مقدمة التحقيق
بين ابن بسام في مقدمة كتاب الذخيرة أنه قد جعله أربعة أقسام، على النحو الآتي:
1 - القسم الأول: لأهل حضرة قرطبة وما يصاقبها من بلاد موسطة الأندلس.
2 - القسم الثاني: لأهل الجانب الغربي من الأندلس وذكر أهل حضرة إشبيلية وما اتصل بها من بلاد ساحل البحر المحيط.
3 - القسم الثالث: لأهل الجانب الشرقي من الأندلس.
4 - القسم الرابع: لمن طرأ على جزيرة الأندلس من شعراء وكتاب، ولبعض مشهوري المعاصرين ممن نجم بإفريقية والشام والعراق.
وبين سنتي 1939 1942 ظهر القسم الأول من الكتاب، في مجلدين، بعناية لجنة من المحققين ولجنة من المشرفين على التحقيق؛ وفي سنة 1945 ظهرت قطعة من القسم الرابع. ثم توقفت اللجنة المضطلعة بتحقيق الكتاب عن متابعة عملها فيما يبدو لظروف وأسباب مختلفة، وكان في ذلك التوقف، خسارة كبيرة لدارسي الأدب الأندلسي وطلابه، لأن الذخيرة أولاً من أهم مصادر ذلك الأدب، ولأنه ليس من السهل ثانياً على كل دارس أن يحصل على أصولها الخطية، ثم لأن تلك الأصول ثالثاً ليست ميسرة للقراءة على نحو مباشر طيع.(1/1)
لهذا وجدت أن تحقيق الذخيرة على صعوبته أمر ضروري، وأخص منها القسمين الثاني والثالث، وما تبقى من القسم الرابع؛ فهذا هو القدر الذي لم يظهر من الكتاب مطبوعاً حتى اليوم؛ وقد بدأت التحقيق بحسب وفرة الأصول الخطية لكل قسم، وكان القسم الثالث أوفرها حظاً، ويليه في ذلك القسم الثاني، ولهذا عملت في تحقيقهما بهذا الترتيب، مرجئاً النظر في القسم الأول، لأنه قد طبع وتداولته الأيدي منذ زمن؛ ولكن رغبة الدارسين في أن يروا جميع أجزاء الذخيرة محققة بكاملها متناسقة في اكتمالها متجانسة في سماتها العامة المشتركة ألزمتني بإعادة النظر في هذا القسم الأول؛ وهكذا كان.
وأبادر لأقرر مخلصاً أن أعضاء اللجنتين اللتين تولتا هذا العم تحقيقاً وإشرافاً قد بذلوا في إخراجه من العناية ما يستحق كل تقدير؛ أقول هذا وأنا قد اطلعت على أصول الذخيرة ووقفت على مدى ما فيها من صعوبة ناشئة عن حال النسخ نفسها، وعما فيها من كثرة الخلافات في القراءة؛ ومن التفاوت الشديد بين ما تثبته نسخة وما تثبته أخرى، ومن تعرض بعض تلك النسخ لتدخل أيد وأقلام أخرى في سياقها غير يد المؤلف وقلمه. فإذا أضيف إلى ذلك أنني على ما بذلت من محاولات ودراسات لم أستطع أن أزيد على الأصول التي اعتمدتها اللجنة السابقة في تحقيق هذا القسم الأول، وجد القارئ أن النص لم يبتعد كثيراً عما جاء عليه في الطبعة السابقة، وإن كنت أقدر أن تفاوت النسخ، سيكون مدعاة في المستقبل إذا تم كشف شيء منها مجالاً لزيادات مفيدة ولقراءات جديدة.
ومهما يكن من شيء، فإن عدم توفر أصول جديدة لم يوقف بذل الجهد في اتجاهات أخرى، وأرجو ألا يؤخذ قولي مأخذ الدعوى حين أقول أنني قد منحت هذه الطبعة مميزات كثيرة: فقد صححت عدداً غير قليل من أخطاء القراءة، وعرفت بالأعلام والأماكن حيث كان ذلك ضرورياً، وشرحت لألفاظ التي تتطلب شرحاً وخاصة بعض المصطلحات الأندلسية مثل حنبل(1/2)
وطولق وقلبق وما أشبه ذلك من ألفاظ غير مألوفة أو معرفة لدى المشارقة، إذ قد يستغرق البحث عن معانيها وقتاً طويلاً لا يتيسر لكل قارئ، كما وفقت إلى تخريج كثير من الشواهد الشعرية التي أدرجها المؤلف في الكتاب، واتبعت نهجاً مختلفاً في تمييز الأصيل من الدخيل في نص الكتاب، وراجعت النص على المصادر التي استمدت من الذخيرة، وعلى سائر المصادر الأندلسية التي طبعت بعد صدور ما طبع منها.
أما النسخ التي اعتمدتها فهي أيضاً تنقسم في فئتين مثلما كانت الحال في أصول القسم الثالث، وتضم الفئة الأولى:
1 - نسخة الخزانة العامة بالرباط رقم 1324 (ورمزها: ط) ، وعدد أوراقها 167 ورقة، في كل صفحة منها 29 سطراًن ومسطرتها 23.5 × 16؛ وهي مكتوبة بخط مغربي جميل واضح، ولكنها لا تحمل تاريخاً للنسخ، وهي قريبة الشبه بالنسخة (ط) التي وصفتها في مقدمة القسم الثالث، وإن لم يكن الخط فيهما واحداً بالضرورة؛ وهذا الشبه بين النسختين قد يحمل على القول بأن (ط) تنتمي إلى القرن الحادي عشر، وأقدم التملكات المؤرخة المكتوبة على الورقة الأولى منها تحمل تاريخ أوائل شعبان 1019 حين دخلت في ملك محمد ابن أحمد بن محمد الشريف الحسني، ثم باعها هذا المالك إلى سيدي محمد بن عبد الملك بن عبد الله في رمضان المعظم سنة 1021.
2 - نسخة دار الكتب الملكية بالقاهرة وعدد أوراقها 197 ورقة، وفي الصفحة الواحدة 25 سطراً، ومسطرتها 25 × 13 وقد تم نسخها سنة 1229.
وهاتان المخطوطتان متشابهتان في حالتي الزيادة والنقص في النص مما يرجح أنهما مأخوذتان عن أصلين متقاربين، وإذا تميزت نسخة دار الكتب القاهرية في بعض القراءات عن (ط) فهذا التميز لا قيمة له في الغالب، وقد تلتقي هذه النسخة مع نسخ الفئة الثانية الآتي وصفها في بعض القراءات، وفي هذا أيضاً ما يجعل قيمتها ثانوية، لأنها لا تتمتع بالزيادات التي تتمنع(1/3)
بها نسخ الفئة الثانية إلا في موطن واحد، حيث يفترق عن (ط) على نحو لافت للانتباه وذلك في إيراد أبيات زائدة عما هي في (ط) في ترجمة ابن زيدون، واشتراكها مع نسخ الفئة الثانية في إيراد نص دخيل على الذخيرة هو رسالة ابن زيدون لأبي بكر بن مسلم، بل إنها في هذه الرسالة تنفرد عن نسخ الفئة الأخرى ببعض عبارات أدرجتها بين حاصرتين من هذا النوع مشيراً في الحاشية إلى مصدر الزيادة؛ ولقلة الاعتماد على هذه النسخة لم أضع لها رمزاً خاصاً.
وأما الفئة الثانية فإنها تضم النسخ الآتية:
1 - نسخة باريس رقم: 3321 (ورمزها: س) وتقع في 125 ورقة، عدد سطور كل صفحة 23 سطراً، ومسطرتها 22 × 13 وهي مكتوبة بخط مغربي، وفيها أخطاء وأوهام كثيرة، وليس هناك ما يدل على تاريخ نسخها.
2 - نسخة المكتبة التيمورية ورمزها (م) ، وتتألف من 225 ورقة، في كل صفحة 26 سطراً، ومسطرتها 20 × 13 دون تاريخ أيضاً، وخطها مغربي.
3 - نسخة خاصة كانت في ملك الأستاذ ليفي بروفنسال (ورمزها: ب) ، عدد ورقاتها 104، وعد الأسطر في كل صفحة 33، ومسطرتها 24 × 17، وخطها مغربي مزود ببعض الشكل، إلا أن الخروم فيها كثيرة.
وتعد هذه النسخ الثلاث متقاربة لأنها قد تميزت عن الفئة الأولى بزيادات كثيرةن وتجيء هذه الزيادات في ثلاثة أنواع: أولها ورود النصوص المنقولة عن ابن حيان فيها على نحو تفصيلي لا يتوفر في الفئة الأولى من النسخ حيث يرد النص موجزاً بشكل واضح؛ وثانيها: ورود رسائل وأشعار لا يستبعد أن يكون ابن بسام هو الذي زادها؛ وثالثها: كثرة الدخيل فيها مما قام بإضافته شخص (أو أشخاص) بعد عهد المؤلف، وكان أحد الذين زادوا بعض النصوص مطالعاً على مسودات ابن بسام.(1/4)
وقد كان منهجي في التحقيق قبول أوسع الصور في النسخ وأكثرها تفصيلاً، ولهذا اعتبرت أن كل نص تنفرد به النسخ (ب س م) فإنه لا يميز بإشارة لأن ذلك يعني إثقال الحواشي في كل صفحة بفروق لا تكاد تحصر، فأما إذا كان النص من زيادات (ط) فإنه يوضع بين معقفين على هذه الصورة [] . والعيب في هذه الطريقة أن القارئ لن يتصور مدى ما ينقص النسخة (ط) أو مدى ما تتمتع به النسخ (ب س م) من زيادات ولكن هذا عيب شكلي خالص، إذ أن إقامة نص سليم هو الهدف الأهم والأكثر جدوى. فأما ما أقطع يقيناً بأنه من الدخيل على نص الذخيرة فأني أبقيه في موضعه مميزاً له باختيار حرف طباعي أصغر حجماً من حرف النص الأصلي؛ ولاختياري هذا المنهج وجدت من الضروري أن أرد الرسائل التي أضيفت إلى ترجمة كل من ابن برد والبزلياني إلى مواضعها بعد أن كانت لجنة التحقيق التي قامت بإصدار هذا القسم من قبل قد انتزعتها من موضعها وجعلتها ملحقاً بآخر الكتاب، وقد كان عمل اللجنة في هذه الناحية غير قائم على منهج موحد، فهناك مثلاً زيادات دخيلة في ترجمة ابن زيدون تركت في موضعها، ولم تفرد في ملحق خاص.
وقد أهملت لدى مقارنة النسخ قراءات واضحة الخطأ، إذ لا ضرورة لإثقال الحواشي بها؛ وأثبت في المتن أصح القراءات في نظري ووضعت ما يعد في الدرجة الثانية من حيث الصحة أو من حيث احتمال الصحة في الحاشية، وهذا أمر ذاتي اجتهادي لا يمكن تعليله في كل مرة. وكل ما زدته في المتن اجتهاداً من عند نفسي أو اعتماداً على المصادر فقد وضعته بين حاصرتين على هذا الشكل دون أن أشير إلى ذلك في كل مرة، وذلك تمييزاً لهذا النوع من الزيادات عن الزيادات المستمدة من النسخة القاهرية، فإنها مشفوعة دائماً بالإشارة إلى مصدرها.
وبما أن الذخيرة عمل ضخم قد يستغرق سنوات فقد وجدت من الخير(1/5)
الإسراع بعمل فهرست خاص بكل قسم، (وكل قسم يقع في جزءين متسلسلي الترقيم) بدلاً من إرجاء الفهرسة حتى يتم ظهور الأجزاء جميعاً. على أني أرجو أن أخصص جزءاً تاسعاً للاستدراكات العامة والتعليقات وبعض الفهارس الفنية التي تيسر الإفادة من هذا الكتاب القيم؛ كذلك أرجو أن يكون هذا الجزء الأخير مجالاً لدراسة مؤلف الكتاب، ومنزلته الأدبية، وقيمة كتابه من النواحي التاريخية والأدبية والنقدية، وهي دراسة لا يمكن أن تتم على الصورة الشاملة المرضية قبل اكتمال أجزاء الكتاب تحقيقاً ونشراً.
وأود في ختام المقدمة أن أتقدم بالشكر إلى الدار العربية للكتاب، التي أخذت على عاتقها بذل كل جهد ممكن لوضع " الذخيرة " في متناول الدارسين والقراء، خدمة منها للتراث العربي بعامة وللتراث المغربي بخاصة، وأن على يقين من أن الدراسات في الأدب الأندلسي ستجد في الذخيرة مجالاً خصباً لا يدانيه في غناه واتساعه أي مصدر آخر، وأن وجود الذخيرة في أيدي الدارسين محققةً، لن يجعل الإفادة منها أمراً جزئياً محدوداً تحول دون اتساع مداه صعوبة النسخ الخطية؛ ولهذا أكاد أسكت صوت الاعتذار عما قد يكون تسرب إلى هذه الطبعة من خطأ أو وهم، بعد أن استفرغت جهد الطاقة. ومن الله أستمد العون، وإليه أبرأ من الزهو والدعوى، وعليه أتوكل وبه أستعين.
بيروت في آب (أغسطس) 1975.
إحسان عباس(1/6)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو الحسن علي بن بشام الشنتريني الأندلسي، رحمه الله:
أما بعد حمد الله ولي الحمد وأهله، والصلاة على سيدنا محمد خاتم رسله، فإن ثمرة هذا الأدب، العالي الرتب، رسالة تنثر وترسل، وأبيات تنظم وتفصل؛ تنثال تلك انثيال القطار، على صفحات الأزهار، وتتصل هذه اتصال القلائد، على نحور الخرائد؛ وما زال في أفقنا هذا الأندلسي القصي إلى وقتنا هذا من فرسان الفنين، وأئمة النوعين، قوم هم ما هم طيب مكاسر، وصفاء جواهر، وعذوبة موارد ومصادر؛ لعبوا بأطراف الكلام المشقق، لعب الدجى بجفون المؤرق، وحدوا بفنون السحر المنمق، حداء الأعشى ببنات المحلق؛ فصبوا على قوالب النجوم، غرائب المنثور والمنظوم؛ وباهوا غرر الضحى والأصائل، بعجائب الأشعار والرسائل: نثر لو رآه البديع لنسي اسمه، أو اجتلاه ابن هلال لولاه حكمه؛ ونظم لو سمعه(1/11)
كثير ما نسب ولا مدح، أو تتبعه جرول ما عوى ولا نيح؛ إلا أن أهل هذا الأفق، أبوا إلا متابعة أهل الشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة، رجوع إلى قتادة؛ حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أوطن بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا على هذا صنما، وتلوا ذلك كتاباً محكماً؛ وأخبارهم الباهرة، وأشعارهم السائرة، مرمى القصية، ومناخ الرذية، لا يعمر بها جنان ولا خلد، ولا يصرف فيها لسان ولا يد. فغاظني منهم ذلك، وأنفت مما هنالك، وأخذت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري، وتتبع محاسن أهل بلدي وعصري، غيرة لهذا الأفق الغريب أن تعود بدوره أهلة، وتصبح بحاره ثماداً مضمحلة؛ مع كثرة أدبائه، ووفور علمائه؛ وقديماً ضيعوا العلم وأهله، ويا رب محسن مات إحسانه قبله؛ وليت شعري من قصر العلم على بعض الزمان، وخص أهل المشرق بالإحسان -
وقد كتبت لأرباب هذا الشأن، من أهل الوقت والزمان، محاسن تبهر الألباب، وتسحر الشعراء والكتاب. ولم أعرض لشيء من أشعار(1/12)
الدولة المروانية، ولا المدائح العامرية؛ إذ كان ابن فرج الجياني قد رأى رأيي في النصفة، وذهب مذهبي من الأنفة؛ فأملى في محاسن أهل زمانه " كتاب الحدائق " معارضاً ل - " كتاب الزهرة " للإصبهاني، فأضربت أنا عما ألف، ولم أعرض لشيء مما صنف. ولا تعديت أهل عصري، ممن شاهدته بعمري، أو لحقه بعض أهل دهري؛ إذ كل مردد ثقيل، وكل متكرر مملول، وقد مجت الأسماع: " يا درا مية بالعلياء فالسند "، وملت الطباع: " لخولة أطلال ببرقة ثهمد "؛ ومحت: " قفا نبك " في يد المتعلمين، ورجعت على ابن حجر بلائمة المتكلفين؛ فأما " أمن أم أوفى "، فعلى آثار من ذهب العفا. أما آن أن يصم صداها، ويسأنم مداها - وكم من نكتة أغفلتها الخطباء، ورب متردم غادرته الشعراء، والإحسان غير محصور، وليس الفضل(1/13)
على زمن بمقصور؛ وعزيز على الفضل أن ينكر، تقدم به الزمان أو تأخر، ولحى الله قولهم: الفضل للمتقدم، فكم دفن من إحسان، وأخمل من فلان. ولو اقتصر المتأخرون على كتب المتقدمين، لضاع علم كثير، وذهب أدب غزير.
وقد أودعت هذا الديوان الذي سميته ب - " كتاب الذخيرة، في محاسن أهل هذه الجزيرة " من عجائب علمهم، وغرائب نثرهم ونظمهم، ما هو أحلى من مناجاة الأحبة، بين التمنع والرقبة، وأشهى من معاطاة العقار، على نغمات المثالث والأزيار؛ لأن أهل هذه الجزيرة - مذ كانوا - رؤساء خطابة، ورؤوس شعر وكتابة، تدفقوا فأنسوا البحور، وأشرقوا فباروا الشموس والبدور؛ وذهب كلامهم بين رقة الهواء، وجزالة الصخرة الصماء، كما قال صاحبهم عبد الجليل ابن وهبون يصف شعره:
رقيق كما غنت حمامة أيكة ... وجزل كما شق الهواء عقاب على كونهم بهذا الإقليم، ومصاقبهم لطوائف الروم؛ وعلى أن بلادهم آخر الفتوح الإسلامية، وأقصى خطى المآثر العربية؛ ليس وراءهم وأمامهم إلا البحر المحيط، والروم والقوط؛ فحصاة من هذه حاله ثبير، وثمده بحر مسجور؛ وقد حكى أبو علي البغدادي الوافد على الأندلس في زمان بني مروان قال: لما وصلت القيروان وأنا أعتبر من(1/14)
أمر به من أهل الأمصار، فأجدهم درجات في الغباوة وقلة الفهم بحسب تفاوتهم في مواضعهم منها بالقرب والبعد، حتى كأن منازلهم من الطريق هي منازلهم من العلم محاصة ومقايسة. قال أبو علي: فقلت: إن نقص أهل الأندلس عن مقادير من رأيت في أفهامهم، بقدر نقصان هؤلاء عمن قبلهم، فسأحتاج إلى ترجمان، بهذه الأوطان.
قال ابن بسام: فبلغني أنه كان يصل كلامه هذا بالتعجب من أهل هذا الأفق في ذكائهم ويتغطى عنهم عند المباحثة والمفاتشة، ويقول لهم: إن علمي علم رواية، وليس بعلم دراية، فخذوا عني ما نقلت، فلم آل لكم أن صححت. هذا مع إقرار الجميع له يومئذ بسعة العلم وكثرة الروايات، والأخذ عن الثقات؛ ولولا أن كل معنى معترض، يزيح سهمي عن ثغرة الغرض، المقصود في هذا الكتاب، لأوردت في هذا الباب، بعض ما وقع لأهل الأندلس من عجب، وسمع لهم من نادر مستغرب. وسيمر منه في تضاعيف هذا التصنيف ما فيه كفاية، ويربي إن شاء الله على الغاية. ولعل بعض من يتصحفه سيقول: إني أغفلت كثيراً، وذكرت خاملاً وتركت مشهوراً. وعلى رسله، فإنما جمعته بين صعبٍ قد ذل، وغرب قد فل، ونشاط قد قل، وشباب ودع فاستقل؛ من تفاريق كالقرون الخالية، وتعاليق كالأطلال البالية، بخط جهال كخطوط الراح، أو مدارج النمل بين مهاب الرياح؛ ضبطهم تصحيف، ووضعهم تبديل وتحريف؛ أيأس الناس منها طالبها، وأشدهم استرابة بها كاتبها؛ ففتحت أنا(1/15)
أقفالها، وفضضت قيودها وأغلالها؛ فأضحت غايات تبيين وبيان، ووضحت آيات حسنٍ وإحسان.
على أن عامة من ذكرته في هذا الديوان، لم أجد له أخباراً موضوعة، ولا أشعاراً مجموعة، تفسح لي في طريق الاختيار منها، إنما انتقدت ما وجدت، وخالست في ذلك الخمول، ومارست هنالك البحث الطويل، والزمان المستحيل، حتى ضمنت كتابي هذا من أخبار أهل هذا الأفق، ما لعلي سأربي به على أهل الشرق. وما قصدت به - علم الله - الطعن على فاضل، ولا التعصب لقائل على قائل؛ لأن من طلب عيباً وجده، وكل يعمل باقتداره، وبجهد اختياره؛ وما أغفل أكثر مما كتب وحصل؛ والأفكار مزن لا تنضب، ونجوم لا تغرب؛ ومن يحصل ما تثيره القرائح، وتتقاذف به الجوانح - وقد قال أبو تمام:
ولو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت ... حياضك منه في العصور الذواهب
ولكنه صوب العقول إذا انجلت ... سحائب منه أعقبت بسحائب وهذا الديوان إنما هو لسان منظوم ومنثور، لا ميدان بيان وتفسير. أورد الأخبار والأشعار لا أفك معماها، في شيء من لفظها ولا معناها؛ لكن ربما ألممت ببعض القول، بين ذكر أجريه، ووجه عذر أريه؛ لا سيما أنواع البديع ذي المحاسن، الذي هو قيم الأشعار وقوامها(1/16)
وبه يعرف تفاضلها وتباينها؛ فلا بد أن نشير إليه، وننبه عليه؛ ونكل الأمر في كل ما نثبته، ونرد الحكم في كل ما نورده، إلى نقد النقدة المعرة، وتمييز الكتبة الشعرة، الذين هم رؤساء الكلام، وصيارفة النثار والنظام؛ فأما من رين على قلبه، وطبع بالجهل على لبه، فقد وضعت عنا وعنه، كلفة الاعتذار منه. وقد كان في وقتي من فرسان هذا الشان، من كان أجدر أن يجري بهذا الميدان، ويعرب عما أعربت فيه عن القوم بأفصح لسان، يثير فيه المعاني من مرابضها، وأشد عارضة يظهر بها الأعراض المقصودة في اجمل معارضها؛ لكني بما أقدمت عليه، وتصديت إليه، كالنسيم دل على الصبح، والسهم ناب عن الرمح؛ ولا أقول إني أغربت، لكن ربما بينت وأعربت؛ ولا أدعي أني اخترعت، ولكني لعلي قد أحسنت حيث اتبعت، وأتقنت ما جمعت، وتألفت عنن الشارد، وأغنيت عن الغائب بالشاهد؛ وتغلغلت بقارئه بين النظم والنثر، تغلغل الماء أثناء النور والزهر؛ وانتقلت من الجد إلى الهزل، انتقال الضحيان من الشمس إلى الظل، واستراحة البهير من الحزن إلى السهل؛ وتخللت ما ضممته من الرسائل والأشعار، بما اتصلت به أو قيلت فيه من الوقائع والأخبار؛ واعتمدت المائة الخامسة من الهجرة فشرحت بعض محتها، وجلوت وجوه فتنها، ولخصت القول بين قبيحها وحسنها؛ وأحصيت علل استيلاء طوائف الروم، على هذا الإقليم، وألمعت الأسباب التي دعت ملوكها(1/17)
إلى خلعهم، واجتثاث أصلهم وفرعهم؛ وعبرت عن أكثر ذلك، بلفظ يتتبع الهم بين الجونح، ويحل العصم سهل الأباطح؛ وعولت في معظم ذلك على تاريخ أبي مروان بن حيان، فأوردت فصوله ونقلت جمله وتفاصيله؛ فإذا أعوزني كلامه، وعزني سرده ونظامه، عكفت على طللي البائد، وضربت في حديدي البارد؛ على حفظ قد تشعب وحظٍ من الدنيا قد ذهب.
ومع أن الشعر لم أرضه مركباً، ولا اتخذته مكسباً، ولا ألفته مثوى ولا منقلباً؛ إنما زرته لماماً، ولمحته تهمماً لا اهتماماً؛ رغبةً بعز نفسي عن ذله، وترفيعاً لموطئ أخمصي عن محله؛ فإذا شعشعت راحه، ودأبت أقداحه، لم أذقه إلا شميماً، ولا كنت إلا على الحديث نديماً؛ وما لي وله، وإنما أكثره خدعة محتال، وخلعة مختال؛ جده تمويه وتخييل، وهزله تدليه وتضليل؛ وحقائق العلوم، أولى بنا من أباطيل المنثور والمنظوم؛ وعلى ذلك فقد وعدت أن ألمع في هذا المجموع، بلمع من ذكر البديع؛ وأن أمهد جانباً من أسبابه، وأشرح جملاً من أسمائه وألقابه؛ وإذا ظفرت بمعنى حسن، أو وقفت على لفظ مستحسن؛ ذكرت من سبق إليه، وأشرت إلى من نقص عنه(1/18)
أو زاد عليه؛ ولست أقول: أخذ هذا من هذا قولاً مطلقاً، فقد تتوارد الخواطر، ويقع الحافر حيث الحافر؛ إذ الشعر ميدان، والشعراء فرسان.
وعلم الله تعالى أن هذا الكتاب لم يصدر إلا عن صدر مكلوم الأحناء، وفكر خامد الذكاء، بين دهر متلون تلون الحرباء؛ لانتباذي كان من شنترين قاصية الغرب، مفلول الغرب، مروع السرب؛ بعد أن استنفد الطريف والتلاد، وأتى على الظاهر والباطن النفاد، بتواتر طوائف الروم، علينا في عقر ذلك الإقليم؛ وقد كنا غنينا هنالك بكرم الانتساب، عن سوء الاكتساب، واجتزأنا بمذخور العتاد، عن التقلب في البلاد؛ إلى أن نثر علينا الروم ذلك النظام، ولو ترك القطا ليلاً لنام؛ وحين اشتد الهول هنالك، اقتحمت بمن معي المسالك؛ على مهامه تكذب فيها العين الأذن، وتستشعر فيها المحن:
مهامه لم تصحب بها الذئب نفسه ... ولا حملت فيها الغراب قوادمه حتى خلصت خلوص الزبرقان من سراره، وفزت فوز القدح عند قماره؛ فوصلت حمص بنفسٍ قد تقطعت شعاعاً، وذهب أكثرها التياعاً؛ وليتني عشت منها بالذي فضلا! فتغربت بها سنوات أتبوأ منها(1/19)
ظل الغمامة، وأعيا بالتحول عنها عي الحمامة؛ ولا أنس إلا الانفراد، ولا تبلغ إلا بفضلة الزاد؛ والأدب بها أقل من الوفاء، حامله أضيع من قمر الشتاء؛ وقيمة كل أحد ما له، وأسوة كل بلد جهاله؛ حسب المرء أن يسلم وفره، وإن ثلم قدره، وأن تكثر فضته وذهبه، وإن قل دينه وحسبه. وهذا الديوان نية لم يفصح عنها قول ولا عمل، وأمنية لم يكن منها حول ولا حول: كامن بين العيان والخبر، كمون النار في الحجر، وجار بين اللسان والقلب، جري الماء في الغصن الرطب؛ إلى أن طلع على أرضها شهاب سعدها وتمكينها، وهبت لها ريح دنياها ودينها، ونفخ فيها روح تأميلها وتأمينها، ملك أملاكها، وجذيل حكاكها، وأسعد نجوم أفلاكها؛ " فلان " ثمال المظلوم، ومال السائل والمحروم؛ ومحيي العلم، ومربع ذويه وحامليه، ومستدعي التأليفات الرائقة فيه؛ جعل الله الدهر أقصى أيامه، والنجوم مراكز أعلامه، والأرض نهبة سيوفه وأقلامه؛ فحامت عليه أطيارها، وأهل إليه حجاجها وزوارها، وانتثرت في يديه شموسها وأقمارها؛ من كل شعث ذي طمرين، مشنوء الأثر والعين، محروم محسود، محلأ عن طريق الماء مطرود؛ قد جعلوا بيوتهم قبوراً، واتخذوا بنات أفكارهم ولداناً وحوراً، وركبوا الحدثان صعباً وذولولاً، وعاهدوا الحرمان ليبلونه صبراً جميلاً {فمنهم من قضى نحبه(1/20)
ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا} (الأحزاب: 23) . فما هو إلا أن سطع لهم هذا الشهاب، وفتح بينهم وبين روح الله ذلك الباب، حتى نفروا خفافاً وثقالاً، وابتدروا بطاءً وعجالاً؛ ينظرون بعيون لم ترو من ماء وجه كريم، ويصغون بآذان لم تأنس بنغمة صديق حميم؛ قد كانوا يئسوا من هذا النشور {كما يئس الكفار من أصحاب القبور} (الممتحنة: 13) فاسألهم أي جانب يمموا، وبأي جناب خيموا، وإلى أي ملك لبابٍ أنجدوا وأتهموا؛ ويا رحمتا لبحور أدب، وصدور رتب، كان نظمني وإياهم ود قديم، ولف هواي بهواهم عهد كريم، لا منسي ولا مذموم؛ قد طال ما عطيتهم أكؤس الخمول، على البكاء والعويل؛ في أيام أوحش من توديع الشباب، وليال انكد من مناقشة الحساب؛ ألا يكونوا قد أخذوا على القضاء عهداً مسؤولاً، ومتعوا بالبقاء ولو قليلاً؛ حتى يروا حظ الأدب كيف نفق، وعز الإسلام كيف اتفق، وشمل الجور كيف تصدع وتفرق؛ ويا حسرتا ألا ينشق عن حاتم ضريحه، ويعاد في جسمه روحه؛ فيرى أن الكرم بعده علم، وأن علو الهمم بغيره بدئ وختم.
ولما سمعت صوت المهيب، وتنسمت ريح الفرج القريب، ووجدت لسبيل التأمل مدرجاً، وجعل الله لي من ربقة الخمول مخرجاً؛ طالعت حضرته المقدسة بهذا الكتاب على حكمه، مطرزاً بسمته واسمه؛ مستدلاً بمجده، متوسلاً إليه بكرم عهده؛ ولعلمي أن الأدب ضالة اهتباله، ونتيجة خلاله، وأن أهله على ذكر من إجماله، وبمكان مكين من كماله؛ ولما سئلت أيضاً انتساخ هذا(1/21)
الديوان، ورأيت شره أهل الزمان، إلى الاقتباس من نوره، بما يلتقطونه من شذوره، أحببت أن يجوب الآفاق، وتسير به الرفاق، وعليه من اسم من له جمع، وإلى جوانبه العلية رفع، طراز به تنفق سوقه، ولا تضيع إن شاء الله حقوقه.
وقسمته أربعة أقسام:
الأول: لأهل حضرة قرطبة وما يصاقبها من بلاد موسطة الأندلس، ويشتمل من الأخبار وأسماء الرؤساء وأعيان الكتاب والشعراء على جماعةٍ هم:
1 - المستعين بالله أبو أيوب سليمان بن الحكم، وحربه مع المهدي ابن عمه ومقتله.
2 - والمستظهر بالله أبو المطرف عبد الرحمن بن عبد الجبار الناصري ومقتله.
3 - والأديب أبو عمر أحمد بن دراج القسطلي، وإمارة علي ابن حمود ومقتله.
4 - وأبو حفص بن برد الأكبر ومقتل عيسى بن سعيد القطاع وزير ابن أبي عامر.
5 - والكاتب أبو المغيرة بن حزم.
والفقيه أبو محمد بن حزم الشافعي وخبر الأمير منذر بن يحيى التجيبي.
7 - والوزير أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد والوزير أبو(1/22)
الوليد ابن عبدوس، والفقيه أبو العباس بن أبي الربيع، والأديب أبو علي بن عوض، والكاتب أبو بكر بن زياد.
8 - وذو الوزارتين أبو الوليد بن زيدون وإمارة المستكفي وخبر ولادة.
9 - والأديب أبو عبد الله محمد بن سليمان بن الحناط المكفوف، ونصب المرتضى الناصري خليفة بشرق الأندلس ومقتله.
1 - والأديب أبو بكر عبادة بن ماء السماء، وإمارة القاسم بن حمودٍ وتغلب القاضي ابن عباد عليه.
11 - والوزير أبو حفص بن برد الأصغر.
12 - والأديب أبو مروان الطبني ومقتله، وأشعار الطبانية حفدته.
13 - والأديب أبو عبد الله محمد بن مسعود الهذلي وابن مسعود البجاني.
14 - والشيخ أبو مروان بن حيان، وإمارة بني جهور وخلعهم.
15 -.(1/23)
16 - والوزير الكاتب أبو جعفر بن اللمائي.
17 - والكاتب أبو عبد الله بن الزلياني.
18 - والكاتب أبو جعفر بن عباس.
19 - والكاتب أبو حفص بن الشهيد.
20 - والأديب أبو عبد الله بن الحداد، وإمارة بني صمادح وخلعهم.
21 - والأديب أبو محمد ابن مالك القرطبي.
22 - والشاعر المنفتل، ومقتل ابن نغريلة اليهودي.
23 - والأديب أبو المطرف عبد الرحمن بن فتوح الإسفيرياني.
24 - والأديب أبو بكر بن ظهار.
25 - والأسعد بن إبراهيم بن بليطة.
26 - والأديب أبو عبد الله محمد بن عبادة بن القزاز.
27 - والأديب أبو عبد الله محمد بن مالك الطغنري من أهل غرناطة؛ وجملة قصائد لغير واحد في تأبين ابن سراج.
28 - والوزير الكاتب أبو مروان بن شماخ.
29 - والفقيه أبو عمر أحمد بن عيسى الإلبيري.
30 - والأديب العالم أبو محمد غانم.
31 - والأديب أبو عبد الله بن السراج المالقي.
32 - والأديب أبو القاسم المعروف بالسميسر.
33 - والأديب أبو العباس أحمد بن قاسم المحدث.
34 - والأديب أبو طالبٍ عبد الجبار المعروف بالمتنبي من أهل جزيرة شقرٍ.(1/24)
والقسم الثاني: لأهل الجانب الغربي من الأندلس، وذكر أهل حضرة إشبيلية، وما اتصل بها من بلاد ساحل البحر المحيط الرومي، وفيه من الأخبار وأسماء الرؤساء وأعيان الكتاب والشعراء جملة موفورة وهي:
1 - القاضي أبو القاسم بن عبادٍ.
2 - والمعتضد بالله عباد ابنه.
3 - والمعتمد على الله محمد بن عباد وكيفية خلعه.
4 - والوزير الفقيه أبو حفص الهوزني.
5 - والقاضي أبو الوليد الباجي.
6 - والوزير أبو عامر بن مسلمة.
7 - والوزير أبو الوليد بن المعلم.
8 - والأديب أبو الوليد الملقب بالحبيب.
9 - والأديب أبو جعفر بن الأبار.
10 - والأديب أبو الحسن علي بن حصن.
11 - والوزير الكاتب أبو عمرو الباجي.
12 - والفقيه الأديب أبو الحسن بن الإستجي.
13 - وفصل يشتمل على مقطوعات أبيات لجماعة أدباء بعصر المعتضد.
14 - والوزير الفقيه أبو العلاء بن زهرز
15 - والوزير أبو عبيد البكري.
16 - والوزير الخطيب الأديب أبو عمر بن حجاج.
17 - وذو الوزارتين أبو بكر بن سليمان المعروف بابن القصيرة، وذكر تغلب ابن ذي النون على قرطبة وعودتها إلى المعتمد.(1/25)
18 - والوزير الفقيه الكاتب أبو القاسم بن الجد.
19 - والوزير الكاتب أبو محمد بن عبد الغفور وأبوه قبله.
20 - والوزير الفقيه أبو أيوب بن أبي أمية.
21 - وذو الوزارتين أبو بكر بن عمار ومقتله.
22 - والوزير الكاتب أبو الوليد حسان بن المصيصي.
23 - والوزير الفقيه أبو بكر بن الملح.
24 - والأديب أبو محمد عبد الجليل بن وهبون المرسي.
25 -.
26 - والوزير الكاتب أبو بكر بن عبد العزيز.
27 - والوزير الكاتب أبو الحسين بن الجد.
28 - والأديب أبو الحسين غلام البكري.
29 - والكاتب أبو الحسين غلام البكري.
30 - وأبو الحكم وأبو الوليد ابنا حزم.
31 - والأديب أبو بكر بن بقي.
32 - والأديب أبو الحسن بن هارون الشنتمري، وكيفية إمارة بني الأفطس، والمتوكل على الله منهم.
33 - والوزير الكاتب أبو عبد الله بن أيمن، والخبر عن فتح مدينة سبتة، والتعريف بأولية أميرها سقوت.
34 - والوزير الكاتب أبو محمد بن عبدون.
35 - والأديب أبو جعفر أحمد بن هريرة الأعمى التطيلي.(1/26)
36 - والوزير الكاتب أبو بكر بن سعيد المعروف بابن القبطورنه.
37 - والوزير الكاتب أبو بكر بن قزمان.
38 - والوزير أبو زيد بن مقانا الأشبوني.
39 - والشيخ أبو الحسن القرشي الأشبوني.
40 - والأديب أبو عبد الله بن البين.
41 - وذو الوزارتين أبو محمد بن هود.
42 - والشيخ الأديب أبو عمر بن فتح البلطيوسي.
43 - والأديب أبو عمر بن كوثر الشنتريني.
44 - والأديب أبو الوليد النحلي.
45 - والوزير الكاتب أبو بكر محمد بن سوار الأشبوني.
46 - والأديب أبو محمد عبد الله بن سارة الشنتريني.
والقسم الثالث: ذكرت فيه أهل الجانب الشرقي من الأندلس، ومن نجم من كواكب العصر في أفق ذلك الثغر الأعلى، إلى منتهى كلمة الإسلام هنالك، وفيه من القصص وأسماء الرؤساء وأعيان الكتاب والشعراء طوائف منهم:
1 - مجاهد ومبارك ومظفر من فتيان ابن أبي عامر.
2 - والوزير الكاتب أبو عبد الرحمن بن طاهر، وتغلب العدو على بلنسية، وعود المسلمين إليها.
3(1/27)
4 - وذو الوزارتين القائد أبو عيسى بم لبون>.
5 - وحسام الدولة أبو مروان بن رزين.
6 - والوزير الكاتب أبو محمد بن عبد البر، ومقتل إسماعيل بن المعتضد عباد، وتغلب العدو على بربشتر وفتحها بعد.
7 - والوزير الكاتب أبو عامر بن التاكرني، وإمارة عبد العزيز ن عامر وابنه ببلنسية.
8 - والوزير الكاتب أبو المطرف بن الدباغ.
9 - والأديب أبو الربيع بن مهران السرقسطي، وذكر ابن الكتاني المتطبب.
10 - والأديب الأستاذ أبو عبد الله بن خلصة الضرير.
11 - والأديب أبو مروان بن غصن الحجاري.
12 - والأديب أبو عبد الله إدريس بن اليماني.
13 - والوزير الكاتب أبو الأصبغ بن أرقم.
14 - والوزير الكاتب أبو المطرف بن مثنى.
15 - والوزير الكاتب أبو عم بن القلاس.
16 - والوزير الكاتب أبو عبد الله بن مسلم.
17 - والوزير الكاتب أبو جعفر بن جرج.
18 - والوزير الكاتب أبو الفضل بن حسداي.
19 - والأديب أبو الربيع القضاعي، وجملة من أخبار هشامٍ المعتد أمير قرطبة يومئذ، ومقتل وزيره الحائك.(1/28)
20 - والأديب أبو عامر البماري.
21 - والأديب أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة.
22 - والأديب أبو حاتم الحجاري.
23 - والأديب أبو بكر الداني المعروف بابن اللبانة.
24 - والأديب أبو جعفر بن الدود بن البلنسي، ورسالة ابن غرسية الشعوبية والرد عليه.
25 - والكاتب أبو جعفر بن أحمد الداني.
26 - والوزير الكاتب أبو الخطاب بن عطيون الطليطلي.
27 - والوزير الكاتب أبو عبد الله بن أبي الخصال.
28 - والأديب أبو بحر بن عبد الصمد، وذكر الشيخ الكاتب عبد الصمد السرقسطي.
29 - والأديب أبو تمام الملقب بالحجام.
30 - والأديب أبو إسحاق بن معلي، وخبر وقعة بطرنة.
31 - والأديب أبو عامر ن الأصيلي.
32 - والأديب أبو الفضل جعفر بن محمد بن شرف.
33 - وفصل يشتمل على طوائف مقلين من سكان ذلك الجانب الشرقي.
والقسم الرابع: أفردته لمن طرأ على هذه الجزيرة في المدة المؤرخة من أديب شاعر، وأوى إلى ظلها من كاتب ماهر، واتسع فيها مجاله، وحفظت في ملوكها أقواله؛ ووصلت بهم ذكر طائفة من مشهوري أهل(1/29)
تلك الآفاق، ممن نجم في عصرنا بأفريقية والشام والعراق، فيشتمل منهم على جملة، وهم:
1 - أبو العلاء صاعد اللغوي، وتلخيص التعريف بدولة ابن أبي عامر، من المبدأ إلى الآخر.
2 - وأبو الفضل بن عبد الواحد البغدادي.
3 - وسليمان بن محمد الصقلي.
4 - وأبو الفتح الجرجاني.
5 - والأديب عبد العزيز السوسي، ولمع من دولة ابن ذي النون ومآل حفيده، وأخذ طليطلة من يديه، ودوران دائرة السوء بها عليه؛ مع ما اندرج في ذلك من خبر، والتف به من قبيح أثر.
6 - وأخبار أبي عبد الله بن شرف، وغرر أشعاره، وذكر خراب بلده القيروان.
7 - وأخبار ابن السقاء مدبر الملك الهوري بقرطبة ومقتله.
8 - وأبو الحسن المكفوف الحصري، وذكر تغلب ابن هود المقتدر على دانية.
9 - وأخبار عبد الكريم بن فضال الحلواني
10 - وأبو العرب الصقلي.
11 - وأبو عبد الله بن الصباغ الصقلي.
12 - وأبو محمد ن حمديس الصقلي.(1/30)
13 - والحكيم أبو محمد المصريز
14 - وأبو محمد بن الطلاء المهدوي.
15 - وأبو بكر محمد بن الحسن المرادي.
16 - والفكيك البغدادي.
17 - وأبو زكرياء يحى الزيتوني.
18 - وأبو بكر بن العطار اليابسي.
19 - وابن القابلة السبتي.
ذكر من كان منهم بالمشرق:
20 - الرضي الشريف.
21 - أبو القاسم المغربي.
22 - عبد الوهاب المالكي.
23 - أبو عبد الله ابن قاضي ميلة.
24 - أبو الحسن التهامي.
25 - مهيار الديلمي.
26 - أبو منصور الثعالبي.
27 - أبو إسحاق الحصري.
28 - أبو علي بن رشيقٍ، وذكر انحرافه عن القيروان.
29 - أبو الفتيان العسقلاني.
30 - القاضي أبو محمد بن نعمة.
31 - جلال الدولة ابن عمار.(1/31)
32 - المجيد بن الشخباء
وإنما ذكرت هؤلاء ائتساء بأبي منصور، في تأليفه المشهور، المترجم ب - " يتيمة الدهر، في محاسن أهل العصر ".
وتحريت في الجملة حر النظام، وتخيرت جيد الكلام، وجردت جملة الفصول والأقسام. وإذا مر معنى غريب وتعلق به خبر مشهور، وأمكنني فيه شعر كثير، مددت أطنابه، ووصلت أسبابه؛ وقد أذكر الشاعر الخامل، وأنشد الشعر النازل، لأربٍ يتعلق به، أو لخبرٍ أذكره بسببه؛ وقد أذكر الرجل لنباهة ذكره، لا لجودة شعره؛ وأقدم الآخر لاشتهار إحسانه، مع تأخر زمانه.
وبدأت بذكر الكتاب، إذ هم صدور في أهل الآداب، إلا أن يكون له حظ من الرياسة، أو يدعو إلى تقديمه بعض السياسة؛ فأول من ذكرت من أهل قرطبة من كان بها من ملوك قريش في المدة المؤرخة من أهل هذا الشأن ثم من تعلق بسلطانهم، أو دخل في شيءٍ من شانهم؛ وتلوتهم بالكتاب والوزراء، ثم بأعيان الشعراء، ثم بطوائف من المقلين منهم. وكذلك فعلت في كل قسم: بدأت بالملوك، ثم استمر على ما وصفته من الترتيب، وأنتظم على ما شرحت من التبويب، وعلى الله أتوكل، وهو حسبي فيما أقول وأفعل، لا إله سواه.(1/32)
@ذكر الكتاب والوزراء، وأعيان الأدباء والشعراء، بحضرة قرطبة
@وما يصاقبها من بلاد موسطة الأندلس، وتسمية من نشأ من
@فرسان هذا الشان، من آخر دولة بني عامرٍ إلى وقتنا،
@وإيراد ما انتخبته من نظمهم ونثرهم، مع ما يتعلق
@من فنون المعارف المفيدة بذكرهم
قال أبو الحسن بن بسام رحمه الله:
وحضرة قرطبة، منذ استفتحت الجزيرة، هي كانت منتهى الغاية، ومركز الراية، وأم القرى، وقرارة أهل الفضل والتقى، ووطن أولي العلم والنهى، وقلب الإقليم، وينبوع متفجر العلوم، وقبة الإسلام، وحضرة الإمام، ودار صوب العقول، وبستان ثمرة الخواطر، وبحر درر القرائح؛ ومن أفقها طلعت نجوم الأرض وأعلام العصر، وفرسان النظم والنثر؛ وبها انتشأت التأليفات الرائقة، وصنفت التصنيفات الفائقة؛ والسبب في ذلك، وتبريز القوم قديماً وحديثاً هنالك على من سواهم، أن أفقهم القرطبي لم يشتمل قط إلا على أهل البحث والطلب، لأنواع العلم والأدب. وبالجملة فأكثر أهل بلاد هذا الأفق أشراف عرب المشرق افتتحوها، وسادات أجناد الشام والعراق نزلوها؛ فبقي النسل فيها بكل إقليم، على عرقٍ كريم، فلا يكاد بلد منها يخلو من كاتب ماهر، وشاعر قاهر؛ إن مدح ما كثير عنده بكثير، وإن هجا(1/33)
أجر لسان جرير، وعدا عديا عن مدح ذويه، وأنسى جرولاً العواء في أثر قوافيه وإن تغزل أربى على الساحرات فنوناً، وأزرى بالغانيات مجوناً.
وقد وعدت في صدر هذا الكتاب بأن أتخلل أشعار الشعراء، ورسائل الكتاب والوزراء، بما عسى أن يتعلق بأذيالها، ويساير أفياء ظلالها: من أنباء فتن ذلك الزمان البعيد - كان طلقها، المفرق لشمل الأمر في هذه الجزيرة نسقها. ونلمع بنبذ من مشهور وقائعها، ونشير بأسماء طوائف توابعها وزوابعها، الذين استظهروا على شهواتهم بجر ذيولها، وامتروا بطالاتهم من أخلاف أباطيلها، حتى شقوا عصاها، وأداروا بدائرة السوء على الجماعة رحاها؛ ليجمع هذا المجموع بين الشعر والخبر، جمع الروضة بين الماء والزهر، والزمان بين الأصائل والبكر، فإني رأيت أكثر ما ذكر الثعالبي من ذلك في " يتيمته " محذوفاً من أخبار قائليه، مبتوراً من الأسباب التي وصلت به وقيلت فيه؛ فأمل قارئ كتابه منحاه، وأحوجه إلى طلب ما أغفله من ذلك سواه.
وسينخرط في سلك ما أوشح به هذا التصنيف، من تلخيص التعريف بأخبار ملوك الجزيرة، وسرد قصصهم المأثورة، ووقائعهم المبيرة(1/34)
المشهورة، لابن حيان، فصول من غرائبه، وجمل وتفاصيل من عجائبه؛ لأني إذا وجدت من كلامه فصلاً قد أحكمه، أو خبراً قد سرده ونظمه، عولت على ما وصف، ووليته خطة ما سطر وصنف، إقراراً بالفرق، وإعفاءً لنفسي من معارضة من أحرز بأفقنا في وقته قصبات السبق، [وأبرز في زمانه على جميع الخلق] . وأكثر ما يمر في هذا الكتاب، من هذا الباب، فعل تأريخه الكبير عولت، ومن خط يده أكثر ما نقلت؛ وتحريت جهدي اقتضاب ما طول، وتخفيف ما ثقل، وإجمال ما شرح وفصل؛ على أنه لم يخلص إليّ من غمامه إلا قطرة، ولا حصلت في يدي من حسامه إلا إبرة؛ ولذلك ما ارتشفت ثمادي، ونفخت فيما لم أجد من كلامه رمادي، وأنفقت في ذلك من تافه زادي؛ وابتدأت بمن كان في ذلك الأوان، من ملوك بني مروان، من أهل هذا الشان، وارتسم بهذا الفن الذي تصديت لإقامة أوده في هذا الديوان.
@فصل في ذكر المستعين بالله أبي أيوب سليمان بن الحكم والأخذ
@بطرف مستطرف من أخباره وأشعاره، والسبب الموجب
@لقيامه، وما حدث من نادر مستغرب في أيامه.
@ [ونقلت بعضه من لفظ الشيخ المذكور بنصه،
@وأتيت من الحديث بفصة، واعتمدت الإيجار،
@وأتقنت الصدور والإعجاز] .
هو سليمان بن الحكم بن سلميان بن عبد الرحمن الناصر لدين الله بن(1/35)
محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم القرشي. بويع بقرطبة منتصف ربيع الأول سنة أربعمائة بعد وقعة كانت له على أميرها قبله محمد بن عبد الجبار الملقب بالمهدي القائم على الدولة العامرية؛ ثم خلعه المهدي بوقعةٍ كانت له عليه، ثم عاد إليها سليمان ثانيةً في خبرٍ طويل، فملك سليمان قرطبة في دولتيه ست سنين وعشرة أشهر، وكانت كلها - كما وصف ابن حيان شداداً نكدات، صعاباً مشئومات، كريهات المبدأ والفاتحة، قبيحة المنتهى والخاتمة؛ لم يعدم فيها حيف، ولا فورق فيها خوف؛ ولا تم سرور، ولا فقد محذور؛ مع تغير السيرة، وخرق الهيبة، واشتعال الفتنة، واعتلاء المعصية، وظعن الأمن، وحلول المخافة: دولة كفاها ذماً أن أنشأها شانجه، فقشعها أرمقند، وثبتتها الجلالقة، ومزقتها الإفرنجية؛ ودبرها فاجر شقي، ووزر لها خب دني؛ فتمخضت عن الفاقرة الكبرى، وآلت بمن أتى إلى ما كان أعضل وأدهى، مما طوى بساط الدنيا، وعفى رسمها، وأهلك أهلها.(1/36)
ولما تمت بيعته نفذت عنه كتب إلى نواحي الجزيرة بخبر فتحه قرطبة، وكانت موشحةً بما توشح به كتب الفتوح الإسلامية على أهل دار الحرب، من وصف حال القهر، وشدة السطوة والاقتدار على الفتك والاستباحة؛ فأفرط في ذلك إرهاباً للناس بذكره، وتخويفاً لهم من مصثله؛ فكان أجلب لنفار القلوب، وقرف الندوب، وبعث الشرود، ونبش الحقود، لما وتر جميعهم بالحادثة في قرطبتهم؛ فاستشعروا بغضه، وانقادوا لكل من عانده ورد أمره، من عبدٍ أو حر، فزعاً إليهم منه، ويأساً من خيرٍِ يجيئهم من برابرته؛ فكان ذلك سبباً في تفريق البلاد وتملك أصحاب الطوائف.
قال ابن حيان: وتسمى لوقته من الألقاب السلطانية بالمستعين بالله، وانتقل إلى مدينة الزهراء بجملة جيشه، رجاء أن يحسم عن أهل قرطبة معرتهم، فضاقت الزهراء عنهم، فنزلوا بما يتصل بها من منازل الناس، ونزل ابنا حمودٍ: علي والقاسم، قائدا فرقة المغاربة، بشقندة؛ وامتحن هشام المؤيد بالله مع سليمان عند خوله القصر؛ فقيل إنه قضي عليه، وقيل إنه فر من يديه. وكان هشام - عند ما رآه من اضطراب أمره، وتيقنه من انصرام دولته، بما مني به قديماً وحديثاً، من تمالؤ بني عمه آل الناصر عليه، وقيامهم واحداً بعد واحد في خلعه - صير إلى علي بن حمودٍ ولاية عهده، وأوصى إليه بالخلافة من بعده(1/37)
وراسله بذلك إلى سبتة، أيام تردده عليها، بمعنى الاستمداد، وجمعه طوائف البرابرة للجهاد؛ وولاه طلب ذحله، واستكتمه السر فيه إلى أوانه، وبلوغ زمانه؛ هائجاً للحفائظ القرشية، ومحركاً للطوائل الطالبية؛ فرماهم يومئذ من علي هذا بثالثة الأثافي، طوى كشحه منها على مستكنةٍ أرجأها لوقتها.
ومن الاتفاق الغريب على سليمان أنه لما استوسق له الأمر بعد فراغه من خبر هشام المؤيد، أنفذ عزمه من بين قواد جيوشه في اختيار علي بن حمود المذكور، فقدمه على مدينة سبتة، رأياً ذهل عنه، ونبذها إلى ذد له مكاشح شريك في الدعوى والقرابة؛ فتلقفها علي تلقف الأكياس المقبلين، ودب لمغبونه سليمان من قبلها الضراء دبيب الحنق الموتور، حتى هجم عليه وسلبه ملكه، وحول دولته ومزق عترته؛ وكانت غلطة سليمان التي لم يستقلها هو ولا من بعده؛ وإذا أراد الله شيئاً أمضاه.
قال أبو الحسن بن بسام: وذكرت بما اتفق في هذا الخبر، ما حكاه الرواة في حلول الفاقرة أيضاً بالمتوكل جعفر؛ قالوا: لما عزم(1/38)
بغا الصغير على قتل المتوكل جعفر بتدبير ابنه المنتصر، دعا بباغر، وهو غلام تركي، بعد أن اصطنعه بالصلات، وكان مقداماً أهوج، فقال له: يا باغر، أنت تعلم تقديمي لك، وأني قد صرت عندك في منزلة من لا يعصى له أمر، وأريد أن آمرك بشيء، فعرفني كيف إقدامك عليه؛ قال: قل ما شئت فإني فاعله؛ فقال: إن ابني قد فسد علي، وصح عندي أنه يحاول سفك دمي، وأريد إذا دخل علي غداً أن أضع القلنسوة من رأسي في الأرض، فإذا أنا وضعتها فاقتله؛ قال: نعم؛ فلما دخل ابنه عليه لم يضع القلنسوة من رأسه، وظن أنه نسي، فغمزه بحاجبه، فلم ير العلامة، وانصرف ابنه. فقال له: إني فكرت في أنه ولد وحدث، وأريد أن أستصلحه. فقال له باغر: فإني قد سمعت وأطعت. ثم أمسك عنه مديدة وقال له: إن أخي قد فسد علي، وهو عزم على أن يقتلني وينفرد مكاني، وأحب أن تبادر غداً إذا دخل علي وتقتله؛ قال: نعم؛ وجعل له علامةً، فلما دخل عليه لم ير العلامة، ووقف حتى خرج أخوه. فقال له: يا باغر، هو أخي وعسى أن أستصلحه؛ وههنا امرؤ هو أعظم وأكبر من(1/39)
هذا كله. قال له باغر: من هو - قال: المنتصر، قد صح عندي أنه على الإيقاع بي وقتلي، وأريد قتله، فكيف ترى نفسك في ذلك - ففكر باغر ساعة ونكس رأسه طويلاً ثم قال: هذا أمر لا يجيء منه شيء. قال: ولم - قال: لا نقتل الابن والأب باقٍ، إذ لا يستوي لكم شيء ويقتلكم أبوه كلكم. قال: فما الرأي - قال: نبدأ بالأب ويكون أمر الصبي أيسر؛ قال: وتفعل هذا ويحك -! قال: نعم، أفعله وأدخل عليه إلى قتله، وادخل أنت في اثري، فإن قتلته وإلا فاقتلني أنت، وضع سيفك علي وقل: أراد أن يقتل مولاه. فعلم بغا حينئذ أنه قاتله، فتمكن له التدبير على المتوكل.
وحدث البحتري الشاعر قال: كنا عند المتوكل مع الندماء، فتذاكرنا أمر السيوف؛ فقال بعض من حضر: يا أمير المؤمنين، وقع عند رجل من أهل البصرة سيف من الهند ليس له نظير. فأمر المتوكل بالكتاب فيه إلى عامل البصرة؛ فاتفق أن اشتري بعشرة آلاف درهم؛ فسر المتوكل بجودته، وانتضي فاستحسنه المتوكل وقال للفتح بن خاقان: اطلب لي غلاماً نثق بنجدته وشجاعته، أدفع إليه هذا السيف ليكون واقفاً به على رأسي كل يوم ما دمت جالساً؛ قال: فلم يستتم المتوكل الكلام حتى دخل باغر التركي المذكور، فدعا به المتوكل، ودفع إليه ذلك السيف، وأمره بما أراد وتقدم بأن يزاد في مرتبته. قال(1/40)
البحتري: فوالله ما انتضي ذلك السيف ولا أخرج من غمده منذ الوقت الذي دفع إليه إلا في الليلة التي ضربته فيها باغر بذلك السيف.
رجع الحديث:
قال ابن حيان: فلما كانت سنة خمس وأربعمائة طلع النبأ على سليمان أن مجاهداً العامري أقام عليه خليفةً رجلاً يعرف بالفقيه المعيطي، فاستعظم ذلك إلى أن بلغه نجوم عليّ بن حمود الفاطمي بسبتة، فسقط في يديه، وتفرقت الظباء عليه؛ وكان على أجل من الحرش، وأخذ في استدفاع ذلك جهده، فلم يغنه شيئاً، وجاءه عليّ في جموعه بعد أن اجتمع بالمرية مع خيران صاحب المرية وغيره من الفتيان؛ فخرج إليهم سليمان واقتتلوا، فانهزم سليمان وقبض عليه وعلى أخيه وأبيه وسيقوا أسارى إلى عليّ بن حمود. ودخل القصر وخيران يطمع أن يجد هشاماً المؤيد حياً، فلم يوجد، وذكر أنه قتل وعرض عليه قبره. فأمر علي بنبشه، فأخرج الشخص، وشهد أنه هشام، وسليمان يتبرأ من دمه، وما كان في جسده شيء من أثر السلاح، فتوهم فيما الخنق، وأمر عليّ بتجهيزه إلى أهله، وأنذر طبقات الناس للصلاة(1/41)
عليه؛ فدفن لزيق أبيه الحكم. ثم دعا علي بسليمان وذويه فضرب عنقه بيده، وظهر منه جزع شديد عند ملاحظته السيف، خارت منه قواه، فجثا على ركبتيه، ثم ضربت عنق الشيخ أبيه وعنق عبد الرحمن ابنه، وجعلت الرؤوس الثلاثة في طست، وأخرجت من القصر إلى المحلة ينادي عليها: هذا جزاء من قتل هشاماً المؤيد؛ ثم ردت الرؤوس الثلاثة ونظفت وطيبت؛ وقد كانت جمعت رؤوس رؤساء من البرابرة المقتولين في الوقعة في قفة، وجعل رأس أحمد ابن الدب في أعلاها، وعلقت في آذانهم رقاع بأسمائهم. وكانت في المحلة تحمل من مضرب قائدٍ إلى مضرب سواه. وعجب الناس من اجتماع رؤوس من ضاقت أرض الأندلس برحبها عنها، وشملها شرها وأذاها طراً في قفة ضيقة، والأمر لله.
وحكي أن والد سليمان حين عاين قتل ابنيه بين يديه قال له عليّ: أهكذا يا شيخ قتلتم هشاماً - قال: لا والله ما قتلناه وإنه لحي يرزق! فحينئذ عجل عليّ بقتل الشيخ؛ وكان رحمه الله تقياً صالحاً لم يتشبث بشيء من أمر ابنه.(1/42)
وكان هشام يقول برموز الملاحم وكتب الحدثان، وخامر نفسه من ذكر قائم بسبتة، أول اسمه عين، ما لا شيء يزيله، ولم يزل مرتقباً لظهوره؛ فلذلك ما كاتب عليّ بن حمود لرفع بيته، وبعد صيته؛ فكان منه في أخذه بثأره بعد موته ما كان. فإن كان كذلك، فهشام - على مشهور عجزه - أحد كائدي الأعداء بغيره من منكوبي الملوك بما لا شيء فوقه، فما أدرك فيه بعد هلاكه بوتره واستقاد بدمه وسطا بعدوه؛ انتهى ما لخصته من خبره مع ابن حمود.
فصل: قال ابن حيان: وأما حربه مع المهدي، فإنه لما استوسق الأمر لسليمان حسبما تقدم، وتابعته الباربرة، اجتمعوا لحرب قرطبة، فنزلوا في سفح الجبل بها وبشرقيها، يوم الخميس الحادي عشر من ربيع الأول سنة أربعمائة؛ وقد كان واضح الفتى وافاها قبلهم بيومين في أجناده من رجال الثغر، فقلده المهدي أمر الحرب، واحتشد الناس من الكور والبادية، فعسكروا في جموعٍ لم يحصها إلا خالقهم، فتداني الزحفان يوم السبي الثالث عشر من ربيع المؤرخ، فتسرع إليهم أهل قرطبة، وخالفوا واضحاً في تدبير حربهم، فاستجرتهم البرابرة، حتى إذا تمكنوا منهم عطفوا عليهم، فانكشفوا عنهم انكشافاً ما سمع بمثله، وانهزموا إلى منازلهم، وتشعبت الطرق بهم، عاد تضيق مسالك كانوا أعدوها لعدوهم سداداً دونهم، فازدحموا وتناشبوا وقتل بعضهم بعضاً. ووضع البرابرة والنصارى السيوف عليهم؛ فقتل في هذه الوقعة عالم، وأبادوا أمة. وهي وقعة قنتيش المشهورة بالأندلس التي قطع المقال على أنه قتل فيها عشرة آلاف قتيل وأزيد. والله أعلم.(1/43)
ومال النصارى يومئذ على المنهزمين من المسلمين، فقتلوا منهم في صعيد واحد نيفاً على ثلاثة آلاف رجل. وخرج الأمر عن يد واضح، فلم يثبت أحد ممن كان معه، ولا كر في تلك الوقعة عامي ولا خاصي. وكان أمره عجباً. ونادى واضح بشعاره، فاجتمع إليه رجاله، وثبت إلى أن أجنه الليل واتخذه جملاً، وسارعن قرطبة هارباً إلى الثغر. وانبسط البربر يومئذٍ في أرض قرطبة يقتلون ويأسرون.
قال ابن حيان: وأصيب في تلك الوقعة من المؤدبين خاصة نيف على ستين، أعريت سقائفهم في غداة واحدة منهم، وتعطل صبيانهم لعدمهم. وأصيب فيها زربوط الطنبوري، وأقام الطنبوريون أصحابه عليه مأتماً مشهوداً بعد الحادثة. وهلك في تلك الوقعة أخلاط من الناس. وكان بعض الظرفاء يقول: من كل طبقة أخذت وقعة قنتيش حتى من الباطل؛ فإنها ألصقت بالصميم في قتل قنبوط الملهي، وزربوط المغني ونمطهما، فهيهات أن يخلف الدهر مثلهما.
وكان المهدي، إذ دخل قرطبة منتصف جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة وقتل عبد الرحمن بن أبي عامر، أظهر موت هشام المؤيد في رمضان من العام، وورى الشخص الذي موه به وقسم تراثه. فلما كان غداة الأحد ثاني وقعة قنتيش، أظهر المهدي هشاماً المؤيد رجاء أن يستميل(1/44)
البرابرة به. لما كانوا يكثرون من الترحم عليه والطلب بدمه؛ فأبرزه للناس وعجبوا من ذلك، فقال له البربر: الله محمود على سلامته، ونحن فلا حاجة لنا في إمامته، ولا نرضى بغير سليمان؛ فلما سمع المهدي ذلك، خرج في الليل عن القصر، وتطمر بقرطبة إلى أن لحق بطليطلة، ودعا الناس إلى القيام بنصرته؛ فجمع له واضح عساكر الإفرنجة وأهل الثغور؛ وجاءهم مع واضح إلى قرطبة، فبرز إليه سليمان، والتقى الجمعان يوم الجمعة في شوال من العام؛ فانهزم سليمان؛ فدخل المهدي قرطبة وبويع له بها، وتردد عليه البربر يحاربونه، فشرع في حفر الخندق حول قرطبة، وألزم أهلها القيام بأمره؛ فاشتدت الكلفة عليهم. ودبر واضح مع الموالي العامريين الغدر بالمهدي، وشغبوا عليه في ذي الحجة من العام، وأخرجوا هشاماً المؤيد من محبسه بالقصر، وأجلسوه للخلافة بالسطح، ونادوا بشعاره، وضربوا عنق المهدي بين يديه، وألقوا جسده من أعلى السطح، ورفعوا رأسه على قناة طيف بها البلد كله، وقطعت يده ورجله. وعاد هشام المؤيد إلى الخلافة، وجددت له البيعة، واستحجب واضحاً الفتى، واستولى على التدبير الأمور، وأرسل برأس المهدي إلى عسكر سليمان على معاودة طاعة هشام، وقد رجا استمالتهم به فأبوا ذلك، وأغلظ سليمان على رسله، وأراد قتلهم(1/45)
وأظهر الجزع على ابن عمه المهدي، وبكى عليه، وأمر بتنظيف الرأس، وأنفذه إلى طليطلة، إلى ولد المهدي عبيد الله، فأعظم قتل أبيه ودفع بيعة هشام. وكان بعسكر سليمان عبد الرحمن بن متيوه، فلما بلغه مهلك المهدي بن عبد الجبار عدوه، كاتب واضحاً وتوثق له، فهرب إلى قرطبة، فدبر أمر هشام مدةً بعد قتل واضح وعلي بن وداعة، في أخبار طويلة، إلى أن ضعف أمر هشام. ودخل عليه سليمان دولته الأخيرة، ودبر قرطبة، إلى أن وقع له مع علي بن حمود ما وصفناه. انتهى ما لخصته من كلام ابن حيان.
قال أبو الحسن بن بسام: وكان سليمان ممن مدت له في الأدب غابة، كبا دونها أهل الأدب، ورفعت له في الشعر راية مشى تحتها كثير من الشعراء والكتاب؛ غير أن أيام الفتون ألوت بذكره، وأيدي تلك الحرب الزبون طوت بجملة شعره؛ وهو أحد من شرف الشعر باسمه، وتصرف على حكمه؛ مع قعود همم أهل الأندلس يومئذ عن البحث عن مناقب عظمائهم، وزهدهم في الإشادة بمراتب زعمائهم. ولم أظفر له حين نقل هذه النسخة المقررة من هذا المجموع في وقتي المؤرخ إلا بقطعة(1/46)
عارض بها هارون الرشيد فشعشعت بها الكؤوس، وتهادتها الأنفاس والنفوس. وقد أثبت القطعتين معاً ليرى الفرق، ويعرف الحق. قال هارون الرشيد:
ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان
ما لي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن، وهن في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... - وبه قوين - أعز من سلطاني فقال سليمان المستعين:
عجباً، يهاب الليث حد سناني ... وأهاب لحظ فواتر الأجفان
فأقارع الأهوال لا متهيباً ... منها سوى الإعراض والهجران
وتملكت نفسي ثلاث كالدمى ... زهر الوجوه نواعم الأبدان
ككواكب الظلماء لحن لناظري ... من فوق أغصان على كثبان
هذي الهلال، وتلك بنت المشتري ... حسناً، وهذي أخت غصن البان
حاكمت فيهن السلو إلى الصبا ... فقضى بسلطان على سلطاني
فأبحن من قلبي الحمى وتركنني ... في عز ملكي كالأسير العاني
لا تعذلوا ملكاً تذلل للهوى ... ذل الهوى عز وملك ثاني(1/47)
ما ضر أني عبدهن صبابةً ... وبنو الزمان وهن من عبداني
إن لم أطع فيهن سلطان الهوى ... كلفاً بهن فلست من مروان @فصل في ذكر المستظهر بالله أبي المطرف عبد الرحمن
@ابن هشام بن عبد الجبار الناصري، وشرح مقتله،
@وإيراد جملة من اشعاره، مع ما يتعلق بها
@وينخرط في سلكها من مستطرف أخباره
قال أبو الحسن: نقلت من خط أبي مروان بن حيان قال: كان عبد الرحمن هذا لبقاً ذكياً، وأديباً لوذعياً؛ لم يكن في بيته يومئذ أبرع منه منزلة. وكان قد نقلته المخاوف، وتقاذفت به الأسفار، فتحنك وتخرج وتمرن فيها، وكاد يستولي على الأمر لو أن المنايا أنسأته. وكان عاد إلى قرطبة بعد تجواله؛ فدخلها مستخفياً أيام القاسم بن حمود، وقد اضطرب سلطانه بها؛ فشاهد الفتنة الحادثة بين البرابرة وأهلها، وهم فيها بالوثوب، وبث دعاته إلى أهلها. فلم يصح له شيء مما أراده، وأنكر الوزراء المدبرون قرطبة أمره؛ فتجردوا لطلبه وطلب دعاته، فسجنوا(1/48)
ولم يخرجوا من الحبس إلا يوم جلوس صاحبهم عبد الرحمن للإمارة؛ فبقى مستخفياً، وهو يدب الضراء في الدعاء إلى نفسه، إلى أن أعلقوه بالشوى عند إيقاعها في ذلك الوقت لظهور براعته، وأجمعوا عليه وعلى سليمان بن المرتضى، وعلى محمد بن العراقي. فتقدم في إحضار الخاصة والجند والعامة بالمسجد الجامع لمشاهدة بيعة من يختار من هؤلاء الثلاثة الأمراء للخلافة، فغدا الناس لذلك على طبقاتهم.
قال ابن حيان: وكنت في من حضر المقصورة يومئذٍ، فكان أول من وافى منهم سليمان بن المرتضى، جاء مع عبد الله بن مخامس الوزير في أبهةٍ وشارة دلت على المراد فيه؛ فدخل من باب الوزراء الغربي والسرور بادٍ عليه، فاستقبله أصحابه وقدموه إلى بهو الساباط؛ فأجلس هنالك على مرتبةٍ لا تصلح لأحد سواه، وهو بهج جذلان، لا يشك في تمام الأمر له، وأصحابه يرتقبون مجيء ابني عمه المذكورين - وقد أبطأا - كيما يحصلوهما عنده. فبينما نحن على ذلك، والقلق على القوم باد، إذ غشيتنا ضجة وزعقة هائلة ارتج لها الجامع واضطرب لها من بالمقصورة. فإذا عبد الرحمن بن هشام قد وافى شرقي الجامع، في خلقٍ رجالهما، شاهرين سيفيهما أمامه، لهيجن باسمه؛ فراع الوزراء(1/49)
ذلك وألقوا للوقت بأيديهم وخذلتهم حيلهم، ودخل المقصورة عبد الرحمن فبويع لوقته. واستدعي سليمان بن المرتضى وجيء به مبهوتاً فقبل يده وهنأه، فأجلسه إلى جنبه، ثم وافى محمد بن العراقي أيضاً فقبل يده وبايعه، ثم عقدت له البيعة، وذلك اليوم الرابع من شهر رمضان سنة أربع عشرة وأربعمائة.
وكان أحمد بن بردٍ قد تقدم في عقدها باسم سليمان بن المرتضى فبشره وحك اسمه، وكتب اسم عبد الرحمن مكانه فكان ذلك من عجائب الدنيا.
ثم ركب وحمل مع نفسه ابني عمه سليمان وابن العراقي فاحتبسهما عنده وآنسهما؛ وظهرت من عبد الرحمن لوقته عرامة، وكان فتى أي فتىً لو أخطأته المتالف. وكان استقل بما طلبه من السلطان جرأة وصرامةً، وركب أعناق الخطوب وقد اعتاصت فأردته. وكان رفع مقادير مشيخة الوزراء من بقايا مواليه بني مروان، منهم أحمد بن برد وجماعة من الأغمار، كانوا عصابةً يحل بها الفتاء، ويذهب بها العجب، قدمهم على سائر رجاله، فأحقد بهم أهل السياسة، فانقضت دولته سريعاً، منهم أبو عامر بن شهيد فتى الطوائف، كان بقرطبة في رقته وبراعته وظرفه خليعها المنهمك في بطالته، وأعجب الناس تفاوتاً ما بين قوله وفعله، وأحطهم في هوى نفسه، وأهتكهم لعرضه، وأجرأهم على خالقه. ومنهم أبو محمد بن حزم، وعبد الوهاب(1/50)
ابن عمه، وكلاهما من أكمل فتيان الزمان فهماً ومعرفةً ونفاذاً في العلوم الرفيعة.
وأقر المستظهر يومئذ على مراتب الخدمة طوائف؛ منهم خدمة المدينتين الزهراء والزاهرة، وخدمة كتابة التعقب والمحاسبة، وخدمة الحشم، وخدمة القطع بالناض والطعام، وخدمة مواريث الخاصة، وخدمة الطراز، وخدمة المباني، وخدمة الأسلحة وما يجري مجراها، وخدمة الخزانة للقبض والنفقة، وخدمة الهراية والقبض والدفع، وخدمة الوثائق ورفع كتب المظالم، وخدمة خزانة الطب والحكمة، وخدمة الأنزال والنزائل، وخدمة أحكام السوق.
قال أبو الحسن: ولكل لقبٍ من أصناف هذه الخدمة جماعات سماهم أبو مروان بن حيان في كتابه، ثم قال: وهذا زخرف من التسطير وضع على غير حاصل، ومراتب نصبت لغير طائل، تنافسها طالبوها يومئذ بالأمل فلم يحلوا منها بنائل، ولا قبضوا منها مرتزقاً، ولا نالوا بها مرتفقاً؛ وغرهم بارق الطمع وسط بلدٍ محصور، وعمل مغصوب، وخراب مستول، ومع سلطان فقير، لا يقع بيده درهم(1/51)
إلا من صبابة مستغل جوف المدينة، أو نهب مغلول ممن تقلقل عنها؛ يقيم منه رمقه، ويفرق جملته على من تكنفه من جنده ودائرته، ويتطرق إلى ما يقبح من ظلم رعيته؛ فلم يلبث الأمر أن تفرى به فسفك دمه، وانحسم الأمل من دولته. وكان قد بادر في الإرسال عن جماعة من وزرائه، فلما حصل جميعهم عنده قبض عليهم وصادرهم على أموال لصدوفهم عنه، وطالبهم نجاح الضاغط يومئذ عنها. وكان قد استرجحه خاصة الناس وذوو الحجى منهم في القبض على هؤلاء الوزراء، واستبطأوا إبادته لهم ورجوا استظهاره على الأمر بإزالتهم، وسلامة تدبيره من اعتراضهم، وكان قد أخرج رسله إلى جماعة الرؤساء بالأندلس يلتمس البيعة، ويستنفر الكافة، ويدعو إلى كرة الدولة؛ فأخفق ما طلبه وعوجل، ولما تقبض الأجوبة رسله، واضمحل أمره، والبقاء لله وحده.
وكان أيضاً مما حرك الناس عليه استهدافه إلى أهل بيته من ولد الناصر، ومبادرته لحبس سليمان بن المرتضى وابن العراقي المذكورين، وتجاوزهما إلى نفر غيرهما، اعتقل بعضاً وطلب بعضاً، حتى شملهم الخوف؛ فبعث الله عليه من جرأة صاحبه بكر بن محمد بن المشاط الرعيني أدنته من حمامه، وسعى إلى أن وثب عليه محمد بن عبد الرحمن المستكفي، وأحس المستظهر بشيء من ذلك فطلبه، فأعجزه؛ ولم يزل السعي عليه حتى قتل.(1/52)
@ذكر الخبر عن كيفية مقتله
قال ابن حيان: وكان سبب ذلك أن حسن رأيه في ابن عمران - أحد الرهط الذين كان سجنهم - فأخرجه، فقال له بعض أصحابه: إن مشى ابن عمران في غير سجنك باعاً، بتر من عمرك عاماً؛ فعصاه المستظهر فيه لغالب هواه، فحاق به في الثالث رداه؛ وكان ورد عليه قبل إطلاقه بيومين فوارس من البربر، فكرم مثواهم وأنزلهم معه في دار الملك، فاهتاج لذلك الدائرة وقالوا للعامة: نحن الذين قهرنا البرابرة وطردناهم عن قرطبة، وهذا الرجل يسعى في ردهم إلينا، وتمكينهم من نواصينا؛ فهاجوا العامة، فوثبوا عليه بالقصر، وقتل البرابرة حيث وجدوا. ولم يشعر عبد الرحمن إلا والرجالة قد انتشروا على سقف القصر، وسمع المسجونون عنده هتاف الناس فاستغاثوهم، فدقوا الأغلاق دونهم، واختلط بالحرم؛ فعلم عبد الرحمن أنه مقتول. وأحيط به من كل جهة؛ فاستغاث الوزراء: ابن جهور ولمته، فلم يجدوا له مناصاً ولا خلاصاً، ولا يصدقون بنجاة أنفسهم وقد ضهلوا عنه بالحيلة في تخليصهم؛ فأشار عليهم الدائرة الفسقة بتركه، والذهاب عنه؛ فجعل الوزراء يتسللون عنه واحداً بعد واحد إلى أن أفردوه. فنجا عامة من(1/53)
تعجل القرار من الوزراء وأهل الخدمة على باب الحمام من القصر فاهتدى إليه الدائرة، وأحلوا بمن خرج منه الفاقرة؛ منهم أحمد بن بسيلٍ متقلد المدينة، قتل يومئذ. وجاء عبد الرحمن إلى ذلك الباب يطمع في الخروج؛ فقام الدائرة في وجهه وزرقوه وهم يسبونه؛ فارتد على عقبه، وترجل عن فرسه، وتجرد من ثيابه، حتى بقي في قميصه؛ واستخفى في أبزن الحمام، ففقد شخصه؛ واستخفى البرابرة في الحمام وفي أكناف القصر فبحث عنهم وقتلوا. ولاذ منهم طائفة بالجامع فقتلوا فيه؛ وفضح حريم عبد الرحمن وسبى أكثرهن الدائرة وحملوهن إلى منازلهم علانية، وجرى عليهن ما لم يجر على حرم سلطانٍ في مدة تلك الفتنة.
قال: ولما فقد شخص عبد الرحمن ظهر ابن عمه محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر الساعي عليه في المكان الذي كان متطمراً فيه فهتف الدائرة باسمه، وانتهوا به إلى دار الملك، فإذا هي بلاقع؛ فأجلسوه في مجلسها القبلي مبهوتاً. وقام الدائران الفاسقان محمود وعمير على رأسه بالسيوف مقامها بالأمس على رأس عبد الرحمن ابن عمه وتكاثرت الدائرة والعامة عليه. وافتقد عبد الرحمن المستظهر فوجدوه في ابزن الحمام قد انطوى انطواء الحية في مكان حرجٍ، فأخرج في(1/54)
قميص مسود بحالٍ قبيحة؛ وجيء به إلى محمد بن عبد الرحمن المستكفي وقد بويع يوم السبت الثالث من ذي قعدة سنة أربع عشرة وأربعمائة؛ فبطش به بعض الرجالة القائمين على رأسه، فتهلل وجه ابن عمه [القائم عليه] ، وأخذ في تدبير سلطانه. فكانت إمارة المستظهر - إلى أن قتل - سبعة وأربعين يوماً، لم تنتشر له فيها طاعة، ولا التأمت عليه جماعة، ولا تجاوزت دعوته قرطبة. وكان سنه يوم قتل ثلاثاً وعشرين سنة.
وكان على حداثة سنه ذكياً يقظاً لبيباً أديباً حسن الكلام جيد القريحة مليح البلاغة يتصرف فيما شاءه من الخطابة بديهة ورويةً، ويصوغ قطعاً من الشعر مستجادة. وقد اقتضب بحضرة الوزراءة في أيامه عدة رسائل وتوقيعات لم يقصر فيها عن الغاية، يزين ذلك بطهارة أثواب وعفةٍ وبراءة من شرب النبيذ سراً وعلانية. وكان في وقته نسيج وحده، ختم به فضلاء أهل بيته الناصريين، فلم يأت بعده مثله.
وهذه جملة ما وجد له من شعره: من ذلك قصيدة كتب بها إلى مشنف زوج سليمان بن الحكم، أيام خطب بنتها من سليمان المسماة حبيبة فلوته؛ وكان بقلبه من هذه الابنة مكان لنشأتهما معاً في ذلك الأوان؛ يقول فيها:(1/55)
وجالبة عذراً لتصرف رغبتي ... وتأبى المعالي أن تجيز لها عذرا
يكلفها الأهلون ردي جهالةً ... وهل حسن بالشمس أن تمنع البدرا
وماذا على أم الحبيبة إذ رأت ... جلالة قدري أن أكون لها صهرا
جعلت لها شرطاً علي تعبدي ... وسقت إليها في الهوى مهجتي مهرا
تعلقتها من عبد شمس غريرةً ... محدرةً من صيد آبائها غرا
حمامة عش العبشميين رفرفت ... فطرت إليها من سراتهم صقرا
لقد طال صوم الحب عنك فما الذي ... يضرك منه أن تكوني له فطرا
وإني لأستشفي بمري بداركم ... هدوءاً وأستسقي لساكنها القطرا
وألصق أحشائي ببرد ترابها ... لأطفئ من نار الأسى بكم جمرا
فإن تصرفيني يا ابنة العم تصرفي ... - وعيشك - كفأ مد رغبته سترا
وإني لأرجو أن أطوق مفخري ... بملكي لها وهي التي عظمت فخرا
وإني لطعان إذا الخيل أقبلت ... جرائدها حتى تري جونها شقرا
وإني لأولى الناس من قومها بها ... وأنبههم ذكراً وأرفعهم قدراً
وعندي ما يصبي الحليمة ثيباً ... وينسي الفتاة الخود عذرتها البكرا
جمال وآداب وخلق موطأ ... ولفظ إذا ما شئت أسمعك السحرا وإنه لمحها يوماً وأومأ بالسلام، فلم ترده عليه خجلاً، فكتب إليها:
سلام على من لم يجد بكلامه ... ولم يرني أهلاً لرد سلامه(1/56)
سلام على الرامي الذي كلما رمى ... أصاب فؤادي عامداً بسهامه
بنفسي حبيب لم يجد لمحبه ... بطيف خيال زائرٍ في منامه
ألم تعلمي يا عذبه الإسم أنني ... فتى فيك مخلوع عذار لجامه
وأني وفي حافظ لأذمتي ... إذا لم يقل غيري بحفظ ذمامه
يبشر ذاك الشعر شعري أنه ... سيوصل حبلي بعد طول انصرامه
وما شك طرفي أن طرفك مسعدي ... ومنقذ قلبي من حبال غرامه
عليك سلام الله من ذي تحيةٍ ... وإن كان هذا زائداً في اجترامه وله فيها أيضاً:
تبسم عن در تنضد في الورس ... وأسفر عن وجه يتيه على الشمس
غزال براه من نور عرشه ... لتقطيع أنفاسي وليس من الإنس
وهبت له ملكي وروحي ومهجتي ... ونفسي ولا شيء أعز من النفس وهو القائل:
طال عمر الليل عندي ... مذ تولعت بصدي
يا غزالاً نقض الو ... د ولم يوف بعهدي
أنسيت العهد إذ بت ... نا على مفرش ورد
واجتمعنا في وشاح ... وانتظمنا نظم عقد(1/57)
وتعانقنا كغصني ... ن وقدانا كقد
ونجوم الليل تحكي ... ذهباً في لازورد ورفع إليه شاعر ممن هنأه بالخلافة يوم بيعته شعراً له كتبه في رقٍ مبشور، واعتذر من ذلك بهذين البيتين:
الرق مبشور وفيه بشارة ... ببقا الإمام الفاضل المستظهر
ملك أعاد العيش غضاً شخصه ... وكذا يكون به طوال الأدهر فأجزل المستظهر بالله صلته، ووقع على ظهر رقعته بهذه الأبيات:
قبلنا العذر في بشر الكتاب ... لما أحكمت من فصل الخطاب
وجدنا بالجزاء بما لدينا ... على قدر الوجود بلا حساب
فنحن المنعمون إذا قدرنا ... ونحن الغافرون أذى الذئاب
ونحن المطلعون بلا امتراء ... شموس المجد من فلك الثواب ومما قاله - زعموا - يوم وثوب البرابرة عليه بالدائرة التي أمرت بقتله:
يا أيها القمر المنير ... كن نحو شبهك لي سفير
بتحيةٍ أودعتها ... شوقاً بنيات الصدور(1/58)
انتهى ما وجدناه من أشعار بني أمية من أول المائة الخامسة من الهجرة ابتداءً من تأريخ هذا الديوان. وشرحنا بعض ما تعلق بذلك من خطب، واندرج أثناءه من ذكر حرب.
ونتلوه بذكر من تقدم زمانه، واشتهر إحسانه، وملأ المسامع والمجامع بيانه وسار في المغارب والمشارق ذكره وشانه، وملأ ظهور السباسب وبطون المهارق سماعه وعيانه.
@فصل في ذكر الأديب أبي عمر أحمد بن دراج القسطلي
@وإثبات جملة من نظمه الفائق الدرر، ونثره المعجز الورد والصدر
@واجتلاب ما يتعلق به ويتصل بسببه من خبر
قال ابن بسام: كان أبو عمر القسطلي وقته لسان الجزيرة شاعراً وأولاً حين عد معاصريه من شعرائها المشهور، وآخر حاملي لوائها، وبهجة(1/59)
أرضها وسمائها، وأسوة كتابها وشعرائها؛ له عقد فخرها المحمول وسهم، وبه بدئ ذكرها الجميل وختم؛ حل اسمه من الأماني محل الأنس، وسار نظمه ونثره في الأقاصي والأداني مسير الشمس؛ وأحد من تضاءلت الآفاق عن جلالة قدره، وكانت الشام الشام والعراق أدنى خطى ذكره.
وقد أجرى الثعالبي طرفاً من أمره، وأغرب بلمع من شعره، فقال في كتابه المترجم ب - " اليتيمة ": " بلغني أن أبا عمر القسطلي كان عندهم بصقع الأندلس كالمتنبي بصقع الشام؛ وهو أحد شعرائهم الفحول هنالك. وكان يجيد ما ينظم " انتهى كلام الثعالبي.
وإنما ذكرته أنا؛ وكان من شعراء ابن أبي عامر، لأنه تراخت أيامه، وأغضى عنه حمامه، حتى أخرجته المحن، وسالت به تلك الفتن، الكائنة صدر المائة الخامسة من الهجرة.
وذكره ابن حيان معجباً من أخباره، معرباً عن جلالة مقداره؛ فقال: وأبو عمر القسلطي سباق حلبة الشعراء العامريين، وخاتمة محسني أهل الأندلس أجمعين. وكان ممن طوحت به تلك الفتنة الشنعاء، واضطرته إلى النجعة، فاستقرى ملوكها أجمعين، ما بين الجزيرة الخضراء، فسرقسطة من الثغر الأعلى؛ يهز كلا بمديحه(1/60)
ويستعينهم على نكبته، وليس منهم من يصغي له، ولا يحفظ ما أضيع من حقه، وأرخص من علقه؛ وهو يخبطهم خبط العضاه بمقوله، فيصمون عنه، إلى أن مر بعقوة منذر بن يحيى أمير سرقسطة، فألقى عصا سيره عند من بواه، ورحب به وأوسع قراه؛ فلم يزل عنده، وعند ابنه بعده، مادحاً لهما، مثنياً عليهما، رافعاً من ذكرهما، غير باغٍ بدلاً بجوارهما، إلى أن مضى بسبيله، بعد أن جرت له، رحمه الله، على إحسانه الباهر، في فتنة البرابر مع أملاك الجزيرة، في طول الاغتراب والنجعة، أخبار شاقة، فيها لذي اللب موعظة بالغة.
وذكره أيضاً أبو عامر بن شهيد فقال: والفرق بين أبي عمر وغيره أن أبا عمر مطبوع النظام، شديد أسر الكلام؛ ثم زاد بما في أشعاره من الدليل على العلم بالخبر واللغة والنسب، وما تراه من حوكه للكلام، وملكه لأحرار الألفاظ، وسعة صدره، وجيشة بحره، وصحة قدرته على البديع، وطول طلقه في الوصف، وبغيته للمعنى وترديده، وتلاعبه به وتكريره، وراحته بما يتعب الناس، وسعة نفسه فيما يضيق الأنفاس. انتهى كلام ابن شهيد.
قال ابن بسام: وأنا أقول: إن من ذكره لم يوفه حقه، ولا أعطاه وفقه، ولا استوفى تقدمه وسبقه؛ ولو أوفى الأيام، واستنفد القراطيس(1/61)
والأقلام. وقد أتيت أنا من شعره بما يبهر نيرات الألباب، ويظهر خفيات الأسباب، ومن نثره ما يبهر العقول، ويباهي الغرر والحجول؛ وبسامي التيجان والأكاليل، ويسهل التقليد والتأويل.
@جملة من فصول اقتضبتها من كلامه الطويل،
@فراراً من التطويل
فصل له من رقعة: يا سيدي، ومن أبقاه الله كوكب سعد، في سمء مجد، وطائر يمنٍ، في أفناء أمن، مرجواً لدفع الاسواء، مؤملاً في اللأواء؛ وكنت قد نشأت في معقل من العفا والوفر، محدقاً بسور من الأمن والستر، حتى أرسل إليّ سلطان الفقر، رسولاً من نوب الدهر، يريد استنزالي إليه، وخضوعي بين يديه، فأبيت من ذلك عليه، فغراني بكتائب من النوائب، تسير تحت ألوية المصائب، تبرق بسيوف الرزايا، وتشهر أسنة المنايا، يرمون عن قسي الأوجال، ويضربون طبول الذعر وسوء الحال، بأيد باطشة لا تكل، وبصائر ثابتة لا تمل، فلم يرعني ذلك منهم أن تلقيتهم بمن معي من جنود الصبر، فافتتح معقلي سلطان الفقر وأخذني أسراً، وطلب مني فداءً لا أقوم به قسراً، فأوثقني في قيود الانقياد، وشدني في أغلال الأصفاد، ووكل بل الحيرة والتبلد، وأمرهما ألا يطلقا سبيلي إلا بالفداء، فضاقت بذلك مذاهبي حتى أتى منك رسول يسمى حسن الثناء، فضمن لي عنك فديتي، من(1/62)
يدي أسرتي، وسيدي أولى من وفى بضمانه، وصدق قول رسوله على لسانه.
وله من أخرى إلى سليمان بن الحكم أمير المؤمنين: حاشا لله أن أستشف الحسي قبل جموحه، وأستكره الدر قبل حفوله، أو أتعامى عن سراج المعذرة، وأرغب عن أدب الله في نظرة إلى ميسرة ولكن:
" ماذا تقول لأفراخ بذي مرخٍ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر "
ما أوضح العذر لي لو أنهم عذروا ... وأجمل الصبر بي لو أنهم صبروا
لكنهم صغروا عن أزمةٍ كبرت ... فما اعتذاري عمن عذره الصغر وقد قلبت لهم ظهر الأمور، وميزت بين المعسور والميسور، فما وجدت أحسن بدءاً، ولا أحمد عوداً، مما أذن الله فيه لعباده الذين أعمرهم أرضه، وسخر لهم بره وبحره، أن يمشوا في مناكبها ويأكلوا من رزقه؛ وحيث نتقلب ففي كرمك، وأين نأمن ففي حرمك، [وحيث لا توحشنا دعوتك، ولا تفوتنا نعمتك، من ملكك إلى ملكك] ، ومن يمينك إلى شمالك.
وفي فصل من أخرى: ولعل مقلب القلوب قد قلب قلبك الكريم للأطفال المشردين، الذين دعوك مضطرين، أن تحل عنهم عقل النوى، وتكلهم إلى جبار السما، الذي أمر عباده أن ينتشروا في(1/63)
أرضه، ويبتغوا من فضله.
وله من أخرى إلى علي بن حمود: حسبك الله يا ابن رسول الله، [وعلى هدىً من الله] ، فيما خفقت إليه راياتك، وصدقت به آياتك، جدير أن يعز بطاعته نصرك، كما شرح بتوفيقه صدرك، ويتمم بتأييده أمرك، بما أوليت أولياءه المؤمنين، وأبليت في عباده الصالحين، المصابين في الأموال والأهلين، أيام تزاحمت إليهم أسباب القضاء بالبأساء والضراء، وأبرقت عليهم آفاق السماء بسيوف الأعداء، تسح بوابل الدماء [وتموج بأسراب السباء] ، فسرعان ما هاموا فلا وزر، وربعوا فلا مستقر، ونادوا ولات حين مناص ولا فوت، إلا من أعفاه الموت؛ فأصبحوا أنفاض الجلاء، وأغراض الفناء، قد جهدوا بالبلاء، وعيوا بالداء العياء، فلئن زلزلت بهم الأرض، لقد سكن بهم عز سلطانك، ولئن تهفت بهم الذعر، لقد اطمأنوا في مهاد أمانك.
وله من أخرى إلى منذر بن يحيى: حياك بتحية الملك، من أحيا بك دعوة الحق، ورداك رداء الإعظام، من أعلى بك لواء الإسلام، مجري الأقدار بإعلاء قدرك، ومصرف الليل والنهار بإعزاز نصرك، ومظهر من أطاعك على من عصاك، ومدمر من عاداك بسيوف من والاك. قد جعل الله أول أسمائك أولى بأعدائك، وأقرب اعتزائك صفواً لأوليائك؛ ثم سما بك حاجب الشمس، نوراً وأنساً لهذا الإنس، ونفس حياةٍ لكل نفس.(1/64)
ثم أحييت فجرهم يا ابن يحيى ... بسراجين: نور دين ودنيا
وخلفت السحاب ظلاً وجوداً ... فوسعت الإسلام سقياً ورعيا
وتحليت من تجيب سناءً ... كنت فيه للدين والملك محيا ومن كتاب له: وأكرم بها أعراقاً سرت إليك، وأخلاقاً نظمت عليك، وأعباء ملك حملت عاتقيك، وأعنة خيلٍ أسلمت في يديك، [فإليك أهل الدليل، وأرزمت الحمول] ، ومن نداك سقي الغليل، وشفي العليل، وفي ذراك برد المقيل، وقصر الليل الطويل، وبعلاك أمن الخائف وعز الذليل، وبسناك هدي ابن السبيل [سواء السبيل] ، إلى الظل الظليل، والأمل المأمول، فحبل الغريب موصول، وعذر المسيء مقبول، وجفاء الضيف محمول، فكيف بضيفك المجتاب، إليك غول القفر اليباب، وهول البحر ذي العباب، يهدي إليك لباب الألباب، ويتحفك بجواهر الآداب، متضائلاً في أسمال الاغتراب، مكفكفاً من عبرات الاكتئاب، يتسلى بسلام الحجاب، واستلام الأبواب، إلى أن اكرمته برفع الحجاب [فيا روح ثنائه بكم الأحساب] ويا فوح رياضه بديم السحاب، ويا طيب طوبى وحسن مآب [لمن نصرت وآويت، ووصلت وأدنيت؛ ما دعاك حتى لبيت، ولا استسقاك حتى سقيت، ثاني عطفه عن الشكوى إليك، ناكص طرفه(1/65)
عن الإدلال عليك، علماً بأن الهلال ساع إلى الكمال، وأن البدر مؤدٍ إلى الفجر، وأن انسجام زعيم بابتسام الزهر] .
إلى لاعجٍ في القلب مضطرم ... جاش إليك به بحر من الكلم
ودمع أجفان عين قد شرقن به ... حتى ترقرق بين الرق والقلم
ديناً لذي أسرةٍ دنيا وفيت به ... ورحمة وصلت مني بذي رحم
إذا رددت سيوف الهند عن دمه ... فإنما رفعت عن مهجتي ودمي
وإن ضربت رواقاً دون حرمته ... فإنها ستري مدت على حرمي
لهفي عليه وقد أهوت له نكب ... لا تستقل لها ساق على قدم
فبات يسعر برد الليل من حرق ... ويستشير دموع الصخر من ألم
وما بعيني عن مثواه من وسنٍ ... وما بأني عن شكواه من صمم قال ابن بسام: ونثر أبي عمر، رحمه الله، دون نظمه الرائق بكثير، فلذلك ما ألمعت منه بالشيء اليسير، وعولت على عارض شعره الهتن العزيز.(1/66)
@ما أخرجته من قصائد السلطانيات
حكى أبو مروان بن حيان قال: لما استوسق الأمر بقرطبة لسليمان حسبما وصفناه، تعرض لمدحه من كان ثوى بقرطبة يومئذ من بقية الشعراء العامريين رجاءً في ثمد نواله، فصاغوا في مديحه أشعاراً حسنةً استذموا فيها إلى الدين والمروءة، وأنشدها أكثرهم في مجلس حفله علانية فأصغى وهش، ثم غل المديح فما بل ولا رش؛ وتم لذلك تقويض الجماعة عن حضرة قرطبة، وتخلى الكثير منهم عن ولايته، فأمحى لذلك رسم الأدب بها، وغلب عليها العجمة، وانقلب أهلها من الإنسانية المتعارفة إلى العامية الصريحة، وفارقوا الحرية.
وكان ممن شهر امتداحه للخليفة سليمان يومئذ، وحفظ كلامه من تلك الطبقة العلية، كبيرها أبو عمر أحمد بن محمد بن دراج القسطلي، وقد كان إلى وقته ذلك ثاوياً بقرطبة، يحسب أن سليمان سيجيره من الزمان، وكان النجم أدنى من ذلك إليه. دخل عليه أول مجلسٍ كان له بالقصر فأنشده قصيدته التي أولها:
شهدت لك الأيام أنك عيدها ... لك حن موحشها وآب بعيدها
[وأضاء مظلمها، وأفرخ روعها ... وأطاع عاصيها، ولان شديدها](1/67)
وصفت بك الدنيا فشب كبيرها ... في إثر ما قد كان شاب وليدها
ما كان أجمد قبل نوئك بحرها ... فالآن فجر بالندى جلمودها
فارتاح بيتك في أباطح مكةٍ ... لمعاد أيام دنا موعودها
لمواكب صهلت إليك خيولها ... وكتائب هفقت عليك بنودها
شغفاً بدعوتك التي قد طالما ... عمرت تهائمها بها ونجودها
حتى ارتقت من المنازل رتبةً ... عزت بها غر الرجال وصيدها
في قبة الملك التي صنهاجة ... وزناتة أطنابها وعمودها
صدقتك أيام النزال سيوفها ... ضرباً وفي يوم النفار عهودها
يا ساعة مقطوعةً أرحامها ... لا البر شاهدها ولا مشهودها
يوماً أذل كرامه للئامه ... وسطت بأحرار الملوك عبيدها
وتواكلت أبطالها في كربةٍ ... عيت بها ساداتها ومسودها
لا يهتدي سمت النجاة دليلها ... دهشاً ولا وجه السداد سديدها
حتى طلعت لهم بأسعد غرةٍ ... طلعت عليهم في السماء سعودها ومنها:
واستودعوا جنبي شرنبة وقعةً ... هز الجبال الراسيات رعودها
دلفوا إلى شهابء حان حصادها ... وطلى رؤوس الدارعين حصيدها(1/68)
وشعاب قنتيش وقد حشرت لهم ... أمم بغاة لا يكف عديدها
تركوا بها ظهر الصعيد وقد غدا ... بطناً، وأجساد العداة صعيدها
وكتائب الإفرنج إذ كادتك في ... أشياعها والله عنك بكيدها
بسوابح في لج بحر سوابغ ... فاضت على الأرض الفضاء مدودها
ولقد أضافوا نسرها وغرابها ... وقراهما طاغوتها وعميدها
شلو لأرمنقودها حشدت به ... للزحف ثم إلى الجحيم حشودها
ودنوا لها في آر تحت صوارم ... وريت بعز المسلمين زنودها
من بعدما قصفوا الرماح وأصلتوا ... بيضاً يشايع حدها توحيدها
فكأنما رفعت له صلبانها ... في ظل هبوتها فحان سجودها
وبجانب [الغربي] إذ قدمتها ... شعثاً يبشر بالفتوح شهيدها
ضربوا على الأخدود هام حماته ... حتى عبرن وجسرهن خدودها
في وقعة قامت بعذر سيوفهم ... لو ذاب من حر الجلاد حديدها
ويضيق فيها العذر عن خطيةٍ ... سمراء لم يورق بكفك عودها(1/69)
فيها رأيت العز حيث تريده ... وسوابغ النعماء حيث تريدها
فاقبل فقد ساقت إليك مهورها ... أكفاء حمدٍ لا يذم حميدها
بدعاً من النظم النفيس تشابهت ... فيها الجواهر درها وفريدها
وليهنها أيام عزٍ كلها ... عيد وأنت لمن أطاعك عيدها ومدحه أيضاً بقصيدة أخرى أولها:
هنيئاً لهذا الملك روح وريحان ... وللدين والدنيا أمان وإيمان
فإن قعيد الخزي قد ثل عرشه ... وإن أمير المؤمنين سليمان
سمي الذي انقاد الأنام لأمره ... فلم يعصه في الأرض إن ولا جان
وقام فقامت للمعالي معالم ... وللخير أسواق وللعدل ميزان
وجدد للإسلام سور خلافةٍ ... عليها من الرحمن نور وبرهان
قريب النبي المصطفى وابن عمه، ... ووارث ما شادت قريش وعدنان
وما ساقت الشورى وأوجبه التقى ... وأورث ذو النورين عمك عثمان
وما حاكمت فيه السيوف وحازه ... إليك وأبو الأملاك جدك مروان ومنها في صفة رجال حربه، وهو من جيد الكلام وحر النظام:
وقد لمعت حوليك منهم أسنة ... تخيل أن الحزن والسهل نيران(1/70)
أسود هياج ما تزال تراهم ... تطير بهم نحو الكريهة عقبان
وأقمار حربٍ طالعت كأنما ... عمائمهم في موقف الروع تيجان
وكل زناتي كأن حسامه ... وهامة من لاقاه نار وقربان
وأبيض صنهاجٍ كأن سنانه ... شهاب إذا أهوى لقرنٍ وشيطان ومنها في وصف صلحٍ والندب إليه:
وقلت لعاً للعاثرين كأنه ... نشور لقوم حان منهم وقد حانوا
وقد أمن التشريب إخوة يوسف ... وأدركهم لله عفو وغفران
وحنت لداعي الصلح بكر وتغلب ... وشفعت الأرحام عبس وذبيان
وفازت قداح المشتري بسعودها ... وسالم بهرام وأعتب كيوان وله من أخرى في منذر بن يحيى، حين قدم عليه صاعد اللغوي:
علا فحوى ميراث عاد وتبعٍ ... بهمته العليا ونسبته الدينا
فأعرب عن أقوام يعرب واحتبى ... فلم ينس من هود سناءً ولا هديا
ومن حمير رد القنا أحمر الذرى ... ومن سبأ قادت كتائبه السبيا
وما نام عنه عرق قحطان إذ فدى ... عروق الثرى من غلة القحط بالسقيا(1/71)
وما أسكنت عنه السكون سيادةً ... ولا رضيت طي لراحته طيا
ولا كندت أسيافه ملك كندةٍ ... فيترك في أركان عزتها وهيا
ولا أقعدته عن إجابة صارخٍ ... تجيب ولو حبواً إلى الطعن أو مشيا
وكائن له الأوس من حق أسوةٍ ... بنصب الهدى جهراً وبذل الندى خفيا
هم أورثوه نصر دين محمد ... وحازوا له فخر الندى والقرى وحيا
مناقب أدوها إليه وراثةً ... فكان لها صدراً وكانت له حليا
وصوت ثناء أسمع الله ذكره ... ليسمع منه الصم أو يهدي العميا [ومنها في ورد صاعد الغوي] :
وأهدت له بغداد ديوان علمها ... هدية من والى وتحفة من حيا
فكانت كمن حيا الرياض بزهرها ... وأهدى إلى صنعاء من نسجها وشيا
وحسب رواة العلم أن يتدارسوا ... مآثره حفظاً وآثاره وعيا
إذا لمعت زرق الأسنة حوله ... كإضرام نيران الهموم حواليا
وقد لاذ أبطال الجلاد بعطفه ... كما لاذ أطفال الجلاء بعطفيا
وقد قصرت عنه رماح عداته ... كما قصرت عنهم رياض جناحاً ومنها:
فيالك من ذكرى سناءٍ ورفعةٍ ... إذا وضعوا في الترب أيمن شقيا(1/72)
وفاحت ليالي الدهر مني ميتا ... فأخزين أياما دفنت بها حيا
وكان ضياعي حسرة وتندما ... إذا لم يفد شيئا ولم يغني شيا
وأصبحت في دار الغنى عن ذوي الغنى ... وعوضت فاستقبلت أسد يوميا
سوى حسرتي عرض ووجه تضعضعا ... لقارعة البلوى وكانا عتاديا
فيا عبرتي سحي لعلي مبلل ... بجريك ما أنزفت من ماء خديا
ويا زفرتي هل في وقودك جذوة ... تنير لنا صبحا ثناه الأسى مسيا
ويا خلتي إن سوف الغوث بالمنى ... ويا غلتي إن أبطأ الغيث بالسقيا
فقوما إلى رب السماء فأسعدا ... تقلب وجهي في السماء وقد حيا
ويا أوجه الأحرار لا تتبدلي ... بظل ابن يحيى بعد ظلاً ولا فيا وله فيه من أخرى:
لبيك، أسمعنا نداك ودوننا ... نوء الكواكب مخوياً أو ممطراً
فسريت في حرم الأهلة مظلماً ... ورفلت في خلع السموم مهجرا
ظعن ألفن القفر في غول الدجى ... وتركن مألوف المعاهد مقفرا
يطلبن لج البحر حيث تقاذفت ... أمواجه، والبر حيث تنكرا
هيم وما يبغين دونك مورداً ... أبداً ولا عن بحر جودك مصدرا
من كل نضو الآل محبوك المنى ... يزجيه نحوك كل محبوك القرا(1/73)
بدن فدت منا دماء نحورها ... ببقائها في كل أفق منحرا
نحرت بنا صدر الدبور فأنبطت ... قلق المضاجع تحت جوٍ أكدرا
خوص نفحن بنا البرى حتى انثنت ... أشلاؤهن كمثل أنصاف البرى
وصبت إلى نحر الصبا فاستخلصت ... سكن الليالي والنهار المبصرا
نذرت لما ألا تلاقي راحة ... مما تلاقي أو تلاقي منذرا
فلئن صفا ماء الحياة لديك لي ... فبما شرقت إليك بالماء الصرى
ولئن خلعت علي برداً أخضراً ... فلقد لبست إليك عيشاً أغبرا ومنها:
أبني لا تذهب بنفسك حسرة ... عن غول رحلي منجداً أو مغورا
فلئن تركت الليل فوقي داجياً ... فلقد لقيت الصبح بعدك أزهرا
وحللت أرضاً بدلت حصباؤها ... ذهباً يرف لناظري وجوهرا
ولتعلم الأملاك أني بعدها ... ألفيت كل الصيد في جوف الفرا
ورمى علي رداءه من دونهم ... ملك تخير للعلا فتخيرا
ضربوا قداحهم علي ففاز بي ... من كان بالقدح المعلى أجدرا ومنها:
كلا وقد آنست من هود هدىً ... ولقيت يعرب في القيول وحميرا(1/74)
وأصبت في سبأ مورث ملكها ... يسبي املوك ولا يدب لها الضرا
فكأنما تابعت تبع رافعاً ... أعلامه ملكاً يدين له الورى
والحارث الجفني ممنوع الحمى ... بالخيل والآساد مبذول القرى
وحططت رحلي بين ناري حاتمٍ ... أيام يقري، موسراً أو معسرا
ولقيت زيد الخيل تحت عجاجةٍ ... يكسو غلائلها الجياد الضمرا
وعقدت في يمنٍ مواثق ذمةٍ ... مشدودة الأسباب موثقة العرى
وأتيت مجدك وهو يرفع منبراً ... للدين والدنيا ويخفض منبرا
وخططت بين جفانها وجفونها ... حرماً أبت حرماته أن تحفرا
تلك البدور تتابعت وخلفتها ... سعياً فكنت الجوهر المتخيرا قال أبو الحسن: أراه احتذى في هذه الأبيات الأخيرة حذو أبي الطيب في ابن العميد حيث يقول:
من مبلغ الأعراب أني بعدها ... جالست رسطا ليس والإسكندرا
ولقيت بطليموس دارس كتبه ... متبدياً في ملكه متحضرا
ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا
نسقوا لنا نسق الحساب مقدماً ... وأتى " فذلك " إذ أتيت مؤخرا(1/75)
وقوله " خوص نفحن بنا البرى " ... البيت، معنى مشهور، وهو في الشعر كثير، ومنه قول بعض أهل العصر، وهو أبو جعفر بن هريرة التطيلي يصف إبلاً:
كأنصاف البرى وتدق عنها ... شواها دقةً تسع الجلالا وكذلك قوله: " لله أي أهلةٍ " ... البيت، كقول أبي جعفر المذكور:
كل عوجاء كالهلال عليها ... كل ذي تدرإٍ كبدر الكمال وأنشدت لابن بياع السبتي:
وردت بها التنوفة وهي بدر ... فلم أصدر بها إلا هلالا وقوله: " ورمى علي رداءه من دونهم " أشار إلى لفظ الهذلي دون معناه وهو:
ولم ادر من ألقى عليه رداءه ... سوى أنه قد سل عن ماجدٍ محض وذكر الرواة أنه لا تعرف العرب رجلاً مدح من لا يعرفه غير أبي خراش الهذلي هذا، وكان خراش وعمه عروة غزوا فأخذا، وهموا بقتلهما، فنهاهم بنو دارمٍ وأبى بنو هلالٍ إلا قتلهما، فأقبل رجل(1/76)
من بني دارم فألقى على خراش رداءه، وشغل القوم بقتل عروة، وقال الرجل لخراش: انج، فنجا إلى أبيه وأخبره الخبر، فقال الأبيات التي أولها:
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا ... خراش وبعض الشر أهون من بعض فقلت: لا، قال: من قول أبي خراش: " ولم أدر من ألقى عليه رداءه " ... البيت، قلت له: والمعنى مختلف قال: أما ترى حذو الكلام واحداً -
وقال القسطلي يمدح الوزير أبا الأصبغ عيسى بن سعيد القطاع:
أفي مثلها تنبو أياديك عن مثلي ... وهذي الأماني فيك جامعة الشمل
وقد أمن المقدار ما كنت أتقي ... وأرخصت الأيام ما كنت أستغلي
وأذعن صرف الدهر سمعاً وطاعةً ... لما فهت من قولٍ وأمضيت من فعل
وناديت بالإنعام في الأرض والتقت ... بيمناك أشتات الطرائق والسبل
وهذا مقامي منذ تسع وأربع ... رجائي في قيد وحظي في غل
كأني لم أحلل ذراك ولم أقم ... مناخ المطايا فيه مرتهن الرحل(1/77)
وأغض عن البرق الذي شيم للحيا ... وأعقد بحبلٍ منك بين الورى حبلي
ولم تصفني خلقاً أرق من الهوى ... ولم تولني نعمى ألذ من الوصل
ولم تثن عني في مواطن جمةً ... سيوفاً حداداً قد سللن على قتلي
ولم أطوسن الإكتهال محاكماً ... إليك خطوباً شيبت مفرق الطفل
وكنت ومفتاح الرغائب ضائع ... ملاذي فهذا بابها ضائع القفل
وإني في أفياء ظلك أشتكي ... شكية موسى إذ تولى إلى الظل وهذا البيت من لفظ القرآن العزيز، وقد أقدمت على مثل هذا جماعة من الشعراء من محدثين وقدماء؛ فمن غال متسور، ومن آخذٍ معتذر؛ قال أبو العلاء المعري:
كنت موسى وافته بنت شعيبٍ ... غير أن ليس فيكما من فقير وأخذه بعض أهل عصرنا، وهو حسان بن المصيصي فقال للمعتمد ابن عباد:
كبنت شعيب إذ زفت لموسى ... ولكن للثراء هنا مزيد ومن آخر من ركب هذا الأسلوب في مكابرة الحقائق، وأضل من ذهب هذا المذهب الغريب، من الاجتراء على الخلق والخالق، المنفتل بقوله:
وقد كان موسى خائفاً مترقباً ... فقيراً وآمنت المخافة والفقرا(1/78)
وستأتي قصيدته هذه في موضعها، وتنتظم القصة عنه بأجمعها. وفي هذه القصيدة يقول القسطلي:
ولي الندى أصبحت في دولة الندى ... كأني عدو والبخل في دولة البخل
يقتل أخفى اليأس أحيا مطالبي ... ليالي جل الوعد عن رتبة المطل
وأبدي للسع الدبر وجهي منازعاً ... وقد فاز غيري سالماً بجنى النحل وهكذا كقول المتنبي:
ولا بد دون الشهد من ابر النحل ... وقال ابتن سارة الشنتريني:
لها قسمة بين الرواة وبينكم ... فمن قسمة ضيزى ومن قسمةٍ عدل
بأفواههم منها جنى النحل كلما ... رووها وفي أستاهكم إبر النحل ومنها:
أواصل آناء الأصائل بالضحى ... وزادي من جهدي، وراحلتي رجلي وهذا مما شرحه وأوضحه أبو الطيب بقوله من المنسرح:
لا ناقتي تقبل سالرديف ولا ... بالسوط يوم الرهان أجهدها
شراكها كورها، ومشرفها ... زمامها، والشسوع مقودها ومنها:
إذا أحفت الفرسان غر جيادهم ... خصفت برجلي ما تمزق من نعلي(1/79)
وإن أقبلوا والمسك يندى عليهم ... أتيت وقد ضمخت مسكاً من الوحل
وإن شغلوا لهواً بأنعم كفه ... فخدمته لهوي وطاعته شغلي
أقر عيون الشامتين وليتني ... أبرد ما تطوي الصدور من الغل
أمر بهم ألقلى الثرى وكأنما ... فؤادي من أحداقهن غرض النبل
إذا الأسد الضرغام أنفذ مقتلي ... فما فزعي إلا إلى الأرقم الصل
وإن ذاب حر الوجه من حر نارهم ... فما مستغاثي منه إلا إلى المهل
ومن شيمة الماء القراح - وإن صفا - ... إذا اضطرمت من تحته النار أن يغلي
ولا وزر إلا وزير له يد ... تمل على أيدي الربيع فتستملي
أبا الأصبغ المعني هل أنت مصرخي ... وهل أنت لي مغن وهل أنت لي معلي
فأكسولك الأيام من حر ما أشي ... وأملأ سمع الدهر من سحر ما أملي
وحتى متى أعطي الزمان مقادتي ... وقد قبضت كفي على قائم النصل
أيحتقب الركبان شرقاً ومغرباً ... غرائب أنفاسي وألقاك في الرجل
وينتقل الشرب الندامي بدائعي ... وهيهات لي من لذة الشرب والنقل
وضيف بحيث الطير تدعى إلى القرى ... يضيق به رحب المباءة والنزل
وسيف يقد البيض والزغف مقدماً ... يروح بلا غمدٍ ويغدو بلا صقل
وذو غرةٍ معروفة السبق في المدى ... وقد قرح التحجيل من حلق الشكل قوله: " ومن شيمة الماء القراح ".. البيت، هو قول ابن أبي عيينة المهلبي.
ولا بد للماء في مرجلٍ ... على النار موقدةً أن يفورا(1/80)
وينظر أيضاً معناه - من طرفٍ عليل - إلى بيت عمارة بن عقيل:
وما النفس إلا نطفة بقرارة ... إذا لم تكدر كان صفواً غديرها وأخذه المعري وزاد حتى كاد يخفيه فقال:
والخل كالماء تبدو لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر وقوله: " وذو غرةٍ " ... البيت، من قول أبي الطيب:
وإن تكن محكمات الشكل تمنعني ... ظهور جري فلي فيهن تصهال وقال أبو العلاء المعري يصف قصيدته من جملة أبياتٍ فقال:
حجلت فلم يرها الذي قيدت له ... وغدت بآفاق البلاد تجول
كالطرف يقلقه المراح صبابةً ... بالجري وهو مقيد مشكول وقال أبو الوليد بن زيدون:
ثوى صافناً في مربط الهون يشتكي ... بتصهاله ما ناله من أذى الشكل وكرره ابن زيدون في موضع آخر فقال:
وأن الجواد الفائت الشأو صافن ... تخونه شكل وأزرى به ربط وقال عبد الجليل للمعتمد بن عباد من جملة أبيات هي ثابتة في موضعها مكن هذا المجموع:(1/81)
أتتك على خلائقها جيادي ... وإن كان الضياع لها شكالا وقال القسطلي يمدح المرتضى، آخر ملوك بني مروان، من قصيدة أولها:
جهادك حكم الله من ذا يرده ... وعزمك أمر الله من ذا يصده
وطائرك اليمن الذي أنت يمنه ... وطالعك السعد الذي أنت سعده يقول فيها:
وبيعة رضوان رعى الله حقها ... لمن بيعة الرضوان إذ غاب جده
فأصبح في رأس الرياسة ناجه ... ونظم في جيد الخلافة عقده
مسرته مأوى الغريب وستره ... ولذته خير المقل ورفده
وأجناده في موقف الروع روضه ... وأعلامه في مورد الموت ورده
نلاعب آرام الفلا من هباته ... وآرامه غر الطراد وجرده
ونفترش الديباج من جود كفه ... وما فرشه إلا الجواد ولبده
ومن برح البيض الحسان بوجده ... فبالبياض في الهيجاء برح وجده
[وكل إمام ناصر أنت صنوه ... وكل إمام قاهر أنت نده
نموك إلى بيت النبوة وابتنوا ... لك الشرف الفرد الذي أنت فرده
فأفخر بمن قرب النبيين فخره ... وأمجد بمن مجد الخلائف مجده] وله من أخرى في المنصور بن أبي عامر:
ألم تعلمي أن الثواء هو التوى ... وأن بيوت العاجزين قبور
تخوفني طول السفار وإنه ... لتقبيل كف العامري سفير(1/82)
ذريني أرد ماء المفاوز آجناً ... إلى حيث ماء المكرمات نمير
فإن خطيرات المهالك ضمن ... لراكبها أن الجزاء خطير ومنها في وصف وداعه لمن تخلفه، وذكر ابنه الصغير، بما لا شبيه له ولا نظير، ولا مثيل ولا عديل:
ولما تدانت للوداع وقد هفا ... بصبري منها أنة وزفير
[تناشدني في عهد المودة والهوى ... وفي المهد مبغوم النداء صغير]
عيي بمرجوع الخطاب ولفظه ... بموقع أهواء النفوس خبير
تبوأ ممنوع القلوب ومهدت ... له أذرع محفوفة ونحور
فكل مفداة الترائب مرضع ... وكل محية المحاسن ظير
عصيت شفيع النفس فيه وقادني ... رواح بتدآب السرى وبكور
وطار جناح البين بي وهفت بها ... جوانح من ذعر الفراق تطير
لئن ودعت مني غيوراً فإنني ... على عزمتي من شجوها لغيور
ولو شهدتني والهواجر تلتظي ... علي ورقراق السراب يمور
أسلط حر الهاجرات إذا سطا ... على حر وجهي والأصيل هجير
وأستنشق النكباء وهي بوارح ... وأستوطئ الرمضاء وهي تفور
وللموت في عين الجبان تلون ... وللذعر في سمع الجريء صفير ومنها:
وقد خيلت طرق المجرة أنها ... على مفرق الليل البهيم قتير(1/83)
ودارت نجوم القطب حتى كأنها ... كؤوس مهاً وإلى بهن مدير
لقد أيقنت أن المنى طوع همتي ... وأني بعطف العامري جدير ومنها:
ولما توفوا للسلام ورفعت ... عن الشمس في أفق السماء ستور
وقد قام من زرق الأسنة دونها ... صفوف ومن بيض السيوف سطور
رأوا طاعة الرحمن كيف اعتزازها ... وآيات صنع الله كيف تنير
وكيف استوى بالبر والبحر مجلس ... وقام بعبء الراسيات سرير
فجاؤوا عجالاً والقلوب خوافق ... وولوا بطاء والنواظر صور ومنها:
وضاءل قدري في ذراك عوائق ... جرت لي برحاً والقضاء عسير
وما شكر النحعي شكري ولا وفى ... وفائي - إذ عز الوفاء - قصير
أثرني لخطب الدهر والدهر معضل ... وكلني لليث الغاب وهو هصور
وقد تخفض الأسماء وهي سواكن ... ويعمل في الفعل الصحيح ضمير
وتنبو الردينيات والطول وافر ... ويبعد وقع السهم وهو قصير وله من أخرى في ابن أزرق، وهي أيضاً من حر كلامه، وسحر نظامه:
أخو ظمأ يمص حشاه سبع ... وأربعة وكلهم ظماء(1/84)
كأنجم يوسف عدداً ولكن ... برؤيا هذه برح الخفاء
خطوب خاطبتهم من دواه ... يموت الحزم فيها والدهاء
تراءت بالكواكب وهي ظهر ... وآذن فيه بالشمس العشاء
[فهل نظري تخفى أو بصدري ... وضاق البحر عنها والفضاء]
وكلهم كيوسف إذ فداه ... من القتل التغرب والجلاء
وإن سجن حواه فكم حواهم ... سجون الفلك والقفر القواء
نقائذ فتنة وخلوف ذل ... ألذ من البقاء به الفناء
وإن أقوت مغاني العز منهم ... فكم عمرت بهم بيد خلاء
وإن ضاقت بهم أرض فأرض ... فما بكت لمثلهم السماء
[شموس غالها ذعر وبين ... فهن لكل ضحية هباء]
وكم لبسوا من النعمى بروداً ... جلاها عن جسومهم الجلاء
وكم عسفوا إليه لج بحرٍ ... تلاقى الماء فيه والسماء
[فما ظفروا بمثلك نجم سعدٍ ... به لهم إلى الأمل انتهاء]
ولكن عدلوا منه حساباً ... له فيما دعوك له قضاء
كما زجروا من اسم أبيك فألاً ... فردت فيه قبل الزاي راء وله من أخرى:
فما تجاوزت قرن الموت معتسفاً ... إلا وقرني رخيم الدل بارعه(1/85)
تحيتي منه تقبيل ومعتنق ... يشدني غله عنه وجامعه
لم أخلع الدرع إلا حين شققه ... عن صبح صدري ما تحمي مدارعه
ولا توقيت سهماً من لواحظه ... يذيب سيفي وفي قلبي مواقعه
غضن تجرع أنداء الغمام فما ... تطوق الدر إلا وهو جارعه
يميس طوراً وسكر الدل عاطفه ... وتارةً وانثناء الوشي لاذعه
فاستفرغ الخصر كثباناً تباعده ... وأنبت الصدر رماناً يدافعه
فبت تحت رواق الليل ثانيه ... والشوق ثالثنا والوصل رابعه
والسحر يسحر من لفظ ينازعني ... والمسك يعبق من كأس أنازعه
راحاً يمد سناها نور راحته ... لولا المها لجرت فيها أصابعه
كأنما ذاب فيها ورد وجنته ... وشجها ريقه المعسول مائعه
فيا ظلام نجوم الليل إذ عدمت ... بدر السماء وفي حجري مضاجعه
[ويا حنين ظباء القفر إذ فقدت ... غزالهن وفي روضي مراتعه
مجال طرفي وما حازت لواحظه ... وحر صدري إذا ما ضمنت أضالعه]
والطرف مرآة عيني أستدل بها ... على الصباح إذا م خيف ساطعه
جوناً أزيد به ليل الرقيب دجىً ... ويستنير لي الإصباح لامعه
فبات يعجب من ظبي يصارعني ... وقد يرق على ليث أصارعه(1/86)
وما رأى قرناً أعانقه ... إلا وودع نفساً لا تراجعه
حتى بدا الصبح مشمطاً ذوائبه ... يطارد الليل موشياً أكارعه
كأن جمع ضلال حان مصرعه ... وأنت بالسيف يا منصور صارعه قال أبو الحسن: قوله " موشياً أكارعه ": جعل ذوائب الصبح مشمطة من ممازجة الليل له، وجعل أكارع الليل موشية من ممازجة الصبح لها، وجعل آخر الليل من مواخره وهي متصلة بأول الصبح، وآخر الصبح من مقادمه وهي المتصلة بآخر الليل، وأصاب في الإشارة إلى التشبيه لأنه أومأ إلى أن الصبح كالثور الوحشي وهو أبيض، والثيران الوحشية كلها بيض، وأكارعها موشية خاصة. وإنما ألم القسطلي في هذا بقول أعرابي يصف ليلةً: خرجنا في ليلة حندس قد ألقت على الأرض أكارعها فمحت صور الأبدان، فما كدنا نتعارف إلا بالآذان. وقوله: " فيا ظلام نجوم الليل " ... البيت، من مليح المعاني، وقد أخذه إدريس بن اليماني، فقال من جملة أبيات هي ثابتة في موضعها من هذا المجموع:
بدر ألم وبدر الليل ممحق ... والأفق محلو لك الأرجاء من حسد
تحير الليل فيه أين مطلعه ... أما درى الليل أن البدر في عضدي - وله من أخرى في علي بن حمود؛ قال ابن بسام: وهذه القصيدة له طويلة، وهي من الهاشميات الغر، بناها من المسك والدر، لا من الجص(1/87)
والآجر، لا بل خلدها حديثاً على الدهر، وسر بها مطالع النجوم الزهر؛ لو قرعت سمع دعبل بن علي الخزاعي، والكميت بن زيد الأسدي، لأمسكا عن القول، وبرئا إليها من القوة والحول؛ بل لو رآها السيد الحميري، وكثير الخزاعي، لأقاماها بينة على الدعوى، ولتلقياها بشارةً على زعمهما بخروج الخيل من رضوى؛ وقد أثبت أكثرها إعلانا بجلالة قدرها، واستحساناً لعجزها وصدرها، وأولها:
لعلك يا شمس عند الأصيل ... شجيت لشجو الغريب الذليل
فكوني شفيعي إلى ابن الشفيع ... وكوني رسولي إلى ابن الرسول
فإما شهدت فأزكى شهيد ... وإما دللت فأهدى دليل
على سابق في قيود الخطوب ... ونجم سناً في غثاء السيول
[ينادي الثرى لسقام الضياع ... ويشكو إلى الملك داء الخمول]
[وعز على العلم مثواه أرضاً ... على حكم دهرٍ ظلوم جهول]
ويعجب كيف دنا من علي ... ولم تنفصم حلقات الكبول
وكيف تنسم آل النبي ... وأبطأ عنه شفاء العليل
وأطواد عزهم ماثلات ... له وهو يرنو بطرف كليل
وأبحرهم زاخرات إليه ... ويرشف في الثمد المستحيل
[تجرأ من جنتي مأربٍ ... بخمط وأثل وسدر قليل](1/88)
ومنها:
شريد السيوف وفل الحتوف ... يكيد بأفلاذ قلب مهول
تهاوت بهم مصعقات الرع ... د في مدجنات الضحى والأصيل
بوارق ظلماء ظلم تبيح ... دمى من حمى أو دماً من قتيل
فأذهل مرضعةً عن رضيع ... وأنسى الحمائم ذكر الهديل
فما تهتدي العين فيها سبيلاً ... سوى سبل العبرات الهمول
[ولا يعرف الموت فيها طريقاً ... إلى النفس إلا بعضب صقيل]
ركبت لها محملاً للنجاة ... وصيرت قصدك فيه عديلي
فردت على عقبيها المنون ... بواق مجير ورأي أصيل
وقد سمتها بنفيس التلاد ... على أنفس ضائعات الذحول
نفوس حنت قوس عطفي عليها ... فكن سهام قسي الخمول ومعنى هذا البيت كقول الرضي مما أنشده الثعالبي:
هن القسي من النحول فإن سما ... طلب فهن من النجاء الأسهم قال الثعالبي: وما أحسن ما جمع بين القسي والأسهم، وما أراه سبق إليه على هذا الترتيب.
قال ابن بسام: وقد قال بعض أهل عصرنا وهو عبد المجيد بن عبدون من جملة أبيات هي ثابتة بموضعها من هذا المجموع:(1/89)
جوانح كالقسي رمت ثبيراً ... بفتيان - أقلني - بل نبال وقال أبو العرب الصقلي:
وحط بنا عن ناجيات كأنها ... قسي رمت منا البلاد بأسهم وفي هذه القصيدة يقول القسطلي:
ومن دوننا آنسات الديار ... نهاب الحمى موحشات الطلول
مغاني السرور لبسن الحداد ... على لابسات ثياب الذهول
خطيبات خطب النوى والمهور ... مهارى عليها رحال الرحيل
فمن حرة جليت بالجلاء ... وعذراء نصت بنص الذميل
ولا حلي إلا جمان الدموع ... تسيل على كل خد أسيل
فبدلن من طول خفض النعيم ... بشق الحزون ووعث السهول
ومن قصر الليل تحت الحجال ... بهول السرى تحت ليلٍ طويل
ومن علل الماء تحت الظلال ... صلاء القلوب بحر الغليل
ومن طيب نفحٍ بنور الرياض ... تلظي لفحٍ بنار المقيل
ومن أنسها بين ظئر وتربٍ ... سرى ليلها بين ذئب وغول
ومن كل مرأى محياً جميل ... تلقى الخطوب بصبر جميل
لعل عواقبه أن تتم ... فيهدي الغريب سواء السبيل
إلى الهاشمي، إلى الطالبي، ... إلى الفاطمي العطوف الوصول(1/90)
فسمي جدك عمرو الكرام ... بهشم الثريد زمان المحول
وضيف حتى وحوش الفلاة ... وأهدى القرى لهضاب الوعول
وإن أبا طالب للضيوف ... لأطلب من ضيفه للنزول
يروح عليهم بغر الجفان ... ويغدو لهم بالغريض النشيل
فأنتم هداة حياة ومرت ... وأنتم أئمة فعل وقيل
وسادات من حل جنات عدن ... جميع شبابهم والكهول
وأنتم خلائف دنيا ودينٍ ... بحكم الكتاب وحكم العقول
ووالدكم خاتم الأنبياء ... لكم منه مجد حفيٍ كفيل
تلذ بحملكم عاتقاه ... على حمله كل عبٍ ثقيل
ورحب على ضمكم صدره ... إذا ضاق صدر أب عن سليل
ويطرقه الوحي وهناً وأنتم ... ضجيعاه بين يدي جبرئيل
وزودكم كل هدي زكي ... وأودعكم كل رأي أصيل قوله: " فمن حرةٍ جليت بالجلاء " ... البيت، كقول أبي عبد الله بن شرف القرواني من جملة أبيات:
بات كرسيها الجلاء فأضحت ... في ثياب الجلاء للناس تجلى قال ابن بسام: وانتحى ابن شرف، فيما وصف من فتنة قيروانه(1/91)
منحى القسطلي في شكوى زمانه، والحديث عن الفتن، فكاثر البحر بوشلٍ مشفوه، وجارى الريح بكودن لا فضل فيه. وفي القسم الرابع من هذا الديوان جملة من شعره، شاهدة على ما أجريت من ذكره.
وقال أبو عمر في الخليفة خيران العامري صاحب المرية، وهو متوجه إلى سرقسطة سنة سبع وأربعمائة، ورأيت إثبات بعضها لحسنها:
لك الخير قد أوفى بعهدك خيران ... وبشراك قد وافاك عز وسلطان
هو النجم لا يدعى إلى الصبح شاهد ... هو النور لا يبغى على الشمس برهان
إليك شحنا الفلك تهوي كأنها ... وقد ذعرت من مغرب الشمس غربان
على لجج خضر إذا هبت الصبا ... ترامى بنا فيها ثبير وثهلان
مواثل ترعى في ذراها مواثلاً ... كما عبدت في الجاهلية أوثان
وفي طي أسمال الغريب غرائب ... سكن شغاف القلب شيب وولدان
يرددن في الأحشاء حر مصائب ... تزيد ظلاماً ليلها وهي نيران
إذا غيض ماء البحر منها مددنه ... بدمع عيون تمتريهن أشجان
وإن سكنت عنها الرياح جرى بها ... زفير إلى ذكر الأحبة حنان(1/92)
يقلن وموج البحر والهم والدجى ... تموج بنا فيها عيون وآذان
ألا هل إلى الدنيا معاد وهل لنا ... سوى البحر قبر أوسوى الماء أكفان
وهبنا رأينا معلم الأرض هل لنا ... من الأرض مأوى أو من الإنس عرفان
وصرف الردى من دون أدنى منازل ... تباهى إلينا بالسرور وتزدان
تقسمهن السيف والحيف والبلى ... وشطت بنا عنها عصور وأزمان
كما اقتسمت أخدانهن يد النوى ... فهم للردى والبر والبحر إخدان
ظعائن عمران المعاهد مقفر ... لهن وقعر الأرض منهن عمران
هوت أمهم ماذا هوت برحالهم ... إلى نازح الآفاق سفن وأظعان
كواكب إلا أن أفلاك سيرها ... زمام ورحل أو شراع وسكان
فإن غربت أرض المغارب موئلي ... وأنكرني فيها خليط وخلان
فكم رحبت أرض العراق بمقدمي ... وأجزلت البشرى علي خراسان
وإن بلاداً أخرجتني لعطل ... وإن زماناً خان عهدي لخوان
سلام على الإخوان تسليم يائسٍ ... وسقياً لدهر كان لي فيه إخوان
نودعهم شجواً بشجو كمثل ما ... أجابت حفيف السهم عوجاء مرنان
ويصدع ما ضم الوداع تفرق ... كما انشعبت تحت العواصف أغصان
إذا شرق الحادي بهم غربت بنا ... نوى يومها يومان والحين أحيان
فلا مؤنس إلا شهيق وزفرة ... ولا مسعد إلا دموع وأشجان
وما كان ذاك البين بين أحبة ... ولكن قلوب فارقتهن أبدان
فيا عجباً للصبر منا كأننا ... لهم غير من كنا وهم غير من كانوا
قضى عيشهم بعدي وعيشي بعدهم ... بأني قد خنت الوفاء وقد خانوا(1/93)
وأفجع بمن آوى صفيح وجلمد ... ووارت رمال بالفلاة وكثبان
وجوه تناءت في البلاد قبورها ... وإنهم في القلب مني لسكان
وما بليت في الترب إلا تجددت ... عليها من القلب الموجع أحزان
هم استخلفوا الأحباب أمواج لجة ... هي الموت أو في الموت عنهن سلوان ومنها:
ولا يأس من روحٍ وفي الله مطمع ... ولا بعد من خيرٍ وفي الأرض خيران
متى تلحظوا قصر المرية تنزلوا ... ببحر ندى يمناه در ومرجان
وتستبدلوا من موج بحر شجاكم ... ببحر لكم منه لجين وعقيان
فتى سيفه للدين أمن وإيمان ... ويمناه للآمال روح وريحان
ففضت سيوف حاربته وأيمن ... وشاهت وجوه فاخرته وتيجان
وبالخير فتاح وبالخير عائد ... وبالخيل ظعان وللخيل طعان
لها الكرة الغراء عن كل شارد ... أضاءت لهم منها ديار وأوطان
ورد بها يوم اللقاء زناتةً ... كما انقلبت يوم الهباءة ذبيان
بكل كمي عامري يسوقه ... لحر الوغى قلب على الدين حران
حليهم بيض الصوارم والقنا ... لها وحلاهم سابغات وأبدان
فأي صقور قلبت أي أعين ... إلى أي ليث ردها وهي خلدان
عيون بها كادوا العلا ففقأتها ... فهم في شعاب الرشد والغي عميان(1/94)
وما لهم في ظلمة بعد كوكب ... وما لهم في مقلةٍ بعد إنسان
يضيق بهم رحب القصور وودهم ... لو احتازهم عنها كهوف وغيران
وأنسيتهم حمل القنا، فسلاحهم ... عليك - إذا لاقوك - ذل وإذعان
وأنى لفل القبط في مصر موئل ... وقد غيل فرعون وأهلك هامان
حفرت لهم ف يوم قبرة بالقنا ... قبوراً هواء الجو منهن ملآن
يطير بها هام ونسر وناعب ... ويعدو بها ذئب وذيخ وسرحان
فلو نشر الأملاك يومك فيهم ... لألقى إليك التاج كسرى وخاقان
ولو رد في المنصور روح حياته ... غداة لقيت الموت والموت غرثان
وناديت للهيجاء أبناء ملكه ... فلباك آساد عبيد وفتيان
جبال إذا أرسيتها حومة الوغى ... وإن تدعهم يوماً إليها فعقيان
كتائب بل كتب بنصرك سطرت ... ووجهك " بسم الله " والسيف عنوان
هو السيف لا يرتاب أنك سيفه ... إذا نازل الأقران في الحرب أقران
واسمر يسري في بحار من الردى ... بيمناك لكن يغتدي وهو ظمآن
تلألأ نوراً من سناك سنانه ... وقد دعت الفرسان للحرب فرسان
فلله ماذا أنجبت منك عامر ... ولله ماذا ناسبت منك قحطان
ولله منا أهل بيت رمتهم ... إلى يدك العليا بحور وبلدان
وكلهم يزهى على الشمس بالضحى ... وبدر الدياجي أنهم لك جيران
وقد زاد أبناء السبيل وسيلة ... وحلوا فزادوا أنهم لك ضيفان(1/95)
فما قصرت بي عن علاك شفاعة ... ولا بك عن مثلي جزاء وإحسان @إيجاز الخبر عن إمارة علي بن حمود الذي ذكر
قال أبو مروان: هو علي بن حمود بن ميمون بن حمود بن علي بن عبيد الله بن عمر بن إدريس بن عبد الله بن حسن [بن حسن] بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم. د
وذكر ابن قتيبة أن نفراً من ولد إدريس بن عبد الله بن حسن أيام طلبه الرشيد فحبسه عند جعفر بن يحيى فروا إلى المغرب فوقعوا ببلاد أفريقية، ثم رفضتهم آفاقها إلى طرف بلاد البربر فنكحوا إليهم وتبربروا معهم.
قال أبو الحسن: وقد بلغني أن عقبهم إلى اليوم هنالك. وقد قدمت فيما نقلته من كتاب ابن حيان في أخبار الخليفة سليمان السبب الذي أوطأ لعلي ابن حمود ثبجها، وأوضح له منهجها، حتى خرج من عمائها، وعرج إلى شمائها، ونكتب هاهنا ما نصه أيضاً أبو مروان من كيفية مقتله وخبره، بقرطبة أوله وآخره، بعد أن نبرأ من التطويل، ونحذف إن احتجنا إلى ذلك بعض الفصول.(1/96)
قال ابن حيان: بويع علي بن حمود في باب السدة من قصر قرطبة يوم الاثنين لسبع بقين لمحرم سنة سبع وأربعمائة، ثاني اليوم الذي أدرك فيه بثأر هشام المؤيد؛ ولم يتخلف أحد عن بيعته، ووصلوا إليه على طبقاتهم، فكرم منازلهم، وأجمل خطابهم، وتسمى ليومه من الألقاب السلطانية بالناصر لدين الله: لقب قد سبقه إليه أبو أحمد بن المتوكل العباسي بالمشرق، وتبعه فيه أيضاً عبد الرحمن ابن محمد بهذا الأفق.
ولما صارت لعلي بن حمود الخلافة تقدم من القهر للناس بالغلبة والإرهاب لهم بما خامر القلوب من هول سطوته، ولا سيما برابرة العسكر لما أحل بهم من الذل والقتل فدهشوا منه، وقادهم مديدة قود الإبل المخطوطة، وأعدى عليهم الخصوم، حتى صار أقل الرعية يرفع أعتاهم إلى الحكام بما شاء من وجوه الدعاوى فتجري عليهم الأحكام؛ فبرقت للعدل يومئذ بارقة خلب لم تكد تقد حتى خبت، وتبين أن البرابر أطوع خلق الله لمن أخافهم. وجلس علي بنفسه لمظالم الناس، وهو مفتوح الباب، مرفوع الحجاب، للوارد والصادر، يقيم الحدود مباشراً بنفسه، لا يحاشي أحداً من أكابر قومه. فانتشر أهل قرطبة(1/97)
في الأرض ذات الطول والعرض، وسلكت السبل ورخا السعر، وأرقوا الأغذية، وشاموا النساء وطلبوا النسل، وكان أكثرهم يقول بالعزلة، واتخذوا الحلواء على طول عهد بها، ورجوا الإقالة فخانهم الأمل عما قليل، وارتكبوا في المحنة.
ومن بعض ما جرى في مجلس له من مباشرته إقامة الحدود بنفسه، وجلوسه حيث لم يجلس قط خليفة أنه قدم إليه عصابة من البرابر الأكابر في جرائم تجاوزت حد النكال، فأمر بضرب أعناقهم، وعشائرهم ينظرون خفوة لا ينسبون، ولا يجسرون عليه في شفاعة. وبهذا المجلس وشبهه ما فتن أهل قرطبة بابن حمود أشد فتنة.
وخرج يوماً على باب عامر فالتقى بفارس من البرابر قدامه حمل عنب، فاستوقفه وقال له: من أين لك هذا العنب - قال: أخذته كما يأخذ الناس؛ فأمر بضرب عنقه، ووضع رأسه وسط الحمل، وطيف به البلد كله. وكل أفعاله كانت حسنة عند الرعية إلى أن أوقعهم في أعظم بليةٍ.
وكان علي بن حمود تلقاعةً، شديد الإصابة بعينه، لا يكاد(1/98)
يفتح عينيه على شيء يستحسنه إلا أسرعت الآفة إليه؛ وله في ذلك نوادر عجيبة، ولربما قال للنفيسة من نسائه: واري محاسنك عن عيني ما استطعت، فإني شاح عليك من عيني، وأنا أحب الاستمتاع بك، أو كلاماً هذا معناه، أخذته عن حظئةٍ له زادتني من عجائبه.
واستمر مع أهل قرطبة نحواً من ثمانية أشهر في أحسن عشرةٍ، ثم آنس منهم الكراهية لدولته، وبلغه أيضاً قيام المرتضى بشرقي الأندلس فعزم على إبادة أهل قرطبة وإخلائها، فلا يعود لأئمتهم المروانية سلطان آخر الدهر، ثم يعود إلى ساحله، ويجمع شمل برابرته، فيضرب بهم جميع الأندلس. فانقلب سريعاً ظن التجميل الذي كان يظهره لهم وانصرف إلى حزبه البربري فآثره، وأغضى على سوء ما كانوا عليه من الظلم والحيف، فوقع أهل قرطبة وغيرهم في حالتهم مدة سليمان، من استطالتهم عليه. وصب على أهل قرطبة ضروباً من التنكيل والمغارم، وانتزع السلاح منهم، وهدم دورهم، وقبض أيدي الحكام عن إنصافهم، وأغرم عامتهم، وتوصل إلى أعيانهم بأقوام من شرارهم، ففتحوا له أبواباً من البلايا أهلك بها الأمة، وتقربوا إليه بالسعاية، وقرن بجميع الناس الأشراط، ووكل بهم الضغاط، فما شئت من مكشف عن اليمين والشمال، متلول الجبين مذال القذال، قد صار شطر الناس أشراطاً على سائرهم، قلما تلقى أحداً منهم إلا بموكل عليه، حتى(1/99)
كأن الكرام الكاتبين بدوا للأبصار، فأخذت على الناس الأقطار، فأظلمت الدنيا وأبلس أهلها وغشيتهم من أمر الله ما غشيهم، فلزموا البيوت، وتطمروا في بطون الأرض، حتى قل بالنهار ظهورهم وخلت أسواقهم، فإذا دنا المساء وكف الطلب عنهم، انتشروا تحت الظلام لبعض حاجتهم.
وامتحن معه جماعة من الأعيان، ممن خدم في مدة سليمان، فاعتقلوا وصودروا بأموال. وامتهن بعضهم بالضرب حتى صانعوا على أنفسهم بجملة من المال ففدوا أنفسهم وأمر بإطلاقهم؛ فلما أحضرت دوابهم للركوب، قبضت جميعها، وانطلق القوم رجلاً إلى بيوتهم، فكانت عندهم أعظم آفة جرت عليهم؛ وكان منهم أبو الحزم ابن جهور، وأحمد بن برد الأكبر وغيرهما. فهذه جملة من أخباره، في حالي صلاحه وفساده، ووقتي رضاه وسخطه.
@كيفية مقتله
فلما شنأته القلوب، وأثقلته الأوزار، والتقت عليه الأكف، وخلصت فيخ النجوى، وتوالى عليه الدعاء، نظر الله إلى عباده، وسلط عليه أضعف الخليفة: صبياناً أغماراً من صقالبة بني مروان كانوا أقرب الناس إليه، وأدناهم من حرمته، وأحقرهم في عينه، جسرهم الله تعالى على الوثوب عليه بموضع أمنه، في حمام قصره، لا عن مواطأةٍ من(1/100)
أحد إلا ما ألقاه الله تعالى في نفوسهم له، وكانوا ثلاثة من الصقلب رفقاء، فيهم وصيف حسن الوجه جدا كان يخف عليه اسمه: منجح ولبيب وعجيب؛ دبروا جميعا عليه فقتلوه ليلا غرة ذي القعدة من سنة ثمان وأربعمائة، وقد دخل الحمام سحرا فابتدره منجح بكوب نحاس ثقيل صبه على رأسه، فشجه فغشي عليه، ونادى صاحبيه فوجدوه بالخناجر حتى برد، وسدوا عليه باب الحمام، وتسللوا وصعدوا إلى سقف بعض القصور، وكمنوا في مخاب هنالك كانوا يعرفونها فلم يحس بهم. ولما استطال نساؤه بقاءه بالحمام دخلن عليه، فلم يرعهن إلا مسيل دمه، وهو قتيل ممزق الإهاب. ولم يستتم النهار حتى صح عند الناس مقتله وخبر الفتك به؛ ففرج عنهم غم عظيم، وابتهلوا بشكر خالقهم.
واجتمعت زناتة ووجهوا من حينهم إلى أخيه القاسم صاحب إشبيلية يومئذ، فوافى قرطبة رسوله ليقف على صحة وفاة أخيه بالمعاينة، وخاف أن تكون حيلة منه عليه هنالك، فكشف له عنه وتحققه، فانكفأ إلى صاحبه، ولحق القاسم فأخرج إليه جسد أخيه، فصلى عليه وأمر بإنفاذه إلى مدينة سبتة فدفن بها.(1/101)
كانت مدة علي بن حمود - من يوم قتل سليمان إلى يوم قتل - واحدا وعشرين شهرا وسبعة أيام؛ فانقضى أمر علي على هذه السبيل، وصار خامسا لمغتالي جبابرة الملوك في الإسلام بأيدي عبيدهم وأتباعهم في الحمام خاصة: أحدهم الفضل بن سهل ذو الرياستين وزير المأمون، ثم أبو سعيد الجنابي صاحب القرامطة، ثم الديلمي المنتزي باصبهان بعد الثلثمائة، ثم ناصر الدولة الحسن بن حمدان المنتزي بالأندلس بعد الأربعمائة، مع مزيته عليهم ببراعة الشرف وحرمة القرابة، فاغتدى علي في ذلك القران بسوء مصارع هؤلاء المبعوثين آية وموعظة. على أن قتل الملوك والأثمة بأيدي الفحول من عبيدهم وأصحابهم - من غير هذا النمط وعلى خلاف هذا - كثير يشق إحصاؤهم والله بأنبائهم البالي سرائرهم. وكان الأغلب على علي بن حمود السخاء والشجاعة على عطوله من الفهم والمعرفة، وبراءته من الخير جملة.(1/102)
@فصل في ذكر الوزير الكاتب أبي حفص بن برد الأكبر
@وإثبات جملة ما انتخبته من نظمه ونثره،
@مع ما يتعلق بذكره:
قال أبو الحسن: كان أبو حفص في ذلك الأوان واسطة السلك، وقطب رحى الملك؛ استقل ببهائه وجلاله، ورفل في بكره وآصاله، وبرز على نظرائه وأشكاله. وبنو برد ينتمون لبني شهيد بالولاء.
وقلد أبو حفص هذا ديوان الإنشاء بعد ابن الجزيري ثم كتب عن سليمان المستعين وغيره من أمراء الفتنة فأسمع الصم بيانا، واستنزل العصم إبداعا وإحسانا؛ وقد أخرجت من رسائله، ما يعرب عن فضائله، ويوضح مشهور دلائله؛ وكانت وفاته بسرقسطة سنة ثماني عشرة وأربعمائة، وقد نيف على الثمانين.(1/103)
@ما أخرجته من ديوان رسائله في أوصاف مختلفة
فصول له من العهد المعقود للناصر عبد الرحمن بن أبي عامر:
هذا ما عهد به أمير المؤمنين هشام المؤيد بالله - أطال الله بقاءه - إلى الناس عامة، وعاهد الله عليه من نفسه خاصة، وأعطى به صفقة يمينه، بيعة تامة، بعد أن أمعن النظر، وأطال الاستخارة؛ وأهمه ما جعل الله له من إمامة المسلمين، وعصب به إمرة المؤمنين، واتقى حلول القدر بما لا يؤمن، وخاف نزول القضاء بما لا يصرف، وخشي - إن هجم محتوم ذلك عليه، ونزل مقدوره به، ولم يرفع لهذه الأمة علما تأوي إليه، ولم يوجرها ملجأ تنعطف عليه - أن يكون بلقاء الله تعالى مفرطا إليه، ساهيا عن أداء الحق إليها. وتقصى عند ذلك طبقات الرجال من أحياء قريش وغيرها، ممن يستحق أن يسند الأمر إليه، ويعول في القيام به عليه، ممن يستوجبه بدينه وأمانته وهديه ورعيه، بعد اطراح الهوادة، والتبرؤ من الهوى، والتحري للحق، والتزلف إلى الله تعالى بما يرضيه، وإن قطع الأواصر وأسخط الأقارب، عالما أن لا شفاعة عنده أعلى من العمل الصالح، [وموقنا أن لا وسيلة إليه أزكى من الدين الخالص] ؛ فلم يجد أحدا هو أجدر أن(1/104)
يقلده عهده، ويفوض أمر الخلافة إليه بعده، في فصل نفسه، [وكرم خيمه] ، وشرف مركبه، وعلو منصبه، مع تقواه وعفافه، ومعرفته وإشرافه، وحزمه وثقافه، من المأمون الغيب، الناصح الجيب، النازح على كل عيب، ناصر الدولة أبي المطرف عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر، وفقه الله.
وفي فصل منه: مع أن أمير المؤمنين - أيده الله - بما طالعه من مكنون العلم، ووعاه من مخزون الأثر، أمل أن يكون ولي عهده القحطاني الذي حدث عنه عبد الله بن عمرو بن العاص بتحقيق ما أسنده أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه ". فلما استوت له به الأخبار، وتقابلت عند فيه الآثار، ولم يجد عنه مذهبا، ولا إلى غيره معدلا، خرج إليه عن تدبير الأمور في حياته، وفوض إليه النظر في أمر الخلافة بعد وفاته.
وله فصل من رقعة كتبها عن المظفر بن أبي عامر يقول فيها: وإن من أعجب العجائب ما يجترئ عليه بعض أهل خدمتنا من نبذ عهودنا إليهم بعد توكيدها، وحل عقودنا عليهم بعد تشديدها، ساهين عما يتعرضون له من النقمة، لا يحذرون وقوع المحذور، ولا(1/105)
يتوقعون حلول التغيير، قد وله أفئدتهم جهل الواجب، وران على قلوبهم ما أضاعوه من الحق، فلم يرجوا لله وقارا، ولا وفوا سلطانه إجلالا وإكبارا. وقد قال بعض السلف الصالح: إن من إجلال الله إجلال السلطان عادلا كان أو جائرا. ولا أحسب الذي غرهم بنا، وجرأهم علينا، إلا ما وهب الله تعالى لنا من الحلم مع المقدرة، والكظم عند الحفيظة. وذلك وإن كان سجية غالبة، وخليقة لازمة، فرب شنع تحت مخيل النعماء، وغصص في شهي الغذاء، وشرق في نمير الماء. وبين أيديكم - معشر الخدمة - ولا أخص بندائي صغيرا ولا كبيرا، ولا أعني بعيدا دون قريب، ولا أنبه غائبا دون شاهد، ونصب أعينكم، وحشوا أسماعكم عهد المنصور، رضي الله عنه، لم يقدم زمانه فينسى، ولا أتت دونه الدهور فيبلى، ثابت على جماعتكم، ولازم لكافتكم، من خاص وعا، ودان وشاحط، صدره التوبيخ باستكتاب الجهلة، واستعانة الضعفة، واستكفاء العجزة، ممن قلت معرفته، واتضعت همته، فلم يبلغ أن يحكم الخط فيقيم حروفه، ويراعي المداد فيجيد صنعته، ويميز الرق فيحسن اختياره، وعجزه الحزم النافذ والحكم الصادع، بأن تكون صدور كتب الاعتراضات وعنواناتها وتواريخها والأعداد في رؤوس رسومها، بخطوط أيدي القواد والعمال، من كان منهم كاتبا فبيده، ومن لم يكتب(1/106)
فبخط كاتب له معروف، وأن تكون تسمية طبقات الأجناد فيها قائمة الخطوط بينة الحروف، وفي تضاعيفه ألية نحن أولى من أبرها، ووفى بها؛ على أنه إن ورد لأحد من الخدمة بعد وصول ذلك العهد إليه كتاب اعتراض أو عمل في رق ردي، بمداد دني، أو خط خفي، فيه لحن أو كتاب على بشر في عدد أو رأس رسم ما لم يخف أو يقع في حشو الكتاب ويعتذر منه، ليبطلن سعي كاتبه فيما كتب، وليعاجلن بعقوبة العزل وإغرام المال الثابت عدده في القنداق.
وفي فصل منها: وإن قوما من خدمة الحضرة قد عادوا لما نهروا عنه، فكتبوا الخط الدقيق في دني الرقق، دقة من هممهم، ودناءة في اختيارهم، وجهلا بأن الخط جاه الكتاب، وسلك الكلام، به ينظم منثوره، وتفصل شذوره، ونبله من نبل صاحبه، وهجنته لاحقة بكاتبه، ما اقترفوه من العصيان، وأقدموا عليه من خلف السلطان؛ وأنا أعطي الله عهدا لئن ارتفع إلى - بعد بلوغ عهدي هذا أقصى حدود المملكة، وانتهائه أبعد أقطار الطاعة - كتاب على الصفات المذمومة والأحوال المسخوطة، من رق أو مداد أو خط، لأوفين لصاحبه بما قدم إليه من الوعيد إن(1/107)
شاء الله؛ فليحذر من حضر منهم أو غاب أن يخالف ما حددناه، أو يجوز ما شرعناه.
وله عنه إلى هذيل بن رزين:
أما بعد - آتاك الله رشدك، وأجزل من توفيقه قسطك - فإن الله تعالى خلق الخلق غنيا عنهم، وأنساهم بمهل غير مهمل، بل ليحصي آثارهم، وليبلوا أخبارهم؛ وجعلهم أخيافا متباينين، وأطوارا مختلفين؛ فمنهم المختص بالطاعة، ومنهم المبتلى بالمعصية، وبين الفريقين أقوام خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم؛ ولو شاء الله لكان الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، ولذلك خلقهم. والسعيد من خاف ربه، وعرف ذنبه، وبادر بالتوبة قبل فواتها، واستعطى الرحمة قبل منعها. وإن كنت تركت قصدك، وخالفت رشدك، ونكبت عن سبيل سلفك، فلم يوحشك ممن شردت عليه مكروه نالك به، ولم يؤنسك ممن جنحت إليه، أمل لم تطمع فيه إلا لديه، بل كنت من المخاوف، بعيدا من(1/108)
المكاره، قريب المكانة، رفيع الدرجة، مصدرا في أهل النصيحة والثقة؛ خلا أنه حدث بينك وبين الحاجب ما لم يزل يحدث بين القواد والعمال على قديم الزمان مما لم يبلغ أن يخرج ذا الرأي الأصيل عن طبقته، ولا يجاوز أن يزيد المحنق على المحك في خصومته، والله عليم أن أمير المؤمنين لم يبخسك في تلك الهبات حظا، ولا أولاك إعراضا، ولقد اعتنى بمصلحتك، وعزم على إزاحة علتك، حتى يتهيأ من ذلك ما يفي بأملك لو انتظرته، واستقام فيه ما يزيد على طلبتك لو صبرت عليه، ولك في القدر المقدور فسحة، وفي القضاء المحتوم مندوحة؛ ولن تضيق بك السبيل عند أمير المؤمنين، وأنت بين طاعة سالفة، واستقامة موروثة، وبين إنابة منتظرة، وتوبة متقبلة، فإحدى الحالتين تحط الذنوب الكبيرة، وتغطي على العيوب الكثيرة؛ فالآن - عصمك الله - واللبب رخي، والمركب وطي، وبابك إلى رضى أمير المؤمنين مفتوح، وسبيلك إلى حسن رأيه سهل، ولا يذهب بك اللجاج إلى عار الدنيا ونار الآخرة - إياك ومصارع الناكثين، وحذار موارط الغادرين.
وله من أخرى عن سليمان إلى جماعة العبيد:
إن الله تعالى قسم لأهل بيتنا بني أمية من السلطان الموصول لهم بخلافة النبوة ما حازه لهم دون سائر قريش، وسراة رجالها وافرة، وبيوت شرفها عامرة، فكان أول من أجمع عليه خيار الصحابة بالشورى والاختيار عثمان بن عفان أمير المؤمنين ذو النورين، وصهره عليه(1/109)
السلام مرتين، فلم ينكر فضله هاشمي، ولا دافع إمامته قرشي، ولا نازعه الخلافة عربي ولا عجمي؛ ثم غلب الشقاء على أقوام فنالوا منه ما انفتح عليه باب الفتنة، إلى يوم القيامة، فيالها مصيبة صدعت شمل المسلمين، وأوهنت أركان الدين؛ وافترق أهل الإسلام بعده فرقتين، ثم لم تجتمعا إلا على رجل منا، لرضاء الله عن سيرتنا، وأنس المسلمين إلى حسن مأخذنا، وفضل سياستنا؛ فكانت الجماعة على معاوية بن أبي سفيان كاتب الوحي وصهره عليه السلام ورديفه؛ فبلغ من ضبط الأمور، ولين الولاية، وجهاد العدو، وجباية الفيء، وبث العدل، وإدرار العطايا، ما لا يجهله ملي ولا ذمي. وورثه ابنه وابن ابنه؛ ثم صير الله تعالى خلافته إلى مروان بن الحكم جدنا الأعلى أمير المؤمنين، دوسر قريش المفتي بتوفيقه، والحاكم في الأمة بتسديده؛ فألقت إليه بالمقاليد الكافة، وتداولها بنوه آباؤنا الخلفاء الراشدون بالمشرق والأندلس إلى يومنا هذا، والله متم نعمته علينا كما أتمها على آبائنا من قبل، إن ربنا حكيم عليم.
وفي فصل منها: ولم تزل الأثمة منا مقبلة على مواليها، مختصة لعبيدها، تقدمهم في الثقة، وتقربهم بالمودة، وتعدهم لحوادث الأمور، وتقذف بهم في معضلات الخطوب، فيتولون من اجتهادهم لهم ما أوجبت لهم منهم المحبة الخالصة، حتى شرف القوم ونبلوا، وسما ذكرهم ونسبوا إلى مشهور أنسابهم، ومذكورين بيوتاتهم؛ فهم الذين تسمعون عنهم وتعرفون رياستهم كآل خالد، وبني أبي عبدة(1/110)
وبني شهيد، وبني بسيل، وبني حدير، وغيرهم من أشراف موالينا. وقد أفضى الأمر إليكم، معشر الموالي؛ فهذا اسمكم إذ قد رفع الله عنكم العبودية به، وأخرجكم من رق الملكة، وصيركم منا، وخلطكم بنا، وأفضى بأنسابكم إلينا، والولاء لحمة، فمولى القوم منهم، وملعون من انتمى إلى غير أبيه، وادعى إلى غير مواليه. هذا حكم الديانة على لسانه عليه السلام؛ وأما حكم الدنيا وسير أهل السداد والصلاح فيها، فلا يخرج أيضاً أن يكون ضلعكم معنا، وميلكم إلينا، وتعصبكم لنا، فنحن أحق الناس بكم، وأجدر أن نعمل عمل آبائنا في أمثالكم، من مواليهم الذي أجرينا ذكرهم، فإن نقمتم حالا مزقت الشمل، ونعيتم أمرا صدع الجمع، فتلك الفتنة التي يعق فيها الابن أباه، ويقتل لها المسلم أخاه، أجارنا الله وإياكم منها، وكشف لنا ظلمتها.
وفي فصل منها: ولعلنا فيما ساءكم من تلك الهنات، ونالكم من الفجعات، أوجع قلوبا، وأشد غموما. فسبحان من لو شاء لأطلعكم على غيبنا فيكم، وعرفكم إشفاقنا عليكم؛ وكيف لا يكون ذلك وكذلك وما زلتم الشعار والدثار، لا نؤثر عليكم، ولا نثق إلا بكم - فإن يكن الشيطان قد نزغ بما نزغ به بين ابني آدم فمن بعدهما من ذريته، فقد آن أن تثوب الحلوم فتعود السيوف في أغمادها، والنبال في كنائنها(1/111)
ونحن نعاهد الله ألا نؤاخذ أحدا بذنب، ولا نناله بعقوق له ولا بأذى، ولا ننطوي له على إحنة، بل نغفر ونصفح ونزيد في العطاء، ونترككم بمواضعكم التي ارتضيتموها، تدر عليكم جباياتها، وتخصكم منافعها، ولا ننسئ في أموركم إذا سمعتم وأطعتم.
وله عنه إليهم في مثل ذلك من رقعة، يقول في فصل منها:
زعم كاتب صحيفتكم أنه ما دامت خلافة سلفنا إلا بطبقتكم، ولا عزت إلا بدعوتكم، وهذا قول من لا علم له، فلم تظهر طبقتكم إلا حديثا، ولا كثر عددكم إلا قريبا، ولم تزل الخلافة عزيزة، والسلطان قائما بأولياء الحق وأنصار الدين، العارفين بفضل الطاعة وموقعها من رضاه تعالى، وبنقص المعصية وموقعها من سخطه. والمنة عليكم لمن عرفكم - معشر العبدى - بالله، وأدخلكم في دينه، واستنقذكم من الضلالة، وأخرجكم من الكفر، ثم اصطنعكم ونوه بكم بالتصرف في الخدمة، فنلتم بذلك البغية، وهيهات أن تقضوا الحق كله، فأقصروا عن شأوكم، فذلك أولى بكم.
وفي فصل منها: وأقسمتم على أن من حسبناه من رؤسائكم كان أولى بالسياسة، فأني لكم ذلك وما أنتم منه - وإنما مدبرون مسوسون أتباع مربوبون؛ وسر التدبير نازح عنكم، والسياسة القويمة محجوبة(1/112)
دونكم؛ ومتى بلغكم قط عن عبد ثرب على مولاه فأفلح، أو سمعتم بجندٍ شغب على مدبره فأنجح - والحق لا يضره قلة أهله، والباطل لا ينفعه كثرة جمعه، فإن العاقبة للمتقين، وحزب الله هم الغالبون؛ مع أن سفهاء كل طبقة أكثر من حلمائها؛ وقد رأيتم قديماً نتيجة آراء السفهاء، وكيف أخنى على أهله بموتٍ ذلك التدبير، وطالما جهدنا في الصلاح، وحاولنا قطع الشغب، ودفت الفنتة، فأبى الله إلا ما أراد على أيدي رؤسائكم، الذين أتيتم على عهدهم. وأما من طلبنا من أصحابكم فإنهم قوم خدموا العمالات، تصرفوا في الولايات، وعابوا على الجباة، وخلدت عليهم في الديوان الحسبانات؛ فهم الذين طولبوا في سبيل الحق، ورمي منهم دون الكل بالبعض، وأخذ فيهم وفي أسبابهم بالرفق دون العنف فاعتدوه ظلماً، وغلى صلاح مآل أمرهم إذ قوربوا، والجميع على ذلك في خير من العافية، وبحظ من الكافية، وأمدٍ من النظرة، إلى أن يأذن الله ببلوغ ما يشاء من المدى. وليس كل ما يبلغكم من التشنيع ويتصل بكم من الإرجاف يلتفت إليه ذوو العقول، ولا يصغي إليه أهل التحصيل.
وفي فصل منها: وأما ما ألصق بكم كاتب صحيفتكم إذ قال: إن لم يعمل بما أردتم أجبتم دعوة من يناديكم؛ فليت شعري من ذا المنادي الذي إليه تلوى الأعناق عنا، أم إلى تفزعون إن فارقتم عصمتنا - أما إن غركم الشيطان، وأسلمكم الخذلان، لتقرعن من الندم الأسنان، بحيث لا ينفعكم أسف، ولا يجدي عليكم لهف؛ والله تعالى ودينه وخلافته في غنىً عمن عند عليه وحاده، وألحد في الإسلام عنه وشاقه، وخرج عن الجماعة، وشق عصا الأمة، واستخف بحقوق(1/113)
الأئمة، ونازع الأمر أهله، واعترض من الرأي فيما ليس من شأنه على من صيره الله اليه، وأسلمه في يديه، واجتباه واصطفاه على علمٍ به. ولولا أن أمير المؤمنين عرف أن ملأكم لم يجتمع على هذا الكتاب، وتيقن أن أهل السداد منكم لم يرضوا هذا الخطاب، لكان له في ذلك نظر يقيم الأود، ويعدل الميل، مع أن الحلم والكظم من أخلاقه، والرفق والأناة من شيمه؛ فاقبلوا أدبه، وانتفعوا بموعظته، فلو كشف لكم الغطاء واجتلى عليكم الغيب، لعلمتم أن أمير المؤمنين لا ينام عن مصالحكم، ويني في منافعكم، ولا يسعى إلا فيما يرد ألفتكم، ويجمع كلمتكم.
وله عنه من أخرى إلى ابن ...
إن العاقبة للتقوى، وإن كلمة الله هي العليا، ولا تبتئس فإن الحق دامغ الباطل، وإن لاحت للكذب بارقة، وهبت له نافحة، فإنما ذلك استدرج لأهله، وإملاء لحزبه؛ ثم يأخذهم بما اجترحوا، ويوبقهم بما اكتسبوا؛ وقد علم الناس أن هذين الخارجين علينا، الناكثين بيعتنا، موسومان بإحسانا. أما الطالبي فرفعناه من أوضع ملاحق الجند إلى أعلى مراتب أهل الخطط، ونوهنا بذكره، وأشدنا باسمه، وأشركناه في سلطاننا، وصرفنا إليه طائفةً من جندنا(1/114)
ووثقناه هم من أعمالنا. وأما المعيطي فإن البلاد نبت بجده فلفظته إلى جدنا رضي الله عنه، فآواه وواساه؛ وامتثلنا مثل ذلك في هذا الضعيف المتعير، فوهبنا له خطير ما استوهب، ويسرنا عليه عسير ما طلب، وألحقناه بثقاتنا. فاستبقا في ميدان الغدر، وجمحا إلى مدى الغمط والكبر، جاحدين بحقنا، منتحلين لما لم يجعلهما الله له أهلاً. وأمير المؤمنين دافع لهما بحقه عليهما، ومستعين بالله ثم بإحسانه إليهما.
وفي فصل منها: وأما ما وصفت به نفسك، وعرضته علينا من مجاهدة المارقين، ومناضلة الناكثين، وضمنته من حشد الأجناد قبلك، واستنفار أهل عملك، وما سمحت به من الإنفاق على جميعهم من مالك، فأنت أهل لكل ذلك، وخليق بالوفاء به، وقد بذلت جهدك، وقضيت حق إمامك، فأرضيت ربك، وزكيت نفسك، ورفعت في الغابرين ذكرك؛ وصدقت ظن أمير المؤمنين، وحققت تفرسه فيك، وهو يرجو أن يجتزئ بمن حوله من أنصاره، ويكتفي بمن في حضرته من الأجناد، فهم على أجمل بصيرة في نصره، وعلى أثبت نية في الذب عن سلطانه، والله يعينه وإياهم ويؤيده معهم، وإن احتاج إليك فما أطيب نفسه عليك، وأوثقه بإجابتك أو دعائك، بارك الله فيك، ومتعه بك، فأنت سيفه الفاصل، وسهمه النافذ.(1/115)
وله عنه إليه أيضاً: ويجب أن تزيد في رتبتك، وتهذب جمال جهتك، وتسعى في توفير محاسنك، وتكثير مناقبك؛ وإن كنت بحمد الله ومنه كامل الأدوات، كثير الحسنات؛ ولكن الزيادة من فضل الله محبوبة من النجباء، مطلوبة من النبلاء؛ وأنت صدرهم السابق وهاديهم المبرز؛ وقد نبذنا إليك في كتابنا مع فلان نبذةً لم نضعها دون غاية البيان، ولم يسعنا إلا إيضاح الدليل وإقامة البرهان.
وله عنه إلى منذر بن يحيى: وأما أمر عليّ بن حمود فعلى ما أعلمناك به من الضعف والوهن، وإنما يطمع في من عندنا والله يبطل طمعه، وقد أوحشنا بطء أخبارك عنا، وإن كنا لا نشك في أنك على جميع ما تصرفت به، وفي كل ما تقلبت فيه، كما نحبه ونهواه، فذاك حظك منا، وموقعك من ثقتنا، وعلى ذلك فإن بواعث الإشفاق جمة، وعوارض التوقي كثيرة، وقد توالت المحن، وطالت الفتن، ونجم النفاق، وشاع الخلاف أهواء أوليائنا.
وله من أخرى إلى ابن صمادح: وإن للبغي مصارع لا تعدو أهله، وللنكث عواقب لا تخطى معتقده، وقد علمت الكافة ما أولاه أمير المؤمنين فلاناً من إحسانه، وأفاضة عليه من معروفه، فرفعه من الحضيض، وانتعشه عند الجريض، ونوه به بعد الخمول، وكثرة وهو قليل، فلم يشكر الله نعمة، ولا وفى له بذمة، وظل يبني الغدرة على غير أسٍ فخر بناؤه، وانتضل في الرميات في غير هدف فصافت سهامه(1/116)
وأصحابه يتساقطون علينا في كل حين أفواجاً، ويتتابعون إلينا نزاعاً أرسالاً، لما يبدو من ضعف آرائه، وخبث مذاهبه، وقبح غدره، وتناكب أمره، حتى اتسع عليه الخرق، وأعضله الفتق، واستنفر له وجه الخلائق، وأسلمه غرور الشيطان، فأصبح نادماً سادماً، وأمسى حائراً بائراً، ونكال الله تعالى نازل به، وسخطه منزل عليه، وبأسه منصرف إليه.
وفي فصل من أخرى: أنالك في فلتات تحجب حسن الظن بمن أسبغت عليه النعمة، ووجبت لربه الحجة في أداء النصيحة. وقد اندرجت في أثناء هذه الفتنة خطوب استعمل فيها أمير المؤمنين الثقة بمن لم يتق الله في النصيحة له ولرسوله عليه السلام ولخليفته ولجماعة المسلمين، ولم تصدق نيته ولم يصح خبره، ولا رأي لمكذوب. فأوطأه عشوةً، وزخرف له كذبةً على إثر كذبة، ومنى الأماني، وقرب المواعيد، ونمق الزور، ولبس الأمور، وأمير المسلمين يوجس الخيفة، ويخشى الخديعة، ويرى أعلام الريبة، حتى وضح الفجر، وصرح عن زبدته المحض، وليس هو بأول من أحسن فضاع إحسانه، واصطنع فسقطت صنائعه. وفي فضل الله عوض من كل فائت، وفي جزائه خلف من كل ضائع، وفي إقبال رحمته غنىً عن كل مدبر، وللأيام عقب تديل الكره بالرضى، وتنسخ الشدة بالرخا.
وله من أخرى عن عليّ بن حمود إلى منذر بن يحيى: وما أنكرت شيئاً مما ذهبت إليه من التأني والتثبت، ولا اعتقدنا إلا رأيك في نظر الاجتماع، وترقب الالتئام، لترتفع الشبهة وينجلي الشك، وإن كان مذهبنا في هذه الأمة مشهوراً، واحتسابنا الأجر في صلاحها معروفاً(1/117)
وقيامنا لنصرها وسخاؤنا بأنفسنا وأموالنا لاستنقاذها، لا ننوي إلا وجهه تعالى، وإلا فقد علم من عرفنا، وأيقن من أنصفنا، أننا كنا عيش هني، ولبب رخي، وعمل واسع، ومال وافر، وجند مطيع، وحصن منيع؛ وفي دون ذلك ما أقنع من عرف الدنيا بحقيقتها، وأجزأ من أنزلها منزلتها؛ وما كفى من لا يعدل بالسلامة ولا يبيع بالغبن، ولا يركب الأهوال، ولا يقتحم المهالك، مغررا بدمه، مخاطرا بنفسه، لحطام تافه، وظل زائل، ومتاع قليل، وانا لنرجو منه تعالى أنه لم ييسر ما يسر من آمالنا إلا عند اطلاعه على نيتنا فيها، فنحن بعين الله، ونواصينا بيده، والملك والأمر له.
وفي فصل: والشروط التي خططتها بيدك، وأردت معرفة رأينا بإمضائها، فإنها لعمر الله قليلة في استحقاقك، ولو اتسعت البلاد لأضعاف ما تليه، لكنت لذلك عندنا أهلا في كفايتك وضلاعتك وضبطك وحزمك. فأما الاعتماد عليك في الرأي والقصد إليك بالمشورة فهو الذي لا نعدوه بك ولا نجاوزه فيك، ونحن بذلك أحظى، والفائدة لنا فيه أعلى.
وقد أنفذنا كل ما دعوت إليه من تنفيذ سجلاتك على ما في يديك من الأعمال، واعتقدنا لك ولجميع أهل الصغور - حرسهم الله - الأيمان المنعقدة والأقسام المغلظة لا تدخل عليهم داخلة يكرهونها، ولا يكلفون كلفة يستثقلونها؛ ولا يخالف بهم طريقة يرضونها، ما سمعوا وأطاعوا.
وفي فصل: ووصيتك بأهل قرطبة وغيرهم مقبولة، ونصيحتك فيهم متبوعة، ولن يروا منا، ولن تسمع فيهم عنا، إلا كما يعجبك(1/118)
ويسرك، ويجذلك ويبهجك؛ وإنما هدى الله أولهم بأولنا، وأسبغ النعم على سلفهم بسلفنا؛ وهل يؤملون أحنى عليهم وأرأف بهم منا - أم هل لمت آتاه الله رشده، وشرح بالإيمان صدره، رغبة عنا - وهل ينكر فضلنا إلا جاهل مكابر، أو يدافع حقنا إلا معاند خاسر -
وله من أخرى: بلغنا جوابك ناكبا عن الحق، بعيدا عن الإنصاف، خلوا من حسن المعاملة، بداية بالامتنان بما كان منك، بما لو اقتنعت فيه بما بذلنا من الشكر لركبت سنن المنصفين، وسلكت سبيل المحسنين، فقد قيل: إن الشكر وإن قل، ثمن لكل نوال وإن جل؛ كما قيل: إن المنة تفسد الصنيعة. ولو نظرت في أخبار الماضين، وكشفت عن سير الأولين، لوجدت ملوك الأمم على قديم الزمان قد تعاملت بالتعاون، وتواصت بالترافد، وإن شحطت ديارها، واختلفت أديانها؛ وجعلت ذلك بينها حقوقا تقضى، وفروضا تؤدى، فالدهر أطور والأيام دول. وقد علمت أن الذي سامحتنا فيه لم تقدم إليه إلا على شروط اشترطتها، وأطماع استدعيتها، فقضيناك كل ما ملكناه، تقدمت، ولا صحبة سلفت، ولو هربت عن هذا الجفاء دهرك، وأنفقت في السلامة من هذا الخطل عمرك، لكنت لنفسك ناظرا، وفي صفقتك تاجرا؛ فإن كنت أردت معرفة العي، كفى بذلك عيا من القول، وزللا من الرأي. وإن قلت إنك لم تعرف مكاننا من الخلافة(1/119)
ووارثتنا الإمامة، عن أسلافنا الماضين، وأجدادنا الأقربين، وجهلت أننا في نصابها وذروتها، وأقعد الناس بها وأقواهم عليها، فقد كابرت العيان، ودافعت البرهان.
[وله عنه في معنى الرعية: إن الله تعالى قلدني من رعاية عباده، وحملني من سياسة خلقه، وعصب بي من تدبير أمورهم وإصلاح شؤونهم، وألزمني من النظر لهم، والعمل بما يصلحهم، ما لا حول لي فيه ولا قوة عليه إلا بمعونه وتأييده، ولا هداية إلا بتوفيقه وتسديده. وإن الرعية من السلطان، بمكان الأشباح من الأرواح، صلاحهما وفسادهما متصلان، ونماؤهما ونقصانهما منتظمان، إذ كانت الرعية عنصر المال، ومادة الجباية، بها قوام الملك، وعز السلطان، ورزق الأجناد، التي بها يقاتل العدو وينصر الدين، وتحمى الحرم، ولما تأملت أحوال أهل عملك من كورة جيان وذواتها، وحصلت ما يلزمهم أداؤه هذا العام من الطعام في العشور الواجبات، تكنفهم من شفقتي، وأحاط بهم من عواطفي، ما أدى إلى رفع مؤونة طعامهم، وإعفائهم مما يلحقهم فيه من العنت، ويرجع عليهم من الدرك، وكلف الحمولة إلى الأهراء، وما يتبع ذلك من الانتقاص ويتصل بالكيل من التطفيف، وتسقط التبعات، ويخف الثقل،. فانظر عندما يرد كتابي في توزيع ما يجب على أهل عملك من الناض عن كذا وكذا من القمح والشعير، حساب كل مدي من القمح ستة دنانير، ومن الشعير ثلاثة؛ واشمل بتوزيعها الناس كافة، غير محاش منهم أحدا. وليكن ذلك على العدل، وتحري الحق، واعتماد الصدق، بمشاهدة قاضي الجهة، وموافقة شيوخ الرعية ووجوهها، وأهل المعرفة بمواقع وظائفها، إن شاء الله] .(1/120)
وله من أخرى، عن المظفر بن أبي عامر، حين قتل عيسى بن سعيد القطاع وزيره: أيها الناس - وفقكم الله لعصمته، واستنقذكم برحمته - إن من علم منكم حال الخائن عيسى بن سعيد بالمشاهدة، ورأى مبلغ النعمة عليه بالمحاضرة، فقد اكتفى بما شهد، واجتزأ بما عاين وحضر؛ ومن غاب عنه كنه ذلك من عوامكم بانتزاح منزل أو لاتصال شغل، فليعلم أنا أخذناه من الحضيض الأوهد، وانتشلناه من شظف العيش الأنكد، فرفعنا خسيسته، وأتممنا نقيصته، وخولناه صنوف الأموال، وصيرنا حاله فوق الأحوال؛ فدلله بذلك المنصور مولاي رضي الله تعالى عنه، فاعتمدته ومهدت له فرش الكرامة، وبوأته دار الفخامة، وأسبغت من نعمي عليه، ما أحوج الخاصة والعامة إليه، فلم يقم لله تعالى بحق، ولا قابل إحسانه بصدق، ولا عامل رعيتنا برفق، ولا تناول خدمتنا بحذق؛ بل أعلن بالمعاصي، واستذل الأعزة وذوي الهيئات والمروءات، ونافرهم وأنس بأضدادهم، ونبذ عهودنا، وخالف سبلنا، وكدر على الناس صفونا؛ حتى إذا ملكه الأشر، وتناهى به البطر، وغلت به الأمور، وغره بالله الغرور، حاول شق عصا الأمة، وهد ركن الخلافة والأمانة، بما احتجن من حرام المال، واستمال من طغام الرجال؛ فحجته نعمنا عنده، وخصمته عوارفنا لديه، وكشف لنا سر نيته، حتى صرعه بغيه، وأسلمه غدره، وأخذه الله بما اجترم، وأوبقه بكا اكتسب، فأعجلناه عن تدبيره، وصار إلى نار الله وسعيره.(1/121)
قوله: " فحجته نعمنا عنده، وخصمته عوارفنا لديه " محلول من قول أبي تمام حيث يقول:
أألبس هجر القول من لو هجرته ... إذن لهاجني عنه معروفه عندي وأخذه أبو تمام من قول عمران بن حطان إذ ظفر به الحجاج فقال: اضربوا عنق ابن الفاجرة، فقال له عمران: بئسما أدبك أهلك يا حجاج! كيف أمنت أن أجيبك بمثل ما لقيتني به - أبعد الموت منزلة أصانعك عليها - فأطرق الحجاج استحياءً وقال: خلوا عنه. فلما رجع إلى أصحابه قالوا: والله ما أطلقك إلا الله فارجع إلى حربه معنا، قال: هيهات! غل يداً مطلقها، واسترق رقبةً معتقها، ثم قال الأبيات التي أولها:
تالله لا كدت الأمير بآلةٍ ... وجوارحي وسلاحها آلاته وفي فصل منها: وقد زالت التقية ووجب الصدق. ألا من سمع هذا الكتاب وأخبر عنه من تلك الطبقة فليرد إلينا مالنا، وليخرج لنا عن حقنا؛ وليحذر أن يجعل لنا عليه سبيلاً. فإنما هي أشياء غلب عليها إما من صميم مالنا فلم يتورع فيه عن الخيانة، وإما من(1/122)
أموال الله بأيدينا فلم يؤد فيها الأمانة، وما ظهرنا عليه منها فمصروف إلى سبيله من مصالح المسلمين في أرزق أجنادهم، ونفقات ثغورهم. وأنا زعيم لمن سارع بما في يديه، وبادر بما عنده، أن نعرف له طاعته، ونشكر مباردته؛ ومن توانى وتربص، وقعد ونكص، أن نصه بحيث وضع نفسه من الظنة، وأثبت عليها من التهمة، وننتهي به نهاية النكال البالغ؛ فلا ينظرن جارم لدينا إلا في ذمة.
@تلخيص التعريف بخبر الوزير عيسى بن سعيد
@المذكور، من الأول إلى الآخر، ومقتله على
@يدي المظفر عبد الملك ابن أبي عامر
قال ابن بسام: وكان عيسى بن سعيد المعروف بابن القطاع قيم دولة ابن أبي عامر وحامل لوائها، والمستقل بأعبائها، ومالك زمام إعادتها وإبدائها. طلع في فلكها قبل دورانه، ودل على ما أخفاه طي كتابها دون عنوانه؛ وأنا أشرح - حين أفضى بي القول إلى ذكره - كيف كان غروبه وطلوعه، ومن أين اتفق طيرانه ووقعه؛ على ما قدمت والتزمت، وحسبما ضمنت ونظمت.
قال ابن حيان: لم يكن لعيسى بن سعيد مأثرة سلف، ولا بيت تقدم، خلا أنه [كان] عربي النجار، من قوم يعرفون ببني الجزيري من كورة باغه. وكان أبوه معلماً، فاختلف عيسى إلى الديوان، وصحب(1/123)
محمد بن أبي عامر وقت حركته في دولة الحكم؛ فبلغ به المنازل الجليلة، وكان عنده مشهوراً بيمن النقيبة، وأخباره معه كثيرة.
وتبحبح عيسى بعد مهلك المنصور بن أبي عامر في دولة ابنه عبد الملك، فتناهى في الاكتساب بالحضرة وجميع أقطار الأندلس ضياعاً ودوراً، فات الناس إحصاؤها، واشتمل على الملك هو وولده وصنائعه. وكان لهم مع ذلك في سائر أعمال السلطان نصيب، وعلى كل عامل وظيف، ولم ينفذ توقيع إلا بأمره، ولا تم أمر إلا بمشورته. وكثر أعداء عيسى لوقته؛ فاحترس منهم جهده، وتيقظ في حراسة نفسه، ووالى كثيراً من وجوه أهل الدولة، تصاهر لهم ببنيه وبناته، فسمت جماعته، ثم تصاهر أخيراً إلى ابن أبي عامر، والذكر من عنده، زوج ابنه المكني أبا عامر أخت عبد الملك الصغرى من بنات المنصور، فتمت تلك المصاهرة في سنة ست وتسعين وثلثمائة، وكانت وليمة عظيمة. وتناهت بعد أمور عيسى في الجلالة، وأخذته الألسنة.
واتفق أيضاً عليه أن عبد الرحمن بن المنصور انبسط على أخيه عبد الملك في أول دولته بصحبة طائفة تخل به، فعرف عيسى أخاه عبد الملك بذلك؛ فحمله على كف عبد الرحمن عنه، فحقد على عيسى ورصد السعي عليه، واستفسد أيضاً السيدة " الذلفاء " أم عبد الملك وأساء إلى صنيعتها " خيال " أم ولده، والغلبة كانت عليه، ومن يتصل بهما بسبب نكاح عبد الملك بنات الجنان مولاته، كانت قد تأدبت بأدب(1/124)
أهله، وأخذت الغناء من محسنات قيانه، فنظرها عبد الملك يوماً فراعته، وهان عليه لفرط عفته زواجها، فأنكرت عليه ذلك والدته، فاستراح في الأمر مع عيسى فصوبه له وأمضاه. وبنى عبد الملك بها، فحقدت أمه على عيسى. ثم اتهم آخراً بالعظمى من مداخلته للولد أبي بكر هشام بن عبد الجبار بن الناصر للقيام على عبد الملك وأخذ الملك عنه. وكان عيسى لا يحضر مجلس شراب عبد الملك إلا في الندرة أو الدعوة تقع؛ استعفاه من ذلك لضعف شربه، فأمكن أعداءه القول فيه لغيبته بما شاؤوا، وزاد الأمر حتى تنكر له عبد الملك، ففهم عيسى بعض ذلك لقوة حسه، وأهمته نفسه، وأعمل الحيلة في خلاصها؛ فسما عند ذلك إلى الغدر بالعامرية أولياء نعمته، والانقلاب مع المروانية الموتورة بدولته، وإقامة الولد أبي بكر هشام المذكور على الخليفة هشام المؤيد ابن الحكم، وأخذ الخلافة عنه لضعف استقلاله والقطع لدولة ابن أبي عامر قطعاً لا بقية معه. وكان عيسى خليطاً لهشام بعد المنصور صاحبه، محمولاً ما بينهما على السلامة، فدعا هشاماً إلى ذلك وراسله سراً ولقيه خفيةً، وقرب له مأخذه على يده لمنزلته من آل العامرية، وأن جندها لا تخالفه بحيلة. فاستجاب هشام، فيما ذكروا، وأخذ بيعته عليه، وساعده جماعة، وكاد يتم الأمر(1/125)
وأعد رجالاً للفتك بعبد الملك، فسار أحدهم إلى نظيف الفتى الكبير مولى ابن أبي عامر، فتنصح له بالقضية فأعلم عبد الملك بها لوقته، فاشتغل باله، وترجح في أمر عيسى وخاف أن السعاية من كياد عدوه، إلى أن أنهى إليه صاحب المظالم أبو حاتم بن ذكوان ما أقلقه، ولم يرتب به لثقته؛ وحدثه أن رجلاً يعرف بابن القارح الوزان كان متخصصاً من العامة، وله بالولد أبي بكر هشام المذكور اتصال؛ فحكى عن نفسه أنه رأى نزول عيسى عليه ببعض بساتينه، وأنه سمع ابن عبد الجبار يقول له: يا أبا الأصبغ، والله إني لخائف والخطر عظيم؛ فقال له عيسى: ومن تخاف - أو ليس الملك بيدي، والجند طوعي، والناس راضون بفعلي - ثم افترقا، فجاء ابن القارح، فأعلم ابن ذكوان، فطار إلى عبد الملك بالخبر، فبطش عبد املك بعيسى. وكانت صورة قتله واطأ عليه أخاه عبد الرحمن ومن يليه من أصحابه، فشدوا عزيمته، وعقد معهم مجلساً للشرب، وبعث عن أكثر أصحاب عيسى، فجلس للشرب بالمجلس الكبير المشرف على النهر لعشر خلت من ربيع الأول سنة سبع وتسعين. ثم أرسل عن عيسى وقد(1/126)
مضى من الشرب وقت، فجاءه رسوله وهو قد بدأ يشرب أيضاً مع نفر من أصحابه فيهم أبو حفص بن برد وغيره.
قال أبو حفص: فلم نرتب بدعائه، وبادر بالركوب نحو عبد الملك، والقضاء قد جد به، فلما وصل إليه أظهر الاستبشار به وأقبل عبد الملك عليه بوجهه وأعلى مجلسه وأخذوا في شأنهم. فلما دارت الكؤوس أخذ عبد الملك في معاتبته والتعرض لما قرف به عنده؛ وعيسى ينزعج من ذلك، ويقلد الكأس ملامته هنالك، إلى أن صرح عبد الملك بما في نفسه، وألقى القدح، وأقبل يسبه ويغلظ له؛ فأحس عيسى بالشر، ورابه نظر القوم إلى العيون، وطفق يعتذر ويحتج في إبطال ما قرف به ويشد القسم على فساده، ويناشده في إراقة الدم، وعبد الملك لا يلتفت إليه، إلى أن اعتلى الكلام وكثر اللجب، فقبض عبد الملك على سيفه من جانب الفراش فصبه على عيسى، وقد قام فزعاً؛ فاستقبل وجهه بضربة، فسقط عيسى ثم أعاد عليه، وشاركه أصحابه بسيوفهم حتى هبروه، وحز رأسه ووضع جانباً. وأمر عبد الملك أيضاً بقتل صاحبيه ابن خليفة وابن فتح فهبرا بالسيوف، واختلط المجلس، ولحق كثيراً من أهله دهشة حملت بعض من كان بقربه من الأعاجم إلى أن رمى بنفسه في النهر هرباً من القتل، فطاح في اللجنة. وأمر برفع رأس عيسى بباب(1/127)
الزاهرة، وما زال هنالك إلى أن فتحت الزاهرة على يد ابن عبد الجبار المهدي، وذهبت الدولة العامرية.
وقام عبد الملك من ذلك المجلس، وأمر بتغيير ما وقع، ثم لم يعد إلى الشرب فيه - زعموا - حياته. وأنفذ في الوقت ثقات خدمه إلى منازل عيسى وأصحابه وكتابه، فاستصفى ما فيها وسجن أولاد عيسى الأكابر بمطبق الزاهرة، وأمر ابنه بطلاق أخت عبد الملك فطلقها، ولم تزل خليةً إلى أن ذهبت دولة قومها فراجعها. وكان الناس يحسبون مال عيسى التراب كثرةً. فما وجد له منه شيء؛ وتعجب الناس من ذلك، حتى إن أولاده إلى آخر أمرهم ما فارقهم الإقلال والمسغبة. وأعظم الناس قتل عيسى لجلالة قدره، وسار منهم إلى الزاهرة خلق عظيم ينظرون إلى رأسه.
قال ابن حيان: وكنت في جملة من نظر إليه، واستبنت الضربة بخده الأيمن. وكان أبو العلاء صاعد بن الحسن اللغوي منقطعاً إلى عيسى، فكان أول من أنشد عبد الملك، على سبيله من سرعة الانقلاب، شعراً يقول فيه:
فتلك هامته في الجو ناطقة ... تحدث الناس من آياتها عبرا
مكتوبة الوجه بالهندي يقرؤه ... من ليس يقرأ مكتوباً ولا سطراً(1/128)
ومن أغرب ما وردت به الرؤيا بعد قتله أن رجلاً من الصلحاء رأى في النوم كأن رأسه ينشد على الخشبة التي كان عليها:
بان الخليط وشفني وجدي ... وبقيت أندب ربعهم وحدي فآذنت الرؤيا ببين آل أبي عامر وصدقت إلى مديدة. انتهى ما لخصته من كلام ابن حيان في خبره.
ومن شعر أبي حفص بن برد، مما خاطب به أبا العلاء صاعداً بن الحسن اللغوي من أبيات يقول فيها:
أبا العلاء تعريض ذي مقة ... أهدى لك الود محضاً غير مقطوب
ناء بغربته والفهم نسبته ... وكم دني قصي في المناسيب
وصار في غربة الآداب مغترباً ... أما كفى الدهر عض دون تغريب
أولاك محمدةً من بعد تجربة ... لا يصلح الحمد إلا بعد تجريب
أنت الذي لم يعاشر مثله رجلاً ... في العلم والظرف والآداب والطيب
تحصيل فضلك للحساد معجزة ... وكنه عملك شيء غير محسوب
أما اللغات فلا يعقوب يبلغ ما ... وعيت منها ولا أشياخ يعقوب
[وأنت رب القوافي الشاردات به ... تحدى وسيقتها في كل أسلوب
إنا نناديك للجلى وأنت لها ... طب تعالج فيها كل مطلوب]
فهل شعرت ببدر طاف بي غلساً ... رخص البنان كحيل العين مخضوب(1/129)
أهدى إلى أرقٍ - لو حازها - سنةً ... لم تعد بي مزج تصديق بتكذيب
حياً تحية ذي أنسٍ بنا وجلا ... قناع وجهٍ طويل الصون محجوب
فقلت: أهلاً ورحباً، من هداك لنا ... ليلاً - فرد بتأهيل وترحيب
وقال: ماذا ترى - قلت: الغزالة في ... ثوب احمرار من الظلماء غربيب
قال: اتئد! قلت: قد أبصرتها قبلاً ... فقال: حلاً، فقلت: الحل مطلوبي
[قال: تحر فلا تشطط بنا سرفاً ... فقلت: ليس سوى التقصير مرغوبي]
ثم اعلمي أنني من حبكم دنف ... قالت: علمت فلا تخضع لمحبوب
قلت: الوصال، فقالت: مه بلى وعسى ... وفي عسى فرجة ترجى لمكروب
ثمت ولت فأبقت في الحشا ضرماً ... يذكو بدمع على الخدين مسكوب
فالآن فازجر أو اسجع إن هممت به ... كسجع شق أو الأفعى أو الذيب
هذي عبارتها فالأمر مشترك ... تلقى أفانينه طراً بتهذيب فأجابه أبو العلاء صاعد بأبيات يقول فيها:
لبيك ألفاً، أبا حفصٍ، إجابة من ... يد لي إليك بودٍ غير مأشوب
أبعد خمس وسبعين التحفت بها ... حتى قرعت لهذا الدهر ظنبوبي
رمينني بسهامٍ غير طائشةٍ ... حور زرين على صم الأنابيب
يا من يرقع بالآمال ما خرقت ... يدا الليالي، قبيح صبوة الشيب
ناديتني لخيالٍ عز طائفه ... إلا ليوم عصيب إذ تنادي بي
حتى أقيك شذا الأيام عن عضدٍ ... ملدد وحسام غير مخشوب
إياك والموعد الخوان تقبله ... فلا أمانة للعس المخاضب(1/130)
فاكتب على جمدٍ ما قد وأتك به ... وضعه في الشمس يذهب غير مصحوب
ولا تكونن قرحاناً نصبن له ... حتى عدون عليه عدوة الذيب
[الله في قلبك المزجور عن دده ... لا تسلمينه لتسهيد وتعذيب]
فقد نجوت وما صدقت فورته ... مهشم القدح مهضوم الأنابيب
شيخ الوزارة جني الكتابة إن ... ركبت منها طريقاً غير مركوب
فلا تسومن شيخاً طار طائره ... سوم الشبيبة في لهو الخراعيب
وأنت منفرد المضمار منصلت ... غمر البديهة رواض المصاعيب قوله: " ولا أمانة للعس المخاضيب " من قول كثير:
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين وقوله: " فاكتب على جمدٍ ... البيت، كقول ابن العميد:
متقلب يأتيك أثبت عهده ... كالخط يرقم في بسط الماء(1/131)
@فصل في ذكر الوزير الكاتب أبي المغيرة عبد الوهاب بن حزم،
@وإثبات ما تخيرت له من النثؤر والنظم، مع
@ما يتعلق به، ويذكر بسببه
قال ابن بسام: كان أبو المغيرة هذا ظبة الحسام، وواسطة النظام، وفارس ميدان البيان، وذات صدر الزمان، حل من زهر الفضائل، محل السنان من المعامل، والزبرقان من المنازل، وتمت به غرر المحامد، تمام الصلات بالعوائد، ومجهول اللغة بمعلوم الشواهد. ودولة عبد الرحمن بن هشامٍ المستظهر المتقدمة الذكر كانت مهبة الذي منه عصف، ومجاله الأول الذي فيه تصرف، ألقى إليه زمامه، وأخدمه أيامه؛ ثم عتب عليه في بعض الأمر، فلحق ببلاد الثغر، فهناك تسحب على الدول، تسحب الهوى على العذل؛ وامتزج بملوك العصر، امتزج الماء بالخمر، ولو طال مداه لم يذكر معه سواه، ولا اعترف بتفضيله أحبته وعداه.
نقلت من خط أبي مروان بن حيان قال:
ولحق أبو المغيرة ببلاد الثغر، وقد اعتلت طبقته في النظم والنثر، وكتب(1/132)
عن عدة من الأمراء، ونال حظاً عريضاً من دنياهم، إلا إنه اعتبط شاباً شاباً بعد أن ألف عدة تواليف، وشجر الأمر بينه وبين الفقيه أبي محمد بن حزم ابن عمه، وجرت بينهما هنات ظهر عليه فيها أبو المغيرة، وبكته حتى أسكته، لأنه كان أنبه من أنبه من أبي محمدٍ في حضور شاهده، وذكاء خاطره، وحسن هيئته، وبراعة ظرفه، وجودة أدبه، وهو كان في زمانه في الجد والهزل صاحب اللواء، في مجالس الأمراء، مستنجزاً للبيضاء، مقتضاً للشقراء، وتصور في قلوب الروساء فأجزلوا أرزاقه فعظمت صلاته وهباته؛ انتهى كلام ابن حيان.
قلت أنا: وقد أخرجت من رسائله العميدية، وقصائده اللبيدية، ومما جرى بينه وبين ابن عمه ما يسحر الألباب، ويبهر الشعراء والكتاب.
@جملة من رسائله في أوصاف شتى
كتب إليه أبو عليّ بن ربيب القروي رقعة يقول فيها:
إني فكرت في بلدكم أهل الأندلس إذ كان قرارة كل فضل، ومقصد كل طرفة، ومورد كل تحفة، إن بارت تجارة أو صناعة فإليكم تجلب، وإن كسدت بضاعة فعندكم تنفق، مع كثرة علمائه، ووفور أدبائه، وجلالة ملوكه، ومحبتهم للعلم(1/133)
وأهله، ورفعهم من رفعه أدبه، وكذلك سيرتهم في رجال الحرب يقدمون من قدمته شجاعته، وعظمت في الحروب، نكايته؛ فشجع عندكم بذلك الجبان، وأقدم الهيبان، ونبه الخامل، وعلم الجاهل، ونطق العيي، وشعر البكي، واستنسر البغاث، وتنثعبن الحفاث، وتنافس الناس في العلوم. ثم هم مع ذلك في غاية التقصير ونهاية التفريط، من أجل أن علماء الأمصار دونوا فضائل أعيانهم وقلدوا الكتب مآثر أقطارهم، وأخبار الملوك والأمراء، والكتاب والوزراء، والقضاة والعلماء، فأبقوا لهم ذكراً في الغابرين، ولسان صدق في الآخرين؛ وعلماؤكم مع استظهارهم على العلوم، كل امرئ منهم قائم في ظله لا يبرح، وثابت على كعبه لا يتزحزح؛ يخاف إن صنف أن يعنف أو تخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق، لم يتعب نفساً أحد منهم في مفاخر بلده، ولم يستعمل نقساً في فضائل ملوكه، ولا بل قلماً بمناقب كتابه ووزراءه، ولا سود قرطاساً بمحاسن قضاته وعلمائه؛ على أنه لو أطلق ما عقل الإغفال من لسانه، وبسط ما قبض الإهمال من بيانه، لوجد للقول مساغاً، ولم تضق عليه المسالك هنالك، ولكن هم كل أحد منهم أن يطلب شأو من تقدمه من رؤساء(1/134)
العلماء، ليحوز قصب السبق ويفوز بقدح ابن مقبل، ويأخذ بكظم دعبل، ويصير شجىً في حلق أبي العميثل: فإذا أدرك تلك البغية، وجاءته بعد المنية، دفن علمه معه، ومات ذكره، وانقطع خبره. ومن قدمنا ذكره من علماء الأمصار احتالوا لبقاء ذكرهم، فألفوا دواوين يبقى لهم ذكر يتجدد طول الأبد.
فإن قلت: إنه كان ذلك من علمائكم، وألفوا كتباً لكنها لم تصل إلينا، فهذه دعوى لم يصحبها تحقيق، لأنه ليس بيننا وبينكم إلا روحة راكب، أو دلجة قارب، لو نفث ببلدكم مصدور، لأسمع ببلدنا من في القبور، فضلاً عمن في الدور والقصور، وتلقوا قوله بالقبول، كما تلقوا ديوان ابن عبد ربه منكم الذي سماه ب - " العقد ". على أنه يلحقه فيه بعض اللوم، إذ لم يجعل فضائل بلده، واسطة عقده، ومناقب ملوكه يتيمة سلكه، لكنه أكثر وطول، وأخطأ المفصل، وأطال الهز بسيف غير مقصل، وقعد به ما قعد بأصحابه من ترك ما يعنيهم، وإغفال ما(1/135)
يهمهم: فأرشد أخاك - أرشدك الله - إن كان عندك في ذلك الجلية، وبيدك فصل القضية، إن شاء الله.
فراجعه أبو المغيرة برقعةٍ حذفت أكثر فصولها لطولها، منها:
أبقاك الله من حميمٍ صريح الود، أهدى تحيته على البعد، فإن الفهم رحم، والأدب ما بين أهله وسائل وذمم؛ وليس عدم الترائي والعيان، بقاطعٍ للأسباب والأقران، ولا تنائي الديار والمنازل، بقادحٍ في الأذمة والوسائل؛ فالكتاب عوض عن الكلام، والتواصل بالنفوس لا بالأجسام، وما زلت أتنسم ذكرك، فأترسم قدرك، وأسمع خبرك فأرى خبرك، حتى أرادت الأيام كشف الر، ورفع الستر؛ فوقفت على الصحيفة التي ظاهرها ديباج مرقوم، وباطنها لؤلؤ منظوم، ووشي محوك، وذهب مسبوك؛ فرأيت صور الأدب باهرة المرأى والعيان، شاهدةً لك بأذلق لسان، وأصدق بيان، أنك أبو عذرتها، ومالك جملتها، وواحد فنونها، ووارد معينها، وقادحة جناحها، وصبا رياحها، فسألت سؤال العالم، وبحثت بحث اليقظان المتغافل، وادعيت الحيرة وأنت أهدى في تلك الفلا، من فارط القطا، لتعلم أين المخطئ والمصيب، وكيف الجواب والمجيب؛ والله يوفق من المراجعة لما يرضيك، ويكون وفق أمانيك، وما أجهل أني على نفسي أبتهل بهذا الدعاء، لمن أسر حسواً في ارتغاء.(1/136)
فأول ما قدمت في كتابك ما يقدمه ذو الفضل والنبل في الثناء على بلدنا وأهله، ووصفت الجميع على اختلاف طبقاتهم، وتباين درجاتهم، من آرائهم التي نحوها، وعلومهم التي وعوها، بأوفر الأقسام، واحتلالهم من ذلك بالغارب والسنام؛ حتى عارض الجبان الأسد، وناطح الجوزاء الجلمد، وناطق الأعجم الفصيح، وبارى الجاهل العالم، وجارى القاعد القائم، تحاسداً على الفضائل. هذا معنى كلامك لم أورد ألفاظه، وإن أصميت أغراضه، إشفاقاً من أن أفضح كلامي به، وأدل على قصور آلتي بمجتلبه، فأكون كمن جمع بين الشبه والذهب، وقرن الدر إلى المخشلب؛ ثم قلت: إن ذكر الفتى عمره الثاني، والميت المجهول لا الفاني؛ فكم من هالك آثاره كاشفة عيانه، وواصفة قدره وشانه، وحي أثوابه كفنه، وجهله جننه. وهؤلاء الذي أنضيت في وصفهم جياد مدحك، وهتكت ظلامهم بغرة صبحك، على غير هذا الرأي مقيمون، وبخلاف هذا المذهب قائلون. فوليت في حيز وعزلت، وارتفعت في حال ونزلت، وأتيت بغاية المحال، وهو إثبات الضدين في حال، ثم زدت في التعليل، وبالغت في الاجتماع على التمثيل، باعتمادك تكذيب من قال: إن الذي قاله غيرك لو وقع لكان قرب المسافة التي هي شوط جارٍ، بل غمضة سارٍ، توجب حل الشك، وانجلاء الإفك؛(1/137)
فعجبت من أمنك مراجعاً لا يقصد في أدب المقابلة قصدي، ولا يعقد على سانح أخوتك عقدي؛ يجعل جوابك قول القائل:
لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي وغفراً غفراً لهذا العقوق؛ وخذه بإزاء قولك: تخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق. وعلى كل حال فقد نادينا لو أسمعنا، وطرنا لو وقعنا؛ وما أشبهنا بالغريبة التي خبرها يدفن، وشرها يعلن، يتعب أحدنا نفسه، ويرهف حسه، ويعارض السيف بفهمه، والبحر بعلمه، والنار بذكائه، والزمان بمضائه، ونتائج فكره محجوبة، وبنات صدره غير مخطوبة:
[إن يسمعوا ريبةً طاروا لها فرحاً ... عنه وما سمعوا من صالح دفنوا] وفي فصل منها: ولو لم يعلم لنا خبر، ولا ظهر منا أثر، وبقينا لا يعرف مكاننا، إلا بإخراج قسمة الأقاليم لنا، والحاجة في الجغرافيا إلى ذكر صقعنا، لكان عذراً في التقصير عن اشتهار الفضل لائحاً، وإن كان نهجنا إلى أخذه والعلم به واضحاً؛ وإن كنت بإطلاق قولك، قد(1/138)
جاهرتنا - وحقك - بالظلم مجاهرة أنا أعجب كيف انقاد كريم طبعك لها، وأعجب أيضاً من بخوعي لك، ووقوفي عن الانتصاف منك، وأنا أعلم أن عندكم لنا تواليف تطيرون بها، وأشهد بتقصير أربابها فيها؛ وإن وداً عقل لك لساني، ولم يجر إلا بما تؤثره وتختاره بناني، لود يفضح الروض في حزنه، برائق حسنه، ورضوى في هضبه، بثقل وزنه، ونوء السماك في هتنه، بوابل مزنه؛ وما هي إلا شيمة قديمة فيكم أهل الجهة الظاهرة أعلامها، الباهرة علومها وأفهامها.
قال ابن بسام: وخرج أبو المغيرة في رسالته هذه إلى التطويل، وبالغ في الاحتجاج بفصول، هي عادلة عن هذه السبيل؛ وختمها بذكر جملةٍ من تواليف أهل الأندلس، أضربت عن تسميتها لشهرتها.
وله فصل من رقعة: وعسى أن يكون شراء ذلك الديوان شراء التجار الأكياس، من المدبرين القائلين بارتضاع الكاس؛ وهمك أن يكون أبو الحسين وسيطك، وجماله شفيعك، فهو ممن كان له في الحسن لواء مرفوع، وحلة تزري بالوشي الصنيع، فعفى تلك الآثار ما سال من عذاره، وطمس ليل اللحية ما كان أشرق من نهاره؛ لا جرم لقد بقيت خيلان كالآثار الدالة على الديار، والحلي السقيط، المخبر عن بين الخليط؛ وإذا تأملتها قد اشتمل الشعر عليها، وزحف من كل جانب إليها، ذكرت قول أبي الطيب:(1/139)
برسوم كأنهن نجوم ... في عراص كأنهن ليال وله حديث ستستظرفه إذا سهلت له إذنك، وأعرت له أذنك.
وأبو المغيرة في دعابته هذه كما قرأته في فصل كتبه أبو عبد الرحمن ابن طاهر إلى الوزير ابن عبد العزيز مع غلام وسيم، قال فيه: هذا الفتى كما تراه يطلب خدمة، وبه حشمة، ويزعم أنه يحمل حمله، ويؤتي كل حين أكله؛ وقدماً عهدتك تحن إلى هذه العصافير، فإنها حمر الحواصل صفر المناقير.
وعرضت على أبي المغيرة رسالة بديع الزمان في الغلام الذي خطب إليه وده بعد أن عذر، وبقل وجهه وأزهر، فعارضها برقعةٍ يقول فيها: ورد كتابك تنشد ضالة ودنا، وترقع خلق عهدنا، وتطلب ما أفاتته جريرتك إلينا، وذهبت به جنايتك علينا، أيام غصنك ناضر، وبدرك زاهر، لا نجد رسولاً إليك غير لحظة تخرق حجاب الدموع، أو زفرة تقيم منآد الضلوع؛ فإن رمنا شكوى ينفث بها مصدورنا، أو يستريح إليها مهجورنا، لقينا دونها أمنع سد، وأفدح رد. وقلت: أهذا الطامع في أن يطالع القمر الطالع، والراغب في أن يصاحب النجم الثاقب - لشد ما زاد، وأبعد ما أراد! حاول تألف الظبي الشارد، وهصر الغصن المائد، بدمعة صبها، وزفرة شبها، أما علم أن لحظي سهم: القلوب أغراضه، وأني ظبي: النفوس رياضه - فننصرف عنك كما أتينا، ونقف كما جرينا، ونعود إلى نار الوجد بك نصلاها، ونار البعد عنك لا نبرح مغناها؛ حتى إذا طفئت تلك النيران، وانتصف منك الزمان(1/140)
بشعرات أغضت علالك كسوفاً، وقلبت ديباجك صوفاً، وأعادت نهارك ليلاً، وناحت عليك تلهفاً وويلاً، وأطار حمامك غرابها، وحجب ضياءك ضبابها؛ فصار عرسك مأتماً، وعاد وصلك محرماً:
وبت مداماً تسر النزيفا ... فأصبحت تجرع خلا ثقيفا
وصرت حجازاً جديب المحل ... وقد كنت للطالب الخصب ريفا أقبلت تنسل إلينا لواذاً، وتطلب منا عياذاً، قد أنساك ذل العزل عز الولاية، وأولاك طمعاً نسيانناً تلك الجناية، أيام ترشقنا سهام ألحاظك رشقاً، وتقتلنا سيوف ألفاظك عشقاً؛ وتميس غصناً، فتثير حزناً، وتطلع شمساً، فتغيب نفساً، خدودنا أرض نعالك، وصدورنا حد مجالك، ونفوسنا مهاد خبك، وقلوبنا ميدان حربك؛ فالآن نلقاك بدمعٍ قد جف، ووجد قد كف، وعزاء قد أيد، وصبر قد غار وأنجد، وهوىً قد أراح رواحله، وأطاع عاذله، وسلو قد قرب ركائبه، واسعد طالبه؛ وننظر منك إلى روضٍ قد صوح، وسار قد أصبح، وأعجم قد أفصح، ومبهم قد صرح؛ فلا شك وقد رفع الغطاء، ولا إفك وقد برح الخفاء، ولا لوم وقد وقع الجزاء؛ فهلا ذكرت المثل الممتهن: الصيف ضيعت اللبن، ونسيت من أحرقت قلبه صداً، وأقلعت خلبه رداً؛ وملأت حوانحه ناراً، وتركت نومه غراراً؛ أن يوفيك قرضاً، ويجازيك حتى ترضى، حين نكس علمك(1/141)
وعثرت قدمك، وضاقت طرفك، وأظل أفقك، وخوى نجمك، وخاب قدحك، وفل سيفك، وحط رمحك. فاطو ثوب وصلك، فلا حاجة لنا إلى لباسه، وازو طارق شخصك، فلا رغبة لنا في إيناسه، فما نشتهي اليوم زيارة رمس من زهد فينا أمس:
حانت منيته فاسود عارضه ... كما تسود بعد الميت الدار قوله: " وبت مداماً تسر النزيفا " ... البيت: أخذه ابن عبادة المعروف بابن القزاز، وأوجزه غاية الإيجاز فقال:
يا عقاراً صار خلاً ... وملاذاً للبعوض
سر فما لي فيك حظ ... كان ذا قبل الحموض
ما أبالي بعد أكل ال ... زبد من طرح المخيض والبيت الذي تمثل به أخيراً لعلي بن بسام البغدادي، من جملة أبيات قالها في أخيه جعفر، منها:
يا من نعته إلى الإخوان لحيته ... أدبرت والناس إقبال وإدبار
قد كنت ممن يهش الناظرون له ... تغض دونك أسماع وأبصار(1/142)
لله در فتىً ولت شبيبته ... وكل شيء له حد ومقدار
فيا لدهر مضى ما كان أحسنه ... إذ أنت ممتنع والشرط دينار
أيام وجهك مصقول عوارضه ... وللرياض على خديك أنوار
حانت منيته فاسود عارضه ... كما تسود بعد الميت الدار وكان ابن بسام هذا في أوانه، باقعة زمانه، لم يسلم منه عصره أمير ولا وزير، ولا من أهل بيته صغير ولا كبير؛ وكان أخوه جعفر الذي ذكر من أهل الجمال الفائق، وفيه يقول:
حان المنية يا أبا العباس ... فدع المكاس فلات حين مكاس
ما بال وجهك بعد كثرة نوره ... قد سودوه بحالك الأنقاس
أين الدنانير التي عودتها ... هيهات جاء الشعر بالإفلاس
كانت تجد ثيابه ديباجة ... فاستبدلت حلساً من الأحلاس
وكذا البناء فغير مرتفعٍ إذا ... كانت بليته من الآساس وهو القائل في أبيه وقد بنى داراً.
شدت داراً خلتها مكرمةً ... سلط الله عليها الغرقا
ورأيناك صريعاً وسطها ... ورأيناها صعيداً زلقا واشتهار شعره في أبيه وأخيه وأهل عصره، يمنعني عن ذكره؛ ويذكر الشي بالشيء إذا كان من واديه، أو نظر إلى ألفاظه أو معانيه.(1/143)
ولما اتفق أن يكون علي بن بسام هذا سمي، واجتمعت بالوزير أبي محمد عبد المجيد بن عبدون أول لقائي له بشنترين في جملة أصحاب المتوكل، فأول مجلس اجتمعت معه فيه، وسمع بعض الإخوان يدعونني باسمي، فقال لي: أنت علي ابن بسام حقاً - قلت: نعم، قال: أو تهجو حتى الآن أباك أبا جعفر وأخاك جعفراً - قلت له: وأنت أيضاً عبد المجيد - قال: أجل، قلت: وحتى الآن فيك ابن مناذر يتغزل - فضحك من حضر لهذا الجواب الحاضر. وخبر ابن مناذر مع عبد الوهاب الثقفي أوضح من أن يشرح. وكان من أجمل فتيان ذلك الأوان، وآدبهم وأظرفهم، فكلف به ابن مناذر وتعشقه، فاعتبط لعشرين سنة، فرثاه بذلك القصيد الفريد، الذي يقول فيه:
فلو إن الأيام أخلدن حياً ... لعلاء أخلدن عبد المجيد وأما صفات المعذرين من الغلمان، فقد جرت خيول فرسان هذا الشان، بهذا الميدان، وتفننوا في ذلك نثراً ونظماً، وتطاردوا فيه مدحاً وذماً. وممن ذمهم من أهل عصرنا عبد الجليل، حيث يقول:
وأمرد يستهيم بكل وادٍ ... وينصب للشجى خلداً صليبا
دعوت دعاء مظلوم عليه ... وكان الله مستمعاً مجيبا(1/144)
فطوقه الزمان بما جناه ... وعلق من عذاريه الذنوبا وأخذه أبو بكر الداني فقال:
بدا على خده عذار ... في مثله يعذر الكئيب
وليس ذاك العذار شعراً ... لكنما سره عجيب
لما أرق الدماء ظلماً ... بدت على خده الذنوب ولعبد الجليل في هذه الصفات عدة مقطوعات، فتح بها جراب السخف، ولم يستتر فيها من العقل بسجف؛ وقد كتبت من شعره في هذا الباب وسواه في القسم الثاني من هذا الكتاب بعض ما اخترناه.
ولم أسمع في ذم من عزل عن ولاية حسنه، أحسن من قول بعض أهل عصرنا وهو أبو الحسن البرقي في أبيات تستندر بجملتها وهي:
ألآن لما روضت وجناته ... شوكاً وأضحت سلوة العشاق
واستوحشت منك المحاسن واكتست ... أنوار وجهك واهي الأخلاق
أنشأت تبذل لي الوصال تصنعاً ... خلق اللئيم وشيمة المذاق
هلا وصلت إذ الشمائل قهوة ... وإذ المحيا روضة الأحداق
فلكم أطلت غام قلبٍ موجع ... كم ألب إليك بالأشواق(1/145)
ما كنت إلا البدر ليلة تمه ... حتى قضت لك ليلة بمحاق
لاح العذار فقلت: وجه نازح ... حتى قضت لك ليلة بمحاق ولأبي الحسن في هذه أيضاً عدة محاسن، إذ كان قد خلع عذاره في صفات المعذرين كقوله:
وأزهر حيا بريحانة ... تضوع من عرفها المندل
وزاد بنفسج أصداغه ... فقلت الزيادة قد تقبل وقال أيضاً:
بأبي الذي خط الجما ... ل بوجه لاماً ونون
وأظنته جعل المدا ... د سواد أحداق الجفون
خافوا عليه من العيو ... ن فعوذوه بالعيون وهذا كقول عبد الجليل:
معذرين كأنما بخدودهم ... طرق العيون ومنهج الأرواح
وكأنما صقلوا الجمال وأظهروا ... مشي النمال على متون صفاح وممن عني بهذا الوصف المعري، حيث يقول في ذكر السيف:
ودبت فوقه حمر المنايا ... ولكن بعدما مسخت نمالا(1/146)
قوال في موضع آخر:
ولا حسبت صغار النمل يمكنها ... سعي على اللج أو مشي على السعر وقال بعض أهل عصري وهو الوزير أبو محمد ابن عبد الغفور:
تريه المنايا الحمر فيه وجوهها ... مخاتلة الأرواح في صور الذر وقال أيضاً بعض أهل أفقنا:
جداول ماءٍ ما تسوغ لواردٍ ... ترى النمل غرقى فيه غير الأكارع وقد كرر عبد الجليل معنى بيته المتقدم فقال:
ومشت لحاظي في جوانب خده ... حتى أثرن بصفحتيه طريقا وقال أبو محمد بن سارة الشنتريني:
ومعذر رقت حواشي حسنه ... فقلوبنا وجداً عليه رقاق
لم يكس عارضه السواد وإنما ... نثرت عليه سوادها الأحداق وقال أيضاً بعض أهل عصري وهو ابن رباح أبو تمام الملقب بالحجام:(1/147)
يا لعبةً بذوي الألباب لاعبةً ... في أصل حسنك معنىً غير متفق
خلقت بيضاء كالكافور ناصعةً ... فصرت سوداء من مثواك في الحدق وهو أيضاً القائل في هذا المعنى:
وسدواء الأديم إذا تبدت ... ترى ماء النعيم جرى عليه
رآها ناظري فصبا إليها ... " وشبه الشيء منجذب إليه " وسمع الوزير أبو جعفر بن جرج من أهل أفقنا قول ابن الجهم:
وعائب للسمر من جهله ... مفضل للبيض ذي محك
قولوا له عني: أما تستحي - ... من جعل الكافور كالمسك - فعارضه بقوله:
وعائب للبيض ذي إفك ... معارض الكافور بالمسك
دع عنك هذا وانقلب خاسئاً ... ما النور مثل الظلم الحلك ثم ساعد ابن الجهم فقال:
غصن من الآبنوس أبدى ... من مسك دارين لي ثمارا
ليل نعيم أظل فيه ... للطيب لا أشتهي نهارا(1/148)
ولابن جرج أيضاً في مثله:
وسمراء باهى كلفة البدر وجهها ... إذا لاح في ليل من الشعر الجعد
محببة من حبة القلب لونها ... وطينتها للمسك والعنبر الورد وقال أبو علي ابن رشيق:
دعا بك الحسن فاستجيبي ... يا مسك في صبغة وطيب
تيهي على البيض واستطيلي ... تيه شباب على مشيب
ولا يرعك أسوداد لونٍ ... كمقلة الشادن الربيب
فإنما النور عن سوادٍ ... في أعين الناس والقلوب قال ابن بسام: وهذا من الكلام الرائق، المتأخر السابق، في تفضيل السواد على البياض، مع أن ابن الرومي لم يدع فيه لأحد من اعتراض، وقد كان قبله أبو حفص الشطرنجي قال:
أشبهك المسك وأشبهته ... قائمة في لونه قاعده
لا شك إذ لونكما واحد ... أنكما من طينة واحده ولما كانت شدة البياض مما يعاب، وأن أكف بعض السودان مشققة وأطرافهم ليست ناعمة لينة، وأن عرفهم خبيث مع الفلح الملازم لأوساط الشفاه، وسائر ما فيهم من هذه الأشباه، نفى ابن الرومي ذلك كله فقال يصف جارية عبد الملك بن صالح السوداء:(1/149)
سوداء لم تنتسب إلى برص الشقر ولا كلفة ولا بهق ... ليست من العبس الأكف ولا الفلح الشفاه الخبائث العرق ...
وبعض ما فضل السواد به ... والحق ذو سلم وذو نفق
ألا تعيب السواد حلكته ... وقد يعذب البياض بالبهق
أكسبها الحب أنها صبغت ... صبغة حب القلوب والحدق
فانصرفت نحوها الضمائر ال ... أبصار يعنقن أيما عنق ولما سمع ابن الرومي قول أبي نواس، وقد نبه نديماً لبلصبوح فأخبر عن حاله، وهو من جيد تشبيهاته:
فقام والليل يجلوه الصباح كما ... جلا التبسم عن غر الثنيات قال ابن الرومي في هذه القصيدة:
يفتر ذاك السواد عن يقق ... من ثغرها كاللآلئ النسق
كأنها والمزاج يضحكها ... ليل تفرى دجاه عن فلق وفضل كلام ابن الرومي على سواه، أنه قدم في التشبيه لمعناه مقدمة أيدته ووطأت له الآذان، وأصغت الأفهام إلى الاستحسان، وهي قوله: " يفتر ذاك السواد عن يقق " وكان سئل أن يستغرق في صفات محاسنها الظاهرة والباطنة فقال:
لها حر يستعير وقدته ... من قلب صب وصدر ذي حنق(1/150)
كأنما حره لذائقه ... ما ألهبت في حشاه من حرق
يزداد ضيقاً على المراس كما ... تزداد ضيقاً أنشوطة الوهق وفكر ابن الرومي فيما فكر فيه النابغة إذ أمره النعمان بوصف المتجردة فوصف ما يجوز ذكره من ظاهر محاسنها ثم كره أن يذكر من باطنها ما لا يسوغ لمثله أن يذكره منها، فرد الإخبار عن تلك الصفات إلى صاحبها وهو الملك فقال:
زعم الهمام بأن فاها بارد ... عذب مقبله شهي المورد الأبيات، فقال ابن الرومي:
وصفت فيها الذي هويت على ال ... وهم ولم انتبذ ولم أذق
إلا بأخبارك التي وقعت ... منك إلينا عن ظبية البرق
حاشا لسوداء منظر سكنت ... دارك إلا من مخبرٍ يقق ولما سمع الفرزدق يرثي امرأة توفيت حاملاً، حيث يقول:
وجفن سلاحٍ قد رزئت فلم أنح ... عليه ولم أبعث عليه البواكيا
وفي بطنه من دارم ذو حفيظةٍ ... لو أن المنايا أنسأته لياليا قال ابن الرومي:
أخلق بها أن تقوم عن ذكرٍ ... كالسيف يفري مضاعف الحلق(1/151)
إن حفون السيوف أكثرها ... أسود، والحق غير مختلق فزاد زيادة بينةً، وعبارةً واضحة، لم تفتقر إلى تفسير أصحاب المعاني، وبلغ من الإجادة، فوق الإرادة. ومناسبة الشعر في المعنى واللفظ كثيرة.
ونرجع إلى رسائل أبي المغيرة:
فصل من رقعة له: مؤدي كتابي هذا قصد حضرة الحاجب الفاضل، ولم يجد بداً من سبب واصل، إلى رجاء حاصل؛ وأنت هنالك في كل مطلب صالح، ومذهب راجح، الدلو والرشاء، والنهاية والابتداء؛ وللقرشيين ألسنة بالثناء فصاح، ومن أولاهم يداً فقد حمل محاسنه أجنحة الرياح، وكبها في غرة الصباح.
فصل من رقعة شفاعةٍ أيضاً:
إذا شرب روض الشكر، من حوض البر، أطلع من الزهر، ما يخجل مسك الطرر؛ وتنفس عن نسيم، يشفي حرارة القلوب الهيم، وبحسب القائل يكون المقال، وعلى قدر الجائل يتسع المجال، وأبو الربيع من علم لسانه إن قال، وبيانه قصر أو طال؛ وأنه أشد بناة الكلام حرصاً، إذا وجد آجراً وجصاً؛ وأعظم جياده تهافتاً، إذا وجد ميداناً متفاوتاً، فمن أوثقه براً، طوقه شكراً، ومن خلع عليه ثياب الفضل(1/152)
من طراز الإكرام، نزع إليه بجياد الحمد من مربط الكلام؛ ولم يزل يمري خلف الطلب، بيد الأدب، ويسري في ظلام الأمور، بسراج المنظوم والمنثور، حتى إذا رأى تلك الأسباب رثاثاً، وعاين مبرم وسائلها أنكاثاً، طلق عرس الشعر ثلاثاً، وصار لا يرى نجعة الأدب، ولو أوطأته على أرض الذهب؛ فمن سماه أديباً فقد عقه، أو وسمه بشاعر فقد أبطل حقه؛ حتى إذا لقي من كريم صوناً، وعلى ما يحاوله عوناً، ذكر فشكر، بثناء كالزهر، تحت أنداء السحر، وأمسك من الآداب، على هذا الذناب، ولولا أن يسر بهذا القدر ذا قدر، لصدق الحملة، ومحاها من صدره جملة، ونزع إلى تصوف يحمد فيه رأيه، ويجنيه ثمر العيش منه سعيه؛ فقد سئم تشبهه بالعيال، ودخوله تحت المنن السابغة الأذيال. وغرضه منك - أعزك الله - رأي أصيل، وإرشاد جميل، وتأنيس يسهل به وعر الزمان، ويثني إليه - إن شاء الله - شارد الأمان.
وله من أخرى: أعزك الله - في الاحتماء حسم الداء، ولا عدو للإنسان إلا نفسه، ولا حية ولا عقرب إلا جنسه؛ وليس في الحيوان، أخبث في ذاته من الإنسان؛ فالاحتراس كل الاحتراس، والمعاشرة الجميلة للناس؛ فأبصر بصيرتك، وأحسن سريرتك، ولا تلدغن من جحر مرتين، واذكر المثل السائر في اللاعب بين وتدين؛(1/153)
والعاقل من حمله كل بلد، ونفق عند كل أحد، وأعقل منه من عرف الناس ولم يعرفوه، فاستراح من أجنبي متكلف، أو قريب غير منصف، ولم يفتقر إلا إلى ربه، ولم يأنس إلا بنور لبه.
وله من أخرى:
فالأرض قد نشرت ملاءها، وسحبت رداءها، ولبست جلبابها، وتقلدت سخابها، وبرز الورد من كمامه، واهتز الروض لتغريد حمامه؛ والأشجار قد نشرت شعورها وهزت رؤوسها، والدنيا قد أبدت بشرها وأماطت عبوسها؛ وكأن بها قد أطلعت من كل ثمر ضروباً، وأبدت من جناها منظراً عجيباً؛ وإن كنا لا نشارك في تلك إلا بالعيان لا باللسان، وبالطرف لا بالكف، وننالها بالاختلاس لا بالأضراس؛ وللدهر قسم من أقسام اللذة، وصنف من أصناف الشهوة:
شهدنا إذ رأيناهم فإنا ... على اللذات في الدنيا شهود وحالي حال للسقام بها اتصال، وللصحة عنها انفصال، يعين على ذلك ضعف البنية، وفساد الأهوية، والتخليط في الأغذية؛ وبعض صلاحها بل كله تعجيلك مطالعتي بحالك، لأسكن إلى ما أوثره من ذلك، وشفع لي بخبر فلان، واشرح لي من خبر فلان، وأين بلغ من تكسبه، وحيث انتهى من تطببه، وكيف ظروفه وخزائنه(1/154)
ولعوقاته ومعاجنه، وهل ينفذ طبه، وينفق بختجه وحبه؛ وصف لي ما يقوله على الماء، ويبديه من الأدواء، وأهد إلي ما ينمقه من المقال، على الكبد والطحال، ويرقشه من الكلام، في الفالج والزكام؛ فالحمد لمن قرن له ذلك إلى القيام بشريعة الإسلام، والتمهر في الأحكام، ومعرفة الحلال والحرام، والفلج عند الجدال والخصام.
وله من أخرى:
فكم ليث كامن في غابه، سمعت صريف أنيابه، وقفر أنست في يبابه، إلى عواء ذئابه؛ لا أمر إلا باللص المستلب، ولا ألقى غير الخارب المنتهب؛ وشعاري عند النائبة ألقاها قأتخطاها، والنازلة أراها فاتعداها، قول أبي الطيب:
فإن أسلم فما أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام وأنا أرقب من الزمان صنيعه، وأنتظر الحمام وأتخيل وقوعه؛ وهو يذهب بي إلى قبلة الآمال وأنا لا أصدق، ويسوقني إلى محط الرحال وأنا لا أحقق، ويؤم بي البحر الذي لا تحصى فوائده، والغيث الذي لا يخيب رائده؛ وهللت إحماداً لما سقطت عليه، وعلمت أني في الحرم الذي لا يوطأ رحابه، ولا يطار غرابه، ولا يخضد شجره(1/155)
ولا يمنع ثمره، ولم ألبث ن نزلت باليفاع الخصيب، وتمكنت من الرشاء والقليب.
وفي فصل: وما أعلم نائبةً كفراقك أهد لمتن، ولا نازلةً كنأيك أجلب لحزن، وما كنت أريم ربعك لو كان لي الخيار، ولا أبرح منزلك لو ساعدتني الأقدار.
لقد كنت أدركت المنى غير أني ... يعيرني قومي بإدراكها وحدي وله فصل من أخرى:
لم أزل أزجر للقاء سيدي السانح، وأستمطر الغادي والرائح، وأروم اقتناصه ولو بشرك المنام، وأحاول اختلاسه ولو بأيدي الأوهام، وأعاتب الأيام فلا تعتب، وأقودها إليه فلا تحصب. حتى إذا غلب الياس، وشمت الناس، وضربت بي الأمثال، فقيل أكثر الآمال ضلال؛ تنبه الدهر من رقدته، وحل من عقدته، وقبل مني، وأظهر الرضى عني؛ وقال دونك ما جمح، فقد سمح؛ وإليك فقد دنا، ما كان في المنى؛ فطرت بجناح الارتياح، وركبت إلى الغمام كواهل الرياح؛ وقلت فرصة تغتنم، وركن يستلم، وطرقت روضة العلم عميمة الأزاهر، فصيحة الطائر، ريا الجداول، باردة الضحى والأصائل، وطفت بكعبة الفضل مصونة الحبر، ملثومة الحجر، عزيز المقام، معمورة المشعر الحرام، فما شئت من محاضرة تجمع بين الدنيا والآخرة، بين يدي نثر يري الإعجاز، ونظمٍ ما أشبه الصدور بالأعجاز(1/156)
وحديث تقف العقول بإزائه، وتروى بصافي مائه. فحين شمخ بالظفر أنفي، واهتز لنيل الأمل عطفي؛ والدهر يضحك سراً، ويتأبط شراً؛ وقد أذهلني الجذل عن سوء ظني به، وأوهمني نزوعه عن ذميم مذهبه، آلت ألوانه، وفسا ظربانه، ونادى ليقم من قعد، وينتبه من رقد. إنما فترت تلك الفترة، ليكون ما رأيت عليك حسرة وسمحت لك مرة، لتذوق من الأسف عليها كأساً مرة. فرأيت وقد كان غطي على بصري، وعقلت وكنت في عمياء من خبري؛ وقلت: هذا الذي أعهده من لؤمه، وأعرفه من شؤمه، ما وهب إلا سلب، ولا أعطى إلا ساعات كإبهام القطا؛ فيا له من قادر ما ألأم قدرته، وذابح ما أحد شفرته! ولو تسلط علينا من يظهر إلينا شخصه، لأدركته رماحنا، وعصفت به رياحنا؛ وطاح بين موتورين منا: قاصد أبوه قحطان، ومقصوده أبوه كسرى أنو شروان. وما ظنك بصريخ يثوب إليه من يعرب ثائبها، ومن بني ساسان كسرى حفت به مرازبها؛ لكنه أمير من وراء سجف، يسعى بلا رجل ويصول بلا كف.
وهذا محلول من قول أبي الطيب حيث يقول:
وما الموت إلا سارق دق شخصه ... يصول بلا كف ويسعى بلا رجل وأخذه المعتمد بن عباد فقال:(1/157)
ولكنها الأيام تردي بلا ظباً ... وتصمي بلا نبل وترمي بلا يد وهو معنى متداول مشهور، وهو في نثرهم ونظمهم كثير. وفي هذه الرسالة لفاظ كثيرة، حلها من معقود الشعراء أبو المغيرة، منها قول محمد بن هانئ الأندلسي:
وركبت شأو مآرب ومطالب ... حتى امتطيت إلى الغمام الريحا وله: قد أغنى الله ما يشاء بتمكن بنياته، وثبات أركانه، عن تعاطي القول في تقريظه ووصفه، ورأيت ما هززت مني في خدمة إرادتك ماضي الحز، لين المهز، لو صادف مضرباً ووقع على محز، وإذا احتجت إلى دليل على معتقدي في تأتي أوطارك ومآربك، وحظي في شعب أنحائك ومذاهبك، فالجزء أصغر من الكل. مفتقر إلى البرهان، وكل مقدمة موجودة بالعقل محتاجة إلى الشرح والبيان، وإذا كانت حالنا مبنية على هذا الأبس، وثبتت صورته هذه في النفس، فقد عييت إذا قصرت بي الأقدار، عن موقف الاعتذار.
وله من أخرى:
وأما فلان فالكلام وإن طال فيه قصير، والواصف دون بلوغ مداه حسير، لله أبوه، صحة إخاء، ومحض وفاء، وحسبك أنه في الرعيل(1/158)
الأول من إخواني، وفي الصدر المقدم ممن أثق به من أهل زماني، وإن كان فيهم ذو السرو والفضل، والنباهة والنبل.
وكل له فضله، والحجول ... يوم التفاضل دون الغرر
وليالي الخريف خضر ولكن ... زهدتنا فيها ليالي الربيع وله من أخرى:
وإن رأيت تأنيسي بكتايب أجتلي منه وجوه البدور، وجواهر النحور، ودرر الثغور، وأجتني به ثمر السرور، وارتع منه في رياض العلوم، ما بين منثور ومنظوم، نفست من خناق مشتاق كئيب، وأنست من وحشة منفرد غريب، بحيث لا أخ كريم، ولا ولي حميم، فقد صرت، ولا أحيل على الأثر بعد العين، كما قال أحمد بن الحسين:
ما مقامي بأرض نخلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود وعرفني بعلو مكارمك، ووضوح معالمك، في درج كتابك، وطي خطابك، بحالي شقيقي في النسب، وشفيعي في الأدب، أبي فلان وفلان:
هم الذين أذاقوني مودتهم ... حتى إذا أيقظوني في الهوى رقدوا ولله أيام جلا لي الدهر شخصيهما شجني نور، بقلوب أسد(1/159)
وألحاظ صقور، إذ كنت كالعروس وهما قرطاي، أو كالفلك الدوار وهما قمراي، وأنسنا كالمشتري نازلاً ببرج القوس، وسعدنا كسعد محتبياً بين الخزرج والأوس.
وله من أخرى يخاطب بها عن نفسه الفقيه أبا عمر ابن عبد البر:
ولقد بقيت حالي بعدك مريضة، وعين آمالي مغضوضة، وأيدي أنسي مقبوضة، وجيوش صبري عنك مفضوضة؛ فقد كان ذلك البعد الطويل أحدث بعض السلوان، وأتى بما في طبيعة الإنسان من النسيان، وإن كان عذا القول لا يقال على الإطلاق، بل على الإضافة لما في الحال بحديث الافتراق، حتى إذا وقع اللقاء تأجج من ذلك الالتياع خامده، وثار راكده، وسال جامده، وكانت حالنا ما قال أبو الطيب:
افترقنا حولاً فلما التقينا ... كان تسليمه علي وداعا وله من أخرى:
بانعكاس الزمان، انعكست أمثال البيان، كما يروى في خبر الفتى المدعي للكتابة عند عمرو بن مسعدة، أنه عاياه بكتاب من عند(1/160)
صاحب البريد بخبر بقرة ولدت غلاماً، فأنشأ خطبة مفتتحها: الحمد لله خالق الأنام في بطون الأنعام. فجذب الرقعة من يده، وبالغ في إجزاك صفده. وإذا تأملت انقلاب الزمان، وما وقع لي مع فلان، انقلبت الخطبة فصارت: الحمد لله خالق الأنعام في بطون الأنام. وأبدأ بحديث اليهودي موصل كتابك: دخل الحضرة عقب جولة كانت لي مع ابن مخامس - حشر الله كليهما مع صاحبه - فوالله لا أعلم حال من منهما أضعف وأظلم، أحال اليهودي بمضادة الدين، أم حال هذا المسلك - فوافى وقد كشفت عوراته، وما زالت مكشوفة، وعرفت سوآته، وما زالت معروفةً، إخباراً عنه، وتحذيراً منه، وإعلاماً بما يستره ذيله، ويشتمل عليه ليله، من قبائح يمليها العار، ويكتبها الليل والنهار.
وفي فصل منها:
وجاء في مقدمة صهر يصهر به جنبه، وفي نكاح ينكح الردى منه قلبه، يمشي مشي من جمع بين المشتري والزهرة، لا مشي من سعى لتركيب حر على كمرة، وأي درةٍ حاول إخراجها من صدفة، ما أشبه النكرة هاهنا بالمعرفة، قبح الله زماناً يقرب إلى اللئيم حصاناً، وإلى الكريم أتاناً.
وله من أخرى، خاطب بها الفقيه أبا محمد بن حزم أثبت منها بعض الفصول فراراً من التطويل، وافتتحها ببيتي أبي نواس:
ألا لا أرى مثل امترائي في رسم ... توهمه عيني ويرفضه وهمي(1/161)
أنت صورة الأشياء بيني وبينه ... فظني كلا ظن وعلمي كلا علم وقفت - كلاك الله - وأنت عين التمام، وعلم الأعلام، على كتاب عنوانه باسمك أسمال، كأنه طلل بالٍ؛ فكلما هززته هوم، أو سألته استعجم؛ معنى كصدى الإنسان، ولفظ كمنهجات الأكفان؛ وأغراض لا يدب فيها سهم مقرطس، وإظلام لا وضح فيه لصبح متنفس، ورطانة تمجها الأسماع، وتجتويها الطباع، فأقمت متبلداً، وعدت على نفسي وقريحتي متردداً، فقالتا: أفق أيها الإنسان، لست بالنبي سليمان، متى وعدناك أن نفهمك كلام الحكل وسرار النمل -! ألم نسلك بك في شعاب الكلام فتغلغلت - ألم تسر في صحرائه بنا فأوغلت - ألم تجر في ميدانه فسبقت - ألم تنر في ظلمائه فأشرقت - هل أحسست بنكول جنان، أو قصور لسان، فيما نظمت كالعقود، على ترائب الفتاة الرود، ونثرت كالنجوم، في صفحة الليل البهيم - قلت: بلى؛ قالتا: فأعرض عن رطانة الزط، وصفير البط، ولا تعج على طللٍ بائد، ودار قد أتى الله بنيانها من القواعد، فقلت: أسرفتما طاغيتين، إن كاتب الصحيفة لندرة الزمان، ولعلم نوع الإنسان، إلا أنه ربما كذب العنوان، ونحل ذلك الهذيان؛ فأعدت النظر، فإذا بك أبا محمد صاحبه، كتاب مبني على الظلم العبقري، والبهتان الجلي، ومكابرة العيان، ومدافعة البرهان، قد طمس(1/162)
الله أنواره، وأظهر عواره، فجاء كالفلاة العوراء، لا ماء ولا شجر، والليلة الظلماء، لا نجم ولا قمر.
وفي فصل منها:
فاستقصرت من دفع إليّ كتابك فقلت: من لي بمثل غاشيتك من هذه العصابة، وبأشباه الملمين بك من تلك البابة، ونسيت أبا محمد حاشيتك وشيعتك، التي صرت رئيس مدراسهم، وكبير أحراسهم، تحدثهم عما كان فيهم من العبر، وتخبرهم بما تعاقب عليهم من الصفا والكدر؛ فتارةً عن السامري والعجل، وتارة عن القمل والنمل، وطوراً تبكيهم بحديث التيه، وطوراً تضحكهم بقوم جالوت وذويه؛ حتى كأن التوراة مصحفك، وبيت الحزان معتكفك، وأنا بمعزل، وأنت تحدث وتعزل؛ وتعجبت من حرصي، ونسيت نفسك أبا محمد، حين قطعت البيداء تبلك السماء، وترعدك الجربياء، في وقت تكمن فيه أنواع الحيوان، وأحقها بالكمون نوع الإنسان، لترث حياً قائماً على حاله، مالكاً لماله، يدعو الله عليك، أن استطلت عمره، ونعيت إليه نفسه.
وفي فصل منها:
ومن ظريف ما في كتابك قولك: أقصرها وأتأخها. ومن أين نفذ(1/163)
أبصرك، حتى همزتها همز عامر بن الطفيل قرنه في سواد الليل، وما ظنك جعلتها إلا تميمة، لتلك القطعة الكريمة، امتثالاً لقول القائل:
ما كان أحوج ذا الكمال إلى ... عيبٍ يرقيه من العين ومن ذلك بأن نصبر عليك، ونتأنى بك، وهذا الجواب كما تراه ابن الوقت ونتيجة الساعة، ونفثة من لا يخرج له الكلام عن طاعة، ومن تشغله عن التفاسير كلف السلطان، وتثقله أعباء الزمان، كاد ينتقش في ظهر كتابك قبل حصوله بيدي:
فقل فيما يجن عليه ليل ... ويمضي في صياغته نهار
هنالك تظهر الآيات حتى ... يقال تناثر الفلك المدار فراجعه الفقيه أبو محمد برقعةٍ قال فيها:
سمعت وأطعت لقوله تعالى: {وأ " رض عن الجاهلين} ، وسلمت وانقدت لحديثه عليه السلام: " صل من قطعك، واعف عمن ظلمك "، ورضيت بقول الحكماء: " كفاك انتصاراً ممن تعرض لأذاك إعراضك عنه "، وأقول:
تبغ امرءاً يبتغي ... سبابك، إن هواك السباب
فإني أبيت طلاب السفاه ... وصنت محلي عما يعاب
وقل ما بدا لك من بعد ذا ... وأكثر فإن سكوتي جواب(1/164)
وأقول:
كفاني ذكر الناس لي ومآثري ... ومالك فيهم يا ابن عمي ذاكر
عدوي وأشياعي كثير كذاك من ... غدا وهو نفاع المساعي وضائر
وما لك فيهم من عدوٍ فيتقى ... وما لك فيهم من صديق يكاثر
وقولي مسموع له ومصدق ... وقولك منبت مع الريح طائر
وإني وإن آذيتني وعققتني ... لمحتمل ما جاءني منك صابر فوقع له أبو المغيرة على ظهر رقعته: قرأت هذه الرقعة العاقة فحين استوعبتها أنشدني:
نحنح زيد وسعل ... لما رأى وقع الأسل فأردت قطعها، وترك المراجعة عنها، فقالت لي نفس قد عرفت ذكاءها: تالله لا قطعتها إلا يده! فأثبت على ظهرها، ما يكون سبباً لصونها، وقلت:
نعقت ولم تدر كيف الجواب ... وأخطأت حتى أتاك الصواب
وأجريت وحدك في حلبةٍ ... نأت عنك فيها الجياد العراب
وبت من الجهل مستنبحاً ... لغير قرىً فأتتك الذئاب
لعمرك تبينت عقبى الظلوم ... إذا انتفضت في الخميس العقاب
أنيل المنى والظبا سخط ... وأعطي الرضى والعوالي غضاب(1/165)
وأقول:
وغاصب حق أوبقته المقادر ... " يذكرني حاميم والرمح شاجر "
غدا يستعير الفخر من خيم خصمه ... ويجهل أن الحق أبلج ظاهر
ألم تتعلم يا أخا الظلم أنني ... برغمك ناه منذ عشر وآمر
تذلل لي الأملاك حر نفوسها ... وأركب ظهر النسر والنسر طائر
وأبعث في أهل الزمان شوارداً ... تألفهم وهي الصعاب النوافر
فإن أثو في أرض فإني سائر ... وإن أنأ عن قوم فإني حاضر
وحسبك أن الأرض عندك خاتم ... وأنك في سطح السلامة عاثر
إذا كنت في ظهر من العدل منجداً ... فإنك في بطن من الجور غائر
ولا لوم عندي في استراحتك التي ... تنفس عنها والخطوب فواقر
فإني للحلف الذي مر حافظ ... وللنزغة الأولى لحاميم ذاكر
هنيئاً لكل ما لديه فإنها ... عطية من تبلى لديه السرائر [قول أبي المغيرة: " فإن أثو في أرض " ... البيت، أخذه من قول البحتري:
وشهرت في شرق البلاد وغربها ... فكأنني في سوسط نادٍ جالس قال ابن بسام: وكان نقش خاتم أبي محمد:
يا علي بن أحمد ... اتق الله ترشد فقال له أبو المغيرة: " عليك بفحص التيه " ... البيت] .(1/166)
وإذا انتهى بنا القول إلى ذكر أبي محمد بن حزم، فأنا ألمع في هذا الموضع بلمعةٍ من خبره، حتى أدل على عينه بأثره؛ فإنه كان كالبحر لا تكف غواربه، ولا يروى شاربه.
وقد وجدت للشيخ أبي مروان بن حيان فصلاً أورد فيه ذكره، وجرده - زعم - لشرح أمره، وأنا أثبته بأسره.
قال ابن حيان: كان أبو محمد حامل فنون من حديث وفقه وجدل ونسب، وما يتعلق بأذيال الأدب، مع المشاركة في كثير من أنواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة. وله في بعض تلك الفنون كتب كثيرة، غير أنه لم يخل فيها من الغلط والسقط، لجرأته في التسور على الفنون لا سيما المنطق، فإنهم زعموا أنه زل هنالك، وضل في سلوك تلك المسالك، وخالف أرسطاطاليس واضعه مخالفة من لم يفهم غرضه، ولا ارتاض في كتبه، ومال به أولاً النظر في الفقه إلى رأي أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي وناضل عن مذهبه، وانحرف عن مذهب غيره، حتى وسم به، ونسب إليه، فاستهدف بذلك لكثير من الفقهاء وعيب بالذوذ، ثم عدل في الآخر(1/167)
إلى قول أصحاب الظاهر، مذهب داود بن علي ومن اتبعه من فقهاء الأمصار، فنقحه ونهجه وجادل عنه، ووضع الكتب في بسطه، وثبت عليه إلى أن مضى لسبيله، رحمه الله.
وكان يحمل علمه هذا ويجادل من خالفه فيه، على استرسال في طباعه، ومذل بأسراره، واستنادٍ إلى العهد الذي أخذه الله على العلماء من عباده، ليبيننه للناس ولا يكتمونه؛ فلم يك يلطف صدعه بما عنده بتعريض، ولا يزفه بتدريج، بل يصك به معارضه صك الجندل، وينشقه متلقيه إنشاق الخردل، فينفر عنه القلوب، ويوقع بها الندوب، حتى استهدف إلى فقهاء وقته، فتمالأوا على بغضه، وردوا قوله، وأجمعوا على تضليله، وشنعوا عليه، وحذروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا عوامهم عن الدنو إليه والأخ عنه، فطفق الملوك يقصونه عن قربهم، ويسيرونه عن بلادهم، إلى أن انتهوا به منقطع أثره بتربة بلده من بادية لبلة، وبها توفي رحمه الله سنة ست وخمسين وأربعمائة، وهو في ذلك غير مرتدع ولا راجع إلى ما أرادوا به، يبث علمه في من ينتابه بباديته تلك، من عامة المقتبسين(1/168)
منه، من أصاغر الطلبة الذين لا يخشون فيه الملامة، يحدثهم ويفقههم ويدارسهم ولا يدع المثابرة على العلم، والمواظبة على التأليف، والإكثار من التصنيف، حتى كمل من مصنفاته في فنون العلم وقر بعيرٍ، لم يعد أكثرها عتبة بابه لتزهيد الفقهاء طلاب العلم فيها، حتى أحرق بعضها بإشبيلية ومزقت علانية، لا يزيد مؤلفها ذلك إلا بصيرة في نشرها، وجدالاً للمعاند فيها، إلى أن مضى لسبيله.
وأكثر معايبه - زعمول - عند المنصف له، جهله بسياسة العلم التي هي أعرض من إيعابه، وتخلفه عن ذلك على قوة سبحه في غماره؛ وعلى ذلك كله فلم يكن بالسليم من اضطراب رأيه، ومغيب شاهد علمه عنه عند لقائه، إلى أن يحرك بالسؤال فيفجر منه بحر علم لا تكدره الدلاء، ولا يقصر عنه الرشاء، وعلى كل ما ذكرناه دلائل ماثلة، وأخبار مأثورة.
وكان مما يزيد في شنآنه تشيعه لأمراء بني أمية، ماضيهم وباقيهم بالمشرق والأندلس، واعتقاده لصحة إمامتهم، وانحرافه عمن سواهم من قريش، حتى نسب إلى النصب لغيرهم.(1/169)
وقد كان في غرائبه انتماؤه في فارس، واتباع أهل بيته له في ذلك بعد حقبة من الدهر تولى فيها أبوه الوزير المعقل في زمانه، الراجح في ميزانه، أحمد بن سعيد بن حزم لبني أمية أولياء نعمته، لا عن صحة ولاية لهم عليه، فقد عهده الناس خامل الأبوة، مولد الأرومة من عجم لبلة، جده الأدنى حديث عهد بالإسلام، لم يتقدم لسلفه نباهة، فأبوه أحمد على الحقيقة هو الذي بنى بيت نفسه في آخر الدهر برأس رابيةٍ، وعمده بالخلال الفاضلة من الرجاحة والمعرفة والدهاء والرجولة والرأي، فاغتدى جرثومة شرف لمن نماهم، أغنتهم عن الرسوخ في أولي السابقة، فما من شرف إلا مسبوق عن خارجية، ولم يكن إلا كلا ولا، حتى تخطى علي هذا رابية لبلة، فارتقى قلعة إصطخر من أرض فارس، فالله أعلم كيف ترقاها، إذ لم يكن يؤتى من خطلٍ ولا جهالة، بل وصلة بها وسع علمٍ ووشيجة رحمٍ معقومة بلها بمستأخر الصلة، رحمه الله، فتناهت حاله مع فقهاء عصره إلى ما وصفته، وحسابه وحسابهم على الله الذي لا يظلم الناس مثقال ذرةٍ، عزت قدرته.
ولهذا الشيخ أبي محمد مع يهود لعنهمومع غيرهم من أولي المذاهب المرفوضة من أهل الإسلام مجالس محفوظة، وأخبار مكتوبه؛ وله مصنفات في ذلك معروفة، من أشهرها في علل الجدل كتابه المسمى: " الفصل بين أهل الآراء والنحل ". ومن تواليفه " كتاب الصادع والرادع " [في الرد] على من كفر أهل التأويل من فرق المسلمين والرد على من قال بالتقليد. وله كتاب في شرح حديث الموطأ والكلام على مسائله؛ وله " كتاب الجامع " في صحيح الحديث باختصار الأسانيد، والاقتصار على(1/170)
أصحها واجتلاب أكمل ألفاظها وأصح معانيها؛ و " كتاب التلخيص والتخليص " في المسائل النظرية وفروعها التي لا نص عليها في الكتاب ولا في الحديث. و " كتاب منتقى الإجماع وبيانه من جملة ما لا يعرف فيه اختلاف "، وكتاب " الإمامة والسياسة " في قسم سير الخلفاء ومراتبها والندب إلى الواجب منها، و " كتاب أخلاق النفس "، وكتابه الكبير المعروف ب - " الإيصال إلى فهم كتاب الخصال "، وكتاب " كشف الالتباس، ما بين أصحاب الظاهر وأصحاب القياس "؛ إلى تواليف غيرها، ورسائل في معان شتى كثير عددها.
ومن شعره يصف ما أحرق له من كتبه ابن عباد قوله:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي ... تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي ... وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
دعوني من إحراق رق وكاغد ... وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري
وإلا فعودوا في المكاتب بدأةً ... فكم دون ما تبغون لله من ستر وله:
من ظل يبغي فروع علم ... بدءاً ولم يدر منه أصلا
فكلما ازداد فيه سعياً ... زاد لعمري بذاك جهلا(1/171)
وقال:
كأنك بالزوار لي قدر تبادروا ... وقيل لهم أودى علي بن أحمد
فيا رب مخزون هناك وصحاك ... وكم أدمع تذرى وخد مخدد
عفا الله عني يوم أرحل ظاعناً ... عن الأهل محمولاً إلى بطن ملحد
وأترك ما قد كنت مغتبطاً به ... وألقى الذي آنست دهراً بمرصد
فوا راحتي إن كان زادي مقدماً ... ويا نصبي إن كنت لم أتزود ويا لبدائع هذا الحبر علي لبن حزمٍ وغرره! ما أوضحها على كثرة الدافنين لها، والطامسين لمحاسنها! وعلى ذلك فليس ببدع فيما أضيع منه، فأزهد الناس في عالم أهله، وقبله أردى العلماء تبريزهم على من يقصر عنهم، والحسد داء لا دواء له؛ انتهى ما لخصته من كلام ابن حيان في خبره.
قلت أنا: ولعمري ما عقه، ولا بخسه حقه. وأخبرني الفقيه الحافظ أبو بكر ابن الفقيه أبي محمد ابن العربي عن الفقيه أبي عبد الله الحميدي قال: كان لشيخنا الفقيه أبي محمد بن حزم في الشعر والأدب نفس واسع، وباع طويل، وما رأيت أسرع بديهةً منه؛ وشعره كثير، وقد جمعته على حروف المعجم، ومنه ما كتب عنه:
هل الدهر إلا ما رأينات وأدركنا - ... فجائعه تبقى ولذاته تفنى
إذا أمكنت فيه مسرة ساعةٍ ... تولت كمر الطرف واستخلفت حزناً
إلى تبعات في المعاد وموقفٍ ... نود لديه أننا لم نكن كنا(1/172)
حصلنا على همٍ وإثم وحسرةٍ ... وفات الذي كنا نلذ به عنا
حنين لما ولى، وشغل بما أتى ... وغم لما يرجى، فعيشك لا يهنا
كأن الذي كنا نسر بكونه ... إذا حققته النفس لفظ بلا معنى قال: وله أيضاً من قصيدة خاطب بها قاضي الجماعة بقرطبة عبد الرحمن ابن بشر يفخر فيها بالعلم، ويذكر أصناف ما علم، يقول فيها:
أنا الشمس في جو العلوم منيرةً ... ولكن عيبي أن مطلعي الغرب
ولو أنني من جانب الشرق طالع ... لجد على ما ضاع من ذكري النهب
ولي نحو أكناف العراق صبابة ... ولا غرو أن يستوحش الكلف الصب
فإن ينزل الرحمن رحلي بينهم ... فحينئذ يبدو التأسف والكرب
فكم فائل، أغفلته وهو حاضر ... وأطلب ما عنه تجيء به الكتب
هنالك يدري أن للبعد قصةً ... وأن كساد العلم آفته القرب
فواعجبا من غاب عنهم تشوقوا ... له ودنو المرء من دارهم ذنب
وإن مكاناً ضاق عني لضيق ... على أنه فيح مذاهبه سهب
وإن رجالاً ضيعوني لضيع ... وإن زماناً لم أنل خصبه سغب ومنها في الاعتذار من مدح نفسه:
ولكن لي في يوسف خير أسوةٍ ... وليس على من بالنبي أئتسى ذنب(1/173)
يقول - وقال الحق والصدق - إنني ... حفيظ عليم، ما على صادقٍ عتب وأنشدني لنفسه:
لا يشتمن حاسدي إن نكبة عرضت ... فالدهر ليس على حال بمترك
ذو الفضل كالتبر طوراً تحت ميقعةٍ ... وتارةً في ذرى تاجٍ على ملك وأنشدني أيضاً له:
لئن أصبحت مرتحلاً بشخصي ... فروحي عندكم أبداً مقيم
ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المعاينة الكليم وقد كرر هذا المعنى أيضاً فقال:
يقول أخي: شجاك رحيل جسم ... وروحك ما له عنها رحيل
فقلت له: المعاين مطمئن ... لذا طلب المعاينة الخليل قال أبو عبد الله الحميدي: وقلت له يوماً: قال أبو نواس:
عرض للذي تحب بحبٍ ... ثم دعه يروضه إبليس فقل أنت في طريق التحقيق فقال:
ابن فول وجه الحق في نفس سامعٍ ... ودعه فنور الحق يسري ويشرق
سيؤنسه رفقاً فينسى نفاره ... كما نسي القيد الموثق مطلق انتهى كلام الحميدي.(1/174)
وأنشدت له أيضاً يما كان يعقده من المذهب الظاهري من جملة أبيات يقول فيها:
وذي عذل في من سباني حسنه ... يطيل ملامي في الهوى ويقول:
أفي حسن وجه لاح، لم ترغيبه ... ولم تدر كيف الجسم أنت قتيل -
فقلت له: أسرفت في اللوم ظالماً ... وعندي رد - لو أدرت - طويل
ألم تر أني ظاهري، وأنني ... على ما بدا حتى يقوم دليل! @ما أخرجته من شعر أبي المغيره في أوصاف شتى
له من قصيدة أولها:
أحاجيكم: من قلد القمر القرطا - ... وأسألكم: من ألحف الغصن المرطا -
فما جزعي إن جاوزوا الجزع ظاعناً ... ولا ساقط حزني إذا جاوزوا السقطا ومنها:
وليدة سر المجد تبذخ نخوةً ... وقد عظمت مجداً وقد كرمت رهطا
ولم ترض بالجوزاء عقداً ودملجاً ... ولا قنعت بالنجم شنفاً ولا قرطا
تقنصتها والعمر في عنفوانه ... فلا غصني أحنى ولا لمتي شمطا
وليل غطى والنجم في الأفق حائر ... فغطى على الأعلام منه الذي غطى
وليس وشاحي غير عضب مهندٍ ... أبى حده أن يسأم القد والقطا
تشابه عزمي والحسام وهمتي ... ثلاثة أسياف بأمثالها يسطى(1/175)
وهذا كقول أبي تمام:
العيس والبيد والليل التمام معاً ... ثلاثة أبداً يقرن في قرن وأخمده البحتري فقال:
اطلبا ثالثاً سواي فإني ... رابع العيس والدجى والبيد وقال الصنوبري أيضاً:
حتى تكون لي الطمرة خلةً ... والبيد داراً والحسام رفيقا وقال أبو الحسن السلامي أيضاً:
فكنت وعزمي في الظلام وصارمي ... ثلاثة أشباه كما اجتمع النسر وقال بعض أهل عصرنا:
وإلا الثلاث السفع لم يزل الهوى ... لها ابعاً في أعين وقلوب ولأبي المغيرة من أخرى أولها:
سرت من لوى خبت إلينا تعسف ... مهامه ذات الجهل والجو أكلف يقول فيها:
تبيت بذي الأرطى وقد بات طيفها ... لنا صنماً نحنو عليه ونعكف(1/176)
هبيك سريت الليل فرعك أسحم ... وثغرك بسام، ولحظك أوطف
فأنى أطقت المشي، قدك مائد ... وردفك رجراج، وخصرك أهيف
سقى ربعك المألوف، حيث تصدعت ... لي الكبد الحرى، ربيع وصيف
فكم لي فيه من جناب وطئته ... كريماً فلا آسى ولا أتأسف
وقد شققت فيه البروق جيوبها ... وباتت علينا أدمع الغيث تذرف
ليالي بات البان فوق كثيبه ... علي بأنواع الجنى يتعطف
إذا ارتج من ردفٍ كثيب مرجرج ... تأود من قد قضيب مهفهف
يمد علينا للسحاب سرادق ... ويسحب فينا للجنائب مطرف
ولله دري ما أدر مدامعي ... إذا سجعت ورق على الأيك هتف
بدا العلم الفر الذي كنت عالماً ... به، وسرى العرف الذي كنت أعرف
يذكرني سعداي بالغور ما تني ... مساعدةً إذ لا صدوفي تصدف
ولله سلمى يوم أهدى سلامها ... بذي سلمٍ نحوي البنان المطرف ومنها:
وما ظبية أدماء تعرو أراكها ... وتعطو وقد أوفى برير وعلف
بأحسن منها يوم ريعت لزورتي ... فراغت إلى أترابها تتشوف
وقالت: أما تثنيك رقبة حارس ... وأنياب ليث في العرينة تصرف -
ودون الذي أملت أجرد سابح ... وأسمر عراص وأبيض مرهف
فقلت لها: بعض الذي بك، فانثت ... وأنجز ميعاداً بخيل مسوف(1/177)
ونلت سقاطاً من حديث وعاقني ... تنزه حرٍ عن خنا وتعفف
مساعدني تحت النقابين منظر ... ويسعدني تحت اللثامين مرشف ومنها:
وركب سروا والليل عليهم ... سيتوراً من الظلماء لا تتكشف
خبطت بهم أكنافه ونجومه ... ورائم أظار على البدر عكف
على كل قنعاس كأن لغامه ... - وقد سئم الإرقال - قطن مندف
هدايا خطوب بات ينحرها السرى ... ولكنها من باطن الخف ترعف
إلى أن أناف الصبح ينفض عرفه ... وطائره في غرة الفجر يهتف
فما أنشق إلا عن منادي ابن منذر ... نذيراً بصرف عاقهم عنه يصرف ومنها:
يا رب ميدان أتى فيه سابقاً ... وغودر منكوتاً هجين ومقرف
وما نام حتى لم مفترق العلا ... فها هي عقد في يديه مؤلف
إياس وبسطام بن قيس وحاتم ... وقس ولقمان بن عاد وأحنف
وما هذه الأيام إلا مقاول ... تلت سوراً من مجده وهو مصحف
إذا مضر الحمراء أدلت بمجدها ... وجرت ذيول الفخر قيس وخندف
سما لك قحطان ببنيان سؤدد ... ينيف على تلك المباني ويشرف وله من أخرى:
أمن البراق التاح برق ما سرى ... إلا ورد الأفق مرطاً أحمرا
أتبعته نظر المشوق بمقلة ... لم تدر مذ عهد الأثيلة ما الكرى(1/178)
عاينته كالصقر طائراً ... فغدت غرابيب الدياجي نفرا ومنها:
وسللت من نار الصبابة صارماً ... وجررت من وفد التصابي عسكرا
ومشيت منساباً فقل في أرقم ... وضح النهار له فعاد غضنفرا
بتنا، وبات المسك فينا واشياً ... بمكاننا، والحلي عنا مخبرا
ورنت بألحاظ تدير كؤوسها ... فينا فنشربها حلالاً مسكرا
والليل يلحفني سرابيل الدجى ... جهلاً وقد عانقت صبحاً مسفرا
لو جئتنا لرأيت أعجب منظر ... أسد توسد كف ظبي أعفرا
ولقد رقيت من الحمى أعلامه ... وشككت لما شمته متغيرا ومنها:
إلا ترى المنصور تحت لوائه ... تلق ابنه طلق الجبين مظفرا
أو لا تجد في الحفل عاقد حبوةٍ ... هوداً فإنا قد وجدنا حميرا
أو تفتقد صمصام عمرو في الوغى ... فلقد سللنا ذا الفقار مذكرا
لا غرو جئت البحر إذ أجلى الحيا ... ورأيت يحيى حين لم أر منذرا
فإذا دعونا من يجيب لنكبةٍ ... لبت تجيب فخلتها سيلاً جرى
شيم غدت قرط الزمان فلم أنم ... حتى نظمت عليه شعري جوهرا
لله درك والرماح شوارع ... والبيض تقطع لأمة وسنورا
ومقامة لك في الأعادي قد حمت ... أيام قوم قبلها أن تذكرا
كان اللسان لها الحسام المنتضى ... والمنبر العالي الأغر الأشقرا
غادرت أحشاء البنود خوافقاً ... فيها ومران الوشيج مكسرا(1/179)
أنسيتنا جذل الطعان وعامراً ... وعتيبة بن الحارثي ومسهرا
فإذا أتيتك مادحاً لك لم يجيء ... شعري ليسأل بل أتاك ليفخرا
غيري الذي اتخذ المدائح مكسباً ... وسواي من جعل القوافي متجرا
أنا ما شعرت لأن أنبه حاملاً ... لكن لأمنع شاعراً أن يشعرا وقوله: " أو نفتقد صمصام عمرٍ و " ... البيت، لفظ حبيب ومعناه، نقله أبو المغيرة:
أو نفتقد ذا النون في الهيجا فقد ... جلى الإله لنا عن الصمصام @لمع من أخبار منذر الذي ذكر
قال: ونقلت من خط أبي مروان ابن حيان، قال: كان منذر بن يحيى صاحب سرقسطة رجلاً من عرض الجند، وترقى إلى القيادة آخر دولة ابن أبي عامر، وتناهى أمره في الفتنة إلى نيل الإمارة، والانتباذ من العسكر إلى الثغر الأعلى بلده، واقتطاعه لما صير في يده، وكان أبوه يحيى من الفرسان غير النبهاء؛ فأما ابنه منذر فكان فارساً لبق الفروسية، بهي الشارة، مليح التقلب على الدابة، سخياً كريماً خارجاً عن حد(1/180)
الجهل، يتمسك بطرف من الكتابة الساذجة، وأما غدره فالنار برأس اليفاع، من أفحشه صنعه بهشام المخلوع مولى نعمته ومعلي رتبته، وباعثه إلى الثغر لنصرته، فانقلب ناصراً لعدوه، وغزاه في عقر داره، وأنزله عن سريره، وأسلمه لحتفه، وباع دماء عشيرته أهل قرطبة مجاناً باطلاً بلا ثمن من البرابرة على غير عذر، ولا ضرورة. وعاد بمثلها بمحمد بن سليمان أثيره عندما استجار به في نكبته، فقتله وهو ضيفه، فجاء بها صلعاء مشهورة لم تغسلها معذرة؛ إلا أنه كان كريماً، واتفق على تفضله، وعمرت لذلك حضرته سرقسطة، حتى أشبهن الحضرة الكبرى قرطبة أيام الجماعة، فحسنت أيامه، وهتف المداح بذكره.
وكان مع سموه للمعالي من الإيثار لشهواته، والمسارعة لقضاء لذاته، والانهتاك في طلب راحته، والشغف بزي دنياه، والكلف بزخرفها، والتهالك في حبها، على أضلع ما كان عليه من تفرد بشأنها، فاتخذ الجواري الحسان، وملاح الغلمان، فجلب إليه كل علق خطير، وحصل عنده من كل ما وصفناه كثير.
وكان لأول ولايته قد ساس عظماء الإفرنج وهاداهم حوطاً للثغر وأهله، وتأنياً للجماعة حتى تثوب لأهل الإسلام، يناهضون بها عدوهم. وكان رؤساء الجلالقة يومئذ ريمند الجليقي وشانجه القشتلي، فسلك معهما سبيل الاسترضاء، والموافقة والاستخذاء، فحفظت أطرافه وكفت المعرة عن عمله، وربما أوقع ببعض أصاغر القوامس في أطرافهم وسبى منهم، وريمند وشانجه باقيان على(1/181)
معاقدته إلى أن مضى بسبيله، والثغر مسدود لا ثغرة فيه ولا وهي في حاله. وبلغ من استمالة الحاجب منذر لهذين الطاغيتين أن أجريا تصاهرهما على يديه، وكتب عقد النكاح بينهما بحضرة سرقسطة في حفل من أهل الملتين، فقرفت الألسنة منذراً لسعيه في نظم سلك الطاغيتين لما فيه من سوء العاقبة. وقد قيل إن رأي منذر كان في ذلك أحصف، من رأي من قدح فيه وقرف، لنظره في شأن وقته، وعلمه بانصداع عصا أهل كلمته؛ فآثر من الموادعة ما ستر به العورة، وشراه بغليظ الكلفة، واختدع به عظيمي الجلالقة ريمند وشانجه المحدثين أنفسهما يومئذ بمناهضة أهل الأندلس، فألهاهما عن الحرب وحبب إليهما الدعة. وأعقب الحاجب منذر أهل الثغر في مغبة ذلك عاجل السلامة، واستظهروا به على العمارة، فحيوا وعاشوا في نعمة ضافية، وعيشة راضية، لم يتغير به عنهما حال، إلى أن ألوت بمنذر المنية، وقد اعترف الناس لرأيه، وأقروا بسياسته، ولم يأت بعده من يسد مسده، ولم ينفع الله الطاغيتين بصهرهما الذي كانا عقداه للتآلف على المسلمين، إذ أعجل عنه شانجه بن غرسية شيطانهم الرجيم، وهوى أميرهم ريمند ظهير المذكور، وابنه بعده؛ فشتت الله شمل تلك الطواغيت يومئذ وكفى المسلمين شرهم برحمته. واشتمل منذر على قواد تلك الثغور، واستوسقت له هنالك الأمور(1/182)
واستكتب عدة كتاب كأبي العباس ابن مروس من تدمير، وكأبي عامر ابن أرزق، وابن واجبٍ وغيرهم.
قال ابن حيان: وأخبرني الكاتب أبو أمية ابن هاشم القرطبي - وكان من وجوه من خرج عنا أيام الفتنة واستوطن ثغر تطيلة، وما رأيت مثله في أولي البيتوتات فضلاً - قال: اجتاز القومس شانجه بن غرسية صاحب قشتيلة بباب تطيلة صدر أيام الحاجب منذر، وعلينا يومئذ من قبله سليمان بن هود صاحبه، فسلك مجتازاً يريد طرف الثغر الأعلى للاجتماع هنالك بالقومس ريمند صاحب برشلونة، لعقد المصاهرة بينهما، والأنثى من عند شانجه، واطئاً لأرضنا عن علم من منذر والينا، وضمان منه لكف عادية جيشه عنا؛ فأنكره أهل تطيلة وهم يومئذ بحال عزة وقوة، وذهبوا إلى عصيان أميرهم منذر فيه تفادياً من وصمته؛ فنمي ذلك إلى الطاغية شانجه، فلما شارف البلد أرسل يستدعي قوماً من أعيانهم، يكلمهم في سبيله.
قال أبو أمية: فكنت في عدد من مضى، فدخلنا محلته يومئذٍ(1/183)
فخرصتها خيلاً ورجلاً زهاء ستة آلاف، ولم يكن احتفل في حشده، ووصلنا إلى مضربه فإذا هو جالس على مرتبته عليه ثياب من ثياب المسلمين، ورأسه مكشوف أصلع كهل، لم يغلب عليه الشيب بعد، أسمر اللون جميل الصورة؛ فكلمنا بكلام لطيف حسن بين فيه وجه سيره، وذكر ما فارق والينا عليه من المحالفة معه، فعرفناه بكره من وراءنا لاجتيازه، وذهابهم إلى التمرس به، فنهانا عن ذلك وذكر الحرب وعدواءها؛ فانصرفنا عنه وأدينا قوله إلى من خلفنا فلم يتقبله عوام الناس، وحملهم الأنف على أن خرجوا إلى عجل أبطأت في ساقته تحمل أزواد عسكره يريدون نهبها عاصين للمشيخة، فأنهي إليه ذلك، فصرف من أصحابه مقدار خمسمائة فارس ثاروا في وجوه الناس، فخرج البلد بأسره لدفاعهم، فحمل من الخمسمائة قطعة، فولى الناس الأدبار حتى اقتحموا باب المدينة. فما رأيت في النصرانية يومئذ رجالاً مثل رجاله، ولا في ملوك الطواغيت من أعد له به في ركانة مجلسه ورجوليته ودهبه وكمال أدواته، وصدوع كلماته، إلا ما كان من صهره وسميه شانجه بن غرسية صاحب البشكنش الذي تفرد بالرئاسة بعده فكان مثله، بدد الله شيعتهم.
وكان من أعظم ما حبا الله به الإسلام يومئذ عند منبعث فتنتهم، ومحدث فرقتهم، وتشتيت كلمتهم، بعد الدولة العامرية بأفقنا، تعجيله حتف أملاك النصرانية المترسين بهم، وتلاحقهم في المدة القريبة(1/184)
وإلقاؤه بين من أنظر منهم الشتات والعداوة، حتى صاروا أسوة المسلمين حذو النعل بالنعل، في افتراق الكلمة وزوال أمر المملكة، فإن الفتنة بأفقنا جاءت يومئذ بين المسلمين، وزعماء الطاغية حضور، وفيهم عدو الله شانجه بن فرذلند الذي تمرض بالمنصور بن أبي عامر، رحمه الله، ذو العزة والسطوة، فأعيا عليه حتى قمعه، وضرب بعده فريقي الفتنة، ومالأ الخوارج على الجماعة، حتى تمكن من هشم البيضة؛ وطمح أمله إلى الكرة، فقطع الله بهم، وأهلكهم في مدة قريبة.
@ذكر الخبر عن مقتل منذر
قال ابن حيان: وكان ذلك على يدي رجل مارد من بني عمه، يقال له عبد الله بن حكم، وكان مقدماً في قواد منذر، أضمر الفتك به دهراً، فدخل عليه يوماً في مجلسه غرة ذي الحجة سنة ثلاثين وأربعمائة، وهو غافل في غلالة، ليس عنده إلا نفر من خواص خدمه الصقلب، قد أكب على كتاب يقرؤه، فعلاه بسكين قد أعده، ففرى به أوداجه ولا ما نسع منه، وهرب خدام السر الغلمان الخصيان، الذين كانوا على رأسه، وخلوه في يديه، إلا خادماً شهماً منهم مشى إليه وهو حاسر، فضربه(1/185)
عبد الله بخنجره فقضى عليه مع مولاه. وأخرج رأس المنذر للوقت من قصره فوق قناةٍ ينادى عليه: هذا جزاء من عصى أمير المؤمنين هشاماً ودفع حقه، يريد بذلك الرجل الذي كان يدعى له يومئذ بإشبيلية، تعلقاً من هذا المارد لولايته، وتوطئة لقيامه، إذ كان هذا القتيل ممن رد طاعة هشام تأسياً بوالده يحيى وبخاله إسماعيل بن ذي النون؛ فنزلت بسرقسطة يومئذ حادثة عظيمة، وأشرف أهلها على فتنة شديدة، واضطربت لها حالهم، وطمع فيهم أكثر من كان يجاورهم، وأذعنوا لهذا الغوي المتوثب عليهم آنفاً، ورهبوه لاستجاشته الغوغاء والسلفة؛ فملك البلد لنفسه.
وكان سليمان بن هود الجذامي صاحب لاردة وقته مقيماً بتطيلة بجمعه، فسارع إلى سرقسطة ساعة سمع بخبر منذر رجاءً في دخولها، فمنعه هذا الفتى القاتل، ثك جاءه إسماعيل بن ذي النون خال منذر ممتعضاً لما جرى على ابن أخته، فامتنع ابن حكم بالقصبة، واتصلت الفتنة، ونال أهل سرقسطة يومئذ جهد شديد وخربت أحوالهم.
قال ابن حيان: وكان ركب ابن حكم القاتل من خطة التغرير(1/186)
مركباً لم يجسر عليه فاتك قبله، لتفرده ووثوبه على الأمير منذر جوف قصره في قرارة مجلسه بين غلمانه وأهله وتحت أغلاقه، وبينه وبين الباب الأقصى من قصره ما لا يحصى من حجابه وقهارمته؛ فلم يفكر في شيء من ذلك، وحمل نفسه على التصميم فيه، وهون عليها الموت دونه؛ فلما تم له ذلك لم يكن في الخصيان العبدى الذين حضروا مجلس منذر ساعتئذ فضل للدفاع عنه والوثوب بابن حكمٍ، على كثرتهم وتفرده وسطهم، وأنهم لم يزيدوا على الهرب قدامه، فجاء بفتكة أسقطت كل من فتك في الإسلام قبله؛ ثم لحق طعمه برياسة الملك فملكه، ولم يفكر في ابن ذي النون خال منذر لما دنا إليه. وفعل ذلك بسليمان بن هود، وقد جاء ناشراً أذنيه، فحاربه ودافعه. وكان قصر منذر وقت فتكه به من حاشيته وغلمانه أزيد من مائة رجل سوى نسائه، فطار الرجال على وجوههم فزعاً، ولم يكن فيهم من يأخذ على يده، وقام بينهم كالأسد الورد، فحز رأس الفتى منذر للوقت، وأخرجه إلى الناس، فهمتهم أنفسهم وأبلسوا، ولم ينطق منهم أحد بكلمة.
وأرسل من حينه يستدعي قاضي البلد والمشيخة، فدخلوا عليه وهو قاعد على فراش منذر قتيله، ومنذر إلى جانب الفراش مرمل في دمائه، مغطى بثيابه؛ ووصف أنه جرى في سبيل الإصلاح عليهم(1/187)
والشد لسلطانهم، وتقدم إليهم بتسكين من خلفهم من العامة، وأظهر الدعاء أولاً لسليمان بن هود، فأروه قبول ما وصفه، وتفرقوا عنه، وكلمتهم مختلفة عليه، إلى أن ثاروا به وقاتلوه، فخرج من باب بظهر القصر، ونجا منه بفاخر ما اشتمل عليه من ذخائر آل منذر، ولحق بحصن روطة اليهود، أحد معاقل سرقسطة المنيعة، وقد كان أعده لنفسه، فأقام به يرصد الفتنة جهده. وكان قد حمل مع نفسه الغلامين أخوي منذر قتيله، وحمل أبا المغيرة بن حزم وزيره وغيرهم من وجوه رجال منذر الذين نكبهم عند قتله مقيدين، فحبسهم عنده، يطالبهم بالأموال.
ونهب العوام قصر سرقسطة إثر خروجه نهباً ما سمع أعظم منه، حتى قلعوا مرمره، وطمسوا أثره، لولا تعجيل ابن هود ملك البلد إثر ذلك في المحرم سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. انتهى كلام ابن حيان.
قال ابن بسام: وأذكر بهذه الغدرة الصلعاء، والفتكة الشهيرة الشوهاء - إذ الشيء يذكر مع ما جانسه، ويضم إلى ما التف به ولابسه - ما اتفق من مثلها في ملك المناديين الغالبين إلى وقتنا هذا على طرف إفريقية الأدنى إلى الأندلس، المستقرة رياستهم بقلعتهم المنسوبة إلى جدهم(1/188)
حماد؛ وذلك أنه لما أفضى ملكهم إلى بلقين بن محمد منهم، أحد جبابرة الإسلام، المفتاتين على الأنام، من رجل كان لا يملأ يده إلا من لبدة أسد، ولا يسرح لحظه إلا في نهاب بلد مضطهد، ولا يراح إلا وبحر الموت يلتطم، ولا يكلم إلا حين يبتسم قد تجاوز في شذوذ أمنيته، وقهره لرعيته، والإخافة لأقرانه، والاستبداد على زمانه، غاية من سلف من جبابرة الأرض، وسمع به من فراعنة الإبرام والنقض، إلى شهرة آثاره، وتطاوح أسفاره، وما لا يحصى من عجائب أخباره.
حدثت أنه آب مرة من بعض غزواته الأفراد، المقلقلة لأحشاء الأنام والبلاد؛ فكأنه ارتاح إلى ما يرتاح إليه الناس من إراحة نفسه، والخلوة ولو ساعة بوجه أنسه؛ فجلس لذلك مجلساً حشد له شهواته، وتقدم في إحضار ما يصلح له من آلاته وأدواته؛ وأمر قيمة جواربه باستحضار عقيلة أترابها يومئذ جلالة سلطان، وحسن سماع وعيان، إحدى بنات عمه دنيا، لم ير بعدها - زعموا - ولا قبلها أبرع ظرفاً، ولا أقتل طرفاً منها؛ فجاءت تود الثريا لو تكون نعلها، والشمس لو تصور مثلها، وقد خطرت بنفسه إحدى هناته، وتمثلت له بعض غزواته؛(1/189)
فأخذ يدبر، وطفق يورد ويصدر. قالت قيمته: وكأني أنظر إلى الكاس في يده، وإلى ابنة عمه قائمةً على رأسه، من لدن صليت العصر حتى طلع الفجر، وجانت منه بعد طول ليلته نظرة فرآها، فاعتذر إليها واستدناها، ووعدها ومناها، وقام من حينه فوضع الكأس ملأى في طاق وطبع عليها، وأمر بالركوب من حينه، فغزا غزوته المشهورة إلى المغرب من العدوة، بلغ فيها مدينة فاس، فوطئ الدول، ودوخ السهل والجبل؛ ثم رجع فجلس ذلك المجلس بعينه، واستدعى كأسه تلك وابنة عمه، فخلا بأنسه، وقضى وطره من لذة نفسه، بعد أيام كثيرة، وحروب مبيرة.
ولما تناهى أمره، وتجاوز السها ذكره، وظن أن البلاد تحت ختمه، وأن الناس على حكمه، سما إليه في بعض أسفاره ابن عمه الناصر، أصغر خلق الله عنده شاناً، وأهونهم عليه سراً وإعلاناً، من فتىً علمه الخوف كيف يجسر، وهجم به ضيق المسلك على الموت وهو ينظر، لم يشاور إلا الحسام، ولا استصحب إلا الإقدام؛ وقد كان بعض نصحاء بلقين خوفه منه، لكلمة أخذت يومئذ عنه، فجعلها بلقين نقلة ركابه، وسمر أصحابه. وكان قلما يركب إلا دارعاً، آخذاً بما يأخذ به من ذعر القلوب، ووتر البعيد والقريب؛ وكان مولعاً بالإدلاج إذا ارتحل، مؤثراً للانفراد كلما ركب ونزل؛ فأقسم تلك الليلة ألا يدلج إلا حاسراً، وليقتلن الناصر إذا نزل ولو كان أسداً خادراً؛ فأعجله عن الأمر، ولما يبد وضح الفجر؛ لقيه كأنه يسلم عليه، أو يسير بين يديه، فما راجعه الكلام، إلا وقد جلله الحسام، وأراح(1/190)
منه البلاد والأنام؛ ثم قام مقامه، واستظل أعلامه، وأمر برأسه فرفع على بعضها وسير به أمامه، والناس يظنون أن بلقين، قد قتل بعض أتباعه الممتحنين، فهم يتساءلون عمن قتل، ويرجمون الظن فيما فعل، حتى طلعت الشمس، وارتفع اللبس؛ فأمر برفع مضاربه، وحشر زعماء ذويه وأقاربه، فقال: أنتم تعلمون أن بلقين قتل أختي، وفجعتي بأكرم حرمتي؛ وإنما شفيت صدري، وأخذت بوتري، لا أني حدثت نفسي بسلطانكم، ولا رأيتني أهلاً للدخول في شيء من شانكم. فردوا عليه جميلاً، ورأوا إمهاله قليلاً، وظنوا أنه لم يجسر على ما فعل إلا وله أشياع، وأهمه ما هو فيه؛ وأمر لحينه بخزائن بلقين فأنهبها ذؤبان العرب وصقورة زناتة، فاستخلص بذلك غيوبهم، وأمال إليه قلوبهم، ورحل تحت ليلته يطوي المراحل، ويعتسف المجاهل، فسبق الأخبار إلى القلعة فوطئ الحريم، وتملك الظاعن والمقيم.
@فصل في ذكر الوزير الكاتب أبي عامر أحمد بن عبد الملك
@ابن شهيد؛ وسياقة جملة وافرة من نظمه ونثره
قال ابن بسام: وكان أبو عامر شيخ الحضرة العظمى وفتاها، ومبدأ(1/191)
الغاية القصوى ومنتهاها، وينبوع آياتها، ومادة حياتها، وحقيقة ذاتها، وابن ساستها وأساتها، ومعنى أسمائها ومسمياتها، نادرة الفلك الدوار، وأعجوبة الليل والنهار؛ إن هزل فسجع الحمام، أو جد فزئير الأسد الضرغام؛ نظم كما اتسق الدر على النحور، ونثر كما خلط المسك بالكافور، إلى نوادر كأطراف القنا الأملود، تشق القلوب قبل الجلود، وجواب يجري مجرى النفس، ويسبق رجع الطرف المختلس.
وقد ذكره أبو مروان بن حيان في غير ما موضع من كتابه فقال: كان أبو عامر يبلغ المعنى ولا يطيل سفر الكلام، وإذا تأملته ولسنه، وكيف يجر في البلاغة رسنه، قلت عبد الحميد في أوانه، والجاحظ في زمانه. والعجب منه أنه كان يدعو قريحته إلى ما شاء من نثره ونظمه في بديهته ورويته، فيقود الكلام كما يريد من غير اقتناء للكتب، ولا اعتناء بالطلب، ولا رسوخ في الأدب، فإنه لم يوجد له، رحمه الله - فيما بلغني - بعد موته، كتاب يستعين به على صناعته، ويشحذ من طبعه إلا ما لا قدر له؛ فزاد ذلك في عجائبه، وإعجاز بدائعه. وكان في تنميق الهزل، والنادرة الحارة أقدر منه على سائر ذلك. وشعره حسن عند أهل النقد، تصرف فيه تصرف المطبوعين، فلم يقصر عن غايتهم.
وله رسائل كثيرة في فنون الفكاهة وأنواع التعريض والأهزال، قصار وطوال، برز فيها شأوه، وبقاها في الناس خالدة بعده. وكان في سرعة البديهة وحضور الجواب وحدته، مع رقة حواشي كلامه، وسهولة(1/192)
ألفاظه، وبراعة أوصافه، ونزاهة شمائله وخلائفه، آية من آيات الله خالقه؛ من رجل غلبت عليه البطالة فلم يحفل في آثارها بضياع دين ولا مروءة، فحط في هواه شديداً حتى أسقط شرفه، ووهم نفسه راضياً في ذلك بما يلذه، فلم يقصر عن مصيبة، ولا ارتكاب قبيحة.
وكان مع ذلك من أصح الناس رأياً لمن استشاره، وأضلهم عنه في ذاته، وأشدهم جناية على حاله ونصابه. وكان له في الكرم والجود انهماك، مع شرف وبطالة، حتى شارف الإملاق، فمضى على هذه السبيل رحمه الله، انتهى كلام ابن حيان.
قال ابن بسام: وقد أخرجت من أشعاره الشاردة، ورسائله الباقية الخالدة؛ ونوادره القصار والطوال، وتعريضاته السائرة سير الأمثال، ما يحل له الوقور حباه، ويحن معه الكبير إلى صباه.
@جملة من كلامه في أوصاف شتى
فصول من رقعة خاطب بها المؤتمن عبد العزيز بن عبد الرحمن ابن أبي عامر:
لولا أن من العادة بين السادة والمسودين، والمالكة والمتملكين(1/193)
تطارح ادمة، وتدارس لطائف الحرمة، لأكبرته - أيده الله - عما أرغب ذكره، وأكرمته عما أطلب نشره؛ ولولا أن من السياسة وعقد الحزامة تذكير أهل العلياء، بسوالف النعماء، لربأت بما ينته الآباء والأجداد، وضربت بينه وبين افات بالأسداد، عن أن أحرز منه بتذكير، أو أدفع عنه بتقدير. لولا أن التطويل فيما أقصد قصده وأنحو نحوه على زمننا وشاغله، ومجد خطبنا وهازله، موجب للقول وموجد للسبيل إلى الطعن ممن ضعف حجاه، وقصر به مرماه، لرسمت إليه من الورق، أعداد الورق، ولرقمت إليه من المهارق، أشباه النمارق.
وفي فصل أيضاً:
وأقل ما أمت به، وأنطق عنه، ممتد عنان الأمل، كارعاً في بحر الرجاء لا الوشل، من مواتي بالمنصور جده - رضي الله عنهما - أني نشأت في حجره، وربيت في قصره، وارتضعت ثدي كرائمه، واعتجرت رداء مكارمه؛ واغتذيت من فيه، أكلاً زقنيه، وماء علنيه، فصرت من أفراخ نعمائه الحمر الحواصل، ولحقت بأخوة أبنائه الغر العباهل.
ومن مواتي بالمظفر عمه - عمته رحمة الله. إن أبي عبد مننكم لما بعد أمله، وبان خشوعه، وسالت دموعه، نكب عن طريق أهل الدنيا، ورمى مرمى من مرامي أهل الأخرى، فكسر همتي، وحلق لمتي، وسلبني بزي، وعراني من خزي، فكانت أفدح نازلة نزلت بصبوتي، وأقلق حادثة سلبت رونق بهجتي؛ وأنا ذاك ابن ثمان، قد هجنت في مدارع الكتان؛ ولقيني الوزير ابن مسلمة وقد عاد أبي(1/194)
إثر إبلال، وعند نقوه من اعتلال، فسألني عن الحال، وعما شغل البال، فلم يكن جوابي غير النشيج والعجيج، وسوى العويل والضجيج؛ ولقي المظفر على حينه، وأدى إليه ما شاهد مني، فوجه عني، فلما صرت بين يديه، أمر بي فألبست ثياب الحرير، وضمخت بنفاح العبير، وحملت على فرس بسرجه ولجامه، ينهل من أعطافه ماء جمامه، وأتبع ذلك ألف دنيار في طبق، كأنها عيون النرجس الصفر الحدق، وعقد لي على الشرطة، وكانت لسني أرفع خطة، فانصرفت وأنا أنظر عطفي عن شوس، وقد ضاق صدري على أبي عن سعة نفس.
ومن مواتي بالناصر أبيه - برد الله مضجعه، ونعم مهجعه - أني صرت بين يدي المنصور، في يوم مطير، وأنا ابن خمس، أذكر ذلك ذكري لما كان بالأمس، وكان من إكرامه لي، ولطيف اهتمامه بي، ما يطول به الكتاب، ولا يحتمله الخطاب؛ وعينه ومحضه، وصريحه وزبده: أنه وهبني يوماً تفاحةً كانت بين يديه كبيرةً، ورآني أنظر إليها نظر الكلف، وأتأملها تأمل الشره، فأمرني بالقبض عليها، والعض فيها، فضاق فمي عن أن أحيط بجزء من أجزاء كرتها، وصغرت كفي عن أن تقبض إلا بمخنق من مخانق أنحائها، فجعل يقطع لي بفمه، ويطعمني على حكمه؛ ودعا الناصر، ومعه فتى سمعتهم يكنونه أبا شاكر، فقال له: احمله إلى أمك، وارفق به في أمك؛ فأخذا بيدي أمامه، وابتدار يسيران بي قدامه، وأنا لا أسمح في القياد لشدة ذلك الوابل، وتتابع قطر ذلك الهاطل، فصاح بهما:(1/195)
أقلاه فاحملاه على أعناقكما، وسوقا به سوقاً رفيقاً أحسن مساقكما. فلفا أعضاد هما لفاً، ووصلا أذرعهما بأعناقهما وصلا، وامتطيت العاتق الكريم، على عين الملك الزعيم، امتطاء امتنان، لا امتطاء امتهان، ومرا بي حتى أنزلاني بين يدي السيدة، وإليها أمر كل قيمة؛ فاستوت بي على سريرها، وعلى مفرقها إكليل من مهابة أميرها؛ فلا أنسى ذلك البهاء في ذلك البهو، وذلك الحسور إليّ من قناع الزهو، وطار الخبر بقدومي في مقاصير العقائل، وحجرات الكرائم؛ فأرقلن من تلك المصانع، تطير بهن أجنحة الصنائع، فيا لها من كسى وخلع، وغرائب وبدع! وأمرت السيدة بألف تحمل معي عن نفسها، وثلاثة آلافٍ عن سيدها، فانصرفت بالغنى، من ذلك الجنى، ولم أصرف إلى المنصور حتى صرت عند أبي، وقد ظننت أنه متجاف عنه لي، أو تارك منه معي؛ وكانت لي فيه آمال، من التوزيع على الخدمة والعمال، من الصبيان وصبايا الجيران. أمر ففرق منه على بطانته، وأشار بحمل باقيه إلى خزانته، فظللت واجماً، وطفقت راغماً، أطفئ جمرتي فتذكو، وأخفي من لوعتي فتبدو. وبلغ ذلك المنصور، سفوجه نحوي بخمسمائة دينار، وأقسم على أبي بحياته ألا يمنعني منها، وأن يدعني بحكمي فيها؛ فبادرت بالركب والرجل، وأخذت في العطاء والبذل، وحبوت بأجزل الحباء، والخيل إذا ذاك نخب من قصب، والدرق قشور من خشب، فيومي مذكور في منية المغيرة إلى الآن، إذ كان مسكننا بدار ابن النعمان.(1/196)
وأغربها ماتة، وألطفها وصلة، أن أخي موسى انتزعه المنصور من أبيه، وأحله محل بنيه، فاجتمعت الأفواه على الثدي، والتقت الشفاه على الدر المري؛ وقبضه الله إليه وقد رتع في مراتعكم، وجثم في مضاجعكم، فنحن عمار مقاصركم أحياء، وقطان مقابركم أمواتاً، جمعنا بذلك عشرة العاجلة والآجلة، وحصلنا على صحبة الدنيا والآخرة.
هذه - أيده الله - لمعة أبديتها له من وصائلي، وغرة أطلعتها إليه من وسائلي.
وفي فصل:
ومملوكك عاكف على الوطن، فكوع الراهب على الوثن، ولم يبق من النعمة غير مصاصة بلةٍ قد آن لها أن ترتشف، وتفاهة ثمرة حان لها أن تخترف؛ وعرج لمآله، والنظر لعاقبة حاله، على استخراج ما يمكن من أصول نعمتكم، ليصون بها جمة وجنته، ويفر عليها نطفة صفحته، إذ لا سبيل إلى التعريج على غير ذلك قطعاً، ولا إلى الالتباس بسواه حتماً، ولو لحس التراب، وذاب في الثياب، فإنه يتنفس عن نفس همتها الكوكب، وهمها الغيب؛ فلولا همتها لأظلم الدهر، ولولا همها لأسفر الأمر، وهذا موضع الحدس لا امتراء، وخليفة النفس لا ادعاء. ووعد الوزير عباس بصرف ضيعة لي بجهة تدمير، حالت الفتن دونها، واضطراب الأحوال عن(1/197)
مطالعتها. وأنا أسأل فضلك سؤال المدل في استنجار ما وعد، فإنه يعتاض من شكري له وثنائي عليه، وصدعي في المحافل بفضله، أجل فائدةٍ يصطفيها، وأكرم نفيسةٍ يقتنيها.
وأصل اصطفائنا لتلك الضيعة وسائر أخواتها أن المنصور - رضي الله عنه - استعمل أبي عبده على تلك الجهة الشرقية تسعة أعوام توالف بتدمير وبلنسية، فلما سئم العمل خاطبه برقعة يقول فيها: إن كبير حق المولى لا يذهب بصغير حق العبد، ولي حرمة أدل بها، وذمة أنبسط لها، وقد طالت علي الغربة، وسئمت الخدمة، ومللت من النعمة، فالإدالة الإدالة، فأداله - رضي الله عنه - على رضاه، وأشخصه إليه على هواه، فورد قرطبة بأربعمائة ألف دينار نائضةً، ومائة ألف من ذهبٍ آنيةً، ووثائق خمسمائة زوج مكتسبةً، ومائتي نسمة من رقيق الصقلب متنتقاةً، والسعر إذ ذاك بها سامٍ جداً، ونفقة أبي رأس كل شهر سبعون مدياً من قمح، وعلف ثمانين دابة من شعير. فكتب إليه يعرض عليه ما جاءه به، ويحكمه فيه، ويسأله أخذه، أو الأخذ منه، فجاوبه يقول: لو أردنا أخذ ما أعطيناك، ما قد مناك، ونحن نخاف أن تستصفي نفقتك ما استقته، وتأتي على ما اجتلبته، برتفاع ثمن الطعام، وأنك لم ترد منه على ذخيرة، وقد صككنا لك(1/198)
بألفي مديٍ بشطرين من قمحٍ وشعير تستظهر بهما على زمانك، فاقبضها من أهراء فلانة لقربها من مكانك، إن شاء الله.
مكرمة - أعز الله المؤتمن - لم تعهد لغير عامري، ولا سمع بمثلها لغير معافري. ولما عز الخطاب، ووقع الكتاب، وكان عبدك منسوباً إلى شيء من نظم الكلام، قال على كلة الذهن وفلة الغرب بالحان، وشغل البال، ما علم وفهم:
أما الرياح بجو عاصم ... فحلبن أخلاف الغمائم يقول فيها:
سهر الحيا برياضها ... فأسالها والنور نائم
حتى اغتدت زهراتها ... كالغيد باللج العوائم
من ثيباتٍ لم تبل ... كشف الخدود ولا المعاصم
وصغار أبكار شكت ... خجلا فعاذت بالكمائم
ورد كما خجلت خدو ... د العين من لحظات هائم
وشقيق نعمانٍ شكت ... صفحاته من لطم لاطم
وغصون أشجارٍ حكت ... رقص المآثم للمآثم
بكر الحسان يردنها ... من كل واضحة الملاغم
وضحكن عجباً فالتقت ... فيها المباسم بالمباسم
ضحكت وأومض بارق ... فظللت للبرقين شائم(1/199)
وتشوفت فتطامنت ... أجياد أظبيها الحوائم
ورنت فبادر نرجس ... يشكو عماه إلى حمائم
طاردتهن بقتيةٍ ... حرد على حرب المسالم
وكأنني فيهم لقي ... ط قاد من أحياء دارم
وتكاوست فيها الأبا ... رق وهي فاهقة الحلاقم
وكأنها أظبٍ رعف ... ن فثرن دامية الخياشم
وجرى بها فلك الصبا ... باللهو، والقضب اللوائم
وكأننا فيها العفا ... رت والكؤوس من الرواجم
وعلا بنا سكر أبى ... إلا الإنابة للمحارم
نرمي قلانسنا له ... ونجر من عذب العمائم
وترنمت فيها القيا ... ن لنا ورجعت البواغم
قمنا نصفق بالأكف ... لها ونرقص بالجماجم
وأعن من سدن الملو ... ك سليل أقيال خضارم
يشكو الرعات تنعماً ... ويضج من حمل التمائم
لا تستحيه الراشفا ... ت ولا تباليه اللوائم
يجنينه ثمر النحو ... ر ويعتلين به المحازم
متجاهلات أنه ... يهوى وهن به علائم(1/200)
لازمت باب محله ... والنجح من قنص الملازم
حتى إذا وثقت بنا ... عجز الحواضن والخوادم
القيت من أخذي له ... وتلوت من سور العزائم
واقتدته بشكائمي ... فانقاد في تلك الشكائم
فوردت جمات المنى ... وكرمت عن لوم المآثم
وأغر قد لبس الدجى ... برداً فراقك وهو فاحم
يحكي بغرته هلا ... ل الفطر لاح لعين صائم
فكأنما خاض الصبا ... ح فجاء مبيض القوائم
ويسير في يبس الثرى ... وكأنه في البحر عائم
حتى إذا علم الصبا ... ح أشار من تلك المعالم
وتمايلت أيدي الثريا ... وهي مذهبه الخواتم
ورنت ذكاء بنظاظر ... رمد من الاقذاء سالم
طلع الصوار لحينه ... وكأنه الموج المراكم
أو عسكر ركبوا الخيو ... ل الشهب واحتفروا الاداهم
فاشتد سبقنا له ... يكثرون عن مثل اللهاذم
وكأننا في رميها ... نستل من بيض الصوارم
فحمى أواخره أغر ... معاود تلك الملاحم(1/201)
يهوي بروقي محربٍ ... طبنٍ بحرب الغضف حازم
وكأنما أرواقها ... مسودةً أقلام عالم
فتبادر الفتيان من ... جنباته أشهى المطاعم
شياً ومطبخاً على ... جمر زهته الريح جاحم
وبعيدة الأرجاء نا ... زحةٍ على أيدي الرواسم
لا تدعي جوباً لها ... ذات الخوافي والقوادم
من فتنةٍ قد أسبلت ... ظلماتها بيد المظالم
عمهت لها أحلامنا ... وكأنها أضغاث حالم
وتضاءلت أجرامنا ... فيها بموبقة الجرائم
وتحولت فينا الذنا ... بي الرأس، وابن المجد راغم
وأدار كل صغير قد ... ر المنتهى أرحي العظائم
فكأننا عمي نسا ... ق على العمى في ظل عاتم
حتى انتضى عبد العزي - ... ز عزيمة من صدر عازم
فبدت لنا سبل الهدى ... بنواجم غير الهواجم
ضرب الأعاجم سودها ... بالسد من بيض الأعاجم
فاستجفلوا فكأنما ... ضرب الثعالب بالضراغم
أبناء ملكٍ حميري ... قام بالغر القماقم
من عامرٍ أهل المصا ... نع والصنائع والكرئم
الكفر عنهم قاعد ... قدماً ودين الله قائم
حكم الزمان بظلمهم ... دهراً وصرف الدهر ظالم(1/202)
فارتد بهجة ملكهم ... كر الخبعثنة الضبارم
واشتد ينظم حزمهم ... شيحان طلاع المخارم
ذكر على ذكر يصو ... ل وصارم يسطو بصارم
إيهٍ هيا عبد العزي - ... ز وأنت رجام المرجم
قمر تضيء له الخطو ... ب على دآديها الفواحم
تسري الرياح بمجده ... فنسيمها بالغور فاغم
لم يرو من ماء الشبا ... ب وكل أشيب عنه خائم
رعياً لمؤتمنٍ رعى ... فينا الحدايث والقدايم
بدأت أوائله وعا ... د لكشف غاشية الغياهم
ى تتركن صرم الزما ... ن على ظبا تلك الصوارم
وارم الخطوب بمثلها ... عزماً فأنت لها مساهم
وإليكها من ناطق ... يدعوك إذ صمت البهائم وله من جواب على خطاب:
ورد كتابك الكريم، بفضله العميم، يتبلج تبلج البرق، ويتحلب تحلب الودق، متكسراً في المشية، جالياً لليل الشك والمرية، قائداً بأزمة المنى والبغية، كلما اشتق موجاً غمره، أو(1/203)
لاعب مرجاً بهره، أو جزع وادياً أمده من أتيه، ونعم من أنبوب برديه، أو مر بروض شق عليه رداء ورد، وأثار به عجاج ند، أو عارض حمامةً حيته بغنائها، أو سامت لقوة نزلت إليه من هوائها، أو مسح بعصمٍ حنت إليه، أو خطر بأسد تهالكت عليه؛ كتاب منع جانبه، وحمي حامله، كلما خبط بطحاء كتبت بالكتائب، أو ركب جرعاء رقمت بالأراقم، كان لهذه مدية، ولتلك رقية؛ وكلما كحل مقلةً شوساء خشعت، أو لمس كفاً خشناء بخعت؛ أو وقع إلى رئيس وضعه على رأسه، أو دفع إلى ذي بأس أخدمه من بأسه، أو لمحته شقراء حمحمت، أو بصرت به بيضائ ترنمت، هو الحديقة، تساق سوق الرسيقة، أو اللطيمة في ثنيها الغنيمة؛ فثرت إليه قائماً، وأرقلت نحوه ساعياً، وكان أول تحيتي له أن قبلته ووضعته على راسي، وحبست عليه أنفاسي، ثم فضضت ختمه، واسترقت شمه، ففتق علي نسيم العبير لخلخ به صدور الحور، وأهدى إليّ عبق الياسمين، ذر عليه مسك دارين، فأنعمت في نشر طيه، وضربت في مدرج ليه، فإذا ببنات من البر مسلمة علي، وثغور من الإكرام ضاحكة إليّ، وفاض اللألاء، وكثر الهتاف والإيماء، فكلت عيني عن ذلك الرونق(1/204)
وحبست أذني عن ذلك المنطق، فلم أتمالك أن عطيت وجهي حياء، وقد تصببت ماء، وتقضبت في ردني، وقد ضاق به عطني.
وفي فصل: فتنفضت تنفض العقاب، وهزتني أريحيات الشباب، وقام بوهمي أني ملأت الأرض بجسمي، فأومأت إلى الجوزاء بكفي أن تأملي، وإلى العواء أن أقبلي، وقلت المجرة في عيني أن تكون لي منديلاً، وصغر الزبرقان عندي أن أتخذه إكليلاً، فقلت: هكذا يكون الألوك، وبمثل هذا تنفح الملوك.
وفي فصل منها:
ولما طال الكلام - أيد الله المؤتمن - ولم يبلغ مملوكه الغاية التي إليها قصد، ولا استوفى من الإيراد ما إياه اعتمد، خشي أن يصيبه ما يصيب التطويل من السآمة المخصوصة به، والملال الموقوف عليه، ففصله بنظم، فيه عون على الدرس، وتنبيه لشهوة النفس، وهو:
هاتيك دارهم فقف بمعانها ... تجد الدموع تجد في هملانها
[عجنا الركاب بها فهيج وجدنا ... دمن ذعرن السرب من أدمانها]
دار عهدت بها الصبا لي دوحة ... أتفيأ الفرحات من أفنانها(1/205)
أرعي على بقر الأنيس بجوها ... وأحكم الصبوات في غزلانها
وإذا تهادت بالشموس نواعماً ... فيها الغصون جنيت من رمانها
قضت النوى بذياد رجح عينهم ... ظلماً وكان الدهر من أعوانها
رجروا اغتراباً من نعيب غرابها ... وقضوا ببينٍ من مغرد بانها
فبدا لهم وجه الفراق موقحاً ... آت على خبر النوى بعيانها
يقذفن در الدمع في يوم النوى ... عن جمة لعب الأسى بجمانها
[ودعتهم وبنات قرح في الحشا ... دون الضلوع تشب من نيرانها
وأسلتها ذوب الجفون كأنها ... أيدي بني المنصور في سيلانها]
يا صاحبي إذا ونى حاديكما ... فتنشقا النفحات من ظيانها
وخذا لمرتبع الحسان فربما ... شفع الشباب فكنت إلف حسانها
عاودت ذكر العيش فيه وما انقضى ... من صبوتي وطويت من أزمانها
فبكيت من زمن قطعت مراحلا ... وشبيبة أخلقت من ريعانها
ورعيت من وجه السماء خميلة ... خضراء لاح البدر من غدرانها
وكأن نثر النجم ضأن وسطها ... وكأنما الجوزاء راعي ضانها
وكأنما فيه الثريا جوهر ... نثرت فرائده يدا دبرانها ومنها يفخر:
أنا طودها الراسي إذا ما زلزلت ... أيدي الحوادث من فؤاد جبانها(1/206)
وعلي للصبر الجميل مفاضة ... زغف أفل بها شباة سنانها
والنفس نفسص من شهيد سنخها ... سنخ غذت منه العلا بلبانها
ما أحول نحوي لحظ مقلة ساخط ... إلا وضعت السهم في إنسانها
ولو أنه نطح النجوم بقرنه ... كنت الزعيم له بنحس قرانها
وقضت بعز النفس مني دوحة ... من عامر أصبحت من أغصانها
يا ابن الأبالج من معافر والذي ... أربى يزيد على علا بنيانها
أعلى كتابك في مهمي حرمتي ... وجلا جوابك من دجى حرمانها
فليطلعن إليك من زهر الحجى ... أبكار شكر لحن في إبانها
حر القوافي ماجد في أهلها ... والشعر عبد في بني عبدانها
مدح الملوك وكان أيضاً منهم ... ولقد ترى والشعر من ديوانها
أمسى الفرزدق كفؤها في حوكه ... وجرى القضاء لها على صلتانها هذا - أيد الله المؤتمن - جوهر رطب، نظم بلا ثقب، غاية حسنه لو لفظه بحره على قرب، وقد كان أقل حقوق مولاي أن أقف ببابه، وأخيم بفنائه، وأهدي إليه الشكر غضاً، وأنثر عليه المدح نضاً، ولكني ممنوع، وعن إرادتي مقموع، يملكني سلطان قدير، وأمير ليس كمثله أمير، شيء غلب صبر الأتقياء، واستولى على عزم الأنبياء، وهو العشق، باطل يلعب بالحق، ليبين ضعف البشر(1/207)
وتلوح قدرة مصرف القدر؛ والذي أشكو منه أغرب الغرائب، وأعجب العجائب، بث شاغل، وبرح قاتل، وصبر يغيض، ودمع يفيض، لعجوز بخراء، سهكةٍ درداء، تدعى قرطبة:
عجوز لعمر الصبا فانيه ... لها في الحشا صورة الغانيه
زنت بالرجال على سنها ... فيا حبذا هي من زانيه
تريك العقول على ضعفها ... تدار كما دارت السانيه
فقد عنيت بهواها الحلوم ... فهي براحتها عانيه
تقاصر عن طولها قونكة ... وتبعد عن غنجها دانيه
ترديت من حزن عيشي بها ... غراماً فيا طول أحزانيه طاب لي الموت على هواها، ولذ عندي سقي دمي لثراها:
وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذ ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا ولما استطرد طيب هذا المساق، وارفض كلمه كالماء المهراق، وخفق جناح العشق المذكور، وتدحرج وصفه كاللؤلؤ المنثور، تحركت لي أطراب، واهتز لرداء شوقي أهداب، وتمحضت نفسي فصارت نفساً، وتراكم ذاك النفس فصار كلاماً، وانتظم ذلك الكلام فصار عقداً، فقلت متغزلاً، وبما صدر في أيام السرور متمثلاً:(1/208)
سقياً لطيب زماننا وسروره ... وغرير عيش مسعف بغريره
...
...
...
وتكفري برداء وصل مقرطق ... كتبوا بنقس المسك في كافوره
متلفع بحريره متضمخ ... بعبيره مترنح بفتوره
وسنان ناولني مدامة طرفه ... فشربتها وسمعت من طنبوره
يدعو بلكنة بربري لم يزل ... يستف بالصحراء حب بريره
متقدم بمضائه متلفع ... بردائه متكلم في عيره
مستفتح لبيانه ببنانه ... يهدي السلام إلى رجال عشيره
متنصب كالغصن إلا أنه ... يهتز من أعجازه وصدوره
طارحته كلماً وكنت زعيمه ... غرداً أحرك منكبي لزميره
فمشى إليّ فثرت غير معفر ... كالليث مطرداً إلى يعفوره
وملكته بالكف ملكةً قادرٍ ... فانصاع مؤتمر لحكم أميره
فقضيت ما لم أقض فيه بريبةٍ ... يأبى العفاف وعصمتي بحضوره
زمن قضى ثم انقضى فكأنه ... حلم قرأت الموت في تفسيره ومنها:
وبراحتي من فكرتي ذو ذكرةٍ ... عهدت تذاكرني بطبع ذكيره(1/209)
فرد إذا بعثت دياجي صرفه ... هولاً علي خبطت في ديجوره
حتى بدا عبد العزيز لناظري ... أملي، فمزقت الدجى عن نوره
ملك تبقى المجد ناصره له ... وتقيل العلياء عن منصوره
ورأى الزمان يحيد عن تأميره ... فسقى سهام المجد من تاموره فإن طعن طاعن على نسيب هذا الشعر، وقال: إن الملوك لا تقابل بمثله، والعظماء لا تتلقى بشبهه، قلنا: ذلك لجهله بأخبارهم، وقلة روايته لآثارهم؛ ولو شئت أن أملأ الصحف وأرقم القراطيش بما جرى عند الملوك ومعهم، وما استعمل لهم، وتوصل به إليهم، لفعلت، ولكني اقتصرت من ذلك على قريب معجب، واكتفيت منه بحديث مطرب.
قال ابن بسام: وأنشد أبو عامر إثر هذا قطعة شعرٍ لأبيه، هي ثابتة في القسم الرابع من هذا التصنيف، قال فيها:
قهقه الإبريق مني ضحكاً ... ورأى رعشة رجلي فبكى ثم قال: فإن استهل الطاعن صارخاً، وقال: هكذا الشعر، وهكذا الطبع، وهذا الماء رقة وعذوبة، والهواء لطافةً وسهولة، لا ما كنا فيه من الشنائع والقعاقع، قلنا له:
أذن الديك فثب أو ثوب ... وانضح القلب بماء العنب
وتأمل آيةً معجزةً ... ما قرأنا مثلها في الكتب
ركع الإبريق من طاعته ... وبكى فابتل ثوب الأكؤب(1/210)
ولول المزهر ينفي كربي ... وتطربت فأعيا طربي
وربيب قام فينا ساقياً ... كالرشا أرضع بين الربوب
ظبية دون الصبايا قصصت ... فأتت غيداء في شكل الصبي
فتح الورد على صفحتها ... وحماه صدغها بالعقرب
فمشت نحوي وقد ملكتها ... مشية العصفور نحو الثعلب ومنها:
وغمامٍ باكرتنا عينه ... تترع الأفق بدمع صيب
مثل بحر جاءنا من فوقنا ... جرمه من لؤلؤ لم يثقب
فدنا حتى حسبنا أنه ... يمسح الأرض بفضل الهيدب
فسألناه، وقد أعجبنا ... حشوه العين بمرأى معجب:
أنت ماذا - قال: مزن علمت ... كفه النفحة كفاً درب
سامني بالشرق أن أسقيكم ... رحمةً منه بأقصى المغرب
فسألناه: أين ذاك لنا ... قال: هل يخفى ضياء الكوكب -
[ملك ناصب من خالفكم ... عامري المنتمى والمنصب]
فعلمنا أنها نفحة من ... ورث الجود أباً بعد أب ومنها:
لك كف بالثريا فيضها ... ولها بسط الندى من كثب
كقليب دلوها مترعة ... أشرقت بالماء عقد الكرب
تبصر العينان منه إن بدا ... قمر السرج وشمس الموكب(1/211)
أنجبته للمعالي أسرة ... نزلوا للمجد أعلى الرتب
بنفوس من سناء غضة ... في جسوم بضة من حسب
ووجوه مشرقات أومضت ... ضاحكات في وجوه الكرب
لهم أيام حربٍ كثرت ... في عداهم داعيات الحرب
لم يطق عام قدماً مثلها ... لا ولا عمرو بن معد يكرب
سحبوا من ذيل مجد إذ هم ... للوغى في ظل نقعٍ أشهب
يا ابن أم المجد خذها عبرةً ... جد قول يشتهى كاللعب
من بنات اللب زانتك كما ... زان صدر المهر حلي اللبب
خمرة من طيبها قد سبيت ... قطعت نحوك عرض السبسب فإن يراجع - أعزك الله - المؤتمن منصفاً فهو أولى به وأستر له، لا كقوم عندنا، حظهم من الفهم الحفظ، ومن العلم الذكر، وهذا حظ القصاص، وأعلى منازل النواح، فترى الممخرق منهم إذا قرئ عليه الشعر يزوي أنفه، ويكسر طرفه، وإذا عرضت عليه الخطبة يميل شقه، ويلوي شدقه، فإن تناولهما لم يبق ملحةً إلا حشدها، ولا أبقى عفصة فجةً إلا جلبها. وأصل قلة هذا الشأن، وعدم البيان، فساد الأزمنة، ونبو الأمكنة؛ وإن الفتنة نسخ للأشياء، من العلوم والأهواء، ترى الفهم فيها بائر السلعة، خاسر الصفقة يلمح بأعين الشنآن، ويستثقل بكل مكان. وهذا رأينا، وحربنا(1/212)
أنا طلبنا البيان، فأدركناه بكل لسان، والتمسنا الإبداع فأثبتنا كل معجب، وأتينا على كل مطرب، فما سقطنا على سوقة يهش إلينا، ولا دفعنا إلى ملك يصبو بنا؛ وليت إذ لم يكن غنم، ألا يكون غرم؛ ووددنا أنا برازخ لا حرب ولا سلم، ولا يقظة ولا حلم " كفى بذلك إنحاء على الزمن ". ولولا أن المؤتمن نجم من تلك الأنجم الكريمة، وفرع من تلك الدوحة القديمة، أمسك على الدنيا عينها، وحفظ عليها زينها، لقلت: إنها نسخ، وإن أصلها مسخ، سناؤها للئيم أو غد، وزمامها بيد بوم أو قرد.
وله من أخرى إلى الوزير ابن عباس: ولما أسندت منك إلى هضبة لا انخرام معها، واستمسكت بعروةٍ لا انفصام لها، إذ ورد علي كتاب رسولي إليك، يذكر تغيرك له، وأنكرت ذلك عليك، ثم تذكرت قولهم: ما نزل حتى رحل، وقول الآخر:
كريشة بمهب الريح ساقطة ... لا تستقر على حال من القلق وفي فصل: وقلت: أستنوق الجمل، ويتضح الكوكب، وتخف حصاة الحلم، ويتضعضع جبل العمل والعلم، ويكبو جواد الهمم، وتزل نعل الكرم، وتغلب الدنيا الدين، ويسطو الشك باليقين - ثم تذكرت علمي بك، وقولي فيك:
غير أني مع الوزير أبي القا ... سم حزب محض من الأحزاب(1/213)
التقي التقي كهلاً وطفلاً ... فارس الجيش راهب المحراب فعلمت أنك صاحب محراب، ومؤمن بآية الكتاب؛ فتللت الأوهام للجباه، وكبحت الظنون كبحة أقعدتها عن الأشباه، ولم تبق إلا بقية من قول القائل:
ولو ترك الناس الملوك لأحسنوا ... ولكن أولاد الزنا كثير فبحثت عمن طرأ عليك من الأنذال، وحل بساحتك من الأعلاج، فقيل لي: ابن فتح، فأنعمت البحث، وأعملت لطائف الكشف، حتى صح عندي أنه كدر صفوك علي، وغير شربك لدي، فقلت: من هاهنا أتينا، وعن هذه القوس اللئيمة رمينا؛ وقصصي مع هذا العلج طويل.
وفي فصل منها: ولم يزل يسعى لإفساد تلك النيات حتى فسدت وانتفضت، وزاد في إفساد الضمائر، ورام التدبير من غير طرق الأكابر، حتى تلف وأتلف، وكانت العاقبة ما عاينت، والمغبة ما شاهدت؛ ولقد سألني أبو جعفر أن ينفرد ذات يومٍ بأكبر وزيرين عندنا، ووجهني فيهما، وحضرا، فنفث هذا الساحر فانصرفا، فخاطبته بأبيات أقول فيها:(1/214)
هلا سترت الشين بالزين ... من قبل إحضار الوزيرين -
قد علما أنهما أحضرا ... لخلوةٍ أثقل من دين
لما تدانت قاب قوسين ... أصابها الحاسد بالعين
فانصرفا مثل انصراف الفتى ... أسلم إلفاً ليد البين
صدهما من قردك المصطفى ... نطحة نطاح بروقين
وما رأى الناس على ما مضى ... من قبله قرداً بقرنين
أربعة في مجلس جمعوا ... فطار هذان بهذين
قد لزما جنبيك لم يبرحا ... لهفي على ضيعة جنبين
فأنت ما بينهما جالس ... جلوس أبر بين خصبين وما كان هذا القرد أهلاً لأن يحمل عليه حر كلام، ولا ليرمى بفضل بيان. وبالحرا أن يرقم على عتبة دكان، أو يصور على باب حمام، وقد غرس في وجعائه رأس نخلة، وحيي في سعفها عش نحلة؛ أو ينقش في خاتم قيمار، وقد علاه خنزير، وعطس مستنجاه بإبرة زنبور، فإنه بقية من بني إسرائيل الذين استحلوا الحرام، واجترحوا السيئات والآثام؛ فلما عتوا عما نهوا عنه، قيل لهم كونوا قردةً خاسئين، فجعلت نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين.
ولولا أنه منتسب إلى آل هاشم، إلى عصابة أقلني كرمهم(1/215)
وأظلتني نعمهم، ومسند على العلات من أبي جعفر، إلى وزير كان لي وزراً، رقرق شرابي، وأخصب به جنابي؛ لأدرت بداره دائرة السوء، وسريت إليها في لمةٍ في صعاليك الأحرار، وصميم الرجال، فأحرقتها على نازلها، وجعلت عاليها سافلها، امتثالاً لقوله تعالى في ديار قوم لوط؛ فالشائع لدينا أنها قرار لبنات السحق، وبركة لسمكات العشق، يتناكح بها النسوان بعضهن إلى بعض بالصدقات، ويستعملن خرز جلود البقر في الكيرنجات. فالله الله في قبول هذا القرد والالتباس به، فإنه قدار من لزمه، وهو والفرضي رضيعاً لبان، وفرسا رهان، ولذا لم يؤثر فيه إذ نقره على الرأس، لأن الأفعى لا تقتلها نهشة الأفعى، وأخاف عليك عاديته، وأتقي على أيامك بادرته؛ كان الله خليفتي عليك يا أبا القاسم؛ والله الله في إعادة نفحة من كرائم نفحاتك على قرية أبي الجودي، فلو أنها الجودي كرامةً، وقرية النمل عمارة، لقلت في جنب ما أتغنى به من شكرك، وأترنم به من تقريظك ومدحك. والذي أستقبله من ذلك أكثر منىً: علي أن أهدي من ذلك لطيمةً إلى جارتك القيروان، وأخرى إلى حبيبتك مكة بيت الرحمن، بكلام عذب، ومساق رطب، يبكي الحجيج، ويقدح نار العجيج، تحن له الرباب، وترق له الأعراب. واعلم أن نعمتك فيها، لشهرتها بك، وارتفاعها بارتفاعك، مكتوبة بكف(1/216)
الثريا في مفرق السماء، نونها الهنعة، وعينها الشولة، وميمها النثرة، فإن أعقبتها " لا "، كان الدبران كاتبها عليك، ترمقها الأبصار، على انتزاح الأقطار.
وفي فصل: وبحثت على من تجرد للتنبيه على مثل ذلك وتفرغ للاشتغال به، فوقعت على الكاتب الوزير، اليقظ النحرير، خالد بن يزيد الكيميائي أبي عبد الله الفرضي، فقلت: شنشنة أعرفها من أخزم، لا يصلح للأفعى مراد الروض، ولا ورود الحوض، ولا يدفع لؤم الكلب، كرم الصحب، وإنما الأخلاق جارية على الأعراق، والأفعال مأخوذة عن الأعمام والأخوال؛ وهذا المذكور مشئوم، أدوى من موم، وأشأم من بوم، يسيء لمن أحسن إليه، ومن أجاره تجنى عليه؛ منته نفسه على ضيق نفسها ملك الملوك، وإحياء وقائع اليرموك، فارتبك فيما ارتبك، ولولا القدر لطحنته الرهك، لقد أخطأت استه الحفرة، وما ثبت عند النفرة؛ أولى له! لقد خبث مغرسه عما حاول، ولؤم معطسه عما تناول؛ وهيهات! لا تبصر الشمس العمش، ولا تهتدي السبل الخفش. وإني لأخاف على سعدك نحسه، وأحذر على يومك أمسه، أفقده الله حسه، وأورده الكنيف(1/217)
رمسه، فإنه لو جاور البحر لسده، ولو جاس أبا قبيس لهده. وما أبعد أن تمنيه نفسه الخبيثة الفتك بك، والوثوب عليك، فإن أمره أسخف، وصفاقة مخه أشف، من ألا يجري هذا المجرى، ولا يرمي هذا المرمى؛ وربما ساعده القدر: هذا حمزة قعصه وحشي، وبسطام صرعه عاصم، وكسرى فتك به مرازبة له.
وكتب الوزير أبو مروان ابن الجزيري إلى الوزير أبي عامر ابن شهيد:
قل للوزير الذي بانت فضائله ... وقام فينا مقام الغيث نائله
إذ بان فضل مساعيه وهمته ... بين لنا شرح معنى سال سائله:
أواخر الورد إذ تجنيه ملتقطاً ... أزكى وأعطر نشراً أم أوائله -
وأي حاليه موجوداً ومفتقداً ... أولى وأجدر أن ترعى وسائله -
وقد أتاك لتوديع على عجل ... خضراً مقانعه حمراً غلائله
فامنحه منك قبولاً واقض نهمته ... من الوداع فقد زمت رواحله فأجابه:
يا سيداً أرجت طيباً شمائله ... وشاكهت شعره حسناً رسائله
وسائلاً لي عما ليس يجهله ... ولا الذي كلف التفضيل جاهله
الورد عهداً ونشراً صنو عهدك لا ... تنسي أواخره طيباً أوائله(1/218)
ووصله في كلا الحالين مفترض ... سيان قاطعه جهلاً وواصله
فالعود يخفق، والمزمار يتبعه ... وهاجر الراح قد هاجت بلابله
تخبر بمثل الذي أنت العليم به ... أيامنا والصبا تعصى عواذله قال أبو الحسن: وقد ضارع أبو عامر هذا محاسن الطبقة العالية البغدادية المضارعة التي بانت فيها قوته، ولدنت اختراعاته ومقدرته، فصار يتناول المعنى الحسن فيصيره محساً بحسن مساقه، فمنها وصفه للنحل والعسل: واسعة الأكفال والصدور مرهفة. ووصف البرغوث فقال: أسود زنجي. ووصف البعوضة فقال: مليكة لا جيش لها سواها. ووصف الثعلب فقال: أدهى من عمرو. فهذه أوصاف لو رامها غيره لكبا جواد بنانه، ونبا حسام لسانه. وقد عارضه فقال في صفة النحلة:
وطائرة تهوي كأن جناحها ... ضمير خفي لا يحدده وهم
ملازمة للروض حتى كأنما ... لها كل ما تفتر عنه الربى طعم
تمج بفيها الشهد صرفاً ويختفي ... لمشتاره ما بين أحشائها سهم
منافرة للإنس تأنس بالفلا ... مفرقة للشهد، من بعضها السم
فإدناؤها رشد وهتك حجابها ... إذا احتجبت في غير أيامها ظلم وقال في صفة البرغوث:(1/219)
ومنفر للنوم مسكنه إذا ... نام المملك بين أثناء الثياب
يسري إلى الأجسام يهتم عدوه ... عن كل جسمٍ صيغ بالنعمى حجاب
ويعض أرداف الحسان وماله ... كف ولكن فوه من أعدى الحراب
متحكم في كل جسم ناعم ... متدلل ما بين ألحاظ الكعاب
فإذا هممت بزجره ولى ولا ... يثنيه عما قد تعوده طلاب
وترى مواضع عضه مخضوبةً ... بدم القلوب وما تعاوره خضاب
قرم من الليل البهيم مكور ... يمشي البراز وما تواريه ثياب
عظمت رزيته ولكن قدره ... أخزى وأهون من ذباب في تراب رجع. وله: تخلصك الله منه! ثلاثة سموم: أفعى وعقرب ويعسوب نحل. شرب الماء وارداً وعنده حشائش استفادها من كيميائه، تكفيه وعثاء عنائه، إذا رام فتكاً أو حاول وثباً. وإذ قد اطرد هذا القول، وانثالت هذه الكلمات، فلا بد من تعريف الموفق - وفقه الله - أصل هذا الفاسق وفرعه، وإن كلفته تطويله وسجعه: صحبته منذ أعوام، أيام اختلافنا إلى الزاهرة، وإذ تلك المواطن قائمة غير دائرة، وبالغرر من آل عامر عامرة، وكنا كثيراً ما نتدارس ضروب العلم: من ادب وخبر وفقه وطب وصنعة وحكمة؛ على أنه في أهل الفهم واو عمرو، أو لسان بظر. وكان - ولا أشعر - يدالس يوالس(1/220)
قد استهتر على الفلوس، واستهلك على التدليس، وصار في ذلك وضح النهار، ونفخة المزمار؛ لو لمس البدور لعادت زيوفاً، أو تناول الشموس لغشاها كسوفاً، وقصدته يوماً، على جهل بتلك الخليقة منه، لأستريح إليه، وألقي من شيئي عليه، فألفيته قد خلا بابه، وغاب بوابه، فولجت فثار إليّ صبي غرير أصبته هنالك قائلاً لي: طال انتظارنا لك! وتقدمني وسرت حتى انتهيت إلى دار ذات أجوان، قد غشيها دخان، كقطع العنان، تعبق منها صنان، من زرنيخ وكبريت، وزنجفور وأنزروت؛ فتذكرت {يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس، هذا عذاب أليم} (الدخان: 10، 11) فاستشعرت الشر، وأردت الفر، ثم التفت فإذا أنا بأكداس جمر، وآلات تبر، وأشخاص سود وصفر؛ ثم أفضيت إلى بيت فيه عدة أشباح، كأنها قباض الأرواح، غرابيب، بأيديهم كلاليب؛ رزادق قد تقلدت مطارق؛ فلما رأونى صاحوا: فضحكم الواغل، فامحقوه من عاجل؛ فلما نظرت إلى امنية، وخشيت فصل القضية، ضحكت إليهم وقلت: تخطتكم النعمة، ولا هديتم سبيل الحكمة، أهكذا تعجلون، ولا تدرون من تريدون - قالوا: ومن أنت - قلت: من أخذ الطلق، فسحقه بالمدق، وشق بيد الذكاء، عن زهرة الأشياء، فبشر الآباء بالأبناء. فقالوا: بنار أم بماء - قلت: بهما جميعاً وبهواه. فأمضوا إليّ ضاحكين، واستقبلوني معتذرين، وقالوا: كدت والله أن تلتهم(1/221)
وتكون السواد المخترم! قلت: وأين أبو عبد الله - قالوا: انفرد يرقق ماء بيض، ويصفق دم حيض، وغرضه استخراج دهن الحجر الكريم؛ فقلت: حبس حديث أو قديم - فنادوا: أواه، أواه! على الخبير سقطتم. ثم تلطفت وخرجت، تطير بي رجلاي، وقد حقن الله دني بعطفه، واستنقذني من يدي منيتي بلطفه. ووصفت لمن استوثقته ذلك بعد أن استكتمته، فجاس وخاص، وكأني أودعت سري ريحاً؛ فاضطغن ذلك علي، وأكد ذلك أيضاً معاملة عاملني بها أيام حرب المدينة، وكانت حبالها إذ ذاك منية، أعقبته وقع السوط على رأسه، وعض الحجل على ساقه؛ وكان الأمير بها أبو أيوب ابن المرتضى رضي الله عنهما، فأعددت شعراً نويت أن أنشده إياه أول بيعته، وكان ما كان، وبلغه الشعر، فزادت نفسه لي خبثاً، ومنه:
فلما بدا فيهم سليمان عندها ... وصاح ابن ذكوان فثار رجال
هدى من ضلال الحائرين محمد ... وأذن بالبيت العتيق بلال
وقام أبو عمران يرأب صدعها ... بسعي تجلى عن هداه ضلال
وزير متى يستوزر الملك رأيه ... أمرت له في النائبات حبال(1/222)
وليس كمنحوس من القوم منحس ... تعاظم حتى قيل ليس ينال
أعانته أموال تخون عينها ... وأعلته غثر سوقة وسفال
له كعب نحسٍ لم يصاحب به امرءاً ... على الدهر إلا رد وهو خيال
ففي كل عصر من عصور حياته ... تثل عروش أو تدك جبال
هو الداء فاستأصله تلبس جمالها ... وداء كعوب المنحسين عضال ولما قضي ماقضي، ووقعت تلك الهنات، ودرج أبو أيوب وعظم تأسفي، رميته بأبيات بلغته، فاصطكت أجرام عداوته، وأخذ في وجوه مطالبته، منها.
نالت سليمان منه رجل ... من قبل ما أرجلت أباه
فاستدرجا كاشفي دجاه ... يا ويلة المرء؛ ما دهاه -
يا سخط رب العلا عليه ... إذ أدت المرتضى يداه
لم يبق من زمرة المعالي ... إلا هشام العلا أخاه
يا رب فاحرسه لي بعين ... تمنعه الدهر من أذاه وفي فصل: وقال فيه أيضاً مسلمة بن عبد الملك:
لا تعرضن لإمام ... فبحر نحسك طامي
أصميتهم دون رمي ... والله إنك رامي ثم اشتدت وطأة هذا الخبيث أيام المستظهر، فلم يبق غايةً من اهتضامي إلا امتد لها، وأجرى نحوها، وقصرت به الأقدار دونها(1/223)
وظاهر صاحبه أبا الحسن علي، وقاد مضرته إليّ، وصنع شعراً حملنيه عنده، وهو:
يا كسرة دهمتنا ليس تنجبر ... وسبةً لحقتنا ما لها عذر
باتت قعوداً رجال طاب محتدها ... وقام نذلان في سنخيهما بخر
أمسى قدار يسوس الأمر أجمعه ... لقد تأنق فيما ساءنا القدر
وذا أبو اليسر قد أمسى لها وزراً ... إنا إلى الله، يسر جره عسر
نذلان ما حركا إلا فشا ذفر ... نفح الكلاب إذا ما مسها المطر
لو أن أشياخنا كانت لهم همم ... تبقي رياستنا لم ترأس البقر
لكنهم - وقضاء الله محتمل - ...
إذا هم اجتمعوا يوماً لمعضلة ... رأيت نار التقالي كيف تستعر
بوم يرى الشؤم باد في صحيفته ... وقرد سوءٍ على صفحاته وبر فأغريا بي، وأرصدا لي، فكفى الله شرهما؛ فشبا حرب البسوس، وتناقرا على الرؤوس، وكانت هامة أحدهما صينية، أو مرآة هندية، فكبا الجد بمن كبا، ونبا المجد عن هامة من نبا، ليبلغ الكتاب أجله، ويقضي الله أمراً كان مفعولاً.
فكيف يصغي الموفق - أيده الله - إلى رجلٍ هذه صفته، وبيني وبينه(1/224)
ما قد شرحته وأوضحته - فليجرني من قبول حديث هذا الخبيث في، وإصغائه إلى كذبه علي، وليجر نفسه من عاديته، وينظر من وجه فائدته، يجده أشقى الأشقياء، وأضعف الضعفاء. إنما هو لطبخ إكسير، أو لشد قصدير، أو لنقش في ذكير، أو لادعاء أعمال، لو لتغشيةٍ مثقال، أو إقامة طلسمات، وهو خلي من ذلك كله، والحقيقة نائية عنه، والشعوذة غير مستملحة منه، لبرد طباعه، وقصر باعه؛ وإنما هي لأديب ظريف، ذي فهم لطيف. فأما هو فأبرد من ثلجة، وأشد عفوصةً من عفصةٍ فجة، إذا تقبض أنفه، وشمخ طرفه. ولولا أن المولك لا تتهادى بالوضيع، ولا تعتمد في تحفها غير الرفيع، لرأيت أن تهديه إلى البلينة ملكة البحر، والقيمة بالأمر، لينصرف البارد إلى عنصره، وعسى أن يخرجه البحر بعد حين في عنبره، فيكون أحر قليلاً، وأهدى إلى ذلك سبيلاً؛ ولولا أن وصف هذا الخبيث داخل في معاتبة الموفق، لما ارتضيت سوقه، ولا غشيته من كلامي روقة، فإنما يتعاتب الأكفاء، ويتمازح الأخلاء.
@فصول قصار اقتضبتها من طويل كلامه
فصل: جلا الشكوك بيقينه، واستنبط معرفة الأعمال من شئونه؛ وقسم ليله نصفين: نصفاً للتلاوة، ونصفاً للسياسة؛ ويومه شطرين:(1/225)
شطراً للميدان، وشطراً للديوان، فاستجم در الخراج، ونزف دماء الأعلاج، من الأوداج.
فصل: لا نعمة للخالق على المخلوق أجمل عاقبةً، وأحمد مغبةً، وأروق بهاء، وأسبغ رداءً، وأبعد مأثرة، وأيسر مكرمة، من تقى يشعرها قلبه، وأدب يزين به عقله، ولسان مبين يفيضه عليه فيعرب به عن نفسه، ويكشف عن حقيقة ذاته، قال الله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات: 13) وقال: {هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون} (الزمر: 9) ، وقال {سلقوكم بألسنة حداد} (الأحزاب: 19) ، وقال: {أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين} (الزخرف: 18) وقال علي رضي الله عنه: قيمة كل امرئ ما يحسن، وقال: المرء مخبوء تحت لسانه. ولذلك كانت الملوك تعدل ببنيها عن التنعم إلى شظف العيش، وتدني محالتهم من البادية، وتبوئهم منازل الفصاحة، لتحتد أفئدتهم، ونمتد ألسنتهم، وينسابوا في لصاب الدهاء، ومزاحف النكراء، فيجيدوا الحز، ويطبقوا المفصل، ويسوسوا النوب، ويكبتوا الخصوم، ويخرجوا من الغماء، ويمضوا قدماً في الشنعاء، كما قال عمرو لمعاوية:
فإن تعطني مصراً فأربح بصفقة ... أخذت بها شيخاً يضر وينفع وإن امرءاً يقابل ابن هند بهذا، وهو هو، لفضفاض قميص الأدب، طويل نجاد المعرفة، موقوف على ذروة الفضل.(1/226)
فصل: واصل الجهاد، واستأصل الكفر والعناد، واتخذ ظهر الجواد بيتاً، وظل اللواء كناً، واستبدل من نقر الكران قرع الطبول؛ ومن نغم القيان شجا الصهيل، ومن وجبة المعازف لجب الجيوش؛ يمشي في الهجير، ويسري في الزمهرير، ويحن إلى الأذان والتكبير؛ في خطة إبليس، ومصدح الناقوس.
فصل: كنت أسمع من هذه المآثر والمكارم مثل نفح الصبا، ويقرع أذني منها جرس ألذ من نغمة الصبا، فلا أكذب، لصدق الشاهد، وأمانة الناقل، وكثرة القائل. والحكيم أبو فلان خادم الشيب، ومصلح العيب، وله جوارشات مؤلفة، حارة مفلفلة، تكاد ترد الخصي فحلاً، والثور المسن عجلاً.
فصل: أجل ما بيننا ارتضاع الكاس، وشم الآس، والجري في حافات الصبا، والصيد بالسكر في الربى؛ وإن كانت هنات مخلقة، وأوقات موبقة، ذهبت وبقي وزرها، وظعنت وأقام شرها، فإن المرجوع للعليم الحكيم، رب العرش العظيم.
وله من رقعة خاطب بها مجاهداً أمير دانية وقته: قد يحلف الغمام، وتغدر اللئام، وتقطع الأرحام. من عز بز، ومن ريش طار، ومن سارت به الأيام سار، وعلى الجد المدار. جد كبا، وحسام نبا، وآمال(1/227)
تفرقت أيدي سبا. كلمات أنثرها عليك، وآمال أصرفها إليك. كنا قبل أن ترمي بنا النوى مراميها، وتلقي الخطوب علينا مراسيها، وتمخضنا الأيام مخضاً، وتركض بنا الليالي ركضاً، تر بي صحبة، وحليفي صبوة؛ قد تخلينا عن الأنساب، وانتسبنا إلى الآداب، والدار إذ ذاك صقب، والملتقى كثب؛ فإذا شمخ بأحدنا مارن، وثار به كمد ساكن، بعتب على زمن، وتقصير بإرادة عن سكن، تعاطينا كأس الشكوى، وتجاذبنا حبل البلوى، والزمان غر، وحواصلنا صفر، نترنم ترنم الحمام، على زق الجمام؛ ثم ألقت الأيام علينا بكلكل، وأناخت من فوقنا بجران، فنثرتنا بكل فج عميق، وأفق سحيق، نثر الدرر، شذر مذر؛ ونفحت عليك رياح السعد، وجاءتك المنى من تهامة ونجد، وامتطيت ظهر الجوزاء، وافترشت لبدة العواء؛ وكلما دعيت إلى النزال والعراك، تترست بالثريا وطعنت بالسماك، فزحمت منكب الدهر، وقضيت أربك منه على قهر. فكان أول حيصتك عن الرفاء، وحيدتك عن رعاية قديم الإخاء، أن تركت المخاطبة، وأضربت عن المكاتبة، خشية أن يكون كلنا عليك، ورغبتنا في ما لديك، وهيهات! يأبى ذلك كرم محض، وهمة علياء ما لها خفض. ثم قلت: حمل أحسن الظن أجمل، والقضاء بأكرم العهد قبل، قد تشتغل الرؤساء، وتتجاذب العظماء، وعينه مع ذلك راعية، وأذنه واعية، وإنما الوصل بالفؤاد لا بالمداد، والالتقاء بالحلوم لا بالجسوم، فانطويت على ود، وثبت على صحة عقد. ثم دارت الدهور، وطلع البشير، أن قيل طالعكم عسكر جرار، فيه لأسد العرين نار، قضي لكم(1/228)
به الأمر، وخفقت عليكم ألوية النصر، فقلت: من زعيم هذا الجيش - قيل لي: أخوك أبو الجيش [قلت: رؤوف عطوف، شقاق للصفوف، وواحد يعدل بألوف. وقلت: رد شهيد في أمتك] من أمم، وجاءتك تسعى على قدم، وضح الصبح لذي عينين، وأمكن البطش ذا يدين؛ هذا حبيبك قائد أعنتها، وذا خليلك مالك أزمتها، هذا أبو الجيش مصعب على مقرب، ومغضب يضرب بمقضب، آن لذهب العلم أن يزف، وحان لجوهر الفهم أن يشف؛ ويل للجهل وبنيه، وعشيرته وأقربيه.
وفي فصل: ولقيت إخواناً لقوك، فو الذي جعل الغدر من شعارهم، والحذر من دثارهم، ما أجروا في ذكرك، فضلاً على أن يجروا ذكري لك. وهم يعلمون أن مرماي غير مرماهم، ومغزاي سوى مغزاهم، ويوقنون أن أبعد آمالي في صديق إذا سما، وأرفع رغباتي لديه إذا طمى، انفراج بابه، وانهتاك حجابه، يمتعني بإشراق وجهه، ويوردني غدير بشره، ويزنني بغيري من إخوانه، ويضربني بسواي من أهل زمانه، ولا يقلل حظي من إكرامه، ولا يهجر قسطي من لطيف اهتمامه، بعد أن يعدل القسطاس، ويميز الذهب من النحاس.
وفي فصل: وهذا أخف حمل وأيسر. فأدركني ما يدرك من طاب غرسه، وكرمت عليه نفسه، وأزمعت على المقاطعة، فقلت: الصبر(1/229)
أولى، والإنصاف أحجى، لا بد أن توفى الرجال مقاديرها في أزمانها، ويستحال لها عند استحالة أعيانها؛ وتخشع من أوهد لمن أصعد سداد، وتلين من أتهم لمن أنجد رشاد، فتقلقلت واضطربت، وتجمعت لي وانقبضت، ثم جاشت كما يجيش البحر، له همهمة وزخر، فقالت: ثكلتك المكارم يا ابن المكارم! ألست من أشجع في العلا، ومن شهيد في الذرى، وللخالق في صدرك حكمة، وللرزاق في حجرك نعمة - تقول بهذه فتسمع، وتعنى بتلك فلا تخضع، وساويت امرءا لم تحتج إليه، ووازنته ما لم تطمع فيما لديه - لا أسر إنما أعلن، قيمة كل امرئ ما يحسن. قلت لها: فأين اليأس - قالت: هو في القلب والرأس، لئن أصابه غيرك فارسا، إنك لغير بعيد منه راجلا، فقلت: لقد أدركتك عجرفية، واستولت عليك أعرابية، لا بد من قصدي أبا الجيش، قالت: ليهنك العيش، في أبرد من ظل الخيش! وقصدتك من جهتي، فلم أشك ولم أقر، ولم أعرف ولم أنكر، وانصرفت بين الحالتين، لا قرب ولا شحط، ولا رضى ولا سخط.
[وعرضت] فصول من كلامه على الكاتب أبي بكر المعروف باشكمياط فقال: فقر حسان إلا أنه عثر عليها. فوصل كلامه إلى أبي عامر فكتب إليه: ما أغيرك أبا بكر، على نظم ونثر، لو إليك كان العلم، أو بكفك كان(1/230)
الفهم، لم تترك لأرض أعلاما، ولا لغيرك إنعاما؛ أحشا عند رعدتك -! عرضت عليك الدر منظوما، فقلت: نعم ما صنعت لو اخترعت؛ وما أحسن ما أطلت لو ابتدعت. معرضا بالتقصص، ومشيرا إلى التلصص؛ هيهات! لا يزيد الحز من الغرب، ولا يضيء السليط في لأقطعن حبالك هاجرا، ولأتركن ليلك ساهرا.
وله في فصل: وإصابة البيان لا يقوم بها حفظ كثير الغريب، واستيفاء مسائل النحو، وإنما يقوم بها الطبع مع وزنه من هذين: النحو والغريب؛ ومقدار طبع الإنسان إنما يكون على مقدار تركيب نفسه مع جسمه، فمن كانت نفسه في أصل تركيبه مستولية على جسمه، كان مطبوعا روحانيا، يطلع صور الكلام والمعاني في أجمل هيئاتها، وأروق لبساتها؛ ومن كان جسمه مستوليا على نفسه - من أصل تركيبه - والغالب على حسه، كان ما يطلع من تلك الصور ناقصا من الدرجة الأولى في الكمال والتمام(1/231)
وحسن الرونق والنظام. فمن كانت نفسه المستولية على جسمه فقد تأتي منه في حسن النظام، صور رائقة من الكلام، تملأ القلوب، وتشعف النفوس. فإذا فتشت لحسنها أصلاً لم تجده، ولجمال تركيبها أساً لم تعرفه؛ وهذه هو الغريب، أن يتركب الحسن من غير حسن، كقول امرئ القيس:
تنورتها من أذرعاتٍ وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالي فإن هذه الديباجة إذا تطلبت لها أصلاً من غريب معنى لم تجده؛ وكقول أبي نواس:
طرحتم من الترحال ذكراً فغمنا ... فلو قد شخصتم صبح الموت بعضنا ثم قال فيها:
سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هواك، لعل الفضل يجمع بيننا فهذا من الكلام الغث، واللفظ الرث، الذي لو رامه حمار الكساح لأدركه، ولكن له من التعلق بالنفس، والاستيلاء على القلب ما ترى.
وفي فصل له: وقول الجاحظ: إنا إذا اكترينا من يعلم صبياننا النحو(1/232)
والغريب قنع منا بعشرين درهماً في رأس كل شهر، ولو اكترينا من يعلمهم البيان لما قنع منا بألف درهم. ولم يقل هذا إلا وقد ألف " كتاب البيان ". ولو كشف فيه عن وجه التعليم، وصور كيفية التدريج، لأرى كيف وضع الكلام، وتزيين البيان، وكيف التوصل إلى حسن الابتداء، وتوصيل اللفظ بعد الانتهاء، وأبدى لهم عن تدبير المقاطع والمطالع، فإنها معادن الصنعة، ومواضع مفاتح الطريقة؛ ولكنه استمسك بفائدته، وضن بما عنده، غيرةً على العلم، وشحاً بثمرة الفهم، وعرف أن النفع كثير، والشاكر قليل، فلم يفد بما أوضح من أمر البيان فائدةً غير أهله، ومن كرع في حوضه، واستاف من نده. وأما أن يخلارج مبتدئاً، أو يعلم جاهلاً فلا ألبتة.
وفي فصل له: قال أبو عمار: وقد كنا أطعمنا من هذا الطعام بعض التلاميذ، فاستطابه وعلم مقداره، ولكن البطالة على الفتيان غالبة، والسآمة عليهم مستولية؛ فمن بنى على تعليم هذا الشان فلا يعلم إلا أهل النجابة والمثابرة على التعليم، لأنه من لم ينجب له تلميذ حمل عليه ذلك النقص، وظن به العجز.
جلس إليّ يوماً يوسف بن إسحاق الإسرائيلي، وكان أفهم تلميذ مر بي، وأنا أوصي رجلاً عليّ من أهل قرطبة، وأقول له: إن للحروف(1/233)
أنساباً وقراباتٍ تبدو في الكلمات، فإذا جاور النسيب النسيب، ومازج القريب القريب، وطابت الألفة، وحسنت الصحبة؛ وإذا ركبت صور الكلام من تلك، وحسنت المناظر، وطابت المخابر، أفهمت - قال لي: إي والله، قلت له: وللعذوبة إذا طلبت، والفصاحة إذا التمست، قوانين من الكلام، من طلب بها أدرك، ومن نكب عنها قصر، أفهمت - قال: نعم، قلت: وكما تختار مليح اللفظ، ورشيق الكلام، فكذلك يجب أن تختار مليح النحو، وفصيح الغريب، وتهرب عن قبيحه، قال: أجل، قلت: أتفهم شيئاً من عيون كلام القائل:
لعمرك إني يوم بانوا فلم أمت ... خفاتاً على آثارهم لصبور
غداة التقينا إذ رميت بنظرة ... ونحن على متن الطريق نسير
ففاضت دموع العين حتى كأنها ... لناظرها غصن يراح مطير فقال: إي والله، وقعت " خفاتاً " موقعاً لذيذاً، ووضعت " رميت " و " متن الطريق " وضعاً مليحاً، وسرى " غصن يراح مطير " مسرىً لطيفاً، فقلت له: أرجو أنك تنسمت شيئاً من نسيم الفهم، فاغد عليّ بشيء تصنعه. قال أبو عامر: وكان ذلك اليهودي ساكتاً يعي ما أقول؛ فغدا ذلمك القرطبي فأنشدني:
حلفت برب مكة والجمال ... لقد وزنت كروبي بالجبال(1/234)
في أبيات تشبهه. وجاء اليهودي فأنشدني:
أيمم ركبانهم منعجاً ... وقد ضمنوا قلبك الهودجا - واستمر إلى آخر قصيدته، فأتى بكل حسن، فقال لي ذلك القرطبي: شعر اليهودي أحسن من شعري، قلت: ولا بأس بفهمك إذ عرفت هذا. ولم يزل يتدرب باختلافه إليّ حتى ندي تربه، وطلع عشبه، ثم تفتح زهره، وضاع عبقه. ورآني أستعمل وحشي الكلام في مواضعه ولم يشعر بحسن الوضع فاستعمل شيئاً منه وعرض عليّ، فقلت: استره، فقال: تبخل عليّ به. وعرضه على ابن الإفليلي، فقال له: تنكب هذا الكلام، فقال له: إن أبا عامر يستعمله، فقال: يضعه في موضعه، وهو أدرب منك في استعمال.
وفي فصل له: وربما لاذ بنا المستطعم باسم الشعر ممن يخبط العامة والخاصة بسؤاله، فيصادف منا حالةً غير ذات فضلة، لا تتسع له في كبيرة مبرة، فنشاركه ونعتذر له؛ وربما أفدناه بأبيات يعتمد بها البقالين ومشيخة القصابين، فإذا قرعت أسماعهم، ومازجت أفهامهم، در حلبهم، وانحلت عقدهم، وجل شخص ذلك البائس في عيونهم، فما شئت إذ ذاك من خبزة وثيرة يحشى بها كمه، ورقبة سمينة تدفن في مخلاته، ومن كوز فقاع يصب في فمه، وتينة رطبةٍ يسد بها حلقومه، وسنبوسقة ودكة تدس تحت لسانه(1/235)
وفالوذجة رطبةً يحنك بها حنكه، فلا يكاد البائس يستتم ذلك حتى يأتينا فيكب على أيدينا يقبلها، وأطرافنا يلطعها، راغباً في أن نكشف له السر الذي حرك العامة فبذلت ما عندها له، وبادرت بدرها إليه. وتعليمه ذلك النحو من أنحاء السحر لا نستطيعه، لأن هذا الذي يريده منا هو تعليمه البيان، وبين فكره وبينه حجاب؛ ولكل ضرب من الناس ضرب من الكلام، ووجه من البيان؛ والمرء لا يفجر صفاة غيره إلا أن يوفي على معرفة ذلك بفهمه التبيين والتبين، ويكون من المستنبطين بوجوه الحيل على قوانين قائمة، وأصول ثابتة، فتكون النتيجة ما سمعت.
وفي فصل: وأصعب من هذا تحريك البخلاء من الكبراء إلى البذل، لأنهم بعادتهم لا تمكن نقلتهم لعزتهم، ولما اشتملت عليه ثياب مجدهم، فلا ينجع تقريظهم؛ فها هنا يحتاج إلى أثقب ما يكون من الذهن، وأوسع ما يمكن من الحيلة، إلا أن هذه العصابة لا يتمكن لذي التفاهة تحريكها، ولا بد لها من طبقةٍ يكون لها في العين بعض التصويب والتصعيد، ولهذا صار سب الأشراف عسيراً عويصاً؛ فإنك تجدهم يتدحرج عنهم قبيح المقال، ولا يضعضعهم خبيث الكلام، لقوة بنيانهم، وثبات أركانهم؛ فهدم بنيان هؤلاء صعب، ولذلك فخرت العرب بمن لا يمكن له ذلك فيهم من أهل الكلام، ولذلك سب(1/236)
الأشراف، واستحسنوا من ذلك قول ابن صفوان في شبيب: ليس له صديق في السر، ولا عدو في العلانية.
وفي فصل له: قال أبو عامر: وكما أن لكل مقام مقالاً، فكذلك لكل عصرٍ بيان، ولكل دهرٍ كلام، ولكل طائفةٍ من الأمم المتعاقبة نوع من الخطابة، وضرب من البلاغة، لا يوافقها غيره ولا تهش لسواه. وكما أن للدنيا دولاً، فكذلك للكلام نقل وتغاير في العادة. ألا ترى أن الزمان لما دار كيف أحال بعض الرسم الأول في هذا الفن إلى طريقة عبد الحميد وابن المقفع وسهل بن هارون وغيرهم من أهل البيان - فالصنعة معهم أفسح باعاً، وأشد ذراعاً، وأنور شعاعاً، لرجحان تلك العقول، واتساع تلك القرائح في العلوم. ثم دار الزمان دوراناً، فكانت إحالة أخرى إلى طريقة إبراهيم بن العباس ومحمد بن الزيات وابني وهب ونظرائهم، فرقت الطباع، وخف ثقل النفوس. ثم دار الزمان فاعترى أهله باللطائف صلف، وبرقة الكلام كلف، فكانت إحالة أخرى إلى طريقة البديع وشمس المعالي وأصحابهما.
وكذلك الشعراء انتقلوا عن العادة في الصنعة بانتقال الزمان، وطلب كل ذي عصرٍ ما يجوز فيه، وتهش له قلوب أهله، فكان من صريع الغواني وبشار وأبي نواسٍ وأصحابهم في البديع ما كان، من استعمال أفانينه والزيادة في تفريغ فنونه. ثم جاء أبو تمام فأسرف في التجنيس، وخرج عن العادة، وطاب ذلك منه، وامتثله الناس، فكل شعر لا يكون اليوم(1/237)
تجنيساً أو ما يشبهه تمجه الآذان، والتوسط في الأمر أعدل؛ ولذلك فضل أهل البصرة صريع الغواني على أبي تمام، لأنه لبس ديباجة المحدثين على لأمة العرب، فتركب له من الحسن بينهما ما تركب.
وفي فصل له: قال أبو عمار: أهل صناعة الكلام متباينون في المنزلة، متفاضلون في شرف المرتبة، على مقدار إحسانهم وتصرفهم.
فمنهم الذي ينظم الأوصاف، ويخترع المعاني، ويحرز جيد اللفظ، إلا أنه يصعب عليه الكلام، ويكد قريحته التأليف، حتى إنه ربما قصر في الوصف، وأساء الوضع. فهذا في الأبيات القليلة نافر، وفي القريبة المأخذ سائر، وفي طريقة الجمهور الأعظم ذاهب، حتى إذا ازدحمت عليه، وانحشدت إليه، وطالبته ببهاء البهجة، وشرف المنزلة، وقف وانفل، وتلاشى واضمحل.
ومنهم الكارع في بحر الغزارة، القادح بشعاع البراعة، الذي يمر مر السيل في اندفاعه، والشؤبوب في انصبابه، لا يشكو الفشل، ولا يكل على طول العمل، إذا ازدحمت في الكلام عليه المطالب، وعلقت بحواشي فكره المآرب، وحشرت عليه الصعائب والغرائب، استقل بها كاهله، واضطلع بثقلها غاربه، وأعارها من نظره لمحة، ومن فكره قدحة، ثم رمى بها عن جانبيه، قد رويت بمائها، ولبست شعاع بهائها، وبقي(1/238)
كاللقوة في المرقب، سام نظره، قد ضم حجناحيه، ووقف على مخلبه، لا تتاح له جارحة إلا اقتصها، ولا تنازله طائرة إلا اختطفها، جرأته كشفرته، وبديهته كفكرته، فذلك الألسن يوم حرب الكلام، لا تخطئ ضربته، ولا تصاب غرته.
ومنهم من يتجافى الكلام، ويروغ عن المقال، فإذا مني به، أخذ بأطراف المحاسن، وشارك في أنحاء من الصنعة، وجل ما عنده تلفيق وحيلة، وبذلك يصاحب الأيام، ويجاري أبناء الزمان، ما كان له عقل يغطى على نقصانه، وسياسة يسوس بها فحول زمانه. ومن خرج عن هذه الطبقات الثلاث لم يستحق اسم البيان، ولا يدخل في أهل صناعة الكلام.
وفي فصل له: قال أبو عامر: وقوم من المعلمين بقرطبتنا ممن أتى على أجزاء من النحو، وحفظ كلمات من اللغة، يحنون على أكبادٍ غليظة؛ وقلوبٍ كقلوب البعران، ويرجعون إلى فطنٍ حمئة، وأذهانٍ صدئة، لا منفذ لها في شعاع الرقبة، ولا مدب لها في أنوار البيان. سقطت إليهم كتب في البديع والنقد فهموا منها ما يفهمه القرد اليماني من الرقص على الإيقاع، والزمر على الألحان، فهم يصرفون غرائبها فيما يجري عندهم تصريف من لم يرزق آلة الفهم، ومن لم تكن له آلة الصناعة، مما هي مخصوصة بها، لا تقوم تلك الصناعة إلا بتلك الآلة؛(1/239)
فهو كالحمار لا يمكنه أن يتعلم صناعة ضرب العود والطنبور، لتوتد رسغه، واستدارة حافره، ولا له بنان يجس به على دستبان. ولو جاز أن يكون حمار يغني:
ما بال أنجم هذا الليل حائرةً ... أضلت القصد أم ليست على فلك وشبهه، من أجل أن له حنكاً ولساناً وقصبة رئة، لما جاز أن يوقع بالمضراب على الأوتار، ويتمم بجس الأنامل، ويرخي الوتر في مجرى السبابة والبنصر، فيبلبل بنشيده، ويولول في ضربه على بسيطه.
فهذه حال العصابة من المعلمين: يدركون بالطبيعة، ويقصرون بالآلة. وتقصيرهم بالآلة هو من طريق العلل الداخلة من فساد الآلة القابلة للروحانية، والخادمة لآلات الفهم، الباعثة لرقيق الدم في الشريانات إلى القلب، وزيادة غلظ أعصاب الدماغ ونقصانها عن المقدار الطبيعي. يعين على ذلك بالحدس وطريق الفراسة فساد الآلة الظاهرة، كفرطحة الرأس وتسفيطه، ونتوء القمحدوة، والتواء الشدق، وخزر العين، وغلظ الأنف، وانزواء الأرنبة. فنستعيذ بالله ألا يشوه خلقة قلوبنا، ولا يجسي أجرام أكبادنا، ويضم أوتارنا وأعصابنا، ولا يعظم أنوفنا، ولا يجعلنا مثلةً للعالمين.(1/240)
وفي فصل له: وليس العجب في هذه العصابة إلا من أبي القاسم، فإنه زاد عليهم في الصناعة، وبزهم بوفور البضاعة. دخل الشعراء فأخذ لباقتهم، وصار في جملة الكتاب فاستعار صلفهم ورشاقتهم، وباشر أهل الحساب فاستفاد طريقة البراهين، وناظر أهل الجدل فتعلم القوانين، وعرف عناصر الكلام؛ فكل علم يزعمه قبض يده، وكل جد وهزل فإليه منسوب، وعنه مأخوذ؛ وهو مع ما اجتمع له من ذلك كله، وحبي به، أشدهم صبابة بألا يكون بالأندلس محسن سواه، ولا مجيد حاشاه. وكان الرأي عندي له أن يسكن أرض جليقية أو قطرا بعد عن الإسلام، حتى لا يسمع فيه الخطيب ذكرا، ولا يحس لشاعر ركزا، فيكون هناك فردا.
ومن العجب أيضاً في أمره أن كل كاتب كتب للسلاطين عندنا، وكل شاعر مدحهم، رويت أشعاره ورسائله غير أبي القاسم وحده. على أنه إنما جلس للتعليم على هذا المعنى. وربما عرض بأن يؤخذ منه شيء من أشعاره ورسائله ولا يجيبه تلميذ؛ والمحروم محروم؛ ولو أنه اشترى(1/241)
الزبيب لصبيان المساجد، وقشور أصل الجوز لصبغ شفاه خراجيات الخانات، وروى الطبقتين ما عنده، لعرضتا رسومه وجعائله، ورويتا أشعاره ورسائله، وغنتا بها على قوارع الطرق ومناقع المياه ومطارح الزبول، كما تغنبان أشعارهما، وتسعان حماقتهما، فيكون ذلك سببا إلى أن تدب وتدرج، وتعتاد الطيران فتطير، ويراها الناس فتعرف. وهو مع هذا كله يسمينا الهمج الهامج، ويسمي البديع والصابئ وشمس المعالي العضاريط. وهو أبخل أهل الأرض لا محالة. ولم يقصر بنا عنده إلا توقيرنا لثغامته. وهو يرى أن بعض صبيانا قد أقلقوه حين قالوا: ليست مشيته مشية أديب، ولا وجهه وجه أريب، ولا جلسته جلسة عالم، ولا أنفه أنف كاتب، ولا نغمته نغمة شاعر. وحكوا أنه إذا مشى الخيزلى، وتقدم قليلا ثم رجع القهقرى، والقصبة في يده، والخرج على عاتقه، أحذق الناس في إخراج لعبة اليهودي، فأقلقوه بما يسمع، فكيف لو عضته أنياب غير مفلولة، وخدشته أظافر غير مقلمة(1/242)
وفي فصل له: ذكر يوماً عند أبي القاسم سهل بن هارون والجاحظ، فضرب فيها مثل العامة: بينها ما بين الملائكة وصبيان الحرس. هذا من الإنحاء العظيم على سهل. والأولى أن يسميا محسنين، إلا أن سهلاً كاتب سلاطين، والجاحظ مؤلف دواوين. وقد يؤدي النظر إلى أنهما في طريقين مختلفين، وكلاهما محسن في بابه؛ إلا أنه لم ير أغبن من الجاحظ لنفسه؛ إن كان واحد البلاغة في عصره، فما باله لم يلتمس بها شرف المنزلة بشرف الصنعة، وقد رأى ابن الزيات وإبراهيم بن العباس بلغا بها ما بلغا، وهو يلتمس فوائدهما والجاه بهما - فلا يخلو في هذا إما أن يكون مقصراً عن الكتاب وجمع أدواتها، أو يكون ساقط الهمة، أو يكون إفراط جحوظ عينيه قعد به عنها، كما قصر بي أنا فيها ثقل سمعي، وبأبي القاسم ورم أنفه. إذ لا بد للملك من كاتب مقبول الصورة تقع الصورة عليها عينه، وأذن ذكية تسمع منه حسه، وأنف نقي لا تذم أنفاسه عند مقاربته له. ولذلك استحسنوا من الكاتب أن يكون طيب الرائحة، سليم آلات الحواس، نقي الثوب، ولا يكون وسخ الضرس، منقلب الشفة، مكحل الاظفور، وضر الطوق. وربما أنكر منكر قولنا في شرط جمع أدوات الكتابة فقال: وأي أداةٍ نقصت الجاحظ - فنقول: أول أدوات الكاتب العقل، ولا يكون كاتب غير عاقل. وقد نجد عالماً غير عاقر، وجدليا غير حصيف، وفقيهاً غير حليم. وقد وجدنا من ينسب العقل إلى سهل أكثر من نسبته إلى الجاحظ. لو شهد الجاحظ(1/243)
سهلاً يخادع للرشيد ملكاً، ويدبر له حرباً، ويعاني له إطفاء جمرة فتنة، مستضلعاً في ذلك كله بعقله، وجودة علمه، لرأى أن تلك السياسة غير تسطير المقال، في صفة غراميل البغال، وغير الكلام في الجرذان، وبنات وردان، ولعلم أن بين العالم والكاتب فرقاً.
وفي فصل له: ومن دليل تقصير عصابة المعليمن أنهم لا يقدومون أن يجعلوا ما يحملون من المعرفة تصنيفاً، ولا تغزر مادتهم أن ينشئوها تأليفاً، وإنما تفسو به أنفاسهم فسواً بين تلاميذهم، ولا يقدر أن يزيد في النفخ فيضرط به ضراطاً يسمع. فهم في ذلك أمثال الجنادب، وقرناء الخنافس لا توازن الظربان في قوة فسائه، وإن زادت عليه في نتنه، ولا يبلغون درجة الحمار الوحشي في شدة ضراطه، وإن شاركوه في اسمه، ولا تروى لهم نادرة، ولا تؤثر عنهم في البلاد شاردة.
قال: ومما علم من خلق هذه العصابة إذا لمحتنا أبصارهم قابلونا بالملق، وهم منطوون على حسد وحنق. فإذا جمعتنا المحافل، وضمتنا المجالس، تراهم إلينا مبصبصين، وعن الأخذ في شيء من تلك المعاني زائغين. وإنما يتبين تقصير المقصر، وفضل السابق المبرز، إذا اصطكت الركب، وازدحمت الحلق، واستعجل المقال، ولم توجد فسحة لفكرة، ولا أمكنت نظرة لروية؛ أو في مجالس الملوك عند أنسها وراحتها، فإنه يقع فيها، ويجري لديها، ما لا ينفع له الاستعداد، ولا(1/244)
ينفذ فيه غير الطبع والغريزة المتدفقة. فترى الجواد السابق إذ ذاك متشوفاً بأذنه، باحثاً لكديد الإحسان بيده، طامح النظر، صهصلق الصهيل، وأهل الصنعة خرس، لا يسمع لهم جرس، ولا شيء عندهم غير حسو الكاس، وشم الآس، وتنفس الصعداء، قد اصفرت ألوانها، وقلصت شفاهم، كأنهم من رجال عذرة. وما أذكر أني فزت من هذا المجلس بخطير غير مرة، بين يدي هشام بن محمد، والمجلس قد غص بالعمائم والطماطم من أهل المصر لجواب بعض الرؤساء عن فصول خبيثةٍ حادةٍ لا جواب فيها ولا عذر عنها. فجرى ما أكره ذكره من أجل أنه متصل بتعجيز أهل البيضة، والغض من الأصحاب، على أنهم جدراء بذلك، لقلة إنصافهم لنا، وتسلطهم علينا، وإسرافهم في ثلبنا.
@فصول من رسالة سماها بالتوابع والزوابع، وإن صدرت عنه
@مصدر هزل، فتشتمل على بدائع روائع
قال في صدرها مخاطباً لأبي بكلار ابن حزم: لله أبا بكر ظن(1/245)
رميته فأصميت، وحدس أملته فما أشويت! أبديت بهما وجه الجلية، وكشفت عن غرة الحقيقة، حين لمحت صاحبك الذي تكسبته، ورأيته قد أخذ بأطراف السماء، فألف بين قمريها، ونظم فرقديها، فكلما رأى ثغراً سده بسهاها، أو لمح خرقاً رمه بزباناها، إلى غير ذلك. فقلت: كيف أوتي الحكم صبياً، وهز بجذع نخلة الكلام فاساقط عليه رطباً جنياً - أما إن به شيطاناً يهديه، وشيصباناً يأتيه؛ وأقسم أن له تابعةً تنجده، وزابغةً تؤيده، ليس هذا في قدرة الإنس، ولا هذا النفس لهذه النفس. فأما وقد قلتها أبا بكر فأصخ أسمعك العجب العجاب:
كنت أيام كتاب الهجاء، أحن إلى الأدباء، واصبوا إلى تأليف الكلام، فاتبعت الدواوين، وجلست إلى الأساتيذ، فنبض لي عرق الفهم، ودر لي شريان العلم، بمواد روحانية؛ وقليل الالتماح من النظر يزيدني، ويسير المطالعة من الكتب يفيدني، إذ صادف شن العلم طبقة. ولم أكن كالثلج تقتبس منه ناراً، ولا كالحمار يحمل أسفاراً. [فطعنت ثغرة البيان دراكاً، وأعلقت رجل طيره أشراكاً، فانثالت لي العجائب، وانهالت على الرغائب] . وكان لي أوائل صبوتي هوىً اشتد به كلفى، ثم لحقي لعد ملل في أثناء ذلك الميل. فاتفق أن مات من كنت أهواه مدة(1/246)
ذلك الملل، فجزعت وأخذت في رثائه يوماً في الحائر وقد أبهمت عليّ أبوابه، وانفردت فقلت:
تولى الحمام بظبي الخدور ... وفاز الردى بالغزال الغرير إلى أن انتهت إلى الاعتذار من الملل الذي كان، فقلت:
وكنت مللتك لا عن قلىً ... ولا عن فسادٍ جرى في ضميري فأرتج عليّ القول وأفحمت، فإذا أنا بفارسٍ بباب المجلس على فرسٍ أدهم كما بقل وجهه، قد اتكأ على رمحه، وصاح بي: أعجزاً يا فتى الإنس - قلت: لا وأبيك، للكلام حأحيان، وهذا شأن الإنسان؛ قال لي: قل بعده:
كمثل ملال الفتى للنعيم ... إذا دام فيه وحال السرور فأثبت إجازته، وقلت له: بأبي أنت، من أنت - قال أنا زهير بن نمير من أشجع الجن. فقلت: وما الذي حداك إلى التصور لي - فقال: هوى فيك، ورغبة في اصطفائك. قلت أهلاً بك أيها الوجه الوضاح، صادفت قلباً إليك مقلوباً، وهوى نحوك مجنوباً. وتحادثنا حيناً ثم قال: متى شئت استحضاري فأنشد هذه الأبيات:(1/247)
وآلى زهير الحب يا عز أنه ... إذا ذكرته الذكرات أتاها
إذا جرت الأفواه يوماً بذكرها ... يخيل لي أني أقبل فاها
فأغشى ديار الذاكرين وإن نأت ... أجارع من داري هوىً لهواها وأوثب الأدهم جدار الحائط ثم غاب عني.
وكنت أبا بكر متى أرتج علي، أو انقطع مسلك، أو خانني أسلوب، لأنشد الأبيات فيمثل لي صاحبي، فأسير إلى ما أرغب، وأدرك بقريحتي ما أطلب؛ وتأكدت صحبتنا، وجرت قصص لولا أن يطول الكتاب لذكرها أكثرها، لكني ذاكر بعضها.
فصل: تذاكرت يوماً مع زهير بن نمير أخبار الخطباء والشعراء، وما كان يألفهم من التوابع وازوابع، وقلت: هل حيلة في لقاء من اتفق منهم - قال: حتى أستأذن شيخنا، وطار عني ثم انصرف كلمح بالبصر، وقد أذن له، فقال: حل على متن الجواد. فصرنا عليه، وسار بنا كالطائر يجتاب الجو فالجو، ويقطع الدو فالدو، حتى التمحت أرضاً لا كأرضنا، وشارفت جواً لا كجونا، متفرع الشجر، عطر الزهر، فقال لي: حللت أرض الجن أبا عامر، فبمن تريد أن نبدأ - قلت: الخطباء أولى بالتقديم، لكني إلى الشعراء أشوق. قال: فمن تريد منهم - قلت: صاحب امرئ القيس. فأمال العنان إلى وادٍ من الأودية(1/248)
ذي دوح تتكسر أشجاره، وتترنم أطياره، فصاح: يا عتيبة بن نوفل، بسقط اللوى فحومل، ويم دارة جلجل، إلا ما عرضت علينا وجهك، وأنشدتنا من شعرك، وسمعت من الإنسي، وعرفتنا كيف أجازتك له. فظهر لنا فارس على فرس شقراء كأنها تلتهب، فقال: حياك الله يا زهير، وحيا صاحبك! أهذا فتاهم - قلت: هو هذا، وأي جمرةٍ يا عتيبة! فقال لي: أنشد، فقلت: السيد أولى بالإنشاد، فتطامح طرفه، واهتز عطفه، وقبض عنان الشقراء، وضربها بالسوط، فسمت تحضر طولاً عنا، وكر فاستقبلنا بالصعدة هازاً لها، ثم ركزها وجعل ينشد:
سما لك شوق بعدما كان أقصرا ... حتى أكملها ثم قال لي: أنشد. فهممت بالحيصة، ثم اشتدت قوى نفسي وأنشدت:
شجته مغانٍ من سليمى وأدؤر ... حتى انتهيت فيها إلى قولي:
ومن قبةٍ لا يدرك الطرف رأسها ... تزل بها ريح الصبا فتحدر(1/249)
تكلفتها والليل قد جاش بحره ... وقد جعلت أمواجه تتكسر
ومن تحت حضي أبيض ذو سفاسق ... وفي الكف من عسالة الخط أسمر
هما صاحباي من لدن كنت يافعاً ... مقيلان من جد الفتى حين يعثر
فذا جدول في الغمد تسقى به المنى ... وذا غصن في الكف يجنى فيثمر فلما انتهيت تأملني عتيبة ثم قال: اذهب فقد أجزتك. وغاب عنا.
فقال لي زهير: من تريد بعد - قلت: صاحب طرفة. فجزعنا وادي عتيبة، وركضنا حتى انتهينا إلى غيضة شجرها شجران: سام يفوح بهاراً، وشحر يعبق هندياً وغاراً. فرأينا عيناً معينةً تسيل، ويدور ماؤها فلكياً ولا يحول. فصاح زهير: يا عنتر بن العجلان، حل بك زهير وصاحبه، فبخولة وما قطعت معها من ليلة، إلا ما عرضت وجهك لنا! فبدا إلينا راكب جميل الوجه، قد توشح السيف، واشتمل عليه كساء خز، وبيده خطي، فقال: مرحباً بكما! واستنشدني فقلت: الزعيم أولى بالإنشاد، فأنشد:
لسعدى بحزان الشريف طلول ... حتى أكملها، فأنشدته من قصيدة:(1/250)
أمن رسم دارٍ بالعقيق محيل ... حتى انتهيت إلى قولي:
ولما هبطنا الغيب نذعر وحشه ... على كل خوار العنان أسيل
وثارت بنات الأعوجيات بالضحى ... أبابيل من أعطاف غير وبيل
مسومة نعتدها من خيارها ... لطرد قنيص أو لطرد رعيل
[إذا ما تغنى الصحب فوق متونها ... ضحياً أجابت تحتهم بصهيل]
ندوس بها أبكار نور كأنه ... رداء عروسٍ أوذنت بحليل
رمينا بها عرض الصوار فأقعصت ... أغن قتلناه بغير قتيل
وبادر أصحابي النزول فأقبلت ... كراديس من غض الشواء نشيل
نمسح بالحوذان منه أكفنا ... إذا ما اقتنصنا منه غير قليل
فقلنا لساقيها أدرها سلافةً ... شمولاً ومن عينيك صرف شمول
فقام بكأسيه مطيعاً لأمرنا ... يميل به الإدلال كل مميل
وشعشع بكأسيه مطيعاً لأمرنا ... برأس كريمٍ منهم وتليل
إلى أن ثناهم راكدين لما احتسوا ... خليعين من بطش وفضل عقول
نشاوى على الزهراء صرعى كأنهم ... أساطين قصر أو جذوع نخيل فصاح عنتر: لله أنت، اذهب مجاز. وغاب عنا.(1/251)
ثم ملنا عنه فقال لي زهير: إلى من تتوق نفسك بعد من الجاهلين - قلت: كفاني من رأيت؛ اصرف وجه قصدنا إلى صاحب أبي تمام؛ فركضنا ذات اليمين حيناً، ويشتد في أثرنا فارس كأنه الأسد، على فرس كأنها العقاب، وهو في عدوه ذلك ينشد:
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائرٍ ... لها نفذ لولا الشعاع أضاءها فاستربت منه، فقال ي زهير: لا عليك، هذا أبو الخطار صاحب قيس بن الخطيم. فاستبى لبي من إنشاده البيت، وازددت خوفاً لجرأته وأننا لم نعرج عليه؛ فصرف إليه زهير وجه الأدهم، وقال: حياك الله أبا الخطار، فقال: أهكذا يحاد عن أبي الخطار ولا يخطر عليه. قال: علمناك صاحب قنص، وخفنا أن نشغلك. فقال لي: أنشدنا يا أشجعي، وأقسم أنك إن لم تجد ليكونن يوم شر؛ فأنشدته قولي من قصيدة:
منازلهم تبكي إليك عفاءها ... ومنها:
خليلي عوجا بارك الله فيكما ... بدارتها الأولى نحي فناءها
فلم أر أسراباً كأسرابها الدمى ... ولا ذئب مثلي قد رعى ثم شاءها(1/252)
ولا كالضلال كان أهدى لصبوتي ... ليالي يهديني الغرام خباءها
وما هاج هذا الشوق إلا حمائم ... بكيت لها سمعت بكاءها
عجبت لنفسي كيف ملكها الهوى ... وكيف استفز الغانيات إباءها -
ولو أنني أنحت علي أكارم ... ترضيت بالعرض الكريم جزاءها
ولكن جرذان الثغور رمينني ... فأكرمت نفسي أن تريق دماءها
إليك أبا مروان ألقيت رابياً ... بحاجة نفس ما حربت خزاءها
هززتك في نصري ضحى فكأنني ... هززت - وقد جئت الجبال - حراءها
نقضت عرى عزم الزمان وإن عتا ... بعزمة نفسٍ لا أريد بقاءها فلما انتهيت تبسم وقال: لنعم ما تخلصت! اذهب فقد أجزتك.
ثم انصرفنا وركضنا حتى انتهينا إلى شجرة غيناء، يتفجر من أصلها عين كمقلة حوراء. فصاح زهير: يا عتاب بن حبناء، حل بك زهير وصاحبه، فبعمرو والقمر الطالع، وبالرقعة المكفوفة الطابع، إلا ما أريتنا وجهك! فانفلق ماء العين عن وجه فتى كفلقة القمر، ثم اشتق الهواء صاعداً إلينا من قعرها حتى استوى معنا. فقال حياك الله يا زهير، وحيا صاحبك! فقلت: وما الذي أسكنك قعر هذه العين يا عتاب - قال: حيائي من التحسن باسم الشعر وأنا لا أحسنه. فصحت: ويلي منه، كلام محدث ورب الكعبة؛ واستنشدني فلم أنشده إجلالاً له، ثم أنشدته:
[أبكيت إذا ظعن الفريق فراقها ...(1/253)
حتى انتهيت فيها إلى قولي] :
إني امرؤ لعب الزمان بهمتي ... وسقيت من كأس الخطوب دهاقها
وكبوت طرفاً في العلا فاستضحكت ... حمر الأنام فما تريم نهاقها
وإذا ارتمت نحوي المنى لأنالها ... وقف الزمان لها هناك فعاقها
وإذا أبو يحيى تأخر نفسه ... فمتى أؤمل في الزمان لحاقها - فلما انتهيت قال: أنشدني من رثائك. فأنشدته:
[أعينا امرءاً نزحت عينه ... ولا تعجبا من جفون جماد
إذا القلب أحرقه بثه ... فإن المدامع شلو الفؤاد]
يود الفتى منهلاً خالياً ... وسعد المنية في كل واد
[ويصرف للكون ما في يديه ... وما الكون إلا نذير الفساد]
لقد عثر الدهر بالسابقي ... ن ولم يعجز الموت ركض الجواد
لعمرك ما رد ريب الردى ... أريب ولا جاهد باجتهاد(1/254)
[سهام المنايا تصيب الفتى ... ولو ضربوا دونه بالسداد]
أصبن على بطشهم جرهماً ... وأصمين في دارهم قوم عاد
وأقعصن كلباً على عزه ... فما اعتز بالصافنات الجياد إلى أن انتهيت فيها إلى قولي:
ولكنني خانني معشري ... وردت يفاعاً وبيل المراد
وهل ضرب السيف من غيرٍ كفٍ - ... وهل ثبت الرأس في غير هاد - فقال: زدني من رثائك وتحريضك، فأنشدته:
أفي كل عام مصرع لعظيم - ... أصاب المنايا حادثي وقديمي
هوى قمرا قيس بن عيلان آنفاً ... وأوحش من كلب مكان زعيم
فكيف لقائي الحادثات إذا سطت ... وقد فل سيفي منهم وعزيمي -
وكيف اهتدائي في الخطوب إذا دجت ... وقد فقدت عيناي ضوء نجوم -
مضى السلف الوضاح إلا بقيةً ... كغرة مسود القميص بهيم(1/255)
ومنها:
رميت بها الآفاق عني غريبةً ... نتيجة خفاق الضلوع كظيم
لأبدي إلى أهل الحجى من بواطني ... وأدلي بعذرٍ في ظواهر لوم
أنا السيف لم تتعب به كف ضاربٍ ... صروم إذا صادفت كف صروم
سعيت بأحرار الرجال فخانني ... رجال ولم أنجد بجد عظيم
وضيعني الأملاك بدءاً وعودةً ... فضعت بدارٍ منهم وحريم فقال: إن كنت ولابد قائلاً، فإذا دعتك نفسك إلى القول فلا تكد قريحتك، فإذا أكملت فجمام ثلاثة لا أقل، ونقح بعد ذلك، وتذكر قوله:
وجشمني خوف ابن عفان ردها ... فشقفتها حولاً كريتاً ومربعا
وقد كان في نفسي عليها زيادة ... فلم أر إلا أن أطيع وأسمعا وما أنت إلا محسن على إساءة زمانك. فقبلت على رأسه، وغاص في العين.
ثم قال لي زهير: من تريد بعده - قلت: صاحب أبي نواس، قال: هو بدير حنة منذ أشهر، قد غلبت عليه الخمر، ودير حنة في ذلك الجبل.(1/256)
وعرضه علي، فإذا بيننا وبينه فراسخ، فركضنا ساعةً، وجزنا في ركضنا بقصرٍ عظيم قدامه ناورد يتطارد فيه فرسان، فقلت: لمن هذا القصر يا زهير - قال: لطوق بن مالك؛ وأبو الطبع صاحب البحتري في ذلك الناورد فهل لك في أن تراه - قلت: ألف هل، إنه لمن أساتيذي، وقد كنت أنسيته. فصاح: يا أبا الطبع، فخرج إلينا فتىً على فرس أشعل، وبيده قناة، [فقال له زهير: إنك مؤتمنا، فقال: لا، صاحبك أشمخ مارناً من ذلك لولا أنه ينقصه؛ قلت: أبا الطبع على رسلك، إن الرجال لا تكال بالقفزان، أنشدنا من شعرك] . فأنشد:
ما على الركب من وقوف الركاب ... حتى أكملها، ثم قال: هات إن كنت قلت شيئاً، فأنشدته:
هذه دار زينبٍ والرباب ... حتى انتهيت فيها إلى قولي:
وارتكضنا حتى مضى الليل يسعى ... وأتى الصبح قاطع الأسباب
فكأن النجوم في الليل جيش ... دخلوا للكمون في جوف غاب
وكأن الصباح قانص طير ... قبضت كفه برجل غراب(1/257)
ومنها:
وفتو سروا وقد عكف اللي ... ل وأرخى مغدودن الطناب
وكأن النجوم لما هدتهم ... أشرقت للعيون من آدابي
يتقرون جوز كل فلاة ... جنح ليلٍ جوزاؤه من ركاب
عن ذكري لمدلجيهم فتاهوا ... من حديثي في عرض أمر عجاب
همة في السماء تسحب ذيلاً ... من ذيول العلا وجد كابي
ولو أن الدنيا كريمة نجرٍ ... لم تكن طعمة لفرس الكلاب
جيفة أنتنت فطار إليها ... من بني دهرها فراخ الذباب ومنها يفخر:
من شهيد في سرها ثم من أش ... جع في السر من لباب اللباب
خطباء الأنام إن عن خطب ... وأعاريب في متون عراب حتى أكلمتها، فكأنما غشى وجه أبي الطبع قطعة من الليل، وكر راجعاً إلى ناورده دون أن يسلم. فصاح به زهير: أأجزته - قال: أجزته، لا بورك فيك من زائر، ولا في صاحبك أبي عامر.
[فضرب زهير الأدهم بالسوط، فسار بنا في قنته] ، وسرنا(1/258)
حتى انتهينا إلى أصل جبل دير حنة، فشق سمعي قرع النواقيس، فصحت: من منازل أبي نواس، ورب الكعبة العلياء؛ وسرنا نجتاب أدياراً وكنائس وحانات، حتى انتهينا إلى دير عظيم تعبق ورائحه، وتصوك نوافحه. فوقف زهير ببابه وصاح: سلام على أهل دير حنة! فقلت لزهير: أو هل صرنا بذات الأكيراح - قال: نعم. وأقبلت نحونا الرهابين، مشددة بالزنانير، قد قبضت على العكاكيز، بيض الحواجب واللمحى، إذا نظروا إلى المرء استحيا، مكثرين للتسبيح، عليهم هدي المسيح؛ فقالوا: أهلاً بك يا زهير من زائر، وبصاحبك أبي عامر، ما بغيتك - قال: حسين الدنان. قالوا: إنه لفي شرب الخمرة، منذ أيام عشرة، وما نراكما منتفعين به. فقال: وعلى ذلك. ونزلنا وجاءوا بنا إلى بيت قد اصطفيت دنانه، وعكفت غزلانه، وفي فرجته شيخ طويل الوجه والسبلة، قد افترش أضغاث زهر، واتكأ على زق خمر، وبيده طرجهارة، وحواليه صبية كأظب تعطو إلى عرارة. فصاح به زهير: حياك الله أبا الإحسان! فجاوب بجوابٍ لا يعقل لغلبة الخمر عليه. فقال لي زهير: اقرع أذن نشوته بإحدى(1/259)
خمرياتك، فإنه ربما تنبه لبعض ذلك، فصحت أنشد من كلمةٍ لي طويلة:
ولرب حان قد أدرت بديره ... خمر الصبا مزجت بصفو خموره
في فتية جعلوا الزقاق تكاءهم ... متصاغرين تخشعاً لكبيره
وإلى علي بطرفه وبكفه ... فأمال من رأسي لعب كبيره
وترنم الناقوس عند صلاتهم ... ففتحت من عيني لرجع هديره
يهدي إلينا الراح كل معصفرٍ ... كالخشف خفره التماح خفيره فصاح من حبائل نشوته: أأشجعي - قلت: أنا ذاك، فاستدعى ماءً قراحاً، فشرب منه وغسل وجهه، فأفاق واعتذر إليّ من حاله، فأدركتني مهابته، وأخذت في إجلاله، لمكانه من العلم والشعر. فقال لي: أنشد، أو حتى أنشدك - فقلت: إن ذلك لأشد لتأنيسي، على أنه ما بعدك لمحسنٍ إحسان، فأنشد:
يا دير حنة من ذات الأكيراح ... من يصح عنك فإني لست بالصاحي
يعتاده كل محفوف مفارقه ... من الدهان عليه سحق أمساح(1/260)
لا يدلفون إلى ماءٍ بآنيةٍ ... إلا اعترافاً من الغدران بالراح فكدت والله أخرج من جلدي طرباً. ثم أنشد:
طرحتم من الترحال أمراً فغمنا ... وأنشد أيضاً:
لمن دمن تزداد طيب نسيم ... على طيب ما أقوت وحسن رسوم
تجافى البلى عنهن حتى كأنما ... لبسن من الإقواء ثوب نعيم واستمر فيها حتى أكملها. ثم قال لي: أنشد. فقلت: وهل أبقيت للإنشاد موضعاً - قال: لابد لك، وأوعث بي لا تنجد. فأنشدته:
أصفيح شيم أم برق بدا ... أم سنا المحبوب أورى أزندا
هب من مرقده منكسراً ... مسبلاً للكم مرخٍ للردا
يمسح النعسة من عيني رشا ... صائد في كل يوم أسدا
قلت: هب لي يا حبيبي قبلةً ... تشف من عمك تبريح الصدى(1/261)
فانثنى يهتز من منكبه ... قائلاً: لا؛ ثم أعطاني اليدا
كلما كلمني قبلته ... فهو إما قال قولاً رددا
كاد أن يرجع من لثمي له ... وارتشافي الثغر منه أدردا
قال لي يلعب: خذ لي طائراً ... فتراني الدهر أجري بالكدا
[وإذا استنجزت يوماً وعده ... قال لي يمطل: ذكرني غدا]
شربت أعطافه خمر الصبا ... وسقاه الحسن حتى عربدا
وإذا بت به في روضةٍ ... أغيداً يقرو نباتاً أغيدا
قام في الليل بجيدٍ أتلعٍ ... ينفض اللمة من دمع الندى
رشأ بل غادة ممكورة ... عممت صبحاً بليل أسودا
أححت من عضتي في نهدها ... ثم عضت حر وجهي عمدا
فأنا المجروح من عضتها ... لا شفاني الله منها أبدا فلما انتهيت قال: لله أنت، وإن كان طبعك مخترعاً منك. ثم قال لي: أنشدني من رثائك شيئاً، فأنشدته من قولي في بنيةٍ صغيرة:(1/262)
[أيها المعتد في أهل النهى ... لا تذب إثر فقيد ولها حتى انتهيت إلى قولي] :
وإذا الأسد حمت أغيالها ... لم يضر الخيس صرعات المها
وغريب يا ابن أقمار العلا ... أن يراع البدر من فقد السها فلما انتهيت قال لي: أنشدني من رثائك أشد من هذا وأفصح. فأنشدته من رثائي في ابن ذكوان؛ ثم قال: أنشدني جحدريتك من السجن، فأنشدته:
قريب بمحتل الهوان بعيد ... حتى انتهيت فيها إلى قولي:
فإن طال ذكري بالمجون فإنني ... شقي بمنظوم الكلام سعيد
وهل كنت في العشاق أول عاشقٍ ... هوت بحجاه أعين وخدود(1/263)
وفمن مبلغ الفتيان أني بعدهم ... مقيم بدار الظالمين طريد
لست بذي قيد يرق وإنما ... على اللحظ من سخط الإمام قيود فبكى لها طويلاً ثم قال: أنشدني قطعةً من مجونك، فقد بعد عهدي بمثلك، فأنشدته:
وناظرة تحت طي القناع ... دعاها إلى الله والخير داعي
سعت بابنها تبتغي منزلاً ... لوصل التبتل والإنقطاع
فجاءت تهادى كمثل الرؤوم ... تراعي غزالاً بأعلى يفاع
أتتنا تبختر في مشيها ... فحلت بوادٍ كثير السباع
وريعت حذاراً على طفلها ... فناديت: يا هذه لا تراعي!
فولت وللمسك من ذيلها ... على الأرض خط كظهر الشجاع فلما سمع هذا البيت قام يرقص به ويردده، ثم أفاق، ثم قال: هذا والله شيء لم نلهمه نحن؛ ثم استدناني فدنوت منه فقبل بين عيني، وقال: اذهب فإنك مجاز على بظر أم الكاره.
فانصرفنا عنه وانحدرنا من الجبل، فقال لي زهير: ومن تريد بعد(1/264)
قلت له: خاتمة القوم صاحب أبي الطيب، فقال: اشدد له حيازيمك، وعطر له نسيمك، وانثر عليه نجومك. وأمال عنان الأدهم إلى طريقٍ، فجعل يركض بنا، وزهير يتأمل آثار فرسٍ لمحناها هناك؛ فقلت له: ما تتبعك لهذه الآثار - قال: هي آثار فرس حارثة بن نعمان المغلس صاحب أبي الطيب، وهو صاحب قنص. فلم يزل يتقراها حتى دفعنا إلى فارسٍ على فرس بيضاء كأنه قضيب على كثيب، وبيده قناة قد أسندها إلى عنقه، وعلى رأسه عمامة حمراء، قد أرخى لها عذبةً صفراء. فحياه زهير، فأحسن الرد ناظراً من مقلة شوساء، قد ملئت تيهاً وعجباً. فعرفه زهير قصدي وألقى إليه رغبتي. فقال: بلغني أنه يتناول، قلت: للضرورة الدافعة، وإلا فالقريحة غير صادعة، والشفرة غير قاطعة، قال: فأنشدني، وأكبرته أن أستنشده، فأنشدته قصيدتي التي أولها:
أبرق بدا أن لمع أبيض قاصل ... حتى انتهيت فيها إلى قولي:
تردد فيها البرق حت حسبته ... يشير إلى نجم الربى بالأنامل
ربى نسجت أيدي الغمام للبسها ... غلائك صفراً فوق بيض غلائل
سهرت بها أرعى النجوم وأنجماً ... طوالع للراعين غير أوافل
وقد فغرت فاها بها كل زهرةٍ ... إلى كل ضرعٍ للغمامة حافل(1/265)
ومرت جيوش المزن رهواً كأنها ... عساكر زنجٍ مذهبات المناصل
وحلقت الخضراء في غر شهبها ... كلجة بحرٍ كللت باليعالل
تخال بها زهر الكواكب نرجساً ... على شط وادٍ للمجرة سائل
وتلمح من جوزائها في غروبها ... تساقط عرش واهن الدعم مائل
وتحسب صقراً وافعاً دبرانها ... بعش الثريا فوق حمر الحواصل
وبدر الدجى فيها غديراً وحوله ... نجوم كطلعات الحمام النواهل
كأن الدجى همي ودمعي نجومه ... تحدر إشفاقاً لدهر الأراذل
هوت أنجم العلياء إلا أقلها ... وغبن بما يحظى به كل عاقل
وأصبحت في خلفٍ إذا ما لمحتهم ... تبينت أن الجهل إحدى الفضائل
وما طاب في هذي البرية آخر ... إذا هو لم ينجد بطيب الأوائل
أرى حمراً فوق الصواهل جمةً ... فأبكي بعيني ذل تلك الصواهل
وربت كتاب إذا قيل: زوروا ... بكت من تأنيهم صدور الرسائل
وناقل فقه لم ير الله قلبه ... يظن بأن الدين حفظ المسائل
وحامل رمح راح فوق مضائه ... به كاعباً في الحي ذات مغازل
حبوا بالمنى دوني وغودرت دونهم ... أرود الأماني في رياض الأباطل
وما هي إلا همة أشجعية ... ونفس أبت لي من طلاب الرذائل
وفهم لو البرجيس جئت بجده ... إذاً لتلقاني بنحس المقاتل(1/266)
ولما طما بحر البيان بفكرتي ... وأغرق قرن الشمس جداولي
رحلت إلى خير الورى كل حرةٍ ... من المدح لم تخمل برعي الخمائل
وكدت لفضل القول أبلغ ساكتاً ... وإن ساء حسادي مدى كل قائل فلما انتهيت قال: أنشدني أشد من هذا، فأنشدته قصيدتي:
هاتيك دارهم فقف بمعانها ... فلما انتهيت قال لزهير: إن امتد به طلق العمر، فلابد أن ينفث بدرر، وما أراه إلا سيختصر، بين قريحة كالجمر، وهمة تضع أخمصه على مفرق البدر. فقلت: هلا وضعته على صلعة النسر -! فاستضحك إليّ وقال: اذهب فقد أجزتك بهذه النكتة. فقلبت على رأسه وانصرفنا.
قال لي زهير: من تريد بعده - فقلت: مل بي إلى الخطباء، فقد قضيت وطراً من الشعراء. فركضنا حيناً طاعنين في مطلع الشمس ولقينا فارساً أسر إلى زهير، وانجزع عنا. فقال لي زهير: جمعت لك خطباء الجن بمرج دهمان، وبيننا وبينهم فرسخان، فقد كفيت العناء إليهم على انفرادهم. قلت: لم ذاك - قال: للفرق بين كلامين اختلف فيه فتيان الجن. وانتهينا إلى المرج فإذا بناد عظيم، قد جمع كل زعيم، فصاح زهير: السلام على فرسان الكلام، فردوا وأشاروا بالنزول، فأفرجوا حتى صرنا مركز هالة مجلسهم، والكل منهم ناظر إلى شيخ أصلع، جاحظ العين(1/267)
اليمنى. على رأسه قلنسوة بيضاء طويلة. فقلت سراً لزهير: من ذلك - قال: عتبة بن أرقم صاحب الجاحظ، وكنيته أبو عتيبة؛ قلت: بأبي هو! ليس رغبتي سواه، وغير صاحب عبد الحميد. قال لي: إنه ذلك الشيخ الذي إلى جنبه؛ وعرفه صغوي إليه وقولي فيه، فاستدناني وأخذ في الكلام معي، فصمت أهل المجلس، فقال: إنك لخطيب، وحائك للكلام مجيد، لولا أنك مغرى بالسجع، فكلامك نظن لا نثر. فقلت في نفسي: قرعك - بالله - بقارعته، وجاءك بمماثلته. ثم قلت له: ليس هذا - أعزك الله - مني جهلاً بأمر السجع، وما في المماثلة والمقابلة من فضل، ولكني عدمت ببلدي فرسان الكلام [ودهيت بغباوة أهل الزمان، وبالحرا أن أحركهم بالازدواج. ولو فرشت للكلام] فيهم طولقا، وتحركت لهم حركة مشولم، لكان أرفع لي عندهم، وأولج في نفوسهم، فقال: أهذا على تلك المناظر، وكبر تلك المحابر، وكمال تلك الطيالس - قلت: نعم، إنها لحاء الشجر، وليس ثم ثمر ولا عبق. قال لي: صدقت، إني أراك قد ماثلت معي. قلت: كما سمعت. قال: فكيف كلامهم بينهم - قلت: ليس(1/268)
لسيبويه فيه عمل، ولا للفراهيدي إليه طريق، ولا للبيان عليه سمة. إنما لكنة أعجمية يؤدون بها المعاني تأدية المجوس والنبط. فصاح: إنا لله، ذهبت العرب وكلامها! ارمهم يا هذا بسجع الكهان، فعسى أن ينفعك عندهم، [ويطير لك ذكراً فيهم، وما أراك مع ذلك إلا ثقيل الوطأة عليهم، كريه المجيء إليهم] ، فقال الشيخ الذي إلى جانبه، وقد علمت أنه صاحب عبد الحميد، ونفسي مرتقبة إلى ما يكون منه: لا يغرنك منه أبا عيينة ما تكلف لك من المماثلة، إن السجع لطبعه، وإن ما أسمعك كلفة، ولو امتد به طلق الكلام، وجرت أفراسه في ميدان البيان، لصلى كودنه، وكل برثنه. وما أراه إلا من اللكن الذين ذكر، وإلا فما للفصاحة لا تهدر، وللأعرابية لا تومض - فقلت في نفسي: طبع عبد الحميد ومساقه ورب الكعبة؛ فقلت له: لقد عجلت أبا هبيرة - وقد كان زهير عرفني بكنيته - إن قوسك لنبع، وإن ماء سهمك لسم، أحماراً رميت أم إنساناً، وقعقعة طلبت أم بياناً - وأبيك إن البيان لصعب، وإنك منه لفي عباءة تتكشف عنها أستاه معانيك، تكشف است العنز عن ذنبها. الزمان دفء لا قر، والكلام عراقي لا شامي. إني لأرى من دم اليربوع بكفيك، وألمح من كشى الضب على ما ضغيك. فتبسم إليّ وقال: أهكذا يا أطيلس، تركب لكل نهجه، وتعج إليه عجه - فقلت: الذئب(1/269)
أطلس، وإن التيس ما علمت؛ فصاح به أبو عيينة: لا تعرض له، وبالحرا أن تخلص منه. فقلت: الحمد لله خالق الأنام في بطون الأنعام! فقال: إنها كافية لو كان له حجر؛ فبسطاني وسألاني أن أقرأ عليهما من رسائلي، فقرأت رسالتي في صفة البرد والنار والحطب فاستحسناها، ومن رسالتي في الحلواء حيث أقول:
خرجت في لمة من الأصحاب، وثبة من الأتراب، فيهم فقيه ذو لقم، ولم أعرف به، وغريم بطن، ولم أشعر له، رأى الحلوى فاستخفه الشره، واضطرب به الوله، فدار في ثيابه، وأسال من لعابه، حتى وقف بالأكداس، وخالط غمار الناس، ونظر إلى الفالوذج فقال: بأبي هذا اللمص، انظروه كأنه الفص، مجاجة الزنابير، أجريت على شوابير، وخالطها لباب الحبة، فجاءت أعذب من ألسنة الأحبة.
ورأى الخبيص فقال: بأبي هذا الغالي الرخيص، هذا جليد سماء الرحمة، تمخضت به فأبرزت منه زبد النعمة، يجرح باللحظ، ويذوب من اللفظ، بم ابيض - قالوا بماء البيض البض. قال: غض من غض، ما أطيب خلوة الحبيب، لولا حضرة الرقيب.
ولمح القبيطاء فصاح: بأبي نقرة الفضة البيضاء، لا ترد عن(1/270)
العضة. أبنار طبخت أم بنور - فإذا أراها كقطع البلور؛ وبلوز عجنت أم بجوز - فإني أراها عين عجين الموز. ومشى إليها وقد عدل صاحبها أرطال نحاسه. وعلق قسطاسه من أم راسه؛ فقال: رطل بدرهمين، وانتهشها بالنابين، فصاح: القارعة ما القارعة. هيه! ويل للمرء من فيه.
ورأى الزلابية فقال: ويل لأمها الزانية، أبأحشائي نسجت، أم من صفاق قلبي ألفت - فإني أجد مكانها من نفسي مكيناً، وحبل هواها على كبدي متيناً، فمن أين وصلت كف طابخها إلى باطني، فاقتطعتها من دواجني - والعزيز الغفار، لأطلبنها بالثار؛ ومشى إليها، فتلمظ له لسان الميزان، فأجفل يصيح: الثعبان الثعبان!
ورفع له ثمر النشا، غير مهضوم الحشا، فقال: مهيم -! من أين لكم جنى نخلة مريم - ما أنتم إلا السنار، وما جزاءكم إلا السيف والنار؛ وهم أن يأخذ منها، فأثبت في صدره العصا، فجلس القرفصا، يذري الدموع، ويبدي الخشوع. وما منا أحد إلا عن الضحك قد تجلد. فرقت له ضلوعي، وعلمت أن الله فيه غير مضيعي. وقد تجمل الصدقة على ذوي وفر، وفي كل ذي كبد رطبة أجر. فأمرت الحلواني بابتياع أرطال منها تجمع أنواعها التي أنطقته، وتحتوي على ضروبها التي أضرعته. وجاء بها وسرنا إلى مكان خالٍ طيب، كوصف المهلبي:(1/271)
خان تطيب لباغي النسك خلوته، وفيه ستر على الفتاك إن فتكوا فصبها رطبة الوقوع، كراديس كقطع الجذوع؛ فجعل يقطع ويبلع، ويدحو فاه ويدفع، وعيناه تبصان، كأنهما جمرتان، وقد برزتا على وجهه كأنهما خصيتان، وأنا أقول له: على رسلك أبا فلان! البطنة تذهب الفطنة! فلما التقم جملة جماهيرها، وأتى على مآخيرها ووصل خورنقها بسديرها، تجشأ فهبت منه ريح عقيم، أيقنا لها بالعذاب الأليم، فنثرتنا شذر مذر، وفرقتنا شغر بغر، فالتمحنا منه الظربان، وصدق الخبر فيه العيان: نفح ذلك فشرد الأنعام، ونفح هذا فبدد الأنام، فلم نجتمع بعدها والسلام.
فاستحسناها وضحكا عليها، وقالا: إن لسجعك موضعاً من القلب، ومكاناً من النفس، وقد أعرته من طبعك، وحلاوة لفظك، وملاحة سوقك، ما أزال أفنه، ورفع غينه. وقد بلغنا أنك لا تجازى في أبناء جنسك، ولا يمل من الطعن عليك، والاعتراض(1/272)
لك، فمن أشدهم عليك - قلت: جاران دارهما صقب، وثالث نابته نوب، فامتطى ظهر النوى، وألقت به في سرقسطة العصا. فقالا: إلى أبي محمد تشير، وأب القاسم وأبي بكر - قلت: أجل. قالا: فأين بلغت فيهم - قلت أما أبو محمد فانتضى علي لسانه عند المستعين، وساعدته زرافة استهواها من الحاسدين، وبلغني ذلك فأنشدته شعراً، منه:
وبلغت أقواماً تجيش صدورهم ... علي، وإني منهم فارغ الصدر
أصاخوا إلى قولي فأسمعت معجزاً ... وغاصوا على سري فأعياهم أمري
فقال فريق: ليس ذا الشعر شعره ... وقال فريق: أيمن الله ما ندري
أما علموا أني إلى العلم طامح ... وأني الذي سبقاً على عرقه يجري
وما كل من قاد الجياد يسوسها ... ولا كل من أجرى يقال له: مجري
فمن شاء فليخبر فإني حاضر ... ولا شيء أجلى للشكوك من الخير وأما أبو بكر فأقصر واقتصر على قوله: له تابعة تؤيده. وأما أبو القاسم الإفليلي فمكانه من نفسي مكين، وحبه بفؤادي دخيل، على أنه حامل علي، ومنتسب إليّ. فصاحا: يا أنف الناقة ابن معمر، من سكان خيبر! فقام إليهما جني أشمط ربعة وارم الأنف، يتظالع(1/273)
في مشيته، كاسراً لطرفه، وزاوياً لأنفه، وهو ينشد:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا فقالا لي:: هذا صاحب أبي القاسم، ما قولك فيه يا أنف الناقة - قال: فتى لم أعرف على من قرأ. فقلت لنفسي: العصا من العصية1 إن لم تعربي عن ذاتك، وتظهري بعض أدواتك، وأنت بين فرسان الكلام، لم يطر لك بعدما طائر، وكنت غرضاً لكل حجر عابر. وأخذت للكلام أهبته، ولبست للبيان بزته؛ فقلت: وأنا أيضاً لا أعرف على من قرأت. قال ألمثلي يقال هذا - فقلت: فكان ماذا - قال: فطارحنى كتاب الخليل، قلت: هو عندي في زنبيل، قال: فناظرني على كتاب سيبويه. قلت: خريت الهرة عندي عليه وعلى شرح ابن درستويه؛ فقال لي: دع عنك، أنا أبو البيان، قلت: لاها الله! إنما أنت كمغن وسط، لا يحسن فيطرب، ولا يسيء فيلهي، قال: لقد علمنيه المؤدبون، قلت ليس هو من شأنهم، إنما هو من تعليم الله تعالى حيث قال: {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان} (الرحمن: 3 - 4) ليس من شعر يفسر، ولا أرض تكسر، هيهات حتى يكون المسك من أنفاسك، والعنبر من أنقاسك، وحتى يكون مساقك عذباً، وكلامك رطباً، ونفسك من نفسك، وقليبك من قلبك؛ وحتى تتناول الوضيع فترفعه، والرفيع(1/274)
فتضعه، والقبيح فتحسنه -! قال: أسمعني مثالاً، قلت: حتى تصف برغوثاً فتقول: أسود زنجي، وأهلي وحشي؛ ليس بوان ولا زميل، وكأنه جزء لا يتجزأ من ليل، وشونيزة، أوثبتها غريزة، أو نقطة مداد، أو سويداء قلب قراد؛ شربه عب، ومشيه وثب؛ يكمن نهاره، ويسري ليله؛ يدارك بطعنٍ مؤلم، ويستحل دم كل مسلم، مساور للأساورة، يجر ذيله على الجبابرة؛ يتكفر بأرفع الثياب، ويهتك ستر كل حجاب، ولا يحفل ببواب؛ يرد مناهل العيش العذبة، ويصل إلى الأجراح الرطبة، لا يمنع منه أمير، ولا ينفع فيه غيرة غيور، وهو أصغر كل حقير، شره مبثوث، وعهده منكوث، وكذلك كل برغوث؛ كفى بهذا نقصاً للإنسان، ودالاً على قدرة الرحمن.
وحتى تصف ثعلباً فتقول: أدهى من عمرو، وأفتك من قائل حذيفة بن بدر؛ كثير الوقائع في المسلمين، مغرى بإراقة دماء المؤذنين؛ إذا رأى الفرصة انتهزها، وإذا طلبته الكماة أعجزها؛ وهو مع ذلك بقراط في إدامه، وجالينوس في اعتدال طعامه؛ غداؤه حمام أو دجاج، وعشاؤه تدرج أو دراج.
قال أبو عامر: وكان فيما يقابلني من ناديهم فتى قد رماني بطرفه(1/275)
واتكأ لي على كفه، فقال: تحيل على الكلام لطيف وأبيك! فقلت: وكيف ذلك - قال: أومأ علمت أن الواصف إذا وصف شيئاً لم يتقدم إلى صفته، ولا سلط الكلام على نعته، اكتفى بقليل الإحسان، واجتزا بيسير البيان - لأنه لم يتقدم وصف يقرن بوصفه، ولا جرى مساق يضاف إلى مساقه، وهذه نكتة بغدادية، أنى لك بها يا فتى المغرب - فقلت لزهير: من هذا - قال: زبدة الحقب، صاحب بديع الزمان. فقلت: يا زبدة الحقب، اقترح لي. قال: صف جارية، فوصفتها؛ قال: أحسنت ما شئت أن تحسن؛ قلت: أسمعني وصفك للماء، قال: ذلك من العقم [قلت: بحياتي هاته، قال] : أزرق كعين السنور، صاف كقضيب البلور؛ انتخب من الفرات، واستعمل بعد البيات، فجاء كلسان الشمعة، في صفاء الدمعة.
فقلت: انظره يا سيدي كأنه عصير صياح، أو ذوب قمرٍ لياح؛ لعه في إناثه، اصباب الكوكب من سمائه؛ العين حانوته، والفم عفريته، كأنه خيط من غزل فلق، أو محضر يضرب به من ورق؛ يرفع عنك فتردى، ويصدع به قلبك فتحيا.
فلما انتهيت في الصفة، ضرب زبدة الحقب الأرض برجله، فانفرجت له عن مثل برهوت، وتدهدى إليها، واجتمعت عليه، وغابت عينه، وانقطع أثره. فاستضحك الأستاذان من فعله، واشتد(1/276)
غيظ أنف الناقة علي فقال: وقعت لك أوصاف في شعرك تظن أني لا أستطيعها - فقلت له: وحتى تصف عارضاً فتقول:
ومرتجز ألقى بذي الأثل كلكلاً ... وحط بجرعاء الأبارق ما حطا
سعى في قياد الريح يسمح للصبا ... فألقت على غير التلاع به مرطا
وما زال يروي الترب حتى كسا الربى ... درانك، والغيطان من نسجه بسطا
وعنت له ريح تساقط قطره ... كما نثرت حسناء من جيدها سمطا
ولم أر دراً بددته يد الصبا ... سواه، فبات النور يلقطه لقطا
وبتنا نراعي الليل لن نطو برده ... ولم يجر شيب الصبح في عرفه وخطا
تراه كملك الزنج في فرط كبره ... إذا رام مشياً في تبختره أبطا
مطلاً على الآفاق والبدر تاجه ... وقد علق الجوزاء من أذنه قرطا حتى تصف ذئباً فتقول:
إذا اجتاز علوي الرياح بأفقه ... أجد لعرفان الصبا يتنفس
تذكر روضاً ذا شوي وباقر ... تولته أحراس من الذعر تحرس
إذا انتابها من أذؤب القفر طارق ... حثيث إذا ما استشعر اللحظ يهمس
أزل كسا جثمانه متستراً ... طيالس سوداً للدجى وهو أطلس
فدل عليه لحظ خب مخادع ... ترى ناره من ماء عينيه تقبس(1/277)
فصاح فتيان الجن عند هذا البيت الأخير: زاه! وعلت أنف الناقة كآبة، وظهرت عليه مهابة، واختلط كلامه، وبدا منه ساعتئذ بوادٍ في خطابه، رحمه لها من حضر، وأشفق عليه من أجلها من نظر. وشمر لي فتى كان إلى جانبه عن ساعدٍ، وقال لي: وهل يضر قريحتك أو ينقص من بديهتك أو تجافت لأنف الناقة وصبرت له - فإنه على علاته زير علم وزنبيل فهم وكنف رواية. فقلت لزهير: من هذا - فقال: هو أبو الآداب صاحب أبي إسحاق بن حمام جارك. فقلت: يا أبا الآداب، وزهرة ريحانة الكتاب، رفقاً على أخيك بغرب لسانك، وهل كان يضر أنف الناقة، أو ينقص من علمه، أو يفل شفرة فهمه، ان يصبر لي على زلة تمر به في شعر أو خطبة، فلا يهتف بها بين تلاميذه، ويجعلها طرمذة من طراميذه - فقال: إن الشيوخ قد تهفو أحلامهم في الندرة. فقلت: إنها المرة بعد المرة. ثم قال لي الأستاذان عتبة بن أرقم وأبو هبيرة صاحب عبد الحميد: إنا لنخبط منك ببيداء حيرة، وتفتق أسماعنا منك بعبرة، وما ندري أنقول: شاعر أم خطيب - فقلت: الإنصاف أولى، والصدع بالحق أحجى، ولابد من قضاء. فقالا: اذهب فإنك شاعر خطيب. وانفض الجمع والأبصار إليّ ناظرة، والأعناق نحوي مائلة.
قال ابن بسام: وامتد بأبي عامر الكلام في هذا الباب، ومد فيه أطناب الإطناب والإسهاب، فلذلك وقفت دون الغاية، وقطعت قبل النهاية.(1/278)
قوله في ما عرض به لصاحب أبي تمام: " بعمرو والقمر الطالع، والرقعة المفكوكة الطابع " أشار إلى قول أبي تمام في غلامه:
يا عمرو قل للقمر الطالع ... اتسع الخرق على الراقع
يا طول فكري فيك من حاملٍ ... لرقعة مفكوكة الطابع
ما أنت إلا رشا خاذل ... حل بمعنى أسدٍ جائع وحكى الصولي في أخباره قال: كان أبو تمام يتعشق غلاماً خزرياً للحسن بن وهب، وكان الحسن يتعشق غلاماً رومياً لحبيب. فرآه يعبث بغلامه فقال له: والله لئن سرت إلى الرومي لأسيرن إلى الخزري. فقال الحسن: لو شئت حكمتنا واحتكمت! فقال أبو تمام: أنا أشبهك بداود عليه السلام، وأشبهني أنا بخصمه. فقال الحسن: لو كان هذا منظوماً! فقال أبو تمام من جملة أبيات:
أذكرتني أمر داود وكنت فتىً ... مصرف القلب في الأهواء والفكر
أعندك الشمس لم يحظ المغيب بها ... وأنت مشتغل الألحاظ بالقمر -
إن أنت لم تترك السير الحثيث إلى ... جآذر الروم أعنقنا إلى الخزر
ورب أمنع منه جانباً وحمىً ... أمسى وتكته مني على خطر(1/279)
جردت فيه جنود العزم فانكشفت ... عنه غياهبها عن نيكة هدر
أنت المقيم فما تعدو رواحله ... وأيره أبداً منه على سفر وقيل لأبي تمام: غلامك أطوع للحسن من غلامه لك. قال: أجل لأن غلامي يجد عنده مالاً، وأنا أعطي غلامه قيلاً وقالا.
وكان ابن الزيات قد وقف على ما كان بينهما في غلاميهما، فاتفق أن عزم يوماً غلام أبي تمام على الاحتجام، فكتب إلى الحسن يعلمه بذلك، ويستدعيه مطبوخاً. فوجه إليه بمائة زق ومائة دينار، وكتب إليه بشعر يقول فيه:
ليت شعري يا أملح الناس عندي ... هل تداويت بالحجامة بعدي -
دفع الله عنك لي كل سوءٍ ... باكر رائحٍ وإن خنت عهدي
قد كتمت الهوى بمبلغ جهدي ... فبدا منه غير ما كنت أبدي
وخلعت العذار إذ علم النا ... س بأني إياك أصفي بودي
فليقولوا بما أحبوا إذ كن ... ت وصولاً ولم ترعني بصد واتفق أن وضع الرقعة تحت مصلاه، وبلغ محمد بن الزيات خبرها، فوجه إلى الحسن من شغله بالحديث، وأمر من جاءه بتلك الرقعة، ففكها وقرأها وكتب فيها على لسان أبي تمام:
ليت شعري عن ليت شعرك هذا ... أبهزل تقوله أم بجد(1/280)
فلئن كنت في المقال مجداً ... يا ابن وهب لقد تطرفت بعدي
وتشبهت بي وكنت أرى أن ... ي أنا العاشق المتيم وحدي
لا أحب الذي يلوم وإن كا ... ن حريصاً على صلاحي ورشدي
بل أحب الأخ المشارك في الحب ... وإن لم يكن به مثل وجدي
كنديمي أبى علي وحاشا ... لنديمي من مثل شقوة جدي
إن مولاي عندي غيري ولولا ... شؤم جدي لكان مولاي عندي ثم قال: ضعوا الرقعة مكانها. فلما قرأها الحسن قال: إنا لله! افتضحنا والله عند الوزير! وأعلم أبا تمام بما جرى، ووجه إليه بالرقعة. فلقيا محمد بن عبد الملك، فقالا له: إنما جعلنا هذين الغلامين سبباً لتكاتبنا بالأشعار، فلا يظن الوزير - أعزه الله - إلا خيراً. فقال: ومن يظن غير هذا بكما - فكان قوله أشد عليهما.
رجع:
قال ابن بسام، قال ابن حيان: وكان أبو القاسم المعروف بابن الإفليلي الذي به عرض، وجعله الغرض، قد بذ أهل زمانه بقرطبة، في علم اللسان العربي، والضبط لغريب اللغة، وفي ألفاظ الأشعار الجاهلية والإسلامية، والمشاركة في بعض معانيها، وكان غيوراً على ما يحمل من ذلك الفن، كثير الحسد فيه، راكباً في الخطأ البين إذا تقلده(1/281)
أو نشب فيه، يجادل عليه، ولا يصرفه صارف عنه. وعدم علم العروض ومعرفته مع احتياجه إليه، وإكمال صناعته به، فلم يكن له شروع فيه. وكان لحق الفتنة البربرية بقرطبة، ومضى الناس من حائن وظاعن، فازدلف إلى الأمراء المتداولين بقرطبة من آل حمود ومن تلاهم إلى أن نال الجاه.
واستكتبه محمد بن عبد الرحمن المستكفي بعد ابن برد، فوقع كلامه جانباً من البلاغة، لأنه كان على طريقة المعلمين المتكلفين، فلم يجر في أساليب الكتاب المطبوعين فزهد فيه. وما بلغني أنه ألف في شيء من فنون المعرفة إلا كتابه في شعر المتنبي لا غير. ولحقته تهمة في دينه في أيام هشام المرواني في جملة من تتبع من الأطباء في وقته كابن عاصم الشبانسي والحمار وغيرهم. وطلب ابن الفليلي وسجن بالمطبق، ثم أطلق. وفيه يقول موسى بن الطائف من قصيدة:
يا مبصراً عميت نواظر فهمه ... عن كنه عرضي في البديع وطولي(1/282)
لو كنت تعقل ما جهلت مقاومي ... من ضاق فرسخه بخطوة ميل
ولئن ثلبت الشعر وهو أباطل ... فلقد ثلبت حقائق التنزيل
وخلعت ربق الدين عنك منابذاً ... ولبست ثوب الزيغ والتعطيل
وأقمت للجهال مثلك في الغبا ... علماً مشيت أمامه برعيل
ومن المغائظ أن تكون مقلداً ... علماً، ولو مقدار وزن فتيل
تعتل في الأمر الصحيح معانداً ... أبداً وفهمك علة المعلول
وتظن أنك من فنوني موسر ... وكثير شأنك لا يفي بقليلي
سيسل روحك من خبيث قراره ... تأثير هذا الصارم المصقول
وأخص سيف الدولة الملك الرضى ... ليعيد عقد رباطك المحلول
وأريك رأي العين أنك ذرة ... عبثت بها مني قوائم فيل رجع الحديث إلى أخبار ابن شهيد
قال أبو عامر: وحضرت أنا أيضاً وزهير مجلساً من مجالس الجن، فتذاكرنا ما تعاورته الشعراء من المعاني، ومن زاد فأحسن الأخذ، ومن قصر، فأنشد قول الأفوه بعض من حضر:
وترى الطير على آثارنا ... رأي عينٍ ثقةً أن ستمار وأنشد آخر قول النابغة:(1/283)
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طيرٍ تهتدي بعصائب
تراهن خلف القوم خزراً عيونها ... جلوس الشيوخ في ثياب المرانب
جوانح قد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الجيشان أول غالب وأنشد آخر قول أبي نواس:
تتأيى الطير غدوته ... ثقةً بالشبع من جزره وأنشد آخر قول صريع الغواني:
قد عود الطير عادات وثقن بها ... بهن يتبعه في كل مرتحل وأنشد آخر قول أبي تمام:
وقد ظللت عقبان أعلامه ضحىً ... بعقبان طير في الدماء نواهل
أقامت مع الرايات حتى كأنها ... من الجيش إلا أنها لم تقاتل فقال شمردل السحابي: كلهم قصر عن النابغة، لأنه زاد في المعنى، ودل على أن الطير إنما أكلت أعداء الممدوح، وكلامهم كلهم(1/284)
مشترك يحتمل أن يكون ضد ما نواه الشاعر، وإن كان أبو تمام قد زاد في المعنى؛ وإنما المحسن المتخلص المتنبي حيث يقول:
له عسكرا خيل وطير إذا رمى ... بها عسكراً لم تبق إلا جماجمه وكان بالحضرة فتىً حسن البزة، فاحتد لقول شمردل، فقال: الأمر على ما ذكرت يا شمردل، ولكن ما تسأل الطير إذا شبعت أي القبيل الغالب. وأما الطير الآخر فلا أدري لأي معنى عافت الطير الجماجم دون عظام السوق والأذرع، والفقارات والعصاعص - ولكن الذي خلص هذا المعنى كله، وزاد فيه، وأحسن التركيب، ودل بلفظة واحدةٍ على ما دل عليه شعر النابغة وبيت المتنبي، من أن القتلى التي أكلتها الطير أعداء الممدوح، فاتك بن الصقعب في قوله:
وتدري سباع الطير أن كماته ... إذا لقيت صيد الكماة سباع
لهن لعاب في الهواء وهزة ... إذا جد بين الدارعين قراع
تطير جياعاً فوقه وتردها ... ظباه إلى الأوكار وهي شباع
تملك بالإحسان ربقة رقها ... فهن رقيق يشترى ويباع(1/285)
وألحم من أفراخها فهي طوعه ... لدى كل حربٍ والملوك تطاع
تماصع جرحاها فيجهز نقرها ... عليهم وللطير العتاق مصاع فاهتز المجلس لقوله، وعلموا صدقه. فقلت لزهير: من فاتك بن الصقعب - قال: يعني نفسه. قلت له: فهلا عرفتني شانه منذ حين -[إني لأرى نزعات كريمة] . وقمت فجلست إليه جلسة المعظم له. فاستدار نحوي، مكرماً لمكاني، فقلت: جد أرضنا - أعزك الله - بسحابك، وأمطرنا بعيون آدابك؛ قال: سل عما شئت، قلت: أي معنى سبقك إلى الإحسان فيه غيرك، فوجدته حين رمته صعباً عليك إلا أنك نفذت فيه - قال: معنى قول الكندي:
سموت إليها بعدما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال قلت: أعزك الله، هو من العقم. ألا ترى عمر بن أبي ربيعة، وهو من أطبع الناس، حين رام الدنو منه والإلمام به، كيف افتضح في قوله:
ونفضت عني النوم أقبلت مشية ال ... حباب وركني خيفة القوم أزور قال: صدقت، إنه أساء قسمة البيت، وأراد أن يلطف التوصل، فجاء مقبلاً بركنٍ كركنه أزور؛ فأعجبني ذلك منه، وما زلت مقدماً لهذا المعنى رجلاً، ومؤخراً عنه أخرى، حتى مررت بشيخٍ يعلم بنياً له صناعة(1/286)
الشعر وهو يقول له: إذا اعتمدت معنى قد سبقك إليه غيرك فأحسن تراكيبه وأرق حاشيته، فاضرب عنه جملة، وإن لم يكن بد ففي غير العروض التي تقدم إليها ذلك المحسن، لتنشط طبيعتك، وتقوى منتك، فتذكرت قول الشاعر وقد كنت أنسيته:
لما تسامى النجم في أفقه ... ولاحت الجوزاء والمرزم
أقبلت والوطء خفيف كما ... ينساب من مكمنه الأرقم فعلمت أنه صدق، وابن أبي ربيعة لو ركب غير عروضه لخلص، فقلت أنا في ذلك:
ولما تملأ من سكره ... فنام ونامت عيون العسس
دنوت إليه على بعده ... دنو رفيق درى ما التمس
أدب إليه دبيب الكرى ... وأسمو إليه سمو النفس
وبت به ليلتي ناعماً ... إلى أن تبسم ثغر الغلس
أقبل منه بياض الطلا ... وأرشف منه سواد اللعس فقمت وقبلت على رأسه، وقلت: لله در أبيك!(1/287)
قال ابن بسام: وذكر بعض الرواة إن هذين البيتين، [نعني البيتين المتقدمين على شعر أبي عامر] ، غنى بهما في مجلس الواثق مخارق، فطرب واستملح معناهما، وقال الواثق:
قالت إذا الليل دجا فأتنا ... فجئتها حين دجا الليل
خفي وطء الرجل من حارسٍ ... ولو درى حل بي الويل وأنشد بعضهم لأبي دهبل الجمحي:
قالت: إذا ما جئتنا فأتنا ... ليلاً إذا ما هجع السامر
واسقط علينا كسقوط الندى ... ليلة لا ناه ولا زاجر قال أبو عامر: فقال لي فاتك بن الصقعب: فهل جاذبت أنت أحداً من الفحول - قلت نعم، قول أبي الطيب:
أأخلع المجد عن كتفي وأطلبه ... وأترك الغيث في غمدي وأنتجع قال لي: بماذا - قلت بقولي:(1/288)
ومن قبةٍ لا يدرك الطرف رأسها ... تزل بها ريح الصبا فتحدر
إذا زاحمت منها المخارم صوبت ... هوياً على بعد المدى وهي تجأر
تكلفتها والليل قد جاش بحره ... وقد جعلت أمواجه تتكسر
ومن تحت حضني أبيض ذو سفاسق ... وفي المف من عسالة الخط أسمر
هما صاحباي من لدن كنت يافعاً ... مقيلان من جد الفتى حين يعثر
فذا جدول في الغمد تسقى به المنى ... وذا غصن في الكف يجنى فيثمر فقال: والله لئن كان الغيث أبلغ، فلقد زدت زيادةً مليحة طريفة، واخترعت معاني لطيفة. هل غير هذا - فقلت: وقوله أيضاً:
وأظمأ فلا أبدي إلى الماء حاجةً ... وللشمس فوق اليعملات لعاب قال: بماذا - قلت: بقولي:
ولم أنس بالناووس أيامنا الألى ... بها أيننا محبوبها وحبابها
وفتية ضربٍ من زناتة ممطر ... بوبل المنايا طعنها وضرابها
وقفنا على جمر من الموت وقفةً ... صلي لظاه داب قومي ودابها
إذا الشمس رامت فيه أكل لحومنا ... جرى جشعاً فوق الجياد لعابها فصاح صيحةً منكرةً من صياح الجن كاد ينخب لها فؤادي فزعاً والله منه.(1/289)
وكان بنجوة منا جني كأنه هضبة لركانته وتقضبه، يحدق في دونهم، يرميني بسهمين نافذين، وأنا ألوذ بطرفي عنه، وأستعيذ بالله منه، لأنه ملأ عيني ونفسي. فقال لي لما انتهيت، وقد استخفه الحسد: على من أخذت الزمير - قلت: وإنما أنا نفاخ عندك منذ اليوم - قال: أجل! أعطنا كلاماً يرعى تلاع الفصاحة، ويستحم بماء العذوبة والبراعة، شديد الأسر جيد النظام، وضعه على أي معنى شئت. قلت: كأي كلام - قال: ككلام أبي الطيب:
نزلنا على الأكوار نمشي كرامةً ... لمن بان عنه أن نلم به ركبا
نذم السحاب الغر في فعلها به ... ونعرض عنها كلما طلعت عتبا وكقوله:
أرأيت أكبر همة من ناقتي ... حملت يداً سرحاً وخفاً مجمرا
تركت دخان الرمث في أوطانها ... طلباً لقوم يوقدون العنبرا
وترفعت ركباتها عن مبرك ... تقعان فيه، وليس مسكاً أذفرا
فأتتك دامية الأظل كأنما ... حذيت قوائمها العقيق الأحمرا وكقوله:(1/290)
على كل طاوٍ تحت طاو كأنما ... من الدم يسقى أو من اللحم يطعم
لها تحتهم زي الفوارس فوقها ... فكل حصان دارع متلثم
وما ذاك بخلاً بالنفوس على القنا ... ولكن صدم الشر بالشر أحزم فآدني والله بما قرع به سمعي، وقلت له: أي ماء لو كان من جمامك، واستهلت به عيون غمامك! ثم استقدمت فأنشدته:
ولرب ليل للهموم تهدلت ... أستاره فمحا الصوى بستوره
كالبحر يضرب وجهه في وجهه ... صعب على العبار وجه عبوره
طاولته من عزمتي بمضبرٍ ... أثبت همي في قرارة كوره
وعلي للصبر الجميل مفاضة ... تلقى الردى فتكل دون صبوره
وبراحتي من فكرتي ذو ذكرةٍ ... عهدت تذكرني لطبع ذكيره
فرداً إذا بعثت دياجي جنحه ... هولاً علي خبطت في ديجوره
حتى بدا عبد العزيز لناظري ... أملي فمزقت الدجى عن نوره [وأنشدته:
الله في أرض غذيت هواءها ... وعصابةٍ لم تتهم إشفاقها
نكزتهم أفعى الخطوب وعوجلوا ... بمثمل منها فكن درياقها(1/291)
وافتح مغالقها بعزمة فيصل ... لو حاولت سوق الثريا ساقها
ولو أنها منه إذا ما استلها ... تتعرض الجوزاء حل نطاقها] وأنشدته:
لا تبكين من الليالي أنها ... حرمتك نغبة شارب من مشرب
فأقل ما لك عندها سيف الردى ... يستل من شعر القذال الأشيب
ورحيل عيشك كل رحلة ساعةٍ ... وفناء طيبك في الزمان الأطيب وأنشدته:
ولم أر مثلي ما له من معاصر ... ولا كمضائي ما له من مضافر
ولو كان لي في الجو كسر أؤمه ... ركبت إليه ظهر فتخاء كاسر
وهمت بإجهاش علي وقد رأت ... مصابي في آثار إحدى الكبائر
فقلت لها: إن تجزعي من مخاطرٍ ... فإنك لن تحظي بغير المخاطر
[تشهت ثمار الوفر مني وإنها ... لدى كل مبيض العنانيز وافر(1/292)
له في بياض اليوم يقظة فاجر ... وتحت سواد الليل هجعة كافر]
رويدك حتى تنظري عم تنجلي ... غيابة هذا العارض المتناثر
ودون اعتزامي هضبة كسروية ... من الحزم سلمانية في المكاسر
إذا نحن أسندنا إليها تبلجت ... مواردنا عن نيرات المصادر
وأنت ابن حزم منعش من عثارها ... إذا ما شرقنا بالجدود العواثر
[وما جر أذيال الغنى نحو بيته ... كأروع معرورٍ ظهور الجرائر]
إذا ما تبغى نضرة العيش كرها ... لدى مشرعٍ للموت لمحة ناظر
فسل من التأويل فيها مهنداً ... أخو شافعيات كريم العناصر
[لمعتزلي الرأي ناءٍ عن الهدى ... بعيد المرامي مستميت البصائر]
يطالب بالهندي في كل فتكةٍ ... ظهور المذاكي عن ظهور المنابر وأنشدته:
وقالت النفس لما أن خلوت بها ... أشكو إليها الهوى خلواً من النعم:
حتام أنت على الضراء مضطجع ... معرس في ديار الظلم والظلم -
[وفي السرى لك، لو أزمعت مرتحلاً ... برء من الشوق أو برء من العدم]
ثم استمرت بفضل القول تنهضني ... فقلت: إني لأستحبي بني الحكم(1/293)
المحلفين رداء الشمس مجدهم ... والمنعلين القريا أخمص القدم
ألممت بالحب حتى لو دنا أجلي ... لما وجدت لطعم الموت من ألم
وذادني كرمي عمن ولهت به ... ويلي من الحب أو ويلي من الكرم
تخونتني رجال طالما شكرت ... عهدي وأثنت بما راعيت من ذمم
لئن وردت سهيلاً غب ثالثةٍ ... لتقرعن علي السن من ندم
هناك لا تبتغي غير السناء يدي ... ولا تخف إلى غير العلا قدمي
حتى تراني في أدنى مواكبهم ... على النعامة شلالاً من النعم
ريان من زفرات الخيل أوردها ... أمواه نيطة أرعى لحق العلا من سالف الأمم ففتح علي عينين كالماويتين ثم قال لي: من القائل -
طلع البدر علينا ... فحسبناه لبيبا
والتقينا فرأينا ... هـ بعيداً وقريباً قلت: أبي، قال: فمن القائل -
[فيا من إذا رام معنى كلامي ... رأى نفسه نصب تلك المعاني]
شكوت إليك صروف الزمان ... فلم تعد أن كنت عون الزمان(1/294)
وتقصر عن همتي قدرتي ... فيا ليتني لسوى من نمائي
ولا غرو للحر عند المضيق ... أن يتمنى وضيع الأماني قلت: أخي، قال: فمن القائل -
صدود وإن كان الحبيب مساعفاً ... وبعد وإن كان المزار قريباً
وما فتئت تلك الديار حبائباً ... لنا قبل أن نلقى بهن حبيبا
ولو أسعفتنا بالمودة في الهوى ... لأدنين إلفاً أو شغلن رقيبا
وما كان يجفو ممرضي، غير أنه ... عدته العوادي أن يكون طبيبا قلت: عمي، قال: فمن القائل -
أتيناك لا عن حاجة عرضت لنا ... إليك ولا قلب إليك مشوق
ولكننا زرنا بفضل حلومنا ... حماراً تلقى برنا بعقوق قلت: جدي، قال: فمن القائل -
ويلي على أحور تياه ... أحسن ما يلهو به اللاهي
أقبل في غيد حكين الظبا ... بيض تراق حمر أفواه
يأمر فيهن وينهى ولا ... يعصينه من آمرٍ ناهي(1/295)
حتى إذا أمكنني أمره ... تركته من خيفة الله قلت: جد أبي، قال: فمن القائل -
ويح الكتابة من شيخ هبنقةٍ ... يلقى العيون برأس مخه رار
ومنتن الريح إن ناحيته أبداً ... كأنما مات في خيشومه فار قلت: أنا، قال: والذي نفس فرعون بيده، لا عرضت لك أبداً، إني أراك عريقاً في الكلام، ثم قل واضمحل، حتى إن الخنفساء لتدوسه، فلا يشغل رجليها. فعجبت منه، وقلت لزهير: من هذا الجني - فقال لي: استعذ بالله منه، إنه ضرط في عين رجل فبدرت من قفاه، هذا فرعون بن الجون. فقلت: أعوذ بالله العظيم، من النار ومن الشيطان الرجيم! فتبسم زهير وقال لي: هو تابعة رجل كبير منكم، ففهمتها عنه.
وله فصل في مثل ذلك: قال أبو عامر: ومشيت يوماً أنا وزهير بأرض الجن أيضاً نتقرى الفوائد، ونعتمد أندية أهل الآداب منهم، إذ أشرفنا على قرارة غناء، تفتر عن بركة ماء، وفيها عانة من حمر(1/296)
الجن وبغالهم، قد أصابتها أولق فهي تصطك بالحوافر، وتنفخ من المناخر، وقد اشتد ضراطها، وعلا شحيجها ونهاقها، فلما بصرت بنا أجفلت إلينا وهي تقول: جاءكم على رجليه، فارتعت لذلك، فتبسم زهير وقد عرف القصد، وقال لي: تهيأ للحكم. فلما لحقت بنا بدأتني بالتفدية، وحيتني بالتكنية، فقلت: ما الخطب، حمي حماك أيتها العانة، وأخصب مرعاك - قالت: شعران لحمارٍ وبغل من عشاقنا أختلفنا فيهما، وقد رضيناك حكماً. قلت: حتى أسمع. فتقدمت إليّ بغلة شهباء، عليها جلها وبرقعها، لم تدخل فيما دخلت فيه العانة من سوء العجلة وسخف الحركة، فقالت: أحد الشعرين لبغل من بغالنا وهو:
على كل صبٍ من هواه دليل ... سقام على حر الجوى ونحول
وما زال هذا الحب داءً مبرحاً ... إذا ما اعترى بغلاً فليس يزول
بنفسي التي أما ملاحظ طرفها ... فسحر، وأما خدها فأسيل
تعبت بما حملت من ثقل حبها ... وإني لبغل للثقال حمول
وما نلت منها نائلاً غير أنني ... إذا هي بالت بلت حيث تبول والشعر الآخر لدكين الحمار:
دهيت بهذا الحب منذ هويث ... وراثت إراداتي فلست أريث
كلفت بإلفي منذ عشرين حجةً ... يجول هواها في الحشا ويعيث
[وما لي من برح الصبابة مخلص ... ولا لي من فيض السقام مغيث](1/297)
وغير منها قلبها لي نميمة ... نماها أحم الخصيتين خبيث
وما نلت منها نائلاً غير أنني ... إذا هي راثت رثت حيث تروث فضحك زهير، وتماسكت وقلت للمنشدة: ما هو يث - قالت: هو هويت، بلغة الحمير، فقلت: والله إن للروث رائحة كريهةً، وقد كان أنف الناقة أجدر أن يحكم في الشعر! فقالت: فهمت عنك، وأشارت إلى العانة أن دكيناً مغلوب، ثم انصرفت قانعةً راضية.
وقالت لي البغلة: أما تعرفني أبا عامر - قلت: لو كانت ثم علامة! فأماطت لثامها، فإذا هي بغلة أبي عيسى، والخال على خدها، فتباكينا طويلاً، وأخذنا في ذكر أيامنا، فقالت: ما أبقت الأيام منك - قلت: ما ترين، قالت: شب عمرو عن الطوق! فما فعل الأحبة بعدي! - أهم على العهد - قلت: شب الغلمان، وشاخ الفتيان، وتنكرت الخلان، ومن إخوانك من بلغ الإمارة، وانتهى إلى الوزارة، فتنفست الصعداء وقالت: سقاهم الله سبل العهد، وإن حالوا عن العهد، ونسوا أيام الود، بحرمة الأدب، إلا ما أقرأتهم مني السلام؛ قلت: كما تأمرين وأكثر.
وكانت في البركة بقربنا إوزة بيضاء شهلاء، في مثل جثمان النعامة، كأنما ذر عليها الكافور، أو لبست غلالةً من دمقس الحرير، لم أر أخف من رأسها حركة، ولا أحسن للماء في ظهرها صباً، تثني سالفتها(1/298)
وتكسر حدقتها، وتلولب قمحدوتها، فترى الحسن مستعاراً منها، والشكل مأخوذاً عنها، فصاحت بالبغلة: لقد حكمتم بالهوى، ورضيتم من حاكمكم بغير الرضى؛ فقلت لزهير: ما شأنها - قال: هي تابعة شيخٍ من مشيختكم، تسمى العاقلة، وتكنى أم خفيف، وهي ذات حظ من الأدب، فاستعد لها، فقلت: أيتها الإوزة الجميلة، العريضة الطويلة، أيحسن بجمال حدقتيك، واعتدال منكبيك، واستقامة جناحيك، وطول جيدك، وصغر أسك، مقابلة الضيف بمثل هذا الكلام، ولقي الطارئ الغريب بشبه هذا المقال - وأنا الذي همت بالإوز صبابةً، واحتملت في الكلف بها عض كل مقالة، وأنا الذي استرجعتها إلى الوطن المألوف، وحببتها إلى كل غطريف، فاتخذتها السادة بأرضنا، واستهلك عليها الظرفاء منا، ورضيت بدلاً من العصافير، ومكلمات الزرازير، ونسيت لذة الحمام، ونقار الديوك، ونطاح الكباش. فدخلها العجب من كلامي، ثم ترفعت وقد اعترتها خفة شديدة في مائها، فمرة سابحة، ومرة طائرة، تنغمس هنا وتخرج هناك، [قد تقبب جناحاها، وانتصبت ذناباها، وهي تطرب تطريب السرور] ؛ وهذا الفعل معروف من الإوز عند الفرح والمرح، ثم سكنت وأقامت عنقها، وعرضت صدرها، وعملت بمجدافيها، واستقبلتنا جائية كصدر المركب، فقالت: أيها الغار المغرور، كيف تحكم في الفروع وأنت لا تحكم الأصول - ما الذي تحسن - قلت: ارتجال شعر، واقتضاب خطبة، على حكم المقترح(1/299)
والنصبة، قالت: ليس هذا أسألك، قلت: ولا بغير هذا أجاوبك، قالت: حكم الجواب أن يقع على أصل السؤال، وأنا إنما أردت بذلك إحسان النحو والغريب اللذين هما أصل الكلام، ومادة البيان. قلت: لا جواب عندي غير ما سمعت، قالت: أقسم أن هذا منك غير داخلٍ في باب الجدل، قلت: وبالجدل تطلبيننا [وقد عقدنا سلمه، وكفينا حربه] وإن ما رميتك به منه لأنفذ سهامه، وأحد حرابه [وهو من تعاليم الله عز وجل عندنا في الجدل في محكم تنزيله، قالت: أقسم أن الله ما علمك الجدل في كتابه، قلت: محمول عنك أن خفيف، لا يلزم الإوز حفظ أدب القرآن، قال الله عز وجل في محكم كتابه حاكياً عن نبيه إبراهيم عليه السلام: {ربي الذي يحيي ويميت، قال أنا أحيي وأميت} (البقرة: 558) . فكان لهذا الكلام من الكافر جواب، وعلى وجوبه مقال، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لما لاحت له الواضحة القاطعة رماه بها وأضرب عن الكلام الأول، قال {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب؛ فبهت الذي كفر} وأنا لا أحسن غير ارتجال شعر، واقتضاب خطبة، على حكم المقترح والنصبة. فاهتزت من جانبيها، وحال الماء من عينيها، وهمت بالطيران، ثم اعتراها ما يعتري الإوز من الألفة وحسن الرجعة، فقدمت عنقها ورأسها إلينا تمشي نحونا رويداً، وتنطق نطقاً متداركاً خفياً، وهو فعل الإوز إذا أنست واستراضت وتذللت، على أني أحب الإوز وأستظرف حركاتها وما يعرض من سخافاتها] .
ثم تكلمت بها مبسبساً، ولها مؤنساً، حتى خالطتنا وقد عقدنا(1/300)
سلمها وكفينا حربها، فقلت: يا أم خفيف، بالذي جعل غذاءك ماء. وحشا رأسك هواء، ألا أيما أفضل: الأدب أم العقل - قالت: بل العقل، قلت: فهل تعرفين في الخلائق أحمق من إوزة، ودعيني من مثلهم في الحبارى - قلت: لا، قلت: فتطلبي عقل التجربة، إذ لا سبيل لك إلى عقل الطبيعة، فإذا أحرزت منه وبؤت منه بحظ، فحينئذ ناظري في الأدب، فانصرفت وانصرفنا.
قال أبو عامر: وكنت يوماً بحمام لي مع أصحابنا فأتى رسول الحاجب أبي عامر يرغب إخلاءه لبنيان عرض في حمامه منعه من دخوله، وكنت لم أصحبه، فخرجنا له عنه، ورغبوا أن أكتب إليه في ذلك فقلت:
شكرت للدهر حسن ما صنعا ... طائر مجد بجنتي وقعا
نفرت لما أيقنت جيئته ... وطارت النفس عندها قطعا
يا حسن حمامنا وقد غربت ... شمس الضحى فيه بعد ما متعا
أيقن أن الهلال زاكنه ... فضاء للحاضرين واتسعا
فانعم أبا عامر بنعمته ... واعجب لأمرين فيه قد جمعا
نيرانه من زنادكم قدحت ... وماؤه من بنانكم نبعا قال أبو الحسن: وننشد هنا بعض مقطعات تتعلق بذكر الحمام(1/301)
قال المنفتل:
انظر إلى حمامنا قد حكى ... حالين من حال الأحباء
حرارة الأنفاس يوم النوى ... وحرة الأنفاس في الماء
فماؤه من أدمعي سائل ... وناره من حر أحشائي وقال في صفة حمامٍ كانت مضاويه من زجاج أحمر، وفي سمائه حمرة وبياض:
تحيرت من طيب حمامنا ... بخيل لي أن فيه الفلق
فمن حمرة فوقنا وابيضاض ... كخد الحبيب إذا ما عرق
رأى الدهر ما شذ من حسنه ... فسد كوى سقفه بالشفق ومما يتعلق أيضاً بصفته قول الآخر، ولكنه خلطه بالنسيب، وأشار فيه إلى معنى غريب، فقال:
ولم أدخل الحمام يوم رحيلهم ... طلاب نعيم قد رضيت ببوسي
ولكن لتجري دمعتي مطمئنةً ... فأبكي ولا يدري بذاك جليسي ودخل الحمام يوماً من أهل عصرنا الأديبان: أبو جعفر ابن هريرة التطيلي، وأبو بكر ابن بقي، فقال أبو جعفر:
يا حسن حمامنا وبهجته ... مرأى من السحر كله حسن
ماء ونار حواهما كنف ... كالقلب فيه السرور والحزن ثم أعجبه هذا المعنى أيضاً فقال فيه:(1/302)
ليس على لهونا مزيد ... ولا لحمامنا ضريب
ماء ويه لهيب نارٍ ... كالشمس في ديمة تصوب
وابيض من تحته رخام ... كالثلج حين ابتدا يذوب وقال أبو بكر:
حمامنا فيه فصل القيظ محتدم ... وفيه للبرد سر غير ذي ضرر
ضدان ينعم جسم المرء بينهما ... كالغصن ينعم بين الشمس والمطر وقال أبو جعفر التطيلي، وقد نظر فيه إلى غلام وسيم:
هل استمالك جسم ابن الأمير وقد ... سالت عليه من الحمام أنداء -
كالغصن باشر حر النار من كثبٍ ... فظل يقطر من أعطافه الماء - وفي أبي عامر ابن المظفر الذي ذكر يقول أبو عامر بن شهيد من جملة قصيدةٍ بقول فيها:
جمعت بطاعة حبك الأضداد ... وتألف الأفصاح والأعياد
كتب القضاء بأن جدك صاعد ... والصبح رق والظلام مداد ونقلت من خط أبي مروان ابن حيان قال: سلف لأبي عامر بن المظفر(1/303)
هذا بقرطبة عيشة راضية في سرور وحبور وقتاً، إلى أن ساءت الأيام بطامة ففارقها بغصة، وكان من محاسنه أنسه بالأدب، وغلبة أهله على خاصته، ولم يكن في مغدىً ولا مراح، فتجملت آثاره بهم، وسارت أقوالهم فيه، وكان من ألهجهم بذكره أبو عامر بن شهيد، له معه أخبار مأثورة مشهور. شاهدتهم ليلةً في مجلسه [و] طفيلةً صغيرةً عجيبة الخلق كانت تسقيهم [تسمى] أسماء عجبوا من مكابدتها السهر معهم، على صغر سنها، وحسن قيامها بخدمتهم، فسأله ابن المظفر وصفها فقال:
أفدي أسيماء من نديمٍ ... ملازمٍ للكؤوس راتب
قد عجبوا في السهاد منها ... وهي لعمري من العجائب
قالوا: تجافى الرقاد عنها ... فقلت لا ترقد الكواكب قال أبو عامر وابن حيان: واستوحش أبو عامر ابن المظفر هذا من هاشم المعتد ووزيره حكم بن سعيد القزاز، وكانوا قد رموه بذنب سليمان بن هشام الناصري، فلما خاف دبر الفرار، وخرج في لمةٍ من ثقات أصحابه وأعوانه، وحمل معه عيون ذخائره وخاصة حرمه، وقطع أرضاً بعيدة، ولم يعلم المعتد بخبره، إلى أن جاء خبر اجتيازه قرطبة راجعاً على عقبه من شاطبة، لم يتفق له فيها ما أراد، فكر إلى ابن عبد الله بقرمونة مستجيراً به في ظنه، فأحلف ابن عبد(1/304)
الله ظنه، وخاطب قائده بحصر المرور وبإزعاجه عن قطره، ولا يجتاز على شيء من عمله، فضاقت به الأرض يومئذ، فألقى نفسه على أبي حمامه حرزة اليصدراني، فأجاره وبوأه منزلاً في حصنه على نهر قرطبة، أقام به كمد وغصة، والحمام يغازله إلى أن مات عنده.
وحدثني أبو عبد الله ابن هريرة الكاتب قال: قصد أبو عامر ابن المظفر في خروجه من شاطبة إلى مواليه العامريين بعد مراسلة متقدمة، لما وصل ردوه خجلا خائباً، فرغب أن تخرج إليه أخته بنت المظفر الأيم المقيمة - كانت - عندهم وقتهم، فأسعفوه بذلك وخرجت إليه، فخلا بها وأودعها جوهراً نفيساً كان احتمله، وولى ناكصاً، والعبدى تطرده عن ناحيتها، وأسلموه غرضاً للحتوف، فمات عند حرزة اليصدراني كما وصفناه. وعلم ابن عمه عبد العزيز بمكان ذلك الجوهر، فلما هلك اختدعها ووعدها أن ينكحها، وكانت ضعيفة الرأي، فأسلمته إليه وغدر بها ولم ينكحها، فصارت بقية دهرها تجفوه وتشتمه.
ولما استقر أبو عامر عند حرزة، وأيس المعتد من انصرافه، قبض ما خلفه بداره ونقله إلى القصر، فطلب أسبابه، وتتبع ودائعه وعقاره، فانفتح على أهل قرطبة في هذا الباب بذلك الوقت بلاء عظيم، أجلى بعضهم عن الأوطان، بسبب تلك الودائع العامرية؛ انتهى كلام ابن حيان.
@جملة من شعره في أوصاف شتى
حدث عن نفسه قال: لما قدم زهير الصقلبي فتى بني عامر حضرة(1/305)
قرطبة من المرية، وجه أبو جعفر ابن عباس وزيره عن لمة من أصحابنا منهم ابن برد، وأبو بكر المرواني، وابن الحناط، والطبني، فسألهم عني، وقال: وجهوا عنه، فوافاني رسوله مع دابة له بسرجٍ محلى ثقيل، فسرت إليه ودخلت المجلس، وأبو جعفر غائب، فتحرك المجلس لدخولي وقاموا جميعاً إليّ، حتى طلع أبو جعفر علينا ساحباً لذيل لم ير أحد سحبه قبله، وهو يترنم، فسلمت عليه سلام من يعرف حق الرجال، فرد رداً لطيفاً، فعلمت أن في أنفه نعرةً لا تخرج إلا بسعوط الكلام، ولا تراض إلا بمستحصد النظام، فرأيت أصحابي يصيخون إلى ترنمه فسألتهم عن ذلك، فقال لي الحناطي، وكان كثير الإنحاء علي، جالباً في المحافل ما يسوء الأولياء إليّ: إن الوزير حضره قسيم من شعره، وهو يسألنا إجازته. فعلمت أني المراد، فاستنشدته فأنشده، وهو:
مرض الجفون ولثغة في المنطق ... فقلت لمن حضر: لا تجهدوا أنفسكم فلستم المراد؛ فأخذت القلم وكتبت بديهةً:
مرض الجفون ولثغة في المنطق ... سيان جرا عشق من لم يعشق
من لي بألثغ لا يزال حديثه ... يذكي على الأكباد جمرة محرق
يبني فينبو في الكلام لسانه ... فكأنه من خمر عينيه سقي(1/306)
لا ينعش الألفاظ من عشراتها ... ولو إنها كتبت له في مهرق ثم قمت عنهم فلم ألبث أن وردوا علي، وأخبروا أن أبا جعفر لم يرض ما جئنا به من البديهة، وسألوني أن أحمل مكاوي الكلام على حتاره، وذكروا أن إدريس هجاه فأفحش، فلم أستحسن الإفحاش، فقلت فيه معرضاً إذ التعريض من محاسن القول:
أبو جعفر رجل كاتب ... مليح شبا الخط حلو الخطابه
تملأ شحماً ولحماً وما ... يليق تملؤه بالكتابه
وذو عرق ليس ماء الحياء ... ولكنه رشح فضل الجنابه
جرى الماء في سفله جري لينٍ ... فأخذت في العلو منه صلابه [قال ابن بسام: وليت شعري ما التصريح عند أبي عامر إذا سمى هذا تعريضاً - ولولا أن الحديث شجون، والتتابع فيه جنون، والكلام إذا لان قياده، سهل اطراده، وإذا قرب بعضه من بعض، لم يفرق فيه بين سماء وأرض، لما استجزت أن أشين كتابي بهذا الكلام البارد معرضه، البعيد من السداد غرضه، وقد يطغى القلم، وتجمح الكلم.
وقوله:
جرى الماء في سفله جري لين ... يشبه قول الآخر، وضمن بيت النابغة:(1/307)
يا سائلي عن خالد، عهدي به ... رطب العجان وكفه كالجلمد
" كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعياله وأسفله ندي " وقوله:
وذو عرق ليس ماء الحياء ... ألم به ابن زيدون فقال من جملة أبيات:
مخضت في أسته الأيور حليباً ... فعلى عينه من الزبد نقطه وتأنق في هذا المعنى أبو الحسين ابن الجد فقال:
وأزرق والأمور لها اشتباه ... وتؤتى العين من قبل العجان
ومما شك أسفله العوالي ... بدا في عينه زرق السنان] قال ابن بسام: قول أبي عامر في صفة الألثغ مما أحسن فيه، لا سيما على البديه. ومن أحسن ما سمعت في صفته قول الرمادي:
لا الراء تطمع في الوصال ولا أنا ... الهجر يجمعنا فنحن سواء
فإذا خلوت كتبتها في راحتي ... فبكيت منتحباً أنا والراء(1/308)
وأخذ لفظ الرمادي هذا أبو القاسم ابن العريف فقال:
أيها الألثغ الذي شف قلبي ... جد ينطق ولو نطقت بسب
هجرك الراء مثل هجري سواء ... فكلانا معذب دون ذنب
فإذا شئت أن أرى لي مثيلاً ... في هواني خططت راء بجنبي على أن أبا الطيب قد قال فأحسن:
قشير وبلعجلان فيها خفية ... كراءين في ألفاظ ألثغ ناطق ويشبه قول أبي الطيب قول بعض أهل عصرنا، وهو أبو الوليد ابن حزم الإشبيلي، يصف سكران:
ويروم قول أبي الوليد وربما ... كتمت مكانه لامه الواوان وقال أبو عامر يتغزل:
مر بي في فلك من ربرب ... قمر مبتسم عن شنب
زينوا أعلاه بالدر كما ... ثقلوا أسفله بالكثب(1/309)
فازدهتني أريحيات الصبا ... واستخفتني دواعي طربي
فتعرضت لتسليم له ... فإذا التياه لا يعبأ بي
قال: هذا العبد من دلله ... ما الذي أمنه من غضبي -
يا ظبا لحظي خذي لي رأسه ... فهو لا شك من أهل الريب
فانبرت ألحاظه تطلبني ... وأنا قدامها في الهرب
لو تراني وأنا ألطفه ... وأداريه مداراة الصبي
خلته جبار قوم مردوا ... وأنا في لطف الوعظ نبي قال أبو عامر: ومن الواجب على الناقد أن يبحث عن الكلام، ويفتش عن شرف المعاني، وينظر مواقع البيان، ويحترس من حلاوة خدع اللفظ، ويدع تزويق التركيب، ويراطل بين أنحاء البديع، ويمثل أشخاص الصناعة، فقد ترى الشعر فضي البشرة، وهو رصاصي المكسر، ذا ثوب معضد أو مهلهل، وهو مشتمل على بهق أو برص، مبنياً بلبن التماثيل، وصفوان التهاويل، وهو لا يجن صاحبه عن النسيم فضلاً عن الحرجف، ولا يقيه رقيق ريق الندى فضلاً عن شؤبوب الكنهور، وقد ملحته ملاحة الأسماء، واتقد فيه الهوى، واضطرمت في جانبه نيران الجوى، ولمع فيه البرق، واستن فيه الودق، وسفحت عليه الدموع، وبان فيه الخشوع، وهو(1/310)
{كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً} (النور: 39) لا يستحق صاحبه غير أن يكون تلعابةً، أو صاحب براعة. وإنما يستحق اسم الصناعة بتقحم بحور البيان، وتعمد كرائم المعاني والكلام، وأن ينطق بالفصل، ويركب أثباج الجد، ويطلب النادرة والسائرة، وينظم من الحكمة ما يبقى بعد موته، ويذكر بعد فوته، ويتصرف تصرف الملح، ويتلون تلون أبي براقش. ونحن نرجو أنا ذهبنا بقولنا هذا مذهباً كريماً من الكلام:
ولما رأيت الليل عسكر قره ... وهبت له ريحان تلتطمان
وعمم صلع الهضب من قطر ثلجه ... يدان من الصنبر تبتدران
رفعت لساري الليل نارين فارتأى ... شعاعين تحت النجم يلتقيان
فأقبل مقرور الحشا لم تكن له ... بدفع صروف النائبات يدان
فقلت: إلى ذات الدخان، فقال لي ... وهل عرفت نار بغير دخان -
فملت به أجتره نحو جمرةٍ ... لها بارق للضيف غير يمان
إذا ما حسا ألقمته كل فلذةٍ ... لفرخة طير أو لسخلة ضان
فما زال في أكل وشرب مدارك ... إلى أن تشهى الترك شهوة واني
فألحفته فامتد فوق مهاده ... وخداه بالصهباء تتقدان
وما انفك معشوق الثواء نمده ... ببشر وترحيب وبسط لسان
تغنيه أطيار القيان إذا انتشى ... بصنجٍ وكيشار وعود كران(1/311)
ويسمو دخان المندل الرطب فوقه ... كما احتملت ريح متون عثان
إلى أن تشهى البين من ذات نفسه ... وحن إلى الأهلين حنة حاني
فأتبعته ما سد خلة حاله ... وأتبعني ذكراً بكل مكان قوله: " وعمم صلع الهضب " ... البيت، كقول بعض أهل عصرنا يصف الثلج أيضاً:
وأترع الوهد من ازباد لجته ... بالبرس ينبت بين القوس والوتر
فالأرض ملساء لا أمت ولا عوج ... كنقطة من سراب القاع لم تمر وقوله: " فأتبعته ما سد خلة حاله " ... البيت، كقول حبيب:
فراح في ثنائي ... ورحت في ثيابه وأخذه بعض أهل عصرنا فقال:
وخذ حمدي بجودك، ذا بهذا ... كلانا اليوم أربح صيرفي
لأصبح من نوالك في رياش ... وتصبح من مقالي في حلي قال أبو عامر: ولما أنشد المعتلي بالله يحيى بن علي بن حمود قول ابن قاضي ميلة يصفف مركباً للروم أوقع به المسلمون وغرقوه وذكر قتل العلج:(1/312)
إذا طفا أبصر الصمصام يرقبه ... أو غاص في الماء من خوف الردى شرقا
وأي عيشٍ لموقوف على تلفٍ ... يراقب الميتتين: السيف والغرقا وكانت إثر ذلك وقعة للمعتلي بالله على السودان بإشبيلية، فأمر أبا عبد الله ابن الحناط بصفة ذلك إذ الوقعتان متشابهتان، ففعل؛ وبلغني أنا ذلك، فكتبت إلى المعتلي بشعر طويل في المعنى أوله:
غناك سعدك في ظل الظبا وسقى ... " فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقا " ومنها في صفة الوقعة:
سقياً لأسد تساقى الموت أنفسها ... وتلبس الصبر في يوم الوغى حلقا
قامت بنصرك لما قام مرتجلاً ... خطيب جودك فيها ينثر الورقا
سريت تقدم جيش النصر متخذاً ... سبل المجرة في إثر العلا طرقا
في ظل ليلٍ من الماذي معتكر ... يجلو إلى الخيل منه وجهك الفلقا
وصفح قرن غداة الروع يكتبه ... من الظبا قلم لا يعرف المشقا
أجريت للزنج فوق النهر نهر دمٍ ... حتى استحال سماء جللت شفقا
وساعد الفلك الأعلى بقتلهم ... حتى غدا الفلك بالناجي به غرقا
من كل أسود لم يدلف على ثلج ... بأن جدك يجلو صفحه يققا
كأن هامته والرمح يحملها ... غراب بينٍ على بان النقا نعقا(1/313)
ومنها:
إذا ولى ثغر ثغرته ... أو عاذ مسلوب القوى غرقا
وأي نهر يرجي العبر عابره ... وسفنه طافيات غودرت فلقا قوله: " حتى استحال سماءً " ... البيت، إلى قول المعري أراه أشار.
وعلى الأفق من دماء الشهيدي ... ن علي ونجله شاهدان
فهما في أواخر الليل فجرا ... ن وفي أولياته شفقان وقوله: " كأن هامته والرمح " ... البيت، أخذ معناه ابن الحداد فقال من قصيدة في مدائح ابن صمادح، يصف غلبته على وادي آش سنة خمس وخمسين:
بلاد غدت يأجوج فيها فأفسدت ... فكنت كذي القرنين والجحفل السد
وما زال شرقي المرية عاطلاً ... إلى أن علاها من رؤوسهم عقد
وقد عوضوا من بائنات جسومهم ... بمصمتةً لا عظم فيها ولا جلد
كأنهم فيها غرابيب وقع ... على باسقات لا تروح ولا تغدو ومن مشهور هذا المعنى قول الآخر:(1/314)
وعاد لكنه رأس بلا جسد ... يسري ولكن على ساق بلا قدم
وإذا تراءى على الخطي أسفر في ... حال العبوس لنا عن ثغر مبتسم ولم أسمع في صفة الرأس المصلوب على الرمح أحسن من قول أبي فراس يخبر عن سيف الدولة وقد أنقذ أبا وائل التغلبي من الأسر، وقتل آسره:
وأنقذ من ثقل الحديد ومسه ... أبا وائل والدهر أجدع صاغر
وآب ورأس القرمطي أمامه ... له جسد من أكعب الرمح ضامر وكان هذا المقتول الذي أوقع به سيف الدولة قد ظهر على أطراف الشام والتفت عليه القبائل، وكان يعرف بالمبرقع، فحارب أبا وائل تغلب بن داود وهو خليفة سيف الدولة على حمص، فهزمه وأسره وألزمه شراء نفسه بعدد من الخيل والمال، فخرج سيف الدولة من حلب وأسرى حتى لحق في اليوم الثالث بنواحي دمشق، فأوقع بالمبرقع، وفي ذلك يقول المتنبي:
ولو كنت في أسر غير الهوى ... ضمنت ضمان أبي وائل
فدى نفسه بضمان النضار ... وأعطى صدور القنا الذابل(1/315)
ومناهم الخيل مجنوبةً ... فجئن بكل فتىً باسل
كأن خلاص أبي وائلٍ ... معادوة القمر الآفل
دعا فسمعت وكم صامت ... على البعد عندك كالقائل قال ابن بسام: وإذ قد أجرى أبو عامر ذكر يحيى بن حمود، فلنشر إليه، ونتلو قصيدة أبي عامر بفصل نجعله منبهاً عليه، إذ قد مر ذكره فيها، ونسقت له قوافيها. وأنا أشرح في هذا الموضع مقتله خاصةً، إذ كان خاتمة آثاره، ومميزاً من سائر أخباره. وسيمر في أخباره عمه القاسم كيف نجم ملكه، وعلى يدي من نظم سلكه.
@ذكر الخبر عن مقتل يحيى بن حمود الذي ذكر
قال ابن حيان: حكى لي أبو الفتح البرزالي قال: لما كان عيد الأضحى سنة ست وعشرين وأربعمائة، وانغمس يحيى بن حمود في شربه ولهوه، سرت مع لمة من بني عمي إلى اللحاق بإشبيلية، للاجتماع بابن عمنا محمد بن عبد الله والقاضي ابن عباد، فوصلنا وأنبأناهما من خبر ابن حمود يحيى ولهوه ما رأيا أن يوجها إليه بجيشٍ لقتاله. فخرج إسماعيل بن عباد مع ابن عمنا محمد بن عبد الله في المحرم من سنة سبع وعشرين بعدها، وهما في بيعة هشام بن الحكم تلك الأيام، فجئنا إلى باب قرمونة بالجيش كي نغيظ يحيى فيخرج(1/316)
أو يخرج أحد من قبله، وقد قدمنا سريةً كمن الجيش ناحية أخرى، وقد كنا وجهنا فوارس ليلاً للسامرة بسور قرمونة، فطار الخبر إلى يحيى وهو تلك الليلة على شراب وقد أخذ منه، فنعر نعرةً ووثب قائماً يقول: وابياض بختي الليلة، وابن عباد ليلاً على باب قرمونة، وأصحابه يتلاحقون، فالتأمت عدته في نحو ثلثمائة فارس أكثرهم دغل السريرة، فمضى على وجهه مغتراً يضرب إبطي أهجن خيله، معنقاً إلى حينه.
قال أبو الفتح: وأقول إنه على ذلك عند انتهائه، لو ضرب مصافاً يقيم فيه ويقدم رجاله للحرب طائفة يمدهم بطائفة، وتقف خيلهم ردءاً لهم ما فارق الصواب. لكن الحين غطى على بصره فألقى نفسه علينا في أوائل خيله، ولما تستبن الأشباح ظلمةً. فانتشب الحرب معنا غلس ذلك اليوم ووالى علينا الشدات الصعاب بنفسه، فعلمنا أنه لا ينجينا إلا الصدق، فاستقبلناه بوجوهنا ثم رددنا عليه الكرة، وطاولنا بالقوة، فحمل علينا حملة ثالثةً مع أصيحاب له، وكنا في سند ضروس كؤود، منيع الصعود إلينا، نؤود منه وننال من أصحابه، فإذا رددنا عليهم استعنا بفضل الانحدار من علٍ، فنخطفهم خطف الأجادل، فصدقنا هذه الحملة، فساقنا حتى رمانا على إسماعيل بن عباد ومن معي من الأندلسيين، فثاروا في وجهه، فتواقف الفريقان ساعةً، وظهر كمين(1/317)
ابن عباد وجاد صبره، وحرض غلمانه العجم، فشدت الجماعة على يحيى شدة منكة، وحدروا من ذلك التل الذي تسنموه فانكسروا، وصرع في ذلك قوم وتمادى الطلب وراءهم بعد مواقفة عظيمة، فصرع يحيى وحز رأسه، وطير به إلى ابن عباد بإشبيلية فخر ساجداً وسجد من حضر لسجوده، وانطبق البلد فرحاً، واستمرت الهزيمة على أصحاب يحيى، حتى ساء ذل محمد بن عبد الله، وبدت عصبيته لقومه، وكلم ابن عباد في رفع السيف عنهم فأطاعه في ذلك، وتم لابن عبد الله ما أراد من حقن دماء قومه، إذ لم يأت الذي أتاه إلا عن ضرورة، ولم يتلعثم أن أسرع الركض إلى قرمونة دون إسماعيل بن عباد، فجاءها لوقته وقد ملك سودان يحيى أبوابها على أهلها، فدنا إلى مكان عورتها من سورها الجوفي وقد عرفه، ففتح له ودخل من ساعته دار يحيى وحاز جميع ما ألفاه من مال ومتاع، واشتمل على نسائه وأباح حرمه لبنيه، واستحل حرامهن، واستوى في مجلسه، ونصر نصراً لا كفاء له، ورد الله عليه ملكه، ثم لم يجده على ذلك شاكراً للنعمة، ولا مقصراً عن ارتكاب المعصية. وسقط الخبر بمقتل يحيى على أهل قرطبة فما صدقوه من الفرح.
قال أبو عامر: ومما يلزم المدعي لصناعة الكلام إذا اعتمد وصف حالة أن يسوفي جميعها، ويكون ما يطلبه من الإبداع والاختراع فيها غير خارجٍ عنها وما هو بسبيلها، فذلك أبهى لكلامه، وأفخم للمتكلم به(1/318)
وأدل على أن الكلام له ومن تأليفه، لا كما شهدته يوماً عند ابن حمود وقد قد صدر عن ابن الشرب، ومدحه عدة شعراء صدور أشعارهم لزينب والرباب ولميس وفرتنى، وأعجازها للجود والكرم وبذل اللهى، ولم يلمم أحد منهم بذلك الغرض والمغزى إلا في بيتين أو ثلاثة، فأنشدته أنا يومئذ من جملة قصيدة أولها:
فريق العدا من حد عزمك يفرق ... وبالدهر مما خاف بطشك أولق
عجبت لمن يعتد دونك جنةً ... وسهمك سعد والقضاء مفوق
ومن يبتني بيتاً ليقطع دونه ... ممر رياح النصر وهو الخورنق
وما شرب ابن الشرب قبلك خمرةً ... من الذل بالعجز الصريح تصفق
توهم فيه الرعن حصناً فزرته ... بأرعن فيه مرعد الموت مبرق
وحولك أسياف من السعد تنتضى ... وفوقك أعلام من النصر تخفق
بأبيض مسود الدلاص كأنه ... شهاب عليه من دجى الليل يلمق
وأسود مبيض القباء كأنما ... يطير به نحو الكريهة عقعق
وخيل تمشى للوغى ببطونها ... إذا جعلت بالمرتقى الصعب تزلق وهذا البيت مما لم يحسن أبو عامر سرقته، ولا بلغ به طبقته، وهو من قول أبي الطيب:
إذا زلقت مشيتها ببطونها ... كما تتمشى في الصعيد الأراقم(1/319)
وله من أخرى في سليمان المستعين:
بكى اسفاً للبين يوم التفرق ... وقد هون التوديع بعض الذي لقي
وما للذي ولى به البين حسرة ... بكيت، ولكن حسرةً للذي بقي
وقد شاقني الورق السواجع بالضحى ... ومن يستمع داعي الصبابة يشتق
على فنن من أيكة قد تعلقت ... بحبل النوى من قلبي المتعلق
فصدقتها في البين من غير عبرةٍ ... وكم من كثير الدمع غير مصدق
لعل نسيم الريح تأتي به الصبا ... بنشر الخزامى والكباء المعبق
كأن عليها نفحةً عبشميةً ... أتت من جناب المستعين الموفق ومنها:
فنلت الذي قد نلت إذ ليس للعلا ... سواك كأن الدهر للناس منتقي قوله: " وما للذي ولى به البين حسرةً " ... البيت، يلمح قول محمد بن هانئ:
لا تسلني عن الليالي المواضي ... وأجرني من الليالي البواقي وأوضح منه قول الآخر:(1/320)
ليس من مات فاستراح بميتٍ ... إنما الميت مبت الأحياء وقوله: " كأن الدهر للناس منتقي " ... لفظ بيت أبي الطيب:
ولما رأيت الناس دون محله ... تيقنت أن الدهر للناس ناقد ولأبي عامر قصيدة يقول فيها، وقد أزمع على الخروج من قرطبة إلى مالقة لاحقاً بيحيى بن علي:
أرى أعيناً ترنو إليّ كأنما ... تساور منها جانبي أراقم
أدور فلا أعتام غير محاربٍ ... وأسعى فلا ألقى أمرءاً لي يسالم
ويجلب لي فهمي ضروباً من الأذى ... وأشقى امرئ في قرية الجهل عالم
وأوجع مظلوم لقلب وذي حجىً ... فتى عربي تزدريه أعاجم
غنيتم على ما تزعمون عن الورى ... لقد سفهت تلك الحلوم الزواعم
وهل يقدم البازي على الطير في الضحى ... إذا زال عن ريش الجناح القوادم
سلام عليكم لا تحية شاكرٍ ... ولكن شجىً تنسد منه الحلاقم
وما قرعت سني عليكم ندامةً ... وأوشك غداً أن يقرع السن نادم
عليكم بداري فاهدموها دعائماً ... ففي الأرض بناءون لي ودعائم
لئن أخرجتني عنكم شر عصبةٍ ... ففي الأرض إخوان علي أكارم
وإن هضمت حقي أمية عندها ... فهاتا على ظهر المحجة هاشم
ولا غرو من تلك القلانس جالياً ... إذا عرفت حقي هناك العمائم(1/321)
قال أبو الحسن: وقد تقدم القول من تحيل حذاق الصناعة في أخذ المعاني أن تترك القافية والوزن، وكذلك يجب أن يقصد إلى التطويل إذا قصر المتقدم؛ ألا ترى قول أبي عامر حين سمع الرمادي يقول:
ولم أر أحلى من تبسم أعين ... غداة النوى عن لؤلؤ كان كامنا فقال أبو عامر في هذه القصيدة:
ولما فشا بالدمع من سر وجدنا ... إلى كاشحينا ما القلوب كواتم
أمرنا بإمساك الدموع جفوننا ... ليشجى بما تطوي عذول ولائم
[فظلت دموع العين حيرى كأنها ... خلال مآقينا لآل توائم]
أبى دمعنا يجري مخافة شامت ... فنظمه بين المحاجر ناظم
وراق الهوى منا عيون كريمة ... تبسمن حتى ما تروق المباسم فقام بهذا التركيب ما نسيت له حيلة التطويل.
وبيت الرمادي من قول ابن عبد ربه:
وكأنما غاص الأسى بجفونها ... حتى أتاك بلؤلؤ منثور فاحتال الرمادي حتى أتى باللؤلؤ وعوض من الغائص التبسم، ووقعت له استعارة التبسم للعين موقعاً لطيفاً، وإنما هو للثغور، بسبب توسط اللؤلؤ الذي هو للعيون والثغور، فنسخ المعنى نسخاً، وقلبه قلباً.(1/322)
وتشبيه الدموع باللؤلؤ أكثر من أن يحصى، ومن أحسنه قول القائل:
ولما وقفنا للوداع ودمعها ... ودمعي يثيران الصبابة والوجدا
بكت لؤلؤاً رطباً وفاضت مدامعي ... عقيقاً فصار الكل ف نحرها عقدا ومن أحسن ما جاء من توقع أهل النمائم، والاحتيال لكتمان الدموع السواجم، لا سيما وقد أزف الفراق، وعصت بما فيها من الدمع الآماق، قول بعض العرب:
ومما شجاني. أنها يوم ودعت ... تولت ودمع العين في الجفن حائر
فلما أعادت من بعيد بنظرةٍ ... إليّ التفاتاً أسلمته المحاجر وقال آخر:
ولما أبت عيناي أن تحسبا البكا ... وأن تمنعا در الدموع السواكب
تثاءبت كي ابغي لدمعي علةً ... ولكن قليلاً ما بقاء التثاؤب
أعرضتماني للهوى ونممتما ... علي، لبئس الصاحبان لصاحب وأنشد ثعلب:
ومستنجد بالحزن دمعاً كأنه ... على الخد مما ليس يرقأ حائر
ملا مقلتيه الدمع حتى كأنه ... لما انهل من عينيه في الماء ناظر
نظرت كأني من وراء زجاجة ... إلى الدار من ماء الصبابة أنظر>
فعيناي طوراً تغرقان من البكا ... فأعشى وطوراً تحسران فأبصر(1/323)
ناقص(1/324)
ناقص(1/325)
فرأى سوابق عبرةٍ مسفوحةٍ ... عمرو فقال: بكى أبو الخطاب! وقال العباس بن الأحنف، ورجع إلى الطريق:
لكن ذهبت لأرتدي ... فطرفت عيني بالرداء وقال ابن فتوح من أهل عصرنا:
وقد تعلق بالأشفار منحدراً ... تعلق القطر بالأغصان والورق وقال أبو جعفر ابن هريرة التطيلي:
يكفكف من تلك الدموع وربما ... جلاها الرداء وامترتها الأصابع وحدث أبو بكر محمد بن أحمد بن جعفر بن عثمان المصحفي قال: دخلت يوماً على أبي عامر، وقد ابتدأت علته التي مات منها فتأنس بي، وجرى الحديث إلى أن شكوت إليه تجني بعض إخواني علي، ونفاره عني، فقال لي: سأسعى في إصلاح ذات البين، فخرجت عنه، واتفق لقائي بذلك المتجني مع بعض إخواني، وأعزهم علي، فلما رآني مولياً عن ذلك الصديق أنكر علي، وسأله عن السبب الموجب، فأخبره وزادا في مشيهما حتى لحقا بي وعزما علي في مكالمة صاحبي، وتعاتبنا عتاباً أرق من الهوى، وأشهى على الظما، حتى جئنا دار أبي عامر، لمما رآني ضحك وقال: من كان الذي تولى إصلاح ما كنا سررنا بفساده - فقلنا: قد كان ما كان، فأطرق قليلاً ثم أنشد:(1/326)
من لا أسمي ولا أبوح به ... أصلح بيني وبين من أهوى
أرسلت من كابد الهوى فدرى ... كيف يداوي مواضع البلوى
ولي حقوق في الحب ظاهرة ... لكن إلفي يعدها دعوى
يا رب إن الرسول أحسن بي ... يا رب فاحفظني من الأسوا قال ابن المصحفي: ودخلت عليه يوماً في تلك العلة ومعي غلام وسيم من إخواننا، وكان أبو عامر قبل ذلك يجب ممازحته فينافره، حتى خاطب أبو عامرٍ بعض إخوانه بشعر مسه فيه بطرف لسانه، فقال له ذلك الغلام: فجوتني يا أبا عامر دون أن تستثبت في أمري، وأن تعلم من سري ما يوجب ذلك، فقال: علي تكفيره بما يمحوه من القراطيس والصدور، وكان ذلك إثر صلاة العشاء الأولى، فطفنا بالجامع ثم انصرفنا إليه وأنشدنا:
ألا بأبي زائري في العتم ... بوجه يجلي سواد الظلم
تكتم بالليل في ظله ... وهل يمكن الصبح أن يكتتم -
أتى يستجير أليفاً له ... كما جاور البان رطب العنم
وقد رق ما ورد تلك الخدود ... بما سال من مسك تلك اللمم
وكان يحمحم تحت العذار ... كحمحمة الخيل تحت اللجم
فقلت: من الزائري والدجى ... يسد العيون بثوب أحم
فقال أبو جعفر: لائم ... بما جئت من كذب ينتظم(1/327)
فأيقنت أن أبا خالد ... سرى وخيال حبيبي ألم
فأبصرت وجهاً حكاه الهلال ... وثغراً حكى الدر لما ابتسم
وإلا فعفو يقيل العثار ... فذو العرش يرحم من قد رحم
فقال: بل العفو يا سيدي ... وقبلني من بعيد وضم
فبت على برد طيب الرضى ... أسر بليلي وإن لم أنم
وقلت: ابن زيدون، لا كنت لي ... بخال ولا كنت لي بابن عم
خبيث سعى بيننا بالنميم ... وقطع خلتنا بالجلم @فصل في ذكر آخر أيام أبي عامر ووفاته، رحمه الله
قال: ولما طال بأبي عامر ألمه، وتزايد سقمه، وغلب عليه الفالج الذي عرض له في مستهل ذيب القعدة من سنة خمس وعشرين وأربعمائة، لم يعدمه حركةً ولا تقلباً، وكان يمشي إلى حاجته على عصا مرةً، واعتماداً على إنسان مرة، إلى قبل وفاته بعشرين يوماً، فإنه صار حجراً لا يبرح ولا يتقلب، ولا يحتمل أن يحرك لعظيم الأوجاع، مع شدة ضغط الأنفاس وعدم الصبر، حتى هم بقتل نفسه، وفي ذلك يقول من قصيدة:
أنوح على نفسي وأندب نبلها ... إذا أنا في الضراء أزمعت قتلها
رضيت قضاء الله في كل حالةٍ ... علي وأحكاماً تيقنت عدلها(1/328)
أظل قعيد الدار تجنبني العصا ... على ضعف ساق أوهن السقم رجلها
وأنعى خسيسات ابن آدم عاملاً ... براحة طفل أحكم الضر نصلها
ألا رب خصمٍ قد كفيت، وكربة ... كشفت، ودار كنت في المحل وبلها
ورب قريض كالجريض بعثته ... إلى خطبة لا ينكر الجمع فصلها
فمن مبلغ الفتيان أن أخاهم ... أخو فتكةٍ شنعاء ما كان شكلها
عليكم سلام من فتى عضه الردى ... ولم ينس عيناً أثبتت فيه نبلها
يبين وكف الموت تخلع نفسه ... وداخلها حب يهون ثكلها ونقلت من خط الفقه أبي محمد علي بن حزم الشافعي قال: كتب إليّ أبو عامر ابن شهيد في علته التي اعتلها بهذه الأبيات:
ولما رأيت العيش ولى برأسه ... وأيقنت أن الموت لا شك لاحقي
تمنيت أني ساكن في غيابةٍ ... بأعلى مهب الريح في رأس شاهق
أذر سقيط الحب في فضل عيشةٍ ... وحيداً وحسي الماء ثني المفالق
خليلي من ذاق المنية مرةً ... فقد ذقتها خمسين قولة صادق
كأني وقد حان ارتحالي لم أفز ... قديماً من الدنيا بلمحة بارق
فمن مبلغ عني ابن حزم وكان لي ... يداً في ملماتي وعند مضايقي
عليك سلام الله إني مفارق ... وحسبك زاداً من حبيب مفارق
فلا تنس تأبيني إذا ما فقدتني ... وتذكار أيامي وفضل خلائقي
فلي في إدكاري بعد موتي راحة ... فلا تمنعونيها علالة زاهق
وإني لأرجو الله فيما تقدمت ... ذنوبي به مما درى من حقائقي(1/329)
ومن جواب ابن حزم له:
أبا عامر ناديت خلاً مصافياً ... يفديك من دهم الخطوب الطوارق
وألفيت قلباً مخلصاً لك ممحضا ... بودك موصول العرى والعلائق
شدائد يجلوها الإله بلطفه ... فلا تأس إن الدهر جم المضايق
ورب أسير في يد الدهر مطلق ... ومنطلق والدهر أسوق سائق
سفينة نوح لم تضق بحلولها ... وضاق بهم رحب الفلا المتضايق
فإن تنج قلت الحمد لله مخلصاً ... فمن أعظم النعمى بقاء المصادق وسمع في تلك العلة نعي الوزير الكاتب أبي جعفر ابن اللمائي، فقال في قصيدته هذه:
أمن جنابهم النفح الجنوبي ... أسري فصاك به في الغور غاري -
أهدي إليّ ظلاماً ردع نافجة ... أدماء شق بها الدأماء هندي
والليل قد قام في أثواب نادبةٍ ... كأنه فوق ظهر الأرض نوبي
والنجم تحسبه قدام تابعه ... حمامةً رامها في الجو بازي
وجدول الأفق يجري في منافسه ... ماء سقى زهرة الخضراء فضي
فقلت والسقم منشور على جسدي ... يحدو الردى ورداء العيش مطوي:
أهدى اللمائي من أزهار فكرته ... نشراً فقال الدجى: مر اللمائي
فقيل مات فقال الليل قارب ذا ... فانهل من مقلتي نوء سماكي
وبت فرداً أناجي مقلتي شغفاً ... كأنني في نقوب الدار جني(1/330)
لا عشت إن مت لي يا واحدي أبداً ... وموتنا واحد لا شك مرئي
إن الكريم إذا ما مات صاحبه ... أودى به الوجد والثكل الطبيعي
إن مت قبلك لا تعجب فذو أمل ... قد حم من دونه يوماً حمامي
أومت قبلي فما منعاك لي عجب ... إن الكريم إلى الأصحاب منعي
زاد البلاء على نفسي فأعدمها ... صبري فصبري عليك اليوم وحشي
حتى أهم بقتلي كل داجيةٍ ... يا قوم هل رام هذا قبل إنسي -
إني إلى الله من عقبى بليت بها ... جرى بها الحكم والأمر الإلهي وقال أيضاً في علته تلك:
اقر السلام على الأصحاب أجمعهم ... وخص عمراص بأزكى نور تسليم
وقل له: يا أعز الناس كلهم ... شخصاً علي وأولاهم بتكريم
الله جارك من ذي منعة ظفرت ... منه الليالي بعلق غير مذموم
ما كان حبك إلا صوب غاديةٍ ... طيباً وحاشا لحبي فيك من لوم
إن شاء صرف الردى تقديم أطوعنا ... فقد رضيت - حماك الله - تقديمي
وإن أحب الثرى جسماً ليأكله ... أسمح بجسمي له يفديك تعظيمي
عشنا [أليفين] في بر الهوى زمناً ... حتى زقا بنوانا طائر الشئوم
فشتت نوب الأيام ألفتنا ... قسراً ولم يغنها ظني وتنجيمي وكتب أيضاً إلى جماعةٍ من إخوانه في علته يومئذ:
هذا كتابي وكف الموت تزعجني ... عن الحياة وفي قلبي لكم ذكر(1/331)
إن أقضكم حقكم من قلة عمري ... إني إلى الله لا حق ولا عمر
لهفي على نيرات ما صدعت بها ... إلا وأظلم من أضوائها القمر
فاقر السلام على المنصور أفضل من ... سعى لثأر بني الإسلام فانتصروا
واعطف بها عطفة تهتز من كرم ... على المظفر فهو الفلج والظفر وقال أيضاً في علته تلك:
تأملت ما أفنيت من طول مدتي ... فلم أره إلا كلمحة ناظر
وحصلت ما أدركت من طول لذتي ... فلم ألفه إلا كصفقة خاسر
وما أنا إلا رهن ما قدمت يدي ... إذا غادروني بين أهل المقابر
سقى الله فتياناً كأن وجوههم ... وجوه مصابيح النجوم الزواهر
إذا ذكروني والثرى فوق أعظمي ... بكوا بعيون كالسحاب المواطر
يقولون: قد أودى أبو عامر العلا ... أقلوا فقدماً مات آباء عامر
هو الموت لم يصرف بإجراس خاطبٍ ... بليغ ولم يعطف بأنفاس شاعر
ولم يجتنب للبطش مهجة قادر ... قوي ولا للضعف مهجة صافر
يحل عرى الجبار في دار ملكه ... ويهفو بنفس الشارب المتساكر
وليس عجيباً أن تدانت منيتي ... يصدق فيها أولي أمر آخري
وليس عجيباً أن بين جوانحي ... هوى كشرار الجمرة المتطاير
يحركني والموت يحفز مهجتي ... ويهتاجني والنفس عند حناجري وبلغني أن آخر شعر قاله يودع إخوانه هذه الأبيات:(1/332)
أستودع الله إخواني وعشرتهم ... وكل خرق إلى العلياء سباق
وفتيةً كنجوم القذف نيرهم ... يهدي، وصائبهم يودي بإحراق
وكوكباً لي منهم كان مغربه ... قلبي، ومشرقه ما بين أطواقي
الله يعلم أني ما أفارقه ... إلا وفي الصدر مني حر مشتاق
كنا أليفين خان الدهر ألفتنا ... وأي حر على صرف الردى باقي
فإن أعش فلعل الدهر يجمعنا ... وإن أمت فسيسقيه كذا الساقي
لا ضيع الله إلا من يضيعه ... ومن تخلق فيه غير أخلاقي
قد كان بردي إذا ما مسني كلف ... لا يثلم الحب آدابي وأعراقي
حتى رمتنا صروف الدهر عن كثب ... ففرقتنا، وهل من صرفه واقي -
إني لأرمقه والموت يضغطني ... فأقتضي فرجةً مرتد أرماقي ثم أوصى أن يدفن بجنب صديقه أبي الوليد الزجالي، ويكتب على قبره في لوح رخام هذا النثر والنظم:
بسم الله الرحمن الرحيم " قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون "، هذا قبر أحمد بن عبد الملك بن شهيد المذنب، مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. مات في شهر كذا من عام كذا، ويكتب تحت هذا النثر هذا النظم:(1/333)
يا صاحبي قم فقد أطلنا ... أنحن طول المدى هجود -
فقال لي: لن نقوم منها ... ما دام من فوقنا الصعيد
تذكر كم ليلة لهونا ... في ظلها والزمان عيد -
وكم سرور همى علينا ... سحابة ثرةً تجود -
كل كأن لم يكن تقضى ... وشؤمه حاضر عتيد
حصله كاتب حفيظ ... وضمه صادق شهيد
يا ويلنا إن تنكبتنا ... رحمة من بطشه شديد
يا رب عفواً فأنت مولى ... قصر في أمرك العبيد ينظر قوله: " لن نقوم منها " ... البيت، إلى قول ابن المعتز يصف أهل القبور:
وسكان دار لا تزاور بينهم ... على قرب بعض في المحلة من بعض
كأن خواتيماً من الطين فوقهم ... فليس لها حتى القيامة من فض وما أرى أبا عامر إلا نقله من قول المعري في رثاء أمه حيث يقول:
سألت متى اللقاء - فقيل حتى ... يقوم الهامدون من الرجام قالوا: وكان أبو عامر كثيراً ما كان يخشى صعوبة الموت، وشدة السوق، فيسر الله عليه، وما زال يتكلم ويرغب إلى الله أن يرفق به، ويكثر من ذكره، وقد أيقن بفراق الدنيا، إلى أن ذهبت نفسه رحمه الله(1/334)
يوم الجمعة آخر يوم من جمادى الأولى سنة ست وعشرين وأربعمائة. لم يشهد على قبر أحد ما شهد على قبره من البكاء والعويل، وأنشد على قبره من المراثي جملة موفورة لطوائف كثيرة، منها قول أبي الأصبغ القرشي من قصيدة يقول فيها:
شهدنا غريبات المكارم والعلا ... تبكي على قبر الشهيدي أحمدا
وما زال أهل الدين والفضل والتقى ... عكوفاً به حتى حسبناه مسجدا
أريد بسقيا الغيث إحياء حفرة ... كدرنا بها نجم العلا المتوقدا
ولم أر مثلي بات مستسقي الحيا ... لماء حياء كان يشفي من الصدى
فاي جمال صار في قبضة الثرى ... وأي بهاء قد طوته يد الردى
وأي قناة في طلى الأرض غيبت ... وأي حسام في حشا القبر أغمدا
بنفسي الذي أودى وأنشأ للندى ... حماماً على دوح العلاء مغردا
أبا عامر، بعداً لسهم مصيبة ... رماك به ريب المنون فأقصدا
لقد فت في نشر الفضائل يافعاً ... وبرزت في جمع المكارم أمردا
لشقت عليك المكرمات جيوبها ... وأظهر فيك المجد خداً مخددا ومنه قول أبي حفص ابن برد الأصغر من قصيدة أولها:
بفيك الترب من ناع نعاني ... نعى غيري إليّ وما عداني
وكيف ولم يسل طرفي بدمعٍ ... عليه، ولم يجن له جناني
لأية خصلة تبكيك عيني ... ومالي بالحساب لها يدان
أللهمم المنوطة بالثريا ... أم الشيم المهذبة الحسان(1/335)
أم الكرم الذي ما زال يجري ... مع الأنواء في طلق الرهان
أم القلم الذي قد كان يجني ... من القرطاس نوار البيان
أم الرأي الذي ما زال يغني ... عن السيف المهند والسنان
شهدت لقد أصيب بنو شهيدٍ ... بقاطعة السواعد والبنان
به درجوا من الدنيا فبانوا ... وكل ما خلا الرحمن فإني @فصل في ذكر ذي الوزارتين الكاتب أبي الوليد
@ابن زيدون، واجتلاب عيون من أخباره،
@وفصوص من رسائله واشعاره
قال أبو الحسن: كان أبو الوليد صاحب منثور ومنظوم، وخاتمة شعراء مخزوم، أحد من جر الأيام جراً، وفات الأنام طراً، وصرف السلطان نفعاً وضراً، ووسع البيان نظماً ونثراً؛ إلى أدب ليس للبحر تدفقه، ولا للبدر تألقه. وشعر ليس للسحر بيانه، وللنجوم الزهر اقترانه. وحظٍ من النثر غريب المباني، شعري الألفاظ والمعاني.
حدثني غير واحد من وزراء إشبيلية قال: لما خلص ابن عبد البر(1/336)
من يد عباد، خلوص الفرزدق من يد زياد، بقيت حضرته من أهل هذا الشان، أعرى من ظهر الأفعوان، وأخلى من صدر الجبان. فهم يوماً باستخلاف أبي عمر الباجي المشهور أمره، الآتي في القسم الثاني من هذا الكتاب ذكره، فكأن أبا الوليد غص بذلك، وواطأ أبا محمد ابن الجد على الإشارة بالاستغناء عما هنالك، فكانت الكتب تنفذ من إنشاء أبي الوليد إلى شرق الأندلس، فيقال: تأتي من إشبيلية كتب هي بالمنظوم أشبه منها بالمنثور.
قرأت في كتاب أبي مروان ابن حيان، وقد أجرى ذكر من اصطنع ابن جهور من رجال دولته فقال: ونوه أيضاً بفتى الآداب وعمدة الظرف، والشاعر البديع الوصف والرصف، أبي الوليد أحمد بن زيدون ذي الأبوة النبيهة بقرطبة، والوسامة والدراية وحلاوة المنظوم والسلاطة وقوة العارضة والافتتان في المعرفة. وقدمه إلى النظر على أهل الذمة لبعض الأمور المعترضة، وقصره بعد على مكانه من الخاصة والسفارة بينه وبين الرؤساء، فأحسن التصرف في ذلك، وغلب على قلوب الملوك.
قال أبو مروان: وكان أبو الوليد من أبناء وجوه الفقهاء بقرطبة في أيام(1/337)
الجماعة والفتنة، وفرع أدبه، وجاد شعره، وعلا شأنه، وانطلق لسانه، فذهب به العجب كل مذهب، وهون عنده كل مطلب. وكان علقه من عبد الله بن أحمد بن المكوي أحد حكام قرطبة ظفر أحجن أداه إلى السجن فألقى نفسه يومئذ على أبي الوليد ابن جمهور في حياة والده أبي الحزم، فتشفع له وانتشله من نكبته، وصيره في صنائعه. ولما ولي الأمر بعد والده نوه به وأسنى خطته، وقدمه في الذين اصطنعهم لدولته، وأوسع رابته، وجلله كرامةً لم تقنعه، زعموا. واتفق أن عن له مطلب بحضرة إدريس بن علي الحسني بمالقة فأطال الثواء هنالك، واقترب من إدريس، وخف على نفسه، وأحضره مجالس أنسه. فعتب عليه ابن جهور، [وصرفه عن ذلك التصرف قبل قفوله، ثم عاد إلى جميل رأيه فيه] ، وصرفه في السفارة بينه وبين رؤساء الأندلس فيما يجري بينهم من التراسل والمداخلة؛ فاستقل بذلك لفضل ما أوتيه من اللسن والعارضة(1/338)
فاكتسب الجاه والرفعة، ولم يبعد في ذلك من التهافت في الترقي لبعد الهمة، فهوى عما قليل إلى عبادٍ صاحب إشبيلية، اجتذبه إلى ذلك فهاجر عن وطنه إليه، ونزل في كنفه، وصار من خواصه وصحابته، يجالسه في خلواته، ويسفر له في معهم رسائله على حال من التوسعة. وكان ذهابه إلى عباد سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، [فخلا بالحضرة مكانه، وكثر الأسف عليه انتهى كلام ابن حيان] .
قلت: فأما سعة ذرعه، وتدفق طبعه؛ وغزارة بيانه، ورقة حاشية لسانه، فالصبح الذي لا ينكر ولا يرد، والرمل الذي لا يحصر ولا يعد.
أخبرني من لا أدفع خبره من وزراء إشبيلية قال: لعهدي بأبي الوليد قائماً على جنازة بعض حرمه، والناس يعزونه على اختلاف طبقاتهم، فما سمع يجيب رجلاً منهم بما أجاب به آخر، لحضور جنانه، وسعة ميدانه.
وقد أخرجت من أشعاره التي هي حجول وغرر، ونوادر أخباره التي هي مآثر وأثر، ورسائله التي أخرست ألسنة الحفل، [واستوفت أمد المنطق الجزل، ما يسر الآداب ويصورها، ويستخف الألباب ويستطيرها](1/339)
@جملة من نثره، مع ما ينخرط في سلك ذلك من شعره
[له من رقعةٍ خاطب بها ابن جهور من موضع اعتقاله يقول فيها:
يا مولاي وسيدي الذي ودادي له، واعتدادي به، واعتمادي عليه، أبقاك الله ماضي حد العزم، واري زند الأمل، ثابت عهد النعمة. إن سلبتني - أعزك الله - لباس إنعامك، وعطلتني من حلي إيناسك، وغضضت عني طرف حمايتك، بعد أن الأعمى إلى تأميلي لك، وسمع ثنائي عليك، وأحس الجماد بإسنادي إليك، فلا غرو فقد يغص بالماء شاربه، ويقتل الدواء المستشفي به، ويؤتى الحذر من مأمنه، وإني لأتجلد فأقول: هل أنا إلا يد أدماها سوارها، وجبين عضه إكليله، ومشرفي ألصقه بالأرض صاقله، وسمهري عرضه على النار مثقفة - والعتب محمود عواقبه، والنبوة غمرة ثم تنجلي، والنكبة " سحابة صيفٍ عن قريب تقشع "، وسيدي إن أبطأ معذور.
وإن يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعله اللائي سررن ألوف وليت شعري ما الذنب الذي أذنبت ولم يسعه العفو - ولا أخلو من أن أكون برئياً، فأين العدل - أو مسيئاً فأين الفضل - وما أراني إلا لو أمرت بالسجود لآدم فأبيت، وعكفت على العجل، واعتديت في السبت، وتعاطيت فعقرت، وشربت من النهر الذي ابتلى به جنود طالوت، وقدت لأبرهة الفيل، وعاهدت قريشاً على ما في الصحيفة، وتأولت في بيعة العقبة(1/340)
ونفرت إلى العير ببدر، وانخزلت بثلث الناس يوم أحد، وتخلفت عن صلاتي في بني قريظة، وأنفت من إمارة أسامة، وزعمت أن خلافة الصديق فلتة، " ورويت رمحي من كتيبة خالد "، وضحيت بالأشمط الذي عنوان السجود به، لكان فيما جرى عليّ ما يحتمل أن يسمى نكالاً، ويدعى ولو على المجاز عقاباً.
وحسبك من حادثٍ بامرئ ... ترى حاسديه له راحيمنا فكيف ولا ذنب إلا نميمة أهداها كاشح، ونبأ جاء به فاسق - والله ما غششتك بعد النصيحة، ولا انحرفت عنك بعد الصغية، ولا نصبت لك بعد التشيع فيك، ففيم عبث الجفاء بأذمتي، وعاث في مودتي، وأني غلبني المغلب، وفخر على الضعيف، ولطمتني غير ذات سوار - ومالك لا تمنع مني قبل أن أفترس، وتدركني ولاما أمزق وقد زانني اسم خدمتك، وأنلت الجميع من سماطك، وقمت المقام المحمود على بساطك -
ألست الموالي فيك نظم قصائدٍ ... هي الأنجم اقتادت مع الليل أنجما(1/341)
وهل لبس الصباح إلا برداً طرزته بمحامدك، وتقلدت الجوزاء إلا عقداً فصلته بمآثرك، وفيت المسك إلا حديثاًَ أذعته بمفاخرك، وما يوم حليمة بسر، وحاش لله أن أعد من العاملة الناصبة، وأكون كالذبالة المنصوبة تضيء للناس وهي تحترق.
وفي فصل منها:
ولعمري ما جهلت أن الرأي في أن أتحول إذا بلغتني الشمس، ونبا بي المنزل، وأضرب عن المطامع التي تقطع أعناق الرجال، ولا أستوطئ العجز فيضرب بي المثل: خامري أم عامر. وإني مع المعرفة بأن الجلاء سباء، والنقلة مثلة، لعارف أن الأدب الوطن الذي لا يخشى فراقه، والخليط الذي لا يتوقع زياله، والنسب الذي لا يجفى؛ أينما توجه ورد أعذب منهل، وحط في جناب قبول، وضوحك قبل(1/342)
إنزال رحله، وأعطي حكم الصبي على أهله،
وقيل له أهلاً وسهلاً ومرحباً ... فهذا مبيت صالح وصديق غير أن الوطن محبوب، والمنشأ مألوف، واللبيب يحن إلى وطنه، حنين النجيب إلى عطنه، والكريم لا يجفو أرضاً بها قوابله، ولا ينسى بلداً فيه مراضعه، قال الأول:
أحب بلاد الله ما بين منعجٍ ... إليّ وسلمى أن يصوب سحابها
بلاد بها عق الشباب تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها مع مغالاتي بعلو جوارك، ومنافستي، في الحظ من قربك، واعتقادي أن الطمع في غيرك طبع، والغنى من سواك عناء، والبدل منك أعور، والعوض لفاء:
وإذا نظرت إلى أميري زادني ... ضناً به نظري إلى الأمراء وكل الصيد في جوف الفرا، وفي كل شجر نار واستمجد المرخ(1/343)
والعفار. فما هذه البراءة ممن يتولاك، والميل عمن يميل إليك؛ وهلا كان هواك في من هواه فيك، ورضاك لمن رضاه لك:
يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم أعيذك ونفسي أن أشيم خلبا، وأستمطر جهاماً، وأكد غير مكدم، وأشكو " شكوى الجريح إلى العقبان والرخم ". وإنما أبسست بك لتدر، وحركت لك الحوار لتحن، ونبهتك لأنام،، وسريت إليك لأحمد السرى لديك، بعد اليقين أنك إن سنيت عقد أمري تيسر، ومتى أعذرت في فك أسري لم يتعذر، وعلمك محبط بأن المعروف ثمرة النعمة، والشفاعة زكاة المروءة، وفضل الجاه - تعود به - صدقة.
وإذا امرؤ أهدى إليك صنيعةً ... من جاهه فكأنها من ماله(1/344)
لعلي ألقي العصا بذراك، وتستقر بي النوى في ظلك، فتستلذ جنى شكري من غرس عارفتك، وتستطيب عرف ثنائي من روض صنيعتك، فأستأنف التأدب بك، والاحتيال على مذهبك، فلا أوجد للحاسد مجال لحظة، ولا أدع للقادح مساغ لفظة، والله شهيدك من إطلابي بهذه الطلبة، وإشكائي من هذه الشكوى، لصنيعة تصيب بها طريق المصنع، وقد تستودعها أحفظ مستودع، [حسبما أنت خليق له، وأنا منك حري به، فذلك بيدك، وهين عليك] . [ولما توالت غرر هذا النثر، واتسقت درره] ، فهز عطف غلوائه، وجر ذيل خيلائه، عارضه النظم مباهياً، بل كايده مداهيا، حين أشفق من أن يعطفك استعطافه، وتميل بنفسك ألطافه، فاستحسن العائدة منه، واعتد بالفائدة له، وما زال يستكره الذهن العليل، والخاطر الكليل، حتى زف إليك منه عروساً مجلوة في أثوابها، منصوصة بحليها وملابها، وهاهي:
الهوى في طلوع تلك النجوم ... والمنى في هبوب ذاك النسيم
سرنا عيشنا الرقيق الحواشي ... لو يدوم السرور للمستديم ومنها:(1/345)
وطر ما انقضى إلى أن تقضى ... زمن ما ذمامه بالذميم
زار مستخفياً وهيهات أن يخ ... فى سرى البدر في الظلام البهيم
فوشى الحلي إذ مشى وهفا الطي ... ب إلى حسن كاشح بالنميم
أيها المؤذني بظلم الليالي ... ليس يومي بواحد. من ظلوم
ما ترى البدر إن تأملت والشم ... س هما يكسفان دون النجوم
وهو الدهر ليس ينفك ينحو ... بالمصاب العظيم نحو العظيم
بوأ الله جهوراً شرف السؤ ... دد في السر واللباب الصميم
واحد سلم الجميع له الفص ... ل فكان الخصوص فوق العموم
قلد الغمر ذا التجارب فيه ... واكتفى جاهل بعلم عليم ومنها في ذكر اعتقاله:
سقم لا أعاد منه وفي العا ... ئد أنس يفي ببرء السقيم
نار بغي سرت إلى جنةالأر ... ض بياتاً فأصبحت كالصريم
[بأبي أنت إن تشأ تك برداً ... وسلاماً كنار إبراهيم]
للشفيع الغناء والحمد في صو ... الحيا للرياح لا للغيوم وبعد تمام هذه القصيدة: هاكها - أعزك الله - يبسطها الأمل، ويقبضها الخجل، لها ذنب التقصير، وحرمة الإخلاص، فهب ذنباً لحرمة، واشفع نعمة بنعمة، لتأتي الإحسان من جهاته، وتسلك إلى الفضل طرقاته، إن شاء الله] .(1/346)
وهذا البيت الأخير، إلى معنى بيت البحتري يشير:
حماز حمدي وللرياح اللواتي ... تجلب الغيث مثل حمد الغيوم وأخذه البحتري من قول أبي تمام:
وإذا امرؤ أهدى إليك صنيعةً ... من جاهه فكأنها من ماله وقوله: " سقم لا أعاد منه " ... البيت، من قول علي بن الجهم
بيت يجدد للكريم كرامةً ... ويزار فيه ولا يزور ويحقد وله أيضاً في ابن جهور، وكتب بها [إليه] من السجن:
ما جال بعدك لحظي في سنا القمر ... إلا ذكرتك ذكر العين بالأثر
ولا استطلت ذكاء الليل من أسف ... إلا على ليلةٍ سرت مع القصر
في نشوة من سنات الوصل موهمة ... أن لا مسافة بين الوهن والسحر
يا ليت ذاك السواد الجون متصل ... قد استعار سواد القلب والبصر
أما الضنى فجنته لحظة عنن ... كأنها والردى جاء على قدر
فهمت معنى الهوى من وحي طرفك لي ... إن الحوار لمفهوم من الحور ومنها:(1/347)
من يسأل الناس عن حالي فشاهدها ... محض العيان الذي يغني عن الخبر
لم تطو برد شبابي كبرة وأرى ... برق المشيب اعتلى في عارض الشعر
قبل الثلاثين إذ عهد الصبا كثب ... وللشبيبة غصن غير مهتصر
يا للرزايا لقد شافهت منهلها ... غمراً فما أشرب المكروه بالغمر
هل الرياح بنجم الأرض عاصفة ... أم الكسوف لغير الشمس والقمر
إن طال في السجن إيداعي فلا عجب ... قد يودع الجفن حد الصارم الذكر
وإن يثبط أبا الحزم الرضى قدر ... عن كشف ضري فلا عتب على القدر
من لم أزل من تأنيه على ثقة ... ولم أبت من تجنيه على حذر
وزير سلم كفاه يمن طائره ... شؤم الحروب ورأي محصد المرر
أغنت قريحته مغنى تجاربه ... ونابت اللمحة العجلى عن الفكر
كم اشترى بكرى عينيه من سهرٍ ... هدوء عين الهدى في ذلك السهر
في حضرة غاب صرف الدهر خشيته ... عنها، ونام القطا فيها ولم يثر
حرمت منه وحظ الناس كلهم ... لهذه العبرة الكبرى من العبر
وكنت أحسبني والنجم في قرن ... ففيم أصبحت منحطاً إلى العفر
أحين رف على الآفاق من أدبي ... غرس له من جناه يانع الثمر
وسيلة سبب إلا تكن نسباً ... فهو الوداد صفا من غير ما كدر
يا زهرة الزهر حياً وهو إن فنيت ... حياته زينة الآثار والسير
لي في اعتمادك في التأميل سابقة ... وهجرة في الهوى أولى من الهجر(1/348)
هل من سبيل، فماء العتب لي أسن ... إلى العذوبة من عتباك والخصر
لا تله عني فلم أسألك معتسفاً ... رد الصبا غب إيفاء على الكبر
فاشفع أكن مثل ممطور ببلدته ... جذلان بالوطن المألوف والمطر [قوله: قد استعار سواد القلب والبصر " لفظ المعري حيث يقول:
يود أن ظلام الليل دام له ... وزيد فيه سواد القلب والبصر] وقوله: " هل الرياح بنجم الأرض عاصفة " ... البيت، معنى قد طوي ونشر، ومنه قول أبي تمام:
إن الرياح إذ ما أعصفت قصفت ... عيدان نجد ولم يعبأن بالرتم
بنات نعشٍ ونعش لا كسوف لها ... والشمس والبدر منها الدهر في الرقم وأخذه منه البحتري فقال:
ولست ترى شوك القتادة خائفاً ... سموم الرياح الآخذات من الرند
ولا الكلب محموماً وإن طال عمره ... ألا إنما الحمى على الأسد الورد وبيت البحتري الأخير من قول حبيب أيضاً:
فإن تك قد نالتك أطراف وعكة ... فلا عجب قد يوعك الأسد الورد(1/349)
وأخذه الأمير شمس المعالي، وننشد القطعة بجملتها:
[قل للذي بصروف الدهر عيرنا: ... هل عاند الدهر إلا من له خطر
أما ترى البحر تطفو فوقه جيف ... وتستقر بأقصى قعره الدرر]
فإن تكن عبثت أيدي الزمان بنا ... ونالنا من تمادي بؤسه ضرر
ففي السماء نجوم ما لها عدد ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر ومعنى بيت شمس المعالي الثاني من متداولات المعاني، منها قول ابن الرومي:
دهر علا قدر الوضيع به ... وغدا الشريف يحطه شرفه
كالبحر يرسب فيه لؤلؤه ... سفلاً وتطفو فوقه جيفه وقد كرره ابن الرومي في مواضع، منها قوله:
قالت علا الناس إلا أنت قلت لها: ... كذاك يسفل في الميزان ما رجعا وقال المتنبي:
ولو لم يعل إلا ذو محل ... تعالى الجيش وانحط القتام وقول ابن زيدون: " حضرة غاب صرف الدهر خشيته ".. [البيت(1/350)
مع الذي بعده، لم يخله من برد، ولا أقامه على ساق نقد، وخير منهما ما وصف من خبر التاجر] مع أبي دلف وقد مر به في مكان، فوطئ له طرف طيلسان، فقال له: يا أبا دلف، ليس هذا كرجك، هذه حضرة أمير المؤمنين، الشاة والذئب يشربان فيها من إناء واحد.
ومن اللفظ المليح، الطيار الخفيف الروح، في هذا المعنى قول ابن عمار:
وألف بين الظبي والذئب عدله ... فلا تجزعي أن زار ربعك ذيب وله أيضاً قصيدة فريدة خاطب بها ابن جهور، وهو تلك الحال من الاعتقال، أولها:
ألم يأن أن يبكي الغمام على مثلي ... ويطلب ثاري البرق منصلت النصل
وهلا أقامت أنجم الليل مأتماً ... لتندب في الآفاق ما ضاع من نبلي
فلو أنصفتني وهي أشكال همتي ... لألقت بأيدي الذل لما رأت ذلي
ولافترقت سبع الثريا وغاظها ... بمجمعها ما فرق الدهر من شملي
لعمر الليالي إن يكن طال نزعها ... لقد قرطست بالنبل في مقتل النبل(1/351)
تحلت بآدابي وإن مآربي ... لسانحة في عرض أمنية عطل
أخص لفهمي بالقلى وكأنما ... يبيت لذي الفهم الزمان على ذحل
وأجفى على نظمي لكل قلادة ... مفصلة السمطين بالمنطق الفصل
ولو أنني أسطيع - كي أرضي العدا - ... شريت ببعض العلم حظاً من الجهل
أمقتولة الأجفان مالك والهاً ... ألم ترك الأيام نجماً هوى قبلي -
أقلي بكاء لست أول حرةٍ ... طوت بالأسى كشحاً على مضض الثكل
وفي أن موسى عبرة إذ رمت به ... إلى اليم في التابوت فاعتبري واسلي
ولله فينا علم غيب وحسبنا ... به عند جور الدهر من حكم عدل
وإن رجائي في الهمام ابن جهور ... لمستحكم الأسباب مستحصد الحبل
كريم عريق في الكرام وقلما ... يرى الفرع إلا مستمداً من الأصل
يرف على التأميل لآلاء بشره ... كما رف لآلاء الحسام على الصقل
ويغنى عن المدح اكتفاءً بسروه ... غنى المقلة الكحلاء عن زينة الكحل
أبا الحزم إني في عتابك مائل ... على جانب تأوي إليه العلا سهل
حمائم شكري صبحتك هوادلاً ... تناديك من أفنان آدابي الهدل
جواد إذا استن الجياد إلى مدى ... تمطر فاستولى على أمد الخصل
ثوى صافناً في مربط الهون يشتكي ... بتصهاله ما ناله من أذى الشكل
أأن زعم الواشون ما ليس مزعماً ... تعذر في نصري وتعذر في خذلي -
ولم أستثر حرب الفجار ولم أطع ... مسيلمة إذ قال إني من الرسل
وإني لتنهاني نهاي عن التي ... أشار بها الواشي ويعقلني عقلي(1/352)
أأنفقض فيك المدح من بعد قوةٍ ... فلا قتدي إلا بناقضة الغزل -
هي النعل زلت بي فهل أنت مكذب ... لقيل الأعادي إنها زلة الحسل
ألا إن ظني بين فعليك واقف ... وقوف الهوى بين القطيعة والوصل
وإلا جنيت الأنس من وحشة النوى ... وهول السرى بين المطية والرحل
سيعنى بما ضيعت مني حافظ ... ويلفى لما أرخصت من خطري مغلي
وأين جواب منك ترضى به العلا ... إذا سألتني عنك ألسنة الحفل - ومعنى هذا البيت الأخير كقول الآخر:
فاختر لنفسك ما أقول فإنني ... لابد أخبرهم وإن لم أسال وقوله: " ثوى صافناً في مربط الهون " كقول المتنبي:
وإن تكن محكمات الشكل تمنعني ... ظهور جريٍ فلي فيهن تصهال قال القسطلي:
وذو غرة معروفة السبق في المدى ... وقد قرح التحجيل من ألم الشكل وقوله: " ويغنى عن المدح اكتفاء بسروه " البيت، معنى متداول وينظر إليه قول القائل:(1/353)
وأعشق كحلاء المدامع خلقةً ... لئلا ترى في عينها منة الكحل وفي بني جهور يقول:
بني جهورٍ أحرقتم بجفائكم ... جناني فما بال المدائح تعبق -
تعدوني كالمندل الرطب إنما ... تطيب لكم أنفاسه حين يحرق وأراه توارد في هذين البيتين مع أبي علي ابن رشيق القيرواني حيث يقول:
أراك اتهمت أخاك الثقه ... وعندك مقت وعندي مقه
وأثني عليك وقد سؤتني ... كما طيب العود من أحرقه وأخذاه معاً من قول أبي تمام:
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود وأنشدني بعض أهل وقتنا وهو أبو مروان ابن شماخٍ لنفسه:
نوائب غالتني فأبدت فضائلي ... فكانت وكنت النار والعنبر الوردا ولغيره:
إن مست النار جسمي ... أبديت طيب نسيم
كالدهر إن عض يوماً ... أبان فضل الكريم(1/354)
وأبو الوليد ابن زيدون على كثير إحسانه كثير الاهتدام، في النثار والنظام.
وكتب إلى الأديب أبي بكر ابن مسلم وهو مختف بقرطبة بعد فراره من السجن فصلاً من رقعة [يقول فيها] :
أبدأ أولاً بشرح الضرورة الحافزة إلى ما صنعت، إذ بلغني أنك صدر اللائمين لي عليه، ومن أمثالهم: ويل للشجي من الخلي، وهان على الأملس ما لاقى الدبر. وأعاتبك على افنصالك عني، وبراءتك أمد المحنة مني، [عسى أن تتلاقى عوداً ما أضعت بدءاً، وإن كنت في ذلك كدابغة وقد حلم الأديم، ومنفعة الغوث قبل العطب، وفي علمك أني سجنت مغالبةً بالهوى، وهو أخو العمى، وقد نهى عنه تعالى فقال: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} (ص: 26) الآية. وشهد علي فلان الناشر أذنيه طمعاً، ليأكل بيديه جشعاً، قال، وكان القول ما قالت حذام؛ وليت مع قبول من لا تجهل شهادته علي يعذر فيه إليّ، ولم يقرن الحشف بسوء الكيلة. وكنت أول حبسي بموضعٍ جرت العادة فيه وضع مستوري الناس وذوي الهيئات منهم، وفي الشر خيار، وبعضه أهون من بعض. ثم نقلت بعد إلى حيث الجناة المفسدون(1/355)
واللصوص المقيدون، ومنع مني عوادي، فشكوت إلى الحاكم الحابس لي، فصم عني، ولو ذات سوارٍ لطمتني:
وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيفٍ ولم يغلبك مثل مغلب] فلم استطع صبراً، وعلمت أن العاجز من لا يستبد، والمرء يعجز لا المحالة، ولم أستجز أن أكون ثالث الأذلين: العير والوتد. وذكرت أن الفرار من الظلم، والهرب ممن لا يطاق، من سنن المسلمين، وقد قال تعالى على لسان موسى: {ففررت منكم لما خفتكم} (الشعراء: 21) فنظرت في مفارقة الوطن، إذ قديماً ضاع الفاضل في وطنه، وكسد العلق الغبيط في معدنه، كما قال:
أضيع في معشري وكم بلدٍ ... يعود عود الكباء من حطبه واستخرت الله في إنفاذ العزم، وأنا الآن بحيث أمنت بعض الأمن، إلا أن السعي لم يرتفع، ومادة البغي لم تنقطع. وختم رسالته بهذا النظم:
شحطنا وما للدار نأي ولا شحط ... وشط بمن نهوى المزار وما شطوا
أأحبابنا ولت بحادث عهدنا ... حوادث لا عهد عليها ولا شرط(1/356)
لعمركم إن الزمان الذي قضى ... بشت جميع الشمل منا لمشتط
وما شوق مقتول الجوانح بالصدى ... إلى نطفة زرقاء أضمرها وقط
بأبرح من شوقي إليكم ودون ما ... أريد المنى منه القتادة والخرط
وفي الربرب الإنسي أحوى كناسه ... نواحي ضميري لا الكثيب ولا السقط
ألا هل أتى الفتيان أن فتاهم ... فريسة من يعدو ونهزة من يسطو -
وأن الجواد الفائت الشأو صافن ... تخونه شكل وأزرى به ربط -
عليك أبا بكر بكرت بهمة ... لها الخطر العالي، وإن نالها حط
أبي بعد ما هيل التراب على أبي ... ورهطي فذاً حين لم يبق لي رهط
لك النعمة الخضراء تندى ظلالها ... علي ولا جحد لدي ولا غمط
ولولاك لم تقدح زناد قريحتي ... فينتهب الظلماء من نارها سقط
هرمت وما للشيب وخط بمفرقي ... ولكن لشيب الهم في كبدي وخط
وطاول سوء الحال نفسي فأذكرت ... من الروضة الغناء طاولها القحط
ولما انتحوني بالتي لست أهلها ... ولم يمن أمثالي بأمثالها قط
فررت فإن قالوا الفرار إرابة ... فقد فر موسى حين هم به القبط
وإني لراج أن تعود كبدئها ... لي الشيمة الزهراء والخلق السبط
فما لك لا تخصني بشفاعة ... يلوح على دهري لميسمها علط - كأن أول هذه القصيدة ناظر إلى قول راشد أبي حكيمة حيث يقول:(1/357)
ومستوحش لم يمس في أرض غربة ... ولكنه ممن يحب غريب [وقال الآخر:
فلا تحسبي أن الغريب الذي نأى ... ولكن من تنأين عنه غريب ويناسبه أيضاً قول المتنبي:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... ألا تفارقهم فالراحلون هم وقوله: " هرمت وما للشيب " ... البيت، ناقص عن قول المتنبي:
إلا يشب فلقد شابت له كبد ... شيباً إذا خضبته سلوة نصلا وقوله: " وإن الجواد "، كقول أبي الطيب أيضاً:
وما في طبه أني جواد ... أضر بجشمه طول الجمام وقد كرر هذا المعنى أبو الطيب في مواضع من شعره، وكلف به وشغف، وصرف الكلام فيه فتصرف، وقد تقدم إنشاده. ومنه أيضاً قول عبد الجليل، المرسى للمعتمد بن عباد:
أتتك على خلائقها جيادي ... وإن كان الضياع لها شكالا وكتب من سجنه إلى أبي حفص ابن برد:(1/358)
ما على ظني باس ... جرح الدهر وياسو
ربما أشرف بالمر ... ء على الآمال ياس
ولقد ينجيك إغفا ... ل ويرديك احتراس
والمحاضير سهام ... والمقادير قياس
يا أبا حفص وما سا ... واك في فهم إياس
من سنا رأيك لي في ... ظلم الخطب اقتباس
وودادي لك نص ... لم يخالفه القياس
أذؤب هامت بلحمي ... فالتهام وانتهاس
كلهم يسأل عن حا ... لي وللذئب اعتساس
يلبد الورد السبنتى ... وله بعد افتراس
إن أكن أصبحت محبو ... ساً فللغيث احتباس
فتأمل كيف يغشى ... مقلة المجد النعاس
ويفت المسك في التر ... ب فيوطا ويداس
لا يكن عهدك ورداً ... إن عهدي لك آس
وأدر ذكري كاساً ... ما امتطت كفك كاس
فعسى أن يسمح الده ... ر فقد طال الشماس قوله: " يلبد الورد السنتى " ... البيت، كقول النابغة:
وقلت يا قوم إن الليث منقبض ... على براثنه للوثبة الضاري(1/359)
وأخذه ابن الرومي فقال:
سكنت سكوناً كان رهناً بوثبةٍ ... عماس كذاك الليث للوثب يلبد وقوله: " لا يكن عهدك ورداً " من قول العباس بن الأحنف:
لا تجعلي وصلنا كالورد حين مضى ... ذا طلعة وأديمي الود كالآس وكرره العباس في موضع آخر فقال:
ولكنني شبهت بالورد عهدها ... وليس يدوم الورد دائم @ما أخرجته من شعر ابن زيدون في النسيب وما يناسبه
قال من قصيدة طويلة:
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
لم نعتقد بعدكم إلا الوفاء لكم ... رأياً ولم نتقلد غيره دينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت ... سوداً وكانت بكم بيضاً ليالنا
إذ جانب العيش طلق من تألفنا ... ومورد اللهو صاف من تصافينا
وإذ هصرنا غصون الوصل دانية ... قطوفها فجنينا منه ما شينا(1/360)
ليسق عهدكم عهد السرور فما ... كنتم لأيامنا إلا رياحينا
لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا ... أن طالما غير النأي المحبينا
والله ما طلبت أهواؤنا بدلاً ... منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا
يا ساري البرق غاد القصر فاسق به ... من كان صرف الهوى والود يسقينا
ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا ... من لو على البعد حيا كان يحيينا
ربيب ملك كأن الله أنشأه ... مسكاً وقدر إنشاء الورى طينا
إذا تأود آدته رفاهيةً ... توم العقود وأدمته البرى لينا
كانت له الشمس ظئراً في أكلته ... بل ما تجلى لها إلا أحايينا
يا روضة طالما أجنت لواحظنا ... ورداً جلاه الصبا غضاً ونسرينا
ويا حياةً تملينا بزهرتها ... منى ضروباً ولذات أفانيننا
يا جنة الخلد أبدلنا بسلسلها ... والكوثر العذب زقوماً وغسلينا
كأنن لم نبت الوصل ثالثنا ... والسعد قد غض من أجفان واشينا
سران في خاطر الظلماء يكتمنا ... حتى يكاد لسان الصبح يفشينا
إنا قرأنا الأسى عند النوى سوراً ... مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينا
أما هواك فلم نعدل بمنهله ... شرباً وإن كان يروينا فيظمينا
لم أنجف أفق جمال أنت كوكبه ... سالين عنه ولم نهجره قالينا
ولا اختياراً تجنبناه عن كثب ... لكن عدتنا على كره عوادينا
نأسى عليك وقد حثت مشعشعة ... فينا الشمول وغنانا مغنينا
لا أكؤس الراح تبدي من شمائلنا ... سيما ارتياح ولا الأوتار تلهينا
دومي على الوصل - ما دمنا - محافظةً ... فالحر من دان إنصافاً كما دينا(1/361)
فما استعدنا خليلاً عنك يصرفنا ... ولا استفدنا حبيباً عنك يسلينا
[ولو صبا نحونا من علو مطلعه ... بدر الدجى لم يكن - حاشاك - يسبينا]
أبلي وفاءً وإن لم تبذلي صلةً ... فالذكر يقنعنا والطيف يكفينا
وفي الجواب متاع إن شفعت به ... بيض الأيادي التي ما زلت تولينا
[عليك مني سلام الله ما بقيت ... صبابة بك نخفيها فتخفينا] وهذه القصيدة بجملتها فريدة، وقد عارضه فيها جماعة قصروا عنه، منهم أبو بكر ابن الملح، فإنه نازعه فيها الراية، فقصر عن الغاية، حيث يقول من قصيدة أولها:
هل يسمع الربع شكوانا فيشكينا ... أو يرجع القول مغناه فيغنينا ثم استمر في غزلها واسحنفر فقال:
يا باخلين علينا أن نودعكم ... وقد بعدتم عن اللقيا فحيونا
قفوا نزركم وإن كانت فوائدكم ... نزراً ومنكم بالوصل ممنونا
سترتم الوصل ضناً لا فقدتكم ... فكان بالوهم موجوداً ومظنونا
سرى من المسك عن مسراكم خبر ... يعيد عهد هواكم نشره فينا
أيام بدركم يحيي ليالينا ... قرباً وظبيكم يرعى بوادينا
مهلاً فلم نعتقد دين الهوى تبعاً ... ولا قرأنا صحيف الحسن تلقينا(1/362)
ومنها:
قد انصرف القول يغوينا ويرشدنا ... ونترك الدار تشجينا وتسلينا
ونتبع الحي والأشواق محرقة ... نحوم بالماء وارماح تحمينا
كواكب في سماء النقع قد جعلت ... لنا رجوماً وما كنا شياطينا قول ابن زيدون: " وإن كان يروينا فيظمينا " معنى متداول، ومن أشهره قول ابن الرومي:
ريق إذا ما ازددت من شربه ... رياً ثناني الري ظمآنا
كالخمر أروى ما يكون الفتى ... من شربها أعطش ما كانا وقال ابن الرومي أيضاً فيما يناسبه من بعض الوجوه:
يا رب ريق بات بدر الدجى ... يعله بين ثناياكا
يروي ولا ينهاك عن شربه ... والماء يرويك وينهاكا وأشبه به ما أنشده الثعالبي:
كرضاب الحبيب يشفي عليلا ... ثم ينشي إلى المزيد غليلا وقوله: " سران في خاطر الظلماء " ... البيت [مما زاد فيه(1/363)
لمليح الاستعارة على قول أبي الطيب:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي] على أن أبا الطيب أجاد فيه ما أراد، وكرره في مواضع من شعره كقوله:
وكم لظلام الليل عندك من يدٍ ... تخبر أن المانوية تكذب وإنما أخذه من مصراعٍ لابن المعتز حيث يقول:
فالشمس نمامة والليل قواد ... وكل من إلى هذا المعنى أشار، فحوالي المثل دار، وهو قولهم: الليل أخفى للويل.
وله من أخرى: في أثر نزهة كانت له بمدينة الزهراء:
غني ذكرتك بالزهراء مشتاقا ... والأفق طلق ومرأى الأرض قد راقا
وللنسيم اعتلال في أصائله ... كأنه رق لي فاعتل إشفاقا(1/364)
والروض عن مائه الفضي مبتسم ... كما حللت عن اللبات أطواقا
لا سكن الله قلباً عن ذكركم ... فلم يطر بجناح الشوق خفاقا
لو شاء حملي نسيم الريح حين سرى ... وافاكم بفتىً أضناه ما لاقى
يا علقي الأخطر الأسنى الحبيب إلى ... قلبي إذا ما اقتنى الأحباب أعلاقا
الآن أحمد ما كنا لعهدكم ... سلوتم وبقينا نحن عشاقا قوله: " وللنسيم اعتلال في أوصائله ".... البيت، أراه ألم فيه يقول ابن المعتز:
والريح تجذب أطراف الثياب كما ... أفضى الشفيق إلى تنبيه وسنان وقلبه الرضي فقال:
وأمست الريح كالغيرى تجاذبنا ... على الكثيب فضول الربط واللمم وأحسب الفرزدق أبا عذرته، وواسم غرته، بقوله:
وركبٍ كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترةً من جذبها بالعصائب ومد أطناب المعنى بالبيت الآخر حيث يقول:
سروا يخبطون الريح وهي تلفهم ... إلى شعب الأكوار ذات الحقائب وقوله: " سولتم وبقينا نحن عشاقاً " يناسب قول الآخر:(1/365)
أشكو الذين أذاقوني مودتهم ... حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا قال ابن بسام: والشيء يذكر بالشيء وإن لم يكن من المنهاج، ولابد مع ذكر المعترضات من المعاج: قرأت في كتاب " أخبار بغداد " لابن طاهر، قال محمد بن عبدوس الفارسي: سرت يوماً إلى ابن الجهم فأنشدني لنفسه في العناق:
ألا رب ليلٍ ضمنا بعد هجعة ... وأدنى فؤاداً من فؤاد معذب
وبتنا جميعاً لو تراق زجاجة ... من الراح فيما بيننا لم تسرب فاقتدح زندي لإبراء مثله، فأطرقت وقلت:
لا والمنازل من نجد وليلتنا ... بفيد إذ جسدانا بيننا جسد
كم رام فينا الكرى في لطف مسلكه ... يوماً فما أنفك لا خد ولا عضد
ما أنصفوني دعوني فاستجبت لهم ... حتى إذا قربوني منهم بعدوا أردت هذا البيت.
وقوله: " لو شاء حملي نسيم الريح " ... البيت، كقول المجنون وهو أحسن ما قيل في النحافة، على زعم المبرد.(1/366)
إلا إنما غادرت يا أم مالكٍ ... صدى أينما تذهب به الريح يذهب وقال المتنبي:
كفى بجسمي نحولاً أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني وقال الخبز أرزي:
أنحلني الحب فلو زج بي ... في مقلة النائم لم ينتبه وله من أخرى، وكتب بها من بطليوس أيام تكرره عليها، وهي من غرر نظامه، وحر كلامه:
يا دمع صب إن شئت أن تصوبا ... ويا فؤادي آن أن تذوبا
إن الرزايا أصبحت ضروباً ... لم أر لي في أهلها ضريبا
قد ملأ الشوق الحشا ندوباً ... في الغرب أن رحت به غريبا
عليل دهر ضامني تعذيبا ... أدنى الضنى إذ أبعد الطبيبا
ليت القبول أحدثت هبوبا ... ريح يروح عهدها قريبا
بالأفق المهدي إلينا طيباً ... تعطرت منه الصبا جيوبا
يبرد حر الكبد المشبوبا ... يا متبعاً إساده التأويبا
مشرقاً قد سئم التغريبا ... أما سمعت المثل المضروبا:(1/367)
أرسل حليماً واستشر لبيبا ... إذا أتيت الوطن الحبيبا
والجانب المستوضح العجيبا ... والحاضر المنفسح الرحيبا
فحي منه ما أرى الجنوبا ... مصانع تجاذب القلوبا
حيث ألفت الرشأ الربيبا ... مخالساً في وصله الرقيبا
كم بات بدري ليله الغربيبا ... لما انثنى في سكره قضيبا
يشدو حمام عقده تطريبا ... هصرته حلو الجنى رطيبا
أرشف منه المبسم الشنيبا ... حتى إذا ما اعتن لي مريبا
شباب أفق هم أن يشيبا ... بادرت سعياً هل رأيت الذيبا -
أهاجري أم موسعي تأنيبا ... من لم أسغ من بعده مشروبا
ما ضره لو قال: لا تثريبا ... فلا ملام لحق المغلوبا
قد طال ما تجرم الذنوبا ... ولم يدع في العذر لي نصيبا
إن قرت العين بأن أؤوبا ... لم آل أن أسترضي الغضوبا قد ينفع المذنب أن يتوبا ... قوله: " هل رأيت الذيبا - " أخذه من قول الراجز يصف، لبناً ممذوقاً:
جاءوا بضيح هل رأيت الذئب قط - ... وهذا التشبيه عند أهل النقد نوع من أنواع الإشارة، لأنه أشار إلى تشبيه لونه بالماء الذي غلب على اللبن فصار كلون الذئب.(1/368)
وقال من أخرى:
وضح الحق المبين ... ونفى الشك اليقين
ورأى الواشون ما غر ... تهم منه الظنون
أملوا ما ليس يمنى ... ورجوا ما لا يكون
وتمنوا أن يخون ال ... عهد مولى لا يخون
فإذا الغيب سليم ... وإذا الود مصون
قل لمن دان بهجري ... وهواه لي دين:
يا جواداً بي إني ... بك والله ضنين
أرخص الحب فؤادي ... لك والعلق ثمين
يا هلالاً تتراءا ... هـ نفوس لا عيون
عجباً للقلب يقسو ... منك والقد يلين
ما الذي ضرك لو سر ... بمرآك الحزين -
وتلطفت بصب ... حينه فيك يحين
فوجوه اللفظ شتى ... والمعاذير فنون وقال أيضاً:
صحت فصح بها السقيم ... ريح معطرة النسيم
مقبولة هبت قبو ... لاً فهي تعبق بالشميم(1/369)
إيهاً أبا عبد الإل ... هـ نداء مغلوب العزيم
إن عيل صبري من فرا ... قك فالعذاب به أليم
الله يعلم أن حب ... ك من فؤادي في الصميم
ولئن تحمل عنك بي ... جسم فعن قلب مقيم
قل لي: بأي خلال سر ... وك قبل أفتن أو أهيم
أبمجدك العمم الذي ... نسق الحديث مع القديم -
أم بالدائع كاللآ ... لي من نثير أو نظيم -
إن أشمست منك الطلا ... قة فالندى عنها مغيم
وبلاغة إن عد أه - ... لوها فأنت لهم زعيم
إن الذي قسم الحظو ... ظ حباك بالحظ العظيم قوله: " ولئن تحمل عنك بي جسم " ... البيت، معنى مشهور أنشدت فيه لبعضهم:
أقول له حين ودعته ... وكل بعبرته ملبس:
لئن رجعت عنك أجسامنا ... لقد سافرت معك الأنفس وفي قريب منه، وإنما أنشدته لحسنه، ولكون هذا المعنى فرعاً من غصنه، قول الآخر:(1/370)
حملتك في قلبي فهل أنت عالم ... بأنك محمول وأنت مقيم -
ألا إن شخصاً في فؤادي محله ... وأشتاقه شخص علي كريم وقال أيضاً:
يا ليل طل لا أشتهي ... إلا كعهد قصرك
لو بات عندي قمري ... ما بت أرعى قمرك وقال أيضاً:
ودع الصبر محب ودعك ... ذائع من سره ما استودعك
يقرع السن على أن لم يكن ... زاد في تلك الخطى إذ شيعك
يا أخا البدر سناءً وسناً ... حفظ الله زماناً أطلعك
إن يطل بعدك ليلي فلكم ... بت أشكو قصر الليل معك وقال:
بيني وبيمك ما لو شئت لم يضع ... سر إذا ذاعت الأسرار لم يذع
يا بائعاً حظه مني ولو بذلت ... لي الحياة بحظي منه لم أبع
يكفيك أنك إن حملت قلبي ما ... لا تستطيع قلوب الناس يستطع
ته أحتمل واستطل أصبر وعز أهن ... وول أقبل وقل أسمع ومر أطع(1/371)
أراه احتذى في هذا البيت مذهب أبي العميثل الأعرابي:
فاصدق وعف وفه وأنصف واحتمل ... واصفح ودار وكاف واحلن واشجع
والطف ولن وتأن واحلم واتئد ... واحزم وجد وحام واحمل وادفع وكقول ديك الجن:
احل وامرر وضر وانفع ولن واخ ... شن ورش وابر وانتدب للمعالي وهذا الباب صنعه المولدون وعدوه تقسيماً وتقطيعاً وتبعهم المتنبي فقال:
أقل أنل أقطع احمل عل سل أعد ... زدهش بش تفضل أدن سر صل ثم زاد أبو الطيب في هذا وتباعض حتى قال:
عش ابق اسم سد قد جد مر انه رف اسر نل ... بيته المعروف، وأحسن لعمري ابن زيدون في هذا التقسيم، ودفع بالحديث في صدر القديم، ولو قرع سمع أبي منصور، بما في تضاعيف هذا التصنيف من الشذور، لما كان عنده ابن وشمكير بمذكور، ولا(1/372)
أغرب بغرائب الصاحب، ولا ببديع البديع.
ومن شعر ابن زيدون في النسيب السائر الغريب، الطيار المليح، الخفيف الروح، قوله:
أما رضاك فشيء ما له ثمن ... لو كان سامحني في ملكه الزمن
تبكي فراقك عين أنت ناظرها ... قد لج في هجرها عن هجرك الوسن
إن الزمان الذي عهدي به حسن ... قد حال مذ غاب عني وجهك الحسن
والله ما ساءني أني خفيت ضنىً ... بل ساءني أن سري في الهوى العلن
لو كان أمري في كتم الهوى بيدي ... ما كان يعلم ما في قلبي البدن وهذا البيت الأخير، إلى معنى صريع الغواني يشير:
فقلت: قلبي مكاتم جسدي ... ولو درى لم يقم به السمن وهذا البيت الرابع منها ناظر إلى قول الآخر:
والله ما جزعي نفسي وإن هلكت ... وإنما جزعي ما سر حسادي وقال من أخرى:
أنت معنى الضنى وسر الضلوع ... وسبيل الهوى وقصد الدموع(1/373)
أنت والشمس ضرتان ولكن ... لك عند الغروب فضل الطلوع
ليس بالمؤيسي تكلفك العت ... ب دلالاً من الرضى المطبوع
إنما أنت، والحسود معنى ... كوكب يستقيم بعد الرجوع وقال أيضاً:
غريب بأرض الشرق يشكر للصبا ... تحملها مني السلام إلى الغرب
وما ضر أنفاس الصبا في احتمالها ... سلام فتىً يهديه جسم إلى قلب وهذا منقول من قول العباس بن الأحنف حيث يقول:
تالله ما شطت نوى ظاعنٍ ... سار من العين إلى القلب وقال أيضاً:
سأحب أعدائي لأنك منهم ... يا من يصح بمقلتيه ويسقم
أصبحت تسخطني وأمنحك الرضى ... جوراً وتظلمني ولا أتظلم
يا من تألف ليله ونهاره ... فالحسن بينهما مضي مظلم
قد كان في شكوى الصبابة راحة ... لو أنني أشكو إلى من يرحم أول مصراع من هذه المقطوعة مقتطع من قول أبي الشيص:(1/374)
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كان حظي منك حظي منهم وكذلك قوله فيها: " يا من تألف ليله ونهاره " ... البيت، مقتضب من قول أبي الطيب:
الحزن يقلق والتجلد يردع ... والدمع بينهما عصبي طيع @ما أخرجته من شعر ابن زيدون في المدائح
@مع ما يتشبث به من سائر الأوصاف
قال من قصيدة:
أما في نسيم الريح عرف معرف ... لنا هل لذات الوقف بالجزع موقف
فتقضني أوطار المنى من زيارة ... لنا كلف منها بما نتكلف
ضمان علينا أن تزار ودونها ... رقاق الظبا والسمهري المثقف
وقوم عدى يبدون عن صفحاتهم ... وأزهرها من ظلمة الحقد أكلف
يودون لو يثني الوعيد زماعنا ... وهيهات ريح الشوق من ذاك أ " صف
وفي السيراء الرقم وسط قبابهم ... بعيد مناط القرط أحور أوطف
وليلة وافينا الكثيب لموعد ... سرى الأيم لم يعلم لمسراه مزحف
تهادى أناة الخطو مرتاعة الحشا ... كما ريع يعفور الفلا المتشوف(1/375)
فما الشمس رق الغيم دون أياتها ... سوى ما أرى ذاك الجبين المنصف
قعيدك أنى زرت، نورك فاضح ... وعطرك نمام، وحليك مرجف
هيبك اغتررت الحي واشيك هاجع ... وفرعك غربيب، وليلك أغضف
فأنى اعتسفت الهول خطوك مدمج ... وردفك رجراج وخصرك مخطف
لجاج تمادي الحب في المعشر العدا ... وأم الهوى الأفق الذي فيه نشنف
كفانا من الوصل التحية خلسةً ... فيومئ طرف أو بنان مطرف
وإني ليستهويني البرق صبوة ... إلى برق ثغر إن بدا كاد يخطف
وما ولعي بالراح إلا توهم ... لظلم به كالراح لو يترشف
ويذكرني العقد المرن جمانه ... مرنات ورق في ذرى الأيك هتف
فما قبل من أهوى طوى البدر هودج ... ولا ضم رئم القفر خدر مسجف
ولا قبل عباد حوى البحر مجلس ... ولا حمل الطود المعظم رفرف وهذا بيت القسطلي بجملته حيث يقول في ابن أبي عامر:
وكيف استوى بالبر والبحر مجلس ... وقام بعبء الراسيات سرير - وفيها يقول ابن زيدون:
هو الملك الجعد الذي في ظلاله ... تكف صروف الحادثات وتصرف
رويته في الحادث الإد لحظة ... وتوقيعه الجالي دجى الخطب أحرف
طلاقة وجه في مضاء كمثل ما ... يروق فرند السيف والحد مرهف(1/376)
على السيف من تلك الصرامة ميسم ... وفي الروض من تلك اللطافة زخرف
أظن الأعادي أن حزمك نائم - ... لقد تعد الفسل الظنون فتخلف ومنها:
ولما قضينا ما عنانا أداؤه ... وكل بما يرضيك داع فملحف
رأيناك في أعلى المصلى كأنما ... تطلع من محراب داود يوسف
ولما حضرنا الأذن والدهر خادم ... تشير فيمضي والقضاء مصرف
وصلنا فقبلنا الندى منك في يد ... بها يتلف المال الجسيم ويخلف
ولولاك لم يسهل من الدهر جانب ... ولا ذل مقتاد ولا لان معطف
لك الخير أنى لي بشكرك نهضة ... وكيف أؤدي فرض ما أنت مسلف -
أنرت بهيم الحال مني غرةً ... يقابلها طرف الحسود فيطرف قوله: " وما ولعي بالراح " ... البيت، أراه قلب قول أبي الطيب:
وما شرقي بالماء إلا تذكراً ... لماء به أهل الحبيب نزول وقوله: " ويذكرني العقد المرن " ... البيت، نسخة من قول أبي تمام ونقص عنه:
وبالحلي إن قامت ترنم فوقها ... حماماً إذا لاقى حماماً ترنما(1/377)
وقوله: " طلاقة وجه " ... البيت، معنى مشهور، وهو في شعرهم كثير، ومنه قول البحتري:
ويحسن دلها والموت فيه ... كم يستحسن السيف الصقيل وزاد فيه بعض أهل عصري زيادة مليحة فقال:
مضاء كحد السيف لدناً مهزه ... يكفكفه حلم كحاشية البرد وقوله: " ولما حضرنا الإذن " ... البيت، مع الذي بعده، أرى أبا الوليد احتذى فيه حذو الوليد في أبيات أنشدها لحسنها، وهي من أحسن ما قيل في الهيبة:
ولما حضرنا سدة الإذن أخرت ... رجال عن الباب الذي أنا داخله
فأفضيت من قرب إلى ذي مهابة ... أقابل بدر التم حين أقابله
كما انتصب الرمح الرديني ثقفت ... أنابيبه واهتز للطعن عامله
وكالبدر وافته لتم سعوده ... وتم سناه واستهلت منازله
فسلمت فاعتاقت جناني هيبة ... تنازعني القول الذي أنا قائله
فلما تأملت الطلاقة وانثنى ... إليّ ببشر آنستني مخايله
دنوت فقبلت الندى من يد امرئ ... كريم محياه سباط أنامله
صفت مثل ما تصفو المدام خلاله ... ورقت كما رق النسيم شمائله وقول ابن زيدون: " وصلنا فقبلنا الندى منك في يد " ... البيت(1/378)
معنى مليح، ولفظ صحيح، إلا أنه كما تراه، لفظ بيت البحتري ومعناه. ويقول بعض أدبائنا إن ابن زيدون بحتري زماننا وصدقوا، لأنه حذا حذو الوليد، إلا أن أبا الوليد في بعض قصائده كابن حميد سعيد. وقال بعض أهل عصرنا وهو أبو محمد ابن سارة الشنتريني من جملة أبيات:
وإن فمي يصافح راحتيه ... فيعرف فيهما عرف السياده وقال بعض أهل العصر:
ولثمت يمناه فأعيا حسدي ... أأنا لثمت العارض المثعنجرا - وقال ابن زيدوزن من جملة قصيدة:
يا أيها الملك الذي تدبيره ... أضحى لمملكة الزمان ملاكا
أعرض عن الخطرات إنك إن تشأ ... تكن النجوم أسنة لقناكا
هصر النعيم بعطف دهرك فانثنى ... وجرى الفرند بصفحتي دنياكا
دنيا لزهرتها شعاع مذهب ... لو كان وصفاً كان بعض حلاكا
فتجل في فرش الكرامة ناعماً ... واعقد بمرتبة السرور حباكا
وأطل إلى شدو القيان إصاخةً ... وتلق مترعة الكؤوس دراكا
لك أريحية ماجد إن تعترض ... في لهو راحك تستهل لهاكا
من كان يعلق في خلال ندامه ... ذم ببعض خلالخ فخلاكا(1/379)
أسبوع أنس محدث لي وحشةً ... علماً بأني لست فيه أراكا
وأنا المعذب غير أني مشعر ... ثقةً بأنك ناعم فهناكا
أنى أقوم بشكر طولك بعد ما ... ملأت من الدنيا يدي يداكا
بردت ظلال ذراك واحلولى جنى ... نعماك لي، وصفت جمام نداكا وله من أخرى في ابن جهور أولها:
هذا الصباح على سراك رقيبا ... فصلي بفرعك ليلك الغربيبا
ولديك أمثال النجوم قلائد ... ألفت سماءك لبةً وتريبا يقول فيها:
لينب عن الجوزاء قرطك كلما ... جنحن بفرعك جناحها تغريبا
وإذا الوشاح تعرضت أثناؤه ... طلعت ثريا لم تكن لتغيبا
ولطالما أبديت إذ حييتنا ... كفاً هي الكف الخضيب خضيبا
أظنينةً دعوى البراءة شأنها ... أنت العدو فلم دعيت حبيبا -
ما الهجر إلا البين إلا أنه ... لم يشح فاه به الغراب نعيبا ومنها في المدح:
متمرس بالدهر يقعد صرفه ... إن قام في نادي الخطوب خطيبا
لا يوسم الرأي الفطير به ولا ... يعتاد إرسال الكلام قضيبا(1/380)
بسام ثغر السن إن عقد الحبا ... فرأيت وضاحاً هناك مهيبا
ملأ النواظر صامتاً ولربما ... ملأ المسامع سائلاً ومجيبا
إن الجهاورة الملوك تبوأوا ... شرفاً جرى معه السماك جنيبا
فإذا دعوت وليدهم لعظيمةٍ ... لباك رقراق السماح أديبا
همم تعاقبها النجوم وقد تلا ... في سؤدد منها العقيب عقيبا
ومحاسن تندى رقائق ذكرها ... فتكاد توهمك المديح نسيبا
كان الوشاة، وقد منيت بإفكهم ... أسباط يعقوب وكنت الذيبا قوله: " فصلي بفرعك ليلك الغربيبا "، من قول أبي الطيب:
كشفت ثلاث ذوائب من شعرها ... في ليلةٍ فأرت ليالي أربعا وقال التهامي:
وتود لو جعلت سواد قلوبها ... وسواد عينيها سواد عذاري ومنه قول المعري وقد تقدم:
يود أن ظلام الليل دام له ... وزيد فيه سواد القلب والبصر وقال محمد بن هانئ:(1/381)
قد أظلموا بالدهم منها فجرهم ... فتكدرت شمس النهار تغضبا
واستأنفوا بشياتها فجراً فلو ... عقدوا نواصيها أعادوا الغيهبا وقوله: " فتكاد توهمك المديح نسيبا " ... البيت، من قول حبيب:
طاب في المديح والتذ حتى ... فاق وصف الديار والتشبيبا وقوله: " ملأ النواظر صامتاً " ... البيت، من قوله أيضاً:
فاسألنها واجعل بكاك جواباً ... تجد الشوق سائلاً ومجيبا وينظر إلى هذا المعنى من بعض الوجوه لفظ أبي الطيب حيث يقول في ابن العميد:
فدعاك حسدك الرئيس وأمسكوا ... ودعاك خالقك الرئيس الأكبرا
خلفت صفاتك في العيون كلامه ... كالخط يملأ مسمعي من أبصرا ويلمح أيضاً هذا المعنى قول أبي نواس، على ما فسره بعض الناس:
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر ...(1/382)
وهذا التفسير فيه، أضعف الوجوه. وبيت ابن شرف أشبه من هذا كله ببيت ابن زيدون، وهو قوله يمدح صاحب القيروان:
سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل وقال ابن زيدون من أخرى:
أما وألحاظٍ مراضٍ صحاح ... وتصبي وأعطاف نشاوى صواح
لفاتنٍ بالحسن في خده ... ورد وأثناء ثناياه راح
لم أنس إذ باتت يدجي ليلةٍ ... وشاحه اللاصق دون الوشاح
لأصفين المرتضى جهوراً ... عهداً لروض الحسن عنه افتضاح
بشرت آمالي بتأميله ... فما عداني منه فوز القداح
لم أشيم البرق جهاماً ولم ... أقتدح النار بزند شحاح
يا مرشدي جهلاً إلى غيره ... أغنى عن المصباح ضوء الصباح
ذو باطن أقبس نور التقى ... وظاهر أشرب ماء السماح
إيه أبا الحزم اهتبل غرةً ... ألسنة الدهر عليها فصاح
لا طار لي حظ إلى غايةٍ ... إن لم أكن منك مريش الجناح
عتباك بعد العتب أمنية ... ما لي على الدهر سواها اقتراح
لم يثنني عن أمل ما جرى ... قد يرقع الخرق وتوسى الجراح(1/383)
اشفع فللشافع نعمى بما ... سناه من عقد وثيق النواح
إن سحاب الأفق منها الحيا ... والحمد في تأليفها للرياح قوله: " وشاحه اللاصق " ... البيت، معنى متداول، ومن أقربه عصراً قول النحلي من أهل وقتنا:
إن العزيز علي خصرك إنه ... بالردف حمل منه ما لا يحمل
فخذي له جسمي مكان وشاحه ... إن العليل بشكله يتعلل وقال ابن زيدون من أخرى في بني جهور عند نكبة بني ذكوان:
لولا بنو جهور ما أشرقت هممي ...
هم الملوك ملوك الأرض دونهم> ... كمثل بيض الليالي دونها الدرع
قوم متى تحتفل في وصف سؤددهم ... لا يأخذ الوصف إلا بعض ما يدع
أبو الوليد قد استوفى مناقبهم ... فللتفاريق منها فيه مجتمع
مهذب أخلصته أوليته ... كالسيف بالغ في إخلاصه الصنع
إن السيوف متى ما طاب جوهرها ... في أول الطبع لم يعلق بها الطبع [ومنها في عتابه أيضاً] :
قل للوزير الذي تأميله وزري ... إن ضاق مضطرب أو هال مضطلع:
أصخ لهمس عتابٍ تحته مقة ... تكلف النفس فيه فوق ما تسع(1/384)
ما للمتات الذي أحصفت عقدته ... قد خامر القلب من تضييعه جزع -
لا تستجز وضع قدري بعد رفعكه ... فالله لا يرفع القدر الذي تضع
إن الألى كنت من قبل افتضاحهم ... مثل الشجى في لهاهم ليس ينتزع
تلك العرانين لم يصلح لها شمم ... فكان أهون ما نيلت به الجدع
أودعت نعماك منهم شر مغترس ... لن يكرم الغرس حتى تكرم البقع قوله: " إن السيوف إذا ما طاب جوهرها " ... البيت، ينظر من لحظ مريب، إلى قول حبيب:
والسيف ما لم يلف فيه صقيل ... من سنخه لم ينتفع بصقال وله من أخرى يهنئ المعتضد عباداً بهزيمة ابنه إسماعيل لابن الأفطس، وقتل ولد إسحاق بن عبد عبد الله في تلك الحرب:
ليهن الهدى إنجاح سعيك في العدا ... وأن راح صنع الله نحوك أو غدا
وبشرك دنيا غضة العهد طلقة ... كما ابتسم النوار عن أدمع الندى
دعوت فقال النصر لبيك ماثلاً ... ولم تك كالداعي يجاوبه الصدى
وأحمدت عقبى الصبر في درك المنى ... كما بلغ الساري الصباح فأحمدا
ولما اعتمدت الله كنت مؤهلا ... لديه بأن تحمى وتكفى وتعضدا(1/385)
وجدناك إن ألقحت سعياً نتجته ... وغيرك شاو حين أنضج رمدا
سل الخائن المغتر كيف احتقابه ... مع الدهر عاراً بالفرار مخلدا
رأى أنه أضحى هزبراً مصمماً ... فلم يعد أن أمسى ظليماً مشردا وهذا منقول من قول أبي الطيب:
فأتيت معتزماً ولا أسد ... ومضيت منهزماً ولا وعل رجع:
يود إذا ما جنه الليل أنه ... أقام عليه آخر الدهر سرمدا
لبئس الوفاء استن في ابن عقيده ... عشية لم يصدره من حيث أوردا
وأصبح يبكيه المصاب بثكله ... بكاء لبيد حين فارق أربدا ونلمع من أخبار هذه الوقعة بلمعة:
قال أبو مروان: وفي سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة أوقع ابن عباد بابن الأفطس إلى جنب يابرة؛ وكان سبب هذه الحرب أن فتح بن يحيى صاحب لبلة يومئذ حليف ابن الأفطس وإلى عباداً لضرورةٍ(1/386)
فكاشفه ابن الأفطس وخانه فيما كان ائتمنه من ماله الصامت، عندما حمله إليه وديعةً وقت تورطه في حرب عبادٍ قبل؛ وانبتت بينهما العصمة، وأرسل ابن الأفطس في ذلك الوقت خيله للضرب على ابن يحيى فاستغاث عباداً، فأرسل إليه خيلاً منتقاةً، فلحقت الخيل الأفطسية وهي قد شنت الغارة على لبلة، فكرت عليهم إذ كانوا ضعفهم، واسترسلوا في اتباع العباديين ولا يشعرون، فإذا بعباد بجملته في كيمنٍ قد خرج إثرهم، قد هشوا وولوا الأدبار فركبهم السيف، وبذل عباد المال في رؤوسهم وكانت نقاوة خيل ابن الأفطس وأبطال رجاله، فجز لعبادٍ من رؤوسهم مائة وخمسون رأساً ومن خيلهم مثلها، فقص جناح قرنه، وأفنى حماة رجاله. ثم إن عباداً إثر ذلك جمع خيل حلفائه وخيله وقود عليها ابنه إسماعيل مع وزيره ابن سلام، وخرج نحو بلاد ابن الأفطس يابرة. وقد استدعى أيضاً ابن الأفطس حليفه إسحاق بن عبد الله فلحقت به خيله مع ابنه العز بعد أن جمع ابن الأفطس بقايا جيشه من هزيمتهم المتقدمة الذكر، وأخرج كل من قدر على ركوب دابة من البياض ببلده، وحشر من رجال البوادي بعلمه خلقاً كثيراً، وأقبل بجمعه هذا المنخوب ليدفع خيل ابن عباد عن بلده يابرة. وقد كان برابرة حليفه إسحاق في عسكره قالوا له: لا تلقهم فلست تعرف قدر من زحف نحوك، ونحن رأيناهم وسمعنا بجمعهم بإشبيلية؛ فلم يسمع منهم ومضى، فالتقى الفريقان من غير نزول مولا تعبئةٍ، فاختلطوا واجتلدوا ملياً، فحقق العباديون الضراب(1/387)
وتابعوا الشدات، فغحاد البرابر عنه أصحاب إسحاق، وانهزم ابن الأفطس وحمل السيف على جميع من معه، فاستأصلهم القتل، وقتل ولد إسحاق العز، وحز رأسه وبعث به إلى إشبيلية مع رأس ابن عم لابن الأفطس صاحب يابرة يدعى عبيد الله الخراز، ونجا ابن الأفطس في قطعة من خيله إلى يابرة.
قال أبو مروان: وأقل ما سمعت في إحصاء قتلى هذه الوقيعة من ثلاثة آلاف رجل فأزيد. وأخبرني من أثق به أن بطليوس بقيت مدةً خالية الدكاكين والأسواق من استئصال القتل لأهلها في وقعة ابن عباد هذه بفتيان أغمارٍ إلا الشيوخ والكهول الذين أصيبوا يومئذ. فاستدللت بذلك على فشو المصيبة. وجزع إسحاق بن عبد الله من مصاب ابنه، ولم يخضع لضده عبادٍ في طلب رأس ابنه، فإن عباداً ضافه رأس جده محمد ابن عبد الله الذي هو مختزن عنده بإشبيلية؛ انتهى كلام ابن حيان.
قال ابن بسام: ولم يزل الرأسان عند آل عبادٍ مع عدة رؤوس أهدتها إليهم الفتنة المبيدة، حتى فتحت إشبيلية على الأمير الأجل سير بن أبي بكر فجيء بجوالقٍ مقفل مطبوع عليه، فأمر بفتحه، لا يشك أنه مال أو ذخيرة، فإذا هو مملوء من رؤوس. فأعظم وهاله، وأمر بدفع كل رأس منها إلى من بقي من عقبه بالحضرة.(1/388)
حدثني من رأى رأس يحيى بن علي الحمودي ثابت الرسم، غير متغير الشكل، فدفع إلى بعض ولده فدفنه.
[رجع]
قال ابن زيدون في ابن جهور من قصيدة أولها:
أجل إن ليلى حيث أحياؤها الأزد ... مهاة حمتها في مراتعها الأسد
يمانية تدنو وينأى مزارها ... فسيان منها في الهوزى القرب والبعد
إذا نحن زرناها تمرد مارد ... وعز فلم نظفر به الأبلق الفرد
هو الملك المشفوع بالنسك ملكه ... فلله ما يخفى ولله ما يبدو
لقد أوسع الإسلام بالأمس حسبةً ... نحت غرض الأجر الجزيل فلم تعد
أباح حمى الخمر الخبيثة حائطاً ... حمى الدين من أن يستباح له حد
فطوق باستئصالها المصر منة ... يكاد يؤدي شكرها الحجر الصلد
غني فحسن الظن بالله ماله ... عزيز فصنع الله من حوله جند
لنعم حديث البر أوضعت الصبا ... تبث نثاه حيث لا يوضع البرد وكان ابن جهور كسر يومئذ دنان الخمر، وكان مدحه أيضاً يومئذ بمثل ذلك عبد الرحمن بن سعيد المصغر بشعرٍ أوله:(1/389)
كسرت لجبر الدين أوعية الخمر ... فأحرزت خصل السبق في الكسر والجبر
عمدت إلى الشر الذي جمعوا له ... ففرقت منه فاسترحنا من الشر في أبيات غير هذه استبردت جملتها. وإنما ذهب إلى عكس قول من تقدم من عباث الشعراء من ذم صب الشراب، ومن أشهره قول بكر ابن خارجة الكوفي، وقد رأى من سلطان وقته مثل ذلك فقال:
يا لقومي مما جنى السلطان ... لا يكن للذي أهان الهوان
سكبوا في التراب من حلب الكر ... م عقاراً كأنها الزعفران
صبها في مكان سوء لقد صا ... دف سعد السعود ذاك المكان
من كميتٍ يبدي المزاج لها لؤ ... لؤ نظم والفصل فيها جمان
فإذا ما اصطبحتها صغرت في القد ... ر عندي من أمه الخيزران
كيف صبري عن بعض نفسي موهل يص - ... بر عن بعض نفسه الإنسان - وبلغني أن الجاحظ أنشد هذه الأبيات، فقال للمنشد: " من حق الفتوة أن أكتبها قائماً، وما أقدر إلا أن تعمدني " لنقرسٍ كان به. قال المحدث: فعمدته وقام فكتبها.
وكان بكر بن خارجة هذا مولى بني أسدٍ، طيب الشعر، خليعاً ماجناً، وكان يألف هدهداً في موضع يأتيه كل يوم بقنينة شرابٍ، فلا يزال(1/390)
يشرب على صوته إلى أن يسكر، وكان أيضاً يهوى غلاماً نصرانياً وهو القائل:
زناره في خصره معقود ... كأنه من كبدي مقدود وبكر القائل:
قلبي إلى ما ضرني داعي ... يكثر أسقامي وأجاعي
كيف احتراسي من عدوي إذا ... كان عدوي بين أضلاعي - ولصالح بن عبيد في مثل ما تقدم:
ليس همي ولا طويل انتحابي ... لمشيبٍ أدال عني شبابي
لا ولا لاغتراب أحباب قلبي ... أو لصد الإخوان والأصحاب
إنما حسرتي وعبرة عيني ... لشراب يصب فوق التراب
سرت الأرض حين صب عليها ... فبكت صبةً عيون السحاب رجع:
وقال ابن زيدون يرثي:(1/391)
انظر لحال السرو كيف تحال ... ولدولة العلياء كيف تدال
من سر لما عاش قل متاعه ... فالعيش نوم والسرور خيال
ولى أبو بكر فراع له الورى ... هول تقاصر دونه الأهوال
يا من شأى الأمثال منه واحد ... ضربت به في السؤدد الأمثال
نقصت حياتك حين فضلك كامل ... هلا استضيف إلى الكمال كمال
من للقضاء يعز في أثنائه ... إيضاح مشكلة لها إشكال
من لليتيم تتابعت أرزاؤه - ... هلك الأب الحاني وضاع المال
هيهات لا عهد كعهدك عائد ... إذ أنت في وجه الزمان جمال
حيا الحيا مثواك وامتدت على ... ضاحي ثراك من النعيم ظلال
وإذا النسيم اعتل فاعتامت به ... ساحاتك الغدوات والآصال
ولئن أذالك بعد طول صيانةٍ ... قدر فكل مصونةٍ ستذال وله من أخرى مما وجدته بخط ابن حيان يرثي بها أبا الحزم ابن جهور:
ألم تر أن الشمس قد ضمها القبر ... وأن قد كفانا فقدها القمر البدر
وأن الحيا إن كان أقلع صوبه ... فقد فاض للآمال في أثره البحر
إساءة دهر أحسن الفعل بعدها ... وذنب زمان جاء يتبعه العذر
فلا يتهن الكاشحون فما دجا ... لنا الليل إلا ريثما طلع الفجر
وإن يك ولى جهور فمحمد ... خليفته العدل الرضا وابنه البر
لعمري لنعم العلق أتلفه الردى ... فبان ونعم العلق أخلفه الدهر(1/392)
همام جرى يتلو أباه كما جرى ... معاوية يتلو الذي سنه صخر
فقل للحيارى قد بدا علم الهدى ... وللطامع المغرور قد قضي الأمر
أبا الحزم قد ذابت عليك من الأسى ... قلوب ومنها الصبر لو ساعد الصبر
دع الدهر يفجع بالذخائر أهله ... فما لنفيس إذ طواك الردى قدر
مساعيك حلي للزمان مرصع ... وذكرك في أردان أيامها عطر
أمامك من حفظ الإله صنيعة ... وحولك من آلائه عسكر مجر
وما بك من فقر إلى نصر ناصر ... كفتك من الله الكلاءة والنصر
تحامى العدا لما اعتلقتك جانبي ... وقال المناوي: شب عن طوقه عمرو ووجدت له قصيدة أخرى، على رويها ووزنها، رثى بها أم أبي الوليد ابن جهور، وكرر أكثر أبياتها، أولها:
هو الدهر فاصبر للذي أحدث الدهر ... فمن شيم الأحرار في مثلها الصبر يقول فيها:
هنيئاً الأرض أنس مجدد ... بثاويةٍ حلته فاستوحش الظهر
بطاهرة الأثواب قانتة الضحى ... مسبحة الآناء محرابها الخدر
فإن أنثت فالنفس أنثى نفيسة ... إذ لجسم لا يسمو بتذكيره ذكر
حصان إذا التقوى استبدت بذكرها ... فمن صالح الأعمال يستوضح الجهر
بني جهور أنتم سماء رياسةٍ ... مناقبكم في أفقها أنجم زهر(1/393)
ترى الدهر إن يبطش فمنكم يمينه ... وإن تضحك الدنيا فأنتم لها ثغر إلى أبيات غير هذه من سائر أبيات القصيدة استمر فيها بالتقديم والتأخير، والتأنيث والتذكير، ثم رثى بها آخراً عباداً المعتضد، وجعل أول قصيدته قوله:
هو الدهر فاصبر للذي أحدث الدهر ... البيت المتقدم، ثم اتبعه بقوله:
حياة الورى نهج إلى الموت مهيع ... له فيه إيضاع كما يوضع السفر
فيا واضح المنهاج جرت فإنما ... هو الفجر يهديك الصراط أو البحر
إذا الموت أضحى قصر كل معمر ... فإن سواء طال أو قصر العمر
ألم تر أن الدين ضيم ذماره ... فلم تغن أنصار عديدهم كثر
بحيث استقل الملك ثاني عطفه ... وجرر في أذياله العسكر المجر
أأنفس نفس في الورى أقصد الردى ... وأخطر علق للهدى أفقد الدهر
أعباد يا أوفى الملوك لقد عدا ... عليك زمان من سجيته الغدر
فهلا عداه أن علياك حليه ... وذكرك في أردان أيامه عطر(1/394)
غشيت فلم تغش الطراد سوابح ... ولا جردت بيض ولا أشرعت سمر
لئن كان بطن الأرض هنئ أنسه ... بأنك ثاويه لقد أوحش الظهر
ولا ثنت المحذور عنك جلالة ... ولا عدد دثر ولا نائل غمر
فهل علم الشلو المقدس أنني ... مسوغ حال ضل في كنهها الفكر -
وأن متاتي لم يضعه محمد ... خليفتك العدل الرضا وأبنك البر -
وأرغم في بري أنوف عصابةٍ ... لقائهم جهم ولحظهم شزر
إذا ما استوى في الدست عاقد حبوةٍ ... وقام سماطا حفله فلي الصدر فتلاعب أبو الوليد كما ترى في هذه القصيدة تلاعب الحطيئة بنسبه، وتصرف تصرف أبي حنيفة في مذهبه، فأنث وذكر، وقدم وأخر [كما] قال أبو العلاء:
رب لحد قد صار لحداً مراراً ... ضاحك من تزاحم الأضداد وبلغني أنه وجد لابن زيدون إثر موت عباد شعر يقول فيه:
لقد سرنا أن النعي موكل ... بطاغية قد حم منه حمام
تجانف صوب المزن عن ذلك الصدى ... ومر عليه الغيث وهو جهام وقال يخاطب الوزير أبا عامر بن عبدوس من قصيدة أولها:(1/395)
أثرت هزبر الشرى إذ ربض ... ونبهته إذ هدا فاغتمض
وما زلت تبسط مسترسلاً ... إليه يد البغي لما انقبض
أرى كل مجرٍ أبا عامر ... يسر إذا في خلاء ركض
أعيذك من أن ترى منزعي ... إذا وتري بالمنايا انتفض
أبا عامر أين ذاك الوفاء ... إذ الدهر وسنان والعيش غض -
وأين الذي كنت تعتد من ... مصافاتي الواجب المفترض -
عمدت لشعري ولم تتئد ... تعارض جوهره بالعرض
لعمري لفوقت سهم النضال ... وأرسلته لو أصبت الغرض
وشمرت للخوض في لجةٍ ... هي الموت ساحلها لم يخض
وغرك من عهد ولادةٍ ... سراب تراءى وبرق ومض
هي الماء يأبى على قابضٍ ... ويمنع زبدته من مخض [وبعد ما أمسكت عنه.
قوله: " هو الماء يأبى على قابض " ... البيت، أبلغ منه في المعنى قول الوزير أبي محمد بن عبد الغفور:
هي الشمس تأبى على قابضٍ ... إذا الماء نالت نداه اليد]
ونبئتها بعدي استحمدت ... بسير إليك لمعنىً غمض
أبا عامر عثرة فاستقل ... لتبرم من ودنا ما انتقض(1/396)
ولا تعتصم ضلةً بالحجاج ... وسلم فرب احتجاج دحض
وحسبي أني أطبت الجنى ... لأفنانه وأبحت النفض
ويهنيك أنك يا سيدي ... غدوت مقارن ذاك الربض وكتب إلى المظفر سيف الدولة أبي بكر بن الأفطس من رقعة، وضمنها قصيدة أولها:
لبيض الطلى ولسود اللمم ... بعقلي - مذ بن عني - لمم: لما لبس الحاجب - أعزه الله - رداء المجد معلما، وحمل لواء الحمد معلنا، فاستطار بارق فجره، واستضاع فائح ذكره، وشهرت محاسنه على كل لسان، وسارت مآثره مسير الشمس بكل مكان، لما سوغ من كرمه، وأسبغ من نعمه، ووطأ للآملين من أكنافه، وهز إلى الراغبين من أعطافه، ورفرفت أجنحة الأهواء عليه، واهتزت جوانح الآمال إليه، وكثر التغاير على تفيؤ ظله، والتنافس في الاعتلاق بحبله، وكل استفرغ جهده، وتوسل على حسب ما عنده، ولا غرو أن يستمطر الغمام، ويؤمل الكرام، ويكثر في المشرب العذب الزحام.(1/397)
وما زلت - أبقى الله الحاجب - أتلقى من مساعيه المشكورة، ويقرع سمعي بمآثره المأثورة، ما هو أندى من بلوغ الأمل، وأشهى من اختلاس القبل، وأغض من جني الزهر، وألطف من نسيم السحر، حتى انقادت نفسي في زمام التأميل والمودة، ونازعت إلى الأخذ بحظٍ من الاعتلاق والممازجة. ونظرت إلى ما دون ذلك من أسباب البعد المانعة، وامتداد البلاد المعترضة، فغضضت طرف الخيبة، وطويت كشحاً على اليأس من درك الأمنية، إلى أن ندبني الأديب أبو فلان إلى مخاطبته، وحرضني على مكاتبته، ونبهني على ما في التثاقل عن مداخلته، من التضييع الصريح، والتقصير البين الصحيح، إذ هي أسنى علق غولي به، وأنفس ذخر نوفس فيه. فطربت إلى ذلك " كما طرب النشوان مالت به الخمر "، واهتززت له " كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب ". ورأيت من شكر يد العلياء فيما حثني إليه، وحضني عليه، مما فيه حلية الفخر، ومكرمة الدهر، أن أستفتح باب المكاتبة بالشفاعة، وأنهج طريق المخاطبة في العناية به، وبيننا، بعد، من ذمام الطلب، وحرمة الود والأدب، ما أستقصر نفسي معه أن أتقدم في خدمة رغبته بقلمي، وقد تأخرت قدمي، ويعد لاقتصار غيبته كتابي، دون أن أزم لذلك ركابي، وهو فتى نام جده، واستيقظ حده؛ فتنكر الزمان له، واعترت الأيام به، بين ذئاب سعاية عوت عليه، وعقارب وشايةٍ دبت إليه، وأصلي بنار حربٍ لم يجنها، وأعدته مبارك جرب التبس بها(1/398)
وآل به الأمر إلى فراق أحبته، والبعد عن مسقط رأسه ومعق تمائمه، على ضيق حاله، وضعف إحسانه. وأشهد أن ذلك لم يزده للحاجب لا ولاءً، وعليه إلا ثناء، وأنه لا يزال يعيد شكره ويبديه، وينثر حمده ويطويه، والحاجب - أدام الله إعزازه - ولي إعدائه على زمنه الغشوم، وأسلا بإنصافه من دهره الظلوم، بإلباسه من جميل رأيه ما عري منه، وإيراده من شريعة رضاه ما حليء عنه، والتخلية بينه وبين الأفق الذي لم ير كوكب سعد إلا فيه، ولا تلقى نسيم حياة إلا منه، فإنه مما يوليه من إحسانه، ويأتيه من الفضل في شانه، مستجزل شكر من أنهضه لسان، واستقل به بيان، وهو أهل الفضل، والمعهود منه كرم الفعل، والله يبقيه ويعليه، وهو حسبه وحسبي فيه.
ولما اطرد هذا النثر لحسن اتساقه، ولذ مساقه، هزت النظم أريحية جذب لها بعنانه، وعارضه بها في ميدانه؛ وأبت أن ينفرد النثر بلقاء الحاجب ومشافهته، ويستبد بأن يلمح غرته، ويخدم بالحضور حضرته، فأثبت منه ما إن أنعم عند تصفحه بالصفح عن الزلل يعرض فيه، والخلل يبدو منه، وصل النعمة بمثلها، وقرن العارفة بشكلها:
لبيض الطلى ولسود اللمم ... بعقلي، مذ بن عني، لمم
ففي ناظري عن رشاد عمى ... وفي أذني عن ملام صمم
قضت بشماسي على العاذلين ... شموس مكللة بالظلم(1/399)
وما سقمت لحظات العيون ... إلا لتغريني بالسقم
يلوم الخلي على أن أحن ... وقد مزج الشوق دمعي بدم
وما ذو التذكر ممن يلام ... ولا كرم العهد مما يذم
وإني أراح إذا ما الجنوب ... راحت بريا جنوب العلم
وأصبو لعرفان عرف الصبا ... وأهدي السلام إلى ذي سلم
ومن طرب عاد نحو البراق ... أجهشت للبرق حين ابتسم
أما وزمان مضى عهده ... حميداً لقد جار لما حكم
قضى بالصبابة لما انقضى ... وما اتصل الود حتى انصرم
ليالي نامت عيون الوشاة ... عنا وعين الرضى لم تنم
ومالت علينا غصون الهوى ... فأجنت ثمار المنى من أمم
وأيامنا مذهبات البرود ... رقاق الحواشي صوافي الأدم
كأن أبا بكر المسلمي ... أجرى عليها فرند الكرم
ووشح زهرة ذاك الزمان ... بما حاز من زهر تلك الشيم
هو الحاجب المعتلي للعلا ... شماريخ كل منيف أشم
مليك إذا سابقته الملوك ... حوى الخصل أو ساهمته سهم
فأطولهم بالأيادي يداً ... وأثبتهم في المعالي قدم
وأروع لا مبتغي رفده ... يخيب ولا جاره يهتضم
ذلول الدماثة صعب الإباء ... ثقيف العزيم إذا ما اعتزم
سما للمجرة في أفقها ... فجر عليها ذيول الهمم
وناصت مساعيه زهر النجوم ... وبارت عطاياه وطف الديم
نهيك إذا جن ليل العجاج ... سرى منه في جنحه بدر تم(1/400)
فشام السيوف بهام الكماة ... وروى القنا في نحور البهم
جواد ذراه مطاف العفاة ... ويمناه ركن الندى المستلم
يهيج النزال به والسؤال ... ليثاً هصوراً وبحراً خضم
شهدنا لأوتي فصل الخطاب ... وخص بفضل النهى والحكم
وهل فات شيء من المكرمات ... جرى السيف يطلبه والقلم
ومستحمد بكريم الفعال ... عفواً إذا ما اللئيم استذم
شمائل تهجر عنها الشمول ... وتجفى لها مشجيات النغم
على الروض منها رواء يروق ... وفي المسك طيب أريجٍ يشم
أبوه الذي فل غرب الضلال ... ولاءم شعب الهدى فالتأم
ولاذ به الدين مستعصماً ... بذمة أبلج وافي الذمم
وجاهد في الله حق الجهاد ... من دان من دونه بالصنم
فلا سامي الطرف إلا أذل ... ولا شامخ الأنف إلا رغم
تقيل في العز من حميرٍ ... مقاول عزوا جميع الأمم
هم نعشوا الملك حتى استقل ... وهم ظلموا الخطب حتى اظلم
نجوم هدىً والمعالي بروج ... وأسد وغى والعوالي أجم
أبا بكر اسلم على الحادثات ... ولا زلت من ريبها في حرم
أناديك عن مقة عهدها ... كما وشت الروض أيدي الرهم
وإن يعدني عنك شحط النوى ... فحظي أخس ونفسي ظلم
وإني لأصفيك محض الهوى ... وأخفي لبعدك برح الألم
ومستشفع بي بشرته ... على ثقةٍ بالنجاح الأتم(1/401)
وغيرك أخفر عهد الذمام ... إذا حسن ظني عليه أذم
وقدماً أقلت مسيء العثار ... وأحسنت بالصفح عما اجترم
وعندي لشكرك نظم العقود ... تناسق فيها اللآلي التوم
تجد لفخرك برد الشباب ... إذا لبس الدهر برد الهرم
فعش معصماً بيفاع السعود ... ودم ناعماً في ظلال النعم
ولا يزل الدهر أيامه ... لكم حشم والليالي خدم هذا - أعز الله الحاجب - ما اقتضته القريحة من اقتضائها، وأجابتنا به البديهة عن استدعائها، والذهن عليل، والطبع كليل، والروية فاسدة، وسوق الأدب إلا عنده كاسدة. ولو أني أوتيت في النثر غزارة عمرو، وبراعة ابن سهل، وأمددت في النظم بطبع البحتري، وصناعة الطائي، لما رددت إلى الحاجب إلا ما أخذت منه، ولا أوردت عليه غير ما صدر عنه، ولما أنفذت ما أنفذت إلا بين أمل يبسط، وخجل يقبض، فرأيه موفقاً في أن يمنح ما بعث الأمل إسعافاً، وما أوجب الخجل إغضاء، ليأتي الإحسان من جهاته، ويسلك إلى الفضل طرقاته، ومراجعته لي عن كتابي بعهد كريم، يكون كحلاً لعين الرضى بوجنة القبول، أقف به من توالي النعم عليه، وانتظام الأحوال بالصلاح لديه، على ما تبتهج له نفسي، وينتظم معه عقد أنسي، يد عندي جناها شهد، وشذاها عنبر وورد، أرفلها الشكر الجزيل، وأتبعها الثناء الجميل، إن شاء الله. وليبلغ مني سلاماً يهدي إليه نفسه، وتحيةٍ آخرها عندي وأولها عنده.(1/402)
وكتب من قرطبة إلى ابن مسلمة بإشبيلية قبل تحوله إليها:
يا سيدي، وأرفع عددي، وأول الذخائر في عددي، وأخطر علق ملأت من اقتنائه يدي، ومن أبقاه الله في عيشة باردةٍ الظلال، ونعمة سابغة الأذيال، قد تقاصر الثناء عليك، وتوالى الحديث الحسن عنك، حتى حللت محل الأمانة، وكنت موضع تقليد الوطر، وإثبات الطوية، والله يمتعك بما حازه لك من الخير، ووفره عليك من طيب الذكر.
في علمك - أعزك الله - ما تقتضيه العطلة من إظلام الخاطر، وصدأ النفس، ويجنيه طول المقام من إخلاق الديباجة، وإرخاص القدر. وقد آن أن أجتني ثمرةً من آداب أطلت الاعتناء بها، وأخلاق أدمت رياضة الأنفس عليها. ولما مخضت الملوك، وجدت عميدهم الذي أنسى السالف قبله، وتقدم الراهن معه، وأتعب الغابر بعده، الحاجب فخر الدولة مولاي، ومن أطال الله بقاءه، وكبت أعداءه، لما خصه الله به من سناء الهمم، وسماحة الشيم، وانتظام أسباب الرياسة، وكمال آلات السياسة، واجتماع المناقب التي أفردته من النظراء، وأعلته عن مراتب الأكفاء، فرأيت قبل أن أحمل لغيره نعمة، أو أوسم ممن سواه بصنيعة، أن أعرض نفسي مملوكة عليه، عرض من لا يؤهلها(1/403)
لإجازته إلا بالاستجارة، ولا يطمع لها في قبوله إلا مع المسامحة، فلو كنت الوليد بن عبيد براعة نظم، وجعفر بن يحيى بلاغة نثر، وإبراهيم بن المهدي طيب مجالسة، وإمتاع مشاهدة، ثم حضرت بساطه العالي، لما كنت مع سعة إحاطته إلا في جانب التقصير، وتحت عهدة النقصان، غير أنه لم يعدم مني نجابة غرس اليد، وإصابة طريق المصنع، من ولاية أخلصها، ونصيحة أمحضها، وشكر أجنيه الغض من زهراته، وثناء أهدي إليه العطر من نفحاته، ففوضت إليك هذه السفارة، واعتمدتك بتكليف النيابة، لوجوه: منها حظوتك لديه، ومواتك إليه، سوغك الله الموهبة في ذلك، وأنهضك بأعباء الشكر لها، ومنها سرو مذهبك، وكرم سجيتك، وصحة مشاركتك، لمن لم يستوجبها استيجابي، ولا استدعاها بمثل أسبابي، من تداني الجدار، وتصافي السلف، والانتماء إلى أسرة الأدب. فإن وافقت السانحة الإرادة، فحظ أقبل، وعبد بلغ من قبول سيده ما أمل، ولم أقل: " عمرك الله " كما قيل في النجمين، بل قلت: " وقد يجمع الله الشتيتين "، وإن عاق حرمان عادته أن يعوق عن الظفر ويعترض دون الأمل، فأعلمه - أيده الله - أني في حالي العطلة مع غيره والتصرف، ويومي الإيطان والتوف، كالمهتدي بالنجم حين عدم ذكاء، ومتيمم الصعيد إذ لم يجد الماء:
فإن أغش قوماً غيره أو أزرهم ... فكالوحش يدنيه من الأنس المحل(1/404)
والله يتولاه بالفسحة في عمره، والإعلام لأمره، ويصرف الأقدار مع إيثاره، ويصرف وجوه التوفيق إلى اختياره.
ولك يا سيدي في انتدابك لما ندبتك له، ما للساعي المنجح من الشكر، وللمجتهد البالغ من العذر، وملاك الأمر تقديم المراجعة بالإيجاب فأسكن إليها، والجواب فأعتمد عليه، وأهدي إليك ندي الغض الناضر من سلامي، والأرج العاطر من تحيتي.
وكتب إثر ذلك إلى المعتضد رقعةً يقول فيها:
أطال الله بقاء الحاجب فخر الدولة مولاي وسيدي، ومولى المناقب الجليلة، والضرائب النفيسة، في أكمل ما تكفل له به من علو القدر، ونفاذ الأمر، وخصه من النعم بأسبغها سربالاً، وأبردها ظلالاً، وأحمدها مآلاً.
كنت - أعز الله الحاجب مولاي - قد كتبت إلى الوزير أبي عامر عبده بما أيقنت أنه انتهى إليه، واشتمل عليه، فكتب الوزير إلى بعض أسبابه بما يقوم مقام المراجعة لي بما يرتفع عن قدري، ولا تتسع له ساحة شكري، لعلمي أنه عن الحاجب - أيده الله - صدر، وبإذنه نفذ، والذي عداني عن أن يكون الكتاب في ذلك إلى الحاجب - أبقاه الله - التأدب بآداب حصفاء العبيد في الإجلال والإعظام، وترك التبسط والإقدام، وقلما استغنت أوائل مطالب الأتباع بحضرة الملوك من وسائط تمهد لها، وتعتمد(1/405)
أوقات الإمكان بها، لا أني اتخذت إلى الحاجب - أدام الله علوه - إلى استطلاع ما قبله شك في كرمه، ولا سوء ظن بسماحة شيمه، بل لزوم الطريقة في التوطئة للمطلب، والتدرج إلى إحراز الأرب، وحسبي أن أملي قد ارتاد الجناب الرحب، والمشرب العذب، ولعل الحظوظ ستكشف، والنوائب ستصرف، إلى أن أبلغ إلى أبعد غايات الأمل من مشاهدة حضرته العلياء، والنظر إلى غرته الزهراء، فوالله ما ينصرف فكري، ولا ينصرم حين من عمري، إلا في الذكر له والشوق إليه، وتصور المثول بين يديه، وأنا أقدم الاعتذار من مهابة تستملك جنابي، وحصر يكاد يقطع في أول المشافهة لساني، فإن حدث فعذري عذر الفضل بن سهل، وقد انقطع بين يدي الرشيد فقال له: يا أمير المؤمنين، من فراهة العبد أن تملك قلبه مهابة سيده.
وسيفضي ذلك بمشيئة الله إلى ما يستجيزه الحاجب مولاي من إمتاع ويقبله من شاهد، ويشتطرفه من أدب، ويستلطفه من إجمال طلب، وجمال مذهب، كما أني أعلم أني سأصل إلى ما لم أعهد مثله من بهاء منظر، وسناء مخبر، ورفعة شان، وعظم سلطان، ولعل السعادة تهيء لي من الحظ ما أثبت به ما ادعيته لنفسي من هذه الصفات، وأنجز معه ما قدمت عنها من هذه العدات، فحول الله في ذلك كفيل، وهو حسبي ونعم(1/406)
الوكيل. زاد الله الحاجب مولاي من سني قسمه، وهني نعمه، وبلغه النهاية من آماله، وصرف بعزته غير الزمان عن كماله.
وكتب إليه بعد أن صدر عن حضرته إلى قرطبة رقعةً يقول فيها:
أطال الله بقاء مولاي للنعم يطوقها،، والمنن يقلدها، والأحرار يستعبدها. يعلم الذي أسأله إعزاز مولاي، وإعلاء أمره، وصلة تأييده، وتمكين نصره، أني لم أزل منذ فارقت حضرته الجليلة، حضرة المجد والسيادة، ومحل الإقبال والسعادة، لهج اللسان بما أجناني من ثمار الحكمة والنعمة، وأفادني من عقد الأدب والنشب، فمن كبد حاسد تصدعت، وأنفاس منافس تقطعت، وناعم البال كسفت باله، ومتمن لحالي طالما تمنيت حاله، وقل لمن نال أدنى مكانة منه، ورقي أول درجة من الخصوص به، أن تحسده الكواكب في إشرافها، وتنحشد إليه الأماني من أطرافها، والله يبقيه لعبيده الذين أنا آخرهم في الخدمة، وأولهم في شكر النعمة، ويرفع من هممهم ما انخفض، ويبسط من آمالهم ما انقبض، ولا يعدمهم التقلب في نعمه، والاعتلاق بأسباب ذممه، بمجده وكرمه.
وكانت من مولاي - أعزه الله - إشارة بل عبارة أعددتها طليعة لسعود ستتوافى طلقاً، ومقدمةً لمسرات ستتوالى سبقاً؛ فلما لحق الجسم بعد تركه النفس لديه، والبراءة منه إليه، بالوطن الذي(1/407)
أسلاني عنه، وأسنى لي العوض منه، تأتيت من طاعته المقترنة بطاعة الله في نفسي مملوكته، حاولته، ولا عداني تيسر أمر تناولته، ولم تبق علة تسوغ باعتراضها الاعتذار، إلا ما يتراخى ريثما يعاود أمره، ويتجدد في الحركة إذنه، ولم أستأذن لأن الأذن بعد عهد،. فلمولاي الطول في أمر الواسطة عبده بمراجعة أعتمد عليها، وأجتهد في الانتهاء إليها، والله يبلغني الأمل من وقفة بحضرته ونظرة إلى غرته، وتقبيل لراحته، وتصرف في ساحته، فهو المالك لذلك، والقادر عليه.
وله من رسالة حذف أبو الحسن رحمه الله هنا أكثرها، ولم يذكر منها إلا قطرة من وابل، أو نفثة من سحر بابل، وها أنا مثبتها على تواليها إشادة بحسن معانيها، واستفادة من سني آدابه فيها، وهي:
يا سيدي الذي كنت أراه أعد عددي لأبدي، وأحصن جنني من زمني، ومن أبقاه الله في أصلح الأحوال، وأفسح الآمال؛ أبدأ من كتابي إليك، بشرح الضرورة الحافزة إلى ما صنعت، مما بلغني أنك صدر اللائمين لي عليه، وأول المسفهين لرأيي فيه، ومن أمثالهم: ويل للشجي من الخلي، وهان على الأملس ما لاقى الدبر، وأوسطة بمعاتبتك على ما كان من انفصالك عني، وبراءتك أمد المحنة مني، وأنك لم تكن في ورد ولا صدر من مشاركتي فيها، ولا كانت لك ناقة ولا جمل في مظاهرتك لي(1/408)
عليها، مع القدرة بك على تهوين خطبها، وتذليل صعبها، وتليين شديدها، وتقريب بعيدها:
فأرى صدقك الحديث وماذا ... ك لبخلي عليك بالإغضاء
أنت عيني وليس من حق عيني ... غض أجفانها على الأقذاء وإنما يعاتب الأديم ذو البشرة، والمثل السائر: " ويبقى الود ما بقي العتاب " وقال الأول:
أبلغ أبا مسمعٍ عني مغلغلةً ... وفي العتاب حياة بين أقوام وأختمه بتكليفك ما كان سبب الكتاب، والداعي إلى الخطاب، عساك أن تتلاقى عوداً ما ضيعت بدءاً، وتهتبل آخراً ما أغفلت أولاً، فيعود غيثه على ما أفسد، وإن كنت في ذلك كدابغة وقد حلم الأديم، فمنفعة الغوث قبل العطب:
وخير الأمر ما استقلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعا في علمك أني سجنت مغالبة بالهوى، وهو أخو العمى، وقد نهى الله تعالى عن اتباعه، وذكر أنه مضل عن سبيله، إذ يقول: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} (ص: 26) . وقال الشاعر:
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال دون تأن تدرك بعض الحاجة به، أو استثبات تؤمن مواقعة الزلل معه، بل(1/409)
أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا تورد يا سعد الإبل وشهد ابن العطار العشار العاري من الثقة والأمانة، البعيد من الرعية والصيانة الناشر لأذنيه طمعاً، الآكل بيديه جشعاً، فكان القول ما قالت حذام. ولم يقتصر على أن ألحق بالشهود وهو واو عمرو فيهم، ونون الجمع المضاف معهم، دون أن يلحق بخزيمة ذا الشهادتين، وينوب منفرداً عن اثنين،
وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد وليتني مع من لا يحل قوله علي، أعذر في شهادته إليّ، ولم يقترن الحشف مع سوء الكيلة، وتستضف لي الغدة إلى الموت في بيت سلولية. خطتا خسف لم أر النجاء منهما إلا أن ركبت الحولي الأشهب، ورأيت خراسان مكان السوق أو هي أقرب. وكان المتولي سجني بعد شهر من إنفاذه، له مجلس حضره فقهاء الحضرة، ومن أعلم بسيماهم، وجرى في غشيان الحكام مجراهم، فذكر له أنه اتهمني بالمغيب على عهد المتوفى مولاي - كان - نقع الله صداه وبل ثراه - وثبت عنده مع ذلك أني ممن تعلقه التهم، ولا ترتفع عنه الظنن، فكلهم أفتى بالإعذار إليّ، فيما شهد به عن ذلك علي، ثم سجني(1/410)
إن لم آت بمدفع، أو أصدع من الحجة بمقنع؛ فاحتاط واجتهد، وتحرى واقتصد، وصالحني من هذه الفتيا على النصف، بتأخير الإعذار، وتقديم السجن، والصلح جائز بين المسلمين؛ ثم أظهرت إليه عقداً كان المتوفي - قدس الله روحه ونور ضريحه - قد أشهد فيه أن لا مال له، وأن جميع ما تحيط به الدار التي توفي بعيد هذا الإشهاد فيها إنما هو للغانية التي في عصمته حاشا دقائق بينها، ومحقرات عينها، ومعلوم أن من أشهد بهذا على نفسه، وتقيد إلى مثله من لفظه، فمحال أن يخلف عهداً، أو يهلك عن وصية. وسألته الشورى فيما أثبته من هذا العقد، فلم يجبني إلى ذلك. ولو لم تكن الشورى من أدب الله إذ يقول: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله} (آل عمران: 159) لوجب أن يعلم أنها لقاح العقل، ورائد الصواب، وأن للمشاور إحدى الحسنيين: صواباً يفوز بمحمدته، أو خطأ يشارك في مذمته، قال الشاعر:
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي عدة للقوادم قد قرعت له العصا، ونبه على الذي دعوته إليه، لا يسوغ لي دفعه عنه، ولا يجوز منعي منه، فحينئذ عللني بمواعيد
كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً ... إذا قطعن علماً بدا علم ... وكان آخرها الذي نسخ به ما قبله أن تدرج الشورى إلى إبقاء الشورى للورثة، فشويت أرقب هذا الحين وأرجو أن يحين،
كما يرجو أخو السنة الربيعا ... كما في بطون الحاملات رجاء ...
فكانت وإياه سحابة ممحلٍ ... رجاها فلما جاوزته استهلت(1/411)
وفي فصل منها:
ولم أقص عليك يا سيدي مما اجتلبته إلا ما شهر شهرة الاسم، وعرف معرفة النسب، و " ما يوم حليمة بسر ". وكنت أول حبسي قد وضعت من السجن في موضع جرت العادة بوضع مستوري الناس وذوي الهيئات منهم فيه، وفي الشر خيار، وبعضه أهون من بعض. فمنيت من مطالبة بعض من يأتمر الناظرون في السجن له ويسمعون منه. بما اقتضى نقلي إلى حيث الجناة المفسدون، واللصوص المقيدون. وشكوت ذلك إلى الحاكم الحابس لي في اليوم الذي مضى ذكره بمشهد من تقدم وصفه، فانتفى من الرضى به، وأظهر الامتعاض منه، وتقدم إلى الموكل بالسجن في اختيار مجلس أباين فيه من لا تليق بي ملابسته، وأنتبد عمن لا ترضى لي مجالسته. ثم لم لبث أن أحضره مجلس نظره، وأمر بتأديبه على امتثاله في ما أمره به، وانتهائه إلى ما حد له، وأستأنف العهد في التضييق علي، ومنع من اعتاد صلتي من الوصول إليّ، فأصعدت إلى غرفة في السجن اقنعني بها مع خساستها، وأسلاني عن المصيبة بالكون فيها على مضاضتها، انفرادي من لفيف الأخلاط، ومن ضمه السجن من السلفة والسقاط، فحين استوائي إليها عهد بخطي إليهم وخلطي بهم ووضعني بينهم، فنقلت في نفسي ثلاث نقل على أقبح النصب، وأسوأ الرتب. ودخل إليّ. في هذه الحال من أبلغني عن ابن أخي الحكم رسالة جامعة من السب الفاحش لفنون، مشتملة من الوعيد المرهب على ضروب، فلو ذات سوارٍ لطمتني!!
وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب فلم أستطع صبراً، وعلمت أني قد أبليت عذراً، ولم يتق إلا أن يعذرني لبيد وكاد ورأيت أن العاجز من لا يستبد، فالمرء يعجز لا المحالة، ولم أستجز أن أكون ثالث الأذلين: العير والوتد. وذكرت أن الفرار من الظلم والهرب مما لا يطاق من سنن المرسلين، قال الله عز وجل على لسان موسى عليه السلام {ففررت منكم لما خفتكم} (الشعراء:(1/412)
لا عار ولا في الفرار فقد ... فر نبي الهدى إلى الغار ونظرت في مفارقة الوطن، والبين عن الأحبة، فتبين لي أن إيحاش نفسي، بإيناس أهلي، وقطعها في صلة وطني، غبن في الرأي، وخور في العزم، ووجدت الحر ينام على الثكل، ولا ينام على الذل، وأذنت إلى قولهم: ليس بينك وبين البلاد نسب فخيرها ما حملك.
وإذا نبابك مبزل فتحول ...
وقال بعض المحدثين:
أرى الناس أحدوثةً ... فكوني حديثاً حسن
كأن لم يزل ما أتى ... وما قد قضى لم يكن
إذا وطن رابني ... فكل مكان وطن ولم أستغرب أن أسام مثل هذا الخسف في مسقط رأسي، ومعق تمائمي، وأول أرض مس ترابها جلدي، فقديماً ضاع المرء الفاضل في وطنه، وكسد العلق الغبيط في معدته؛ قال بعضهم:
أضيع في معشري وكم بلد ... يعد عود الكباء من حطبه فاستخرت الله عز وجل، واضح العذر، ثابت قدم الحجة، عند من غض عين الهوى، وخزن لسان التعسف. والله يصيب غرض الصواب برأيي، ويقرب غاية النجاح على سعيي، حسبما في علمه أني مظلوم مبغي عليه، منسوب ما لم آته إليّ، فهو المؤمل بذلك والمرجو له.
ولعمرك يا سيدي إن ساحة العذر لتضيق، وما تكاد تتسع لك في إسلامك لتلميذك وابن جارك وشيخك الذي لم تزل متوفراً عليه، آخذاً عنه، مقتبساً منه، مع إكثارك من ذكر هذا، والاعتداد به، وادعاء الحفظ له. وقد رويت أن حسن العهد(1/413)
من الإيمان، وسمعت المثل: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فالمرء كثير بأخيه، وألا أقل من استعمال الجد، واستغراق الجهد:
فمبلغ نفس عذرها مثل منجح ... ولا لوم في أمري إذا بلغ العذر ... ولكن من لك بأخيك كله - وأين الشريك في المر أينا وبعد ما مر بي فالقضاء غالب، وما حم واقع، ولا حذر من قدر، وقد سبق السيف العذل، وتقدم من فعلي ما جف به القلم، وأنا الآن بحيث أمنت بعض الأمن، إلا أن رزاً من وعيد سقط إليّ بأن السعي لم يرتفع، وأن مادة البغي لم تنقطع، وأن البصيرة مستحكمة في استرجاعي من الأفق الذي أحل به، والجناب الذي أحط فيه. وأكد ذلك في ظني ما كان أشار إليه بعض من كنت آوي إلى الثقة بعهده، وأبني على الوثاقة من عقده، من الفقهاء الموسومين بالأثرة عند الحكم المذكور، والمكانة منه؛ وقد عاتبته على تأخيره عن مظافرتي، وتقصيره في مؤازرتي، فاعتذر بأن ذلك لا سبيل إليه، ولا منفذ للحيلة فيه، إذ المحرض علي لا تتأتى معارضته، ولا يتهيأ الاستبداد عليه، وأنه وصفني بالبذاء، وعابني بالتسلط على الأعراض، ووالله ما استجزت هذا بعد أن هتك من ستري ما هتك، وانتهك من حرماتي ما انتهك، إذ كنت أقول معذوراً، وأنفث مصدوراً، فكيف قبل ذلك إذ لم يحدث سبب، ولا عرض موجب -
وما لي وهذا المجتنى ثم ماليا ... و {ستكتب شهادتهم ويسئلون} (الزخرف: 19) وليست هذه ببكر من النمائم التي دخل بها بين العصا ولحائها:
وإني رأيت غواة الرجال ... لا يتركون أديماً صحيحا(1/414)
ومن يأذن إلى الواشين تسلق ... مسامعه بألسنة حداد ويا سيدي:
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري ووالله توعمته أني أوتى ممن زعم أني أتيت منه، مع اتصالي به وانقطاعي إليه، واتسامي بالتأمل له والتعويل عليه،
إن المعارف في أهل النهى ذمم ... ولكن:
إذا كان غير الله للمرء عدة ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد لقد كان من محاسن الشيم، وشروط المروءة والكرم، أن يهب لي ما أنكر لما عرف، ويغفر ما أسخط لما أرضى، ويدفع بالتي هي أحسن، ويؤثر الذي هو أجمل وأرفق، ويتوقف عند ما نص عليه من سعاية، وزف إليه من وشاية؛ فإن كان باطلاً ألغاه، وفضح المخبر المتقرب به وأقصاه، وإن كان حقاً صبر صبر الحليم، وأغضى إغضاء الكريم وقبل إنابة المعتب، واقتص في مؤاخذة المنب، فقدم التوقيف قبل التثقيف، والتأنيب قبل التأديب،
فإن الرفق بالجاني عتاب ... والحر يلحى والعصا للعبد ...
ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب - وهو يرى ويسمع أن بالحضرة قوماً لا يحصرهم العد، تحتمل سقطاتهم، وتغتفر هفواتهم، وتقال عثراتهم:(1/415)
وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا وما أعلم أنهم يدلون بوسيلة لا أشاركهم فيها، ولا يمتون بذريعة ينفردون دوني بها
هو الجد حتى تفضل العين أختها ... وحتى يكون اليوم لليوم سيدا فإن كانت مسامحتهم لسابقة سلفت فقد أحرزت منها الحظ الأعلى، أو لكمال أدب فقد ضربت فيه بالقدح المعلى، أو للطف تودد فما قصرت في الاجتهاد، غير أني حرمت التوفيق
والأمر لله، رب مجتهدٍ ... ما خاب إلا لأنه جاهد
فإن كان ذنبي أن أحسن مطلبي ... أساء ففي سوء القضاء لي العذر والله لقد أظهرت مدحه، وأضمرت نصحه، وتممت على الصياغة له، وجريت ملء العنان إلى الاعتلاق به، أسقيه السائغ من مياه ودي، وأكسوه السابغ من برود حمدي، وأجنيه الغض من ثمرات شكري، وأهدي إليه العطر من نفحات ذكري، لا يفيدني التحبب إليه إلا ضياعاً لديه، ولا يزيدني التقرب منه إلا بعداً عنه:
كأني أستدني به ابن حنيةٍ ... إذا النزع أدناه من الصدر أبعدا والذي أحبه منك، وأثق في المسارعة إليه بك، لقاؤه مجارياً ذكري، مفاوضاً في أمري، معلماً له بما لا يذهب عنه من أن الذي اخترته لنفسي غاية ما يسيء القرونة، ويساء المولى منه، فالجلاء أخ القتل، والغربة أحد السبائين، قال الله تعالى: {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم} (النساء: 66) ، وقال الشاعر:
ومن يغترب عن داره لا يرى ... مصارع مظلوم مجراً ومسحبا(1/416)
وتدفن منه الصالحات وإن يسئ ... يكن ما أساء النار في رأس كبكبا وقد هجرت الأرض التي هي ظئري، والدار التي كانت مهدي، وغبت عن أمٍ أنا واحدها، تمتد أنفاسها شوقاً إليّ،، والله يرى بكاءها، ويسمع لي على من ظلمني نداءها، فالاستجابة مضمونة للمخلص والمظلوم؛ وقد حملت السمتين، واستوجبت الصفتين، ولتكن بغيتك التي تدخرها عليها كلمة تأمن، وإشارة إلى تأنيس وتسكين، تراجعني بها فأظهر بحيث أنا آمناً، وألقي العصا مطمئناً، فإن وجدت محز الشفرة فالعوان لا تعلم الخمرة فإن أشبهت الليلة البارحة، أعلمتني بذلك، فطلبت الأمن في مظانه، وتقريت السلامة في مواطنها، وصبرت حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين. {كل يوم هو في شان} (الرحمن: 29) ، ومع اليوم غد:
ولكل حالٍ معقب ولربما ... أجلى لك المكروه عما تحمد ولك يا سيدي في انتدابك لما اندبتك إليه الفضل، والأيادي قروض، والصنائع ودائع، " لا يذهب العرف بين الله والناس "، والتحية الطيبة والسلام المردد على سيدي.
@ومما يتعلق بذكر وفاة ذي الوزارتين، رحمة الله عليه
فصل من تاريخ الشيخ أبي مروان ابن حيان، رأيت إثباته لنبل مساقه، وحسن اتساقه، يقول فيه:(1/417)
وفي يوم الاثنين لثلاث عشرةً ليلةً خلت من ذي الحجة سنة اثنتين وستين وأربعمائة، سار الحاجب سراج الدولة عباد بن محمد إلى إشبيلية - الحضرة الأثيرة - لمطالعتها وتأنيس أهلها من وحشةٍ خامرت عامتهم، من أجل عدوان رجلٍ منهم على يهودي جاء لامرجة السوق عندهم، ماراه في بعض الأمر، فزعم أنه سب الشريعة، فبطش به المسلم وسط السوق وجرحه وحرك عليه العامة، فقبض عليه صاحب المدينة عبد الله بن سلام واعتقله، فكان لعامة الناس في إنكار حبسه كلام وإكثار خشي وباله، فخاطب السلطان بقرطبة ما كان منه ويستأمر في شأنه، فعجل إنفاذ ولده الحاجب سراج الدولة إلى إشبيلية في جيش كثيف من نخبة علمائه ووجوه رجاله، لمشارقة القصة، والاحتياط على العامة، فغدوا معه وسط هذا اليوم، وأنفذ معه ذا الوزارتين أبا الوليد ابن زيدون أحد الثلاثة كابري وزرائه المثناة وزارتهم، عمد دولته، النفوذ مع الحاجب على بقية وعكٍ كان متألماً منه، ولم يعذره في التوقف من أجله. فمضى لطيته مسوقاً إلى منيته، وخلف ولده أبا بكر الفذ الوزارة، المرتسم بالكتابة وراءه، ساداً مكانه بالحضرة، فأقر فيها أياماً، ثم أمر بالمسير وراء والده لأمر كلفه، أعجل بالانطلاق له؛ فمضى بعينه غداة يوم السبت لثمان خلون من المحرم سنة ثلاث وستين بعدها. فخلت منهم منازلهم وصيرت إلى سواهم، فتحدث الناس بنبو مكان الأديب ابن زيدون لدى السلطان، وأن استساكه بعلى مرتبته، بعد مختصه المعتضد بالله، كان من المعتمد على الله رعايةً لخصوصية ابنه(1/418)
به، يغص باستمرارها ثقتاه المختصان به، الحظيان لديه، المستهمان لخاصته: ابن مرتين وابن عمار، إلى أن عملا في إبعاده وإبعاد ابنه الرقيب بعده، فأمضي خلفه، فعندها استساغا غصته، واستهما مكانه، واحتويا على خاصة السلطان وتدبير دولته؛ ولكل دولة رجال، ولكل مكتف أبدال.
ولم يطل الأمد بابن زيدون - رحمه الله - بعد لحاق ابنه به، ووجدانه إياه متزايداً في مرضه، نازحاً عن ألافه، على جهده في استدعائها على انتهاء المدة، وانتهاك القوة؛ فاستقر به وجعه إلى أن قضى نحبه، وهلك بدار هجرته إشبيلية صدر رجب سنة ثلاث وستين، فدفن بها مشهوداً مفتقداً، واحتوى تربها عليه، فيا بعد ما بين قبره وقبر ابنه لدينا، رحمة الله عليهما؛ فقد تولى من أبي الوليد كهل لن يخلف الدهر مثله جمالاً وبياناً وبراعة ولساناً وظرفاً، وحلولاً من مراتب البلاغة - نظماً ونثراً - بمرقبةٍ لم يخلف لها بعده عاطياً، بقرانه بين الكلامين، وبراعته في الفنين، إلا أن يكون عند أولي التحقيق والتحصيل في النظم أمد طلقاً، وأحث عنقاص، فلا يلحقه فيه تقصير ولا يخشى رهقاً، أشهاده في الفنين عدول مقانع حضور عند أهل المعرفة.
لقد اتصل خبر هلكه بعشيرته أهل قرطبة فتناعوه، وسيئوا لفقده، وحزنوا عليه، إذ كان منهم، متعصباً لهم، هاوياً إليهم، حدباً عليهم، وليجة خير بينهم وبين سلطانهم الحديث الولاية، فصار مصابه لديهم كفاء ما اجتث فيه من تأميلهم، والبقاء لمن تفرد به وحده، لا رب غيره.
ولا جرم أن عزى الله إخوانه عنه بامتداد بقاء فتاه الندب أبي بكر ولده، ساداً ثلمه، سامياً مسماه، غائظاً عداه، عاطياً منتهاه، بأنواط صدق، يجذبن إلى العلاء بضبعه، من شماخة ودماثة وحصافة ونزاهة ومعرفة، ووفور حظ من أدب بلاغة وكتابة، وشركة في التعاليم المعلية، واشتداد(1/419)
في رعاية متقادم الذمة، لم يفقد إخوان أبيه معها إلا عينه: خلال حركن حاله عما قليل بعد أبيه عند سلطانه قسطاس السياسة، فاستبصر في إحضاره، وأدناه من اجتبائه، ورقاه في مراتب والده، منقلاً له في درجاتها، راضياً بلاءه فيما ناط به منها، حتى فرع ذروتها عما قليل، فأحظاه بالوزارة ووزره بحضرته الأثيرة إشبيلية، وجمع له أعاظم خططها العلية، معاطن التنافس من قوام المملكة: خطة ولاية المدينة مجموعة إلى خطة ولاية السكة - بكل استقل، وعلى كل استظهر، فكفى وعدل، فاغتبط به السلطان، وواتاه الزمان، والله يؤتي فضله من يشاء، له الفضل والامتنان.
وفي فصل: وكان أبو الوليد ممن أنشأته دولة الجهاورة، واصطفته الفرس للأساورة؛ اختص بأبي الوليد اختصاص القرح بالنور، وارتبط بهم ارتباط الإفاضة بالفور. وأبو الحزم ابن جهور إذ ذاك رأس الجماعة، وأصل تلك الإمرة المطاعة، من رجل أدهى من فقيد عمان، وأجرأ من ليث خفان، وأدهى من عمرو بن الجعان.(1/420)
ومان ابن زيدون متصلاً بابنه أبي الوليد أطول حقبة، اتصال أبي زبيد بالوليد بن عقبة " وبينهما تألف أحرما بكعبته وطافا، وسقياه من تصافيهما نطاقا، وابن زيدون يعتد ذلك حساماً مسلولاً، ويرى أنه يرد به صعب الخطوب ذلولاً، إلى أن طلب عند ابيه أبي الحزم وتوسل، فاستدفع به تلك الأسنة المشرعة والأسل، فما ثنى إليه عنان عطفه، ولا كف عنه سنان صرفه " مع استعطافه له بكل مقال يحل سخائم الأحقاد، واستلطفه إياه بما يرد الصعب سلس القياد؛ فمن بديع ذلك وأحسنه قوله:
إيه أبا الحزم اهتبل غرةً ... ألسنة الشكر عليها فصاح
لا طار لي حظ إلى غاية ... إن لم أكن منك مريش الجناح
عتباك بعد العتب أمنية ... مالي على الدهر سواها اقتراح
لم يثنني عن أمل ما جرى ... قد يرقع الخرق وتوسى الجراح
فاشحذ بحسن الرأي عزمي يرع ... منه العدا بكل شاكي السلاح
واشفع فللشافع نعمى بما ... تمر من عقد وثيق النواح
إن سحاب الأفق منها الحيا ... والحمد في تأليفها للرياح وكان القاضي أبو بكر ابن ذكوان، أجل من اشتمل عليه أوان، مجداً وشرفاً، وتفننا في العلم وتصرفاً، مع دعابة حين خلواته تحل حبى المحتبي، ورقاعة عند نشواته كالتنوخي والمهلبي؛ فإذا أصبحوا بكر أبو بكر إلى مصادرة ما يتجه عليه الحكم ومواجهته، وأنكر ما كان عليه من فكاهته، فكأنما في برديه الأنام، وكأنه وقاراً يذبل أو شمام، مع عدله فيقضائه، وإنفاذ الحكم بمقتضى الحق وإمضائه. حتى إذا راح(1/421)
الرواح عادوا إلى القصف، وتجاوزوا في ميدانهم كل وصف. إلى أن اختلس أبو بكر منهما، وتقلص ذيل مؤانسته عنهما، فاعتاضا عنه بسواه، وأفاضا فيما كانا فيه وما تعدياه.
واتفق أن مر بقبره في لمة من أخوانه، وجماعة من عمار ميدانه، فعطفوا عليه مسلمين ووقفوا عليه متألمين، فقال أبو الوليد:
ما أقبح الدنيا خلاف مودع ... غنيت به في حسنها تختال
يا قبره العطر الثرى لا يبعدن ... حلو من الفتيان فيك حلال
ما أنت إلا الجفن أصبح طيه ... نصل عليه من الشباب صقال
يا من شأى الأمثال منه واحد ... ضربت به في السؤدد الأمثال
نقصت حياتك حين فضلك كامل ... هلا استضاف إلى الكمال كمال
زرناك لم تأذن كأنك غافل ... ما كان منك لواجب إغفال
أين الحفاوة روضها غض الجنى ... أين الطلاقة ماؤها سلسال
هيهات لا عهد كعهدك عائد ... إذ أنت في وجه الزمان جمال
فاذهب ذهاب البرء أعقبه الضنى ... والأمن وافت بعده الأوجال
حيا الحيا مثواك وامتدت على ... ضاحي ثراك من النعيم ظلال
وإذا النسيم اعتل فاعتامت به ... ساحاتك الغدوات والآصال
ولئن أذالك بعد طول صيانةٍ ... قدر فكل مصونة ستدال وله:
على دارة الشرقي مني تحية ... زكت وعلى وداي العقيق سلام
ولا زال روض بالرصافة ضاحك ... بأرجائها يبكي عليه غمام
معاهد لهو لم تزل في ظلالها ... تدار علينا للسرور مدام
زمان رياض العيش خضر نواعم ... ترف وأمواه النعيم جمام
فإن بان مني عهدها فبلوعةٍ ... يشب لها بين الضلوع ضرام(1/422)
ومن اجلها أدعو لقرطبة المنى ... بسقيا ضعيف الطل وهو رهام
فما لحقت تلك الليالي ملامة ... ولا ذم من ذاك الحبيب ذمام وله:
خليلي لا فطر يسر ولا أضحى ... فما حال من أمسى مشوقاً كما أضحى
لئن شاقني شرق العقاب فلم أزل ... أخص بمخصوص الهوى ذلك السفحا
وما انفك جوفي الرصافة مشعري ... دواعي بث تعقب الأسف البرحا
ويهتاج قصر الفارسي صبابة ... لقلبي لا تألو زناد الأسى قدحا
وليس ذميماً عهد مجلس ناصح ... فأقبل في فرط الولوع به نصحا
كأني لم أشهد لدى عين شهدةٍ ... نزال عتاب كان آخره الفتحا
وقائع جانيها التجني فإن مشى ... سفير خضوعٍ بيننا أكد الصلحا
وأيام وصل بالعقيق اقتضيتها ... فإن لا يكن ميعاده العيد فالفصحا
معاهد لذات وأوطان صبوةٍ ... أجلت المعلى في الأماني بها قدحا
ألا هل إلى الزهراء أوبة نازحٍ ... تقضت مبانيها مدامعه نزحاً!
مقاصر ملك أشرقت جنباتها ... فخلنا العشاء الجون أثناءها صبحا
محل ارتياح يذكر الخلد طيبه ... إذا عز أن يصدى الفتى فيه أو يضحى
هناك الجمام الزرق تندى حفافها ... ظلال عهدت الدهر فيها فتىً سمحا
تعوضت من شدو القيان خلالها ... صدى فلوات قد أطار الكرى ضبحا
ومن حملي الكأس المفدى مديرها ... تقحم أهوال حملت لها الرمحا وله يرثي:(1/423)
أعباد يا أوفى الملوك لقد عدا ... عليك زمان من سجيته الغدر
فهلا عداه أن علياك حليه ... وذكراك في أردان أيامه عطر
أأنفس نفس في الورى أقصد الردى ... وأخطر علق للهدى أفقد الدهر
فهل علم الشلو المقدس أنني ... مسوغ حال ضل في كنهها الفكر
وأن متاني لم يضعه محمد ... خليفتك العدل الرضا وابنك البر
وأرغم في بري أنوف عصابةٍ ... لقاؤهم جهم ومنظرهم شزر
إذا ما استوى في الدست عاقد حيوة ... وقام سماطاً حفله فلي الصدر ومما أغفل ابن بسام من نسيب أبي الوليد الصحيح الأقسام، النازح عن الأطماع والأوهام، المصدق قول الجعفرية فيما ينص من الإلهام، قوله:
لئن قهر اليأس فيك الأمل ... وحال تجنيك دون الحيل
وناجاك بالإفك في الحسود ... فأعطيته جهرة ما سأل
وراقك سحر العدا المفترى ... وغرك زورهم المفتعل
وأقبلتهم في وجه القبول ... وقابلهم بشرك المقتبل
فإن ذمام الهوى لن أزال ... أبقيه حفظاً كما لم أزل
فديتك إن تعجلي بالوفاءفقد يهب الريث بعض العجل ...
علام اطبتك دواعي القلى ... وفيم نهتك نواهي العذل
ألم أوثر الصبر كيما أخف ... ألم أكثر الهجر كيلا أمل
ألم أرض منك بغير الرضى ... وأبدي السرور بما لم أنل
ألم أغتفر موبقات الذنو ... ب عمداً أتيت بها أم زلل
وما ساء ظني في أن يسيء ... بي الفعل حسنك حتى فعل
على حين أصبحت حسب الضمير ... ولم تبغ منك الأماني بدل
وصانك مني وفي أبي ... لعلق العلاقة أن يبتذل
سعيت لتكدير عهد صفا ... وحاولت نقض وداد كمل(1/424)
فما عوفيت مقتي من أذى ... ولا أعفيت ثقتي من خجل
ومهما هززت إليك العتا ... ب ظاهرت بين ضروب العلل
كأنك ناظرت أهل الكلام ... وأوتيت فهماً بعلم الجدل
ولو شئت راجعت حر الفعال ... وعدت لتلك السجايا الأول
فلم يك حظي منك الأخس ... ولا عد سهمي فيك الأقل
عليك السلام سلام الوداع ... وداع هوىص مات قبل الأجل
وما باختياري تسليت عنك ... ولكنني مكره لا بطل
ولم يدر قلبي كيف النزوع ... إلى أن رأى سيرة فامتثل
وليت الذي قاد عفواً إليك ... أبي الهوى في عنان الغزل
يحيل عذوبة ذاك اللمى ... ويشفي من السقم تلك المقل وقوله أيضاً:
فديتك ليس لي قلب فأسلو ... ولا نفس فآنف إن حفيت
فإن يكن الهوى داء مميتاً ... لمن يهوى فإني مستميت
أسر عليك عتباً ليس يبقى ... وأضمر فيك غيظاً لا يبيت
وما ردي على الواشين إلا ... رضيت بحب قاتلي رضيت وقوله:
أنى أضيع عهدك ... أم كيف أخلف وعدك -
وقد رأتك الأماني ... رضىً فلم تتعدك
يا ليت ما لك عندي ... من الهوى ما لي عندك
وطال ليلك بعدي ... كطول ليلي بعدك
سلي حياتي أهبها ... فلست أملك ردك
الدهر عبدي لما ... أصبحت في الحب عبدك(1/425)
ولأبي بكر بن عمار يخاطب أبا الوليد ابن زيدون، رحمهما الله:
كيف اعتززت على الدليل ... وقطعت أسباب الوصول -
وقتلتني وزعمت أن ... الذنب منا للقتيل
وعليك جاهدت العدا ... وإليك ملت عن العذول
يا قاتلي ودمي بصف ... حة خده أهدى دليل
ما أليق الفعل الجمي ... ل بذلك الوجه الجميل
أبرزت في خلق الكري ... م وراءه خلق البخيل
ودعوتني حتى أجب ... تك ثم حدت عن السبيل
جد بالقليل فإن نف ... سي منك تقنع بالقليل
واذكر على زمن قطع ... ناه بصافية شمول
إذ نسحب الأذيال ما ... بين الخليج إلى النخيل
ونحل من سيف الغدي ... ر بقبة الظل الظليل
والروض ممطور تنم ... عليه أنفاس القبول
والشمس ترمقنا خلا ... ل الغيم عن طرف كليل
إبان يحدو الرعد من ... ورق السحائب كالحمول
ويهز كف البرق في ال ... آفاق مرهفة النصول
زمن ستبكيه الحما ... م معي وتذهل عن هديل
يا برق أد رسالتي ... تفديك نفسي من رسول
عرج بشلب محيياً ... ما شئت من تلك الطلول
والمع على شرفات حم ... ص قرارة الشرف الأثيل
فإذا اجتلاك أبو الولي ... د بناظر اليقظ النبيل
فاقرأه من قلبي سلا ... ماً يقتضي حسن القبول
يا غرة الزمن البهي ... م وعزة الأدب الذليل
ومحكم القلم القصي ... ر على شبا الرمح الطويل(1/426)
أعلمت أني خادم ... ذكراك بالشكر الجزيل
لم أستحل عما عهد ... ت مع الزمان المستحيل
أشفع عنايتك الجلي ... لة لي لدى الملك الجليل
ولئن أجبت لراغبٍ ... وأقلت عثرة مستقيل
فلكم أتيت بمثلها ... وهي الصنيعة في مثيلي
يا أنس بدر في الظلا ... م وبرد ظل في المقيل وله يتغزل في ولادة:
يا نازحاً وضمير القلب مثواه ... أنستك دنياك عبداً أنت مولاه
ألهتك عنه فكاهات تلذ بها ... فليس يجري ببال منك ذكراه
عل الليالي تبقيني إلى أجل ... الدهر يعلم والأيام معناه وله يتشوق إليها:
غريب بأقصى الشرق يشكر للصبا ... تحملها منه السلام إلى الغرب
وما ضر أنفاس الصبا في احتمالها ... سلام فتى يهديه جسم إلى قلب وله:
أيوحشني الزمان وأنت أنسي ... ويظلم لي النهار وأنت شمسي -
وأغرس في محبتك الأماني ... فأجني الموت من ثمرات غرسي -
لقد جازيت هجراً عن وفاء ... وبعت مودتي ظلماً ببخس
ولو أن الزمان أطاع حكمي ... فديتك من مكارهه بنفسي(1/427)
وله:
ولقد شكوتك الهوى ... ودعوت من حنق عليك فأمنا
منيت نفسي من هواك بضلة ... ولقد تغر المرء بارقة المنى " وله يتغزل، ويعاتب من يستعطف ويستنزل ":
يا مستخفاً بعاشقيه ... ومستغيثاً لناصحه
ومن أطاع الوشاة فينا ... حتى أطعنا السلو فيه
الحمد لله إذ أراني ... تكذيب ما كنت تدعيه وكتب عن المعتضد إلى صهره الموفق أبي الجيس بن مجاهد:
عرفت عرف الصبا إذ هب عاطره ... من أفق من أنا فيقلبي أشاطره
أراد تجديد ذكراه على شحط ... وما تيقن أني الدهر ذاكره
نأى المزار به والدار دانية ... يا حبذا الفأل لو صحت زواجره
خلي أبا الجيش هل يقضى اللقاء لنا ... فيشتفي منك قلب أنت هاجره(1/428)
@بعض خبر ولادة
قال ابن بسام: وأما ولادة التي ذكرها أبو الوليد بن زيدون في شعره فإنها بنت محمد بن عبد الرحمن الناصري. وكانت في نساء أهل زمانها، واحدة أقرانها، حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر. وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، إلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها؛ تخلط ذلك بعلو نصاب، وكرم أنساب، وطهارة أثواب. على أنها - سمح الله لها. وتغمد زللها - اطرحت التحصيل، وأوجدت إلى القول فيها السبيل، بقلة مبالاتها، ومجاهرتها بلذاتها. كتبت - زعموا - على أحد عاتقي ثوبها:
أنا والله أصلح للمعالي ... وأمشي مشيتي وأتيه تيها وكتبت على الآخر:(1/429)
وأمكن عاشقي من صحن خدي ... وأعطي قبلتي من يشتهيها هكذا وجدت هذا الخبر، وأبرأ إلى الله من عهدة ناقليه، وإلى الأدب من غلط النقل إن كان وقع فيه.
ولها مع أبي الوليد بن زيدون أخبار طوال وقصار، يفوت إحصاؤها ويشق استقصاؤها.
قال أبو الوليد: كنت في أيام الشباب، وغمرة التصاب، هائماً بغادة، تدعى ولادة، فلما قدر اللقاء، وساعد القضاء، كتبت إليّ:
ترقب إذا جن الظلام زيارتي ... فإني رأيت الليل أكتم للسر
وبي منك ما لو كان بالبدر ما بدا ... وبالليل ما أدجى وبالنجم لم يسر فلما طوى النهار كافوره، ونشر الليل عنبره، أقبلت بقد كالقضيب، وردف كالكثيب، وقد أطبقت نرجس المقل، على ورد الخجل، فملنا إلى روض مدبج، وظل سجسج، قد قامت رايات أشجاره، وفاضت سلاسل أنهاره، ودر الطل منثور، وجيب الراح مزرور، فلما شببنا نارها، وأدركت فينا ثارها، باح كل منا بحبه، وشكا أليم ما بقلبه، وبتنا بليلة أقحوان الثغور، ونقطف رمان الصدور. فلما انفصلت عنها صباحاً، أنشدتها ارتياحاً:(1/430)
ودع الصبر محب ودعك ... ذائع من سره ما استودعك
يقرع السن على أن لم يكن ... زاد في تلك الخطى إذ شيعك
يا أخا البدر سناء وسناً ... حفظ الله زماناً أطلعك
أن يطل بعدك ليلي فلكم ... بت أشكو قصر الليل معك قال أبو الوليد: وكانت عتبة قد غنتنا:
أحبتنا إني بلغت مؤملي ... وساعدني دهري وواصلني حبي
وجاء يهنيني البشير بقربه ... فأعطيته نفسي وزدت له قلبي فسألتها الإعادة، بغير أمر ولادة، فخبا منها برق التبسم، وبدا عارض التجهم، وعاتبت عتبة، فقلت:
وما ضربت عتبى لذنب أتت به ... ولكنما ولادة تشتهي ضربي
فقامت تجر الذيل عاثرة به ... وتمسح طل الدمع بالعنم الرطب فبتنا على العتاب، في غير اصطحاب، ودم المدام مسفوك، ومأخذ اللهو متروك. فلما قامت خطباء الأطيار، على منابر الأشجار، وأنفت من الاعتراف، وباكرت إلى الانصراف، وشت بمسك الأنقاس، على كافور الأطراس:
لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا ... لم تهو جاريتي ولم تتخير(1/431)
وتركت غصناً مثمراً بجماله ... وجنحت للغصن الذي لم يثمر
[ولقد علمت بأنني بدر السما ... ولكن دهيت لشقوتي بالمشتري] وأما ذكاء خاطرها، وحرارة نوادرها، فآية من آيات فاطرها: مرت بالوزير أبي عامر ابن عبدوس - المتقدم الذكر - وكان بقرطبة أحد أعيان المصر، وبعض من هذى باسمها، وتصرف على حكمها، وأمام داره بركة دائمة تتولد عن كثرة الأمطار، وربماً استمدت بشيء مما هنالك من الأقذار، وقد نشر أبو عامر كميه، ونظر في عطفيه، وحشر أعوانه إليه، فقالت له: أبا عامر:
أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدفقا فكلاكما بحر فتركته لا يحير حرفاً، ولا يرد طرفا.
وطال عمرها وعمر أبي عامر حتى أربيا على الثمانين، وهو لا يدع مواصلتها، ولا يغفل مراسلتها. وتحيف هذا الدهر المستطيل حال ولادة، فكان يحمل كلها، ويرقع ظلها، على جدب واديه، وجمود روائحه وغواديه، أثراً جميلاً أبقاه، وطلقاً من الظرف جرى إليه حتى استوفاه.
وكانت - زعموا - تقرض أبياتاً من الشعر، وقد قرأت أشياء منه في بعض التعاليق، أضربت عن ذكره، وطويته بأسره، لأن أكثره هجاء وليس له عندي إعادة ولا إبداء، ولا من كتابي أرض ولا سماء.(1/432)
ونشير هاهنا أيضاً إلى شيء من أخبار أبيها المستكفي مداً لأطناب الآداب، ووفاء بشرط الكتاب.
@التعريف بمحمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله الناصري
@والد ولادة
قال أبو حيان: بويع محمد بن عبد الرحمن الناصري، يوم قتل عبد الرحمن المستظهر يوم السبت لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع عشرة وأربعمائة، فتسمى بالمستكفي بالله، اسماً ذكر له فاختاره لنفسه، وحكم به سوء الاتفاق عليه، لمشاكلته لعبد الله المستكفي العباسي - أول من تسمى به - في أفنه ووهنه وتخلفه وضعفه، بل كان هذا زائداً عليه في ذلك، مقصراً عن خلال ملوكية كانت في المستكفي سميه، لم يحسنها محمد هذا لفرط تخلفه، على اشتباههما في سائر ذلك كله: من توثبهما في الفتنة، واستظهارهما بالفسقة، واعتداء كل واحد منهما على ابن عم ذي رحم ماسة، وتوسط كل واحد منهما في شأنه بامرأة خبيثة، فلذلك حسناء الشيرازية، ولهذا بنت سكرى المورورية فأصبحا في ذلك على فرط التنائي عبرة.
وقال صاحب كتاب نقط العروس: ومن العجب اتفاقهما في الأخلاق(1/433)
وفي العمر واللقب، وأن كل واحد منهما خلع عن الأمر، وكل واحد منهما تركه أبوه صغيراً.
قال أبو حيان: ولم يكن هذا المستكفي من هذا الأمر في ورد ولا صدر، إنما أرسله الله تعالى على أهل قرطبة محبة وبلية، إذ كان منذ عرف غفلاً عطلاً منقطعاً إلى البطالة، مجبولاً على الجهالة، عاطلاً من كل خلة تدل على فضيلة، عضته الفتنة فأملق حتى استجاز طلب الصدقة. رأيته أيام الخسف بأهل بيته في الدولة الحمودية، ولم يكن ممن لحقه الاعتقال لتحقير أمره، يقصد أهل الفلاحة أوان ضمهم لغلاتهم يسألهم من زكاتها تكليماً ومخاطبة.
وبالجملة في تلخيص التعريف بأمره أن أجمع أهل التحصيل أنه لم يجلس في الإمارة مدة تلك الفتنة أسقط منه ولا أنقض، إذ لم يزل معروفاً بالتخلف والركاكة، مشتهراً بالشرب والبطالة، سقيم السر والعلانية، أسير الشهوة، عاهر الخلوة، ضداً لقتيله عبد الرحمن المستظهر في اللب والمعرفة. وكان افتتح هذه السنة المؤرخة القاسم بن حمود بخلافته، واختتمها هذا المستكفي المذكور. وكان بينهما عبد الرحمن المستظهر القتيل، فتصرمت تلك السنة النكدة عن ثلاثة خلفاء، وهذا من غريب الأنباء، ولله البقاء السرمدي.
وقلد هذا المستكفي الأمر ولم يكن من أهله، فتلقى جميع الناس بالإيناس، واستمالهم بالأهوية، ورأى أن المال عزيز، فظن البشر الرخيص يقوم مقامه أو ينوب منابه، فكان يقول للناس أجمعين: ارتعوا(1/434)
كيف شئتم، وتسموا بما أحببتم من الخطط. فتسمى بالوزارة في أيامه مفردةً ومثناة أراذل الدائرة، وأخابث النظار، فضلاً عن زعانف الكتاب والخدمة. وأما الشرطة العليا وما دونها من رفيع المنازل فحملها كثير من التجار والعامة، وانثال الناس على ابتغاء هذه المنازل عند السلطان بالطماعية في كرة الدولة، فغشوا بابه، وعمروا فناءه، وتعللوا بالمنى. فلما استبانوا ضعفه رفضوا خططهم، وتبرأ كثير منهم منها، وأقسم أنه لم يتقلدها، ولا سيما عند تكرر التقسيط عليهم للغرامة عند إلحاح الإضاف، فجرت لبعضهم عند الانتفاء عن تلك الخطط نوادر ظريفة مضحكة؛ وانتهى هذا التنويه العام، بهذا الملك الهمام، إلى أن فضه أيضاً في طبقات أهل العلم، فأسهم منهم الفقهاء، فآثر العلية منهم المشاورين أصحاب الفتوى بالإرقاء إلى خطة الوزارة، خالطاً بهم فيها من ذكرناه من زعانف الخدمة، وكبار الدائرة النظار. وجاءوا في ذلك بطامة لم تسمع في الأعصر الخالية، فأخطأوا وألحقوا بالدين وصمةً، وطلبوا زيادة المعتلي على العامة، ففتنوا بهذه الخطة، وشدوا أيديهم عليها، وهجروا من حطهم في الخطاب عنها، معرضين بما يعاب من ذلك، إلى أن مضوا بسبيلهم. وارتقى المستكفي أيضاً بكثير ممن يحمل المحابر، ويدرس مسائل الدفاتر، من أصاغر الطبقة الفقهية، إلى ما بلغت عليتهم من منزلة الشورى، فوسم كافتهم بوسم الفتوى، فأسرف في ذلك حتى(1/435)
بلغ عددهم بقرطبة يومئذ إلى الأربعين، وذلك ما لم يعهد في الغابرين.
وكثر الإرجاف بتغيير رجال الدائرة، فاضطربت قرطبة لكثرة من كان فيها من المردة، فقبض على جماعة من بني عمه وحاشيته، منهم علي بن أحمد بن حزم، وعبد الوهاب ابن عمه المتقدما الذكر، سجنوا بالمطبق، ثم عاجل المستكفي ابن عمه عبد العزيز العراقي، فخنق وأمسى ميتاً ونعاه إلى الناس، فلم يخف عليهم اغتياله.
وفي أيام المستكفي هذا استؤصل بقية قصوره جده الناصر بالخراب، وطمست أعلام قصر الزهراء، واقتلع نحاس الأبواب ورصاص القني، وغير ذلك من الآلات. فطوي بخرابها بساط الدنيا، وتغير حسنها، إذ كانت جنة الأرض، فعدا عليها قبل تمام المائة من كان أضعف قوة من فأرة المسك، وأوهن بنية من بعوضة النمرود، والله يسلط جنوده على من يشاء، له العزة والجبروت.
فلما كانت سنة ست عشرة وتحرك يحيى بن حمود إلى قرطبة، وضعف أمر المستكفي، اتفق الملأ على خلعه، فدخلوا عليه وقالوا له: قد علم الله اجتهادنا في تثبيتك، فاعتاص ذلك علينا، واضطررنا إلى مقارعة عدونا، وها نحن خارجون إليه، ولا ندري ما يحدث عليك بعدنا، فإن تك لك الكرة فلا تيأس، فمع اليوم غد. فأجمل الرد، وانقاد للدنية(1/436)
واستشعر الذل، واهتبل الغرة، وعزم على الهروب. فخرج على وجهه وقد لبس ثياب الغانيات منتقباً بين امرأتين لم يميز منهما لمرانته على التخنيث. وخرج عن قرطبة فمات بأقليش، فكانت دولته سبعة عشر شهراً صعاباً نكدات، سوداً مشوهات مشؤومات؛ انتهى ما لخصته في حديثه من كلام ابن حيان.
@فصل في ذكر الأديب أبي عبد الله محمد بن سليمان بن الحناط
@الكفيف وسياقة جملة من نثره ونظمه
[قال ابن بسام] : وأبو عبد الله بن الحناط هذا زعيم من زعماء العصر - كان - ورئيس من رؤساء النظم والنثر في ذلك الأوان، وجمرة فهم لفحت وجوه الأيام، وغمرة علم سالت بأعلام الأنام، فكم له من وقذة لا يبر أميمها، ونكزةٍ لا يسلم سليمها. وكانت بينه وبين أبي عامر بن شهيد بعد تمسكه بأسبابه. وانحاشيه - كان - إلى جنابه، مناقضات في عدة رسائل وقصائد أشرقت أبا عامر بالماء، وأخذت عليه بفروج الهواء، وقد أوردت من ذلك ما يكون أنطق لسان بنباهة ذكره، وأعدل شاهد على براعة قدره.(1/437)
وقد ذكره ابن حيان في فصل من كتابه فقال: وفي سنة سبع وثلاثين وأربعمائة نعي إلينا أبو عبد الله محمد بن سليمان بن الحناط الشاعر الضرير القرطبي، بقية الأدباء النحارير في الشعر، هلك بالجزيرة الخضراء في كنف الأمير محمد بن القاسم، وهلك إثره ابنه الذي لم يكن له سواه بمالقة فاجتث أصله. وكان من أوسع الناس علماً بعلوم الجاهلية والإسلام، بصيراً بالآثار العلوية، عالماً بالأفلاك والهيئة، حاذفاً بالطب والفلسفة، ماهراً في العربية والآداب الإسلامية، وسائر التعاليم الأوائلية؛ من رجل موهن في دينه، مضطرب في تدبيره، سيء الظن بمعارفه، شديد الحذر على نفسه، فاسد التوهم في ذاته، عجيب الشأن في تفاوت أحواله، ولد أعشى الحملاق، ضعيف البصر، متوقد الخاطر، فقرأ كثيراص في حال عشاه، ثم طفئ نور عينيه بالكلية، فازداد براعةً، ونظر في الطب بعد ذلك فأنجح علاجاً. وكان ابنه يصف له مياه الناس المستفتين عنده، فيهتدي منها إلى ما لا يهتدي له البصير، ولا يخطئ الصواب في فتواه ببراعة الاستنباط؛ وتطبب عنده الأعيان والملوك والخاصة، فاعترف له بمنافع جسيمة، وله مع ذلك أخبار كثيرة مأثورة.
@جملة من نثره
فصل له من رقعة خاطب بها ابن دري: حنانيك أيها الغيث الهطل، ولبيك أيها الروض الخضل، فإنه طلع علينا من رعين رائد رتع بروضك، وكرع في حوضك؛ هز بك عطف الشعر، فمد إليك طرفه، وثنى إليك عنان الشكر، فحث نحوك طرفه.(1/438)
وكان فلان ذو الخلق العميم، والخلق الكريم - {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} (الحديد: 21) يتحفنا من ذكرك بنافجة مسك، ويخبرنا بخبرك عن واسطة سلك، وتعرف مواقع الغيث برواده. فعن مقة نزعنا إليك فاجتهدنا، وعن ثقة نبهنا لها عمر ثم نمنا، وما حركنا من أدبك ساكناً، ولا أثرنا من كرمك كامناً، غير أن الجمر يحش على ذكائه، والنصل يهز على مضائه، فدونكها قد حبر الحبر تطريزها، وإليكها قد خلص الفكر إبريزها، تتلفع منها في حلة ثناء، وتتوج منها إكليل بهاء، يخال مدادها من بهيم الليل صنع، ويحسب رقها من أديم الصبح قطع. أرسلناها كافورةً بمسك موسومة، وأهديناها درة بياقوت مختومة، وأقدم أولاً الإعتراف بالتقصير، وأذعن في الكف عن التعبير، إذ أهديت الدرغلى منظمه، وخلعت الوشي على منمنمه.
وله من أخرى:
الإسهاب كلفة، والإيجاز حكمة، وخواطر الألباب سهام، يصاب بها أغراض الكلام؛ وأخونا أبو عامر يسهب نثراً، ويطول نظماً، شامخاً بأنفه، ثانياً من عطفه، متخيلاً أنه قد أحرز السباق في الآداب، وأوتي(1/439)
فصل الخطاب، فهو يستقصر أساتيذ الأدباء، ويستجهل شيوخ العلماء:
وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس وفي فصل منها: في ليلة بتها، والكف الخضب سوارها البدر، والشعرى العبور وشحها النسر، وكأنما سماؤها روضة تفتحت النجوم وسطها زهراً، وتفجرت المجرة خلالها نهراً، وادٍ يسيل بعسجد على رضراض زبرجد. فلما أصبت الغرة، وأقصدت الثغرة، تقلبت عراراً، وتناومت غراراً، حتى أنبهني الفجر ببرده، وسربلني الصباح ببرده، وهببت من النومة، وصحوت من النشوة، فزففتها إليك بنت ليلتها عذراء، وجلوتها عليك كريمة فكرتها حسناء. تتلفع بحبرة حبر، وتتبختر في شعار شعر، مؤتلف بين رقها ومدادها، ومجتمع في بياضها وسوادها: الليلاذا عسعس، والصبح إذا تنفس؛ وقعتها كافور نمنم بمسك، وختامها ياقوت نظم في سلك، فتحسب خطها تيم لفظها فشكا، وتخال القلم رق لما به فبكى، فأنشدها أخاك الشهيدي، وكلفه على العروض والقافية معارضتها، وحمله على اللين والشدة مقارضتها، فستوقد بقلبه قبساً، وتضرب في أذنه جرساً، فيتبين به حظه، ويعرف لغيره فضله، وختم الرقعة بهذه الأبيات:
أقصر عن لومي اللائم ... لما درى أنني هائم(1/440)
ما زلت في حبه منصفاً ... من لم يزل وهو لي ظالم
أسهر ليلي غراماً به ... وهو أخو سلوة نائم
مهفهف ماس في برده ... غصن ثنته الصبا ناعم
شمس ولكنما فرعها ... ليل على صبحها فاحم
إن ابن ذكوان ذو راحة ... كديمة صوبها دائم
لم يأتلق برقها خلباً ... ولا اتقى خلفه الشائم
ومن أبوه أبو حاتم ... قصر عن جوده حاتم
يبني العلا بالندى جاهداً ... وغيره للعلا هادم
محكك حول قلب ... محنك حازم عازم
تبصره دهره قاعداً ... وهو بأعبائه قائم
إذا انتضى سيفه معلماً ... لم تدر أيهما الصارم
من لم يكن شاعراً عالماً ... فإنني الشاعر العالم
البدر في أخمصي شسعة ... والشمس في خنصري خاتم
الدر لو بلغوه المنى ... نظمه في فمي الناظم قوله: " لم تدر أيهما الصارم "، كقول حسان بن المصيصي:
قوم يمانون إن سلوا يمانيةً ... لم تعرف السيف في الهيجا من الرجل وقال عبد الجليل:
شبيه ما اعتقلوه من ذوابلهم ... فالحرب جاهلة من منهم الأسل(1/441)
ولابن عبد ربه:
إذا أدارت بنانه قلماً ... لم تدر للشبه أيها القلم وقال بعض أهل العصر:
بها نخيل والأبطال والبيض والقنا ... سواء بحكم العين والأذن واللب
فلا فرق إلا أن يهب بها الردى ... فيعرف أن الفضل للرجل الندب وقال أبو الطيب:
همام إذا ما فارق السيف غمده ... وعاينته لم تدر أيهما النصل وكرره في موضع آخر فقال:
قلوبهم في مضاء ما امتشقوا ... قاماتهم في قوام ما اعتقلوا وهو من متداولات المعاني. وإنما نقلوا كلهم بيت الحماني:
ما علق السيف منا بابن عاشرةٍ ... إلا وعزمته أمضى من السيف وكرره أيضاً الحماني فقال:(1/442)
والسيف إن قسته يوماً بنا شبهاً ... في الروع لم تدر عزماً أينا السيف وله من رقعة طويلة بها المظفر بن الأفطس قال في أولها:
حجب الله عن الحاجب المظفر - مولاي وسيدي - أعين النائبات، وقبض دونه أيدي الحادثات، فإنه مذ كان أنور من الشمس ضياء، وأكمل من البدر بهاء، وأندى من الغيث كفاً، وأحمى من الليث أنفاً، وأسخى من البحر بناناً، وأمضى من النصل لساناً، وأنجبه المنصور فجرى على سننه، وأدبه فأخذ بسننه، وكانت الرياسة عليه موقوفة، والسياسة إليه مصروفة، قصرت الأوهام عن كنه فضله، وعجزت الأقلام عن وصف مثله، غير أن الفضائل لابد من نشرها، والمكارم لا عذر في ترك شكرها:
فالشكر للإنسان أربح متجرٍ ... لم يعدم الخسران من لم يشكر وله في فصل:
وردني كتاب كريم جعلته عوض يده البيضاء فقبلته، ولمحته بدل غرته الغراء فأجللته، كتاب ألقى عليه الحبر حبره، وأهدى إليه السحر فقره، أنذر ببلوغ المنى، وبشر بحصول الغنى، تخير له البيان فطبق مفصله، ورماه البنان فصادف مقتله: معارك آداب، ووقائع ألباب، سال المداد به نجيعاً، وجرى الغرض المجرى إليه صريعاً، ووصل معه المملوك والمملوكة اللذان سماهما هدية، وتنزه كرماً أن يقول(1/443)
عطية؛ همة تزحم السماكين، ونعمة تملأ الأذن والعين.
ومنه:
كتبت على البعد مستجدياً ... لعلمي أنك لا تبخل
فجاء الرسول كما أشتهي ... وقد ساق فوق الذي آمل
وما كان وجهك ذاك الجميل ... ليفعل غير الذي يجمل وفي فصل:
وما حرك الحاجب - أيده الله - بكتابه ساكناً بحمده، ولا نبه نائماً عن قصده، كيف وقد طلعت الشمس التي صار بها المغرب شرقاً، وهبت الريح التي صار بها الحرمان رزقاً - صاحب لواء الحمد، وفارس ميدان المجد، طلاع كل ثنية، وفعال كل سنية، يسير صدر الجيش وهو ربه، ويتقلب فيه وهو قلبه، ولواء النصر عليه منشور، وفؤاد الكفر منه مذعور.
وفي رسالته هذه طول تصرف فيها في أنواع البديع، تصرف المطبوع، واندرج له في أثنائها عدة مقطوعات من شعره كقوله:
ومهفهف قلق الوشاح يروعه ... جرس السوار ويشتكي من ضيقه
وسنان خط المسك فوق عذاره ... لاماً فهمت الموت في تعريفه(1/444)
مزج المدام بريقه لما سقى ... فسكرت من فمه ومن إبريقه وختم الرقعة بقصيدة هنأه فيها بخروجه من الأسر، منها قوله:
ولما أقال الله عثرتك التي ... قضى الله فيها بالنجاة وقدرا
تهللت الدنيا وأشرق نورها ... وأقبل سعد كان بالأمس أدبرا وسينخرط في سلك أخبار ابن عباد خبر إساره، وكيف خرج بدره من سراره، إن شاء الله.
@ما أخرجته من قصائد في المدح، وما يتشبث به
@من الأوصاف
له من قصيدة في علي بن حمود، أولها:
راحت تذكر بالنسيم الراحا ... وطفاء تكسر للجنوح جناحا
أخفى مسالكها الظلام فأوقدت ... من برقها كي تهتدي مصباحا
وكأن صوت الرعد خلف سحابها ... حاد إذا ونت السحائب صاحا
جادت على التلعات فاكتست الربى ... حللاً أقام لها الربيع وشاحا
روض يحاكي الفاطمي شمائلاً ... طيباً ومزن قد حكاه سماحا
أعلي إن تعل الملوك فإنهم ... بهم جعلت أغرها الوضاحا
لما طلعت لها بكل ثنية ... أنسيتها المنصور والسفاحا(1/445)
وله من أخرى [فيه] :
شقي بعدنا بالبعد من نعم نعمان ... وأوحش من لبنى على البعد لبنان
سقى القطر ما بين العقيق وضارج ... معارف فيها للأحبة عرفان
وحيا الحيا عهداً عهدناه باللوى ... لوى ديننا فيه صدود وهجران
ليالي روض الوصل فيهن ممرع ... وغصن الصبا إذ ذاك أخضر فينان
تدير علينا الراح فيها جآذر ... ويسكرنا باللحظ منهن غزلان
ولم أر مثلي كيف صار بقلبه ... من الوجد بركان وفي الجفن طوفان
ولا مثل هذا العدل كيف أعاده ... علي وقد مرت من الظلم أزمان وله من أخرى فيه أيضاً:
بكيت لها شجواً وهن الحمائم ... ينحن بلا دمع ودمعك ساجم
ولما علونا الحزن واعتسفت بنا ... رسوم الديار اليعملات الرواسم
لوينا بأعناق المطي إلى اللوى ... وقد علمتنا اللبث تلك المعالم
لئن أوحش الربع الذي كان آنساً ... وأقوت من الحي الرسوم الطواسم
فكم ليلة فيه وصلت نعيمها ... بأخرى وأنف الهجر بالوصل راغم
سقى منبت اللذات منها ابن هاشم ... إذا انهملت من راحتيه الغمائم
إمام أقام الدين حد حسامه ... طريراً ومنه في يد الله قائم
ويزهر في يمناه نور من الظبا ... له من رؤوس الدارعين كمائم وهذا البيت ينظر إلى قول المتنبي:(1/446)
سقاك وحيانا بك الله إنما ... على العيس نور والخدور كمائمه وقال أبو بكر بن عمار:
ندامى وما غير السيوف أزاهر ... لديهم وما غير الغمود كمائم وكذلك البيت الذي قبله كقول المتنبي:
على عاتق الملك الأغر نجاده ... وفي يد جبار السموات قائمه وهو من قول حبيب:
لقد حان من يهدي سويداء قلبه ... لحد سنان في يد الله عامله وفي هذه القصيدة يقول ابن الحناط:
سيوف إذا اعتلت جهات ثغورها ... فمنهن في أعناقهن تمائم
بكل خميس طبق الجو نقعه ... وضيق مسراه الجياد الصلادم
كأن مثار النقع إثمد عينه ... وأشفار جفنيه الشفار الصوارم
تعد عليه الطير والوحش قوتها ... إذا سار والتفت عليه القشاعم وهذا المعنى قد تقدم منه جملة في مكانه، وذكرت من استن في ميدانه.(1/447)
وقوله: " سيوف إذا اعتلت " ... البيت، من قول المتنبي:
وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم وله من أخرى:
لم يخل من نوب الزمان أديب ... كلا فشأن النائبات ينوب
أمسي قراراً للخطوب وأغتدي ... غرضاً تفوق نحوه فتصيب
وإذا انتهيت إلى العلوم وجدتها ... شيئاً يعد به عليك ذنوب
وغضارة الأيام تأبى أن يرى ... فيها لأبناء الذكاء نصيب
ولذاك من صحب الليالي طالباً ... جداً وفهماً فاته المطلوب وهذا أيضاً من قول المتنبي:
وما الجمع بين الماء والنار في يدي ... بأصعب من أن أجمع الجد والفهما وقال أبو علي ابن رشيق وولد معنىً زائداً مشتظرفاً:
أشقى لجدك أن تكون أديباً ... أو أن يرى فيك الورى تهذيبا
ما دمت مستوياً ففعلك كله ... عوج وإن أخطأت كنت مصيبا
كالنقش ليس يتم معنى ختمه ... حتى يكون بناؤه مقلوبا(1/448)
ومنها:
أمت أمير المؤمنين مواحلاً ... فسقى صداها غيثه الشؤبوب
المعتلي بالله والملك الذي ... تاج الفخار برأسه معصوب
إن كان عدوا حب آل محمدٍ ... ذنباً فإني لست منه أتوب وهذا كقول العباس بن الأحنف:
إن كان ذنبي في الزيارة فاعلمي ... إني على كسب الذنوب لجاهد وله من قصيدة يرثي أبا الحزم بن جهور، ويهنئ ابنه أبا الوليد، وكتب بها من الجزيرة الخضراء، إذ أقصي عن قرطبة، أولها:
إنا إلى الله في الرزء الذي فجعا ... والحمد لله في الحكم الذي وقعا
ولى أبو الحزم عن ملك تقلده ... أبو الوليد فعز الملك وامتنعا
اب كريم غدا الفردوس مسكنه ... وابن نجيب تولى الأمر واضطلعا
لله شمس ضحى في اللحد قد غربت ... فأعقبت قمراً بالسعد قد طلعا [ومنها] :(1/449)
يا واحد الدين والدنيا أقل زللا ... يدعوك جانبه أن تقتص أو تدعا
لو أنه أعطي الدنيا بما رحبت ... ولم ينل عفوك المأمول ما قنعا
وما عساك سوى الإحسان تصنعه ... إلى مسيء رجا عتباك فارتجعا
وقد رأيت ابن سعد حين أمكنه ... بشر عفا عنه فادفع بالذي دفعا
ليمحون مديحي فيك من كثبٍ ... محواً حديث ملامي حيثما سمعا وقال من أخرى:
تفرغت من شغل العداوة والظعن ... وصرت إلى دار الإقامة والأمن
أمقتولة الأجفان من دمع حزنها ... أفيقي فإني قد أفقت من الحزن
فلله سيري يوم ودعت صحبتي ... زماعاً ولم أقرع على ندم سني
رحلت فكم من جؤذر وغضنفر ... يروي الثرى من فضل أدمعه الهتن
وما عن قلى فارقت تربة أرضكم ... ولكنني أشفقت فيها من الدفن وينظر هذا إلى قول القسلطي:
وفاحت ليالي الدهر مني ميتاً ... فأخزين أياماً دفنت بها حيا وكذلك قوله: " رحلت فكم من جؤذر " ... البيت، من قول المتنبي:(1/450)
رحلت فكم باكٍ بأجفان شادنٍ ... علي وكم باك بأجفان ضيغم ومنها:
مررت بشوسٍ والنجوم كأنها ... توقد من فكري وتسرج من ذهني
وأسريت من بدر الظلام بألبةٍ ... بصحبة مطفي الجمر أو مكفئ الظعن
لبسنا بها ليلاً من الثلج أبيضاً ... كسته يد الصنبر ثوباً من القطن
ورحنا على ألبيرة فاستقل بي ... جناح عقابٍ لا يروح إلى وكن
ولما تنكبنا المنكب لم نجد ... لنا مركباً أهدى سبيلاً من السفن
ترامت بنا الأهوال في كل لجةٍ ... تخيلها جواً تجلل بالدجن
ترى السفن فوق الموج فيها كأنها ... تحدر من رعن وتوفي على رعن [ومنها] :
فبوأت رحلي ظل أروع ماجد ... يقول بلا خلف ويعطي بلا من
إمام وصي المصطفى وابن عمه ... أبوه، فتم الفخر بين أب وابن وله من أخرى:
أرقت وقد غنى الحمام الهواتف ... بمنعرج الأجزاع والليل عاكف
أعدن لي الشوق القديم وطاف بي ... على النأي من ذكرى المليحة طائف
وما الجانب الشرقي من رمل عالج ... بحيث استوت غيطانه والنفانف(1/451)
إذا ما تغنى الرعد فوق هضابه ... سقى الروض من وبل الغمامة واكف
بأحسن من أطلال علوة منظراً ... وإن درست آياته والمعارف
خليلي هل بالخيف للشمل ألفة ... فيأمن قلب من نوى الخيف خائف
أفي وقفة عند العقيق ملامة ... على دنف شاقته تلك المواقف
سقى عرصات الدار كل ملثة ... من المزن تزجيها البروق الخواطف
كأن نثير القطر منها جواهر ... تفرقها للريح أيد عواصف
كأن ابتسام البرق فيها إذا بدت ... سيوف عليٍ بالدماء رواعف وله من أخرى في القاسم بن حمود، ويصف خيران الصقلبي، وقتل المرتضى المرواني، أولها:
لك الخير خيران مضى لسبيله ... وأصبح ملك الله في ابن رسوله يقول فيها:
وفرق جمع الكفر واجتمع الورى ... إلى ابن حبيب الله بعد خليله
وقام لواء الجمع فوق ممنع ... من النصر جبريل أمام رعيله
وأشرقت الدنيا بنور خليفةٍ ... به لاح بدر الحق بعد أفوله
من الهاشميين الذين بمجدهم ... تعود شخص المجد جر ذيوله
فلا تسل الأيام عما أتت به ... فما زالت الأيام تأتي بسوله
ولما دعا الشيطان في الخيل حزبه ... وأقبل حزب الله فوق خيوله
كتائب من صنهاجة وزناتةٍ ... تضايق في عرض الفضاء وطوله(1/452)
تقدم خيران إليها بزعمه ... ليدرك ما قد فاته من ذحوله
فلما التقى الجمعان عاود رأيه ... فخلى لبعض الهول جل فضوله
وولى وأبقى منذراً من ورائه ... يقيم لأهل الغدر عذر نكوله @ذكر الخبر عن مقتل الأمير المرتضى المذكور
قال ابن حيان: كان عبد الرحمن بن محمد من ولد الناصر لدين الله قد نصب خليفةً بشرقي الأندلس، وسمي المرتضى، فزحف بمن تألف معه من الموالي العامريين وغيرهم إلى غزو البرابرة المنتزين بقرطبة وأعمالها، وأميرها يومئذ القاسم بن حمود، وعقدوا مع المرتضى على غزو قرطبة، فخرجوا بجملتهم سنة تسع وأربعمائة، فعرجوا به في طريقهم إلى غرناطة ليبدأوا بحرب ذلك الفريق من صنهاجة لما ارتأوه من الغدر بسلطانهم، فأوبقوا الجماعة وأحلوا بها الفاقرة، على أيدي البرابرة، ورسا بتلك الوقعة ملك الحمودية، وإذا قضى الله أمراً سبب له أسباباً، فجاءوا معهم، في جملتهم منذر التجيبي وخيران الصقلبي وقطعة من خيل الإفرنجة. ولما حلوا غرناطة وأميرها يومئذ زاوي بن زيري بن مناد، ارتاعت صنهاجة واعصوصبوا بأميرهم زاوي كبش الحروب، فأحكم لهم التدبير، والدولة تسعده، والمقدار ينجده؛ وحملت عنه في تلك الرحوب حكايات بديعة: منها أن المرتضى لما نازله خاطبه بكتابٍ يدعوه فيه إلى طاعته، ومسح أعطافه، وأجمل موعده. فلما قرئ على زاوي قال لكاتبه: اكتب على ظهر رقعته:(1/453)
{قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون} السورة، لا تزده، فلما بلغت المرتضى أعاد إليه كتاب وعيد، فلما قرئ على زاوي قال: ردوا عليه {ألهاكم التكاثر} إلى آخرها لم يزده حرفاً. فازداد المرتضى غيظاً، ويئس منه، وناشبه القتال ودنا إليه في تعبئة محكمة، وكراديس منتظمة، فاقتتلوا أياماً إلى أن أنهزم الأندلسيون، وطاروا على وجوههم، مسلموهم وإفرنجهم، لا يلوي أحد على أحد، والخيل تطردهم في تلك المضايق، وصرع المرتضى في ضنك ذلك المأزق، ووقع البرابرة من نهب محلة المرتضى على ما كفاء له اتساعاً وكثرة - ظل الفارس منهم يجيء من اتباعه المنهزمين، ومعه العشرة الأبغل فما دون ذلك موقرةً بفاخر النهب، ورفيع الشارة والحلية، وحيزت فساطيط أولئك الأمراء ومضارب الرؤساء الذين كانوا في جميع ذلك المعسكر المخذول، يتباهون بالقوة والشارة، بجميع ما فيها. وسبق سلطانهم زاوي إلى سرادق الحائن المرتضى، فحازه بما حواه مما كان الأمراء قد جمعوا له وجملوه به. وكان أمراؤه والوجوه من أهله قد تنازعوا بالبشارة، وجاءوا مجيء من لا يشك في الظفر، فساقوا مع أنفسهم رفيع الحلية كي يتباهوا بذلك إذا دخلوا قرطبة، حتى إن كثيراً من جاليتها والتجار المتجهزين منهم ومن سواهم اغتروا بذلك العسكر الخاوي فصحبوه مبادرين ميسرة الفتح، وسعة الربح، فخابوا وحاق البغي بهم، وخسروا أموالهم.
وأول من انهزم من ذلك العسكر منذر بن يحيى وخيران الصقلبي، وكان منذر قد أوقع في نفوس مدده من رجال الإفرنجة الذعر من غدر الموالي العامريين، فشغل بذلك بالهم. فلما انهزم لم يعرفوا السر، وأجفل منذر في أصحابه الثغريين، فمر بسليمان بن هود صاحبه وهو مثبت للإفرنجة لا(1/454)
يريم موقفه. فصاح به: النجاة يا ابن الفاعلة، فلست أقف عليك؛ فقال له سليمان: جئت والله بها صلعاء، وفضحت أهل الأندلس! ثم انقلع وراءه ببقية عسكره، وانقلع أيضاً خيران برجاله. وصبر الموالي العامريون قليلاً حول صاحبهم المرتضى، على أحر من جمر الغضا، وهو مع جبنه حسن الثبات، حتى استحر القتل في أصحابه، وصرع كثير منهم حوله، فانكشفوا عنه، وخاف أن يقبض عليه فولى، فوضع عليه خيران عيوناً لئلا يخفى أثره، فلحقوه بقرب وادي آش وقد أمن على نفسه، فهجموا عليه وقتلوه، وجاءوا برأسه إلى خيران ومنذر، وقد لحقا بالمرية، فتحدث الناس أنهما اصطحبا على رأسه سروراً بمهلكه، وتناولاه من الذكر عبثاً بما لم يكن له أهلاً له، وجعلا يقولان: يا أحيمق قم فاعرض جندك؛ كلمة تحدث بها عنهما جرأة على الله ونكثاً لعهوده. ففقد المرتضى على هذه السبيل، ونجا من تلك الملحمة أخوه أبو بكر ابن هشام، ولحق بالموالي العامريين فزهدوا فيه، فاستقر عند ابن القاسم صاحب حصن البونت، وكان شيعة المروانية على سوء ما أسلفوه في سلفه، فأجاره وضيفه، ولم يزل مقيماً عنده إلى أن كان من تقديمه للخلافة ما كان.
قال ابن حيان: فحل بهذه الوقعة على جماعة من الأندلس مصيبة سوداء أنست ما قبلها، ولم يجتمع لهم على البربر جمع بعد، وأقروا بالإدبار، وباءوا بالصغار.
وورد على القاسم بقرطبة كتاب زاوي بشرحها مع نصيبه من الغنيمة(1/455)
وفي جملتها سرادق المرتضى. فضربه القاسم على نهر قرطبة وغشيه من النظارة جملة من علية الناس، وقلوبهم تتقطع حسرة منه؛ فركدت ريح المروانية من ذلك الوقت بقتل من نجم منهم في أطراف الأرض، وأيس الناس من دولتهم، وألوى الخمول بجملتهم، فتقطعوا في البلاد ودخلوا في غمار الناس، وامتهنوا واستهينوا.
حدثت بزوائد في شرحها حصرتها تتميماً للقصة:
قالوا: لما جاء منذر التجيبي في جيشه مع الإفرنج وغيرهم للاجتماع بالمرتضى بشاطبة لغزو قرطبة، وفي جملته ابن مسوف، اجتاز على بلنسية فأغلق واليها مبارك بابها في وجهه، ومنعه أن يخرجه معهم للغزو فلم يجبه المرتضى لذلك، وأقام عذر مبارك أن يخرجه معهم للغزو فلم يجبه المرتضى لذلك، وأقام عذر مباركٍ، وأقعده خلفه لجمع الأموال وإنفاذها خلفه، فأحقده عليه، فتجمع ابن مسوف وخيران ومنذر، وتظاهروا على الغدر به، فمالوا به إلى غرناطة، وقالوا: لا يصلح أن نسير إلى قرطبة ووراءنا هذا العدو، ثم دسوا إلى زاوي وأسروا عليه الغدر بالمرتضى، فلما أصبحوا للقتال جعل منذر يحرض الموالي العامريين سخرية يبغي توريطهم ويقول: أين أنتم معشر أرباب المملكة المؤثرين على كل طبقة - أين أصحاب الوظائف المرتبة - هذا يومكم، تقدموا. فحمي القوم وخرجت صنهاجة ومغراوة من زناتة فاجتلدوا أياماً، فلما حمي الوطيس(1/456)
أشار منذر وخيران بإدناء المحلة إلى قرب حومة القتال. فلما زحزحت صنهاجة من موضعها اضطرب العسكر، وشد البرابر شدة منكرة، فانحاز منذر وخيران لأول وقتهما وانهزما على وجوههما، فلم يك للناس ثبات بعدهما، فاستمرت بهم الهزيمة حسبما تقدم.
وأخبر عن منذر أنه الذي ورط المرتضى وحلفاءه، وأقحمهم أوعاراً صعبةً حتى أنزلوهم فوق رؤوس صنهاجة في الجبل المطل عليهم. ولما شرع في قتالهم بان لمنذر جد الموالي، ولم يشك في ظهورهم فحسدهم وتحيل لهم بما فل حدهم. وكان بلغه أيضاً عن زاوي أنه لا يشك في الغلبة فتداركه بكتاب يثنيه به عن حربه، فتراجعت نفس زاوي وطمع في النجاة فلذلك ما جد في القتال.
ولهول ما عاينه زاوي من اقتدار أهل الأندلس في تلك الحرب وجعجاعهم به، وإشرافهم على التغلب عليه، ما هان سلطانه عنده بالأندلس وعزم على الخروج عنها نظراً في عاقبة أمره، ودعا جماعة قومه مستنصحاً فعصوه في ذلك، لظنهم بطيب معيشتهم بالأندلس، فلم يثنه ذلك عن عزمه، وركب هو البحر بماله وأهله فلحق بإفريقية وطنه. فكان من أغرب الأخبار في تلك الدولة الحمودية انزعاج ذلك الشيخ الباقعة زاوي ابن زيري عن سلطانه، ولفظه لما كان يلوكه من فلذة كبد الأندلس(1/457)
أرض ألبيرة، بأثر الفتح العظيم الذي أتيح له على المرتضى ومن كان معه من عساكر أهل الأندلس. فأخذ في عبور البحر حين صفا العيش واخضر عوده، ووقم العدو وفل غربه، فصمم في الرحيل بعد أن استأذن صاحب إفريقية يومئذ المعز بن باديس ابن عمه، في ذلك، فأذن له، وحرص جميع بني عمه بالقيروان على رجوعه لهم لحال سنه، وتعريهم يومئذ عن مثيله من مشيختهم لمهلك جميع إخوتهم، وحصوله هو قعدد بني مناد، الغريب شأنه، في ألا يحتجب عنه من نسائهم زهاء ألف امرأة في ذلك الوقت، هن - زعموا - محرم له بنات إخوته وبناتهن وبني بنيهن. فرحل عن الأندلس سنة عشر وأربعمائة، واستقلت به سفنه من مرسى المنكب، وفي شحنتها من ذخائر الأندلس ما يفوت الإحصاء كثرة لعظيم ما خمسه أيام الفتنة. فاجتمع شمله بالقيروان، وأقره المعز في دولته وكنفه. إلا أنه لم يؤثره ولا أناف بمحله ولا قلده ولا واحدا من ولده شيئا من عمله بل وكلهم إلى سحتهم.
قال ابن حيان: وحدثت عن السبب المزعج كان لزاوي يومئذ في ارتحاله، وذلك أنه لما انهزم المرتضى قال زاوي لقومه: كيف رأيتم ما قد خلصنا منه - قالوا: عظيما، قال: فلا تتناسوه وتغالطوا أنفسكم بعده، إن انهزام من رأيتموه لم يكن من قوة منا. إنما جره مع القضاء غدر ملوكهم لسلطانهم ليهلكوه كما فعلوا، فإني عرفت ذلك من يوم نزولهم، ولذلك ما كنت أقوي نفوسكم، وقد نجانا الله منهم برحمته، ومضى(1/458)
القوم ولم يعدموا إلا رئيسهم، واستخلافه هين عليهم، ولست آمن عودهم جملة إليكم فيما بعد، فلا يكون لنا قوام بهم، فالرأي الخروج عن أرضهم، واغتنام السلامة مع إحراز الغنيمة، والرجوع إلى الجملة التي انفصلنا عنها كانفين للعيال والذرية، مباعدين لهم لما وراءنا من أهل جنسنا زناتة، الأعداء في الحقيقة، الذين لا يغفلون عنا وإن غفلت الخليقة، لا سيما وقد قرفنا قرحهم، ونبشنا أحقادهم المدفونة. فإن فرغوا لنا على قلة عددنا، وظاهروا علينا الأندلس وقعنا منهم بين لحيي أسد فاصطلمونا، وها أنا قد أديت لكم النصيحة وأنا راحل عن الأندلس، فمن أطاعني فليرحل معي. فلم يساعده أحد، فرحل كما وصفناه.
ويلغني أن حلالي بن زاوي تلوم بغرناطة، بعد حصول والده بالمنكب، أياما لتتميم لباناته،. وقد دبر مع الراحلين من بني عمه القبض على قاضي البلد ابن أبي زمنين والمشيخة من أهله إذا رجعوا من تشييع أبيه ليأخذ أموالهم. فاهتدى ابن أبي زمنين لتدبيره ونكب عن المنكب إلى حبوس، وكان متوقفا بحصن آش يرتقب ركوب عمه البحر فيلحق بغرناطة، فكان ذلك كذلك. فركب مع ابن أبي زمنين وقد خوفه بوائق الإبطاء، فلم تشعر صنهاجة حتى أطل عليهم قارعا طبوله، فخرجت صنهاجة تستقبله ووقف ابن عمه حلالي بباب البلد حائرا قد فسد تدبيره على ابن أبي زمنين، ولم يعرج حبوس عليه حتى صعد إلى قصبة غرناطة فضبطها وحط رحله فيها. ثم خرج إلى ابن عمه حلالي ليودعه(1/459)
فعاتبه حلالي في اقتحامه عليهم وقال له: الفوت خفت أبا مسعود في بدارك -! أهذا دخول مكتئب بفراق عشيرته -! هو بدخول شامت أشبه! ! كأنك فتحت بلدا وطردت عدوا -! فاعتذر له حبوس، وقال: ما ذاك إلا لرسم الإمارة، وإرهاب الرعية. ثم استوطن حبوس البلد وأورثه عقبه.
قال ابن حيان: وبلغني أن زاوي استوهب علي بن حمود، يوم قتل سليمان بن الحكم رأسه، حنقا على بني مروان المهدى إليهم رأس زيري والده، وأنه أسعفه بذلك، فصار عنده، ونقله من الأندلس معه في ذلك الوقت مفتخرا به على أهل بيته. فإن يكن ذلك حقا فزاوي أكبر من أدرك الثأر المنيم، ورحض العار المقيم. وأخبار هذا الداهية زاوي كثيرة، ونوادر أفعاله مأثورة.
وكان حبوس هذا أحد نابي برابرة الأندلس اللذين يفترون عنهما لم يبق بعده يومئذ، سوى محمد بن عبد الله نظيره، من ترهب لد شذاة. وكان على قسوته يصغي إلى الأدب، وينتمي في العرب، للأثر المقفو في قومه صنهاجة. وكان يؤثر لذلك " كتاب التيجان " لابن دريد في ذكر مناقبهم، ولا يغب سماعه ومطالعته. وكان وقورا حليما، فظا مهيبا، نزر الكلام، قليل الضحك، كثير الفكر(1/460)
شديد الغضب، غليظ العقاب، شجاعا حسن الفروسية، جبارا متكبرا داهية، واسع الحيلة، كامل الرجولية، له في كل ذلك أخبار مأثورة.
أخبرني أبو الوليد ابن زيدون قال: سأل حبوس يوما محمد بن عبد الله في بعض التقائمها عن سنه بمعراض فقال: ابن كم كنت يوم قتل ابن الخير - فأجابه مسرعا: كنت يوم قتل زيري بن مناد يفعة، وشهدت وقعته مع قومي ابن كذا. فتبسم حبوس، وعجب من حضر من فطنتهما. وإنما أراد حبوس تعيير ابن عبد الله بمقتل ابن الخير سلطان زناتة المصاب في وقعة صنهاجة، فعارضه ابن عبد الله بذكر وقعتهم بجد حبوس زيري بن مناد. فلو كانا في الرعيل الأول من أذكياء العرب ما زاد على ما أتيا به.
وقد أعاد علي ولد ابن عبد الله أيام لقيته بقرطبة عن والده محمد ابن عبد الله بألطف من هذا التعريض، مكتفيا باسم الموضعين عن ذكر اسم الرجلين، فقال: قال حبوس لوالدي يوما: أشهدت يوم تلمسان - فقال له والدي: لا، مشاهدي يوم كرض؛ ويوم تلمسان يوم الخير وزناتة، ويوك كرض يوم زيري وصنهاجة. فلمي يزد أحدهما(1/461)
على التبسم، وما درى من معهما ما ذهبا إليه؛ انتهى كلام ابن حيان.
قال ابن بسام: ومن مليح التلويح بالمعاريض قول رجل من نمير وقد سايره ابن هبيرة الفزاري فزادت بغلة النميري عليه، فقال له ابن هبيرة: غض من لجامها، فقال: أنها مكتوبة - أعزك الله - فضحك. وإنما أراد ابن هبيرة قول جرير:
فغض الطرف إنك من نمير ... وأراد النميري قول ابن دارة في فزارة:
لا تأمنن فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار وكانت فزارة ترمى بإتيان الإبل، ولذلك قال الفرزدق يهجو ابن هبيرة:
[أمير المؤمنين وأنت بر ... حليم لست بالجشع الحريص]
أوليت العراق ورافديه ... فزاريا أحذ يد القميص -
ولم يك قبلها راعي مخاض ... ليأمنه على وركي قلوص ومن المعاريض: أن رجلا هلاليا بات مع رجل من محارب على بعض المياه، وقد كثر فيه صياح الضفادع، فقال الهلالي: ما تركنا شيوخ محارب ننام الليلة، فقال له المحاربي: إنها أضلت برقعا فجعلت(1/462)
تطلبه. أراد الهلالي قول القائل:
تجيش بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر وأراد المحاربي قول الآخر:
لكل هلالي من اللؤم برقع ... ولابن يزيد برقع وجلال وحضر باب عبد الملك ناس من العرب فيهم تميمي ونميري، فمر عليهم رجل يحمل بازيا، فقال التميمي: ما أحسن هذا البازي! فقال النميري: أجل، وهو يصيد القطا؛ أراد التميمي قول جرير:
أنا البازي المطل على نمير ... أتيح لها من الجو انصبابا وأراد النميري قول الطرماح:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلت ومن المعاريض قول معاوية للأحنف بن قيس: ما الشيء الملفف في البجاد - قال: السخينة يا أمير المؤمنين؛ أراد معاوية قول القائل:
إذا ما مات ميت من تميم ... فسرك أن يعيش فجيء بزاد
بخبز أو بتمر أو بمسن ... أو الشيء الملفف في البجاد(1/463)
وأراد الأحنف أن قريشا كانت تعير بأكل السخينة، وهي حساء من دقيق يتخذ عند غلاء السعر، وفي ذلك يقول شاعر كنانة:
يا شدة ما شددنا غير كاذبة ... على سخينة لولا الليل والحرم ومن المعاريض قول النبي صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة مخفيا لشأنه عن قريش، ومعه أبو بكر، فكلما سألهما سائل عن شأنهما قال: نحن باغ وهاد، يريد باغيا وهاد، يريد باغيا للخير، وهاديا إليه.
ومنه: قوله عليه السلام، حين خرج هو وأبو بكر يتحسسان عن العير، وقد سألا بسبسا فأخبرهما على أن يخبراه بأمرهما، فلما أخبرهما وسألهما، قال عليه السلام: نحن من ماء، فقال لهما بسبس: ما رأيت كاليوم عجبا، أمن ماء كذا، أم من ماء كذا - يعدد مياه العرب. وقد قال عليه السلام لأصحابه، حين أرسلهم إلى بني قريظة أيام الأحزاب: إن رأيتموهم على غير ما أحب فالحنوا لي. فلما انصرفوا قالوا له: يا رسول الله، عضل والقارة، وقد كان هذا القبيلان غدرا، فكنى له بهما أصحابه عن غدر بني قريظة.
ومما يتعلق بباب المعاريض: قوله عليه السلام للمرأة: علمي حفصة رقية النملة، وكانت حفصة عليها السلام عندما يريدها صلى الله عليه وسلم ربما تأبت، فأراد أن يلحن لها برقية النملة، وكانت العرب ترقيها في(1/464)
الجاهلية، يقول لها: العروس تكتحل وتحتفل، وكل شيء تفتعل، غير تعاصي الرجل.
وشبيه هذا ما فعله معاوية - رحمه الله - حين بلغه أن بعض بناته تمتنع، فدخل عليها، فجعل ينكت بقضيبه وينشد:
من الخفرات البيض أما حرامها ... فصب وأما حلها فذلول ومن المعاريض الخبر المأثور عن كثير وجميل، قال: زار جميل بثينة ورام إيصال شيء إليها فعزه ذلك. فلقي كثيرا وقد ارتحل من عند أبيها، فسأله عن موضع مبيته، فقال: كنت عند أبي بثينة. فقال له: هل إلى إعلامها أني ها هنا سبيل - فقال: هل كان بينكما شيء تعرفه هي - فقال: نعم، آخر عهدي بها بأسفل وادي الدوم، وأصاب عمامتي شيء فغسلته جاريتها. فرجع كثير قبل أن يقوم والد بثينة من مجلسه، فقال: ما رجعك - قال له كثير: أبيات قلتها وأحببت أن تسمعها، قال: هات ما عندك، فأنشده:
وقلت لها: يا عز أرسل صاحبي ... على طول نأي والرسول موكل
[بأن تجعلي بيني وبينك موعدا ... وأن تأمريني فيه أفعل
وآخر عهدي منك يوم لقيتني ... بأسفل وادي الدوم والثوب يغسل] فقالت بثينة: اخسأ! فقال أبوها: ما لك يا بثينة - قالت: كلب يأتينا(1/465)
إذا هوم الناس من وراء هذه الرابية.
قال: ودخل محمد بن أمية الشاعر مجلسا فيه قينة تغني فأعجبته، فقال لها: جعلت فداك، أتحسنين أن تغني:
خبريني من الرسول إليك ... واجعليه من لا ينم عليك فقال له: لا، وقدمت قبلك، ولكني أغني في طريقته:
أحمد قال لي ولم يدر ما بي ... أتحب الغداة عتبة حقا وأومأت إلى مخنث كان على رأسها اسمه أحمد.
وقد أرخص الفقهاء في هذه المعاريض، وقال بعض السلف: في المعاريض مندوحة عن الكذب.
وكان النخعي إذا خرج من عنده أصحابه يقول لهم: قولوا لمن سألكم عني: لا ندري أين هو، فإنكم لا تدرون أين أتحول من الدار.
ومنها قول شريح، رحمه الله، في شأن عبد الملك، وقد عاده(1/466)
في علته التي مات منها: تركته يأمر وينهى، فلما استفهم قال: يأمر بالوصية وينهى عن البكاء.
وأهدي علي بن هشام إلى المأمون جاريةً اسمها " صرف " حين أحس بتغيره عليه، وأمرخا أن تكتب إليه بما عسى أن تحس به من ذلك إليه؛ فوقف يوماً بين يديه فسقطت منه رقعة، فأخذها المأمون فإذا فيها: " يا موسى، يا موسى " ليس شيء غير ذلك. فقال المأمون لجلسائه: أيكم يعلم إيماء هذه الرقعة - فكلهم قال: لا أدري. فقال: هذه كتبت من قصري، تخوف هذا الرجل بادرتي، أراد كاتبها قوله تعالى: {يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك} ثم حذف إخفاء، وكرر توكيداً. فبحث عن أمر الرقعة فإذا هي لصرف.
ومن مليح فطنة المأمون أيضاً - وله بهذا الباب بعض تعلق - أنه جلس يوماً في بعض مجالس أنسه، وفي المجلس عريب المأمونية، وأحمد ابن محمد بن حمدون الذي كان يهواها، فأومأ إليها بقبلة، فاندفعت تغني بيت النابغة الجعدي:
رمى ضرع نابٍ فاستمر بطعنةٍ ... كحاشية البرد اليماني المسهم فقال المأمون: من أومأ إلى عريب بقبلة - فوجم الحاضرون، فعزم عليهم ليخبروه. فقال أبو عيسى أخوه: لا تظلم الناس؛ من يجترئ(1/467)
على هذا إلا هذا الفاسق - وأومأ إلى ابن حمدون، فاستفسر المأمون من أين وقع له ذلك، فقال: هي لا تغني حتى تؤمر واندفعت تغني ارتجالاً.
ودخل حارثة بن بدر على زياد وفي وجهه أثر. فقال له زياد: ما هذا الأثر في وجهك - قال: ركبت فرسي الأشقر فجمح بي! فقال: أما إنك لو ركبت فرسك الأشهب ما فعل ذلك! فكنى بالأشقر عن النبيذ، وبالأشهب عن اللبن.
@فصل في ذكر الأديب أبي بكر عبادة بن ماء السماء، وإثبات
@جملة من شعره مع ما يتعلق به من ذكره
قال ابن بسام: [هو عبادة بن عبد الله الأنصاري من ذرية سعد بن عبادة، وقيل له ابنم ماء السماء لجدهم الأول، ولحق بقرطبة الدولة العامرية والحمودية ومدح رجالها] . وكان أبو بكر في ذلك العصر شيخ ؤالصناعة، وإمام(1/468)
الجمعة، سلك إلى الشعر مسلكاً سهلاً، فقالت له غرائبه مرحباً وأهلاً. وكانت صنعة التوشيح التي نهج أهل الأندلس طريقتها، ووضعوا حقيقتها، غير مرقومة البرود، ولا منظومة العقود، فأقام عبادة هذا منآدها، وقوم ميلها وسنادها، فكأنها لم تسمع بالأندلس إلا منه، ولا أخذت إلا عنه، واشتهر بها اشتهاراً غلب على ذاته، وذهب بكثير من حسناته.
وهي أوزان كثر استعمال أهل الأندلس لها في العزل والنسيب، تشق على سماعها مصونات الجيوب بل القلوب. وأول من صنع أوزان هذه الموشحات بأفقنا واخترع طريقتها - فيثما بلغني - محمد بن محمود القبري الضرير. وكان يصنعها على أشطار الأشعار، غير أن أكثرها على الأعاريض المهملة غير المستعملة، يأخذ اللفظ العامي والعجمي ويسميه المركز، ويضع عليه الموشحة دون تضمين فيها ولا أغصان. وقيل إن ابن عبد ربه صاحب كتاب " العقد " أول من سبق إلى هذا النوع من الموشحات عندنا. ثم نشأ يوسف بن هارون الرمادي فكان أول من أكثر فيها من التضمين في المراكيز، يضمن كل موقف يقف عليه في المركز خاصة. فاستمر على ذلك شعراء عصرنا كمكرم بن سعيد وابني أبي الحسن. ثم نشأ عبادة هذا فأحدث التضفير، وذلك أنه اعتمد مواضع الوقف في الأغصان فيضمنها، كما اعتمد الرمادي مواضع الوقف في المركز.(1/469)
وأوزان هذه الموشحات خارجة عن غرض هذا الديوان إذ أكثرها على غير أعاريض أشعار العرب.
وقد أثبت من شعر عبادة في هذا الفصل ومن سائر كلامه، ما يدل على تقدمه وإقدامه.
@جملة من شعره في أوصاف شتى
أخبرني الفقيه أبو بكر بن العربي عن الفقيه أبي عبد الله الحميدي قال، أخبرني الفقيه أبو محمد علي بن أحمد بن حزم أن أبا بكر عبادة كان حياً في صفر سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، وكان البرد المشهور خبره في ذلك الوقت الذي لم ير مثله، فقال عبادة:
يا عبرة أهديت لمعتبر ... عشية الأربعاء من صفر
رسل ملء الأكف من برد ... جلامداً تنهمي على البشر
فيا لها آيةً وموعظةً ... فيها نذير لكل مزدجر
كاد يذيب القلوب منظرها ... ولو أعيرت قساوة الحجر قال أبو عبد الله الحميدي: وذكر أبو عامرٍ ابن شهيد أن عبادة هذا مات(1/470)
في شوال سنة تسع عشرة بمالقة، ضاعت له مائة مثقال فاغتم عليها وكانت سبب وفاته. فلا أدرى من وهم منهما، وأبو محمد بن حزم أعلم بالتواريخ وأحفظ للتقييد، والله أعلم.
وقال:
لا تشكون إذا عثر ... ت إلى خليط سوء حالك
فيريك ألواناً من ال ... إذلال لم تخطر ببالك
إياك أن تدري يمي ... نك ما يدور على شمالك
واصبر على نوب الزما ... ن وإن رمت بك في المهالك
وإلى الذي أغنى وأق ... نى اضرع وسله صلاح حالك وقال يتغزل:
إذا رمت قطف الورد ساورني الصدغ ... بعقرب سحر في فؤادي له لدغ
غزال بجسمي فترة من جفونه ... وفي أدمعي من لون وجنته صبغ
زيارته أخفى خفاءً من السها ... ودون فراغي من محبته الفرغ وقال:
ما مر يوم علي لم أرك ... إلا وجدت الضمير صورك(1/471)
ولا مبيتي وأنت لست معي ... إلا مبيت القطاة في الشرك
أما أنا فالبعاد غيرني ... وأنت خوف الرقيب غيرك
يا لعبة صورت لسفك دمي ... غطي بفضل النقاب محجرك وقد رويت هذه الأبيات لابن القطان.
نقلت من خط الوزير أبي عامر بن مسلمة قال: أنشدني أبو بكر عبادة لنفسه.
اجل المدامة فهي خير عروس ... تجلو كروب النفس بالتنفيس
واستغنك اللذات في عهد الصبا ... وأونه لا عطر بعد عروس قال: وأنشدني أيضاً له:
اشرب فعهد الشباب مغتنم ... وفرصة في فواتها ندم
وعاطنيها بكف ذي غيدٍ ... ألحاظه في النفوس تحتكم
كأنها صارم الأمير وقد ... خضب حديه من عداه دم
واحد بتذكاره الكؤوس فما ... يلذ نقلاً سوى ثناه فم وقال أيضاً:(1/472)
وليلةٍ لسرور كان لها ... بحسن ساق كحسن خلخال
قصيرةٍ أقصر الغرام بها ... كأنها مستهل شوال
ناولني الماس بدرها بيدٍ ... عنابها من طريف أنقال
يعلني ريقة الحياة فم ... قضى بتعطيل كل علال وقال أيضاً:
سقى الله أيامي بقرطبة المنى ... سروراً كري المنتشي من شرابه
وكم مزجت لي الراح بالريق من يدي ... أغر يريني الحسن ملء ثيابه
أوان عذاري لم يرع بمشيبه ... شبابي ولم يوحش مطار غرابه
تعللني فيه الأماني بوعدها ... وهيهات أن أروى بورد سرابه
سل العنم البادي من السجف دانفاً ... لتعذيب قلبي هل دمي من خضابه - وقال أيضاً:
فهل ترى أحسن من أكؤس ... يقبل الثغر عليها اليدا -
يقول للساقي: أغثني بها ... وخذ لجيناً وأعد عسجدا
أغرق فيها الهم لكن طفا ... حبابها من فوقها مزبدا
كأنما شيبها شارب ... أمسكها في كفه سرمدا(1/473)
وهذا البيت أراه اخترع معناه.
وله من أخرى في القاسم بن حمود:
ما ضيع الله ملكاً أنت راعيه ... ولا أباح ذماراً أنت حاميه
لله درك من مولىً عوارفه ... لم تبق في الأرض إلا من يواليه
تهديه والناس قد ضلوا كواكب من ... آرائه في سماء من معاليه
مكفلاً برضاه همةً أنفاً ... ترمي إلى الغرض الأقصى فتصميه
كانت خلافتنا في الغرب مظلمةً ... كأن أيامنا فيها لياليه
سياسة أبرأت بالرفق في مهل ... داء الخلاف وقد أعيا مداويه
وحكمة خضعت هام الملوك لها ... عزاً فلا حر موجود بواديه
مؤيد جاءت الدنيا إلى يده ... عفواً ولبته من قرب أمانيه
جلت أياديه حتى إن أنفسنا ... وما ملكناه جزء من أياديه وقال يتغزل من قصيدة:
مستجبر لا يطيبه بالرضى ... أحد ولا يجري الوفاء بباله
دارت دوائر صدغه فكأنما ... حامت على تقبيل نقظة بباله
رشأ توحش من ملاقاة الورى ... حتى توحش من لقاء خياله
فلذاك صار خياله لي زائراً ... إذ كنت في الهجران من أشكاله
ولقد هممت به ورمت حرامه ... فحماني الإجلال دون حلاله
وحببته حب الأكارم رغبةً ... في خلقه لا رغبةً في ماله(1/474)
وهذا ينظر إلى قول المتنبي:
وأغيد يهوى نفسه كل عاقل ... عفيف ويهوى جسمه كل فاسق وقال عبادة في الحاجب ابن أبي عامر:
لنا حاجب حاز المعالي بأسرها ... فأصبح في أخلاقه واحد الخلق
فلا يتغرر منه الجهول ببشره ... فمعظم هول الرعد في أثر البرق قال عبادة: أول شعر قلته أني وقفت على هدف الرمي بعدوة النهر بقرطبة، وثم غلمان من أبناء العبيد ينتضلون، فقلت:
وما راعني إلا سهام رواشق ... إلى هدف بنحوه كل يدي ظبي
أقاموه كي يرموا إليه فلم يكن ... لهم غرض حاشا فؤادي في الرمي وهو القائل في ميمون بن الغانية وكان وسيماً:
قمر المدينة كيف منك خلاص ... أو أين عنك إلى سواك مناص -
ما أنت إلا درة الحسن التي ... قلبي عليها في الهوى غواص
والشادن الأحوى الذي في طرفه ... سحر يصاد بسهمه القناص
أمن جفونك من مغبة ما جنت ... فينا فليس على الملاح قصاص وقال عبادة من قصيدة يمدح ابن حمود:
أبسل عليك الماء حتى يشوبه ... دم والكرى حتى تقض المضاجع(1/475)
أجم جياداً أدمن الغزو نهكها ... فمنها حسير في الجهاد وظالع
وأغمد سيوفاً تشتكيك جفونها ... كما تشتكي نجل العيون البراقع
وسكن عجاج الركض شيئاً فقلما ... يرى الجو مما هجته وهو ناصع
وآنس قصوراً طال إيحاشها به ... فقد أشفقت مما صنعت المصانع
وهل ضرك الباغي بسهم مكيدة ... وأنت بواقي عصمة الله دارع -
وأي يدٍ قراعك بعدما ... رأينا يد الجبار عنك تقارع - وهذه المعاني كلها متداولة، وألفاظها متناقلة، وإن كان قد تشبث بها معان أخر، فهي أشهر من أن تذكر، منها قول المتنبي:
فقد مل ضوء الصبح مما تغيره ... ومل سواد الليل مما تزاحمه
ومل القنا مما تدق صدوره ... ومل حديد الهند مما تلاطمه وقال عبادة فيه من أخرى:
صلى عليك الله يا ابن رسوله ... ووليه المختص بعد خليله ومنها:
وله من السعد المتاح معدل ... يغني أخا التنجيم عن تعديله وهذا كقول المتنبي:
يقر له بالفضل من لا يوده ... ويقضي له بالسعد من لا ينجم(1/476)
وأبين منه قول ابن شرف:
ونجوم آمالي طوالع بالمنى ... والسعد يستغني عن التقويم وفيها يقول عبادة:
كم يبعث الباغون رسلهم إلى ... من كتبه من زرقه ونصوله
وزع الإله ببأسه وعقابه ... ما لم يزع بالنص من تنزيله
هذا علي ناصر الدين الذي ... نظمت له غرر السنا بحجوله وهذا البيت الثالث منها كقول المتنبي:
ولا كتب إلا المشرفية عنده ... ولا رسل إلا الخميس العرمرم وكرره في موضع آخر فقال:
ورب جواب عن كتاب بعثته ... وعنوانه للناظرين قتام
حروف هجاء الناس فيه ثلاثة: ... جواد ورمح ذابل وحسام وقال المعري:
ولا قول إلا الضرب والطعن عندنا ... ولا رسل إلا ذابل وحسام ومعنى البيت الرابع منها نظمه من قول الحسن بن أبي الحسن البصري: " يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ".(1/477)
وكان عبادة يظهر التشيع في شعره، من ذلك قوله في يحيى بن حمود:
فها أنا ذا يا ابن النبوة نافث ... من القول أرياً غير ما ينفث الصل
وعندي صريح في ولائك معرق ... تشيعه محض وبيعته بتل
ووالي أبي قيس أباك على العلا ... فخيم في قلب ابن هند له غل وله من أخرى في علي بن حمود الحسني:
أطاعتك القلوب ومن عصي ... وحزب الله حزبك يا علي
فكل من ادعى معك المعالي ... كذوب مثل ما كذب الدعي
أبى لك أن تهاض علاك عهد ... هشامي وجد هاشمي
وما سميت باسم أبيك إلا ... ليحيا بالسمي له السمي
فإن قال الفخور أبي فلان ... فحسبك أن تقول أبي النبي قوله: " عهد هشامي " قد تقدمت الإشارة به، والوجه الذي قاله بسببه، في أخبار الخليفة سليمان، المفتتح باسمه هذا الديوان.
وله من أخرى يرثيه ويهنئ أخاه القاسم بالخلافة:
صلى على الملك الشهيد مليكه ... وسقاه في ظل الجنان الكوثر
مولىً دهته عبيده، وغضنفر ... تركته أيدي العفر وهو معفر
كانت تهيبه الأسود فغاله ... في قصره مستضعف مستحقر
لم يثن عز الملك عنه منونه ... فسمت له من حيث لم يك يحذر(1/478)
ختلته سراً والقبائل درع ... تحميه لكن المنايا جسر
ولو إنها رامته جهراً لانثنت ... والبيض تقرع والقنا يتكسر ثم خرج إلى المدح فقال:
ما غاب بدر التم إلا ريثما ... جلى الدجى عنا الصباح الأزهر
إن يهو من أفق الخلافة نير ... يهدي السبيل فقد تلاه نير
بالقاسم المأمون أفرخ روعنا ... فالقسم وافٍ والنصيب موفر قوله: " ختلته سراً ".... البيت مع الذي يليه، معنى قد طوي ونشر، كسف رواؤه مما ابتذل، وأسن ماؤه مما عل به ونهل، ومنه قول المهلبي يرثى جعفراً المتوكل:
جاءت منيته والعين هادئة ... هلا أتته المنايا والقنا قصد
فخر فوق سرير الملك منجدلاً ... لم يحمه ملكه لما انقضى الأمد ومنه قول الأسدي أيضاً يرثيه، وألم بهذا المعنى فيه:
هكذا فلتكن منايا الكرام ... بين ناي ومزهر ومدام
بين كأسين أردياه جميعاً ... كأس لذاته وكأس الحمام
لم يزل نفسه رسول المنايا ... بصنوف الأوجاع والأسقام
هابه معلناً فدب إليه ... في كسور الدجى بحد الحسام وأخذ هذا المعنى عبد الكريم التميمي فقال يرثي صاحب خراج المغرب، وكان تناول فمات بسببه:(1/479)
سنايا سددت الطرق عنها ولم تدع ... لها من ثنايا شاهق متطلعا
فلما رأت سور المهابة دونها ... عليك ولما لم تجد لك مطمعا
ترقت بأسباب لطاف ولم تكد ... تواجه موفور الجلالة أروعا
فجاءتك في سر الدواء خفيةً ... على حين لم تحذر لداء توقعا وقد أخذ أيضاً هذا المعنى أهل وقتنا وهو أبو محمد عبد المجيد بن عبدون، فقال من قصيدة يرثى بها الوزير أبا المطرف ابن الدباغ الكاتب:
ثارت إليه المنايا من مكانها ... سراً على غفلة الحراس والسمر
أولى لهن وأولى لو هممن به ... والمنع ذو راحة والدفع ذو حذر في أبيات غير هذه هي ثابتة في موضعها من هذا المجموع.
ولله در صريع الغواني فإنه أخذ عليهم ثنايا البديع في هذا المعنى، وإن كان بينهم بعد كما ترى، حيث يقول:
ألم تعجب له أن المنايا ... فتكن به وهن له جنود - وقال أبو الطيب:
تخون المنايا عهده في سليله ... وتنصره بين الفوارس والرجل(1/480)
@ذكر الخبر عن ولاية القاسم بن حمود قرطبة إلى انقضاء الأمر
@بانقطاع دولته القاضي ابن عباد عليها
قال ابن حيان: بويع القاسم بن حمود بقرطبة صبيحة يوم الأحد، بعد ست ليال من مقتل أخيه علي بها، وأحسن تلقي الناس وأجمل مواعيدهم، وأخرج النداء في أقطار البلاد بأمان الأحمر والأسود وتخلية الناس لشأنهم، وبراءة الذمة ممن تسور على أحد. وقرر الفتية الثلاثة التي فتكت بأخيه فأقروا بجريمتهم، ونفوا عن جميع الناس المواطأة والتدليس، فقتلهم القاسم لوقته، وأطفأ النائرة بولايته. وتنسم الناس روح الرفق، وباشروا ظل الأمن، وأطمأنت بهم الدار. وأمر بإسقاط رسم التقرية، وأظهر البراءة منها، وأقصى السعاة وطردهم، وأقر القاضي والحكام والخدمة على منازلهم. وزاد كلف القاسم في اتخاذ السودان، وقودهم على أعماله، إلى أن ضعف أمره، وتسلط البرابرة عليه حتى احتقروا. فكاتب منذر بن يحيى ابن أخيه علي بالعدوة، وأخوه إدريس بمالقة، فلما قتل أبوهما علي اتفقا لأول وقتهما على ضبط مالقة وشد سلطانها، إلا أنهما أظهرا مبايعة عمهما القاسم، إلى أن انكشف له يحيى من أول سنة عشر وأربعمائة، وانتقل إلى مالقة وجعل أخاه بالعدوة ليقرب هو من أذى عمه القاسم، فحل بالأندلس(1/481)
لأول وقت جواز يحيى شواظ من نار، وأضرمها سعيراً، واستخف بعمه، وضم الرجال وسعى لتبديد شمل عمه. وشكا القاسم أمره إلى البرابرة فتثاقلوا عنه، وأجبوا التضريب بينهما. ولم يزل أمر يحيى يقوى، وأمر القاسم يضعف، فلم يجد مخرجاً مما وقع فيه إلا الهرب من دار الخلافة والانقلاب إلى عمله بإشبيلية؛ وكان يكثر الندم على ما دخل فيه من سلطانهم إلى أن عيل صبره، ففر من قرطبة إلى عمله بإشبيلية في خمسة فوارس من خاصته، وذلك ليلة السبت لثمان خلت لربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، اتخذ الليل جملاص ولم يعلم بخبره إلا عند الصباح. فضبط البربر قصر قرطبة إلى أن لحق يحيى ابن أخيه بعد خطوب، فبويع يحيى في التاريخ، واجتمع عليه الفريقان: الأندلس والبرابرة من أهل قرطبة وأعمالها خاصة. وكانت أم يحيى لبونة بنت محمد بن الأمير حسن ابن القاسم الملقب بقنون، فعرف يحيى بكرم الولادة لما جاء هاشمي الأبوين، رابع أربعة من أبناء القرشيات من خلائف الإسلام: أولهم جده الأكبر علي بن أبي طالب، وابنه الحسن بن علي، ثم الأمين محمد بن هارون. فعرف يحيى بهذه الفضيلة، وسلك سبيل والده في التحقيق بالفروسية والحب لركض الخيل والخروج للقنص، وتنكب ما سوى ذلك من مذموم أخلاق أبيه ومكروه سيرته، فجانب العصبية وآثر النصفة وطلب السلامة، فطاب خبره. إلا أن العجب والكبر شانا خصاله هذه، إلى أن خلط وتبلد. وتمرست به عفاريت(1/482)
زناتة، فضيقت عليه التكاليف، حتى أقصر بعدما قصر، وتولى دون أن يعذر، وركب ما عاب مثله على عمه، فصارت عاقبة أمره خسراً.
وأقر يحيى أصحاب الخطط على مراتبهم؛ وحسن رأيه في أحمد بن برد وعول عليه في كتابته، واستخلص من الأندلسيين صحبه: جعفر ابن محمد بن فتح والفقيه الأديب أبا عمر بن موسى بن محمد اليماني الوراق صاحب محمد بن عبد الله النبهاني، وولاه خطة الوزارة فكادت الجبال تنهد لهذه العظيمة، وجمح مركبها به وأبدع في الكبر والخنزوانة. وقدم أيضاً إلى الوزارة محمد بن الفرضي الكاتب، فكان أعدى من الجرب على دولته، وارتقب عقلاء الناس عند ذلك حلول المحنة، فقديماً استعاذوا بالله من وزارة السفلة. ووصل جعفر بن فتح صاحبه الأقدم إبراهيم بن الإفليلي كبير الأدباء بقرطبة بالخليفة يحيى، ورغبه في الإحسان إليه، فذاكره وحدثه ونوه به. وسما في أيامه أبو بكر بن ذكوان وأبو العباس أحمد بن أبي حاتم أخوه، وأنهضهما إلى الوزارة عقب وفاة الشيخ أبي العباس ابن ذكوان. وغرب شأو أبي بكر منهم، فجاء أحوذياً نسيج وحده في فضله وعلمه وعفته. وعدل بروع الظرف بابن عمه أبي العباس إلى الاشتهار بالمجون، فجاء فيه طرفاً ليست وراءه غاية، يصور القلوب برقة ظرفه وحرارة(1/483)
نادرته، لا يكاد أحد يمكنه من أذنه إلا أخذ بفؤاده رقةً وحلاوةً، ويشوبها ببعض الهزل عند انبعاث النادرة، له في ذلك أخبار مشهورة، من أشهرها ما تفاكه الناس به في تلك الدولة من قطعة له مجونية، نبس بها بديهةً في بعض خلواته، وقد أكثروا عليه تهنئةً بالوزارة فقال:
أنا مشغول بعزفي ... وبضربي للحجاره
إنما يصلح مثلي ... أن يرى راكب جاره
أو يرى في جوف خانٍ ... لابساً نصف غراره
قد نضا عني ثيابي ... حثي الكأس المداره وملحه في الأدب غزيرة شاهدة له بقوة الطبع وخفة الروح. ثم لم يبعد أن أقصر بعد عن الهزل على حين الذكاء، فاعتدلت حاله، وهبت له ريح بعد حينٍ، أحظته عن العلية من نمطه.
قال ابن حيان: ثم فر يحيى بن علي أيضاً عن قرطبة إلى مالقة أمام(1/484)
البرابرة، وجيء بعمه القاسم بن حمود إلى قرطبة كرته الأخرى التي أعقب ابن أخيه يحيى بن علي، في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة، فتكنف سريره أغمار الناس من البرابرة، وخرجوا لقتالهم سنة أربع عشرة على نظام مسرود، فانهزموا وقتلوا قتلاً ذريعاً، فارتحلوا عن قرطبة وحلوا بقلشانة وشذونة وغيرها من الكور. وانتبذت من الهزيمة طائفة من صعاليك القبائل وألفاف البطون، والتفوا بالقاسم يرجون به كرة الدولة، فدعوه إلى الرجوع إلى إبيلية، وكان خلف بها ولده محمد بن القاسم مع وزيره محمد بن خالص، فسار بجماعته تلك يؤمها، وإذا بخبر هزيمته قد سبقه إليها، فخاف أهلها معرة من معه، فوثبوا على ولده وأصحابه وحصروهم بدار الإمارة، وأحاطوا به، ووقع بينهم قتال شديد. فوافى القاسم باب إشبيلية بمن معه، ولاطفهم في القول، وطمع خديعتهم فلم يصغوا إليه، واشتد الأمر على ولده ورجاله، فرضي القاسم من أهل البلد بإسلامهم جميعاً إليه موفورين بماله وأهله، فعاقدوه على ذلك، فخرج ابنه وولده محمد وأهله، ودخل بهم إلى شريش. ولم يدع مع ذلك السعي في الفتنة على ابن أخيه يحيى صاحب الدولة. وكانت آفة القاسم بإشبيلية من قبل ثقته محمد ابن زيري بن دوناس اليفرني، فقدم زعيمهم القاضي محمد بن إسماعيل ابن عباد، وأطعمه في إمارة البلد بعد دفع القاسم عنه، فاغتر بقول ابن عباد وعاقده على ذلك، فأعان أهل إشبيلية على قتال محمد بن القاسم، فلم يك لأصحابه بعد نظام، وخرجوا عن البلد، وملكه أهله. فوثبهم ابن عباد زعيمهم بالغادر محمد بن زيري، فخرج وصفت إشبيلية من البرابرة. وآلت حال القاسم بعد ابن أخيه يحيى إلى أن حاربه بشريش، وحاصره عشرين يوماً، كانت بينهم فيها حروب صعاب، قتل الله فيها من الفريقين أمة. وأجلت الحرب عن قهر يحيى لعمه القاسم، وحمله مقيداً إلى مالقة أسيراً، وقبض على حرته، " أميرة " القرشية وسائر حرمه وولده وأسبابه، بعد نهبٍ(1/485)
وامتهان لجماعتهم، لم يقدر يحيى على تخليصهم منه لتلظي الحرب. وكان يحيى أولاً في حلف مع محمد ولد عمه القاسم، فدله على إشبيلية حارس لابن عباد، فلما انجلت الحرب وقع يحيى على نكث لعمه القاسم، فقبض على ابنه محمد وقيده وبعث به إلى مالقة، وحينئذ صمد إلى شريش لعمه فبلغ فيه ما وصفناه.
@فصل في ذكر الوزير الكاتب أبي حفص بن برد الأصغر،
@وإيراد جملةٍ من نظمه ونثره، مع ما يتصل
@من قصة وخبرٍ بذكره
قال ابن بسام: كان أبو حفص ابن برد الأصغر في وقته فلك البلاغة الدائر، ومثلها السائر، نفث فيها بسحره، وأقام من أودها بناصع نظمه وبارع نثره، وله إليها طروق، وفي عروقها الصالحات عروق، إذ كان أبو حفص الأكبر - على ما تقدم ذكره - واسطة السلك، وقطب رحى الملك، بالحضرة العظمى قرطبة، وقد تقدم من أخباره المأثورة ورسائله المشهورة في أخبار سليمان، وغيره من ملوك بني أبي عامر وبني مروان، أول ما يشهد أن آل برد جمهور كتابة، ومحور خطابة، وقد فخر أبو حفصٍ هذا بذلك في كتابه الموسوم ب - (سر الأدب وسبك الذهب " من أرجوزة يقول فيها:(1/486)
يا طالب الدنيا بأقصى الجهد ... إسع بجدٍ منك لا بكد
من شاء خبري فأنا ابن برد ... حد حسامي قطعة من حدي
وأرفع الناس بناءً جدي ... من نظم الألفاظ نظم العقد
ونقد الكلام حق النقد ... وكف بالأقلام أيدي الأسد
به استضاء في الخطوب الربد ... كل إمامٍ وولي عهد @فصول مقتبضة من كتابه المذكور
قال في صدره: أما بعد، فإن الله تعالى - وله الحمد - جعلنا أهل بيت أشرب حب ثناعة الكلام نفوسهم، وشغل بطلب البيان والتبيين قلوبهم، فغذانا بالحبث عن الأصول، على حسب ما وهب الله تعالى لنا من المعرفة، وسهل علينا من الحزونة، حتى عرفنا المقسوم لنا منها فتفقنهاه، وفهمنا المنعم به علينا فأحكمناه، ثم انعطفنا على الفروع فذهبنا مع فنونها، واستكثرنا من عيونها. ثم أنا لما رأينا أن الأصول قد اخترناها زاكية المنابت طيبة المغارس، وأن الفروع قد لويناها لدنة الأفنان عذبة، ترامت بنا آمالنا إلى أن نجتبي من زهرتها ونطعم من ثمرتها، فرأينا أن نمد يداً إلى غرس قد أبرناه، حتى بلغ إناه، فنقطف من خياره، ونتأنق في اختياره. وأصبحنا بعد نرمي أغراض الكلام بأسهم أزرها التسديد، ونعقل مناظم القول بألسن برئ منها التعقيد، ونذيب من المنثور جداول النطاف، ونجمد(1/487)
من المنظوم جواهر الأصداف. وكان جدي أحمد بن بردٍ - رحمه الله - بطول ممارسته لهذه الصناعة، برخاء اللبب والنهمة في الطلب، ودعة الزمان وإقبال السلطان، ومسافة العمر الممتدة له، قد اقتعد سنامها، ورفع أعلامها، وأصبح إمامها، وزين أيامها، وركب وسط مساقها، وأحرز قصب سباقها.
وفي فصل منه:
فإني وافقت أول معالجتي لهذه الصناعة آخر أيامه، وأوان بتات عمره وانصرامه، خلا أنه - عفا الله عنه - ولما يحل المقدور به، قد كان أقبسني مصابيح من وصاياه فيها، ووطأ لي مراكب من دلائله إليها، وضرب لي صوى من هداياته نحوها، أفاد الله بها نفعاً، وأوسع معها إرشاد. ثم إن الأيام إثر مصابه، وبعد ذهابه، باكرتني صروفها، وشغلتني برقع خروقها، ومكابدة ضيقها، وسوق الأدب قد كسدت، وجمرة السلطان قد همدت، والعي أمضى من البيان، والإساءة أحمد من الإحسان؛ وأقلامنا يومئذ في عطلة، ومحابرنا في عقله، وكتبنا تحت موجدة، وحينئذ قلت:
قرعنا بالكتابة باب حظٍ ... لندخله فزاد لنا انغلاقا(1/488)
فلم تبلغ بلاغتنا مناها ... ولا مد المداد لنا ارتفاقا
ولا راحت تقرطس بالأماني ... قراطيس أجدناها مساقا
وقلمت المطالب من حداها ... لنا أقلامنا ساقاً فساقا
فلا هطلت على الآداب مزن ... ولا برحت أهلتها محاقا
وعوضنا بما ندريه جهلاً ... لعل السوق مدركة نفاقا فما زلنا مع الخطوب مساجلين، ولصروف الأيام مناضلين فيوم لنا ويوم علينا. حتى إذا أراد الله أن يحيى لهذه الصناعة رسماً، ويعيد لها دولة واسماً، ويرفع سائر العلوم من التخوم إلى النجوم، وفنون الآداب من التراب إلى السحاب، طرف جفن السعد الباهت، وارتد نفس الحد الخافت، ولقي عثرة العلم مقيلها، ودولة الجهل مديلها، ونخوة الباطل مزيلها، ورسوم الغباوة محيلها، وقداح البلاغة مجيلها؛ ورفعت لي سجوف الأماني، عن الملك اليماني، غرة كندة التي تضحك عنها، وهضبة تجيب التي تأوي إليها، أبي الأحوص معن بن محمد، أيده الله كما أيد الحق، وصدقه وعده كما أحيا الصدق، فوصلت به سببي، ولويت بقوى أطنابه طنبي، ورأيت به للحلم جبلاً موطوداً، وللديانة ظلاً ممدوداً، وللتقوى حبلاً مشدوداً، وللعلم بحراً طموحاً، وللأدب روضاً مجوداً(1/489)
مروحاً. ولم يزل - لا زالت به النعل - منذ اعتصمت بحرمته، واعتزيت إلى خدمته، يقبل عليّ في مجالسه المأنوسة باللحظ واللفظ، ويكسبي بمنازعة الأدب شرف المرتبة والحظ، فأتمرن على تثقيفه وتقويمه، وأتضمر عن رياضته وتعليمه، وتلزني هيبة كماله، وروعة جلاله، إلى شخذ سجايا، وجمع قواي، واجتناب الخطل في إيوانه، والزلل في ميدانه، فلا ترى شيئاً أشبه في التفضل، وبي في التقبل، من قول حبيب:
نرمي بأشباحنا إلى ملكٍ ... نأخذ من ماله ومن أدبه والبلاغة وإن كانت من فنون العلم أرق ما استرق، وألطف ما غرف، وأيسر ما به حاضر، وأقل ما أمل، وأوهن ما خزن، وأدنى ما اقتنى، فله كلف بانتقادها شديد، وصوت في معرفة نقادها بعيد. وقد خلص بيمينه العالية جوهر الكلام من أخباثه، وممر القول من أنكاثه، في غير ما كتابٍ منتم إلى البلاغة، معلم في الكتابة، فجاء بالصواب حاسراً، وبيان الحقيقة سائراً، وفي هذا النقد سقط العشاء بمن سقط على السرحان، وفيه أساء من أحسن بنفسه الظن في ألإحسان.(1/490)
ومن هذا الباب تولجت إلى صنعة هذا الكتاب ليرى - أيده الله - كيف نبت كلامي على سقيه، ونما ما أودع تربة قبولي من غرسه. فإني ضمنته، في فنون من البلاغة وفصول من اكتابة، سلطانيات وإخوانيات. وكل ما أوردته مما ولدته، وما وضعته مما صنعته، لم أغله لغيري، ولا خنت فيه أمانة سواي؛ إلا أنني طرزته بأبواب من بيوت الشعر المحتوية على الحكم البوالغ، والجارية مجرى الأمثال السوائر، لشعراء مجيدين، وعلماء مفيدين، قد ركبوا من المعاني أوطأها مركباً، ووردوا للألفاظ أعذبها مشرباً، وتخطوا في نظمهم الخشونة إلى اللدونة، والتكلف إلى التلطيف، وخاضوا جسوم الحكم إلى الأرواح، وخرجوا بحسن التخلص من الالتباس إلى الإيضاح، لئلا تباين طبقة منثورة طبقةً منظومة، ولا تبعد مرتبة جامدة من مرتبةٍ ذائبة، وليأتي في ازدواج الليل والنهار، وامتزج الماء بالعقار.
@فصول له في التحميدات
فصل: الحمد لله الذي علا وقهر، وبطن وظهر، وبحكمته قدر وأمر، وبعدله قدم وأخر.
فصل آخر: الحمد لله الذي علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان، المحجوب عن الأبصار، والفائت إحاطة الأفكار، تعالى في(1/491)
الحجب العلا، واطلع على النجوى، وعلم السر وأخفى، خلق الخلق للفناء، ثم يعيدها للبقاء.
فصل: الحمد لله اللطيف الخبير، العالم بذات الصدور، الذي يطلع على الإصرار، ويعلم خفي الأسرار، ويتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار.
فصل: الحمد لله جالي الكرب السود، وفاتح المبهم المسدود، الذي أقال العشرات، وأدال من الحسرات، وانتاش متن البأساء وأعقب بالنعماء، وأراح من جهد البلاء.
فصل: الحمدل لله واصل الحبل بعد انقطاعه، وملائم الشمل بعد انصداعه، المصبح بنا من ليالي الخطوب، والماحي عنا غياهب الكروب، والناظم لما انتثر من الألفة، والجامع لما انتشر من الكلمة.
فصل: الحمد لله الكائن قبل المكان، والموجود في عدم الزمان، الحي الذي لا يدركه الموت، والدائم الذي لا يلحقه الفوت، والفرد الذي ليس له نظير، والصمد دون وليٍ ولا ظهير، وارث الأرض ومن قطنها، والسماء ومن سكنها، مميت كل حي وباعثه، ومحيي كل ميتٍ ومنشره.
فصل: الحمد لله خالق العوالم على نتافر في الصفات شديد، وتباينٍ(1/492)
في التركيبات بعيد، فمن صلصالٍ كالفخار، ومن مارجٍ من نار، ومن جواهر روحانيةٍ، وأنوار، وكل عالمٍ منها ناطق بأنه خالق، وشاهد بأنه واحد.
فصل: الحمد لله وإن عثرت الجدود، وهوت السعود، المرجو للإدالة، والمدعو في الإقالة، والقادر على تعجيل الانتصار، والآخذ للإسلام بمنيم الثار.
فصل: أما بعد فما أتيت البصائر من تعليل، ولا الأعداد من تقليل، ولا القلوب من خور، ولا السواعد من قصر، ولا السيوف من كهم، ولا الرماح من جذم، ولا الجياد من لؤم أعراق، ولا الصفوف من سوء اتساق. ولكن النصر تعذر، والوقت المقدور حضر، ولم يكن لتمضي سيوف لم يرد الله مضاءها، ولا لتبقى نفوس لم يرد الله بقاءها. وفي قوله تعالى أحسن التأسي وأجمل التعزي {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله؛ وتلك الأيام نداولها بين الناس} (آل عمران: 139) .
فصل: الحمد لله مؤلف الآراء، وجامع الأهواء، على ما أغمد من(1/493)
سيف الفتنة، وأطفأ من نار الإحنة، وأصلح الفاسد، وألف الشارد، ونشر الأمن، وأحيا الحق، وجمع الشمل، ووصل الحبل، ورجع الكلمة إلى أجمل نظام، وأنعم على المسلمين أتم إنعام.
فصل: الحمد لله الذي صير أعداءنا وأضدادنا من أعضادنا، والسيوف المسلولة علينا مسلولةً دوننا، والجيوش المجهزة إلينا مجهزة عنا، حمد من لا يستغرب له صنعاً، ولا يرى من آياته بدعاً، ولا يطيق لنعمه عداً، ولا يحسد لآلائه حداً.
@وله فصول في شكر النعم
فصل: إن للنعم عيوناً إذا كحلن بالشكر أرين المنعم عليه السبيل التي يأتي المزيد منها، وتنحدر المواد عليها، والمناهج التي تفضي بها إلى دار إقامتها، وتبليغها مأمنها وملقى عصاها.
فصل: أما بعد، فإن زهر النعمة إذا تفتح بوابل الشكر رأت فيه قرتها العين، وأخذت منه حاجتها النفس.
فصل: نعم حاضن النعمة الشكر، يغذوها فتنمى، ويحرسها فتحتمي(1/494)
ويلطفها فتلقي عصاها، ويعطفها فتعطي جناها. ولبئس الجار لها الكفر، يطيرها عن موضعها، وينفرها عن مشرعها، ويبقى صاحبها مبلساً من إلباسها، وحشاً من إيناسها.
فصل: من ربى النعمة في حجر الشكر، وأرضها ثدي الحمد، وكفلها بأداء الحق، رأى في شخصها النماء، وتعرف من عمرها البقاء، وأمن عليها التحول والالتواء.
فصل:
- الشكر حرم للمنة، وأمان بيد النعمة.
- إذا أقفل باب النعمة فالشكر مفتاحها.
- الشكر عوذة على العرافة، وتميمة في جيد النعمة.
- من شكر النعمة التحف بها، ومن كفرها عري منها.
- الكفر غراب ينعب على منازل النعم.
- الشكر بيد النعمة أمان، وعلى وجه العارفة صوان.
- مهر النعمة الشكر، وطلاقها الكفر.
@فقر في صف القلم والمداد والكتاب
- الكتاب من حلية الملائكة، قال الله تعالى: {كرماً كاتبين(1/495)
يعلمون ما تفعلون} (الافطار: 11 و 12) .
- المداد كالبحر، والقلم كالغواص، واللفظ كالجوهر، والقرطاس كالسلك.
- الدواة كالقلب، والقلم كالخاطر، والصحيفة كاللسان.
- العقل أب، والعلم أم، والفكر ابن، والقلم خادم.
- ما أعجب شأن القلم، يشرب ظلمةً ويلفظ نوراً.
- قد يكون قلم الكاتب، أمضى من سنان المحارب.
- القلم سهم تنفذ به المقاتل، وشفرة تطبق بها المفاصل.
- إذا أخذ الكتاب شكتهم للكلام، واخترطوا ظبات الأقلام، فكم من عرشٍ يثل، ودمٍ يطل، وجبار يذل، وجيشٍ يفل.
- لولا القلم ما عبئت كتائب، ولا سريت مقانب، ولا انتضيت سيوف، ولا ازد لفت صفوف.
- على غيث القلمٍ يتفتح زهر الكلم.
- ما أصوغ القلم لحلي الحكم.
- قاتل الله القلم، كيف يفل السنان، وهو يكسر بالأسنان.
- فصاد القلم خدر في أعضاء الخط.
قال ابن بسام: وهذا محلول من قول القائل حيث يقول:
من خط يوماً ببريةٍ فسدت ... أصاب أعضاء خطه خدر - رداءة الخط قذىً في عين القارئ.(1/496)
@فصول له تنخرط في سلك الأمان
: إن أفضل ما تناجي المسلمون به، ووجهوا بصائرهم إليه، وصححوا نياتهم فيه، ولم يلوهم لاو عنه، ولا لفتهم لافت دونه، ما قرب من رضى الله، وأبعد من سخطه، وعمل فيه بأمره، واحستب فيه خلافة رسوله في أمته، من الإصلاح بين المتحاربين وتحذيرهم في سفك الدماء، وتأريث نار الشحناء، وتوكيد رر الحقود، وإيقاظ عيون الحروب، من فساد الدين، ووهن اليقين، وذهاب الرجال، ونفاذ الأموال، واجتياح النعم، واستنزال النقم. قال تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ أو معروف أو إصلاح بين الناس} (النساء: 114) وقال: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} (الحجرات: 9) .
فصل: إن الحرب مثكلة للنفوس، متلفة للأموال، للندامة في العواقب، تلذ مباديها للأشرار، وتنجي كلاكل عاقبتها على الأخيار. وقلما يقدح شعلها، ويغلي مرجلها، إلا فراش الشر وذبان الطمع، ممن لا يحفل بعار، ولا يستحيي من فرار، فإن هلك لم يفقد، وإن نجا لم يحمد. ثم ترتكض جماهير الناس وأولو الذكر، والأعاجم أخطاراً، والأحاسن آثاراً، في لججٍ تبعد عنها السواحل، وينوءون بفوادح تهد عنها الكواهل، فأصح(1/497)
الناس لباً، وأبعدهم نظراً، وأخيرهم أحساباً، من حض على الصلح، ونسب إلى إبراء الجرح، ولم يأل إرشاداً وتبصيراً، ومن سوء العواقب تخويفاً وتحذيراً، وبادر نار الفتنة بالإطفاء، وعصب المتحازبين بالإرخاء، وشوكة الحرب بالخضد، فحقن الدم، وحمى الحرم، وأوطن النعم.
: أما بعد، فقد آن أن توقظوا سواهي العقول، وأن تريحوا عوازب الأحلام، فتسلوا السخائم، وتغمدوا الصوارم، وتعيدوا السهام في كنائها، وتقفوا الأسنة في مراكزها، وتسلموا الخيول في مرابضها، وتعلموا أن الله القادر عليكم الآخذ بنواصيكم أقلها استئصال آثار النعم عليكم، وسطوات أبرزها تحكم أيدي البلاء فيكم، فكم صال بناركم لم يشرككم في قدحها، وشقيٍ بفتنكم ولم يغمس معكم يداً فيها، وموفور سعيتم لذهاب وفره، ومستور أعنتم على انكشاف ستره، فلا العظة تسمعون، ولا على أنفسكم ترعون؛ أما والله لتجرعن الخطبان، ولتقرعن الأسنان، ولتحاولن الأوبة ولا مآب لكم، والتوبة ولا قبول منكم.
: بايع الإمام عبد الله فلان بانشراح صدرٍ، وطيب نفس، ونصاحة جيبٍ، وسلامة غيبٍ، بيعة رضىً واختيار، لا بيعة إكراه وإجبار، على السمع والطاعة، والمؤازرة والنصرة، والوفاء والنصيحة، في السر والعلانية، والجهر والنية، والعمل على موالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، من بعيدٍ وقريب، وغريبٍ ونسيب، ويقسم(1/498)
على الوفاء به والقيام بشروط بيعته، بالله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، عالم الغيب والشهادة، والقائم على كل نفسٍ بما كسبت، ويعطيه على ذلك كله ذمة الله وذمة محمدٍ ورسوله، وذمة الأنبياء والمرسلين، والملائكة والمقربين، وعباد الله الصالحين.
ومتى خلعت ربقةً بخترٍ أو غدر، أو طويت كشحاً على نكث أو حنث، فعليك المشي إلى بيت الله الحرام ببطحاء مكة من مستقرك ثلاثين حجة، نذراً واجباً لا يقبل الله تعالى إلا الوفاء به؛ وكل زوجة لك مهيرة، أو تنكحها إلى ثلاثين سنةً، فطالق تحتك طلاق الحرج ثلاثاً. وكل أمة أو غرة أو عبد لك أو تملكه فأحرار لوجه الله العظيم. مال لك من صامتٍ أو ناطقٍ أو تملكه إلى ثلاثين سنةً غير عشرة دنانير أو قدرها فصدقة على الفقراء والمساكين، وقد برئ الله تعالى منك ورسوله وملائكته. والله بجميع ما انعقد عليك في هذه البيعة شهيد، وكفى به شهيداً، وعلى الأعمال والنيات مثيباً.
: أما بعج، فإن الغلبة لنا والظهور عليك جلباك إلينا على قدمك دون عهد ولا عقد يمنعان من إراقة دمك. ولكنا، بما وهب الله تعالى لنا من الإشراف على سرائر الرياسة، والحفظ لشرائع السياسة، تأملنا من ساس جهتك قبلنا، فوجدنا يد سياسته خرقاء، وعين حزامته عوراء، وقدم مداراته شلاء، لأنه مال عن ترغيبك فلم ترجه، وعن ترهيبك فلم تخشه، فأدتك حاجتك إلى طلاب الطعم الدنية، وقلة مهابتك إلى التهالك على المعاصي الوبية. وقد رأينا أن نظهر فضل سيرتنا فيك(1/499)
ونعتبر بالنظر في أمرك، فمهدنا لك الترغيب لتأنس إليه، وظللنا لك الترهيب لتفرق منه، فإن سوت الحالتان طبعك، وداوى الثقاف والنار عودك، فدلك بفضل الله عليك، وبإظهاره حسن السياسة فيك؛ وأمان الله لك مبسوط منا، ومواثيقه بالوفاء لك معقودة علينا، وأنت إلى جهتك مصروف، وبعفونا والعافية منا منكوف، إلا أن تطيش الصنعية عندك، فتخلع الربقة وتمرق من الطاعة، فلسنا بأول من بغى عليه، ولست بأول من بدت لنا مقاتله من أشكالك إن بغيت، وانفتحت لنا أبواب استئصاله من أمثالك إن طلبت.
أمان غريب الصنعة: أما بعد، فإنكم سألتم الأمان أوان تلمظت السيوف إليكم، وحاولت المنايا عليكم، وهمت حظائر الخذلان أن تفرج لنا عنكم، وأيدي العصيان أن تتحفنا بكم. ولو كلنا لكم بصاعكم، ولم نرع فيكم ذمة اصطناعكم، لضاق عنكم ملبس الغفران، ولم ينسدل عليكم ستر الأمان. ولكنا علمنا أن كهولكم الخلوف عنكم، وذوي أسنانكم المعاصين لكم، ممن يهاب وسم الخلعانن ويخاف سطو السلطان، وأنهم لا يراسلونكم في ميدان معصية، ولا يزاحمونكم منهل حيرة، ولا يماشونكم إلى موقف وداع نعمة. ولولا تحرجنا أن نقطع أعضادهم بكم، ورجاؤنا أن يكون العفو على(1/500)
المقدرة تأديباً لكم، لشربت دماءكم سباع الكماة، وأكلت لحومكم ضباع الفلاة. وقد أعطيناكم بتأميننا إياكم عهد الله تعالى وذمته، ونحن لا نخفرهما أيام حياتنا إلا أن تكون لكم كرة، ولغدرتكم ضرة، فيومئذٍ لا إعذار لكم ولا إقصار عنكم، حتى تحصدك ظباة السيوف، وتقتضي ديون أنفسكم غرماء الحتوف.
وفي العتاب: أظلم لي جو صفائك، وتوعرت علي أرض إخائك، وأراك جلد الضمير على العتاب، غير ناقع الغلة من الجفاء. فليت شعري ما الذي أقسى مهجة ذلك الود، وأذوى زهرة ذلك العهد - عهدي بك وصلتنا تفرق من اسم القطيعة، ومودتنا تسمو عن صفة العتاب ونسبة الجفاء؛ واليوم هي آنس بذلك من الرضيع بالثدي، والخليع بالكأس. وهذه ثغرة إن لم تحرسها المراجعة، وتذك فيها عيون الاستبصار، توجهت منها الحيل على هدم ما بنيناه، ونقض ما اقتنينا، وتلك ناعية الصفاء، والصارخة بموت الإخاء.
لا أستبد - أعزك الله - من الكتاب إليك، وإن زعم أنف القلم، وانزوت أحشاء القرطاس، وأخرس فم الفكر، فلم يبق في أحدها إسعاد لي على مكاتبتك، ولا بشاشة عند محاولة مخاطبتك، لقوارص عتابك، وقوارع ملامك، التي قد أكلت أقلامك، وأعضت كتبك، وأضجرت رسلك. وضميري طاوٍ لم يطعم تجنباً عليك، ونفسي وادعة(1/501)
لم تجن ذنباً اليك، وعقدي مستحكم لم يمسسه وهن فيك. وأنا الآن على طرفٍ من إخائك معك، فإما أن تدلي بحجةٍ فأتنصل عندك، وإما أن تنبئ بحقيقة فأستديم خلتك، وإما أن تأزم على فأسك فأقطع حبلي منك، كثيراً ما يكون عتاب المتصافيين حيلةً تسبر المودة بها، وتستثار دفائن الأخوة عنها، كما يعرض الذهب على اللهب، وتصفق المدام بالفدام. وقد يخلص الود على العتب خلاص الذهب على السبك. فأما إذا أعيد وأبدي، وردد وولي، فإنه يفسد غرس الإخاء، كما يفسد الزرع توالي الماء.
@فصول في الاستزارة
- اليوم يوم بكت أمطاره، وضحكت أزهاره، وتقنعت شمسه، وتعطر نسيمه، وعندنا بلبل هزج، وساق غنج، وسلافتان: سلافة إخوانٍ، وسلافة دنان؛ قد تشاكلتا في الطباع، وازدوجتا في إثارة السرور؛ فاخرق إلينا سرادق الدجن تجد مرأى لم يحسن إلا لك، ولا يتم إلا بك.
- الزيارة في الليل أخفى، وبالزائر والمزور أحفى، وقد سدل حجابه، ووقع غرابه، وتبرقعت نجومه بغيومه، وتلفعت كواكبه بسحائبه؛ فاهتك إلينا ستره، وخض نحونا بحره؛ ولك الأمان من عين واشٍ تراك، وشخص رقيبٍ يلقاك.
- البدر صنوك، فإن طلعت معه علي ذعر الخافقان، والشمس(1/502)
تربك، فإن صاحبتها إليّ استراب الثقلان؛ فاجعل ليالي السرار مواقيت الازديار، وأيام الانكساف ساعات الائتلاف.
- لم نلتق منذ عرينا مركب اللهو، وأخلينا ربع الأنس، وقصصنا جناح الطرب، وعبسنا في وجوه اللذات. فإن رأيت أن تخف إلى مجلسٍ نسخت فيه الرياحين بالدواوين، والمجامر بالمحابر، والاطباق بالأوراق، وتنازع المدام بتنازع الكلام، واستماع الأوتار باستماع الأخبار، وسجع البلابل، بسجع الرسائل، كان أشحذ لذهنك، وأصقل لفكرك، وآنس لخاطرك، وأطيب لنفسك، وأفرج لهمك، وأرشد لرأيك.
- نحن من منزل أبي فلان بحيث نلتمس سناك، ونتنسم رياك؛ وقد راعنا اليوم باكفهرار وجهه، وما ذر من كافور ثلجه، فاردعنا له بالستور، وانغمسنا بين جيوب السرور، ورفعنا لبنات الزناد راياتٍ حمراء، وأجرينا لبنات الكروم خيلاً شقراٍ، وأحببنا أن تشهد جيش الشتاء كيف يهزم، وأنفاس البرد كيف تكظم.
@فصل قصار في مدح الإخاء
- بيننا خصائص ودادةٍ، كأنها وشائج ولادة.(1/503)
- رعيت به السعدان، وأخذت من ريب دهري به الأمان.
- جلى من مطلبي ما أظلم عليّ، وأشعل من همتي ما خمد لدي.
- أمضى لساني، وبل ريقي، وأشاد باسمي، وأعلى قدري.
- ولا والحجر اليماني، والسبع المثاني، لا جعلت سواه قصدي، ولا استكفيت غيره عظم أمري.
- ناصري إذا تكاثرت الخطوب عليّ، ومجيري إذا أثخنت الأيام جانبي.
- هو ذخري المعد، وركني الأشد، وسلاحي الأحد.
- خزانة سر لا إقليد لها، ولا للصوص حيلة فيها.
- آراؤه كالمرائي إذا جليت، والسيوف إذا انتضيت.
يحسن عشرة الجار، ويسيء عشرة الدرهم والدينار.
وله في ضد ذلك:
- خليت عنه يدي، وخلدت قلاه خلدي.
- بيض الأنوق من رفده أمكن، وصفا المشقر من خده ألين.
- منزور النوال، رث الفعال.
- أحاديث وعده لا تعود بنفع، ولا هي من غربٍ ولا نبع.
- مطحلب الوجه، مهراق ماء الحياء، مظلم الخلق، دبوري الريح، مقشعر الوجه.(1/504)
- طاشت عنده الصنيعة، وضاعت فيه اليد.
- على وجهه من التعبيس قفل ضاع مفتاحه، وليل مات صباحه.
- غنى من الجهل، مفلس من العقل.
- تتضاءل النعم لديه، وتقبح محاسن الإحسان عليه.
- لم ينظم عليه قط خرز ثناء، ولا استحق أن يلبس بزة مديح.
- غربال حديثٍ، إذا وعى سراً قطر منه.
- أجال قدحاً غير قامرٍ، ورمى بسهم غير صائب.
- كبد الزمان عليه قاسية، ونعم الله له ناسية.
- شر بقعةٍ لغرس المودة وبذر الإخاء.
- قصير الوفاء للإخوان، عون عليهم مع الزمان.
- هو كدر الدنيا وسقم الحياة.
- رقدت ملء عيني في فرش القلى له، وشربت زلال ماء العزاء عنه.
- مربٍ لأطفال الإحن، محيٍ لأموات الدمن.
@وهذه جملة أيضاً من شعره في أوصاف شتىً
@النسيب وما يناسبه
قال:
لما بدا في لازور ... دي الحرير وقد بهر(1/505)
كبرت من فرط الجما ... لو قلت: ما هذا بشر
فأجابني: لا تنكرن ... ثوب السماء على القمر وهذا كقول ابن الرومي:
يا ثوبة الأزرق الذي قد ... فاق العراقي في السناء
كأنه فيه بدر تمٍ ... يشق في زرقه السماء وابن المعتز أيضاً القائل:
وبنفسجي الثوب قت - ... ل محبة من رائه
الآن صرت البدر حي - ... ن لبست ثوب سمائه ورأى ابن بردٍ غلاماً قد بيض على عادة أهل أفقنا في لباس البياض عند الحزن فقال:
أجل جفونك في ذا المنظر الحسن ... ولم على النأي منه حادث الزمن
واعجب لضدين في مرآه قد جمعا: ... شخص السرور عليه لبسة الحزن وفي لباس أهل أفقنا البياض على المتوفي يقول الحلواني:
لئن كان البياض لباس حزنٍ ... بأندلس فذاك من الصواب
ألم ترني لبست بياض شيبي ... لأني قد حزنت على الشباب(1/506)
وقد أخذ هذا المعنى بعض أهل عصرنا وهو أبو العباس أحمد بن قاسم المحدث بقرطبة فقال:
قالت وقد نظرت فروعها ... شيب على فودي منتشر:
ما شأن تلك البيض - قلت لها: ... مات الشباب فبيض الشعر وقال ابن برد:
أقبل في ثوب لازوردٍ ... قد أفرغ التبر من عليه
كأنه البدر في سماءٍ ... قد طرز البرق جانبيه وقال أيضاً:
بأبي طائر حسنٍ ... لاقط حب القلوب
كلما اهتز جناح ال - ... صد هزت بالوجيب
يتغنى بلسانٍ ... معربٍ فوق قضيب:
أعطي الملك محب ... فاز مني بنصيب وينظر من هذا بعض النظر قول أبي نواس:
وما أنا إن عمرت أرى جناباً ... وإن ضنت بمبخوس النصيب
مقنعة بثوب الحسن ترعى ... بغير تكلفٍ ثمر القلوب(1/507)
وقال ابن برد أيضاً:
كيف لا أعشق ظبياً ... سارحاً في ظل ملك -
إنما السمرة فيه ... مزج كافورٍ بمسك وهذا كقول ابن فتوح:
قد قضيبٍ وبدر ديجور ... وثغر در ولحظ يعفور
نازل صبري وأي مصطبرٍ ... يفي بتلك اللواحظ الحور
كأنما نوره وسمرته ... مسك مشوب بذوب كافور وقال ابن برد:
بأبي أنت وأمي ... لم تطبعت بظلمي -
أبداً تأتي بعتبٍ ... دون أن آتي بجرم
بيننا في الحب قربى ... سقم عينيك وجسمي وهذا كقول ابن الرومي:
يا عليلاً جعل العل - ... ة مفتاحاً لسقمي
ليس في الأرض عليل ... غير جفنيك وجسمي وأخذه محمد بن هانئٍ فقال:
المدنفان من البرية كلها: ... جسمي وطرف بابلي أحور
والمشرقات النيرات ثلاثة: ... الشمس والقمر المنير وجعفر(1/508)
وقال ابن برد:
يا كثير الجفاء لي ... ومضيعاً وسائلي
طال حبي ولم تفز ... منك نفسي بطائل
أنت لي هاجر وإن ... كنت في ثوب واصل
أنت أمررت منهلاً ... كان أحلى مناهلي
سوف أبكيك لا ستحا ... لة تلك الشمائل
بجفونٍ قريحةٍ ... ودموعٍ هوامل وقال أيضاً:
يا من بفيه يعبق العنبر ... ومن لماه سكر مسكر
صح الهوى منا ولكنني ... أعجب من بعد لنا يقدر
كأننا في فلكٍ دائرٍ ... فأنت تخفى وأنا أظهر وقال أيضاً:
صب ذكت في فؤاده الحرق ... يغرق في دمعه ويحترق
لدده في دجى صبابته ... وجه بماء الشباب مؤتلق
لما رمته العيون ظالمةً ... وأثرت في جماله الحدق
ألبس سن نسج شعره زرداً ... صيغت له من زمرد حلق وقال في مثله:(1/509)
هو في الحسن كالجوا ... د بريح الصبا حذي
زين إذ جاء سابقاً ... بعذاري زمرذ وقال أيضاً:
وجه لمصباح السماء مباهي ... يبدي الشباب عليه رشح مياه
رقم العذار غلالتيه بأحرفٍ ... معنى الهوى في طيها متناهي
نادى عليه الحسن حين لقيته: ... هذا المنمنم في طراز الله وهذا كقول المتنبي:
فدعاك حسدك الرئيس وأمسكوا ... ودعاك خالقك الرئيس الأكبرا
خلفت صفاتك في العيون كلامه ... كالخط يملأ مسمعي من أبصرا وقال ابن برد:
أعنبر في فمه فتتا ... أم صارم من لحظه أصلتا -
يا شارباً ألثمني شارباً ... قد هم فيه الآس أن ينبتا
انظر إلى الذاهب من ليلنا ... وامزج بماء الذهب المنبتا كأنه ذهب في البيت الثاني منها إلى معارضة ابن المعتز في قوله:
قد صاد قلبي قمر ... يسحر منه النظر
بوجنةٍ كأنما ... يقدح منها الشرر(1/510)
وشاربٍ قد هم أو ... نم عليه الشعر
ضعيفة أجفانه ... والقلب منه حجر
كأنما مقلته ... من فعله تعتذر
الحسن فيه كامل ... وفي الورى مختصر وليست يد ابن بردٍ فيه عن مرماه بقاصرةً، ولا صفقته حين جاراه بخاسرةٍ، بل ساواه وزاد. وأجاد ما أراد. ألا ترى قول ابن المعتز على تقدمه: " قدهم أو نم عليه الشعر " لا يكاد يخرج عن لفظ العامة، وابن برد جمع في بيته بين ما بابين من أبواب البديع: فجانس بين الشارب والشارب، وأنبأ أن محبوبه في آخر درجة من المرودة وأول درجة من اللحية، بإشارة عذبة وعبارة حلوة رطبة، دون تطويل، ولا تثقيل - وقول ابن برد: " وامزج بماء الذهب المنبتا " -[يعنى بذلك الفضة، والمنبت مولد ليس من كلام العرب]- ينظر إلى قول الصنوبري:
وليلة كالرفرف المعلم ... محفوفة الظلماء بالأنجم
تعلق الفجر بأرجائها ... تعلق الأشقر بالأدهم
عدلت فيها بين خمرين من ... خمر العناقيد وخمر الفم(1/511)
تناول الجام يدي من يدٍ ... موشية الراحة والمعصم
شبهت ذوب الراح في جامها ... بذوب دينار على درهم وإن كان الصنوبري أراد غير ما ذهب إليه ابن برد، لأنه أمر محبوبه ان يمزج له مدامة صفراء بماء زلال، والصنوبري شبه ذوب الراح في كأسها بذوب الذهب [وشبه الكأس بالدرهم، فعلم ابن برد الإشارة، وأن الخمر إذا اصفرت شبهت بالذهب] والمنبت إذا ذوب أشبه الماء، فناسب قول الصنوبري على هذه الإشارة. وقد نحا هذا النحو [بعض أهل أفقنا] وهو أبو علي الحسن بن حسان المعروف بالسناط فقال:
أدر كأسيك يا قمر الندي ... فقد نام الخلي عن الشجي
كفى بك والمدامة لي صباحاً ... يفرق عسكر الليل الدجي
فخذ ذهباً ورد له لجيناً ... تكن في النقد أربح صيرفي وقول ابن المعتز " والقلب منه حجر " ... البيت، كقول المؤمل المحاربي:(1/512)
فما اكترثت ... يا قلبها أحديد أنت أم حجر - وبعده:
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فتأتيكم فنعتذر وقال ابن برد:
بخداع عللوه ... وبهجر وصلوه
لم يبالوا يوم صدٍ ... أي وجد حملوه
أخرجوه عن محلٍ ... للتسلي دخلوه
بلغوا فيه الأعادي ... كل شيءٍ أملوه
رب ستر للتصابي ... فوقه قد سدلوه
وسنا نار حميا ... في الدجى قد أشعلوه
كلما سقوه كأساً ... إثر كأس قتلوه
وهلال بشري ... بنجوم كللوه
في بهيم من ظلام ... بسناه حجلوه
نشطوه ثم لما ... لان عظفاً أخجلوه
عذلوه عن وصالي ... حسداً ثم ولوه
إنما حبي فيكم ... مثل ما قد سألوه(1/513)
وذكرت بهذه القطعة قطعةً على وزنها ورويها، ويتعلق بها خبر من سيء الأخبار وشرها. قالوا: كان الأمين محمد بن هارون يوماً على بركة ماء وقد عضه ببغداد الحصار، وأخذت عليه الأقطار، إذ دخل عليه غلامه كوثر الخادم الوسيم، وكان له من حبه جزء مقسوم، وقد أصابه سهم خرق حجاب قلبه فخر لحينه، فجزع عليه الأمين جزعاً كان دونه الجنون: ثن قال:
قتلوا قرة عيني ... ومن اجلي قتلوه
يا هلال الدجن قل لي ... ما لقومي جهلوه -
طلع البدر نهاراً ... فلذا لم يعرفوه
أخذ الله لقلبي ... من أناسٍ خرقوه! وذكر بعض الرواة أن أبا محمد التيمي زاد في هذه الأبيات فقال:
من رأى الناس له فض ... لاً عليهم حسدوه
مثلما قد حسد القا ... ئم بالملك أخوه وفي غلامه كوثر يقول، وقد نظر إلى طولع البدر، وهو يشرب على الفسطاط:(1/514)
وصف البدر حسن وجهك حتى ... خلت أني وما أراك أراكا
وإذا تنفس النرجس الغض ... توهمته نسيم شذاكا
خدع للمنى تعللني في ... ك بإشراق ذا ونكهة ذاكا
لأقيمن ما حييت على الشك ... ر لهذا وذاك إذ حكياكا وهو القائل فيه حين يئس من نفسه:
يا كوثري من ملكي إلا الذي ... تراه والجسران والماطر وقال ابن برد:
أسمر في اللون ولكنه ... قد وقف الصبح على الإفتضاح
يا عجبي من شادن أهيف ... يطارد الخيل ويثني الرماح
إذا مشى والجيش قدامه ... صاح عليه حسنه: لا براح وذكرت بهذا المعنى قول محمد بن هانئ وإن لم يكن به فيتطرف المغزى [بنا] إليه:
قمر لهم قد قلدوه صارماً ... ولو انصفوه قلدوه كوكبا
جاءوا به من بعد أن حشدوا له ... من ردفه جيشاً لئلا يغلبا(1/515)
وكأنما طبعوا له من لحظه ... سيفاً رقيق الشفرتين مشطبا
خالسته نظراً وكان مورداً ... فاحمر حتى كاد أن يتلهبا
هذا طراز ما العيون كتبنه ... لكنه قبل العيون تكتبا
صفة تحير بعضها في بعضها ... حتى غدا التوريد فيها مذهبا وقال ابن برد:
زدتك ذلاً فزدت تيها ... واخطةً ذل من يليها!
ليتك حملت بعض ما بي ... فذقت ما ذقت منك فيها
يا شاعر الحسن بي ترفق ... لا تقتلني به بديها @ومن شعره في سائر الأوصاف
قال:
ويوم تفنن في طيبه ... وجاءت مواقيته بالعجب
تجلى الصباح به عن حياً ... قد أسقى وعن زهر قد شرب
وما زلت أحسب فيه السحا ... ب ونار بوارقها تلتهب
بخاتي توضع في سيرها ... وقد قرعت بسياط الذهب يناسب معنى البيت الثاني منها قول ابن حمديس الصقلي:
من قبل أن ترشف شمس الضحى ... ريق الغوادي من ثغور القاح وقوله: " بخاتي توضع في سيرها " ... البيت، يشبه قول الآخر من أناشيد أبي علي البغدادي:(1/516)
حتى إذا ما رفع لآل الضحى ... حسبته سلاسلاً من الذهب وقد قال بعض أهل عصرنا وهو أبو بكر ابن بقي فذهب به مذهباً عجيباً، وولد معنى غريباً:
يا لك من برق ومن ديمةٍ ... خلتهما في ليلي العاتم
سوطاً من العسجد تومي به ... كف النجاشي إلى حاتم وقال ابن برد:
رضابك ري لمن قد عطش ... وقربك أنس لمن قد وحش
وكم ليلة جلتها فانجلت ... إلى مدنف زرته فانتعش
وقد فتح الأفق للناظرين ... عن شهلة الصبح هدب الغبش وينظر هذا إلى قول المعري:
وصبح قد فلينا الليل عنه ... كما يلفى عن النار الرماد وقال ابن برد:
عارض أقبل في جنح الدجى ... يتهادى كتهادي ذي الوجى
أتلفت ريح الصبا لؤلؤه ... فانحنى يوقد عنه السرجا(1/517)
وكأن الرعد حادي مصعب ... كلما صال عليه وسجا
وكأن البرق كاس سكبت ... في لهاة المزن حتى لهجا
وكأن الجو ميدان وغىً ... رفعت فيه المذاكي رهجا ومعنى البيت الثاني من هذا كقول ابن المعتز، وهو من أحسن ما قيل في الصبح:
والصبح يتلو المشتري فكأنه ... عريان يمشي في الدجى بسراج وقال تميم بن المعتز:
وكأن الصباح في الأفق بازٍ ... والدجى بين مخلبيه غراب وقال البحتري:
والصبح يلمح من خلال سحابه ... كالماء يلمع من خلال الطحلب وقال ابن برد:
سقاني وجفن الليل يغسل كحله ... بماء الصباح والنسيم رقيق
مداماً كذوب التبر أما نجارها ... فضخم وأما جرمها فدقيق(1/518)
وقال أيضاً:
وكأن الليل حين لوى ... هارباً والصبح قد لاحا
كلة سوداء حرقها ... عامد أسرج مصباحا وقال أيضاً:
تأمل فقد شق البهار مغلساً ... كمائمه عن زهره الخضل الندي
مداهن تبر في أنامل فضةٍ ... على أذرع مخروطة من زبرجد وقال:
سقى جوف الرصافة مستهل ... تؤلف شمله أيدي الرياح
محل ما مشيت إليه إلا ... مشى في ابتهاجي وارتياحي
كأن ترنم الأطيار فيه ... أغان فوق أوتار فصاح
كأن تثني الأشجار فيه ... نصل عذارى قد شربن سلاف راح
كأن الجدول المنساب نصل ... صقيل المتن هز إلى كفاح
كأن رياضه أبراد وشي ... تعطف فوق أعطاف ملاح وقال:
يا نعمة من عشيٍ غاب حاسده ... وصح فيه اجتماع دون تشتيت(1/519)
[رحنا إلى النهر والأرواح لاعبة ... بموجه بين إحياء وتمويت]
ولاح في الماء منه منظر حسن ... حبست مني عليه طرف مبهوت
كأنما هو من صافي اللجين وقد ... ذابت على متنه زرق اليواقيت وقال يصف كلف البدر:
والبدر كالمرآة غير صقلها ... عبث العذارى فيه بالأنفاس
والليل ملتبس بضوء صباحه ... مثل التباس النفس بالقرطاس ورأيت ابن برد قد ذكر في كتابه أنه لم يسمع فيه لأحد شيئاً، وابن المعتز القائل في وصف الفرند:
جرى فوق متنه الفرند كأنما ... تنفس فيه القين وهو صقيل قال أبو الحسن: وإذ قد انتهينا إلى ذكر البدر فنلمع بشيء مما قبل فيه من مقطوعات وأبيات لها موقع بهذا الموضع، لمحدثين متقدمين ومعاصرين:
قال ابن المعتز:
انظر إليه كزورق من فضةٍ ... قد أثقلته حمولة من عنبر(1/520)
وسمع ابن الرومي هذا التشبيه فقال: أنا لم أر قط زورقاً من فضة، وإنما أصف ما شاهدته، وأشبه بما عاينته، قال:
ما أنس لا أنس خبازاً مررت به ... يدحو الرقاقة وشك الملح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفه كرةً ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلا بقدار رؤيتها في كفه كرةً ... في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر [وقال المعري:
ولاح هلال مثل نون أجادها ... بذوب النضار الكاتب ابن هلال] وقال:
وكأن الهلال يهوى الثريا ... فهما للوداع معتنقان وقال ابن المعتز:
مثل القلامة قد قدت من الظفر ...(1/521)
وقال أبو المغيرة ابن حزم:
لما رأيت الهلال منطوياً ... في غرة الفجر قارن الزهره
شبهته والعيان يشهد لي ... بصولجان أوفى لضرب كره وله:
قلبي وقلبك لا محالة واحد ... شهدت بذلك بيننا الألحاظ
فتعال فلنعظ الحسود بوصلنا ... إن الحسود بمثل ذاك يغاظ وله إلى من ودعه، وأودعه من الجوى ما أودعه:
يا من حرمت وصاله أو ما ترى ... هذي النوى قد صعرت لي خدها -
زود جفوني من جمالك نظرةً ... فالله يعلم إن رأيتك بعدما قال ابن برد: ولما مات محمد بن ربيب، صنيعة أبي الأحوص وأبي عتبة، وورد الخبر قرطبة، سألني أبو عامر بن شهيد رثاءه ووصف علته، وكانت العلة الكبرى، فقلت:
سيروح المرء إن لم يغتد ... والمنايا للفتى في مرصد
مات من كنا نراه أبداً ... بارئ النفس عليل الجسد
بحر سقم ماج في أعطافه ... فرمى في جلده بالزبد
كان مثل السيف إلا أنه ... حمل الدهر عليه فصدي(1/522)
وكأن المرء لم يحم الأذى ... لائذ منها بثنيي زرد
ينثني الإخوان عنه جانباً ... ويفل الدهر قصد العود
وترى المشفق عنها ينزوي ... وترى الآنف منها يفتدي ومن بدائعه العقم، المستنزلة للعصم، وما أرى أبا الحسن تجافى عنها غاضاً منها، لكن قدر أعجله، أو زمن لم يسمح له، ولأمر ما عطل هذا الورق، وأحال على الأيام أن تستنطق، فالحمد لله الذي لم يثكلنا بها، ويسرنا لاكتتابها.
رسالة في السيف والقلم وكتبها إلى الموفق أبي الجيش مجاهد، يقول فيها: أما بعد حمد الله بجميع محامده وىلائه، والصلاة على خاتم أنبيائه، فإن التسابق من جوادين سبقا في حلبة، وقضيبين نسقا في تربة؛ والتحاسد من نجمين أنارا في أفق، وسهمين صارا على نسق؛ والتفاخر من زهرتين تفتحتا من كمامة، وبارقتين توضحتا من غمامة، لأحمد وجوه الحسد، وإن كان مذموماً مع الأبد. وربما امتد أحد الجوادين بخطوة، أو خص أحد القضيبين بربوة، أو كان أحد السهمين أنفذ مصيرا، أو راح أحد النجمين ضوأ تنويرا، أو غدت الزهرتين أندى غضارة، أو أمست إحدى البارقتين أسنى إنارة؛ فالمقصر يرتقب تقدماً، وتقارب الحالتين في المجانسة يشب نار المنافسة، وإن حال بينهما قدح النقاد، وقبح تحاسد الأضداد.
وإن السيف والقلم لما كانا مصباحين يهديان إلى القصد، من بات يسري إلى المجد، وسلمين يلحقان بالكواكب، من ارتقى لساميات المراتب، وطريقين يشرعان نهج الشرف لمن تقوى إليه، ويجمعان شمل الفخر لمن تأشب عليه، ووسيلتين يرشفان العلى فم عاشقها، ويبسطان في وصال المنى يد وامقها، وشفيعين لا يؤخر تشفيعهما، ومجمعين لا يفرق تجميعهما، جررا أذيال الخيلاء تفاخراً، وأشما بأنف الكبرياء تنافراً، وادعى كل واحد منهما أن الفوز لقدحه، وأن الوري لقدحه، وأن الدر من أصدافه، وأن البكر من زفافه، وأن البناء من تشييده، وأن الملاء من تعضيده، وأن كباء الثناء(1/523)
موقوف على مجامره، وأن خطيب الفخر محبوس على منابره، وأن حلل المآثر من نسيجه، وأن أفراد المفاخر من تزويجه. وحين كشف الجدال قناعه، ومد الخصام ذراعه وهز الإباء من عطفه، وأشم الأنف من أنفه، قاما يتباريان في المقال، ويتساجلان في الخصال، ويصف كل واحد منهما جلال نفسه، ويذكر فضل ما اجتني من غرسه، ويبأى بمنقبة نافرت السها، ومرتبة ريضة خيسها، ورياسة من ذوائب الجوزاء صادها، ونباهة في صهوة العيوق أفادها.
فقال: ها، الله أكبر! أيها المسائل بدءاص يعقل لسانك، ويحير جنانك، وبديهة تملأ سمعك، وتضيق ذرعك. خير الأقوال الحق، وأحمد السجايا الصدق. والأفضل من فضله الله عز وجل في تنزيله، مقسماً به لرسوله، فقال: {ن. والقلم وما يسطرون} (القلم: 1) ، وقال: {أقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم} (العلق: 4) فجل من مقسم، وعز من قسم، فما تراني، وقد حللت بين جفن الإيمان وناظره، وجلت بين قلب الإنسان وخاطره - لقد أخذت الفضل برمته، وقدت الفخر بأزمته.
فقال السيف: عدنا من ذكر الطبيعة إلى ذكر الشريعة، ومن وصف الخصلة إلى وصف الملة، لا أسر ولكن أعلن، قيمة كل امرئ ما يحسن. إن عاتقاً حمل نجادي لسعيد، وإن عضداً بات وسادي لسديد، وإن فتى اتخذني دليله لمهدي، وإن امرءاً صيرني رسيله لمفدي؛ يشق مني الدجى بمصباح، ويقابل كل باب بمفتاح. أفصح والبطل قد خرس، وأبتسم والأجل قد عبس؛ أقضي فلا أنصف، وأمضي فلا أصرف؛ أزري بالوفاء، وأهتك اللأمة هتك الرداء.
فقال القلم: نعوذ بالله من الحور بعد الكور، وقبحاً للتحلي بالجور. وتسود ما بيض الصفاء، وتكدر ما أخلص الإخاء، وتوكد أسباب الفتن، وتضرب بقداح الفتن. الحق أبلج، والباطل لجلج، إن فإنها في قدحها لمأمونة الطائر، محسود الباطن والظاهر. أحكم فأعدل، وأشهد فأقبل؛ وترحل عزماتي شرقاً(1/524)
وغرباً ولا أرحل؛ أعد فأفي، وأستكفى فأكفي، أحلب الغنى من ضروعه، واجتني الندى من فروعه. وهل أنا إلا قطب تدور عليه الدور، وجواد شأوه يدرك الأمل، شفيع كل ملك إلى مطالبه، ووسيلته إلى مكاسبه؛ وشاهد نجواه قبل كل شاهد، ووارد معناه قبل كل وارد.
فقال السيف: يالله! استنت الفصال حتى القرعى، ورب صلف تحت الراعدة؛ لقد تحاول امتداداً بباع قصيرة، وانتفاضاً بجناح كسيرة. أمستعرب والفلس ثمنك، ومستجلب وكل بقعة وطنك - جسم، ودمع بار، تحفى فتنعل برياً، حتى يعود جسمك فيا، إن الملوك لتبارد إلى دركي، ولتتحاسد في ملكي، ولتتوارثني على النسب، ولتغالي في على الحسب؛ فتكللني المرجان، وتنعلني العقيان، وتلحفني بخلل كحلل، وحمائل كخمائل، حتى أبرز براز الهندي يوم الجلاء، والروض غب السماء.
فقال القلم: من ساء سمعاً ساء إجابة. أستعيذ بالله من خطل أرعيت فيه سوامك، وزلل افتتحت به كلامك؛ إن ازدراءك بتمكن وجداني، وبخس أثماني، لنقص في طباعك، وقصر في باعك؛ ألا وإن الذهب معدنه في العفر، وهو أنفس الجواهر، [والنار] مكمنها في الحجر، وهي إحدى العناصر، وإن الماء وهو الحياة، أكثر المعايش وجداناً، وأقلها أثماناً، وقلما تلفى الأعلاق النفيسة، إلا في الأمكنة الخسيسة. وأما التعري، فغنينا بالجمال عن جر الأذيال؛ وهل يصلح الدر حتى يطرح صدفه، أو يبتهج الإغريض حتى يشذب سعفه، أم يتلألأ الصبح حتى تنجلي سدفه - إن الضحاء(1/525)
للرجال معروف. وإن الخفر على النساء موقوف. ولولا جلاء الصياقل صدأك لأسرعت ذهاباً، وعدت مع التراب تراباً.
فقال السيف: جعجعة رحى لا يتبعها طحن، وجلجلة رعد لا يليها مزن، في وجه مالك تعرف أمرته؛ وجه لئيم، وجسم سقيم، وغرب يفل، ودم يطل، ودموع سجام، كأنهن سخام، ورأس يتقلقل فيه لب، وجوف لم يتخضخض فيه قلب، أوحش من جوف العير، يشهد عليه كثرة الجور بقلة الخير. فهب من نومك، وأفطر من صومك، وتحكم بطرف نظار، في جسم ماء وحلة نار. إن امتضاني جاهل، أوهمته أني سائل، ففر خوفاً أن يغرق، وولي حذراً أن يحترق؛ في بحر زبده الشعل، وبرق سحابه الخلل. لو انتضت والشم كاسفة لم ينظر وقت تجليها، أو السنون مجدبة أيقن بالحيا راعيها. قد خط الفرند في صفحتي أمثال صغار الخيلان، في البيض من صفحات الحسان. أكرع يوم الوغى في لبة البطل، فأعود كالخد كسي صبغ الخجل، كأنما اشتملت بالشقيق، أو شربت ماء العقيق.
فقال القلم: إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً. ما كل بيضاء شحمة ولا كل سوداء تمرة. إن ماءك السائل الجامد، وإن جرمك الملتهب لبارد، ولن يغرق فيه حتى تكرع في السبسب العطاش، ولن يحترق به حتى يقع في نار الحباحب الفراش، فأقصر عن جفنك من العمى رواقاً، واحلل من خصرك للجهل نطاقاً، يسفر البلاء لك عن قضيب عاج، ولسان سراج، وقدح ورق جلل بالعقيان، وحلة نرجس فوق جسم أقحوان؛ لليل في فوديه لطخ، وللمسك في صدغيه نضخ. أنجلي عن المهارق، انجلاء(1/526)
الغمام عن الحدائق، وأرقم في بطون الصحف، مالا يرقم الربيع في الروضة الأنف، من منمنم يختال بين مسهم، ومعضد فوق مسرد.
ولما كثر تعارضهما، وطال تراوضهما، وقابل كل واحد منهما بجمعه جمعاً، وقرع بنبعه نبعاً، ولم ينثن أحد الصارمين كهاماً، ولا ارتد أحد العارضين جهاماً، تبادرا إلى السلم يعقدان لواءهما، وإلى المؤالفة يردان ماءها؛ وقالا إن من القبيح أن تتشتت أهواؤنا، وتتفرق آراؤنا، وقد جمعنا الله في المألف الكريم، وأحلنا بمحل غير ذميم، بأعلى يد نالت آمالها، ووافت المطالب في أوطانها، ولم تقابل باباً مغلقاً إلا قرعته، ولا حجاباً مضلعاً إلا رفعته، ولا جداً عاثراً إلا أقالته، ولا أملاً غائراً إلا أسالته - تلك يد الموفق أبي الجيش مولى المعالي ومسترقها، ومستوجب المكارم ومستحقها، العاقد لواء المجد بذوائب السماك، والمطل بفخره على الأفلاك، والمقدم إذا أحجمت الأبطال، والضاحك إذا بكت الآجال، والساري إلى العلياء إذا أدلج الكرام، والمسهد في الآراء إذا هجد الأنام، والطالب ثأر العديم بجوده، والمشفع النيل بمزيده، والمسعف لميعاده، والمخلف لإيعاده، والمجري في ذاويات الهمم ماء، والمطلع في ظلمات الآمال سناء. فإذا قد عدل بيننا بكمه، يوم وغاه ويوم سلمه، فجاوز بك حد المسالمة، وجاوز بي حد المشارسة، ولم يثنك حتى بلغ مناه، ولم يثنني حتى وافق، ولم يقصر بي عن غاية بلغك إليها، ولم يقدمك إلى مرتبة أخرني عنها، فأجمل رداء نرتديه، وأفضل حذاءٍ نحتذيه، وأهدى سبيل نقصده، وأصفى منهل نرده، مؤالفة نجرر ذيلها، ونميل ميلها، ومعاشرة نتجانى ثمارها، ونتعاطى عقارها، وذنوب نخلي أوطانها، ونهدم بنيانها، ودمن نعفي دمنها، ونرد في أجفانها وسنها.
ثن ثقال القلم: إن مما نبرم به عقدنا وننظم عقدنا، ويستظهر به بعضنا على بعض، إن حالت حال، كان للدهر انتقال، أن نخط كتاباً مصيباً، يكون لنا مناباً وعلينا رقيباً، فقد يدب الدهر بعقاربه، بين المرء وأقاربه، ويسعى بالنميمة، بين الفرعين من الأرومة.
فقال السيف: أنت والبيان، وجرياً والميدان. فقال القلم: إن النثر في ذلك مثل(1/527)
يسير، وإن الشعر في ذلك ذكر خطير، وإن لشدو الحادي، وزاد الرائح والغادي. وأختاره على النثر، تنويهاً بالذكر، فقال:
قد آن للسيف ألا يفضل القلما ... مذ سخرا لفتىً حاز العلى بهما
إن يجتنى المجد غضاً من كمائمه ... فإنما يجتنى من بعض غرسهما
ما جاريا أملاً فوافيا أمداً ... إلا وكانت خصال السبق بينهما
سقاهما الدهر من تشتيته جرعاً ... ولليالي صروف تقطع الرحما
حتى إذا نام طرف الجهل وانتبهت ... عين النهى قرعا سنيهما ندما
راحا بكف أبي الجيش التي خلقت ... غمامة كل حين تمطر النعما
فعاد حلبنهما المنبت منعقداً ... وراح شملهما المنفض ملتئما
يا أيها الملك السامي بهمته ... إلى سماء علاً قد أعيت الهمما
لولا طلابي غريب المدح فيك لما ... وصفت قبل علاك السيف والقلما
وإنما كان تعريضاً كشفت به ... من البلاغة وجهاً كان ملتثما:
أما بعد - جعلك الله من المؤثرين على أنفسهم والموقين شحها، والمنجزين لمواعيدهم والمعطين صدقها - فقد علمت ما سلف لنا في العام الفارط من عتابك، ولبسنا شكته من ملامك، لما كتمتنا صرام النخلة التي هي بأرضنا إحدى الغرائب، وفريدة العجائب، هرباً من أن نلزمك الإسهام في رطبها، وحرصاً على تمام لذة الاستبداد بها، وقلت، وقد سألناك من جناها قليلاً، ورجونا أن تنيلنا منها ولو فتيلاً: لو علمت أن لكم به هذا الكلف، وإليه هذا النزاع، لأمسكته عليكم وجعلت حكم جداده إليكم؛ ولكنها إن شاء الله في العام الآنف غلتكم، عتاد نفيس لكم، وذخر حبيس عليكم.
فأما نحن فرسمنا تلك العدة في سويداوات قلوبنا، ووكلنا بها حفظة خواطرنا؛ وأما أنت فهلت عليها التراب، وأسلمتها إلى يد البلى. حتى إذا أخذت الأرض زخرفها(1/528)
وأزينت زينتها، وبلغت غايتها، وأشبع صبغها، وأحكمت الشمس نضجها، دببت إليها بصرامك، ومشيت نحوها الجهر بجرامك، على حين نام السمار، وغفلت الجارة والجار، وأبت بها إيابة الأسد بفريسته، وتحكمت فيها تحكمه في عنيزته.
ولما رأينا على ذلك طلائع الرطب في الأسواق، والجني من بكر النخيل على الأطباق، هزت جوانحنا ذكر العدة، وقلقل أحشاءنا حذر الخيبة، فركضنا الهماليج إلى حرمتك، وجعلنا نشتد طمعاً في لقائك، فلما غشينا الجهة تلقانا فتىً وضاح الجبين، آخذ بالعيون، في وجهه للأدب شاهد، وبين عينيه من الظرف رائد، فقال: بأبي أنتم، وعين الله تكلؤكم حيث كنتم، أراكم ناشدي ضالة أو مستدركي سيب فائت، فاسألوا فربما سقطتم على الخبير، وشاوروا فالمشورة تفتح غلق الأمور. فقلنا له: بآبائنا أنت، إنا لنرجو بيمن لقياك ظفراً بالمطلب، ونجحاً في المذهب. جارك وصديقنا الذي نحن تلقاء منزله، وفي حاشية محله، وعدنا منذ عام بأن يسهم لنا في جنى نخلة لديه، لم تتفقأ تربة هجر عن مثلها، ولا أوت قماري بصرى إلى شكلها، فجئناه لنأكل منها وتطمئن قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين.
قال الفتى: يا لإخواني في الخيبة، وشركائي في فوت الأمل؛ أنا ساكن المحلة التي منبت هذه النخلة في ساحتها، وقد صرمها منذ خمسة عشر يوماً؛ ولقد كنت قبل صرامها أمنحها نظر العاشق إلى المعشوق، فإذا رأت الطير وهي على سعفها ما أواصل إليها من لحظاتي، وأتابع عليها من زفراتي، رمتني بأفراد من رطبها أحلى من شفاه العذارى. وأنا اليوم أبكي منها ربعاً خالياً، وبعد ثالثة أغدو عنها جالياً.(1/529)
فما هذا الخيس أبا عبد الله بعهدك، وما هذه الربدة في وجه عدوك، وما هذا الاستئثار على إخوانك المؤثرين لك - إن كنت لم تحضرنا يوم صرامها لنحتكم على قولك فيها، ونأخذ معك بأجزل الأقسام منها، فالعذر لا يضيق عنك، واللوم لا ينبسط إليك. هات مما ذخرته لساعات تفكهك، أسهم لنا فيما اعتدته ليوم نوروزك. لم يكن جناها بنزر فيقتسمه الإهداء، ولا بدون فتطيب عنه النفس. ولا تخش منا ما أفسد به حين قال لهم: " أكلتم تمري وعصيتم أمري "، إذا نحن أكلنا منها فمرنا نناصب عنك أعداءك براً وبحراً، ولا نعص لك أمراً.
جلعنا الله فداك: نحن عصابة نتحلى بأدب، وننتمي إلى حظ غريب وصياغة قريض. وربما لم تصدق في هذا الطريق مضاءنا، ولا قبلت يقيناً غناءنا؛ فأدرنا أن نصف لك شيئاً من كلام العرب في النخل وبدء نباته، والتمر حالاته، فإن سرك ما جئنا به، وراقك ما أفضنا فيه، جعلت جوائزنا تمراً، وكان ذلك لنا أجراً.
نعم، تقول العرب لصغار النخل: الجثيث، والودي، والهراء، والفسيل، والأشاء، والكافور، والضمد، والإغريض. فإذا انعقد سمته السياب، فإذا اخضر قبل أن يشتد سمته الجدال، فإذا عظم فهو البسر، فإذا صارت فيه طرائق فهو المخطم، فإذا تغيرت البسرة إلى الحمرة فهي شقحة، فإذا ظهرت الحمرة فهي الزهو وقد أزهى، فإذا بدت فيه نقطة من الإرطاب قيل وقد وكت، هي بسر موكتة، فإذا أدرك حمل النخلة فهو الإناض، فإذا أتاها التوكيت من قبل ذنبها فهي مذنبة، فإذا بلغ الإرطاب نصفها فهو المجزع والمجرع، لغتان، فإذا بلغ ثلثيها فهي حلقانة، فإذا جرى الإرطاب فيها كلها فهي منسبتة.(1/530)
فيا أبا عبد الله أمجدنا رطباً، نمجدك خطباً. هذا قليل من كثير، وثماد من بحور، وليس يطيب وصفنا نظماً ونثراً لمناقب هذه النخلة إلا بعد اختيارنا منها، وفوز قداحنا بها. إذا أنت فعلت فكلفنا فيها خاصة ما تكلفه عمرو بن بحر الجاحظ في نخل الدنيا عامة نأتك به، ونربي فيه عليه. ولعلك تحب أن تسمع شيئاً من منظوم الكلام في النخل يذيب من جمودك، ويولد عقيم جودك، فالمنظوم خداع بحسنه، مستميل بطنه. أنشد الأصمعي لأبي الغفار الرياحي:
غدت سلمى تعاتبني وقالت ... رأيتك لا تريغ لنا معاشا
فقلت لها أما تكفيك دهم ... إذا أمحلت كن لنا رياشا
بوارك ما يبالين الليالي ... ضربن لها وللأيام جاشا
إذا ما القاريات طلبن مدت ... بأسباب ننال بها انتعاشا
ترى أمطاءها بالبسر هدلاً ... من الألوان ترتعش ارتعاشا هذا وإنا لنخشى أنك أزيد تمادياً في أمرك، وأعظم شحاً على تمرك، إراغة المعاش ومعالجة الاقتيات. فقال لها: في النخل التي رزقنا الله كفاف من العيش كاف، وبلغة من القوت مقنعة. ثم أعظم من أمرها بدنو طعامها في الجدوب، وصبرها لتصرف الليالي والأيام. وما ترى أرسل هذه الأبيات على ألسنتنا إلا شيطان قد شكا إليك عسرة فأنلته بسرة. فهو يحب إبقاءنا عندك، ودفع متطفلي الإخوان عنك؛ فلعن الله الشيطان وأعاذنا منه، وصلى الله على محمد ولا صدنا عنه، فإنه يقول: " نعمت العمة لكم النخلة "، والخطاب لجميع المسلمين. وأنت قد استوليت على عمة من عماتهم، تستبد بخيرها دونهم، وتمسك معروفها عنهم. ونحن رجال من بني أخيها أتينا نعتقها، فإن أنت سويتنا مع نفسك فيما تدر به عليك، وتملأ منه يديك، وإلا نافرناك إلى السلطان، وألبنا عليك أبناء الزمان، ونستغفر الله ونسأله أن يبدلنا من بخلك نوالاً، وبمطلك إعجالا.
ورسالة سماها بالبديعة في تفضيل أهب الشاء على ما يفترض من الوطاء، يقول فيها: ألهمك الله مراشد الأمور، ومنحك صواب التدبير، وعرفك(1/531)
من بركة التواضع ما يدخلك في أهله، وقبح إليك من نقيضه الكبر ما يعدل بك عن سبله، وجعل أحب أسباب معايشك إليك، ما عاد قليله بكثير المنفعة عليك. وما دعائي هذا بحق استوجبته بالتسليم لمن إلى الدنيا سبقك، وإلى باكورة التجارب مد يده قبلك، ولكنه عرض لمحاسن الأخلاق عليك، وضراب عن وجه المعاتبة لك، في الهوة التي كانت منك. وإني وإن كان شأو سني أمد، وساعد زمني أشد، وكنت بالأيام أقطن، ولمسائل تجاريبها أفطن، فما احب أن أقتني الخمر بالربا، ولا أن أجزع عن أحمد أخلاق أهل الفتا، فأحتج عليك معنتاً، وأرادك القول مجملا، استطالة بأبهة الكبر عليك، وأنساً إلى مساعدة الجاهلين فيك، على ما عليه اليوم أقوام أساءوا تدبيرهم، وجهلوا مقاديرهم، ورأوا لأنفسهم من الحق ما لم يجعلهم الله له أهلاً، ولا أسلكهم منه حزناً ولا سهلاً. وإن طالت مناقلتنا الكلام، وامتد لنا ميدان الخصام، فلا تحسبني منهم، ولا تنظمني في سلكهم، وانثن من دوحة كلامك على أي غصن شئت، وانعطف من جداول معانيك في أي جزع أحببت.
عبتني - أعزك الله - بارتخاص الأشياء ومقا في الشراء، وقلت: لم تؤثر ذلك إلا اللؤم الخليقة، والهمة الدقيقة، وإلا فالشيء ربما غولي في ثمنه لطول الاستمتاع به، وتعرف نماء فائدته، وربما مالت نفس الحريص إلى الرخيص، فطال بقاؤه معه، وبلغ في التعويض منه أضعاف الذي كان استشنعه، ونامت هناك عين الرأي، واحتجب دونك وجه النظر. وسأفسح للكلام ميداناً، وأنثر عليك من الألفاظ مرجاناً، وأعاطيك من سلاف المعاني أكواساً، وأشمك من روض البيان آساً، وأريك صورة الحسنة في جمالها، وأعطيك الحلية بزمامها، فلعلك أن تكون سلس الرجوع إلى الحق، ملوي ثني العنان عن التمادي في الباطل، فنروح مشكورين: أنت على الاستماع وأنا على الإفهام.
جل ما له عبت، وفيه قلت ورددت، وبه أبدأت وأعدت، [من] إيثاري في الصيف والشتاء، اهب الشاء، ومراوحتي منها في البرد والحر، بين البطن والظهر. وأي بساط منها أدل عل التواضع وأعرب عن القناعة، وأدفأ في السبرة، وألين في المس، وأخف في المحمل، وأمكن للنقلة، وأوفق لمقدار الحاجة، وأجدر بطول المتعة(1/532)
وأبقى على حدث الدهر، وأغنى عن تكلف التبطين ومراعاة الترفيع، والمحافظ على الطي والنشر - تجد على الابتذال، وتعتق مع الامتهان، ولا تحوجك إلى خياط ينازلك في السوم، ويخجلك أما القوم، تنتح جبينك بعرق الاختلاف إليه، وذل التكرر عليه، وهو تبحبح في دكانه، واشتغل عن سوء مقامك باستطالة محادثة صبيانه. ثم لعل القمل الذي يكون لم يحضرك، فتشمت العدو بنفسك، وتبدي ما كان مستوراً من مالك. هذه بأنفسنا مكتفية، وعن سواها مستغنية، مع صيانة المروءة ووقاية ماء الوجنة. إن قلبتها لبطونها شتوت على وثارة، أو صرفتها لظهورها صفت في لدونة. للعيال فيها - فضلا عنك - على تقادم العهد ووقوع الاستبدال، أكبر عون وأكمل انتفاع، في التمهيد للطفل الصغير، واستعمالها في أبي الخمير في سحرة الليلة القرة. فإن دعتك حاجة نفسك إلى البكور بالغداة، فقد وجدت من ذلك نعم المعين، وإن أدلج إليك ضيف يكرم عليك، لم يكن بحضوره لوقته عندك منفس تقيسه به وتقرنه معه.
وبعد، فإنك لا تتكلف شراءها إلا في وقت تتقرب إلى ربك به، وتستجزل من كريم ثوابه عليه، لأنك تستعملها في أضحيتك التي ترجو بركتها، وتأخذ نسيئة إليها فيها، فتنفلك أجر أخراك، وتعجل لك منفعه دنياك. ثم أن جردتها مع الأعوام فتجرد آخر استئناف منفعة، فهي أيمن قعيد لك، وأغبط كائن معك.
وباب الارتخاص الذي نعيت علي هاهنا، باب قد قامت الدلائل على فضله، وكان له ظهري من نفسه. فغال ولو في درانك عبقر، ورفرف تستر، فلن تبلغ من هذه الفضيلة، ولن تحظى بمثل هذه المزية، مع قلة المؤنة ونزارة الكلفة.
ثم أعلن أنها من معاهد صالحي السلف ورؤساء الحكمة، الذين كانوا بالدنيا أعرف، وعن زخارفها أعزف، جاءت بذلك الأخبار، ونقله الخيار. ولم يجعل الله عز وجل من هذا الجنس أقرب قربان فدى به ابن خليله، وسماه ذبحاً عظيماً في تنزيله، إلا لسر من فضله سبق في علمه.
فإن قلت: لا ترى صنفاً من الناس أكثر افتراشاً لها من المعلمين، وقد قيل إن الثقل لا يرضى عندهم، فكيف تسلم في حسن الاختيار لهم، واختيار المرء قطعة من عقله، وعيار على نقصه أو فضله - قلت لك: الصوف تجمع أنت وكل ذي معرفة على أنه زي(1/533)
النساك، ولباس المنقطعين للتعبد، وعمدة الطراز الأول من السلف. فإن قلت: وهاهو في جزيرتك زي رهبان البيع وأرباب الخانات، وهم أضعف الناس أحلاماً وأدناهم طينة، والقائلون بأن الله ثلاثة - تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. فجملة القول في هذا المعنى أنه لم يحجب الله تعالى وجوه المعاش، التي يصحبها جميل النظر، ويلوح عليها سيما البركة عن جنس من خلفه دون جنس، ولا أبداها إلى صنف وحجبها عن صنف، بل ألهم الكل إلى رشده، وعرفه نهج معرفته، الأشكال والمراتب، واختلفت النحل والمذاهب. كما جعلها لقدرته في سائر الحيوان من الطائر والداخر بين الآنس والشارد في صحصح القفر، كل ختلف مسعاه لنفسه، ووجه تدبيره لشأنه، على ما يسر ما تعود وألهم إليه. والمعلمون نظروا إلى ضعف سبب اكتسابهم، وفكروا في تيسر ما تعود عليهم صناعتهم، فأخذوا بالأقوى والأرفق، واعتمدوا على الأرخص والأوفق، ثم علموا أنهم إن تحاملوا على أنفسهم، وافترشوا ما يزينهم لم يلبث أحدهم أن يقوم عن مجلسه لبعض الأمر أو لقضاء الفرض، فتقوم حرب لعب الصبيان على ساق، وتبلغ بتمزيق ذلك الذي افترشه وغالى فيه بالأيدي والأقدام، والترامي والأزدحام، ما لا تبلغ أنياب كلاب القنص في إهاب العقيرة، فيعود ما يسخن العين، ويوجب الرين. وهذا النوع الذي أنسوا إلى خيره، وآثروه على غيره، لو أقامه الصبيان مقام الطبل، وجعلوه هدفاً للنبل، لم يكن أثرهم فيه إلا أثر الندى في صم الصفا.
وفي اختلاف ألوانه تذكرة للناظر إليه، وعظة لمجيل بصره فيه، فما كان منه أسود ذكر بسواد الشباب، وقميص الفتوة، وطيب زمن الحداثة، فأبكى لفراقه، وقلة المتعة به؛ وما كان أبيض ذكر ببياض المشيب، ونذير الرحلة ورائد الأجل، فجر إلى العبادة وبعث على صالح العمل.
هذه - أبقاك الله - خصال لو قسمت على كل مستعمل لهذا الشأن من رخيص وغال، ودون وعال، لأربت على الكفالة، وجازت مدى الغاية، فعها من ممليها، ودع القوس لباريها، وأسلم أعنة الجياد إلى مجريها. لم آت في معناها بظلمة تحتاج إلى صباحك، ولا جئت بلفظ ذي تهمة يضطر إلى إيضاحك. فإن كنت قد لبست شكة المعارضة، وأوترت قسي المناقضة، ورشت سهام المناقلة، فإلى غيري فاكشف صفحتك(1/534)
في سوى هذا الفن فشمر عن ساعديك، فقد قام بنفسه وأعرب عن ذاته، ولم يترك مقالاً لقائل، ولا مجالاً لجائل.
وأخاف عليك - شحاً بك - أن تستقبل بذم هذه الأهب كل مفترش لها، مغتبط بها، فلا تجده إلا شيخاً رائع الوسامة، ابيض الشعرة، أنس إخوانه، وحلس أسطوانه، قد حفظ المسائل، وملأ من إجازات الشيوخ الخزائن، تقصده الفتيات والفتيان، وتفديه الجارات والجيران، وتتنافس في حضوره أيام الزفاف، ويختص بصدور المجالس وطيبات الصحاف، أو معلما ذا سبلة طولى، وجبين أخلى، قد ائتمنته الملوك على ثمار قلوبها، وعماد ظهورها، وقطع أكبادها، يتوسط من صبيته قلب جيش، ويعيش بألطاف أمهاتهم أخصب عيش؛ يقعد عنده الوراقون، ويتحاكم إليه في الخطوط الناسخون، فإذا كانت أيام الأخمسة والجمعات أطال قلنساته، وولى الزيارة منساته، وسار مهينما بتسبيحه وتقديسه، وتهليله وتحميده، يزور الإخوان ويتعاهد المعارف، والكل هش إليه، مقبل عليه.
فإن عارضت هذا الجنس، وناقضت هذا الصنف، دون اتقاء من وراءها من الأصاغر والأكابر، والملوك والسوقة، ضاقت عليك الأرض وكثر عدد الحصى، ولم يستنبت في شانك، ولا رقت كبد لرقة بيانك. وأخوك من صدقك، ومحبك من نصحك؛ وأنا استغفر الله مما كان في ذلك من قول أو عمل، والسلام.
@فصل في ذكر الأديب أبي مروان عبد الملك بن زيادة الله الطبني
@واجتلاب جملة من أشعاره مع ما يتشبث بها من أخباره
كان أبو مروان هذا أحد حماة سرح الكلام، وحملة ألوية الأقلام، من أهل بيت اشتهروا بالشعر، اشتهار المنازل بالبدر(1/535)
أراهم طرأوا على قرطبة قبل افتراق الجماعة، وانتشار شمل الطاعة، وأناخوا في ظلها، ولحقوا بسروات أهلها، وأبو مضر أبوه زيادة الله علي التميمي الطبني هو أول من بنى بيت شرفهم، ورفع بالأندلس صوته بنباهة سلفهم.
قالابن حيان: وكان أبو مضر نديم محمد بن أبي عامر، أمتع الناس حديثاً ومشاهدة، وأنصعهم ظرفاً، وأحذقهم بأبواب الشحذ والملاطفة، وآخذهم بقلوب الملوك والجلة، وأنظمهم لشمل إفادة ونجعة، وأبخلهم بدرهم وكسرة، وأذبهم عن حريم نشب ونعمةً، له في كل ذلك أخبار بديعة؛ من رجل شديد الخلابة، طريف الخلوة، يضحك من حضر، ولا يضحك هو إذا ندر، رفيع الطبقة في صنعة الشعر، كثير الإصابة في البديهة والروية؛ انتهى كلام ابن حيان.
قال ابن بسام: وشعر أبي مضر ليس من شرط هذا المجموع لتقدم زمانه.
فأما ابنه أبو مروان هذا فكان من أهل الحديث والرواية(1/536)
ورحل إلى المشرق، وسمع من جماعة من المحدثين بمصر والحجاز، وقتل بقرطبة سنة سبع وخمسين وأربعمائة. ولمقتله خبر طن ابن حيان به، ولم يمنعه من سرد قصصه استبشاعه، وحسبك من شر سماعه؛ ونلمع منه بلمعة:
قال ابن حيان: وذلك أنه عدا عليه - زعموا - نساؤه بتدبير ابن سوء خلف له، حملهن على ذلك لشدة تقتيره على نفسه وعليهن في المعيشة، وحبسه لهن مع ذلك عن التماس الحيلة لتوسعة الضيقة. فقد كان في ذلك، مع انسدال الستر عليه، وسعة ريعه بالحضرة، وبعد نجعته لابتغاء الفائدة، إلى استناده لرابت هلالي واسع كان يجريه السلطان عليه [عوناً] على صيانته، ويأبى إلا الزيي بالقل والاعتزاء إلى المسغبة، عجباً لمن عرفه أو سمع به، يصدق زعم الجاحظ في نوادر كتابه في البخلاء ويزيد عليها؛ فحمل عنه في ذلك أشياء يكاد النظر يحيلها، حتى لأفضى به تقتيره على أهله أن وكلهن إلى أنفسهن في أكثر مؤنهن، وقاتهن بأمداد من غلث الحبتين القمح والشعير، يستدعيها لهن من متقبل غلته مياومةً، ويكلفهن استطحانها بأيديهن، وهو قد استوحش منهن واعتزلهن، وانفرد بنفسه ليله ونهاره، لا مؤنس له سوى غلام حزور من ولده، مئوف الخلقة، ضعيف العقل، لا أم له، يدعى عبد الرحمن، آواه إليه من جميع ولده وأقصى سائرهم في قعر داره، وصير بينه وبينهن عدة أبواب موصدةن فأصبح بمكانه ذلك في ربيع الآخر من العام المؤرخ قتيلاً فوق فراشه، مضرجاً بدمه، مبعوجاً بالخناجر في(1/537)
وريده وإلبته وأعالي جسده، مفزعا لمن عاين مصرعه، قد أعلن نساؤه بالنوح عليه، يزعمن أنه طرق بمكانه منفردا عنهن، وأخبرن أن ابنه زيادة الله المسمى باسم جده لم يكن عنده علم حتى جئن إليه وأخبرنه بما جرى على أبيه، فهب مستعملا للروع مغالطا بالدمع، داعيا بويله، سائلا عن أبيه سؤاله بالشيء الذي هو جاهله، بلسان تحيل ينبئ عن دهشه، وعين جمود تدل على صحوه. وقد تكابس الناس عليه توجعا لأبيه. وطلب موضع تسور عليه، أو نقب يولج منه إليه، فلم يقف أحد على عين ولا أثر من ذلك، فعرف ابن جهور بما جرى، فأوقع التهمة به، واستبعد أن يطرق أبوه بتلك الداهية، من يد أعتى المردة، إذ كان من وطاءة الخلق، ودماثة النفس، وخلابة المنطق، واجتلاب المودة، من جميع الخلق، وطلب السلامة منهم، بحيث لا يحقد عليه ذو غائلة منهم ولا يغتاله صاحب فتكة. فأحاق به تهمته وأمر صاحب المدينة بالتوكيل به والكشف على داهية أبيه المصاب، والوقوف على صور محنته، فلم يوقف على أثر امتحان، وبحث عن الأمر فشملت الريبة أهله؛ واستفهم صاحب المدينة الغليم ابنه عبد الرحمن فوصف أنه شاهد المحنة، وأخبر أن امرأته أم ولده زيادة الله وابنتيها، ابنتي القتيل، تولين شأنه بسكينه الذي كان يحاول النسخ حتى برد، ولم يذكر أن ابنه زيادة الله حضر ذلك، ففحشت القصة، واضطر صاحب المدينة إلى هتك حجاب القتيل في نسوانه، وبطش به يضرب أم ولده الفاجر زيادة البشر، فدرأت عن نفسها العذاب بإقرارها بكيفية الحال وصفة المحنة المهولة؛ فسجنوا. ودفن(1/538)
أبو مروان اليوم الثاني من مصابه، ولم يتخلف أحد عن جنازته ممن سمع خبره، لاشتهار فضله فيهم، واجتماع صالح الخلال له من الفقه والحديث والرواية والأدب والشعر واللغة والعربية، إلى دماثة الخليقة، واستقامة الطريقة، والتزام الحقائق، واكتمال الإيمان، بقضائه لجميع فرائضه، وعوده في نافلة الحج بعد تأدية فرضه، على وهن بجسده، وتخلف في ناضه، رغبة في الاستكثار من الخير، والترقي في المعرفة، وزيادة لمعاني العلم [وطلبه] ولقاء رجاله. فأكثر الناس من تأنيبه، وأخلصوا الدعاء على قاتليه، واستبطأوا السلطان في إنفاذ الحد عليهم بالشبهة التي ظهرت. وأفتى الفقهاء بتطويل سجنهم بعد الضرب المبرح. وتوقف ابن القطان عن صدع الفتوى في القصة إلا بعد إنعام النظر على عبد الرحمن ابنه، والوقوف على جنس آفته: هل هي في جسمه دون عقله، أو في أحدهما، أو كليهما، فيعمل بحسب ذلك. فإن كان مميزا عاقلا فهو ولي الدم القائم بطلبه دون من تقدم إلى ذلك من بني أخي المقتول وأبناء عمه، وعندها تستقيم له الفتوى في طلبه. فخالفه صاحبه ابن عتاب، وألغى حق الغليم ابنه عبد الرحمن، ونجم الخلاف وبان الإشكال. فأخذ ابن جهور برأي ابن عتاب، وانفصل الحفل عن الأخذ بالقسامة على(1/539)
المتهمين ثلاثتهم، زيادة الله ابن القتيل وأمه ولده الأخرى، وسجن زيادة الشر ابنه زمانا طويلا، ثم سرح فظل خاسئا بين الناس، يخال أنه طليق وهو من شنآنهم ومقتهم، في محابس موصدة. وطاح دم أبي مروان - رحمه الله - فلم يقرع فيه أحد بضغث، ولا حبقت فيه عنز. وبلغت تركته قيمة وافرة في أثمان دفاتر، وأثاث فاخر، ومتاع رفيع، من كسوة وفرش كثر الناس جملته، وأخذوا في مذمته لسوء ما كان يدعيه من القل، ويأخذ نفسه به من شظف المعيشة. وللغرائز المفطورة سلطان على النفوس لا يغالب بصدق نظر ولا قوة معرفة، ومن أدى حق الله في ماله فليس بشحيح فيما قتر من إنفاقه؛ على أن المرء راع مسئول عمن يقوته من أهله، حبانا الله بالتوفيق، وأقامنا على وضح الطريق، بمنه؛ انتهى ما لخصته في هذه الحادثة من كلام ابن حيان.
قال ابن بسام: قول أبي مروان فيما تقدم من وصفه لابن القتيل إذ جاء سائلاً عن مصيبته " سؤاله بالشيء الذي هو جاهله "، محلول من قول خوات بن جبير، ويتعلق به خبر نورده على العادة من الزيادة في الإفادة: ذكر أهل الأدب أن الأتراك لما تقلوا المتوكل جعفراً بتدبير ابنه المنتصر(1/540)
وكان ذلك ليلاً، فلما وقعت الصيحة وارتفعت حضر المنتصر للحين، فجلس على كرسي وحف به بغا الصغير وجميع قتلة أبيه، فجعل المنتصر يسأل ويقول: ما هذا الصياح وما هذا الخبر - سؤال جاهل به، فكان كما قال خوات بن جبير:
وأهل خباء صالح ذات بينهم ... قد احتربوا في عاجل أنا آجله
فأقبلت في الساعين أسأل عنهم ... سؤالك بالشيء الذي أنت جاهله فقال بغا: إن الفتح بن خاقان عدو الله قتل أمير المؤمنين، فقال: وما فعلتم بالفتح - قالوا: قتل وسفك دمه.
وخبر قتل المتوكل جعفر بتدبير ابنه المنتصر أشهر من أن يذكر، وقد ألمعت من ذلك بلمعة في أخبار [الخليفة] سليمان، المفتتح به هذا الديوان. وكان البحتري ليلة قتله حاضراً فاختفى في طي الباب، وهو القائل فيه من قصيدة يرثيه:
وكان ولي العهد أضمر غدرةً ... فمن عجب أن ولي العهد غادره
فلا ملي الباقي تراث الذي مضى ... ولا حملت ذاك الدعاء منابره وكان كثيراً ما يرتاح في شعره إلى ذكره الفتح بن خاقان وتأبينهما، وهو القائل فيهما:(1/541)
مضى جعفر والفتح بين موسد ... وبين قتيلٍ في الدماء مضرج
أأطلب أنصاراً على الدهر بعدما ... ثوى منهما في الترب أوسي وخزرجي وفيهما أيضاً يقول:
تداركني الإحسان منك ونالني ... على فاقة ذاك الندى والتطول
ودافعت عني حين لا الفتح يرتجى ... لدفع الأذى عني ولا المتوكل وقال في غلام له:
عسى آيس من رجعة الوصل يوصل ... ودهر تولى بالأحبة يقبل
أيا ساكناً فات الفراق بنفسه ... وحال التعازي دونه والتزيل
أتعجب لما لم يغل جسمي الضنى ... ولم يخترم نفسي الحمام المعجل -
فقبلك بان الفتح مني مودعاً ... وفارقني شفعاً له المتوكل
فما بلغ الدمع الذي كنت أرتجي ... ولا فعل الوجد الذي خلت يفعل
وما كل نيران الجوى تحرق الحشا ... ولا كل أدواء الصبابة يقتل @جملة ما أخرجته من أِشعار بني الطبني
أخبرني الفقيه أبو بكر ابن العربي عن الفقيه أبي عبد الله الحميدي قال أخبرني أبو الحسن العائذي أن أبا مروان الطبني لما رجع من بلاد(1/542)
المشرق إلى قرطبة، واجتمع إليه في مجلس الإملاء أنشد:
أني إذا حضرتني ألف محبرةٍ ... تقول أنشدني طوراً وأخبرني
يا حبذا ألسن الأقلام ناطقة ... " هذي المكارم لا قعبان من لبن " ووجدت في بعض التعاليق بخط بعض أدباء قرطبة قال: لما عدا أبو عامر أحمد بن محمد بن أبي عامر على الحذلمي في مجلسه وضربه ضرباً موجعاً وأقر بذلك أعين مطالبيه، قال أبو مروان الطبني فيه:
شكرت للعامري ما صنعا ... ولم أقل للحذيلمي لعا
ليث عرين عدا لعزته ... مفترساً في وجاره ضبعا
[لا برحت كفه ممكنةً ... من الأماني فنعم ما صنعا]
وددت لو كنت شاهداً لهما ... حتى ترى العين ذل من خضعا
إن طال منه سجوده فلقد ... طال لغير السجود ما ركعا [وابن رشيق القائل قبله:
كم ركعة الصفعان تحت يدي ... ولم يقل سمع الله لمن حمده](1/543)
قال ابن بسام: والعرب تقول فلان يخبأ العصا وفلان يركع لغير صلاة إذا كنوا عن عهر الخلوة. ومن مليح الكناية لبعض المتقدمين يخاطب امرأته:
قلت التشيع حب أصلع هاشم ... فترضي إن شئت أو فتشيعي
قالت: أصيلع هاشم! وتنفست ... بأبي وأمي كل شيء أصلع ولما صنت كتابي هذا عن شين الهجاء، وأكبرته أن يكون ميداناً للسفهاء، أجريت هاهنا طرفاً من مليح التعريض في إيجاز القريض، مما لا أدب على قائليه، ولا وصمة أعظم على من قيل فيه. والهجاء ينقسم قسمين: قسم يسمونه هجو الأشراف، وهو ما لم يبلغ أن يكون سباباص مقذعاً ولا هجراً مستبشعاً، وهو طأطأ قديماً من الأوائل، وثل عرش القبائل، إنما هو توبيخ وتعيير، وتقديم وتأخير، كقول النجاشي في بني العجلان، وشهرة شعره تغني عن ذكره، واستعدوا عليه عمر بن الخطاب، وأنشدوه قول النجاشي فيهم فدرأ الحد بالشبهات. وفعل مثل ذلك بالزبرقان حين شكا الحطيئة، وسأله أن ينشد ما قال فيه، فأنشد قوله:(1/544)
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... وأقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فسأل عن ذلك كعب بن زهير فقال: والله ما أود بما قال له حمر النعم. وقال حسن بن ثابت: لم يهجه وإنما عليه بعد أن أكل الشبرم، فهم عمر بعقابه ثم استعطفه بشعره المشهور.
وقد قال عبد الملك بن مروان يوماً: احفظوا أحسابكم يا بني أمية، فما أود أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس وأن الأعشى قال في:
تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم ... وجاراتكم غرثى بين خمائصا ولما سمع علقمة بن علاثة هذا البيت بكى وقال: أنحن نفعل هذا بجاراتنا - ودعا عليه؛ فما ظنك بشيء يبكي علقمة بن علاثة، وقد كان عندهم لو ضرب بالسيف ما قال حس! - وقد كان الراعي يقول: هجوت جماعةً من الشعراء وما قلت فيهم ما تستحي العذراء من إنشاده في خدرها.
ولما قال جرير:
فغض الطرف إنك من نميرٍ ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا أطفأ مصباحه ونام، وقد كان بات ليلته تململ، لأنه رأى أن قد بلغ حاجته وشفى غيظه. قال الراعي: فخرجنا من البصرة فما وردنا(1/545)
ماءً من مياه العرب إلا وسمعنا البيت قد سبقنا إليه، حتى أتينا حاضر بني نمير فخرج إلينا النساء والصبيان يقولون: فبحكم الله وقبح ما جئتمونا به!
والقسم الثاني هو السباب الذي أحدثه جرير وطبقته، وكان يقول: إذا هجوت فأضحكوا. وهذا النوع منه لم يهدم قط بيتاً، ولا عيرت به قبيلة، وهو الذي صنا هذا المجموع عنه، وأعفيناه أن يكون فيه شيء منه، فإن أبا منصور الثعالبي كتب منه [في يتيمته] ما شانه وسمه، وبقي عليه إثمه.
ومن مليح التعريض لأهل أفقنا قول بعضهم:
في بني الحيان سر ... فيه للعالم
يفهم القوم بشيء ... نسأل الله الكفايه ومن مليح التعريض لأهل أفقنا ما قال بعضهم في غلامٍ كان يصحب رجلاً يعرف بالعبوضة:
أقول لشادنكم قولةً ... ولكنها رمزة غامضه
لزوم البعوض له دائماً ... يدل على أنها حامضه وأنشدت في مثله لبعض أهل الوقت:(1/546)
بيني وبينك سر لا أبوح به ... الكل يعلمه والله غافره وحكى أبو عامر بن شهيد عن نفسه قال: عاتبت بعض الإخوان عتاباً شديداً عن أمرٍ أوجع فيه قلبي، وكان آخر الشعر الذي خاطبته به هذا البيت:
وإني على ما هاج صدري وغاظني ... ليأمني من كان عندي له سر فكان هذا البيت أشد عليه من عض الحديد، ولم يزل يقلق به حتى بكى إليّ منه بالدموع.
وهذا الباب ممتد الأطناب، ويكفي ما مر ويمر منه في أضعاف هذا الكتاب.
ومن شعر أبي الحسن علي بن عبد العزيز بن زيادة الله الطبني، مما أخذته عنه، قوله:
كم بالهوادج يوم البين من رشأ ... يهفو عليه وشاح جائل قلق
وكم برامة من ريمٍ يفارقنا ... لهفان يثنيه عن توديعنا الفرق
ونرجس كفرند السيف ساهرني ... معللاً بنسيمٍ عرفه عبق(1/547)
نادمته وشباب الليل مقتبل ... والنجم كف يحيينا بها الأفق
في فتيةٍ كنجوم السعد أوجههم ... في أوجه الحادثات الجون تأتلق
نلهو برقراقةٍ صفراء صافيةٍ ... يكاد ينجاب من أضوائها الغسق
يعسى بها مرهف كالغصن نعمه ... ماء النعيم عليه النور والورق وأنشدني أيضاً له:
يا سالياً عاشقيه ... وعاشقاً كل تيه
ومن مدامي ونقلي ... بوجنتيه وفيه
هلا جزيت فؤادي ... ببعض مالك فيه وأنشدني أيضاً لنفسه:
عجباً أن يكون ساكن قلبي ... راتعاً منه في بساتين حبي
ويجازي على الوفاء بغدرٍ ... حسبي الله ثم حسبي وحسبي
جازني كيف لا أترك الذن - ... ب إذا كان فرط حبك ذنبي وهذا كقول أبي بكر ابن عمار:
لئن كان ذنبي للزمان محبتي ... فذلك شيء لست منه أتوب(1/548)
وقال العباس بن الأحنف:
إن كان ذنبي في الزيارة فاعلمي ... إني على كسب الذنوب لجاهد @فصل في ذكر أبي عبد الله محمد بن مسعود وإثبات
@جملة من أقواله، في جده وأهزاله
وكان - رحمه الله - ظريفاً في أمره، كثبير الهزل في نظمه، ونثره، وأراه فيما انتحاه، تقيل منهاج سميه وكنيه محمد بن حجاج بالعراق، فضاقت ساحته، وقصرت راحته، وأعياه الصريح فمذق، ولم يحسن الصهيل فنهق. ولما كان هذا المجموع كتاب أدب، وعقداً يجمع الدر والمخشلب، رأيت أن لا أخليه من ذكره، وهذه فصول من نظمه ونثره.
فصل له من رقعة خاطب بها ابنه إذ توجه إلى الغرب، وقد بلغه خلع عذاره في البطالة والشرب، قال فيها: فاز يا بني استشعر البر والتقوى، واستمسك بالعروة الوثقى، واعتصم بحبل القناعة والرضى، وتحصن بالعفاف، وتبلغ بالكفاف، فلم يزاحم الأقدار، ولا غالب الليل والنهار.
ولشد يا بني ما أوغلت في البلاد، واستوطأت في غربتك خشونة المهاد، وتورطت موحش المجاهل، وتوردت آجن المناهل:(1/549)
تجاوزت في هذا وذلك ما به ... أمرت ولم تقنع من البعد بالدون
ولم تتذكر شوق أم حزينةٍ ... عليك وشيخٍ هائم القلب مخزون
بماذا يفي وذلك لو حوت ... يمينك ما حازت خزائن قارون فأخبرني يا تاجر البحرين، وسمسار العراقين، ودليل الحجازين، وخريت الفلاتين، وابن عظيم القريتين؛ أتعس بك من خراجٍ ولاجٍ، ماضٍ على السرى والإدلاج، جرئ على الليل الداج، كالسراج الوهاج، والعارض الثجاج، وصف لي موقع الشمس في العين الحمئة، وكيف كان مخلصك من تلك البلاد الوبئة، وكيف رأيت مدينة يونس [وجنة إرم] ، والبركان [المؤنس] وجزيرة الغنم، والزاوية وصخرة العقاب، وبئر الهاوية وكنيسة الغراب، وهول العرف، والمعدن وذلك الجرف، ومبيض العنقاء، والفلاة الخرقاء يوم البلقاء، والثنية الخلقاء، ومرسى الزرقاء، وإيوان كسرى، وكفرتوثي، والهرمين والمنار، وجبل اللكام والغار، وغانة السودان، وغرائب البلدان، وفيفاء بني تميم، والكهف والرقيم، وحلق وادي الأشبونة، ومدينة جيبونة؛ وكيف كان دكك على المجوس، بضروب(1/550)
الشعوذة والناموس [واحك لنا من لغاتهم أحسنها، ومن هيئاتهم أتقنها:
لقد اجترأت على الزمان وأهله ... ولقيت كل غريبةٍ شنعاء
" وخرجت منها كالشهاب ولم تزل ... مذ كنت خراجاً من الغماء " فقل الحمد لله.
[وعليك يا بني بالشجرة الجامعة واللبان، من عيون ذوي الحسد والشنآن] . فأين منك الحية النضنانض، وسليك بن السلكة والبراض - أو ما سمعت أن السفر الطويل، يرد خشبة البلد إلى عويد قنديل -
صح عندي أن العسل في [تلك] الجهة غير غال، ومنحط غير عال، فتناول إقامته وتركيبه، وأتقن صناعته وتربيبه. لقد نسيت يا بني أن أبعث إليك بنسخةٍ في تربيب العسل المشروب، مطابقةٍ للمرغوب، التقطتها [مغتنماً] عن فلان اليهودي كان انتخبها المنصور بن أبي عامر وأصحابه كعيسى بن سعيد وعبد الله بن مسلمة. ولست بحمد الله دونهم، فنجابتك قد ظهرت، والدرة(1/551)
قد ندرت، ومخايل السعود طالعة، وآيات الفلاح ساطعة، كما سمي اللديغ سليماً، وسمع عن طهر الإوز قديماً. كانت تلك النسخة في طيبها يا بني غاية، وفي لذتها نهايةطح ولست تعدم في الجهة عوضاً منها، فابحث عنها، فخير المال يا بني ما هبط من الأنبوط، وصفي على القنوط. وقد صح عند عنك بعض ذلك، والألمعي ذو تنجيم. ولا تعدن هذا تعديداً عليك، ولا كرامة، للشيطان الرجيم.
فاشرب على ودي وقف صافناً ... فعل المحب الوامق الذاكر
ولا تكن تشرب إلا على ... حسن أغاني خلفق الزامر
وزد جفاءً لا تكن ناسياً ... فهو من المستطرف النادر
وخذ على الريق من اسبابه ... جوارش الأول والآخر
حتى ترى أملس طاوي الحشا ... قرة عين الشامت الساخر والبلد بكثرة الصيد موسوم، والحوت الطري هناك غير معدوم، واللبرجان الذي عليه المدار موافق، والصاحب مشاكل مطابق.
وله من أرجوزة [مزدوجةٍ] خاطب بها الوزير ابن بقنة على لسان(1/552)
جارية كان أهداها إليه، وضاعت بين يديه، وهي طويلةً منها:
إني بالله وبالوزير ... أدفع ما حل من المحذور
وهبتني لأوحد منقطع ... في القبح والفقر خفي الموضع
[ولم يبين لي بهذا العيب ... من فقره حتى دهى بالشيب
عيبان في الدرهم نقص وردي ... وواحد قد كان يكفي لو قد]
جعلتني أسيرةً مملوكه ... لطلعة حائلةٍ صعلوكه
يعزى على الفال إلى مسعود ... وهو شقي ليس بالمحمود
كما يكنى بأبي البيضاء ... أسود كالسروة في الظلماء
وكنت أرجو معه للراحه ... إذ لم يفز بطائل الملاحه
إذا به أدخلني في شغل ... لفرط الالمام بسوق الغزل
وقال لي إن كنت تهوين التحف ... والأكل والشرب وحلة الطرف
فانتبهي وحكمي الأصابع ... واطرحي عن نفسك المطامع
ألا وهبتني لشخص تاجر ... ولم أكن عند فقير فاجر
أو ليتني كنت لبعض الجند ... فربما حاز نفيس المجد
يضرب بالسيف ولا يقاسي ... خطة خسفٍ بسؤال الناس
قد كدت آدابه والشعر ... فما له عند البرايا قدر
ألحن في أشعاره من تيس ... أعجز في البيت من الضريس
ولو تراه سائراً للسوق ... إذا بدا في كسوة الغرنوق(1/553)
مشمراً في الطين عن ساقيه ... مداولاً عصاه في كفيه
يأخذ في التعيير والإزهاد ... منكمشاً في طلعة الصياد
فمرةً يعطى وألفاً يمنع ... ومرةً يمشي وعشراً يقع
ولو ترى يا ذا الندى مثواه ... لقلت سبحان الذي أبلاه
قطعة لبد دارس الآثار ... قد طرحت حول مكان النار
إلى قدورٍ هي أقصى عقل ... لم يك فيها قط غير البقل
وقدسٍ معلقٍ مقابلي ... أودع فيه في الدجى مغازلي
وطوبة بوضع الرقاد ... كأننا من أعبد العباد
يا شوقنا فيه إلى قنديل ... وتوقنا أيضاً إلى منديل!
هذا جميع كل ما في البيت ... بلا دقيق يرتجي وزيت
[وقد شكا منه لبعضٍ بعضي ... إن كان عندي من ثياب الأرض
غير الذي كسوتني بمالقه ... فبنت قبل الليل منه طالقه]
فلا تدعني غرضاً للقر ... فقد كفاني عدمي للبر
لا سيما، زيادةً في التحفه ... أنني حبلى مقرب ينطفه
وربما جئت له باثنين ... لكي يحوز قرة العينين
بذا وذا تنطبخ الششون ... يا ليته لو أنه قبون(1/554)
كيس الفقير كله في طرفه ... بعد سلطان الهوى من ظرفه وله من أخرى:
ولم أزل في عكاظ ... أصبح في دكان:
هذا الطبيب المداوي ... هذا الحكيم المعاني
فيا لعوقي وكتبي ... وكحلي الأصبهاني
إذا تكحلت منه ... يوماً فلست تراني
قم يا غلام فناد: ... علم الدنا علمان
فالعلم في الدين حق ... كالعلم في الأبدان
هذا لهذا قوام ... كالروح للجثمان
أنا أبط بحذق ... نغانغ الصبيان
أنا أشق بلطف ... مني على السرطان
أنا المرجي المسمى ... مشمر الأجفان
عندي سناً حرمي ... وطرف سلكٍ وران
عندي حمامي ولبنى ... في مرود قيرواني
أنا دللت البرايا ... على خفي المعاني(1/555)
أنا تكلفت صيد ال - ... عنقاء بالورشان
أنا بعثت رسولاً ... للفرس عن ترجمان
وسست نمرود حتى ... تمت له الهرمان
أنا رأيت بعيني ... تسافد الغربان
أنا أدرت يرأيي ... ناعورة الخذلان
لكنها لم تقدر ... للحين بالدوران وله من مقطعاتٍ اندرجت في رسائله الهزلية:
طرة مسكٍ وشارب أخضر ... وثغر درٍ ومقلتا جؤذر
ريم إذا رمت أن أكلمه ... كلمني من جفونه خنجر
وإن تعرضت من عوارضه ... لثماً تجني عليّ واستكبر
كأن خيلانه ووجنته ... سماء حسنٍ نجومها تزهر
طرز فيه الجمال مبتدعاً ... وشياً بلطف المهيمهن الأكبر
وقام في خده لعاشقه ... عذر بذاك العذار إذ غدر وقال أيضاً:
قل للذي دلهني حبه ... أفسدت ما أصلحته أولا
لما بدا وجهك في حسنه ... كالبدر وافى السعد واستكملا
كأنما طرفك من سحره ... من مقل الحور قد استكحلا(1/556)
أطعمتني حتى إذا قلت قد ... آن حرمت الصب ما أملا
والله لولا لحظات الهوى ... لكنت من ذا العالم الأفضلا وقال:
جنبونا سجية العشاق ... ودعونا من الهوى والتلاقي
وأقلوا من البكاء على الرس - ... م ولا تأسفوا غداة الفراق
ما بشخص الحبيب يفرح ذو العق - ... ل ولا بالخدود والأحداق
إنما الملك ثردة من تفايا ... من دجاجٍ مسمناة عتاق
وإذا قيل لي: بمن أنت صب ... وعلام انسكاب دمع ألمآفي -
قلت: بالسكباج والجمليا ... ت ورخص الشوا معاً بالرقاق
وجشيش السميذ أعذب عندي ... من رضاب الحبيب عند العناق وقال:
ما زارني طيفك يا هذه ... إلا تمنيت بألا يزور
فتور ألحاظ ذاك الذي ... أعار أعضائي هذا الفتور
وقدك المائس فوق النقا ... قد فؤادي الهائم المستطير
كم قائل: صفها لنا واختصر ... ولا تطول؛ قلت: شمس القدور(1/557)
قيل وزد قلت لهم إنها ... في سعةٍ مثل الدنا والبحور
تستقذر الجيفة أنفاسها ... وتجعل الفسو مكان البخور
للكحل والغمرة في وجهها ... والطيب والزين شهادات زور
نقراء شقراء على سمرةٍ ... فهل ترى يا سيدي من فطور وله من أخرى في سليمان بن الحكم المستعين يقول فيها:
هل لك يا مولاي في طرفة ... تنسيك حسناً طرف المتحفين -
ليس على مرسلها نحوكم ... من حرجٍ إن راح صفر اليمين
قد أبدعت أهزال أشعاره ... في العالم السحر الحلال المبين
لكنها كاسدة ها هنا ... أكسد منها في قرى شريون
ليس على عاتقه عقدة ... إلا من البرد، لأجل اليمين
وانتتفت عنفقتي بعدما ... شبت وذا من حرفة المملقين
وكنت ذا هدي وسمت إلى ... أن لفني موج الخنا والمجون
ولا بديع لا ولا منكر ... أن يفسد الدين صلاح البطون
فعلت في آخر عمري كما ... تفعل شاة السوء بالحالبين
أصبت في نسكي وزهدي الذي ... أصابه منذر في ألبيرون
وكان صوتي قبل ذا فتنةٍ ... تستنزل الطير بحسن الرنين
وقد غدا ناعورةً خانها ال - ... ماء كذا الدهر مجيح خؤون وله فيه من أخرى يصف اللص الذي أخذه في طريق قرطبة:(1/558)
يا ابن خير الملوك والخلفاء ... وأجل الولاة والأمراء
قيض الله لي من ابنا أبي الر ... يش غليظ الفؤاد ذا كبرياء
لم يكن مثله متن اولاد جالو ... ت ولكن من فراخ الزناء
قال لي قرطبي أنت تحيل ... ت وراقبت غفلة الرقباء -
ما أنا - يافديتكم - قرطبي ... قال دع ذا فليس حين انتماء
وقل الحق والفصاحة خل ... ليس هذا بموضع الفصحاء
الشعير الشعير دعني من الشع - ... ر أنا الآن أشعر الشعراء
هات ذاك النطاق واخلص وإلا ... لم تقلب عينيك نحو السماء
وأراد العدو ذبحي ولكن ... حاط ذو العرش صبيتي ونسائي
فعلاني بالهندواني حتى اس - ... ود ظهري وسال مني دمائي
واعتراني ما لست أذكر لكن ... ظن ما شئت غير كشف الغطاء
يا صباباً خليت في ذلك الفح - ... ص كثيفاً مطبق الأرجاء
وهو باقٍ هناك ما خبت الري - ... ح ولاحت كواكب الجوزاء
كيف أحتال بالتخلص من قر ... دي - انبتونا معشر الأولياء
لو يكون الحرمان أقصى خراسا ... ن حداه إليّ دون حداء
إن أكن ثاوياً بحمص غريباً ... هيناً بينكم دميث الثواء
فوق رأسي قبالة عهدها من ... زمن المنذر بن ماء السماء(1/559)
فلقد عشت برهةً ناعم البا ... ل لحماً خصيب الفناء ومنها:
كنت يممتكم أرجي حياةً ... في اتصال بكم فمت بدائي
وخرجنا كما دخلنا بلا شي ... ءٍ ولكن ربحت صفع قفائي
مد في ذا المكان ذا الحرف لما ... مده صفع ظالمٍ باعتداءٍ وقال من أخرى:
لاح على عارضي القتير ... فحل ما منه أستجير
وكان ذا الدهر قد كساني ... برد صباً ماؤه نمير
فاعتضت منه رداء شيبٍ ... واسترجع المنحة المعير
أبيض لكنه سواد ... في القلب مستبشع نكير
إنا إلى الله لا ارتداع ... والعمر كالبرق يستطير
وإن تماديت ذا خمارٍ ... فلا خمير ولا فطير
من لم يكن بالمصف يغلي ... برأسه الحر والحرور
لم تغل حين الشتاء منه ... بالبر في بيته القدور
وزارني زائداً لهمي ... من لا يسمى إذا يزور
فاجأني والمحل صفر ... للبرد في جوفه صفير(1/560)
والفأر يدعو وحق صومٍ ... في فيه إذ خانه السحور
لهفان قد أزمع ارتحالاً ... لو يستطيع الشقي يسير
الشعر قوتي وقوت فأري ... إذا سبي قلبه الشعير
فلو ترانا به حيارى ... والهر في قبضنا أسير
أبصرته مثخناً طريحاً ... ذا وبرٍ منه يستطير
والشيخ من بين ذا وهذا ... وهذه خاسئ حسير
حيران من دهشة كأني ... قلبق خانه الغدير وله من أخرى:
أمغنى سليمى اسلم سقاك الحيا مثنى ... وإن كان ما أغنى وقوف على مغنى
فكم قد بكى في الدار قيس صبابة ... ولم يقض أن يقضي اللبانة من لبنى ومنها:
أبا القاسم اسمع من عبيدك طرفةً ... أبثكها فأذن لها تلج الأذنا
دنت ليلة النيروز منا ولم تكن ... لترضى لنا فيها من العيش بالأدنى
وقالت خجولي سر إلى السوق واحتفل ... ولا تبق فيها من جراديقها منا(1/561)
وقف بابن نصر واحشون ثم قفة ... من اطرف ما يحويه كي تذهب الشجنا
وجز بالفتى الجزار واختره هابلاً ... بقد ابن فتوي أبي بكر المضنى
ولابد من أترجة صعترية ... وإياك أن تنسى التوابل والحنا
فقلت وأين النقد يا ابنة عزةٍ ... لقد جئتها بلقاء منتنةً نتنا
فقالت: أديب شاعر متفنن ... حوى من حظوظ الظرف في زعمه الأسنى
بلا قطعة - هذه لعمرك هجنة ... فسر راشداً عنا فما لك من معنى
لئن لم تجئ بالتين ألبست شيرة ... وبالزيت أضحى سجنك البيت والدنا
فلا ينكسر بالله جاهي عندها ... وخذ في الذي أحتاج شعري ذا رهنا ووجدت لابن مسعود هذا غير ما قصيدة في مثل هذه الأنحاء، تربي على حصى الدهناء، وفيما مر منها كفاية، ولا يتسع هذا المجموع لاستقصاء الغاية.
@محمد بن مسعود آخر
وكان أيضاً قبله بحضرة قرطبة بن مسعود آخر يعرف بالبجاني، وينتمي في غسان، وكان شاعراً مجوداً جزل المقاطع، حسن المطالع، جيد(1/562)
الابتداع، لطيف الاختراع، كثير الغوص على دقيق المعاني، حسن الاستخراج للألفاظ الرائقة والتصريف لمستعمل الكلام.
وقرف عند المنصور بن أبي عامر بالرهق في دينه، وسجن بالمطبق مع الطليق القرشي لأمر غريب اتفق له، والطليق يومئذ غلام وسيم، وكان ابن مسعود به كلفاً، فقال فيه من قصيدة أولها:
غدوت في الجب خدناً لابن يعقوب ... وكنت أحسب هذا في التكاذيب [يقول فيها] :
رأت عداني تعذيبي وما شعرت ... أن الذي فعلته ضد تعذيبي
راموا بعادي عن الدنيا وزخرفها ... فكان ذلك إدنائي وتقريبي
لم يعلموا أن سجني لا أبا لهم ... ق كان غاية آمالي ومرغوبي
يا ابن الخلائف من مروان واحزني ... عل ضياعك يا ابن الصبية الشيب
وفيك ما يتسلى العاشقون به ... من حسن خلق ومن ظرف ومن طيب
بلى لقد فجعت نفسي لمحتجب ... قد كان عن لحظ عيني غير محجوب(1/563)
قد صيغ من فضة بيضاء صافيةٍ ... ووشح الحسن خديه بتذهيب
والتف بالياسمين الغض بينهما ... نضير ورد بماء الحسن مهضوب
ما أقبح الصبر عندي بعد فرقته ... يا نفس ذوبي عليه هكذا ذوبي
تعجب القطر من عيني حين همت ... منها الشآبيب في إثر الشآبيب
عندي استقرت جنود الكرب أجمعها ... فلست تسمع من بعدي بمكروب
سجن وقيد وأعداء منيت بهم ... لا يسأمون مع الأيام تثريبي
في منزل مثل ضيق القبر أوسعه ... دخلته فحسبت الأرض تهوي بي
يحن عند مقاساة البلاء به ... قلبي إليك حنين الهيم والنيب
ولو توسد أطباق الثرى جسدي ... ناداك قلبي بترجيع وتثويب وكان ابن مسعود يومئذ بالمطبق مع جماعة من رؤساء الأدباء، فلم يزل الطليق يأخذ عنهم، ويستمد منهم، حتى ثري تربه، وطلع عشبه، وسما ذكره، وطار شعره. وكانت أشعاره تأتي ابن أبي عامر فيتهمه فيها.
وانطلق الطليق من معتقله وبقي ابن مسعود مدة محبوساً إلى أن انطلق سنة تسع وسبعين وثلاثمائة بعد مديدة. وليس من طبقة كتابي لتقدم زمانه، وإنما جر حديثه حديث سميه المتقدم الذكر، وكذلك الطليق أيضاً متقدم الأوان، وليس من طبقة هذا الديوان.
وابن مسعود هو القائل في سجنه، وقد انطلق الطليق عنه، وقرب ضده منه:(1/564)
ولي جليس قربه مني ... بعد الأماني كلها عني
قد قذيت من لحظه مقلتي ... وقرحت من لفظه أذني
نادمني في السجن من قربه ... أشد في السجن من السجن
لو أن خلقاً كان ضداً له ... زاد على يوسف في الحسن
إذا اشتهى قطعي في حجة ... سلط إبطيه على ذهني
كأنه يجلس من ذا وذا ... بين كنيفين من النتن والطليق القائل:
غصن يهتز في دعص نقا ... يجتني منه فؤادي حرقا
أطلع الحسن لنا من وجهه ... قمراً ليس يرى ممحقا
ورنا عن طرف ريم أحورٍ ... لحظه سهم لقلبي فوقا
وتناهى الحسن فيه إنما ... يحسن الغصن إذا ما أورقا
رب كأس قد كست جنح الدجى ... ثوب نورٍ من سناها يققا
ظلت أسقيها رشاً في طرفه ... سنة تورث عيني أرقا
فكأن الكأس في أنمله ... صفرة النرجس تعلو الورقا
أصبحت شمساً وفوه مغرباً ... ويد الساقي المحيي مشرقا
فإذا ما غربت في فمه ... تركت في الخد منه شفقا(1/565)
وهذا يشبه قول الآخر:
ومدامة صفراء عللني بها ... رشأ كغصن البان في حركاته
صهباء تغرب إن بدت من كفه ... في فيه ثم تلوح في وجناته
وغمام هطل شؤبؤبه ... نادم الروض فغنى وسقى
فكأن الأرض منه مطبق ... وكأن الهضب جان أطبقا
خلع البرق على أرجائه ... ثوب وشي منه لما أبرقا
وكأن العارض الجون به ... أدهم طل عليه بلقا
في ليال ظل ساري نجمها ... حائراًلا يستبين الطرقا
وقد البرق لنا مصباحها ... فثنى جنح دجاها مشرقا
وشدا الرعد حنيناً فجرت ... أكؤس المزن عليها غدقا
فانتشى شرباً وأضحى مائلاً ... مثل نشوان وقد خر لقى
وغدت تحنو له الشمس وقد ... ألحفته من سناها نمرقا
وكأن الورد يعلوه الندى ... وجنة المعشوق تندى عرقا وله من أخرى:
قمري الوجه أبدى بضحى ... وجهه خط الغوالي غبشا
فأراني سبحاً في ذهب ... من عذاريه كما اصفر العشا
ضرجت خداه حتى خلتها ... عض طرفي فيهما أو خدشا(1/566)
وحوت عيناه [خمراً] لم يرح ... صاحياً من سكره صاحي الحشا
فكأن الصبح في وجنته ... قد سقاه طرفه حتى انتشى
عشيت عين امرئ لم تكتحل ... للبكا والسهد فيه بعشا
جد في قتلي حتى خلته ... أنه فيه من الدهر ارتشا
لم يزل يوشى بنا حتى غدا ... سحر عينيه بنا في من وشى ومنها:
أين لي ملجاً إذا ما طرفه ... بجيوش السحر نحوي جيشا
ونضت ألحاظه أنصلها ... فثناني بطشها أن أبطشا
رشأ إما مشى تحسبه ... غصناً نيط بهضب فانتشى
ثقل الخصر بردف راجح ... مثلما أثقلت الدلو الرشا
فإذا ما ظل يوماً قاعداً ... خلته أوطئ منه فرشا
خمشت ألحاظ عيني خده ... مثلما باللحظ قلبي خمشا
نقشت عيني عليه أسطراً ... أعربت عما بقلبي نقشا
منعت ثم تجلت فدنت ... ربما أرداك ما قد نعشا
أنت كالبدر يرى الليل به ... مؤنساً طوراً وطوراً موحشا
كن كما شئت فقد شاء الهوى ... إنه ينفذ فينا ما يشا(1/567)
ورد جانب من خطبة الذخيرة في النفح 2: 500، كما نشرها دوزي في النصوص التي جمعها عن تاريخ بني عباد 3: 39 - 56.
ط: ينثال ذلك.
ط: نجوم.
ط: القطر.
ط: الفئتين.
ط: وحذوا ... حذاء.
ط: بغرائب.
ط: المشرق.
النفح: المعادة.
أبو الخطاب قتادة بن دعامة السدوسي (61 - 117 أو 118) ، كان من حفاظ أهل زمانه، وقد تفاوتت فيه الآراء فيه: كان حاطب ليل، كما قيل فيه: فلما يحد من يتقدمه، وأنه كان من علماء الناس بالقرآن والفقه (انظر تهذيب التهذيب 8: 351 - 356) .
ط: لحنوا.
الرذية: الناقة الهزيلة المتروكة التي لا تقدر أن تلحق بالركاب؛ يعني أن أخبارهم وأشعارهم مطروحة منبوذة.
ط: محاسنها.
أبو عمر أحمد بن فرج الجياني (- 360 أو حوالي 366) ؛ عرف بكتابه " الحدائق الذي ألفه للحكم المستنصر، وكان من مقدمي الشعراء في العهد الأموي، وقد سجنه الحكم وصدرت عنه وهو في السجن أشعار كثيرة (انظر الجذوة: 97 والبغية رقم: 331 والمطمح: 79 والمغرب 2: 56 والصلة: 11 واليتيمة 2: 16 والوافي بالوفيات 8: 34 ومعجم الأدباء 4: 236) وله أشعار في كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس.
ط: رأياً.
الأصبهاني صاحب كتاب الزهرة هو محمد بن داود الظاهري، وكتابه الزهرة صنفه عنفوان شبابه (انظر ابن خلكان 4: 259 والفهرست: 217 وتاريخ بغداد 5: 256 وطبقات الشيرازي: 175 والوافي 3: 58) وقد نشر القسم الأول من كتابه بتحقيق لكل وطوقان، بيروت 1931.
ط: وضجت.
ط: من برد.
ط: الفرع المتكلفين.
من قول زهير (ديوانه: 58) :
تحمل أهلها منها فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء ط: بين التمتع والرقة.
ط: فأروا.
ط: كلاهما.
سيترجم له ابن بسام في القسم الثاني.
ط: حظ.
انظر النفح 3: 154.
ط: يمر بي.
س ط: محاصاة.
ط: بلغني.
ط: الزواج.
ففتحت ... وبيان: لم يرد في ط.
ط: أربي.
ديوان أبي تمام 1: 221 - 222.
قرت الحياض: جمعت الماء.
س: أوريه.
ط: التحاسين.
ط: بالحبل (اقرأ: بالخبل) .
ط: به.
ط س: عين.
ط س: ونقلته.
ط: ضمنته.
ط: أو شنات.
من قول المجنون (الأغاني 2: 73) :
وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني ... بقول يحل العصم سهل الأباطح ط: تشعشعت رائحته.
من قول أبي نواس (ديوانه: 325) :
أيها الرائحان باللوم لوما ... لا أذوق المدام إلا شميما
فاصرفاها إلى سواي فإنني ... لست إلا على الحديث نديما ط: لا نتباذ من.
شنترين (Santarem) تقع في البرتغال على بعد 67 كيلومتراً إلى الشمال الشرقي من لشبونه؛ استولى عليها الفونسو الخامس القشتالي سنة 485 فاضطر ابن بسام إلى الفرار عنها (انظر الروض المعطار، الترجمة الفرنسية: 139، ومادة " شنترين " في الموسوعة الإسلامية) .
ط: قمر.
هذا مثل، انظر فصل المقال: 384 والميداني 2: 82.
من قول المتنبي: بهماء تكذب فيها العين والأذن (ديوانه: 469) .
البيت للمتنبي (ديوانه: 248) والرواية فيه: مهالك.
حمص: اسم يطلقه الأندلسيون على إشبيلية.
من قول المتنبي (ديوانه: 12) :
حتى وصلت بنفس مات أكثرها ... وليتني عشت منها بالذي فضلا ط: أنيس.
كمون: مكررة في ط.
ط: الأرض.
ط: وجديد؛ وهذا من قولهم " هو جذيلها المحكك "، يعني أنه يستشفي برأيه كما تستشفي الإبل الجربى بالاحتكاك بالجذل، وهو عود ينصب لذلك الغرض.
لم يسمه هنا، ولعله سير بن أبي بكر الذي تولى إشبيلية في فترة تأليف الذخيرة.
ط: أقصر.
ط: ويمنحون.
ط: أبوه من.
س: باله.
ب س: لحضرة.
والوزير أبو الوليد ... زياد: سقط من ط، وجاء في ب س بعد هذا قوله: " وقع ذكر هؤلاء في المسودة وسقط عند الاتنفاء والنقل "؛ قلت: وليس في نسخ الذخيرة الموجودة بين أيدينا تراجم لهؤلاء.
في النسخ: الطبانية.
ط: الجياني.
ط: والأديب.
زيادة لم ترد في النسخ، لكن الترجمة ثابتة في موضعها من الكتاب، اعتماداً على النسختين ب س، ويبدو أن الترجمة مأخوذة عن " الجذوة " إما إضافة من ابن بسام أو من غيره.
زاد في ط: والأديب أبو أحمد عبد العزيز بن خيرة، وهو المنفتل.
زيادة لم ترد في النسخ، اعتماداً على أن الترجمة وردت في هذا الموضع من الكتاب، ووقع في ط بعد ابن وهبون: " وأبو بكر الخولاني المنجم ".
س ب: صارة.
ط: الثقات.
ط: وقتل.
س ب: وتولى.
ط: الأول.
ط: أدرج.
ط: وأبو الحسن بن فضال.
ط: والشريف المرتضى.
ط: ابن المغربي.
ط: وابن أبي الشخباء.
ط: لأدب.
ط: وصفت.
أجر اللسان: حبسه عن الحركة.
فيه إشارة إلى قول الحطيئة وقد سئل عن أشعر الناس " فحسبك والله بي.... إذا رفعت أحد رجلي على الأخرى ثم عويت عواء الفصيل في اثر القوافي " (الشعر والشعراء: 242 - 243) .
والوزراء: سقطت من ط.
ط: الآصال.
ط: أغفل.
أنظر أخبار المستعين في الجذوة: 19 والحلة السيراء 2: 5 - 12 وابن عذاري 3: 91، 113 وأعمال الاعلام: 114 والمعجب: 90 وابن خلدون 4: 151 والنفح: 428 وبروفنسال 2: 304 وما بعدها، وspanish Islam لدوزي: 547 - 561.
نقل ابن عذاري هذا الوصف في البيان المغرب 3: 118.
ط: نكرات.
ط: تغيير.
ط: العصبية.
شانجة غرسية (Sancho Garcia) صاحب قشتالة؛ وارمنقد Ermengaud أو Armengol أخو ريمند بوريل الثالث صاحب برشلونة، وقد كان لكل منهما دور في الفتنة؛ راجع الجزء الثاني من تاريخ اسبانيا الإسلامية لبروفنسال (صفحات متفرقة) .
س ب: جري.
ط: وآلت من التي.
قرف الندوب: قشرها بعد أن تيبس، والندوب: الجروح؛ وفي هامش ط: أظنه الذنوب، وهو وهم.
شقندة (Secunda) أحد أرباض قرطبة (انظر الروض المعطار: 127 من الترجمة الفرنسية ومادة شقندة في الموسوعة الإسلامية.) .
كان تملك علي بن حمود لسبتة عقب شهر شوال سنة 400 إذ انتزى فيها باسم المستعين (البيان المغرب 3: 96) .
ط: دمه.
نقل ابن عذاري هذا النص 3: 114.
البيان: عشيرته.
انظر هذا الخبر في مروج الذهب 7: 262 وما بعدها، وفي نقل ابن بسام تصرف.
ط: على قتله.
ط: بالإحسان.
ط: فقال.
ط: القلنوسة.
من رأسه: سقطت من ط.
ط: فقال له: يا باغر.
ط: إنه حدث ووله؛ وفي المروج: إنه حدث وإنه ولدي.
ط: بمكاني.
ط: ولعلني استصلحه.
ط: يقتل.
النقل مستمر عن مروج الذهب 7: 267.
ط: وسيق وانتضي.
ط: الحديث.
ط: منذ دفعه إلى باغر ... فيها بذلك السيف.
ط: كان.
فيه إشارة إلى قول الشاعر:
تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد من المثل: " هذا أجل من الحرش " انظر فصل المقال: 471، يضرب لمن كان يخشى شيئاً ثم وقع فيما هو أشد منه.
ط: خيران وطمع.
ط: لزق.
انظر النص في البيان المغرب 3: 117.
ط: معه ... وجثا.
ط: كان.
ط: تحمل في المحلة.
بعدها في س ب: " ومشورة " ولعلها: ومشورة، أي موضع الشورى، وهو القصر.
البيان: يتلبس.
حسبما تقدم: لم ترد في ط.
ط: أمرها.
ط: واجتمع ... فاتخذه.
س ط: سلائحهم.
ط: بعدهم.
ط: البطل.
ط: فأظهره.
ط: وتطير؛ وتمطر: استخفى.
ط: وجاء بهم.
ط: بها.
ط: به.
ط: وجدد.
وبكى عليه: ليست في ط.
ط: منيره؛ س: مهوه؛ ب: فهوه.
ط: هلاك.
ط: الآخرة.
ط: ما تقدم.
نقل النص في البيان المغرب 3: 118.
ط: مد.
البيان: وقف.
ط: الرشيد هارون؛ انظر أبيات هارون في الحلة 2: 9 والجذوة: 21 والمعجب 92 والأغاني 16: 269 والغيث 2: 326، وقد نسبتها المصادر للرشيد، إلا أنها أدرجت في ديوان العباس بن الأحنف: 279.
انظر الحلة والجذوة والمعجب والغيث في التعليق السابق.
ط: الأبطال.
وقع هذا البيت آخراً في ط.
انظر في أخبار المستظهر: الجذوة: الجذوة: 24 والحلة 2: 12 - 17 وفيه نقل عن ابن حيان، والبيان المغرب 3: 135 والمعجب: 105 وأعمال الأعلام: 134 والنفح 1: 488 وبروفنسال 2: 334 ودوزي (Spanish Is) : 574.
ط: فتجند.
فيها: سقطت من ط والحلة.
ط: أراد.
ط: بعد.
ط: الجماعة.
ط: للمسجد.
ط: فكنت.
كذا يرد في النسخ بالخاء المعجمة " مخامس "، وفي الجذوة (ص: 288) من اسمه عثمان بن مخامس، بالحاء المهملة.
ط: لا تصلح بسواه.
ط: شرقي.... في: سقط من ط.
س ب: هاتفين.
ط: صرامة.
ط: وبراعة ظرفه.
ط: المنهتك.
والطعام: سقطت من ط.
ط: مراتب.
ط: أنواع.
انظر أيضاً البيان المغرب 3: 137.
ط: الشيطان.
ط: طالبوه.
ط والبيان: بطائل.
البيان: تعدى عليه؛ ط: تعرى.
ط: طلب.
ط: تقتض.
نقل الخبر في البيان المغرب 3: 138.
ط: ذلك حسن.
ط: سجنه.
ط: يبتر؛ س: نتر.
ط: بالرجالة.
ط: الأغلال.
ط: وأشار.
ط: ونجا.
الابزن (Basin) : الحوض؛ وفي س ب والبيان: أتون، حيث وقعت.
ط: مختفياً.
ط: وقام الدائران؛ وفي بقية النسخ: وقام الفاسقان، البيان: وقام الدائران الفاسقان، كما أثبته.
البيان: وعنبر.
ط: فوجد.
ط: الرهابة.
انظر البيان المغرب 3: 139 وأعمال الإعلام: 134 والحلة السيراء.
الحلة والبيان: حدوث.
الحلة: شنف؛ ط: منتف.
ط: جليبة.
وردت القصيدة في الحلة، وبعض أبياتها في الجذوة.
ط: عزيزة.
البيان، س ب: بيت؛ ط: عيش.
الحلة: لما بي.
ط: جوائدها؛ س ب: جرائرها.
ط: ويسبي.
انظر الحلة 2: 15.
ط: بسلامه.
ط: الظبي.
س ب: الماء.
ط: اخترامه.
الحلة 2: 16.
س ب والحلة: ينوب عن.
الحلة 2: 16 والنفح 1: 436، 489.
الحلة 2: 16 والبيان المغرب 3: 140 والنفح 1: 490.
النفح: الطرس.
النفح: ملكه.
النفح الأعصر.
المستظهر بالله: سقطت من ط.
ط: بما أظهرت.
البيان: لدى الرئاب.
ط: وهو القائل زعموا يوم الوثوب عليه.
ط: مع بعض.
ط: ونصله.
ترجمة ابن دراج في الجذوة: 102 (والبغية رقم: 342) والصلة: 44 والمطرب: 145 والمغرب 2: 60 ومواضع متفرقة من النفح؛ واليتيمة 2: 104 وابن خلكان 1: 135 والوافي 8: 49 والمسالك 11: 201 وعبر الذهبي 3: 142 والشذرات 3: 217. وقد نشر ديوانه الدكتور محمود مكي (دمشق 1961) وصدره بمقدمة هامة، حشد فيها مزيداً من المصادر التي أوردت له خبراً أو شعراً (المقدمة: 19 - 20) وانظر دراسة عنه في كتابي: تاريخ الأدب الأندلسي، عصر سيادة قرطبة: ط ثانية؛ ودراسة لبلاشير في Hesperis: 99 121 (1933) ، انظر أيضاً كتاب التشبيهات.
ط: نظمه ونثره مع ما يتعلق بذلك من خبره.
اليتيمة 2: 104، وليس في اليتيمة " بلغني أن أبا عمر القسطلي ".
اليتيمة: الفحول، وكان ... ينظم ويقول.
ط: قدره.
س ب: ويستغيثهم.
ط: عقله.
ط: أقام.
ط: عند من بره.
بالغة: لم ترد في ط.
وأنا أقول ... والأقلام: سقط من ط.
جملة من: لم ترد في ط.
لم يرد هذا الفصل في ط.
ط: فصل له من رقعة.
ط: استشفي ... بعد؛ س: استشفي.
مضمن، وهو للحطيئة (ديوانه: 208) .
لم هذا الفصل في ط.
ط: أخطاه.
ط: أنقاض.
ط: سماك.
ط: فخرهم.
ومن كتاب له: سقط من ط، والكلام متصل بما قبله.
ط: وشفي العليل وسقي الغليل.
ط: على.
ط: لؤد.
الديوان: 516.
في النسخ: مجر؛ والتصحيح عن الديوان.
ط: أسوة.
س ب: وحرمة.
س ب والديوان: رجعت.
الديوان: حزن.
ط: قال ابن حيان.
للخليفة يومئذ: لم يرد في ط.
ط: فمدحه بقصيدته.
الديوان: 60 - 66.
س ب والديوان: الأعياد.
الديوان: بك.
ب س والديوان: لنا.
ط والديوان: يومك.
في النسخ: النوال، وقراءة الديوان أدق.
الديوان: في ساعة.
الديوان: يوم.
في النسخ: جبي شرنبة؛ وشرنبة نهير من فروع تاجه يسمى اليوم Rio Jarama، قاله محقق الديوان: 63.
اسم المعركة التي دارت بين المستعين والمهدي سنة 400.
الديوان: بكت.
الديوان: الغواة.
في النسخ: يعيدها، ورواية الديوان أصح.
هذه هي قراءة الديوان، وفي الأصول: وقوامها، ولا أراه صواباً.
أرمنقود (Ermengaud) قد مر التعريف به ص: 36. وقد قتل في عقبة البقر.
آر (Guadiaro) واد في جنوب الأندلس كانت عنده الوقعة بين المستعين والمهدي في 6 ذي القعدة 400؛ ورواية الديوان: ودنت لها في آر.
الديوان: يشيع.
زيادة من الديوان.
الديوان: رأينا ... توده.
الديوان: ولتهننا.
انظر الديوان: 54 - 59.
الديوان: الشرك.
ط: ميدان.
الديوان: ثوب.
س ب والديوان: سمي.
س ب: حكمت.
س ب: كلامه ... نظامه.
ط: الحرب.
وقع هذا البيت متقدماً على الذي قبله في ط؛ ورواية الديوان: بكل زناتي.
في وصف ... إليه: سقط من ط.
س ب: وساعد.
الديوان: 173.
الديوان: إقدام.
ط: واحتوى.
ط: وما استكنت؛ الديوان: ولا أسكنت.
في النسخ: زيادة، وصوبته عن الديوان.
في النسخ: فتترك؛ س ب: عزته.
الديوان: بنصر.
الديوان: ونخبة.
الديوان: بيض الصوارم.
الديوان: عاذ ... كما عاذ.
هذه هي القراءة الصحيحة، لأن الميت يضجع على شقه الأيمن؛ وهي قراءة ط ب؛ وفي الديوان " جنبيا "، وهو بمعناه.
الديوان: ببحريك.
ثناه الأسى مسيا: أي أن الأسى رد الصباح مساء، وهي قراءة ط ب والديوان، وفي المطبوعة " نساه الأسى نسيا "، ولا أراه صحيحا.
انظر الديوان: 124 - 131.
ط: موج.
الديوان: ببغائها.
الصرى: الماء الذي طال ركوده.
الديوان: وليعلم ... بعدهم.
جار مجرى المثل: انظر فصل المقال: 10 والميداني 2: 54.
الحارث الجفني، أي أحد ملوك بي جفنة الغسانيين.
س ب: تكسو.
هذه هي قراءة ط؛ وب س: بحدك؛ وفي الديوان " بحدل " وهو شيخ الكلبيين الذين نصروا الأموية في معركة مرج راهط.
ط: أرى القسطلي ذهب مذهب أبي الطيب حيث يقول في قصيدة يمدح بها ابن العميد.
ديوان المتنبي: 541.
الديوان: وسمعت.
ط: أهل وقتنا يصف إبلا، وانظر ديوان الأعمى التطيلي: 243 - 245 وهو مكن قصيدة كتب بها إلى ابن بياع السبتي الذي يرد ذكره فيما يلي.
ط: كقول بعض أهل العصر، وانظر ديوان التطيلي: 250 وهو مأخوذ عن الذخيرة إلا أنه يلتئم في موضعه من القصيدة: 38، ص 100 - 105.
ط: هوجاء.
ط: البيت.
ديوان الهذليين: 1230.
ط: من أخرى في الوزير.
سيعرف به ابن بسام في هذا القسم الأول من الذخيرة؛ وقصيدة ابن دراج هذه في ديوانه: 43 - 48.
الديوان: فيك.
بعد هذا البيت وقع خرم في ب ضاعت بسببه أوراق.
ط: آخر.
شروح السقط: 53.
تجيء ترجمته في القسم الثاني من الذخيرة.
سيترجم له ابن بسام في هذا القسم من الذخيرة.
ط: وفيها يقول.
في النسخ: أصفى الناس، وآثرت رواية الديوان.
الديوان: ريبة.
ديوان المتنبي: 3.
الديوان: جياده.
س والديوان: بوجهي.
الديوان: الضلوع.
هو أبو عيينة بن محمد بن أبي عيينة، أحد المطبوعين من الشعراء المولدين (انظر ترجمته في الاغاني 19: 20 وطبقات ابن المعتز: 288 ومعجم المرزباني: 109 والشعر والشعراء: 750) والبيت من قصيدة له في الشعر والشعراء: 751 والكامل للمبرد 2: 32.
ترجمة عمارة في طبقات ابن المعتز: 316 والأغاني 23: 424 والخزانة 2: 497 وتاريخ بغداد 12: 282 ومعجم المرزباني: 78 والكامل 1: 29، وبيته يرد في القسم الثالث.
شروح السقط: 33.
ديوان المتنبي: 502.
شروح السقط: 186.
ديوان ابن زيدون: 267.
ديوان ابن زيدون: 287.
عبد الجليل بن وهبون: ترد ترجمته في القسم الثاني.
من جملة ... المجموع: سقط من ط.
زاد في ط: من أخرى، وسقط قوله: " من قصيدة أولها ".
ديوان ابن دراج: 81 86.
الديوان: بكل.
ديوان ابن دراج: 297 - 304.
الديوان: دعيني.
ط: بما ليس له من شبيه.
ولا مثيل ولا عديل: سقط من ط.
ط: واستمطئ.
ومنها: سقطت من ط.
ط: وآية.
ط: فقد.
وقال من أخرى؛ أما ابن أزرق فكان أحد كتاب منذر بن يحيى التجيبي صاحب سرقسطة.
انظر ديوان ابن دراج: 327 - 331.
البيت غير واضح المعنى، ونقله على حاله محقق الديوان، إذ انفرد به وبالأبيات قبله كتاب الذخيرة؛ وهو مما ورد في ط دون غيرها.
الديوان: حواها الرق.
ط: دعوت.
الديوان: صفح ... تحوي.
س والديوان: النعيم.
س والديوان: يطوق.
ط: ذيب (اقرأ: ديف) .
الديوان: ضلال.
ط: فجال ... وحن؛ والتصويب عن الديوان.
الديوان: ويستثير.
الديوان: يحن.
ط: حاز.
قال أبو الحسن: سقطت من ط.
لم يردا في القسم الثالث من الكتاب:
ط: طويلة، وإنما مرت فيها ألفاظ لو قرعت ... الخ.
ط: في خروج.
وقد أثبت ... وأولها: سقط من ط؛ وانظ القصيدة في ديوان ابن دراج: 75 - 81.
الديوان: الندى.
فيه إشارة إلى الآية: 16 من سورة سبأ.
الديوان: الرواعد.
هذا البيت شديد الاضطراب في الأصول، وقد اعتمدت قراءة محقق الديوان، وهي وجه مرجح.
بعد هذا البيت ورد في س ب ومنها، وليس ثمة حذف.
ط: والديوان: نفوساً.
اليتيمة 3: 138.
ستأتي ترجمة أبي العرب في القسم الرابع من الذخيرة؛ وانظر التكملة: 386 والسلفي 68، 138 والمسالك 11: 181 والخريدة 2: 219 وابن خلكان 3: 334، والبيت في الخريدة.
ط: وفيها يقول.
الديوان: يسيل.
الديوان: من بعد.
الديوان: للحلول.
في س: بغض، والتصويب عن الديوان.
ترجمة ابن شرف في القسم الرابع من الذخيرة، انظر المطبوعة 4 / 1: 133 وما بعدها؛ والبيت يقع في ص: 178، وراجع ترجمة ابن شرف في الوافي 3: 97 ومعجم الأدباء 19: 37 والخريدة 2: 224 والمغرب: 230 والصلة: 545 والمطرب: 71 ومسالك الأبصار 11: 43 وبغية الوعاة: 47 والزركشي: 278 وفوات الوفيات 3: 359 ومعالم الإيمان 3: 39 وعنوان الأريب 1: 56.
إلى هنا تنتهي ترجمة ابن دراج في النسخ ما عدا س التي تنفرد بما تبقى منها؛ ويبدو إن هذه الزيادة دخيلة لأنها فصلت بين قصيدته عن ابن حمود وبين إيراد الخير عن علي بن حمود نفسه.
ديوان ابن دراج: 86 - 94.
الديوان: آواك.
الديوان: النجح.
الديوان: عن.
الديوان: حز.
الديوان: عنا ... بنا.
س: إخوان.
الديوان: آيس.
الديوان: المفجع.
قبل هذا البيت في س: ومنها، ولكن لا حذف هنالك.
الديوان: تظفروا.
الديوان: حصى.
س: بموج.
س: وإيمانه للأهل، وهو خطأ.
الديوان: الهدى.
الديوان: شهد.
الديوان: عريان.
الديوان: الندى.
الديوان: في الضحى.
س: زاد ... فرادوا.
ط: إمرة.
ترجمة علي بن حمود وأخباره في جذوة المقتبس: 21 والبيان المغرب 3: 119 - 124 والمعجب: 98 وجمهرة ابن حزم: 50 - 51 وأعمال الأعلام: 128 وابن خلدون: 4: 152 ونفح الطيب 1: 431، 482 وبروفنسال 2: 326 والصوفي (نهاية الخلافة الأموية) : 256 ودوزي (Spanish Is.) : 562.
س: القتبي.
س: لفظتهم.
س: إلى طرف من بلاد المغرب.
وتبربروا معهم: سقطت من ط.
ط: غمائها.
س: شرح.
قارن البيان المغرب 3: 122.
س: الأسماء الخلافية.
س: وهو اسم.
ط: قبله.
س: صاحب الأندلس.
ط: ولما صارت الخلافة إليه.
ط: بربر.
ط: أطوع البشر.
سقط في ط من هذا النص قوله: " وهو مفتوح الباب "، " للوارد والصادر "، " في الأرض ذات الطول والعرض " مما يشير إلى طبيعة هذه النسخة التي تعتمد الإيجاز كثيراً وبخاصة إن كان النص منقولاً عن ابن حيان؛ وعلى هذا سأقلل من الإشارة إلى ما ينقصها في سائر الكتاب، اقتصاداً واكتفاء.
ط: مباشرة.
س: رقابهم.
ط: ينتسبون.
ط: بعينيه.
ط: لنفيسة.
س: لأهل الأندلس.
س: أهلكوا.
ط: مزال العدال.
ط: إلا بموكلين.
ط: وأمروا.
ط: قبض.
لم يرد هذا العنوان في ط؛ وقارن بالبيان المغرب 3: 122.
س: جسرهم الله تعالى على مواثبته في قصره وموضع محله وأمنه.
س: بدروا.
س: هامته.
س: فضربوه.
واستطال.... ودخل عليه فلم يرعهم ... الخ.
ط: إلى إشبيلية عن أخله القاسم.
ط: ليقف على صحة ذلك.
ط: فانكف.
ط: فصلى عليه وأنفذه.
ط: إلى أن.
ط س: الجياني.
هذا الديلمي المنتزي بعد الثلاثمائة هو مرداويج بن زيار - فيما أقدر - وقد استولى على أصبهان وحاول الأتراك قتله في الحمام سنة 315 وظنوا أنهم قضوا عليه؛ ولكنه عاش بعد ذلك (انظر تكملة تاريخ الطبري: 51) .
ط: برازقه.
ط: تعلق.
الأخبار عن أبي حفص أحمد بن برد قليلة إذ له ترجمة موجزة في الجذوة: 111 (البغية رقم: 387) وعلى الجذوة اعتمد ابن بشكوال في الصلة: 24 وقد مر ذكره في البيان المغرب لصلته بالكتابة عن عبد الملك المظفر ابن المنصور ثم عن غيره حتى عهد يحيى بن علي بن حمود.
هو عبد الملك بن إدريس الجزيري (- 394) ، كان كاتبا في دولة المنصور بن أبي عامر، ثم حبس في إحدى القلاع الأندلسية، وله رسائل وأشعار كثيرة (انظر ترجمته في الجذوة: 261 (البغية رقم: 1058) والمطمح: 13 والصلة: 350 واعتاب الكتاب 193 والمغرب 1: 321 واليتيمة 2: 102 والنفح؛ وسيذكره ابن بسام في القسم الرابع من الذخيرة.
جاء في النسخة ط: " ولم أجد حين إخراج هذه النسخة من رسائله إلا ما لا يكاد يعرب ولا يوضح مشهور دلائله، وقد أثبت منها على ذلك بعض ما ألفيته هنالك "، ويبدو أن العبارة المثبتة بدلا من رواية ط تمثيل عهدا تاليا، حين أتيح لابن بسام العثور على عدد من رسائله يمثل صورة أوضح عن فنه النثري.
س: فصل: عهد عقد هشام.
ورد هذا العقد في البيان المغرب 3: 44 وتاريخ ابن خلدون 4: 148 وأعمال الأعلام: 91 ونفح الطيب نقلا عن ابن خلدون 1: 424.
ط: القدر.
ط: ونفض، وآثرنا ما جاء في المصادر، وفي البيان: ونظر.
ط: ومن.
ط: ورعته؛ النفح: وصيانته.
النفح: مرتبته.
ط: أمور مكنون.
ط: وله من أخرى.
ط: ومن أعجب العجب.
إشارة إلى الآية: 13 من سورة نوح " ما لكم لا ترجون لله وقارا ".
ط: سلطانهم.
س: القدرة.
ط: سبع ... محيل.
ط: عدة.
القنداق: من الإغريقية (Kontakion) وهو الكتاب الرسمي أو البراءة أو ما أشبه (انظر ملحق دوزي) ؛ وفي س: الكتاب.
ط: وإن قوما منهم.
ط: الرقوق.
ط: قبل.
ط: الصفة.
س: وله من أخرى عن سليمان بن (اقرأ: إلى) هذيل بن رزين، وهذا هو الأشبه بالصواب، أعني أن الرسالة قد تكون موجهة عن سليمان المستعين إلى هذيل لأن هذيلا أبى التخلي عن هشام والدخول مع منذر التجيبي وغيره في تأييد دعوة سليمان، وظل كذلك حتى توفي هشام، فسلك هذيل مسلك منذر، فرضي منه سليمان بذلك وعقد له على ما بيده، فزاده ذلك بعادا من سليمان (البيان المغرب 3: 181) .
ط: ويبلو.
س: أجناسا.
ناظر إلى الآية: 102 من سورة التوبة.
ناظر إلى الآية: 118 من سورة هود.
ط: فالسعيد.
ط: الهناة.
ط: تهيأ.
الدوسر: الأسد الصلب الموثق الخلق، وفي س: ذو سن؛ ولو قرأت " ذي سن " لكان ذلك أنسب للحديث عن مروان بن الحكم.
عد في هذه الفقرة عددا من العائلات الهامة التي كانت تعد موالي لبني أمية، وهي عائلات احتلت مراكز هامة في الإدارة والمجتمع، إذ كان الولاء رابطة سيادة؛ وبعض مؤسسي هذه العائلات دخلوا الأندلس عربا أحرارا أو موالوا بني أمية في المشرق، ثم انتقل ولاؤهم إلى بني أمية بالأندلس (انظر تفصيل ذلك في فجر الأندلس للدكتور حسين مؤنس، وبخاصة ص 408 - 410) .
س: فرقت.
ط: وله من أخرى عنه إليهم.
س: هم العارفون.
سقط جانب من هذه الرسالة في ط.
ط: حسبناه.
مطموس في س؛ ولم يرد في ط.
لعله يعني بالطالبي " علي بن حمود " فقد قدمه والياً على سبتة، ثم كان من خروج علي عليه ما كان.
أغلب الظن أنه عبد الله بن عبيد الله بن الوليد المعيطي، أموي كان بقرطبة في الفتنة وخرج منها إلى شرق الأندلس، وقد دعا له مجاهد العامري بالخلافة سنة 405 (انظر الصلة: 261 والبيان المغرب 3: 116) .
المتغير: الخارج في زي العيارين وسلوكهم.
لم يرد هذا الفصل والذي يليه في ط.
انظر التعليق: 1، ص: 108 إذ كان منذر ممن والوا المستعين ونبذوا خلافة هشام المؤيد.
صاف السهم: حاد عن الهدف.
تبدأ الرسالة في ط من هنا.
ط: قدم.
س: ناصرا.
س: اجترح.
ديوان أبي تمام 2: 115.
قارن بما ورد في أخبار أبي تمام: 203 - 205، وبيت عمران من أبيات في زهر الآداب: 855 والموازنة 1: 72 وتهذيب ابن عساكر 4: 66 حيث ذكر أنها لبعض الخوارج من أصحاب قطري، وذلك أقرب إلى الصواب من نسبة الأبيات والموقف نفسه إلى عمران (انظر شعر الخوارج: 169 الطبعة الثانية) .
بقية هذا الفصل لم ترد في ط.
ط: بنا.
باغه (أو بيغه كما في س) : Rriego تعد ولاية قرطبة وتقع بينها وبين غرناطة (انظر الروض المعطار: 76 من الترجمة الفرنسية) .
ط: بأبي.
س: كف يد.
س: فحنقت.
ط: بمداخلته.
ط: وهمة نفسه.
قارن بما في البيان المغرب 3: 30.
س: المذكورة، والتصويب عن البيان.
ط: فصار.
س: بالقصة.
ط: فأخبر.
أبو حاتم محمد بن عبد الله بن هرثمة بن ذكوان (- 414) كان هو وأخوه أبو العباس أحمد عميدي بيت بني ذكوان منذ أيام المنصور، وكان أبو حاتم صاحب المظالم، حسن السيرة ذا بصر بالفقه (انظر الصلة: 477 والبيان المغرب 3: 32 وترتيب المدارك 4: 667 وديوان ابن شهيد: 89 والنباهي: 86 - 87) .
ذكر في البيان (3: 32) أن اسمه خلف بن سعيد وأنه كان أحد الموالي صنائع ابن أبي عامر الأندلسيين.
ط: جذبه، والبيان: والقضاء يجذبه.
ط: عتابه.
البيان: ويولي.
هما خلف بن خليفة وحسن بن فتح، كما في البيان (3: 33) .
ط: منازل عيسى وأصحابه.
س: وقبض جميع.
س: كالتراب.
ط: وأعظم الناس قتله.
ط: وسار منهم خلق كثير إلى الزاهرة ليروا رأسه.
س: آياته.
قارن بالبيان 3: 35.
البيان: فأولت.
س: عيش غير.
ط: بزور.
س: فالعلم.
ط: الأمر.
س: مخضوب.
البيت في زهر الآداب: 7 والمسالك 14: 71، منسوباً لكثير، وانظر ديوانه: 176.
اليتيمة: 3: 176.
اليتيمة: ذي ملة.
ط س: يرسم، وآثرت ما في اليتيمة لأنه أدق.
أبو المغيرة عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن حزم (- 438) ؛ له ترجمته في الصلة: 361 والجذوة: 273 (البغية رقم: 1110) والمغرب 1: 357 والمطمح: 22 والنفح 1: 616 - 618، 620 (نقلاً عن المطمح) 2: 79 - 81.
س: والقمر.
س: تمام الصلة بالعائد.
ط: وحدث.
س: ممتطياً.
انظر النفح 3: 156، وأبو علي ابن الربيب القروي لعله الحسن بن محمد التميمي التاهرتي الأصل، كان عارفاً بالأدب وعلم النسب قوي الكلام يتكلفه بعض التكلف، وكان عبد الكريم النهشلي يعده شاعراً متقدماً (انظر المسالك 11: 319 نقلاً عن الانموذج) .
النفح: بلادكم إذ كانت؛ ط: بلادكم. (ويتلو ذلك في النفح: علمائهم، أدبائها ... الخ) .
س: الخارس.
تثعبن الحفاث: اتخذ هيئة الثعبان، والحفاث: حيوان كالثعبان يفح فحيحه ويثب مثل وثبه، ولكنه غير مؤذ (الحيوان 6: 33، 345) .
النفح: وراتب.
زاد في النفح: وإن ألف أن يخالف ولا يوالف.
ناظر إلى الآية: 31 من سورة الحج.
هو الشاعر ابن مقبل، الذي يقول في وصف قدح:
غدا وهو مجدول وراح كأنه ... من الصك والتقليب في الكف أفطح
خروج من الغمى إذا صك صكة ... بدا والعيون المستكفة تلمح (انظر ديوانه: 28 - 29 وثمار القلوب: 218) وقدح ابن مقبل يضرب في حسن الأثر.
النفح: دغفل، وهو دغفل النسابة من بني ذهل بن ثعلبة وكان عالماً بأنساب العرب. (انظر ديوان القطامي: 31، واللسان والتاج: عض) .
أبو العميثل: عبد الله بن خليد (أو خالد أو خويلد) : أعرابي خدم طاهر بن الحسين تجدد؛ وطبقات ابن المعتز: 287 وابن خلكان 3: 89 - 91.
النفح: رحلة.
ط: فالكتب.
فارط القطا: المتقدم منها نحو الورد.
هذا مثل، انظر فصل المقال: 76 والميداني 2: 251.
س:: ومارى.
ناظر إلى قول المتنبي (ديوانه: 505) :
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ... ما فاته وفضول العيش أشغال الجنن: القبر.
باعتمادك ... الإفك: سقط من ط.
هو لكثير في ديوانه: 222 ولعبد الرحمن بن الحكم في الأغاني 15: 117 (ط. دار الكتب) والغيث: 70 ويروى لعمرو بن معد يكرب؛ انظر القسم الثالث: 11.
ط: بآداب.
البيت لقعنب ابن أم صاحب من قصيدة في مختارات العلوي: 7 - 9 والحماسية رقم: 606 (شرح المرزوقي: 1450) ، وعقنب شاعر إسلامي كان موجوداً أيام الوليد ابن عبد الملك (86 - 91) .
ط: والأكياس.
ط: وتعمد.
س: أبو الحسن.
ديوان المتنبي: 111.
راجع ترجمة بن طاهر في القسم الثالث من الذخيرة: 24 وكذلك ترجمة ابن عبد العزيز: 40.
انظر رسائل البديع: 84 وزهر الآداب: 732.
وقلت أهذا الطامع ... مغناها: سقط من ط.
س: نسيانك.
ط: فتفيت.
هذه قراءة تقديرية، إذ اللفظة لم ترد في ط، ووردت في س: بنك؛ والخب: الخداع.
انظر فصل المقال: 357 والميداني 2: 10 والفاخر: 90 والضبي: 7.
ط: جوارحه.
س: وهوى.
ستأتي ترجمته في هذا القسم من الذخيرة.
هو علي بن محمد بن منصور بن بسام المعروف بالبسامي (- 302 أو 303) ؛ انظر ترجمته في الفهرسيت: 150 (فلوجل) ومعجم المرزباني: 154 وتاريخ بغداد 12: 63 ومعجم الأدباء 14: 139 ومروج الذهب 4: 297 واعتاب الكتاب: 188 ووفيات الأعيان 3: 363 والفوات 3: 92 واللباب (البسامي) والهدايا والتحف: 139.
س ط: ابنه.
هنا تعود النسخة ب فتشترك مع ط س.
تكررت هذه القصة في القسم الثالث من الذخيرة: 498.
ط: فرثاه بالقصيدة التي يقول فيها.
البيت من قصيدة أوردها المبرد في الكامل 4: 62 وانظر طبقات ابن المعتز: 122 - 124 ونهاية الأرب 3: 83.
ط: عبد المجيد.
انظر الذخيرة 3: 669.
المطمح: 89 والنفح 7: 55 (نقلاً عن المطمح) .
المطمح: ضرجت؛ النفح: صوحت.
النفح والمطمح وب: وجد.
ط: ولأبي الحسن هذا.
ط: ياذا.
شروح السقط: 28.
شروح السقط: 160، باختلاف في الرواية.
سترد ترجمته في القسم الثاني.
نسب البيت في س ب إلى ابن عبد الغفور أيضاً.
ترد ترجمته في القسم الثاني.
س ب: نفضت عليه صباغها.
ترجمته في القسم الثالث: 821.
س ب: سمراء.
انظر ترجمته في القسم الثالث: 448.
ديوان ابن الجهم: 162 عن شرح المقامات 1: 131.
ديوانه: 36 والغيث 2: 345 ونهاية الأرب 2: 39 وشرح المقامات 1: 131.
في النسخ: بمقلة.
زهر الآداب: 229 - 232 وابن بسام هنا يتابعه؛ وفي ط: وأبو حفص الشطرنجي قبله القائل.
ط: البصائر.
ديوان أبي نواس: 250.
ب س وزهر الآداب: فضائلها.
زهر الآداب: ولم نختبر ولم نذق.
زهر الآداب: 232 والصناعتين: 206 والموازنة 1: 83 وأخبار أبي تمام: 220.
لم يرد هذا الفصل في ط.
ب س: وللعرسيين.
حرصاً: لها وجه من معنى، ولعلها أن تقرأ " ترصا " وهو الأحكام.
ب: ظلم.
ب س: بأديب.
في ط ب س: الاندال، وبهامش ط: الأذيال.
ط: اللعب.
ط: أجنب.
ط: غريب.
وحالي حال ... فلان: سقط من ط، وجاء في موضعه: " وفي فصل منها ".
ط: تلبسه.
البختج: العصير المطبوخ، والحب: وعاء مثل الدن.
ط: والتمهد.
سقط هذا الفصل والذي يليه من ط.
ديوان المتنبي: 478.
س ب: يولي.
ط: أتت.
ط: وهو.
ديوان المتنبي: 271.
ديوان المعتمد: 10.
ط: النثر والنظم.
ديوان ابن هانئ: 30.
سقط هذا الفصل من ط.
الأبس: التحقير؛ وربما كانت " الألس " أي الكذب والغش.
ديوان المتنبي: 14.
البيت للعباس بن الأحنف، ديوانه: 84 (رقم 159) والشعر والشعراء: 476، 707، وروايته: أشكو الذين.
أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النميري القرطبي (- 463) ؛ انظر ترجمته في ابن خلكان 7: 66 وترتيب المدارك 4: 808 وتذكرة الحفاظ: 1128 والصلة: 640 والجذوة: 344 (وبغية الملتمس رقم: 1442) والمغرب 2: 407 والديباج المذهب: 357.
ديوان المتنبي: 526.
س ب: أعلام.
ط: كنا نروي.
ط: من مقابح يحليها (اقرأ: يجليها) العار ويكشفها.
ط: يخاطب.
ديوان أبي نواس: 325.
ط: لسهم؛ ولعل الصواب: " لا مدب فيها لسهم ".
ط: ارفق.
ط: ولعالم.
ط: ومكابدة.
ط: مدارسهم.
الجربياء: الريح التي تهب بين الجنوب والصبا؛ وقيل هي النكباء التي تجري بين الشمال والدبور، وقيل هي ريح شمالية باردة.
ط: وقلت في كتابك " واتأخها ".
انظر نفح الطيب 1: 79.
تمثل به وأبو المغيرة، وهو للأشل البكري الأزرقي كما في البيان 1: 42 والكامل 1: 31 وشعر الخوارج: 130.
من قول قاتل محمد السجاد:
يذكرني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم النفح: تلينهم.
ديوان البحتري: 1133.
ترجمة أبي محمد في الجذوة: 290 (البغية رقم 1204) والصلة: 395، وطبقات الأمم: 86 والمطمح: 55 والمغرب 1: 354 والمعجب: 30 وتاريخ الحكماء للقفطي: 156 وتذكرة الحفاظ: 1146 ومسالك الأبصار (ج -: 8) ونفح الطيب 1: 77 ومعجم الأدباء 12: 235 وعبر الذهبي 3: 239 والشذرات 3: 299 وابن خلكان 3: 325 وفي طوق الحمامة أخبار كثيرة عنه، وقد كتبت عنه دراسات كثيرة في العصر الحديث.
ط: وله في ذلك عدة تواليف.
هذه التهمة موجودة في طبقات صاعد: 86.
ط: على.
هو داود بن علي بن خلف (- 270) أصبهاني الأصل، نشأ ببغداد، وأوجد القول بالظاهر فاستقل بمذهب بعد أن كان شديد العصبية للشافعي (انظر ابن خلكان 2: 255 وتاريخ بغداد 8: 369 والفهرست: 216 وطبقات السبكي 2: 42 وتذكرة الحفاظ: 572) .
ط: واستسناده.
ط: يرقه.
ب: متلقنه.
لبلة (Niebla) في الجنوب الغربي من إسبانيا؛ انظر الروض المعطار، الترجمة الفرنسية: 203 والموسوعة الإسلامية؛ وابن حزم من قرية قريبة منها تدعى منت لشم.
ط: العلم.
ط: فيهم.
ط: المناظرة.
ومزقت ... لسبيله: لم يرد في ط.
ط: وبالأندلس.
في بعض هذا جانب من الغرابة، فابن حزم في رسالة في أسماء الخلفاء والولاة يعتقد بإمامة ابن الزبير ويقول في مروان ابن الحكم " وهو أول من شق عصا المسلمين بلا تأويل ولا شبهة وبايعه أهل الأردن وخرج على ابن الزبير " (جوامع السيرة: 359، وانظر نقاشنا في المقدمة: 12 لهذا القول أيضاً) ويقول ابن حزم أيضاً في المحلى 1: 236 " مروان ما نعلم له جرحة قبل خروجه على أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير ".
نشر هذا الكتاب في خمسة أجزاء (القاهرة: 1317 - 1321) .
هو رسالة نشرتها مع مجموعة من رسائله (انظر الرد على ابن النغريلة: 137) ؛ القاهرة 1960.
أكثر النقل عنه ابن رضوان في كتاب " الشهب اللامعة "، واستخرج الأستاذ إبراهيم الكتاني ما أورده ابن رضوان ونشره مستقلا.
هو رسالة في صورة " مذكرات " (انظر رسائل ابن حزم 113 - 173) القاهرة 1954. وقد نشرتها السيدة ندى طومش وترجمتها إلى الفرنسية. (بيروت: 1961) .
من هذا الكتاب قطعة بدار الكتب المصرية.
ابن عباد: سقطت من ط.
ط: الراقبين.
جذوة المقتبس: 291 - 293.
هو أبو المطرف عبد الرحمن بن أحمد بن سعيد بن بشر بن غرسيه، ويعرف بابن الحصار، كان عالماً بارعاً متفنناً في العلوم، ولاه علي بن حمود قضاء الجماعة صدر سنة 407 وبقي في منصبه حتى سنة 419 حين عزله المعتد، وتوفي سنة 422 (الصلة: 313 والجذوة: 241 والبغية رقم: 993) .
ط: ومن شعره ما أنشد الحميدي في كتابه.
ط: للعبد قصة.
لم يرد هذا في ترجمة ابن حزم من جذوة المقتبس.
ورد البيت في الأغاني 22: 52 والغيث 1: 147 لأبي حفص الشطرنجي.
انظر النفح 2: 82 - 83.
ديوان أبي تمام 3: 338.
ديوان البحتري: 633.
ديوان الصنوبري: 403.
اليتيمة 2: 402 وابن خلكان 4: 52، 407.
يبدو وكأنها معارضة لابن زيدون، انظر ديوانه: 479 - 498.
ط: نبيت.
ط: الليل.
ومنها: سقطت من ط.
العراص: الرمح حين يكون لدن المهزة.
ط: ميعاد الخليل.
القنعاس: الجمل العظيم الضخم.
منكوتاً: مطروحاً.
ط: فشككت.
ط: وعتيبة وابن الحباب؛ س ب: وعتيبة بن أبي الحباب.
ديوان أبي تمام: 205 وفي الديوان: دفع الإله؛ وفي بعض أصوله " خلى " موضع " جلى ". وذو النون سيف كان لعمرو بن معد يكرب، وروي أنه كان لمالك بن زهير سيف بهذا الاسم.
راجع أخبار منذر بن يحيى التجيبي في البيان المغرب 3: 175 - 181 وأعمال الإعلام: 196 - 201 والمغرب 2: 435 وبروفنسال 2: 321 - 330 ودوزي (Span. Ish Is.) 568 - 569 وقد نقل دوزي هذا الفصل عن الذخيرة في كتابه Recheres (الملحق رقم 14 ص 35 من الملاحق) .
جاء هذا الفصل في ط كثير الحذف؛ وقارن بما في البيان المغرب.
ط: وقرفه.
البيان: وسدها بيسير.
ط: واعتقب.
ط: عقداه بحضرة منذر.
ط: وهوى اثره ريمنده.
ط: مدوش.
ط: وابن أزداق.
ب س: هشام.
ط: فأوطن.
تطيلة (Tudela) على بعد 78 كيلومتراً إلى الشمال الغربي من سرقسطة (الروض المعطار، الترجمة الفرنسية: 80 - 81) .
ط: اجتاز بنا.
ط: لعقد مصاهرتهما.
فخرصتها: أي قدرت عددها تخميناً؛ ط: فخرستها.
ط: إلى أن.
ط: الطاغية.
ط: شيعهم.
من هنا حتى آخر الفصل سقط من ط.
قارن بالبيان المغرب 3: 178، وما نقله دوزي في Recherches (الملحق رقم: 16 ج - 1، ص 39 من الملاحق) ويلاحظ أن البيان يتفق في المحذوف من النص مع النسخة ط.
البيان: عبد الله بن الحكم.
ب س ودوزي والبيان: خدم السوء.
البيان: دفع عنه.
ط: حاسراً.
البيان: عصاه.
ب س ودودزي والبيان: وتوطيداً.
واضطربت لها حالهم: سقطت من ط والبيان.
ط: من جاورهم.
ط: في جمعه.
ط: وسارع إلى سرقسطة إذ فجأه الخبر؛ البيان: حين مجيئه (اقرأ: فجأه) الخبر.
ب س ودوزي: التقدير.
ط: رياسة الملك؛ البيان: لحق طعمه الملك.
ط: للناس.
ط والبيان: عن قاضي.
ط: مرسل؛ ب س: مزمل.
روطة اليهود: (Rueda de Jalon) في ولاية سرقسطة. وهذه التسمية تميزها عن ورطة ثانية في ولاية وشقة وعن روطة ثالثة في ولاية قادش.
ط: يرتصد.
ط والبيان: مع نفسه أخوين لمنذر.
انظر عن الحماديين، تاريخ ابن خلدون 6: 171 - 177 وقد حكم بلقين بن محمد 447 - 454 حيث قتل على يد الناصر بن علناس.
من قول الشاعر:
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فلا يكلم إلا حين يبتسم س ب: شرود.
ب س: وتطارح.
ب س: المقلقلة.
ط: راحة.
ط: إلى غرب العدوة.
ط: وليفتكن.
ط: أنه.
ترجمة ابن شهيد في المطمح: 16 والمطرب: 147. واليتيمة 2: 35 والجذوة: 124 (والبغية رقم: 437) ومعجم الأدباء 2: 218 واعتاب الكتاب: 203 وابن خلكان 1: 116 والمغرب 1: 78 والخريدة 2: 555 والوافي 7: 144 والمسالك 11: 206 وقد جمع شعره كل من يعقوب زكي (القاهرة: 1969) وشارل بلا (بيروت: 1963) ولشارل بلا محاضرات عنه (عمان: 1966) وانظر فصلا عن ابن شهيد في كتابي " تاريخ الأدب الأندلسي - عصر سيادة قرطبة: 270 الطبعة الثانية.
ط: شيخ قرطبة.
ط: في غير مكان.
ب س: الحادة.
من رجل ... قبيحة: سقط من ط.
ب س: ماله.
يتحدث ابن بسام في القسم الثالث: 249 عن المؤتمن عبد العزيز بن عبد الرحمن ابن أبي عامر الذي كان يلقب أيضاً بالمنصور ثم سماه خليفة قرطبة القاسم بن حمود " المؤتمن ذا السابقتين " وقد ظل والياً على بلنسية حتى سنة 452 وخلفه ابنه عبد الملك (وانظر أيضاً البيان المغرب 3: 164 - 165) .
ب س: برد.
ط: المصفر.
ط: يجزء من أجزائها.
ب س: يدعونه بشاكر.
ب س: البذل والعطاء.
ط: نجب.
ط: تمكن.
ط: قال.
ط: أدلي.
الزوج من البقر أو البغال المتخذة للحرث، ثم تكون الالة اللفظة على مقدار من المساحة.
ط: ومنتقاه.
ط: جاء.
الديوان (يعقوب زكي) : 155 ويضاف إلى مصادر تخريجها الوافي 7: 146.
الوافي: الغيد.
ب س: والوافي: وأزعج.
ط: فتضامنت.
المسالك: الحماحم.
الوافي: صبر على حرب المسالم؛ ط: حرب على جرد المسالم.
ط: أجياد.
ط: والقصف؛ المسالك: وانقضت اللوائم.
كذا في الأصول والمصادر، وأرجح أنه " الإباية ".
ب س: أيقنت؛ والصواب ما أثبته، والمعنى أنني طرحت له الأخذ وهي جمع أخذة ومعناها رقية تشبه السحر، ومما يقوي هذا قوله بعد ذلك: " وتلوث من سور العزائم ".
ط: حبات؛ المسالك: مأمول.
الوافي: القوادم.
ط: بالسحر.
ط: أغن.
الخبعثنة: الرجل العظيم الخلق؛ الوثيق الخلق، الجرئ.
ب س: زحام المزاحم.
الدآدي: الليالي الثلاث الأخيرة من الشهر.
ط: بالغرو.
ط: مرت.
ط: ويستحلب.
ط: صوجا؛ س: صرما.
ط: موجاً؛ ب: قهره.
ب س: شوهاء.
ب س: ورفلت؛ ط: وأرفلت.
ب س ط: وحسبت.
لخلخ: طيب.
ط: تشريطه.
ط: وصوبت.
زاد في ط: منها.
س ب، أريحية كأريحية الشباب.
زاد في ب س: فوادهما أنك من نيله والحقني أنك من نسله.
ط: المملوك.
الديوان: 165.
ط: دعون.
ب س: صلفاً.
ب س: غرابهم.
ط: موشحاً.
ط: بعمانها.
ب س: هاديكما.
ط: ساقط.
ب س: يدي.
ب: دونهانها؛ ذوبانها.
ب س: مخلوع.
ط: شهم.
انظر الديوان: 168 ولم ترد إلا في الذخيرة.
ب س: عبثت.
ط: ترضيت.
البيتان لابن الرومي في ديوان المعاني 2: 189.
ب س: الشباب.
ديوان ابن شهيد: 116.
في النسخ: وغزير ... بغزيره؛ ولا معنى له؛ وفي اللسان (غرر) عيش غرير: أبله لا يفزع أهله؛ اما " غرير " الثانية فتعني الغلام الحدث السن.
ط: بنقش؛ ب: بحسن.
ط: عن متعرف؛ وأرى صوابه " غير معقر " - بالقاف - أي غير دهش ولا متهيب.
ب س: كالميت مطروحاً.
ط: فملكته.
ب: بجدوره؛ س: بحدوره.
ط: تأثيره.
ديوان ابن شهيد: 178.
ب س: النجعة؛ ولا أراه صواباً، لأنه بعد ثلاثة أبيات يقول: " فعلمنا أنها نفحة من ورث الجود ... ".
ب س: وأسير.
ط: حشرها.
س: دأبنا.
ط: فإنا.
ب س: على الأستاه.
ارجح أنه هو جعفر بن فتح، قدمه صاحبه محمد بن الفرضي أبو عبد الله وزير يحيى بن علي بن حمود (312 - 313) كما قدم أبا القاسم ابن الأفيلي؛ (البيان المغرب 3: 132) وكان ابن شهيد يعدهم خصوماً له؛ وسيأتي الحديث عن ابن الفرضي فيما يلي.
ط: تطول.
الديوان: 164 (عن الذخيرة وحدها) .
ط: حدهما.
كذا ولعل الصواب " وخبئ ".
ب س: قميار.
ناظر إلى الآية: 65 - 66 من سورة البقرة.
ب ط: القلات.
انظر الآية: 82 من سورة هود.
في النسخ: الكرنجات؛ والكيرنجات: أدوات في شكل عضو الرجل (كير بالفارسية: عضو الذكر) ؛ انظر محاضرات الأدباء 3: 272 (وقد صحفت هنالك " كير بيخات ") .
هذا مثل، انظر فصل المقال: 219 والميداني 1: 344 وجمهرة ابن دريد 1: 154، 2: 217.
الموم: البرسام.
ارتبك: نشب ولم يكد يتخلص.
كذا في ب س؛ وفي ط: لصحبته، ولعله أن يقرأ: لصبحته الرمك، أي الخيول؛ والرهك - بتسكين الهاء - الطحن بين حجرين.
انظر الميداني 1: 165 وسرح العيون: 430.
ب س: سره.
ط: وصفاق.
أي أن حمزة بن عبد المطلب عم النبي قتل على يد وحشي، وكان عبداً حبشياً، وبسطام بن قيس سيد بني شيبان قتله عاصم بن خليفة، وكان يعد في البلهاء.
ديوان ابن شهيد: 146 (عن الذخيرة وحدها) .
اليتيمة 2: 46.
اليتيمة 2: 47.
اليتيمة 2: 47.
الديوان: 150 (عن الذخيرة وحدها) .
الديوان: 87 (عن الذخيرة وحدها) .
في النسخ: ولم يثنيه.
وكتب الوزير أبو مروان ... في تراب: سقط كله من ط.
هذا النص متصل في ط بقوله: " وكسرى فتك به مرازبة له "، دون أي فاصل، وكأنه تتمة للحديث عن الفرضي والتحذير منه.
ط: وعندها.
ب س: العلم.
يوالس: يخادع ويداهن.
الرزدق: الصف من الناس.
س ب: فاستحقوه (اقرأ: فاسحقوه) .
ب: بالبرق.
ط: يرقو ... ويصفو.
ط: نفس.
ط: أستوثقه.
ط: حبالنا.
ط: وضع.
ديوان ابن شهيد: 138 (عن الذخيرة وحدها) .
ط: بسعد.
ط: تخرق.
ديوان ابن شهيد: 169 (عن الذخيرة وحدها) .
ط: عبثه.
ط: بدا.
ط: يوماً ترى.
ب: صبيحته؛ ط: صبيته.
ط: وتنافرا.
ط: وليقضي.
س: كذبه وانحائه علي.
س: خلو.
ط: ولذا.
ط: ترى.
البلينة: الحوت.
ط: لتصرف.
س: الأشباه.
ط: على المخلوق أحسن من تقى ... الخ.
س: موف على ذروة العقل.
س ب: كميتا.
الكران: العود وقيل الصنج.
ط: ومصرخ.
سقط هذا الفصل من ط.
ط: الانتساب.
ط: علينا الأيام.
في النسخ: أبو الحبيش، وسوابه ما أثبت، لأنه يتنحدث عن مجاهد، وكنيته " أبو الجيش ".
ط: شهيدي أمتك.
هذا الفصل شديد الإيجاز في ط.
ط: ويستحمل.
في النسخ: إلى الحبيش.
هكذا ورد هذا الاسم في نسخ الذخيرة، وفي المغرب (2: 31) اشكهباط، وفي النفح (2: 95) اشكنهادة؛ واسمه محمد بن قاسم، وكنيته أبو بكر، وهو ممن شهد الفتنة، ثم استقر آخرا في دانية عند مجاهد العامري.
ب س: الأرض.
الحش: أن يريش الرامي سهمه ويلزق به القذذ، استعدادا للرمي؛ ومثل هذا لا بد له من سداد وثبات جنان، أما الرعدة فإنها لا تتفق وهذا الحش لأنها تسبب طيش السهم عند الرمي.
التقصص: التتبع، أي تتبع معاني الآخرين.
هذه قراءة تقديرية، والمعنى أن الغرب بطبعه لا يصلح للسهام، فإذا أعددته ليكون سهما فإن الحز لن يزيد من قيمته؛ كما أن السليط يضيء في قنديل بسيط، ولا يضيء إذا وضع في القصب، وهي أنابيب من الجوهر.
ب: حبلك؛ ب س: أجرا.
س: صناعة الكلام وإصابة ...
ط ب: بل بالطبع.
النحو والغريب: زيادة من س.
زاد في ب س: ألاعم صباحاً أيها الطلل البالي، وقوله....؛ وانظر ديوان امرئ القيس: 31.
ديوان أبي نواس: 45.
س: ديناراً.
ط: في الشهر.
س: واشتار من ثغره.
ط: يوسف الاسرائيلي.
وردت الأبيات منسوبة لأعرابي في شرح المختار من شعر بشار: 250 وأمالي القالي 2: 271 وحماسة ابن الشجري: 161 وأمالي المرتضى 1: 500.
المختار: المنقى.
س: بكل شيء حسن.
وزاد في ب س: فانصرف إلي وعرفني بما جرى وسألني أن اكشف له السر فقلت ...
ب س: قارعت.
ب س: بجميع.
ب س: أضعف (اقرأ: أصعب) .
أي أن العرب يفتخرون بأولئك الذين لا يستطيع أهل الكلام هدم بنيانهم؛ وفي العبارة بعض التواء؛ وانظر حديث الجاحظ (في الحيوان 2: 93 والبيان 4: 41) عن هجو الشعراء للأشراف.
يعني خالد بن صفوان وشبيب بن شيبة وكانت الحال بينهما قائمة على المناقشة والمحاسدة؛ وكلمة خالد هذه في البيان 1: 47 قال الجاحظ: وتدل كلمة خالد هذه على أنه يحسن أن يسب سب الأشراف.
ط: وسهل بن هارون وأصحابهم.
ب س: ويطيب على قلوب أهله.
ط: عليه.
ط: ويحرر.
س ب: القلائل الأعداد.
س ب: اهتضمها.
ب س: عندنا.
ب س: ينحتون من.
ب س: أفكار.
من أبيات في المختار من شعر بشار: 15 والشعر لمحمد بن قرلمان.
ب س: بالألفة.
ط: وتبسيطه.
يعني ابن الافليلي.
ط: البرهان.
ط: الجدال.
ط: قنص.
ب س: ضنانة.
ط: حيث.
في النسخ: حراجيات، والصواب " خراجيات " بالخاء المعجمة، وقد جاء في رسالته ابن عبدون في الحسبة: 50 " يجب أتن ينهى دور الخراج عن كشف رؤوسهن خارج الفندق " فسماهن " نساء دور الخراج "؛ وقال ابن هشام في كتاب لحن العامة: " ويقولون لمن يسكن في الفنادق من النساء: خرجيرات، والصواب " خراجيات " منسوبات إلى الخراج " (انظر مجلة معهد المخطوطات 3 - 1: 156) .
لعل صوابه: " وتسمعان ".
ومن العجب ... هذا كله: سقط من ط؛ وبدئت العبارة بقوله: " ومن الغرائب أنه يسمينا العلج ويسمي البديع ".. الخ.
ط: لشامته.
ط: أظافير.
ط: كان واحداً في البلاغة.
ط: يلبس.
ط: لسهل.
ب: مما ينسبه.
ب س: ويدير.
ب س: وتجربة.
ب: يحيلوا.
ب س: يقع.
ب س: باعثاً.
ط: قد غص بالطماطم؛ ب س: بالجماجم.
ط: مصدرها.
هو أبو بكر يحيى بن حزم شيخ من شيوخ الأدب، قال الحميدي (الجذوة: 351 والبغية رقم: 1466) وهو الذي خاطبه أبو عامر ابن شهيد برسالة التوابع والزوابع التي سماها " شجرة الفكاهة " وهو من بيت خر غير بيت الفقيه أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم " قلت: إن جهل هذه الحقيقية وهي عدم وجود ايه صلة من قرابة بين أبي بكر ابن حزم والفقيه المشهور، أوقع عدداً من الدارسين في استنتاجات خاطئة حول رسالة التوابع والزوابع (انظر مثلاً: ابن شهيد لشارل بلا س: 54، 95) .
ط: لما رأيت.
ب س: فتساقطت.
ب س: أولى أن له سلطاناً.
ب س: يوقدني.
ط: ثغر.
ب س: إثر.
الحائر أو الحير: المكان المطمئن يجتمع فيه الماء، ثم سموا البستان به.
ب س: على باب.
يعني أنه مكن قبيلة أشجع التي تنتمي إلى الجن مثلما أن صاحبه ابن شهيد من أشجع (الإنس) .
ط: تصورت لك رغبة.
ط: وتذاكرت معه أخبار.
ب س: من اتفق من هذه الطوائف.
ب س: الأدهم.
ط ب: فسرنا.
ط: إلا ما عرضت لنا وسمعت.
الصواب: " قال " - أي زهير.
ديوان امرئ القيس: 56 وعجز البيت: وحلت سليمى بطن قو فعرعرا.
ديوان ابن شهيد: 107.
ب س: تكنفتها.
السفاسق: طرائق السيف وشطيه.
ط: شجرها شجر سام.
ط: وشجر.
ديوان طرفة: 76؛ وفيه " لهند "؛ والحزان: جمع حزيز، وهو الغليظ من الأرض؛ والشريف: واد بنجد؛ وعجز البيت " تلوح وأدنى عهدهن محيل ".
ديوان ابن شهيد: 140.
ب س: الجودان؛ وسقط البيت من ط. والحوذان: نبت ينبت مسطحاً في جلد الأرض لازقاً بها.
ط: فقلت.
التليل: العنق.
ط: حتى
ب س: اذهب فقد أجرتك.
ط: بعده.
ديوان قيس بن الخطيم: 7.
ط: أنشدني يا شمعني.
ديوان ابن شهيد: 82.
ط: إلينا.
ديوان ابن شهيد: 217.
اليتيمة: خمر.
ديوان ابن شهيد: 97 (اعتماداً على الذخيرة وحدها) .
في الأصل: تلو، والتصحيح عن الديوان.
ناظر إلى المثل: " في كل واد بنو سعد " أو " أينما أوجه ألق سعداً "، انظر الميداني 1: 34 والعسكري 1: 61 (تحقيق الأستاذ أبو الفضل إبراهيم) .
يلاحظ إيراده " الكون " و " الفساد " في هذا السياق، كأنه يومئ إلى ثقافة فلسفية.
ب س: الموت.
ط: ولن.
ب س: المنون.
ب س: حازم.
ب س، أصاب4 وأصمى بدارهم.
ب س: يضرب.
الهادي: العنق.
ديوان ابن شهيد: 147 وهي في رثاء الوزير حسان بن مالك بن أبي عبدة، وكان من الأئمة في اللغة والآداب، روى عن أبي العباس ابن ذكوان مذاكرة، وعمل كتاب سماه " ربيعة وعقيل " في الأسمار، وتوفي قبل العشرين وأربعمائة (الجذوة: 183 والبغية رقم 662) .
المغرب: حين.
المسالك: الرزايا.
ط: بعذري.
ب س: بواطن.
س: عوداً وبدأة.
البيتان لسويد بن كراع، الشعر والشعراء: 23، 530 وانظر الأغاني 12: 345 في ترجمة سويد، والبيان 2: 12.
ب س: ماءورند؛ والناورد هنا بمعنى " الميدان "، وهي من الفارسية ومعناها: معركة، قتال.
ط: على أنه من.
ط: أنيسه.
ديوان البحتري: 83 وعجزه: " في مغاني الصبا ورسم التصابي ".
ديوان ابن شهيد: 85.
المغدودن: المسترخي.
ب س: لبرص.
ب س: على.
ط: أجزت.
ط س: نوافجه.
ب س: أو قد صرنا.
ب س: وأرقلت.
ب س: متشدة.
ب س: شرك.
ب س: وبيمينه.
الطهرجارة: الفنجال أي شيه كأس أو طاس يشرب به.
ط: اقرع أذنيه.
ب س: فصرخت.
ديوان ابن شهيد: 115.
المطمح والنفح: شربت.
المطمح والنفح: يصرف عصيره.
المطمح والنفح: السرور شعارهم.
المطمح والنفح وس: مصفر؛ ب: مصفن.
ب س: لأهدأ تأنيساً؛ ط: لأشد من تأنيسي.
ديوان أبي نواس: 128.
ديوان أبي نواس: 75، وعجز البيت: " فلو قد شخصتم صبح الموت بعضنا ".
ديوان أبي نواس: 88 وانظر الذخيرة 3: 463.
ط: تركت.
ديوان ابن شهيد: 102.
الديوان: أصبيح؛ المطمح: أصباح.
أكثر المصادر: زنداً.
النفح: نعسته.
المغرب: متفتلا.
ب س: عن.
في الأصول: غمك.
المطمح: مائلا لطفاً وأعطاني اليدا.
ب س: مهما.
الديوان: صد لي.
المغرب: أمشي في الكدى.
المغرب: وثناه.
في الأصول: يعرو.
المغرب: خدي.
ديوان ابن شهيد: 170 (عن الذخيرة وحدها) .
انظر ديوان ابن شهيد: 89 ومطلع هذه القصيدة وارد في ترتيب المدارك 4: 667 (ولم يرد في الديوان) وهو:
إذا لم تجد إلا الأسى لك صاحبا ... فلا تمنعن الدمع ينهل ساكبا
هوت بأبي العباس شمس من التقى ... وأسى شهاب الحق في الغرب غاربا والمرثي في هذه القصيدة هو أبو العباس ابن ذكوان (- 413) ؛ انظر ترجمته في الجذوة: 121 (البغية رقم 425) والصلة: 37 والمغرب 1: 210 - 212 وترتيب المدارك 4: 662 والنباهي: 84 - 87 والحلة السيراء 1: 27 وصفحات متفرقة من البيان المغرب ج - 3.
ديوان ابن شهيد: 99 وعجز البيت: " يجود ويشكو حزنه فيجيد "؛ وقد كتبها حين سجنه علي بن حمود (انظر المطمح: 20) .
ب س: بعيدهم.
ب س: الظاعنين.
ب س: طرباً.
ب س: عيونك.
ديوان ابن شهيد: 124.
ب س: بروض.
ب س: كخط.
ب س: وهو ذو قنص.
ب س: حتى لاح لنا.
ب س: حشيت.
ب س: أنك تتناول.
ديوان ابن شهيد: 142 وعجز البيت: " ورجع صدى أم رجع أشقر صاهل ".
ط: زهواً؛ ب س: زهراً.
ط والمغرب: وحلقت؛ ب س: نجمها.
المسالك، حافل.
ب: التمحتهم.
ب س: لم ينجده طيب.
ط: تأتيهم.
ديوان ابن شهيد: 165؛ وانظر ما تقدم ص: 205.
ب س: حتى إذا سمعها.
ط: فلما انتهينا ... إذا.
ط: به.
ط: فقلت.
ط: بجهل (اقرأ: لجهل) مني.
ط: الكلام.
قد حاولت شرح هذه اللفظة " طولق " في القسم الثالث: 653، وفي ظني أن معناها مما جاء في (Vocabulista) لم يتحدد بوضوح: وكلمة " يفرش " هنا قد تفيد أنها حصير أو بساط أو ما أشبه، على أن يقترن ذلك بالشعوذة أو بالدعوة إلى بيع العقاقير أو التكلم ببذاءة، أو غير ذلك من الأمور.
في كلية ودمنة: 31 فارقي بهذه الرقية " شولم، شولم " سبع مرات؛ فلعل حركة مشولم هي حركة الراقي وهو يردد لفظة شولم.
ط: ارقهم.
ب س: لما يأتي منه.
ط: للبيان لعصبا (اقرأ: لعصيانا) .
ب س: العير.
ب س: بفكيك.
ط: رسائلي.
ب س: فبال.
اللمص: الفالوذج.
الشوابير: جمع شابورة، وهي السمكة أو نوع من السمك، ولم يتضح لي ماذا يعني ذلك في السياق.
ط: القبيطي؛ وهو صواب أيضاً.
ب س: لا يؤذي على.
ب س: غير.
ب س: فصاح.
ب س: وهل هنا.
ب س: وهل هنا.
في أخبار ابن القوطية أن ابن هذيل لقيه عائداً من ضيعة له بسفح جبل قرطبة، فسأله:
من أين أقبلت من لا شبيه له ... ومن هو الشمس والدنيا له فلك فأجابه:
من منزل يعجب النساك خلوته ... وفيه ستر على الفتاك إن فتكوا (انظر ابن خلكان 4: 369) فلعل ابن القوطية تمثل به، وغير في بعض لفظه.
تبصان: تلمعان؛ ب س: بنصران.
ب س: آخرها؛ ط: مناخيرها.
ب س: النعام.
ب س: مرجعاً.
ط: عيبه.
ط: تجاري.
ط: داراهما.
يمكن القول إن أبا بكر هو ابن حزم الذي خاطبه في أول الرسالة، لأنه هو الذي اقتصر على قوله: " له تابعة تؤيده " كما سيجسء القول، وأما ابن القاسم فقد صرح بأنه ابن الإفليلي، ويبقى الثالث وهو أبو محمد، وليس لدي ما يعين على التعرف إليه.
ديوان ابن شهيد: 114 والنفح. 3: 439 والمسالك.
النفح والمسالك: فأعجزهم.
البيت للحطيئة، ديوانه: 128.
ط: فقال.
ب س: سكتته (اقرأ: شكته) .
تكسر: تقاس مساحتها وتقدر.
اليتيمة 2: 46.
الشونيزة: الحبة السوداء.
ط: أوثقتها.
اليتيمة: كل كافر ومسلم.
ب س واليتيمة: أحقر.
اليتيمة 2: 47.
قاتل حذيفة هو قيس بن زهير.
ب س: موصوفاً.
ب س: سرد (اقرأ: سدد) .
اليتيمة 2: 46.
برهوت: واد أو بئر بحضر موت يرون أنها مقر أرواح الكفار.
ديوان ابن شهيد: 121.
ديوان ابن شهيد: 119.
ط: من.
ب س: الصعب.
ب س: الليل.
ط: خبيث.
ط: مهانة.
ب س: تابعة.
الطرمذة: المفاخرة والتنفج.
ديوان أبي تمام 4: 386.
الديوان: صحيفة.
الديوان: هل أنت.
أخبار أبي تمام: 194 - 199، وانظر الشعر في ديوانه 4: 463.
الصولي: لو كان هذا منظوماً خفتاه، أما منثوراً فهو عارض لا حقيقة له.
الصولي: والذكر.
الصولي: مضطرب الأحشاء؛ الديوان: مشتغل الأحشاء.
ب والصولي: دن.
الصولي: محقاً.
أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن زكرياء القرشي الزهري المعروف بالإفليلي (352 - 441) ؛ انظر ترجمته في الصلة: 94 وأنباه الرواة 1: 183 والجذوة: 142 والبعية رقم: 485 ومعجم الأدباء 2: 4 وابن خلكان 1: 51.
ط: النياقي (اقرأ: اليناقي) ؛ وفي ب س: السباسي، وفي ابن أبي أصيبعة (2: 47) البسباسي؛ والشبانسي هو قاسم بن محمد القرشي المرواني، ذكر ابن حزم أنه قرف وشهد عليه عند القضاة بما يوجب القتل فسجن، ثم تشفع إلى المنصور ابن أبي عامر فاطلقه (الجذوة: 310 والبغية رقم: 1296) .
الحمار هو سعيد فتحون السرقسطي، وقد ذكر أنه امتحن من قبل المنصور وسجن مدة (انظر الجذوة: 216 والبغية رقم: 813 وطبقات صاعد: 68 والذيل والتكملة 4: 40 وبغية الوعاة: 256) .
موسى بن الطائف: ذكر الحميدي (الجذوة، 317 والبغية رقم: 1325) أنه كان شاعراً مشهوراً أيام المنصور بن أبي عامر، ونسب إليه الأبيات " لا تنسى من سحتك المكسوب " وهي أبيات أوردها ابن بسام في القسم الثالث: 320 - 321 لابن مهروان السرقسطي، وانظر هجائه هذا في الغيث 2: 123.
ب س: تعلم.
بيت الأفوه في ديوانه (الطرائف الأدبية: 13) والخزانة 2: 196 وزهر الآداب: 1000 والصناعتين: 225 والوساطة: 274.
انظر ديوان النابغة: 57، وزهر الآداب: 998 والصناعتين: 225 والوساطة: 274 والمطرب: 162.
ديوان أبي النواس: 69 وزهر الآداب: 998 والصناعتين: 226 والوساط: 274 والمطرب: 161.
ديوان صريع الغواني: 12 وزهر الآداب: 998 والصناعتين 226 والمطرب: 162.
ديوان أبي تمام 3: 82 وزهر الآداب: 988 والصناعتين: 226 والوساطة: 274 والمطرب: 162.
ب س: الفرسان.
ديوان المتنبي: 247 والمطرب: 162.
ط: كما.
أورد ابن خلكان (1: 117) بيتين من هذه القصيدة ونسبهما لابن شهيد، ولعله تابع في ذلك صاحب المطرب: 161؛ ونرى ابن شهيد هنا ينسب الأبيات إلى جني اسمه فاتك ابن الصقعب، فهل هو يعني نفسه؛ إن جنيه هو زهير لا فاتك، فهل كان له غير تابع واحد - يبدو ذلك، لأن هذا الجني نفسه هو الذي استطاع أن يأخذ معنى امرئ القيس " سموت إليها ... " البيت، وأن يحله في أبياته " ولما تملأ من سكره "؛ وهذا امرئ القيس من فعل ابن شهيد والأبيات ثابتة له؛ فلماذا اختار ابن شهيد في هذا الموقف أن يكون له تابعان - وقد أدرجت الأبيات العينية في ديوان ابن شهيد: 123.
ط: حولي.
ديوان امرئ القيس: 31.
ديوان عمر: 123 وفيه " خشية القوم ".
ب س: بركن أزور كركن أزوركم ذلك.
ب س: لتنبسط.
البيتان لإسماعيل ابن يسار من قصيدة له في الأغاني 4: 417 وذكر أبو الفرج (418) إن فيهما غناء لابن سرفج، وأنه غنى بهما في حضرة الوليد بن يزيد؛ وانظر أيضاً الأغاني 9: 281 - 282، 284
حتى إذا الليل خبا ضوءه ... وغابت.......... الأغاني (9: 281) .
الأغاني: خفي.
ب س: فقلت.
ب س: لتخلص.
ب س: وملت.
ب س: دنا فالتمس.
انظر الأغاني 9: 281 - 282.
ب س: به، وأثبت رواية ط والأغاني.
نسب هذا الشعر لوضاح اليمن، انظر الأغاني 6: 203 - 204، وروايته: قالت لقد أعييتنا حجة، فأت ... البيت. وانظر الفوات 2: 272 في ترجمة وضاح اليمن (واسمه عبد الرحمن بن إسماعيل بن عبد كلال) وتهذيب ابن عساكر 7: 295.
ب س: جاريت.
ديوان المتنبي: 302.
انظر ما تقدم ص: 249.
ديوان المتنبي: 479.
ديوان ابن شهيد: 95.
ط ب: أتينا.
ب س: لحومها.
ب س: كان ملء.
ب س: عمن.
ديوان المتنبي: 318.
ديوان المتنبي: 540 - 541.
ديوان المتنبي: 294؛ وفي ط: كل ظام.
الديوان: في الوغى.
ب س: مما.
ط: استعزمت.
انظر ما تقدم ص: 209.
ب س: همتي.
ديوان ابن شهيد: 137.
ديوان ابن شهيد: 91.
ديوان ابن شهيد: 111 (عن الذخيرة) .
ب س: كصابي ... مظافر.
ب س: ولو أن لي في الجو كسراً.
ب س: لم.
ط: الخطائر.
العناني: جمع عناز؛ جاء في الامتاع والمؤانسة (2: 174) :
أبو العباس قد حج ... وقد عاد وقد غنى
وقد علق عنازاً ... فهذا هم كما كنا وشرح المحققان العناز بأنه طبل كان يعلقه المخنثون وأصحاب الغناء في أعناقهم؛ ويقترح محققو هذا القسم من الذخيرة أن تقرأ اللفظة " عثانين ".
استمده من قول الشاعر:
رويدك حتى تنظري عم تنجلي ... عملية هذا العارض المتألق ب س: ببلجة.
ب س: أخا.
ط ب: فكة.
ديوان ابن شهيد: 151.
ط: بفصل.
ط: تقضهني (اقرأ: تعضهني) .
ب س: الهمم.
المطمح: كلفت؛ ولعل صواب القراءة هنا " ألمت ".
نيطة: اسم موضع.
ب س: سائر.
ترجمة عبد الملك بن أحمد بن عبد الملك بن عمر بن محمد بن عيسى بن شهيد والد أبي عامر في الجذوة: 261 (البغية رقم: 1057) .
ذكر ابن سعيد أخا أبي عامر دون أن يسميه وأنشد له ثلاثة من الأبيات السابقة (المغرب 1: 86) .
ذكر ابن سعيد أيضاً عم أبي عامر دون أن يسميه وأورد له الأبيات (المغرب 1: 85) .
البيتان " أتيناك لا عن حاجة ... " وردا في ترجمة أحمد بن عبد الملك بن عمر، وهو جد أبي عامر، وفي المطمح: 9 (وعنه نفح الطيب 1: 380 - 382) والجذوة: 123 (البغية رقم: 439) والحلة 1: 237.
الجذوة (267) : من خشية.
هو عبد الملك بن عمر بن محمد بن عيسى بن شهيد؛ ترجم له الحميدي في الجذوة: 267 (البغية رقم 1072) ، وأورد له ثلاثة أبيات مما نسبه أبو عامر.
ط: تأبى.
ديوان ابن شهيد: 106 (عن الذخيرة وحدها) .
ب س: ناجيته.
ط: عربياً.
س: ففهمت.
ط: ونتعهد.
ب س: الأدب.
ب س: الوحش.
ب س: تميمة.
ب س: فاستضحك.
ط: فانصرفت ... رضية.
ط: الطائر.
ب س: ولا تحكم في الأصول.
ط: ما حكم.
ط: بك.
يريد النبي إبراهيم.
ط: فتكلمت.
هذا الفصل كله حتى قوله: انتهى كلام ابن حيان، لم يرد في النسخة: ط.
ديوان ابن شهيد: 126 (عن الذخيرة وحدها) .
ب س: شكوت.
ستأتي ترجمته في هذا القسم من الذخيرة.
بدائع البدائه: 255 ونفح الطيب 3: 348 وديوان التطيلي: 145.
انظر المصادر السابقة.
في النفح 3: 347 أن البيت الثاني للأعمى إجازة.
ورد بهامش ب 13 بيتاً لابن دراج في وصف الحمام، وهي قصيدة في ديوان: 252 - 253 في مدح يحيى بن منذر، ويستطيع القارئ أن يراجعها هنالك، ولا داعي لاثباتها.
ديوان ابن شهيد: 94 وبدائع البدائه: 353 والنفح 3: 260 وأخطأ ابن ظافر وتابعه المقري، إذ جعل صاحب المجلس هو الحاجب المظفر نفسه لا ابنه.
قال أبو عامر وابن حيان: كذا جاء، ولعل الصواب: قال ابن حيان، وجاءت " أبو عامر " سهواً.
من هنا تعود نسخة ط إلى الاشتراك من ب س.
بدائع البدائه: 83 - 84 والنفح 3: 610 - 611.
في النسخ: جلي، وأثبت ما في البدائع والنفح.
النفح: ولا ترام.
ب س والنفح والبدائع: الدواة.
ط: سماه؛ وإدريس هو ابن اليماني العبدري اليابسي، وقد أثبت ابن ظافر (بدائع البدائه: 84) أبياتاً هجا فيها إدريس أبا جعفر ابن عباس.
ديوان ابن زيدون: 593 (نقلا عن الذخيرة) .
ط: جرى.
ط: في الألثغ.
انظر ابن خلكان 6: 9، 7: 227.
أبو القاسم حسين بن وليد بن نصر المعروف بابن العريف (- 395) قرطبي كان عالماً بالنحور والعربية، له رحلة إلى المشرق، واستأدبه المنصور لأبنائه، وكان كثير المديح في أشعاره (ابن الفرضي 1: 134) .
ب س: بحرف.
ب س: مثالا.
ب س: قد ملح في قوله؛ وانظر ديوان المتنبي: 388.
ترجمته في القسم الثاني من الذخيرة.
ديوان ابن شهيد: 91 (عن الذخيرة وحدها) .
س: يا ظبا الهند.
س: أخذت.
ط: حلاته (اقرأ: خلا به) .
ط: مضيء.
الحرجف: الريح الباردة الشديدة الهبوب.
الكنهور: السحاب المتراكب.
س: يمتطي الفصل.
ديوان ابن شهيد: 163 والنفح 3: 440.
النفح: بنان.
العثان: الدخان.
البيتان للأعمى التطيلي، ديوانه: 52.
ديوان أبي تمام 1: 114.
ترد ترجمته في القسم الرابع من الذخيرة، وهو أبو محمد عبد الله بن محمد التنوخي (انظر ابن خلكان 5: 348، 6: 159) .
س: الضرغام.
س: فأمر ابن الحناط أن يصنع في ذلك شعراً.
ديوان ابن شهيد: 131.
س: مجدك.
شروح السقط: 441.
س: كقول أبي عبد الله ابن الحداد من أهل المرية من قصيدة يمدح بها ابن صمادح يقول فيها؛ وستأتي ترجمة ابن الحداد في هذا القسم من الذخيرة.
س: باسلات.
ط: مضمتة.
ورد هذا البيت في اليتيمة 1: 37.
انظر ديوان أبي فراس: 119 واليتيمة 1: 37، وابن بسام ينقل خبر المبرقع عن اليتيمة 1: 36 - 37؛ وانظر خبره: سيف الدولة لكانار ص: 220 نقلا ابن ظافر، إذ يقول: " في سنة 336 ظفر الأمير سيف الدولة بالقرمطي الملقب بالهادي واستنقذ أبا وائل ... الخ ".
ديوان المتنبي: 259 - 260.
انظر الجذوة: 23 والبيان المغرب 3: 188 وأعمال الأعلام: 136.
ط: البرزيلي.
زاد في س: وخامر ناموسه الأمة.
البيان بالكثرة.
البيان: في جبل منيع الصعود.
البيات نذود.
ط: فساقها.
البيان: وعجب.
البيان: إلى مكان عرفه في سورها الجوفي.
س: بنيه.
س: يستوفي ذكره.
ديوان ابن شهيد: 130 (عن الذخيرة وحدها) .
ديوان المتنبي: 379.
ديوان ابن شهيد: 132 (عن الذخيرة) .
س: الهوى.
ط: للهوى.
ديوان ابن هانئ: 95.
البيت من أبيات لابن الرعلاء الغساني، والرعلاء أمه، انظر الخزانة 4: 187 وحماسة ابن الشجري: 51 والسمط: 8، 603.
ديوان المتنبي: 312.
هنا تنتهي ترجمة ابن شهيد في ط.
ديوان ابن شهيد: 153.
كذا ورد.
انظر الجذوة: 348.
س: بجفوننا.
المختار من شعر بشار: 247 والعقد 6: 14 والزهرة: 294.
هو أحمد بن أبي فنن كما في زهر الآداب: 1012 والسمط: 198 والمختار: 220 والزهرة: 320.
السمط: 496 والأمالي 1: 208 وزهر الآداب: 942.
زيادة من زهر الآداب: 942 والأمالي 1: 206.
لم يرد في ديوانه، وهو لبشار عند ابن خلكان 1: 224 والسمط: 197.
لم يرد في ديوانه.
ديوان ابن شهيد: 171 (عن الذخيرة) .
ديوانه: 152 (عن الذخيرة) .
س: في الدجى.
س: بثوبي أدم.
ورد بيت مضطرب قبل هذا وهو:
فقلت أمر بهم فاشعر ... بضرب فاحذر حان ندم س: لا كنته بحال.
س: أمر.
ديوانه: 145 (عن الذخيرة) .
ديوانه: 133 (عن الذخيرة) .
تنفرد نسخة دار الكتب ببعض أبيات هذه القصيدة والقصائد التالي، وتخل بها النسخة س.
يذر الحب: يأخذه بأطراف الأصابع.
س: فلا بأس.
س: الملا.
ستأتي ترجمة من اسمه اللمائي في هذا القسم من الذخيرة؛ ولعله شخص آخر.
الديوان: 172.
ديوان ابن شهيد: 149 (عن الذخيرة) .
ديوانه: 107 (عن الذخيرة) .
ديوانه: 113.
س ب: أول الأمر.
ديوانه: 129.
س: أصحابي.
ذكره الفتح في القلائد: 153 (وعنه النفح 1: 535 - 636) وكناه " أبا مروان ".
ديوانه: 98 والقلائد: 153 والنفح 1: 636.
القلائد والنفح: نعمنا.
القلائد والنفح: شكرك.
ديوان ابن المعتز 4: 354 وزهر الآداب: 774.
شروح السقط: 1468.
سترد ترجمته في هذا القسم من الذخيرة.
ب: ونصوص.
ترجمة ابن زيدون في الجذوة: 121، 379 (البغية رقم: 426) والقلائد: 79 والمطرب: 164 والمعجب: 162 والمغرب 1: 63 واعتاب الكتاب: 207 والنفح (في صفحات متفرقة) والخريدة 2: 48 وابن خلكان 1: 139 والوافي 7: 87 ومقدمة سرح العيون، ومقدمة تمام المتون.
ب س: غاية.
ب س: أخبرني.
أبو محمد ابن عبد البر الكاتب، انظر القسم الثالث: 125.
ط: باستجلاب.
في الأصول: أبي محمد؛ وقد جاء في الفهرست العام في مقدمة الذخيرة أبو عمرو، وفي القسم الثاني (نسخة الرباط رقم 1324 الورقة 38ب) أبو عمر، واسمه يوسف ابن جعفر، وكان أبوه جعفر أحد الكتاب صدر الفتنة عند عدد من الملوك، وتوفي جعفر سنة 435.
ب س: الديوان.
ط: تأتي.
ب س: بالنظم الخطير.
هو عبد الله بن أحمد بن عبد الملك بن هشام، أبو محمد ابن المكوي القرطبي، كان أبوه أبو عمر أحمد بن عبد الملك (ترتيب المدارك 4: 635) مولى بني أمية، وكان من أفقه أهل زمانه وأحفظهم لمذهب مالك، وعظم قدره بالأندلس وصار معتمداً لجميع قضاتها وحكامها فيما اختلفوا فيه، توفي منبعث الفتنة البربرية (401) ؛ أما ابنه أبو محمد فقد استقصاه أبو الحزم ابن جمهور سنة 432 ولم يكن من القضاء في ولارد ولا صدر لقلة علمه، ثم صرفه أبو الوليد ابن جمهور، وبقي خاملاً حتى أدركته منيته سنة 448 (انظر الصلة: 267 - 268 والمغرب 1: 160) .
يتضح من التعليق السابق أن يجن ابن زيدون تم بين 7 محرم 432 و 3 بقين من ربيع الأول 435، وهي الفترة التي تولى فيها ابن المكوي.
ب س: فشفع.
ب س: اصطنع.
هو ادريس بن يحيى بن علي الملقب بالعالي، بويع سنة 434 تم خلعه أهل مالقة سنة 438 (انظر البيان المغرب 3: 217) .
ب س: أمراء.
ب س: والمنفعة.
س: يحصى.
موضع هذه العبارة في ب س: وكيف يصح ذلك وهو منقول عن عمر رضي الله عنه؛ وهي عبارة غريبة في موقعها.
هذه هي الرسالة الجدية، التي شرحها الصفدي في تمام المتون؛ ونصها كما أورده الصفدي ناقلا عن خط ابن ظافر (صاحب ذخائر الذخيرة) يدل على أن ابن بسام يوجز كثيراً بالحذف، ويغير بعض التغييرات الطفيفة محافظة على السياق الموجز.
من قول أبي شجرة السلمي وكان من الفتاك (تمام المتون: 186 - 187) .
ورويت رمحي من كتيبة خالد ... وإني لأرجو بعدها أن أعمرا يعني عثمان بن عفان، وفيه إشارة إلى قول حسان (تمام المتون: 191)
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا البيت للعتبي، انظر تمام المتون: 121.
تمام المتون (264) وعاث العقوق في مواتي.
إشارة إلى قول امرئ القيس:
وانك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب من المثل: " لو غير ذات سوار لطمتني "؛ فصل المقال: 381 والميداني 2: 81 والعسكري 2: 193 (تحقيق أبو الفضل) وفيها: لو ذات سوار.
البيت للبحتري، ديوانه: 1984.
انظر فصل المقال: 127، 486 والميداني 2: 150 والضبي: 79 وتمام المتون: 294.
إشارة إلى الآية " وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة " (الغاشية: 2، 3) .
من قول العباس بن الأحنف:
كنت كأني ذبالة نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق من قول أبي تمام:
وإن صريح الرأي والحزم لامرئ ... إذا بلغته الشمس أن يتحولا من قول البعيث (تمام المتون: 313) :
طمعت بليلي أن تريع وإنما ... تقطع أعناق الرجال المطامع فصل المقال: 187 والميداني 1: 160 وتمام المتون: 318.
ب س: زواله.
ب س: يخفى.
ب س والصفدي: ورد منهل بر.
ب س: فنزل.
من قول عمرو بن الاهتم أو حاتم:
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ويخصب عندي والزمان جديب ب س والصفدي: ومقيل؛ والبيت لعمرو بن الاهتم من مفضلية له قافية (المفضليات: 249) .
معجم البلدان (منعج) لبعض الأعراب.
ب س: تعلق (اقرأ: بعلق) ؛ وفي تمام المتون: بعقد.
في النسخ: عوز؛ وصوبته عن تمام المتون: 339 إذ فيه إشارة إلى المثل " بدل أعور " انظر الميداني 1: 59 وفصل المقال: 81.
اللفاء: الشيء الخسيس.
البيت لعدي بن الرقاع؛ الشعر والشعراء: 517 وتمام المتون: 340.
فصل المقال: 10 والميداني 2: 54 والعسكري 2: 150 وتمام المتون: 337.
فصل المقال: 202 والميداني 2: 14 وتمام المتون: 341.
البيت للمتنبي، ديوانه: 324.
ب س والصفدي: واكرم غير مكرم؛ وما ثبت هنا فإنما هو من المثل " كدمت غير مكدم "، فصل المقال: 355 والميداني 2: 57.
من قول المتنبي (ديوانه: 513) :
لا تشك إلى خلق فتشتمه ... شكوى........ الميداني 1: 191.
من قول بشار:
إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمراً ثم نم ناظر إلى قول بشار:
فبالله ثق إن عز ما تبتغي وقل ... إذا الله سنى عقد أمر تيسرا البيت لأبي تمام، ديوانه 3: 60 وتمام المتون: 366.
الصفدي: ميسرك.
الإشكاء: إزالة الشكوى.
الصفدي: مكان.
الصفدي: أحسن.
الصفدي: بيده ... عليه.
ب س: حتى.
الصفدي: يستكد؛ ب: يستنكر.
ب س: وهي هذه الأبيات، وانظر ديوان ابن زيدون: 278.
ب س: وفق.
ديوان البحتري: 2073.
ديوان أبي تمام 3: 60 وانظر ما سبق: 344.
ديوان ابن الجهم: 45.
ط: من قصيدة.
ديوانه: 250.
في النسخ: إن.
ب: عصر غير محتضر.
ب س: السرى.
ب س: وبات.
أولى مؤنث صفة للفظة " وهجرة "، والهجرة الأولى دليل السابقة؛ وإنما أنبه إلى ذلك لأن محقق الديوان قد وقع في الخطأ لدى شرحه البيت (ص 259) إذ قرأ " أولى " على أنها أفعل تفضيل.
شروح السقط: 119.
س: ومنه قول أبي تمام وقد تقدم إنشاده؛ وانظر ديوانه 3: 280.
ديوان البحتري: 757 - 758 وفيه " عود الأراكة ".
ديوان أبي تمام 2: 99.
اليتيمة 3: 61.
اليتيمة 4: 61.
ديوان ابن الرومي: 563.
ديوان المتنبي: 92.
ط: وإنما أشار إلى.
ب س: ماء.
ب س: عفوه؛ ولم يورده صلاح خالص في مجموع شعره.
ط: وقال من أخرى وهو أيضاً بتلك الحال من الاعتقال؛ وانظر ديوان ابن زيدون: 261.
ط: يبكي الحمام على قتلي.
ب س: وغاضها.. بمطلعها.
ط: قرسطت.
ب س: الفتل.
الحسل: ولد الضب؛ ولعله إنما يريد " زلة الحذر " لأن الضب - وهو أبو الحسل - مشهور بالحذر.
ب س: وهذا مأخوذ من قول الآخر.(1/568)
شروح السقط: 976.
ديوانه: 592، ولم يرد البيتان في أصول الديوان، وإنما أوردهما الصفدي في المتون والوافي.
الديوان: 582.
فيه إشارة إلى المثل: " كل مجر في خلاء يسر ".
الديوان: هي البحر.
هكذا قال هنا، ولم يرد من ذلك شيء في الديوان.
الديوان: بسري.
الديوان: لإبانه.
من هنا حتى بداية ولادة سقط كله من ط؛ وهنالك أجزاء من هذا الفصل قد زيدت في الذخيرة بعد ابن بسام، وقد صرح بذلك من زادها؛ ولعل هذا القسم الواقع قبل رسالته إلى أبي بكر ابن مسلم قد زيد لعدم قيامه على الاختيار.
س: مسيرة.
ب س: إليه.
ب س: الأمل.
ب س: ما هو ألطف.
ب س: فيه.
س: قلمي؛ وهنا موضع خرم في ب، ضاعت بسببه ورقات.
س: واعتزت.
س: وأبعد.
س: حياء.
ديوان ابن زيدون: 406.
س: ملامي.
المسلمي: نسبة إلى بن مسلمة، وهم بنو الأفطس؛ وفي الديوان: الأسلمي، وهو خطأ.
نهيك: شجاع.
شام: أغمد.
في النسخ: بالظلم.
س: تزل.
ستأتي ترجمته في القسم الثاني من الذخيرة، وهو: أبو عامر محمد بن عبد الله بن محمد ابن مسلمة الوزير الأديب، مصنف كتاب " الارتياح بوصف الراح "، هاجر من قرطبة إلى إشبيلية ووزر للمعتضد. (انظر المطمح: 23 وعنه النفح 3: 544 والمغرب 1: 96 والجذوة: 61 والبغية رقم: 170) .
س: يعتمدك.
س: ومكانتك إليه.
س: السابحة.
أي سهيل والثريا، كما في قول " عمرك الله كيف يلتقيان ".
من قول الشاعر:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما ... يظنان كل الظن أن لا تلاقيا س: تكمل.
س: مما ... من.
زيادة من نسخة دار الكتب، ولم يرد في س.
زيادة من نسخة دار الكتب.
س: تتوافى.
في المطبوعة: نسقا، وهي قراءة جيدة.
الضمير في " منه " يعود إلى " الجسم ".
زيادة من نسخة دار الكتب.
واضح أن هذا القسم دخيل على الذخيرة، وقد ورد بعض هذه الرسالة ص: 355 فيما تقدم.
س: يلقى.
س: مورد.
البيتان لابن الرومي، ديوانه: 66.
صدره: إذا ذهب العتاب فليس ود، انظر التمثيل والمحاضرة: 465.
البيت لهمام الرقاشي في البيتان 2: 316، 3: 302، ودون نسبة في التمثيل والمحاضرة: 465.
البيت للقطامي، ديوانه: 35 والتمثيل والمحاضرة: 67.
ورد غير منسوب في البيان 3: 187.
فصل المقال: 347 والميداني 2: 214 والعسكري 1: 93 (أبو الفضل) .
هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه الأنصاري من الأوس، يعرف بذي الشهادتين، لأن الرسول (ص) جعل شهادته بشهادة رجلين (الاستيعاب: 448) .
لأبي نواس، ديوانه 1: 185 (تحقيق فاجنر) وخاص الخاص: 88 والتمثيل والمحاضرة: 80، 434 ونهاية الأرب 30: 80 ورواية الديوان " ليس لله ".
س: قبوله.
إشارة إلى المثل " أحشفاً وسوء كيلة " وقد مر ص: 355.
إشارة إلى قول عامر بن الطفيل: " أغدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية ".
نثر قول عبد الله بن الزبير الأسدي:
تخير فأما أن تزور ابن ضابئ ... عميراً وإما أنتزور المهلبا
هما خطتا كره نجاؤك منهما ... ركوبك حولياً من الثلج أشهبا تاريخ الطبري 2: 872 والشعر والشعراء: 269 والأغاني 13: 432 وطبقات ابن سلام: 176 (الطبعة الثانية) .
س: للغلامة.
لبشار بن برد، ديوانه (جمع العلوي) : 206 وانظر السمط: 932.
صدر بيت لكعب بن زهير؛ وعجزه " وما مواعيدها إلا الأباطيل ".
من قول المكعبر الضبي (أو محرز بن المكعبر) وصدره: وإني لأرجوكم على بطء سعيكم؛ انظر الكامل 1: 80، 81 والحماسة، شرح التبريزي (4: 15 - 16 ط: بولاق) .
لكثير عزة، ديوانه: 103 وروايته " كأني وإياها " وانظر أمالي المرتضى 1: 414 ومجموعة المعاني: 142.
من قول أبي خراش الهذلي:
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا ... خراش وبعض الشر أهون من بعض إشارة إلى قول لبيد " ومن يبك حولاص كاملاً فقد اعتذر "، أي أنه أدى كل ما في طوقه، ولم يبق إلا أن ينجو فاراً من السجن.
عجز بيت؛ وصدره: " احذر محل السوء لا تحلل به "، ينسب إلى عنترة، قال أبو الفرج الأغاني (8: 234) : وهذا البيت لعنترة صحيح لا يشك فيه.
عجز بيت لعروة بن الورد (ديوانه: 40) وصدره: ليبلغ عذراً أو يصيب رغيبة.
من قول الشاعر:
خير إخوانك المشارك في الضر ... وأين الشريك في الضر أينا وتنسب الأبيات لكثير في ترجمته من تاريخ ابن عساكر وفي الذهب المسبوك: 33، انظر ديوانه: 492؛ وهي دون نسبة في الصداقة والصديق: 92 وبهجة المجالس 1: 717 والعقد 2: 308.
فصل المقال: 67 والميداني 1: 221 والفاخر: 48.
البيت في الكامل 2: 309 والحيوان 5: 181 ولباب الآداب: 240 وعيون الأخبار 1: 39 وقال في الكامل إنه لعلي أبي طالب أو إنه كان يكثر التمثل به.
البيت لعدي بن زيد، ديوانه: 93 وهو مثل، انظر فصل المقال: 265، 484 والخزانة 4: 460.
عجز بيت للمتنبي، وصدره: " وبيننا لو رعيتم ذام معرفة ".
البيت لأبي فراس الحمداني، ديوانه: 83.
عجز بيت للمتنبي وصدره: ترفق أيها المولى عليهم.
من أرجوزة لبشار، ديوانه (جمع العلوي) : 85.
ديوان النابغة الذبياني: 78.
يدخل البيت في معلقة عمرو بن كلثوم، انظر الزوزني: 239 وفي رسالة الغفران 182 أن البيت لعمرو بن عدي، وانظر الخزانة 3: 162.
ديوان المتنبي: 359.
ديوان أبي تمام 4: 571.
لابن الرومي، ديوانه: 770.
البيتان للأعشى، ديوانه: 80 (برواية مختلفة) وانظر الأول منهما في الحماسة البصرية 2: 61 والثاني في معجم البكري (كبكب) .
زيادة عن نسخة دار الكتب.
من المثل " العوان لا تعلم الخمرة "، الميداني 1: 13 والعسكري 2: 38 (أبو الفضل) واللسان (خمر) .
من المثل " ما أشبه الليلة بالبارحة "، فصل المقال: 227 والميداني 2: 152 والعسكري 2: 206 (2: 247 أبو الفضل) والفاخر: 254.
هنا تعود النسخة ب للمشاركة مع س.
عجز بيت للحطيئة وصدره: - " من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ".
ليس من المقطوع به أن يكون هذا الفصل دخيلاً، وإن كنت أرجح ذلك، لأن طريقة اثباته لا تشبه طريقة ابن بسام.
ب س: ما أراه.
زيادة من نسخة دار الكتب.
س: أحبائه.
من الواضح أن هذا الفصل اختلط بالنقل من القلائد، وبتكرار شعر مر من قبل، كما أن استئناف الحديث عن علاقة ابن زيدون بالجهاورة بعد أن أشبع المؤلف القول فيه، يدل على أن هذا الفصل دخيل على الذخيرة.
القرح: البياض.
ارتباط الإفاضة بالفور: أي حين يفيض الناس في الحج من عرفات إلى منى، يندفعون بكثرة، والإفاضة سرعة الركض.
هو قيس بن زهير الذي كان يضرب به المثل في الدهاء، وقد جاءته منيته في عمان (انظر الدرة الفاخرة: 201) .
من قول ليلى الأخيلية:
فتى كان أحيا من فتاة حيية ... وأجرأ من ليث بخفان خادر وانظر الدرة الفاخرة: 116.
لم أهتد لمعرفته، وفي تكرير " أدهى " ما يستوقف النظر.
عن أبي زبيد الطائي ومنادمته للوليد بن عقبة انظر الشعر والشعراء: 219 والحاشية.
ما بين أقواس صغيرة موجود نصاً في قلائد العقيان: 71.
قد وردت هذه الأبيات فيما تقدم: 383 ولم يكن بابن بسام حاجة لاعادتها.
انظر ما تقدم ص: 391 الحاشية: 3.
إشارة إلى ما قاله الثعالبي في اليتيمة 2: 336 عن القضاة ندماء المهلبي " ويجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على اطراح الحشمة والتبسط في القصف والخلاعة " يغمسون لحاهم في الشراب القطربلي ويرشون به بعضهم بعضاً، فإذا أصبحوا عادوا لعادتهم في التزمت والتوقر.
في ب س: وقار يدخل، وصوبته بما يناسب المعنى.
قد مر بعض هذه القصيدة ص: 392.
ديوان ابن زيدون: 152.
الديوان: الشغب الشرقي.
الديوان: نور.
ب س: حمام.
الديوان: 158 وانظر القلائد: 72، ويلاحظ متابعة الرواية كما جاءت في القلائد.
الديوان: بممحوض.
الديوان: ذكرى.
ب س: الفلحا.
الديوان: 564 وقد تكررت أبيات منها في هذه الترجمة، وكان من الممكن الاقتصار على ذكرها في موضع واحد، ومن الملاحظ أنها متابعة للقلائد في الأبيات المختار منها.
هذا القول صريح بأن هذا الفصل ليس من صنع بن بسام.
الديوان: 187.
الديوان: قصر.
ب س: أبليه حفظك.
ب س: صروف.
ب س: عهد.
الديوان: 178، والبيتان الأولان لم يردا في أصل الديوان.
الديوان: 165.
شلب (Silves) بلد بالبرتغال في الولاية المعروفة باسم الغرب (Algarve) انظر الروض، الترجمة الفرنسية: 129.
س ب: بدري.
هذا التعيين بأن هذه الأبيات غزل في ولادة مطابق لما في القلائد: 73 وانظر الديوان: 148 فإنها لم ترد في أصول الديوان، وإنما زيدت فيه من المصادر، وانظر المغرب 1: 65.
القلائد: 75 والديوان: 153.
الديوان: هوى.
القلائد: 77 والديوان: 185.
الديوان والقلائد: غدراً.
القلائد: 78 والديوان: 191.
الديوان: وفائك ضلة؛ القلائد: صفائك ضلة.
هذه العبارة وردت نصاً في القلائد وبعدها الأبيات: 77؛ وانظر الديوان: 190.
انظر القلائد: 78 والديوان: 236ن وهي مثطوعة لم ترد في أصول الديوان، وإنما وردت بذيله منسوبة إلى المعتضد، وقد نسبها صاحب القلائد إلى ابن زيدون، أما ابن بسام فسيوردها للمعتضد في القسم الثاني.
أهم المصادر عن ولادة - إلى جانب الذخيرة - هي الصلة: 657 (وعنها نقل الضبي في البغية رقم: 1595) وما أورده الحجاري في المسهب وعنه نقله صاحب المغرب (وترجمة ولادة قد ضاعت) ، فأما ما جاء من نتف في القلائد فأكثره تخيل أو تخليط؛ وعن هذه المصادر الأربعة نقلت المادة المتوفرة في المطرب: 7 وتمام المتون وسرح العيون: 22 ونزهة الجلساء: 101 ونفح الطيب 4: 205؛ وقد ورد العنوان هذا بهامش ط.
ب س: أوانها.
ط: تختلط.
ط: تختلط.
هذا النص يستوقف النظر، أولاً لأنه على لسان ابن زيدون، وثانياً لأنه مصوغ في قالب " مقامة " وأسلوبه لا يشبه أسلوب ابن زيدون أو ابن بسام؛ ومن الغريب أنه ثابت في ط وهي أكثر النسخ اقتصاداً.
ط: عبيره.
ديوان ابن زيدون: 377، وتنسب الأبيات في بعض المراجع لولادة.
أثبتهما ناشر ديوانه: 120 على أنهما من شعره، وليس ثمة ما يؤكد ذلك.
ديوانه: 175، وليسا من أصل الديوان.
تمام المتون: 11 وأنيس الجلساء: 102.
ط: وكثرة.
سرح العيون: 23 - 24 والفوات والنفح وأنيس الجلساء.
أثبتت المصادر نماذج من هذا الهجاء.
أخبار المستكفي في الجذوة: 25 والبيان المغرب 3: 140 وأعمال الأعلام: 135 والنفح: 1: 432، 437 وبروفنسال 2: 335 ودوزي (Spanish Is) : 583.
ورد نص ابن حيان بصورة موجزة في ط.
ط: الموروية؛ ب س: المرورية؛ البيان: المروزية.
هو أبو محمد ابن حزم.
البيان: والعهر واللعب.
ط: وانثالوا عليه في طلب هذه الخطط وعمروا بابه.
ط: من تلك الخطط.
ب س: قصه.
ط: في طبقات الفقه.
ب س: بعلت.
ط: بلغ أهل الفتوى.
ب س: رجالة.
ط: عبد الرحمن.
قارن بالبيان المغرب 3: 142.
ب س: فلا تسر.
ط: المكفوف.
ترجمة ابن الحناط في الجذوة: 53 (والبغية رقم: 124) والصلة: 640 والتكمة: 387 والذيل والتكملة 6: 221 والمغرب 1: 121 والخريدة 2: 297 وطبقات الشافعية 2: 161 والوافي 3: 124 وصفحات متفرقة من نفح الطيب.
ط: وغرة.
الوقذة: الضربة؛ الأميم: المأموم أو المشجوج.
فص ابن حيان شديد الإيجاز في ط.
ط: واهتديناها.
ط: وجعلت.
هذه الرسالة أوردها ابن عبد الملك (6: 224) بتمامها، وهي موجهة إلى الوزير أبي العباس ابن أبي حاتم ابن ذكوان ومعها القصيدة الميمية التالية ليأخذ بمعارضتها أبا عامر ابن شهيد.
ط: تصاب.
الذيل: قصب السبق.
البيت لجرير، ديوانه: 250 والتاج (قنعس) .
الذيل: توسدت.
الذيل: حتى إذا ما أنبهني ... هببت.
ط: في شعر أو شعر.
في النسخ: قصر، والتصويب عن الذيل والتكملة.
الذيل: ديمتها.
الذيل: خلفها.
ديوان المتنبي: 40.
الديوان: الغمد سيفه.
ديوان المتنبي: 127.
الحماني هو أبو الحسين علي بن محمد بن جعفر العلوي الكوفي، نزل في بني حمان فنسب إليهم، بينه وبين علي بن الجهم مناقضات حول العلويين أو العباسيين، وله مراث في أخيه إسماعيل وفي يحيى بن عمر الثائر العلوي، وكانت وفاته سنة 260 (انظر مروج الذهب 7: 236 - 242 وسمط الآلي: 439 والبصائر 1: 236) .
كذا ورد، وهو غير منسجم مع ما قبله وما بعده في التقفية.
ب س: الغرب.
ط: واندرج له في فصول هذه الرسالة عدة مقطعات من شعره، منها قوله.
ب س: فيه.
ب س: بالنجاح.
المغرب 1: 122 والنفح 1: 483 (بيتان) .
المغرب: مرت.
بعض أبياتها في المغرب 1: 123.
ب س: علون.
ب س والمغرب: البث.
ديوان المتنبي: 245.
ديوان المتنبي: 248.
ديوان أبي تمام 3: 27.
المغرب: طبق الأرض؛ ط: طوق.
ط: عليها.
ب س: افتن.
ديوان المتنبي: 375.
الذيل والتكملة 6: 222 ومنها أربعة أبيات في الغيث 2: 74.
الذيل: مراداً.
الذيل: انتميت.
الذيل: تعد به علي.
ديوان المتنبي: 162.
ديوان ابن رشيق: 37.
الديوان: ليس يصح.
ب س: مدح.
ديوان ابن الأحنف: 81.
كان أبو الحناط ممن خاف من أبي الحزم ابن جهور بسبب ما شاع عنه من هجائه إياه فلحق ببني حمود (الذيل والتكملة: 222) .
ب س: فاضطلعا.
ب س: في القبر.
ب س: أبقته بدر دجى.
ب س: عن.
ديوان ابن دراج: 180 وقد مر البيت ص: 73.
ط س: الترب؛ ب س: مني عنبراً.
ط: ومعنى البيت الثاني ... الخ.
ديوان المتنبي: 456.
في ط والمقتبس (129) شوش " فاحتل يومه ذلك على نهر شوش "؛ وتحديده إلى الجنوب من قرطبة.
ألبيرة (Elvira) ، انظر الروض المعطار: 39.
المنكب (Almunecar) فرضة صغيرة على البحر تابعة لمركز مطريل (Motril) في منطقة غرناطة، وتبعد مسافة 23 كيلومتراً إلى الغرب من مطريل (انظر الروض، الترجمة الفرنسية: 225) .
وقع هذا البيت بعد تاليه في ط.
المغرب 1: 124 والبيان 3: 130.
ط: الرفع؛ المغرب: النصر.
قارن بالبيان المغرب 3: 125 - 129 والإحاطة (ترجمة زاوي بن زيري) ودوزي (Recherches: ج - 1 - الملحق: 15 والملحق: 17) .
البيان: يا حسن؛ ط س ب: يا أحيمر.
ط والبيان: البنت.
البيان: وقتل.
ب: المبارك.
ب: أغراء مبارك على.
ب: المعسكر.
ب س: وحلفاءهم.
حدثت بزوائد في شرحها ... في القتال: لم يرد هذا في ط، ولا وجود له في البيان المغرب.
زاد في س: فتجدد لذلك اثر الفتح عليه، (اقرأ: فتحدث بذلك ... ) .
البيان: حازه؛ ط: قشمه (اقرأ: قسمه أو قمشه) .
س ب: أعماله.
ط: محنهم.
س ط: جنه.
ط: وتلوم ابنه حلالي بغرناطة.
ب س: حاجاته.
ط: بائي؛ ب س: نائبي، وصوبته بحسب المعنى.
ب س: يفترقون عنهما؛ والنابان أحدهما حبوس والثاني هو محمد بن عبد الله البرزالي؛ وافتر عن نابه: كشف عنه.
كذا في ب س دون ط، والمشهور أن التيجان لوهب بن منبه، غير أن هذا لا يمنع أن يكون لابن دريد كتاب بهذا الاسم.
ب س: طويل.
س: الحجاب.
ط: الرجولة.
ب س: مشهورة.
محمد بن الخير بن خرز الزناتي خاض حربا ضد صنهاجة بقيادة زيري فقتل زيري، ثم إن يوسف بن زيري أراد الثأر من زناتة وغلب محمد بن الخير وهزمه (سنة 360) وحين وجد محمد أن يوسف قد أحاط به انتحر (البيان المغرب 2: 243) .
قارن بما جاء في السمط: 862 - 864 والاقتضاب: 50 والعقد 2: 468 - 469 وفصل المقال: 4 - 6 والخزانة 4: 168 والبيان 2: 181 - 182 وزهر الآداب: 21 وكنايات الثعالبي: 56 - 58 فقد ورد فيها معظم هذه القصص المتصلة بالتعريض.
البيتان للأخطل، ديوانه: 132 وفيه: تنق بلا شيء.
البيان والعقد: وقميص.
ط: ومر على فاس من العرب فيهم نميري وتميمي رجل.
ط: تعير بالسخينة.
ب س: غير منكرة.
لم يرد الخبر في ط؛ وانظر مسند أحمد 6: 372.
انظر الزهرة: 11 - 112 والأغاني 8: 107 والشعر والشعراء: 348.
ط: ومن المعاريض ما حكي عن جميل أنه زار ...
ط: والموكل مرسل، وانظر ديوان كثير: 452.
انظر الأغاني 12: 144.
البيت لمحمد بن أمية، كما ذكر في الأغاني.
لأبي العتاهية، ديوانه: 583.
ط: غلام.
ط: وقيل إن فيها.
قال الميداني (1: 9) إنه من كلام عمران بن حصين؛ وروي عن مطرف بن عبد الله بن الشخير (طبقات ابن سعد 7: 144) ورفعه البكري في السمط: 240 إلى الرسول (ص) ؛ وانظر فصل المقال: 4.
هنا وقع خرم في ب ضاعت بسببه ورقات.
انظر الأغاني 21: 78 - 79.
ديوانه: 143.
س: علي وعلي لئن لم تخبروني لأقتلكم.
في النسخ: زيد، وهو خطأ؛ وحارثة بن بدر الغداني كان جليس زياد (انظر ترجمته في الأغاني 23: 444 - 500 وقد وردت القصة ص: 482) .
ترجمة عبادة بن عبد الله بن محمد بن عبادة بن ماء السماء في الجذوة: 274 (البغية رقم: 1123) والصلة: 426 وأدباء مالقة: 145 (مخطوطة خاصة) وصفحات متفرقة من نفح الطيب، وله مقطعات شعرية في كتاب التشبيهات، وانظر أيضاً الفوات 2: 149 وقد أورد له ابن شاكر موشحتين؛ إلا أن الصفدي نسب إحداهما إلى محمد ابن عبادة القزاز (الوافي 3: 189) . وقد كان عبادة أحد تلامذة اللغوي المشهور أبي بكر الزبيدي، وقد ألف كتاباً في أخبار شعراء الأندلس (النفح 3: 173) وعن هذا الكتاب ينقل ابن سعيد في المغرب؛ وترجم له ابن خاقان في المطمح: 84 ترجمة موجزة (وعنه النفح 4: 52) وانظر المسالك 11: 397.
س: يتعلق بذكره.
الفوات: وأحكم.
قوله: وكانت صنعة التوشيح ... حسناته: النص في كتاب أدباء مالقة نقلاً عن كتاب الأصبغ.
ط: حمود؛ وهو محمد بن محمود القبري عند الحميدي (الجذوة: 86) .
هذه اللفظة غير واضحة تماما في نسخة الذخيرة س؛ وقد سقط النص كله في ط ابتداء من قوله: ثم نشأ ... في المركز؛ ولهذا أثبت ما جاء في الفوات.
ط: وهي أوزان.
س: كتابنا هذا.
ط: حكى أبو عبد الله الحميدي عن الفقيه أبي محمد ابن حزم؛ وانظر الجذوة: 274.
س: التاريخ.
انظر الجذوة، ومنها بيتان في المسالك.
الفوات 2: 149 وفي الغيث 1: 97 منها بيتان.
الفوات: صديقك.
الفوات: أنواعاً.
س: إذ لست أنت معي.
س: بالشرك.
س: ببعض.
س: هذه القطعة.
ط: وأنشد له أبو عامر بن مسلمة في كتابه قال أنشدني.
الفوات 2: 150 والمسالك 11: 398.
انظر الفوات والمسالك.
ط: الحسن ساق بحسن خلخال.
س: ظريف.
كري المنتشي من: هذه قراءة تقديرية.
الفوات: 150 والمسالك.
هنا تنتهي النسخة س، والخرم ما يزال مستمراً في ب؛ ولهذا يصبح أكثر الاعتماد على ط م، وستعامل م على أنها أوسع نصاً من ط، وتثبت قراءاتها دون إشارة إلى ما تزيد به على ط.
في ط م: اغتبق لي، والتصويب عن الفوات.
نسخة التيمورية: " من معانيه المخترعة وألفاظه المبتدعة ".
ط: تحليل.
ديوان المتنبي: 386.
البيتان في المسالك 11: 398.
ديوان المتنبي: 247 - 248.
ط: أخو.
ديوان المتنبي: 292.
النتف: 112.
ديوان المتنبي: 291.
ديوان المتنبي: 381.
شروح السقط: 612.
منها أربعة أبيات في المسالك 11: 398.
المسالك: ولا عصي.
انظر ما تقدم ص: 43.
هو يزيد بن محمد المهلبي، انظر مروج الذهب 7: 280 والسيوطي: 378.
ترجمته في القسم الثالث: 251.
ديوان مسلم بن الوليد: 149.
ديوان المتنبي: 270.
قارن بالبيان المغرب 3: 124 - 131 وخاصة ص: 130؛ والنص في ط موجز، ولهذا تم اعتماد كثير من زيادات م.
ط: المواطات.
البيان التقوية.
م: واستضم.
م: عليه.
ط: وأمر القاسم يضعف إلى أن فر.
م: الطرفين.
هنا تنتهي الخرم في النسخة ب.
ط: تبدأ هذه الفقرة بقوله " وكتب له أحمد ... الخ ".
ط: وقرب جعفر ... الخ.
م: بهذا الوضيع.
ط: أهل اللب.
ط: فقدما.
ط: إلى الخليفة.
تقدم التعريف بهما.
ط: بعزمي.
م ب: احطته.
ورد الخبر شديد الإيجاز في ط، ولذلك أبث رواية م ب في المتن، وهذه رواية ط: " ثم فر يحيى بن علي عن قرطبة أيضاً، وجيء بعمه القاسم بن حمود، وصرف إلى الخلافة بها كرة ثانية، فانبعث من ذلك فتنة عاثت في الناس معاثها، فجلس القاسم على سرير الملك بقصر قرطبة كرة أخرى في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة فبان الاختلال، إلى أن اتفق الناس على خلعه في جمادي من العام الداخل، فارتفعت بزواله عن قرطبة دولة آل حمود بعد وقعة للبرابرة على أهلها بالمرج باد فيها جماعة منهم. ثم انصرفت الكرة على البرابرة فقتلوا قتلاً ذريعاً، وارتحلوا عن قرطبة، وجاء القاسم مفلولا إلى إشبيلية، وكان خلف بها ولده محمد بن القاسم، فوثب أهل إشبيلية عليه. وجاء القاسم بعد والناس يقاتلون ابنه بالقصر، قرضي القاسم منهم بإسلامه مع من معه، فعاقدوه على ذلك. وخرج ابنه وأهله، ورحل بهم إلى شريش. وملك إشبيلية القاضي محمد بن إسماعيل بن عباد، فحارب يحيى عمه القاسم بشريش، وحاصره إلى أن حمله مقيداً أسيراً إلى مالقة في خبر طويل ".
ترجمة ابن برد الأصغر في الجذوة: 107 (البغية رقم: 354) والمغرب 1: 86 والمطمح: 24 ومعجم الأدباء 2: 106 والمسالك 8: 311 ونفح الطيب 3: 545 (عن المطمح) وصفحات أخرى.
من أول الفصل لم يرد في ط؛ وفي موضعه: " فرأينا أن نمد ... ".
ط: ونعقد.
ب م: ومناقبه الغر.
ط: الابلة.
ط: طوا من مداد اية.
ب م: أدهى.
ب م: غفلة.
ب: ثواء.
فما زلنا ... علينا: سقط من ط؛ وموضعه: " وفي فصل منها ".
ط: الأدب.
ب م: ورسم.
ب م: وللآداب.
ب م: بعصمته.
ديوان أبي تمام 1: 276.
ط: عرف.
ب م: ما حضر.
ب م: الإنسان؛ والإشارة إلى قول أبي تمام:
ويسيء بالاحسان ظنا لا كمن ... هو بابنه ويشعره مفتون نقل ابن سعيد بعض هذه التحميدات في المغرب.
ب م: فقهر.
ب م: توارى.
ب والمغرب: الشعب؛ م: الشعث.
ب م والمغرب: ليل.
ب م: العالم.
م: تغاير.
ب م: روحانيات.
المغرب: بالثار؛ في النسخ: النار.
حق لفظة " فصل " أن تسقط، لأن ما يجيء ليس تحمداً وإنما هو تال للتحميد، وكذلك جاء في المغرب.
ط: أوتيت.
المغرب: لم يشأ.
المغرب: وأخمد.
ب م: وعطف.
اختار في المغرب بعض هذه الفصول.
ب م: السبل.
ب م: يفضي.
ب م: غب وابل.
ب م: فيها ... منها.
ب: يطير بها عن موقعها.
ب م: سليما.
ط: مفتاحه.
ب م: حلى.
المغرب: والطرس.
المغرب: القراءة.
ب م: كتب.
سقط هذا الفصل وثلاثة فصول بعده، من النسخة ط.
ب: المنحازين.
زيادة تقديرية لالتئام السياق.
ب م: حرة.
ب م: تراءت.
ب م: أمان آخر؛ وانظر المغرب: 88 حيث نقل هذا الأمان.
المغرب: تنفرج.
ب: عليكم ملتقى.
ب م: المعالين (اقرأ: المقالين) ؛ المغرب: العاصين.
ط: تحوجنا.
ب م: أعضاءهم.
انظر المغرب: 88.
ب م: أقصى.
ب م: وأذبل.
ب م: دقائق.
ب م والمغرب: نلتمح.
المغرب: ألوية.
انظر المغرب: 89.
ط: خلوت.
المغرب: المقال.
المغرب: در.
الأبيات في الجذوة والمطمح: 3 والنفح: 546.
ديوان ابن الرومي: 137.
ط: ينشق.
ب م: لبسة.
تجيء ترجمته في القسم الرابع.
سيترجم له ابن بسام في هذا القسم ويكرر البيتين وبيتي الحلواني أيضاً.
ديوان أبي نواس: 362.
ط: وما لي.
سترد ترجمته والأبيات في هذا القسم.
ب م: الملاحظ.
ديوان ابن هانئ: 362.
أورد ابن ظافر البيتين الثاني والثالث منها في بدائع البدائه: 253 ونسبهما لابن خفاجة.
يستشهد به ابن بسام كثيراً، وانظر ديوان المتنبي: 540.
ب م: كأنه قد ذهب بقوله: " قد هم فيه الآس أن ينبتا ".
الأوراق للصولي: 231.
ط: نم أو هم.
الصولي: ألحاظه.
ب م: نم أو هم.
ط: المردة؛ ب م: المرودية.
ديوان الصنوبري: 487 عن قطب السرور: 691 ومنها بيتان في نثار الأزهار: 70 ونهاية الأرب 1: 145.
الديوان: يدي.
في النسخ: حسان بن الحسن؛ وقد ترجم له الحميدي في الجذوة: 179 (البغية رقم 631) وابن سعيد في المغرب 2: 37 نقلا عن المسهب باسم " الحسن بن حسان " وقد اشتهر في قرطبة أيام عبد الرحمن الناصر وله فيه مدائح، وأصله من وادي الحجارة؛ وقتل نفسه غيظاً لأنه وجد امرأته مع رجل.
الأبيات في المغرب 2: 37.
ب م والمغرب: نجميك.
المغرب: لنا.
ب م والمغرب: في الناس.
في النسخ: المأمون الحارثي؛ وهو خطأ؛ والمؤمل بن أميل من بني جسر بن محارب، كوفي مدح المهدي، وهو ولي عهد، وتوفي حوالي 190هـ - (انظر ترجمته في الأغاني 523) والبيتان من قصيدة له طويلة، انظرهما في معجم المرزباني، والثاني منهما في التمثيل والمحاضرة: 90 وخاص الخاص: 91.
ط ب ك: فقلت لها، والتصويب عن المرزباني.
ط: مرضتم.
ب م: ونعتذر.
ب م: أسدلوه.
ط: فيه.
ب م: مثلا قد أرسلوه.
ب م: بينا الأمين.
انظر الأغاني 19: 324 - 325 وتاريخ الخلفاء للسيوطي: 327، والتيمي المذكور هو عبد الله بن أيوب مولى بني تميم، من أهل الكوفة، من شعراء الدولة العباسية، وكان أحد الخلعاء المجان، صديقاً لإبراهيم الموصلي وابنه ثم اتصل بالبرامكة ومدحهم (الأغاني 19: 319) .
ب م: وعلى الفسطاط نرجس؛ السيوطي: وقد سقاه وهو على بساط نرجس؛ والأبيات تنسب أيضاً للحسين بن الضحاك الخليع، كما في تاريخ بغداد لطيفور: 325 وزهر الآداب: 702 والديارات: 39؛ وانظر ديوان الخليع: 88.
ب م: أيس.
ط: كوثر.
ب م: والجند.
ديوان ابن هانئ: 193.
ب م: طرفه.
ديوان ابن حمديس: 89
ط: ومعنى البيت الأخير من قول الآخر.
ترجمته في القسم الثاني من الذخيرة.
ب: جبتها.
شروح السقط: 308.
الديوان: وإصباح.
ب: فانتحى.
ب م: سرجا.
ديوان المعاني 1: 358 ومحاضرات الراغب 4: 547.
ديوان تميم: 70.
ديوان البحتري: 80.
الديوان: حتى تجلى الصبح من جنباته؛ ب: يلمع.
الحلة السيراء 2: 49 والنفح 4: 242 والبيان 3: 208 منسوبين للمعتضد، وسيردان في الذخيرة، قسم: 2 كذلك.
انظر النفح 3: 197.
ب م: ذاهبا.
ب م: أحرقها.
انظر الجذوة والمطمح والنفح 3: 293، 546.
ب م: زمرد.
سرور النفس (الورقة: 78) دون نسبة، وحلبة الكميت: 300 والأول وحده في الغيث 2: 153 والذخيرة 3: 874.
ب م: لم ير.
ط: وابن المعتز قال؛ وانظر زهر الآداب: 776.
ديوان ابن المعتز 4: 98 والأوراق: 261 وديوان المعاني 1: 340 وحلبة الكميت: 275.
ب م: إننا لم نر.
مختار الديوان: 341 والشريشي 2: 58 ومجموعة المعاني: 197 وشرح مقصورة حازم 1: 119 والسمط: 442.
شروح السقط: 1197 وروايته: " بجاري النضار ".
شروح السقط: 430.
صدره: ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا؛ انظر الصناعتين: 222 وديوان المعاني 1: 340 وحلبة الكميت: 275، وديوان ابن المعتز 3: 50 وفيه " كاد يفضحه "، والأوراق: 187 - 188 وحماسة ابن الشجري: 258 - 259 وتشبيهات ابن أبي عون: 13.
البيتان في المطمح: 22 والنفح 1: 621.
هنا تنتهي الترجمة في ط.
البيتان لابن برد في الجذوة: 108 والمطمح والنفح 3: 545.
المطمح والنفح 3: 546.
من الواضح أن هذه الرسائل قد أدخلت على نص الذخيرة، ولهذا ميزناها بحرف طباعي مختلف، وقد انفردت بها النسختان ب م.
خيسها: ذللها.
الحور بعد الكور: النقصان بعد الزيادة.
ب م: فإن.
فصل المقال: 402 والعسكري 1: 71.
فصل المقال: 430 والميداني 1: 198 والعسكري 1: 316.
كذا في ب م؛ وزيادة عار مستوحاة مما سيجيء في السياق.
ب م: العنيان.
ب م: الجلاد.
فصل المقال: 48 والميداني 1: 223 والعسكري 1: 14.
فصل المقال: 294 والميداني 2: 11 والعسكري 2: 104؛ وأمرته - بفتح الهمزة وتخفيف الميم - وإمرته - بكسر الهمزة وتثقيل الميم - أي نماره وكثرته.
فيه إشارة إلى قول امرئ القيس: " وواد كجوف العير قفر قطعته ".
ب م: الشقل.
ب م: الجلل.
الميداني 1: 21 والعسكري 1: 31 (أبو الفضل) .
الميداني 2: 156 والعسكري 2: 287 (أبو الفضل) .
ب م: مسهد.
ب م: عابراً.
ب م: لمعاده.
ب م: وجربا.
الجداد - بفتح الجيم وكسرها -: قطف النخل أو الثمار عامة.
ب: حتى إذا أخذت الأرض زينتها وبلغت.
الجرام: صرام النخل؛ وفي ب م: بحرابك.
لعل الصواب: " عقيرته ".
كذا ولعل الصواب: بصرة.
ب م: رأيت.
ب م: حاليا.
وما هذه الربدة في وجه عدوك: عبارة مستقيمة المعنى إلا أن معناها غير ملائم للسياق؛ ولعل الصواب " ما هذه الربدة ... عدك ".
عند البلاذري (الأنساب 5: 194 و 363 وانظر الاشتقاق: 407) أنه قال ذلك لعامله على وادي القرى. ويقال إنه قالها بشيوخ من العراقيين وجههم إليه مصعب.
انظر المخصص 11: 102 وما بعدها والتلخيص: 486.
قال السيرافي (المخصص 11: 122) : بسرة موكت، بغير هاء.
ب م: المخرع؛ ولم تورده المعاجم بهذا المعنى.
ب م: ثلثها.
نهاية الأرب 11: 111.
ب م: تنال.
ب م: إزاغة.
هذه العبارة الواقعة بعد الشعر قلقة في موضعها لأنها فصلت بين الأبيات ونثر الكاتب لها، ابتداء من قوله: فقال لها.
كذا في ب م: ولعلها " أخدع " أو " أنزع ".
قراءة تقديرية.
ب م: وأحذر لطول المنعة.
ب م: تنتج.
ب م: واستقل.
ب م: ظهيري.
زيادة لاكتمال المعنى.
ب م: يزنهم.
زيادة للمعنى.
ب م: اسطوانه.
ترجمة أبي مروان عبد الملك بن زيادة الله الطبني في الصلة: 343 والمغرب 1: 92 والنفح 2: 496 (نقلا عن الذخيرة) والجذوة: 265 (البغية رقم: 1065) وبغية الوعاة: 312 والمسالك 11: 398.
ب م: بالنثر.
ب م: وأراهم.
ب م: وانتثار.
أبو مضر زيادة الله بن علي بن حسين بن محمد بن أسد التميمي الطبني (336 - 415) ؛ انظر الصلة: 190؛ وترجم الحميدي في الجذوة: 205 لمن اسمه زيادة الله بن علي ولم يرفع في نسبه، وذكر أنه ألف للمنصور كتاب " الحمام "؛ وقد كان محمد بن حسين أخو أبي مضر ممن دخل الأندلس أيضاً سنة 325 واتصل بالعامريين وتولى الشرطة بعهدهم وكانت وفاته سنة 394 (الصلة: 563) .
ط: شحذاً وملاطفة.
ط: الملوك الجلة.
ط: الإفادة والنجعة.
ب م: نسب.
م: ظريف؛ ب م: الخلقة.
ط: البديه.
ط: نمط.
ب م: جماعة المحدثين.
ط: دريعه؛ ب م: ربعه بالحاضرة.
ب م: علف ... البر.
ط: ويتكلفهن.
ط: وقد.
ط: وإليتيه.
ب م: لمكان تفرده عنهن.
ب م: جهل.
م: تكاثر.
ط: بانفاذ.
هو أبو عمر أحمد بن محمد بن عيسى بن هلال (390 - 460) ، كان بارعا بمعرفة المسائل واختلاف العلماء والفتاوى والوثائق، قدمه المستظهر للشورى سنة 414 (الصلة: 64 - 65) .
ب م: صريح.
ب م: وعند ذلك.
هو أبو عبد الله محمد بن عتاب (383 - 462) شيخ أهل الشورى في زمانه، قدم إلى تلك الخطة سنة 414 أيضاً وكان عليه مدار الفتوى (الصلة: 515) .
ب م: العيشة.
ب م: قدر.
ط: قوله عن ابن القتيل.
ط: حله.
ب م: لما قتل الأتراك المتوكل.
ط: للخبر.
ط: وخبر قتل المنتصر أباه جعفراً.
ب م: المستفتح باسمه.
انظر ما تقدم ص: 38 - 41.
ديوان البحتري: 1048 وروايته " أكان ".
ديوانه: 418 وروايته " بين مرمل وبين صبيغ ".
ديوانه: 1795 وروايته " ومسني على حاجي ذاك الجدا؛ يبتغي لدفع الذي أخشى ".
ديوانه: 1892 (مع بعض اختلافات في الرواية) .
الجذوة: 266 وانظر المغرب 1: 93.
الجذوة: العابدي.
الجذوة: احتوشتني.
الجذوة: حدثني.
الجذوة: نادت بعقوتي الأقلام ناطقة؛ المغرب: صاحت بعقوتي الأقلام زاهية.
صدر بيت لأمية بن أبي الصلت، وعجزه " شيبا بماء فعادا بعد أبوالا ".
النفح 2: 497 والمسالك 11: 399.
ط م ب: الخديلمي.
نقل المقري هذه القطعة في الهجاء 2: 497 - 500؛ وانظر البيت في ديوان ابن رشيق: 59.
البيان والتبيين 3: 56 وكنايات الجرجاني: 36.
ب م: يسجد.
النفح: طلقا.
النفح: عظمى.
قصة النجاشي وبني العجلان وردت في الشعر والشعراء: 248 - 249، كما وردت قصة الحطيئة والزبرقان في الكتاب نفسه: 244 - 245، والقصتان تترددان كثيراً في المصادر الأدبية، وقد وردتا بشيء من التفصيل في ب م، ولكن شهرتهما تعني عن إثبات النص المطول.
ب م: قوا.
ب م: وما هجوت أحداً منهم.
ب م: أن تنشده.
ب م: هذا الكتاب.
ب م: اسمه.
ب: لبعض أهل وقتنا.
ب م: وأنشدت لأبي الحسن.
ب م: شيء.
ب م: يقول.
ب م: وفيما مر منه كفاية.
ترجمته في المغرب 1: 93 وذكر أن الحجاري جعله أشعر بني الطبني؛ وانظر المسالك 11: 399.
وردت أبيات منها في المسالك.
ب م والمسالك: ساومني.
ب م: به.
ب م: عن.
المسالك: والعذق.
المغرب: سالباً.
المغرب: من وجنتيه.
انظر ما تقدم ص: 449.
ترجمته في المغرب 1: 134 (نقلاً عن الذخيرة والمسهب) وانظر المسالك 11: 400.
ب م: ولم.
ط: والزواية.
ط: وفلاة يوم البلقاء.
الدك: الشعوذة: وقد قال الجويري في كتابه المختار في كشف الأسرار: 74 اعلم أن أهل هذه الصناعة أكبر ودك وزغل،.. وقال في ص 62: وهم صناع في صوغ الكلام والدك على الناس؛ وقال: إني كشفت لهم ثلاثمائة طريقة في الدك، وقال (ص: 63) ومنهم من يجعل دكه فحمة وينزل ما فيها من الدك إلى البودقة ثم تخترق العقاقير التي وضعها في البودقى ويبقى الدك سبيكة ... وعلى حسب العبارة الأخيرة يكون " الدك " في الأصل بعض المواد المستعملة في علم الصنعة خداعاً، ثم أصحبت اللفظة تدل على " العملية " نفسها. وذكر ابن خلكان لابن شهيد كتاباً اسمه " كشف الدك وإيضاح الشك " (الوفيات 1: 116) وقال الجويري (ص: 5) إنه رأى الكتاب المذكور وطالعه، وأنه صنف كتابه حاذياً فيه حذو ابن شهيد.
الناموس: وقوعها بعد لفظة " شعوذة " يشير إلى أنها مرادفة لها، يقول الجوبري (ص: 38) : وجعل له ناموساً من بعض النواميس يأكل به أموال النصارى.... أعظم ناموس لهم قنديل النور؛ ويقول أيضاً: (ص: 54 - 46) ثم رأيت مع هذا القرد من الناموس ما لا يقدر عليه أحد.
البيت لأبي تمام، ديوانه 1: 19.
ط: اللوبان.
ب م: تربية.
ب م: برزت.
ب م: وحكي.
لم أجد " الانبوط " ولعله آلة التقطير، أما القنوط فهو القصبة أو الانبوب (انظر ملحق دوزي) .
هكذا وردت في ط؛ وصورتها في م: اللرحان، وهي غير معجمة في ب؛ وأقرب الصور إليها لبركة labarca أي القارب، وهو مناسب للمعنى، لأنه يتحدث عن الصيد البحري، فلعل اللبركان (اللبرجان) هو النوتي أو صاحب القارب.
بقنة: غير واضحة الرسم في ب م؛ وربما قرئت " ابن بقية " وقد ورد هذا الاسم عند الحديث عن الهدية التي أهداها ابن شهيد إلى عبد الرحمن الناصر، انظر النفح 1: 359، 360 وأزهار الرياض 2: 264، وهذا المذكور هنا قد يكون ابنا حفيدا له.
ب م: لديه.
ط: قضي.
ب م: بالراحة، ولعل الصواب " وكنت أرضى معه بالراحة ".
ط: التعبير.
أقدر أن يكون صواب القراءة، يأخذ في التعثير والارعاد " أي يعثر في مشيه ويضطرب مهتزاً حتى يستدر عطف المحسنين، لما يرون من عجزه.
ط: بلاه.
هكذا ورد في الأصول.
ط: وطربة.
في النسخ: تنطبع؛ والششون هي البقول التي تطبخ (كالسبانخ وغيره) أو تقلى دون تتبيل (انظر: ششن عند دوزي) .
لم أهتد إلى تبين معناها.
غير واضح المعنى.
ط: غطاط.
ط: دكاني.
السنا الحرمي هو نفسه الذي يسمى سنا مكي (شرح أسماء العقار: 29) والسلك هو العفص (منهاج الدكان: 135) والران لم أجده في المصادر؛ فإن كان صورة موجزة لضرورة الشعر من " الرنج " فإن هذا هو التاريخ نفسه (شرح أسماء العقار: 28) وإن كان بالزاي فهو خشب معروف.
الحمامي: نوع من النبات يوجد بالشام ولا يعرف بالمغرب (ابن الحشاء: 35) ولبنى هي الميعة السائلة (انظر منهاج الدكان: 143 وابن الحشاء: 70) .
م: يعني، وربما قرئت في ب: بفني.
ط: أصلحت ما أفسدته.
ب م: فاستكملا.
هذه القطعة لم ترد في ط.
راجع صفحات متفرقة من كتاب الطبيخ في المغرب والأندلس، للاطلاع على أنواع الثردة والتفايا.
انظر ص: 94، 112 من المصدر السابق.
ألوان للطعام الجملي والمثلث والمري والمخلل والمعسل ... الخ، (ص: 85 من كتاب الطبيخ؛ وانظر ص: 121 حيث يصف إعداد " جملية ".
ب: يحور؛ م: يجوز.
شريون: حصن من حصون بلنسية (انظر أخبار وتراجم أندلسية: 70 ومعجم ياقوت) .
ط: عانته.
ب م: في الطريق؛ ومنها أبيات في المسالك.
ط: عند.
ب م: كثيباً.
هذا البيت وأربعة بعد لم ترد في ط.
صورة اللفظة في ب م تشبه: " فراساي ".
قبالة (CAPELO) ، قلنسوة، وغالباً ما تكون للكاردينال.
المغرب: فلس.
ب م: ذي اعتداء.
ط: واعتضت.
ط: المحنة.
ط: يومه.
ط: السقي: ب م: السعي.
ب م: تدور.
ب م: والقط.
القلبق أو القلابق: السلحفاة المائية.
ب م: حجو.
ط: خداريقنا (دون إعجام للقاف) : ب م: مداريفها؛ والجراديق: الفطائر.
هذه هي قراءة ط؛ وفي ب م: فنا، وهي قراءة جيدة بمعنى " نوعا ".
م: من أطراف.
ب م: بعد ابن بتري.
ب م: مغنى.
الشيرة: الكيس.
لم يرد هذا العنوان في ط م.
أبو عبد الله محمد البجاني، أصله من بجانة وسكن قرطبة فنسب إليها، وكان كثير الشعر (انظر الجذوة: 86 والبغية رقم: 281 والنفح 3: 387 - 389) .
زاد في ب م: ورأيت له عدة أشعار.
الطليق القرشي: هو أبو عبد الملك مروان بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الرحمن الناسر، مات قريباً من الأربعمائة (انظر ترجمته في الجذوة 321 والبغية: 1343 والحلة السيراء 1: 220 والمغرب 1: 186 والمعجب: 285 والتيمية 2: 61 والمسالك 11: 176 ونفح الطيب 3: 586 وكتاب التشبيهات؛ وعنه دراسة في كتابي: تاريخ الأدب الأندلسي، عصر سيادة قرطبة: 223 - 235، الطبعة الثانية) .
ب م: وهو القائل يومئذ فيه.
النفح: السجن، ب م: الحب.
النفح: رامت.
النفح: كذبا.
النفح: راهنني.
النفح: إذا ارتمى فكري في وجهه.
هنا تنتهي الترجمة في ط.
انظر بعض هذه القصيدة في النفح 3: 197، 586 والجذوة: 322 والمغرب 1: 186 وسائر المصادر المذكورة في ترجمة الطليق، وبخاصة الحلة السيراء 1: 222 - 224.
هو ابن فتوح، كما سيرد في ترجمته في هذا القسم.
ب م: الورد.
الحلة: خلى.
الحلة: لها مصباحه فانثنى.(1/569)
فصل في ذكر الشيخ الأديب الكامل أبي مروان ابن حيان (1) والاتيان (2) بفصول مقتبسة (3) من كلامه سوى ما مر ويمر منها في أثناء هذا الديوان
ولما تحدث بتاريخه في ملوك الطوائف (4) بأفقنا استشرفت طائفة منهم إلى مطالعة غرره، وعدوه من فرص العمر وغرره، واهزوا لقطف زهره، وافتقروا إلى مطالعة فقره، واستهدوه إياه، وأجزلوا على ذلك قراه، وأن تسمع بالمعيدي لا أن تراه، [ليس بعشك فادرجي ولا
__________
(1) أبو مروان حيان بن خلف بن حسين بن حيان (- 469) ؛ ترجم له ابن بشكوال في الصلة: 150 وانظر الجذوة: 188 (والبغية رقم: 679) ؛ وقد كتب عنه الأب ملشور انطونية رسالة بعنوان Ibn Hayyan de Cordoba y sa Historia de la Espana musulmana (ضمن دفاتر أسبانيا، المجلد الرابع، بونس آيرس 1946 ص 5 - 72) ؛ والأستاذ غرسيه غوممس بحث صغير عنه في مجلة الأندلس (المجلد 11، 1946) وكتب عنه الدكتور مؤنس فصلا صغيراً في كتابه " تاريخ الجغرافية والجغرافيين في الأندلس " ص 101 (مدريد 1967) وفي كتاب بونس بويجس عن مؤرخي الأندلس وجغرافييها وللكتور محمود مكي بحث مفصل ضاف عنه جعله مقدمة على القطعة هنالك قطعتان من هذا الكتاب نشر المقتبس (القاهرة 1971) ، وإلى جانب هذه القطعة هنالك قطعتان من هذا الكتاب نشر إحداهما أنطونية (باريس 1937) ونشر الثانية الدكتور عبد الرحمن الحجي (بيروت 1965) وهناك جزء بفترة عبد الرحمن الناصر من 300 - 330 وهو ما يزال قيد التحقيق.
(2) ب م: وإيراد.
(3) ب م: مقتضبة.
(4) ب م: ولما تحدث في قص [ ... ] بتاريخ ابن حيان، وكان ذلك في مدة ملوك الطوائف.(2/573)
كرامة، لإنه] وإن كان فيما قرع من هذا الباب، قد مرى سحابه فصاب، فإنه أخطأ التوفيق وما أصاب، إذ جاء أكثر كلامه كما قال ابن الرومي:
مهما تقل فسهام منك مرسلة ... وفوك قوسك والأغراض أغراض
وما تكلمت إلا قلت فاحشةً ... كأن فكيك للأعراض مقراض ومن علم أن كلامه من عمله، أقل إلا فيما ينفعه، ومن اعتقد أنه مسؤول عما يقول ويكتب عليه ما يكتب، لم يستفرغ المجهود في القول فضلاً عن أن يثلب. ولله رد القائل:
فلا تكتب بكفك غير شيء ... يسرك في القيامة أن تراه ومع ذلك فقد كان سهماً لا ينمي رميه، وبحراً لا ينكش آذيه؛ لو ثلب الماء ما نقع، أو تعرض لابن ذكاء ما سطع، يتناول الأحساب قد رسخت في التخوم، وأنافت على النجوم، فيضع منارها، ويطمس أنوارها، بلفظ أحسن من لقاء الحبيب غب الموعد، وأمكن من عذر الطبيب عند العود. فرب شامخ بأنفه، ثان من عطفه، قد مر في كتابه بفصل قد جرده لوضع حسبه، وخلده أحدونة باقيةً في عقبه وولده، فيرده ورود الظمآن الرنق، ويلبسه لبس العريان الخلق.
وقد أثبت في هذا الاختبار من نثره ما هو شاهد على ما أجريت من ذكره. وكانت وفاة هذا الشيخ [الباقعة] سنة تسع وستين وأربعمائة.(2/574)
@فصول من كلامه في أوصاف شتى
فصل جعله مفتتح تاريخه الكبير، قال في صدره:
الحمد لله الذي علا في سمائه، وتفرد ببقائه، وتسمى الجبار بجبروته [وكبريائه] ، فله أسماء الحسنى، والمثل الأعلى؛ خلق الإنسان علمه البيان، وأجرى بيده فلك القلم العظيم الشان، فعلمه ما لم يعلم، وأشهده ما لم يحضر، وكرر عليه نبأ ما لم يلحق من القرون الماضية، والأمم البائدة؛ وأراه سبيل منقلبهم عن هذه الدنيا الفانية، التي استعمرهم فيها قرناً بعد قرن ليبلوهم فيما آتاهم، فتهافتوا في شهدها، وتهالكوا كالأذبة عليها؛ لا الآخر بما انتهى إليه عن الأول معتبر، ولا الغابر بما مر على الماضي مزدجر، حكمة بالغة فما تغني النذر، إذ كل مقدر كائن، وكل مربوب مسخر.
وبعض لفظه في هذا الأصل محلول، من قول القائل حيث يقول:
ترحاً لدار إنما ... سكانها رفق مخبه
دار غريب خيرها ... وترى الشرور بها مربه
أدوت وغاب دواؤها ... عن كل نفس مستطبه
وصفت محبة أهلها ... منها لمدغلةٍ مضبه(2/575)
لم يدر فيها حلوها ... من مرها إلا الألبة
فتهافتوا في شهدها ... وتهالكوا مثل الأذبه وله من رقعة:
وبعد، فإني امرؤ يسرت لطلب هذا الخبر، واقتفاء هذا الأثر، أحرس شارده، وأقيد نافره؛ وأبيت بأبوابه، وأنصب لطلابه؛ فشغلت به دهراً، وفجرت منه نهراً، صيرني ترباً لعدنان، وزماماً على الحدثان، أقص أنباءه، وأضرب أمثاله، وأحصي وقائعه، وأحترز مواعظه. وأنسأتني المدة إلى أن لحقت بيدي منبعث هذه الفتنة البربرية الشنعاء المدلهمة، المفرقة للجماعة، الهادمة للملكة المؤثلة، المغربة الشأو على جميع ما مضى من الفتن الإسلامية، ففاضت أهوالها تعاظماً أدلهني منها، نفس الخناق، وبلل الرماق؛ فاستأنفت من يومئذ تقييد ما استقبلته من أحداثها؛ فأنعمت البحث عن ذلك عند من بقي يومئذ من أهل العلم والأدب لدينا، فلم أظفر منه إلا بما لا قدر له، لزهد من قبلنا قديماً وحديثاً في هذا الفن، ونفيهم له عن أنواع العلم. وانثنيت خائباً خجلاً ألوم نفسي على التقصير، وأحدوها بالأمل، وأعذر من قال " هممت ولم أفعل "؛ وشرعت في التقييد غب ذلك التفنيد، غير مخل به(2/576)
ووصلت القول فيما فاتني قبل من ذكر انبعاث تلك الفتنة، وأخبار ملوكها، ومشهور حروبها، مما أصبت به عندي تذكرة، أو أخذته عن ثقة، أو وصلتني به مشاهدة، أو حاشته إليّ مذاكرة؛ حتى نظمت أخبارها إلى وقتي مكملة، وجئت بها على وجوهها، وأوردتها على سبوغها؛ ناشراً مطاويها، ومعلناً بخوافيها، غير محاب ولا حائف في الصدق عليها، سالكاً سبيل من ائتسيت به من مستأخري أصحاب التاريخ بالمشرق، كأبي محمد الحصني، وأبي بكر ابن القواس القاضي، والفرغاني، ونظائرهم من أعلام الفقهاء الذين لحقوا الفتنة الحادثة عندهم بالمشرق بعد الثلاثمائة، من تصريحهم بأخبار أمرائهم المتوثبين على المملكة عند وهن متقلدي الخلافة فيهم. فلأمر ما اعتنوا بذكر أخبار الأعاجم هناك من الديلم والأتراك، مع عدم الفائدة فيها وتفشي العار بوجوهها، وبعدها مما كتبه من قبلهم من أخبار ملوك العرب صدر الإسلام لفظاً ومعنى، وعقداً ومبنى؛ حتى توسعوا في ذكرها، وتناعوا في التنقير عنها. وإن ذلك لا محالة كان لاستغرابهم شأنها، وإكبارهم مجيء الزمان بمثلها، وإشارتهم إلى أنها طرقت هادمة لما بنته الدنيا، مغيرةً لمحاسنها، مزهدة فيها، مؤذنة بانقطاعها، كي يكون البقاء لمن تفرد بجبروته، ويدوم البهاء لمن لا تتساط الغير على ملكوته.(2/577)
فركبت سنن من تقدمني فيما جمعته من أخبار ملوك هذه الفتنة البربرية، ونظمته وكشفت عنه وأوعيت فيه ذكر دولهم المضطربة، وسياساتهم المنفرة، وأسباب كبار الأمراء المنتزين في البلاد عليهم، وسبب انتقاض دولهم، حال فحال بأيديهم، ومشهور سيرتهم وأخبارهم، وما جرى في مددهم وأعصارهم، من الحروب والطوائل، والوقائع والملاحم؛ إلى ذكر مقاتل الأعلام والفرسان، ووفاة العلماء والأشراف، حسب ما انتهت إليه معرفتي، ونالته طاقتي.
وكنت اعتقدت الاستئثار به لنفسي، وخبأه لولدي، والضن بفوائده الجمة على من تنكب إحمادي به إلى ذمي ومنقضتي، طويت على ذلك كشحاً، وأوجبته عزماً، إلى أن رأيت زفافه إلى ذي خطبة سنية أتتني على بعد الدار، أكرم خاطب وأسنى ذي همة، الأمير المؤثل الإمارة المأمون ذي المجدين، الكريم الطرفين، يحيى بن ذي النون.
وفي فصل له من أخرى، صدرها:
يا مولاي وسيدي، قحطاني زمانه، وغلاب أقرانه، المتوقي في ملكه من ضر اعتماده عليه، ومن هنأه الله جليل الفتح له، وعلى رعيته به، ولا ألهاه طمحان السرور بجلالته عن تحقيق التواضع لمولاه، وإخلاص الخشوع لوجهه، والعياذ بعصمته، من إقراف ما جر مثله على مقترفه، وسؤاله تسويغه إياه، بالنخل له، والفوز بجميل عافيته، بمنه.
وله من رقعة خاطب بها ابن عباد بظهوره على ابن ذي النون:
لو أن فتحاً اعتلى عن تهنئة ممنوحة بارتفاع قدر، أو جلالة صنع(2/578)
أو فرط انتقام مستأصل، أو تنزل حكم من الرحمن فاصل، لكان فتحه هذا لك، على عدو أسود الكبد، مظاهر البغي على الحسد، طال الله ما استحييته لا من خجل، وتنكبته لا عن وهل؛ فأبى له رأيه الفائل، وجده العاثر، وحينه المجلوب، وحزبه المكبوب، إلا اكتساب العار، ومماتنة محصد الأقدار؛ فجمع الجيش ذا الألوف، وتجشم الشقة العنوف، ثم لا يرزأ العدو الغائظ له إلا التسلط على ضعفاء رعيته بإفساده لأقواتهم، ونيله من دماء المحاويج منهم، إلى التقاط سقاط سنبلهم؛ فكم نال فساقه الذي أرسلهم عليهم من دم أرملة غرثى، ويتيمة كفرخ الحبارى، إلى من أصيب فوقهم من عابر سبيل وضارب لمعيشة؛ مؤيم نسوة وموتم صبية؛ أضحوا طعم ذئاب.
وفي فصل منها:
حتى ابتعثك امتعاضك تحت صدق العزيمة، ومهل الروية، وصواب التدبير، وتقدم الاستخارة، مستظهراً منهن بعدة ضربت عليه بالأسداد، باعدته عن السداد؛ وابتعثك تعالى للسمو إليه لما دنا منك قبل اكتمالك في الاحتشاد، وانتهائك في الإعداد؛ ويسرك لرميه بأهزع الكنانة(2/579)
ومظنة النجابة، وطليعة السعادة، الحاجب سراج الدولة سيد العرب أنعم الله به عليك في من حضرك من خاصة الغلمان، لله درهم من حماة حقائق، ومدركي أوتار، ورحضة عار، اهتدوا بقمرهم الساري، وليثهم العادي، وحاميهم الواقي العبادي، مقتفياً أثرك في محمود مواقفك؛ طرف الله عيون حسدتك فيه، ومتعك بما منحك من يمن طائره وسعده اللذين بهما انقض على عدوك انقضاض الكوكب الساري، فخسف به وبجمعه، أحفل ما كان في عديده، وأوثق ما هو بجنوده، فطواه طي الرداء، وغل أيدي كماته عن إعمال القنا، وأرغى فوقهم سقب السماء، فاقتسمتهم أيدي الحتوف بين حر الحديد وبرد الماء [أولى لهم فأولى: قبل الله معذرة المستكرهين منهم، وقارض سواهم بطاعتهم لظلوم فر عنهم فرار الظليم، وأسلم بائياً بالعار الذي قدماً تحاماه ذوو النهى، ورأوا أن الموت منه أحجى، ولم يقرنوا بمعذرة الحارث بن هشام ما الفرار منه أحرى] .
وله من أخرى يعاتب صاحب الصلاة ابن زياد:
يا سيدي المعتلي بسمو رتبته، المعتدي باعتداء بصيرته، ومن أصحبه الله التوفيق، وأقامه على سواء الطريق، ونحاه من معتبة الصديق: [من كلامهم] : إن أدهى المكروه ما كان من تلقاء المحبوب، لا سيما إن قارن فادح نكبة، ووافق كارث مصيبة، فزادها حطباً وأشعلها نفخاً، وتلك داهيتي العظمى بك، إذ علمت عظيم محنتي بأمتي الفاجرة، التي فلت غربي، وفرت كبدي، ونظمت أشتات المصائب في سلكي، خبلاً للبال، وثلماً(2/580)
للمال، الذي لا تنام العين على حزازته وتنام على الإثكال. وكان الظن لتشيعي فيك أن تأخذ بحظك من مشاركتي، فتنكبتها، وتجاوزت إلى قطع آصرتي وتذكية لوعتي، بقيامك دون الخبيثتين النطفتين ابنتي قباط الحناط، جارتي جنبي، ومسببتي كربي، اللهجتين سراً وعلانية بأذاتي وإمداد أمتي الفاجرة خليلتهما في غيها لكون بيتهما دبر بيتي في حائط يليهما. فلم تزل تناولها منه ما تسلله في الفلتات والخرجات السيئات حتى استأصلت متاع البيت.
وفي فصل منها:
وقد كان صاحب المدينة ذهب إلى اعتقالهما بما لاح من ظلامتي، فبادرته أنت واستنقذت وزكيت غير مستثبت في مآل من استنقذته، ولا سائل عن باطن من زكيته، وشككت السلطان في صدق تهمته، فهل سبقك إلى مثل هذه العجلة قيم شرعة، أو فارس منبر، أو واعظ أمة - فتعلم الآن أن قد قمعتني قمع المقهور، ودحرتني دحر المليم المأزور، وحركت علي من اعتكار الضمير، وفساد التفكير، ما لم أمتلك معه والله عن عرض اسمك عليه، والنجوى ببثي إليه؛ ورجل الدولة الذي اعتمدته بخطابك، وثنيت غربه عن النظر لي، قد حل يده عن ذلك، وأرسلني مخلى العنان في ميدان الخصام الرحيب الساحة؛ وكنت حسبت أنه منحرف(2/581)
عني فلذلك ما انتحيته بكتابك، وحسبت أيضاً لشغل بالي أن سراك تحت الظلام خفي علي إذ تحدث وتغزل، وأنا عنك بمعزل.
وله من أخرى خاطب بها ذا الوزارتين أبا القاسم ابن عبد الغفور: لا أبثك من ذكر حالي لانثلال عرشي، وانفلال غربي، بما أخشى تناسيك له، أو ونيك في المعونة عليه، فأنت طودي من بين هذه الهضاب، ومصدق ظني فيما ينوب من طلاب، الموحي بأشجاني إلى جنان الملك اللباب، نهاية الآمال الرغاب، أقرضك الله بغير حساب.
وخاطبه الوزير الأجل أبو بكر ابن زيدون برقعة يقول فيها: وللذي أسكن إليه من حسن قبولك، وجميل تأويلك، أقابل بالحقير، وأواجه بالتافه اليسير. ويعلم الله تعالى لو تاحفتك بهبة عمري، ما رأيت ذلك كفاءً لقدرك، ولا وفاء ببرك، فكيف ما دونه - فلك المنزلة التي لا تسامى، والجلالة التي لا توازى، وما شيء وإن جل إلا ومحتقر لك، مستصغر عند محلك. ويصل مع موصل كتابي هذا ما ثبت ذكره في المدرجة طيه، وأنت بمعاليك تتفضل بقبوله، وتصل أجمل صلة بالتغاضي عن وتاحته، والاستجازة لنزارته، مقتضياً بذلك شكري وحمدي، ومستبداً منهما بجميع ما عندي.
فراجعه ابن حيان برقعة يقول فيها: إن لفجآت المسرات الباغتة لآمال النفوس(2/582)
الحائمة صدمات تذهل الجنان، وتعقل اللسان؛ فمن فرح النفس ما يقتل، ومن باهر الصنع ما يذهل، ولا كمثل ما فاجأني من فضلك المبتدر ميقاته، المقتضى المزيد فيه على وفاق من إنفاض الأزودة، وخمود المصابيح المعلة، وعنة من الظنون المخوفة ينكد السنة. لم يشغلك عن جودك شاغل حتى قضيت نذرك في لأول وقته، ولم ترض بعادتك المتكلفة لي بشأن الدهن، حتى تحملت عني ثقل القوت؛ فلم أكد أشم برق الزيت، حتى نلت ودقه، حاشداً لأحمال البر التي استحقبت أعداله [أوطابه] فأسلات غرته. وطرقني قطار هديتك الفاجئة غداةً أصبحت فيها منفضاً من الزاد، مستوفزاً للارتياد؛ فأجلت عيني منها في حديقة مجد لم يصبها مطر، ولا تكممها زهر، أكسبت فرحي دهشاً، وأحالت بياني بلها، حتى نوولت كتابك الكريم، ونظرت في لآلئه التوم، فيالي به من اهتزاز لذكرك، وارتياح لطولك. فجوزيت أوفى جزاء المنعمين، وأوفر قرض المحسنين، بما أرحت من فكري بكشفك عنتي في أديم يوم هم عام، فعمت فيه أوعيتي، وأفهقت آنيتي، مع أنك قتلت شكري، فلا فضل فيه لمقابلة(2/583)
معروفك إلا إمحاض الدعاء لك، في حراسة مهجتك، ودوام نعمتك، واستبصار الملك الأعلى عميد الورى مستكفيك، في حسن رأيه فيك. أعاذك الله من عين الكمال، ووقاك طوارق الأيام والليال، وحفظ على زماننا ما فيك من كرم الخلال، وأنهضك بما التزمته من إحناث من أقسم أن الجود في عصرنا عدم لا ينال، بمنه ويمنه.
وله من أخرى يهنئ بعض العمال بخلاصه من نكبة: كتابي عن نفس قد أشرق وجه صباحها، وهبت رياح ارتياحها، وسرى نفس السرور فيها، بما طلع علينا من البشائر السارة بخلاصك، وجميل انفكاكك ومناصك، على حين بلغت قلوب الأوداء الحناجر، وكادت موارد الحزن لا تكون لها مصادر، فإن الأيام عمت فيك، بإساءتها إليك، كل منتسب إلى فضل، متسم باسم نبل، وإن كانت قد أصابت فيك سواد ناظرها الذي تضيء به وتتجمل، وسخت منك بحلي جيدها الذي يحق به أن تبخل، فذلك خلق لها لم نزل نصحبها عليه اضطراراً لا اختياراً فالحمد لله الذي كفى ووقى.
فأنت أعلم بمجاري الأمور، ومصاير الدهور، وأهدى إلى التسليم(2/584)
للمقدور، فلم تورد الأيام عليك من حوادثها المجهول النكر، ولا وردت عليك بالفتكة البكر، ولا هاضت منك بما جنته، ولا هدت من ركنك بما أتته، بل صادفت منك الإبريز الذي لا يزيده السبك إلا تخليصاً، والمبرز الذي لا يعقبه حؤول الأحوال نكوصاً؛ تتلقى الخطوب بصدر وساع، وصبر منفسح الباع؛ وتسبر الدهر بمسباره، وتعرف من مكنونه حقيقة إيراده وإصداره.(2/585)
@وهذه فصول مقتضبة من طويل كلامه في تاريخه،
@وكنيت عن أكثر من به صرح، وأعجمت باسم
@من به أعرب وأفصح، رغبة بكتابي عن الشين،
@وبنفسي عن أن أكون أحد الهاجين، إلا في بعض
@أخبار ملوك الطوائف، لما تعلق بذكرهم من فنون المعارف
وله إلى ابن عبد الغفور، وقد أعاره سفراً من تاريخه:
ليس يخفى عليك مكان هذه الصحف المستملاة من الصدور، المستعراة من النظير، من أنفس مؤلفيها، وقلوب مصنفيها، فأثبك شأن الاهتمام بها. وناولتك يوم التقينا السفير الحقير، ختام تاريخي المهجور، سائلاً علاك تصفحه كيما تكذب ما زور فيه علي، ولا محالة أن قد فعلت، ورددت وجهدت. واستأخر صرفه إليّ، فحملت ذلك على نسيانك، لتقسم الأشغال لخاطرك، ولمناخ القلق بي: " ويومان من هجر الحبيب كثير "؛ ونفسي منطلقة إلى حضوره حذراً من أن يعدوك، فلا أستقبل فيه الحيرة. فنفضل بصرفه غانماً حميدي، إن شاء الله.
فصل:
نعي إلينا فلان، وكان في غفلته، وبعد فطنته، وغباوة شاهده(2/586)
وفجاجة شمائله، وشكاسة خلائفه، آيةً من آيات خالقه، من رجلس نسمة ريب، وقرارة حرب؛ على لسانه نملة تدب على أعراض الناس، لا يراعي لأحد ذمةً، فصار مشنوءاً إليهم ومرهقاً في دينه محروماً، لم ترتفع له قط حال، ولا فارقه إقلال، ولا أتيح له مرفق إلا من حيث يرتشيه، لتلقين خصم أو توهين عقد، أو دفع حق بمشاغبة، أو بهت خصم بمعاندة، له في ذلك نوادر محفوظة. وكان مع هذه المساوئ وسخ الثياب، زمر المرؤة، محكل الأظفور، وضر الطوق، داني الغائط من المائدة، لا يتقذر شيئاً ألبتة. وهو أول من لاعن زوجة بالأندلس فأرى الناس العمل في اللعان بالعيان.
فصل:
وكان فلان من البخل بالمال، والكلف بالإمساك، والتقتير في الإنفاق، بمنزلة بذ فيها ملوك عصره. لم يرغب قط في صنيعة، ولا سارع إلى حسنة، ولا جاد بمعروف، فما أعلمت إلى حضرته مطية، ولا عرج إليه أديب ولا(2/587)
شاعر، ولا امتدحه ناظم ولا ناثر، ولا حظي أحد منهم بطائل، ولا استخرج منه درهم في حق ولا باطل، فأصبح في اللؤم قريع دهره، وفريد عصره، لا يعد له فيه ملك ولا سوقة. وكان فرط الثوار بصقع الأندلس في إيثار الفرقة، وتشتيت كلمة الجماعة، فاقتطع ناحيةً، وتفرد في الشقاق، وصار جرثومة الخلاف والنفاق، إذ أمه من بعده، وسلك سننه، فتركه الله في ضلاله ولم يرض له عقوبة الدنيا مثوبة، لما هو أعلم به. من رجل كثرت جبايته، وكثف جمعه، فكلما درت ضروع ورقه وتبره، وغزرت استفادته، زاد حرصه، وتضاعف جشعه:
كالحوت لا يكفيه شيء يلقمه ... يصبح عطشان وفي البحر فمه فصل:
ونعي إلينا عدو نفسه، زاوي بن زيري موقد الفتنة بعد الدولة العامرية. ورد النبأ بمهلكه في القيروان وطنه، بعد منصرفه إليها خاملاً مغموراً بين أعاظم قومه، لم يرتفع له ذكر بينهم. مهلكه كان - زعموا - من طاعونة أصابته. فالحمد لله المنفرد بإهلاكه، الكفيل بقصاصه؛ فلقد كان في الظلم والجور، والاستحلال للمحارم والقسوة، آية من آيات الله؛ أهان الله مثواه، ولا قدس صداه.
فصل:
وانكدر على أثره من الظلمة المسرفين المترقين من السمسرة إلى شرف المنزلة، فلان الكاتب الضعيف الرأي [والعقل] . وكان قد ركض في حلبة كتاب الرسائل، وقلد جملة من تدبير الأعمال الجلائل، من غير(2/588)
معرفة، ولا قديم أبوة، ولا إحكام صناعة. ومن استخدام مثله في شيء من العمل كانت حذرت حكماء الملل والفلاسفة الأول، لاجتماع الخلال الذميمة فيه.
فصل:
ونعي إلينا فلان صديق فلان، وكانا أخص أخوين، فرق بينهما من عافى الفرقدين. من رجل مرخص في السماع، صب بإنشاد الأغزال المفتنة، مسامح في النبيذ، ظنين الخلوة عهرها، حاط في بعض اللذة، مسف إلى الرشوة، إلى شكاسة خلق وحدة يكدران صفوه، ويبعدانه عن رصانة طبقته.
فصل في بكيء:
وكان فلان مع تحققه بعلم اللسان، في غير ورد ولا صدر من البيان، مقلاً من العلم، مقلداً، بريئاً من البلاغة، جريئاً على الخطابة، بإيراد ما حفظه من قول من قبله، يطيل مع ذلك فيخرج عن الغرض المقصود. وكان أول ما قام بذلك المقام اختصر القول، ليتخلص من مأزق ضنك لم يقمه قبل. ثم استمر على ذلك فازداد مع المرانة عياً وحبسة، ونثر ألفاظه ولم ينسقها، وطمس معانيه ولم يكشفها، وأقل الابتداع، وحذف(2/589)
الحديث، وأدق الكلام، وأحال النظم لما يسرده، فشهد مقامه ألا حر بالواد، ولا فارس للأعواد.
فصل:
وكان فلان غليظ الطبع، خشن الجانب، وخيم الخيم، فدماص جهم اللقاء، يعتريه ضجر يخل به، قلما ينجو الخصم منه من بادرة، له في ذلك أخبار شائعة. وكان فيما زاد من علته خطأ الطبيب لإصابة المقدار، فبان عليه أثر خطأ العلاج.
[قال ابن بسام] : وهذا محلول من قول ابن الرومي:
والناس يلحون الطبيب وإنما ... غلط الطبيب إصابة المقدار فصل:
ونعي إلينا فلان، وكان فظاً قاسياً ظنيناً جشعاً جباراً مستكبراً قليل الرحمة نزر الإسعاف زاهداً في اصطناع المعروف، أحد الجبابرة القاسطين على الرعية، المجترين على رد أحكام الشريعة وكان مهلكه - زعموا - من طاعونة طلعت عليه ببعض أطرافه، فتجاسر على قطعها بفرط جهالته، فمات معذباً في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد.(2/590)
فصل:
ومات فلان الغني العبام، حجة الله في الرزق وغيظ الأنام، فنهض بريئاً من كل خلة جميلة، تدل على فضيلة، إلى عي غالب [عليه] ؛ وكان أخوه مثله في الأفن والجهالة، وكلاهما ممن استهينت به خطة الوزارة بحملهما اسمها الخطير الأثير، من غير تعلق في حديث ولا قديم، ولا معرفة بشيء من التعاليم.
فصل:
وكان فلان من جمع الحطام الدنيوي والكلف بالترقيح، ما حدث عنه فيه كل قبيح، مع انطلاق يده على الأوقاف، وأكل أموال اليتامى والضعاف. أخذ بأوفر حظ من الفلاحة، وضرب بأعلى سهم وأفوز قدح في التجارة. ثم تجاوزهما ثانياً عنانه إلى الاستعمال والعمارة؛ فكم زوج من عوامل البقر مسومة بالاحتراث لسنام الأرضين، محمولة على هام عتاة الجبابرة، إلى عدتها من بساتين ودكاكين، ومنازل مغلة، إلى أعجل جرياً منها وأسرع دوراناً مع الساعات من مناسج الحرير المرتفعة، يحوكها في طرزه، ويرفع له فيها السوق، فيقبض الربح، ولا يستكف سحت الظلمة بأفحش القبح كل القبح. كل هذا من داء الفتنة المبيرة، ولا يزال مع ذلك مضاع الجار.(2/591)
فصل:
ونعي إلينا فلان، وكان مع ثروته مضاع الجار، ممطول الغريم، عاتب الصديق، مكرهاً إلى الأنام، معضوضاً بأنياب الملام؛ مقدماً في صدور الأمثال ببسطة الرزق، على ضيق الباع في العلم والفضل، والاتساع في الجهل، فلا يحفظ من الفقه مسألة، ولا يوثق من الشروط عقداً، ولا يتخلص في التلاوة من سورة، ولا يفيض في الأدب ببيت شعر، ثم يأوي بجهله إلى حرج صدر، وغالب نزق، فلا تلقاه الخصوم أبداً إلا سريع التغضب سيء التناول، ينازق الذباب شراسة. سولت له نفسه الجهول أنه قاض لما ناسب الذكاونة، وأول من ظفر من قلانسهم بطويلة، فنبذ مسحاة الفلاحة، وأعجبته نفسه الغثراء فخال أنه إمام الأمة المستظهر على الإمارة، فارتقى إلى الغي ذرى شاهق زلت منه قدمه، فهوى في الحضيض أسرع من رقيه. غره ابن عمه الشهير البطالة، السفيه الماجن، من رجل دد، لم يكن قط من الجد في صدر ولا ورد، دن شراب، وزير قحاب، دفتره الدف، وتسبيحه السخف، وأنسه بكأس وقينة، ودرسه لنميمة وغيبة، وقضمه لحوم الغافلين، ورأيه رأي المستهزئين. إنما أربه بطنه وفرجه، وهمه عيبته وخرجه، وبطانته كل بطال ماجن ماجن ومأفون عائب، يرضون منه بالكسرة والعرق، جزيئين على تمزيق أهب الخلق، يتجسسون(2/592)
له عن أخبارهم، ويهدون إليه معايبهم، بها يعمر مجلسه وينفي ساعات كسله، وبنوادرها يهز مزهره، وترسل النغم عليه رياح ضلوعه. فيالك من شق بلا فصل، وإرهام من غير هطل، يقطع دهره بتعميره الموائد، وتعطيله المساجد.
فصل:
ونعي إلينا فلان الدغل، غازله السل، كالأفعوان الصل؛ وكان أحد أعاجيب الدنيا في الفجور والخبث، والزهو والكبر، والعقوق والجرأة وانكدر إثر مهلك الجبارين المذكورين؛ وكان من أكابر الظلمة المترقين من السمسرة صدور الفتنة، يجوب البلاد ابتغاء المعيشة، ولا يحاشي الترقيح عن ارتكاب كل قبيح. ولم يكن إلا " كلا " حتى فتحت له أبواب الرزق على عاميته وأفنه وأميته. وكان إذا كتب مضطراً يضحك من تأمله، له في ذلك نوادر محفوظة أمسى بها من حجج الله تعالى في الرزق المقسوم: لو كانت الأرزاق مقسومة على الحجى لم يرزق.
وهذا من قول حبيب.(2/593)
فصل:
وفلان أحد من انسدل عليه السرت في هذه الفتنة المبيرة، وكان على نباهة اسمه عاطلاً من الفضائل التعاليمية، إلا أنه كان ذرب اللسان، كثير النوادر، ذا جواب حاضر، وكان يقلب بالجني؛ فعاتبه يوماً فتى من قريش المروانيين بقرطبة فقال له: ما عندك من خبر السماء - فقال: انقراض سلطان بني مروان؛ فأفحمه.
فصل:
وصدر فلان مع أصحابه الرسل، وقد امتلأت حقائبه مما قمشه من السحت، بضروب الكدية والشحذ، وبخل حتى بالزاد المأدوم في الطريق، وضن به على الرفيق، وأشرج عليه الجوالقات تأميلاً في توصيله للبيوت في حمارة القيظ حتى زنخ، فكان أحرص الوفد - زعموا - على قمش ذلك السحت، وأغوصهم على استخراجه، وأشرههم على التعرض بطلبه، فلان منهم الولي اللوم العاطل من كل حلية جميلة تدل على فضيلة، فإنه حملت عنه في ذلك أخبار، إلى زيادة مساو فيه غضت ممن أرسله وصرفه.
قال ابن حيان: ولولا أن أكون لهم مغتاباً، ولرسل نفذوا عن البيضة ثلابا، لشرحت من مساوئ أخبار هذا الوفد أكثر مما وصفته.
قلت أنا، صاحب الكتاب: حاشاك أبا مروان من الثلب والاغتياب.(2/594)
فصل:
وفلان ساذج الكتابة، بين الجهل والتخلف، طلق اللسان بالحنا والهجر، أحد الأفسال من أولي النباهة، عظيم البطالة والباطل، ومن كل حلية جميلة عاطل، من رجل عي اللسان، مثلوم الجنان، فدم الخلقة، طويل اللحية متهافت، لم يرهف الأدب طباعه، ولا استخرج منه كلمة حكمة.
فصل:
ومن غرائب هذا الدهر الغفل في اعتبار تحول العالم، والتنويه بمضاعي الأسافل، أن هلكت أم عجوز لبني كوثر، فاهتبل بنوها في السعي لها، وإنذار طبقات الناس لشهود جنازتها بأنفسهم والمشي على أعاظم القرية بنعيها، فسارعت طبقاتهم لشهود جنازتها، فجيء بسريرها، وابن جهور الوزير يقدم حضارها ماشياً على قدميه، قد ائتسى به كل ذي منزلة رفيعة، ووقف على جدثها إلى أن ووريت وانفض جمعها، ثم ضرب على قبرها قبة عالية تمهيداً للمبيت عليها طول أسبوعها ومدة زيارة قبرها، حسبما كنت الجبابرة تفعله في الأعصر الخالية على قبور الملوك الأغرة؛ فقضي العجب بمشاهدة هذه النادرة في امرأة من [نساء] حثالة العامة، مرددة في الخمول، لم يكن قط بينها وبين النباهة من كلا طرفيها نسبة(2/595)
في الدولة القريبة ولا البعيدة، ولا ظفرت ببعل مثر ولا ذرية نبيهة؛ عهدي ببعلها الشيخ مطرف ناجل هؤلاء الصبيان من بنيها قرنبى حزقةً، أحد سماسرة البر بقرطبة، يروح بها يومه الأطول كميش الإزار، أعظم أفراحه ظفره بقوت يومه. وكان مع ذلك كثيراً ما ينتاب الخانات على قله وقماءة حاله، فيروح نشوان العشيات يمسح الأرض بأسماله. وكان له تقدم في ضرب القرقرة، محكماً لأفانين إيقاعها. فسبحان الكبير المتعال، ناقل الأحوال مبدل العسر يسرا.
فصل: وتوفي فلان، وما علم بموته لخموله، وأخنى الدهر على أهل بيته؛ على أنه كان خالفةً منهم تطبعاً، عاطلاً من كل خلة تدل على فضيلة وله أولاد سخف قاسموه الجهل شق الأبلمة.
فصل:
وتوفي الوزير الحسيب، أحد أعاظم القرية قرطبة، فسيء عوام الناس بمهلكه. لعفاف كان يبديه، وبشر يشيعه ويستعمله، وينطوي من أمثاله لأهل الدنيا على ضده؛ إذ كان زاهداً في إسداء المعروف، راغباً عن اتخاذ(2/596)
الصنيعة، تاركاً للمواساة، شرهاً إلى الحطام الدنيوي، عطلاً من جميع التعاليم المحظية، لا يجيل في شيء منها قدحاً، ولا يقيم لسانه لحناً؛ وكان قد عضه صرف الزمان المتقلب بأهل بلده فأقعده إلى الأرض، واضطره إلى التوكل على مساحته، مرقحاً معيشته بعمارة بستانه، إلى أنعطف الدهر عليه بصحبة متوثبي السلاطين المنتزين على الأقطار وسط الفتنة، فخاض معهم، وصار أخص من مارسها، وشاطر السلطان خطة المواريث، ولزمه العمل على ذلك فسلخها نيفاً على عشرين سنة، مرى فيها درتها من غير تعقب ولا توقع عزلة، إلى أن تولت ذلك منه المنية، وقد اقتعد الثرى مطية.
فصل:
وتوفي الفقيه النبيه، السريالمغفل، المجتمع على كمال خصاله، المتفق على كمال خلاله، بقرطبة، أبو القاسم سوار بن أحمد، ختام رجال المملكة بها، وسوار معصمها لدى أيام الزينة، وكان حليماً وقوراً ركيناً، مطلق البشر، حسن المشاركة، متودداً إلى الناس، وجيهاً إلى السلطان - على انزوائه عنه، وقد أراده أمراء التصرف فاستعفاهم، فخلوه واختياره، وكسوه أثواب الوزارة فنضاها، ولم يعج عليها ولا ارتضاها، حتى سقط(2/597)
عنه اسمها، وكان على خصاله الجمة من أحفظ الناس لأخبار بلده قرطبة وسير ملوكها المروانية، وأحصاهم لنوادرهم وآثارهم وعيون أخبارهم، بفصاحة لسان، وخلابة منطق، وحسن إيراد، يصور إليه الأفئدة.
فصل:
من رجل غبر دهره، عطلاً لا ينظر في شيء من التعاليم،، إلى أن فتح الله عليه درس هذه المسائل الفقهية، فركض في حلبة الفقهاء المشاورين، وقدم لعلو السن لا لعلو الدرجة، وكان في ذاته كريه الطلعة، باذ الهيئة، درن الكسوة، هزيل الدابة، يمتهن نفسه في خدمة أهله، مما يتنزه عنه كثير من العامة، تقتحمه عيون الناس ويحصون نوادره، وكان موصوفاً بالنهم، على ضؤولة جسمه، وانهداد قوته، وملازمة الذرب لمعدته، وطلبه لعلاجها.
فصل:
من رجل معدن من معادن الجهل والأفن والغباوة، وحجة من حجج الله تعالى في الرزق، واستظهر بما رأى الناس فيه من شدة وطأة المجاعة بما شاء من وفور الزاد وكثرة الطعام ونفاسة البر وسعة الثروة، فاغتدى على فرط الزلزلة في المجاعة بكثرة القوت والطعام أرسى من ثهلان وثبير، بما(2/598)
يفوت التقدير، وولي المظالم صدر اكتهاله أيام التخليط الواقع بمنبعث الفتنة:
ومن المظالم أن ولي ... ت على المظالم يا فزاره فصل:
ومضى فلان فأدرج في جننه غير فقيد، لم تبك عليه غير نفسه، إذ لم يكن لغيره نصيب في خيره؛ لأنه كان جهم المحيا، باسر اللقاء، مشنأ إلى الورى، شكس الجبلة، كز الخلقة، سريع الضجر، شئن الطبيعة، متغمغم المنطق، لا يكاد يبين الكلام، لا طريق للخير من وجه عليه، ولا يتأدى بسبب إليه؛ وكان مع ذلك مصاحباً للظلمة من أمراء الفتنة، خواضاً في دولهم المدلمة، معيناً على مظالمهم الموبقة، قد رزق الحظ في شأنه. وبعد الصيت في جودة حوكه لأعماله، فاكتسب وثري من المال، محوطاً بمنيع الجاه، مغلولاً بوثيق من الشح، لا يتسلط عليه حق ولا باطل، ولا يمتريه مجتد ولا سائل، ولا حظي أحد منه بطائل.
فصل:
وكان حجة الله في القسم، ومحنته لذوي الفهم، إذ كان من الأمية والعامية وخمول الأصل، ونذالة الفرع، ولؤم الأطراف، ودخلة الأعراق، على ثبج عظيم، وبمكان مقعد مقيم، وعفو الله لا يبعد عمن جاءه بقلب سليم.(2/599)
فصل:
وانكدر بإثر وفاته ابن باشة المعروف بالأصغر، هدام القصور، ومبور المعمور؛ وكان من التبحبح في اللؤم، والالتحاف للشؤم، مع دناءة الأصل والفرع، وتنكب السداد، وتقيل الفساد، على ثبج عظيم. بيده بادت قصور بني أمية الرفيعة، ودرست آثارهم البديعة، وحطت أعلامهم المنيعة. وصار من البديع أن قدمه ابن السقاء مدبر قرطبة وقت النظر في جميع آلات ما تهدم من القصور المعطلة؛ فاغتدى عليها أعظم آفة، يبيع أشياء جليلة القدر، رفيعة القيمة، في طريق الأمانة، ولم يك مأموناً على باقة بقل؛ فعاث فيها عياث النار في يبيس العرفج، وباع آلاتها من رفيع المرمر، ومثمن العمد، ونضار الخشب، وخالص النحاس، وصافي الحديد والرصاص، بيع الإدبار. ولم يزل ينفق ما غل بمرأى ومسمع في أبواب الباطل، حملت عنه في التبذير نوادر تشهد بأن الدار ليست بدار مثوبة ولا جزاء. وكانت رسل أملاك الأندلس تأتيه كثيراً في ابتغاء ما لديه من تلك الآلات بالأثمان النفيسة، فيبذلها هو في أنواع الضلالات إلى أن استنفدها على طول المدة، ثم فقر آخر مدته، واختل واعتل، ووافته منيته(2/600)
وقد اغتدى مثلاً لمن عرفه وسمع به. وأغيظ من ذلك لأولي الألباب تسليطه على هدم قصور بني أمية المبتناة على أساس العلا، المسخر فيها أصناف الورى، المكتملة الاستواء في حقب من السنين تترى، حتى اغتدت بجزيرة الأندلس كإرم ذات العماد لا يخشى على أركانها انهدام، فلما أذن تعالى بحط أعلامها، وطمس آثارها، أتاح لها هذا الأنيسيان الضعيف القوى، القصير المدى، كإتاحة الجرذ المهين لسد مأرب ذي الأنباء البديعة، فدكدكها حتى عادت كوم رماد ومصايد ضباب، ولم يقلع عنها حتى أوقع النار على صخورها، وصيرها كلساً لكل مرتاد. فيا لها موعظةً لمن بقي على الأرض ممن لحق هذه البقعة السعيدة بدولة أملاكها. فتبارك منزل الآيات ومعجل النقمات، ومصرف الدولات ومبدل البقعات.
قال ابن بسام: إلى هذا المكان انتهى ما أخرجته في هذا الفصل من كلام ابن حيان. وكان عندهم بقرطبة خاتمة المتكلمين وجمهور المحسنين، على ما تراه ركب من إثم، واحتقب من ظلم، وتناول من عرض، وأطبق من سماء على أرض، عجباً بافتنانه، وتعجيباً من بيانه، وتنبيهاً على مكانه من علو شانه ومشهور إحسانه. وعجائبه أكثر إعلاماً، وأشهر أياماً. وأكثر ما وجدته من كلام هذا الشيخ الباقعة، ففي هذا الباب - أعني الذم - أحفى شباة قلمه، وخلد أوابد كلمه. ولو وجدت له في سواه شيئاً استشهد به على فضله، وأجعله ذريعةً إلى الثناء بنبله، لكنت له(2/601)
أجمع، واليه أسرع. وعلى كل حال فقد سلم على لسانه أكير بلده أكبر أهل زمانه، أبو الحزم ابن جمهور، وابنه بعده، فجرى لهما بأيمن طائر، ولم يعرض لذكرهما إلا بخير، وقد أثبت من ذلك ما دل على الإحسان، ووفى بشرط الديوان.
- فصول من كلامه في إيجاز الخبر عن أولية دولة بني جمهور
قال ابن حيان: وفي منتصف ذي الحجة من سة اثنتين وعشرين وأربعمائة، بعد خلع هشام المعتد ومقتل وزيره حكم الحائك، اجتمع الملأ من أهل قرطبة على تقليد أمرهم وتأميرهم للشيخ أبي الحزم ابن جهور، وعددوا من خصاله ما لم يختلف فيه أحد منهم، وأبى من ذلك، فألحوا عليه، حتى أسعفهم شارطاً اشتراك الشيخين: محمد بن عباس وعبد العزيز بن حسن ابني عمه خاصة من بين الجماعة، فرأوا مشورتهما دون تأمير، فرضي الناس بذلك، وخلعوا من دونهم من الرؤساء، ووحدوا له عقد الرياسة، فأعطوا منه قوس السياسة باريها، وولوا من الجماعة أمينها المأمون عليها، فاخترع لهم لأول وقته نوعاً من التدبير حملهم عليه، فاقترن صلاحهم به، واقتصر من الجند على أعيانهم، وسد باب البرابر جملة إلا من قد صار في البلد من بني يفرن الموثوق بهم، وأقصى من سواهم من فرق البرابرة من غير إيحاش، فنال منهم الرضى، وملكهم عما قليل، وأصبح في ذلك عجباً.(2/602)
وأجاد السياسة، فانسدل به الستر على أهل قرطبة مدته، وحصل كل ما يرتفع من البلد في جميع أوقاته، بعد إعطاء مقاتلته فارسهم وراحلهم، وصير ذلك بأيدي ثقات من أهل الخدمة، مشارفاً لهم بضبطه، فإن فضل شيء تركه بأيديهم مثقفاً مشهوداً عليه إلى أن يعن وجه تصرفه فيه، لا يلتبس بشيء منه ولا يدخل داره، ومتى سئل قال: " ليس لي عطاء ولا منع، هو للجماعة وأنا أمينهم "؛ وإذا رابه أمر أو عزم على تدبير، أحضرهم وشاورهم فيسرعون إليه، فإذا علموا مراده فوضوا إليه بأمرهم؛ وإذا خوطب بكتاب لا ينظر فيه إلا أن يكون باسم الوزراء. فأعطى السلطان قسطه من النظر، ولم يخل مع ذلك من النظر لنفسه وترقيحه لمعيشته، حتى تضاعفت ثراؤه وصار لا تقع عينه على أغنى منه، حاط ذلك كله بالبخل الشديد والمنع الخالص، اللذين لولاهما ما وجد عائبه طعناً، ولكمل لو أن بشراً يكمل. وكان مع براعته ورفعة قدره، وتشييده لقديمه بحديثه، من أشد الناس تواضعاً وعفة وصلاحاً، وأنقاهم ثوباً، وأشبههم ظاهراً بباطن، وأولاً بآخر، لم يختلف به حال من الفتاء إلى الكهولة، ولم يعثر له قط على حال يدل على ريبة؛ جليس كتاب منذ درج، ونجى نظر منذ فهم، مشاهداً للجماعة في مسجده، خليفة الأئمة متى تخلفوا عنه، حافظاً لكتاب الله قائماً به في سره وجهره، متقناً للتلاوة، متواضعاً في رفعته، مشاركاً لأهل بلده، يزور مرضاهم ويشاهد جنائزهم.
وفي فصل:
واستمر ابن جهور في تدبير قرطبة، فأنجح سعيه بصلاحها، ولم شعثها(2/603)
في المدة القريبة وأثمر الثمرة الزكية، ودب دبيب الشفاء في السقام، فنعش منها الرفات، وألحفها رداء الأمن، ومانع عنها من كان يطلبها من أمراء البرابرة المتكنفين لها، المتوزعين أسلابها، بخفض الجناح والرفق في المعاملة، حتى حصل على سلمهم، واستدرار مرافق بلادهم،. ودرأ القاسطين عليه من ملوك الفتنة، حتى حفظوا حضرته وأوجبوا لها حرمةً، بمكابدته الشدائد حتى ألانها بضروب احتياله؛ فرخت الأسعار، وصاح الرخاء بالناس أن هلموا، فلبوه من كل صقع، فظهر تزيد الناي بقرطبة من أول تدبيره لها حتى ملأوا المساجد والأفنية، وسمت أثمان الدور بها، والابتناء لخرابها الفاشي، أخذاً بالهوينا، فاتصل البنيان بها، وغلت الدور، وحركوا الأسواق، فعجب ذو التحصيل للذي أوى إليه في صلاح أحوال الناس من القوة ولما تعتدل حال، أو يهلك عدو، أو تقو جباية، وأمر الله تعالى بين الكاف والنون.
وتوفي أبو الحزم ليلة الجمعة السادس من محرم سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، فصار الأمر إلى ابنه أبي الوليد محمد بن جهور بن محمد بن جهور ابن عبيد الله السر من آل عبدة، نهاية الشرف الأثيل بقطربة، على أس الدهر المغرب شأوه في نظم قلادة خمسة ككعوب الرمح أنبوباً(2/604)
على أنبوب، هم ما هم، تناقلوا الوزارة والكتابة ما بينه وبين خامسهم عبيد الله ذي المنقبة الزائدة، خولهم الله الرياسة على تعاقب الأزمان واختلاف الأعصار، ولم تنقلها الفتنة إلى أن ورثها تربها هذا الوالي الفاضل أبو الوليد، ولما يعرف البؤس يوماً، فأعانه ذلك على الحسب والمروءة، وأقر أبو الوليد لأول ولايته الحكام، وأولي المراتب على حسب ما كانوا عليه أيام أبيه.
قال ابن حيان: وكنت ممن جادته سماء الرئيس الفاضل أبي الوليد الثرة، وكرم في فعله ابتداء من غير مسألة، فأقحمني في زمرة العصابة المبرزة الخصل، مع كلال الحد وضعف الآلة؛ واهتدى لمكان خلتي وقد ارتشف الدهر بلالتي، بأن قلدني [إملاء] الذكر في ديوان السلطان المطابق لصناعتي، اللائق بتحرفي، براتب واسع، لولا ما أخذ على كتم ما أسداه لجهدت في وصفه، وإلى الله تعالى أفزع في إحمال المكافأة عني برحمته.
ثم اقتفى أبو الوليد آثار أبيه أبي الحزم في السياسة من درء الحدود ما وجد إلى ذلك سبيلاً، والتأول في تعطيل الإقادة بالحديد ألبتة، لعدم الإمام المجتمع عليه في الوقت، والتربص لإدبار الفتنة؛ فأصبح من العجب العجاب تكاف الناس في الأعم عن التظالم والتسافك، بخلاف ما كانوا عليه تحت الضبط الشديد، وتجاوز الحدود، بأيدي جبابرة أصحاب الشرطة أيام الجماعة، فلا يكاد يسمع لشرارهم من معهود ذلك إلا النادرة الفذة. وبرز أيضاً أبو الوليد في فك العقل السلطانية، وأنفذ الحكم(2/605)
في المظالم الديوانية، وعقار الغيب عن قرطبة التس أجلها الفتنة الغماء، أشياء عظيمة القدر توقف والده عنها، فأطلقها وردها على أربابها، وشمل العالم الدعة.
وأما عترة الأشراف الأموية، فتقلب بهم الزمان، وغير أحوالهم الحدثان. وكان بقرطبة منهم طائفة غامضة الشخوص، باذة الهيئة، عارمة الأدب والمروءة، متطبعة بأخلاق العوام الغفل، أكثرهم من ولد الناصر، معصوبين بيعيسيب لهم من أبناء أمرائهم في الفتنة يدعة ابن المرتضى، أبوه كان صاحب البيعة بالثغر يومى إليه بالأصابع؛ فخالطه من ذلك على سكر الشباب وخيلاء الشرب والأفن والغباوة عجب وغطرسة، عقد ناصيته بالثريا، فاصبح من طماح همته في جهد، يراقب الناس منه فتنة عمياء، ويمشي في الناس مختالاً، أصعر الخد، أشوس اللحظ، جميل الرواء والشارة، عالي القلنسوة، تلحظه العيون، وكان له بقايا من شيع المروانية؛ فبلغ ابن جهور عنه ما بعثه على إزعاجه من قرطبة، فاستقر بشرقي الأندلس حيث اضطرب أبوه المرتضى، فبطل الإرجاف بعده.
قال ابن حيان: وفي سنة ست وخمسين وأربعمائة كثر خوض أهل(2/606)
قرطبة في الذي رأوه من تنافس ولدي أبي الوليد محمد بن جهور في الانتصاب لخلافته: عبد الرحمن كبير جماعتهم، وأخيه عبد الملك أشهمهم فؤاداً وأصلبهم عوداً، الذي كشف عن وجوهم غمة مركسهم ابن السقاء، كافر نعمتهم، فاستدرك لهم ما كان تولى من سلطانهم، لفتكته به التي أثبتت أوتاد ملكهم، ثم شد يده بطلب حقه من ذلك، ونازع أخاه كبير عبد الرحمن ما ذهب إليه من التفرد به؛ وقد كان أشار على أبيهما بعض حلفائه من رؤساء الأندل بإيثار عبد الرحمن منهما، فتمسك الشيخ بحظه من إرضاء ولده الصغير عبد الملك، فمال إلى قسمة الرياسة بينهما حياته، غير ناصبٍ لأحدهما للأمر، يقضي الله به لمن يشاء بعده، صنيع والده فيه؛ فمتع نفسه بهواها في صغير ولده، وأنشد قول ابن الجزيري:
وإذا الفتى فقد الشباب سما له ... حب البنين ولا كحب الأصغر فأرتع ولديه هذين في دنياه، وبسط أيديهما في سلطانه، فطفقا يستميل كل منهما طائفةً من الجند، ويصطنع من الرعية فرقة، ويفتلذ من عقيدة الملك فلذة، فأصبح الأمر مختلطاً، والأرباب متفرقين، والمخاوف تطلع من كل ثنية، والهوادي تؤذن بالأعجاز، والله كل يوم في شأن. ثم خاف عليهما، فجعل إلى أكبرهما عبد الرحمن النظر في أمر الجباية، والإشراف على أهل الخدمة ومشاهدتهم في مكان مجتمعهم، والتوقيع في(2/607)
الصكوك السلطانية المتضمنة للحل والعقد، والاطراح والضم، وجميع أبواب النفقات، ألجأ كل ذلك إلى ختمه، وأمضاه تحت حكمه. وجعل إلى عبد الملك النظر في الجند، والتولي لعرضهم، والإشراف على أعطيتهم، والركوب فيهم لدى الروع، وتجريدهم في البعوث، والتقوية لأولادهم، وجميع ما يخصهم؛ فرضياً منه بهذا التقسيم، وأقامها به على الصراط المستقيم.
قال ابن بسام: إلى هذا الموضع انتهى ما وجدته من أخبار الدولة الجهورية من كتاب ابن حيان وقت تجردي للفراغ من تتميم هذا الديوان، واستعجلت لإخراج هذه النسخة المقررة منه، وأعياني تتبعه لآثارهم، وشرد عليّ وجود لفظه ونظمه لبقية أخبارهم، ولم أجد من نظامها، لتجيء أخبارهم بتمامها؛ فرقعت الضحى بالغلس، وجمعت بين حافر العير وجبهة الفرس، على تفاهة علمي، وغب نوبٍ أنستني اسمي، وجرت مجرى الروح في جسمي:
كان عباد قد خامر صدره من شأن ابن السقاء مدبر دولة بني جهور ما لا يسعه بوح ولا كتم، ولا يردعه سفه ولا حلم، شرقاً يحسن سيرته(2/608)
وفرقاً من استمرار مريرته، وحسداً لآل جهور في من حسم عنهم الأطماع، وجمع دولتهم الشعاع. فقد كان ابن السقاء هذا من الاستقلال بمكانه، والضبط لسلطانه، والاستيلاء على ميدانه، بحيث يخيف الأنداد، ويغيظ الأعداء والحساد. فدس عباد إلى عبد الملك بن جهور من جسره على الفتك، وإلى ابن السقاء من ألقى في روعه حب الملك، وكلاهما راش وبرى، حتى جرى القدر بينهما بما جرى. وسيأتي الخبر عنهما مشروح الأسباب، في القسم الرابع من هذا الكتاب.
وخلا لعبد الملك الجو بعد ابن السقاء؛ فأعرض وأطال، وطلب الطعن وحده والنزال: وأعجبه شأنه وازدهاه، وأمره شيطانه ونهاه؛ ووجد عباد السبيل إلى شيء طالما كان شرد كراه، ونغص عليه كثيراً من لذة دنياه: من افتقار بني جهور إلى نصره، وتصرفهم بين نهيه وأمره. وانقبض عن عبد الملك لأول استبداده بالأمر حماته الذين كان ابن السقاء يرفعهم برفعه، ويصطنعهم بحذقه، ويوردهم ماء سماحته وبذله، ويلحفهم ظلي تواضعه وعدله. وقد خامر نفس يحيى بن ذي النون من الشغف بقرطبة ما هون عليه إنفاق المال، واحتمال الأثقال، وتكلف الحل والترحال؛ فهي مضمار خيله، ومدرج سيله، وحديث نفسه، وهم يومه وأمسه. وخلت السنون، وغالت عباداً المنون؛ وصار الأمر إلى ابنه المعتمد سنة إحدى وستين [حسبما يذكر في القسم الثاني من هذا(2/609)
المجموع، إن شاء الله] .
فلما كان سنة اثنتين بعدها، دلف ابن ذي النون إلى قرطبة، وكان لا يغبها شره، ولا ينام عنها مكره؛ وقد احتاج عبد الملك بن جهور إلى استمداد من المعتمد لانفضاض من لديه، وعجزه عما كان أسند من تدبير قرطبة إليه، فأمده المعتمد بجمهور أجناده، على أكابر قواده، قد تقدم إليهم بمرداه، ونهج إليهم سبيل إصداره وإيراده؛ فوافوا قرطبة، ونزلوا بربضها الشرقي، وأقاموا بها أياما يحمون حماها، وأعينهم تزدحم عليه، ويذبون عن جناها، وأفواههم تتحلب إليه. فلما سئم ابن ذي النون سفره واجتواه، وقضى من غزو قرطبة وطره وما قضاه، أخذ في الرحيل عنها، فما انقشعت سدفة ليله، ولا تمزق غبار سنابك خيله، حتى هتك العباديون الحريم، وركبوا الأمر العظيم؛ باتوا متحدثين بالقفول، ثم غلسوا مظهرين للرحيل؛ وعبد الملك متأهب لتشييعهم، عازم على البكور إلى توديعهم، وشكرهم على حسن صنيعهم،؛ فلم يرعه إلا إحداقهم بقصره، وارتفاع أصواتهم بالبراءة من أمره، وإصمات الأفواه عن ذكره؛ وقد تمخضت له ليلته بيوم عقيم، وافتر له ناجذ صبحها عن ليل بهيم، ومشى من أنصاره هنالك بين أسد شتيم، وأسود مسموم:
ومن يجعل الضرغام للصيد بازه ... تصيده الضرغام في من تصيدا(2/610)
وقبض للحين عليه وعلى إخوته، وسائر أهل بيته وأسرته. وبالغوا لوقتهم في انتهاك حرمه، وإزالة نعمه، وإخفار ذممه. وأخرج الشيخ اليفن أبو الوليد - بقية أشراف الأندلس في وقته - مفلوج الشدق، مائل الشق، مغلوب الباطل والحق؛ لم تحفظ له حرمة، ولا رعي فيه إل ولا ذمة.
بلغني أنه لما وسط به قنطرة قرطبة خارجا منها على مركب هجين، وحاله تقر عيون الحاسدين، رفع يديه إلى السماء، وأخذ يبتهل في الدعاء، وكان مما حفظ عنه قوله: اللهم كما أجبت الدعاء علينا فأجبه لنا؛ فمات بعد أربعين يوما من نكبته بجزيرة شلطيش مزال النعمة، [مذال الحرمة] ، فتعالى المنفرد بالبقاء، جبار الأرض والسماء. وأقرت ساقته بها، فأقاموا هنالك أكثر أيام المعتمد، يأخذهم الحدثان ويدعهم، ويخفضهم الزمان أكثر مما يرفعهم.
@فصل له في ذكر رحيل أين ذي النون عن قرطبة يقول فيه: لما نزل ابن ذي النون بسبيله، فكشف الله هممه عن أهل قرطبة، أبدوا الشمات به، وقضوا بالإدبار عليه، وتنقصوا حجاه، واستفالوا رأيه، وأضافوا سمو محله إلى حظوة جده، من غير استعانة منه بغريزة لب، أو مادة معرفة، أو اكتساب تجربة، إذ جمع الجيش ذا الألوف المختلفة الألسنة، الناهك الكلفة، فجره على بعد الشقة إلى قرن غفل غبي(2/611)
منخلع من صالح الخصال، مترد في هوة السفال، لا يتحرز منه في حال من الأحوال، راكب للغي، مستميت على الإمارة، مطرح للنظر في العاقبة، شتيت الشمل، قليل الوفر، نزر العدد، حال البلد حاضر أهله، إلى من فارقوا من جاليهم، قد وقذه، ورجاله ورعيته طول ما صحبوا الغلاء وحالفوا المجاعة، يكاد يأسه يستولي على طعمه فيدفعه بالتوطي عن الكريهة، والتحكيم على متقلد خطة البغي في سوء العاقبة، قد مثل منتصبا لحظته، لابسا فؤاد القاسي فوق درعه، يكاثر بحور الحصى من فرط جهله، قد جمع محاشه عند شمرته لحربه، فما إن تتامت عدتهم مائتي فارس، أكثرهم مسوقون حاقدون معوقون مستقصرون، يشتري لهم القوت من السوق، مضيقاً على رعيته، ويزدلف بهم في غد أيامهم، ويعدهم ثواب عاجل الطعن نسيئةً على مستأخر النصر؛ قد علم ذلك من اختلال أحواله عدوه المتظاهرة قواه وعدده، فنزل بساحته نزول النظير له، المتكافئ العدة، متسنماً هضاب جبل البلد المسامتة لباب المدينة الجوفي، مهتضماً وأحبشه اللهام، بإنزاله إياهم ساترات تلك الأهضام، كالمتقدم بالاستظهار على مرهوب بيات الليل ومغافصة النهار، قد اقتصر من اللصوص بأهل البلد والموالاة لقتالهم على قفص يده لزروعهم؛ أطال بذلك حصار قرطبة، وأعداؤه يعجبون من طول كنفه لها، ويرونه لا محالة محروم المصال، مع ما يزجي من كتائب لو قادها(2/612)
غشوم مسلط يوفيها حق إقدامها على من قادها إليه، لما قاومه نظير من أملاك أفقه، إذ يقول عدة دارعين ما بين أجناده وأمداده، ذوي ألسنة شتى، وبطارق أعزة تعرب عنهم التراجمة؛ لكنه سلطان الله يؤتيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء. وما أحسن ما تمثل به معاوية عندما أفاده جده بحظوة الخلافة دون عليّ رضي الله عنه الذي نازعه إياها، على بون ما بينهما، إذ قال وقد جرى ذكر عليّ رضي الله عنه وخيبة سعيه:
لئن كان أدلى خاطباً فتعذرت ... عليه وكانت رائداً فتخطت
فما تركته رغبةً عن جنابه ... ولكنها لآخر خطت فليت شعري ما الذي يقوله مهنئ ابن ذي النون بقفوله إلى حضرته، ويصوغه ممتدحه في تمجيده، مع ضيق تولجهما، عن معذرة ينحلانها له، واعتياص احتيالهما في تخليصه ن قبيح ما ركبه - إن وجوه التكذب لتخجل دون مقابلته، والله تعالى شهيد عليه، كفيل بجزائه.
فلما تولى ابن ذي النون وقفل لطيته، أصبح فؤاد سلطان قرطبة الرابض إلى جنبه فارغاً من همه، مسترجحاً لرأيه، حامداً لجده، واثقاً بدوام ملكه، يرى أن قد فاز بحظه، بإيقاد نار الفتنة بين ابن ذي النون وابن عباد قرنه، وأنه مخير في التشبث بها، والانفصال عنها، متى شاء وكيف ارتأى. فاشتد جذله، واسترخى لببه، وارتاح إلى منصرف من عنده من رجل ابن عباد الثقال عليه، كيما يخلو بشأنه. فجعل يدس إليهم من يعرض، ويقطع تعدهم، وهم يرونه الحرص على الانطلاق عنه، والاستبطاء لإذن أميرهم لهم وقد كاتبوه، ويأخذون في التأهب لمسيرهم، ويعدون من ذهب إلى السفر معهم بوشك رحيلهم، وسرى القين أولى بهم. وقد سرى بين قوادهم وكبار من جاورهم من أهل البلد(2/613)
من التدبير معهم، في أخذهم لسلطانهم البيعة التي تريهم أموراً غابت عنه، أذهله عن التجسس عليها انهماكه في لذاته، ومقارفته لمدامه، إلى أن انتهت مدتها. فثارت الجماعة بعد مسير ابن ذي النون عنه بسبعة أيام سواء، وكان من خلعه وزوال أمره ما نذكره بعد هذا إن أعاننا الله.
قال ابن بسام: فصح عندي أنه وصف كيفية خلعهم وإخراجهم من قرطبة في جزء كبير سماه " البطشة الكبرى " في مجلد كبير لم يقع إليّ وقت هذا التحرير.
@فصل في ذكر الفقيه القاضي أبي الوليد المعروف بابن الفرضي
شاعر مقل، هو في العلماء أدخل منه في الشعراء، ولكنه حسن النظام، مقترن الكلام، رحل ورحل إليه، وأخذ وأُخذ عنه.
أخبرني الفقيه أبو بكر ابن الفقيه الوزير أبي محمد ابن العربي عن الفقيه أبي عبد الله الحميدي قال: حدثني الفقيه محمد علي بن أحمد بن حزم(2/614)
قال: أخبرني القاضي أبو الوليد ابن الفرضي قال: تعلقت بأستار الكعبة وسألت الله الشهادة، ثم انحرفت وفكرت في هول القتل فندمت، وهممت أن أرجح فأستقيل الله ذلك فاستحييت. فمات مقتولاً رحمه الله في الفتنة أيام دخول البرابرة قرطبة سنة أربعمائة. قال أبو محمد ابن حزم: أخبرني من رآه بين القتلى يومئذ وهو في آخر رمق يقول: " لا يكلم أحد في سبيل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً، اللون لون الدم والريح ريح المسك ".
كأنه يعيد على نفسه الحديث الوارد في ذلك، ثم قضى نحبه هنالك. وهذا الحديث في الصحيح، أخرجه مسلم بن الحجاح مسنداً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخبرني الفقيه المذكور عن الحميدي قال: أنشدني الفقيه أبو عمر ابن عبد البر، قال: أنشدني أبو الوليد [ابن] الفرضي شعره في طريقه إلى المشرق في طلب العلم، وكان كتب بها إلى أهله، حيث يقول:
مضت لي شهور منذ غبتم ثلاثة ... وما خلتني أبقى إذا غبتم شهرا
وما لي حياة بعدكم أستلذها ... ولو كان لم أكن بعده حرا
سأستعتب الدهر المفرق بيننا ... وهل نافعي أن صرحت أستعتب الدهرا
أعلل نفسي بالمنى في لقائكم ... وأستسهل البر الذي جبت والبحرا
ويؤنسني طي المراحل بعدكم ... أروح على أرضٍ وأغدو على أخرى(2/615)
وتالله فارقتكم عن قلىً ... ولكنها الأقدار تجري كما تجرى
رعتكم من الرحمن عين بصيرة ... ولا كشفت أيدي الردى عنكم سترا والبيت الأول من هذا ينظر إلى قول أبي عبد الله ابن شرف القروي:
فارقتهم لا لملالٍ ولا ... قلىً ولكن للخطوب الكبار
ستة أعوام وما كان لي ... فر فرقة الأيام عنهم قرار وقال أبو مروان ابن شماخ:
صبرت والبعد أحوال وذا عجب ... ولم أكن صابراً والبعد أميال وقال الحميدي: وأنشدني أيضاً الفقيه أبو عمر ابن عبد البر:
إن الذي أصبحت طوع يمينه ... إن لم يكن قمراً فليس بدونه
ذلي له في الحب من سلطانه ... وسقام جسمي من سقام جفونه وبالسند المذكور عن أبي عمر بن عبد البر قال: أخبرني أبو الوليد ابن الفرضي بتاريخه في العلماء والرواة للعلم بالأندلس.(2/616)
@فصل في ذكر الوزير الكاتب أبي جعفر ابن اللمائي
@وإثبات جملة من نظمه ونثره
وكان أبو جعفر هذا [وقته] أحد أئمة الكتاب، وشهب الآداب، من سخرت له فنون البيان، تسخير الجن لسليمان، وتصرف في محاسن الكلام، تصرف الرياح بالغمام. طلع من ثناياه، واقتعد مطاياه، ولع إنشاءات سرية، في الدولة الحمودية، إذ كان علم أدبائها، والمضطلع بأعبائها، إلا أني لم أجد عند تحريري هذه النسخة من كلامه إلا بعض فصول من منثور، [هي ثماد من بحور] ، وقد أخرجت من براعته ما يشهد له بالفضل في صناعته، والتقدم على أكثر جماعته.(2/617)
فصل له من رقعة خاطب بها أبا جعفر ابن عباس:
غصن ذكرك عندي ناضر، وروض شكرك لدي عاطر، وريح إخلاصي لم صباً، وزمن آمالي فيم صباً، فأنا شارب ماء إخائك، متفيء ظلال وفائك، جان منك ثمر فرع طاب أكله، وأجناني البر قديماً أصله، وسقاني إكراماً برقه، ورواني إفضالاً ودقه؛ وأنت الطالع في فجاجه، السالك لمنهاجه: سهم في كنانة الفضل صائب، وكوكب في سماء المجد ثاقب، إن أتبعت الأعداء نوره أحرق، وإن رميتهم به أصاب الحدق؛ وعلى الحقيقة فلساني يقصر عن جميل أسره، ووصف ود أضمره، " وإنما يبلغ الإنسان طاقته ".
وموصل كتابي هذا اختل ما عهده من أمره، وطغى عليه بحر دهره، فإن سبح غرق، وإن شرب شرق، وله أصل يوصله إلى استقلال بك،.
وله من أخرى يعزيه في أبيه:
إن لم أجد التأبين، فأجد البكاء والحنين؛ وإن لم أحسن التملق والإطراء، فأحسن الإخلاص والدعاء. واتصل بي موت الوزير أبيك(2/618)
لقاه الله غفرانه - وكونك بفضل الله مكانه، فروع جنان الصبر، وأخرس لسان الشكر: بدر أفل، وهلال استقل. أعزيك وأسليك. قدر مصابك قدر ثوابك. صبراً جميلاً عليه لتؤجر، وفعلاً حميداً بعده لتذكر. أصاب الغرة فأصب، وأتعب أهل زمانه فأتعب. أقول محققاً، وستشهد لي مصدقاً: أولاني من البر ما لا أدفعه، وألبسني من الإكرام ما لا أخلعه:
ستفتح عيني عليه دماً ... إذا ما العيون سفحن الدموعا
فقد كان غصني به ناعماً ... وروضي أنيقاً ودهري ربيعا وله من أخرى إلى القاضي ابن عباد:
روض العلم - أيدك الله - في فنائك مونق، وغصن الأدب بمائك مورق، وقد لفظ بحر العلم درره، وأطلع روض المجد زهره، فأهدى ذلك مع المنشد أبي محمد نفيس أجناسه، وبعث هذا نسيم أنفاسه، فهو لؤلؤ أدب، ونوار طرب، يسقيك جنانه عقار اعتقاده، في كأس وداده؛ يغنيك لسانه أشعار حمده، في مثاني قصده؛ مشيراً إلى ثمر معان من بدائعه لا تجنى، فوق شجر بيان من غرائبه لا ترتقي، فإذا لاحظها الفكر أنس، وإذا رامها أيس. ولم يسر إلا ليحمد سراه(2/619)
ولا قصد إلا ليبلغ مناه؛ ولم يناد بحمدك إلا لتجيبه، ولم يرم بك دهره إلا ليصيبه؛ فأمطر رجاءه بعض طلك، ووسد جوازئه أبردي ظلك، فما ماؤك بوشل، ولا وردك بنهل؛ وفيه أجر، ولديه شكر.
وله من أخرى: وردني في ذلك كتاب كريم بنت البلاغة سماء بيانه، وجادت أرض إحسانه، فنور شمسه يشرق في ليل نقسه، وكوكب نواره يتألق في اسطاره، فأصبحت تختال بخلتك، وتبسم عن مودتك، وقد سرى خيالك فشوق، واستطار برقك فأرق؛ فأجفان الإخلاص ناظرة إليك، ويد القبول مسلمة عليك، فصل ما جعلك الفضل فيه أصلا، ورآك أهلا. وقد حل المنشد أبو محمد من جفن الشكر في سواده، ومن صدر الإحسان في فؤاده، ألبسني حلة إخائك، وسقاني رسل وفائك، وحالي حال من يعدك في عدده، ويعدك من عدده.(2/620)
@ومن شعره
ولم يقع لي من نظم أبي جفعر عند إملائي هذه النسخة من هذا المجموع إلا ما أنشدني الأديب أبو بكر ابن بقي قال: أنشدني أبو الربيع ابن العريف لجده الكاتب أبي جعفر ابن اللمائي:
قد قلت إذ سار السفين بهم ... والبين ينهب مهجتي نهبا
لو أن لي ملكا أصول به ... لأخذت كل سفينة غصبا [أنشد أبو المنصور هذين البيتين للخباز البلدي في اليتيمة] .
وأنشدني أيضاً عنه له:
غني وللإيقاع فو ... ق بيان منطقه بيان
وكأنما يده فم ... وقضيبه فيها لسان ودخل عليه بعض أصحابه في علته التي مات منها، فجعل يروح عليه، فقال في مقامه:
روحني عائدي فقلت له ... مه، لا تزدني على الذي أجد
أما ترى النار وهي خامدة ... عند هبوب الرياح تتقد(2/621)
ومما قال في هذه العلة، وكانت داء النسمة:
عظم البلاء طبيب يرتجى ... منه الشفاء ولا دواء ينجع
لم يبق شيء لم أعالجها به ... طمع الحياة، وأين من لا يطمع -
" وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع " ومما وجدته أيضاً بخطه لنفسه:
طلعت طوالع للربيع فأطلعت ... في الروض وردا قبل حين أوانه
حيا أمير المؤمنين مبشرا ... ومؤملا للنيل من إحسانه
[ظنت سحائبه عليه بمائها ... فأتاه يستسقيه ماء بنانه]
دامت لنا أيامه موصولة ... بالعز والتمكين في سلطانه [وله:
يا كبدي بالبين من أكلمك ... ويا دموع العين من أسجمك -
ويا فؤداي كم تقاسي الهوى ... مكتتما عني، ما أكتمك!
علمتك الكتم أما تستحي ... ويحك أن تكتم من علمك -
كنت أداويك فلا ذنب لي ... لو أنني أعلم من أسقمك] ونقل أيضاً من خطه قصيدة من شعره يشكو نوائب دهره، أولها:
أمسى سقامي زاجري ومؤنبي ... وغدا مشيبي واعظي ومؤدبي(2/622)
أوهت خطوب الدهر مني عاتقي ... ثقلا، وزعزع منكباه منكبي
وهمت سحائبه علي فغادرت ... أرضي قرارة كل خطب معجب
فأظل أبصر فيه لم أحتسب ... جورا وأقرأ فيه ما لم أكتب
سن حديث تحت جد شارف ... وسواد رأس فوق قلب أشيب
أغدو على بكر لصرف بناته ... وأروح مبتنيا بأخرى ثيب
أفتض منها كل يوم عذرة ... لا تشتهي وأزف ما لم أخطب
يا سيدي وأخي الوفي وما أخي ... منه إلى قلب الإخاء بأقرب
وإذا غدا العلم المشرف أهله ... نسبا يؤلفنا فنحن بنو أب
هلا اهتديت إلى خطاب مرزإ ... ما بين أضلاع الخطوب مغيب
لم يبق منه الدهر غير مدامع ... سفح وقلب بالسقام معذب
أخفتني الأيام في لهواتها ... وسجنني فيها فكيف شعرت بي -
وكتبت عن ود وقد كتب الإخا ... بين النفوس صحائفا لم تكتب
بأرق من دمع المشوق فؤاده ... وأرق من ريق الحبيب وأعذب
فظللت منه في غدير بلاغة ... عذب وملتف الحدائق معشب
كرمت مغارسه فأورق فرعه ... علما وأثمر بالكلام الطيب
صبح تدرع من سواد مداده ... ليلا كفعل الزائر المترقب
خفيت معانيه على أوهامنا ... فالفكر بين مصدق ومكذب
طلعت كواكبه ولما تطلع ... وغربن فيه لنا ولما تغرب
أنا مذنب لا شك إذ لم أستطع ... رد الجواب وأنت غير المذنب(2/623)
حملته من طيب الإخاء محبة ... فيكم وإخلاص لكم فتطيب
وبعثث ماء الورد فيه سائغا ... عذبا لذائقه زلالا فاشرب
أذكى من المسك الفتيق نسيمه ... أرجا وأصفى من لعاب الجندب @فصل في ذكر الوزير الكاتب أبي عبد الله البزلياني
@وإثبات جملة مما نثر، مع ما يتعلق بذلك من خبر
وأبو عبد الله البزلياني كان في ذلك الأوان، أحد شيوخ الكتاب، وجهابذة أهل الآداب، ممن أراد الملوك ودبرها، وطوى الممالك ونشرها. وقد أجرى ابن حيان طرفا من ذكره، وشرح مآل أمره. وقد ألمعت أنا منه بلمعة في أخبار ابن عبد البر في القسم الثالث من هذا المجموع.
وذكره بموضع آخر من كتابه فقال: ولما قبض عابد على البكريين بأونبة وشلطيش وتملكها منهم سنة ثلاث وأربعين، جعل بهما ابنه محمدا، واستكتب ابن البزلياني الكاتب البليغ النحرير. وإلى ابن عباد صارت مصايره بعد طول تقلقله في البلاد.(2/624)
@فصول من نثره
فصول من رقعة عن حبوس إلى ابن عبد الله أمير قرمونة:
من النصح تقريع، ومن الحفاظ تضييع، ولكل مقام مقال، إذا عدي به عنه استحال. ووصل إلي منك كتاب طمست منحاه، وعميت معناه، أومأت فيه إلى النصح، ودللت على سبيل النجح؛ فوقفت على فصوله ومعانيه، وأحطت علما بجميع ما فيه. ولم يكن لمن أوحشت جهته، وتغيرت مودته، أن يدخل مدخل الناصحين، وقد خرج من جملة المشفقين. وكان بالجملة أوله سباب، [وآخره إعجاب] ؛ والسباب لا ينطق به كريم، والإعجاب لا يرضى به حليم. وقد نزهني الله عن المقارضة بهذا ومثله. وما أحسن قول القائل:
وتجهل أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتكلم فإن كنت أردت أن تستصلح مني بسبك فاسدا، وتستقرب من ودي باستطالتك مباعدا، فما هذه شيم يقضي بها الفضل، ولا سياسة يحكم بها العقل. وإن كنت أردت التخويف والإيعاد، والإبراق والإرعاد، فقد كفني بيت الكميت:(2/625)
أبرق وأرعد يا يزي ... د فما وعيدك لي بضائر وأنا أحد البرابرة: لا أخرج عن جماعتهم، ولا أبعد عن موافقتهم، ولا أرغب بنفسي عن نفوسهم:
وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد وفي لزوم الجماعة السداد والرشاد، والغي في الانفراد والاستبداد.
وأما قولك: " فمن كان متبوعاً قلما يستقيم أن يكون تابعاً، ومن عرف في النادي مطاعاً لم ينقلب مطيعاً، إلا أن يصادف هدي العمرين، وأجدر بذلك أن يبعد " - فقد أزريت على كل خلافة، وبينت أنك خارج عن كل فرقة، وأن غرضك المحاماة عن غزك، والمرامات دون حرزك، وليس هذا نظر مشفق، ولا قول محقق، إذ لا تتم ديانة إلا بإمامة يدعى إليها، وتجري السنن عليها، إلا في مذهب نافع بن الأرزق وعبد ربه وأشباهها.
وفي فصل منها: وما ذكرته من الذي بين الطائفتين من بني عمنا بالعدوة، فكل أمر بقدر، ولكل نبإ مستقر، والدنيا أحوال، والحرب سجال، وخيرهم وشرهم عنا بعيد، وكل من نصرك وأيدك فهو القريب الودود، وإن تفرقت الآباء والجدود. ومن شذ عن الجماعة وفارقها، ونابذها وشاقها، فهو الجاني على نفسه وعليها، والجار سوء العاقبة إليه وإليها؛ وأكثر(2/626)
الوبال واقع على الظالم، ونازل بالجارم. والله ولي التوفيق، والهادي إلى سواء الطريق.
قال ابن بسام: وذكرت بإنشاده: " وتجهل أيدينا " ... البيت ما حدثت به عن يحيى بن علي الحمودي في أيام محاربته لاشبيلية، وبعض الرجالة يعلن بثلبه، ويصرح أقبح التصريح بسبه، وهو يظن أن قد تحصن منه بالأسوار، واحتجب عنه بما دونه من حماة الذمار، فدب إليه دبيب الكرى، وساوره مساورة ليث الثرى، حتى خالطه سيفه الصقيل، ثم انصرف إلى مركزه وهو يقول:
ونشتم بالأفعال لا بالتكلم ... [وله من أخرى عنه إلى ابن منذر: واتصل بي ما وقع بينك وبين المؤتمن وأبي المنذر والموفق وعضد الدولة أبي الحسن، وأنكم اضطررتم إلى إخراج كل فريق منكم النصارى إلى بلاد المسلمين. فنظرت في الأمر بعين التحصيل، وتأولته بحقيقة التأويل؛ فعظم قلقي، وكثر على المسلمين شفقي، في أن يطأ أعداؤهم بلادهم، ويوتموا أولادهم، ويتسع الخرق على الراقع، وينقطع طمع التلاقي على الطامع. ولو لم تكن - يا سيدي - الفتنة إلا بين المسلمين، والتشاجر إلا بين المؤمنين، لكانت القارعة العظمى، والداهية الكبرى. فإذا تأيدنا بالمشركين، واعتضدنا بالكافرين، وأبحناهم حرمتنا، ومنحناهم(2/627)
قوتنا، وقتلنا أنفسنا بأيدينا، وأدتنا إلى الندم مساعينا، كانت الدائرة أمض، والحيرة أرمض، والفتنة أشد، والمحنة أهد، والأعمال أحبط، والأحوال أسقط، والأوزار أثقل، والمضمار أشمل. والله يعيذنا من البوائق، ويسلك بنا أجمل الطرائق.
ولما انتظرت أن يسفر لي ذلك الديجور، وتستقر تلك الأمور، وأبطأ ذلك عليّ، ولم يعد من قبلك رسول إليّ؛ داخلت عميد الدولة جاري في هذه الأنباء، وراوضته في علاج هذه الأدواء؛ وأنت يا سيدي للمسلمين الحصن الحصين، والسبب المتين، والنصيح المأمون، فاجر في جمع كلمتهم، والمراماة دون حوزتهم] .
له من أخرى: يا سيدي الذي قطعت بالاتصال به مدة عمري، ونظمت في أجياد علاه درر حمدي وشكري؛ ومن أبقاه الله للفضل يرسي هضابه، والعلم بذل صعابه، والمجد يؤلف مختلف، والحمد يلبس مفوفه. أنا أحمد حالاً آوتني إليك وإن كانت ذميمة، وعلةً أصحت أملي وإن كانت مليمة فقد عادت كريمة، فرب صغيرة عادت عظيمة، وهيهات:(2/628)
من رغب عن الفضل فنفسه ظلم، ومن فر من الليل أدركه حيث خيم. ومن لكل ظمآن بعذب زلال، ولكل آمل بنيل الآمال - وما كل مستسقٍ يمطر، ولا كل طالب يظفر. ولولا العلل لم تحمد الصحة، ولولا الترحة لم تطب الفرحة. وما ضاق عذر من وسعه حلمك، ولا خذل دهر من نصره عزمك. وما عشت يا سيدي عمراً لم أقطعه في ذراك، ولا نلت حظاً لم يكن بمسعاك، ولا حسن لي عمل خالف هواك، ولا لذ لي أمل لم يكن برضاك. والآن قد أمكنك استرقاق حر رائده، من حريتك، وابتناء مجد دعائمه من سروك ومروءتك، فالأبي مصحب لمرامك، والعصي مطيع لا عتزامك. وما أحسن العافية ولا كحسنها بعد البلاء، وما ألذ السعادة ولا كلذاتها بعد الشقاء، وما أنقع الورد لغلة الخوامس، وأطيب الظل للضاحي الشامس! ومن عدم الشفعاء قامت أمامه فضائلك، ومن قسا عليه الزمن لانت له شمائلك. والشمس بعد السحاب أبهى، والإمكان بعد التعذر أشهى. ومن يحسد مناوئاً، ويغبط مضاهياً، فأنا أحسد على ملاقاتك، وأغبط نفسي على مناجاتك. فإن منعت عنك عيني فقد رأتك في كل حسن تراه، وإن حزنت بالبعد منك فقد سررت بما من لقائك أتمناه. والله يدنيني من حضرة المجد، والتماح غرة السعد.
وله فصل من رقعة: وتوجه فلان إلى ما قبلك يأمل سناً فهداه، ورجاءً(2/629)
هب له نسيمه فحياه وأحياه. وإن طائراً أجري بسعدك لسانح، وإن تاجراً افتتح باسمك لرباح، وبعزماتك تنفذ الأسنة فكيف أشحذها، ولمثلك تنفع التذكرة فكيف أنبذها - وقد تهز الصوارم فتقد الدروع، وتهاج الضراغم فتفض الجموع؛ وحماك الإسلام فكيف يباح - وركنك الإيمان فكيف يزاح - وجارك الأدب فكيف يهتضم - وحزبك القرآن فكيف يغلب ويذم -
[وله فصل من أخرى عن حبوس إلى صاحبي شاطبة:
وقد عقد الله بيننا عقوداً قادها للاختيار؛ وفي طول الأمد، وتصرم المدد وتباعد الديار، وتقلب الليل والنهار، ما يحيل الأحوال، ويقطع الآمال، ويشفق منه الضنين، وتسوء منه الظنون؛ لا سيما إلى هذه الفتنة التي تبلد الحليم، وتخلط الصحيح بالسقيم. وأنا لكما الصفي الذي لا تقدح الأيام في وده، والوفي الذي لا يخشاه الأنام على عهده. وإذ لا سبيل إلى أن أؤدي معتقدي في ذلك مشافهة، فإني أنبأته مكاتبة، مع من ينطق بلساني، ويشفق بجناني، ألصق أسرتي نسباً، وأفضل خاصتي حسباً، وأصدقهم عني خبراً، وأحمدهم في السفارة أثراً، الوزير أبي فلان] .
وله في فصل: تفديك نفس نفست عنها خناق الكروب، وأنقذتها من أيدي شعوب، وأسأل الذي سنى لك الفضل عليّ، وجعل من نعمتك أكبري:(2/630)
همتي ولبي، وطبع يشكرك أصغري: لساني وقلبي، أن يجزيك جزاء من أحسن ثم عاد، ووالى فضله وزاد، كالرياض تعاهدتها العهاد؛ وألا يخيلك من فعل يكتب الذكر محاسنه على صفحات الدهر، ويصير ثاقبه في سماء الفخر، ثالث الشمس والبدر.
وله في فصل من أخرى: قد قيدني من برك وإيثارك ما أفصح عن طيب نجارك، وأوضح عندي كريم آثارك، وتعركني أرسف في قيود الامتنان، وأنوء بأعباء الإحسان. وأقعدني عن لقائك لسان حسير، وخاطر بهير، وحد كليل، ولحظ من الحياء عليل؛ وشيمة الدهر إذا صفا تكدر، وإذا عافى تنكر، وإذا سر أحزن، وإذا سهل اخشوشن، وإذا سمح بالإنعام، بخل بالتمام.
وله فصل: هذا الوقت الذي كنت أتأياه، والحين الذي ما زلت أتمناه، والزمن الذي قاسيت فيه تعب الانتظار، وقطعت إلى بلوغه مسافة الليل والنهار. وإلى مثلك يتقرب بإخلاص الوداد، ومن فضلك تجتني ثمرة [حسن](2/631)
الاعتقاد؛ ولا يجتمع رجاؤك واليأس في قلب، ولا تحل محبتك والحرمان في خلب.
وله في فصل: البدر وصوف ولا كصفة الساري به، والبحر معروف ولا كمعرفة الجاري فيه، وقد جلوت بنورك من الظلمات، واجتليت بجنابك من الأمنيات، وما وسم زماني الغفل، وصار لذلك الدهر على سائر الدهور الفضل؛ أيام ناديك محط كل مرتاد، وجارك أمنع من جار أبي دواد، إلى أن ضرب البعد بجرانه، وحكم الدهر بعدوانه، وأعاد العين أثراً، والخبر خبراً، واللقاء توهماً، والمناسمة توسماً؛ ومع ذلك فما خست بذمم فضائلك، وما أنست إلا بكرم شمائلك؛ أمزج بذكرها خطبان الخطوب فتحلولي، وأسرج بسناها في أجفان الكروب فتنجلي، وأرمي بها إذا هوى سهمي فيصيب، وأتنسم عرفها إذا خوى نجمي فيصوب.
وحاربتني الأيام عليك، فلم توجدني سبيلاً إليك؛ إلى أن طلع نجمك في مطلعه، ووقع حزمك في موضعه، وأعطيت القوس باريها، والسهام راميها، والدرر أجيادها، والغرر جيادها، وفي الشمس يقوى السعد، وفي عنق الحسناء يستحسن العقد.(2/632)
[وله من أخرى إلى ابن عبد الرحيم: طيب ثنائك ثنى إليك أنسب، وغريب وفائك أفاء عليك نفسي. والثناء النفيس شرك النفوس؛ وفعل المحبوب مصائد القلوب؛ ومن كان الفضل من أنصاره، اجتمع على إيثاره؛ حين طلعت من سماء فضلك نجومه، ونضر بك من روض رجائي هشيمه. وأنا أحمد للأيام هذه الكرة، وأستغرب من أفعالها هذه الندرة. وأحب أن يعلم سيدي أني سابق في مضمار وداده، لاظ بثنايا ارتباطه واعتقاده، أثني عليه خنصري إذا عددت واعتددت، وأبدأ به بعد البسملة إذا كتبت من وددت واعتقدت. وله - أعزه الله - الرأي العالي في قبول من أقبل عليه، والنزاع من نزع إليه. فأقسم لو كتب عني عطارد، أو جعلت لك النجوم قلائد، ما أقنع في وصف ودادي، ولا بلغت الأمل من مرادي] .
وله من أخرى إلى أبي جعفر ابن عباس، وقد زاره فلم يوفه حقه:
كلف المروءة - أبقاك الله - صعبة إلا على الكرام، وطرق الجفاء رحبة لسلوك اللئام، والأحمق يرى البر خسراناً، ويعتقد إكرام الوافدين نقصاناً، فيمنح الكثير من عرضه، ويمنع اليسير من عرضه، ويلبس درعاً وهو مهتوك بالطعن، ويجعل الكبرياء رداءه وهو مطرز باللعن؛ والكبرياء رداء الله الذي من جاذبه إياه قصمه؛ والتقى حبل الله الذي من تعلق به عصمه، وما يتكبر إلا من جهله، وعجب المرء أحد(2/633)
حساد عقله؛ والمتكبر في النفوس صغير، والمتواضع في الصدور كبير؛ والرفيع من ترفع عن الدناءات، والوضيع من ادعى لنفسه واجباً وضيع الواجبات. وجئتك زائراً، فكأني جئتك آملاً، وأردت مصافحتك فما مددت يداً، وطلبت معانقتك فخلتك مقعداً، وبعد أن هممت بالنهوض أقعدك الكسل، كأنك خمصانة أثقلها الكفل؛ وجعلت تشير بالحاجب وتلوي الشفة، وتدعي بالجهل في كل شيء معرفة. فما كان ضرك حين أخللت لو أجللت، وما كان يسوؤك حين ناظرت لو أجملت، وما كان ينقصك حين حكمت لو عدلت -
زعمت أني أخطأت في كتب " سحن الوجه " بالسين، وطمست طرق المخارج لي وهي تستبين، وهذه اللغة كلها قد طلبتها فلم أجد فيها " صحن الوجه " بالصاد، فإن أردت أن تستعير " صحن الدار " للوجه فلا يبعد أن أجعل " السحن " جمع سحنة، وهو أقرب وأعرف؛ وإن قلت إن الأكثر اتفقوا على كتابه بالصاد، فإن لمثلي أن يختار في كلام العرب ما أراد. وما أبرئ نفسي من زله، ولا أعصمها من ظهور خلة؛ فالأدب يجعل للأديب مخرجاً، ولا يجعل باب العذر له مرتجاً.(2/634)
وفي فصل منها: ومن العجب أن تنسبني إلى الشعوذة وهي حصنك إذا غلبت، وتلحنني في النطق وهي عادتك إذا كتبت. ولعمري لقد قلتها ولقد جهلتها، وتركتها وما عرفتها؛ وكما أن بركة الأشجار في الأنوار، فكذلك بركة الأدب في الرسائل والأشعار. فأين رسائلك وأشعارك، ومؤلفاتك وآثارك - هيهات هيهات: غلبك على الحق أهله، ونفاك عنه جهله؛ وكفاك ما طار لك من حسن الذكر، وطيب النشر، ولمثله فاعمل، وعلى ما كسبت منه فتوكل، فتحصد الذي زرعت، وتعلم عاقبة ما صنعت.
" وهذه نبذة من كلامه الواقع من هذا السفر، مكان الواسطة من عقد البكر، جمعها أبو الحسن في مسودة هذا التأليف، ورأيته قد ألمع منها عند التحرير بالنزر اللطيف على عادته من إيثار الاختصار واقتضاب ما يتخلص على الانتقاء والانتخاب. وقد رأيت أن أحبر منها الأوراق التي بقيت بيضا، بما يخجل الروض أريضاً، ويزري بالمسك فضيضاً، تحفظاً بتلك الآثار الكرام أن تعفو، وخوفاً على تلك الأنوار الوسام أن تخبوا ".
[ ... ] أفاز الله يا سيدي الأعلى قدحك، وجعل لمرضاته كدحك، وسدد إلى أغراض الصواب سهامك، وأورد على حياض السحاب أعلامك؛ وفتح المبهمات(2/635)
بعزمك، وأوضح المظلمات بنجمك، وأبقى المحاسن ببقاك، وسقى مواطن العلياء بسقياك.
كتابي يا سيدي، وأجل عددي، كتب الله لك السلامة، ووهب لك الكرامة، ولو تقدمني في الاعتراف بمآثرك مطنب، أو أفحمني في أوصاف مفاخرك مسهب، ما شق غباري في ودادك مجار، ولا تعلق باثآري في اعتقادك مبار. وكيف وقد حزت الغايتين من تفضيلك [وإعزازك] ، وأحرزت الفضيلتين من تبجيلك وإحرازك؛ وما انفردت من زماني بفائدةٍ توازيك، ولا استبددت من إخواني بفائدة تساويك؛ وبحسب ذلك ضني بك وشحي، ومحبتي لك ونصحي؛ وما أذكرك ما لا تذكر، ولا أبصرك ما لا تبصر؛ فأي علمٍ إلا سلكت شعابه، وأي حلم إلا ملكت رقابه؛ وإن كنت لا أورد عليك إلا ما يؤثر عنك، ولا أوفد إليك إلا ما يظهر منك، فللساعي مراده، وللداعي اعتقاده، وللمجتهد أجره، وللمقتصد عذره؛ فما أستصبح إلا من قمرك، ولا أستوضح إلا بغررك، ولا أعشو إلا لنارك، ولا أمشي إلا بأنوارك. والله يبقيك للأفضلين أسوة، ويحييك للأكرمين قدوة.
واتصل بي يا سيدي ما وسوس به الشيطان من الأمر، حتى عمد له البيان، في الفتق لأثر مسحوب وقدر مكتوب. وأنت الذي نجذته التجارب، وشحذته النوائب، وارتضع أخلاف الحروب، وامتضغ أصناف الخطوب، وعجم قناة الزمن، واقتحم غمرات المحن، بقلبٍ غير منخوبٍ ولا وهل، وعقل غير مسلوب ولا وكل، وذكاء تنكسف له ذكاء، وآراء ينكشف لها الغطاء، وعلمٍ لما تأتي وتذر، وفهمٍ بما تورد وتصدر، ومذاهب مثلها لك التحقيق، ومطالب شرحها التوفيق؛ فهي بعصمة الله محفوفة، وبنعمته مكفوفة، وعلى إرادته متوقفة، وفي طاعته متصرفة؛ فكم لك في المشركين من البلاء الجميل، وعلى المسلمين من الغناء الجزيل؛ فكم علمٍ خلدت(2/636)
وحزمٍ أيدت، وكم فضلٍ أبديت وأعدت، وكم طول بنيت وشيدت، وكم راية للدين رفعت، وغيابةٍ عن المسلمين قشعت. أفالآن يدعى للهوادة، ويسعى العادة، حين أملت للزيادة، واكتهلت في السيادة، وأرج بفخرك كل ناد، ولهج بذكرك كل حاد؛ عديم أتراب وأقران، ونديم آدابٍ وقرآن؛ لم تفتك من الفعال فضيلة، ولا شانك إلى الكمال وسيلة. ولا أعرفك من المعالي ما لا تعرف؛ ولا أصفك من المفاخر بما لا توصف؛ الألسنة عن واجبك حسيرة، والأمكنة بمناقبك معمورة، والله تعالى يزيدك علواً ومجداً، ويقيدك سمواً وجدا. وأنت لا تألو المسلمين نصحاً، ولا يعدمهم سعيك نجحاً، ولا يفقدهم هديك صفحا. فعياذاً بالله أن يسفك بك دم، ويهتك بسببك محرم، أو يهلك بطلبك مسلم؛ وأنت العالم بأمر الله، والقائم بسنة رسوله، والحاكم بما يرضاه، والعاصم بتنزيله، والمقتدي بسبيله، والمهتدي بدليله. فلا أتلو عليك من آدابه إلا ما أحكمت تأويله، ولا أجلو لك من تبيانه إلا ما قدمت تحصيله. فما مثلك من أهل الفضل [يذكر] يقول الله عز وجل: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعضٍ؛ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (التوبة: 70) .
وله عنه إلى صاحبي شاطبة: كتبت يا سيدي، ومشارب الآمال قد تكدرت، ووجوه المحاسن قد تغيرت، وأيدي التوازر قد قصرت، وسبيل التناصر قد توعرت، إلا أن يتلاقى الله الخلل بتسديد نظركما، وينعش الأمل بحميد أثركما؛ فينظم الشمل، ويصل الحبل، ويسد الثلم، ويشد الحزم، ويرقع المنخرق، ويجمع المفترق، ويضع الإصر، ويرفع الوزر، ويعيد الكلمة متفقة، والأمة متسقة، والأيدي متأيدة، والنفوس متوددة، والأهواء متعاضدة، والأنحاء واحدة، والدماء محقونة، والعاقبة مأمونة؛ والله تعالى يعين كلا على الصلاح، ويفضي بنا إلى النجاح، بعزته.(2/637)
واتصل بي ما وقع بينكما وبين المظفر أبي محمد من المتنازع، الذي أخاف أن يفضي بكم إلى التقاطع، وورد عليّ كتابكما الكريم في ذلك بما ترقبت انصرام أجله، وتنظرت انحسام علله، حتى خشيت أن يتمادى بكم اللجاج، ويتعاصى في أموركم العلاج، وأشفقت من ادلال الشيطان بمخاتله، وإطلال الخذلان بحبائله؛ فيقرع الثكلان سنه من الندم، وينطوي الحران على يده من ألم. وحالي يا سيدي في الأخذ من أحوالكم بأوفر نصيب، والتزع في أموركما بأكبر ذنوب، حال من أعدكما لحوادث الزمن، وكوارث المحن، واعتقد كما العدة الكافية، والعصمة الواقية، فيما استسر وعلن، وظهر وبطن؛ فلم أر نفسي في سعةٍ من إهمال التذكرة، وإغفال التبصرة. والله يعيد الكل من الشتات والشمات، ويعيدكم إلى المواساة والمواتاة.
ولم يخف عليكما ما في صلاح ذات البين، من الفوز بخير الدارين، وأمن العباد، وخصب البلاد، وإعزاز الدين، وإذلال القاسطين، وتوهين المشركين، وقوة العضد، ووفور العدد، ودعة الأجسام، والرعة عن الآثام، وستر العورات، وحفظ الحرمات، والانتهاء إلى حدود الله، والازدجار بزجره، والتأدب بأدبه، والائتمار بأمره؛ فإنه يقول عز من قائل {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} (الأنفال: 1) وقال (واعتصموا بحبل الله جميعاً) ... الآية (آل عمران: 103) وقال صلى الله عليه وسلم " لا تقاطعوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً وعلى طاعته أعواناً ". وقد علمتم أنه لم يهلك من هلك من الأمم الماضية، والقرون الخالية إلا بتقاطعهم وتحاسدهم وتدابرهم وتخاذلهم، وأن اللجاج مطية الجهل، والهوى آفة العقل، والحمية من أسباب الجاهلية، والعصبية من العنجهية، والحرب مشتقة المعنى من الحرب؛ مع ظنك المتغلب وكأنه المتغلب، توتم الأطفال، وتلتهم الرجال، سوق(2/638)
لا ينفق حاضروها غير النفوس والأرواح، وشرب يتعاطون المنايا بظبا السيوف وأطراف الرماح؛ مصروعهم دائر وصارعهم خاسر، وماضيهم نادم، وباقيهم واجم.
والذي يحملون من أوزارهم وأوزار مع أوزارهم، ويحتقبون من آصارهم، تسلط النصارى على المسلمين، وعيثهم في بلادهم يقتلون ويأسرون؛ فالأموال مستهلكة، والحرمات منتهكة، والدماء مهراقة، والنساء مستاقة، وعقد الدين مفسوخ، وعهد الإسلام منسوخ، والكفر عال على الإيمان، والسوء غالب على الإحسان. فقد بلغني أن مذهبكم الاستجاشة بالنصارى إلى بلاد المسلمين، يطؤون ديارهم، ويعفون آثارهم، ويجتاحون أموالهم، ويسفكون دماءهم، ويستعبدون أبناءهم، ويستخدمون نساءهم. وإن نفذ هذا - وأعوذ بالله - فهي حال مؤذنة بالذهاب، وجريرة تؤذن بالخراب؛ ولم نأمن أن يظهر لهم من الخلل في بلادنا، والقلة في أعدادنا، ما يجرئهم علينا، ويجرهم إلينا، بما لا نقدر على مكاثرتهم فيه، ولا نقوى على مصابرتهم به، فتلك الوقعة التي لا ينتعش عثورها، والقارعة التي لا ينجبر كسيرها. ولم أجد يا سيدي وعدتي دواء أنجع، ولا سعياً أنفع، من صلة يدي بيد الفتى الكبير فلان، في توسطه هذه الأحوال بينكم، والتأني، لإصلاح ما فسد منها عليكم، ولم نلف سبباً إلى كشف هذه الغيايات، وفتح هذه المبهمات، أقوى في النجاح، وأهدى إلى الصلاح، من بعث أعلام بلدنا، ووجوه رجالنا.
وكتب إلى ابن الناصر: سيدي وأعظم عددي، بقيت لمجدٍ تؤسسه، وحمد تلبسه، كتبت - كتب الله لك ما يفوت أملك - عن نفسٍ تعدك أكرم نفائسها، فلا يساويك في هاجسها، وضمير صفا لك منهله، فلا أحد قبلك ينزله، وود أحكمت لك عقده، ونظمت بك عقده؛ حقيقة أدني نظرها إليك، وخليقة وقف سرها عليك؛ فطرف اهتبالي إليك شاخص، وضمير إدلالي عليك خالص؛ والعهد الذي أنت لحرماته لاحظ، ولأماناته حافظ، ينجد لساني في المقال، ويمد عناني في الاسترسال، ويوفد إليك النصح محضاً، ويورد عليك الصدق فرضاً؛ موازرة لا أرى التخلف عنها(2/639)
ديانة، ومظاهرة لا أعد التبري منها أمانة؛ وأخوك من صدقك، وعدوك من مذقك.
واتصل بي، ما جزعت له، من لزومك مع الموفق أبي الجيش، ومن تبعكما من معاقديكما، لمفاتنة المظفر أبي محمد ومنازلته ومقارعته، واستجاشة كل حزب منكم بالنصارى، وطمعكم أن تمنعوا بهم ذماراً، وتقضوا بإخراجهم أوطاراً، وتدركوا بأيديهم أوتاراً؛ ولم يخف عليك ما يتسبب بالفتن، من البلوى والمحن، وما يكتسب فيها من الحوب، ويحتقب بها من الذنوب، وما ينوب الظالم والمنصف من معرتها، ويصيب البريء والنطف من مضرتها، وما يعم من بأسائها، ويطم من دهيائها، باحترام الرجال، وإيتام الأطفال، وإرمال النساء، وإحلال الدماء، وانتهاب الأموال، واعتساف الأهوال، وإخلاء الأوطان، وجلاء السكان، وانقطاع السبل، واتساع الخلل. هذا إذا كانت الدعوة واحدة، والشرعة معاضدة، فأما إذا انساق العدو إلينا، وتطرق علينا، وضري على أموال المسلمين ودمائهم، وجرؤ على قتل رجالهم وسبي نسائهم، وبانت له العورات، وتحققت عندهم الاختلافات، وأحدوا رحاهم، واستمدوا من وراهم، لم يكن للمسلمين بهم يعد يد، ولا عن إخلاء هذه الجزيرة بد، والله يحميها من الغير، ويكفيها سوء القدر.
وإن أحق من لم شعث المسلمين، وضم منتكث الدين، من أيد الله أولهم بأوليه، ورقع خللهم بمساعيهم ومساعيه؛ وكانت وقائعه في المشركين مشهورة، وصنائعه بالكافرين مذكورة، ومن لا تؤرخ الأيام إلا بغزواته ولا تحلى الأيام إلا بفعلاته. وأنت قاضب من تلك القواضب، وثاقب من تلك الكواكب، وغرة من تلك الأوضاع، وشعلة من ذلك المصباح، ومعلى من تلك القداح، وعامل من تلك الرماح، فحقيق عليك أن تجري إلى غاياتهم، وتعلي راياتهم، وتحمي ذكرهم، وتحيي مجدهم. وقد علمت ألا عدة أعد، ولا نجدة أنجد، من توازر القلوب، وتناصر العيون، وتضامن الأيادي، وتظاهر المساعي؛ فحينئذ يخشن الجانب، ويعن المجانب، ويصحب الأبي، ويطيع العصي. ومن خلا من صالح الأعوان، وضيع الاستظهار بأحباء الإخوان، كان أجذم الرماح، كهام السلاح، مقصوص الجناح، خائب القداح، مفلول الحد، مصلد الزند؛ والمرء كثير بأخيه، والجناح بقوادمه وخاوفيه، والانفراد في الوطن غربة(2/640)
والانقياد للآخر كربة؛ مع أن الغلبة بالتغرير والإخطار، ليست من شيم أولي البصائر والأبصار.
ومن الذي دعاك يا سيدي إلى فتنة تخوض غمارها، وتحمل أوزارها، ولا تغتبط بعقباها غالباً ولا مغلوباً، ولا تنتشط من بوساها حارباص ولا محروباً -! فإن كان وفاء لمن عاهدت، وغناء عمن عاقدت، فأدنى المساعي إلى النجح، وأولى المطالب بالكدح، وأبعد المذاهب من العيب والقدح، ما بدء بالمتاركة وختم بالصلح؛ فالله تعالى يقول: " والصلح خير " " والفتنة أشد من القتل ".
والاتفاق يا سيدي أضم للشمل، وأوصل للحبل، وأحمد فاتحة وخاتمة، وأرضى بادئه وعاقبة، وأسلم دنيا وآخرة. ومعاذ الله أن تزل بك قدم، أو يحل بك ندم، أو تزعجك إلى المجاهل لجاجة، وترهج لك في الباطل عجاجةز
وله عن تأييد الدولة أبي جعفر:
كتبت - كتب الله في قلبك ذكراً لا يمحوه نسيان، وأعذب لي من شريك ما ينسي مرارة كل خطبان - ولو أعطبت الأجسام لطافة الأرواح، لطرت إليك بلا جناخح؛ وإلا يمثل الجسم بين يديك، فالقلب مائل لديك، والنفس حائمة عليك، والأمل نزاع إليك. فهل لمولاي عطفة، تميل إلى عبده عطفه، فتقبل الثريا كفه، أم هل له إليه لحظة، تنيله الدنيا بها حظه؛ فقد طال إبعاد الليالي بلإحالة، وأوعاد آمالي بالإدالة، وأنا بينهما كالظفر يوم صفين، والخلافة يوم تحكيم المسلمين. وقد أطلت من عنان أملي ما قصر خطا العوائق، وفسحت من ميدان رجائي ما ضيق مسارح البوائق، فلا عذر لي ولم أفصل به الجوزاء عقوداً، وأنل السماء قعوداً، فالواعد حري بالوفاء، والله ملي بالعطاء.
وله: الحسب - أعزك الله - في مواطنه، كالذهب في معادنه، والشرف في الأشراف، كالدرر في الأصداف، والمجد في أهله، كالفرع في أصله؛ ومن حازت(2/641)
له آفاق المعالي تجيب؛ ورث السيادة نجيباً عن نجيب، وكان الكرم فيه كالفرند في القواضب، والضياء في الكواكبن والصفاء في الماء، والروح في الأحياء وإن لم يحظ بك العيان، ولا أسعد بقربك الزمان؛ فالرؤية بالقلب لا بالعين، والقرب بالنفس على الدنو والبين؛ ومن كان مثالك نور ناظره، وخيالك سمير خاطره، فقد قاربك مقاربة الارتياح للأرواح، بل مازجك ممازجة الماء للراح. وإذا كان المعتقد من الإخوان أوفاهم ذمة، والمعتمد عليه في الحدثان أعلاهم همة، وأحق الناس بالوفاء وارثوه، وأشبه الأتباع لتبع بنوه، وقد أعلقت ودي منك من يزكو وده، وأوثقت عقدي بمن لا ينحل على الأيام عقده، فشاري ودك بنفسه رابح التجارة، ومضيع عهدك في أمسه فاحش الخسارة. وأنا أحمد يوماً وصلني بمعرفتك، وأذم دهراً قطعني عن صلتك، واعتقدك أكرم العقد، وأعدك للأهل والولد، ولا وسيلة إلا فهمك، ولا وصيلة إلا همك؛ فما أزور الرياض إلا تشوقاً إلى شيمك، ولا ألحظ السحاب إلا تخيلاً لكرمك.
وفيما يحكيه فلان [مردد] شكرك، ومطيب ذكرك، من مآثرك الزاهرة، ومفاخرك الباهرة، شائق يحوم طير القلوب عليك، وسائق يحدو بالنفوس إليك؛ وأنت أرق نفساً وطبعاً، وأكرم أصلاً وفرعاً، من أن يجمع علي بعدك وبعد كتابك، وفقدك وفقد خطابك.
وكتب إلى صديق وقد بعث تفاحاً: لو لم تكن نفسي لك، لأهديتها إليك، ولولا أنه حقك أثبته لديك، لجلوت وجه مودتي عليك، متوجاً بطيب الذكر يرفل في حلل الشكر؛ وما عسى أن يهدي الغريق في بحار برك، والمنقطع في مضمار شكرك! لكن لك الإبداء بالفضل والإعادة، ولي الاقتداء والجري على العادة، في إهداء الحقير إلى الخطير، ومقابلة الجليل بالقليل؛ فما قصرت مقدرته، من أطالت مكارمك معذرته.
ولكلفي بشمائلك الشمولة، وشغفي بخلائقك المعسولة، بعثت بما يحكيها ولا يدانيها، ويخبر برياه وطعمه عن بعض ما فيها، تفاح قطعت حمرته وصفرته من خجلات الخدود(2/642)
ونزعت صورته شبه فوالك النهود، وختم على ألذ من سلوى النحل، وأعذب من جني النخل؛ ناسب الرياض وأفنى عمره عمرها فورثته زهرها، تذكرك أسافله سرر البطون الغلب، وطعمه لذاذة الثغور الشنب.
@فصل في ذكر الوزير الكاتب أبي جعفر أحمد بن عباس
وسياقة جملة من نثره، مع ما يتعلق من الأخبار
السلطانية بذكره
كان أبو جعفر هذا قد بذ أهل زمانه في أربعة أشياء:
المال أولاً: لم تجتمع - زعموا - عند أحد من نظرائه ما اجتمع عنده من عين وورق، ودفاتر وخرق، وآنية ومتاع، وأثاث وكراع.
والعجب: فلم يكن الفضل بن يحيى، ولا معلمه عمارة بن حمزة، ولا عبيد الله بن ظبيان، ولا مطعم بن جبير، في ذلك إلا بعض قوى سببه، وحثالة واطئ عقبه.
والبخل: حتى لو أن الجاحظ رآه ما ضرب في البخل مثلاً، ولا ذكر في رسالته رجلاً. له في ذلك أخبار تخرق سجف العادة، وتضيق عن قبول الزيادة. حدثت عن الوزير أبي محمد بن الجد، وكان امرأ صدق، أنه سافر أيام شبيبته في معسكر زهير فتى ابن أبي عامر قبل(2/643)
أن يظهر أمره، ويشتهر بصحبة السلطان ذكره؛ فرحلوا في بعض الأيام وقد خلص إلى الأحشاء برد الأجسام، وسوى برس السماء بين الغيطان والآكام، حتى كأن الأرض صفيحة حسام، أو صبير غمام؛ وغب مطر قد غادر الكثبان وعوثا، وصير المسالك تلاعاً ميثاً؛ فكبت به فرسه وقد تأخر عن صحبه، وساخت رجله في بعض ذلك الخبار فصرع لحينه. وكانت عنده فروة فنك قد أعدها لأيام الوفد، فاستظهر بها يومئذ على شدة ما كان فيه من الجهد، ومخافة من عادية ذلك البرد، فأصابه من الطين ما كاد يشككه في عيانه، وأقام عامة يومه على إصلاح ما فسد من شأن فروته وشانه. فورد العسكر وقد زاحم الليل، وبث الوزير المذكور في طلبه الخيل، فساعة رآه قال له: ما غالك، وأي شيء حبسك لا أبا لك - فطفق يقص عليه أمره وهو يضحك، وكان آخر ما راجعه به أن قال: أو ما عندك غير ذلك الفنك - ثم انتفخ في إهابه، واستدعى في قهرمان ثيابه، وقال له: كم أودعت عيابي، وأدرجت أثناء ثيابي في سفرنا هذا من الأفناك - فجاء منها بعدد، ما ظن أنها تجتمع لأحد، ولا يحيط بها ملك يد. قال أبو محمد: ولم أشك في تحصيل فروته، وجر ذيول كسوته، فوالله ما زاد على أن عدها، وأمر القهرمان فردها؛ ثم قال: يا أبا محمد، هذه ثياب سفري ومهنتي، فكيف(2/644)
لو رأيت ثياب المدينة، وملابس الزينة -!
والكتابة: وهي اقل أربعته، وعلى كل حال فله بها يد، ونفس ممتد، وفيها يوم وغد، وعدة وعدد.
وقد ذكر ابن حيان من أين غرب وطلع، وكيف طار حتى وقع، وأنا مثبت من ذلك في هذا المكان، ما يليق بهذا الديوان، بعد إثبات بعض فضائله، واستخراج ما حضرني من رسائله.
@فصول له في أوصاف شتى
من ذلك رقعة [خاطب بها أبا المغيرة ابن حزم] قال فيها:
أنهى إليّ كتابك رجل طويل القامة، صقل الهامة، بعينيه ليانة، وعلى أسنانه طرامة، وفي شاشيته وضارة، وفي منطقه لكنة صعبة، وعلى أنفه عقدة كالكبة، وفي أطواقه سعة، يخرج منكباه من أقطارها كأنها ثياب واله، أو شبارق راهب، وفي مشيته تفحج قبيح كأنه عائم في يبس؛ وعليه غفارة شفافة شبكية السيدارة، وأظن(2/645)
العمالقة غزلت صوفها زمن الفطحل، والأكاسرة تولت صباغها عام الصفر؛ كأنها الطيلسان الحربي، أو التبان السعدي. ولقيت الرجل وقد أحاط بي جمع، والتف علي قوم، فوقفت معه موقفاً كفاك الله خزيه، ولا وقفك مثله. وقد عهدتك تجري بميدان الفكاهة، وتنخرط في سلك الدعابة؛ فلما أسلم إليّ الكتاب ولحظت عنوانه، وحياني بلفظ لم أفهم لسانه، قلت: خبأها [أبو المغيرة] ورب الكعبة، وأهدى إليك بهذا الإنسان لعبة؛ ورماك عن قوس فكاهته بهيئة باذة، ودهاك من تماثيل خياله بطلعة شاذة؛ وسد تطييبك بسداد من ثغره، وطار إلى أفق تنديرك بجناح من هزله. فتماسكت وما كدت، ثم تجلدت؛ ولجأت إلى فض الكتاب، وابتغت نقلة لأستتر [بجملة أسباب] ؛ واعتصمت بعصمة خطه الموشي، ولفظه البالي؛ وصعدت في الكتاب وصوبت لأعمل لنفسي شغلاً، حتى رأيت النسب، وسمعت اللقب، فقلت: الرجل - لا محالة - عبري المنتمى، وشاهد الطلعة عدل مزكى، فوحق الطرب، وحرمة الأدب، لقد هممت أن أوفي الشطارة حقها، وأسم الخلاعة وسمها، فأجعل في يده عكاز قصبة خضراء، وفي رأسه قلنسوة بيضاء، وأضع على عاتقه خرجاً بنخالة، وأقيم من نفسي ومن حضر(2/646)
عرافةً وآلة، وآخذ به من طرق بني مردخاي على قارعة المحجة بين الناس، وأقلده سيف الباجي أبي القاسم، فإنه صفيحة مقشرة لا غرار لها ولا ظبة، كأنه قضيب صاحب اسفيريا، أو عمود نيزكي لم يحدد له زجاً؛ وهذا شرط ذلك اللعب، ففي نفوس القوم خور، لا تحمل معه السلاح إلا بخوف وحذر. وتأملت خفية فإذا بهما من كيمختٍ بال، مصدران تصدير السندال، قد انهرتت أشداقهما، وتهدلت مشافرهما، وصار عاجهما آبنوساً، ونعلهما خيالاً مرسوساً؛ فقلت: لا يزدوج طليسان ابن حرب إلا بخفي حنين، وقد كفينا ارتياد خلعة، توافق هذه الطلعة؛ ثم جمعت جراميز صبري، وأخذت بكظم نفسي، واستعذت بالله من آفة الغفلة، وشغل بالي ذلك المرأى الشنيع، والموقف المهول، وحرمت عامة نهاري من يعلمني، حتى ظفرت بمن أوسعنيه علماً، وفسره لي نصاً، فلففت رأسي حياءً منه، وتمنيت أن تضمرني البلاد عنه؛ وأدركته - لا محالة - خجلة ذلك الملتقى، فحماني زورته، ومنعني عودته، يرجم في الظن السوء؛ وإن يقل فمعذور، وإن يكن مني ما كان فغير ملوم، لأنك رميتني بآيدة الأوابد، وداهية الغبر، ومشكلة لا تنفرج بالبديهة، ولا ينفذ فيها إلا بطول الروية، وما أعجب(2/647)
شأنها إن كان وقع اتفاقاً، وأغلب الظن أن تأتيها اعتماداً.
ومن جواب أبي المغيرة عليها: وأرجع من كتابك إلى ما ركض جواد الهزل، وشهر سلاحه، ونشر علمه، وشب زبون حربه، وأوقد وطيس فتنته؛ بل إلى ما مد بساطه، وفرش أنماطه، وأدار كؤوسه، وأماط عبوسه، وحرك أوتاره، ونبه أطياره؛ بل إلى ما أقام لعبه، وحرك لعبه، وأحضر مجونه، واستجر فنونه، وزمر في بوقه، ونقر بطن دفه، ورقص على إيقاع لحنه، فقلنس في أختانه، وطرطر في قرونه، وبربر في رعي ضانه، وترهب في غير خالقه، ولم يدع من الجد طرفاً، ولا للهزل سبباً، إلا وتمسك به. فهو القائم القاعد، والغوي الراشد، في وصف القارئ بالكتاب عليك، الذي هذبه الزمان، وقاده إليك الخذلان، وحمله إليك من أنزح مكان، ليكون أتم في إلهائك، وأبلغ في إضحاكك. فالغريب من كل حق وباطل نافق، والموجود كاسد. ولم أميز من هييئته غير القامة، وأنكرت سائر ذلك من الهامة؛ فعهدي بجبينه كالصحيفة الصقيلة، وخده كمرآة الغريبة، وعينيه كناظر صقر طاوٍ على مرقب، ضفدع بنظر من خلال طحلب؛ وأنفه كغرار سيف ليس الذي قلدته به، وألقيت حمائله في عنقه، ولسانه كمخراق(2/648)
لاعب، وبصوت شبيب به نئيماً، وزجر أبي عروة همساً خفياً؛ وأثوابه تزري على اليمن بشرف صنعة صنائعها؛ وخفه لو وطئ لابسه ما أنكر مدخله، ولا تبين خلله. لطف توصل يوهمك أن السحر يمده، وقواه تشده؛ لو شاء أن يجمع بين الجن والإنس، ويضم جميع الأنواع تحت جنس، ما ارتقى صعداً، ولا لقي كبدا. فكيف انقلبت هذه العين، وانسلخت ن ذلم الزين، وصارت آبدةً تلهى،، وناردةً تجري، لولا ما هيأة سعدك، وسببه جدك - وقد قام النوروز بما وجب عليه، ولم يوجدك السبيل إليه، فارتقب من المهرجان نعتها، وانتظر فيه شكلها. وكنت أسومك مساجلتي بنظيرها، ومقابلتي بمثيلها، لكن من لي بمساعدة الزمان بقسطك، والأخذ فيه بشرطك -
ولابن عباس من رقعة إلى أهل غرناطة يقول في فصل منها: لم أعقر ناقةً رضاكم فأسخط، ولا أكلت من شجرة عقوقكم فأشحط؛ وإنما أعطيتكم صفقة الصاغية لأكرم، وانحرفت عنكم على زاوية المقة كي لا أهان، ونمت على مهاد الثقة بكم لئلا أتهم. أفاليوم يقال: جعلتنا قنطرة، وكتبت إلى صديقك كتباً مبطنة -! وكان ابن أبي موسى مواتاً نفخ الروح فيه، وعيالاً علينا فاستأثرتم به، وجعلتموني مركز دائرتكم(2/649)
في اللفظ، وعين سعايتكم في القصد، فضربتم بي أمثال السوء، إلى معانٍ طوال ألصقتم بي عارها، وطوقتموني شنارها، وانحداراً عليّ كالسيل بالليل، وتصدياً إليّ كالسهم، وتولعاً بي كأني عندكم ذنب الدهر. تلزومونني في صيد العنقاء في جحوركم، وتشترطون عليّ بيض الأنوق في بيوتكم؛ فأقروا الطير في وكناتها، واتركوا القطاة بمناها، وكونوا تجافيف الإنس، وصور الحمامات، وخيال الظل، أو {كسراب بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً} (النور: 39) .
وأما ما عددتموه من الآثار الجميلة عندي ففصل قبيح بكم إيراده، والكريم يتنزه عن مثله، والمن بالصنيعة تكفرها؛ ولقد أجهدت نفسي في خدمة هواكم، واتباع رضاكم، وصرت منقاداً لرمز حواجبكم، وتبعاً لركابكم؛ على أنني ما أكلت من حلوائكم ما يحطني في أهوائكم، ولا لمظت من دنياكم العريضة بلمظة؛ ولقد خبنا من صفقات أرباحكم، وحصلنا على الحرمان من متاجركم؛ وقنعنا بشم قتاركم، واستنشاق النسيم من تلقائكم.
وله من أخرى إلى أهل قرطبة عن زهير الفتى: أنتم - معشر الأعلام، وأكابر الرجال - غرر المصر، وبقايا هذا العصر، وموضع اقتباس النور والرأي(2/650)
والملأ المقتدى به، والمشار إليه، من حاط هذه الملة، وانتدب لصلاح الأمة، ومخض الرأي وهذبه، وألقح عقيمه ونتجه، ورفع عن هذا العالم أسباب الشبهة، وكشف لهم عن غطاء الهداية، فقد طالما خبطوا عشواء، وأخذوا بغتة، وكلب عليهم من بني زمانهم من انتدب لتجويز المحال، ولو أخذنا في عدهم، وبسط أولهم وآخرهم، لخرجنا عن غرض الخطاب إلى التأليف، وجانبنا سير القصد في الأمور إلى التصنيف. وأشد هذه العصابة المشؤومة ابن عباد، الذي سل سيف الفتنة والبغي، من قرابه، وأثار بعير الظلم من مبركه، وانتزى ببطنته أشراً، ومشى في الأرض مرحاً، وظن أن يخرق الأرض ويبلغ الجبال طولاً؛ فغزا [أهل] الإسلام في عقر دارهم، وأسقط عن نفسه حرمه الله فيهم، وأذهب ذمته، وبنى أمره على دعامة زيت، وأتى لشأنه من ظهر بيت، واستعار اسم الشهيد هشام المؤيد بالله لغير أهله، وعزاه إلى من ليس من شكله؛ فضاعف السيئة، وجاهر بالمعصية، وأتبع الرسم الداثر، وجعل حظ الناس فيه التمثيل في اسم كاذب؛ واعترض على منكريه بكهانة شق وسطيح، وآيات طسم وجديس، واحتج بكتب الجفر، ودان بالتناسخ؛ وأضاف(2/651)
إلى هذه الغرائب قراع أسماع الأغمار بها، يريهم وجدوه الاستبصار، فضلاً عمن تدرج في طبقات المعرفة، وجرى على وتيرة الدراية، وسبقت له قدم صدق في الرواية. ثم رفع السوط للسيف، فأوجع قلوب المسلمين باللسان واليد، يحكم كيف شاء في أبشارهم، وصارفهم صرف الدينار بالدراهم في أموالهم؛ لا تتخلل الموعظة قلبه، ولا تقرع التذكرة سمعه، فتارةً يأخذ النصارى واليهود بذنب التوراة والإنجيل، وأخرى يقول للمسلمين توبوا مما عسى أن يكون.
[وفي فصل منها: فإن كاذباً فيا لها حسرة، وإن كان صادقاً فما أحوج الملك إلى القطرة] ! وكتابي هذا إليكم وقد اتفقت الكلمة في وضع رأس الإمارة على كاهله، ونصل الإمامة في نصابه؛ وأعدنا الحق إلى أهله، وأصفقنا على بيعه رضىً واتفاق وطاعة لعبد الله أمير المؤمنين إدريس المتأيد بالله - أيده الله - وطهرنا المنابر من دنس تلك الدعوة المستعارة، وهتفنا بها هتف التباشر، وقامت بها الخطباء على المنابر، وانجلت الغياية عن فلق الصبح، وأقلعت الظلمة عن وضح الشمس، وأزاح - بفضله - تعالى غصة الشك، وشجى الإفك.
فاعتبروا بما ألقينا إليكم اعتباراً من يحتاط لدينه وتقواه، ويرغب(2/652)
عن الهضيمة بنفسه في دنياه؛ والرمز يكفيكم، والإيماء يغنيكم. ولم نجهل علمكم بحال الموصوف، لمعرفتنا بمكانكم من التحصيل، إذ أنتم أهل النظر والتأويل. ولما استوثق الأمر على منهاجه، واستتم الرأي على أدراجه، وهززناكم هزة التذكير ورمينا إليكم بنبذ يسير.
وله من أخرى إلى أبي المغيرة ابن حزم: قرأت الرقعة الكريمة التي ناولتنيها اليد العزيزة، فكأن البدر مدّ إليّ كفاً تخمت بالنجوم الزاهرة، أو الدهر أعطاني بها أماناً من خطوبه الجائرة؛ وعاينت وشياً منمنماً، وأبصرت ريطاً مسهماً، وطفقت ألتمس المجاراة، وأروم المباراة، فإذا شأوي حسير،وباعي قصير، وفمي ملجم، ولساني مفحم، ولأني تعاطيت أسد العرين وهو مشبل خادر، وموج البحر وهو مزبد زاخر:
وفي تعبٍ من يحسد الشمس نورها ... ويطمع أن يأتي لها بضريب لله أنت من نثرة آداب، وسليل أحساب، وسمام حاسد، وسراج محامد، إن ناضل عن الحريم حماه، وإن رمى الغرض أصماه؛ يفتح مغاليق الأمور بسياسته، ويستنزل الشارد الممتنع بلطافته.(2/653)
وفي فصل منها: ولو جاز أن يقرن مع البدن العجف، وينظم مع الجوهر الصدف، لشفعتها إليك، لكنها ممنوعة ما سألت، وغير مدركة ما طلبت، فالسادة لا تمتزج مع العبيد، والشهد لا يضاف إلى الهبيد. ورأيت ما نحلته الرسالة المعربة عن فنون البراعة، وأعرتها من بدائع الصناعة، التي لو رام نبذاً منها بديع الزمان، أو عمرو بن عثمان، لترددا يخبطان عشواء، وأصبحا في خجلة يطلبان النجاء. فدونكها عذبة اللثام، كريمة الأخوال والأعمام، بذل المهج أقل أثمانها، والعنبر الورد يسيل من أرادنها. فإن كنت حضضتني على أن أصونها في تامور الخاطر، وأكتبها على جبهة الأسد الخادر، فأعز من هذا أن أنوطها بذوائب العيوق، وأودعها الجوانح على التحقيق؛ فهي لمن تأمل در نثير، ولمن تنزه روضة وغدير؛ لنسيم الأدب فيها هبوب، ولكل قلبٍ منها نصيب؛ وقد وشحت بغرائب الكلم، ورصعت بجواهر الحكم.
ليس فيها عيب يدرك، ولا سبب يفرك، غير صدرها عن صدر فاجر نكس، ومن لسان ملحد رجس، لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ولا يؤاخي إلا كل منافق كافر؛ يسب الصحابة الأبرار، ويكذب بالجنة والنار، ولا يرجو حساباً، ولا يحذر عقاباً؛ ادعى خلافة الله فهي منه تضج، وليس أثوابها فهي عليه تعج؛ لو اتعظ بمصرع أبيه، لأقلع عما هو فيه؛ بل أشبهه حقاً فما ظلم، وتقليه نسقاً فزاد وتمم؛(2/654)
يأخذ الرشوة على بيت الله الحرام، هـ ويستخف بشرائع الإسلام؛ يهتك الحريم ويسفك الدماء، ويستصحب الأوغاد والشطار؛ بئس الشيعة وقود جهنم وحصبها، وعليهم يزداد حنقها وغضبها.
وفي فصل منها: وبقي جزء من الإطالة أسوقه إليك، وأورده عليك: أنا مقر بالمعجز لبيانك، مقبل أنجم الثريا من بنانك، راغب أن تلبسني من عفوك ثوباً أسحب أذياله، وأن تفيئني من صفحك ظلاً آمن زياله، إذ أنا سكيت هذه الصناعة التي بيدك لولؤها، ولك يدين رؤساؤها، وإليك، تعزى وتنسب، وباسمك على منابرها يخطب، وتردني لك كتب لو فوجئ بها نقاد الكلام، وجهابذة النثر والنظام، لألقوا إليها السلم، وادعوا عندها البكم. فأنى لي بمقاومتك، مع تقدمك وتخلفي، ومصارعتك، مع قوتك وضعفي -! فالواحد لا يقرن مع الكل، والفرع لا يضاف إلى الأصل. فأسلك وأستعفيك، وأضرع إلى مجدك ومعاليك، ألا ترهقني عسراً، فيظهر عجزي، ولا تحملني إصراً، فيبين نقصي؛ فإنك إمام وأنا مأموم، وأنت حاضر وأنا معدوم، وأنا قف وأنت نهر، وأنا جدول وأنت بحر.
قال ابن بسام: وسائر رسائل أحمد بن عباس ثابتة في القسم الثالث من هذا المجموع في أخبار أبي عامر ابن التاكرني، إذ تنازعا في هذه الصناعة الراية، وجريا من البلاغة فيها إلى غاية.(2/655)
@إيجاز الخبر عن مقتل أحمد بن عباس وزهير فتى بني عامر
وما اتصل به من خبر نادر
قال ابن حيان: كان سبب فساد باديس بن حبوس وجماعة قومه صنهاجة على جارهم وحليفهم القديم الحلف والولاية زهير الصقلي، فتى المنصور بن أبي عامر، موالاته لكاشحه محمد بن عبد الله زعيم زناتة. ومضى على ذلك حبوس من عداوته، وخلفها كلمة باقيةً في عقبه، أضرم زهير بعد نارها بتمادي تمسكه بالمذكور وإيفاده إليه المدد بقرمونة، واستخفافه بحق باديس، وإنزاله إياه منزظلة الأكفاء، وهيهات له من ذلك من فتى غير قليل التجربة؛ فآثر شفاء نفسه عن النظر لعاقبة أمره، وأضمر الغدر، وقدم العذر، وأرسل رسوله إلى زهير ملطفاً في العتاب، مستدعياً تجديد المخالفة، فسارع زهير إلى ذلك، وأقبل نحو باديس إقبال المستطيل عليه، المتصور له صورة اليتيم في حجره، المضطر إلى ابتاعه وموافقته، فصار في تضييع الحزم والاغترار بالعجب، والثقة بالكثرة، والانخلاع من فضيلة الرأي وفائدة التجربة، ضداً للقصد الذي قصده، وآية للغابرين بعده، إذ جاء مدلاً بجمعه وكثرته، أشبه شيء بمجيء الأمير الضخم إلى العامل من عماله؛ قد ترك رسوم الالتقاء بالنظراء المعهودة له ولمن قبله(2/656)
من التوافق على المكان، والاستظهار بآخر حدود الأعمال، غير ذلك من وجوه الحزم. فأعرض زهير عن ذلك كله، وأقبل ضارباً بسوطه، حتى تجاوز الحد الذي جرت به العادة، من الوقوف عنده من عمل باديس دون إذنه، وصير الأوعار والمضايق خلف ظهره، لا يفكر فيها، واقتحم البلد حتى وصل إلى باب غرناطة، وخرج إليه باديس في جمعه، وقد أنكر اقتحامه عليه، وعده حاصلاً في قبضته، فبدأه بالجميل والتكريم، وأوسع عليه وعلى رجاله، في القرى والتعظيم، ما مكن اغترارهم، وثبت طمأنينتهم.
ووقعت المناظرة بين باديس وزهير ومن حضرهما من رجال دولتيهما من أول يوم التقائهم، ففشا بينهما عارض الخلاف لأول وهلة، وحمل زهير أمره كله على التشطط، وخلط التغرير بالدالة، والجفاء بالملاطفة، وزعم في بعض ما يقوله أن الذي جاء به زيارة قبر حليفه وخليله حبوس، وهو قد بخل بالتعزية على ولده إثر موته. واتصلت بينهما المناظرة، والأمرار يزداد، وزهير يأبى ذلك وتهاون كأنه قد اقتدر على خصمه، ووزيره أحمد بن عباس المعجب التياه يفري في تصريح ما يعرض به زهير، إيعاد للقوم، وإغلاظاً عليهم.(2/657)
فعزم باديس عند ذلك على القتال، ووافقه قومه صنهاجة، فأقام مراتبه، ونصب كتائبه، وأرسل إلى طريق زهير فقطع قنطرةً لا محيد لزهير عنها، والحائن زهير لا يشعر، وبات تتمخض له ليلته عن راغية البكر؛ وغاداه باديس صبيحتها على تعبئة محكمة، فلم يرعه إلا رجة القوم راجعين إليه، تخفق طبولهم وهدير رقاصته الأساود، فدهش زهير وأصحابه، فيا لك من أمر شتيت، وهول مفاجئ، قسم بال المرء بين نفسه وماله، ووزع همه بين روحه ورحله! إلا أن أميرهم زهيراً أحسن ابتداء الثبات لو استتمه، وقام ينصب الحرب، فثبت في قلب عسكره، وقدم خليفته هذيلاً الصقلي في وجوه أصحابه من الموالي العامريين الفحول وعشيرته الصقلب وغيرهم لاستقبال صنهاجة. فلما رأوهم علموا أنهم حمته وشروكته، وأنهم متى خضدوها لم يثبت لهم من وراءهم، فاختلط الفريقان، واشتد بينهم القتال ملياً، فلم يكن إلا كلا، حتى حكم الله بالظهور لأقل الطائفتين عدداً ليري الله قدرته، ويجدد في قلوب عباده عبرته، فنكص في الصدمة قائدهم هذيل، والرحى عليه دائرة، إما بطعنة أردته عن متن فرسه، أو بكبوة كانت منه، وابذعر أصحابه عباديد وانهزموا، وقيد هذيل لوقته إلى باديس أسيراً، فأعجل بضرب رقبته. فما كان إلا أن نظر زهير إلى مصرعه، فانثنى عنه وفر على وجهه، فلم يستصحب ثقة، ولا انحاز إلى فئة؛ ولج به الفرار، وانهزم أصحابه(2/658)
خلفه لا يلوون على شيء، وركبت صنهاجة ولفها [ومن تبعها] من أمداد زناته أكتاف القوم، باذلين السيف فيهم بصدق العصبية وإيثار الفناء، فلم يبقوا على أحد قدروا عليه، ولا فرقوا بين أندلسي ولا جندي ولا سوقي، فأساءوا الاعتداء، وأبادوا أمة، حتى إمام فريضة زهير ولد الفقيه ابن نابل. فاستدل بقتلهم على من سواهم؛ وعلم المنهزمون أنه أخذ عليهم المضيق المعترض في طريقهم، فنكبوا وأخذوا في شعاب وعرة وجبال شامخة، ألجأهم إليها السيف، فكانت حتف من فر، وتقطعوا وتمزقت أوصالهم. وفي هذه السبيل أودي أميرهم زهير وصار ذلك سبب مجهل مصرعه واعتصم الرجالة بتلك الأوعار الأشبة.
وأما السودان من رجالة زهير فإنهم غدروه أول وهلة وعمدوا إلى خزانة سلاحه فنهبوها، ونادوا بشعار صنهاجة، وانقلبوا معهم، ووضعوا السلاح فيهم، وليست بالبدع من أفعالهم، وكانوا قطعة خشنة يتقاربون، الخمسمائة، وكان زهير يعدهم للنائبة، فكانوا أول من أعان عليه. ولؤم مقام الأندلسيين بهذا المأزق وانهزموا، فاصطلم عسكرهم. فنصر باديس، وغنم رجال باديس من المال والخزائن والأسلحة والحلية والعدد والغلمان والخيام ما لا يحاط به وصفاً ولا قيمة.
وظهر باديس في الموقعة على قومٍ من وجوه رجال زهير، فعجل على(2/659)
الفرسان والقواد بالقتل، فكان ذلك من أكبر ما صنعه لخلاف الوجه في قتال أهل القبلة. واشتمل الأسار على حملة الأقلام جميعاً، وفيهم وزيره التياه المستكبر المعجب أبو جعفر أحمد بن عباس، الجار لهذه الحادثة: قيد إلى باديس، وصدره وصدور أصحابه تغلي عليه بما أوقد من هذه النائرة، فأمر بحبسه ليستخرج منه مالاً، وشفاؤه الولوغ في دمه، وعجل عليه إلى مديدة، وحلت به الفاقرة بعد دون أصحابه من حملة الأقلام، فإن باديس عف عن دمائهم من بين أصحاب السيوف إلا من أصيب منهم في الحرب، وأما الأسرى كابن حزم وابن الباجي صاحب الرسائل وغيرهم فأطلقهم.
قال ابن حيان: أخبرني القرشي المعروف بالقط عن شيخ من شيوخ صنهاجة يسمى بلقين قال: سرت والله ليلة الوقعة إلى الرفيع ابن عباس مستنزلاً له عما كان صاحبه زهير تمادى فيه من قطيعة باديس صاحبنا، وعذلته وألطفت وقلت له: اتق الله فإنما هذا منك، وصاحبك منقاد إليك، وقد تعرفنا البركة في تألفنا، وقد رببنا به مثل هذه النعمة التي كثر عليسها حسادنا، فاستدم بنا ما نحن فيه من الاتفاق، ولا تعنق إلى الفتنة، فيزول أكثر ما تراه. ما الذي غركم من موالاة ابن عبد الله(2/660)
حتى تقاطعونا في رضاه - فأجيبوا هذا الفتى أميرنا فيما دعاكم إليه من الألفة. فجعل يستجهلني، ويجيب جواب المتبوع للتابع، وأنا أرفق به بعد أن قبلت وجهه، واستعبرت رقبةً لاستلانته، فلم يزدد بذلك إلا قسوة، وقال: دع القعقاع فليست تهولنا، وكلامي لك الليلة مثل كلامي لك أمس، والله لا نزلتم إلا على رضانا، وإلا أعقبكم على ذلك ندامة؛ " فأحفظني كلامه وقلت: يا هذا أرجع إلى الجماعة - قال: نعم وأشد منه. فانصرفت إلى أميرنا باديس ومن معه من المشيخة، وإن دموعي لتتحدر على وجهي غضباً، فلما رأوا ما بي ابتدروا سؤالي، فخبرتهم وقلت: يا صنهاجة، هذه إحدى الكبر، قوموا لدفاعها بقوة وإلا فليست داركم! فالتظت الجماعة، وسعر بلقين ابن حبوس نار أخيه باديس، فحمى الوطيس، وكان أحرص منه على الحرب، فهيأنا لها، وصبحنا القوم على تعبئة محكمة، فما زالت الشمس إلا وهم جزر مذبحة، ومغويهم ابن عباس بدنة مشعرة.
وكان سبب نجاة القائد ابن شبيب من يدي باديس، وقد أسر ذلك اليوم، أن نظر إلى ابن عباس وهو يقاد إلى بادس أسيراً، فلم يمنعه هول، مقامه أن صاح: حاجب! أسألك بالذي نصرك ألا يفلتك هذا المأبون الزاري بالخليفة! فوالله ما جنى كل هذا غيره، فليتني عاينت حتفه ولا أبالي القتل بعده. فتبسم باديس لقومه وعرف صدقه، وأمر بإطلاقه.
وحكى أحمد القيسي متقبل السكة بالمرية أن مهلك زهير وأصحابه كان(2/661)
بقدر الله على يدي أحمد بن عباس وزيره المدبر لسلطانه، إذ كان في باطنه فاسد الضمير عليه، حريصاً على إيراطه والحصول على المرية مكانه، إذ كانت داره والده عباس وحوزته، وأهلها صنائعه وخوله، وجندها تربيته، فهو يرى أن مهلكه تراثه، ويحرص على زواله.
وحدثت أن باديس لما تقدم تلك الليلة بحبس الأوعار أشعر بذلك زهير، وقال له بعض أصحابه: أطعني وقلدني عارها، وهون على نفسك هذا الخرق، وخل عنها، وتقدم إلى قوادك الليلة في الارتحال معك سراً، واتخذ الليل جملاً، فلعلك تجاوز هذه الأوعار فتخر من الورطة، فإن القوم متى تبعوك فيها دخلوا من التغرير فيما خرجت عنه، وتهيأ لك العطف عليهم بمجال فسيح يمكنك القتال فيه والتعلق ببعض حصونك. وأكثر من ذلك حتى رد عليه أحمد بن عباس قوله وقال: هذا وسواس أدخلك فيه الذعر. فقال له: ألمثل تقول هذا يا أبا جعفر وأنا فارس [ابن فارس] ، نيفت على عشرين وقعةً وأنت ما قرعتك قط وعوعة! - ستعلم عاقبة أمرك. فأجلت الوقعة عن أسره، وكان مناه الخلاص إلى المرية لينفرد بالإمارة.
وكان من جهله المأثور أن قال يومئذ للذين يحملونه إلى باديس: الله الله في حمولتي! قولوا لأبي منادٍ باديس يحتاط عليها لا تنخرم، فإن فيها قطعة دفاتر لا كفاء لها! فضحك البرابر من جهله.(2/662)
ولما سقط إلى المرية خبر زهير ملكوا بلدهم، وكاتبوا عبد العزيز بن أبي عامر، فلحق بالمرية ودخلها عفواً إثر الوقعة، وذلك منسلخ ذي القعدة سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وظفر من تركه مولاه زهير وأصحابه الصقلب المصابين معه في هذه الوقعة على أموال عظيمة، وأمتعة رفيعة تفوت الإحصاء والقيمة، أمسى فيها عبد العزيز مخرقاء وجدت صوفاً، فرط تبذير، إلى مال كثير من العين أصابه ببيت مال زهير من الورق والذهب، ووضع عبد العزيز كل ذلك غير موضعه، فتضاعفت البلية.
@مقتل أحمد بن عباس
قال ابن حيان: وكان باديس قد أرجأ قتله مع جماعة من الأسرى، وكان الرئيس أبو الحزم قد وجه رسولاً إلى باديس شافعاً في جماعتهم، مؤكداً في شأن أحمد بن عباس، وكان أبعدهم من الخلاص واعتذر في حبسهم ليمين، مغلظة، وشد صفاد أحمد، ورغب عن الرغائب المبذولة فيه، فاشتد البلاء بأحمد لفرط فزعه وثقل حديده، وامتناعه عن استيفاء الغذاء المقيم لجسمه، وتألمه من عقر القيد لظنبوبه. وظل يستعطف باديس ويشهيه بكثرة ما بذل له من الأموال في فكاك نفسه، وباديس يترجح في ذلك وقتاً، وتأبى له قوة غضبه عليه إلا شفاء بقتله، فآثر الشفاء(2/663)
منه على عظيم ما كان يعطي في فديته، وتولى قتله بنفسه [مع] أخيه بلقين إغراقاً في العداوة وتحققاً في الأنفة. فانصرف يوماً من بعض ركباته مع أخيه بلقين، فلما توسط الدار التي فيها أحمد بن عباس وقف فيها هو وأخوه بلقين وصاحبه الخاصة عليّ بن القروي لا رابع لهم، وأمر بإخراج أحمد إليه، فأقبل يرسف في قيوده، حتى أقيم بين يديه، فأقبل على سبه وتبكيته بذنوبه، وأحمد يلطفه ويسأله إراحته مما هو فيه، فقال له: اليوم تستريح من هذا الألم وتنتقل إلى ما هو أشد! وجعل يراطن أخاه بلقين بكلامه، فبان لأحمد وجه الموت منه، وجعل يكثر الضراعة لباديس ويضعف له عدد المال، فأثار غضبه وهز مزرقته، فأخرجها من صدره، فاستغاث الله عند ذلك - زعموا - وذكر أولاده، فاعتوره أخوه بلقين بزرقات كثيرة كبته لوجهه، وشركهما ابن القروي فمزقوه. وأمر باديس بحز رأسه، وووري خارج القصر. وزعموا أن القيد الذي بساقه عسر إخراجه بعد موته على خازن باديس فرض قدميه حتى، انتزعه وهما القدمان الدرمان والكعاب التي لم يخشن لها موطئ في سالف الزمان. فمضى ابن عباس [بسبيله] ، رحمه الله، على هذه السبيل، ولم تبك أرض عليه، ولا قطع ذنب عنزٍ فيه.
وكان أحمد بن عباس كاتباً حسن الكتابة، مليح الخط، جيد الخطابة، غزير الأدب، قويّ المعرفة، شارعاً في الفقه، مشاركاً في العلوم، مقتبساً للشعر من غير طبعٍ فيه، حاضر الجواب، ذكي الخاطر، جامعاً للأدوات(2/664)
الملوكية، جميل الوجه، حسن الخلقة، كلفاً بالأدب، مؤثراً له على سائر لذاته، جماعاً للدفاتر، [مقتنياً للجيد منها] ، مغالياً فيها، نفاعاً من خصه بشيء منها، لا يستخرج منه شيء للؤمه إلا في سبيلها، أثرى كثير من الوراقين والتجار معه فيها، حتى جمع منها ما لم يكن عند ملك. حكى وراقه أنه حصلها قبل مقتله بسنة، فبلغت المجلدات في التحصيل أربعمائة ألف، وأما الدفاتر المحزومة فلم يقف على عددها لكثرتها.
وكان مع ذلك أغنى ملوك الأندلس، ولا يعلم ابن ورث لأبيه ما ورثه أحمد هذا. زعم بعض من عرف أمره أن ماله العين بلغ خمسمائة ألف مثقال جعفرية، سوى فضة والآنية والحلية. وأما الأمتعة في المخازن والكسوة والطيب والفرش فبحسب ذلك. ثم حاط هو تلك النعمة بالبخل الشديد القبيح، وحماها بالإمساك الصريح، وأثلها بالاكتساب والترقيح، حتى أضعفت أضعافاً؛ ولم يوفقه الله فيها لبر مزلفٍ إليه، ولا لصنيعة مشكورة منته، بل كره الخلق فيه بالكبر والعجب، والصلف والتيه، فطمست بذلك محاسنه، ووضحت مقابحه.
وحسبك من جهله وعجبه أن عامل أهل قرطبة الذين فيهم منتماه، وهم بقية الناس، أيام دخلها مع زهير صاحبه، بأسوأ ما عنده، فحجب كبيرهم الشيخ أبا عمر ابن أبي عبدة من غير عذر، وما عرف عباس(2/665)
أبوه إلا بخدمة ابن عمه، وتنقص أديبهم أبا عامر بن شهيد ولم يك [يحسن] مستملياً. ثم أجمل وصف جماعتهم، [وقد سئل عنهم] ، فقال: ما رأيت بقرطبة إلا سائلاً أو جاهلاً. وهو مع تنقصه الخليقة أظهرها نقصاً، لم ينافس في مكرمة ولا رغب في إسداء منة، ولا لذ بنعمة شاكر، ولا هش لثناء حامد، ولا استخرج درهم من عنده إلا في سبيل الشهوات؛ فأسمن جسمه، وهزل عرضه، وأشبع بطنه، وأجاع ضيفه، يمسكه على الهون، ولعلله بالأمل.
لكي يقال عظيم القدر مقصود ... من رجل كان يطوف في مقاصيره - زعموا - على خمسمائة من مثمنات القيان، وربما لم يكن حظ الحسناء منهن عنده غير لدغة العضة، ثم لا يعود الدهر إليها، وأتهم على ذلك بعهر الخلوة للذي شهر به من قلة الجماع، إلى بخل لا كفاء له بالخبز فما فوقه، يحمل الناس عنه في ذلك أحاديث شائعة، من أحضرها ما حكاه لي الوزير أبو الوليد بن زيدون، عن ابن الباجي، كاتب الرسائل قالك دعاني ابن عباس يوماً مع خواص أصحابه إلى داره، فصرنا في مجلس ناهيك به، متشاكل الحسن في فرشه وستوره وآلته وآنيته، قد صفقت فيه فواكه غريبة وأنقال ملوكية على طوله، ما وقعت عيني قط على أكثرها منها ولا أغرب من أجناسها(2/666)
ولا أنفس من أطباقها، وقد غطي جميعها بمناديل شربٍ تبين صورها من تحتها فتصور الأعين والقلوب إليها. فأخذ يلاعبنا بالشطرنج التي كانت أغلب الشهوات عليه، فاستغرق فيها ولها عن سائر ما أردنا له، ووصل اللعب نهاره كله وبعض ليلته، لا يرفع رأسه ولا يدعو لنا بطعام ولا غيره، إلى أن جعنا وألححنا عليه في الانصراف إلى منازلنا، فبعد لأيٍ أذن لنا. فانصرفنا ولم نرزأه شيئاً مما كان أعد لنا، ولا اعتذر إلينا، ولا منا إلا من رأسي على ما حرمنا من نعيم ما بين يديه، وتعجب من قحته وبخله واستخفافه بمن دعاه.
ومن صلف ابن عباس وعجبه الذي صحبه إلى يوم محنته أنه لما قيد إلى باديس أسيراً فوقعت عينه عليه، بدأه أحمد بالابتسام وقال له: أبا مناد! رأيت أي كأس أدرتها لك على هؤلاء الكلاب -! - يشير إلى الموالي العامريين - أريد أن تتقدم إلى حفظ دفاتري فإنها أهم ما عليّ. فتجهم له باديس وقال: أمكراً عند الموت يا ابن الفاعلة - إياي تغالط! وأمر بتله إلى محبسه. فعند ذلك عرف ما يراد به، ريئس من المغالطة في جرمه.
قال أبو مروان: وبلغني أن عبد العزيز بن أبي عامر سعى على دمه ودماء المأسورين معه من أصحاب زهير عند باديس، لما حصل على المرية، وخاف أن يتخلص فيكدرها عليه. وإن آكد ما أشخص به أبا الأحوص ابن صمادح يومئذ لباديس خبر ابن عباس، فقتله انصراف ابن صمادح عنه.(2/667)
وحكى خادم باديس قال: رأيت جسد ابن عباس ثاني يوم قتل، ثم قال لي باديس: خذ رأسه مع جسده. فنبشت صداه وأضفته إلى جسده بجنب قبر أبي الفتوح قتيل باديس أيضاً. وقال لي: ضع عدواً إلى جنب عدوّ إلى يوم القصاص.
وحكي أن باديس وبلقين أخاه إذ طعنا يومئذ أحمد بن عباس ما وقع إلا عن سبع عشرة طعنة، وإنه لباقي الذماء طلق اللسان طامع في الحياة، فعجبا من قوة نفسه، وكان الظن أن يلفظها لأول طعنة، لفرط ترفهه وغضارة جسمه، فاغتاط باديس عند ذلك وأمر بقطع جسمه.
وحدثت من غير وجهٍ أن ابن عباس كان قد أولع قبل محنته ببيت من الشعر صيره هجيراه أوقات لعبه للشطرنج، أو معنى يسنح له، مستطيلاً بجده، ومكافياً بسعده، فيقول:
عيون الحوادث عني نيام ... وهضمي على الدهر شيء حرام وذاع بيته هذا في الناس وغاظهم حتى قلب له مصراع الأخير بعض الأدباء فقال " سوقظنا قدر لا ينام ". فما كان إلا " كلا " حتى تنبهت الحوادث لهضمه انتباهةً انتزعت منه نخوته وعزته، وغادرته أسيراً ذليلاً يرسف في وزن أربعين من قيده، منزعجاً من عضه لساقه البضة، التي طالما تألمت من ظغطة جوربه - غب يومٍ أصبح فيه أميراً(2/668)
مطاعاً، أعتى خلق الله على عباده، وآمنهم لمكر ربه؛ فأخذه أخذ مليك مقتدر، وسلبه نعمةً لم يكن لها كفؤاً، والله غالب على أمره.
وحكي عنه أنه نزل في بعض سفره منزلاً، واستدعى ماءً لغسل رجليه، إثر خلعه لخفيه، فقدم إليه رب المنزل الماء، وكانت عليه جبة أسماط، فمر أسفلها بقدم أحمد فتألم وتأوه لخروشتها، وكأن شيئاً لدغه، [تماجناً] ، وقال: ابعدا يا هذا فقد بردت رجلي بجبتك، إنما هي اسكلفاج وليست بساج! فخجل الرجل وأخذ في طرف من الاعتذار.
وأخباره في الكبر غريبة شائعة جداً.
وكتب إليه أبو عامر ابن التاكرني: يا سيدي، وأجل عددي، وذخيرة الأيام عندي، وفائدتها العظمى بيدي، الذي أستند إلى فضله، وأستظل من هواجر النوائب بظله، ومن أبقاه الله للأيام مقرعاً، وللخائفين مفزعاً، أحمد مسعاه، من كنت منتهاه، وحمد سراه، من كان ضيائك سناه؛ وقاد النجاح برمته، من سما إليك بهمته، وقرب منالك الجوزاء، على من امتطى إليك الرجاء، وأخصب رائد من وجدك، وأعذب وارد من وردك واعتمدك. وأتت الخيرات شفعاً من كان إليك شافعاً، ولم يعدم من الصالحات نفعاً من كان عندك نافعاً، لأن الله أحلك من حوض المجد عقره، وجمع لك بين روض(2/669)
الحمد ومطره؛ وجريت من المكارم في مضمار طالما أحرز أبوك خصله، وأويت من حفظ الذمم إلى جوارٍ شد ما عرف أولوك فضله؛ والله تعالى يزيدك من جزيل نعمه، ولا يخليك من جليل قسمه بحوله.
إلى ذمام النسب ذمام الأدب، وأوى من تأميلك إلى حصن حصين، ومت من صحبة أبيك - رضي الله عنه - بالسبب المتين، وحقيق على مصلك ممن جمع أشتات الفضل، واحتاز مكارم القول والفعل، أن يجمع بين شفاعتي والنجاح، ويؤلف بين حاله والصلاح. وفلان شاكر فضلك، وراحجي طولك، ممن يمت بوسائل، ويدني بوصائل، أنت المعين على رعيها، والمؤيد على حفظها، وحاجته حاجتي وإرادته إرادتي، وشكري لك على ما توليه وتوليني فيه، شكر يتضوع نسيمه، ويأرج شميمه؛ وهذه بكر حوائجي فاجعل مهرها القبول، وأول شفاعتي فأوسعها فضلك الجزيل، ورأيك الجميل، ناهجاً لأملي فيك السبيل، وموضحاً لرجائي لك الدليل، إن شاء الله.
@فصل في ذكر الوزير الكاتب أبي حفص عمر بن الشهيد
@وإيراد جملة مما انتخبته من نظمه ونثره
وأبو حفص هذا [في وقتنا] كان فارس النظم والنثر، وأعجوبه القران والعصر، ونهاية الخبر والخبر؛ رقم برود الكلام، ونظم(2/670)
عقود النثر والنظام. وهو إن لم يزر لملك، ولم تدر عليه رحى ملك، فليس بمتأخر عن طبقات المحسنين، ولا بسكيت حلبات الكتاب المجيدين. وقد أخرجت في هذا الفصل من بارع كلامه، في نثره ونظامه، ما يشهد برسوخ أعلامه، وشهرة أيامه.
@جملة من كلامه في أوصاف مختلفة.
من ذلك رقعة خاطب بها بعض إخوانه يقول فيها: أبثك أحدوثة عجبٍ تضحك سنك، وتطبق بالطيب وقتك، فما زالت النوادر مستغربةً لا سيما نوادر علية الكتبة: وجهت فلاناً إليّ بكتاب يخصك ما تضمنه، وكنت - علم الله - حين موافاته منزلي حليف ألم، قد أطلت عليه التململ، وأسهرني ليله الأطوال، وقد انقض عني من كان معي رجاء غفوةٍ أستشفي بها، وأسترد بعض منتي بها. فقرع الباب قرعاً منكراً يتبين الحرج فيه، ويظهر الضجر في تتاليه؛ فتداخل الخادم رعب وقالت: هو خطب؛ ثم خرجت على تحامل، بروعة جنان، ولجلجة لسان، ومنطق جبان؛ تنقل قدمها إليه على وجل:
كما يمس بظهر الحية الفرق ...(2/671)
ثم قالت: من الرجل - فأنغض رأسه نحوها وقبض على لحيته بيمنه، وأحد النظر إليها وتنهد وقال: أواه على طموس رسم الأدب! وتمثل:
أني لأفتح عيني ثم أغلقها ... على كثير ولكن لا أرى أحدا ثم أقبل على الخادم وقال: يا لكعاء، كسبت في ترفه العيش معرفة الحلو والمرّ، والخشن من اللين، وفي كل ذلك لم تحفظي بيتاً واحداً من الشعر يحسن به أدابك ويحجرك أن تقولي من الرجل - أين أنت يا لكعاء من قول أبي تمام:
يحميه لألأؤه ولوذعيته ... من أن بذال بمن أو ممن الرجل ولكنك ما علمت، حرجة الصدر، فلبك فارغ إلا من الغفلة، ولحظاته بليدة على التفصيل والجملة. أقسم لو أنك امرأة من الأزد، أسد الباس ومقاديم الناس، لرأيت لألأة الأزدية في أسرة وجهي، ولولا تحفزي للأمر الذي وردت له، لكان لي ولك خطب، ولأعطيتك قانوناً في الفراسة والزجر، ونبذت إليك بعلم من علوم الدهر، لا يلتبس عليك معه الشريف أيام عمرك. يا هذه قولي لرب المنزل يترمم لإنفاذ هذا الكتاب. فقالت له الخادم: عافاك الله، إنه عليل، ومن صبه ثقيل(2/672)
وقد برح به السهر، ولان لغفوته السمر، ولا بد من التخفيف عنه. فجرجر جرجرة العود الدبر، وتزيد من الحرج والضجر، وقال: بسل علينا معشر الأزد أن نفري ولا نخلق، أو نتوجه في أمر فلا نحقق. يا هذه، ليس هذا إيوان كسرى فنتزود لا ستخراج الحاجة به: المال والصبر والعقل؛ ومن العجب وقوفي معك منذ اليوم أضرب لك الأمثال، وأصرف المقال، وأنت لاهية عني، لا يعنيك أمري. أترين صاحبك شرب من الخمر أقداحاً، وسمع نوبات، فلما اعتدل مزاجه، وتوارت وجوه النوائب عنه، قال للدهر أدر دوائرك فإني لا أعبأ بك! - قد علمت علته؛ أقسم لو أن به ألف علة، تكون حياته من جميعها مختلة، لينفذن هذا الكتاب. قالت له الخادم: ويحك ما أجفاك من وافد الأزد! أين منك رقة الحجاز وفصاحة نجد - ما أقبح هذا العقوق، بمن شرب ماء العقيق، وأسوأ هذا الأدب، ممن ينتهي إلى ذؤابة العرب! فقال: يا لكعاء، إنك لتجادلينني عن نسي - وحياة ما نقلته من الخطى، وتجشمته من البيداء، لينفذن هذا الكتاب، أو لأشهدن عليه بالعصيان والتكاسل، والتواني والتثاقل؛ فمثلي لا يرد إلا بحزم، ولا يصدر إلا عن فضل. فقالت له الخادم: ما أسوأ تقديرك للأمور! لئن كان مخموراً خمار وصب، فهؤلاء الشهود معهم شرب، وعندهم طرب، وصاحب المدينة منه بنسب، وعلى صلة سب، فأين تذهب - فشمخ بأنفه(2/673)
وكسر من طرفه، ومدد الزفرة، وردد التلهف والحسرة، ثم قال: أفٍ للدنيا فما تزال تعنينا بمثل هذه الهنات. فلما شد على شعسه للانصراف أقبل على الخادم فقال:
قفي قبل التفرق يا ضباعا ... ولا يك موقف منك الوداعا أما إنك لولا أن تكوني باهلية الضئضئ لعرفتك. ولكن سأودع عندك أرجاً يدل على موقفي في هذه البحبوحة. أنا العتكي الحسيب والنسب، وذو الهمة والأدب، فمن سألك فقولي ما شهدت، وحدثي عما عاينت، وما أراك تجدين ظاهراً تقيمين به فرض الثناء عليّ؛ اذهبي لا محفوظةً ولا مكلوءة. ثم انحدر فما علمنا ما كان منه.
@وله من مقامة حذفت بعض فصولها لطولها
قال في صدرها: إن صناعة الكتابة محنة من المحن، ومهنة من المهن؛ والسعيد من خدمت دولة إقباله، والشقي من كانت رأس ماله، والعاقل من إذا أخرجها من مثالبه لم يدخلها في مناقبه، لا سيما وقد تناولها [يد] كثير من السوق، وباعوها بيع الخلق؛ فسلوبها تاج بهائها، ورداء كبريائها، وصيروها صناعة يكاد الكريم لا يعيرها لحظه، ولا يفرغ في قالبها لفظه؛ إذ الحظ أن يعثر الكرام إذا ولي الأعلاج، وأن تستنعج الآساد إذا استأسدت النعاج. غير أنه من وسم بسمتها(2/674)
وظهر في وسمتها، فغير مجهول مكانه، ولا مسلم له كتمانه. وما عسى أن يصنع بذي مكانة وحسب، إذا اتفق يوم سرور وطرب؛ ورغب رغبة كريم، أن يؤرخ له بمنثور ومنظوم - أقسم لو كان وجه الإنسان في صفاقة نعله، أو وقاحة حافر بغله، لما وسعه غير الإسعاف، على حكم الإنصاف وإلا لزمه اسم التبريد والجمود. وبهذا السبب دفعنا إلى النصب فيما تسمعه، وربما تستبدعه. ولئن مرت بك كلمات محاليات، تنظمها سلوك هزليات، فإنما هي أوصاف طابقت موصوفاتها، وحلى على أقدار محلياتها. والبليغ كالجوهري واجد التعب، في نظم الدر أو المخشلب، وكالصائغ واجد العناء، في سبك الصفر أو الفضة البيضاء، وكالعقاب واجد الانهواء، على الصقر أو المكاء. والعاقل من برز يوم السرور في زي الأعياد، ويوم الحزن في ثياب الحداد؛ وسيان في الفجاجة والبرد، من جد عند الهزل أو هزل عند الجد. ولا أوضح في القياس، من حركات الناس، كحركات الشموس والأقمار، في الفلك الدوار، كلما انتقلت في المنازل والبروج، عدلت بالأسطرلاب والزيج، ووقف على حقائقها، بثوانيها ودقائقها، محصورة بالحدود، في القريب والبعيد، كحركات الفقيه ابن الحديد، فإن أيامه على مناكب الأيام أردية شباب، وفي مفارقها تيجان نخوة وإعجاب.
وفي فصل منها: فدونكها عذراء، محجلة غراء، كما رفع عنها سجف الإبداع، وأبرزت من كناس الاختراع؛ تنظر بعين الغزال روع، وأويس(2/675)
بعدما أطمع. نعم، اتفق من الربيع وقت حلول الشمس في الحمل، وقام وزن الزمان واعتدل، وأخذ آذار على ما اعتاد، فحلى الوهاد والنجاد، وخلع على ظهور المروج، ضروب الدبابيج، وأثقل صدور الأشجار، بحلى النوار، واطبى نفوس الأطيار، بنضارة الثمار، فبعثت أشجانها، ترجع ألحانها، فما شئت من رمان تملأ كف العميد، من أمثال النهود، تحت القلائد والعقود، وتفتق عن أمثال الجمر، إن وصفت فكاللثات الحمر، أو ارتشفت فكالرضاب الخصر أو الخمر. ولما انتظمت للزمان هذه المحاسن، حنت نفس الفقه بسيادتها، إلى كرم عادتها، من الإحسان إلى الأتباع، والتسلية لنفوس الألاف والأشباع؛ فلما صعق الديك وصاح،واستغفر كل عبد منيب ربه وسبح، وهم بشن الغارة كمين الصبح من المشرق، واهتز الفجر اهتزاز الرمح في يمين الأفق، أطلق لسانه الفصيح، بالتهليل والتسبيح، ثم عاد بماء طهور، وأفرغه نوراً على نور، فوضاً وجهاً وضاء، يملأ العيون بهجة وسناء.
وفي فصل منها: وملنا إلى منزل بدوي، ذي هيئة وزي:(2/676)
له منزل رحب عريض مزرب ... بأعواد بلوط وطوج مفتل
" ترى بعر الآرام في عرصاته ... وقيعانه كأنه حب فلفل " فهش وبش، وكنس منزله ورش، وصير عياله إلى ناحية، وجمع أطفاله في زاوية، وجعل يدور كالخذروف أما الصفوف، يتلقى الواحد منا بعد الواحد، يأخذ بركابه، ويكشر عن نابه، ويتمثل:
أخذي كذا بركاب الضيف أنزله ... ألذ عندي من الأسفنج بالعسل
أو من رغائف كانون ملهوجة ... أو رائب بقري جيد العمل
أو من خوار عجول في مسارحها ... أو من ركوب الحمير الفره في الكفل ثم مال بنا إلى بيت مكنس، منوع مجنس، قد جلله حصراً بلدية، وغشاه بسطاً بدوية، ومد فيه شرائط وحبالاً، كأنه يريد أن يخرج خيالاً،وعلق منها غلائل وملاءات، وهمايين وسراويلات، وكم شئت من خرق معصفرة، وعصائب مزعفرة، حتى المقنعة والخمار، والدلال المستعار؛ وقد اتخذ في الحائط كوة وثانية، وملأها حقاقاً وآنية، وأودعها من عتاد العروس فاخره، ومن طيب البادية أوله وآخره، مثل حراقة الورد بالبان، وعصارة العصفر بالزعفران، وشيء من الاثمد والاسفيذاج، ومراود الزجاج، وحبات المصطكي واللبان، وغبار العفص وقشور الرمان، وكثير من سنون ذلك المكان. فقلت: يا صاحب المنزل(2/677)
هنئت وهنيت، لقد أوتيت وأوتيت؛ وجعلت أرقق عن صبوح، وأقول:
متى كان الخيام بذي طلوح ... من أين للبداوة، بهذا الرونق والطلاوة، وكيف حتى أغرت على حانوت العطار، ومتى نقل سوق البز إلى هذه الدار - لقد قرت بك الأعين، وسرت الأنفس. هذا زي العروس فأين العرس - فضحك البدوي ملء فيه، وتوسمت الازدراء فيه، وأنشد
يا أخي نحن على أن ... انتاج بدوي
سادة ناس لنا في ... هذه الدنيا دوي
عندنا إن جاء ضيف ... شبع جم وري
وسرير حشوه ري ... ش الفراريج وطي
وكرامات كثيرا ... ت وهيئات وزي ثم قام من مكانه، ودعا بصبيانه، وأغراهم بديك له هرم، ليذبحه في طاعة الكرم. فأجروه لأمهم الهاوية، من زاوية إلى زاوية، حتى سقط الديك سقوط طليح، جسماً بلا روح، فأقبلوا إليه، متهافتين عليه، وهو يضطرب اضطراب المخنوق، ويستغيث بالخالق والمخلوق.(2/678)
واتفق لفرط حنقه، ومؤلم تقلقه، أن عض على أيديهم عضة، وانتفض منهم نفضة، وصعد في بعض الجوائز، وحمد الله حمد الفائز، وتمثل:
إذا غرقت ببحر ... من الردى فياض
فلا يكن بهلاك ... عليك ظنك قاض
فليس في كل وقت ... سيف المنية ماض وحان وقت الظهيرة، فصفق بجناحيه ثنتين، وصرخ صرختين، واقتدى به المؤذنون، وتجمهر المؤذنون، حتى إذا قضيت الصلاة استصرخهم فأصرخوه، وتواثبت إليه السادة والوجوه، فقال لهم الديك أيها السادة الملوك، فيكم الشاب متع بالشباب، والأشيب نور شيبه مع الكواعب والأتراب؛ وقد صحبتكم مدة، وسبحت الله تعالى على رؤوسكم مراراً عدة، أوقظكم بالأسحار، وأؤذن بالليل والنهار؛ وقد أحسنت لدجاجكم سفاداً، وربيت لكم من الفراريج أعداداً؛ فالآن حين بلي في خدمتكم تاجي، أنعى إلى دجاجي، وتنحى الشفرة على أوداجي -! وحين أدركني الشيخ، يمزق لحمي ويطبخ - يا للكرام، من ذل هذا المقام! وجعلت دموعه تسفح من دمه، والحزن يطبق على فمه؛ ثم غشي عليه، فاجتمعت البداوة من كل ناحية إليه، يضربون وجهه بالماء، ويخلصون له في الدعاء؛ ثم أفاق من غشيته وأنشد:(2/679)
علام يقتل شيخ ... من كل ذنب بري -
محقق متحر ... موحد سني
هل نص هذا كتاب ... أو قال هذا نبي
لا ذنب لي غير أني ... مؤذن بدوي فرقت له أنفس القوم، وأقبلوا على صاحب المنزل باللوم، فقال: ويحكم، إن هذا الديك ذو فخذٍ وصدرة، وقد أصابتني عليه ضجرة؛ ولي في ذبحه سر، ولابد أن تزين به قدر، وتضرم تحته النيران، ويشبع من لحمه الضيفان؛ أما ترونه قرة العين والقلوب، سبيكة لجين محكمة التذهيب - وتمثل:
ومن شيمتي مهما تزين منزلي ... بضيف أن أقريه بأحسن ما عندي
لو إن دمي خمر لرويته به ... ولو صلحت كبدي شويت له كبدي
بذلك أوصاني أبي مذ عقلته ... وقد كان أوصاه بذا قبله جدي فقال الديك: لا أكذب، الحق طريق مستبين، واتباعه مروءة ودين؛ أما إنه لعلى خلق عظيم، كريم ابن كريم؛ غير أنه لؤم في أمري وأفرط، وغلط ما شاء أن يغلط. أما علم أن هرمات الديوك، ليست من مطاعم الملوك، وأنها بالأدوية، أشبه منها بالأغذية - وأقسم لو اتخذ برمة من فؤاد مهجور، ووضعني من مثله على تنور، لا قضى بي حاجة، ولا عدم مني نيوءاً وفجاجة؛ وإن له في بني ما لا يجده(2/680)
في، من طيب الشيم، ولذة المطعم، والتوليد لأحمر ما يكون من الدم. وأنى كالفروج اسفيدباجا، لمن أراد أن يعدل مزاجاً - فزكى قوله، كل من حوله، لم يألوه تعظيماً، واتخذوه من ذلك اليوم حكيماً، وصرف البدوي من ألطافه، ما أحسن به قرى أضيافه؛ وختم نوبة بره، بالرغبة في بسط عذره، فسمعنا منه، ورحلنا سحراً عنه.
وفي فصل منها: ولم تزل الجياد تمعج بكماتها، والشمس تنتقل في درجاتها؛ حتى أشرفنا على عين كالدينار، كأنما هندست بالبركار، ذات ماء ريان من الشنب والخصر، وحصباء كالأسنان ذوات الأشر؛ وقد حف بها النبات حفيف الشارب بفم الأمرد، وتزينت بخضرة كالمرآة الصقيلة طوقت بالزبرجد.
ومنها: فأصغيت فإذا بصوت ناقوس، في دير قسيس؛ وقرية آنة، كلها حانة؛ دار البطاريق، وملعب الكاس والإبريق؛ سائمتها الخنازير، وحياضها المعاصير، ومياهها الأنبذة والخمور؛ وشكلها مثلث مسطوح، هندسته حواريو المسيح؛ نباتها غصون من قدود، تهتز في أوراق من برود، وتثمر رماناً من نهود، وتفاحاً من خدود، وعقارب من أصداغ، وافاعي من أسورة وعقود؛ وفيها مدام من رضاب، وسقاة من كواعب أتراب، وغيد لمهوى قرط، وارتجاج لكثيب في مرط؛ وجولان لنطاق، وغصص لخلخال في ساق، وخنث في ألفاظ، ومواعيد بألحاظ، وقلوب تكلف وتشغف، ونفوس تنشأ وأخرى(2/681)
تتلف. فلما أكثر محدثنا بحضرة الفقيه، من هذا التشبيه، ومن هذه المحاسن، المحركات لكثير من السواكن، قطبنا له وجوه الاستكراه، وعضضنا له على الشفاه. فبينا نحن كذلك نكثر لغطاً، ونرى الحلول بالمسيحيين غلطاً، إذ نظرنا إلى اطراد صفوف، من أعطاف خنثة وخصور هيف، وشموس وأقمار، على أفلاك جيوب وأزرار؛ لا سيوف إلا من مقل، ولا درق إلا من خجل، ولا عارض إلا من خلوق، ولا صناعة غير تخليق، ولا اسم غير عاشق ومعشوق؛ فتشفع القسيس بحسن خدودهم، وأقسم بنعمة قدودهم، إلا جزلتم المنة، وثنيتم الأعنة، تعريجاً إلينا، وتحكماً في المال والولد علينا. فكرمت الشفاعة، وقلنا السمع والطاعة، وجلنا جولان الزنابير، على هيف الخصور، نفص بما بقي من الطريق، غص الدماليج بخدال السوق، حتى وافينا الباب، وأنحنا الركاب، وتولى تولي الحر، ضروباً من البر، غير أنه قنع بالدن وجه مدامه، تقنع الورد بأكمامه، وقضانا من الإكرام نافلة وفرضاً، وشددنا الجياد عنه ركضاً، وسرنا حتى رفع لنا في طريقنا جدر، فإذا كنيسة عارية الأطلال من الجمال، إلا تعلة المتوسم، للتخيل والتوهم، كالثوب الكريم أخلقه ابتذاله، أو كخد الأمرد تغشاه سباله، فهيج ذكراً، وأجد فكراً، فأنشدت:
وكنيسة أخذ البلى منها كما ... أبصرت فيثاً في مغار ينهب(2/682)
نمت علينا في السفارة نفحة ... من ماء كرم كان فيها يسكب
أهوى إليها بالمطي تخيل ... منا بريء والأماني تكذب
فتواقف الركبان في عرصاتها ... كل بها متحير متعجب
أنى تأتت لابن آدم قدرة ... حتى استقام وتم ذاك المنصب
ومن أي أرض كان رائع مرمرٍ ... كسواعد الغزلان فيها يجلب
كم صاد إبليس بها من تائب ... بحبائل ألقى بهن ترهب
وكم ابتنى القسيس فيها منبراً ... من جؤذر وبدا عليه يخطب
سقياً لها من دار غي لم يزل ... فيها كريم بالملاح معذب
كلاً وما زالت نجوم مدامة ... فيها بأفواه الندامى تغرب
بئس المصلى إن أردت تعبداً ... فيه ولكن كان نعم المشرب ثم أغذذنا سيراً، وكأننا ننفر طيراً؛ حتى نظرنا من السائمة تسرح في مروجها، كالعذارى تميس في دبابيجها؛ كلأ نضير، وماء نمير؛ وما زلت أروى هناك بالرائب والميس، حتى كاد كياني ينقلب إلى كيان التيس. ثم رحلنا وتذكرنا الطراد، فمشت الجياد، وتواثبت آساد، واستعد بباز وكلاب، فإذا بحر من برك، يخرقه سفين من برك، وفي السيور صقور إذا نظرت، وليوث إذا جردت، تنظر من أمثال الدنانير، وتتخطف بأشباه المرهفة الذكور، فأرسلناها إرسال سهام الأحداق، إلى قلوب العشاق، فلم نر إلا ريشاً محلوجاً، ومنسراً يحسن توديجاً؛(2/683)
ووردنا ماء في رقة النسيم، ولذاذة بنت الكروم، فشربنا وطعمنا، وقرينا سباع الفلاة، مما فضل عن الكماة؛ ونقشت على مرمرة بيضاء، ساعة وردنا ذلك الماء:
يا رب ماء عازب مجه ... مزن هزيم الودق في سبسب
زبرجد جلله مكثه ... غشاء ديباج من الطحلب
إن كان فيما قد مضى مورداً ... فللعطاش الأسد والأذؤب
باكرته مع كل ذي همة ... لا يرتضي الأفلاك عن مركب
ولغط الطير بأرجائه ... كلغط الصبية في المكتب
فانقض من أيماننا كوكب ... ذو ناظر أنور من كوكب
مكحل الآماق ذو منسر ... يسترزق الرحمن من مخلب
فاستشعر الطير هروباً وهل ... عن نازل المقدور من مهرب
فصاد ما أوسع صحبي قرى ... وفاض في الأبعد والأقرب
صيد لعمري لم يعبه سوى ... أن لم يكن نقلاً على مشرب ثم لم نزل نسري سرى النجوم في الدياجي، إذ تلقانا شاب كما ذهب عقيق خديه، ونم شاربه بالتذكير عليه، متقلد حسام كأنما طبع من لحظه لا من لفظه، على جواد ظمآن الأسافل كخصريه، ريان الأعالي كردفيه؛ تستعيذ عيون البررة من النظر إليه، وتزدحم أطماع الفجرة حواليه:
ذو مقلة شهلاء رومية ... وذو لسان عربي مبين
قلت وقد عيب بتثليثه ... مقال ذي رأي وعقل رصين
طلعته الدنيا و [يا] قلما ... يجمع للإنسان دنياً ودين(2/684)
فلما بلغنا، قبل عرف جواده، وعبراته تنسكب على نجاده. قلنا: ما لك لا أبالك - فقال: منفلت من السجن، وآبق من أهل الحصن، وعائذ من ظلمات الغواية، بنور الهداية، ومن ذل عبادة الأوثان، إلى عز عبادة الرحمن؛ ولي خبر أريد أن أقصه، ويمتن الفقيه وفقه الله أن يسمع نصه. فخرج إليه الإذن، وقيل له أدن؛ فقضى فرض التحية ونافلتها، ثم قال: أيها الفقيه، للأشياء غايات تنتهي إليها، ومقادير تجري عليها، أما والخلاق العليم، والفاطر الحكيم، الذي أسعد قوماً بالهداية وأثابهم عليها، وأشقى آخرين بالضلالة وعذبهم بها، لقد أنحلتني عبادة الطواغيت فعبدت الصليب وقرعت الناقوس، وفعلت كل ما قرت به عين إبليس؛ قدر لم يكن ليخطئني ولا يتخطاني، إلى أن استنقذني ربي وهداني؛ وأنا أشهد أيها الأشهاد أن الله إله واحد، ليس له ولد ولا والد، كان ولم تكن الأكوان: لا أرض ولا ماء ولا دخان، مخترع الكل ومنشئه، ومعبده ومبدئه، له المثل الأعلى، والأسماء الحسنى.(2/685)
@ومما وجدت له من المدائح في المعتصم بن صمادح
له من قصيدة:
لما دعتك المكرمات أجبتها ... لا وانياً عنها ولا متثاقلا
فهززت من أسد الرجال قوادماً ... وهتكت من برد الظلام حبائلا
وسريت في القمر المنير بمثله ... وجهاً وأعراقاً زكت وشمائلا ومنها في اجتماعه بصهره ابن مجاهد:
أبدى علي فرحة بمحمد ... أبدت مسالك في الصفاء جلائلا
فلئن غدا بك للقلوب مباهياً ... فلقد رأى ملكاً أغر حلاحلا
سبط اليدين كأن كل غمامة ... قد ركبت في راحتيه أناملا
وأما وحقك إنه الحق الذي ... بذ الحقوق مسامياً ومساجلا
لقد احتملنا في مغيبك لاعجاً ... أنحى على كبد وأثقل كاهلا ومنها:
تفديك أنفسنا التي ألبستها ... حللا من النعمى وكن عواطلا
كانت نواك البحر يزجر موجه ... فالآن صار لنا إيابك ساحلا
لا عيش إلا حيث أنت وإنما ... تمضي ليالي العمر بعدك باطلا
لا عطلت منك الحياة فإنها ... لولاك ما سرت لبيباً عاقلا(2/686)
وله من أخرى:
سقى كل غيث صادق البرق وابل ... منابت نوار الربى والخمائل
فروى غصوناً كالقدود تطلعت ... من أوراقها في مثل خضر الغلائل
خليلي عوجا بي على الربع دارساً ... نحي رياضاً أحدقت بجداول
ملاعب كاسات ونزهة أعين ... ومسلى لمشتاق وذكرى لغافل
وأحسن من روض تحلى بنوره ... محيا ابن معن في حلي الفضائل
جواد كأن الأرض جمعاء راحة ... له وبحور الأرض خمس أنامل
ليهن تجيباً أنها عندما اغتدت ... قبيلاً له سادت جميع القبائل
تكسد سوق الدر فيك قصائدي ... وتزري بعرف المسك عنك رسائلي
جللت فجل القول فيك وإنما ... يقد لقدر السيف قدر الحمائل
يزين شعري أنه فيك سائر ... وزين عنان الطرف يمنى المجاول وله من أخرى وكان المعتصم قد هجر النبيذ زمناً:
عسى دهرنا أن يكف الخطوبا ... ويجعل منك لكأس نصيبا
وشت حادثات الليالي بها ... فأعرضت عنها وكانت حبيبا
وكم من ذمام لها مثله ... يحل الحقود ويثني القلوبا
وأنت ابن معن على خلقةٍ ... تقيل المسيء وتمحو الذنوبا وله في من أخرى:
هجر المدام وكان يألف وصلها ... ملك جليل في الملوك عظيم
فاصفرت الأقداح من جزع ولو ... يسطعن لم يأرج لهن نسيم
وتطلع الساقي يؤمل عودة ... ليعود عهد بالكرام كريم(2/687)
وله من أخرى:
لو خيموا بظلال الضال والسمر ... لم أشك من لهب في القلب مستعر
لكن مقيلهم المرهوب جانبه ... بين السنور والهندية البتر
بحيث لا لبد إلا فوقه لبد ... ترى ولا شارة إلا على شرر
واين موقع شكوى الصب من زرد ... ومن حسام ومن ناب ومن ظفر
دون الظباء ظباً جد الصليل بها ... والرعد والبرق دون الشمس والقمر
وفي الهوادج أبشار كأن لها ... وجوه جدوى أبي يحيى على البشر
ملك له سير في الملك فاضلة ... أعيت على كتب الأخبار والسير
إذا أنامله ضمت على قلم ... يود منهرقه لو قد من بصر وقال من أخرى:
ومما شجاني في الغصون حمائم ... تجاوب في جنح الظلام حمائما
يرجعن ألحاناً لهن شواجياً ... فيرسلن أسراب الدموع سواجما
سقى الله أيكاً ما يزال حمامه ... يهيج مشتاقاً ويسعد هائما
وكم ليلة للدهر باهيت نجمها ... بنجم من الصهباء يجلو الغوائما
إلى أن رأيت الشمس في الأفق طالعاً ... كوجه ابن معن إذ يجلي المواسما
أمعتصماً بالله لقيت عصمة ... كما لم تزل من حادث الدهر عاصما
لك المثل الأعلى إذا ذكر الندى ... ودع هرماً فيما سمعت وحاتما وله أيضاً:
الخمر موصوفة بالمجد والشرف ... تعوض الخلف الباقي عن السلف(2/688)
انظر وبارك على حاس ومعتصر ... ماذا تولد بين القار والخزف
كأنما كأسها نجم على فلق ... وريحها نفس في روضة أنف
ألقيت في دنها الدنيا بأجمعها ... فليس عن صرفها قلبي بمنصرف
ولا الأمير أبو يحيى بمنتقل ... عن عادة البر والإجمال واللطف
تخالف الناس حتى في معارفهم ... وليس في خلقه خلق بمختلف
كمنت في الكون حتى لحت منه لنا ... فرد الجمال كمون الدر في الصدف
فالدهر تحت صباح غير ملتبس ... وتحت نير سعد غير منكسف
والطول منك به صفو بلا كدر ... والحكم منك به عدل بلا جنف
مكارم لم تزل تجري لغايتها ... كالسهم سدده الرامي إلى الهدف وقال أيضاً:
فشربتها كلف الفؤاد عميدا ... راحا وكانت مرة عنقودا
ختمت بطينتها وزمزم حولها ... قس وغادر بابها مسدودا
وتنوسيت فكأن صف دنانها ... في الحان أصحاب الرقيم رقودا
وكأنما الخمار كلبهم وقد ... ألقى ذراعيه وسد وصيدا
وكأن ذا القرنين أفرغ دونها ... سدا جرى قطرا وسال حديدا
صهباء ألبسها التورد مجسدا ... عجبا وقلدها الحباب عقودا
فإذا شممت فمسكة مفتوقة ... وإذا لحظت فبارقا معقودا
وإذا طعمت فريق أشنب واضح ... شف المشوق تجنبا وصدودا
حذيت على خلق ابن معن فاغتدت ... أملا وكنزا للسرور عتيدا(2/689)
أخبرني الفقيه أبو بكر ابن الوزير الفقيه أبي محمد العربي عن الفقيه أبي عبد الله الحميدي قال: كان الوزير أبو حفص عمر بن الشهيد كثير الشعر، متصرفا في القول، مقدما عند أمراء بلده، وشاهدته في حدود الأربعين وأربعمائة بالمرية، وكتبت من أشعاره طرفا، ومن شعره مما كتبته:
في صحبة الناس في ذا الدهر معتبر ... لا عين يؤثر منها لا ولا أثر
ليست تشيخ ولا يزري بها هرم ... لكنها في شباب السن تختضر
إذا حبت بينهم أطفال ودهم ... لم يترك البغي حابيهن يثغر
كأنها شرر سام على لهب ... يغدو الخمود عليه حين ينتشر
كأن ميثاقهم ميثاق غانية ... يعطيك منها الرضى ما يسلب الضجر
فلا يغرنك من قول طلاوته ... فإنما هي نوار ولا ثمر
لو ينفق الناس مما في قلوبهم ... في سوق دعواهم للصدق ما تجروا
لكن فيها نقود القول جارية ... على مقادير ما يقضى به وطر
يقضي المحنك أو يقضى لحنكته ... وبين ذاك وهذا ينفد العمر
تسابق الناس إعجابا بأنفسهم ... إلى مدى دونه الغايات تنحسر
فللتسامي ضباب في صدورهم ... وللتكبير في آنافهم نعر
وما عذلتهم لكن عذرتهم ... فالجهل ليس له سمع ولا بصر وبالسند المذكور عن الحميدي، قال: ومما كتبت له أيضاً:(2/690)
تعلم لحظك سفك الدماء ... وأنت تعلمت ألا تدي
وليتك إذ كنت لي ممرضا ... رثيت فزرت مع العود
حنانيك إن هلاك العبي ... د مما يعود على السيد
وما بي نفسي ولكنني ... أشح بمثلك أن يعتدي قال أيضاً:
يا قوم شدوا المطي واسروا ... فإن روحي بأرض قوم
نام الخليون واستراحوا ... ومن لعين الشجي بنوم
وطيب هذا النسيم ينبي ... أني أراه غداة يومي @فصل في ذكر الأديب أبي عبد الله محمد بن احمد بن الحداد
@وإيراد جملة من أشعاره وما يتشبث بها من مستطرفات أخباره
قال ابن بسام: وكان أبو عبد الله هذا شمس ظهيرة، وبحر خبر(2/691)
وسيرة، وديوان تعاليم مشهورة؛ وضح في طريق المعارف وضوح الصبح المتهلل، وضرب فيها بقدح ابن مقبل؛ إلى جلالة مقطع، وأصالة منزع، ترى العلم ينم على أشعاره، ويتبين في منازعه وآثاره، وله في العروض تأليف، وتصنيف مشهور معروف، مزج فيه بين الأنحاء الموسيقية، والآراء الخليلية، ورد فيه على السرقسطي المنبوز بالحمار، ونقض كلامه فيما تكلم عليه من الأشطار.
وأصل أبي عبد الله من وادي آش إلا أنه استوطن المرية أكثر عمره، وفي بني صمادح معظم شعره، ومع ذلك طولب عندهم هنالك؛ ولحق بثغر بني هود، وله فيهم أيضاً غير ما قصيد، وهو القائل بعد خروجه من المرية من قطعة فلسفية:
لزمت قناعتي وقعدت عنهم ... فلست أرى الوزير ولا الأميرا
وكنت سمير أشعاري سفاهاً ... فعدت لفلسفياتي سميرا(2/692)
وكان أبو عبد الله قد مني في صباه بصبية نصرانية، ذهبت بلبه كل مذهب، وركب إليها أصعب مركب، فصرف نحوها وجه رضاه، وحكمها في رأيه وهواه؛ وكان يسميها " نويرة " كما فعله الشعراء الظرفاء قديماً في الكناية عمن أحبوه، وتغيير اسم من علقوه.
وقد كتبت في هذا الفصل بعض ما قال فيها من ملحه، ورائق أوصافه ومدحه، وسائر شعره بعد تقديم فصول من نثره، ما يقر بتفضيله، ويشهد له بجملة الإحسان وتفصيله.
@جملة من نثره
فصل له من جواب عن كتاب عتاب استفتحه من قول أبي الطيب:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى محبيه بقول عداته ... وأصبح في ليل من الشك مظلم لما كان - أعزك الله - العتاب جلاء الأقذاء، وصقال الأصداء، وعقال الأدواء، وسمتني منه بوسوم، ولفحتني بسموم؛ وأسررت حسواً في ارتغاء، فأدرجت ذماً في ثناء؛ والحر يأنف من الضيم(2/693)
ويشمئز من الذيم، ولا يقتصر على الاجتراء بغير الجزاء؛ ولو ترك القطا ليلاً لنام، " وفي العتاب حياة بين أقوام ". فاصطبر لشرب صبره، وانتدب لتسوغ مقره، فمن الحكم العدل، والقضاء الفصل، أن الدغك بما لدغتني، وأجرعك ما جرعتني، غير آفك في حال، ولا مباهت بمحال، فالتمويه ليس من الخلق النبيه؛ والحر على ما ساء يصر، وكل مجر بالخلاء يسر؛ والفضل لمن حواه، لا لمن زخرف دعواه، وتحقيق البرهان غير تنميق البيان، والسؤدد في محاسن الخلال والفعال، لا في إمكان الزمان وإقبال السلطان، وقيمة كل امرئ ما يحسن: أمثال أضربها لك واضحة المناهج، ومقدمات أنشئها معك صادقة النتائج، وجمل تشتمل على تفصيل حالينا، ونبذ تشير إلى ما فيه جرينا.
وقد دهمني عتابك وإجلابك، بريح تعصف، ورعد يقصف، واستقبلني خطابك وإطنابك، بوبل يخشف، وسيل ينسف، بلغ الزبى وزاد، وغمر الربى والوهاد؛ لو أم الهلالي لاقتلع أزهاره، وطمس أنواره؛ أو اعتمد الميكالي لطم(2/694)
على قريه، وطما على سريه؛ فما ظنك بغر، على مذهبك غمر، يحتل من الأدب في صبب، لا يرد إلا بقطه، ولا يزود إلا سقطه؛ فهل عندك مرية أنه غريق أتيه، ومحتمل آذيه - تضمن صدره من برك وتقريظك ما ملأ صدري ثلجاً، وأفقي أرجاً، فحياه حمدي بنواره، وسقاه شكري من عقاره. ثم انتقل من تصفحه إلى صفاح تأنيب لامعة، ورماح تثريب شارعة، وسهام مذام، وأعلام ملام، تروع المقدام، وتدحض الأقدام؛ لكن تلقيتها في لؤم التجمل، وتوقيتها بجنن التحمل؛ وما عسى أن أقول لزعيم من زعماء حضرتي، وعميد من عمد أسرتي، وقمر من أقمار أسلاكي، ووسطى أسلاكي، يسلم له ويستسلم، ويعرض عن زاخر جفائه، ولا يلتفت إلى زبده وجفائه -
تبينت العلة الداعية إلى قعقعة شنانك، وجعجعة لسانك، ومعمعة نيرانك. ولقد أوضحت في المجلس المذكور علاءك، وأخفقت فيه لواءك، وأعقبت فيه أنباءك، غير مواطئ برمز كما أنهي إليك، ولا ملاحن بهمز كما صور لديك؛ فاملك من جماحك، واخفض من طماحك، ولا يجرجر بازلك، ولا يزمجر باسلك، فما نبح(2/695)
كلبي بدرك، ولا ستر غيمي زهرك، ولا بهرج ميزي درك؛ ولا ألحدت في آيتك، ولا حططت من رايتك؛ ووجه المحرش أقبح، وخد المورش أوقح، ورب ملوم لا ذنب له:
ومن وضعت للقول أغراض سمعه ... رمته ولم تخطئ سهام النمائم وكان الأحجى بمكانتك، والأحرى بأصالتك وركانتك، أن تمحص ما أنهي عني إليك، وتخلص ما به شبه عليك؛ ولا يبتز من حلمك هذا الابتزاز، ولا يستفز من جلدك هذا الاستفزاز؛ ولو وليت البحث قسطه، وأعطيت النظر حقهن لذكرت قول الزباء: " عسى الغوير أبؤساً "، ولتبينت أن الخائن المائن، الذي حرق ناب حرجك وحردك، وأعض أنامل ضجرك وضمدك، ولم يذهب - أهذب الله شرواه، وابعد منا نجواه - إلا ليطيش بأناتك، ويجيش من هناتك، والنيق لا يهتز لخريق، والهشيم لا يثبت لنسيم.
وفي فصل: ومطلعنا من أفق، ومرجعنا إلى تحقيق؛ وإن كنت(2/696)
أيدي الفتن قد أزعجت أسلافنا عن الوطن، واغتصبت أملاكنا إلا أسماء، واستلبت جماهيرنا إلا اللفاء، فقد أعذرت إذ أبقت بأيدينا ما أبقى مياه الصون بزرقتها وجمامها، وزهرات السرو في غضارتها وكمامها. ولم أمتدح المعتصم طالب جدىً، ولا راغب ندىً؛ على أن جميعنا رائد في رياض إنعامه، ووارد في حياض إكرامه؛ ولكني منيت بقردةٍ حسدةٍ، أعجزتهم محاكاتي، وأعوزتهم محاذاتي، فوخزوا فضلي بمثل الأشافي، ورموا عرضي بثالثة الأثاقي.
وفي فصل: ولو أني من هذه الفرقة التي مزجني بها ظلمك، وضمني إليها هضمك، وعملت عملهم على حكمك، وسلكت سبلهم على زعمك، لكان لي في تشبثك الداني، وتعلقك المجاهدي، أسنى مؤتسى، وأهدى مقتدى، فللتسامي مناقل، وللترقي منازل؛ وإن جمعتني بهم الصفات، فقد أفردتني منهم الموصوفات، وما كل بيضاء شحمة، ولا كل سوداء تمرة:
قد يبعد الشيء من شيء يشابهه ... إن السماء نظير الماء في الزرق وما كل معنى يضح، ولا كل دعوى تصح، كمثل ما تابعت إيراده، وشفعت ترداده، من أنك غرستني وبنيتني، وأقمتني وقومتني، وكلها عبارة تؤلم الأبي الحمي، واستعارة توهم السامع الشاسع، وإشارة تعجب الحاضر الناظر. ولست بمنكر معاضدتك في شأن الكتابين(2/697)
الكريمين، فهما وسميك ووليك، المتوبان بزعمك على وجه صباحك، والموصولان بأجنحة رياحك. ولن تعدم على ذلك جزيل حمدي هنالك. وحاشا لله [أن] أنكر اليد وأن صغرت، أو أكفر النعمة وإن نزرت؛ ولست بحيةٍ صماء كما أشرت، ولا بسلقةٍ طلساء كما عرضت.
ولو غير أعمامي أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما وما أفصح تبيانك لفهاهتي، وأوضح برهانك على جهالتي، في تلويحك بل يتصريحك، أني لم أرم ذراي، ولا برحت مثواي، ولا أعملت لي رحلة للعلماء، ولا هجرة للفهماء. فيا للأدب لهذا العجب، ما أكثر إجحافك، وأقل إنصافك! كأنك جهلت أن العلماء بمصري متوافرون، والمشيخة الجلة به متكاثرون، وأن فنون العلم به تلتمس، ومن أنواره تقتبس، واليه كانت أولاً وفادتك، ومنه عظمت إفادتك. وأما زعمك أن الدهر لو عضني والخبر لو عجمني، لتبينت أن بحري ضحضاح، وأن إصباحي مصباح؛ فليس بأول جنفك، ولا ببدعٍ من سرفك؛ إن التقدم بالأذهان لا بالأسنان، والتفهم بالأفهام(2/698)
لا بتكاثر الأعوام، والمرء بأصغريه، والحسام بغراريه، وةالسقط يحرق الحرجة وهو حقير، والناظر يخترق الفلك وهو صغير. وأما الامتحان فذهني إبريز ناره، ولبي تبريز مضماره، وطالما فوضلت ففضلت، ونوضلت فنضلت، وقد أنصف القارة من راماها، والحلبة من جاراها، وإن قلت المذكية لا تقاس بالجذاع، فإني أقول: في الإجراء من مائة ترك الخداع، وكشفت القناع:
وتخفى السوابق من غيرها ... إذا لم تضم إلى مقبض وإذا شئت فنحك ذكاء لا تخبو ناره، ولا تنبو شفاره، وبهرك مضاء لا تطيش سهامه، ولا تخفق أزلامه، وإن كنت على زعمك عوداً لا يقلح، فالحديد بالحديد يفلح.
وفي فصل: فتحقق أني مكدر الشموس التي تكسفها، ومغور(2/699)
البحار التي تنزفها، وأنا أخلع عليك حظي من الفهم الأدبي والعلم الشعري، ولم أجعلها غرضاً، فلم ألمحهما، إلا عرضاً؛ وكذلك أناقض زهوك، وأخالف بأوك وأعترف لتعديك، لعلي أرضيك. وإني لا أضرب بسهمٍ في فهم، ولا أختص بقسم في علم، ولا آخذ بحظ في لفظٍ، ولا ألم بمغنىً لمعنىً، ضيق العطن في الفطن، عالم باضمحلال خيالي، ونضوب أوشالي، منقطع الرجاء عن تثنية واحدتك، وتقفية قافيتك، واعتراض عروضك. ولله أنت! لقد أغربت بعنقائك، [وبرزت] ببلقائك، فلا داحس لغبرائك، ولا مباري لغرائك. إلا أن الحسناء لا تعدم ذاما، وبليق مع جريه لا يفقد ملاما؛ فكم ندي قضى منتدوه، وحكم مشاهدوه، أن يتيمتك هذه منحلة من إحدى بناتي، وحقيقتك منتخلة من بعض خيالاتي. وزعموا أنك في لواحبها سلكت، وعلى قوالبها سبكت، وما زدت على أن مسخت راءها نوناً، وصيرت أبكارها عوناً. ومن الظلم الجم أن تجعل نصري خذلاناً، وعضدي عدواناً؛ وكل سمع قولي: إن بحر الوزير أزخر من أن يستمد بجزري، وعلمه أوفر من أن يستكثر بنزري، وفضله أبرع من أن يختلس من حلاي، وشمسه أرفع من أن تقتبس من سهامي؛ والاتفاق غير نكير، فقد جرى لهمام(2/700)
وجرير، وقبلهما للكندي والبكري.
وفي فصل: وهذه نزغات الحاسدين، ونتغات المنافسين، فأعرض عن فندهم، ولا تحفل بعندهم، وقل في قولهم قول الأحنف في مثلهم:
عثيثة تقرض جلداً أملسا ... ومن قال سمع، ومن قرع قرع، ومن جمع كبح، ومن زهي ازدري؛ فلا تسمع ممن يقصد إسماعك، ويعتمد إيجاعك، فلو فحصت لما انتقصت، ولو تحققت لما تدفقت، فرب غيث عاد عيثا، وعجلة تهب ريثا؛ فقد تعاطينا كأس النصف فلنجدع أنف الأنف، ولنطفئ سقط الشنف، ولنمح السالف بالمؤتنف، فقد بردت كبد الإخلاص، وانتهجت سبيل الاستخلاص، وانصقلت ماوية الصفاء، وتوثقت آخية الإخاء، فلا يختلج بهاجسك، ولا يخطر بخاطرك، أن هفوات هذه الهنوات تغص أجفاني عن لحظ سناك، أو تخرس لساني عن إيضاح علاك، وعلى ما خيلت، أن أنفصل من تقديمك، وأن أنفك من تعظيمك.(2/701)
وله من أخرى إلى ابن الحديدي بطليطلة: قد سطع - أعزك الله - من سناك وسنائك، وتضوع من نثاك وثنائك، وانتشر من علاك وحلالك، ما ضمخ مسكه اللوح، وستر نوره يوح؛ فسور سيرك تتلى في منازل الفضائل، وصور غررك تجلى في محافل الأفاضل؛ ولا غرو أن تنزع الأنفس الشاسعة تلقاءك، وتتمنى لقاءك؛ ولا بدع أن تمتد الأعين النازحة إليك، وتود أن تقع عليك، فالفضل موموق، والنفيس مرموق، وحرص الحوباء على مشافهة الأخلاء يقضي عليها باقتداح زند المخاطبة، واستفتاح غلق المكاتبة، وإذا عدم التناطق، فقد وجب التباطق، ولو أن التكاتب لا يقع إلا بعد وقوع طير التعارف، على ماء التآلف، وتفيؤ النفس، ظلال الأنس، لا نسدت أبواب المواصلة، وانبتت أسباب المراسلة. وما زلت مذ تنسمت أرج ذكراك، وتوسمت نهج علياك، أصبو إليك صبو الهائم، وأظمأ ظمأ الحائم، وأرتقب للإمكان صالحة أتوصل بها إلى مجاراتك في ميدان الاستدلال، وأتوسل بها إلى معاطاتك أفنان الالتئام والاتصال، والزمن يأبى إلا اللي، فينهد العوائق إلي، إلى أن دهمني من ضروب خطوبه بعجائب، واستقبلني(2/702)
من صنوف صروفه بغرائب، قذفتني من سمائي، وسقتني غير مائي، فأيدي التغرب تتعاطاني، وأقدام النوب لا تتخطاني. والله يحسن العقبى، ويعقب الحسنى، بمنه.
وله من أخرى: قد كنت خاطبتك في أمر فلان، وجلوت إليك معه خبري، وشكوت إليك عجري وبجري، لتنظر كيفية حاله، ولعلك تصرفه عن محاله. فما أصرت بنهرك زبدا ولا حببا، ولا أثرت لمهرك عنقا ولا خببا، ولا سلكت لشعبك صعدا ولا صببا، ولا فككت لسعيك وتدا ولا سبا. وعهدتك - أبقاك الله - أنفذ سهامي، وأقتل سمامي، فما الذي عاق بدارك إلى رغباتي، وسكن مثارك في طلباتي - فعودا إلى معترفاتك، وجريا على قديم عاداتك، في أن تعمل حيلك البابلية، وهدايتك اللاهوتية، وألطافك الناموسية، ودقائقك البطليموسية؛ فعساك أن تطلق ربقي، وتعتق رقي.
وله من أخرى إلى أبي بكر الخولاني المنجم: لو أنصفك الزمان الذي أنت غرة أيامه، ودرة نظامه، لكنت أحق بالسرطان من الزبرقان، وأولى بالميزان من كيوان، وأحجى بعلو المراتب من سائر الكواكب، فما زلت لفلك علمها مركزا، ولمدى فهمها محرزا. ولو ميز الزمان ضياء جوهرك، وصفاء عنصرك، لما عداك عن العروج، إلى فلك البروج؛(2/703)
وأرجو أن هذا زمانه، وقد آن أوانه، فقد ظهرت له دلائل، وشهدت له مخائل. فكأني بك من ذات الصدع، إلى ذات الرجع، على كبد الجزع، فيا ليت شعري هل يتمارى فيك، فيقول من يصافيك: ما رشق ولا مشق، ولكنه شبه وموه. أوردنا الله خير موارد النجاة والهدى، وعصمنا من الضلالة والردى، بمنه.
وله أيضا: يا سيدي الذي هو قسيم ذاتي إن تحققت الذوات والنحائز، وشقيق نفسي إن تبينت الخلائق والغرائز، ومن أبقاه الله بقاء الفرقدين، في تدبير السعدين؛ بيننا - أعزك الله - من التحام المقة واستحكام الثقة، ما أربأ عن تضمين الصحائف، ولو قدت من السوالف، وأنزهه عن اشتمال المداد، ولو كان من دم الفؤاد، فصفاؤنا شمسي النقاء، ووفاؤنا فلكي البقاء، ولا تضمن الطروس، غلا ما لحقه. وكتابي بعد إثر إتحافك لي بكتابين كالنيرين، فإن كان القمر ويوح، لإنارة اللوح، فهذان لجلاء الأذهان.
@وهذه أيضا جملة من شعره في أوصاف شتى
ومن ذلك ملحه في نويرة، قال:
ورأت جفوني من نويرة كاسمها ... نارا تضل وكل نار ترشد
والماء أنت وما يصح لقابض ... والنار وفي الحشا تتوقد(2/704)
وقال أيضا:
قلبي في ذات الأثيلات ... رهين لوعات وروعات
فوجها نحوهم إنهم ... وإن بغوا قبلة بغياتي
وعرسا من عقدات اللوى ... بالهضبات الزهريات
وعرجا يا فتيي عامر ... بالفتيات العيويات
فإن بي للروم رومية ... تكنس ما بين الكنيسات
أهيم فيها والهوى ضلة ... بين صواميع وبيعات
وفي ظباء البدو من يزدري ... بالظبيات الحضريات
أفصح وحدي يوم فصح لهم ... بين الأريطى والدويحات
وقد أتوا منه إلى موعد ... واجتمعوا فيه لميقات
بموقف بين يدي أسقف ... ممسك مصباح ومنساة
وكل قس مظهر للتقى ... بآي إنصات وإخبات
وعينه تسرح في عينهم ... كالذئب يبغي فرس نعجات
وأي مرء سالم من هوى ... وقد رأى تلك الظبيات
فمن خدود قمريات ... على قدود غصنيات
وقد تلوا صحف أناجيلهم ... بحسن ألحان وأصوات
يزيد في نفر يعافيرهم ... عني وفي ضغط صباباتي
والشمس شمس الحسن من بينهم ... تحت غمامات اللثامات
وناظري مختلس لمحها ... ولمحها يضرم لوعاتي(2/705)
وفي الحشا نار نويرية ... علقتها منذ سنيات
لا تنطفي وقتاص وكم رمتها ... بل تلتظي في كل أوقاتي
فحي عني رشأ المنحنى ... وإن أبى رجع تحياتي وقال أيضاً:
حديثك ما أحلى فزيدي وحدثي ... عن الرشأ الفرد الجمال المثلث
ولا تسأمي ذكراه فالذكر مؤنسي ... وإن بعث الأشواق من كل مبعث
وبالله فارقي خبل نفسي بقوله ... وفي عقد وجدي بالإعادة فانفثي
أحقاً وقد صرحت ما بي أنه ... تبسم كاللاهي بنا المتعبث
وأقسم بالإنجيل إني لمائن ... وناهيك دمعي من محق محنث
ولابد من قصي على القس قصتي ... عساه مغيث المدنف المتغوث
فلم يأتيهم عيسى بدين قساوة ... فيقسو على مضنى ويلهو بمكرث
وقلبي من حسن التجلد عاطل ... هوى في غزال الواديين المرعث
سيصبح سري كالصباح مشهراً ... ويمسي حديثي عرضة المتحدث
ويغري بذكري بين كأس وروضة ... وينشد شعري بين مثنى ومثلث وقال أيضاً:
صنت اسم إلفي فدأباً لا أسميه ... ولا أزال بإلغازي أعميه
وصاحبي عددي قد رمزت به ... بذكر أعداد ما تحوي مبانيه(2/706)
فجذر أوله ربع لآخره ... وجذر آخره ربع لثانيه
وإن ثانيه خمس لثالثه ... فافهم فقد لاح للأفهام خافيه وقال أيضاً:
أما الذي بي فإني لا أسميه ... لكن سألقي رموزاً جمةً فيه
إذا أردت من الأعداد نسبته ... فجذر أوله عشر لثانيه
وإن أضفت إلى ذي الجذر رابعه ... رأيت ثالثه زهراً معانيه
ونصفه أولعت أخت الرشيد به ... فقد تبين ماضيه وباقيه وله فيها أيضاً:
عساك بحق عيساك ... مريحة قلبي الشاكي
فإن الحسن قد ولا ... ك إحيائي وإهلاكي
وأولعني بصلبان ... ورهبان ونساك
ولم آت الكنائس عن ... هوى فيهن لولاك
وها أنا منك في بلوى ... ولا فرج لبلواك
ولا أسطيع سلواناً ... فقد أوثقت أشراكي
فكم أبكي عليك دماً ... ولا ترثين للباكي
فهل تدرين ما تقضي ... على عيني عيناك
وما يذكيه من نار ... بقلبي نورك الذاكي -
حجبت سناك عن بصري ... وفوق الشمس سيماك
وفي الغصن الرطيب وفي ال ... نقا المرتج عطفاك(2/707)
وعند الروض خداك ... ومن رياه رياك
نويرة إن قليت فإن ... ني أهواك أهواك
وعيناك المنبئتا ... ك أني بعض قتلاك وقال أيضاً:
وبين المسيحيات لي سامرية ... بعيد على الصب الحنيفي أن تدنو
مثلثة قد وحد الله حسنها ... فثني في قلبي بها الوجد والحزن
وطي الخمار الجون حسن كأنما ... تجمع فيه البدر والليل والدجن
وفي معقد الزنار عقد صبابتي ... فمن تحته دعص ومن فوقه غصن
وفي ذلك الوادي رشاً أضلعي له ... كنائس، وقمري فؤادي له وكن وله فيها أيضاً:
رويدك أيها الدمع الهتون ... فدون عيان من أهوى عيون
يظن بظاهري حلم وفهم ... ودخلة باطني فيه جنون
إلى كم أستسر بما ألاقي ... وما أخفيه من شوقي يبين
نويرة بي نويرة لا سواها ... ولا شك فقد وضح اليقين وله فيها من قصيدة:
ومن جرحته مقلتاك نويرة ... فليس يرجي من جراح الأسى أسوا
أرى كل ذي سلوى رآك متيماً ... فما أكثر البلوى بحسنك والشكوى
ونار الأسى تخبو بقرب نويرة ... ومن لي بأن آوي إلى جنة المأوى(2/708)
وقال فيها أيضاً:
وفي شرعة التثليث فرد محاسن ... تنزل شرع الحب من طرفه وحيا
وأذهل نفسي في هوى عيسوية ... بها ضلت النفس الحنيفية الهديا
فمن لجفوني بالتماح نويرة ... فتاة هي المردى لنفسي والمحيا
سبتني على عهد من السلم بيننا ... ولو أنها حرب لكانت هي السبيا واسمها على الحقيقة " جميلة " ولذلك قال فيها:
أتعلم أن لي نفساً عليله ... وأشواقاص مبرحة دخيله -
وفي طي الجميلة ريم إنسٍ ... رمزت بها فلله الخميله فصحف اسمها كما تراه، وجرى في وصفها طلق الجموح فلم يف شرط الكتاب بمداه.
@ما أخرجته من المدائح في أميره ابن صمادح
من ذلك قصيدة أولها:
لعلك بالوادي المقدس شاطئ ... فكالعنبر الهندي ما أنا واطئ
وإني في رياك واجد ريحهم ... فروح الهوى بين الجوانح ناشئ(2/709)
ولي في السرى من نارهم ومنارهم ... هداة حداة والنجوم طوافئ
لذلك ما حنت ركابي وحمحمت ... عرابي وأوحى سيرها المتباطئ
فهل هاجها ما هاجني أو لعلها ... إلى الوخد من نيران وجدي لواجئ
رويداً فذا وادي لبينى وإنه ... لورد لباناتي وإني لظامئ
ميادين تهيامي ومسرح ناظري ... فللشوق غايات به ومبادئ
ولا تحسبوا غيداً حمتها مقاصر ... فتلك قلوب ضمنتها جآجئ
محاملة السلوان مبعث حسنه ... فكل إلى دين الصبابة صابئ
فكيف أرفي كلم طرفك في الحشا ... وليس لتمزيق المهند رافئ
وما لي لا أسمو مراداً وهمة ... وقد كرمت نفس وطابت ضآضئ
وما أخرتني عن تناه مبادئ ... ولا قصرت بي عن تباه مناشئ
ولكنه الدهر المناقض فعله ... فذو الفضل منحط وذو النقص نامئ
كأن زماني إذ رآني جذيله ... قلاني فلي منه عدو ممالئ
فداريت إعتاباً ودارأت عاتباً ... ولم يغنني أني مدار مدارئ
فألقيت أعباء الزمان وأهله ... فما أنا إلا بالحقائق عابئ
ولازمت سمت الصمت لا عن فدامة ... فلي منطق للسمع والقلب مالئ(2/710)
ولولا علا الملك ابن معن محمد ... لما برحت أصدافهن الآلئ
لآلئ إلا أن فكري غائص ... وعلمي دأماء ونطقي شاطئ
تجاوز حد الوهم واللحظ والمنى ... وأعشى الحجى لألاؤه المتلالئ
فتنعكس الأبصار وهي حواسر ... وتنقلب الأفكار وهي خواسئ أنشده هذه القصيدة سنة خمس وخمسين، وأخذ عليه أنه همز فيها ما لا يهمز فقال:
عجبت لغمازين علمي بجهلهم ... وإن قناتي لا تلين على الغمز
تجلت لهم آيات فهمي ومنطقي ... مبينة الإعجاز ملزمة العجز
ولاحت لهم همزية أوحدية ... وويل بها ويل لذي الهمز واللمز
رموها بنقص بينت فيه نقصهم ... ومن لمس الأفعى شكا ألم النكز
وإن أنكرت أفهامهم بعضها همزها ... فقد عرفت أكبادهم صحة الهمز وقال من أخرى:
أقبلن في الحبرات يقصرن الخطا ... ويرين في حلل الوراشين القطا
سرب الجوى لا الجو عود حسنه ... أن يرتعي حب القلوب ويلقطا
مالت معاطفهن من سكر الصبا ... ميلا يخيف قدودها أن تسقطا
وبمسقط العلمين أوضح معلم ... لمهفهف سكن الحشا والمسقطا
ما أخجل البدر المنير إذا مشى ... يختال والخوط النضير إذا خطا!(2/711)
ومنها:
يا وافدي شرق البلاد وغربها ... أكرمتها خيل الوفادة فاربطا
ورأيتما ملك البرية قاطبا ... ووردتما أرض المرية فاحططا
يرمي نحور الدارعين إذا ارتأى ... ويذل عز العالمين إذا سطا ومنها:
فإليكها تنبيك أني ربها ... نسب القطا متبين مهما قطا ومعنى هذا البيت منقول من قول المعري حيث يقول:
عرفت جدودك إذ نطقت وطالما ... لغط القطا فأبان عن أنسابه وقال النابغة قبله:
تدعو القطا وبه تدعى إذا نسيت ... يا صدقها حين تدعوها فتنتسب وألم بهذا المعنى بعض أهل عصرنا وهو عبد الجليل، من قصيدة يمدح بها المعتمد بن بعاد حيث يقول:
وحين أسمعت ما أسمعت من كلم ... تمثلت لهم الأعراب والحلل ومن أناشيد أهل المعاني لأبي وجزة السعدي في صفة القطا مما يتعلق(2/712)
بهذا المعنى.
ما زلن ينسبن وهنا كل صادقة ... باتت تباكر عرما غير أزواج
حتى سلكن الشوى منهن في مسك ... من نسل جوابة الآفاق مهداج
تنساب منهن فيه أمة خلقت ... جدا مذبحة منه بأوداج وله أيضا:
خليلي من قيس بن عيلان خليا ... ركابي تعرج نحو منعرجاتها
بعيشكما ذات اليمين فإنني ... أراح لشم الروح من عقداتها(2/713)
فقد عقبت ريح النعامى كأنما ... سلام سليمى راح في نفحاتها
وتيماء للقلب المتيم منزل ... فعوجا بتسليم على سلماتها
وإن تسعدا من أسلم الصبر قلبه ... يعرس بدوح البان من عرصاتها
فبانتها الغيناء مألف بانة ... جنيت الغرام البرح من ثمراتها
وروضتها الغناء مسرح روضة ... تبختر في الموشي من حبراتها
هنالك خوط في منابت عزة ... تخال القنا الخطي بعض نباتها
مشاعر تهيام وكعبة فتنة ... فؤادي من حجابها ودعاتها
فكم صافحتني في مناها يد المنى ... وكم هب عرف اللهو من عرفاتها
عهدت بها أصنام حسن عهدنني ... هوى عبد عزاها وعبد مناتها
أهل بأشواقي إليها وأتقي ... شرائعها في الحب حق تقاتها
غرام كإقدام ابن معن ومغرم ... كإنعامه والأرض في أزماتها ومنها:
وكم قد رأت رأي الخوارج فرقة ... فكنت عليا في حروب شراتها
بعزم أبي لا يرد مضاؤه ... وهل تملك الأفلاك عن حركاتها -
هو الجاعل الهيجا حشا وسنانه ... هوى فهو لا يعدو قلوب كماتها ومنها:
وكم خطبتني مصر في نيل نيلها ... ورامت بنا بغداد ورد فراتها
ولم أرض أرضا غير مبدإ نشأتي ... ولو لحت شمسا في سماء ولاتها(2/714)
ولي أمل إن يسعد السعد نلته ... ويفهم سر النفس في رمزاتها
وأسنى المنى ما نيل في ميعة الصبا ... وهل تحسن الأشياء بعد فواتها - قوله: " هو الجاعل الهيجا حشا " - البيت، ذهب بمعناه إلى قول أبي الطيب:
كأن الهام في الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد
وقد صغت الأسنة من هموم ... فما يخطون إلا في فؤاد وألم أبو الطيب في بيته بقول مسلم:
لو أن خلقا يخلقون منية ... من بأسهم كانوا بني جبريلا
قوم إذا احتدم الهجير من الوغى ... جعلوا الجماجم للسيوف مقيلا وقول مسلم يشير إلى ما قال النميري:
ذكر برونقه الدماتء كأنما ... يعلو الرجال بأرجوان ناقع
وكأن وقعته بجمجمة الفتى ... خدر المدامة أو نعاس الهاجع وقال ابن الحداد من أخرى:(2/715)
فذر العقيق مجانبا لعقوقه ... وذر العذيب عذيب ذات الضال
أفق محلى بالقواضب والقنا ... للأغيد المعطار لا المعطال
حجوبك إلا من توهم خاطري ... وحموك إلا من تبوء بالي
والقارظان جميل صبري والكرى ... فمتى أرجي منك طيف خيال - والقارظان رجلان ذكرتهما قديما، قال أبو ذؤيب:
وحتى يؤوب القارظان كلاهما ... وينشر في الهلكى كليب لوائل فأحدهما فقد في طلب القرظ؛ نهشته حية، واسمه عامر بن رهم بن هميم من النمر بن قاسط، ولا حديث له. وأما حديث الآخر فسببه كان خروج قضاعة من مكة، وذلك أن خزيمة بن مالك بن نهد هوي فاطمة بنت يذكر بن عنزة وخطبها، فرده أبوها عنها، فخرج ذات يوم هو وأبوها يذكر يطلبان القرظ، فمرا بقليب فيه معسل للنحل، فتقارعا للنزول فيها، فوقعت القرعة على يذكر، فنزل واجتنى العسل، ثم قال: أخرجني، فقال له خزيمة: لا أخرجك حتى تزوجني فاطمة، فقال: أخرجني وأفعل؛ فتركه هناك ومات بها. وانصرف إلى الحي، فسئل عنه فقال: أخذت طريقا وأخذ أخرى، واتهموه، وأرادوا قتله فمنعه أهله. وإن خزيمة شهر نفسه بقوله:(2/716)
فتاة كأن رضاب العصير ... يعل بفيها مع الزنجبيل
قتلت أباها على حبها ... فتبخل إن بخلت أو تنيل فاحتربت بكر وقضاعة بسببه، فكان ذلك أول بدء تفرقهم عن تهامة، فلما أخذوا يتفرقون قيل لخزيمة: إن فاطمة قد ذهب بها فلا سبيل إليها، فقال: أما دامت حية فأنا أطمع فيها، وقال:
إذا الجوزاء أردفت الثريا ... ظننت بآل فاطمة الظنونا
وحالت دون ذلك من همومي ... هموم تخرج الداء الدفينا وقال ابن الحداد أيضاً:
فيا عجباً أن ظل قلبي مؤمناً ... بشرع غرام ظل بالوصل كافرا
أرجي لسلواني نشوراً وحسنها ... يرى رأي ذي الإلحاد أن ليس ناشرا
وليس على حكم الزمان تحكم ... على حسب الأفعال يجري مصادرا
ومعرفة الأيام تجدي تجارياً ... ومن فهم الأشطار فك الدوائرا
ولولا طلاب الدهر غاية علمها ... لما بسطوا منها بسيطاً ووافرا
ولولا أبو يحيى ابن معن محمد ... لما كانت الأيام عندي ذخائرا
فلا تنكروا مني بديعاً فمجده ... نوادر قد أوحت إلي النوادرا(2/717)
يحج ذراه الدهر عاف وخائف ... جموعاً كما وافى الحجيج المشاعرا
فزر مكة مهما اقترفت مآثما ... وزر أفقه مهما شكوت مفاقرا
تهيم بمرآه العصور جلالة ... وتحسد أولاها عليه الأواخرا وله فيه أيضاً:
يا سائلي عما زكنت من الورى ... والسر قد يفضي إلى الإعلان
إبها سقطت على الخبير بحالهم ... عند العروض حقائق الأوزان
هم كالقريض وكسره من وزنه ... يبدو من التحريك والإسكان
هاجوا سكوني فاستدمت هياجهم ... إن الحراك دلالة الحيوان
فإنجاب عن شمسي دجى إجلابهم ... ولرب برء كان في بحران
لما فضلت رموا بكل عظيمة ... والفضل موضع أسهم البهتان
شاد ابن معن في تجيب مكارماً ... ليست لمعن في بني شيبان
يا من يضيف إليه حاتم طيئ ... مرعى ولكن ليس كالسعدان
أعطته أهواء القلوب سياسة ... خفيت لطائفها على ساسان
وبدت إلينا منه صورة سيرة ... تنبيك عما سنه العمران قوله " هم كالقريض " -. البيت، كقول أبي العلاء:(2/718)
تقارب عالمنا وامتزج ... فرج حياتك في من يزج
فإني رأيت طويل العروض ... من متقاربه والهزج وله فيه في أخرى:
سل البانة الغيناء عن ملعب الجرد ... وروضتها الغناء عن رشأ الأسد
وسجسج ذاك الظل عن مهلب الحشا ... وسلسل ذاك الماء عن مضرم الوجد
فعهدي به في ذلك الدوح كانساً ... ومن لي بالرجعى إلى ذلك العهد
وفي الجنة الألفاف أحور أزهر ... تلاعب قضب الرند فيه قنا الهند ومنها:
فأي جنان لم يدع نهب لوعة ... وقد لاح من تلك المحاسن في جند -
وفي صدغه الليلي نار حباحب ... من القرط يصلاها حباب من العقد
وفي رنده الريان سور تعضه ... فيدمى كما ثار الشرار من الزند
أحاذر أن ينقد ليناً فأنثني ... بقلب شفيق من تثنيه منقد
وقد جرحت عيناي صفحة خده ... على خطأ فاختار قتلي على عمد
وآمل من دمعي إلانة قلبه ... ولا أثر للغيث في الحجر الصلد
وإني بذات الأيك أسعد ورقه ... فهل عند ذات الطوق ما للهوى عندي ومنها:
ويا لك من نهر صؤول مجلجل ... كأن الثرى مزن به دائم الرعد(2/719)
إذا صافحته الريح تصقل متنه ... وتصنع فيه صنع داود في السرد
كأن يد الملك ابن معن محمد ... تفجره من منبع الجود والرفد
ويرفل في أزهاره واخضراره ... كما رفلت نعماه في حلل الحمد
وقد وردت في غمره نهل القطا ... كما ازدحمت في كفه قبل الوفد
مفيض الأيادي فوق أدنى وأرفع ... وصوب الغوادي شامل الغور والنجد
فمن جوده ما في الغمامة من حياً ... ومن نوره ما في الغزالة من وقد
تلألأ كالإفرند في صارم النهى ... وكرر كالإبريز في جاحم الوقد
وإن ولهت فيه أذيهان معشر ... فلا فضل للأنوار في مقلة الخلد
ومنك أخذنا القول فيك جلالة ... وما طاب ماء الورد إلا من الورد قال ابن بسام: قوله " أذيهان معشر " بالتصغير، يشبه قول عيسى بن عمر: ما كانت إلا أثياباً في أسيفاط قبضها عشاروك. ولعله أراد أن يتبع أبا الطيب في قوله:
ظللت بين أصيحابي أكفكفه ... وظل يسفح بين العذر والعذل وهيهات، ما كل من جرى سبق، ولا كل من ارتاح نطق.
وله من قصيدة أولها:
نوى أجرت الأفلاك وهي النواعج ... وأطلعت الأبراج وهي الهوادج(2/720)
طواويس حسن روعتني ببينها ... غرابيب حزن بالفراق شواحج
موائس قضب فوق كثب كأنما ... تحمل نعمان بهن وعالج
وما حزني ألا تعوج حدوجهم ... لو الهودج المزرور منهن عائج
مضرج برد الوجنتين كأنما ... له من ظبات المقلتين ضوارج
وما الدهر إلا ليلة مدلهمة ... وكون ابن معن صبحها المتبالج
كأنك في الأملاك نقطة دائر ... وأملاكها منها خطوط خوارج
سماح وإقدام وحلم وعفة ... مزجن فأبدى مهجة الفضل مازج
فقد صاك من فضل العوالم طيبه ... وهل يكتم المسك الذكي نوافج
مساع أحلتك العلا فكأنها ... مراق إلى حيث السها ومعارج وله في من أخرى:
لقد سامني هوناً وخسفاً هواكم ... ولا غرو عز الصب أن يتعبدا
إذا شئت تنكيلا وتنكيد عيشة ... فحسبك أن تهوى سليمى ومهددا
وإن تبغ إحساناً وإحماد مقصد ... فحسبك أن تلقى ابن معن محمدا
حليم وقد خفت حلوم فلو سرى ... بعنصر نار حلمه ما تصعدا
جواد لو إن الجود بارى يمينه ... لكان قرار الحرب في الناس سرمدا
ذكي لو إن الشمس تحوي ذكاءه ... لما وجد الظمآن للماء موردا
ولو في الحداد البيض حدة ذهنه ... لما صاغ داود الدلاص المسدرا واصطبح المعتصم يوماً مع ندمائه، وأظهر صبية مهدوية في أنواع(2/721)
من اللعب المطرب، وحضر أيضاً لاعب مصري هنالك، فارتجل ابن الحداد يصف ذلك:
كذا فلتلح قمراً زاهراً ... وتجن الهوى ناضراً ناضرا
وسيبك صوب ندى مغدق ... أقام لنا هاملاً مامرا
وإن ليومك ذا رونقاً ... منيراً لنور الضحى باهرا
صباح اصطباح بإسفاره ... لحظنا محيا العلا سافرا
وأطلعت فيه نجوم الكؤوس ... وما زال كوكبها زاهرا
وأسمعتنا لاحناً فاتنا ... وأحضرتنا لاعباً ساحرا
يزفن فوق رؤوس القيان ... فتنظر ما يذهل الناظرا
ويخطفها ذيل سرباله ... فتبصر طالعها غائرا
فظاهرها ينثني باطناً ... وباطنها ينثني ظاهرا
وثناه ثان لألعابه ... دقائق تثني الحجى حائرا
وفي قيم الراح من سحره ... خواطر ولهت الخاطرا
إذا ورد اللحظ أثناءها ... فما الوهم عن وردها صادرا
ومن بدع نعماك إبداعه ... فما أنفك عارضها ماطرا
وسروك يجتذب المغربات ... ويجعل غائبها حاضرا وله فيه أيضاً:
والنفس عادمة الكمال وإنما ... بالبحث عن علم الحقائق تكمل
والمرء مثل النصل في إصدائه ... والجهل يصدي والتفهم يصقل(2/722)
ومنها:
متلألئ يثني العيون نواكساً ... كالشمس تعكس لحظ من يتأمل
لا يتقي رمد النوائب ناظر ... يجلى بنير صفحتيك ويكحل
وكأن راحته الذراع إفاضةً ... وكأنما الأنواء منها الأنمل
تتصور الأكوان في حوبائه ... فكأن خاطره الصقيل سجنجل ومنها:
وإذا رأتك الشهب مزمع عزوةٍ ... ودت جميعاً انها لك جحفل
ولو الأمور جرت على مقدارها ... حمل السلاح لك السماك الأعزل وله فيه من أخرى:
دوين الكثيب الفرد قضب وكثبان ... عليها لورق الوجد سجع وإرنان
وفي ظلل الأفنان خوط على نقاً ... منيع الجنى لدن التأود فينان
وفي مكنس الرقم المنمنم أحور ... كأن مصاليت الظبا منه أجفان
وبين دراري القلائد نير ... له الحسن تم والتلثم نقصان
على صدغه الشعرى تلوح وتلتظي ... وفي نحره الجوزاء تزهى وتزدان ومنها:
وما بال طرفي لا يوافيك شاكياً ... وطرفك في كل الأحايين وسنان(2/723)
وفي ثغرك الوضاح ري لبانتي ... فظلمك صدءاء وقلبي صديان
تسح بأهواء الورى منه راحة ... شآبيبها فيها لجين وعقيان
وما كيمينيه الفرات ودجلة ... وإن حكموا أن المرية بغدان
به اعتدلت أزمانها وهواؤها ... فكانون أيلول وتموز نيسان وله من أخرى يعتذر من خروجه عن المرية بعد اعتقال أخيه، وكتب بها من مرسية:
الدهر لا ينفك من حدثانه ... والمرء منقاد لحكم زمانه
فدع الزمان فإنه لم يعتمد ... بجلاله أحداً ولا بهوانه
كالمزن لم يخصص بنافع صوبه ... أفقاً ولم يختر أذى طوفانه
لكن لباريه بواطن حكمةٍ ... في ظاهر الأضداد من أكوانه ومنها:
وعلمت أن السعي ليس بمنجحٍ ... ما لا يكون السعد من أعوانه
والجد دون الجد ليس بنافع ... والرمح لا يمضي بغير سنانه ومنها:
وسما إلى الملك الرضا ابن صمادح ... فأدالني بالسخط من رضوانه(2/724)
وهوى بنجمي من سماء سنائه ... وقضى بحطي من ذرا سلطانه ومن شعره أيضاً في بني هود، ولحق ابن الحداد بسرقسطة سنة إحدى وستين، فأكثر المقتدر بالله من بره، وعلم أنه متشوف إلى شعره، فمدحه بقصيدةٍ أولها:
أسالت غداة البين لؤلؤ أجفان ... وأجرت عقيق الدمع في صحن عقيان
وألقت حلاها من أسىً فكأنما ... أطارت شوادي الورق عن فنن البان
وأذهلها داعي النوى عن تنقب ... فحيا محياها بتفاح لبنان
وقد أطبقت فوق الأقاحي بنفسجاً ... كما خمشت ورداً بعناب سوسان ومنها:
وليل بهيم سرته ونجومه ... أزاهر روض أو سواهر أجفان
كان الثريا فيه كأس مدامة ... وقد مالت الجوزاء ميلة نشوان
وما الدهر إلا ليلة مدلهمة ... وشمس ضحاها أحمد بن سليمان وله فيه من أخرى أولها:
وقفوا غداة النفر ثم تصفحوا ... فرأوا أسارى الدمع كيف تسرح وفيها يقول:
كافأت متجهي بوجهي نحوكم ... ونواظر الأملاك نحوي طمح
أيام روعني الزمان بريبه ... وأجد بي خطب الفرار الأفدح
ولئن أتاني صرفه من مأمني ... فالدهر يجمل تارةً ويجلح(2/725)
فكأنما الإظلام أيم أرقط ... وكأنما الإصباح ذئب أضبح
صدع الزمان جميع شملي منحياً ... إن الزمان مملك لا يسجح
فقضى بحطي عن سمائي واقتضى ... رحلاً تطيح ركائي وتطلح
يممتها سرقسطة وهي المدى ... والدهر يكبح واعتزامي يجمح
حيث العلا تجلى وآثار المنى ... تجنى وساعية المطالب تنجح
والنفستوقن أن عهدك في الندى ... موفٍ بما طمحت إليه وتطمح
فحيا النفس المنى من بحر جودك يمترى ... وسنا الضحى من زند مجدك يقدح ومنها:
والشعر إن لم أعتقده شريعةً ... أمسي إليها بالحفاظ وأصبح
فبسحره مهما دعوت إجابة ... ولفكره مهما اجتليت توضح
فاذخر من الكلم العليّ لآلئاً ... يبأى بها جيد العلاء ويبجح
واربأ بمجدك عن سواقط سقطٍ ... هي في الحقيقة مقدح لا ممدح
ونظام ملكك رائق متناسب ... فكما جللتم فليجل المدح وكان ابن ردمير الطاغية قد بنى على بعض حصون سرقسطة، فنهد(2/726)
له المقتدر، وأسرى إليه، وأناخ عليه، وابن ردمير في جموعه يشرف على ذلك من بعض جباله، ثم عطف المقتدر على بعض حصونه وافتتحه، وانصرف غانماً إلى سرقطسة سنة اثنين وستين، فقال يصف ذلك:
مضاؤك مضمون له النصر والفتح ... وسعيك مقرون به اليمن والنجح
إذا كان سعي المرء لله وحده ... تدانت أقاصي ما نحاه وما ينحو
بك اقتدح الإسلام زند انتصاره ... وبيضك نار شبها ذلك القدح
وجلى ظلام الكفر منك بغرةٍ ... هي الشمس والهندي يقدمها الصبح
فهم ذهلوا عن شرعهم وحدوده ... فقد عطل الإنجيل واطرح الفصح وله يهنئ المؤتمن بن المقتدر بن هود بمولودٍ من جملة قصيدة:
فبشر سماء السنا والسناء ... بنجم هدىً لاح في آل هود
بمقتبس من شموس النفوس ... ومقتدح من زناد السعود
هلال تألق من بدر سعد ... ومزن تخلق من بحر جود
شهاب من النيرين استطار ... لإرداء كل مريدٍ عنيد
ونصل إذا تم منه انتضاء ... فويح العدا من مبيرٍ مبيد
تبين فيه كمون الذكاء ... ويا رب نارٍ بمخضر عود وله أيضاً من قصيدة في المقتدر، ويذكر كمال السلم بينه وبين أخيه المظفر، ويصف غزو الحاجب ابنه المؤتمن وبنيانه في نحر العدو حصن المدوّر:(2/727)
مساعيك في نحر العدو سهام ... ورأيك في هام الضلال حسام
ولمحك يردي القرن وهو مدجج ... وذكرك يثني الجيش وهو لهام
كأنك لا ترضى البسيطة منزلاً ... إذا لم يطنبه عليك قتام ومنها:
كأنك خلت الشمس خوداً فلم يزل ... يقنعها بالنقع منك لثام
وقد يحسبون السلم منك سلامةً ... ورب منام دب فيه حمام ثم عاد ابن الحداد إلى المرية، وحسن بعد بها مثواه، وأكرمه المعتصم وأجزل قراه.
@ومن شعره في النسيب وما يتصل به من الأصواف
آيا شجرات الحي من شاطئ الوادي ... سقاك الحيا سقياك للدنف الصادي
فكانت لنا في ظلكن عشية ... نسيت بها حسناً صبيحة أعيادي
بها ساعدتني من زماني سعادة ... فقابلني أنس الحبيب بإسعادي
فيا شجرات أثمرت كل لذة ... جناك لذيذ لو جنيت على الغادي
فهل لي إلى الظبي الذي كان آنساً ... بظلك من تجديد عهد وترداد
وقلبي على أغصان دوحك طائر ... ينوح ويشدو والهوى نائح شاد وقال أيضاً:
يا زائراً ملأ النواظر نورا ... والنفس لهواً والضلوع سرورا(2/728)
لو أستطيع فرشت كل مسالكي ... حدقاً وبيض سوالفٍ ونحورا
فيك اكتسى جوي سناً وتلألؤاً ... وارتد تربي عنبراً وعبيرا وله أيضاً:
واصل أخاك وإن أتاك بمنكر ... فخلوص شيء قلما يتمكن
ولكل شيء آفة موجودة ... إن السراج على سناه يدخن وشعر ابن الحداد كثير، ولا يفي بشرط هذا الكتاب إلا ما كتبت منه.
@لمع من أخبار الأمير ابن صمادح المذكور
هو أبو يحيى محمد بن معن بن صمادح التجيبي. وقد ذكر ابن حيان بيته في تجيب، وألمع بلمع من أسباب ملكه المغصوب، وبين كيف تبلج نهاره، ومن أين انصب تياره. وقد كتبت من ذلك ما أمكنني تفسيره، ولاقت بكتابي أعجازه وصدوره.
قال ابن حيان: كان جده محمد بن أحمد بن صمادح المكتني أيضاً بأبي يحيى صاحب مدينة وشقة وعملها، طلعت نباهته في أيام المؤيد(2/729)
هشام، ثم كان له بسليمان اتصال فثنى له الوزارة وأمضاه على عمله، وكان أول أمره مجاملا لابن عمه منذر بن يحيى التجيبي، يظهر موافقته، ويكاتمه من حسده إياه ما لا شيء فوقه، حتى خذله تجمله، فلم يلبث أن تفرجت الحال بينهما بعد مضي سليمان، وتحاربا على ملك وشقة، فعجز ابن صمادح عن منذر لكثرة جمعه، وأسلم له البلد وفر بنفسه؛ فلم بق له بالثغر متعلق، وكان أول ساقط من الثوار، لم يتمل سلطانه ولا أورثه من بعده.
وكان أبو يحيى هذا رجل الثغر رأيا ومعرفة، ودهيا ولسانا وعارضة؛ ولم يكن في أصحاب السيوف من يعدله في خلاله هذه - من رجل محروم، يقارنه الشؤم، ويقعد به النكد واللؤم. وكان يحمل قطعة صالحة من الأدب ينال بها حاجاته مخاطبا ومذكرا، وكان لا يزال يسمو إلى طلب الدنيا والحرص عليها في أكثر حركاته، فيقعد به جده، وينكسه زمانه، إلى أن أخنى عليه - حسبما ذكرناه.
وأما معن ابنه ذو الغدرة الصلعاء، فإنه لما قتل زهير فتى ابن أبي عامر صاحب المرية، وصارت لعبد العزيز بن أبي عامر واستضافها إلى بلده بلنسية، واستمد بما ورثه من تلاد الفتيان العامريين موالي جده(2/730)
حسده على ذلك مجاهد صاحب دانية، وأظلم الأفق بينهما، فخرج مجاهد غازيا إلى بلاد عبد العزيز، وهو بالمرية مشتغل في تركية زهير، فخرج مبادرا عنها لاستصلاح مجاهد، واستخلف فيها صهره ووزيره معن بن صمادح، فكان شر خليفة استخلف، لم يكد يواري وجهه عبد العزيز عنه حتى عمل بالغدر به والتمهيد لنفسه عند رعيته، فخانه الأمانة، وطرده عن الإمارة، ونصب له الحرب، فغرب في اللؤم ما شاء؛ وتنكب التوفيق ابن أبي عامر لاسترعائه الذئب الأزل على ثلته، ومسترعي الذئب أظلم، وسر الله في خليفته لا يظهر أحدا عليه؛ وكان من العجب أن تملاها ابن صمادح مدته، وخلفها ميراثا في عقبه.
ثم أفضى الأمر من بعده إلى ابنه أبي يحيى محمد بن معن، وصار من العجائب أن ارتقى ذروة الإمارة، وتلقب من الأسماء الخلافية بالمعتصم، والرشيد لم يلده، وهو يعلم أن من الجور أس ملكه الموروث عن أب لم يكرم فيه فعله، ولا طال في طلبه تعبه، ثم لم يكفه تغطيه عن أجنحة النوائب بساحله الذي حال الحوز أمامه واللج وراءه، فرعى خضرته ولبس فروته، وأفنى دجاجه، مستبدا بمال ألفاه، لا يتجاوز به شهواته ومآربه إلى قضاء حق في جهاد عدو أو سد ثغر، أو معونة على بر؛ حتى مل العافية، وبطر الدعة، وطلب الزيادة، فسعى للتوسع في بره(2/731)
فحاول مفاتنة أحق الناس بولايته، ابن خاله عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي عامر الفتى المتأمر - كان - ببلنسية بعد أبيه عبد العزيز المنصور، ولم يرع فيه حق صهره يحيى بن ذي النون كبير أمراء الأندلس، وقد كان بادر إلى مفاتنته، وبادر السير إثر خاله عبد العزيز بنفسه، طمعا في مدينة لورقة، فصد عنها خائبا، وانصرف على قطيعة عبد الملك منها وزير صدق، شيخ مجرب للأمور، يلجأ من تدبيره إلى كهف منيع، وهو الوزير ابن عبد العزيز، وعلى ذلك صمد ابن صمادح هذا على حصن من عمل تدمير وثب فيه لعامل عبد الملك، وجرت بينهما خطوب، واستعان بحليفه باديس، واستمده على ما ذهب إليه من الفتنة، فوجده مسارعا إلى ذلك، لما كان يعتقده من العصبية البربرية، ويذهب إليه من إيراء الفرقة بين أضداده الأندلسيين، على ذلك كله انقلب ابن معن هذا خائب السعي، قبيح الخجل، ضائع النفقة؛ انتهى كلام ابن حيان.
قال ابن بسام: ولم يكن أبو يحيى هذا من فحولة ملوك الفتنة، أخلد إلى الدعة، واكتفى بالضيق من السعة، واقتصر على قصر يبنيه، وعلق يقتنيه، وميدان من اللذة يستولي عليه ويبرز فيه؛ غير أنه كان(2/732)
رحب الفناء، جزل العطاء، حليما عن الدماء والدهماء؛ طافت به الآمال، واتسع في مدحه المقال، وأعلمت إلى حضرته الرحال، ولزمه جملة من فحول شعراء الوقت كأبي عبد الله بن الحداد وأبي الفضل ابن شرف وابن عبادة وابن الشهيد وغيرهم ممن لم يعلق بسواه سببا، ولا شد إلى غير ذراه كورا ولا قتبا.
وقد كانت بينه وبين حلفائه من ملوك الطوائف في الجزيرة، فتون مبيرة، غلبوه عليها، وأخرجوه من سجيته مكرها إليها، لم يكن مكانه منها بمكين، ولا صحبه فيها بمبين. وقد اندرجت له ولهم في تضاعيف هذا التصنيف قصص تضيق عنها الأيام، وتتبرأ منها القراطيس والأقلام.
ولما أهابوا بأمير المسلمين وناصر الدين أبي يعقوب يوسف بن تاشفين، رحمه الله، دخل ابن صمادح في غمارهم، ومشى على آثارهم، فخرج عن المرية إلى لييط يجر جيشا، لا تتأيى الطير غدوته، ولا يتوقع العدو وطأته:
ولما رأت ركب النميري أعرضت ... وكن من أن يلقينه حذرات فألفى بها أمير المسلمين قد وضع قدمه على صلعته، وضرب أبنيته(2/733)
بين جوزائها وهقعتها، وتمكن من قيادها، وألقت إليه بأفلاذ أكبادها، لولا أجل محتوم، وتخاذل من ملوك الطوائف بالأندلس معلوم؛ فعرض ابن صمادح نفسه عليه، ومثل بين يديه، فتلقاه أمير المسلمين، رحمه الله، بجميل نظره، وبوأه جانبا من معسكره؛ فكان كالقري أفضى إلى البحر، أو الكوكب الدري غرق في لجة الفجر؛ وسيأتي الخبر عن ذلك مشروحا في أخبار محمد بن عباد المخلوع، بموضعه من هذا المجموع.
وائتسى ابن صمادح به مجاهرا بالعصيان، وأبدى صفحة الشنآن، فوافيا نكبتهما كفرسي رهان؛ غير أن ابن صمادح كانت بينه وبين الله سريرة، أو سلفت له عند الحمام يد مشكورة، مات وليس بينه وبين حلول الفاقرة به إلا أيام يسيرة، في سلطانه وبلده، وبين أهله وولده.
حدثني من لا أرد خبره عن أروى بعض مسان خطايا أبيه قالت: إني لعنده وهو يوصي بشأنه، وقد غلب على أكثر يده ولسانه، ومعسكر أمير المسلمين يومئذ بحيث نعد خيماتهم، ونسمع اختلاط أصواتهم، إذ سمع وجبة من وجباتهم، فقال: لا إله إلا الله، نغص علينا كل شيء حتى الموت! قالت أروى: فدمعت عيني، فلا أنسى طرفا إلي يرفعه، وإنشاده إياي بصوت لا أكاد أسمعه:
ترفق بدمعك لا تفنه ... فبين يديك بكاء طويل(2/734)
وكنا فيما أوصى به إلى ابنه الذي كان رشحه لسلطانه، وبوأه صدر إيوانه، ولقبه من الألقاب السلطانية بالواثق بالله، أن قال له: يا بني إن ابن عباد معنى السريرة، وشيخ هذه الجزيرة، فساعة يبلغك عنه شيء فأخف صوتك، وانج وليتك.
فلما فار التنور، وبطلت تلك الأساطير، وسقط عليه بخبر ابن عباد الخبير، باع ذروة الملك، بصهوة الفلك، واعتاض من مناسمة الروح والريحان، بمزاحمة الشراع والسكان، ومن سماع نغم المزامير والأوتار، بالتصامم عن صخب تلك الأثباج والغمار. وخلى أهل المرية بينه وبين شأنه رعيا للذمام، ومكافأة عن سالف أياديه الجسام، وسخر له البحر فنجا ولم يعلقه شرك، ولا رجع عليه درك.
ولأبي يحيى بن صمادح:
وتحت الغلائل معنى غريب ... شفاء الغليل وبرء العليل
فهل لي من نيله نائل ... ولابن السبيل إليه سبيل
فما لي إلا الهوى متجر ... فغير الغواني متاع قليل
فيا ربة الحسن في غاية ... وعصر الشباب وظل المقيل
ذريني أعانق منك القضيب ... وأرشف من ثغرك السلسبيل(2/735)
وكتب إليه النحلي:
أيا من لا يضاف إليه ثان ... ومن ورث العلا بابا فبابا
أجلك أن تكون سواد عيني ... وأبصر دون ما أبغي حجابا
ويمشي الناس كلهم حماما ... وأمشي بينهم وحدي غرابا فوصله، وراجعه:
وأنت ولليل البهيم مطارف ... عليك وهذي للصباح برود
وأنت لدينا ما بقيت مقرب ... وعيشك سلسال الجمام برود وله في خبر:
لما غدا مفجوعا بأسوده ... وفض كل ختام من عزائمه
ركبت ظهر جوادي كي أعزيه ... وقلت للسيف كن لي من تمائمه وله:
انظر إلى حسن هذا الماء في صببه ... كأنه أرقم قد جد في هربه(2/736)
@أبو يحيى رفيه الدولة بن صمادح
من بيت إمارة، والي عليها السعد طوافه واعتماره، انتجعوا انتجاع الأنواء، واستطعموا في المحل والأواء، وأبو يحيى فجر ذلك الصباح، وضوء ذلك المصباح، التحف بالصون وارتدى، وراح على الانقباض واغتدى، فما تراه إلا سالكا جددا، ولا تلقاه إلا لابسا سؤددا. وله أدب كالروض إذا زهر، والصبح إذا اشتهر، وقفه على النسيب، وصرفه إلى المحبوبة والحبيب:
يا عابد الرحمن كم ليل ... أرقني وجدا ولم تشعر
إذ كنت كالغصن ثنته الصبا ... وصحن ذاك الخد لم يشعر وله:
ما لي وللبدر لم يسمح بزورته ... لعله ترك الإجمال أو هجرا
إن كان ذاك لذنب ما شعرت به ... فأكرم الناس من يعفو إذا قدرا وله:
وأهيف لا يلوي على عتب عاتب ... ويقضي علينا بالظنون الكواذب
يحكم فينا أمره فنطيعه ... ويحسب منه الحكم ضربة لازب وله:
وعلقته حلو الشمائل ماجنا ... خنث الكلام مرنح الأعطاف
ما زلت أنصفه وأوجب حقه ... لكنه يأبى على الإنصاف(2/737)
وله:
حبيب متى ينأى عن القلب شخصه ... يكاد فؤادي أن يطير من البين
ويهدأ ما بين الضلوع إذا بدا ... كأن على قلبي تمائم من عيني وله إلى أبي نصر:
قدمت أبا نصر على حال وحشة ... فجاءت بك الآمال واتصل الأنس
وقرت بك العينان واتصل المنى ... وفازت على يأس لبغيتها النفس
فأهلا وسهلا بالوزارات كلها ... ومن رأيه في كل مظلمة شمس وكتب ابن اللبانة لرفيع الدولة:
يا ذا الذي هز أمداحي بحلبته ... وعزه أن يهز المجد والكرما
واديك لا زرع فيه اليوم تبذله ... فجد عليه لأيام المنى سلما فراجعه:
المجد يخجل من لقياك في زمن ... ثناه عن واجب البر الذي علما
فدونك النزر من مصف مودته ... حتى توفر أيام المنى السلما وله:
سلوت أبا نصر وما كنت ساليا ... وأظهرت عن قرب المزار التنائيا(2/738)
فديتك قل كيف اجترأت على النوى ... وخلفت من تهواه بالجزع ثاويا
ظننت بأن يسليك نأي محله ... وهيهات ما تزداد إلا تماديا وله:
عجبت أبا نصر لعيشك آسيا ... بفاس ما فيها مقام لفاضل
وفي حمص الدنيا نعيم وجنة ... وماء وظل وارف غير زائل @فصل في ذكر الأديب أبي محمد بن مالك القرطبي
@وإيراد جملة من نظمه ونثره
وكان فردا من أفراد الشعراء والكتاب، وبحرا من بحور المعارف والآداب، شق كمام الكلام عن أفانين النور والزهر، ورفل من النثر والنظام بين الآصال والبكر؛ ولم يقع إلي من شعره ونثره، إلا نبذة كإيماء المريب بذات صدره، وفيما أثبت منها ما يغرب بذكره، ويعرب عن عجيب أمره. وأقام بالمرية مدة تحت ضنك معيشة مع عدة مدائح، رفعها لأميرها ابن صمادح، فلما كان يوم عيد أنشده شعرا قال فيه:(2/739)
أإخواننا لهفا عليكم وحسرة ... فإنا صحبناكم أبر أصاحب
عليكم سلام من محب يودكم ... فقد قلقت نحو العراق ركائبي
وما هو إلا البين قد جد جده ... فلم يبق منه غير شد الحقائب
حقائب قد ضمن كل لطيفة ... وإن صفرت من منفسات المواهب
أمعتصما بالله يا خير موئل ... وأكرم مأمول وأفضل واهب
مضى الفطر والأضحى ولا نيل يقتضى ... فلم أخفقت وحدي إليك مطالبي
وكم عفت قدما من جزيل مواهب ... وقد خطبتني من جميع الجوانب
سأرحل عنكم دون زاد لبلغة ... وتلك لعمري سبة في العواقب فقال له ذو الوزارتين أبو الاصبغ ابن أرقم: عياذا بالله من ذلك يا أبا محمد. وما زال يعلن باضطراره، ويشكو الفقر في أشعاره، حتى أعياه ذلك، فجعل بعد يصف الغنى واليسار هنالك، تعريضا وتطييبا، فمن ذلك قوله من جملة قصيدة:
وما نذكر الإعدام إلا تخيلا ... لكثرة ما أغنى نداه وما أقنى
وأكثر ما نخشاه طغيان ثروة ... فإنا نرى الإنسان يطغى إذا استغنى فقال له بعض أصحابه: ومن أين هذا الغنى وقديما تشكو الفقر - ومضوا معه إلى منزله فما وجدوا معه غير قلة فخار وقدح للماء، ونحو ثمانية أرطال دقيق في مخلاة.(2/740)
@فصول له من مقامة تعرب عن حفظ كثير
@خاطب بها ابن صمادح المذكور
@اقتضبها لطولها وسقت بعض فصولها
يقول في فصل منها:
إن تطلع - لا زال طالعا نجم سعوده - إلى نبأ من أنباء عبيده، فإني أنبئه، ولا أنبئ إلا حقا، وأخبره ولا أخبر إلا صدقا؛ أما الأفئدة من بعده فمفؤودة، وأما الأكباد لبعده فمكبودة، والدهر من بعده ليلة ليلاء، والناس جبلة دهماء.
وفي فصل: بشرى لنا ولدولته الغراء، وهنيئا لنا ولحضرته الزهراء، فتح تفتحت له أزاهير النجاح، وبشر تباشرت به تباشير الفلاح، ورواء أشرق منه جبين الصباح، وخبر تضوعت به نوائج الرياح؛ يوم هز له الزمان ثنيي عطفه، وشمخ عزة بأنفه؛ فالآن حين انصدع جون الهزيع، عن جون الصديع، فوجه الزمان ضحيان مشرق(2/741)
وعود الدهر فنيان مورق، والعيش غضة مكاسره، عذبة موارده ومصادره، طاب كما لذت لشاربها الشمول، وتضوع كما خطرت على الروض القبول.
وفي فصل: فلله يومنا بالأمس، ما أجلب لألطاف الأنس، حين طلع علينا من كان طلوعه ألذ إلى الأعين من وسنها، وأوقع في القلوب من سكنها، طلع طلوع الصباح المتهلل، وجاء مجيء العارض المسبل، دلفنا إليه كالقطا الأسراب، فبهرنا الأمر العجاب، وكادت الأفئدة مما وجفت، والألباب مما رجفت، ألا يرجع نافرها، ولا يقع طائرها.
وفي فصل: لا تسمع إلا همهة وصهيلا، وقعقعة وصليلا، فخلت الأرض تميل مميلا، والجبال تكون كثيبا مهيلا، لا تعلم لأصوات تلك الغماغم، وضوضاة تلك الهاهم، من وهواه صهيل، ودرداب طبول، أزئير ليوث بآجام، أم قعقعة رعد في ازدحام غمام - فتزاحم في الأفق الهميم والهديد، وتلاطم في الجو النئيم والوئيد، فكادت الدنيا بنا تميد، لا تبصر غير ململمة جأواء، وموارة شهباء، قد ضعضعت التلال، ودكدكت القلال، إذا فرعت من ذات نيق(2/742)
أو صبت من فج عميق، أو تطالعت من أفق سحيق، حسبتها تجيش على البلاد بحارا، أو تسح على الوهاد مدرارا، فقد نسجت فوقها من القتام، ظللا كتراكم الغمام، فكأنها رفعت سماء من عجاج، وأطلعت نجوما من زجاج.
ومنها: حتى لاح لنا ملك الأملاك، وثالث القمرين في الأفلاك، وجه جلى هبوة ذلك العثير، والعجاج الأكدر، فحين جلت غرته الغراء جلابيب الغبار [لم ندر أبدر الليل] أم شمس النهار. فلله ما ضمت أطناب ذلك السرداق، وما أظلت أفياء تلك الخوافق، من مال المسيف وعنبر المستاف، وليث العرين وبحر الاغتراف، ومن نزال الهواجر، وبذال الجواهر، فلما جلت غرة وجهه المتهلل، غياية ذلك القسطل، جعلت أتأمل ضراغم فوق قب صلادم، فمن كمت تسبح بكماة، ومن حم تردي بحماة، قد تحلت بحلي لباتها وألجامها، تحلي الغياهب بأنجمها، يرفلن في العبقري ويحملن جنة عبقر، ويسفرن(2/743)
عن مثل الصبح إذا أسفر، من الجياد اللواتي تضمن أقوات النسور القشاعم، وتقري سراحين الفلاة بالطلى والجماجم، أنجاد كأنها أسنتها، كأنها أعنتها، فما ترى غير محارب يهز حرابا، وأعاريب تركض عرابا.
[وفي فصل] : كل قد أخذ عتاد اليوم للبأس الشديد، يظاهر بالحديد على الحديد، تلبب بالسابرية وتدرع، وتعصب بالصقال وتقنع، حتى اليلامق والدروع سواء، وحتى المقلة النجلاء والحلقة الحوصاء، من كل مسرود الدخارص، متألق دلامص، كأنما جللته بحبكتها السحاب، أو خلع برده عليه الحباب، أو غمس في ماء فجمد عليه الحباب، وكأنما باض على رؤوسهم نعام الدو، وبرقت في أكفهم بوارق الجو، لكنها ما هزت فبوارق، وإذا صبت فصواعق، من كل ذي شطب كأنما [أهل] قرى نمل، علون منه قرا نصل، فإذا أصاب فكل شيء مقتل، وإذا حز فكل عضو مفصل، أمضى في الأشباح، من الأجل المتاح، عضب الحد صقيل، يكاد إذا انتضي يسيل، ويكاد مبصره يغنى عن الورد، إذا اخترط من الغمد، ما لم يخله ريعان سراب، في صحصحان يباب، لاشتباه فرنده بحباب في شراب، أو حباب في(2/744)
سراب؛ فلما رأيت جفنه قد انطوى على جمر الغضا، وماء الأضا، وانضم على خضرة الجنح، ورونق الصبح، قلت: سبحان مكور الليل على النهار، والجامع بين الماء والنار.
وفي فصل: ومن كل مثقف الكعوب، أصم الأنبوب، كأنما سلب من الروم زرقتها، واجتلب من العرب سمرتها، وأخذ من الذئب عسلانه، ومن قلب الجبان خفقانه، ومن رقراق السراب لمعانه، أو استعار من العاشق نحوله، ومن العليل ذبوله.
فكررت الطرف خلال تلك اجياد، فرأيت مقربات خيل يتخايلن تخايل العذارى الرود، ويتهادين تهادي المهارى القود، فكأنما يتوجسن عن أطراف أقلام، ويتشاوسن عن مقل آرام: فمن مبيض شطر كابيضاض المهرق، ومسود شطر كاسوداد العوهق، كأنما اختلس نصفه الفلق، واحتبس بنصفه الغسق، " مقابل الخلق بين الشمس والقمر "، ومقسم السربال بين الجنح والفجر؛ إذا توجس عن رقيقتين، كأنما(2/745)
صيغتا من لجين، حسبته من شهامة نفس، ولطافة حس، يحس وطء الرزايا، ويعلم مغيبات الخفايا. ومن ورد كأنما جلل بورد، أو خلعت عليه من الصباح المسفر، حلة فجره المعصفر، أو شقت عنه كمائم شقيق، أو سلت عقيقته من أديم عقيق، أو كسي خدود الغانيات، فرمي بالعيون الرانيات، فاخجلته حياء، وضرجته دماء، واستعار برد الأفق، عند وقت الغسق؛ ومن أصفر كأنما يصفر عن وجنة عليل، ويرفل في حلة أصيل، أو كأنما كسفت في أديمه الشمس، أو ذر على نقبته الورس، حتى ليكاد الجادي يجري من ماء عطفيه، ويجنى الحوذان من روض متنيه، ومن ذي كمتة قد نازع الخمر جريالها، فسلبها سربالها، ومن محجل هملاج، كأنما سور بوقف عاج، أو شكل بشكالين، صيغا له من ناصع لجين، أو من خوافق برق وشيج، تسير بها متون عناجيج، إذا أهوت بها سراعاً، ختها سفناً تحمل شراعاً، تثني متونها هبات الرياح، كما تثني أعطاف النشاوى نشوة الراح، فكأن أعطافها أعطاف سكارى، وكأن قدودها قدود عذارى.
وفي فصل منها: وعلم - لا زال مؤيداً - أن الداء يبرأ إذا حسم، والخطب يستشري كلما قدم، وأنهم إن تركوا في اليوم كراعاً، صاروا في الغد ذراعاً، فرماهم ببديهات عزم كالنجوم العواتم، وماضيات(2/746)
رأي كالسيوف الصوارم، وآراء تصدع صفا الجلمود، وعزمات تنقب في الصخرة الصيخود، فغدت أمانيهم نقماً وكانت نعماً، وعادت أراجيهم هموماً وقد كانت همماً؛ فقرع السن من الندم، " وزلة الرأي تنسي زلة القدم "، وأيقن أن من خطب بنات النصر بالسعد زوج، ومن ألقح الرأي بالعزم أنتج.
ومنها: ولما علم أنه إما شرق وإما غرق، وعاين الموت محمرة أظافره، موفيةً موارده ومصادره، ووصلت له دؤلول ابنة الرقم، في أعلى تلك القممن فحينئذ انجلت عمايته وغياطله، واستخذى لحق مولاه باطله، وكان حرياً أن تئيم حلائله؛ وأوهم أنه لو ظلت بين منازل النجوم نوازله، لرأى أنها عقالاته لا معاقله، فرمى بيده صاغراً إلى السلم ثقة بعفو كظل المزنة الممدود، وكرم كشط اللجة المورود. فلولا حلم كالجبال رصين، وجود كالسحاب هتون، لبادوا خلال تلك الديار، كما بادت جديس في وبار، ولنغلت تلك المنازل نغل الجلد، ومحت كما محت وشائع من برد. وما دلاهم في غدرهم الذي غدروا، وغرهم في خترهم الذي ختروا، إلا العلم بأن سوف يعفو حين يقتدر، فقد اعتصموا(2/747)
بحبل معتصم بخالقه، وتوكلوا على رزق متوكل على رازقه، واستوثقوا من عقد من لا عقاله بأنشوطة، ولا ميثاقه بأغلوطة.
وفي فصل: فيا أيها المغترون بخلقه الفضفاض، وكرمه الفياض، لا يجهلنكم تحمله، ولا يغرنكم تكرمه، فالبحر قد تردي غواربه وليس بطام، والعارض قد تصيب صواعقه وليس بركام، والنصل قد يبري وهو غير مؤلل، وأين نار ليس لها شرار، وأين خمر ليس لها خمار - فهو جدب وربيع معرق، وليل ونهار مشرق، فيه الصاب والعسل، وفي السهل والجبل، له خاطر على خواطر الحوادث مرسل، وطرف بأطراف البلاد موكل. فأنى بعناد من تميد الأرض إذا وجم، ويرق نسيم الهواء إذا ابتسم - فلم يجتمع لملك - حاشاه - خضاب الصوارم، واجتناب المحارم، قسم العدل بين البدو والحضر، كقسمة الغيث بين النبت والشجر، فلا غرو أن يفوق جميع الأنام وهو من الأنام، فإن المسك بعض دم الغزال، وإن معدن الذهب الرغام. فهو الأبلج المتدفق، والأزهر المتألق، من جوهرة المجد وهو ماؤها، ومن مهجة العلياء وهو سويداؤها، ولا يقتدي في سؤدد بغريب، بل(2/748)
يجري على سنن منه وأسلوب، كالغيث شؤبوباً بشؤبوب، والرمح أنبوباً على أنبوب.
وفي فصل: فلله أي مراد ردته، وأي مورد وردته، لم أكن ممن غره السراب، حين أعوزه الشراب، ولا كنت كمن زجر الطير بالنجم والدبران، ولا ممن سقط العشاء به على سرحان، ولا كمن قال مرعى ولا كالسعدان؛ كلا، إن مملوكك ألقى أرواقه، حيث مد المجد رواقه، بحيث يعتصر الندى من عوده، ويرتشف صرف الجود من ناجوده، فانتقيت الجار قبل المنزل، وبوأت رحلي في المحل المبقل، ورتعت في أثر الغمام المسبل.
وفي فصل: ولولا ذلك لكان لي في الأرض العريضة مسارح، وفي أبناء الكرام منادح، غير أني عن أكثر المراتع عزوف، ولأكثر المشارع عيوف وأني لكالسيف لا يحمد كل من حمله، وكالرمح لا يسر بكل من اعتقله، وما كل عجيبٍ في عيني بعجيب، ولا كل غريب في نفسي(2/749)
بغريب. أنساني الله رشدي يوم أنساه، وأبدلنيه يوم أستبدل سواه، ما وصل أو قطع، ورفض أو اصطنع، وما ضر أو نفع. ولئن أعقب يوماً من الدهر بحرمانٍ - وحاشاه - فلقد سبق بمعروف، وإن ساءني منه يوما فعلة - وخلاه - فإن اللواتي قد سررن ألوف. ولقد ألفى وده صدري خلاءً من غيره فاستوطن، وصادف قلبي فارغاً فتمكن.
وفي فصل: ما رأيت وجهاً أسمح، ولا حلماً أرجح، ولا سجيةً أسجح، ولا بشراً أبدى، ولا كفاً أندى، ولا غرةً أجمل، ولا فضيلةً أكمل، ولا خلقاً أصفى، ولا وعداً أوفى، ولا ثوباً أطهر، ولا سمتاً أوقر، ولا أصلاً أطيب، ولا رأياً أصوب، ولا لفظاً أعذب، ولا عرضاً أنقى، ولا ثناءً أبقى، مما خص الله به ثالث القمرين، وسراج الخافقين، وعماد الثقلين، المعتصم بالله ذا الرياستين، دامت راياته منصورة، [وآياته] منظورة، ومقاصير ملكه بالسعد معمورةً، ما هبت صباً وجنوب، وما أقام يذبل وعسيب. وإني وإن أطنبت فأطيبت، وأسهبت فاعذبت، لخجل أن يكون مثلي يثير غباراً على جبينه، وينظم سواراً عن يمينه. فإن فكري بعد كالسيف الخشيب، والقدح المخشوب، فهذا لم تذلق(2/750)
ظبتاه، وذاك لم يخلق حقواه، فإنه أول استعمال القريحة، ورياضة السجيحة، وأول الضرام سقط ثم يلتهب، " وأول الغيث طل ثم ينسكب ".
وفي فصل: فإني غادرت بعدي لحماً على وضم، وجرحى بين عقبانٍ ورخم، ستعلم أي خبر أنمنم وأحبر، وأي در أنظم وأنثر، فإني وإن كنت الأخير زمانه، والسكيت أوانه، لدليلة على الدلائل، ومخيلة على المخايل، أني آتي بما لم تستطعه الأوائل [فأفصلها كتفصيل الجواهر في العقد، وأقدر تقدير داود في السرد] .
وفي فصل: ويا لهفي ألا تكون معونتي له إلا باللسان، دون السنان، أطاعن أمامه دراكاً، وأزاحم قدامه الأقران لكاكاً! ولولا أفرخ كزغب القطا، يدبون في نائله عندي دبيب الكرى، فيستشفون علالتي، ويستنزفون بلالتي، لامتطيت من جدواه السابح اليعبوب، وتقلدت من نداه الصارم الرسوب، واعتقلت من عطائه الصعدة السمراء(2/751)
وادرعت من حبائه الفضفاضة الجدلاء، فيبصر هنالك، مملوكه ابن مالك، يلاعب الأسنة كعامر بن مالك، فينظر أحسن منظر، ويبلو أفضل مخبر، رب القصائد والقنا المتقصد، فطوراً طعناً بالمثل، وضرباً بالمنصل، وطوراً ارتجالاً بالخطبة الفيصل، كخطبة قيس بن سنان، في حمالة عبسٍ وذبيان، خطبة تباري الريح في هبوبها، من لدن طلوع الشمس إلى غروبها، حضاً على السلم والمحاجرة، ونهياً عن الحرب والمناجزة؛ فلو شهد هنالك لشهد أمراً معجباً، وأبصر خطيباً مسهباً فيرى شقشقةً وقرماً مصعباً، يجنحهم إلى السلم لماً لماً وثباً وثباً.
قال ابن بسام: ومد ابن مالكٍ في رسالته هذه أطناب الإطناب، وشن الغارة فيها على عدة شعراء وكتاب، من جاهليين ومخضرمين، ومحدثين معاصرين، ولو ذكرت من أين استلب واختطف، جميع ما وصف، وانصرف إلى كل أحدٍ كلامه، نثره ونظامه، لحصل هو ساكتاً، وبقي باهتاً.
ومن شعر له من قصيدةٍ في يوسف بن هود أولها:
شرخ الشباب أمن روحٍ وريحان ... عصراك أم جوهر في الوهم روحاني
عهدي بليلك فجراً والهجير ضحىً ... ضحيان أزهر رقراق الأصيلان(2/752)
أكان عهدك في دارين ينفح أم ... من أندرين ومن ريا وريان
وكان من غفلات الدهر طيبك أم ... من غفلةٍ خلست من لحظ رضوان
سقياً لعهدك ما أندى نوافحه ... ريا وأنقعها رياً لحران
عصر جنيت جناه الغض من قمرٍ ... وافى به ثمراً غصن من البان
إذ تشرئب لي الأغصان مائةً ... مهفهفات على رجراج كثبان
فلم أزل ساحباً أذيال بردته ... حتى عثرت بأرداني فأرداني
وابتز رائع ريعانٍ نذير نهىً ... فريع روعي لما ابتز ريعاني ومنها:
وإنما العذر لي أن جئت في زمنٍ ... لا الجيل جيلي ولا الأزمان أزماني
والله لولا رجائي أن تهاودني ... إلى ابن هود هوادي كل مذعان
لمت من كمدٍ غيظاً على دول ... صروف أزمانها تجري بإزماني
وليس يوسف عندي مثل يوسف بل ... لقيا أبي عمر من عمري الثاني
إذ ما يزال بقسطي باخساً أبداً ... من لم يزني بقسطاس وميزان
وقد حويت قصاب السبق في بدعٍ ... شتى وأحرزتها في كل ميدان
وكم بدائع لي ما باشرت بشراً ... ولا سرى طيبها في وهم إنسان
لكن بصائرهم عمي ولا بصر ... والشمس تشرق إلا عند عميان
لقد أجد فؤادي من محبته ... ما كنت أحسبه وسواس جنان(2/753)
مغنيطس في ذراه الرحب يجذبنا ... أم سحر بابل أم آثار حران -
أم عنصر شاق أجساماً وأنفسها ... بجوهر فيه جسماني ونفساني -
براهن هن عن علياك موضحة ... لو أحوجتنا إلى إيضاح برهان
فضائل لك تستدعي فضائلها ... لك الأفاضل من آفاق بلدان
وليس فضلك مطوياً ضحيفته ... فيستدل على ضمن بعنوان
فالصبح أبين لألاء لمبصره ... من أن يعان بشرح أو بتيان @فصل في ذكر الاديب أبي احمد عبد العزيز بن خيرة القرطبي المشتهرة
@معرفته بالمنفتل، وسياقة جملة من نظمه ونثره، مع ما يتعلق بذكره
والمنفتل أيضاً ممن نثر الدر المفصل، وطبق في بعض ما نظم المفصل، ولم يحضرني في وقت تحرير هذه النسخة من شعره إلا النزر القليل، وقد يعرب عن العتق الصهيل، ويكفي من البياض الغرة والتحجيل.
فصل له من رقعة وقد بعث بأترجة، قال فيه: وقد بعثت إليك(2/754)
من بنات الثمار أجملها، ومن نتائج البستان أفضلها؛ لم تطرفها عين أحد، ولا باشرها بشر بيد؛ قد صيرت من الأغصان خدراً، وأرسلت من الأوراق ستراً، فلما تكامل حسنها، وماد بها غصنها، وارتوت من ماء الجمال، وصارت في نصاب الكمال، هتكت سترها، وطرقت خدرها، فإذا هي في حلة الخائف، قد أصفرت وجلا من يد القاطف، فشربت على ودها رطلين، وتناولتها بالراحتين، ثم وضعتها في هودج خيزران، وآثرتك بها على جميع الإخوان؛ فبحرمة الكأس التي رضعنا، وأمير الظرف الذي بايعنا، إلا ما رفعت قدرها، وجعلت القبول مهرها، وجلوتها على مجلس المدام، وحجبتها عن عيون اللئام، فخصالها عجيبة، وصفاتها غريبة، إن خزنتها عطرت أثوابك، وإن أمسكتها أذهبت أوصابك، وإن أعلمت فيها غرب السكين، قرنت لك بين النرجس والياسمين، وأرتك وجنة لكئيب، على سالفة الحبيب؛ يا لها من أترجة غضة، قد صورت من ذهب وفضة! قد سرقت من العاشق سيماه، ومن المعشوق طعم ثناياه، وخصت بالحسن أجمع، وأعطيت الطبائع أربع. فصلني - وصل الله آمالك، وقرن بالنمو سعدك وإقبالك - بالأمر بقبولها، وتعريفي بوصولها، إن شاء الله.(2/755)
@جملة من شعره في أوصاف شتى
قال:
سمح الزمان لنا بأسعد ليلةٍ ... والسمح لا يدرى له قبل
أبصرت نفسي بين ظبيي قفرة ... هذي المدام وهذه النقل
وكأن ذا وعد وذا إنجازه ... وكأنني من بينهم مطل وقال أيضاً:
بتنا كأن مداد الليل شملتنا ... حتى بدا الصبح في ثوب سحولي
كأن ليلتنا والصبح يتبعها ... زنجية هربت قدام رومي وقال أيضاً:
ولما تجلى الليل والبرق لامع ... كما سل زنجي حساماً من التبر
وبت سمير النجم وهو كأنه ... على معصم الدنيا جبائر من در وقال يصف الشمس وقد طفلت للغروب:
إني أرى شمس الأصيل عليلة ... ترتاد من بين المغارب مغربا
مالت لتحجب شخصها فكأنها ... مدت على الدنيا بساطاً مذهباً(2/756)
وقال أيضاً:
من لي بظبي بزني نسكي ... قام من الكافور والمسك
لو أن داود رأى وجهه ... ألقى إليه خاتم الملك
أو أن يعقوب رأى وجهه ... في غيبة الصديق لم يبك وقال أيضاً:
لا شيء أعجب من تركي لهم روحي ... يوم الوداع ولم أترك تباريحي
ومن بقائي أمشي في ديارهم ... يا من رأى جسداً يمشي بلا روح - وله أيضاً:
ما لي بجور الحبيب من قبل ... هل حاكم عادل فيحكم لي -
حمرة هديه من دمي صبغت ... ويدعي أنها من الخجل وحضر عند القائد ابن دري بجيان مع أبي زيد بن مقانا الأشبوني، واستدعاهما إلى عنب أسود قد قطف في غير إبانه، من عريش قد أقيم على أربع قوائم، تحته صهريج، فقال المنفتل:
عنب تطلع في حشا ورق ندى ... صبغت غلائل خده بالإثمد
فكأنه من بينهن كواكب ... كسفت فلاحت في سماء زبرجد(2/757)
وقال في صفة خال:
في خد أحمد خال ... يصبو إليه الخلي
كأنه روض وردٍ ... جنانه حبشي وقال فيه:
قد فؤادي بحسن قده ... وسد باب الكرى بصده
أردت تقبيله فذابت ... سوداء قلبي بصحن خده وأخذ هذا ابن رباح أبو تمام الحجام فقال في صفة الخال:
يا لابساً للحسن ثوب سمائه ... كالبدر يشرق في دجى ظلمائه
أحرقت قلبي فارتمى بشرارة ... في صحن خدك فانطفا في مائه
ووعد المنفتل بعض أخوانه أن يعمل مرقاسا ويدعوه إليه، وصنع ذلك فلم يدعه فقال: ...
يا أجود الناس بما عنده ... إلا إذا استعمل مرقاسا
فإن ينلها عذره بين ... إذ لم يجد فيهن أنفاسا(2/758)
وقال فيه يهجوه:
لا آكل المرقاس دهري لتأ ... ويل الورى فيه قبيح العيان
كأنما صورته إذ بدت ... أنامل المصلوب بعد الثمان وقال:
إن جفاني الكرى وواصل قوما ... فله العذر في التخلف عني
لم يخل الهوى لجسمي شخصا ... فإذا جاءني الكرى لم يجدني وهذا كقول الآخر:
لم يعش أنه جليد ولكن ... ذاب سقما فلم تجده المنون وقال المنفتل:
بأبي غزال زارني ... فشفا الفؤاد المدنفا
عانقته فكأنني ... يعقوب عانق يوسفا وقال أيضاً:
قلت لمن أهوى تصدق على ... معذب حبك أضناه
بقبلة من فيك يا سيدي ... فقال لي: يحفظك الله وقال:
لو تقاسي من الهوى ما أقاسي ... ما تمنيت أن قلبك قاسي
كنت أدعوك للعناق ولكن ... أتقي أن تذوب من أنفاسي(2/759)
وقال في صفة قطرميز وأخبر عنه:
أنا من كل فتنة مخلوق ... جسدي لؤلؤ وروحي عقيق
فإذا ما الكؤوس دارت بريقي ... فاح في الأفق منه مسك فتيق
فكأني بين الكؤوس هلال ... وكأن الكؤوس حولي بروق وقال يهجو الأفوه الشاعر الجزار:
وبارد المنظر والمخبر ... أبرد من ريح الصبا الصرصر
تبدو على أضراسه صفرة ... كأنه من فمه قد خري
حديثه أوحش من وجهه ... وشعره يشبه ذاك الطري وله في ميمون بن الفراء:
لابن ميمون قريض ... زمهرير البرد فيه
فإذا بيت بيتا ... نفقت سوق أبيه(2/760)
وقال في جهران بن يحيى صاحب لبلة:
إن ابن يحيى ضحكة فتوسم ... واذكر به خدام نار جهنم
أكل الخبيث فشعره متساقط ... كالكلب أسقط شعره لعق الدم وله من رقعة خاطب بها ابن النغريلي الإسرائيلي: من فهم الزمان وخلقه، ورفل في جديده وخلقه، وعلم أنه يستأصل ريثما يواصل، ويقصم غب ما يقسم، لم يبال بوقع سلاحه، ولا استعد لوقت إصلاحه، ولما أغصني بالريق، وحفزني بالمضيق، ولم يترك هماً إلا سنى عقده، ولا نظماً إلا نثر عقده؛ ورأيت الاستحالة في الحال، والعيلة في العيال، وجداً قد جد فجاء من المصلين، وساهم فكان من المدحضين، هيأت راحلة وأثاثاً، وطلقت ابنة الوطن ثلاثاً(2/761)
وقلت إما أن أجد فأظهر، أو أموت فأعذر؛ فكم من حرة سافرة القناع، تندبني موقت الوداع، وباكية يوم الرحيل، بكاء الحمام على الهديل؛ فقد فقأت عين السرى، بأربع كقداح السرا، يتشبثون بالآكام، تشبث الخصوم بالأحكام؛ ويتعلقون بالمطي، تعلق الأيتام بالوصي، إلى أن أخضلت الدموع المحاجر، وبلغت القلوب الحناجر؛ وجعلت أعوذهن بالمثاني، وأبسط لهن في الأماني، وأقول: ستنسين هذا الموقف، إذا اتصلتن بإسماعيل بن يوسف، فتى كرم خالاً وعما، وشرح من المجد ما كان معمى، قساً فصاحة، وكعباً سماحة، ولقمان علما، والأحنف حلما. أكرم همة من همام، وأعظم بسطة من بسطام؛ إن خاطب أوجز، وإن غالب أعجز، أو جاد أجاد، أو وعد أعاد؛ يأمر ويمير، ويأجر ويجير؛ مأوى السماح والضيف، ورحلة الشتاء والصيف؛ حامي الذمار، بعيد المضمار؛ لا يظلم نقيراً، ولا يخيب فقيراً: يحافظ على صلاته، حفظه لصلاته، ويحن إلى البذل، حنين الغريب إلى الأهل:
قرن الفضائل والفواضل ... فشأى الأواخر والأوائل(2/762)
سقطوا برفعة فضله ... كالشمس في شرف المناقل
هذا ابن يوسف الذي ... ورث الفضائل عن فواضل
شرف الزمان بمثله ... شرف الأسنة بالعوامل
من لم يلذ بجناحه ... لم يأمن الدهر المخاتل
متقلد سيف العلا ... والمركمات له حمائل
قصرت في وصفي له ... ولو أنني سحبان وائل
ما قل ما يرجى الكما ... ل لمن أبوه غير كامل
سكن الندى في كفه ... سكنى الرواجب في الأنامل
وجرى الحياء بوجهه ... جري الفرند على المناصل فحين سمعوا بوصفه، الذي هو طليعة عرفه، وثقوا بمجده، وود عوني مستبشرين، وتركتهم منتظرين.
وله من قصيدة أولها:
أحاجيكم هل يمموا الضال والسدرا ... أبى قلبي المعمود أن يسكن الصدرا
وفي الهودج المزرور جؤذر رملة ... أسيل مجال القرط في حرة الذفرى
كأن الثريا ما بدا من وشاحها ... وقد همت الأرداف أن تسلم الخصرا
يذكرني شكل الهلال سوارها ... وقد أرسلت من دون هودجها سترا
يقولون إن السحر في أرض بابل ... ولو عاينوا أجفانها نظروا السحرا(2/763)
يريك طلوع البدر طرق شعاعها ... وتفجأ من إيضاح غرتها الشعرى
فيا لك من نحر يزين عقدها ... إذا عقد من تشجى بها زين النحرا
فلا هجرت عيني سوابق أدمعي ... كما أن ليلي بعدهم هجر الفجرا
فقل في شج قد بات يمسح دمعه ... بكف وأخرى تحتها كبد حرى
وقد ضرب الليل البهيم رواقه ... وأطلع في الآفاق أنجمه الزهرا
كأن سماء الأرض بحر زبرجد ... وقد نثر الغواص من فوقه درا
لقد طال هذا الليل فالدهر بعضه ... ولم أر ليلاً قبله شاكل الدهرا
وما اكتحلت عيني بمثل ابن يوسف ... ولست أحاشي الشمس من ذا ولا البدرا ومنها:
بدور ولكنا أمنا سرارها ... بحور ولكن لا نرى دونها برا
غيوث إذا ما المحل شب ببلدة ... كهوف إذا جاءت بنا أرضه كبرى
يخالون من فرط الحياء أذلة ... وترتج أحشاء الملوك لهم ذعرا
ومن لم يكن للنظم والنثر محسناً ... فإن نداهم علم النظم والنثرا وهذا القصيد اندرج له من الغلو فيه، ما لا أثبته ولا أرويه، وأبعد الله المنفتل، فيما نظم فيه وفصل، وقبحه وقبح ما أمل.(2/764)
وله من قصيدة من الغلو في القول، ما نبرأ منه إلى ذي القوة والحول، وهو قوله:
ومن يك موسى منهم ثم صنوه ... فقل فيهم ما شئت لن تبلغ العشرا
فكم لهم في الأرض من آية ترى ... وكم لهم في الناس من نعمة تترى
أجامع شمل المجد وهو مشتت ... ومطلق شخص الجود وهو من الأسرى
فضلت كرام الناس شرقاً ومغرباً ... كما فضل العقيان بالخطر القطرا
ولو فرقوا بين الضلالة والهدى ... لما قبلوا إلا اناملك العشرا
ولاستلموا كفيك كالركن زلفة ... فيمناك لليمنى ويسراك لليسرى
وقد فزت بالدنيا ونلت بك المنى ... وأطمع أن ألقى بك الفوز في الأخرى
أدين بدين السبت جهراً لديكم ... وإن كنت في قومي أدين به سرا
وقد كان موسى خائفاً مترقباً ... فقيراً وأمنت المخافة والفقرا قال ابن بسام: فقبح الله هذا مكسباً، وأبعد من مذهبه مذهباً، تعلق به سببا؛ فما أدري من أي شؤون هذا المدل بذنبه، المجترئ على ربه، أعجب: ألتفضيل هذا اليهودي المأفون، على الأنبياء والمرسلين، أم خلعه إليه الدنيا والدين - حشره الله تحت لوائه، ولا أدخله الجنة إلا بفضل اعتنائه.(2/765)
@فصل في تلخيص التعريف بمقتل ذلك اليهودي
وكان من عجائب ذلك الزمان الواهي النظام، اللاعب بالأنام، ترقي ذلك اليهودي المأفون الرأي، الزاري على كل ذي دين، لم تسلم له يهود في دينها الملعون، ولا أمنته على غيبها الظنين. وكان أبوه يوسف رجلاً من عامة اليهود، حسن السيرة فيهم، ميمون النقيبة عندهم، تولى لباديس ولأبيه قبله حبوس بغرناطة جباية المال، وتدبير أكثر الأعمال، ونجم ابنه بعد غلاماً وضياً، ومركباً - زعموا - وطياً، وكانت لمن اعتنى يومئذ بالغلمان فتنة، حتى كان يقال إنه وإنه، فقلد أزمة الأعمال، وخلي بينه وبن أثباج الأموال، وأوطئ عقبه جماهير الرجال، وجرى به طلق الجموح، مهوناً فيه مأثور القبيح، فنأى بجانبه، وأعرض عن ذكر عواقبه، حتى كان يغسل يده من القبل، ويتمدح بالطعن على الملل؛ ألف كتاباً في الرد على الفقيه أبي محمد بن حزم المتقدم الذكر، وجاهر بالكلام، في الطعن على ملة الإسلام، فما دفع عن ذلك بتأنيبن ولا استطيع تغييره عليه إلا بالقلوب؛ قد نصبه مكانه من السلطان غيظاً للأحرار، وحمة على الليل والنهار. واليهود مع ذلك تتشاءم باسمه، وتتظلم من جور حكمه، على ما كان قد رضخ لهم من الحطام، ووطأ لهم من(2/766)
مراكب الأمور العظام، وهو مع ذلك متماد في غلوائه، غافل عن عادة الله في نظرائه. فغضب يهود أحكامها، وذلل أعلامها، وتسمى من خططهم الشرعية بالناغيد، معناه المدبر بالعربية، خطة تحاماها قدماؤهم، وتطأطأ عنها قديماً زعماؤهم، اجترأ هو عليها بوهي أسه، وقلة نظره لنفسه. وأما ما بلغ من المنزلة عند صاحبه وغلبته عليه فما لا شيء فوقه.
أخبرني من رآه يساير صاحبه بساحة قرطبة في بعض قدماته عليها لبعض تلك الشؤون المضلة، والفتن المصمئلة، قال المحدث: فرأيته مع باديس، فلم أفرق بين الرئيس والمرؤوس، فأنشدت: " تشابهت المناكب والرؤوس ".
وحدثت عن ابن السقاء مدبر قرطبة يومئذ أنه قال: لا بأس بإسماعيل لولا أنه نسي اليهودية.
وكان على ذلك قد نظر في الكتب، وشدا أشياء من علم العرب. وكان آخر أمره قد حجب صاحبه عن الناس، وسجنه بين الدن والكاس، ملحداً في أمره، مبرماً لأسباب غدره، ووعد جاره ابن صمادح بالمرية أن يقعده مكانه، ويخلع على أعطافه سلطانه، فسرب إليه ابن صمادح(2/767)
صميم الأموال، وجلا عليه وجوه الآمال، وإنما كان أراد أن يثل عرش الباديسي بالصمادحي، لما كان يعلم من كلاله، ويتيقن من قلة استقلاله؛ وقد عزم ساعة يخلو له وجه ابن صمادح بعد باديس أن يتمرس بجانبه، ويلحقه بصاحبه، كأنه نظر خبر عبيد الله بن ظبيان، حين وضع رأس المصعب بين يدي عبد الملك بن مروان، فسجد عبد الملك، قال ابن ظبيان: فقمت في ركابي، وأحس بي ورفع رأسه وقال: ما الذي أردت أن تصنع - قلت: هممت أن أقتلك فأكون قد قتلت ملكي العرب في يوم واحد. فقال: لولا منتك علينا برأ المصعب، لكان عنقك أهون ما يضرب. فأراد هذا اليهودي على انحطاطه عن الرجال، وانخراطه في سلك ربات الحجال، أن يستدرك على ابن ظبيان، بقتل رئيسين من رؤساء ذلك الزمان؛ فلما تم تدبيره، واستوسقت له أموره، لزم سكنى القصر، وأخذ مفاتيح المصر، وأظهر لصاحبه أن الناس قد ملوا سياسته، ونفسوا عليه رياسته.
وركب ابن صمادح بعسكره، وكمن حيث يسمع صوت المهيب، ويتنسم - بزعمه - روح الفرج القريب. فلما كان اليوم الذي أراد أن يختمه بداهيته الدهياء، ويلبس سواد ليلته لغدرته الشنعاء، نذر به قوم من الرجالة المغاربة؛ وقد كان الناس قبل ذلك استرابوا باختلال الشان، واستوحشوا من احتجاب السلطان، وقد كان اليهودي ملك ابن صمادح أكثر حصون غرناطة باحتجان أموالها، وإفساد رجالها(2/768)
فأضافها ابن صمادح إلى بلده، وباديس لا يشعر بخروجها عن يده، واليهودي أثناء ذلك يريش ويبري، وشفرته في أديم صاحبه تخلق وتفري، فلما كان اليوم الذي أراد الله فيه إزالة نعمته عنه، وإراحة عباده وبلاده منه، نذر به أولئك المغاربة، فأعلنوا بالصياح، وثاروا إلى السلاح؛ وأتى الصريخ بقية الجند وعامة أهل البلد، ونادى مناديهم: غدر اليهودي وخان، وطاح المظفر - يعنون باديس - وحان! فدخلوا القصر من كل باب، وهتكوا حرمة اليهودي دون حجاب، فقتل - زعموا - في بعض خزائن الفحم. وسمع باديس الوجبة فخرج يقول: إسماعيل لا يحفل بسواه، ولا يرتاع لشيء يسمعه من ذلك ولا يراه.
وقد استطال الناس على يهود، وقتل منهم يومئذ نيف على أربعة آلاف، ملحمة من ملاحم بني إسرائيل، باءوا بذلها، وطال عهدهم بمثلها. ورجع ابن صمادح قفد صفرت يداه، وأخلفه ما تمناه، وانقلب اليهودي مذموماً مدحوراً، لم يمتع بدنياه، ولا خلص إلى ما رجاه.(2/769)
@ذكر الأديب أبي المطرف عبد الرحمن بن فتوح،
@وإثبات جملة من شعره في الغزل والمديح
بلغني أنه كان يعرف بابن صاحب الإسفيريا، من مشاهير الأدباء، وه شعر كثير إلا أن إحسانه نزر يسير. وله تأليف في الأدب ترجمه بكتاب " الإغراب في رقائق الآداب "، ورفعه إلى المأمون يحيى بن ذي النون، وتصنيف آخر سماه بكتاب " الإشارة إلى معرفة الرجال والعبارة "، وكتاب سماه " بستان الملوك "، رفعه إلى ابن جهور أيام إمارته بقرطبة.
وحدث عن نفسه أنه صحب أبا حفص بن برد الأصغر، وجاذبه أذيال المذاكرة، وراكضه أفراس المحاضرة، حتى وقفه - بزعمه - على البديع والبيان على حقيقتهما، ووضحت له جادتهما، وعرفه أنحاءه، وكاشفه أجزاءه؛ قال ابن فتوح: فمتى رمنا معنى أطلقنا عليه بزاة البحث، وأخذناه أحسن أخذ، وصدناه دون كلال فهم، ولا نبو لسان، إلا أن أبا حفص يشف علينا جملة في الملح القصار، أضعاف شفوفنا عليه في مطولات الأشعار.
قال ابن بسام: وابن فتوح هذا كثير الاهتدام والاغتصاب، والاختطاف والاستلاب، لأشعار سواه، قبيح الأخذ في كل ما انتحاه، وشعره كثير(2/770)
البرد، وبينه وبين ابن برد من مسافة البعد ما بين القطب الثابت، والقصب النابت. وقد أثبت في هذا المجموع من شعر الرجلين، ما يتبين به الصبح لذي عينين؛ على أني ظلمت ابن برد ولم أعدل، إذ لا يمثل بينهما بأفضل، وأين مواقع السيل، من مطالع سهيل، وهو معه كما يقابل الصباح بمصباح، وتبارى الرياح بجناح. وأكثر شعر ابن برد مليح السرد متمكن القوافي لا تكاد له قافية تخرج من مركزها؛ وقوافي ابن فتوح قلقة موضوعة في غير مكانه، نازلة في غير أوطانها.
@جملة من شعر ابن فتوح في النسيب
قال:
قد قضيب وبدر ديجور ... وثغر در ولحظ يعفور
أزال صبري وأي مصطبرل ... يبقى لتلك الملاحظ الحور
كأنما نوره وسمرته ... مسك مشوب بذوب كافور وقال أيضاً:
وقف العذار بخده فحسبته ... ليلاً توقف وسط ضوء نهار
وتوردت وجناته فحسبتها ... ناراً تلظى فوق ماء جار وقال:
خلع الجمال عليك ثوب بهائه ... فغدوت تسحب ذيله متبخترا(2/771)
فكأن خدك والعذار بصحنه ... صبح جرى فيه دجى فتحيرا وما أقبح هذا الأخذ، فإنه لفظ تميم بن المعز حيث يقول:
ما بان عذري فيه حتى عذرا ... ومشى الدجى في صبحه فتحيرا وقال:
ولما أحس الليل أني منادم ... معذب قلبي بالتجنب والهجر
تولى مغذاً لا يقر كأنما ... يعاين إلفاً فهو في إثره يجري
فما كان ما بين الطفول وفجره ... كما بين جفن العين في الطول والشفر وما أحسن قول إبراهيم بن العباس في قصر الليل:
وليلة من الليالي الزهر ... قرنت فيها بدرها ببدري
لم تك غير شفق وفجر ... حتى تقضت وهي بكر الدهر ولغيره في هذا المعنى:
يا ليلة كاد من تقاصرها ... يعير منها العشاء في السحر(2/772)
وقد أكثر الناس في قصر الليل وطوله، فمنهم من استهدف فيما وصف، ومنهم من عدل وأنصف، كقول بشار:
لم يطل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيف ألم وإنما أخذه من قول الأعرابي:
ما أقصر الليل على الراقد ... وأهون السقم على العائد وممن بلغ الغاية في الإنصاف، لو سلم له من الاستلاب والاختطاف، قول ابن بسام البغدادي:
لا أظلم الليل ولا أدعي ... أن نجوم الليل ليست تغور
ليلى كما شاءت فإن لم تجد ... طال وإن جادت فليلي قصير وهذا بجملته منقول، من قول علي بن الخليل، حيث يقول:
لا أظلم الليل ولا أدعي ... أن نجوم الليل ليست تزول
ليلى كما شاءت قصير إذا ... جادت وإن ضنت فليلي طويل وهذه السرقة كما قال بديع الزمان في التنبيه على الخوارزمي في بيت أخذ وزنه ومعناه وبعض لفظه: إن كانت قضية القطع تجب في الربع(2/773)
فما أشد شفقي على جوارحه أجمع، ولعمري ما هذه سرقة، إنما هي مكابرة محضة، وأحسب أن قائله لو سمع هذا لقالك هذه بضاعتنا ردت إلينا؛ فحسبت أن ربيعة بن مكدم وعتيبة بن الحارث ما كانا يستحلان من النهب ما استحله، إنما كانا يأخذان جله، وهذا الفاضل قد أخذه كله.
وأخذه علي بن الخليل من قول الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان حيث يقول:
لا أسأل الله تغييراً لما صنعت ... نامت وقد أسهرت عيني عيناها
فالليل أطول شيء حين أفقدها ... والليل أقصر شيء حين ألقاها وابن بسام في هذا كما قال الآخر:
وفتى يقول الشعر إلا أنه ... في كل حال يسرق المسروقا رجع:
وقال ابن فتوح:
وخل كان يألفني قديماً ... مواصلة الصوادي للورود
فلما قل وفري صار يلقى ... تحياتي بلحظ من بعيد
برئت إلى البرية من إخاه ... كما بريء المسيح من اليهود(2/774)
وقال:
ريم أروم الدهر منه على ... رغم العدا قرباً فما أقدر
كأنما غرته تحتها ... ماء عليه صارم يشهر
كأنما حمرته إذ بدت ... من فوقها نار بها تسعر
كأنها والصدغ قد شابها ... ذوب عقيق شابه عنبر
كأنما يهتز من برده ... غصن ببدر ساطع مثمر
كأنما الله لتعذيبنا ... ألبسه الحسن ولا أكثر قال ابن بسام: وتشبيهه صفاء الوجه وحمرته، بصفاء الماء وحمرة النار من مبتذلات الألفاظ، ومتداولات المعاني، وما أملح قول محمد بن هانئ:
افتك بهذا السامري الساحر ... وأذقه طعم المشرفي الباتر
كم قلت إذ نزهت في وجناته ... طرفي فما رجعت إليّ محاجري
ذا ويحكم ماء وجمر محرق ... فقد اشتفيت وما تروى ناظري وأخذه ابن هانئ من قول تميم بن المعز:
وبارزة بين أحبارها ... بروز الشموس لإسفارها
وقد فصلت بين ثقل الكثيب ... ولين القضيب بزنارها
ترى الماء والنار في وجهها ... قد امتزجا بين أبشارها
فلا النار تعدو على مائها ... ولا الماء يعدو على نارها(2/775)
وقول ابن فتوح " غصن ببدر مثمر " كقول بعض البصريين:
بأبي قضيب مثمر ... إثماره بدر الدجى
لما بدا لي سافراً ... عنه نقدت له الحجى وقال ابن وكيع:
غصن ظل مثمراً ... ببديع من الثمر
ما رأى الناس قبله ... غصناً أثمر القمر وقال أبو الوليد بن زيدون القرطبي:
عذري إن عذلت في خلع عذري ... غصن أثمرت ذراه ببدر
هز منه الصبا فقوم شطراً ... وتجافى عن الوشاح بشطر وقول ابن فتوح " كأنما الله لتعذيبنا " البيت.... ينظر إلى بيت من جملة هذه الأبيات لتميم بن المعز حيث يقول:
وساق يملأ العينين حسناً ... رخيم دله يصبو ويصبي
شقائق خده باللحظ تسبي ... ولحظ جفونه بالغنج يسبي
له نبت على الخدين غض ... يصنفه فيتلف كل لب
تبارك من براه بلا شبيه ... وسلطه على قتل المحب(2/776)
وقال ابن فتوح:
ومدامة صفراء عللني بها ... رشأ كغصن البان في حركاته
صهباء تغرب إن بدت من كفه ... في فيه ثم تلوح في وجناته وهذا من قول الآخر:
بدر بدا يشرب شمساً بدت ... وحدها في الحسن من حده
تغرب في فيه ولكنها ... من بعد ذا تطلع في خده وقال الطليق المرواني المتقدم الذكر في شعر تقدم إنشاده:
فإذا ما غربت في فمه ... أطلعت في الخد منه شفقا وقال ابن فتوح:
ناولني الكأس على غفلة ... من ملأت ألحاظه الكاسا
ظبي إذا ما شمته شارباً ... ذكرني شاربه الآسا وهذا من قول ابن برد وقد تقدم:
يا شارباً ألثمني شارباً ... قد هم فيه الآس أن ينبتا(2/777)
وكذا بيته الأول من قول الآخر:
يا رب ساق يدير كأساً ... تملؤه في الهوى جفونه
كأنما قده قضيب ... يهفو بلب اللبيب لينه وحدث ابن فتوح هذا عن نفسه قال: ماشيت غلاماً معذراً كنت قديم الامتزاج به، والكلف بقربه، فلقيني بعض إخواني معه في جوف المسجد الجامع فسلم علي مضمراً خبراً ثم قال لي: مثالك في عصرنا مثال ذي الرمة في وقته، تقنعك الأطلال، وما شخص من آثار الديار؛ ففهمت عنه، وأنشدته قبل أن يستتم كلامه:
ما ربع معموراً يطيف به ... غيلان أبهى رباً من ربعها الخرب فقال: إلى متى يدوم غرامك بهذا الغلام، وهذه بنود عزله قد رفعت، وعقدت خلعه قد عقدت - فقلت: لا والله ما أرى بنود عزلة، ولا عقدت خلعة، وإنما أرى لامات مسك في صحيفة كافور، وسطور دجى في مهارق نور، فولى عني.
وكتبت إليه:
أيها العاند المفند جهلاً ... في هوى من قوام نفسي هواه(2/778)
أنت تلحى على قضيب لجين ... عطفتني عن غيره عطفاه
كان صبحاً لعاشقيه فلما ... بقلت صفحتاه أغشي سناه
مثل ضوء الهلال يزداد ضعفاً ... نوره إن دجت له أفقاه وقال أيضاً:
نشر الغمام رداءه فتقنعت ... خجلاً به للناظرين ذكاء
فكأنه ستر تشير بمقلة ... مطروفة من خلفه عذراء
وكأنها إذ مده من تحتها ... سر تضيق بكتمه الظلماء وهذا كقول ابن عبد ربه:
نهار لاح في سربال ليل ... فما عرف الرواح من البكور
وعين الشمس ترنو من بعيد ... رنو البكر من خلف الستور وابن المعتز القائل قبلهما:
تظل الشمس ترمقنا بطرف ... خفي لحظه من خلف ستر
تحاول فتق غيم وهو يأبى ... كعنين يحاول نكح بكر(2/779)
وتابعه ابن الرومي فقال:
واليوم مدجون فجونته ... ما بين مطلع ومحتجب
ظلت تلاحظنا وقد بعثت ... ضوءاً يلاحظنا بلا لهب ومحمد بن سيق من غلمان ابن أبي عامر:
فكأن الشمس بكر حجبت ... وكأن الغيم ستر قد سدل وقال ابن فتوح يصف الشمع:
ولما دجا الأفق واغرورقت ... بكواكبه وسط لج السحب
نصبنا له قضباً صاغها ... من التبر صائغها للعجب
ودارت نجوم من الراح في ... بروج التصابي بأفق الطرب
وهز نسيم الصبا عطفه ... وقام خطيب الصبا فاختطب
تجهم وجه السما إذ رأى ... سرور الورى بتهادي النخب
كأن السحاب به إذ بدت ... بخات على غيمها ترتكب
تسير ويقرعها رعدها ... لتعدو بسوط له من ذهب(2/780)
وهذا كقول ابن برد وقد تقدم إنشاده:
بخاتي توضع في سيرها ... وقد قرعت بسياط الذهب وقول ابن فتوح في صفة الشمع من قول أبي الفضل الميكالي:
وليل كلون الهجر أو ظلمة الحبر ... نصبنا لداجيه عموداً من التبر
[يشق جلابيب الدجى فكأنما ... نرى بين أيدينا عموداً من الفجر]
تبدى لنا كالغصن قداً وفوقه ... شعاع كأنا منه في ليلة القدر
تحمل نوراً حتفه فيه كامن ... وفيه حياة الأنس واللهو لو يدري
تراه يدب الدهر في بري نفسه ... وقد كان أولى أن يريش ولا يبري
إذا ما عرته علة قط رأسه ... فيختال في ثوب جديد من العمر وهذا كقول ابن المعتز:
وصفراء تونس جلاسها ... بقد يقطع أنفاسها
تبيت تقضي لباناتنا ... وتعمل في نفسها باسها
ولم أر من قبلها مثلها ... تعيش إذا قطعوا راسها وهذا المعنى يتطرف قول العباس بن الأحنف:
أحرم منكم بما أقول وقد ... نال به العاشقون من عشقوا(2/781)
صرت كأني ذبالة نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق وقال بعض أهل عصرنا وهو أبو القاسم بن مرزقان يصف شمعة أقيمت بجانب مطيب نرجس:
وشمعتين يروق الشرب حسنهما ... نور ونار مجال فيهما البصر
فذي تموت إذا ما نالها بلل ... وذاك يحيا إذا ما عمه المطر ووقفت على رأس ذي الوزارتين ابن خلدون وصيفة في يدها شمعة فقال:
يا شمعة تحملها أخرى ... شبهتها شمساً علت بدرا
امتحنت إحداهما مهجتي ... بمثل ما تمتحن الأخرى وقال أيضاً غيره من أهل العصر:
وقد أنهبوا جنح الدجى كل شمعة ... كأن سناها من محياك أو فكري
بآية ما تبكي وفي النار صدرها ... وقد جمدت عيناي والنار في صدري
وقد نصبوها رزدقاً بعد رزدق ... كما أشرعوها تحت ألوية الخمر(2/782)
وهذا كقول أبي الفضل البغدادي من جملة أبيات تأتي في أخباره من القسم الرابع:
فنارك من جمر وناري من هجر ... وصدرك في نار وناري في صدري وقال أبو الفضل الميكالي:
يا رب غصن نوره ... يزري بنور الشفق
يظل طول عمره ... يبكي بجفن أرق
صفرته تخبر عن ... عشق ولما يعشق
نار المحب في الحشا ... وناره في المفرق
لاح لنا في مغرب ... فردنا في مشرق وقال أيضاً فيها:
أعددت لليل إذا الليل غسق ... وقيد الألحاظ من دون الطرق ... قضبان تبر عريت من الورق ... يغني الندامى ضوؤها عن الفلق ... شفاؤها إن مرضت ضرب العنق ... وقال:
وقضيب من بنات النح ... ل في قد الكعاب(2/783)
يشبه العاشق في ... لون ودمع والتهاب
كسي الباطن منه ... وهو عريان الإهاب
فإذا ما أنعم الأبدا ... ن ملبوس الثياب
فهو للشقوة ... في بلاء وكذاب وقال الأسعد بن بليطة:
لنا شمعة نيطت ذراها بشعلة ... كحية تبر نضنضت بلسانها
إذا عثر الساقي بذيل من الدجى ... نحنا له نحر الدجى بسنانها
تموت إذا ما قبلت خد حائط ... فثبت خالاً فوقه من دخانها
كأن الجدار امتص جوهر روحها ... ولم يستسغ منها سويدا جنانها وقال أبو العلاء المعري:
وصفراء لون التبر مثلي جليدة ... على نوب الأيام والعيشة الضنك
تريك ابتساماً دائماً وتجلداً ... وصبراً على ما نالها وهي في الهلك
ولو نطقت يوماً لقالت محقة ... تخالون أني من حذار الردى أبكي
فلا تحسبوا دمعي لوجد وجدته ... فقد تدمع العينان من شدة الضحك وقال أبو فتوح وقد استهدي مقصاً فبعث بها وكتب معها:
خذها إليك فإنها مخلوقة ... من فطنة مشبوبة وذكاء
تحكيك في دفع الملم لأنها ... ولعت بشق حناجر الأعداء(2/784)
قال ابن بسام: وقد نهى بعض الظرفاء الأدباء عن إهدائها واستهدائها، قال الفقيه ابن قالوص في ذلك:
إعطاء مثلي للمقص نقيصة ... وأرى إعارتها أجل العار
إن المقص حكت بصورة شكلها ... " لا " والجواد ب - " لا " لئيم نجار وهذا من الاختراع البديع، والتشبيه المطبوع. وتشبيه ابن فتوح صديقه بالمقص من الوصف القبيح مما مال فيه إلى العقوق، وعدا به سواء الطريق. ومتى كانت المقص تشق الحناجر، وتجر الجرائر، كأنه لم يسمع قول الآخر، وهو ابن الرومي:
وما تكلمت إلا قلت فاحشة ... كأن فكيك للأعراض مقراض وهذا بالمقص أشبه، وعلى تفاهة قدره أنبه. ولم أسمع في المقص أحسن من قول ابن الرومي أيضاً يصف قوادة:
تسعى لكي تجمع وسطيهما ... كأنها مسمار مقراض وسميت المقص لملازمتها القصاص، وهو أطراف الشعر.
وقال ابن فتوح في صفة نحلة:
وطائرة تخفى كأن جناحها ... ضمير خفي لا يحدده وهم
منافرة للإنس تأنس بالفلا ... مرقرقة للشهد من بعضها السم
فادناؤها وهتك حجابها ... إذا احتجبت في غير إبانها ظلم(2/785)
وحدث ابن فتوح أيضاً عن نفسه قال: كنت ليلة في رمضان أطوف بالمسجد الجامع بالمرية سنة ثلاثين، وإذا فتى حسن المنظر، فسلم علي سلاماً ارتاحت له نفسي، وانشرح له صدرين فرددت عليه رد من توسم فيه سمة الفهم، فقال لي: بحرمة الأدب إلا ما أعدت علي البيت، فأعدته، وأنشدته سائر الأبيات، فقال: الشعر؛ ثم قال لي: إنما أخذته من قول العباس بن الأحنف:
وأحسن أيام الهوى يومك الذي ... تروع بالهجران فيه وبالعتب
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضى ... فأين حلاوات الرسائل والكتب! - فقال: وريت بك زنادي، فأخبرني عن السبب الموجب لترديدك البيت، قلت له: منيت بخل مولع بالخلاف، مائل إلى قلة الإنصاف، إن لاينته غضب، وإن استعتبته عتب، وقد علم الله شفقة نفسي لفرقته، فقال: قلب الله لك قلبه، وجنبك عتبه. ثم ولي عني وقد غرس في كبدي ثمرة وده، قبت الليلة مستأنساً بخباله، جذلان بوصاله، حتى رأيت غرة الفجر تلمع في كفل الدجى، فخلته بحراً تسرب في جدول، أو(2/786)
عجاجاً سل من تحته منصل؛ فقمت ثابتاً على قصده، فلم ألبث أن سمعته ينشد ويطلب منزلي، فقرع الباب وأذنت له فدخل، فرحبت به، وقمت إليه، وأقبلت عليه؛ فقال لي: يا ابن الكرام، إن هذا يوم قد بكى ماء غيمه، ونبض عرق برقه، وخفق قلب رعده، واغرورقت مقلة أفقه، ونحن لا نجد الخمر، فبم نقطع تأويبه - فقلت: الرأي إلى سيدي أبقاه الله، فقال لي: كيف ذكرك لرجال مصرك، ووقوفك على شعراء عصرك - قلت: خير ذكر. فقال: من أعذبهم لفظاً، وارجحهم وزناً - قلت: الرقيق حاشية الظرف، الأنيق ديباجة اللطف، أبو حفص ابن برد. قال: فمن أقواهم استعارات، وأصحهم تشبيهات - قلت: البحر العجاج، والسراج الوهاج، أبو عامر ابن شهيد. قال: فمن أذكرهم للأشعار، وأنظمهم للأخبار - قلت: الحلو الظريف، البارع اللطيف، أبو الوليد بن زيدون. قال فمن أكلفهم بالبديع، واشغفهم بالتقسيم والتتبيع - قلت: الراتع في روضة الحسب، المستطيل بمرجة الأدب، أبو بكر إبراهيم بن يحيى الطبني، فأنشد:
وخاطب قساً في عكاظ محاوراً ... على البعد سحبان فأفحمه قس(2/787)
@فصل في ذكر الأديب أبي بكر بن ظهار وإثبات جملة
@مما وجدت له من الأشعار
وكان أبو بكر هذا من فتيان الأدباء في ذلك الأوان، ثم اعتبط وماء معرفته غير ممتاح، وركن إبداعه غير مراح، في شرخ شبيبته وأوان ظهوره، ولولا ذلك لبز أهل الآفاق، رقة وحسن مساق. وأكثر ما وجدت من شعره ففي مدح أبي المغيرة بن حزم، إذ كان قد ميزه تمييز مثله من صيارفة النثر والنظم. وحدثت عن بعض من جعل الانتجاع بهذا العلق الذي نحن في إقامة أوده [من أجل ذخائره وعدده] ، أنه انتجع أبا بكر بن ظهار، وكان من الإقلال في غاية، ومن قلة ذات اليد في نهاية، وقصده في ذلك بخمسة أبيات شعر أنشدتها سقطت من ذكري، فباع ابن ظهار ثوبه ووجه إليه بثمنه، وكتب إلى مستمنحه بهذه الأبيات:
يعز على الآداب أنك ربها ... وأنك في أهل الغنى خامد النار
وخمسة أبيات كأنك قلتها ... بهاء وإشراقاً من القمر الساري
طلبت لها كفؤاً كريماً من القرى ... فقصر باع المال عن نيل أوطاري
سوى فضلة لا تستقل بنفسها ... وأقلل بها لو أنها ألف دينار
بعثت بها لا راضياً لك بالذي ... بعثت به إلا فراراً من العار(2/788)
ومن شعره قوله:
والله ما أربي من الدنيا ... إلا المدام ووجه من أهوى
فإذا نظرت إلى صفائهما ... لم يبق لي أمل ولا دعوى وقال:
صبغوا غلالته بحمرة خده ... وكسوه ثوباً من لمى شفتيه
فتخاله في ذا وتلك كأنما ... نثر البنفسج والشقيق عليه وقال:
من لي بداني المحل ناء ... تراه عيني ولا أناله
لا وصل لي منه غير أني ... أقول للناس كيف حاله وقال:
عللاني فإنما أنا حيث ... جاد روض الهوى من الوصل غيث
وكأن الظلام لما تولى ... نمر راعه من الفجر ليث(2/789)
وقال:
أما ترى بدر الدجى مشرقاً ... يضحك من نور ضحك -
كأنما ينثر من نوره ... في الأرض كافوراً على مسك وقال:
إذا أردت صباحاً ... فانظر إلى وجه ساقيك
فقد أطلت سؤالاً ... يا قوم هل غرد الديك
ماذا تريد بصبح ... أو أين ترقى أمانيك
وللنجوم مدار ... عليك والبدر يسقيك @ - فصل في ذكر الأسعد بن إبراهيم بن أسعد بن بليطة
" سرد المعاني أحسن السرد، وافترس المعالي كالأسد الورد، فأبرز درر المحاسن من صدفها، وأحرز ما شاء من فخر الإجادة وشرفها ".(2/790)
وأصله كان من حضرة قرطبة، وتردد بأقطار الجزيرة شرقاً وغرباً، وكان بها في وقته أحد الغرائب، وأعجوبة في عيون العجائب؛ عالم بما يريشه ويبريه، على لوثة - زعموا - كانت فيه؛ وكان بعيد الهمم، بليغاً بالسيف والقلم، تردد على ملوك الطوائف بالأندلس، فارس جحفل، وشاعر محفل، فجرى في الميدانين، وارتزق في الديوانين. ولم أظفر من شعره في حين إخراجي هذه النسخة من هذا المجموع إلا بقليله؛ ولا بأس - بحمد الله - من الزيادة فيه؛ وقد أثبت منه ما يعترف بحقه، ويعرف به مقدار سبقه.
@ما أخرجته من شعره في النسيب وما يناسبه من الأوصاف
قال:
لو كنت شاهدنا عشية أمسنا ... والمزن تبكينا بعيني مذنب
والشمس قد مدت أديم شعاعها ... في الأرض تجنح غير أن لم تذهب
خلت الرذاذ برادة من فضة ... قد غربلت من فوق نطع مذهب وقال:
ظلت به والدموع جارية ... أقبل الجيد منه والليتا
تقطر دراً حتى إذا وردت ... روضة خديه عدن ياقوتا(2/791)
وهذا من قول الحسن، وزاد في التشبيه، فأجاد ما أراد فيه، وهو:
وقد غلبتها عبرة فدموعها ... على خدها بيض وفي نحرها صفر وقال:
ليس ليوم البين عندي سوى ... مدامع نجيعها سكب
كأنما فض بأجفانها ... رمانة فانتشر الحب وقال:
عوذت قلبي منه ... بكل ما يتعوذ
كأنما خده وال ... عذار حين تأخذ
تفاحة علقت في ... سلاسل من زمرذ وقال:
قمر لوى من فوقه ... من صدغ غالية حنش
ودنا ليلثم جمرة ... من وجنيته فانكمش وأملح من هذا التشبيه، قول تميم بن المعز فيه:
طمعت تقبله عقارب صدغه ... فاستل ناظره عليها خنجرا(2/792)
وقال محمد بن هانئ:
وكأن صفحة خده وعذاره ... تفاحة رميت لتقتل عقربا وقال الأسعد:
من رأى الورد تحت قطر نداه ... لم يعب فوق وجنتي جدريا
أنا شمس أردت في الأرض مشيا ... فنثرت النجوم حليا عليا وهذا كقول ابن السراج النحوي صاحب كتاب " الأصول ":
لي قمر جدر لما استوى ... فزاده حسنا وزادت همومي
كأنما غنى لشمس الضحى ... فنقطته طربا بالنجوم وقال الأسعد في سمج بين مليحين:
أما ترى الدهر بما قد أتى ... من حسن هذين وهذا السمج
كدرتي عقد على ثغرة ... بينهما واسطة من سبج(2/793)
وقال يصف الخيلان:
تتنفس الصهباء في لهواته ... كتنفس الريحان في الآصال
وكأنما الخيلان في وجناته ... ساعات هجر في زمان وصال قال ابن بسام: وهذان النوعان من وصف الجدري والخيلان غير موجودين في أشعار المحدثين والمولدين والعصريين إلا في النادر، وأنا أنشد في هذا الموضع بعض ما تعلق من ذلك بحفظي، ووقع في شرك صدري. قال الشيخ أبو مروان بن سراج:
جدرت فقالوا بها علة ... ستقبح بعد بآثارها
ألا إنها روضة نورت ... فزادت جمالا بأنوارها وقال أبو عامر ابن عبدوس القرطبي:
أكثر الحاسدون فيك فقالوا ... جدري بدا على وجنته
ويحهم ما دروا بأنك ورد ... نثر الجوهر النفيس عليه
ونجوم السماء أسرى حلاها ... وجمال الوشاح في طرتيه ولأبي زيد بن العاصي:
عابه الحاسد الذي لام فيه ... أن رأى فوق خده جدريا
إنما وجهه هلال تمام ... جعلوا برقعا عليه الثريا(2/794)
ولأبي تمام بن رباح:
[أوقدت قلبي فارتمى بشرارة ... في صحن خدك فانطفت في مائه] وله أيضاً:
خدك مرآة كل حسن ... تحسن من حسنها الصفات
ما لي أرى فوقه نجوما ... قد كسفت وهي نيرات - وأنشدني أبو محمد بن فرج الجياني لنفسه يصف خالين بخد غلام أحدهما أصغر من الآخر:
إني ضعفت عن الهوى قد صادفني ... عبد القوي بلحظ ريم أحور
أبصرت في الحمام منه محاسنا ... حسن بلوى قلبي المتحير
جسم من البلور يطفو فوقه ... عرق تبدى مثل نظم الجوهر
ونجده خالان أما واحد ... فيلوح والثاني كأن لم يظهر
فكأنه من حسنه بدر الدجى ... كسف السهى في صحنه والمشتري وأنشدني أبو بكر الداني لنفسه:
بدا على خده خال يزينه ... فزادني شغفا فيه إلى شغف
كأن حبة قلبي عند رؤيته ... طارت فقلت لها في الخد منه قفي(2/795)
رجع:
وقال الأسعد يصف النفط:
والنفط مهما افتر فوه فاغرا ... أجرى لسان النار فوق الماء
فكأنه ذهب بدا في صارم ... أو رجع برق في أديم سماء وله:
وتلذ تعذيبي كأنك خلتني ... عودا فليس يطيب ما لم يحرق وهو مأخوذ من قول ابن زيدون:
تظنونني كالعود حقا وإنما ... تلذ لكم أنفاسه حين يحرق وقال في أسود:
يا رب زنجي لهوت به ... الشمس عند سناه ممقوته
محدودب قد غاب كاهله ... في منكبيه فلا ترى ليته
قد حكم التجعيد لمته ... فتراكمت فكأنها توته
وإذا سعى بالكأس تحسبه ... جعلا يدحرج فص ياقوته
وكأنه والكأس في يده ... نجم رمى في الجو عفريته(2/796)
وأخذ هذا التشبيه من قول [بعض أهل أفقنا وهو] ابن زرقون في الكميت الشاعر:
تأملت الكميت وقد علاه ... من الأثواب ثوب ذو احمرار
فقلت لصاحبي جعل تمشى ... لعمري في ثياب الجلنار ومن قديم هذا التشبيه قول الفرزدق في نصيب وقد لبس ثيابا بيضا:
كأنه لما بدا للناس ... أير حمار لف في قرطاس وقال ابن بليطة الأسعد:
وزورق أبصرته عائما ... وقد تمطى ظهر دأماء
كأنه في شكله طائر ... مد جناحيه على الماء وأنشدني أبو بكر الخولاني المنجم قال: أنشدني ابن بلطية الأسعد لنفسه:
رأيت ليوسف في بيته ... فخربه الله بين البيوت(2/797)
حصير صلاة علاه الغبار ... وقد نسجت فوقه العنكبوت
فقلت له: كم لذاك الحصير ... وكم لك لم تقر فيه القنوت
فقال: هنالك ألفيته ... وثم يكون إلى أن أموت وأنشدني له أيضاً:
أحبب بنور الأقاح نوارا ... عسجده في لجينه حارا
أي عيون صورن من ذهب ... ركب فيها اللجين أشفارا
إذا رأى الناظرون بهجتها ... قالوا نجوم تحف أقمارا
كأن ما أصفر من موسطه ... عليل قوم أتوه زوارا
كأن مبيضه صقالبة ... صاروا مجوسا فاستقبلوا النارا
كأنه ثغر من هويت وقد ... ألقيت فيه بفي دينارا وأنشدني له أيضاً من قصيدة أولها:
أرجي عساه في الهوى ولعله ... ولو وصفوا حال العليل لعله
خليلي من نعمان ما أكثر الهوى ... لجاجا وصبري في الهوى ما أقله ومنها:
فلا تضربن حدا بحد فإنه ... إذا السيف لاقى مضرب السيف فله(2/798)
@ومن شعر الأسعد في المديح وما يتصل به
له من قصيدة في ابن صمادح أولها:
برامة ريم زارني بعد ما شطا ... تقنصته في الحلم بالشط فاشتطا
رعى من أناس في الحشا ثمر الهوى ... جينا ولم يرع العرار ولا الخمطا
خيال لمرقوم البنان براعة ... تأوبني بالرقمتين فذي الأرطى
فأنشقني من خده روضة المنى ... وألثمني من صدغه حية رقطا
كأن الدجى جيش من الزنج نافر ... وقد أرسل الإصباح في إثره القبطا [منها في وصف الديك:
كأن أنو شروان أعلاه تاجه ... وناطت عليه كف مارية القرطا:
وطائر حسن بالسقاة موكل ... بحب قلوب الشرب يلقطها لقطا]
توهم عطف الصدغ نونا بخده ... فبات بمسك الخال ينقطه نقطا وهذا كقول ابن المعتز:
غلالة خده صبغت بورد ... ونون الصدغ معجمة بخال(2/799)
محيرة الألحاظ من غير سكرة ... متى شربت ألحاظ عينيك إسفنطا
أرى صفرة المسواك في حوة اللمى ... وشاربك المخضر بالمسك قد خطا
عسى قزح قبلته فإخاله ... على الشفة اللمياء قد جاء مختطا
وسارية خلنا تلألؤ برقها ... سلاسل تبر والظلام قد اشمطا
فبتنا نخال الجو بحرا قد أرسلت ... على متنه كف البروق له نفطا
وباتت نخال الجو بحرا قد أرسلت ... على متنه كف البروق له نفطا
وباتت تثير المسك من هجعة الثرى ... رياض ترى للنور في فرعها وخطا
حيا أبا يحيى بن معن أجازها ... فعلمها من كفه الوكف والبسطا
تألف من در وشذر نجاره ... فجاءت به العليا على جيدها سمطا
أقول لركب يمموا مسقط الندى ... وقد جاور الركبان من دونها السقطا
أفي المجد يبغي لابن معن مناقض ... ومن يوقد المصباح في الشمس قد أخطا
ولو قابل الشمس المنيرة أظلمت ... سناها ولو أوما إلى البدر لانحطا وله من أخرى في المعتضد:
عليك عقلت مطي الأمل ... وفيك اعتقلت بزرق الأسل
وفيك تنسمت زهر العلا ... جنيا وروض العلا قد ذبل
كأنا ومجدك يسمو بنا ... ذبال أمدت إليها شعل
أيا ملكا راع سرب العدا ... وأمن سرب الصريح الجلل
أتصبح بحرا معين الجدا ... ويكرع عبدك ذا في وشل(2/800)
فتى سأرتك أمانيه من ... أقاصي الشواهق حتى نهل
أعد لأعدائكم صعدة ... ونصلا جرازا وطرفا رفل
جهاز ابن هيجاء علامة ... بطعن الكلى وبضرب القلل
وشخت الحواشي لمن سامه ... رحاب الخليقة في من يحل
تنسم إذا شئت ريحانة ... وهز إذا شئت عضبا أفل
فمثلي لدى ملك ماجد ... يهان ويقصى لكي يرتحل -
أبثك من بجري بعضها ... فجلدي بكتمانها قد نغل
ولست أريد الذي قد مضى ... فقد سبق السيف فيه العذل
فلا غيض بحرك غيث الورى ... فنحن الرياض وأنت السبل @فصل في ذكر الأديب أبي عبد الله محمد بن عبادة المعروف بابن القزاز
من مشاهير الأدباء الشعراء. وأكثر ما اشتهر اسمه وحفظ نظمه في أوزان الموشحات التي كثر استعمالها عند أهل الأندلس. وقد ذكرت فيما اخترت في هذا القسم من أخبار عبادة بن ماء السماء من برع في هذه الأوزان من الشعراء. وهذا الرجل ابن القزاز، ممن نسج على منوال(2/801)
ذلك الطراز، ورقم ديباجه، ورصع تاجه. وكلامه نازل في المديح، فأما ألفاظه في هذه الأوزان من التوشيح فشاهدة له بالتبريز والشفوف، وتلك الأعاريض خارجة عن غرض هذا التصنيف.
فصل له من رقعة خاطب بها أبا بكر الخولاني المنجم يقول فيه:
إن لم تتقدم بيننا مخاطبة، ولا جرت بيننا مكاتبة، فقد علم الله تعالى أن ودادي لك محض لا يشوبه كدر، وأن ثنائي عليك غض يتضوع تضوع الزهر، فحال قدري لوصفك الجليل، مطرزة بذكرك الجميل، وتيجانه على مفارق مجدك الأثيل، مرصعة بلآلئ حمدك الجزيل. وكنت عند حلولك بالمرية، قد باشرت من أفعالك السنية، وشهدت من محاضرك الحسان، ما يكل عن وصفه كل لسان؛ وما زلت مذ غبت عنها - لا غاب نجم سعدك، ولا أصلد واري زندك - أذكر مآثرك، وأنشر مفاخرك، وأبث ما عاينت من مناقبك، كالذي يتعين من واجبك، أعان الله على أدائه، والقيام بأعبائه. ولما بلغنا ما سناه الله من التأييد والتمكين، والظهور على المشركين، بسعد المعتمد على الله، نظمت بعض ما سمعته من ذلك الخبر السار، ووصفت ما حاز فيه من الفخار؛ ولم تطب نفسي - فاديتك - على الإرسال بما قلت إلا لعلمي بجدك فيما يعول فيه عليك، وأشرت إلى ما تراه، وتقف عليه إن شاء الله؛ فلك الفضل في توصيل ذلك إليه، وتقبيل الكريمتين عني يديه؛ فإن نجح السعي وساعد السعد، فمن عندك أرى ذلك، فأنت المشارك المشكور على اهتبالك؛ ولولا جوائح جرت علي، فقصت جناحي وسلبت ما لدي، لأمضيت عزمي، وكنت مكان نظمي.(2/802)
ومن قصيدته التي بعث بها يومئذ قوله في أولها:
ثناؤك ليس تسبقه الرياح ... يطير ومن نداك له جناح
لقد حسنت بك الدنيا وشبت ... فغنت وهي ناعمة رداح
ثناؤك في طلاها حلي در ... وفي أعطافها منه وشاح
تطيب بذكرك الأفواه حتى ... كأن رضابها مسك وراح
ملكت عنان دهرك فهو جار ... كما تهوى فليس له جماح
فداك ملوك هذا العصر طرا ... فإنك ضيغم وهم لقاح
وأنت بكل ما تحوي جواد ... وهم بأقل ما حازوا شحاح
فزندك في العلا والحرب وار ... ولا زند لهم إلا شحاح
جزاك الله خيرا عن بلاد ... محا عنها الفساد بك الصلاح
جنبت إلى الأعادي أسد غاب ... براثنها المهندة الصفاح
وقدتهم فكان لهم ظهور ... ولولا الشمس ما ظهر الصباح
وقفت وموقف الهيجاء ضنك ... وفيه لباعك الرحب انفساح
وألسنة الأسنة قائلات ... قفوا هذا المؤيد لا براح
محمد بن عباد هزبر ... لعباد المسيح بدا فطاحوا ومنها:
رأى منه أبو يعقوب فيها ... عقابا لا يهاض له جناح
فقال له لك القدح المعلى ... إذا ضربت بمشهدك القداح(2/803)
في أبيات غير هذه ثابتة في القسم الثاني من هذا المجموع، إذ لها موقع بذلك الموضع:
وله من أخرى:
يا دوحة بظلاها أتفيأ ... بل معقلا آوي إليه وألجأ
رمدت جفوني مذ حللت هنا ولو ... كحلت برؤيتكم لكانت تبرأ
فخبئت عنك وإنما أنا جوهر ... في طي أصداف الحوادث أخبأ
يا من إذا انتسب البرايا للثرى ... فله من الشمس المنيرة ضئضئ
لم أخترع فيك المديح وإنما ... من بحرك الفياض هذا اللؤلؤ
أما بنو عبد الحميد فإنهم ... زهر وأنت هلالها الملالئ
فخر الزمان بنا لأنك حاتم ... في جوده ولأنني المتنبئ وأنشدني أبو بكر الخولاني المنجم، قال أنشدني أبو عبد الله القزاز لنفسه:
أبا عامر ماذا أتيت من العار ... فها أنت من ثوب العلا في الورى عاري
تبدلت شرطيا بصاحب شرطة ... كريم نجار النفس ممتنع الجار
فأصبحت كالطرطور كان لسيد ... فأخلق حتى صار في رأس عيار(2/804)
وله في رجل قراق من أهل جيان:
أوغاد أهل المرية افترسوا ... عرسك يا وغد أهل جيان
قراقهم أنت غير أنهم ... قد بشروا رأس قافك الثاني وقال:
شابت وزارة عصرنا ... فأشبها عبد العزيز
فكأنما هو يوسف ... وكأنها امرأة العزيز وقال:
انظر الفحم قد علاه بياض ... وكسا لون وجهه تتريبا
لون شعر الشباب كان ولكن ... حرق النار أورثته المشيبا @فصل في ذكر الأديب أبي عبد الله محمد بن مالك الطغنري من غرناطة
لم أقف من ذكر هذا الرجل إلا على أبيات من شعره، وفصلين من نثره، ويستدل على الشجر، بالواحدة من الثمر، ومع قلته فإنه يعرف أنه صدر أديب ذو حفظ كثير وأدب غزير.
فصل له من رقعة يصف فيها السوط الذي يجلب لحث الخيل من المغرب: وتوأم هذا الجواب - أعزك الله - البعثة بالمحثة؛ وقد تخيرتها(2/805)
عقيلة أتراب، كريمة أصحاب، تسمو بالنسب البحري، وتتيه بالنصاب الملوكي، قد أشبهت سرق الحرير لمسا، واشتق اسمها منه، ودعج الآبنوس لبسا، محكي لونها عنه، كأنما استلت من ظهر حية، أو حلت من أكارع طلا موشية، عنوان عزة، وجمال بزة، ودليل إنافة، وخليفة خيزران الخلافة، أبهى في أيدي الصيد، من طرر الغيد؛ وأحسن على أعناق الجرد، من قطاطي المرد؛ وكأني بالفقيه، يحرك رأسه عند هذا التشبيه، فيقول: الصدق على الألمعي لا يبطئ، وفراسة المؤمن لا تخطئ، كل على شاكلته يفعل ويقول، ومن جرابه يزن ويكيل، ويظن ما يظن، غفر الله له، وبعد رغبة له ورغبة فيه، أقول:
يا معلم العلماء يا زين الندى ... لله درك من فقيه أوحد
أكثرت إطرابي فظني أنني ... أصبحت من وعر العتاب بقردد
ما حق ذاك السوط سوط مدائح ... أصبحت منها بالمكان الأبعد
لما أتى سمعي فخرت شطارة ... وطردت مني منكبي متمرد
فامنن ببسط العذر في تأخيره ... منا أرد منه بأعذب مورد
وانعم بأيام أرق من الهوى ... وألذ من وصل الحبيب المسعد
تا الله إقسام المحب لما حبا ... دهري بأكرم منك علقا في يدي
أنت الوهوب أخو التفضل طالبا ... وأنا إذا قبلت يداك المجتدي(2/806)
وله من أخرى خاطب بها والد غلام تناول بره في الحمام، قال فيها:
ولا ظهير إلا فريخ لي رطيب العظام، لم يقنأ دمه، ولا ثغر فمه، ولا انعقد مخه، ولا دعاه من الشباب شرخه؛ فعلى هذه الحال ما وكل بي النجيب ابنك - دامت به قرة العين - عينا راعية، وبترجيعي على علاة الحال أذنا واعية، فانتشاني من ذلك المقام بيد طالت أيدي المتطاولين إلى ركني، في سماء بعد على أرشية الأذرع هواؤه، وقعد عن القائم ماؤه، فوشكان ما استفرغ لي منه جمة المجهود، وقرب العدم من الوجود؛ وطاف علي منها بأكواب كما رأيت مقلة المشرق في دمعها المغرق، وسمعت بجابية الشيخ العراقي تفهق، وطرف ذلك بنبذ من أدبه البارع، كنبذ الزراع، ولمح من نظمه الساطع كبرقه اللامع.
وأنشدت لبعد الرحمن بن عبد الرزاق وزير عبد الله الأمير -[كان بها - من قصيدة أولها] :
بخل الظاعنون بالتسليم ... فأعاروا الجفون سهد السليم(2/807)
وطوى كل مطمع فيهم اليأ ... س فإن مت مت غير مليم
ما عليهم لو ودعوا مستهاما ... ذا غرام مغرى به كالغريم
قلت يوما وقد أتت منبت البا ... ن فأزرت بكل خوط قويم
علمي القضب منك حسن التثني ... فبها حاجة إلى التعليم
علمتها سفك الدماء كماة ... لم يرقوا يوم النوى لمقيم
أيأسوا من إسعاد سعدى ومن إن ... عام نعم ورشف ظلم الظلوم وله من أخرى:
صب على قلبي هوى لاعج ... ودب في جسمي ضنى دارج
في شادن أحور مستأنس ... لسان تذكاري به لاهج
ما قدر نعمان إذا ما مشى ... ومن عسى يبلغه عالج -
فقده من رقة مائس ... وردفه من ثقل مائج
كأن ماء الحسن في خده ... مدامة شعشعها المازج
عنوان ما في ثوبه وجهه ... تشابه الداخل والخارج
فلا تقيسوه ببدر الدجى ... ذا معلم الوجه وذا ساذج @فصل في إيراد أشعار رثي بها الوزير الفقيه أبو مروان بن سراج
@رحمه الله بحضرة قرطبة مع ما يتشبث بها ويذكر بسببها
وهي جملة قصائد لغير واحد من أهل العصر، منهم من يأتي ذكره(2/808)
فيما بعد، ومنهم من لم يسمح بإثبات شعره النقد. وقد وجدت الكاتب أبا الوليد بن طريف قد أثبت في جزء لطيف جملة هذه القصائد، ولم يسلك فيها أسلوب ناقد، ضنانة منه بخطها من التسامي بالمؤبن بها، وتثبيتا لذكر اسمه المطرزة به حواشيها، فنشر طي كل نسيجة عن منوالها، وأثبتها بحالها. وقد أثبت أنا منها ما يليق بالكتاب، فرارا من الإطناب؛ وسردت الفصل الذر أدار أبو الوليد عليه رحاه، وقدمه صدقة بين يدي نجواه.
قال أبو الوليد: وكان أبو مروان عبد الملك بن سراج فذ العصر، وعلم الفخر، وبقية حسنات الدهر، ونخبة أهل التقدم في شرف النصاب، وكرم الأحساب، ونسبه في كلاب بن ربيعة؛ أصاب سلفه سباء قديم صيرهم أولا في ولاء بني أمية بالمشرق، فكانوا في عداد مقدمة الموالى المروانيين، وصدروا في عظمائهم، ثم اتصلت نباهتهم بالأندلس يرثها خالف عن سالف، ويخلفها عن تالد طارف، مع صيانة وعفة وكرم طعمة، وعلو نفس وشرف همة، وعدول عن خدمة السلطان، وتنزه عن التصرف فيها والامتهان، وانحياش إلى طلب الديانة وانحطاط في شعب طريقة السلف الصالح؛ ويؤثر أن سراج ابن قرة الكلابي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو جدهم الذي(2/809)
إليه ينتمون، وناهيك بذلك شرفا مؤثلا، وفخرا خالدا مؤبدا؛ فتمسكوا بالانقباض عن التكالب على الدنيا، على أنها كانت متصدية لهم لو جنحوا إليها، ومعرضة لهم لو أقبلوا عليها، بل اقتصروا على مكاسبهم الطيبة وترقيح رفيع معايشهم، من فاشي ضياعهم المنتشرة المغلة، مقتعدين غارب الوقار والتجلة، أيام الصلاح وزمان الجماعة؛ ثم استمروا على طريقتهم تلك في مدة الفتنة وأمد المحنة، عند تقلص الأموال، وذهاب الأحوال، وفشو الاختلال، لم يفارقوا مع تزلزل الأقادم، وتقلب الأيام، وذهاب السلطان، وتضعضع الأركان، مركزهم من الصيانة، ولا أخلوا بكريم عادتهم من التحلي بها، والتزيي بباهر رونقها، ولا انحطوا عن رفيع مرتبتهم من نفاسة المأخذ والسيرة التي آثروها، ولا انسلخوا من حلة القناعة، إلى أن درج من درج منهم، وستر التجمل ضاف لديه، وظل الجلالة مكتنف له ومشتمل عليه.
ثم نشأ هذا الشيخ أبو مروان فيهم محيي [رسم] علم اللسان بجزيرة الأندلس ومقيم أوده، ومسدد رزيغه، ومثقف معوج قناته، وموضع معضله، ومجلي غياهب مشكله، وجامع مفترق أدواته، وحاوي قصب السبق في إحراز بعيد غاياته، وتجاوز أقصى نهاياته، وأعلم به من كل من شددت إليه الأقتاب، وأنضيت في طلب ما عنده الركاب؛ ولقد كان في ذلك كله آية من آيات الله معجزة، وندرة من ندرات الأيام معجبة، ونورا ساطعا، وجوادا سابقا، مع متانة الدين، وصحة اليقين، وجلالة المأخذ، وجزالة المقطع، وصلابة القناة في الحقائق، وقلة الإدهان فيها(2/810)
وملازمة الجد في جميع الأحوال، ومشهود الثقة فيما يتقلده، وبراعة الإيجاز فيما يلقيه ويورده، وحسن التأدية، وقرب الإفهام، وتذليله كل صعب المرام، والتبيين في الرد والإقناع في الجواب، وترك الجدال والمراء، والبعد عن العجب والخيلاء؛ لعظيم ما كان يحمله، وجليل ما ينتخله، وخطير ما يشتمل عليه صدره، ويجيش به بحره، ويشخو به ذكره، وتفيض به مواد معرفته، وتنهل به أهاضيب علمه، وتسح به شآبيب إحاطته، ثم لا يزال مع ذلك دهره يعترف بالتقصير، وينتسب إلى التعذير، ويعلم أن الإحاطة معجزة، وأن محاولتها معوزة. سبق بهذه الخلال الحميدة من سلف، وأيس بإدراك بعضها من خلف، لم ير قبله مثله، ولا يرى بعده، والله أعلم. وأحيا كثيرا من الدواوين الشهيرة الخطيرة، التي أحالتها الرواة الذين لم تكمل لهم الأداة، ولا استجمعت لديهم تلك المعارف والآلات، واستدرك فيها أشياء من سقط واضعيها، ووهم مؤلفيها، ككتاب البارع لأبي علي البغدادي، وشرح غريب الحديث للخطابي وقاسم بن ثابت السرقسطي، وكتاب أبيات المعاني للقتبي، وكتاب النبات لأبي حنيفة وكتاب الأمثال للأصبهاني وغير ذلك من كتب الحديث وتفسير القرآن مما لم يحضرني ذكره، ولم يمكن حصره، إذ كانت قبل فتحها عليه، وإصلاحها بين يديه، طامسة الأعلام، مختلة النظام، وقد سد التصحيف طرقها، وعور التبديل نسقها، ففتح(2/811)
مستغلقها، ونظم مفترقها، وعانى خللها، وأزاح عللها، وقيد مهملها، وأبرز محاسنها، وأثار كمائنها، وأعتقها من هجنة التعطيل فرغب في استعمالها، وأطلقها من ربقة الخمول فحرص على حملها وانتحالها، فلو رأى ذلك الواضعون لها وشاهدوا لسلموا له وأذعنوا، وصرحوا بفضل شفوفه عليهم وأعلنوا.
ولقد أذهب الله بذهابه خيرا كثيرا، وأطفأ بوفاته سراجا منيرا. وكانت وفاته ليلة الجمعة لثمان خلون لذي الحجة سنة تسع وثمانين وأربعمائة؛ ومولده كان في ربيع الأول لاثنتي عشرة ليلة خلت منه سنة سبع وأربعمائة وكان رحمه الله في اعتلاء سنه حسن البنية، ممتعا بحواسه وتوقد ذهنه وسرعة خاطره، يقرأ دقيق الخط، ويثابر على المطالعة ويدأب عليها، ولا يخل بحظه منها، ويقرأ عليه مستغلق الكتب، وعويص المعاني وغامضها، فينكر وهم القارئ ويحسن الرد عليه؛ ختم الله به علم اللسان، كما ختم به وبأبيه قبله أفاضل أهل الزمان. ودفن عصر السبت التاسع من ذي الحجة المؤرخ، وصلى عليه ابنه الوزير الفقيه أبو الحسين سراج بن عبد الملك، تاليه في الفضل وكرم الخلال مع سري الخصال، وحائز ميراث مفاخره الجمة. وكان يومه حافلا مشهودا، والأسف في الخاصة والعامة عليه شديدا، والثناء حميدا، وتناغت لمة أهل الأدب من الآخذين عنه والمقتبسين منه وغيرهم في تأبينه ورثائه(2/812)
فأكثروا وأجادوا، وأبدوا وأعادوا؛ منهم الشيخ الفقيه أبو بكر بن خازم وبقية الأعيان - كان - في ذلك الأوان من أهل قرطبة وذوي السوابق النبيهة فيهم، رثاه بقصيدة أولها:
ألم تر أن الموت نادى فاسمعا ... فأنت جدير أن تشيب وتجزعا....
ولما فشى بين البرية نعيه ... أصم به الناعي وإن كان اسمعا
ومما شجاني أنني إذ سمعته ... تمنيت أن نسقى كؤوس الردى معا
فقطع قلبي ثم سال بمدمعي ... فيالك دمعا من فؤاد تقطعا! ومعنى هذا البيت الأخير مشهور، وقد اندرج منه في تضاعيف هذا التصنيف كثير، ومنه قول ابن دريد:
قلب تقطع فاستحال نجيعا ... وجرى فصار مع الدموع دموعا رجع:
فيا طالبا للعمل لا تطلبنه ... بطي الثرى قد غادروا العلم أجمعا
أبعد أبي مروان تبصر عالما ... نبيها لأنواع العلوم مجمعا -
إذا ما احتبى في مجلس العلم أنصتوا ... له وأتى بالمعجزات فأبدعا
وما كان إلا الغيث عم بنفعه ال ... أنام فلما هم بالري أقلعا(2/813)
ومنهم الأديب أبو جعفر أحمد بن عبد الله المعروف بابن شانجه الوكيد
الاختصاص به واللزوم له، والأخذ عنه. رثاه يومئذ بقصيدة يقول فيه:
نعى الهدى والعلم ناع ... فأودى ما تضمنه الصدور
سيعلم من نعاه لنا بأنا ... وجدنا الفضل ناعيه كثير
يقول القائلون حواه لحد ... تجسم دونه كرم وخير
ولا والله ما وارتك أرض ... وسروك فوقها أبدا يسير ومنهم الوزير الفقيه النبيه أبو عبد الله جعفر بن محمد بن مكي بن أبي طالب القيسي أحد أعيان وقته ذكاء ونبلا، وسروا كاملا وفضلا، أبنه بقصيدة أولها:
انظر إلى الأطواد كيف تزول ... والحالة العلياء كيف تحول
الموت حتم والنفوس ودائع ... والعيش نوم والمنى تضليل
لا يعصم العصماء منه شاهق ... صعب ولا الورد السبنتي غيل
يرمي فما تشوي الرمية نبله ... فيصاب تنبال بها ونبيل
يهوى الفتى طول البقاء مؤملا ... وله رحيل ليس عنه قفول
يلهو ويلعب مطمئنا ذاهلا ... وله رسيم نحوها وذميل(2/814)
ومنها:
أودى سراج المجد وابن سراجه ... فلنور شمس المكرمات أفول
لو كان علم الدين يبكي ميتا ... لبكى الحديث عليه والتنزيل
كم من حديث للنبي أبانه ... فبدت له غرر ترى وحجول
كم مصعب في النحو راض جماحه ... حتى غدا والصعب منه ذلول
أدنى إلى الأفهام نائي علمها ... حتى تساوى عالم وجهول
طب بأدواء الكلام ملقن ... سهم على عوراته مدلول قوله: " انظر إلى الأطواد كيف تزول " معنى منقول، ومنه قول ابن بسام البغدادي:
قد استوى الناس ومات الكمال ... وقال صرف الدهر أين الرجال
هذا أبو القاسم في نعشه ... قوموا انظروا كيف تزول الجبال وقال ابن الرومي:
من لم يعاين سير نعش محمد ... لم يدر كيف تسير الأجبال وقال الرضي يرثي الصاحب:
أكذا المنون تقطر الأبطالا ... وكذا الزمان يضعضع الأجبالا -
جبل تسنمت البلاد هضابه ... حتى إذا ملأ الأقالم زالا(2/815)
وقال أبو محمد الصقلي للمعتمد بن عباد:
ولما رحلتم بالندى في أكفكم ... وقلقل رضوى منكم وثبير
رفعت لساني بالقيامة قد دنت ... فهذي الجبال الراسيات تسير وقوله: " يهوى الفتى طول البقاء " ... البيت مع الذي بعده، من المعاني المتداولة أيضاً، وقد تفرقت في أثناء هذا الكتاب.
ومنهم الوزير الكاتب أبو محمد عبد المجيد بن عبدون أحد الزعماء في صناعة الشعر والنثر، وثبوت القدم في الأدب، أبنه أيضاً بقصيدة فريدة أولها:
ما منك يا موت لا واق ولا فادي ... الحكم حكمك في القاري وفي البادي
قدم أناسا وأخر آخرين فلا ... عليك يا مورد الحادي على الهادي
يا نائم الفكر في ليل الشباب أفق ... فصبح شيبك في أفق النهى بادي
سلني عن الدهر تسأل غير إمعة ... فألق سمعك واستجمع لإيرادي
نعم هو الدهر ما أبقت غوائله ... على جديس ولا طسم ولا عاد
ألقت عصاها بنادي مأرب ورمت ... بآل مامة من بيضاء سنداد
وأسلمت للمنايا آل مسلمة ... وعبدت للرزايا آل عباد
ما لليالي أقال الله عثرتنا ... منها تصرع أضدادا بأضداد
فلت قنا سمهر شلت أناملها ... بعود طلح وأسيافا بأغماد(2/816)
فعوضت من حسين الخير أو حسن ... بالأرقط ابن أبيه أو بعباد
بعدا ليومك يا نور العلاء ولا ... شجا بموت ولا سلى بميلاد
لهفي عليك خبا فيه سناك وما ... خبا ولكنها شكوى على العادي
لا شمس قبلك زادت بالغروب سنا ... واستأنفت نشر أنوار وأوراد
أطلعت ذكرك لما غبت وابنك في ... أفق العلا نيري هدي وإرشاد
لما ملأت دلاء المأثرات إلى ... أكرابها واحتبى في حلمك النادي
وطبقت بك آفاق العلا همم ... زانت مطالع آباء وأجداد
غضت عنانك أيدي الدهر ناسخة ... علما بجهل وإصلاحا بإفساد
لا در در ليال غورتك ولا ... سقى صداها غريض الرائح الغادي
فما سمعنا ببحر غاض في جدث ... وكان ملء الربى يرمي بأزباد
ولا بطود رسا تحت الثرى وسما ... على السها حملوه فوق أعواد
أعجوبة قصرت من خطو كل حجى ... فلم يكن في قوى منها ولا آد
لقد هوت منك خانتها قوادمها ... بكوكب في سماء المجد وقاد
ومقرم كان يحمي شول قرطبة ... أستغفر الله لا بل شول بغداد ومنها:
من للعلوم إذا ما ضل ناشدها ... في ظلمة الشك بعد النير الهادي -
من للحديث إذا ما ضاق حامله ... ذرعا بمتن وإيضاح وإسناد(2/817)
من للتلاوة أو من للرواية أو ... من للبلاغة بعد العاد والبادي -
شق العلوم نظاما والعلا زهرا ... ثبين ما بين رواد ووراد
مضى ما أبقت وما أخذت ... أيدي الليالي من المفدي والفادي! وهذه القصيدة طويلة سلك فيها أبو محمد طريقته في الرثاء، إلى الإشارة والإيماء، بمن أباده الحدثان من ملوك الزمان، وقد نسق ذكرهم على توالي أزمانهم في قصيدة [اندرج له كثير من البديع فيها] ؛ هي ثابتة في أخباره في القسم الثاني من هذا المجموع. واقتفى أبو محمد أثر فحول القدماء، من ضربهم الأمثال في التأبين والرثاء، بالملوك الأعزة، وبالوعول الممتنعة في قلل الجبال، والأسود الخادرة في الغياض، وبالنسور والعقبان والحيات في طول الأعمار، وغير ذلك مما هو في أشعارهم موجود، فأما المحدثون فهم إلى غير ذلك أميل، وربما جروا أيضاً على السنن الأول.
وممن رثاه يومئذ الكاتب أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن طريف أحد كتاب العصر، وفرسان النظم والنثر، رثاه بقصيدة أولها:
يبيح الحمام منيع الحجاب ... ويسري إلى المرء من غير باب
ولم أر أنفذ من سهمه ... وأفوز من قدحه بالغلاب
ألم تره كيف هد الهدى ... وأصمى العلا بأليم المصاب - ومنها:
فمن لخفايا حديث الرسول ... ومن لغوامض علم الكتاب -
ومن ذا يروي ظماء العقول ... ويشحذ البابهن النوابي(2/818)
فلهفي عليه وإن كان لهفي ... قليل العزاء ضعيف المناب
إذا عادني عيد تذكاره ... أجد أسى لم يكن في الحساب
وإن جمد الدمع في ناظري ... مددت قواه بقلب مذاب
فلا شيء أعجب من يومه ... برؤية ثهلان بين الرقاب
عزاء سراج العلا فالجميع ... قليل البقاء سريع الذهاب ومنهم الوزير الكاتب أبو بكر محمد بن ذي الوزارتين الكاتب المشرف أبي مروان بن عبد العزيز المقدم في نبله على تأخر سنه، رثاه أولا بقصيدة أولها:
هل فوجئت بمصاب قبله العرب ... أو أسقطت لملم غير الشهب - ومنها:
ما كنت أحسب أن الموت معترض ... ذاك الجلال ولما ينته الرهب
من لا تمر عليه الشمس طالعة ... إلا وعرنينها من نعله ترب
إذا تطلع في ناديه محتبيا ... لم يأته الدهر إلا وهو منتقب
يا طالب العلم لا ترحل فقد رديت ... بك المهارى وجف الماء والعشب
فيم الذميل وحث السير منتجيا ... وأين يبلغك التقريب والخبب
ضلت سبيلك لا هاد ولا علم ... وغاض شربك لا ورد ولا قرب
يا فاضل الخطة الشنعاء قد عوصت ... تعيا بها الخطباء اللسن والخطب(2/819)
إن الخصوم قد اصطكت مرافقها ... فخل بينهم حكما فقد شغبوا
قلها لدى الحفل تمضي إن مبلغها ... ما ليس تبلغه الهندية القضب
طود العلا زعزعتك النائبات وما ... حذرت أن تترقى نحوك النوب
ما مات من خلدت فينا مآثره ... لكنه سبب أن يرفع الأدب
لولا سراج وفي وجدانه عوض ... لم يدر ما اسم لمعلوم ولا لقب
[فإن تفلل بأيدينا صوارمنا ... لم تعن إلا وأطراف القنا سلب] ومنهم الفقيه الأديب أبو عبد الله محمد بن محمد القرشي المرواني الناصري، عين أهل بيته الخطيرة، وأحد شهبها المنيرة، رثاه أيضاً بقصيدة أولها:
رمته الرزايا عن قسي خطوبها ... بسهم فأيا فوقت نحوه أيا -
فيا عجبا أنى طواه ضريحه ... وقد كان يطوي الدهر من نشره طيا
فثل ذرا عرش العلا وتناثرت ... نجوم المعالي من مراتبها وهيا
وكم آية للدين بين شرحها ... ولم يعترفها بعد ما كان قد أعيا
وكم من حديث للنبي أبانه ... وألبسه من حسن منطقه وشيا(2/820)
ومنهم الأديب النبيل أبو العباس أحمد بن محمد الكناني أحد تلامذته الآخذين عنه، رثاه أيضاً بقصيدة أولها:
رزء تطلبت فيه الصبر فامتنعا ... ورمت دمعي على التسكين فاندفعا قال فيها:
حديث صدق نعى الناعي إلي ضحى ... فزعت فيه إلى التكذيب حين نعى
صبرا سراج فيما يبقي الردى أحدا ... كل سيجرعه من كأسه جرعا
أقول صبرا كأني غير مكترث ... والله يعلم أنا موجعان معا إلى غيرها من قصائد طويلة قليلة الطائل أثبتها أبو الوليد المذكور بجملتها، لم يتسع هذا المجموع لاستيفائها، وفيما مر منها كفاية.
وأكثر من أبنه في ذلك اليوم أطال في مدح ابنه، وليس من عادة أئمة الشعراء المقتدى بهم الإكثار من مدح المعزى في تأبين حميمه المتوفى، وإنما يلمون به إلماما بعد التوفر على ندبة ميته والإشباع في ذكر ما فقد من خصاله، ثم الكر على تسكين جأشه، وحضه على التعزي اتقاء لربه، هذه طريقة فحول الشعراء.
والوزير الفقيه أبو الحسين ابنه المخاطب يومئذ بهذه الأشعار هو سراج(2/821)
ابن عبد الملك بن سراج، اسم وافق مسماه، ولفظ طابق معناه، فإنه سراج علم وأدب، وبحر لغة لسان العرب، وإليه في وقتنا هذا بحضرة قرطبة شد الأقتاب، وإنضاء الركاب، في الاقتباس منه، ثم إنه في هذا الفن الذي نحن في إقامة أوده، زمامه وخطامه في يده، ولنظمه ونثره ديباجة رائقة، وهو القائل:
لما تمكن من فؤادي منزلا ... وغدا يسلط مقلتيه عليه
ناديته مسترحما من عبرة ... أفضت بأسرار الضمير إليه
رفقال بمنزلك الذي تحتله ... يا من يخرب بيته بيديه! وهذا البيت الأخير منها كقول التهامي:
حرق سوى قلبي ودعه فإنني ... أخشى عليك وأنت في سودائه وأنشدت أيضاً لبعض أهل العصر:
فقلت له لا ترم قلبي فإنه ... مكانك والمرمي أنت ولا تدري وقال أبو الوليد بن حزم:
أذكيت في قلبي بنأيك لوعة ... حتى خشيت على محلك فيه وفي قريب منه قول ابن شرف:
عجبت منه وأحشائي منازله ... كيف استقر بها من كثرة القلق(2/822)
وقلب هذا المعنى بعض فتيان وقتنا وهو الأديب أبو بكر بن بقي فقال:
أبعدته عن أضلع تشاقه ... كي لا ينام على وساد خافق وبلغني أنه خرج مع بعض إخوانه إلى بعض البساتين، فعار فرس أحدهم فاتبعه صاحبه وساعده أبو الحسين، وتخلف عنهما أبو الحسن بن اليسع، وأكب على راحه هنالك، فكتب إليه أبو الحسين ابن سراج:
عمري أبا حسن لقد جئت التي ... عطفت عليك ملامة الإخوان
لما رأيت اليوم ولى عمره ... والليل مقتبل الشبيبة داني
والشمس تنفض زعفرانا في الربى ... وتفت مسكتها على الغيطان
أطلعتها شمسا وأنت عطارد ... وخففتها بكواكب الندمان
فأتيت بدعا في الأنام مخلدا ... فيما قرنت ولات حين قران
ولهيت عن خلي صفاء لم يكن ... يلهيهما عنك اقتبال زمان
غنيا بذكرك عن رحيق سلسل ... وحدائق خضر وعزف قيان
ورضيت في دفع الملامة أن ترى ... متعلقا بالعذر من حسان وهذا رواء الديباج الخسرواني، ورونق العصب اليماني، ولمثله فلتنشرح(2/823)
الصدور، ويتشوف السرور، ويذعن المنظوم والمنثور، ألا ترى ما آنق استعاراته، وأرشق إشاراته، وأقدره على الإتيان بالتشبيه دون أداته، وكذلك طبعه في سائر مقطعاته.
على أن أشعار العلماء على قديم الدهر وحديثه بينه التكلف، وشعرهم الذي روي لهم ضعيف، حاشا طائفة، منهم خلف الأحمر، فإن له ما يستندر، وقطرب له أيضاً ما يستغرب، كقوله وقد رويت لغيره:
إن كنت لست معي فالذكر منك معي ... يرعاك قلبي وإن غيبت عن بصري
فالعين تبصر من تهوى وتفقده ... وناظر القلب لا يخلو من النظر والخليل بن احمد، له أيضاً بعض ما يحمد، ومؤرج السدوسي، وابن دريد من الشعراء العلماء؛ وكذلك من علماء البصرة أبو محمد اليزيدي وبنوه، وهو القائل في حمويه ابن أخت الحسن الحاجب:
إن فخر الناس بآبائهم ... أتيتهم بالعجب العاجب
قلت وأدغمت أبا خاملا ... أنا ابن أخت الحسن الحاجب(2/824)
ومن هذا أخذ دعبل قوله:
سألته من أبوه ... فقال دينار خالي
فقلت دينار من هو ... فقال والي الجبال وابن مناذر أيضاً عالم شاعر، وأبو محلم السعدي، وهو الذي يقول:
تصيخ لكسرى حين تسمع ذكره ... بصماء عن ذكر النبي صدوف
وتغرق في إطراء ساسان وابنه ... وما أنت من أعلامهم بشريف ومن العلماء الشعراء أحمد بن أبي كامل وهو القائل:
لا أرى فيما أرى شبهاً ... لك غير البدر في الظلم
غير أن البدر ليس له ... لحظة تدعو إلى السقم ومن الرواة الأخباريين محمد العتبي وهو القائل:
رأين الغواني الشيب لاح بمفرقي ... فأعرضن عني بالخدود النواضر(2/825)
الأبيات.
هؤلاء أعيان العلماء الشعراء بالمشرق، ممن علا شعرهم ديباجة ورونق، فأما من سواهم كيونس والأخفش وأبي عمرو بن العلاء وسيبويه والفراء وسائر أصحابهم فأكثر الرواة لم يسمع لهم بشعر، والكسائي الذي يقول: " إنما النحو قياس يتبع " له شعر ضعيف، بين التكليف. فأما أبو عبيدة فله شعر يضحك، لا سيما قوله في ابن أخي يونس النحوي، وكان يسمى خرك، لم أر أن أكون من رواته إذ هو معدود في هناته.
وللأصمعي قصيدة في بني برمك أكثر فيها من الغريب، وما أتى بغريب؛ وكذلك من علماء الكوفة جماعة مثل خالد بن كلثوم، وأبي عمرو الشيباني، وابن الأعرابي وأصحابهم، زعم ابن المنجم أنه لم يسمع لهم بشعر.
وأما العلماء الشعراء بأفقنا هذا الأندلسي من حين استفتحت الجزيرة إلى آخر دولة بني عامر، فقد تقدم المصنفون قبلي إلى تدوين نثرهم ونظمهم، فأغناني عن ذكرهم، وإنما شرطت ذكر أهل عصري ممن شاهدته بعمري، أو لحقه بعض أهل دهري.(2/826)
@فصل في ذكر الوزير الكاتب أبي مروان عبد الملك بن محمد بن
@شماخ، وإيراد جملة من نظمه ونثره، مع ما يتعلق به ويذكر بسببه
وأبو مروان هذا أحد من شافهته وذاكرته، وأنشدني شعره، وكان باهر الضوء، صادق النوء، ينفث بالسحر، في عقد النظم والنثر، ويوفي على أنواع البديع، إيفاء نيسان على محاسن فصل الربيع، إلى علم أعذب من الماء، وأكثر من حصى الدهناء، وفهم أذكى من الشمس، وأجرى من النفس في النفس؛ ولولا أنه اختصر، لبهر الشمس والقمر، كما أعجز من نظم ونثر، وسبق أكثر من تقدم وتأخر، وقد أجريت من نظمه ونثره، ما يشيد باسمه، ويدل على سعة علمه.
فمن ذلك رقعة خاطب بها الفقيه قاضي الجماعة أبا عبد الله بن حمدين، افتتحها متمثلاً بهذه الأبيات:
لما وضعت صحيفتي ... في بطن كف رسولها
قبلتها لتمسها ... يمناك عند وصولها
وتود عيني أنها اق ... ترنت ببعض فصولها
حتى ترى من وجهك ال ... ميمون غاية سولها(2/827)
نعم، أدام الله عز الفقيه سامي الرفعة، إني حاسد هذه الرقعة، لأنها تحظى دوني برؤيته، فلو حظيت بمثل ما به حظيت، لبلغ قلبي غاية أمنيته. أمثال أضربها عليك ما لها أمثال، وسلسال أمزجه لديك يحيا به الصلصال، يا أيها الخطى الذي أنبته وشيجه، يا أيها الأعوجي الذي هذبه تخريجه، يا أيها الفرع الذي ثبت أصله فوق السماء، وشمخ سنخه بناصية الجوزاء:
إذا ثبتت فوق السماء أصوله ... فأين أعاليه وأين الذوائب - بعد صيتك في النباهة حتى طبق الغبراء، وصعد سروك في الجلالة حتى آنق الخضراء، لو اقتصرت على ما بنى لك أولك، لسبق جهد السابقين مهلك، بل ينيت على ما بنوا، وسموت كما سموا؛ فلو فضت خواتم الطين، عن بائك الأكرمين، لبصرت بعظامهم تهتز وهي رميم، إعجاباً بما أهداه إليها سعيك الكريم:
فقد يضحك الحي سن الفقيد ... فتهتز أعظمه بالعراء خطبت ودك، فان ترني كفواً، بلغت المبالغ الشاسعة عفواً، ظمئت إلى شمول تلك الشمائل، فإن سقيتني منها نغبة، سرت في الأريحية حقبة، ما أرى الفقيه يعلم من أمري، أكثر من معرفته بضئضئي(2/828)
ونجري. سألمع لك في شأني بلمعة واختصر، فقد يروي - وإن قل - الزلال الخصر. كان مدة في يدي زمام بلدي، ثم نقلت إلى حمص، وكانت لخم متى شاءت أمراً لم تعص، فلما رمت بصنهاجة اللجج، وثار لهم ذلك الرهج، في يوم أشرعت فيه الأسنة، وأجهضت لشدة خطبه الأجنة، فانتهب مالي كما انتهب مال المصر، وكسد في حمص سوق النظم والنثر، زهدنا فيها فمقتناها، وسكتنا عن الكتابة فما أبناها، ولجأنا إلى غافق، بعلق من الأدب غير نافق، بحيث يتساوى الجهل والعلم، ويصفع البليغ الفدم؛ وإني - أعز الله الفقيه - وإن كان أوطاني الله منها أوطاني، وأعطاني منها أعطاني، وآواني منها إيواني، لعدم الشكل، لغريب فيها بين الأحبة والأهل. فإن تبك عين الفقيه الشفيق، ضياع صديق، فلتبك مني لطائر كريم، رد إلى وكر لئيم، ولترث لدرة سنية، ردت إلى صدفة دنية، وحسبنا الله! أنا المصدور أكثرت نفثاً، وشكوت بثاً؛ وإن كنت أطلت الخطاب، فان حوار الفقيه لذ لي وطاب، وانتظاري لجوابه انتظار الصائم للفطر، والساري للفجر، وأقرأ عليه من سلامي عدد مناقب الفقيه، بل عدد محاسن أبي الحسن أبيه، فإنها تجاوز الحد، ولا تطاوع العد.(2/829)
قوله " وإني بها لعدم الشكل، لغريب بين الأحبة والأهل " محلول من قول الخطابي حيث يقول:
وإني غريب بين بست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي
وما غربة الإنسان في شقة النوى ... ولكنها والله في عدم الشكل وأخذه عمر بن أبي السجزي فقال:
وليس اغترابي في سجستان أنني ... عدمت بها الإخوان والدار والأهلا
ولكنه مالي بها من مشاكل ... وإن الغريب الفرد من يعدم الشكلا وقوله " فتهتز أعظمه بالعراء " كقول أبي تمام:
ولو علم الشيخان أد ويعرب ... لسرت إذاً تلك العظام الرمائم وإليه أشار محمد بن هانئ بقوله:
فليت أبا السبطين والترب دونه ... رأى كيف تبدي حكمه وتعيد فأجابه القاضي أبو عبد الله برقعة اقتضبت بعض فصولها لطولها [قال فيها:
كتبت ولو قدرت هوى وشوقاً ... إليك لكنت سطراً في كتاب(2/830)
من صحب الآصال والبكر، عرف وأنكر:
ما أحسن العيش لو أن الفتى حجر ... تنبو الحوادث عنه وهو ملموم] عمر بابك، وأخصب جنابك، وطاوعك زمانك، ونعم بك إيوانك:
وسقى بلادك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي فما درج بسبيله، من كنت سلالة سليله، ووراث مجده ومقيله؛ وما خام وضرع، فخر رمى عن وتر قوسك ونزع، لم يهلك هالك، ترك مثل مالك.
[كالعندواني لا يحزيك مشهده ... وسط الهياج إذا ما تضرب البهم] فركت المهاد، وألفت السهاد، وتقيلت الآباء والأجداد، فأسرجت في ميدان عتاق الجود براقاً، مريت له حافراً وساقاً، فاحتل من شعاب(2/831)
المجد صقعا، أثار به نقعا، ودوم في جو السماء، تدويم قزع العماء، [كأنه على قمة الرأس ابن ماء محلق] ، فحق لباهر فضلك أن يطول فيقول:
ما بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي فخرت لا بجدودي أو يتنزل، فيتمثل:
لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوما على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا كم متعاط شأو طلقك، ومشترط منال أفقك، سولت له نفسه شق غبارك، واقتفاء مناهج آثارك، سلك فما أدراك، وبلج بعيره فبرك:
فهن رذايا بالطريق ودائع ...
وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس لو بما تعتز به عشائر نسبوك، وآباء صدق ولدوك فأنجبوك:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه(2/832)
وجلباب أدب، شفع الحسب، وكسا الدرة الذهب، فثناك وتر الأبد، كالسيف الفرد، إذ غلت الركاب، وعلقت الأسباب - لتعديت منابج العواء، فهصرت هقعة الجوزاء، واتخذت إكليلها إكليلا، فلم تذممك نزيلا، وقبلت أخمص قدميك تقبيلا.
وفي فصل: بيننا وسائل، أحكمتها الأوائل، ما هي بالأنكاث، والوشائج الرثاث، من دونها ود جناه شهد، ومراده خلد، أنضر من أنيق الخضر، وأعبق من فتيق الزهر، غب المطر، [جمت أعراضه، ونديت حياضه، سرى له النسيم، فوشى به النميم:
ما روضة من رياض الحزن معشبة ... غناء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمس منها كوكب شرق ... مؤزر بعميم النبت مكتهل
يوما بأطيب منه نشر رائحة ... ولا بأحسن منه إذ دنا الأصل لو كان بشرا كان حسن البشرة، أنيق الحبرة] ، أرج عرف النسيم، مشرق جبين الأديم، رائق رقعة الجلباب، مقتبل راد الشباب، كالصباح المنجاب، تبرق أساريره، وتلقاك قبل اللقاء تباشيره:
ورثناهن عن آباء صدق ... ونورثها إذا متنا بنينا(2/833)
المقة تبعث الثقة، لا يلهينك وقد لاح البدر، ووضح للساري الفجر، جواب أنيته، ودين مطلته ولويته:
فقلت امكثي حتى يسار لعلنا ... نحج معا قالت: أعاما وقابله - إسجاح ومعذرة، إذا لم تكن مقدرة، فنظرة إلى ميسرة، لو بحسب ما أطويه، لبيت داعي مناديه، لبادرت بدار العين، وأوفزت إيفاز لمع اليدين، واقتضبت المدى، فكان الكلام وكنت الصدى، وما بهن خجل التسويف والليان بأرقد من معضوض الأفعوان، ومفترش حسك السعدان:
على الفراش لضوء الصبح مرتقب ... كأنه به الإبر وفي فصل منها: ولا غرو إن استعجم لسان، وحصر بيان، لجنة جنان، وخريدة بيان، ترود روض الآداب، وترد ذوب ماء الألباب، نماها كهلان، ونهد بها سحبان، تدعو نزال، وتتنجز رد السؤال:
بيان لم ترثه تراث دعوى ... ولم تنبطه من حسي بكي أهلا به طائر وداد وقع، وبلبل واد سجع فرجع، وهيج داء دفينا، فذكر بعض ما كنا نسينا:
فضضت ختامه فتبلجت لي ... غرائبه عن الخبر الجلي
فكان أغض في عيني وأندى ... على كبدي من الزهر الجني(2/834)
وأحسن موقعا مني وعندي ... من البشرى أتت بعد النعي
... صدور الغانيات من الحلي> لله فطنة فطرته، ويد سطرته، وصحيفة احتوته، وأنامل لوته! ما أبدع ما وسق، وأعجب ما نظم ونسق، إن هو إلا سحر يؤثر، ودر ينثر، وأنفاس تعبق، ونفوس تسبى وتسترق، إلى أغراض كقطع الرياض، ومعان كأبكار الغواني لوين قدودا، وكسين من وشي الكلام مجاسدا وبرودا، فمعجبه يهزج بيفاعه، ويرتجل على إيقاعه:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم سمير الآذان، وحديث الركبان:
[به تنفض الأحلاس في كل منزل ... وتعقد أطراف الحبال وتوثق نادى شخص طلل حابس، وكلم ربع رسم دارس، من نفس أبداد، وفؤاد فاد، صدي حتى بلي، ودهي حتى فني؛ بمثله وقف جميل، واستعبر يقول:
ألم تسأل الربع القواء فينطق ... وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق(2/835)
فكان حيا جلجل رعده، وأسبل ودقه، بأكناف جوى محل واديه، وأجدبت بواديه، فلأيا ما لان مدره، وانبجس حجره، وطلع نجمه وأشرق زهره:
... كلا ولا نبت فهو سعدان> {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا} (الأعراف: 58) شتان بين ربوة يفاع، وصفوانة بقاع، وأين من الغمر المعين، وشل ينضج بمثل رشح الجبين - في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار، وأن تسمع بالمعيدي، وتخبر عن الإياسي، فشاكه أبا يسار، فبدون ما وصفتنيه ينفق الحمار، وتخطب غير ذات النجار؛ ما هي إلا حلى فضائلك خلعتها علي، وخمائل شمائلك أضفتها إلي، وإلا فود تجاوز القدر، فأعمى البصر:
وعين الرضى عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا] والشفق والغسق، ولوامع الفلق، إنك لصاحب الراية ومحرز الغاية، زعيم حلبة البيان، وفارس ذورة الإحسان، [لتعط القوس(2/836)
باريها، وتمنح المنحة ذويها] ، وإن للمتعاطي ذلك المضمار، أن يبايع بيد الصغار، وينبذ بأزمة مقادير الأقدار:
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأبصار لا عطر بعد عروس، ويا لك من نضو فؤاد هجت به ادكارا، وحركت له حوارا، تجاسر بخمعه، واستن على ظلعه، فدسع بجرة عقير، فانفهق عن فرصة فقير:
نزرا كما استكرهت عابر نفحة ... من فارة المسك التي لم تفتق على حين ذوى روض الأدب، فقاظ مصيف الطرب، [وألفت " قال مالك "، وتركت ما هنالك] ، فما عهدي الآن إلا زورة اللمم، وذكرة الحلم، أذوقه شميما، وأطعمه نسيما، وأغري المحافظ عليه، وأغبط أفئدة من الناس تهوي إليه:
فكأني وما أزين منه ... قعدي يزين التحكيما
لم يطق حمله السلاح إلى الحر ... ب فأوصى المطيق ألا يقيما(2/837)
وإن أنخت بعطنك من أفق غافق، ذا بضاعة أدب غير نافق، أصبحت منها كالمسك ينافح نفسه، أو الفذ يكلم حسه، معاشر معاشر لم تغذهم رقة الآداب، ولا أعربت ألسنتهم عوامل الإعراب:
فهن يغلطن به إلغاطا ... مثل النبيط لاقت الأنباطا وإن نطق زهير، قالوا نهق العير:
أرض الفلاحة أو أتاها جرول ... أعني الحطيئة لاغتدى حراثا
تصدا بها الأفهام بعد صقالها ... وترد ذكران العقول إناثا
أرض خلعت اللهو خلعي خاتمي ... فيها وطلقت السرور ثلاثا فخير أنيس المرء ذكر يشحذ الفكر، وروض كتاب يصقل الألباب:
أعز مكان في الدنا سرج سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب ولله ما حويت، ونعم ما اقتنيت، من حدائق أدب، في يفاع حسب، سنخ ضرب الأرض بعروقه، وبسق فاستوى على سوقه يونق البقاع، ويعجب الزراع، كرم [مدده فزكا ثمره، وطاب(2/838)
خبره وخبره] ، أكرم نسب وأفضل نشب، ناهيك ما يروق جمالا، ويخف حمالا، لا تبتزكه اللصوص، ولا ترحل به دونك القلوص:
[يزيد بكثرة الإنفاق منه ... وينقص إن به كفا شددتاٍ ولن تراع فلن تضاع، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، وكفى بربك هاديا ونصيرا؛ وأبلغك سلاما، يكون بنحر عقدك نظاما، ويضرب على روض ودك غماما:
فينبت حوذانا وعوفا منورا ... سأتبعه من خير ما قال قائل قال ابن بسام: والفقيه قاضي الجماعة أبو عبد الله بن حمدين هذا في وقتنا غرة الزمان الزاهرة، وآية الإحسان الباهرة، أحد من تقدم على أهل الفضل، تقدم الاسم على الفعل، واستولى على النبل، استيلاء الشمس على الظل، وله صدر يسع الدهر كله، ولسان يخلق السحر(2/839)
لو استحله، وهو وإن كان اليوم، بالحضرة العظمى قرطبة، يعسوب الإسلام، ومدار الأنام، وجماع النقض والإبرام، فلهذا الشأن الذي تصديت لإقامة أوده بهذا الديوان، من عنايته أوفر نصيب، ولأهله من استقلاله وكفايته حمى غير مقروب، وقد رفعت له على علمه نار، فضربت عليه في حرمه أرواق وأستار، وسارت على ألسنة الركبان من كلمه رسائل وأشعار، أجزل من ذكر أبان، وأحسن من الحديث عن جنان، وأوضح من عذر قريش في حب عثمان، ولم أظفر منها عند تحرير هذه النسخة من هذا الكتاب، إلا بهذا الجواب، وفيه متعة جد كافية، وعلامة من الفضل غير خافية، ويعلمك بجنى الشجرة الواحدة من ثمرتها، ويدلك على خزامى الأرض النفحة من رائحتها.
@جملة من شعر ابن شماخ
من ذلك ما أنشدنيه لنفسه من جملة أبيات اندرجت له في رسالة موشحة عارض بها بديع الزمان في طريقته، وضربها على قالب سبيكته، يقول فيها:
أودت بنخوة أهل حمص بديعة ... ملأت قلوبهم علي حفائظا
فتشت فيهم قارضاً يأتي بها ... فكأنما فتشت فيها القارظا(2/840)
وله فيها:
بعثت بها يعنو لها كل ناثر ... ويعيا بما مضنتها كل قارض
جعلت حياتي أجر من قال مثلها ... فمن شاء عمراً طائلاً فليقارض وأنشدني أيضاً لنفسه:
فويح جفوني كيف تطلق لحظها ... وروؤية هذا الخلق تتركها رمدا
نوائب غالتني فأبدت فضائلي ... فكانت وكنت النار والعنبر الوردا وهذا من قول أبي تمام:
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود ومنها يصف ناقة:
تجد على أن الفيافي برينها ... فتعرفها عتقاً وتنكرها جهدا ومنها في المديح:
فلولا علاه عشت دهري كله ... وكيس كلامي لا أحل له عقدا قال ابن بسام: واستعارته كيساً للكلام، من مضحكات الأنام، وقرأت في أخبار الصاحب ابن عباد قال: كنا نتعجب من قول أبي تمام:(2/841)
" لا تسقني ماء الملام "، ونستبشع استعارته له ماء حتى عذبت عندنا ب - " حلو البنين " في قول أبي الطيب:
وقد ذقت حلواء البنين على الصبا ... فلا تحسبني قلت ما قلت عن جهل كيف لو سمع الصاحب استعارات أهل وقتنا، كقول المهدوي بن الطلاء:
بقراط حسنك لا يرثي على عللي ... وقوله:
أفاقت بك الأقطار من برص البلوى ... [وقول ابن الطراوة:
أبا حسن فت الملوك مهابةً ... فكلهم فأس المهابة عالك] وقول حسان بن المصيصي:
إذا كانت جفانك من لجين ... فلا شك الغنى فيها ثريد وقد قدح أهل النقد في المتنبي بخروجه في الاستعارة إلى حيز البعد بقوله:
مسرة في قلوب الطيب مفرقها ... وحسرة في قلوب البيض واليلب(2/842)
وفي قوله:
ألا يشب فلقد شابت له كبد ... شيباً إذا خضبته سلوة نصلا وفي قوله:
لم يحك نائلك السحاب وإنما ... حمت به فصبيبها الرحضاء فجعل كما تسمع للطيب واليلب والبيض قلوباً، وللكبد شيباً وللسحاب حمى، [كما جعل أبو تمام الدهر يصرع في قوله:
خطوب كأن الدهر منهن يصرع ... وجعله بشار يموق بقوله:
وما أنا إلا كالزمان إذا صحا ... صحوت وإن ماق الزمان أموق وكذلك] أخذ على المتنبي في قوله:
لويته دملجاً على عضد ... لدولة ركنها له والد لما كان الممدوح عضد الدولة أراد أن يصوغ له دملجاً فأخطأ الصوغ، لا سيما في بيت ختم به القصيدة، وهو آخر ما يقع في السمع؛ وأعجب من الصحاب ابن عباد حين لم يجد من استعارات أبي تمام شيئاً ينعاه إلا قوله " ماء الملام " وليس هذا بأعجب من قوله: " هو كوكب الإسلام أية ظلمة ".(2/843)
ولأبي حفص ابن برد من أهل أفقنا شيء مضحك على رشاقته وهو قوله:
يا شاعر الحسن بي ترفق ... لا تقتلني كذا بديها وإن كان أبو بكر بن عمر اتبعه، فلقد صفعه، أو اقتفى أثره، فلقد طوى خبره، بقوله.
روى ليضرب وابتدهت لطعنة ... إن الطعنا بدائه الفرسان ومن شعر ابن شماخ ما أنشدنيه من قصيدة:
بلى قد حلبت الدهر في كل وجهة ... فلم يبق خلف يستدر ولا شطر
[فأصديت حتى ضنت السحب بالحيا ... ورويت حتى انهل بالسبل الصخر]
وكان على الإنسان إنفاد جهده ... فإن يكد بعد الجهد كان له عذر
على العضب أن يفري إذا جرد الصلا ... وليس عليه التاث أو ساعد النصر
وقدر لي استيطان لك وقلما ... يكون لمن كانت له وطناً قدر
مؤهلة من أهلها غير أنها ... من الكرم الموجود في غيرها قفر
فإن كسدت أعلاق علمي لديهم ... فلا غرو أن يكسد لدى النعم الشذر جزم بحرف النصب وأراه وهم فيه. على أن أبا الحسن اللحياني حكى(2/844)
في نوادره أن بني صباح من بني ضبة يجزمون بعوامل النصبن وأنشد لشاعرهم:
وأغضي على أشياء منك لترضني ... وأدعى إلى ما سركم فأجيب وليس العمل به، ولا لمحدث أن يتعلق بسببه.
وفي هذه القصيدة يقول:
فيا لك إن لم تقض لي عنك رحلة ... فلا يقض إن يمتد فيك لي العمر قال ابن بسام: فكأنه والله أجيبت دعوته في هذا البيت، لأنه مات فيما أرى وقد نيف على الثلاثين.
وقرأت في أخبار المتنبي في القصيدة التي ودع فيها عضد الدولة فجرت فيها ألفاظ على لسانه كأنه ينعى فيها نفسه ولم يقصد ذلك، منها:
ولو أني أستطعت خفضت طرفي ... فلم أبصر به حتى أراكا ثم قال:
إذا التوديع أعرض قال قلبي ... عليك الصمت لا صاحبت فاكا وقال في آخرها:
وأياص شئت يا طرقي فكوني ... أذاة أو نجاة أو هلاكا(2/845)
فجعل قافية البيت " هلاكا " فهلك، وذلك أنه ارتحل عن شيراز حضرة عضد الدولة بعد أن وصل إليه من صلاته أكثر من مائتي ألف درهم، فخرج عليه في طريقه قوم من بني ضبة الذين كان هجاهم، فحاربهم فأجلت الوقعة عن قتله وقتل ابنه محسد ونفر من غلمانه، وفاز الأعرابي بماله، وذلك سنة أربع وخمسين وثلاثمائة. وأول من جرت على لسانه ألفاظ يتطير منها المؤمل بن أميل في قوله:
شف المؤمل يوم الحيرة النظر ... ليت المؤمل لم يخلق له بصر فعمى.
ومن شعر ابن شماخ من جملة قصيدة وصف فيها ارتحاله عن وطنه، ومثواه باشبيلية على غير رضى، أولها:
يا ليت شعري هل دامت لهم حال ... عهدتها في حفاظ العهد أم حالوا - يقول فيها:
فإن تكن سائلا عمن تركت فقد ... شاب الشباب وقد شب الاطيفال
صبرت والبعد أحوال وذاعجب ... ولم أكن صابراً والبعد أميال
أرجو الإياب لفأل فيه أسمعه ... والدهر يفعل ما لا يخبر الفال(2/846)
وفيها يقول:
فهل لهم سائل عني فيخبرهم ... كما أنا عنهم مذ غبت سآل -
إن كان يسأل عن ثوبي فلا درن ... أو كان يسأل عن حال فلا حال
أضاع مجدي مال ضيعته يدي ... ما ضيع المجد إن لم يرعه مال
وبز حالي ترحالي إلى بلد ... مذ جئته لم يكن لي عنه ترحال
أقمت حولين فيه خاملاً خرساً ... كأنني وأنا السلسال صلصال
بل لم أزل معرباً عما لدي فلم ... أجد به معرباً ينبيه تصهال
أطال شغلي فراغي مذ حللت به ... إن الفراغ من الأشغال أشغال
إن أبق في حمص تبق النار في حجر ... وإن أسر سار في الآفاق سلسال
[وعر من العيش ما لي أرتقيه وفي ... بني أبي لنا بالمصر آمال] !
ضاءت بسؤددهم أرجاء قرطبة ... وعاد إدبار ذاك العصر إقبال @فصل في ذكر الفقيه أبي عمر أحمد بن عيسى الإلبيري
من أفراد الزهاد - كان - في ذلك الأوان، ومع ما كان أدير عليه يومئذ من الأمور، وجعل إليه من التقديم والتأخير، فإني وجدته خالص(2/847)
الأدب، [محصد السبب] ، ذهب بفصوصه وعيونه، وتلاعب بمنثوره وموزونه، وتصرف بين مذاله ومصونه؛ إلا أن أكثر ما ألفيت له من المقطوعات والأبيات، في الزهد والعظات، وقد كتبت منها ما هو من شرط هذا المجموع.
أخبرني من لا أرد خبره عن الفقيه أبي المطرف الشعبي عن شيخه هذا الفقيه أبي عمر بن عيسى، قال: خاطبت الوزير أبا العباس بن العريف في أرض تعدى علي فيها برقعة منها:
أما بعد، وفقك الله لما يرضيه منك عملاً، ويرضيك منه جزاءً؛ فإن للدنيا حرثاً والناس زارعون، وكل في معاده، يأكل من حصاده، وذو الجاه يسأل في الآخرة عن جاهه، كما يسأل ذو المال عن ماله. وقد أحوجت الأيام إلى جاهك، وأغنت القناعة عن مالك، فاتخذ عندي اليوم يداً، تجدها عند الله مضاعفة غداً، فالحظ حاجتي بعين يقظتك، ولا تلحظها بعين سنتك، فان لله لوحاً ضمنه المقادير كلها، يلحظه في كل يوم وليلة ثلاثمائة وستين لحظة، يحي بكل لحظة ويميت، ويعز ويذل، ويرفع ويضع، ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد؛ واعلم أنك تلحظ بمثل ما به تلحظ.(2/848)
وله من أخرى: خاطب بها بعض إخوانه سنة ست عشرة وأربعمائة: سمت بك سماء العلم إلى سموه، ودنت بك أرض السكينة إلى دنوه، ودار بك فلك المعرفة في ملكوته، وغابت بك نجوم الحكمة في جبروته، وهيأتك يد القدرة هيئة روحانية، وأحياك روح القدس حياةً إلهية، وألبستك الشريعة لباس التقوى، وراشتك الطبيعة بريش النهى، حتى تطير مع الروحانيين، في مجال الصديقين، إلى منازل المقربين، فتذوق برد عيش النعيم، وتلذ بالنظر إلى وجه القيوم، وتشتاق إلى لقاء الرب الرحيم. هيهات! كيف ينعم من لا يعلم أين النعيم، من ملك القديم -! إن لله يا أخي عباداً أقام أرواحهم بقيوميته على صراط مستقيم، فمشت بأقدام الصدق إلى الحق، فدنت منه، فنظرت إليه على جلاله، في اتساع كماله، فضعفت لكبر سلطانه؛ ثم أفاقت بالإسلام، ونطقت بالإيمان، وأبصرت بالإحسان، واتصلت بالقرآن، فأمرها فقامت بالخدمة، وعلمها ففازت بالحكمة، فانقطعت إليه بالكلية، ودانت له بالحنيفية، فآواها إلى كنفه، ونعمها بطرائف تحفه؛ فملكها أبداً لا يبيد، وعلمها به يزيد؛ حتى أطلع لها السر، وأكمل لها البر، فحييت بقربه، وشربت بكأس حبه، فرفضت الأسباب، وخرقت الحجاب؛ وبيض وجوهها البرهان، وأثلجها البيان، {وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة} (القيامة: 22) فرحمانهم علامهم، وجبارهم رزاقهم، خلاؤهم ملاء، وملاؤهم خلاء، وسماؤهم أرض، وأرضهم سماء، روحانيون جسمانيون إنسيون ملكيون، أولئك الأصفياء الاتقياء، الأولياء النجباء، أتاهم العون، فساعدهم الكون.(2/849)
@ومن شعره
أنشد له الفقيه أبو المطرف الشعبي:
يا خالقاً الزمان بقدرة ... في غير حين من أحايين الزمان
يا محدثاً للكل كنت ولم تزل ... وكذاك ربي لا يزال بلا مكان
أنت الذي جلت صفات جلاله ... وعلت جلالته من إدراك العيان وأنشد له:
ملك تعالى فوق غايات العلا ... يقضي القضاء على نهايات الثرى
من فوق فوق الفوق ينفذ حكمه ... في تحت تحت التحت تحت الإنتها
قرباً وبعداً وهو أبعد من نأى ... من كل شيء وهو أقرب من دنا
جلت صفات جلاله فجلاله ... قد جل عن تحديد كيف ومن وما وأنشد له أيضاً:
شربت بكأس الحب من جوهر الحب ... رحيقاً بكف العقل في روضة الحب
وخامر ماء الروح فاهتزت القوى ... قوى النفس شوقاً وارتياحاً إلى الرب
ونادى حثيثاً بالأنين حنينها: ... إلهي إلهي من لعبدك بالقرب -
فخاطبه وحياً إليه مليكه: ... سأكشف يا عبدي لعينك عن حجبي
فأعلن بالتسبيح: مثلك لم أجد ... تعاليت عن كفؤ يكافيك أو صحب(2/850)
أحول ببعضي فوق بعضي كأنني ... ببعضي لبعض كالنجائب والركب
فخذ بزمام الشوق مني تعطفاً ... إليك ولا تسلم زمامي إلى لبي
لعلي أسقى ثم أسقاه دائماً ... رحيقاً بكف العقل من جوهر الحب ويجانس هذا رقعة مرت بي في بعض التعاليق لرجل ناسك من أهل سرقسطة كتب بها مداعباً لصديق، كتب إليه: ليت شعري يا أخي ما الشراب الذي تشربه [وتستعمله] ، فتحمر عنه وجناتك، وتنشط إلى سعيك حركاتك؛ بياضك أبداً مشرب بحمرة، كأنك مدمن خمرة، وأنت في كل حال طروب لعوب، غير عبوس ولا قطوب، لا يظهر عليك هم، ولا يخامرك غم؛ فلو وصفت لي صفة غدائك وشرابك، رجوت التأهب بإهابك، والتخلق بأخلاقك وآدابك.
فأجابه الزاهد:
خذ كمأة الليل في جام من السهر ... واسكب عليه دموع العين بالسحر
وامزجه بالحوف مزجاً ناعماً أبداً ... وقم على قدم الإيراد والصدر
واجعل من الشوق مخواصاً لساكبه ... ليستوي لك منه الصفو بالكدر
واشربه مصطبراً بالله وأرض بما ... يجري عليك من الأحكام في القدر
واغسل بباقيه وجهاً لا حياء به ... ألقت عليه المعاصي حمأة الغير(2/851)
لعل قلب أن تصبو معاطنه ... لتستمد مجاري السمع والبصر
فيهتدي كل عضو نحو غايته ... فبين مزدجر عنه ومعتبر
إن الوجوه قلوب إن نظرت إلى ... حقائق الحال أو حددت في النظر إذا امتلأت القلوب من ضروب دواعيها، أظهرت الوجوه بطلان دعاويها، ونم على الأوعية ما جعل فيها، ولذلك قال من قال: الحمد لله الذي ألبس أولياءه حللاً من ضمائرهم، وأنار وجوههم بنور إخلاص سرائرهم، وكللهم بالمهابة في العيون، وطهر قلوبهم من اختلاج سوء الظنون، فنفوسهم مستريحة رائحة، ومحاسنهم لأهل العقول لائحة، وثناؤهم عطر الانتسام، فهم بين الأنام كالأعلام، بهم يستمطر الغمام إذا حجب، وفي جملتهم يحشر السعيد إذا نجب، فمن جاراهم نكب، ومن حاربهم غلب، ومن أقلع إليهم بخلاف ريحهم عطب.
ومنها: يا بؤس مقام الظالمين، وندامة العاصين، إذا رأوا العذاب، وتقطعت بهم الأسباب، ويقولون هل إلى مرد من سبيل، ولات حين سبيل {وأنى لهم التناوش من مكان بعيد} (سبأ: 52) ، {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} (الأنعام: 28) ، كيف يتعلق المنقطع بحبل الاتصال، أو يجد قلبه برد ماء الوصال، وقد خالف أمر الكبير(2/852)
المتعال - ألا ومن خالف خولف به، ومن عدل عن سلوك سبيل الرشاد نكص على عقبه، ومن أبصر واجتهد أدرك غاية مطلوبه، واتصل بمحبوبه، ووصل إلى رياض مرغوبه، وصل والله إلى مقام أمين، في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين:
كم بين من عبر الصراط خفيفا ... وأتى الإله من الذنوب نحيفا
وطوى المراحل بالطوى عن كل ما ... كره الإله وجانب التعنيفا
حتى أناخ ببابه وقبابه ... ضيقاً عزيزاص عنده معروفاً
فأتى القرى بحبائه وجزائه ... حتى ينال من النعيم صنوفا @فصل في ذكر الأديب العالم الناثر الناظم أبي محمد غانم، والأخذ
@بطرف مستظرف من خبره وحميد أثره
قال ابن بسام: وكان أبو محمد غانم بن وليد، ونسبه في بني مخزوم، قد بذ وقته أهل ذلك الإقليم، في أنواع التعاليم؛ فرد عصره ونسيج وحده، في تناهي جده؛ متفنناً جرى في ميدان السبق، وفقيهاً قرطس(2/853)
أغراض الحق؛ وكان في هذا الباب الذي ولجنا فيه من أهل الروية والبديه؛ حدث عنه الفقيه أبو عبد الله بن عميثل وكان من خاصته الملازمين له، والآخذين عنه، أن أبا محمد أنشد هذين البيتين:
وإذا الديار تنكرت عن حالها ... فذر الديار وأسرع التحويلا
ليس المقام عليك حتماً واجباً ... في بلدة تدع العزيز ذليلا وسئل الزيادة عليهما فقال:
لا يرتضي حر بمنزل ذلة ... إن لم يجد في الخافقين مقيلا
فارض العلاء لحر نفسك لا تكن ... ترضى المذلة ما حييت سبيلا
واخصص بودك من خبرت وفاءه ... لا تتخذ إلا الوفي خليلا
فلقد خبرت الناس منذ عرفتهم ... فوجدت جنس الأوفياء قليلا
سقياً لأيام الشباب فإنها ... كالإلف حاول أن يجد رحيلا @جملة من نثره
من ذلك خاطب بها بعض إخوانه بغرناطة، قال فيها:
يا سيدي سمواً، وسندي علواً، كل جواد من بني جودي سابق(2/854)
وكل سيد من بني سوادة سامق، ولولا أن أجاهر بسر الإطراء، وأناظر في باب الإغراء، لقلت إنك حابس لوائهم، وفارس وفائهم، وحارس ثنائهم؛ ورحم الله من كان لك سمياً، فلقد كان سرياً، وفي الفضلاء سنياً، وأرجز أن يكون عند ربه مرضياً.
وردني - أعزك الله - كتاب ألذ من مراشف الأحباب، وخطاب أرق من معاني أبي الخطاب، عمر بن أبي ربيعة، فله على علمك معان بديعة، جلوت منها زهر المعاني في رياض الشعر، وعروس الأماني في نثار النثر، وتبسك لي عصر الربيع قبل أوانه، فتقسم ناظري بين شقائقه وحوذانه، وورده وسوسانه، إلى لطائف من أبكار درر، وأنواع غرر، بعضها من بنات الفكر، وبعضها من بنات الذكر، وغير نكير أن يصير روض النهى، في حلي روض الربى، ودر الأفكار كدر التجار. ولما رتع ناظري في تلك المراتع، وربع خاطري في تلك المرابع، هزتني راح الأريحية، وازدهتني خفة الأمنية، فلو كنت ممن يشرب الراح، لطرت بلا جناح؛ تذكرت بخطابك ونظامك تلك الشمائل، بمالقة، وروح تلك البكر والأصائل، وإن لم يكن إلا في ليال قلائل.
وفي فصل منها: ومما أغفلته بقلة اليقظة، وسألت الله ألأ تكتبه علي الحفظة، تهنئتك بالفارس المولود، والفرع المودود، والنجم السعيد، الذي تطلع في أفق سمائك، وتلفع بلفاع ضيائك، مليته ولداً براً، ووفياً حراً.
تقسمت خطرات القلب ريحان ... هذي ارتياحي وفي هاتيك ريحاني(2/855)
إني على السن والدنيا مولية ... لذو فؤاد إلى الإخوان حنان
أرتاح نحو نسيم ساق عرفهم ... كأنما يعتلي بالجسم روحاني
أمن لبيرة تسري الريح حاملة ... روح النسيم فأحياني وحياني -
مقر ملك الرئيس المستجار به ... باديس فاز بتمكين وإمكان
يا لائح البرق من أعلامها غسقاً ... جد بالتحية من حيا فأحياني
طود من العلم والآداب راسية ... أصوله وذراه فوق كيوان
حر الفضائل معسول شمائله ... يخص من زنة العليا برجحان
أحيا أبو الحسن المشهور منصبه ... محاسن الدهر من حسن وإحسان
قد كان عتبي موصلاً على زمني ... حتى طلعت به بدراً فأرضاني وله من أخرى خاطب بها أبا الحسن الحصري: ما أفصح لسانك، وأفسح ميدانك، وأوضح بيانك، وأرجح ميزانك، وأنور صباحك، وأزهر مصباحك، أيها السابق المتمهل في ميدان النبل، والسامق المتطول بفضائل الذكاء والفضل، أرحتني من غل الهم، فازدهتني أريحية، وأزحتني عن ظل الغن، فلاحت لي شمس الأمنية، بما أطلعته علي، وأنفذته مكارمك إلي. فقلت: أعصر الشباب رجع، أم كوكب السعد طلع، أم بارق الإقبال لمع - كلا والله، إنها لمكرمة فهرية، أهدتها نفس سنية، وهمة علية. إن قلت الوشي الصنعاني فقد نقصتها(2/856)
أو الديباج الخسرواني فقد بخستها. بلى والله. أرتني زهر الربيع في غير أوانه. وحسن الصنيع على عدمه في أهل زمانه، لمحت منه عقد اللآل، يبقي على أخرى الليال. فأنت واحد البلاغة الذي لا يجارى، وفارس الفصاحة الذي لا يبارى. وقد اعتقدت ما به أشرت. وإياه اعتمدت، لو لاح لي في أفق النقلة صباح. أو استقل بي في طرق الرحلة جناح. وكم حاولت مسالمة النوائب بانقباضي. ومداراة الدنيا بتركي لأغراضها وإعراضي. فإذا الانقباض قد حصلني في جملة القبض. والترك للأغراض قد جعلني للنوب كالغرض. ولا سلاح إلا الدعاء إلى الله تعالى في الصلاح، ولا جناح إلا التمني لمن يقول ما عليك جناح. فسبحان من قدر أن أكون لناب النوب حربا. وتكون علي أيام الزمان إلبا. أصلى بنار المصائب السود. كأني مما أنا باك منه محسود. أستغفر الله! فقد حمي صدري حتى غلى مرجله. وضاق مجال فكري حتى اتسع في الشكوى مقوله. ولو أني سلمت لمواقع. وعلمت أنه ليس على القدر اختيار. ورضيت بما يأتي به الليل والنهار. وتيقنت أن خلق الزمان عداوة الأحرار. لأرحت قلبا ينقلب في جمر الأسى. وأذكرت لبا قد نسي الاقتداء بالأسى.(2/857)
@ومن شعره
أنشد له الفقيه [الزاهد] المذكور في الزهد:
صرف بقايا العمر في طاعة ... ولا يغرنك كيد الغرور
وارحل إلى الأخرى بزاد التقى ... فإنما الدنيا متاع الغرور قال: وخرجنا معه إلى ربوة تعرف بالعقاب مشرفة على وادي مالقة، فقال بديهة:
ضحك الزمان بحسنه وبهائه ... كالصب يضحك بعد طول بكائه
وكأن إقبال الربيع بوصله ... وصل الحبيب أتاك بعد جفائه
وكأنما وادي العقاب عشية ... مستمطر دمعي بجرية مائه
وكأن رشح الطل في روض الربى ... رشح الخدود بدا بنار حيائه قال: وهبطنا إلى الوادي فلم نجد ماءا. فحفرنا في الرمل حتى خرج الماء من قاعه، فقال:
أيها الحسي الذي جا ... د بماء دون منع
إن تخف غيضا من ال ... قيظ فهذا فيض دمعي قال: وطبخنا له مرة شراب تفاح فوجد فيه رائحة ثوم، فقال:
دهيت يا قوم بأعجوبة ... لم تك في الزنج ولا الروم
شراب تفاح تخيرته ... فعاد مطبوخا من الثوم(2/858)
وأنشد له:
يا غريبا بحسنه ... قصتي فيك أغرب
أنت في طي ناظري ... والمنى منك تحجب
لا تلم في مداده ... بدم القلب يكتب
إن إدريس ماجد ... للعلا فيه مذهب
جده خاتم الهدى ... وعلي له أب
فهو للمجد مطلع ... وهو للمجد مغرب وقال له عتيق المغني [المهدوي] وهو بالقصر: إني أحفظ بيتا فلعلك تذيله، وأدخله في طريقته، والبيت:
يا نائب الوجه عن شمس الضحى غسقا ... والبدر لو كلفوه ذاك لم ينب فقال بديهة:
في غرة الملك العالي ومنظره ... بدر يعطل نور السبعة الشهب
نرى محياه في ليل فيخبرنا ... عن الحقيقة أن الشمس لم تغب ودخل مجلس باديس فوسع له على ضيق كان فيه، فقال:
صير فؤادك للمحبوب منزلة ... سم الخياط مجال للحبيبين
ولا تسامح بغيضا في معاشرة ... فقلما تسع الدنيا بغيضين(2/859)
قال ابن بسام: وهذا من قول الخليل بن أحمد، وقد دخل عليه بعض أوانه وهو على نمرقة صغيرة، فرحب به وأجلسه معه في مكانه، فقال: إنها لاتحملنا، فقال له الخليل: ما تضايق سم الخياط لمحبين، ولا اتسعت الدنيا بمتباغضين. وسمع هذا أيضا ابن عبد ربه فقال هذين البيتين:
صل من هويت وإن أبدى معاتبة ... فأطيب العيش وصل بين خلين
واقطع حبائل خلٍ لا تلائمه ... فربما ضاقت الدنيا بإثنين - @ومن مدائحه
له من قصيد في العالي بالله إدريس بن يحيى بن بن علي بن حمود أولها:
لولا التحرج لم يحجب محياك ... حييت عنا وحيينا بمحياك
هذا اللثام غمام ما يبين هدى ... حطي اللثام ليس البدر إلاك
لما هديت إلى نعمان سافرة ... كانت هدايتنا من بعض نعماك
أيا غزالتنا شمس الضحى طلعت ... على اتفاق فسيماها كسيماك
بدوت في حلة زرقاء وهي هكذا ... فقال قاضي الهوى: هذي ولا ذاك
أظمأتني منك يا ظمياء جائرة ... ما كان ضرك لو أحضى بسقياك
إني أراك بقتل النفس حاذقة ... قولي بفضلك من بالقتل أوصاك
مالي وللبرق أستسقيه من ظمأ ... هيهات لا ري لي إلا ثناياك
إن كان واديك ممنوعا فموعدنا ... وادي الكرى ثم تلقاني وألقاك(2/860)
رق الدجى فتلاقينا على جزع ... وأين مثواي من أقطار مثواك
دمعي ببغداد ممدود بدجلتها ... وأنت من روض نجد نشر رياك
ريح الصبا بلغي أنفاس ذي ظمأ ... وبرديها بما يقضيه مجراك
أو يممي حضرة العالي بما احتملت ... مني الضلوع فثم البرء للشاكي وله نثر فيه طويل إذ ولي الخلافة، قال فيه بعد الصدر: ولم يترك المتطول علينا عز وجهه بالهدى أمة محمد عليه السلام سدى؛ بل نضم شملها بإمام عادل تجتمع إليه، وتعول عليه، تتوارثه كابرا عن كابر، وتتلقاه غابرا عن غابر؛ إلى أن أذن الله للإمام الهاشمي، والملك الفاطمي، والفرع العلوي، إدريس العالي بالله بن يحيى المعتلي بالله ابن علي الناصر لدين الله بن حمود بن أبي العيش بن عبيد الله بن عمر بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب؛ فقام العالي بالله بخلافة المغربين، واضطلع بملك العدوتين؛ ولما آن أوان إمامته، حان من عدوه حين قيامته. وكان مقتل العبد الغادر - وكافر النعمة كالكافر - في جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين، وفي عشرين ليلة خلت من كانون. فانجلت سموم الشتاء بانجلائه، وانقضت أيام الشؤم(2/861)
بانقضائه، وكان عقب الشهر في استقبال شهر رجب الشهر الأصم، سمي بذلك لأن العرب أسقطت فيه قعقعة السلاح؛ وكأن المثل إنما جرى في مضمار، على مفرق الليل والنهار، وأرى الناس مخايل السعد والإيناس، وهو قولهم: عش رجبا تر عجبا؛ وكان هذا العجب آخر يوم من الليالي، وقامت فيه دولة هذا الملك العالي، والشمس تأخذ من قعر الفلك في الصعود، وتؤذن بجري الماء في العود؛ وتترقى بالعالم في درج السعود:
واستقبل الملك إمام الهدى ... في أربع بعد ثلاثينا
خلافة العالي سمت نحوه ... وهو ابن خمس بعد عشرينا
إني لأرجو يا إمام الهدى ... أن تملك الملك ثمانينا
لا رحم الله امرءاً لم يقل ... عند دعائي لك آمينا فسفرت الدنيا قناعها فتية، وبلغت النفوس بخلافته الأمنية، وانثالت عليه بيعات الأمصار، وأمت حضرته الرسل من جميع الأقطار، وبدأ بالفضل، وصدع بالعدل، فأحيا مآثر آبائه الطاهرين، وفي وصف دولته يقول من اتسم بسيماء نعمته، ومحبة دعوته:
ضحك الزمان إليك بعد عبوس ... ونفى دجى الإيحاش بالتأنيس
فأدر نجوم الراح في فلك المنى ... وتطوف نحوك من أكف شموس
في روضة تحيي النفوس كأنما ... باتت تنفس عن علا إدريس
ملك أقام الله دولة ملكه ... فكبا من الأعداء كل رئيس
من دوحة الوحي التي بسموها ... درست معاني الكفر أي دروس(2/862)
قال: ودخلت يوما على العالي، ووصلت إلى مجلسه العالي، وأنا على بعد منه، وانتزاح عنه، ألحظه بمقلة حائم، وأناجيه بقلب هائم؛ فأنشدته بيتي إسحاق الموصلي في المأمون:
يا سرحة الماء قد سدت موارده ... أما إليك طريق غير مسدود
لحائم حام لا ورود له ... محلأ عن طريق الماء مردود فقرب وأدنى، وسأل عن حالي فأحفى؛ فتغنى بعد هدء محمد بن الحمامي المغني بشعر لعبد الله بن المعتز:
هل يزيل البين محتال ... أن غدت للبين أجمال فأمر العالي بتذييله فقلت:
إنما العالي إمام هدى ... حليت في عصره الحال
ملك إقبال دولته ... لذوي الإفهام إقبال
قل لمن أكدت مطالبه ... راحتاه الجاه والمال(2/863)
ولم أكد استتم إنشاد هذه الأبيات، حتى أنعم علي بالصلات. ولما انفصلت وقد تسربلت أثواب نعمته. قصدت إلى وزيره وثقته أبي عمر بن هاشم فأعلمته، وأثنيت وشكرت، ولو استطعت جعلت الريح لسانا، والزمان ترجمانا.
قال: وحضرت مجلسه أيضا فتغنى الحمامي بشعر محدث أوله:
إذا بلغتني يا نا ... قتي المسمي إدريسا فكأن العالي بالله استحسن الحلة ولم يرض قوله " المسمي "؛ وإنما هو المسمى أو المسمى من سميت أو أسميت، ولا يقال من التسمية سموت ولا سميت، ولو قال " المسمى بإدريسا " لصالح الوزن والكلام؛ فأطرق قليلا - أيده الله - ثم قال للمغني أعد الصوت، قل:
إذا ضاقت بك الدنيا ... فعرج نحو إدريسا
إذا لاقيته تلقى ... رئيسا غير مرؤوسا
ومن عزماته تنفي ... عن الأوطان إبليسا
إمام ماجد ملك ... يزيل الغم والبؤسا فتبادر من بالحضرة إلى حفظها؛ ثم قال لي: أيجوز من طريق النحو " رئيسا غير مرؤوس " - فقلت: للنحويين في هذا مذهبان، وهما في جوازه وامتناعه فرقتان، فأهل البصرة أنكروه، والأخفش والكوفيون(2/864)
جوازه وامتناعه فرقتان، فأهل البصرة أنكروه، والأخفش والكوفيون أجازوه، وأنشد من أجاز ترك صرف المصروف قول عباس بن مرداس:
فما كان قسيس ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع وأنشدوا:
وقائلة ما بال دوسر بعدنا ... صحا قلبه عن آل ليلى وعن هند ومثله:
وممن ولدوا عا ... مر ذو الطول وذو العرض فلم يصرفوا مرداسا ولا دوسرا ولا عامرا وهي منصرفة. وللبصريين في هذه الأبيات تبديل، ومذاهب وتأويل؛ رووا مكان دوسر " ما للقريعي بعدنا " وتأولوا في عامر القبيلة. والذي يعول عليه أن منع الصرف دن علة ضرورة عند سيبويه، وإن كان في اختلافهم مجال، لمن تصرف في سبيل المقال.
ثم أمر بعد أن يبدل مكان " غير " في البيت " ليس مرؤساً "، وقال: السلامة من الاختلاف، أولى في طريق الإنصاف.(2/865)
@ومن مراثيه
أنشد له الفقيه ابن عميثل المذكور يرثي أخويه من جملة قصيدة:
يا دمع لا تخذل وكن مسعداً ... لا تخش من صبري أن يمنعك
أخ غريق وأخ في الثرى ... وترتجي السلوة ما أطمعك!
إن جمود العين خوف العدا ... ورقبة الحساد لن ينفعك
إن جمود العين خوف العدا ... ورقبة الحساد لن ينفعك
يا عمراً أعمرت قلبي أسى ... ودع صبري مثلما ودعك
رزئت في الدنيا يدي نصرتي ... يا دهر تباً لك ما أفجعك وله فيهما:
ما طمعي في العيش من بعدما ... كدره موت شقيقيا
كفان صافحت المنى عنهما ... فكفت الأيام كفيا
هذا فقير طاح في قفرة ... ودا غريق ما أرى حيا وله من قصيدة يرثي الفقيه القاضي أبا علي بن حسون أولها:
الموت أعرب في أصح مساق ... أن المنية شمرت عن ساق(2/866)
[الموت يخبر عن مرارة كأسه ... والكأس ملأى لم يدرها ساق]
هلا تواصينا بصورة حالنا ... والنفس ترقى في لهى وتراق -
يا آمل الدنيا لباقي عمره ... أقصر فما أمل عليها بطلاق
معشوقة الحركات إلا أنها ... أفعى تدب لأعشق العشاق
كم أودت الدنيا بغض شبيبة ... كالغصن ماس بناضر الأوراق
وموقر لبس المشيب جلالة ... بحر لباغي العلم عذب مذاق
طرقته أحداث المنون فأطرقت ... منه الفضائل أيما إطراق
لو كان يبقي الموت حبراً عالماً ... لوقى الحمام أبا علي واق
ما أنصفت عقباك يا طلق الردى ... أرديت عالمنا على الإطلاق
ولى حسين والمحامد بعده ... كيلا تقاسي جاحم الأشواق
أسفي لرية كنت عقد جمالها ... فابتز ذاك العقد دون وفاق
تزدان منك بحسن ما قد طوقت ... زين الحمام الورق بالأطواق
علم أعين بفضل حلم راجح ... أخذ الأمان له من الإخلاق
وصباحة وسماحة قسمت له ... رزقاً تبارك قاسم الأرزاق
ومن الغريب غروب شمس في الثرى ... وضياؤها باق على الآفاق
أبقيت في الدنيا مآثر ثرة ... تبلى حلى الأيام وهي بواق
قد كان مجلسك المبارك موسماً ... فأقام أوحش من غداة فراق(2/867)
غيبت عنه مغيب بدر كامل ... والليل أدهم ضارب برواق
ومن العجائب والكسوف مرتب ... قمر توارى في زمان محاق
من ذا أعزي من هذا الورى ... لم يلقني إلا بحزنك لاق
والناس محزونون فيك كأنما ... كان اتفاقهم على إصفاق وله في بلقين بن باديس، من قصيدة أولها:
هو العمر يطوى والأماني رواحل ... هو العيش يفنى والليالي مراحل
إذا كانت الآمال تدعى قواتلا ... على الحكم فالآجل منا مقاتل
نغالب أجناد الردى الدهر بالمنى ... كما غالب الحق المصرح باطل
وأحوالنا بين الحياة وصدها ... تصرف والأقدار فيها العوامل
على ذا تقضى عالم بعد عالم ... ولم تختلف فيه القرون الأوائل ومنها:
مضى ملك العليا ولم يظلم الضحى ... ولا انتقلت عن حالهن المنازل
ولا انهدت الشم الرواسي ولا انثنت ... أعالي ديار الأرض وهي أسافل
فقل لعتاق الخيل تندب يومه ... فقد فجعت فيه القنا والقنابل
وليس صهيل الخيل ما تسمعونه ... ولكن عويل رجعته الصواهل
[ولا تعجبوا من واكف القطر إنه ... دموع هراقتها السحاب الهواطل](2/868)
فقل للسان المجد أخرست مفحماً ... لفقد بلقين، فما أنت قائل -
فيا طالباً للجود لا تتعب المنى ... فقد نصبت في الأرض تلك الأنامل
كأن جميل الصبر راء ومن غدا ... يحاول وصلاً من تأتيه واصل ومنها:
وقد كنت أغدو نحو قصرك مادحاً ... فها أنا أشدو وحول قبرك ثاكل
وقد كنت في مدحيك سحبان وائل ... فها أنا من فرط التأسف باقل وفيها يقول:
أفق أيها المولى الرئيس فإنما ... بقاؤك عمر للندى متطاول
وإن كان سيف الدولة انجاب ظله ... فأنت لهذا المد كاف وكافل
وإن كان شمساً قد تولى ضياؤها ... فيوشع في تمكين نورك حاصل
وإن كان بدراً أنت عنصر نوره ... فأين من الشمس البدور الأوافل -
إذا ثبت الماء المعين بحاله ... فليس نكيراً أن تفيض الجداول
وفي الخيس أشبال ترشح للعدا ... وآراؤك الحسنى مواض فواصل وأنشد له من أشعاره في صباه:
هون عليك فقد مضى من يعقل ... والبس من الأخلاق ما هو أفضل
فلقلما تأتي عليك مسرة ... إلا تتابع بعدها ما يثكل(2/869)
وإذا خبرت الناس لم تلف امرءاً ... ذا حالة ترضيك لا يتحول
ما بالهم - بكبت بهم آمالهم - ... كل يعيب ولا يرى ما يفعل
فمساتر ضعفت قوى آرائه ... ومجاهر يرمي ولا يتأمل
ومقلد متعاقل متأدب ... وإذا اختبرت فباقل هو أعقل
ومن الغرائب من يقارع في النهى ... أهل البصائر وهو فيهم أعزل ومنها:
حاولت أن ألقى الزمان بطبعه ... لولا الوفاء وشيمة لا تنقل
في الأرض متسع لنفس حرة ... إن تنب منزلة دعاها منزل وأنشد له:
بعينك هل لي منهما متخلص ... فإن كنت تدريه فكيف يكون -
وإن زماناً ضن عني بوصلكم ... على طول ما قاسيته لضنين وأنشد له:
أمط عنك لومي فالطباع ضروب ... ومن سالم الأيام فهو لبيب
إذا ما تجنى المرء من غير علة ... فليس لداء الود منه طبيب
وإن كان ما قد حال منه لعلة ... فكل مداو بالعتاب مصيب
يقولون لي غمض على غدر من مضى ... ولا تعتبن إن الوفاء غريب
فقلت لهم إني غريب كمثله ... وكل غريب للغريب نسيب @فصل في ذكر الأديب أبي عبد الله بن السراج المالقي
محسن في أهل عصره معدود، وشاعر بني حمود، وله فيهم(2/870)
غير ما قصيد، ومقطوعات في النسيب وجدتها بخط الأديب أبي علي الحسن ابن الغليظ من أفق مالقة أيضاً، صاحبه الكثير الاتصال به والمنادمة له، وقد اخترت منها ما يليق بشرط هذا المجموع.
قال أبو علي: أردت يوماً الأنس به، فعلمت اتصال شربه، فانفردت مع صديق وكتبت إلى ابن السراج:
يا خليلاً صفا وكدر يومي ... هل إلى الطيب في غدٍ من سبيل -
لو تراني أسارق اللحظ خلي ... وأسقى من ريقه المعول
لتمنيت أن ترى " حسن الور ... د " تغنيك بالغناء الثقيل
يا خليلاً مثاله نصب عيني ... لو خلونا إذن شفيت غليلي فألفاه رسولي سكران فكتب إليّ:
يا صديقي شغلت عنك بخطبٍ ... لم يكن لي بتركه من سبيل
وغداً نلتقي عليها سلافاً ... مزةً في حرارة الزنجبيل
أثقلتني هوىً بقد خفيفٍ ... حسن الورد فوق ردفٍ ثقيل
سلبت صبري الجميل وقلبي ... بجفونٍ نجل ووجه جميل
كحلت بالسهاد والدمع طرفي ... يوم أبصرتها بطرف كحيل
هي سؤلي من الملاح كما أن - ... ك من سادة الأخلاء سولي
لا عدتني زيارة منك تذكي ... نور عيني سناً وتشفي غليلي(2/871)
وكنت معه يوماً على جرية ماءٍ في موضعٍ حسنٍ يحار فيه الطرف، ويقصر عنه الوصف، وأقمنا هنالك أياماً في أطيب عيش وأظرف منظر، وكنت أهيجه للقول فقلت:
شربنا على ماءٍ كأن خريره ... خرير دموعي عند رؤية أزهر
حلفت بعينيها لقد سفكت دمي ... بأطراف فتان وألحاظ جؤذر وقلت:
شربنا على ماءٍ كأن خريره ... فقال مبادراً:
بكاء محب بان عنه حبيب ...
فمن كان مشغوةفاً كئيباً بإلفه ... فإني مشغوف به وكئيب وأزهر التي بذكر جارية كانت لبعض إخواننا، وله بها كلف، وفيها يقول:
خليلي في ريح الصبا لو تنسمت ... علسينا شفاء من هوىً متسعر
رسول التي في صوتها سوط لحظها ... على هائمٍ مثلي بها غير مقصر
تذكرت بالوادي زماناً لقيتها ... به فيه والمشتاق حلف تذكر
فلو صب في كأسي أذىً لشربته ... على شرط أن أسقاه من كف أزهر وورد عليه يوماً رسول حسن الورد ومعه قفص فيه طائر يغرد(2/872)
فاقرأه سلامها، ودفع إليه القفص هدية منها إليه، وأخبرني بذلك، واجتمعنا إثر هذا وهجته لذكرها، وبين يدينا كثير نضير معلق من أغصانه، فقال:
ذكرت بالورد حسن الورد شقته ... حسناً وطيباً وعهداً غير مضمون
هيفاء لو بعت أيامي لرؤيتها ... بساعة لم أكن فيها بمغبون
كالبدر ركبه في الغصن خالقه ... فما ترى حين تبدو غير مفتون
فاشرب على ذكرها خمراً كريقتها ... وخصني بهواها حين تسقيني قال: فقلت أنا:
بدا الورد في أغصانه متعرضاً ... يذكرني من إسمه حسن الورد
يذكر أياماً نعمنا بطيبها ... ورشف رضابٍ طعمه حسن الورد
فدعني ولا تلح على الحب أهله ... فلو كنت تدري لم تلمني على وجدي وقال أبو عليّ:
ولما تبدى الورد فوق غصونه ... وذكرني بالورد في صفحه الخد
ذكرت به من خده لي روضه ... تهيم بها من حسنها روضة الورد
فقلت لمن عهدي له مثل عهده ... سقاك الحيا من صاحب حافظ العهد
وقلت اسقني كأساً على طيب ذكرها ... فإني مشغوف بها بينكم وحدي وشربنا يوماً على ماءٍ يتفجر من أعالي أحجار، وقد أحدقت بنا عدة(2/873)
أشجار، وتردد فيها علينا غناء أطيار، تنسي لحن الأوتار؛ وانكسر لنا الكاس هنالك، وكان بتلك القرية صديق لنا فكتب إليه:
بقينا بلا كأس سوى شقف شربةٍ ... يميت سرور الشارب المترنم
فمن بكأس يا فتى الفتك والذي ... مضى لي زمان وهو فيه معلمي وهبت علينا في ذلك المكان ريح عطرة أتت بأنواع أرواح النبات، فقال:
ألا يا نسيم الريح هل أنت مخبري ... بحال حبيب ليس لي عنده علم -
حبيب رآني أشتفي منه فاتقى ... جفوني بسترٍ تحته القمر التم وقال عند رحيلنا:
عليك سلام الله يا ماء موضعٍ ... شربنا عليه مثله قهوةً خمرا
وروى التي من حسنها وجفونها ... سقتني سحراً خمرةً تسكر السحرا وكتب إلى صديقٍ له ونحن على ذلك الماء:
هل لك في الشرب يا أبا الحسن ... في منزلٍ طيب الثرى حسن -
أرجاؤه لا تزال دائرةً ... بواكفٍ من مياهه هتن
لو كان مما يباع كنت له ... مشترياً بالغلا من الثمن
ما كنت فيه والزق يصحبني ... أبدل كأسي بتاج ذي يزن وقال وقد ارتحلنا من ذلك المكان:
سقى صفحة الصفاح من غيث عبرتي ... سحائب تروي تربها وثراها(2/874)
شربت بها يوماً وصحبي ماجد ... له راحة يسقي السحاب نداها
جواد إذا ما استمطرت جود كفه ... ظوامئ آمالٍ همي فسقاها قال: ودعوته إلى النزهة بالبادية ومطلته، وكان بعض خدمتنا قد أعرس ورغب إليّ أن أبقى لأحضر العرس، فكتبت إليه:
يا صديقاً وداده ما يريم ... وخليلاً إخاؤه لي يدوم
جاءني راغباً لأحضر عرساً ... من له عندنا ذمام قديم
وهو عرس لا تأته خاوي البط ... ن فإن الغداء فيه نسيم فكتب إليّ:
إن كنت تبقي على عرس البواقين ... فأنت عندي مجنون المجانين
دع ذا وسر بي إلى أم الحسان ففي ... صدري لها وصلوعي قلب مفتون
وصاحب العرس بوقون وأنت فتى ... ما زلت تكره أحوال البواقين وخرجنا إلى البادية في أيام الربيع، وأقمنا على روضة ورد وحولها مياه تطرد، وأم الحسن تغرد، فقال ارتجالاً:
يا سيدي والذب رضاه رضىً ... عليه دون الأنام أعتمد(2/875)
أما ترى الدهر كيف جاد لنا ... بيوم أنس ساعاته جدد
ورد جني وروضة تركت ... بوفرها والمياه تطرد
فقل لأن الحسان تقتلني ... ولا عليها دم ولا قود
واشرب كشربي على محبة من ... في صوتها العذب طائر غرد ومالت الشمس هناك إلى الغروب، وأحدثت شعاعاً في تلك الروضة، وعلا خرير الماء ببرد العشي، فقال أيضاً:
إذا الشمس مالت للغروب رأيتني ... أميل بأثقال الهوى فأميل
تذكرني أوصاف من عرض الهوى ... علي فلما همت ظل يحول
خليلي وجدي فوق ما تبصرانه ... فهل لي إلى السلوان عنه سبيل
خذا رحمة من بعض ما بي من الهوى ... فإن الهوى حمل علي ثقيل قال: واجتمعنا يوماً بمجلس أنس، وكتبنا إلى أبي بكر عبادة، وقد كان تاب عن الشراب ويساعد في النبيذ:
نبيذك المحكم يدعوكا ... مستشعراً شوقاً إلى فيكا
فامنن بإقبال وإلا مضى ... جميعنا دمت لنا ديكا فراجعنا بقوله وجاء لوقته:
قصدي بود ليس مشكوكا ... فيه وعهد ليس متروكا
من حق ناديكم على شاكر ... غدا لكم صنواً ومملوكا
وكيف صبري عن ندي أرى ... فيه دم الكرمة مسفوكا(2/876)
وغبت مدة طويلة من الدهر في سفر لقيت فيه نصباً، وصحبت قوماً لم يحسن موقعهم من نفسي ولا التذذت بهم، ثم قدمت مشتاقاً إلى الأنس به، فكتبت إليه:
يا من أقلب طرفي في محاسنه ... فلا أرى مثله في الناس إنساناً
لو كنت تعلم ما لاقيت بعدك ما ... شربت كأساً ولا استحسنت ريحانا فورد علي من حينه فقال: أردت مجاوبتك فخفت أن أبطئ، فصنعت الجواب في الطريق، وهو:
يا من إذا ما سقتني الراح راحته ... أهدت إلي بها روحاً وريحانا
من لم يكن في صباح السبت يأخذها ... فليس عند بحكم الظرف إنسانا
فكن على حسن هذا اليوم مصطبحاً ... مؤخراً حسناً فيه وحسانا
وفي البساتين إن ضاق المحل بنا ... مندوحة لا عدمنا الدهر بستانا قال: وغبت في غزوة مع يحيى المعتلي بالله، وذلك في سنة أربع وعشرين، فاتصل بي أنه تنزه مع بعض أصحابه في زمان الورد، وفصاحة أم الحسن، وأنه صنع أشعاراً في وصفها، منها:
ومسمعة غنت فهاجت لنا هوى ... جنينا به منها ثمار المنى جنيا
دعوت لها سقياً فما استكمل الرضى ... دعائي لها حتى سقاها الحيا سقيا(2/877)
وكنت رفيقاً للوزير الكاتب أبي بكر ابن زياد، وسألني مخاطبته ليزيد عليها، فكتبت إليه في ذلك، فزاد فيها:
وكأس على طيب استماعي لصوتها ... شربت ودمع المزن يسعدني جريا
ولو أقلعت أولى عزاليه لانبرت ... رياح النوى تمري دموع الهوى مريا
خليلي هذا اليوم لو بيع طيبه ... بما حوت الدنيا لقلت له الدنيا
ولله أيامي وما خلت أنها ... تعوضي من قربها في الرضى نأيا
تولت حميدات فسقياً لعهدها ... ورعياً ولا سقياً لهذي ولا رعيا
جفتني عيون الغانيات وطالما ... سعت طول أيامي لتبصرني سعيا
وأطلع شيبي عارضاً فوق عارضي ... يسح هموماً ما علي لها بقيا
مضى عمري والدهر لي غير منصف ... يكلفني أشياء جلت عن الأشيا
فلا جيد من غيداء يشفي عناقها ... غليل صباباتي ولا شفة لميا
كفى حزناً أني أرى الحسن ممكناً ... ولست أرى لي فيه أمراً ولا نهيا
ولو تعدل الأيام في بذل خطةٍ ... لما كنت في السفلى وغيري في العليا وقال في يدك صدح سحراً:
رعى الله ذا صوت أنسنا بصوته ... وقد بان في وجه الظلام شحوب(2/878)
دعا من بعيد صاحباً فأجابه ... يخبرنا أن الصباح قريب
علي له لو كنت أملك أمره ... حياة على طيب الزمان تطيب وقال وقد رأى الغيث ينزل:
تأمل سقوط الغيث ماذا أثار من ... هوى هو في قلب المحب كنين
رأى في جفوني دمعها جامد الهوى ... ففاضت على الإسعاد منه جفون وقال أيضاً:
ذكرتك بالوادي الذي كنت مرة ... به والهوى ما بيننا أبداً غر
فحرك مني باعث الشوق ساكناً ... وكلفني صبراً ومن أين لي صبر -
فيا نازحاً والدار مني قريبة ... إلى كم يطول الصد لي منك والهجر -
إذا الله يوماً خص بالقطر ساحة ... " فلا زال منهلاً بساحتك القطر " قال أبو علي: وطالت بنا الايام، وسئمنا المدام، فتناومنا لها، فقال ابن السراج:
يا راقدين تنبهوا من رقدة ... منعتكم طيب السرور العاجل(2/879)
وصلوا بعامكم السرور فإنكم ... لا تضمنون سروركم في القابل
لا خلق أغبن متجراً من بائع ... بالبخس عاجل طيبه بالآجل
لله هذا اليوم لو ظفرت يدي ... فيه بحفظ العهد في لقابل وقال أيضاً:
رعى الله فتياناً أنست بقربهم ... على جدول للماء فيه خرير
أقمنا به يومين في خفض عيشة ... ولا عيش لا قهوة وغدير
تدور القوافي بيننا نستحثها ... وكأس الحميا بالسرور تدور
وفي الشجرات الخضر منه رقيقة ... لنغمتها بين الضلوع هدير
إذا ما تغنت فوقنا قلت قينة ... تلاها بصوت مثلثان وزير
سبتني بصوت لو يباع اشتريته ... بما مر من عمري وذاك يسير واستعفيناه يوماً من الشرب وكان يدمنه على ضعفه، فقال:
رعى الله يوماً لم أجد فيه مسعداً ... على شربها والمسعدون قليل
شربت بها وحدي وإني بشربها ... إذا لم أجد لي مسعداً لكفيل وقال أيضاً:
خليلي هبا للمدامة واشربا ... سروراً على الطير الذي يترنم
علا صوته حتى حسبناه عاشقاً ... يبوح ودمع العين في الخد يسجم
كأنا سألناه مزيداً لما شدا ... به فهو من إلحاحنا يتبرم(2/880)
وقال:
يا حابساً كأس المدامة حثها ... نحوي فلي في شربها تأويل
واطرب على وجه الربيع فقد بدا ... منه لنا وجه أغر جميل
واشرب على ماء الخليج فإنه ... ضيف إقامته لديك قليل
لو كان أمري في يدي ما فارقت ... يوماً يدي رامشنة وشمول وقال:
ومسمعة تغنينا ارتجالا ... وتصحبنا بنغمتها دلالا
وبين أكفنا خمر وماء ... إذا ما سال خلت الدر سالا
فإن شاءت سقيناها مداما ... وإن شاءت سقيناها زلالا
ولو سقيت دمي ودمي حرام ... لكان لحسن منطقها حلالا قال: وكنا يوماً على الوادي في أيام الربيع، فمر به سرب ملاح فيهن جارية حسناء، ظريفة المنطق، وهي تأكل باقلاء، فاعترضها وسألها منه فدفعته إليه، فقال بديهةً:
وسرب ملاح مر بي وبصاحبي ... ونحن على ماء يذكرنا عندنا
ويحملن فولا عندهن نظيره ... عوان ولكن نوره عز أن يجنى
فقلت عسى من فولكن بقية ... فقلن: وأي الفول ترغبه منا -
فقلت الذي تحت السراويل قلن لي ... جهلت ولم تفهم مقالتنا عنا
وفيهن نشوى الطرف لم أر قبلها ... من الإنس شمساً تحمل الدعص والغصنا(2/881)
وأقمنا بالبادية في أيام العصير مدة في لهو وطيب، وقفلنا فكتب إلي:
رعى الله عصراً ضمنا في عصيره ... محل وصلنا اللهو فيه لياليا
تدور علينا الراح في أريحية ... من العيش لو دامت زماناً كما هيا
أقول لأصحابي خذوا من حياتكم ... برأيي زاداً سوف ينفد فانيا
ومن مل منكم شربها فليردها ... إلي فإني لا أمل التماديا
أرى عمر الإنسان يوماً يسره ... فمن نال ذاك اليوم نال الأمانيا
فلا تلق يوماً بالخلاف إلى غد ... فلست بما لاقيت بالأمس لاقيا
ولا تخل من كأس يسرك شربها ... على طرب ما دام سرك خاليا
فإن أبك أيام الشباب فواجب ... على من جفته أن يرى الدهر باكيا وقال أيضاً:
ألا من منقذي من كرب ليل ... تعرض بين طرفي وارتياحي -
تضاعف طوله واشتد حزني ... به حتى يئست من الصباح @فصل في ذكر الأديب أبي القاسم خلف
@ابن فرج الإلبيري المعروف بالسميسر
وكان باقعة عصره، وأعجوبة دهره، وهو صاحب مزدوج كأنه(2/882)
حذا فيه حذو منصور الفقيه، وله طبع حسن، وتصرف مستحسن في مقطوعات الأبيات، وخاصة إذا هجا وقدح، وأما إذا طول ومدح، فقلما رأيته أفلح ولا أنجح، وقد أثبت من ذلك، بعض ما تخيرته له هنالك. وله مذهب استفرغ فيه مجهود شعره، من القدح في أهل عصره، صنت الكتاب عن ذكره، [ألا تسمع إلى قوله:
ألا قل لأهل القيروان لحاكم ... واستاهكم هانت عليكم فهنتم
فأستاهكم تعطونها ولحاكم ... تعفونها بالحلق طراً لعنتم والسميسر في هذا كما قال القائل:
عابني من معايب هي فيه ... خالد فاشتفى بها من هجائي أو كما قال الآخر:
ويأخذ عيب الناس من عيب نفسه ... مراد لعمري ما أراد قريب لكنه ليست ضعة المرء في نفسه بمذهبة جوهرية الأدب المركب في الإنسان، وقد أومأ إلى ما كانت عليه حاله بقوله:
حستي صحيح ولكن ... هواي يوهن حسي
فصح رأيي لغيري ... ولم يصح لنفسي(2/883)
ثم بعد أن لوح، صرح وأوضح في قوله:
إذا تبطنت لذتي فأنا ... نطيس نفسي عسى أداويها
فلا تلم مولعاً بلذته ... فإنها علة يعانيها] @ما أخرجته من شعره في أوصاف شتى
[من شعره في الازدواج على كل منهاج، قوله:
لا تغرنك الحيا ... ة فموجودها عدم
ليس في البرق متعة ... لامرئ يخبط الظلم وقال أيضاً:
بئس دار المرية اليوم دارا ... ليس فيها لساكن ما يحب
بلدة لا تمار إلا بريح ... ربما قد تهب أو لا تهب وقال:
أقارب السوء داء سوء ... فاحمل أذاهم تعش حميدا
فمن تكن قرحة بفيه ... يصبر على مصه الصديدا(2/884)
وقال:
قالوا المرية فيها ... نظافة قلت إيه
كأنها طست تبر ... ويبصق الدم فيه وقال في ملوك الأندلس:
ناد الملوك وقل لهم ... ماذا الذي أحدثتم
أسلمتم الإسلام في ... أسر العدا وقعدتم
وجب القيام عليكم ... إذ بالنصارى قمتم
لا تنكروا شق العصا ... فعصا النبي شققتم وقال:
رجوناكم فما أنصفتمونا ... وأملناكم فخذلتمونا
سنصير والزمان له انقلاب ... وأنتم بالإشارة تفهمونا وهذا كقول الآخر مما انشده الثعالبي:
سنصبر إن جفوت فكم صبرنا ... لغيرك من أمير أو وزير
ولما لم ننل منهم سروراً ... رأينا فيهم كل السرور(2/885)
وقال:
يا مشفقاً من خمول قوم ... ليس لهم عندنا خلاق
ذلوا وقد طلما أذلوا ... دعهم يذوقوا الذي أذاقوا وقال:
إذا رأيت العبد فاحكم على ... مولاه من ظاهر مرآه
دليل حال المرء عبدانه ... والعبد من طينة مولاه وهذا المعنى كثير، ومنه قول أبي الحسن بن مضا القرطبي في غلام وسيم من عبيد المتوكل للمتوكل:
قد جاءكم فاضح الهلال ... يعبق بالمسك والغوالي
لا تنكروا نشرها عليه ... فالعبد من طينة الموالي وقال السميسر:
خذ من الدهر ما أتى ... إن نعيماً وإن نكد
كن كسكين جازر ... قاطع كل ما وجد وقال:
ليس يخلو المرء من هم ... باكتساب اللحم والدم
حيوان حيوان ... صحفوه فهو أقوم(2/886)
كأن معنى البيت الأول ينظر إلى قول المعري:
يغنى الفتى بالمنايا عن مآربه ... وينفخ الروح في طفل فيفتقر وقال في عبد الله الأمير بغرناطة وقد رآه يحصن على نفسه:
يبني على نفسه سفاهاً ... كأنه دودة الحرير وهذا المعنى [كثير] مطروق ومنه قول حبيب:
وإن يبن حيطاناً عليه فإنما ... أولئك عقالاته لا معاقله وقال ابن الرومي:
انظر إلى الدهر هل فاتته بغيته ... في مطمح النسر أو في مسبح النون
ومن تحصن مسجوناً على وجل ... فإنما حصنه سجن لمسجون وقال السميسر:
قالوا أتسكن بلدة ... نفس العزيز بها تهون -
فأجبتهم بتأوه ... كيف الخلاص بما يكون!
غرناطة مثوى الجني ... ن يلذ ظلمته الجنين(2/887)
وقال:
بعوض جعلن دمي قهوة ... وغنينني بضروب الأغان
كأن عروقي أوتارها ... وجسمي رباب وهن القيان ولعمري لقد أصاب في أن جعل جسمه الرباب، وكان تشبيهه البعوض بالفتيان أولى من القيان، فإليهم كان ينزع، وبهم زعموا كان يقول ويسمع، وفيهم لم يزل يسجد ويركع.
وأنشدت لبعضهم في البعوض:
ضاقت بلنسية بي ... وذاد عني غموضي
رقص البراغيث حولي ... على غناء البعوض ولم أمسع في وصفها أحسن من قول ابن المعتز:
بت بليلي كله لم أطرف ... [من قرقس يلبس ثوب السدف ... يلم بالعريان والملفف] ... يلسعنا بشعر مجوف ... غادر جسمي كعشور المصحف ...(2/888)
وقد أخذه الآخر فقال:
ونفطنني بخراطيمهن ... كنقط المصاحف بالحمرة وقال أبو عمر القسطلي:
بت بليلي كله لم أنم ... عن قرقسٍ بليس ثوب الظلم
يشدو على جسمي بصوت أعجم ... كأنما غنى على شرب دمي @ما أخرجته من شعره في الزهد والحكم
جملة الدنيا ذهاب ... مثل ما قالوا سراب
والذي منها مشيد ... فخراب ويباب
وأرى الدهر بخيلاً ... أبداً فيه اضطراب
سالب ما هو معطٍ ... فالذي يعطي عذاب
وليوم الحشر إنعا ... م سؤال وجواب
وصراط مستقيم ... يوم لا يطوى كتاب
فاتق الله وجنب ... كل ما فيه حساب قال:
ليس لمن ليست له قدرة ... كالأخذ عند الرزء بالصبر
أو لا فما حيلة مستضعفٍ ... ليس له فضل على الذر(2/889)
نسبته منها فهذي وذا ... تحت الذي حد له يجري
من كان مخلوقاً من الأرض إذ ... ركب لم يطلع على السر
حتى ترى الجثة مطروحةً ... والنفس في عالمها تسري
فعندها يأمن ما يتقي ... وعندها يعلم بالأمر
هذا على مذهبنا ثم قد ... قيلت مقالات ولا أدري
لقد نشبنا في الحياة التي ... توردنا في ظلمة القبر
يا ليتنا لم نك من آدم ... أورطنا في شبه الأسر
إن كان قد أخرجه ذنبه ... فما لنا نشرك في الأمر -! والسميسر في هذا الكلام ممن أخذ الغلو بالتقليد، ونادى الحكمة من مكان بعيد، صرح عن عمى بصيرته، ونشر سريرته، في غير معنى بديع، ولا لفظ مطبوع، ولعله أراد أن يتبع أبا العلاء، [فيما كان ينظمه من سخيف الآراء] ، ويا بعد ما بين النجوم والحصباء، وهبه ساواه في قصر باعه، وضيق ذراعه، أين هو من حسن إبداعه، ولطف اختراعه -
وقال السميسر:
أصاب الزمان بني عامر ... وكان الزمان بهم يفخر
فعاد نهارهم مظلماً ... وليلهم بعد لا يقمر
وأيامهم بعد لا تزدهي ... وصبحهم ظل لا يسفر
أماتهم الدهر قبل المنون ... فهم ميتون ولم يقبروا(2/890)
كأنهم أربع دارسات ... فما لهم غير أن يذكروا
فأين السرير وأين السرور ... وأين القصور التي عمروا -
فلا تعجبن بما وقد ترى ... فلا خير في كل ما تبصر
وهون عليك كثير الحياة ... فسكناك في قبرك الأكثر وقال أيضاً:
دع عنك جاهاً ومالاً ... لا عيش إلا الكفاف
قوت حلال وأمن ... من الردى وعفاف
وكل ما هو فضل ... فإنه إسراف وقال:
لا توقدن عدواً ... وأطفه بالتودد
فالنار بالفم تطفا ... والنار بالفم توقد وقال:
قد هجرت اللذات إلا قليلاً ... بعد وصولي لها زماناً طويلا
فأنا ثابت البناني لكن ... لي قلب عن النواسي أزيلا
وبحق أقول لولا حذاري ... ن كلام الوشاة قالاً وقيلا
لبدا للأنام مني عجاب ... ولأوضحت للرواة السبيلا(2/891)
وقال:
المال ذل، وذل ... ألا يرى لك مال
فاحرص كأنك باقٍ ... فما لذي الفقر حال
واقنع فإنك فانٍ ... غداً وكل محال @ومن شعره في ذكر الطب والأطباء
كل علمٍ ما خلا الشر ... ع وعلم الطب باطل
غير أن الأول الطب ... على رأي الأوائل
هل تمام الشرع إلا ... أن يكون الجسم عامل -
فإذا كان عليلاً ... بطلت تلك العوامل وقال:
العلم علمان علم ال - ... أديان والأبدان
ما الطب للدين إلا ... كالروح للجثمان
هل الشريعة إلا ... بصحة الأبدان - وقال:
يا آكلاً كل ما اشتهاه ... وشاتم الطب والطبيب
ثمار ما قد غرست تجنى ... فانتظر السقم عن قريب
يجتمع الداء كل يوم ... أغذية السوء كالذنوب(2/892)
وقال:
لا تسترب من غير ما ... تجنيه كالجاني المريب
وكذا حكوا بل صافياً ... واضرب به وجه الطبيب [والقائل قد تقدم إلى ذلك قبله:
إذا ما كنت ذا بولٍ صحيح ... فقم فاضرب به وجه الطبيب @وفي ذكر الشعر والشعراء
قال:
أنا أحب الشعر لكنني ... أبغض أهل الشعر بالفطره
فلست تلقى رجلاً شاعراً ... إلا وفيه خلة تكره
إن لم يكن كفر تكن آفة ... تلازم الظهر أو السره
والعجب والنوك إلى الجهل في ... أكثرهم إلا مع الندره والسميسر في هذا كقول الآخر:
عابني من معايبٍ هي فيه ... حكم فاشتفى بها من هجائي(2/893)
فإنه كان - زعموا - ممن وسع هذه الخلال، وجمع هذه الأحوال، حاشا التي في السرة فإنه انتبذ عنها، وبرئ إلى أصحابه الشعراء منها. وما ينقضي التعجب من السميسر، فإنه لما سمع المتنبي يقول:
أوكم آدم سن المعاصي ... وعلمكم مفارقة الجنان حسده على غلوه فقال بيته المتقدم الذكر:
إن كان قد أخرجه ذنبه ... فما لنا نشرك في الأمر - والسميسر في هذا كما يحكى عن بعض الرواة قال: كان أحد المخنثين قد تسربل المجون، وعبد البطالة والجنون، حتى مح شبابه، وأقصر أترابه، ولم يدع عاراً إلا ركبه، ولا أثماً إلا ارتكبه، فطاف به طائف اعتلال، بعد طول إملاء من الله وإمهال، فكان يقول: أي رب، بأي ذنبٍ أخذت، وعلى أي جريرة عوقبت -! هذا كان استغفاره، حتى محا الموت أخباره.
وقال أيضاً:
يا شعراء العصر لا يتحسبوا ... شعركم مذ كان محسوسا
فإنما حيكم ميت ... كأنما محييكم عيسى
إن كان منظومكم عندكم ... سحراً فمنظومي عصا موسى وقال في أبي عبد الله بن الحداد بالمرية:
قالوا ابن حداد فتى شاعر ... قلت وما شعر ابن حداد -
أشعاره مثل فرخ الزنى ... فتش تجد أخبث أولاد(2/894)
@ومن شعره في أوصاف شتى
ضعت في معشرٍ كما ضاع نوح ... بين قومٍ قد أصبحوا كفاره
ضربوه وما ضربت ولكن ... جعلوني ممن ينافر داره
فتأخرت عن دياري لهوني ... والهوينا لمن يخلي دياره وقال:
رأيت بني آدم ليس في ... جموعهم منه إلا الصور
فلما رأيت جميع الأنام ... كذلك صرت كطير حذر
فمهما بدا منهم واحد ... أقل قل أعوذ برب البشر وقال:
تحفظ من ثيابك صم صنها ... وإلا سوف تلبسها حدادا
وميز عن زمانك كل حين ... ونافر أهله تسد العبادا
وظن بسائر الأجناس خيراً ... وأما جنس آدم فالعبادا
أرادوني بجمعهم فردوا ... على الأعقاب قد نكصوا فرادى
وعادوا بعد ذا إخوان صدقٍ ... كبعض عقاربٍ عادت جرادا
ومن يلمح ذكاء بناظريه ... يظن بياض قرطاس مدادا(2/895)
وقال:
يمنعني من تكسب الولد ... علمي بأن البنين من كبدي
فإن يعيشوا أعش على ظلع ... وإن يموتوا أمت من الكمد
وإن أمت قبلهم تركتهم ... أهون بين الأنام من وتد وقال:
حاسدي لي معذب ... يتلقى من الحسد
وأنا عنه غافل ... لا وجدت الذي يجد
دعه يشقى بدائه ... داؤه علة الكبد
طار ذكرى ولم يطر ... ذكره فهو يتقد وقال:
قصتي يا سادتي مضحكة ... بينكم من حيث يبكي بالمقل
إن أجئكم بغريب قلتم ... عندنا أغرب فاسكت أو فقل
أبصر النصال دراً غالياً ... قال عندي منه أغلى وأحل @ومن مقطوعاته الإخوانيات
ورد ابن شرف غرناطة، فتخلف عن قصده، فكتب إليه معتذراً:
كتبت إلى سيدي قبل أن ... أراه ورجلي قد زلت
أيقصد يذبل غرناطةً ... وأترك قصديه في زمرتي(2/896)
ويهبط كيوان من برجه ... إلينا ونحن على غفلة
فمعذرة لك حتى أراك ... فأنت الممثل في مهجتي فأجابه ابن شرف:
بدأت وللمبتدي الفضل في ... فروض المودة والسنة
وما الرد إلا امتنان وقد ... سبقت سواك إلى المنة
وبالسبق في أول الهجرتين ... تقدم قوم إلى الجنة
وحدثت أنك سمح الطباع ... إذا ما طباعهم ضنت
ونفسك فاضلة حرة ... إذا عاينت فاضلاً حنت
خلائق لو مازجتها الجبال ... إذن رقصت لك أو غنت
فلو من أبان ورضوى خلقت ... لما كنت إلا من القنة له في الوزير الكاتب أبي عمر بن الباجي:
يا فاضل الشرطة شرطي على ... شرطك تنويهي ولا أختلف
فاحذف لي السين وسوف التي ... زيدت على الزائد فهو الأخف
" فسوف " سيف قلبت واوها ... كم قطعت أعناق من قد سلف
فردها حالاً ففعل مضى ... ماضٍ وما استقبل قد يختلف @ومن شعره في النسيب وما يناسبه
قوله:
بين الأزرة والمآزر ... حسن تحن له الأكابر
فإذا نظرت إلى الخدو ... د رأيت أنواع الأزاهر(2/897)
وإذا تأملت الثغو ... ر وما لناظمهن ناثر
أبصرت دراً يغتذي ... خمراً وما للخمر عاصر
وإذا تأملت الما ... جر تحتها دعج المحاجر
خلت المنية أقبلت ... من جيش صقلب والبرابر وذكرت بهذا البيت الأخير وإن لم يكن في معناه قول بعض أهل عصرنا:
بي شادن خده كالصبح منبلج ... وصدغه كسواد الليل يلعب بي
كالزنج حلت بأرض العرب فاصطلحت ... فما بقائي بين الزنج والعرب -! نظر في هذا إلى ما أنشده الثعالبي لبعض أهل عصرنا:
سواد صدغين من كفرٍ يقابله ... بياض خدين من عدلٍ وتوحيد
قد حلت الروم أرض الزنج فاصطلحا ... فويح نفسي بين البيض والسود! وقال السميسر:
لما أبى عن وصالي ... وأضرم القلب نارا
ولم أجد لي عزاءً ... دعوت ربي انتصارا
وقلت: يا رب أنبت ... بعارضيه عذارا
فكان ذاك ولكن ... زاد الفؤاد استعارا
إذ صار صبحاً وليلاً ... وكان قبل نهارا(2/898)
وهذا كقول الآخر إلا أنه قلبه:
حلقوا رأسه ليزداد قبحا ... غيرة منهم عليه وشحا
كان قبل الحلاق صبحاً وليلا ... فمحوا ليله وأبقوه صبحا وقال:
أيها العائب العذا ... ر وذو الجهل عائبه
لا أحب العذار إلا ... إذا شاب صاحبه
فاطرح قول من يقو ... ل كما طر شاربه
هو والطفل واحد ... حين يهواه راغبه
أنا أشكوه وهو تل ... هيه عني ملاعبه
وإذا ما اصطفيت كه ... لاً صفت لي مشاربه وأين هذا من قول بعض أهل العصر في ضده:
ما أنت والجلواز في خلوة ... إياك ما امتد بها الصوت
الله في نفسك من ظنةٍ ... يهون في جانبها الموت
إن كان فالطفل ولم يحتلم ... من قبل أن يدركه الفوت وقال أيضاً يناقضه:
أوصيك حيث النصح معترض ... إياك والمرد وهي متحلمه
الطفل ما أصبحت أويرته ... إذا استشاطت كأنها حلمه(2/899)
واقس عليه إذا شكا وبكى ... لا رحم الله كل من رحمه
لا تخش والقول عنك مرتفع ... عاقبة الظلم فيه من ظلمه
فإن تجاوزت ما حددت فما ... يسوءني أن تعد في القطعه وقال أيضاً يناقض السميسر:
بدا لي منك نبل وانطباع ... وظني أن ستكفيك الإشاره
سأجعل بيننا حيث التقينا ... وقوع السوط من كفي أماره
وبين يديك أمر لا تكله ... إلى نظر الغمارة والغراره
ستلقى في غد طفلاً بزيعاً ... يجرر من بزاعته إزاره
ترى صبحاً من الكافور بضاً ... كما ندري النقاوة والنضاره
فما استهواك فاتركه ودعه ... وحاصره وإن أبدى حصاره
إذا ارتعد الحسام وراق حسناً ... فذاك الوقت لا تأمن غراره
هو الجد الذي لا هزل فيه ... فدع سمج الفكاهة والشطاره
كبير السن زاد على ثمان ... وعشر كيف تألفه الزياره -
فإن يك صاحباً وأردت زوراً ... فحصن ما استطعت من الحصاره
أترضى أن يقال أبو فلان ... يناك ولو حملت بها الإماره - وقال أيضاً في مثله يناقض السميسر:
الطفل في عشر فما هو دونه ... حتى يجيء الظن غير مرجم
لا تعذل الإنسان في شهواته ... في الناس من يلتذ أكل الحصرم(2/900)
ومن الإفراط في مدح العذار قول ابن غصن الحجاري:
فديتك لا تخف مني سلوا ... إذا ما غير الشعر الصغارا
أدين بدين خل كان خمراً ... وأهوى لحية كانت عذارا وقال أيضاً بعض أهل العصر يناقضه، واستطرد فيه إلى هجوه استطراداً ظريفاً:
إن كنت تهوى مليحاً ... فلا تقل بمعذر
واهو الصغار ففيهم ... على الحقيقة تعذر
ودع الكبار لقوم ... دانوا بدين السميسر وحقيقة الاستطراد عندهم أن يري الشاعر أنه يريد مذهباً، وهو إنما يريد غيره، فإن قطع ورجع إلى ما كان فيه فهو الاستطراد الحقيقي، وإن تمادى فذلك الحروج؛ وأصح الاستطراد قول السموأل:
ونحن أناس لا نرى القتل سبةً ... إذا ما رأته عامر وسلول واتبعه الفرزدق فقال:
كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع ... إذا اجتمعوا أفواه بكر بن وائل(2/901)
ثم أتى جرير فأربى وزاد بقوله:
لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل فهجا واحداً واستطرد باثنين، وقال مخارق بن شهاب المازني يصف معزى:
ترى ضيفها فيها يبيت بغبطة ... وضيف ابن قيس جائع يتحوب فوفد ابن قيس على النعمان، فقال له: كيف مخارق بن شهاب فيكم - قال سيد شريفن من رجل يمدح تيسه ويهجو ابن عمه!
ومن جيد الاستطراد قول دعبل، وقيل بشار وهو أصح:
خليلي من كعب أعينا أخاكما ... على دهره إن الكريم معين
ولا تبخلا بخل ابن قزعة إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين
إذ جئته في حاجة سد بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين وقال أبو تمام في صفة فرس:
ولو تراه مشيحاً والحصا زيم ... على السنابك من مثنى ووحدان
أيقنت إن لم تثبت أن حافره ... من صخر تدمر أو من وجه عثمان(2/902)
وأخذه البحتري فقال:
ما إن يعاف قذى ولو أوردته ... يوماً خلائق حمدويه الأحول وقد يقع من الاستطراد ما يخرج به من ذم إلى مدح، كقول زهير:
أن البخل ملوك حيث كان ول - ... كن الجواد على علاته هرم ومن مدح إلى ذمٍ، كقول بكر بن النطاح في مالك بن طوق:
فتى شقيت أمواله بعفاته ... كما شقيت بكر بأرماح تغلب وهذا مليح، أوله خروج وآخره استطراد، وملاحته أن مالكاً من بني تغلب، فصار الاستطراد زيادةً في مدحه. ومما استطرد به أبوه الطبيب قوله:
يموت به غيظاً على الدهر أهله ... كما مات غيظاً فاتك وشبيب على أن هذا البيت لم يقع موقع غيره من أبيات هذا الباب، إذ ليس المقصد فيه مدحاً ولا هجاء للرجلين المذكورين، لكن التشبيه والحكاية لا غير.
وأصل الاستطراد أن يريك الفارس أنه فر، وإنما فر ليكر(2/903)
وكذلك الشاعر يريك أنه في شيء فيعرض له شيء لم يقصد إليه فيذكره وإن لم يقصد حقيقةً إليه. ومن الاستطراد نوع يسمى الإدماج، كقول ابن طاهرٍ لابن وهب حين وزر للمعتضد:
أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا فيمن نحب ونكرم
فقلت له نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا إن المهم المقدم ومن مليح الأدماج قول البن مسعدة في فصل من رقعة:
كتابي ومن قبلي من القواد والأجناد، في الطاعة والانقياد، على أحسن ما تكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم، واختلت أحوالهم. فقال المأمون: ما أحسن إدماجه المسألة في الأخبار، وإعفاء سلطانه من الإكثار! ! اكتبوا له رزق ثمانية أشهر. وهذا النوع عندهم أغرب من الاستطراد، ومن مليحه أيضاً قول بعض الفقهاء:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فعليك إثم أبي حنيفة أو زفر
الواثبين على القياس تمرداً ... والراغبين عن التمسك بالأثر ومما هجي به السميسر قول ابن الحداد، ويدخل في باب الاستطراد:
يا أهل غرناطة نيكوا سميسركم ... ففي رميلينا عنه لنا شغل(2/904)
@فصل في ذكر الأديب الأريب أبي العباس أحمد بن قاسم المحدث
@وجملة مما وقع إليّ من نثره، تعرب عن محله من الأدب وفهمه
قال ابن بسام: أبو العباس هذا في وقتنا بحضرة قرطبة، مقلة عين العصر، وصفحة وجه الدهر، تبريزاً في النظم والنصر. وقد أثبت من كلامه قطعةً تنبئ عما طالعه من علوم، ونظر فيه من أنواع التعاليم، على صغر سنه، ولدانة غصنه.
ولما بلغه جمعي لهذا التصنيف خاطبني برقعةٍ استفتحها بهذه الأبيات:
يا من تكلف جمع المجد في ورقٍ ... أنا أناديك جهراً غير تعريض
ذهبت عصرك يا من شعره ذهب ... بالمذهبات فأتبعنا بتفضيض
فشبه تبرك متلواً بفضتنا ... جمان هودٍ على لباتها البيض يا سيدي وعمادي، طال بقاؤك، ودام علاؤك؛ تكلفت من العناية بتنويهي ما دل على محتدك الكريم، ونصابك السليم، على انتمائك من المجد إلى دوحة ساقها قويم، وطلعها هضيم؛ ولولا ثقتي بتمييزك، وظهورك في هذه الصناعة وتبريزك، ما اجترأت على أن أجري بما كتبت إليك به(2/905)
كفاً، ولا أن أخط متباهياً بها حرفاً، فهي تجري منك على يدي نقاد، وأنا إذ عليك أنشر بزي أضع الثوب في يدي بزاز.
وكتب إليّ أيضاً في مثله أول ورودي بقرطبة، وقد بلغه ثنائي عليه بمجلس بعض الأعيان فيها:
يا دوحة المجد الكريم ... وسلالة الشرف الصميم
والغرة الغراء في ... وجه النثير وفي النظيم
قد كان نام زماننا ... عن كشف آثار العلوم
حتى أتيت منبهاً ... جفنيه تنبيه النسيم
فرددته يقظان يمحو ال - ... محو عن تلك الرسوم
إن الصباح إذا انجلى ... جلى المنام عن النؤوم من الواجب كان - أعزك الله - عليّ وعلى من ينتسب إلى أدب، ويتعلق منه بأدنى سبب، أن يمتطي إليك ظهور العيس المهرية، وصهوات الجياد الأعوجية، حيثما استقر مكانك، وثبت إيوانك؛ فكيف إذا جلاك مصباح بلادنا بضيائه، وسترك ليل عراضنا بظلمائه، فانتظمك معنا هذه الجدران التي جللت عنها قدراً، وسموت رفعةً وخطراً. ولكن المهيب لا يجسر عليه. ولا تنقل قدم التقدم بداهةً إليه، بل يرتقب منه(2/906)
المتوصل لفظةً في عرض ناحيته، أو لحظةً تقع على ساحته، تجعل الأولى سبيلاً، والأخرى هادياً ودليلاً.
ولقيت فلاناً فأنهى إليّ جملة كلامك في، وأنت ممن لا يجاري خطاباً، ولا يباري كتاباً وجواباً، وبراعةً في لفزظ يتبرج في ملاء الوشي الصنعاني، ويتصدى في أردية العصب اليماني، ونظمٍ ود الربيع لو توشح به تفضيلاً، ونثر كنثر العقود، وتفويت البرود، والغرر البيض في الطرر السود. إن نظمت فصريع صريع، والبديع غير بديع، وإن نثرت فالصاحب صاحب، وقابوس ذو بوس؛ وهذا باب لو استقصيته فيك غاية الاستقصاء، واستقريته نهاية الاستقراء، لتغلغل بنا الكلام، إلى نفاذ الأمدة والأقلام.
وفي فصل منها: ولما كنت متى انحرفت إلى النثر، أو انصرفت إلى الشعر، أجريت فيهما بعدك بالخطار، وضربت منهما عقبك بذي الفقار، رأيت أن أتبع بعضه بعضاً، حتى أجلو عليك وردهما جنياً غضاً؛ فهاك النثر يجلو، والنظم يحلو:
يا ماجداً ينمى إلى بسام ... قد ذبت بين محبة وهيام توقاً إلى لقياك ...
[ثم كتب قصيدةً على روي نسبي قال فيها يصف شعراً خاطبته به] :
لا حشو فيه ولا معاظلة به ... سلس على الأسماع والأفهام(2/907)
ويرى البديع به بغير تكلفٍ ... ما بين منفرد وبين تؤام
متقسم متقابل متطارد ... متجانس متطابق الأقسام
إن رمت تشبيباً أتيت بكل ما ... يجد الشجي من لوعةٍ وغرام
أو رمت تشبيهاً قرنت مشبهاً ... بمشبهٍ في غايةٍ الاتمام
أو رمت مدحاً لم تكن متطلباً ... ما ليس في الممدوح من أحكام
حذقاً بما تأتي ومعرفةً به ... وتصرفاً في أفق كل كلام وأحسن من هذا التقسيم قول أبي بكر عبادة بن عبد الله بن عبادة من جملة أبياتٍ خاطبني بها أيام مقامه عندنا بالأشبونة، أولها:
يا منيفاً على السماكين سام ... حزت فضل السباق من بسام
قد خبرت الورى فلم ألفهم إلا ... ثقال الأفهام والإفهام
وتأملت منك نكتة بغدا ... د لباب العراق معنى الشآم
شك ذهني في أن يرى بصري مث - ... لك حتى لخلتني في المنام
إن تحك مدحةً فأنت زهير ... أو نسيباً فعروة بن حزام
أو تباكر صيد المها فابن حجرٍ ... أو تبكي الديار فابن خذام
أو تذم الزمان وهو حقيق ... فأبو الطيب البعيد المرامي في أبيات غير هذه، مع خبر طويل هو ثابت في موضعه من هذا المجموع.
@فصل لأبي العباس من رقعة خاطب بها بعض إخوانه: كتبت وأنا من الحزن في ثوب حداد، ودمع كأكف الأجواد، شوقاً ووحشةً(2/908)
إلى الأنس بتفيؤ ظلك الوارف، كعهدي السالف، وتوقاً ودهشةً إلى برد مائك الحصب، كزمان الماضي الخصب:
سقياً لظلك بالعشي وبالضحى ... ولبرد مائك والمياه حميم وإن كنت مقيماً على كرم عقد، كهذا الزمان الذي قام وزنه فأصبح غلاماً، وأطلع حسنه قمراً تماماً، بين فرادي من نوابت أزهار كالرياط، وتؤامٍ من حدائق أنوارٍ كالأنماط، قد تفتحت عيونها، وتكشفت مصونها، وحلت أزرار جيوبها، عن مسكها وطيبها، وابتسمت أفواه ثغورها، عن لؤلؤها وشذورها، وأترعت جداولها فتسلسلت، وتربت أرضها فتصندلت، لعالم أنك لي على أمثالها، ثقةً بمجدك الذي هو ضربة لازب، واستنامةً إلى أن عقبك من الوفاء على الذروة والغارب.
واندرج له فيها شعر قال فيه:
أو حين نور عارضي فتفتحت ... أنواره فكأنها أنوار
أصبحت لا تلوين فارعي حقه ... أو ما لمظلم ليلةٍ إسفار -
يا هذه حرب الزمان شهدتها ... فعلي من ذاك الغبار خمار(2/909)
ومن المديح:
جزل أحطت بخبره فوجدته ... كالخمر لكن ليس فيه خمار
نادت تحالفه العلا فأجابها ... ألا تفرق ما أضاء نهار
آهاً وإن من التوجع آهة ... لو حم أن يدنو إليك مزار
فأبث من أمري الخفي وراحة ... للنفس في أن تطلق الأسرار
خذها كما اعتدلت أنابيب القنا ... ميزي الثقاف لها وذهني النار قوله " فعلي من ذاك الغبار خمار " في صفة الشيب كقول ابن المعتز:
" هذا غبار وقائع الدهر " وقد تقدم هذا المعنى بما فيه:
وأخذه فقال:
قالت غبار قد علا ... ك فقلت ذا غير الغبار
هذا الذي نقل الملو ... ك إلى القبور من الديار وله من أخرى: ولما ورد كتابه غاية الفصاحة، ومنتهى البلاغة والملاحة، قبلته عشراً، وأقبلته مني رأساً وثغراً؛ وحين فضضت مسكة الخاتم سقط بصري على شكل مشق خطه فاندمج، ووسع بين أسطاره فانفرج. فيا للكتاب من كتاب قصر وطال، وجمد قلم كتابه وسال، نتيجة برهان مقدمتاه الطبع والبراعة، والجزالة والإصابة، جمع بين مبدأ(2/910)
البلاغة وآخرها، في سحاءة طولها فتر، وعرضها ظفر؛ ولا غرو فمن علم الأصول استنبط الفروع، ومن انتقى القليل استغنى عن شغب الجموع؛ ولذلك جعلته إماماً أحتذيه، ومثالاً أماثله وأقتفيه. ولو أسهبت هكذا أبداً ما بلغت غاية الوصف، ولا أعطيته من حقه النصف.
وله من أخرى فيمن حمل القلنسوة وأنهض إلى الشورى، وخاطب بها قاضي قطره: لم يغب عنك - زاد الله في توفيقك - رحلة أحد القائمين بنشر علاك، المطيبين محاضرهم بطيب ذكراك، الفقيه أبي فلان أبقاه الله، وأنه هجر الوطن على خصبه، ووصل منزل الغربة على جدبه، متكرراً إلينا، ومدارساً علينا، باصغرين أكبرين: قلب أصمع، ولسان مصقع، فما مطلته بحمد الله الأيام، ولا سوفته الأعوام، حتى لحق بالمرتبة التي تفصل بها القضية الشنعاء، وتسمع النازلة الصماء؛ وحتى أفضى إلى المنزلة التي تقتضي تعصيبه بالشورى، وإلحاقه بعداد أهل الفتيا، تطبيقاً للمفصل، وتبييناً للمشكل؛ وعند ذلك ما رأينا إنهاضه إليها، وأن يتزيا بزي أهلها عمن سواه، وحملناه على التزامه دون كل زي عداه، على ما أنت الحري بحمله عليه كما حملناه. ولما كان مثلك في سرورك، وميلك إلى المجد وصغوك، لا يعلم كيف يبني المجد ويشيده، ولا كيف يمهده وينجده، كما لا يعلم الفم التبسم، ولا اللسان التكلم، كان واجماً أن يكتفى بيسير العبارة، وقليل الإشارة، ومهما زدته من كريم رعاية(2/911)
وجميل حفاية، فنحن شاكروك شكراً يهز عطفيك، طوراً هز المهند وطوراً هز القضيب الأملد.
وله من أخرى يعزي بعض الأعيان: قد علم - أطال الله بقاءه وأحسن عزاءه - أن سكان هذه الدار، وإن تراخت بهم الأعمار، ينتقلون منها تنقل الأفياء، كما يتلونون فيها تلون الحرباء؛ فإن من وقع تحت الكون والفساد، وانبعث من الأضداد في مركز الأضداد، غير بديع في طباعه أن ينحل جرمه، إلى ما منه تألف حجمه، وأن تتخلص شعلة نفسه من ذلك الصلصال الذي سقطت لديه، فاحتوى عليها وأوت إليه، ثم ضرب المنشأ، فتعود عند ذلك الطبيعة الترابية إلى أصلها، والشعلة النورية إلى شكلها؛ فإن كان ما قدمت خيراً حمدت الجيئة، وإن كان شراً رغبت - وأنى لها - في الفيئة، ثم لم تترك في حين سلوكها إلى الوقت المعلوم، والأجل المحتوم، سالمة من الضراء، آمنة من البرحاء، بل قرن بها هنات مجحفات، وحبب إليها خطوب متلفات، فلم تنفك من تغيير مجحف، وتعثير متلف.
وإذا كان الوزير - أعزه الله - عالماً جملة هذا الخبر وتفصيله، ودقيق هذا الغرض وجليله، فالمتوفاة - قدس الله روحها، وبل بالرحمة ضريحها - وإن كانت منه كالبنان من اليد، والزند من العضد، فإني(2/912)
لأعلم أنه لم يتلق وارد حمامها تلقي الغافل الفارغ، بل سلم للقضاء، وأفضى إلى الدعاء، فلا معنى لتذكيره الصبر ومنه يستفاد، وتبصيره الأجر وعنه يستزاد. ولما كانت التعازي على الأعصر الخالية من العوائد الجارية، كتبت رقعتي هذه، فإن لم تكن تبصيراً، كانت مطالعة وتذكيراً.
وله في فصل في صفة وراق: وأما أبو فلان فإنه يقلب من المعاش كفاً صفراً، ويستدر من شرعه مقداراً نزراً، بخطوط غير منصرمة، ونقط غير منقسمة، وشكل تشكل الحظ عن الإتيان، وتطلق رجل الفاقة والحرمان، فقبحن من خطوط تحط الحظوظ، ونقط تثير القنط، وشكل تبعث الكسل؛ وقبح من رزق يحرم سلمه بجليل الأفهام، [ويخبط بدقيق الكلام] ويعضد برقيق الأقلام؛ ثم يفضي خايطه لحظ نزر، غير جليل ولا ثر.
@وهذه جملة من شعره
قال في النسيب على مذهب أهل أفقنا في لباس البياض على المتوفى:
قالت وقد نظرت فروعها ... شيب على فودي منتشر
ما شأن تلك البيض، قلت لها ... مات الشباب فبيض الشعر(2/913)
وهذا كقول الحلواني تلميذ أبي علي ابن رشيق:
إذا كان البياض لباس حزنٍ ... بأندلس فذاك من الصواب
ألم ترني لبست بياض شيبي ... لأني قد حزنت على الشباب -[وأراه من هذا نقل، وعليه عول]
وقال ابن فرج صاحب كتاب " الحدائق " مما ينظر إليه بعض النظر:
ونرجس تطرف أجفانه ... كمقلة قد دب فيها الوسن
كأنه من صفرة عاشق ... يلبس للبين ثياب الحزن وقال أبو العباس ابن قاسم:
قالت وقد نظرت شيبي فروعها: ... إن المشيب لسود الشعر أكفان
فقلت: أنكرت كافور الزمان به ... من بعد مسك وطيب الدهر ألوان
قالت: فأين من الكافور نفحته ... قلت: انقضت وتبدى منه جثمان
قالت: فإن كان كافوراً فلم ضعفت ... قواك والطيب للأعضاء معوان
فقلت: ما بي من الأيام أثقلني ... قالت: كذلك شيب المرء ثهلان
[فقلت: يا ليتني للنشء منصرف ... كيما تعود إلى الإيراق أغصان]
قالت: وهل عاد أقوام كما نشأوا ... من قبل أن يرجعوا مثل الذي كانوا(2/914)
وذكرت بتشبيهه الشيب بالكافور بيتي الحضرمي، على أنه من المشهور، وهما:
قالت وقد خلطت في عارضي ... مسك الشباب بكافور المشيب
يا ليت ذا المسك لم يخلط فما ... عند الغواني لذا الكافور طيب وهذا العروض معروفة، وإن لم تكن مألوفة، وهي من مجزوء البسيط التي أنشد الخليل في مثالها قول بعض العرب:
يا بنت غيلان ما أصبرني ... على خطوب كنحت بالقدوم قال أبو العباس بن قاسم:
لهج الناس بالقبيح وهاموا ... فالزم البيت واسدد الأبوابا
وإذا ما خرجت تطلب رزقاً ... فتلين لهم وكن خلابا
وإذا ما جلست يوماً إليهم ... فالزم الصمت واضمم الأثوابا
فكثير ممن تجالس تلفي ... من عيوب الورى لديه عيابا
وإذا ما سألتهم عن جميل ... لم تجد فيهم لديه جوابا
لقي الناس قبلنا غرة الده ... ر ولم نلق منه إلا الذنابى
فانقبض والزم التصاون حتى ... يغلق الموت من حياتك بابا(2/915)
@فصل في ذكر الأديب أبي طالب عبد الجبار
من أهل جزير شقر، كان يعرف بالمتنبي، برع أهل وقته أدباً، وأعجبهم مذهباً، وأكثرهم تفنناً في العلوم، وأوسعهم ذرعاً بالإجادة في المنثور والمنظوم. وكان - بلغني - يعد نفسه بملك، وينخرط للمجون في سلك، ولا يبالي أين وقع، ولا يحفل بشيء صنع، وكان قد استتر ببلغة، واقتصر على طريقة؛ فلم يطرأ على الدول، ولا تجاوز في شعره ملح الأوصاف والغزل. وله أرجوزة في التاريخ أغرب فيها، وأعرب بها عن لطف محله من الفهم، ورسوخ قدمه في مطالعة أنواع العلم؛ وقد أثبتها على طولها، لاشتمال فصولها على علم جليل، وباع في الخبر طويل؛ وقدمت قبلها جملة مما وقع في شرك حفظي من سائر شعره؛ على أنه استفرغ مجهوده في وصف صنت الكتاب عن ذكره.
@جملة من أشعاره في أوصاف شتى
قال يصف مجاري الماء في سواقي أجنة بلنسية:
خرجنا للنزاهة في البقيع ... فنلنا الوصل من رشأ بديع(2/916)
وهب لنا النسيم بكل طيب ... كأنا منه في زمن الربيع
على نهر كأن الماء فيه ... بقايا فوق خد من دموع وقال يصف منزله:
كيف البقاء ببيت لا أنيس به ... ولا وطاء ولا ماء ولا فرش
كأنه كوة في حائط نقبت ... في ظلمة الليل يأوي جوفها حنش وقال:
قل لأبي يوسف المنتقى ... الفاضل الأوحد في عصره
ومن إذا حرك أوتاره ... وظل يبدي السحر من عشره
تخاله إسحاق أو معبداً ... يشدو بألحان على وتره
هل لك أن تسمع مهديكم ... وأن توفي الحق من بره
حتى إذا الأيام أبدت له ... ما في ضمير الدهر من سره
وصير التاج على رأسه ... وأقبل الوفد إلى قصره
أعطاك من جدواه ما تشتهي ... فضته البيضاء أو تبره(2/917)
وقال:
وشادن وجهه ذكاء ... فيه حيا الحسن والحياء
لما اغتدى قارئاً بحزن ... لذ لي الحزن والبكاء
ثم تذكرت قول ربي ... " يزيد في الخلق ما يشاء " وقال:
وخمار أنخت به مسيحي ... رخيم الدل ذي وجه صبيح
سقاني ثم غناني بصوت ... فداوى ما بقلبي من جروح
وفض فم الدنان على اقتراحي ... ففاح البيت منها طيب ريح
فقلت له لكم سنة تراها ... فقال أظنها من عهد نوح
فلما أن شدا الناقوس ضرباً ... دعاني أن هلم إلى الصبوح
وحياني وفداني بكأس ... وقبلني فرد إلي روحي @فصول من خطبته التي جعلها مقدمة لأرجوزته
قال في صدرها: أما بعد، فإنه لما كانت مخاطبة الرئيس، تنوب عن لقائه الذي هو حياة النفوس، وربيع القلوب، وثلج الصدور، وناظم(2/918)
فرائد الحظوظ والحبور، وكانت حالي قد أناخت بذراه الرحب، وآمالي قد كرعت في مورده العذب، إذ هو سماء تمطر، وبحر لا يكدر وغيث ممرع يحيا به المجدب؛ وما زلت روم لقاءه على تراخي الأيام، فيحول بيني وبينه قدر لا يرام، وعقال تقاضيه غير مطلق، وباب الرجاء به مغلق؛ فأعملت المداد والأقلام؛ برجز صنعته، وكلام وضعته، والغرض فيه امتداحه، والقصد منه استمناحه، وهو في معنى ما تضمنته كتب التواريخ؛ قطفت عيون زهرها، والتقطت مكنون دررها، واقتصرت على أقلها دون أكثرها، مما لا يسع جهله؛ وحذقت كل حديث يتغلغل، وخبر يتسلسل، وما اتصل بذلك من أخبار املاكها الدرس، إلى وقتنا هذا، ومن وليها من بني أمية وغيرهم. وذكرت من ولي الخلافة بالمشرق من بني العباس بعد المطيع لله إلى وقتنا هذا، وهو وقت التاريخ الذي ذكرته في الارجوزة، والإمام الآن فيه القائم بأمر الله ابن القادر بالله، وقصدت إلى معنى الاستذكار به لجوامع التاريخ والأخبار، وسلكت مذهب الاختصار، رجاء أن تطلعني قريحتي على مغزاه، وتنشط منتي إلى قرب مرماه، وقدمت أولاً مقدمات من أصول الاعتقادات.(2/919)
@وأول أرجوزته
يقول مهدي الورى المنتظر ... ها فاسمعوا ما قلته واعتبروا
أبدأ باسم الله في الترجيز ... رب الأنام الملك العزيز
ثم بذكر المصطفى محمد ... صلى عليه الله طول الأبد
والطيبون آله الكرام ... عليهم الصلاة والسلام
أهدي من القريض ما نمقته ... إلى رئيس سيد أملته
تنفق سوق العلم في ذراه ... مضمناً للبعض من حلاه
في كلم كلؤلؤ العقود ... أنظم ما ضمنه المسعودي
وغيره من سائر الأئمه ... في كل من ولي أمر الأمه
مقتصراً منه على عيونه ... وحاذفاً للحشو من فنونه @في التحميد
والحمد للمبتدع السماء ... والأرض ذي الآلاء والنعماء
سبحانه من خالق جبار ... يعلم ما في البر والبحار
وكل شيء عنده معلوم ... فهو الإله الواحد القيوم
رب عظيم أول لم يزل ... باري البرية الكبير المعتلي
أبدعها من بعد أن لم تكن ... بدعة خلاق لها مهيمن(2/920)
وعرشه قد كان فوق الماء ... كذا المقال الحسن الملاء
من قبل أن لم يك عرش لا ولا ... ملاً يرى تكوينه ولا خلا
ولم يكن شيء سواه قبل ... تبارك الله المليك العدل
وانفرد الرب بوحدانيته ... فوق النهى والوهم عن بريته
وسبقت كل البرايا قدرته ... والصفة العليا فتلك صفته
جلت صفات الصانع القديم ... عن قول جهم وذوي التجسيم
فافهم مقال جبهذٍ مميز ... يومي إلى الحق ولما يلغز
إياه فاعبد أيها الإنسان ... فهو اللطيف القادر المنان
ولتعتبر في ملكوت العالم ... كلا وفي نفسك يا ابن آدم
ألم تكن من نطفةٍ مكونا ... ثمت هيا لك صنعاً متقناً -
من آلة الإحساس والحياة ... والقوت والرزق إلى الممات
فصرت حياً ناطقاً بصيرا ... تعتبر الحكمة والتدبيرا
علمنا بالقلم البيانا ... حتى علمنا قبل ما قد كانا
من أمم بادت بصرف الأدهر ... أشهدنا من ذاك ما لم نحضر
سبحانه من واحدٍ قدير ... مصرف الأزمان والدهور(2/921)
@مقدمات من أدلة المعرفة والاستدلال
@على الصانع تعالى من الصنعة
والجسم ليس فاعلاً في الجسم ... قال بهذا القول أهل العلم
أليس ذا أولى برسم العقل ... من ذاك لما استويا في المثل -
أف لقول الفئة البصرية ... أهل الهوى والفرقة يجزي كارث
دانوا معاً بقدم الحوادث ... سوف يجازون بخري كارث
وأحذر هداك الله يا ذا الفهم ... قولهم وأحذر مقال جهم
وجانب الحيدة والتعمقا ... فإن ذاك نهج من تزندقا
وقل بما يقول أهل الحق ... من مثبتي صفات رب الخلق
وأدوات الحس يا من يفحص ... عن علمها ومن عليها بحرص
السمع والبصر ثم اللمس ... والشم والذوق فتلك خمس
وكل ما تدركه موجود ... مؤلف مبعض محدود
جهاته ست بلا امتراء ... معلومة من غير ما خفاء
أعلاه والتحت وبعد خلف ... ويمنة ويسرة تحف
ثم أمام سادس الجهات ... وهكذا مقترن الصفات
فبعضها يوجب فاعلم بعضا ... فلا تكن بجهل هذا ترضى
فكل ماله قياس يعقل ... من المضاف في المعاني أول
إن له فافهم مقالاً آخرا ... فكل ما له طرف لا إمترا(2/922)
إن له فاعقل كلامي وسطا ... كذاك فتش الغطا
في أن ما ظاهره مشهود ... ففيه فاعلم باطن موجود
والخبر الصحيح باتفاق ... سماعنا عن مصر والعراق
وعلمنا البحر وإن لم نره ... علم صحيح ليس فيه شبه
والنقل في تواتر الأخبار ... يغني عن الرؤية بالأبصار
وهو بالجم الغفير كاف ... وبالجماهير بلا خلاف
وكل محسوس فذو ابتداء ... ومدة تفضي إلى انتهاء
والحد قول موجز مطبوع ... مخصص يدرى به الموضوع
والاسم ما دل على الموجود ... فمازه من سائر المعدود
واعلم بأن الجسم والزمانا ... مصطحبان أبداً قرانا
إذ الزمان حركات الجسم ... وذاك أقصى مدرك بالوهم
وكل شيء جوهر أو عرض ... إلا الذي الطوع له مفترض
فإن فحصت قائلاً ما الجوهر ... وما هو العرض إذ يفسر
فالجوهر الحامل للأعراض ... وهو الذي ليس بذي أبعاض
والعرض المحمول كالألوان ... وحركات الجوم والإسكان
وقسمة الوجود فضروب ... بثلاثة يدركها اللبيب
ما تجد الخمس من الحواس ... فافهم هداك الله رب الناس
ثم وجود لمثال العقل ... يعرف هذا ذو الحجى والنبل
ثم وجود ثالث رفيع ... فوق العلا علمه البديع(2/923)
برهانه يدرك بالدليل ... مثل دخان النار في التمثيل
وكالبناء وثمار الشجر ... والأثر الكائن عن مؤثر
وحسبنا ما لا يصح جهله ... في الاعتقادات وهذا أصله @في بيان العلم وانظر
أوصيك يا من يطلب العلوما ... أن تعرف الموهوم والمعلوما
ولا تقل بالميل للتقليد ... فذاك رأي الكودن البليد
واتخذ العلم لنفس العلم ... لا للمباهاة ولا للخصم
والعلم، عن أردت حد مطلبه ... معرفة الشيء على ما هو به
والعلم علمان أيا من يبحث ... علم قديم ثم علم محدث
إن القديم علم رب العرش ... باري البرية الشيد البطش
ومحدث فذاك علم الخلق ... من ناطق وغير ما ذي نطق
وكل علم محدث علمان ... علم ضروري بلا برهان
كالعلم أن اثنين ضعف واحد ... وأن ليس قائم كقاعد
وبعده فعلم الاستدلال ... والمنطق الباحث عن أحوال
ما فيه ما ينظر من يفكر ... يدرك هذا كل من يعتبر
وصانع العالم فرد صمد ... والصنع لم يشركه فيه أحد
فصنع الاثنين اشتراك منهما ... لا يخلوان من تغايرهما(2/924)
وكل ما زاد على اثنين كذا ... من خالف التوحيد فهو قد هذى
والانفراد غاية في المدح ... والاشتراك من دواعي القدح
وللنصارى القول بالتثليث ... أفظع به من مذهب خبيث
وطابقوا اليهود في التجسيم ... أف له من منطق ذميم
وللبراهمية والمجوس ... مقال سوء ليس للقدوس
جل الإله الفرد عن شريك ... فهو ذو التقديس والتبريك
وليس ذا حد ولا انتهاء ... فهو فوق الفوق ذو اعتلاء
أحاط بالأشياء طراً علمه ... وهم فيما قد براه حكمه
أحصى الكثير منه والقليلا ... وعلم الجملة والتفصيلا
وجاد بالغنى وقدر العدم ... وكان عدلاً منه كل ما قسم @التفكر في الملكوت
يا من يجيل فكره للعبره ... في كل مووضوع له بالفكره
انظر إلى الموت والنبات ... والحيوان نظر استثبات
كيف ترى التكوين فيها ماثلاً ... ينبيك أن لقواها فاعلا
يؤلف الأربعة العناصرا ... يمنع من أضدادها التنافرا
وجاوز العبرة نحو الفلك ... حيث السموات ذوات الحبك
تبصر هنالك النجوم الخنسا ... سخرها من في العلا تقدسا
والأبرج الثابتة المكان ... نيرة تعلو على كيوان(2/925)
يهدي بها في ظلمات البر ... كلاً وفي ظلماء لج البحر
وعدد السنين والحساب ... يعلمه بها ذوو الألباب
وتعلم الأنواء والمنازل ... ذا طالع منها وهذا آفل
شواهد تشهد بالتوحيد ... للواحد المبتدع الحميد
واسم إلى تفكر في النفس ... تبصر قواها في محل القدس
بحجم جسم العالم المحيط ... المستدير الشكل ذي التخيطي
وانظر إلى التسخير فيها لازما ... يؤمها كما يؤم العالما
يلحقها النقصان والزياده ... وأنها ليست لها إراده
من ذاتها في حالة التصريف ... فهي تنقاد إلى التكليف
لقوة العقل الذي يحملها ... فهو إلى اختياره ينقلها
إذ هو أعلى رتبة واشرف ... منها إذا حصلته وألطف
لكنه تلحقه الآفات ... من غيره والعجز والعاهات
فدل ذاك أن رباً فوقه ... باين بالذات والاسم خلقه
يملكه وكل ما سواه ... ملك إحاطة قد احتواه
وكم له في خلقه من آيه ... تنبئ أن ليس له نهايه
يبصرها ذو الفطن الصحيحه ... إن أعمل الفكرة والقريحه
واعتبر المقايس المطروده ... فبعضها ببعضها معتضده
بينة في حجج العقول ... شاهدة بالصدق للرسول(2/926)
@بدء الخليقة وذرء البرية
أقول قولاً ليس بالمفند ... ولي لسان كشبا المهند
إن مقال المسلمين اتفقا ... أن إله العالمين خلقا
من غير أصل أو مثال شي ... مكون من ميت أو حي
أبدع تكوين المبادي الأول ... بقدرة عظيمة لم تزل
وكان بدء الخلق في يوم الأحد ... وتم في يوم العروبة العدد
فخلق الله السموات العلا ... كما عن الرسول في الذكر تلا
أخرج من ماء دخاناً فسما ... ثم دحا الأرض ليبلو الأمما
أسكن فيها الجن قبل آدم ... فأتقن الرحمن خلق العالم
وآدم صور من صلصال ... فكان منه جملة الأنسال
ثم برا لآدم حواء ... فسكنا جنته العلياء
فمكثا مقدار ربع يوم ... وأهبطا منها هبوط لوم
بالهند حيث العود والقرنفل ... والمسك والكافور ثم الصندل
فولدا هابيل ثم قساينا ... ليقضي الخالق أمراً كائنا
كما حكى في قصص القربان ... شأنهما في محكم القرآن
من قتل هابيل ببغي الحسد ... قضاء باري الباريات الأحد
فقال ما يروى من القريض ... آدم قول الأسف المهيض
ثم خلا بزوجه لما سلا ... فحملت حواء منه رجلا
سماه شيثاً آدم أبوه ... فكان في سيرته يتلوه(2/927)
فعاش تسع مائة سنينا ... آدم بعد ثم ثلاثينا
ثم تولى الحكم شيث بعده ... فسد في أحكامه مسده
وأن شيث غشي امرأته ... فحملت أنوش فاسمع نعته
فانتقل النور إليه فأضا ... وكان يقفو فعل من قبل مضى
فولدت قينان لأنوش ... فصار ذا ملك وذا جيوش
ثم ابنه من بعد مهلاييل ... والعهد مأخوذ فما يقيل
ثم أن مهلاييل يرد ملكا ... والنور موروث يجلي الحلكا
وقام بعده ابنه خنوخ ... ضمن هذا كله التاريخ
ثم متوشلخ ابنه والنور ... في وجهه والشرف المذكور
وقام لمك بعده ذا فضل ... في كائنات واختلاط نسل
وناح نوح والفساد قد ظهر ... وصنع السفينة ذات الدسر
فصار في الفلك وقد عم الغرق ... من جحد الله تعالى وفسق
ثم نجا ومعه أولاده ... سام وحام وهما عتاده
ويافث فالنسل منهم كائن ... تحويهم الآفاق والمدائن @الأنبياء المنصوص على قصصهم في القرآن
ونعمة الله ببعث الرسل ... بحمدها ينطق كل مقول
أولهم آدم الصفي ... وآخر محمد النبي
أرسلهم طراً ليهدوا الناسا ... مؤلفاً بالدعوة الأجناسا(2/928)
فأدحضوا كل مقال زائف ... أكرم بهم من صفوة خلائف
تأتيهم الملائك الكرام ... بكل ما يريده العلام
فبينوا الحلال والحراما ... وأنفذوا الأمور والأحكاما
حتى بدا الصبح لذي عينين ... وأسمعوا من كان ذا أذنين
تألفهم صحابة أمجاد ... أسد حروب قادة أنجاد
حتى هدى الله بهم من اهتدى ... لولاهم لأصبح الناس سدى
فاختص كل مرسل بمعجزة ... من آية وكلمات موجزه @الخلفاء الأربعة ومن تلاهم من بني أمية
ثمت خص الخلفاء الأربعة ... فأكمل الله بهم ما صنعه
فاستخلف الصديق ثاني اثنين ... ذاك أبو بكر بغير مين
جرد في جهاد أهل الرده ... ولم يكن يرضى بغير الشده
ثم توفاه الإله راضيا ... وكان في ذات الإله ماضيا
ثم تولى عمر الفاروق ... فالتأمت من بعده الفتوق
واستعمل البعوث والأجنادا ... وألف الحروب والجهادا
حتى أتته محنة الشهاده ... فهيأ الله له السعاده
فصير الشورى إلى أصحابه ... ستتهم وهو يشكو ما به
فآثروا عثمان بالخلافه ... وكان للإله ذا مخافه
فمهد الأمة ذو النورين ... حتى سقاه الله كأس الحين
إذ حصروه في حريم الدار ... مستسلماً من غير ما أنصار
طوبى له من أشمط قتيل ... يقوم طول الليل بالتنزيل
بؤساً لقوم قتلوا عثمانا ... إذ نقموا استخلاصه مروانا(2/929)
ثم تولاها أبو السبطين ... ذاك أبو الحسن والحسين
علي ذو العلوم والشجاعه ... والزهد في الدنيا وذو البراعه
فسار طلحة مع الزبير ... إلى العراق في أحث سير
وخرجت عائشة للصلح ... فانصرفت والحرب ذات كلح
فشبت الحروب يوم الجمل ... حتى أصيب طلحة في المقتل
وقتل الزبير قبل الملحمه ... منصرفاً عنها حليف مندمه
وثارت الحروب بالخوارج ... أصلاهم بالنار ذو المعارج
ثم مضى علي إلى معاويه ... فاضطرب الأمر بعمرو الداهيه
فاجتمعوا للحرب في صفينا ... فأيتموا البنات والبنينا
ودام في حروبه علي ... حتى دهاه حادث وبي
حين أصابته يدا ابن ملجم ... فخضب المفرق منه بالدم
تباً له من خارجي فاسق ... خالف في التنزيل أمر الخالق
فاغتاله وهو ينادى سحراً: ... قوموا إلى الصلاة يدعو منذرا
ثم تولى الحسن الإمامه ... فمنحت بيمنه السلامه
وحقن الله به الدماء ... وأذهب المحنة واللأواء
وسلم الأمر إلى معاويه ... حياته وصار عنها ناحيه
فسار فيها ابن أبي سفيان ... بسيرة للعدل والإحسان
وكان فرداً في النهى والحلم ... حتى رماه حينه بسهم
فانتقل الأمر إلى يزيد ... فحاد عن مناهج التسديد
مجترماً في قتله الحسينا ... وجاء في الحرة فعلاً شينا(2/930)
حتى أتاه الموت حتف أنفه ... فلم تكن له يد في صرفه
ثم أبو ليلى تولى الحكما ... فعاقه حمامه إذ حما
وكان لا بأس به في السيره ... ثم انقضت مدته اليسيره
فاستخلفوا مروان نجل الحكم ... طوبى له من ملك محتزم
فأوقعته زوجه في عطبه ... إذ أنفت من قوله: ابن الرطبه
يقولها لابن يزيد خالد ... سليلها غضبان قول حاقد
وكان ذا بأس وذا دهاء ... وبسطة في العلم والذكاء
يقتحم الحرب بجأش رابط ... كفعله في يوم مرج راهط
ثم تولى الأمر عبد الملك ... وكانت الدما به لم تسفك
لكنه كان شديد الحزم ... أبو الخلائف الرضي الحكم
وكان من عماله الحجاج ... سراجه في خطبه الوهاج
حتى إذا بابن الزبير ظفرا ... وكان في مكة يعلو المنبرا
للحرمين والعراق مالكا ... ومصعب أخ له هنالكا
سقاه كأساً مرة المزاج ... وكان للحروب ذا اهتياج
وثارت الحرب مع ابن الأشعث ... فاغتاله الحجاج لما يلبث
وغلب البغاة عبد الملك ... بالحزم والجد وعزم موشك
حتى توفاه مزيل ملكه ... فولي الوليد بعد هلكه
وقد بنى الجامع في دمشق ... مقتصداً في ذاك وفق الصدق
في عهده فتح أندلوسا ... طارق مولى ابن نصير موسى(2/931)
ثم عام تسعين مضت واثنين ... ثم سقاه الدهر كاس الحين
ثم سليمان تولى الملكا ... وساسه حتى تولى هلكا
وكان ذا غزو وذا حروب ... في الروم لا يبقي على الدروب
نعت إليه نفسه جاريته ... يوماً كانت أعجبته بزته
وكان ذا حسن وذا جمال ... بين شباب راق واكتمال
فأنشدت بيتين من قريض ... حثا مسيره إلى الجريض
ثم تولى الأمر بعد عمر ... وكان في العدل إماماً يؤثر
زهداً وعلماً واعتدالاً وتقى ... حتى اغتدى في الأمر فرداً منتقى
قفا سبيل جده الفاروق ... ودحض الباطل بالحقوق
إلى انتهاء الحتم من مدته ... فصار عند الله في رحمته
ثم تلاه والياً يزيد ... فظل في سيرته يحيد
تصبحه سلامة شرابه ... وربما تغبقه حبابه
حتى أتاه الحين بعد حينها ... وبان عنه الملك عند بينها
فصار في الأمر هشام يحكم ... يسوس في سيرته ويحزم
قتل زيد بن علي إذ خرج ... عليه قتلاً لم فيه حرج
فدام في جد إلى أن ماتا ... وزال عنه ملكه وفاتا
فصير الملك إلى الوليد ... فلم يكن في الحكم بالسديد
لما اغتدى مشتغلاً بالخمر ... وبالأغاني وسماع الزمر
فأهلك الأمة بخلاعته ... فانخلعوا لذاك عن طاعته(2/932)
حتى ثوى معتنقاً حساما ... منصلتاً مغتبقاً مداما
يا عجبا من ذاك كيف جازا ... وقدموه دون أن يمازا
في العقل والدين بلا مثيل ... وهكذا الأكثر في التحصيل
لأنهم قد كتموا النصوصا ... فأشبهوا السباع واللصوصا
وقدموا ابن عمه يزيدا ... فكان في سيرته سديدا
ذا ورع عدلاً رضاً صواما ... يتلو كتاب ربه قواما
فدام في الأمر شهوراً خمساً ... حتى ثوى فضمنوه الرمسا
فقدموا أخاه إبراهيما ... وخلعوه بعد ذا ذميما
واستخلفوا من بعده مروانا ... في طالع ما إن عدا كيوانا
فبايع الناس له بالأمر ... فصلي القوم به في جمر
وقامت الحرب على ساق به ... إلى حمامه وحين نحبه
إذ سار صالح مع المسوده ... إلى خراسان بجند جنده
فسيق مروان إلى الحمام ... طوق طوق الصارم الحسام
وانقرض الأملاك من أميه ... والموت قصرى كل نفس حيه @الدولة العباسية
فصار في الأمر بنو العباس ... فلم يكن في حكمهم من باس
أول أملاكهم السفاح ... خبر منه العدل والصلاح
لكنه كان كثير القتل ... في عبد شمس طالباً بذحل
دعا أبو سلمة الخلال ... إليه فانقادت له الرجال
فكان رأس مظهري دعوته ... فخاف منه القدح في دولته(2/933)
إذ كان قد مال إلى آل علي ... مشايعاً من رام منهم أن يلي
فدس من سارره جنح الغبش ... بأسمر أذلق كالصل نهش
كان أبو مسلم السراج ... في عسكر مجر له عجاج
قد سودوا الثياب والرايات ... يبغون من إثارة الثارات
يدعون في بلاد خراسانا ... بطاعة السفاح لا مروانا
فقتلوا مروان في بوصير ... فسجد السفاح للقدير
لما رأى لا يقبل ذا نميمه ... مجانباً للشيم الذميمه
وكان ذا علم وذا أناة ... مقتدياً بآله الهداة
حتى حواه بعد قصر جدث ... وصار حتى الحشر فيه يلبث
فصير الأمر إلى المنصور ... فأحكم التدبير للأمور
إذ كان ذا سياسة وحزم ... مسدد الرأي قوي العزم
فخرجت بمكة ويثرب ... طالبة آل أبي طالب
فآلت الحرب إلى اهتياج ... مع أبي مسلم السراج
فاحتال حتى اغتاله المنصور ... لما أتاه القدر المقدور
فخلص الأمر لأبي جعفر ... مهنأً من غير ما تكدر
حتى توفي في طريق مكه ... وبزت الأيام عنه ملكه
فولي الأمر ابنه المهدي ... ذو السيرة الحسنى الرضا السري
وهو ممدوح أبي العتاهيه ... في غير ما قصيدة وقافيه(2/934)
مشبباً بعتبة محبوبته ... في كتب التاريخ ذكر قصته
لابنته علية شعر فشا ... وقصة في شأن طل ورشا
وكان يشتد على الزنادقه ... ومن غلا يرضي بذاك خالقه
إذ كان في العدل إماماً مقسطا ... حتى أتاه حينه فاعتبطا
فولي الهادي ابنه من بعده ... فسار في سيرته وقصده
عدلاً إلى أن ذهبت أيامه ... فعاق عن مأموله حمامه
فصار هارون الرشيد تاليا ... للملك الهادي إماماً واليا
فشيد الملك وأعلى كعبه ... حزماً وعزما وأذل صعبه
واستوزر البرامك الأمجادا ... فاستوسق الأمر بهم وزادا
حتى دهاهم حادث الأيام ... وكل عيش فإلى انصرام
ثم دهى الحين الرشيد فاخترم ... والموت حتم في العباد قد حتم
ثم ولي محمد الأمين ... في طالع حل به التنين
فلم يزل مشتغلاً باللهو ... في غرة ومهملة وزهو
ينشده أبو نواس الحسن ... وكان ممن شأنه التمجن
أشعاره في الخمر والغلمان ... فيحتذي ما قاله ابن هاني
حتى أتاه الحتف بالمأمون ... فصار رهناً في يد المنون
أنحى عليه طاهر فاغتاله ... قتلاً وعن سلطانه أزاله
ودارت الحروب في بغداد ... وآل أمرها إلى الفساد
فجاءها المأمون عبد الله ... فانزاح عنها كل أمر داه(2/935)
حتى اغتدت في زينة العروس ... وغاب عنها كوكب النحوس
إذ بايع الناس له فسلموا ... وأشرق الدهر وكاد يظلم
وكان في سيرته المأمون ... عدلاً رضاً له تقى ودين
ذا بصر بالعلم والكلام ... مفوهاً بالنثر والنظام
وكان في أيامه ابن أكثم ... قاضيه يحيى اللوذعي المفهم
له حديث معه مستطرف ... وكان ذا فقه له تصرف
وثار إبراهيم ابن المهدي ... عليه والطالع غير سعد
فعاقه عما أراد القدر ... فجاءه منهزماً يعتذر
واستوزر الحسن نجل سهل ... إذ ناهز الحسن سن الكهل
مصاهراً له ببوران ابنته ... منوهاً من جاهه وحرمته
فصد عما ينتجه الحسنا ... وشك حمام بدفاع قد دنا
فأصبح المأمون بعد الحسن ... مرزءاً يلبس ثوب الحزن
مورياً إذ كان قد سقاه ... سماً وحياً قاطعاً حشاه
وبايع المأمون موسى ألرضا ... ثم قضى الله لموسى ما قضى
فدفن الرضا مع الرشيد ... طوبى لموسى من فتى شهيد
ثم ثوى المأمون في جهاده ... رهناً بما قدمه من زاده
وصير الملك إلى المعتصم ... فأحسن السيرة لما يظلم
فاستفتح المعتصم العموريه ... ثم أراد غزو قسطنطينيه
فعاقه عن ذاك أمر مزعج ... من ثائر قام عليه يخرج
وأن الافشين بدا من كفره ... ما كان قد أجنه في صدره(2/936)
وقتل المعتصم الأفشينا ... إذ كان بالبغي يكيد الدينا
أحرقه بالنار لما أن بغى ... وهكذا يجزي الإله من طغى
ثم دهى بعد الإمام المعتصم ... وهو على دجلة حين فقصم
فبويع الواثق بالإمامه ... وكان ذا عدل وذا استقامه
وإنه كان محباً للنظر ... لكنه بالقول بالخلق أمر
ثم عدا الواثق حين نزلا ... فابتز ملكه وما قد خولا
فبايعوا لجعفر التوكل ... وكان عين الفضل والتفضل
حتى دهاه حادث كبير ... فاغتاله بغاء الصغير
مالا عليه ابنه المنتصر ... إذ سامه هوناً ومقتاً يضجر
فبايعوا محمد المنتصرا ... فلم يدم في الملك إلا أشهرا
فاضطربت أحواله بالترك ... ولم يزل في نكد وضنك
جرعه المعتز من بغي جرع ... فسلم الأمر إليه وانخلع
فتم للمعتز ما قد أمله ... والدهر يفري لو درى أجله
فلم يكن يحسن [في الأتراك ... سيرته فحل في أشراك
من ضغطهم فبايعوا للمهتدي ... فانخلع المعتز يلقى باليد
ومات في المجلس] بعد خلعه ... فقمن يندبن نعاة ربعه
فعرضت للمهتدي أعراض ... كان بها في ملكه انتفاض(2/937)
أظهر زهداً لم يوافق جنده ... وكف عنهم سيبه ورفده
فوجؤوه بشبا الخناجر ... فلم يكن للمهتدي من ناصر
فولي المعتمد الخلافه ... فآثر اللذات والسلافه
وكان في حرب مع الصفار ... وغيره من سائر الثوار
حتى دهاه ما دهى البريه ... فسلبته ملكه المنيه
فولي الخلافة المعتضد ... وكان في حروبه يؤيد
فخرجت في ملكه القرامطه ... بغياً فأبدى فيهم مساخطه
وكان ببدر غلامه كلف ... وكان بدر البدر من غير كلف
ووصلت قطر الندى إليه ... بنت ابن طولون خمارويه
فكان منها في سرور وطرب ... حتى دنا الحمام منه فذهب
فصار منها في سرور وطرب ... حتى دنا الحمام منه فذهب
فصار في الأمر علي المكتفي ... فكان في السيرة عين المنصف
لكنه أذاق بدراً حتفه ... إذ كان على ملكه قد خافه
ثم أتى المكتفي الحمام ... وكان قد ساوره السقام
فصير الأمر إلى المقتدر ... لله نجل المعتضد جعفر
وابن المعتز قد غدا إماماً ... فسامه المقتدر الحماما
ولم يسع مراد عبد الله ... لما دهاه بالمنون داه
وأدركته حرفة الآداب ... بالقدر السابق في الكتاب
فدام في الأمر سنين جعفر ... حتى أتاه القدر المقدر
فشبت الحروب في أيامه ... فجرعته المر من حمامه
فولي القاهر نجل المعتضد ... وكان فظ النفس ذا خلق نكد(2/938)
يعيث حتى سلمت عيناه ... إذ كان سهماً يتقى شباه
فاستخلف الراضي أبو العباس ... فكان مشغوفاً بشرب الكاس
ذا أدب وذا قريض حسن ... وكان في العلوم ذا تفنن
ثم تولى بعد ذاك المقتي ... فما بقوا من بعده ولا بقي
وبايعوا من بعده المستكفيا ... ثم انزوى عن أمرهم مستعفيا
فأخلصوا الطاعة للمطيع ... فأحسن السيرة في الجميع
ثم رمى بنفسه كالخالع ... إلى ابنه عبد الكريم الطائع
طاعوا له ثم عدوا عليه ... وقطعوا حاجز منخريه
وخلعوه بعد ذاك صاغرا ... وبايعوا ابن المتقي القادرا
فاستوسق الملك له سنينا ... ثلاثة - قالوا - وأربعينا
حتى سقته أكؤس الحمام ... وكل ملك فإلى انصرام
ثم ابنه القائم بعد قاما ... وسار في سيرته أعواما
ثم انتهى ملك بني العباس ... ودبر الأتراك أمر الناس
[وبعد حين قام في بغدان ... مقدم يدعى بأرسلان
فأسر الخليفة المذكورا ... وكان مرءاً بالتقى مشهورا
وجد في الخلع بكل جهد ... وصرف الدعوة للعبيدي
فحرك الرحمن ذو الجلال ... لنصره الملك الميكالي
التغلبكي ملك الأغراز ... فقتل التركي بالأهواز
ونصر القائم خير نصر ... وانفرد الغز بضبط الأمر(2/939)
ثم ثوى القائم بعد مده ... وبايعوا لمقتديهم بعده
ابن ابنه أحمد عبد الله ... وألمر للعادل شاهنشاه
وبايعوا من بعده إذ قبرا ... سليله أحمداً المتسظهرا
ثم تولاه ابنه المسترشد ... الفضل فاعتلوا به وسعدوا
وشد أزر الملك والخلافه ... وهابه عدوه وخافه
فهو إلى الآن إمام الخلق ... والملك لله الإله الحق] @دولة بني أمية بالأندلس
وزمن الوليد كان فتحها ... بحسب ما قدم قبل شرحها
وبعدكم حرب وكم من هول ... ليوسف الفهري والصميل
استوسق الملك بهذي الناحية ... لعابد الرحمن بن معاويه
ثم تولاها ابنه هشام ... حتى أتاه بعده الحمام
فبايعوا ابنه المسمى الحكما ... فأبرم الملك له وأحكما
فاعترض الملك له من اعترض ... فأوقع الصلب على أهل الربض
ثم تولى عابد الرحمن ... سليله أسخى بني مروان
ثم تولاها ابنه محمد ... وكان في السيرة ممن يحمد
ذا بصر بالشعر والآداب ... وراسخاً في العلم بالحساب
ثم ابنه المنذر وهو الأكبر ... ثمت عبد الله وهو الأصغر
وبعده الناصر ذو البناء ... خمسين عاماً صاحب الزهراء
وبعده المستنصر ابن الناصر ... وبعده هشام آل عامر
ذاك الذي مات مراراً ودفن ... فانتفض الترب ومزق الكفن(2/940)
@ذكر الفتنة الأولى بقرطبة
لما انقضت دولة آل عامر ... قام بها المهدي من آل الناصر
وقال عن هشام المؤيد ... بأنه قد صار رهن الملحد
وإنما أخبرهم بباطله ... والمرء لا يسطيع قتل قاتله
فجاءه البربر في حفل الجنود ... مع ابن عمه المسمى بالرشيد
فظفر المهدي بابن عمه ... وكان ذاك زائداً في غمه
في طالع ينظر منه كيوان ... فجاءه البربر مع سليمان
فوقعت بينهم حروب ... لاح له من بينها الهروب
فأظلمت في عصره الآفاق ... وعمها الشقاق والنفاق
فانصرف الملك إلى يديه ... فهجموا من بعد ذا عليه
وطوقوه بشبا المهند ... بين يدي هشام المؤيد
فسلم الأمر لسليمانه ... وهشموا هشام في أكفانه
فلم يزل فيهم سليمان يلي ... حتى انبرى له ابن حمود علي
فاغتاله الصقلب في الحمام ... وجرعوه أكؤس الحمام
ثم انقضى عصر بني حمود ... والحرب والفتنة في مزيد
وظهر المستظهر المرواني ... وشعره من أحسن المعاني
وقتلوه بعد ذاك صبرا ... من بعد ما قد قلدوه الأمرا
فبايعوا للناصر المستكفي ... بعد خطوب طال فيها وصفي
ففر عنها ثم عاد المعتلي ... بالله يحيى نجل حمود علي
ثم أتى من بعده المعتد ... والحرب في أقطارها تشتد
فنقموا استخلاصه للحائك ... وزيره فخر أي هالك
وخلعوا معتدهم هشاما ... وسجنوه عندهم أعواما(2/941)
@ذكر ملوك الطوائف الثوار بالأندلس
@بعد ذهاب دولة ابن أبي عامر وأمراء الجماعة بقرطبة
لما رأى أعلام مصر قرطبه ... أن الأمور عندهم مضطربه
وعدمت شاكلة للطاعه ... واستعملت آراءها الجماعه
فقدموا الشيخ ل جهور ... المكتني بالحزم والتدبر
ثم ابنه أبا الوليد بعده ... وكان يحدو في السداد قصده
فجاهرت في فضلها الجهاوره ... وكل قطر حل فيه الفاقره
من كل منتز بها وثائر ... وعادل عن كل عدل جائر
فالثغر الأعلى ثار فيه منذر ... ثم ابن هود بعد فيما يذكر
وابن يعيش ثار في طليطله ... ثم ابن ذي النون تصفى الملك له
وفي بطليوس انتزى سابور ... وبعده ابن الأفطس المنصور
وثار في حمص بنو عباد ... والحرب والفتون في ازدياد
وشاع عن هشام المؤيد ... بأنه حي ولما يلحد
وأنه جاء من الحجاز ... واحتل في حمص على المجاز
وقال عباد به فصدقوا ... بأنه حي لديه يرزق
فنصبوا دعوته طلسما ... وقد محا الممات منه الرسما
فعبدوه مدة أعواما ... إذ عدموا الألباب والأحلاما(2/942)
ثم نعاه بعد ذا عباد ... من بعد ما طاعت له البلاد
وثار في غرناطة حبوس ... ثم ابنه من بعده باديس
وآل معن ملكوا المريه ... بسيرة محمودة مرضية
ذكرهم في غير ما قصيد ... يشرق مثل النحر بالفريد
وثار في شرق البلاد الفتيان ... العامريون ومنهم خيران
ثم زهير والفتى لبيب ... ومنهم مجاهد اللبيب
سلطانه رسا بمرسى دانيه ... ثم غزا حتى إلى سردانيه
ثم أقامت هذه الصقالبه ... لابن أبي عامرهم بشاطبه
وجل ما ملكه بلنسيه ... وثار آل طاهر بمرسيه
وبلد البنت لآل قاسم ... وهو حتى الآن فيه حاكم
وابن رزين جاره بالسهله ... أمهل أيضاً ثم كل المهله
ثم تمادت هذه الطوائف ... تخلفهم من آلهم خوالف
دانت بدين الجور والعدول ... إذ سلبت عقائل العقول
فأهملوا البلاد والعبادا ... وعطلوا الثغور والجهادا
واشتغلت أذهانهم بالخمر ... وبالأغاني وسماع الزمر
وزادهم في الجهل والخذلان ... أن ظاهروا عصابة الصلبان
لما طوت صدورهم من غل ... ولاختيار البعض حال الكل
فخسفت [ ... ] بالأرض ... وضيقوا من طولها والعرض
فاستولت الروم على البلاد ... واستعبدوا حرائر العباد
وقتلوا الرجال كيف شاءوا ... وضاع دلو الدين والرشاء
وإذ أطال القوم أسرى القدر ... نحوهم خسفاً وما إن شعروا(2/943)
@دولة المرابطين بالأندلس
فإذا أراد الله نصر الدين ... استصرخ الناس ابن تاشفين
فجاءهم كالصبح في إثر غسق ... مستدركاً لما تبقى من رمق
وافى أبو يعقوب كالعقاب ... فجرد السيف من القراب
وواصل السير إلى الزلاقه ... وساقه ليومها ما ساقه
لله در مثلها من وقعه ... قامت بنصر الدين يوم الجمعه
وثل للشرك هناك عرشه ... ولم يغن عنه يومه أذفنشه
فوجب الخلع لذي الخلاعه ... وصرحوا ليوسف بالطاعه
واتصل الأمر على نظام ... وامتد ظل الله للإسلام
وانصرفت على العدو الكره ... ورجع الجمع كأولى مره
فتلك خيل الله في العدو ... تعيث في الرواح والغدو
ثم ولى علي بن يوسف ... مهتدياً حكم أبيه يقتفي تمت الأرجوزة وبتمامها تم القسم الأول
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم(2/944)
ط: ينهى؛ ونمت الرمية: إذا أصيبت وغايت عن النظر ثم وجدت ميتة، ولذلك قيل: كل ما أصميت ودع ما أنميت.
ينكش: ينزف.
ب م: طلع.
ط: اجتريت.
ب م: كتابه الكبير؛ وهذا التاريخ الكبير هو المسمى بالمتين، وقد ذكر ابن سعيد أنه في نحو ستين مجلدة (النفح 3: 181) .
ب م: مقدور.
ط: ألبة.
انفردت ب م بهذه الرسالة والتي تليها.
من قول ضابئ بن الحارث البرجمي:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله كان عبد الله بن أحمد الفرغاني (- 362) مؤرخاً، وله كتاب بعد صلة على تاريخ الطبري (انظر ترجمة الطبري عند ياقوت) وكان ابنه أبو منصور أحمد بن عبد الله (- 398) مؤرخاً كذلك، وله تاريخ وصل به تاريخ والده، وعنه ينقل ابن خلكان في مواضع (راجع فهرست وفيات الأعيان) وله أيضاً سيرة كافور وسيرة جوهر (ابن خلكان 5: 416) وسيرة العزيز (معجم الأدباء 3: 105) .
ط: فتح.
ط: طالما.
ط: وعز به المكتوب.
ط: ويتيم.
ب م: حتى حرك العدى امتعاضك.
ط: للسير.
ب م: حسدك.
ط: جاء.
ب م: نباط.
ب م: بأذاي.
ب م: داري.
ب م: تسله.
ب م: أن ذلك كفء.
ط: مع موصله.
ط: والاستجارة؛ ب م: والاستخارة.
ب م: فاجأتني.
ط: ريقه.
ط: واطابه.
ب م: فأدالت عزته.
ط: فيه.
ط: تكسها.
ب م: فنالني.
عام: أي مطبق بالعماء وهو السحاب؛ وإذا قرئ " غام " فكأنه من غمى البيت أي غطاء.
ب م: قبلت.
ب م: بإمحاض.
ط: ريح.
ط: البشارة.
ب م: الحمد.
ب م: تزل تصحبها.
ط: ووفى.
ب م: أعرف.
ط: مكتومه.
انفردت ب م بهذه الرسالة.
م: لمناح القلوب؛ ب: لمنا القلوب.
ط: خرب (اقرأ: حزب) .
ب م: الاظفر.
في أخبار أبي عمر أحمد بن سعيد بن إبراهيم الهمداني المعروف بابن الهندي أنه لاعن زوجته (سنة 388) فلما لاموه في ذلك قال: أردت إحياء سنة (الصلة: 19 والمغرب 1: 212 والديباج المذهب: 38) ولا أدري إن كان هذا هو الذي يتحدث عنه ابن حيان هنا، فإن ابن الهندي وصف أيضاً بأنه كان حافظاً للفقه وأخبار أهل الأندلس، بصيراً بعقد الوثائق، ألف فيها ديوانا كبيراً، وكان طويل اللسان بصيراً بالحجة تنتجعه الخصوم فيما يحاولونه ويشاورونه، وكان وسيماً حسن الخلق والخلق (توفي سنة 399) .
لم يرد في ط.
ب م: أمحض.
ط: الأغاني الفاتنة.
ب م: ليخلص.
ب م: الانتزاع.
ط: وحرف.
من المثل: لا حر بوادي عوف.
الأعواد: المنابر.
انظر ابن خلكان 3: 361.
ب م: وكان أحد.
ط: الدين.
ب م: لفرط.
ب م: الغبي.
ط: والجهل.
لم يرد في ط.
ط: عانت.
الذكاونة: أسرة بني ذكوان.
ط: حرد.
ب م: ووثن صحاب.
ب م: جرئ.
ب م: ويرسل للتغير (اقرأ: للنقير) عليه ريح ضلوعه.
لم يرد هذا الفصل في ط.
ب م: المسرفين.
يعني قوله:
لو كانت الأقسام تجري على حجى ... هلكن إذن من جهلهن البهائم ط: المبيدة.
ط: السخف.
ب م: رحمة.
ط: تحويل.
ب م: بمناحي.
ط: فاهتبل بنوها في المشي على أعاظم القرية إلى شهود جنازتها.
ب م: فبقي.
ب م: أحد السماسرة.
ب م: فيروح العشيات نشوان.
ط: وتوفي فلان.
ط: لموته.
ب م: لأمثاله من أهل.
ب م حطام الدنيا.
ط: متولي الإمارة.
أبو القاسم وأبو سوار بن محمد بن عبد الله بن مطرف بن سوار بن دحون القرطبي (- 444) كان من أهل الذكاء والفهم حافظاً للمسائل عارفاً بعقد الشروط، (الصلة: 224) .
ط: دهراً.
ب م: العلوم.
ط: وفلان.
ط: بما شاء من ادخار القوت والطعام.
ط: الزلزلة والمجاعة.
ط: وشمام.
ب م: واندرج.
ب م: اثر وفاته.
ط: باسة.
ط: لجمع آلات.
ب م: على.
ط: فاقة نعل.
ب م: ولا يزال.
ط: وكانت رسل الأملاك تأتيه لشراء تلك الآلات بأغلى الأثمان.
ب م: تسليط الله تعالى له.
ب م: حتى قلع صخام صخورها وأوقد النار عليها.
قارن بالبيان المغرب 3: 233.
ط: وجدت.
ب م: ولم يذكرهما.
ط: على تقديمهم لأبي الحزم.
ط: ما لم يختلفوا فيه.
ط: وجه تصرفه.
ب م: الطمأنينة.
ط ب م: مكابدته.
ب م: تزايد.
بعدها في ب م: وحركوا الأسواق؛ وسترد بعد قليل.
ط: الناس للتحصيل.
ب م: تعدل.
ط: وولي ابنه أبو؛ وقارن بالبيان المغرب 3: 234.
ط: وأقر لوقته.
ب م: السياسة في درء.
ب م: في العجب.
ط: من.
ط: قد تطبعوا بأخلاق العوام.
ب م: في بلية.
ط: عجباء.
ب م: القلنساة.
ب م: إخراجه من البلد.
قارن بالبيان المغرب 3: 255.
ب م والبيان: الانتصاف.
في النسخ: خلفائه.
يعني عبد الملك بن إدريس الجزيري، والبيت من قصدية له في الآداب والسنة، كتب بها إلى بنيه (الحذوة: 262 واعتاب الكتاب: 194) .
ط: فطفق.
ط: خطه.
ب م: ما لخصته.
ب م: من كلام.
ب م: من إملاء.
ب م: وشرد علي نظامه.
ب م: ليجيء خبرهم بتمامه.
قارن بالبيان المغرب 3: 256.
من قول المتنبي:
وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا البيان: يرفههم برفقة؛ وهو أصوب.
ط: بخرقه.
ب م: أمر.
ط: لهم.
ب م: بربض الجانب الشرقي منها.
ب م: عن.
البيان: عن يوم.
البيت للمتنبي، ديوانه: 360.
ب م: توسط قنطرة.
ب م: ويضعهم.
لم يرد هذا الفصل في ط.
ب م: لا يتحرا (ى) منه.
قبل " حال " بياض بمقدار كلمة في ب، وفي ب م: حاصر أهله.
لعل الصواب " مسوفون ".
معوقون: شبههم بالمنافقين الذين كانوا يعوقون الناس عن الخروج.
القفص: الجمع؛ وفي النسخ: قبض.
لم يرد هذا الفصل إلا في ب م.
أبو الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر الأزدي الحافظ المعروف بابن الفرضي: هو صاحب تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس الذي ذيل عليه ابن بشكوال بكتاب الصلة. وله من المؤلفات أيضاً أخبار شعراء الأندلس، وكتاب في المؤتلف المختلف، وكان فقيهاً عالماً في جميع فنون الحديث، قتل في الفتنة لست خلون من شوال سنة 403 (انظر الصلة: 246 - 250 والجذوة: 237 (والبغية رقم: 888) والمغرب 1: 103 والمطمح: 57 والمطرب: 132 ووفيات الأعيان 3: 105 والديباج المذهب: 143 وتذكرة الحفاظ: 1076 والشذرات 3: 168 والنفح 2: 129) .
الجذوة: 238.
ب م: في هذا القيل، والتصويب عن الجذوة.
صحيح مسلم: 2: 96، باختلاف يسير.
وردت في الصلة والجذوة والبغية والمغرب والنفح.
سترد ترجمته في هذا القسم من الذخيرة، ويرد البيت نفسه في ترجمته.
الجذوة: 239 وانظر البيتين في المصادر المذكورة.
اسمه أحمد بن أيوب، عمل كاتباً لدى الناصر لدين الله علي بن حمود، وتولى تدبير ملكه، وأحرز لذلك صيتاً شهيراً وجلالة عظيمة؛ وعرض له داء النسمة (ضيق النفس) وتمادت علته ولم ينجع شيء في علاجها، ثم لم تفارقه حتى كانت سبب وفاته عام 465 بمالقة، ونقل منها إلى حصن الورد فدفن فيه بعهد منه بذلك، وكتبت على قبره أبيات من نظمه، وحصن الورد عند حصن منت ميور (الذيل والتكملة 1: 73 - 75 والإحاطة 1: 240 - 243 نقلاً عن الذيل والذخيرة؛ وانظر المطمح: 25 (وعنه النفح 3: 547) والجذوة: 370 (والبغية رقم: 1520) والمغرب 1: 446) . وقد ذكر في ترجمة ابن شهيد فيما تقدم من الجزء الأول أنه رثى اللمائي عندما جاءه نعيه؛ ولابد أن يكون شخصاً آخر، أو أن يكون النعي كاذباً، لأن ابن شهيد توفي سنة 426.
ب م: وإيراد جملة مما وجدته من نثره.
ب م: بمحاسن.
سيترجم له ابن بسام في هذا القسم من الذخيرة؛ وهذه الرسالة وردت في المطمح: 25.
ب م: ظل.
المطمح: ابتغت.
زيادة عن المطمح.
ط: الخلوص.
ب م: فأسليك.
ب م: العزة.
ب م: بنسيم.
ط: يجنى.
ب م: يئس.
ط: لتصميه.
ط: بعد.
يشير إلى قول الشماخ (ديوانه: 331) :
إذا الأرطى توسد أبرديه ... خدود جوازئ بالرمل عين ب م: ولدي.
ط: روض.
ب م: وكوكب نوره يتألق في روض طرسه.
ط: ومن شعره ما أشدني.
وردا منسوبين له في المغرب 1: 447.
المغرب: به.
اليتيمة: 209، والخباز البلدي هو محمد بن أحمد بن حمدان (انظر الوافي 2: 57) .
انظر المغرب 1: 447.
النفح 3: 596 والذي والتكملة 1: 73 - 74 والإحاطة 1: 243.
البيت لأبي ذؤيب الهذلي، شرح أشعار الهذليين 1: 8.
ب م: وجدت.
ب م: طلائع.
ب م: أوهت عتاق خطوب دهري عاتقي.
ط: فوق.
ط: بفعل.
ط: رضاب.
أبو عبد الله محمد بن أحمد البزلياني: أصله من مالقة، وكان في خدمة حبوس أولا، ثم انتقل إلى بني عباد، وقد عزا إليه ابن حيان دورا في ثورة إسماعيل بن المعتضد على أبيه، وذكر أن المعتضد قتله.
ط: وأبو عبد الله هذا وأيضا من.
ط: حرفا.
ب م: وقد أتيت به مشروحا.
ب م: بموضعه.
انظر القسم الثالث ص: 146 - 147.
هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله البرزالي (البرزيلي) الزناتي، بويع بقرمونة سنة 400، وتوفي سنة 343 (انظر البيان المغرب 3: 311 وقد مر له ذكر في صفحات سابقة من هذا الجزء من الذخيرة) .
البيت من الحماسية رقم: 253 (شرح المرزوقي: 750) لمعبد بن علقمة المشهور باسم معبد بن أخضر المازني (السمط: 343) .
انظر ديوانه 1: 225.
البيت لدريد بن الصمة، الأصمعيات: 112 (وانظر تخريج البيت في المصادر ص 110) .
سورة الأنعام: 67.
ب م: وعلينا ... إليه وإلينا.
ب م: يحيى بن علي بن حمود.
المؤتمن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن أبي عامر.
الموفق مجاهد العامري.
عميد الدولة محمد بن عيسى بن محمد بن مزين صاحب شلب، بويع آخر سنة 445 وتلقب بالناصر ولم يزل ملكاً حتى سنة 450 (البيان المغرب 3: 297 - 298) ولا يمكن أن يكون هذا جاراً لحبوس، فلعل عميد الدولة لقب لشخص آخر، ومما يؤكد ذلك أن حبوس توفي سنة 428؛ والظاهر أن الرسالة ليست على لسان حبوس.
ب م: مسافة.
ب م: للحلم.
ب م: أدنتني، ولعل الصواب " أدتني ".
ب م: سليمة.
ب م: وضعت.
ب م: فخر.
ب م: الزمان.
ب م: أنفاسي.
ب م: متجراً.
وحزبك ... ويذم: زيادة من نسخة دار الكتب.
في النسخ: أكبر.
ط: أعاد.
ب م: وتصير باقية.
ط: ولا أبوء.
ب م: وسمة.
ب م: وإذا أسهل أحزن.
ب م: أتاناه.
ب م: والزمان.
ط: رجاؤه ... محبته.
ط: رجاؤه ... محبته.
م ب: أيامي.
ط: الدهر.
يضرب المثل بمنعة جار أبي دواد، انظر ثمار القلوب: 127.
ط م: والمناسبة.
الخطبان: العلقم.
ط: لاض.
ب م: الزائر.
ب م: رداء.
ط: فكأن.
ب م: وهنانة.
ب م: أكملت.
ب م: كتاب.
ب م: أكثر العرب.
ط: إذ.
ط: ونقلك.
ط: الشكر.
هذه نهاية الترجمة في ط؛ وما جاء بعد ذلك فهو زيادة دخيلة أوردها من اطلع على مسودات ابن بسام، وألحقها بترجمة البزلياني، وقد انفردت بها ب م.
بياض بمقدار ثلاث كلمات.
ب م: زمانك.
ب م: أعشى إلا بنارك.
قراءة تقديرية.
ب م: وينهك (أقرأ: وينهتك) .
ب م: بطلب.
هما مظفر ومبارك، وكانا صاحبي بلنسية أيضاً (انظر القسم الثالث من الذخيرة: 13) ؛ وقوله: " عنه " لا يعرف إلى من تشير على وجه اليقين.
من قول أبي تمام (ديوانه 1: 70) .
لما رأى الحرب رأي العين توفلس ... والحرب مشتقة المعنى من الحرب ب م: بسوق.
ب م: داير.
ب م: داير.
ب م: بالمشاركة.
ب م: الحيا.
أبو جعفر أحمد بن عباس: ترجم له في المغرب 2: 205 (واعتمد على الذخيرة) والنفح 3: 535 والإحاطة 1: 129 (1: 267 تحقيق عنان) وراجع ترجمة ابن شهيد فيما سبق من هذا القسم.
ب م: قد بذ الناس وقته.
تأتي هذه الفقرة في ب م بعد الحديث عن بخله.
ب م: سافرت؛ وكذلك سائر الخبر بضمير المتكلم.
البرس: القطن، ويعني به هنا الثلح.
ب م: صفحة.
الميث: جمع ميثاء، وهي الأرض السهلة أو الرابية الطيبة.
الخيار: ما تهور من الأرض وساخت فيه القوائم.
ب م: في أثناء.
ب م: فروة.... كسوة.
ب م: وإخراج.
الطرامة: خضرة تركب الأسنان أو بقية الطعام بينها.
الشاشية: غطاء الرأس من حرير أو جلد أو غيرهما.
الشبارق: الثوب الرقيق أو المقطع.
زيادة من نسخة دار الكتب وحدها.
ب م: يبيس.
السيدارة: القلنسوة بلا أصداغ؛ وفي ب م ط: السداوة، ولعل صوابها " السداة ".
الفطحل: زمن نوح، أو دلالة على زمن قديم: " والحجارة رطبة ".
عام الصقر: هو عام يؤرخ به الرومان من عصر قيصر اكتبيان (Octaius) (المغرب 2: 8)
التبان: سراويل صغير يكون للملاحين.
ب م: حيله.
ب م: تدبيرك.
ب م: عربي.
ب م: عنقه.
ب م ط: مردخان.
ب: اسفيرا؛ م: أسعير؛ والاسفيريا: خليط من اللحم والبيض والبصل.
نيزكي: نسبة إلى النيزك، وهو الرمح القصير.
الكميخت: (لفظة فارسية) نوع من الجلد.
ب م: السندان.
ب م: مرموساً؛ مرسوماً: قد نسي لتطالول العهد عليه.
ب م: العمر؛ ب م: العبر.
ط: غموسه.
ب م: واستمد.
ب م: قروبه.
ب م: لهزل.
ب م: إليك.
ب م: إلعابك.
ب م: وبصرته شبيباً تيمياً.
ب م: النمر.
ب م: كمدا.
انظر المغرب 2: 205.
المغرب: مسترة.
المغرب: نفخنا.
ب م: لي.
ب م: وتسديداً.
ب م: تلمظت.
ط: وصرنا.
ط: لقائكم.
ب م: بكم.
ب م: ومحض.
ط: عددهم.
ط: بآخرهم.
ب م: بروكه.
ب م: شأنه.
ب م: وعدا به.
ط: خط.
ط: لهم.
ب م: لما.
ط: فإنما.
ط: المؤيد.
ط: وانقلعت.
ب م: مناهجه.
ط: هززناكم بهذه التذكرة ... يسيرة.
ب م: يداً.
ب م: حصير.
البيت للمتنبي، ديوانه 337.
ط: وسحام (اقرأ: وشجى) .
ب م: مغالق.
ب م: لشفعت لها.
ب م: ومن كل قلب.
هذه الفقرة حتى قوله: " حنقها وغضبها " لم ترد في ط، وهي دخيلة - فيما يبدو - لأنها متقطعة الصلة بما قبلها وما بعدها.
ب م: فيتبين.
ب م: إمامي.
انظر القسم الثالث: 229 - 244.
ط: وتجاربا.
انظر البيان المغرب 3: 169 والإحاطة 1: 268 - 270، 526 - 528 (تحقيق عنان) .
ط: خبر ونادر.
ط: باديس بن حبوس على جاره القديم الحلف.
ب م: ضرم.
وردت العبارة موجزة في ط على النحو الآتي: " تمسكه بالمذكور، فأرسل إليه باديس رسوله معاتباً مستدعياً تجديد المحالفة، فسارع زهير وأقبل نحوه، وضيع الحزم، واغتر بالعجب والثقة بالكثرة، أشبه شيء بمجيء الأمير الضخم إلى العامل من عماله، قد ترك رسوم الالتقاء بالنظراء، وغير ذلك من وجوه الحزم "، وما في البيان المغرب مطابق لنص النسخة ط.
ب م: الحد الذي جرت عادته بالوقوف عنده.
ب م: استكثر.
بقابل هذه العبارة في ط: " ومن حضرهما من رجال دولتيهما، فنشأ بينهما عارض الخلاف لأول وهلة، وحمل زهير أمره كله على التشطط، ووزيره أحمد بن عباس يفري الفري في التصريح بما يعرض به زهير ".
ب م: كمائنه.
ب م: راجفين.
زاد في ب م: بما أسرع القعود عنه.
ب م: حصدوها.
ط: وجهل مصرعه؛ وسودان زهير غدروه.
في ط: وانقلبوا مع صنهاجة، وليست من أفعالهم، وكانوا قطعة خشنة يقاربون خمسمائة.
ب م: والعدة.
ب م: بقوم.
ب م: تلظى.
ب م: ط: عف باديس عن ...
ب م: المعركة.
ط: وأطلق ابن حزم والباجي وغيرهما.
ط: عن بلقين الصنهاجي.
ب م: مستنزلاً عما أزمع عليه صاحبه ... من قطيعتنا.
ب م: تسخطونا.
ب م: إلى ما دعاكم إليه.
ب م: وبلغني.
ب م: على أسر ابن عباس.
ب م: حمولي.
ب م: فيه.
ب م: بلدتهم.
ب م: تسع وعشرين.
ب م: وظهر.
موضع العبارة في ط: فكان أبعدهم خلاصاً، وآثر الشفاء من قتله على عظيم ما كان يعطي في فديته.
ب م: وذكر بأولاده.
ب م: الخطاب.
ب م: مسهماً بالأدب.
ط: خصه بها.
ب م: ولا يعلم أب ورث ابناً مثلها.
ب م ط: له.
ط: ومن عجبه أنه دخل قرطبة ومنها منتماه وهم بقية الناس فحجب.
ب م: بقرطبتكم.
صدره: جوعان يأكل من زادي ويمسكني.
ط: لذلك.
ب م: مشاكل الجنس.
ب م: صنفت.
ط: ومن صلفه.
انظر الإحاطة 1: 270.
ب م: عن صداه؛ الإحاطة: فنبشت قبره.
ط: بحيث.
الإحاطة (269) : أربعين رطلاً.
ورد هذا الخبر مقدماً في ب م على سابقه.
لم ترد هذه الرسالة في ط؛ ويبدو أنها مقحمة، وأن سياق الترجمة ينتهي نهايته الطبيعية قبلها؛ وترجمة أبي عامر التاكرني في القسم الثالث من الذخيرة: 226.
ب: أسند.
ذكره الحميدي (الجذوة: 283 والبغية رقم: 1165) ونسبه إلى تجيب وقال إنه كثير الشعر، مقدم عند أمراء بلده، وكان لقاؤه له بالمرية في حدود سنة 440؛ وانظر نفح الطيب 3: 413؛ وسترد رواية الحميدي هذه في ترجمته (انظر ص: 690) وهي رواية انفردت بها النسختان ب م.
ب م: في حلبات.
ب م: الديوان.
ط: بوضوح ... وشهر.
لعل الصواب: ردنك (وهي قراء نسخة دار الكتب) .
ب م: ليلي.
البيت لدعبل في العقد 1: 281، 2: 295، 3: 214 وشرح الشريشي 1: 351 وديوانه: 57 (تحقيق محمد نجم) وروايته: حين أفتحها.
ط: مؤنة.
ديوان أبي تمام 3: 15، وفيه: أو لوذعيته.
ط: شأن.
نوبات: جمع نوبة وهي الدورة الغنائية.
قال للدهر: سقطت من ط.
ط: مختلفة.
ط: الندا؛ ب: البدا (اقرأ: البذا) .
ط: عليك.
البيت للقطامي، ديوانه: 31.
ب م: سأدع.
ط: صنعة.
ط: وجهه.
ط: تستبرعه.
ط: وكالصانع.
ب م: البديع.
ب م: الأوهاد والأنجاد.
ب م: الديباج.
ط: تملأ.
صعق: أتى بصوت شديد، والأشهر أن يقال في حال الديك " صقع "؛ وفي ب م: صفق، وهي قراءة جيدة، وسيكرر الكاتب " صفق وصرخ " في المقامة الآتية في حديثه عن الديك.
ط: وصرخ.
مزرب: محاط بزرائب أو أسوجة، الطوج: الحلفاء (Spartum) .
الاسفنج: عجين لدن راب بالتخمير، يلقى في الزيت ويعرك بالبيض ثم يحشى بالجوز أو ما أشبه (شبيه بالقطائف المشرقية) انظر كتاب الطبيخ: 88.
أغلب الظن أن اللفظة هنا تعني " خيال الظل ".
ب م: والاسعيدام.
من المثل: " أعن صبوح ترقق " (فصل المقال: 75 والميداني 1: 315 والعسكري 1: 16) يضرب مثلاً لمن كنى عن شيء وهو يريد غيره.
صدر بيت، وعجزه: " سقيت الغيث أيتها الخيام "، ديوان جرير: 278.
ب م: وإن كنا.
ب م: واهتز هزة هرم للكرم.
ب م: يتهافتون.
ب م: أحدهم.
الجوائز: جمع جائزة وهي خشبة السقف.
ب م: حين.
ط: والحرر.
ط: الصبيان.
ب م: من.
ب م: مجاجة.
ب م: وأين.
الاسفيدباج: تفايا بيضاء ساذجة، وهي إذا كانت من لحم الضأن تقطع قطعاً صغيرة وتخلط ببعض التوابل واللوز المقشر، وتنضج على نار لينة (كتاب الطبيخ: 85) .
ب م: غصص الدمالج.
ب م: الأظلال.
ط: التوسم.
ط: وأحد.
ط: تحيل.
الميس (أو الميص) : مصالة اللبن (والميس المطبوخ في Brosat Vocabulista) .
البرك: جمع بركة، طائر مائي صغير أبيض.
التوديج: الفصد.
ط: نسري النجد في الدياميم.
ط: بعز.
ط: ويتمنى.
ط: ولا.
منها بيتان في النفح 3: 413، وذكر أنه استحسنها فقال للشعراء: هل فيكم من يحسن أن يجلب القلوب بمثل هذا -
النفح: البنان.
النفح: كنت.
ب م: تجلى.
ب م: ألحاظاً ... سواجياً.
ب م: تعود.
ب م: نشر بها (اقرأ: بشر بها) .
ب م: وشد.
جاء في موضع هذه المقدمة في ط قوله: ومن شعره في الأوصاف، له من قصيدة؛ وانظر الجذوة: 283.
ط: بها.
الجذوة: يغضي ... أو يغضى.
ط: تنحصر.
ليست هذه الأبيات من رواية الحميدي، وقد وردت قبل الأبيات الرائية في ب م.
ترجمته في المطمح: 80 والتكملة: 398 والمغرب 2: 143 والذيل والتكملة 6: 10 والإحاطة 2: 250 والمحمدون الشعراء: 99 والخريدة 2: 204 والسلفي: 17 والوافي 2: 86 والفوات 3: 283 والمسالك 11: 400 والزركشي: 262، وانظر ابن خلكان 5: 41 - 42 وصفحات متفرقة من نفح الطيب؛ وأورد ابن خلكان نسبه كالآتي: محمد بن أحمد بن خلف بن أحمد بن عثمان بن إبراهيم، وورد في سائر المصادر محمد بن أحمد بن عثمان؛ ووصفه ابن عبد الملك بأنه كان متقدماً في التعاليم والفلسفة، مبرزاً في فك المعنى لا يكاد يدرك فيه شأوه، وذكر ابن الأبار أن ديوانه مدون على حروف المعجم؛ وكانت وفاته في حدود 480 بالمرية.
ط: مليح.
ب م: وضح.
تأليفه في العروض هو " المستنبط في علم الأعاريض المهملة عند العرب " وله أيضاً " قيد الأوابد وصيد الشوارد " وكتاب ثالث اسمه " الامتعاض للخليل "، وفي هذا الأخير رد على السرقسطي المنبوز بالحمار واسمه سعيد بن فتحون، وقد مر التعريف به (انظر الذيل والتكملة: 10) .
شرح ابن عبد الملك هذه المطالبة، وذلك أن أخا ابن الحداد قتل رجلاً فقبض عليه، ونالت الشاعر بسببه مطالبة أخفى من أجلها حيناً، ففصل إلى مرسية ونفذ منها إلى سرقسطة سنة 461.
أقام ابن الحداد في كنف المقتدر أحمد بن هود مدة وامتدحه وامتدح ابنه الحاجب المؤتمن ثم عاد إلى المرية سنة 464.
انظر نفح الطيب 3: 502.
ب م: افتتحه بقول.
ديوان المتنبي: 456.
ب م: قطع من الليل.
ط: الكتاب.
ب م: الأوداء.
ب م: فأدمجت.
ط: الأجزاء.
هذا مثل، انظر فصل المقال: 384 والميداني 2: 82 والعسكري 2: 162.
عجز بيت، وصدره: أبلغ أبا مسمع عني مغلغلة.
ب م: لمسموغ.
مثل، انظر فصل المقال: 203 والميداني 2: 54 والعسكري 2: 133.
ب م: يخسف.
الهلالي: لعله يعني أبا إسحاق الصابي.
القري: مجرى الماء.
السري: النهر.
البقط: تفاريق الأشياء؛ ولعل الصواب هنا " نقطه "، وفي ب م: وخطه.
ب م: يرود.
لؤم: جمع لأمة، وهي آلة الحرب.
ب م: الدافعة.
ب م: بلمز.
ب م: بأثارتك.
ب م: خلدك.
انظر فصل المقال: 424 والميداني 1: 312 والعسكري 2: 73.
ب م: المائن الحائن.
ط: خرق حجاب خرجك.
ط: وخمدك.
ب م: منك.
النيق: أرفع موضع في الجبل؛ الخريق: الريح الشديدة؛ وفي ب م: لحريق.
ب م ط: واعتصبت.
ب م: سبيلهم.
ط: ونبهتني.
ب م: ولم تعدم.
ب م: المنة.
السلقة: الذئبة.
البيت للمتلمس، انظر الأغاني 23: 569.
ب م: داري.
ب م: للفقهاء.
ب م: أول وفادتك.
ب م: عظمى.
ب م: حنكني.
ب م: للأذهان لا للأسنان.
ب م: يخرق.
انظر فصل المقال: 204 والعسكري 1: 36.
انظر المثل: " مذكية تقاس بالجذاع " في فصل المقال: 413 والميداني 2: 147 والعسكري 2: 217.
انظر المثل: " ترك الخداع من أجرى من مائة " في فصل المقال: 154 والضبي: 28 والميداني 1: 81 والعسكري 1: 188.
ب م: مقنص.
ط: أشفاره.
يقال في المثل: " عود يقلح "، يضرب للمسن يؤدب، والقلح: صفرة تركب الأسنان، والتلقيح هو نزعه وتنقيحه؛ انظر العسكري 2: 39 (تحقيق أبو الفضل) والميداني 1: 309.
انظر المثل: " الحديد بالحديد يفلح " في فصل المقال: 134 والميداني 1: 8 والعسكري 1: 229.
ب م: مكور.
ب م: ألمحها.
انظر المثل في فصل المقال: 42 والميداني 2: 109 والعسكري 2: 273.
بليق: اسم فرس، وفي المثل: " يجري بليق ويذم " يضرب للرجل يجتهد ثم يلازم؛ انظر اللسان (بلق) والعسكري 2: 424 والميداني 2: 249.
ب م: منخلة.
اللواحب: جمع لاحب وهي الطريق الواضحة.
ط: أمتن.
همام: الفرزدق بن غالب بن صمصمة، أما الكندي فهو امرؤ القيس، والبكري: طرفة ابن العبدج.
النتغ: العيب؛ وفي النسخ: " تبقات ".
انظر المثل: " عثيثة تقرم جلدا أملسا " في العسكري 2: 54 (تحقيق أبو الفضل) والميداني 1: 320؛ والعثيثة: تصغير عثة وهي دويبة تقع في الجلد فتفسده.
ب م: ازدهى.
انظر فصل المقال: 335 والضبي: 61 والميداني 1: 198 والعسكري 1: 313.
السقط: الشرارة؛ الشنف: البغضاء.
الماوية: المرآة، وقيل حجر البلور.
لعله أبو بكر الحديدي وكان مقدما عند أهل طليطلة ومن أهل العلم والدهاء، حسن المنظر في صلاح بلده، وكانت العامة تعضده، ولهذا كان إسماعيل بن ذي النون ثم ابنه يحيى من بعده يستشيرانه في مهمات الأمور (البيان المغرب 3: 277) وسيعقد ابن بسام فصلا في القسم الرابع يتحدث فيه عن مقتل أبي بكر هذا (انظر المطبوعة 4 / 1: 118) .
اللوح: الجو؛ يوح: الشمس.
الحوباء: النفس.
التباطق: التراسل بالبطاقات، وكأنه اشتقه إذ لم يرد استعمال الفعل " بطق " في المعاجم.
ط: وتوهمت.
ب م: ما تحته (اقرأ: فاتحة أو سانحة) .
ب م: عليك.
ب م: معترجاتك.
ذكره العماد في الخريدة 2: 584 وقال إنه منجم المعتمد، وسيأتي له ذكر في القسم الثاني من الذخيرة، ويعتمد عليه ابن بسام في رواية بعض الأخبار.
ب م: به.
ذات الصدع: الأرض تتصدع عن النبات؛ وذات الرجع: السماء، ترجع بالمطر؛ والكبد: المعاناة والمشقة؛ الجزع: القطع.
ب م: هذا.
وردت أبيات من هذه القصيدة في الخريدة 2: 267 منسوبة للأسعد بن بليطة.
ب م ط: صوامع.
المنسأة: العصا.
ط: مثنى ويلفو.
ب م: ويشدى لشعري.
ب م: فرأياً.
ب م: وفي.
وردت أبيات منها في المسالك والمغرب وابن خلكان والمطمح ونفح الطيب 3: 503 والخريدة.
ط: فكالعنبري.
النفح: فجمر.
ابن خلكان: حداة هداة.
أوحى: أسرع.
النفح: موارد.
ابن خلكان والخريدة: حوتها.
الضآضئ: جمع ضئضئ وهو الأصل والمعدن.
ب م: تناء.
ط: رأى ابن جذيله.
الخريدة: ذهني.
ط: لم.
انظر النفح 3: 503.
ب م: يدمي.
شروح السقط: 725.
ديوان النابغة: 177 والمعاني الكبير: 319.
هو يزيد بن عبيد بن بني سعد بن بكر، كان شاعرا راوية للحديث، وتوفي بالمدينة سنة 130 (انظر ترجمته في الشعر والشعراء: 591 والأغاني 12: 239 والخزانة 2: 150 وابن حيان رقم: 566 والجمهرة للزبير: 268) .
الأبيات من قصيدة له ورد عدد من أبياتها في اللسان والمعاني الكبير: 1052 - 1053، والبيتان الأولان منها في اللسان (هدج) ومحاضرات الراغب 2: 673 والأول وحده في اللسان (زوج، القطا) والحيوان 5: 573 والميداني 1: 278 والمعاني الكبير: 318، والثاني وحده في اللسان (هدج، مسك) والثالث في المعاني الكبير: 640.
المعاني والحيوان: وهن.
في المصادر: تباشر.
أي أن القطا تقول: قطا، قطا حين تفزعها الحمر ليلا فتنسب أنفسها فتصدق في نسبتها. العرم: بيض القطا لأنه منقطا. غير أزواج: لا يكون بيضها إلا فردا.
الشوى: الأطراف؛ المسك: الذبل من العاج كهيئة السوار، جوابة الآفاق يريد الريح. مهداج: ريح حنون. يتحدث عن حمر الوحش في ورودها الماء، وقد شبه الشعر الذي في قوائمها بالمسك، حين وردت الماء (الذي هو من نسل الريح لأن الريح تسوق السحاب وتعصره) .
المعاني الكبير: تنحاز.... منها؛ وفي النسخ: جندا.
يصف الأمة التي تنساب في الماء أو تنحاز فيه، وهي المسك، والجد جمع جداء وهي التي لا لبن لها؛ قال ابن قتيبة: وكان بعض العلماء يزعم أنه أراد القطا ينحاز من الحمر عند الماء؛ مذبحة: أراد الأطواق في أعناق القطا كأنه أثر الذبح، وكان يرويه " حذا " والقطاة حذاء (أي قصيرة الذنب قليلة الريش) .
ب م: أجسام.
كذا في ب م وسقط البيت من ط.
ديوان المتنبي: 79.
ديوان صريع الغواني: 60 وديوان المعاني 2: 51.
ب م: احمر؛ الديوان: حمي.
هو منصور بن سلمة النمري (ترجمته في الأغاني 13: 139 وطبقات ابن المعتز: 242 وتاريخ بغداد 13: 65 والشعر والشعراء: 736) .
انظر النفح 3: 503 وقال إنه مما يتغنى به بالأندلس.
ب م: الخال.
ديوان الهذليين: 147، وانظر عن حديث القارظين ديوان بشر ابن أبي خازم: 26 وفصل المقال: 473 والميداني 1: 142 والأزمنة والأمكنة 2: 13 والأغاني 13: 75.
الأغاني 13: 76.
الأغاني: بفيها يعل به.
أي طلعت الجوزاء إثر الثريا عند الفجر، ففي ذلك الوقت يرجع أهل البوادي إلى مياهم، فعند ذلك أظن الظنون بآل فاطمة لأني لا أعرف أين ينزلون، معنا أم مع غيرنا.
ط: محارباً، غير معجمة في ب، م: مجارياً.
ط: فهجره (اقرأ: ففخره) .
ط: معاقرا.
انظر الخريدة 2: 281.
ط م: ركنت.
ط: فتى.
اللزوميات: 66 / أ (نسخة ليدن: 206) ، 1: 176 (ط. هندية) .
اللزوميات: غدا الناس كلهم في أذى.
م: خفيف؛ اللزوميات: ألم تر أن طويل القريض.
ط: مئول.
م: ويبرز.
عيسى بن عمر الثقفي النحوي البصري (- 149) كان صاحب تقعير واستعمال للغريب؛ انظر نور القبس: 46 وأنباه الرواة 2: 374 والفهرست: 41 ومعجم الأدباء 16: 374 ووفيات الأعيان 3: 486.
ديوان المتنبي: 328.
م: المزور.
ط م: فأيدى.
ط: وتحيي الهدى ناصراً ناصرا؛ م: وتجني الهدى.
ط: ويحفظها.
م: صفحتيه.
ط: يسمع إرنان.
م: صداء، وكلاهما صحيح.
م: فينا.
انظر نفح الطيب 3: 504 وذكر أن المعتصم بن صمادح حين قرأ الأبيات قال: لا يتهيأ له صلاح عيش إلا بأخيه، فهو منه بمنزلة السنان من الرمح؛ وأمر بإطلاقه.
الأضبح: ما كان لونه على لون الرماد؛ وإذا قرئت بالصاد المهملة دلت على لون فيه حمرة؛ والأول أدق في وصف الذئب.
م: فلسحره.
بعد هذا البيت تعود النسخة ب لمشاركة ط م وينتهي الخرم.
ب م ط: وينجح.
ط: فنفد.
ط: ومقترع: ب م: زنود.
ب م: وشأنه.
ط: وحصن.
ب م: العادي.
وردا في الخريدة والمغرب والتكملة والذيل وسرور النفس، الورقة: 449 والنفح 3: 504 وأورد المقري معهما قصة.
راجع أخباره في البيان المغرب 3: 167، 173 - 175 والمعجب: 196 والمغرب 2: 195 والقلائد: 47 وأعمال الأعلام: 190 والمطرب: 34 والحلة السيراء 2: 78 - 88 والخريدة 2: 83 - 89 ووفيات الأعيان 5: 39 والوافي 5: 45 وتاريخ ابن خلدون 4: 162 وعبر الذهبي 3: 306 وصفحات متفرقة من نفح الطيب.
قارن بالبيان المغرب ودوزي (Recherches ج - 1 الملحق: 19) .
ط: حاجب.
البيان: جملة.
البيان: تقبحت؛ وأراه استعمل " تفرجت " بمعنى: انكشفت وتوضح منها ما كان مستورا، أو لعلها: تمرجت " بمعنى فسدت.
ب م: أبوه.
ب م: الشنعاء.
ب م ط: واستضافت.
ب م: لإصلاح.
ط: فيه.
ط: فيه.
ب م والبيان: يده.
ب م: يده.
ب م: معاتبة.
ظ: من ازدراء فرقة الأندلسيين؛ ب م: من ارداء.
نقل ابن الأبار هذا النص في الحلة (2: 82) ونسبه إلى أبي عامر ونقله ابن سعيد ونسبه إلى ابن بسام.
ب م: أبو معن.
ب م: من فحولة الملوك.
ب م والبيان: واكتفى من (البيان: عن) الضيق بالسعة.
في النسخ: لبيط؛ وقد تكتب ألبيط وهي (Aliedo) حصن بين ليورقة ومرسية.
من قول أبي نؤاس:
تتأيى الطير غدوته ... ثقة بالشبع من جزره البيت لمحمد بن عبد الله بن نمير النميري الثقفي وكان من شعراء الدولة الأموية يهوى زينب أخت الحجاج، انظر الأغاني 6: 180 - 197 في أخباره؛ والبيت ص: 183، وفي الأغاني: 153.
ب م ط: واضطرب.
موضعه القسم الثاني من الذخيرة.
ب م: يوصيني.
هو ابنه معز الدولة أحمد، وقد عهد إليه أبوه أن يلحق ببلاد ابن حماد إذا سمع بخلع ابن عباد على يد المرابطين، فلما حدث ذلك، غادر المرية في رمضان وقيل شعبان سنة 484 وقصد بجاية فأنزله المنصور بن الناصر بن علناس في كنفه (الحلة السيراء 2: 89 - 90) .
عند هذا الحد تنتهي الترجمة في ط؛ ويبدو أن ما ألحق بعد ذلك إنما هو دخيل على الذخيرة، فهو مأخوذ عن القلائد والمطمح.
انظر الحلة السيراء 2: 88 والقلائد: 48 والمغرب 2: 197 وكانت المناسبة أن دخل النحلي المرية والناس قد لبسوا البياض، أما هو فكان يرتدي أسمالا سوداء؛ وسترد ترجمة النحلي في القسم الثاني.
الحلة والقلائد: أيجمل.
القلائد: 48 والمغرب.
القلائد: 49.
المصدر نفسه؛ والنفح 1: 666، 3: 329 والمغرب 2: 197.
رفيع الدولة: ذكره صاحب سمط الجمان ولم يسمه وكناه أبا يحيى وكذلك فعل السالمي، وكناه صاحب أبا زكريا (وفي النفح 3: 369 أبو زكريا يحيى بن المعتصم) ؛ انظر في ترجمته الحلة 2: 82 والمغرب 2: 199 والمطمح: 30 والنفح 3: 369، 387، وفي ج - 7: 43 ترجمة منقولة عن المطمح وهي مخنلفت عن ما جاء في المطمح المطبوع؛ وتعد هذه القطعة دخيلة على الذخيرة ولذلك ميزتها بحرف طباعي أصغر.
المطمح: حجه.
يعني الفتح بن خاقان.
عند ابن الأبار (الحلة 2: 91) أنه كتب بذلك إلى عز الدولة وهو أخو رفيع الدولة؛ وانظر النفح 3: 369، 7: 42 - 43.
الحلة والنفح: بحليته.
الحلة والنفح: من يفديك.
هذه القطعة والتي تليها لم يوردهما المطمح المطبوع.
ترجم الفتح في القلائد (170 - 171) لمن سماه الوزير المشرف أبا محمد بن مالك ونقل المقري بعض تلك الترجمة (1: 674) ويؤخذ مما ذكره ابن خاقان أن منزلة ابن مالك ارتفعت لدى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين وأنه بوأه المراتب اللائقة به وجعله مشرفا على صرف أموال خصصت لإصلاح الأحوال بشرق الأندلس؛ وقد التقى به الفتح بطرطوشة، كما لقيه بإشبيلية.
ب م: اخترت ... ما يعرف.
ب م: صواحب.
ط: الفراق.
ط: الوزير.
يعتمد ابن مالك في هذه المقامة حل الأبيات الشعرية، وسأشير إلى نماذج من ذلك في سياق هذه التعليقات، ولكن استقصاء ذلك كله يثقل الحواشي كثيرا.
ب م: أزهار.
ب م: وبشرى.
النوائج: الرياح الشديدة المرور والهبوب؛ ب م: نوائح؛ ط: بوائح.
انصدع جون الهزيع عن جون الصديع: انشق سواد الليل عن بياض الصبح، والصديع: انصداع الصبح؛ ب م: انصدع جون الضريع.
ب م: أجلبه للأنس.
ب م ط: تنافرها.
الهميم: كأنه من الهمهمة وهي الصوت الخفي؛ والهديد: الدوي؛ وفي ب م: البهيم.
النئيم: الصوت الضعيف الخفي؛ الوئيد: الصوت العالي الشديد.
الكتيبة الجأواء: التي يعلوها السواد لكثرة الدروع؛ ط: بأواء.
ب: سواده؛ ط: مواده.
ب م: صفصفت.
ب م: صرفت.
ب م: من الغبار ... كتراكم الغمار.
ط: وثابت ... الأحلاك.
ط: جلا.
ط: ضمنت.
من قول المعري (شروح السقط: 1264) :
أودى فليت الحادثات كفاف ... مال المسيف وعنبر المستاف والمسيف هو الذي ذهب ماله. والمستاف: الشام، يقال: ساف الطيب يسوفه واستافه يستافه..
ط: تودي (وهو خطأ) .
ب م: وأنجمها.
ط: جياد تضمن.
الكلام متصل في ب م.
ب م: فظاهر.
الدخرص والدخرصة من الدرع ما يوصل به البدن ليوسعه. والدلامص: البراق الذي يبرق لونه.
ب م: باضت.
ب م: المتن.
من قول المعري: فلولا الغمد يمسكه لسالا.
الأضا: جمع أضاة وهي البركة.
ط: وارتسم.
ط: واستعار.
ب م: الفرق.
العوهق: الخطاف الأسود، وقيل هو الطائر الذي يسمى الأخيل ولونه أخضر أورق وقال ابن خالويه: العوهق الصبغ شبه اللازورد.
ب م: والبدر.
توجس: تسمع.
محلول من قول البحتري (ديوانه: 1745) :
متوجس برقيقتين كأنما ... تريان من ورق موصل ط: ود.
ط: ثنت.
من المثل: إن يعط العبد كراعاً يتسع ذراعاً؛ في ط: ساروا في الغد....
الدؤلول: الداهية، والرقم كذلك.
نثر هنا أبياتاً لأبي تمام (ديوانه 3: 27، 28) :
وكم ناكث للعهد قد نكثت به ... أمانيه واستخذى لحقك باطله
إذا مارق بالغدر حاول غدرة ... فذاك حري أن تبين حلائله
وإن يبن حيطاناً عليه فإنما ... أولئك عقالاته لا معاقله من قول أبي تمام (ديوانه 2: 109) :
شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدي ... ومحت كما محت وشائع من برد والوشائع: خيوط الثوب؛ ومحت: أخلقت.
مؤلل: محدد.
ب م: وأي.
ط: السهب.
ط: رجم.
من قول المتنبي (ديوانه: 258) :
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال من قول المتنبي (ديوانه: 92) :
وما أنا بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذهب الرغام نثر قول البحتري (ديوانه: 247 - 248) :
لا يحتذي خلق القصي ولا يرى ... متشبهاً في سؤدد بغريب
شرف تتابع كابراً عن كابر ... كالرمح أنبوباً على أنبوب انظر فصل المقال: 362 والميداني 1: 221 والعسكري 1: 331.
انظر فصل المقالك 199 والضبي: 54 والميداني 2: 152.
نثر قول أبي تمام (ديوانه 3: 49) :
بوأت رحلي في المراد المبقل ... فرتعت في أثر الغمام المسبل
من مبلغ أبناء يعرب كلها ... أني ابتنيت الجار قبل المنزل وفي ط: أنزلت رحلي.
ط: كالسيف.
من قول الشاعر:
فان يكن الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللائي سررن ألوف وانظر ما تقدم ص: 340.
ط: خلدي.
من قول الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً فارغاً فتمكنا السيف الخشيب: الحديث الصنعة أو الذي برد ولم يصقل؛ المخشوب: الذي بري البري الأول.
ط: تذكر.
من قولهم ": وأول الغيث قطر ثم ينهمر.
ب م: غربان.
ب م: أي جيد أقلد.
من قول المعري:
وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل ط: لدلالة.
اللكاك: الزحام.
الرسوب: السيف الماضي الذي يغيب في الضريبة.
الجدلاء: الدرع المحكمة النسج.
هو أبو براء عامر بن مالك شيخ بني عامر، وكان يلقب ملاعب الأسنة، لمهارته في التصرف بالرمح؛ وفي ب م: ملاعب الأسنة.
م: بالنبل؛ ب: بالميل.
المشهور هرم بن سنان الذي قام بالحمالات بين عبس وذبيان.
ب م: واقتطف.
ب م: ريحان.
ط: عامر.
ب م: بقسطاسي.
ط: نصاب.
ب م: ولا سرى وهمها في طيف وسنان.
ط: وأنفسنا.
ذكره الحميدي (الجذوة: 366) في من شره بالكنية ولم يعرف اسمه " أبو احمد المنفتل " (البغية رقم: 1510) وانظر المغرب 2: 99 حيث ذكر أنه من أعلام شعراء البيرة في مدة ملوك الطوائف، وإن صاحب المسهب ذكره، وذكره العمري في المسالك 11: 404 والعماد في الخريدة 2: 165 وسماه أحمد بن شقاق؛ وجمع ان ظافر في بدائع البدائه بين التسميتين فقال: أحمد بن الشقاق (في البدائع: الشفاق) المنعوت بالمنفتل ويقول العمري: " " قام على الغواية برهة ثم أقلع " وانظر النفح 3: 264، 332، 387 - 388.
ب م: عند إملاء.
انظر المسالك 11: 406.
المسالك: تطرقها.
المسالك: الطرب.
ط: الأنام.
المسالك: ثيابك.
المسالك: بالمن.
ب: يرجى.
المسالك 11: 405.
ط: يشملنا.
ورد البيتان في المسالك.
ط: ما.
ط: عادل حاكم.
أبو زيد عبد الرحمن بن مقانا الأشبوني القبذاقي: له ترجمة في القسم الثاني من الذخيرة، ونسبه الحميدي (الجذوة: 260) إلى بطليوس؛ ورويت القصة والبيتان في النفح 3: 264 وبدائع البدائه: 365 - 366.
انظر البيتين في المسالك والنفح وبدائع البدائه.
وردا في المغرب والخريدة.
ب م: يسمو.
ترجمة أبي تمام ابن رباح الحجام في القسم الثالث (ص: 821) والبيتان في المسالك 11: 452 برواية مختلفة.
ط: يستعمل.
المرقاس، أو المركاس كما في كتاب الطبيخ: 21) نوع من النقانق، يدق اللحم ويعرك في قصعة بشيء من الزيت ثم يضاف إليه ثلاثة أرباعه من الشحم ويحشى به المصران ويقلى ثم تصنع له مرقة من خل وزيت.
وردا في المسالك.
ب م: لتمنيت.
القطرميز (Bocal) نوع من الزهرية ضيق عند العنق واسع الفم.
الأبيات في المسالك.
ط: الحرار.
يعرف بالأخفش بن ميمون أو بابن الفراء. أصله من القبذان وتأدب في قرطبة وله أمداح في ابن النغريلي (النغرله) الإسرائيلي وزير صاحب غرناطة (انظر المغرب 2: 182 - 184 والنفح 3: 387؛ وبيتا المنفتل في النفح والثاني منهما فيه 3: 332 ونسمه ابن سعيد 2: 184 لابن زيدون) .
المغرب والنفح: فإذا ما قال شعرا.
ب م: حمدان.
ثار بلبلة أبو العباس أحمد بن يحيى اليحصبي سنة 414 وظل يحكمها حتى سنة 433 وتلقب تاج الدولة ثم خلفة أخوه محمد عز الدولة حتى سنة 433 وجاء بعده ابن أخيه فتح بن خلف بن يحيى ناصر الدولة إلى أن قضى المعتضد على دولته سنة 445، ولا أدري إلى أي واحد يشير بقوله " جهران " ولعل الصواب: حمدان وهي صورة من صورة " أحمد ".
ب م: لثق.
ابن النغريلي الإسرائيلي: يكتب الاسم على أشكال لعل أصوبها ابن نغدالة أي " المدبر " ويطلق على اثنين مشهورين هما صموئيل بن يوسف (إسماعيل أو اشموال بن يوسف) ويوسف ابنه، وقد كان إسماعيل عالماً وزر لصاحب غرناطة، وخلفه ابنه يوسف فاساء اتصرف فيما يبدو، فثار عليه الناس وقتلوا. ولكن ابن بسام ينسب أفعال الابن إلى أبيه، ويتابعه في ذلك ابن سعيد في المغرب، وهذا خطأ على وجه الدقة (انظر مقدمتي على رسالة الرد على ابن النغريله لابن حزم: 9 - 18، القاهرة 1960) .
ب م: لم يألم.
ب م: عقداً.
من قول امرئ القيس:
فقلت له لا تك عينك إنما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا السراء: ضرب من الشجر تتخذ منه القسي، وقال زهير - والكاتب هنا يومئ إلى ما ورد عنده:
ثلاث كأقواس السراء وناشط ... قد انحص من لس الغمير جحافله استعمل " أربع " على التأنيث، ثم قال: " يتشبثون، ويتعلقون " ثم عاد إلى التأنيث بقوله " أعوذهن ".... الخ.
ب م: وأحنف.
ب م ط: المقاتل.
بعد هذا البيت وقع خرم في ب.
ورد منها عشرة أبيات في المسالك 11: 406.
المسالك: قد بدت.
ط: تزين عقودها.
م: كهوف، وسقط البيت من ط.
هذه العبارة التي تنص على عدم إدراج الغلو قد نسخت بما جاء بعدها من إثبات للغلو، وتعليق لابن بسام عليه، وهذا قد يشير إلى مرحلتين من العمل في نص الذخيرة؛ ولم يرد هذا القسم في ط حتى نهاية الفصل.
م: لم.
القطر: النحاس.
م: وإن.
واضح أن القصيدة موجهة إلى إسماعيل، وهذا الفصل يشرح مقتل ابنه يوسف، وقد أشرت إلى اضطراب ابن بسام في ذلك.
ط: المأبون.
م: على كل دين.
م: نصب.
م: وحجة.
ط: بالناغير.
م: عندهم.
م: الذهلة.
من قول أعربي يهجو بني جوين:
إذا ما قلت أيهم لأي ... تشابهت المناكب والرؤوس انظر فصل المقال: 196 - 197 وعيون الأخبار 2: 2.
م ط: وشد.
ط م: البادسي.
ط: نجعه.
م: وتنسم.
م: وثابوا.
م: وهتكوا دون اليهودي كل حجاب.
ترجم له ابن الأبار (التكملة رقم: 1552) وذكر أن كنيته أبو الحسن، وقال: روى عن أبي بكر مسلم بن أحمد الأديب بقرطبة، وله كتاب بستان الملوك، ذكره القنطري. ومسلم بن أحمد هو ابن أفلح النحوي الأديب (376 - 433) كان رجلاً جيد الدين راوية للشعر وكتب الآداب، وكان لتلاميذه كالأب الشفيق (انظر الصلة: 591 - 592) .
م: بصاحب الاسفيريا؛ والاسفيريا (وتكتب أيضاً اسفريا) نوع من الطعام، راجع وصفه في كتاب الطبيخ: 23.
م: الأعراب.
هنا ينتهي الخرم في ب.
وردت هذه الأبيات ص 508 من هذا الجزء.
التيمية 1: 308 ودمية القصر 1: 93 وألحق بديوانه: 464.
الدمية واليتيمة: في خده؛ الدمية: فتبخترا.
ديوان إبراهيم بن العباس: 145 ومعاني العسكري 1: 351 وزهر الآداب: 299 ونهاية الأرب 1: 134 وسرور النفس: 32.
نسبه في سرور النفس: 32 لابن المعتز.
ديوان بشار: 211 (جمع العلوي) وفيه تخريج كثير.
ورد لابن المعتز (الأوراق: 224) .
سرور النفس: 30 ومعاني العسكري 1: 348 وزهر الآداب: 749 والمختار: 20 ونهاية الأرب 1: 135.
انظر المصادر المذكور في الحاشية السابقة.
زهر الآداب: 749 والمختار: 21 والعكبري 1: 40 وسرور النفس: 30 ونهاية الأدب 1: 135 وديوانه: 20.
ط: بلفظ.
ب م ط: حمرتها.
لم ترد في ديوانه.
ديوان تميم: 239.
ب م: نبذت.
لم يردا في ديوانه.
ديوان ابن زيدون: 230.
لم ترد في ديوانه.
وردا من قبل ص: 565.
ط: كقول.
هما لكشاجم في قطب السرور: 569.
انظر ما تقدم ص: 564.
ط: الكاس، الآس.
انظر ما تقدم ص: 510.
ط: يلهو.
ط: دثر.
البيت لأبي تمام، ديوانه 1: 62.
ط: عزلته ... خلعته.
ط: أعشى.
ديوانه 4: 90 والأوراق: 261 وحلبة الكميت: 329 ونهاية الأرب 1: 46 وشرح الشريشي 1: 72.
الديوان: بلحظ مريض مدنف.
ديوان ابن الرومي: 147.
الديوان: فحرته فيه بمطلع.
الديوان: شمس تساترنا؛ ط: ظلت تلاحظه.
ب م: منيق؛ والقاف غير معجمة في ط؛ ولعل الصواب: " ينق ".
ب م: الليل.
ط: غصنه.
انظر ما تقدم ص: 516.
زهر الآداب: 692 وسرور النفس: 427.
في النسخ: قد، وزهر الآداب: جر (اقرأ: حز) .
لم ترد في ديوان ابن المعتز؛ ونسبها صاحب سرور النفس: 424 للنامي، ولم تدرج في ديوانه المجموع.
ديوان العباس: 197.
ترجمة ابن مرزقان في القسم الثاني من الذخيرة.
ب م: بينهما.
ط: وقال في جارية كان في يدها شمعة؛ وانظر نفح الطيب 3: 264.
ط والنفح: إحداكما.
ب م: وقال أبو جعفر بن هريرة التطيلي؛ ولم ترد الأبيات في ديوانه، وهي تلحق بقصيدته رقم 24 (ص: 70) في رثاء زوجته.
ب م ط: خمدت.
زهر الآداب: 693.
سرور النفس: 434 - 435.
زهر الآداب: 693.
شروح السقط: 1683 وسرور النفس: 428.
ط: المهم.
ب م: وتخر الحرائر.
انظر ما تقدم ص: 574.
هنا تنتهي الترجمة من ط.
أقدر أن هنا سقطاً في النص، لا يتم المعنى دونه، كأن يقال " وأنا أردد قولي ... " وأنه لابد من إيراد البيت المقصود، وذلك ينسجم مع قوله من بعد " بحرمة الأدب إلا ما أعدت علي البيت ".
ليس الشعر للعباس بن الأحنف، وإنما ينسب تارة لعلية بنت المهدي (الأغاني 10: 185 والفوات 3: 125) وتارة لأبي حفص الشطرنجي (الأغاني 22: 51 والفوات 3: 136) وكان الشطرنجي قد نشأ في دار المهدي وكان يقول الأشعار لعليلة فتنتحلها.
ب م: بانياً على قصوره؛ ب: قصوده.
في ب م: يحيى بن إبراهيم؛ والصواب ما أثبته وهو إبراهيم بن يحيى بن محمد بن حسين ابن أسد التميمي، وكان صديقاً للفقيه أبي محمد ابن حزم، توفي سنة 461 (الجذوة: 149 والبغية رقم: 531 والصلة: 96) وهو ابن عم عبد الملك بن زيادة الله الذي تقدمت ترجمته، يلتقيان في " حسين ".
ذكره ابن سعيد (المغرب 2: 281) ونسبه إلى لورقة، وكذلك ورد ذكره في المسالك 11: 407، وكلا المصدرين يعتمد على الذخيرة.
ط: لبز أهل عصره.
ط: وكان من ذوي الاقتار.
المغرب 2: 282.
وردا في المغرب.
ب م والمغرب: أملي.
ب م: صفاتهما.
وردا في المغرب والمسالك.
انظر المغرب 2: 283.
وردا في المسالك.
ب م والمغرب: وجه.
المغرب: يبسم.
وردت في المغرب والمسالك.
المسالك: صباحاً.
وردت ترجمته في الجذوة: 166 (البغية رقم: 581) والمطمح: 83 والمغرب 2: 17 والمطرب: 126 والخريدة (في ثلاثة مواضع) 2: 90، 262، 585) والمسالك (في موضعين في الثاني منهما ظنه ابناً له) ج - 11: 408، 460 وخلط بعض شعره بشعر ابن الحداد، ونقل المقري (النفح 4: 51 - 52) ترجمته عن المطمح، وانظر النفح أيضاً 4: 100.
ما بين حاصرتين من المطمح: 83.
ط: وأظنه.
ط: وتردد ببلاد المغرب.
ب م: في حين تأليفي هذا التصنيف.
ب م: ولا بأس بحول الله من حصوله.
هي في الجذوة والمسالك: 408، ومنها بيتان في المطمح والنفح.
وردا في المسالك: 408.
هو أبو نواس، وهذا البيت في ديوان المعاني 1: 258 وتشبيهات ابن أبي عون: 84 ونهاية الأرب 2: 272.
وردا في المسالك.
تقدم هذا البيت من قبل.
ديوان ابن هانئ: 194.
هما في المسالك: 408 والخريدة 2: 90، 270، 587.
هو أبو بكر محمد النحوي (- 316) ؛ انظر ترجمته في إنباه الرواة 3: 145 وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى.
إنباه 3: 148 وذكر أنه قالهما لما حضر ابن يانس المغني.
وردا في الجذوة.
قطعة من ثلاثة أبيات في المطرب؛: 126 والخريدة (90، 269، 587) والمسالك: 460 واثنان في المسالك: 408.
سيجيء الحديث عنه في هذا القسم.
تقدم من قبل.
انظر القسم الثالث ص: 669.
هما في المسالك: 408.
هذا البيت والذي يليه لم يردا في ط: وأغلب الظن أنهما دخيلان من المطمح: 84 (النفح 4: 50) والبيت الذي للأسعد هذا أحد بيتين في الجذوة: 166؛ وانظر ديوان ابن زيدون: 590 وروايته: تعدونني كالمندل الرطب إنما؛ وقد مر البيت في ترجمة ابن زيدون ص: 354.
وردت ثلاثة منها في الخريدة: 588 واثنان في المسالك: 408.
أبو بكر الكميت بن الحسن شاعر وشاح كان من شعراء عماد الدولة أبي جعفر بن المستعين ابن هود بسرقسطة، لقيه الحميدي وقرأ عليه كثيرا من شعره (انظر الجذوة: 314 والبغية رقم: 1315 والمغرب 1: 370 والنفح 3: 354 والتكملة: 348؛ وانظر جيش التوشيح: 86 - 96) .
ينسب أيضاً لجرير: انظر ديوانه: 1030.
هما في المسالك: 408.
وردت الأبيات في الخريدة: 90 والمسالك: 408.
ط: عليه.
ب م: نموت.
منها أربعة في المغرب.
ب م: كانوا.
ب م: وضعت.
منها ستة عشر بيتا في المطمح (مكررة في النفح 4: 50، وثلاثة في النفح 4: 100 و 13 ثم 7 ثم 3 في الخريدة: 585، 266، 90 و 4 في المسالك: 460.
ب م: بالحلم.
المطمح والنفح: برامة.
الأوراق: 199.
ط والخريدة: حمرة.
ب م: أجادها.
ب م: ذبالا أعدت؛ وسقطت جميع الأبيات من ط.
كذا؛ ولعل الصواب: شايرتك، أي ارتفعت ببصرها إليك.
ترجمته في أخبار وتراجم للسلفي: 76 وسماه هناك عبادة بن محمد (وعبادة هو ابن هذا الشاعر المترجم به) والقلائد: 14 والخريدة 2: 182 والمغرب 2: 134 والوافي 3: 189 والنفح 3: 411، 394، 610؛ 4: 13، 103 وترجمته في أزهار الرياض 2: 252 أجود، وهي منقولة عن ابن خاتمة، وانظر مسالك الأبصار 11: 377 ودار الطراز حيث وردت له موشحات؛ ومن الغريب أن لسان الدين لم يذكره في جيش التوشيح.
ط: ذكر.
ب م: وأنشد.
منها 11 بيتا في المغرب و 6 في قلائد العقيان: 14 وأربعة في الخريدو.
ب م: جلبت.
منها 5 أبيات في المسالك وثلاثة في المغرب.
ط: وهو القائل.
ط: العلاء به.
القراق: الذي يصنع الأقراق (نوع من النعال) فهو الإسكاف.
لم أجد أحدا ذكره سوى العمري في المسالك 11: 412 اعتمادا على الذخيرة؛ وفي ب م: الطغيري.
ط: العيد.
ط: بفرقد.
ب م: شوط.
ب م: يصف فيها قدر الحمام، خاطب بها والد غلام، كان له هناك حفظ وإكرام يقول فيها.
ب م: على ذات الحال.
ب م: يد.
ب م: نماؤه.
من قول الأعشى (ديوانه: 150) :
نفى الذم عن آل جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق ط: وظرف؛ ب م: وظعن.
بهامش ظ تصحيحا: لعبد الرحيم.
ليس يتضح علاقة هذه الأبيات بالترجمة، أو علاقة المترجم به بعبد الرحمن بن عبد الرزاق؛ والأمير عبد الله هو عبد الله بن بلقين آخر بني زيزي في غرناطة (469 - 483) ولكني لم أجد ذكرا لوزيره في المصادر.
ط: منية.
ط: الظليم.
منها أربعة أبيات في مسالك الأبصار.
ب م: ذا كرر الوجه وذا سامج.
ترجمته في الصلة: 346 والقلائد: 190 والخريدة 2: 374 وترتيب المدارك 4: 816 والمغرب 1: 115 والديباج المذهب 157 وبغية الوعاة: 312.
هو أبو الوليد احمد بن عبد الله بن أحمد بن طريف بن سعد، روى عن شيوخ قرطبة ومن بينهم أبو مروان ابن سراج وابن حيان، وكان أديبا نحويا لغويا كاتبا بليغا، وهو أحد شيوخ ابن بشكوال، وكانت وفاته سنة 520 (الصلة: 79 - 80) .
ذكر القاضي عياض أنه " قوة " بالواو، وهو سراج بن قوة بن رفعي بن الكاهن (ترتيب المدارك: 816) .
ب م: التهافت.
ب م: ومشهور.
ب م: وأيأس.
ب م: وكتاب المعاني.
ط: وغير ذلك من الكتب.
ط: لثلاث خلون؛ وعند ابن بشكوال: ليلة عرفة.
ب م: سنة خمسمائة.
في الصلة: سنة أربعمائة.
ط: الرابع.
ط: ابن حازم؛ وهو خازم بن محمد بن خازم (410 - 496) قرطبي غلب عليه الأدب وكان له تصرف في اللغة ولكنه لم يكن بالضابط لما رواه (الصلة: 178) .
ط: قال فيها.
ديوان ابن دريد: 39 (ط. تونس) .
صحب أبا مروان ابن سراج مدة أربعين عاما، وكان من أهل المعرفة بالآداب ومعاني الأشعار وكان عسر الأخذ نكد الخلق، وتوفي سنة 514 (الصلة: 77 - 78) .
جده مكي بن أبي طالب هو المقرئ المشهور، أما هو فكان شيخ ابن بشكوال، صحبه خمسة عشر عاما، وكان عالما باللغات والآداب ضابطا، جماعة للكتب في هذا الشأن، وتوفي سنة 535 (الصلة: 129 والمغرب 1: 108 وإنباه الرواة 1: 267 وبغية الملتمس رقم: 617) .
ب م: خلس.
ب م: منه.
ب م: به.
ابن خلكان 3: 214، 5، 31 ونسبها لابن المعتز.
ديوان الرضي 2: 201.
ديوان ابن حميدس: 269.
ط: تصرفت.
ترجمته في القسم الثاني من الذخيرة.
ط: وارت.
ط: نشأ، وسقطت من م.
ب م: الملا.
ب م: منه.
ب م: القوى.
ب م: فوق.
نرد ترجمته في القسم الثاني من الذخيرة.
ط: المتقدم بنبله.
ب م: اصطفت مواقفها.
ط: فيها.
ط: تفنى.
هو محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن بن حكم بن سليمان بن الناصر الأموي، ويعرف بالأحمر، تتلمذ على أبي مروان ابن سراج وكان حافظا للفقه متفننا في المعارف، توفي سنة 542 (الصلة: 557) .
ب م: أبنه قصيدة يقول فيها.
ب م: وليس هذا المجموع لاستقصائها.
ط: قدماء.
ترجمة أبي الحسين سراج بن عبد الملك في الصلة: 222 والمغرب 1: 116 والقلائد: 202 وأخبار وتراجم أندلسية: 132 والديباج المذهب: 126 وترتيب المدارك 4: 518 والخريدة 2: 484 والمطرب: 132 والمسالك 11: 414 ومعجم الأدباء 11: 181 وبغية الوعاة: 251.
وردت الأبيات في المغرب والخريدة والمسالك والسلفي.
ب م: الدموع.
ديوان التهامي: 89.
ترد ترجمته في القسم الثاني من الذخيرة.
من أبيات له سائرة، انظر الخريدة 2: 237 وابن خلكان 6: 203 والمطرب: 198 والمغرب 2: 19 ومعجم الأدباء 19: 21 والنفح 3: 209، 4: 155، 237 وسترد ترجمة ابن بقي والأبيات في القسم الثاني من الذخيرة.
ط: عنه.
أبو الحسن بن اليسع: أخباره في الحلة السيراء 2: 172 - 176 والمغرب 2: 87، 248 والقلائد: 167.
ط: فارتجل أبو الحسين؛ وانظر الحلة: 173.
هو أبو علي محمد بن المستنير أحد تلامذة سيبويه (توفي سنة 206) انظر نور القيس: 174 وفيه نماذج من شعره، وإنباه الرواة 3: 219 وفي الحاشية ثبت بمصادر ترجمته.
أبو محمد اليزيدي: يحيى بن المبارك بن المنيرة العدوي (- 202) . ترجم له ابن خلكان 6: 183 (وفي الحاشية بيان بمصادر ترجمته) وانظر مجموعة من شعره في نور القبس: 80 - 87؛ وقد قام الدكتور محسن غياض بجمع شعر اليزيديين (بغداد 1973) .
انظر شعر الزيديين: 34.
ط: جاهلا.
ديوان دعبل: 136.
اسمه محمد بن سعد (ويقال هشام) بن عون السعدي، وكان يسمى بمحمد ومرة بأحمد وكنيه أغلب عليه، وكان أعرابياً يفخم كلامه ويعرب منطقه، توفي سنة 248 (الفهرست 48 وأنباه الرواة 4: 167) . وفي ب م ط: ابن محلم.
هو محمد بن عبيد الله بن عمرو، أموي النسبة، بصري، وكان يروي الأخبار وأيام العرب، وكان مستهتراً بالشراب ويقول الشعر في عتبة فعرف بالعتبي، توفي سنة 228. (انظر ابن خلكان 4: 398 وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى) .
في النسخ ابن ليونس ... جرك؛ والتصويب عن نور القبس: 114 وأنباه الرواة 3: 282، وورد شعر أبي عبيدة فيهما.
ب م: استفتاح.
لم أجد من ترجم له، وفي الذيل والتكملة 5: 33 ذكر لعبد الملك بن محمد بن شماخ الغافقي أبي مروان أخي أبي جعفر وأنه روى عن أبي جعفر البطروجي، ولم يزد على ذلك.
ط: أدركته.
ط: ولولا أنه اختصر لمهر وبهر.
ط: أخرجت.
ط: القاضي.
ط: قال فيها.
ط: دام عز؛ ب م: أعز الله.
ط: أدبه.
ب م: الواسعة.
ب م: سألمح ... بلمحة.
ب م: بإشبيلية.
ب م: زهدنا في حمص.
غافق: من كورة فحص البلوط.
ب م: صرفت.
انظر يتيمة الدهر 4: 335 وعكس ترتيب البيتين.
المصدر السابق نفسه.
ط: والجار.
ديوان أبي تمام 3: 182.
ديوان ابن هانئ: 58.
في النسخ: يبدي ... ويعيد.
ورد بعض هذه الرسالة في القلائد: 193.
البيت لتميم بن أبي بن مقبل، ديوانه: 273 وشرح شواهد المغني: 227 والخصائص 1: 318.
في النسخ: غني، والتصويب عن القلائد.
البيت لطرفة، ديوانه: 93؛ وفي ب م: وسقى ديارك.
القلائد: لسبيله.
القلائد: معرسه.
فيه إشارة إلى المثل: " فتى ولا كمالك ".
في النسخ: وتقبلت، والتصويب عن القلائد.
القلائد: في ميدان الحمد.... اتخذ له الريح خافية وساقا.
ط: وجه.
من قول ذي الرمة (ديوانه 2: 490) :
وردت اعتسافا والثريا كأنها ... على قمة الرأس ابن ماء محلق انظر ديوان المتنبي: 15.
ب م والقلائد: بسنا وإن كرمت أوائلنا.
ط: وثلج؛ القلائد: وطلح، وهي قراءة جيدة.
هو لجرير (التاج: قنعس) .
البيت لأبي الطمحان القيني (الأغاني 12: 8 - 9) .
ب م: كالمرهف.
ب م: وأعطر.
ط: جفت.
لأعشى الكبير، ديوانه: 43.
ط: منبتل رداء (اقرأ: مسبل رداء) ؛ القلائد: مقتبل رداء.
ط: تشرق؛ القلائد: تروق.
إلى هنا ينتهي ما ورد من الرسالة في القلائد.
في النسخ: وأوعزت إيعاز؛ وصوبته بحسب المعنى.
البيت والأبيات التالية لأبي تمام، ديوانه 3: 355 - 357.
زيادة من الديوان.
ب م: أدرن.
ط: ببقاعه.
انظر ديوان المتنبي: 323.
ب م: باد.
انظر ديوان جميل بثينة: 144.
لم يرد إلا في نسخة دار الكتب؛ وفي البيت إشارة إلى المثلين: ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان؛ انظر فصل المقال: 199 والضبي: 21، 54، والميداني 2: 153، 152.
انظر فصل المقال: 202 والميداني 2: 14.
انظر فصل المقال: 135 والضبي: 9 والميداني 1: 86.
انظر فصل المقال: 33 والميداني 1: 242.
البيت لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، انظر بهجة المجالس 1: 814 وعيون الأخبار 3: 76.
البيت للفرزدق وهو من شواهد سيبويه 2: 207 والخزانة 1: 99.
انظر فصل المقال: 427 والميداني 2: 108.
من المثل: حرك لها حوارها تحن (العسكري 1: 100) .
دسع البعير بجرته: دفعها حتى أخرجها من جوفه.
كذا هو، ولعل صوابه " عن غرضة فقير " والغرضة: الحزام، والفقير: الجمل المكسور الفقار؛ وفي ط: قرصة فقير، وهي قراءة جيدة، وهو يومئ إلى القلة، ويفسره البيت التالي.
قال مالك: يريد أنه ترك ميدان الأدب، وتعلق بالفقه، وإلى مثل هذا يشير الأعمى التطيلي بقوله
ويا قال زيد أعرضي أو تعارضي ... فقد حال من دون المنى " قال الملك " الشعر لأبي نواس، ديوانه: 325.
في النسخ: ينافج.
انظر اللسان: (لغط) .
ديوان أبي تمام 1: 325.
ديوان المتنبي: 480.
ب م: بقاع.
زاد في نسخة دار الكتب:
الله أنجح ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرجل ط: سآتيكه.
البيت للنابغة الذبياني، الأغاني 8: 214، وسقط من قصيدة في ديوانه: 113 - 120 (شرح ابن السكيت، تحقيق الدكتور شكري فيصل) .
بنو حمدين تغلبيون في نسبتهم، وقد كان لمحمد بن علي منهم ابنان أحدهما أبو القاسم أحمد (الصلة: 81 والمغرب 1: 162) وكان قاضيا للجماعة بقرطبة وتوفي سنة 521؛ والثاني أبو جعفر حمدين تولى قضاء بلده سنة 529 ثم صرف عن القضاء سنة 532 ثم أعيد وبقي حتى انهيار دولة المرابطين، فتسلم زمام قرطبة ودعي له على منابرها وسمى نفسه " أمير المسلمين " المنصور بالله " (وكانت وفاته سنة 548) أما أبو عبد الله المذكور هنا فهو ولد أبي القاسم أحمد. وقد سماه ابن خاقان أيضاً (القلائد: 192) قاضي الجماعة، ولا بد أن يكون تولى القضاء بعد وفاة والده (أي بين 521 - 529) .
ب م: الأيام.
ب م: معزوب.
ب م: منه.
ط: البديع.
ب م: وأفرغ فيها ... سكته.
ب م: بسجوة.
في النسخ: ويعنى.
ديوان أبي تمام 1: 402.
انظر رسالة الكشف عن مساوئ المتنبي (مع الابانة للعمدي) : 234 - 235.
ديوان أبي تمام 1: 25.
انظر الوساطة: 429، 180 ورسالة الصاحب: 244، وأبيات المتنبي في ديوانه: 424، 11، 119، 572.
ديوانه 2: 324 وصدره: تروح علينا كل يوم وتغتدي.
ديوان بشار: 165 (جمع العلوي) .
ب م: بطعنة.
لعلها يك (Yecla) شمال مرسية؛ وهناك لكة وهي من كورة شذونة حيث كان لقاء طارق ورذريق (الروض المعطار: 169) وذكر صاحب الروض (185) لكة في أقصى الشمال، مما يجعل تعيين الموضع الذي قصده ابن شماخ غير متيسر.
بنو صباح: انظر الاشتقاق: 192 - 193، 198.
ديوان المتنبي: 584، 586.
في النسخ: محسن وتفرق غلمانه.
قد مر التعريف به ص: 512 وانظر الأغاني 22: 255 - 256.
ب م: بهم.
ط: بفأل.
ب م: جامداً.
ط: العيش.
أورد ابن بشكوال ترجمة لأبي عمر أحمد بن يحيى بن عيسى الالبيري الذي يروي عنه أبو المطرف الشعبي، وقد لقيه أبو المطرف بغرناطة سنة 428، وكان أبو عمر يعرف قديماً بابن المحتسب ثم عرف بابن عيسى، وكان أديباً شاعراً متكلماً، له مؤلفات قرأها عليه أبو المطرف؛ وقال ابن خزرج أن ابن عيسى سنة 429 (الصلة: 48) وترجم له ابن سعيد (المغرب 2: 95) في قسم البيرة، ولكن جانباً مما ذكره مختلط بترجمة أبي الوليد غانم، وهي الترجمة التالية.
ب م: ما هو شرط للكتاب.
أبو المطرف الشعبي هو عبد الرحمن بن قاسم من أهل مالقة، كان فقيهاً ذاكراً للمسائل يحفظ المدونة وغيرها، أخذ عن شيوخ مالقة كأبي أيوب الالبيري وحسين بن موسى الفقيه المشاور وغيرهما، وشوور ببلده في الأحكام، توفي سنة 497 (الصلة: 329 وأدباء مالقة: 131) .
ب م: العلم.
ب م: أنى.
ب م: صراطها المستقيم.
في النسخ: وجلت (اقرأ: جلت) .
ط: حنيناً.
ط: مشوب.
ب م: كميت (اقرأ: كمنة) .
ب م: دائماً.
ط: مخواصاً؛ ب: محواضاً.
ب م: أبقت.
ب: تصفو معاطفة؛ ب م: لتستمر.
ط: جددت.
ب م ط: سر.
انظر الآية: 44 من سورة الشورى.
ط: الطريق.
ط: وجوابه.
هو غانم بن وليد بن محمد بن عبد الرحمن المخزومي من أهل مالقة (- 470) ؛ انظر الجذوة: 306 (والبغية رقم: 1280) والصلة: 433 وأدباء مالقة: 179 والمطمح: 60 والمغرب 1: 317 والمطرب: 84 ومعجم الأدباء 16: 167 وبغية الوعاة: 371 وصفحات متفرقة من النفح.
ب م: وجميل.
ب م: في مخزوم.
ط: التعليم.
ذكر ابن عسكر في أدباء مالقة: 166 علي بن عميثل وقال: من اشياخ مالقة، ولم يذكر كنيته، وذكر ص: 190 سليمان بن عميثل، ويرجع بنسبه إلى قبيلة عاملة، وكنيته أبو أيوب.
وردا في المغرب 1: 318 ومعهما بيت ثالث.
ب م: لو.
ب م: الوفاء.
بنو جودي: ينتسبون إلى بني سعد بن بكر بن هوازن، وقد رأس بعضهم (النفح 1: 291) ؛ كان جدهم جودي بن أسباط يلي الشرطة للحكم الربضي، كما ولي قضاء البيرة (الحلة 1: 155) .
ط: بالراح.
وردت هذه الرسالة في أدباء مالقة: 179 - 180.
أدباء مالقة: الفارط.
ب م: والشاهق؛ أدباء مالقة: والسابق.
أدباء مالقة: جوى.
ب م وأدباء مالقة: وأهدته.
ط: أحدثها.
ط: الوصلة.
ط: صاولت.
من قول المتنبي:
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه ... أني بما أنا باك منه محسود الأبيات في أدباء مالقة: 179.
ط: منه، ب: منذ؛ م: منك.
ب م: حاتم العلا (م: خاتم)
ب م: العليا.
البيتان في أكثر المصادر الموجودة في ترجمته، وفي نفح الطيب 3: 265، 398، 447، 596؛ 4: 28.
انظر النفح 3: 265، 398.
انظر النفح3: 447.
ط: بالحب.
كذا، وهو خارج على المقبول من الصيغ، إذ حقه أن يقول " تلقينني ".
ب م: يقضيه مجراك؛ ط: فحواك.
ب م: بإمام ترجع إليه.
في النسخ: الحسين.
ب م: بين إقامته.
الأرجح أن الإشارة هنا إلى السطيفي، وهو رجل من مالقة، تعاون مع نجاء الصقلبي الذي اعتقل إدريس، فلما أخفق في تحقيق أهدافه واغتاله بعض العبيد، ثار العامة على السطيفي وقتلوه، وبايعوا إدريس بعد أن أخرجوه من معتقله (انظر البيان المغرب 3: 291) .
ط: الملك.
ب م: فأنشدت.
انظر الأغاني 5: 350.
الأغاني: لا حيام له ... مطرود؛ ب م: مصدود.
في النسخ: فأجفى.
ط: مبدء.
الخبر في النفح 3: 614 - 615.
ب م: للحي.
ط: أبدت.
في المغرب (1: 425) أبو عمرو بن هاشم، وأورد له بيتين.
ط: بهذا الصوت.
تأمل استشهادات أبي الوليد غانم تجد أن اعتذاره - من جهة النحو - ضعيف متهافت، فإنها شواهد على عدم صرف الاسم العلم.
انظر سيرة ابن هشام 1: 494 والعيني4: 265.
انظر العيني 4: 266،وهو لدوسر بن دهبل القريعي.
البيت لذي الاصبع العدواني، انظر العيني 4: 264.
ب م: أودع ... أودعك.
ب م: بذي نصرتي.
ط: بتاً.
ب م: فقيد.
هو الحسن (وفي القصيدة: حسين) بن حسون من علماء مالقة، ويبدو أنه تورط في ثورة نجاء الصقلبي والسطيفي فوبخه العالي لأنه بايع عدوه (النفح 3: 39) ثم ولاه العالي قضا مالقة، وقاسى شدة من اختلاف الخلفاء على بلدته (المغرب 1: 430 - 431) .
ب م: والمحاسن.
رية: الاسم القديم لمالقة (المغرب 1: 423) .
ط: فازدان منك بحسن ما طوقته.
ب م: بسماحة.
ط: وله من أخرى.
بلقين (ويكتب أيضاً بلكين) بن باديس بن حبوس الصنهاجي: جعله والده باديس ولي عهده ولقبه سيف الدولة ولكنه توفي سنة 456، واتهم ابن النغريلة بدس السم له (البيان المغرب 3: 359 والإحاطة 1: 439 - 443) .
ب م: معجماً.
ط: يواصل.
البيتان التاليان في النفح 3: 398 والقافية فيهما منصوبة.
ط: تغيض.
هو أبو عبد الله محمد بن السراج المالقي، وقال الحميدي: لم يقع لي اسم أبيه، وقال إن ابن شهيد ذكره (على الأرجح في حانوت عطار) ولم ترد ترجمته في القطعة المتبقية من كتاب أدباء مالقة - وهو يبدأ بالمحمدين، إذ يبدو أنها سقطت فيما سقط من أوراق الكتاب (انظر الجذوة: 56 والبغية رقم: 144 والمغرب 1: 434 - 435 والمحمدون: 338 والمسالك 11: 413) .
ترجم له في المغرب 1: 435 وذكره في بدائع البدائه: 81 والنفح 3: 270، 398، 610 بما لا يخرج عما ورد في الذخيرة من علاقة بينه وبين ابن السراج.
انظر المغرب 1: 435.
المغرب: بعينك بالجناب الظليل؛ ب م: بالغناء النبيل.
ب م: رضى.
انظر بدائع البدائه: 81 والنفح 3: 270، 610 والمسالك 11: 413 وقد وردت القافية بالباء بعدها هاء " حبيبه، كئيبه " في بدائع البدائه.
ط: وهيجته.
شقته: شقيقته.
ب م: الحي.
ب م: كريم.
لفظة بوقون وجميعها بواقين، وردت كذلك في ب م ط، ويبدو أن الذي أوحى باستعمالها قول ابن الغليظ في الأبيات السابقة " فإن الغداء فيه نسيم " ومن كان يغدي نسيماً فإنه بوقون، وترجيح ذلك من Bocinero وهو نافخ البوف أو القرن؛ ولفظة Bocon بالإسبانية تعني أفوه أو " فشار ".
أم الحسن: الطائر الذي يسمى الهزار (المغرب 1: 434) ، وفي درة الحجال أن أم الحسن بلغة المغاربة هي العندليب والشحرور والبلبل (انظر أمثال العواء: 1847 ص: 424) .
هو أبو بكر عبادة بن عبد الله بن محمد بن عبادة بن ماء السماء الوشاح، وقد مرت ترجمته ص:
منها أبيات في المغرب 1: 436 والنفح 3: 398 والمسالك.
ط: يظهرها.
هو يحيى بن علي بن حمود أبو زكريا وأبو محمد بويع سنة 412 بقرطبة ثم خلع في السنة التالية، ثم أعيدت دولته سنة 416 وخرج في السنة التي تليها إلى مالقة وقتل سنة 426 وقد شرح ابن حيان قصة مقتله في ما تقدم.
أورد خمسة أبيات منها في المغرب 1: 434 - 435.
ط: الهوى.
ط: بها.
ب م والمغرب: العين.
ب م: تجري ... جرياً، والتصحيح عن المغرب، ولم يرد البيت في ط.
وقع في ب م قبل البيت الأخير.
ط: الجيد.
ط: صرخ.
ط: كان؛ وما في المغرب يتفق وما أثبته.
ب م والمغرب: عمره.
المغرب: كمين.
المغرب: غير ذائب فذابت.
ب م: لقيتك فيه والهوى بيننا غر.
من قول ذي الرمة:
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر ط: طول.
ب م: منكم.
ب م: وبصحبتي.
ب م: طمعت.
ب م: وامتد.
ترجمة السميسر وبعض أخباره في المغرب 2: 100 والمطرب: 93 والخريدة 2: 167 والمسالك 11: 167 وأخبار وتراجم أندلسية للسلفي: 28، 83 وفي نفح الطيب مقطعات كثيرة له (انظر الفهرست) ، وبدائع البدائه: 379، 394 ويبدو من أخباره أنه هجا باديس أو بلقين فطلب فهرب إلى المعتصم بن صمادح، الذي لم يسلم فيما يقال من هجائه، وقيل بل وضع ذلك على لسانه (أخبار وتراجم: 83، 84 والنفح 3: 412) وله قطعة يرثي فيها الزهراء (النفح 1: 527) .
ب م: كان أحد بواقع الزمان وعجائب أهل هذا الشان.
هو منصور بن إسماعيل الفقيه الشافعي التميمي الضرير، أصله من رأس العين، وله مصنفات في مذهب الشافعي، وكانت وفاته بمصر سنة 306 (انظر طبقات الشيرازي: 107 والسبكي 1: 317 وابن خلكان 5: 289 ونكت العميان: 297) وأكثر شعره في الأخلاق والحكم؛ وقد أورد عبد البر في كتابه بهجة المجالس وجامع بيان العلم قطعاً كثيرة من شعره.
زاد بعده في نسخة دار الكتب: وفي مثل: رمتني بدائها وانسلت.
زاد بعده في النسخة المذكورة: ونقلت هذا من خطه في سفر عرضه علي أبو بكر الخولاني امنجم بإشبيلية سنة ثمانين وأربعمائة، ولكن ليست (له) صفة طبيعية في ذاته، على بدع من أدواته.
وردا في النفح 3: 390.
وردا في المسالك والنفح 4: 20.
النفح: قرابة.
ب م: تكن.
وردا في المسالك والنفح 3: 390.
المسالك: وينزف.
ب: أمراء.
نسبهما للسميسر في المسالك.
وردا في الخريدة والنفح 4: 108.
ب م: قول الحسن بن مضا.
ط: وسيم للمتوكل؛ والمتوكل المعني هنا عو عمر بن المظفر صاحب بطليوس (430 - 460) .
وردا في المسالك.
ط: حيران؛ ب م: حتى أن.
اللزوميات 1: 257.
ورد في النفح 3: 412.
ديوان أبي تمام 3: 28.
انظر المسالك.
وردا في المطرب والنفح 3: 329 وبدائع البدائه: 394.
ب م: فيها.
ديوان ابن المعتز 4: 104 والأوراق: 157.
الديوان: قرقسه كالزئبر المنتف.
الديوان: برحن.
الديوان: يلسعننا.
الديوان: حتى غدا فيه كشكل المصحف.
لعله ابن دراج القسطلي، ولكن هذا الرجز ليس في ديوانه.
ب: سخيفاً؛ ط: سخيلا (اقرأ: سحيلا) .
ب م: فما.
وردت أربعة أبيات منها في المسالك.
ط: فغادر برقهم؛ م: فعاد زمانهم.
يعني ثابت بن أسلم أبا محمد البناني وكان من الأتقياء الزهاد في العصري الأموي، اختلف في وفاته بين سنتي 123 و 127 (انظر تهذيب التهذيب 2: 2 - 4) .
ب م: فكل.
ط: حامل.
وردت في المغرب والخريدة والنفح 4: 108.
ب م: والطم.
ب م: نكرة.
مر ص 883: وفيه " خالد " موضع " حكم ". ولم يرد البيت في ب م وورد بيت آخر هو الذي مر أيضاً وهو:
ويأخذ عيب الناس من عيب نفسه ... البيت.
أما نسخة دار الكتب فقد جاء فيها بيتان آخران زيادة على هذين، وهما:
يا من يعيب وعيبه متشعب ... كم فيك من عيب وأنت تعيب أو كما قال الآخر:
وأجرأ من رأيت بظهر غيب ... هل عيبي الرجال ذوو العيوب ديوان المتنبي: 558.
مرت ترجمته ص: 691.
ط: فأصبحوا.
وردت أربعة منها في المغرب وخمسة في النفح 3: 291.
النفح: وناظر.
ط: صادت (اقرأ: صارت) ؛ النفح: رجعت.
ط: حاسد.
كذا في ب م، ولم يرد البيت في ط.
ب م: بديل.
ترجمته في القسم الثاني من الذخيرة.
ب م: جيب.
ط: القلوب.
لم ترد هذه المقطوعة والتي تليها في ط.
هذا الشطر مختلف في وزنه عن سائر الأشطار في المقطوعة.
ب م: الناقمة.
انظر القسم الثالث ص: 335، 339.
ط: الأدب.
هذا الفصل عن الاستطراد متابع للعمدة 2: 39 - 42.
ط: أن يومئ.
ب م: صفة شيء؛ العمدة: وصف شيء.
شرح المرزوقي، الحماسية رقم: 15 وزهر الآداب: 1016.
البيت له في زهر الآداب: 1015.
هو مالك بن مسمع بن شيبان سيد بكر، انظر عنه صفحات متفرقة في شرح النقائض.
شرح النقائض 1: 213 وروايته: وضغا البعيث، وكذلك ديوان جرير: 940 وزهر الآداب: 1015.
الحيوان 5: 489 - 490 يصف تيس غنمه.
ديوان بشار (جمع العلوي) : 220 وزهر الآداب: 1016.
ديوان أبي تمام 4ك 434 وزهر الآداب: 1014 - 1015 وأخبار أبي تمام: 68.
هو عثمان بن إدريس السامي (الشامي) .
ديوان البحتري: 1745 وزهر الآداب: 1015 وأخبار أبي تمام: 69.
ديوان زهير: 152.
زهر الآداب: 1017 وديوانه: 7 (صنعة حاتم الضامن) .
ديوان المتنبي: 500.
العمدة: وقيل أصل.
العمدة: قواده وأجناده.
ب م: برزق.
هو أبو الهذيل زفر بن الهذيل بن قيس من بني العنبر، سمع الحديث وغلب عليه الرأي (طبقات الشيرازي: 135 والجواهر المضية 1: 343) .
ذكره أبو الوليد ابن خيرة في شيوخه وقال: أدركته وجالسته، وله كتاب مفيد في النفس (انظر التكلمة: 37 والذيل والتكملة 1: 109 والمسالك 11: 415) .
ب م: مجلوا.
من قول المتنبي (ديوانه: 190) :
ملك منشد القريض لديه ... يضع الثوب في يدي بزاز في النسخ: بقرطبة.
ب م: النجر.
ط: عارضنا.
ط: التوصل.
يريد على روي " بسام ".
ب م ط: مغالطة.
ط: الجواد.
الحصب: المفروش بالحصباء، ويكون الماء صافياً، ولذلك قال أبو ذؤيب:
فكرهن في حجرات عذب بارد ... حصب البطاح تغيب فيه الأكرع وقد خصبت الأرض فهي خصبة مثل خصيبة.
من أبيات لأبي القمقام الأسدي (معجم البلدان - وشل) .
ب م: عهد.
ورد هذا البيت في المغرب.
ط: مسك الختام.
ط: الغاية.
ط: شعب.
ب م: الخطبة (اقرأ: الخطة) الصنعاء (اقرأ: الصلعاء) .
ب م: عطفك.
ط: بعيد.
ط: أرضها.
ب م: يجحف ... يتلف.
ب: وعند(2/945)