الأذى الّذي) يجوز (لَهُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَالصَّبْرُ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ) لَمْ يعاقبه والصواب أنه عليه الصلاة والسلام فهم من الخطاب ما يستحق عليه العقاب لكنه كان مأمورا بالإعراض عنهم في مقام العتاب وإلا فكيف لا يفهم الطعن من قوله هذه قسمة ما أريد بها وجه الله نعم قوله أعدل قد يقال إنه أراد به التسوية اللغوية والعدالة العرفية ولكنه عليه الصلاة والسلام فهم أنه أراد العدالة الشرعية فقال له ويلك من يعدل إن لم أعدل وقال في آخر الحديث يخرج من ضئضىء هذا قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين الحديث فكان كما أخبره عليه الصلاة والسلام وقتل على يد علي رضي الله تعالى عنه في النهروان وهو رئيس الخوارج وأهل الخذلان (وكذلك) أي وكما قيل فيمن تقدم من الاعتذار (يقال في اليهود إذ قالوا) بدل السلام (السّام) أي عليكم كما في نسخة (ليس فيه صريح) وفي نسخة تصريح (سبّ) أي شتم (ولا دعاء) أي عليه بذم (إلّا) أي لكن دعاء عليه (بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي لا بدّ) أي لا محالة ولا مفارقة (من لحاقه جميع البشر) بل كل ذي روح من الخلق كما صح في الخبر وفيه أن مثل هذا يسمى من باب الدعاء على المقول فيه بحسب العرف والعادة لأنه يراد به الإنشاء لا الإخبار بما سيقع من الحالة وهذا المعنى الذي فهمته عائشة رضي الله تعالى عنها وهي من الفصحاء والبلغاء ومن أهل بيت الفهم والحذاقة والعلم والفطانة (وقيل بل المراد تسأمون دينكم) أي تملونه وتتركونه (والسّأم) بهمزة ساكنة (والسّامة) بهمزة ممدودة (الملال والملالة) قال الدلجي والرواية بل همز لاختلاف صيغتيهما واوا وهمزا انتهى وأراد أنه لا يصح هذا المعنى من ذلك المبنى والصواب أنه لا مخالفة بين الرواية والدراية لأن الهمزة الساكنة كثيرا تبدل ألفا (وهذا دعاء على سآمة الدّين) أي في قلوب المؤمنين (ليس بصريح سبّ) أي شتم لكنه متضمن لعيب وذم (ولهذا) أي ولكونه ليس بصريح سب (ترجم البخاري على هذا الحديث باب) بالرفع منونا (إذا عرّض) بتشديد الراء أي لوح (الذّميّ أو غيره) وفي نسخة وغيره أي المستأمن (بسببّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ولم يصرح به قال ابن المنير كأن البخاري كان على مذهب الكوفيين في هذه المسألة وهو أن الذمي إذا سب يعزر ولا يقتل (قال بعض علمائنا وليس هذا) أي قول اليهود السام عليكم (بتعريض بالسّبّ) أي الشتم (وإنّما هو تعريض بالأذى) ولكنه موصوف بالذم (قال القاضي أبو الفضل) يعني المنصف (وقد قدّمنا أنّ الأذى) بعمومه (والسّبّ) بخصوصه (في حقّه صلى الله تعالى عليه وسلم سواء) لاستوائهما في تنقصه والخروج عن دينه الموجب لتكفيره بخلاف غيره فإنه يفرق بينهما باختلاف تعزيره حسب تقريره وفيه إن جميع مراتب الايذاء لا تكون مع السب في حالة السواء فإنه عليه الصلاة والسلام كان يتأذى من أصحابه الكرام إذا صدر عنهم ما يوجب شيئا من الآثام (وقال القاضي أبو محمّد بن نصر) بصاد مهملة (مجيبا عن هذا الحديث) أي حديث السام (ببعض ما تقدّم) من الكلام (ثُمَّ قَالَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ هَلْ كان هذا اليهوديّ من أهل العهد) أي الجزية (والذّمّة) أي(2/421)
الامان فينتقض عهده ويبلغ مأمنه (أو الحرب) أي أهل الحرب فيهدر دمه (ولا يترك موجب الأدلة) بفتح الجيم أي مقتضاها من القتل بشتم أو ذم (لأمر المحتمل) لواحد منهما وفيه أن ذلك اليهودي إما كان منافقا وإما مستأمنا ولا فما كان عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام يتحملون من الحربي نوعا من الكلام ولا كانوا يتركونه في ذلك المقام بعد الأمر بقتال من لم يذعن للإسلام نعم كما قال هو وغيره (والأولى في ذلك) وفي نسخة في هذا (كلّه والأظهر من هذه الوجوه) في حكمه (مقصد الاستئلاف) بفتح الصاد وكسرها أي لمحض طلب الألفة ورفع الكلفة عن الأمة (والمداراة على الدّين لعلّهم يؤمنون) على وجه اليقين (وَلِذَلِكَ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ عَلَى حَدِيثِ الْقِسْمَةِ وَالْخَوَارِجِ باب) بالتنوين وفي نسخة بالإضافة إلى قوله (من ترك قتال الخوارج) أي مقاتلتهم وفي نسخة قتل الخوارج وهم طائفة مشهورة من أهل البدعة يبغضون أهل بيت النبوة (للتّألّف) أي طلب الالفة ليثبتوا على الملة (ولئلّا ينفر النّاس عنه) بكسر الفاء من النفر وفي نسخة من التنفير عن أي ولدفع النفرة عن قبول الدعوة (وَلِمَا ذَكَرْنَا مَعْنَاهُ عَنْ مَالِكٍ وَقَرَّرْنَاهُ قَبْلُ) أي قبل ذلك (وقد صبر لهم صلى الله تعالى عليه وسلم على سحره) بكسر السين أي ما سحر به وفي نسخة بفتحها وهو المصدر (وسمّه) أي وعلى تسميمه (وهو أعظم من سبّه) وفيه أن من سمه علله بأنه اختبره على أنه إن كان نبيا فلا يضره وإلا فيندفع به شره ولذا لم يقتلها أولا ثم قتلها قصاصا بعد ما مات بشر بن البراء من أصحابه (إلى أن نصره الله عليهم) وأظهر أمره لديهم (وَأَذِنَ لَهُ فِي قَتْلِ مَنْ حَيَّنَهُ مِنْهُمْ) فتحتية مشددة فنون مفتوحات أي أهلكه من الحين وهو الهلاك وقيل من حينه أي انتظر وقته وروي بالخاء المعجمة من الخيانة ويحتمل خيبه بالباء الموحدة أي نسبه إلى الخيبة وفي نسخة أخرى عيبه بالموحدة أو النون وهذا كله في بني قريظة وإضرابهم (وإنزالهم) وفي نسخة وانزلهم (من صياصيهم) بفتح أوله أي حصونهم (وقذف) أي والحال أنه سبحانه وتعالى ألقى (في قلوبهم الرّعب) بسكون العين وضمها أي الخوف الشديد (وكتب على من يشاء منهم) كبني النضير وأحزابهم (الجلاء) بفتح الجيم ويكسر والمد اي الإخراج عن وطنهم ومألوف بدنهم وكربة الغربة وسائر محنهم (وأخرجهم من ديارهم) ومدار آثارهم (وخرّب بيوتهم) من دارهم (بأيديهم) أي أنفسهم (وأيدي المؤمنين) بالنقض والهدم حتى لا يبق منهم في المدينة آثار دار ولا ديار (وكاشفهم) أي ظاهرهم وشافههم (بالسّبّ) أي الطعن والتعيير (فقال يا إخوة القردة والخنازير) خطابا لشبانهم ومشايخهم وفيه إيماء إلى قوله تعالى وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ فهم أخوتهم من حيث وقوع المسخ في طائفتهم وقيل القردة في أصحاب السبت من اليهود والخنازير في أصحاب المائدة من النصارى وهم من قوم واحد يجمعهم بنو إسرائيل (وحكّم فيهم سيوف المسلمين) بتشديد الكاف إشارة إلى قتل بني قريظة ونزولهم من حصونهم بحكم سعد بن معاذ (وأجلاهم) أي أخرجهم (من جوارهم) بكسر الجيم ويضم أي مجاورتهم ومحاورتهم (وأورثهم) أي الله(2/422)
سبحانه وتعالى (أرضهم وديارهم) أي مساكنهم (وأموالهم) كبني النضير وهذا كله (لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَكَلِمَةُ الَّذِينَ كفروا السّفلى) في الدنيا والأخرى قال ابن إسحاق كان إجلاء بني النضير عند مرجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أخذ وفتح بني قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان ومجمل قصتهما أن بني النضير كانوا صالحوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه ولما غزا أحدا وهزم المسلمون نقضوا العهد فركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكة فأتوا قريشا وعاقدوهم بأن تكون كلمتهم واحدة على محمد ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة فنزل جبريل عليه السلام فأخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك فأمر رسول بقتل كعب بن الأشرف وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير وكانوا بقرية فدس المنافقون إليهم أن لا يخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم ولنضرنكم ولئن خرجتم لنخرجن معكم فحاصرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إحدى وعشرين ليلة وقذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين فسألوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الصلح فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة ولهم ما أقلت الإبل أي حملت من أموالهم ولنبي الله ما بقي ففعلوا ذلك وخرجوا من المدينة إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام وذلك قوله تعالى هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ أي في أول حشرهم من جزيرة العرب إذ لم يصبهم قبل ذلك هذا الذل والتعب أو في أول حشرهم من إجلائه عليه الصلاة والسلام إلى الشام وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إلى ذلك المقام وقيل آخر حشرهم يوم القيامة فأنهم كغيرهم يحشرون إليه عند قيام الساعة وأما قضية بني قريظة فروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما رجع من منصرف الأحزاب إلى المدينة أتاه جبريل عليه السلام فقال وضعت السلاح يا رسول الله قال نعم قال إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة وكانوا قد عاونوا الأحزاب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأمر النبي عليه الصلاة والسلام مناديا أذن من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة وقدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عليا بن أبي طالب كرم الله وجهه برايته إليهم فسار علي حتى إذا دنا من الحصون سمع مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرجع حتى أتاه فقال يا رسول الله لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابيث قال لم أظنك سمعت في منهم اذى قال نعم يا رسول الله قال لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا فلما دنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من حصونهم قال يا أخوة القردة والخنازير هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمة قالوا يا أبا القاسم ما كنت جهولا قال فحاصرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب فنزلوا على حكم سعد بن معاذ قال سعد فإني أحكم فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة بأن يقتل مقاتلهم ويسبى ذرايهم فحبسهم رسول الله صلى(2/423)
الله تعالى عليه وسلم في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار ثم خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى سوق المدينة فخندق بها خندقا ثم بعث إليهم فضربت أعناقهم في تلك الخنادق وكانوا على ما قيل ستمائة أو سبعمائة وقسم الأموال والنساء والذراري وذلك قول تعالى وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي عاونوا الأحزاب على حرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (فَإِنْ قُلْتَ فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ) من رواية البخاري وغيره (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يؤتى إليه) أي لم يعاقب أحدا على مكروه يقع عليه (قطّ) أي أبدا في حال من أحواله (إلّا أن تنتهك) بصيغة المجهول أو الفاعل أي تنتقص أو تنتقض (حرمة الله تعالى) أي احترامه وعزته (فينتقم لله) أي حينئذ مع انتقامه لنفسه انتقاما لحرمة ربه (فاعلم أنّ هذا) الحديث (لا يقتضي) مضمونه (أَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِمْ مِمَّنْ سَبَّهُ أَوْ آذَاهُ) أي بقوله أو فعله (أو كذّبه فإنّ هذه) المذكورات (من حرمات الله التي انتقم لها) وفي نسخة منها أي من أجلها ابتغاء لوجه الله تعالى كما تقدم من قتل أبي رافع وكعب بن الأشرف وغيرهما (وإنّما يكون ما لا ينتقم) أي منه كما في نسخة (له) أي لأجل نفسه (فيما تعلّق بسوء أدب) من اجلاف العرب (أو معاملة) مع أحد منهم (من القول والفعل في النّفس) وفي نسخة بِالنَّفْسِ (وَالْمَالِ مِمَّا لَمْ يَقْصِدْ فَاعِلُهُ بِهِ أذاه) أي أذى النبي عليه الصلاة والسلام (لكن) أي إلا أنه صدر (ممّا) وروي بما أي بسبب ما (جبلت عليه الأعراب) أي من الأخلاق أو من الطباع التي خلقت وطبعت وتعودت عليها (من الجفاء) بفتح الجيم ومد الفاء وهو غلظ الطبع (والجهل) بآداب الشرع كما قال تعالى الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ (أو جبل عليه البشر) أي جنس بني آدم كلهم (من الغفلة) أي الغيبة عن مقام الحضرة وروي من السفه وهو الخفة وقلة المبالاة بالعمل (كجبذ الأعرابيّ) بجيم فباء موحدة فذال معجمة أي جذبه بعنف وشدة (رداءه) وفي نسخة بردائه فالباء للتقوية أو لتأكيد التعدية وفي بعض النسخ بازاره وهو خطأ فاحش كما يدل عليه (حتّى أثّر) أي أثر جبذه (في عنقه) اللهم إلا أن يحمل الإزار على الملحفة وهو كل ما سترك وقد قال الأعرابي كما في البخاري مر لي من مال الله الذي عندك (وكرفع صوت الآخر) أي الأعرابي أو غيره (عنده) قال الحلبي يحتمل أنه يريد ثابت بن قيس بن شماس فقد روى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس فقال رجل يا رسول الله أنا اعلم لك الحديث في خوفه من رفع صوته عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عند نزول قوله تعالى لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآية ويحتمل أن يريد غيره قلت المتعين أن يكون غيره لأن قصته من محامد مناقبه لا في مذامه من مراتبه وأما قول الدلجي أن الذي قال هذه قسمى ما اريد بها وجه الله فموقوف على ثبوت كون مقوله هذا واقعا برفع صوته وقد عينه التلمساني بالأعرابي الذي طالبه عليه الصلاة والسلام في دينه وأراد اصحابه(2/424)
الكرام منعه فقال عليه الصلاة والسلام دعوه فإن لصاحب الحق مقالا (وكجحد الأعرابيّ) أي له كما في نسخة يعني وكإنكاره للنبي عليه الصلاة والسلام (شراءه منه) أي الأعرابي وهو سواد بن قيس المحاربي وقيل سواد بن الحارث (فرسه) المسمى بالمرتجز وكان أبيض وقيل النجيب (التي شهد فيها خزيمة) أنه اشتراها منه فجعل صلى الله تعالى عليه وسلم شهادته بشهادتين والحديث وراه البخاري (وما) وفي نسخة وكما (كان من تظاهر زوجيه) وفي نسخة زوجتيه وهي لغة والأول أفصح أي تعاونهما (عليه) فيما يسوؤه من فرط الغيرة بالنسبة إليه وهما عائشة وحفصة (وأشباه هذا) الذي ذكر هنا (ممّا يحسن الصّفح عنه) أي يستحسن الاعراض عنه وعدم الالتفات نحوه وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا إِنَّ أَذَى النَّبِيِّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ بِفِعْلٍ مُبَاحٍ ولا غيره وأما غيره من الناس فَيَجُوزُ بِفِعْلٍ مُبَاحٍ مَا لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ فعله وإن تأذى غَيْرُهُ وَاحْتَجَّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وبقوله صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث فاطمة رضي الله تعالى عنها أنها بضعة مني يؤذيني ما آذاها أَلَا وَإِنِّي لَا أُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَلَكِنْ لَا تَجْتَمِعُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ وَابْنَةُ عَدُوِّ اللَّهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَبَدًا (أَوْ يَكُونُ هذا) الحديث المتقدم ذكره (ممّا أذاه به كافر) صريح (رجا بعد ذلك إسلامه) كذا في النسخ المصححة وجاء بالواو وقال الحلبي رأيت في بعض النسخ بالراء من الرجاء وهذه ينبغي أن تكون الصواب وتلك التي تقدمت تصحيف قلت إذا كان المبنى صحيحا رواية ودراية فلا يقال فيه إنه تحريف فلا يلزم ما ادعاه على ما سيأتي دعواه (كَعَفْوِهِ عَنِ الْيَهُودِيِّ الَّذِي سَحَرَهُ وَعَنِ الْأَعْرَابِيِّ الّذي أراد قتله) وهو غورث بن الحارث (وَعَنِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي سَمَّتْهُ وَقَدْ قِيلَ قَتَلَهَا) أي آخرا قصاصا ببشر بن البراء بعد ما عفا عنها أولا لإسلامها أو اعتذارها في كلامها هذا وقال الحلبي المفهوم من عبارة القاضي المؤلف هنا أن هؤلاء الثلاثة قد اسلموا لكن الذي سحره وهو لبيد بن الأعصم لم يسلم بلا خلاف فيما أعرفه وأما الأعرابي الذي أراد قتله وهو غورث أو دعثور على ما تقدم فقد اسلم بلا خلاف وأما اليهودية التي سمته فأنها زينب بنت الحارث فقيل إنها لم تسلم وقتلها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعن الزهري كما رواه معمر بن راشد في جامعه أنها اسلمت فتركها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبيان وجه الخلاف والجمع قد تقدم والله تعالى أعلم (ومثل هذا ممّا يبلغه) أي بعض ما يصل إليه (من أذى أهل الكتاب والمنافقين) من أرباب الحجاب (وصفح عنهم) جملة حالية وفي نسخة فصفح عنهم أي أعرض عن اذاهم وتركهم على هواهم (رجاء استئلافهم) أي تألف أنفسهم (واستئلاف غيرهم كما قرّرناه قبل) أي قبل ذلك على وجه التحقيق (وبالله التوفيق) .
فصل (قَالَ الْقَاضِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي قَتْلِ الْقَاصِدِ لسبّه)
أي المتعمد في شتمه (والإزراء به) وفي(2/425)
نسخة والازدراء وهو بمعنى الاحتقار (وغمصه) بمعجمه ومهملة بينهما ميم ساكنة أي عيبه (بأيّ وجه كان من ممكن) وجوده (أو محال) بضم الميم أي ممتنع شهودة (فهذا وجه بيّن) أي ظاهر مكشوف (لا إشكال فيه) ولا توقف في قتل متعاطيه. (الوجه الثاني لا حق به) أي ملحق بالوجه الأول (في البيان والجلاء) أي في الظهور وعدم الخفاء (وهو أن يكون القائل لما قال) من الكلام (في جهته صلى الله تعالى عليه وسلم غير قاصد للسّبّ) أي للشتم على وجه الجفاء (والإزراء) وفي نسخة الازدارء أي الاستحقار بالاستخفاف والاستهزاء (ولا معتقد) بالجر وفي نسخة ولا معتقدا (له) أي لمضمون كلامه (ولكنّه تكلّم في جهته صلى الله تعالى عليه وسلم بكلمة الكفر) وفي نسخة بكلمة من الكفر أي من ألفاظه كما بينه بقوله (مِنْ لَعْنِهِ أَوْ سَبِّهِ أَوْ تَكْذِيبِهِ أَوْ إضافة ما لا يجوز عليه) أي نسبته إليه (أو نفي ما يجب) أي ثبوته (لَهُ مِمَّا هُوَ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم نقيصة) أي منقصة ومذمة (مثل) بالرفع ويجوز نصبه أي نحو (أن ينسب إليه إتيان كبيرة) بصيغة المجهول والأظهر أن يكون بصيغة الفاعل أي ينسب القائل إليه اتيان كبيرة أي صدورها من قول أو فعل بخلاف صغيرة للاختلاف في جواز صدورها عنه (أو مداهنة) بالجر أو النصب أي مصانعة (في تبليغ الرّسالة) كما نفاها الله عنه بقوله فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ (أو) مسامحة أو مساهلة (في حكم بين النّاس) كما نفاها عنه في قوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ (أو يغضّ) الله بضم الغين وتشديد الضاد المعجمتين أي يخفض وينقص (من مرتبته) العلية (أو شرف نسبه) إلى آبائه وأجداده الجلية من العيوب العرفية لا من الذنوب الشرعية فأن عبد المطلب من أجداده مات في زمن الجهالة بالإجماع وكذا جزم أبو حنيفة بأن والدي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ماتا في زمن الجهالة وكذا أبو إبراهيم عليه السلام من أهل الكفر إجماعا خلافا للشيعة وشرذمة قليلة من أهل السنة وقد كتبت في هذه المسألة رسالة مستقلة (أو وفور علمه) أي كثرته (أو زهده) من غير ضرورته (أَوْ يُكَذِّبَ بِمَا اشْتَهَرَ مِنْ أُمُورٍ أَخْبَرَ بها عليه الصلاة والسلام وَتَوَاتَرَ الْخَبَرُ بِهَا) عَنْهُ (عَنْ قَصْدٍ لِرَدِّ خبره) إذا لو أنكر خبرا متواترا كفر بخلاف ما أنكر حديث آحاد فإن أنكره فسق ففي المحيط من أنكر الأخبار المتواترة في الشريعة كفر مثل حرمة لبس الحرير على الرجال ومن أنكر أصل الوتر وأصل الأضحية كفر وفي الخلاصة من رد حديثا قال بعض مشايخنا يكفر وقال المتأخرون إن كان متواترا كفر أقول وهذا هو الصحيح إلا إذا كان رد حديث الآحاد من الأخبار على وجه الاستخفاف والاستحقار وأما انكار الحديث المشهور فالجمهور من أصحابنا على أنه يكفر إلا عيسى بن أبان فإن عنده يضلل ولا يكفر وهو الصحيح (أو يأتي بسفه من القول) أي بسفاهة في عبارة (أو قبيح من الكلام) ولو بإشارة (ونوع من السّبّ) وما فيه من قلة الأدب (في جهته) عليه الصلاة والسلام (وإن ظهر بدليل حاله) أي حال قائله (أنّه لم يعتمد) أي لم يرد (ذمّه) عليه الصلاة والسلام(2/426)
في مقاله (ولم يقصد سبّه) لاعتقاده كماله لكن صدر عنه مقاله (إمّا لجهالة) بنعوت جماله (حملته على ما قاله أو لضجر) بفتحتين أي قلق من أثر غم ناله (أو منكر) محرم أو غيره (أو قلّة مراقبة) في شأنه (وضبط) أي وقلة ضبط (للسانه وعجرفة) أي محازفة وقلة مبالاة في بيانه (وتهوّر في كلامه) أي سرعة في خلقه وجراءة في نطقه (فحكم هذا الوجه) الثاني (حكم الوجه الأوّل) وهو (القتل) أي قولا واحدا (دون تلعثم) أي توقف في بابه (إِذْ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ فِي الْكُفْرِ بِالْجَهَالَةِ) إذا معرفة ذات الله تعالى وصفاته وما يتعلق بأنبيائه فرض عين مجملا في مقام الإجمال ومفصلا في مقام الاكمال نعم إذا تكلم بكلمة عالما بمبناها ولا يعتقد معناها يمكن أن صدرت عنه من غير إكراه بل مع طواعيته في تأديته فإنه يحكم عليه بالكفر بناء على القول المختار عند بعضهم من أن الإيمان هو مجموع التصديق والإقرار فياجراءها يتبدل الإقرار بالإنكار أما إذا تكلم بكلمة ولم يدر أنها كلمة ففي فتاوى قاضيخان حكاية خلاف من غير ترجيح حيث قال قيل لا يكفر لعذره بالجهل وقيل يكفر ولا يعذر بالجهل أقول والأظهر الأول إلا إذا كان من قبيل ما يعلم من الدين بالضرورة حينئذ فإنه حينئذ يكفر ولا يعذر بالجهل أقول وفي الخلاصة من قال أنا ملحد كفر وفي المحيط والحاوي لأن الملحد كافر ولو قال ما علمت أنه كفر لا يعذر بهذا أي في القضاء الظاهر والله اعلم بالسرائر (ولا بدعوى زلل اللّسان) فيه أن الخطأ والنسيان وما استكره عليه الإنسان أن عذر في معرض البيان (ولا بشيء ممّا ذكرناه) مما يظن أنه يكون عذرا (إذا) وفي نسخة إذا (كان عقله في فطرته) أي خلقته وجبلته (سليما) بأن لا يكون مجنونا ولا خرفا سقيما (إلّا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) كما هو مبين في القرآن (وبهذا) الوجه الثاني (أفتى الأندلسيّون) بفتح الهمزة وضم الدال واللام بفتحهما أي المالكيون من علماء الأندلس وهو اقليم معروف من المغرب (على ابن حاتم) أي الطليطلي (في نفيه الزّهد) أي الاختياري (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وآله وسلّم الّذي قدّمناه) أي ذكره وأمره (وقال محمد بن سحنون) بفتح أوله ويضم ويصرف ولا يصرف (في المأمور) بأيدي الكفار (يسبّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) جملة حالية (في أيدي العدوّ) أي في تصرفهم أو فيما بينهم (يقتل إلّا أن يعلم تبصّره) أي حدوث دخوله في مذهب النصارى (أو إكراهه) أما الثاني فظاهر ويدل عليه قوله تعالى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ روي أن بني المغيرة أخذوا عمارا وغطوه في بئر ميمون وقالوا له اكفر بمحمد فتابعهم على ذلك وقلبه كاره فأتى عمار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يبكي فقال عليه الصلاة والسلام ما ورائك قال شر يا رسول الله نلت منك وذكره قال كيف وجدت قلبك قال مطمئنا بالإيمان فجعل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يمسح عينيه ويقول إن عادوا لك فعد لهم بما قلت وأما الأول فقد قال الحلبي هذا الكلام ينبغي أن يسأل عنه مالكية وقال الأنطاكي أي إلا أن يكون معروفا بالبصارة تمنعه بصارته ومعرفته عن الحوم(2/427)
حول الحمى المنيع بالأمر الشنيع انتهى وفيه أن السب هنالك من غير أن يكره عليه في ذلك مناف للتبصر سواء يكون معروفا به أم لا وقال التلمساني وكأن النسخة عندهما بالباء الموحدة وإنما هي والله اعلم بالنون أي إلا أن يعلم تنصره ولا شك أن المالكية يقولون إذا تنصر طوعا ثم وقع منه سب أو لعن أو كلام يعيب به النبي أو قذفه أو استخف بحقه أو غير صفته أو الحق به نقصا ثم رجع إلى الإسلام أقول هنا بياض في الأصل ولم يعلم أن الحكم يقتل أو لا يقتل وعلى كل تقدير فيه إشكال أما على الأول فلأنه ينافي الاستثناء وسيأتي صريحا في كلام القاضي أنه يجب قتله وأما على الثاني فلأنه قد تقدم أن من سب النبي يقتل مسلما كان أو كافرا والذي يظهر لي أن المعنى إلا أن يعلم تنصره قبل ذلك وأنه ما صح إيمانه هنالك بأن كان منافقا أو مزورا أو مرائيا أو جاسوسا ثم لما أسر أظهر سبه عليه الصلاة والسلام ثم رجع إلى الإسلام فإنه حينئذ لا يقتل ففي مختصر العلامة خليل المالكي إلا أن يسلم الكافر قال شارحه المشهور بحلو لو اختلف في الذمي إذ سب أحدا من الأنبياء ثم اسلم هل يدرأ عنه القتل بإسلامه فقال مالك في الواضحة وَالْمَبْسُوطِ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَابْنِ عَبْدِ الحكم وأصبغ أن اسلم ترك قال أصبغ وسحنون لا يقال له اسلم ولكن إن اسلم فذلك له توبة وحكى القاضي أبو محمد في ذلك روايتن انتهى وأما على نسخة تبصره بالموحدة فلا يبعد أن يراد به الفرق بين المتبصر بالدين من العلماء المتقين وبين وبين الفسقة والجهلة بمراتب اليقين فإن الثاني يحتاج إلى العلم بإكراهه ببينة أو قرينة بخلاف الأول فإن الظن به في مقام يقينه أن لا يقع له سب إلا بعد تحقق إكراهه فيقبل قوله ويتفرع عليه إبانة امرأته منه وعدمها والله سبحانه وتعالى اعلم ومن فروع هذه المسألة عندنا لو قالت زوجة أسير تخلص أنه ارتد عن الإسلام وبنت منه فقال الأسير أكرهني ملكهم بالقتل على الكفر بالله تعالى ففعلت مكرها فالقول لها ولا يصدق الأسير إلا بالبينة (وَعَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ لَا يُعْذُرُ بِدَعْوَى زَلَلِ اللِّسَانِ فِي مِثْلِ هَذَا) الشأن ولعل وجهه سد الذريعة لفساد أهل الزمان (وأفتى أبو الحسن القابسيّ) بكسر الموحدة (فيمن شتم النّبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فِي سُكْرِهِ يُقْتَلُ لِأَنَّهُ يُظَنُّ بِهِ أنّه يعتقد هذا ويفعله) أي ويقول مثله (في صحوه) فإن كل إناء يترشح بما فيه وهذا بناء على سوء الظن به مع أنه لا يلزمه إذ السكران قد يقصد أمه وبنته ونحوهما في حال سكره مع أنه لا يظن به أنه يفعله حال صَحْوِهِ (وَأَيْضًا فَإِنَّهُ حَدٌّ لَا يُسْقِطُهُ السُّكْرُ كالقذف والقتل وسائر الحدود) الفارقة بين الحلال والحرام المانعة من قربان الحرام كالزنى والمترتب عليه كالرجم (لأنّه أدخله على نفسه) باجترائه على نبيه ما لا يليق به (لأنّ من شرب الخمر على علم) أي مع علمه بما يترتب عليها (مِنْ زَوَالِ عَقْلِهِ بِهَا وَإِتْيَانِ مَا يُنْكَرُ) صدوره (منه) بسببها (فهو كالعامد لما يكون بسببه) القتل (وعلى هذا ألزمناه الطّلاق) على خلاف فيه بين علماءنا والصحيح وقوعه تأكيدا لزجره (والعتاق والقصاص والحدود) كالقطع بالسرقة (ولا يعترض على هذا) الذي ذكره من أن السكران يؤخذ بما صدر عنه حال سكره (بحديث(2/428)
حمزة) أي ابن عبد المطلب الذي رواه الشيخان عن علي رضي الله تعالى عنه أن حمزة قبل أن تحرم الخمر كان في شرب وبفناء الدار شارفان لعلي أراد أن يأتي عليهما بأذخر يبيعه ليستعين بثمنه على تزوج فاطمة رضي الله تعالى عنهم وعند حمزة وأصحابه جارية تغنيهم فقالت:
ألا يا حمز بالشرف النواء فخرج إليهما فبقر خواصرهما وجب اسنمتهما فأخبر علي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فجاءه فلما رآه حمزة صعد نظره إليه وخاطبه بما لا يليق لديه كما بين المصنف بعضه بقوله (وقوله) أي وبقول حمزة (للنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ومن معه كعلي (وَهَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي قَالَ فَعَرَفَ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه) وفي نسخة إنما هو (ثمل) بفتح المثلثة وكسر الميم أي سكران (فانصرف) عنه ولم يؤاخذه بما صدر منه (لأنّ الخمر كانت حينئذ غير محرّمة) بل كان هذا سببا لتحريمها (فَلَمْ يَكُنْ فِي جِنَايَاتِهَا إِثْمٌ وَكَانَ حُكْمُ ما يحدث منها) من سكر من شرب منها (مَعْفُوًّا عَنْهُ كَمَا يَحْدُثُ مِنَ النَّوْمِ وَشُرْبِ الدّواء المأمون) العاقبة ولهذا لما أم علي رضي الله تعالى عنه في حال سكره وقد قرأ أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ سومح في أمره.
فصل [أن يقصد إلى تكذيبه فيما قاله إلى آخره]
(الوجه الثّالث أن يقصد) أي أحد من الأنام (إلى تكذيبه عليه الصلاة والسلام فيما قاله) أي فيما تواتر عنه من الكلام (أو أتى به) أي من أحكام الإسلام التي أجمع عليها الاعلام (أو ينفي نبوته) مطلقا (أو رسالته) إلى غير العرب مثلا (أو وجوده) في عالم شهوده (أو يكفر به) أي يتبرأ منه سواء (انتقل بقوله ذلك) وخروجه عن الإسلام هنالك (إلى دين آخر) من التهود أو التنصر أو التمجس (غير ملّته) استثناء لمجرد تأكيد في قضيته (أم لا) أي أم لم ينتقل إلى دين بأن صار ملحدا زنديقا أو دهريا أو تناسخيا مما لا يسمى دينا عرفيا وإن كان ما ذكر دينا لغويا (فهذا كافر بإجماع يجب قتله) من غير النزاع (ثمّ ينظر) أي في أمره هنالك (فإن كان مصرّحا بذلك) أي معلنا غير مستتر (كَانَ حُكْمُهُ أَشْبَهَ بِحُكْمِ الْمُرْتَدِّ وَقَوِيَ الْخِلَافُ) أي خلاف أصحاب مالك (في استتابته) أي قبول توبته (وعلى القول الآخر) بكسر الخاء أي المعتبر الناسخ للقول الأول (لا تسقط القتل عنه توبته) فيقتل حدا (لحقّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم إن كان) الملعون (ذكره) عليه الصلاة والسلام (بنقيصة فيما قاله) هذا المتنقص (من كذب) في حقه (أو غيره) بتغير في نعته وأمره (وإن كان متستّرا) من التستر تفعل مأخوذ من الستر ضد الإخفاء وفي نسخة مستسرا بتشديد الراء من الاستسرار استفعال من السر ضد الكتم لا من ألسرور كما وهم الدلجي (فحكمه حكم الزّنديق) أي الأصلي (لا تسقط قتله التّوبة عندنا) أي معشر المالكية قولا واحدا (كما سنبيّنه) أي قريبا (قال أبو حنيفة وأصحابه(2/429)
من برىء من محمّد) أي تبرأ منه وأعرض عنه (أو كذبه) أي في نبوته وفي نسخة أو كذب به أي بوجوده أو بكرمه وجوده وظهور نور شهوده (فهو مرتدّ حلال الدّم) أي قبل توبته (إلّا أن يرجع) عن براءته ولو بعد استتابته (وقال ابن القاسم) أي المصري صاحب مالك (فِي الْمُسْلِمِ إِذَا قَالَ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ بنبيّ أو لم يرسل) إلى الثقلين كافة (أَوْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ قُرْآنٌ وَإِنَّمَا هُوَ شيء تقوّله) أي افتراه واختلقه (يقتل) وهذا مجمع عليه (قال) أي ابن القاسم (ومن كفر برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنكره) الواو بمعنى أو (من المسلمين) أي أحد منهم ولا يبعد أن يكون المعنى وأنكر كونه من المسلمين (فهو بمنزلة المرتدّ) أي يقتل إن لم يتب وكان الأولى أن يقول فهو مرتد أو فيجري عليه حكم المرتد وهذا إذا كان معلنا لا مخفيا (وكذلك من أعلن بتكذيبه) أي أظهره جهرا (أنه كالمرتدّ يستتاب) فإن تاب وإلا قتل وهذا مما لا خلاف فيه إلا عند بعض المالكية (وكذلك قال) أي ابن القاسم (فيمن تنبّأ) أي ادعى أنه نبي (وزعم أنه يوحى إليه) أنه كالمرتد يستتاب (وقاله) أي مثل مقال ابن القاسم (سحنون) وهو بفتح السين وضمها وأغرب الدلجي بقوله وقد يكسر ثم هو فعلون ولذا صرف وقد يمنع بناء على مذهب الفارسي في جعل مطلق المزيدتين علة (وقال ابن القاسم دعا إلى ذلك) أي إلى أنه نبي (سرا أو جهرا) فإنه يكون كالمرتد وكان مقتضى ما سبق أنه دعا سرا يكون كالزنديق فتحتاج إلى فرق في مقام جمع التحقيق والله ولي التوفيق (وقال أصبغ) أي ابن الفرج (وهو) أي من زعم أنه نبي (كالمرتدّ لأنّه قد كفر بكتاب الله تعالى) حيث قال تعالى في حق نبينا عليه الصلاة والسلام أنه خاتَمَ النَّبِيِّينَ (مع الفرية) بكسر الفاء أي الافتراء (على الله تعالى) قال تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أو قال أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ (وقال أشهب) أي ابن عبد العزيز المصري (في يهوديّ) أي مثلا (تنبأ) أي ادعى أنه نبي في حق نفسه (أو زعم أنّه أرسل إلى النّاس) في أمره ونهيه (أو قال بعد نبيّكم نبيّ) أي يوجد بأن يولد أو نبي ناسخ لدين محمد لئلا يشكل بعيسى عليه الصلاة والسلام ولكن اليهودي لم يقصد ذلك وإنما يتصور من النصراني هنالك (أنّه يستتاب إن كان معلنا بذلك) بخلاف ما إذا كان مخفيا فإنه معتقده هنالك (فإن تاب) من اعلان مثل هذا المقال (وإلّا قتل) في الحال (وذلك) أي قتله (لأنّه مكذّب للنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله) كما رواه الثقات (لا نبيّ بعدي) الأولى أن يستدل بقوله تعالى ولكن رسول الله وخاتم النبيين لأن الحديث ما ثبت متواترا ليفيد اليقين ولا مشهورا عند المحدثين وإن كان مشتهرا على السنة المؤمنين (مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ فِي دَعْوَاهُ عَلَيْهِ الرِّسَالَةَ والنّبوة) أي إحديهما؛ (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سُحْنُونٍ مَنْ شَكَّ فِي حرف) أي من تردد في صحة حرف في القرآن (ممّا جاء به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم عن الله) أي وثبت مجيئه به متواترا (فهو كافر جاحد) أي معاند ملحد وكان الأظهر أن يقول من أنكر لأن من توقف في بعض الحروف المختلفة بين القراء السبعة وإن كانت كلها متواترة ولم يدر جزما بأنه مما جاء به عن الله(2/430)
تعالى أم لا لا يحكم بكفره فإن كثيرا من الناس إذا ترددوا في كلمة يراجعون القراء العارفين بالقراءة لا يقال مراده بالحرف هو المجمع عليه فإن الإشكال باق على حاله إذ لا يخلو قارئ عن تردد في حرف من حروفه نعم من شك في حرف مع علمه بأنه من القرآن فلا شك أنه كافر، (وقال) أي ابن سحنون (من كذّب النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي مطلقا (كان حكمه عند الأمّة) أي جميعهم (القتل) وإنما الخلاف في أنه هل يستتاب ولو بالاستمهال أم لا بل يقتل في الحال، (وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ صَاحِبُ سُحْنُونٍ من قال إنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام أَسْوَدُ قُتِلَ. لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم بأسود) بل كان أبيض كأنما صيغ من فضة رواه الترمذي في الشمائل عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وفي رواية مسلم والترمذي عن أبي الطفيل كان أبيض مليحا وفي رواية البيهقي في الدلائل عن علي رضي الله تعالى عنه كان أبيض مشربا بالحمرة يعني لأنه أبيض أمهق وهو البياض المشبه بالجص المكروه عند أكثر الطبائع السليمة والحاصل أن بياض لونه ثابت في الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة مختلفة في المبنى متواترة في المعنى فمن قال في حقه إنه كان أسود يكفر حيث وصفه بغير نعته الموجب لنفيه وتكذيبه لكن قد يعذر قائله إذا كان جاهلا بوصفه عليه الصلاة والسلام لا سيما إذا كان من العوام إلا إذا أراد به تنقصه واستهانته عليه الصلاة والسلام وهذا يختلف باختلاف العرف بين الأنام إذ السواد مرغوب بين الحبشة والهنود كما أن البياض مطلوب عند العرب والاعجام وإلا روام (وقال نحوه) أي مثل مقال ابن أبي سليمان (أبو عثمان الحدّاد قال) أي أبو عثمان وأبعد الدلجي حيث قال أي ابن أبي سليمان (لو قال) أي أحد من المسلمين (إنّه مات قبل أن يلتحي) أي قبل أن تنبت لحيته (أو أنّه كان بتاهرت) وفي نسخة بتهرت وهو بمثناة فوقية في أوله وآخره وبفتح الهاء وسكون الراء مكان بأقصى المغرب قيل هو آخر العمارة (ولم يكن بتهامة) بكسر أوله أي مكة أو أرض الحجاز (قتل لأن هذا نفي) متضمن لوجوده وظهور كرمه وجوده ثم القولان كلاهما مخالف للكتاب والسنة المشهورة أما بطلان القول الأول فيستفاد من قوله تعالى قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ وأما بطلان القول الثاني فيستفاد من قوله تعالى لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها والمراد بأم القرى مكة بالإجماع وأما بطلانهما من الحديث فقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام بعث على رأس اربعين سنة فأقام بمكة ثلاثة عشر وبمدينة عشرا وتوفي وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء (قال حبيب بن ربيع تبديل صفته) أي المشهورة (ومواضعه) أي المأثورة بغيرهما (كفر) به ونفي لوجوده (والمظهر له) أي لتبديلها (كافر) أي ابتداء أو مرتد أي انتهاء (وفيه الاستتابة) أي طلب التوبة (والمسرّ له) أي المخفي لهذا الاعتقاد الفاسد والكاتم لهذا القول الكاسد (زنديق يقتل دون استتابة) أي في مذهب مالك.(2/431)
فصل (الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنْ يَأْتِيَ مِنَ الْكَلَامِ بِمُجْمَلٍ)
مشتمل على تعدد معنى محتمل (أو يلفظ) بكسر الفاء أي أو ينطق (من القول بمشكل) باللام في آخره أي بمعضل وتصحف على الدلجي بكافين فقال أي بما يوقع متأمله في الشك (يمكن حمله) أي يجوز إطلاق ما ذكر من المجمل (على النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ يَتَرَدَّدُ فِي المراد به) أي بالمشكل (من سلامته من المكروه أو شرّه) أي من ملامته فهو عطف على سلامته لا على المكروه كما توهم الدلجي وقال أي سلامته من شره (فههنا) من المقامين (متردّد النّظر) بفتح الدال الأولى مشددة أي محل تردد للمتأمل في المقالين (وحيرة العبر) توهم الأنطاكي فقال العبر بكسر العين وفتح الموحدة جمع عبرة بفتح وسكون الموحدة وهي الدمعة وحيرتها اجتماعها من قولهم تحير الماء أي اجتمع انتهى والصواب في هذا المقام أنه جمع عبرة بكسر فسكون وهي اسم من الاعتبار ومنه قوله تعالى فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ واستدل به النظار في صحة القياس أي وتحير في الأقيسة المتعارضة المنافية للقول اليقين (ومظنّة اختلاف المجتهدين) بكسر الظاء أي موضع الشيء ومآله الذي يظن كونه فيه (ووقفة استبراء المقلّدين) أي وتوقف لطلب براءة العلماء العالمين من القضاة والمفتين وهو بكسر اللام لأنه في مقابلة المجتهدين وضبطه التلمساني بفتح لأمه (ليهلك من هلك عن بيّنة) أي ليضل من ضل عن حجة واضحة (ويحيى من حيّ) وفي قراءة من حيى أي يهتدي من اهتدى (عن بيّنة) أي دلالة لائحة (فمنهم من غلّب) بتشديد اللام أي قدم (حرمة النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وحمى حمى) بفتح الحاء الأولى وكسر الثانية أي وصان ساحة (عرضه) عن تنقصه في طوله وعرضه (فجسر على القتل) أي أقدم واجترأ على قتل قائله من غير استتابة (ومنهم من عظّم حرمة الدّم) المعصوم في أصله (ودرأ الحدّ) أي ودفع القتل (بالشّبهة) على الناظر فيه (لاحتمال القول) أي قوله إن يراد به الذم أو خلافه وهذا هو الأولى لقوله عليه الصلاة والسلام ادرؤوا الحدود بالشبهات كما رواه جماعة من الثقات وزاد ابن عدي واقيلوا الكرام عثراتهم إلا في حد من حدود الله تعالى وروى ابن أبي شيبة والترمذي والحاكم والبيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ولفظه ادفعوا الحدود عن عباد الله تعالى ما وجدتم لها مدفعا هذا وفيما نحن فيه يمكن الجمع بين حمى العرض وبين الدرء بعرض التوبة عليه فإن تاب وإلا قتل فيرتفع حينئذ الإشكال ويزول الاحتمال بالجواب والسؤال والله تعالى اعلم بالحال (وقد اختلف أئمّتنا) أي المالكية (في رجل أغضبه غريمه) أي طالب دينه (فقال له) غريمه (صلّ على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له الطّالب) أي غريمه (لَا صَلَّى اللَّهُ عَلَى مَنْ(2/432)
صَلَّى عَلَيْهِ فَقِيلَ لِسُحْنُونٍ هَلْ هُوَ كَمَنْ شتم النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي منتقصا له (أو شتم الملائكة الّذين يصلّون عليه) صفة كاشفة وظاهره أنه شتم لله وملائكته منطوقا ولرسوله ضمنا مفهوما فإن الله تعالى قَالَ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ وكأن المصنف اقتصر على ذكر الملائكة لقوله لا صلى الله فإن الظاهر منه المغايرة (قال) سحنون (لا) أي لا شتم هنا مطلقا (إذا كان) أي حال قائله (على ما وصفت) أنت (من الغضب) أي من غضبه على مديونه (لأنّه لم يكن) حينئذ (مضمرا للشّتم) أي لا للنبي ولا لغيره من الملائكة وغيرهم بل المراد به امتناعه حينئذ من الصلاة المشعر ذكرها بالمساهلة في المعاملة كما في العرف والعادة حال المجاملة، (وقال أبو إسحاق البرقيّ) بفتح الموحدة (وأصبغ بن الفرج) بالجيم (لا يقتل لأنّه إنّما شتم النّاس) أي بظاهره لا أراد غيرهم بل أراد منهم بحسب لفظة الناس الموجودين لا الآتين والماضين لئلا يكون شتما للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه الكرام والعلماء العظام والمشايخ الكرام والتعبير بالشتم فيه مسامحة لغوية إذ كلامه جملة دعائية وهذا قريب من اللغو في العبارات العرفية (وهذا) الذي ذكر عنهما (نحو قول سحنون) لا أنه يغايرهما ويعارضهما (لأنّه) أي سحنون (لم يعذره) بكسر الذال أي لم يسامحه (بالغضب في شتم النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ضمنا ولا في شتم الملائكة ظاهرا (ولكنّه) أي الشأن (لمّا احتمل الكلام عنده) أي احتمالين فاحتاج إلى قرينة مرجحة لأحد الحالين (ولم تكن معه) أي مع كلامه (قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى شَتْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ شَتْمِ الْمَلَائِكَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهم ولا مقدّمة) أي سابقة من قرائن المقال أو الحال (يحمل عليها كلامه بل القرينة) الحالية (تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ النَّاسُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ) أي النبي والملائكة ففيه نوع تغليب وقد تصحف علي الدلجي وتحرف في أصله غيرها أي غير الملائكة (ولأجل) أي ولا مقدمة لأجل (قول الآخر) والصواب أن التقدير وهذه القرينة الحالية لأجل قول الآخر وهو غريمة (لَهُ صَلِّ عَلَى النَّبِيِّ فَحُمِلَ قَوْلُهُ وَسَبُّهُ) أي دعاؤه عليه (لِمَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ الْآنَ لِأَجْلِ أَمْرِ الْآخَرِ له بهذا عند غضبه) وهذا نظير ما قال علماؤنا في يمين الفور من أنها محمولة على وقت اليمين دون ما بعده على أن هنا احتمالا آخر وهو أن يكون تقدير كلامه لا أصلي عليه أنا في هذه الحال صلى الله تعالى عليه وسلم في الماضي والاستقبال (هَذَا مَعْنَى قَوْلِ سُحْنُونٍ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِعِلَّةِ صاحبيه) أي الدليل البرقي وأصبغ على ما تقدم (وذهب الحارث بن مسكين القاضي) قال الحلبي هذا ففيه مشهور أموي مولى مروان مصري أخذ عن ابن عيينة وابن وهب وابن القاسم وسأل الليث وعنه أبو داود والنسائي وجماعة ثقة حجة عاش نيفا وتسعين سنة قال الخطيب كان ثبتا في الحديث ففيها على مذهب مالك حمله المأمون إلى بغداد أيام المحنة لأنه لم يجب إلى القول بخلق القرآن فلم يزل محبوسا إلى أن ولي المتوكل فأطلقه فحدث ببغداد ورجع إلى مصر وكتب إليه المتوكل بعهده على قضاء مصر (وغيره) أي من العلماء المالكية (في مثل هذا) القول وهو لا صلى الله (إلى(2/433)
القتل) لشموله ظاهرا شتم كل من صلى عليه من ملائكة وغيرهم (وَتَوَقَّفَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ فِي قَتْلِ رَجُلٍ قال كلّ صاحب فندق) وهو بضم الفاء وسكون النون وداله المهملة تضم وتفتح الخان في عرف أهل مصر وهو موضع يأوي إليه الغرباء كالتجار من المسافرين ومن ليس له قريب من المجاورين (قرنان) بفتح القاف فعلان وهو نعت سوء في الرجل وهو الذي يتغافل عن فجور امرأته وابنته وأخته وقرابته وهو المسمى بالديوث وقيل المراد به القواد (ولو كان نبيّا مرسلا) ولعل وجه توقفه أنه حمل كلامه على قصد المبالغة العرفية الشاملة للأمور المحالية (فأمر) أي القابسي (بشدّة) أي ربطه (بالقيود) أي الوثيقة (والتّضييق عليه) بالإنكال الثقيلة (حتّى يستفهم البيّنة) أي يستخبر ما يبين أمره ويعين حاله الصادرة (عن جملة ألفاظه) أي كلماته في محاروته (وما يدلّ على مقصده) أي ارادته (هل أراد أصحاب الفنادق الآن) أي في ذلك الزمان (فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ فَيَكُونُ أمره أخف) إذ يمكن حمله على المبالغة وإرادة اعتقاده أنه من المحال فتعزيره أخف في مقام التنكيل ويمكن حمله على أن يجوز كون نبي مرسل يظهر بعد نبينا عليه الصلاة والسلام فيكون أمره اشد ولهذا قال بعض علمائنا أن من ادعى النبوة فقال له قائل اظهر المعجزة كفر (قال) أي القابسي (وَلَكِنْ ظَاهِرُ لَفْظِهِ الْعُمُومُ لِكُلِّ صَاحِبِ فُنْدُقٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ وَقَدْ كَانَ فِيمَنْ تَقَدَّمَ من الأنبياء والرّسل من اكتسب المال) وفيه أن بعض الأنبياء والرسل وإن كانوا من أصحاب الأموال لكنهم لم يعرف مساكنهم في الخانات وعلى تقدير التنزل فالكلام إنما هو في تجويز صدور مثل هذا الفعل الشنيع والعمل الفظيع من النبي المرسل فتأمل فإنه من مواضع الزلل ولقد زل قلم الدلجي في قوله هنا فلعل أحدا منهم بنى فندقا لله تنزله المارة انتهى وفيه أن الكلام ليس فيمن بنى المقام وإنما المراد بصاحب الخان خادم أهله وحافظ جمعه وحاشا مقام الرسل والأنبياء عن مثل هذه الأشياء (قال) القابسي (ودم المسلم لا يقدم عليه) أي على سفكه (إلّا بأمر بيّن) كما قال عليه الصلاة والسلام لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة رواه الشيخان وفي الجواهر من كتب أصحابنا من قال قتل فلان حلال أو مباح قبل أن يعلم منه ردة أو قتل نفس بآلة جارحة عمدا على غير حق أو يعلم منه زنا بعد احصان كفر (وما تردّ إليه التّأويلات) أي وما يتصور فيه الاحتمالات (لا بدّ من إمعان) وروي انعام (النّظر) أي أعماق التأمل والتفكر (فيه) أي في أمره ليظهر الوجه المرجح في حقه (هذا معنى كلامه) أي كلام القابسي لا لفظه ومبناه وقال التلمساني ما ذكره القاضي من أن الأنبياء كانوا ذوي أموال قلنا وإن أراد به صاحب المال فبين وإن أراد به الحافظ والأمين فلا يوجد نبي فعل ذلك لأنه من أعظم النقائص فيكون معنى ذلك أنه مثل كذا فهو كالاول لأنه عيب ووصم في سائر الناس فما بالك بالأنبياء فيقتل قائل ذلك لأنه شبه الكامل بالناقص وفي تشبيهه الكامل بالناقص نقص ولم يبق إلا سائر الناس فعليه في ذلك الأدب الشديد لأن فيهم عالما ووليا وأذية سائر المسلمين توجب العقوبة والتعزير على قدر(2/434)
القائل والقول والمقول فيه (وَحُكِيَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ رحمه الله تعالى) وفي نسخة عن ابن أبي زيد وهو أبو محمد القيرواني (فِيمَنْ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْعَرَبَ وَلَعَنَ اللَّهُ بني إسرائيل ولعن الله بني آدم) أي قال أحد هذه الأقوال (وذكر أنه لم يرد الأنبياء) لا من العرب ولا من بني إسرائيل ولا من غيرهم بل ولا العلماء والأتقياء (وإنّما أردت الظّالمين منهم) والفاسقين فيهم (أنّ عليه الأدب) أي التعزير (بقدر اجتهاد السّلطان) أي الوالي والقاضي قال الدلجي ظاهره وإن أدى إلى التلف وفيه أنه ينافي الأدب وهذا ما حكي عن ابن أبي زيد (وكذلك أفتى) أي ابن أبي زيد ولا يبعد أن يكون مندرجا تحت قوله وحكي (فِيمَنْ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ حَرَّمَ الْمُسْكِرَ وقال) أي وفيمن قال أو والحال أنه قال (لا أعلم من حرّمه) أن عليه الأدب بقدر اجتهاد السلطان وسيأتي الكلام عليه (وفي) أي وأفتى أيضا في (من لعن حديث لا يبع حاضر لباد) أي سوقي لبدوي (ولعن) أي وفيمن لعن (ما جاء به) من النهي عن بيعه له وفي نسخة صحيحة ولعن من جاء به وهذا مشكل جدا (أنه) أي وافتى بأنه (كان) وفي نسخة صحيحة وهي ظاهرة إِنْ كَانَ (يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ وَعَدَمِ مَعْرِفَةِ السُّنَنِ) أي المأثورة (فعليه الأدب الوجيع وذلك) يحتمل أن يكون من كلام القاضي المؤلف أو من كلام ابن أبي زيد في توجيه افتائه (أنّ هذا) أي لأن قائله أو وسبب ذلك أنه (لم يقصد بظاهر حمله) من إسلامه (سَبَّ اللَّهِ وَلَا سَبَّ رَسُولِهِ وَإِنَّمَا لَعَنَ من حرّمه من النّاس) وفيه أن الذي حرمه من الناس هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو سب على تقدير جهله وظنه أن المحرم إنما هو بعض الناس من العلماء فمقتضى مذهبنا أنه يكفر ففي الجواهر لو قال من يقدر على أن يعمل بما أمر العلماء به كفر وذلك لأنه يلزم منه تكذيب العلماء على الأنبياء إلا أن يحمل من حرمه على من تسبب بتحريمه (عَلَى نَحْوِ فَتْوَى سُحْنُونٍ وَأَصْحَابِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ المتقدّمة) وهي من قال لا صلى الله الخ ولكن بينهما فرق بين يمنع صحة المقايسة (ومثل هذا) الأولى ونظير هذا الذي تقدم (ما) زائدة أو موصولة وفي أصل الدلجي كثيرا ما (يجري في كلام سفهاء النّاس من قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ يَا ابْنَ أَلْفِ خِنْزِيرٍ، وَيَا ابْنَ مِائَةِ كَلْبٍ وَشِبْهِهِ مِنْ هُجْرِ القول) بضم الهاء وسكون الجيم أي فحشه وأغرب الدلجي بأن ادخل فيه قول بعضهم لبعض الأطفال يا ولد الزنا مع أنه قذف صريح (وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي مِثْلِ هَذَا العدد) وفي نسخة في هذين العددين (من آبائه وأجداده جماعة من الأنبياء) وفيه أن الظاهر من مقاله وقرينة حاله أنه أراد به الكثرة لا حقيقة العدد وعلى سبيل التنزل فلا يدخل فيه جماعة من الأنبياء لأن الناس في زماننا كلهم من نسل نوح عليه السلام ويتصور في غير بني إبراهيم عليه السلام أنه لا يدخل أحد من الأنبياء في آبائه وأجداده وفي بني إسرائيل أيضا يجيء هذا البحث من المائة بل من الألف وإنما التوقف في السادة الأشراف مع أنه قد يقال إنه يريد خلقته من نطفة جمع فساق اجتمعوا على وطئ أمه فحينئذ يكون قذفا إلا أنه لأجل حصول الاحتمال يدرأ عنه الحد في الحال (ولعلّ بعض هذا العدد منقطع) أي منفصل وفي نسخة سنقطع عند نسبه (إلى آدم عليه(2/435)
السلام) بل إلى نوح بل إلى إبراهيم عليهم السلام وأولاده فلا محذور حينئذ في كلامه وقد أغرب الدلجي بقوله أي متصل به من انقطع إليه ولم يركن إلى غيره ومن ثم عداه بإلى وليس بمعنى منفصل إذ لو كان بمعناه لعداه بعن وأنت خبير بأنه تعلق بتصحيح مبناه وغفل عن تصريح معناه فالوجه ما بيناه على ما قدمناه (فينبغي) أي فيجب مع هذا (الزّجر عنه وتبيين ما جهل قائله منه) وفي نسخة بتبيين جهل قائله (وشدّة الأدب) أي التأديب (فيه ولو علم) بالبناء للمفعول أي ولو عرف (أَنَّهُ قَصَدَ سَبَّ مَنْ فِي آبَائِهِ مِنَ الأنبياء) بالعدد الذي ذكره (على علم) منه به (لقتل) به وهذا واضح (وقد يضيّق القول في نحو هذا) المقول (لو قال) أحد (لرجل هاشميّ) أي من بني هاشم بن عبد مناف بن قصي جد عبد الله أبي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (لَعَنَ اللَّهُ بَنِي هَاشِمٍ وَقَالَ أَرَدْتُ الظَّالِمِينَ منهم) وهذا إذا كان لم يتصور وجود مائة أب وألف قبل وصولهم إلى إسماعيل عليه السلام وإلا فلا يعرف هاشمي قبل الإسلام إلا ظالم ثم لا يظهر قيدا لهاشمي لأن القرشي بل وغيرهم من العرب كلهم من نسل إسماعيل عليه السلام وحاصل كلام المنصف أنه يؤدب وحمل الدلجي على أنه من قبيل قول ابن أبي زيد فيمن قال لعن الله العرب أو لعن بني إسرائيل وقال أردت الظالمين منهم دون الأنبياء لأن نبينا عليه الصلاة والسلام من المنسوبين إلى هاشم وكذا علي والحسن والحسين وحمزة وجعفر والعباس وغيرهم اللهم إلا أن أرادوا أولاد هاشم من صلبه (أو قال) أي ويضيق الأمر إذا قال أحد (لرجل) معروف النسب (من ذرّيّة النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا قَبِيحًا فِي آبَائِهِ أَوْ من) موصولة أي فيمن (نسله أو ولده) بتخفيف السين واللام وقد يشددان والمعنى فيمن بدره أو ولده ومن بمعنى الذي وفي نسخة من بكسر الميم على أنه حرف جر دخل على نسله بسكون السين وولده بفتحتين أو بضم فسكون (على علم منه) حال من ضمير قال والمعنى أنه غير جاهل (أنه من ذريّة النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ) المتعلقتين بالقول القبيح في آبائه ونسله وفي نسخة في المسألة أي المتقدمة (تقتضي تخصيص بعض آبائه) أي دون بغض (وإخراج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ممّن سبّه منهم) والمعنى أنه لا يوجد هنا قرينة دالة على قصد عمومهم ومن اللطائف أن بعض الإشراف قال لمن يخاصمه كيف ويعاديه تخالفنا وقد أمرت بالصلاة علينا فقال له خرج منها أمثالكم بقولي وعلى آله الطيبين الطاهرين (وقد رأيت لأبي موسى بْنِ مَنَاسَ فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ لَعَنَكَ اللَّهُ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ عليه ذلك قتل قال القاضي وفّقه الله وقد كان) أي في سابق الزمان (اختلف شيوخنا) أي المالكية (فيمن قال لشاهد شهد عليه بشيء) جملة حالية ولا يبعد أن يكون نعتا لما قبله (ثمّ قال) أي الشاهد (له تتّهمني) أي اتتهمني في شهادتي أو غيرها (فقال له الآخر) أي المشهود عليه (الأنبياء يتّهمون) إن أراد بالكذب فهذا كفر صريح وإن أراد ببعض المعاصي فلا لكن السياق قرينة للأول فتأمل (فكيف أنت) أي أنت أولى بأن تتهم (فَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ جَعْفَرٍ يَرَى قتله لبشاعة ظاهر اللّفظ) أي لكراهته وفي نسخة(2/436)
لشناعة بشين وعين أي لقبحه وإن كان يمكن صرفه عن ظاهره بأنهم متهمون ببعض المعاصي (وكان القاضي أبو محمد بن منصور) اللخمي ولد سنة ثمان وخمسين وأربعمائة (يتوقّف عن القتل) أي احتياطا (لاحتمال اللّفظ عنده) أي احتمالا بعيدا (أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَمَّنِ اتَّهَمَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أي بالكذب في الأخبار (وأفتى فيها) أي في المسألة هذه (قاضي قرطبة) بضم القاف والطاء المهملة (أبو عبد الله بن الحاج) أي التجيبي قتل بجامع قرطبة يوم الجمعة ظلما وهو ساجد وقتله رجل معتوه وقتلته العامة في الموضع الذي قتله فيه وقد ضرب رحمه الله تعالى بسكين في خاصرته وقيل قتل يوم الجمعة سادس عشر شهر رمضان سنة تسع وعشرين وخمسمائة ودفن بعد صلاة العصر قال الدلجي هو غير ابن الحاج صاحب المدخل (بنحو من هذا) أي توقف ابن منصور وفي نسخة بنحو هذا (وشدّد القاضي أبو محمد) أي ابن منصور (تصفيده) أي توثيقه وتقييده (وأطال سجنه ثمّ استحلفه بعد) أي حلفه بعد أن فعل به ذلك (على تكذيب ما شهد به عليه) من الحق (إِنْ دَخَلَ فِي شَهَادَةِ بَعْضِ مِنْ شَهِدَ عليه وهن) أي نوع طعن يوجب ضعف اعتماد وقلة اعتقاد (ثمّ أطلقه) أي من التقليد وتركه وفيه أن هذه التحليف ليس له دخل في أصل المقصود من المسألة في تهمة بعض الشهود وإنما الكلام في نسبة التهمة إلى أرباب النبوة اللهم إلا أن يقال إنه كان منكرا لهذه المقالة وثبت عليه بالبينة في تلك الحالة إلا أن بعض الشهود لم يكونوا مزكين (وشاهدت شيخنا القاضي أبا عبد الله) اسمه محمد (ابن عيسى) أي ابن حسين التيمي ولد سنة تسع وعشرين وأربعمائه وقد تفقه المنصف به (أَيَّامَ قَضَائِهِ أُتِيَ بِرَجُلٍ هَاتَرَ رَجُلًا اسْمُهُ محمّد) أي قال له سفها من القول يقال هتر العرض أي مزقه وقال ابن الأثير ومن قبله الهروي في الغربيين واللفظ للثاني المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان أي يتقاولان ويتفالجان في القول (ثمّ قصد إلى كلب) هنالك زيادة على ذلك (فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ وَقَالَ لَهُ: قُمْ يَا مُحَمَّدُ فَأَنْكَرَ الرَّجُلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ وَشَهِدَ عليه لفيف) أي جمع كثير (من النّاس) أي من قبائل شتى ومنه قوله تعالى جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أي مجتمعين مختلطين (فأمر به إلى السّجن) بكسر السين أي إلى إدخاله فيه وفي نسخة بفتحها أي إلى حبسه (وتقصّى) بقاف وصاد مهملة مشددة أي استقصى وبالغ في التفحص والبحث (عن حاله) ليظهر منه حقيقة مقاله (وهل يصحب من يستراب بدينه) أي يشك في إسلامه من ذمي ونحوه (فلمّا لم يجد) أي ابن عيسى (عليه ما يقوّي الرّيبة) أي التهمة والشبهة (باعتقاده ضربه بالسّوط) وفي نسخة بالسياط تعزيرا له حيث خاطب الكلب بالاسم الشريف ولم يظهر منه ما يدل على أنه أراد الإهانة بالنبي المنيف (وأطلقه) ولم يقتله.
فصل [أَنْ لَا يَقْصِدَ نَقْصًا وَلَا يَذْكُرَ عَيْبًا ولا سبا لكنه ينزع إلى آخره]
(الوجه الخامس أن لا يقصد) أي في مجمل قوله (نقصا) لنبيه (ولا يذكر عيبا) في أمره (ولا سبّا) أي شتما أو ذما في حقه (لكنّه) في محتمل كلامه (ينزع) أي يميل وينجذب (بذكر(2/437)
بعض أوصافه) عليه الصلاة والسلام إلى ما يصرفه عن أن يفهم منه نقص أو ذم في اثناء الكلام (أو يستشهد) في بعض ما قاله (ببعض أحواله عليه الصلاة والسلام الجائزة عليه في الدّنيا) مما سبق بيانه وتقدم برهانه (على طريق ضرب المثل) متعلق بيستشهد (وَالْحُجَّةِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ عَلَى التَّشَبُّهِ به) أي قوله عليه الصلاة والسلام أو فعله (أو عند هضيمة) أي نقيصة عظيمة (نالته) أي أصابته (أو غضاضة) بالغين والضاد المعجمتين أي مذلة وحقارة (لحقته) حصلت له عليه الصلاة والسلام (ليس على طريق التّأسّي) أي الاقتداء به (وطريق التّحقيق) أي الاهتداء به (بل على مقصد التّرفيع) بالفاء أي على جهة اعلائه (لنفسه) في ابتلائه (أو لغيره) من نحو آبائه أو ابنائه (أو على سبيل التّمثيل) أي التشبيه لنفسه أو لغيره به عليه الصلاة والسلام (وعدم التّوقير) أي التبجيل والتعظيم في تمثيله (لنبيّه عليه الصلاة والسلام أو قصد الهزل) بصيغة الماضي أو المصدر المضاف (والتّنذير) مصدر ندر بدال مهملة مشددة ومعناه الإسقاط أي أو قصد الساقط من القول أو الفعل (بقوله) ويجوز أن يكون من مادة الندور وهو الشذوذ فالمراد الإتيان بنادر من قول أو فعل بشيء غريب والحاصل أنه خلاف التشهير مما يقتضي التعظيم والتوقير وقع في أصل الدلجي بالموحدة والذال المعجمة والظاهر أنه تصحيف في المبنى وتحريف في المعنى حيث قال أي الإعلام بقوله وقال التلمساني وعند الشارح التنديد بالدال أي في آخره قال وهو كالغيبة يقال ندد بفلان إذا قال فيه كلمة سوء قال الجوهري يقال ندد به أي شهره وسمع به ومعناهما متقاربان انتهى ولا يخفى أنه تصحيف أيضا لأن هذا وقع سجعا في مقابلة قوله التوقير فيتعين أن يكون براء في آخره والله تعالى أعلم بباطنه وظاهره (كقول القائل إن قيل فيّ) بتشديد الياء أي أن ذكر في حقي (السّوء) بفتح السين وضمها كما قرئ بهما في السبعة قوله تعالى عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وروي هنا بال وبدونها (فقد قيل في النبيّ) أي السوء بمثل ما يسوءه ويحزنه (أو إن كذّبت) بتشديد الذال مجهولا (فقد كذّب الأنبياء) وهذا وما قبله له محل حسن إذ ظاهره أنه أراد به التسلية بهم في مقام الاقتداء ومرام الاهتداء بالصبر على أقوال الأعداء ورميهم للناس بالأشياء من الأسواء وأما قوله (أو إن أذنبت فقد أذنبوا) ففيه خطر عظيم لعصمة الأنبياء لاسيما وقد غفر لهم ما كان في صورة المعصية وظهر منهم الأوبة في مقام التوبة فلا يذكر الذنب المعفو بلا شبهة في مقابلة الذي هو حقيقة المعصية وإن تاب صاحبه عنه فهو تحت المشيئة لعدم صحة شرائط التوبة فلا يقاس الصعلوك بالملوك (أو أنا) أي وأنا (أسلم من ألسنة النّاس) أي من أن ينسبوا إلى ما لم أفعله (ولم يسلم منهم أنبياء الله ورسله) كما قال قائل:
ولا أحد من ألسن الناس سالم ... ولو أنه ذاك النبي المطهر
(أَوْ قَدْ صَبَرْتُ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ) وهذا خطأ فاحش عند أولي الحزم بل يوهم أنه فضل نفسه على بعض الأنبياء الذين قيل في حقهم أنهم ليسوا من أولي العزم كآدم عليه(2/438)
الصلاة والسلام لقوله تعالى فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وكيونس عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ (أو كصبر أيّوب) وهذا كذب ومجازفة في القول (أَوْ قَدْ صَبَرَ نَبِيُّ اللَّهِ عَنْ عِدَاهُ) بكسر العين اسم جمع لعدو أي عن أعدائه ويروى على عداه (وحلم) بضم اللام أي تحمل (على أكثر ممّا صبرت) أي تحملت عليه (وكقول المتنبّي) وهو أبو الطيب الجعفي الكوفي الشاعر الأديب المجيد الأريب صاحب الديوان المعروف وله من بدائع الشعر وحكمه أشياء عجيبة مشتملة على آداب وغيرها من أمور غريبة ولد بالكوفة سنة ثلاث وثلاثمائة ونشأ بالشام والبادية وقال الشعر في صغره واعتنى الفضلاء بشرح ديوان شعره قال السماني في أنسابه إنما قيل له المتنبي لأنه ادعى النبوة في بادية السماوة وتبعه كثيرة من بني كلب وغيرهم فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص بالأخشيدية فأسره وفرق اصحابه وسجنه طويلا ثم أشهد عليه أنه تاب وكذب نفسه فيما ادعاه فأطلقه ثم طلب الشعر وقاله فأجاد وفاق أهل عصره في حسن شعره واتصل بسيف الدولة بن حمدان فأكثر مدحه ثم سار إلى عضد الدولة بفارس ومدحه وعاد إلى بغداد فقتل في طريقه بالقرب من النعمانية في شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وقيل إنما قيل له المتنبي لأنه قال:
(أَنَا فِي أُمَّةٍ تَدَارَكَهَا اللَّهُ ... غَرِيبٌ كَصَالِحٍ في ثمود)
وفيه أنه لا يلزم من هذا التشبيه دعوة النبوة والرسالة في مقام التنبيه وجملة تداركها الله دعائية معترضة وقبله:
ما مقامي بأرض نحلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود
(ونحوه) بالرفع أي ومثل شعره ويجوز جره أي وكقول نحوه (من أشعار المتعجرفين) أي المتجازفين المفرطين في المدح بحيث لم يبالوا في كلامهم ولم يهموا في أديانهم وعقائدهم (فِي الْقَوْلِ الْمُتَسَاهِلِينَ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِ الْمَعَرِّيِّ) بفتح الميم والعين المهملة وتشديد الراء وهو أبو العلاء اللغوي الشاعر المشهور كان متضلعا من فنون الأدب وله من النظم لزوم ما لا يلزم في خمس مجلدات وذكر أن له كتابا سماه الإيك والغصون يقارب مائة جزء في الأدب أيضا ومكث مدة خمس وأربعين سنة لا يأكل اللحم تدينا لأنه كان يرى رأي الحكماء توفى ليلة الجمعة ثالث شهر الربيع الأول سنة تسع وأربعين وأربعمائة بالمعرة وكان مرضه في ثلاثة أيام وقبره في ساحة من دور أهله ذكره ابن خلكان وذكره الذهبي في الميزان فقال روى جزءا عن يحيى بن مسعر عن أبي عروبة الحراني وله شعر يدل على الزندقة سقت أخباره في تاريخي الكبير انتهى وفي حاشية التلمساني قال القراوي في كتاب اقتراح السميري في شرح مقامات الحريري يزعمون أنه منتحل لمذهب البراهمة مدمن على اعتقاده وفي أشعاره وأسماعه ما يدخل القلب منه ريبا منها قوله (كنت) بالخطاب (موسى وافته) أي من الموافاة أي أتته (بنت شعيب) واختلف في اسمها (غير أن ليس فيكما من فقير) فإنه شبه فيه(2/439)
ممدوحه وزوجته بموسى عليه السلام وامرأته وهي بنت نبي جهلا منه برفيع شأنهم وبديع مكانهم (على أنّ آخر البيت) أي مع أن عجزه (شديد) في القبح عند تدبره لأن مضمونه التعيير لموسى بفقره (وداخل في الإزراء) أي الاحتقار والانتقاص (والتّحقير بالنبيّ) أي الكليم (عليه الصلاة والسلام وتفضيل حال غيره) من الأمراء الأغنياء (عليه) وسبب هذا كله التوصل للأغراض الدنية والأعراض الفانية والاعراض عن الدار الباقية بما يخفض الأنبياء ويرفع السخفاء (وكذلك) أي ومثل هذا الإزراء في حق الأنبياء (قوله) أي شعر أبي العلاء المعري عن مقام الثناء:
(لَوْلَا انْقِطَاعُ الْوَحْيِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ... قُلْنَا مُحَمَّدُ) بالضم (عن أبيه بديل)
لغة في بدل كمثل ومثيل وشبه وشبيه:
(هُوَ مِثْلُهُ فِي الْفَضْلِ إِلَّا أَنَّهُ ... لَمْ يأته برسالة جبريل)
قال التلمساني اجترأ على الله ورسوله في قوله من أبيه فأثبت له أبوة والله تعالى يقول مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ فكذب كتاب الله وجعل الفضل متساويا وهو كما قال الغزالي شبه الملائكة بالحدادين من شبه من ليس بشيء برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بل جعله مساويا له وهو محمد بن الرشيد العباسي (فصدر البيت الثّاني من هذا الفصل) بالصاد المهملة أي النوع من الكلام (شديد) أي في مقام قبح المرام وشدة الملام (لتشبيهه غير النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في فضله بالنّبي والعجز) أي وآخر البيت الثاني (محتمل لوجهين) وفي نسخة محتمل لوجهين وفي أخرى يحتمل الوجهين أي أحدهما أقبح من الآخر (أحدهما أنّ هذه الفضيلة نقّصت الممدوح) بتشديد القاف أي خفصته عن رفيع مقام النبي (والآخر استغناؤه عنها) أي عن رسالة جبريل عليه الصلاة والسلام (وهذه) الإرادة (أشد) كفرا من الاحتمال الأول فتأمل وإن كان الاحتمال الأول هو الأظهر فتدبر (ونحو منه قول الآخر) قال الحلبي لا أعرفه وقال التلمساني وهو للمعرى انتهى والأول أظهر وإلا قال قوله الْآخَرِ:
(وَإِذَا مَا رُفِعَتْ رَايَاتُهُ ... صَفَّقَتْ بَيْنَ جناحي جبريل)
وفي نسخة جبرئين بالنون وهو لغة كما يقال في إسرائيل وإسماعيل ونحوهما وما زائدة ورفعت مبنى للمجهول والرايات جمع راية وهي العلم وصفقت بتشديد الفاء من التصفيق بمعنى التصويب والتضعيف للتكثير وفي نسخة خفقت والمعنى اضطربت برياح النصر وهذا اجتراء على هذا الملك العظيم (وقول الآخر من أهل العصر) أي زمن المصنف قال الحلبي لا أعرفه:
(فَرَّ مِنَ الْخُلْدِ وَاسْتَجَارَ بِنَا ... فَصَبَّرَ اللَّهُ قلب رضوان)
بكسر الراء وضمها أي خازن الجنة قال الدلجي أي على فراقه إذ لم يجاوره فيه وهذه(2/440)
عجرفة كاذبة وقال التلمساني استجار من الجوار أي لجأ إليه وسأله الاستنقاذ انتهى ومع هذا كله يتبين خلاصة المعنى من هذا المبنى حتى يتفرع عليه مذمة من كفر أو فسق على ما لا يخفى (وكقول حسّان) يصرف ولا يصرف (المصيصي) نسبة إلى مصيصة كسفينة بلد بالشام ولا يشدد كذا في القاموس وقال التلمساني بكسر الميم يخفف ويشدد وقيل لا يصح التشديد وقيل إن كسر شدد وإن فتح خفف وقيل بكسر الميم ويخفف ويفتح ويخفف وهو موضع من ثغور الشام (من شعراء الأندلس) بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الدال ويضم وضم اللام وفي نسخة شعار الأندلس على أنه مبالغة شاعر (في محمد بن عبّاد) بتشديد الموحدة وكنيته أبو القاسم من ملوك الأندلس (المعروف بالمعتمد) بكسر الميم الثانية أي المعتمد بالله تعالى توفي في السجن سنة ثمان وثمانين وأربعمائة له قصة عجيبة مذكورة في تاريخ ابن خلكان (ووزيره) أي وفي وزيره ومشيره (أبي بكر بن زيدون) يصرف ويمنع:
(كَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَبُو بَكْرِ الرِّضَا ... وَحَسَّانَ حسّان وأنت محمّد)
أي كان وزيرك أيها الممدوح أبا بكر بن زيدون أبو بكر الصديق وشاعرك حسان المصيصي حسان بن ثابت شاعر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكأنك أنت الممدوح محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وقد أطال الشراح تبعا للمصنف على هذا المقال لكن لا يخلو عن نوع من الإشكال فإنه لا يلزم من التشبيه التسوية في الكمال بل من القاعدة المقررة أن المشبه به أقوى في جميع الأحوال كما هو مقرر في زيد الأسد الذي هو أبلغ من زيد كالأسد ومنه قولهم أبو يوسف أبو حنيفة ويقال وجه فلان كالبدر أو الشمس أو القمر وأمثال ذلك فتدبر وكان المصنف رحمه الله تعالى أراد سد باب الذريعة ليحذر الناس عن المقالات الشنيعة (إلى أمثال هذا) أي الذي ذكرناه من المتعجرفين (وإنّما أكثرنا) بتشديد المثلثة وفي نسخة أكثرنا (بشاهدها مع استثقالنا حكايتها) أي روايتها عل أن ثقل الكفر ليس بكفر لكن صيانة الألسنة عنه أولى إلا لضرورة داعية (لتعريف أمثالها) وفي أصل التلمساني لتعرف بها أمثلتها وروي لتعرف أمثلتها وروي لتعريف أمثلتها (ولتساهل كثير من النّاس) أي من الشعراء وغيرهم (في ولوج هذا الباب الضّنك) بفتح الضاد المعجمة وسكون النون أي دخول هذا الطريق الضيق في المعيشة وغيرها ومنه قوله تعالى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وقيل الطريق المظلم ويلائمه قوله تعالى وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (واستخفافهم فادح هذا العبء) بكسر العين المهملة وسكون الموحدة بعدها همزة الحمل والفادح بالفاء وكسر الدال والحاء المهملتين الثقل أي وعد الناس ثقل هذا الحمل خفيفا (وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ بِعَظِيمِ مَا فِيهِ مِنَ الْوِزْرِ) أي الإثم الثقيل (وكلامهم منه بما) وفي نسخة وكلامهم فيه مما (ليس لهم به علم وتحسبونه هيّنا وهو عند الله عظيم) وهذا مقتبس من قوله تعالى إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً أي صغيرة وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ(2/441)
عَظِيمٌ أي كبيرة وقد جزع بعض الأكابر عند موته فقيل له لم جزعت فقال أخاف ذنبا لم يكن مني على بال قلت ونعم ما قيل وجودك ذنب لا يقاس به ذنب (لا سيّما الشّعراء) الذين ورد في حقهم وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وقليل ما هم وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ قال التلمساني لا سيما يشدد ويلزمه الواو وقيل لا ويخفف ولا واو وقيل بالواو وبدونها يخفف ويشدد ويقال لا سواها وما بعد لا سيما معرفة فيجر ويرفع وينصب وقيل النصب فيه لا يصح ونكرة فالثلاثة والمختار أن ما زائدة وسي مضاف لما بعده والرفع خبر لمحذوف وما موصولة أو نكرة موصوفة وهو ضعيف في المعرفة قيل وينصب المعرفة وجهه أن ما كافة ولا سيما كذلك في الاستثناء وهو ضعيف لأن الاستثناء إخراج وهذا فيه إدخال هذا وقد قيل الشعراء أمراء الكلام يصرفونه حيث شاؤه وجاز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده ومد مقصوره وقصر ممدوده والجمع بين لغاته والتألق في صفاته وقيل الاقتصاد محمود إلا منهم والكذب مذموم إلا منهم وقيل إياكم والشاعر فإنه يطلب على الكذب مثوبة ويقرع جليسه بأدنى زلة ولذا قيل فيهم:
الكلب والشاعر في رتبة ... يا ليت أني لم أكن شاعرا
وأقول بل الكلب أحسن منه ما أشار إليه الشاطبي بقوله:
وقد قيل كن كالكلب يقصيه أهله ... وما يأتلي في نصحهم متبذلا
والمشهور أن فيه عشر خصال من خصال الرجال الإبدال ما أظن أن واحدة منها توجد في شاعر الحال (وأشدّهم فيه تصريحا وللسانه تسريحا) أي إرسالا وإطلاقا من غير أن يكون تلويحا (ابن هانىء) بكسر النون فهمز وقد يسهل (الأندلسيّ) قال الحلبي هو أبو القاسم محمد الأزدي وكان أبوه هانئ من قرية من قرى المهدية ولد بمدينة اشبيلية ونشأ بها واشتغل وحصل له حظ وافر من الأدب وعمل الشعر فهمر فيه وكان حافظا لأشعار العرب وأخبارهم وكان متهما بمذهب الفلاسفة توجه إلى مصر ثم عاد إلى المغرب فلما كان ببرقة إضافة شخص فأقام عنده أياما فعربدوا عليه فقتلوه وقيل بل وجد مخنوقا وقيل بل نام فوجد ميتا وذلك سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وهو في المغرب كالمتنبي في المشرق وكانا متعاصرين ذكره ابن خلكان (وابن سليمان) وفي نسخة وأبو سُلَيْمَانَ (الْمَعَرِّيُّ بَلْ قَدْ خَرَجَ كَثِيرٌ مِنْ كلامهما إلى حدّ الاستخفاف والنّقص) بالنبي (وصريح الكفر) بالله (وقد أجبنا عنه) أي عن كلامهما وما يترتب على مقامهما فيما مضى وفي هذا تنبيه نبيه على أنه يحرم سماع شعرهما وأمثالهما كما يحرم مطالعة كتب ابن عربي بل ومطالعة الكشاف ونحوهما حذرا من دسهما في كلامهما ما يعد من سمهما في دسمهما (وغرضنا الآن) هو (الكلام في هذا الفصل الذي سقنا أمثلته) نظما ونثرا (فإنّ هذه) الأمثلة (كلّها وإن لم تتضمّن سبّا) أي ذما صريحا (ولا(2/442)
أضافت إلى الملائكة والأنبياء نقصا) أي عيبا قبيحا (ولست أعني) أي أريد بهذا النفي (عجزي بيتي المعرّي) فإنه كفر واضح وإلحاد لائح وأما قول الدلجي ولست أعني عجزي بيتي المعري بل جميع ما ذكرناه من الأمثلة فخطأ فاحش من جهة لزوم التسوية ثم الجملة حالية معترضة بين المتعاطفين مما قبلها وما بعدها وهو قوله (ولا قصد قائلها إزراء) أي احتقارا (وغضا) أي انتقاصا كالمعرى لكن مع ذلك ما قام بحق الكلام فيما هنالك (فما وقّر النّبوّة) أي ما بجلها ولا صاحبها (ولا عظّم الرّسالة) ولا مرسلها (ولا عزّر) بتشديد الزاء وفي آخره راء أي ولا قوى (حرمة الاصطفاء ولا عزّز) بتشديد الزاء الأولى (حظوة الكرامة) بضم الحاء المهملة ويكسر وسكون الظاء المعجمة أي المترتبة المكرمة والمنزلة المعظمة (حتّى شبّه) من الممدوحين من الأمراء والوزراء (من شبّه) بما ذكر من الأنبياء والأصفياء (في كرامة نالها) أي لأجل جائزة أصابها من ممدوحه (أو معرّة) أي مصيبة أو منقصة أو مشقة (قصد الانتفاء منها) والتبري عنها (أو ضرب مثل) لكشف المراد (لتطييب مجلسه) أي لتطبيب مجلس القائل والمقول له ترغيبا في مجالسته ومخالطته ومصاحبته ومكالمته (أو إعلاء) بعين مهملة أي رفع ومبالغة وبغين معجمة أي مغالاة ومجاوزة في مقالات (في وصف لتحسين كلامه) وتزيين مرامه (بمن عظّم الله خطره) بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة أي منزلته (وشرّف قدره) أي مرتبته من انبيائه وأصغيائه (وألزم) كل أحد (توقيره) أي تعظيمه (وبرّه) بطاعته له وانقياده اكتسابا واجتنابا بقوله أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ (ونهى عن جهر القول له) بقوله سبحانه وتعالى وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ (ورفع الصّوت عنده) أي حيا وميتا بقوله عز وجل لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قال الدلجي أي نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وهو موهم أن هذا مختص به وليس كذلك فإنه يشمله وغيره فمن أدرك عيسى عليه الصلاة والسلام فيجب عليه أن يكون معه كذلك في مقام الإكرام بل ويؤخذ منه التأدب مع العلماء الأعلام والمشايخ الكرام والقضاة الفخام بل مع الوالدين وسائر صلحاء الأنام (فحقّ هذا) القائل الذي لم يقصد بقوله نقصا ولم يذكر عيبا ولا سبا لكن كلامه بذكر بعض أوصافه ينزع إلى ما يصرفه عن أن تفهم من سبا أو نقصا (إن درىء) أي دفع (عنه القتل) أي احتياطا (الأدب) بضرب وجيع وتوبيخ فظيع (والسّجن) أي في مكان شنيع بحسب حاله (وقوّة تعزيره) أي شدة تأديبه وتشهيره (بحسب شنعة مقاله) بضم فسكون نون أي نكارته (وَمُقْتَضَى قُبْحِ مَا نَطَقَ بِهِ وَمَأْلُوفِ عَادَتِهِ) أي دأبه (لمثله) أي لمثل ما نطق به (أو ندوره) بضمتين أي مخلوف عادته (وقرينة كلامه) حالية أو مقالية (أو ندمه) أي أو بحسب ظهور ندامته (على ما سبق منه) وصدر عنه (ولم يزل المتقدّمون) من العلماء والأمراء (ينكرون مثل هذا) المدح الموهم للقدح (ممّن جاء به) من الشعراء (وقد أنكر الرّشيد) وهو هارون من أحفاد العباس (على أبي نواس) بضم النون فهمزة ويبدل كان والده مولى الجراح بن عبد الله الحكمي والي خراسان ولد بالبصرة ونشأ بها ثم خرج إلى الكوفة ثم صار إلى بغداد ديوانه معروف توفي(2/443)
سنة خمس وتسعين ومائة ببغداد ودفن في مقابر الشونيزية ومن جيد شعره قوله في نعت النرجس:
تأمل في نبات الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين جاريات ... على أطرافها الذهب السبيك
على قضب الزمرد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك
وقال إسحاق التمار رأيت أبا نواس فيما يرى النائم فقلت له ما فعل الله بك قال غفر لي فأنكرت ذلك فقلت ألست أبا نواس قال نعم غفر لي ربي بأبيات قلتها وهي في البيت تحت رأسي فقال فبكرت إلى ابنه فسألته عن الرقعة فأدخلني الدار فرفعت الحصير فإذا رقعة مكتوب فيها بخطه:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يدعو ويرجو المجرم
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا ... وجميل ظني ثم إني مسلم
أدعوك رب كما أمرت تضرعا ... فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
هذا وإنما أنكر الرشيد (قَوْلَهُ:
فَإِنُ يَكُ بَاقِي سِحْرِ فِرْعَوْنَ فِيكُمُ ... فإنّ عصا موسى بكفّ خصيب)
بخاء معجمة وصاد مهملة أي رحيب الجانب كريم على الأقارب والأجانب قال التلمساني وعند الشارح أن المراد بخصيب عامل لبعض الملوك العباسيين وهو المأمون بن الرشيد وروي خضيب بالخاء والضاد المعجمتين يقال كف خضيب مختضب بالحناء أي إن يكن في مملكتكم أرض مصر بقية من سحر فرعون فلا هي تجدي نفعا مع وجود عصا موسى بكف أميرها خصيب تلقف ما يأفكون ولا شبهة أنه ما أراد به إثبات النبوة لممدوحه إلا أن في كلامه نوع من الاستعارة الموهمة في ظاهر العبارة لسوء الأدب هنالك فوبخه بذلك (وقال له يا بن اللّخناء) بفتح اللام وسكون الخاء المعجمة فنون فألف ممدودة من اللخن وهو النتن أي يا ابن المنتنة (أنت المستهزىء) أي المستحقر (بعصا موسى) بجعلك إياها بكف خصيب (وأمر بإخراجه عن عسكره من ليلته) وفي نسخة من ليلته (وذكر القتيبيّ) بضم القاف وفتح الفوقية قال الحلبي أنه عبد الله بن مسلم بن قتيبة وفي نسخة بضم العين المهملة وسكون الفوقية (أنّ ممّا أخذ عليه) أي أنكر على أبي نواس (وكفّر فيه) وفي نسخة بتشديد الفاء مجهولا وفي نسخة به أي بسببه (أو قارب) أي قرب أن يكفر أو يكفر (قوله في محمد الأمين) أي ابن هارون الرشيد بن المهدي وتوفي الرشيد سنة ثلاث وتسعين ومائة فبويع للأمين بالخلافة في عسكر الرشيد صبيحة الليلة التي توفي فيها الرشيد وكان المأمون حينئذ بمرو وكتب صالح بن الرشيد إلى أخيه الأمين بوفاة الرشيد مع رجاء الخادم فأرسل معه خاتم الخليفة والبردة والقضيب ولما وصل إلى الأمين ببغداد أجيزت له البيعة ببغداد وتحول إلى(2/444)
قصر الخلافة ثم قدمت عليه زبيدة أمه من الرقة ومعها خزائن الرشيد فتلقاها ابنها الأمين بالإقبال ومعه جميع وجوه بغداد وقضاياه مشهورة قتل سنة ثمان وتسعين ومائة وكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وكسرا (وتشبيهه) أي أبي نواس (إيّاه) أي محمد الأمين (بالنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم حيث قال) وفي نسخة في الشعر
(تنازع الأحمدان الشّبه فاشتبها) ... أي تشابها (خلقا وخلقا كما قدّ الشّراكان)
الشبه بكسر الشين وسكون الموحدة لغة في شبه بفتحتين والخلق بفتح أوله ظاهر الخلقة وبضمه باطنها وأراد بها الصورة والسيرة يقال هذا شبه وشبهه أي شبيهة وقد يضم القاف وتشديد الدال المهملة أي قطع وقدر والشراك بكسر الشين سير النعل وأراد المبالغة في استوائهما في الفضل وهذا كفر صريح ليس له تأويل صحيح إلا أن يدعى أنه أراد بالأحمد غير محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكأنه عدل عن المحمدين إلى الأحمدين ليستقيم الوزن ولعله أراد بالسيرة صفة الأمانة ولكن بين الأمينين بون بين وإنما حمله على مقاله صورة موافقة الاسمين والوصفين (وقد أنكروا) أي العلماء أو الأمراء أو هما جميعا (أيضا عليه قوله) أي على أبي نواس وفي نسخة على الآخر وهو أصل التلمساني وقال هكذا روي وصوابه عليه لأنه قوله وقال الحلبي وفي نسخة على الآخر وفي نسخة عليه وهو الصحيح إذ قد صرح السهيلي في روضه بأنه من قول أبي نواس (كيف لا يدنيك من أمل) أي كيف لا يقربك من رجائك (من رسول الله من نفره) بفتح الميم الأولى وكسر الثانية أي رهطه وعشيرته وقرابته وأما إطلاق النفر على الخادم فحادث وإنما انكروا عليه (لأن حقّ الرسول) أي رسول الله (وموجب تعظيمه) بفتح الجيم أي مقتضى تكريمه وأبعد الدلجي فقال بكسر الجيم أي ما يوجب ترغيبا في تعظيمه (وإنافة منزلته) أي رفعة مرتبته (أن يضاف) أي ينسب غيره (إليه) أي إلى شرف نسبه وكريم حسبه (ولا يضاف) أي هو إلى أحد وفي نسخة إلى غيره وإلا فالإضافة النسبية وغيرها كلها تشبيه وقد يعذر قائله بصيغة القلب كما في قولهم عرضت الناقة على الحوض لا سيما في ضرورة الشعر إلا أنه في حقه عليه الصلاة والسلام لا يعذر بمثل هذا الكلام وحكي عن علي بن الأصفر وكان من رواة أبي نواس قال لما عمل أبو نواس قصيدة:
أيها المنساب عن عفره ... أنشدنيها فلما بلغ قوله
كيف لا يدنيك من أملي ... من رسول الله من نفره
وقع لي أنه كلام مستهجن في غير موضعه إذ كان حق رسول الله أن يضاف إليه ولا يضاف هو إلى أحد فقلت له أعرفت عيب هذا البيت قال ما يعيبه إلا جاهل بكلام العرب إنما أردت أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من القبيل الذي هو المدوح أما سمعت قول حسان بن ثابت شاعر دين الإسلام:(2/445)
وما زال في الإسلام من دين هاشم ... دعائم عز لا ترام ومفخر
بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... علي ومنهم أحمد المتخير
قال الحلبي نقلا عن السهيلي أن البهاليل جمع بهلول وهو الوضيء الوجه مع طول وقوله ومنهم أحمد المتخير فدعا به بعض الناس لما أضاف أحمد المتخير إليهم وليس بعيب لأنها ليست بإضافة تعريف وإنما هو تشريف لهم حيث كان منهم وإنما ظهر العيب في قول أبي نواس كيف لا يدنيك البيت لأنه ذكر واحدا وأضاف إليه قال التلمساني وإنما أراد التخلص بحجة ما في رواية أقول لما قيل الغريق يتعلق بكل حشيش وأما قول الأنطاكي ويستند أيضا بقول حسان هذا على جواز التقديم والتأخير في الواو فإنه بدأ في اللفظ بجعفر ثم جاء بعده بعلي ثم بالنبي عليه الصلاة والسلام وهو المقدم في الحقيقة ففيه أن هذا من قبيل الترقي لا التدلي (فالحكم في أمثال هذا) الذي أوردناه وفي نسخة في مثل هذا قال التلمساني هو أنسب (ما بسطناه) أي ما فصلناه وبيناه (من) وفي نسخة في (طريق الفتيا) بضم الفاء لغة في الفتوى بفتحها وهما مشهورتان ما ذكره النووي يعني أن كلا يقضى عليه بحسب ما ظهر منه وصدر عنه (على هذا المنهج) الذي سلكناه والمعنى على طبقه ووفقه (جَاءَتْ فُتْيَا إِمَامِ مَذْهَبِنَا مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رحمه الله وأصحابه) أي اتباعه ممن أدركه وغيره (فَفِي النَّوَادِرِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ) أي الجمحي البصري أبو محمد الحافظ يروي عن الليث وطائفة وعنه ابن معين وأبو حاتم وجماعة ثقة أخرج له الأئمة الستة (عنه) أي عن مالك (فِي رَجُلٍ عَيَّرَ رَجُلًا بِالْفَقْرِ فَقَالَ: تُعَيِّرُونِي) أي بالفقر كما في نسخة أي اتعيرني به (وقد رعى النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم الغنم) قال الدلجي على قراريط لقريش والمحققون أنه عليه الصلاة والسلام لم يرع لأحد بالأجرة وإنما رعى غنم نفسه وهذا لم يكن عيبا في قومه كما يعرف من رعى بنات شعيب ورعى موسى عليهما السلام بل قيل كل نبي رعى الغنم والله تعالى اعلم ليتدرب على رعاية الأمة بوجه الترحم كما أشار إليه بقوله كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته والرجل راع في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن ابن عمر وسيأتي زيادة الكلام على هذا المرام وقد حكي أن موسى عليه الصلاة والسلام رأى شاة شاردة فتبعهما ليردها فزادت في شرادها وتنفرها حتى بعدت عن قطيعها فلحقها فحملها على كتفه رحمة لها فنودي في الملكوت بين المقربين أيصلح هذا العبد أن يكون من الأنبياء والمرسلين فقالوا نعم يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين هذا وأما رواية رعى بقراريط فقالوا إنه اسم موضع (فقال مالك قد عرّض) بتشديد الراء أي لوح (بذكر النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في غير موضعه) اللائق به (أرى أن يؤدّب) قال الأنطاكي روي أنه عليه الصلاة والسلام قال يوم حنين لذلك المنافق الذي قال ألا ترون صاحبكم يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ويزعم(2/446)
أنه يعدل ويلك أما كان موسى راعيا أما كان داود راعيا والحديث في الكشاف وفيه دليل على جواز إطلاق اسم الراعي على الأنبياء وأن ذلك لا يستوجب التأديب إذا لم يقصد القائل به منقصة ولعل هذا الحديث لم يبلغ مالكا أو لم يصح عنده انتهى ولا يخفى أن الحديث إذا لم يصح عنده كيف يخفى عليه أن موسى عليه السلام رعى الغنم (قال) أي مالك (ولا ينبغي لأهل الذّنوب إذا عوتبوا) فيما صدر عنهم من خطأ في قول أو فعل (أن يقولوا) في جواب العتاب (قد أخطأت الأنبياء قبلنا) فإن هذا خطأ من وجوه إذ لا يقاس الحدادون بالملائكة فإن خطأ الأنبياء ما كانت إلا زلات نادرة في بعض أوقات تسمى صغائر بلا خلاف الأولى بل حسنات بالنسبة إلى سيئات غيرهم وهي مع هذا ممحوة بتوبة عقيبها وتحقيق قبولها كما أخبر الله تعالى بها بخلاف ذنوب الأمم فإنها شاملة للكبائر وغيرها عمدا وخطأ واستمرارا وعلى تقدير توبتهم لا يعرف تحقق شروط صحتها وقبولها بل ولا يدري خاتمة أمر صاحبها بخلاف الأنبياء فإنهم معصومون من الإصرار على المعصية ومأمونون من سوء الخاتمة فلا تصح هذه المقايسة، (وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِرَجُلٍ انْظُرْ لَنَا كَاتِبًا يَكُونُ أَبُوهُ عَرَبِيًّا فَقَالَ كَاتِبٌ لَهُ: قَدْ كَانَ أَبُو النَّبِيِّ كَافِرًا. فَقَالَ جَعَلْتَ هَذَا مَثَلًا فَعَزَلَهُ وَقَالَ لَا تَكْتُبْ لي أبدا) وهذا يوافق ما قال إمامنا في الفقه الأكبر أن والدي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ماتا على الكفر وقد كتبت في هذه المسألة رسالة مستقلة ودفعت فيها ما ذكره السيوطي من الأدلة على خلاف ذلك في رسائله الثلاث لكي لا يجوز أن يذكر مثل هذا في مقام المعيرة (وَقَدْ كَرِهَ سُحْنُونٌ أَنْ يُصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ التَّعَجُّبِ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الثّواب) أي قصده (والاحتساب) أي طلب الأجر (توقيرا له وتعظيما كما أمرنا الله) بقوله صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (وَسُئِلَ الْقَابِسِيُّ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ قَبِيحٍ) أي صورته (كأنّه وجه نكير) هو أحد ملكي سؤال القبر والآخر منكر وإنما سميا بذلك لأنهما يأتيان العبد بهيئة منكرة وصورة مغيرة امتحانا من الله لعبده في المقبرة، (ولرجل) أي أو قال رجل لرجل (عبوس) أي وجهه وجبينه (كأنّه) أي وجهه (وجه مالك الغضبان) على أهل العصيان وهو خازن النار قال تعالى وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ وروي ملك بدون الألف وصوابهما أن يكونا بالتنوين وغضبان نعتهما (فقال) أي القابسي (أيّ شيء) بالرفع ويجوز نصبه أي ما الذي (أراد بهذا) الكلام (ونكير أحد فتّاني القبر) بتشديد الفوقية أي أحد الممتحنين في القبر والجملة معترضة حالية وكذا قوله (وهما) أي نكير ومنكر أو نكير ومالك (ملكان) من جملة الملائكة المقربين ولما طال الفصل بالجملتين أعاد الكلام بقوله (فما الّذي أراد أروع) بفتح الراء أي أخوف وأفزع (دخل عليه) أي على القائل (حين رآه) أي المقول له وفي نسخة إذ رآه (من وجهه) متعلق بدل أي من جهة هيبه وجهه (أم عاف النّظر إليه) أي كره رؤيته لديه ووقوع بصره عليه وفي نسخة عاب بدل عاف (لدمامة خلقه) بالدال المهملة وقيل بالمعجمة أي حقارة صورته (فإن كان) مراد (هذا) أي القصد الثاني (فهو شديد) في التنكير (لأنّه جرى(2/447)
مجرى التّحقير والتّهوين) الذي يوجب التكفير وفي نسخة التوهين (فهو) أي هذا القائل بهذا المعنى وفي نسخة فهذا (أشدّ عقوبة) أي يستحق أن يعاقب أشد عقوبة من القائل بالمعنى الأول (وليس تصريح بالسّبّ للملك) وإلافكان موجبه القتل (وإنّما السّبّ واقع على المخاطب) إلا أنه يستحق التأديب لما في تشبيهه من قلة الأدب (وفي الأدب بالسّوط) أي بالضرب به (والسّجن) أي حبسه (نكال) أي عبرة (للسّفهاء) وعقوبة تمنعهم عن مثل هذه الاشياء فإن السجن قبر الأحياء ومن أحسن ما قيل في باب السجن قول بعضهم:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ... فرحنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
ونفرح بالدنيا فجل حديثنا ... إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
ثم من ألفاظ الكفر رجل قال لغيره رؤيتك عندي كرؤية ملك الموت وقد اختلف علماؤنا فيه فقال أكثرهم يكون كفرا وقال بعضهم أن قال ذلك لعداوة ملك الموت يصير كافرا ون قال ذلك لكراهة الموت لا يصير كافرا كذا في فتاوى قاضيخان وهذا الأخير هو الصحيح ودليله قوله تعالى مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (قال) أي القابسي (وَأَمَّا ذَاكِرُ مَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ فَقَدْ جَفَا الّذي ذكره) أي غلظ طبعه وقل أدبه حيث تفوه بقوله وجه مالك الغضبان وضبطه الدلجي بالهجرة وفسره برمي (عند ما أنكر حاله) وفي نسخة عند ما رأي (من عبوس الآخر) وهو المقول له (إلّا أن يكون المعبّس) بتشديد الموحدة المسكورة (ممن له يد) أي تصرف سلطنة وقدرة عقوبة (فيرهب) بصيغة المجهول مخففا ومشددا أي فيخاف وقال الحلبي يرهب رباعي مبنى للفاعل أي يخيف والأظهر أنه ثلاثي بصيغة الفاعل أي فيخاف ويفزع (بعبسته) بفتحتين وفي نسخة بضم فسكون وفي نسخة بعبوسه (فيشبّهه) وفي نسخة فشبهه (القائل على طريق الذم) أو المدح أو الخوف أو المزح (لهذا) الذي له يد (في فعله) أي من إظهار سوء خلقه (ولزومه في ظلمه صفة مالك) أي خازن النار (الملك) المعظم المطاع (المطيع لربّه في فعله) إذ هو ممن قال فيهم عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (فيقول كأنّه لله يغضب غضب مالك) خازن النار فيه حينئذ لا يظهر وجه الذم (فيكون) قوله ذلك حينئذ (أخفّ) مما قبله (وما كان ينبغي) مع ذلك (له التّعرّيض) وفي نسخة التعرض (بمثل هذا) التشبيه وهو قوله كأنه وجه مالك الغضبان (ولو كان) هذا القائل (أَثْنَى عَلَى الْعَبُوسِ بِعُبْسَتِهِ وَاحْتَجَّ بِصِفَةِ مَالِكٍ) خازن النار (كان) قوله ذلك (أشدّ) من ذلك الأخف (ويعاقب) عليه (المعاقبة الشّديدة) وفيه بحث حيث جعل مقام الثناء والمدح أشد من مقال الذم والقدح (وليس في هذا) الذي ذكرناه من تأويل قررناه (ذمّ للملك) أي أصلا (ولو قصد ذمّه لقتل) لأنه كفر به وأخطأ الدلجي في قوله قتل حدا لا كفرا لأن كفرة وقتله مجمع عليه وإنما يكون قتله حدا عند المالكية إذا تاب والله تعالى اعلم بالصواب (وقال أبو الحسن) أي القابسي (أيضا في(2/448)
شابّ معروف بالخير) أي الصلاح (قال لرجل شيئا) من الكلام (فقال الرّجل) أي له (اسكت) زجرا له عما قال (فإنّك أمّيّ) أي مغفل لا تفرق بين الخير والشر أو عامي ما قرأت شيئا من العلم وعند الفقهاء هو من لا يحسن الفاتحة ومن معانيه منسوب إلى الأم أي على أصل ولادته من غير اكتساب في قراءته وكتابته أو منسوب إلى أم القرى وهي مكة وما حولها أو منسوب إلى الأمة بمعنى الجماعة (فَقَالَ الشَّابُّ أَلَيْسَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم أمّيّا فشنّع عليه) بصيغة المجهول مشددا أي قبح وذم (مقاله وكفّره النّاس) أي عامتهم فتغير له الحال (وأشفق الشّابّ) أي خاف على نفسه ودينه (ممّا قال وأظهر النّدم) أي الندامة والتوبة (عليه) من ذلك لسوء المقال (فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ أَمَّا إِطْلَاقُ الْكُفْرِ عَلَيْهِ فخطأ لكنّه مخطىء في استشهاده) أي استدلاله بكونه أميا (بصفة النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) حيث لم يفرق بين الأميين كما بينه المصنف بقوله (وكون النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أمّيّا آية له) أي معجزة وكرامة كما قال تعالى وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (وكون هذا) الشاب وغيره (أمّيّا نقيصة فيه وجهالة) أي في حقه وقال الدلجي وجهالة برفيع محله عليه الصلاة والسلام (وَمِنْ جَهَالَتِهِ احْتِجَاجُهُ بِصِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) دفع جهالته عن نفسه (لكنّه إذا استغفر وتاب واعترف) بأنه مخطئ في هذا الباب (ولجأ إلى الله تعالى) على طريق الاضطراب (فيترك) عن العقاب وفي نسخة ترك (لأنّ قوله) أليس كان النبي أميا (لا ينتهي إلى حدّ القتل) أي إلى حد يوجب القتل وإنما يوجب التعزير والتأديب (وما طريقه) أي موجبه (الأدب فطوع فاعله) أي فانقاد فاعله الأعم من قائله (بالذّم عليه يوجب الكفّ عنه) أي بعدم التعرض له بسوء وفي الخلاصة روي عن أبي يوسف أنه قيل بحضرة الخليفة إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يحب القرع فقال رجل أنا لا أحبه فأمر أبو يوسف بإحضار النطع والسيف فقال الرجل استغفر الله مما ذكرته ومن جميع ما يوجب الكفر أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فتركه ولم يقتله وتأويل هذا أنه قال بطريق الاستخفاف وإلا فالكراهة الطبيعية ليست داخلة تحت الأعمال الاختيارية ولا يكلف بها أحد في القواعد الشرعية (ونزلت أيضا مسألة) أي وردت (استفتى فيها) أي طلب الجواب عنها (بعض قضاة الأندلس) وفي نسخة بعد أي بعد هذه القضية فيرفع قضاة الأندلس لأنه فاعل والمفعول على كل تقدير (شَيْخَنَا الْقَاضِيَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ مَنْصُورٍ رَحِمَهُ الله في رجل تنقّصه آخر بشيء) من الكلام وفي أصل الدلجي بشيء من القول (فقال له إنّما تريد نقضي بقولك) لي ذلك (وأنا بشر وجميع البشر يلحقهم النّقص) أي البشري (حتّى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) بالرفع ويجوز نصبه وجره (فأفتاه بإطالة سجنه) أي حبسه مدة طويلة (وإيجاع أدبه) حال ضربه (إذ لم يقصد السّبّ) وإلا فيحكم بقتله لكفره (وكان بعض فقهاء الأندلس أفتى بقتله) أخذا له بظاهر قوله زجرا له ولغيره ولعل هذا كله مبني على السياسة وسد باب الذريعة وإلا فالمخلوق من حيث هو مخلوق خرج من العدم إلى الوجود(2/449)
وفي صدد الزوال عن عالم الشهود ناقص الحال بالإضافة إلى كمال الملك المتعلل لا سيما ولا يخلو أحد عن تقصير في مقام العبودية عما يجب عليه من قضاء حقوق الربوبية كما أوما إليه صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وكما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ قال البيضاوي لم يقض الإنسان من لدن آدم عليه الصلاة والسلام إلى هذا الغاية ما أمر الله تعالى بأسره إذ لا يخلو أحد من تقصير ما ولو كان عظيما في قدره.
فصل [أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ ذَلِكَ حَاكِيًا عَنْ غَيْرِهِ وآثرا عن سواه]
(الوجه السّادس أن يقول القائل ذلك) القول الذي فيه نقص من قدره (حاكيا عن غيره وآثرا له) بهمزة ممدودة وكسر مثلثة راويا وناقلا (عن سواه) وفي نسخة وأثرا بفتحتين أي رواية والأظهر أنه مصدر بمعنى فاعل ليلائم المعطوف عليه (فهذا) الناقل (ينظر) من جهة قرائن روايته (في صورة حكايته وقرينة مقالته) ودلالة حالته المؤذنة بغرضه الباعث له على روايته (ويختلف الحكم) المقضى عليه به فيه (باختلاف ذلك) مما يظهر من صورة حكايته وقرينة حالته هنالك (على أربعة وجوه) من الأحكام (الوجوب) بالجر ويجوز أختاه، (والنّدب، والكراهة، والتّحريم) بدل بعض من كل أو كل من كل بأن يكون الربط بعد العطف وهذا ذكره إجمالا وأما بيانه تفصيلا (فإن كان) أي ناقله (أخبر به على وجه الشّهادة) لأحد أو عليه نفيا أو اثباتا (والتّعريف بقائله) حالا وصفة (والإنكار) أي عليه كما في نسخة (والإعلام بقوله) ليعلم ما يترتب عليه من قتل وتعزير وتوبيخ ونحو ذلك (والتّنفير منه) أي بالاحتراس والاحتراز عنه (والتّجريح له) بتقديم الجيم على الحاء المهملة يقال جرحه بالتخفيف والتشديد أي ذكر عيبه ونقصه وهو في الشهادة والخبر ويروى بتقديم الحاء ومعناه التأثيم والتضييق يقال حرجه نسبه للحرج وهو الاثم والضيق (فهذا) القول على هذا المنوال (ممّا ينبغي امتثاله) ويقبل مقاله (ويحمد فاعله) أي ناقله (وكذلك) الحكم (إن حكاه في كتاب) أي تصنيف (أو في مجلس) لوعظ أو تدريس (على طريق الرّدّ) أي دفعه وفي نسخة على جهة الرد (له والنّقض) أي إبطاله (على قائله والفتيا بما يلزمه) أي الافتاء بما يوجبه من قتل ونحوه (وهذا) الرد (منه) أي بعضه (ما يجب) بيان حكمه (وَمِنْهُ مَا يُسْتَحَبُّ بِحَسَبِ حَالَاتِ الْحَاكِي لِذَلِكَ) الذي حكاه ردا (والمحكي عنه) أي وكذا بحسب حالاته في مقالاته (فإن كان القائل لذلك) الذي حكاه (ممّن تصدّى) أي تعرض وتصدر (لأن يؤخذ عنه العلم) الشريف (أو رواية الحديث) المنيف (أو يقطع بحكمه) أي لأن يجزم ويلزم بحكمه لكونه أميرا أو قاضيا (أو شهادته) لعدالته (أو فتياه في الحقوق) لعلمه وحلمه (وجب على سامعه) أي سامع قوله حكما أو فتيا (الإشادة) أي الإفشاء والإشاعة (بما سمع منه والتّنفير للنّاس عنه) تحذيرا منه (والشّهادة عليه بما قاله) ليجتنب عنه (ووجب على من بلغه ذلك) الذي صدر عنه(2/450)
ولو لم يحضر هنالك (من أئمّة المسلمين إنكاره وبيان كفره) إن صدر ما يوجبه (وفساد قوله) على تقدير خطائه في تقريره (لِقَطْعِ ضَرَرِهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَقِيَامًا بِحَقِّ سَيِّدِ المرسلين) ومراعاة لحماية الدين على مقتضى قواعد المجتهدين (وكذلك إن كان) هذا القائل (ممّن يعظ العامّة) ويزجرهم عن الأمور المحرمة ويزهدهم في الدنيا ويرغبهم في الأخرى ويبين لهم مراتب درجات العقبى ويفتح لهم أبواب العوارف ويذكر لهم أصحاب المعارف لا سيما إذا كان يتكلم في علم التوحيد ومقام التفريد ويدعي الشهود ويتفوه بمسألة الوجود فإنه مقام خطر من الوقوع في الحلول والاتحاد والاتصال والالحاد في مجمع من العباد المجتمعين من أطراف البلاد وقد وضعت رسالة مستقلة في الفرق بين الوجودية من الموحدين والوجودية من الملحدين خذلهم الله (أو يؤدّب الصّبيان) بتعليم القرآن أو العلوم الأدبية من النحو والصرف واللغة والقواعد العربية كما ذكره الزمخشري في ربيع الأبرار في باب اللطافة والأسرار أن ولدا قرأ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي قال الفقيه إلى يوم الدين وقال بعض الفضلاء سمعت معربا يعرب لتلميذه قوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً صفة لعوج فقلت له يا هذا كيف يكون العوج قيما (فإنّ من هذه) الاخلاق (سَرِيرَتُهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَى إِلْقَاءِ ذَلِكَ فِي قلوبهم) وتأثيره في صدورهم (فيتأكّد في هؤلاء) أي في حقهم (الإيجاب) بالإنكار (لحقّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) إن كان أمرا متعلقا به (ولحقّ شريعته) أن تعلق بطعن في قربته (ولحق الله) أن تعلق بمسألة ذاته وصفاته ومصنوعاته هذا وفي مجمع الفتاوى لو تكلم بكلمة الكفر مذكر وقبل قوم ذلك منه كفروا حيث لم يعذروا بالجهل وزاد في المحيط وقيل إذا سكت القوم عن المذكر وجلسوا عنده بعد تلكمه بكلمة الكفر كفروا يعنى إذا علموا أنه كفر به أو اعتقدوا كلامه (وإن لم يكن القائل بهذه السّبيل) الذي يؤخذ عنه العلم (فالقيام بحقّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم واجب وحماية عرضه) أي وصيانته عن طعن ونقص فيه (متعيّن) لا يجوز التهاون به والعرض بكسر أوله النسب والحسب (ونصرته على الأذى) أي مما يتأذى به وروي على الأذى (حيّا وميّتا) كما يدل عليه قوله تَعَالَى وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً (مستحقّ) بفتح الحاء أي فرض عين (على كلّ مؤمن) ليصح إيمانه (لكنّه) أي القيام بحقه فرض كفاية وفي نسخة لكن (إذا قام بهذا من ظهر) أي علي (به الحقّ وفصلت به) بضم الفاء وكسر الصاد المهملة أي انفصلت به (القضيّة) بالحكومة والشرعية (وبان به الأمر) أي ظهر الحق وتبين الصدق (سقط عن الباقي الفرض) المتعلق بذمة كل أحد فلو سكتوا كلهم أثموا جميعهم (وبقي الاستحباب) بالنسبة إلى غير من قام بالحق من الدعوى والشهادة والحكم والقتل ونحوه (في تكثير الشّهادة عليه) للتقوية والتشهير للقضية (وعضد التّحذير منه) بفتح العين المهملة وسكون الضاد المعجمة أي نصرته ومساعدته في الاحتراز عنه (وَقَدْ أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى بَيَانِ حَالِ الْمُتَّهَمِ في الحديث) أي في روايته بذكر جرحه وطعنه وعدالته وديانته حتى روي أن يحيى بن معين مع(2/451)
جلالته رؤي طائفا بالبيت المكرم يقول فلان كذاب فلان وضاع في روايته (فكيف بمثل هذا) المقام الذي يجب فيه القيام وقد قال الجويني في قوله عليه الصلاة والسلام من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار أن الكذب عليه عمدا كفر وهو حديث مشهور بل قيل إنه متواتر (وَقَدْ سُئِلَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ عن الشّاهد) الواحد (يسمع مثل هذا) الكلام المرتب عليه الملام (في حقّ الله تعالى) أو حق نبيه عليه الصلاة والسلام (أيسعه أن لا يؤدّي شهادته) عند حاكم ليؤدبه بحسب ما تقتضي حالته ومقالته (قال) أي ابن أبي زيد (إن رجا) أي السامع بمعنى أنه ترجح عنده أن (نفاذ الحكم) بفتح النون والفاء وبالذال المعجمة أي تنفيذه وروي انفاذ الحكم أي اجراؤه وامضاؤه (بشهادته فليشهد) أي وجوابا (وَكَذَلِكَ إِنْ عَلِمَ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَرَى القتل ما شهد به) هذا السامع (ويرى الاستتابة) أي طلب توبته (والأدب) أي مع ذلك كما في مذهب مالك (فليشهد) هنالك (ويلزمه) على سبيل الوجوب (ذلك وأمّا الإباحة لحكاية قوله) المشتمل على كفره (لغير هذين المقصدين) المتقدمين (فلا أرى لها) أي للحكاية (مدخلا في هذا الباب) على سبيل الإباحة (فليس التّفكّه) أي التفوه من غير غرض شرعي (بعرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والتّمضمض) بالضادين المعجمتين أي التحرك والكثر (بسوء ذكره لأحد) وأما قول التلمساني ومن معاني التمضمض الاكثار وهو بعيد لأن الإكثار والإقلال في هذا سواه فمدفوع لأن الإقلال لما يترتب عليه الحكم من القتل والتعزير والجرح والتحذير متعين كما تقدم وإنما الاكثار لا يترتب عليه فائدة هو الممنوع (لا ذاكرا) أي لفظه مطلقا (ولا آثرا) أي حاكيا ونافلا اتفاقا (لغير غرض شرعيّ بمباح) خبر ليس بل أنه حرام أو مكروه (وأمّا للأغراض المتقدّمة) كالشهادة والرد والنقض (فمتردّد) بفتح الدال الأولى مشددة أي فموضع تردد (بين الإيجاب والاستحباب) والأول أولى والله تعالى اعلم بالصواب (وَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى مَقَالَاتِ الْمُفْتَرِينَ عَلَيْهِ) أي الكذابين على الله (وعلى رسوله في كتابه) بالإكثار (على وجه الإنكار لقولهم) أي لمقول الكفار (والتّحذير) أي ولتحذير غيرهم (من كفرهم والوعيد عليه) أي على أمرهم (وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِمَا تَلَاهُ اللَّهُ عَلَيْنَا) فِي لسان رسوله المعظم (في محكم كتابه) المكرم (وكذلك وقع من أمثاله) أي أمثال ما تلي علينا بالعبارة الصريحة (في أحاديث النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم الصّحيحة على الوجوه المتقدّمة) من الإنكار والتحذير والوعيد وغيرها (وأجمع السّلف) المتقدمون (والخلف) المتأخرون (من أئمّة الهدى) وهم العلماء العاملون (على حكايات مقالات الكفرة والملحدين) أي على ذكرها (في كتبهم ومجالسهم) حال التدريس والوعظ (ليبيّنوها للنّاس) مما خفي لديهم (وينقضوا شبهها عليهم) جمع شبهة بمعنى شك وريبة (وَإِنْ كَانَ وَرَدَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إِنْكَارٌ لبعض هذا) الذي ذكر (على الحارث بن أسد) المحاسبي بما حكاه في كتاب الرعاية (فَقَدْ صَنَعَ أَحْمَدُ مِثْلَهُ فِي رَدِّهِ عَلَى الجهميّة) طائفة من أصحاب جهم بن صفوان من المبتدعة بل من الكفرة المخترعة وأصله من سمرقند ومن مذهبه القول بأن الجنة والنار يفنيان وأن الإيمان هو المعرفة فقط(2/452)
دون الإقرار وسائر الطاعات وأنه لا فعل لأحد غير الله وأن العباد فيما ينسب إليهم من الأفعال كالشجرة تحركها الرياح باختلاف الأحوال فالإنسان عنده لا يقدر على كسب شيء من أعماله وإنما هو مجبر في أفعاله لا قدرة له ولا ارادة ولا اختيار في الحسنات والسيئات وإنما يخلق الله تعالى فيه الأفعال على حسب ما يخلق في الجمادات أدرك صغار التابعين قال الذهبي ما علمته روي شيئا لكنه زرع شرا عظيما انتهى وأخذ ذلك عن السمنية وهم دهرية ولما شككوه في أمره ترك الصلاة أربعين يوما وقال لا اعبد من لا أعرف (والقائلين) أي وعلى القائلين (بالمخلوق) أي بالقرآن المخلوق وهو قول المعتزلة أو بالعمل المخلوق للإنسان أي هو يخلقه وهو قول المعتزلة والقدرية أو بالمخلوق القديم على أن المخلوق بمعنى الخلق ومعناه أنه قديم وهو قول الفلاسفة والدهرية والأقوال الثلاثة كلها باطلة أما قدم العالم فهو بين اعدام الموجد وبين الشركة وكلاهما كفر بالإجماع وأما خلق الأفعال فهو كقول المجوس في أن خالق الضوء غير خالق الظلمة لكنه يغاير قولهم بأنهم من الثنوية وهؤلاء من أرباب التوحيد في الألوهية وأما خلق القرآن فإنهم لما أنكروا الكلام النفسي قالوا ذلك ففي التحقيق لا خلاف هنالك وإنما ابتدعوا من حيث إنكار الكلام النفسي وإلا فالقرآن من حيث إنه مكتوب بأيدينا ومقروء بألسنتنا ومحفوظ بصدورنا فلا شك أنه مخلوق بحسب اللفظ والمبنى إلا أنه يجب أيضا صيانته عن أن يقال إنه مخلوق بهذا المعنى وأما ما ذكره العلامة التفتازاني في شرح العقائد من حديث القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قاله إنه مخلوق فهو كافر بالله العظيم قال الصغاني هو موضوع وقال السخاوي وهذا الحديث من جميع طرقه باطل هذا ولا يبعد أن يجمع بين صنيع أحمد وإنكاره على المحاسبي بأن المحاسبي ذكر أدلة المبتدعة ثم ردهم بأدلة أهل السنة بخلاف أحمد حيث لم يلتفت إلى شبهاتهم بل رد عليهم بالأدلة العقلية والنقلية بطلان عقيداتهم (وهذه الوجوه) المتقدمة (السّائغة) بالسين المهملة والغين المعجمة أي الجائزة وهي مرفوعة (الحكاية) بالجر والرفع أي الرواية (عنها) من مقالات الكفرة والفجرة ومن نحا نحوها (فأمّا ذكرها على غير هذا) النمط (من حكاية سبّه والإزراء) وروي الإزدراء (بمنصبه على وجه الحكايات) في المحاورات أو الاسفار (والأسمار) جمع سمر بفتحتين ويسكن وهو حديث الليل وأصله في ظل القمر ويجوز كسر همزة على أنه مصدر اسمر إذا تحدث بالليل مطلقا فهو تخصيص بعد تعميم (والطّرف) بضم المهملة وفتح الراء وفي آخره الفاء جمع طرفة وهو ما يستظرف ويستجاد من المقال والمال (وأحاديث النّاس) أي كلماتهم المتحدث بها للاستئناس (ومقالاتهم) بحسب اختلاف حالاتهم (في الغثّ) بفتح المعجمة وتشديد المثلثة أي الهزيل (والسّمين) وهما كنايتان عن الضعيف والقوي أو الباطل والصحيح ومنه قول ابن عباس لابنه على الحق بابن عمك يعني عبد الملك بن مروان فغثه خير من سمين غيره (ومضاحك المجّان) بضم الميم وتشديد الجيم جمع ماجن وهو من لا يبالي بكلامه في اللهو والسخرية(2/453)
(ونوادر السّخفاء) جمع سخيف وهو رقيق العقل وروي السفهاء جمع سفيه وهو الجاهل أو خفيف العقل (والخوض) أي الشروع بالمبالغة من غير الملاحظة (في قيل وقال) بفتح لامهما على أنهما فعلان محكيان وبجرهما منونين على أنهما اسمان معربان لأنهما مصدران وفي النهاية في حديث نهى عن قبل وقال أي نهى عن فضول ما يتحدث به المتجالسون من قولهم قيل كذا وقال كذا وبناؤهما على كونهما فعلين ماضيين متضمنين للضمير والإعراب على اجرائهما مجرى الاسماء خاليين من الضمير قال فيكون النهي عن القول بما لا يصح ولا يعلم حقيقته فأما من حكى ما يصح روايته ويعرف حقيقته وأسنده إلى ثقة صادق فلا وجه للنهي عنه ولاذم منه وقيل أراد به حكاية أقوال الناس والبحث على ما لا يجدي عليه ضرا ولا نفعا ولا يعنيه أمره انتهى ولذا عطف عليه المصنف عطف تفسير بقوله (وما لا يعني) أي ما لا ينفعهم في دينهم ودنياهم فقد ورد من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه وفي أصل الدلجي بالغين المعجمة فيكون بضم أوله أي ما لا يغني الخائض فيه شيئا ولا يجديه نفعا (فَكُلُّ هَذَا مَمْنُوعٌ وَبَعْضُهُ أَشَدُّ فِي الْمَنْعِ والعقوبة) للدفع (مِنْ بَعْضٍ فَمَا كَانَ مِنْ قَائِلِهِ الْحَاكِي له على غير قصد) به شيئا (أو معرفة) أي أو على غير معرفة (بمقدار ما حكاه) من الشدة والأشدية وفي نسخة بقدره (أو لم تكن) تلك المقالة أو الحكاية (عادته) فبعد عثرته وزلته (أو لم يكن الكلام) والمحكي (من البشاعة) بتقديم الموحدة أي الفضاحة وفي اصل التلمساني بسبق الشين بعدها النون وفسر بالقباحة (حيث هو) أي إلى الغاية في أنه بشيع أو شنيع أي كريه وفظيع (ولم يظهر على حاكيه) وفي نسخة على حكايته (استحسانه) أي جعله حسنا عند (واستصوابه) أي عده صوابا لديه والمعنى أنه لم يظهر منه اعتقاد كونه حسنا ولا صوابا بل ظنه مباحا (زجر عن ذلك) بصيغة المجهول وكذا قوله (ونهي عن العودة) وفي نسخة عن العود أي الرجوع (إليه) أي إلى مقاله هنالك (وإن قوّم) بضم القاف وكسر الواو المشددة أي إن قوبل ناقله على سبيل الحكاية من غير منفعة مترتبة على الرواية روي وأن قيم (ببعض الأدب فهو مستوجب له) أي مستحق (وإن كان لفظه) أي لفظ الحاكي والمحكي (من البشاعة) أو الشناعة (حيث هو) أي بلغ غايته (كان الأدب أشدّ) ممن لم يكن محكيه حيث هو، (وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ مَالِكًا عَمَّنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَقَالَ) مَالِكٌ (كَافِرٌ فَاقْتُلُوهُ) أي السائل أو القائل على طريق الحكاية (فقال) أي السائل (إنّما حكيته عن غيري) أي لا أنا الذي أقوله (فقال مالك إنّما سمعناه منك) قال الدلجي وأمر مالك بقتل السائل بمجرد اتهامه أنه القائل بمخلوقيته بدون إثبات اعتقاد مخلوقيته عجب مع أنه ممن يقول لا نكفر أحدا من أهل القبلة قال المصنف (وهذا من مالك رحمه الله على طريق الزّجر) أي الردع للكف عن السؤال عنه قال الدلجي وهذا أيضا عجيب بل أعجب لأن القتل زجرا عن السؤال لم يقل به أحد (والتّغليظ) للزجر (بدليل أنّه) أي مالكا (لم ينفّذ قتله) أي لم يبالغ في الأمر بقتله وهو بتشديد الفاء المسكورة وبالذال المعجمة أي لم يمض الأمر في قتله أو لم يمض فيه حكم(2/454)
القتل ذكره التلمساني قال الدلجي وهذا العذر عنه بعيد يرده تكفير مالك له وأمره إنما كان بعد تكفيره إياه أقول ليس في كلام مالك تكفيره وإنما أراد بهذا القول تعزيره أي اضربوه ضربا شديدا ولو قتل تحت ضربه تأكيدا لزجره عن مثل هذا السؤال لظهور أمره ولعله فهم من السائل أنه متردد في حكمه ولذا لما سئل مالك عن الاستواء قال الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ولا شك أن المبتدع يزجر فتدبر والقائل به لعله كان غائبا أو ميتا فلذا لم يتعرض الإمام لتعزيره في ذلك المقام وأما القول بأنا لا نكفر أحدا من أهل القبلة فليس على اطلاقه بل فيه تفصيل مقرر كما بينه في شرح الفقه الأكبر (فإن) وفي نسخة وَإِنِ (اتُّهِمَ هَذَا الْحَاكِي فِيمَا حَكَاهُ أَنَّهُ) أي بأنه (اختلقه) أي اخترعه من عنده وافتراه من نفسه (ونسبه إلى غيره أو كانت تلك) المسألة (عادة له) يسألها دائما ويظهرها دائبا (أو ظهر استحسانه) وفي نسخة أظهر استحسانه (لذلك) السؤال أو المقال (أو كان مولعا) بفتح اللام أي مكثرا (بمثله والاستخفاف له) أي الاستهجان بذكره وعدم المبالاة بنقله وأغرب الدلجي حيث فسر الاستخفاف بسرعة التوجه (أو التّحفّظ لمثله) أي طلب حفظ أمثاله مما يتحير العامة في إشكاله (وطلبه) أي وطلب مثله ليضمه إلى نقله (ورواية أشعار هجوه عليه الصلاة والسلام وسبّه) في نثر الكلام (فحكم هذا حكم السّابّ نفسه) أي بعينه (يُؤَاخَذُ بِقَوْلِهِ وَلَا تَنْفَعُهُ نِسْبَتُهُ إِلَى غَيْرِهِ) وإن حكاه عن غيره فإن الإمارات المتقدمة قرائن حالية أو مقالية على كفره فإن الإناء يترشح بما فيه وقد قال تعالى وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وقال إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي المتفرسين وقد ورد اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله عز وجل رواه البخاري في تاريخه والترمذي في جامعه عن أبي سعيد الخدري (فيبادر بقتله ويعجّل) بتشديد الجيم أي ويسارع به (إلى الهاوية أمّه) بالجر بدلا أي مأواه ومصيره كما أن الأم مأوى الولد ومفزعه إيماء إلى قوله تعالى فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ (وَقَدْ قَالَ أَبُو عَبِيدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ) بتشديد اللام (فيمن حفظ شطر بيت) أي نصفه أو بعضه فاندفع به قول التلمساني كان أحسن منه لو قال كلمة أو شطر كلمة (ممّا هجي به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو كفر) أي إذا قصد حفظه أو أراد نشره (وقد ذكر بعض من ألّف) بلام مشددة من التأليف بمعنى التصنيف قال التلمساني وفي بعض النسخ بلامين ولا أدري ما وجهه وكذلك في أصل المؤلف قلت ووجهه أنه اتصل الألف باللام فانتقل من التأليف إلى التصحيف والتحريف قال الأنطاكي ولعل بعض من ألف هذا هو ابن حزم والله تعالى اعلم هذا وقيل الإنسان في فسحة من عقله وفي سلامة من أفواه الناس في فعله ما لم يضع كتابا أو لم يقل شعرا من قوله وقيل من وضع كتابا فقد استشرف للمدح والذم لأبناء آدم فإن أحسن فقد استهدف للحسد والغيبة وإن اساء فقد تعرض للشتم والمذمة وهو معنى قولهم من صنف قد استهدف وقيل من صنف فقد جعل عقله على طبق يعرض على الناس نقله ومنه قول الشاعر:(2/455)
لا تعرضن على الرواة قصيدة ... ما لم تبالغ بعد في تهذيبها
فإذا عرضت الشعر غير مهذب ... عدوه مثل وساوس تهذى بها
هذا وأبى الله إلا أن يصح كتابه كما أشاره إليه بقوله وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً وأما هذا الكتاب فلكونه من عند الله ما وجدوا فيه اختلافا يسيرا وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن كل أحد يقبل قوله ويرد إلا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه معصوم على الوجه الأتم (إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَحْرِيمِ رِوَايَةِ مَا هُجِيَ به النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) من نظمة ونثره (وكتابه) أي وكتابته كما في نسخة (وقراءته) أي ولو من غير روايته (وتركه متى وجد دون محو) ونحوه ولو من كتاب غيره وحصول ضرره فإنه ينفعه من جهة دينه (ورحم الله أسلافنا المتّقين المتحرّزين) أي المحترسين (لدينهم) المحتاطين في أمر يقينهم وتصحف المتحرزين بالمتجردين في أصل الدلجي (فقد أسقطوا) ولذلك تركوا (من أحاديث المغازي والسّير) كثيرا من الخبر والأثر (ما كان هذا سبيله) من هجوه في شعر أو غيره (وتركوا روايته) ولو جوز حكايته (إلّا أشياء ذكروها يسيرة) أي قليلة (وغير مستبشعة) بفتح الشين أي غير مكروهة وفي نسخة وغير مستشنعة أي غير مستقبحة (على نحو الوجوه الأول) بضم الهمزة وتخفيف الواو جمع الأولى أي الوجوه السابقة من الوجوب والندب والتحريم والكراهة (ليروا) أي الناس ويعتبروا ويجوز أن يكون بضم الياء والراء أي ليظهروا (نقمة الله) أي عقوبته (من قائلها وأخذه المفتري عليه) أي بطشته (بذنبه) ولو من ناقلها وفي أصل الدلجي وأخذه بالضمير أي ليروا أخذه سبحانه وتعالى (وهذا أبو عبيد القاسم بن سلّام) بتشديد اللام (قد تحرّى) أي اجتهد واحتاط (فيما اضطرّ) أي الجىء واحتيج (إلى الاستشهاد به) من الدلائل في اثبات بعض المسائل توضيحا لوسائل في معرفة كل طالب وسائل (من أهاجي أشعار العرب) على شعار أرباب الأدب (في كتبه) متعلق بتحري (فكنّى عن اسم المهجوّ بوزن اسمه) ولم يصرح به تفاديا عن ذكر ذمه (استبراء لدينه) أي استباء لأمر يقينه (وتحفّظا من المشاركة في ذمّ أحد) من المسلمين (بروايته أو نشره) بحكايته (فكيف بما يتطرّق) أي يتوصل به الحاكي له (إلى عرض سيّد البشر) أي بني آدم بل سيد العالم (صلى الله تعالى عليه وسلم) قال التلمساني اعلم أن هذا التحري إنما يظهر في الهاجي المسلم لمثله وأما إن كانا كافرين أو المهجور كافرا فذكر مساويه أعظم نكاية فيستحب رواية وحكاية ولو كان الهاجي كافرا أو مسلما والمهجو مسلما فالأولى أن لا يذكره أو يغيره كما فعل ابن هشام في سيرته مما يدل على حسن سريرته ومن هذا قول أبي الأسود الدؤلي:
جزى ربه عني عدي بن حاتم ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
أبدله بعض الأئمة بقوله جزاء الرجال الصالحين وقد فعل وذلك لأن عدي بن حاتم الطائي من أكابر الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.(2/456)
فصل [أن يذكر ما يجوز على النبي أو يختلف في جوازه عليه]
(الوجع السّابع أن يذكر ما يجوز) أي إطلاقه (على النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أو يختلف) بصيغة المجهول (في جوازه عليه وما يطرأ) أي يحدث ويعرض عليه (من الأمور البشريّة) والأحوال الطبيعة (به) أي فيه (ويمكن إضافتها إليه أو يذكر) أي أحد (ما امتحن به) أي ابتلى عليه الصلاة والسلام (وصبر في ذات الله على شدّته) أي قوة بلائه (مِنْ مُقَاسَاةِ أَعْدَائِهِ وَأَذَاهُمْ لَهُ وَمَعْرِفَةِ ابْتِدَاءِ حاله وسيرته) أي في أفعاله وأقواله (وما لقيه من بؤس زمنه) بضم موحدة فهمز ساكن ويبدل أي شدة في وقته (ومرّ عليه من معاناة عيشته) أي مقاساة في أمر معيشته (كلّ ذلك على طريق الرّواية) وسبيل الحكاية (ومذاكرة العلم) لتحصيل الدراية (ومعرفة ما صحّت منه العصمة للأنبياء) أي عموما (وما يجوز عليهم) من بين سائر البشر خصوصا (فهذا) أي فما ذكر هنا (فنّ) أي نوع (خارج عن هذه الفنون السّتّة) المذكورة في الفصول السابقة (إذ ليس فيه) أي في هذا الفن (غمض) بفتح معجمة وسكون ميم فمهملة أي عيب (ولا نقض ولا إزراء) أي استحقار (ولا استخفاف) أي استهزاء (لا في ظاهر اللّفظ) من جهة مبناه (ولا في مقصد اللفظ) من جهة معناه (لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ أهل العلم) اليقين (وفهماء طلبة الدّين) بضم الفاء وفتح الهاء جمع فهيم أو فهم وهو الفطن الذكي (ممّن يفهم مقاصده ويحقّقون فوائده) أفرد وجمع باعتبار لفظ من ومعناه (ويجنّب) بتشديد النون المفتوحة أي يصان عن (ذلك) الكلام (من عساه لا يفقه) وروي لا يتفقه وروي لا يفهمه (أو يخشى به) وروي فيه أي يخاف عليه (فتنته) أي وقوعه في محنته (فقد كره بعض السّلف تعليم النّساء سورة يُوسُفَ لِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقَصَصِ) كيد النساء بسبب الابتلاء (لضعف معرفتهنّ ونقص عقولهنّ وإدراكهنّ) في اصل فطرتهن (فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم مخبرا عن نفسه) ما وقع له في سابق الأيام (باستيجاره) قال الدلجي لقريش وأقول لعله لبعض أهله أن صح الاستيجار في فعله كما وقع عليه الصلاة والسلام (لرعاية الغنم في ابتداء حاله وقال) كما رواه الشيخان عن جابر والبخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ وَأَخْبَرْنَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ الصلاة والسلام) وقد ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أن موسى قضى أقصى الأجلين وهو العشر هذا وقال الحلبي اعلم أن في الحديث الصحيح كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة وفي سنن ابن ماجه هذا الحديث وفي آخره قال سويد بن سعيد وهو راوي الحديث كل شاة بقيراط انتهى والقيراط جزء من أجزاء الدينار وهو نصف عشره في أكثر البلاد وأهل الشام يجعلونه جزءا من أربعة وعشرين جزءا والياء فيه بدل من الراء فإن أصله قراط هذا لفظ النهاية وفي الصحاح القيراط نصف دانق وهو سدس درهم وقد رأيت في حاشية على سنن ابن ماجه أصلنا وهو أصل صحيح معتمد قال محمد بن ناصر أخطأ سويد في تفسيره القيراط بالذهب(2/457)
والفضة إذ لم يرع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأحد بأجرة قط وإنما كان يرعى غنم أهله والصحيح ما فسره به إبراهيم بن إسحاق الحربي الإمام في الحديث واللغة وغيرهما أن قراريط اسم مكان في نواحي مكة وكان ذلك منه وسنه نحو العشرين فيما استقرئ من كلام ابن إسحاق والواقدي وغيرهما انتهى وهذا يرد ما قاله القاضي وكذا ما بوب عليه البخاري في صحيحه في كتاب الإجارة باب رعي الغنم على قراريط انتهى وفي القاموس القيراط يختلف وزنه بحسب البلاد فبمكة ربع سدس دينار وبالعراق نصف عشره (فهذا) أي رعى الغنم ولو بأجرة (لا غضاضة فيه) أي لا منقصة (جملة واحدة) أي من حيث هو لأنه من جملة كسب المال على وجه الحلال (بخلاف من قصد به الغضاضة) أي النقص (والتّحقير بل كانت) أي الرعاية بالأجرة وغيرها (عادة جميع العرب) أي طوائفهم وقبائلهم ومثل هذا يختلف باختلاف العرف في الزمان والمكان بل كان عادة غير العرب أيضا كما يستفاد من قصة موسى وشعيب عليهما السلام فإنهما من بني إسرائيل وهم الاعجام فإن قيل فهل لرعي الأنبياء للغنم من فائدة فيقال، (نعم في ذلك) أي رعي الغنم (للأنبياء حكمة بالغة) لا يدركها إلا الأصفياء (وتدريج) وفي نسخة وتدريج الله تعالى (لهم إلى كرامته وتدريب) أي تعويد (بِرِعَايَتِهَا لِسِيَاسَةِ أُمَمِهِمْ مِنْ خَلِيقَتِهِ بِمَا سَبَقَ لهم من الكرامة) بالنبوة والرسالة والإمامة والإمارة (في الأزل ومتقدّم العلم) بكسر الدال أي سابقه الذي ظهر في القلم الأول (وكذلك قد ذكر الله يتمه) لموت أبيه جنينا قد أتت عليه ستة أشهر فكفله جده عبد المطلب ثم عمه أبو طالب إذ كان شقيق أبيه فأحسن التربية فيه قال تعالى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا أي جاهلا بتفصيل الإيمان وَوَجَدَكَ عائِلًا فقيرا فَأَغْنى وهذا معنى قول المصنف (وعيلته) أي وذكر الله فقره وحاجته (على طريق المنّة عليه) بإيوائه واغنائه (والتّعريف بكرامته له) أي بهدايته وهداية غيره بنور رسالته (فذكر الذّاكر) أي المخبر (لها) أي لحالته من يتمه وعيلته (على وجه تعريف حاله) المتضمن لكرامته (والخبر عن مبتدئه) أي ابتداء أمره وظهور قدره (والتّعجّب من منح الله) بكسر الميم وفتح النون جمع منحة أي نعمه (قبله) بقاف مكسورة فموحدة مفتوحة أي في جهته (وعظيم منّته) وفي نسخة بنونين وفي نسخة منن الله (عنده ليس فيه) على ما ذكر به (غضاضة) أي ما يؤدي إلى منقصته (بَلْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَصِحَّةِ دَعْوَتِهِ) لجميع أمته (إذ أظهره الله تعالى بعد هذا) أي أطلعه وغلبه وعلاه (على صناديد العرب) أي أكابرهم (ومن ناوأه) مفاعلة من النوء وهو النهوض فأصله الهمز وابدل أي عاداه (من أشرافهم شيئا فشيئا) أي سنة فسنة ساعة فساعة وفي أصل التلمساني فيما فشا من الفشو وهو الكثرة والظهور والنمو وما موصولة واقعة على الخبر وفي بمعنى على أي على ما فشا وشاع وذاع من الخبر أي أن أمره في ذلك ليس بخفي بل هو ظاهر جلي أو فى على أصلها أي في فاشي الخبر وظاهر الأثر (ونمى) بتشديد الميم أي زكى (أمره) وعلا قدره وفي نسخة بتخفيف الميم (حتّى قهرهم) أي غلبهم فنهاهم وأمرهم كما روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال يوم فتح مكة(2/458)
من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل داره وأغلق بابه فهو آمن وقال للأسراء منهم ما كنتم تقولون في أني فاعل بكم فقالوا أخ كريم وابن أخ كريم فقال اذهبوا فأنتم الطلقاء (وتمكّن من ملك مقاليدهم) جمع مقلاد بمعنى المفتاح أي مما ملكوه من البلاد واستولوا عليه بالانقياد أو بمعنى الخزانة أي مما خزنوه وجعلوه ذخيرة للنوائب وأعدوه عدة للمصائب فقد ملكه النبي عليه الصلاة والسلام وحواه (واستباحة ممالك كثير من الأمم) أي محال ملكهم ومواضع ملكهم وفي أصل التلمساني مماليك بالياء فهو جمع مملوك (غيرهم) أي غير صناديد العرب ونحوهم (بإظهار الله تعالى له) أي باعلاء كلمته في الدين (وتأييده) أي تقويته (بنصره) أي بإعانته من عنده (وبالمؤمنين) أي وبجعلهم أسبابا لنصره (وألّف بين قلوبهم) حتى صاروا اخوانا مسلمين وهذا كله مقتبس من قوله سبحانه وتعالى هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ومن قوله عز وعلا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً (وإمداده بالملائكة المسوّمين) بكسر الواو وفتحها كما قرىء بهما في السبعة قوله تعالى بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ أي معلمين بسيما خاصة أي علامة مختصة وهي إما بالملائكة وهي عمائم صفر وقيل كانت عمائم الملائكة يومئذ بيضاء وعمامة جبريل صفراء وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه الكرام يوم بدر تسوموا فإن الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في فلانسهم ومغافرهم وأما بخيولهم فأنهم كانوا على خيل بلق مجزوزة الآذان والأعراف معلمة النواصي والأذناب بالصوف والعهن والمعنى اعلموا خيلهم واعلموا أنفسهم (ولو كان) أي محمد (ابن ملك) بكسر اللام (أو ذا أشياع) أي صاحب اتباع (متقدّمين) عليه في الزمان (لحسب كثير من الجهّال أنّ ذلك) أي ما ذكر (مُوجِبُ ظُهُورِهِ وَمُقْتَضَى عُلُوِّهِ وَلِهَذَا قَالَ هِرَقْلُ) بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف ويجوز إسكان ثانيه وكسر ثالثه وهو منصرف والمراد به عظيم الروم (حين سأل أبا سفيان) أي ابن حرب وهو بإيليا (عنه) أي عن أحوال النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه البخاري (هل في آبائه من ملك) بكسر الميم على أنها جارة إلا أنها زائدة لا بيانية ولا تبعيضية كما ذكره التلمساني أي من سلطان وروي من ملك بالفتح فيهما فمن موصولة لا شرطية كما وهم التلمساني (فقال) أي أبو سفيان (لاثم قال) أي هرقل (ولو كان في آبائه ملك) أي أحد من الملوك (لقلنا) في حقه هذا (رجل يطلب ملك أبيه وإذا) الظاهر أنها ظرفية والأولى أن تكون تعليلية أي ولأن (اليتم) وفي نسخة وأن اليتم وهو بضم أوله وأصله الانفراد ومنه الدر اليتيم لما لا نظير له في مقام التقويم ثم استعمل في فقد الأب قبل بلوغ ولده (مِنْ صِفَتِهِ وَإِحْدَى عَلَامَاتِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ) كالتوراة والانجيل (وأخبار الأمم السّالفة) باللام والفاء أي السابقة الماضية (وكذا) أي نعت اليتم (وقع ذكره في كتاب أرمياء) بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر(2/459)
الميم فتحتية فألف مقصورة وروي ممدودة قال التلمساني وهو ابن حلقيا وقال الدلجي كأنه من انبياء بني إسرائيل وفي القاموس أرميا بالكسر نبي (وبهذا) أي نعت اليتم (وصفه ابن ذي يزن) بفتح الياء والزاء غير منصرف واسمه سيف وهو مالك اليمن (لعبد المطلّب) على ما تقدم من أنه يموت أبوه وأمه ويكلفه جده وعمه (وبحيرا) بفتح الموحدة وكسر الحاء المهملة وسكون التحتية فراء بعدها الف مقصورة أو ممدودة وهو الراهب الذي أبصره بأرض الشام وقد عد من الصحابة عند بعض الاعلام والمقصد أنه أيضا كذا ذكره (لأبي طالب) في ذلك المقام فروي نزل من صومعته وأخذ بيده عليه الصلاة والسلام وذلك حين خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام فقال لعمه ما هذا الغلام منك فقال ابني فقال بحيرا ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا قال فإنه ابن أخي قال فما فعل أبوه قال مات وأمه حبلى به قال صدقت وتقدمت هذه القصة في فصل دلائل النبوة (وَكَذَلِكَ إِذَا وُصِفَ بِأَنَّهُ أُمِّيٌّ كَمَا وَصَفَهُ الله به) بقوله فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وقوله الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ (فهي) أي صفة الأمية (مدحة له) بكسر الميم أي منقبة له وإن كانت منقصة لغيره (وفضيلة ثابتة فيه) أي في حقه بخصوصه (وقاعدة معجزته) أي أساس كرامته في خرق عادته الدالة على تحقق رسالته (إذ معجزته العظمى) بضم العين أي العظيمة في الغاية (من الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِنَّمَا هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِطَرِيقِ الْمَعَارِفِ) أي العلوم الجزئية (والعلوم) الكلية من الأخبار السابقة والآثار اللاحقة والأصول الدينية والفروع الشرعية والأحكام والحدود في السياسات العرفية مع قطع النظر عن جمال بلاغته وكمال فصاحته (مع ما منح) أي أعطي (صلى الله تعالى عليه وسلم) من الفضائل وحسن الشمائل هنالك (وفضّل) بصيغة المفعول مشددا أو مخففا أي وميز (به) عن غيره (من ذلك) أي من أجل كمالات ذاته وكمالات صفاته (كما قدّمناه في القسم الأوّل) وفي نسخة في القسم الأول أي من الباب الرابع (ووجود مثل ذلك) الكتاب الجامع للأبواب كما قال في مدحه بعض أولي الباب:
جميع العلم في القرآن لكن ... تقاصر عنه أفهام الرجال
والمعنى أن ظهوره (مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَكْتُبْ وَلَمْ يدارس) الممارس (ولا لقّن) في المدارس (مقتضى العجب) في عالم الفكر (ومنتهى العبر ومعجزة البشر وليس) أي فيه كما في نسخة (ذلك) الوصف بالأمي (نقيصة إذ المطلوب) بالذات (من الكتابة والقراءة المعرفة وإنّما هي) أي القراءة ونحوها (آلة لها) أي للمعرفة (وَوَاسِطَةٌ مُوَصِّلَةٌ إِلَيْهَا غَيْرُ مُرَادَةٍ فِي نَفْسِهَا فإذا حصلت الثّمرة والمطلوب) كان الأنسب أن يقال المطلب ليكون مسجعا مع قوله (استغني عن الواسطة) كالشجرة (وَالسَّبَبِ، وَالْأُمِّيَّةُ فِي غَيْرِهِ نَقِيصَةٌ لِأَنَّهَا سَبَبُ الجهالة وعنوان الغباوة) أي ومقدمة الضلالة والعنوان بضم أوله ويكسر ما يكتب على ظاهر الكتب ليعلم مجمل ما في باطنها وبهذا يعرف أن كشف العوارف وظهور المعارف في بعض الأميين من هذه الأمة(2/460)
يكون من جملة الكرامة كما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً فإن العلم اللدني في العرف اللغوي ما يحصل للأمي من غير كسب ظاهر في الآدمي (فسبحان من باين أمره) أي غاير أمر النبي (مِنْ أَمْرِ غَيْرِهِ وَجَعَلَ شَرَفَهُ فِيمَا فِيهِ محطّة سواه) أي محل خفض قدر غيره (وَجَعَلَ حَيَاتَهُ فِيمَا فِيهِ هَلَاكُ مَنْ عَدَاهُ) أي من سواه من أرباب الأرواح وأصحاب الأشباح (وهذا شقّ قلبه) أي صدره مرة بعد مرة في حقه (وإخراج حشوته) بضم الحاء المهملة وتكسر وسكون الشين المعجمة وأصله ما في جوف الشيء مما هو محشو به كالإمعاء والكرش وسائر الأشياء والمراد بها هنا علقة سوداء كما رواه البخاري كانت حظا للشيطان وتعلقا له بها في مقام وسوسة الإنسان فإن شقه وإخراجها (كان تمام حياته) ونظام صفاته (وغاية قوّة نفسه) ونهاية قوة أنسه (وثبات روعه) بضم الراء أي قلبه حال خوفه وروعه ولله در من قال:
اقتلوني يا ثقاتي ... إن في موتي حياتي
ولبعض أرباب الحال موتوا قبل أن تموتوا (وهو) على ما في نسخة أي شقه وإخراجها (فيمن سواه منتهى هلاكه) أي غاية أسباب هلاكه (وحتم موته) بالحاء المهملة أي وجوب وقوعه (وفنائه) والمعنى أنه نهاية علة موته وأفنائه (وهلمّ جرّا) أي وهكذا الأمر مستمرا (إِلَى سَائِرِ مَا رُوِيَ مِنْ أَخْبَارِهِ وَسِيَرِهِ) المؤذنة بآثاره وأسراره (ومآثره) أي مفاخرة ومكارمه التي تؤثر عنه (وتقلّله) أي طلب قلته ووري تبلغه أي طلب بلاغه وزاده إلى معاده (من الدّنيا) زاهدا فيها لا اضطرارا عنها (ومن الملبس) الناعم (والمطعم) اللذيذ (والمركب) المزين (وتواضعه) مع الخلق مع كمال ترفعه عند الحق عملا بقوله من تواضع لله رفعه الله رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (ومهنته) بفتح الميم وتكسر على ما ذكره التلمساني وأبو زيد فلا يلتفت إلى نفي الأصمعي والزمخشري فإن من حفظ حجة على من لم يحفظ أي خدمته (نفسه في أموره) المحتاج إليها (وخدمة بيته) تهوينا على أهله وخدمه (زهدا) في الملك والملك والجاه المعد للهلك وقد سئل الزهري عن الزهد فقال هو أن لا يغلب الحلال شكره ولا الحرام صبره (ورغبة عن الدّنيا) أي اعراضا عنها لسرعة فنائها وقلة بقائها وكثرة عنائها وخسة شركائها وقد ورد لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة لما سقي كافرا منها شربة ماء رواه الترمذي عن سهل بن سعد (وتسوية بين حقيرها وخطيرها) أي عظيمها من قليلها وكثيرها (لسرعة فناء أمورها) وبقاء شرورها (وتقلّب أحوالها) وتغير أرباب أموالها ونعم المقول:
فلا تدوم على حال تكون بها ... كما تلون في أثوابها الغول
(كلّ هذا) الذي ذكرناه (من فضائله) أي بعض شمائله (ومآثره) أي مكارمه التي تؤثر وتروى من مفاخره (وشرفه) أي طرفه وتحفه (كما ذكرناه) فيما سبق من محله ومجمل الكلام(2/461)
ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام بعثت لأتمم مكارم الأخلاق (فمن أورد شيئا منها مورده) أي ذكره في محله اللائق به (وقصد به مقصده) من تعظيم قدره وتبجيل أمره (كان حسنا) أي مستحسنا عند الله وخلقه (ومن أورد ذلك على غير وجهه) بتساهل في حقه (وقد علم منه) أي من إيراده ذلك (سوء قصده) من تنقص به (لحق بالفصول) الستة (التي قدّمناها) فيقتل أو يعزل أو يحبس كما قدرناها (وكذلك ما ورد من أخباره) من أفعاله وأقواله وأثاره (وأخبار سائر الأنبياء عليهم السّلام في أحاديث) وفي نسخة في الأحاديث (ممّا في ظاهره إشكال) كحديث لم يكذب إبراهيم إلا إلى ثلاث كذبات (يقتضي أمورا لا تليق بهم بحال) من أحوالهم (وتحتاج إلى تأويل) يصرفها إلى تحسين مقالهم (وتردّد احتمال) من نقصان في جمال كمالهم (فلا يجب) أي فلا ينبغي (أن يتحدّث منها) بل يجب أن يسكت عنها ولا يؤتى بشيء منها (إلّا بالصّحيح) الثابت فيها (ولا يروى منها إلّا المعلوم) في الرواية (الثّابت) في الدراية (وَرَحِمَ اللَّهُ مَالِكًا فَلَقَدْ كَرِهَ التَّحَدُّثَ بِمِثْلِ ذلك من الأحاديث الموهمة للتّشبيه) المحتاجة إلى التأويل المقتضي للتنزيه (والمشكلة المعنى) المبنية على استعارة في المبنى كحديث البخاري وغيره ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول هل من داع فاستجيب له هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فاغفر له فإن نزوله سبحانه وتعالى كناية عن تنزيلات رحمته وموجبات إجابة دعوته وأسباب مغفرته أو يقال إنه سبحانه وتعالى له نزول يليق بشأنه مع اعتقاد التنزيه له عن انتقال وتغير ووجود مكان وزمان في ذاته وكذا الحكم في الآيات المتشابهات وسائر الأحاديث المشكلات فللسلف والخلف مذهبان فالمتقدمون على التسليم والتوكيل ومنهم أبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل والمتأخرون على التأويل والكل قائلون بالتنزيه ومانعون عن التشبيه وبالغ الإمام مالك حتى منع السؤال عن ذلك كما صرح به في قوله المجيب عن سؤاله الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة (وقال) أي مالك (ما يدعو النّاس) أي أي شيء يلجئ العامة ويسوقهم (إلى التّحدّث بمثل هذا) كحديث خلق الله آدم على صورته وكحديث إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصقن قبل وجهه فإن الله بينه وبين القبلة (فقيل له إنّ ابن عجلان) بفتح أوله (يحدّث بها فقال لم يكن) ابن عجلان (من الفقهاء) مع أنه كان شيخ مالك ومن أعلام التابعين بالمدينة وروي عن أبيه وأنس بن مالك وغيرهما وعنه شعبة ويحيى بن سعيد القطان ونحوهما وثقه أحمد وابن معين وقال غيرهما سيىء الحفظ روي أنه حملت به أمه ثلاثة أعوام فشق بطنها لما ماتت فأخرج وقد نبتت أسنانه وفي الميزان للذهبي قال عبد الرحمن بن القاسم قيل لمالك إن ناسا من أهل العلم يحدثون قال من هم فقيل له ابن عجلان فقال لم يكن ابن عجلان يعرف هذه الأشياء ولم يكن عالما قال الذهبي قلت قال مالك هذا لما بلغه أن ابن عجلان حدث بحديث خلق الله آدم على صورته ولابن عجلان فيه متابعون وخرج في الصحيح انتهى فمعناه لم يكن يفقه ما ينشأ عن هذا من الفساد للعباد والخوض في(2/462)
الباطل لأهل الفساد أو لم يكن من الفقهاء الذين يقدرون على تأويل الأخبار بل ممن يبقى على ظاهر ما ورد من الآثار والحاصل أنه كره التحديث مالك بأمثال ذلك في مجالس العامة لا التحديث المطلق المترتب عليه كتم العلم بالخاصة كما بسطنا هذه القضية في الخطبة قال القاضي المؤلف (وليت النّاس وافقوه) أي مالكا (عَلَى تَرْكِ الْحَدِيثِ بِهَا وَسَاعَدُوهُ عَلَى طَيِّهَا) أي عاونوه على طيء ذكرها في مجلس العامة (فأكثرها ليس تحته عمل) يحتاج إليه جمهور الخلق وحمله الدلجي على كراهة مطلق التحديث بها رواية وكتابة فقال هذه دعوى بلا بينة ومن ثمة لم يوافقه أحد كراهة التحديث بها إذ لم يقله عليه الصلاة والسلام لأصحابه عبثا ولا أخبر به عن ربه ليترك سدى مع أنه يلزم من كراهة التحديث بها كراهة تعليم الناس متشابه القرآن والتلاوة مع أمره عليه الصلاة والسلام بقوله (بلغوا ولو آية) وإنما ورد في الكتاب والسنة بعض المتشابهات ابتلاء للراسخين في العلم على قدم الثبات قلت اختار مالك سد باب الذريعة للمهالك العامة في ذلك كما وقع لسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه مع أبي هريرة حيث أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يروي عنه عليه الصلاة والسلام أن من يشهد ان لا إله إلا الله حرمه الله على النار ومنعه عمر لئلا يتكل الناس ويتركوا عمل الأبرار بسماع هذه الأخبار ووافقه سيد الأخيار وقال دعهم يعلموا هذا ولم يرد عن أحد من الأئمة جواز رواية مثل هذه الأحاديث في مجالس الجهلاء والسفهاء فلم يخالف مالك في هذه المسألة أحدا من العلماء بل ثبت عنهم منع العامي عن علم الكلام ودقائق الصوفية الكرام خوفا عليهم من تزلزل عقائدهم وعدم الانتقاع بفوائدهم (وقد حكي) بصيغة المجهول أي روي مثل ذلك (عن جماعة من السّلف بل عنه) أي عن السلف (على الجملة) أي من حيث مجموعهم لا جميعهم (أنّهم كانوا يكرهون الكلام) أي مع العوام (فيما ليس تحته عمل) من الاحكام مما يؤخذ منه حكم شرعي ينتفع به الأنام (والنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أوردها) أي أحاديثه (على قوم عرب) في كمال أدب (يفهمون كلام العرب على وجهه) بدون صرفه عن ظاهر عبارته إلا لموجب يدعو إليه من حمله على إشارته (وتصرّفاتهم في حقيقته) باستعمال اللفظ فيما وضع له بحسب أصله (ومجازه) باستعماله في غير ما وضع له بقرينة عقلية أو حالية (واستعارته) باستعارة حرف كما في قوله تعالى وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أي عليها أو فعل كما في ولما سكت عن موسى الغضب أي سكن وذهب (وبليغه) أي وبلاغته مما يطابق مقتضى الحال من فصاحته (وإيجازه) الجامع لقلة مبانيه وكثرة معانيه (فلم تكن في حقّهم مشكلة) أي لم توجد في الأحاديث بالنسبة إليهم كلمة مشكلة وجملة معضلة أو لم تكن هذه الأشياء المتقدمة في حقهم مشكلة موهمة لمعرفتهم بأساليب كلامهم وقوة إدراكهم وسرعة أفهامهم وفق مرامهم وهذا كله ببركة مجالسة نبي الأمة وكاشف الغمة (ثمّ جاء من غلبت عليه العجمة) بضم أوله أي اللكنة العجمية (وداخلته الأمّيّة) أي النسبة الجهولية والحالة الطفولية (فلا يكاد يفهم من مقاصد العرب) في مراصد الأدب (إلّا نصّها) أي ظاهرها لا تلويحها(2/463)
(وصريحها) وفي نسخة تصريحها (ولا يتحقّق بإشاراتها) وفي نسخة إشاراتها (إلى غرض الإيجاز) أي الاقتصار والاختصار ميلا إلى الإطناب في عباراتها (ووحيها) أي خفي كلامها (وتبليغها) وفي نسخة صحيحة وبليغها وهو الأبلغ أي الأقوال المتضمنة لبلاغتها (وتلويحها) أي إشارتها إلى تحسين عبارتها بحسب فصاحتها (فتفرّقوا) أي من غلبت عليه العجمة حقيقة أو طبيعة (في تأويلها) أي الأحاديث الموهمة للشبهات المشكلة (أو حملها على ظاهرها) من غير تنزيه في باطنها (شذر مذر) بفتح أولهما وكسره فمعجمتين اسمان جعلا اسما واحدا للتأكيد فبنيا على الفتح كخمسة عشر ومحلهما نصب على الحال تفرقوا في كل وجه بحيث لا يرجى اجتماعهم بوجه ولا يقال في الإقبال وهذا في الأمثال مثل قولهم تفرقوا أيدي سبا وتمزقوا كل ممزق (فمنهم من آمن به) حق إيمانه من التنزيه (ومنهم من كفر) بحمله على التشبيه وهذا كله في الأحاديث الصحيحة والروايات الصريحة كحديث إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب رجل واحد يصرفه كيف يشاء رواه أحمد ومسلم عن عمرو (فَأَمَّا مَا لَا يَصِحُّ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ) التي اشتهرت على ألسنة العوام أو ذكرت في كتب بعض العلماء الأعلام (فواجب أن لا يذكر منها شيء) لا سيما الوارد منها (فِي حَقِّ اللَّهِ وَلَا فِي حَقِّ أَنْبِيَائِهِ ولا يتحدّث بها) أي بألفاظها ومعانيها (وَلَا يُتَكَلَّفُ الْكَلَامُ عَلَى مَعَانِيهَا، وَالصَّوَابُ طَرْحُهَا) أي حذفها وعدم ذكرها (وترك الشّغل) وروي الاشتغال (بِهَا إِلَّا أَنْ تُذْكَرَ عَلَى وَجْهِ التَّعْرِيفِ بأنّها ضعيفة المقاد) بفتح الميم والقاف أي ضعيفة الرجال (واهية الإسناد) في المقال (وقد أنكر الأشياخ) جمع الشيوخ من العلماء (على أبي بكر بن فورك) بضم الفاء وفتح الراء غير منصرف للعجمة والعلمية وقد يصرف لعدم ثبوت العجمة (تكلّفه في مشكله) كأنه اسم كتابه (الكلام) بالنصب على أنه مفعول تكلفه وفي أصل الدلجي في مشكل الكلام (على أحاديث ضعيفة) إسنادا أو متنا (موضوعة لا أصل لها) لا موقوفة ولا مرفوعة وكان الأولى أن يقال ضعيفة أو موضوعة للفرق بينهما عند أرباب الأصول فإن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال اتفاقا (أو منقولة عن أهل الكتاب) من اليهود والنصارى وغيرهم (الّذين يلبّسون الحقّ بالباطل) كما أخبر الله به عنهم (كان) وفي نسخة وكان أي ابن فورك (يكفيه) أي ابن فورك (طرحها) أي نبذها وراء ظهره بعدم التفات إلى ذكرها (ويعنيه عن الكلام عليها) من جهة معانيها (التّنبيه على ضعفها) ووضعها ليجتنب عن التعلق بها إِذِ الْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ عَلَى مُشْكِلِ مَا فِيهَا إزالة اللّبس) أي الخط الكائن (بها واجتثاثها) مبتدأ أي اقتطاعها (من أصلها وطرحها) وتركها في فصلها (أكشف) أي أبين (للّبس وأشفى للنّفس) وفيه بحث إذ الحكم على الحديث بأنه ضعيف أو موضوع ليس بمقطوع لاختلاف المحدثين في رجال الاسناد بحيث لم يبق الاعتماد إذ قل حديث صحيح لم يقل بضعفه وعلته وقل حديث ضعيف بل موضوع لم يقل بصحته أو ثبوته فكأنه رحمه الله تعالى أتى بالتأويل في معناه على تقدير صحة مبناه ليزول الإشكال على جميع الاحتمال من الأحوال والله تعالى أعلم بمقاصد الرجال.(2/464)
فصل (وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ فِيمَا يَجُوزُ عَلَى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وما لا يجوز)
أي إطلاقه عليه (والذّاكر من حالاته) أي صفاته ومقالاته (ما قدّمناه في الفصل قبل هذا) الفصل (على طريق المذاكرة والتعليم أن يلتزم) أي المتكلم (في كلامه عند ذكره صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر تلك الأحوال الواجب) بالنصب على المفعولية من الضمير المستكن في يلتزم وتقدير الكلام ومما يجب على المتكلم في كذا وكذا يلتزم في كلامه الواجب ومن قوله (من توقيره وتعظيمه) للبيان وفي بعض النسخ الواجبة بالتاء إيقاعا لها صفة الأحوال وخطؤه ظاهر إلا أن يتكلف ويأول بالثابتة في الفصول الستة (ويراقب) أي وأن يراعي (حال لسانه) بعظيم شأنه (ولا يهمله) أي يتركه ولا يرسله من غير بيانه (ويظهر عليه) أي على المتكلم (علامات الأدب عند ذكره) خوفا من الرب ونظيره قاله القراء إن الواجب على القارئ إذا قرأ آية فيها فعل الكفر كقوله تعالى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ أن يخفض صوته عند المقول وأن يخضع في مقام الخوف والنول ويتذكر قوله تعالى لعيسى عليه الصلاة والسلام في المجمع العام أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فإن مقتضى العقل الباهر والدين الظاهر هو أنه سبحانه وتعالى لولا أنه ذكره في كتابه وقرره في خطابه لكان واجبا أن لا يتحدث أحد عنهم بهذا الكلام تعظيما للملك العلام وتأمل قول ابن دينار لولا أن الله انزل في الفاتحة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وأوجب علينا قراءته لما تلفظت بهذه الجملة لعدم اتصافي بهذه الخصلة (فإذا ذكر) المتكلم (ما قاساه) أي كابده عليه الصلاة والسلام (من الشّدائد) من جهة الخلق (ظهر عليه الإشفاق) أي الشفقة والرحمة (والارتماض) بالضاد المعجمة أي شدة الاحتراق وأصله القلق والشدة وهو من الرمض شدة الحر أو شدة الغيظ ومعناه أنه يتوقد له ويتغيظ به ويود لو كان في ذلك الوقت لا وقع بعامل ذلك ما قدر من آثار المقت وهذا معنى قوله (والغيظ على عدوّه) والغيظ بالظاء المعجمة الغضب أو شدته أو أوله وسورته وأغرب التلمساني بقوله والغيظ بالظاء والضاد وهي لغة (ومودّة الفداء) وهو بكسر الفاء ممدودا ومقصورا وبفتحها مقصورا أي ويجب أن يفدي بروحه وأبيه وأمه (للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) فيما أصابه (لو قدر عليه) أي على الفداء (والنّصرة لو أمكنته) لديه ونظيره في قراءة القرآن إذ قرأ آية الرحمة ينبسط ويطلبها وإذا قرأ آية العقوبة ينقبض ويستعيذ منها (وإذا أخذ في أبواب العصمة) وفي نسخة العظمة والظاهر أنه تصحيف وتحريف والمعنى إذا أشرع المتكلم في أبواب حفظ الله إياه في أحواله (وَتَكَلَّمَ عَلَى مَجَارِي أَعْمَالِهِ وَأَقْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم تحرّى) بالحاء المهملة والراء المشددة أي اجتهد في تأديته ويطلب ويقصد (أحسن اللّفظ وأدب العبارة) بهمزة ممدودة أي أولاها (ما أمكنه) أي قدر ما قدر عليه (واجتنب بشيع ذلك) أي كريهه(2/465)
(وهجر) أي ترك (من العبارة ما يقبح) ظاهره (كلفظة الجهل والكذب والمعصية) والمعنى لا ينسب شيئا منها وأمثالها إليه وإلى غيره من الأنبياء عليهم السلام ولا يستند إلى ما ورد في حقهم من قوله تعالى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى أي جاهلا بتفاصيل الإيمان كما ينبئ عنه قوله تعالى مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ومن قوله عليه الصلاة والسلام ولم يكذب إبراهيم الا ثلاث كذبات ومفهومه أنه كذب ومن قوله تعالى وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى فإن لله ورسوله أن يعبرا بما شاآ في حق من شاآ (فإذا تكلّم) أي المتكلم (فِي الْأَقْوَالِ قَالَ هَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخُلْفُ في القول والإخبار) بكسر الهمزة لا يقول أيجوز عليه الكذب في قول أو خبر (بخلاف ما وقع سهوا) في لسانه (أو غلطا) في بيانه (ونحوه من العبارة) كالنسيان في شأنه فإنه لا لوم عليه ولا اعتراض لديه لحديث رفع عن أمتي الخطأ والنسيان (ويتجنّب لفظة الكذب) أي إطلاقها عليه (جملة واحدة) أي بالكلية (وإذا تكلّم على العلم) أي علمه عليه الصلاة والسلام (قَالَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَعْلَمَ إِلَّا ما علّم) كما يشير إليه قَوْلِهِ تَعَالَى وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
(وَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ عِلْمٌ من بعض الأشياء حتّى يوحى إليه) لقوله تعالى وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً أي بذاته وقوله تعالى قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وقوله قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وفي الحديث مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية وفي حديث جبريل ما المسؤول عنها بأعلم من السائل وقد قال تعالى إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها أي عن نفسي لو كان أمكن فضلا عن غيري والحاصل أن الأنبياء لم يعلموا المغيبات من الأشياء إلا بما اعلمهم الله تعالى أحيانا وقد صرح علماؤنا الحنيفة بتكفير من اعتقد أن النبي يعلم الغيب لمعارضة قوله تعالى قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ كذا في المسايرة للإمام ابن الهمام (ولا يقول بجهل) النبي (لقبح اللّفظ وبشاعته) بل يقول لا يدري مثلا وقت مجيء الساعة قال حسن العبارة معتبر عند ارباب الإشارة كما حكي أنه كان معبر ان لبعض الأمراء وجعل وظيفة أحدهما ألفا والآخر نصفه ندماؤه وجلساؤه عن وجه الفرق بينهما لاتحادهما في مراتب العلم والصلاح والأدب فسألوه عن ذلك وعن تمييزهما بما هنالك فقال رأيت في النوم أن أسناني سقطت فصاحب الألف عبر بأنك تعيش بعد أقوامك كلهم وعبر الآخر بأنهم يموتون قدامك جميعهم فانظروا فالفرق بين العبارتين مع أن مؤداهما واحد في الإشارتين (وإذا تكلّم) المتكلم (في الأفعال) الصادرة عنه عليه الصلاة والسلام (قَالَ هَلْ يَجُوزُ مِنْهُ الْمُخَالِفَةُ فِي بَعْضِ الأوامر والنّواهي) ولا يعبر عنها بالكبائر والمعاصي (ومواقعة الصّغائر) بل الأولى أن يعبر عنها بالزلات والمكروهات بل وخلاف الأولى (فهو) أي ما ذكر من العبارات (أولى وآدب) بمد الهمزة أي أكثر تأدبا (مِنْ قَوْلِهِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعْصِيَ أَوْ يُذْنِبَ أَوْ يَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا مِنْ أَنْوَاعِ المعاصي) المشتملة على الصغائر والكبائر (فهذا) الذي قدمناه (من حقّ توقيره) وفي نسخة زيادة وبره أي طاعته أو إكرامه (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ تعزير) أي تبجيل(2/466)
(وإعظام وقد رأيت) ويروى ورأيت (بعض العلماء لم يتحفّظ من هذا) الذي ذكرناه ويروى في هذا (فقبّح منه) ما صدر عنه (ولم استصوب عبارته فيه) ولذا اكتفيت بذكر إشارته (ووجدت) وروي رأيت (بعض الجائرين) بالجيم من الجور أي المائلين عن الاقتصاد وفي رواية بالحاء المهملة من الحيرة وهو التردد أي من المتحرين في سبيل الرشاد غير متمكنين على طريق السداد (قوّله) بتشديد الواو أي نسبه إلى الخطأ في قوله الخاص به (لِأَجْلِ تَرْكِ تَحَفُّظِهِ فِي الْعِبَارَةِ مَا لَمْ يقله) والمعنى زعم لأجل ترك تحفظه أنه قال ما لم يقله (وشنّع) ذلك البعض (عليه) أي على من لم يتحفظ (بما يأباه) كلامه (ويكفّر قائله وإذا كان مثل هذا) الاستعمال بالتحفظ في الأقوال (بَيْنَ النَّاسِ مُسْتَعْمَلًا فِي آدَابِهِمْ وَحُسْنِ مُعَاشَرَتِهِمْ وخطابهم فاستعماله في حقّه عليه الصلاة والسلام أوجب) أي الزم (والتزامه آكد) بمد الهمزة أي أوثق وأتم قال الدلجي قوله أوجب أي وجوب فرض لا وجوب تأكيد وهما عند امامنا الشافعي مترادفان سواء ثبت بدليل قطعي أو ظني وفرق أبو حنيفة بأن ما ثبت بقطعي ففرض وما ثبت بظنه فواجب لأن التفاوت بين الكتاب وخبر الآحاد يوجب التفاوت بين مدلوليهما لكنهم خالفوا قاعدتهم من إطلاقهم الفرض على ما ثبت بظني كقولهم الوتر فرض والزكاة واجبة انتهى ولا يخفى أن الفرق بينهما إنما هو بحسب الاعتقاد دون العمل فإن كلاهما فرض بهذا الاعتبار لكن ثواب الفرض أكثر وعقاب ترك الواجب أقل ومما يفيد الفرق أن منكر الفرض كافر بخلاف منكر الواجب وهذا هو بحسب أصل الاصطلاح الشرعي وقد يستعار أحد اللفظين مقام الآخر في الاستعمال اللغوي ومن لم يميز بين الدليل القطعي والظني فلا كلام معه لا من جهة النقل ولا من جهة العقل على أن الشافعية أضطروا إلى الفرق بينهما في أحكام الحج حجة عليهم ثم هذا المبحث لم يكن في محله ولكنه لما أبدي هذا المقال أوجب لنا حل عقال هذا الإشكال على أن قوله وجوب فرض لا وجوب تأكيد لا طائل تحته (فجودة العبارة تقبّح الشّيء) الواحد (أو تحسّنه) كما قدمناه في حكاية المعبرين (وتحريرها وتهذيبها يعظّم الأمر أو يهوّنه ولهذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم إنّ من البيان لسحرا) رواه مالك وأحمد والبخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عمر ثم البيان فصاحة اللسان والسحر صرف الشيء عن وجهه والحديث يحتمل المدح والذم أما على الأول فمعناه أنه يستميل النفوس ويأخذ بها لحسنه عندها من بلاغته وفصاحته وحسن تأليفه في عبارته وإشارته وتزيين مبانيه وتحسين معانيه بحيث يرتضي به الساخط ويستذل به الصعب كما يفعل السحر من الأمر العجب ولذلك قالوا فيه السحر الحلال ويؤيده أن في نفس الحديث زيادة رواية وأن من الشعر لحكمة وأما على الثاني فمعناه في المتشدق الذي يمدح من لا يمدح في الفعل ويطنب فيما لا يحل من القول ويحسن القبيح من ذلك ويقبح الحسن هنالك وأن فعل ذلك حرام كالسحر ويكتسب صاحبه من الاثم في قوله ما يكتسبه الساحر بعلمه وقد أورد مالك رحمه الله تعالى الحديث في الموطأ في باب ما يكره من الكلام ولعله اختار القول الثاني في هذا(2/467)
المقام والله تعالى اعلم بالمرام (فأمّا ما أورده) المتكلم (على جهة النّفي عنه والتّنزيه) له عليه الصلاة والسلام منه (فلا حرج في تسريح العبارة) أي إرسالها وإطلاقها (وتصريحها فيه) أي في حقه عليه الصلاة والسلام (كقوله لا يجوز عليه الكذب جملة) أي مجملا ومطلقا أو جميع أنواعه (ولا إتيان الكبائر بوجه) أي لا عمدا ولا سهوا (ولا الجور) أي الميل والظلم (في الحكم) بين الناس (على حال) من الغضب والرضى (وَلَكِنْ مَعَ هَذَا يَجِبُ ظُهُورُ تَوْقِيرِهِ وَتَعْظِيمِهِ وتعزيره) أي تبجيله (عند ذكره مجرّدا) عن إثبات وصف أو نفيه (فكيف عند ذكر مثل هذا) الكلام المشتمل على نعته على جهة النفي أو ثبوته (وقد كان السّلف) من أئمة الدين كزين العابدين وجعفر الصادق ومحمد بن المنكدر (تظهر عليهم حالات شديدة) من تغير لون وبكاء ورعدة (عِنْدَ مُجَرَّدِ ذِكْرِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْقِسْمِ الثّاني وكان بعضهم يلتزم مثل ذلك) من ظهور التوقير (عِنْدَ تِلَاوَةِ آيٍ مِنَ الْقُرْآنِ حَكَى اللَّهُ تعالى فيها مقال عداه) بكسر أوله أي اعدائه من اليهود والنصارى (وَمَنْ كَفَرَ بِآيَاتِهِ وَافْتَرَى عَلَيْهِ الْكَذِبَ فَكَانَ يخفض بها صوته) في تلاوته (إعظاما لربّه وإجلالا له) أي لقدره وأمره (وإشفاقا) على نفسه حذرا (من التّشبّه بمن كفر به سبحانه لا إله إلا هو العلي العظيم) فعن إبراهيم النخعي أنه كان إذا قرأ قوله تعالى وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ يخفض بها صوته أي بمقولهم وأمثال ذلك من كفرياتهم.(2/468)
الْبَابُ الثَّانِي [فِي حُكْمِ سَابِّهِ وَشَانِئِهِ وَمُتَنَقِّصِهِ ومؤذيه]
(في حكم سابّه) أي شاتمه (وشانئه) أي مبغضه إذ أظهر عليه أثره (ومتنقّصه) أي الطالب نقصه (ومؤذيه) أي بقوله أو فعله (وعقوبته) أي وفي عقوبة من ذكر (وذكر استتابته) من طلب توبته أو قبول رجعته وفي نسخة والصلاة عليه (ووراثته) في تركته بعد موته (قَدْ قَدَّمْنَا مَا هُوَ سَبٌّ وَأَذًى فِي حقّه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرْنَا إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى قَتْلِ فاعل ذلك وقائله) أي إن لم يرجع إلى الإسلام (وتخيير الإمام) وفي نسخة أو ولا وجه له وفي نسخة ويخير الإمام أي وذكرنا كونه مخيرا (فِي قَتْلِهِ أَوْ صَلْبِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ) أي تفصيل صور أمثلته (وقرّرنا الحجج عليه) بإظهار أدلته (وبعد) أي بعد ذلك (فاعلم أنّ مشهور مذهب مالك وأصحابه وأقوال السّلف) أي بعضهم (وجمهور العلماء) أي المالكية لما سيأتي أن الجمهور على خلاف قول مالك المشهور (قتله حدّا لا كفر إن أظهر التّوبة منه) أي من عند نفسه أو من قوله أو فعله (ولهذا) أي ولكونه يقتل حدا لا كفرا (لا تقبل عندهم توبته) أي منه كما في نسخة (ولا تنفعه) أي في دفع قتله (استقالته ولا فيأته) بفتح الفاء وتكسر فتحتية ساكنة فهمزة أي رجوعه عنه (كما قدّمناه قبل) أي قبل ذلك (وحكمه) أي في حتم القتل (حكم الزّنديق) الذي توبته عندهم لا تقبل وهو الذي لا يتدين (ومسرّ الكفر) ومظهر الإيمان (في هذا القول) المشهور من مذهب مالك وقال غيره تقبل توبته ولا يقتل (وسواء كانت توبته على هذا) القول المشهور (بعد القدرة عليه) أي على أخذه (والشّهادة على قوله) المؤدي إلى قتله (أو جاء تائبا من قبل نفسه) أي من عنده بدون استتابته (لأنه) أي قتله (حدّ وجب) عندهم (لا تسقطه التوبة كسائر الحدود) من الزنا وقتل النفس ونحوهما اتفاقا وفيه أنه قياس مع الفارق فإن هذه الحدود عامة ثابتة بالكتاب والسنة وأما من كفر بسبب سب ثم تاب فلا يعرف له حد في هذا الباب إذ كثير ممن ارتد عن الإسلام يهجاه عليه الصلاة والسلام ثم تاب وقبل منه توبته ورفعت عنه ردته هذا وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام إن الإسلام يجب ما قبله وهو يشمل الإسلام السابق واللاحق وفي الحدود تفصيل في مذهبنا هو المحمود (قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذا أقرّ بالسّبّ) أي له أو لغيره من الأنبياء عليهم السلام (وتاب منه وأظهر التّوبة) أي أثرها قبلت منه و (قتل بالسّبّ لأنه هو) أي القتل (حَدُّهُ وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ مثله) أي يقتل لأنه حده وفي نسخة في مثله أي في نظيره (وَأَمَّا مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَتَوْبَتُهُ تَنْفَعُهُ) إجماعا، (وقال ابن سحنون) بفتح أوله وبضم ويصرفه ويمنع (من شتم النبيّ صلى الله(2/469)
تعالى عليه وسلم) وكذا غيره من الأنبياء عليهم السلام (من الموحّدين) أي المسلمين (ثمّ تاب عن ذلك لم تزل) من الإزالة أي لم ترفع (توبته عنه القتل) وهو معنى قول القابسي وابن أبي زيد (وكذلك قد اختلف) أي اختلف المالكية (في الزّنديق إذا جاء تائبا) من قبل نفسه من غير استتابة والجاء إليها (فَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَصَّارِ فِي ذلك) أي في مجيئه تائبا (قولين، قال) أي ابن القصار (من شيوخنا من قال أقتله) أي احكم بقتله (بإقراره) بأنه كان زنديقا أو شاتما ثم جاء تائبا (لِأَنَّهُ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى سَتْرِ نَفْسِهِ فَلَمَّا اعترف خفنا) أي ظننا ومنه قوله تعالى إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما (أنّه خشي الظهور) أي الاطلاع (عليه) بأن يجدوا الزندقة لديه (فبادر لذلك) بالتوبة وهذا له وجه في الجملة إذا كان لبعض الناس إطلاع على حاله (وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ أَقْبَلُ تَوْبَتَهُ لِأَنِّي أَسْتَدِلُّ على صحّتها) أي صحة توبته (بمجيئه) تائبا من قبل نفسه (فَكَأَنَّنَا وَقَفْنَا عَلَى بَاطِنِهِ بِخِلَافِ مَنْ أَسَرَّتْهُ البيّنة) أي أخذته وقيدته (قال القاضي أبو الفضل وهذا) القول الأخير (قول أصبغ) أي ابن الفرج فقيه مصر من شيوخ البخاري (ومسألة سابّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أقوى) أي أشد من مسألة الزنديق فإنها من حق الله تعالى وهو مبنى على المسامحة فقيه الخلاف في الجملة بخلاف الساب فأنه (لا يتصوّر فيها الخلاف) في مذهب مالك (على الأصل المتقدّم) على ذلك (لأنّه) أي سبه (حقّ متعلّق للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ولأمّته بسببه لا تسقطه التّوبة كسائر حقوق الآدميّين) وفيه أن حق الله هنا أيضا متعلق للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وجميع أمته (والزّنديق) وهو الثنوي أو القائل ببقاء الدهر أو المسر للكفر وهذا المعروف عند الفقهاء (إِذَا تَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَعِنْدَ مَالِكٍ واللّيث) أي ابن سعد (وإسحاق) أي ابن راهويه (وأحمد) أي ابن حنبل (لا تقبل توبته) أي ظاهرا فلا تسقط عنه القتل (وعند الشّافعيّ تقبل) توبته ولا يقتل (واختلف فيه عن أبي حنيفة) وهو الإمام الهمام (وأبي يوسف) أحد اتباعه من الاعلام والمعتمد ما في قاضيخان وأما الزنادقة فأخذ الجزية منهم بناء على قبول التوبة من الزنادقة فإنهم قالوا إن جاء الزنديق قبل أن يؤخذ فأقر انه زنديق فتاب من ذلك قبلت توبته وإن أخذ ثم تاب لا تقبل توبته ويقتل لأنهم باطنية يظهرون شيئا ويعتقدون في الباطن خلاف ذلك فيقتلون ولا تؤخذ منهم الجزية ولا تقبل توبتهم انتهى وأبو حنيفة ترجمته كثيرة ومناقبه شهيرة وأما أبو يوسف فهو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن خنيس بي سعد بن احبتة بحاء مهملة مفتوحة فموحدة ساكنة ومثناة فوقيه مفتوحة وهي أمه وهو سعد بن بحير بفتح الموحدة وكسر الحاء المهملة وقيل سعد بن بجير بضم الموحدة وفتح الجيم وذكر القولين الأمير في إكماله وقال الذهبي سعد بن بجير البجلي حليف الأنصار روي أنه قاتل يوم الخندق وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مسح رأسه وقال أسعد الله جدك ومن ولده القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة وقد روي عن عطاء بن السائب وهشام بن عروة وغيرهما وكان أبو يوسف من أهل الكوفة فقيها عالما روى عنه محمد بن الحسن الشيباني وبشر بن الوليد الكندي وعلي بن الجعد وأحمد بن(2/470)
حنبل وابن معين وغيرهم وقد روي الشافعي عن محمد عن أبي يوسف وكان قد سكن ببغداد وتولى القضاء بها لثلاثة من الخلفاء المهدي وابنه الهادي ثم هارون الرشيد وكان الرشيد يكرمه ويجله قال ابن خلكان هو أو من دعي بقاضي القضاة ويقال إنه أول من غير لباس العلماء إلى هذه الهيئة التي هم عليها الآن وكان ملبوس الناس قبل ذلك شيئا واحدا لا يتميز أحد عن أحد بلباس قال ولم يختلف يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني في ثقته في النقل وكان كثير الحديث انتهى ولد سنة ثلاث عشرة ومائة وتوفي يوم الخميس أول وقت الظهر لخمس خلون من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين ومائة ببغداد وابنه يوسف الذي يكنى به ولي القضاء في حياة أبيه ومات سنة اثنتين وتسعين ومائة وبلغ من العمر تسعا وستين سنة وأما قول التلمساني قالوا أبو يوسف أبو حنيفة أي سيد مسده ويغني عنه فليس في محله لأن أبا يوسف حسنة من حسنات أبي حنيفة وفضله وإنما هو تشبيه بليغ كما يقال زيد أسد أي كأسد فالمعنى أن أبا يوسف كأبي حنيفة ومن المعلوم أن المشبه به أقوى من المشبه ولا يلزم من التشبيه المساواة من جميع الشبه ثم المعتمد في المذهب أنه تقبل توبته ولا يقتل وأما قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً كاليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد الإيمان بموسى والتوراة ثم أزدادوا كفرا بمحمد عليه الصلاة والسلام والقرآن الميجد أو كفرا بمحمد قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد والطعن فيه أو لقوم أرتدوا ولحقوا بمكة ثم ازدادوا كفرا بقولهم نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ لا يتوبون أو لا يتوبون إلا إذا أشرفوا على الهلاك فكني عن عدم توبتهم بعدم قبولها وذلك لما سبق في قوله تعالى كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ إلى أن قال إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وعن ابن عباس أن قوما اسلموا ثم ارتدوا ثم اسلموا ارتدوا فأرسلوا إلى قومهم يسألون فنزلت رواه البزار وقال ابن كثير إسناده جيد (وحكى ابن المنذر) وهو الإمام الحافظ المشهور (عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه يستتاب) أي الزنديق، (قال محمّد بن سحنون ولم يزل) بفتح أوله وضم ثانيه أي لم يرتفع (الْقَتْلُ عَنِ الْمُسْلِمِ بِالتَّوْبَةِ مِنْ سَبِّهِ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ مِنْ دِينٍ) هو حق (إلى غيره) وهو دين باطل وهذا غريب من قائله إذ لا شبهة أنه انتقل بسبه عليه الصلاة والسلام من دين الإسلام وما عداه باطل بإجماع الإعلام (وَإِنَّمَا فَعَلَ شَيْئًا حَدُّهُ عِنْدَنَا الْقَتْلُ لَا عَفْوَ فِيهِ لِأَحَدٍ كَالزِّنْدِيقِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ من ظاهر إلى ظاهر) أي بل إلى باطن وفساد هذا التعليل أيضا ظاهر؛ (وقال القاضي أبو محمّد) أي عبد الوهاب (بن نصر) أي البغدادي المالكي (محتجّا لسقوط اعتبار توبته) أي توبة من سبه عليه الصلاة والسلام (وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى على مشهور القول باستتابته) أي استتابة من سبه تعالى (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ وَالْبَشَرُ جِنْسٌ تَلْحَقُهُ الْمَعَرَّةُ) بتشديد الراء أي الكراهة والمشقة (إلّا من أكرمه الله بنبوّته) هذا استثناء غريب لا يظهر وجه اتصاله ولا انفصاله اللهم إلا أن يراد بالمعرة(2/471)
المنقصة ويلائمه قوله (والباري تعالى منزّه عن جميع المعايب قطعا) مما لا خلاف فيه إجماعا (وليس) أي الله سبحانه وتعالى (من جنس تلحق المعرّة بجنسه) في هذه العبارة مزلة لنزاهة ساحة عزته عن أن يكون من جنس تلحقه معرة أو لا تلحقه فلا يصح إطلاق النوعية والجنسية عليه كما لا يصح سؤال الماهية والكيفية بالنسبة إليه وفيه أن مقتضى قياس العقل أن من سب الله سبحانه وتعالى يكون أشد كفرا ممن سب النبي عليه الصلاة والسلام لوضوح قبحه عند جميع الإنام (وليس سبّه صلى الله تعالى عليه وسلم كالارتداد) أي المجرد (المقبول فيه التّوبة) ولو كانت ردته بسب الله سبحانه وعز شأنه وفيه بحث سيأتي بيانه (لأنّ الارتداد معنى ينفرد به المرتدّ) وهو كفره فقط (لَا حَقَّ فِيهِ لِغَيْرِهِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ فَقُبِلَتْ توبته) وفيه أن من سب الله تعالى يتعلق به حق خلقه من النبي وغيره ومن غضب بسب نفسه ولم يغضب بسب ربه فهو ليس بآدمي ومما يدلك على ذلك أنه كان عليه الصلاة والسلام لا يسامح عن المرتد فكيف من يسب الله سبحانه وتعالى وكان يساهل من يسبه عليه الصلاة والسلام ويطعن فيه من المنافقين وغيرهم فيتعين أن سب الله تعالى أقبح من سب غيره والحاصل أن سبه سبحانه وتعالى وسب أنبيائه كفر يستتاب وتقبل توبته عند الجمهور وأما سب سائر الآدميين فليس بكفر فيعزر بشروطه المعتبرة (ومن سبّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم تعلّق به) وفي نسخة فيه (حق لآدميّ) وهو نفسه عليه الصلاة والسلام أو أمته الكرام ولا شك أنه يتعلق به حقه تعالى أيضا بلا كلام وفي نسخة تعلق فيه حق للآدميين قال التلمساني فعلى الأولى معناه أن ما وجب من حق النبي عليه الصلاة والسلام فقد تعلق بالناس كافة فوجب عليهم القيام به وعلى الثاني بأن الأمر وجب له ونحن نأخذ به وليس حقه كحق غيره (فكان كالمرتدّ) بل هو مرتد ما لم يتب وإذا تاب لا معنى له أنه كالمرتد (يقتل) أي مسلما (حين ارتداده أو يقذف) أي محصنة (فإنّ توبته) وإن قبلت من حيث ارتداده (لا تسقط عنه حقّ القتل) وفي نسخة حد القتل (والقذف) وحاصله أنه تقبل توبته عن ارتداده بالنسبة إلى تعلق حق الله به ولا تقبل توبته بالنسبة إلى تعلق حق غيره به (وَأَيْضًا فَإِنَّ تَوْبَةَ الْمُرْتَدِّ إِذَا قُبِلَتْ لَا تسقط ذنوبه) التي اقترفها زمن ردته (من زنى وسرقة وغيرها) كقتل وشرب خمر (ولم يقتل سابّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لكفره) أي بعد توبته وأما قول الدلجي لأنه لم يسبق له إسلام فلا وجه لعلته (لكن) يقتل (لمعنى يرجع إلى تعظيم حرمته) في مقام نبوته (وزوال المعرّة به) أي بقتله (وذلك) المعنى (لَا تُسْقِطُهُ التَّوْبَةُ؛ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ) أي المصنف (يريد) القائل (وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ سَبَّهُ لَمْ يَكُنْ بِكَلِمَةٍ تقتضي الكفر) أي في نفس الأمر (ولكن بمعنى الإزراء والاستخفاف) وهذا غريب فإن الطعن في نبوته والقدح في نعته مناقض للإقرار برسالته وقبول دعوته وقد سبق أن سبه كفر بالإجماع وإنما قبول توبته في الدنيا محل النزاع (أو لأنّه) أي الشأن (بتوبته وإظهار إنابته) أي رجوعه (ارتفع عنه اسم الكفر ظاهرا) وهو ظاهر (والله أعلم بسريرته) وهذا حكم كل كافر أو مرتد يدخل في دين الإسلام فإنا نحكم عليه بظاهر ونكل(2/472)
سريرته إلى عالم السرائر كما يشير إليه قوله عليه الصلاة والسلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وحسابهم على الله (وبقي حكم السّبّ عليه) عند المالكية فيقتل حدا لا كفرا وأما عند غيرهم فحكم السب هو الكفر وارتفع بتوبته ورجوعه إلى شريعته، (وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْقَابِسِيُّ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ قُتِلَ وَلَمْ يُسْتَتَبْ، لِأَنَّ السَّبَّ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الّتي لا تسقط عن المرتدّ) فلا يستتاب لردته كذا قال والأولى على مقتضى مذهبهم أيضا القول باستتابته لتنفعه توبته عند ربه وإن كان يقتل حدا أن تاب عندهم (وكلام شيوخنا هؤلاء) المالكية المذكورين (مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِقَتْلِهِ حَدًّا لَا كُفْرًا وهو يحتاج إلى تفصيل) فإن من سبه بما لا يقتضي كفرا قتل حدا وكذا أن سبه بما يقتضيه وتاب وإلا قتل كفرا كذا ذكره الدلجي وهو خطأ فاحش لأن سبه بما لا يقتضي كفرا لا يتصور أصلا فإن مطلق سبه كفر قطعا. (وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مالك ومن وافقه) أي مالكا أو الوليد (على ذلك ممّن ذكرناه) فيما مر (وقال به من أهل العلم) أي كثيرون (فقد صرّحوا بأنّه) أي سبه عليه الصلاة والسلام (رِدَّةٌ قَالُوا وَيُسْتَتَابُ مِنْهَا فَإِنْ تَابَ نُكِّلَ) بصيغة المجهول أي عوقب عبرة لغيره إذ النكال العقوبة التي تنكل الناس أي تمنعهم عن فعل ما جعلت له جزاء وهذا عندهم أيضا (وإن أبى) أي امتنع عن التوبة (قتل) إجماعا (فحكم له) أي مالك للساب (بحكم المرتدّ مطلقا) بوجوب استتابته وقبولها مطلقا (في هذا الوجه) الذي رواه الوليد عن مالك ووافقه عليه غيره ووقع في أصل الدلجي الزنديق بدل المرتد والظاهر أنه خطأ (والوجه الأوّل أشهر) من رواية الوليد (وأظهر لما قدّمناه) من أنه يقتل حدا لا كفرا إن تاب وأخطأ الدلجي في قوله هنا وإن تاب لأن مفهومه أنه إذا لم يتب يقتل حدا لا كفرا وهو خلاف الإجماع (ونحن نبسط الكلام فيه) أي في سبه عليه الصلاة والسلام (فنقول من لم يره ردّة) أي ارتدادا عن الإسلام وهو بعيد عن مقام النظام (فهو يوجب القتل فيه) أي به (حدّا) أي لا كفرا (وإنّما نقول ذلك) أي كونه ليس بردة (مع فصلين) أي في محلين (إِمَّا مَعَ إِنْكَارِهِ مَا شُهِدَ عَلَيْهِ بِهِ) بصيغة المجهول (أو إظهاره الإقلاع) أي التحول والارتحال (والتّوبة) أي وإظهارها (عَنْهُ فَنَقْتُلُهُ حَدًّا لِثَبَاتِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَيْهِ) إما بالبينة أو بالتوبة (في حقّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وتحقيره) أي سابه (مَا عَظَّمَ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ وَأَجْرَيْنَا حُكْمَهُ في ميراثه وغير ذلك) مما له من الحقوق (حكم الزّنديق إذا ظهر عليه وأنكر) زندقته (أو تاب) عنها (فإن قيل وكيف) وفي نسخة صحيحة فكيف (تثبتون عليه الكفر) بإقراره (ويشهد عليه) بالبناء للمفعول (بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ وَلَا تَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِحُكْمِهِ مِنَ الاستتابة وتوابعها) أي من القبول ورفع القتل عنه كما عليه جمهور السلف والخلف وعامة الأئمة (قلنا نحن) المالكية (وإن أثبتنا له حكم الكافر في القتل فلا نقطع) بالجزم (عليه بذلك) الكفر (لِإِقْرَارِهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَإِنْكَارِهِ مَا شُهِدَ بِهِ عليه أو زعمه) بضم الزاء وفتحها أي أو لدعواه (أنّ ذلك كان منه وهلا) بفتح الهاء وسكونها أي غلطا وسهوا ويروى وهما وهو بسكون الهاء وتحرك(2/473)
(ومعصية) خطأ (وأنه مقلع) معرض (عن ذلك) الصادر منه هنالك (نادم عليه) أي على ما ينسب إليه (ولا يمتنع إثبات بعض أحكام الكفر) كالقتل (على بعض الأشخاص) من المسلمين (وإن لم تثبت له خصائصه) أي جميع خصائصه الموجبة للحكم عليه به (كقتل تارك الصّلاة) كسلا أو تهاونا حدا لا كفرا عند من قال به وهو خلاف ظواهر الأدلة وقواعد الأئمة بخلاف من تركها جحدا أو استحلالا فإنه كفر إجماعا (وأمّا من علم أنه سبّه معتقدا لاستحلاله فلا شكّ في كفره بذلك) أي باعتقاد استحلاله مع الإجماع على حرمته (وكذلك إن كان سبّه في نفسه) مع قطع النظر عن استخفافه واستحلاله (كفرا كتكذيبه أو تكفيره، ونحوه) كالشك في نبوته أو رسالته (فهذا ممّا لا إشكال فيه) بالحكم عليه بالكفر (ويقتل) حدا (وإن تاب منه لأنّا) معشر المالكية (لا نقبل توبته) لرفع القتل عنه (ونقتله بعد التّوبة حدّا) لا كفرا (لقوله) الذي ظهر منه (ومتقدّم كفره) أي الذي صدر عنه (وأمره بعد) أي بعد توبته وقتله (إِلَى اللَّهِ الْمُطَّلِعِ عَلَى صِحَّةِ إِقْلَاعِهِ الْعَالِمِ بسرّه) أي بباطن حاله (وكذلك) يقتل بل هو أولى هنالك (مَنْ لَمْ يُظْهِرِ التَّوْبَةَ وَاعْتَرَفَ بِمَا شُهِدَ به عليه وصمّم عليه) بأن عزم وجزم على ما لديه (فهذا كافر) بلا خلاف (بِقَوْلِهِ وَبِاسْتِحْلَالِهِ هَتْكَ حُرْمَةِ اللَّهِ وَحُرْمَةِ نَبِيِّهِ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْتَلُ كَافِرًا بِلَا خِلَافٍ فَعَلَى هذه التّفصيلات خذ كلام العلماء) وفي أصل الدلجي أخذ ولكنه لا يلائمه قوله (واترك مختلف عباراتهم) لأن المناسب أن يكون كلاهما بصيغة الأمر وضبط التلمساني بحاء مهملة مضمومة ودال مهملة مشددة أمر من حد الشيء ميزه أو من حده صرفه ورتبه وفي نسخة عباراتهم بصيغة الجمع والمعنى اترك عباراتهم المختلفة التي مآلها واحد (في الاحتجاج) بقتله (عليها) أي على التفصيلات (وأجر) أي أمض (اختلافهم في الموارثة) وروي الوارثة (وغيرها) من اجراء أحكام الإسلام على من تاب وإن حكم بقتله من الصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين (عَلَى تَرْتِيبِهَا تَتَّضِحُ لَكَ مَقَاصِدُهُمْ إِنْ شَاءَ الله تعالى) .
فصل (إذا قلنا بالاستتابة حيث تصحّ)
منه على رواية الوفيد بن مسلم عن مالك (فالاختلاف فيها) أي في الاستتابة (محمول عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّ إِذْ لَا فرق بينهما) عند مالك على الرواية السابقة (وقد اختلف السّلف في وجوبها) أي الاستتابة (وصورتها) أي كيفيتها (وَمُدَّتِهَا فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ المرتدّ يستتاب) وجوبا أو ندبا (وحكى ابن القصّار أنه) أي قول الجمهور (إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى تَصْوِيبِ قَوْلِ عُمَرَ في الاستتابة) سواء يكون إيجابا أو استحبابا (ولم ينكره) أي قول عمر (واحد منهم) فيكون إجماعا سكوتيا بالنسبة إلى بعضهم (وهو قول عثمان وعليّ وابن مسعود) أي مختارهم المنصوص عنهم (وبه) أي ويقول من تقدم من الصحابة (قال عطاء بن أبي رباح) بفتح الراء وهو من إجلاء التابعين من أهل مكة (والنّخعيّ) بفتح النون والخاء المعجمة ويسكن تابعي كوفي (والثّوريّ ومالك وأصحابه(2/474)
والأوزاعيّ) منسوب إلى قبيلة من همدان (والشافعيّ وأحمد وإسحاق) أي ابن راهويه (وأصحاب الرأي) أي الثاقب الذي هو أسنى المناقب قال النووي المراد بأصحاب الرأي الفقهاء الحنفية وهذا عرف أهل خراسان (وذهب طاوس) يكتب بواو واحدة كداود وهو ابن كيسان اليمني وزيد في نسخة ومحمد بن الحسن وهو من أصحاب أبي حنيفة (وعبيد بن عمير) بالتصغير فيهما وهو أبو قتادة الليثي يروي عن أبي وعمر وعائشة وعنه ابنه وابن أبي مليكة وعمرو بن دينار وآخرون قال الذهبي ذكر ثابت البناني أنه قص على عهد عمر وهذا بعيد انتهى وثقه أبو زرعة وجماعة توفي سنة أربع وسبعين وأخرج له الأئمة الستة (والحسن) أي البصري (فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُسْتَتَابُ) أي وجوبا إلا أنه لو تاب تقبل توبته ولا يقتل (وقاله) أي وقال به (عبد العزيز بن أبي سلمة) أي الماجشون بكسر الجيم كان إماما معظما ولدته أمه على ما قيل لأربع سنين توفي سنة أربع وستين ومائة اخرج له الأئمة الستة روى عن الزهري وابن المنكدر ولم يدرك نافعا وليس بالمكثر اجازه المهدي بعشرة آلاف دينار قال أبو الوليد كان يصلح للوزارة (وذكره عن معاذ) أي ابن جبل الأنصاري (وأنكره) أي نقله (سُحْنُونٌ عَنْ مُعَاذٍ وَحَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي يوسف وهو) أي القول بعدم وجوب الاستتابة (قول أهل الظاهر) وهم داود بن محمد الظاهر واتباعه (قالوا) أي القائلون بعدم وجوب الاستتابة أو علماء المالكية أو العلماء أجمعون (وَتَنْفَعُهُ تَوْبَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنْ لَا نَدْرَأُ القتل) أي لا ندفعه (عنه) نحن معاشر المالكية (لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم) فيما رواه أحمد والبخاري والأربعة عن ابن عباس (من بدّل دينه) أي غيره (فاقتلوه) أي إن لم يتب ولا يصح حمله على إطلاقه لمخالفة الإجماع على أن المرتد إذا تاب قبلت توبته ولم يقتل وأما تخصيص حكم الساب فمذهب حادث من مالك وأصحابه (وحكي عن عطاء أنه إن كان) أي المرتد (ممّن ولد في الإسلام) أي ولد مسلما (لم يستتب) أي لا وجوبا ولا استحبابا وليس في كلامه ما يدل على عدم قبول توبته (ويستتاب الإسلامي) أي المنسوب إلى الإسلام بالدخول عليه ولعل الفرق مبني على زجر الأول وعدم عذره فتأمل (وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ وَالْمُرْتَدَّةَ فِي ذلك) أي في القتل لا في وجوب الاستتابة كما توهم الدلجي (سواء) لعموم الحديث السابق (وروي) كما في مصنف ابن أبي شيبة (عن عليّ رضي الله عنه) موقوفا عليه لكنه في حكم المرفوع (لا تقتل المرتدّة وتسترقّ) كما لو أسرت الكافرة (وقاله عطاء) أي وافقه (وَقَتَادَةُ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تُقْتَلُ النّساء في الرّدّة) وأغرب الدلجي بقوله ولعله أراد زمن ردة العرب بعد وفاة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وبه قال أبو حنيفة) ويؤيده ما ورد من النهي عن قتل النساء ففي الصحيحين عن ابن عمر نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان وأن خصه بعضهم بحال الغزاء واعلم أن المرتدة لا تقتل عندنا ولكنها تحبس ابدا إلى أن تتوب ويجوز استرقاق المرتدة بعد ما لحقت بدار الحرب ولعل قول علي محمول على ذلك (قَالَ مَالِكٌ وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالذَّكُرُ وَالْأُنْثَى فِي ذلك) أي في(2/475)
قتل كل منهم بالردة (سواء) أخذا بظاهر الحديث الذي تقدم والله تعالى اعلم (وأمّا مدّتها) أي مدة الاستتابة وجوبا أو استحبابا (فمذهب الجمهور) من العلماء (وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يحبس فيها) فإن تاب وإلا قتل (وقد اختلف فيه) أي في مذهب الجمهور المروي (عن عمر) أنه يستتاب ثلاثة أيام (وهو) أي ما روي عن عمر (أحد قولي الشافعيّ) قال الدلجي والصحيح من مذهبه أنه يستتاب في الحال فإن تاب وإلا قتل (وقول أحمد وإسحاق واستحسنه) أي ذلك (مالك وقال لا يأتي الاستظهار) أي التثبت والانتظار (إلّا بخير) يرجى (وليس عليه) أي على التأني في الأمور (جماعة الناس) لاستعجالهم فيها (قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ يريد به) يعني مالكا بقوله وليس عليه جماعة الناس (في الاستيناء) أي في الاستمهال (ثلاثا وقال مالك أيضا الّذي آخذ) أي أقول (بِهِ فِي الْمُرْتَدِّ قَوْلُ عُمَرَ يُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أيّام ويعرض عليه) أي الإسلام (كلّ يوم فإن تاب) قبلت توبته (وَإِلَّا قُتِلَ وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَصَّارِ في تأخيره) أي المرتد (ثَلَاثًا رِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ هَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ أو مستحبّ) فظاهر مذهبه كما في شرح المختصر لبهرام الوجوب وروى عنه الاستحباب والله تعالى اعلم بالصواب (واستحسن الاستتابة) أي نفسها (والاستيناء) أي الاستمهال (ثلاثا أصحاب الرّأي) حيث ثبت عن الصحابة ولم يثبت الوجوب في الرواية ولا القتل بعد التوبة (وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ اسْتَتَابَ امرأة) أي مرة أو مرات (فلم تتب فقتلها) ولعله قتلها لكونها رئيسة لقومها أو كانت داعية إلى طريقها من كفر بدعوى النبوة أو غيرها قيل كانت المرأة من فزارة على ما رواه البيهقي وفي رواية أنها أم فرقة وفي فتاوى قاضيخان وإذا دخل أهل الإسلام دار الحرب مغيرين لا ينبغي لهم أن يقتلوا النساء إلا إذا قاتلت المرأة أو كانت ملكة أو كانت ذات رأي في الحرب وإذا قاتلت فأخذها المسلمون لا بأس بقتلها وإن أمكن سبيها، (وقال الشّافعيّ مرّة) أي يستتاب في الحال (وإن لم يتب مكانه قتل واستحسنه المزنيّ) المصري منسوب إلى مزينة قبيلة كان ورعا زاهدا مجاب الدعوة متقللا من الدنيا وكان معظما بين أصحاب الشافعي قال الشافعي في حقه لو ناظر الشيطان لغلبه وصنف المبسوط والمختصر والمنثور والمسائل المعتبرة والترغيب في العلم وكتاب الرقائق والأقارب توفي سنة أربع ومائتين ودفن بالقرافة بالقرب من قبر الشافعي (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) أي ولو في يوم واحد (فإن أبى قتل) وأغرب الدلجي فيقوله ولو في ساعة (وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُسْتَتَابُ شَهْرَيْنِ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ يُسْتَتَابُ أَبَدًا وَبِهِ أَخَذَ الثّوريّ ما رجيت توبته) وهو قيد لقول النخعي وجملة وبه أخذ الثوري معترضة وأغرب الدلجي في قوله وبه أخذ وزاد ما رجيت توبته ووجه غرابته أنه لم يتصور من الإمام النخعي أن يقول يستتاب أبدا سواء رجيت توبته أو لم ترج، (وحكى ابن القصّار) أي المالكي (عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ ثَلَاثِ جُمَعٍ كُلَّ يوم) على الأول مرة (أو جمعة) أي كل جمعة (مرّة) قال الدلجي يحتمل أن يكون تخبيرا من أبي حنيفة أو شكا من ابن القصار أو من المصنف(2/476)
قلت والمعتمد في مذهبنا ما ذكره قاضيخان في فتاواه من أن المرتد يعرض عليه الإسلام في الحال فإن اسلم وإلا قتل إلا أن يطلب التأجيل فيؤجل ثلاثة أيام لينظر في أمره ولا يؤجل أكثر من ذلك ويعرض عليه الإسلام في كل يوم من أيام التأجيل فإن اسلم سقط عنه القتل وإن أبي يقتل وجحود الردة يكون عودا إلى الإسلام ثم ردة الرجل تبطل عصمة نفسه حتى لو قتله قاتل بغير أمر القاضي عمدا أو خطأ أو بغير أمر السلطان أو أتلف عضوا من أعضائه لا شيء عليه (وفي كتاب محمد) أي ابن المواز (عن ابن القاسم) أي ابن خالد المصري (يدعى المرتدّ إلى الإسلام ثلاث مرّات) أي في يوم أو أيام كما هو المشهور من مذهب مالك (فَإِنْ أَبَى ضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَاخْتُلِفَ عَلَى هَذَا) القول باستتابته (هل يهدّد) بقتل وضرب وغيرهما (أو يشدّد عليه أيّام الاستتابة) بجوع أو عطش ونحوهما (ليتوب) أي ولو بكره (أم لا) يهدد ولا يشدد (فَقَالَ مَالِكٌ مَا عَلِمْتُ فِي الِاسْتِتَابَةِ تَجْوِيعًا ولا تعطيشا ويؤتى له) أي يعطى (من الطّعام بما لا يضرّه) رجاء رجوعه (وقال أصبغ يخوّف أيّام الاستتابة بالقتل) والتنكيل الوبيل (وَيُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَفِي كِتَابِ أَبِي الْحَسَنِ) ويقال أبو الحسين (الطّابثي) بطاء مهملة ثم موحدة مكسورة فمثلثة فياء نسبة إلى قرية بالبصرة (يوعظ في تلك الأيّام) أي أيام الاستتابة (ويذكّر بالجنّة) ونعيمها (ويخوّف) أي ينذر (بالنّار) وأليمها (قَالَ أَصْبَغُ وَأَيُّ الْمَوَاضِعِ حُبِسَ فِيهَا مِنَ السّجون مع النّاس) المحبوسين (أو وحده) أي مفردا عنهم (إذا استوثق منه) بصيغة المجهول (سواء) لأن المقصود حفظه كي يرجع إلى الإسلام أو يقتل عبرة للأنام (ويوقف ماله) أي يحفظ (إذا خيف أن يتلفه على المسلمين) فاندفع قول الدلجي لم أدر ما محترزه بالظرف المؤذن بأنه إذا لم يخف تلفه لم يوقف بل هو موقوف بسبب ردته مطلقا فإن لم يتب تبين زوال ملكه عنه وكان فيئا انتهى وسيأتي الكلام عليه وإنما نشأ عدم درايته من حمل الموقوف على حكمه لا على حفظه عن ضياع ملكه (ويطعم منه ويسقى وكذلك يستتاب أبدا كلّما رجع) إلى الإسلام (وارتدّ) بعده من الأيام (وقد استتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نبهان) بنون مفتوحة وسكون موحدة وهو أحد ثلاثة من الصحابة كل منهم كان اسمه نبهان لا يعلم أيهم (الّذي ارتدّ) منهم (أربع مرّات أو خمسا) شك من الراوي وقد رواه البيهقي بسند مرسل وقال استتاب رجلا ارتد أربع مرات اسمه نبهان قال الحلبي في الصحابة نبهان التمار أبو مقبل ونبهان أبو سعد ونبهان الأنصاري انتهى ولم يذكر أبو عمر نبهان في كتابه قيل ولم يذكر ابن الجوزي من اسمه نبهان في الصحابة إلا الأول وبه جزم التلمساني حيث قال ونبهان هو التمار وري أنه أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرا فقال لها إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى البيت فضمها إلى نفسه وقبلها فقالت له اتق الله فتركها وندم فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فنزل وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الآية (قال ابن وهب) أي المصري (وعن مالك يستتاب أبدا كلّما رجع) إلى الردة (وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ) المصري الفقيه المالكي (وقال إسحاق) أي ابن(2/477)
راهويه (يقتل في الأربعة) بدون استتابة (وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ إِنْ لَمْ يَتُبْ فِي الرّابعة) أي من مرات الردة (قُتِلَ دُونَ اسْتِتَابَةٍ وَإِنْ تَابَ ضُرِبَ ضَرْبًا وَجِيعًا وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ السِّجْنِ حَتَّى يَظْهَرَ عليه خشوع التّوبة) أي آثار صحتها وأنوار ندامتها قال الدلجي وهو عجيب لمخالفة قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ انتهى ولا يخفى أن ليس في الآية نص على خلاف ذلك وإنما هي مطلقة قابلة للتقييد إذا وجد دليل مخصص يظهر للمجتهد وكفى بإسحاق إماما مجتهدا وإماما نسب إلى أصحاب أبي حنيفة رحمه الله تعالى فهو غير مشهور عنهم ففي قاضيخان رجل ارتد مرارا وجدد الإسلام في كل مرة وجدد النكاح فعلى قول أبي حنيفة تحل له امرأته من غير اصابة الزوج الثاني لأن عنده الردة لا تكون طلاقا واباء الزوج عن الإسلام يكون طلاقا وعلى قول أبي يوسف ردته وإباؤه لا يكون طلاقا وعند محمد كلاهما طلاق وردة المرأة واباؤها لا يكون طلاقا وتقع الفرقة عند عامة العلماء بردتها وعند البعض لا تقع وأجمع أصحابنا أن الردة تبطل عصمة النكاح فتقع الفرقة بينهما بنفس الردة وعند الشافعي لا تقع الفرقة إلا بقضاء القاضي (قال ابن المنذر ولا نعلم أحدا) من العلماء (أوجب على المرتدّ في المرّة الأولى) من ردته (أدبا إذا رجع) بنفسه عنها إلى الإسلام (وهو) أي عدم وجوب الأدب على المرتد إذا رجع مبنى (على مذهب مالك والشّافعيّ والكوفيّ) يعني به أبا حنيفة لأنه الفرد الأكمل لا سيما من علماء الكوفة.
فصل (هذا حكم من ثبت عليه ذلك)
الكفر (بما يجب ثبوته) أي يعتبر وجوده (من إقرار) ممن صدر عنه (أو عدول) أي شهادة عدلين أو أكثر (لم يدفع فيهم) أي لم يطعن في حقهم (وأمّا) وفي نسخة فأما (من لم تتمّ الشّهادة عليه) لنقص كمية أو صفة (بما شهد عليه الواحد) ولو عدلا (أو اللّفيف) أي الطائفة الملتفة أو الجماعة المختلفة (من النّاس) المتهمين في العدالة (أو ثبت قوله) بإقراره أو بشهادة مقبولة (لكن احتمل) قوله تأويلا (ولم يكن صريحا) في كونه كفرا (وكذلك) الحكم أي مطلقا لا حكم من لم تتم الشهادة عليه كما توهم الدلجي لأنه يدفعه قوله (إن تاب على القول) المنقول عن مالك برواية الوليد بن مسلم (بقبول توبته) كما عليه الجمهور (فهذا) أي ما ذكر من الشيخين (يدرأ عنه القتل) يحتمل كونه مبنيا للفاعل أو المفعول أي يدفع عنه (ويتسلّط عليه اجتهاد الإمام) في تعزيره وتشهيره (بقدر شهرة حاله وقوّة الشّهادة عليه) أي على مقاله (وضعفها وكثرة السّماع عنه) لما صدر منه (وصورة حاله من التّهمة في الدّين والنّبز) بفتح النون وسكون الموحدة فزاء أي ومن دعائه وندائه بلقب السوء (بالسّفه) أي خفة العقل (والمجون) بضمتين أي وبعدم المبالاة في أمور الديانات وفي نسخة الفجور فإن المعاصي تزيد الكفر (فمن قوي أمره) أي وضعف قدره (أذاقه) الإمام (من شديد) وروي من شر (النّكال) بفتح النون أي العقوبة والوبال (من التّضييق في السّجن(2/478)
والشّدّ) أي التشديد (في القيود) ويروي في القيد (إلى الغاية التي هي منتهى طاقته ممّا لا يمنعه القيام لضرورته) من قضاء حاجته (ولا يقعده) أي لا يمنعه (عن صلاته) من شروطها واركانها في طاعته (وهو) أي إذاقة شديد العقوبة (حُكْمُ كُلِّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ لَكِنْ وقف) بصيغة المجهول أي توقف (عن قتله لمعنى أوجبه وتربّص به) على بناء المفعول أي انتظر (لإشكال وعائق) أي مانع شرعي أو عرفي (اقتضاه أمره وحالات الشّدّة) أي عليه كما في نسخة (في نكاله تختلف) قوة وضعفا (بحسب اختلاف حاله وقد روى الوليد) أي ابن مسلم (عن مالك والأوزاعيّ أنّها) أي مقالته الغير الصريحة (ردّة فإذا تاب نكّل) أي تنكيلا شديدا (ولمالك في العتبيّة) اسم كتاب (وكتاب محمد) أي ابن المواز (مِنْ رِوَايَةِ أَشْهَبَ إِذَا تَابَ الْمُرْتَدُّ فَلَا عقوبة عليه) وهو الموافق لقول السلف والخلف لقوله تَعَالَى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ (وأفتى أبو عبد الله بن عتّاب) بتشديد الفوقية (فيمن سبّ النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ عُدِّلَ أَحَدُهُمَا) بضم العين وتشديد الدال أي زكى أحدهما دون الآخر (بالأدب الموجع) متعلق بأفتى (والتّنكيل) الرادع (والسّجن) الهالع (الطّويل) زمانا الضيق مكانا (حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ وَقَالَ الْقَابِسِيُّ فِي مِثْلِ هذا) الذي ذكر (وَمَنْ كَانَ أَقْصَى أَمْرِهِ الْقَتْلَ فَعَاقَ عَائِقٌ) أي صرفه صارف (أشكله) أي جعله مشكلا (في القتل) أي في امضائه (لم ينبغ أن يطلق من السّجن ولكن يستطال سجنه ولو كان فيه) أي في السجن (من المدّة) بيان مقدم لقوله (ما عسى أن يقيم) أي يطول فيه (وَيُحْمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَيْدِ مَا يُطِيقُ وَقَالَ) أي القابسي (فِي مِثْلِهِ مِمَّنْ أَشْكَلَ أَمْرُهُ يُشَدُّ فِي القيود شدّا ويضيّق عليه في السّجن) أمدا (حتّى ينظر فيما يجب عليه) آخرا؛ (وقال في مسألة أخرى مثلها) لعلها ما سبق في فصل الوجه الخامس من أن القابسي سئل عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ قَبِيحٍ كَأَنَّهُ وَجْهُ نكير إلى آخره فإنه أفتى هنالك بنظير ما أفتى به هنا (ولا تهراق) بضم أوله وسكون ثانيه ويفتح أي ولا تصب (الدّماء إلّا بالأمر الواضح) لحديث لا يحل دم امرئ مسلم إلا لثلاث ردة أو قتل نفس أو زنا محصن (وفي الأدب بالسّوط) أي الضرب له (والسّجن نكال) أي زجر وردع (للسّفهاء ويعاقب عقوبة شديدة) أي مدة مديدة (فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ سِوَى شَاهِدَيْنِ فأثبت) للدفع عن نفسه (من عداوتهما) في أمر الدنيا (أو جرحتهما) بضم الجيم أي طعنهما من جهة الدين (ما أسقطهما) أي دفع شهادتهما عنه وروي ما اسقطها (ولم يسمع ذلك) الأمر (من غيرهما) بأن انحصرت الشهادة فيهما (فأمره أخفّ) ممن قبله (لسقوط الحكم) من قتل ونكال (عنه وكأنّه لم يشهد عليه) بصيغة المجهول (إلّا أن يكون ممّن يليق به ذلك) النكال حيث يظن منه صدور ذلك المقال (ويكون الشاهدان من أهل التّبريز) من البروز وهو الظهور أي بأن أمرهما في عدالتهما (فَأَسْقَطَهُمَا بِعَدَاوَةٍ فَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَنْفُذِ الْحُكْمُ) المترتب (عليه بشهادتهما) المجروحة (فلا يدفع الظّنّ صدقهما) فيما برز منهما وظهر عنهما (وللحاكم في تنكيله هنا) موضع (اجتهاد والله وليّ الإرشاد) أي الهداية وروي الرشاد وهو الصواب والسداد.(2/479)
فصل [هذا حكم المسلم]
(هذا) الذي قدمناه (حكم المسلم) الذي ارتد (فأمّا الذّمّيّ إذا صرّح بسبّه) أي للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم (أو عرّض) أي لوح (أَوِ اسْتَخَفَّ بِقَدْرِهِ أَوْ وَصَفَهُ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الّذي كفر به) أي الذمي وكان يتعين التصريح بذكره وهو في نسخة بصيغة المجهول مشددا وليس على ما ينبغي ثم الوجه اعتقاد عدم نبوته أو رسالته وغير وجهه كقوله ليس بذي تقوى (فلا خلاف عندنا) أئمة المالكية (فِي قَتْلِهِ إِنْ لَمْ يُسْلِمْ لِأَنَّا لَمْ نعطه الذّمة) أي بالجزية (أو العهد) بالمصالحة والأمان (على هذا) الذي صدر عنه من السب ونحوه (وهو) أي قتله بشرطه (قول عامّة العلماء) أي جميعهم (إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيَّ وَأَتْبَاعَهُمَا مِنْ أَهْلِ الكوفة) أي فقهائهم (فإنّهم قالوا) أي جميعهم (لا يقتل) الذمي بذلك وعللوه بقولهم (لأنّ ما هو عليه من الشّرك أعظم) مما صدر من سبه صلى الله تعالى عليه وسلم (ولكن يؤدّب ويعزّر) بقدر مقاله وقوة حاله (واستدلّ بعض شيوخنا) المالكية (على قتله) أي الذمي المذكور (بقوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) أي نقضوا ما بايعوا عليه من الإيمان (مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) المؤكد بها (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ [التوبة: 12] ) أي عابوه (الآية) أي فقاتلوا أئمة الكفر أنهم لا إيمان لهم بفتح الهمزة جمع يمين اثبتها لهم ثم نفاها عنهم لأنها في الحقيقة كلا إيمان وبه أخذ أبو حنيفة أن يمين الكافر كلا يمين وعن الشافعي هي يمين ومعنى لا إيمان لهم لا يوفونها وفي قراءة ابن عامر بكسر الهمزة وقوله لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ متعلق بقاتلوا قال التلمساني وفي بعض الأصول فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ الآية والتلاوة فقاتلوا أئمة الكفر ولا دليل على القتل بهذا النص لأن المقاتلة غير القتل ولو استدل بقوله قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ الآية لكان أقرب انتهى ولا يخفى أن الآيتين في المصالحة مع الحربي والكلام في الذمي وقد قال تعالى قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ فظاهر الآية أن بعد اعطاء الجزية يرتفع عنهم القتل، (ويستدلّ أيضا عليه) أي على قتل الذمي الذام (بقتل النبيّ عليه الصلاة والسلام لابن الأشراف وأشباهه) قال الدلجي كأبي رافع من اليهود وأبي وأمية ابني خلف من قريش انتهى ولا يخفى أن ابن الأشرف واليهودي الآخر لم يكونا من أهل الذمة وأما ابنا خلف فهم من أهل الحرب (وَلِأَنَّا لَمْ نُعَاهِدْهُمْ وَلَمْ نُعْطِهِمُ الذِّمَّةَ عَلَى هَذَا وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ معهم) فينبغي أن يشترك عليهم ذلك حال معاهدتهم (فَإِذَا أَتَوْا مَا لَمْ يُعْطَوْا عَلَيْهِ الْعَهْدَ وَلَا الذِّمَّةَ فَقَدْ نَقَضُوا ذِمَّتَهُمْ وَصَارُوا كُفَّارًا) أي حربيين وفي نسخة وصاروا أهل حرب وجمع بينهما الدلجي في أصله (يقتلون بكفرهم) وفي نسخة لكفرهم على أن الباء سببية واللام تعليلية (وَأَيْضًا فَإِنَّ ذِمَّتَهُمْ لَا تُسْقِطُ حُدُودَ الْإِسْلَامِ عنهم) وروي عليهم (من القطع في سرقة أموالهم) أي أموال المسلمين (والقتل لمن قتلوه منهم) أي(2/480)
من المؤمنين (وإن كان ذلك) الذي ذكر من السرقة والقتل (حلالا عندهم) وأما تمثيل الدلجي بحد الزنا جلدا أو رجما فليس في محله فإنه لم يختلف أحد منا ومنهم في تحريمه (فكذلك سبّهم للنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يقتلون به) وفيه أنه نوع كفر مندرج في جنس كفرهم لا أنه فرع من جملة الأحكام المختصة بهم أو الشاملة لهم ولغيرهم (ووردت لأصحابنا) المالكية (ظواهر تقتضي الخلاف) في قتل الذمي وعدمه (إذا ذكره) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (الذّمّيّ بالوجه الّذي كفر به) الذمي كتكذيبه النبوة أو الرسالة العامة (ستقف عليها) أي على تلك الظواهر (مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ سُحْنُونٍ بَعْدُ) أي بعد ذلك (وحكى أبو المصعب) بصيغة المعلوم (الخلاف فيها) أي في الظواهر قاله الدلجي والصواب في المسألة (عن أصحابه المدنيّين) قال الحلبي هو أحمد بن أبي بكر القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف أبو مصعب الزهري المدني الفقيه قاضي المدينة يروي عن مالك (واختلفوا) أي المالكية (إذا سبّه) أي الذمي (ثُمَّ أَسْلَمَ فَقِيلَ؛ يُسْقِطُ إِسْلَامُهُ قَتْلَهُ لِأَنَّ الإسلام يجبّ ما قبله) كما في حديث صحيح أي يقطع ويمحو ما كان قبله من كفر ومعصية وفي رواية الإسلام يهدم ما قبله قالوا معناه يهدم الإسلام ما كان قبله على الإطلاق مظلمة كانت أو غيرها كذا ذكره الانطاكي (بخلاف المسلم إذا سبّه ثمّ تاب) فإنا نقتله حدا لا كفرا (لأنّا نعلم باطنة الكافر) أي معتقده قال الحجازي وروي الكفر أقول ولا وجه له (في بعضه له وتنقّصه بقلبه لكنّا منعناه) أي الذمي (من إظهاره فلم يزدنا ما أظهره) من السب وغيره (إِلَّا مُخَالَفَةً لِلْأَمْرِ وَنَقْضًا لِلْعَهْدِ فَإِذَا رَجَعَ عَنْ دِينِهِ الْأَوَّلِ إِلَى الْإِسْلَامِ سَقَطَ مَا قبله) مما كان يلام؛ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الْأَنْفَالِ: 38] وَالْمُسْلِمُ بِخِلَافِهِ إِذْ كَانَ ظَنُّنَا بِبَاطِنِهِ حُكْمَ ظاهره وخلاف ما بدا) بالألف أي ظهر (عنه الآن فلم نقبل بعد) أي بعد ذلك (رجوعه) بالتوبة وفيه أن كفره ساعة كيف يكون أشد من كفر سنين مع أنه لا عبرة بظننا إذ يحتمل أنه كان كافرا ويتستر وما صح له الإيمان المعتبر ولهذا قال بعض العارفين الإيمان إذا دخل القلب أمن السلب وقال بعضهم الذي رجع ما رجع إلا من الطريق ويشير إليه قوله تعالى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها أي لا انقطاع (ولا استأمنا) أي لم يظهر لنا الأمن (إلى باطنه) وفي بعض النسخ ولا استنمنا أي ما اطمأننا إلى باطنه يقال استنام إليه أي سكن واستأنس فاندفع قول الأنطاكي إنه لا معنى له ولعله تصحيف وقال الدلجي أي ولا ارتفعنا إلى ذروة سنام باطنه ولا اطلعنا عليه قلت وكذلك الحال بالنسبة إلى الكافر الأصلي إذا اسلم إذ يحتمل أن يكون منافقا أو لم يوجد فيه شرط من شروط صحة الإيمان والله المستعان (إذ قد بدت سرائره) أي ظهرت ضمائره بخلاف ظننا به (ما ثبت عليه) أي على المسلم (من الأحكام باقية عليه لم يسقطها شيء) قلت فينبغي أن يكون أقرب إلى القبول من الكافر الأصلي (وَقِيلَ لَا يُسْقِطُ إِسْلَامُ الذِّمِّيِّ السَّابِّ قَتْلَهُ لأنّه حقّ للنبيّ صلى الله(2/481)
تعالى عليه وسلم وجب عليه) أي على الذمي (لانتهاكه حرمته) أي تناولها بما لا يحل له (وقصده إلحاق النّقيصة) وفي نسخة الحاقه النقيصة أي المنقصة (والمعرّة به) أي المشقة بالمذمة (فلم يكن رجوعه إلى الإسلام بالذي) أي بالوجه الذي (يسقطه) وفيه أن كل الصيد في جوف الفرا وجنس الكفر يشمل أنواعه كما ترى ولا يظهر قياسه بقوله (كما وجب عليه) أي الذمي (مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلِ إِسْلَامِهِ مِنْ قَتْلٍ وَقَذْفٍ وَإِذَا كُنَّا لَا نَقْبَلُ تَوْبَةَ المسلم) أي الساب لدفع قتله (فإن لا نقبل توبة الكافر) أي الذمي (أولى) بل الأولى كما تقبل توبة الحربي أن تقبل توبة الذمي والمسلم لأنهما أقرب إلى الدين وقد قبل النبي عليه الصلاة والسلام توبة المرتدين واليهود بعد شتمهم للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والله سبحانه وتعالى أعلم. (قال مالك في كتاب ابن حبيب) وهو صاحب الواضحة (والمبسوط) أي وفيه (وابن القاسم) أي وفي كتابه (وابن الماجشون) بكسر الجيم فى صورة الجمع وآل لا تفارقه وقال النووي الماجشون لفظ أعجمي وهو من أصحاب مالك (وابن عبد الحكم) قال التلمساني هو إذا أطلق عند الفقهاء فهو محمد بن عبد الله بن عبد الحكم بن عبد الله بن عثمان (وَأَصْبَغَ فِيمَنْ شَتَمَ نَبِيَّنَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قُتِلَ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي العتبيّة) بضم أوله (وعند محمد) أي ابن المواز (وَابْنِ سُحْنُونٍ وَقَالَ سُحْنُونٌ وَأَصْبَغُ لَا يُقَالُ له أسلم) أقول وما المانع من ذلك (ولا تسلم) وهذا أغرب من الأول إذ كيف يجوز لمسلم أن يقول لكافر لا تسلم وكأن مراده أنه لا يعتبر قول أحد له اسلم أو لا تسلم والمعنى أنه لا يجب أن يعرض عليه الإسلام (ولكن إن أسلم وحده) أي باختياره (فذلك له توبة وفي كتاب محمد) أي ابن المواز (أَخْبَرَنَا أَصْحَابُ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ مَنْ سَبَّ رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ مسلم أو كافر) أي ذمي إذ يبعد إطلاقه (قتل ولم يستتب) أي لم تقبل توبته (وروي) بصيغة المجهول (لنا عن مالك) كما في كتاب ابن حبيب وغيره زيادة بعد قوله قاقتلوه (إلّا أن يسلم الكافر) ذميا أو غيره (وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنّ راهبا تناول النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فَهَلَّا قَتَلْتُمُوهُ) ليس فيه أنه اسلم وأمر بقتله (وروى عيسى) أي ابن معين (عن ابن القاسم) الفقيه المصري (فِي ذَمِّيٍّ قَالَ إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُرْسَلْ إلينا) معشر بني إسرائيل (إنّما أرسل إليكم) أيها العرب (وإنّما نبيّنا موسى أو عيسى) عن وجه التنويع (ونحو هذا لا شيء عليهم) ويروى عليه أي من القتل أو الضرب (لأنّ الله تعالى أقرّهم على مثله) إذا قبلوا الجزية (وأمّا إن سبّه) ذمي (فقال ليس بنبيّ) أي مطلقا (أو لم يرسل) إلى أحد (أَوْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ قُرْآنٌ وَإِنَّمَا هُوَ) أي القرآن (شيء تقوّله) افتراه (أو نحو هذا فيقتل) أي إن لم يسلم (قال ابن القاسم وإذا قال النّصرانيّ) وكذا اليهودي (ديننا خير من دينكم) هذا ليس عليه شيء (إنّما دِينُكُمْ دِينُ الْحَمِيرِ وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْقَبِيحِ) أي قبيح الكلام مما هو طعن في دين الإسلام (أَوْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله فقال كذلك يعطيكم الله) يعني الرسالة أو(2/482)
يجعلكم مثله رسلا (ففي هذا الأدب الموجع) الرادع (والسّجن الطّويل) الوازع إذا ليس فيه تلويح إلى نفي رسالته ولا تصريح (قال) أي ابن القاسم (وأمّا إن) وفي نسخة من (شتم النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم شتما يعرف) تصريحا لا يكون تلويحا (فَإِنَّهُ يُقْتَلُ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ قَالَهُ مَالِكٌ غير مرّة) أي كثيرا (ولم يقل يستتاب) أي يعرض عليه الإسلام (قال ابن القاسم ومحمل قوله) أي قول مالك إلا أن يسلم (عندي إن أسلم طائعا) أي من غير أن يقال له اسلم وإلا تقتل، (وَقَالَ ابْنُ سُحْنُونٍ فِي سُؤَالَاتِ سُلَيْمَانَ بْنِ سَالِمٍ فِي الْيَهُودِيِّ يَقُولُ لِلْمُؤَذِّنِ إِذَا تَشَهَّدَ) أي بالرسالة (كَذَبْتَ يُعَاقَبُ الْعُقُوبَةَ الْمُوجِعَةَ مَعَ السِّجْنِ الطَّوِيلِ) وفيه أنه مخالف لما سبق من أن الذمي لو نفى النبوة أو الرسالة يقتل اللهم إلا أن يقال هذا تلويح لا تصريح إذ الخطاب مع المؤذن فيحتمل أن يراد تكذيبه وإنما قيدنا الشهادة بالرسالة لأنه لو كذب التوحيد يصير حربيا فيقتل إلا أن يسلم (وفي النّوادر) لابن أبي زيد (من رواية سحنون عنه) أي عن مالك (مَنْ شَتَمَ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِغَيْرِ الوجه الّذي به كفروا) أي به فاندفع قول الحلبي لو قال كفر لكان أولى ثم لا يخفى أن من مفرد مبنى وجمع معنى فليس أحد من الاستعمالين أولى قال الله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (ضربت عنقه) بصيغة المجهول (إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سُحْنُونٍ فإن قيل لم قتلته) أي أمرت بقتل الذمي (في سبّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ومن دينه سبّه وتكذيبه) جملة حالية (قيل) أي في جوابه (لأنّا لم نعطهم العهد) أي الذمة والأمان (على ذلك) أي على إظهاره (ولا على قتلنا وأخذ أموالنا) بل على الكف عن ذلك وبذل الجزية مع المذلة هنالك (فإذا قتل) ذمي (واحدا) أي منا كما في نسخة (قتلناه) أو أخذ مالا منا أخذناه منه (وإن كان من دينه استحلاله) أي عده حلالا (فكذلك إظهاره لسبّ نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم) موجب لقتله وإن كان معتقدا لحله (قَالَ سُحْنُونٌ كَمَا لَوْ بَذَلَ لَنَا أَهْلُ الحرب) أي ولو من أهل الكتاب (الْجِزْيَةَ عَلَى إِقْرَارِهِمْ عَلَى سَبِّهِ لَمْ يَجُزْ لنا ذلك في قول قائل) من العلماء (كَذَلِكَ يَنْتَقِضُ عَهْدُ مَنْ سَبَّ مِنْهُمْ وَيَحِلُّ لنا دمه) الظاهر أنه إذا أخذ عليه العهد بعدم سبه حتى يصح قوله ينتقض (وكما لَمْ يُحْصِنِ الْإِسْلَامُ مَنْ سَبَّهُ مِنَ الْقَتْلِ كذلك لا تحصّنه الذّمّة) وهذا قياس مع الفارق ولذا لم يقل به جمهور الأمة وأغرب الدلجي بقوله بل أولى هذا (قال القاضي أبو الفضل) أي المنصف (ما ذكره ابن سحنون عن نفسه) أي أولا (وعن أبيه) ثانيا (مخالف لقول ابن القاسم فيما خفّف) وفي نسخة يخفف (عقوبتهم فيه ممّا به كفروا فتأمّله) ليظهر لك ترجيح أحد الوجهين (ويدلّ على أنه) أي ما قاله ابن سحنون عنه وعن أبيه (خلاف ما روي عن المدنيّين) من أصحاب مالك (في ذلك فحكى) قال التلمساني صوابه كما في نسخة ما حكى (أبو المصعب الزّهريّ قال أتيت) بضم الهمزة وتاء المتكلم (بِنَصْرَانِيٍّ قَالَ وَالَّذِي اصْطَفَى عِيسَى عَلَى مُحَمَّدٍ فاختلف) أي الرأي (عليّ) أي عندي (فيه) أي في أمره (فضربته) أي ضربا وجيعا (حتّى قتلته أو عاش) بعد ضربه (يوما وليلة وأمرت(2/483)
من جر برجله) بعد موته (فطرح على مزبلة) بفتح الميم والموحدة وقد يضم الثاني ويكسر وهو المحل الذي يكون فيه الزبل أي السرجين يلقي فيه وأماما في بعض النسخ من كسر الميم وفتح الباء فغير معروف إلا في الآلة (فأكلته الكلاب) وفي قتله محل بحث إذ قوله مشتمل على إقراره باصطفائهما بالنبوة والرسالة غايته أنه فضل نبيه على نبينا وهو مقتضى دينه بل أنه ليس مما كفر به إذ أصل التفضيل قطعي لقوله تَعَالَى تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وأما تفضيل خصوص بعض الانبياء فظني وعلى التنزل فليس مما علم من الدين بالضرورة لا سيما وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي رِوَايَةٍ لَا تخيروني على موسى مع أن سبب وروده أن يهوديا قال والذي اصطفى موسى على محمد فلطمه مسلم (وَسُئِلَ أَبُو الْمُصْعَبِ عَنْ نَصْرَانِيٍّ قَالَ عِيسَى خلق محمدا فقال يقتل) وهذا ظاهر لأنه كفر صريح بل يخرج عن كونه كتابيا ويصير حربيا بل ولا يقول أحد مثل هذا القول في جميع الأديان قال تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بإجماع الأولين والآخرين وأما قوله تعالى وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فخلق مجازي متوقف على وجود تراب وماء وتصوير من مخلوق آخر وأن الله صانع كل شيء وصنعته كما في حديث (وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ سَأَلْنَا مَالِكًا عَنْ نَصْرَانِيٍّ بمصر) أي القاهرة (شهد عليه) بصيغة المجهول (أنه قال مسكين) بالرفع منونا وفي نسخة بالسكون قال التلمساني وقد يفتح ميمه (محمد يخبركم أنه في الجنّة) أي الآن وفي نسخة فهو الآن في الجنة قاله استهزاء (فما لَهُ لَمْ يَنْفَعْ نَفْسَهُ إِذْ كَانَتِ الْكِلَابُ تأكل ساقيه) وهذا افتراء عليه (لو قتلوه) أي الناس (اسْتَرَاحَ مِنْهُ النَّاسُ قَالَ مَالِكٌ أَرَى أَنْ تضرب عنقه) ويغري على جيفته الكلاب (قال) أي مالك (ولقد كدت) أي قاربت (أن لا أتكلّم فيها) أي في مسألة ابن القاسم عن هذا الكلب النصراني يعني بشيء كما في نسخة (ثمّ رأيت أنّه لا يسعني) أي لا يجوز لي (الصّمت) أي السكوت وفي نسخة لا يسيغني الصمت أي لا ينفعني (قال ابن كنانة) بكسر الكاف (في المبسوطة) وفي نسخة فِي الْمَبْسُوطَةِ (مَنْ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَرَى لِلْإِمَامِ أن يحرقه) من الإحراق أو التحريق (بالنّار) أي ابتداء (وإن شاء) أي الإمام (قتله ثمّ حرق جثّته) بضم الجيم وتشديد المثلثة أي جيفته (وَإِنْ شَاءَ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ حَيًّا إِذَا تَهَافَتُوا في سبّه) أي تساقطوا وتكرر منهم وتبالغوا ولعل التحريق حيا من باب السياسة وإلا فقد ورد لا يعذب بالنار إلا الله مثل تهافت الفراش في النار وفي رواية لا تعذبوه بعذاب الله تعالى رواه أبو داود والترمذي والحاكم في مستدركه وصححه عن ابن عباس مرفوعا قال ابن كنانة (ولقد كتب) بصيغة المجهول (إلى مالك من مصر وذكر) أي ابن كنانة (مسألة ابن القاسم المتقدّمة) في النصراني بمصر (قال) ابن القاسم (فأمرني مالك) أن أكتب الجواب (فكتبت بأن يقتل وتضرب عنقه) تفسير لما قبله فيفيد أنه لا يصلب حيا ولا يقطع اربا اربا وغير ذلك من أنواع القتل لقوله عليه الصلاة والسلام إذا قتلتم(2/484)
فأحسنوا القتلة بالكسر أي النوع منه (فكتبت) أي فرغت من كتابته (ثمّ قلت) أي لمالك (يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَأَكْتُبُ ثُمَّ يُحْرَقُ بِالنَّارِ فَقَالَ إِنَّهُ لَحَقِيقٌ بِذَلِكَ وَمَا أَوَّلَاهُ به) أي ما أحقه بأن يحرق بعد ضرب عنقه (فكتبته بيدي) احتراس بديعي يدفع به ما يتوهم من المجاز كقولهم رأيت بعيني وسمعت بأذني ونحو ذلك ومنه قوله تعالى وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ (بين يديه) أي قدام مالك وقد رأه (فما أنكره ولا عابه) وفيه إيماء إلى أن التحرير في باب الفتوى أقوى من التقرير (ونفذت الصّحيفة) بالنون والفاء والذال المعجمة المفتوحات أي ذهبت وفي نسخة بضم النون وتشديد الفاء المكسورة وفي أخرى بصيغة الفاعل أي وأرسلتها الى مصر (بذلك) أي بما أمر به مالك (فقتل) النصراني (وحرق) أي بعد قتله؛ (وأفتى عبد الله بن يحيى) الليثي صاحب رواية الموطأ عن أبيه عن مالك (وابن لبابة) بضم اللام وبموحدتين وهو محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة القرطبي (وجماعة سلف أصحابنا) بالإضافتين وفي نسخة فِي جَمَاعَةِ سَلَفِ أَصْحَابِنَا (الْأَنْدَلُسِيِّينَ بِقَتْلِ نَصْرَانِيَّةٍ استهلّت) أي رفعت صوتها يعني أظهرت (بنفي الرّبوبيّة ونبوّة عيسى) أي لله كما في نسخة أي وأعلنت بكونه اينا له وبينهما تناقض كما لا يخفى وفي نسخة يتقديم النون على الباء والظاهر أنه تصحيف (وتكذيب محمّد في النّبوّة) أي في أصلها لا في عموم الرسالة لأنه مقتضى مذهبهم وكذا القول بالأبنية ما أخبر الله عنهم بقوله لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وإنما أمر بقتلها لإنكار الربوبية فإنها به صارت حربية وخرجت عن كونها ذمية كتابية إذ ليس هذا من مقتضى دينهم بل ولا دين غيرهم لقوله تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (وبقبول إسلامها ودرء القتل عنها) وهذا مخالف لما سبق من أن الذمي إذا طعن في نبوة نبينا بقتل ولم يقبل إسلامه (به) وفي نسخة وبه أي وبهذا الإفتاء (قال غير واحد من المتأخّرين) أي من المالكية (منهم القابسيّ وابن الكاتب) وهو أبو القاسم عبد الرحمن بن علي بن محمد؛ (وقال أبو القاسم بن الجلّاب) بفتح الجيم وتشديد اللام بصري مات سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة (فِي كِتَابِهِ مَنْ سَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ مسلم أو كافر) أي ذمي (قتل ولا يستتاب) أي لا تقبل توبته وهذا مخالف للجمهور وأغرب الدلجي حيث قال تمسكا بالآية والحديث والحال أنه لا دلالة آية ولا إشارة رواية على ذلك بل تقبل توبة المرتد والكافر بشروط هنالك. (وحكى القاضي أبو محمّد) عبد الوهاب المالكي (في الذّميّ يسبّ ثمّ يسلم روايتين) عن مالك (في درء القتل عنه) أي وعدمه (بإسلامه، وقال ابن سحنون وحدّ القذف) والمشهور أنه مختص برمي الزنا (وشبهه) وهو السب ونحوه (مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا يُسْقِطُهُ عَنِ الذِّمِّيِّ إسلامه) لابتنائها على المشاحة (وإنّما يسقط عنه بإسلامه حدود الله) لأنها مبنية على المسامحة (وأمّا حَدُّ الْقَذْفِ فَحَقٌّ لِلْعِبَادِ كَانَ ذَلِكَ لِنَبِيٍّ أو غيره) من العباد المحترمين (فأوجب) أي الله ورسوله قال الدلجي وفيه بحث سيجيء (عَلَى الذِّمِّيِّ إِذَا قَذَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم ثمّ أسلم حدّ القذف) وفيه أنه لم يعرف من كتاب ولا سنة حد القذف(2/485)
بالقتل على كافر اسلم (وَلَكِنِ انْظُرْ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ هَلْ حَدُّ القذف في حقّ النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْقَتْلُ لِزِيَادَةِ حُرْمَةِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم) بالعصمة ونحوها (عَلَى غَيْرِهِ أَمْ هَلْ يَسْقُطُ الْقَتْلُ بِإِسْلَامِهِ ويحدّ ثمانين فتأمّله) إلى حين يتبين لك علم اليقين في مسألة الدين قال التلمساني الظاهر القتل لأنه آذاه ومن آذاه يقتل قلت إسلامه يأباه وكم من مؤذ له عليه الصلاة والسلام اسلم وقبل منه الإسلام ولم يقتل لما صدر له قبل ذلك من الكلام.
فصل (فِي مِيرَاثِ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِّ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم وغسله والصلاة عليه)
اعلم أن المرتد عندنا لا يرث من مسلم ولا من كافر يوافقه في الملة ولا من مرتد آخر ويرث المسلم من المرتد ما اكتسبه في حالة الإسلام وعند الشافعي يوضع ذلك في بيت مال المسلمين وأما ما اكتسبه في حال الردة فعند أبي حنيفة هو بمنزلة الفيء ويوضع ذلك في بيت المال وقال صاحباه يكون ذلك ميراثا لورثته المسلمين (اختلف العلماء) أي المالكية (فِي مِيرَاثِ مَنْ قُتِلَ بِسَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم فذهب سحنون إلى أنّه) أي ميراثه (لجماعة المسلمين) كالفيء فيوضع في بيت المال (من قبل) بكسر القاف وفتح الموحدة أي من جهة (أنّ شتم النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم كفر يشبه كفر الزّنديق) والظاهر أن بينهما التفرقة، (وَقَالَ أَصْبَغُ مِيرَاثُهُ لِوَرَثَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِنْ كان مستسرا) وفي نسخة مستسرا أي مسرا يعني مخفيا (بذلك) السب (وإن كان مظهرا له مستهلّا) أي معلنا (به) أي بشتمه (فميراثه للمسلمين) أي فيئنا (ويقتل على كلّ حال) سواء كان مسرا أو مجاهرا (ولا يستتاب) أي لا تقبل تبوته، (قال أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ: إِنْ قُتِلَ وَهُوَ مُنْكِرٌ للشّهادة عليه) بأنه شتمه (فالحكم في ميراثه على ما أظهر من إقراره يعني) أي القابسي أي ميراثه (لورثته والقتل حدّ ثبت عليه) لا يدرأ عنه بتوبته (ليس) أي القتل (من الميراث في شيء وكذلك) أي مثل ما قاله القابسي (لَوْ أَقَرَّ بِالسَّبِّ وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ لَقُتِلَ إِذْ هو) أي القتل (حدّه وحكمه) أي هذا المقتول بسبه (في ميراثه وسائر أحكامه حكم الإسلام) من صلاة خلفه حيا وعليه ميتا وغسله وتكفينه ودفنه في قبورنا وكذا ما وقع له معاملة ومناكحة وانفاقا (ولو أقرّ بالسّبّ وتمادى) أي استمر مدة أصر (عَلَيْهِ وَأَبَى التَّوْبَةَ مِنْهُ فَقُتِلَ عَلَى ذَلِكَ كان كافرا) بالإجماع (وميراثه للمسلمين) وفيه ما قد قدمناه من النزاع (وَلَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُكَفَّنُ وتستر عورته ويوارى) جيفته (كما يفعل بالكفّار) من دفنهم في حفرة (وقول الشّيخ أبي الحسن) القابسي (في المجاهر المتمادي بيّن) أي ظاهر (لَا يُمْكِنُ الْخِلَافُ فِيهِ لِأَنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ غير تائب) مما وقع فيه (ولا مقلع) عن تماديه (وهو) أي قول القابسي (مثل قول أصبغ وكذلك) أي مثل قول أصبغ (فِي كِتَابِ ابْنِ سُحْنُونٍ فِي الزِّنْدِيقِ يَتَمَادَى على قوله) من غير رجوعه وفيه أن الزنديق إذا تمادى على كفره(2/486)
خرج عن كونه زنديقا لأنه خلاف مشربه، (وَمِثْلُهُ لِابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَلِجَمَاعَةٍ مِنْ أصحاب مالك في كتاب ابن حبيب) واسمه عبد الملك (فِيمَنْ أَعْلَنَ كُفْرَهُ مِثْلُهُ؛ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وحكمه) أي حكم الساب (حكم المرتدّ) أي إذا لم يسلما (لا ترثه مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِي ارتدّ إليه ولا يجوز وصاياه ولا عتقه) حينئذ لخروج ماله بردته عن ملكه موقوفا؛ (وقاله أصبغ) أي ما قاله ابن القاسم (قُتِلَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ مَاتَ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ وَإِنَّمَا يُخْتَلَفُ في ميراث الزّنديق الّذي يستهلّ بالتّوبة) أي يظهرها مع أنه يضمر عقائد باطلة (فلا تقبل منه) توبته ظاهرا وأن نفعته عند الله تعالى لو كان صادقا وهذا موافق لمذهبنا ونقل الدلجي عن الشافعي أنها تقبل وتدفع عنه لحديث هلا شققت عن قبله انتهى وفيه أن الحديث لم يرد في حق الزنديق والله ولي التوفيق (وأمّا الْمُتَمَادِي فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُورَثُ؛ وَقَالَ أبو محمد) أي ابن أبي زيد (فيمن سبّ الله تعالى) أي مثلا (ثمّ مات ولم تعدّل) بتشديد الدال المفتوحة أي لم تقم (عليه بيّنة أو لم تقبل) لعدم عدالة أو وجود غداوة وضبطه الحجازي بالفوقية بعد القاف أي أو عدلت فمات ولم يحكم بقتله (إنه يصلّى عليه) يعني احتياطا، (وَرَوَى أَصْبَغُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ ابن حبيب فيمن كذّب برسول الله) بتشديد الذال أي كذب برسالته (صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بعد الإيمان كما يدل عليه السياق من السباق واللحاق (أو أعلن دِينًا مِمَّا يُفَارِقُ بِهِ الْإِسْلَامَ أَنَّ مِيرَاثَهُ للمسلمين) أي فيئا، (وَقَالَ بِقَوْلِ مَالِكٍ إِنَّ مِيرَاثَ الْمُرْتَدِّ لِلْمُسْلِمِينَ ولا ترثه ورثته ربيعة) فقيه المدينة المشهور بربيعة الرأي روى عن السائب بن زيد وأنس وابن المسيب وجماعة وعنه مالك والليث وطائفة وثقه أحمد وغيره قال مالك رحمه الله تعالى ذهبت حلاوة الفقه مذ مات ربيعة كان له حلقة في مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكان أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وابنه محمد يجلسان في حلقته استقدمه أبو العباس السفاح إلى الأنبار لتولية القضاء فلم يفعل توفي سنة ست وثلاثين ومائة (والشافعيّ وأبو ثور) البغدادي أحد المجتهدين روى عن ابن عيينة وغيره وعنه أبو داود وابن ماجه (وابن أبي ليلى) وهو القاضي الأنصاري أحد الأعلام روى عن الشعبي وعنه شعبة قال أحمد سيىء الحفظ وقال أبو حاتم محل الصدق (واختلف) أي القول (فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ المسيّب والحسن) أي البصري وكلاهما من أفاضل التابعين (والشعبي وعمر بن عبد العزيز والحكم) بفتحتين وهو ابن عتيبة بضم عين مهملة وبمثناة فوق مفتوحة فياء تصغير فموحدة مفتوحة فقيه الكوفة أخذ عنه شعبة وغيره كان عابدا قانتا لله قال الحلبي ويتفق مع هذا في اسمه واسم أبيه الحكم بن عتيبة بن نهاس ويفترقان في الجد كان قاضيا بالكوفة وليس من رواة الحديث قال وقد جعل البخاري هذا والإمام المتقدم ذكره واحدا فعد هذا من أوهامه (والأوزاعيّ واللّيث) أي ابن سعد (وإسحاق) أي ابن راهويه (وأبو حنيفة يرثه ورثته من المسلمين) أي على تفصيل تقدم عنه (وَقِيلَ ذَلِكَ فِيمَا كَسَبَهُ قَبْلَ ارْتِدَادِهِ وَمَا كسبه في الارتداد) أي في أيامه (فللمسلمين)(2/487)
على ما قدمناه (قال القاضي وتفصيل أبي الحسن) القابسي (في باقي جوابه حسن بين) أي ظاهر (وَهُوَ عَلَى رَأْيِ أَصْبَغَ وَخِلَافُ قَوْلِ سُحْنُونٍ واختلافهما) أي أصبغ وسحنون (عَلَى قَوْلَيْ مَالِكٍ فِي مِيرَاثِ الزِّنْدِيقِ فَمَرَّةً ورثّه) بتشديد الراء أي جعل وارثه (ورثته من المسلمين قامت) أي سواء ثبتت (عليه بذلك) أي بكونه زنديقا (بيّنة) أي شهود عدل (فَأَنْكَرَهَا أَوِ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ، وَقَالَهُ) أي به (أَصْبَغُ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أصحابه) أي أصحاب مالك (لِأَنَّهُ مُظْهِرٌ لِلْإِسْلَامِ بِإِنْكَارِهِ أَوْ تَوْبَتِهِ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم) حيث كانوا يظهرون الإسلام ويضمرون الكفر وكان يرثهم ورثتهم من المسلمين كعبد الله بن أبي ابن سلول وغيره (وروي ابن نافع) الصائغ المدني قال البخاري في حفظه سيئ وقال ابن معين ثقة وكان يلازم مالكا لزوما شديدا وكان لا يقدم عليه أحدا قال ابن عدي روي عن مالك غرائب وهو مستقيم الحديث (عنه) أي عن مالك (في العتبيّة وكتاب محمد) أي ابن المواز (أنّ ميراثه لجماعة المسلمين) أي فيئا (لأنّ ماله تبع لدمه) وبه يغاير كونه كالمنافقين لأنه ما قتل أحد منهم لمجرد نفاقه لا بإقراره ولا بإثبات بينة عليه، (وقال به أيضا جماعة من أصحابه) أي أصحاب مالك، (وقاله أشهب والمغيرة) بضم الميم ويكسر للاتباع (وعبد الملك) أي ابن الماجشون أو ابن حبيب (ومحمد) أي ابن المواز؛ (وَسُحْنُونٌ وَذَهَبَ ابْنُ قَاسِمٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ إِلَى أنه) أي الزنديق لا المرتد ما قاله الدلجي (إِنِ اعْتَرَفَ بِمَا شُهِدَ عَلَيْهِ بِهِ وَتَابَ فقتل فلا يورث) قال الدلجي وهذا عجيب كيف لا يورث وقد تاب قلت لأن توبة الزنديق لا تقبل على الوجه الصواب (وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ حَتَّى قُتِلَ أَوْ مَاتَ ورّث) لأن الأصل بقاؤه على الإيمان؛ (قال) أي ابن القاسم (وكذلك) الحكم (كلّ من أسرّ كفرا) ولم يظهره حتى قتل أو مات (فإنّهم يتوارثون بوراثة الإسلام) كما كان المنافقون في زمنه عليه الضلاة والسلام (وَسُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْكَاتِبِ عَنِ النَّصْرَانِيِّ يسبّ النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُقْتَلُ هَلْ يَرِثُهُ أَهْلُ دِينِهِ أم المسلمون فأجاب أنه) أي ماله (للمسلمين) فيئا (ليس) أي ماله لهم (عَلَى جِهَةِ الْمِيرَاثِ لِأَنَّهُ لَا تَوَارُثَ بَيْنَ أهل ملّتين) كما ورد به الحديث (ولكن) ماله لهم (لأنه من فيئهم لنقضه العهد هذا) أي الذي ذكر (معنى قوله) أي ابن الكاتب (واختصاره) بالرفع أي واختصار قوله.(2/488)
الْبَابُ الثَّالِثُ (فِي حُكْمِ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تعالى وملائكته وأنبياءه وكتبه وآل النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وأزواجه وصحبه
لا خلاف أنّ سابّ الله تعالى) بنسبة الكذب أو العجز إليه ونحو ذلك (من المسلمين كافر) قلت ومن الذميين أيضا كافر حربي (حلال الدّم) بل واجب السفك (واختلف في استتابته) أي قبول توبته (فقال ابن القاسم في المبسوط) وفي نسخة المبسوطة (وفي كتاب ابن سحنون ومحمد) أي ابن المواز (وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي كِتَابِ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ قُتِلَ وَلَمْ يُسْتَتَبْ إِلَّا أَنْ يكون) أي هو (افترى) وفي نسخة إلا أن يكون أي سبه افتراء (على الله بارتداده) أي مصحوبا به (إلى دين) غير دين الإسلام (دان به) أي اتخذه دينا وفيه أنه لا يتصور دين يجوز سبه سبحانه وتعالى فيه (وأظهره) أي دينه (فيستتاب وإن لم يظهره لم يستتب) أي وقتل لأنه لو استتيب لأظهر التوبة وأخفى الكفر كالزنديق، (وقال في المبسوطة مطرّف) أي ابن عبد الله وهو ابن أخت مالك (وعبد الملك) أي ابن حبيب أو الماجشون (مثله) ما مر من التفصيل وفي نسخة قال مطرف وعبد الملك في المبسوطة مثله وهو أولى كما لا يخفى؛ (وقال المخزوميّ ومحمد بن مسلمة وابن أبي حازم) مات يوم الجمعة وهو ساجد في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام سنة أربع وثمانين ومائة (لا يقتل المسلم بالسّبّ) أي مطلقا أظهر أو لم يظهر (حتّى يستتاب) أي على طريق الوجوب أو الاستحباب كما عليه الجمهور في هذا الباب (وَكَذَلِكَ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ فَإِنْ تَابُوا قُبِلَ مِنْهُمْ) توبتهم (وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا قُتِلُوا وَلَا بُدَّ مِنَ الاستتابة) فيه إيماء إلى وجوبها (وذلك كلّه كالرّدّة وهو) أي هذا التفصيل هو (الَّذِي حَكَاهُ الْقَاضِي ابْنُ نَصْرٍ عَنِ الْمَذْهَبِ) أي مذهب مالك (وَأَفْتَى أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ فِيمَا حكي عنه) بصيغة المجهول (في رجل لعن رجلا ولعن الله عز وجل فقال) أي اللاعن (إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَلْعَنَ الشَّيْطَانَ فَزَلَّ لِسَانِي) أي زلق (فقال) أي ابن أبي زيد (يقتل بظاهر كفره ولا يقبل عذره) لاحتمال كذبه مع ظهور كفره (وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَمَعْذُورٌ) استصحابا لإيمانه مع جزمه به وأقول الصواب إنه إن استغفر وتاب لا يقتل لقوله عليه الصلاة والسلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان (واختلف فقهاء قرطبة) بضم القاف والطاء بينهما راء ساكنة فموحدة بلد بالمغرب (فِي مَسْأَلَةِ هَارُونَ بْنِ حَبِيبٍ أَخِي عَبْدِ الملك الفقيه وكان) أي هارون (ضيّق الصّدر) أي سيئ الخلق (كثير التّبرّم) أي الضجر وقلة الصبر (وكان قد شهد عليه بشهادات) متعددة في حقه (منها) ولعلها اعظمها (أنه(2/489)
قال عند استلاله) أي قيامه (من مرض) عرض له (لَقِيتُ فِي مَرَضِي هَذَا مَا لَوْ قَتَلْتُ أبا بكر وعمر لم أستوجب هذا) أي المرض الشديد (كلّه فأفتى إبراهيم بن حسين) وفي نسخة حسن (بن خالد) مات سنة سبع ومائتين في رمضان (بقتله لأنه) وفي نسخة وأن (مضمّن قوله) بتشديد الميم الثانية المفتوحة أي مضمونه (تجوير لله تعالى) أي نسبته إلى الجور وهو ضد العدل (وتظلّم) أي وإظهار ظلم (منه) سبحانه وتعالى (والتّعريض فيه) أي في وصفه تعالى (كَالتَّصْرِيحِ وَأَفْتَى أَخُوهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ وإبراهيم بن حسين) وفي نسخة حسين (ابن عاصم) مات سنة ثمان وخمسين ومائتين (ومنصور) وفي نسخة سعيد (بن سليمان) القاضي (بطرح القتل) أي بتركه ووضعه (عنه) بمعنى أنه لا يتحتم قتله (إلّا أنّ القاضي) وهو سعيد بن سليمان (رأى عليه التّثقيل) أي التضييق والتنكيل (في الحبس) كمية وكيفية (والشّدّة في الأدب) بكثرة الضرب (لاحتمال كلامه الكفر) الموجب لقتله (وصرفه) أي واحتمال صرفه (إلى التّشكّي) وهو إظهار الشكاية من الخالق إلى المخلوق وهو احتمال بعيد كما لا يخفى ولعل المراد به المبالغة في بيان شدة مرضه وله تأويل آخر كما سيأتي وهو أظهر فكان الأصوب أنه يستتاب هذا وقد حكى النووي في الروضة ما افتوا به ولم يرجح منه رأيا لكن قوله وقد حكى القاضي عياض جملة من الألفاظ المكفرة يقتضي ترجيح رأي من أفتى بقتله (فَوَجَّهَ مَنْ قَالَ فِي سَابِّ اللَّهِ بِالِاسْتِتَابَةِ) كالمخزومي وغيره هو (أنه) أي سبه تعالى (كُفْرٌ وَرِدَّةٌ مَحْضَةٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقٌّ لغير الله تعالى) أي من عباده وفيه بحث إذ عباده مماليكه وحق المولى حق للموالي فيجب أن يقوموا بحقهم كما يجب على الأمة أن يقوموا بحق رسولهم والصواب في المسألتين أن يستتاب لقوله تعالى إِلَّا مَنْ تابَ (فَأَشْبَهَ قَصْدَ الْكُفْرِ بِغَيْرِ سَبِّ اللَّهِ وَإِظْهَارَ) أي وأشبه إظهار (الِانْتِقَالِ إِلَى دِينٍ آخَرَ مِنَ الْأَدْيَانِ الْمُخَالِفَةِ للإسلام) وفيه أنه لا يعرف دين جوز فيه سب الله سبحانه وتعالى حتى عبدة الأصنام يقولون ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى فهو لا شك أنه أعظم من سب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والله سبحانه وتعالى اعلم (ووجه ترك استتابته) كما قاله ابن القاسم وغيره (أنه) أي الساب (لمّا) وفي نسخة إذا (ظهر منه ذلك) أي سب مولاه سبحانه وتعالى (بعد إظهار الإسلام) وقبول الأحكام (قبل) أي قبل إظهاره السب (اتّهمناه) بتشديد التاء أي أوقعناه في التهمة بالكفر (وَظَنَنَّا أَنَّ لِسَانَهُ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ إِلَّا وَهُوَ مُعْتَقِدٌ لَهُ إِذْ لَا يَتَسَاهَلُ فِي هذا) السب (أحد) بأن ينطق به بدون اعتقاده (فحكم له) أي لقائله (بحكم الزّنديق ولم تقبل توبته) إذ قد يتمادى على إخفاء كفره وإظهار إيمانه وهذا كالمنافق لكن فيه أن الزنديق من تحقق كفره باطنا وإيمانا ظاهرا وهذا ليس كذلك وأيضا الزنديق في التحقيق من لا ينتحل دينا وبهذا يفارق المنافق لثبوته على عقيدة واحدة فاسدة (وإذا انتقل من دين إلى دين آخر وأظهر السّبّ بمعنى الارتداد) وفيه أنه لا يوجد دين يجوز فيه سبه سبحانه كما قدمناه (فهذا) المنتقل (قد أعلم) بصيغة المجهول أي من حاله وفي نسخة قد علم (أنه خلع ربقة الإسلام) بكسر الراء فموحدة ساكنة فقاف(2/490)
مفتوحة أي قيده وتعلقه (من عنقه) فيستتاب فإن تاب وإلا قتل وفي الحديث من فارق الْجَمَاعَةَ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ من عنقه (بخلاف الأوّل المتمسك) وفي نسخة المستمسك (به) أي بالإسلام فإنه بمجرد سبه تعالى لم يعلم أنه خلع ربقته من عنقه لتمسكه ظاهرا كذا ذكره الدلجي فساده ظاهر لا يخفى (وحكم هذا) المنتقل (حكم المرتد يستتاب على مشهور مذهب) وفي نسخة مذاهب (العلماء) ونسخة مذاهب أكثر أهل العلم كأبي حنيفة والشافعي وأحمد (وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ قبل) أي قبل ذلك في أوائل الباب (وذكرنا الخلاف في فضوله) بسبب الاختلاف في بعض أصوله وأغرب الدلجي في قوله أي في فصوله الآتية بعد.
فصل (وَأَمَّا مَنْ أَضَافَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ السَّبِّ)
حال من الضمير قبله (ولا الرّدّة) وفي نسخ ولا على الردة (وقصد الكفر ولكن ذلك) المضاف (على طريق التّأويل) الفاسد (والاجتهاد) الكاسد (والخطأ المفضي) وفي نسخة واجتهاد الخطأ المفضي أي الموصل (إلى الهوى) أي هوى النفس (والبدعة) من بدع الضلالة الناشئة عن الجهالة بتحقيق الكتاب والسنة (من تشبيه) بيان لما لا يليق به سبحانه كتشبيه المجسمة له سبحانه وتعالى من أنه على صورة ثياب في جهة العلو مماسا للعرش أو محاذيا له (أو نعت بجارحة كالوجه والعين) واليد واليمين والقبضة والجنب والاستواء والنزول ونحوها من حملها على ظاهرها من غير تنزيه ولا تأويل (أو نفي صفة كمال) كنفي المعتزلة صفاته القديمة الذاتية حذرا من تعدد القدماء وأما ما ذهب إليه بعض الحكماء من أنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات فليس في كفر قائله خلاف للعلماء (فهذا) الذي أضيف إليه تعالى عليه التأويل في التنزيل (مِمَّا اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ فِي تَكْفِيرِ قَائِلِهِ ومعتقده) والحق عند الأشعري وأكثر أصحابه وأكثر الفقهاء كأبي حنيفة لا يكفر وبعدم تكفيره يشعر قول الشافعي لا أرد شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية لاستحلالهم الكذب في الشهادة بناء على غلبة الظن وقد أوضحت المبحث في شرح الفقه الأكبر (واختلف قول مالك وأصحابه في ذلك) أي هل يكفر معتقده أم لا وسيأتي قريبا (ولم يختلفوا) أي أصحاب مالك أو سائر العلماء لذلك (في قتالهم إذا تحيّزوا) أي انفردوا (فئة) أي جماعة مجتمعة بمكان معين منعزلين عن أهل الحق لإشعار ذلك بمخالفتهم ومناواتهم وإظهار معاداتهم كالخوارج في زمن علي كرم الله وجهه والروافض في زماننا خذلهم الله سبحانه وتعالى (وَأَنَّهُمْ يُسْتَتَابُونَ فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا وَإِنَّمَا اختلفوا) أي أصحاب مالك (في المنفرد منهم فأكثر قول مالك) أي المنقول عنه (وأصحابه ترك القول بتكفيرهم وترك قتلهم) بالرفع (والمبالغة) بالرفع (فِي عُقُوبَتِهِمْ وَإِطَالَةُ سِجْنِهِمْ حَتَّى يَظْهَرَ إِقْلَاعُهُمْ) أي إعراضهم عنه ورجوعهم منه (وتستبين توبتهم) إلا أن الرافضة القائلين بالتقية لا يتحقق منهم(2/491)
التوبة الباطنية (كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِصَبِيغٍ) بفتح مهملة وكسر موحدة فتحتية ساكنة فغير معجمية تميمي بصري خارجي الرأي وكان يتبع مشكل القرآن ويسأل الناس عنه وكان كما أخبر الله به في كتابه فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ فقدم على عمر رضي الله تعالى عنه وكان أعدله جرائد ليضربه بهن فلما جلس بين يدي عمر قال له من أنت قال له أنا عبد الله صبيغ فقال له عمر وأنا عبد الله عمر فضربه عمر حتى شجه بتلك العراجين فجعل الدم يسيل على وجهه فقال حسبك يا أمير المؤمنين فقد والله ذهب ما كنت أجده في رأسي وفي رواية ضربه عمر حتى صار ظهره كالبردعة ثم سجنه حتى قارب البرء ثم ضربه كذلك ثم سجنه فقال لهأن أردت قلتى فاقتلني وإلا فقد شفيتني شفاك الله فأرسله عمر ونهى أن يجالس فكان بالبصرة لا يكلمه أحد ولا يجالسه ولا يرد على خلقة إلا قاموا وتركوه وكان مع ذلك وافر الشعر لا يحلق رأسه (وهذا) أي القول بالمبالغة في عقوبتهم (قول محمد بن الموّاز في الخوارج) وهم فرق شتى متفقون على أن من أذنب صغيرة أو كبيرة فقد كفر وهم يكفرون عثمان وعلياء وطلحة والزبير وعائشة ويعظمون أبا بكر وعمر ذكره فخر الدين الرازي (وعبد الملك بن الماجشون) بالجر أي وقوله (وقول سحنون) بالرفع أي وكذا قوله (في جميع أهل الأهواء) كالرافضة وغيرهم من المبتدعة كالقدرية والمرجئة ممن خالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة وهم اثنتان وسبعون والناجية منها أهل السنة وبها ثلاث وسبعون وقد تكلم عليها بالتعيين في جميعها أبو إسحاق الشاطبي في الحوادث والبدع مما يؤدي ذكره إلى طوله والله الموفق للحق بفضله وقد قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ وفي الحديث ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة قالوا وما هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي، (وبه) أي بالقول بالمبالغة في عقوبتهم (فسّر قول مالك) بصيغة المجهول (في الموطّإ وما رواه عن عمر) عطف تفسير لما قبله وفي نسخة عن عمر وفي أصل الدلجي ما رواه على أنه بدل من قول مالك أي فسر بعض أصحابه ما قاله رواية عن عمر (بن عبد العزيز وجدّه) أي مروان بن الحكم (وعمّه) عبد الملك بن مروان (من قولهم في القدريّة) بفتح الدال ويسكن (يستتابون فإن تابوا وإلّا قتلوا) وهم طائفة ينكرون أن الله تعالى قدر الأشياء في القدم وعلم سبحانه وتعالى في الأزل انها ستقع في أوقات معلومة وعلى صفة مخصوصة بحسب ما قدره سبحانه وتعالى وعظم شأنه وسموا بذلك لإنكارهم القدر وإسنادهم افعال العباد إلى قدرتهم قال النووي وقد انقرضوا بأجمعهم ولم يبق أحد من أهل القبلة على ذلك ولله الحمد انتهى وصارت القدرية في هذا الزمان الذي يعتقدون الخير من الله والشر من غيره كالمعتزلة ومن تبعهم كما سيأتي؛ (وقال عيسى) قال الحلبي لعله ابن إبراهيم بن مثرود وقال الدلجي لعله أبو موسى الغافقي (عن ابن القاسم في أهل الأهواء) أي البدع المختلفة الآراء (من الإباضيّة) بكسر الهمزة فموحدة مخففة بعدها(2/492)
ألف فضاد معجمة فياء نسبة طائفة من الخوارج اصحاب عبد الله بن أباض التميمي ظهر في زمان مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية وقتل آخر الأمر كانوا يزعمون أن مخالفيهم من أهل القبلة كفار غير مشركين ومناكحتهم جائزة وغنيمة سلاحهم وكراعهم عند الحرب دون غيرهم ودارهم دار الإسلام إلا معكسر سلطانهم وتقبل شهادة مخالفيهم عليهم (والقدريّة) وهم اتباع واصل بن عطاء سموا قدرية لإنكارهم القدر وأن العبد يخلق فعله الشر دون الخير ومنهم المعتزلة والزيدية والرافضة وقد قال عليه الصلاة والسلام القدرية مجوس هذه الأمة لمشاركتهم المجوس في إثبات خالق للخير وخالق للشر (تنبيه) قالت القدرية لسنا بقدرية بل أنتم يعنون أهل الحق القدرية لاعتقادكم إثبات القدر وأجيب بأن هذا تمويه منهم فإن أهل الحق يفوضون أمورهم إلى الله سبحانه وتعالى ويضيفون خلق الأفعال السيئة إلى قدرته سبحانه وتعالى وهؤلاء يضيفونها إلى أنفسهم ومدعي الشيء لنفسه ومضيفه إليه أولى بأن ينسب إليه ممن يعتقده لغيره وينفيه عن نفسه هذا وقد ورد في الأحاديث أوصاف القدرية بحيث ترتفع هذه الشبهة بالكلية (وشبههم) بفتحتين وبكسر فسكون أي وأمثالهم (ممّن خالف الجماعة) الذين هم أهل السنة (من أهل البدع) أي المخترعين عقائد الضلالة التي لم يخرج بها عن الإسلام وأما قول الدلجي كالنصيرية فخطأ فاحش فإنهم طائفة يعبدون عليا فهم كفرة ومشركون إجماعا (والتّحريف لتأويل كتاب الله تعالى) بتأويل باطل ظاهرا على مقتضى آرائهم الفاسدة وأهوائهم الكاسدة (يستتابون) أي مطلقا سواء (أظهروا بذلك) أي معتقدهم (أو أسرّوه فإن تابوا قبلت) توبتهم (وإلّا قتلوا وميراثهم لورثتهم) إجماعا لأن قتلهم إنما هو لارتكابهم البدعة زجرا لهم عنها على طريق السياسة؛ (وقال مثله) أي مثل قول عيسى (أيضا ابن القاسم في كتاب محمد) أي ابن المواز (في أهل القدر وغيرهم) من المبتدعة مخالفي أهل السنة (قال) أي ابن القاسم أو محمد عنه (وَاسْتِتَابَتُهُمْ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ اتْرُكُوا مَا أَنْتُمْ عليه) من الاعتقاد الفاسد والعمل الكاسد فإن تابوا فيها وإن تمادوا قتلوا حدا وميراثهم لورثتهم وفيه أن المبتدعة لا توبة لهم إلا إذا أظهروها من عند أنفسهم (ومثله) أي مثل ما قال ابن القاسم في كتاب محمد (فِي الْمَبْسُوطِ فِي الْإِبَاضِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَسَائِرِ أَهْلِ البدع) من أنهم يستتابون (قال) أي ابن القاسم (وهم مسلمون) أي داخلون في فرق أهل الإسلام والتوارث قائم بينهم (وإنّما قتلوا لرأيهم السّوء) أي حدا للسياسة زجرا عن البدعة (وبهذا) أي وبقول ابن القاسم (عَمِلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا اسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ) لكفرهم إجماعا بإنكاره تكليمه مع وروده في القرآن وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً قال الانطاكي ونحو قول ابن القاسم هذا عن أحمد بن حنبل فإنه روي عنه أنه قال من زعم أن الله لم يكلم موسى فهو كافر أقول ولا يتصور أن يكون فيه خلاف وتحقيق بحث الكلام محله علم الكلام (وابن حبيب) مبتدأ (وغيره من أصحابنا) المالكية (يرى تكفيرهم) أي أهل البدع (وتكفير أمثالهم) أي من التابعين لأقوالهم (من الخوارج والقدريّة والمرجئة) بالهمزة والياء(2/493)
اسم فاعل وهم فرقة يزعمون أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة وأن الله تعالى لا يعذب الفسقة من هذه الأمة سموا بذلك لاعتقادهم أنه أرجا تعذيبهم من المعاصي أي أخره عنهم يقال أرجأت الأمر وأرجيته أي أخرته ومنه قوله تعالى حكاية أَرْجِهْ وَأَخاهُ ففيه ست قراآت في السبعة هذا وفي المنتقى من كتب أصحابنا عن أبي حنيفة لا نكفر أحدا من أهل القبلة وعليه أكثر الفقهاء ومن أصحابنا من قال بكفر المخالفين وقالت قدماء المعتزلة بكفر القائل بالصفات القديمة وبخلق الأفعال وقال الأستاذ أبو إسحاق نكفر من يكفرنا ومن لا فلا ولعل من كفر لاحظ التغليظ والزجر والسياسة ومن امتنع راعى الاحتياط في حرمة أهل القبلة وهذا اسلم والله تعالى اعلم؛ (وقد روي أيضا عن سحنون مثله) أي مثل قول ابن حبيب وغيره بتكفير من ذكر (فيمن قال ليس لله كلام) أي لا نفي ولا غيره (أنه كافر) وهذا لا خلاف فيه لإنكاره ما نص الله به في كتابه (واختلفت الرّوايات عن مالك) أي في تكفير المبتدعة من أهل القبلة (فأطلق في رواية الشاميّين أبي مسهر) الغساني وفي نسخة أبو مسهر بتعزيرهم (ومروان بن محمد الطاطريّ) بفتح الطاء الثانية من المهملتين كان يبيع ثيابا بيضا يقال لها الطاطرية روى عن مالك وعنه الدارمي وغيره إمام قانت لله (الكفر عليهم) مفعول اطلق ولعله أراد التغليظ للزجر فيهم (وقد شوور) أي مالك وهو مجهول شاور (في زواج القدريّ فقال لا تزوّجه) يحتمل أن يكون على وجه الكراهة أو الحرمة وهذا مجمع عليه خوفا على المرأة لقلة عقلها أن تميل إلى مذهب زوجها ويحتمل أن يكون لنفي الصحة بناء على تكفيره وقوله في الاستشهاد (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ [البقرة: 221] ) يحتمل احتمالين في الاعتضاد لاتساع باب الاجتهاد (وروي عنه) أي عن مالك (أيضا أهل الأهواء) أي البدع في الآراء (كلّهم كفّار) أي حقيقة أو كفرا دون كفر أي مجازا (وَقَالَ مَنْ وَصَفَ شَيْئًا مِنْ ذَاتِ اللَّهِ تعالى وأشار) في وصفه (إِلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ يَدٍ أَوْ سَمْعٍ أو بصر) أي ونحوها من أذن أو لسان أو رحل وغيرها (قطع ذلك) العضو (منه) أي سياسة جزاء وفاقا (لأنه شبّه الله بنفسه) وهو سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (وَقَالَ فِيمَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ كَافِرٌ فَاقْتُلُوهُ) روى التفتازاني هنا حديثا وتقدم أنه موضوع والمحققون على أنه لم يكفر لقوله تعالى قُرْآناً عَرَبِيًّا ولكونه مقروءا بألسنتنا ومكتوبا بأيدينا وإنما الكلام في الكلام النفسي ولهذا قال بعضهم من قال كلام الله مخلوق فهو كافر وهو ظاهر (وقال) أي مالك (أَيْضًا فِي رِوَايَةِ ابْنِ نَافِعٍ يُجْلَدُ وَيُوجَعُ ضَرْبًا وَيُحْبَسُ حَتَّى يَتُوبَ وَفِي رِوَايَةِ بِشْرِ بن بكر التّنّيسيّ) بكسر الفوقية والنون المشددة فتحتية ساكنة وسين مهملة فياء نسبة إلى موضع قرب دمياط أكله البحر الماح وصار بحيرة ماء روى عن الأوزاعي وغيره وعنه الشافعي ونحوه (عنه) أي عن مالك (يقتل ولا تقبل توبته) وهذا غريب جدا (وقال القاضي أبو عبد الله البرنكانيّ) بموحدة مفتوحة فراء ساكنة فنون مفتوحة نسبة إلى ضرب من الاكسية (والقاضي أبو عبد الله التّستريّ) بضم أوله وبفتح ثانيه ويضم وقيل بفتح أوله وبضم ثانيه(2/494)
(من أئمّة العراقيّين) أي من المالكية وفي نسخة بزيادة من أصحابنا (جوابه) أي جواب مالك فيمن قال القرآن مخلوق (مختلف يقتل) وفي نسخة فقال يقتل وهو مضارع مجهول وقال التلمساني مصدر دخل عليه حرف جر (المستبصر) أي الذي له خبرة بأمور شريعته وهو معجب بضلالته وجهالته (الدّاعية) أي الذي يدعو غيره إلى بدعته والتاء للمبالغة أو بتأويل الفرقة أو الطائفة بنا على أن المراد بالمستبصر جنسه (وعلى هذا الخلاف) الذي ذكره القاضيان (اختلف قوله في إعادة الصّلاة) أي التي صليت (خلفهم) فقال مرة تعاد ومرة لا تعاد ويمكن الجمع بينهما أيضا بأن يقال تعاد احتياطا ولا تعاد وجوبا والأظهر على مقتضى مذهبه أنه لا تجوز الصلاة خلف الفاسق أنه تجب الإعادة ولعل الخلاف محمول على أنه لم يعلم بحاله أولا اثم تبين بدعته ثانيا وقد نقل الشيخ أبو حامد الإسفراييني والماوردي عن نص الشافعي أن من صلى خلف من ظنه مسلما فبان مرتدا أو زنديقا وجوب الإعادة وعدمه ورجحه عامة أصحابه (وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ لَا يُسْتَتَابُ القدريّ) وفي نسخة القدرية وهو مناف لما سبق عنه أنه لا نكفر أحدا من أهل القبلة (وأكثر أقوال السّلف) أي العلماء المتقدمين (تكفيرهم) لإثباتهم خالقين على ما مر (وممّن قال به) أي بتكفيرهم (اللّيث) بن سعد (وابن عيينة وابن لهيعة) بفتح اللام وكسر الهاء والعين المهملة وهو ضعيف (وروي عنهم) أي عن السلف ومن تبعهم من المذكورين (ذلك) أي تكفيرهم (فيمن قال بخلق القرآن وقاله) أي وقال بتكفير من قال بخلق القرآن (ابن المبارك) وهو عبد الله المروزي من أصحاب أبي حنيفة ممن جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع والاجتهاد والجهاد (والأوديّ) بفتح الهمزة وسكون الواو منسوب إلى قبيلة أود وهو عثمان بن حكيم (ووكيع) أي ابن الجراح أبو سفيان الرواسي (وحفص بن غياث) بكسر معجمة فتحتية مخففة فألف فمثلثة وهو أبو عمرو النخعي قاضي الكوفة روى عن الأعمش وغيره وعنه أحمد وغيره (وأبو إسحاق الفزاريّ) بفتح الفاء والزاء وثقه غير واحد (وهشيم) بفتح الهاء وكسر السين المعجمة وضبطه التلمساني مصغرا وهو ابن بشر يكنى أبا معاوية السلمي الواسطي حافظ بغداد روى عن عمرو بن دينار وغيره وعنه أحمد وابن معين ثقة مدلس (وعليّ بن عاصم) أي الواسطي يروي عن يحيى البكاء وعطاء ابن السائب وعنه ابن حنبل وغيره ضعفوه وكان عنده مائة ألف حديث مات وله بضع وتسعون سنة (في آخرين) أي من المجتهدين والمعنى مندرجين فيهم أي متوافقين معهم (وهو) أي ما قاله هؤلاء الأئمة (من قول أكثر المحدّثين والفقهاء والمتكلّمين) أي من علماء أصول الدين (فيهم) أي فيمن ذكر من المبتدعة (وفي الخوارج والقدريّة وأهل الأهواء المضلّة) كالرافضة وهو اسم فاعل أو مفعول أي الجامعين بين الضلال والإضلال (وَأَصْحَابِ الْبِدَعِ الْمُتَأَوِّلِينَ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حنبل وكذلك قالوا) أي هؤلاء الأئمة (في الواقفة) أي ليسوا متأولين ذكره الدلجي والأظهر ما قاله التلمساني من أنهم قوم توقفوا إذ ليس عندهم جواب إما لجهلهم أو لتعارض الأدلة(2/495)
عندهم وتوفقهم بوجب لهم ما يوجب لأصحابهم من المبتدعة والخوارج وغيرهم انتهى وفيه أن التوقف لتعارض الأدلة لا يوجب التكفير كما لا يخفى لأن الإيمان الإجمالي معتبر إجماعا (والشّاكّة) أي المترددة (في هذه الأصول) إثباته هي أم ضعيفة أو أحقه هي أم باطلة قال التلمساني هم قوم وقع لهم الشك في القرآن هل هو مخلوق أم لا (وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ مَعْنَى الْقَوْلِ الْآخَرِ بِتَرْكِ تكفيرهم) أي الفرق المذكورة وفي نسخة بتكفيرهم وهو خطأ إذ لم يقل بتكفيرهم (عليّ بن أبي طالب) كرم الله وجهه (وابن عمر) رضي الله تعالى عنهما (وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَهُوَ رَأْيُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ النّظّار) بضم النون وتشديد الظاء جمع الناظر من النظر بمعنى التأمل والفكر ومنه الناظرة كأبي حنيفة والشافعي واتباعهما (والمتكلّمين) أي علماء الكلام وسموا به لأن جل مباحثهم معرفة الكلام (واحتجّوا) أي هؤلاء الأئمة (بتوريث الصّحابة والتّابعين ورثة أهل حروراء) بحاء مهملة مفتوحة وضم الراء الأولى يمد ويقصر موضع بالعراق على ميلين من الكوفة اجتمع بها الخوارج وتعاقدوا بها على رأيهم فنسبوا إليها وهم الذين ثاروا على علي كرم الله وجهه بعد وقعة الجمل وكان زعيمهم ابن الكواء تعاقدوا واجتمعوا على قتال علي ثم مضوا إلى النهروان فقاتلهم علي كرم الله وجهه وهم ثلاثون ألفا فتفلت منهم عشرة فذهب رجلان إلى عمان ورجلان إلى سجستان ورجلان إلى اليمن ورجلان إلى الجزيرة ورجلان إلى تل مروان وظهرت مذاهب الخوارج بهذه المواضع قال التلمساني ومذهبهم أن الإمام لا يختص بآل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بل كل من اجتمع فيه زهد وعلم وشجاعة فهو إمام إذا بويع وخرج وإن كان من العبيد والموالي وتفاصيل اعتقاداتهم في الصحابة ومرتكبي الكبيرة مذكورة في كتب الكلام انتهى ولا يخفى أن مذهب أهل السنة أيضا أن الإمام لا يختص بآله عليه الصلاة والسلام بل يختص بقريش لقوله عليه الصلاة والسلام الأئمة من قريش وبه ثبت خلافة الشيخين وإنما الشيعة يقولون باختصاص الإمامة لأهل بيت النبوة (ومن عرف بالقدر) بصيغة المجهول وهو معطوف على أهل حرواء (ممّن مات منهم) أي جميعهم (وَدَفْنِهِمْ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَجَرْيِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ) من اعتاقهم وتنفيذ وصاياهم وسائر الأحكام (عَلَيْهِمْ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي وَإِنَّمَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْقَدَرِيَّةِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْبِدَعِ يُسْتَتَابُونَ فَإِنْ تابوا وإلّا قتلوا لأنّه) أي لأن ابتداعهم نوع (من الفساد في الأرض كما قال) أي مالك أو الله تعالى (في المحارب) أي قاطع الطريق حيث قال تعالى إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أي أن قتلوا أَوْ يُصَلَّبُوا أن قتلوا ونهبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أن نهبوا أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ بالإخراج أو الحبس إن خافوا فقط فأو في الآية للتنويع والحكم مرتب عليهم عند الجمهور وعند مالك أو للتخيير كما يشير إليه قوله (إن رأى الإمام قتله) أي حدا (وإن لم يقتل) أي أحدا وإن وصلية (قتله) أي الإمام لكونه مخيرا في قتله وهذا من باب قياس الأولى كما بينه بقوله (وفساد المحارب إنّما هو في الأموال) أي(2/496)
في حقها وبسببها يحصل سفك الدماء (ومصالح الدّنيا) أي في جهتها من حفظ الأموال والدماء (وإن كان) أي الفساد (أيضا قد يدخل في أمور الدنيا) بالتبعية (مِنْ سَبِيلِ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَفَسَادُ أَهْلِ الْبِدَعِ معظمه) أي أكثره واقع (على الدّين) وإن كان يتفرع عليه أيضا فساد في الدنيا كما بينه بقوله (وقد يدخل) أي الفساد (في أمر الدّنيا بما يلقون) بضم الياء والقاف أي يغرون (بين المسلمين من العداوة) والبغضاء وقد حرم الله الخمر والميسر لهذه العلة كما قال تعالى إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فالعلة مركبة مفيدة لقتل أهل البدعة ولكن المرتبة المعتدلة ما صدر عن علي إمام الأئمة وتبعه جمهور علماء الأمة أنهم يقتلون حال المحاربة أو وقت خروجهم للدعوة وأما إذا أخذوا أو كانوا منفردين غير مجتمعين على الفساد فلا يقتل أحد منهم وهذا جمع حسن وهو اسلم والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل [فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي إِكْفَارِ الْمُتَأَوِّلِينَ قَدْ ذكرنا مذاهب السلف وإكفار أصحاب البدع والأهواء]
(في تحقيق القول في إكفار المتأوّلين) أي في تكفيرهم (قد ذكرنا مذاهب السّلف) أي اختلاف مقالهم (في إكفار أصحاب البدع) الفاسدة (والأهواء) الكاسدة (المتأوّلين) للكتاب والسنة (ممّن قال) أي بعض المبتدعة (قولا يؤدّيه) بهمز ويبدل أي يوصله (مساقه) أي مرجعه ومآله (إلى كفر هو) أي المبتدع (إذا وقف عليه) بصيغة المجهول أي إذا اطلع على حقيقة أمره (لا يقول بما يؤدّيه قوله إليه) وذلك لأنه بحسب اجتهاده وقع عليه وذلك كما إذا قال المعتزلي إن الله عالم ولكن لا علم له فقيل له قولك هذا يؤدي إلى نفي أن يكون الله عالما إِذْ لَا يُوصَفُ بِعَالِمٍ إِلَّا مَنْ لَهُ علم يقول هو نحن لا نقول أنه ليس بعالم فإنه كفر وقولنا لا يؤدي إلى ذلك على ما هو أصلنا وكقول من قال منهم إن الله لا يريد الفحشاء مأولا له بأن إرادة القبائح ويجاب بأنه سبحانه منزه على أن يقع في ملكه إلا ما شاء (وعلى اختلافهم) أي على اختلاف مراتب المبتدعة وتفاوت المسألة المخترعة وقال الدلجي أي على اختلاف السلف (اختلف الفقهاء والمتكلّمون في ذلك) أي في تكفيرهم (فَمِنْهُمْ مَنْ صَوَّبَ التَّكْفِيرَ الَّذِي قَالَ بِهِ الجمهور من السّلف ومنهم من أباه) أي التكفير (ولم ير إخراجهم من سواد المسلمين) أي عمومهم (وهو قول أكثر الفقهاء) كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما (والمتكلّمين) أي أكثرهم من الأشعرية والماتريدية (وقالوا) أي الجمهور من الطائفتين وفي نسخة وقال أي من أباه وما بينهما معترضة (هم) أي المبتدعة (فسّاق) بعلمهم وهو بضم الفاء وتشديد السين جمع فاسق (عصاة) باعتقادهم وهو جمع عاص (ضلّال) في اجتهادهم وهو بضم فتشديد جمع ضال (ونوارثهم) بالنون وفي نسخة بالياء (من المسلمين) قال التلمساني وروي توارثهم مصدرا أقول والظاهر أنه تحريف وتصحيف (ونحكم لهم) بالوجهين وفي نسخة بصيغة المجهول الغائب (بأحكامهم) أي بأحكام سائر المؤمنين مما لهم وعليهم في أمور الدنيا والدين وفي(2/497)
قوله نوارثهم ونحكم لهم إيماء إلى صحة القول الأخير وهو عدم التكفير (وَلِهَذَا قَالَ سُحْنُونٌ لَا إِعَادَةَ عَلَى مَنْ) وفي نسخة لمن (صلّى خلفهم قال) أي سحنون (وهو) أي هذا القول بعدم الإعادة (قول جميع أصحاب مالك) كلهم (المغيرة وابن كنانة وأشهب قال) أي مالك أو كل واحد من أصحابه (لأنّه) أي المبتدع (مسلم) أي من أصله المنسحب عليه في حاله (وذنبه) أي بابتداعه (لم يخرجه من الإسلام) وإن كان بدعته كبيرة (واضطرب آخرون) أي من أصحاب مالك (في ذلك) التكفير (ووقفوا) أي توقفوا (عن القول بالتّكفير أو ضدّه) وهو عدم التكفير (واختلاف قولي مالك) وفي نسخة قول مالك (في ذلك) أي فيما ذكر من التكفير وعدمه (وتوقّفه) أي وفي توقفه والأظهر أنه مرفوع أي وتوقف مالك (عن إعادة الصّلاة خلفهم) أي عقب المبتدعين (منه) أي من قبيل ما اضطرب فيه الآخرون (وإلى نحو من هذا) الاختلاف في ذلك والتوقف من مالك (ذهب القاضي أبو بكر) أي الباقلاني (إمام أهل التّحقيق) أي في مقام التقدقيق (والحقّ) أي وإمام أهل الحق المزيل للباطل (وقال) أي الباقلاني (إنّها) أي مسألة القول بالتكفير (من المعوصات) بضم الميم وكسر الواو المخففة أي المشكلات (إذ القوم) أي المبتدعة (لم يصرّحوا باسم الكفر وإنّما قالوا قولا يؤدّي إليه) ولا بد من الفرق بينهما في مقام التحقيق والله ولي التوفيق والحاصل أن مقتضى الإشكال وهو أن المعتزلي إنما قال مثلا إن الله عالم ولكن لا علم له فهل يقول إن نفيه للعلم له سبحانه وتعالى نفي أن يكون الله عالما وذلك كفر بالإجماع أو يقول قد اعترف بأنه تعالى عالم وإنكاره العلم لا يكفره وإن كان يؤدي إلى أنه ليس بعالم والله سبحانه وتعالى اعلم (واضطرب قوله) أي قول القاضي أبي بكر (في المسألة) أي هذه أيضا (عَلَى نَحْوِ اضْطِرَابِ قَوْلِ إِمَامِهِ مَالِكِ بْنِ أنس) كان الأولى حذف امامه (حتّى قال) أي الباقلاني (في بعض كلامه إنّهم) أي أهل البدع (عَلَى رَأْيِ مَنْ كَفَّرَهُمْ بِالتَّأْوِيلِ لَا تَحِلُّ) أي لأحد منا أهل السنة (مُنَاكَحَتُهُمْ وَلَا أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَلَا الصَّلَاةُ عَلَى ميّتهم) لموته في اعتقاد من يكفرهم على الكفر (ويختلف في موارثتهم) بصيغة المجهول (على الخلاف في ميراث المرتد) على ما مر عن ابن القاسم وغيره (وقال) الباقلاني (أيضا نورّث) بتشديد الراء المكسورة (ميّتهم) وفي نسخة منهم (ورثتهم من المسلمين ولا نورّثهم) أي المبتدعة (من المسلمين وأكثر ميله) أي الباقلاني (إِلَى تَرْكِ التَّكْفِيرِ بِالْمَآلِ وَكَذَلِكَ اضْطَرَبَ فِيهِ) أي في القول بتكفيرهم (قول شيخه) أي في الطريقة (أبي الحسن الأشعريّ وأكثر قوله) المنقول عنه (تَرْكُ التَّكْفِيرِ وَأَنَّ الْكُفْرَ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ الجهل بوجود الباري) وما يتعلق به من التوحيد والنبوة (وقال) أي الأشعري (مرّة من اعتقد أنّ الله جسم) أي له جسم كالأجسام (أو المسيح) أي أنه عيسى (أو بعض من يلقاه في الطّرق) كما تصور إبليس فوق عرش بين السماء والأرض وصور في خاطر بعض المريدين أنه الاله فوق عرشه واعتقده حتى بلغه الحديث المشهور في ذلك فتاب إلى الله وقضى صلواته المتقدمة هنالك ولا يبعد أن يكون مراده أن القول بأن اللَّهَ جِسْمٌ أَوِ الْمَسِيحُ أَوْ بَعْضُ مَنْ يلقى(2/498)
في الطريق مستوى في حد كفره (فليس بعارف به) أي بوجوده سبحانه وتعالى (وهو كافر) حيث لم يفرق بين وجود واجب الوجود وبين وجود الحادث في مقام الشهود ومن هنا أكثر من سائر أهل الكفر والعناد (ولمثل هذا) المقال المروي عن الأشعري من عدم تكفير المبتدعة من أهل القبلة (ذهب أبو المعالي) وهو إمام الحرمين رحمه الله تعالى وهو من أكابر الشافعية (في أجوبته لأبي محمّد عبد الحقّ) أي الاشبيلي ذكره الدلجي وقال الحلبي هذا ليس الإشبيلي الحافظ صاحب الأحكام بل آخر غيره ولد سنة عشر وخمسمائة ومات سنة إحدى وثمانين وخمسائة وولد إمام الحرمين سنة تسع عشرة وأربعمائة ومات بنيسابور سنة ثمان وسبعين وأربعمائة فالإمام توفي قبل مولد عبد الحق الحافظ صاحب الأحكام بما ترى قال ورأيت في نسخة ما لفظه ولمثل هذا ذهب أبو الوليد سليمان رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَجْوِبَتِهِ لِأَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الحق وهذا أيضا لا يصح أن يكون عبد الحق الحافظ الإشبيلي وذلك لأن أبا الوليد سليمان بن خالد الباجي توفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة وعبد الحق ولد سنة عشر وخمسمائة وقيل سنة أربع عشرة فلا يصح ذلك والله تعالى اعلم وعبد الحق الذي جاوبه أبو المعالي لم أعرفه إلى الآن انتهى وقال التلمساني هو عبد الحق بن محمد بن هارون السهمي مات سنة ست وستين وأربعمائة (وكان) أي والحال أن أبا محمد (سأله عن المسألة) التي ميل الأشعري فيها إلى عدم التكفير أكثر (فاعتذر له بأن الغلط فيها) أي في المسألة بالقول بالتكفير وعدمه (يصعب) أي يعسر جدا (لأنّ إدخال كافر في الملّة) الإسلامية (وإخراج مسلم عنها عظيم في الدّين) والثاني أصعب من الأول فتأمل ولعله عليه الصلاة والسلام من أجل هذا قال أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار (وقال غيرهما) أي الأشعري وأبي المعالي (من المحقّقين الّذي) مبتدأ أي القول الذي (يجب) أي يقال (هو الاحتراز من التّكفير في أهل التّأويل) وإن كان تأويلهم خطأ في فهم التنزيل (فإنّ استباحة دماء) المصلين (الموحّدين) الصائمين المزكين القارئين للكتاب التابعين للسنة في جميع الأبواب (خطر) بفتحتين أي ذو خطر ويجوز أن يكون بفتح فكسر (وَالْخَطَأُ فِي تَرْكِ أَلْفِ كَافِرٍ أَهْوَنُ مِنَ الخطأ في سفك محجمة) بكسر الميم الأولى وهي آلة الحجامة (من مسلم) وفي نسخة من دم مسلم (واحد) وقد قال علماؤنا إذا وجد تسعة وتسعون وجها تشير إلى تكفير مسلم ووجه واحد إلى ابقائه على إسلامه فينبغي للمفتي والقاضي أن يعملا بذلك الوجه وهو مستفاد من قوله عليه السلام ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة رواه الترمذي وغيره والحاكم وصححه (وقد قال عليه الصلاة والسلام) كما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك وفي رواية (فإذا قالوها يعني الشّهادة) أي جنسها (عصموا) بفتح الصاد أي حفظوا (مني دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها)(2/499)
أي بحق الشهادة مما يتعلق بها وفي رواية إلا بحق الإسلام (وحسابهم على الله) أي نحن نحكم بالظواهر والله تعالى اعلم بالسرائر وورد ما أمرت أن أشق عن قلوب الناس وصح أنه قال لأسامة هلا شققت عن قلبه وظاهر هذه الأحاديث على أنه تقبل توبة المرتد والزنديق وجامع مجمع عليه وجوبا كالصلاة ونحوها والله ولي التوفيق (فالعصمة) للدماء والأموال (مقطوع بها مع الشّهادة) بالوحدانية والرسالة (ولا ترتفع) أي العصمة (ويستباح خلافها) أي من دم أو مال (إلّا بقاطع) من الأدلة (ولا قاطع من شرع) إلا قوله عليه الصلاة والسلام لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث وهي الردة وقتل مسلم وزنى محصن (ولا قياس عليه) صحيح حتى يمال إليه (وألفاظ الأحاديث الواردة في هذا الباب) أي في باب مذمة المبتدعة (معرّضة) بتشديد الراء المفتوحة وروي عرضة أي قابلة (لِلتَّأْوِيلِ فَمَا جَاءَ مِنْهَا فِي التَّصْرِيحِ بِكُفْرِ القدريّة) كقوله عليه الصلاة والسلام القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا لا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم كما رواه أبو داود والحاكم وصححه عن ابن عمر وقوله عليه الصلاة والسلام من لم يؤمن بالقدر خيره وشره فأنا منه بري رواه أبو يعلى في مسنده (وقوله) بالرفع عطفا على ما أي وقول النبي عليه الصلاة والسلام (لا سهم لهم في الإسلام) أي لا نصيب للقدرية مطلقا أو كاملا في سهام الإسلام (وتسميته) عليه الصلاة والسلام (الرّافضة بالشّرك) هذه رواية غير معروفة ولعل المراد بهم غلاتهم القائلون بإلهية علي ويسمون النصيرية ولا شبهة في كفرهم إجماعا (وإطلاق اللّعنة) وفي نسخة وإطلاق اللعنة (عليهم) أي على القدرية والرافضة (وَكَذَلِكَ فِي الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ) فروى الدارقطني في العلل عن علي كرم الله وجهه لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا وروى الطبراني عن ابن عمر لعن الله من سب أصحابي وروى الطبراني أيضا عن ابن عباس مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ والناس أجمعين وروى أحمد والحاكم عن أم سلمة من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله (فقد يحتجّ بها) أي بظاهرها (من يقول بالتّكفير وقد يجيب الآخر) وهو القائل بعدم التكفير (بأنّه) أي الشأن (قد ورد مثل هذه الألفاظ في الحديث) النبوي (في غير الكفرة على طريق التّغليظ) كقوله عليه الصلاة والسلام من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد رواه أحمد والحاكم عن أبي هريرة وفي رواية من أتى كاهنا فصدقه بما يقول أو أتى امرأة حائضا أو امرأة في دبرها فقد برئ ما انزل على محمد وفي رواية ملعون من أتى امرأة في دبرها (وكفر) أي وبأنه كفر أي كفران (دون كفر) أي صريح (وإشراك) أي خفي (دون إشراك) أي جلي كقوله عليه الصلاة والسلام من حلف بغير الله فقد اشرك رواه أحمد والترمذي والحاكم عن ابن عمر (وقد ورد مثله) أي في أنه شرك دون شرك (في الرّياء) كقوله عليه الصلاة والسلام الشرك الخفي أن يعمل الرجل لمكان الرجل رواه الحاكم عن أبي سعيد وقد قال تعالى فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً أي بأن يرائيه أو يطلب منه أجرا وعنه عليه الصلاة والسلام اتقوا الشرك الأصغر قيل(2/500)
وما الشرك الأصغر قال الرياء وفي نسخة الزنا بالزاء والنون كحديث لا يزني زان حين يزني وهو مؤمن ولا يبعد أي يكون الربا بالراء والموحدة لقوله عليه السلام لعن الله الربا وآكله وموكله وكاتبه وشاهده وهم يعلمون رواه الطبراني عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (وعقوق الوالدين) كحديث من أدركه أبواه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة يرح رائحة الجنة (والزّور) أي شهادة الزور وهي المعادلة للشرك في قوله فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ وروي بدله والزوج كقوله عليه الصلاة والسلام لعن الله المسوفات التي يدعوها زوجها إلى فراشه فتقول سوف حتى تغلبه عيناه رواه الطبراني عن ابن عمر (وغير معصية) أي وفي غير معصية أي متفق عليها كقوله عليه الصلاة والسلام ملعون من لعب بالشطرنج رواه ابن حزم وغيره وكقوله عليه الصلاة والسلام لعن الله المحلل والمحلل له رواه أحمد والأربعة عن علي كرم الله وجهه (وإذا كان) الحديث الوارد في الآحاد (محتملا للأمرين) في كفر وغيره (فلا يقطع) أي الحكم بالجزم (على أحدهما إلّا بدليل قاطع) وأغرب الدلجي بقوله أو غير قاطع وكأنه قاس على مسائل الفروع حيث لا فرق عند إمامهم بين القطعي والظني في أحكامها وغفل عن أنه لا بد في مسائل الأصول من الأدلة القطعية؛ (وقوله) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما رواه مسلم عن أبي ذر وروي لأنه قال (في الخوارج هم من شرّ البريّة) بالهمز والتشديد أي الخليفة (وهذه صفة الكفّار) كما في سورة البينة، (وقال عليه الصلاة والسلام) كما رواه البيهقي في حقهم (هم شرّ قبيل) فعيل يستوي فيه الواحد والجمع وفي رواية شر قتلي جمع قتيل وروي شر قبيل بالموحدة أي جمع قبيلة (تحت أديم السّماء) أي ما ظهر منها (طوبى) فعلى من الطيب وأصلها طيبي وقد يقال به قلبت ياؤه واوا لسكونها وانضمام ما قبلها وهي الحالة الطيبة أو الجنة أو شجرة عظيمة فيها (لمن قتلهم) وقد قتلهم علي كرم الله وجهه يوم النهروان (أو قتلوه) لفوزه بالسعادة المترتبة على الشهادة، (وقال) فيما رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدري (فإذا وجدتموهم) أي مجتمعين (فاقتلوهم قتل عاد) أي كقتل عاد في الشدة أو المعنى أهلكوهم اهلاكا مستأصلا والأفهم أهلكوا بريح صرصر عاتية (وروي ثمود) وهو ابن عم عاد (وظاهر هذا) القول (الكفر) أي كفرهم بناء على صدر الحديث (لا سيّما مع التشبيه) أي لهم وفي نسخة مع تشبيههم (بعاد) قوم هود (فَيَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرَى تَكْفِيرَهُمْ فَيَقُولُ لَهُ الآخر) ممن لا يرى تكفيرهم (إنّما ذلك) التغليظ (من قتلهم) أي جهة قتلهم لا من جهة كفرهم (لخروجهم على المسلمين وبغيهم) أي ظلمهم وتعديهم (عليهم) أي على المؤمنين (بدليله) أي دليل خروجهم وبغيهم عليهم المستفاد (من الحديث نفسه) وروي بدليل من الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام (يقتلون أهل الإسلام فقتلهم ههنا حدّ) أي قصاص للعباد أو دفع للفساد (لا كفر) على وجه العناد (وذكر عاد) وروي وقتل عاد (تشبيه للقتل) في الشدة والاستئصال (وحلّه) أي وكونه الحلال (لا) تشبيه (للمقتول) من الخوارج بالمقتول من عاد حتى يلزم الكفر مع أنه الكفر مع(2/501)
أنه لا يلزم من التشبيه تسوية المشبه والمشبه به من جميع الوجوه (وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ حُكِمَ بِقَتْلِهِ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ) كما يعرف في باب القصاص والرجم (ويعارضه) الآخر (بقول خالد) بن الوليد سيف الله (في الحديث) كما رواه الشيخان عن أبي سعيد (دعني) أي اتركني (أضرب) بالجزم أو الرفع (عنقه) أي ذي الخويصرة (يا رسول الله فقال لعلّه يصلّي) يعني وهو مؤمن وقد روى الطبراني عن أنس مرفوعا نهيت عن المصلين أي عن قتلهم هذا وفي صحيح البخاري أيضا أنه سأل قتله عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ولا منع من الجمع (فإن احتجّوا) أي من يرى تكفيرهم (بقوله عليه الصلاة والسلام يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم) جمع حنجرة وهي الحلقوم (فأخبر) أي بهذا (أنّ الإيمان) المستفاد من القرآن (لا يدخل قلوبهم) والأظهر أن المعنى لا تقبل قراءتهم ولا تصعد إلى السماء تلاوتهم وأما نفي الإيمان فلا يستفاد من حالتهم (وكذلك قوله) أي في حقهم (يمرقون) بضم الراء أي يخرجون بسرعة (من الدّين مروق السّهم) أي نفوذه (من الرّميّة) فعلية بمعنى مفعولة أي مرمية ما يرمى فيمرق منه السهم من صيد أو غيره (ثمّ لا يعودون إليه) أي إلى الدين (حتّى يعود السّهم على فوقه) بضم الفاء وهو موضع الوتر من الهم وهذا تعليق بالحال كقوله تعالى لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ فما في بعض النسخ حتى لا يعود خطأ فاحش (وبقوله) وفي نسخة وقوله أي في الصحيحين عن أبي سعيد وروي وكذلك قوله (سبق) أي السهم بمروقه سريعا (الفرث) وهو ما في الكرش (والدّم) والمعنى مر سريعا في الرمية وخرج منها لم يعلق منها بشيء من فرثها ودمها لسرعته شبه به خروجهم من الدين بسرعة (يدلّ على أنه) أي الخارجي (لم يتعلّق من الإسلام بشيء) من سهام الأحكام (أجابه الآخرون) الذين لا يكفرونهم (إِنَّ مَعْنَى لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ) وروي لا يفقهون (مَعَانِيَهُ بِقُلُوبِهِمْ وَلَا تَنْشَرِحُ لَهُ صُدُورُهُمْ وَلَا تعمل به جوارحهم) أي لا يمتثلون أوامره ولا يجتنبون زواجره (وعارضوهم) الأولون (بقوله) عليه السلام (ويتمارى) بصيغة المجهول أي يشكك أو يجادل (في الفوق) أي في السهم هل فيه أثر علق به شيء من الفرث والدم أم لا وفي نسخة الفاعل للخطاب وفي أخرى بالغيبة أي يجادل ظنه ونفسه فيما يشك فيه (وهذا يقتضي التّشكك) ويروى الشك أي التردد (في حاله) يحكم بكفره أم لا (وإن احتجّوا) أي من يرى تكفيرهم (بِقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. أسمعت رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ) قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم (ولم يقل من هذا) أي الأمة كما في نسخة (وتحرير أبي سعيد الرّواية) أي وبتحريره (وإتقانه اللّفظ) الدال على تحقيقه في الدراية إذ قال في دون من وهذا مؤذن بأنهم كفرة ليسوا من أمة الإجابة وهذا في غاية من البعد كيف وهم يقرؤون القرآن ويصلون ويصومون ويبالغون في الزجر عن المعاصي حيث يكفرون مرتكبي الكبيرة وأما تعبيره بفي دون من فقد (أجابهم الآخرون) ممن لا يرى تكفيرهم (بِأَنَّ الْعِبَارَةَ بِفِي لَا تَقْتَضِي تَصْرِيحًا بِكَوْنِهِمْ) وروي صريحا كونهم (من غير الأمّة) أي أمة الإجابة بل هم من(2/502)
أمة الدعوة (بِخِلَافِ لَفْظَةِ مِنَ الَّتِي هِيَ لِلتَّبْعِيضِ وَكَوْنِهِمْ مِنَ الْأُمَّةِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ أبي ذرّ) أي الغفاري (وعليّ) أي ابن أبي طالب (وأبي أمامة) سهل بن حنيف كذا قاله الدلجي وقال الحلبي تقدم أنه صدي بن عجلان الباهلي (وغيرهم في هذا الحديث) أي حديث الخوارج (يخرج من أمتي، وسيكون من أمتي) ونحوهما مما هو ظاهر في كونهم منهم، (وحروف المعاني مشتركة) في معانيها ينوب بعضها عن بعض في مبانيها فإذا كانت مشتركة (فلا تعويل) أي لا اعتماد (على إخراجهم من الأمّة بفي ولا على إدخالهم فيها بمن) أي بمجردهما لاحتمال كل منهما أنها وقعت في موضع أختها فقوله تعالى إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أي فيه ويقال هذا ذراع في أرض كذا أي منها (لَكِنَّ أَبَا سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَادَ ما شاء) أي فيما أفاد (في التّنبيه الّذي نبّه عليه) أي على إخراجهم من الأمة بظاهر في دون من لأنهم ليسوا منهم (وهذا) التعبير بفي دون من من أبي سعيد (مِمَّا يَدُلُّ عَلَى سَعَةِ فِقْهِ الصَّحَابَةِ وَتَحْقِيقِهِمْ للمعاني) بإيراد ألفاظها الدالة عليها بدون احتمال إلى غيرها (واستنباطها) أي اخراجها من القوة إلى الفعل (من الألفاظ) الموضوعة لها الدالة عليها (وتحريرهم لها وتوقّيهم في الرّواية) وفيه أن هذا يوهم أن الصحابي له التصرف في الفاظ النبوة من الرواية فيعبر بها كما يظهر له من الدراية وقد اختلف أرباب الأصول في نقل الحديث بالمعنى والتصرف في المبنى والمحتاطون منعوه بالكلية والمحققون جوزوه عند الضرورة بالنسيان في أصل الرواية على أن أبا سعيد وقع شاذا في هذه الرواية بالنسبة إلى بقية الصحابة الذين هم أقوى منه في باب الدراية لا سيما عليا كرم الله وجهه المبتلى بمقاتلتهم ومحاربتهم ومباغضتهم (هَذِهِ الْمَذَاهِبُ الْمَعْرُوفَةُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَلِغَيْرِهِمْ مِنَ الفرق) المختلفة كالمعتزلة والشيعة (فيها) وفي نسخة عليها (مقالات كثيرة مضطربة) أي مختلة مختلفة (سخيفة) أي خفيفة ضعيفة (أقربها قول جهم) بن صفوان من المعتزلة (ومحمد بن شبيب) بفتح الشين المعجمة وكسر الموحدة الأولى وهو منهم أيضا على ما ذكره الدلجي قال التلمساني وهو الخارجي من المرجئة من جمع بين الأرجاء في الإيمان وبين القول في القدر (إنّ الكفر بالله) هو (الْجَهْلُ بِهِ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ) أي بغير الجهل به وجودا ذكره الدلجي وفيه أنه يلزم منه أن لا يوجد في الكون كافر إلا الدهرية فقد قال تعالى في حق عبدة الأصنام وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وما جاء الأنبياء إلا للتوحيد لا لمجرد إثبات وجوده تعالى ولهذا أمروا الخلق بأن يقولوا لا إله إلا الله لا بمجرد أن الله موجود ومع هذا من أتى بالوحيد ولم يقر بالأنبياء أو اقر ببعض الأنبياء ولم يقر صلى الله تعالى عليه وسلم ورسالته كأهل الكتاب فلا شك أنه كافر بالإجماع فكيف قائلة يكون من المبتدعة وإن هذا أقرب أقوالهم (قال أبو الهذيل) بالتصغير وهو العلاف البصري شيخ المعتزلة توفي سنة ست وعشرين ومائتين وقد نيف على المائة (إِنَّ كُلَّ مُتَأَوِّلٍ كَانَ تَأْوِيلُهُ تَشْبِيهًا لِلَّهِ بخلقه) كبعض المجسمة (وتجويرا) أي ظلما له (في فعله) على خلقه (أو تكذيبا لِخَبَرِهِ فَهُوَ كَافِرٌ وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا(2/503)
قديما) كالأرواح وعنصر الأشياء وقدم العالم كقول الحكماء (لا يقال له الله) ولعله احترز به عن صفات الذات فإنه يطلق عليه أنه الله قال تعالى قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى، (فهو كافر) فاندفع قول الدلجي بأن هذا مؤذن بكفر من قال بقدم صفاته كالعلم والقدرة كما هو مذهب أهل السنة خلافا للمعتزلة (وقال) وروي وقول (بعض المتكلّمين إن كان) المتأول (ممّن عرّف الأصل) أي من الكتاب والسنة (وبنى عليه) قوله (وكان) أي تأويله (فِيمَا هُوَ مِنْ أَوْصَافِ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ) لأن الجهل بذاته وصفاته كفر ولا عذر له في تأويله (وإن لم يكن) تأويله (من هذا الباب) أي باب ما يؤدي إلى كفره (ففاسق) في فعله وقوله بتأويله ومبتدع في اعتقاده (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفِ الْأَصْلَ) وبنى تأويله على غير أساس منه فيما لم يعرفه من صفاته سبحانه وتعالى (فهو مخطىء) في تأويله لعدم اصابته الحق يحكم عليه بالاثم والفسق (غير كافر) لقيام عذره بجهله (وذهب عبيد الله بن الحسن) أي ابن الحصين بن مالك بن الخشخاش (العنبريّ) منسوب لبني العنبر ومالك والخشخاش صحابيان وكان قاضي البصرة بعد سواد بن عبد الله روى عن عبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن عبد الله الأنصاري قال ابن سعد كان محمودا ثقة عاقلا وقال النسائي فقيه ثقة أخرج له مسلم توفي سنة ثمان وستين ومائة ومن غرائبه ما نقلوه عنه أنه يجوز التقليد في العقائد والعقليات وخالف في ذلك العلماء كافة ذكر الحلبي وتبعه الأنطاكي وسكت عنه التلمساني وفيه أن إيمان المقلد مقبول عند جمهور العلماء وقال الدلجي إنه من المعتزلة وقد ذهب (إلى تصويب أقوال المجتهدين) أجمعين (في أصول الدّين) ولو كانوا من المبتدعين (فيما كان عرضة للتّأويل) أي قابلا له مما لا يرد فيه نص صريح كتأويل المعتزلة أنه تعالى متكلم بخلقه الكلام في جسم متمسكين بشجرة موسى عليه الصلاة والسلام (وفارق) العنبري (في ذلك) القول (فرق الأمّة) أي طوائفها من الناجية وغيرها (إِذْ أَجْمَعُوا سِوَاهُ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي أُصُولِ الدِّينِ فِي وَاحِدٍ وَالْمُخْطِئُ فِيهِ آثِمٌ عاص فاسق وإنّما الخلاف في تكفيره) على ما سبق بعض تحريره وأما فروع الدين فالمخطئ فيها معذور بل مأجور واحد والمصيب له أجران كما في حديث ورد بذلك (وقد حكى القاضي أبو بكر الباقلانيّ) بن الطيب المالكي (مثل قول عبيد الله) أي العنبري (عن داود) أي ابن خلف (الأصبهانيّ) وفي نسخة الأصفهاني وهو إمام أهل الظاهر وكان زاهدا ورعا متقللا ناسكا أخذ العلم عن إسحاق بن راهويه وأبي ثور انتهت إليه رياسة العلم ببغداد قيل كان يحضر مجلسه أربعمائة صاحب طيلسان أخضر سمع من سليمان بن حرب والقعنبي ومسدد وطبقتهم وفي كتبه حديث كثير لكن الرواية عنه عزيزة وقد اختلف العلماء في نفاة القياس مثل داود وشبهه هل يعتبر قوله في الإجماع أم لا فعن طائفة من الشافعية أنه لا اعتبار لخلاف نفاة القياس في الفروع ويعتبر خلافهم في الأصول وقال إمام الحرمين والذي ذهب إليه أهل التحقيق أن منكري القياس لا يعدون من علماء الأمة وحملة الشريعة وقال الشيخ أبو عمر وابن الصلاح والذي اختاره الاستاذ أبو(2/504)
منصور البغدادي من الشافعية أن الصحيح من المذهب أنه يعتبر خلاف داود قال الشيخ وهو الذي استقر عليه الأمر آخرا فإن الأئمة المتأخرين أوردوا مذهب داود في مصنفاتهم قال والذي أجيب به أن داود يعتبر قوله ويعتد في الإجماع إلا فيما خالف فيه القياس الجلي وما أجمع عليه القياسيون وبناه على أصوله التي قام الدليل القاطع على بطلانها فاتفاق من سواه على خلافه إجماع منعقد وقول المخالف حينئذ خارج من الإجماع وذكر الذهبي في الميزان أن داود اراد الدخول على الإمام أحمد فمنعه وقال كتب إلى محمد بن يحيى في أمره أنه زعم أن القرآن محدث فلا يقربني فقيل يا أبا عبد الله أنه يتقي من هذا وينكره فقال محمد بن يحيى أصدق منه (وقال) أي الباقلاني (وحكى قوم عنهما) أي عن داود والعنبري (أنّهما قالا ذلك) أي تصويب المجتهدين في أصول الدين (فِي كُلِّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ حاله استفراغ الوسع) أي بذل طاقته واجتهاده (في طلب الحقّ) وإن أخطأ (من أهل ملّتنا أو من غيرهم) هذا باطل قطعا لأن غير أهل ملتنا كل منهم يدعي من حاله استفراغ التوسع في طلب الحق وكماله لا سيما أهل الكتاب وقد أخبر الله أنهم وغيرهم اجمعون كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (وقال نحو هذا القول) المنسوب إليهما (الجاحظ وثمامة) بضم المثلثة وكلاهما من المعتزلة قال الحلبي أما الجاحظ فهو الكناني الليثي البصري العالم المشهور صاحب التصانيف المشهورة في كل فن قال المسعودي ولا نعلم أحدا من الرواة وأهل العلم وأكثر كتبا منه وله مقالة في أصول الدين وإليه تنسب الفرقة الجاحظية من المعتزلة وكان تلميذ أبي إسحاق إبراهيم بن يسار البلخي المتكلم المشهور ومن أحسن تصانيفه كتاب حياة الحيوان الكبير فقد جمع فيه كل غريبة وكتاب البيان والتبيين وهو كبير جدا وكتاب في اللصوصية يعلم فيه الشخص كيف يسرق وينقب ويتسلق ويدخل البيوت في مجلد وكتاب في مدح البخل بحيث الناظر فيه يجلس اليوم واليومين لا يأكل شيئا ويبقى أياما لا تطيب نفسه باخراج شيء وكان الجاحظ مع فضله مشوه الخلق قيل له الجاحظ لأن عينيه كانتا جاحظتين والجحوظ النتوء وأصابه في آخر عمره فالج فكان يطلي شقه الأيمن بالصندل والكافور من شدة الحرارة وشقه الآخر لو قرض بالمقاريض لما احس به وأصابه الحصى وعسر البول توفي سنة خمس وخمسين ومائتين بالبصرة وقد نيف على التسعين وأما ثمامة فهو ابن أشرس النميري قال الذهبي في الميزان من كبار المعتزلة ومن رؤوس الضلالة كان له اتصال بالرشيد ثم بالمأمون وكان ذا نوادر وملح قال ابن حزم كان ثمامة يقول إن العالم فضله الله بطباعه لأن المقلدين من أهل الكتاب وعباد الأصنام لا يدخلوا النار بل يصيرون ترابا وأن من مات مصر على كبيرة خلد في النار وأن أطفال المؤمنين يصيرون ترابا انتهى ولا يخفى أنه بقوله صاحب الكبيرة مخلد في النار مبتدع موافق للخوارج والمعتزلة وبقوله المقلد للكفار لا يدخل النار دخل في جملة الكفرة (في أنّ كثيرا من العامّة) أي الجهلة (والنّساء والبله) بضم الباء جمع أبله أي المغفلون عن الشر المطبوعون على الخير وكأنه أراد بهم من لم يكن لهم عقل الآخرة(2/505)
بخلاف حديث أكثر أهل الجنة البله فإن المراد بهم من ليس لهم عقل الدنيا ولهم إقبال كلي على العقبى (وَمُقَلِّدَةِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ لَا حُجَّةَ لِلَّهِ عليهم إذا) وفي نسخة إِذْ (لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طِبَاعٌ يُمْكِنُ مَعَهَا الاستدلال) وهذا كلام باطل لاقتدارهم في الجملة على معرفة أوائل الأدلة ولقوله تعالى قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ففيه إيماء إلى أن المدار على المشيئة الإلهية لا بالإدلة العقلية ولا النقلية (وقد نحا) أي مال (الغزاليّ) بتشديد الزاء وتخفيفها نسبة إلى غزالة قرية من قرى طوس أو إلى بنت كعب الأحبار فإنها جدته وقيل كان والده غزالا يغزل الصوف ويبيعه (قريبا) وروي إلى قريب (من هذا المنحى) أي المسلك (في كتاب التّفرقة) وهو صاحب المؤلفات الفائقة وهو الإمام حجة الإسلام ولد بطوس بلد بخراسان لا بالعراق كما قاله التلمساني سنة خمسين وأربعمائة وتفقه ببلده على أحمد بن محمد الرادكاني ثم سافر إلى جرجان إلى أبي نصر الإسماعيلي فكتب عنه العقلية ثم خرج إلى طوس ثم ارتحل إلى إمام الحرمين بنيسابور فاشتغل عليه ولزمه وصار إماما في مذهب الشافعي فلما انقضت أيام الإمام خرج من نيسابور فجال في أقطار خراسان مدة وقدم بغداد سنة أربع وثمانين فولي تدريس النظامية بها ثم حج واستناب أخاه في التدريس ورجع إلى دمشق واستوطنها عشر سنين بجامعها بالمنارة الغربية منه واجتمع بالشيخ نصر المقدسي في زوايته التي تعرف اليوم بالغزالية وأخذ في العبادة والتنصيف ويقال إنه صنف الأحياء وعدة من الكتب هنالك ثم انتقل إلى القدس ثم سار إلى مصر والإسكندرية ثم رجع إلى بغداد وعقد بها مجلس الوعظ وترجمته كثيرة ومرتبته شهيرة توفي سنة خمس وخمسمائة عن خمس وخمسين سنة بطوس لا ببغداد كما ذكره الحلبي وغيره وعن الشيخ تقي الدين بن تيمية أنه ذكر في شرح العقيدة الأصفهانية كان أبو حامد مزجي البضاعة في الحديث ولهذا يوجد في كتبه من الأحاديث الموضوعة ما لا يعتمد عليه من له علم بالآثار ويوجد فيها من مقالات المتفلسفة ما نقده عليه علماء الإسلام حتى قال صاحبه أبو بكر بن العربي مع شدة تعظيمه له شيخان أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منها فما قدر انتهى وقال أبو بكر ابن العربي لقيت أبا حامد وهو يطوف عليه مرقعة فقلت يا شيخ العلم والتدريس أولى لك من هذا إذ بك يقتدي ويحكمك إلى معالم المعارف يهتدي فقال هيهات لما طلع قمر السعادة في فلك الإرادة أشرقت شموس الأفول على مصابيح الأصول فتبين الخالق لأرباب الألباب وذوي البصائر إذ كل لما طبع عليه راجع وصائر وأنشد:
تركت هوى ليلى وأني بمعزل ... وصرت إلى مصحوب أول منزل
ونادتني الأكوان حتى أجبتها ... ألا أيها الساري رويدك فأنزل
فعرست في دار الندا بعزيمة ... قلوب ذوي التعريف عنها بمعزل
غزلت لهم غزلا رقيقا فلم أجد ... لغزلي نساجا فكسرت مغزلي
وهي أبيات لرومية (وقائل هذا كلّه) كالجاحظ وثمامة (كَافِرٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى كُفْرِ مَنْ لَمْ(2/506)
يكفّر أحدا من النّصارى واليهود) يعني المقلدين منهم وكذا المجوس على ما يلوح كلام بعضهم.
وأن نار بالتنزيل محراب مسجد ... فما نار بالإنجيل هيكل بيعه
وأن عبد النار المجوس وما انطفت ... كما جاء في الأخبار عن ألف حجه
فما عبدوا غيري وما كان قصدهم ... سواي وإن لم يظهروا عقدنيه
نعم لا شك أن الكل يزعمون أنهم يعبدون الله ويطلبون رضاه كما أخبر الله عن بعضهم ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ لكنهم اضلهم الله وأبعدهم عن طريق الحق الموصل إلى الله كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وأكثرهم في طغيانهم يعمهون صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (وكلّ) أي وبالإجماع على كفر كل (من فارق دين المسلمين) بردة قولا وفعلا (أو وقف) أي توقف (في تكفيرهم) أو في الدين (أو شكّ) أي تردد فيه (قال القاضي أبو بكر) أي الباقلاني (لأن التّوقيف) أي بالسماع من الله ورسوله (والإجماع اتّفقا عَلَى كُفْرِهِمْ فَمَنْ وَقَفَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ كذّب النّصّ) أي نص الكتاب (والتّوقيف) به من السنة على الصواب (أَوْ شَكَّ فِيهِ وَالتَّكْذِيبُ أَوِ الشَّكُّ فِيهِ) أي في كفرهم (لا يقع) كل منهما (إلّا من كافر) .
فصل (فِي بَيَانِ مَا هُوَ مِنَ الْمَقَالَاتِ كُفْرٌ وَمَا يُتَوَقَّفُ أَوْ يُخْتَلَفُ فِيهِ وَمَا لَيْسَ بكفر)
وهذا فصل مهم يتعين معرفته على كل من له فضل ليكون اعتقاده على اساس أصل يوصله إلى كمال وصل (اعْلَمْ أَنَّ تَحْقِيقَ هَذَا الْفَصْلِ وَكَشْفَ اللَّبْسِ) أي إزالة الخلط والشبهة (فيه مورده الشّرع) أي النقل من الكتاب والسنة (ولا مجال) أي لا مدخل (للعقل) والطبع (فيه) من الأدلة الكاسدة والأقيسة الفاسدة (والفصل البيّن) أي الفرق الواضح (في هذا) الفصل (أنّ كلّ مقالة صرّحت بنفي الرّبوبيّة) كالمعطلة (أو الوحدانيّة) كالوثنية (أو عبادة أحد غير الله) كالاتحادية (أو مع الله) كالحلولية (فهي كفر) أي مقالة كفر (كمقالة الدّهريّة) بنفي الألوهية كما أشار إليه قوله تعالى وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وهو الزمان الطويل ولم يعلموا أن المتصرف في الأمر هو الله لا الدهر ولهذا قال عليه الصلاة والسلام لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله وفي رواية فإن الله هو الدهر ردا لاعتقادهم نسبة الخير والشر إلى الدهر (وسائر فرق أصحاب الاثنين) أي القائلين بأن خالق الخير غير خالق الشر وقد قال تعالى لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وقد بينهم المصنف بقوله (من الدّيصانيّة) بكسر الدال المهملة وتفتح وهم يقولون النور حي والظلمة ميت (والمانويّة) بفتح الميم وسكون الهمزة ويبدل وفتح النون وفي أصل الحجازي المنائية بفتح الميم وتشديد النون وفي نسخة المانية منسوب إلى ماني زنديق مشهور ظهر في زمان شابور بن أردشير وادعى النبوة وقال إن للعالم أصلين قديمين نور هو مبدأ الخير وظلمة هو مبدأ الشر فصدقه(2/507)
فلما تولى بهرام سلخه وحشا جلدة تبنا وقتل أصحابه إلا من هرب إلى الصين ودعا إلى دينه وأهل الصين إلى زماننا هذا على مذهبه كذا ذكره بعضهم فأجيب وقد كذبهم المتنبي في شعره فقال:
وكم لظلام الليل عندي من يد ... تخبر أن المانوية تكذب
قال وللمانية مذهبان منهم من يقول إن النور والخير والروح خلقه إله والشر والظلمة والجسد خلقه إله وهم ثنوية ومنهم من يقول الخير كله في النور والشر كله في الظلمة والفرق بينهم وبين الديصانية أنهم يقولون النور والظلمة حيان وفي أصل التلمساني المانية بفتح الميم والنون المشددة والظاهر أنه تصحيف (وأشباههم) أي ممن عبد غير الله تعالى (من الصّابئين) بالهمز ودونه من صبأ إذا خرج من دين إلى دين آخر وهم فرقة عدلوا عن اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة لا عتقادهم تأثيرها في عالم العناصر مدبرة لأمور قديمة شفعاء للعباد عند الله مقربة لهم إليه زلفى ويزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام (والنّصارى) وهم طوائف ثلاث مشهورة يقولون تدرع الناسوت باللاهوت بطريق الامتزاج كالخمر بالماء عند الملكائية وبطريق الإشراق كالشمس في كوة بلور عند النسطورية وبطريق الانقلاب لحما ودما بحيث صار الإله هو المسيح عند اليعقوبية (والمجوس) القائلين بخالقين يزدان وهو مبدأ الخير وأهرمن وهو الشيطان مبدأ الشر وهم يعبدون النار لمحبتهم في النور وفي الحديث القدرية مجوس هذه الأمة قيل لمشابهتهم في قولهم بأصلين نور وظلمة فالخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة وكذا القدرية يضيفون الخير إلى الله والشر إلى الإنسان أو الشيطان (والّذين أشركوا بعبادة الأوثان) أي الأصنام (أو الملائكة أو الشّياطين) أي الجن فإن إبليس لم يعبد قط وأما قوله تعالى لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ فمعناه لا تطيعوه فيما يأمركم بالعصيان (أو الشّمس) وكذا القمر (أو النّجوم) أي جنسها أو نجم خاص منها كالشعري (أو النّار) فيه نوع من التكرار (أَوْ أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وأهل الهند) وهم الهنود (والصّين) مملكة بالمشرق فيها الترك من الكفرة (والسّودان) بضم أوله جمع أسود وهم كثيرون قيل معمور الأرض مسافة مائة سنة منها ليأجوج ومأجوج ثمانون سنة ومنها للسودان ست عشرة سنة وقيل ثماني عشرة ومنها لأولاد سام ما بقي (وغيرهم ممّن لا يرجع إلى كتاب) أو يرجع إليه لكن لا على طريق صواب (وكذلك القرامطة) وهم الإسماعيلية لإثباتهم الإمامة لإسماعيل بن جعفر الصادق وأصل دعوتهم إلى بطلان الشرائع لأن طائفة من المجوس عند استيلاء الإسلام وغلبة أهله الكرام راموا تأويلها على وجوه تعود إلى قواعد اسلافهم يستدرجون بها ضعفاء المسلمين وأهل غفلتهم استدراجا يورثهم اختلافا واضطرابا في شريعتهم ورئيسهم حمدان من قرمط قرية من قرى واسط فلقبوا بالقرامطة ورتبوا في الدعوة إلى ذلك مهملات باطلة ابتدعوها وخرافات عاطلة اخترعوها منها إباحة المحرمات والترغيب في اللذات كقولهم(2/508)
الوضوء موالاة الإمام الذي هو الحجة والتيمم الأخذ عما دونه في غيبته والصلاة الوصول والزكاة تزكية بمعرفة ما هو عليه من الدين والاحتلام إفشاء شيء من اسرارهم إلى من ليس من أهله بلا قصد والغسل تجديد العهد والجنة راحة الأبدان من التكاليف والنار مشقتها بمزاولة التكاليف وأمثال ذلك مما يقتضي تكفيرهم هنالك ولهم ألقاب سبعة (وأصحاب الحلول) من النصارى والباطنية والوجودية والنصيرية يزعمون أن الله حل في علي وأولاده (والتّناسخ) القائلين بانتقال الأرواح من أبدانها إلى أبدان أخر في الدنيا (من الباطنّية) وهم الإسماعيلية وهذا من ألقابهم السبعة ولقبوا به لقولهم بباطن القرآن دون ظاهر المفهوم منه لغة ويدعون أنه هو المراد منه وأن نسبته إليه كنسبة اللب إلى القشر فظاهره عذاب بمشقة التكاليف وباطنه مؤدي إلى تركها وتمسكوا فيه بقوله تعالى فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ وهذا مذهب النصيرية أيضا فإن قيل المبتدعة وهذه الطائفة المخترعة يتمسكون بالقرآن وكذلك أهل السنة والجماعة فالجواب أنه تعالى قال يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً فإن القرآن كالنيل ماء للمحبوبين ودماء للمحجوبين كما أشار إليه قوله تعالى وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً وبهذا يعلم أن الفرقة الناجية هم الذين على ما عليه النبي وأصحابه الكرام وأن معالم القرآن لا تنكشف حقيقة إلا ببيان النبي عليه الصلاة والسلام ما فيه من الأحكام النازلة على طريق الإبهام كما يدل عليه قوله عز وجل لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ فما ضل قلم من ضل ولا زل قدم من زل إلا من ترك علم الحديث من صريح النقل وتبع أهواءه وآراء الناشئة من أثر الجهل والخيالات الفاسدة والتصورات الكاسدة الكائنة من مجردة العقل فالجمع بين النقل والعقل نور على نور ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ثم هنا دقيقة يترتب عليها حقيقة وهي أن الواجب على السالك أن يجعل العقل تابعا للنقل لا بالعكس لئلا يقع في المهالك هذا ومن التناسخية طائفة الخطابية وهم اتباع أبي الخطاب محمد بن أبي وهب كان يزعم أن عليا الاله الأكبر وجعفر بن محمد الصادق إلاله الاصغر يقولون بالتناسخ يزعمون أن الله حل في علي ثم في الحسن ثم في الحسين ثم في زين العابدين ثم الباقر ثم في الصادق حكى ذلك عنهم فخر الدين الرازي في مختصره في الملل والنحل كما زعمت في عيسى النصارى حيث قالوا كما أخبر الله تعالى بقوله لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إنما كفروا لحصرهم الألوهية في ابن مريم بناء على أصلهم الفاسد تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا قال التلمساني ومن الباطنية ينسبون إلى التصوف يتظاهرون بالإسلام وإن لم يكونوا مسلمين في الأحكام والفساد اللازم من هؤلاء على الدين الحنيفي أكبر من الفساد اللازم عليه من جميع الكفار فإنهم يصرفون ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى الإفهام شيء كقول بعضهم في تأويل قوله تعالى اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى إشارة إلى قلبه وقال هو المراد بفرعون وهو الطاغي على كل إنسان وفي قوله تعالى أَلْقِ(2/509)
عَصاكَ أي كل ما يعتمد عليه مما سوى الله وفي قوله عليه الصلاة والسلام تسحروا فإن في السحور بركة أراد به الاستغفار في الإسحار انتهى والحق إنهم إن أرادوا بذلك إبطال ظواهر الكتاب والسنة فهم كفرة وإن أرادوا بذلك أن للكتاب والسنة عبارات واضحات وإشارات لائحات فهذا نور على نور وسرور على سرور ويشير إليه قول مالك من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ومن جمع بينهما فقد تحقق وأنا بحمد الله وحسن توفيقه وبركة متابعة سيد الأنبياء جمعت تفسيرا جامعا بين عبارات الأصفياء وإشارات الأوفياء (والطّيّارة من الرّوافض) ويسمون الجناحية وهم أصحاب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين قالوا الأرواح تتناسخ وروح الله كانت في آدم ثم في شيث ثم في الأنبياء والأئمة حتى انتهت إلى علي وأولاده الثلاثة ثم إلى عبد الله بن معاوية المذكور وهو في جبل بأصبهان وسيخرج وأنكروا القيامة وأحلوا المحرمات (وكذلك من اعترف بالإلهيّة اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَلَكِنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ غَيْرُ حَيٍّ أو غير قديم وأنّه محدث) أي موجود بعد عدم (أو مصوّر) بصورة كالهشامية أصحاب هشام بن الحكم وهشام بن سلام فإنهم اتفقوا على أنه سبحانه وتعالى جسد وهو كسبيكة بيضاء صافية يتلألأ من جانب وله لون وطعم ورائحة وليست هذه الصفات غيره ويقوم ويقعد وله مشابهة بالأجسام ويعلم ما تحت الثرى بشعاع ينفصل منه إليه وهو سبعة أشبار بأشبار نفسه مماس للعرش بلا تفاوت بينهما وارادته حركته لا عينه ولا غيره والأئمة معصومون دون الأنبياء لأنهم يوحى إليهم ويتقربون إليه بخلافهم لا يوحى إليهم فوجب أن يكون الإمام معصوما وقال ابن سلام هو على صورة إنسان له يد ورجل وحواس خمس وأنف وأذن وعين وفم ووفرة سوداء نصفه الأعلى مجوف والأسفل مصمت ليس بلحم ولا دم انتهى وابطله كله قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ولعل الحكمة في عدم تجويز رؤيته تعالى في الدنيا أن لا يدعي كل مبطل أني رأيته على هذه الصورة سبحانه وتعالى (أو ادّعى له ولدا) أي ابنا كاليهود والنصارى أو بنات كبعض العرب (أو صاحبة) أي زوجة كالنصارى (أو والدا) أي بأن يكون له أصل أو عنصر أو منبع أو معدن أو مصدر بحسب ذاته وجميل صفاته (أو متولد من شيء) هو كالتفسير لما قبله وكذا قوله (أو كائن) أي حادث (عنه) أي عن شيء قديم أو حادث والحاصل أنه ليس بحادث ولا بمحل للحوادث كما أشار إلى ذلك كله قوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (أَوْ أَنَّ مَعَهُ فِي الْأَزَلِ شَيْئًا قَدِيمًا) أي فضلا عن حادث إذ لا يتصور (غيره) أي غير ذاته وصفاته وأما ما ذكره بعض شراح الفصوص من قدم الأرواح مطلقا أو قدم أرواح الكمل فباطل قطعا وكفر إجماعا (أو أنّ ثمّ صانعا للعالم سواه) أي سوى الله كالدهرية وأما قول الدلجي كمشركي العرب فليس في محله لقوله تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى (أو مدبّرا غيره) كما يقول المنجمون من أن النجوم مدبرات والله سبحانه وتعالى يقول إنها مسخرات (فذلك كلّه(2/510)
كُفْرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ كَقَوْلِ الْإِلَهِيِّينَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ) القائلين بالوجود المطلق وقال التلمساني هم قوم من حكماء النهد يدعون قدم الطينة ويزعمون أن العالم قديم وينكرون حشر الأجساد (والمنجّمين) الباحثين عن النجوم وأحوالها قيل للإسكندر الرومي كنا عند منجم في بستانه فأرانا النجم نهارا واحدا واحدا ببرهانه فوقع في بئر فيه وهو لا يدري فقال من تعاطى علم ما فوقه جهل علم ما تحته وقال التلمساني من نسب التدبير إلى النجوم واعتقد أنها فعالة فهو كافر لأنه جعل مع الله شركاء ولقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي أصبح من عبادي مؤمن وكافر الحديث فقائله تجرى عليه أحكام المرتد وإن كان يقول عادة الله بأن يخلق عندها فقيل كافر وقيل فاسق الأول سدا للذريعة وقال بعضهم الإفلاكية يقولون بإلهية الكواكب وما يقوله المنجم من كسوف وغيره هو بالحساب ولكن فيه فتنة ضعفاء العقول فيؤدب على ذلك وأما من يحكم بالكواكب في مولد أو وفاة أو غلاء أو رخص أو دولة أو زوالها فهو من أصل الكفر وروي أن النجوم إنما خلقها الله زينة للسماء الدنيا ورجوما للشياطين وهداية في البر والبحر (والطّبائعيّين) القائلين بتأثير الطبيعة في الإيجاد والتدبير في أمر البدن على ما عليه الأطباء التابعين للحكماء المعتقدين الهية الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وقيل هم الذين يقولون إن النار بطبعها محرقة وأن الماء بطبعه مغرق وأن الطعام والشراب بنفسهما مشبع ومزيل للعطش وقد أبطلها الله سبحانه وتعالى بقوله يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ وبتنجية موسى وقومة وإغراق فرعون وجنده وبعلة جوع البقر ومرض الاستسقاء ونحن نقول يقع ذلك الإحراق والإغراق ونحوهما عند وجود أسبابها بخلق الله عز وجل فيها لا بمجرد وجودها لاحتمال انقلابها (وَكَذَلِكَ مَنِ ادَّعَى مُجَالَسَةَ اللَّهِ وَالْعُرُوجَ إِلَيْهِ ومكالمته) وكذا من ادعى رؤيته سبحانه وتعالى في الدنيا بعينه كما بينته في شرح الفقه الأكبر (أو حلوله في أحد الأشخاص) كعلي ونحوه مما سبق بيانه أو في جميع الأشخاص والأشياء (كقول بعض المتصوّفة) أي المتشبهة بالصوفية من الحلولية والوجودية والاتحادية كابن سبعين والعفيف التلمساني التبريزي زعموا أن السالك إذا أمعن في سلوكه وخاض في لجة وصوله واستغرق في بحر حضوره فربما حل فيه سبحانه وتعالى كالنار في الفحم فيرتفع الأمر والنهي ويظهر من العجائب والغرائب ما لا يتصور من البشر وعن متصوفة أهل مصر أنه كان يقول لاصحابه طوفوا ببيت الرب يعني قلبه فيدورون حوله (والباطنيّة والنّصارى والقرامطة) وقد سبق الكلام عليهم (وكذلك نقطع) أي القول (على كفر من قال بقدم العالم) أي جميعه أو بعضه (أو بقائه) أي بذاته سواء يبقى أو يفنى كما يشير إليه قوله تعالى كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أي قابل للهلاك والفناء إلا الله سبحانه وتعالى فإنه بذاته دائم البقاء (أو شكّ في ذلك) أي في كونه قديما (على مذهب بعض الفلاسفة والدّهريّة) القائلين باستناد الحوادث إلى الدهر (أو قال بتناسخ الأرواح وانتقالها) من الأشباح (أبد الآباد) جمع بينهما للتأكيد أي دائما في الدنيا (في الأشخاص) من بدن إلى بدن آخر (وتعذيبها أو تنعّمها فيها)(2/511)
أي في الأشخاص (بحسب زكائها) بالهمزة أي طيب عنصرها (وخبثها) بضم أوله أي خبث أصلها (وَكَذَلِكَ مَنِ اعْتَرَفَ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ وَلَكِنَّهُ جَحَدَ النّبوّة من أصلها عموما) كأن يقول ما نبأ الله أحدا من خلقه (أو) جحد (نبوّة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم خصوصا) وكذا إذا أقر بنبوته ونفى رسالته عموما (أو أحد) أي جحد نبوة أحد (من الأنبياء الّذين نصّ الله عليهم) بأنه نبي (بعد علمه بذلك) أي بأنه نبي (فهو كافر بلا ريب) أي من غير شك وشبهة (كالبراهمة) وهم قوم بأرض الهند لا يجيزون على الله بعثة الرسل (ومعظم اليهود) ينكرون نبوة عيسى مطلقا وعموم رسالة نبينا عليهما الصلاة والسلام (والأروسيّة) بضمتين أو بفتح أوله وفي آخره ياء نسبة ويقال أرسية (من النّصارى) قيل هو فرقة من رهط هرقل وقيل هم اتباع عبد الله بن ادريس كان في الزمن الأول قتلوا نبيا بعث إليهم (وَالْغُرَابِيَّةِ مِنَ الرَّوَافِضِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ) أي هو (المبعوث إليه جبريل) وسموا بذلك لقولهم على أشبه بمحمد من الغراب بالغراب فغلط جبريل حين بعث إلى علي لشبه النبي به وهذا كذب وبهتان لأن عليا ما كان شبيها بالنبي عليه الصلاة والسلام كما يعلم من شمائلهما الكرام وقد سبق في أول الكتاب بيان شمائله عليه الصلاة والسلام وأما شمائل علي كرم الله وجهه فإنه كان آدم شديد الأدمة عظيم العينين أقرب إلى القصر من الطول ذا بطن كثير الشعر عريض اللحية أضلع أبيض الرأس والحية كذا في اسماء رجال المشكاة لمصنفه بل أقول ولم يوجد أحد يشبهه من جميع الوجود نعم كان الحسن يشبهه بالنصف الأعلى والحسين بالنصف الأسفل لكن لا شباهة تورث الشبهة إنما هي شباهة في الجملة وقد قال الصديق الأكبر حين حمل أحدهما أنت شبيه بالنبي دون أبيك ولا يخفى وجوه كفرهم من إنكار النبوة لمحمد وإثباتها لعلي وتخطئة جبريل وتجهيل الرب الجليل ونقل أنهم يلعنون صاحب الريش ويعنون جبريل عليه الصلاة والسلام (وكالمعطّلة) أي للموجود ينفي صانعه كالدهرية أو النافية لحقيقة الأشياء القائلة بأن الأشياء كلها خيالات وتمويهات كالمنامات وهم السوفسطائية (والقرامطة) وهم الملاحدة الذين قتلوا أهل مكة حتى دفنوا ببئر زمزم موتاهم وصعد واحد منهم فوق باب الكعبة وقال الم تقولوا إن الله قال وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً فأي أمن لكم مع هذا القتل فيكم فأجابه بأن معناه ومن دخله أمنوه ولا تتعرضوا له وحاصله أنه ليس بخير حتى يلزم الخلف في قوله وإنما هو حكم ولا يلزم من تخلف الحكم نقصان في الحاكم وهم الذين أخذوا الحجر الأسود معهم قيل ومات تحته سبعون جملا وقد أعطاهم أمراء المسلمين مالا كثيرا لتخليص الحجر الأسود فمارضوا حتى وقع فيهم الوباء والغلاء وأنواع البلاء فارسلوه قيل جاء به جمل واحد بعون الله سبحانه وتعالى وفيه إيماء إلى استثقاله الخروج من مكة واستخفافه اشتياقا إلى الكعبة (والإسماعيليّة) وهم هم وإنما اختلف ألقابهم كذا قاله الدلجي وقال التلمساني الإسماعيلية من الباطنية وهم قوم اثبتوا إمامة إسماعيل بن جعفر الصادق وقيل لأن رئيسهم ينسب لمحمد بن إسماعيل بن جعفر وهو الصادق وقيل فرقة من الامامية من الرافضة(2/512)
ينسبون إلى إسماعيل بن جعفر الصادق حيث يزعمون أن الإمام بعد جعفر الصادق إسماعيل ابن جعفر ولكن لما مات إسماعيل في حال حياة أخيه عادت الامامة إلى أخيه قال تقي الدين أبو العباس بن تيمية أن الإسماعيلية في القرامطة الباطنية اتباع الحاكم الذي كان بمصر وكان دينهم دين أصحاب رسائل إخوان الصفا من أئمة منافقي الأمم الذين ليسوا مسلمين ولا يهودا ولا نصارى انتهى والله سبحانه وتعالى اعلم (والعنبريّة من الرّافضة) وهم المنسوبون إلى عبيد الله بن الحسن العنبر قاضي البصرة الذي جوز التقليد في العقائد والعقليات وقد تقدم في الفصل قبله كذا ذكره التلمساني وقد سبق أن إيماء المقلد صحيح عند عامة العلماء وفي نسخة صحيحة والعبيدية وهم من بني عبيد ابن بنت القداح اليهودي اسملت أمة فتزوجها شريف فزعم عبيد انه ابنه ودعا الناس إلى أن يبايعوه بالخلافة فطلب فلحق بالمغرب وبويع له بها وتولى من بنيه بمصر أربعة عشر خليفة ثم أخذها منهم نور الدين الشهيد (وإن كان بعض هؤلاء) الطوائف المذكورين (قد أشركوا) بصيغة الفاعل أو المفعول ويروى اشتركوا (في كفر آخر مع من قبلهم) ككفر بعض الرافضة بتكفيرهم الصحابة وقذف عائشة مع مشاركتهم من قال بالهين في كفره باعتقادهم الهية علي أولاده أو حلوله سبحانه فيهم (وكذلك من دان بالوحدانيّة وصحّة النّبوّة) أي نبوة الأنبياء جميعهم (ونبوّة نبيّنا عليه الصلاة والسلام) أي ورسالته عامة (وَلَكِنْ جَوَّزَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْكَذِبَ فِيمَا أَتَوْا به ادّعى في ذلك) الكذب (الْمَصْلَحَةَ بِزَعْمِهِ أَوْ لَمْ يَدَّعِهَا فَهُوَ كَافِرٌ بإجماع) بلا نزاع (كالمتفلسفين) من الحكماء (وبعض الباطنيّة) كالوجودية (والرّوافض) أي وبعضهم (وغلاة المتصوّفة) أي من الجهلة (وأصحاب الإباحة) وهم الملاحدة وفي نسخة الإباحية وهم فرقة من غلاة المتصوفة وجهلتهم ويقال لهم المباحية يدعون محبة الله وليس لهم من المحبة حبة يخالفون الشريعة ويزعمون أن العبد إذا بلغ في الحب غاية المحبة يسقط عنه التكليف ويكون عبادته بعد ذلك التفكر وهؤلاء شر الطوائف وكأنهم استندوا في معتقدهم إلى قوله تعالى وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ وقد اجمع المفسرون على أن المراد باليقين الموت هنا لأن عين اليقين متوقف على ذلك الحين فالمعنى اعبد ربك بالعلم اليقين حتى يأتيك عين اليقين وقد يقال إن العبادة حال اليقين أولى وأعلى كما يشير إليه قوله عليه السلام الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وقد قيل له عليه الصلاة والسلام حين تورمت قدماه في القيام بعد المنام اتتكلف هذا وقد غفر الله لك ذنبك فقال أفلا أكون عبدا شكورا (فَإِنَّ هَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّ ظَوَاهِرَ الشَّرْعِ وَأَكْثَرَ ما جاءت به الرّسل من الأخبار) بكسر أوله أي الأنباء (عمّا كان ويكون من أمور الآخرة) كعذاب القبر (والحشر) أي الجمع وكذا النشر؛ (والقيامة) أي مواقفها من الميزان والحوض والصراط؛ (وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ عَلَى مُقْتَضَى لفظها) الظاهر (ومفهوم خطابها) الباهر (وإنّما خاطبوا بها) أي الرسل (بها) أي بالأشياء المذكورة (الخلق) أي الأمة (عَلَى جِهَةِ الْمَصْلَحَةِ لَهُمْ إِذْ لَمْ يُمْكِنْهُمُ التّصريح) لتحقيق مرامهم (لقصور أفهامهم فمضمّن مقالاتهم) بضم الميم الأولى وفتح الثانية(2/513)
المشددة أي مضمونها (إبطال الشّرائع) بهذه الذرائع (وتعطيل الأوامر والنّواهي) بهذه الهذيانات الداعية إلى الملاهي (وتكذيب الرّسل) تلويحا (والارتياب) أي الإيقاع في الشك (فيما أتوا به) أي الأنبياء تصريحا (وَكَذَلِكَ مَنْ أَضَافَ إِلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم تعمّد الكذب فيما بلّغه) بتشديد اللام أي أوصله عن ربه (وأخبر به) أحدا من أمته (أو شكّ في صدقه) تهمة منه في حقه (أو سبّه) أي شتمه أو تنقصه (أو قال إنّه لم يبلّغ) جميع ما أنزل عليه وقد قال تعالى يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وقال فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وأراد نفيه عنه (أو استخفّ) أي احتقر واستهزأ (بِهِ أَوْ بِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ أَزْرَى) أي عاب (عليهم) أي جميعهم أو بعضهم (أَوْ آذَاهُمْ أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ حَارَبَهُ فهو كافر بإجماع) من علماء المسلمين (وكذلك نكفّر من ذهب مذهب بعض القدماء) من الحكماء (أَنَّ فِي كُلِّ جِنْسٍ مِنَ الْحَيَوَانِ نَذِيرًا) أي رسولا منذرا (ونبيّا) غير مأمور بالتبليغ (من القردة؛ والخنازير والدّوابّ والدود وغير ذلك) كالحيوانات المائية والطيور الهوائية؛ (وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر: 24] أي مضى ويجعل الأمة أعم لقوله تعالى وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ (إذ ذلك) الذي زعمه غير ثابت بالنقل الصريح ويدل على بطلانه العقل الصحيح لأنه (يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يُوصَفَ أَنْبِيَاءُ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ بصفاتهم المذمومة وفيه) أي وفي كل جنس من صور بشيعة وسير شنيعة (من الإزراء) أي العيب والمنقصة (على أهل هذا المنصب) بكسر الصاد أي منصب النبوة (المنيف) بضم الميم أي الرفيع الشريف (ما فيه) مما لا يليق بعلو شأنهم وسطوع برهانهم (مع إجماع المسلمين على خلافه و) على (تكذيب قائليه) ولعل سند الإجماع قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا أي لا نساء ولا جنا وإنما الخلاف في أنه هل كان في الجن رسول من جنسهم أم لا فالجمهور على أن الرسل من الانس خاصة وتعلق قوم بظاهر قوله تعالى امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
وأجيب بأن الآية من قبيل قوله تعالى يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ وهما يخرجان من الملح دون العذب وقيل المراد رسل من الجن أرسلهم الرسل من البشر لينذروهم ويدعوهم إلى الإيمان فيصدق عليهم أنه أتى الجن رسل لكن لا من الله بل من الأنبياء ويؤيده قوله تعالى وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ
الآيتين (وَكَذَلِكَ نُكَفِّرُ مَنِ اعْتَرَفَ مِنَ الْأُصُولِ الصَّحِيحَةِ بما تقدّم) من الألوهية والوحدانية والنبوة مطلقا (ونبوّة نبيّنا عليه الصلاة والسلام) أي ورسالته إلى عامة الأنام (ولكن قال كان أسود) وينبغي أن يفيد هذا بما إذا أراد احتقاره به وأما إذا قال عن جهل بشمائله فتكفيره ليس في محله لأن العلم بكونه عليه الصلاة والسلام أبيض ليس قطيعا ولا أنه مما علم من الدين بالضرورة والسواد لا ينافي النبوة فقد قال جمع بنبوة لقمان عليه السلام (أو مات قبل أن يلتحي) فإنه كذب في نفس الأمر لكن إنما يكفر إذا كان استخفافا أو استهزاء(2/514)
أو تكذيبا لنبوته (أو ليس الذي كان بمكة والحجاز) الشامل لها وللمدينة يحتمل أن يكون جهلا وأن يكون تكذيبا (أو ليس بقرشي) وفيه أن العلم بكونه قريشا ليس ضروريا فغايته أن يكون كاذبا به جاهلا بوصفه ولا يلزم منه كونه مكذبا به وأغرب الدلجي حيث قال لأنه كذبه عليه الصلاة والسلام في قوله أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش فإن الحفاظ أجمعوا على أنه حديث موضوع والحاصل أنه يكفر بهذا كله إذا أراد نفي نبوته عليه الصلاة والسلام كما يشير إليه قوله (لأنّ وصفه بغير صفاته المعلومة) عند كل واحد (نفي له) أي لوجوده (وتكذيب به) أي بشهوده وسيأتي أن الجهل ببعض صفات الباري سبحانه وتعالى لا يخرجه عن الإيمان كما عليه أكثر علماء الأعيان فكيف الجهل ببعض صفاته عليه الصلاة والسلام لا سيما ولم يتعلق به حكم من شرائع الإسلام (وَكَذَلِكَ مَنِ ادَّعَى نُبُوَّةَ أَحَدٍ مَعَ نَبِيِّنَا عليه الصلاة والسلام) كأصحاب مسيلمة والأسود العبسي (أو بعده كالعيسويّة) أصحاب عيسى ابن إسحاق بن يعقوب الأصبهاني كان موجودا في خلافة المنصور وهو (من اليهود) إلا أنه خالفهم في أشياء منها أنه حرم الذبائح (القائلين بتخصيص رسالته) أي نبينا (إلى العرب) خاصة (وكالخرّميّة) بضم الخاء المعجمة وتشديد الراء المفتوحة لأنهم تبعوا بابك الخرمي فنسبوا إليه قال الجوهري هم أصحاب التناسخ والإباحة وفي نسخة بجيم مفتوحة فراء ساكنة قال التلمساني ويجوز كسر الحاء المهملة وسكون الراء لقولهم ما حرم حلال لأنهم أباحوا المحرمات (القائلين بتواتر الرّسل) أي لا ينقطعون ما دامت الدنيا (وَكَأَكْثَرِ الرَّافِضَةِ الْقَائِلِينَ بِمُشَارَكَةِ عَلِيٍّ فِي الرِّسَالَةِ للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حال وجوده (وبعده) أي وبعد فقد شهوده (فكذلك كلّ إمام) أي من الأئمة الاثني عشر (عند هؤلاء) الرافضة (يقوم مقامه في النّبوّة والحجّة) يعني إن أرادوا بها الحقيقة وإلا فالمنزلة المجازية لا توجب الكفر ولا البدعة (وكالبزيغيّة) بموحدة مفتوحة وزاء مكسورة فتحتية ساكنة فمعجمة أو مهملة (والبيانيّة) بفتح موحدة فتحتية بعدها ألف فنون وقيل الصواب بموحدة مضمومة ونونين بينهما ألف (منهم) أي من الرافضة لا من البزيغية كما توهم الدلجي (القائلين بنبوّة بزيغ) رجل غير معروف (وبيان) أي ابن إسماعيل الهندي من غلاة الروافض وقد تقدم أن اعتقادهم أن الله تعالى حل في علي وأولاده كذا ذكره الحلبي وقال التلمساني بنان بن سمعان التميمي (وَأَشْبَاهِ هَؤُلَاءِ أَوْ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ لِنَفْسِهِ) كالمختار بن أبي عبيد الثقفي (أو جوّز اكتسابها) أي تحصيل النبوة بالمجاهدة والرياضة (والبلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها) أي منزلة النبوة بأخذ الفيض من جهة القلب عن الرب عز وجل (كالفلاسفة) أي الحكماء ومنهم أبو علي بن سينا صاحب الشفاء الذي يورث مرض الشقاء (وغلاة المتصوّفة) أي الجهلاء (وكذلك من ادّعى منهم) وكذا من غيرهم (أنه يوحى إليه) أي وحيا جليا لا إلهاما يسمى وحيا خفيا كما يحصل لبعض أرباب المكاشفة وأصحاب الفراسة كما يشير إليه قوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي المتفرسين وقوله عليه الصلاة والسلام اتقوا فراسة المؤمن وقوله في أمتي محدثون أي(2/515)
ملهمون (وإن لم يدّع النّبوّة) كعبد الله بن أبي سرح من قريش كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلما نزل وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ عجب من تفصيل خلق الإنسان فقال فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فقال عليه الصلاة والسلام أكتبها كذلك نزلت فشك وقال لئن كان محمد صادقا لقد أوحى إلي كما أوحى إليه أو كاذبا لقد قلت كما قال والتحق مكة مرتدا فأهدر النبي عليه الصلاة والسلام دمه فأخذ له عثمان عام الفتح أمانا فأسلم وحسن إسلامه وكان أخاه لأمه وولاه زمن خلافته مصر (أو أنه) أي أو يدعي أنه حال اليقظة (يصعد إلى السّماء ويدخل الْجَنَّةِ وَيَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَيُعَانِقُ الْحُورَ الْعِينَ) أي البيض الواسعة الأعين وفيه أن هذا كله يقتضي الكذب لا الكفر كما لا يخفى (فهؤلاء) الطوائف (كلّهم كفّار) أي فإنهم (مكذّبون للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لأنّه أخبر) عن نفسه (أنه خاتم النّبييّن لا نبيّ بعده) أي ينبأ فلا يرد عيسى لأنه نبي قبله وينزل بعده ويحكم بشريعته ويصلي إلى قبلته ويكون من جملة أمته (وَأَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ) وهذا أقوى دليلا ما قبله فتأمل (وأنه أرسل كافّة) أي رسالة جامعة (للنّاس) لقوله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ أي أصالة وللجن تبعا (وأجمعت الأمّة على حمل هذا الكلام) الذي صدر عنه عليه الصلاة والسلام (على ظاهره) لعدم صارف عنه (وأنّ مفهومه المراد به) هو المقصود منه (دون تأويل) في ظاهره (ولا تخصيص) في عمومه (فَلَا شَكَّ فِي كُفْرِ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ. كُلِّهَا) أي لتكذيبهم الله ورسوله (قطعا) أي بلا شبهة (إجماعا) بلا مخالفة (وسمعا) أي وسماعا من الكتاب والسنة ما يدل على كفرهم بلا مرية (وَكَذَلِكَ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَكْفِيرِ كُلِّ مَنْ دافع نصّ الكتاب) القديم وحمله على خلاف ما ورد به من المعنى القويم كحمل بعض المتصوفة قوله تعالى في قوم نوح مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً على ما حاصله أغرقوا في بحر المحبة فأدخلوا نارها ووجد الله دون غيره أنصارهم وكذلك قوله في قوله تعالى وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أن الكلام تم في أوتي وأن رسل الله مبتدأ وخبره الله واعلم خبر مبتدأ محذوف وأمثال ذلك مما صدر عنهم هنالك (أو خصّ حديثا) أي أو دافع صريح حديث (مجمعا على نقله مقطوعا به) أي بصحته (مجمع على حمله على ظاهره) من غير تأويله وفي نسخة أو خص حديثا مجمعا على نقله من جهة مبناه وحمله على ظاهره من جهة معناه (كتكفير الخوارج بإبطال الرّجم) بالجيم للمحصن الثيب ولم يشرط الشافعي الإسلام في الرجم لظاهر حديث الموطأ وغيره أن اليهود أتوا رسول الله تعالى عليه وسلم برجل وامرأة من اليهود قد زنيا فرجمهما وشرطه أبو حنيفة ومالك لحديث من أشرك بالله فليس بمحصن ثم اعلم أن العلماء اجمعوا على وجوب جلد الزاني البكر مائة وهو الثابت بالآية ورجم المحصن الثيب المأخوذ من الآية المنسوخة تلاوة لا حكما وهو قوله تعالى (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم) وقد عمل بها صلى الله تعالى عليه وسلم في(2/516)
حال حياته وكذا الصحابة بعد وفاته ولم يخالف في هذا أحد من أهل القبلة إلى ما حكوه عن الخوارج وبعض المعتزلة كالنظام وأصحابه فإنهم لم يقولوا بالرجم ومن مذهبهم أن الإجماع ليس يحجة ويرده قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وقوله عليه الصلاة والسلام إن الله لا يجمع أمتي على الضلالة وبالإجماع على أن الإجماع حجة بل أقوى الحجة وأنه كان سندهم من الكتاب والسنة (ولهذا) أي ولقولنا بتكفير الخوارج بما ذكر كذا ذكره الدلجي وكان الأولى للمصنف رحمه الله تعالى أن يقول وكذا (نكفّر من دان) أي تدين (بغير ملّة المسلمين من الملل) أي الخارجة عن ملتهم (أو وافق فيهم) أي ولو في بعض الأحكام أي مع بقائه على ملة الإسلام وفي أصل الدلجي أو وقف فيهم أي توقف في تكفير من ذكر (أوشكّ) أي تردد (أو صحّح مذهبهم) بدليل عقلي أو نقلي (وإن أظهر مع ذلك) التوقف أو الشك أو التصحيح (الإسلام) أي الإيمان وانقياد ما فيه من الأحكام (واعتقده) أي الإسلام (واعتقد إبطال كلّ مذهب سواه) أي في باطنه وفيه أن توقفه أو شكه ينافيه (فَهُوَ كَافِرٌ بِإِظْهَارِهِ مَا أَظْهَرَ مِنْ خِلَافِ ذلك) ففي الفتاوى الصغرى من شبه نفسه باليهود أو النصارى على طريق المزح والهزل كفر (وكذلك نقطع بتكفير كلّ قائل) وروي كل من (قَالَ قَوْلًا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى تَضْلِيلِ الْأُمَّةِ) المرحومة (وتكفير جميع الصّحابة) وهذا للإجماع ولقوله تعالى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ كذلك تكفير بعض الصحابة عند أهل السنة والجماعة بخلاف الخوارج والروافض (كقول الكميليّة من الرافضة) قيل والصواب كما قال الإمام الرازي من غلاة الروافض الكاملية اتباع أبي كامل وقيل ولعل الكميل تصغير الكامل «1» إيماء إلى تحقير شأنه واتباعه القائلين (بتكفير جميع الصحابة بعد النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم إذ لم تقدّم) أي الصحابة (عليا) للخلافة بل قدمت أبا بكر كما قدمه عليه الصلاة والسلام للإمامة (وكفرت عليا إذا لم يتقدم ويطلب) أي ولم يطلب (حقّه) من الخلافة (في التّقديم) الموجب لزيادة التكريم (فهؤلاء) الكميلية (قَدْ كَفَرُوا مِنْ وُجُوهٍ لِأَنَّهُمْ أَبْطَلُوا الشَّرِيعَةَ) أي أمرها (بأسرها) أي جميعها (إذ قد انقطع نقلها ونقل القرآن معها) أي عندهم (إِذْ نَاقِلُوهُ كَفَرَةٌ عَلَى زَعْمِهِمْ وَإِلَى هَذَا) الوجه (والله أعلم) جملة معترضة للاحتياط (أَشَارَ مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ بِقَتْلِ مَنْ كفّر الصّحابة) أي جميعهم أو بعضهم فليس كما قال الدلجي بناء على كفر من قال لمسلم يا كافر وفيه أن هذا شتم ليس بكفر إلا أن اعتقد كفره حقيقة وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما أي أن كان كما قالوا والأرجح عليه ما قال وقوله الآخر لا يقتل لأنه كبيرة لم يخرج عن أصل الإيمان وأقول والأظهر إن هذين القولين له فيمن كفر بعض الصحابة وأما من كفر جميعهم فلا ينبغي أن
__________
(1) أقول فيه نظر لأن الكميل تصغير الكمال فلعل تصغير الكامل كويل كما لا يخفى على التأمل لمصححه ط.(2/517)
يشك في كفره لمخالفة نص القرآن من قوله سبحانه وتعالى وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ قوله لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وبيانه أن هذه الآيات نص قطعي فلا يبطله قول مموه لا أصل له من جهة النقل ولا من طريق العقل على أن أمر الخلافة ليس من أركان الإيمان ثم هو لا يتعلق إلا ببعض من أهل الحال والعقد فلا وجه أصلا لتكفير الكل قطعا (ثمّ كفروا) أي الكميلية (من وجه) وفي نسخة من وجه أخر (بسبّهم النبيّ) أي لطعنهم فيه (صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُ عهد إلى عليّ) بالخلافة بعده (وهو) أي النبي عليه الصلاة والسلام (يعلم أنه) أي عليا (يكفر بعده) أي بعد النبي عليه الصلاة والسلام (على قولهم) أي بزعمهم والجملة حالية (لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وآله) الشامل لأصحابه وأحبابه (وَكَذَلِكَ نُكَفِّرُ بِكُلِّ فِعْلٍ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُصَرِّحًا بِالْإِسْلَامِ مَعَ فِعْلِهِ ذَلِكَ الْفِعْلَ) الذي لا يصدر إلا عن كافر (كالسّجود للصّنم وللشّمس والقمر والصّليب) الذي للنصارى (والنّار) بخلاف السجود للسلطان ونحوه بدون قصد العبادة بل بإرادة التعظيم في التحية فإنه حرام لا كفر وقيل كفر (والسّعي إلى الكنائس) جمع الكنيسة معبد اليهود (والبيع) بكسر ففتح جمع بيعة معبد النصارى (مع أهلها) احترازا من سعيه إليهما منفردا عنهم لقصد التفرج دون العبادة (والتّزيّي بزيّهم) أي بكسوتهم وهيئتهم بخلاف من سعى إليهما معهم لكن بخلاف صورتهم وإنما كفروا بزيهم لأن الظاهر عنوان الباطن ولا يتجانن إلا مجنون (من شدّ الزّنانير) جمع زنار بكسر أوله ما يشد به النصارى أوساطهم (وفحص الرّؤوس) بفتح الفاء وسكون الحاء وبالصاد المهملتين قال الجوهري وفي الحديث فحصوا عن رؤوسهم كأنهم حلقوا وسطها وتركوها مثل أفاحيص القطا انتهى وفي المجمل لابن فارس نحوه وقال الهروي في غريبه في حديث أبي بكر أنه قال لعامله أنك ستجد أقواما يعني بالشام قد فحصوا رؤوسهم فاضربوا بالسيف ما فحصوا عنه أي حلقوا مواضع منها كافحوص القطاوهم الشمامسة انتهى وفي حديث أنه عليه الصلاة والسلام قال لأمراء جيش مؤتة ستجدون آخرين للشيطان في رؤوسهم مفاحص فافلقوها بالسيوف والمعنى أن الشيطان استوطن في رؤوسهم كما تستوطن القطا مفاحصها ومنه الحديث من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة (فقد أجمع المسلمون أنّ هذا) الذي ذكر من الأفعال (لَا يُوجَدُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ وَأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ عَلَامَةٌ عَلَى الْكُفْرِ وَإِنْ صَرَّحَ فَاعِلُهَا) وروى صاحبها (بالإسلام) ولعل فحص الرأس كان شعارا للكفرة قبل ذلك وأما الآن فقد كثر في المسلمين فلا يعد كفرا (وَكَذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَكْفِيرِ كُلِّ مَنِ استحلّ القتل لمسلم) أي ظلما (أو شرب الخمر) أي طوعا (أو الزّنا) بالزاء والنون وفي معناه الربا والرياء أو أشياء أخر (ممّا حرّم الله بعد علمه بتحريمه) وفيه إيماء إلى أن جهله عذر ولعل هذا بالنسبة إلى حديث عهد بالإسلام أو البلوغ فإن إنكار ما علم من الدين بالضرورة كفر إجماعا (كأصحاب الإباحة من القرامطة) يحتمل أن تكون من بيانية أو(2/518)
تبعيضية (وبعض غلاة المتصوّفة) الزاعمين أنهم وصلوا إلى الله فرفع عنهم التكليف قال الدلجي وقد أدركت بعضا منهم يقول اسقط الله عني التكليف فاستباح فطر رمضان والخلوة بالأجنبيات من النساء ونحو ذلك من الفحشاء (وكذلك نقطع بتكفير كلّ من كذّب) أي بأصل من أصول الذين (وأنكر قاعدة من قواعد الشّرع) المبين مما بنى عليه كما بينه عليه الصلاة والسلام بني الإسلام على خمس شهادة أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله وإقام الصلاة وايتاء الزكاة وصوم رمضان والحج (وَمَا عُرِفَ يَقِينًا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ فِعْلِ الرّسول ووقع الإجماع المتّصل) الذي لم يتخلله عدم إجماع (عليه) مما علم من الدين بالضرورة عند الخاص والعام (كمن أنكر وجوب الصّلوات الخمس) أي جميعها أو أحديها (وعدد ركعاتها) المختصة بها (وسجداتها) المكررة فيها (ويقول) أي مدعيا (إِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ الصَّلَاةَ على الجملة) أي إجمالا من غير بيان نحو كونها خمسا وتعيين عدد ركعاتها وسجداتها (وكونها) أي ويقول كونها (خمسا وعلى هذه الصّفات) أي من الأركان المقررة (والشّروط) المعتبرة من طهارة وستر عورة ودخول وقت واستقبال قبلة ونية (لا أعلمه) يقينا (إذ لم يرد فيه) في كل منها (في القرآن نصّ جليّ) على وجوبها وإن اشتملت على بعضها إجمالا كآية أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ وآية أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ وقوله تعالى إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً أي فرضا موقتا وقوله وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ وقوله فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ونحو ذلك من الآيات المجملة التي وقع بيانها بالأحاديث الموصولة (والخبر) أي ويقول الحديث الوارد (به عن الرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خبر واحد) لا يفيد القطع إذ لم يكن متواترا عنه قلنا نعم لكن يجب اعلم به إجماعا لقوله تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا أو لأنه عليه الصلاة والسلام مبين لمجمل الكتاب بفصل الخطاب كَمَا قَالَ تَعَالَى لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وأيضا قد أخبر به أصحابه وعمل به وتبعه اتباعه وهلم جرا إلينا في بيان الشروط والأركان الثابتة لدينا ووقع الإجماع عليه فيكفر جاحده (وكذلك أجمع) بصيغة المجهول وفي نسخة أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ (عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ قَالَ مِنَ الخوارج إن الصّلاة طرفي النّهار) أي بكرة وعشية فقط كما كان في صدر الإسلام ويسمون الأطرافية (وَعَلَى تَكْفِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ الْفَرَائِضَ أسماء رجال أمروا بولايتهم) من الأئمة (والخبائث والمحارم أسماء رجال أمروا بالبراءة منهم وقول بعض المتصوّفة) أي وفي قولهم (إنّ العبادة) المورثة للمشاهدة (وطول المجاهدة) المفضي إلى المراقبة (إذا صفت نفوسهم) عن الكدورات (أفضت بهم) أي أوصلتهم (إلى إسقاطها) أي المكلفات (وإباحة كلّ شيء) من المحرمات (ورفع عهد الشّرائع عنهم) بضم العين وفتح الهاء جمع عهدة وهي في نسخة بدل جمعها (وكذلك إن أنكر منكر مكّة) أي وجودها (أو البيت أو المسجد الحرام) لأن إنكارها إنكار المنصوص عليها في الكتاب والسنة وإجماع الأمة (أَوْ صِفَةَ الْحَجِّ أَوْ قَالَ(2/519)
الحجّ واجب في القرآن) لقوله تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ (واستقبال القبلة كذلك) واجب في القرآن لقوله تعالى فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (ولكن كونه) أي كل من الحج والاستقبال (على هذه الهيئة المتعارفة) عند الناس (وأنّ تلك البقعة) أي المأمور بالحج إليها (هي مكّة والبيت والمسجد الحرام) الوارد بها إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس (لا أدري هل هي) أي مكة والبيت والمسجد الحرام (تلك) الأمكنة المتعارفة (أَوْ غَيْرُهَا وَلَعَلَّ النَّاقِلِينَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم فسّرها بهذه التّفاسير غلطوا) بكسر اللام أي أخطأوا (ووهموا) بكسر الهاء أن توهموا أنها هي تلك الأمكنة (فهذا) المنكر لما ذكر (ومثله) في غير (لا مرية) بكسر الميم وتضم أي لا شك ولا شبهة (فِي تَكْفِيرِهِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ علم ذلك) الذي ذكر من اسماء الأمكنة ومع ذلك ينكرها أو يتردد فيها عنادا (وممّن خالط المسلمين) أي ليس من أهل البادية لقوله تعالى الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ (وامتدّت صحبته لهم) واشتدت مخالطته بهم لأن الغالب أنهم ذكروها له (إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ فَيُقَالُ له سبيلك) الذي يوردك معرفتها (أَنْ تُسْأَلَ عَنْ هَذَا الَّذِي لَمْ تَعْلَمْهُ بعد) أي بعد إسلامك إلى الآن (كافّة المسلمين) بالنصب على أنه معمول تسأل (فلا تجد فيهم) أي فيما بينهم (خلافا) أصلا (كافّة عن كافّة) أي حال كونهم جماعة رواية عن جماعة من كل طائفة في كل قرن وأمة (إلى معاصر الرّسول صلى الله تعالى عليه وسلم أنّ هذه الأمور) المذكورة هي هي (كما قيل لك وأنّ تلك البقعة) المشهورة (هي مكّة) المعمورة (والبيت الّذي) هو (فيها هو) وفي نسخة هي (الكعبة) المسماة بها لعلوها حسا ومعنى كما قيل:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول
والمعنى أن بيت العز والشرف هُوَ الْكَعْبَةُ (وَالْقِبْلَةُ الَّتِي صَلَّى لَهَا الرَّسُولُ صلى الله تعالى عليه وسلم والمسلمون) من أهل مكة وغيرهم (وحجّوا إليها) من كل فج عميق (وطافوا بها) وهي البيت العتيق (وأنّ تلك الأفعال) المعلقة بالحج من الإحرام والطواف والسعي والوقوف والحلق والرمي (هي صفات عبادة الحجّ والمراد به) في قوله تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ وقوله عليه الصلاة والسلام حجوا بيت ربكم (هي) أي الصفات المذكورة والأفعال المسطورة هي (التي فعلها النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم والمسلمون) معه في زمانه روي أنهم مائة وعشرون ألفا وكذا فيما بعده قرنا فقرنا وهلم جرا إلينا (وإنّ صفات الصّلوات) الخمس (المذكورة) في الأحاديث الصحيحة المشهورة من التحريمة والقيام والقراءة والركوع والسجود والقعدة (هي التي فعل النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وشرح) أي فسر وبين (مراد الله بذلك) الإجمال (وأبان حدودها) أي وأظهر أوقاتها وشرائطها وأركانها (فيقع لك العلم) آخرا (كما وقع لهم) أولا فإن العلم بالتعلم وقد قال تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ(2/520)
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وقال عليه الصلاة والسلام طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة وقد ورد إنما شفاء العي السؤال (ولا ترتاب بذلك) أي لا يقع لك فيها شك وتردد (بعد) بالبناء على الضم أي بعد ما علمته بسؤالك منهم وهذا حال من يعذر يجهله (والمرتاب في ذلك) أي الشاك فيما ذكر (والمنكر بعد البحث) ظرف لهما أي بعد الفحص عنها وحضور المعرفة بها (وصحبة المسلمين) أي وبعد مخالطتهم الدالين عليه والهادين إليه (كافر باتّفاق) للأئمة والأمة (ولا يُعْذَرُ بِقَوْلِهِ لَا أَدْرِي وَلَا يُصَدَّقُ فِيهِ) أي في قوله المنسوب إلى جهلة (بل ظاهره التّستّر عن التكذيب) على وجه التصريح اكتفاء بالتلويح فإن كل إناء يترشح بما فيه (إذ لا يمكن أنه لا يدري) بعد البحث والسؤال من المؤمنين أو مخالطة المسلمين وهو عاقل ليس من المجانين (وأيضا) يلزم منه فساد آخر (فإنّه إذا جوّز) هذا المنكر (على جميع الأمّة الوهم) أي السهو (والغلط) أي الخطأ ولو بالغوا في الكثرة حد التواتر الذي يحيل العقل تواطئهم على الكذب (فيما نقلوه من ذلك) الذي تقدم (وأجمعوا أنه قول الرّسول) عليه الصلاة والسلام (وَفِعْلُهُ وَتَفْسِيرُ مُرَادِ اللَّهِ بِهِ أَدْخَلَ الِاسْتِرَابَةَ) أي الشك والشبهة (في جميع الشّريعة) قولا وفعلا ولا يخفى فساد هذه الذريعة (إذ هم النّاقلون لها) أي للشريعة المستفادة من السنة (وللقرآن) إلينا بالطرق المواترة (وانحلّت عرى الدّين) أي انفتحت عقده وعهده (كرّة) أي دفعة واحدة ولم يبق منها عروة ويروى كلمة (ومن قال هذا) القول وأمثاله (كافر) في حاله ومآله بسوء مقاله (وكذلك من أنكر القرآن) أي جميعه (أو حرفا منه) أي مما تواتر فيه (أو غيّر شيئا منه) بأن نقص منه شيئا (أو زاد فيه) شيئا من تلقاء نفسه من غير قراءة متواترة أو رواية شاذة (كفعل الباطنيّة) ويروى كقول الباطنية (والإسماعيليّة) أي من التغيير أو الزيادة وهذا غير معروف عنهم اللهم إن كان المراد بالتغيير تغيير المعنى دون المبنى كما قال تعالى في ذم أهل الكتاب يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ أي يأولونها على ما يشتهونها ويميلون إليها عما أراد الله سبحانه وتعالى بها (أو زعم أنه) أي القرآن (ليس بحجّة للنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) خاصة (أو ليس فيه حجّة) لأحد (ولا) أي هو في نفسه (معجزة) أي لا مبنى ولا معنى (كقول هشام الفوطيّ) بضم الفاء أو الياء وسكون الواو أو فتحها والطاء مهملة (ومعمر) بسكون عين مهملة بين ميمين مفتوحتين (الصّيمريّ) بفتح الصاد المهملة أو المعجمة وسكون التحتية وفتح الميم فراء بعدها ياء نسبة إلى بلدة أو قبيلة قال الدلجي أنهما من المعتزلة أفي الصورة ومن الكفرة في السيرة (إنّه) أي القرآن (لا يدلّ على الله) أي على طريق رضاه (ولا حجّة فيه لرسوله) أي على صحة مقوله (وَلَا يَدُلُّ عَلَى ثَوَابٍ وَلَا عِقَابٍ وَلَا حكم) من حلال وحرام وآداب وهذا كله مكابرة وعناد وفتح باب فساد والحاد (ولا محالة) بفتح الميم وتضم أي لا شك وفي نسخة ولا مخالفة (في كفرهما بذلك القول) وفي نسخة بهذا (وكذلك نكفّرهما) وفي نسخة نكفرهما (بِإِنْكَارِهِمَا أَنْ يَكُونَ فِي سَائِرِ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي باقيها بأسرها (حجّة له) قاطعة وبينة ساطعة (أو في خلق السّموات والأرض(2/521)
دليل على الله) أي وجوده سبحانه وتعالى مع أنه قال تعالى لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (لِمُخَالَفَتِهِمُ الْإِجْمَاعَ وَالنَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم باحتجاجه بهذا) الذي ذكر (كلّه وتصريح القرآن به) بقوله وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِمَّا نَصَّ فِيهِ القرآن) به كوجود الملائكة ومجيء القيامة (بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي فِي أيدي النّاس) أي من الحفاظ الماهرين (ومصاحف المسلمين ولم يكن جاهلا به) أي بأنه منه (ولا قريب عهد) وفي نسخة ولا حديث عهد أي جديد زمان (بالإسلام واحتجّ) الواو فيه وكذا الواوان فيما قبله للحال أي تعلق (لإنكاره إمّا بأنه لم يصح النّقل) للقرآن (عنده ولا بلغه العلم به) من غيره (أو لتجويز الوهم على ناقلة تكفّره بالطّريقين المتقدّمين) وهما الإجماع والنقل المتواتر (لأنّه مكذّب للقرآن) الثابت تواترا قطعا (ومكذّب للنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) المحقق إجماعا (لكنّه تستّر بدعواه) الجهل فيما ادعاه (وكذلك من أنكر الجنّة أو النّار) أي وجودهما بالكلية فإن أهل السنة على أنهما موجودتان والمعتزلة على أنهما ستوجدان (أو البعث) في القبور (أو الحساب) الموجب للثواب والعقاب بخلاف إنكار الميزان والصراط فإنه من عقائد المعتزلة (أو القيامة فهو كافر بإجماع) وفي نسخة بالإجماع (للنصّ عليه) في الكتاب (وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى صِحَّةِ نَقْلِهِ مُتَوَاتِرًا وَكَذَلِكَ) أي أقول كما روي (من اعترف بذلك) في الجملة (وَلَكِنَّهُ قَالَ إِنَّ الْمُرَادَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْحَشْرِ) أي الجمع في الموقف (والنّشر) أي النشور وهو الخروج من القبور أو التفرق إلى الجنة والنار (والثّواب) على الحسنات (والعقاب) على السيئات (معنى غير ظاهره) وفي نسخة معنى على غير ظاهره (وأنّها لذّات) وعقوبات (روحانيّة) بفتح الراء ويجوز ضمها لا جسمانية (ومعان باطنة كقول النّصارى) لعل هذا قول بعضهم (والفلاسفة) من الحكماء الجاهلية (والباطنيّة وبعض المتصوّفة) كالوجودية القائلة بالعينية (وزعم أنّ معنى القيامة الموت) ولم يدر أن الموت مقدمة القيامة ولذا ورد من مات فقد قامت قيامته (أو فناء محض) أي عدم ليس بعده وجود وبقاء أو زعم أن المراد بالقيامة الفناء عن السوي والثبات على البقاء كما يتوهم جهلة المتصرفة متمسكين بظاهر ما روي موتوا قبل أن تموتوا مع أنه ليس بحديث (وانتقاض هيئة) وروي بنية (الأفلاك) أي انهدامها وتغيرها وانتقالها من أوضاعها بالكلية (وتحليل العالم) أي فساده وخروجه عن نظام هيئة الأولية (كقول بعض الفلاسفة) بذلك ممن ينكر البعث هنالك وإلا فالتغيير والتبديل ثابتان في التنزيل كقوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (وَكَذَلِكَ نَقْطَعُ بِتَكْفِيرِ غُلَاةِ الرَّافِضَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنّ الأئمة) المعصومين (أفضل من الأنبياء) والمرسلين هذا كفر صريح يستفاد من قوله تعالى اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ وفي هذا المحل مباحث ذكرتها في شرح الفقه الأكبر (وأمّا) وفي نسخة فَأَمَّا (مَنْ أَنْكَرَ مَا عُرِفَ بِالتَّوَاتُرِ مِنَ الأخبار والسّير) أي الآثار المتعلقة بالغزوات والشمائل في الصفات(2/522)
كقتل عمار بصفين مما ورد أنه تقتله الفئة الباغية (والبلاد) النائية كالعراق وخراسان (التي لا يرجع) أي انكارها (إلى إبطال شريعة ولا يفضي إِلَى إِنْكَارِ قَاعِدَةٍ مِنَ الدِّينِ كَإِنْكَارِ غَزْوَةِ تبوك) المذكورة في سورة التوبة وهي أرض بين الشام والمدينة (أو مؤتة) بضم الميم وسكون همزة وتبدل مكان بأدنى البلقاء من أرض الشام (أو وجود أبي بكر) وفيه أن بعض العلماء قال من أنكر صحبته للنبي عليه الصلاة والسلام كفر لمخالفة النص وهو قوله تعالى ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا حيث أجمع المفسرون على أنه أبو بكر ولا يبعد أن يفرق بين من أنكر وجوده وبين من أنكر صحبته بناء على أن دلالة الآية على صحبته إجمالية ورواية كونها له خاصة غير قطعية فلا يكفر من أنكر وجوده (وعمر) مع شهرته (أو قتل عثمان أو خلافة عَلِيٍّ مِمَّا عُلِمَ بِالنَّقْلِ ضَرُورَةً وَلَيْسَ فِي إِنْكَارِهِ جَحْدُ شَرِيعَةٍ فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَكْفِيرِهِ بجحد ذلك وإنكار وقوع العلم له) بما هنالك (إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنَ الْمُبَاهَتَةِ) مفاعلة من البهتان أي الكذب والمعاندة يقال باهته إذا قال عليه ما لم يقل (كإنكار هشام) أي الفوطي (وعباد) بفتح مهملة فتشديد موحدة وهو الصيمري (وقعة الجمل) وهي كانت في أول خلافة علي ونقل مغلطاي في سيرته أن ابن حزم أنكرها وفيما قاله نظر إذ قد تواتر نقلها وهي أن جماعة من الصحابة خرجوا مع عائشة في هودج على جمل آخذا بخطامه كعب بن المسر بن مخرمة إلى البصرة للصلح بين علي ومعاوية وتسكين فتنة فنشبت بينهم الحرب فلتة من غير قصد وكانت سنة ست وثلاثين وأما وقعة صفين كسجين وهو موضع قرب الرقة بشاطئ الفرات كانت الواقعة العظيمة بين علي ومعاوية غرة صفر سنة سبع وثلاثين فمن ثمة احترز الناس السفر في صفر ذكره في القاموس (ومحاربة عليّ من خالفه) كمعاوية والخوارج فيما تقدم والله تعالى اعلم (وأمّا إن ضعّف) بتشديد العين أي نسب إلى الضعف (ذلك) النقل المجمع عليه (مِنْ أَجْلِ تُهْمَةِ النَّاقِلِينَ وَوَهَّمَ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعَ) بتشديد الهاء أي نسبهم إلى الوهم أجمعين (فنكفّره بذلك) الإتهام (لسريانه) أي افضائه وروي لسرايته (إلى إبطال الشّريعة) فكأنه جعل هذا التوهيم لالحاده نوعا من الذريعة (فأمّا من) وفي نسخة أن (أنكر الإجماع المجرّد) أي المنقول عن بعض الأئمة (الَّذِي لَيْسَ طَرِيقُهُ النَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ عَنِ الشَّارِعِ) المفيد كونه قطعيا بل طريقه الآحاد المقتضي كونه ظنيا (فأكثر المتكلمين ومن الفقهاء والنّظّار) بضم النون وتشديد الظاء المعجمة جمع ناظر بمعنى المناظر اسم فاعل من المناظرة (فِي هَذَا الْبَابِ قَالُوا بِتَكْفِيرِ كُلِّ مَنْ خالف الإجماع الصّحيح الجامع لشروط الإجماع) كما هو مبين في أصول الفقه (المتّفق عليه عموما) لأنه حجة إجماعا وإن كان طريقه أحادا (وحجّتهم) في تكفيره بمخالفة الإجماع (قوله تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي يخالفه (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى [النِّسَاءِ: 115] ) أي طريق الحق (الآية) أي ويتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم عليه من الدين لإيذانه بأنه حجة لا تجوز مخالفته كما لا تجوز مخالفة الكتاب والسنة بدلالة جمعه بين المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين في الشرط وجعل جزاءه الوعيد الشديد المفاد(2/523)
بقوله تعالى نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى أي نجعله واليا لما تولاه وندعه وما اختاره من متابعة هواه مما لا يرضاه الله وهذا في الدنيا وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ أي ندخله ونحرقه وَساءَتْ مَصِيراً أي مرجعا ومسيرا في العقبى (وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم من خالف الجماعة) أي جماعة المسلمين وفي نسخة كما في رواية من فارق الجماعة أي بترك السنة واتباع البدعة (قيد شبر) بقاف مكسورة فتحتية ساكنة ونصبه على المصدر أي قدر شبر يعني ولو مقدارا يسيرا وأمرا حقيرا (فقد خلع) أي نزع (ربقة الإسلام) بكسر الراء وسكون الموحدة أي عقدته وعهدته (من عنقه) أي رقبته وذمته وقد روى الترمذي عن ابن عمر أن الله تعالى لا يجمع أمتي على ضلالة ويد الله على الجماعة من شذ شذ في النار (وحكوا) أي الفقهاء ومن معهم (الْإِجْمَاعَ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ وَذَهَبَ آخرون إلى الوقف) أي التوقف (عَنِ الْقَطْعِ بِتَكْفِيرِ مَنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ الَّذِي يختصّ بنقله العلماء) أي مطلقا سواء كان نظريا أم لا وفي نسخة الذي يختص نقله بالعلماء (وذهب آخرون إلى التّوقّف) وفي نسخة التَّوَقُّفِ (فِي تَكْفِيرِ مَنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ الْكَائِنَ عن نظر) أي تأمل وفكر كالقياس لأن الاجتهاد المأخوذ في تعريفه لا بد له من مستند إما من كتاب أو سنة فمنكره منكر لأحدهما (كتكفير النّظام) بفتح النون وتشديد الظاء المعجمة كان أحد فرسان المتكلمين من المعتزلة وكان في دولة المعتصم (بإنكاره الإجماع) وإنما كفروه به (لأنّه بقوله هذا) وهو إنكاره الإجماع (مخالف إجماع السّلف على احتجاجهم به) أي بالإجماع بل جعلوه أقوى الحجة (خارق للإجماع) وفي نسخة خارق للإجماع، (قال القاضي أبو بكر) أي الباقلاني (القول) المعول (عندي) أي في رأيي (أنّ الكفر بالله هو الجهل بوجوده) وشهود كرمه وجوده (والإيمان بالله هو العلم بوجوده) وما يتعلق به من توحيد ذاته وتفريد صفاته وإثبات كلام المشتمل علر سائر المؤمن به من ملائكته ورسوله وإلا فمجرد العلم بوجوده حاصل لعامة خلقه كما قال الله تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وإنما أنكر وجوده سبحانه وتعالى طائفة من الدهرية والمعطلة (وأنّه) أي الشأن (لا يكفّر أحد بقول ولا رأي) أي اعتقاد مما يكفر به (إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْجَهْلُ بِاللَّهِ فَإِنْ عصى الله) ورسوله (بقول أو فعل نصّ الله ورسوله) صلى الله تعالى عليه وسلم (أَوْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا من كافر أو يقوم دليل آخر) نقلا أو عقلا (على ذلك) أي على أنه لا يوجد الأمن كافر لكونه من شعارهم (فقد كفر) لكن (ليس) الحكم بكفره (لأجل قوله أو فعله) الذي لا يوجد إلا من كافر (بل لما قارنه) أي قوله أو فعله (مِنَ الْكُفْرِ فَالْكُفْرُ بِاللَّهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بأحد ثلاثة أمور أحدها الجهل بالله) أي بوجوده وهو الأصل في باب التكفير (وَالثَّانِي أَنْ يَأْتِيَ فِعْلًا أَوْ يَقُولَ قَوْلًا يخبر الله ورسوله أو يجمع المسلمون على أنّ ذلك) الفعل أو القول (لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ كَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ والمشي إلى الكنائس) أي من زيهم (بالتزام الزّنّار) مشددا به وسطه غير مكره فيه وروي الزنانير وهو بفتح الزاي جمع الزنار بضمها (مع أصحابها في أعيادهم) أو غيرها (أو(2/524)
يَكُونَ ذَلِكَ الْقَوْلُ أَوِ الْفِعْلُ لَا يُمْكِنُ) أي لا يتصور (معه العلم بالله) كإنكار فرض مجمع عليه والفاء مصحف في قاذورة (فهذان الضّربان) أي النوعان من اتيان الفعل أو القول الموصوفين وقول الدلجي فهذان أي الجهل والاتيان مردود بقوله (وَإِنْ لَمْ يَكُونَا جَهْلًا بِاللَّهِ فَهُمَا عِلْمٌ) بفتحتين أي علامة وفي أصل التلمساني علم بكسر أوله وسكون ثانيه أي دليل (أنّ فاعلهما كافر) في الأصل (منسلخ من الإيمان) أي خارج عنه (فَأَمَّا مَنْ نَفَى صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تعالى الذّاتيّة) من الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام (أو جحدها) أي أنكرها بعد ما اعترف بها (مستبصرا) أي متيقنا غير شاك (في ذلك) أي في جحدها (كَقَوْلِهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا قَادِرٍ وَلَا مُرِيدٍ ولا متكلّم) كان الأولى أن يأتي بأو بدل ولا (وَشِبْهِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الْوَاجِبَةِ لَهُ تعالى) كقوله ليس سميعا أو بصيرا أو حيا (فقد نصّ أئمّتنا) المالكية (عَلَى الْإِجْمَاعِ عَلَى كُفْرِ مَنْ نَفَى عَنْهُ تعالى الوصف بها وأعراه عنها) أي أخلاه منها بلا وصفه بها وهذا قول الباقلاني ولا أعرف خلافا في ذلك لأنه سبحانه وتعالى وصف ذاته بهذه الصفات في كلامه القديم الذي يستفاد منه الدين القويم فمن أنكر شيئا من ذلك فقد أنكر القرآن العظيم قال المصنف (وعلى هذا) القول ينفي الوصف (حُمِلَ قَوْلُ سُحْنُونٍ مَنْ قَالَ لَيْسَ لِلَّهِ كلام) أي نفسي (فهو كافر) لأنه نسبه إلى وصم البكم (وهو) أي سحنون (لا يكفّر المتأوّلين) أي من المعتزلة النافين قدمها وزيادتها على ذاته القائلين بأنه تعالى خلق الكلام في الشجرة وكلم موسى ويخلق القرآن وحدوثه وأنه مركب من حروف وأصوات تفاديا من تعدد القدماء (كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَأَمَّا مَنْ جَهِلَ صِفَةً مِنْ هذه الصّفات) أي ونفاها غير مستبصر فيها (فاختلف العلماء ههنا) أي في مقام تكفيره (فكفّره بعضهم وحكي ذلك) أي تكفيره (عن أبي جعفر الطّبريّ) الشافعي (وَغَيْرِهِ وَقَالَ بِهِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ مَرَّةً) أي هو أحد قوليه (وذهبت طائفة إلى أنّ هذا) الجهل للمؤمن (لا يخرجه عن اسم الإيمان) أي أصله وإن كان يخرجه عن كمال الإيقان (وإليه) أي إلى هذا المذهب (رجع الأشعريّ) فهو المعتمد في المعتقد (قال لأنّه لم يعتقد ذلك) النفي مع الجهل (اعتقادا يقطع بصوابه ويراه دينا) متينا (وشرعا) مبينا بل إنما يظنه ظنا وقع خطأ (وإنّما يكفر مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ مَقَالَهُ حَقٌّ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ) المتأخرون (بحديث السّوداء) أي الجارية (وأنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم إنّما طلب منها التّوحيد) أي توحيد الذات (لا غير) أي لا غير ذلك من تحقيق الصفات وهو أن أم ابن سويد الشريد الثقفي أوصته أن يعتق عنها رقبة مؤمنة فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقال يا رسول الله إن أمي أوصت أن أعتق عنها رقبة مؤمنة وعندي جارية سوداء نوبية وذكر نحوه معاوية بن الحكم السلمي فذكر الحديث إلى أن قال اين الله قالت في السماء قال من أنا قالت أنت رسول الله قال أعتقها فأنها مؤمنة أخرجه أبو داود في الإيمان بفتح الهمزة والنسائي في الوصايا وحديث معاوية بن الحكم السلمي أخرجه مسلم في الصلاة والطب وأخرجه أبو داود في الصلاة(2/525)
والنسائي في أماكن من مسنده انتهى كلام الحلبي وذكر التلمساني أن حديث السوداء هو أن رجلا ظاهر فلزمه الظهار فأتى بأمة سوداء فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا تجزئك حتى تعرف أنها مؤمنة قال سلها يا رسول الله فسألها فقال لها أين الله فأشارت إلى السماء فقال أعتقها فإنها مؤمنة وهو حديث رواه أبو داود والنسائي ومالك انتهى وكأن إشارتها إلى السماء إيماء بأن الله هو الذي خلقها أو أنه ليس بآلهة الأرض أو هو الموصوف بأنه إله في السماء أي معبود فيها فاكتفى بهذا التوحيد الإجمالي على كونها مؤمنة لكن يشكل بسؤاله عليه الصلاة والسلام حيث قال أين الله ولعله كوشف له عليه الصلاة والسلام بأنها لا تعرف الإله إلا بهذا الوصف ولعل القائلين بجهة العلو لله سبحانه وتعالى تمسكوا بظاهر هذا الحديث وأمثاله والمحققون أنه تعالى منزه عن المكان والزمان وأما قوله تعالى وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ فمعناه أنه هو المستحق لأن يعبد فيهما لا غير كقوله تعالى وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ (وبحديث القائل لئن قدر الله عليّ) بتخفيف الدال وجاء في صحيح البخاري أن قائله كان نباشا من كلام عقبة بن عمر الصحابي والحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن قول القائل لبنيه عند موته أحرقوني ثم انظروا يوما راحا أي ذا ريح شديدة فاذروني فيه فوالله لئن قدر الله علي والرواية بتخفيف الدال من القدرة لا كما قال التلمساني قدر بشدد من التقدير ويخفف بمعنى ضيق فإنه لو كان المروي كذلك لما كان إشكال هنالك (وفي رواية عنه) أي عن القائل وفي نسخة فيه أي في الحديث وهو كذا في تفسير ابن أبي حاتم (لعلّي أضلّ الله) بفتح الهمزة والضاد وتكسر ورفع اللام المشددة أي أفوته ويخفى عليه مكاني وقيل لعلي أغيب من عذاب الله تعالى من ضللت الشيء وضللته إذا جعلته في مكان ولم تدر أين هو وضل الناسي إذا غاب عنه حفظ الشيء ومنه قوله تعالى أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أي خفينا وغبنا والمعنى أضل عنه أي أخفي وأغيب منه على أن من باب نزع الخافض وإيصال الفعل فيكون جاهلا بكمال علمه سبحانه وتعالى (ثمّ قال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (فغفر الله له) أي مع كون كلامه مشعرا بنفي القدرة في الصورة المقدرة والمعنى فغفر الله له لعذره بجهله على أن قدر جاء بمعنى ضيق كما في قوله تعالى فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ومعنى الرواية الثانية أغيب عن عذاب الله تعالى لكن لا يخفى بعد هذه التأويلات عن قوله أحرقوني وسائر المقالات والله تعالى اعلم بالحالات وتمام الحديث على ما في الصحيح قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أسرف رجل على نفسه فلما حضره الموت أوصى بنيه إذا مات فحرقوه ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فلما مات فعلوا ما أمرهم فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ثم قال لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر له (قالوا) أي هؤلاء العلماء (ولو بوحث(2/526)
أكثر النّاس عن الصّفات) أي فتشوا عن معرفتها (وكوشفوا عنها) أي طلب منهم الكشف عن بيانها (لما وجد من يعلمها إلّا الأقلّ) من القليل، (وقد أجاب الآخر) أي من العلماء الأولين (عن هذا الحديث بوجوه) خمسة (منها أنّ قدر) مخففا (بمعنى قدّر) مشددا أي حكم وقضى (ولا) وفي نسخة فلا (يَكُونُ شَكُّهُ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى إِحْيَائِهِ بَلْ فِي نَفْسِ الْبَعْثِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ إِلَّا بشرع) دون عقل وطبع (ولعلّه لم يكن وَرَدَ عِنْدَهُمْ بِهِ شَرْعٌ يُقْطَعُ عَلَيْهِ فَيَكُونَ الشّكّ فيه حينئذ كفرا) وفيه أنه لو كان شاكا في بعثه لما أوصى بما يدل على كمال خوفه (فأمّا ما لم يرد به شرع) كالبعث (فهو من مجوّزات العقول) بتشديد الواو المفتوحة فلا كفر بالشك فيه لعدم العلم وبه وهذا لا يخفى بعده لإطباق الأنبياء والرسل على وجوب الإيمان باليوم الآخر ووعد الثواب ووعيد العقاب حتى قال الله تعالى لآدم ومن معه فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ نعم قد يقال إنه آمن إيمانا إجماليا وتقليدا عرفيا وما بلغه تفاصيل المؤمن به فوقع له الشك في وقوعه أو الوهم بدفع العذاب عنه على تقدير تصوره (أَوْ يَكُونُ قَدَرَ بِمَعْنَى ضَيَّقَ وَيَكُونُ مَا فعله بنفسه) من وصية بنيه بإحراقه (إزراء عليها) أي اهانة وتنقصا بها (وغضبا) عليها (لعصيانها) أو ظن أنه يتخلص بعذاب الدنيا من عقاب العقبى (وقيل إنّما قال ما قاله) وهو قوله لئن قدر الله على (وَهُوَ غَيْرُ عَاقِلٍ لِكَلَامِهِ وَلَا ضَابِطٍ لِلَفْظِهِ) أي لمؤدي مرامه (أي ممّا استولى عليه من الجزع) أي غلب عليه من شدة الفزع (والخشية الّتي أذهلت) وفي نسخة أذهبت (لبّه) أي اغفلت قبله وشغلت عقله (فلم يؤاخذ به) فيعد من خطئه في خطابه كقول من قال لربه في غاية من الفرح أنت عبدي وأنا ربك (وقيل كان هذا) القائل (في زمن الفترة) أي انقطاع الرسالة كما بين عيسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام فقيل ستمائة سنة وقيل خمسمائة وستون وقيل أربعون (وحيث ينفع مجرّد التّوحيد) كما في زمن الجاهلية وهو ما بين إسماعيل ونبينا عليهما الصلاة والسلام ولا يبعد أن يكون ممن نشأ بعيدا عن الخلق ولم تبلغه دعوة رسول الحق وعرف الله بعقله أو بالنظر في آيات الله من خلقه (وقيل بل هذا) القول (من مجاز كلام العرب) من أهل التدقيق (الّذي صورته الشّكّ ومعناه التّحقيق) ويقال له مزج الشك باليقين وعد منه قوله ولكن ليطمئن قلبي وأشار إلى ذلك العارف بن الفارض بقوله:
عليك بها صرفا وإن شئت مزجها ... فعدلك عن ظلم الحبيب هو الظلم
(وهو يسمّى) بصيغة المجهول مشددا ومخففا أي يدعي (تجاهل العارف وله أمثلة في كلامهم) أي العرب كقول بعضهم:
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر
(وكقولهم) أو جهك هذا أم بدر مع علمهم بأن الوجه غير البدر للمبالغة في تحسين(2/527)
القدر والمعروف أن هذا للدلالة على شدة الشبه بين المتناسبين فإن خلا سؤاله عما يعلمه من الشبه لم يكن تجاهلا كما في وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى بل هو استفهام تقرير أي حمل المخاطب على إقرار وتحرير نعم قد يحمل عليه قوله النسوة ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ أي كالملك في الصورة والعصمة على وجه المبالغة (كقوله تعالى) أي المنزل على وفاقهم اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] ) والمحققون على أن معناه لكي يتذكر أو كونا على رجاء أن يتذكر (وقوله) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] ) والمحققون على أن هذا من ارخاء العنان مع الخصم في ميدان البيان ليتأمل ويتفكر حتى يظهر له البرهان في عالم العيان وإلا فكان صلى الله تعالى عليه وسلم يتيقن أنه على هداية والمخاطبون على ضلالة ونظيره قول حسان بن ثابت الأنصاري لأبي سفيان بن حرب قبل إسلامه:
أتهجوه ولست له بكفؤ ... فشركما لخيركما فداء
فإنه لا شبهة أنه يريد بخيرهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هذا وفي تمثيله بما أورده من الكتاب مع تسميته له بتجاهل العارف نوع تهاون في الآداب مع رب الأرباب ولو قال كما في المفتاح للسكاكي ويسمى مساق المعلوم مساق غيره لنكتة لكان أقرب إلى صوب الصواب (فأمّا من أثبت الوصف ونفى الصّفة) كالمعتزلة (فَقَالَ أَقُولُ عَالِمٌ وَلَكِنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَمُتَكَلِّمٌ وَلَكِنْ لَا كَلَامَ لَهُ وَهَكَذَا فِي سائر الصّفات) كقادر ولا قدرة له ومريد ولا ارادة له وحي ولا حياة له وسميع ولا سمع له وبصير ولا بصر له (على مذهب المعتزلة) تحرزا عن تعدد القدماء فإنه كفر وهو مردود بأن الكفر إنما هو تعدد ذوات قدماء لا ذات واحدة مع صفات متعددة على أن مذهب أهل السنة والجماعة أن الصفات لا عين الذات ولا غيرها (فمن قال بالمال) أي بأخذهم بالمرجع (لما يؤدّيه إليه قوله) أي قوله نافيها عالم ولا علم له (ويسوقه إليه مذهبه) من أنه يلزم من نفي العلم نفي الوصف بعالم على وجه برهاني كما سيأتي بيانه (كفّر) بتشديد الفاء أي كفره كما في نسخة وأما ما ضبط في بعض النسخ بفتح الكاف وتخفيف الفاء وكذا بصيغة المصدر فتصحيف وأما ما في بعض النسخ ممن بدل فمن فتحريف والصواب فمن جواب إما لا قوله فقال كما يتوهم والله أعلم (لِأَنَّهُ إِذَا نَفَى الْعِلْمَ انْتَفَى وَصْفُ عَالِمٍ) عن موصوفه ضرورة انتفاء الوصف بالمشتق بانتفاء المشتق منه (إِذْ لَا يُوصَفُ بِعَالِمٍ إِلَّا مَنْ لَهُ علم) إذ لا يعقل مثلا من العالم إلا من له العلم وله معلوم يتعلق به علمه ولا تنّافي بين كون العلم قديما وكون المعلوم حادثا كما قرر في محله اللائق به (فكأنّهم) أي المعتزلة (صرّحوا عنده) أي عند القائل بالمآل (بما أدّى إليه قولهم) من لزوم نفي الوصف بالمشتق لنفي المشتق منه (وهكذا) الحكم (عند هذا) القائل بالمآل (سائر فرق(2/528)
أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ لم ير أخذهم بمآل قولهم) أي بما يؤول إليه آخر مقولهم (ولا ألزمهم موجب مذهبهم) بفتح الجيم أي مقتضى ما فهم من فحوى كلامهم (لم ير إكفارهم) أي تكفيرهم (قال) أي من لم ير ما سبق (لأنّهم إذا وقّفوا) بصيغة المجهول مشددا أو مخففا أي اطلعوا (على هذا) الذي ذكرنا من أن مآل قولهم عالم ولكن لا علم له نفي علمه تعالى (قالوا لا نقول) على أصلنا (ليس بعالم) سلبا معطلا له تعالى عن العلم بل هو كما قال أبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة عالم بعلم هو ذاته حي بحياة هي ذاته مريد بإرادة هي ذاته لا عالم بعلم ومتكلم بكلام وحي بحياة زائدات على ذاته وهكذا في بقية صفاته (ونحن ننتفي من القول بالمأل الّذي ألزمتموه لنا ونعتقد نحن) معشر المعتزلة (وأنتم) أهل السنة (أنه) أي مآل إليه القول (كفر بل نقول إنّ قولنا) مثلا عالم ولكن لا علم له (لا يؤول إليه) أي انتفاء علمه سبحانه وتعالى أصلا (على ما أصّلناه) بتشديد الصاد أي جعلناه أصلا وقاعدة فالخلاف لفظي في المآل والله تعالى أعلم بحقيقة الحال (فعلى هذين المأخذين) أي ممن رأى أخذهم بالمآل ومن لم ير أخذهم (اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي إِكْفَارِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ وَإِذَا فهمته) أي التأويل على نسق ما مر من الأقاويل (اتّضح لك الموجب) أي الباعث (والسبب لاختلاف الناس في ذلك) التكفير لاختلافهم في مقام التقرير (والصّواب ترك إكفارهم) كما عليه الجمهور من الأئمة (والإعراض عن الحتم) أي حكم الجزم (عليهم بالخسران) المبين (وإجراء حكم الإسلام عليهم) كسائر المسلمين من حرمة إيذاء وعصمة دم ومال إلا بحق الإسلام (في قصاصهم) لهم ومنهم وحدهم شربا وسرقة وجلدا ورجما وتعزيرا لهم ومنهم (ووراثاتهم ومناكحاتهم ودياتهم) في جراحاتهم منهم ولهم (والصّلوات عليهم) إذا ماتوا وخلفهم إذا أموا (ودفنهم في مقابر المسلمين وسائر معاملاتهم) في الدنيا والدين (لكنّهم يغلّظ عليهم) تعزيرا لهم (بوجيع الأدب) ضربا وحبسا (وشديد الزّجر) من الطرد (والهجر حتّى يرجعوا عن بدعتهم) وينزجر غيرهم بعبرتهم (وهذه) الحالات (كانت سيرة الصّدر الأوّل) من صلحاء الأمة (فيهم) أي في حق أهل البدعة (فقد كان نشأ) بالنون أي ظهر وانتشأ وابتدأ وفشا (عَلَى زَمَانِ الصَّحَابَةِ وَبَعْدَهُمْ فِي التَّابِعِينَ مَنْ قال بهذه الأقوال من القدر) وهو رأي المعتزلة كعبد الله الجهني ومن قال كما في صحيح مسلم به وواصل به عطاء وعمرو بن عبيد (ورأى الخوارج) عن خروجهم على علي وتكفيرهم له وافترائهم عليه لقولهم انزل الله فيه وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ وفي ابن ملجم وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ حتى قال فيه كلبهم عمر بن حطان إذ قتل عليا:
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا
وعارضه بعض أهل السنة بقوله:(2/529)
يا ضربة من شقي لم يزل أبدا ... بها عليه إله الحق غضبانا
إني لأعلم أن الله جاعله ... أوفى البرية عند الله خسرانا
(والاعتزال) لعل المراد به طائفة خاصة من المعتزلة (فما أزاحوا) بالزاء والحاء المهملة أي فما أزال الصدر الأول ما هجرهم (لهم قبرا) متبعدا مفردا متميزا عن مقابر المسلمين وفي نسخة قبورا (ولا قطعوا لأحد منهم ميراثا) أي من مورثه مبتدعا أو غيره (لكنّهم هجروهم) في الكلام والسلام والمقام والطعام (وأدّبوهم بالضّرب والنّفي) أي الاخراج من بلادهم أو الحبس لدفع فسادهم (والقتل) لأرباب عتوهم وعنادهم (على قدر أحوالهم) واختلاف أقوالهم (لأنّهم) باعتقادهم ما يخالف الحق مما لا يكفرون به (فسّاق) لخروجهم عن طاعة الله (ضلّال) عن الحق لعدم قبولهم (عصاة) أي أهل فساد وبغاة (أصحاب كبائر عند المحقّقين) من المجتهدين (وأهل السّنّة) من علماء الدين (ممّن لم يقل بكفرهم) أي بكفر أرباب الآراء الكاسدة واصحاب التأويلات الفاسدة (منهم) أي من العلماء المتقدمين (خلافا لمن رأى غير ذلك) من عدم هجرهم أو لمن رأى اكفارهم وتحتم قتلهم (وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ) الباقلاني (وأمّا مسائل الوعد والوعيد) في قول المعتزلة إنه يجب عليه سبحانه وتعالى إثابة المطيع وتعذيب العاصي مع أنه سبحانه وتعالى يقول فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وقولهم يجوز خلف الوعيد لأنه محض كرم مع أنه تعالى قال إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ وقد جعلت في هذه المسألة رسالة مستقلة مسماة بالقول السديد في خلف الوعيد ردا على بعض أهل السنة حيث وافق المعتزلة (والرّؤية) أي رؤية الله سبحانه وتعالى وفي الدار الآخرة أنكرها المعتزلة (والمخلوق) أي الخلق كالمعقول بمعنى العقل أي خلق القرآن ومعناه أن القرآن مخلوق كما قالوه وقال الدلجي أي وأنكر مخلوقيته له تعالى كالمفوضة إذ قالوا إن الله خلق محمدا وفوض إليه خلق الدنيا فهو الخالق لها بما فيها ومثلهم من أنكر مخلوقية الشر له تعالى وأثبتها للشيطان وأو غيره انتهى ولا يخفى أن هذا المعنى لا يلائم لأنه كفر وزندقة والكلام في اعتقادات أهل البدعة (وخلق الأفعال) كالجبائي وأشياعه حيث اثبتوها للعباد (وبقاء الأعراض) بأنواعها وهو جمع عرض بفتحتين وهو في اصطلاح المتكلمين ما لا بقاء له كالألوان والأشكال والحركة والسكون والحق ما عليه الأشعري واتباعه أنه لا يبقى أكثر من زمن واحد لأنها كلها على التقضي والتجدد كالحركات والأزمنة والأصوات وبقاؤها عبارة عن تجدد أمثالها كلما انقضى واحد تجدد مثله بمجرد ارادته تعالى بوقته الذي خلقه فيه وقد قال ابن عربي بنفي بقاء الذوات أيضا وأن بقاءها في نظر الناظر إنما هو بتجدد أمثاله سريعا في ادبارها واقبالها حتى تختفي حقيقة حالها ومآلها (والتّولّد) الذي قالته المعتزلة وهو أن حركة النظر مثلا في الدليل تولد العلم بالنتيجة عقبها كحركة اليد تولد حركة المفتاح للفتح وقيل إن الآثار التي توجد عقيب أفعال العباد بمجرد العادة كالألم عقيب الضرب والانكسار عقيب الكسر تسميها المعتزلة المتولدة بفتح اللام على صيغة المجهول ويزعمون أنها حاصلة(2/530)
بإيجاد العبد لا صنع لله تعالى فيها وقال أهل الحق إنها حاصلة بإيجاد الله تعالى وأحداثه لا بفعل العبد واكتسابه والمسألة معروفة في أصول الكلام (وشبهها من الدّقائق) التي يتوهمون أنها من الحقائق كالقول بقيام العرض بالعرض وأمثال ذلك مما أخذوها من كلام الفلاسفة والحكماء (فالمنع في إكفار المتأوّلين فيها أوضح) أي أظهر وأصح من القول بإكفارهم (إِذْ لَيْسَ فِي الْجَهْلِ بِشَيْءٍ مِنْهَا جَهْلٌ بالله تعالى) أي بذاته وصفاته وفيه بحث إذ الوعد والوعيد والرؤية والكلام والخلق من جملة العلوم المتعلقة بصفاته ولعله أراد أنه ليس جهلا بوجوده على ما سبق في كلامه أو ليس جهلا عظيما مما لا يسامح ولا يساهل فيه ويشير إليه قوله (وَلَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِكْفَارِ مَنْ جَهِلَ شيئا منها) انتهى ما نقله عن القاضي أبي بكر ثم قال المصنف (وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ وصورة الخلاف في هذا) المرام (ما أغنى عن إعادته) في هذا المقام (بحول الله تعالى) ذي الجلال والإكرام.
فصل [هَذَا حُكْمُ الْمُسْلِمِ السَّابِّ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا الذمي الخ]
(هذا) الذي ذكر سابقا (حكم المسلم السّاب) أي المنتقص (لله تعالى وأمّا الذّمّيّ) وهو الكتابي الذي يعطى الجزية (فَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي ذمّيّ تناول) أي تكلم بما لا يجوز اقدامه عليه (من حرمة الله تعالى) أي مما لا يحل الوقوع فيه (غير ما هو عليه من دينه) أي من الكفر كقولهم عزيز ابن الله والمسيح ابن الله ونحوه (وحاجّ) أي جادل (فِيهِ فَخَرَجَ ابْنُ عُمَرَ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ فَطَلَبَهُ فهرب) وهذا واضح لأنه يتناوله ذلك خرج عن كونه ذميا هنالك (وَقَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ وَالْمَبْسُوطَةِ) بالتاء (وابن القاسم في المبسوط وكتاب محمد) أي ابن المواز (وَابْنِ سُحْنُونٍ مَنْ شَتَمَ اللَّهَ مِنَ الْيَهُودِ) سموا بذلك لقولهم هدنا إليك فيهود بمعنى يتوب وقيل لأنهم نسبوا إلى يهوذا بن يعقوب وهو بذال معجمة وعرب بالمهملة (والنّصارى) سموا بذلك لقولهم نحن أنصار الله وقيل لناصرية اسم قرية (بغير الوجه الّذي كفروا) وفي نسخة كفر أي من إثبات الولد والصاحبة والتثليث (قتل ولم يستتب) أي لم تطلب منه التوبة بالإسلام (قال ابن القاسم إلّا أن يسلم) أي بنفسه فلا يقتل على ما سبق في كلامه (قال في المبسوطة طوعا) أي إلا أن يسلم اختيارا لا جبرا (قال أصبغ) إنما يقتل إذا لم يسلم مع أنه ذمي (لِأَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي بِهِ كَفَرُوا هُوَ دِينُهُمْ وعليه عوهدوا) أي أعطوا العهد والذمة (من دعوى الصاحبة والشّريك) للنصارى (والولد) لليهود والنصارى وفي أصل الدلجي وغيرها كشرب الخمر وبيعها وضرب الناقوس انتهى ولا يخفى أنها ليست مما كفروا بها (وأمّا غير هذا) الذي عوهدوا عليه (من الفرية) على الله (والشّتم) أي الانتقاص في حقه سبحانه وتعالى (فلم يعاهدوا عليه فهو) أي صدوره عنهم (نقض للعهد) الذي عاهدوا (قال ابن القاسم في كتاب محمد) أي ابن المواز وقال الدلجي لعله ابن سحنون وقال التلمساني وهو ابن المواز فقال نسبة للموز واختلف هل لقي ابن القاسم وابن وهب أو لا والصحيح أنه(2/531)
روى عنهما بواسطة (ومن شتم من غير أهل الأذيان) الذي أعطى لهم الامان (اللَّهَ تَعَالَى بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ فِي كتابه قتل إلّا أن يسلم) أي طوعا عند المالكية ومطلقا عند الجمهور وبه قال بعضهم كما تقدم (وَقَالَ الْمَخْزُومِيُّ فِي الْمَبْسُوطَةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ) بفتح الميم الأولى واللام (وابن أبي حازم) وهم من أصحاب مالك ورواة مذهبه (لا يقتل) أي من شتم الله (حَتَّى يُسْتَتَابَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا فَإِنْ تاب وإلّا قتل) وهذا أوفق لقاعدتهم من أن حق الله تعالى مما يسامح بخلاف حق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؛ (وقال مطرف) أي ابن عبد الله الفقيه (وعبد الملك) وهو ابن الماجشون (مثل قول مالك) أي في كتاب ابن حبيب وغيره مما هنالك من أنه يقتل ولا يستتاب (وقال أبو محمد بن أبي زيد) أي القيرواني (مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي به كفر قتل إلّا أن يسلم) كما قال ابن القاسم (وقد ذكرنا قول ابن الجلّاب) بفتح الجيم وتشديد اللام وفي آخره موحدة وهو البغدادي الضرير (قبل) أي قبل ذلك (وذكرنا قول عبيد الله) أي ابن يحيى (وابن لبابة) بضم أوله (وشيوخ الأندلسيّين) بفتح الهمزة وضم الدال وتفتح وبضمهما (فِي النَّصْرَانِيَّةِ وَفُتْيَاهُمْ بِقَتْلِهَا لِسَبِّهَا بِالْوَجْهِ الَّذِي كفرت به لله ولرسوله) متعلق بسبها ولعل المراد به اعلانها (وإجماعهم على ذلك) أي على قتلها بفتياهم (وهو) أي إجماعهم المذكور (نحو القول الآخر فيمن سبّ النبيّ عليه الصلاة والسلام) أي اعلانا به (منهم) أي من الكفار (بالوجه الّذي كفر به) فإنه يقتل إلا أن يسلم طوعا (ولا فرق في ذلك) أي في قتله بالوجه الذي كفر به (بَيْنَ سَبِّ اللَّهِ وَسَبِّ نَبِيِّهِ لِأَنَّا عَاهَدْنَاهُمْ على أن لا يظهروا لنا شيئا من كفرهم وأن لا يُسْمِعُونَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَمَتَى فَعَلُوا شَيْئًا منه فهو نقض لعهدهم) وموجب لقتلهم فيظهر أن منشأ الخلاف بين الأقوال هو العهد به وعدمه في الأحوال (واختلف العلماء في الذّمّيّ إذا تزندق) بإظهار دينه مبطنا عقيدة باطلة في كفر اتفاقا (فَقَالَ مَالِكٌ وَمُطَرِّفٌ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ لَا يُقْتَلُ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ كُفْرٍ إِلَى كفر وقال عبد الملك بن الماجشون) صاحب مالك (يقتل لأنّه) أي ما أضمره مما هو كفر اتفاقا (دين لا يقرّ عليه أحد) وينبغي أن يكون هذا هو المعتمد (ولا يؤخذ عليه جزية) كمن انتقل من دين باطل إلى مثله وفي شرح الدلجي قال الشافعي ولا يقر عليه فإن لم يسلم بلغ المأمن وصار حربيا انتهى وهو فرع غريب والصواب أنه حيث تزندق يقتل ولم تقبل توبته كملسلم تزندق بل هو أولى كما لا يخفى (قال ابن حبيب وما أعلم من قاله غيره) من العلماء أن الذمي إذا تزندق يقتل مع أن وجهه ظاهر جدا لأنه يتزندقه خرج عنه كونه ذميا وصار حربيا بل أدون منه لأنه يقبل إسلام الحربي إجماعا ولم يقبل توبة الزنديق عند كثير من العلماء.
فصل [هَذَا حُكْمُ مَنْ صَرَّحَ بِسَبِّهِ وَإِضَافَةِ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ فَأَمَّا مُفْتَرِي الْكَذِبِ الخ]
(هذا) الذي قدمنا (حُكْمُ مَنْ صَرَّحَ بِسَبِّهِ وَإِضَافَةِ مَا لَا يليق بجلاله وإلهيّته) عظم شأنه.
(فَأَمَّا مُفْتَرِي الْكَذِبِ عَلَيْهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِادِّعَاءِ الإلهيّة) لنفسه أو لغيره (أو الرّسالة) وكذا النبوة(2/532)
(أَوِ النَّافِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَالِقَهُ) أَوْ خالق غيره (أو ربّه) أي مربيه في عالم ظهوره ومدبر جميع أموره (أو قال ليس لي) أو لغيري (رَبٌّ أَوِ الْمُتَكَلِّمُ بِمَا لَا يُعْقَلُ مِنْ ذلك) الذي ذكرناه كله (في سكره) أي حال ذهاب عقله (أو غمرة جنونه) أي شدته (فَلَا خِلَافَ فِي كُفْرِ قَائِلِ ذَلِكَ وَمُدَّعِيهِ مع سلامة عقله) وهذا يناقض قوله غمرة جنونه إلا أن يحمل على غاية حماقته وسوء خلقه وسيجيء مزيد تحقيق لذلك في كلامه (كما قدّمناه لكنّه تقبل توبته على المشهور) من مذهب مالك الموافق للجمهور (وتنفعه إنابته) أي رجوعه وتوبته (وتنجّيه من القتل فيأته) بفتح الفاء وتكسر أي عودته وزواله عن عادته وسوء حالته (لكنّه لا يسلم من عظيم النّكال) بفتح النون أي العقوبة الشديدة في الدنيا (ولا يرفّه) بفتح الفاء المشددة أي لا يخفف غمه ولا ينفس كربه (من) وفي نسخة عنه (شديد العقاب) في مذهب مالك (لِيَكُونَ ذَلِكَ زَجْرًا لِمِثْلِهِ عَنْ قَوْلِهِ وَلَهُ عن العودة لكفره) مع علمه (أو جهله إِلَّا مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ وَعُرِفَ اسْتِهَانَتُهُ) أي عدم مبالاته (بما أتى به) في حالاته (فهو دليل على سوء طويّته) أي ضميره وفساد نيته (وكذب توبته وصار كالزّنديق الّذي لا نؤمن باطنه) لانقلابه (ولا يقبل رجوعه) لعدم ثباته (وحكم السّكران) في هذا الباب (حكم الصاحي) زجرا عليه قياسا على صحة طلاقه (وأمّا المجنون) وهو والمسلوب العقل وفي الحديث أنه مر على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رجل فقالوا هذا مجنون فقال عليه الصلاة والسلام لا تقولوا مجنون إنما المجنون المقيم على المعصية ولكن قولوا رجل مصاب قال التلمساني وقيل صوابه لو قال المصاب الذي مس من جنون (والمعتوه) أي المصاب بعقله المخبط في قوله وفعله الناقص في شعوره (فَمَا عُلِمَ أَنَّهُ قَالَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي حال غمرته) أي إغمائه (وذهاب ميزه) أي تمييزه (بالكلية فلا نظر فيه) أي بحكم (وَمَا فَعَلَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي حَالِ مَيْزِهِ وإن لم يكن معه عقله) كملا (وسقط تكليفه) بنقصان عقله (أدّب على ذلك لينزجر عنه) أي عن عوده هنالك (كَمَا يُؤَدَّبُ عَلَى قَبَائِحِ الْأَفْعَالِ وَيُوَالَى أَدَبُهُ) أي يتابع مرارا (على ذلك حتّى ينكفّ عنه) أي ينزجر منه (كما تؤدّب البهيمة على سوء الخلق) من جموح وعض ونحوهما (حتّى تراض) بصيغة المجهول أي حتى يستقيم طبعها (وَقَدْ أَحْرَقَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عنه من ادّعى له الإلهيّة) وهو عبد الله بن سبأ وأتباعه إذ قال له أنت الإله حقا فنفاه إلى المدائن وزعم أن ابن ملجم لم يقتله وإنما قتل شيطانا تصور بصورته وهو في السحاب سوطه البرق وصوته الرعد وإذا سمعوه قالوا السلام عليك يا أمير المؤمنين قالوا وسينزل ويملأ الأرض عدلا انتهى ما ذكره الدلجي ولا يخفى المناقضة بين نقله وكلام المصنف وقال التلمساني من ادعى له الألوهية فرقة من غلاة الروافض وهم من اتباع عبد الله بن سبأ وكان يزعم أن عليا هو الله وقد أحرق علي رضي الله تعالى عنه منهم جماعة زاد الأنطاكي وقال علي رضي الله تعالى عنه
أني إذا رأيت أمرا منكرا ... اججت نارا ودعوت القنبرا(2/533)
(وقد قتل عبد الملك بن مروان) أي ابن الحكم بن أبي العاص بن أبي أمية كان معاوية جعله على ديوان المدينة وهو ابن ست عشرة سنة وولاه أبوه مروان هجر ثم جعله خليفة بعده وكانت خلافته بعد أبيه سنة خمس وستين توفي عبد الملك بدمشق سنة ست وثمانين (الحارث) أي ابن سعيد (المتنبّي) الكذاب (وصلبه وفعل ذلك) أي مثل ذلك (غير واحد من الخلفاء) أي من بني أمية والعباسيين (والملوك) المتغلبين من الأمراء والسلاطين (بأشباههم) من الشياطين (وأجمع علماء وقتهم على تصويب فعلهم والمخالف في ذلك) الفعل (من كفرهم) أي من جهته (كافر) لجحده كفرهم (وأجمع فقهاء بغداد أيّام المقتدر بالله) جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن طلحة الموفق بن جعفر المتوكل بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد (من المالكيّة) بيان لمن أجمع من فقهاء بغداد (وَقَاضِي قُضَاتِهَا أَبُو عُمَرَ الْمَالِكِيُّ عَلَى قَتْلِ الحلّاج) وهو حسين بن منصور الحلاج المشهور من أهل البيضاء بلدة بفارس ونشأ بواسط والعراق صحب ابا القاسم الجنيد وغيره (وصلبه لدعواه الإلهيّة والقول بالحلول) كغيره من المتصوفة المتصفة بسمة الإسلام من الوجودية وغيرهم قالوا إن السالك إذا وصل فربما حل الله فيه كالماء في العود الأخضر بحيث لا تمايز ولا تغاير ولا اثنينية وصح أن يقول هو أنا وأنا هو مع امتناعه حقيقة لصيرورة أحد شيئين بعينه الآخر والآخر بعينه هو لحكم العقل ضرورة بدون احتياج إلى حجة ولا يمتنع مجازا بأن يكون بطريق واحدة إما اتصالية كجمع مائين في إناء واحد أو اجتماعية كامتزاج ماء وتراب حتى صار طينا وإما بطريق كون وفساد كصيرورة ماء بالغليان هواء واحدا أو استحالة أي تغير كصيرورة جسم بعد كونه سوادا بياضا أو عكسه وهذا كله في حق الله تعالى محال لتنزهه عن الحلول والاتصال والانفصال وما للتراب ورب الأرباب وإنما هو انعكاس نور من أنواره وسر من أسراره يلمح في قلب السالك المتصف بالتخلية والتحلية وكمال التصفية فقد يتوهم أنه حل فيه كما يتوهم الطفل أنه يرى الشمس في الماء (وَقَوْلِهِ أَنَا الْحَقُّ مَعَ تَمَسُّكِهِ فِي الظَّاهِرِ) من حاله (بالشّريعة) في سائر أقواله وأفعاله حتى قيل إنه كعادته كل ليلة يصلي الف ركعة في الحبس (ولم يقبلوا توبته) بمقتضى مذهب المالكية مع أن قوله أنا الحق ليس بظاهر في دعوى الألوهية لأن الحق يأتي بمعنى الثابت وضد الباطل هذا وقد اعتذر الغزالي في مشكاة الأنوار عن الألفاظ الي كانت تصدر منه قيل ضرب الحلاج بأمر المقتدر ألف سوط وقطعت أطرافه وجز رأسه وأحرقت جثته وكان ذلك نهارا لثلاثاء لسبع بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة قيل إنه لما صلب جرى دمه في الأرض وينتقش الله الله قال القطب الرباني الشيخ عبد القادر الجيلاني عثر الحلاج فلم يجد من يأخذ بيده ولو أدركته لأخذت بيده ويقال إنه قال يوما للجنيد أنا الحق فقال له الجنيد أنت بالحق أي خشية تفسد فكوشف فيه لما يؤول حاله من الصلب قال بعضهم والدليل على صحة باطنه أنه كان يقطع يداه ورجلاه وهو يقول حسبي الواحد بإفراد الواحد وقد زار قبره بعض أهل الكشف فرأى نورا ساطعا من قبره إلى السماء(2/534)
فقال يا رب ما الفرق بين قوله وبين قوله فرعون أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فألهم أن فرعون رأى نفسه وغاب عنا وهذا رآنا وغاب عن نفسه واستدل بعضهم على كفره بما حكى عنه أنه كان يقول من هذب نفسه بالطاعة وصبر عن اللذة والشهوة وصفا حتى لا يبقى فيه شائبة من البشرية حل فيه روح الإله كما حل في عيسى عليه الصلاة والسلام قيل ولا يريد بذلك ما يعتقده النصارى في عيسى والله تعالى اعلم وإنما أراد أن تكون أفعاله كلها فعل الله تعالى كما يشير إليه الحديث القدسي والكلام الأنسي لا يزال العبد يتقرب إلى النوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ويده الحديث هذا وإن صحت توبته فلا شك أنه عاش سعيدا ومات شهيدا وأما ما ذكره التلمساني من أنه وجد له كتاب كتبه إلى اتباعه عنوانه ممن هو رب الأرباب إلى عبده فلان واتباعه كانوا يكتبون إليه يا ذات الذات ومنتهى غاية اللذات نشهد أنك تتصور فيما شئت من الصور وأنك الآن منصور في صورة الحسين بن منصور ونحن نستجير بك ونرجو رحمتك يا علام الغيوب فلو صح هذا النقل لم يبق مجملا وقد أفرد ابن الجوزي ترجمته بالتأليف في كراسين أو أكثر (وكذلك حكموا) أي فقهاء بغداد من المالكية (في ابن أبي العزافير) بمهملة فزاء وبعد الألف قاف فراء وفي نسخة بزيادة تحتية ساكنة بين القاف والراء وفي أصل التلمساني بغين معجمة وراء فألف فقاف فياء فدال مهملة قال وروي العزاقيد بعين مهملة وزاء وآخره دال مهملة (وَكَانَ عَلَى نَحْوِ مَذْهَبِ الْحَلَّاجِ بَعْدَ هَذَا) أي متأخرا عنه وفعل به مثل ما فعل بالحلاج واسمه أبو جعفر محمد بن علي يقال له السمعاني نسبة إلى قرية بنواحي واسط وكان ظهوره سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة أحدث مذهبا في الرفض ببغداد ثم قال بالتناسخ وحلول الإلهية فيه وأضل جماعة فقبض عليه الوزير ابن مقلة (أيّام الرّاضي بالله) أبي العباس أحمد بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر (وقاضي قضاة بغداد يومئذ) وروي إذ ذاك (أبو الحسين بن أبي عمر المالكيّ) وهو محمد بن يوسف المذكور قبل فأحضر الملعون في مجلس الخلافة بحضرة القضاة والعلماء وحكم بإباحة دمه واحراقه (وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِي الْمَبْسُوطِ مَنْ تَنَبَّأَ قُتِلَ؛ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ مَنْ جَحَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُهُ أَوْ رَبُّهُ أَوْ قَالَ لَيْسَ لِي رَبٌّ فَهُوَ مُرْتَدٌّ) أي لا زنديق فيستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ (وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ ومحمد) أي قال (فِي الْعُتْبِيَّةِ فِيمَنْ تَنَبَّأَ يُسْتَتَابُ أَسَرَّ ذَلِكَ أو أعلنه وهو كالمرتدّ وقاله) أي مثل مقاله (سحنون وغيره وقاله) أي مثل ذلك (أشهب في يهوديّ تنبّأ) ولم يدع الرسالة (وادّعى أنه رسول إلينا) أو إلى غيرنا (إن كان معلما بذلك استتيب فإن تاب وإلّا قتل) ومفهومه أنه إن كان مسرا لا يستتاب ويقتل لكونه زنديقا، (وقال أبو محمد بن أبي زيد فمن لعن بارئه) أي خالقه خلقا بريئا من التفاوت (وادّعى أنّ لسانه زلّ) أي زلق وأخطأ (وَإِنَّمَا أَرَادَ لَعْنَ الشَّيْطَانِ يُقْتَلُ بِكُفْرِهِ وَلَا يقبل عذره) وهذا خلاف ما سبق من القول ولهذا قال (وهذا) الذي ذكرناه مبني (على القول الآخر) بفتح الخاء أو كسرها (مِنْ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَقَالَ أَبُو الحسن القابسيّ في سكران) يصرف ويمنع (قَالَ: أَنَا اللَّهُ أَنَا اللَّهُ إِنْ تَابَ(2/535)
أدّب) ولم يقتل (فَإِنْ عَادَ إِلَى مِثْلِ قَوْلِهِ طُولِبَ مُطَالَبَةَ الزّنديق لأنّ هذا كفر المتلاعبين) المستترين للكفر في لباس منكر فيقتل ولا تقبل توبته والله ولي التوفيق.
فصل (وأمّا من تكلّم من سقط القول)
بفتح السين والقاف أي رديئه (وسخف اللّفظ) بضم أوله أي دنيئه (ممّن لم يضبط كلامه) لجهله (وأهمل لسانه) لخفة عقله (بما يقتضي الاستخفاف) أي التهاون (بعظمة ربّه) أي ذاته (وجلالة مولاه) من جهة صفاته (أو تمثّل في بعض الأشياء) أي جعله مثلا أو شبها (ببعض ما عظّم الله من ملكوته) كقول قائل:
لبيت فلان كعبة الجود فائضا ... يطوف به العافون يبغون نائله
(أو نزع) بفتح الزاء أي أخذ (من الكلام لمخلوق) وخاطبه (بِمَا لَا يَلِيقُ إِلَّا فِي حَقِّ خَالِقِهِ) كقول قائل لعظيم من الأنام يا ذا الجلال والإكرام وكما لو ناداه رجل باسمه فأجابه بقوله لبيك اللهم لبيك (غير قاصد للكفر والاستخفاف) أي الاستهانة بربه (ولا عامد للإلحاد) من فساد الاعتقاد المقتضي للحلول أو الاتحاد (فإن تكرّر هذا منه وعرف به) بأنه يصدر عنه (دَلَّ عَلَى تَلَاعُبِهِ بِدِينِهِ وَاسْتِخْفَافِهِ بِحُرْمَةِ رَبِّهِ) وقلة يقينه (وجهله بعظيم عزّته) أي غلبة ربه وبهائه (وكبريائه وهذا) الذي دل على تلاعبه (كفر لا مرية فيه) لتماديه واصراره على مقاله (وكذلك إن كان ما أورده يوجب) وفي نسخة يقتضي (الاستخفاف والتّنقّص) وروي التنقيص (لربّه وقد أفتى ابن حبيب) قال الحلبي الظاهر إنه عبد الملك بن حبيب القرطبي وقد تقدم (وأصبغ) بفتح الهمزة والموحدة وفي آخره معجمة (ابن خليل) يروي عن يحيى بن يحيى الليثي ذكره الذهبي في الميزان فقال متهم بالكذب مات سنة ثلاث وسبعين ومائتين قال وحدثني شيخ المالكية أبو عمرو السعدي أنه بلغه أن أصبغ هذا قال لأن يكون في كتبي رأس خنزير أحب إلي من أن يكون فيها مصنف أبي بكر بن أبي شيبة أو كما قال وروى أصبغ بن خليل هذا عن المغازي ابن قيس عن سلمة بن وردان عن ابن شهاب عن الربيع بن خيثم عن ابن مسعود قال صليت خلف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر ثنتي عشره سنة وخلف عثمان ثنتي عشرة سنة وخلف علي بالكوفة خمس سنين فلم يرفع أحد منهم يديه إلا في تكبيرة الافتتاح وحدها قال القاضي عياض في المدارك فوقع في خطأ عظيم بين من وجوه منها أن سلمة بن وردان لم يرو عن الزهري ومنها أن الزهري لم يرو عن الربيع ابن خيثم ومنها قوله عن ابن مسعود صليت خلف علي بالكوفة خمس سنين وقد مات ابن مسعود في خلافة عثمان بالإجماع (مِنْ فُقَهَاءِ قُرْطُبَةَ بِقَتْلِ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ أَخِي عجب) وفي نسخة بابن من أخته عجب وعجب لا ينصرف للعلمية والتأنيث المعنوي لأنه اسم عمه المعروف المذكور واسمه يحيى بن زكريا وقد تجبر وعتا (وَكَانَ خَرَجَ يَوْمًا فَأَخَذَهُ الْمَطَرُ فَقَالَ بَدَأَ) بالألف أي ظهر وفي نسخة بالهمز أي ابتدأ (الخرّاز) بخاء معجمة وراء مشددة وفي آخره(2/536)
زاء (يرشّ) بضم الراء وتشديد المعجمة (جلوده) وفي نسخة بحرف جر وما بعده بصيغة المصدر المضاف إلى جلوده، (وكان بعض الفقهاء بها) أي بقرطبة (أبو زيد) كان الظاهر أبا زيد ليكون خبر كان وكان بعض الفقهاء في قوة من الفقهاء وهو محمد بن زيد بن عبد الرحمن بن زيد بن خارجة ولا يبعد أن يكون أبو زيد بدل بعض من بعض الفقهاء وخبر كان قوله (صاحب الثّمانية) بمثلثة مضمومة وياء مشددة ولعلها بلدة أو قرية وكان أميرا عليها أبو زيد خبر مبتدأ محذوف أي هو يعني ذلك البعض أبو زيد (وعبد الأعلى بن وهب) مات سنة إحدى وستين ومائتين (وأبان بن عيسى) فعال أو أفعل فيصرف أو يمنع والأكثر منعه (قد توقّفوا عن سفك دمه) فلم يقدموا على شيء من قتل وعدمه (وأشاروا إلى أنه) أي مقوله (عبث من القول) أي لعب ومزح في تشبيهه (يكفي فيه الأدب وأفتى بمثله) أي بمثل ما أشاروا به (الْقَاضِي حِينَئِذٍ مُوسَى بْنُ زِيَادٍ فَقَالَ ابْنُ حبيب: دمه في عنقي) أي في قتله متعلق بذمتي وفي عدتي أطالب به يوم القيامة، (أيشتم ربّ) وفي نسخة ربا (عبدناه ثمّ لا ننتصر له) أي لا ننتقم لأجل رضاه (إنّا إذا) بالتنوين أي إن لم ننصره (لعبيد سوء ما نحن له بعابدين) حق عبادته في أمر الدين؛ (وبكى) بكاء الحزين قال الدلجي وإن تعجب فعجب من ابن حبيب إذ أفتى حين شهد على أخيه حين قال كما مر لَقِيتُ فِي مَرَضِي هَذَا مَا لَوْ قَتَلْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمْ أَسْتَوْجِبْ هَذَا كُلَّهُ بعدم قتله مع ما يتضمنه قوله من نسبة الجور والظلم إليه تعالى فكأنه قال غاية أمري لو قتلتهما قتلت بهما ولم استوجب ما عاقبني الله به في مرضي هذا (ورفع المجلس) المنعقد لهذا القول (إلى الأمير بها) أي بقرطبة (عبد الرّحمن بن الحكم الأمويّ) بفتح الهمزة وتضم نسبة إلى بني أمية (وكانت عجب عمّة هذا المطلوب) للقتل أو التعزير (من حظاياه) بالظاء المعجمة أي من أقرب حلائله منه وأسعدهن به (وأعلم) بصيغة المجهول (بِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فَخَرَجَ الْإِذْنُ مِنْ عِنْدِهِ بِالْأَخْذِ لقول ابن حبيب وصاحبه) أصبغ بن خليل (وأمر بقتله فقتل وصلب بحضرة) وفي نسخة بمحضر (الفقيهين) أي ابني حبيب وخليل (وعزل القاضي) موسى بن زياد (لتهمته بالمداهنة) أي المصانعة والملاينة (في هذه القصّة) وفي نسخة القضية (ووبّخ) بتشديد الموحدة فخاء معجمة أي هدد (بقيّة الفقهاء وسبّهم) لتوقفهم عن سفك دمه مع وضوح كفره. (وأمّا من صدرت عنه) وفي نسخة منه (الهنة) بتخفيف النون أي المقالة الفبيحة (الواحدة والفلتة الشّاردة) بفتح الفاء أي الزلة الصادرة النادرة (ما لم يكن تنقّصا وإزراء) أي احتقارا (فَيُعَاقَبُ عَلَيْهَا وَيُؤَدَّبُ بِقَدْرِ مُقْتَضَاهَا وَشُنْعَةِ مَعْنَاهَا) بضم أوله أي شناعة مبناها وبشاعة معناها (وصورة حال قائلها وشرح سببها) الباعث عليها وفي نسخة سبيلها أي طريقها (ومقارنها) الذي جر الكلام إليها؛ (وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ رَجُلٍ نَادَى رَجُلًا بِاسْمِهِ فَأَجَابَهُ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لبّيك قال فإن كان جاهلا) بتفصيل معتقده (أو قاله على وجه سفه) أي خطأ لا عن اعتقاد (فلا شيء عليه) أي من القتل ونحوه وفيه بحث فإن ظاهره الكفر ولعله حمل الكلام على أنه قابل أن يكون لبيك الأول جوابا له(2/537)
ثم قوله اللهم لبيك قاله التفاتا كما يقول كثير من الجهلة والعامة عند استلام الحجر اللهم صلّ على نبي قبلك وسببه أنه سمع اللهم صل على نبي من قبلك وكذا صلى الله على نبي من قبله وكلاهما صحيح فلفق هذا القائل بين الكلامين من غير فرق لجهله بين المقامين والحاصل أنه لا بد من أن يردع ويزجر هنالك ليكف عن ذلك (قال القاضي أبو الفضل) أي المصنف (وشرح قوله) أي لا شيء عليه (أنّه لا قتل عليه) لا أنه لا يؤدب ولا يضرب بقدر ما يليق إليه (والجاهل يزجر) عن عود (ويعلّم) ما يجهله (والسّفيه) أي القليل العقل (يؤدّب ولو قالها) أي المجيب كلمة لبيك اللهم لبيك (على اعتقاد إنزاله) أي المجاب (منزلة ربّه) الذي هو رب الأرباب ورب العالمين من جميع الأبواب (لكفر، هذا) الحكم بكفره (مقتضى قوله) بحسب ظاهره وقيل هذا مقتضى قول ابن القاسم وقد بلغني عن بعض الوجودية أنه سمع نباح كلب فقال لبيك اللهم لبيك فهذا كفر صريح ليس له تأويل صحيح فإن المستحب أن يقال لإنسان نادى أحدا في جوابه لبيك كما ورد في السنة بخلاف ما إذا سمع الإنسان صوت كلب فإنه يستحب له أن يتعوذ بالله فإنه إنما ينج إذا رأى شيطانا كما ثبت في الحديث (وقد أسرف) أي تجاوز عن الحد (كثير من سخفاء الشّعراء) أي جهلائهم (ومتّهميهم في هذا الباب) أي باب الديانة لكثرة ما وقع منهم من التهاون في الأمور والخفة (واستخفّوا) أي استهانوا (عظيم هذه الحرمة) أي حرمة الله سبحانه وتعالى (فأتوا) أي سخفاء الشعراء (من ذلك) النوع من الكلام (بما ننزّه كتابنا ولساننا وأقلامنا) وكذا اسماعنا وأفهامنا (عن ذكره) لشناعة مبناه وبشاعة معناه (ولولا أنّا قصدنا) أي أردنا (نصّ مسائل) أي صريحها وفي نسخة قص مسائل أي حكايتها وروايتها (حكيناها) لبيان ما تتعلق به من روايتها (لما ذكرنا شيئا منها) اعراضا عنها (مِمَّا يَثْقُلُ ذِكْرُهُ عَلَيْنَا مِمَّا حَكَيْنَاهُ فِي هذه الفصول) المتقدمة، (وأمّا ما ورد في هذا) الباب (من أهل الجهالة) بمنطق الصواب (وأغاليط اللّسان) في ميدان البيان (كقول بعض الأعراب) مما لا يجوز نسبته إلى رب الأرباب (ربّ العباد) بالنصب على حذف حرف النداء (ما لنا ومالكا) أي لك والألف للإشباع وما فيهما للاستفهام إنكار وهو محل الجهالة في الكلام لأنه من كلام الأكفاء لا سيما وفيه قبح أشنع من الأول هو أن ما استفهام إنكار وهو مقام الأقوياء على الضعفاء (قد كنت تسقينا) بفتح أوله وضمه (فما بدا لكا) أي فما ظهر لك الآن حتى ما تسقينا كدأبك معنا وهذا أيضا موضع الجهالة ومحل الضلالة لأن البداء عيب في الحال وهو على الله من المحال لأنه في أصله أن يفعل الإنسان فعلا ثم يظهر له ما هو أفضل منه وهذا يتصور من البشر لا من خالق القوي والقدر ولم يقل بالبداء إلا اليهود قاتلهم الله أنى يؤفكون (أنزل علينا الغيث لا أبالكا) قال ابن الأثير هو أكثر ما يستعمل في المدح أي لا كافي لك غير نفسك وقد يذكر ذلك في معرض الذم وقد يذكر في معرض التعجب ودفعا للعين انتهى وحاصله أنه ليس بكفر صريح في المبنى قال وسمع سليمان بن عبد الملك رجلا من الأعراب في سنة مجدبة يقول رب العباد فذكره إلى آخره فحمله سليمان على أحسن محمل(2/538)
وقال أشهد أن لا أباله ولا صاحبة ولا ولد انتهى وفيه إيماء إلى أنه من باب الاكتفاء قال التلمساني ووقع في كثير من كلام خيار المسلمين من الصحابة والتابعين ما هو على أصل لغة الحجاز في استعمال المجاز ومنه قول أبي عامر الأشعري وروى لعبد الله بن رواحة
فاغفر فداء لك ما اقتفينا ووجه ذلك أن الفداء إنما يكون فيمن تلحقه المقدرة والله سبحانه وتعالى منزه عنه فيحاشى منه واختلف فقيل على مجاز كلام العرب ومبناه ولا يلتفت إلى حقيقة معناه وقيل أراد بالتفدية التعظيم لأن الإنسان لا يفدي إلا من يعظم فيكون فيه معنى التجريد أو معناه أبذل نفسي ومن يعز علي في رضاك وقيل روي
فاغفر لنا فداك ما اقتفينا وهو بين ويحتمل أن قوله فاغفر البيت ليس من الكلام الأول وإنما هو للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومعناه أنه سأل النبي عليه السلام أن يغفر له ما قصر في حقه والقيام به والتفدية عليه صحيحة ومنه:
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم فداء
(في أشباه لهذا) الشعر (من كلام الجهّال) نثرا ونظما (ومن) أي ومن كلام من (لم يقوّمه) أي يعدله (ثقاف تأديب الشّريعة) بكسر المثلثة وبالقاف أي ما يسوي ويقوم به الرماح ثم استعير للزواجر التي ورد بها الشرع (والعلم في هذا الباب) المتعلق بتعظيم رب الأرباب (فقلّما يصدر) مثل ذلك (إلّا من جاهل يجب تعليمه) على الناس كما يجب عليه تعلمه (وَزَجْرُهُ وَالْإِغْلَاظُ لَهُ عَنِ الْعَوْدَةِ إِلَى مِثْلِهِ) وهذا التأديب على نسق الترتيب كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَابِيُّ وَهَذَا تَهَوُّرٌ مِنَ القول) أي مبالغة في المجاوزة عن الاستقامة (والله منزّه عن هذه الأمور) لأنه سبحانه وتعالى كما ورد يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها (وقد روينا) بصيغة الفاعل أو المفعول مخففا وقيل مشددا (عن عون بن عبد الله) بن عتبة الهذلي الكوفي الزاهد (أَنَّهُ قَالَ لِيُعَظِّمْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ أَنْ يَذْكُرَ اسمه في كلّ شيء) من طيب وخبيث بل يخصه بالطيب فإن الله طيب يحب الطيب قد قال تعالى الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ (حتّى لا يقول أخزى الله الكلب وفعل) أي الله (به كذا وكذا) من المكروهات (وكان بعض من أدركنا من مشايخنا) المالكية (قلّما يذكر اسم الله تعالى) ما صدرية لا نافية كافة كما اختاره التلمساني (إلّا فيما يتّصل بطاعته وكان) أي لك البعض (يقول للإنسان) إذا دعا له (جزيت خيرا) بصيغة المجهول (وَقَلَّمَا يَقُولُ جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا إِعْظَامًا لِاسْمِهِ تعالى أن يمتهن) أي يستعمل بكثرة (في غير قربة) ولا يخفى أن الدعوة للأخ المسلم قربة وقد ورد من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء رواه الترمذي والنسائي وابن(2/539)
ماجه وابن حبان في صحيحه عن اسامة ونظير هذا ما ذكره التلمساني عن ابن عرفة في تفسيره أن بعضهم كان يكره أن يقال للسائل يفتح الله تنزيها لاسم الله تعالى أن يذكره لمن يكره سماعه وإنما يقول ما حضر لك في الوقت شي أو نحوه أقول السائل لم يكره سماع اسم ربه نعم إنما يكره حرمانه وهو يحصل بأي مقال يقال في جوابه فالدعاء أولى له فإنه ربما يفرح به بدعائه أكثر من عطائه ثم قيل لابن عرفة قال المفسرون في قوله تعالى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً إن القول الميسور أن يقول لهم رزقنا الله وإياكم من فضله فقال ابن عرفة الكراهة لا تنافي الإباحة انتهى وفساده ظاهر لا يخفى لأن الأمر في الآية للاستخفاف والكراهة غير ثابتة في هذا الباب؛ (وحدثنا الثقة) أي بعض من أثق به في الرواية (أنّ الإمام أبا بكر الشّاشيّ) قال الحلبي الظاهر أنه محمد بن علي بن إسماعيل القفال الكبير الشافعي والشاش مدينة بما رواء النهر قال العبادي فيه أفصح الأصحاب قلما وأثبتهم في دقائق العلوم قدما واسرعهم بيانا وأثبتهم جنانا وأعلاهم إسنادا وأرفعهم عمادا توفي سنة خمس وستين وثلاثمائة (كان يعيب على أهل الكلام) أي علماء أصول الدين (كثرة خوضهم فيه) أي في ذاته (تَعَالَى وَفِي ذِكْرِ صِفَاتِهِ إِجْلَالًا لِاسْمِهِ تَعَالَى ويقول هؤلاء) أي أهل الكلام (يتمندلون بالله) أي يتداولونه ويتناولونه كالمنديل بكثرة تدول ألسنتهم له في الأقاويل (جلّ) أي جلاله (وعز) كماله وهذا مخالف للكتاب والسنة جيث قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وقال وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ وفي الحديث أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقولوا مجنون رواه أحمد في مسنده وأبو يعلى الموصلي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه والبيهقي في شعبه عن أبي سعيد وفي رواية لأحمد أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقول المنافقون أنكم مراؤون وقد ورد من أحب شيئا أكثر ذكره رواه الديلمي عن عائشة رضي لله تعالى عنها والأحاديث في هذا أكثر من أن تذكر وقد صح عن رئيس أهل التحقيق أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ليتني كنت أخرس إلا عن ذكر الله ولله در القائل:
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره ... هو المسك ما كررته يتضوع
هذا وعن بعض التابعين أنه كانت له بضاعة يتجر فيها فقيل له في ذلك فقال لولاها لتمندل بي بنو العباس أي لابتذلوني بالتردد إليهم لطلب ما لديهم وأغرب منه قوله (وينزّل) أي الشاشي (الكلام) وفي نسخة بصيغة المجهول (في هذا الباب) أي باب كثرة الكلام في اسمه سبحانه وتعالى (تنزيله في باب سابّ) وفي نسخة سب (النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على الوجوه الّتي فصّلناها) من قتله وصلبه وحبسه وضربه وفي أنه لا ملائمة بين من تمندل بالله ومن سب نبيه نعم يلزم على زعم هذا القائل إن المحدثين لكثرة خوضهم في ذكر سيد المرسلين ينزلون في باب سب النبي وحاشاهم من ذلك لعلو مرتبتهم هنالك بل هذا(2/540)
القائل هو الأحق بأن يلحق بمن سب الحق عند المحقق (والله الموفّق) نعم ذم السلف الكرام أهل الكلام من حيث إنهم يتعلقون بذات الله تعالى وصفاته العلية بالأدلة العقلية والقواعد الفلسفية وقد قال الله تعالى وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وورد عنه عليه الصلاة والسلام لا تتفكروا في ذات الله وتفكروا في مصنوعاته وقد بسطت الكلام على هذا المرام في شرح الفقه الأكبر فتأمل وتدبر.
فصل (وَحُكْمُ مَنْ سَبَّ سَائِرَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وملائكته)
أي جميعهم (وَاسْتَخَفَّ بِهِمْ أَوْ كَذَّبَهُمْ فِيمَا أَتَوْا بِهِ) من وحيهم وفعلهم (أو أنكرهم) أي وجودهم (وجحدهم) أي نزولهم كقول مالك بن الصيف ما انزل الله على بشر من شيء حين قال له النبي عليه الصلاة والسلام أليس في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين قال نعم قال فأنت الحبر السمين فمن صدر منه شيء من ذلك فحكمه (حكم نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم على مساق ما قدّمناه) أي نهجه وسبيله في وجوب قتله كفرا إن لم يتب وحدا إن تاب كما هو مذهب مالك في هذا الباب (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ بشرا وملكا (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ [النِّسَاءِ: 150] ) إيمانا وكفرا (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) كاليهود كفروا بعيسى ومحمد وكالنصارى كفروا بمحمد (الآية) أي ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا متوسطا بين الإيمان والكفر أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (وقال تعالى) بالخطاب العام (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) أي من القرآن (وَما أُنْزِلَ) أي من الصحف (إِلى إِبْراهِيمَ الآية) وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط أي أولادهم وأحفادهم من الأنبياء وما أوتي موسى وعيسى من التورية والإنجيل وما أوتي النبيون من ربهم كالزبور لداود (إِلَى قَوْلِهِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [البقرة: 136] ) في الإيمان لا في التفصيل (وقال) أي الله تعالى آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون (كُلٌّ) أي كلهم أو كل واحد منهم (آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) إيمانا إجماليا قائلين (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الْبَقَرَةِ: 285] ) بل نؤمن بكلهم ونعتقد أن بعضهم أفضل من بعض وأن نجهل تفضيل بعضهم (قاله) وفي نسخة قَالَ (مَالِكٌ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ وَمُحَمَّدٍ) هو ابن المواز كما جزم به الحلبي وقال الدلجي لعله ابن سحنون (وقاله ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ) وفي نسخة وابن عبد الملك (وأصبغ) أي ابن الفرج (وسحنون فيمن شتم الأنبياء) أي عموما (أو أحدا منهم) أي خصوصا (أو تنقّصه قتل ولم يستتب) أي إذا كان مسلما (وَمَنْ سَبَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ قُتِلَ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ وَرَوَى سُحْنُونٌ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ من سبّ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي كفروا به) وفيه أنه ليس سب الأنبياء في وجه من الوجوه التي كفروا بها فلا يحتاج إلى هذا القيد الزائد على ما(2/541)
قبله (ضرب عنقه إلّا أن يسلم) وفي المبسوطة قيده بقوله طوعا (وقد تقدّم الخلاف في هذا الأصل) أي فيمن سب الله تعالى بغير هذا الوجه فقال ابن القاسم في كتاب محمد إلا أن يسلم كما هنا وقال المخزومي في المبسوط وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ وَابْنُ أَبِي حَازِمٍ لَا يقتل حتى يستتاب مسلما أو كافرا فإن تاب وإلا قتل وهذا هو الصواب ولكن لا يخفى أن الذمي بسب الله أو أحد من أنبيائه يخرج عن كونه ذميا ويصير حربيا فإن أسلم سلم وإلا قتل فليس قوله تاب على ظاهره من التوبة عن سبه مع بقائه على ذمته (وقال القاضي بقرطبة) بضم القاف والطاء (سعيد بن سليمان) وفي نسخة ابن عبد الرحمن (في بعض أجوبته) لبعض اسئلته (من سبّ الله وملائكته أو انبياءه قتل) أي مطلقا إلا أن يسلم، (قال سحنون من شتم ملكا من الملائكة) معينا أو مبهما (فعليه القتل) واجب، (وفي النّوادر) لابن أبي زيد (عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ قَالَ إِنَّ جِبْرِيلَ أَخْطَأَ بالوحي) بتأديته إلى محمد (وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ استتيب فإن تاب وإلّا قتل) لكفره بافترائه على أمين الوحي وتجهيله الله سبحانه وتعالى وإنكاره نبوة محمد وإثبات نبوة علي (ونحوه عن سحنون) منقول (وهذا) القول بتخطئة جبريل (قَوْلُ الْغُرَابِيَّةِ مِنَ الرَّوَافِضِ سُمُّوا بِذَلِكَ لِقَوْلِهِمْ كان النبيّ أشبه بعليّ من الغراب بالغراب) والذباب بالذباب وقد أبطلنا قولهم فيما سبق من باب الكتاب (وقال أبو حنيفة وأصحابه على أصلهم) المعتمد عندهم وجمهور أهل العلم (مَنْ كَذَّبَ بِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ تَنَقَّصَ أحدا منهم أو برئ منه) أي تبرأ من أحد منهم (فهو مرتدّ) يقتل إن لم يتب (وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ فِي الَّذِي قَالَ لآخر كأنّه) أي وجهه (وجه مالك) أي خازن النار وفي نسخة وجه ملك (الغضبان لو عرف) من قرائن قاله أو حاله (أنه قصد ذمّ الملك قتل) بخلاف ما إذا أراد تشبيهه به من حيث الهيبة والخشية (قال القاضي أبو الفضل) أي المصنف (وهذا كلّه فيمن تكلّم فيهم) أي في الأنبياء والملائكة (بما قلناه على جملة الملائكة والنّبيين) أي عموما أو إجمالا بأن شتم نبينا أو ملكا غير معين (أَوْ عَلَى مُعَيَّنٍ مِمَّنْ حَقَّقْنَا كَوْنَهُ مِنَ الملائكة والنّبيّين ممّن نصّ الله تعالى عليه) أي على كونه نبيا أو ملكا (فِي كِتَابِهِ أَوْ حَقَّقْنَا عِلْمَهُ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ والمشتهر) بفتح الهاء وكسرها أي المشهور عند أئمة الحديث (المتفّق عليه) أي على صحته (بالإجماع) الظاهر أو بالإجماع (القاطع) أي مما لا خلاف فيه أنه منهم (كجبريل وميكائيل) قال الله تعالى مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ وفيهما قراآت معروفة (ومالك) في قوله تعالى وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ (وخزنة الجنّة وجهنم) في قوله تعالى وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ (والزّبانية) في قوله تعالى فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ من الزبن وهو الدفع (وحملة العرش) في قوله تعالى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وهم ثمانية فقيل صفوف وقيل ألوف وقيد صنوف وقيل ثمانية أنفس وقيل هم الآن أربعة وتزيد يوم القيامة أربعة وهو ظاهر قوله تعالى وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (المذكورين في(2/542)
القرآن) كما حررنا مواضعها في البيان (من الملائكة) المسطورين (ومن سمّي فيه من الأنبياء) أي كآدم وإدريس ونوح وهود وصالح ولوط وبإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وشعيب وداود وسليمان وأيوب وزكريا ويحيى وعيسى ويونس وإلياس واليسع وذي الكفل ومحمد عليهم الصلاة والسلام وكذا شيث بن آدم كما هو مشهور (وكعزرائيل) المعبر عنه في القرآن بملك الموت في قوله تعالى قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ وهو بفتح أوله ممدودا ويقال عزريل بكسر العين وكسر الراء (وإسرافيل) وهو صاحب الصور المكنى عنه بقوله تعالى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ (ورضوان) بكسر الراء وضمها أي خازن الجنة (والحفظة) المعير عنهم بقوله سبحانه وتعالى كِراماً كاتِبِينَ (ومنكر) بفتح الكاف وأما كسره فمنكر (ونكير) الفتانان في القبر (من الملائكة المتّفق) على وجودهم عند العلماء بناء (على قبول الخبر بها) لأجل كثرة طرقه التى كادت أن تكون متواترة وفي نسخة بهما وفي أخرى بهم (فأمّا من) وفي نسخة ما (لم تثبت الأخبار بتعيينه) أنه نبي أو مالك (وَلَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أو الأنبياء كهاروت وماروت) المعدودين (في الملائكة) على خلاف فيهما هل هما ملكان بالفتح أو ملكان بالكسر بناء على القراءتين والأظهر إنهما من الملائكة (والخضر) اختلف في كونه وليا أو نبيا والأظهر الثاني (ولقمان) قيل كان نبيا وقيل حكيما وهو الأظهر وكان عبدا حبشيا وقيل نوبيا وقيل كان ابن أخت داود وقيل ابن خالته (وذي القرنين) فقيل رجل صالح وهو قول علي وقيل نبي وروي عن عمر وقيل ملك بكسر اللام وسمي بذلك لأنه بلغ قرني الدنيا وهما المشرق والمغرب وقيل كان له قرنان صغيران تواريهما عمامته وقيل لأنه دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات ثم حيى ثم دعاهم فضربوه على قرنه الآخر فمات وقيل لأنه كريم الطرفين من أبيه وأمه وقيل كان يقاتل بيده وركابه وقيل علم علما باطنا وظاهرا وقيل دخل الظلمة والنور وقيل لأنه عاش مضي قرنين روي أنه عليه السلام سئل عنه أنبي كان أم لا فقال لا أدري رواه الحاكم في مستدركه وكذا قال عليه الصلاة والسلام وفي عزير على ما رواه أبو جاود والحاكم وكذا دانيال مختلف في نبوته (ومريم) ابنة عمران لقوله تعالى إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ ونحو ذلك وكذا أم موسى ويشير إلى نبوتها قوله وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى والمحققون على أن المعنى الهمنا لقوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ وفيه بحث على مذهب من فرق بين النبوة والرسالة (وآسية) ابنة مزاحم امرأة فرعون وابنة عمه وقيل هي عمة موسى عليه الصلاة والسلام لكن لا أعرف أحدا قال بنبوتها ولا دليلا على ثبوته نسبتها (وخالد بن سنان) بسين مكسورة وهو العبسي بموحدة منسوب لبني عبس قوم من العرب وكان بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان خالد بن سنان نبي بني عبس مبشرا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال ووردت ابنة له عجوز(2/543)
قد عمرت على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فتلقاها بخير واكرمها وأسلمت فقال لها مرحبا بابنة نبي ضيعه أهله وسمعته صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقالت كان أبي بقولها (المذكور أنه نبيّ أهل الرّسّ) بتشديد السين المهملة أي البئر غير المطوية قيل كذبوه ورسوه أي دسوه فيها حتى مات وقيل نبيهم حنظلة بن صفوان وكانوا مبتلين بالعنقاء أعظم طير كأنها سيمت عنقاء لطول عنقها وكانت تسكن جبلا لهم وتخطف صبيانهم إذا أعوذها الصيد فدعا عليها حنظلة فأخذتها صاعقة فقتلوه فأهلكوا والمشهور عند الجمهور أن أصحاب الرس المذكور في القرآن قوم كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم شعيبا فكذبوه فبينما هم حول الرس فانهارت فخسف بهم وبديارهم وأما قوم تبع فقال قتادة هو تبع الحميري كان سار بالجيوش حتى حير الحيرة وبنى سمرقند وكان من ملوك اليمن سمي تبعا لكثرة اتباعه وكان هذا يعبد النار فأسلم ودعا قومه إلى الإسلام فكذبوه وله قصة طويلة ذكرها البغوي في المعالم وهو أول من كسا البيت وقد آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام قبل أن يبعث بسبعمائة عام وقد ثبت حديث في مسند أحمد عن سهل بن سعد مرفوعا لا تسبوا تبعا فإنه قد كان اسلم وحديث آخر برواية ابن أبي شيبة عن أبي هريرة مرفوعا ما أدري تبع كان نبيا أو غير نبي وفيما ورد من الأحاديث الواردة عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في حق بعضهم ما أدري أهو نبي أو غير نبي دليل جليل على صحة الإيمان الإجمالي وإيماء إلى تحقيق ما أورد من أن لا أدري نصف العلم ومتمسك للمجتهدين في توفقهم في بعض مسائل الدين (وزرادشت) بزاء مفتوحة وتضم فراء فألف ودال مهملة مضمومة وقيل معجمة مفتوحة فشين معجمة ساكنة ففوقية ممنوع وهو صاحب كتاب المجوس (الّذي تدّعي المجوس والمؤرّخون نبوّته) وينسبون إليه أصولهم الفاسدة وقواعدهم الكاسدة وقيل إنه كان نبيا وأن اتباعه غيروا شريعته كاليهود والنصارى غيروا شرائعهم وأبدعوا بدائعهم (فليس الحكم في سابّهم والكافر بهم) لكون الخلاف في نبوتهم (كالحكم فيمن قدّمناه) ممن اتفق على نبوتهم أو رسالتهم (إذ لم تثبت لهم تلك الحرمة) قطعا بل ظنا (ولكن يزجر من تنقّصهم) وآذاهم بلسانه (ويؤدّب بقدر حال المقول فيه) وفي نسخة فيهم أي ضعفا وقوة من الأدلة (لا سيّما من عرفت صدّيقيّته) أي ولايته (وفضله) أي صالحه (منهم وإن لم تثبت نبوّته) بدليل قاطع (وأمّا إنكار نبوّتهم) لكون الخلاف في نبوتهم (أو كون الآخر) كهاروت وماروت (من الملائكة) أم لا فاسمع جوابه مفصلا (فَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ العلم) أي علم الشريعة من الكتاب والسنة إذ لا عبرة بغيرهم في هذه المسألة (فلا حرج عليه) أي في إنكاره ونفيه عن علم ودليل أو نقل (لاختلاف العلماء في ذلك) لكن لا يخفى أن الأحوط في حقه أن لا ينفيه ولا يثبته لئلا يدخل في الأنبياء من ليس بنبي ولا يخرج نبي منهم فإنه خطر عظيم بنبغي أن ينقل الخلاف ويرجح ما ظهر عنده أو عند غيره (وإن كان) المتكلم في ذلك (مِنْ عَوَامِّ النَّاسِ زُجِرَ عَنِ الْخَوْضِ فِي مثل هذا)(2/544)
الكلام (فَإِنْ عَادَ أُدِّبَ إِذْ لَيْسَ لَهُمُ الْكَلَامُ في مثل هذا) الكلام لئلا ينجر إلى ما يرد عليه من الملام (وقد كره السّلف) الكرام (الكلام في مثل هذا) المقام (مِمَّا لَيْسَ تَحْتَهُ عَمَلٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ فَكَيْفَ للعامّة) وفيه بحث لأن العلماء هم الذين يبينون مراتب الأنبياء وعلمهم كله عمل بل خير عمل كما يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم فالعلم إما فرض عين أو كفاية فهو أفضل من عبادة نافلة ولكون نفع هذا قاصرا أو نفع الأول متعديا وأما العامة فينبغي لهم السكوت عما لا يدرون.
فصل (واعلم أن من استخفّ بالقرآن)
أي بمبناه أو معناه أو بأهله الوارد في حقهم أن أهل القرآن أهل الله وخاصته (أو المصحف) بضم الميم وكسرها والأول أشهر وفي القاموس بتثليث الميم من أصحف بالضم إذا جعلت فيه الصحف انتهى ولعل الكسر على أنه آلة والفتح على أنه اسم مكان والضم على أنه مفعول وقد كفر الوليد بسبب إهانة المصحف فإنه روي أنه فتحه يوما وتفأل فوقع بصره على قوله تعالى وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ فأمر بالمصحف فنصب غرضا ورماه بالنبل حتى تمزق وأنشد:
أتوعد كل جبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر ... فقل يا رب مزقني الوليد
والوليد هذا هو الذي ورد فيه أنه فرعون هذه الأمة ونزلت آيات كثيرة في حقه من المذمة (أو بشيء منه) كورق أو لوح أو درهم مسطور فيه (أو سبّهما أو جحده) أي أنكر القرآن كله (أو حرفا منه) في القراآت السبع (أو آية) ولو كانت حرفا (أو كذّب به) أي بالقرآن جميعه (أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ أَوْ كَذَّبَ بِشَيْءٍ مِمَّا صرّح به) أي بذلك الشيء (فيه) أي في القرآن (من حكم) كأمر ونهي (أو خبر) عن سابق أو لاحق (أَوْ أَثْبَتَ مَا نَفَاهُ أَوْ نَفَى مَا أثبته على علم منه بذلك) أي دون نسيان أو خطأ (أَوْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ كافر عند أهل العلم) قاطبة (بإجماع) لا خلاف فيه (قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) أي بديع أو منيع (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) أي الناسخ الذي يبطله أو يدفعه (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) أي من قدامه (وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ) منزل (مِنْ حَكِيمٍ) أي ذي حكمة في أحكامه وأقواله (حَمِيدٍ [فصلت: 41- 42] ) محمود في ذاته وصفاته وأفعاله (حَدَّثَنَا الْفَقِيهُ أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ أَحْمَدَ رحمه الله حدّثنا أبو عليّ) الغساني (حدّثنا ابن عبد البرّ) حافظ الغرب (حدّثنا ابن عبد المؤمن) القرطبي (حدّثنا ابن داسة) راوي سنن أبي داود عنه (حدّثنا أبو داود) السجستاني صاحب السنن ومحدث العصر (حدّثنا أحمد بن حنبل) إمام أهل السنة (حدّثنا يزيد بن هارون) هو أبو خالد السلمي الواسطي أحد الاعلام (حدّثنا محمد بن عمرو) أي ابن علقمة بن وقاص الليثي يروي عن أبيه وعن أبي سلمة وطائفة وعنه شعبة ومالك ومحمد بن عبد الله الأنصاري وجماعة (عن(2/545)
أبي سلمة) أحد الفقهاء السبعة عند أكثر علماء الحجاز (عن أبي هريرة) قال الحلبي وفي كلام بعض متأخري الحنفية المصريين أنه عبد الرحمن بن صخر على الأصح من نحو ثلاثة وأربعين قولا (عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال المراء) بكسر الميم مصدر بمعنى المماراة (في القرآن كفر) ورواه الحاكم أيضا وفي رواية لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر (تؤوّل) بصيغة المجهول أي فسر المراء (بمعنى الشّكّ) ومنه قوله تعالى فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ (وبمعنى الجدال) ومنه قوله تعالى فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وقد قال تعالى ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وقال ابن الأثير تبعا للهروي المماراة المجادلة على مذهب الشك والربية ويقال للمناظرة مماراة لأن كل واحد يستخرج ما عند صاحبه ويمتريه كما يمتري الحالب اللبن من الضرع قال أبو عبيد ليس وجه الحديث عندنا على الاختلاف في التأويل ولكنه على الاختلاف في اللفظ وهو أن يقرأ الرجل على حرف فيقول الآخر ليس هو كذا ولكنه على خلافه وكلاهما منزل مقروء بهما فإذا جحد كل واحد قراءة صاحبه لم يأمن أن يكون ذلك يخرجه إلى الكفر لأنه نفى حرفا أنزله الله على نبيه ثم النكير في مراء إيذان بأن شيئا منه كفر فضلا عما زاد عليه وقيل إنما جاء هذا في الجدال والمراء في الآيات التي فيها ذكر القدر ونحوه من المعاني على مذهب أهل الكلام وأصحاب الأهواء والآراء دون ما تضمنته من الأحكام وأبواب الحلال والحرام فإن ذلك قد جرى بين الصحابة الكرام فمن بعدهم من العلماء الأعلام وذلك فيما يكون الغرض منه والباعث عليه ظهور الحق ليتبع دون الغلبة والتعجيز؛ (وعن ابن عبّاس) كما رواه ابن ماجه (عن النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ جَحَدَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ حَلَّ ضَرْبُ عُنُقِهِ وكذلك إن جحد التّوراة والإنجيل) أي إجمالا لا آية منهما لاحتمال كونها محرفة أو لا تكون فيهما أصلا وذلك لقوله تعالى وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وأنزل الفرقان وكان حقه أن يقول والزبور لقوله تعالى وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وفسر به القرآن أيضا وكذا صحف إبراهيم مذكورة بالخصوص (وكتب الله المنزّلة) أي بعمومها الواجب الإيمان مجملا بتمامها (أو كفر بها) أي كلها أو بعضها (أو لعنها) أي شتمها (أو سبّها) أي عابها (أو استخفّ بها) أي أهانها (فهو كافر) وأما لو جحد آية من التوراة أو الإنجيل ففيه خطر لاحتمال كونها منهما فيكفر أو لا تكون منهما لما وقع من التحريف فيهما فلا يكفر ولذا قال عليه الصلاة والسلام لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقد قال تعالى وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي منقادون للحق تابعون للصدق (وقد أجمع المسلمون أنّ القرآن المتلوّ) على ألسنة أهل الإيمان (في جميع أقطار الأرض) أي أطرافها وأكنافها (المكتوب في المصحف) أي جنسه من المصاحف (بأيدي المسلمين) احتراز عما قد يوجد في أيدي غيرهم من الملحدين فربما يزيدون أو ينقصون في أمر الدين(2/546)
(ممّا جمعه الدّفتان) بتشديد الفاء وهما ما يضمه من جانبيه (مِنْ أَوَّلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَةِ: 2] ) برفع الحمد على الحكاية ويجر بالكسر على الاعراب (إِلَى آخِرِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [النَّاسِ: 1] أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَوَحْيُهُ الْمُنَزَّلُ عَلَى نَبِيِّهِ محمد صلى الله تعالى عليه وسلم) وفيه إيماء إلى أن تنكيس القرآن ليس سنة بل بدعة ولعله لم يذكر البسملة لأنها ليست من القرآن في مذهب مالك لكنه لا شك أنها مما بين الدفتين للإجماع على أن الصحابة كتبوا البسملة في أوائل كل السور إلا براءة ولهذا ذهب المحققون من ائمتنا الحنفية أنها آية من القرآن أنزلت للفصل ولا بدع أن يراد بالحمد لله رب العالمين سورة الفاتحة فتشمل البسملة الفاتحة ولكن يأباه أن الكلام في التكفير فالقدر المتعلق هو الذي بينه في مقام التقدير والأحاديث في باب البسملة متعارضة مع كونها آحادا فلا تفيد القطع وإنما توجب الظن ولهذا اختلف العلماء في مسألة البسملة والله سبحانه وتعالى اعلم (وأنّ جميع ما فيه حقّ) أي ثابت وصدق (وَأَنَّ مَنْ نَقَصَ مِنْهُ حَرْفًا قَاصِدًا لِذَلِكَ) النقص (أو بدّله بحرف آخر مكانه) ولو لم يغير شأنه (أَوْ زَادَ فِيهِ حَرْفًا مِمَّا لَمْ يَشْتَمِلْ عليه المصحف الّذي وقع عليه الإجماع) أي كتابة وقراءة (وأجمع) بصيغة المجهول وفي نسخة بصيغة الفاعل أي وجزم وعزم (على أنّه ليس من القرآن عامدا) أي لا سهوا ولا نسيانا (لكلّ هذا) الذي ذكر من النقصان والزيادة (أنه كافر) إلا القراآت الشاذة التي ثبتت في الجملة بحسب الرواية بشرط أن لا يلحقها بالمصاحف في الكتابة (ولهذا) الذي ذكرنا من أن جميع ما في القرآن حق (رَأَى مَالِكٌ قَتْلَ مَنْ سَبَّ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عنها بالفرية) أي الإفك (لأنّه خالف القرآن) أي بعضه النازل في براءة ساحة عائشة أن تكون فاحشة (ومن خالف القرآن) أي اعتقادا لا عملا (قتل أي لأنّه كذّب بما فيه) من آيات دالة على براءتها وإنما اكتفى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بحد القذف على قاذفيها لما صدر عنهم قبل براءة ساحتها فحينئذ لا وجه لتخصيص مالك فإن إجماع العلماء على ذلك، (وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ تعالى لم يكلّم موسى تكليما يقتل) لتكذيبه قوله تعالى فيه وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً وهذا مجمع عليه وإنما الكلام في معنى الكلام من النفسي وغيره بين أهل السنة والمعتزلة (وقاله) أي قال به ونص عليه أيضا (عبد الرّحمن بن مهديّ) من أصحاب الشافعي قال التلمساني مهدي مفعول وكره مالك التسمية بمهدي قال وما علمه بأنه مهدي وأباح التسمية بالهادي وقال لأن الهادي هو الذي يهدي الطريق انتهى ولا يخفى أن المهدي أيضا هو الذي يهدي إلى الطريق وما علمه بأنه هاد وليس بمهدي ومن أين له حمل المهدي على الهداية الشرعية وحمل الهادي على الدلالة اللغوية أو العرفية على أن الاسماء كلها تسمى على جهة التفاؤل والتبرك وإلا لما كان يصح لأحد أن يسمى محمودا ومحمدا وأحمدا ولا عليا ولا فاطمة ولا عائشة وأمثال ذلك (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سُحْنُونٍ فِيمَنْ قَالَ الْمُعَوِّذَتَانِ) بكسر الواو وتفتح وهما سورة الفلق والناس (لَيْسَتَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ يُضْرَبُ عُنُقُهُ إِلَّا أن يتوب) لنفيه لهما منه مع ثبوتهما في(2/547)
المصاحف العثمانية التي وقع عليها إجماع الأمة قال النووي في شرح المهذب أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة وسائر السور المكتوبة في المصحف قرآن وأن من جحد شيئا منها كفر وما نقل عن ابن مسعود في الفاتحة والمعوذتين باطل ليس بصحيح عنه قال ابن حزم في أول كتابه المحلي هذا كذب على ابن مسعود وإنما صح عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود وفيها الفاتحة والمعوذتان انتهى وأما ما روي عن عبد الله بن أحمد في زوائد المسند أن ابن مسعود كان يحك المعوذتين من مصاحفة ويقول إنهما ليستا من كتاب الله فالجواب على وجه الصواب ما قال ابن الباقلاني أنه لم ينكر ابن مسعود كونهما من القرآن إنما أنكر إثباتهما في المصحف لأنه كانت السنة عنده أن لا يثبت إلا ما أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بإثباته ولم يبلغه أمره به وهذا تأويل منه وليس جحدا لكونهما قرآنا وأجيب أيضا بأنه كان يقول ذلك فلما رأى المصاحف التي كتبت في زمن عثمان وفي إثباتهما رجع عن ذلك ويؤيد هذا ما سبق عن ابن حزم وأما ما أجاب بعضهم عنه بأن عاصم بن بهدلة المذكور في المسند وإن قرنه البخاري بعيدة فهو في الحديث دون الثبت ثقة في القراءة فغير مستقيم لأنه راوي القراءة عن ابن مسعود وهذه الرواية من متعلقات القراءة هذا وفي جواهر الفقه من أنكر المعوذتين من القرآن غير مأول كفر انتهى وقال بعض المتأخرين كفر ولو أول والأول هو المعول (وكذلك) أي كفر (من كذّب بحرف منه) أي من القرآن فيقتل إلا أن يتوب (قال) أي ابن سحنون (وكذلك إن شهد شاهد) أي واحد (عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ موسى تكليما وشهد آخر عليه) أي على من قال ذلك (أنه قال إن الله لم يتّخذ إبراهيم خليلا) فإن مؤداهما واحد وهو تكذيب بعض القرآن وهذا التعليل أولى من قوله (لأنّهما اجتمعا على أنّه كذّب النّبيّ) وفي نسخة تكذيب للنبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فيما نقله عن الله سبحانه وتعالى (وقال أبو عثمان الحدّاد) قال الانطاكي وقد يقع في بعض النسخ أبو عثمان بن الحداد بزيادة ابن والصواب والله تعالى اعلم سقوطه (جميع من ينتحل التّوحيد) أي ينتسب إليه ويدعي اعتقاده (متّفقون) على (أنّ الجحد لحرف من التّنزيل) أي القرآن الكريم والفرقان القديم (كفر وكان أبو العالية) أحد أئمة القراآت (إذا قرأ عنده رجل) أي بقراءة لم يعرفها (لَمْ يَقُلْ لَهُ لَيْسَ كَمَا قَرَأْتَ وَيَقُولُ أمّا أنا فأقرأ كذا) وهذا من كمال احتياطه في تورعه (فبلغ ذلك) القول من أبي العالية (إبراهيم) النخعي أو التيمي (فقال أراه) بضم الهمزة أي أظنه (سمع أنّه) أي الشأن (من كفر) أي جحد (بحرف منه فقد كفر به كلّه) لأن الكفر ببعضه يؤذن بالكفر بكله بخلاف الإيمان ببعضه فإنه لا يقوم مقام الإيمان بكله (وقال عبد الله بن مسعود) كما في مصنف عبد الرزاق (من كفر بآية من القرآن فقد كفر به كلّه) وهذا كمن كفر برسول فقد كفر بالرسل كلهم (وقال أصبغ بن الفرج) المصري (مَنْ كَذَّبَ بِبَعْضِ الْقُرْآنِ فَقَدْ كَذَّبَ بِهِ كُلِّهِ وَمَنْ كَذَّبَ بِهِ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ ومن كفر به فقد كفر بالله) أي بكلامه (وَقَدْ سُئِلَ الْقَابِسِيُّ عَمَّنْ(2/548)
خاصم يهوديّا فحلف) اليهودي (لَهُ بِالتَّوْرَاةِ فَقَالَ الْآخَرُ لَعَنَ اللَّهُ التَّوْرَاةَ فَقَالَ الْآخَرُ لَعَنَ اللَّهُ التَّوْرَاةَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ بذلك شاهد) أي واحد (ثمّ شهد آخر أنه) أي الآخر (سأله) أي من خاصم (عن القضيّة) في الكيفية (فقال) اللاعن الملعون (إنّما لعنت توراة اليهود) التي يتدارسونها بينهم (فقال أبو الحسن) القابسي (الشّاهد الواحد لا يوجب القتل) أي ولو حمل على إطلاقه ولم يقبل قصده (والثّاني علّق الأمر بصفة) أي خاصة ناشئة عن الإضافة (تحتمل التأويل) لهذا القيل (إِذْ لَعَلَّهُ لَا يَرَى الْيَهُودَ مُتَمَسِّكِينَ بِشَيْءٍ من عند الله لتبديلهم وتحريفهم) وفيه أن الظاهر من هذه الإضافة اختصاصهم بها وأما كونهم لا يتمسكون بها فلا دخل له فيما نحن فيه من أنه أهان كتاب الله وقد سمى الله سبحانه كتابهم مع علمه بتحريفهم وتغييرهم كتاب الله في قوله وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ فلو فرض أن بعضهم هذه الأمة المحفوظة الحافظة للكتاب والسنة حرفوا بعض القرآن وغيره فقال أحد الشاهدين لعن القرآن وقال آخر لعن قرآن المسلمين فلا نشك أنه كافر على أن الأحكام مبنية على الأكثر فتأمل وتدبر مع أن اليهود كلهم ما غيروا التوراة ولا بدلوها وإنما كان بعض علمائهم نقلوا عنها ما لم يثبت فيهما أو تصرفوا في معانيها دون مبانيها (وَلَوِ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَى لَعْنِ التَّوْرَاةِ مُجَرَّدًا) أي عن التعليق (لضاق التّأويل) الأولى لما احتمل التأويل والله ولي التوفيق (وَقَدِ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ عَلَى اسْتِتَابَةِ ابْنِ شنبوذ) بمعجمة مفتوحة ونون ساكنة كما صرح به الحلبي والتلمساني وقيل بفتحها فموحدة مضمومة وذال معجمة وهو غير منصرف للعجمة والعلمية كما جزم به الحلبي وأغرب التلمساني في قوله يجري ولا يجرى وهو اسم أعجمي وضبطه الدلجي بنون مشددة وفي القاموس محمد بن أحمد بن شنبوذ بفتح الشين المعجمة والنون مجاب الدعوة وعلي بن شنبوذ وكلاهما من القراء انتهى والمراد به هنا ما ذكره الحلبي وتبعه التلمساني من أنه أبو الحسن محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت بن شنبوذ (المقرىء أحد أئمة المقرئين المتصدّرين بها) أي ببغداد (مع ابن مجاهد) متعلق باتفق وهو إمام جليل في علم القراءة (بقراءته) أي ابن شنبوذ بنفسه (وإقرائه) أي لغيره (بشواذ من الحروف) أي من القراآت التي لم يثبت تواترها ومع هذا (ممّا ليس في المصحف) وهو أحد أركان القراءة والثاني موافقة العربية والثالث وهو الأصل المعتمد المدار عليه وهو نقل المتواتر قال التلمساني كان إماما دينا لا ينكر موضعه من العلم وكان فيه سلامة الصدر وممن يرى جواز القراءة بالاختيار مما يجوز في العربية وإن لم ينقل ذلك عن السلف وكان يقرؤبها في المحراب ويقربها بعض الأصحاب (وعقدوا) أي الفقهاء مع ابن مجاهد مجلسا بالحكم (عليه بالرّجوع عنه) أي عن فعله من القراءة والإقراء بالشواذ (والتّوبة منه) فيما بقي من عمره وهذا لا ينافي جواز رواية الشاذة فإن الفرق بين القراءة والرواية واضح عند أرباب الدراية (سجلّا) أي وسجلوا عليه (أشهد فيه بذلك على نفسه) بالرجوع عنه وبالتوبة منه (فِي مَجْلِسِ الْوَزِيرِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ)(2/549)
بضم الميم (سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة) قال ابن خلكان كان ابن شنبوذ من مشاهير القراء وأعيانهم قيل كان كثير اللحن قليل العلم تفرد بقراآت من الشواذ فأنكرت عليه وبلغ أمره الوزير محمد بن مقلة الكاتب فاعتقله بداره واستحضره هو والقاضي أبا الحسين عمر بن محمد وأبا بكر أحمد بن موسى بن مجاهد المقري وجماعة من أهل القراآت فأغلظ القول عليهم فأمر الوزير بضربه فضرب سبع درر فدعا على الوزير أن يقطع الله يده ويشتب شمله وكان الأمر كذلك ثم كتب محضر بما كان يقرؤه واستتيب أن لا يقرأ بمصحف أمير المؤمنين عثمان وكتب خطه في آخره وأطلق فخشي عليه من العامة فأخرج إلى المدائن ثم عاد إلى بغداد سرا ولم يزل بها إلى أن توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة (وكان فيمن أفتى عليه) مع فقهاء بغداد (بذلك) أي بالرجوع (أبو بكر الأبهريّ) المالكي وهو بفتح الهمزة وسكون الموحدة وفتح الهاء وقيل بفتحتين وسكون الهاء نسبة إلى بلد عظيم بين قزوين وزنجان وبليدة بنواحي أصفهان وجبل بالحجاز (وغيره) من العلماء المالكية أو غيرهم (وأفتى أبو محمّد بن أبي زيد) القيرواني (بالأدب فيمن قال لصبيّ) يتعلم القرآن (لعن الله معلّمك وما علّمك وقال) أي اللاعن (أردت سوء الأدب) أي في الأداء (ولم أرد القرآن) وفي التسامح عنه نظر إذ قوله وما علمك بعيد عن هذا التأويل بل ظاهر في طعن التنزيل فينبغي أن يستتاب إلا أن ثبت لحن فقيه الكتاب والله تعالى اعلم بالصواب (قال أبو محمّد) أي ابن أبي زيد (وأمّا من لعن المصحف) أي صريحا (فإنّه يقتل) أي إجماعا.
فصل [من سب آل بيته وأزواجه وأصحابه عليه الصلاة والسلام وتنقصهم حرام ملعون فاعله]
(وسبّ آل بيته) وفي نسخ آل النبي وفي نسخة أهل بيته أي أقاربه (وأزواجه وأصحابه صلى الله تعالى عليه وسلم وتنقّصهم حرام ملعون فاعله) أي مذموم وملام قائله.
(حَدَّثَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى) وهو الحافظ ابن سكرة (حدّثنا أبو الحسين الصّيرفيّ وأو الفضل العدل) وهو ابن خيرون (حدّثنا أبو يعلى) المعروف بابن زوج الحرة (حدّثنا أبو عليّ السّنجيّ) بكسر السين المروزي (حدّثنا ابن محبوب) هو أبو العباس المحبوبي راوي الجامع عن الترمذي وشارح القدوري على ما ذكره الأنطاكي (حدّثنا التّرمذيّ) هو الحافظ أبو عيسى صاحب الجامع (حدّثنا محمّد بن يحيى) الظاهر أنه الذهلي أبو عبد الله النيسابوري (حدّثنا يعقوب بن إبراهيم حدّثنا عبيدة) وفي نسخة بالتصغير (ابن أبي رائطة) بالهمزة قبل الطاء المهملة قال الحلبي هو بفتح العين وكسر الموحدة نص عليه غير واحد من الحافظ منهم ابن ماكولا في إكماله والذهبي وضبط في بعض النسخ بضم وهو خطأ انتهى وقال التلمساني في اصل المؤلف عبيدة بالتصغير وصوابه عبيدة بالفتح وبه ذكره الدارقطني وهو كوفي نزل البصرة يروي عن عاصم بن أبي النجود وغيره (عن عبد الرّحمن بن زياد) قال المزي في الأطراف يقال أنه أخو عبد الله بْنِ زِيَادٍ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ) بضم الميم(2/550)
وفتح الغين المعجمة وتشديد الفاء المفتوحة (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الله الله) بنصبهما وكرر للتأكيد أي اتقوه أو راعوه أو راقبوه أو احفظوا عهده أو احذروا عقابه (في أصحابي) أي من جهتهم (الله الله في اصحابي) وهذا تأكيد بعد تأكيد وضع الظاهر موضع الضمير للمبالغة في التحذير وكان الخطاب لمن بعدهم من القرون أو لبعضهم من المنافقين أو للعامة والمراد باصحابه الخاصة ما يشير إليه ياء الإضافة (لا تتّخذوهم غرضا) أي هدفا للعن أو الطعن (بعدي) أي في غيبتي أو بعد موتي (فمن أحبّهم فبحبّي) أي فبسبب محبته إياي (أحبّهم) وبسبب محبتي إياهم ويؤيد الأول قوله (ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم) ولا يخفى أن المرتد تبطل صحبته بردته ولو صحت توبته (ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله) أي خالفه فكأنه آذاه (ومن آذى الله يوشك أن يأخذه) أي يعاقبه في الدنيا أو العقبى (وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا تسبّوا أصحابي) المشتملين على أقاربي وأزواجي وأحبابي (فَمَنْ سَبَّهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أجمعين لا يقبل الله منه صرفا) أي توبة أو نافلة (ولا عدلا) أي فدية أو فريضة وقد روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ والناس أجمعين وروى أحمد والحاكم عن أم سلمة من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله تعالى (وقال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَإِنَّهُ يَجِيءُ قوم) وروي أقوام (فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَسُبُّونَ أَصْحَابِي فَلَا تُصَلُّوا عليهم) أن ماتوا للعبرة وهذا محمول على ما إذا قام بها البعض (ولا تصلّوا معهم) أن صلوا إماما فإنهم أهل بدعة (ولا تناكحوهم) أي ديانة (ولا تجالسوهم) أي من غير ضرورة (وإن مرضوا فلا تعودوهم) مبالغة في الإهانة والظاهر أن النهي في هذا الحديث للتنزيه (وعنه صلى الله تعالى عليه وسلم من سبّ أصحابي فاضربوه) روى الطبراني عن علي كرم الله تعالى وجهه من سب الأنبياء قتل ومن سب أصحابي جلد أي ضرب وهذا فرق حسن بين الأنبياء والصحابة وفي معناهم العلماء والأولياء وهو قول الجمهور وأما قتل من سب الصحابة كما قال به بعضهم فإنما يحمل على السياسة في الشريعة وسد باب الذريعة على ما بينته في رسالة مستقلة ولما كان فيها بعض الإطالة اختصرتها وسميتها السلالة (وقد أعلم النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ سَبَّهُمْ وَأَذَاهُمْ يُؤْذِيهِ وَأَذَى النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم حرام) بل كفر (فقال لا تؤذوني في أصحابي) أي لأجل اذاهم (ومن آذاهم فقد آذاني) أي فكأنه آذاني (وقال لا تؤذوني في عائشة) أي خصوصا فإنها أحب الزوجات وقال الأنطاكي قوله لا تؤذوني في عائشة الخطاب لأم سلمة وتمام الحديث فإن الوحي لم يأتيني وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة (وقال في فاطمة) لأنها أحب البنات (بضعة منّي) بفتح الموحدة وتكسر أي قطعة منفصلة مني (يؤذيني ما آذاها) وروى البخاري عن المسور فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني (وقد اختلف العلماء في هذا) أي ساب الصحابة (فمشهور مذهب مالك) رحمه الله الموافق للجمهور (في ذلك الاجتهاد) في إيقاع النكال لدفع الفساد (والأدب(2/551)
الموجع) لإصلاح العباد، (قال مالك رحمه الله تعالى من شتم النّبيّ) أي جنس الأنبياء (قتل ومن شتم أصحابه أدّب) أي جلد وضرب وقد تقدم الحديث بذلك (وقال) أي مالك (أَيْضًا مَنْ شَتَمَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ أَوْ مُعَاوِيَةَ أَوْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ) وسقط أو عليا من أصل الدلجي فقال ولم يذكر المصنف عليا لأن محبيه كثيرون انتهى ولا يخفى أن الكثرة إنما هي بالنسبة إلى معاوية وعمرو بن العاص لا بالإضافة إلى من قبله فقد اختلفت المبتدعة في حب علي كالروافض وبغضه كالخوارج (فإن قال) شاتمهم (كانوا) أي الصحابة كلهم (على ضلال وكفر) عطف تفسير (قتل) لتكذيبه القرآن فيما اثنى الله عليهم لقوله تعالى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وحديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وحديث لو أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مد أحدهم ولا نصيفه أي نصفه (وإن شتمهم) أي كلهم أو بعضهم (بغير هذا) الذي ذكر (من مشاتمة النّاس نكّل) بصيغة المجهول مشددا ومخففا أي ردع وزجر وعوقب (نَكَالًا شَدِيدًا، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مَنْ غَلَا) أي تجاوز عن الحد وتعدى (من الشّيعة) أو الخوارج (إلى بغض عثمان والبراءة منه) أي وإلى التبري من محبته (أدّب أدبا شديدا ومن زاد) أي إلى ذلك ما في نسخة أي ضم إليه (بُغْضِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَالْعُقُوبَةُ عَلَيْهِ أَشَدُّ) أي كمية وكيفية (ويكرّر ضربه) بقدر زيادة بغض صحبه عليه الصلاة والسلام وحزبه (ويطال سجنه) أي مدة حبسه (حتّى يموت ولا يبلغ به) أي فيه (الْقَتْلُ إِلَّا فِي سَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) وإلا في إنكار صحبة أبي بكر وكذا في صحة خلافته المجمع عليهما ولا عبرة بمخالفة الشيعة فيهما وكذا إذا قيل له قل رضي الله تعالى عنهم فأبى فإنه كالإنكار لما في القرآن (وَقَالَ سُحْنُونٌ مَنْ كَفَّرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا أَوْ عُثْمَانَ أَوْ غَيْرَهُمَا) كمعاوية وعمرو بن العاص (يوجع) بصيغة المجهول مخففا أو مشددا (ضربا) بالنصب على التمييز وإنما خص عليا وعثمان بالذكر لأن الخوارج قالوا بتكفيرهما بناء على قواعدهم الفاسدة وأصولهم الكاسدة ولم يختلفوا في تعظيم الشيخين للإجماع على خلافتهما وعدم ما يقتضي هتك حرمتهما فمن كفرهما كفر خلافا للروافض ولا عبرة بقولهم المناقض بل التحقيق أن أصل مذهب الشيعة ليس تكفيرهما بل ينسبونهما إلى المخالفة في أمر الخلافة بناء على أنهم يفضلون عليا عليهما وإنما اللعن والتكفير صدر من غلاتهم ولعل هذا معنى ما روي من أن سب الشيخين كفر المفهوم منه أن سب غيرهما ليس كذلك لتفاوت رتبتهما هنالك وأما معاوية واتباعه فيجوز نسبتهم إلى الخطأ والبغي والخروج والفساد وأما لعنهم فلا يجوز أصلا بخلاف يزيد وابن زياد وأمثالهما فإن بعض العلماء جوزوا لعنهما بل الإمام أحمد بن حنبل قال بكفر يزيد لكن جمهور أهل السنة لا يجوزون لعنه حيث لم يثبت كفره عندهم وعلى التنزل فلعله مات تائبا ولهذا قالوا لا يجوز لعن كافر بعينه إلا إذا ثبت كفره وقوله عليه بدليل قطعي من كتاب أو سنة كفرعون وأبي لهب وأبي جهل وأمثالهم والله تعالى أعلم وبما قررنا اندفع اعتراض(2/552)
الدلجي بأن هذا مخالف لما مر عن مالك أنه إذا قال كانوا أي الصحابة على ضلال وكفر قتل فإن المراد بهم إما جميعهم أو كابرهم (وَحَكَى أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ عَنْ سحنون فيمن قَالَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ إنّهم) أي كلهم (كانوا على ضلال وكفر قتل ومن شتم غيرهم) أي غير الخلفاء الأربعة (من الصّحابة) كمعاوية وغيره (بمثل هذا) القول (نُكِّلَ النَّكَالَ الشَّدِيدَ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مَنْ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ جُلِدَ وَمَنْ سَبَّ عَائِشَةَ) أي قذفها (قتل، قيل له) أي لمالك (لم) أي لأي شيء يقتل بسبها وقد قلت في أبيها يجلد من سبه وهو بالإجماع أفضل منها (قال) أي مالك (من رماها) أي قذفها (فقد خالف القرآن) النازل ببراءة ساحتها فعلم بهذا أنه لو شتمها أحد بغير القذف لم يجب قتله وهذا إذا سب أبا بكر مع اقراره بصحبته فإنه لو أنكرها لكفر لإنكاره القرآن على ما سبق به البيان وأما إذا قذف إحدى سائر الأزواج الطيبات فلا يكفر لعدم ورود براءتهن في الآيات (وقال ابن شعبان عنه) أي مالك (لأنّ الله يقول يَعِظُكُمُ اللَّهُ) أي تحذيرا من (أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [النور: 17] فمن عاد لمثله فقد كفر) وفيه إيماء إلى أن من قذفها قبل الوعظ لم يكفر وإنما حد حد القاذف.
(وحكى أبو الحسن الصّقلّيّ) بفتح أوله ويكسر وبسكون القاف قال الحلبي نسبة إلى صقلية جزيرة بالمغرب وقال الدلجي بفتح المهملة والقاف وقال التلمساني بكسر الصاد والقاف واللام مشددة وبفتح الصاد والقاف واللام مشددة (أنّ القاضي أبا بكر بن الطّيّب) أي الباقلاني المالكي إمام المتكلمين (قَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا ذَكَرَ فِي القرآن ما نسبه إليه المشركون) من الشريك والولد والصاحبة والبنات (سبّح نفسه لنفسه) وفي نسخة بنفسه (كقوله تعالى وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ [الْأَنْبِيَاءِ: 26] فِي آي كثيرة) كقوله تعالى وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وقوله وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ (وَذَكَرَ تَعَالَى مَا نَسَبَهُ الْمُنَافِقُونَ إِلَى عَائِشَةَ) فيه تغليب إذ الذي تولى كبره هو ابن أبي ابن سلول رئيس المنافقين وقد تبعه بعض المؤمنين كحسان ومسطح وحمنة وغيرهم (فَقَالَ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) المأفوك عليها (سُبْحانَكَ [النُّورِ: 16] سَبَّحَ نَفْسَهُ فِي تَبْرِئَتِهَا مِنَ السّوء) المنسوب إليها (كَمَا سَبَّحَ نَفْسَهُ فِي تَبْرِئَتِهِ مِنَ السُّوءِ) وما ذاك إلا لجلالة مقامها العلي في رفيع صحبة النبي (وهذا) القول من الباقلاني (يشهد لقول مالك) ولا أعرف أحدا يخالفه في ذلك (في قتل من سبّ عائشة) أي قذفها (ومعنى هذا) القول بقتل من قذفها (والله تعالى أعلم) جملة معترضة (أنّ الله لمّا عظّم سبّها) أي بالافتراء عليها المسمى بالإفك (كما عظّم سبّه تعالى) بالافتراء عليه حيث قال أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (وكان سبّها سبّا لنبيّه) فيه بحث لا يخفى على النبي لأن سبها ليس سبا لنبيه في حقيقة الكلام ولا يلزم من قذفها قذفه عليه الصلاة والسلام ولهذا لم يقتل من قذفها قبل نزول براءتها بل جعل قذفها حينئذ كقذف سائر أهل الإسلام في عموم الأحكام فالكفر الموجب للقتل إنما هو لمخالفة القرآن ولهذا(2/553)
اختصت عائشة الصديقة بهذا الإجلال في الطريقة وبهذا علم معنى بقية كلامه من قوله (وأذاه) أي وقرن أذى نبيه (بأذاه تعالى) أي في قوله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ (وَكَانَ حُكْمُ مُؤْذِيهِ تَعَالَى الْقَتْلَ كَانَ مُؤْذِي نبيّه كذلك كما قدّمناه) ولا يخفى أن ذلك لو أجري على حقيقته لكان سب كل أحد من أهل بيته كفرا موجبا للقتل هنالك والأمر على خلاف ذلك لانه لم يقصد بذلك اذاه صلى الله تعالى عليه وسلم وفرق بين أن يقع شيء أصالة وقصدا وبين أن يقع تبعية وضمنا في مقام التحقيق والله ولي التوفيق؛ (وشتم رجل عائشة) أي بغير القذف (بالكوفة فقدّم) أي فأحضر الشاتم (إِلَى مُوسَى بْنِ عِيسَى الْعَبَّاسِيِّ فَقَالَ مَنْ حضر هذا) المجلس أو هذا الرجل حين شتم قال التلمساني ويروى من خصم (فقال ابن أبي ليلى أنا) وهو أحد المجتهدين وقد تولى القضاء ولعل هذا هو الموجب للاكتفاء (فجلد) أي الشاتم (ثمانين وحلق رأسه) أي تعزيرا (وأسلمه) أي تركه وفي نسخة وسلمه (للحجّامين) يعذبونه بإخراج دمه لزيادة سياسة في أمره (وروي) كما في تاريخ الخطيب وابن عساكر (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ نَذَرَ قَطْعَ لسان عبيد الله) بالتصغير (ابن عمر إذ شتم المقداد) بكسر الميم (ابن الأسود) تبنيا فإن أباه غيره (فكلّم) بصيغة المجهول أي فشفع عمر (فِي ذَلِكَ فَقَالَ دَعُونِي أَقْطَعْ لِسَانَهُ حَتَّى لا يشتم أحد بعد) أي بعد ذلك (أصحاب النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) وحيث منعوه ولم يقروه حتى يفعل لا يكون إجماعا فلا يجوز قطع لسان من سب صحابيا وإنما أراد عمر تخويفه أو السياسة (وَرَوَى أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخطاب أتي بأعرابيّ يهجو الأنصار فقال) أي عمر (لولا أنّ له) أي للأعرابي (صحبة) أي سابقة له عليه الصلاة والسلام (لكفيتكموه) من شره بما يليق بأمره ورواه أيضا محمد بن قدامة المروزي في كتاب الخوارج عن أبي سعيد الخدري بسند رجاله ثقات ذكر الدلجي (وقال مَالِكٌ مَنِ انْتَقَصَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ذكر بعض معايبهم وغفل عن جملة مناقبهم ولم يعرف أنهم السابقون في الإيمان ولم يعمهم بالاستغفار والرضوان (فليس له في هذا الفيء) الذي يعم المسلمين (حقّ) أي حصة ونصيب لأنه (قَدْ قَسَمَ اللَّهُ الْفَيْءَ فِي ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ فقال لِلْفُقَراءِ) بدلا من لذي القربى وما بعده وأن البدل منه في حكم الطرح أو الشامل لهم ولغيرهم (الْمُهاجِرِينَ) إلى المدينة (الآية) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي في إيمانهم ومعرفتهم أو في تصحيح نية هجرتهم (ثم قال: وَالَّذِينَ) عطفا على الفقراء (تَبَوَّؤُا الدَّارَ) أي سكنوا المدينة واتخذوها دار الوطن والقرار (وَالْإِيمانَ) أي واختاروا واخلصوا (مِنْ قَبْلِهِمْ [الحشر: 8] أي قبل لهجرة أهل الإسلام إليهم (الآية) أي يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ولو كان بهم خصاصة أي ضرورة ومجاعة (وهؤلاء هم الأنصار ثمّ قال وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي(2/554)
من التابعين واتباعهم إلى يوم الدين (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ [الحشر: 10] ) من المهاجرين والأنصار خصوصا (الآية) أي وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا أي حقدا وحسدا لِلَّذِينَ آمَنُوا عموما رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ بالمؤمنين في الدنيا والاخرى (فَمَنْ تَنَقَّصَهُمْ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي فَيْءِ المسلمين) بل يخرج عن دائرة المؤمنين لحصرهم في الأصناف المذكورين؛ (وَفِي كِتَابِ ابْنِ شَعْبَانَ مَنْ قَالَ فِي واحد) وفي نسخة أحد (منهم) أي من الصحابة (إنّه ابن زانية وأمّه مسلمة) جملة حالية (حدّ عند بعض أصحابنا) المالكية (حدّين حدّا له وحدّا لأمّه) لعله أراد بالأول التعزير مبالغة في التحذير (ولا أجعله كقاذف الجماعة في كلمة) نحو يا أولاد الزواني ويا أبناء الزانيات لغيرهم حيث تتداخل الحدود جملة وذلك الفرق (لفضل هذا) الصحابي (على غيره ولقوله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن سبّ أصحابي فاجلدوه) أي فاضربوه كما في رواية تقدمت (قال) أي ابن شعبان (وَمَنْ قَذَفَ أُمَّ أَحَدِهِمْ وَهِيَ كَافِرَةٌ حُدَّ حدّ الفرية) أي الكذب (لأنّه) أي قذف أم أحدهم ولو كانت كافرة (سبّ له) أي لولدها الكريم فيستحق به التأديب الأليم (فَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ هَذَا الصَّحَابِيِّ) أي أولاده وأحفاده (حيّا) وأبوه ميتا (قام) مقامه (بما يجب له) من استيفاء الحد (وإلّا فمن قام من المسلمين) حسبة في أمر أمه (كان على الإمام) أو نائبه (قبول قيامه قال) أي ابن شعبان (وليس هذا) الحكم المذكور (كحقوق غير الصّحابة لحرمة هؤلاء) الصحابة (بنبيّهم صلى الله تعالى عليه وسلم) أحياء وأمواتا (ولو سمعه الإمام) أي السلطان أو نائبه (وأشهد عليه كان) أي الإمام (وليّ القيام به) أي بالحد (قال) أي ابن شعبان (وَمَنْ سَبَّ غَيْرَ عَائِشَةَ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بقذف احديهن (ففيها) أي ففي المسألة أو ففي حقها (قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا يُقْتَلُ لِأَنَّهُ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم لسبه حليلته) وفي نسخة بسبب سب حليلته وهي زوجته من الحلول وهو النزول لأنها تحل معه حيث حل أو هو يحل بها حيث حلت وقيل من الحلال وضد الحرام فيشمل السرية (والآخر أنّها) أي حليلته (كسائر الصّحابة) رجالهم ونسائهم (يجلد حدّ الفرية) وفي نسخة حد المفتري (قال) أي ابن شعبان (وبالأوّل) وهو القول بالقتل (أقول) وهذا بعيد عن الأصول فتأمل فإنه يلزم منه عدم الفرق بين عائشة المبرأة بالكتاب وبين غيرها والله تعالى أعلم بالصواب (وروى أبو مصعب عن مالك فيمن سبّ من انتسب إلى بيت النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) من جهة القرابة والنسب المعروف وفي بعض النسخ عن مالك من انتسب إلى بيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أي إلى أولاده وظهر أنه ليس منهم (يضرب ضربا وجيعا ويشعر) من الشهرة وهو الظهور ومعناه يطاف به في الأسواق (ويحبس طويلا) من الزمان (حتّى تظهر توبته) أي آثارها عند الأعيان (لأنّه استخفاف بحقّ الرّسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأفني أبو المطرّف الشّعبيّ فقيه مالقة) بفتح اللام والقاف وقال التلمساني فاعلة بلدة بالعدوة أعادها الله تعالى إلى الإسلام (في رجل أنكر تحليف امرأة) وجه عليها(2/555)
يمين وأريد تحليفها (باللّيل) لكونها مخدرة فامتنع الرجل عن تحليفها بِاللَّيْلِ (وَقَالَ لَوْ كَانَتْ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيق) أي فرضا وتقديرا (ما حلّفت) وفي نسخة بصيغة المجهول (إلّا بالنّهار وصوّب قوله بعض المتّسميين بالفقه) أي المتصفين به نظرا إلى أنه أراد المبالغة في النفي لا الإهانة كما ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم فيمن شفع لسارقه حيث قال له لو كانت فاطمة لقطعت يدها وذلك لأنه سبحانه وتعالى عمم الحكم بين الخاص والعام في قوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ولا تجوز الشفاعة في الحدود (فقال أبو المطرّف ذكر هذا) الكلام (لابنة أبي بكر في مثل هذا) المقام (يجب عليه) به (الضّرب الشّديد والسّجن الطّويل) أي الحبس المديد (والفقيه الّذي صوّر قوله هو أخصّ باسم الفسق من اسم الفقه فيتقدّم إليه في ذلك ويزجر) وفي نسخة ولا يؤخر (ولا تقبل فتواه ولا شهادته) وهذا من المجازفة في الكلام فإن غايته أنه أخطأ في فتواه والمجتهد قد يخطئ ولا يفسق ولا ترد شهادته بالإجماع (وهي) أي فتواه (جرحة) بضم الجيم أي طعنه (ثابتة فيه ويبغض في الله) أي لأجل رضاه وهذا كله نشأ من حظ نفس أبي المطرف ومتابعته هواه ومن عدم الإطلاع على الحديث الذي قدمناه (وقال أبو عمران) أي القابسي (فِي رَجُلٍ قَالَ لَوْ شَهِدَ عَلَيَّ أَبُو بكر الصّدّيق) حذف سببه وجوابه لظهورهما عنده (أنّه) أي الشأن (إن كان) أي القائل (أراد أنّ شهادته في مثل هذا الحكم) وفي نسخة في مثل ما أي حكم أو الحكم (لَا يَجُوزُ فِيهِ الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ فَلَا شَيْءَ عليه) وهو ظاهر كلامه ومرامه من المبالغة (وإن كان أراد غير هذا) المعنى الذي ذكر مما يقتضي إهانته فرضا (فيضرب ضربا) أي شديدا (يبلغ به) بصيغة المجهول أي يوصل بضربه (حدّ الموت) أو يبلغ هو بالضرب الموت وفي أصل الدلجي وذكروها أي مقالة أبي عمران رواية عن مالك أو غيره من أصحابه وهذا يرد على أبي المطرف في شدة جوابه (قال القاضي أبو الفضل) وهو المؤلف (هنا انتهى القول بنا فيما حرّرناه) أي قدمناه وقررناه (وانتجز) بالنون واليم والزاء أي تم وانقضى (الغرض الّذي انتحيناه) بالحاء المهملة أي قصدناه وملنا نحوه واعتمدناه (واستوفي) بصيغة المجهول أي استكمل (الشّرط الّذي شرطناه) فيما أوردناه من الأقسام الأربعة التي أردناها (ممّا أرجو أنّ يكون) وفي نسخة أن بتشديد النون أي الشأن (في كلّ قسم منه للمريد) أي لمن يريده (مقنع) يقنع به ويرضاه ويكتفي به عما سواه (وفي كلّ باب منهج) أي طريق واسع (إلى بغيته) بكسر أوله ويضم أي طلبته وحاجته (ومنزع) أي حجة لمن يحتج به في قضيته (وقد سفرت) بفتح الفاء للمتكلم أي كشفت وأوضحت (فيه عن نكت) جمع نكتة وهي حكمة دقيقة (تستغرب وتستبدع) أي تعد غريبا وبديعا عجيبا لقلة استعمالها ودقة أحوالها (وكرعت) أي وشربت شربا خاصا حيث تناولت من الحوض شربا بما حصل له من التوفيف (في مشارب من التّحقيق) أي التحرير بالتدقيق (لم يورد لها قبل) أي لم يذكر لها قبل ذلك (في أكثر التّصانيف مشرع) أي مورد به ينتفع (وأودعته) أي ضمنته (غير ما فصل) ما صلة(2/556)
للمبالغة في الكثرة والمعنى أودعته في فصول كثيرة وأغرب الأنطاكي في قوله أي غير فصل واحد وهذا الفصل هو الذي حكى القاضي المؤلف فيه ما وقع من الزنا دقة وأهل الأهواء الضالة الفصل الألفاظ البشيعة الشنيعة (وددت) بكسر الدال الأول أي أحببت وتمنيت (لَوْ وَجَدْتُ مَنْ بَسَطَ قَبْلِي الْكَلَامَ فِيهِ أو مقتدى) وفي نسخة أو مفيدا (يفيدنيه) أي يفيدني ذلك (عن كتابه أو فيه) أي عن فمه وهو تجنيس تام مع ما قبله أو تلفيق وهو المركب والمتشابه (لأكتفى بما أرويه) من الرواية أي أخبره (عمّا أروّيه) من التروية وهو تجنيس محرف وأغرب الانطاكي في قوله هو من رويت الحبل إذا غلظت قواه وهو كناية عن بسط الكلام فيه (وإلى الله تعالى) لا إلى غيره (جزيل الضّراعة) أي كثير الخضوع والخشوع والاستكانة (في المنّة) أي في طلبها أو قبولها (بقبول ما منه) أي بقبول شيء وقع من عنده لطفا (لوجهه) فضلا (والعفو) بالرفع (عمّا تخلّله) أي تداخل في خلاله مما يخل بكماله (من تزيّن) أي تكلف (وتصنّع لغيره) أي لغير وجهه سبحانه من رياء أو سمعة أو حظ نفس وشهوة (وأن يهب لنا ذلك) أي على تقدير تقصير هنالك (بجميل كرمه وعفوه لما أودعناه) أي لأجل ما أوردناه فيه وبيناه (من شرف مصطفاه وأمين وحيه وما) أي ولأجل ما (وأسهرنا به) أي بسببه (جفوننا) أي عيوننا (لتتبّع فضائله) ونشر شمائله (وأعملنا) أي اتعبنا وعالجنا (فيه خواطرنا) أي عقولنا وسرائرنا (من إبراز خصائصه) أي إظهارها (ووسائله) التي يتوسل بها إلى أغراضنا (و) أن (يحمي أعراضنا) أي أرواحنا وأشباحنا الموجدة (عن ناره الموقدة) التي تطلع على الأفئدة (لحمايتنا كريم عرضه عليه السلام) من الكلام المترتب عليه الملام (ويجعلنا) أي الله سبحانه وتعالى (ممّن لا يذاد) بضم أوله من الذود وهو الطرد أي ممن لا يدفع ولا يمنع (إذا ذيد) مجهول ذاد أي طرد (المبدّل) لدينه بعد موت نبيه (عن حوضه ويجعله) أي وأن يجعل هذا المؤلف وما يتبعه من المصنف (لنا) معشر المسلمين الحاضرين (ولمن تهمّم) أي اعتنى واهتم (باكتتابه واكتسابه) ولو بشرائه (سببا) أي وسيلة (يصلنا بأسبابه) التي لا انفصام لها في بابه (وذخيرة) أي نتيجة مدخرة محفوظة عنده سبحانه وتعالى (نجدها) حاضرة (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خير محضرا) ينفعها في يوم الجمع محضرا (نحوز) أي نظفر ونفوذ (بها رضاه وجزيل ثوابه) الذي هو لقاه (ويخصّنا بخصّيصى) بكسر الحاء وتشديد الصاد المكسورة وفي آخره ألف مقصورة قال التلمساني ويمد وهو خطأ مصدر بمعنى الخصوصية وقيل اسم مبالغة في التخصيص أي بمن هو من خواص (زمرة نبيّنا وجماعته ويحشرنا في) وفي نسخة مع (الرّعيل) أي الجمع (الأوّل) من أهل السعادة في الأزل وهم علماء أهل السنة والجماعة وقيل هم الزمرة الأولى التي تدخل الجنة بغير حساب فيكون قوله (وأهل الباب الأيمن) الذي هو الأحسن والأزين (من أهل شفاعته) من قبيل عطف التفسير فقد ورد في حديث الشفاعة أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ من الباب الأيمن من أبواب الجنة جعلنا الله منهم من كمال الفضل والمنة، (ونحمده تعالى) أي(2/557)
نثني عليه بما يوافي نعمه ويكافي كرمه (على ما هدى) أي دلنا (إليه من جمعه وألهم) من عزمه (وفتح البصيرة) الباطني (لدرك) بسكون الراء وفتحها أي لادراك (حقائق ما أودعناه وفهّم) دقائق ما بيناه وعيناه مما يتعلق بمصطفاه، (ونستعيذه) أي نعوذ به ونلوذ (جلّ اسمه) كمسماه (من دعاء لا يسمع) أي لا يقبل (وعلم لا ينفع) أي غير نافع صاحبه (وعمل لا يرفع) أي لا يصعد بل يرد على وجه كاسبه وورد زيادة ونفس لا تشبع ومن هؤلاء الأربع إجمالا بعد تفصيل إكمالا (فهو الجواد) بفتح الجيم وتخفيف الواو وقد ورد في الحديث غير أني جواد ماجد أي صاحب الجواد والعظمة في مقام الشهود (الّذي لا يخيّب) بفتح الياء وتضم وكسر الخاء المعجمة وفي نسخة بضم الياء الأولى وتشديد الثانية أي لا يضيع ولا يخسر (من أمّله) بتشديد الميم أي قصده ورجاه (ولا ينتصر) على عدوه (من خذله) أي ترك نصرته ومنع حرمته (ولا يردّ دعوة القاصدين) لقوله تعالى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ والحديث أن الله ليستحي أن يرد يد عبده صفرا إذا رفعها إليه (ولا يصلح عمل المفسدين) لأمر الدين (وهو حسبنا) أي كافينا في كل قليل وجليل (ونعم الوكيل) أي الموكول إليه والمعتمد عليه وهي كلمة قالها إبراهيم الخليل لما ألقي في النار ومحمد الجليل وصحبه الجميل لما قيل إن الناس قد جمعوا لكم وروي أنه من خشي عدوه فليقل حسبي الله ونعم الوكيل وقيل لما ألقى يوسف عليه السلام في الجب قال حسبي الله ونعم الوكيل فعذب ماؤها بعد ما كان مالحا فهو سبحانه وتعالى حسبنا ونعم الوكيل ربنا ونعم الشفيع نبينا ونسأل الله دوام العافية وتوفيق تمام الطاعة وحسن الخاتمة والحمد لله أولا وآخرا وباطنا وظاهرا على جميع ما أنعم من النعم ما علمت منها وما لم أعلم والصلاة والسلام على خاتم النبيين وسيد الأولين والآخرين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ربنا توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين وأدخلنا الجنة آمنين برحمتك يا أرحم الراحمين آمين فرغ مرلفه رحم هو وسلفه أواسط رمضان المبارك عام أحد عشر بعد الألف من الهجرة النبوية إلى المدينة السكينة وذلك بمكة المكرمة الأمينة وأنا الفقير إلى ربه الباري علي ابن سلطان محمد القاري الحنفي عاملهما الله بلطفه الخفي وكرمه الوفي ومن أحسن ما نظم في تحسين هذا الكتاب ما قاله بعض أولي الألباب من الأصحاب.
نظم
شفى داء النفوس لنا الشفاء ... أضاء النور منه والثناء
ونال محبه كل الأماني ... وزال به عن القلب الصداء
تلألأ نوره أبدا علينا ... ظلام الليل عاد لنا ضياء
جواهر نظمه درر وأبهى ... من الياقوت حقا لأمراء
حوى حكما وموعظة وحكما ... فصاحة من له شهدت ظباء
فصاحة خير رسل الله فيه ... ومدح الله فيه والثناء(2/558)
فصاحة منطق وبليغ لفظ ... وحكمة حاكم وله العطاء
وأخبار به تتلى علينا ... كلام جامع فيه الهداء
فمذ حل الشفاء بنا شفينا ... وزال البؤس عنا والشقاء
أثاب الله جامعه عياضا ... جنان الخلد فيه له الجزاء
وزاد محبه شرفا وفضلا ... وبلغه المهيمن ما يشاء
وصلى الله على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
يقول العبد الفقير إلى آلاء ربه القوي الحاج أحمد طاهر القنوي مصحح الكتب الدينية بالمطبعة العثمانية
الحمد لله الذي نور الخافقين ببعثة سيد المرسلين وأنزل عليه الكتاب هدى ورحمة للمتقين وأيده من عنده بالوحي والروح الأمين والصلاة والسلام على من أقام قوائم الشريعة الغراء فقوى وشيد قواعدها وأسس بنيانها على التقوى وعلى آله وأصحابه الذين حفظوا سنته وسلكوا سبيله ومن بعدهم من إجلاء أمته الذين اتخذوه وسيلة (أما بعد) فلما من الله بلطفه على من شاء من عباده بتحرير مناقب خير خلقه ويسر عليه الطرق لإبراز شريف شمائله وجليل خلقه بادر إلى أداء مواجب حقه تواقيرا له وتعظيما وشمر عن ساق الجد توفية بوجائب ما هو بصدده تشريفا لقدره العلي وتكريما ومن أجل من وفقه الله لخدمة هذه الوظيفة النجيبة فأقامها بلا إعراض الإمام الكبير الأجل المعروف بالقاضي عياض سقاه الله من زلال الحياض وأسكنه في غرف الرياض حيث شرح صدره وشفي لتأليف كتاب كافل لهذه المهمة فسماه شفا وقد اعتنى كثير من العلماء الجهابذة بشرحه مختصرا أو مفصلا مطولا ومجملا فمن شروحه شرح الفاضل علي القاري رحمه الله وهو مع صغر حجمه كثير نفعه يسير ضبطه إلا أن النسخ المتداولة مملوءة بالغلظ المردود فلذلك صرفنا نحن فلله الحمد في تصحيحه ما هو المجهود والتزمنا تصحيحه من نسخ عديدة ليتم المقصود فجاء بحمد الله تعالى مطبوعا مهذبا سالما عن الخطأ المستبين بحيث يعجب الناظر المطالع في كل وقت وحين وهذا أيضا من جملة ما وفقنا الله بلطفه لتصحيح أمثاله من الكتاب كما وفقنا قبل لتصحيح شرح الفاضل أحمد شهاب فنسأله جل اسمه أن يوفقنا لتصحيح أمثاله من الكتب الدينية ويجعل سعينا هذا مقبولا لدى الحضرة النبوية وقد تصادف ختام طبعه بالمطبعة العثمانية الكائنة في دار الخلافة العثمانية في اليوم السابع والعشرين من الربيع الآخر سنة تسع عشرة وثلاثمائة وألف.(2/559)
فهرس محتويات الجزء الثاني من شرح الشفا(2/561)
فهرس المحتويات الْقِسْمُ الثَّانِي فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْأَنَامِ مِنْ حقوقه عليه الصلاة والسلام 3
الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي فَرْضِ الْإِيمَانِ بِهِ وَوُجُوبِ طاعته واتّباع سنّته 5
فصل وَأَمَّا وُجُوبُ طَاعَتِهِ فَإِذَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وتصديقه فيما جاء به 12
فصل وَأَمَّا وُجُوبُ اتِّبَاعِهِ وَامْتِثَالُ سُنَّتِهِ وَالِاقْتِدَاءُ بِهَدْيِهِ 16
فصل وأما وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنِ اتِّبَاعِ سُنَّتِهِ 24
فصل وَمُخَالَفَةُ أَمْرِهِ وَتَبْدِيلُ سُنَّتِهِ ضَلَالٌ وَبِدْعَةٌ مُتَوَعَّدٌ من الله تعالى عليه بالخذلان والعذاب 31
الباب الثاني في لزوم محبته عليه الصلاة والسلام 35
فصل في ثواب محبته صلى الله تعالى عليه وسلم 38
فصل فِيمَا رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ مَحَبَّتِهِمْ للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم 40
فصل في علامات محبته صلى الله تعالى عليه وسلم 45
فصل في معنى المحبة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وحقيقتها 54
فصل في وجوب مناصحته صلى الله تعالى عليه وسلم 58
الْبَابُ الثَّالِثُ فِي تَعْظِيمِ أَمْرِهِ وَوُجُوبِ تَوْقِيرِهِ وبره 63
فصل في عادة الصحابة في تعظيمه عليه الصلاة والسلام وتوقيره وإجلاله 68
فصل واعلم أن حرمة النبي بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم 71
فصل فِي سِيرَةِ السَّلَفِ فِي تَعْظِيمِ رِوَايَةِ حَدِيثِ رسول الله وسنته عليه الصلاة والسلام 75
فصل ومن توقيره صلى الله تعالى عليه وسلم وبره بر آله 81
فصل ومن توقيره وبره توقير أصحابه عليه الصلاة والسلام 89
فصل ومن إعظامه وإكباره إعظام جميع أسبابه 98(2/563)
الباب الرابع في حكم الصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم والتسليم 105
فصل اعلم أن الصلاة على النبي فرض في الجملة 107
فصل في المواطن التي تستحب فيها الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ويرغب فيها 112
فصل في كيفية الصلاة عليه والتسليم 121
فصل فِي فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ والدعاء له عليه الصلاة والسلام 135
فصل فِي ذَمِّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم وإثمه 140
فصل في تخصيصه عليه الصلاة والسلام بتبليغ صلاة من صلى عليه صلاة أو سلم من الأنام 142
فصل فِي الِاخْتِلَافِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ وسائر الأنبياء عليهم السلام 145
فصل في حكم زيارة قبره عليه الصلاة والسلام وَفَضِيلَةِ مَنْ زَارَهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَكَيْفَ يُسَلِّمُ ويدعو إلى آخره 149
فصل فِيمَا يَلْزَمُ مَنْ دَخَلَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَدَبِ سِوَى مَا قَدَّمْنَاهُ 158
الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِيمَا يَجِبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم وما يستحيل في حقه وما يمتنع 171
الْبَابُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالْكَلَامُ في عصمة نبينا وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين 175
فصل فِي حُكْمِ عَقْدِ قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم 175
فصل وَأَمَّا عِصْمَتُهُمْ مِنْ هَذَا الْفَنِّ قَبْلَ النُّبُوَّةِ فللناس فيه خلاف 200
فصل قال القاضي أبو الفضل قد بان مما قدمناه عقود الأنبياء في التوحيد والإيمان 210
فصل وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى عِصْمَةِ النَّبِيِّ من الشيطان إلى آخره 214
فصل وأما قوله صلى الله تعالى عليه وسلم فقامت الدلائل إلى آخره 223
فصل وقد توجهت ههنا لبعض الطاعنين سؤالات 225
فصل هذا القول فيما طريقه البلاغ 243(2/564)
فصل فإن قلت فما معنى قوله عليه الصلاة والسلام في حديث السهو الذي حدثنا أبو إسحق بن جعفر 247
فصل وأما ما يتعلق بالجوارح من الأعمال 257
فصل وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْمَعَاصِي قَبْلَ النبوة 264
فصل هَذَا حُكْمُ مَا تَكُونُ الْمُخَالَفَةُ فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ عَنْ قَصْدٍ وَهُوَ مَا يُسَمَّى مَعْصِيَةً ويدخل تحت التكليف 267
فصل في الكلام على الأحاديث المذكورة فيها السهو إلى آخره 271
فصل فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَجَازَ عَلَيْهِمُ الصَّغَائِرَ الخ 279
فصل فَإِنْ قُلْتَ فَإِذَا نَفَيْتَ عَنْهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهم الذنوب والمعاصي 306
فصل قد استبان لك أيها الناظر بما قررناه ما هو الحق من عصمته عليه السلام 313
فصل فِي الْقَوْلِ فِي عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ إلى آخره 316
الْبَابُ الثَّانِي فِيمَا يَخُصُّهُمْ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ 326
فصل فَإِنْ قُلْتَ فَقَدْ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سحر 332
فصل هذا حاله عليه الصلاة والسلام في جسمه 336
فصل وَأَمَّا مَا يَعْتَقِدُهُ فِي أُمُورِ أَحْكَامِ الْبَشَرِ إلى آخره 340
فصل وَأَمَّا أَقْوَالُهُ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنْ أَخْبَارِهِ عَنْ أَحْوَالِهِ 343
فصل فإن قلت قد تقررت عصمته عليه الصلاة والسلام إلى آخره 351
فصل فإن قيل فما وجه حديثه الذي حدثناه الفقيه أبو محمد الخشني إلى آخره 357
فصل وأما أفعاله الدنيوية صلى الله تعالى عليه وسلم 365
فصل فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي إِجْرَاءِ الْأَمْرَاضِ وشدتها عليه عليه الصلاة والسلام 373
الْقِسْمُ الرَّابِعُ فِي تَصَرُّفِ وُجُوهِ الْأَحْكَامِ فِيمَنْ تنقصه أو سبه عليه الصلاة والسلام 385
الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ مَا هُوَ فِي حقه عليه الصلاة والسلام سب أو نقص 391
فصل فِي الْحُجَّةِ فِي إِيجَابِ قَتْلِ مَنْ سَبَّهُ أو عابه عليه الصلاة والسلام 400
فصل فإن قلت فلم لم يقتل النبي عليه الصلاة والسلام اليهودي الذي قال له 412
فصل قَالَ الْقَاضِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي قَتْلِ الْقَاصِدِ لسبه إلى آخره 425(2/565)
فصل الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى تَكْذِيبِهِ فِيمَا قاله إلى آخره 429
فصل الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنْ يَأْتِيَ مِنَ الْكَلَامِ بِمُجْمَلٍ 432
فصل الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنْ لَا يَقْصِدَ نَقْصًا وَلَا يذكر عيبا ولا سبا لكنه ينزع إلى آخره 437
فصل الْوَجْهُ السَّادِسُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ ذَلِكَ حَاكِيًا عن غيره وآثرا عن سواه 450
فصل الْوَجْهُ السَّابِعُ أَنْ يَذْكُرَ مَا يَجُوزُ عَلَى النبي أو يختلف في جوازه عليه 457
فصل وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ فِيمَا يَجُوزُ عَلَى النبي عليه الصلاة والسلام وما لا يجوز 465
الْبَابُ الثَّانِي فِي حُكْمِ سَابِّهِ وَشَانِئِهِ وَمُتَنَقِّصِهِ ومؤذيه 469
فصل إذا قلنا بالاستتابة حيث تصح منه 474
فصل هذا حكم من ثبت عليه ذلك 478
فصل هذا حكم المسلم 480
فصل في ميراث من قتل بسب النبي عليه الصلاة والسلام وغسله والصلاة عليه 486
الْبَابُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تعالى وملائكته إلى آخره 489
فصل وَأَمَّا مَنْ أَضَافَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ السَّبِّ 491
فصل فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي إِكْفَارِ الْمُتَأَوِّلِينَ قَدْ ذكرنا مذاهب السلف وإكفار أصحاب البدع والأهواء 497
فصل فِي بَيَانِ مَا هُوَ مِنَ الْمَقَالَاتِ كُفْرٌ وَمَا يُتَوَقَّفُ أَوْ يُخْتَلَفُ فِيهِ وَمَا لَيْسَ بكفر 507
فصل هَذَا حُكْمُ الْمُسْلِمِ السَّابِّ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا الذمي الخ 531
فصل هَذَا حُكْمُ مَنْ صَرَّحَ بِسَبِّهِ وَإِضَافَةِ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ فَأَمَّا مُفْتَرِي الْكَذِبِ الخ 532
فصل وأما من تكلم من سقط القول الخ 536
فصل وَحُكْمُ مَنْ سَبَّ سَائِرَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وملائكته واستخف بهم إلى آخره 541
فصل وَاعْلَمْ أَنَّ مَنِ اسْتَخَفَّ بِالْقُرْآنِ أَوِ الْمُصْحَفِ إلى آخره 545
فصل من سب آل بيته وأزواجه وأصحابه عليه الصلاة والسلام وتنقصهم حرام ملعون فاعله 550(2/566)