف بالأحدب، أخو الحافظ أبي بكر ابن الجد، كان من أهل التفنن في المعارف والآداب والبلاغة ذا حظ جيد من الفقه والتكلم في الحديث، وكان يفتي ببلده لبلة وتوفي سنة 415 (الصلة: 544 والذيل والتكملة 6: 326 والمطرب: 190 والمعجب: 237 والقلائد: 109 والخريدة 3: 393 والمغرب 1: 341 وإحكام صنعة الكلام: 185 - 186) .
العفة: بقية اللبن في الضرع، ولعلها أن تقرأ " غفة " - بالغين المعجمة - وهي البلغة من العيش.
د: غير.
هو اللقب بالراضي أبي خالد، ولاه أبوه أولا الجزيرة الخضراء ثم رندة، ومنها استنزل وقتل سنة 484 (انظر الحلة 2: 70) .
د: فصل.
قبر: سقطت من م ط س.
م: قلبك.
ولا طفت: لم ترد في د.
في النسخ: بقربك.
في النسخ ما عدا س: يتهجدك.
العج: العجيج في الدعاء. النفح: سفك دماء البدن وغيرها؛ وفي الحديث: تمام الحج العج والثج؛ د: وشجك.
م: منحها؛ س: فتحها.
م: الجناح.
م ط س: انتهك.
انبتك: انقطع.
ط م: تشرفت.
م ط س: ثار.
م ط: للطبع.
أبو القاسم واسمه الحسن هو ولد أبي حفص عمر بن الحسن الهوزني الذي ترجم له ابن بسام في هذا القسم من الذخيرة (انظر ص: 81 فيما تقدم) وأبو القاسم هو الذي سعى في فساد دولة بني عباد عند أمير المسلمين يوسف بن تاشفين أخذاً بثار أبيه، وكان فقيهاً مشاوراً ببلده، توفي سنة 512 (الصلة: 137 والمغرب 1: 235 وترتيب المدارك 4: 826) .
تعالى: زيادة من م.
م: يتجنى.
يريد حمى الربع.
س م ط: فاتبعها.
في النسخ: فأشعرها.
د: الوليد.
ط: في أوفق.
ط: انثنائه، م: انشاء.
البيت لحمدج المري (البلدان: صول) ؛ وصول: مدينة في بلاد الخزر من نواحي باب الأبواب.
س ط م: عن حباله؛ وسقطت " نوم " من م ط س.
من قول أبي العلاء المعري (شروح السقط: 153)
هموا فأموا فلما شارفوا وقفوا ... كوقفة العير بين الورد والصدر فهلا: سقطت من م ط س.
م س: مرادي.
م س: حاصت.
س: أجفت.
د: أمداً.
ط م س د: يبقي.
كذا في النسخ، ولعلها: خطوبه.
ط م د س: غصة.
ط م د س: وجاء.
د س: الظل.
لم يرد في ديوانه (جمع العلوي) ، وهناك بيت على شاكلته وهو (ص: 140) :
أعطى البخيل فما انتفعت به ... وكذاك من يعيطك من كدره م ط س: جوابك؛ والجراء: بمعنى المجاراة والمباراة.
د: وإبدائك.
أجمل تأول: سقطت من م ط س.
م: وصولا.
كذا في م ط د س؛ ولعل الصواب " متغيف " أي مائل الأغصان (أو مسعف) .
د: يموج، س: يخرج.
م ط: سعيك.
عجز بيت لأبي تمام، وصدره (الديوان 3: 356) :
فيا ثلج الفؤاد وكان رضفاً ...
م: ويحتمل.
م: واسلفت؛ س: واستلفت.
في النسخ: يجتلي ... ويقف.
مقام: سقطت من م.
إشارة إلى قول البحتري (ديوانه: 405) :
لا أنسين زمنا لديك مهذبا ... وظلال عيش كان عندك سجسج
في نعمة أوطنتها وأقمت في ... أفيائها فكأنني في منبج م ط س: والشحب؛ د: والشخب.
الثغب: الغدير.
ط م د: ألقى.
بنو المناصف كثيرون ترجم لبعضهم ابن الأبار في التكملة وابن سعيد في المغرب، ولم أجد من بينهم من كنيته أبو القاسم.
د: واستنسخت.
خ: بهامش ط: جوادك.
م: وذان.
من قول قيس بن الخطيم: (الديوان: 4) :
إذا ما اصطحبت أربعا خط مئزري ... واتبعت دلوي في السماح رشاءها م ط: يفرج، س: يبوح.
السواد - بكسر السين - السرار؛ وقيل لابنة الخس: ما أغراك بعبدك - قالت: طول السواد وقرب الوساد (الحيوان 1: 169) .
م ط د س: يفرق.
م: بمرضاك.
الزمل: نوع من العدو؛ وفي ط: الرمل، وهو أيضاً نوع من العدو.
م ط س: إلى بعض.
من قول بشار (ديوانه: 15) :
يسقط الطير حيث ينتثر الحب وتغشى منازل الكرماء ... ثبيت: مدحت ونالها الثناء.
من قول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
ط م د: يرفع.
هو علي بن عبد الرحمن بن مهدي التنوخي من أهل إشبيلية (- 514) ، كان من أهل المعرفة بالآداب واللغة حافظاً لهما (الصلة: 404) .
م: رمقته.
م ط: تهايف؛ س: تهالف، وهي غير واضحة تماماً في م.
لع الصواب: وصفحته.
د: المرام.
م س: وتسوق؛ ط: وسوق.
م ط: الصنع.
د: شدقيه.
فرضاً: سقطت من ط ك س.
العرب تقول للشيء: الذي لا يعسر تناوله هو على طرف الثمام، والثمام نبت لا يطول ولهذا لا يشق تناوله؛ وفي النسخ: تمام.
م: الرهان.
د: سبب.
ط م: ثلم.
هو الحسن بن عمر الهوزني الاشبيلي (435 - 512) وقد مر التعريف به فيما تقدم ص: 291.
البيتان لأبي فراس الحمداني، ديوانه: 71 واليتيمة 1: 523 في تعزية سيف الدولة، وقد وردا في القسم الثالث: 225 ونسبا في محاضرات الأدباء لأبي نواس، وذلك تصحيف.
م س د ط: أهجع.
د ط: أبشع، س: أشنع وأوجع.
ط م د س: ومختصر.
الساقة: مؤخرة الجيش، والمقصود هنا - فيما يبدو - من خلفهم الفقيد بعد موته من أبناء يحتاجون إلى رعاية، وانظر ما تقدم ص: 120.
ط س: آمالاً.
م: خطبها.
م ط س: لصدمها.
م: لعبرة نمائها، س: مأتمها.
المشيع: الشجاع لأن قلبه لا يخذله.
زاد في ط د: به.
ط م س: موازنها.
البيت للمتنبي، ديوانه: 315.
انظر القلائد: 111 والخريدة 3: 394 - 395 والمطرب: 190.
ط م: معنى.
القلائد والخريدة: تضوع.
د والقلائد والخريدة والمطرب: مهلل.
انظر القلائد: 111 والخريدة 3: 395.
د م س وأصل ط: جدي.
الخريدة: حباني.
مضمن من شعر أبي تمام، وصدر البيت، أتاني مع الركبان ظن ظننته (ديوان أبي تمام 2: 115) ، وعند هذا البيت ينتهي ما ورد من القصيدة في القلائد والخريدة.
د: المجد.
القلائد: 112 والخريدة 3: 296 والمغرب 1: 341 والمطرب: يحامي.
المطرب: طاب له نشر.
المغرب والقلائد والخريدة: تحامي، المطرب: يحامي.
المغرب والقلائد الخريدة والمطرب: نشر.
المطرب: سر.
المطرب: الند.
المطرب: صرامتي؛ المغرب: ضرائبها.
ط: وشتت؛ د: وشمت؛ م والقلائد والخريدة: وشبت ... مطرباً.
الثغب: ما بقي من الماء في بطن الوادي؛ المطرب والقلائد والخريدة: ثعب.
هذا البيت نهاية القصيدة في المصادر المذكورة.
ط م س: ولا.
القسم الأول: 179.
هو أبو تمام، ديوانه 4: 464.
الديوان: الاحشاء.
ديوان أبي تمام 4: 568 وصدر البيت: " وقالت أتنسى البدر قلت تجلداً ".
د: تشرق.
ديوان المتنبي: 330.
له ترجمة في المطمح: 29 والمغرب 1: 236 والخريدة 3: 437 والنفح 3: 552 (نقلاً عن المطمح) . وهو جد صاحب " إحكام صنعة الكلام " (تحقيق د. رضوان الداية، بيروت) .
قد أشار صاحب إحكام صنعة الكلام إلى جانب من هذه العلاقة (ص 197) وأورد لجده بيتين طيرهما للمعتمد حين كان المعتمد ما يزال يلقب بالظافر، وهما:
ظفرت بالأعداء يا ظافر ... ونلت مجداً نوره باهر
فمنك للباغي وللمبتغي ... عضب جراز وندى غامر ففك المعتمد المعمى.
انظر إحكام صنعة الكلام: 198.
هذا المخاطب هو الوزير أبو مروان ابن الدب كانت له منية بعدوة اشبيلية، وكان صهره هو الوزير الفقيه أبو أيوب ابن أبي أمية (انظر المطمح: 28 - 29 والنفح 3: 550) .
م: العليل وهن.
قال صاحب المغرب (1: 236) " ذكره الحجاري فقال: قطع الله لسان الفتح صاحب القلائد، فانه شرع في ذمه، بما ليس هو من أهله، والله ما أبصرت عيني شخصاً أحق بفضله منه ... " ومما قاله الفتح فيه (القلائد: 60) : فانه بادي الهوج، وعر المنهج، له ألفاظ متعقدة، وأغراض غير متوقدة ... وربما ندرت في نثره ألفاظ سهلة الفرض، مستنبلة الغرض " وهذا الذي يقوله ابن خاقان ذو حظ كبير من الحقيقة، ويتبين ذلك من قراءة رسائله فإن الغموض - بسبب التقمر - يرين على صفحتها؛ وانظر أيضاً في ترجمته: الخريدة 3: 429 ونقل عن اليسع قوله إن ابن عبد الغفور كان كاتباً بمراكش سنة 531.
ونجم ... عظيم: سقط من م س.
وردت الرسالة في العطاء الجزيل: 32.
د: وإن كان لعمري بقي.
ط م: وتفرع.
د: غير؛ ط م س: عمر.
العطاء الجزيل: كلمة.
د: بتخلصه.
العطاء الجزيل: أرضيت.
م: ترني.
العطاء الجزيل: عليه.
أي الذي نفى عنه القدرة على الكتابة.
م: وتحجبه.
العطاء الجزيل: من خاطب سخف.
ط م د س: إبايه.
العطاء الجزيل: وتجمل.
العطاء الجزيل: أفصح.
م: غدرت.
العطاء الجزيل: بمكاني.
العطاء الجزيل: أو فلان.
العطاء الجزيل: ولي على موضوعين.
العطاء الجزيل: وصار.
د ولا زال؛ م ط: ولا أزال.
كذا ويمكن أن تقرأ في العطاء الجزيل. وفي ط: يستحي.
ط م د س: الاستيلاء.
ط م د س: عن.
ط س: الصفح.
ط م س: المخاطبة.
لا كاتباً: سقط في م س.
البيت للمتنبي، ديوانه: 218.
س: أوجد لها.
ديوان المتنبي: 234.
س د ط: عمله.
م ط: ويقتلع، والتاء غير معجمة.
ط: نظفر، وفوقها " كذا ".
الحصين بن الحمام المري، هو الذي يقول لما اكثر القتل في بني صرمة بن مرة وحلفائهم يوم دارة موضوع:
نفلق هاماً من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما أما قوله " فلما علمت أنني قتلته " فانه صدر بيت للقتال الكلابي، وعجزه " ندمت عليه أي ساعة مندم " (ديوان القتال: 89) .
ديوانه 4: 362 في هجاء عياش بن لهيعة.
القاصرة: موضع على الطريق بين مكة ومصر.
ديوان المتنبي: 221.
هو امرؤ القيس، انظر ديوانه: 49.
البيدانة: الاتان التي تعيش في البيد ولا تقرب الناس، التولب: الولد الصغير.
فيه إشارة إلى قول البحتري: " منى النفس في أسماء لو تستطيعها " (الديوان: 1296) .
السخت والسختيت: دقاق السويق؛ ط د: بسحت؛ م س: بحت.
ط د س: تجوز.
م: مبيت.
ط: بلقيان حبور.
سور: مخففة من سؤر أي بقية.
د: امتثال.
من قول زهير (ديوانه: 56) :
عفت من آل فاطمة الجواء ... فيمن فالقوادم فالحساء ط د: قراع.
م س: المعنى.
في النسخ: لمسافة.
في النسخ: يتملأ.
في النسخ: الحبيب.
م: بكائها؛ س: بقائها؛ ط د: بغائها.
الخرشاء: النقبة من الحرب، ولعلها " الخرشاء " أي الجلد، الحرش: الحك والقشر، والحرش أيضاً صيد الضب.
د: بعقرب؛ ط م س: لعقرب.
الخرش: العض والخدش.
م: عقوبة.
م: حبالة أبق.
ط: بغيت؛ د: بقية، وسقطت اللفظة من م س.
ط: فيه.
فيه إشارة إلى النمر بن تولب، فقد كبر حتى خرف وأهتر فجعل يقول: اصبحوا الراكب (الشعر والشعراء: 227 والخزانة 1: 156) .
فيه أيضاً إشارة إلى قصة امرأة جعلت تردد هذا القول عندما خرفت وأهترت.
من هنا حتى آخر هذا الفصل مكرر، انظر ما سبق ص: 336 - 337.
له: لم ترد في ط م.
د: وصان منه بيمينه؛ ط د: بعد تتمة؛ س: تتميمه، وفوقها " كذا " في النسخ.
في النسخ: أشبه العضب المشرف.
د: واعتقدها من.
س م: تقوية.
صدر بيت للمتنبي، وعجزه: " وحيدا وما قولي كذا ومعي الصبر ".
وردت في العطاء الجزيل: 5 وتكرر بعضها فيه ص: 97.
م ط س: أهل الالطاف.
س م ط والعطاء الجزيل: كتبة.
م س ط والعطاء الجزيل: شعرة.
الشيء: سقطت من العطاء الجزيل.
العطاء الجزيل: فيمتع.
ط: سيبا.
م ط س: مما ينقى؛ د: يعني؛ والتصويب عن العطاء الجزيل.
د: مكدرة.
العطاء الجزيل: خلاء.
المزورة: نوع من الحساء دون لحم.
العطاء الجزيل: عدة.
ط د: خل.
ط د: مخل.
م ط: بالعنبر.
د: بالتعنيس؛ ط م س: بالتعيين
العطاء الجزيل: ثم.
م ط: الدم.
ط: أفراح عرب.
العطاء الجزيل: العبير.
العطاء الجزيل: ولربما.
العطاء الجزيل: نحفظها ... تعدل ... م ط: عماقا.
وردت في العطاء الجزيل: 97، 129؛ وانظر ما تقدم: 289.
العطاء الجزيل: وتستلب.
في النسخ: من خلف الممرية جلب؛ م: بجلب.
العطاء الجزيل: من منفسات.
في النسخ: تعير؛ تغير: تفيد وتمنح.
ط م د: رقيقتها.
العطاء الجزيل: الدجى.
ط م د س: وأخيل.
م ط س: ألمت قرعها؛ د: فرعها.
ط م: مائلة.
العطاء الجزيل: ليتها.
ط: وتجيدها، س: ونخيدها.
ط م د س: اسئارها.
ط م د س: سر
العطاء الجزيل: ومحببي.
العطاء الجزيل: عقل.
شيء: سقطت من العطاء الجزيل.
وردت في العطاء الجزيل: 112.
العطاء: ورغب.
م ط س: ولو رزقت.
العطاء: منها قبل الولد.
ط والعطاء: تشوقها.
م: وأضعف.
في النسخ: باليدين.
م: رهون.
ط: اكمله.
م ط: الحبول.
كما: سقطت من ط.
قد مر التعريف به في القسم الأول ص: 821.
التحسير: إلقاء الريش العتيق؛ الشكير: صغار الريش.
ط: اللدين.
المعمر: المنزل، وقيل هو اسم موضع في قول الراجز " يا لك من قبرة بمعمر ".
البيت لأبي تمام من أبيات كتب بها إلى إسحاق بن أبي ربعي كاتب أبي دلف، ديوانه 3: 60 وتمام المتون 364، 366.
مرت ترجمته في هذا القسم، ص 285.
م ط س: تيقنت.
ط: لأدانت.
الزمع: القلق.
فيه إشارة إلى قصة أوردها في أماليه (1: 65) وهي أن الأصمعي وقف على غلام من بني أسد اسمه حريقيص فقال له: أما كفى أهلك أن يسموك حرقوصا حتى حقروا اسمك - فقال: إن السقط ليحرق الحرجة.
وردت دويهية مصغرة للتعظيم في قول لبيد:
وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفر منها الأنامل يعني مراثي لبيد في أربد أخيه.
مطيبا: سقطت من م س.
م ط د س: ورقا (ورقى) .
فيه إشارة إلى قول الراجز في الضب:
لا يشتهي أن يردا ... إلا عرادا عردا ... ط س: وصلت.
الضمير هنا يعود - على الأرجح - إلى ابن عبد الغفور لا إلى ابن الجد صاحب الرسالة السابقة وعلى ذلك تعد الرسائل التالية حتى آخر الترجمة لابن عبد الغفور.
د م ط س: وخطره.
القطع: انقطاع ما البئر في القيظ، وأقطعت السماء إذا انقطع مطرها.
الشنان: البارد؛ ط م د س: شان.
ط م د س: عمر.
اللغن: أن يتكلم المرء بكلام خاص.
ط: يدب.
نافذات: سقطت في م س.
ونضب: سقطت من ط س.
ط م د س: والمغرب.
نعيم عين: كرامتها وقرتها؛ س ط: نقيم؛ م د: نغيم.
م د: شاغلة؛ ط: شاغلت.(3/523)
بعض هذا النص في الحلة 2: 132.
قال ابن الأبار (الحلة 2: 132) : وسرى إلى ابن عمار أن المعتمد كتب من قرطبة إلى بعض كرائمه شعراً يعتذر فيه من اللحاق بها، آخره: إن شاء ربي أو شاء ابن عمار؛ فأجابه ابن عمار بهذه الأبيات: " مولاي عندي لما تهوى.... "، وذلك ما حكاه أبو الطاهر التميمي السرقسطي في ديوان شعر ابن عمار من جمعه؛ وانظر خالص: 236.
خ بهامش ط: للمعتمد: وانظر الخريدة 2: 77 وخالص: 201.
الخريدة: بآفاق السرور.
نداكما: لا وجه للتثنية هنا، ولعل الصواب " نداكا ".
خالص: 233.
خالص: 225.
اضطرب هذا الشطر في م فجاء: " وإلا فكم خف جهلا من خف ".
ط د م س: فيا.
ديوان المتنبي: 440.
د: ركب.
هو البحتري، انظر ديوانه: 462.
بعد هذا البيت يبدأ خرم في م س.
ديوان البحتري: 4763.
الديوان: ظن أن يحي به، عمري.
شروح السقط: 1126.
المثل في فصل المقال: 61 والميداني 2: 31 والعسكري 2: 125.
فصل المقال: 298 والميداني 1: 313 والعسكري 1: 50 والفاخر: 246.
انظر جمع الجواهر: 65 وزهر الآداب: 11 وتمام المتون: 399.
الميداني 1: 74.
انظر قلائد العقيان: 94 والمطرب: 172 وخالص: 229 والنفح 3: 328 والوافي للرندي: 76 والمسلك السهل: 436.
خ بهامش ط: وأغيد.
مضمن وصدره: " فقالوا قد جزعت فقلت كلا " (أمالي القالي 1: 49 وروايته: وهل يبكي) وانظر الذخيرة 1: 325.
النفح: وأحرز حسنه.
خالص: 300.
نفح الطيب 3: 326 وخالص: 254، والقصة والأبيات في القسم الرابع من الذخيرة (الورقة: 40) .
ط د: جوهري.
المثلث: عند الأندلسيين أنواع من الأطعمة يطلق عليها هذا الاسم منها المجنة المثلثة، والمثلث من رؤوس الخس (كتاب الطبيخ: 201، 222 ومعجم دوزي) وألوانها تضرب للصفرة لأن الزعفران يدخل في تركيبها؛ والتفايا: من بسائط الأطعمة، تحضر من لحم الضآن الفتي مضافاً إليه ملح وفلفل وكزبرة يابسة ... (كتاب الطبيخ: 85 - 88) والخضراء منها يضاف إليها ماء الكزبرة الرطبة.
انظر نفح الطيب 3: 197 وقد وردت أبيات الطليق في القسم الأول من الذخيرة: 565.
أخبار البحتري: 121 - 122 وديوان البحتري: 1229.
ورد البيتان في الحلة السيراء: 260 وكتاب التشبيهات: 144 والمسالك 11: 174 والمرقص والمطرب: 16 والدرة المضيئة 6: 576 ورفع الحجب 1: 124. وينسبان للمصحفي أو لابن فرج، وقال المقري في النفح 1: 64 إن صاحب المطمح نسبهما للمصحفي، ولكنها لم يردا في المطمح.
قلائد العقيان: 96 والنفح 1: 653، 3: 328 وخالص: 297 وبدائع البدائه: 372 والريحان 1: 156 ب.
النفح: متناوح ... يندى عطفه.
خ بهامش ط: نجاده (بخط مغاير لخط الأصل) .
النفح: إياك بادرة الوغى.
هو أبو الوليد ابن الحضرمي، وزر للمتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس، فداخله تيه وعجب وتجبر، كرهه من أجلها أصحاب الدولة فعزله المتوكل (المغرب 1: 365 والنفح 3: 450 والشريشي 4: 124. وفيه ثلاثة من الأبيات التي وردت هنا) .
خ بهامش ط: وشوقي إليه.
وردت ترجمته ف القسم الثالث: 251.
النفح 4: 73، 306 وخالص: 244.
هنا ينتهي السقط في م س.
المعجب: 171 والقلائد: 86 وخالص: 220.
القلائد: انتدبت.
القلائد: هيج.
القلائد: 90 والخريدة 2: 81 والحلة 2: 145 وخالص: 278.
القلائد والخريدة والحلة: للفضل.
م: بالحيا ... القلائد والخريدة والحلة: من نشره.
الحلة: بخلتم بأعيان.
ط م: ولم.
خالص: 264.
خالص: 263.
م ط س: نثراً.
وقع البيت في م س وهامش ط.
القلائد: 93.
القلائد: فلاحظت.
خ بهامش ط: ولاح بدر
القلائد وخ بهامش ط: ونجعة.
القلائد: دانياً أو نائياً.
القلائد: 93 وخالص: 272.
د: وصلت.
القلائد: نفسي.
هذا البيت واللذان بعده من هامش ط.
رفا: مخفف من رفأ بمعنى حاباه، ورفق به؛ ط م د س: وفا.
انظر البيتين في الإصابة 6: 162 والحماسية رقم: 25 (شروح المرزوقي: 149) .
الحماسة: ابن حرب.
ط د م: ولواء.
الليس: جمع أليس وهو الشجاع الذي لا يبالي الحرب.
د: بالشرح؛ م: بالشرج.
نقل ابن سعيد هذا في المغرب 1: 97.
خ بهامش ط: خلصت.
ورد في الرايات: 56.
هذا البيت والذي قبله من هامش ط.
هذا البيت وخمسة أبيات بعده من هامش ط.
هذا البيت من هامش ط.
خالص: متعللين.
م س: شدتهم (وكذلك عند خالص) .
مم ط س: دعاك.
هذا البيت مقدم عن موضعه عند خالص.
خالص: فإنما أهدي.
خالص: 262.
ط د س م: أعفيته.
س: وقصدك.
انظر شروح السقط: 120.
خالص: 295.
ترجمته في القسم الثالث: 459.
القلائد: 92 وخالص: 302.
م ط س: طفقت.
ط م س: إلى المطرز؛ وسيرد " ابن المطرز " ص: 411؛ وانظر خالص: 304.
القلائد: 50 وخالص: 265 والحلة 2: 85 والمغرب 2: 198.
المغرب والحلة: فضح السحاب؛ المغرب: الجون.
القلائد: 51 والحلة 2: 85 والمغرب 2: 198.
القلائد: 86 والمطرب: 173 وخالص: 297.
م ط: بعثت.
ط والقلائد: منطق.
القلائد: وإن.
القلائد: 49 والخريدة 2: 83 وابن خلكان 5: 40 والحلة 2: 84 والمغرب 2: 197.
القلائد: 50 والخريدة 2: 84 وخالص: 269.
القلائد وخ بهامش ط: جاهدا (بغير خط الأصل) .
القلائد وخ بهامش ط: بعض (بخط مختلف) .
الخريدة: يخفف؛ القلائد: يبرد.
ط م س: لغمز.
القلائد: قبلها.
الخريدة: فصادفت.
نقله ابن الأبار في الحلة 2: 144.
الحلية (2: 144) : الرحيل، وذلك تغيير من المحقق، ليطابق ما اقترحه ابن عمار من خروج إلى شرق الأندلس مع الرشيد بجيش اشبيلي للاستيلاء على مرسية (وفي أصل الحلة: الرعيل) .
هما لإبراهيم بن العباس الصولي قالهما لما انحرف عنه ابن الزيات، وكان الحارث بن بسختر صديقا له، فهجره فيمن هجره من إخوانه (الأغاني 10: 45 وديوان العباس: 182) وقيل إن البيتين لإسحاق بن إبراهيم الموصلي.
الحلة 2: 143 وخالص: 284 وتمام المتون: 308.
الحلة: صوت.
الحلة: أبعد انقضا خمس وعشرين.
الحلة: كبا؛ ط م د س: بنا.
د: تمر.
ليس لعبيد، وإنما هو لعدي بن زيد، ديوانه: 70.
ديوان القطامي: 25 وتمام المتون: 56.
الحلة 2: 135 وديوان المعتمد: 51؛ وعند الفتح في القلائد: 90 - 91 أبيات اختلطت بها بعض هذه، كتبها ابن عمار إلى المعتمد، وانظر خالص: 279.
الحلة: أغرب.
نقل التعليق في الحلة 2: 136.
د: مبتناه؛ ط: معناه.
د: للأصحاب.
الحلة: ولا غرو.
هذا البيت ورد في ط م س، وذكر ابن الأبار (الحلة 2: 137) أن أبا الطاهر التميمي أورد هذا البيت زيادة على ما أورده ابن بسام في روايته.
الحلة 2: 136 وديوان المعتمد: 52؛ والرد الذي أورده الفتح في القلائد يتضمن أبياتا على الروي نفسه، لكنها غير هذه.
ديوان المتنبي: 456.
م ط س: الناظم.
زهر الآداب: 633 وذهب الحصري إلى أن الناجم أخذه من قول بشار في المهدي: " لقد مدحته بشعر لو قلت مثله في الدهر لما خيف صرفه على حر ".
ديوان المتنبي: 37.
الديوان: لو قضفت به.
يعني ابن عبد العزيز، ولم يصرح بذكره فيما سبق.
الحلة 2: 141 والقلائد: 64 وخالص: 293.
القلائد: التنزير بالتبذير.
الحلة: لو سلكت سبيلها.
د: والتدوير؛ الحلة والقلائد: التعزيز والتوقير.
يعني أبا عبد الرحمن ابن طاهر، وكان مشهورا بنوادره، كما وضح ابن بسام في ترجمته في القسم الثالث: 26 - 27.
في الحلة:
ولعل يوما أن يصير نعته ... في طينه التقديم والتأخير وفي القلائد: أن يصير نقشه.
قدار: عاقر الناقة؛ وفي د: مدارها.
كان ابن عمار شديد التنقص للوزير أبي بكر احمد بن محمد بن عبد العزيز، ويقال إنه نظم هذه الأبيات حين غدره ابن عبد العزيز في حصن جملة (Jumilla) من أعمال مرسية (انظر الحلة 2: 155 وديوان المعتمد: 71) .
الحلة: خبر.
د: سواد القار.
ط د س: جاروا.
ط م د س: ذيلها.
البيت من هامش ط، وهو والأبيات هنا من تقييد معلق آخر عدا الناسخ.
هذا البيت والذي يليه من هامش ط.
هذا البيت والذي بدعه ما هامش ط.
زيادة من هامش ط.
ط د: التقريظ.
الحلة 2: 156 وديوان المعتمد: 72.
ط م د: وشنبوس.
ط م س: التدبير.
الحلة 2: 1576 والخريدة 2: 71 والريحان 1: 156 ب والوفيات 4: 428 والوافي 4: 230.
د: أضرب.
ذكر ابن الأبار (الحلة 2: 157) أن ابن عبد العزيز دس إلى مرسية نبيلاً من يهود الشرق ليلابس ابن عمار ويروي ما يقوه من أشعار، وأن هذا اليهودي هو الذي حصل على هذه القصيدة وطار بها إلى ابن عبد العزيز، فطيرها هذا مدرجة طي كتابه إلى المعتمد.
ترجمته في القسم الثالث: 448.
خالص: 301.
ط: الخيان.
د: الصنع.
لم أجد تعريفاً به، ولكن يبدو من سياق الأحداث أنه كان صاحب حصن شقورة، حيث تم القبض على ابن عمار. وقد قص لسان الدين كيف احتال صاحب هذا الحصن على ابن عمار وجعل البلد بيده باللسان، وطلب منه الصعود بنفسه لمباشرة قصبته، فأسرع لذلك في طائفة يسيرة من الرجال فلما تحصل في القصبة وثب به صاحب الحصن وكلبه وأودعه المطبق (أعمال الأعلام: 160) .
د: أووا.
ذكره في النفح 3: 429 وأورد له أبياتاً في زوال دولة المعتمد، وانظر الذخيرة 1: 818 - 821.
ط د س: رائه.
ط د م س: ولقد.
القلائد: 92 والمعجب: 183 وخالص: 305.
ط د م س: ترك؛ د: المال.
الحلة 2: 154 وخالص: 306.
الحلة 2: 153 - 154 والقلائد: 98 والمعجب: 185 وأعمال الأعلام: 161 والنفح 5: 182 وخالص: 319 والريحان 1: 157 أوتمام المتون: 92.
المعجب: وأسجح.
القلائد: عدائي؛ الحلة: وشلي.
س والحلة: وتمصح.
الحلة والقلائد والمعجب: بزور.
القلائد والمعجب: بفعله.
القلائد: يتقى.
ط: أرجح.
المعجب وخ بهامش ط: واضح.
الحلة: فيفصح؛ م ط س: فيمرح.
م ط س: علي.
النفح: ستشفع.
القلائد: مجلح.
انظر المعجب: 186.
يعني أبا ذؤيب الهذلي، ديوان الهذليين 1: 8.
ط س: أزله.
ديوان المجنون: 203.
القلائد: 86 والحلة 2: 151 وخالص: 308 والريحان 1: 157أ.
القلائد والحلة: واهباً.
القلائد والحلة: سهل - أحرفاً.
قارن بالحلة 2: 158 وأعمال الأعلام: 161.
الحلة 2: 151 وتمام المتون: 363 وخالص: 313.
الحلة: ملك.
الحلة: وكفاه ... كفاه.
د: التقى.
د: سفحه.
م ط: غرة.
الحلة: درب على نصر الولي.
د: حده.
ط م: لدفع.
الحلة: أنفاله.
الحلة: عليه.
يومئذ: سقطت من م.
د: المنيرة؛ ط س: المنبرة؛ م: المثبرة؛ وانظر أبياتاً من القصيدة في الحلة 2: 152 وهي عند خالص: 309.
مطو البريد: صاحبه؛ وفي م ط: مظهر البريد؛ الحلة: ظاهر بريدي.
الحلة: وانتخب، وفوق اللفظة في م: كذا، ولعل الصواب: وانحدر.
بعده في الحلة بيتان متصلان به وهما:
- فإذا ما اجتلاك أو قال ماذا ... قلت إني رسول بعض العبيد
بعض من أبعدته عنك الليالي ... فاجتني طاعة المحب البعيد ط: عبد.
في النسخ: محوة؛ والمخوت التي إذا خاتت أي انقضت سمع لجناحها دوي.
مزؤود: مذعور.
د: بمن.
في النسخ: يلتفت، وإنما نثر قول تميم بن جميل السدوسي (الوافي للرندي: 20) :
أرى الموت بين السيف والنطع كامناً ... يلاحظني من حيث ما أتلفت قارن بالحلة 2: 158.
الحلة: وحرمه.
الحلة: عن.
انظر الحلة 2: 159.
هو عيسى بن يوسف بن سليمان الشنتمري، ولد أبي الحجاج الأعلم اللغوي المشهور، روى عن أبيه واختص بعبيد الله بن المعتمد حتى استوزره ونال معه دنيا عريضة (الذيل والتكملة 5: 515 والتكملة: 409) .
د: في وقته.
ط: وحدس إليه.
الحلة: معه البارحة فيه.
ط: فالتقد؛ د: فانفد.
اضطربت كتابة اللفظة في ط م س (ط: طبر بزيراً، وفوقها: كذا) .
بحاشية ط شعر بخط الأصل وهو:
أما والله إن الظلم لوم ... وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديان رب العرش نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم قلت: والبيتان لأبي العتاهية وقد مر تخريج الثاني منهما.
الحلة 2: 160.
انظر الحلة 2: 161.
د: يسمع.
ذكر ابن قاسم الشلبي الذي أخذت عنه أكثر أخبار ابن عمار أن هذه القصيدة وجدت في قراب ابن عمار بعد قتله (الحلة 2: 160) ؛ وانظر الأبيات عند خالص: 317.
الحلة: فقلت.
الحلة: مثلها.
انظر المغرب 2: 385 والمسالك 11: 428 (وفيه نقل عن الذخيرة) ورايات المبرزين: 27 (غ) والخريدة 2: 191، 3: 588 (ط. تونس) والنفح 4: 307؛ ولفظة " حسان " سقطت من م س ط.
في الأصول: حسان؛ وقد اضطرب الاسم فجاء حيناً مصروفاً وحيناً ممنوعاً من الصرف، وهذا جائز فيه، لأنه إن كان من " حسن " كان مصروفاً لأصالة النون فيه، وإن كان من حس " كان ممنوعاً من الصرف، لأن النون فيه زائدة؛ ولكني أجريت ما جاء في هذا النص على سياق واحد، أي اعتبرته مصروفاً.
م: ويتبادرون.
الأوق: الثقل.
انظر إلى قول الشاعر:
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة ... عشية لاقينا جذام وحميرا وهو من المثل: ما كل بيضاء شحمة (الميداني 2: 169والعسكري 2: 287 تحقيق أبو الفضل، وانظر ما تقدم ص: 114) .
مغتبطاً: سقطت من م.
م: بيده.
صدر بيت لأبي تمام (ديوان 3: 232) وعجزه: وأن تعتب الأيام فيهم فربما.
يقال في مضارع مضى: يمضي ويمضو.
ط م د س: تفاءلت بالفتح اسم الفتح.
ط د: داله؛ م س: دله.
يرد مع أبيات أخرى له في القسم الرابع من الذخيرة (الورقة: 90) .
يعني أبا نواس، ديوانه: 273، وعجز البيت: " ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر ".
ديوان ابن هانئ: 17.
منها أبيات في المغرب والمسالك والرايات.
ط م د: أغرتك؛ س: أعزتك.
في الأصول: واغلظ على رقة وارغب على زهد، والتصويب عن المغرب.
الرايات: قدرته.
ديوانه: 153.
م: يقول فيها.
س: وكان.
لم ترد هذه الأبيات في ديوان حسان.
انظر هذا الخبر في السيرة 2: 228 والإصابة 2: 8 وفيه قول حسان عندما حضته صفية على قتل اليهودي: " يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا " وقوله بعد أن قتلته على سلبه: " ما لي بسلبه من حاجة ... ".
ديوانه 1: 432 وصدر البيت: " أضر بجسمي مر الدهور ".
كان حسان يكنى أبا الوليد - وهي الأشهر - وأبا المضرب وأبا الحسام وأبا عبد الرحمن؛ ولم أجد أحداً ذكر له كنية في الحرب؛ وأبو نعامة كنة قطري بن الفجاءة، ولا مانع من أن يتكنى بها غير واحد من الناس.
إزاء البيت بهامش ط تعليق بخط الأصل، وهو: يا مصيصي لقد أفرطت، وفي قبيح القول تورطت، وفي التأديب فرطت.
ديوان المتنبي: 329 وأول البيت: جاد الأمير به لي في مواهبه، فزانها....
ديوان أبي تمام 2: 73.
ديوان المتنبي: 219.
د: لا عزوا ولا ظفروا؛ م س ط: ولا ظفروا.
ترجمته في القسم الثالث: 652.
الهرقليات: الدنانير.
المعتمد ... التقسيم: سقط من م.
السمط: 766 وزهر الآداب: 330 والمختار: 80، وديوان أبي سعد: 52.
في النسخ: الجبن، وهو ما في زهر الآداب أيضاً.
ديوان أبي تمام 1: 63.
الديوان: لله مرتقب في الله مرتغب.
منها أبيات في المسالك وبيتان في تمام المتون: 290.
م س ط: فانبتت.
اسطبة أو اصطبة (Estepa) على بعد 23 كم إلى الشرق من أشبونة (Osuna) وتقع ضمن ولاية إشبيلية (الروض رقم: 18) .
فيه إشارة إلى المثل: " على أهلها دلت براقش ".
النصاح: السلك يخاط به.
فيه: سقطت من م س.
وردت الأبيات في المسالك، وانظر الغيث 2: 60.
م: المضرة.
المسالك: حسناً.
م ط: ثم.
منها أبيات في المسالك 11: 430.
المسالك: نحو الديار.
ورد هذا البيت في النفح 4: 307.
م س: ذكره.
ديوان امرئ القيس: 65، وعجز البيت " وأيقن أنا لاحقان بقيصرا ".
في النسخ: يوشي.
ديوان امرئ القيس: 108، 107.
ديوانه: 12 وصدر البيت: " أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل ".
انظر البيان والتبيين 2: 353، 3: 188 وعيون الأخبار 1: 287 والحماسية رقم: 263 والأغاني 10: 20.
ورد البيت لمليل بن الدهقانة التغلبي في الحماسة البصرية 1: 212 ومعجم المرزباني: 445 ونسب في الأمالي 1: 272 لأعرابية، وفي البيان والتبيين 2: 353 ورد البيت التالي دون نسبة:
إذا ما مات مثلي شيء ... يموت بموته بشر كثير ديوان المجنون: 256.
الأغاني 9: 200.
ديوان امرئ القيس: 357 ومادة " عسيب " في معجم ياقوت.
م: جانب.
انظر هذا الخبر في معجم ما استعجم 1: 204 (مادة: أنقرة) .
معجم ما استعجم 3: 943 وابن خلكان 6: 34.
المسالك 11: 430 - 431.
د: امرؤ.
ط م: لحظها.
المسالك: فيسرني متعللا.
لم يرد البيت في م ط س، وقصة عرار الذي أردت زوج أبيه إهانته فامتعض أبوه لذلك، تتحدث عنها الحماسية:
أرادت عراراً بالهوان ومن يرد ... عراراً لعمري بالهوان فقد ظلم انظر الخريدة 3: 588 والمسلك السهل: 435 ووردت الأبيات في زاد المسافر: 141 والوافي للرندي: 30 والنفح 3: 382 منسوبة لأبي عبد الله محمد بن الفراء الأعمى، وفيها زيادة على ما هنا، واختلاف في الختام.
روايته في زاد المسافر والوافي والنفح: فجئنا إلى الحكم الألمعي شيخ المجون وقاضي الظرف.
م س: يعلم.
ديوان جميل: 164.
الديوان: فقلت له قتلت.
د: وخيم.
هو أبو بكر محمد بن إسحاق اللخمي من أهل شلب يعرف بابن الملح وابن الملاح، كان له ابنان هما أبو القاسم أحمد وأبو محمد بن عبد الملك وقد رويا عنه. (انظر ترجمته في الذيل والتكملة 6: 118 والتكملة: 414 والمغرب 1: 383 والرايات: 27 (غ) والقلائد: 187 والنفح 4: 70، 148، 263، 3: 466) ؛ وفي ترجمة ابنه عبد الملك انظر الذيل والتكملة 5: 32 والتكملة رقم: 1705 وأما في ترجمته ابنه أحمد فانظر الذيل والتكملة 1: 400 والتكملة: 51، وكان أحمد هذا ريان من الأدب شاعراً، ولي الصلاة والخطبة بجامع بلده زماناً، وعن أحمد وعبد الملك يروي أبو بكر ابن خير، وقد مر لأحمد هذا شعر في النفح 4: 71 والمغرب 1: 384 وفي أخباره ما يشير إلى أنه انقلب بعد العفة إلى الانخلاع وتزوج امرأة كانت ترقص في الأعراس باشبيلية.
منها ثلاثة أبيات في الخريدة 3: 467 والقلائد: 188 (وبيتان في المغرب 1: 384) .
أصل ط والقلائد: صبابتي؛ الخريدة والمغرب: قضيتي.
المغرب: كل يوم.
القلائد: لم تغب لي.
انظر القلائد والخريدة.
القلائد والخريدة: رمى.
القلائد والخريدة: الخلق.
د ط: المطولة.
منها ستة أبيات في كل من الخريدة والقلائد والريحان 1: 157 / أوأربعة في المغرب.
المغرب: بنانه.
ط د: فتن.
القلائد والخريدة: يمسي ويصبح في القرارة.
ط د س: حف.
انظر مادة " ضارج " في معجم ما استعجم والروض المعطار.
م: يستذر؛ ط: يستدير؛ د: يستدر.
د: حروب؛ ط م س: ضروب.
م ط د س: يظفر.
شروح السقط: 163.
د: رؤيته، وهي رواية البطليوسي.
م ط س: حان النساء؛ د: حاق.
بياض في ط م س؛ وفي د: أنهار، ولا معنى له.
د م: الوافر.
ط: غرو؛ س: غرق.
شروح السقط: 158.
ديوان ابن شهيد: 108 والذخيرة 1: 289.
ديوان المتنبي: 302 والذخيرة 1: 288.
الديوان: أأطرح.
ط: وأورد (أقرأ: وأذود) .
ط د: فتاك.
في يوم الكديد بارز ربيعة بن مكدم عدداً من الفرسان تواتروا لمبارزته، وحمى الظعينة، فلما ذهب دريد بن الصمة ليرى ما حدث ووجد ربيعة حديث السن، أعطاه رمحاً وعاد عنه دريد وادعى أن ربيعة انتزع منه الرمح؛ وفي ذلك اليوم يقول ربيعة:
إن كان ينفعك اليقين فسائلي ... مني الظعينة يوم وادي الأخرم (انظر العقد 5: 171) .
ط: نبات.
ومنها: سقطت من م س.
ديوان المتنبي: 248 وصدر البيت: " وكنت إذا يممت أرضاً بعيدة ".
ديوان ابن زيدون: 146 والذخيرة 1: 361.
م ط د س: يظل.
بنسج: سقطت من م س.
هو محمد بن العطار اليابسي نسبة إلى جزيرة يابسة، انظر المغرب، 2: 470 والمسالك 11: 458 والنفح 4: 10 وله ترجمة في القسم الرابع من الذخيرة.
منها بيتان في المغرب 2: 470.
ط: كوثبها؛ د: كواتبها.
بدائع البدائه: 269 والنفح 3: 333 والشريشي 3: 154.
البدائه والنفح: ركب البدر جوادا سابحا.
البدائع والنفح: خيض.
ط م د س: أخذه.
هو أبو المطرف عبد الرحمن بن فتوح، وقد وردت ترجمته في القسم الأول: 770.
قد مر البيت ص: 379 من هذا القسم.
مر في القسم الأول: 201 وانظر من هذا القسم.
بدائع البدائه: 270 والنفح 3: 333.
البدائع والنفح: يا ابن محمد.
ورد البيت الثاني في البدائع والنفح.
كتاب التشبيهات: 193.
التشبيهات: الكمي.
التشبيهات: وإحراز.
التشبيهات: لبب من شهبة بين دهمة.
التشبيهات: نورا وظلمة.
التشبيهات: ولبب.
هو أبو بكر عبد الله بن حجاج الغافقي، من شعراء المعتضد، هجر إشبيلية إلى الجزيرة الخضراء ومدح صاحبها محمد بن القاسم بن حمود، وقد لقيه الحميدي في حدود 430 (انظر الجذوة: 243 والبغية رقم: 919 والمغرب 1: 260 والنفح 3: 385) .
د: بأذرع.
ديوان أبي تمام 4: 434 وأخبار أبي تمام: 68.
الديوان: حلفت.
هو عثمان بن إدريس الشامي (أو السامي) .
ديوان البحتري: 1745 وأخبار أبي تمام: 70.
من ملحقات الديوان: 543 عن الذخيرة، وانظر الشريشي 3: 154.
عن يحيى بن هذيل (- 389) انظر كتاب التشبيهات ص 336 - 338 حيث ورد ذكر القطع الكثيرة التي ضمها ذلك الكتاب من شعره مع نبذة عن حياته وذكر لمصادر ترجمته.
ترجمته في القسم الثالث: 821 والبيتان في الشريشي 3: 154.
انظر الشريشي.
م: مثيلة؛ أما المنبلة فقد شرحت في القسم الثالث: 432 (حاشية: 3) ومعناها مرصع أو مزخرف.
ط م د س: صبابة.
الورق: موضعها بياض في ط م س.
انظر نفح الطيب 4: 263 وبدائع البدائه: 373.
النفح والبدائع: يجري.
النفح والبدائع: منسكب.
النفح والبدائع: حفاف.
النفح والبدائع: في الماء.
النفح والبدائع: الفيل.
ترجمته في بغية الملتمس رقم: 1101 والمطرب: 118 والقلائد: 242 والخريدة 2: 95 والمعجب: 159 والنفح 1: 657 (نقلا عن القلائد) ومواطن أخرى متفرقة. والمسالك 11: 219 والسلفي: 19 ومواطن مختلفة في بدائع البدائه، ورايات المبرزين 77 (غ) .
م د س: المال.
أبو الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى المعروف بالأعلم الشنتمري (410 - 476) كان عالماً بالعربية واللغة ومعاني الأشعار، وكف بصره آخر عمره (انظر ابن خلكان 7: 81 والصلة: 643 ومعجم الأدباء 20: 60 ونكت الهميان: 313) .
أبو مروان ابن سراج: له ترجمة في القسم الأول من الذخيرة: 808 وفيه فصل من أشعار رثي بها، وانظر صورة من هذه الخصومة بينه وبين الأعلم حول الرسالة الرشيدية في إحكام صنعة الكلام: 86.
فيه إشارة إلى قول بشار (ديوانه: 217 جمع العلوي) :
إذا أيقظك حروب العدا ... فنبه لها عمراً ثم نم القلائد: 244 والمطرب: 121 والخريدة 2: 102.
الخريدة: فيا ويلتا.
م: عليهم.
ترد ترجمته في ما يلي من هذا القسم ص: 520.
هو حيان بن الحكم السلمي (انظر حماسة البحتري: 65 وحماسة الخالديين 1: 142 والعيون 1: 164 والحيوان 4: 185) .
اسمه الهيثم بن الربيع (ترجمته في الشعر والشعراء: 658 والأغاني 16: 236 وطبقات ابن المعتز: 143 والخزانة 4: 283 والسمط: 244 وقد جمع شعره رحيم صخي التويلي - مجلة المورد (1975) المجلد الرابع - العدد الأول: 131 - 152) .
م: على الصواب (اقرأ: يقف على الصواب) .
م: وجروه.
على حروف ... شعر: سقط من م.
كذا، وهو ثالث بحسب ما عده في هذه الفقرة، إلا أن يكون قد عد الذخيرة ضمنا.
م: قصيدة.
يقول فيها: سقط من م.
خلقاء: مصمتة ملساء.
م: لما أمست.
د: عفت الأنباء.
كذا في النسخ، وأظن صوابه: " العلم ".
لعل لهذا اللقب صلة بقولهم: " الدامغة " وهي الشجة التي تبلغ الدماغ، وإن كنت أرجح أن اللقب يشير إلى ضخامة رأس عبد الجليل وأنه لذلك نبز عامي.
ط د: نوار.
د: التعيين.
ط م س: كان.
ط م: منزلا (دون إعجام) .
ط د م س: فائد.
هذه القطع في ديوان المتنبي: 426، 226، 478، 573 - 574.
لعل الصواب ابن غسان؛ وقد سماه الثعالبي (اليتيمة 3: 428) أبا الحسن ابن غسان البصري الشاعر الطبيب، وذكر أنه ورد الأهواز مع الشعراء ومدح عاملها، وذكره التوحيدي باسم " ابن غسان " في الامتاع 2: 169 وحكى أنه غرق نفسه لأسباب تجمعت عليه من فقر وجرب وعشق؛ وترجم له القفطي (تاريخ الحكماء: 402) وذكر أنه كان يخدم بصناعته ملوك بني بويه.
م ط: أصحا ... يزايل.
ط م د س: وأردى.
اللزوميات: 55 ب (نسخة ليدن رقم: 906) ؛ 1: 148 - 149 (ط. هندية) .
اللزوميات: والروح ... في رأي.
اللزوميات: 66 ب، 1: 178.
اللزوميات: 87 أ، 1: 197.
اللزوميات: 90 أ، 1: 200.
اللزوميات: 91 أ، 1: 203 - 204.
ط م د س: شيئان.
اللزوميات: 189 ب، 2: 97.
اللزوميات: ولا أزداد.
بثاره: سقطت من م س.
ط م س: مناه (دون اعجام في ط وفوقها كذا) ويا فلى؛ د: لا تخلقنك.
البوغاء: التراب عامة، أو التراب الهابي في الهواء.
الجدالة: الأرض.
د: القرناء.
شروح السقط: 975.
ديوان المتنبي: 257.
ديوان التهامي: 53.
ديوان مسلم بن الوليد: 147 ورجح ابن خلكان 6: 338 أن الشعر لعبد الله بن أيوب التيمي.
الديوان: تأمل.
ديوان المتنبي: 423.
ترجمته في القسم الثالث: 840 وانظر البيت: 844.
سيرد البيت في هذا القسم: وانظر الثالث: 849.
هو الأعمى التطيلي، انظر ديوانه: 228 وستأتي ترجمته في هذا القسم: 728.
ط م: لعلة.
ديوان المتنبي: 508 وصدره: بأبي الوحيد وجيشه متكاثر.
ط د م س: أبكي.
وقوله: سقطت من م ط.
لم يرد في ديوانه.
مر قبلا ص: 379 مع تخريجه.
شروح السقط: 938 - 939.
ط م د: واها ... وآها.
أمالي القالي 2: 115 والحماسية رقم: 280 (شرح المرزوقي) وزهر الآداب: 794 والسمط: 745 ووفيات الأعيان 4: 89.
الأمالي: وكانت له حيا.
متابع للعمدة 2: 147.
ديوان النابغة: 213 والعمدة؛ ط د: حصن بن بدر؛ م: حصن والفاظه بدر.
قارن بالعمدة 2: 153.
ديوان أبي تمام 3: 324 والعمدة.
ط د م: حصب.
ديوان تميم بن أبي مقبل: 11 ومطلع القصيدة:
عفا بطحان من قريش فيثرب ... فملقى الرحال من منى فالمحصف وهذا الذي أورده ابن بسام هو ما جاء به ابن رشيق في العمدة 2: 252.
مطلع قصيدة دريد في رثاء أخيه:
أرث جديد الحبل من أم معبد ... بعاقبة وأخلفت كل موعد العمدة 2: 154.
هو قول الصاحب بن عباد في رسالته: 233.
الديوان: صنائعها.
بعض أبياتها في القلائد والخريدة والبغية والمسالك والرايات.
الرايات: ودجن.
الرايات: والخريدة فلتكره سجيته.
م ط د: والوهل.
م ط س: دماؤهم.
جيش فوارسه: موضعها بياض في ط س.
ديوان أبي تمام 1: 148.
ديوان البحتري: 283.
الذخيرة 3: 812.
الذخيرة 3: 812.
ديوان المتنبي: 513.
ديوان أبي تمام 3: 192.
الديوان: أيامه.
اللزوميات: 109 / أ؛ 1: 247.
ط م د س: كالفجر.
اللزوميات 137 / أ؛ 1: 315.
أبو مروان عبد الملك بن شماخ، وردت ترجمته في القسم الأول: 827.
ترجمة ابي جعفر المحدث في القسم الأول ص: 905 وقد ورد البيت هنالك.
انظر الذخيرة، القسم الأول: 14.
م: عرض؛ وسقطت " لي " منها ومن ط.
زهر الآداب: 392 وتشبيهات ابن أبي عون: 347.
م ط د: دنفا.
انظر الغيث 2: 74 والشريشي 2: 139.
ديوان المتنبي: 162.
الديوان: الجد.
الشعر لأبي إسحاق الصابي، انظر اليتيمة 2: 293 ومعجم الأدباء 2: 85 - 86 وبهجة المجالس 1: 194.
اليتيمة والمعجم: النقص؛ بهجة المجالس: النول.
اليتيمة والمعجم: الفضل؛ بهجة المجالس: الحذق.
د: كتابي.
ومنها: سقطت من م.
م د: الفلاذ.
ديوان المتنبي: 397.
الديوان: فيهم.
الديوان: بها.
م س: هل أتيت فلم يزد.
ديوان البحتري: 659.
س: يغمره.
ط د: عيدك.
م س: تدعو.
د: فقمت فيه.
وقعت لفظة " ومنها " في ط بعد هذا البيت.
م س: سورة.
م: قطعته.
ط د: فما تثقف.
ط د: نبات.
سقط هذا البيت واثنان بعده من م.
ط س: ينجو.
م: لا تخفى.
لم يرد هذا البيت في م س.
ط د: يزد.
م س: وتشبع.
م: يحق.
ديوانه: 194، وصدر البيت: وأصبح شعري منهما في مكانه.
منها سبعة أبيات في المطرب: 119، وبيت في الخريدة 2: 95 وسبعة في الخريدة 2: 101 وثلاثة عشر بيتاً في المسالك 11: 221.
م: تجدد.
وقال فيها: لم يرد في م.
م: حيث.
لعلها: ينحسر.
ط د: المدح - معوضة؛ م: قرصان.
ط: محاظرنا.
ط: الدهر.
ط د: وارتابه (اقرأ: وانتابه) .
م: وجدت بها؛ س: وهدت بها؛ ط د والمسالك: ومدت به، والتصويب عن المطرب والخريدة.
هذا البيت والذي يليه في الغيث 2: 160، والأخير في مختارات ابن الصيرفي: 124.
المطرب والخريدة والصيرفي: كأنما البحر عين.
اليتيمة 2: 6 قال: وركب في صباه سمارية، ولم يكن رأى دجلة قبل ذلك؛ وابن خلكان 4: 404.
الذي: زيادة من م س.
نفح الطيب 4: 59 - 60 والمسالك 11: 22.
ط د: يعنق.
النفح: لها الأعيان.
ط د: فتفصحت.
الشوذق والسوذق - بالشين والسين - الشاهين، و " قراهة " في النسخ قد وردت " وهادة "، وتصحيحها على التقدير، لا أنها قراءة دقيقة.
لم يرد البيت في م س.
م س: قصيدة قال فيها؛ وانظر ديوان ابن هانئ: 52 وزهر الآداب: 1001.
الديوان: أعلامها، وما هنا موافق لزهر الآداب.
من هذه القصيدة ثمانية وعشرون بيتاً في زهر الآداب: 1003 ورفع الحجب 1: 141. وثمانية عشر بيتاً في النفح 4: 57 - 58 وبعضها في المقتضب من تحفة القادم: 122 ومنها بيتان في الحلة 1: 285.
النفح: مسجون؛ م س: مزجور.
زهر: الظلام الغيهب.
زهر: لواعباً.
زهر: يبرك ماء الميزب.
ط: نوائبها.
منها أبيات في المسالك 11: 222 - 223 والنفح 4: 263 وانظر ما مر منها في القمم الثالث 766 - 767.
م: يحيط.
المسالك: من الأنس.
م س والمسالك: تبر.
س م: يهاب.
م س: خلقاً دبالا؛ المسالك: خلقاً وحالا.
م: لذوبته؛ س: لدويته.
ط د: فما.
انظر ما تقدم ص: 472.
المسالك: فلم ترفع لرؤيته.
ط د س: رويتها.
المسالك: مقالا.
م س: لنا معاليه.
م: تغرب الأسد.
م س: وذكت بهاه.
د: عز، ط: عن؛ م: عق، والتصويب عن المسالك.
م س: بها.
م س: واكتهالا.
م س: خلائفها جياد.
مر البيت في الذخيرة 1: 82.
م: حداً نفالا؛ س: حداً ثقالا.
المسالك: أردد منه للكبد النصالا.
س م د: تقبله.
أبيات الخنساء في زهر الآداب: 925 وأمالي المرتضى 1: 98 وحماسة ابن الشجري: 104 والأول في الخزانة 3: 277 وأنيس الجلساء: 43.
أمالي المرتضى: هجنت.
ط د: سارت؛ م س: صارت؛ أمالي المرتضى: لزت هناك.
أمالي المرتضى: برزت.
س م: لأبي عبيد الله.
متابع لزهر الآداب: 926 وانظر ديوان البحتري: 1421 وأنيس الجلساء: 43.
زهر الآداب: 926 والمختار: 263 والطرائف الأدبية: 96 وديوان أبي تمام 2: 337.
زهر الآداب: 926 وديوان أبي تمام: 337.
زهر الآداب: 926 - 927 وأنيس الجلساء: 43.
زهر الآداب: يقتربان.
ديوان الهذليين 2: 583 وحماسة ابن الشجري: 83 والحماسة البصرية 1: 225 وزهر الآداب: 795 والخزانة 4: 353 وبلاغات النساء: 173 وحماسة البحتري: 273 وأمالي المرتضى 2: 243 وكتاب الصناعتين: 142؛ وقد أورد ابن رشيق هذا الشعر في العمدة 2: 31 (تحقيق محيي الدين عبد الحميد) في باب التسهيم أو ما يسميه قدامة " التوشيح " ويسميه ابن وكيع " المطمع " ولم أعثر على من سماه " معاقدة ".
م: عرينة ... مبيداً.
م: ومبيد.
ديوان المجنون: 94 والزهرة: 47 والعقد 5: 378.
ديوان العباس: 84 والعقد 5: 378.
الذخيرة 3: 347.
انظر المسالك 11: 224 - 225.
ط: أحيي.
م س: والفرق.
ط د: المكاره.
ط م: يحيرنا؛ د: فخيرنا؛ المسالك: يجيرنا.
ط م د س: منه.
ط م د س: مرسومة.
إلى هنا تنتهي الترجمة في ط د، وما تبقى تنفرد به م س؛ ولهذا سيجد القارئ أن النص قد يجيء قلقاً في بعض المواضع.
منها أبيات في المسالك: 224.
ما بين معقفين زيادة من المسالك.
هذه هي قراءة س والمسالك؛ وفي ك: سمى.
ص: ضافيه.
صورة اللفظة في م: مويه، وسقطت من س.
س: حكمة.
يريد بحبيب الشاعر أبا تمام.
العكوب: الغبار.
س: تخاله.
المسالك: مريب.
المسالك: سلكه.
خشيب: صقيل كالسيف.
المسالك: من كل القلوب.
يعني أصلح مائله؛ وهذه قراءة محتملة لهذا الشطر لا نقطع بصحتها.
فليخطب؛ س: فليخضب.
م: مصيب.
ذكره في المغرب 1: 261 والنفح 3: 264، 614، 4: 124 وبدائع البدائه: 114، 366 وانظر قصة له فيما تقدم ص: 476 - 477 وهذه الترجمة لا تفي بما وعد به ابن بسام من نوادره، ولعلها زيدت من بعده، وقد سقطت من ط د.
الأبيات في المغرب والنفح 4: 124 ما عدا الأخير.
هذه هي القراءة في المغرب والنفح؛ وأما في م فقد تقرأ " بفؤادها " وفي س: بعوادها، وهو غير منسجم مع القافية.
المغرب: تضحك.
المغرب: أصبحت.
انظر النفح 3: 614 وبدائع البدائه: 114.
النفح والبدائع: وللشمس ... بالهلال.
النفح والبدائع: للسماح.
م س: تلقاهم.
م س: خدود.
س: شفار.(3/524)
فصل في ذكر الوزير الكاتب أبي بكر محمد بن ذي الوزارتين
المشرف أبي مروان بن عبد العزيز (1) وإثبات جملة من نظمه ونثره
وبنو عبد العزيز يعرفون ببني المرخي (2) ، نسبهم في لخم، وهم جملة فضل، وبيتة (3) نبل، وعلم وفهم، وفيهم يقول الوزير أبو محمد بن عبدون
__________
(1) هو محمد بن عبد الملك بن عبد العزيز بن محمد بن الحسين بن كميل اللخمي الأشبيلي المعروف بابن المرخي أخذ عن أبي الوليد العتبي وأبي عبيد البكري وأبي الحسين ابن سراج وأبي علي الغساني وسكن قرطبة، واختص بأميرها المرابطي محمد بن الحاج داود اللمتوفي، فلما توفي يوسف ابن تاشفين سنة 500 رفض ابن الحاج أن يبايع علي بن يوسف وانحاز له الملأ من أهل قرطبة، ثم إن ابن الحاج نكب وفسد تدبيره، فهرب أبو بكر ابن المرخي إلى شرق الأندلس، حتى إذا رضي أمير المسلمين على ابن الحاج عاد ابن المرخي إلى صحبته عندما ولي فاس وغيرها من أعمال المغرب ثم سرقسطة وبلنسية عندما وليهما، وظل في صحبته حتى قتل سنة 508 بمعركة البورت (ومعناها الباب) . وبأخرة من عمره، جلس يقرئ الناس الكتب الأدبية، وكان مقرباً إلى اللمتونيين، ينتفع به الناس لحسن وساطته لديهم، وكان محدثاً متقناً ضابطاً حسن الخط، واستكتبه على بن يوسف مع أبي عبد الله بن أبي الخصال، وروى عنه ابنه الوزير أبو الحكم وغيره، وتوفي سنة 536 وقال العماد سنة 540، ودفن بمقبرة أم سلمة وشهد جنازته والي قرطبة الزبير بن عمر اللمتوني. (انظر المغرب 1: 307 والصلة: 555 والذيل والتكملة 6: 504 ومعجم الصدفي: 132 والخريدة 3: 433 والبغية رقم: 201 والمطرب: 208 والقلائد: 163 والنفح 3: 458، 570؛ ولا بد من التفرقة بين بني عبد العزيز هؤلاء وبني عبد العزيز الذي كانوا ببلنسية وكانوا خصوماً لابن عمار ومنهم أيضاً أبو بكر ابن عبد العزيز وقد ترجم له ابن بسام في القسم الثالث: 40 وكانت وفاته سنة 456) .
(2) قال ابن دحية (المطرب: 208) صوابه عند أهل النحو بفتح الخاء، وقوله هذا يومئ إلى أنه كان ينطق بكسرها " المرخي " عند العامة.
(3) د: ومنبت؛ ط: وثبتة (اقرأ: وبيتة) .(4/533)
من جملة أبيات خاطبهم بها بقرطبة (1) :
بني عبد العزيز لئن سلوتم ... فما أنا عن علائكم (2) بسال
وما عهدي بناسٍ أي ناسٍ ... تواصوا بالمكارم والمعالي
وإيثار الغريب على سواه ... وإن لم يثر (3) من جاه ومال
بحور بلاغة ونجوم عز ... وأطواد وراسٍ من جلال
سلام يملأ الملوين طيباً ... على تلك السجايا والكمال
فكم كافور أيامٍ خلطنا ... ولم تظلم، بمسكٍ من ليال ومن جواب أبي بكر له:
أمالك رق أبكار المعاني ... ورب السبق في يوم الرهان
وفائت كل منطيقٍ بليغٍ ... بطول الباع واليد واللسان
بدأت وكان منك الفضل عوداً ... فمن عذراء تردف بالعوان
فجاء الشعر متسقاً حداه ... كما اتسقت حلي السيف اليماني
تقاصر دونك البلغاء حظاً ... كما قصر السماع عن (4) العيان
لئن أهدت بدائع كل حسنٍ ... فمهديها غريب في الزمان
غريب سيادةٍ غربي أفقٍ ... وقد عرضت إليه المشرقان (5) [101 ب]
__________
(1) م س: من قرطبة.
(2) م س: علاقتكم؛ ط: علاتكم.
(3) م س: يوثر.
(4) م س: على.
(5) د: له بالمشرقان؛ ط: المشرقان.(4/534)
وأبو بكر في وقتنا هذا مهب البراعة وجنوبها، ومنتهى بعيد هذه الصناعة وقريبها، وكان جده (1) صدر الفتنة الناشئة في آخر دولة بني عامر قد انزوى بضيعة له بمدينة شذونة (2) أحد أقاليم القطر الغربي من الأندلس حيث ظن أنه يخفى على الديلي مناره، وتتلفع برماد الخمول ناره، وتأبى الزهرة إلا مروقاً من الكمامة، والشمس إلا شورقاً تحت الغمامة، فاهتدى له أحد أمراء البرابرة (3) المتغلب - كان يومئذ - على مدينة قرمونة وذواتها من أقطار الجزيرة، فاستخلصه لنفسه، وغلب عليه أهل جنسه، فلم يزل يقتدح بزنده، ويلقي إليه بمقاليد حله وعقده (4) . ونشأ ابنه أبو (5) مروان المذكور في حجر دولتهم، فحمى حماها، ودارت عليه رحاها، إلى أن انتحاها من قدر الله تعالى على يدي عباد (6) ما انتحاها، فلم يجد أبو مروان بداً من لزوم طاعته، والدخول في جماعته، فأقام باشبيلية بقية أيام المعتضد وصدراً من دولة المعتمد، يتبرض جميعها، ويتزود نسيمها، إلى أن أنشأ المعتمد لابنه الفتح دولته بقرطبة - حسبما نومئ (7) إلى خبرها بالشرح -
__________
(1) يعني عبد العزيز بن محمد.
(2) تذكر المصادر أن أبا بكر بن عبد العزيز شراني الأصل أي من قرية شرانة إحدى قرى شريش بولاية شذونة.
(3) م س: أحد من البرابر.
(4) فلم يزل ... وعقده: سقط من م س.
(5) أبو: سقطت من م.
(6) استولى عباد على قرمونة سنة 459 من يد المستظهر عزيز بن محمد البرزالي (ابن عذاري 3: 312) وفي م: على يد ابن عباد.
(7) م س: سنومئ.(4/535)
فانتقى لها (1) من حملة السيوف والأقلام، من وقع عليه ظنه من الأعيان والأعلام، فكان أبو مروان علم بردها، ووسطى عقدها، ومالك زمامي عفوها وجهدها.
ونشأ ابنه أبو بكر هذا في حجرها، وبين سماكها ونسرها، طفل دفع في صدر الكهول، وغر بهر ألباب ذوي التجربة والتحصل. وبخل المأمون به بخل الحازم بسره، وشد عليه شد يد الضنين (2) على وفره؛ فلما انقضت تلك الدولة، أخلد إلى العطلة، وتميز من الجملة، متلفعاً بالحياء، مستحلماً للوفاء، وقد لحظته اليوم هذه الدولة (3) في وقتنا، فأخذ من حبلها بطرفٍ، وتولى من ظلها إلى كنف، ولم يحضرني وقت (4) تحريري هذه النسخة من نظمه الفائقة درره، ولا من نثره الرائقة أحجاله وغرره، لما أجريت من ذكره، إلا ما لا يكاد يفي بقدره، وفيما أثبت من ذلك دليل وبرهان يريك الفرق بينه وبين سواه، إن شاء الله.
جملة ما وقع إلي من نثر
مع ما ينخرط في سلك ذلك من شعره
كنت بحضرة قرطبة أول سفري إليها سنة أربع وتسعين، فدخل عندي هلال بن الأديب، وقرع سمعي من شعر أبي بكر هذا بكل حسنٍ غريب،
__________
(1) م س: فانتقله.
(2) م س: البطش.
(3) تلك الدولة ... الدولة: سقط من م س.
(4) م س: إلى وقت.(4/536)
فكتبت معه رقعةً أخطب فيها وده، وأستجلب ما عنده، أقول في فصل منها:
كل يبلغ (1) - أعزك الله - من حسنات نبلك وفضلك، ومعلوات حسبك ونسبك، ما يحدث إليك طرباً في الموتان، فضلاً عن الحيوان، وما زلت أسمع فأتطلع، واستشعر فأستبصر، وأحن إلى مفاتحته الخطاب، وقلما يقع إلا بأسباب، إذ الدخول لا يكون إلا على باب، وعندهم - على علمك - أن الهجوم عليه، دون سبب يدعو إليه، نوع من الجفاء، وضرب من مفارقة الحياء، ولا يستجيزه إلا من كان عن الأدب بمعزل، وللأمور غير محصل، ومع هذا فإن الزمان شأنه البخل إذا استعطي، والمطل إذا اقتضي، ورب مرغوب فيه لا ينفق، ومحروصٍ عليه (2) قد سدت دونه الطرق، ومذ (3) دخلت الحضرة، في هذه السفرة، تحدثت بلقائك، لأكتب اسمي في ديوان أوليائك، فارتقبت ذلك ارتقاب الصائم للهلال، إلى أن كتبت هذه الأحرف مع صديقنا أبي الحسن الفاضل هلال، فلك الفضل بما لك من شرف خيم، ومحتدٍ كريم، في الغض على ما تراه من زيوف، والمراجعة إن تأتت (4) عنها ولو بقليل حروف. فهذا الخطاب، الذي قرعت به هذا الباب من مواصلتك، وجعلته سلماً إلى مخاطبتك، أس يقوم (5) عليه
__________
(1) م: يبلغه.
(2) عليه دون سبب ... ومحروص عليه: سقط من م س.
(3) م س: وقد.
(4) تأتت: سقطت من م.
(5) م س: أمر سيقوم.(4/537)
بنيان، وغرس ستلتف فوقه أفنان، وهمس سيكون بعده إعلان. ثم ختمت الرقعة بهذه الأبيات (1) :
أبا بكر المجتبى للأدب ... رفيع العماد قريع الحسب
أيلحن فيك الزمان الخؤون ... ويعرب عنك لسان العرب [102أ]
وتعدل في (2) الفهم بالحاضرين ... لديهم وما النبع مثل الغرب
أراك بعينٍ أراهم بها ... إذاً فأرى الدر كالمخشلب
لقد كان (3) جيل الورى أدهماً ... (4) بقرطبةٍ عجمها والعرب
إلى أن تبسم عنك الزمان ... فأسفر عن واضحٍ ذي شنب
فجئت كما شئت ذا مقولٍ ... يفلل حداه بيض القضب
فوا حزنا لزناد (5) كبا ... وروضٍ ذوي وزلال نضب
وما كان جيلك هذا الأنام ... ولا لك في أفقهم من أرب
وطبعك (6) ينفث عن لؤلؤ ... تنظمه في نحور الكتب
فأين (7) العميد وعبد الحميد ... وما حويا من خطير الخطب
وأين البديع وشمس المعالي ... بديعك مد عليهم طنب
ولما سمعت هلالاً يعيد ... قوافي لؤلؤك المنتخب
__________
(1) انظر نفح الطيب 3: 458.
(2) د ط: وتعدم ربعهم.
(3) م س: حبل.
(4) ط: أعجم لا عرب، م س: عجم لا عرب.
(5) ط: كتب؛ س: كبت.
(6) م س: فطبعك.
(7) ط د: الحميد.(4/538)
شفعت بها لو وفت ذمتي ... بواجبها إذ عليها وجب
وخامرني حب سمعي لها ... كأني خلوت ببنت العنب
فقلت جرير يجيد القريض ... والآن جاد بحوك الخطب
وقرطبة بدلت بالعراق ... أم الأرض تحملنا من كثب
فجئتك خاطب ود فلا ... ترد أبا بكر من قد خطب
وإن لم يكن أفقنا واحداً ... فينظمنا شمل هذا الأدب فراجعني أبو بكر برقعة (1) قال فيها (2) : وقفت - أعزك الله - من كتابك الكريم، المضمن (3) من البر العميم، ما أيسره يثقل الظهر، ويستنفد الشكر، ويستعبد الحر، ورأيتك - رأيت أملك - تخطب من مودتي ما ليس بكفؤ لخطبتك، ولا بازاء جلالة رتبتك (4) ، لكنه فضل ملكت زمامه، وأعطيت مقوده وخطامه، ولا شك أن صديقنا أبا الحسن - أعزكما الله - أنطقه هواه، ونامت عن الخبرة (5) عين رضاه، فسماع بالمعيدي لا أن تراه، ولعمري لقد أخرت الجواب فرقاً من كشف السر، وإرادة التمادي (6) في تدليس الأمر، ثم علمت أن فضلاً وضع في يديك (7) ، وقصر
__________
(1) د: بقطعة، وسقطت اللفظة من م؛ وفي س: رقعة.
(2) ورد بعضها في المغرب 1: 308.
(3) المغرب: المهدي.
(4) المغرب: ولا بازاء رتبتك.
(5) م: عن الخير.
(6) م: للتمادي.
(7) م: يدك.(4/539)
عليك، يوسعني في النقد طولاً، كما شرفتني (1) في البدء قولاً، وعند اللقاء أنهي عذري، وأعرفك حقيقة قدري، إن شاء الله.
ثم أتبع النثر بهذا النظم:
أمحيي معاهد رسم الأدب ... ومبقي مشاهد فخر العرب
ومن نظم الفضل نظم الجمان ... ومن سبك الشعر سبك الذهب
بدأت فلبيك من خاطبٍ ... وأين الكفي له إن خطب
أتحتل يا بدر في أفقنا ... ولما تحييك (2) زهر الشهب
ويهتز نصلك في غمدهم ... ولما تحجبك بيض القضب
فمن تلك جلاسك الواصلون ... ومن هذه لك غيل أشب
تناءت علينا مساعي العلا ... ورقيت منها قصي الرتب
لك الفضل حركتني للنهوض ... نحوك (3) وهو بعيد الطلب
وحدثت عني وهذا الحديث ... يدخله صدقه والكذب
فمعذرةً إن بعض (4) المقال ... محض وأكثره مؤتشب
برئت إليك من الزائفين ... نظم القريض ونثر الخطب
وعمداً تأخر عنك الجواب ... أن لم يكن قاضياً ما يجب
تعرضت شأوك يوم الجزاء ... فإذ لم أجب نهجه (5) لم أجب
وأقدمني العذر والإعتراف ... فجاءتك تسجد أو تقترب
__________
(1) م: شرفني.
(2) كذا وصوابه " تحيك ".
(3) م: بجوك.
(4) ط د: المآل.
(5) ط: بهجة.(4/540)
ولولا الحياء لقد كنت قبل ... أرغب من سيدي ما رغب [102ب]
لأبقيت ذكري بما صغته ... بخطه على صفحات الكتب
قواف تعطل في وزنها ... (1) " قرأت الكتاب أبر الكتب
وإن تك أحمد هذا الزمان ... فأين عليّ لنا أو حلب وقال يخاطب الوزير (2) أبا محمد بن عبدون معتذراً من تخلفه عن تشييعه (3) :
في ذمة (4) الفضل والعلياء مرتحل ... فارقت صبري إذ فارقت موضعه
ضاءت به برهةً أرجاء قرطبةٍ ... ثم استقل فسد البين مطلعه
يا قاطعاً أملاً قد كان واصله ... وناثراً حذلاً قد كان جمعه
عذراً إلى المجد عني حين فارقني ... ذاك الجلال وأعيا أن أشيعه
قد كنت أصحبته قلبي فأقعدني ... ما كان أودعه عن أن أودعه
صب أيها القطر موروداً شرائعه ... فقد ظمئت وعم الري موقعه
إني لأحسد هذا الطرس تلمسه ... كفاه أو تجلي عيناه مودعه
والشمس تحسد والخضراء موضعها ... للفضل تعرف في الغبراء موضعه
لا زعزعتك الليالي النكد يا جبلا ... لم ترج غير الليالي أن تزعزعه وله فصل (5) من رقعة شفاعة: أحسن الصلة - أعزك الله - بين (6) الأخوان
__________
(1) صدر بيت للمتنبي، ديوانه: 431 وعجزه: " فسمعاً لأمر أمير العرب ".
(2) الوزير: سقطت من م س.
(3) القلائد: 164 والخريدة 3: 433 والمطرب: 208.
(4) في المصادر: المجد.
(5) ط د: في فصل.
(6) ط م: حسن الصلة ... بين.(4/541)
ما كان الفضل موجبها، والمجد مسببها، وطيب الخبر منشيها، وحسن الثناء مهدها وممطيها (1) ؛ والوزير أبو فلان - أبقاه الله - ممن يفتن في شكرك فيسحر المسامع، ويوقع ذكرك في القلوب أكرم المواقع، حتى يستميل إلى مودتك النفوس فتنقاد سمحة القياد، ويهتف بالثناء عليك في المحافل فلا يخاف المعارضة والعناد، وكان له من رأيك الجميل في سالف المدة (2) ، أشرف ذخيرة وعدة، فلما ملكك الفضل أزمة النقض والإمرار، ورتبك في ديوان الإيراد والإصدار، علم (3) أنه لا يسقط نجمه مع علو نجمك، ولا تلدغه عقارب الدهر وهو يرقيها باسمك، وأنت - دام عزك - تسمعه بميسم إيجابك (4) ، وتقيده بالإحسان في كنابك، وتطيع الكرم (5) في رعاية نزاعه، ومحافظة تأميله وانقطاعه، ومهما تعتمده به من مبرة، وتسديه إليه من عادةٍ مستمرة، فإنما تسقي غرسك، وتبني أسك.
وله من أخرى: أما الود - أعزك الله - فمقيم، والعهد كريم، والإخاء مخيم لا يريم؛ لكني أخبرك عن حال مختلة، ونفس معتلة، وشغل بك قد ضيق الصدر، وأظلم منير الفكر، بما وقفت عليه من كتابك، واستطلعته من خطابك، فتجرعت الكمد - علم الله - مر المذاق (6) ، وشربت من كأسه المترع الدهاق. وعلمت أنه جنس ذليل، ورهط مخذول
__________
(1) م: منشأها ... وممطؤها.
(2) م س: المودة.
(3) م: علم لنا.
(4) م: إلحافك؛ س: الحافل؛ ط د: إلجائك.
(5) م: الدر (لعلها: الود) .
(6) م: من المراق.(4/542)
وحزب مفلول بل مقتول، حيث لا ناصر فيستصرخ، ولا فحم لقيت فينفخ، ولا وزر إلا العبرات تستنجد، والزفرات (1) تستحث فتوقد. وقل غناءً عنك دمع تجريه، أو حزن تبديه، أو صديق (2) لا يملك إلا التفجع، ولا يستطيع إلا التلهف والتوجع، لكنه في الشر خيار، وفي الأرض قرار، وفي الناس منتجع مزدار، وإلى الله انقطاع وفرار؛ وصاحب الشرع عليه السلام قال (3) : " لا تلثوا بدار معجرة " (4) ، وقال الأول: " إذا نبا بك منزل فتحول " (5) ؛ وأنت - ولا عتب - تقيم بذلك (6) الإقليم؛ مقام عير الحي والوتد (7) ، ولا تتعوض منه ببلد، ولا من أهله (8) بأحد، حتى كأنك إنما تشفق من خراب عامر ضيعك، ودروس جديد أربعك، ومعذرةً إليك من هذا الجفاء، فيما بعث إليه إلا حنق يقوده شفق، وقلق تذكيه حرق. [103أ] وقد عرضت على عدة من إخواننا - أعزهم الله - شخص كتابك، فكلهم تألم بمصابك (9) ، وتوجع
__________
(1) م س: وزفرات.
(2) م: صديع؛ س: صديغ.
(3) م س: يقول.
(4) في النسخ: تلبثوا ... م: المعجزة؛ وفي اللسان (عجز) أنه من حديث عمر، ومعناه لا تقيموا ببلدة تعجزون فيها عن الاكتساب والعيش. (والمعجزة بفتح الجيم وكسرها) .
(5) التمثيل والمحاضرة: 400.
(6) ط د: ذلك.
(7) يريد مقام ذل، مشيراً إلى قول الشاعر:
ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد (8) ط د: أجله.
(9) م: لمصابك.(4/543)
لأوصابك، وارتمض لعثرة الأحرار التي لا يقال، ودولة لذل التي لا تزال (1) ، جبر الله الكسر، وحكم على الدهر، وكشف الضر، ورزق فيما بقي حسن التسليم والصبر.
قال ابن بسام: وإنما امتعض أبو بكر في هذا الجواب على خطاب كان شرح له فيه الأديب أبو جعفر الكفيف (2) محنته مع مقاتل، غلامٍ كان لابن مطري أولاً، ثم لابن (3) الأفطس، لتنازع وقع بينهما على بيت شعر ظهر عليه فيه أبو جعفر، فحقد ذلك له، فبينما هو (4) ماشياً فارغ القلب، آمن السرب، إذ اعترضه مقاتل في الطريق، على مقربة من السوق، على هملاجه، بين طوقه وتاجه، فجرى شوطه، وأخرج سوطه، الذي كان يحث به فرسه، وأمر سائسه (5) بحبس يديه، وانحنى به عليه، قائلاً: لم تعرضت بطشتي، ولم تخف سطوتي -! فلا النعمان بن البشير يوم الأخطل، ولا الزبرقان بن بدر في مسألة جرول، ولا المأمون يسطو بدعبل، وتالله لو كان مقاتل كليب وائل، أو قيس بن عاصم، أو معرقاً في بني هاشم، لثنى من عنانهن وقصر من يده ولسانه، فكيف وهو مقسوم الولاء، معدوم الآباء! ! وإنما أقدره يومئذ الكبر، وأبطره الوفر، بعد الكدية في الرفاق (6) ، والقصص في الأسواق، ونقل اللحم بالأشبونة من الدور
__________
(1) ط: تزال، س: لازال.
(2) انظر مقدمة ديوان الأعمى التطيلي: ح - ي.
(3) م: لبني.
(4) س: فبينماه.
(5) ط: سيسه؛ س: منيسه.
(6) س: في الرياق.(4/544)
إلى (1) الوضم، فكيف لا (2) يتربص خروج الدجال، أو ينزل المطر على هذه الحال، أو تتأخر القيامة، ومقاتل قد صار (3) قدامه، يقتل الأحرار، ولا قود ولا ثار!! ألا مغيثاً، ألا مشياً إلى الموت (4) حثيثاً، ألا دعوة نوحٍ، من قلب قريح!!
ولأبي بكر أيضاً فصول من جوابٍ عن أهل قرطبة على خطاب ورد من قبل المستعين بن هود قال فيه: وصل كتابك، فوقفنا على جميع معانيه، وأحطنا علماً بما فيه، ورأينا ما تضمنه من المقال الذي لم يوفه أعزه الله - حق النظر، ولا تدبره أحسن التدبر، بل أطاع فيه سلطان هواه، ودعاه الحرج (5) إليه فاستهواه، ولو حكم عادل النصفة، وعصى أمر الأنفة، لخاصم نفسه قبل أن يخاصم عنها، وكان قبل أن يأخذ لها آخذاً منها، ولعلم أن الحق ليس بأقوال تسطر، ولا حججٍ (6) تصرف عن طريقها وتغير؛ والشيطان قد ينصب للعاقل أشراك الخدع، ويروم أن يستنزل الحليم بأصناف الطمع، فمن صرفته عصمة الله انصرف (7) ، ومن وقفته خشيته أحجم ووقف.
وفي فصل منها: وقد كنت (8) خاطبتنا المرة بعد المرة، وكاتبتنا الكرة بعد
__________
(1) م س: إلى الصور من.
(2) لا: سقطت من م س ط.
(3) قد صار: سقط من م س.
(4) ك: للمنية.
(5) م: الخروج.
(6) م: بحجج.
(7) ط: أنصف.
(8) وقد كنت: سقطت من م.(4/545)
الكرة، تذكر أنك (1) قد حللت عن تلك البلاد يدك، وأصفيت (2) في طاعة أمير المسلمين وناصر الدين - أيده الله - معتقدك، ورأيت أنها (3) أمانة تؤديها، إلى حافظها وراعيها، وتسلمها إلى من يقوم بحق الله - عز اسمه - فيها، إلا مواضع يسيرةً استثنيتها، وأماكن قليلةً سميتها، فما الذي نقلك عن هذا الرأي الحميد، والمذهب السديد، إلى التمسك بما قد بان لك وجه الحيرة في تركه، وإرادة التملك بما لا قدرة لك على ملكه -! ولو كنت - أحسن الله توفيقك - ملياً (4) بالدفاع، قديراً على التحصن من أعداء [الله] الكفرة (5) والامتناع، لكنت معذوراً فيما ترغبه، وجديراً أن يخلى بينك وبين ما تطلبه، لكن العجب كل العجب أن يكون سعيك للكفار، وتوفيرك للدمار، وكيف يسوغ لك أن تحذر من الله وأنت لا تحذره (6) ، وتذكر به تعالى ثم لا تذكره -! ألست تعلم أن النصارى - لعنهم الله - قد استولوا على ثغور المسلمين التي كانت بنظرك منوطةً، وبمستقر قدميك (7) مخلوطة - فهل كانت لك طاقة بمحاربتهم، أو قوة على مقارعتهم، أو إصراخ لمن استرخصك من قتيل مستشهد، أو أسير مضطهد -!
وفي فصل منها: فحين وصلت دعوتهم لسامعها، واتصلت مظلمتهم
__________
(1) تذكر أنك: سقطت من م.
(2) م: وأضفت.
(3) م: لنا.
(4) ملياً: سقطت من ط.
(5) د: الأعداء والكفرة: ط: الفكرة.
(6) زاد في م: العجب أن يكون.
(7) م: مخدمك؛ ط: قدمك.(4/546)
برافعها، وتعلقوا من أمير المسلمين وناصر الدين - أيده الله (1) - بالسبب المتين، وأووا منه إلى الحصن الحصين، أردت - والله يقيدك (2) - أن تقطع منه (3) حبالهم، [103ب] وتفرق اتصالهم، وتذرهم بين أيدي (4) الأسر والقتل نهاباً، ولا ترجو فيهم ثواباً، ولا تخاف (5) عقاباً. وهو - أيده الله - لم يبلغ بلادك ولا غيرها لمالٍ (6) يبتزه، ولا لتملكٍ يستفزه، وإنما بغيته (7) أن يقمع شيطان الشرك، ويستنقذ المسلمين من الهلك، ولما (8) نرجوه من حسن إنابتك، وإسراعك إلى داعي الحق وإجابتك، خاطبنا أمير المسلمين - أيده الله - محيلين على ما تضمنه خطابك، ووعاه كتابك، ممهدين عنده عذرك فيما تضمنه من القول الذي لا تصح شواهده، ولا ترتبط (9) لمتأمل معاقده، وإنا لنخشى أن ينفض (10) عن ذلك الثغر يده، ويحل من عزمه (11) فيه ما كان عقده، فحينئذ لا ينفع النادم قرع سنه ولو هتمها، والعاض يده ولو كلمها، وقد كان لك مندوحة
__________
(1) م س: أدام الله تأييده.
(2) ط: يعيذك.
(3) منه: سقطت من م.
(4) أيدي: سقطت من م.
(5) م: يرجو.. يخاف.
(6) س م: لملك؛ وسقطت من ط.
(7) م: بغية.
(8) ط: وإنما.
(9) م: ترتبطه.
(10) م س: لينفض.
(11) م: العزم.(4/547)
في القول اللين، والاحتجاج المبين، عن (1) الموافقة والمخالفة، والمدافعة بغير الحق والمكاشفة، حتى انتهيت (2) إلى أن تقول إنه لك في من سلف واعظ يزعك، أو زاجر يردعك، والله يعصمك من أن تختار اختيارهم، وتؤثر إيثارهم.
وفي فصل منها: وقبيح بمن علم بما (3) عند الله علمك، وفهم بما لديه فهمك، أن يزهد في الدنيا وهو يطمع منها في غير حاصل، أو يذم العاجلة وهو يعتد بعرضٍ من أعراضها غير طائل، ونرجو أن يكون وراء هذا من ركوبك المثلى، ورجوعك إلى التي هي أولى، وتكذيب ما تلقيه (4) الوساوس، وتمنيه (5) خادعات الهواجس، ما يبقي به دينك نقياً لا يتدنس (6) إزاره، وذكرك جميلاً لا تقبح آثاره، وهو الذي يشبه مذهبك الكريم، وآراء سلفك القديم، الذي أنت متقيل حميد آثارهم، مستضيءبأنوارهم، مشيد على (7) ما أسسوه من الأثر الصالح، والعمل الراجح. وما كان في هذا الكتاب من (8) مراجعة، فيها موافقة ومنازعة، فإنما دعا إليها ما ننوي من النصيحة، والموالاة الصحيحة، وقد يعاتب
__________
(1) م: على؛ س: الهين على.
(2) م: انثنيت.
(3) م س: ما.
(4) ط د: تلفته.
(5) د: وتمنته؛ م س: وتلقيه.
(6) م: يدنس.
(7) على: سقطت من ط د.
(8) الكتاب من: سقطت من م س.(4/548)
الشفيق فلا يحجم، ويقول الصديق فلا يكتم، وأنت تحمل ذلك على سبله (1) الواضحة، وطرائقه اللائحة، وتعلم أن أخاك من أرضاك باطنه، وإن عصاك ظاهره وعالنه (2) .
وله من قصيدة (3) في القاضي (4) :
وكيف أجزوت الحي جيبك عاطر ... وردفك فضفاض وعقدك صائح
تجاوب أفرد الحلي وساوساً ... عليك كما غنى الحمام النوائح
وكيف شققت الليل خدك زاهر ... وجيدك براق وثغرك واضح
وكيف استطعت السير حجلك مفعم ... وردفك رجراج وحليك قادح
ومنعرج الوادي ظبأ وأسنه ... ومنقطع البيداء خب وكاشح
وقد (5) نصت الجوزاء (6) جيداً كأنه ... عيون إلى تلك الطروق لوامح
تأرجت الموماة أن سرت وسطها ... فكل سبيل جزت بالطيب فائح
أقبل ترب الأرض حتى كأنما ... تضم ثناياك العذاب (7) الأباطح
فما سجد (8) الرهبان في كل بيعةٍ ... كما أسجدتني أرضها والصحاصح
__________
(1) م: سبيله.
(2) م: وغالبه.
(3) م: ومن قصيدة له.
(4) انظر ديوان ابن زيدون: 390، 483 وقصيدة فائية لأبي المغيرة ابن حزم في القسم الأول: 176 فهذا كله نسق واحد من المعارضات؛ ولم يتضح أي القضاة يمدح، ولعل هنا نقصاً في النسخ.
(5) م: نصب.
(6) م ط: جيد.
(7) م: العراب.
(8) ط: البرهان.(4/549)
ومنها في المدح:
فإن أك في ميدان لهوي راكضاً ... فإني للقاضي الأجل لمادح
هو السبب المدني إلى كل سلوةٍ ... وكفارة الآثام وهي فوادح
به تنهض الأيام وهي عواثر ... وتستدرك الآمال وهي نوازح [104أ] قال ابن بسام (1) : قول أبي بكر: " أقبل ترب الأرض " ... البيت مع الذي بعده، من الوصف الغريب، في توفية إكرام ربع الحبيب؛ وأول من بكى بالربع ووقف واستوقف، الملك الضليل، حيث يقول:
قفا نبك من ذكرة حبيب ومنزل ... ثم جاء أبو الطيب فنزل وترجل ومشى في آثار الديار وقال (2) :
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامةً ... لمن بان عنه أن نلم بها راكباً ثم جاء المعري فلم يقنع بهذه التوفية من الكرامة حتى خنع وسجد، وقال (3) :
تحية كسرى في السناء وتبع ... لربعك لا أرضى تحية أربع وأبو بكر إنما ألم بهذا المعنى.
ومحاسنه أكثر من أن تحصى، ولم أحاضر وقتي هذا إلا بقليلها (4) ، ولا
__________
(1) نقل الصفدي جانباً كبيراً من هذا النص في الغيث 1: 67 وصرح أنه ينقل عن الذخيرة.
(2) ديوان المتنبي: 318.
(3) شروح السقط: 1527.
(4) ط د: بأقلها.(4/550)
بأس من الزيادة - إن شاء الله - عند حصولها.
ومما سمحت (1) به الأيام، وفازت به الأزلام، من نثر أبي بكر المتدفق عن بحر (2) ، المزري بدر انتظم في لبات الزهر، رقعة يقول فيها:
مولاي وسيدي الأجل لا يزال بمعونة الله تخمه الأوطار، وتطيعه الأنصار، وتتنافس فيه الأقطار، وتستأذنه في صوبها القطار، فدعاؤه متقبل مستجاب، والغيم عند استصحابه منجاب، وقد كان الغمام أسف ودقه، ورجي صدقه، فصعد وتعلى، ثم دنا فتدلى، فكاد من قام بالراح (3) يدفعه، وانتظرت شآبيبه ودفعه، إلا أن تلك الدعوة ردت مخيلته جهاماً، وفرقت جمعه وكان لماما، وعاد المحل يلتهم التهاماً، فرفقاً - رفق الله بك - فإن الناس مسنتون، ولما لا يرضى من القول بسوء الظم مبيتون، وماذا عليه - أعزه الله - في أن يخصب محله، سقى الغيث بلداً يحله، وتشيعه حيث ارتحل ديمة مدرار (4) ، وينزل حيث ينزل النوار، وننال من بركة دعائه نصيباً، ولا نلقى منه يوماً عصيباً، وإن دام دعاؤه في استصحاب الشمس، فسيتركها خاوية كأن لم تغرب بالأمس.
__________
(1) هذا مما زيد من بعد وقد انفردت به النسختان م س حتى آخر الترجمة.
(2) م س: بحره.
(3) م س: بالراجي؛ وفيه إشارة إلى قول الشاعر يصف السحاب:
دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح (4) من قول المتنبي (ديوانه: 268) :
وإذا ارتحلت فشيعتك سلامة ... حيث اتجهت وديمة مدرار(4/551)
وأخرى يقول فيها:
سقى بلداً أمست تحله ... من المزن ما تروى به وتسيم (1) كيف لا استسقي لمثواه - أدام الله نعماه - عزالي (2) الغمام، وأنتقي لعلياه حر الكلام، وأعيذ (3) النفس بمقدار سعده، وأنفي الأنس جملةً من بعده، وهو - أعزه الله - سر الضمير ونجواه، وذكر اللسان ودعواه، وشغل القلب والصدر، والصديق الوفي بعدت أخلاقه عن الغدر (4) ، والواحد الذي يعدل ألوفاً في جلالة القدر، ويزيد على الأ [نام] كما زادت على الليالي ليلة القدر؛ ما هذا الإطراء، والقول بالآراء (5) -! تكفي شهادة الضمائر، وتناجي السرائر. ما أولاني بالنجه، وحثو التراب (في) الوجه! ! كيف وجد - أعزه الله - تلك البلاد الكريمة - أظنه أكرم فارتبط، وانتاب (6) فاغتبط، وحط الرجل عند الملك الظاهر، المكنى بأبي الطاهر، فأنشد قول أبي تمام في عبد الله بن طاهر (7) :
إذا ما امرؤ ألقى إليك برحله (8) ... فقد طالبته بالنجاح مطالبه
__________
(1) انظر الأغاني 2: 198 وأمالي القالي 1: 36.
(2) م: عز؛ س: عن (اقرأ: عين) .
(3) س: واعتد؛ م: واعند.
(4) م: بعدت عن الضمير الغدر.
(5) م س: الآراء (لعلها: الهراء) .
(6) م س: وارتاب.
(7) ديوان أبي تمام 1: 239.
(8) الديوان: بربعك رحله.(4/552)
وفي فصل منها: وماذا عليه لو عرف من شأنه بقضه (1) ، من عدة النسيم اجتاز على أرضه، فتنشق عرفه، وتقبل عرفه:
يقبل الريح من صبابته ... ما قبل الريح قبله أحد ومنها: ولما علم أن تلك الحضرة مجر العوالي (2) ، بل مستقر المعالي، ومجرى السوابق، بل مسرى البواشق، أملها فأمها، وقدم أرجاءها فجاءها، وغرضه أن يكون هنالك خادم قائد، أو جامع فائد، وإذا ظفرت يداه بجواد، يحمله على جواد، فقد أخصب مراده، وأكثب مراده.
ومنها: وإن خفت بالمراجعة بالحال العلية وصلة الإجمال، وختمت بالحسنة الأعمال، أسمعني الله عنك أنباء طيبة، وأمطرك من المعروف ديمة صيبةً، برحمته.
وأخرى يقول فيها:
وإني وإسماعيل يوم وداعه ... لكالغمد يوم الروع فارقه النصل (3) لا بل كالجفن فارقه السواد، والصدر بان عنه الفؤاد، هذا تعداد يطول، ودهر بأحداثه يصول، وعلى ما جر من خطوبه، وأعقبنا من
__________
(1) صورتها في م: يقضه.
(2) م: بحر الغزالي.
(3) البيت لصريع الغواني، ذيل ديوانه: 332 والشعر والشعراء: 713.(4/553)
عبوسه وقطوبه، لنقرينه صبراً يرده، وجلداً يهده (1) ، وتحملاً يردعه ويصده، فلا يجد لسهامه منفذاً، ولا يعرف للقدح فيها مأخذاً، وإنا لنرضى بالقدر، ونشرب على القذاة (2) الكدر، ولا تؤثر فينا لأواء، ولا تبلغ منا عزاء؛ أما وقد ذقنا طعميه، وحلبنا شطريه، وخطرنا قطريه، وجربنا حاليه، فما يحدث جديداً، ولا ينشئ شديداً، وإن الله سبحانه ليختار للعبد، ويهديه إذا استهداه للرشد، إذا انتهى به العسر، طالعه اليسر، ووافاه النصر.
ومنها: فذكرنا (3) - أعزك الله - وطالعنا بأنبائك - أطابها الله - فأنا نرتقب أخبارك، ونستوضح آثارك، ونلحظ على البعد ديارك:
كما نظر الأسير إلى طليقٍ ... يؤم بلاده لشهود عيد ومن الحق أن تشد يد اغتباطك، وحبل ارتباطك، بفلان، فهو للصحبة ذاكر، وبعهدك مكاثر، ومن أعبائك في تلك الرحلة متنصل، ووده وكيد متأصب. وستفرح معه أياماً، وترى الفضل إماماً، والزمان غلاماً، إن شاء الله.
وأخرى افتتحها بهذين البيتين:
أخاطب ود من أخ لك عنده ... إنابة مخلوع العنان إذا لبى
تفيأ إذا ما شئت ظل ضلوعه ... ظليلاً ورد من وده شبماً (4) عذبا
__________
(1) م: يردده ... يهدده.
(2) م س: القدار.
(3) لعل الصواب: " فاذكرنا ".
(4) م س: طلوعه ... أشنباً.(4/554)
وصل لسيدي - وصله الله - تحية أهداها، مقترنةً ببغيةٍ اهتداها، فلولا أن تموج الهواء. لا ينقل (1) الأهواء، لوافاه يحمل من رجع السلام أحفاه، ولوصف ما نشأ له من الولوع، (و) انتهى (حتى) هد الضلوع. فما غريب أو حشه سلطانه، وجفت أوطانه، فبات يستهدي البوارح نسيمها، شوقاً إلى وسيمها، ويستكشف الركب عن أنبائها، كلفاً بأحبائها:
بأشوق مني إلى حضرةٍ ... تخذت بساحتها موطنا وأتمثل بما بين يدي من الأشواق، إلى تلك الأخلاق، فأقول: ما غريب، نأى عنه هوىً قريب، فكلما أم بابه قطع (أسبابه) ،أو هم أن يثني إليه عنانه، شغلت الأيام بنانه، فبات مراق كأس الوسن، فضفاض رداء الحزن، بأشواق مني إلى ذلك الخلق الكريم، فهل يسمح به صرف الزمان اللئيم، وله الذم: ما وهب إلا خلال ما انتهب، ولا أباح إلا ريثما استباح. وإن تكن الأيام أتت لقائك، فأنا أسأل الله طول بقائك، عسى أن يدنو بك داراً، أو يدور بنا عليك مزاراً.
وله (2) :
قد هززناك في المكارم غصنا ... واستلمناك في النوائب ركنا
فوجدنا الزمان قد (3) مال عطفاً ... وتأتى علاً وأشرق حسنا
__________
(1) م س: لا ينفعل.
(2) وردت الأبيات في القلائد والخريدة والمطرب.
(3) في المصادر: لان.(4/555)
فإذا ما سألته كان سمحاً ... وإذا ما هززته كان لدنا
مؤثراً أحسن الخلائق لا يع - ... رف ضناً ولا يكذب ظنا
أنت ماء الزمان أخصب وادي - ... - هـ ورفت رياضه وانتجعنا
نزعت (1) بي إلى ودادك نفس ... قلما استصحبت سوى الفضل (خدنا) في ذكر الوزير الكاتب أبي الحسين يوسف بن محمد بن الجد (2)
واجتلاب قطعة من نظمه ونثره (3)
قد قدمت ذكر بني الجد (4) ، وذكرت أنهم كانوا صدور رتبٍ، وبحور أدب، توارثوه نجيباً عن نجيب، كالرمح أنبوباً على أنبوب، مع اشتهار بصحبة السلطان، وشرفهم على وجه الزمان. وأبو الحسين هذا كان من أسنى نجوم سعدهم، وأسمى هضاب مجدهم، ولولا ما خلا به من معاقرة العقار، وتمسك بأسبابه من قضاء الأوطار، لملأ ذكره البلاد، وطبق نظمه ونثره الهضاب والوهاد. وقد استكتبه ذو الوزارتين أبو بكر ابن عمار أيام حربه بمرسيه، وله معه أخبار مذكورة، وعنه رسائل مشهورة،
__________
(1) بي: سقطت من م.
(2) كنيته في المغرب (1: 340) أبو الحسن، وورد في مواضع أخرى من الذخيرة مرة أبو الحسين ومرة أبو الحسن؛ وفي هذا الموضع من النسخة ط " أبو الحسن "، وانظر مسالك الأبصار 11: 431؛ وسقطت لفظة " يوسف " من م س.
(3) م: نثره ونظمه.
(4) ذكر ابن سعيد (المغرب 1: 340) أن بيت بني الجد بيت جليل، وهم فهريون سكنوا لبلة وسادوا أيضاً باشبيلية، ثم ترجم لأربعة منهم، ولكن ليس من السهل تبين صلة القربى بينهم. وقد مرت ترجمة أبي القاسم منهم في هذا القسم من الذخيرة: 285.(4/556)
ولم أقع من كلامه وقت تحريري هذا التصنيف، إلا على اليسير الطفيف، وفيما أثبت منه ما يقر له بالفضل، ويرفع لواءه في النبل.
جملة من نثره مع ما يتشبث به من شعره
له من رقعةٍ خاطب بها من استنهضه إلى معارضة الحصري في قصائده المعشرات (1) قال فيها:
يا سيدي (2) - أبقاك الله شاحذ فكرٍ، نافذ ذكرٍ؛ من حق ذمتك، الذهاب مع وفق همتك، ولما أكملت رغبتك من كتب معشرات (3) الحصري، هب من خاطري النائم البكي، فنظمت في معناها، ما لا يغني من الصناعة مغناها، فالدر لا يعارض بالمخشلب، والبحر لا يناهض بالمذنب، وإنما ذلك لما في طباع الإنسان، من اتباع الإحسان؛ مع أني أردت أن أملأ سمعك، بصورة حالي معك، وأنت تعلم أني حين تعرضت، وأوان تربصت (4) ، غريب حريب، قليل فليل، مريض الجنان، مقروض اللسان؛ فالشعر إذا لم يحكه قلب فارغ، ولم يسبكه
__________
(1) المعشرات: قصائد تتألف كل قصيدة منها من عشرة أبيات، في موضوع من الموضوعات كالنسيب أو مدح النبي أو الزهد، ومعشرات الحصري في النسيب، وقد نشرت مع دراسة عن الحصري قام بها الأستاذان محمد المرزوقي والجيلاني بن الحاج يحيى: 212 - 240 (تونس 1963) وفي م: المشعرات.
(2) يا سيدي: سقطت من ط.
(3) م: معشر.
(4) م: ترصنت (اقرأ: تبرضت) .(4/557)
لب من ظلماء الشغل بازغ، لم يكمل خلقه، ولم يرو الصدور وقده، وجاء خداج النتاج، أجاج المزاج. فإن نظر في هذي إليك ناظر، وعطف من عنان المناظرة بينها وبين تلك - على تباعدها - مناظر، فأطلعه على غيب حالي، قبل أن تطلعه على عيب مقالي، ليعلم أنها زبدة الماء، وعصارة الصخرة الصماء. والله المرجو للإدالة، والمدعو في الإقالة.
وله من أخرى خاطب بها عمه من ميورقه، عند تناثر عقد (1) رؤساء الجزيرة:
يا مولاي وسيدي الذي أفترض بره، وألتزم شكره (2) ، ومن لا زال في أمان من الزمان، وسلامٍ من الليالي والأيام:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر ... فزعت فيه بآمالي إلى الكذب (3) [104ب]
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً ... شرقت بالدمع حتى يكاد يشرق بي وإن عيناً لم تصب بدمٍ (4) بعد دمٍ لبخيلة، وإن نفساً لم تذب على تلك النازلة العظمى لجلدة حمولة، لله تعالى التسليم فيما حل وجل، وفجع وأوجع، وأن تكن تجافت عن النفوس، ورتعت (5) في العرض الخسيس، فخطبها حقير، وكسرها مجبور (6) . على أنها كيف تصرفت مشكلة،
__________
(1) عقد: زيادة من م س.
(2) س: ذكره.
(3) لأبي الطيب، ديوانه: 423 والذخيرة 2: 486.
(4) م س: تصب دماً.
(5) م: وولعت.
(6) م: المجبور.(4/558)
وعلى ما تخيلت (1) مذهلة، وصفاتك - أعزك الله (2) - أصلب من أن تؤثر فيها النوازل، وأثبت من أن تضعضع فيها الرواجف والزلازل؛ وأنا حين خططت هذه الأحرف على جمر الأسى متقلب، وبارتقاب ما خصكم (3) - لا زال خيراً - معذب، وقد أودعت مناولها من خبري، وحملته من عجري وبجري، ما لك الطول في الإصغاء إليه، واستيفاء ما لديه، ثم في مراجعتي بما تقررت الحال عليه.
وختمها بهذه الأبيات (4) :
كتبت وقد غالت عزائي (5) أشجان ... وقد شرقت بالدمع والدم أجفان
وقد وقذتني نبأه الخطب لم تصخ ... (6) إلى مثلها في سالف الدهر آذان
تصاممت عنها مستريحاً إلى المنى ... (7) وقلت عساها في الأحاديث بهتان
إلى أن جلاها الصدق عندي فهدني ... وإن قليلاً أن تضعضع أركان
كذا فارقبوا يوم القيامة بغتةً ... فيهلك شيطان ويهتك سلطان
عزاءً وأني بالعزاء وقد هوت ... كما قد ذوت فيكم نجوم وأغصان
وغاضت بحور (8) للندى وتقلصت ... ظلال العلا وانهد للمجد بنيان
__________
(1) م: خيلت.
(2) م س: دام عزك.
(3) د: يخصكم.
(4) منها بيتان في كل من المغرب والمسالك.
(5) د: غرامي.
(6) سقط هذا البيت والذي بعده من م س.
(7) ورد البيت في القسم الثالث 3: 849 وفي هذا القسم الثاني أيضاً: 487.
(8) م س: بحار.(4/559)
لبان بما قد بان (1) أمن وإيمان ... وما الدهر إلا ناقض (2) العهد خوان
ولولا الأسى لم يبد في العيش عذره ... وحبسي ولم أبعد علي وعثمان
وكم قبلها من مثلها ثم بعدها ... وليس على دهر جنى (3) ذاك عدوان
وبين ضلوعي والجفون تنازع ... على الرسم من جسمي فسحب ونيران
ولا شك أني بين هاتين طائح ... فيغرق طوفان ويحرق بركان
تقسم صبري والحوادث جمة ... ملوك وجيران وقوم وأوطان
لعل الليالي، والليالي لواعب ... ستأتي التي فيها عن الغم سلوان
وفي الفم ماء مانع من (4) زيادة ... وعند الذي يهدي كتابي تبيان
فطولك في إرعاء سمعك ساعةً ... لتسمع ما شطت به عنك أزمان
وراجع ولو في صفحة الماء راقماً ... وطالع فيكفيني من الطرس عنوان وله من أخرى: يا سيدي الأجل، وغمامي المستهل، وكوكبي النير المطل، ومن أبقاه الله في الشمل الأجمع، والأمل الأمتع، أو ذنت بمقدمك الميمون، المقر للنفوس والعيون، فارتحت ارتياح من أنشدت ضالته، وأعيدت عليه بعد السقم صحته، وقد كان من ورد اشتياقي إليك، أن أقع بين يديك، غير أن الوجل (5) قيد القدم، فلم أجد بداً من أن أستنيب القلم، ومثلك - دام عزك - شرح لعذر وله صدراً،
__________
(1) م س: يمن.
(2) س م: ناكث.
(3) م ط: حنى (حنا) ؛ د س: خنى.
(4) م ط: زيارة.
(5) م: الوجد.(4/560)
ولم يظن بصفيه فيما يقع من إخلاله بخلاله وجلاله (1) غدراً. ومع هذا فلو كنت على ثقةٍ من وجدانك بمكانك، لمشيت ولو على شوك [105أ] القتاد، مجتنياً من تلك الخلائق الناضرة (2) العاطرة زهر الربى والوهاد، وناقعاً من تلك السجايا الباهرة حرارة الجوانح والأكباد - لا زلت لأودائك أملا، ولأوليائك فضلاً من الزمان كملا (3) .
ومن شعره (4)
أهدى الزمرد (5) مورقاً ومنوراً ... عجباً تطلع كل لحظ أبصرا
فحسبته من قلبه ومودتي ... حجراً وريحاناً يرف معطرا
وزجرت منه بأن قسوته انثنت ... ليناً كخد منه رق وعذرا
قد كان سري فيه ممنوع الحمى ... فاليوم هتك كل سرٍ سترا
فلأخلعن ثوب الوقار عن (6) الصبا ... ولألبسن ثوب الهوى متبخترا
ولأشربن كأس الصبابة علقماً ... حتى أعاطي كأس وصلٍ سكرا
ولئن كتمت الحب فيه صيانةً ... وضنانةً فكفى بجسمي مخبرا
وإذا سما بسمائه بدر الدجى ... فعليه من قلبي السلام مكررا
__________
(1) ط: من إخلاله بجلاله.
(2) س م: الباصرة (اقرأ: الباهرة) .
(3) س: وكملا.
(4) انظر المسالك 11: 431.
(5) المسالك: مونقاً.
(6) م: على.(4/561)
واستكتبه العامل ابن القروي (1) الإسلامي، فغاب عنه أياماً يشرب النبيذ فلامه على خلع عذاره، في استهتاره، وترك خدمته، فكتب إليه أبو الحسين:
أمسك (2) عنانك إن ركبت قليلاً ... واسمع وإن كان الحديث طويلاً
إعزل وول ففي حديثك آية ... لو أن قومك أحسنوا التأويلا
هلا عذرت على البطالة أهلها ... ورأيت رأياً في المدام أصيلا
هي ما علمت فإن عرتك (3) جهالة ... فاستفسرن من سراها الانجيلا وقال (4) :
تحكمت اليهود على الفروج ... وتاهت بالبغال وبالسروج
وقامت دولة الأنذال فينا ... وصار الحكم فينا للعلوج
فقل للأعور الدجال هذا ... زمانك إن عزمت على الخروج وله يخاطب بعض من نهض به زمانه لا إحسانه، وكانت لداره بابان إذا انتظر من الواحد طلوعه، خرج به من الثاني عدو له عن الفضل ونزوعه، وفي ذلك يقول أبو الحسين وقد اختلف إليه فلم يلقه، ولا شام يوماً برقه:
يا ماجداً والزمان عدل ... طال اختلافي لساحتيك
لقد رأيت الغريب حتى ... رأيت شعراً (5) براحتيك
__________
(1) ط: ابن القدوي.
(2) م س: عتابك.
(3) م ط د س: عدتك.
(4) المسالك 11: 431 - 432.
(5) م: شعري.(4/562)
في ذكر الأديب أبي الحسن [غلام] البكري (1)
وإثبات جملة من محاسن شعره
وأبو الحسن في وقتنا بحر من بحور الكلام، قذف بدر النظام، فقلده أعناق الأيام (2) ، أسحر من أطواق الحمائم، وأبهر من النجوم العواتم؛ من شعراء الدولة العبادية، لم تكن له رحلة لسواها (3) ، ولا قدم في غير ذراها، وكان أخيراً هو وعبد الجليل وأبو بكر الداني هقعة جوزائها، ونسر سمائها، وطبقتها التي قال بتفضيلها الإجماع، وشهد لها [105ب] العيان والسماع. ولما انجابت غيومها، وامحت نجومها، بخلع صاحبها، خلع أبو الحسن صنعة الشعر خلع النجاد، وتبرأ منها تبرؤ العبادية (4) من دعوة زياد، إلا إلمام الطيف بعين الفرق، والتفات الدليل، ببنيات الطرق، واشتمل عليه البكريون لكونه إحدى ذرى بنيانهم، وأحد (5) دعائم أركانهم، ولتعويله عليهم، وأنقطاعه بالولاء إليهم، فألحفوه نعماهم، وأغنوه عن سواهم.
وقد أثبت من شعره ما يقضي به بالفوق (6) ، ويخصه بقصبات السبق.
__________
(1) اسمه حكم بن محمد: وله ترجمة في القلائد: 290 (وانظر ص: 242 وعنه النفح 1: 657) والمغرب 1: 348 وبغية الملتمس رقم: 692 والمسالك 11: 381 ولفظة " غلام " موجودة في فهرسة الذخيرة، وفي المصادر.
(2) ط د: الأنام.
(3) ط: سواها.
(4) م س: العباسية.
(5) م س: وإحدى.
(6) د م س: بالفرق.(4/563)
جملة من شعره
له من قصيدة أولها (1) :
ألاحت وللظلماء من دونها سدل ... عقيقة برقٍ مثلما انتضي النصل يقول فيها (2) :
نكرت الدنا (3) والأهل فيها فليس لي ... بها عقوة آوي إليها ولا أهل
وأفردني صرف الزمان كأنني ... طرير من الهندي أخلصه الصقل
فيا ليت شعري هل مقامي لنيةٍ ... (5) تصيخ (4) لنجواها المطية والرحل
وسير يخلي المرء منه (6) قرينه ... فريداً كما خلى تريكته الرأل
فمن من حبيبٍ كان روضة (7) ناظري ... يرف ويندى بين أفنانها الوصل
ضحى ظله إذ كورت لي شمسه ... فشخص نعيمي لا يقوم له ظل
غبرت وبادوا غير أن تلبثي ... وراءهم عيش يلذ له القتل
إذا كان عيش المرء أدهى من الردى ... (8) فعائدة الأيام داهية خبل
__________
(1) انظر القلائد والمسالك وبغية الملتمس.
(2) يقول فيها: سقطت من م س.
(3) د والقلائد: والأرض.
(4) ط: يصيح؛ والقلائد: تضج بنجواها.
(5) القلائد: والرجل.
(6) القلائد: قريبه.
(7) القلائد: خاطري.
(8) القلائد: ختل.(4/564)
وللناس هممات تبحبح (1) بالغنى ... وإن كان جمعاً ضمه اللؤم والبخل
إذا قنع المضطر كانت بكفه ... مقاليد (2) لم يبهم لها أبداً قفل
ومن (3) راد لم يعدم من الله (4) نجعةً ... ففي كل محلٍ من غمامته وبل
رأيت النهى في المرء فضلاً يشفه (5) ... ولكن من يحويه ليس له فضل
ومن ميز الدنيا بتمييز أهلها ... تبين أن العقل مثل اسمه عقل
فيا ليت (6) علمي فيهم أنه عمى ... وحلمي الذي أشقى به أنه جهل
وطئت من الأيام أخشن جانبٍ ... فهل لي منها جانب دمث سهل
ولكت من الأعداء شري (7) ضغينة ... لبست بها ماذية مجها النحل
وقارعتهم حتى فللت شباتهم ... بسورة عز لا يكفكفها الذل
ولكن صرف الدهر قرن إذ سطا ... يخر حفافيه (8) الفوارس والرجل ومنها (9) :
حبست كما ضم المهند غمده ... وقيدت مثل القرم يضغطه العقل
وعريت من مالي وما ملكت يدي ... كأني منه محرم ما له حل
__________
(1) م د: تبجح؛ م: بالقنا؛ س: فالقنا.
(2) القلائد: مفاتيح.
(3) ط: داك؛ د: ذاك؛ م: أراد.
(4) م س: تحفة؛ ط: نعمة.
(5) د: يشيقه؛ ط: يشيفه.
(6) م: شعري.
(7) م: ولو كنت من ... أسرى صعينة؛ ط: د س: ظعينة.
(8) د: يجر خفافيه؛ ط: يجد حفايفه.
(9) ومنها: سقطت من م س.(4/565)
أري أعين الأعداء بشر طلاقةٍ ... وأوجه آمالي مقطبة طحل
فمن لي بأني في جناح غمامةٍ ... لها بارق نحو الأحبة منهل وله من قصيدة (1) في المعتمد (2) :
مضيت كما يمضي الحسام المصمم ... وأبت كما آب الحيا المبتسم (3) [106أ]
وأسفر من مرآك صبح مسرةٍ ... تجلى به قطع من الليل مظلم
تحف به (4) الأجناد تخطر بالقنا ... فخلناك بدر التم حفته أنجم
لك العزمات النافذات التي بها ... رأينا قناة الدين كيف تقوم
سيعلم من ناواك أنك لا الذي ... يخيم عن الحرب العوان ويحجم
دع السيف يوهي ما بناه فإنما ... (5) على السيف أن يبنى بما هو يهدم
لكيما يقر الشامخون أنوفهم ... بأن علاكم للمعاطس مرغم
أحلك ربع (6) الملك مجد مؤثل ... وسرو على مر الجديدين قشعم
لتربأ (7) بك الأيام عن حدثانها ... فإنك في يهماء دهرك معلم
لربعك يخدي كل نضوٍ كأنها ... (8) قسي عليها من عفاتك أسهم
ويومٍ كريعان الشباب شهدته ... يقيناً ولم يطمح إليه التوهم
__________
(1) س م: قصيد.
(2) المسالك 11: 382.
(3) ط د: المتنسم.
(4) م: الأجياد.
(5) وقع هذا البيت رابعاً في م س.
(6) ط د: المجد.
(7) ط: لتفرأ (اقرأ: لتبرأ) .
(8) اقترن الشطر الثاني من هذا البيت بالشطر الأول من البيت السابق في م.(4/566)
فما خلت أن البحر يحويه مجلس ... ولا يحتبي وسط الندي يلملم
لقد طرزت نعماك يمنه منطقي ... فراق بها وشي القريض المسهم
لك الخير إن القلب واعٍ وإنما ... يبوح بما فيه اللسان المترجم
ولولا (1) الأسى ما رق شعر مهلهلٍ ... ولا حاز سبقاً في الرثاء متمم وله من أخرى (2) :
إذا أنت عاينت الأنام ودهرهم ... ترى نقداً يأدو لغرتها سمع
تأهل قلبي وحشة حشت الحشا ... وأقفر من أنسٍ كما أقفر الربع
فلا جبرة (3) إلا إراقة عبرةٍ ... وزفره منجود يقوم لها الضلع
هما نصرتا من لم تؤيده قدرة ... وبئس النصيران التنفس والدمع
تدرعت قلبي جرأةً وحزامةً ... ومن يدرع قلباً يهن عنده الدرع
فإن خدعت دنياي مني منجداً ... فإن سراب القاع شيمته الخدع
وإن افتقد عزمي فقد أطأ العدا ... بأخمص ضيمي مثلما يوطأ الفقع
هببت عليهم بالردى فأطرتهم ... (4) كما نفحت عصفاً مؤوبة مسع
علوا وهووا من غير نفع كأنهم ... سماء ولا رجع وأرض ولا صدع
أرى النقص عاراً في الجوارح والنهى ... فما لفمي أخذ ولا ليدي منع
__________
(1) م س: فلولا.
(2) منها بيتان في المسالك.
(3) م س: خبرة.
(4) من قول الهذلي: " قد حال بين دريسيه مؤوبة، مع ... " والمؤوبة: ريح تجيء مع الليل والمسع: ريح الشمال.(4/567)
أصون ببذل الجهد عرضي وإنني ... لأحفظ أسراري كما يحفظ الشرع
وأفتش أعضائي مخافة أن يرى ... بها وصمة تشني فيخطفها السمع
وأصمت أفواه الرواة بمقولٍ ... لورقائه في ايكة المنتدى سجع وله من أخرى في المعتمد:
قرعت الصياصي بشعت النواصي ... وسمر العوالي وبيض القضيب [106ب]
خميس يضاهي الحيا المكفهر ... إذا اختال في الهيدبي المنسحب
ودانيت حتى ثغور الظبا ... تبسم عن فلج (1) ذي شنب
وخلفت قتلك لما عتا ... فليل (2) المضارب دامي (3) الندب
(5) تحاجز عنه (4) العلا فركاً ... وأبت بها آنساتٍ عرب
يراعيك مرتقباً مثل (6) ما ... رعى الشمس حرباؤها المنتصب
فخضت من طرفه إذ سما ... وأصمته بعد طول الصخب
وعاودت قرطبةً عندما ... عبأت الهناء لذاك الجرب ومنها (7) :
فلو أن جدي كودي لكم ... لبوأني الجد أعلى الرتب
أليس ثنائي وسط الندي ... يجر المقاول أن تخطب
__________
(1) ط د: ملح.
(2) في النسخ: قليل.
(3) د: بادي.
(4) م س: تحاد عنه؛ ط د: تحاجر.
(5) ط د: بركا.
(6) ط د: كلما.
(7) ومنها: زيادة من م س.(4/568)
ألظ الرواة به فازدهت ... قلائده في نحور الكتب وله في القاضي أبي عبد الله بن حمدين يشفع لبني البكري:
بعدلك رشت جناح القضاء ... وسربلت حكمك ثوب الضياء
وصارت خطاك على منهج ... من القصد بين السنا والسناء
ومدت ظلالك نار الهجير ... ودرت سماؤك بالجربياء
وقد كمنت فيك سيما التقى ... كما كمن العود تحت اللحاء
وما يحمد الرعي في كل وادٍ ... ولا يوجد الري في كل ماء
ختمت القضاء بحكم الإله ... (1) كختمة أحمد للأنبياء
دعيت بكنيته واسمه ... فنور الهدى طي ذاك الدعاء
أهنيك لا بل أهني الورى ... بأن فاز نقبهم بالهناء
طلعت لهم وسط عمياء لا ... ترى العين فيها سبيل اهتداء
ولحت منار هدىً ناره ... يؤرثها ملكوت السماء
فهديك شمس يطير الضلال ... شعاعاً بأرجائها كالهباء
وسعيك في ذاته لم يزل ... يبيح الجنى في جذوع الأشاء
فحط أفرخاً ضمهم في يديك ... حميم ثوى في ربوع الفناء
أغاض الردى منه ماء الندى ... وأخمد منه شهاب الذكاء
يضمكما منتمى وائلٍ ... وقرب النفوس أجل انتماء
وأكرم حي وفي رعى ... أذمة ميتٍ كريم الإخاء
__________
(1) في هامش ط نحط الأصل: انظر هذا التمثيل البشيع، فليته لم يمثل به.(4/569)
ناقص(4/570)
ناقص(4/571)
وله من أخرى، أولها:
شكري لنعماك شكر الروض للديم ... فاقطف بأيدي الأيادي روضة الكلم
أبت خلالك إلا كل مكرمةٍ ... بثت (1) لك الحمد في عربٍ وفي عجم
سجية في العلا شابت ذوائبها ... وهمة نشأت في تربة الكرم [107ب]
جيش أياديك الحسنى تقد لجباً ... واجعل سلاحك ما تسديه من نعم
تهزم أعاديك اللائي إذا فحصت ... عنها المكارم لم توجد من الأمم
والق انتعاشك عند (2) العثر منفرداً ... بلا أخٍ كانفراد الصارم الخذم
والفظ (3) جناه وإن لذت مذاقته ... (4) فربما شرق الغصان بالشبم
كم من سريرة عليا بث (5) أثرتها ... لك المهيمن بين اللوح والقلم
ومن أفانين صنع كلها نعم ... لديك ترمي القذى في أعين النقم
من أي (6) قطر يكر الخطب (7) تصدمه ... وإن عرتك (8) المنايا الحمر لم تخم ومنها (9) :
لولاك لم تنظم في السلك لؤلؤة ... ولا غدا الشعب منه جد ملتئم
__________
(1) ط د: بنت.
(2) د: الوفر؛ ط: الور.
(3) م س: جفاه.
(4) ط د م: بالشيم؛ س: بالشتم.
(5) د: بت آثرها؛ س: بت لشرتها.
(6) د: فكر؛ س: قصر.
(7) م: تصرفه.
(8) د: عنتك.
(9) ومنها: لم ترد في م س.(4/572)
واليت (1) سعيك بالتقوى (2) فشافهه ... بين الملمات نجح الله من أمم
فمجتبيك كمرتاح (3) رمى نظراً ... في ناضرٍ من رياض الحزن مبتسم
ومجتويك كمغرورٍ أجال يداً ... في مزبدٍ من عباب البحر (4) ملتطم
دلائل الفضل في السادات واضحة ... منها الوفاء ومنها الرعي للذمم
تبلى الليالي ولا تبلى عرائكها ... وربما جددتها لبسة الكرم
همى حياك فأحيا ميت كل ثرى ... ولاح برقك وضاحاً لكل عم
من لي (5) بتأدية الشكر التي كتبت ... جدواك أسطره في صفحتي عدمي
حملتني منه ما لو حل في جبلٍ ... لرض رضوى وآد الركن من إضم
ما لي سوى العجز (6) والتقصير من وزر ... فاعذر سكورك بعض العذر أو فلم
__________
(1) ط د س: وانيت.
(2) م س: فشابهه.
(3) ط د: فمجتنيك؛ كمرتاح: بياض في ط؛ د: كثرثار.
(4) م س: الدهر.
(5) د: بنادية؛ م ط: ببادية.
(6) في النسخ: الفخر.(4/573)
في ذكر الكاتب أبي الحسن صالح بن صالح الشنتمري (1)
وإثبات جملة من نظمه ونثره (2)
وابو الحسن غربي (3) النشأة، شنتمري الأفق، شاعر ناثر، وله من المعرفة بلسان العرب حظ وافر، وكلامه في المماثلة والسجع، جارٍ على الطبع، ذاهب بين الجزالة والحلاوة؛ من رجل شديد الحياء، كثير الانقباض والانزواء، يرى الكتابة عليه من أشق الأشياء، ولا لنبو طبع وقلة أدب، بل لضعف عصب، فكان لا يكتب الرقعة إلا في مدة، وكثير من الكتاب، يشق عليه الكتاب، لزمانةٍ تكون في يده، أو إفراط ضعف في خطه. وفيما (4) أثبت هنا من نوعي كلامه، في نثره ونظامه، شاهد على ما وصفته به، ومنبه على فهمه وأدبه.
__________
(1) انظر ترجمته في المغرب 1: 397 ورايات المبرزين: 35 (غ) وذكر محقق المغرب أن له ترجمة في المسالك 8، الورقة 334.
(2) م س: نثره ونظمه.
(3) م س: عربي.
(4) ط د: ومما.(4/574)
جملة من نثره
له من رقعة في استدعاء خلطة: المحاسن - أعزك الله - على رتب وأحوال، وصورٍ وأشكال، فأحقها بالإعظام والإجلال، ما كان منها في الخصال والخلال، وما يتلى من آيات براعتك ونبلك، ومعلومات حسبك ونسبك، بعث على التطارح عليك، والحنين إليك، وكم حننت إلى المخاطبة فملكني عنها ارتيادي لها سبباً (1) يوطئ لها كنف [108أ] القبول والارتضاء، إذ الهجوم عليها عندهم ضرب من الجفاء (2) ، والحنين في خلال ذلك يتزايد ويتصاعد (3) ، إلى أن بلغ بي غايةً ملكتني عن التملك، وأمسكتني عن التماسك.
وفي فصل من أخرى: لو كان البدار (4) إلى المخاطبة بحكم الاعتقاد، وعلى حسب المحبة الوداد، لكنت أول من أعمل كلمه في مكاتبتك، وأرسل قلمه لمخاطبتك (5) ، لكن المخاطبات بين الناس تقع إلا بعللٍ وأسباب، كالدخول قلما يكون إلا على باب (6) .
__________
(1) م: سنى؛ س: سنا.
(2) انظر ص: 527 س 6 - 7 حيث كرر ابن بسام نفسه هذه العبارة.
(3) س: يتصاعد ويتزايد.
(4) م: البدر.
(5) م: بمخاطبتك.
(6) انظر أيضاً ص: 527 س: 6.(4/575)
ومن أخرى له (1) إلى الوزير الفقيه أبي الحسين ابن سراج: مثلك - أعزك الله - لا يغرب عليه بمقال (2) ، ولا يقعقع له باحتفال (3) ، فإن العلوم الشريفة بأصلها، والآداب الرفيعة بجملتها، مشهورة بروايتك، محصورة بداريتك، محظوظة بحفظك لها (4) ، محوطة بإحاطتك بها، والبلاغة التي هي أفضل ثمراتها، وأطيب طيباتها، لا تعزى حقائقها إلا إليك، ولا تلفى (5) معجزاتها إلا لديك، ولا يقتدي في سننها إلا بك، ولا يعترف فيها بالعجز والتقصير إلا لك، ولذلك (6) أو جزت في كتابي هذا، وتركت طريق (7) السجع حياء من التعرض لصناعة قد انفردت أنت بفضلها، وسبقت أهل الزمان في ميدانها، وأخذت عليهم مسالكهم، وأحرزت شرف الدلالة (8) في مجاهلها.
وله من أخرى: كل فعال يقصر عن فعالك، وكل إجمالٍ ينزر عند (9) إجمالك، وإنك فاضل أهل زمانك، ومقلة عين أوانك، فلو خاطبتك بلسان الوائلي والإيادي (10) مخاطبةً جريت معها طلق الجموح،
__________
(1) له: زيادة من م س.
(2) ط د: يعزب عليه مقال.
(3) م س: باحتمال.
(4) لها: سقطت من م س.
(5) ط د س: تلقى.
(6) ولا يقتدي ... ولذلك: سقطت من س م.
(7) م س: طريقة.
(8) س م: الأدلة؛ د: الدالة.
(9) ط: عن؛ د: عنه.
(10) الوائلي: سحبان وائل، والأيادي: قس بن ساعدة.(4/576)
وهببت لها هبوب اليمانية النفوح (1) ، وشحنتها بفصول الإعظام والإجلال، وبلغت بها غاية (2) الاحتفال، سعايةً في الوصول إلى قضاء حقك، وعنايةً بأداء الواجب المتعين لك، لكنت في ذلك كمن جال في مناكب الأرض يروم الإحاطة بساحتها، والوقوف على حقيقة مساحتها.
وإذا كان التطويل، لا يبلغ معه المأمول، فالإضطراب (3) أجمل، والخطاب دونه اسهل؛ بهذه العين نظرت، بعد ما صدرت، ولذلك ما قصرت واختصرت، فحبست العنان في أول الطلق، وصرفت العناية لها إلى الأحق بها والأخلق، وصرفتها إلى أن جمعت بين الاختصار والاعتذار، وتشفعت بالاقرار إلى الاغتفار (4) ، وإن ذلك لما يجعل المعذرة في حيز الاعتذار، لا سيما عند من أصله أصلك، وفضله فضلك، ممن إذا تشفع إليه، ورغب فيما لديه، جاءت الشفاعة بين قرينتين: من شرف قديم (5) ، وسلم كريم، ومعونتين: من سريرةٍ جميلة، ونحيزةٍ نبيلة.
وفي فصل له من أخرى: ومن الحقائق التي برح فيها (6) الخفاء، واستوى في علمها العلماء والجهلاء، وأقر لها الأعداء والأولياء (7) ، أني مت أهبت بك إلى الإخاء، وهززتك بوصف ما أنا عليه في الخلوص والصفاء، فإنما
__________
(1) النفوح: سقطت من س م.
(2) م س: أبعد غاية.
(3) ط: فالاضطراب.
(4) س: الاعتذار.
(5) قديم: زيادة من س م.
(6) س: معها.
(7) س م: وأقر بها الأعداء كما أقر بها الأولياء.(4/577)
أهبت بمن له في الكرم، شهرة العلم، وفي السؤدد، منزلة الفرقد، ويأبى - لا محالة (1) - ذلك الكرم الراسخ، والشرف المنيف الباذخ، إلا أن يبلغني من ودك أملي، ويعطياني من جميل اعتقادك حتى أقول: بجلي، وينقلاني من الوقوف على فضلك بالأخبار، إلى الوقوف عليه بالاختبار، فيصير علمي بك علمين، ويقيني بك يقينين، لا زال الزمان يبدي من أسرار فضائلك، ويهدي من أزهار شمائلك، ما يصور (2) القلوب (3) إليك، ويطالب الألسنة بالدعاء لك والثناء عليك.
وله من رقعة عتاب: إنا لله، لقد غرقت من غشك في بحرٍ عميق (4) ، وامتحنت منك بعدو في ثياب صديق (5) :
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... (6) عدواً له ما من صداقته بد وقد كنت خاطبتك - لا مسك خطب، ولا فل لك غرب، جارياً - علم الله - إلى التحقيق، آخذاً بما يلتزمه الصديق للصديق، [108ب] غير ملتفت إلى تلك البوادر التي كانت الدعابة تجريها، وإدلال الوداد السبب فيها، وما كان في كتابي شيء يتهمه من أخلص نية، وأوى إلى حسن
__________
(1) ط د: ويأبى ذلك لا محالة.
(2) ط س: يصون.
(3) م: القلب.
(4) ط م س: غميق.
(5) من قول أبي نواس:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق (6) للمتنبي، انظر ديوانه: 184.(4/578)
طوية، اللهم إلا إن كان ما صمنته من التبجيل، قد حرفته عن الوجه الجميل، وتأولته أقبح التأويل.
قال ابن بسام: ومما لوح فيه بالعتاب، وزخرف بالتصنع ظاهر الخطاب، رقعة خاطب بها من أحوجته الأيام إلى مصانعته، وقد بدت منه بوادٍ (1) صوب فيها وصعد، وقام وقعد، قال (2) فيها:
معلوم - أعزك الله - أن لكل مقام مقالاً، ولكل (3) حالٍ تناولاً وحوالا (4) ، وكما لا يصلح الإكثار في كل خطاب، فكذلك الاختصار لا يسوغ في كل كتاب، وفي النفس كوامن لا يمكن تبيينها عليك، وتقريرها لديك، إلا بالتطويل، وإن أصار إلى التثقيل، وأنت بعلاك تصرف إليها بالك. لما وهب لنا أيها العماد من عرفانك ما وهب، وسبب من التعلق بك ما سبب، رايتني قد رقيت إلى جوار الأفلاك، وجعلت الأخمص على ذروة السماك، لما رجوت من الاعتزاز بجانبك العزيز.
وفي فصل منها: وإني بحمد الله لممن إذا علم أكرم، وإذا جرب قرب، وإذا خبر (5) أدخر، أما الإكرام فلما من الأدب، الذي به يرتقي إلى عليات الرتب، وأما الادخار فلا عتدالي في أحوالي، وثقةٍ جعلها الله من خلالي، وعندي من الآلات التي تبعث على اتخاذي واستعمالي:
__________
(1) ط م س: بوداد (واقرأ: بوادر) .
(2) موضع قال: بياض في ط.
(3) م س: وإن لكل.
(4) م: وحذالا، س: وخلالا.
(5) ط د: أخبر.(4/579)
أني أقول من الشعر أبدعه، ومن النثر أرفعه (1) ، وأنقد النقد الذي قل من يجاريني فيه، ويباريني (2) في التكلم على معانيه، وإن كان خطي لا يلحق بالخطوط القوية الكتابية فإن ضعفه لتميمة على جيد لفظي، ونميمة على ذكاء فهمي واتساع حفظي؛ فمن المعلوم المعروف، أن العلماء مخصوصون بضؤولة الخطوط ولطافة الحروف، فكل (3) يشهد أني أنهض إلى المطولاته، وأقتدر على المخاطبات السلطانية، وما أنا ممن يفتخر بخدمة الزمام، ويجعلها ذريعةٍ (4) إلى الإكرام:
معاذ إلهي إنني وعشيرتي ... بنفسي عن ذاك المقام لراغب ولكنني أفتخر - عند الاضطرار إلى الافتخار - أني حامل روايات، وحافظ لغات، وذو شمائل تنسب إلى مكرمات، وما تطارحت قط على زاهدٍ في، ولا أظهرت حرصاً على غير حريصٍ عليّ، بل كنت أقابل الإباء بنظيره، وأظهر الاستغناء بظهيره، وأنشد:
ولست بساقطٍ في قدر قومٍ ... وإن كرموا، كما يقع الذباب
ورائي مذهب عن كل ناءٍ ... بجانيه إذا عز الذاب ولست أضرب المثل في سقوطي عليك، وانجذابي إليك، ولكني أقول:
__________
(1) د: أسمعه؛ ط: أبد (ثم بياض) .
(2) ط: ويمازيني؛ د: ويماريني.
(3) م س: وكل.
(4) ذريعة: سقطت من ط: وفي م: ضريعة.(4/580)
إني أسقط (1) سقوط الطل على الرياض، وأتزين بخدمتك تزين الجمال بالبياض:
وله فصل في صفة القلم: بخط اليراعة، ينال حظ البراعة، وأفضل أقلام الكتاب، المنتخبة للكتاب، ما لم يكن في طوله تعوج، ولا في صلابته ترجج، وكانت خصوصية العنصر الذي نماه، وسجية المنبت الذي إليه منتماه، قد أخذت به ما بين الدقة المتناهية التي لا تستحسن، والغلظ المفرط الذي يستخشن، وأقرته (2) على المقدار الذي لا يقع اختيار الكاتب على سواه، ولا يتعداه اقتراحه ولا يتخطاه، ثم انتحى بريه ذو يمينٍ رفيقة، وسكين رقيقة، فأجاد الشق وأحكم القط، وجاء به غير شاق ولا عاق (3) ، سلس الجريان إذا أرسل، موافقاً للبنان إذا أعمل، معطياً (4) لقيادة، غير بخيل بمداده، تتبناه الأنامل فترأمه، [109أ] وتواصل العمل به فلا تسأمه.
قال ابن بسام: ومن البدايع في وصف القلم ما حكاه العتابي عن نفسه قال (5) : سألني الأصمعي فقال: أي الأنابيب أصلح للكتابة وعليها أصبر - قلت: ما نشف بالهجير (6) ماؤه، وستر (7) عن تلويحه غشاؤه، من التبرية
__________
(1) إني أسقط: زيادة من م س.
(2) م س: وأقربه.
(3) ط: شان ولا عان.
(4) ط د: معط.
(5) زهر الآداب: 619.
(6) س م: في الهجير.
(7) زهر: وسيره.(4/581)
القشور، الدرية الظهور، الفضية الكسور؛ قال: فأي نوعٍ من البري أكتب وأصوب - قلت: البرية المستوية القط، عن يمين سنها برية تأمن معها المجة عن المط، الهواء في مشقها فتيق، والريح في جوفها خريق، والمداد في خرطومها رقيق. قال: فبقي الأصمعي شاخصاً إلي ضاحكاً لا يحير مسألة ولا جواباً (1) :
وهذه أيضاً (2) قطعة من شعره
قال يتغزل (3) :
أملي من الدنيا تيسر خلوةٍ ... أبكي بها وأبث سر هواك
حولي وحولك أعين ومسامع ... (4) أخفي الهوى عنهن عند لقاك
حذراً عليك فديت بي ومخافةً ... أن يقصروك (5) ويحجبوا مرآك (6)
لولا الحياء وأن تشيع سريرتي ... لنثرت (7) شمل الدمع حين أراك ومن شعره الطيار المليح، المتناهي في خفة الروح، قوله (8) :
__________
(1) لا يحير ... جواباً: سقط من م س.
(2) أيضاً: سقطت من م س.
(3) انظر المغرب 1: 397.
(4) المغرب: إذ ألقاك.
(5) س: يبصروك.
(6) ط د: مأواك.
(7) المغرب: بددت.
(8) البيتان في المغرب، وقد وردا في الذخيرة 3: 490 ونسبهما صاحب الذخيرة له هنالك أيضاً، وصرح ابن سعيد بأنهما قد ينسبان أيضاً لأبي محمد ابن سارة.(4/582)
أسنى ليالي الدهر عندي ليلة ... لم أخل فيها الكأس من إعمال
فرقت فيها بين جفني والكرى ... وجمعت بين القرط والخلخال وقوله:
للحسن في خلق من أهوى خلائقه ... روض بهي بسيف اللحظ محمي
فالجيد سوسنة والعين نرجسة ... والخد ورد وذاك الخال خيري وقال:
لله ما صنع الحياء بصفحةٍ ... لم تبق عندي للتجلد مذهبا
كان البياض بها لجيناً خالصاً ... فأحاله فغدا (1) لجيناً مذهبا وقال:
أبدي الحبيب تعجباً من طول مك - ... ث الورد عندي عندما أهداه
لم يدر أن دوامه في منزلي ... من أجل أن مدامعي سقياه وقال:
وصافية كمعتقد الصديق ... لها في الكأس إيماض البروق
كأن بكأسها ما (2) تشتكيه ... قلوب العاشقين من الحريق
إذا قبضت يد الساقي عليها ... (3) رأيت له أنامل من عقيق
شربت وصاحبي عذب الثنايا ... يعللني لماه على الرحيق
__________
(1) د: فقدي.
(2) م س: تشتهيه.
(3) ط: عقوق.(4/583)
وقال:
وصهباء لم تمسس بنارٍ ولم تذل ... بعصرٍ ولم (1) توهن قواها (2) بماء
لحاني عليها من لحا فزجرته ... وقلت له: مه لست من قرنائي
سأشربها ما سوغ الدهر شربها ... وعفو إله العالمين ورائي ومما أبهم فيه، وإنما يكنى عن قدح فخار مزفت (3) قد اتخذ للمشروب:
خل إذا قل المجيبون لم يزل ... إلى كل ما أدعو إليه مجيبي
غدوت أخا التوفيق لما اتخذته ... أديب السجايا وفق كل أديب
تخيرته من نجر آدم خالصاً ... فكان أخي في نجره ونسيبي [109ب] وله يمازح بعض إخوانه:
خذ ما أتاك من الزمان ولا تطل ... في إثر ما قد فاتك البرحاء
ماذا ترى في فلذةٍ (4) رشراشة ... ورقاقةٍ ورقيقةٍ (5) صفراء
إن كان عندك ما ذكرنا كله ... وبعث فينا لم تخف إبطاء وقال:
ألا يا خير من يبغى نداه ... ويسعى نحو منزله ويمشي
تحن إلى بنات البحر نفسي ... وأكره أن تموت لدي عطشى
__________
(1) ط د: ولا.
(2) اقرأ الألف الأخيرة من " قواها " بالقصر.
(3) مزفت: زيادة من م س.
(4) س م: بلدة.
(5) م: ورفيقة؛ س: وفريقة.(4/584)
وله يفتخر من كلمة طويلة (1) :
خليلي ليس المجد إلا لعالم ... على كل مجهول من العلم قائم
أخو العلم حيث احتل أضحى مكرما ... ولا سيما إن حل بين الأكارم
وذو الجهل معدود (2) ، وإن كان سيداً ... طرير الكسا، في مهملات البهائم
وإني لممن فاز بالعلم قدحه ... وممن له فيه اشتهار المعالم
ولي قلم قد شرف الله شأنه ... بصنعة وشاءٍ على الماء راقم
خليلي ليس الخط ما قد عنيته ... وإن كنت مشغوفاً به (3) جد هائم
ولكنه لفظ إذا ما وشيته ... تحير فيه كل واش وواشيم
بلى إن خطي فيه ضعف وإنما ... أقامته ألفاظي مقام التمائم
إذا شئت نثراً كنت أنثر ناثرٍ ... وإن شئت نظماً كنت أنظم ناظم ومنها:
تكلفني الحوباء لا در (4) درهماً ... سماح البهاليل الكرام الخضارم
تقول أحب ذا قربى وصل ذا وسيلة ... وقم بالحقوق الواجبات اللوازم
أما إنني لو نلت أيسر (5) نزرةٍ ... لكانت لكفي بسطة في المكارم
فآهٍ (6) لعصرٍ مثل أهليه جاهلٍ ... ودهرٍ لأبناء المروءة (7) ظالم
__________
(1) منها أبيات ثلاثة في الغيث المسجم 1: 137.
(2) هامش ط: معدوم.
(3) به: لم ترد في ط؛ د: على.
(4) م س: لله درها.
(5) الغيث: يسرة.
(6) الغيث: فآهاً.
(7) م: المودة.(4/585)
وله من أخرى يصف شروط المروءة ومكارم الأخلاق (1) :
أحب من الأقوام كل (2) نجيب ... شريفٍ زكي الوالدين حسيب
وإني لذو علم صحيحٍ يقينه ... بأن صديق الصدق غير غريب
ومن خلقي أني إذا ما وجدته ... شددت عليه منه كف رغيب
وإن نصيب الجار عند احتياجه ... إلى العون في مالي لمثل (3) نصيبي
وإن بعيد القوم ينزل ساحتي ... ويأوي إلى ركني لمثل قريب
أهين له مالي وأحفظ ماله ... وآتيه من بري (4) بكل عجيب
وألقى الخطوب السود في الذب دونه ... لقاء أخي صدرٍ لهن رحيب
وجدك لو كان الزمان مساعدي ... وكان الذي في راحتي يفي بي
لألفيتني جم الفضائل منعماً ... كثيراً إلى الفعل الجميل هبوبي [110أ]
تجود يدي قبل السؤال وتمتري ... طلوب الندى جدواي غير طلوب
لحا الله وهاباً بطيئاً حباؤه ... يجيء الذي يعطيه بعد لغوب
ولكن وهاباً يهب إلى الندى ... كما هب عضب في يمين ضروب
يحاذر (5) أحداث الليالي وقلما ... خلا من توقيهن قلب لبيب
ويرتاب (6) بالأيام عند سكونها ... وما ارتاب بالأيام غير أريب
وما الدهر في حال السكون بساكن ... ولكنه مستجمع لوثوب
لقد عاين الأيام من خاف غدرها ... بعيني بصيرٍ بالأموال طبيب
__________
(1) منها ثلاثة أبيات في الغيث المسجم 2: 198.
(2) ط د: محيب.
(3) ط د: بمثل.
(4) م: مالي.
(5) الغيث: تحاذر؛ م: يحادث.
(6) الغيث: وترتاب.(4/586)
وقال في مثل ذلك:
حبيب إلى الدهر إعطاء سائلي ... وإكرام قصادي وعون خليلي
أهز طباعي بل طباعي تهزني ... إلى الجود لا أرضى طباع بخيل
وراح كما افتر الصباح سبأتها ... لطارق ليل ما علي جليل
نضوتبها عنه جلابيب ليله ... فعوض من تعريسه بمقيل
وما زلت أسقيه وأشرب فضله ... وكأس الكريم الفضل ذات فضول
إلى أن تناهى طيبه ونعيمه ... ومالت به الصهباء كل مميل
فوطأت مثوى جنبه وكننته ... بضاف لصنبر الشتاء قتول
وقلت له لما تعاظم عنده ... صنيعي به، هذا أقل قليل
حللت بنا ليلا وقد قسم القرى ... فلم يبق منه مقنع لأكيل
أقم عندنا تستوف ما أنت أهله ... فأنت لدينا أهل كل جميل
وإني لممن تعتريه كآبة ... إذا آذنت أضيافه برحيل وهذا من حر الكلام، وجزل النظام، وسجية حاتمية، وشنشنة أعرابية، وإنما احتذى أبو الحسن في هذا قول أبي عامر بن شهيد القرطبي في أبيات، وقد تقدم إنشادها، أولها (1) :
ولما رأيت الليل عسكر قره ... وهبت له ريحان تلتطمان
__________
(1) الذخيرة، القسم الأول: 311 وديوان ابن شهيد: 163 وجواب " لما " قوله:
رفعت الساري الليل نارين فارتأى ... شعاعين تحت النجم يلتقيان وسائر القصيدة في الحفاوة بالضيف على نسق شبيه بما أتى به الشنتمري.(4/587)
فصل في ذكر الوزير أبي الحكم عمرو بن مذحج
وأبي الوليد ابن عمه، ابني حزم، وإيراد بعض ما لهما من ملح النظم
وأبو الحكم (1) منهما في وقتنا شقيق الوفاء، وخاتمة من حمل هذا الاسم من النجباء، وكان نادرة الوقت لمن اتخذ قبلة، وحجة على من جعل النقصان جبلة، إذ عن كل قوس من الفخر نزع (2) ، وفي كل أفق من علو القدر طلع، أول ما نشأ بدر فلك، ومسحة ملك، وإكليلا على جبين ملك، قلما عن لنظر إلا راقه، ولا اختلج ذكره في قلب بشر إلا شاقه؛ وإياه يعني الوزير أبو الحسن بن سعيد البطليوسي [110 ب] وقد غلب على لبه، وأخذ بمجامع قلبه، عجبا منه أو عجبا به (3) :
رأى صاحبي عمرا فكلف وصفه ... وحملني من ذاك ما ليس في الطوق
فقلت له عمرو كعمرو فقال لي ... صدقت ولكن ذاك شب عن الطوق وفيه أيضاً يقول الوزير أبو محمد بن عبدون من جملة أبيات (4) :
__________
(1) ترجمة أبي الحكم عمرو بن مذحج بن حزم الاشبيلي في المغرب 1: 238 والمسالك 11: 432 وله شعر في النفح 3: 471.
(2) نزع: سقطت من ط د.
(3) انظر نفح الطيب 1: 363، 3: 470 والمغرب والمسالك؛ وفي س م أنه أبو الحسن ابن السيد، وهو خطأ، لأن ابن السيد كنيته أبو محمد، وأما ابن سعيد هذا فترجمته تجيء في هذا القسم من الذخيرة.
(4) نفح الطيب 3: 470.(4/588)
يا عمرو رد على الصدور قلوبها ... من غير تقطيع ولا تحريق
وزر الثريا وهي نحن بكوكب ... لولا العقوق لقلت بالعيوق
وأدر علينا من خلالك أوكؤسا ... لم تأل تسكرنا بغير رحيق فيه أيضاً يقول أحدهما (1) :
قل لعمرو بن مذحج ... خاب ما كنت أرتجي
شارب من زبرجد ... ولمى من بنفسج فلما هم ليله بنهاره، ودب على سيف وجنته فرند عذاره، راع المجد بحزم وكرم (2) ، ونبوة (3) وسيف وقلم، ممن سارى نجوم الليل. واحتل (4) صهوات الخيل، وعلى ذلك كله فلم ينس مكارم الأخلاق. ولا خلا ذكره من قلوب العشاق؛ وله في الأدب سبق سلف. ومنه بيت شرف، وله شعر مطبوع قلما يغبه البديع، وقد أتيت منه بفصول، تشهد له بالتفصيل (5) .
__________
(1) نفح الطيب 3: 470 والمسالك ونسبهما العمري لابن عبدون.
(2) س ط د والمسالك: بحر كرم، وأثبت ما في المغرب.
(3) ط س: وأسوة؛ والمسالك: وأسرة.
(4) ط د: وأصل، وبهامش ط: لعله: وأصهل؛ المغرب: وتقلب في؛ س والمسالك: وأمل.
(5) وفيه أيضاً يقول الوزير ... بالتفصيل: سقط من م وحدها.(4/589)
جملة من شعره في أوصاف شتى
كتب إليه الوزير أبو محمد عبدون بأبيات قال فيها (1) :
سلام كما هبت من الحزن نفحة ... تنفس قبل (2) الفجر في وجهها الزهر
من (3) الوارف الفينان وشت بروده ... (4) ذراع من الليث. الثريا له شبر
وإلا يد حزمية مذحجية ... تقشع عنها مذحج فانهمى عمرو
فجاد على تلك الأجارع والربى ... رواعده وعد وبارقه بشر
أبا حكم أبلغ سلام فمي يدي ... أبي حسن وارفق (5) فكلتاهما بحر
ولا تنس يمناك التي (6) هي والندى ... رضيعاً لبان لا اللجين ولا التبر فراجعه أبو الحكم بأبيات منها (7) :
أتى النظم كالنظم الذي تزدهي به ... عروس من الجوزاء إكليلها البدر
تحلت (8) لنا منه بخطك رقعة ... هي الروضة الغناء كللها الزهر
__________
(1) النفح 3: 480 - 471.
(2) النفح: عند.
(3) ط: الوافر.
(4) م: الميث؛ ط: ستر.
(5) ط د: وارقني.
(6) م: ولا تنس لي تلك التي.
(7) انظر النفح 3: 471 والمسالك 11: 432 - 433 والمغرب 1: 238.
(8) ط م: تحلت.(4/590)
تحير ذهني في مجاري صفاته ... فلم أدر شعر ما به فهت أم سحر
فإن قلت شعر فالقلوب شعاره ... وإن قلت سحر فهو سحر ولا كفر
أرى الدهر أعطاك التقدم في العلا ... وإن كان قد أوفى أخيراً بك الدهر
لئن حازت الدنيا بك الفضل آخراً ... ففي أخريات الليل ينبلج الفجر قول أبي محمد: " ... أبلغ سلام فمي يدي " ... معنى قدر كرره في مواضع من شعره كقوله في المتوكل:
إن كنت من أصلي ومن عصبي ... أو كنت من فرع نأى ومجد
بلغ سلام فمي يدي ملك ... (1) غاب الملوك عن العلا وشهد وحسان بن المصيصي القائل من شعره قد تقدم إنشاده (2) : [111أ]
ومن بلغ يده أني نظمت لها ... شكراً جعلت قوافيه من القبل وقال أبو الحكم في صديق كان له به هوى يسمى باسمه:
يا من شكا فشكا جسمي بشكواه ... الله يكلأني فيه ويرعاه
ويا ضنى جسدي بالله صل جسدي ... وخل عنه ولا تلمم بمثواه
عمرو بعمرو ولكن في محتمل ... لما تجشمه من برح بلواه
الحمد لله حتى السقن نافسني ... فيه فأضحى كما أهواه يهواه
عين الكمال أصابتني ولي كبد ... مصدوعة فيه إن لم يدفع الله
__________
(1) ورد البيت في هذا القسم: 442.
(2) انظر ما تقدم ص: 439.(4/591)
وله فيه وقد سقط عن دابته ووثئت رجله (1) :
لقد أسرعت فيك العيون وإنما ... جميل دفاع الله عنك التمائم
وما أنت إلا البدر طارت بسرجه ... عقاب لها الريح (2) الخريق قوادم
ولا غرو أن طافت برجلك وثأة ... (3) لها المجد خفاق الجناحين حائم
فقد ترجف الأفلاك في دورانها ... وتنقض أعلام النجوم العواتم وكتب إلى الوزير أبي محمد بن عبدون (4) :
زرني فديتك يا زعيم الناس ... لترى بدوراً من كبار أناس
أنت الهزبر وهم جآذر جاسمٍ ... قد خيموا من منزلي بكناس
من كل من أثوابه مزرورة ... منه بغصن البانة المياس
يا راضعاً در المكارم قف بنا ... " ما في وقوفك ساعةً من باس (5) وله في عمرو المتقدم الذكر:
يا عمرو إنك لعبة (6) من سكر ... فإذا مررت بسكر فتذكر
ما شان وجهك نمشة في صفحة ... فبذاك يوصف كل بدر أزهر
يحمر أحياناً فأحسب أنه ... ورد ينقط صفحه بالعنبر
__________
(1) انظر المغرب 1: 238.
(2) ط د: الجو.
(3) ط د: قائم.
(4) المسالك 11: 433.
(5) صدر بيت لأبي تمام (ديوانه 2: 242) وعجزه: نقضي ذمام الأربع الأدراس.
(6) ط: في.(4/592)
أضمرت فيك صبابتي فوشى بها ... دمع فككت به صحيفة مضمر
من ذا يفرق بيننا وجلالنا ... متكافئ في المنتمى والعنصر وكتب إلى الوزير أبي العلاء بن زهر:
يا من نضا العزم منه صارماً خذ ما ... توشح المرعفين السيف والقلما
افرش (1) بمغدى ومسرى حر أوجهنا ... وبعدها فانتعل أبصارنا أدما
وما بأنفسنا بخل عليك فقد ... سارت أمامك تعدو البعد والأمما
أبا العلاء ابن للعليا تشيد ما ... (2) أضاع منه بنو التضييع فانهدما
لا زال شملك في ورد وفي صدر ... على اقتراح المعالي فيك منتظما وله فيه (3) :
ضع الرحل في حمص بأيمن طائر ... ووال اصطناع الخير فيها وظاهر
فما هو إلا السرو بين موارد ... تصاحبه طول المدى ومصادر [111ب]
لعمر العلا لولا (4) أبوها وذكره ... لما شاقني برق ببرقة صادر
ولا بت والظلماء إثمد مقلتي ... يؤرقها بيض النجوم الزواهر
وهبت فؤادي للبشير بأوبه ... سليماً ولم أنجل عليه بناظري
وأصغر بموهوب وإن جل قدره ... يقضي به الأحرار حق الأكابر
وإني وإعظامي لسؤدده الذي ... يعظمه أهل النهى والبصائر
لألحى الليالي إنهن قعدن بي ... وألحقن جدي بالجدود العواثر
__________
(1) د: اسرف.
(2) لم يرد البيت في ط د.
(3) منها ثلاثة أبيات في المسالك 11: 433.
(4) م: أبوه.(4/593)
فلو نهضت بي قدرة لهززت في ... نهوضي إلى العليا قوادم طائر
وما لي مركوب سوى رجلي التي ... تقيدها أيدي السحاب المواطر
غمام عداني عن غمام كلاهما ... ثناني غريقاً في البحور الزواخر وله فيه:
متى تجلى ابن زهر نواضري ... (1) محياً مصوغاً من حياً وحياء
فقد دويت شوقاً إليك جوانحي ... وفي يد لقياه مسيح شفاء
وأعجب مني كيف أصبحت جار من ... حياتي بكفيه ومت بدائي وله (2) :
قدمت علينا والزمان جديد ... وما زلت تبدي في الندى وتعيد
وعيش (3) العلا لولا مراتبك العلى ... لما اخضر في أفق المكارم عود
فيا ناهضاً والجد والجَد صحبه ... بحيث كبا للمنخرين حسود
لقيت أمير المسلمين وظله ... عليك بما تهوى لديه يزيد
فقم بالمعالي واستقل بملكها ... فأنت بملك العالمين قعيد
ولو حوا بني زخر فإن وجوهكم ... نجوم بأفلاك العلا وسعود وله فيه (4) :
__________
(1) ط د: وحباء.
(2) منها ثلاثة أبيات في النفح 3: 471.
(3) النفح: وحق.
(4) منها بيتان في المغرب 1: 239.(4/594)
يا جالياً وجه (1) السعادة واضحا ... ومقلباً طرف النباهة طامحا
صير مجنك صفحتي قمر الدجى ... وسنان رايتك السماك الرامحا
الله يعلم أن بين جوانحي ... قلباً إليك مدى الليالي جانحا
دم للعلاء أبا العلاء مصاحباً ... واقتد زمانك سامحاً لا مجامحا وله فيه وقد جاز البحر معه، فقال (2) :
يا ابن زهر طأ الثريا عبيراً ... وحصى البيد لؤلؤاً وعقيقا
وتلق الهواء وهو طليق ... كمحياك حين تلقى الصديقا
وما ترى الريح كيف هبت رخاء ... لك بعد الهبوب ريحاً خريقا
وضحى البحر هيبةً لك لما ... جئته سالكاً عليه طريقا
غمرته من راحتيك بحار ... صاح من موجها (3) الغريق الغريقا
فرق اللج منك حتى استطارت ... منه أحشاؤه فريقاً فريقا
جزه يا ابن الكرام أرضاً ذلولاً ... أو فقده إن شئت طرفاً عتيقا [112أ]
وانتض الحزم حيث كنت حساماً ... واصحب النجح حيث كنت رفيقا
وتفيأ علاك ظلاً ظليلاً ... وتنشق ذكراك مسكاً فيتقا وكتب إلى أبي الوليد ابن عمه، فقال (4) :
إني لأعجب أن يدنو بنا وطن ... ولا يقضى من اللقيا لنا وطر
__________
(1) م: السيادة.
(2) فقال: زيادة من م س؛ وانظر المسالك 11: 433.
(3) المسالك؛ من بعدها؛ م: وجهها.
(4) فقال: زيادة من م س؛ ومنها بيتان في المسالك وثلاثة في النفح.(4/595)
لا غرو أن بعدت دار مصاقبة ... بنا وجد بنا في الحضرة (1) السفر
فمحجر العين لا يلقاه ناظرها ... وقد توسع في الدنيا به النظر
صبراً جميلاً وإن أبدى الزمان لنا ... غير الجميل فإنا معشر صبر
وبيننا فقر يجري المزاح بها ... كالغنج في أعين مرضى بها حور
نثراً ونظماً من الآداب بينهما ... سحر البلاغة منظوم ومنثر بيته الثالث من هذه يتطرف قول الآخر:
كم والد يحرم أولاده ... وخيره يحظى به الأبعد
كالعين لا تبصر ما حولها ... ولحظها يدرك ما يبعد وكقول الآخر أيضاً:
كتجاور العينين لا يتلاقيا ... أبداً وبينهما قصير جدار (2) ومن جواب أبي الوليد له (3) :
لبيك لبيك أنت السمع والبصر ... وإن أتت دونك الأحداث والغير
إيه أبا حكم فالود مقترب ... وإن تباعدت الأشخاص والصور
لا عتب فالود يمحو ما أتيت به ... حسبي من الذنب تجنيه وأعتذر
ينبو لساني عن عتب الصديق وما ... أزرى بغربيه لا عي ولا حصر
__________
(1) النفح: للحضرة.
(2) م: قصيد حداد.
(3) انظر المسالك 11: 433 - 434.(4/596)
ضنانة (1) بخليلٍ أن أفارقه ... ما القوس إن لك يكن يوماً لها وتر
أراع سربك يا ابن العم أن درست ... سبل الوفاء فلا عين ولا أثر
إن يرفع الدهر يوماً من خسيستهم ... وحط منا ونحن الأنجم الزهر
فالدهر كالبحر تطفو فوقه جيف ... وتستقر بأقصى قعره الدرر وقدم أبو الحكم من بعض أسفاره. فكتبت إليه أنا بأبيات منها (2) :
يهني قدومك كلاً يا أبا الحكم ... يا دوحة العلم والآداب والحكم
مذ غبت ما رنقت عيني إلى سنةٍ ... يا عمرو إلا لكي ألقاك في الحلم
إن كنت من تغلب في بيت سؤددها ... وكنت من مذحج في السؤدد العمم
فلم يضرنا تنائي النسبتين وقد ... رحنا نسيبين في علم وفي فهم
والعذر في زمنٍ أن جئت في أممٍ ... لا الجليل جيلك فاعذرهم ولا تلم في أبيات غيره هذه. وعاتبت فيها بعض إخوانه. فراجعني بأبيات منها قوله (3) : [112ب]
يا من تناول حر اللفظ من أمم ... بذي غرارين مثل الصارم الخذم
لو أن لفظك تهديه إلى حجر ... لما استجيز عليه الوصف بالصمم
هذي جوارح جسمي كلها أذن ... مذ جاء (4) منك بأني لؤلؤ الكلم
حاشا لنبلك أن تخفى معالمه ... وهن أشهر من نارٍ على علم
__________
(1) م س والمسالك: بخليلي.
(2) المسالك 11: 434.
(3) المصدر نفسه.
(4) المسالك: جاز.(4/597)
إن كان للنبل عرنين تدل به ... حسناً فأنت به أبهى من الشمم
اردد أنوف الليالي وهي راغمة ... ما لم تكن لك في الإذعان كالخدم
من تغلب أنت في علياء مركزها ... فمن يباريك في مجد وفي كرم
قوم أراد ابن هند أن يضيمهم ... فأوطأوا الرأس منه أخمص القدم
مآثر قسمت بين الورى وغدا ... للتغلبيين منها أوفر القسم
ريت نفثة مصدورٍ بعثت بها ... مني إلى متلظي الصدر محتدم
لم تفض مني بالشكوى إلى طلل ... ولم تبت عاكفاً مني على صنم
سافر بطرفٍ أو انظر هل ترى يقظاً ... يحل من طلب الأيام في حرم
حوادث لم تزل (1) بالحر لاعبةً ... كما تلاعت الأيسار بالزلم
وبيننا قربة ليست أواصرها ... ما بين آدابنا مجفوة الرحم ومن أبناء هذه القبيلة، وشعراء هذه البيتة الأصلية،
ابن عمه أبو الوليد محمد بن يحيى بن حزم (2)
أحد أعيان أهل (3) الأدب، وأجلى الناس شعراً لا سيما إذا عاتب (4) أو عتب، جعل هذا الغرض هجيراه، فقلما يتجاوزه إلى سواه، وكلما أبدأ فيه وأعاد، أحسن ما شاء وأجاد، وفي كل معنى يحسن،
__________
(1) م س: بالمرء.
(2) انظر ترجمته في المغرب 1: 239 والمسالك 11: 434 ونفح الطيب 3: 472.
(3) أهل: سقطت من م.
(4) م: عابث.(4/598)
أكثر ما يمكن، ولكن رأيته في باب (1) العتاب يعلن بأمره، ويعرب عن ذات صدره. وقد أجريت من شعره في هذا المعنى وسواه. ما يصرح عن مغزاه، ويشهد على بعد مداه.
جملة من شعره في أوصاف شتى
في النسيب وما يناسبه
قال (2) :
أتجزع من دمعي وأنت أسلته ... ومن نار أحشائي ومنك (3) لهيبها
وتزعم أن النفس غيرك علقت ... وأنت ولا من عليك حبيبها
إذا طلعت شمس علي بسلوة ... أثار الهوى بين الضلوع غروبها وهذا البيت الأخير ينظر إلى قول مجنون بني عامر (4) :
نهاري نهار الناس حتى إذا دنا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع وقال أبو الوليد (5) : [113أ]
وطارحك الواشون عني سلوة ... مغالطةً هيهات ذاك بعيد
__________
(1) م: جواب.
(2) الأبيات في النفح ومنها اثنان في المسالك وفي معاهد التنصيص 1: 372.
(3) النفح: وأنت.
(4) ديوان المجنون: 185.
(5) منها ثلاثة أبيات في المسالك.(4/599)
وكيف سلوي عن هواك وإنه ... ليبلى فؤادي وهو فيك (1) جديد
إذا ما ثناه الناس عنك لوت به ... علائق حب فيك ليس تبيد
بلى إن عرتني (2) فترة الصبر هزني ... تذكر أيامي بكم فأعود وقال وهي من حسنات شعره، وآيات ذكره (3) :
وكم ليلة ألطفت بالمنى ... فقمت أبادر إلطافها
بشمس (4) إذا ما تأملتها ... رددت على الشمس أوصافها
بفترة (5) لحظ كأن الكرى ... أعان عليها وإن خافها
وإني وإن عفتها معلناً ... لأعذل في السر من عافها
وهبت علينا صباً رطبة ... وقد عابث الطل أعطافها
وقد بثها الروض هجر الحيا ... (6) فجرت على النور أطرافها
وخيل الظلام أمام الصباح ... والركض قد ضم أجوافها
وقد فضض الفجر أذيالها ... وزاد فذهب أعرافها
وكاثرت البدر شمس بدت ... فمدت على الأرض أكنافها
وغاضبت السحب (7) فيها الرياح ... فصرت من الغيظ أخلافها
وذكرني بادارات الحمام ... حمائم تندب ألافها
__________
(1) م: فيه.
(2) المسالك: علتني.
(3) انظر المسالك 11: 435 ومنها بيتان في المغرب.
(4) م: وشمس.
(5) ط: لعزة؛ د: لغرة.
(6) سقط البيت من س م.
(7) ط د: الصبح.(4/600)
وقال من أخرى (1) :
كم قلت معرضاً ومصرحاً ... أكذا علقت ضلالةً بفلان
ومنيت من خلطائه بعصابة ... خلطت بها شبهاً من البهتان
هيهات لولا (2) غنج لحظ محمد ... ما كنت نهزة أعين الغزلان
ولقد بعثت على السلو لو أن لي ... قلباً يطاعوني على السلوان
فجعلت ثوب الصبر فيه بصيرةً ... وثنيت عن علم إليه عناني
ونبذت حلمي والتفت إلى الصبا ... ويد العفاف تضم من أرادني
لله أيام على وادي القرى ... سلفت لنا والدهر ذو ألوان
إذ نجتني في ظله ثمر المنى ... والطير ساجعة على الأغصان
والشمس ترمق من محاجر أرمد ... والظل يركض في النسيم الواني
والراح إذا ضرب الظلام رواقه ... وخشيت فيه طوارق الحدثان
ملنا نؤمل غير ذلك منزلاً ... والراح تقصر خطوه (3) فيداني
ويروم قول أبي الوليد وربما ... كتبت مكانه لامه الواوان (4) [113ب]
ثم احتللنا والوشاة بمعزلٍ ... وقد التقت في جفنه سننان
والبدر يرميني بمقلة حاسدٍ ... لو يستطيع لكان حيث يراني
حتى إذا نشر السرور بساطه ... وطوى بساط شكيتي لأوان
أهوى يقبل راحتي تودداً ... ويشد عقد بنانه ببناني
__________
(1) انظر المسالك أيضاً.
(2) المسالك: غنج فاتر لحظه.
(3) المسالك: خطونا.
(4) ورد البيت في القسم الأول: 309 وروايته " كتمت ".(4/601)
ويقول إشفاقاً علي ورحمةً ... متلجلج الألفاظ بعد بيان
هاك (1) اغتنمها من زمانك خلسة ... تشفي غليل فؤادك الهيمان
فثلمت فاه والتزمت عناقه ... ويد الوصال على قفا الهجران
ومرقت من ظن الأعادي عفةً ... والليل مشتمل على الكتمان وقد كرر هذا المعنى في موضع آخر فقال (2) :
فاطلع طلوع الشمس أو معها ... فيد (3) السرور على قفا الحزن
في ساعة سمح الزمان بها ... فكأنما هي لذة الوسن وقال (4) :
وكم ليلةٍ كاد الهوى يستفزني ... ولا رقبة دون الأماني ولا ستر
وفي ساعدي بدر على غصن بانةٍ ... يود مكاني بين لباته البدر
وفي لحظه كالسكر لا من مدامةٍ ... ولولا اعتراض الشك قلت هو السكر
وقد سلبته الراح سورة كبره ... ومال على عطفيه وانقطع العذر
وبين ضلوعي يعلم الله حاجة ... (5) طواها عفافي لا كما زعم الغدر
فلم يك إلا ما أباح لي التقى ... ولم يبق إلا أن تحل لي الخمر
__________
(1) م: هات.
(2) هما في المسالك 11: 436.
(3) م: بيد.
(4) منها أربعة أبيات في المسالك.
(5) سقط البيت من س.(4/602)
وله في مثله (1) :
وكم ليلةٍ (2) ظافرت في ظلها المنى ... وقد طرفت (3) من أعين الرقباء
وفي ساعدي حلو الشمائل مترف ... لعوب بيأسي تارةً ورجائي
أطارحه حلو العتاب وربما ... تغاضب فاسترضيه ببكائي
وفي لفظه (4) من سورة الكأس فترة ... تمت إلى ألحاظه بولاء
وقد عابثته الراح حتى رمت به ... لقى بين ثنيي بردتي وردائي
على حاجةٍ في النفس نلتها ... ولكن حمتني عفتي وحيائي قوله: " وفي لفظه من سورة الكأس " ... البيت، مما فتن فيه أبو الوليد فتنة لا يحسنها السامري، بل سحر سحراً لا تتعطاه الحبال ولا العصي.
وقال من أخرى:
لاح العذار فلاح عذري فيه ... (5) وسقى ومن عينيه ما يسقيه
وقضى علي ومر يسحب ذيله ... أكذا سفكت دمي ولست تديه
وفجعت سادة مذحج بزعيمها ... وأمنت من أشياعه وذويه
هيهات لو ملك القضاء سبيلها ... لثنى عنان جماحه (6) ثانيه
لكن حماك الحسن من سطواتهم ... ومن الذي ترنو فلا تصيبه [114أ]
__________
(1) انظر المسالك أيضاً.
(2) المسالك: ضافرت.
(3) م: وكم طرفت.
(4) س والمسالك: لحظه.
(5) سقط هذا البيت والذي يليه من س.
(6) ط د: حمامه.(4/603)
ولقد أتاح لك الهوى من معشري ... ما لا يكاد الدهر يطمع فيه
وهويته عذب الشمائل (1) مترفاً ... نشوان يعثر في فضول التيه
كالغصن غازلت الصبا أعطافه ... فتكاد لمحة ناظري تثنيه
أطوي الهوى شحاً عليه ورقةً ... والدهر ينشر منه ما أطويه
يجني فأضمر هجره لا عن قلى ... والحب يغفر كل ما يجنيه
ولكم صددت فعارضتني سورة ... من ورد وجنته وخمرة فيه
والبدر من حسد يجمجم قوله ... ما ضر مجدك لو شركتك فيه وقال أبو الوليد من أخرى:
وشت بهواه مقلتي ولساني ... وأتلفت فيه مهجتي وجناني
فلما تناهى الشوق واستحكم الهوى ... وقيل فلان طاعة لفلان
نأى عن مكاني حين لا لي حيلة ... وقد حل من قلبي بكل مكان
وصد على عمد ليشرك في دمي ... ولو ظفر الأعداء بي لبكاني
ومن عجب أني إذا رمت سلوةً ... وجدت هواه آخذاً بعناني
أبا قاسمٍ خذها شكاية واجدٍ ... كما وجد المقصوص للطيران وقال (2) :
أساكن قلبي والمقام كما ترى (3) ... (4) لعلك تصغي ساعةً فأقول
__________
(1) ط د م س: مترف.
(2) المغرب 1: 240.
(3) المغرب: والجوار حفيظة.
(4) سقط البيت من ط.(4/604)
أعيذك من أقوال قوم (1) وربما ... فيكم قمر غطى عليه أفول
وكم أملوا لا (2) بلغوا فيك خطةً ... وحاشاك منها والحديث يطول
ومستكشف لم يدر ما بين أضلعي ... يعرض (3) بي واللوم فيك ثقيل
فصكت (4) لساني يعلم الله سكتة ... لها في جناني زفرة وعويل
وسد طريق اللحظ دمع كأنما ... تشحط من جفني فيه قتيل وهذا البيت مما أحسن فيه، ولكن ابن الرومي زاد عليه بحسن الاستعارة والتشبيه، وهو قوله (5) :
رسم الكرى بين الجفون محيل ... عفى عليه بكاً عليك طويل
يا نظرة ما أقشعت لحظاتها ... حتى تشحط بينهن قتيل ونسب هذين البيتين صاحب " العمدة " (6) لأبي نواس.
وقوله: " فصكت لساني " البيت ... يشبه قول حبيب (7) :
ولي وقد أفحم الخطي منطقه ... بسكتةٍ تحتها الأحشاء في صخب وقال أبو الوليد من أخرى:
__________
(1) المغرب: مريبة.
(2) ط د: يبلغوا.
(3) المغرب: تعرض.
(4) المغرب: فشدت.
(5) البيتان لأبي نواس في ديوانه: 388، وكذلك نسبهما له صاحب زهر الآداب: 241.
(6) العمدة 2: 120.
(7) ديوان أبي تمام 1: 72.(4/605)
وكم معشر لاموا عليك رددتهم ... وأكبادهم غيظاً علي تذوب
ومالوا إلى رجم الظنون وبيننا ... إذا ما خلونا للعفاف رقيب
ولما بدت أشياء منك تريبني ... وأكثر فيها مخطئ ومصيب
وشاركني فيك الذين علمتهم ... ولم يك لي إلا السلو طبيب
تجافيت عن حظي لهم فيك عنوةً ... وقد يتجافى في الشيء وهو حبيب [114ب]
إذا عرضوا أوليتهم فيك سكتة ... ويعرض دمعي دونهم فيجيب وقال (1) :
لما استمالك معشر لم أرضهم ... والقول فيك كما علمت كثير
داريت دونك مهجتي فتماسكت ... من بعد ما كادت إليك تطير
فاذهب فغير جوانحي لك منزل ... واسمع فغير وفائك المشكور وقال (2) :
يقول وقد لمته في هوى ... فلان وعرضت شيئاً قليلا
أتحسدني - قلت: لا والذي ... أحلك في الحب مرعى وبيلا
فكيف وقد حل ذاك (3) الحمى ... وقد سلك الناس تلك (4) السبيلا وقال:
__________
(1) الأبيات في المغرب 1: 240 والنفح 3: 372.
(2) الأبيات في النفح 3: 472.
(3) النفح: ذاك الجناب.
(4) م س والنفح: ذاك.(4/606)
أبلغ فلاناً وإن كنت الضنين به ... قولاً تطاير من أرجائه الشرر
إني تركت الحمى عن غير مقلية ... لمعشر وردوا قبلي وما صدروا
وصنت وجه عفافي عن تبذله ... حتى سلا القلب عنه وارعوى البصر
يا أملح الناس إلا ريبةً عرضت ... تكاد من ذكرها الأحشاء تنفطر
ما الذنب عندك إلا عفة صرفت ... يد الهوى عنك إلا ما جنى النظر
وباحث عن غرامي فيك قلت له ... عني إليك فلا عين ولا أثر
ويلي عليه (1) وويحي من تبذله ... وطالما صنته لو ساعد القدر ومن شعره في العتاب
قال من كلمة (2) :
مقال يطير الجمر من جنباته ... ومن تحته قلب عليك يذوب
أحين نبذت الناس إلا علالةً ... من الحسن يدعو ناظري فيجيب
ودنت بما تهوى هدىً وضلالة ... وما الناس إلا مخطئ ومصيب
سرت لك في أفياء ظلي قولةً ... لها بين أحناء الضلوع دبيب
فهلا على حال وفيت لمن (3) وفت ... سجيته حيث الوفاء غريب
وحاشاك أن تعزى إلى المجد خطة ... تجشمه داء وأنت طبيب
ولكن أبى إلا إليك التفاتةً ... فؤاد عليه من هواك رقيب
__________
(1) م س: وويلي.
(2) بعض أبياتها في المسالك 11: 434: 437 ومنها بيت في المغرب.
(3) وفت: سقطت من م.(4/607)
وود وإن أخرتموه مقدم ... وصدر وإن أحرجتموه رحيب
وكم بيننا إن كنت تحفظ ما مضى ... إذ العيش غض والزمان قشيب
وقد قام في وجه النسيم غزيل ... تغازل عطفيه صباً وجنوب
وسد طريق الشمس بدر إذا بدا ... أهلت عيون بالهوى وقلوب
يدير علينا السحر ملء جفونه ... فكل بريء عند ذلك مريب
وتحت جناح الغيم أحشاء روضة ... بها لخفوق العاصفات ضروب
وللزهر في ضمن الرياض تبسم ... وللطير من فوق الغصون نحيب
وقد شملتنا يعلم الله عفة ... على ما ترى والعاشقون ضروب [115أ]
أما والذي أعطاك شامخة العلا ... فزل شباب عن مداك وشيب
لقد علقت كفاك مني كوكباً ... له في سماء المكرمات ثقوب
حنانيك لا تحمده بعد توقد ... فربتما عل الطلوع (1) غروب
وخذها وإن صدت قليلاً بوجهها ... ففي صدرها شوقاً إليك لهيب قوله: " وقد قام في وجه النسيم غزيل " من براعة الشعراء الحلوة؛ وأنشدت لأبي بكر بن سعيد البطليوسي (2) :
عندي (3) قطيع قهوة ... ومودتي وأبو الحسين وقال أبو الوليد من أخرى (4) :
__________
(1) س م وأصل ط: على؛ ط: الضلوع.
(2) هو أبو بكر عبد العزي بن سعيد أحد بني القبطورنة، وسترد ترجمته في هذا القسم: 753.
(3) القطيع: الزجاجة الصغيرة.
(4) منها أربعة أبيات في المسالك.(4/608)
ولقد منحتك مهجتي لبصيرة ... لاحت لقلبي في إخائك أو عمى
فلو اطلعت على فؤادي لم تجد ... إلاك فيه ما أجل وأعظما
وهوى لطيف الكشح ذا جبرية ... إلا عليك فما أحن وأرحما
كالغصن غازلت الصبا أعطافه ... نشوان يعبث بالفنوس وربما
وكأنما (1) غمر الكرى أجفانه ... فتضرجت وجناته منها دما
فكأنما (2) لبس الملاحة حلة ... ولقد خجلت لقولتي فكأنما
يروى ترابك من مدامة ريقه ... وسواك يهلك لا سواي من الظما
فلئن هممت فغير مشدود الحبى (3) ... ولئن عففت فغير ممنوع اللمى
(4) ولقد قنعت فلا قنعت بزورة ... ولقد نجوت فما نجوت مسلما
فأبحت سرح اللهو مرتاد الهوى ... ومنعت طير الوجد أن يترنما قوله: " يروى ترابك " ... البيت، ذهب إلى قول الآخر:
أتمنع ريقك المعسول عني ... وأنت على التراب به تجود إلا أن هذا زاد عليه، لبعض حاجته إليه، ولكنه والله دعا الإحسان فأسمع، وجادت نفسه، حيث يقول بعده:
وأنت لو اقتصرت عليه جدنا (5) ... ولكن قد علمنا ما تريد
__________
(1) المسالك: غمز؛ م س ط: عمر.
(2) م س: وكأنما ... وكأنما.
(3) م ط د س: الحيا.
(4) د: ولقد قنعت بزورة من طيفه.
(5) م: حرنا.(4/609)
وقوله: " ومنعت طير الوجد أن يترنما "، من لطيف الإشارة، ومليح الاستعارة. أوما به إلى الكتمان. إيماء يأخذ بمجامع البيان.
وقال من أخرى (1) :
خذها أبا العباس قولة مخلص ... إن وافقت من مسمعيك قبولا
تطغى (2) ويمنعها الحياء (3) وربما ... مال العتاب بها عليك قليلا
واضيعتا للود عند معاشر ... لا يهتدون إلى الوفاء سبيلا
فارغب بنفسك عن معاريض العدا ... لا زال دونك حدهم مفلولا
وانظر (4) فربتما ظللت وكم فتى ... (5) لعب السراب بناظريه طويلا
وأصخ فغيري من يسوءك غيبه ... وسواي من رضي الوداد عليلا
وارفق فثم وإن (6) صدرت بقية ... تأبى على رغم السلو رحيلا [115 ب]
فلطالما أجريت أجفاني دما ... وملأت أضلاعي جوى وغليلا وله من أخرى إلى أبي الحكم ابن عمه (7) :
أعمرو كم أطامنها حياءً ... فتطغيها معاتبة الأماني
وإن وقف الغرام بها قليلاً ... فعذرل أخيك في جفني فلان
__________
(1) منها أربعة أبيات في المسالك 11: 437.
(2) م س: تصغي ويحفظها؛ المسالك: ويحفظها.
(3) ط د: وإنما.
(4) ط د: فانظر.
(5) ط د: طولا.
(6) م س: صددت.
(7) منها بيتان في المسالك: 437.(4/610)
أتتني قولة هجمت فكادت ... تغل يدي وتعقد من لساني
ولم أرتب ومجدك غير أني ... كليم من مقارعة الزمان
أأرحل والنوى قذف ورحلي ... كما تدري مظاهرة الحرمان
أما رأي الأمير ولم أرجم ... ظنوني في التباعد والتداني
يعين على المكارم عاشقيها ... وإن عزت مصافاة الحسان
ويثني الدهر طوع يدي حتى ... كأن الدهر كفي أو بناني
وإن سد القضاء سبيل سعيي ... فليس جميل سعيك لي بدان فأجابه أبو الحكم بأبيات منها:
أما وعقيلةٍ لك غازلتني ... بغنج السحر من جفني فلان
لقد أهديت لي منها عروساً ... معرسها سويداء الجنان
جلت من رقة التعريض صحفاً ... أرق من الحسام الهندواني
وأخشى أن أكون لها ظلوماً ... أذا سميتها سحر البيان
بنفسي أنت قول الناس ريح ... يوافق منك ركناً من أبان
أنا لك حيث كنت أخ أمين ... إذا ما خان إخوان العيان
ألا ليت القبول غدت بسرجي ... إلى لقياك مطلقة العنان
فألمح منك أروع أريحياً ... تبوأ ذروة الحسب الهجان ولأبي الوليد إلى أبي بكر ابن عمه (1) :
__________
(1) أبو بكر محمد بن مذجح: أخو أبي الحكم عمرو، انظر المغرب 1: 239 ونفح الطيب 3: 471؛ ومنها بيتان في المسالك: 437.(4/611)
إليك وإن أصبحت عني بمعزلٍ ... وأخفق ظني في هواك ولا أدري
عتاباً كحد السيف إلا بقيةً ... عليك ولولاها لساءك ما يفري
وأعددته للدهر جنة واثقٍ ... فألقيته سيفاً علي مع الدهر
وأرسلته سهماً سديداً (1) على العدا ... فأخطأهم عمداً وعاج (2) إلى نحري
أريش ويبري أعظمي غير مقصر ... فيا ليت شعري كم أريش وكم يبري ومن جواب أبي بكر له (3) :
ولما رأى حمص استخفت بقدره ... على أنها كانت به ليلة القدر
تحمل عنها والبلاد عريضة ... كما سل من غمد الدجى صارم الفجر
فيا أيها المهدي إلى صوارماً ... من العتب يفري حدها جنن الصبر [166أ]
أفي الحق أن يحظى بقربك معشر ... قليلو الحجى ليسوا بخل ولا خمر - ومنها (4) :
ألسنا من القوم الذين (5) سموا بنا ... إلى حيث لا تسري النجوم التي تسري
فكم جعلوا عبساً يطول عبوسها ... وكم صبحوا بكراً براغية البكر وقال أبو الوليد من قصيدة (6) :
__________
(1) المسالك: إلى.
(2) س والمسالك: وعاد.
(3) منها بيتان في المسالك والنفح.
(4) ومنها: زيادة من م س.
(5) م: ملوا.
(6) البيتان في المسالك 11: 437 - 438.(4/612)
وإذا الزمان رمى إليك مسالماً ... وأمنته فأحذر من الإخوان
وسجيتي ما قد علمت وربما ... صدئ الحسام من النجيع القاني ومعنى البيت الأول كأنه يشير إلى ما قال الفقيه منصور (1) :
لو قيل لي خذ أماناً ... من حادث الأزمان
لما أخذت أماناً ... إلا من الإخوان والبيت الثاني كقول ابن الملك من شعر وقد تقدم (2) :
والعضب يستره القراب وربما ... خشنت مضاربه الرقاق من الصدا ولأبي الوليد (3) من قصيدة (4) :
حبيب إليه الورد، منهل الردى ... يسير عليه الخطب، أهونه القتل
إذا نال غايات المكارم والعلا ... فلا أسعدت سعدي ولا أجملت جمل ومنها (5) :
__________
(1) هو أبو الحسن منصور بن إسماعيل بن عمر التميمي المصري الضرير (- 306) ، وقد ذكرت ترجمته في القسم الأول: 883 والمصادر، ويمكن أن يضاف إليها معجم الأدباء 19: 185 والمغرب (قسم مصر) 1: 262 والمنتظم 6: 152 وحسن المحاضرة 1: 168 ومعجم المرزباني: 280 وجمع الجواهر: 120 - 122 ولم يرد البيتان في المصادر المذكورة هنا أو في القسم الأول.
(2) انظر ص: 454 فيما تقدم.
(3) م س: ولأبي بكر.
(4) منها بيتان في المسالك.
(5) ومنها: لم ترد في م س.(4/613)
نبذت (1) إليك الناس لا غادراً لهم ... ولا طالباً جدواك إن خيم المحل
ونكبت عن قومٍ مضوا وبودهم ... لو آن ثرى رجلي لأجفانهم كحل وهذا كقول بعض أهل عصري:
وكم رافعٍ لي بالعداوة صوته ... يود لو آني بين أضلاعه قلب ولأبي الوليد من مرثيه (2) :
بأي مقالٍ من لساني أرثيه ... وأي دموعٍ من جفوني أبكيه
وقد جل رزئي فيه حتى كأنما ... رزايا جميع الناس مجموعة فيه منها:
فروض سروري بعد يومك قد ذوى ... وعارض حزني فيك حلست عزاليه
ولو كنت أدري أين ثاري نلته ... ولو حل ما بين الكواكب جانيه ومنها:
وإن كنت أوتيت السيادة ناشئاً ... فذلك فضل الله من شاء يؤتيه
وما باختياري عشت بعدك ساعةً ... (3) فلي أجل يفني سوادي وأفنيه
فيا قبره ماذا تجن من العلا ... ويا يومه ماذا نعي فيك ناعيه وله مما كتب على قوسٍ وأخبر عنها:
__________
(1) ط د: تبدت.
(2) منها بيتان في المغرب 1: 240.
(3) الشطر الثاني من هذا البيت اقترن مع الشطر الأول من البيت السابق في ط د.(4/614)
إنا إذا رفعت سماء عجاجةٍ ... والحرب تقعد بالردى وتقوم
وتمرد الأبطال في جنباتها ... والوت من فوق النفوس يحوم
مرقت لهم منا الحتوف كأنما ... نحن الأهلة والسهام رجوم
ولكم دمٍ عز القضاء وروده ... فروين منه والعوالي هيم في ذكر الأديب أبي بكر يحيى بن بقي (1)
وإثبات جملة من سري نظامه، وحر كلامه
[116ب] وأبو بكر في وقتنا هذا على صغر سنه شهاب فهم ونبل قلما يخلو شعره من بديع، وأخرجته فتنة طليطلة - جبرها الله - الآتي خبرها في القسم الرابع من هذا المجموع، ولما يسطع بعد ضوءه، ولا نشأ نوءه، فاحتل اشبيلية، فمن ثم شرق وغرب، وأحزن ذكره في البلاد وأسهب، ولذلك نسقته في دررها، وأثبته أثناء حجولها وغررها؛ وقد أخرجت من شعره ايشهد بما أجريت من ذكره، ويبرأ من الإطراء، ويري أني ربما قصرت في الثناء.
__________
(1) أبو بكر يحيى بن محمد بن عبد الرحمن بن بقي (وعند السلفي يحيى بن حكم بن بقي وعند ابن الأبار يحيى بن أحمد) الشاعر الوشاح، سر قسطي النسب (وقيل طليلطي) اشبيلي الأدب، سلوي النشب، وادياشي العطب، أي أن أصله من سرقسطة (أو طليطلة) وتأدب باشبيلية، وأكتسب المال بمدينة سلا، وتوفي بوادي آش سنة 540 (أو 545) ؛ قيل إن له ما ينيف على ثلاثة آلاف موشحة ومثلها قصائد ومقطعات، وله مدائح كثيرة في بني عشرة أعيان سلا (انظر ترجمته في القلائد: 279 وعند وعن المطمح ترجمة منقولة في نفح الطيب 4: 236 - 240؛ ووفيات الأعيان 6: 202 والسلفي: 50 - 51 ومعجم الأدباء 20: 21 والمسالك 11: 280 والخريدو 2: 308 ونفح الطيب 3: 209، 347، 404، 439، 448، 4: 13، 155، والمطرب: 198 وله موشحات في دار الطراز وجيش التوشيح.)(4/615)
جملة من شعره في أوصاف شتى
استهدى من بعض إخوانه أقلاماً، فبعث إليه منها بثلاث من القصب، وكتب معها إليه:
خذها إليك أبا بكر العلا قصباً ... كأنما صاغها الصواغ من ورقة
يزهى بها الطرس حسناً ما نثرت بها ... (1) مسك المداد على الكافور ن ورقه فأجابه أبو بكر بأبيات منها قوله:
أرسلت نحوي من قناً سلب ... منآدةٍ تطعن القرطاس في درقه
فالحظ ينكرها والخط يعرفه ... والرق يخدمها بالرق في عنقه فكأن بعض من حضر سماع شعره حسده عليه، ونسب الانتحال إليه، فقال أبو بكر يخاطب صاحبه الأول من جملة أبيات:
وجاهلٍ نسب الدعوى إلى كلمي ... لما رماه بنبل النبل في حدقه
فقلت من حنقٍ لما تعرض لي ... من ذا الذي أخرج اليربوع من نفقه
ما ذم شعري وأيم الله لي قسم ... إلا امرؤ ليست الأشعار من طرقه
الشعر يشهد أني من كواكبه ... بل الصباح الذي يستن في أفقه وله من كلمة في الوزير أبي العلاء (2) :
__________
(1) لم يرد هذا البيت في ط د.
(2) يعني أبا العلاء ابن زهر، الذي تقدمت ترجمته ص: 218.(4/616)
علقتها من ربرب العفر ... (1) لكنها عربية النجر
لا تلتمحها ربما سلبت ... منك الفؤاد وأنت لا تدري
واذهب بشأنك إن مقلتها ... سقيت (2) ببابل قهوة السحر
سل بالعيون فتىً أصيب بها ... مثلى لتعلم صحة الأمر
هن السيوف من الردى طبعت ... تبري القلوب وقلما تبري ومن المدح:
ن جده كعب بن مامة قد ... حاز الندى بالطي والنشر
هو آثر النمري صاحبه ... بالماء في دوية القفر
واساه حتى مات من ظمأ ... ثم انطوى والجود في قبر
وأراك يا زهر اقتديت به ... في صبره ونواله الغمر
زهر الكواكب كلها شهدت ... أن السيادة في بني زهر
ذر حاتماً يشجي بكعبكم ... وافخر بدعمي (3) على عمرو
وافخر بنفسك لست دونهم ... ولئن سكت (4) فخيفة الكبر وله من أخرى (فيه) :
افخر على الناس ملء الأرض من شممٍ ... ألعز أقعس والآباء أنجاد [117أ]
هل يستوي الناس قالوا كلنا بشر ... فالمندل الرطب والطرفاء أعواد
__________
(1) بعد هذا البيت في م س: ومنها.
(2) سقيت: سقطت من ط د.
(3) دعمي الذي يعنيه هنا من إباد قبيلة كعب بن مامة وهو أخو زهر القديم (انظر كاسكل 1: 174) .
(4) ط م س: سكنت.(4/617)
وهذا يشبه قول أبي الطيب (1) :
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال وقال الحصري:
أبا بكر أن أصبحت بعض لوكهم ... فإن الليالي بعضها ليلة القدر ومنها:
يا زهر زهر إياد لا كما زعمت ... زهر النجوم فما للصيد أنداد
حقاً سلكت إلينا كل موحشةٍ ... تيهاء ساكنها ظبي وفياد
يجيب فيها الصدى من ليس يسأله ... ويقتل الجوع فيها من له زاد
وينضب الماء وهو الجم مورده ... [ ... ] (2) الرمل رملاً وهو أعقاد
والمرو في الحرة والرجلاء قد حميت ... كأنهن من العشاق أكباد
من شر ما طرق الأقوام من نوبٍ ... وخير ما ارتاده للنجع مرتاد
يخرجن من جنبات النقع طائرةً ... كأنهن سقوط وهي أزناد ومنها:
ولوا جميعاً بما في الدهر من حسنٍ ... لا عيب في القوم إلا أنهم بادوا وهذا كقول أبي تمام حيث يقول (3) :
__________
(1) ديوان المتنبي: 258.
(2) بياض في ط د س وموضعه كلمة غير واضحة في م، ولعلها " ويحشد ".
(3) م س: كقول أبي حاتم من قصيدة؛ وانظر ديوان أبي تمام 1: 191.(4/618)
وما كان بين الهضب فرق وبينهم ... سوى أنهم زالوا ولم يزل الهضب ولأبي بكر من قصيدة:
لم أعلم الشوق إلا من مطوقةٍ ... فهمت عنها الذي قالت ولم تبن
لا مثلها وسقيط الطل يضربها ... في عاتقي حلةٍ من سندس اليمن
تذكرت ساق حر وهي تندبه ... بالأخضرين من الظلماء والفنن
كأنهن بأعلى الدوح إذ جعلت ... روم تراطن بالألفاظ من فدن
والنجم منهزم أولى كتائبه ... والصبح يغسل ثوب الليل من درن
والروض يرشف ريق الطل عن ترف ... وليت لي مثله ممن يعذبني
دع المنى ربما نيلت بلا طلبٍ ... وربما الحرمان في المهن ومنها في وصف طرفٍ:
لكن على سابحٍ نهدٍ مراكله ... مؤلل الجيد والأرساغ والأذن
أقام في الحي أحوالاً وآونةً ... يسقي الخليطين (1) من ماءٍ ومن لبن
فجاء إذ صنعوه وهو مضطمر ... سامي التليل ممر الخلق كالشطن
يهوي من الأرض أنى شاء راكبه ... ويترك الريح في الآري والرسن قوله: " والصبح يغسل ما في الليل من درن ". يشبه قول بعض أهل العصر: [117ب]
شهم له نظرة في كل مشكلةٍ ... يكاد يغسل ما في الطين من درنٍ
__________
(1) م: الطريحين.(4/619)
وقلبه من قول المعري (1) :
فإن كان يكتبه كاتب ... فقد سود الصبح مما كتب وقال أبو بكر من قصيدة:
أقبلت بالجيش ملموماً كتائبه ... كأنك البدر تحت العارض الهطل
في فتيةٍ كسيوف الهند أنحلهم ... حب الصوارم والخطية الذبل
وتيموا بعيونٍ غير فاترةٍ ... من الأسنة لم تهج مع المقل
إن لا تكن أعيناً نجلاً فإن لها ... في أضلع القوم مثل الأعين النجل وما أحسن ما أتى بهذا المعنى، وإنما ذهب إلى قول (2) أبي الطيب (3) :
أثبت (4) عينك في حشاي جراحةً ... فتشابها كلتاهما نجلاء وقال:
عليهن من وقع السيوف حواجب (5) ... ومن قصيدة أبي بكر:
ترى السماء دخاناً مثلما خلقت ... والأرض قد شرقت بالخيل والإبل
__________
(1) اللزوميات 47 / أ؛ 1: 126.
(2) م س: ذهب بقول.
(3) ديوان المتنبي: 115.
(4) الديوان: مثلت.
(5) وقال ... حواجب: لم يرد في م س؛ ولا يعرف إلى من يعود الضمير في " وقال ".(4/620)
تمشي بها الخيل لا جرد مطهمة ... مشي الكواعب في حليٍ وفي حلل
من كل مضطمرٍ الكشحين حافره ... أحق من مبسم الحسناء بالقبل
يا معشر الروم قد شالت نعامتكم ... إما من الحين أو ن شدة الفشل
لم يكسكم من ثياب الخزي أسبغها ... إلا اتقاؤكم للصدر بالكفل
ويا ويلكم معشراً بل ويل أمكم ... فإنها ولدت للثكل والهبل وهذا المعنى كثير، ومنه قول أبي تمام (1) :
لم تبق مشركة وقد علمت ... إن لم تنب أنه للسيف ما تلد وأخذه أبو الطيب فقال (2) :
للسبي ما نكحوا والقتل ما ولداو ... والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا وقال محمد بن هانئ (3) :
لو تعلم الروم ما لا قت بطارقها (4) ... ما هنئت أم بطريقٍ بمولود وقال أبو بكر من قصيدة:
من لي به والوغى شهباء من أسلٍ ... في صهوةٍ من أقب البطن منجرد
يردى ويصرع أقواماً، عيونهم ... حمر من الروع لا حمر من الرمد
بكل غصنٍ من الخطي منعطفٍ ... بطائرٍ من سنانٍ ليس بالغرد
__________
(1) ديوان أبي تمام 2: 20 وروايته " إن لم تتب ".
(2) ديوان المتنبي: 303.
(3) ديوان ابن هانئ: 46.
(4) الديوان: لو كان للروم علم بالذي لقيت.(4/621)
ومنها:
الدهر أخوان من أن يستقيم لكم ... وإنما جاد عن كره ولم يكد
ومن تصنع يرجع بعد آونةٍ ... إلى الطباع رجوع العير للوتد وهذا المعنى مشهور ومنه قول الآخر (1) :
كل امرئٍ راجع يوماً لشيمته ... وإن تمتع أخلاقاً إلى حين وقال آخر (2) :
يا أيها المتحلي غير شيمته ... إن التخلق يأتي دونه الخلق [118أ] وقال آخر (3) :
ومن يتكلف غير ما في طباعه ... يدعه ويغلبه على النفس خيمها وقال الرضي (4) :
__________
(1) م س: الأول، والبيت لذي الاصبع العدواني، المفضليات: 323 وبهجة المجالس 2: 113.
(2) بهجة المجالس 2: 133 وروايته:
ما أن تخلقت إلا شيمتي خلقاً ... إن الخلائق يأتي دونها الخلق وسقط البيت من م.
(3) هو كثير عزة، انظر ديوانه: 148 وعيون الأخبار 2: 5 والشعر والشعراء: 420 واللسان (خيم) وروايته:
ومن يبتدع ما ليس من سوس نفسه (من خيم نفسه) .
(4) الرضي: سقطت من م س، وانظر ديوان الرضي 1: 652.(4/622)
لا تبدين لي التكلف في الهوى (1) ... فضح التطبع شيمة المطبوع ولكن أبا بكر استولى على الأمد، ونفث بالسحر في العقد، بقوله: " رجوع العير للوتد ".
وله من قصيدة:
لم أنس إذ ودعته وقد التقت ... مني هنالك بالبكا عينان
يرنو بنرجسةٍ إليّ وربما ... قرع الأقاح بياسمين بنان وهذا كقول الآخر (2) ، ولكن أبا بكر نقص عنه (3) :
وأسبلت (4) لؤلؤاً من نرجسٍ فسقت ... ورداً وعضت على العناب بالبرد وقال من أخرى (5) :
وقالوا ألا تبكي وتلك مطيهم ... على السهب يحملن الأوانس (6) كالدمى
لئن (7) نفدت مني الدموع تغامزوا ... وقالوا: سلا أو لم يكن قبل مغرما
فهلا أقاموا كالبكاء تنهدي ... إذا ما بكى القمري قالوا ترنما
__________
(1) الديوان: هيهات لا تتكلفن لي الهوى.
(2) هو الواواء الدمشقي، ديوانه: 84.
(3) ط: تقصر منه.
(4) الديوان: وأمطرت.
(5) منها ثلاثة أبيات في كل من القلائد والخريدة وبيتان في الرايات: 49 (غ) وبيت واحد في المغرب.
(6) القلائد: الخرائد.
(7) ط م د س والقلائد: بعدت، الرايات: أإن بعدت.(4/623)
وهذا من حجول الكلام وغرره، وإن لا يكن اخترع، فما أتقن ما اتبع! !
ومنها:
نأوا بصموت الحجل عاطرة الشذا ... مبتلة الأعطاف معسولة اللمى
ألا نظرة منها فتنقع غلةً ... على كبدي ما أشبه الشوق بالظما وله من قصيدة:
وإني من الورق السواجع بالضحى ... ولكنني من بينها لم أطوق وهذا كقول ابن حمديس الصقلي، وهو أبرع وأجمع وأصنع، إلا أن أبا بكر قلبه على ما أراد، ونقص منه فما أخل به ولا كاد (1) :
جناحي مبلول وجبدي مطوق ... وروضي مطلول (2) فما لي لا أشدو وله من قصيدة أيضاً (3) :
أتى به الدهر فرداً في فضائله ... وفي الفرائد ما يربى على الجمل
بياض عرضي تحامى الذم جانبه ... ليس السواد بأبهى منه في المقل والبيت الأول منها كقول بعض أهل عصرنا:
__________
(1) ديوان ابن حمديس: 545 (عن الذخيرة) .
(2) د: مبلول؛ ط: مملول.
(3) أيضاً: سقطت من م س.(4/624)
وقد تقتضي هذه المفردات ... معانٍ تقصر عنها الجمل وله من قصيدة:
عندي حشاشة نفسٍ في سبيل (1) ردى ... إن شئتها اليوم لم أمطل بها لغد
وكيف أقوى على السلوان عنك (2) وقد ... (3) ربيت حبك حتى شب في خلدي
خذها وهات ولا تمزج فتفسدها ... الماء في النار أصل غير مطرد وهذا كلام بديع، ونظم سنيع (4) .
وقال:
جرب ولا تغترر بمحمدةٍ ... قد يقتل [النور] (5) وهو نفاح وقال:
ولقد وصفت لعاذلي من حسنه ... طرفاً فود بأنه لم يعذل
وعصيته فيما مضى من عهدنا ... وأنا الذي أعصيه في المستقبل وله من قصيدة (6) : [118ب]
__________
(1) أصل ط: هوى.
(2) عنك: سقطت من ط د.
(3) م س: كبد (ي) .
(4) ونظم سنيع: سقطت من م س، كما سقط البيت التالي أيضاً من م وحدها؛ ط: شنيع.
(5) ما بين مقفعين لم يرد إلا في س.
(6) منها أربعة أبيات في كل من المغرب والقلائد، وبيتان في الخريدة.(4/625)
إذا ما غراب الليل مد جناحه ... (1) عليّ وغطاني بريش قوادم
تقلبت في طي الجناح لعلني ... أرى الصبح يبدو من خلال القوادم
إلى الله أشكوها نوىً أجنبيةً ... لها من أبيها شيمة ظالم
سلا كل مشتاقٍ برؤية إلفه ... وكان على الشوق ضربة لازم
إذا جاش صدر الأرض بي كنت منجداً ... وإن لم يجش بي كنت بين التهائم
أكل بني الآداب مثلي ضائع ... فأجعل ظلمي أسوةً في المظالم
أم الظلم محمول عليّ لأنني ... طلبت العلا من قبل حل التمائم
لعمر أبيك الخير ما آمل الغنى ... للين لبوسٍ واحتفال مطاعم
ولكنما أملته لصنيعةٍ ... أسر بها نفس الصديق الملائم
ستبكي قوافي الشعر ملء جفونها ... (2) على عربيٍ ضاع بين أعاجم
ولا ذنب لي عند الزمان علمته ... سوى أنني للشعر آخر ناظم
توهمته عمرو بن هندٍ وخلتني ... (3) شقياً أتاه من وفود البراجم ومنها:
إليك ترامت بي قلوص كنبعة ... معطفة في دفها والحيازم
لعوب إذا رقص السراب استفزها ... ببيض الأداحي في النقا التراكم
تباري الصبا في سيرها فكأنها ... جبان تولى في غبار الهزائم
وما راعها إلا الزمام تظنه ... إذا ما تدلى حيةً في المخاطم
__________
(1) سقط هذا البيت من ط د.
(2) المغرب: الأعاجم.
(3) يشير إلى المثل: " إن الشقي وافد البراجم ". (فصل المقال: 454 والعسكري 1: 81) وكان عمرو بن هند قد آلى أن يحرق مائة من بني تميم،، فحرق تسعة وتسعين ووفى العدد برجل من البراجم أقبل على النار يظن أنه يجد عندها طعاماً.(4/626)
وهذا كقول المعري (1) :
يحاذرون من وقع (2) الأزمة لا اهتدى ... مخبرها أن الأزمة أصلال وهذا كقول بعض أهل العصر (3) :
تخشى الزمام فتثني جيدها فرقاً ... كأنه بين ثني حيةٍ ذكر
كأني من البيداء أطوي صحيفةً ... قد اختلفت فيها خطوط المناسم
لنفسك أكرمني ولا لمعاشر ... إذا انتقدوا كانوا زيوف الدراهم
وميزك بي ميز الكمي بسيفه ... وإن أدركته مهنة في الصوارم
أحبك للعليا غصبتك بعضها ... وكل كريم مولع بالأكارم
وإن كان منك الود فيئاً أخذته ... غلولاً وحظي وافر في المغانم
وإن تصطنعني تصطنع ذا حفيظة ... شديداً على الأعداء صعب الشكائم
له كلمات كالقلائد في الطلى ... ولكنها في أوجه كالمياسم
يشق عليها ترك مدحك ضلة ... لمدح أناس في عداد البهائم
يصولون مني بالمهند ماضياً ... وأمسك منهم بالحبال الرمائم ومنها في المدح:
حمدت السرى عند الصباح بماجدٍ ... هو الماء يعطي ريه كل حائم [119أ]
__________
(1) شروح السقط: 1257.
(2) شروح السقط: من لدغ.
(3) هو الأعمى التطيلي، انظر ديوانه: 51.(4/627)
وحسبك من قاضي الجماعة أنه ... أمان لمذعور ومال لعادم
به ثبت الإسلام في مستقره ... وشل فريق الكفر شل النعائم
إذا مشقت يمناه في بطن مهرقٍ ... تحجب نوار (1) الربى في الكمائم
ولاحت سطور كالشباب حكين لي ... سلاسل أصداغ الخدود النواعم
ومن لي بتقبيل الحروف فإنها ... ثغور الدمى إلا ابيضاض المباسم
أقل أيادي كتبه رد عسكر ... وتأليف أشتات وسل سخائم
ورثت العلا من تغلب ابنة وائل ... تلاداً لها من عهدها المتقادم
وأنى يجاريكم إلى المجد حاسد ... جهول بأسرار العلا غير عالم
وهذا بجير وهو خير لداته ... (2) سوى شسع نعل منكم لم يقاوم
ويا عجباً يعزى إلى (3) الجود حاتم ... وما هو منه في اللهى واللهازم
بل المثل المضروب في الجود للذي ... يعود على (4) أبناء كعبٍ وحاتم وله من أخرى في الوزير أبي الحسين بن سراج:
تشف وراء فطنته المعاني ... شفيف الراح من خلف الزجاج
وما طلب الكلام الحر إلا ... (5) أتى بين انفراد وازدواج
أقام العلم دهراً ليس يبدو ... لها منه سوى نتف خداج
وكان الناس في ظلمات جهلٍ ... فما جليت بغير ني سراج
__________
(1) ط د: أنوار.
(2) يشير إلى قول مهلهل التغلبي، وقد قتل بجير بن الحارث بن عباد: " بؤ بشسع نعل كليب ".
(3) ط د: المجد.
(4) ط: إلى.
(5) هذا البيت والذي يليه سقطا من م س.(4/628)
وقال من قصيدة:
وبنات أعوج قد برمن بصحبتي ... مما قطعن من اليباب المقفر
بيداء كالمحروم في أحواله ... لا ذا أنيل وهذه لم تعمر أراه كأن له في هذا إلمام، بقول أبي تمام (1) :
وإذا تأملت البلاد (2) وجدتها ... تثري كما تثري الرجال وتعدم وإلى هذا أشار بعض أهل العصر بقوله:
حظ من الدين والدنيا أصبت به ... كل يرزأ حتى هذه البقع ولأبي بكر من قصيد (3) :
من لم يعانق غزالاً في مغازلة ... ما بين ممتنع طوراً ومنفعل
فما قضى من لبانات الصبا وطرأ ... ولا تنزه في روض من الجذل
وعاذلين رأوا أني على خطأ ... كما رأيت بأن القوم في خطل
هل أنكروا غير تهامي بغانيةٍ ... سكرى من الدل أو ألحاظها النجل
ما زال يحجبها الغيران مذ نشأت ... لو غيرها حجب الغيران لم بل [119ب]
في كلة سيراء تتقي نظري ... يا أيها الناس حتى الظلم في الكلل
من لي به حيث لا نخشى مراقبةً ... ولا نبيت من الواشي على وجل
في ليلة لا يلي المريخ مدتها ... ولا نقيم بها إلا على زحل
__________
(1) ديوان أبي تمام 3: 195.
(2) الديوان: رأيتها.
(3) م س: قصيدة.(4/629)
أما (1) الرياض فقد أمهرتها قدحاً ... من المدام نكاحاً ليس فيه ولي
عقيقةً في يدي سالت وأشربها ... لو شعشعت بسجايا الدهر لم تسل وله من أخرى:
كيف صبري على الكؤوس إذا ما ... عثر الروض في ذيول النسيم وهذا من المقلوب؛ إنما يعثر النسيم في ذيول الروض، فإن ذهب به أبو بكر مذهب الأخطل في قوله (2) :
" أو بلغت سوآتهم هجر " ...
وشبهه فأبو بكر ممن لا يتهم أدبه ... ولا يعجم نبعه ولا غربه رجع:
وقال:
ورنا نرجس الربى بعيون ... وجلا الورد عن محياً وسيم
وبدا معصم الخليج فخطت ... فوقه الريح أسطراً من وشوم
سوف تدري الهموم أية راحٍ ... أخذت من أرواحنا والجسوم
بنت دن رعت (3) ببيداء نفسي ... فهي تعدو به كعدو الظليم
كرمت (4) في حدائق غرسوها ... لكرامٍ فسميت بالكروم
__________
(1) م س: الليالي.
(2) ديوان الأخطل: 110 وأول البيت: " على العيارات هداجون قد بلغت، نجران أو ... الخ.
(3) م س: ريقت.
(4) م س: كرمة.(4/630)
طفت بالأيك فاستهلت دموعي ... لحمامٍ تبكي فراق حميم
تتغنى الثقيل حتى كأن قد ... نشر الله معبداً من رميم
عجمة أعربت بوجدٍ دقيقٍ ... وكلام مقطع من كلوم قال ابن بسام: لو لم يتجاوز معبد الثقيل إلى سواه، لكان لأبي بكر ما ادعاه، وقرب منه ما تكلفه وتعاطاه، وأسحر منه وأولى بالحكمة وفصل الخطاب، أبو العلاء حيث يقول، يصف الإبل (1) :
كأن المثانبي والمثالث بالضحى ... (2) تجاوب في غيد رفعن طوال
كأن ثقيلاً أولاً تزدهي به ... ضمائر قوم في الخطوب ثقال ولعمري لو شبه سجع الحمام، بخفائف الغريض وأهزاج حكم الوادي لكان أحسن عبارةً وأفتق إشارة.
وأما قوله: " كلام مقطع من كلوم " فأشفى للقلوب من اعتلال النسيم، وأحلى على الأكباد من محاورة الطرف السقيم.
وفي هذه القصيدة يقول أبو بكر:
أوضعت بي إليه وجناء حرف ... أكلتها السفار أكل القضيم
تترك الريح خلفها وهي حيرى ... بين إيضاعها وبين الرسيم
ظلت أطوي القفار منها بلامٍ ... طبعتها بالميم بعد (3) الميم
__________
(1) شروح السقط: 1188.
(2) الغيد: الطوال الأعناق من الإبل.
(3) م: إثر.(4/631)
فأتته (1) والمرو قد نال منها ... فهي تخطو على وظيفٍ رثيم
وقليلاً تمتعت في الفيافي ... بسنام كالعارض المركوم
فأنحنا إلى فناء جواد ... (2) ماله نهبة لكل عديم
فأكلنا لهاه أكل الضواري ... وشربنا [ ... ] (3) شرب الهيم أما تشبيههم الخليج بالمعصم، فطريق لم يبق له ستر محرم إلا هتك، ولا فيه موضع قدم [120أ] إلا سلك، فمن أشهره مناراً، وأبهره أنواراً، قول ابن عمار (4) :
روض كأن النهر فيه معصم ... صافٍ أطل على رداء أخضرا وقوله: " فسميت بالكروم " يشبه لفظه بيت المعري، وبينهما من البعد، ما بين الدرة والحجر الصلد، المعري أثبت فيه قدماً، وأمس رحماً، حيث يقول (5) :
وأنت أبوها إن غدت كرميةً ... وإن سكنت راء فوالدها الكرم (6) وذكرت بقوله: " بلام، طبعتها بالميم بعد الميم "، قول ابن الرومي في جهة أخرى:
__________
(1) ط د: والمرء، والمرو: الحجارة.
(2) هذا البيت والذي يليه لم يردا في م س.
(3) سقطت من ط، وموضعها في د: " لماء ".
(4) انظر ما تقدم ص: 382.
(5) شروح السقط: 1150.
(6) شروح السقط: كرم.(4/632)
يا أخا النحو والمقدم فيه ... لم ترى (1) اللام أدغمت في الميم وكتب خلف الأحمر إلى بعض المؤدبين:
أتترك في الحلال مشق صادٍ ... وتأتي في الحرام مشق ميم وذكر الثعالبي (2) أنه كان للقاضي علي التنوخي غلام وسيم، اسمه نسيم، وكان يؤثره على سائر غلمانه، ويخصه بتقريبه واستخدامه، فكتب إليه بعض إخوانه يداعبه:
هل علي لامه مدغم ... لاضطرار الشعر في ميم نسيم فوقع تحته: نعم ولم لا -!
وقال أبو بكر من قصيدة:
واحر قلبي من خليط زائلٍ ... صبري على آثاره سيزول
زمت له قلص ببارين الصبا ... ولربما سبق الهبوب ذكيل
هم فارقوك وحملوك من الأسى ... ما ليس يحمل شامة وطفيل
زرعوا بقلبك حبه، ونباته ... (3) برح الجوى، لا إذخر وجليل
__________
(1) ط: لم تر؛ م س: لن ترى.
(2) اليتيمة 2: 336.
(3) في هذا البيت والذي قبله إشاره إلى قول بلال بن رباح مؤذن الرسول (ص) :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل وشامة وطفيل: جبلان قرب مكة.(4/633)
شيعتهم متوجهين وأدمعي ... حذر الفراق سوافح وهمول
ونظرت في تلك الحدوج وطيها ... غزلان وجرة أهيف وكحيل وقال من أخرى:
لا تحملني على التسويف نفي هبةٍ ... فيلتقي فرحي فيها مع الأسف
ليس اعتذارك بالأشغال أقبله ... فإن شغلك بي أدنى إلى الشرف وهذا كقول الأول (1) :
ولا تعتذر بالشغل يوماً فإنما ... تناط بك الآمال ما اتصل الشغل وقال أبو حاتم الحجاري (2) :
إني لأعلم أن شغلك بالعلا ... والمجد فاجعلني من الأشغال وقال أبو بكر من قصيدة (3) :
عليك أبا عبد الإله خلعتها ... لها البدر طوق والنجوم دلائل
وما هي إلا الدهر في طول عمرها ... وإن لم يكن فيها الضحى والأصائل قال ابن بسام (4) : ويا لهذا البيت ما أحسن مذهبه، وأبدع منتواه (5)
__________
(1) انظر الإمتاع والمؤانسة 3: 229 والبصائر 2/1: 159 وزهر الآداب: 286 وربيع الأبرار: 258 ب (نسخة برنستون) .
(2) انظر الذخيرة 3: 663؛ وسقط قول الحجاري مم ط د.
(3) البيتان في تمام المتون: 289.
(4) قال ابن بسام: سقطت من ط د.
(5) ط د: مثواه.(4/634)
ومنقلبه، إلا أنه أتى بالدهر ومسلوب الضحى والأصائل، فقلم يزد على أن جلاه في زي عاطل، لا بل أبرزه في مسوح شوهاء ثاكل، وليت شعري أي شيء أبقى للدهر المظلوم، بعد ضحاه الناصعة الأديم، وآصاله المعتلة النسيم - هل بقي إلا ليلة الأسود الجلباب [120ب] وهجيره السائل اللعاب -! ولو قال لممدوحه: " وتلك العلا فيها الضحى والأصائل " (1) لأبرز قصيدته رافقة البرود، شفافة العقود، ولأفاد ممدوحه بهذه الكلمة مدحاً لا يسعه المقال، ولا تفي به القصائد الطوال.
وله من أخرى:
وما أكثر الأقوام إلا ثعالب ... تروغ ولا يحلى لديها بطائل
يرد ذهني حائراً في طباعهم ... كأنهم من مشكلات المسائل
وأصغي إلى أقوالهم فتريبني ... صدور لهم أقوين مثل المنازل وقال:
خذها على وجه الربيع المخصب ... لم يقض حق الروض من لم يشرب
هممي سماءؤ علاً وهمي مارد ... فارجمه من تلك الكؤوس بكوكب
والله ما أدري وإني واقف ... للراح بين تحير وتعجب
أفضضت دناً أم فككت الخدر عن ... بكرٍ تجول مع المنى في ملعب
أخت الزمان تكسبت (2) من خلقه ... جهل المراهق واحتناك الأشيب وله من أخرى:
__________
(1) قارن هذا بما اقترحه الصفدي من تغيير (تمام المتون: 289 - 290) .
(2) ط د: تكشفت.(4/635)
مسومة تحكي سنابكها الصفا ... وتنقض منها بالضراغم عقبان
نمتها إلى حرٍ كريمٍ (1) صفاتها ... فللنبع أضلاع وللآس آذان ومنها:
دخلت عليها خيمةً شرفاتها ... وأعمدها (2) بيض رقاق وخرصان
فقالت: ألص قلت: بل ذو صرامةٍ ... تشسب على أحشائه منك نيران
إليك شفقت الليل كالسيل يرتمي ... وفيك أسغت الهول والهول (3) خطبان
فقالت: أقم (4) عندي لك الوصل كاملاً ... على أن حظ العين مني حرمان ومن قوله (5) :
عاطيته والليل يسحب ذيله ... صهباء كالمسك الذكي (6) لناشق
حتى إذا مالت به سنة الكرى ... باعدته شيئاً، وكان معانقي
زحزحته (7) عن أضلع تشتاقه ... كي لا ينام على وساد خافق
__________
(1) س م: النجار.
(2) ط د: وأغمادها؛ م س: وأعهدها.
(3) م س: والخطب.
(4) س م: أفق.
(5) انفردت س م بهذه المقطوعة، وهي من قصيدة اشتهرت عند المشارقة، ووجدت استحساناً ومعارضات، ومنها بيت في القسم الأول نمن الذخيرة: 823 وقد ذكرت بعض مصادرها هنالك ويضاف إليها: الرايات: 48 (غ) والمسالك: 280 ورفع الحجب 1: 59 ومعاهد التنصيص 3: 80 والقلائد: 279 ومطلعها في المقتضب من تحفة القادم: 84. وانظر أيضاً نفح الطيب 3: 209 والغيث 1: 186 والمسلك السهل: 329.
(6) في أكثر المصادر: الفتيق.
(7) في رواية: باعدته.(4/636)
في ذكر الأديب أبي الحسن بن هارون الشنتمري (1)
قال ابن بسام: وأبو الحسن هذا سهل الكلام، بارع النظام، ممن اغترف من بحر الكلام بكلتا يديه، وجذب ثوب البيان من كلا طرفيه؛ جده لأمه أبو الحسن بن الاستجي المتقدم الذكر (2) ، فأما سلفه من قبل أبيه فقد انخدع لهم الزمان بريهة، وهينم بأسمائهم هنية، بشنتمرية الغرب إلى أن نبه الدهر الغافل على (3) أمرهم، وأسكت من ذكرهم، على يدي المعتضد عباد بن محمد مخلي الأوطان، وملحق الأقران بالأقران؛ وقد ذكر ابن حيان ذلك، وألمعت أنا بطرف مما وقع لهم معه هنالك.
ومن شعر أبي الحسن المعرب عن أدبه، والشاهد لما وصفته به، قوله: يصف صدود غلام كان له به كلف (4) :
(5) عادت إلى أديانها هيف ... واطرد الإسراف والحيف
__________
(1) هو علي بن محمد بن سعيد بن هارون، وقد كان أهله يحكمون في شنتمرية المغرب حتى انتزعها منهم المعتضد بن عباد سنة 444 (انظر الحلة السيراء 2: 17 - 20 والمغرب 1: 395 والمسالك 11: 438) .
(2) انظر ص: 200 من هذا القسم.
(3) ط د: عن.
(4) الحلة 2: 19.
(5) من المثل: " ذهبت هيف لأديانها " (العسكري 1: 460 تحقيق أبو الفضل، وفصل المقال: 313 والميداني 1: 187) يضرب مثلا لركوب الرجل رأسه، والهيف: الريح الحارة؛ الأديان: العادات.(4/637)
وامتنع الأصبغ من وصلنا ... وزاد حتى امتنع الطيف
شنتمري (1) الأفق غربيه ... وربما حن له الخيف
ذو لحظة إن لم تكن في الحشا ... رمحا وإلا فهي السيف وأنشدت له (2) :
يا ليلة العيد عدت ثانية ... وعاد إحسانك الذي أذكر [121 أ]
إذ أقبل الناس ينظرون إلى ... هلالك النضو ناحلا (3) أصفر
وفيهم من أحبه وأنا ... (4) أنظره في السماء إذ ينظر
فقلت لا مؤمنا بقولي بل ... معرضا للكلام لا أكثر
أثر شهر الصيام فيك أبا ... محمد قال لي وما أثر
بل أثر اليوم في هلالكم ... هذا الذي لا يكاد أن يظهر وقال (5) :
وحديقة شرقت بغمر (6) نميرها ... يحكي صفاء الجو صفو غديرها
تجري المياه بها أسود أحكمت ... من خالص العقيان في تصويرها
وكأنها أسد الشرى في شكلها ... وكأن وقع الماء صوت زئيرها
__________
(1) س م والحلة: القطر.
(2) انظر الحلة 2: 19.
(3) في النسخ: ناحل.
(4) م س: انظر وهو في السماء ينظر.
(5) الحلة 2: 20 والمسالك والمغرب.
(6) ط د: بغير؛ الحلة: بعد؛ وما أثبته رواية م والمغرب؛ وفي س: شربت بغمر.(4/638)
وقال (1) :
انظر إلى ثابت على طرفه ... قد سل سيف المنون من طرفه
وهز من قده لواء ردى ... يدني الصحيح السليم من حتفه
يطوف (2) بالحج منه بدر دجى ... على جواد كالبرق في خطفه
يكاد من لينه ونعمته ... يعقد عقد العنان في نصفه
فلا ترى غير باهت فرق ... بين يديه منها ومن خلفه
ومن مشير له بإصبعه ... ومعلن بالسلام من كفه فصل يشتمل على ذكر الكتاب الوزراء وأعيان الأدباء الشعراء،
ممن نشأ في المدة (3) المؤرخة بحضرة بطليوس،
وسائر بلاد البحر المحيط الرومي (4) ،
والأخذ بطرف من نوادر أخبارهم، وشوارد أشعارهم.
قال ابن بسام: قد قدمت في صدر هذا القسم أن هذا الجانب الغربي من الجزيرة، لأول تلك الفتنة المبيرة (5) ، الواقعة بقرطبة في آخر دولة بني (6) عامر، اشتمل على بيتي حسب، وجمهوري أدب: مملكتان من لخم وتجيب،
__________
(1) منها أربعة أبيات في المسالك.
(2) كذا في الأصول.
(3) المدة: سقطت من ط د.
(4) زاد في م س: والأندلس.
(5) م س: المثيرة.
(6) ط د س: ابن أبي.(4/639)
فوفد عليه لذلك كل أديب، واستوطنه كل أغر نجيب. وقد جئت بجملة موفورة، لطوائف كثيرة، وجماعة أعداد، كانوا بدولة بني عباد، من أرباب هذا الشأن، فلنذكر الآن من أرباب المنثور والمنظوم، بعقر هذا الإقليم، ولنقدم منهم من تقدم في الزمان.
وقاعدة بلاد هذا الساحل من الجانب الغربي بطليوس، ورئيسها في أكثر المدة المؤرخة - كان -.
المظفر أبو بكر محمد بن عبد الله بن مسلمة المعروف بابن الأفطس (1)
أديب ملوك عصره غير مدافع ولا منازع، وله التصنيف الرائف والتأليف الفائق، المترجم ب - " التذكرة " والمشتهر اسمه أيضا ب - " كتاب المظفر (2) " في خمسين مجلدة، يشتمل على علوم وفنون من مغاز وسير، ومثل وخبر، وجميع
__________
(1) جد بني الأفطس بن محمد بن مسلمة - فيما يقول ابن حيان - من فحص البلوط وكان من أهل المعرفة والدهاء والسياسة، استطاع أن يملك بلاد غرب الأندلس: بطليوس وشنترين والأشبونة وتوفي سنة 437 فخلفه ابنه محمد الملقب بالمظفر وكان أديبا عالما، وأقام ملكا عظيما بالثغر الجوفي ضاهى فيه ابن عباد وابن ذي النون، وكانت بين هؤلاء حروب وغارات، وقد كان محمد المظفر يدفع الإتاوة للأذفونش، وبقي في حكمه حتى سنة 456 (انظر البيان المغرب 3: 236 والحلة 2: 96 والمغرب 1: 364 والتكملة 393 (وفيه نقل عن الذخيرة) وأعمال الأعلام: 212 وصفحات متفرقة من نفح الطيب وتاريخ ابن خلدون 4: 159 وابن الأثير 9: 288 والمعجب: 127 وشرح البسامة ودوزي Spanish Islam: 634 وابن خلكان 7: 123) .
(2) المشهور فيه: " المظفري " وكذلك هو في التكملة ويقال إنه لم يستعن فيه بأحد من العلماء إلا بكتابه أبي عثمان سعيد بن خيرة (البيان المغرب 3: 236) وفي م س: بكتاب ابن المظفر.(4/640)
ما يختص به علم الأدب، أبقاه (1) في الناس خالدا. وليس بمعدود في الشعراء والكتاب، فأفرد له فصلا من هذا الكتاب، ولو كان مجموعنا هذا في طبقات العلماء، لكان قطب أفقه، وغاية طلقه. وكان ينكر الشعر على قائله في زمانه، ويفيل رأي من ارتسم في ديوانه؛ حدثني من سمعه يقول: من لم يكن شعره [121 ب] مثل شعر المتنبي أو شعر المعري فليسكت، لا يرضى بدون ذلك.
وقد ذكر أبو مروان بن حيان خبره في جملة ما شرح من قصص ملوك الطوائف في ذلك الأوان، وشرح كيف غر سرابهم، وطن ذبابهم، فقال (2) : كان عبد الله بن مسلمة رجلا من مكناسة، وكان سابور العامري أحد صبيان فائق الخادم، فتى الحكم، وقد انتزى ببطليوس وثغر الغرب من عمل الحاجب ابن ميتويه (3) ، فصحبه عبد الله وظاهره (4) ، ورمى إليه بأموره، فدبر أعماله وتزيد في الغلبة عليه، حتى صار كالمستبد به، فلما هلك سابور ورث سلطانه بعده، فاستولى على الأمور وتلقب بالمنصور، ثم أفضى الأمر لابنه وتلقب بالمظفر.
قال ابن حيان: ومن النادر الغريب انتماؤه في تجيب، وبهذه النسبة مدحته الشعراء إلى آخر وقته، منهم ابن شرف القيرواني حيث يقول (5) :
__________
(1) م س: أبقاه الله.
(2) النص في الحلة 2: 96 وانظر البيان المغرب 3: 237.
(3) ط م د س: مينويه.
(4) م س: وصاهره.
(5) انظر أبياتا منها في المسالك 11: 240.(4/641)
يا ملكا أمست تجيب به ... تحسد قحطان عليه نزار
لولاك لم تشرف معد بها ... جل أبو ذر فجلت غفار انتهى كلام ابن حيان.
قال ابن بسام: وأول قصيدة ابن شرف هذه في المظفر قوله (1) :
زار وقد شمر فضل الإزار ... جنح ظلام جانح للفرار
وروضة الأنجم قد صوحت ... والفجر قد فجر نهر النهار
قلت له: أهلا بطيف دنا ... (2) من نازح الدار بعيد المزار
كيف خطوت الشر ثم الشرى ... وابنى هلال والقنا والشفار
أصهوة الغبراء أم داحسا ... ركبت حتى خضت ذاك الغمار
وجئت بالخطار أن أعوج ... جنيبة معتدة (3) للخطار
وهل تقلدت لدفع (4) الردى ... حمائل الصمصام أم ذي الفقار
وأنت زيد الخيل أم (5) عامر ... ومالك بن الريب أم ذو الخمار (6)
فقال لا هذا ولا ذا ولا ... بل كنت عنهم قمرا في سرار
__________
(1) قوله: سقطت من م س.
(2) قبيل هذا البيت في س م ط: ومنها.
(3) م س: معدة.
(4) المسالك: الأذى.
(5) عامر بن مالك أبو براء ملاعب الأسنة أو عامر بن الطفيل.
(6) ذو الخمار: لقب عوف بن الربيع ذي الرمحين (التاج: خمر) ، وانظر فيما يلي (ص: 646) تعليق ابن بسام فهو خطأ، لأن الإشارة هنا إلى فارس لا إلى فرس.(4/642)
سيري فلم نقذفك في مجهل ... (1) ولا ضربنا بك ضرب القمار
حيث علوق (2) العلم مطلوبة ... يوافق السوق كرام التجار
خذها أبا بكر غريبية ... سرى بها الود إليكم وطار
ليست من الشعر القصير الخطى ... ولا من المسروق والمستعار
قدمتها قبل قدومي كما ... قدمت الحجاج رمي الجمار ومنها:
أقمت للعلم منارا وما ... أظن في الدنيا لعلم منار
فما نداماك سوى أهله ... وكلهم بين ندامى العقار
ميزك ميزان عقول الورى ... وفهمك العدل لكل عيار
تبدو لك الهجنة في لحظة ... وتعرف الأسنان قبل الفرار
من لفظهم تعرف ما هم وفي ... جحفلة العاثر يبدو العثار
فما رأتك العين تصغي إلى ... محال (3) عجل سامري الخوار [122 أ] وكان ابن شرف كتب بهذه القصيدة من طليطلة إليه، فواصله بمائة مثقال من ضرب السكة لديه.
قوله: " زار وقد شمر فضل الإزار، جنح ظلام " أشار إلى أنه زار آخر الليل كما قال أبو تمام (4) :
__________
(1) من قول أبي الطيب:
ضربنا بها التيه ضرب القمار ... فإما لهذا وإما لذا (2) ط د: علوم.
(3) في النسخ: مجال.
(4) ديوان أبي تمام 3: 185.(4/643)
زار الخيال (1) له لا بل أزاركه ... فكر إذا نام فكر الخلو لم ينم
ظبي تقنصته لما نصبت له ... في آخر الليل أشراكا من الحلم وقد عاب الآمدي هذا عليه فقال (2) : وإذا زاره بالفكر فقد زار، فلا معنى للاستدراك؛ ثم اعتذر له فقال: الاستدراك صحيح لأنه إذا قال زار الخيال احتمل زيارة الاختيار، من غير بعث باعث، واحتمل وقوع الزيارة عن حمل حامل، فأزال هو (3) الإبهام بقوله: " لا بل أزاركه فكر "؛ وقوله: " لم ينم " لم يرد حقيقة النوم بل كما يقال: لم ينم فلان عن هذا الأمر. وقال: " آخر الليل " ولم يقل أوله، لأنه أنبأ أنه يسهر، وإنما يهوم في آخره تهويما فيطرقه الخيال في ذلك الوقت؛ وقيل وجه آخر، وهو أن الخيال لا يطرق في العادة إلا مع وفود النوم، وهذا إنما في آخر الليل مع استمرار النوم وطول زمانه.
وقال أبو الطيب (4) :
لا الحلم جاد به ولا بمثاله ... لولا ادكار وداعه وزياله
إن المعيد لنا المنام خياله ... كانت إعادته خيال خياله يقول: التمثيل والتخييل له في اليقظة إعادة خياله في المنام، فكأن الخيال الذي في النوم خيال الخيال الذي تصور في اليقظة؛ وأظهر من هذا قو أبي
__________
(1) الديوان: لها.
(2) الموازنة 2: 167 وفي النص اختلاف كثير.
(3) م س: هذا.
(4) ديوان المتنبي: 274.(4/644)
تمام المتقدم (1) ، وإنما من قول جران العود (2) :
حييت طيفك من زور ألم (3) به ... حديث نفسك عنه وهو مشغول فقوله: " وهو مشغول " أي لم يزر على الحقيقة، فبنى حبيب من هذا قوله: " وما زارك الخيال " (4) ، وبنى من قوله: " حديث نفسك " قوله: " ولكنك بالفكر زرت طيف الخيال " (5) .
وقال الكميت (6) :
ولما انتبهت وجدت الخيال ... أماني نفس وأفكارها وقد أعاد حبيب لفظ جران العود فقال (7) :
استزارته فكرتي في المنام ... فأتاني في خفية واكتتام
يا لها لذة تنزهت الأر ... واح فيها سرا من الأجسام
مجلس لم يكن لنا فيه عيب ... غير أنا في دعوة الأحلام
__________
(1) المتقدم: سقطت من م س.
(2) الموازنة 2: 168 وديوانه: 55 وحماسة ابن الشجري: 177.
(3) الموازنة: أهلا بطيفك ... أتاك به؛ الديوان: سقيا لطيفك.
(4) ط م س: طيف الخيال، وهو خطأ، انظر التعليق التالي.
(5) الإشارة هنا إلى بيتين لأبي تمام حذفهما ابن بسام أو سقطا من النسخ، وأوردهما الآمدي وهما:
عادك الزور ليلة الرمل من رملة بين الحمى وبين المطالي ... ثم فما زارك الخيال ولكنك بالفكر زرت طيف الخيال ... (6) الموازنة 2: 169 وديوانه 1: 222.
(7) الموازنة 2: 169 وديوان أبي تمام 4: 262.(4/645)
وعيب عليه " دعوة الأحلام "، لأنها من ألفاظ العوام، وصفة طيف الخيال باب ممتد الأطناب، لا يتسع له عرض هذا الكتاب.
وقول ابن شرف: " وأنت زيد الخيل أم عامر " ... البيت، أراه مما وهم فيه، وذو الخمار فرس مالك بن نويرة، حكاه المبرد (1) وأنشد قول جرير (2) :
عتيبة والأحيمر وابن عمرو ... وعتاب وفارس ذي الخمار جملة من نثر المتوكل وشعره (3)
من ذلك رقعة خاطب بها وزيره أبا الوليد بن الحضرمي (4) وقد صرفه عن خدمته قال فيها: ولما رأيت الأمر قد ضاع والإدبار قد انتشر وذاع، أشفقت من التلف، وعدلت إلى ما يعقبنا - إن شاء الله - بالخلف، وأقبلت أستدفع مواقع أنسي، وأشاهد ما ضيعته بنفسي، فلم [122 ب] أر إلا لججا قد تورطتها، وغمرات قد توسطتها (5) ، فشمرت عن الساق
__________
(1) انظر الكامل 3: 400 وفرس مالك يعرف حقا بذي الخمار، ولكن ابن شرف لم يقع في الوهم، كما ظن ابن بسام، إذ أن " ذو الخمار " أيضا لقب عوف بن الربيع، كما تقدم ص: 642 وكان يحارب في خمار امرأته، فإذا سئل المطعون: من طعنك - قال: ذو الخمار.
(2) ديوان جرير: 855.
(3) هو عمر بن المظفر محمد الذي حاصره المرابطون في بطليوس وقتل هو وابناه ذبحا سنة 487. (انظر الحلة 2: 96 والمعجب: 127 وأعمال الأعلام: 185 والقلائد: 36 والمغرب 1: 364 والفوات 3: 155 والخريدة 3: 356 والنفح 1: 663 " نقلا عن القلائد ".
(4) انظر التعريف به فيما تقدم ص: 391.
(5) م س: غرقتها.(4/646)
للجتها، وخدمت النفس بمهجتها (1) ، حتى خضت البحر الذي أدخلني رأيك، ووطئت (2) الساحل الذي كاد يحول بيني وبينه فعلك، فنفسك لم، وبسوء صنيعها ألمم (3) واعتصم، وإن متت بجميل اعتقاد، ومحض وداد، فأنا مقر بذكره (4) ، معترف بقله وكثره (5) ، لكنك كنت كالمثل السائر: " شوى أخوك حتى إذا أنضج رمد " (6) حتى أطمعت في العدو، ولبست لأهل حضرتي الاستكبار والعتو، واستهنت بجيرانك، وتوهمت أن المروءة التزام زهوك وتعظيم شانك، حتى أحرجت النفوس علي وعليك (7) ، فانجذب مكروه ذلك إليك، ومع ذلك فليس لك عندي إلا حفظ الحاشية، وإكرام الغاشية.
واتصل بالمتوكل أيام سلطانه بيابرة (8) أنه قدح فيه، بمجلس المنصور يحيى أخيه (9) ، فكتب إليه: كل صديق - أيدك الله - إذا خاطب صديقه،
__________
(1) ط د: مهجتها.
(2) م: وواطيت؛ س: وواطأت.
(3) م س: ألم.
(4) ط د: بغره؛ وفي م س: مغر بذكره.
(5) د: بقلك وكثرك؛ ط: بقله وكثرك.
(6) فصل المقال 1: 243 يضرب لمن يفسد اصطناعه بالمن.
(7) وعليك: سقطت من ط.
(8) ط د: بيانورة (اقرأ: بيابورة) ؛ ويابرة (Evora) بلدة في جنوب البرتغال (الروض المعطار، الترجمة الفرنسية: 239) .
(9) تولى يحيى الملك في بطليوس بعد أبيه المظفر سنة 456 وتلقب بالمنصور، أما المتوكل فأعطي يابرة.(4/647)
فأغرب ما يطنب به عليه، ويسهب فيه لديه (1) ، أن يقول: أنا كأخيك، محبة فيك، فإذا كتبت إليك، فأي غريبة أورد عليك - ونحن منتهى كتب المتخاطبين (2) ، وغاية آمال المتحابين! غير أنه جرى في ناديك - لا زال معمورال بمعاليك - أنني أبيع (3) الأحرار والحرائر، وأستصغر المعاصي (4) والكبائر، والله نزهني عن هذا وأبعدني عنه، فلا قدرة لبشر أن ينيطه (5) بي ويدنيني منه.
ثم ختم الرقعة إليه بشعر أثبتناه، على ما ذكرناه، من رواية أشعار الجلة والأعيان، على قدم الزمان، وهو (6) :
فما بالهم (7) لا أنعم الله بالهم ... ينيطون (8) بي ذما وقد علموا فضلي
يسيئون في القول جهلا وضلة ... وإني لأرجو أن يسوءهم (9) فعلي
طغام لئام أو (10) كرام بزعمهم ... سواسية ما أشبه الحول بالقبل
لئن كان حقا ما أذاعوا فلا خطت (11) ... إلى غاية العلياء من بعدها رجلي
__________
(1) م س: عليك ... لديك.
(2) ط د س: المخاطبين.
(3) م: أني أسمع.
(4) ط د: الصغائر.
(5) ط: يلبطه (اقرأ: يلطه) .
(6) الحلة 2: 104 والفوات 3: 156 والقلائد: 40 والخريدة 3: 357.
(7) م س: فما لهم.
(8) الحلة: ينوطون.
(9) ط د: يسيئهم.
(10) م س: طعام ليال أم.
(11) القلائد والخريدة والفوات: فلا مشت.(4/648)
ولم ألق أضيافي بوجه طلاقة ... ولم أمنح العافين (1) في زمن المحل
وكيف وراحي درس كل غريبة ... وورد التقى شمسي وحرب العدا نقلي
ولي خلق في السخط كالشري طعمه ... وعند الرضى أحلى جنى من جنى النحل
" وإني وإن كنت الأخير زمانه " ... لآت بما أعيا الصناديد من قبلي
وما أنا إلا البدر (2) تنبح نوره ... كلاب عدى تأوي اضطرارا إلى ظلي
فيا أيها الساقي أخاه على النوى ... كؤوس القلى مهلا رويدك بالعل
لنطفئ (3) نارا أضرمت في نفوسنا ... (5) فمثلي (4) لا يقلى ومثلك لا يقلي
ألست الذي أصفاك قدما وداده ... وألقى إليك الأمر في الكثر والقل
وصيرك الذخر الغبيط لدهره ... ومن لي ذخرا غيرك اليوم لا من لي
وقد كنت تشكيني إذا جئت شاكيا ... (6) فقل لي لمن أشكو صنيعك بي قل لي نفثت - أيدك الله - نفثة مصدور انتهى الجفاء به (7) منتهاه، وبلغ به أقصى مداه، فإن ظهر زلل ففضلك في ستره على المعهود منك قديم الزمان، لا على المنفصل عنك الآن، والله يقلب القلوب، ويصلح العيوب، ويبلغنا الأمل والمرغوب.
وقد ذكر ابن حيان بعض ما كان شجر بين المتوكل وأخيه في ذلك الأوان
__________
(1) الفوات: ولم أسخ للعافين.
(2) م س: تلمح.
(3) م س: لتطفئ.
(4) ط د: فمثلك.
(5) م س: يغلى ... يغلي.
(6) انفردت م س بإيراد هذا البيت.
(7) م س: به الجفاء.(4/649)
فقال وفي صدر سنة إحدى وستين، نشأ من تلقاء ثغر غربي الأندلس المثغور عارض هم ضاعف الإشفاق، وأكد التوقع بانكشاف خبر الاختلاف الواقع بين أميريه: يحيى وعمر ابني المظفر بن الأفطس، [123 أ] واهتدى الطاغية اذفنوش بن فرذلند المتمرس (1) بجماعة ملوك الطوائف بالأندلس، إلى شب نار الفتنة بينهما كيادا للمسلمين (2) ، فبدأ بالاعتلال على يحيى صاحب بطليوس منهما، يسومه الزيادة في مال جزيته التي كان فارق أباه الهالك عليها بوساطة (3) المأمون بن ذي النون بينهما، فانتقض على هذا الغلام لوهي في جبلته، وطماعية في إتيانه من قبل أخيه، فأظهر له يحيى العجز عن الزيادة في الجزية، فجرت بينه وبينه الطاغية في ذلك خطوب اغتدى (4) بها بلد بطليوس وثغره ثغورا، فأقام يحيى منهما على ولاية المأمون بن ذي النون وحلفه وراثة (5) عن أبيه النظفر، ومال أخوه عمر إلى المعتضد، وتأتت بين هذين الأخوين في أثناء ذلك هدنة على دخن، لم يتم معها أنس ولا تمكنت لهما طمأنينة، وما زالت السعاية تقدح بينهما العداوة، حتى أورت نار فتنة ضرمت (6) البلاد، وأجاحت الرعية، وثلمت ثغرهما وضاعفت البلية؛ انتهى كلام ابن حيان.
قال ابن بسام: ثم استوسق الأمر للمتوكل بموت يحيى أخيه (7) . وحصلت
__________
(1) ط د: المتورس.
(2) م س: للإسلام.
(3) م س: بواسطة.
(4) م س: اعتدى.
(5) م س: وارثه.
(6) س: أضرمت.
(7) ط د: أخيه يحيى.(4/650)
له جميع بلاد أبيه، واحتل حاضرة بطليوس، وجعل ابنه العباس في يابورة (1) واتفق أن خرج طلحة بن عبيد الله (2) مستوحشا عنه لأمر بلغه عنه، ولحق ببلد المعتمد، فكتب العباس إلى أبيه معتذرا عن فراره، ويقسم أنه ما خرج إلا باختياره، فأخبرني الوزير الكاتب أبو المطرف بن الدباغ قال: إني لمساير المتوكل خارج حضرته، بطليوس، حين ورود تلك الرقعة من ابنه العباس عليه، فبلغ منه الضجر منتهاه، وتجاوز مداه، واستدعى وهو على ظهر دابته دواة، ووقع في ظهر الرقعة يومئذ فصلا قال فيه - دون عنوان ولا دعاء ولا سلام، وأنا أتعجب في كتبه تلك الفقار، مع فرط الضجر (3) -: قبولي لتنصلك من ذنوبك موجب لجراءتك عليها، وعودتك إليها، واتصل بي ما كان من قبلك في خروج طلحة بن عبيد الله عنك، ولم تثبت في أمره، ولا تحققت صحيح خبره، حتى فر بنفسه عن أهله ووطنه، والعجلة من الشيطان، ولا يحمد قبل النضج بحران، وهو الذي أوجبه إعجابك بأمرك، وانفرادك برأيك، ومتى لم ترجع إلى ما وعدت به من نفسك (4) ، وصدرت به كتبك فأنا المريح والله نفسي من شغبك، وإن تكن الأخرى فهو لك الحظ الأوفى، فاختر لنفسك أي الأمرين ترى.
وأخبرني الوزير أبو طالب بن غانم قال: لا أنسى والله خط المتوكل بهذين
__________
(1) م س: بيابرة.
(2) م س: عبد الله (حيثما وقع) .
(3) فصلا قال ... الضجر: سقط من م س.
(4) ط: عودت به نفسك.(4/651)
البيتين في ورقة (1) بقلة الكرنب (2) وقد كتب إلي بهما من بعض البساتين (3) :
انهض أبا طالب إلينا ... واسقط سقوط الندى علينا
فنحن عقد بغير وسطى ... ما لم تكن حاضرا لدينا في ذكر الوزير الكتاب أبي عبد الله محمد بن أيمن (4) ،
واجتلاب جملة مما بلغني من ترسيله
وكان أبو عبد الله محمد بن أيمن بأفقنا أعجوبة الدهر، وفريد العصر، وفارس ميدان النظم والنثر، اشتهر في حملة الأقلام، اشتهار البدر في السماء، وتلاعب بغرائب الكلام، تلاعب الأفعال [123 ب] بالأسماء. ولما صرف المتوكل ذا الوزارتين أبا الوليد بن الحضرمي عن خدمته، وقبض يده عما كان يتصرف فيه من تدبير دولته، لم يفوض بعده إلى وزير، ولا ألقى إلى أحد بأزمة ذلك التدبير، غير أن أبا عبد الله بن أيمن هذا كان من وزرائه، وصحبته بمنزلة الرقيب من الحبيب، لا يحظى بشر بنواله،
__________
(1) في ورقة: سقطت من م س.
(2) ط: يقلب الكرب؛ د: بقلة الكرب؛ وانظر الحلة 2: 107.
(3) القلائد: 46 والمغرب 1: 365 وأعمال الأعلام: 185 والحلة 2: 107 والنفح 1: 666، 3: 329؛ 4: 155 ونسبهما في الموضع الثاني إلى المعتصم بن صمادح، وانظر بدائع البدائه: 374 والمقتطف: 32 والفوات 3: 156 وفيه أن الوزير هو أبو غانم وهو يخاطبه بقوله: انهض أبا غانم الخ.
(4) انظر ترجمته في المغرب 1: 366 وذكر المحقق هنالك أن له ترجمة في مسالك الأبصار 8: 332.(4/652)
ولا يطمح أحد معه في وصاله؛ ولما احتل الوزير الكاتب أبو المطرف (1) ابن الدباغ حضرة بطليوس - حسبما سنشرحه (2) - خاف ابن أيمن أن يمحو سناه، ويستولي على مداه، فاشتعلت بينهما نار ملأ الآفاق شعاعها، وأخذ بعنان السماء ارتفاعها، وأحسب ذلك كان سبب ارتحال أبي المطرف عن حضرتهم، وخروجه من جملتهم، وسنأتي بذكره في القسم الثالث من هذا المجموع، إن شاء الله.
وقد أخرجت من كلام ابن أيمن ما يأخذ من البلاغة باليمين، ويشهد له بالمكان المكين.
فصل من ترسيله
لما اشتد يومئذ كلب الروم، بهذا الإقليم، على ما تقتضيه شهادة المنثور والمنظوم، بلسان من اندرج ذكره في هذا الديوان من كل زعيم، استصرخ ملوك الطوائف بأفقنا أمير المسلمين وناصر الدين أبا يعقوب يوسف بن تاشفين، رحمه الله، وقد ألقوا بأيديهم، فكتب أبو عبد الله بهذه الرسالة عن صاحبه، وأراها كانت ثالثة المفاتحة، أو ثانية المداخلة (3) ، وهي:
لما كان نور الهدى - أيدك الله - دليلك، وسبيل الخير سبيلك،
__________
(1) م س: أبو المظفر.
(2) ورد مشروحا في القسم الثالث: 251.
(3) عن صاحبه ... المداخلة: سقط من م س.(4/653)
ووضحت في الصلاح معالمك، ووقفت (1) على الجهاد عزائمك، وصح العلم بأنك لدعوة الإسلام أعز ناصر، وعلى غزو الشوك أقدر قادر، وجب أن تستدعي لما أعضل من الداء، وتستغاث لما أحاط بالجزيرة من البلاء، فقد كانت طوائف العدو المطيفة بها - أهلكهم الله - عند إفراط تسلطها واعتدائها (2) ، وشدة كلبها واستشرائها، تلاطف بالاحتيال، وتستنزل بالأموال، ويخرج لها عن كل ذخيرة، وتسترضي بكل نفيسة خطيرة، ولم يزل دأبها التشطط والعناد، ودأبنا الإذعان والانقياد، حتى استصفي الطريف والتلاد، وأتى على الظاهر والباطن النفاد، وأيقنوا الآن بضعف المنن، وقويت أطماعهم في افتتاح المدن، واضطرمت في كل جهة نارهم، ورويت من دماء المسلمين أسنتهم وشفارهم، ومن أخطأه القتل منهم فإنما هم بأيديهم أسرى وسبايا، يمتحنونهم بأنواع المحن والبلايا، وقد هموا بما أرادوه من التوثب، وأشرفوا على ما أملوه من التغلب (3) ، فيا لله ويا للمسلمين! ! أيسطو هكذا بالحق الأفك، ويغلب التوحيد الشرك، ويظهر على الإيمان الكفر، ولا يكتنف هذه الملة النصر -! ألا ناصر لهذا الدين المهتضم، ولا حامي لما استبيح من حمى الحرم! ! وإنا لله على ما لحق عرشه (4) من ثل، وعزه من ذل، فإنها الرزية التي ليس فيها عزاء، والبلية التي ليس مثلها بلاء.
__________
(1) م س: ووقف.
(2) م: واغترابها.
(3) قوله: ولم يزل دأبهما ... من التغلب: انظر ما تقدم ص: 248 - 249 حيث اقتبسه ابن بسام كأنما هو من إنشائه.
(4) عرشه: يعني عرش الدين.(4/654)
ومن قبل هذا ما كنت خاطبتك - أيدك الله - بالنازلة في مدينة قورية - أعادها الله - وأنها مؤذنة الجزيرة بالخلاء، ومن فيها من السلمين بالجلاء، ثم ما زال ذلك التخاذل يتزايد، والتدابر يتساند، حتى تخلصت القضية، وتعجلت البلية، وحصلت في يد العدو - قصمه الله - مدينة سرته (1) وعليها قلعة تجاوزت حد القلاع، في الحصانة والامتناع، وهي من المدينة كنقطة الدائرة وواسطة القلادة، يدركها من جميع نواحيها، ويستوي [في] (2) الاستضرار بها قاصيها ودانيها (3) ، وما هو إلا نفس خافت، ورمق زاهق، إن لم تبادروا بجماعتكم عجالا، وتتداركوها ركبانا ورجالا، وتنفروا نحوها (4) خفافا وثقالا. وما أحرضكم على الجهاد بما في كتاب الله تعالى، فإنكم له أتلى، ولا أحرضكم على [124 أ] التسرع إليه بما في حديث رسوله عليه السلام، فإنكم إلى معرفته أهدى.
وكتابي هذا جملة (5) : الشيخ الفقيه الواعظ يفصلها، ومشتمل على نكتة هو يوضحها ويبينها، فإنه لما توجه نحوك احتسابا، وتكلف المشقة إليك طالبا ثوابا، عولت على بيانه، ووثقت في عرض الحال عليك بفصاحة لسانة، وأنت بفضلك تستوعب ما يؤديه استيعاب المستوفي، وتصغي
__________
(1) ذكرها الإدريسي (نزهة المشتاق - قسم الأندلس والمغرب: 175، 196 تحقيق دوزي) وذكر أن بينها وبين شقورة مرحلتين كبيرتين، وأنها مدينة متوسطة القدر حسنة البقعة كثيرة الخصب.
(2) ط: ويستوفي.
(3) قارن بما ورد ص: 249.
(4) نحوها: زيادة من م س.
(5) ط د: يحمله؛ م س: حمله.(4/655)
إلى ما ينهيه إصغاء الواعي، وتجد منه مضض المرتمض، وتتحرك له تحرك الممتعض.
ثم لم يزل يستشري الداء، ويعم أقطار الجزيرة البلاء، وأمير المسلمين وناصر الدين - رحمه الله - مشغول ببقية حرب طوائف البرابرة المتغلبين - كانوا - على أقطار العدوة، فلم يزل يميط أذاها، ويضرح قذاها، حتى سلك (1) سبيلها، وطاب مستقرها ومقيلها، وكان من أشد تلك الطوائف أيدا، وأمتنها كيدا، العز بن سقوت (2) ، المتغلب - كان على مدينة سبتة وما والاها، فإنه جاهر بالخلاف سماعا وعيانا، وشغل أمير المسلمين - رحمه الله - عن تلافي هذه الجزيرة زمانا، إلى أن بلغ الكتاب أجله ووقته، وفتحت على يديه سبتة، حسبما نلخص الخبر عنها.
__________
(1) م س: سلكت.
(2) د م: سكات، وهذا وجه من وجوه كتابة هذا الاسم (انظر الجذوة: 33) وهو أيضاً سكوت، وسواجات، وفي أخباره راجع البيان المغرب: 250 وأعمال الأعلام: 141 وروض القرطاس: 104 وابن خلدون 6: 184؛ وقد كان الحوديون استخلفوا على سبتة شخصا اسمه رزق الله (أبو العطاف) فقتله سقوت سنة 453 وحكم سبتة وتسمى " المنصور " وهو والد الحاجب العز، الذي دخل المرابطون سبتة في أيامه.(4/656)
إيجاز لخبر عن فتح مدينة سبتة
وتلخيص التعريف بأولية أمرها (1)
كان سقوت بن محمد المتغلب عليها قد جرى عليه سباء، واستبد به ولاء، ففاز به (2) قدح علي بن حمود أيام امترى أخلافها، واعرورى شقاقها (3) وخلافها، ومن هالته طلع هلالا وبدرا، وبين باطله وبطالته عتق خلا وخمرا، وعليه (4) جيبت رحاها، وإليه كان مجرها ومرساها، حتى عدت (5) أيامه، واشتهر مقامه، وملأ أجزاء الزمان وصدر الأوان بأسه وإقدامه. ولما أفضت الدولة الحمودية إلى سقط زندها، ومنتهى جهدها، يحيى بن علي - المتقدم الذكر - ألقى بقماليد سبتة إلى هذه الأفعى الجارية، والشعلة الوارية، سقوت المذكور، فأقام به عمودها، وأطعمه قائمها وحصيدها، وطفق لأول حينه يخلق ويفري، ويجر لأبعد شئونه ليسير ويسري (6) ، وقد كان يحيى بن علي أشرك معه في عمالتها مولى آخر من مواليه يكنى أبا العطاف، أحد أجذال الطعان، وكفاة الأقران، فأقاما بقية أيام يحيى بن علي يتجاذبان أهدابها، ويتعاطيان
__________
(1) م س: أميرها.
(2) به: سقطت من ط د.
(3) م س: ثقافها.
(4) م س: وعنه.
(5) ط: غدت.
(6) وطفق ... ويسري: سقط من ط د.(4/657)
أقداحها وأكوابها، إلى أن وقع من مقتله (1) سنة سبع وعشرين ما فرغنا من ذكره، ونبهنا على مستودع مستقره؛ ولما أفضت دولة آل حمود إلى ابنه إدريس بن يحيى بن علي سما سقوت بن محمد فأخذ بلقم الطريق، وطلع لمغبونه إدريس من ثنايا العقوق، وأول ما بدأ به من ذلك الفتك بشريكه الخاسر، بحيلة خفية، تمخضت له بميتة (2) وحية، في خبر طويل، تركته تخفيفا للتثقيل، فأصبح بعده سقوت بن محمد قد حلت شمس سلطانه بالحمل، وقام وزن زمانه فاعتدل (3) ، وتسمى لأول وقته يومئذ من الأسماء السلطانية بالمنصور المعان، وقد عرض له ابن حيان ببعض أوابده، وفصل بذكره سلك مقيداته وشوارده، وأنا أذكر من ذلك ما وفى به وسعي، وكان من شرط جمعي.
قال ابن حيان (4) : وهذه نادرة من طخيات (5) هذه الفتنة (6) المبيرة، أن تخطت أرض هذه الجزيرة، إلى ما وراء بحرها الزقاقي الذي كان منه دخول العرب أيام فتحهم هذا الصقع، هاجتها (7) أسباب المنفسة الفادحة، لامتعاض حسيب الأملاك النبيه الأبوة الشامخة، عباد من هضم جاره الخارجي سقوت
__________
(1) يعني مقتل يحيى الحمودي.
(2) م س: بموتة.
(3) م س: واعتدل.
(4) نقل بعض هذا النص في كتاب مفاخر البربر: 45 مع بعض اختصار وتغيير في الترتيب وخلط بكلام ابن بسام نفسه، وانظر مخطوطة الرباط (رقم 1275) ص: 83.
(5) ط: طحيات؛ م: ضحياة؛ س: صخياء؛ مفاخر: هيجان (وفي المخطوطة: طخليات) والطخية: الظلمة أو السحابة.
(6) زاد في المفاخر: البربرية.
(7) م س: والمفاخر: هاجها.(4/658)
مولى ابن (1) حمود - بزعمه - الناهض الجد بأنقص (2) الخلال: من معقة المولى وختر الرفيق (3) واهتضام الحقوق، والترقي إلى أعلى مراتب (4) السلطان، حتى تسمى بالمنصور المعان، لقبين في قران، أغمض له عليهما [124 ب] الزمان، فساء غلطه في نفسه، واضطره القدر أن تمرس بجاره (5) عباد صيرفي (6) الفتنة الذي لا ينام على دمنة، كان سبب ذلك باعتقال عباد لرجل من تجار سبتة في شيء حضره بحضرته، فاعتدى عليه سقوت فاعتقل له عدة تجار (7) ، فنشأت لذلك بينهما (8) وحشة سنة سبع وخمسين، واجتمعا على عقد (9) البحر بينهما، فتلفت فيه رؤوس أموال، وهلكت من أجلها نفوس رجال، يطول في صفتها المقال، إلى أن كمل عباد من أسطول أنشأه نحوا من ثمانين قطعة، فأجراها إلى سبتة، فخرج عليها (10) أسطول لسقوت، فكان الظهور لابن عباد، ثم افترقت الأساطيل بعد حروب وسفك
__________
(1) م س: آل.
(2) م: بأنقض.
(3) م س: وخبر الرقيق.
(4) م س: لأعلى موارب (س: موازب) .
(5) م س: يجاه.
(6) ط: صيفري؛ م: صرفي.
(7) ط: رجال.
(8) م س: بينهما لذلك.
(9) ط د: عقل؛ س: عقر.
(10) م س: إليها.(4/659)
دماء وانقطع بحر الزقاق بينهما مدة استهما اجترار (1) منافعه فيها؛ انتهى ما لخصته من كلام.
قال ابن بسام: ثم غلظ أمر سقوت، حتى أخاف (2) القريب والنازح، واقتاد الحرون والجامح، وانبثت سراياه في البحر والبر، فأدرك المطلوب والطالب، وتصيد الطافي والراسب، ونجم (3) في لمتونة أمير المسلمين وناصر الدين أبو يعقوب يوسف بن تاشفين، رحمه الله، فأحاطت دولته بالفرق، إحاطة القلادة بالعنق (4) ، ودبت في ممالك العرب والعجم، دبيب البرء في السقم، وطفق يتبع آفاق جورهم بالعدل، تتبع الديمة آثار المحل، ويسبق قولهم بالعمل، سبق السيف العذل، وتجاروا إلى مصارعهم، حتى لحق متبوعهم بتابعهم، وانتظم دانيهم بشاسعهم، ودارت النوبة على سقوت بن محمد، فتطرف (5) أمير المسلمين - رحمه الله - بلده للفراغ ممن شذ عنه ذؤبان زناتة، وقد التفوا بِأحد محاش الفتنة، ووألوا إلى موضع يعرف (6) بالدمنة، فنزل بساحتهم أمير المسلمين، سنة إحدى وسبعين، على مقربة من بلاد سقوت (7) ، فهم بالانحياش إليه، فقد كان آل وإيل عليه، فنهاه حزبه الذميم السعي، وثناه ابنه الفائل الرأي، فقد كان هذا الفتى على بعد
__________
(1) ط د م س: احترام.
(2) أخاف: سقطت من م س.
(3) من هنا يبدأ النقل في كتاب مفاخر البربر: 54 ومخطوطة الرباط: 87.
(4) م س: بالفراق ... بالأعناق.
(5) مفاخر والمخطوطة: فتطوف.
(6) م س: يدعى.
(7) زاد في المفاخر: فتضيفه لا من خلة، وأراد أن يكثر به لا من قلة.(4/660)
مراميه، ولوذعية - زعموا - كانت فيه، يذهب مذهب الجبابرة من ملوك الطوائف عندنا، من الإعراض عن العواقب، وأخذ الشاهد عيارا على الغائب، أين ما هو فيه، لا يحفل بشيء يذره ولا يأتيه، ووضحت لأمير المسلمين - رحمه الله - السبيل إلى حربه، لما كان من نفاره عن قربه، وانتباذه لأول وهلة عن حزبه؛ فلما أوقع بأهل الدمنة، رمى سقوت ابن محمد بأقماره ونجومه، وأحله وجوه هممه (1) وهمومه، والبلاد تنقاد لحكمه، والمنابر تكاد تهل (2) باسمه، وسمع الرعية بمقدمه، فانثالوا عليه انثيال الجياع على الوليمة، وتباشروا به تباشر البلد (3) بالديمة، وخرج سقوت بن محمد في عديده وعدده، للذب - زعم - عن رعيته وبلده (4) ، وعساكر أمير المسلمين يومئذ على مقربة من مدينة طنجة، وعليها من قبله (5) ابنه المسمى بضياء الدولة، فلقي عساكر المرابطين وقد سالت بها سيولهم، وشارفها (6) لواؤهم ورعيلهم، فأقام بإزائهم يومين والأجل يقحمه، والخيل تسلمه، إلى أن طحنته رحاهم، وسالت نفسه على أسنتهم وظباهم، يوم الكسوف الشمسي الكلي من العام المؤرخ، ودخل المرابطون طنجة ذلك اليوم.
وأفضت الدولة البرغواطية إلى الحاجب العز ابنه، شهاب أفلاكها،
__________
(1) م س والمفاخر: همته.
(2) م: تهذ؛ س: تمد.
(3) زاد في المفاخر: التيهاء (وفي المخطوطة: التمية) .
(4) زاد في المفاخر: وأقسم أن لا يسمع قرع طلبه (طبله -) في ملكه.
(5) يعني: وعلى طنجة من قبل سقوت ...
(6) م: وطار بها؛ س: وشان بها.(4/661)
وخيرة أملاكها، هب للأدب ريحا، ونفخت دولته في أهله روحا، أعرض (1) به الشعراء وأطالوا، ووجدوا به السبيل إلى المقال فقالوا. وومن خيم في ذراه، ونال الحظ الجسيم من دنياه، الحصري الضرير، فإن (2) له فيه (3) ما أذهل الناظر عن الرقاد، وأغنى المسافر عن الزاد، والحاجب يكحل عينيه بزينة دنياه، ويفتق لهاته بمواهبه ولهاه، وكان سهل الجانب للقصاد، طلق اليد بالمواهب الأفراد؛ من رجل [125أ] استعان بالشر، وتهاون بالأمر، لا يجبي إلا من غلول، ولا يجيش إلا إلى ابن سبيل، لا سيما البحر فإنه أضرم لججه نارا، ولقي ريحه إعصارا، أخذ كل سفينة غصبا، وأضاف إلى كل رعب رعبا، فضجت منه الأرض والسماء والتقت الشكوى عليه والدعاء، وأذن الله لأمير المسلمين وناصر الدين - رحمه الله - فأناخ بعقوته، وحكم مداه بين سنامه وذروته.
وكان من الاتفاق العجيب أن أنشأ المعتمد سفينة ضاهى بها مصانع الملوك القاهرين بعد العهد بمثلها: شدة أسر، وسعة (4) بطن، وظهر، كأنما بناها على الماء صرحا ممردا، وأخذ بها على الريح ميثاقا مؤكدا، ووجهها على (5) مدينة طنجة لتمتار، وقد أنجد أمر الله وغار، ولما رأى أمير المسلمين وناصر الدين - رحمه الله - تلك السفينة، خاطب المعتمد في ذلك، فشحنت على سبتة موتا ذريعا، وأقيمت بإزاء أسوزارها (6) حصنا منيعا. فلما كان يوم
__________
(1) مفاخر: أعوص.
(2) ط د: فبان
(3) في النسخ: فيها.
(4) ط د: ومنعة.
(5) م س: إلى.
(6) م س: سورها.(4/662)
الخميس من صفر سنة ست وسبعين، قدم أمير المسلمين لقتال سبتة أسطولا فخما، رجم به مردة عفاريتها رجما، ولقيه العز بن سقوت ببقية جمة من أسطول طالما أوسع البلاد شرا، وملأ قلوب أهلها ذعرا، فكان لأول ذلك اليوم ظهور (1) على أسطول المرابطين حتى أخذ منه قطعة جليلة المقدار، ظاهرة الحماة والأنصار، فكان من إذلال الله للعز بن سقوت يومئذ أن بخل على آخذها (2) ، وتكلم بكلام أنكر عليه فيه؛ وارتاعت محلة المرابطين لأخذ تلك القطعة، حتى هموا بالإحجام، وقوضوا بعض الخيام. وغضب أمير المسلمين وناصر الدين - رحمه الله - إحدى غضباته فكانت إياها، وفغرت المنايا (3) على سبتة فاها، وتقدمت تلك السفينة حتى أطلت على (4) أسوارها، ورفعت صوتها ببوارها، وأفضت بدولة صاحب سبتة إلى سوء قرارها، ليلة الجمعة من صفر المؤرخ، ولجأ العز بن سقوت في نفير من أصحابه إلى البحر، فهم بركوبه، فأعوزه الفرار، ودفع في صدره المقدار، وكر راجعا، فدخل دارا تعرف بدار تنوير (5) ، وبدر به جماعة من المرابطين، فاقتحموا عليه بعد مرام بعيد، وقتال شديد، حتى ضاق اضطرابه، وفر عنه أصحابه؛ ولما أحس بالشر دفع ذخائر (6) كانت عنده إلى أحد من وفى له من رؤوس حماته، فبلغني أنه عثر عليها ووجد فيها جوهر كثير، ونشب من نشب
__________
(1) م س والمفاخر: ظهر.
(2) ط: آخذيها.
(3) ط د: المنية.
(4) م س: أظلت أسوارها؛ ط د: طلت على ...
(5) مفاخر: شوير (وفي المخطوطة: تنوير) .
(6) م س: دنانير.(4/663)
الملوك (1) خطير، ووجد في جملتها خاتم يحيى بن علي بن حمود. وخرج العز بن سقوت حين وضح الفجر من ليلته تلك. فلقيه المعز ابن أمير المسلمين (2) - رحمهما الله - فجلله الحسام، وحكم فيه الحمام، تعالى من لا يرد قضاؤه، ولا تبيد آلاؤه.
ومن ترسيل ابن أيمن أيضا رقعة (3) عن المتوكل إلى المعتمد في معنى خروج أبي المطرف ابن الدباغ عنه (4) إليه، قال فيها: من تخيرك - أيدك الله (5) - على سواك، وأرادك (6) وترك وطنه هجرة إلى ذراك، وأسرع تلبية دواعي سرورك وعلاك، فمجدك يقضي له - وإن أزعجته عنك بحكم الاضطرار، صروف الأقدار - أن تستمر عليه النعمى، وتطرد لديه (7) العارفة الحسنى، وينتظم بدء الصنيعة فيه بالعقبى، فالفضل على علمك بتمامه، والطول باختتامه، والبر بمقتضاه (8) ، والمن بأخراه.
وهذه - أدام الله تأييدك - حال فلان، فإنه هجر إليك الورى، وركب
__________
(1) م س: الملك.
(2) كان المعز ولي عهد يوسف بن تاشفين، لكنه توفي في حياة أبيه فقدم ابنه عليا لولاية العهد، وفي مفاخر البربر أن المعز طلب إلى ابن سقوت أن يعيطيه المال فقال له: " خازن أبيك كنت تجمع لك المال - " فجلله الحسام ... الخ.
(3) ط د: ومن ذلك رقعة ...
(4) عنه: زيادة من م س.
(5) م س: أدام الله تأييدك.
(6) وأرادك: سقطت من م س.
(7) م س: عليه.
(8) م س: بمنتهاه؛ ط د: بمنتضاه.(4/664)
نحوك أعناق الأمل والهوى، وقد كان ظفر بالحظ (1) من دنياه، واعتلق منها السبب الذي لا تنتقض مرره ولا تنتكف (2) قواه، إلا أن الزمان من بت (3) العصم، وإحالة النعم، والقطع بذوي الآمال والهمم، جار في سننه الذميم، على القديم، وحين جد به (4) الجد العاثر - أسعد الله جدودك، وأدام تأييدك - في الانزعاج من جنابك، ومفارقة النعمة من ملازمة ركابك، وخدمة بابك، لحق بحضرتي - طاعتك - يعتقد - وحق [125 ب] ما أعتقده - أنه لم ينفصل عن جماعتك، ولا تحول إلا إلى أعمالك، وانتقل من يمينك إلا إلى شمالك، وعنده تذكر لحسن معاهده لديك، وطيب مشاهده بين العزيزتين يذيك، ما ليس مثله إلا عند معتقد أيام الصبا، ومستعيد عشيات الحمى، وأما شكره لسوالف نعمك، ونشره لمطاوي منازعك الجميلة وهممك، وإشادته بسنائك، وإبداؤه وإعادته في حسن (5) آثارك وأنبائك، فبحيث لو جاز أن تتقلد مقاومه في ذلك لعطلت الحلى، أو تتورد لشفت من الصدى، أو تترشف لأغنت عن برد اللمى، أو تقطف لكفت من يانع الجنى. ومن فارقك - أيدك الله - وتحرقه للبعد عنك تحرقه، وتحققه بالتشيع لك تحققه، ففضلك الباهر يأبى أن تنقطع عنه عوارف الإجمال على النوى، ولا سيما
__________
(1) م: بالحظ فيه؛ س: بالحد فيه.
(2) م س: ينتقض.. ينتكث.
(3) م س: الزمن من بث.
(4) م س: جذبه.
(5) م س: تحسين.(4/665)
وقد وسدت مع القرب جوازئ آماله أبردي ظلاله (1) ، وأوردت على الدنو ظامئة ذمامه النمير العذب من جمامه، وقد كان لحقه عند انزعاجه عن حضرتك - ولله حراستها، ولك رئاستها - ما الفضل له متألم، والمجد منه متذمم، مما أعلم - والله - علم اليقين أن سيادتك تأبى مسموعه، ولا ترضى وقوعه، وإنما أتى ذلك التعدي - لا محالة - من جهة المتولي، لأن قدرك - رفعه الله - منزه عن ارتجاع موهوب ولو عظم، ومعاملة خادم باستصفاء مكسوب وإن ظلم، وعند الوزير الكاتب أبي طالب من بسط هذه النكتة ما أنت بمعاليك تقتضيه منه وتستوفيه، وتأتي متفضلا من الإيجاب فيه، بما يليق بسؤددك الأثيل، وقعددك الجليل، ومعتقدك الحسن الجميل، واضعا بذلك عندي يدا تشف على ما تقدم أخواتها، وتهتف بالتعجيز عن معارضتها من جميع جهاتها.
وله (2) : الفضل - لا زالت له أهلا، وبه أولى - عن شرف حامليه موضح، " وكل إناء بالذي فيه ينضح "؛ وورد كتابك - لا زالت المسار (3) تردك، والأقدار تسعدك - بوصول فلان إلى حضرتك - ضاعف الله جلالها، وبسط ظلالها -، وما كان من أخذه عند مثوله، بكرم (4) فرعه التابع لطيب أصوله، في وصفي بما والله قطعني على البعد، وقنعني حياء من المجد، فإني ما رأيت مثله سواه، والله يغفر له ما أتاه، ذكر الجود والبحر (5)
__________
(1) ط د: ظله؛ وهذا من قول الشاعر:
إذا الأرطى توسد أبرديه ... خدود جوازئ بالرمل عين (2) وله: سقطت من ط د، واتصلت هذه الرسالة بما قبلها.
(3) م س: المسرات.
(4) م س: بكريم طبعه.
(5) ط د: والمجد.(4/666)
شاهد، وأسهم في الفضل وربه أحد، وإذ لا أستجيز موافقة جفائه، بالاعتراض على تقريظه وثنائه، فلا بد أن أعتذر مما استكثر، وأتذمم مما استعظم، وأقول: إني ما عدوت في تلقيه ببعض حقوقه، استرسال الصديق مع صديقه، ولو ذهبت إلى معارضة فضله، وتوفيه واجب مثله، لضعفت عن ذلك أسباب المقدرة (1) ، ووضحت بوقوع العجز وجوه المعذرة، وهو ولي البر والإجمال، فيما عرضه وحسنه من الحال؛ وهكذا من شرف الله محتده، وأطاب (2) مشهده، ومن زكا عنصره، وكرم محضره.
وذكرت في الكتاب الكريم، عقب هذا الفصل، بل سابغ الفضل، أن ما نقله فلان المذكور إليك، وأورد عني عليك، مما وافق مرادك، وطابق غرضك واعتقادك، ولا غرو فاتفاق المذاهب والآراء. تبع لتمازج (3) النفوس والأهواء، ونحن بحمد الله في الاتصال يد وساهد، وفي الانتظام جسمان والروح واحد.
وتقدمت كتبي إليك بما كان من تطرق خيل العدو - بددها الله - جهاتي (4) ، طاعتك، حتى كادت تتركها خلاء، وتعيدها (5) عفاء، وأنبأتك أن ذلك لا يثبت معه سلم، ولا يرقأ عليه كلم، ولا يطيب معه معتقد،
__________
(1) ط: المقدورة.
(2) م س: من شرف محتده وطاب.
(3) ط د: لتنازح.
(4) جهاتي: موضعها بياض في م س.
(5) ط د: وتوعدها.(4/667)
ولا يصبر عليه أحد؛ والآن فقد ورد ما هو أشد، وطلع ما هو أشنع وأفظع، وذلك ضرب الخيل من قبل فلان على تلك الجهات، وبلوغها في النكايات أقصى الغايات، فعل العدو المحارب، وعمل الضد المطالب، لا يمر بحصن إلا أناخ بحياله، وجد في قتاله، وهذه حال ليس وراءها إلا الاستئصال، فمذهب القوم في حيز الجلي (1) [126 أ] الظاهر، وقد وضح الصبح لذي ناظر، وأهل تلك الجهات مظهور القلق، من اتصال هذا التطرق (2) ، معلنو الشكوى، بتجاوز هذه العدوى، فكيف يسوغ لي - وجهاتهم مباحة، وأحوالهم مجتاحة، طلبهم بما تعرفه، والاستعانة بهم على ما نكلفه، أليس ذلك في حد الامتناع، وجانب الأمر المستطاع -!
فصل في ذكر الوزير الكاتب أبي محمد عبد المجيد بن عبدون (3) ،
وسياقه فصول من غرائب نثره ونظمه.
وأبو محمد هذا في وقتنا سر الدهر المكتوم، وشرف فهر الحديث والقديم،
__________
(1) م: الجلا.
(2) ط د: هذه الطرق.
(3) كان ابن بسام يعتقد أن المتميزين من كتاب عصره أربعة كلاعيان وفهريان، فالكلاعيان هما ابن القصيرة وابن عبد الغفور، والفهريان أبو القاسم ابن الجد وأبو محمد ابن عبدون، (إحكام صنعة الكلام: 110) وكانت صلة ابن بسام بابن عبدون وثيقة وقد صور اللقاء الأول بينهما في القسم الأول والثالث 1: 144، 3: 498 (وانظر إحكام صنعة الكلام: 260) ؛ كما أن ابن عبد الغفور صور علاقة ابن عبدون بأبيه (إحكام: 148) وكيف تصافيا بعد خصام، وأبرز اعتداد ابن عبدون بنوع من النثر يقال له المبتدع (157) ولابن عبدون ترجمة في القلائد: 145 والخريدة 2: 103 (وكناه مرة أبا بكر ومرة أبا محمد) والمغرب 1: 374 والرايات 32 (غ) وبغية الملتمس رقم: 1567 (وقال إنه كان في حدود الأربعمائة فوهم أو عنى شخصا آخر) وصلة الصلة: 42 والتكملة: 407 (وكر أن وفاته كانت بعد 520) والمعجب: 128، 228، (وأورد له رسالتين لم يوردهما ابن بسام) والمطرب: 127، 180 والفوات 2: 388 والزركشي: 298 وأورد ابن بشكوال ترجمة في الصلة: 369 لمن سماه عبد المجيد بن عبد الله بن عبد ربه الفهري وذكر أنه توفي سنة 527؛ وانظر صفحات متفرقة من إحكام صنعة الكلام ومن نفح الطيب (وفي ج - 1: 673 نقل لترجمة ابن عبدون عن القلائد) والريحان 1: 81 ب - 86 / أ.
الأصل: في الغر أنه كمر الثوب، يقال طويت الثوب على غره أي على كرسه الأول.(4/668)
لسان صدقها في الآخرين، وقمر أفقها ملأ الصدور والعيون، وديوان علمها المذال والمصون، ومسترق كلمها المنثور والموزون، أعجوبة الليالي، وذروة المعالي، ذو لسان يفري ظبة السيف، وصدر يسع رحلة الشتاء والصف، أفصح من صمت ونطق، وأجمح من صلى وسبق، عول من ملوك الطوائف على رئيس بلده المتوكل، فعليه نثر دره الثمين، وباسمه حبر وشيه المصون، وقد رحل إلى المعتمد فكأنه لم يجد قبولا، ولا وافق منه رأيا جميلا، وقد رحل إلى المعتمد فكأنه لم يجد قبولا، ولا وافق منه رأيا جميلا، وأراه إنما أتي من ازورار جانبه، وبعد مطالبه، فلما صمت ذكر ملوك الطوائف بالأندلس، طوى الشعر على غره (1) ، وبرئ من حلوه ومره، إلا نفثة مصدور، أو التفاتة مذعور، وهو اليوم ببلد يابرة يرتشف (2) فضل ثماده، ويأكل من بقية زاده؛ وقد أثبت من نظمه الرقيقة حواشيه، الرائقة أعجازه وهوادبه، ونثره الغضة مجانيه، المبيضة مجاليه، ما يشهد له بالفضل، شهادة البرهان على الشكل.
__________
(1) الأصل في الغر أنه كسر الثوب، يقال طويت الثوب على غره أي على كسره الأول.
(2) م: يرشف.(4/669)
نسخة (1) له خاطب بها الوزير أبا (2) القاسم بن الجد يخطب فيها وده، ويستجلب ما عنده، قال (3) فيها: يا راية مجد رفعت، فإن تلقيتها باليمين، وأعطيتها الثناء، الثمين، شددت عليها يد الضنين، وشريعة فضل على مائها (4) أحلق وأحوم، وبصفائها أجد (5) وأهيم، وفي ابتغائها أقعد وأقوم، فلو وصل رشائي بباع، من رجع جواب واجتماع، لبردت غلة ذلك الاشتياق والالتياع، وإن تعذر لقاء، فقد انتشر ثناء، امتلأت الأرض منه السماء، ووصف عز الأوصاف وغلبها، وهز الأعطاف وجذبها، وذكر ملأ الآذان حليا، والآناف ريا، والأفواه أريا، ونبل جلت مطالعه دياجي الأوهام، وصقلت (6) مواقعه صوادي الأفهام، ومجد رد الليالي الدهم زهرا، والمساعي البهم غرا، فوددت أن أعار جناحي طائر، فأكون لكعبة ذلك الجلال أول زائر، فأقرن هناك حجة بعمرة، وأفوز من عمادي - وصل الله علوه - بنظرة، توسع عيني قرة، ووجهي نضرة، وأعشو إلى ذلك الضياء، وأرى محلي من تلك السماء؛ ولله دهر أطلعك أفقه، ووقت وسعك طلقه، ما أكرم طبيعته، وأضخم دسيعته، وأشرف في الأوقات خيمه، وأعبق في الآناف شميمه، وأرق على الأنفاس نسيمه! ! وبحقك أقسم، وألتزم من ذلك ما ألتزم،
__________
(1) م س: نسخة رقعة.
(2) م س: أبو.
(3) قال: زيادة من م س.
(4) ط د: ثنائها.
(5) ط د: وبصفاتها أحدو.
(6) م س: وروت؛ وعلى هذه القراء تكون " صوادي " بمعنى " عطاش "؛ أما على القارءة المثبتة فإن " الصوادي " تعني التي أصبحت صدئة تحتاج إلى صقل.(4/670)
لقد أظهر بك شرفه وبين، وأخذ منك زخرفه وازين؛ وجعلك غرة بهيمه، وغارة (1) [126 ب] مليمه، والحجة على خصومه (2) ، وأبدى سرا طالما كتمه وأخفاه، وشرح معنى شد ما أبهمه وعماه، فلو كنت في الأزمان السالفة لوددت أن يتقدم دهري فألقاك، أو في الأوقات المستانفة لحمدت أن يتأخر عمري فأراك، فكيف وقد ضمني معك عصر، وجمعني وإياك غهر، وأنا أخطب إلى عمادي - أدام الله عزته - مودته عقيلة، وأجعل رحمي الأدب والنسب وسيلة، وأبذل من تحلية حمدي وشكري مهرا، وأبني لها بين سحري ونحري قصرا، وأسدل عليها من الإشاعة والإذاعة سترا، وأحليها (3) من مشدود موائق ومعاقد، بمسرود مخانق وقلائد؛ والله جل وعلا يعينني (4) على فرضه أؤديه، وقرضه أقضيه، ومن (5) جزيل تحيتي، على سيدي الأعظم وإمامي، ما يفعم رياه الخافقين، ويقر مرآه كل عين، ينقاد من غير قائد، وينساق من غير سائق، إذا انتهت أولاه، عادت أخراه، وإذا صدقت تباشيره، برقت أساريره، يحيي مغناه، عند (6) سروبه وسراه.
فراجعه الفقيه (7) بما نسخته: يا روضة أدب غذيت برهم
__________
(1) ط: وعذرة؛ س د: وغدرة.
(2) ط: خصوصه.
(3) م: وأحلها.
(4) ط د: يعيننا.
(5) من هنا حتى آخر الرسالة ورد غير منسوب في إحكام صنعة الكلام: 83.
(6) عند: سقطت من ط د.
(7) الفقيه: سقطت من م س.(4/671)
الفهم، وسقيت بديم حسن الشيم، ما أدمثت رباك، وأطيب شذاك، وأزكى قرارك، وأذكى عرارك! لقد شرقت بأزهارك (1) زهر النجوم، ولبست من الكمد والحسد زي الوجوم، وبطل لنفحات (2) شذاك ورياك أرج (3) العبير، وتعطل لما وشت يداك واكتسى ثراك نسيج الجبير، لله در (4) تحفة أهديت (5) من تحفك! ما أنظر جناها، وأزهر سناها، وأبهر لفظها ومعناها! ! لقد ضمنت من بدائع الكلم فقرا شوارد، وقلدت من نواصع الحكم دررا فرائد، وخلعت (6) علي خلعة نبل أو كسي مثلها أويس (7) لاهتز طربا، أو سلي بشبهها قيس لعاد نبع وجده غربا، لا جرم أنها حلاك، تبرعت بها علاك، وصفاتك، تجافت عنها مصافاتك، فيا لها منة لا يكافئها ثمن، ولا يسمح بمثلها زمن، ومنحة تتضاءل لها بيض النعم، وتتقاصر عنها حمر النعم.
وما زلت أستنشق من عرف أنبائك، ما يرغب في اقتنائك، وأتحقق من قلة أندادك، ما يبعث على خطبة ودادك، لا سيما وقد جمعتنا عناصر، وضمتنا من سهم الأدب والنسب أواصر، لكن تحاميت المفاتحة هيبة لبراعة إحسانك، وبلاغة يدك ولسانك، ومن ذا ينازعك رتبة
__________
(1) م س: بأزاهرك.
(2) م: نفحات.
(3) م س: ريح.
(4) د ر: سقطت من م س.
(5) م س: أهديت لي.
(6) م: وجعلت.
(7) أويس القرني مضرب المثل في الزهد، توفي في خلافة عثمان (سنة 37هـ -) انظر طبقات ابن سعد 6: 111 وحلية الأولياء 2: 79؛ وقرن - بفتح الراء - بطن من مراد.(4/672)
البيان، ولو سحب ذيول سحبان، أو نطق بلسان حسان؛ وإن كانت للكلام إمارة فأنت فارس منابرها، وطاعن محابرها، ومقلد (1) علمها ولوائها، ومذلل صعرها والتوائها، ولئن كنت - أعزك الله - من غرائب المغرب، لقد زهيت لك المشارق، وحليت بجواهرك ونوادرك المهارق، ولما صح لك فضل التقدم إلى صلة الأسباب، ومفاتحة هذا الباب، تعين الجواب (2) ، وإن أنبط من حسي بكي، وقلب غير ذكي، وناهيك من خجل من يقيس الصفر بالذهب، ويعرض الخمود للهب، فتكلفت المراجعة اضطرارا، واستشعرت اعترافا بفضلك (3) وإقرارا، وأنت بسروك تصفح عن هناتها؛ وتقيم أود قناتها، ولولا حق الاقتضاء، والثقة بكرم الإخاء، لأحجمت ذعرا، وقدمت عذرا.
وأما المودة التي خطبت بفضلط بكرها، واستوجبت حمدها وشكرها، فقد زففتها إليك مشرقة الجبين، بنور الحق المبين، ضاحكة الترائب، على حسن (4) الضرائب، تتأود في حلل الثناء (5) ، تأود الكاعب الحسناء، وتحمل من نطف الصفاء، ما يزري على الديمة الوطفاء، فإن وافقت لديك وجها خصيبا، واستحقت من رضاك وقبولك نصيبا، فقد فاز قدحها، ووري قدحها، ولم يخب سعيها وكدحها. وظني أنها ستسعد بارتضائك، وتهتز في أيد انتضائك، وتأنس بحوارك، وتسكن إلى جوارك،
__________
(1) م: ومتقلد.
(2) الجواب: سقطت من م.
(3) م: لنفسك.
(4) يحلى حسن؛ وسقطت " حسن " من ط.
(5) في ... الثناء سقطت من م.(4/673)
[127 أ] والله تعالى يبقيك، مرغوبا فيك، وأقرأ على سيدي سلاما دائم الاتصال، عطر البكر والآصال، يتكرر تكرر الأنفاس، ويخضر دائما اخضرار الآس.
وكتب أيضاً أبو محمد (1) إليه برقعة قال فيها: يا أعظم من لو سريت بأنواره لاهتديت، وأفخم من لو اقتديت بآثاره لاكتفيت، ومن أبقاه الله لفخر آبائه يفضله إلا من بنيه، ولستر إغضائه يسدله على مستحقيه، ولعذر أوليائه يقبله على ما فيه، كتبت عن قريحة خمد (2) لهيبها، ونحيزة ركد هبوبها، وذهن امحت أضواؤه، وطبع أخوت أنواؤه، وجنان فل ظبته (3) الكسل، ولسان عقد عذبته الخجل، ندبته إلى الاحتفال فانقطع، وبعثته على الاسترسال فامتنع، وقال: في كل حين تعرضني على العيون، بوجه مجدور، بكل نجه (4) جدير، فقلت: لا عليك، ولتشب نفسك إليك، العذر إن شاء الله بين يديك؛ حامل الرقعة إلى عمادي - وليته لم يحملها إليه، ولم يطلعها عليه (5) ، ولم يضعها بين الكريمتين (6) يديه - حفزني أشد حفز، واختطفها (7) من يدي اختطاف الذئب دامية العنز، ومنعني من النظر فيها، وتصفح ألفاظها ومعانيها، فأسقطت لفظتين، كانتا
__________
(1) م س: أبو محمد أيضاً.
(2) إلا من ... خمد: سقطت من م.
(3) م س: الطيبه.
(4) م س: نجد.
(5) ولم يطلعها عليه: سقطت من ط.
(6) الكريمتين: زيادة من م.
(7) م: واستخطفها.(4/674)
بين سطرين، فاتفق بذلك نوع من الإغراب، لم يقع في باب من الإعراب، ولا سمع من العرب ولا من الأعراب، ولم يقع في حساب، فكيف في كتب -! ولئن وما أولاه بالتعثير، وغير كلمي وما أجدره بالتغيير، ما بهر من جلالك، وتعين من إجلاك، فمن رام الصعود إلى السماء زل، أو المكاثرة بالهباء قل، أو المظاهرة على الرؤساء ذل؛ وبين يدي نجواي صدقة على الكتاب أقدامها، وكلمة من الصواب أغتنمها: من طمع في مجاراتك قطف (1) ، ولو ركب البرق، ومن دفع إلى مباراتك تخلف، ولو سبق الخلق؛ وإن وصلت تلك الرقعة تتعثر ألفاظها في معانيها، وتتبرأ من تواليها، ووافتك ترسف من مهابتك في عقال، وتقف من سيادتك بين انقباض واسترسال، فلك - أدام الله عزك - شرف الاهتبال وكرم الإجمال، في إرخاء ستر وأسدال سجف، على ما فيها (2) من جفاء بشر وإخلال حذف؛ فقبح الله العجلة فما أسوأ آثارها، وأكثر عثارها وأكبر شنارها، وأوحش غلطها، وأفحش سقطها! وقديما تحامتها الحكماء، وتبادرتها العقلاء، من ركبها لم ينج - لو أقيل - من عثار، ومن صحبها لم يخل - لو قبل - من اعتذار، والله جل وعلا يعلي قدر عمادي على الأقدار، ويجعل إليه وفي يديه مقاوم الليل والنهار، ويديم ستر إغضائه، على أودائه وأوليائه، ويزيل وحشة أرضه بتأنيس سمائه.
وكتب (3) إليه أيضاً برقعة ثانية يقول فيها: يا حامل يراعي
__________
(1) قطف: مشى ببطء.
(2) عند هذا الحد تنتهي النسخة م.
(3) تنفرد س بهذه الرسالة، ولرداءة هذه المخطوطة فإن إقامة نص صحيح تماما منها أمر بالغ العسر.(4/675)
الأعظم، ومعول انقطاعي الأقوم، ومعقل امتناعي الأعصم، ومن لا زال جنابه للأمطار رضيا، وبابه للأوطار شفيعا، ترشح فيه نعم الأيام، وتقسم أرزاق الأنام، سلام الله وروح رحماه، ونفح سقياه، عليك من روضة نجد، وزهرة حسن لا زهرة حزن، ما أغدق صوبها، وأغزر شربها، وأرسخ وهاد مطاويها الشريفة، وأشمخ نجاد مباديها المنيفة، وأشهر بغرر المجد وحجولة بطون مجانيها، وأغمر بدرر الرفد وسيوله ظهور روانيها، وأصفق غيوم كرم تسقيها، وأرق نسيم شيم يجري فيها، وآنق تسبيح لسانها، وأعبق رائح أنفاسها، وأخلص شذاها إلى الأرواح، وأعرض رياها على الأفواح، وأضحك ثغور أقحوانها ووارف نورها، على رقص قدود أغصانها وغناء طيرها، لقد حيا بها نفوسنا فشفاها، وكساها من حر أزاهر الكرم ما كساها، وحلاها من درر نوادر الحكم بما حلاها، وأجرى هوامي الخير والحمد من أصولها وفروعها، وأبدى مطاوي النور من كمونها وبروعها، فهام رعانها محلاة الأكاليل بمحاسن من المفاخر العظام، وأجسام غيظانها موشاة السرابيل بتزايين من المآثر الجسام، وأبقى من أرواحها، في رؤوس أدواحها، ألسنا تثني عليك بالجميل، ودموع أندائها تخلق في وجوه مائها نوالك بالقبول، فلا لحق أزهار خلالك ذبول، ولا طرق أنوار خصالك أفول، ما مشى بالقسيم، بريد النسيم، بيم الأزاهر والخياشيم.
يا مرادي الحفي، ومن أعلى الله أمره السني، وصلني كتاب كريم، طلعت علي منه نجوم، أستغفر الله تعالى بل رجوم، هوت من أساطيري على شياطين فأحرقتها بنور الحق المبين، ومحقتها محق ضياء اليقين، ظلام الشك الظنين، وتلقفتها تلقف عصا موسى حبال الملقين، وقبل نظري إليه وفيه، قبلت يد موشيه ومهديه، وخفت أن أمحو سطوره تقبيلا(4/676)
فوضعته لرأسي إكليلا، وصرت به على الدهر أميرا، وكيف لا و [قد] ملأ عيني نورا وقلبي سرورا، ويدي مسكا وكافورا، وداخلت نفسي منه قوة لا أعرفها، فكيف أصفها، ولا أدريها، فكيف أحكيها - وهي - أظن - ما يداخل المضل إذا أنشد فوجد، والمقل إذا استعدى على الدهر فأعدي بنغبة الحيا، فقال: يا رفاه، فرحا بسقياه، وأنا أقول ذلك ألفا، وأضع خدا وأرفع كفا، فرحا بما أولى عمادي - أعلى الله قدره - من مسار متناصرة، ومبار متظاهرة، لا ينبري إليها شكر، ولا يحتوي عليها حضر، ولولا رجائي - بلقائه، واعتزائي إلى ولائه، ما حاسنت البقيع المزهر بشجرة، ولا ماتت الربيع المخضر بقطرة، وأرجو أن يسمح بالعفو، ويصفح عن الهفو، ويلقي عليه ستر معروفه، ويغطيه بسجف من سجوفه، والله تعالى يقيه ويبقيه، مشكورا أياديه ومساعيه، قريرة عيون أودائه وأوليائه فيه؛ ومن سلامي على عمادي المعظم، وإمامي المقدم، ما لا يخلف مكانه قطر، ولا ينوب منابه زهر، ولا يقوم مقامه عنبر، ولا يشق قتامه مسك أذفر، يلوح بلغة لكل رامق، ويفوح عبقه لكل ناشق، ما أديل لشارق، وسارب بطارق، والسلام.
فكان من جواب الوزير الفقيه أبي القاسم له على ذلك ما نسخته: تمهدت لك يا عمادي أكناف الهمم، ودرت عليم أخلاف النعم، وألقت إليك مكنون ضمائرها ومصون جواهرها أصداف الحكم، فما أتم فضائلك وشمائلك، وألم (1) بأنوار المحاسن خمائلك، وأسمح بكل جوهرة ثمينة ولؤلؤة نفيسة بحارك، وأنفح الآداب بل بأرواح الشباب أصائلك
__________
(1) س: وأنم.(4/677)
وأسحارك! ! وأكرم بخاطبين لك تسابقا إلي وتلاحقا لدي، كما لحق المصلي السابق، وتطلع الضحى غب الشارق، وتدفق الحيا إثر البارق، أو كما شفع المولي الطوق بالسوار، وجمع العروس بين بهجة الحلي ونفح الصوار (1) ، وأنجد البطل (2) المبارز المغوار، فما طويت للمتقدم مطارف، حتى نشرت من المتأخر رفارف، وما انحسرت عن محاسن الأول معاجر، حتى سحرت من براقع الآخر محاجر، وقد كان السابق منهما (3) ما يملأ بهرا مدارج نفسي، ويملك دهرا أعنة خرسي، ويوسع لساني وجناني إفحاما، ويوجب لدواعي الانقطاع بين يدي ازدحاما، فكم تقلد من درة فكر لفظها بحرك العذب الزلال، ونفث فيها سحرك الحلو الحلال، فلم تقنع لغامر [127 أ] بحره، وباهر سحره، حتى شددت عرى أواخيه، بقوى أخيه، وأمددت مذانب سربه، بتلاع تربه؛ فلئن كان الأول قد استعار من الجوزاء مرطا، لقد استمنح الآخر من الثريا قرطا، ولئن ورد السابق من موارد النثرة نغبا، لقد شرب اللاحق من ماء المجرة ثغبا، فهلا كففت استنان خيلك، وأمسكت قليلا عنان سيلك، وثنيت من غرب غرائبك، وجريت على سجاحة ضرائبك.
وقد كان من حق الإخاء أن لا تهب من عواصفك على نسيم عليل، وتجهز كتائبك إلى عدد قليل، وحد فليل، وبدون هذا كنت أواليك مبايعا، وأعطيك صفقة يدي بالعجز طائعا، فلست ممن يعارض قوة البرهان بضعف الإقناع، ويشتبه عليه فرق ما بين الإمكان والامتناع، وإني لأعلم
__________
(1) الصوار: وعاء المسك.
(2) البطل: سقطت من س.
(3) في الأصول: منها.(4/678)
ممر سهمي فأقف وأنصرف، ومنتهى علمي فأنصف وأعترف؛ وأما العذر الذي بسطته في معنى الوهم، فقد كنت غنيا عن مد أوضاحه، وحريا باطراحه لاتضاحه، وهيهات أن يلتبس عليك الغريب، فكيف القريب -! أو يشتبه لديك الخفي، فكيف الجلي -! وما حسبته إلا تميمة في صدر الكتاب، تصرف عنك أعين الكتاب.
وبعد - باعدتك الأسواء - فإن رسمي في صناعة الكتابة قد دثر، ونظمي في ضبط معانيها قد انتثر، ولم يبق عندي إلا أثر خراب، أو لمع سراب، فإذا امتريت خلفها در بعسر، وعلى قسر، وتحلب رسله بضجر، كأنما يتفجر من حجر. وهي خطة مدارها على الإقبال، وفراغ البال، وزمامها في يدي الشباب، مع توكد الأسباب؛ وأنا - أعزك الله - قد عطلت صهوة جوادها، ونزلت عن ذروة أعوادها، فلا ترهقني فيها عسرا، ولا تحملني من مناهضتك إصرا، وتوخ بفضلك معي جانب الترفيه والتخفيف، وتقبل مني عفو اليسير اللطيف، وأقرأ عليك من سلامي ما يربي على القطر، ويزري بعنبر الشجر، ويبقى ميسمه في صفحة البدر.
قال ابن بسام: قول أبي القاسم: " وما حسبته إلا تميمة في صدر الكتاب " احتذى في ذلك حذو أبي المغيرة بن حزم، في فصل خاطب به ابن عمه الفقيه أبا محمد بن حزم في حرف همزه، مما لا يهمز، فقال له (1) :
ومن أين نفذ صبرك حتى همزته همز عامر بن الطفي، قرنه في
__________
(1) انظر القسم الأول من الذخيرة: 163 - 164.(4/679)
سواد الليل، وما أظنك جعلتها إلا تميمة، لتلك القطعة الكريمة، وامتثالا لقول القائل:
ما كان أحوج ذا الكمال إلى ... عيب يوقيه من العين فصول من ترسيل أبي محمد
فصل له من رقعة عتاب: سلام على من نظر بقلبه لا بعينه، وحكم بيقينه لا بظنه، ونطق بعقله لا بهواه، وأخذ من دنياه لأخراه، ولم يستفزه قال ولا قيل، ولم تهزه تلك الأباطيل. وبلغني قول من قضى علي بالظنة، وحكم بالشبهة، وللمقولات طرق لا يتعداها متجاوز إلا نسب زيغها إليه، لا سيما في ضربة توجب حدا، وتضرع خدا، وتفل من فاضل حدا، لم يطلع مشيعها مني على ريبة، ولا وقف مذيعها على حقيقة، بل افتراء من مفتر، وادعاء من مدع، في تلك التي لا أسميها، فإني طلقتها قبل الدخول ثلاثا، " ونقضت حبل وصالها أنكاثا "، قبل هذا والزمان مساعد، والسلطان مهاود، فكيف بها الآن، وقد علت الإنسان أبهة [الكبير] (1) ووخطته (2) واعظة القتير، ورد ما استعار من الشباب إلى المعير، وهجر كل الهجر من ذاقها شميما، ورفض كل الرفض من لم يكن إلا على
__________
(1) الكبير: زيادة من س.
(2) كذا في النسخ، ويمكن أن تقرأ أيضاً " ووعظته ".(4/680)
الحديث نديما (1) . وأقسم وأعرف، بما أقسم، وألتزم من ذلك ما ألتزم، لقد تركتها خوفا للمعاد، لا رياء للعباد، إذ الصيانة أذكى عتاد، فكيف وأنا تحت نعم من الله ضافية، ونوافل متوالية، وفواضل رائحة وغادية -! فلا تظن أن تنصلي لمعذرة أريد [128 أ] قبولها، وأحب تبليغها وتوصيلها، لا والذي صير العقل لصاحبه خصما، وجعل بعض الظن إثما، ولا قصدت من قصدت إلا تطوعا، ولا زرت من زرت إلا تبرعا، ولقد أذهب بنفسي عن كل طمع، وأرغب بها عن كل حرص وجشع.
وله من أخرى: كتبت والعهد يرف ماؤه، ويشف ضياؤه، وتتألق غرته، وتشرق أسرته، والود كما تدريه، لا مزيد على ما تعلم فيه، وإن كانت القلوب تتناجى على البعاد، بألسن الوداد (2) ، وتتراءى على الفراق، بأعين الوفاق، فربما أحوجت دواعي الأيام، إلى المفاوضة (3) بالأقلام، لضرورة لا بد من الإفصاح عنها، والخروج شفاها (4) منها.
وغاب فلان - أعزه الله - وأنت تواليه وتناصره، وتؤاخيه (5) وتظافره، فلك الفضل في إيصال أحرفي، والعذر على (6) تخلفي، فكان يجب أن أزوره
__________
(1) في إشارته إلى ترك الخمر يومئ إلى قول أبي نؤاس:
أيها الرائحان باللوم لوما ... لا أذوق المدام إلا شميما
فاصرفاها إلى سواي فإني ... لست إلا على الحديث نديما (2) ط د: المداد.
(3) ط د: المعارضة.
(4) ط د: سفاها.
(5) ط د: وتواضيه؛ س: وقواصيه (اقرأ: وتواصيه) .
(6) س: عن.(4/681)
ولو على قدمي، ولا أخاطبه إلا بفمي لا بقلمي، لكن هي الأيام وعواديها، والأقدار ومجاريها، ولو أعطيت أعنة الاختيار، لطرت إلى جنابه كل مطار، ولكنت في بابه أوثق مسمار، وإن كانت مهلة انحشرت في زمرته، وتشرفت بخدمته.
وله من أخرى: لو أن جهتي غضة على مطاويها، لم تؤثر أيدي الغير فيها، ولا تحيفتها الفتن بحوادثها، ولا نظرت إليها المحن بكوارثها، لوجب علي المبادرة إلى الهجرة، والتحول إلى الحضرة، التي الفقيه الأجل القاضي سيد الأمة فيها، وبيديه أزمة أوامرها ونواهيها، ولحق على مثلي الانحياز إلى فئته، والانحشار في زمرته، والانحياش إلى جنته، ولكان تنقلي لذراه، لتقيل بعض سجاياه، على حسب قدرتي، ومبلغ منتي، ومنتهى قوتي، ولعذت بعلاه من أن أرجع أعرابيا بعد الهجرة، وبدويا بعد لزوم الحضرة، فكيف أنا آخذ من اجتبائه بأوفر قسم، وأضرب في ولائه بأوفر سهم -! وجهتي خاوية على عروشها، خلية من أنيسها، فبينها وبين النصارى، أقصر من إبهام الحبارى، هي مجر عواليهم، ومجرى مذاكيهم، ومورد صاديهم، وموقد صاليهم، ومخفق أعلامهم، ودرية سهامهم (1) ، ومسرح جيادهم، ومركز صعادهم: الخروج عنها غنيمة، والسلامة فيها هضيمة، ومن تفرد بالجلالة تفرد عمادنا، وتوحد بالسيادة توحد مصادنا، استجنى مؤمله من الليالي والأيام، ثمرة بسوقه على الأنام، ولم يزل يستثني هبة تلك المخايل الراعدة البارقة، ويقتضي عدة تلك الشمائل الصادقة. وها أنا بين يدي اختباره، فليجد في اختياره (2) ، فإن رأى
__________
(1) أقصر من ... سهامهم: اقتبس ابن بسام بعضه: 374 س: 9 - 11.
(2) ط: اختاره.(4/682)
موضعاً لجميل رأيه (1) ، وإن ألفاني مضطلعاً بأعباء ولايه صمم، ولا رغبة إلا فيما يزلف لديه ويقرب منه، دافع الله للمجد والسرو عنه:
وما أسفي إلا على فوت رتبةٍ ... عليها مضى قومي ولم أك تاليا
وأنت على رفعي ووضعي حجة ... فكن لي على أولاهما بك جاريا وله من أخرى: كاتبي عن عهد طال زمانه، واستطال سلطانه، ووقت لا يحرزه حساب، ولا يحصره كتاب، ولا يحويه ولا يجمعه، ولا يحصيه عد (2) ولا يسعه، وحالت بيننا في الأكثر أقاليم، لا يقطعها الإيجاف ولا الرسيم، ولا تهتدي في طرقها النجوم، لا أقول: مجاهل ومعالم، بل أقلايم وعوالم، لا يفهم الحداث فيها إلا التراجم (3) ، ولا تقطعها الجياد بشدها، ولا الركاب بوخدها، فهنيئاً للحضرة وجميع أهل الملة حضورك، وفي مقام (4) المجد مقامك الميمون ومسيرك، ولولا آلام تناوبت، وأسقام تعاقبت، لتلقيت أوبتك السعيدة بقدمي، ألا بمدادي وقلمي، والله يملي الإسلام عمرك، ويحمل عنا - معشر أوليائك - شكرك.
__________
(1) ط د س: أقام.
(2) ط: ولا يجمعه عدد.
(3) من قول المتنبي ديوانه: 376) :
تجمع فيه كل لسن وأمة ... فما تفهم الحداث إلا التراجم
(4) س: سبيل.(4/683)
ما أخرجته من شعره الرائع، الكثير البدائع
له من قصيدة في المتوكل (1) : [128ب]
وافاك من فلق الصباح تبسم ... وانجاب من غسق الظلام تجهم
والليل (2) ينعى بالأذان وقد شدا ... بالفجر طير البانة المترنم
ودموع طل الليل تخق أعيناً ... يرنو بها من ماء دجلة أرقم
يا صاحبي بين الصراة ودجلة ... ودعا العلاقة مسعد ومتيم
هل في لحاظك إنما هي عطفة ... زهر على خضر الربى أو أنجم
بيض كما ضحكت حواشي روضة ... وشى السماك ملاءها والمرزم ومنها:
خبطت بنا ورق الظلام سوابح ... ملء النواظر سيرهن توهم
فإذا سرت فالليل منهم أبيض ... وإذا غدت فالصبح منها (3) أدهم
بيني وبين الدهر يوم مثله ... والبيض تشهد والصوارم تحكم
ومن المشاهد كالشهود سوامع ... ومن الأسنة ألسن تتكلم وهذا من الكلام الذي لا يجهل مناره، ولا يشق غباره.
__________
(1) منها ثلاثة أبيات في الفوات 2: 391.
(2) ط د: يبغي؛ س: تنفى، والتصويب عن الفوات.
(3) ط: منهم.(4/684)
ومنها:
سامت لساني فيك يا ابن محمد ... مقة إذا كتم الهوى لا تكتم
ومحبة موروثة مكسوبة ... بدئ الزمان بها وعنها يختم
وإليك من بنت الضمير حديقةً ... غناء تنجد بالرواة (1) وتتهم
طبقت آفاق الكلام فلم أدع ... زهراً يرف ولا جماناً ينظم
وحدوت من غرر البديع بأينقٍ ... أنا خلفها بادي العروق محرم
وتركت أرض الغرب وهي كأنما ... بي عالج أو ضارج أو زمزم
ورحمت في الآداب كل مسفسفٍ ... يثغو إذا هدر الفنيق المقرم
والفهم قد غارت نجوم سمائه ... والعلم وحي والطروس تترجم
لله درك هل لمجدك غاية ... إلا وأنت بها معنى مغرم
وعلاك لي ردء وجودك في يدي ... ماضٍ كرأيك في الخطوب مصمم
هزتك أرواح السماحة بانةً ... ومن الرجاحة في حماك يلملم
وتعلمت منك الغمامة شيمةً ... تهمي وفيها للبروق تبسم قوله: " من كل هفهاف العنان " ... البيت، أخذه من قول بشار، حيث يقول (2) :
ثم انثنت كالنفس المرتد ... وقوله: " وإذا سرت فالليل منهم أبيض "، من قول محمد بن هانئ (3) :
__________
(1) ط: بالدوات؛ د: بالدواه.
(2) ديوان بشار: 85 (جمع العلوي) .
(3) ديوان ابن هانئ: 190.(4/685)
قد طلعوا بالشهب صبحهم فلو (1) ... عقدوا نواصبها أعادوا الغيهبا وألم بعض ألمام، بقول أبي تمام (2) :
كظلمة (3) من دخان في ضحى شحب (4) ... ولأبي محمد بن قصيدة أولها:
لمن أينق تأكل الأرض وخدا ... تريني العوالي إلى الغرب تحدى من قصيدته هذه بيت يستظرف فيما وصف من طعنة غلا في سعتها حتى أدخل عليها الفيل، [129أ] وأراق من دمها ما يربي على النيل، فقال:
له طعنة يدخل الفيل منها ... إذا الطعن مزقت الزغف نقدا ومن الإفراط في وصفها قول قيس بن الخطيم (5) :
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائرٍ ... لها نفذ لولا الشعا أضاءها وذكرت بخير هذه الطعنة قول رجل من شيبان (6) :
__________
(1) الديوان: واستأنفوا بشياتها فجراً فلو.
(2) ديوان أبي تمام 1: 95.
(3) الديوان: وظلمة.
(4) ط د: سرب.
(5) ديوانه: 7 والمعاني الكبير: 978 والسمط: 894 والمختار: 91.
(6) هو ثعلب (أو ثعلبة) بن عمرو الشيباني، انظر فصل المقال: 157 والسمط: 53 والحماسة شرح التبريزي 1: 220 والمرزوقي: 146.(4/686)
فأتبعته طعنةً ثرةً ... يسيل على النحر منها صبيب
فإن قتلته فلم (1) أرقه ... وإن ينج منها فجرح رغيب يقول (2) : إن قتلته الطعنة فلم أدع جهداً، وإن سلم فقد تركت به جرحاً رغيباً، أي واسعاً.
وقوله: " لم أرقه "، كانوا يزعمون أن الطاعن إذا رقى المطعون برئ، كما قال زهير (3) :
عشية عاودت الحليس كأنما ... على النحر منه لون بردٍ محبر
فلم أرقه إن ينج منها وإن يمت ... فطعنة لا غس ولا بمغمر وقال حاتم الطائي (4) :
سلاحك مرقي فلا أنت ضائر ... عدواً ولكن وجه مولاك تخمش وقال أبو محمد بن عبدون من قصيدة (5) :
مضوا يظلمون الليل لا يلبسونه ... وإن كان مسكي الجلابيب ضافيا
__________
(1) السمط: فلم آله.
(2) متابع للسمط: 54.
(3) هو زهير بن مسعود كما في السمط: 55 وفصل المقال: 157 والألفاظ: 143 والجمهرة 1: 93.
(4) السمط: 55؛ ويروى: مولاك تقطف (اللسان والتاج: قطف) .
(5) انظر الفوات 2: 391 وقد استخدم ابن عبدون بعض أبيات هذه القصيدة في رسالة، (انظر إحكام صنعة الكلام: 247) .(4/687)
يؤمون بيضاً في الأكنة لم تزل ... (1) قلوبهم حباً عليها أداحيا
وأغربة الظلماء تنفض (2) بينهم ... قوادمها مبلولةً والخوافيا
إذا مرقوا من بطن ليلٍ رقت بهم ... (3) إلى ظهر يوم عزمة هي ما هيا
وإن زعزعتهم روعة زعزعوا الدجى ... إليها كماةً والرياح (4) مذاكيا
ولو أنها ضلت لكان أمامها ... سنا عمر في فحمة الليل هاديا
وصلت به الهيجا عليه وسلمت ... فما ارتضيا حاشاه ساقاً وساقيا
همام أقام الحرب وهي قعيدة ... وروى القنا فيها وكانت صواديا
شريف المطاوي تحت ختم ضلوعه ... تميمة تقوى ردت الدهر صاحيا
إذا قرئت لا بالنواظر (5) طبقت ... سرى (6) أختها ذات البروج مساعيا
وهدي لو استشفى المعنى بروحه ... لما كان بالوجد المبرح صاليا
ورقة طبع لو تحلى بها الهوى ... لأعدى على عصر الشباب البواكيا
إليه أكلت الأرض بالعيس ثائراً ... وقد أكلت منها الذرى والحواميا
حوافي لا ينعلن والبعد آذن ... على نفسه إلا الوجى (7) والدياجيا
فجاءته لم تبصر سوى البشر هاديا ... (8) وسله ولم يسمع سوى الشكر حاديا
__________
(1) ط د: حنا عليها جاحيا؛ س: جناجيا.
(2) الفوات: فيهم.
(3) ورد البيت في إحكام صنعة الكلام: 147 مع تغيير في الرواية.
(4) ط د: كما تأتي الرياح.
(5) الفوات: طابقت.
(6) ط د س: سوى.
(7) ط د: الدجى.
(8) رواية البيت في إحكام صنعة الكلام:
فجاء ولم يبصر كوجهك هاديا ... إليه ولم يسمع كشكرك حاديا(4/688)
هوادٍ على إعجازها قيم الندى ... فأربح مشري حمدٍ وشاريا [129ب]
ألكني ألكني والسيادة بيننا ... إلى مولعٍ بالحمد يشريه غاليا
إلى آمرٍ في الدهر ناهٍ، إذا قضى ... على كل من فيها أطاعوه قاضيا
وحيوه لا راجين رجع تحية ... وإن كان جوداً لا يخيب راجيا
إليك ابن سيفي يعربٍ زف خاطري ... عقائل لا ترضى البروج مغانيا
وإني لأستحيي من المجد أن أرى ... عليّ لمأمول سواك أياديا
وأني وقد أسلفتني قبل وقته ... من البر ما حازت (1) خطاه الأمانيا
وأيقظت من قدري وما كان نائماً ... وأبعدت من ذكري وما كان دانيا
ولكن نبا من حسن رأيك في يدي ... (2) أظن حساماً لم يجدني تاليا
ولو لم يكن ما خفت لا خفت لم أجد ... على غير ما أخذ متنيه اللياليا
إلى من إذا لم تشكني أنت والعلا ... أكون بما ألقى من الدهر شاكيا
وأنت على رفعي ووضعي حجة ... (3) فكن بي على أولاهما بك جاريا
وما أسفي إلا على فوت رتبةٍ ... عهدتك فيها بادياً ومباديا
وكون مكاني من سمائك (4) عاطلاً ... ولولا مكاني الدهر ما كان حاليا
وإن كسادي، رأس ألف صناعة ... ليترك وسماً (5) في السيادة باديا قال ابن بسام: أبو محمد بن عبدون لمكانه من صنعة الكلام، وسبقه - زعم - في غايتي النثر والنظام، أقامها مقام ألف صناعة، وكني بها واحدةً
__________
(1) كذا في الأصول، وربما كان الأصوب " جازت ".
(2) الفوات: نابيا؛ س: تافيا.
(3) ورد هذا البيت والذي يليه فيما تقدم ص: 683 وقد تغير الشطر الثاني من البيت الثاني.
(4) ط د: يكون ... عاطل.
(5) ط د: رسماً.(4/689)
عن جماعة، كما قال الأول:
يا عين بكي خالدا ... ألفاً ويدعى واحدا وفي هذه القصيدة يقول أبو محمد، وهو من حر النظام، وجزل الكلام:
فرد المنى خضراً ترف غصونها ... بمبسوطةٍ تندى ندىً وعواليا
عوال إذا ما الطعن هز جذوعها ... تساقطت الهيجا عليك معاليا
وعاون على استنجاز طبع طبع بهبة (1) ... ترقص في ألفاظهن المعانيا
وأجعل أرض الروم تجلو تلاعها ... (2) عليك زروداً والحمى والمطاليا
وقد نشرت من ذي القروح وخاله ... وعمرو بن كلثوم عظاماً بواليا
وقيل لهم من ذا لها (3) فتخيروا ... أخيراً يبذ القائلين الأواليا
فإن نسقوا على الولاء ولم يكن ... بذلك فاجعل منه ظلك عاريا
وعز على العلياء أن يلقى العصا ... مقيماً بحيث البدر (4) ألقى المراسيا
ومن قام رأي ابن المظفر بينه ... وبين الليالي نام (5) عنهن لاهيا ضجر أبو محمد من سكنى وطنه يابرة، وهو يكرر هذا في شعره، كقوله فيه في قصيدة أخرى:
__________
(1) د: بهمة.
(2) هذه مواطن في بلاد العرب، والحمى والمطالي قد جمعها الشاعر في قوله:
ألا حي ليلى والحمى والمطاليا ... (3) ط د: فتحيروا.
(4) ط د: البدو.
(5) س د: قام.(4/690)
أنا يا (1) ابن سيفي يعرب سيفك الذي ... إذا شمته لم ينب واخبره تعلم
هجرت إليك الأقربين مهاجراً ... ولم أرض أرضاً كل ساكنها عم
فعار على العلياء سكناي بلدةً ... كبلدة عالمي الأفق من دون أنجم (2) [130أ]
فلو أن غيلاناً حوته ديارها ... (3) تغنى بمي بينهم غير معجم وقوله: " قوادمها مبلولة والخوافيا "، ينظر إلى قول أبي الحسن (4) بن حصن في سحابة (5) :
بكرت سحرةً قبيل الذهاب ... تنفض المسك عن جناح الغراب وقوله: " إليه أكلت الأرض " ... البيت، نسخة من قول حبيب، ونقض عنه (6) :
من القلاص اللواتي في حقائبها ... بضاعة غير مزجاةٍ من الكلم وأبو تمام إنما نظر في هذا المعنى إلى قول الأعشى (7) :
فإن عتاق العيس سوف تزوركم ... ثناء على أعجازهن معلق
__________
(1) ط د: أنا ابن.
(2) البلدة: من منازل القمر، يقال إنها لا نجوم فيها البتة.
(3) غيلان: هو ذو الرمة، وفي البيت إشارة إلى قوله في ميتة:
أحب المكان القفر من أجل أنني ... به أتغنى باسمها غير معجم وفي ط د: وحته في موضع " حوته ".
(4) ط د: أبي الحصن؛ س: أبي الحسين.
(5) انظر ما تقدم ص: 159.
(6) ديوان أبي تمام 3: 186.
(7) ديوان الأعشى: 149 واللسان (غرب) وفيه: يزوركم ثنائي.(4/691)
أراد المدح الذي تحدى به من ورائها كما أن الهادي من أمامها، وهذا كقول الآخر (1) :
سأرفع قولاً للحصين ومنذرٍ ... يطير به الغربان شطر المواسم
وتروى به الهيم الظماء وتلتقي ... (2) بأمثاله منهن سجع الحمائم ويعني بالغربان أوراك الإبل؛ وقوله: " تروى به الهيم الظماء " يعني أن الماتح يتغنى بهن فينشط ويقوى على سقي إبله.
وقوله: " ولولا مكاني الدهر ما كان حالياً "، كقول القسطلي (3) :
غريب تحلت بآدابه ... بلاد تواصت بتعطيله وقوله: " ترقص في ألفاظهن المعانيا " من سرقاته الغريبة، واختلاساته العجيبة، تدق عن أعدادٍ من المباني، وإنها من خفيات المعاني، وأراه أنا من قول إدريس بن اليماني، فإياه أراد، وإن كان ملح وزاد، حيث يقول (4) :
ثقلت رجاجات أتتنا فرغاً ... حتى إذا ملئت بصرف الراح
خفت فكادت تستطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح وقوله: " وأيقظت من قدري " ... البيت، هو لفظ أبي نخيلة (5) :
__________
(1) الأول منهما في اللسان (غرب) والمعاني الكبير: 257 وهما في الحيوان 3: 418 - 419 ورواية الأول في المعاني والحيوان: للحصين ومالك.
(2) روايته في الحيوان: ويطبي، بأمثاله الغازين سجع ...
(3) ديوان القسطلي: 545 (عن الذخيرة) .
(4) الذخيرة 3: 344.
(5) الأغاني 1: 244.(4/692)
ونبهت من ذكري (1) وما كان خاملاً ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض وكشف أبو تمام هذا وحسنه، فقال (2) :
لقد زدت أوضاحي امتداداً ولم أكن ... بهيماً ولا أرضي من الأرض مجهلا
ولكن أيادٍ صادفتني جسامها ... أغر فخلتني (3) أغر محجلا وقوله: " ولكن نبا من حسن رأيك " ... البيت، مصراعه الأول من قول أبي فراس (4) :
ولكن نبا منه بكفي صارم ... وأظلم في عيني منه شهاب أخذ هذا البيت بجملته ابن عمار:
أيظلم في عيني كذا قمر الدجى ... وتنبو بكفي شفرة الصارم العضب ولأبي محمد من قصيدة أخرى في المتوكل أولها:
هل عمروا الأفق بالآرام والعفر ... أم كحلوا الشهب بالتفتير والحور
والنقع قد (5) مد جنح الليل فوقهم ... أم عينهم لا ترى التضفير في الشعر [130ب]
يا ليل هل (6) صاحب في البيد غيرك لي ... فالنجم معي عن الإدلاج والسهر
__________
(1) الأغاني: ونوهت لي باسمي.
(2) ديوان أبي تمام 3: 99.
(3) الديوان: فأوفت بي.
(4) ديوان أبي فراس: 24.
(5) ط د: صرمد؛ ص: مرمد.
(6) س: مؤنس.(4/693)
أسري وأسرب لا مستصحباً أحداً ... والناس عميان لولا الخبر عن خبر
أدور فيهم وعمران يخاطبهم ... (1) مني وهم في من روح ومن زفر
شادٍ وليس لسان الرعد ذا لسنٍ ... هادٍ وما ناظر الإيماض ذا نظر
كأنما الليل زار الأرض ذا شغفٍ ... فأكبرت وصل أحوى اللون ذاعور
كأنها عبلة والليل عنترة ... في جمع أشتاته لو كان ذا بصر
والأرض قد لبست أدراع أبحرها ... وجردت فوق أيديها ظبا الغدر
من كل درع نسيم الريح غضنها ... وصارم بالحباب اعتاض (2) من أثر
ما كان في هيئة الأرض القيام لنا ... (3) بالليل لولا مزيد من سنا عمر
من مجده خص قحطاناً وأنعمه ... عمت ربيعة والحمراء من مضر
أكسى من الكعبة الزهراء من نشب ... أعرى على لبسه العليا من الحجر
بسيفه (4) انتاش سيف جده يمناً ... لا سيف وهرزٍ المحدود بالنفر
أنتم عنى مسلم يا آل مسلمةٍ ... (5) بالجود إذ لم ينازعه بنو مطر
ولم يرد مطراً جد اليزيد ول ... كن من ندى جدكم سماه بالمطر
لولاكم أهلك الناس استواؤهم ... ولم يكونوا سوى دهمٍ بلا غرر
__________
(1) يعني عمران بن حطان ويقال إنه نزل في تنقله بروح بن زنباع وزفر بن الحارث، وكان إذا خاف انكشاف أمره ارتحل متنكراً وادعى لنفسه اسماً ونسبة غير اسمه ونسبته (انظر شعر الخوارج: 161 - 165) .
(2) ط د: اغتاض.
(3) لم يرد هذا البيت في ط د.
(4) ط د: لسيفه.
(5) يريد مسلم بن الوليد في مدحه يزيد بن مزيد الشيباني، ويشير إلى قوله (ديوانه: 7) :
سل الخليفة سيفاً من بني مطر ... أقام قائمه من كان ذا ميل وفي ط د: على مسلم؛ وصوبته بحسب المعنى.(4/694)
كم في سرادقكم من ماجد عممٍ ... يعطي الجزيل ومأوى الخائف الحذر (1)
لما رأوا أنه لا عيب يدركه ... عابوه وهو الكبير القدر بالقصر
والصبح مبدي ربى نجد وإن صغرت ... والليل يستر لبناناً على الكبر وقوله: " بسيفه (2) انتاش سيف جده يمناً "، يريد سيف بن ذي يزن، حين استنقذ من أيدي الحبشة ملك اليمن، في خبر معروف، خارج عن غرض خذا التصنيف. ووهرز - يقال بالراء والزاي (3) معاً - وهو الذي أنفذه كسرى أبرويز مع سيف بن ذي يزن، أميراً على من كان في سجنه، بإشارة مرازبته فكان من أمره ما كان.
وله فيه من اخرى:
ما لي إذا نفس معنى قد ست وسرت ... في جسم لفظ الخلق من مثل
أنت الذي باهت الأرض السماء به ... ولا لها بك إن باهتك من قبل
أحوم حول حياض من رضاك وما ... لي بالورود إذا حلئت من عمل
راعوا قديم ولاء يال مسلمة ... وما اطردت بكم في المدح من مثل
تفري أديمي الليالي غير مبقيةٍ ... علي ما لليالي ويلهن ولي
وإنني في مواليكم كملككم ... بين الممالك، والإسلام في الملل وهذا كقول ابن الرومي (4) :
تلوح في دول الأيام دولتكم ... كأنها ملة الإسلام في الملل
__________
(1) وقعت لفظة " ومنها " بعد هذا البيت في س.
(2) ط د: لسيفه.
(3) ط د: والزاء.
(4) الذخيرة 3: 342.(4/695)
وله من قصيدة اندرج له بعضها في رسالة موشحة، عارض البديع بها في بابه، وصب فيها على قالبه، منها: [131أ]
دوحة فرعها على الشهب موضوع وأصل قد غاص تحت النجوم ... شهب زينت سماء المعالي وحمتها من بيضه برجوم ... يردون الظبا ورود القطا والموت قد غض بالقنا المحطوم ... أوقعوا بالمجوس ما يعلم الله وثنوا من بعدها بالروم ... سؤدد حار فيه وصفي فما أسطيعه بالمنثور والمنظوم ... وإذا ما هزوا صدور القنا الصم فما صدر فيلقٍ بسليم ... زعزعوها فليس تدري سوى عهدهم في حديثها والقديم ... كلما حكموا اللهى بالندى في المال نادى مالي وللتحكيم ... مثلما حكموا اللهى بالندى في الأخذ بالاختبار في المحكوم ... ما على البيض غير أن تدع الهام بهم مثل الهاء في الترخيم ... صوتها في أسماعهم كالمثاني والمثاليث في سماع النديم ... ليس إلا الظبا لهم زهر والدم خمر لكن بلا تحريم ... فثناء مني (1) أرفرف برديه ومنهم إدمان بر عميم ... قوله: " خمر لكن بلا تحريم " من الاستدراك البديع، والتخلص المطبوع. وقوله: " كلما حكموا اللهى " ... البيت، يشبه قول أبي محمد بن صارة الشنتريني (2) :
خلق الوزير أبي العلاء خوارج ... لكنها ليست ترى التحكيما
__________
(1) ط د: متى.
(2) ط: الشنتمري؛ وترجمة ابن صارة ترد في ما يلي: 834.(4/696)
وله أيضاً من قصيدة (1) :
سقاها الحيا من مغانٍ فساح ... فكم لي بها من معانٍ فصاح
وحلى أكاليل تلك الربى ... ووشى معاطف تلك البطاح
فما أنس لا أنس عهدي بها ... وجري فيها ذيول المراح
فكم لي في اللهو من طيرةٍ ... عليها بأجنحة الارتياح
ويوم على حبرات الرياض ... تجاذب بردي أيدي (2) الرياح
بحيث لم أعط النهى طاعةً ... ولم ألق سمعاً إلى لحي لاح
وليل كرجعة (3) لحظ المريب ... لم ادر له شفقاً من صباح
كعمر (4) عفاتك يوم الندى ... وعمر عداتك يوم الكفاح
إليك رمى أملي بي ولا ... (5) هوي مصفقةٍ بالجناح
أقول لراجي الحيا وهو دان ... مداه وجدواه من كل راح
إذا عمر هطلت كفه ... فلا حملت سحب من رياح
من النافذي الطعن تحت العجاج ... بين الدلاص وبين الرماح
من القوم ينزلهم (6) خضدهم ... عن الموت شوك القنا في البراح [131ب]
وعنهم تكون رفع العلا ... سماءً على عمد من صفاح
وقادوا الزمان إلى اليوم وهو ... رقيق الحواشي صقيل النواحي
__________
(1) الفوات 2: 393 والقلائد: 146 والمغرب 1: 375 والنفح 1: 674.
(2) القلائد والنفح والمغرب: مر الرياح.
(3) في المصادر: طرف، وكذلك خ بهامش ط.
(4) الفوات: عداتك (جمع عدة) .
(5) الفوات: بالرياح.
(6) ط: يزلهم خضرهم؛ د: يزدهم حصدهم؛ س: ينزلهم حصدهم.(4/697)
وله من أخرى، وهي قصيدة فريدة بها الأوائل، وصرح فيها عن كل طائل، والمرء تحت لسانه، وشرفه بنفسه لا بزمانه، أولها (1) :
ساروا ومسك الدياجي غير (2) منهوب ... وطرة الشرق غفل دون تذهيب
على ربى لم يزل شادي الذباب بها ... يلهي بآنق ملفوظ ومضروب
كالغيد في (3) قبب الأزهار أذرعه ... بالبرق فوقي دراً غير مثقوب
والغيم تنثر منه راحة (4) خضبت ... بالبرق فوقي دراً غير مثقوب
فرحت أستخبر الأنفاس لا الطسم ال ... أدراس عن موعد في الحي مكذوب
وأشتفي بسؤال الريح مخبرةً ... (5) عنهم ولو أنها تهفو بتأنيبي
هيهات لا أبتغي منكم هوىً بهوى ... حسبي أكون محباً غير محبوب
فما أراح لذكرى غير (6) عالية ... ولا ألذ بحب دون تعذيب
ولا أصالح أيامي على دخنٍ ... ليس النفاق إلى خلقي بمنسوب
يا دهر إن توسع الأحرار مظلمةً ... فاستثنني إن غيلي غير مقروب
مهلاً فدرع حويلي غير محتنة ... عجباً وسيف عزيمي غير مقروب (7)
ولا نخل أنني ألقاك منفرداً ... إن القناعة جيش غير مغلوب
__________
(1) منها بيتان في الغيث 2: 232 والريحان: 156 / أوثلاثة في رفع احجب 2: 36.
(2) الريحان: موهوب.
(3) س: كالقيد في قلب.
(4) س: خضلت.
(5) ط: بتأنيب.
(6) س: عالنة.
(7) سقط البيت من د س.(4/698)
ما كل من سيم خسفاً عاف مورده ... إن الإباء لظهر غير مركوب
وكم تأزرت الغيطان لي كرماً ... واستشقتني أنفاس الشناخيب
أمشي البراز ولا أعفي به أثري ... حسب المريب ركوب اقاع ذي اللوب
ورب عاوٍ على إثري بليت به ... بلاء ليث الشرى في الليل بالذيب
أسكنت عنه ولو لم يزدجر غضبي ... وشمت صارم تأنيبي وتثريبي
سويت أشباح ألفاظي وقدس أر ... واح المعاني لها نقدي وتهذيبي
أوانس أذنت لي والنوى قذف ... على علا (1) كل صعل الإذن حجوب
سما بذكري إلى أسماعهم أدبي ... مسرى النسين إلى الآناف بالطيب
وطار بي أذنه في أفق حرصهم ... على قوادم تأهيلي وترحيبي
لا ينظرون إلى شخصي كما نظرت ... بيض الخدور إلى القترا (2) من الشيب
من كل مطلق قيد الحرب عن لجبٍ ... قيد الأسود على طير السراحيب
يمر مر الغمام الجون يتبع من ... لحمٍ أباريق ترغيب وترهيب مدح بهذه القصيدة المعتمد بن عباد.
قوله: " حسبي أكون محباً غير محبوب " لفظ أبي الطيب (3) :
أنت الحبيب ولكني أعوذ به ... من أن أكون محباً غير محبوب [132أ] وقوله: " ولا أصالح أيامي على دخنٍ "؛ لفظه أيضاً (4) ، وقوله:
__________
(1) علا: سقطت من ط.
(2) ط: الفقرا؛ د: القفرا.
(3) ديوان المتنبي: 449.
(4) يريد قول أبي الطيب:
فلا أحارب مدفوعاً على جدر ... ولا أصلح مغروراً على دخن(4/699)
" إن غيلي غير مقروب "، لفظ [بيت] الجميح (1) .
تسكن غيلاً غير مقروب ... وقوله: " أمشي البراز " ... البيت، عكس قول امرئ القيس (2) :
على أثرينا ذيل مرطٍ مرحل ... وأخذه ابن المعتز فقال (3) :
فظلت أبسط خدي في التراب له ... ذلا وأسحب أذيالي على الأثر وقوله: " لا ينظرون إلى شخصي كما نظرت ".... البيت، كقول محمد بن هانئ الأندلسي (4) :
هم لحظوكم والنبوة فيكم ... كما لحظت شيب الكبير (5) الفوارك وأصله من قول امرئ القيس (6) :
أراهن لا يحببن من قل ماله ... ولا من رأين الشيب فيه وقوسا
__________
(1) س ط د: الجمحي، والجميح لقب لشاعر اسمه منقذ ب الطماح، وبيته هذا من قصيدة له مفضلية، وهي الرابعة ف الترتيب: (شرح ان الأنباري: 25 - 29) :
أما إذا حردت حردي فمجرية ... جرداء تمنع غيلا غير مقروب (2) ديوان امرئ القيس: 14، وصدره: " خرجت بها تمشي تجر واءنا ". ... (3) ديوان ابن المعتز 3: 50.
(4) ديوان ابن هانئ: 104.
(5) الديوان: كما لحظ الشيب النساء.
(6) ديوان امرئ القيس: 107.(4/700)
وللوزير أبي محمد عبد الغفور من أهل وقتنا فصل يتعلق بهذا المعنى من رقعة، قال فيه: كنت (1) قبيل هذا المشيب الذي علا، والشباب الذي تولى، كريما على ذوات الطلى، لا يتعرضن في لمكان القلة (2) بلولا؛ ولما أطار غراب الشباب باز المشيب، ورحت رث الجلباب بعد كل شخت قشيب، سمعتهن حينا يتبرمن، وحينا يترنمن، إلا أنهن يجمجمن ولا يترجمن، وبفضل حاستي - والله الفضل - ما فهمت الوزن، فلما استقريت لتعرف حروفه السهل والحزن، عثر لهجي في تطلب تلك الضالة بلعل وعسى، بقول الملك الضليل: " ألما على الربع القديم بعسعسا " ولم أزل بعد محدثا موسوسا، حتى سقط بي اليقين على قوله " وقوسا " وفي صدر هذا الروي " أراهن لايحببن من قل ماله "، وإذا قوس ظهر المرء فقد استحال جماله، فإذن قاتلهن الله يحببن القبيح ذا المال، والفقير ذا الجمال.
وصفة ابن عبدون للذباب: أجاد فيه ما أراد، وقد تناول هذا المعنى أبو بكر بن سعيد البطليوسي، فقال من قصيدة (3) :
كأن أهازيج الذباب أساقف ... لها من أزاهير الرياض محاريب وأخذه ابن عبدون من قول ابن الرومي يصف روضا (4) :
__________
(1) ط: كتبت.
(2) ط: القلت.
(3) بيت البطليوسي في رفع الحجب 2: 36.
(4) زهر الآداب: 742 وديوان المعاني 1: 361 والسمط: 486 وتشبيهات ابن أبي عون 389.(4/701)
وغرد ربعي الذباب خلاله ... كما حثثت النشوان صنجا مشرعا
وكانت أهازيج الذباب هناكم ... على شدوات الطير ضربا موقعا وإنما اخترعه أولا عنترة بقوله (1) :
فترى الذباب بها يغني وحده ... هزجا كفعل الشارب المترنم
غردا يحك ذراعه بذراعه ... فعل المكب على الزناد الأجذم وهذا من التشبيه الذي ما له شبيه، ولم يجسر عليه أحد، غير أن ذا الرمة نقل معنى الصفة إلى الجندب فقال (2) :
كأن رجليه رجلا مقطف عجل ... إذا تجاوب (3) من برديه ترنيم [132 ب] والمقطف: راكب الدابة القطوف، فنقل صفة يدي الذباب إلى رجل الجندب فأحسن الأخذ، وكأنه لم يعرض لعنترة معناه.
وقال السلامي في صفة زنبور (4) :
إذا حك أعلى رأسه فكأنما ... بسالفتيه من يديه جوامع فباعد عنترة في الصفة، وإن قاربه في الموصوف، وتعلق في اللفظ
__________
(1) زهر الآداب: 740 والحيوان 5: 513 وتشبيهات ابن أبي عون: 389 وديوانه: 197 - 198، وابن بسام يتابع في هذه القطعة ابن رشيق في قراضة الذهب: 69 - 70.
(2) ديوان ذي الرمة 1: 419 وقراضة الذهب: 69.
(3) ط د س: تجاذب.
(4) اليتيمة 2: 420 وقراضة الذهب 69.(4/702)
بصريع الغواني إذ يقول في النساء (1) :
فغطت بأيديها ثمار نحورها ... كأيدي الأسارى أثقلتها الجوامع وقد قال بعض أهل أفقنا، وهو يوسف بن هارون الرمادي:
وكأس كريق الإلف شعشعتها به ... وعيشي من هذا الشراب المشعشع
على روضة قامت لنا بدرانك ... وقام لنا فيها الذباب بمسمع
إذا ما شربنا كأسنا صب فضلها ... على روضنا للمسمع المتخلع وقد قال الجاحظ (2) : وجدنا المعاني تقلب ويؤخذ بعضها من بعض إلا قول عنترة في الذباب، وقول أبي يونس في تصاوير الكأس، حيث يقول (3) :
قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها تدريها بالقسي الفوارس
فللراح ما زرت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس يريد أن حد الخمر بلغ نحور هذه الصور، وزيد الماء فيه فانتهى الشراب إلى فوق رؤوسها، وفائدة هذا معرفة حدها صرفا، من حدها ممزوجة.
__________
(1) ديوان مسلم: 273 وزهر الآداب: 996 وقراضة الذهب: 70.
(2) ورد هذا القول في زهر الآداب: 739 - 740 وانظر تعليق الجاحظ على شعر عنترة في وصف الذباب في كتاب الحيوان 3: 311 - 312.
(3) ديوان أبي نؤاس: 295 وزهر الآداب: 740.(4/703)
قال ابن بسام: وقد ذكر أن الحسن ولد هذا المعنى من قول امرئ القيس (1) :
فلما استطابوا صب في الصحن نصفه ... وشجت بماء غير طرق ولا كدر فجعل الشراب والماء نصفين (2) ، لقوة الشراب، فتسلق الحسن عليه، وأخفاه بما شغل به الكلام، من ذكر الصورة المنقوشة في الكأس، إلا أنها سرقة مليحة. وكرر أبو نؤاس هذا المعنى عجبا به في مواضع كقوله (3) :
بنينا على كسرى سماء مدامة ... مكللة حافاتها بنجو
فلورد في كسرى بن ساسان روحه ... إذن لاصطفاني دون كل نديم وأخذه الناشئ وولد معنى زائدا فقال (4) :
في كأسها صور تظن لحسنها ... عربا برزن من الحجال وغيدا
وإذا المزاج أثارها فتقسمت ... ذهبا ودرا توأما وفريدا
فكأنهن لبسن ذاك مجاسدا ... وجعلن ذا لنحورهن عقودا وقال ابن المعتز (5) :
وكأس (6) من زجاج فيه أسد ... فرائسهن ألباب الرجال
__________
(1) ديوان امرئ القيس: 11.
(2) س ط: قسمين.
(3) زهر الآداب: 742.
(4) زهر الآداب: 740.
(5) زهر الآداب: 738 وديوان ابن المعتز 3: 97 والأوراق: 199.
(6) الديوان: بغاب.(4/704)
وألم بهذا الملتمس بن بطال البطليوسي (1) فقال:
غاب من الأكواس فيها ضراغم ... من الراح ألباب الرجال فريسها
قرعت بها سن الهموم فأقلعت ... وقد كاد يسطو بالفؤاد رسيسها [133أ] وقال بعض أهل عصرنا، وهو أبو تمام بن رباح (2) :
وكأسٍ بدا بها في قرارةٍ ... غريقاً ولكن في خليج من الخمر
وما صورته فارس عبثاً به ... ولكنهم جاءوا بأخفى من السحر
أشاروا بما دانوا له في حياته ... فيومي إليه بالسجود وما يدري ومثل هذه المعاني التي ذكروا مما انفرد به كل واحد من الشعراء، لا يكاد يتناولها حاذق إلا قصر، إلا أن يزيد زيادةً تظهر، ولذلك ما تحامي الناس أشياء كثيرةً من المعاني التي أخذت حقها من اللفظ، ولم يبق فيها فضلة تلتمس، والقرائح تتفاضل، ألا ترى إلى قول جميل في وصف امرأة فاجأها (3) :
غدا لاعب في الحي لم يدر أننا ... نمر ولا أرض لنا بطريق
فلما (4) انتحيناه اتقانا بكمه ... وأعلن من ورعاتنا بشهيق
__________
(1) هو سليمان بن محمد بن بطال، أبو أيوب: كان فقيهاً مقدماً وشاعراً محسناً قريباً من الأربعمائة (انظر ترجمته في الجذوة: 206 وبغية الملتمس رقم: 762 والنفح 3: 292، 450 وله مقطعات كثيرة في كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس) .
(2) ترجمته في القسم الثالث: 821.
(3) لم يرد هذا الشعر في ديوان جميل؛ ولكن ابن بسام يتابع هنا ما يقوله ابن رشيق في قراضة الذهب: 57.
(4) القراضة: افتجيناه (ولا أراه صواباً) .(4/705)
كيف وصف حقيقة الحال التي صورها تصويراً، مع حسن لفظ، وليس مع ذلك ببالغٍ قول النابغة (1) :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد رجع
وقال ابن عبدون من قصيدة:
لولا المؤيد، مد الله مدته، ... ما كان لي في سوى بغداد من ارب
فلم أكن وسوى (2) بغداد لي أمل ... فيها كما كنت في أهلي بمغترب
وإن نبت حمص بي والله يعصمها ... ركبتها عزمةً تشأى الكواكب بي
وللمؤيد، مد الله مدته ... رأي يغالط شهب الليل في القطب
لم ينتقب وجهه للسمر مشرعةً ... وإنه من حياء الوجه في نقب
يشأى المساجل في بأس وفي كرم ... ويملأ الدلو في العليا إلى الكرب
تراه إن تدعه يومي (3) ندى ووغى ... النار في عرفج والماء في صبب
إليك مني، أعز الله نصرك ما ... أبقته أيدي السرى والبيد والنوب
جاءتك ترقص أردان الكلام به ... سوابح تأكل الغبراء بالخبب وله في المعتمد من قصيدة:
إن الممالك والسيوف شهود ... لكم إمام والملوك عبيد
__________
(1) ديوان النابغة: 34 وقراضة الذهب: 57.
(2) بغداد: سقطت من ط د.
(3) ط د س: يوماً.(4/706)
شامتكم في المكرمات عزائم ... جارٍ على أحكامها التأييد
وعلاً نشأن مع النجوم وقبلها ... ولهن من بعد النجوم خلود
من معشرٍ أخذوا بأطراف العلا ... والأفق غفل والليالي سود
جادوا فبانت في البسيطة أنجم ... وسطوا فثارت في السماء أسود
يا روضةً وصف النسيم أريجها ... رفي (1) علي فإنني غريد
ما لي أرفرف حول دوحك ضاحياً ... أصف الأوار (2) وماؤها مورود
لا ذنب للآمال إلا أنها ... شهب لها من أن تراك سعود [133ب]
ركبت إليك جناح كل عزيمةٍ ... قرب الردى من خلفها مزءود
أكلت إليك الأرض وهي بحسبها ... إن لم تعقها من ثناك قيود قوله: " وعلا نشأن مع النجوم وقبلها "، مأخوذ من قول المعري، وله فيه زيادة، تجاوزت الغاية في الإجادة، وخرقت في الإحسان كل عادة، وهو قوله يصف خيلاً (3) :
نشأن مع النعام بكل دو ... فقد ألفت نتائجها الرئالا (4) ولعل هذا توارد من الطباع، وبحسب القريحة يكون الإبداع والاختراع.
وقوله: " يا روضةً وصف النسيم أريجها "، من قول إسحاق
__________
(1) ط: رقي.
(2) لعل الصواب: " الأوام ".
(3) شروح السقط: 454.
(4) نشأن: الضمير يرجع إلى بيت ذكر فيه السوابق، أي وقت الألفة بين المهار والرئال وهي أولاد النعام.(4/707)
الموصلي (1) :
يا سرحة الماء قد سدت موارده ... أما إليك طريق غير مسدود ولابن عبدون من قصيدة في الرشيد نقلتها من مبيضاته، ولم يعرضها عليه، ولا أوصلها اليه، أولها (2) :
عزيم لا يسد عليه باب ... وقلب لا يفل له ذباب ومنها:
مضى في نائبات الدهر (3) صلداً ... فلم يثلم وقد طال الضراب
وقد زروا (4) الضلوع على قلوب ... لو انتضيت لقط بها الرقاب
وسرت ومن كواكبه حلي ... علي ومن غياهبه قراب
ولو بسوى الرشيد جعلت هديي ... لضل الركب فيها والركاب
من النفر الألى طلعوا نجوماً ... فمن أنوائهم فينا انسكاب
إذا هزتهم نغم العوالي ... فليس سوى النجيع لهم شراب
وباء فقلت في الغبراء برج ... وثار فقلت في الخضراء غاب
لقد عقدت حباه على خلالٍ ... ظباه لا تهاب كما تهاب
وطبق مفصل العليا بنفسٍ ... مآثرها تراث واكتساب
كأن عداه في الهيجا ذنوب ... وصارمه دعاء مستجاب
__________
(1) الأغاني 5: 350 ورفع الحجب 1: 41 ونهاية الأرب 1: 279 والذخيرة 1: 863.
(2) ومنها ستة أبيات في الريحان 1: 155 ب.
(3) الريحان: فرداً.
(4) الريحان: عطفوا.(4/708)
وهذا مما أغرب فيه، ولم أسمع له بشبيه، ولعله أمير شعره، ونتيجة فكره؛ وفيها يقول:
إليك أبا الحسين ركبت عزماً ... يضيق برحب مسعاه الطلاب
رمت في البحر منك ولم تعرج ... (1) على أرضٍ بقيعتها سراب
وقد مرقت إليك من الدجى بي ... أعاريب تخب بها عراب
هفت بي والدجى يهفو حشاه ... كما كسرت على خززٍ عقاب قول أبي محمد: " وسرت ومن كواكبه حلي " ... البيت، سلك فيه سبيلاً من البديع لا تسلك، واستولى منه على غاية من الكلام المطبوع قلما تدرك.
وأما قوله: " كما كسرت على خززٍ عقاب " فما أولاه عليه بالعقاب، إذ نسخ لفظ أبي الطيب كما تراه، وقصر أكثر مما شاء عن معناه، وهو (2) :
يهز الجيش حولك جانبيه ... كما نفضت جناحيها العقاب على أن أبا الطيب إنما تطرف قول طرفة (3) :
بكتائبٍ تردي كما ... تردى إلى الجيف النسور [134أ] ولكن المتنبي طار في السماء مع العقاب، وترك طرفة في الأرض على التراب.
__________
(1) وقع هذا البيت آخراً في س.
(2) ديوان المتنبي: 370.
(3) لم يرد في ديوان طرفة.(4/709)
وكان أبو محمد حين استوحش من المنصور بن المتوكل (1) ، ولحق باشبيلية، كتب إلى الوزير الأجل أبي بكر بن زيدون بهذه الأبيات:
لك الخير من مثري اليدين من العلا ... إذا تربت أيدي النوى والتطول
بما كان بين الماضيين من الذي ... إليه استنادي (2) أو عليه معولي
ولم تتمسك بالمؤيد لي يد ... وقد زهقت (3) رجلي عن المتوكل وله أيضاً يقول:
قل للوزير أدام الله عزته ... والجاه يفني وقول الدهر مفهوم
لئن نبت بي حمص وهي قد فعلت ... فليس تنبو بي السبع الأقاليم
لي في مناكب أرض الله مضطرب ... إن سامحت بي النوى (4) لخم ومخزوم ثم انصرف إلى حضرة المتوكل ببطليوس، ودفع إليه قصيدةً أولها:
خصمت الظبا عنكم على أنها لد ... بقرعٍ له في كل بارقةٍ رعد
بزرقٍ بما خلف الضلوع بصيرةٍ ... على أنها مما بكت حدق رمد
تركت لمن هز الأسنة رأيه ... وقلت لغيري الخفض والعيشة الرغد
وطار جناح الليل مني بأجدلٍ ... إذا ما الظبا فاضت ففيها له ورد
منير أسارير الرئاس إذا سرى ... وشت بسراه البيد والليل مسود
__________
(1) كذا في النسخ، والمنصور هو أخو المتوكل لا ابنه، وقد ولي بطليموس بعد وفاة أبيه المظفر (سنة 460) ؛ وأما ابناه المتوكل فهما الفضل والعباس ولا أعرف إن كان أحدهما لقب بالمنصور، وقد قتلا مع أبيهما (سنة 487) .
(2) س: اجتهادي.
(3) ط د: زهقت؛ س: زلقت؛ وزهقت: خفت وعجلت.
(4) س: بالنوى.(4/710)
وفيها من عتابه للمتوكل:
أفالآن لما ملني ومللته ... طلاب لوى عن نيله الزمن الوغد
وباضت على رأسي السنون وفرخت ... وما لي حل في الأمور ولا عقد
طمعت بحمص أن تلين لمطلبي ... ولا عجب قد يرشح الحجر الصلد
ولي. فأسأت، الذنب في ذاك لا لها ... فمذ توجد الجعلان لم ينفق الورد ما أخرجته من سائر مقطوعاته الإخوانيات
من ذلك ما أنشدنيه لنفسه، مما خاطب به الوزراء الكتاب بني سعيد ابن القبطورنة، حين خرج عن بطليوس مستوحشاً، حسبما وصفته (1) :
أخلائي وفي قرب الصدور ... ظبا تقضي (2) على قمم الدهور
وقد ضمت (3) جوانحنا قلوباً ... أبت غير القصور أو القبور
إذا الكرماء نامت (4) فوق ضيمٍ ... فما فضل الكبير على الصغير
فقبل أبى الدنية قيس عبسٍ ... (5) ولم يصغي إلى قول المشير
لئن عثروا وليس لعاً جواب ... فلا علقت بطون من ظهور
ولا سعوا بها إلا بصم ... ولا نظروا بها إلا بعور
__________
(1) منها أربعة في القلائد: 146.
(2) القلائد: تمضي.
(3) س: جوانحها.
(4) القلائد: باتت تحت.
(5) القلائد: العشير؛ وقيس عبس هو قيس بن زهير الذي هاجر قومه بعد حرب داحس والغبراء وأوى إلى عمان.(4/711)
ومنها: [134ب]
ودلهني فراق بني سعيد ... فما أدري قبيلاً من دبير وبات بطريقه هنالك على وادي آنة بقربة لب، فقال:
عذيري إلى المجد من كون مثلي ... بآنة أو من مبيتي بلب
وبغداد لو هتفت بي هلم ... هلم لما كنت ممن يلبي وأنشدني أيضاً له مما خاطب به بعض الأعيان:
سأطلب لا بألسنة اليراع ... سوى ذا الحظ من أيدي الزماع
وأخبط بالسرى ورق الدياجي ... ووجه الموت محدور القناع
وأمرق من أسارير المواضي ... كما مرق الهلال من الشعاع
فسلني عن ملوك الأرض تسأل ... خبيراً فاقض حق الاستماع
عرضت عليهم نفسي ونفسي ... لأوضح غبنهم عند البياع
فما اتبعوا دليلاً في اجتنابي ... ولا سلكوا سبيلاً في اصطناعي
كأضعاء بها ألم فقلت ... على ضمد (1) ورأس في صداع
ومن عصب إذا سئلت حراكاً ... شكت بسكونها نحل (2) النخاع
ويمنى لا تجود على شمال ... ولا تصغي المودة للذراع
وعين لا تغمض عن قبيح ... (3) وأذن لا تألم من قذاع
فما أبقوا ولا هموا ببقيا ... ونقل الطبع ليس بمستطاع
__________
(1) الضمد: الحقد.
(2) النحل بمعنى النحول، وهو من النادر في الاستعمال.
(3) ط د: قراع.(4/712)
فلو سقت السماء الشري أرياً ... لما احلولت مراعيه لراع
بدهرٍ ضاعت الأحساب فيه ... ضياع الرأي في السر المذاع
فبعتهم بتاتاً لا بثنيا ... ولا شرط ولا درك ارتجاع
ولم أجعل قرابي غير بيتي ... (1) فحسبي ما تقدم من قراع قوله: " كأعضاء بها ألم " ... البيت، مع الذي بعده، أراه فيما انتحاه سلك سبيل أبي نصر المعافى (2) ، من أناشيد الثعالبي، حيث يقول:
لما رأيت الزمان نكساً ... وفيه للرفعة اتضاع
كل رئيس (3) به ملال ... وكل رأس به صداع
لزمت بيتي وصنت عرضاً ... به عن الذلة امتناع
أشرب مما ادخرت راحاً ... لها على راحتي شعاع
لي من قواريرها ندامى ... ومن قراقيرها سماع
وأجتني من ثمار (4) قوم ... قد أقفرت منهم البقاع وقول أبي محمد: " كما مرق الهلال من الشعاع "، معنى متداول إلا أن قول أبي محمد أولى بالتقديم، ومنه قول بشر بن أبي خازم (5) :
__________
(1) س: نزاع.
(2) هو أبو نصر المعافى بن هزيم الهزيمي من أبيورد، وكان يكثر المقام ببخارى ويخدم رؤساءها (اليتيمة 4: 129 - 133 وأبياته هذه ص: 132) .
(3) اليتيمة: له.
(4) اليتيمة: عقول.
(5) ط: أبي بشر بن حازم، د: بشر بن حازم؛ س: بشر أبي حازم؛ وليس في البيت ديوان بشر، وقد جاء في اللسان (ودق) منسوباً لزيد الخيل.(4/713)
ضربن بغمرو فخرجن منها ... خروج الودق من خلل السحاب وقال المتنبي (1) : [135أ]
وضاقت خطة فخلصت منها ... خلوص الخمر من نسج الفدام وقال أبو تمام (2) :
فخرجت منها كالشهاب ولم تزل ... مذ كنت خراجاً من الغماء وقال أبو الحسن الرضي (3) :
وقال ابن مقبل (4) :
خروج من الغمى إذا صك صكة ... (5) بد والعيون المستكفة تلمح
إذا امتحنته من معد عصابة ... غدا ربه قبل المفيضين يقدح والغماء (6) : هاهنا جماعة القداح.
__________
(1) ديوان المتنبي: 477.
(2) ديوان أبي تمام: 19.
(3) ديوان الرضي 2: 446.
(4) ديوان ابن مقبل: 29، 30 والعمدة 2: 288 والميسر والقداح: 65 واللسان (غمم) وفي الأصول " الغما " حذفت همزته، وهو عندئذ بفتح الغين؛ وفيه يجوز القصر والمد.
(5) يصف القدح؛ الغمى: الشدة والضيق؛ العيون المستكفة: المحيطة به.
(6) كذا ورد أيضاً بالمد، ورواية الديوان بالقصر وضم العين.(4/714)
وأول من نطق بهذا المعنى امرؤ القيس بقوله (1) :
إذا ما ركبنا قال ولدان أهلنا ... تعالوا إلى أن يأتي الصيد نحطب فنقله ابن مقبل إلى صفة القدح، وقال: إذا امتحنه ممتحن غدا يقدح ناراً قبل الإفاضة به ثقة بفوزه، ونقله ابن المعتز إلى صفة جارح فقال (2) :
قد وثق القوم له بما طلب ... فهو إذا جلى لصيد واضطرب عروا سكاكينهم من القرب ... وأنشدني أيضاً لنفسه مما خاطب به الوزير أبا القاسم ابن الجد (3) :
شجيري (4) من فهر لا تخمشن ... وجه الإخاء بظفر العذل
فأقسم. أني أجيب الصبا ... إذا ما دعتني إليه المقل
وما أنس ليلتنا والعناق ... قد مزج الكل منا بكل
إلى أن تقوس ظهر الظلام ... واشمط عارضه واكتهل
ومس رقيق رداء النسيم ... على عاتق الفجر (5) بعض البلل
وسبح رعد المثاني بحمد ... بني يعرب في سماء الجذل
إذ الدهر ميت الخطى واللحاظ ... عنا وأحداثه في غفل
وللطير في الورق النضر شدو ... كشدو القيان عليها الكلل
__________
(1) ديوان امرئ القيس: 389 والعمدة 2: 288.
(2) ديوان ابن المعتز 4: 7 والأوراق: 209.
(3) منها ثلاثة أبيات في كل من المغرب 1: 375 والخريدة 2: 106 والقلائد: 147.
(4) د: مجيري، والسجير: الخليل والصفي.
(5) المغرب: في عاتق الليل؛ الخريدة والقلائد: على عاتق الليل.(4/715)
فأبت وذنبي أمير الذنوب ... ودولته فوق تلك الدول أشار في هذا البيت الأخير إلى قول أبي الطيب (1) :
أميرة (2) اللحظ في الألحاظ مالكة ... لمقلتيها عظيم الملك في المقل وقال أبو نواس (3) :
أصبني منك يا أملي بذنب ... تتيه على الذنوب به ذنوبي وأنشدني أيضاً لنفسه (4) :
هل تذكر العهد الذي لم أنسه ... ومودتي (5) مخدومة بصفاء
والأنس قد خلع (6) العذار فبيننا ... بر البنين ورقة الآباء
ومبيتنا في نهر حمص والحجى ... قد حل عقد حباه بالصهباء [135ب]
ودموع طل الليل تخلق (7) أعيناً ... ترنو إلينا من عيون الماء وأنشدني أيضاً لنفسه (8) :
__________
(1) ديوان المتنبي: 329.
(2) الديوان: مطاعة؛ ط د: أسرة.
(3) ديوان أبي نواس: 428.
(4) منها ثلاثة أبيات في كل من القلائد: 147 والمغرب 1: 375 والخريدة 2: 106.
(5) س: ومودة.
(6) س: الوقار.
(7) تكرر هذا الشطر من قبل: 684 س: 5.
(8) انظر القلائد والخريدة والفوات والمطرب.(4/716)
وما أنس بين النهر والقصر وقفةً ... نشدت بها ما ضل من شارد الحب
رميت بلحظي سمحت (1) به ... فلم أثنه إلا ومحرابها (2) قلبي وأنشدني أيضاً لنفسه قصيدة أولها:
دعتك ومن سجيتك البدار ... رؤوس أينعت منها ثمار ومنها في وصف السيوف:
فيوردها ظماءً وهي ماء ... ويصدرها رواء وهي نار
ويقرضها أعاديه لجيناً ... وترجع وهي لو سلمت نضار بيته الأوسط منها نقله من قول أبي الشيص، إلا أنه زاد عليه، واستلبه من يديه، وهو (3) :
فأوردها بيضاً ظماءً صدورها ... وأصدرها بالري ألوانها حمر وهذا المعنى كثير؛ وبيته الثالث نسخ بيت أبي الطيب، ونقله من الوادي إلى السيف، وهو (4) :
ركض الأمير وكاللجين حبابه ... وثنى الأعنة وهو كالعقيان وقال أيضاً أبو الطيب (5) :
__________
(1) القلائد: بعيني رمية جمحت به؛ الخريدة: سخت به.
(2) القلائد والخريدة: ومجروحها.
(3) لم يرد في ديوان أبي الشيص المجموع.
(4) ديوان المتنبي: 414.
(5) ديوان المتنبي: 390.(4/717)
ولا ترد الغدران إلا ماؤها ... من الدم كالريحان تحت الشقائق وقال محمد بن هانئ (1) :
لا يوردون الماء سنبك سابح ... أو يكتسي بدم الفوارس طحلبا وأشهر موضع نقله منه قول السناط (2) :
فخذ ذهبا ورد لنا لجينا ... تكن في الناس أربح صيرفي إلا أن قول ابن عبدون قد (3) سلم من الحشو الذي لا يحسنه إلا من أدمن محاولة مضايق المقال فاقتحمها، واعترى بفجاج السحر الحلال فتسنمها، وما أشبه في لين المهز، وإجادة المحز، بقولب ابن المعتز (4) :
صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل وأنشدني له من قصيدة (5) :
مررت على الأيام من كل جانب ... أصعد فيها تارة وأصوب
ينم بي الثغران: صبح وصارم ... ويكتمني القلبان: نقع وغيهب
وقد لفظتني الأرض إلا تنوفة ... يحدثني فيها العيان فيكذب
__________
(1) ديوانه ابن هانئ: 189.
(2) هو أبو على الحسن بن حسان، قرطبي عاش في زمان عبد الرحمن الناصر وأصله من وادي الحجارة وقد عرفت به وبمصادر ترجمته في القسم الأول: 512 وبيته هذا في المغرب 2: 37 والقسم الأول من الذخيرة: 312، 512) .
(3) ط د: لو.
(4) زهر الآداب: 310 ونهاية الأرب 10: 59.
(5) انظر القلائد والمطرب.(4/718)
وهذا كقول المتنبي (1) :
وغادر الهجر ما بيني وبينكم ... يهماء تكذب فيها العين والأذن ومن شعر ابن عبدون في الرثاء والتأبين قوله مما أنشدنيه في أخيه عبد العزيز يرثيه:
رويدك أيها الدهر الخؤون ... ستأكلنا وإياك المنون
تعللنا الأماني وهي زور ... وتخدعنا الليالي وهي خون [126 أ]
وكم غرت بزبرجها قرونا ... فما أبقت ولا بقت (2) القرون
فجعت بزاهر من سر فهر ... كبدر التم هالته عرين
بأروع ملء عين الحسن (3) قيدا ... إذا أخذت مجاريها العيون
منير العرض فضفاض المساعي ... طويل الباع ناديه رزين
سمت فوق السماء به ظهور ... وما حطته إذ حطت بطون
فأنضبت المنايا منه بحراً ... جواريه صفون لا سفين
وأغمضت البسيطة منه نصلا ... طوابعه قيول لا قيون
مضى من لو سبقت لما تعزى ... ولولا جفت له بعدي جفون
وأبقتني يد الأيام فردا ... كما غدرت بيسراها اليمين
وهل يبقى على فير الليالي ... شفيق أو شقيق أو قرين وقال يرثي ذا الوزارتين أبا محمد بن خلدون (4) ، وكان استشهد يوم الجمعة المشهور:
__________
(1) ديوان المتنبي: 468.
(2) س: أنت.
(3) ط د: قيد.
(4) ذكره في المفح 3: 242 وأنه كان مع أبي الوليد ابن زيدون وابن عمار، وانظر بدائع البدائه: 225 - 226.(4/719)
ملكت فأسجح لا أبا لك يا دهر ... أفي كل عام في العلا فتكة بكر
(1) رثته فقلنا إنها لتماضر ... وإن ابن خلدون لمفقودها صخر
مضى لم يرث عنه الرئاسة وارث ... ولولا المساعي الزهر لانقطع الذكر
وما كان إلا الغيث أقلع جملة ... فلم يك منه لا غدير ولا زهر
فيا ليتني بين العوالي وبينه ... وقد ملكتني من أعنتها فهر
لأطبق منه بالعشا حدق القنا ... ضرابي وإن كانت لها الأعين الخزر فيا لأبي محمد بن عبدون في الحرب الزبون، مجناً ليس بحصين، ليته كلما شهد وقيعة كان كمجن (2) ابن أبي ربيعة، حسبه الكتب من الكتائب، وكفاه اعتناق القضب من خرط القواضب، وأرى فهراً لو ملكته يومئذ أعنتها، وجعلت إليه سيوفها وأسنتها، لمات ميتةً ضاحكية (3) ، أو حي حياةً فهرية قطنية (4) ، ولخر البيت وعموده، وضاع الرعيل ومن يقوده.
وقال من قصيدة له فريدة ضمنها من أباده الحدثان، من أكثر ملوك الزمان (5) :
__________
(1) تماضر: الخنساء.
(2) ط: كمجر؛ د: كمجد؛ س: كمحق؛ والإشارة إلى قول عمر بن أبي ربيعة:
فبات محني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر وفيل أن يزيد بن معاوية عرض جيش أهل الحرة فمر به رجل من الجند معه ترس خلق، فقال له يزيد: ويحك، ترس عمر بن أبي ربيعة كان أحسن من ترسك (الأغاني 1: 91) .
(3) أي مات كما مات الضحاك بن قيس الفهري.
(4) أي طالت حياته كما طلت حياة عبد الملك بن قطن الفهري والي الأندلس (ابن عذاري 2: 32) .
(5) وردت مشروحة، شرحها ابن بدرون (ونشرها دوزي، ونشرت بمصر 1340) وهي في المطرب والمعجب والفوات والنفح ونهاية الأرب 5: 190 وبعضها في المغرب والرايات: 32 (غ) والوافي للرندي: 116 وسأقارن نصها في الذخيرة بالفوات.(4/720)
الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور
أنهاك أنهاك لا آلوك (1) موعظة ... عن نومة بين ناب الليث والظفر
فالدهر حرب وإن أبدى مسالمة ... والسود والبيض مثل البيض والسمر
فلا تغرنك من دنياك نومتها ... فما سجية (2) عينيها سوى السهر
ما لليالي أقال الله عثرتنا ... (3) من الليالي وخانتها يد الغير
تسر بالشيء لكن كي تغر به ... كالأيم ثار إلى الجاني من الزهر
كم دولة وليت بالنصر خدمتها ... لم تبق منها وسل ذكراك من خبر
هوت بدارا وفلت غرب قاتله ... وكان عضبا على الأملاك ذا أثر [136 ب]
واسترجعت من بني ساسان ما وهبت ... ولم تدع لبني يونان من أثر
واتبعت أختها طسما وعاد على ... عاد وجرهم منها ناقض المرر
وما أقالت ذوي الهيئات من يمن ... ولا أجارت ذوي الغايات من مضر
ومزقت سبأ في كل قاصية ... فما التقى رائح منهم (4) بمبتكر
وأنفذت في كليب حكمها ورمت ... مهلهلا بين سمع الأرض والبصر
ودوخت آل ذبيان وجيرتهم ... لخما وعضت (5) بني بدر على النهر
وما أعادت على الضليل صحته ... ولا ثنت أسدا عن ربها حجر
وألحقت بعدي بالعراق على ... (6) يد ابنه أحمر العينين والشعر
__________
(1) د والفوات: معذرة.
(2) الفوات: صناعة.
(3) س وأصل ط: القدر.
(4) د: منها.
(5) ط: وعضت.
(6) أحمر العينين والشعر: وصف النعمان بن المنذر؛ وقد سعى في قتله زيد بن عدي بن زيد ثأرا لأبيه (شرح البسامة: 128 وما بعدها) .(4/721)
وبلغت يزدجرد الصين واختزلت ... عنه سوى الفرس جمع الترك والخزر
ولم تكف مواضي رستم وقنا ... ذي حاجب عنه سعدا في ابنة الغير
ومزقت جعفرا بالبيض واختلست ... من غيله حمزة الظلام للجزر
وأشرفت بخبيب فوق قارعة ... وألصقت طلحة الفياض بالعفر
وخضبت شيب عثمان دما وخطت ... إلى الزبير ولم تستحي من عمر
ولا رعت لأبي (1) اليقظان صحبته ... ولم تزوده إلا الضيح في الغمر
وأجزرت سيف أشقاها أبا حسن ... وأمكنت من حسين راحتي شمر
وليتها إذ فدت عمرا بخارجة ... (2) فدت عليا بمن شاءت من البشر
وفي ابن هند وفي ابن المصطفى حسن ... أتت بمعضلة الألباب والفكر
فبعضنا قائل ما اغتاله أحد ... وبعضنا ساكت لم يؤت من حصر
وأردت ابن زياد بالحسين فلم ... يبر بشسع له قد طاح أو ظفر
وعممت بالظبا فودي أبي أنس ... ولم يرد الردى عنه قنا زفر
وأنزلت مصعبا من رأس شاهقة ... كانت به مهجة المختار في وزر
ولم تراقب مكان ابن الزبير ولا ... رعت عياذته بالبيت والحجر
ولم تدع لأبي الذبان (3) ماضية ... (4) ليس اللطيم لها عمرو بمنتصر
وأظفرت بالوليد بن اليزيد ولم ... تبق الخلافة بين الكأس والوتر
ولم تعد قضب السفاح نابية ... عن رأس مروان أو أشياعه الفجر
__________
(1) أبو اليقظان: عمار بن ياسر (شرح البسامة: 154) .
(2) ورد في طراز المجالس: 132.
(3) شرح البسامة: قاصية؛ د: قائمة، وأبو الذبان هو عبد الملك بن مروان.
(4) ط د: بمعتجر (اقرأ: بمحتجر) ؛ س: بمفتخر؛ واللطيم هو عمرو الأشدق بن سعيد بن العاص.(4/722)
وأسبلت دمعة الروح الأمين على ... دم بفخ (1) لآل المصطفى هدر
وأشرقت جعفرا، والفضل ينظره ... والشيخ يحيى، بريق الصارم الذكر
وأخفرت في الأمين العهد وانتبذت ... لجعفر في ابنه والأعبد الغدر
وما وفت بعهود المستعين ولا ... بما تأكد للمعتز من مرر
وأوثقت في عراها كل معتمد ... وأشرقت بقذاها كل مقتدر [137 أ]
وروعت كل مأمون ومؤتمن ... وأسلمت كل منصور ومنتصر
وأعثرت آل عباس لعا لهم ... بذيل رباء من بيض ومن سمر
بني المظفر والأيام ما برحت ... (2) مراحلا والورى منها على سفر
سحقا ليومكم يوما ولا حملت ... بمثله ليلة في مقبل العمر
من للأسرة أو من للأعنة أو ... من للأسنة يهديها إلى الثغر
من للبراعة أو من لليراعة أو ... من للسماحة أو للنفع والضرر
أو رفع كارثة أو دفع آزفة ... أو ردع حادثة تعيا على القدر
ويح السماح وويح الجود لو سلما ... وحسرة الدين والدنيا على عمر
سقت ثرى الفضل والعباس هامية ... تعزى إليهم سماحا لا إلى المطر
ثلاثة ما رقى النسران حيث رقوا ... وكل ما طار من نسر ولم يطر
[ثلاثة ما رأى العصران مثلهم ... فضلا ولو عززوا بالشمس والقمر] (3)
ومر من كل شيء فيه أطيبه ... حتى التمتع بالآصال والبكر
من للجلال الذي عمت مهابته ... قلوبنا وعيون الأنجم الزهر
__________
(1) ط د: يسح؛ والمقتول بفخ هو الحسين بن علي بن حسن بن حسن، واستشكل ابن بدرون هنا على الشاعر لقوله " وأسبلت دمعة الروح الأمين " إذ أن دمعة الروح الأمين لم تسبل على قتيل فخ وإنما على الحسين بن علي نفسه (انظر ص: 220 من شرح البسامة) .
(2) من هنا حتى آخر القصيدة لم يرد إلا في س.
(3) زيادة لاتصال السياق.(4/723)
أين الإباء الذي أرسوا قواعده ... على دعائم من عز ومن ظفر
أين الوفاء الذي أصفوا شرائعه ... فلم يرد أحد منها على كدر
كانوا رواسي أرض الله منذ نأوا ... عنها استطارت بمن فيها ولم تقر
من لي - ولا من - بهم إن عطلت سنن ... وأحفيت ألسن الأيام والبشر
من لي - ولا من - بهم إن طبقت محن ... ولم يكن وردها يفضي إلى صدر
على الفضائل - إلا الصبر - بعدهم ... سلام مرتقب للأجر منتظر
يرجو عسى وله في أختها أمل ... والدهر ذو عقب شتى وذو غير وقد سلك بعض أهل عصرنا هذه السبيل، وهو أبو جعفر الكفيف التطيلي، فقال (1) :
خذا حدثاني عن فل وفلان ... لعلي أرى باق على الحدثان
وعن دول جسن الديار، وأهلها ... فنين، وصرف الدهر ليس بفان
وعن هرمي مصر الغداة أمتعا ... بشرح الشباب أم هما هرمان
وعن نخلتي حلوان كيف تناءتا ... (2) ولم تطويا كشحا على شنآن
وطال ثواء الفرقدين لغبطة ... أما علما أن سوف يفترقان
(3) وزايل بين الشعريين تصرف ... من الدهر لا وان ولا متوان
فإن تذهب الشعرى العبور لشانها ... فإن الغميصا في بقية شان
وجن سهيل بالثريا جنونه ... ولكن سلاه كيف يلتقيان
__________
(1) ديوان الأعمى التطيلي: 224 ومر منها بيتان ص: 487.
(2) نخلتا حلوان اللتان ذكر هما مطيع بن اياس في شعره، وقيل إنه قطع للرشيد جمار إحداهما فماتت، انظر ثلاثة شعراء عباسيون: 69.
(3) الديوان: مصرف.(4/724)
وهيهات من عدل القضاء وجوره ... شآمية ألوت بدين يمان
فأجمع عنها آخر الدهر سلوة ... (1) على طمع خلاه للدبران
وأعلن صرف الدهر لابني نويرة ... بيوم تناء غال كل تداني
وكانا كندماني جذيمة حقبة ... (2) من الدهر لو لم تنصرم لأوان
فهان دم بين الدكادك (3) واللوى ... وما كان في أمثالها بمهان
وضاعت دموع بات يبعثها الأسى ... يهيجه قبر بكل مكان
ومال على عبس وذبيان ميلة ... فأودى بمجني عليه وجاني
فعوجا على جفر (4) الهباءة فأعجبا ... (5) لضيعة أعلاق هناك ثمان
دماء جرت منها التلاع بملئها ... ولا ذحل إلا أن جرى فرسان
وأيام حرب لا ينادى وليدها ... أهاب بها الحي يوم رهان
فآب الربيع (6) والبلاد تهره ... ولا مثل مود من وراء عمان
وأنحى على ابني وائل فتهاصرا ... غصون الردى من كزة ولدان
تعاطى كليب فاستمر بطعنة ... أقامت لها الأبطال سوق طعان
__________
(1) الدبران: نجم يدبر الثريا، بينها وبين الجوزاء.
(2) إشارة إلى قول متمم بن نويرة في رثاء مالك (المفضلية: 67) .
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا وندمانا جذيمة هما عقيل ومالك اللذان يقول فيهما أبو خراش الهذلي:
ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا ... خليلا صفاء مالك وعقيل (3) إشارة إلى قول متمم:
وقالوا أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك (4) جفر الهباءة: مستنقع ببلاد غطفان قتل فيه عدد من بني فزارة، أخذوا على غرة.
(5) الاعلاق الثماني رهن من بني عبس قتلهم بن بدر في اليعمرية قبل جعفر الهباءة.
(6) هو الربيع بن زياد العبسي.(4/725)
وبات عدي بالذنائب يصطلي ... (1) بنار وغى ليست بذات دخان
فذلت رقاب من رجال أعزة ... إليهم تناهى عز كل زمان
وهبوا يلاقون الصوارم والقنا ... بكل جبين واضح ولبان
فلا خد إلا فيه حد مهند ... ولا صدر إلا فيه صدر سنان
وطال على الجونين بالشعب فانثنى ... بأسلاب مطلول وربقة عان (2) [137 ب]
وأمضى على أبناء (3) قيلة حكمه ... على شرس أدلوا به وليان
ولو شاء عدوان الزمان ولم يشا ... (4) لكان عذير الحي من عدوان
وأي قبيل لم تصدع جميعهم ... ببكر من الأرزاء أو بعوان
خليلي أبصرت الردى وسمعته ... فإن كنتما في مرية فسلاني
خذا من فمي هلا وسوف فإنني ... أرى بهما غير الذي تريان
ولا تعداني أن أعيش إلى غد ... لعل المنايا دون ما تعداني وقد تقدم أيضاً إلى هذه الطريقة جماعة من المتقدمين والمتأخرين (5) ،
__________
(1) عدي: هو مهلهل بن ربيعة أخو كليب، والذئاب: اسم موضع يذكره مهلهل في قوله:
فإن يك بالذنائب طال ليلي ... فقد أبكي من الليل القصير وفي ط: علي.
(2) الشعب: شعبة جبل، وفيه يوم من أيامهم، والجوانان: عمرو ومعاوية ابنا شراحيل ابن الجون وقد أسرهما بنو عامر يوم الشعب (شرح النقائض: 407) .
(3) ابنا قيلة: الأوس والخزرج.
(4) عدوان: قوم ذي الأصبع، تفانوا وفيهم يقول ذو الأصبع:
عذير الحي من عدوان ... كانوا حية الأرض
بغى بعضهم بعضا ... فلم يبقوا على بعض وانظر ما تقدم ص: 12.
(5) والمتأخرين: سقطت من ط.(4/726)
قال أبو العلاء المعري (1) :
أصاب الأخفشين بصير خطب ... أعاد الأعشيين بلا حوار
وغيل المازني من الليالي ... بزند من خطوب الدهر واري
وللجرمي ما اجترمت يداه ... وحسبك من فلاح أو بوار
وأما (2) فرخه فبلا جناح ... يطير بحمل أقلام جوار
وما نفع المبرد من حميم ... وصادت ثعلبا نوب ضوار وقال (3) :
أصاب (4) أيكة أهلكوا بظهيرة ... حميت وعاد بالرياح الصرصر
كسرى أصاب الكسر جابر ملكه ... والقصر كر على تطاول قيصر وقال (5) :
أعيا سوار الدهر كل مساور ... ورمى الخليل بأسهم الأسوار
فاحذر وإن بعدت غزاتك في العدا ... (6) قدرا أغار على أبي المغوار
جرت القضايا في الأنام وأمضيت ... (7) صدقا بأسوار ولا أسوار
__________
(1) اللزوميات: 142 / أ؛ 1: 328.
(2) فرخ الجرمي: كتابه، كان يسمى فرخ سيبويه.
(3) اللزوميات 142 ب؛ 1: 330.
(4) اللزوميات: أصحاب ليكة.
(5) اللزوميات 144 / أ؛ 1: 334.
(6) أبو المغوار أخو كعب بن سعد الغنوي، وقد رثاه كعب بقصيدة مشهورة.
(7) ط د: بأسرار ولا أسرار؛ والأسوار في القضايا المنطقية مثل " كل " و " بعض " فإذا عريت منها فهي بلا أسوار.(4/727)
في ذكر الأديب أبي جعفر
أحمد بن عبد الله بن هريرة القيسي الأعمى التطيلي (1)
له أدب بارع، ونظر في غامضه واسع، وفهم لا يجارى، وذهن لا يبارى، ونظم كالسحر الحلال، ونثر كالماء الزلال، جاء في ذلك بالنادر المعجز، في الطويل منه والموجز؛ نظم أخبار الأمم في لبة القريض، وأسمع فيه ما هو أطرف من نغم معبد والغريض. وكان بالأندلس سر الإحسان، وفردا في الزمان، إلا أنه لم يطل زمانه، ولا امتد أوانه، واعتبط عندما به اغتبط، وأضحت نواظر الآداب لفقده رمدة، ونفوس أهله متفجعة كمدة. وقد أثبت ما يشهد [له] بالإحسان والانطباع، ويثني عليه أعنة السماع.
__________
(1) ذكر الصفدي (نكت الهميان: 110) أنه توفي سنة 525، وترجمته في المغرب 2: 451 والمسالك 11: 389 (وفيهما نقل عن الذخيرة) والقلائد: 273 والخريدة 3: 511 (قسم المغرب) وبغية الملتمس رقم: 429 والسلفي: 16 وله ذكر في الروض المعطار: 133، 196 وبدائع البدائه: 246، 255، 256، 264 والنفح (انظر الفهرست تحت: الأعمى التطيلي) وقد ورد اسم أبيه في نسخة حليم من الذيل والتكملة (الورقة: 167) " عبيد الله " وترد له كنيتان أبو كعفر وأبو العباس؛ وقد كنت نشرت ديوانه اعتمادا على نسختين خطيتين (بيروت 1963) وصدرته بمقدمة في دراسة حياته وشعره، وضممت إلى الديوان موشحاته من دار الطراز وجيش التوشيح وغيرهما، ولكن هذه الترجمة التي أوردها ابن بسام (والتي انفردت بها النسخة س) قد احتوت شعرا لم يرد في ديوانه ونثرا لم تورده المصادر الأخرى، إلا أن انفراد " س " يجعل بعض القراءات أحيانا غير دقيقة، بكل أسف.(4/728)
فمن ذلك رقعة كتب بها إلى بعض إخوانه يعاتب: شاكرك أو شاكيك، من لا يحمد ولا يذم الأيام فيك؛ يا سيدي - كناية عن ذكره، لا توخيا لبره، وإحياء رغبة في إنصافه، لا طمعا في استعطافه - الذي عاطيته كأس الوداد فأمرها، وزفقت إليه بنت الفؤاد فأضر بها وأضرها، ومن أطال الله بقاءه ممتعا بظل السلطان، وإقبال الزمان، فإن الرجل بسلطانه، لا بإخوانه، وبإقبال زمانه، لا بإحسانه، إني - أعزك الله - وإن كان الدهر وضعني ورفعك، وضاق عني ووسعك، بين جنبي نفس عصام، وبين فكي صارم بسطام، إذا ضيم الرجال فلست بالمضروب زيد، وإذا تكلم القول فلست بسعيد بن حميد:
الشجو شجوي والعويل عويلي (1) ... لا أستعير عينا للبكاء، ولا أبتغي بكبدي كبدا سليمة من الأرزاء.
وإنك أعزك الله - لما تكلمت بلسان سهل بن هارون، وجلست مجلس الفضل من المأمون، وخدمك الدهر، وانثالت في يديك الأنجم الزهر، قلت: أحمد وعلي، وإن لم يكن شبع فري (2) ، أسوأ من أعنق أو نص، وأين من ولي حلب ممن ولي حمص؛ وعلى رسلك: ما كنت أنا الغلط في مثلك، إني أبيت ظمآن، ولا أبيت خزيان، وأحتمل الحرمان، ولا أحتمل الهوان. وليت هذا الأمر وقلبك لي معمور، وأنت بزعمك إلي فقير، وأنا أظن أني سأولي وأعزل، وأحدث في كنفك وأعدل، فما هو إلا
__________
(1) شطر بيت للرمادي، وقبله: " من حاكم بيني وبين عذولي ".
(2) يشير إلى شعر لامرئ القيس جاء فيه:
فتملأ بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غنى شبع وري(4/729)
أن نبت قدمك، وخفق علمك، وابتل قرطاسك وقلمك، [حتى] اختصرت شطر السلام، ودفعت في صدر القيام، وعزلت فلانا قبل الولاية، واقتصرت بأبي الأصبغ دون الغاية، هينمة أيا كنت معناها، وكأس لي شعشعت حمياها، وولايتك خطر، وفي عملك نظر، إنما هو ظل غمامة، ومبيض حمامة، ثم تعود إلى استحلاس البيت، وأكل الخبز بالزيت.
وكتب إلى أبي الحسن بن بياع (1) بهذه الرسالة والشعر الذي بعدها: يا عمادي الذي شف قدره على الأقدار، شفوف الضحى على الإبدار، وسرى ذكره بأطيب الأخبار، مسرى النسيم بالأزهار، وامتزج حمده وشكره بالأسماع والأبصار، امتزاج المثاني بالأزيار.
وفي فصل منها: وإن كنت ضيق الباع مزجى البضاعة، في غير ورد ولا صدر من هذه الصناعة، فإني أقول بفضلها، وأعرف الحسن من أهلها، وأعرض بنفسي - فاديتك - للالتفات - في حبلها، والتصرف بين جدها وهزلها؛ ولم أزل منذ تخيل جناني، وتقول لساني، وأدبر ملكي أو شيطاني، ألتمس من أهل هذا الشان إماما أسعى باسمه وأحفد، وأقيس على حكمه وأقلد، وأحل بين تهممه وأعقد، والناس كثير، والناقد بصير، وللأمور أعجاز وصدور، فكيف تراني اتخذتك خليلا،
__________
(1) ذكره ابن بسام في الذخيرة 1: 76 وأورد له بيتا على وزن قصيدة الأعمى التالية ورويها وجاء عند السلفي ذكره عرضا (ص 122) واسمه علي بن بياع (كما سيجيء في القصيدة) وهو سبتي النسبة، وقد نقل بعض شعره وشعر غيره من المغاربة أبو عمران السبتي وأنشده للسلفي.(4/730)
وذخرتك على الأيام عهدا مسؤولا، وبايعتك على الطاعة والسمع، وشايعتك سري الاستطاعة والوسع، فعولت عليك كعبة أولي وجهي شطرها، وأسندت إليك هضبة إن خشي سواي وعرها. لأكون قد قدرت هذه الصناعة قدرها، وأبلغت نفسي في ظلها والتعلق بسببها عذرها.
وفي فصل منها: وكتبتها عن جنان بلقائك صب. ولسان بشكر آلائك رطب، وشاهد سريرة وإعلان على سلامتك، والشكر لأياديك، ومنافسة أهل ذلك القطر فيك، ما لا يسعه نظم ولا نثر، ولا يحيط به عد ولا حصر.
وفي فصل: ولما حجب سناك، ونظرت إليك نظر المنهزم إلى السلم، وتنكب الحادي ذراك، وقربت منك بمكان الدبران من النجم، واستمر الزمان على عادته في إمالة حالي، بإرادته من عكس أراجي وآمالي، خاطبت الحضرة البهية الزدانة بموئلي - دام عزه - بأبيات من ذلك الهذيان، الخالي إلا من البيان، أستغفر الله: بل لهثات من ذلك البرسام، المتولد عن عكس الاحتدام. وهي على حالها ناطقة بلسان شكرها، سافرة عن وجه عذرها. وقد زففتها إليك، واستنبتها عني في المثوى بين يديك، غير - والله - مباه لك، ولا متشبه بك، ولا طمعا في اقتفاء آثارك، فضلا عن ضق غبارك، ولكن تغنما لمسرتك، واعتلاقا بمبرتك، وخدمة للعلية حضرتك، ولترى أين أقع، بما أصنع. ولولا أن أتعدى طوري. وأحور بعد كوري، لقلت: إن تفضل سيدي وإمامي بجواب عزيز ليبسط نفسي، ويرد شارد أنسي، فعل.(4/731)
وأول الشعر (1) :
أبا حسن دعاء أو حنينا ... ولا آلوك إن كانت خبالا
أتأذن في التظلم من زمان ... عدا تلك الزيارة والوصولا
ولو أن الخيال ينوب عني ... لأبلغك الكرى قصصا طوال
ولولا أن أدلس في التلاقي ... لزرتك حيث تعترف الخيالا
فلم تر بيننا وأبيك فرقا ... سوى أني أحن إذا أحالا
ذكرتك ذكرة جذبتك نحوي ... فهل أحسنت نقلا أو نقالا
وأعلم أنها كهواك سحر ... ولكن كيف تستهوي الجبالا
بلى إن يدن طيفك من وسادي ... فقد سميتها السحر الحلالا
وكيف يحس طيفك أو يراه ... ولو نصب الحبائل والحبالا
معنى لا يزال سمير شوق ... عهدت لبرحه ألا يزالا
يؤرقه بعادك كل ليل ... توهم طول زفرته فطالا
كأن نجومه أقداح شرب ... إذا زيدت هدى زادت ضلالا
أبا حسن وأين الحسن مما ... تشير به فعالا أو مقالا
لك الفضل الذي هو فيك طبع ... إذا احتقبوه غضبا وانتحالا
قتلت حقائق الأشياء علما ... كفاك البحث عنها والسؤالا
نمتك إلى المكارم والمعالي ... إذا نجم تكارم أو تعالى
صقور أبو بدور أو بحور ... وإن لم تلق مثلهم رجالا
إذا شهدوا القتار (2) فسوف تدري ... لأية علة شهدوا القتالا
بنو الهيجاء طاروا في وغاها ... وإن كانت حلومهم ثقالا
__________
(1) انظر الديوان: 243.
(2) الديوان: القتال.(4/732)
إذا زبنتهم شنوا عليها ... جيادا ضمرا طوالا
ونعم النازلون على الروابي ... إذا ما الشمس أحرقت الظلالا
إذا اكتفت (1) الرياح بحيث تدعو ... بصوب المزن خالقها ابتهالا
ولو أني أشاء لأبلغتني ... ذراك، ولو أسيء بها فعالا
قلائص ما رحلناهن إلا ... رأيت بهن عصما أو رئالا
كأنصاف البرى وتدق عنها ... (2) شواها دقة تسع الخلالا
إذا انبعثت رأيت قسي نبع ... (3) وتحسبها إذا بركت سخالا
تناسب شدقما أو (4) أذكرته ... وصار لها السرى هما وخالا
[تراع من السقاب إذا رأتها ... (5) وتشتاق الأزمة والرحالا
وقد ألفت بنات القفر حتى ... حسبت الغول يحذوها النعالا
إذا لمع السراب تبادرته ... فأحسبها تريد به اشتمالا
وبين جفونها منه نطاف ... إذا سمع الغليل بهن خالا
لعلك يا علي لها معاذ ... فتسقيها بحارا (6) أو سجالا
وتبسط أو تمد لها يمينا ... غدا نوء السماك لها شمالا
أبيعك يا ابن بياع فؤادي ... وغيري من إذا ندم استقالا
وأصفيك الوداد وغير ودي ... إذا حالت صروف الدهر حالا
إليك هواي تكرمة وبرا ... إذا كان الهوى قيلا وقالا
__________
(1) الديوان: التقت.
(2) ورد البيت في الذخيرة 1: 76.
(3) الديوان: إذا بلغت محالا.
(4) الديوان: أنكرته.
(5) زيادة من الديوان لاستكمال المعنى.
(6) الديوان: غمارا.(4/733)
ومعذرة تشير بنات صدري ... إليك بها اختصارا واحتفالا
عدا بي أن أزورك صرف دهر ... ألح فما أطيق له احتيالا
وهم من (1) همومي لو توخى ... طريق الريح كان لها عقالا
إذا أعفيت راع إلي منه ... (2) محب لا يمل إذا أطالا
يخضخض مدمعي ويخوض فيه ... فما يدع المصون ولا المذالا
ودونكها وأنت أجل قدرا ... ولكن عادة حذيت مثالا
فإن ضاعت لديك فأنت شمس ... يشب تعسفي فيها الذبالا
وإن حظيت وأرجو أن ستحظى ... فإن الشمس نورت الهلالا
على خطر أو آن الليل منه ... لعاد شباب راكبه اكتهالا
وغب تعقب لو كان منه ... فرند السيف ما قبل الصقالا
__________
(1) الديوان: هموم.
(2) هذا البيت والتالي له لم يردا في الديوان.(4/734)
ومن شعره في النسيب وما يناسبه
قال (1) :
هو الهوى وقديماً كنت أحذره ... السقم مورده والموت مصدره
يا لوعة أجلاً من نظرة (2) أمل ... الآن أعرف رشداً (3) كنت أنكره
جد من الشوق كان الهزل أوله ... أقل شيء إذا فكرت أكثره
(4) ولي حبيب دنا لولا تمنعه ... وقد أقول نأى لولا تذكره وله في قينة كانت تسمى لذيذة (5) :
يا قلب ذب من أسى أو لا فلا تذب ... ما من تحب وإن تحرص بمقترب
ركبت هول الهوى عن غير تجربة ... وراكب الهول محمول على العطب
قد صاب طعم الهوى من بعدما وضحت ... منه ضروب منى أحلى من الضرب
لبيت داعيه لما أن دعاك وما ... دعاك داعي الهوى إلا إلى الشجب
حتى إذا نلت من تلك المنى جعلت ... تدعو عليك بطول الويل والحرب
أيا لذيذ ولا والله مذ حجبت ... عني لعيني في اللذات من أرب
__________
(1) الديوان: 240 وانظر بغية الملتمس: 175 والقلائد: 274 والخريدة 2: 519 والمسالك 11: 390 والمغرب 2: 452.
(2) الديوان: يا لوعة هي أحل من جنى أمل؛ المسالك: قربت من نظرة أجلا.
(3) الديوان: شيئاً.
(4) الديوان: وإن شط المزار به.
(5) منها أبيات في الديوان: 247.(4/735)
تركتني يا حياتي للردى غرضاً ... تفديك أمي من صرف الردى وأبي
يصلى فؤادي سعيراً من صبابته ... والعين في لجة من دمعها السرب
يا رب قد سفكت أم الوفاء دمي ... وقد تخوفت يوماً أن تؤاخذ بي
وقد وهبت لها قلبي، وما خطري ... حتى يعاقب ذاك الحسن من سبي
نسيت إلا تدانينا وموقفنا ... على مراقبة من أعين الرقب
لما التقينا وقد قيل المساء دنا ... وغابت الشمس أو كادت ولم تغب
وأضلعي بين منقذ ومنقصف ... وأدمعي بين منهل ومنسكب
تأملني أخت المجد قائلةً ... بمن أراك أسير الوجد والطرب
فقلت قلبي مسبي وإنك لو ... كتمت سري لم أكتمك كيف سبي
فأعرضت ثم قالت قد أسأت بنا ... ظناً، أيجمل هذا من ذوي الأدب
فقلت إني امرؤ لما لقيتكم ... والمرء وقف على الأرزاء والنوب
سبت فؤادي ذات الخال قادرةً ... ولا نصيب له منها سوى النصب
أشقى بها وهي عني في بلهنية ... شتان والله بين الجد واللعب
أصابت القلب لما أن رمته ولو ... رمته أخرى إذن لاشك لم تصب
فقالت اشك إليها ما لقيت ولا ... ترهب فلن تبلغ الآمال بالرهب
عسى هواك سيعديها فينصبها ... وقد يكون الهوى أعدى من الجرب
فقلت أعظمها بل ما أكلمها ... إلا أشار إليّ الموت من كثب
قالت أنا أتولى ذاك في لطف ... فقد أؤلف بين الماء واللهب
فقلت مثلك من يرجى لمعضلةٍ ... لا زلت في غبطة ممتدة الطنب
قالت لها يا لذيذ الحسن صاحبنا ... يهفو إليك وأضحى جد مكتئب
صليه أو فاقتليه فالحمام له ... خير من الجهد وفي تعب
فلو تراني قد استسلمت مرتقباً ... منها حنان الرضى أو جفوة الغضب(4/736)
حتى إذا ما ألانت تلك جانبها ... والقلب مهما أرم تسكينه يجب
طفقت ألثم كفيها وقد جنحت ... إليّ تضحك بين العجب والعجب
ثم افترقنا وما ساءت حفائظنا ... إذ اجتمعنا ولم نأثم ولم نحب
لله مثلي ما أدنى سجيته ... من المعالي وأنآها عن الريب
كم مآثم مستلذ قد هممت به ... فلم يدعني له ديني ولا حسبي وله فيها أيضاً (1) :
يا حب لذة قد أدنفت فاتئد ... إن كنت اجهد في نقضي فلا تزد
ويا لذيذة لا والله ما خطرت ... بالقلب ذكراك إلا بت في عضد
أتحسبين فؤادي عنك منصرفاً ... وقد حللت محل الروح من جسدي
بنتم فخلد عندي وشك بينكم ... شوقاً نفى جلدي لا بل سبى خلدي
هيهات يسلو فؤادي عنكم أبداً ... أنى ووجدي بكم باقٍ على الأبد
أم الوفاء لحيني ما فتئت بكم ... والناس قد فتنوا بالمال والولد
الله يعلم أني مذ عرفتكم ... لم يخل قلبي من خبل ومن كبد
ولا اتكال لعيني بعد فرقتكم ... إلا على مفنييها: الدمع والسهد
ترى جفونك أرضاها الذي صنعت ... بي أنها نفثت بالسحر في العقد
أتترك الناس صرعى لا حراك بهم ... ولا سبيل إلى عقل ولا قود
من كان يفظع طعم الموت في فمه ... فإنه في فمي أحلى من الشهد
فإن سقمي أضحى ما له أمد ... والموت أروح من سقمٍ بلا أمد
بما بلحظك من غنجٍ ومن حورٍ ... وما بعطفك من عطف ومن أود
حني على هاتم بالحب مختبلٍ ... بالشوق مرتهن بالحزن منفرد
__________
(1) منها أبيات في الديوان: 248.(4/737)
أضحى أسير صدودٍ بل قتيل نوىً ... رمته منها بسهم عنه لم يحد
يخشى على حبك الحساد تفضحه ... فما يبوح به يوماً إلى أحد
وإن بكى فبدا لعاذليه فعن ... غير اختيار ولكن عادة الكمد
أما كفى حزناً أن قد ظمئت وقد ... عاينت عذب الحيا يجري على البرد
قد أرهفت دونه سيفان من دعجٍ ... بلحظ أحوى رهيف القد ذي غيد
ورد شهي حماه الموت منصلتاً ... فظلت حيران لم أصدر ولم أرد
وما عجوز لها ابن واحد بصرت ... به يخوض الردى في ملتقى كبد
يوماً بأجزع مني يوم قولهم ... أصخ لداعي تنائينا غداة غد
أضحت على الأجد الأقواد باكيةً ... فلم ينل أحد ما نلت في الأحد
لقيت فعلة واللذات قد زهيت ... بنا وقد مات صرف الدهر من حسد
غنت فلو أن ميتاً كان يسمعها ... لعاد حياً كأن لم يرد يوم ردي
فهل يسكن عذالي وإن جهدوا ... ما حركت حرك الأوتار في كبدي
يا لذ مالك في قتلي بلا سببٍ ... وأنت سؤلي في قرب وفي بعد
رفقاً بقلبي يا قلبي فإنك قد ... أسكنت حيث الأسى في اللب والخلد
لم تنطقي قط إلا ظلت أفرق من ... أن أستطار فلم أبدئ ولم أعد
ولا مددت يداً للعود عامدةً ... إلا وضعت عليه أن يذوب يدي وله فيها أيضاً (1) :
النوم بعدكم علي محرم ... من ذا ينام وقلبه يتضرم
ماء الحياة وقد نأيتم آسن ... رنق ووجه الدهر جهم مظلم
قد بان عني الصبر لما بنتم ... والوجد ينجد في الفؤاد ويتهم
__________
(1) منها أربعة أبيات في الديوان: 247.(4/738)
أجريتم دمعي دماً لفراقكم ... ظلماً وقلتم ما له لا يكتم
ما كان أكتمني لسري قبل أن ... تكف الدموع كأنما هي عندم
فإذا شهدت جماعة واعتادني ... تذكاركم فاضت دموعي تسجم
فبحقكم من ذا يعاين أدمعي ... تنهل إلا قال هذا مغرم
حملتموني ثقل بينكم ألم ... تتبينوا ألم الحنين فترحموا
عاقبتموني في الهوى بذنوبكم ... لقد استطلتم إذ قدرتم فاعلموا
أتظلمون وتظلمون محبكم ... ومن العجائب ظالم متظلم
أعتبتم فعتبتم وأطعتم ... فعصيتم ووصلتم فهجرتم
قد كان لي في هجركم لو أنني ... أقوى عليه من السلامة سلم
ولقد علمتم أنني قد رمته ... فضعفت عنه فافعلوا ما شئتم
أنتم مناي وفيتم أو خنتم ... ولكم هواي دنوتم أو بنتم
يا حبذا أم الوفاء وإن جفت ... وتغيرت فهي التي لا تسأم
وهي التي انفردت بودي كله ... ولطالما قد كان وهو مقسم ومن شعره في المديح:
له في محمد بن عيسى الحضرمي (1) :
عتاب على الدنيا وقل عتاب ... رضينا بما ترضى ونحن غضاب
وقالت وأصغينا إلى زور قولها ... وقد يستفز القول وهو كذاب
وغمت (2) على أبصارنا وقلوبنا ... فطال عليها الحوم وهي سراب
__________
(1) الديوان: 8.
(2) الديوان: وغطت.(4/739)
ودانت لها أفواهنا وعقولنا ... وهل عندها إلا الفناء ثواب
وتلك لعمر الله أما ركوبها ... فهلك وأما حكمها فغلاب
نلذ ونلهو والأعزة حولنا ... رفات ونبني والديار خراب
وتخدعنا عما يراد بنا منىً ... لبحر المنايا دونهن عباب
ونغتنم الأيام وهي مصائب ... لهن علينا جيئة وذهاب
بكت هند من ضحك المشيب بمفرقي ... أما علمت أن الشباب خضاب
وقالت غبار ما أرى وتجاهلت ... وليس على وجه النهار نقاب
هل الشيب إلا الرشد جلى غوايتي ... فأصبحت لا يخفى علي الصواب
وأصبح شيطاني يعض بنانه ... وقد لاح دوني للقتير شهاب
أأغفو لصرف الدهر عن هفواته ... على حين لا يأبى (1) علي عقاب
وأتركه يمضي على غلوائه ... وقد عز (2) إعتاب وطال عتاب
برئت من العلياء إن لم أرده ... ولي ظفر قد عاث فيه وناب
وإن لم أنهنه من شباه بعزمةٍ ... تذل لها الأشياء وهي صعاب
وقائلة ما بال حمص نبت به ... ورب سؤال ليس عنه جواب
نبت بي فكنت العرف في غير أهله ... يعود على موليه وهو تباب
وتالله ما استوطنتها قانعاً بها ... ولكنني سيف حواه قراب
أيغضب حسادي قيامي إلى العلا ... وقد قعدوا عما ظفرت وخابوا
هم حسدوني لا لوفر وفرته ... (3) ولكن شهدت المكرمات وغابوا
وأروع لا ينأى على عزماته ... مرام ولا يخفي سناه حجاب
__________
(1) الديوان: يأتي.
(2) الديوان: قل.
(3) لم يرد هذا البيت في الديوان.(4/740)
من الحضرميين الأولى أحرزوا العلا ... بسنوا فأطالوا أو رموا فأصابوا
من المانعين الدهر حوزة جارهم ... وأشلاؤه بين الخطوب نهاب
هم عرضوا دون المعالي فأصبحت ... مطالب لا يدنو بهن طلاب
وهم (1) جأجأوا بالمعتفين إلى ندىً ... هو القطر لا يأتي عليه حساب
مضوا إن تسمهم خطة الضيم يأنفوا ... (2) وإن يدعهم داعي السماح أنابوا
سجايا على مر الليالي كأنما ... هي المزن فيه رحمة وعذاب
تخوفني (3) ريب الزمان وقد حدت ... برحلي إلى ابن الحضرمي ركاب
إذا الله سنى لي لقاء محمد ... تفتح دوني للسماحة باب
فتىً لم تسافر عنه آمال آملٍ ... وكان لها إلا إليه إياب
ولا ظمئ العلم المضيع أهله ... فساغ له إلا لديه شراب
له همم في الجود والبأس لم (4) تزل ... لها فوق أثباج النجوم قباب
وأقسم لولا ما له من مآثرٍ ... لأصبح ربع المجد وهو يباب
مآثر هن المجد لا كسب درهمٍ ... وهن المعالي لا حلى وثياب
يغبط العدا منه أغر حلاحل ... أشم طوال الساعدين لباب
ولا عيب فيه لامرئ غير أنه ... تعاب له الدنيا وليس يعاب
هو الأسد الورد الذي طال ذكره ... وليس له إلا البسالة غاب
تبوأ من دار الخلافة مقعداً ... له فيه عن حكم القضاء مناب
وباهت به منذ استقل بأمرها ... كما تتهادى للجلاء كعاب
__________
(1) الديوان: جنحوا.
(2) لم يرد في الديوان.
(3) الديوان: صرف.
(4) الديوان: والبأس والندى.(4/741)
سل الدين والدنيا هل ابتهجا به ... كما انجاب من ضوء النهار ضباب
نضاه أمير (1) المسلمين مهنداً ... له الحلم متن والمضاء ذباب
له المثل الأعلى معاداً ومبدءاً ... وللحاسد العاوي حصىً وتراب
ألانت لك الأشياء وهي صليبة ... عزائم في ذات الإله صلاب
إليك أبياتاً من الشعر (2) صغتها ... بودي لو أني بهن كتاب
(3) فإن تتقبلها فتلك طويتي ... فيا من رأى خطباً ثناه خطاب
وهل أنا إلا الروض حياك عرفه ... وقد باكرته من نداك سحاب
ومن يثن بالصنع الجميل فإنه ... شكور ولا مثل المزيد ثواب
وهل أنا إلا عبد أنعمك التي ... هي الشهد إذ كل الموارد صاب
وهل شهد المجد الذي أنت سره ... (4) بأنك بحر والكرام شعاب
وها أنا يا رضوان باسمك هاتف ... فهل لي إلى دار المقامة باب
وهل يدرك الحساد غورك في العلا ... وإن طال مكر منهم وخلاب
إذا (5) قايسوك المجد كنت غضنفراً ... إذا زار لم تثبت عليه ذئاب
وما احمر إلا من صيالك معرك ... ولا اخضر إلا من نداك يباب وقال أيضاً يمدح ذا الوزارتين أبا جعفر بن أبي رحمه الله (6) :
فؤاد على حكم الهوى لا على حكمي ... يهيم على إثر البخيلة أو يهمي
__________
(1) الديوان: المؤمنين.
(2) الديوان: قلتها.
(3) الديوان: وتلك مطيتي.
(4) الديوان: سراب.
(5) الديوان: نافسوك.
(6) انظر الديوان: 175.(4/742)
متى أشتفي من لوعتي أو أطيقها ... إذا كان يجنيها فؤادي على جسمي
هنيئاً لسلمى فرط شوقي وأنني ... ذكرت اسمها يوم النوى ونسيت اسمي
غداة وقفنا نقسم الشوق بيننا ... على ما اشترطنا وارتضت سنة القسم
وقد طلعت تلك الهوادج أنجماً ... تركن جفوني في الكرى أسوة النجم
فأبت بدمعي لؤلؤاً فوق نحرها ... وآبت بما في مقلتيها من السقم
خليلي هل بعد المشيب تعلة ... لذي الجهل أو في الحب شغل لذي الحلم
وهل راجع عيش لبسناه آنفاً ... (1) كيوم يزيد في بيوت بني جرم
وهل لي حظ من مواتاة صاحب ... له قدرة القاضي وموجدة الخصم
بدت رقة الشكوى على (2) غضباته ... ورابتك في أعطافه فسوة الظلم
كما اضطرب الخطي في حومة الوغى ... وصم المنايا في أنابيبه الصم
رماني على فوت الشباب وإنما ... تعرض لي لما رآني لا أرمي
ولم يدر أني لو أشاء ختلته ... على رسله إن الحبالة كالسهم
ووكل عينيه باتلاف مهجتي ... سيعلم إن لم يستجر بي من الغرم
أبا جعفر هذي المكارم والعلا ... دعاء بحق وادعاء على علم
أرى الناس قد باعوا المروات فاشتر ... وقد ضيعوا ما كان من حسب فاحم
وأنت أحق الناس بالحزم فأته ... وصون العلا بالمال شبه بالحزم
وأنت بعيد الهم مقترب الجدا ... كريم السجايا ماجد الخال والعم
أبى إذا لم يدافع الضيم دافع ... بغير الحديث الإفك والحلف الإثم
وأكرم من يرجى لدفع ملمةٍ ... إذا الطفل لم يسكن إلى لطف الأم
__________
(1) يعني يزيد بن الطثرية وقد دخل ح بني جرم وانصرف من عند النساء مدهوناً مثقلاً بالهدايا (الأغاني 8: 158: 161) .
(2) الديوان: حركاته.(4/743)
وأهفى بألباب الرجال من الهوى ... وأخفى وراء الحادثات من الوهم
وأحمى لحوزات المعالي من الردى ... واسخى بآمال النفوس من الحلم
وذو عزمات لو تساوى بها الربى ... لطأطأها بين المذة والرغم
ولم أر أحيا منك وجهاً ولا يداً ... إذا استأثر الحر المرمق بالطعم
وأصبر في ظلماء كل كريهةٍ ... بحيث يكون الصبر أفرج للغم
إذا الخيل عامت في النجيع وألجمت ... بسمر العوالي وهي تطغى على اللجم
ولم تر إلا عاثراً بدمائه ... يحاذر كلماً أو يدافع عن كلم
ولا حصن إلا السيف في يد ماجد ... يرى الموت دون المجد غنماً من الغنم
هنالك حدث عن أبي (1) وأحمد ... وعبد المليك الشم في الرتب الشم
تسميت بالفضل الذي أنت أهله ... ومعناه، والمذموم (2) أجدر بالذم
وألبست من مثنى الوزارة حلةً ... تقوم لها تلك المآثر بالرقم
وتنميك من سعد العشيرة أسرة ... هل الفخر إلا ما نمته وما تنمي
بهاليل أبطال جحاجح سادة ... كأسد الشرى في الحرب كالمزن في السلم
إذا ركبوا الجرد الجياد إلى الوغى ... رأيت الأسود الضاريات على العصم
سيأتيك شعري ذاهباً كل مذهب ... على شيهم من خطةٍ أو على شهم
جزاءً بنعماك الجزيلة إنني ... تكرمت عن شين الصنيعة بالكتم
فكم لك عندي من يد ملأت يدي ... ومن نعمة أولى بشعري من نعم
هنيئاً لك العيد الذي أنت عيده ... وعيد لما حاكوا من النثر والنظم
نأى الحجر الملثوم فيه فأحظني ... بيمناك واجعل لي سبيلاً إلى اللثم
__________
(1) الديوان: وجعفر.
(2) ص: إن الذم.(4/744)
وقال أيضاً يمدح الوزير أبا العلاء بن زهر (1) :
يفديك كل جبانٍ في ثياب جري ... نازعته الورد واستأثرت بالصدر
لما رأى الخبر شيئاً ليس ينكره ... أحال بالدين والدنيا على الأثر
ول السهى ما تولى من تكذبه ... إن المزية عند الناس للقمر
وهي الشفار إذا الإقدام جردها ... (2) ألوت بما يدعيه العشي للشفر
والناس كالناس إلا أن تجربهم ... وللبصيرة حكم ليس للبصر
كالأيك مشتبهات في منابتها ... وإنما يقع التفضيل الثمر
ولى رجال غضاباً حين سدتهم ... لا ذنب للخيل إذ لا عذر للحمر
واستشرفوا كلما أحرزت طائلةً ... وللسنان مجال ليس للابر
طولوا وإلا فكفوا من تطاولكم ... إن المآثر أعوان على الأثر
مللت حمص وملتني فلو نطقت ... (3) كما نطقت تلاحينا على صدر
وسولت لي نفسي أن أفارقها ... والماء في المزن أصفى منه في الغدر
هيهات بل ربما جنى الرحيل غنىً ... بالمال أجني به رغداً (4) من العمر
كم ساهر يستطيل الليل من دنفٍ ... لم يدر أن الردى آت مع السحر
أما اشتفت مني الأيام في وطني ... حتى تضايق في ما عن من وطر
ولا قضب من سواد العين حاجتها ... حتى تكر على ما ظل (5) في الشعر
__________
(1) الديوان: 48 وبعضها في المسالك والنفح والوافي والمغرب والشريشي 1: 110 وطراز المجالس: 124 ورفع الحجب 1: 140 والذخيرة 1: 312.
(2) الديوان: العين للسهر.
(3) هذا البيت والذي يليه في الرايات: 90 (غ) .
(4) الديوان: أحيي به فقراً.
(5) الديوان: كان.(4/745)
كم ليلة جبت مثنى طولها بفتىً ... شتى المسالك بين النقع والضرر
حتى بدا ذنب السرحان لي وله ... كأنما هو ند بالصباح يري
في فتية ينهبون الليل عزمهم ... فليس يطرقهم إلا على حذر
لا يرحضون دجاه كلما اعتكرت ... إلا بمال ضياع أو دم هدر
لهم هموم تكاد العيس تعرفها ... وربما اشتملت بالحادث النكر
باتت تخطى النجوم الزهر صاعدةً ... كأنما تفتليها عن بني زهر
القائلين اقدمي والأرض قد رجفت ... إلا ربىً من بقايا البيض والسمر
والهام تحت الظبا والبيض قد حميت ... فما تطاير إلا وهي كالشرر
أثناء كل سنان (1) عد في زرد ... كأنه جدول أفضى إلى نهر
والخيل شعث النواصي فوقها بهم ... حمس العزائم والأخلاق والمرر
شابت من النقع وارتاب الشباب بها ... فغيرت من دم الأبطال بالشقر
والشيب مما أظن الدهر صحفه ... معنى من النقص عماه عن البشر
لو يعلم الأفق أن الشيب مقتبل ... نهاية الروض أن يعتم بالزهر
وليس للمرء بعد الشيب مقتبل ... نهاية الروض أن يعتم بالزهر
أما ترى العرمس الوجناء كيف شكت ... طول السفار ولم تعجز ولم تخر
تسري ولو أن جون الليل معركة ... ترى الردى كاشراً فيها عن الظفر
باتت توجى وقد لانت مواطئها ... كأنها إنما تخطو على الإبر
تخشى الزمام فتثني جيدها فرقاً ... (3) كأنه بين ثني (2) حيةٍ ذكر
من كل ناجية (4) الآصال قد فصلت ... من الردى فحسبناهما من البكر
__________
(1) الديوان: على.
(2) الديوان: من تثني.
(3) مر قبلاً ص: 627.
(4) الديوان: الآمال.(4/746)
بهيمة لو توفى كنه (1) شرتها ... لفاتت الخيل في الأحجال والغرر
تجري فللماء ساقاً عائم دربٍ ... (2) وللرياح جناحا طائر حذر
قد قسمتها يد التقدير بينهما ... على السواء فلم تسبح ولم تطر
أما إياد فنالت كل مكرمة ... لولا مكان رسول الله من مضر
وأوقدوا ونجوم الليل قد خمدت ... في لج طام من الصنبر معتكر
ألقى المراسي والتجت غياطله ... على ذكاء فلم تطلع ولم تغر
وأترع الوهد من إزباد لجته ... بالبرس يلبث بين القوس والوتر
فالأرض ملساء لا أمت ولا عوج ... كنقطة من سراب القاع لم تمر
أفادني حبك الإبداع مكتهلاً ... وربما نفع التعليم في الكبر
إذا رميت القوافي في فرائصها ... (3) لم أرمها متلجاً كفي في قتر
أين ابن بابك أو مهيار من مدحٍ ... (4) نسقتها فيك نسق الأنجم الزهر
أشدو فيلقي ابن حجر بالمقالد لي ... والدهر يعلم أن الدر للحجر
أبا العلاء وحسبي أن تصيخ لها ... إقرار جان وإن شئت اعتذار بري
أنا الذي أجتني الحرمان من أدبي ... إن النواظر قد تؤتى من النظر وله في القاضي ابن حمدين رحمهما الله يستهينه ويستعطفه (5) :
__________
(1) س: اثرتها.
(2) الديوان: ذكر.
(3) إشارة إلى قول امرئ القيس (ديوانه: 123) :
رب رام من بني ثعل ... متلج كفيه في قتره وأتلج الكفين: أدخلهما، والقترة: بيت الصائد الذي يكمن فيه.
(4) ابن بابك: أبو القاسم عبد الصمد بن منصور من شعراء اليتيمة؛ ومهيار الديلمي تلميذ الشريف الرضي (تاريخ بغداد 12: 276) .
(5) الديوان: 4.(4/747)
أغمز (1) جفون وانكسار حواجب ... أم البرق في جنح من الليل راتب
سرى وسرى طيف الخيال كلاهما ... يود لو أن الليل ضربة لازب
وفي مضجعي أخفى على الليل (2) منهما ... وأثقب في أجواز تلك الغياهب
لقى غير نفس حرةٍ نازعت به ... نجوم الدجى ما بين سار وسارب
معودة ألا تطبق روعة ... بها مذهباً، والموت شتى المذاهب
إليك ابن حمدين وإن بعد المدى ... (3) وإن عزبت بي عنك إحدى العوازب
صبابة ود لم يكدر جمامه ... مرور الليالي وازدحام الشوائب
وذكرى عساها أن تكون مهزةً ... ترد على أعقابه كل شاغب
بآية ما كان الهوى متقارباً ... وخطوي فيه ليس بالمتقارب
أمخلفة تلك الرسائل بعدما ... شددنا قواها بالنجوم الثواقب
وكم غدوةٍ لي في رضاك وروحةٍ ... على منهج من سنة البر لاحب
ليالي لم تمش الأخابث (4) بيننا ... بما كاد يستهوي حلوم الأطايب
ولم يزحفوا في نقض ما كان بيننا ... بصيابةٍ ينمونها وأشائب
وأياه لم يجن الدلال على الهوى ... هناتٍ جنت عتباً على غير عاتب
أفالآن لما كنت أحكم (5) قادر ... وسرك أني جئت أصدق تائب
ولم تبق إلا نزعة ترتقي بها ... شياطين تخشى القذف من كل جانب
أضعت حقوقي أو حقوق مودتي ... فدونكها أعجوبة في الأعاجب
__________
(1) الديوان: عيون.
(2) الديوان: على الليل.
(3) الديوان: غربت ... الغوارب.
(4) الديوان: الأخابيث.
(5) الديوان: قاصد.(4/748)
وفجعت بي حياً نوادب كلما ... تذكرنني أسعدن غير نوادب
وقال العدا ليل الخمول أجنه ... على رسلهم إني عياض بن ناشب
واصبحت لا يرتاع من خوف سطوتي ... عدوي ولا يرجو غنائي صاحبي
ولا تتباهي بي صدور مجالسٍ ... أسرك فيها أو صدور مواكب
وما (1) تتلاقاني العفاة كأنما ... أهابوا بمنهل من الغيث ساكب
ولا أمتري أخلاف كل (2) مشيئةٍ ... بأيدي صبا من عزمتي وجنائب
أعاتب إدلالاً وأعتب طاعةً ... وحسبك بي من معتبٍ أو معاتب
أبوء بذنبي ليس شعري بمقتضٍ ... علاك ولو قفيته بالكواكب
ولكنه ما أستطيع وعوذة ... لفضلك إلا تمح ذنبي تقارب
ويجحدك الحساد أنك سدتهم ... على شاهد مما انتحيت وغائب
وقد وقفوا دون المدى غير خلوةٍ ... بأنفسهم أو بالظنون الكواذب
غضاباً على من ناكر الدهر بينهم ... وقد عرفوه بين راضٍ وغاضب
سراعاً إلى الدينار حيث بدا لهم ... ولو أنه بين الظبا والضوارب
إذا المرء لم يكسب سوى المال وحده ... فألأم مكسوب لألأم كاسب
عجبت لمن لم يقدر الترب قدره ... وقد تاه في نقد النجوم الثواقب
ومن لم يوطن للنوائب نفسه ... وقد لج في تعريضها للنوائب
أعد نظرةً فيهم وفي حرماتهم ... وإن لم يعيدوا نظرةً في العواقب
وكن بهم أدنى إلى الرشد منهم ... تكن هذه إحدى علاك العجائب
لعلهم والدهر شتى صروفه ... ومجدك أولى بارتقاء المراتب
قد انصرفت تلك الهموم لواغباً ... إلى المقصد الأدنى وغير لواغب
__________
(1) الديوان: ولا تتلقاني.
(2) الديوان: مرنة.(4/749)
وثابت حلوم ربما زال يذبل ... وزال سهيل وهي غير ثوائب
وأيقن قوم أنها هي ترتمي ... بهم بين مجنوب إليك وجانب
وألقوا بأيد صاغرين وأخلصوا ... ضمائر مكذوبي المنى والتجارب
وأهون مغلوبٍ على أمر نفسه ... من الناس من لا يتقي بأس غالب
إليك ابن حمدين تنصيحة مشفق ... (1) تنخلها أثناء تلك الغرائب
برغمي ورغم المكرمات تقضبت ... حبال بأيدي الحادثات القواضب
ورغم رجالٍ علمتهم ذنوبهم ... حذار الأعادي واحتقار المصائب
قضوا نحبهم إلا أسى غير نافع ... على ذاهب من أمرهم غير ذاهب
يلوذون منه بالخضوع مردداً ... إذا عزهم فيض الدموع السواكب
فإن تنتصف منهم فأعذر آخذٍ ... وإن تتداركهم فأكرم صاحب ومن شعره، في التأبين، قصيدة له يعزي ابن مرتين، أوله (2) :
على مثله فلتبك إن كنت باكياً ... فقد عهد الأحباب ألا تلاقيا
وقد أجمعوها آخر الدهر رحلةً ... يذم إليها العيس من كان ثاويا
سفار تداعوا من نواهم بطيةٍ ... تساقوا بكأسيها الفراق تساقيا
أفي كل يوم أودع الأرض صاحباً ... أريق به في الترب ماء شبابيا
وأحسب أني لو غدوت مكانه ... لعز عليه أن أكون مكانيا
ولو أنني أحببته الحب كله ... لأتبعته نفسي وأهلي وماليا
وقل غناء عنه إسبال عبرة ... إذا ابتدرت كفكفتها بردائيا
وعدي له الأيام لا أنا واهم ... (3) ولا أنا ثان من عنان رجائيا
__________
(1) الديوان: النوائب.
(2) لن ترد هذه القصيدة في الديوان.
(3) قراءة تقديرية غير دقيقة للبيت كله.(4/750)
وحفظي له بالغيب حتى كأنه ... بحيث أراه أو بحيث يرانيا
وقولي لا تبعد وقد حال دونه ... كثيب تهاداه الرياح تهاديا
خليلي قد أفنيت سهدي وأدمعي ... وعيني فما لي لا أرى الوجد فانيا
خليلي من يطمع بشيء فإني ... نفضت به لا بل نقضت فؤاديا
وليست حياتي غير شجو مردد ... عهدت له ألا ألذ حياتيا
صلاة ورضوان وروح ورحمة ... وكل سحاب لا أخص الغواديا
على الجدث المحبوب خالط تربه ... سنا البدر تماً أو شذ المسك ذاكيا
على جدث ما ضر إنسان مقلتي ... وقد بان عنها لو غدا فيه ثاويا
طوى الحسن والإحسان والدين والحجى ... وبيض الأيادي يكتنفن الأياديا
وشخصاً لو أن الفضل أعطي حكمه ... لكان له مما هنالك واقيا
من الخفرات البيض ما انفك دونها ... مرام تحاماه الخطوب تحاميا
أتت دونها الآمال مختومة فما ... تحدث عنها الشهب إلا تناجيا
تخطى إلينا يومها كل شائحٍ ... يكفك غضباناً ويكفيك راضيا
على كل طاوٍ طالما جشم الورى ... كفيلاً بأن لا يصبح الموت طاويا
من اللائي يدعون الردى أو لحينه ... عوادي يحملن الأسود عواديا
إذا قبلوها الروع خلت رقابها ... عوالي يحملن الأسود عواديا
حصون لو أن الرزق معتصم بها ... لأعياك إلا أن تمنى الأمانيا
أمصغية حثي تبثك شجوها ... حوائم لم تعهد كواديه واديا
إذا استشعرت ذكراك أنهبت الأسى ... عيوناً رواء أو قلوباً صواديا
وملآن من عطف عليك ورقةٍ ... غدا منك مأهولا وإن كان خاليا
يراك بعيني شوقه وادكاره ... فيا دانياً هلا كما كنت ذانيا
تهيج له ذكراك أنة ضائع ... فتضنيه مدعواً وتعنيه داعيا(4/751)
عزاءً بني مرتين ما أحسب الأسى ... لذي اللب إلا آسياً أو مؤاسيا
أبت هذه الأيام إلا طباعها ... وإن هي دارتكم هوىً أو تداهيا
وقد أمكنتكم وهي خون غوادر ... فإن شئم لم تتركوها كما هيا
إليك عبيد الله والبعد بيننا ... هوى بات يرمي بي إليك المراميا
ولبيك قد أسمعتني وإن التوت ... بعزمي هموم لا تجيب المناديا
ولابد من أن أنتحيك بهذه ... خليلاً صفياً أو عدواً مداجيا
أبثك حالي لا لأنك جاهل ... بحالي ولكن ربما كنت ناسيا
وأدلي بعذري ثم رأيك بعدها ... أميراً ومأموراً وخصماً وقاضيا
صدقتك عن نفسي على القرب والنوى ... وقلت لعلي أو لعل اللياليا
وكنت قديماً [قي] أعرض بالهوى ... لتدنو فما تزداد إلا تنائيا
وإني لأستحييك من حيث بعتني ... رخيصاً على أني اشتريتك غاليا
وما كنت أخشى أن أبيت بليلةٍ ... من الدهر لا أهدي إليك القوافيا
ولكنها لما استحفت مدائحا ... حذرت عليها أن تضيع مراثيا
وكنت أراني ربما اسود موضعي ... يسيراً فما ظني به اليوم قانيا
فإن يرع الأحباب طول تململي ... فإني سليم لم أجد لي راقيا
وإن يطمع الأعداء فرط تذللي ... فحاشاك معزولاً وعتباك واليا
ووالله ما بي أن تضيع مودتي ... لديك ولكن أن يضيع وفائيا
وما لوت الأيام ديني لعلةٍ ... ولكن لعلي قد أسأت التقاضيا
عزاءك قد أبلغت نفسي عذرها ... ودهرك غدار فما لك واقيا
أرى هذه تفنى ويفنى متاعها ... ويأبى عليها الناس إلا تفانيا(4/752)
ويأبى معز الشيء إلا ارتجاعه ... فيا أدعياء السرو ردوا العواريا
تساوى الورى قبل الحياة وبعدها ... فما بال قوم ينكرون التساويا
وقال الفتى أهلي ومالي ضلةً ... وأين به عن نسبتي (1) وماليا الوزير الكاتب أبو بكر عبد العزيز بن سعيد البطليوسي (2)
أحد فرسان الكلوم والكلام، وحملة السيوف والأقلام، من أسرة أصالة، وبيت جلالة، أخذوا العلم أولاً عن آخر، ورووه كابراً عن كابر، ولله دره فإنه، وأخويه أبا محمد طلحة وأبا الحسن محمداً، منتهى قول
__________
(1) س: منشي.
(2) هو أحد ثلاثة أخوة يعرفون ببني القبطرنة (أو القبطورنة أو القبطورنية) والأرجح أن هذه التسمية مركبة من كلمتين هما Caput وتعني رأس و torno بمعنى مستدير، فيكون معناها: " ذو الرأس المستدير " (انظر وثائق تاريخية جديدة للدكتور محمود مكي، صحيفة معهد الدراسات الإسلامية 7: 117 الحاشية رقم: 3) ، وهؤلاء الاخوة الثلاثة هم أبو بكر عبد العزيز وأبو محمد طلحة وأبو الحسن محمد.
أما أبو بكر عبد العزيز بن سعيد فقد كان من جلة الأدباء ورؤسائهم، كاتباً مترسلا، كتب للمتوكل ابن الأفطس ثم لابن تاشفين من بعده وتوفي بعد 520 وذكر مؤلف إحكام صنعة الكلام (137) أن أبا بكر كان من رؤساء العصر في صنعة النظم والنثر، وأنه كانت بينهما مراسلة سنة 507 أورد ذكرها في كتابه " ثمرة الأدب ". (وانظر التكملة رقم: 1743) ورسالة له في الريحان 1: 92 ب) .
وأما أبو محمد طلحة بن سعيد فقد أخذ عن مشيخة بلده، وكان أحد الأدباء الأذكياء وكان صديقاً لأبي بكر بن العربي وتوفي في حياة أخيه أبي بكر (التكملة: 237) وكان لأخيهما محمد بن سعيد مكانة مشابهة، إذ كتب أيضاً للمتوكل ابن الأفطس، ولكن المصادر لا تعين شيئاً واضحاً عنه. (انظر تراجم الثلاثة في المغرب 1: 364 والإحاطة 1: 528 (وفيه نقل عن الذخيرة) والقلائد: 148 والخريدة 3: 422 والمطرب: 186.(4/753)
القائل، وأعجوبة الأواخر والأوائل، ثلاثة كهقعة الجوزاء، وإن أربوا على الشمس في السناء والسناء، امتروا أخلاف الفخر فأمطرتهم شبعاً ورياً، وهزوا بجذوع النظم والنثر فاساقطت عليهم رطباً جنيا، ولم يحضرني من أشعارهم ومستظرف أخبارهم حين إخراجي هذه النسخة من هذا المجموع إلا ما أثبته لأبي بكر منهم خاصة، وهو علم بردهم، وواسطة عقدهم.
فمن ذلك رقعة خاطب بها الوزير أبا الحسين ابن سراج قال فيها (1) :
لولا أن عوائق الزمان - أدام الله عزك - تعوق، وبنائق مساعدته على الأحرار - بعلمك - تضيق، لساعدت إليك نزاعي، وانقدت في حبل تشوقي (2) واطلاعي، ولطرت بجناحٍ، وامتطيت أعناق الرياح، ولاستبطأت السلاهيب، واستهجنت الجرد اليعابيب، ولم أرض بالتي تنفخ في البرى، واستقصرت بريد السرى، بالليل من خيل بربرا (3) ، ولارتحلت الكوكب، وحملت إليك قلباً كقلب العقرب، ولاتخذت المجرة سبيلاً، وسهيلاً دليلاً، ولقدت البدر المنير، [138أ] وركبت الشعرى العبور، وامتطيت الأفلاك، وتترست بالثريا وطعنت بالسماك؛ هذا لو أردت البر، ومقاساة السهل منه والوعر، وإلا اتخذت السمكة سفينة، وأقمت لها النعائم ألواحاً، وعطارداً ملاحاً، وقيرت بالغيوم، وسمرت بالنجوم،
__________
(1) ورد بعض هذه الرسالة في إحكام صنعة الكلام: 136 وقد اعتمدوا ابن عبد الغفور فيها الحذف والإيجاز، كما جاءت قطعة منها في تمام المتون: 218.
(2) س والأحكام: شوقي.
(3) من قول امرئ القيس (ديوانه: 66) :
على كل مقصوص الذنابي معاود ... بريد السرى بالليل من خيل بربرا(4/754)
وجدفت بالفرقدين، وحملت من آمالي فيها من كل زوجين (1) اثنين، واعتصمت بالقوة والحول، وتخلفت (2) كل من سبق عليه القول، واستعذت من شيطان الكسل وهو رجيم، وقلت {باسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم} (هود: 41) حتى أحط في واديك، وأعرض نسخة مذاهبي في ناديك، فأرتسم في الجملة، وأصلي إلى تلك القبلة، وأسعد بتلك الغرة، وأقضي من لقائه الحج والعمر، وأطوف بذلك المقام، وأذكر الله عند المشعر الحرام، وعسى ذلك الحين يحين، وجوانب ايام أن تلين، فقد تأسو إثر ما تجرح، والصعب ينقاد (3) بعدما يجمح، والشوك بالمن يسمح.
وفي فصل منها: ومؤديه حملته من عقوق زماني ما ليس بنكر، ومن عثرات أيامي ما لم يكن ببكر، وعودتني - دام عزك - الأخذ بيدي عند العثار، والنهوض بي على رغم أنف الليل والنهار، فلك الفضل الذي عودت، والطول الذي أسلفت، في التهمم برد (4) لحظة العناية إلى ما يعين على صلاحي، ويعيد بعض الريش لجناحي، جارياً على عادتك، وعاملاً على شاكلتك، والله يبقيك للمنن تتقلدها (5) ، والمكارم تشيدها، وأقرأتك (6) من أثناء تلك الدولة والاشتياق، سلام حبيبٍ على
__________
(1) ط: من كل زوج.
(2) تمام المتون: وخالفت.
(3) س: يمكن، وهو أقرب إلى قول بشار:
عسر النساء إلى مياسرة ... والصعب يمكن بعد ما جمحا (4) ط د: بود.
(5) س د: تقلدها.
(6) س: وأقربك.(4/755)
الحسن بن وهب والعراق (1) ، وإن بكيت عني مع إخواني فطالما كنت أعير الدموع للعشاق (2) .
وله من أخرى: لا معنى - دام عزك (3) - لذكر ما أنا عليه من التعظيم والتأمل، ولا لتجميل وجه حالي معك وهو الحسن الجميل، فضعيف هوىً يبغى عليه دليل (4) ، واعتزائي تدريه إليك، وتعويلي تعلمه عليك، وأني لك أنتسب في ودادي، وبك أتحلى في النادي، إن لمحت عيني نظرتك، أو خدرت رجلي ذكرتك، لا أفخر إلا بولائك، ولا أقر إلا لنعمائك، ولا أتمنى إلا كان المنى في لقائك. وهذا الباب لو أفنيت فيه الأيام، والقراطيس والأقلام، لم أبلغ فيه بعضاً، ولا أديت فرضاً، فأنا أقتصر منه على ما في ضميرك، وأقنع منه بتذكيرك، والله تعالى يبقيك لي ويعليك، ويعين (5) على شكر أياديك.
وموصله ناصح - مملوكك - حركه ما حركه (6) ، وتوجه لأمر أرجو بعزتك دركه، وذلك أن أختاً لي، أمتك، لا باكية لي سواها، كان
__________
(1) إشارة إلى قول أبي تمام (ديوانه 2: 425) :
سلام ترجف الأحشاء منه ... على الحسن بن وهب والعراق
على البلد الحبيب إليّ غوراً ... ونجداً والفتى الحلو المذاق (2) من قول الشريف الرضي (ديوانه 2: 79) :
وابك عني فطالما كنت من قبل أعير الدموع للعشاق ... (3) س: أدام الله عزك.
(4) من قول المتنبي: ضعيف هوى يبغي عليه ثواب.
(5) ط د: ويعينك؛ س: ويعينني.
(6) ما حركه: سقط من ط.(4/756)
لها ابن من ابن فلان، فرعض له (1) فاختلسه، وقربه إلى الحضرة المزدانة بك، فتمثل ما شئت من كمدها، واحتراق كبدها، وتذكر قوله عليه السلام: " لا توله والدة على ولدها "، وانظر سوء فعل هذا المعاند، وتدري وجد ثكلى أصيبت بواحد، وهو وإن كان غير واضح فهو عندها عرار (2) ، وفي عينها دينار (3) ، وإن كان كما سترى، فكل شيء يحب ولده حتى الحبارى (4) ، والولد - كما في علمك - فتنة، والخنفساء في عين أمها رامشنة، وستراه - إن شاء الله - وترى أباه، فتعلم الإقراف (5) من حيث أتاه، وترى تلك المخايل، وتعرف فيه من أبيه شمائل (6) ، وتتحقق به المشابه والمناسب، وتنشد:
وأنا نرى أقدامهم في نعالهم ... وآنفهم بين اللحى والحواجب وترى فيه من علامات الكرام، لأنه شبيه لأمير المؤمنين هشام، وإنه متخازر، وأن اسمه عبد الله ن طاهر، وهذا هزل كله جد، ومزح تحقيقه عمد، فهو على كل حالٍ ولد، وقطعة من كبد، وأنت [138ب]
__________
(1) ط د س: ابن من ابن فلان يعرض عليه.
(2) من قول عمرو بن شأس (الحماسية رقم: 84) :
وإن عراراً إن يكن غير واضح ... فإني أحب الجون ذا المنكب العمم (3) إشارة إلى قصة أعرابي كان ينشد ابناً له ضل فلما سئل أن يصفه قال: كأنه دنينير، وكانت الصفة بعيدة عن الواقع.
(4) انظر الميداني 2: 62.
(5) الاقراف من قبل الفحل أي حين كون الأب هجيناً غير عربي.
(6) من قول امرئ القيس (ديوانه: 113) :
وتعرف فيه من أبيه شمائلا ... ومن خاله ومن يزيد ومن حجر(4/757)
ولي النعمة في جبره عليها، ورد نومها به إليها (1) ، والتطول في تأنيسي بأحرف كريمة تتضمن حالك ومجاريها، ومصانع الله الجميلة عندك فيها، والله يطلعني منك المبهج، ويسمعني عنك الطيب الأرج، وأقرئك سلاماً كودي كريماً، وكندي (2) المسك شميماً، وإن مننت بإبلاغه إخواني بإخائك، وكواكبي في سمائك، أو وسعت فيه نفسك وإياهم، وخصصت به الوزراء مفردهم ومثناهم، وأخبرتهم أني عبد وصاهم، وشاكر عهدهم، والباكي دماً من بعدهم، أنعمت وتطولت.
وعرضت عليه بعض تلك الرسائل التي تقدمت في صفة الزرزور فكتب في ذلك رقعة: أملك أبا الحسن (3) الأحرار، وأمك الكبار، وانتجعت قطرك الأقطار، وشكرتك حتى بترجيعها الأطيار. ويصل به - وصل الله سعودك (4) - من الطير نطاق، من غير ذوات الأطواق، يميس من المسك في حبرة أو طاق، صغروه على جهة التعجب والإشفاق، كما صغر سهيل، وذؤيب وهذيل، وقيل العذيق والجذيل، وكم صغروا العذيب، وقال عمر - رضي الله عنه - أخاف على هذا العريب، وكقولهم يا سميراء، وكقوله عليه السلام لعائشة: يا حميراء، مهدته العذارى الحجور، وألحفته الشعور، وربته بين الترائب والنحور، وعللته بالرضاب، وسقته بأفواهها العذاب، فما خلع الشكير، حتى رفض الصفير، وهجر
__________
(1) ط د: عليها.
(2) ط: وتندى؛ س: وبندى.
(3) أعتقد أن صوابه " أبا الحسين " أي ابن سراج، لأنه هو الذي أثار هذه الرسائل الكثيرة حول الزريزير.
(4) س: سعادتك.(4/758)
الراء الدائمة التكرير، وتحلى في المنطق بحلية الإنسان، ودخل في من علم البيان، وزايل عمية البلبل والورشان، وأفصح تسبيحاً وتكبيراً وخرج من جملة من قال تعالى فيه {ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً} (الإسراء: 44) فإن طلبت - أعزك الله - اسمه مكبراً، وجدته لفظاً من الزيادة مكرراً؛ أقام عندنا زماناً، لا يتألف إلا رنداً أو باناً، ولا يلتقط إلا عناباً أو سيسباناً (1) ، يتدرج في البساتين، يتطلب العنب المنتقى والتين، فذكرت له يوماً والحديث ذو شجون، منتبتة الزيتون، وأرضك الميثاء ذات الشجر والعيون، وأطيار محامدك فيها السنح الميامين، فصفق جناحاً، واهتز ارتياحاً، وحن إلى ذلك القطر، وانتفض كما (2) بلله القطر (3) ، ورجع إطراباً، وسألني إلى مجدك كتاباً، فأنلته ما ابتغى، وقلت: سلمت أخا الببغا، من المنسر الأشغى، وبلغت المدى، وجنبت من حزة (4) المدى (5) ، وعوفيت من كل حية صفراء، ترنو إلى الطائر في السماء، بمقلة سريعة الأقذاء، ولقيت الوفاء، غير اللفاء، وخولت حتى من التبن والحلفاء (6) ، فإنه يسبد (7) ريشك، ويبرد عشوشك،
__________
(1) ط د س: سبستانا.
(2) س: كأنما.
(3) من قول مجنون ليلى (ديوانه: 130) :
وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلله القطر (4) ط: حدة.
(5) انظر الذخيرة 3: 475 حيث ورد:
فوقيت بقراط الطيور تطبباً ... إذا عالج البرسام أو أبرأ البرص
من المنسر الأشغى ومن حزة المدى ... ومن ندق الرامي ومن قصة المقص (6) س: وحوشيت حتى من الدبق وحلفاء.
(7) سبد الفرخ: إذا بدا ريشه وشوك.(4/759)
فانهض فقد لقيت معمراً (1) ، وما شئت منقراً ومصفراً (2) ،ورعيت ريفاً، ونزلت بحراً وريفاً (3) ، فأخذ الكتاب بمنقار، وصفق من ريش الجناحين سروراً وطار؛ ومن ركب - أعزك الله - الجناح، وامتطر الرياح، طوى البراح، وهو آتيك كالبراق في لمعة، تصفقة الطائر المستحر (4) سرعة، فإن حل البساط فابن سريجٍ والغريض، وإن احتفل السماط (5) فأبو جلدة وابن بيض (6) . وأنت بسيادتك تبسط له في بساتينك، وتفرش له من وردك ويا سمينك، حتى تلبس من أغاريده الحلل المنتشرة، وينشر على منابر أدواحك شبيباً وابن لسان الحمرة (6) ، وتنبت أرضك مندلاً، وجوك صندلاً، وثراك خزامى وقرنفلاً، وتهب له ريحك جنوباً، ويحق
__________
(1) المعمر: المنزل الواسع.
(2) إشارة إلى رجز ينسب لطرفة أو لكليب (الخزانة 1: 417 وفصل المقال: 364) :
يا لك من قبرة بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري ... (3) ط: ورقا ... وريقا.
(4) استحر الطائر: غرد بسحر.
(5) ط د: السماك.
(6) ط د: فابن جلدة؛ وأبو جلدة البشكري شاعر من شعراء الدولة الأموية من ساكني الكوفة خرج مع ابن الأشعث فقتله الحجاج، وكان معاقراً للخمر (انظر أخباره في الأغاني 11: 291 - 312) وأما ابن بيض فهو حمزة بن بيض الحنفي، وهو أيضاً شاعر أموي كوفي في سائر القول في المجون، توفي سنة 120 (انظر معجم الأدباء 10: 280 والأغاني 16: 143 والفوات 1: 395) .
(6) ط د: فابن جلدة؛ وأبو جلدة البشكري شاعر من شعراء الدولة الأموية من ساكني الكوفة خرج مع ابن الأشعث فقتله الحجاج، وكان معاقراً للخمر (انظر أخباره في الأغاني 11: 291 - 312) وأما ابن بيض فهو حمزة بن بيض الحنفي، وهو أيضاً شاعر أموي كوفي في سائر القول في المجون، توفي سنة 120 (انظر معجم الأدباء 10: 280 والأغاني 16: 143 والفوات 1: 395) .(4/760)
لشأس أمله من نداك ذنوباً (1) ، حتى يرجع بتطريب، وينشد في الخفيف الأول لحبيب (2) :
وما يلحظ العافي جداك مؤملاً ... سوى لحظةٍ حتى يعود مؤملاً وأهديك وداداً مزج باشتياق، وأقرئك سلاماً ينسي سلام حبيبٍ على الحسن بن وهب والعراق (3) .
وله فصل من رقعة خاطب بها أبا بكر بن قزمان (4) : [139] المجد - أعزك الله - سباق، وللفضائل استحقاق، وأنا أرد قولهم فيها بالجدود، وأقول:
لأمر ما يسود من يسود ... وأعتقد أنه ما رفعت راية لمجدٍ إلا كنت عرابة (5) ، ولا أخذ حمد بثمنٍ بها ربيحٍ إلا كنت ابن الاطنابة (6) .
__________
(1) إشارة إلى قول علقمة بن عبدة يشفع في أخيه شأس وكان اسيراً عند الغساسنة (ديوانه: 48) :
وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب (2) ديوان أبي تمام 3: 99.
(3) قد مرت الإشارة إلى ذلك ص: 756.
(4) ترد ترجمته في ما يلي من هذا القسم: 744.
(5) إشارة إلى قول الشماخ (ديوانه: 336) :
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين (6) يشير إلى قول ابن الاطنابة (الكامل 4: 68) :
أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح(4/761)
وله من أخرى على لسان من استعفى من ابنه إلى السلطان: معلوم - أيد الله الأمير الأجل - أن العقوق ثكل من لم يثكل، وأن العاق إن عاش نغص، وإن مات نقص، وأن الناس بأزمانهم، أشبه منهم بآبائهم، ولا يشفع في ابن أب، وإن المرء لا يهدي من أحب، ولو كان في يد الإنسان من ابنه شيء أو إليه، لكان أولى الأمة نوح صلى الله عليه، لما أضل ابنه المراشد والمصالح، حتى (1) قال الله تعالى {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} (هوند: 46) ولوليك ابن سلك هذه السبيل، وابتع هذا الدليل (2) ، ولما أريته طرق التبصير والتسديد، وقلت له: يا بني من وعظ بغيره فهو السعيد (3) ، ولم يغن الوعد ولا الوعيد، تبرأت منه إليك، وقلت له: لا تجن يا بني عليّ ولا أجني عليك، وإنه للفلذة من كبدي، وآخر ولدي، ولكن لم أجد فيه صنيعاً، و {لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً} (الرعد: 31) وفي الخبر أن الإمام العادل إذا دعا أجيبت دعوته، ووليك يرغب في دعوةٍ تنفعه، أو زجرة تردعه.
وله من أخرى: والفقيه الأجل الحافظ - زاده الله من التوفيق - يبني وبينه العهد المصون، وليال قطعناها " عند أصل القناة من جيرون " هو يسأل (4) ثراها، ولا ينساها، ويستنقذني من من أنياب (5) قد قتلتني بعضها، وعساه
__________
(1) حتى: سقطت من ط د.
(2) واتبع هذا الدليل: سقط من ط د.
(3) من المثل: السعيد من وعظ بغيره، فصل المقال: 327 والميداني 1: 232.
(4) ط: يسل؛ س: يفل.
(5) ط: أينات؛ س: أبيات.(4/762)
يذبح لي بقرةً من علمه فيضرب نفسي ببعضها (1) ، ويردها (2) وقد بلغت التراقي، ويحييها بياسر (3) من ذلك العلم الرقيق العراقي، فجرد لي من سيفه القاطع، واغرف لي من بحره الواسع.
وله من أخرى على لسان من فر من موضع اعتقال: الأمير - أيده الله - حرك إلى ظلمي فسكن، وجاءه عني فاسق بنبأ فأخذ بأدب الله تعالى وتبين، وأنا رعت فارتعت، وقرأت قوله تعالى {ففررت منكم لما خفتكم} (الشعراء: 21) فاتبعت، وبحق نفرت فنفرت، وأوعدني أبو فابوس ففررت:
ولا قرار على زأر من الأسد (4) ... وقد قيل: لا تقرب البحر إذ ماج، ولا السلطان إذا هاج، وقديماً ابتعت السلطان فوعيت (5) ، ورأيت من الديكة في السفافيد ما رأيت، ولم يكن فراري نفاقاً ولا إباقاً، إنما أدرت إظهار براءتي، وتطهير ساحني، فأنزلت قدري بجعالها (6) ، وأطفأت ناري في موضع إشعالها، وطلبت طالبتي، وقرعت باب ظالمتي، ودعوتها إلى الخصام، وأبرزتها إلى الحكام، ورفعتها إلى القاضي
__________
(1) إشارة إلى ما جاء في سورة البقرة: 73 (قلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى) .
(2) ويردها: سقطت من س.
(3) س د: بياس.
(4) صدر بيت: نبئت أن أبا قابوس أوعدني (ديوان النابغة: 25) .
(5) ط: فرعيت.
(6) الجعال: ما تنزل به القدر من خرقة أو غيرها.(4/763)
محمد بن حمدين (1) ، وإلى محمد بن شبرين (2) ، ولو وجدت على القافية غيرهما لدعوتها إليه ولو كان محمد بن سيرين، فأحق الله حقي تحقيقاص، وأزهق باطلها {إن الباطل كان زهوقاً} (الإسراء: 81) وها أنا معها في بساط واحد، وبين يدي ملك راشد، أرفل في الأمان، وقديماً استعيذ من شر النسوان، ومن لم يبيتن قبلي على أسف، وهن عوادي يوسف (3) ، وقد قال عليه السلام فيهن ما قال وأنذر وأعذر؛ ولولا أن للنساء أبناء (4) ، ويطول استقصاء الأحاديث والأنباء، لذكرت ما أحدثن من بلوى، وجلبن من شكوى، وسقت من بين دنيا - وهي ظالمتي هذه إلى عصر أمنا حوا، رضي الله عنها، ولكن ترك ذلك أولى، وأنا أكفر فيه يميني وأصير مع مولاي إلى فصيلتي التي تؤويني، وأعرض عليه أمري في معرضه، وأتحقق أسوده من أبيضه.
وله من أخرى (5) : لا غرو - أعزك الله - وقد غطاني من إنعامك الرغد ما غطى؛ وتوطأ بي من كنفك الممهد ما توطا - أن سأل شططاً، وأذهب فرطاً، وأتكلم منبسطاً، وأبين غرضي كله مذهبي، وأتحكم
__________
(1) قد مر التعريف به.
(2) أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن شبرين، استقضي باشبيلية وحمدت سيرته، وكانت وفاته سنة 503 (الصلة: 538) .
(3) من قول أبي تمام (ديوانه 1: 223) :
هن عوادي يوسف وصواحبه ... فعزماً فقدماً أدرك السؤل طالبه (4) ط: أنباء.
(5) وردت عبارات قليلة منها في تمام المتون: 327.(4/764)
على مكارمك تحكم الصبي (1) ،وأبلغ بك إلى كل أملٍ [139ب] وأرب، وأملأ دلوي في جاهك إلى عقد الكرب، فإنك سبب لي ذلك، وأرعيتني الروض الأنف من جاهك ومالك، وحررتني ولا حر بوادي عوف (2) ، وأنعمت علي نعمة الله على قريش وأطعمتني من جوع وآمنتني من خوف (3) ، إلا أنه يلزم من ألجم أن يسرج، ومن اعتمر أن يتم الحج، ووعد الكريم مطلوب، وانتزاع العادة ذنب محسوب، فجردني صارماً في ساعدك، وارم بي سهماً مسموماً في كبد حاسدك، وهو الوسع المجهود،
والجود بالنفس أقصى غاية الجود (4) ... وهذه أيضاً قطعة من شعره
كتب إليهم الوزير أبو محمد بن عبدون بأبيات منها (5) :
سيوفي بني عبد العزيز وما أنا ... بنابٍ إذا التفت عداً ونوائب
لعاً لسرورٍ لم يقم منكم به ... محيٍ على طول المدى أو مخاطب
ولم تكتبوا حرفاً إليّ وأنتم ... ثلاثة كتابٍ وما أنا كاتب
__________
(1) انظر تفسير قولهم " أعطي حكم الصبي على أهله " في تمام المتون: 325 - 328 وثمار القلوب: 670.
(2) هذا مثل، انظر فصل المقال: 129، 336 والميداني 2: 124 والعسكري 2: 275 والفاخر: 178.
(3) انظر السورة: 106 (وهي سورة قريش) .
(4) صدر البيت: " يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها " وهو لمسلم بن الوليد في ديوانه: 164 وجمهرة العسكري 1: 95 (تحقيق أبو الفضل) وانظر التمثيل والمحاضرة: 307.
(5) س: بأبيات قال فيها.(4/765)
وكان أبو محمدٍ قد خرج من وطنه يابرة مستوحشاً وقت حلول الفاقرة بالرؤساء، فأجابه أبو بكر منهم بأبيات. منها:
تباعد في طول المدى وتقارب ... وتذنب في باب الجفا وتعاتب
بمجدك (1) أرشدنا إليك ودلنا ... عليك من الدنيا وخذنا نكاتب
ومن خرق الآفاق يبغي بنفسه ... مساحة وجه الأرض أين يخاطب
دعيص رملٍ حين يمشي وحارث ... ضحىً وعدي في الزماع وحاجب
ترى لم تصب في آل بدر فتتقي ... ترى ثائرٍ أو يلتقي بك طالب
وإن تنتسب يوماً تردك طفاوة ... لتطفو على الدنيا وتأباك راسب
لك الخير ملت رحلك العيس، حطه ... قليلاً، وعرس قد شكتك السباسب
على أن للأيام فينا وقائعاً ... نبا شاعر فيها وأفحم (2) كاتب
وأما امرؤ القيس السواري فإنه ... رأى الدرب حقاً فابكه أنت صاحب
يغنيه غريد (3) الدجى فإذا ونى ... يغنيه ساقٍ من دم الساق شارب قوله: " امرؤ القيس السواري " يعني أبا بكر بن سوار الأشبوني (4) ، وكان أسر في طريق قورية، وبقي بها إلى أن من الله بإطلاقه، من وثاقه، وأشار بذكر الدرب إلى قول امرئ القيس (5) :
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ...
__________
(1) ط: لمجدك.
(2) س: وأنجح.
(3) ط د: الوحى.
(4) تأتي ترجمته ص: 811.
(5) عجز البيت: وأيقن أنا لاحقان بقيصرا.(4/766)
وقال الوزير أبو بكر يخاطب جماعةً من إخوانه بحضرة قرطبة (1) :
يا سيدي وأبي هدىً وجلالةً ... ورسول ودي إن طلبت رسولا
عرج بقرطبةٍ إذا بلغتها ... بأبي الحسين وناده تمويلا
فإذا سعدت بنظرة من وجهه ... فاهد السلام لكفه تقبيلا
واذكر له شوقي (2) ووجدي مجملاً ... ولو استطعت شرحته تفصيلا
بتحيةٍ تهدى إليه كأنما ... جرت على زهر الرياض ذيولا
وأشم منها المصحفي على النوى ... نفساً ينسي السوسن المبلولا [140أ]
وإلى أبي مروان منها نفحة ... تجني (3) له روض الربى مطلولا
وإذا لقيت (4) الأخطلي فسقه ... من صفو ودي قرقفاً وشمولا
وأبو علي بل منه ربعه ... مسكاً بماء غمامة محلولا
واذكر لهم زمناً يهب نسيمه ... أصلاً كنفث الراقيات عليلا
بالحير (5) لا عبست عليه غمامة ... إلا تضاحك اذخراً وجليلا
يوماً وليلاً كان ذلك كله ... سحراً وهذا بكرةً وأصيلا
مولى ومولي نعمةٍ (6) وموالياً ... وأخا إخاءٍ خالصاً وخليلا
__________
(1) انظر القلائد والنفح 1: 634، 156، وفي القلائد أنه يخاطب أبا الحسين ابن سراج، وذلك واضح في البيت الثاني من القصيدة، ثم ذكر أسماء عدد من أصدقائه.
(2) القلائد: وشكري.
(3) القلائد: تهدي.
(4) القلائد: الأخطبي.
(5) س: بالخير: د: بالحي؛ والحير: هو حير الزحالي خارج باب اليهود بقرطبة (انظر التعريف به في القلائد والنفح) .
(6) القلائد: وكرامة.(4/767)
لا أدركت تلك الأهلة دهرها (1) ... نقصاً ولا تلك النجوم أفولا وله يخاطب بعض إخوانه وهو عليل:
كباري وساداتي إليكم تحية ... تفتح سوساناً وتجني رياحينا
ومعذرةً مني إليكم بعلةٍ ... برتني ولا لدناً من الخط مسنونا
كأني فيما اشتكي ابن محلمٍ ... سقاماً ولكن لست أشكو الثمانينا (2) وقال:
إليك وإن كنت قطب الوفا ... أبا عامرٍ والأريب الأديبا
تكون بحمصٍ ثلاثين يوماً ... وأصبح منك القصي الجنيبا
نسيت ودادي وحر اعتقادي ... وجمعي بأفقي عليك القلوبا
وهبك تناسيت حر الوفاء ... ولم تر لي في ودادٍ نصيبا
فهلا رعيت جزيل الثواب ... وعدت العليل وزرت الغريبا (3)
وتدري الحديث وماذا عليه ... عائد ذي السقم يحتى يؤوبا
ولكنها شيمة للزمان ... أن لا صديق وأن لا حبيبا وله يصف بقرةً أخذها الريق (4) الطاغية صاحب قلمرية (5) :
__________
(1) ط د: دهرنا.
(2) إشارة إلى قول عوف بن محلم: " إن الثمانين وبلغتها ... البيت ".
(3) س: القريبا.
(4) الريق أو الرنق هو الفونسو هنريكز (Alphonso Henrices) صاحب قلمرية (Coimbra) وكانت حينئذ عاصمة البرتغال.
(5) انظر الإحاطة 1: 530 وهي هناك شديدة التصحيف والتحريف.(4/768)
وأفقدنيها الريق أماً حفيةً ... (1) إذا هي ضفت ألفت بين رفدين
تعنفني أمي على أن رثيتها ... بشعري وأن أتبعتها الدم من حيني
لها الفضل عندي أرضعتني أربعاً ... (2) وبالرغم ما بلغتني رأس عامين وله فيها:
وفجعني ذا الريق لا در دره ... بأم عيالٍ ما عرفنا بها الجدبا
ترى فخذيها يحملان خزانةً ... إذا فتحها إصبعاً ملأت وطبا وقال يستهدي المنصور بأزياً (3) :
يا أيها الملك الذي آباؤه ... شم الأنوف من الطراز الأول
حليت بالنعم الجسام (4) سماحةً ... عنقي فحل يدي كذاك بأجدل
وامنن به ضافي الجناح كأنما ... حذيت قوادمه بريح شمأل
أغدوا به عجباً أصرف في يدي ... ريحاً وآخذ مطلقاً بمكبل [140ب] وله في دن خمرٍ تخللت له:
أبا حسنٍ إني فجعت بصاحبٍ ... أنيس ينسي الهم عند احتلاله
غدت بنت بسطام بن قيسٍ بدنها ... وأمست كجسم الشنفري بعد خاله
__________
(1) ضفت: حلبت باليد كلها لفخامة الضرع (ط د س: صفت) والرفد: القدح الضخم.
(2) س والإحاطة: حولين.
(3) النفح 4: 313.
(4) د: الحسان.(4/769)
أشار إلى قول الشنفري (1) :
إن جسمي بعد خالي لخل ... وكنى ببنت بسطام عن الخمر لأن بسطاماً كان يكنى أبا الصهباء.
وقال في مثله وعرض بأبي سلمة الخلال:
فإذا الوزير وزير آل محمدٍ ... شانيكم، لا كان، فيها طافي وهذا كقول الآخر (2) :
ختمتها بنت بسطام لها أرج ... ثم افتضضت ختاماً عن أبي سلمة وبعث إلى بعض إخوانه بخرشف وكتب معها:
بعثت بها عشراً بنات شياهم ... مكللةً هاماتها بمباضع
تراها بها الأعداء فوق جفونهم ... نهاراً، وليلاً تحتهم في المضاجع
وإن مد مولانا لها يد قابلٍ ... فإني فيها باسط خد ضارع وكان ابن رشيق قد انزل على أموالهم (3) وقت حلول الحوالة، فكتب إليه أبو بكر، وأخذتها عنه:
__________
(1) وقيل هو لابن أخت تأبط شرا يرثي خاله، وصدر البيت: " فاسقينها يا سوادج بن عمرو " انظر الحماسية رقم: 273.
(2) ورد البيت في الشريشي 2: 292 (بولاق) .
(3) ط د: أحوالهم؛ س: أخوالهم.(4/770)
بني رشيقٍ أما لي عندكم سعة ... في منزلي ولقاكم كان مقترحي
أما يشق عليكم شرب صافيتي ... في مجلسي وأنا منه بمطرح
أرعى الخزامى وأنتم في (1) بلنسية ... ما بين مغتبقٍ فيها ومصطبح
هلا استحيتم وقلتم إن ذا كدر ... وإن هذا لتنغيص على الفرح
فتحضروني ولو ملقى نعالكم ... وتصبحوني ولو من فضلة القدح
وتظفرون بما تهوون من أدب ... وما تشاؤون من ظرفٍ ومن ملح وأنشدني أيضاً له:
وأحور حيا بنارنجةٍ ... تضرم نصف اسمها في البدن
مخمشة الوجه مرشومة ... (2) كما عصفرت كرة من سفن وأنشدني له قوله:
قريب على عزمي بعيد (3) خواطري ... تغالبني فيه وهن غوالبي
أقلل منه مازحاً غير طالب ... وأكثر فيه فاخراً غير كاذب وأنشدني أيضاً لنفسه من قصيدة، أولها:
لعينك (4) وعد من فؤادي مكذوب ... مضى عزمه (5) إلا سهاد (6) وتعذيب (7)
__________
(1) س: بلهنية.
(2) س: موشومة؛ ط: موشامة، والمرشومة: التي فيها برش؛ السفن: جلد خشن غليظ.
(3) س: قريب.
(4) ط: بعينك.
(5) س: عهده.
(6) د: سناد؛ ط: سعاد.
(7) س: وتكذيب.(4/771)
ومنها:
ومن شق هدب الليل عن شهلة الضحى ... ببرقٍ على ثوب الدجى (1) منه تكتيب ومنها (2) :
كأن أهازيج الذباب أساقف ... لها من أزاهير الرياض محاريب وأنشدني لأخيه أبي الحسن وقد رمد، يستهدي المتوكل كحلاً: [141أ]
يا ملكاً آمن ما يخشى ... ونيراً أوضح ما أعشى
شاعركم كان زهيراً وقد ... أصبح مما ناله الأعشى
يقرأ والشمس على رأسه ... تنير {والليل إذا يغشى} ولأخيه أبي محمد:
يا سائلي عن علوةٍ وجمالها ... أغنت محاسنها عن التبيين
هي درهم البخلاء يلقى (3) دونها ... قفل وفوق القفل طابع طين
هي روضة الآمال إلا أنها ... لم تخل من أفعى (4) ومن تنين وله يرثي الفضل بن المتوكل، ويشير إلى أنه قتل ولم يدفن، من جملة قصيدة:
__________
(1) ط: الرجا.
(2) مر هذا البيت ص: 701 من هذا الجزء.
(3) ط د: تلقى.
(4) ط د: يفع.(4/772)
وواعجبا للأرض حين ملكتها ... ومت ولم يسترك من عرضها (1) شبر
فليتك من قلبي (2) وعيني صيانةً ... تؤوب إلى قبر إذا لم يكن قبر
فيرعاك مني مشفق ذو حفيظةٍ ... عليك إذا لم يرعك الذئب والنسر وباتوا (3) ثلاثتهم ببعض المواضع، تتجافى جنوبهم عن المضاجع، ويتعاطون أدباً كالراح ممزوجةً بماء الوقائع، والمدام لهم نقل، والزمان لولاهم غفل إلى أن غازلت السنة أجفانهم، وأجمت قليلاً أذهانهم؛ فانتبه أبو محمد منهم والصبح قد ومض، والعصفور قد انتفض؛ فقال:
يا شقيقي وافي الصباح بوجه ... ستر الليل نوره وبهاؤه
فاصطبح واغتنم مسرة يوم ... لست تدري بما يجئ مساؤه ثم استيقظ أبو بكر فقال:
يا أخي قم تر النسيم عليلا ... باكر الروض والمدام شمولا
لا تنم واغتنم مسرة يومٍ ... إن تحت التراب نوماً طويلا ثم هب أبو الحسن من مرقده، بأذكى ذهن وأوقده، فقال:
يا صاحبي ذرا لومي ومعتبتي ... ولنصطبح خمرة من خير ما ذخروا
وبادروا غفلة الأيام واغتنما ... (4) فاليوم خمر ويبدو في غد خبر
__________
(1) س: وبعضها.
(2) س: عيني وقلبي.
(3) من هنا حتى آخر الترجمة تنفرد به س؛ وانظر القلائد: 151 والمغرب 1: 367 والإحاطة 1: 530.
(4) رغم أنه متصل بقول امرئ القيس " اليوم خمراً وغداً أمر " فإنه من صياغة بشار بن برد إذ يقول:
اليوم خمر ويبدو في غد خبر ... والدهر ما بين إنعام وإبآس(4/773)
في ذكر الوزير الكاتب أبي بكر بن قزمان (1)
وسياقه جملة من نظمه ونثره (2)
وأبو بكر أيضاً من كتاب الوقت والأوان، ومن أهل البلاغة والبيان (3) ، والمتوكل أول من اتخذه كاتباً، واقتدح زنده فأورى شهاباً ثاقباً، وله محتد كريم، ولسلفه تقدم معلوم، ورسائله جلائل، إلا أنه لم يحضرني منها عند نقلي هذه النسخة إلا فصول قلائل، لا تفي بقدره، وفيما كتبت منها أنموذج يعرب عما أجريت من ذكره.
فصول له من رقعة عتاب، خاطب بها بعض الوزراء الكتاب، قال فيها: ما أكثر الأشياء الجامعة لنا: أدب كروض الحزن، وود كصوب المزن، وأولية كرم تاريخها واتصلت أسانيدها، لا ينكر فضلها ولا تذم عهودها، وأسلاف سلفت بينهم صحبة حميدة، وأذمة وكيدة مثلها نهج إخاء، وأورث صفاء، ونظم أهواء وآراء (4) . وما زلت على تراخي المزار، وتنازح الأقطار، أودك كل الوداد، وأعتقدك اصح
__________
(1) ترجمته في القلائد: 187 والخريدة 3: 465 والمغرب 1: 99 والصلة: 540 وهذا هو محمد بن عبد الملك بن عيسى بن قزمان (عم ابن قزمان الزجال) ، وكانت وفاته سنة 508 ودفن بمقبرة أم سلمة، وقد وهم المقري حين نقل ترجمة الوزير وترجمة الزجال ظناً منه أنهما شخص واحد، في نفح الطيب 4: 24.
(2) س: نثره ونظمه.
(3) والبيان: سقطت من ط د.
(4) وآراء: سقطت من ط د.(4/774)
الاعتقاد، وألحظك بعين الإعظام، وأقترح لقاءك على الأيام، معرفةً بسبقك، وتوفيةً لحقك، وتوقاً إلى مطالعة تلك الطباع الرقيقة، ومباشرة تلك الآداب الأنيقة، إلى أن وقع ما وقع، وأتيح من التداني ما لم يتوقع، وهي الأقدار، وليس عليها الخيار.
وقد كنت أعلمت بسؤالك - بفضلك - عني، ونزاعك نحوي، وغرضك إلى لقائي، واعتذارك بخفاء مكان نزولي، وغموض موضع حلولي، ولقيت فلاناً فعرض عليّ من قصدك ما فت (1) إليه حد المسابق، لو (2) أفرجت لي عنه العوائق، فأريته من اختلال الحال الباعث على الانقباض، وتجنب الاسترسال المخوف من الإعراض، ووقوع الإخلال ما رآه، فأحسبه وكفاه، وتلقاه عذراً واضحاً يلقيكه فتتلقاه، ثم ما زال يفتل في الذروة والغارب، حتى أجبته التزاماً لما لم يلزمني إلا بحكم جلالتك، وشرط المتعين من استمالتك، فوافينا منزلك ذات يوم بعيد العصر، وعلى بابه غلام، سألناه عنك فقال: هو ينام، فطوينا آثارنا؛ وأعلمني بعد باجتماعكما من الغد، وأنه (3) عرفك بذلك المقصد، فساءك أن لم تعلم، وعز عليك الالتقاء أن لم يتم، ودعاني إلى المعاودة [141ب] فلم يسعني ولم يسغ لي، ومضت على ذلك أيام إلى أن دخلت على فلان ومعه فلان وأنت حاضرهما، فحين لمحتك عرفتك، بما كان ثبت عندي من صفتك، وتقرر لدي من سمتك، وعند أخذي لمقعدي رأيتك قد وحيت إلى من كان
__________
(1) ط د س: كنت.
(2) ط د: ولو.
(3) س: وأعلمني بعيد اجتماعكما من الغد أنه.(4/775)
يليك ووحى إليك، فانثنيت وقد زويت ما بين عينيك، وشمرت (1) أنفك، ومعرت وجهك، وضممت إليك من ثيابك، وقاربت بين أجزائك، فقلت: أراه ازدرى طلعتي، وتقذر هيأتي، وخشي أن أعديه بسوء حالتي، وقد قال عليه السلام: " لا عدوى "، وقال: " فمن أعدى الأول " وإن اعترض علينا بحديثه الآخر: " لا يوردون مجرب على مصح "، ودفعنا من صحيح التأويل، وأوضح الأقاويل، بما لا مدفع فيه، مما أنت أ " لم به وأذكر له. وأما الازدراء والانتخاء، والتقذر والتعذر، مع علمك بالحال وأولها، وتمكنها وتأثلها، وبحال الأيام وتقلبها، وتعاور أقطارها وتناوبها، ومع ذكرك قولهم: " ليست العزة في حسن البزة " وقول من قال: " ليست العباءة تكلمك إنما يكلمك من فيها "، وقوله بعضهم (2) :
ليس الجمال بمئزر ... فاعلم وإن رديت بردا
إن الجمال مآثر ... ومناقب أورثن حمدا وقول غيره:
وفضل الناس في الأنفس ليس الفصل في المال ... فشيء خرقت به عادة أمثالك، وخالفت فيه سيرة نظرائك وأشكالك، وكفى بالمثل المضروب بفرحة الأديب بالأديب، وقولهم: " الأدب بين أهله نسب "، وقول الطائي الأكبر (3) :
__________
(1) شمر: قلص؛ ولعل الصواب: وأشممت أنفك، وذلك كناية عن الكبر.
(2) هو عمرو بن معد يكرب، انظر الحماسية: 34.
(3) ديوان أبي تمام 1: 407.(4/776)
إن نفترق نسباً بيننا ... أدب أقمناه مقام الوالد وقول الأصغر (1) :
إن كنت من فارس في بيت سؤددها ... وكنت في بحتر في البيت والحسب (2)
فلم بضرنا تنائي المنصبين وقد ... رحنا نسيبين في علمٍ وفي أدب وإن كنت أكثر الاعتزاء إلى النسب الكريم، وأعتد من أهله في الصميم، وأزاحمهم بمنكب واهن ضعيف، وأمت إليهم بسببٍ سحيل سخيف، ثم أرجع عند الامتحان، وإلي منكم كإل السقب من ولد الأتان، (3) فقد قال عليه السلام: " من كثر سواد قومٍ فهو منهم "، وعسى أن يبدو لي ما يستنكر ويستكثر لمثلي، فأكون عباس بن الأحنف ويكون كبشار إذ يقول (4) : " ما زال غلام من بني حنيفة يدخل نفسه فينا ويخرجها حتى قال:
__________
(1) ديوان البحتري: 254.
(2) الديوان: إن كان من فارس..... طيء.... ذي الحسب.
(3) خلط هنا بين بيتين أحدهما لحسان (ديوانه: 394 والحيوان 4: 360) وهو:
لعمرك إن إلك من قريش ... كإل السقب من رأل النعام والثاني هو قول الشاعر:
وأشهد أن رحمك من زياد ... كرحم الفيل من ولد الأتان وهذا البيت الثاني يروى لعبد الرحمن بن الحكم (الحيوان 1: 146، 7: 73 والخزانة 2: 518) كما ينسب لابن مفرغ (الشعر والشعراء: 279 ووفيات الأعيان 6: 350) .
(4) انظر الأغاني 5: 193.(4/777)
نزف البكاء دموع عينك فاستعر ... عيناً لغيرك دمعها مدرار
من ذا يعيرك عينه تبكي بها ... أرأيت عيناً للبكاء تعار فتتصل حينئذ رحم لا تخفى، وتحصل قرابة لا تجفى؛ وإن كنت نكرت ما نكرته، ونظرت ما نظرته، من ابتدائك بالتسآل والتكليم، وترفعتي إياك ما لا أدعيه فضلاً عن أن أقتضيه من الترفيع والتقديم، بخمولي ونباهتك، وذلي وعزتك، وبعدي عن بلدي وعددي، وكوني في طينتك ومدينتك، وبين قبيلتك وفصيلتك، وجيرتك وعشيرتك، وحاشيتك وغاشيتك، وصنائعك وتوابعك، فقد قال ابن عباس، رضي الله عنه: " إن لكل داخل دهشةً فابدأه بالتحية "، وإذا أطلق الحكم بهذا للبعيد والقريب، فما ظنك بالغريب مثلي (1) المنكوب -!
ونترك ما استعر إلى هلم جرا، وأطول به دهراً، فربما تلاقينا، وكأنا ما تراءينا، لا كلام ببينت شفة، ولا إيماء بطرف أنملة، واللوم في هذا كله يسقط عني، كما يضيق العذر عنك، بقضية سنة الاسلام في السلام، في أني ألقاك راكباً وأنا ماشٍ، وأنت بحمد الله طائر، وأنا - ولا كفران بالله - واقع [142أ] وعلى الطائر أن يغشى أخاه. وإن طمح بك، وحط من قدري عندك، إدبار الأمر عني وإقباله عليكن ففيها ما فيها، وما أرضاها لك طريقة، فالكريم يجل الكرام، وإن قلت: إني أدعو إلى مباعدتي، وأبعث على مقاطعتي، باستبهام خلقي، وإظلام أفقي، وثقل حواسي، وقلة استثنائي، فهذا من لم تغره رقة الحضر اللطيف (2) ، وقد
__________
(1) ط د: مثل.
(2) ط: تقده رقة الطيف.(4/778)
قال عليه السلام: " من بدا جفا ". على أني أتكبر على المتكبرين، ولا ألين لمن لا يبتغي لين (1) ، ولولا أن يدال القرب بالبعاد، دون أن يقع عتب ويشرع وداد، ويكشف يوماً على هذا التهاجر الغريب، والتنافر العجيب، ولا يعرف من الظالم منا من المظلوم، ولا من المحكوم عليه من المحكوم له، لأضربت عنها صفحاً، وطويت دونها كشحاً، ولسددت عليها أذني، وسايرتها ساحباً رسني، ولقد لقيت بعد فلاناً فذكر بصفاتك، وأثنى باتساع آدابك وكثرة أدواتك، وسألني عن الخلة، وأشار إلى هذه السمة بيننا والوصلة، فقلت: لا خلة ولا خلال، ولا وصلة ولا اتصال، فكأنه أنكر ذلك، وهذا هو الذي أثار من هذا الكتاب، ما لم يكن في الحساب، ودونكه هراء غثاً، وهباء منبثاً، وهاك إليه (2) ما يوازيه (3) عن النوازنة والمقاربة لؤماً ودقة، وركاكة لا رقة:
أبا أيوب والأيام لا تبقى على حال ... وأصبحت مقلاً رهن إذلالٍ وإقلال ... لئن رحت رخي البال ذا جاهٍ وذا مال ...
ومركوب وغاشيةٍ ... وأكمام وأذيال
فإنك حد أشكالي ... وأشباهي وأمثالي
بحكم الأدب العالي ال ... منيف المونق الحالي
ولكني أنا التالي ... وأنت السابق للعالي
__________
(1) من قول ذي الأصبع العدواني (شرح ابن الأنباري: 325، المفضلية: 31) :
لا يخرج الكره مني غير مأبية ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني (2) وهاك إليه: سقطت من ط.
(3) ط: يوازيه؛ د: يوارثه.(4/779)
فكم خيمت من قلبي ... بدار منك محلال
وقد كان التلاقي من ... أماني وآمالي
فلما أن تلاقينا ... على ما قد تصدى لي
فلم تبدأ بتسليمٍ ... ولم تنشط لتسآلي كما يلزم أمثالك تأنيساً لأمثالي ... تفاصلنا على الحين وكل ذاهل سالي ... ولولا طيب نفس قلت كل شانئ قالي ...
وقد كنا كما أنتم ... ولا بأس على حال وقد يعقب وادي القوم خصباً بعد إمحال ... وكأني بك قد قلت عند تصفح هذه الرقعة: هذان حمارا العبادي كسير وعوير، وكل غير خير (1) ، ثم ثنيت بقولهم: " من يسمع يخل " (2) وثلثت بقول من يسمع:
سبكناه ونحسبه لجيناً ... فأبدى الكير عن خبث الحديد (3) فمهلاً: فمن أنبأك أني أتشبع بما لا أملك، فأقول: من عبد الحميد وابن العميد، ومن الوليد وابن الوليد، لاها الله! ! إني لأربع على ظلعي وأعلم قصر باعي، ولا أجهل سقوط بضاعتي، وهل غير ألفاظ لفقتها
__________
(1) انظر المثل في جمهرة العسكري 2: 151 (تحقيق أبو الفضل) والفاخر: 178 واللسان (حور) ، وسئل العبادي عن حمارين له أيهما أردأ فقال: هذا ثم هذا.
(2) المثل في فصل المقال: 412 والميداني 2: 169 والعسكري 2: 263 (تحقيق أبو الفضل) .
(3) التمثيل والمحاضرة: 288 (دون نسبة) .(4/780)
بمبلغ علمي، عبرت بها عن ذات نفسي؛ وأما إن سمتني في هذا الباب مداك، ورمت مني ما لا يتعاطاه سواك، فمن للسها بتمام القمر، ومن للدآدي بأنوار العشر (1) وأوضاح الغرر -! فأرشدنا، أكرمك الله، وسددنا، يرحمك الله.
وانفح علينا من كلامك نفحةً ... إن كانت الأخلاق مما توهب وبعد فإني:
أناقشكم ووراء النقاش ... (2) أنف العلوق ورئمانه
وأهجركم هجر مستعتبٍ ... وكم وامق طال هجرانه وكلف مخاطبة عروسٍ فكتب رقعة قال فيها (3) : الكلفة بيننا - أعوزك الله - جد ساقطة، والحال الجامعة لنا في أقصى حد المؤانسة والمباسطة، فلا نكسر أن نتباث السر (4) المحجب، ولا غرو (5) أن نتكاشف المغيب، واتصل بي دخولك بعقلية أترابها، وبيضة خدرها وربة محرابها، تشاطرك نسلك،
__________
(1) الدآدي: ليالي أواخر الشهر، والعشر: ثلاث من ليالي الشهر بعد التسع، وفي ط د س: ومن للوادي.
(2) أراه أخذه من قول الشاعر (اللسان: رئم، والخزانة 4: 455) :
أم كيف ينفع ما تعطي به ... رئمان أنف إذا ما ضن باللبن والعلوق التي لا ترأم ولدها ولا تدر عليه، والرئمان: عطفها ومحبتها، وهذا البيت مثل يرب لكل من يعد بلسانه كل جميل ولا يفعله لأن قلبه منطو على ضده.
(3) وردت الرسالة في العطاء الجزيل: 112.
(4) ط د: السحر.
(5) س والعطاء: ولا عجب.(4/781)
كما شاطرتك أصلك، التي [142ب] لم تكن تصلح إلا ولم (1) تكن تصلح إلا لك، فخدمتك بالنية، وحضرتك على بعد المشقة وتقاذف الطية، وسألت الله أن يبارك لك ويبارك عليك، ويجمع بينكما في خير وعافية، على أسعد الجد وأيمن الطير إلى آخر القافية؛ ثم ترقبت كتابك مودعاً من وصف حالك، ما ينبئ فحواه عن اجتماع شملك ونعمة بالك، فرابني التواؤه، وقدح في نشاطي توقفه وإبطاؤه، وتسلطت علي الظنون، وخفت ما عسى أن لا يكون، وساءني أن أستمطر من الأمل جهاماً، وأستنصر (2) لدى ذلك العمل كهاماً، ويحيد صاحبك معرداً (3) عن المناجزة، [لائذاً بالمحاجزة] (4) منقطعاً في موضع الحجج (5) ، مبدعاً به (6) عند مستقبل (7) مفرق الطريق ولقم المنهج:
تريد جوا ويريد برا ... كأنما أسعط شيئاً مرا ثم قلت: لعله قد حظي بما جني له، فافتتح الحصن الذي نازله قسراً، وتخلله كيف شاء مجالاً ومكرا (8) ، وأفضى به انصداع ما صدعه إلى
__________
(1) ط د: ولا.
(2) ط: ويستنصر.
(3) العطاء: مفرداً.
(4) زيادة من العطاء الجزيل.
(5) ط د: الحج.
(6) مبدع به: مخذول منقطع.
(7) العطاء: عندما استقبل.
(8) ط: وأكدا؛ د: وكدا، وأثبت ما في س والعطاء.(4/782)
التئام، وانشعاب ما شعبه إلى انتظام والتحام، ولهي (1) بتوابع هذه الحال التي هي أخت (2) الامرة، وجامعة أفانين المسرة، عن صديقٍ يصله بكتاب إليه يعلمه، وإن يكن ذلك فهناك، وظفرت يداك، وإن يكن ما عداه، ويكفي الله، فمع اليوم غد، وفي اللمم خلال ذلك متعلل (3) ، ثم لا يشغل عن الكتاب جذل، ولا يحول دونه خجل.
جوابها من إنشائه أيضاً (4) : الكلام مأثور، والإفراط في الانبساط حجر محجور، وقديماً جر على أهليه، وأثار عليهم التقاطع من مجاثمه وأبرزه من مطاويه، فسبيل ما وردني الآن كتابك المقتحم هذا الباب المتحامى، إلا أن ما عولت عليه، وأسندت إليهن من تمكن الألفة، وارتفاع الكلفة، سوغ بعض المغزى. وقد وقفت على مقطعه، وعجبت من التفرغ لمودعه، فلئن (5) كنت مندراً فليخف وقعك (6) ، أو حذراً على الحقيقة فليفرخ روعك، فالحد بحمد الله ماض، وكلا الفريقين راضٍ، على عنف التقاضي، ثم لا بأس ولا إبلاس لو عرت نبوة، وعرضت (7) دون المرام كبوة، فربما خان الثقات، في بعض الأوقات:
__________
(1) س: والتهى.
(2) أخت: سقطت من س.
(3) ط د: متقلد.
(4) وردت في العطاء الجزيل: 113.
(5) العطاء: فإن.
(6) ط: فلخف رقعك.
(7) العطاء: وعدت.(4/783)
وسيف بني عبسٍ وقد كان صارماً ... (1) نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد وأرجع (2) فأقول بحكم الحال، وعلى شرط الاستنامة والاسترسال: لله أخوك، الذي لا فرق عندكما بين ما يعروه ويعروك، فلقد افتر عن بازل، وجرد عن قاصل (3) ، ورمى بلا أفوق ناصل، ولو لقيت أعداءك بمثل صاحبه مضاءُ وإقداماً، وتسرعاً واستقداماً:
طعنتهم سلكى ومخلوجةً ... (4) لفتك لامين على نابل قال ابن بسام: وينظر من معنى هذا الخطاب والجواب أبيات خاطب بها بعض أهل عصرنا أحد إخوانه وقد ابتنى بزوجة، قال فيها، وضمن بيت ابن حجاج:
أبا بكر اسمعها وراجع مؤنساً ... ولو بقسيم أو بمصراع قافيه
فإنا دخلنا بالفتاة ولم يكن ... هنالك واشٍ غير مسكٍ وغاليه
وكنا رجونا وصل الاسبوع كله ... لننعم فيه فابتلينا بداهيه
بحيضٍ تمادى فامتنعت لحرمتي ... فدمعة أيري فوق خصييه جاريه
" إذا لم يكن للأير بخت تعذرت ... عليه وجوه النيك من كل ناحيه "
__________
(1) البيت للفرزدق يقوله معتذراً عن نبو ضربته حين أمره سليمان بن عبد الملك بقتل أحد الأسرى (انظر شرح النقائض: 383 - 384) وورقاء هو ابن زهير ابن جذيمة العبسي، ضرب خالد بن جعفر، وخالد مكب على أبيه زهير، فلم يصنع سيف ورقاء شيئاً، وانظر ثمار القلوب: 220 - 222.
(2) س: وأنا أرجع.
(3) ط: فاضل.
(4) البيت لامرئ القيس (ديوانه: 120) وروايته: تطعنهم.(4/784)
قال فأجابه الآخر بهذه الأبيات: [143أ]
لك الخير لا تعجل فإنك مقمر ... وفي الليل ما تسريه إن كنت ساريه
طعنت الفتاة البكر طعنة ثائرٍ ... بمثل ذراع البكر شد بآخيه
حسبت النجيع الفانئ اللون حيضةً ... وما كان إلا العود في الحين ثانيه
(1) غدوت على شكلٍ تدانت طبوقه ... فباعدت من أقطاره المتدانيه
ولو كنت من أهل المساحة لم تدع ... مكسرةً أضلاعه المتساويه
ولكن له قطر يقوم مقامه ... هو الشكل إلا أنه منه زاويه
وإن لم يكن إلا الذي كان فاتئد ... فإنك باقٍ عندها وهي باقيه ومن شعر أبي بكر بن قزمان مما أنشدنيه لنفسه، قوله (2) :
ركبوا السيول من الخيول وركبوا ... فوق العوالي السمر زرق نطاف
واستودعوا الخلل الجداول واصطفوا ... بيض الرؤوس من الحباب الطافي
وتجللوا الغدران من ماذيهم ... مرتجةً إلا على الأكتاف وأنشدني أيضاً لنفسه:
قلت للعين حين أذرت على الخد دموعاً لا تستفيق (3) انهمالا ... جزعاً من صدود أحور كم حير بالاً وكم جنى بلبالا ... لا ترومي مثال ما لن تنالي (4) والمحيه كما رأيت الهلالا ...
__________
(1) س: شخوصه.
(2) منها بيتان في القلائد والخريدة 3: 466 والمغرب والنفح.
(3) س: ما تستبين.
(4) ط: أن تنالا.(4/785)
فأجابت لقد أحلت مثالاً هو أنأى من الهلال منالا ... إن بدر السماء يطلع للأبصار ممسىً ومصبحاً وزوالا ... وإذا ما استسر آب وقد ذاب اكتئاباً من أن يغب وصالا ...
وهو البدر أجد ملالاً ... واجتناباً كما أجد كمالا
يتوارى من العيون نهاراً ... دمع الليل لا يزور خيالا وأنشدني له أيضاً:
لا تطمئن إلى أحد ... واحذر وشمر واستعد
فالكل كلب مؤسد ... إلا إذا وجدوا أسد في ذكر الأديب أبي زيد عبد الرحمن بن مقانا الأشبوني (1)
من شعراء عربنا المشاهير، وله شعر يعرب عن أدب عزير، تصرف فيه تصرف المطبوعين المجيدين، وفي عنفوان شبابه وابتداء حاله، ثم تراجع طبعه عند اكتهاله.
أخبرني الوزير الفقيه أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الفهري (2) المقتول بالأشبونة
__________
(1) له ترجمة في الجذوة: 260 (بغية الملتمس رقم 1044) والمغرب 1: 413 والرايات: 62 (33 غ) وأشار في النفح 1: 214 إلى مدحه إدريس بن يحيى الحمودي صاحب مقالة، وأورد قصيدته النونية في مدح إدريس 1: 433 وذكر في 3: 264 اجتماعه مع ابن الشقاق عند ابن دري بجيان (وانظر أيضاً مسالك الأبصار 11: 438 وبدائع البدائه: 365 - 366) وابن الشقاق هذا هو المنفتل، وقد مرت ترجمته في القسم الأول ص: 754.
(2) قد مرت الإشارة إلى قتله في هذا القسم ص: 378 والقسم الثالث ص: 754.(4/786)
- رفع الله منزلته، وقتل قتلته - قال: كان أبو زيد بن مقانا قد انصرف شيخاً إلى وطنه عندنا. بعد أن جال أقطار الأندلس على رؤساء الجزيرة، قال: فمررت به يوماً بقريته التي تدعى بالقبذاق (1) من ساحل شنترة (2) ، وبيده مزبرة (3) ، فلما رأيته ملت إليه ومال إليّ، وأخذ بيدي [143ب] وجلسنا ننظر في حراث يحرث بين يديه، فاستنشدته فأنشدني ارتجالاً لوقته:
أيا عامر القبذاق لا تخل من زرع ... ومن بصلٍ نزرٍ وشيء من القرع
وإن كنت ذا عزم فلابد من رحىً ... سحابيةٍ لا تستمد من النبع
فما أرض قبذاق وإن جاد عامها ... بموفية عشرين من حزم الزرع
وإن أنجبت شيئاً وزادت تواترت ... إليها خنازير المفاوز في جمع
بها (4) قلة من كل خيرٍ ونفعةٍ ... كقلة ما تدري لدي من السمع
تركت الملوك الخالعين برودهم ... علي وسيري في المواكب والنقع
وأصبحت في قبذاق أحصد شوكها ... بمزبرة رعشاء نابية القطع
فإن قيل تهجوها وأنت تحبها ... فقل إن حب الخل من شرف الطبع
وحسب أبي بكر المظفر قادني ... وإحسانه حتى انصرفت إلى ربعي وهذا من الشعر النازل البارد، عندما له من القصائد القلائد. ووصف
__________
(1) في د: الفيذاق، وفي ط: القيداق، الفنداق، وفي س: القيزان؛ العيران، القيدان، وقد أثبتها محقق المغرب (1: 413) " القيذاق.
(2) شنترة (Cintra) من مدن البرتغال (الروض المعطار رقم: 102) .
(3) المزبرة: المنجل، أو المنجل الصغير (ملحق دوزي) .
(4) ط: قلت.(4/787)
نفسه بقلة السمع، لأنه كان كما زعموا كذلك. وهو القائل من جملة أبيات:
سمعت الكنك (1) يصرخ في الربيع ... على ما بي من الصمم الطبيعي جملة من شعره في أوصاف شتى
من ذلك من قصيدة في منذر بن يحيى صاحب سرقسطة:
لمن طلل دارس باللوى ... كحاشية البر أو كالردا
رماد ونؤي ككحل العروس ... ورسم كجسم براه الهوى
غدا موسماً لوفود البلى ... وراح مراحاً لسرب المها
عجبت لطيف خيالٍ سرى ... من السدر أنى إليّ اهتدى
وكيف تجاوز جوز الحجاز ... وجوز (2) الخميس وسدر المنى
ولم يثنه حر نار الضلوع ... وبحر الدموع وريح النوى
وقولي وصيفي بالمنصفين ... وقد نقش (3) الصبح ثوب الدجى
أسرب العذارى يسقط اللوى ... مشى الخيزلى أم نجوم السما
برزن لنا عاطرات الجيوب ... ينازعن في الحسن شمس الضحى
__________
(1) لعله يريد الكنكلة وهي آلة موسيقية (ملحق دوزي) ، أو الجنك (وجيمه وكافة عجميتان) ويطلق على الدف الذي يضرب به، ثم عرب بالجيم والكاف العربيتين، وفي س: الكد.
(2) س: حوز البحار وحوز.
(3) ط: نفش؛ س: نفس.(4/788)
خماص البطون مراض الجفون ... أقمن الشعور مقام الردا
لدان القدود حسان الخدود ... صغار النهود طوال الطلى
عذاب الثغور لطاف الخصور ... خفاف الصدور ثقال الخطى
مشين الهوينا ووادي الخزامى ... يود من البشر أن لو مشى
فما زلن يرفلن حتى إذا ... عقدن لواء الهوى باللوى وفيها يقول:
وقد أغتدي في سبيل العلا ... بذي ميعةٍ من نتاج الصبا [144أ]
يهيم بذي همة نازحٍ ... (1) براه السرى مثل بري الظبا
كأن فؤادي بوادي الغضا ... وقلب الدليل جناح القطا
كأن عقائل (2) برق الدجى ... خلال الحبي بريق الظبا
ويهدأ طوراً كغمز العيون ... فليتاع من لوعتي ما هدا
(3) إذا قلقل الرعد من فوقه ... تقلقل قلبي له والحشا
كأن السحائب في سيرها ... بنود المظفر يوم الوغى
نجيب تجيب إذا استصرخت ... وفارسها البطل المنتقى
فتىً يقرع النبع بالنبع لا ... جبان الجنان ولا مزدهى
لو الفلك انخر من فوقه ... عليه بأقطاره ما شكا
حمول لأعباء هذا الزمان ... ولا يرهب الموت عند اللقا
__________
(1) سقط البيت من ط د.
(2) د: بدر.
(3) س: في برقه.(4/789)
إذا سار يحيى إلى غارة ... (1) فويل لأعدائه أينما
بجيشين: جيشٍ يهد الربى ... وجيش يظلله في الهوا
مطاعمها من شغاف القلوب ... ومشربها من نجيع الدما
إليك ابن منذرٍ المنتقى ... قرعت يد الخطب قرع العصا
فقال مناديك لي مرحباً ... وقالت أياديك لي حبذا
دعوت فأسمعت بالمرهفات ... صم الأعادي وصم الصفا
وشمت سيوفك في جلقٍ ... فشامت خراسان منها الحيا قال ابن بشام: جلق وادٍ بشرق الأندلس، فكذبة أبي زيد في هذا البيت أشنع من كذبة مهلهل في قوله (2) :
فلولا الريح أسمع أهل حجرٍ ... صليل البيض تقرع بالذكور وخرج أبو زيد يوماً من بلنسية إلى طرطوشة ليلقى صاحبها مقاتلاً (3) الفتى، فلما ورد عليها، منع الجواز، فكتب إلى مقاتل:
إن كان واديك نيلاً لا يجاز به ... فما لنا قد حرمنا النيل والنيلا
إن كان ذنبي خروجي من بلنسيةٍ ... فما كفرت ولا بدلت تبديلا
" هي المقاديرتجري في أعنتها " ... ليقضي الله أمراً كان مفعولا
__________
(1) ط: واينما.
(2) الأغاني 5: 35.
(3) ط د: مقاتل، ومقاتل لبيباً الفتي في رياسة طرطوشة وتسمى بسيف الملة، وكان عنده من العمال والكتاب ما لم يكن عنده غيره؛ ولما توفي ولي طرطوشة الفتى نبيل، وفي سنة 452 خرج عنها وسلمها للمقتدر بن هود (البيان المغرب 3: 224، 250) .(4/790)
وله القصيدة المشهورة في ابن حمود يتداول القوالون أكثر أبياتها، لعذوبة ألفاظها وسلاستها وهي التي أولها (1) :
ألبرقٍ لائحٍ من أندرين ... ذرفت عيناك بالماء (2) المعين
لعبت أسيافه عاريةً ... كمخاريق بأيدي اللاعبين
ولصوت الرعد زجر وحنين ... ولقلبي زفرات وأنين
وأنادي (3) في الدجى عاذلتي ... وبك لا أسمع قول العاذلين
عيرتني بسقامٍ وضنىً ... إن هذين لزين العاشقين ومنها: [144ب]
قد بدا لي وضح الصبح المبين ... فاسقنيها قبل تكبير الأذنين
سقينها مزةً صافيةً ... (5) عتقت (4) في دنها بضع سنين
نثر المزج على مفرقها ... درراً عامت فعادت كالبرين
مع فتيان كرامٍ نجبٍ ... يتهادون رياحين المجون
وعليهم زاجر من حلمهم ... ولديهم قاصرات الطرف عين
شربوا الراح على خد (6) فتىً ... نور الورد به والياسمين
__________
(1) انظر أبياتاً منها في النفح 1: 433 والمغرب والمسالك والرايات ومنها بيتان في الوافي للرندي: 110.
(2) المغرب: بالدمع.
(3) النفح: وأناجي.
(4) النفح والمغرب: مشمولة لبثت.
(5) سقط هذا البيت من س.
(6) المغرب والنفح والرايات: رشا.(4/791)
رجلت (1) دايته عامدةً ... سبج الشعر على عاج الجبين
لوت الصدغ على حاجبه ... ضمة اللام على عطفة نون
فترى غصناً على دعص نقاً ... وترى ليلاً (2) على صبح مبين
ويسقون إذا ما شربوا ... بأباريق وكأسٍ من معين
ومصابيح الدجى قد أطفئت ... في بقايا من سواد الليل جون
وكأن الطل مسك في الثرى ... وكأن النور (3) در في الغصون
والندى يقطر من نرجسه ... كدموعٍ أسبلتهن الجفون
والثريا قد علت في (4) أفقها ... كقضيب زاهر من ياسمين
وانبرى جنح الدجى عن (5) أفقه ... كغراب طار عن بيض كنين
وكأن الشمس لما أشرقت ... فانثنت عنها عيون الناظرين
وجه إدريس بن يحيى بن علي ... بن حمود أمير المؤمنين
خط بالمسك على أبوابه ... ادخلوها بسلام آمنين
وينادي الجود في آفاقه ... يمموا قصر أمير المسلمين
ملك ذو هيبةٍ لكنه ... خاشع لله رب العالمين
وإذا ما رفعت رايته ... خفقت بين جناحي جبرئين
وإذا أشكل خطب معضل ... صدع الشك بمصباح اليقين
وإذا راهن في السبق أتى ... وبيمناه لواء السابقين
__________
(1) المغرب: داياته، الرايات: وجلت آياته (وهو خطأ) .
(2) الرايات: فانثنى ... وبدا ليل.
(3) النفح: الطل.
(4) الرايات: هوت من أفقها.
(5) الرايات: صبحه.(4/792)
يا بني أحمد يا خير الورى ... لأبيكم كان رفد (1) المسلمين
نزل الوحي عليه فاحتبى ... في الدجى فوقهم الروح الأمين
خلقوا من ماء عدلٍ وتقىً ... وجميع الناس من ماءٍ وطين
انظرونا نقتبس من نوركم ... إنه من نور رب العالمين قوله: " والندى يقطر من نرجسه ".... البيت، أخذه من قول ابن الرومي، ونقص منه وقصر عنه حيث يقول (2) :
كأن تلك الدموع قطر ندىً ... يقطر من نرجس على ورد وقوله: " وانبرى جنح الدجى " ... البيت، مأخوذ من قول يزيد ابن الطثرية (3) حين حلق أخوه لمته فقال (4) : [145أ]
وغود رأسي كالصخيرة أشرفت ... عليها عقاب ثم طارت عقابها وقوله: " وإذا ما رفعت رايته " ... البيت، حسد ابن هانئ في هذيانه، وتقيله حيث يقول في خذلانه (5) :
__________
(1) النفح: وفد.
(2) ديوان ابن الرومي 2: 767 والمختار: 245 وزهر الآداب: 530.
(3) هو يزيد بن سلمة بن سمرة من عامر بن صعصعة يعرف بابن الطثرية، كان شاعراً مطبوعاً من شعراء العصر الأموي، وقد جمع شعره أبو الفرج الأصفهاني والطوسي، وقتل مع الوليد بن يزيد سنة 126 (ابن خلكان 6: 367 والشعر والشعراء 340 والأغاني 8: 157 والسمط: 103) .
(4) الأغاني 8: 181.
(5) ديوان ابن هانئ: 119.(4/793)
أمديرها من حيث دار لطالما ... زاحمت تحت ركابه جبريلا وقوله في صفة الثريا: " كقضيب زاهر من ياسمين " من أحسن ما سمعته في تشبيه الثريا مجدداً، وإن كان قد تقدم في تقسيم التشبيه وأحسن ما شاء فيه حيث يقول:
في الغرب كأس وفي مطالعها ... قرط وفي أوسط السما قدم وقد قال الناس في الثريا فأكثروا، وأول من سمع له في ذلك الملك الضليل، حيث يقول (1) :
إذا ما الثريا في السماء تعرضت ... تعرض أثناء الوشاح المفصل وقد قيل: إن الثريا لا تتعرض، وإنما تتعرض الجوزاء، ولم تتزن له، أو وهم، وقال ذو الرمة (2) :
قطعت اعتسافاً والثريا كأنها ... على قمة الرأس ابن ماءٍ محلق وقال أيضاً (3) :
أقامت به حتى ذوى العود في الثرى ... وساق الثريا في ملاءته الفجر
__________
(1) ديوانه: 14 ومعاني العسكري 1: 334 وتشبيهات ابن أبي عون: 4 والأزمنة والأمكنة 2: 234.
(2) ديوانه 1: 490 والأنواء: 40 والأزمنة والأمكنة 2: 234 واللسان (عسف - حلق) وتشبيهات ابن أبي عون: 5.
(3) ديوان ذي الرمة 1: 561 وزهر الآداب: 978 والأنواء: 30.(4/794)
وقال التهامي (1) :
وللثريا ركود فوق أرحلنا ... كأنها قطعة من فروة النمر وقال محمد بن هانئ (2) :
وولت نجوم للثريا كأنها ... خواتم تبدو في بنان يدٍ تخفى وكرر هذا التشبيه في موضع آخر فقال (3) :
وحتى أرى الجوزاء تنثر عقدها ... وتسقط من كف الثريا الخواتم وقال آخر:
إلى أن تولت والثريا كأنها ... على حلة زرقاء جيب مدنر وقال ابن المعتز (4) :
وكأن البدر لما ... لاح من تحت الثريا
ملك أقبل في تا ... ج يفدى ويحيا وقال المعري (5) :
__________
(1) ديوان التهامي: 42.
(2) ديوان ابن هانئ: 239.
(3) ديوان ابن هانئ: 288.
(4) ديوان ابن المعتز 3: 123 والأوراق: 206 - 207.
(5) شروح السقط: 214 - 215.(4/795)
وقد بسطت إلى الأرض (1) الثريا ... يداً غلقت بأنملها الرهان
كأن (2) يمينها سرقتك شيئاً ... ومقطوع على السرق البنان ومما قيل في ذكر الثريا، وإن لم يكن فيه صفة تشبيه، قول الآخر (3) :
خليلي إني للثريا لحاسد ... وإني على ريب الزمان لواجد
أيجمع منها شملها وهي سبعة ... وأفقد من أحببته وهو واحد وقال المعري (4) :
والثريا رهينة بافتراق (5) الشمل حتى تعد في الأفراد ... ولأبي زيد بن مقانا، مما يتعلق بذكر الثريا من جملة قصيدة في مجاهد العامري، قال فيها (6) :
ولما سقتنا من (7) إبريقها ... لثمنا يديها وخلخالها
وبتنا وباتت على ساقها ... تصفق للشرب جريالها
كأن نجوم الدجى روضة ... تجر بها السحب أذيالها
كأن الثريا بها راية ... يقود الموفق أبطالها
__________
(1) شروح السقط: الغرب.
(2) شروح السقط: يداً لها.
(3) هو لابن طباطبا في اليتيمة 1: 429 وانظر سرور النفس: 139 وشروح السقط: 1001.
(4) شروح السقط: 1001.
(5) شروح السقط: باجتماع.
(6) المسالك 11: 440.
(7) س والمسالك: بإبريقها.(4/796)
في ذكر الشيخ أبي الحسن علي بن إسماعيل القرشي الأشبوني (1)
قال ابن بسام: وكان يعرف عندنا بالطيطل، ممن نظم الدر المفصل، لا سيما في الزهد، فإن أهل أوانه، كانوا يشبهونه بأبي العتاهية في زمانه.
أنشدني الوزير الفقيه أبو عبد الله بن إبراهيم [145ب] قال: أنشدني أبو الحسن الطيطل لنفسه يصف نملة (2) :
وذات كشح أهيف شخت ... كأنما بولغ في النحت
زنجية تحمل أقواتها ... في مثل حدي طرف الجفت (3)
كأنما آخرها قطرة ... صغيرة من قاطر الزفت
أو نقطة جامدة خلفها ... قد سقطت من قلم المفتي
تسري اعتسافاً ولقد تهتدي ... (4) في ظلمة الليل إلى الخرت
تشتد في الأرض على أرجلٍ ... كشعرة المخدج في النبت
تشهد أن الله خلاقها ... رازقها في ذلك السمت
__________
(1) أشبوني شقباني الأصل، قرأ العلم بقرطبة وأخذ عن طائفة من علمائها وأكثر من حفظ الآداب والأشعار حتى ليقال إنه حفظ الشعر عشرين امرأة، وكان مشاركاً في الحديث والفقه، ثم مال إلى النسك والتقشف ونظم أشعاراً في الزهد، واتخذ لنفسه رابطة في رقعة من جنة على بحيرة شقبان عرفت برابطة الطيطل ولزم بها العبادة إلى أن توفي (انظر الذي والتكملة 5: 195 والجذوة: 294 وفيها " الطيطن " والبغية رقم: 1212 والمسالك 11: 440) .
(2) الجذوة والبغية والذيل والتكملة 5: 196 والمسالك.
(3) الجفت: قشرة رقيقة تكون بين اللب والقشر في البلوط (تحفة الأحباب: 13 وأمثال الزجالي رقم: 2130) .
(4) الخرت: ثقب الإبرة.(4/797)
سبحان من يعلم تسبيحها ... ووزنها من زنة البخت
فنسبتي منها لفرط الضنى ... (1) نسبتها منه بلا كت
كلاً ولو حاولت من رقةٍ ... لجلت بين الثوب والتخت
أرق من هذا وأضنى ضنىً ... رقة ذهني وضنى بختي
لكن نفسي واعتلا همتي ... نجم لبيذختٍ كبيذخت وهذا من قول المتنبي (2) :
وعزمة بعثتها همة زحل ... من تحتها بمحل (3) الترب من زحل وأنشدني أيضاً له في الزهد:
يا غافلاً شأنه الرقاد ... كأنما غيرك المراد
والموت يرعاك كل حين ... فكيف لم يجفك المهاد
فهي زاداً وزد مزاداً ... فقد طوى عمرك النفاذ
إذ سفر الموت في شحط ... والقرب منه هو البعاد
ما حال سفر بغير زادٍ ... والأرض قفر ولا مزاد
ضمر جواداً ليوم سبق ... لمثله يرفع الجواد
أين فلان وكم فلانٍ ... قد غيبوا في الثرى فبادروا
لا تبغ دنيا فإن عنها ... ألمون المتقي يذاد
فابن لها بالتقى بروجاً ... تأمن إذا روع العباد
__________
(1) الكت: الإحصاء؛ ط د س: كفت.
(2) ديوان المتنبي: 265.
(3) الديوان: بمكان.(4/798)
واعتبر الأرض كيف مدت ... فهي لهذا الورى مهاد
ثم السماء التي أظلت ... قد رفعت ما لها عماد
كما بناها يبني سواها ... كما بدانا كذا نعاد في ذكر الأديب أبي عبد الله محمد بن البين (1)
أحد الشعراء المجيدين - كان - بحضرة بطليوس، مستظرف الألفاظ والمعاني، وكان يميل إلى طريقة محمد بن هاني، على أم أكثر أهل وقتنا وجمهور شعراء عصرنا، إليها يذهبون، وعلى قالبه وجدتهم يضربون؛ ومن أحسن شعر أبي عبد الله قصائده التي على حروف المعجم، في أبي الأصبغ بن المنخر أيام استوزره المنصور يحيى بن المظفر، [146أ] ووصله عليها بمائة مثقال.
فصل له من نثر جعله مقدم (2) تصنيفه، وصدر تأليفه
قال فيه: وما اختصصته بالثناء تشيعاً للإخاء، ولكن لما قلت فيه:
تشيعت فيه للحقائق والعلا ... وما أنا فيه للهى متشيع ولقولي فيه (3) :
__________
(1) له ترجمة في المغرب 1: 370 ورايات المبرزين: 60 (31غ) وذكر في النفح 3: 453 وانظر المسالك 11: 440.
(2) نثر ... مقدم: سقط من ط د.
(3) المسالك 11: 441.(4/799)
لم أرض إلا فيه نظم بدائعٍ ... حسدته في منظومها الأمراء
مالت إليه بها حقائق سؤددٍ ... لا كالذي مالت به الأهواء
أهل المدائح سالك في منهجٍ ... سلكت به من قبله (1) الآباء ولما قال أبو الطيب (2) :
أحبك شا شمس الزمان وبدره ... وإن لامني فيك السها والفراقد
وذاك لأن الفضل عندك باهر ... وليس لأن العيش عندك بارد فإيه أبا الأصبغ، وفدت عليك، وصرت إليك، وإن كنت قد أهديت التمر إلى هجر، وحاسنت بقباحتي القمر، فقد تمطر الدأماء (3) ، وللشاكرين على الله ثناء.
ومن تلك القصائد قصيدة مهموزة أولها (4) :
هل من الغمام الغادة الحسناء ... أسرت عليها الكلة الخضراء يقول فيها:
أسرى بها الغيران في أفق الدجى ... فتضوعت عن عرفها الأنواء
هل كان يطمع بالسرى في خفيةٍ ... ما للبدور إذا سرين خفاء
كيف (5) الخفاء وللشروق مجامر ... في جانبيك وللنسيم كباء
__________
(1) ط د: قوله.
(2) ديوان المتنبي: 314.
(3) الدأماء: البحر؛ ط د: السماء.
(4) منها أبيات في المسالك.
(5) المسالك: النجاء.(4/800)
يا ربة الخدر التي أضللتها ... يوم النوى ومحلها الأحشاء
لم كان والدك الطويل نجاده ... ليثاً وأنت الظبية العفراء
أشبهته في فتكه يوم الوغى ... والسمهرية عينك النجلاء
وكما حكيت البأس فاحكيه الندى ... فيرى لديك كما لديه حباء
أخفى السرى وأذاعه إشراقه ... فالأرض منه منيرة زهراء
وكأنه عيسى يكتم جوده ... فيشيعه منا عليه ثناء
نشرت محاسنه قصائد جمة ... ملئت بها الخضراء الفخار رداء
أمي النجوم فخبري عن مجده ... فله هنالك في العلا نظراء وله فيه من أخرى أولها:
أفي كلل الإظعان غزلان رملة ... أم احتملت فيها جآذر وجرة
ولما تولت بالجمال جمالهم ... تولى جميل الصبر يوم تولت
بوادي الكرى لاقيتها وهي عاطل ... فأرسلت در العين حين تجلت [146]
إذا نسمت ريح الصبا في جنابها ... ستعرف في أنفاسها حر لوعتي
وإن وردت ماء الفرات فإنها ... ستنكر في سلسالها طعم عبرتي وهذا كقول أبي الطيب (1) :
أوما وجدتم في الشراب (2) ملوحة ... مما أرقرق في الفرات دموعي
__________
(1) ديوان المتنبي: 34.
(2) الديوان: الصراة.(4/801)
وقال مهيار الديلمي (1) :
بكيت على الوادي فحرمت ماءه ... وكيف يحل الماء أكثره دم وقال ابن البين من أخرى (2) :
غصبوا الصباح فقسموه خدودا ... واسترهفوا (3) قضب الأرك قدودا
ورأوا حصى الياقوت دون محلهم ... فاستبدلوا منه النجوم عقودا
واستودعاو حدق المها أجفانهم ... فسبوا بهن ضراغماً وأسودا
لم يكف أن (4) خلفوا الأسنة والظبا ... حتى استنابوا (5) أعيناً وخدودا
وتضافروا بضفائرٍ أبدوا لنا ... ضوء النهار بليلها معقودا ومنها:
صاغوا الثغور من الأقاحة (6) بينها ... ماء الحياة لو اغتدى مورودا ومن المدح:
أبني السيوف المشرفية نجدةً ... وبني (7) السحاب المستهلة جودا
__________
(1) تجئ ترجمة مهيار في القسم الرابع من الذخيرة، وانظر ديوانه 3: 344.
(2) وردت الأبيات في المغرب والنفح والمسالك.
(3) المغرب والمسالك: واستوهبوا، النفح: واستنهبوا.
(4) المغرب: أن سلبوا؛ النفح: لم يكفهم حمل، المسالك: أن جلبوا.
(5) المغرب والمسالك: استعانوا؛ النفح: استعاروا.
(6) س: الأقاحي.
(7) ط د: أثنى ... وثنى.(4/802)
الدهر عندكم طريف محدث ... وفخاركم ما زال فيه تليدا
عطرتم نفس الزمان فأصبحت ... آثاركم في الجيد (1) منه عقودا في ذكر ذي الوزارتين أبي محمد بن هود (2)
كانت قد أزحته عن حضرة أسرته سرقسطة، أسباب غاب عني شرحها، فتحول على رؤساء أفقنا، واتخذ آخر أمره حضرة بطليوس وطناً، فرحب به المتوكل فآواه، وأجزل قراه، وولاه مدينة الأشبونة، ثم صرفه عنها، وصدر محمود السيرة منها، وكان ممن تندر له الأبيات، وتستظرف له بعض المقطوعات، كقوله وقد سئل عما اكتسبه في ولايته، فقال (3) :
وسائلٍ لي لما ... صدرت عما وليت
ما نلت - قلت: ثناءً ... يبقى معي ما بقيت
وإن أمت كان بعدي ... مخلداً لا يموت
عفت الفضول لعلمي ... أن ليس يعدم قوت
وصنت قدري منها ... تجملاً فغنيت
__________
(1) المسالك: للعطف.
(2) الأمير أبو محمد بن هود واسمه عبد الله (وقال ابن الأبار: لم أقف على اسمه، الحلة: 165) نفاه ابن عمه المقتدر عن الثغر (سرقسطة) فقصد طليطلة حضرة ابن ذي النون ثم مل الإقامة هنالك، فجعل يضطرب ما بين ملوك الطوائف إلى أن استقر عند المتوكل ابن الأفطس (المغرب 2: 439) ثم ولاه المتوكل الأشبونة (المغرب 1: 411) ثم صرف عنها محمود السيرة (وانظر المسالك 11: 441، والحلة 2: 165 - 166) .
(3) الحلة: 166.(4/803)
وهو القائل وقد خرج عن سرقسطة (1) :
ضللتم جميعاً يال هودٍ عن الهدى ... وضيعتم الرأي الموفق أجمعا
وشنتم يمين الملك بي فقطعتم ... بأيديكم منها وبالغدر إصبعا
وما أنا إلا الشمس (2) غير غياهبٍ ... دجت فأبت لي أن أنير وأسطعا
وإن طلعت تلك البدور أهلةً ... فلم يبق إلا أن أغيب وأطلعا
فلا تقطعوا الأسباب بيني وبينكم ... (3) فأنفكم منكم وإن كان أجدعا واحترق له بيت أيام مقامه بطليطلة، فقال (4) : [147أ]
تركت محلي جنةً (5) فوجدتها ... على حكم أيدي الحادثات جهنما
لتصطنع (6) الأيام ما شئن آخراً ... فما صنعت بي أولاً كان أعظما وأنشدت له مما نقش على رئاس سيف للمتوكل، وأخبر عنه (7) :
لا تخش ضيماً ولا تمس (8) أخا فرق ... إذا رئاسي في يمنى يديك بقي
أصبحت أمضى من الحين المتاح فصل ... على الكماة وبي عند الوغى فثق
لولا فتور بألحاظ الظباء إذن ... لقلت إني أمضى من ظبا الحدق
__________
(1) انظر المغرب والمسالك والحلة.
(2) المغرب: عند.
(3) هو من المثل: أنفك منك وإن كان أجدع.
(4) الحلة 2: 166.
(5) الحلة: فوجدته.
(6) الحلة: لتصنع بي.
(7) هي في الحلة ومنها بيتان في المسالك.
(8) الحلة: تصبح.(4/804)
ويتطرف هذا المعنى قول ابن شرف (1) :
لم يبق للظلم في أيامهم أثر ... إلا الذي في عيون الغيد من حور ولابن هود في المتوكل أيام سلطانه بيابرة (2) :
يا خائف الدهر يمم أرض يابرةٍ ... تأمن وتكفي الذي تخشى من الحذر
وواصف البحر في شتى عجائبه ... حدث بلا حرج عنه وعن عمر
وكم سمعنا قديماً عن مكارمه ... حتى رأينا فأزرى الخبر بالخبر في ذكر الشيخ الأديب أبي عمر فتح بو برلوصة البطليوسي (3)
من نبهاء العصر المقلين في الشعر، إلا أن أبياته نوادر سوائر، وهو القائل في ابن برد (4) :
إن ابن بردٍ لفتىً ماجد ... ونفسه بالجود مفتونه
مددت كفي نحو بلوطةً ... فقال: دعها وخذ التينه وأنشدت له:
وشادنٍ طلبته مقلتي بدمي ... فأطلعت لي في خديه منه أثر
__________
(1) قد مر في ما تقدم ص: 158.
(2) منها بيتان في الحلة 2: 166 أكثرهما مطموس.
(3) انظر مسالك الأبصار 11: 442.
(4) أوردهما في المسالك.(4/805)
وقام بين يديه الخال يعذرني ... وقد تعمم بالاظلام (1) فوق قمر
كأنما حل جيش الحسن صفحته ... وكر لليل فيه فارس فأسر وأخبرني غير واحدٍ من أدباء عصرنا، قال: دخل لمة من الأدباء دار الأديب أبي مروان بن الصقيل اليابري، فرأوا في بيته سيفاً معلقاً، فقالوا له: أي شيء تصنع بهذا السيف - فقال: أعددته للمخانيث العتاة نظرائكم، فاهتبل بعضهم غرته حتى أهذ السيف، ثم قاموا به عليه وقال: والله لنقتلنك أو تكتب لنا كتاباً بخط يدك، يتضمن أنا هتكنا حريمك، وعجمنا ميمك؛ ولما رأى الجد، ولم يجد من بد، كتب لهم بذلك خط اليد، فخاطب أبو عمر هذا بهذه الأبيات بعض (2) إخوانه:
زرنا أبا مروان شيخ المجون ... ونحن لا ندري سوى الظرف دين
فقام يدعونا إلى نفسه ... بدمعٍ (3) جارٍ وصوت حنين
قلنا (4) له قد يرفع الدهر من ... آهٍ وندريك رفيق (5) اللدين
وممكن أن (6) تتناسى لنا ... ذلك أو تلفى من الجاحدين
اكتب لإخوانك رفقاً بهم ... صكاً بما عندك يستظهرون [147ب]
فإذ قضانا صكنا وانحنى ... قمنا على منبره منشدين
سبحان من سخر هذا لنا ... منه وما كنا له مقرنين
__________
(1) ط: بالإطلال.
(2) س: أحد.
(3) ط: بدمع.
(4) ط د: فقلنا.
(5) د: رقيق.
(6) ط: تتأسى.(4/806)
فقال أبو مروان بن الصيقل في ذلك:
يا رب مفعولين قالوا أعطنا ... خط يد في أننا فاعلون
قلت لهم خطي مباح لكم ... أكتب فيه كل ما ترغبون
فمن رأى الخط الذي هم به ... قبل اشتهار الأمر مستظهرون
يشهد بأن الخط واللفظ لي ... وأنهم في قولهم يكذبون وانتهت الأبيات إلى الفقيه أبي عبد الله (1) بن القلاس فكتب إلى ابن الصيقل بأبيات منها:
قل لأبي مروان شيخ المجون ... شاعر ذا العصر العزيز القرين
قال ابن فتحٍ إنه كان قد ... ولم يقل أكثر للمخبرين
وقد حكى أن له شاهدي ... عدلٍ على ذاك من الصالحين
فإن يكن حقاً فلا تكتئب ... إبليس جان مثل ذا كل حين
فالعزم أن تقصده ضارعاً ... إليه سراً فسعاه يلين
واسأله أن يستر ما جاءه ... فان أبي فاجحد وزده يمين فأجابه ابن الصيقل بأبيات منها:
أهكذا يفعله الصالحون ... تقبل أيماناً من الفاسقين -!
لا تعتقد من شاعر لفظةً ... ولو غدا من أزهد الزاهدين
يريد أن يخفي صبحاً وهل ... يخفى سنا الصبح على الناظرين
إن كان غرتك يمين له ... واحدة خذني بألفي يمين
__________
(1) س: أبي عمر.(4/807)
في ذكر الأديب أبي عمر يوسف بن كوثر الشنتريني (1)
أنشدت له من كلمة أولها:
ألا لا يفند عاشقاً من له ذهن ... فوالله لولا العشق ما عرف الحسن ومنها في أحد تلامذ عصره (2) :
مررت به يوماً يغازل مثله ... وهذا على ذا بالملاحة يمتن
فقلت اجمعا بالوصل رأيكما فما ... لمثلكما كان التغزل والمجن
عسى الصب يقضي الله بينكما له ... بخير فقالا لي اشتهر العسل السمن
فجاءهما دب فأحرز ذا وذا ... وما لامرئ من ريب أيامه أمن وأنشدت له في كلمة أولها:
حل لسيوف الحب دمي ... (3) ما مثلي منه بمخترم
وفؤادي فيه (4) يساعفها ... ويريها اللذة بالألم [148أ]
فمتى لحظت (5) بشراً حسناً ... (6) تلتذ بصورته تهم
__________
(1) ذكره في النفح 3: 458 وأورد له ثلاثة أبيات، وفي المسالك 11: 442 وأورد له بيتاً واحداً.
(2) منها ثلاثة أبيات في النفح.
(3) ط د: بمحترم.
(4) د س: يساعدها.
(5) د: شيئاً.
(6) ط د: يلتذ ... يهم.(4/808)
يا أملح معشوقٍ نعتاً ... واسماً فلنعتك أنت سمي
شعشع بوصالك كأس دلا ... لك تطف بذلك من ضرمي في ذكر الأديب أبي الوليد المعروف بالنحلي (1)
كان باقعة (2) دهره، ونادرة عصره، ولم يصد دراهم ملوك عصرنا إلا بحر النادرة والتوقيع، وقد اندرجت له عدة مقطوعات في تضاعيف هذا المجموع، وكان يضحك من حضر، ولا يكاد يبتسم هو إذا ندر، وهو القائل يصف طلوع الشمس ومقابلة القمر لها:
أما ترى الشمس وهي طالعة ... تمنع عنها إدامة النظر
حمراء صفراء في تلونها ... كأنها تشتكي من السهر
__________
(1) يتفق نفح الطيب (3: 233) وبدائع البدائه (114) وتحفة العروس (113) في إيراد قصة المعتمد مع احدى حظاياه وما كان من شعر النحلي فيها، ويورد النفح والبدائع قصة في وصف فرس للمتوكل كان في كفله ست نقط (النفح 3: 331 والبدائع: 269 وهي عن الذخيرة 2: 465) . وكذلك يوردان قصة شربه عند ابن طوفان (النفح 3: 331 والبدائع: 40) وينفرد النفح بايراد نادرة ماجنة له (3: 234) وشعر له في مغنية (3: 445) وتدل قصة (4: 9) على أنه كان لدى ابن صمادح ثم سار عنه إلى إشبيلية فمدح المعتمد وغمز من ابن صمادح بقوله:
أباد ابن عباد البرابرا ... وأفنى ابن معن دجاج القرى ثم نسى ما قاله فلما حل بالمرية، أحضره ابن صمادح لمنادمته، وأحضر للعشاء موائد ليس فيها إلا لحم الدجاج، فلما احتج النحلي على ذلك أفهمه ابن صمادح أنه أراد تكذيبه في ما قال، فطار سكره وجعل يعتذر، فعفا عنه ابن صمادح، ولكنه فر عن المرية وندم بعد ذلك.
(2) س: نابغة.(4/809)
مثل عروس غداة ليلتها ... تمسك مرآتها من القمر
أو صورة المجد وهي ماثلة ... تنظر قدامها إلى عمر ومن أحسن ما سمعت في وصف (1) الشمس قول متوكل بن أبي الحسن (2) :
كأنما الشمس مرآة مجردة ... وقد غدا المغرب الأقصى لها سفطا ومن نوادر (3) الآفاق، الحلوة المساق، الغريبة الاتفاق، خبر النحلي مع المعتمد بن عباد، وذلك أنه مشت بين يديه يوماً بعض نسائه، في غلالة لا تكاد تفرق بينها وبين جسمها، ولها ذوائب تخفي إياة الشمس في مدلهما، فسكب عليها إناء ماورد فامتزج الكل ليناً واسترسالاً، وتشابه طيباً وجمالاً، فأدركت المعتمد أريحية الطرب، ومالت بعطفيه راح الأدب، فقال:
وهويت سالبة النفوس غريرةً ... تختال بين أسنةٍ وبواتر ثم تعذر عليه المقال، أو شغلته تلك الحال، فقال لبعض الخدم القائمين على رأسه: سر إلى النحلي وخذه باجازة هذا البيت، ولا تفارقه حتى يفرغ منه، فأضاف النحلي إليه، لأول وقوع الرقعة بين يديه، هذه الأبيات (4) :
__________
(1) س: صفة.
(2) س: الحسين.
(3) وردت هذه النادرة في النفح وبدائع البدائه وتحفه العروس والمسلك السهل: 463.
(4) هي في النفح وبدائع البدائه وانظر الإعلام 2: 326 وفي ط د: " هذين البيتين " في موضع " هذه الأبيات " ولهذا لم يرد منها سوى الأول والثالث، إلا أن سائرها مثبت بهامش ط بغير خط الأصل.(4/810)
راقت محاسنها ورق أديمها ... فتكاد تبصر باطناً من ظاهر
وتمايلت كالغصن في دعص النقا ... تلتف في ورق الشباب الناضر
يندى بماء الورد مسبل شعرها ... كالطل يسقط من جناح الطائر
تزهى برونقها وعز جمالها ... زهو المؤيد بالثناء العاطر
ملك تضاءلت الملوك لقدره ... وعنا له صرف الزمان الجائر
وإذا لمحت جبينه ويمينه ... أبصرت بدراً فوق بحر زاجر فلما قرأها المعتمد استحضره وقال له: أحسنت، أو معنا كنت - فأجابه النحلي بكلام معناه: يا قاتل المحل، أو ما تلوت {وأوحى ربك إلى النحل} (1) (النحل: 67)
في ذكر الوزير الكاتب أبي بكر محمد بن سوار الأشبوني (2)
[148ب] وأبو بكر في وقتنا واحد عصره، وله عدة قصائد في ملوك قطره، قالها تحبباً لا تكسبا، وعمر مجالسهم بها وفاءً لا استجداء، فلما خلع ملوك الأندلس حالت به الحال، وتقسمه الإدبار والإقبال، ثم أسره العدو بعقب محنةٍ، وبين أطباق فتنة، وقيد بقورية من عمل الطاغية ابن فرذلند، ثم خرج من وثاقه، خروج البدر من محاقه، وتردد في بلاد أفقنا يحمله قرب على بعد، ويكله سعيد إلى سعد، حتى
__________
(1) زاد في ط بغير خط الأصل: فزاد المعتمد هذا الجواب عجباً، واهتز له استغراباً وتعجباً، وقرب النحلي وأدناه، ووهب له من المال ما أرضاه به وأغناه.
(2) له ترجمة في المغرب 1: 411 ومسالك الأبصار 11: 443 والمحمدون من الشعراء: 359 والوافي 3: 143.(4/811)
ضاقت عنه الخطوب، ومله السرى والتأويب. واتفق له أن أسمع الله صوته من وراء البحر المحيط الفقيه الأجل قاضي القضاة بالمغرب. وسلالة الأطيب فالأطيب، أبا الحسن علي بن القاسم بن عشرة، فأجابه وأباه (1) وجذب بضبعه واستدناه، فأعاد هلاله بدراً، وصير خله خمراً، ولبني القاسم (2) في الجود خيم كريم، ولهم تقدم مشهور معلوم؛ بلغني أن جدهم الأكبر أحمد بن المدبر، حامل تلك الفضائل، وصاحب الأعمال الجلائل، إذ كان أحد نجوم تلك الآفاق، ببلاد الشام والعراق، واشتهار معرفة قدره، يمنع عن ذكره، لكني ألمع هنا بلمعة من أمره.
قرأت في الكتاب الكبير لليعقوبي في الدولة العباسية قال: كان لأحمد ابن المدير منزلة عند المتوكل جعفر، وكان قد قلد ديوان الضياع لإبراهيم ابن العباس الصولي، قال وهب بن سليمان بن وهب: وكنت أكتب له، وكان رجلاً بليغاً، ولم يكن له في علم الخراج تقدم، وكان بينه وبين أحمد ابن المدبر تباعد، وكان أحمد نسيج وحده، فدخل على المتوكل وقال له: قلدت ديوان الضياع إبراهيم بن العباس فضاع، فقال له المتوكل جعفر: غداً يحضر، وتتكلم في أمره بما يظهر؛ فبلغ ذلك إبراهيم فاغتم لمعرفته أنه لا يفي بابن المدبر، وحضرا من الغد، فقال له المتوكل (3) : تكلم يا أحمد
__________
(1) واتفق ... وأباه: زيادة عن س والمسالك.
(2) بنو القاسم هم بنو عشرة من أعيان سلا، وقد كانوا مقصد الشعراء في عصرهم، أو كما يقول ابن الأبار " رباب السماح وأرباب الأمداح " (اعتاب الكتاب: 224) وللدكتور بنشريفة بحث عن أسرة بني عشرة (مجلة البحث العلمي، السنة الرابعة، العدد العاشر ص: 65 - 102؛ 1967) .
(3) ط د: المتكلم.(4/812)
فذكر أشياء صدق فيها، وإبراهيم ساكت، فقال له المتوكل: يا إبراهيم ألك جواب على كلامه؛ قال: جوابي يا أمير المؤمنين في بيتي شعر إن أذن لي قلتهما، قال: قل، فأنشد (1) :
رد قولي وصدق الأقوالا ... وأطاع الوشاة والعذالا
أتراه يكون شهر صدودٍ ... وعلى وجهه رأيت الهلالا فقال المتوكل: زاه زاه!! أحسنت والله، إيتوني بمن يلحن هذا، وأحضروا الندمان، ودعونا من أخبار الديوان، وخلع على إبراهيم.
وخلا المتوكل يومه بلهوه، وبقي إبراهيم مغموماً في منزله، فقيل له: هذا يوم سرورٍ بما جدد عليك من النعمة، وخصصت به من الكفاية بدل النقمة، فقال: الحق بمثلي أولى وأشبه، وما أدفع أحمد بن المدبر، ولا كذب في شيء مما ذكره، ولا أنا ممن يعشره في الخراج، كما لا يعشرني في البلاغة، وإنما ظهرت عليه في يومي هذا بالهزل، فما لي لا أبكي فضلاً عن أن اغتم، من زمان يدفع فيه الحق بالباطل -! وسيكون لهذا وشبهه نبأ بعد.
وقال يوماً يحيى بن أكثم القاضي لابن المدبر بحضرة المتوكل جعفر: أنت كاتب تتفقه وتذكر أنك لا تلزم الناس بالأموال إلا بحجج فقهية: من كتب للنبي عليه السلام - قال أحمد: ليس على الكاتب علم ذلك، ولا تعلمه أيضاً على الفقيه، إذ لا يحلل حلالاً ولا يحرم حراماً، وقد روي أن
__________
(1) ديوان إبراهيم الصولي (الطرائف الأدبية) : 149 والأغاني 10: 59 وفيه طرف من حكاية الصولي مع ابن المدبر.(4/813)
عثمان وعلياً وزيد بن ثابت وحنظلة ومعاوية وغيرهم كتبوا له صلى الله عليه وسلم، ولكن من الذي على عهده عملك فأمر بقتله -! يعرض له بما كان ينسب لابن أكثم من اللواط - فخجل، واستفرغ ضحكاً المتوكل، فكان ذلك سبب العداوة بينهما؛ وأخباره كثيرة مأثورة.
جملة من شعر أبي بكر بن سوار في أوصاف شتى
[139أ] له من قصيدة أولها (1) :
إياك من ظبية في ذلك الكنس ... فإنها أخت ذاك الضيغم الهرس
كم نم (2) بي جرس قرطيها وساعدني ... ما في الخلاخل من صمت ومن خرس
ما ظبية المكنس العفراء همت بها ... (3) وإنما تيمتني ظبية الأنس ومنها (4) :
ما يعرف العرف المسواك من سببٍ ... إلا من الشنب المعطار واللعس
يا ربة الخدر حيث النجر من (5) أسد ... والموج من زرد والسيف من فرس
رسوم دارك في يبرين دارسة ... وفي الحشا لك ربع غير مندرس
قس ما تشاء تجد بي مثله عوضاً ... وبالزمان الذي ولى فلا تقس
__________
(1) منها أبيات في المحمدون والمسالك.
(2) ط د: لي.
(3) سقط هذا البيت من ط د، وهو ثابت في س والمحمدون من الشعراء.
(4) منها: سقطت من س.
(5) ط د: البحر (دون إعجام) من أمد، وأثبت ما في والمحمدون.(4/814)
ألست تذكر يوماً حين زرتهم ... والدهر يخرج من عيدٍ (1) إلى عرس
نزلت في موضع حف الغدير به ... كما يحف اخضرار الليل بالغلس
... (2) فإن تهادي قليلاً صار كالترس>
ترى بها الحوت حول الماء جثته ... (3) [ ... ] ما يرمي من النفس
كأن جود (4) عليٍ جاد لجته ... فليس يخشى (5) عليه آفة الدرس
مطهر لم يدنس عرضه بخل ... وجوهر الشمس معصوم من الدنس وكان أسر على ما ذكرته، وبقي معتقلاً بمدينة قورية، إلى أن خرج من وثاقه، وقال في ذلك قصيدة يصف كيفية القبض عليه، قال فيها (6) :
وليلٍ كهم العاشقين قميصه ... ركبت دياجيه ومركبها وعر
سريت وأصحابي يميلهم الكرى ... فهم منه في سكر وما بهم سكر
رميت بجسمي قلبه فنفذته ... كما نفذ الإصباح إذ فتق الفجر
__________
(1) المسالك: حزن.
(2) زيادة من المسالك.
(3) سقط البيت من ط د، كما سقط البيتان التاليان له من س.
(4) هو علي بن القاسم بن محمد بن موسى بن عيسى، أبو الحسن ابن عشرة، كان فقيهاً حافظاً سري أهل بلده، وجيهاً فيهم نبيه القدر، رئيساً جواداً، دخل الأندلس غازياً وامتدحه بها طائفة من أدبائها وشرق حينئذ وحج ثم عاد إلى بلاده؛ وتوفي بسلا سنة 502 وممن امتدحه من جلة الشعراء ابن حمديس وأبو الوليد اسماعيل بن ولاد وله في مدحه ومدح ابنه العباس مجموع سماه " نزهة الأدب " (الذيل والتكملة - قسم الغرباء، الورقة: 10 من مصورة الخزانة العامة بالرباط) ومن مداحه أيضاً الأعمى التطيلي وابن بقي وغيرهما (انظر مقالة الدكتور بنشريفة عن بني عشرة) .
(5) ط: تخفى.
(6) منها أبيات في مسالك الأبصار.(4/815)
ولما بدا وجه الصباح تطلعت ... خيول من الوادي محجلة غر
فقلت لهم: خيل النصارى فشمروا ... إليها وكروا هاهنا يحسن الكر
وكانت حمياً النوم قد صرعتهم ... ففلوا ولوا مدبرين وما فروا
وأفردت سهماص واحداً في كنانة ... من الحرب لا يخشى على مثله الكسر
وكنت عهدت الحرب مكراً وخدعةً ... ولكن من المقدور ما لامرئ مكر
فطاعنتهم حتى تحطمت القنا ... وضاربتهم حتى تكسرت البتر
أضرج أثوابي دماً وثيابهم ... كأن الذي بيني وبينهم عطر
وأحدق بي والموت بكشر نابه ... ومنظره جهم وناظره شزر
فأعطيتها وهي الدنية صاغراً ... وقد كان لي في الموت لو يدني عذر
فطاروا وصاروا بي إلى مستقرهم ... يصاحبني ذل ويصحبهم فخر
فقال العذارى حرقوه مقارضاً ... فمن قتله الفتيان عطلت البكر ومنها:
فجاءوا بأنواع الكبول ونظموا ... سلاسل في جيدي كما ينظم الدر
وساقوا كلاباً كالفحولة أجسماً ... لها أعين خضر ملاحظها شزر
فقالوا اعطنا ألفاً فقلت مضاعفاً ... (1) []
سبحان ربي ما أجل جلاله ... تخلصني منها له الحمد والشكر [149ب]
فضاقت علي الأرض حتى كأنها ... بما رحبت ما كان في طولها فتر
فناديت في حول من الدهر كامل ... ألا رجل حر ألا رجل حر
وإن وراء البحر أروع ماجداً ... بعزته الغراء يستنزل القطر
ألا خبراني ابني أبي هل أتاكما ... وشيكاً عن القاضي أبي حسن ذكر
__________
(1) زيادة من س؛ والشطر الثاني بياض، وهذا البيت يرد في القصيدة التالية.(4/816)
سلا عن سلا هل من علي حقيقة ... فإني في أحشاء قوريةٍ سر
ألا إنما الدنيا علي وقربه ... وإلا فإن الأرض عامرها قفر
بعدل علي تعمر الأرض كلها ... وتتسع الدنيا ولو أنها قبر
حنيني إليه موثقاً ومسرحاً ... كما جن للبر الذي يغرق البحر وله من قصيدة في قاضي الجماعة أبي عبد الله بن حمدين:
من معشر حمدوا فأحمد سعيهم ... (1) فلذاك ما سموا بني حمدين
مضت القرون ومرت الدنيا ومن ... فيها وما جاءت لهم بقرين
لله درك أيها القاضي فما ... حبل الرجاء لديك غير متين
ولقد ذكرتك والعدو يعضني ... والعلج يلطم صفحتي وجبيني
يوم العذاب وللكلاب تضور ... حولي ونشاب الردى ترميني
وتوهمني بالغنى وأضر بي ال ... مال الذي أخذوه إذ أخذوني
قالوا: اعطنا ألفاً فقلت مضاعفاً ... لما رأيت الموت ملء جفوني
فبقيت عاماً في الإسار مصفداً ... بسلاسل ضرباً من التنين
لما يئست ولم تكن لي حيلة ... أرسلت في ابن أبي فكان ضميني
(2) وتركته بيد العدو موثقاً ... في ذل أغلال وضيق سجون
وردت رسائله علي فتارةً ... يشكو إليّ وتارةً يشكوني
فقلوبهم كالقلب في خفقانه ... وعيونهم في جريها كعيون
فأتيت نحوك والرجاء يقودني ... وجميل ذكرك خلفه يحدوني
__________
(1) شر البيت ص: 222.
(2) س: مثقفاً.(4/817)
وله من أخرى في القاضي أبي الحسن بن القاسم (1) :
ساروا وحبل وصالهم مبتوت ... فسلوا نجوم الليل كيف أبيت
بانوا وروحي عندهم وحشاشتي ... وتظن أنهم مضوا وبقيت
أسفي على وادي الأراك وإنما ... يتأسف المحزون وهو يموت
أنحي على الأقراط ناطقةً ولا ... أنحي على الخلخال وهو صموت
لا تأخذوا في اللوم لست بسامعٍ ... إن الملامة في الهوى تعنيت ومنها في المدح: [150أ]
لو أن وفقك في القلوب مركب ... لم يلتقم في البحر يونس حوت
ولقد حملت من الوقار سكينةً ... لم يحتملها قبلك التابوت وله فيه من أخرى أولها:
من لظى قلبي اقتدح لا من زناد ... ودموعي استسق لا صوب الغوادي
اصرفوا نومي ليدني طيفكم ... وهنيئاً ما غصبتم من فؤادي
أنتم الأحباب في حكم الهوى ... فارفقوا لا تفعلوا فعل الأعادي
جسدي أنحل من سركم ... في تناجيكم به يوم البعاد
تكمن الشحناء في أحشائهم ... ككمون الجمر في جوف الرماد
يحمد النجم الثريا ألفتي ... ولقد يبكي سهيل لانفرادي
ما مرادي أن أرى منفرداً ... رب محمول على غير المراد
لا سقى الروض غمام ساكب ... ليس يسقي معه شوك القتاد
__________
(1) منها أبيات في مسالك الأبصار.(4/818)
ومن المدح:
إن من بعد بني القاسم لا ... أحد يملأ عيناً من جواد
نسب مطرد من شرفٍ ... ككعوب الرمح ذات الإطراد
وقبيل كله من عزةٍ ... كظبا الهندي في يوم الجلاد
وبنو عشرٍ ذوو العلياء لم ... يخلقوا إلا لكف وذياد
وعفافٍ واعتكاف وتقىً ... ووفاءٍ وعطاءٍ وأيادي وله فيه من أخرى (1) :
بدت الغزالة والغزالة وجهها ... وتكلمت فسمعت ظبياً يبغم
خالستها وتبسمت فظننتها ... عن مثل ما في نحرها تتبسم
فتشابهت منها الثلاثة أضرب ... عقد وثغر طيب وتكلم
لو كان مرئياً جمان حديثها ... لرأيت من أجل شيء ينظم
ومضت تجر وراءها شعراً كما ... أعطاك جانبه الغراب الأسحم
يمحو مواقع إثرها فكأنه ... يخفيه عن عين الرقيب ويكتم
والمسك فوق الترب من أردانها ... خط كما رقم الرداء المعلم
ما لي وما لك يا (2) غيور تسومني ... خطط الردى وأنا المعني المغرم
هلا اتقينا حيث (3) تنتثر الظبا ... والهام تسقط والقنا تتحطم
والجو أدكن بالغبار قميصه ... والجيش أرعن والخميس عرمرم
وكأن يوم الحشر (4) يوم جموعنا ... وكأن غلي الحرب فيه جهنم
__________
(1) منها أبيات في الوافي والمسالك.
(2) ط د: عيون، والتصويب عن المسالك.
(3) ط: ينتثر.
(4) الوافي: فيه.(4/819)
وكأن كل كمي حربٍ مارد ... تهوي إليه من الأسنة أنجم
ومدربين على الطعان لقيتهم ... وكأنهم في الشمس ليل مظلم [151ب]
لبسوا جلود الرقم واعتقلوا القنا ... فرأيت كيف يجر أرقم أرقم
حتى علوناهم بكل مهندٍ ... (1) يبكي فتحسبه لهم يترحم
ذو خطبة في الهام يسمع صوتها ... في كل قطر وهو لا يتكلم
ولقد سلمت من الصوارم والقنا ... (2) لو كنت من فتكات رميك أسلم
أعلي يا ابن القاسم بن محمد ... بيني وبينك عروة لا تفصم
رد التحية مثل ودي غضة ... إني عليك مع النسيم مسلم
ولقد كتبت وأدمعي منهلة ... والقلب فيه جذوة تتضرم
أمن السوية أن أكون كما أنا ... فيفوز غيري بالنعيم وأحرم
والله يرضى عنك من حكمٍ فقد ... وافيت حكم الله فيما تحكم
إن بنت عنك ولم ترده فإنه ... بعضي لبعضك في فراقك يخصم
ولقد ندمت على فراق سلا كما ... ضعف (3) الندامة حين أهبط آدم وهذا كقول الآخر:
كآدم حين عصى ربه ... عوض بالدنيا من الآخره قوله: " يجر أرقم أرقم "، كقول ابن اللبانة، وقد تقدم (4) :
__________
(1) وردت لفظة " ومنها " بعد هذا البيت في س.
(2) وقعت لفظة " ومنها " بعد هذا البيت أيضاً في س.
(3) قرأها الأستاذ بنشريفة: " طعم "، وهي قراءة جيدة.
(4) انظر ما تقدم ص: 78.(4/820)
فقلت الصل أتبع ضيغما ... وقوله: " والمسك فوق الترب " ... البيت، كقول ابن شهيد:
وولت وللمسك من ذيلها ... على الأرض خط كظهر الشجاع (1) وله فيه من قصيدة أولها:
إلى ضوء ذاك البارق المتعالي ... حننت وحنت (2) أينقي وجمالي
تألق يزجي عارضاً مثل أدمعي ... ويحكي فؤادي خفقه المتوالي
فلولا شمالي في زمام شملة ... لطارت إليه في صباً وشمال
إلى مسقط الغرس الذي كان غرسها ... به لا إلى سدرٍ هناك وضاك
ولم تنسها الأرطى رياض ترودها ... لدى مورد عذب المياه زلال
وحبب للإنسان أول موطنٍ ... وإن كان في حاشاه ناعم بال
هم بعثوا طيف الخيال الذي سرى ... فعانق جسماً مثل طيف خيال
وأقبل من تلقائهم فكأنه ... مغلفة أعطافه بغوالي ومنها:
فيا دارهم بالحزن حزني (3) مجدد ... عليك، وقلبي ليس عنك بسالي
أرى أعيناً صوراً إليّ كثيرة ... ومن دون أن ألقاك سور عوالي (4)
وأبيض هندي كأن بحده ... مطار ذبابٍ أو مدب نمال
__________
(1) لم يرد من البيت في ط إلا قوله: " كظهر الشجاع ".
(2) د: وحثت؛ س: وحمت.
(3) ط د س: مجرد.
(4) سقط البيت من س.(4/821)
جرى فوقه ماء الفرند وتحته ... وجال على متنيه كل مجال
وقد أظهرت فيه المنايا نفوسها ... كما خوضت لج السراب سعالي ومن المدح (1) :
ولم يحكمهم صوب الحيا لكن اغتدى ... بما فيهم من شيمة وخلال
وجاءوا على جيد الزمان قلائداً ... وأفعالهم فيها ضروب لآل [151أ]
أقاموا لواء المكرمات وخيموا ... من المجد والعلياء تحت ظلال
إذا احتجبوا لم يستر الحجب نورهم ... وإن طلعوا كانوا بدور جمال
أو انتسبوا في المجد كان انتسابهم ... لأعظم عم أو لأكرم خال
وإن ورث العلياء عنهم عليها ... فلا بدع في حال وراثة عال
سكينته من أعفر (2) ويلملم ... وبعض رجال في سكون جبال
إليك رمتنا العيس حتى كأنها ... من الوهن أقواس رمت بنبال وهذا لفظ أبي العرب الصقلي (3) ، وهو معنى قد نبهت عليه في تضاعيف هذا التأليف:
وحط بنا عن ناجياتٍ كأنها ... قسي رمت منا البلاد بأسهم وكذلك قوله: " جرى فوقه ماء الفرند " لفظ ابن المعتز (4) :
جرى فوق متنيه الفرند كأنما ... تنفس فيه القين وهو صقيل
__________
(1) س: ومن مدح هذه القصيدة.
(2) أعفر: جبل في بلاد الشام (معجم ما استعجم 1: 171) .
(3) ترجمته في القسم الرابع من الذخيرة، الورقة: 109 ويرد البيت هنالك.
(4) زهر الآداب: 776.(4/822)
وفي أشعار أبي بكر تلفيق كثير، على تدفق نحيوته، وقوة غريزته، كقوله في قصيدة، منها:
وفتيةٍ من أعاريبٍ كأنهم ... أسد على اعةجيات سراحيب
لا يلبسون جلود الرقم سابغةً ... حتى تخاط بأحدق اليعاسيب
ولا تبيت على قرب محلتهم ... إلا يبيت حماهم غير مقروب
يا كم مضيت (1) وغول الهول يتبعني ... وكم سريت وسيل الليل يرمي بي
ملابساً ما تراه العين ملتبساً ... ليلاً مع الليل أو ذئباً مع الذيب
وأطرق الفتيات البيض لابسةً ... لبض الجلابيب في سود الجلابيب
والقرط كالقلب من خوفٍ ومن حذر ... كأنه هو في خوف (2) وتعذيب
لم آتها قط إلا نم بي وبها ... واشٍ من الحلي أو واشٍ من الطيب
ولا انتهيت إلى أطناب قبتها ... إلا على ظهر مطعونٍ ومضروب
بأبيض بدم الأجساد مغتسل ... وأسمر بدم الأكباد مخضوب
والطبع أكرم في تركيب خلقته ... من أن أكون محباً غير محبوب
إن كنت يا دهر لم تحسن معاشرتي ... فيما مضى فلقد أحسنت تأديبي
أجرب الناس في ضيق وفي سعةٍ ... والناس صنفان في حدج التجاريب
وما على العود أن يهدي نوافحه ... إلا على لهبٍِ بالجمر مشبوب
ويطلب الجود من قوم وجود بني ... عشرٍ يجيئك عفواً دون مطلوب
محاسن ثقفت منها أوائلهم ... كما تثقف أنبوب بأنبوب وقال من أخرى، وذكر حمامة:
__________
(1) ط د: وحول.
(2) س: خفق.(4/823)
بكت لم تسل دمعاً ولا هي أعربت ... ولا أفصحت معنىً بلحن كلام
ولم أر أشجى من بكاءً بعثنه ... فزدن به في لوعتي وغرامي [151ب]
نوائح ما غاضت دموع جفونها ... على السكب إلا والضلوع حوام
وما ذلك المحمر فيهن خلقة ... ولكنها (1) مما بكين دوامي ومنها:
سقى منزلاً بالغرب منسكب الحيا ... وجاد عليه كل أسحم هامي
بحيث بنو عشرٍ تنير وجوههم ... كمات طلعت ليلاً بدور تمام
فما أكثر المثني عليهم سجيةً ... وما أشبه النعمى بطوق حمام
رعى الله فيكم ذمة المجد والعلا ... فلا خلق أرعى منهم لذمام وله فيه من أخرى (2) :
إذا نزل العافون في عقر داره ... فقد نزلوا في غبطةٍ وأمان
بحيث حياض (3) الجود زرق مياهها ... ومزن العطايا دائم الهطلان
وللغيث أوقات يفاجئ صوبه ... ونائله ينهل كل أوان
أغر طليق الوجه يهتز للندى ... كما اهتز مصقول الفرند بماني
فما لعليًّ في البرية مشبه ... وما لعليّ في الأنام بثاني
فلو أنني في الوصف لم أذكر اسمه ... دروه وقالوا: ذي صفات فلان
__________
(1) ط: ولا كنف.
(2) من أخرى: زيادة من س.
(3) س: الموت.(4/824)
وله فيه من أخرى عند صدره من حضرة أمير المسلمين:
مضيت بوجه السعد وهو طليق ... وأبت بثوب النجح وهو يروق
لقيت أمير المسلمين مقرباً ... كما يتلاقى شائق ومشوق
رآك وللإسلام نصحك كله ... وعهدك في ذات الإله وثيق
تلقاك بالبشر الذي أنت أهله ... فقالوا: أب حانٍ عليه شفيق ومنها:
ولما طغى قوم وفرت لحومهم ... فعاج فريق واستقام فريق
وضلت حلوم (1) بالجهالة مثلما ... أضل سواع معشراً ويعوق
وجاءوك بالمكر الكريه وإنما ... بصاحبه (2) المكر الكريه يحيق
أراهم مكان الفضل منك فروعوا ... كما انشقت ريح الغضنفر نوق
وفروا ولولا حسن رأيك فيهم ... لما حملتهم بعد ذلك سوق
فلا عدموا منك الذي عهدوا فما ... بغيرك غفران الذنوب يليق
توسعت فضلاً في ولى وحاسدٍ ... ولم يك في باع المكارم ضيق
كرمتم فروعاً في المعالي حميدةً ... وطابت أصول منكم وعروق وله فيه من أخرى، وكتب إليه (3) بها من تلمسان وأولها (4) :
لعل إياب الظاعنين قريب ... فترجع أيام الحمى وتؤوب
__________
(1) ط: نجوم.
(2) ط: لصاحبه.
(3) إليه: زيادة من س.
(4) وردت أبيات منها في الوافي للصفدي وبيتان في المغرب.(4/825)
مغاني تلاقينا وعهد اجتماعنا ... وليس علينا للزمان رقيب
وأيامنا بيض الليالي ودهرنا ... من الحسن ما للشمس فيه غروب
بها كان يدعوني الهوى فأجيبه ... مطيعاً وأدعو بالهوى فيجيب [152أ]
وأرمي المها عن ناظري فتصيبها ... سهامي وترميني المها فتصيب
وفي الخدر مكحول الجفون صفاته ... من السحر معسول الرضاب شنيب
إذا ما (1) أدار الكأس من مثل ريقه ... تمايل غصن وارجحن كثيب
فأجفانه سكرى ونحن وقده ... وكل بما استولى عليه مريب
ويهتز نوار الملاحة حوله ... فيعبق من أنفاسه ويطيب
على مثل أيام الزمان الذي مضى ... تشق قلوب لا تشق جيوب ومنها:
أمثل عليّ تطلب العين أن ترى ... ومثل عليّ في الملوك غريب
فتىً يهب الدنيا ويرتاح للندى ... كما اهتز غصن البان وهو رطيب
وتأتي عطاياه اطراد خصاله ... كما اطردت للسمهري كعوب
وإن كنت قد أضربت عن مدح غيره ... (2) فليس له في العالمين ضريب
أحب سلا من أجل كونك (3) في سلا ... فكل سلاوي إليّ حبيب
لصيرتها مصراً فنيلك نيلها ... وكفاك بطحاها وأنت خصيب
__________
(1) ط د: أراد.
(2) وقعت لفظة " ومنها " بعد بهذا البيت في س.
(3) المغرب: من.(4/826)
وقد كرر هذا المعنى فيه أبو بكر، في مواضع من شعره، منها قوله من قصدية (1) :
يقول رجال غير ما يفعلونه ... وإن علياً قائل وفعول
فلا تطلبوا في ساحة الأرض مثله ... فمثل عليّ في الملوك قليل
ولولا ما كانت سلا دار هجرتي ... ولا كان لي عمن أحب رحيل
فألفيتها مصراً وأنت خصيبها ... وكفاك بطحاها ونيلك نيل ولما توفي سنة اثنين وخمسمائة قال فيه يرثي:
العيش بعدك يا عليّ نكال ... لا شيء منه سوى العناء ينال
يا عثرةً عثر الزمان بأهله ... ليت الزمان من الزمان يقال
يا عصمة الفقراء بل يا مالهم ... هيهات ما للناس بعدك مال
أبكيك بالدم لا بدمعي إنه ... يبكي سواي به وذاك محال
دنيا ظفرت وما متاعك كله ... إلا سراب يضمحل وآل
قد كنت مشغولاً به متوقعاً ... ولذي الوفاء بغيره أشغال
فالآن ها أنا لا أبالي عن أسىً ... وقع التوقع فاستراح البال
قد كنت آمالي التي أنا طالب ... جهدي ومت فماتت الآمال
لا الظل ظل بعد فقدك يا أبا ... حسن ولا الماء الزلال زلال ومنها:
كنت (2) الصفوح عن المسيء ولم يكن ... إلا الجميل لديك والإجمال
حطوا عن الأكوار قد مات الذي ... يتحمل الأعباء وهي ثقال
__________
(1) زاد في س: " تقدمت ".
(2) ط د: كيف.(4/827)
مذ ودع القوال والفعال ما ... في الأرض قوال ولافعال (1) [152ب]
وتهدم الجبل المنيف فزلزت ... رتب العلا ومن الرجال رجال
فلأجعلن حجي لقبرك إنه ... للخير فيه وللتقى أوصال
كلا عيالك لكن [ ... ] ... (2) فجميعنا لك يا عليّ عيال
أين العزاء فقد أديل بأحمدٍ ... دول الأفاضل بالبنين تدال ومنها:
طوقتني النعمى فصرت حمامةً ... تشدو وغصنك ناضر ميال
وإذا الأيادي لم تكن مشكورةً ... للمنعمين فإنها أغلال ومن مدائحه في الفقيه القاضي أبي العباس ابنه (3) ، له من قصيدة أولها (4) :
بعثت إليك من البراق خيالها ... فأراك شكلك حاملاً أشكالها
هل ينكر الغيران مني وقفةً ... وقفت أماني النفوس حيالها
في ليلةٍ عبث المحاق ببدرها ... غصباً فقصر عمره وأطالها
سوداء أشرق نجمها فلو أنني ... أجري على فلك لكنت هلالها
ولقد فتكت بقرطها وبمرطها ... حتى هتكت حجولها وحجالها
__________
(1) وقعت لفظة " ومنها " بعد هذا البيت في س.
(2) زيادة من س.
(3) أبو العباس أحمد بن علي بن القاسم، ولي قضاء سلا بعد أبيه، ويصفه الفتح بأنه " فخر بني القاسم " وفي مدح التطيلي له يلقبه " قاضي قضاة الغرب "، وعنده نزل ابن تومرت، وكانت وفاته بعد سنة 515 (انظر بحث بنشريفه: 71 - 74، 87) .
(4) وردت ثلاثة أبيات منها في الوافي ومثلها في المسالك.(4/828)
ومن المدح:
ما الخطة العلياء زانته، (1) بلى ... هو زانها حتى أتم كمالها
ويشق ماء العتق صفحة خده ... شق الفرند من السيوف صقالها
وبأحمد بن علي بن القاسم بن ... محمد درت المكارم حالها
هو لفظة من منطق الدنيا بها ... فخر الزمان على بنيه فقالها
من كل مكتهل الوقار وأزهرٍ ... لبسوا الشبيبة فاكتسوا سربالها
يمشون فوق الأرض تحت حلومهم ... فتخالهم أوتادها وجبالها
لولاهم لتحركت جنباتها ... من جرفةٍ ولزلزلت زلزالها وله من أخرى (2) :
أمعاهد (3) المدح الذي غادرته ... مغدىً لبارقة المها ورواحها
وادٍ إذا ضرب الهجير رواقه ... أهدى إلى مهج القلوب رواحا (4)
إن كانت الأرواح من ماءٍ فمن ... ذاك المجاج تكونت أرواحا
فأتت تقبلني فقلت لها أمسكي ... عني فإني لا أقارب راحا
فمضت وقد أخجلتها فتبسمت ... فرأيت في أرض العقيق أقاحا
حتى إذا ما الروض نبهه الندى ... فتحت عيوناً كالعيون ملاحا ومن المدح:
__________
(1) ط د: بل.
(2) منها أربعة أبيات في المسالك.
(3) كذا ولعل صوابها: المرح.
(4) سقط هذا البيت والذي يليه من س، وجاء في موضعهما " ومنها ".(4/829)
طالبتها أدباً فسال توقداً ... وطلبته كرماً فذاب سماحا وله فيه من قصيدة كتب بها إليه من تلمسان، أولها:
على طول ما أبكي تعاتبني عتبا ... فياليت شعري هل يكون لها عتبي
سرى جانب من جانب الغرب خافق ... خفوق فؤاد الصب قد فارق الحبا
فما قنعت في الحرب بيض صوارم ... بأيدي كماة يكثرون بها الضربا ومنها:
تكلفني نظم النجوم قلائداً ... لعمري لقد كلفتي مرتقىً صعبا [153أ]
وهبك ملكت الشمس والبدر في يدي ... وسقت إلى جنبيهما الأنجم الشهبا
إذا لم أعلقها على جيد أحمد ... فلا جيد في الدنيا يكون لها حسبا
صبا بالغواني من صبا وهو لم يزل ... ببنت المعالي هائماً كلفاً صبا
فتىً يهب البيض الكواعب كالدمى ... وبيض الظبا والسمر والضمر القبا
لقد وهب الله الجمال لأحمدٍ ... وشرف منه الخلق والخلق العذبا
موفق آراء القضاء كأنما ... بصيرته في الغيب تخترق الحجبا
إذا اكتسب الناس الدنانير عدةً ... فأحمد لا يرضى بغير العلا كسبا
كذاك مضت في السالفات جدوده ... كما مر كعب الرمح مطرداً كعبا وله فيه:
يا راقد الليل التمام جفونه ... إني بحبك ساهر ما أرقد
إني لأرحم خصره من رقةٍ ... وأرق للغصن الذي يتأود
وغدا يطمعني الوصال تمنياً ... إني سأهلك فيل أن يدنو غد
وليست أثواب الملاحة مثلما ... لبس السماحة والرجاحة أحمد(4/830)
لو كان خلد فاضل لفضيلة ... فيه لكان على الزمان يخلد
المجد والشرف المؤثل والندى ... والجود والعليا له والسؤدد
وبلاغة لم أدر حين سمعتها ... أفصاحة أم لؤلؤ متبدد
لا ناطق عجل الكلام بها ولا ... متوقف فيها ولا متردد
من معشرٍ طابوا مناصب في العلا ... وإذا يطيب الأصل طاب المولد جملة من مراثيه
له من قصيدة في تأبين أمير المسلمين، أبي يعقوب يوسف بن تاشفين رحمه الله تعالى، قال فيها، وأنشدها على قبره:
ملك الملوك وما تركت لعاملٍ ... عملاً من التقوى يشارك فيه
يا يوسف ما أنت إلا يوسف ... والكل يعقوب بما يطويه
اسمع أمير المسلمين وناصر ال ... دين الذي بنفوسنا نفديه
جوزيت خيراً عن رعيتك التي ... لم ترض فيها غير ما يرضيه
أما مساعيك الكرام فإنها ... خرجت عن التحديد والتشبيه
في كل عامٍ غزوة مبرورة ... تردي عديد الروم أن تفنيه
تصل الجهاد إلى الجهاد موفقاً ... حتم القضاء بكل ما تقضيه
ونجي ما دبرته كنجيه ... فكأن كل مغيب تدريه
متواضعاً لله مظهر دينه ... فكأن كل مغيب تدريه
ولقد ملكت بحقك الدنيا وكم ... ملك الملوك الأمر بالتمويه(4/831)
لو رامت الأيام أن تحصي الذي (1) ... فعلت سيوفك لم تكن تحصيه
إنا لمفجوعون منك بواحدٍ ... جمعت خصال الخلق أجمع فيه
وإذا سمعت حمامةٍ في أيكة ... تبكي الهديل فإنما (2) ترثيه
ومضى قد استرعى رعيته ابنه ... فأقام فيهم حق مسترعيه
وإذا هزير الغاب ضرى شبله ... في الغاب كان الشبل مثل أبيه
وإذا علي كان وارث ملكه ... فالسهم ملقى في يدي باريه وله من مرثية:
وناع نعى والقلب كالقلب خافق ... مروع ومما رابني لم أصدق
بكت رحمةً لي عين كل غمامةٍ ... وساعدني نوح الحمام المطوق
فيا مزن لا (3) [تؤذن] بتسكاب أدمعي ... فإن مدمع من لجة الحزن يستقي
فلولا التهاب النار ما بين أضلعي ... لأصبحت في بحر من الدمع مغرق
دعوني أشكو الدهر للدهر (4) معتباً ... على أنني أشكو إلى غير مشفق
فما فوق هذا الرزء رزء وإنما ... رمى كبد العليا بسهمٍ مفوق
مضى بابن عشرٍ كابن عشر وأربع ... فهلا هلال مثل نون معرق
مضى بفتى تزري أسرة وجهه ... بضوء الصباح المشرق المتألق وله فيه:
__________
(1) ط د: التي
(2) س: فإنها.
(3) زيادة من س.
(4) ط: معنياً.(4/832)
ما كنت أعلم على الزهر (1) الندي ... حتى ثوى في القبر جسم محمد
خطب ثنى وجه الصباح كأنه ... بالحزن من قطع الظلام الأربد
ورزية نزلت بآل محمدٍ ... خصت وعمت آل دين محمد وله فيه (2) :
الصبر أجمل عند كل ملمةٍ ... لكن على فقديهما لم يجمل
قمران غيب بالكسوف سناهما ... لا تخسف الأقمار إن لم (3) تكمل
من قاضيين موفقين كأنما ... هذا شريح في القضاء وذا علي
لم يعدوا نهج السبيل وإنما ... (4) [..................]
بنقيبةٍ من صحةٍ، وسجيةٍ ... من روضةٍ، وسكينة من يذبل
وروية من حكمة، وقضيةٍ ... من فطنةٍ، وبديهة من منصل
__________
(1) ط د: الدهر.
(2) منها بيتان في المسالك.
(3) س: ما لم.
(4) زيادة من س: والشطر الثاني فيها بياض.(4/833)
الأديب أبو محمد عبد بن صارة الشنتريني (1)
ناثر وشاعر مفلق، وشهاب متألق، نثر فسحر، ونظم فنمنم، وأولع بالقصار فأرسلها أمثالاً، ورشق بها نبالاً، لا سيما قوارع كدرها على مردة عصره، وسم بها أنوف أحسابهم، وتركها (2) مثلاً في أعقابهم، وأوصاف أبدع فيها، واخترع كثيراً من معانيها، وملحٍ في شكوى زمانه، دل بها على علو شانه، حتى لو أن أبا منصور الثعالبي رآه، أو سمع شيئاً مما نحاه، لأضرب عن ذكر كثير ممن به أغرب، كابن سكرة وابن لنكك، ومن سلك ذلك المسلك.
وكان أبو محمد على جودة شعره، وشفوفه على [154أ] أهل قطره، ضيق المجال، زحلي الانتقال، لم يسعه مكان، ولا اشتمل عليه سلطان،
__________
(1) عبد الله بن محمد بن صارة (أو سارة) البكري الشنتريني الأصل، نزل إشبيلية وسكنها وتعيش فيها بالوراقة، وتجوب في بلاد الأندلس شرقاً وغرباً للتعليم بالعربية، وسكن المرية وغرناطة وامتدح الولاة والرؤساء، وكان حسن الخط جيد النقل قائماً على جمهرة من اللغة والنحو، وكانت وفاته سنة 517 (انظر التكملة: 816 والسلفي: 15 والقلائد: 260 والخريدة 2: 315 وبغية الملتمس رقم: 896 والمغرب 1: 419 والرايات: 35 (غ) والمطرب 78، 138 والإحاطة: 240 (النسخة الكتانية) والمسالك 11: 383 وبغية الوعاة 2: 57 (نقلا عن الوافي للصفدي) والشذرات 4: 55 وزاد المسافر: 66 ووفيات الأعيان وشرح المقامات للشريشي، وقد مر ذكره في مواطن من القسم الأول، انظر مثلا 1: 79، 147، 379.
(2) المسالك: وخلدها.(4/834)
وكانت قصاراه تتبع المحقرات، وبعد لأيٍ ما ارتقى إلى كتابة بعض الولاة، فلما كان من خلع الملوك ما كان، أوى إلى إشبيلية أوحش حالاً من الليل، وأكثر انفراداً من سهيل، وتبلغ بالوراقة وله منها جانب، وبها بصر ثاقب، فانتحلها على كساد سوقها، وخلو طريقها، وفيها يقول (1) :
أما الوراقة فهي أيكة حرفةٍ ... أوراقها (2) وثمارها الحرمان
شبهت صاحبها بصاحب إبرة ... تكسو العراة وجسمها عريان ولقد رأيت له عدة مقطوعات في الهجاء، تربي على حصى الدهناء، وهو فيه صائب السهم، نافذ الحكم، طويت عليه كشحاً، وأضربت عن ذكره صفحاً، وربما ألمعت منه بالأقل، لترى فتستدل، ولو استجزت أن أثبت في هذا الكتاب، بعض ما له في هذا الباب، لتحققت أنه بالجملة بائقة محاجاة، وصاعقة مهاجاة، وقد كتبت من ذلك في كتابي المترجم ب - " ذخيرة الذخيرة " جملة موفورة، له ولطوائف كثيرة، وفيما أوردت مع ذلك هنا من شعره، لما أجريت من ذكره، حجة فصل، وشاهد عدل.
__________
(1) البيتان في القلائد والمسالك وبغية الوعاة وابن خلكان والإحاطة والشذرات والثاني في طراز المجالس: 141.
(2) س: أغصانها.(4/835)
جملة من شعره في النسيب وما يناسبه
قال في غلام أزرق (1) :
ومهفف أبصرت في أطواقه ... قمراً بآفاق المحاسن يشرق
تقضي على المهجات منه صعدة ... متألق فيها سنان أزرق وهذا كقول السلامي، من أناشيد الثعالبي، حيث يقول (2) :
أعانق من قده صعدةً ... ترى اللحظ منها مكان السنان وأبو محمد يتسلق على أشعار اليتيمة، تسلق القاضي الغشوم، على مال اليتيم. وفي ذلك يقول عبد الجليل:
قده مهما تثنى صعدة ... والسنان الذلق فيها طرفه لابن رباح في غلام أزرق:
عيني رأت أغرب شيءٍ يرى ... منزهاً عن كل تشبيه
غصن من البلور أعطافه ... تريك ليناً في تثنيه
يسفر للياقوت في حمرةٍ ... وإن رنا عن زرقةٍ فيه
__________
(1) انظر القلائد والخريدة وابن خلكان والمسالك والشذرات.
(2) اليتيمة 2: 403.(4/836)
وقال أبو محمد أيضاً (1) :
أعندك أن البدر كان ضجيعي ... فقضيت أوطاري بغير شفيع
جعلت ابنة العنقود بيني وبينه ... فكانت لنا أماً وكان رضيعي وقال (2) :
ومعذر رقت حواشي حسنه ... فقلوبنا وجداً عليه رقاق
لم يكس عارضه السواد وإنما ... نثرت عليه صباغها الأحداق وقال (3) :
قاست حبك منذ حول كامل ... وطيور آمالي عليك تحوم
فحرمت منك بلوغ ما أملته ... أشقى البرية عاشق محروم وقال (4) :
يا من تعرض دونه شحط النوى ... فاستشرفت لحديثه أسماعي
إني لمن يحظى بقربك حاسد ... ونواظري يحسدن فيك رقاعي
لم تطوك الأيام عني إنما ... نقلتك من عيني إلى أضلاعي
__________
(1) انظر المطرب والمسالك والنفح 3: 458.
(2) البيتان في القلائد والمطرب والمسالك والرايات وابن خلكان وشذرات الذهب والقسم الأول من الذخيرة: 147.
(3) انظر المسالك.
(4) الأبيات في القلائد والنفح 4: 301.(4/837)
وهذا المعنى كثير ومنه قول المعتمد (1) :
أغائبة عني وحاضرة معي ... كأنك من عيني نقلت إلى كبدي (2) وقال العباس بن الأحنف (3) :
تالله ما شطت نوى ظاعنٍ ... صار من العين إلى القلب وقوله: " إني لمن يحظي بقربك حاسد "، كقول محمد بن أبي أمية (4) :
قد رآها الرسول (5) حين رآها ... ليت عيني مكان عين الرسول وقال (6) :
ومهفهف يختال في أبراده ... مبرح القضيب اللدن تحت البارح
عاينت في مرآة وهمي خده ... فحكيت فعل جفونه بجوانحي
لا غرو إن جرح التوهم خده ... فالسحر يفعل في البعيد النازح وبيته الثاني من هذه كقول القائل، إلا أن أبا محمد زاد فيه، وهو:
فقتلتني وجرحت خدك ظالماً ... ما كان أغناني وما أغناك
__________
(1) ديوان المعتمد: 6.
(2) الديوان: لئن غبت عن عيني فإنك في كبدي.
(3) لم يرد في ديوان العباس.
(4) كان محمد بن أبي أمية (أو ابن أمية) كاتباً شاعراً ظريفاً من ندماء إبراهيم بن المهدي وهو ممن كان يصاحب مسلم بن الوليد وأبا العتاهية (انظر الأغاني 12: 139 - 150) والبيت الوارد هنا في الأغاني 12: 141.
(5) الأغاني: وإذا جاءها الرسول.
(6) الأبيات في القلائد والخريدة والمسالك.(4/838)
وقال (1) :
أي امرئ يعصم من فتنةٍ ... بشادن إبليس من جنده
جبينه المشرق من وصله ... وفرعه الخالك من صده
ملكته رقي ولا رقة ... يحظى بها قلبي من عنده
وسطوة الهندي في لحظه ... وعطفه (2) الخطي في قده وقال (3) :
ماء الجمال بخده مترقرق ... والشمس منه تعوم في ضحضاح
ما خده جرحته عيني إنما ... صبغت غلالته دماء جراح
رشأ له خد البريء ولحظه ... أبداً شريك الموت في الأرواح
ذو طرة سبجية ذو غرةٍ ... عاجيةٍ كالليل كالإصباح
لله راء زبرجد في عسجد ... في جوهر في كوثر في راح
أتراه يعلك أن قلبي عنده ... رهن الهوى يهفو بغير جناح
مازحته ولم ادر ما حد الهوى ... حتى قدحت زناده بمزاح
لولا العيون لكان من دون الهوى ... وقلوبنا قفل بلا مفتاح
قامت علي شواهد من حبه ... فأرى الكناية فيه كالإفصاح
__________
(1) في هامش ط هنا تعليقات بخط غير خط الأصل، وأكثرها شعر منقول عن القلائد.
(2) س: وسطوة.
(3) منها في المسالك أربعة أبيات.(4/839)
ومن شعره في الأوصاف
قال في النارنج (1) :
أجمر على الأغصان زادت (2) غضارةً ... به أم خدود أبرزتها الهوادج
وقضب تثنت أم قدود نواعم ... أعالج من وجدي بها ما أعالج
أرى شجر النارنج أبدى لنا جنىً ... كقطر دموعٍ ضرجتها اللواعج
جوامد لو ذابت لكانت مدامةً ... تصوغ البرى فيها الأكف الموازج
كرات عقيقٍ في غصون زبرجد ... بكف نسيم الريح منها صوالج
نقلبها طوراً وطوراً نشمها ... فهن خدود بيننا ونوافج وقال:
رخم من النارنج خمسيه وقل ... نار على الإطلاق ليس تكذب
عجباً لدوحته ترف غضارةً ... والجمر في أغصانها يتلهب
كالغيد لا تشقى بنار خدودها ... وقلوبنا في حره تتقلب وهذا كقول بعض أهل عصرنا (3) :
__________
(1) انظر القلائد والخريدة والمغرب والرايات، ومنها أربعة أبيات في المسالك واثنان في النفح 3: 414.
(2) القلائد: أبدى.
(3) هو عمر بن الشهيد كما في الذخيرة 1: 691.(4/840)
وتحت البراقع مقلوبها ... تدب على ورد خد ندي
تسالم من وطئت خده ... وتلدغ قلب الشجي الأبعد وقال أبو محمد (1) :
أهد الثناء إلى زمان مشرقٍ ... أهدى إليك شقائق النعمان
قامت فرادى فوق سوق زبرجد ... صيغت عليه جمائم العقيان
يهفو بها مر النسيم كأنها ... حمر البنود نشرن في الميدان وقال (2) :
وحديقة في نرجس وبهار ... رفعت لواء الحسن للنظار
فكأنما هذا ضحى متهلل ... وكأنما هذا أصيل نهار
أخوان أمهما معاً شمس الضحى ... وأبوهما قمر السماء الساري
شربا سلاف القطر حتى عربدا ... وتراجما بكواكب الأزهار
واستودعا خبريهما نفس الصبا ... فأذاع ما كتما من الأسرار
فبكى الندى لهما ضحيا، والندى ... مذ كان للأزهار أكرم جار ومنها:
نمت زجاجتها بها فحسبتها ... ماء يحيط بجذوة من نار
رام المدير بأن يسكن فورها ... فتقاذفت جنباتها بشرار
__________
(1) ورد في المسالك بيتان منها.
(2) منها أربعة أبيات في المسالك.(4/841)
حتى إذا ما ابن الغمامة شجها ... ثار الحباب مطالباً بالثار
في درع نضناض كأن أيدمه ... يرنو بأحداق بلا أشفار ألم في هذا بقول المعري وقصر عنه (1) :
كأثواب الأراقم مزقتها ... فخاطتها بأعينها الجراد وكذلك قوله: " أخوان أمهما معاً شمس الضحى "، من قول ابن الرومي (2) :
هذي النجوم هي التي ربتهما ... بحيا السحاب كما يربي الوالد وقال (3) :
وبستان ورد في مطارف سندسٍ ... يرف على غيد السوالف ميد
نظرت إليه في الكمام فخلته ... ذوائب تبرٍ عممت بزبرجد وله يستدعي إلى مجالس الأنس:
أبا تاجاً بهام المعلوات ... ويا وسطى نظام المكرمات [155ب]
ومن طلعت مآثره نجوماً ... بأفلاك السعادة نيرات
أرى ديماً تحت إلى مدام ... يشيعها النديم بخذ (4) وهات
__________
(1) شروح السقط: 305، يصف الدرع ويشبهها بجلد الحية، وقد شبه المسامير فيها بعيون الجراد.
(2) ديوان ابن الرومي 2: 644 والمختار: 237 وأمالي القالي 1: 270.
(3) البيتان في المسالك.
(4) ط: فخذ.(4/842)
وعندي من بنات الكرم بكر ... يخفرها ملاحظة السقاة
يطوف بكأسها ساق نبيل ... مليح الوصف مقبول الصفات
يكر إليك ألحاظاً مراضاً ... كأن بها بقايا من سنات وقال:
أيا من جارت العلياء فيه ... فما تدري له العلياء كنها
بجيد النبل منا عقد أنس ... أقام بغير واسطة فكنها وقال يصف سحابة:
أعاذك الله من ليلٍ بليت به ... كأنه بغتة المقدور إذ طرقا
وافاني السحر الأعلى بساريةٍ ... كادت تعيد صعيداً منزلي زلقا
هللت منها وقد هبت صواعقها ... كراكب البحر لما شارف الغرقا
لله من عارض ضاق الفضاء به ... طولا ً وعرضاً فخلت البر قد غرقا
تلألأ الجو من نيران بارقه ... حتى حسبنا أديم الأرض محترقا
وقلت إذ قصفت للرعد قاصفة ... تضعضع الفلك الأعلى أو انطبقا ومن ملح شعره في ذكر الزمان وبنيه، وتعذر آماله فيه (1) :
أرى الدينار للدنيا نسيباً ... يحيد عن الكرام (2) كما تحيد
هما سيان إن صحفت حرفاً ... وجدت الراء تنقض أو تزيد
رأيت هواهما استولى علينا ... فنحن بحكمه أبداً عبيد
__________
(1) ورد في النفح 3: 567 خمسة أبيات منها.
(2) ط: المكارم.(4/843)
يؤمل أن يصيدها فؤادي ... فيرجع عنهما وهو المصيد
فكم أصغي إلى زور الأماني ... ويغريني بها الحرص الشديد
وألمح من سنا الدينار برقاً ... غمامته على غيري تجود
يفوز به الخلي فيحتويه ... ويحرم وصله الصب العميد
بجد فاسع لا تحفل بجد ... أبت لك صحبةً فيها الجدود
فما حسن التناول فات سمعي ... ولكن فاته الجد السعيد
إلى كم ينفر الدينار مني ... ويطلب كف من عنه يحيد
ألم أنشده في وادي هيامي ... به لو كان يعطفه النشيد
" حبيبي أنت تعلم ما أريد ... ولكن لا ترق ولا تجود "
وكم غنيت حين تنكبتي ... منىً شيطانها أبداً مريد
" يريد المرء أن يعطى مناه ... ويأبى الله إلا ما يريد " وقال وقد طلق امرأته: [156أ]
أما الزمان فرق لي من طلةٍ (1) ... كانت تطل دمي بسيف نفاقها
الذئبة الطلساء عند نفاقها ... والحية الرقشاء عند عناقها وقال في هر له كان يسمى رشيقاً:
تبنيت الهزبر فبات شبلي ... وأقصيت الغلامة والغلاما
أوسد ساعدي خدي رشيقٍ ... وأوسعه اعتناقاً والتزاما
وأطوي طول ليلي ذكر ليلى ... ولا أقرا على سلمى سلاما
__________
(1) الطلة: الزوجة.(4/844)
وقال في أحد الكتاب:
وأغر ينتحل الكتابة خطةً ... متوقدٍ كالحية النضناض
عشق السواد فأصبحت أسنانه ... تشري السواد ببيع كل بياض
فإذا شحا فاه رأيت خنافساً ... يأوين من فيه إلى مرحاض وقال:
وأبخر قص حديثاً له ... فقال الحضور فسا ذا الحدث
فقلت لهم بادروا بالقيام ... فإن الفساء نذير الحدث وهذا كقول عبد المحسن الصوري (1) :
حديثه كالحديث ... يرفث كل الرفث ومن غريب ما قيل في البخر قول الحصري:
أبخر لا يحيك فيه البخور ... حسد الغائبين فيه الحضور
قلت لما فسا بفيه علينا ... ما له است فكذبتنا الأيور وقال آخر:
أهدى مغيث هره لقمةً ... أرسلها من فمه الأبخر
فبادر القط إلى دفنها ... يحسبها من بعض ما قد خري
__________
(1) اليتيمة 1: 318.(4/845)
أما الثنايا فإني لست منثنيا ... عن الثناء عليها آخر الأبد
يبدو لطرفك منها حين تبصرها ... سن كمثل مسن الصيقل الفرد
كأن جن سليمان بنوا فمه ... بنيان تدمر بالصفاح والعمد
يهدي إلى السمع من ألفاظه نغماً ... كأنها نفثات السحر في العقد
له فم كحرٍ في شكل صورته ... (1) " ترمي غواربه العبرين بالزبد " واستجزت إثبات (2) هذا إذ لم يصرح بأحد، وقد قلت في غير موضع من كتابي هذا إني نزهته عن الهجاء، ولم أجعله ميداناً للسفهاء.
وقال من قصيدة:
أرى السيادة مذ صافحت هاجسها ... في كل وادٍ من التقوى تهيم بكا
فما تلاقيك إلا وهي قائلة ... قول التي شفها الصديق هيت لكا
إني خطوت إليك الناس كلهم ... ولم أزر سوقةً منهم ولا ملكا [156ب]
أشكو إليك ولا عار بذي وصبٍ ... ألقى التداوي من أوصابه فشكا
الخرج (3) أخرج رأسي من شبيبته ... فكلما افتر ثغر الشيب فيه بكى
وفي الشهور إذا وافين لي شهر ... يظل عني فيه الستر منهتكا
وما الهلال بمبيض لدى مقلي ... كأنه من قتير الشيب قد سبكا
أو من دراهم مذ باتت منجمةً ... علي كدت أسب النجم والفلكا
__________
(1) علق ناسخ ط هنا بقوله: انظر هذا الخنا البشيع، فسبحان من قدر علي بكتبه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
(2) ط د: أبيات.
(3) ط: الحرج.(4/846)
وقال أيضاً في مثله (1) :
لولا الخراج خرجت عنه ولم تكن ... نوب الزمان خواطراً بخواطري
قالوا الخراج فقلت ضموا خاءه ... فهو الخراج على سواد الناظر وقال من قصيدة (2) :
سافر فإن الفتى من بات مفتتحاً ... قفل النجاح بمفتاح من السفر
ولا يذودنك عن وجه تصعبه ... قد ينبع الكوثر السلسال من حجر
(3) تنمر الدهر لي حتى مرقت له ... من قسوري الدجى في فروة النمر
لابد أن يقع المطلوب في شركي ... ولو بنى وكره (4) في دارة القمر
قاضي الجماعة في دار الإمارة لي ... قاض على الدهر إن لم يقض لي وطري
فلست أنشد والقاضي بقرطبة ... يسر بالعدل والأحكام والسير
" جار الزمان علينا في تصرفه ... وأي دهرٍ على الأحرار لم يجر "
ولا أقول وعندي من تهممه ... ما يطرد الهم عن نفسي وعن فكري
" عندي من الدهر ما لو أن أيسره ... يلقى على الفلك الدوار لم يدر "
أصغرت من زمني ما كنت أكبره ... لما نظرت إلى آياته الكبر وفيها:
وهاك بكراً تريك الحسن في قحةٍ ... إذا تجلت وحسن البكر في الخفر
__________
(1) لم يرد البيتان في س.
(2) منها أربعة أبيات في كل من القلائد والخريدة.
(3) الخريدة والقلائد: الدهر حتى ما فرقت له.
(4) الخريدة والقلائد: داره.(4/847)
لها بذكرك أنفاس معطرة ... كما تنفست الأزهار في السحر
طالع بغرتك الميمون طائرها ... نواظراً بك في أمن من الطير
ولا تدعني في كف الزمان سدىً ... كالقوس عطلها الرامي من الوتر
وقد تلين الليالي بعد قسوتها ... ويسمح الورد بعد الشوك بالزهر
لم ألق في الورد إلا ما أنست به ... وأنت لي وزر من وحشة الصدر قوله: " ولو بنى في داره القمر " من قول المعري (1) :
ولو أنني في هالة البدر قاعد ... لما هاب يومي رفعتي وجلالي وأظن أبا ذؤيب افتتحه بقوله (2) :
ولو أنني استودعته الشمس لارتقت ... إليه (3) المنايا عينها أو رسولها وقال: [157أ]
جزى الله إخواني (4) جميلاً فإنني ... وجدتهم لي عدةٍ في الشدائد
هم وصلوا كفي فكانوا سواعداً ... ولا خير في أيد بغير سواعد
أقلدهم حر الثناء فإنهم ... بجيد المعالي واسطات القلائد
أبا بكر الأولى بحمدي وبالمنى ... نثرت على الأحرار در المحامد
أهز حساماً من لسانك إن سطت ... مضاربه ذات رقاب الشدائد
__________
(1) شروح السقط: 1210.
(2) ديوان الهذليين 1: 174.
(3) ط د: استودعتها ... إليها.
(4) س: جميعاً.(4/848)
عسى أملي يحظى بإدراك سؤله ... فتثمر بالإنجاز أيك المواعد وله:
لم أكسهم مدحي إلا لأكسوهم ... من سروهم سنة الأحجال والغرر
ولم أزدهم بها فضلاً وهل أحد ... في وسعه رفع قدر الشمس والقمر
من كل من يده يمضي بها قدماً ... باع طويل وباع السيف ذو قصر
بحر وصارمه الدامي براحته ... نهر على ضفتيه يانع الثمر ومعنى هذا البيت كثير، ومنه قول المعري (1) :
روض المنايا على أن الدماء به ... (2) وإن تخالفن أبدال من الزهر وقوله: " ولم أزدهم بها فضلاً "، من السرق الواضح، والاهتدام الفاضح، وهو قول أبي الطيب (3) :
من كان فوق محل الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع وقال أبو محمد من قصيدة:
شاورت في سيري إليه عزيمةً ... قرنت بسعي لا يخيب نجيح
لم أدر حين علوت متن براقه ... أعلى البراق نزوت (4) أم في اللوح (5)
__________
(1) شروح السقط: 158.
(2) وصف السيف بأنه روض المنايا، والدماء المختلفة فيه أنواع من الزهر.
(3) ديوان المتنبي: 306.
(4) ط د: تروت.
(5) سقط البيت من س.(4/849)
ومنها:
يجتاب أردية العجاج ونحته ... أشلاء ذمرٍ أو صفيح ضريح
شيحان لم يعرف دريس قميصه ... عرف الكباء سوى دخان الشيح
وأنا الذي أخفيت جهد خصاصتي ... من بعد ما ارتشفت بلالة روحي
حتى بدا ماء الندى مترقرقاً ... في صفحتي طلق اليدين صفوح
وأجلت منه نواظري في غرة ... تستنطق الأفواه بالتسبيح
قاضي القضاة المجتبى من معشرٍ ... كسي المديح بهم حلي مديح
ممن ترف له عليك جوانح ... فيها صحيح مودةٍ وجنوح
كم قلت إذ قالوا زمان قابض ... منه الكريم على عنان جموح
إن طاف من حدثانه الطوفان بي ... فمكارم القاضي سفينة نوح وله فيه من أخرى (1) :
الله أكبر قد رافيت قرطبةً ... دار العلوم وكرسي السلاطين (2) [157ب]
وقد تهلل بي وجه النجاح بها ... طلق الأسرة من وجه ابن حمدين
تزهو العلا بمساعيه إذا ذكرت ... زهو الأنوف بأنفاس الرياحين
لم يرضه عرض الدنيا فجاد به ... وضن بالأكرمين: العرض والدين
__________
(1) فيه من أخرى: سقطت من ط د.
(2) ورد هذا البيت في النفح 3: 26.(4/850)
انتهى السفر الثاني من الذخيرة والحمد لله حق حمده وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد المصطفى الكريم، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
وكان الفراغ منه عام خمسة بعد ألف في زوال يوم الأربعاء الرابع والعشرون [كذا] من ذي القعدة، عرفنا الله خيره، ووقانا ضيره، بمنه ويمنه.(4/851)
فراغ(4/852)
تذييل واستدراكات(4/853)
فراغ(4/854)
تذييل
حين كان هذا القسم يكاد يشارف النهاية في المطبعة، وصلتني صورتان عن نسختين منه (1) وإليك وصفاً موجزاً لكل منها:
(1) نسخة الخزانة الملكية بالرباط (رقم: 7753) ورمزها (ك) ، وهي تشمل القسم الثاني كله، وتضم 215 ورقة، وفي كل صفحة من صفحاتها 23 سطراً، ومعدل الكلمات 13 كلمة في السطر الواحد؛ مكتوبة بخط مغربي حديث، وفي بعض سطورها تحشيات بخط أحدث، وفي أوراقها اضطراب، وفيها خرم ضاعت بسببه بضع صفحات.
ويمكن أن تعد هذه النسخة دون تردد من فئة (ط) ولهذا نجدها تطابق (ط د) بوجه عام وربما انفردت بزيادات قليلة (وخاصة في إحدى قصائد ابن عمار وفي بعض أبيات للمعتمد) ، وهي لا تشذ عن (ط د) في القراءات حيث تكون هاتان متطابقتين، وتنفرد بعد ذلك بقراءات بعضها مرجح على ما عداه، ولهذا أثبته في الاستدراكات التالية، وبعضها مرجوح ولذلك أرجأته إلى جزء أخصصه للتعليقات العامة على جميع أقسام الذخيرة (وهو فيما أقدر سيكون جزءاً تاسعاً، إذا وقفني الله إلى إنجازه) ، وهذا القسم المرجوح هو الذي تنفرد به (ك) عن أختيها (ط د) ، فأما ما تتفق فيه معهما فلا أرى داعياً لإثباته.
(2) نسخة المكتبة البودليانية باكسفورد (1: 749) ورمزها (ل) ، وهي أصل
__________
(1) تلطف الصديق الدكتور عدنان البخيت، الأستاذ بالجامعة الأردنية، فأرسل إليّ ميكروفيلم عن نسخة الخزانة الملكية رقم 7753 كما تلطف الابن العزيز الأستاذ رمزي بعلبكي فأرسل إليّ ميكروفيلم عن نسخة المكتبة البودليانية باكسفورد، فإلى الصديقين، جزيل الشكر وأوفاه.(4/855)
النسخة (س - الباريسية) ولذلك تقع في فئة النسختين (م س) ، إلا أنها أكمل من (م) لأن هذه الأخيرة تقف عند جانب من ترجمة ابن عبدون، وأصح كثيراً من (س) التي تشاكرها في الأخطاء الأصلية وتضيف كثيراً من الأخطاء الجديدة. ولما كانت كذلك فإنها تتمتع بما في النسختين من زيادات أشرت إليها في الحواشي؛ وربما كان خطها المغربي الدقيق الجميل يشير إلى أنها من أقدم ما لدينا من نسخ الذخيرة. إلا أنها لا تحمل تاريخاً للنسخ. وتقع في 230 ورقة وفي الصفحة الواحدة من صفحاتها 25 سطراً، ومعدل الكلمات في السطر الواحد 12 كلمة، وتحفل بعنوانات للفصول والفقرات مكتوبة بخط كبير.
وقد اعتمدت بعض قراءاتها الضرورية لقارئ هذا القسم وأدرجتها في الاستدراكات التالية محتفظاً بالمقارنة الشاملة للجزء الخاص بالتعليقات العامة.
مما تقدم يتضح أن هاتين النسخيتن لوقوعهما في فئتي المخطوطات التي اعتمدتها منذ البداية لم ينتشلا هذا القسم من الذخيرة مما يشكوه من نقص متصل بترجمة البكري وترجمة ابن حجاج (التي لا وجود لها في المخطوطات المتوفرة لدي) - كما وضحت في مقدمة هذا القسم - ولكنهما قدمتا بعض الفائدة في ترجيح بعض القراءات على البعض الآخر.
استدراكات (1)
74 - حاشية رقم: 1 البيتان المشار اليهما لا يردان في هذا القسم، فالقول بورودهما وهم.
274: - 8 - 9 أن غماءهم لا تنفرج، وظلماءهم لا تنجلي ولا تتبلج (كما قدرت ف الحاشية: 4)
__________
(1) ميزت ما اعتمدت فيه على النسخة (ل) بإثبات هذا الحرف إلى جانب القراءة المرجحة، ومعنى ذلك أن كل ما لم يرفق به رمز فإنه مستمد من (ك) ، والرقم الأول يشير إلى الصفحة والثاني إلى السطر.(4/856)
286 - 11 ومجلي دياجير الظلم والظللم
290: - 3 وتعطلت أجياد الأنوار
301: - 15 من مختتم الكتاب
329: - 4 فكيف تزل (لعلها: تنزل) لي عن صهوة الابتداء
339: - 9 أن يشد على علق مضنة منه يده
348: - زاد في (ك) بعد السطر: 13:
كلام لو أن البقل أدلى بمثله ... رمى البقل واخضر العضاه المصيف 350: 12 وابذل لها (احذف كلمة: بها)
354: - 9 وأعرب عن نحيزته وانتسب
371: - 10 - 11 وبعد انتباذه من منازلة شلب
377: - 2 أما معاني أول هذه القصيدة (كما في النسخة: د)
409: - زاد في (ك) بعد السطر: 6 " وقد رأيت البيت الأول منهما على قافية أخرى:
أسأت إليّ فاستوحشت مني ... ولو أحسنت أنسك الجميل 457: 5 من حف أظآر العلا في معشر
484: - 17 يا تربة استبقي سناه ويا بلى
489: - 8 وألفاظ التأبين مبنية على كثرة التفجيع
682: - 20 - 21 الشمائل الواعدة الصادقة
732: - 19 إذا شهدوا القتال (ل كما في الديوان)
733: - 3 إذا التقت الرياح (ل كما في الديوان)
745: - 3 أحال بالدين والدنيا على الخير (ل)(4/857)
746 - زاد في (ل) بعد السطر: 19 البيت التالي:
أجللتها فاستبانت نصف دائرة ... لو كلفت شأوها الأفلاك لم تسر 748: 4 غير نفس حرة زاحمت به (ل)
749: - 5 أهلوا بمنهل من الغيث (ل)
755: - 14 ويعيد بعض الريش إلى جناحي
758: - 9 أملك أبا الحسين (كما قدرت في الحاشية رقم: 3)
873: - 8 فسبيل ما وردني به الآن
794: - 3 اقرأ: " وإن كان [ابن المعتز] قد تقدم في تقسيم التشبيه.... " والبيت التالي في غرائب التشبيهات: 36 لابن المعتز، وينسب أيضاً للصنوبري، انظر ديوانه: 487.(4/858)
مقدمة المحقق
جرى تحقيق هذا القسم من الذخيرة على فئتين من المخطوطات، الفئة الأولى تضم مخطوطتين وهما:
(1) مخطوطة الزاوية الحمزية بالخزانة العامة بالرباط (ورمزها: م) وتقع في 568 صفحة، ولكن نص الذخيرة ينتهي فيها إلى الصفحة 506 (الورقة 203/أ) فقد جاء في هذه الصفحة: " ها هنا انتهى ما أثبته ابن بسام رحمه الله في القسم الثالث من كتاب الذخيرة " وعلى الحاشية إزاء هذه الخاتمة كتب: " الحمد لله: هذه الأوراق - من أبي بكر بن الدوس إلى ترجمة أبي بكر رحيم من كتاب مطمح الأنفس في ذكر علماء الأندلس للوزير الكاتب أبي النصر الفتح بن خاقان مؤلف قلائد العقيان ". وعند مقارنة هذه الصفحات (506 - 568) بالمطمح المطبوع تتضح فروق واسعة بينهما، فلعل هذه الورقات هي إحدى صور المطمح في نسخته الكبرى أو الوسطى.
ويحتوي الجزء الخاص بالذخيرة من هذه النسخة كل القسم الثالث دون نقص؛ والنسخة بخط مغربي جيد، وفي كل صفحة 23 سطرا ومتوسط عدد الكلمات في السطر الواحدة 12 كلمة، والضبط على وجه العموم حسن، والأوهام قليلة، ولهذا ولكمال النسخة أشرت إلى صفحاتها في هذا التحقيق.
(2) نسخة (رمزها: ب) كانت في ملك الأستاذ ليفي بروفنسال وهي في 234 ورقة، وفيها نقص في أولها وآخرها، وقد لحقت بها آثار(5/1)
أرضة وبياض وطمس. وتشمل كل صفحة من صفحاتها على 33 سطرا ومعدل الكلمات في السطر الواحد 20 كلمة، وخطها مغربي دقيق، إلا أن غلبة العيوب التي أشرت إليها تجعل إقامة نص سليم منها أمرا صعبا. غير أنها تشبه النسخة (م) من جميع النواحي، وكلتاهما ترجع - فيما أقدر - إلى أصل واحد.
وتضم الفئة الثانية من مخطوطات هذا الجزء ثلاث نسخ وهي:
(3) نسخة الخزانة العامة بالرباط رقم: 1324 (ورمزها: ط) وتقع في 191 ورقة ويبدأ النص فيها ناقصا على الصفحة الثانية من الورقة الثانية، وقد تملكها شخص بمدينة فاس لقاء تسع عشرة أوقية سنة 1204، وهي بخط مغربي جميل واضح، فرغ ناسخها أحمد بن الحاج علي بن الحاج أبي القاسم بن محمد بن سودة الأندلسي من نسخها سنة 1003، وفي كل صفحة من صفحاتها 25 سطرا، ومعدل الكلمات في السطر الواحد 12 كلمة؛ وتعد على وجه الإجمال جيدة الضبط.
(4) نسخة المجمع التاريخي بمدريد - جيانجوس (ورمزها: س) وهي في 157 ورقة تمثل القسم الثالث من الذخيرة كاملا، وفي كل صفحة 28 سطرا، ومعدل الكلمات في السطر الواحد 11 كلمة، مكتوبة بخط مغربي دقيق، قريب الشبه بخط النسخة (ط) .
(5) النسخة البغدادية (ورمزها: د) وهي في 291 صفحة، في الصفحة الواحدة 29 سطرا، ومعدل الكلمات في السطر 10 كلمات، وخطها مشرقي نسخي حديث، وقد تم نسخها مساء نهار الاثنين 21 ربيع الثاني سنة 1325 هـ. على يد عبد اللطيف آل ثنيان عن نسخة قديمة " مغلطة " فيها بياض كثير بخط مغربي " شكس " - كما يقول الناسخ. ولعلها نسخت عن إحدى النسختين السابقتين، أو عن نسخة تلتقي وإياهما(5/2)
في الانتماء إلى أصل مشترك. فهذه النسخ الثلاث لا يقوم بينها من الفروق إلا ما ينشأ عن وهم أحد النساخ دون الآخر، أو عن محاولة ناسخ (د) أن يصحح بعض ما وجده من خطأ بمراجعة النص على الأصول. على أن النسخة الأخيرة أكثر الثلاث أخطاء - رغم وحدة المنتمى - لصعوبة الخط المغربي لدى ناسخها المشرقي.
وبين هاتين الفئتين من المخطوطات فروق هامة أصيلة منها:
(1) أن سياق النص في الفئة الأولى يختلف أحيانا اختلافا جذريا عن سياقه في الفئة الثانية، حتى ليشبه أن يكون تلخيصا واختصارا لما جاء في الأولى.
(2) كل فئة تتضمن زيادات لا تتوفر في الفئة الأخرى، ولكن الزيادات في الفئة الأولى أكثر وأغرز، ولهذا السبب اعتبرت نص الفئة الأولى أساسا فلم أشر إلى الزيادات إلا في الصفحات الأولى من الكتاب على سبيل التمثيل، أما الزيادات المستمدة من نسخ الفئة الثانية فقد وضعتها دائما بين معقفين.
(3) في بعض زيادات الفئة الأولى أمر غريب يستوقف النظر، وذلك هو دخول نص قلائد العقيان ضمن نص الذخيرة، وقد نبهت إلى ذلك بأن جعلت ما ينتمي إلى القلائد - على نحو حاسم - مطبوعا بحرف أصغر في المتن، وليس في نسخ الفئة الثانية مثل هذه الزيادات.
هذا ويطيب لي في هذا المقام أن أتقدم بالشكر الجزيل لصديقي وأخي الدكتور محمود مكي علامة الدراسات الأندلسية فهو الذي أمدني بالنسختين (م) و (س) مكبرتين، وشجعني على هذا العمل، وآثرني على نفسه إذ كان بحاجة إلى نسخة الذخيرة في دراساته وبحوثه، فجزاه الله عني خير الجزاء. وإذا ذكرت أهل الفضل فلن أنسى الصديقين: الدكتور عفيف(5/3)
عبد الرحمن المدرس بمعهد المعلمين بالكويت، والأستاذ محمد رشاد عبد المطلب بمعهد المخطوطات التابع للجامعة العربية فكلاهما لم يضن على هذا العمل بما يكفل إنجازه، أما الأول فقد صور لي المخطوطات المحفوظة بالمكتبة العامة بالرباط من نسخ الذخيرة، أما الثاني فقد تكرم فأ {سل إلي صور " ميكروفيلم " عن كل ما يحتفظ به المعهد من مخطوطات الذخيرة، فلهذين الصديقين أيضا شكري الجزيل.
وإني لأرجو أن يتاح لي تقديم الأقسام الأخرى من الذخيرة محققة، فقد طال العهد والذخيرة تستدعي التحقيق ليفيد منها الدارسون، معتمدا في ذلك كله على عون الله وتوفيقه.
بيروت في حزيران (يونيه) 1974 إحسان عباس(5/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على مولانا محمد وآله وسلم
ذكر الجانب الشرقي من جزيرة الأندلس
وتسمية من نجم في أفقه من كواكب العصر
وبرز في ميادينه من فرسان النظم والنثر من
أول المدة المؤرخة صدر هذا الكتاب إلى وقتها
الذي هو سنة اثنين وخمسمائة حسبما شرطنا،
واجتلاب غرر وسائلهم وأشعارهم، وما
اتصل بذلك من نوادرهم وأخبارهم.
قال أبو الحسن ابن بسام: ولما إدارات تلك الفتنة رحاها، على حضرة قرطبة وما والاها - إذ كانت على ما قدمنا ذكره منتهى الغاية، ومركز الراية - فقلصت أذيالها، وانتسفت جبالها، واشتفت الماء من عودها، وألوت بمعظم طارفها وتليدها، شذ قوم من أهلها على حال لو رآها ابن جبير لقال بالتقية، وبين يدي قتال لو أحاط ببني دبيان ليئسوا من البقية، بأذماء أنفس قد نازعهم الموت أرماقها، وبقايا أحوال قد هتكت النوائب أستارها وأوراقها، فأصبحوا طرائد سيوف، وجلاء حتوف(5/9)
قد خلعتم لين العيش على خشنه، وأسلمتم غفلات الزمان إلى محنه، يلوذون بآفاق هذه المنكوبة، لواذ الماء بأقطار الزجاجة المصبوبة، فكانوا كما وصف الملك الضليل حيث يقول:
فريقان منهم جازع بطن نخلة وآخر منهم قاطع نجد كبكب
لا بل كما قال صاحبهم القسطلي أبو عمر يضجر من حاله، ويحار من أدباره بين تلك الفتنة وإقباله، ويصف ما حل به وانجلى عن أهله وأطفاله، في قصيدة فريدة [1ب] مدح بها خيران الصقلبي فقال:
تقسمهن السيف والحيف والبلى وشطت بنا عنها عصور وأزمان
كما اقتسمت أخذانهن يد النوى فهم للردى والبر والبحر إخوان
إذا شرق الحادي بهم غربت بنا نوى يومها يومان والحين أحيان
وكان القسطلي - حسبما قدمنا هذا الديوان - من فتنة ذلك الزمان بمنشأ ليلها، وعلى مدرج سيلها، فأوثقته في حبالها، وعركته عرك الرحى بثفالها، ولم يزل يتقلب بين أطباقها، ويترشف أسار ثمادها وأزناقها، فكم له من وفادة أخزى من وفادى البرجمي، ووسيلة أضيع من المصحف(5/10)
في بيت الزنديق الأمي، بقصائد لو مدح بها الزمان لما جار، أو رواها الزبرقان لأمن السرار، ورسائل أعذب من ماء الثغور، وأعجب من الدر بين الترائب والنحور، يتخللها بشكوى أحر من الجمر، وعذر في البكاء أوضح من الفجر، لو وجدت شفرة عتابه محزا، أو صادفت ريح عتابه عطفا مهتزا، لا بل كما قال عمرو بن معديكرب:
لقد ناديت لو أسمعت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
أو كما قال أبو عبادة:
أهز بالشعر أقواما ذوي وسن لو أنهم ضربوا بالسوط ما شعروا
كقوله في مبارك ومظفر، غلامين فدمين، كانا يومئذ ببلنسية أميرين، من قصيدة يقول فيها:
فكم جزت من بحر إلي ومهمه يكاد ينسي المستهام ادكارك
أذوا الحظ من علم الكتاب هداك لي أم الفلك الدوار نحوي أدراك
وكيف رضيت الليل ملبس طارق وما ذر قرن الشمس إلا استنارك
وكم دون رحلي من بروج مشيدة تحرم من قرب المزار، مزارك(5/11)
وأرضي سيول من خيول مظفر وليلي نجوم من رماح مبارك
وممن كان أيضا مدح صاحب دانية يومئذ، الفتح بن أفلح، بقصيدة وصف فيها مشقة رحلته، وتقلقله لمحنته على عادته، فمنها قوله: [2أ]
غراب مما أغرب الدهر أطلعت عليك هلال العلم من أفق الغرب
طوت فلوات الأرض نحوك وانطوت كبدر إلى محف، وشهر إلى عقب
كؤوسا تساقتها الليالي تنادما فجاءتك كالأقداح ردت على الشرب
تعاورهن البر والبحر مثلما ترد بأيدي الرسل أجوبة الكتب
يكتبن صفحات السعود نواظرا وينفضن من أقلامهن على القلب
ويقضمن أطراف الهشيم تبلغا إلى الروضة الغناء في المشرب العذب
ويفحصن في رضف الحصى بمناسم تهيم إلى حصبا من اللؤلؤ الرطب
فتلقي جميعا في الصخور كلاكلا تنوء لأرض المسك زهوا على الترب
ولاح لها البرق الذي أغدق الثرى فهن إليه موفضات إلى نصب
فأي رجاء قاد رحلي إليكم وقد أضعفتني مثل راغبة السقب
بعيد من الأوطان مستشعر العدا غريب على الأمواه متهم الصحب
أقل من الرئبال في الأرض آلفا وأن كان لحمي للحسود وللخب(5/12)
وأعظم تأنيسا لدهري من المنى وأوحش فيهم من فتى الجب في الجب
فلله من عزم إليك استقادني فأفرط في بعد وفرط في قرب
حياء من الحال التي أنا عالم بها كيف عاثت في سناها يد الخطب
وتسويف يوم بعد يوم تخوفا لعلي لا ألقاك منشرح القلب
وشحا بباقي ماء وجه بذلته لعلي أقضي قبل إنفاذه نحبي
وتأخير رجل بعد تقديم أختها حذارا لدهر لا يغمض عن حربي
فكان في إهدائه الكلام، إلى أولئك العبيد اللئام، كمن يهدي الهنم إلى الصنم، ويجعل الخمار على وجه الحمار.
ولمبارك ومظفر اللذين ذكرا ونظرائهما من أولئك العبدى أخبار سارت بها الركائب، وأحاديث تحدثت بها المشارق والمغارب، وقد أثبت في هذا المكان، بعض ما وجدت منها لأبي مروان بن حيان، حسبما شرطت، وعلى حكم ما بسطت [2ب] .
جملة أخبار ونوادر، ممن ثار بهذا القطر يومئذ من فتيان ابن أبي عامر، ممن وصف القسطلي بعض أمره، وتعلق شرط الكتاب بطرف من ذكره.
قال أبو الحسن بن بسام: وأبدأ أنا فأقول: كانوا عبدان محنة(5/13)
وجنان فتنة، قل الناس فأمروا، وخلا لهم الجو فباضوا وصفروا، وغاظوا الجماعة بقرطبة مدة أيامهم، ودرسوا أحساب الأحرار بأقدامهم، مستمتعين بدنياهم، غافلين عن عادة الله في من جرى مجراهم، فربما سقطت الفتنة عليهم بزعماء الأنام، وزفت إليهم عقائل الكلام، فيعكفون منهم على رسوم ديار، وأصداء قفار، سواء عندهم سجع البلبل ورغاء الإبل، وسيمر في عرض القصص جملة من غرائب ضياع الأدب، في مدة أولئك المجابيب الصقلب، مما فيه عظة لمن اعتبر، وكان له نظر فنظر، وبصيرة فتدبر.
رجع الحديث إلى سياقة نص ابن حيان:
قال أبو مروان: فمن غرائب هذه [الليالي و] الأيام، اللاعبة بالأنام، أن مباركا ومظفرا المذكورين كانا وليا أولا وكالة الساقية ببلد بلنسية، ثم اتفق أن صرفا عنها فدخلا على الوزير عبد الرحمن بن يسار أيام خدمته بها سنة إحدى وأربعمائة، وقد دعيا للحساب، فكلماه ومسحا أعطافه، ولثما أطرافه، فكتب لهما بما نفعهما، وكان سببا لردهما(5/14)
إلى عملهما، وعند خروجهما بالكتاب يومئذ لابن يسار بهما، كان مدلا عليه، يسألهما بره وجزاءه على ما تهيأ لهما عند مولاه، فخلع لجام مبارك عن رأس فرسه وقد كان ركبه، فخره فضيحة لا يقدر على حركة، ثم بعد لأي ما رده؛ فلم تمض إلا مديدة وضرب الدهر ضربانه، فقضى لمبارك بالإمارة هنالك، ونالت ابن يسار الوزير المذكور محنة قرطبة بعد ذلك، فجال النواحي، وأم مباركا هذا لا يشك في معرفته بمنزلته، وحرصه على مبرته، فحل بلنسية، فو الله ما أنصفه في اللقاء فضلا عن القرى.
ثم بلغ من سياسة هذين العبدين الفدمين، مبارك ومظفر، في مدة إمارتهما إلى أن تقارضا من صحة الألفة فيها طول حياتهما بما فاتا في معناهما أشقاء الأخوة وعشاق [3أ] الأحبة: فنزلا يومئذ معا في سلطانهما قصر الإمارة مختلطين، يجمعهما في أكثر أوقاتهما مائدة واحدة، ولا يتميز أحدهما عن الآخر في عظيم ما يستعملانه من كسوة وحلية وفراش ومركوب وآلة، ولا ينفردان إلا في الحرم خاصة. على أن جماعة حرمهما كن مختلطات في منازل القصر، ومستويات في سائر الأمر، مع أن لمبارك كان التقدم في المخاطبة هنالك في حقيقة رسوم الإمارة، لفضل صرامة ونكراء كانتا فيه، يقصر فيهما لدماثة خلقه وانحطاطه لصاحبه في سائر أمره، ورضاه بكل فعله، على زيادة مظفر - زعموا - عليه ببعض كتابة ساذجة وفروسية. وبلغت جبايتهما لأول أيامهما إلى مائة وعشرون ألف دينار في الشهر: سبعون ببلنسية وخمسون بشاطبة، فيستخرجونها بأشد العنف من(5/15)
كل صنف، حتى تساقطت الرعية وجلت أولا فأولا، وخرجت أقاليمهم آخرا، فأقبلت الدنيا يومئذ عليهما وعلى نظرائهما بكثرة الخراج، وتبوءوا البحبوحة بحيث لا يغادرون عدوا، ولا تطرقهم نائبة تضمهم لها نفقة حادثة، فانتعشوا وكثروا، ولحق بهم، لأول أمرهم، من موالي المسلمين ومن أجناس الصقلب والافرنجة والبشكنس عشيرتهم، ودربوا على الركوب، حتى تلاحق ببلنسية [ونواحيها] جماعة من هؤلاء الأصناف، فوارس برزوا في البسالة والثقاف، وانفتح على المسلمين [ببلد الأندلس] باب شديد في إباقة العبيد، إذ نزع إليهم كل شريد طريد، وكل عاق مشاق، وزهدوا في الأحرار وأبنائهم ممن طرأ منهم عليهم، فلم يواسوهم؛ وانتمت جماعة هذه الأخلاط الممتهنة الأصاغر معهم إلى ولاء بني عامر، وانتفت عن نسبها ابتغاء عرض الدنيا، فكثروا وازدادوا؛ وطلبت هذه العبدى المجابيب لما اتسعت لهم الدنيا فاخر الأسلحة والآلات، والخيل المقربات، ونفائس الحلي والحلل، فصارت دولتهم لأول وقتها أسرى الدول، ولحق بهم كل عريف، ورئيس كل صناعة معروف، فنفق سوق المتاع لديهم، وجلبت كل ذخيرة إليهم.
وشرع هذان الرئيسان مظفر ومبارك، لأول سلطانهما هنالك، في بناء بلنسية وتحصينها وسد عورتها بسور أحاط بالمدينة، تحت أبواب(5/16)
حصينة، فارتفع الطمع عنها وأقبل الناس إليها من كل قطر بالأموال، وطمحت بسكانها الآمال [3ب] واستوطنها جملة من جالية قرطبة القلقة الاستقرار، فألقوا بها عصا التسيار، وأجمل عشرتهم، فبنوا بها المنازل والقصور، واتخذوا البساتين الزاهرة، والرياضات الناضرة، وأجروا خلالها المياه المتدفقة. وسلك مبارك ومظفر سبيل الملوك الجبارين في إشادة البناء والقصور، والتناهي في عليات الأمور، إلى أبعد الغايات، ومنتهى النهايات، بما أبقيا شأنهما حديثا لمن بعدهما. واشتمل هذا الرأي ايضا على جميع أصحابهما، ومن تعلق بهما من وزرائهما وكتابهما، فاحتذوا فعلهما في تفخيم البناء، فهاموا منه في ترهات مضلة، وتسكعوا في أشغال متصلة، لاهين عما كان يومئذ فيه الأمة، كأنهم من الله على عهد لا يخلفه، واتسع الحدس في عظم ذلك الإنفاق، فمنهم من قدرت نفقته على منزله مائة ألف دينار وأقل منها وفوقها، حسب تناهيهم في سروها: من نضار الخشب ورفيع العمد ونفيس المرمر، مجلوبا من مظانه، وجلب إليهم سني الفرش من سائر الحلي والحلل، فنفق سوق المتاع بعقوتهم، وبعثر عن ذخائر الأملاك لقصرهم، وضرب تجارها أوجه الركاب نحوهم، حتى بلغوا من ذلك البغية وفوق ملء فؤاد الأمنية، فما شئت من طرف رائع، ومركب ثقيل، وملبس رفيع جليل، وخادم(5/17)
نبيل، وآلات متشاكلة، وأمور متقابلة، تروق الناظرين، وتغيظ الحاسدين، حرسها لهم المقدار إلى مدة.
بلغني أنه دخل دار رجل من أصحابهما يعرف بمؤمل القشالي ووقع البصر بها من سروها واكتمال النعمة فيها على ما لم يشاهد مثله قط في قصر الإمارة بالحضرة العظمى قرطبة، وأخبر المحدث أنه رأى في فرش مجلسه مطارح من صلب الفنك الرفيع مطرزة كما تدور بسقلاطوني بغدادي، وانه كان يقابل ذلك المجلس شكل ناعورة مصوغة من خالص اللجين من أغرب صنعة، يحركها ماء جدول يخترق الدار أبدع حركة، إلى أشياء تطابق هذا السرو: من جودة الآلة والآنية والمائدة وجمال الخدم ورقة الأسمعة وفخامة الهيئة ما لا شيء فوقها.
وكان لمبارك ومظفر جملة ذلك النعيم، وفازا بقبض الخراج، ولم يعرضهما عارض إنفاق بتلك الآفاق، فانغمسا في النعيم إلى قمم رءوسهما [4أ] وأخلدا إلى الدعة وسارعا في قضاء اللذة، حتى أربيا على من تقدم وتأخر؛ حدثني من رأى ركوب هذين العبدين الزلمتين في بعض أيام الجمع للمسجد ببلنسية بما أنسى مركب المظفر عبد الملك ابن [أبي] عامر مولاهما المتبنك - كان - للنعماء، الوارث لحجابة الخلافة، في فخر(5/18)
لباسهما ووفور عدد أصحابهما وحسن خدمتهم لهما، وأن كلا منهما كان يظاهر الوشي على الخز، ويستشعر الدبيقي، ويتقلس الوشي، ويتعطف القسي.
قال ابن حيان، قال لي المحدث: وكنت أعرفهما عبدي غية لمولاهما مفرج العامري، فكانا حظي من الاعتبار بالدنيا، إذ كانا على استخدامهما لها من الجهل والأفن واللكنة من حجج الله تعالى في القسم البالغة الدالة على هوانها عنده، إذ أنالها منها بحبوحة أضحت أبصار [أولي] النهى نحوها شاخصة، وقلوبهم مسلمة لمن له الحول والقوة، وهما عن الاعتبار عنها بمنجاة من مندوحة الجهالة، يحسبان أنهما نالا ذلك بالاستحقاق، وأن لهما على الأيام دركا، يحثتن على ذلك سوق الرعية المضطهدة بسلطانهما، ولا يعبآن بما آدها من كلفهما، ولا يرفقان لمجهود ما بلغ من عنفهما، يقلدانهم شرار العمال، ويستزيدان عليهم في الوظائف الثقال، مع الأيام والليال، حتى لغدا كثير منهم يلبسون الجلود والحصر، ويأكلون البقل والحشيش، وربما أبر ذلك على القوم بعد القوم منهم فلا يقاومونه إلا بالجلاء عن مثواهم، والتخلي عن قراهم، فلا يأسف هذان العلجان ومن تلاهما، ولا يخافان من مواقعة مثله لمن أقام بعدهم، بل يتخذان ما جلا أهله من تلك القرى ضياعا مستخلصة، فإذا وقع عليها اسم كبير منهم(5/19)
راجعها أعلها راضين منه بالاعتمال له بالسهمان، راجين في دفاعه من الحدثان، على هذه السبيل سلك اكثر الثوار المنتزين على أكنافها، الثائرين بأطرافها، بعد افتراق سلطان الجماعة بقرطبة آخر دولة بني عامر.
وكان موت مبارك هذا هنالك أنه ركب يوما من قصر بلنسية يبتغي الخروج للنزهة خارج البلد على فرس ورد مطهم قلق الركاب، وأهل بلنسية قد ضجروا لمال افترضه عليهم، فقال لهم يومئذ هذا العلج مبارك: اللهم أن كنت لا أريد إنفاقه فيما يعم المسلمين نفعه فلا تؤخر عقوبتي يومي هذا؛ وركب إثر ذلك [4ب] فلما أتى القنطرة، وكانت يومئذ من خشب، خرجت رجل فرسه من حدها فرمى به أسفلها، واعترضته خشبة نابية من القنطرة شدخت وجهه، وسقط لفيه ويديه، وسقط الفرس عليه، وكسر أعضاءه وفتق بطنه، ففاضت نفسه لوقته، وأمن أهل البلد من مقته، وكفاهم الله أمره، فثاروا يومهم ذلك وانهبوا قصره.
ثم اتفقوا على تأمير لبيب الصقلبي، فأحدث أيضا فيهم أحداثا مقتوه بها، فلاذ بالطاغية ريمنده أمير الفرنجة ببرشلونة يومئذ، واستبلغ في الطافه حتى صير نفسه كبعض عماله، فغاظ المسلمين وعرضهم لملك النصرانية، فوثب أهل طرطوشة على لبيب وقضوا عليه، واستصرخوا ابن هود(5/20)
فلحق بهم؛ وأظلم الأفق بينه وبين مجاهد لما فاته من أمر طرطوشة، وجرت بينهما حروب خاف الناس وبال عاقبتها على ثغور مثغورة خلال كلمة مختلفة، وقوى منتكثة، ثم آلت حال تلك الناحية إلى تأثير عبد العزيز ابن أبي عامر، حسبما نذكره في موضعه أن شاء الله.
انتهى ما لخطته من كلام ابن حيان، في أخبار أولئك الفتيان.
قال أبو الحسن: على أن أكثر من لفظته يومئذ تلك الفتنة القرطبية، من الطبقة الأدبية، فأفلت من شركها، ونجا من دركها، قوم لم تكن لهم بيوت مشهورة، ولا حظوظ من الأدب موفورة، ولكنهم وجدوا ملوكا أغمارا، لا يعرفون إلا سرى الليل، ومتون الخيل، أسود شعاب، وأساود لصاب، قد ضروا على الدماء، وترأسوا على الدهماء، خالعين لسليمان، المتقدم ذكره صدر هذا الديوان، معارضة للطاعة، واستعراضا للجماعة، متمسكين من طاعة هشام الخليفة، كان قبله حسبما وصفنا، بحبل قد انتكث طرفاه، بغاء لتتميم آمالهم، وحطبا في حبالهم:
لأمر عليهم أن تتم صدوره وليس عليهم أن تتم عواقبه
واحتاجوا في جباية أموالهم، وتدبير رجالهم، إلى ذلك الفل من(5/21)
الكتاب القرطبيين الذين أصبحوا يومئذ أيدي سبا وتفاريق العصا، فشاركوهم في نعمتهم، وألقوا إليهم بأزمتهم، متمهدين بتدبيرهم لأكنافهم، مؤتمين بهم في شقاقهم وخلافهم.
وقد كان الملك سليمان أسف على جماعة هؤلاء الفتيان لشرودهم عنه، وانتباذهم منه، وراسلهم بجملة رسائل [5أ] من إنشاء ابن برد وغيره من كتاب دولته، رجاء في كرة الدولة بهم، مقتنعا منهم بالطاعة، حسبما فعله مجاوروهم من أهل الثغور، ليكون من وراء التدبير، ويأمن من الهضيمة، في إنفاذ الصريمة، فصموا عن رقاه وطردوا رسله، وخرسوا عن إجابته على كتبه، وتجردوا لحربه - حسبما قد وصفته في أخبار سليمان وكاتبه ابن برد أول هذا الديوان -.
ومنهم مجاهد المنتري يومئذ على دانية والجزائر الشرقية نذكر أيضا طرفا من خبره النادر، لأنه من غلمان ابن أبي عامر، وأن كان لم يذكره القسطلي أبو عمر، فأخباره تتعلق بأخبار من ذكر، لأنه على قوالبهم صب، ومن ثناياهم أنصب، وفي سبيلهم من الخلاف أوضع وخب. على أن إليه كانت هجرة أولي البقية، وذوي الحرية، من هذه الطبقة الأدبية القرطبية، للين جنابه، وذكاء شهابه.(5/22)
نسخت من كتاب أبي مروان ابن حيان، قال: كان مجاهد فتى أمراء دهره، وأديب ملوك عصره، لمشاركته في علم اللسان، ونفوذه في علم القرآن، عني بذلك من صباه وابتداء حاله، إلى حين اكتهاله، ولم يشغله عن التزيد عظيم ما مارسه من الحروب برا وبحرا، حتى صار في المعرفة نسيج وحده، وجمع من دفاتر العلوم خزائن جمة، وكانت دولته أكثر الدول خاصة، وأسرارها صحابة، لانتحاله العلم والفهم، فأمه جملة العلماء، وأنسوا بمكانه، وخيموا في ظل سلطانه، واجتمع عنده من طبقات علماء قرطبة وغيرها جملة وافرة، وحلبة ظاهرة. على أنه كان - فيما بلغني - مع أدبه من أزهد الناس في الشعر وأحرمهم لأهله، وأنكرهم على منشده، لا يزال يتعقبه عليه كلمة كلمة، كاشفا لما زاغ فيه من لفظة وسرقة، فلا تسلم على نقده قافية، ثم لا يفوز المتخلص من مضماره، على الجهد لديه، بطائل، ولا يحظى منه بنائل، فأقصر الشعراء لذلك عن مدحه، وخلا الشعر من ذكره؛ وكان مع ذلك بهمة، وأكثر الناس علما بالثقافة، فلا يضم من الفرسان إلا الأبطال الشجعان، ولم يكن في الجود والكرم ينهمك فيعزى إليه، ولا قصر عنه فيوصف بضده، أعطى وحرم، وجاد وبخل، فكأنه نجا من عهده الذم. ثم اكثر التخليط مجاهد في أمره، فطورا كان ناسكا مخبتا معتكفا متبرئا(5/23)
من الباطل كله، يعكف على دفاتر يقرؤها، وتارة يعود خليعا فاتكا لا يساتر بلهو ولا لذة، ولا يستفيق من شرب وبطالة، ولا يأنس بشيء من الجد والحقيقة، له ولغيره من سائر ملوك الطوائف في هذا الباب [5ب] أخبار مأثورة مشهورة؛ انتهى كلام ابن حيان.
قال ابن بسام: وقد أثبت أيضا في هذا القسم من الشعراء والكتاب، ورؤساء أهل الآداب، ممن في ذلك الأوان إلى وقتنا هذا، من عرف مكانه، واشتهر إحسانه، وقدمت من تقدم في حلبة البيان، دون من سبق في الزمان، على ما شرطت في صدر هذا الديوان، والله العاصم من الزلل، والموفق لأحسن القول والعمل، بعزته.
فصل في ذكر ذي الوزارتين الأجل الكاتب الماهر [صاحب المظالم] أبي عبد الرحمن بن طاهر، وسياقة قطعة من رسائله، وإيراد بعض شأنه، والتنبيه على مكانته من الفصل ومكانه، وشرح خلعه عن السلطان، وعلى يدي من جرى ذلك وكان:
قال أبو الحسن: كان أبو عبد الرحمن بن طاهر أحد من جمع الحديث إلى القديم، وارتقى من رياسة الأقلام إلى سياسة الأقاليم، واتفق لبني(5/24)
طاهر بالفتنة المطغية، رياسة كورة مرسية، - في خبر أضربت عنه لطوله ولأني قد أوردته في كتابي المترجم ب " سلك الجواهر من ترسيل ابن طاهر " - فكان أبو عبد الرحمن يكتب عن نفسه بهذا الأفق، كالصاحب ابن عباد بالمشرق، وله رسائل تشهد بفضله، وتدل على نبله، لاسيما إذا هزل فإنه يتقدم على الجماعة، ويستولي على ميدان الصناعة. ولما حبط أبو بكر ابن عمار سمرات ملوك الأندلس بعصاه، وتردد بنتجعهم بمكايده ورقاه، وإنما كان يطلب سلطانا ينثر في يديه سلكه، وملكا يخلع على عطفه ملكه، جعل أبا عبد الرحمن بن طاهر موقع همه ووجه أمه، ولما ألقى المعتمد إلى ابن عمار بيده، وقلده - على ما شرحناه في أخباره - تدبير دولته وبلده، بعثه على حرب ابن طاهر بغاء بنفسه، وبناء على أسه، فأقبله وجوه الجياد، وأخذ عليه الثغور والأسداد، حتى فت في عضده، وانتزع سلطانه من يده. ولما قال عزمه وفعل، وقام وزن أمره واعتدل، مد يده وبسطها، وكفر نعمة ابن عباد وغمطها، وانتزى له من حينه على مرسية وقعد بها مقعد الرؤساء، وخاطب سلطانه مخاطبة الأكفاء، مستظهرا على ذلك بجر الأذيال، وإفساد قلوب الرجال، معتقدا أن الرياسة كاس يشربها، وملاءة مجون يسحبها، فقيض له يومئذ من عبد الرحمن بن رشيق، عدو في ثياب صديق: من رجل مدره ختر، وجذيل خديعة ومكر، فلم يزل يطلع عليه من الثنايا والشعاب، حتى أخرجه [5ب] من مرسية كالشهاب، وأبو عبد الرحمن بن طاهر(5/25)
في أثناء تلك الحال، متردد بين النكبة والاعتقال، فبعد لأي ما سعى له الوزير أبو بكر بن عبد العزيز، زعيم بلنسية - كان - في ذلك الأوان، فخلص بعد أبو عبد الرحمن، خلوص الثريا من يد الدبران، والتقى هو وابن عمار ببلنسية بعد ذلك، وقد استوى الغالب والمغلوب، وضعف الطالب والمطلوب، وكان أبن عمار أخفش، فقال له ابن طاهر، وكان كثير النوادر: كذا يا أبا العينا، لا أنت ولا أنا. فصار ابن عمار مع ابن رشيق تحت المثل: " أنفقت مالي وحج الجمل ".
ولابن طاهر عدة نوادر أحر من الجمر، وأدمغ من الصخر: أرسل إليه ابن عمار وقت القبض عليه، وهو معتقل بين يديه، يعرض له خلعة يتسربلها، ويشير إليه بكرامة: هل يقبلها - فقال لرسوله: لا أختار من خلعه - أعزه الله - إلا فروة طويلة، وغفارة صقيلة. فعرفها ابن عمار واعترف بها على رءوس أشهاده، وبحضرة من وجوه قواده وأجناده وقال: نعم إنما يعرض بزيي يوم قصدته، وهيئتي حين أنشدته، فسبحان من يعطي ويمنع، ويرفع من يشاء ويضع.
وحدثني غير واحد من أهل مرسية قال: لما قام البلد على أبن طاهر خرج هو وابن أخيه مخفيين لأنبائهما، هاربين بذمائهما، وكل شيء لهما رصد، وفي كل فج عليهما عين ويد، فلقيا رجلا من أهل مرسية(5/26)
يدعى البقيلة، كان عندهم مشهور المنزع، مضروبا به المثل في برد المقطع، وقد حمل قناة فاعتقلها، ولبس فروة فحولها، وفي رأسه قلمون طويل، أبرد من طلعة العذول، فقال ابن طاهر لابن أخيه: يا بني أين المهرب - قد قامت علينا كل قبيلة حتى العرب، ما أرى هذا إلا عمرو بن يكرب أو يزيد بن الصقب.
وحكوا أن ابن أخت لابن رشيق ذا لحية طويلة، وطلعة ثقيلة، وقف عليه يوما وهو معتقل عندهم، فجعل يتوجع له ويتفجع، ويتملق معه ويتصنع، فقال له ابن طاهر: خلاصي بيدك إن شئت، لو أخرجتني في لحيتك لتخلصت وخفيت. إلى نوادر كثيرة، وأوابد عنه مأثورة، إيرادها خارج عن غرض هذا التصنيف، وليست من شرط هذا التأليف.
ولابن طاهر أيضا في الجود نوادر تشهد أن كرمه لم يكن تكرما، وأن مجده لم يكن تكسبا ولا تقحما: مر به ولد ابن عمار بعد مقتل أبيه، في فئته القليلة، وساقته المنكوبة المفلولة، وقد لفظتهم البلاد، وأنكرهم الطريف والتلاد، وتغير لهم الأشكال والأضداد، ورحمهم الأعداء والحساد، فأقبل عليهم ابن طاهر ببقية حال هم جنوا عليه إدبارها، وحكمهم في فضل ثياب هم [6أ] سلبوه خيارها، وخلى بينهم وبين ماء طالما حلأوه عن برده، ودفعوا في صدره دون ورده، تعالى من لا يذل سلطانه، ولا يجحد إحسانه.(5/27)
ما أخرجته من نوادر رسائل ابن طاهر
في أوصاف شتى
فصول من رسائله السلطانيات التي أجراها مجرى الأخوانيات
كتب إليه أبو بكر ابن عمار المذكور، في أثناء ما وقع بينهما، رقعة عتاب وختمها بهذه الأبيات:
عندي حديث إن سمعت قليلا ولدي نصح إن أردت قبولا
يا راكبا ظهر التجني راكضا في حلبتيه أما اعتقدت نزولا
لله درك أو طلبت حقيقتي لوجدتني بدل العدو خليلا
خذ من عنان هواك يوما للنهى وانهج لرأيك في اللجاج سبيلا
وأفق من الأنف الذي تعتده عزا فقد يدع العزيز ذليلا
ومن بعض مخاطبات ابن طاهر له، رقعة حدثت أنه كتبها إليه من موضع معتقله، بقطعة فحم على ظهر آجرة، فيما زعم: قد كنت - أعزك الله - أتيقن من حسن طويتك، وكرم سجيتك، أنك لي أسرع في الملمة من اليمين إلى الشمال، فارتقبت ورودك ارتقاب الصائم للهلال، فلما وافيت تحدثت بملاقاتك، واطلعت إلى مراعاتك، فأبطأ(5/28)
ذلك من سنائك، ولزمني أن استعلم السبب الموجب له من تلقائك، وبالله أقسم لو مكنت من رقعة ومداد حاضر، لخاطبك بالمحجر وسواد الناظر، لكن منعت من كل سبب لغير سبب، وألحت علي النوائب بطلب على طلب. وأما الحضرة المكرمة فكنت أعمر إليها مسافة الطريق، وأجد للقول فيه بليل الريق، وستسمع بالمشافهة كيف كان المنع لا التمنع، فلست أجهل ماآتي وما أدع. وأما أمور الفتنة فمهدورة، وعند العاقل مغفورة، وهي كبساط النبيذ، يطوى على ما فيه من المز واللذيذ، ولولا صدع بالفؤاد، وقلب ملي من الخطوب الحداد، لنبذت إليك ما في النفس نبذ النواة، فأنت موضع السر والمناجاة، لا زلت من الحوادث بمعزل، ومن المكارم بمنزل.
قال ابن بسام: وقد حدثت أنه بعد خروج ابن طاهر من البلد، رأى أن يلقي بيده إلى المعتمد، إذ بدأ له من ظاهر ابن عمار ما سكن بعض استيحاشه [7أ] فأنس، فأصحبه كتبا أدرج له بينها صحيفة المتلمس، ووقف ابن طاهر على مستودعها، بفك طابعها، فكتب إلى ابن عمار رقعة فيها: بالخبر تنجلي الشكوك، ومع الفري تماز المسوك، ورب معمل سلامة، ومرسل استنامة، قد يكشف [له](5/29)
المستور من خل عن صل، بل عن لحم مصل، وهو الأناة ينضح بما فيه، ومرسوم الوعظ ليس بمجديه، ولما بت على مرحلة من جنابك العاطر، مستقيا من سبحانك الماطر، لما أصحبتني من تلك الرقاع، التي خلتها يد الاستدفاع، مثل بين عيني في النوم [شخص] ماثل، يتغنى بقول القائل:
لئن بعثت إلى الحجاج يقتلني إني لأحمق من تخدي به العير
مستصحبا صحفا تدمى طوابعها وفي الصحائف حيات مناكير
فوثبت كالمذعور، وأتيت إلى الطوامير، ففضضت ختامها، واستعربت إعجامها، فصرخت لي بل أقتال؛ فأبن لي - عافاك الله - بأي شيء استحللت دمي، وبعثتني لإراقته على قدمي، لا تبل:
إن الأيادي قروض كما تدين تدان
من استلذ زمانا أرداه ذاك الزمان
وطالب الثار لا ينام، والله ولي الانتقام.
ومن رقعة عتاب له يقول فيها: [أستوهب الله عقلا يعقل عن تكلف ما لا أعلمه، والتسور على ما لا أحسنه ولا أفهمه، وأستعينه على(5/30)
عمل يرضيه به عني، وأسأله لك السند الذي يعزى الجود إلى بنانه، ومنطق الفضل إلى لسانه، محزا آهل المعاهد، وحرزا ثابت القواعد، و] قد تصرفت في سهوب الاسهاب، وتعلقت بإطناب الإطناب، وسلكت من البلاغة مسالك لا تجد حيات الأذهان فيها مدبا، وأرواح الأفكار في جوها مهبا، فإن قرعت بابها معك، وقد باشرت بدعك، زادني انغلاقا، وكنت ككون مع عتيق لا يرجو له لحاقا، فالأحجى بذي الحجى سلوك سبيل الاختصار والإيجاز، إذ لا بد من الوقوع تحت الاقتصار والاعجاز، والله يبقيك لإحياء رسم الأدب، وإقامة أود لسان العرب.
وفي فصل منها: وأكرم بخطابك الأثير، المضمن من الدر النثير، ما لم يستخرج مثله غائص من بحر، ولا تقلدت الغواني شكله على نحر، فلله أدبك ما أبرعه، [وحسن لفظك ما أبدعه] ، أوضحت به مناهج العلماء، وصدقت نتائج الحكماء، ولم أزل ألمحه، وأجيل طرفي فيه وأتصفحه، متعجبا من غرائب كلمك، وبدائع حكمك، إلى أن انكشفت لي أغراضه المبتدعة، وجمله المخترعة، عن ظن حكمته في اليقين، وشك غلبته على الصبح المبين: أنا أنزه ميزك الثاقب، ونظرك الصائب، ورأيك الواضح الدلائل، وما أوتيت من علم جوامع [7ب] الفضائل، عن انتساب مثل ذلك إليك، واشتباه ما فيه عليك، وكنت عهدتك تقضي بالخير على طباع الناس، ولا يوضع على بصيرتك فيه غطاء التباس، حتى فجأني منه ما لو أخبرت به عنك لأنكرته، ولا أدري له سببا، ولا أعرف(5/31)
له موجبا، إلا الاصغاء إلى من يضرب ويسعى بالفساد، ويدب بمقارب الأحقاد، ويشغب لكي يذكي نار الحرد، ويطير شرار الضمد، وأنت أجل من أن تلتفت إلى غاش، وتعرج على ساع بالنميمة واش.
ومنها: وأما ذم الزمان وبنيه، فقد أكثر الناس فيه، وكنت أجلب شيئا [منه] للحاجة إليه والتورك عليه، غير أني اقتصرت مخافة التطويل، وتجنبت آفة التثقيل، فقد قالوا: الاطالة تفضي إلى الملالة. وأما من صرحت في مدرجتك باسمه، وشكواه اليك ما جرى عليه بزعمه، فهو سعر نار غدا حريقها، وفجر أنهارا ظل غريقها، وأمره أحقر من أن أحبر فيه كلما، وأعمل في ذكره قلما. ومن قولك - أعزك الله - أن العهد بك بعيد، والشوق اليك شديد، وتعريضك بقرب النزول علي، والخروج عما تريده من الشكوى إلي، خرج لي أن الذي اتفق لي في زيارتك من الإغباب، سطر أسطر هذا العتاب، فمهلا مهلا، وحلا حلا، ورب سامع بأمري لم يسمع عذري، والله ما اعتمدت ذلك جهلا بحقك، ولا قصدته إهمالا لواجب تقدمك وسبقك، بل دفعت إليه ضرورات مكابدة أحوال هذا الزمان، القاطعة عما يريده الإنسان، ولئن نافس الدهر في الورود عليك، والوصول اليك [وأحوج إلى ترك النهوض اليك] فليس ذلك مما يخل بالود، ولا يحل وثيق العهد، بل أنت كالشمس(5/32)
إن عدمنا مدارها، فما حرمنا أنوارها، وقد علمنا أن مكانها علي، وحسنها جوهري، وكان من الحكم أن أراجع على النظم، لكن لا آتي معك إحسانا، ولو كنت حسانا، فابسط العذر، وسهل الأمر، [والله يهنيك صحة تكفلك، وسلامة تشملك، برحمته، والسلام على من أراني عتابه، ليعلم كيف ودي جوابه، ورحمة الله] .
وله رسائل مطبوعة، ومنازع إلى الأدب بديعة.
وكتب أبو عبد الرحمن إلى ابن عبد العزيز من طريقه يومئذ رقعة يقول في فصل منها: كتابي وقد طفل العشي، وسال بنا إليك المطي، ولها من ذكرك حاد، ومن لقياك هاد، وسنوافيك المساء، فنغتفر للزمان ما قد أساء [8أ] ونرد ساحة الأمن، ونشكر عظيم ذلك المن، فهذه النفس أنت مقيلها، وفي برد ظلك يكون مقيلها، فلله مجدك وما تأتيه، لا زلت للوفاء تحييه وتحويه:(5/33)
*فدانت لك الدنيا ودامت بك العليا*
إن شاء الله تعالى، بمنه.
وعند انجلاء تلك الظلماء [عنه] خاطب جماعة من الرؤساء، وذلك في جمادي الآخرة سنة ثلاث وسبعين، فمن ذلك رقعة خاطب بها صاحب المرية قال فيها: ولما تخلت مني - أيدك الله - يد الزمان ونوائبه، وتجلت عني غمراته وغياهبه، ابتدرت مطالعك ابتدار الفرض، وهصرت من مجاذبتك بالغصن الغض، فاتقا لكمامة الفضل، وعامرا لشريعة الوصل، وحمد الله تعالى مقدم في السر والجهر، على ما درا من الحوادث النكر:
وإذا جزى الله امرءا حسنا فجزى أخا لي ماجدا سمحا
ناديته في كربتي فكأنما ناديت عن ليا به صبحا
ذلك الوزير [الأجل] أبو بكر مثبت رسم الوفاء، وباني مجده على قمة الجوزاء، نبه لي كرم مسعاه، دائبا ووالاه، لم يكتحل سوق الأرق، حتى استنفذني من لجة الغرق، ووافى بي على المنى، وأحلني من بره المحل الأسنى، فأنام الله عنه عيون الأيام، ولا أنساني له شكر ذلك المقام.
وله من أخرى خاطب بها ابن هود: إن الأيام - أيدك الله - تلون ألوانها، وللمساءة إحسانها، ما تذر شعبا إلا تصدعه، ولا وصلا إلا(5/34)
تقطعه، إن أمرت عهدا نقضته، أو بنيت قوضته، على أنها قد تعود، ويكون لها الأثر المحمود، ورمتني - أيدك الله - بسهامها، وجرعتني غصص حمامها، فكان لله ستر وقى، وصنع أبقى، مكن النفس من رجائه، ووطن الصبر على قضائه، طمعا في الحظ من ثوابه، وتبلج الفرج من أبوابه، إلى أن تبدى فجره، وتأتى أمره، والحمد لله بحقه، منقذي من الخطب وربقه، هو المبلو بعواطفه، المدعو بعوارفه، وفي كل حال - أيدك الله - أخطرتني ببالك، ومددت علي من ظلالك، ووصلت من سببي، ونفست من كربي، وأوجدتني من ذراك مفزعا، و [أوردتني] من نعمك مشرعا، لا زال برك شاملا، ولا انفك سعدك كاملا، فانك محيي الهمة ومقيمها، ومولي النعمة ومديمها، وكم أحييت من همم، وأوليت من نعم؛ فكافأ الله الولي السني واحدي الوزير الأجل أبا بكر مكافأة ماجد جد في سعيه، وجرد [8ب] من رأيه، لدرء مهمي وكشفه، حتى انتضاني في كفه، فخلطني بالعلية نفسه، ومهد لي في جنابه وأنسه، أيده الله على شكره، وفسح في عمره.
وله من أخرى كتب بها إلى الحاجب عماد الدولة: كتبت - أيدك(5/35)
الله - عند وصولي بلنسية، متخلصا من يد المحنة، متلبسا لله فيها أعظم المنحة، أن تدارك في غمراتها، وجلى المسود من هفواتها، فلله الحمد كثيرا، والشكر نضيرا؛ وإني بلوت من إجمالك في حالتي شدتي ونجاتي ما عقل اللسان، وقبض البنان، وأخجل الحوادث حتى كفت من اعتدائها، وألوت تعثر في استحيائها، فإن أثنيت فمقصر عنك الثناء، وان دعوت فإلى الله يرفع الدعاء. وتلقاني بطريقي كتابك الرفيع فتملكني بره، وحياني بشره، وعظم عندي قدره، فلله ما تبديه من فضل وما تسره، ولله در الوزير الأجل أبي بكر، جوزي بوفائه، وفسح الله له في ظله وبقائه، فانه ما اكتحل في كربتي بنوم، ولا تمتع بمسرة في يوم، ولقد كانت قذى عينيه، حتى حلني من وثاقها بيديه.
ومن أخرى خاطب بها المظفر صاحب لاردة قال فيها: أن الله تعالى يصرف الأمور كيف يشاء، له النعماء والبأساء، فإن عافى واصل المنن، وأن امتحن أحسن، لأنه يمنح الأجر الذي هو أسنى، ويعود بعوائده الحسنى، وما المرء إلا كالنصل، يشحذ بالصقل، تنفذ عليه الأقدار، ليقع(5/36)
الاختبار والاعتبار، ويبدو له الزمان وأهله، وحيث منبت الفضل وأصله؛ وكان لك - أيدك الله - من التهمم بجانبي، والارتماض لنوائبي، ما أطاب ذكرك، وأبان قدرك، وأخبر أن الجميل من سجاياك، وأن محاسن الدهر بعض حلاك. ولما تخلصت من تلك الأشراك، وأذن الله منها - وله الحمد - بالانفكاك، أسرعت إلى قضاء حقك وإنه لأعز الحقوق، وتوفية الشكر لك بباهر مجدك السابق غير المسبوق، والثناء على أنعم الله تعالى قبل كل شيء وبعده التي جلت عن الإحصاء، وجلت من الغماء. وقد أوليت ما أثبت لك في الرقاب رقا، ومت تخب به الركائب غربا وشرقا، وأن المستقل بي والجاذب بضبعي لمحيي ميت الوفاء، ومحرز جزل الثناء، قسيمي في المهم، وظهيري [9أ] على الملم، الوزير الأجل أبو بكر، فاني تبوأت في ذراه محلا ودارا، ورأيت الخطوب تعتذر اعتذارا.
وله من أخرى إلى القادر بالله ابن ذي النون: حكم الزمان - أيدك الله - تعثر الإنسان، ولولا دفاع الله لهوت قدمه، واستوى عدمه، لا يبالي حيث انتحت نوائبه، ولا من ازور جانبه، يلفى الدهر عابسا، ولثوب العذر لابسا. وكتابي من بلنسية وقد وافيتها موافاة(5/37)
الآمن بقراره، خارجا من ليل الحوادث واعتكاره، مستبشرا بنهاره، مستشفيا من آثاره، فالحمد لله بما أولاه، حمدا يبلغ رضاه. وما أنا - أيدك الله - في أمري، وما يسره الله من انجلاء ضري، بأجذل مني لتوقف الأيام عن مكانك، وقد أوضعت في بنيانك، تظن أن ما تتلفه، لا تصرفه، وكم لله من لطف خفي، وكرم حفي، وهو المسئول بأحب أسمائه، أن يعيد عزك إلى بهائه. وأن من تلقى راية المجد ابتدارا، وأخذني من أيدي الخطوب اقتسارا، لعلم الوفاء الذي إليه يشار، وشخص السيادة الذي به يستنار، واحدي الوزير الأجل أبو بكر - أدام الله عزه وأحسن جزاءه، ووصل اعتلاءه -.
وكتب أيضا في ذلك إلى بعض إخوانه: علمي - أعزك الله - بصدق وفائك، ومحض صفائك، وأنك ضارب في حالي بأوفى السهام، أوجب أن أسبق اليك بالمشاركة والإعلام، وكتبت عند الخلاص من العقلة، والتخلص من العطلة، بفضل الله الذي له المشيئة الغالبة واليد العالية، هو المردد حمده بما أولى وسنى، المرجو لطفه بعوائد الحسنى. ورعى الله الوزير الأجل أبا بكر، وقارضه وفي الشكر، فلقد بز الأنام طروا، ووافت فعالته الكريمة غرا، لم يقصر عن أمد السعي، مدة(5/38)
ذلك البغي، حتى أخذني من أيدي الخطوب عنوة، وأحلني من جزائه وبره صفوة، فلله وفاؤه وسروه، وغايته في العلاء وشأوه.
قال ابن بسام: وخاطبت جماعة من رؤساء الجزيرة يومئذ الوزير أبا بكر [بن] عبد العزيز [المذكر] شاكرين له على ما كان في ذلك من سعيه الحميد [المشكور] ، منها رقعة للمؤتمن بن هود يقول فيها: وقد تتابع عنك - أعزك الله - أحسن الحديث المذيع لخفايا سروك وسرائره، المعرب عن سجايا سنائك ومآثره، منذ انتدبت بشرف منحاك [9ب] لما يسره الله من حميد مسعاك، فانتضيت من عزمك باترا يفل نصال النوائب، وأيقظت من حزمك ساهرا ينيم عيون الحوادث، وسهل الله الوعد بصدق بصيرتك، وذلل الصعب بيمن نقيبتك، حتى شردت المحنة وعمت المنحة، بتخلص ذي الوزارتين الكاتب الأجل صاحب المظالم أبي عبد الرحمن سندي، والخطير من عددي -[أبقاه الله]- من تلك الغمرة، وانتضائه بالاستقلال من العثرة، واستقرت الحال - أيدك الله - بدءا وعودا، عما قصر أوفر الحمد، ونشر عنك أنضر العهد، فجازاك الله أفضل ما جازى علما من أعلام الوفاء، ووفاك أكرم ما وفى متقدما في أحوال الصفاء، متوحدا بجميل المقام وجليل الغناء، وخاطبتك معلما بحقيقة اعتزازي بما يسر الله على يديك من هذه العائدة، وسناه(5/39)
بلطف توصلك إلى هذه الفائدة، فلو خصصت بذلك من يشاركني بالنسبة وهو قسيمي في اللحمة، لم يعدل عندي بما أوليت في جانب من أعزه الله بإتمام النعمة، فقد كان تألمي من إساءة الدهر في هضمه، وتطاول خطوبه النكر إلى ظلمه، بازاء ما يقضيه الاعتداد بفضله، والابتهاج بشرف محله؛ إذ كانت النفس تشفق من حادثة تصيب نبيها من الأخوان، فضلا عن نائبة تحل بساحة جليل من الأعيان، والله تعالى يصرف النوب عن فنائك، ويكف المحاذر دون ألاجائك، بمنه.
قال أبو الحسن: ونأخذ هنا من أخبار الوزير الأجل أبي بكر ابن عبد العزيز المذكور، بهذا الموضع، حسبما اقتضاه سرد الكلام، وأدى إليه شرط النظام.
كان أبو بكر أحد من سبق وادعا، وتجاوز ذروة الشرف متواضعا، كتب أبوه عن الوزير الكاتب أبي عامر بن التاكرني أيام وزارته لعبد العزيز ابن أبي عامر، وأبو عامر أطلع جده، وأرهف حده، وبلغ به الذرى، حتى قيل: " كل الصيد في جوف الفرا ".(5/40)
وقد ذكره أبو مروان ابن حيان فقال: وفي العشر الأواخر من [شهر] جمادي الآخرة سنة ست وخمسين نعي إلينا وزير بلنسية، ابن عبد العزيز، وكان - على خمول أصله في الجماعة - من أراجح كبار الكتاب، الطالعين في دمس هذه الفتنة المدلهمة، وذوي [10 أ] السداد من وزراء ملوكها، ذا حنكة ومعرفة، وارتياض وتجربة، وهدي وقوام سيرة، إلى ثراء وصيانة؛ انتهى كلام ابن حيان.
قال أبو الحسن: ووزر أبو بكر بعد أبيه لعبد الملك بن عبد العزيز المتلقب - كان - من الألقاب السلطانية بالمظفر، فقطع ووصل، واضطلع بما حمل، ودارت عليه الرياسة مدارا لم تدره رحى على قطب، واشتملت عليه السياسة اشتمالا لم تشتمله جناجن على قلب: من رجل ركب أعناق خطوبها، صعبها وركوبها، وامترى أخلاف شآبيبها، منهلها وسكوبها، فلما قص يحيى بن ذي النون الملقب بالمأمون آثار آل ابن أبي عامر، واجتث أصلهم من بلنسية آخر الدهر [الداهر]- حسبما سنأتي عليه، إذا انتهينا إن شتء الله إليه - كان ابن عبد العزيز، زعموا، أحد من أقام ميلها، وأوضح لابن ذي النون سبلها، حتى خلصت له وخلص لها، فكافأه ابن ذي النون لأول تملكه إياها بأن ولاه أمورها، وحلاه شذورها، ولاث بحقويه سياستها وتدبيرها، فسامى الفراقد(5/41)
وتألف الشارد، وفدح الحاسد، وقهر العدو المكايد، وهو ابن ذي النون قريب على البعد، وحاله عنده جديد على قدم العهد. فلما مات يحيى بن ذي النون صفت مساربه، وخلا له جانبه، وضعف عنه طالبه، وكان خليقا بسموه، مهيبا في صدر عدوه، طاول الجبال بالآكام، وفل السيوف بالأقلام، متشبها في مخالصة الإمارة، من خصاصة الوزارة، بأبي الحزم بن جهور، فتم له من ذلك ما نيف على المراد، وأطال غم الأعداء والحساد، واجتمع عنده من سعة المال، وفخامة الحال، ونضرة الإقبال، وآلات الجلال، ما سار في البلاد، وقصر عنه كثير من الأشكال والأضداد.
ومن أعجب ما هيأ له الزمان، وأغرب ما سارت عنه به الركبان، أن ابن هود لما سما إلى دانية فورد صفوتها، واقتعد ذروتها، فيل أهل بلده رأيه، وعجزوا سعيه، في قصوره عن بلنسية، إذ كانت أدنى لمن يريدها، وأجنى على من يستفيدها، لوفور غلاتها، وتمام أدواتها، واعجاز خواصها وذواتها، ولخلوها عندهم من ملك يفي(5/42)
بمقدارها، ويذب عن عقر دارها، فجاهروه بتعجيزهم [10ب] وشاعت على الألسنة أعجوبة من ترجيزهم، كلمات في أعجمية مزدوجة، معناها: ما أحمق هذا وأهوجه، عجز عن الأيم ونكح المزوجة؛ وحين تلقفها من الألسنة، انتبه لها لا من سنة، وداخل الطاغية أذفونش مفزع آمالهم، وظهير بطالتهم وباطلهم، على عادتهم، معشر الخلفاء، من استنابته في زحوفهم، وإجابته إلى مر حتوفهم، سعيا عمهم بتنكيل، ومكرا أحاقه الله بهم عما قليل؛ فاشترى منه بلنسية يومئذ [زعموا] بمائة ألف دينار، تقرب إليه بحاضرها، وأعطاه رهنا كفافا بسائرها، فغزا بلنسية وقته في جيش تضاءلت ذرى أطوادها عن أعلامه، وتناكرت وجوه نجومها تحت قتامة، فلم يركز لواءه، ولا رفع بناءه، حتى خرج إليه ابن عبد العزيز منسلخا من عديده، في ثياب جمعته وعيده، فكلمه بما أرق قلبه، وكف غربه، وكان مما قال له: هي بلادك فقدم من شئت وأخر، ونحن طاعتك وقوادك فأقلل منا أو أكثر، في شبيه ذلك من لين القول الذي يسل الأحقاد، ويتألف الأضداد، فانصرف عنه وقد ألحفه جناح حمايته، ووطأ له كنفا من عنايته، ورجع ابن هود وقد نفض يديه، وأصبحت نفقته حسرة عليه، وكان الطاغية بعد ذلك، كلما جرى ذكر ابن عبد العزيز(5/43)
شايعه وتولاه، واسترجحه وزكاه، حتى كان يقول - لعنة الله -: رجال الأندلس ثلاثة: أبو بكر ابن عبد العزيز و [أبو بكر] ابن عمار وششنند، وسأجري في أخبار ابن ذي النون طرفا من ذكره، وأشير إلى جهة من مآل لأمره.
بقية ما استخرجته من رسائل ابن طاهر السلطانيات
فصل له من رقعة خاطب بها ابن عباد يقول فيها: من وجد سلفه على مذهب من الخير بين، وسنن من الفضل متبين، سره أن يتحلى بتلك الخلق، ويتجلى من تلك الأفق، وإن الزمان اللدن الذي انقضى، وامحت صورته الحسنى، نظم بين ذي الوزارتين القاضي جدك وبين أبي مولاي، كان رحمه الله، عقد الصلة، وأربم بينهما حبل الخلة، وشق بينهما المصافاة شق الأبلمة، وأطلعهما نجمين في أكابر تلك اللمة، يفترقان عند الاستعمال، ويحملان يومئذ مضلع الأثقال، إلى أن امتزجت بهما الحال امتزاجا، وكان كل واحد منهما لنفس صاحبه غذاء ومزاجا، ولم يقنع من ذلك الالتفاف، بواقعة الكفاف، حتى أتم(5/44)
[11أ] صنائعه، ورقم وشائعه، خلال ما ابتداه، ونهجه وهياه، فضمنا والرئيس الأجل أباك معتمدي - وكان - رشي الله عنه في زمرة الطلبة، والأسرة منهم المنتجبة، ورتعا في رياض الاصطحاب، واستذرينا من أدواحها بأمثال السحاب، نصيب من بردها ودرها، إلى أن أطلعت الأيام شجر مرها، برائع الفراق، ولم نشف الأشواق، وأقبلت الفتن والمحن تنساق؛ فلما اطمأنت بك قدم الرياسة، واستقرت منك في شخص السيادة والنفاسة، جعلت الهمة تتطلع، والارادة مني تنقاد وتتبع، في الإلمام بمداخلتك، والتسبب لمطالعتك، ليلتئم باعتلاقك ذلك الشعب، ويستريح من برحائه القلب، والأيام على شيمها وشومها، في عوارضها ولومها؛ إلا أني مع ذلك لم أخل مشاهدتي من الذكر لك، والفخر بك، حتى وافى رسولك الناحية، فمددت يد المخاطبة لك، وأحببت فتحها معك، لأعلق منك كفي، بماجد يكون ركني وكهفي، واثقا بحسن المقابلة والقبول، عارضا ودي بمهب الصبا والقبول، فإن مننت بالمراجعة فذلك البغية والمراد، وإلا فما أخطأ الاجتهاد، والله ييسر المرتجى منك، ويدفع محذور النائبات عنك، [بقدرته الباهرة ومشيئته العالية] .
وله من أخرى [اليه] : الآن سفرت من الأيام الخدود، واهتز منها(5/45)
غصنها الأملود، ووثقت نفوس بالنجاح، ودنا غمامها المطلوب حتى كاد يدرك بالراح، لما أتت البشرى عن مولاي باقترابه، وتعلقت الدنيا بأثوابه، ولاذ به الإسلام، وعز جانبه المستضام، وما زلت أترقب الزمان أن يخطرني بباله، ويعرضني على اهتباله، فإذا به على ازوراره، لا يبالي من صلي بناره، فكيف أذم الزمان ومولاي فيه، وهو تابع أوامره ونواهيه، لا زال جده مقبلا، وسعده متصلا، ما صدع الفجر، وطلع البدر.
وله من جواب على كتاب: ورد كتابه العزيز الذي شفع به المنن الروائح والغوادي، فوريت بمضمنه زنادي، وأخصب من مستودعه مرادي، وتأتى بما التمحته مرادي، وتصفحت الطول وافي الذوائب، متصل السحائب، ولبست ثوب الإجمال، سابغ الأذيال، واسع الأضلال، والله يبقيه للواء الفضل يرفعه، وشتيت المكارم يجمعه.
وفي فصل منها: وأما كتابك فكان جوابا ما أحسب! وبيانا نا أعذب! أنس من وحشة، وألبس منه بعد منة، ووقفت منه على ما ملأ جوانحي مسرة، وبسط من وجهي أسرة، وحمدت الله تعالى [11ب] بالنعمة علي في ذلك، وبما هيأة الله على يدك هنالك، وما زلتم معشر هذه(5/46)
السلمة الكريمة، الزكية الأورمة، تشيدون البناء، وتخلدون الثناء، وتحفظون الأرجاء، وتمدون الرفاء، وأني بمثل سياستكم فيما فتحه الله على المظفر - لقد أخضعتم الرقاب، وأطرتم الألباب.
وفي فصل من أخرى: [ورد لك كتاب كريم وثغور] مجدك مبتسمة منه، وألسنة سروك ناطقة عنه، فطرد العبوس، وأحيا بخيره النفوس، فهنئت هذا الشرف التليد، والمذهب الحميد، وزادك الله جمالا، كما اختار لك جلالا؛ وتناولت المدرجة الكريمة التي خطتها اليد العزيزة، وجعلتها بيني وبين الحوادث شعارا ودثارا، إذ تبينت فيها مخايل وآثارا، بعد أن وضعتها تكرمة على رأسي، وأحييت بها أملي ونفسي، وتوليت من الدعاء المخلص ما الله تعالى سامعه لك، ومحققه فيك. فأما الشكر فلو أني فيه موصول اللسان، بلسان الزمان، لما وقيت بحقك منه، ولما قضيت وطرا به، إلا أني على قصوري عنه سأبرزه في غلائله، كالربيع في أوائله.
وخاطبه ذو الرياستين [حسام الدولة أبو مروان] ابن رزين برقعة يخطب فيها وداده، ويستميل فؤاده، فراجعه ابن طاهر برقعة يقول(5/47)
فيها: كل المعالي - أدام الله تأييد الحاجب ذي الرياستين - إليه ابتسامها، وفي يديه انتظامها، وعليه إصفاقها، ولديه إشراقها، وإن كتابه الرفيع وافاني فكان كالزهر الجني، والبشرى أتت بعد النعي، سرى إلى نفسي فأحياها، وسلى عني خطوب الكروب وجلاها، فلتأتينه مني بالثناء الركائب، تحمله أعجازها والغوارب؛ وأما ما وصف به - أيده الله - الأيام من ذميم خبرا، ولقد رددتها على أعقابها نكرا، فلم أخضع لجفوتها، ولم أتضعضع لنبوتها، وعلمت أنها الدنيا قليل بقاؤها، وشيك فناؤها، وفي ذلك أنشدوا:
تفانى الرجال على حبها وما يحصلون على طائل
ومع ذلك ما عدمت من الله سترا كثيفا، ولا صنعا لطيفا، له الحمد ما ذر شارق، وأومض بارق.
ورأيت ما انتدب اليه - أيده الله بسنانه - من الشفاعة عند القائد الأعلى - أعزه الله -، والصدق مواعده، وقد كان بدأني بالإجمال لو عاد عائده، وبيد الله تعالى [12أ] الأمور يقضيها، عليه التوكل فيها(5/48)
وفهمت ما أومى إليه من التنقل إلى ذراه، والورود على نداه، وأنى لي بذلك وقد قيدتني الهموم فما أستطيع نهضا ولا أتقدم، ولو أطقت ذلك لعدت العمر غضا جديدا، ولقيت الكمال شخصا وحيدا، عند من تقر بسوابقه العجم والعرب، وتؤكل خلائقه [بالضمير] وتشرب.
قال أبو الحسن: وكان ذو الرياستين قد رأى لو انتقل ابن طاهر إلى ذراه، أن يستمد برأيه ونهاه، وهيهات! أبو عبد الرحمن كان أصون لفضله، وأفطن بالزمان وأهله، من أن ينخدع بمنتقل ظله، ويحكمه فيما أبقت الخطوب من جلالته ونبله: من رجل شديد الإعجاب [كان] بأمره، بعيد الذهاب بقدره، زاريا على زعماء أهل عصره، إن ذكرت الخيل فزيدها، أو الدهاة فسعيدها وسعدها، أو الشعراء فجرولها ولبيدها، أو الأمراء فزيادها ويزيدها، أو الكتابة فبديع همذان، أو الخطابة ففي حرام سبحان، أو النقد فقدامة، أو العلم فلست من رجاله ولا كرامة، وليس له من ذلك كله إلا البراءة من الإحسان، والاستطالة بمكانه من السلطان، أبى الله الا انهماكه في الشراب والشطرنج، وكان على ذلك ضيق الفناء، جهم اللقاء/ أحذق الناس بحرمان من قصده، وأشدهم احتمالا لمن لامه في البخل وفنده، وانتحاه بأصناف الذم واعتمده، على ما كان يداخله من كبر، ويعتقده لنفسه من جلالة(5/49)
قدر، وكان الشاعر إذا وفد عليه، أو مثل بين يديه، أخذ يناقشه الحساب، ويغلق دونه الأبواب، وينتحيه بضروب نقده، ويصب عليه من شآبيب برده، حتى يخرج بين الحائط والباب، ويرضى من الغنيمة بالاياب، على ذلك حجج أصحها جهله، وأوضحها بخله.
حدثني من شهد ذا الوزارتين ابن عمار - المتقدم الذكر - وهو يقول: إيه عنك يا ذا الوزارتين! بأي شيء عارضت قصيدتي:
أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى
أبقولك في أول قصيدة:
أشممت نشرك أم شممت العنبرا
ومصصت ريقك أم مصصت السكرا
ومن ذكر هذا وأشباهه من القول، حتى عدل به عن سبيل الطرب، وكاد ينشق عليه جلده من الغضب.
وأخبرني من سمع ابن رزين في ذلك المجلس أو نظيره يقول [12ب] لمسلم المغني، وكان بحضرته يومئذ: أنا والله أغنى منك، وأشعر من ذلك يعني ابن عمار، فقال له ابن عمار، بذرب جنانه، وسلاطة لسانه: وأرقص ممن - أعزك الله - فلم يحر جوابا، وعاد نشاطه إطراقا واكتئابا.
وكان أدخل نفسه أيام إناخة الأمير مزدلي على بلنسية، فما أمر(5/50)
ولا أحلى، ولا سبق ولا صلى، ومات في أثناء ذلك، ونصب ابنه مكانه هنالك، فضاق مداه، وأسلمه في يد أمير المسلمين ما قدمت يداه، فنسي.
ومن رسائل ابن طاهر الاخوانيات وما يجانسها
نسخة [من] رقعة يقول فيها: المرء إذا تحقق تأميله، وعرفت في المودة سبيله، تناسبت مذاهبه، وتجانست ضرائبه، وإنك - أحسن الله وقامك وظعنك - لما امتطيت ركاب النوى، وتجرد منك ربع الغرب وأقوى، كحل السهاد جفني، وتمكن [الاشفاق مني، وأخذت نفسي في الذهوب، وشمس أنسي في الغروب، حتى طلع] البشير يالقفول، فجعلت حينئذ أقول:
لله نذر واجب ولك البشارة يارسول
وثابت إلي المسرة، كأول مرة، وظلت أمرح في أثوابها، وأنى لي بها، فالحمد لله على صنعه الكريم، ومنه الجسيم، أشكره شكر من استعلى بسلامتك قدحه، وعاد بإيابك صبحه، وأسأله الإطالة في بقائك، والصيانة لحوبائك.
وله من أخرى: الآن ساغ للكلام الالتماس، وساعدت في معالجته الأنفاس، وتبادرت إلى إثباته الأنامل، وخف فيه القلم العامل، حين أعيد إلى الجسم فؤاده، ورد في البصر نوره وسواده، بأوبتك التي(5/51)
بسطت مني ما انقبض، وهدتني إلى البيان وقد أغمض، فلم أجد في فم الشكوى ريقا، ولا إلى إيضاح ما ألقى طريقا، فلما وافى بأخذك في الصدر البشير، ووقع بلحاقك التقدير، فكأنما أنت انتشطت من عقال، وأمنت من نكس بعد إبلال، فثاب إلي من نافر القول ثائبه، وتراجع لدي غائبه وغاربه.
وله من أخرى: فرط المسرة على الإطالة باعث، وبالكلام عابث، ولا سيما إذا طلعت بعد أفول، وآذنت من خل بقفول، فلا تنكرن من مقالي، ما يميله لسان الشوق من حالي. لما تحققت [خبر] تغيبك، لا عدمت [13أ] الأنس بسببك، هاجني من ذكرك هائج، ومسني منه حرق واهج، شرد لي منامي، وردد قعودي وقيامي، وأقرح المآقي، وبلغ بالنفس الترتقي، تأسفا لبعدك، ومحالفة للهموم من بعدك.
وله من أخرى: قد أثقلتني عوارفك - أعزك الله - حتى أبقيت لي يدا تنظم، ولا لسانا يعرب عما في الضمير لك ويفهم، فأنا لك رهين أياد لا تستقل بها الركاب، ولا يقوم بشكرها الإطناب والإسهاب، وإذا كان العجز عن مجازاة برك أملك وأحصر، والعيان في ذلك عن شفوفك وتقدمك أنطق وأخبر، فالاعتراف لك بالتأخر عن مضمارك أجد ما سمعت إليه همة الآمل، وسايرت إلى مدى سبقه يد(5/52)
المتطاول، والرب تعالى ينظم لك أشتات المحاسن والأثر، كما أحيا بسنائك كريم الآثار والسير؛ وإن كتابك - لا عدمته من روض ناضر، وأنس محاضر - وردني مفتتحا للفضل والتهمم، وعارضا صدق مشاركتك في حالتي الصحة والسقم، وإن الذي بلغك من الالتياث المطيف بي، والوهن المساور لي، أثار لفكرك - أنعمه الله - شغلا، وحمل خاطرك - أصحه الله - ثقلا، إلى ما وصل ذلك من سؤال ملطف، وإيراد من قليب السحر مغترف، فقمت لهذه الصلة الكريمة على قدم التعظيم، ووفيتها قسط الشكر محلى بالتوفية والتتميم، وقلت: لله فعل كريم، يقثل الرقاب، ويسترق الألباب.
وله من أخرى: لما تراخت المطالعة بيننا، وتصدت الموانع لنا، حركني إليك عهد كريم، وود بين الجوانح مقيم، وعندي من ذكري لك، وشوقي نحوك، ما لا يأتي عليه البيان، ولا يتسع له الزمان، وأما شكري لمشاركتك، وثنائي على مظاهرتك، فبحيث يقنع الربيع حياء، ويفضح الغصون لدونة وانثناء، ويكسب الماء عذوبة، والحجر رطوبة.
وله من أخرى يعاتب بعض الأقارب:
وإذا الفتى صحب التباعد واكتسى كبرا غلي فلست من أصحابه
نعم، أعاذني الله من موجدتك، ولا حرمني جميل رفقك وتؤدتك(5/53)
فإني قرأت الكتاب الكريم الذي أطلت من جناحه، وأطنبت ما شئت في إفصاحه، وأكثرت من أناشيده وأهزاجه، وغيرت من عذبه بأجاجه، فجدد أي رسوم إيناسك، وهب بمعلول أنفاسك [13ب] وذكر بأيامك المراض، ونشر من ألفاظك العوارض:
كلام لو أن اللحم يصلى بحره غريضا أتى أصحابه وهو منضج
ما البدر يجتلى في أعقاب أسحاره، ولا الربيع يختال في أثواب أنواره وأزهاره، بأوضح من شياته، وأملح من كلماته، صدرت بقول ابن الحسين:
ما كان أخلقنا منكم بتكرمة لو أن أمركم من أمرنا أمم
وإذا ذكر حكمته ومعجزته:
وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام
وضربت المثل في صحيفة قريش على بني هاشم الأخيار، وأغلفت ما كان من تسلطهم على الجار، وأردفت بقوله عليه السلام [في من وصل أو قطع الرحم، وتركت كلامه على تفرده] : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده "، فوعيت الكل عنك وعيا، واستوفيته شريا وأريا، وتصرفت بين محظور منه ومباح، واستمعت فيه إلى استعطاف لي واستصلاح، ولعمرك - وقيت الردى، وجنبت الهوى - ما صدر [صدور قال(5/54)
ولا فسد لقيل وقال؛ ما تركتك توسد] للجاجك، إلا وقد يئست من علاجك، تمد في غلوائك، وتجد في استعلائك.
وفي فصل منها: وايم الله يا معشر القرابة ما وجدت أبي [رحمه الله] يستكثر بكم من قلة، ولا يفزع إلى رأيكم في ملمة، ولا يمتاركم عند نفقة، ولا يمتاز منكم على ما به من علو مرتبة، يكلؤكم هاجعين، ويقيمكم مائلين، فإنما أنتم عيال مبرة، وأمال درة، وأتلاء عقبة، وأشلاء لولا غمامة سيبه، وأنا أقفو أثرا هاديا، وأقتدح زندا واريا:
لا أحتذي خلق القصي ولا أرى متشبها في سؤدد بغريب
وكذا النجابة لا يكون تمامها بنجيب قوم ليس بابن نجيب
فمن أقبل منكم قبلت وده، ومن تولى تركت رده، لا اترفع ولا أتقلع، كما لا أتخشع ولا أتصنع.
ومن أخرى: التأميل، إذا ثبت فيه الدليل، وعضدته [من] المودة شواهد، يؤيدها الاختيار الناقد، لم يسترب بجانبه، ولا يفزع ماء الملام على مذانبه، فيما تحظر منه موانع الانشغال، وتحجر عنه مخافة الإضجار والإملال، من مطالعة يجتنى بها زهر الكلام، ويروى بها ظمأ الأفهام(5/55)
وأنا - أدام الله أيام بهجتك -، وإن قصر بي عن متابعة المداخلة جلالتك، واقتصرت بي على ما تحققته من إخلاصي وتعويلي إحاطتك، فغير مفارق لدعاء صالح أرفعه، ولا لإهمال واجب لك أضيعه، إذ أشخاص آمالي بك استشرافها [14أ] وعليك انحطاطها والتفافها، ونحوك تثنى أجيادها، وإليك تبارى جيادها، فمهما وقع تفريط، فالعذر فيه مبسوط، والقلب بودك مغمور، وبالذكر لك معمور، ولما جد بي الشوق جده، وتجاوز بي حده، أعلمت في هذه الأحرف أنملي، وأملى خاطري واللوعة لا تكاد تملي، [لتنعم بمراجعتي شافيا بشرح أحوالك، لا زالت زهاء أملك، ممتنا، إن شاء الله] .
ومن أخرى: أما جنوحي إليك واعتدادي، واقتصاري عليك واعتمادي، فقد وضح نهاره، وتفتح بهاره، ما المسك إلا دونه، وكثير له أن يكونه؛ وقد علمت أني واليت أمير المسلمين وناصر الدين [أبا يعقوب يوسف بن تاشفين] فيما منيت به من الأهوال، وتصرف الأحوال، فأخر أمره المقدار، وليس للمرء الخيار، وناديته الآن نداء مستصرخ قد انقطعت به الانتساب، أعار بياني عنده بسطا، ونص عليه من اختلالي فرطا، ودعاه إلى ما يجده عند الله محضرا يوم القيامة، وما(5/56)
يبقى إلا الأحاديث والذكر، ولك بما تأتيه المن والشكر، [ثم] لا يزال له به دعاء مرفوع، وثناء على أعجاز الركائب موضوع، وأنا أستنهض سروك بحسن المناب، إذ أعلقت سبي منك بأشرف الأسباب، ثقة بمجدك، ومعرفة بجدك، ومن مثلك فليكن الصنع، والمحتد الرفيع ينبت حوله الفزع، ومراجعتك الكريمة مؤنسة، وعن النفس منفسة.
وله من أخرى: كثيرا ما كنت أسمع إنشاد هذا البيت:
إذا أيقظتك حروب العدا فنبه لها عمرا ثم نم
فلا أدري من عمر، إلى أن مررت ببالي فقلت: هو هو، أخو الحياء والإنصاف، ومشرب الأدب الصاف، وانك أبا حفص - على ما فيك من عظيم الانقياض، وعليك من سربال الحياء الفضفاض - لقبس بيد المسترشد، وسهم في يد الرامي المسدد، خبأك الله فضيلة لإخوانك، وطرفت دونك عين زمانك.
له من أخرى: وردني من لدنك كتاب وقفت به من مشهدك الحسن. وغيبك المؤتمن، على ما عرفت يقينه، ووجدت قبلي قرينه، ثناء عليك يتأرج، وجدة إخلاص [لك] لا تنهج، والله يديم خلتنا نيرة سرجها، ضخما بسلامتك ثبجها.(5/57)
ثم رأيت ما نشرته من الرغبة [14ب] في جبر فلان، قبحه الله من إنسان، وعاد فسوق، له في البغي أكثف سوق، وكل شفاعتكم عندي مقبول، فالقلب على مودتكم مجبول، لكنها معوذة من أن يدنس بذلك الساقط طاهرها، وما قتل أرضا جابرها، فليكن عندك نسمة حرب، وقرارة ريب، ليس كما نحلته من الخلال، ولا كما قلته في الأحوال؛ ووصفته بالحج وإنما حجت العير، وبالنفقة وإنما هو منه الخلي الفقير، وبالقراءة وما يحفظ التنزيل، ولا يميز المحرف من الحروف ولا المستطيل.
جملة ما وجدت له من الرسائل، في الشفاعات والوسائل
فصل له من رقعة في صفة الأستاذ أبي القاسم عبد الدائم: نحن لا ننزل بالخلة، منازل الخلة، فنتناولها بأطراف البنان، ونسلك بها شعب أهل الزمان، بل نصونها في مضمر القلب، ونحفظها على النأي والقرب، [وإنك - ما علمت - شيمتك الوفاء، وقرارتك] الصفاء، وبعد: فما زلت مفيدي ضروب الفوائد، ومقلدي عجائب القلائد، حتى كأنك(5/58)
إذا رأيت ما بأرضي من الأدب الماحل، والفهم الناحل، أنزلت عليها الماء فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.
وقد طوقتني بالأديب أبي القاسم عبد الدائم - حرسه الله طوق الحمامة، وسقيتني به در الغمامة، فتنفست أنفاس العراق، واجتليت محاسن كالجمع بعد الفراق، فأنا الشاكر صنعك، القائم معك. ولقد لطف فيما ألف، وأوضع فيما وضع، فسرد المعاني أجمل سرد، ونثر الفقر نثر الجمان من عقد، وصرف المتأمل فيه بين جد وهزل، ونقله على أقتاب بين حقاق وبزل، وقد قبلت ما أهداه ووضعه على الرأس إكراما، وجعلت له الحمد لزاما وزماما، فلله أنت ولله هو! لقد شددتما أزر العلم، وأحييتما عافي الرسم، وهنيئا لقطركما لقد تدفق بكما سيله، وتفرى عن صباكما ليله؛ وتصفحت ما قرن بتلك الأسفار، من منتقى الأشعار، يتخللها من الكلم السلسال، والمثل المنثال، ما يستنزل الطير من وكناته، ويفضح عمرو البيان في نزعاته، فشهدت لقد أوتي البسطة والفنون، إن سلم من العيون.(5/59)
وكان وصول الكل على يدي فلان، وقد وصفه بصفاته، وصقله بمراعاته، وقد حملته ما أتغطى منه، إن لم يكن بفضلك المعتذر عنه.
وله أيضا من أخرى فيه: [15أ] إذا شئت - أعزك الله - أن تجلو البصر، وتحبو الفكر، فقد وافتك الأيام بجلائها، ووفرت لك من حبائها. ويوافيك بكتابي - وافتك الآمال - الأديب الحلو الحلال، أبو القاسم عبد الدائم، قاصدك [وسيدي] أبقاه الله، وستلقى به الأدب الموفى، والذهب المصفى، ونهزة الأصحاب، ونزهة الألباب. وقد كانت استقرت به الدار عندي، وأضاء به أفقي وزندي، حتى أوجدته النفس أدواء، وآثر لمكانك لها شفاء، حيث المحل فسيح، والهواء صحيح، والطبيب موات، غير آب ولا عات؛ وقد دعوت الله أن يبرئه من وصبه، ويرعاه في تقلبه، وأنت بمجدك تؤمن على الدعاء، وتبتدر هذا العلق بالاحتواء، وتلزمه [من] مهرة الاطباء كل [محمود] النقيبة، مأمون الضريبة، وكم بذلك من ثناء ترتديه، وعلاء تحتويه، لا زال(5/60)
مثل هذا النجم طالعا في سمائك، وزاد [الله] في مضائك وبهائك، بقدرته الغالبة الباهرة.
ومن أخرى: وفلان ممن يأوي إلى خير وصلاح، ويستضيء من طلب العلم بمصباح، وبحسب ذلك أحب حياطته، وأريد إرادته، ورغبتي حفية لدى مجدك في أن ضعه منك ببال، وتخفف ما يطرأ عليه من أثقال، وتقلده من محافظتك ما يحصل به على مزية حال، حتى يرى عليه أثر الشافع، وتلذ خبره أذن السامع، وثقتي بما خططت لك من سطوري هذه، أغنتني عن الاحتفال، والإلحاف في السؤال، وأنت أرطب عودا، وأخصب نائلا وجودا، من أن يثنيك عن العلا ثان، أو يفتقر المشفوع لك فيه إلى ضمان، فان حاشيته من تلك النوائب والدقائق، سار شكري اليك سير الفيالق، يوافيك بأحشاده، ويضيق جوك بأعداده، بقيت ربعا يحط إليه، وثمالا يعول عليه، وقدرك سام، وزمانك مناضل عنك رام، وإنما أنت ركن الفضل وأسه، وزين الدهر وأنسه، ومركز الكرم وقطبه، وعين الشرف وقلبه.
وله من أخرى: لما استحكم ما بيننا استحكام البنيان ذي القواعد(5/61)
وصار ذلك مستقرا في علم الصادر والوارد، جعلت إليك شفيعا، وارتجي النجح بي وشيكا سريعا. وتصل أحرفي هذه على يدي فلان من أهل شلب، ممن كانت له حال بذلك الغرب، إلا أن عادة الأيام في مثله مبلوة، ومنازلهم عندها مجفوة، ونبذته عن الوطن والصميم، كما ينبذ الكراع من [15ب] الأديم، واعتمد هذا الوفق، يرجو فيه الرفق، وأنت محط أمله، ويد عمله، آثرك لتثير له أمرا يتقلده، فانك منجز به متعهده، ورغبتي مؤكدة إلى مجدك فيه، فله خلال تحظيه، وما يقع عنده من حسن صنيعتك فهو واقع من اعتداده وودادي، موقع الماء من ذي الغلة الصادي، وما خططت له بيدي، إلا تكرمة لأمره، ومبالغة في بره، لمكانه عندي، وتفعل يا معتمدي ما تحصل به على العاطر من شكري وحمدي، إن شاء الله.
وله من أخرى: أكرم يد - أعزك الله - يطوقها المرء جيد مجده، ويزين بها ديوان حمده، ما سد خلة من حسيب، أقعدته يد الدهر المريب، وموصلة - وصل الله حرمتك بالسلامة من نكد الأيام - ابن المستعين بالله - رضي الله عنه وأرضاه - توسل بي إلى مكارمك في ترميق حالته، والرم لحوالته، لما جفت غضارته العيش من رغد النعمة، وحول إلى الضيق بعد السعة، وإلى التجول من الدعة، ومثلك - ولا مثيل لك - رق لما به [-] سرفه ونصابه، واغتنم(5/62)
الصنيعة، وحقق ضماني عنده وما يرتجيه، فانك ستجزى بما تسديه، أجمل الذكر، وأحفل الشكر، مع الأجر المغبوط، والذخر المحوط، والله لا يعدمك ارتهان المنن وارتباط الأحرار، ويحرسك من حوادث الليل والنهار.
وله من أخرى: لم تزل - أعزك الله - من الظلم معصرا، وعند عماه مبصرا، وعلى الخير معانا، وللفضل عنوانا؛ وموصل كتابي له طلب قد دثر طلله، بالأفق الذي بك ازديانه وتجمله، وتوجه باذن المظفر لاستخراجه، وتشخيصه على منهاجه، ولا غنى به عن كريم مؤازرتك، ومعلوم سيادتك، برأي حسن يظهر فيه، يكون معه دنو وطره وتأتيه، وأنا أسأل سناك العناية بأمره، وإيثار العدل الذي لست مع غيره، وللرجل إلي أذمة قديمة، وقد استوجب على علاك بذلك، غاية محافظتك واهتبالك، وهو مورد عليك شانه، ومظهر إليك برهانه، وفضلك في الاصابة إليه، والدلالة على ما حزت به الصواب من طرفيه، مرتهنا حمدي، ومعيدا لليد البيضاء عندي.
وفي فصل من أخرى: ومؤدي كتابي هذا لما تناكرت له الأيام، وأعوزه في استصلاحها المرام، آثر جواري [16أ] وقصد داري، وما انتقل من ظلك إلا ظلك، ولا تعوض من محلك إلا بمحلك، فسكن سكون المريح من تعبه، البعيد عن نوبه، ينتظر أن تنظر إليه عواطفك، وتستجد عليه عوارفك، حتى إذا كان الآن، ورأى عنان(5/63)
زمانه قد لان، نبهني ونام، وذكرني الذمام، فوكلت عزمي برعيه توكيلا، واستقبلت وجه كرامتي لديك تقبيلا، أسألك فضلك المعهود، وشرفك المسود لا المسود، في أن ترفع عنه إساءة الحادثات، وتجمع له شملا من يد الشتات، وتوجده سنن الحاجات إليك سهلا، وتقول لذي العداوة فيه مهلا، وهذا - أعزك الله - يربي لك ما سلف من الأيادي، ويخط سطورها لك في سواد فؤادي، وأشكرك عنه كما شكر الروض صباه، والعمر صباه.
وله من أخرى إلى ابن العطار، وقد ثنيت له الوزارة: في إحاطتك الوافية، ودرايتك الوافرة، أني بك راجح ميزان الذخر، منهل ماء الفخر، ثري أرض الود، عطر رائحة العهد، وأن بشراي تتابعت أن هلالك في الوزارة طلع بدرا، وأن نداءك بها صار شفعا وكان وترا، فقلت: ساقها شغفها، وزانها شرفه لا شرفها، فليهنها حلولك بفرقديها، وجمعك بين نسريها، وأنك مقلدها من خلالك فذا وتوأما، وملبسها من صفاتك طرزا وأعلاما، حسن يقين، ومتانة دين(5/64)
وطيب جذم، ورسوخ ورع وعلم، وأدبا كالروض نبهه الصبا، وكرما كالغيث غمر الربى، ولقد قعدت للتهنئة فأقبلت إلي هواديها، وانثالت علي من حواضرها وبواديها [جميعهم يضحك ويسر، ويقول لكل أناس في جميلهم خبر، أوله كلامي، وإليك مقامي] فان تقدمت فبفرط الهبة، وان تأخرت فلعظم الهيبة.
ومن رسائله في الدعابة والهزل
فصل له من جواب على كتاب [عتاب] لابن عبدوس لتقديمه صاحبيه، في عنوان رقعة عليه:
وردني من لدنك كتاب كريم انهلت علي منه سحائب فكاهتك ودقا، فلم يترك لي من فرط الضحك شدقا، مما عذب استماعه، وذهب بالإبداع اختراعه، وان كنت قد تعديت طورك، وغلبت ظنك وحكمت جورك، ولم تحاسب نفسك عند الهجوم، بما تقلع عنه من الإفحام والوجوم، إذا أقيمت عليك الحجة، وسدت دونك مناهجها، وعرضت عليك المحجة، وضاقت عنك مخارجها، وعلمت أنك مذنب فيما فعلت، منتشب [16ب] فيما دخلت، ووقعت بين ندامة واعتذار(5/65)
وتوبة واستغفار، ولو أنك تمعن نظرك، وتدمن تدبرك، لما طارت بك فتخاء نشاطك، ولما توهمت أنك إن جادلت لم أعاطك، كلا، فان خصمك لا ينكل، على أن لسانك الأطول، فكيف أضعك أبا عامر - كما زعمت - موضع قدح الراكب، وأنت بمنزله ما بين العين والحاجب، وأصول بك على الأباعد والأقارب، ولم أذهب إلى تأخيرك في العنوان، وإن كنت شيخ الأوان، إلا عناية بك وتحقيقا لدعاويك، فيما تنكره من سنيك، وبقولك بملء فيك: إنك أصغر القوم سنا لا جسما، ولقد شهدت بما قلت عدوانا وظلما، لأن ما يبدو من تغضبك يكذبني، وحسبي أن العقوبة منك ما مطلتني، وهذا جزاء الافتراء، وعاقبة المسامحة والإغضاء، فأين عزبت عنك بوادر فطنتك، أم أين غربت شمس فهمك وتثبتك - لقد أوليت اليد كفرانا، وقابلت بالاساءة إحسانا، ولو أني وفقت [لصدرت بك] ، إذ تجري هذه المعاني على الأنسان، ولدللت على ما يخفيه المقراض من شيبك ويعانيه من هرم شبابك، وقد ولاك قفاه [إعراضا] وطلقك ثلاثا، فحينئذ كنت تحمد وتقول: فدتك النفس والولد، وإنما من الله لعظة لأهل الزور، وعثرة منك بينة العثور، لا أقيلك فيها، ولا أقول لك: لعا، منها.(5/66)
ومن أخرى: وقد نظمت أنسا، وبسطت مني نفسا، كان نأيك قبضها، وفراقك أوحشها وأمرضها، ولله هزلك ما أرقه وأعبقه، وجدك ما أروقه وأعتقه، إنك لفارس زمانهما، وغارس بستانهما، وإن كنت أنحيت في عتابك، وأربيت في غلوائك لسجرائك في كتابك، فانه حلو من الرضى، محمول بصحيح الهوى، ولم أشك في الذي تضمنه من نزاعك [نحوي] ، والتياعك لعبدي، وفي تلاحظ القلوب سلوة، [وفي تسارب الكتب راحة ونشوة] ، أسأل إدالة الانتزاح بقرب يعجله، على ما نؤمله.
وعرضت عليه رقعة رجل يتزهد، وهو بالضد، أطال فيها اللفظ بالوعظ وردد، فأجابه ابن طاهر برقعة يقول في فصل منها: ورد كتابك فوعظ وذكر، ونصح فبصر، ونبه من سنة الغفلة، واغترار المهلة، [17أ] وحذر من يوم الندامة، وبعث يوم القيامة، فيرحمك الله من هاد، وخائف معاد، ومبتغي إرشاد، وداع إلى صلاح وسداد، لقد حركت أنفسا قاسية، وهززت جندلة راسية، قد تحكم فيها ضلالها(5/67)
وأفرط في الجهالة إيغالها، فمعولك دونها ناب، لا يؤثر فيها بظفر ولا ناب.
وفي فصل منها: ولا يغرنك ما ترى فيه من سمت الوقار، ولزوم الدار، ومداومة التسبيح والاستغفار، فتحت الرغوة مذق، ودون ذلك الشعار من الرياء فسق:
لا تمدحن امرءا حتى تجربه ولا تذمنه من غير تجريب
استخبر من في أفقك، ولا تطلق من عنان قلمك، إلا بعد اجتلاء اليقين، وتحفظ من عدوى القرين، فقد تعدي الصحاح مبارك الجرب، وأنا أربأ بك من قال وقيل، ومن ذا ينيب حينئذ لحجتك، ويسفر عن وجه القبول لمعذرتك، كلا، فان الله لا يدنس منك طاهرا، ولا يلبس عليك ظاهرا، بل يكشف إليك ما يصرف القول عنك ويعلمك ما لم تكن تعلم.
وله من أخرى إلى بعض إخوانه وقد حضر محاصرة شاطبة: ورأيت مآل الامر بوقوع الحرب، وشروع النقب، وأنه وضعت الملاطيس:(5/68)
فقلت: الآن حمي الوطيس. فأرجو أن يصحب الظفر، ويسعد القدر؛ وحدثت أنه دعيت " نزال " فكنت أول نازل، فقلت لمحدثي: أمجد أنت أم هازل -! سيدي أشد بأسا، وأعز نفسا، من أن يرى يوم جلاد، إلا على ظهر جواد، فان لبس زغفا، هزم ألفا، وان تقلد صمصامة، لم يبق هامة. ولكن أذكره بهذه الشهامة، قول أبي دلامة:
ولو أن برغوثا على ظهر قملة ... يكر على صفي تميم لولت
إذا صوت العصفور طار فؤاده ... وليث حديد الناب عند الثرائد وقوله:
ووردت أن أنظر عند الصيحة إلى الحكيم أبي جعفر، فتجلي العين منه أحسن منظر، وقد صفف مراهمه، وجمع دراهمه؛ وأما جارنا أبو الخطار، ففي القنا الخطار، وخصصته بالتقدم للصداقة [والجوار] ، وأما الفقيه أبو مروان فرائح في قميصه المدلوك، وعليه نصف لجل من الوشي المحوك، يحذر من الفرقة، ويقص على الفرقة، وإنه لأنس في السفر، وزين في الحضر؛ وأما سائر الإخوان، فأرفعهم لغير هذا(5/69)
الرهان [17ب] والله يبقيك ذخرا للزمان، وعينا في الأوان.
وله من أخرى: خذ هذه النادرة، من يدي هذه الطالعة الفاترة، وأنجز لها مجدك الموعود، وصل عندها فضلك المعهود، فانها تقوم مقام الجيش في الغناء، وتصل الرواح بالغدو في الثناء، ولولا غنة [فيها] ، تلفف فكيها وتلويها، لكانت أحسن الناس وصفا، ولا سيما إذا مسحت أنفا، بسبابتها عند الكلام، وحدثت حديث مصر والشام، فهناك يقطف الزهر، وتغرف الدرر:
*ولكن حديثا ما حديث الرواحل *
فهي لا تقنع بشيء سوى الحاصل العاجل، فأقبل على شانها لا زلت قبلة القاصد والآمل.
وله من أخرى [الشيخ أبو الفضل لما] استبدل الجار، أنكر الدار، فحصل من وساوسه في بيت وبال وسقوط، وخشي أن يظن أنه من بقية قوم لوط، وأنى له ويعطى هذه الدرجة، والسقط يحرق الحرجة، ورغب عن تلك الدار متحولا، وقصد مجدك لا يبغي سواه معولا.
ومن أخرى: هذه - أعزك الله - عربدة من رأس الصباح(5/70)
وسورة شديدة من الاقتراح، وقد وردت مستورة تحت الظلام، محفوظة بالختام، فأقسم لقد قطعنا الليل بها ضحكا وتعجبا، فما عندنا إلا من ودعه صباه، وودعته نهاه، وقد كان في الخل ما يكفي فهو نعم الإدام، كما قال عليه السلام، ولكن أردت أن يكون لك في كل بر مقام، وقلت: هذا الحلو الحلال والحرام، ولولا أن الصبا عني ولى، لرشفناه رشفا، واستزدناك منه ضعفا.
وله من أخرى: هذا الحلبي [أعزك الله] يوافي ذراك وماء الخجل يقطر من وجناته، ويستغفر لذنب لم يكن - علم الله - من جناته، وهو علق كما تراه لا علك، وعند الشميم ند أو مسك، فاشدد يديك به ولك الربح، واسمع له ومن عوائدك السمح، ومن الظلم أن يحلى بغير حلاه، فيقال كذوب والصدق منجاة، أو يقال بذي، والعرض نقي؛ ومثلك رق لغربته، وكشف من كربته، فاجتلى الشكر في غلائله، واعتبق المجد في غدائره، لا برح الحمد من ذخائره.(5/71)
وفي فصل من أخرى: مر بنا كاتبك السري وأمامه وزراؤه، عصابة كأنها الخطي، وقد حفف من حواجبه، واحفى من شواربه، وهو يتفكه، من قادمتي حمامة أيكة، كمن تصنع وترفع للقافية فلا تواتيه، فسألته عنك فقال بفتور: هو 0أعزه الله - لي سنان وأنا له مجن، فقلت: قرت بكما عين، لقد تخرج من الحرب [18أ] بظهر المحتطب، إن لم يكن لك درع تقيك من القنا السلب، وأستغفر الله مما يجنيه، على أن الصدق لا إثم فيه، ووجب إعلامك بنادرة هذا اللبيب، فانها من الغريب، لا برحت في كل شيء عين المصيب، ومن كل فضل وافر النصيب.
ومن أخرى: لا بد للنفوس أن ترتاح، وللنوادر أن تستباح، وفلان أصابته طارقة، وابنة الكرم له معانقة، فنتفت عنه كل ريشة، [وتركته في أسوأ عيشة] ، وإني لأعجب من غفلاته، والحذر في مشتبهاته، حتى لقد يكون حارسته من اللصوص، وأمتنع من البنيان المرصوص(5/72)
ومثلك رق له وأولاه. وعطف عليه لما دهاه، وكان حسنا، لو التمس له سكنا، تكون من شرطه، ومن خير رهطه، فيقطع بها الليل الطويل، وينفي معها الهم الدخيل.
وله من أخرى: أذكر سروك بالشيخ ابن القزاز أن تخلطه ببالك، وتجعله من عمالك، فسيحوك لك من الثناء برودا، وينظم عليك من لآلي الحمد عقودا، فإنه قد ترشح للخطة، وتبحبح لحلاوة الضبطة، وشمر عن ساقيه لمركب الغبطة، وأخاف أن يكون من مراكب السلف، التي تحدى بأند خلف، فهي لاصقة بالأرض. مقيمة على شدة الركض، ففضلك بالتعجيل، مستبدا بالشكر الجزيل.
ومن فصل من أخرى: مثلي ومثلك مثل رجل من العرب، استقرى عقيلة ربرب، بل سليلة فصل وحسب، فأجزلت قراه، وأكرمت مثواه، فلما اطمأن المجلس، وانتظم التأنس، سعت إلى بعض أوطارها، فراقه ما تحت إزارها، فجعل ينشد:(5/73)
يا أخت خير البدو والحضاره ماذا ترين في فتى فزاره
أصبح يهوى حرة معطاره إياك أعني واسمعي يا جاره
وكذلك غيرك المخاطب في شئوني وأنت المراد، وإليه الإيماء، وفيك يبدأ القول ويعاد، ولله أنت ما أعطر خلالك، وأكثر اهتبالك، لا زالت أياديك كالأطواق، ومعاليك معطرة الآفاق.
ومن أخرى: الكريم يلين بالهزة، ولا سيما بجناح الإوزة، وقد وافتك عارية من الريش، خالية من الحشيش، تمت إليك بسالف الذمام، وصالح الأيام، وقوام عيشها أن تهيء لها غديرا، وحمى كثيرا، ففضلك في أن يصحبها رأيك الجميل، بخدمة وإن قلت، وكلا فليس منك قليل، وستجد فيها منافع جمة، منها أنها تكون مروحة عند السموم، ومضحكة لك عند الوجوم، فاذا رأيتها وصواحبها فوق [ظهر] الماء، رأيت أبدع الأشياء [18ب] تحسبها سفينا في العيان، وكأنها بعض مرابض الغزلان، ولو جيت أن أعداد أوصافها لطال الكتاب، وامتد الإسهاب، [فاغتنم سماح الزمان بها، وأنزلها] من البر في أسنى مراتبها، وإلى فلان هذا الإيماء وهو التصريح، وعنه الكناية وهو النسب الصريح.(5/74)
وفي فصل من أخرى: وكأني أنظر اليك وقد استحر الجلاد، وأدركك الإعجاب، وهان عليك الكتاب، وأنت تقول، من فرط ما تصول:
إني انصرفت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيف ليس المجد للقلم
اكتب بنا أبدأ قبل الكتاب به ... فانما نحن للأسياف كالخدم لا تعجل، فلها حجاج، كأنها زجاج، تفرى بها أوداج، ولرب جيش هزمته، وملك هدمته، ولله تعالى نعمة عظيمة فيما كان من الفتح، جاءت كفلق الصبح، تبشر دولة الإسلام، بالنصر وارتفاع الأعلام.
ومن رسائله في التعازي وما يجانسها
فصل له من رقعة إلى ابن رزين يعزيه في أبيه: كتبت لهفان وقد أسمع الناعي، فأضرم نار الأسى بين أضلاعي، للرزية العظمى، التي رمى سهمها فأصمى، بوفاة من جمعت فيه المحاسن والخلال، وزال كما تزول الجبال، وقل له المشابه والنظير، ومات بموته البشر الكثير، الحاجب ذي الرياستين أبيك، رب الشرف الصميم، والحسب العد(5/75)
الكريم، أوسعه الله رحماه، وجعل الجنة مأواه، فاها لله وإنا إليه راجعون؛ على الرزية فيه، ليتني بالنفس أفديه؛ فأما القلب فمنحل ومنسلب، وأما الدمع فمنهل ومنسكب، سقى الله جدثه سبل القطر، ونفعه بحسن المذهب وجلالة القدر، وجزاه المحسنين، وأنزله دار المقامة في عليين، وهناك الله ميراثه من الرياسة، ومكانه العلي من النفاسة، ومنحك العمر الطويل، وأمتعك العز الظليل، وساعفك بكل ما تهواه الزمان، ولا زال بك يتجمل ويزدان.
وله من أخرى: كتبت وقد وافاني كتابك بما أطال ليلي وأسهر عيني، وحال بين التماسك وبيني، للنازلة الفاجئة، والحادثة الفاجعة، في المتوفاة - نصر الله وجهها وقدس روحها - فلقد رمتني الأيام بثكلها فأصابت مني صميما، وسلبتني علقا كريما، وأنسا عظيما، وأبقت بقلبي ندبا، وتركتني على العزاء مغلوبا، فانا لله وإنا إليه راجعون، تسليما له فيما قضى، وقولا يوجب عنده الزلفى والرضى؛ وهو الحمام، والموت الزؤام، جعلنا [19أ] الله منه على حذر، ووفقنا منه لخير عمل ونظر.
وله من أخرى: وتوفي فلان - عفا الله عنه - وكان البقية التي(5/76)
يؤنس لبقائها، ويعشى إلى أضوائها، فاختلسته المنية، وفجعت به الدنيا الدنية، فمن شأنها أن تذهب بالأفاضل، وتخيم على الأماثل؛ نقله الله إلى رضوانه، وحفه بغفرانه، وأحسن العزاء عنه، وان عز العوض منه.
وأما عهدنا فقد درس منه العهد، بخطوب يتمنى معها الفقد: بلاد لحقها التغيير، واستولى عليها التدمير، وأكلت الجوعة بنيها، وتعطل الشرع والدين فيها؛ فلا صلاة تجمع، ولا منبر يرفع، والكل ناهل، وفي حوض الردى ناهل، فلينح على الإسلام نائح، وليجبه صدى من جانب القبر صائح.
وهذا محلول من شعر لتوبة بن الحمير، ويتعلق بذيله خبر رواه أبو عبيدة قال: إن ليلى الأخيلية مرت مع زوجها في بعض نجعهم بالموضع الذي فيه قبر توبة، فقال لها زوجها: لا بد أ، أعرج بك إلى قبره كي تسلمي عليه، وأرى هل يجيبك صداه كما زعم حيث يقول:
ولو أن ليلى الأخليلية سلمت علي ودوني جندل وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا إليها صدى من جانب القبر صائح
فقالت له: وما تريد من رمة وأحجار - قال: لا بد من ذلك، فعدل بها عن الطريق، فلما دنت راحتها من القبر ورفعت صوتها بالسلام(5/77)
عليه، إذا بطائر قد استظل بحجارة القبر من فيح الهاجرة وطار فنفر راحتها فوقصت بها فماتت. وهذا اتفاق غريب، وحديث في هذه الهامة عجيب، وهي ما زعم الأعراب طائر يخرج في القبر من رأس القتيل فلا يزال يقول: اسقوني، اسقوني، حتى يؤخذ بثاره، وفي ذلك يقول الآخر:
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
وهذا الخبر في شعوهم أشهر من أن يذكر.
وله من أخرى: الدنيا - صرف الله عنك صرفها - على الفجائع مبنية، [وقصاراها كدر أو منية] ، وان الحازم من وطن لأحداثها، وأيقن بانتكاثها، فأوسعها رحيبا، وقلبا صليبا؛ وكتبت والدموع محدور، وقد حم قضاء ونفذ مقدور، بوفاة الولد الطيب المبارك أبي عبد الله ابننا، وقرة أعيننا، كان - نضر الله وجهه ولقاه رحمته ومغفرته، ورفع في دار المقام منزلته - فناهيك بأسفي عليه وتوجعى، وما أوقد [19ب] نار الأسى بين أضلعي، فانه كان مرجوا في الأبناء، معدودا في النجباء، للسيادة مرشحا، وبالفضائل موشحا، ينهل الخير من أعطافه، ويعجب الدهر من أوصافه، أكرم به من سليل، كان على أحسن خليقة وأهدى [طريقة وأقوم] سبيل، ولكن يأبى الله إلا ما(5/78)
يريد، فأسعد بجواره ونعم السعيد.
ومن أخرى: كتبت مجملا ومختصرا، ومنتحبا مستعبرا، وأعزز علي بأن أعزي مخاطبا، ولا أكون مشاهدا ومواظبا، وان المقدم لحرمته، لفائز من الله بأتم نعمته، فسلموا - أعزكما الله - عن الحادث سلو، ودعاء إلى الخالق مرجوا، في أن يكشف عنكما الغماء، وينير بكما الظلماء، وأبشروا على الصبر الجميل، بالأجر الجزيل، وما حط ما أصبتما به قدر، وإنما حط من وزر.
وله من أخرى:
*عيد بأية حال عدت يا عيد *
عاد والله بفيض الدموع، وفض الضلوع، ومفارقة الأعزة الجلة، ومحالفة الأسى والذلة، فتوهم - أجارك الله من نوبه - ما بقلبي من تلهبه، للحال التي أنتم عليها، وكيف مقامي، وانتحابي واحتدامي، ولكني ضارع إلى الله أن يغفر الذنوب، ويكشف الكروب، وإنا لله وإنا إليه راجعون على هذا المنظر، في هذا اليوم الأكبر، وقد عهدناه أغر وضاحا، يعيد الليل فجرا وصباحا، وهو المرجو لتلافينا، والإقالة من عثراتنا ومهاوينا.(5/79)
ناقص(5/80)
شاهدا كما انتحبت غائبا، وأؤدي من مفترضات أياديك واجبا.
وله من أخرى: موهوب الدنيا - أيدك الله - إلى استلاب، ومعمورها إلى خراب، ومطمعها كالآل والسراب، تغافص ذا العزة، وتقطع در الدرة، وتخون ذا الثقة المبرة.
وفي فصل منها: فرع [والله] من الفضل ذوى، ونجم في الرياسة خوى، أظلمت بعده الآفاق، وأدرك تمامها المحاق، وإلى الله الشكوى، فهو أضحك وأبكى، والحمد لله على نافذ أقضيته، ومحتوم قدرته، وهو المنهل، لا يعل منه الذي ينهل، فالتماسك عند هجومه ألزم، ووفور الأجر عند ذوي النهى أحزم.
وفي فصل من أخرى: أسرع اليك يا معتمدي الفطام، وأقصدتك للحوادث سهام، وحملت ثقلا لا يطاق، وتغيرت له الآفاق، فقبحا لدنيا عفت بيدها جمالها، وحدت لارتحال بهجتها جمالها.
ومن أخرى: كتابي عند ورود الخبر الصحيح بالتغلب على دانية وتثقيف قصبتها، وتملك معز الدولة -] استنقذه الله]- وهجوم المنية على إقبال الدولة -[رحمه الله]- فاعجب يا سيدي من انقاض الحال بغتة على الفور، وذهاب دولة السؤدد والسرو، على بعد مرامها(5/81)
وشدة أركانها، وعزة سلطانها، أعاذنا الله من سوء القضاء، وجعلنا في حيز الاحتماء. ولما ورد هذا الخبر الذي يورد المنون، ويسهر العيون، طيرت به إليك على شرط ما بيننا في الأمور، في القليل والكثير، [والله يقي جانبك ويكفيه، ويذب عن قطرك ويحميه، بقدرته] .
وفي فصل: يجب أن تعذرني - أعزك الله - إذا كتبت، فالذهن كليل، والقلب عليل، والقول قليل؛ وبلغني ما أصمتك به الأيام في الصميم، والظل الكريم، بوفاة الوالدة الطاهرة، والجنة الساترة، ألحفها الله رحمته، وألحقها جنته، ومثلك في رجحانه، لم توه المصائب من أركانه، بل سلم لله في حكمه، واسترجع للخطب على عظمه، فغنم الثواب، [وعلم المآب] .
وله من أخرى يعزي بموت المقتدر: أي خطب - أيدك الله - طلعت به النوائب، واسودت له المشارق والمغارب، لقد ترك شمل الإسلام صديعا، وصير عبرة الشؤون نجيعا، بمن كنا نلوذ به: قريع الزمان، ومبير العدا ومولي الإحسان، مولاي المقتدر بالله - نقع الله صداه، وكرم مثواه - فلو درى الحمام بمن فجع، لارعوى أو توجع، ولكن هكذا تزول الجبال، وتنصرم الآمال، وينهال السناء [20ب] وينهدم البناء.
وفي فصل [منها] : وما أعلمت يدا إلا والدمع منسجم، والشجو(5/82)
محتدم، وقليل أن تطيش الألباب، وقد حل هذا المصاب، وفي مولاي الرجاء والعزاء، وإليه الانتماء والاعتزاء، لا زال يستقبل دهرا جديدا، وعمرا مديدا، حتى يخلد ذكرا مشيدا، وفخرا تليدا.
وله من أخرى: مالي أرى المجد - أعزك الله - قد سدت معالمه، وانهدت دعائمه، بفقد من كان يغرق البحر فيض نواله، ويكاثر نجوم السماء بعض خلاله، واحد الدنيا، وجامع العليا، ومن كان يطرق الحلم لأناته، ويحار الفهم من آياته، ويعز الدين بمكانه، ويذل الشرك لسلطانه، مولاي المقتدر بالله - قدس الله روحه، ونور ضريحه -.
وفي فصل: وإني لأعلم نيل الخطب منك، وصدر الرزء عنك، وحيث انتهى [بك] البكاء والعويل، وغناء لعمري لدى المصاب قليل، وما أعزيك وأترك نفسي، وقد شردتما سكني وأنسي، ولكن أعرض عليك مكان السلو وقد لاح لي بدره، بالرئيس الشهم المعظم قدره، الحاجب مولاي المؤتمن، فذ العصر، ومقتاد كل كريمة، [ووراد كل كريهة] من يحمي الحمى، ويسدي النعمى، ويزاحم الأفلاك، ويبهر الأملاك.(5/83)
وله من أخرى: أنى يستطاع الكلام - أيد الله مولاي - وقد اغبرت الدنيا وأظلمت الآفاق، ونعي الإسلام، وعني به الحمام، وقامت نوادبه، وأوحشت مغانيه وجوانبه، ولكني أقول عن صعدائها، وللعين غصص بمائها، وللنفس تنفس من برحائها: لقد مات منقطع القرين، وكاليء هذا الدين، من كان - والله - ينير إذا دجت الخطوب، ويثير إذا عن الهبوب، ومن يملأ الأفواه طيب ثنائه، ويملك القلوب بشر لقائه، ومن كان يرهب الشرك صولته، ويخاف العدو وطأته، فبرد الله ثراه، وسقاه الحيا ورواه، فلو يعلم الترب ما ضم من كرم ونائل، وحلم إذا خفت الحلوم غير زائل، لطاول السماء، واعتنق الجوزاء، ولقد قلت لما غالتني فيه الغوائل:
فما كان ما بيني لو أني لقيته وبين الغنى إلا ليال قلائل
وله من أخرى: الدنيا - أعزك الله - ليست بدار قرار، والمرء منها على شفا جرف هار، وإنما هي جسر على الطريق، وعدو في ثياب صديق(5/84)
ولما بلغني وفاة فلان -[رحمه الله] نضر وجهه وبرد ثراه - علمت أنك الجبل الذي لا يرتقي الجزع ذراه، وإن كان سهم المنايا أصاب حميما، واستلب كريما، فقد أبقى الله بك الصدع مرؤوبا، والجزع مغلوبا.
ومن أخرى: كتبت والدمع واكف، والحزن عاكف، للرزية الشاملة، والقاصمة النازلة، في فلان، فيا عظم ما [21أ] دهمت به الأيام، وفجع فيه الإسلام، فانا لله وإنا اليه راجعون، تسليما لنافذ القضاء، ومقدر الفناء؛ ولقد نالني من الكرب لهذا الخطب ما لو شهدته لراعتك المنظر، ولجعلت نفسك الكريمة تفطر؛ وخاطبت الحاجب - أيد الله صبره، وجبر صدعه - مقيما للرسم في تعزيته، ولو استطعت لنهضت بنفسي لقضاء الحق وتوفيته، فنب بفضلك عني منايا [كريما] ، وأعلمه - أيده الله - تفجعي وتوجعي، وتأسفي وتشيعي، وفي بقائه ما يسد الخلل، ويمد الرجاء والأمل.
فصول اقتضبتها من كلامه في وصف ثغور البلاد
والاستنفار للجهاد
فصل له من رقعة: استوضحت جميع تلك الأحوال التي وصفتها، والأحداث التي قصصتها، فأكبرت وقوعها، ثم عرفت للأيام صروفها(5/85)
وصدوعها، وتألمت لما يجري على المسلمين من نكد فاضح، وتلف فادح، فليت شعري أين البصائر، وحتام تدور هذه الدوائر، على رمق الجزيرة وقد أشفى - أما آن للنصر أن يقع [وللداء] أن يشفى - نظر الله للكل، وأراهم مواضع الرشد، من العقد والحل، بمنه.
وفي فصل: كتابي بعد أن وقفت على كتاب فلان الذي أودعه ما ودع من حيات، ولم يدع مكانا لمسلاة، فانه للقلوب مؤذ، وللعيون مقذ، وللظهور قاصم، ولعرى الحزم فاصم، فليندب الإسلام نادب، وليبك له شاهد وغائب، فقد طغى مصباحه، ووطئ ساحه، وقص جناحه، وهيض عضده، وغيض ثمده، إلى الله نفزع، وإليه نضرع، في طارق الخطب ومنتابه، فلا حول ولا قوة إلا به، فهو كاشف الكروب، وناصر المحروب.
وفي فصل: واتصل بنا أنه أباد الديار، في جميع تلك الأمصار، والمسلمون بينهم سوام ترتع، وأموالهم نهب يوزع، والقتل يأخذ(5/86)
منهم فوق ما يدع فأطل الفكرة في هذا الخرم الداخل، والبلاء الشامل، والله المرجو لكشف الغمة، وتلافي الأمة.
وفي فصل من أخرى: ورد كتابك بالخطب الأبقع، والحادث الأشنع، الجاري على المسلمين - نصر الله مقانبهم، وجمع على الائتلاف مذاهبهم - في مدينة بربشتر، وكانت صدرا في القلاع المنيفة، وعينا من عيون المدائن الموصوفة، إلى ما سبق قبل في القلعة القلهرية وغيرها من مهمات القلاع: الدروب والمعاقل، وخطيرات الحصون والمنازل، فأطار الألباب، وطأطأ الرقاب، [وصرم الآمال والهمم، وأسلبهم من الذلة والقلة إلى ما قصم] وانك رأيت الحال في معرض جلاها للنواظر [عيانا] ، ووصل [21ب] بينها وبين الخواطر أسبابا وأشطانا، فما شئت من دمع مسفوح مراق، ونفس مترددة بين لهاة وتراق، وأسى قد قرع حصيات القلوب فرضها، وعدل عن المضاجع بالجنوب فأقضها، ومآل تستك من سماعة الأسماع، وتضيق عن إيراد حقيقته الرقاع، فالله [يدرأ] في نحر ما فدح من الخطوب الكبار ويدفع، وإليه نلجأ فيما ألظ من عقيم الدواهي ونفزع، فمنه الغوث والانتصار، وعادة الإقالة إذا جد العثار.
وفي فصل من أخرى: وإن الملأ الكريم - تكفل الله به - ورد وقد امتطى العزم ظهرا، واستشعر النصيحة سرا وجهرا، ووسع نطاق البيان(5/87)
وندب إلى ما فيه ثبات الإيمان، وأعرب عما رأيته ورآه، من في طاعتك من جموع المسلمين - وفقهم الله - من الاستنفار لأمر هذا العدو الذي قد سحب في الجزيرة أذياله، وفوق للاستيلاء على حدودها نصاله، لما تحقق له أن العزائم عن مقارعته ناكلة، والبلاد من أعداد تقاومه عاطلة، فبانت أصالتك وتفرد جدك، وتجدد الحفاظ والانقاذ لملة الإسلام بجهدك، وقد تعين البدار على كل رئيس ومرءوس، ولزم الجهاد كل شريف ومشروف، وقبيح على المسلم أن يحل إزارا، ويسوغ من الكرى غرارا، وإخوته المسلمون بين مشدود بالإسار، أو جزر النيوب والأظفار، تالله ما في النصفة أن تسكن الظلال، وأطراق حملة القرآن الأغلال، [والله تعالى يصير الأيدي في الدفاع يدا، ويعيد العدو المستأسد مهتضما مضطهدا] .
ومن أخرى: كتبت - أيد الله أمير المسلمين - وقد وافى الخبر المبهج بأن الجزيرة المهتضمة - حماها الله - حلها إمامها العادل، وسيفها العامل، وليثها الخادر، وقرمها المبادر، فكان عندي كالماء للظمآن، والنجم للحيران، فقلت: خبر والله جلى الشك من اليقين، وشفى صدور قوم مؤمنين، فالحمد لله رب العالمين، إذ يقيم الله به للحق مناره، ويحمي من الإسلام ذماره، فأنف الكبر أجدع راغم، ووجه الظلم أسفع قاتم.(5/88)
ووددت أن أسعد بلقائه، وأستظل بلوائه، وألم بجوانبه، وأسير في كتائبه، فأنال حظا جسيما (يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما) (النساء: 72) . ولولا أن العدو - قصمه الله - بهذه الأقطار، يجوس خلال الديار، فلا تمكن المسالك، ولا تتورد المهالك، لكنت أول وارد مع الوارد، ولقضيت فرض الجهاد، وملأت عيني ممن ملأ البسيطة عدلا، وزاد الفضيلة فضلا، وإن العين لتفيض من الدمع، لما جدت بي الأيام [22أ] في القطع، وعسى الله أن يفسح المهل، ويرفع الوجل، ويبرئ العلل، ويبلغ الأمل.
وفي فصل من أخرى: وفيما ذكرت قرع الظنابيب، وشرع الأنابيب، وهرج يشمل البعيد والقريب، ومحض ودي، وصحيح عقدي، وما لا يشك فيه عندي، يحملني لك على الانتصاح، شحا مني ورغبة في الصلاح، وحسما لأسباب الفتنة، التي تعظم معها المحنة، فإن وافق قولي قبولا، وكان على أحسن التأويل محمولا، فذلك الذي إليه عرضت وله تعرضت، وإذا كان ما سواه، فهي أمور يريدها الله،
وله من رقعة إلى ابن جحاف أيام ثورة ابن عمه ببلنسية: قد ألبستني - أعزك الله - من برك ما لا أخلعه، وحملتني من ثنائك ما لا أضيعه، فأنا أستريح اليك استراحة المستنيم، وأصرف الذنب على(5/89)
الزمن المستليم، وإن ابن عمك - مد الله بسطته - لما ثار ثورته التي ظن أنه بلغ بها السماك، وبذ معها الأملاك، نظر إلي متخازرا [متشاوسا] ، وتخيلني محاسدا أو منافسا، ولعن الله من حسده جمالها:
فلم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها
ثم تورم علي أنف غرته، فرماني بضروب محنته، وفي كل ذا أتجرعه على مضضه، وأتغافل لغرضه، وأطويه على بلله، وما أنتصر بشيء سوى عمله، إلى أن رأى اليوم [سوء رأيه] ، ان يزيد في تعسفه وبغيه، فاستقبلت من الأمر غريبا ما كنت أحسبه، ولا بان إلي سببه؛ ولما جاءه رسولي مستفهما، عبس وبسر، وتاه واستكبر، فأمسكت محافظة للجانب، وعملا على الواجب، لا أن هيبة أبي أحمد قبضتني، ولا أن مبرته عندي اعترضتني. وأقسم بالله حلفه بر: لو الأيام قذفت بكم إلي وأنا بمكاني، لأوردتكم العذب من مناهلي، ولجعلت جميعكم على عاتقي وكاهلي، ولكن الله يعمر بكم أوطانكم، ويحمي من النوب(5/90)
مكانكم، ويحوط هذه السيادة الطالعة فيكم، النابتة بمعاليكم، فلا يسرك مفظعه، وليسؤك مصرعه، فما مثله يمطل، ولا يلبث حينا ولا يمهل.
قال أبو الحسن: ومد لأبي عبد الرحمن بن طاهر هذا في البقاء، حتى تجاوز [مصارع] الجماعة الرؤساء، وشهد محنة المسلمين ببلنسية على يدي الطاغية الكنبيطور - قصمه الله - وحصل بذلك الثغر، في قبضة الأسر، سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، ومنها كتب رقعة إلى بعض إخوانه يقول فيها: كتبت منتصف صفر، وقد حصلنا في قبضة الأسر، بخطوب لم تجر في سالف الدهر، فلو رأيت قطر بلنسية - نظر الله [22ب] إليه، وعاد بنوره عليه - وما صنع الزمان به وبأهليه، لكنت تندبه وتبكيه، فلقد عبث البلى برسومه، وعفى على أقماره ونجومه، فلا تسأل عما في نفسي، وعن نكدي ويأسي، وضممت الآن إلى الافتداء، بعد مكابدة أهوال ذهبت بالذماء، وما أرجو غير صنع الله الذي عود، وفضله الذي عهد؛ وساهمتك مساهمة الصفي، لما أعلم من وفائك وتهممك الحفي، مستمطرا من تلقائك دعوة إخلاص، عسى أن تكون سريعة(5/91)
إلى فرج وخلاص، بإذن الله، فهو - عز وجهه - يقبل الدعاء من داعيه، وما زال مكانك منه ترى البركة فيه.
قال أبو الحسن: وإذ قد انتهى بنا القول إلى ذكر بلنسية فلا بد من الإعلان بمحنتها، والإتيان بنبذ من أخبار فتنتها، التي غرب شأوها في الإسلام، وتجاوز عفوها جهد الكروب العظام، وذكر الأسباب التي جرت جرائرها، وأدارت على المسلمين دوائرها، والإشارة باسم من سلك في طريقها ونهج، ودخل أبواب عقوقها وخرج.
ذكر الخبر عن تغلب العدو عليها وعودة المسلمين إليها
قال أبو الحسن: ونذكر إن شاء الله في القسم الرابع، نكتا وجوامع، تؤدي إلى كيفية تغلب أذفونش طاغية طاغوت الجلالقة - قصمها الله - على مدينة طليلة، واسطة السلك، وأشمخ ذرى الملك، بهذه الجزيرة، ونشرح الأسباب التي ملكته قيادها، ووطأته مهادها، حتى اقتعد صهوتها، وتبحبح ذروتها، وأن يحيى بن ذي النون، المتلقب من الألقاب السلطانية بالقادر بالله، كان الذي هيج أولا نارها، وأجج أوارها(5/92)
وكان عندما خلى [بين] أذفونش وطليطلة - جدد الله رسمها، وأعاد إلى ديوان المسلمين اسمها - قد عاهده على أن يعيد له صعب بلنسية ذلولا، وأن يمتعه بنضرتها وتملك حضرتها ولو قليلا، علما منه أنه أسير لديه، وعيال عليه. فصار تهره المعاقل، وتبرأ منه المراحل [بعد المراحل] ، حتى استقر بقصبة قونكة، عند أشياعه بني الفرج - حسبما نشرحه في القسم الرابع إن شاء الله تعالى - وهم كانوا ولاة أمره، وواعية عرفه ونكره، بهم أولا صدع، وإليهم آخرا نزع، وطفق يداخل ابن عبد العزيز بمعاذير يلفقها، وأساطير ينفقها، وأعجاز من الباطل وصدور يجمعها ويفرقها، وابن عبد العزيز يومئذ يضحك قليلا [23أ] ويبكي كثيرا، ويظهر أمرا ويخفي أمورا، والفلك يدور، وأمر الله ينجد ويغور. وورد الخبر بموت ابن عبد العزيز أثناء ذلك، واختلاف ابنيه بعده هنالك، فانسل ابن ذي النون إلى بلنسية انسلال القطا إلى الماء، وطلع عليها طلوع الرقيب على خلوات الأحباء، وانتهجت السبيل بين ملوك أفقا وبين أمير المسلمين [وناصر الدين] رحمه الله - على ما قدمن ذكره - سنة تسع وسبعين، وصدم أذفونش الطاغية - قصمه الله - تلك الصدمة - المتقدمة الذكر - يوم الجمعة، فرجع - لعنه الله - وقد هيض جناحه، وركدت رياحه، وتنفس خناق يحيى بن ذي النون هذا، فتنسم روح(5/93)
البقاء، وتبلغ بما كان بقي له من ذماء، ودخل من معاقدة أمير المسلمين فيما دخل فيه معشر الرؤساء؛ ولم يزل إدبارهم - على ما ذكرنا - يستشري وعقارب بعضهم إلى بعض تدب وتسري، حتى أذن الله لأمير المسلمين [رحمه الله] في إفساد سعيهم، وحسم أدواء بغيهم، والانتصار لكواف المسلمين من فعلهم الذميم ورأيهم، فشرع في ذلك - على ما قدمته - سنة ثلاث وثمانين، فجعلت البلاد عليه تنثال، والمنابر باسمه تزدهي وتختال؛ واستمر ينثر نجومهم، ويطمس رسومهم، باقي سنة ثلاث وسنة أربع بعدها، وفي ذلك يقول الأديب أبو تمام ابن رباح:
كأن بلادهم كانت نساء تطالبها الضرائر بالطلاق
وفي ذلك أيضا يقول أبو الحسين ابن الجد، وأراه عرض بصاحب ميورقة بعد خلع بني عباد:
ألا قل للذي يرجو مناما بعيد بين جنبك والفراش
أبو يعقوب من حدثت عنه فرش سهم العداوة أو فراش
إذا نفش القضاء جبال رضوى فكيف تراه يصنع بالفراش
ولما أحس أحمد بن يوسف بن هود، المنتزي إلى وقتنا هذا على ثغر(5/94)
سرقسطة، بعساكر أمير المسلمين تقبل من كل حدب، وتطلع على أطرافه من كل مرقب، أسد كلبا من أكلب الجلالقة يسمى برذريق ويدعى بالكنبيطور، وكان عقالا، وداء عضالا، له في الجزيرة وقائع، وعلى طوائفها بضروب المكروه اطلاعات ومطالع، وكان بنو هود قديما هم الذين أخرجوه من الخمول، مستظهرين بع على بغيهم الطويل، وسعيهم المذموم المخذول، وسلطوه على أقطار الجزيرة يضع قدمه على صفحات أنجادها، ويركز علمه في أفلاذ [23ب] أكبادها، حتى غلظ أمره، وعم أقاصيها وأدانيها شره، ورأى هذا منهم حين خاف وهي ملكه، وأحس بانتثار سلكه، أن يضعه بينه وبين سرعان عساكر أمير المسلمين، فوطأ له أكناف بلنسية وجبى إليه المال، وأوطأ عقبه الرجال، فنزل بساحتها وقد اضطرب حبلها، وتسرب أهلها، وذلك أن الفقيه أبا أحمد بن جحاف متولي القضاء بها يومئذ لما رأى عساكر المرابطين -[أيدها الله]- تترى، وأحس بهذا الطاغية - لعنه الله - من جهة أخرى، امتطى صهوة العقوق، وتمثل: " من فرص اللص ضجة السوق "، وطمع في الرياسة بخدع الفريقين، وذهل عن قصة(5/95)
الثعلب بين الوعلين، فاستجاش لأول تلك الوهلة لمة يسيرة من دعاة أمير المسلمين فهجم بهم على ساحة ابن ذي النون الجاء على حين غفلته، وانفضاض من جملته، واستشراء من علته، حيث لم يكن له ناصر إلا الشكوى، ولا هاد صدر العصا، فقتله - زعموا - بيد رجل من بني الحديدي طلبا بذخل عما كان هو قد قتل من سلفه، وهدم من بيوت شرفه - في خبر سيأتي ذكره، ويشرح بمشيئة الله في موضع من هذا الكتاب أمره - وفي قتله لابن ذي النون القادر، يقول أبو عبد الرحمن بن طاهر:
أيها الأخيف مهلا فلقد جئت عويصا
إ
ذ قتلت الملك يحيى وتقمصت القميصا
رب يوم فيه تجزى لم تجد عنه محيصا
ولما تم لأبي أحمد شانه، واستقر به - على زعمه - سلطانه(5/96)
وقع في هراش، وتفرقت الظباء على خراش، ودفع إلى النظر في أمور سلطانية لم يتقدم قبل في غوامض حقائقها، وإلى ركوب أساليب سياسية لم يكن له عهد باقتحام مضايقها، ولا بالدخول في ضنك وآزقها، ولم يعلم أن تدبير الأقاليم غير تلقين الخصوم، وان عقد ألوية البنود، غير الترجيح بين العقود، وانتحال الشهود، وشغل بما كان احتجن من بقية ذخائر ابن ذي النون وشيعته عن استجلاب الرجال، والنظر في شيء من الأعمال، وانفضت عنه تلك الجملة اليسيرة [من الخيل] المرابطية التي كان تعلق بسببها، وموه على الناس بها، لضيق المذاهب، وغلظة ذلك العدو المصاقب، وقوي طمع رذريق في ملك بلنسية فلزمها ملازمة الغريم، وتلذذ بها [تلذذ] العشاق بالرسوم، ينتسف أقواتها، ويقتل حماتها، ويسبق إليها كل أمنية، ويطلع عليها من كل ثنية، فرب ذروة [24أ] عز قد طالما تلددت الأماني والنفوس دونها، ويئست الأقمار والشموس من أن تكونها، قد ورد ذلك الطاغية يومئذ معينها، وأذال مصونها؛ ورب وجه كانت تدميه الذر، وتحسده الشمس والبدر، ويتغاير عليه المرجان والدر، قد أصبح درية لزجاجه، ونعلا لأقدام أراذل أعلاجه، وبلغ الجهد بأهلها والامتحان، أن أحلوا محرم الحيوان، وأبو أحمد المذكور في أنشوطة ما سهل وسنى شرقا بعقبى ما جر على نفسه وجنى، يستصرخ أمير المسلمين على بعد(5/97)
داره، وتراخي مزاره، فتارة يسمعه ويحركه، وتارة ينقطع دونه ولا يدركه، وقد كان من أمير المسلمين بموضع، ومن رأيه الجميل بمرأى ومسمع، ولكن أبطأ به عن نصره تنائي الدار، ونفوذ المقدار، وإذا قدر الله أمرا فتح أبوابه، ويسر أسبابه، فتم للطاغية رذريق -[قصمه الله]- مراده الذميم من دخول بلنسية سنة ثمان وثمانين على وجه من وجوه غدره، وبعد إذعان من القاضي [ابن جحاف] المذكور ألجأه بسطوة كفره، ودخوله طائعا في أمره، على وسائل اتخذها، وعهود ومواثيق - بزعمه - أخذها، لم يمتد لها أمد، ولا كثر لأيامها عدد، وبقي معه مديدة يضجر من صحبته، ويلتمس السبيل إلى نكبته، حتى أمكنته - زعموا - بسبب ذخيرة نفيسة من ذخائر ابن ذي النون، كان رذريق لأول دخوله قد سأله عنها، واستحلفه بمحضر جماعة من أهل الملتين على البراءة منها، فأقسم بالله جهد أيمانه، غافلا عما في الغيب من بلائه وامتحانه، وجعل رذريق بينه وبين القاضي المذكور عهدا أحضره الطائفتين، وأشهد عليه أعلام الملتين، إن هو انتهى [بعد] إليها، وعثر [عنده] عليها، ليستحلن إخفار ذممه، وسفك دمه، فلم ينشب رذريق أن ظهر على الذخيرة المذكورة لديه، لما كان قد قدر الله من إجراء محنته على يديه، ولعلها كانت منه حيلة أدارها(5/98)
وداهية من دواهيه سداها وأنارها، فأنحى على أمواله بالنهاب، وعليه وعلى أهله وولده بالعذاب، حتى بلغ جهده، ويئس مما عنده، فأضرم له نارا أتلفت ذماءه، وحرقت أشلاءه.
حدثني من رآه في ذلك المقام، وقد حفر له حفير إلى رفغيه، وأضرمت النار حواليه، وهو يضم ما بعد من الحطب بيديه، ليكون أسرع لذهابه، وأقصر لمدة عذابه، كتبها الله له في صحيفة حسناته، ومحا عنه بها سالف سيئاته، وكفانا بعد أليم نقماته، ويسرنا [24ب] إلى ما يزلف إلى مرضاته.
وهم [الطاغية] يومئذ - لعنه الله - بتحريق زوجه وبناته، فكلمه فيهن بعض طغاته، فبعد لأي ما لفته عن رائه، وتخلصهن من يدي نكرائه، وأضرم هذا المصاب الجليل يومئذ أقطار الجزيرة نارا، وجلل سائر طبقاتها خزيا وعارا؛ وغلظ أمر ذلك الطاغية حتى فدح التهائم والنجود، وأخاف القريب والبعيد. حدثني من سمعه يقول، وقد قوي طمعه، ولج به جشعه: على رذريق فتحت هذه الجزيرة، ورذريق يستنقذها - كلمة ملأت الصدور، وخيلت وقوع المخوف والمحذور.
وكان هذا البائقة وقته في درب شهامته، واجتماع حزامته، وتناهي(5/99)