الآخرى (حتّى سدّت الخافقين) بتشديد الدال المهملة أي طرفي السماء والأرض أو أفقي المشرق والمغرب (ولو شئت) أي من كمال رفعتي (لمسست السّماء) بكسر السين الأولى وتفتح وقد تحذف كما في نسخة (وأنا أقلّب طرفي) بتشديد اللام والطرف بسكون الراء بمعنى النظر والجملة حالية أي والحال أني أردد بصري تبعا لبصيرة قلبي في آيات ربي في الآفاق وفي الأنفس (ونظرت جبريل) أي رأيت كما في نسخة أي وأبصرته نازلا عني وبعيدا مني (كأنّه حلس) بكسر وسكون وفي نسخة بفتحهما أي كساء رقيق يلي ظهر البعير تحت قتبه شبه به لرؤيته له (لاطئا) بكسر مهملة فهمزة أي لاصقا بما لطئ به من هيبة الله تعالى وشدة الخشية من كمال عظمته كذا قرره الدلجي بناء على نصب لاطئا في أصله لكنه مخالف للأصول المصححة لأنه مرفوع على أنه نعت لقوله حلس ومنه حديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه كن حلس بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية أمره بلزوم بيته هذا وقد روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال مررت ليلة أسري بي وجبريل بالملأ الأعلى ساقط كالحلس البالي من خشية الله تعالى (فعرفت فضل علمه بالله سبحانه عليّ) لأنه إنما يخشى الله من عباده العلماء ولأن من يكون أعلم يكون أخشى واتقى وهذا من باب تواضعه صلى الله تعالى عليه وسلم وتعليم لأمته واتباعه وتنبيه نبيه على أن أفضل الملائكة إذا كان يخشى هذه الخشية مع ظهور العصمة فغيره أولى بأن يكون على تلك الحالة مع احتمال وجود السيئة وتحقق الغفلة (وفتح لي باب السّماء) بصيغة المفعول (ورأيت) وفي نسخة ونظرت (النّور الأعظم) أي نور الحضرة الإلهية ذكره الدلجي والله تعالى أعلم (ولطّ) بضم لام وتشديد طاء مهملة أي أرخى وفي نسخة وإذا أدنى بإذا المفاجأة أي قرب ودنا (دوني الحجاب) أي ستر باب الجناب لأن رب الأرباب منزه عن أن يدخل تحت الحجاب أو يخرج من تحت النقاب (وفرجه) بالنصب وهو بضم الفاء وسكون الراء أي ومركوز في شقه (الدّرّ والياقوت) ويروى فوقه الدر والياقوت والظاهر أنه تصحيف وضبط في حاشية التلمساني وغيره بضم الفاء وفتح الراء جمع فرجة وهو الأظهر فتدبر (ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا شَاءَ أَنْ يوحي) أي إلي كما في نسخة صحيحة. (وَذَكَرَ الْبَزَّارُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله تعالى عنه) وفي نسخة بخط مغلطاي البراء بفتح موحدة وخفة راء والصواب هو الأول وهو بموحدة فزاي مشدة فألف نسبة إلى عمل بزر الكتان زيتا بلغة البغداديين وهو الحافظ العلامة أبو بكر أحمد بن عمر بن عبد الخالق البصري صاحب المسند الكبير المعلل سمع عبد الأعلى بن حماد والحسن بن علي بن راشد وطائفة وعنه أبو الشيخ والطبراني وجماعة فإنه ارتحل في آخر عمره إلى أصبهان وإلى الشام وإلى النواحي ينشر علمه ذكره الدارقطني وأثنى عليه وقال ثقة يخطىء ويتكل على حفظه مات بالرملة سنة اثنتين وتسعين ومائتين (لمّا أراد الله تعالى أن يعلّم) بتشديد اللام أي يعلمه ويلهمه (رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم الأذان) أي ما يختار للإعلام بدخول أوقات الصلوات (جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِدَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا الْبُرَاقُ(1/404)
فذهب يركبها) أي شرع وأراد أن يَرْكَبُهَا (فَاسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهَا جِبْرِيلُ اسْكُنِي فو الله مَا رَكِبَكِ عَبْدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم فركبها حتّى أتى بها) أي انتهى بها (إلى الحجاب الذي يلي الرّحمن تعالى) أي عرشه سبحانه وتعالى (فبينا هو) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (كذلك) أي بالوصف الذي هنالك (إذ خرج ملك) أي فاجأه خروجه (مِنَ الْحِجَابِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم يا جبريل من هذا) أي من الملائكة (قال) أي جبريل (وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَأَقْرَبُ الْخَلْقِ مَكَانًا) أي في السماء أو من الحجاب لا من رب الأرباب لأنه منزه عن المكان والزمان وسائر سمات الحدثان (وَإِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا رَأَيْتُهُ مُنْذُ خُلِقْتُ قبل ساعتي هذه) يعني فهو داخل تحت قوله سبحانه وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ وقوله تعالى وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (فَقَالَ الْمَلَكُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ فَقِيلَ له) أي جوابا عن مقوله (مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَكْبَرُ أنا أكبر) هذا يحتمل أنه أمر ملكا أن يقوله عن أمر ربه كعكسه حين حكى الله عن الملائكة في قوله وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ (ثُمَّ قَالَ الْمَلَكُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقِيلَ لَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أنا) ووقع في أصل الدلجي أنه لا إله إلا أنا وهو مخالف للنسخ المعتمدة (وذكر) أي الراوي (مثل هذا) أي الذي ذكر قولا وجوابا (فِي بَقِيَّةِ الْأَذَانِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ) فقيل له من وراء الحجاب (جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ على الفلاح وقال) أي الراوي (ثمّ أخذ الملك) أي المؤذن (بيد محمّد فقدّمه) أي في المقام الأتم (فأمّ أهل السّماء) أي من الملائكة والأنبياء (فيهم آدم) أبو البشر الأكبر (ونوح) ابو البشر الأصغر ولعل هذا وجه تخصيصهما فتدبر وأما ما وقع في أصل الدلجي من قول آدم وإبراهيم ثم قوله وخصا بالذكر لأنهما أبا الأنبياء فهو مخالف للأصول المعتبرة. (قال أبو جعفر) أي الصادق وهو الباقر (محمّد بن عليّ بن الحسين) أي ابن علي بن أبي طالب وهو زين العابدين رضي الله تعالى عنهم ويسمى سلسلة الذهب (راويه) أي راوي هذا الحديث الذي ذكره البزار في مسنده حيث قال حدثنا محمد بن عثمان بن مخلد حدثنا أبي عن زياد بن المنذر عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أبيه عن جده علي بن أبي طالب قال لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُعَلِّمَ رَسُولَهُ الأذان فذكره وفي سنده زياد بن المنذر وهو كذاب وقد أخرج له الترمذي وقد مال السهيلي في روضه إلى صحته لما يعضده ويشاكله من أحاديث الإسراء والله تعالى أعلم وقد تصحف في أصل الدلجي فوقع رواية بالمصدر بدل راويه (أكمل الله تعالى) أي أكمل وأتم (لمحمّد صلى الله تعالى عليه وسلم الشّرف) أي السيادة الأعم (على أهل السّموات وَالْأَرْضِ قَالَ الْقَاضِي وَفَّقَهُ اللَّهُ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ ذِكْرِ الْحِجَابِ فَهُوَ فِي حقّ المخلوق) أي مقصور من جميع الأبواب إذ الحجاب لغة المنع والستر وحقيقته للاجرام المحدودة إلا أنه قد يطلق مجازا ويقصد به التمثيل لما يفهم من مجرد المنع من رؤيته تعالى بالمشاهدة ليتصور السامع حتى يكون مستحضرا كأنه ينظر إليه متيقنا له متبصرا وأما المعنى الحقيقي فهو منحصر فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ(1/405)
(لا في حقّ الخالق) لأنه منزه عن ذلك (فهم المحجوبون) أي حسا ومعنى (والبارئ) أي الخالق البريء عن مشابهة المخلوقين (جلّ اسمه) أي وعز مسماه (منزّه عمّا يحجبه) أي يستره عن خلقه ويجعله محجوبا في حقه (إذ الحجب) بضمتين جمع حجاب (إنّما تحيط بمقدّر) أي محدود (محسوس) أي داخل تحت نطاق حاسة البصر (ولكن حجبه) بضمتين جمع حجاب وبفتح فسكون مصدر أي قد يكون حجابه (على أبصار خلقه) بفتح الهمزة أي أعينهم الظاهرة (وبصائرهم) أي أعينهم الباطنة (وإدراكاتهم) عطف تفسير (بما شاء) أي من أنواع الحجاب وفي الحديث حجابه النور أي لكماله في الظهور (وكيف شاء) أي في هذا الباب (ومتى شاء) أي من أوقات تعلق الحجاب (كقوله) أي في الكتاب (كَلَّا إِنَّهُمْ) أي الكفار (عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] ) أي لممنوعون عن رؤيتنا وشهود قدرتنا بخلاف المؤمنين فإنهم في عين عنايتنا وزين رعايتنا وحمايتنا عن عين الأغيار ورين الأوزار (فقوله في هذا الحديث الحجاب) يجوز جره على الحكاية ورفعه على الإعراب في قوله عليه الصلاة والسلام (وَإِذْ خَرَجَ مَلَكٌ مِنَ الْحِجَابِ يَجِبُ أَنْ يقال إنّه حجاب حجب به من ورائه) أي بحسب ظاهره (من ملائكته عن الاطّلاع) بتشديد الطاء (على ما دونه) أي بحسب باطنه (من سلطانه وعظمته وعجائب ملكوته وجبروته) وقد سبق أن الملكوت هو الملك العظيم والجبروت كمال العظمة بناء على أن بناء الفعلوت للمبالغة وما أحسن قول ابن عطاء في كشف هذا الغطاء مما يدلك على وجود قهره سبحانه وتعالى أن حجبك عنه بما ليس بموجود معه وقد انشدوا في هذا المعنى واطنبوا في هذا المبنى:
من أبصر الخلق كالسراب ... فقد ترقى عن الحجاب
إلى وجود يراه رتقا ... بلا ابتعاد ولا اقتراب
ولم يشاهد به سواه ... هناك يهدي إلى الصواب
فلا خطاب به إليه ... ولا مشير إلى الخطاب
(ويدلّ عليه) ما ذكرناه (من الحديث) أي من بعض ما في نفس الْحَدِيثِ (قَوْلُ جِبْرِيلَ عَنِ الْمَلَكِ الَّذِي خَرَجَ مِنْ وَرَائِهِ إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا رَأَيْتُهُ مُنْذُ خُلِقْتُ قَبْلَ سَاعَتِي هَذِهِ فَدَلَّ عَلَى أنّ هذا الحجاب) أي تعلقه (لم يختصّ بالذّات) بل اختص بالمخلوقات نعم الذات محتجبة بالصفات والصفات محتجبة بالموجودات لا بمعنى أن ذلك الجناب يحجب بالحجاب بل بمعنى إن أكثر الكائنات احتجبوا بوجود الخلق عن شهود صفات الحق وبشهودها عن الموجود المطلق ثم منهم من حجب عن الله تعالى بالشهوات الدنيوية والدرجات الأخروية أو المقامات العلية ومنه قولهم العلم حجاب في هذا الباب وكل ذلك من الأغيار العدمية والوجودات الوهمية ولو ارتفع الحجاب عنهم لفنوا عن أنفسهم وإرادتهم وبقوا بربهم فإن الفناء على ثلاثة أوجه فناء في الأفعال ومنه قولهم لا فاعل إلا الله تعالى وفناء في الصفات(1/406)
ومنه لا حي ولا عالم ولا قادر ولا مريد ولا سميع ولا بصير ولا متكلم على الحقيقة إلا الله تعالى وفناء في الذات أي لا موجود على الإطلاق إلا الله وأنشدوا في هذا المبنى لتصحيح المعنى:
فيفنى ثم يفنى ثم يفنى ... فكان فناؤه عين البقاء
(ويدلّ عليه) أي على ما ذكرنا من تعلق الحجاب بالكائنات دون الذات (قول كعب) أي كعب الأحبار (في تفسير سدرة المنتهى) أي في بيان سبب تسميتها بها (قال إليها ينتهي علم الملائكة و) يعني وسببه (أنهم عندها يجدون أمر الله تعالى) أي لا عند غيره (لا يجاوزها علمهم) أي فهم محجوبون عما وراءها (وَأَمَّا قَوْلُهُ الَّذِي يَلِي الرَّحْمَنَ فَيُحْمَلُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ يَلِي عَرْشَ الرَّحْمَنِ أَوْ أمرا مّا) كذا بالنصب في النسخ والظاهر كونه مجرورا أو مرفوعا ولعله أراد أن أي بمعنى يعني أو أعني أمرا من الأمور اللائقة بمرام هذا المقام وذهب الدلجي إلى أن التقدير يلي أمرا ما (من عظيم آياته أو مبادىء حقائق معارفه) أي المتعلقة بذاته وصفاته (ممّا هو أعلم به) أي من أسرار مكنوناته (كما قال تعالى) أي في استعمال حذف المضاف (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] أي أهلها) يعني أنه من قبيل مجاز الحذف وهو أشهر مما قيل إنه من باب ذكر المحل وإرادة الحال والله تعالى أعلم بالحال (وَقَوْلُهُ فَقِيلَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ صَدَقَ عَبْدِي أنا أكبر) كما تقدم (فظاهره أنّه سمع) بصيغة المجهول وقال الدلجي أي سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (في هذا الموطن كلام الله تعالى ولكن مِنْ وَراءِ حِجابٍ قلت فيأول الإشكال في هذا الباب مع ما فيه من سماع كلامه من جهة محصورة بوهم الحجاب ولهذا دفعه بقوله (كما قال تَعَالَى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الشُّورَى: 51] ) فإن المراد بالوحي على طريق المكاشفة لأن الوحي إعلام في خفاء إما بالإلهام وهو القذف في القلب كما أوحي إلى أم موسى عليه السلام أو في المنام كما أوحي إلى إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده وبقوله مِنْ وَراءِ حِجابٍ أن يكون البشر من وراء حجاب البشرية المانعة من شهود وجود الذات الصمدية بأن يسمعه ولا يراه كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام وليس المراد أن هناك حجابا يفصل موضعا عن موضع أو يدل على تحديد المحجوب وإنما هو بمنزلة ما يسمع من وراء الحجاب حيث لم ير المتكلم في هذا الباب والله تعالى أعلم بالصواب ولذا قال المصنف (أي وهو) أي البشر (لا يراه) أي الحق سبحانه وتعالى (حجب بصره) أي منعه (عن رؤيته) أي لا ذاته عن بصره، (فَإِنْ صَحَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم رأى ربّه) أي بعين البصر (فيحتمل أنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رآه (في غير هذا الموطن بعد هذا) أي هذا الوقت (أو قبله) أي من الزمان بمعنى أنه (رفع الحجاب عن بصره حتّى رآه) وفي أصل الدلجي فرآه (والله أعلم) أقول ولا مانع من أنه رآه في ذلك الحين بعينه إذ لا يختص برفع(1/407)
الحجاب وكشف النقاب مكان دون مكان ولا زمان دون زمان لإرادة العيان كما لا يخفى على الأعيان ولابن عطاء حكم توجب في الجملة كشف غطاء فأحببت أن أذكرها وهي قوله. كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي أظهر كل شيء أم كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو أظهر من كل شيء بل وهو الظاهر قبل وجود كل شيء وهو الواحد الذي ليس معه شيء فالحق ليس بمحجوب وإنما المحجوب أنت عن النظر إليه إذ لو حجبه شيء لستره ما يحجبه ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر وكل حاصر لشيء فهو له قاهر وهو القاهر فوق عباده انتهى وإذا قال الله تعالى لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً كيف يحيطون به جرما وإني للعدم حتى يغلب القدم نعم أن لله سبحانه وتعالى سبعين ألف حجاب من النور في عالم الظهور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليها نور بصره وقد قال الله تعالى كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أي باطل ومضمحل وفان في نظر أرباب العرفان في كل آن وزمان ولذا قال بعض أرباب الشهود سوى الله والله ما في الوجود وقال بعض الشطار ليس في الدار غيره ديار فهو من غاية ظهوره باطن ومن نهاية بطونه ظاهر وفي عين أبديته أول وفي عين أزليته آخر وغيره كالهباء في الهواء والسراب في نظر مشتاق الشراب وإلا فما للتراب ورب الأرباب والله تعالى أعلم بالصواب.
فصل [ثم اختلف السلف والعلماء هل كان إسراء بروحه أو جسده]
أي من متعلقات هذا الباب (ثمّ اختلف السّلف) أي الصحابة والتابعون (والعلماء) أي الخلف المجتهدون (هل كان) أي وقع (الإسراء بروحه) أي فقط (أو جسده) أي مع روحه في جميع اسرائه أو في بعضه كما سيأتي في كلامه ويندرج فيه أيضا قول آخر لبعضهم أنه أسري به مرتين مرة مناما ومرة يقظة جمعا بين الروايتين وكذا قول التوقف بأن يقال اسري به ولا يقال يقظة ولا مناما وهو قول غريب حكاه الإمام الجوزية في أوائل كتابه الهدى ولعل وجهه أنه ورد في بعض طرق الخبر أنه كان بين النائم واليقظان فلم يعرف حقيقة أمره ولذا عبر بعضهم عنه بالنوم وبعضهم باليقظة اعتبارا بالغلبة وكأن المصنف لم يلتفت إلى هذه المقالة فينتظم قوله (على ثلاث مقالات) أي لطوائف ثلاث كما فصلها بقوله (فذهبت طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ إِسْرَاءٌ بِالرُّوحِ وَأَنَّهُ رُؤْيَا منام) بدل مما قبله أو عطف تفسير له إذ هو في هذا المقام إنما يكون في حال المنام (مع اتّفاقهم أنّ رؤيا الأنبياء حقّ) أي ثابت غير كذب (ووحي) أي يعمل به بخلاف رؤيا غيرهم ويدل عليه قوله تعالى حكاية يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ وحديث تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم (وإلى هذا ذهب معاوية رضي الله تعالى عنه) أي من الصحابة كما رواه ابن إسحاق وابن جرير عنه وهو ابن أبي سفيان كلاهما من مسلمة الفتح وهو أحد كتبة الوحي وقيل إنما كتب له كتبه إلى الاطراف وتولى الشام في زمن عمر رضي الله تعالى عنه ولم يزل بها حاكما إلى أن مات وذلك أربعون سنة روى عنه ابن عباس وأبو(1/408)
سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما وكان عنده إزار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورداؤه وقميصه وشيء من شعره وأظفاره فقال كفنوني في قميصه وأدرجوني وفي رواية وآزروني بإزاره وأحشوا منخري وشدوا مواضع السجود مني بشعره وأظفاره وخلوا بيني وبين أرحم الراحمين (وحكي) أي مثل ذلك (عن الحسن) أي البصري. (والمشهور عنه خلافه) وهو أنه كان في اليقظة (وإليه) أي وإلى هذا القول (أشار محمّد بن إسحاق) أي ابن يسار إمام المغازي (وحجّتهم) أي لقولهم إنه رؤيا منام (قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ) أي ظاهرة إذ في آخر الآية دلالة على أنه كان باليقظة حيث قال (إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: 60] ) أي ابتلاء وامتحانا في تصديق القضية إذ انكرته قريش وارتد كثير من أهل التقليد وصدقه الصديق وأهل التوفيق والتأييد إذ من المعلوم أنه لا فتنة إلا إذا كان في حال اليقظة فالرؤيا بمعنى الرؤية ولعل تسميتها بها لأنها من غرابتها في معنى الرؤيا وقد سبق جواز تقدير مضاف أي تحقيق الرؤيا وتصديقها وبه يجمع بين الروايات فإنه رأى أولا رؤيا وثانيا رؤية فقد قال السهيلي وذهبت طائفة منهم شيخنا أبو بكر إلى أن الإسراء كان مرتين أحديهما في نومه توطئة له وتيسيرا عليه كما كان بدء نبوته الرؤيا الصادقة ليسهل عليه أمر النبوة فإنه عظيم تضعف عنه القوى البشرية وكذا الإسراء سهل عليه بالرؤيا لأن هوله عظيم ورأيت المهلب في شرح البخاري قد حكي هذا القول عن طائفة من العلماء وأنهم قالوا كان الإسراء مرتين مرة في نومه ومرة في يقظته ببدنه صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى ولا يبعد أن يقال اسراؤه الروحي كان مرات باعتبار المكاشفات في اليقظات والمنامات وأما اسراؤه الجسدي فمرة واحدة تحقيقا لتلك المقامات والحالات مع الزيادة الحاصلة بالكلام والرؤية وسائر الدرجات هذا مع أن آية وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا قد قيل المراد بها ما رآه عام الحديبية أنه وأصحابه دخلوا مكة بدليل قوله تعالى لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ الآية فلما صدوا فيه عنه فتنوا فقيل لم يقل في هذا العام فدخلها بعد أو ما رآه في وقعة بدر بدليل قوله تعالى إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا ووقع في أصل الدلجي وقيل رآها عام الحديبية وهو يوهم أنه من أصل الكتاب وهو ليس في الأصول الصحيحة على الصواب (وما حكوا) أي وحجتهم أيضا ما حكوه من رواية ابن إسحاق وابن جرير (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا فَقَدْتُ جسد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) ويبطله أنه لم يدخل بها إلا بعد الهجرة والإسراء إنما كان بمكة بعد البعثة كما قال ابن إسحاق بعد ان فشا الإسلام بمكة والأشبه أنه كان بعدها بخمس سنين كما نقله النووي عن المصنف وروي عنها ما فقد جسد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بصيغة المفعول وهو أظهر في الاحتجاج المنقول (وقوله) أي وحجتهم أيضا قوله (بينا أنا نائم) أي في الحطيم وربما قال في الحجر. (وقول أنس رضي الله تعالى عنه) أي وحجتهم أيضا قوله في حديثه (وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَذَكَرَ الْقِصَّةَ) أي قصة الإسراء وفيه أن كونه نائما في(1/409)
أول الوهلة لا ينافي وقوع القصة في اليقظة آخر الدفعة (ثمّ قال) أي أنس رضي الله تعالى عنه (في آخرها) أي القصة (فاستيقظت وأنا بالمسجد الحرام) وفيه أن المراد بالاستيقاظ هو الاستحضار والاستشعار عما كان له من الاستغراق في مقام الابرار مع احتمال أن نومه في حال رجوعه واستيقاظه وقت وقوعه (وذهب معظم السّلف والمسلمين) أي من الخلق (إلى أنّه إسراء بالجسد) أي مع الروح لا بالروح دون الجسد (وفي اليقظة) بفتح القاف ولا يجوز تسكينها وهي ضد المنام (وهذا هو الحقّ) أي الثابت عند أهله (وهو قول ابن عبّاس وجابر) أي ابن عبد الله (وأنس رضي الله تعالى عنه) أي ابن مالك (وحذيفة) أي ابن اليمان (وعمر رضي الله تعالى عنه) أي ابن الخطاب وكان حقه أن يقدم على ما سبق من الأصحاب (وأبي هريرة ومالك بن صعصعة رضي الله تعالى عنهما) مدني سكن البصرة وروى عنه أنس وغيره (وأبي حبّة) بفتح حاء مهملة وتشديد موحدة قيل بالنون وقيل بالتحتية (البدريّ) قيل هو الأنصاري وقيل هو غيره (وابن مسعود) رضي الله تعالى عنه وكان حقه أن يذكر بعد عمر لأنه أفضل الصحابة بعد الخلفاء الأربعة وبه تم ذكر الصحابة رضي الله تعالى عنهم (والضّحّاك) أي ابن مزاحم الهلالي البلخي المفسر تابعي جليل يروي عن أبي هريرة وأنس وابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم وثقه أحمد وابن معين وذكره الشيرازي في فقهاء خراسان من أصحاب عطاء الخراساني وغيره (وسعيد بن جبير) يروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره قتل في شعبان شهيدا أخرج له الأئمة الستة (وقتادة) أي ابن دعامة (وابن المسيّب) بفتح التحتية المشددة وتكسر (وابن شهاب) أي الزهري (وابن زيد) أي ابن أسلم وهو متكلم فيه (والحسن) أي البصري (وإبراهيم) أي النخعي (ومسروق) أي ابن الأجدع الهمداني يروي عن أبي بكر ومعاذ رضي الله تعالى عنهما وكان أعلم بالفتيا من شريح أخرج له الأئمة الستة وهو من الزهاد الثمانية يقال إنه سرق صغيرا ثم وجد فسمي مسروقا وقد كانت عائشة تبنته فسمي ابن عائشة وكني بها روى عنه الشعبي والنخعي وغيرهما (ومجاهد) أي ابن جبير (وعكرمة) أي المفسر مولى ابن عباس لكنه أباضي وسيأتي في كلام المصنف بيانه (وابن جريج) بالجيمين مصغرا فهؤلاء كلهم من أجلاء التابعين رحمهم الله تعالى (وهو دليل قول عائشة) أي مذهبها المختار لها وهو لا ينافي ما سبق مما نسب إليها وحكي عنها وهذا الاستعمال شائع فيما بين العلماء والفقهاء حيث يقال هذا قول أبي حنيفة ومالك رحمهما الله ويحكى عنهما خلاف ذلك وبهذا بطل اعتراض الدلجي على المصنف بقوله كيف يكون الإسراء يقظة بدليل قولها ما فقدت جسده المحتج به آنفا أنه كان مناما وقد سمعت إبطاله وتعجب من حكاية المصنف له في المذهبين مع امتناع كونه حجة للأول وكون الثاني دليلا له فإنه سهو لا ريب من ذي فهم ثاقب انتهى ومما يدل على ما قدمنا عنها أنها نفت الرؤية البصرية وقالت بالرؤيا البصيرية ومثل هذه المسألة الخلافية لا تتصور إلا إذا كانت القضية في اليقظة بخلاف الحالة المنامية (وهو قول الطبري) أي محمد(1/410)
ابن جرير (وابن حنبل) أي الإمام أحمد صاحب المذهب (وجماعة عظيمة) أي رتبه وكثرة (من المسلمين وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ والمتكلّمين والمفسّرين وقالت طائفة) أي من الجامعين بين الروايات المختلفة (كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس) يروى يقظة في المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى (وإلى السّماء بالرّوح) أي مناما وهذا يشبه قول المعتزلة (وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء: 1] ) ووجه الاحتجاج ما بينه المصنف بقوله (فَجَعَلَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى غَايَةَ الْإِسْرَاءِ الَّذِي وقع التّعجّب فيه بعظيم القدرة) أي المؤثرة وفق الإرادة حيث كان في سيره ساعة طي مسافة كثيرة والتعجب من لوازم المعجزة وإن صدر من أعدائه على طريق الاستحالة (والتّمدّح) أي ووقع التمدح (بتشريف النّبيّ محمّد) صلى الله تعالى عليه وسلم (به) أي بالإسراء نفسه (وإظهار الكرامة له) أي ووقع إظهار الكرامة له صلى الله تعالى عليه وسلم (بالإسراء إليه) أي إلى المسجد الأقصى بخصوصه (قال هؤلاء) أي الذاهبون إلى المذهب الثالث في الإسراء (وَلَوْ كَانَ الْإِسْرَاءُ بِجَسَدِهِ إِلَى زَائِدٍ عَلَى المسجد الأقصى لذكره) أي سبحانه في كتابه (فيكون) أي ذكره فيه (أبلغ في المدح) أي في مقام مدحه من عدم ذكره ولعل الحكمة في ذلك أن يكون الإيمان في هذه القصة ثابتا بمجموع الكتاب والسنة؛ (ثمّ اختلفت هذه الفرقتان) أي الثانية والثالثة في أنه صلى الله تعالى عليه وسلم (هل صلّى ببيت المقدس أم لا) فقيل نعم (فَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صلاته فيه) أي بالأنبياء وسبق أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مع الملائكة ولا منع من الجمع (وأنكر ذلك) أي كون صلى الله تعالى عليه وسلم صلى فيه (حذيفة بن اليمان وقال) أي حذيفة كما رواه أحمد عنه (والله ما زالا) أي النبي وجبريل عليهما السلام (عن ظهر البراق حتّى رجعا) وهو بعيد جدا لما سبق صريحا فيما ورد صحيحا من ربط البراق بباب المسجد وصلاته فيه على ما هو اللائق بأدب المسجد من التحية التي هي السنة فيه ثم من القواعد المقررة أن المثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ (قال القاضي رحمة الله تعالى عليه والحقّ من هذا) أي ما ذكر (والصّحيح إن شاء الله تعالى) استثناء للتبرك بمنزلة والله تعالى أعلم (إِنَّهُ إِسْرَاءٌ بِالْجَسَدِ وَالرُّوحِ فِي الْقِصَّةِ كُلِّهَا وعليه) أي وعلى هذا (تدلّ الآية وصحيح الأخبار) أي مجموعهما على جميعها غايته أن دلالة الآية على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى نص قاطع يكون جاحده كافرا أو منافقا ودلالة الاحاديث على اسرائه إلى السماء وسدرة المنتهى ومقام قاب قوسين أو أدنى ظنية منكر يكون مبتدعا فاسقا (والاعتبار) بالرفع معطوف على ما قبله على ما اقتصر عليه الحلبي ولا يبعد أن يكون مجرورا بالعطف على الإخبار والمراد به المقايسة يعني إذا ثبت اسراؤه من الحرام إلى الحرام معجزة بدلالة الآية فيجوز اسراؤه إلى السماء بالمقايسة المقرونة بالأحاديث الثابتة إذ لا فرق بينهما في تعلق الإرادة والقدرة (ولا يعدل عن الظّاهر)(1/411)
بصيغة المجهول أي ولا يصرف عن ظاهر دلالة الآية والأخبار الواردة (والحقيقة) أي ولا عن إرادة الحقيقة اللغوية المنضمة مع الإرادة العرفية (إلى التّأويل) أي فيهما أو في أحدهما (إلّا عند الاستحالة) أي العقلية والشرعية (وليس في الإسراء بجسده) أي الشامل لبدنه وروحه (وحال يقظته استحالة) أي لا شرعا ولا عقلا حتى يحتاج إلى تأويل في مآله بل يتعين أن يكون بكمال جماله ويقظة حاله (إِذْ لَوْ كَانَ مَنَامًا لَقَالَ بِرُوحِ عَبْدِهِ ولم يقل بعبده) أي لأنه بحسب إطلاقه محمول على كمال إفراده من عباده (وقوله) أي ويدل على كونه يقظة لا مناما قوله (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] ) إذ ليس للروح بصر بل بصيرة وأيضا لا يمدح عدم زيغ بصر النائم إذ لا حقيقة لحاله فلا يعد عدم الطغيان من كماله ومعنى الآية ما مال بصره يمينا ولا شمالا في مقام أدبه مع ربه وما جاوز ما أمره (ولو كان) أي الإسراء (مناما لمّا كانت فيه آية) وقد قال الله تَعَالَى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (ولا معجزة) أي أمر خارق للعادة وإن كانت رؤيا الأنبياء حقا وأخبارهم عنها صدقا (ولمّا استبعده الكفّار ولا كذّبوه فيه) أي في أخباره (وَلَا ارْتَدَّ بِهِ ضُعَفَاءُ مَنْ أَسْلَمَ وَافْتُتِنُوا به) أي ولا وقعوا به في الفتنة في انباء اسرائه (إذ مثل هذا) أي الحال (من المنامات لا ينكر) أي لا يعد من المحال لأن أحد الناس يرى في نومه أنه يسير في الشرق مرة وفي الغرب أخرى وهو لم يتحول عن مكانه ولم تتبدل حاله الأولى (بل لم يكن ذلك) أي الإنكار والاستبعاد وعده من الاستحالة ووقوع الارتداد (منهم إلّا وقد علموا أنّ خبره) أي عن اسرائه (إنّما كان عن جسمه) أي مع روحه (وحال يقظته) أي أخذا من خبره منضما (إلى ما ذكر) أي النبي عليه الصلاة والسلام وقال الحلبي إنه بصيغة المجهول (في الحديث) أي الحديث المشهور في الإسراء (من ذكر صلاته بالأنبياء ببيت المقدس) أي قبل اسرائه إلى السماء (فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ أَوْ فِي السَّمَاءِ عَلَى ما روى غيره) أي غير أنس كما تقدم من المنافاة بينهما إذ لا يخفى وجه جمعهما (وذكر مجيء جبريل عليه السلام له) عطف على قوله ذكر صلاته المجرور بمن البيانية أي ومن ذكر مجيء جبريل له عليه السلام (بالبراق وخبر المعراج) أي ومن ذكر خبر حال عروجه إلى السماء بالإسراء والمراد بالمعراج آلة العروج كالسلم للصعود (واستفتاح السّماء فيقال ومن معك) أي بعد ما يقال من أنت فيقول جبريل فيقال ومن معك (فيقول محمّد) أي وأمثال هذا من الدلالات في الروايات (ولقائه) أي ومن ملاقاته عليه الصلاة والسلام (الأنبياء فيها) أي في السماء بأصنافها (وخبرهم معه) أي خبر الأنبياء معه بتفصيل مقاماتهم وتبيين حالاتهم (وترحيبهم به) أي وتحيتهم له كما في نسخة وأصل الترحيب قول مرحبا، (وشأنه) أي وقصته (في فرض الصّلاة) أي خمسين اولا (ومراجعته) أي ومكالمته (مع موسى في ذلك) أي في تخفيفها أو مراجعته إلى الله تعالى مع مساعدة موسى عليهما الصلاة والسلام في ذلك (وفي بعض هذه الأخبار) أي أدلة صريحة على هذا المدعي وروايات صحيحة المبنى من طريق الشيخين عن أنس رضي الله تعالى عنه (فأخذ يعني جبريل بيدي) تفسير من بعض(1/412)
الرواة (فعرج بي إلى السّماء) أي فلما جئت السماء الدنيا قال جبريل لخازنها افتح فلما فتح علونا السماء الدنيا إذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة الحديث بطوله (إِلَى قَوْلِهِ ثُمَّ عَرَجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام) أي صريرها كما في رواية وقد فرض الله هناك عليه خمسين صلاة فرجع فمر بموسى فلم يزل بينه وبينه حتى قيل له هي خمس وهن خمسون (وَأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَأَنَّهُ دَخَلَ الجنّة) أي جنة المأوى (ورأى فيها ما ذكره) أي من جنابذ اللؤلؤ وأن ترابها المسك قال الدلجي وظاهر هذا كله شاهد صدق بأنهما نزلا عن البراق وإن أنكره حذيفة انتهى ولا يخفى أن الظاهر عدم النزول عن البراق إلا أن يدل دليل صحيح وصارف صريح فيها هنالك لذلك (قال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) أي كما رواه البخاري (هي رؤيا عين رآها صلى الله تعالى عليه وسلم) أي في حال اليقظة (لا رؤيا منام) أي وإن كان رؤيا الأنبياء حقا في ثبوت المرام وقد قيل بتعدد المعراج إلى سبع مرات فيمكن الجمع بذلك بين الروايات (وعن الحسن) أي البصري (فيه) أي في حديث معراجه كما رواه ابن إسحاق وابن جرير عنه مرسلا (بينا أنا نائم في الحجر) بكسر الحاء المهملة وسكون الجيم وقال النووي إنه رأى لبعض المصنفين على المهذب أنه يقال أيضا بفتح الحاء كحجر الإنسان فقيل كله من البيت وقيل ستة أذرع وقيل سبعة هذا وقد سبق أنه رأى بين النائم واليقظان ولا يبعد أن يراد بالنائم المضطجع فإنه على هيئة النائم وقد يعبر به عنه على أنه لا تنافي بين كونه نائما في أول القضية ومستيقظا في آخر القصة مع أنه روي بينا أنا جالس في الحجر (جاءني جبريل فهمزني) أي غمزني (بِعَقِبِهِ فَقُمْتُ فَجَلَسَتْ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا فَعُدْتُ لمضجعي، ذكر) أي الحسن أو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (ذَلِكَ ثَلَاثًا، فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ فَأَخَذَ بِعَضُدَيَّ) بصيغة الإفراد وفيه أربع لغات فتح العين مع ضم الضاد وكسرها وسكونها وضم العين مع السكون أي أمسك ما فوق مرفقي (فجرّني إلى باب المسجد) قال الدلجي الله أعلم بصحة هذا الحديث لنزاهة جبريل عن أن يفعل به ذلك انتهى ولا يخفى أنه إذا ثبت من طريق أمامين جليلين هذا المبنى ينبغي أن يحمل على محمل لطيف في المعنى وهو مناسبة الرجل للرجل في قوله فهمزني بعقبه وقد نبه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعض أصحابه من المنام بهذه الكيفية فهذا ليس من باب قلة الأدب بل من طريق عدم التكلف الدال على كمال الخصوصية وقد قيل ان الهمز تنبيه الرجل بحركة لطيفة وأما الأخذ بالعضد فلا خفاء في المناسبة المساعدة للتقوية العضدية وأما قوله فجرني فكناية عن كمال الجذبة الملكية المتسببة عن الجذبة الالهية على ما تقتضيه القضية الإسرائية إلى المراتب الاصطفائية وقد روي فجبذني وهو مقلوب جذبني (فَإِذَا بِدَابَّةٍ وَذَكَرَ خَبَرَ الْبُرَاقِ وَعَنْ أُمِّ هانىء) بكسر النون فهمز وهي بنت أبي طالب أخت علي رضي الله تعالى عنهما اسلمت يوم الفتح وقد خطبها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت إني امرأة مصيبة واعتذرت إليه فعذرها روى عنها علي وابن عباس وعكرمة وعروة وعطاء وخلق كما روى ابن إسحاق(1/413)
والطبراني وابن جرير عنها أنها قالت (ما أسري برسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَهُوَ فِي بَيْتِي تِلْكَ اللّيلة) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن الحرم كله مسجد أي لإحاطته بالمسجد والتباسه به فلا ينافي قوله تعالى من المسجد الحرام (صلّى العشاء الآخرة) أي بأن خرج منه ودخل الحجر فصلى فيه (ونام بيننا) أي فيما بيننا بأن رجع ونام مع أهل بيت أم هانىء وهو كناية عن أنه كان بعد صلاة العشاء الآخرة عندهم في مكة فبيننا بمعنى عندنا وقد تصحف على الدلجي بقوله شيئا أي نام شيئا من الليل أو بعضا من النوم (فلمّا كان قبيل الفجر أهبّنا) بتشديد الموحدة أي أيقظنا (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) وظاهر هذا الحديث أن الإسراء إنما كان في الثلث الأخير من الليل وهو وقت السحر وزمان التهجد للعبادة على أنه لا يلزم من إيقاظه لهم حينئذ أن يكون عقب نزوله إذ يمكن أنه كان في المسجد مشتغلا بالطواف والعبادة فلما قارب الصحيح رجع إليهم وأيقظهم (فلمّا صلّى الصّبح) أي نقلا أو كانت صلاتان فريضة قبل الإسراء صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها والأظهر أنه صلى الصبح المفروض في ليلة الإسراء من جملة الخمس (وصلّينا) أي معه أو بدونه (قال يا أمّ هانىء لقد صلّيت معكم العشاء الآخرة) فيه نوع تغليب أن صلت معه صلى الله تعالى عليه وسلم حقيقة أو معنى (كما رأيت بهذا الوادي) أي وادي مكة لإحاطة الجبال بها (ثمّ جئت بيت المقدس) أي ذهبت إليه (فصلّيت فيه) أي صلاة التهجد مع الأنبياء والملائكة (ثمّ صلّيت الغداة) أي صلاة الغدوة وهي الصبح (معكم الآن كما ترون) أي كما رأيتم فالعدول عن الماضي إلى المضارع لاستحضار الحال الماضية. (وهذا بين) بتشديد التحتية المكسورة أي وهذا الحديث برهان ظاهر (في أنّه) أي الإسراء (بجسمه) أي لا بروحه فقط ولا ينافي قولها وصلينا أنها اسلمت عام الفتح وهو بعد الإسراء بكثير لأن المراد بضمير الجمع جماعة قد اسلموا قبل ذلك وصلوا هنالك وأما قول الدلجي إنه ليس من قولها بل أدرجه الراوي في كلامها فمحمل بعيد وتأويل غير سديد وكذا تأويل الشمني أن معنى صلينا هيأنا له ما يحتاج إليه في الصلاة ثم هذا كله مبني على أن المعراج من بيت المقدس وأنه مع الإسراء في ليلة واحدة وأما على أنه من مكة وأنه ليس مع الإسراء في ليلة واحدة فقولها صلى الصبح على حقيقية من غير تأويل لأن الصلوات الخمس فرضت ليلة المعراج وهو على هذا القول كان في رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا والإسراء كان في الربيع الأول قبل الهجرة بسنة. (وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ مِنْ رِوَايَةِ شَدَّادِ بْنِ أوس عنه) أي كما رواه البيهقي وابن مردويه (أنّه قال للنّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ طَلَبْتُكَ يَا رسول الله البارحة في مكانك) أي في محلك المعتاد أول الليلة أو آخرها (فَلَمْ أَجِدْكَ فَأَجَابَهُ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ) أي بأنه (حملني) وهو الظاهر المتبادر فلا يحتاج إلى تكلف الدلجي من غير نص على كسر أن حيث قال التقدير فأجابه قوله له إن جبريل حملني أي على البراق (إلى المسجد الأقصى) ثم هذا الحديث أيضا دليل ساطع على أن الإسراء كان يقظة؛(1/414)
(وعن عمر رضي الله عنه) أي كما رواه ابن مردويه من طريق عَنْهُ (قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فِي مقدّم المسجد) أي المسجد الأقصى (ثمّ دخلت الصّخرة) أي تحتها أو مكانها (فإذا بملك) وفي نسخة فإذا ملك (قائم) بالجر والرفع بناء على النسختين (معه آنية ثلاث) أي من اللبن والخمر والعسل، (الحديث) أي كما سبق. (وهذه التّصريحات) أي في الروايات الصحيحات ظاهرة في أن القصة كانت يقظة (غير مستحيلة) أي شرعا وعقلا وثبت نقلا (فتحمل على ظاهرها) أي ولا يجوز العدول عنه؛ (وعن أبي ذرّ رضي الله تعالى عنه) كما في الصحيحين مرفوعا (عنه صلى الله تعالى عليه وسلم فرج) بصيغة المفعول مخففا وجوز مشددا أي كشف وأزيل (سقف بيتي) أضيف إليه تارة لأنه كان ساكنا فيه وإليها أخرى من حيث إنه كان ملكها (وأنا بمكّة) جملة حالية (فنزل جبريل فشرح صدري) أي فعل بي ما يوجب شرح صدري وتصحف على الدلجي بقوله ففرج بالفاء والجيم وفسره بقوله شقه (ثمّ غسله بماء زمزم) لأنه أفضل مياه العالم وقد أبعد الدلجي حيث علله بقوله لأنه فد ألفه صغرا وكبرا (إلى آخر القصّة) أي كما سبقت (ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله تعالى عنه أتيت) بصيغة المفعول أي أتاني آت وهو جبريل عليه السلام كما صرح به في رواية (فانطلق) بصيغة المجهول أي فذهب (بي) وفي نسخة فانطلقوا بي (إلى زمزم فشرح عن صدري) الجار نائب الفاعل (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عنه صلى الله تعالى عليه وسلم) كما رواه مسلم (لقد رأيتني) بضم تاء المتكلم (في الحجر وقريش تسألني عن مسراي) بفتح ميم وسكون سين أي عن علامات سيرى أو مكانه (فسألتني عن أشياء) أي من بيت المقدس وطريقه (لم أثبتها) من باب الافعال أي لم احفظها ولم اضبطها وعدم اثباته تلك الأشياء لكمال ثباته في مقام الإسراء باشتغاله بالملائكة والأنبياء وعجائب ملكوت الأرض والسماء وأبعد من توهم أن قوله لم أثبتها قرينة على أن القضية كانت مناما فإن النائم أقل ضبطا من المستيقظ حيث لم يعرف أنه لا فرق بين ضبطه مناما ويقظة إذ الأنبياء لا تنام قلوبهم ورؤياهم وحي وأما الإحاطة بجميع علامات الطرق والمسجد الأقصى فليس شرطا في حصول العلم به إذ يكفيه إخباره ببعض العلامات مما يوجب كونه من الآيات وخوارق العادات (فكربت كربا) بفتح فسكون أي غما يأخذ النفس والفعل مبني للمجهول كقوله (مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أنظر إليه) فما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم (ونحوه عن جابر) أي روي عن جابر نحو ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مع اختلاف في المبنى دون المعنى (وَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى خديجة) أي بسرعة (وما تحوّلت عنه جانبها) أي إلى جانب آخر منها وفيه إشعار بتقليل زمن الإسراء مع انه كان إلى السموات العلى وسدرة المنتهى ومقام قاب قوسين أو أدنى ولعله صلى الله تعالى عليه وسلم أول ما رجع دخل على خديجة ثم ذهبت إلى أم هانئ في بيتها.(1/415)
فصل [إبطال حجج من قال أنها نوم]
(فِي إِبْطَالِ حُجَجِ مَنْ قَالَ إِنَّهَا نَوْمٌ) ويروى أنها رؤيا نوم ثم الحجج بضم حاء وفتح جيم وجمع حجة وهو بمعنى دليل وبينة وأنث ضمير أنها مع أنه راجع إلى الإسراء باعتبار القول بأنه كان رؤيا منام (احتجّوا) بتشديد الجيم أي استدلوا (بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ [الإسراء: 60] فسمّاها رؤيا) بالتنوين يعني والرؤيا مختصة بالنوم كما أن الرؤية باليقظة (قلنا قوله سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1] يردّه) أي يدفع الاحتجاج به (لأنّه لا يقال في النّوم أسرى) لأن الإسراء هو السير في الليل وهو لا يكون حقيقة إلا في اليقظة واعتبار الحقيقة أولى من المجاز ما لم يصرف عنها صارف نعم الرؤيا أيضا في النوم حقيقة وفي اليقظة مجاز لكن لنا أجوبة صارفة لها عن المعنى الحقيقي إلى القصد المجازي كما بينه المصنف بقوله، (وَقَوْلُهُ فِتْنَةً لِلنَّاسِ يُؤَيِّدُ أَنَّهَا رُؤْيَا عَيْنٍ وإسراء بشخص) أي بجسده (إذ ليس في الحلم) بضمتين وتسكن اللام بمعنى الاحتلام ورؤية المنام (فتنة) أي امتحان وخبرة (وَلَا يُكَذِّبُ بِهِ أَحَدٌ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَرَى مِثْلَ ذَلِكَ فِي مَنَامِهِ مِنَ الْكَوْنِ) أي حدوث شيء لم يكن والألف واللام بدل من المضاف إليه أي من كونه (في ساعة واحدة في أقطار متباينة) أي في أطراف مختلفة وجوانب مفترقة ونواحي متباعدة؛ (عَلَى أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الآية) أي في تفسيرها وفي المراد بمورد الرؤيا وتعبيرها (فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ الحديبية) وهي بتخفيف التحتية قبل هاء التأنيث مصغرا ذكره الشافعي وأهل اللغة وبعض المحدثين وكثير من المحدثين على تشديدها وهي قرية صغيرة سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة على نحو مرحلة من مكة قريبة من حدة في طريق جدة وتسمى الآن تلك البئر بئر شميس والأصح أن الشجرة التي وقع تحتها بيعة الرضوان غير معروفة الآن وهي كانت عند آخر الحل وأول الحرم على ما قيل وقال مالك الحديبية من الحرم وقال ابن القصار بعضها من الحرم كذا قال الواقدي وهو الصحيح عندنا هذا والقضية بالضاد المعجمة واحدة القضايا قال الأنطاكي ومما يؤيد أن بعضها من الحرم ما روي أن مضارب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلّم يعني معسكره وموضع خيامه عام الحديبية كانت في الحل ومصلاه في الحرم والله تعالى اعلم وفي نسخة في قصة الحديبية بكسر قاف وتشديد صاد مهملة وهي أنه صلى الله تعالى عليه وسلّم رأى في المنام أنه دخل المسجد الحرام فصده المشركون في ذلك العام (وما وقع) أي ونزلت فيما وقع (في نفوس النّاس) أي جماعة منهم (من ذلك) أي من جهة صدهم وعدم دخولهم حتى امتنع بعضهم من تحللهم فقيل إنه لم يقل في هذا العام فدخل من قابل المسجد الحرام واعترض بأن الآية مكية وأجيب بأنه رآها بمكة وأخبر بها يومئذ (وقيل غير هذا) أي غير ما تقدم فقيل رآه ايوم بدر لقوله تعالى إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا تثبيتا لأصحابك وتشجيعا لهم على عدهم ولقوله حين ورد ماء بدر كأني أنظر إلى مصارع القوم هذا مصرع(1/416)
فلان وهذا مصرع فلان فبلغ ذلك قريشا فسخروا منه (وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ قَدْ سَمَّاهَا فِي الْحَدِيثِ) أي المتقدم (مَنَامًا وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ بَيْنَ النَّائِمِ واليقظان) بفتحتين (وقوله أيضا) أي في الحديث (وهو نائم وقوله ثمّ استيقظت) أي كما في حديث آخر (فلا حجّة فيه) أي في كل واحد منها لعدم تصريح في الدلالة بها (إِذْ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّ أَوَّلَ وُصُولِ الْمَلَكِ إليه كان وهو نائم) أي كما يدل عليه حديث الحسن البصري بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ جَاءَنِي جِبْرِيلُ عليه السلام فهمزني بعقبه فجلست الحديث (أو أوّل حمله) أي ويحتمل أن أول أخذه (والإسراء به وهو قائم) أي في حال نومه لحديث وهو نائم بالمسجد الحرام ولا يلزم منه استمرار المنام (وليس في الحديث) أي في حديث ما لا صحيح ولا ضعيف (أنّه كان نائما في القصّة كلّها) أي في قضية الإسراء جميعها من أولها إلى آخرها (إلّا ما يدلّ عليه) أي في الجملة قوله (ثمّ استيقظت وأنا في المسجد الحرام) لكن يحتمل احتمالات تمنع صحة الاستدلال بها على تصحيح المنام وتصريح المرام؛ (فلعلّ قوله استيقظت بمعنى أصبحت) إذ الاستيقاظ غالبا يكون حالة الاصباح فعبر به عنه مجازا وهذا لا يخفى بعده (أو استيقظ) وفي نسخة صحيحة أو استيقظ (من نوم آخر) أي حدث حال نزوله (بعد وصوله بيته ويدلّ عليه) أي على كونه نوما آخر (أنّ مسراه لم يكن طول ليله) أي في جميعه (وإنّما كان في بعضه) أي ذهابا أو إيابا كما يشير إليه تنكير ليلا (وَقَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ اسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ الحرام لما كان غمره) بالغين المعجمة ثم الراء أي لأجل ما غشيه وعلا قلبه وغطاء (من عجائب ما طالع من ملكوت السّموات والأرض) قال المحققون إن الملك ظاهر العالم والملكوت باطنه وقيل الملكوت الملك العظيم (وخامر) بالخاء المعجمة أي خالط ومازج (باطنه من مشاهدة الملأ الأعلى) أي من ملائكة السماء وأصل الملأ الجماعة من الاشراف والوجوه مما يملأ العيون كثرة وعزة وأراد بالملأ الأعلى الملائكة المقربين وصفوا بذلك لعلو مكانهم أي لعلو منزلتهم وشأنهم عند ربهم (وما رأى من آيات ربّه الكبرى) أي وما حصل له من شهود الكثرة في الوحدة ووجود الوحدة في الكثرة ونور الوحدة بلا ظهور الكثرة والاستغراق في بحور الشهود ولجة الوجود والذهول عن غير المعبود والمقصود (فلم يستفق) أي لم ينتبه (ويرجع) أي ولم يعد من مشاهدة التجليات الإلهية (إلى حال البشريّة) أي من اقتضاء صفات العنصرية (إلّا وهو بالمسجد الحرام) هذا وقول الدلجي خامر أي ستر ليس في محله وما ذكر فيه من الشاهد أيضا غير ملائم وهو قوله كتب أبو الدرداء إلى سلمان يدعوه إلى الأرض المقدسة فكتب يا أخي إن بعدت الدار من الدار فإن الروح من الروح قريب وطير السماء على أرفه خمر الأرض يقع أي على أخصب ساتر فيها أراد أن وطنه ارفه له وأرفق به فلا يفارقه (ووجه ثالث) أي في الجمع بين الروايات المتفرقة والرد على من زعم أن الإسراء إنما كان بروحه فقط (أَنْ يَكُونَ نَوْمُهُ وَاسْتِيقَاظُهُ حَقِيقَةً عَلَى مُقْتَضَى لفظه) أي المفاد منه بطرفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه وهو قوله وأنا نائم في المسجد(1/417)
الحرام وقوله واستيقظت وأنا في المسجد الحرام (وَلَكِنَّهُ أُسْرِيَ بِجَسَدِهِ وَقَلْبُهُ حَاضِرٌ وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حقّ) أي ولو في المنام (تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم) أي كما ثبت في الحديث ولعل الحكمة في حمل جسده مع أن العمل حينئذ كله لروحه أن يشاهد الملائكة ذاته ويفاض عليهم من بركاته ويصير مرآة للتجلي الإلهي في تنزلاته وانعكاس ظهور كمال صفاته (وقد مال بعض أصحاب الإشارات) وفي نسخة أهل الإشارات (إلى نحو من هذا) أي مما ذكرناه من كونه نائم العين حاضر القلب لشهود ملكوت الرب (قال) أي بعض أصحاب الإشارات (تغميض عينيه) أي سدهما نوما أو قصدا (لئلّا يشغله) بفتح أوله وثالثه وجوز ضم أوله وكسر ثالثه (شيء من المحسوسات عن الله عز وجل) وفيه أن من وصل إلى حالة الجمعية وزال عنه مرتبة التفرقة لا يحجبه شهود الكثرة عن وجود الوحدة وبالعكس وفيه أيضا أن المقام مشاهدة عجائب الملكوت لقوله تعالى لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إذ المتبادر منه رؤية العين والمحسوسات من الحواس وهي خمس السمع والبصر والشم والذوق واللمس وهي هيئة حالة في جميع الجسد (ولا يصحّ هذا) أي تغميض العين (أن يكون في وقت صلاته بالأنبياء) لأنه في حال الصلاة مكروه عند عامة الفقهاء (وَلَعَلَّهُ كَانَتْ لَهُ فِي هَذَا الْإِسْرَاءِ حَالَاتٌ) أي مراتب ومقامات فكان في أوله نائما ووقت صلاته بهم قائما وفي شهود الآيات مطالعا وفي حال التجلي مستغرقا وفي حال الرجوع متحيرا والحاصل أنه كان بين سكر وشكر وقبض وبسط وصحو ومحو وفناء وبقاء. (ووجه رابع) أي شاهد بأنه كان يقظة ويأول ما يكون فيه مخالفة (وهو أن يعبّر بالنّوم ههنا عن هيئة النّائم من الاضطجاع) ووقع للدلجي هنا زيادات وكذا فيما قبله مكررات ليست في الأصول المعتمدة والنسخ المعتبرة (ويقوّيه) أي ويؤيد التعبير بالنوم عن الاضطجاع (قوله) أي في الحديث (في رواية عبد بن) بالوصف لا بالإضافة (حميد) بالتصغير وهو حافظ كبير شهير واسمه عبد الحميد وعبد لقب له (عن همّام) بفتح الهاء وتشديد الميم إمام حافظ يروي عن الحسن وعطاء وخلق وعنه ابن مهدي وغيره قال أحمد ثبت عند كل المشايخ أخرج له أصحاب الكتب الستة (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ وَرُبَّمَا قَالَ مُضْطَجِعٌ وَفِي رواية هدبة) بضم الهاء وسكون الدال المهملة بعدها موحدة وهو ابن خالد القيسي الجهني أبو خالد البصري الحافظ المسند ويقال له هداب عن همام بن يحيى وحماد بن سلمة وجرير بن حازم وعنه البخاري ومسلم وأبو داود والبغوي وأبو يعلى قال ابن عدي لا أعرف له حديثا منكرا قال الحلبي وفي نسخة معاوية بدل هدبة وهو غير صحيح (عنه) أي عن همام (بينا أنا نائم في الحطيم) قال الدلجي أي بين الركن والباب وفيه أن هذا حد الملتزم نعم قد يطلق ويراد به ما بين الركن الأعظم والمقام وزمزم لكن الأظهر أنه يراد به الحجر لقوله (وربّما قال في الحجر مضطجع) وسمي حطيما لما حطم من جداره فلم يسو ببناء البيت على ما ذكر البغوي وسمي حجرا لأنه حجر عن البيت أي من إدخاله فيه فمؤداهما واحد وهو المستدير بالبيت جانب الشمال وعن مالك الحطيم ما بين المقام(1/418)
إلى الباب وعن ابن جريج ما بين الركن والمقام والله اعلم بالمرام، (وقوله) أي وكذا يقويه قوله (فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ فَيَكُونُ) أي النبي عليه السلام (سمّى هيئته) أي الاضطجاع (بالنّوم لما كانت) أي تلك الهيئة (هيئة النّائم غالبا) وقيده به إذ قد ينام وهو قاعد أو مستلق ونحو ذلك (وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ مِنَ النّوم) أي من ذكره (وذكر شقّ البطن ودنوّ الرّبّ) أي قربه المنزه عن المكان (الواقعة) بالنصب صفة الزيادات أو بدل منها أي التي وقعت (في هذا الحديث) أي في أحاديث الإسراء (إنّما هي من رواية شريك) وهو ابن عبد الله بن أبي نمر (عن أنس رضي الله تعالى عنه فهي) أي فهذه الزيادات المذكورة (منكرة) بفتح الكاف (من روايته) أي شاذة مخالفة لروايات سائر الثقات (إِذْ شَقُّ الْبَطْنِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ إِنَّمَا كان في صغره صلى الله تعالى عليه وسلم) أي مرة عند مرضعته (وقبل النّبوّة) تأكيد لما قبله فإن أول بعثة النبوة كان بعد أربعين سنة نعم ثبت شق صدره أيضا بجبل حراء عند نزول صدر سورة اقرأ ولا يبعد أن يشق صدره عند الإسراء أيضا كما صرح به السهيلي أن الشق وقع مرتين مرة في صغرة ومرة في كبره عند رقيه إلى العالم العلوي وكان الأول لإزالة حظ الشيطان والآخر لملئ الحكمة والإيمان لكن شريك منفرد بذلك في هذا الحديث وإن وافقه السهيلي فيما هنالك هذا وقد روى الطيالسي والحارث في مسنديهما من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن الشق وقع مرة أخرى عند مجيء جبريل عليه السلام بالوحي في غار حراء ومناسبته ظاهرة جدا وروي الشق وهو ابن عشر أو نحوها في قصة له مع عبد المطلب أخرجه أبو نعيم في الدلائل قال العسقلاني وروي مرة خامسة ولا يثبت لكن تعقبه بعض المتأخرين وقال رواه أبو نعيم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن آمنة قلت وإذا ضم إلى ذلك قصة شق الصدر في المنام فتكون سادسة (ولأنّه) أي شريكا (قَالَ فِي الْحَدِيثِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ. وَالْإِسْرَاءُ بإجماع كان بعد المبعث) ويروى البعث. (فهذا) أي فما ذكر (كلّه يوهن) من الايهان أو التوهين أي يضعف (ما وقع في رواية أنس رضي الله تعالى عنه) أي من طريق شريك لكن قال العسقلاني في باب المعراج من كتاب المبعث استنكر بعضهم وقوع شق الصدر ليلة الإسراء وقال إنما وقع وهو صغير في بني سعد ولا إنكار في ذلك فقد توارد الروايات به وثبت شق الصدر أيضا عند البعثة كما أخرجه أبو نعيم في الدلائل ولكل منها حكمة فالأول وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم فأخرج علقة فقال هذا حظ الشيطان منك وكان هذا في زمن الطفولية منشأ على اكمل الأحوال من العصمة من الشيطان ثم وقع شق الصدر عند المبعث زيادة في إكرامه ليبلغ ما أوحي إليه بقلب قوي في اكمل الأحوال من التطهير ثم وقع شق الصدر عند إرادة العوج إلى السماء ليتأهب للمناجاة ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة كما في شرعه انتهى وقال أيضا في كتاب التوحيد قد تقدم الرد على من أنكر شق الصدر عند الإسراء وبينت أنه ثبت في غير رواية(1/419)
شريك في الصحيحين من حديث أبي ذر وأن شق الصدر أيضا وقع عند البعثة كما أخرجه أبو داود والطيالسي في مسنده وأبو نعيم والبيهقي في دلائل النبوة انتهى وقال العراقي قد أنكر وقوع الشق ليلة الإسراء ابن حزم وعياض وأدعى أنه تخليط من شريك وليس كذلك فقد ثبت من غير طريق شريك في الصحيحين وقال القرطبي لا يلتفت لإنكاره لأنه رواية ثقات مشاهير هذا ووقع شق صدر الكريم أيضا في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه حين كان ابن عشر سنين وهي عند عبد الله بن أحمد في زوائد المسند ذكره العسقلاني وقال صاحب الآيات البينات في حديث شق الصدر وهو ابن عشر سنين رواه ابن حبان والحاكم والضياء في المختارة وصححوه (مَعَ أَنَّ أَنَسًا قَدْ بَيَّنَ مِنْ غَيْرِ طريق) أي من طرق كثيرة (أنّه) أي أنسا (إنّما رواه) أي الحديث (عن غيره) كمالك بن صعصعة وأبي ذر مرفوعا (وَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي من غير واسطة (فقال) أي أنس (مرّة) أي في رواياته (عن مالك بن صعصعة) وهذا لا يضر لأن مراسيل الصحابة بالاتفاق مقبولة محجوح بها (وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ لَعَلَّهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ صعصعة على الشّكّ) أي من الراوي عن أنس (وقال مرّة كان أبو ذر يحدّث) ولا منع من الجمع بأن أنسا سمع الحديث منهما جميعا فتارة أضاف إلى واحد وأخرى إلى آخر فتدبر ثم رأيت الحلبي ذكر أنه قال الحاكم في الأكليل حديث المعراج صح سنده بلا خلاف بين الأئمة نقله العدل عن العدل ومدار الروايات فيه على أنس رضي الله تعالى عنه وقد سمع بعضه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وبعضه من أبي ذر وبعضه عن مالك يعني ابن صعصعة قال وبعضه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (وأمّا قول عائشة) أي كما رواه ابن إسحاق وابن جرير (ما فقدت جسده) بصيغة المجهول وفي أصل الدلجي وهو رواية ما فقدت بصيغة المتكلم (فَعَائِشَةُ لَمْ تُحَدِّثْ بِهِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ لِأَنَّهَا لم تكن حينئذ) أي حين إذ وقع الإسراء (زوجه) بالإضافة وفي نسخة زوجة أي له صلى الله تعالى عليه وسلم (ولا في سنّ من يضبط بضم الموحدة وكسرها أي بل ولا كانت حينئذ في سن من يحفظ الأمور (ولعلّها لم تكن ولدت بعد) بضم الدال أي تلك الساعة (على الخلاف في الإسراء) أي بناء على الاختلاف الواقع للعلماء في زمن الْإِسْرَاءِ (مَتَى كَانَ فَإِنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ بعد المبعث) ويروى البعث بلد المبعث (بعام ونصف) وهو مخالف لما نقله النووي فيما مر عنه من أنه بعده بخمسة أعوام (وكانت عائشة في الهجرة) أي زمنها (بنت نحو ثمانية أعوام) فكان الإسراء على هذا قبل ولادتها بنحو ثلاثة أعوام ونصف إذ قد مكث بمكة بعد البعثة ثلاثة عشر عاما (وقد قيل كان الإسراء لخمس) أي من السنين (قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَقِيلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِعَامٍ وَالْأَشْبَهُ) أي الأظهر (أنّه لخمس) أي قبل الهجرة وهو مخالف لما حكاه النووي عنه ثم اختلف في الشهر الذي أسري به صلى الله تعالى عليه وسلم فيه فقيل في الربيع الأول وجزم به النووي في الفتاوى وقيل في الربيع الآخر وبه جزم أيضا في شرح مسلم تبعا للقاضي(1/420)
المصنف وقيل في رجب وجزم به النووي أيضا في الروضة وقال الواقدي في رمضان وقال الماوردي في شوال والله تعالى اعلم بالحال هذا ومعظم السلف والخلف من المحدثين الفقهاء أن الإسراء كان بعد البعثة لستة عشر شهرا على ما نقله النووي عن الحريري قال السبكي الإجماع على أنه كان بمكة والذي نختاره ما قاله شيخنا أبو محمد الدمياطي أنه قبل الهجرة بسنة وهو في الربيع الأول قال ولا احتفال بما تضمنه التذكرة الحمدونية أنه في رجب وإحياء المصريين ليلة السابع والعشرين منه بدعة (والحجّة لذلك) أي لإبطال كونه مناما ذكره الدلجي والأظهر أن يكون مراده لما ذكره من الأدلة والأقوال المختلفة في تاريخ وقت المعراج بخصوصه (تطول ليست من غرضنا) فضربنا صفحا من إطالتها لئلا يقع أحد في حد ملالتها (فإذا لم تشاهد ذلك عائشة) أي سواء ولدت قبله أو بعده (دلّ على أنّها حدّثت بذلك عن غيرها) أي بتاء المتكلم حكاية لقول من أخبرها باقيا على صورته الأولى كقولك لمن قال هذه تمرتاك دعني من تمرتاك قال ذو الرمة سمعت الناس ينتجعون غيثا يرفع الناس أي سمعت هذا القول فكأنها قالت سمعت من فلان أو فلانة مَا فَقَدْتُ جَسَدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم (فلم يرجّح خبرها على خبر غيرها) أي لروايتها له عن مجهول بل لعدم ثبوته، (وَغَيْرُهَا يَقُولُ خِلَافَهُ مِمَّا وَقَعَ نَصًّا فِي حديث أمّ هانىء وغيره) أي وفي غير حديث أم هانئ كحديث أبي ذر ومالك بن صعصعة (وأيضا) مصدر آض بمعنى عاد ورجع والمعنى وقلت معاودا (فليس حديث عائشة رضي الله عنها) أي ما فقدت جسده (بالثّابت) أي عند ائمة الحديث لقادح في سنده عنها إذ فيه ابن إسحاق وقد تكلم فيه مالك وغيره، (والأحاديث الأخر) بضم ففتح جمع آخر أي الواردة في الإسراء (أثبت) أي اكثر ثبوتا وأصح رواية من حديثها (لسنا) وفي نسخة صحيحة ولسنا (نعني) أي لا نريد بقولنا والأحاديث الأخر أثبت (حديث أمّ هانىء) أي ماأسري برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا وهو في بيتي (وما ذكرت فيه خديجة) بصيغة المفعول أي ولا نعني حديث عمر الذي ذكرت فيه خديجة لعدم ورودهما في الصحيح (وَأَيْضًا فَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مَا فقدت) أي جسده (ولم يدخل بها إلّا بالمدينة) جملة حالية مؤذنة بعدم صحة حديث ما فقدت عنها إذ الإسراء كان بمكة إجماعا (وكلّ هذا) أي وكل ذلك سابقا ولا حقا (يوهنه) أي بالوجهين أي بضعف حديث ما فقدت ويروى يوهنونه بفتح الواو وكسر الهاء مشددة وبالواو ضمير الجماعة ذكره الحجازي وفيه نظر (بَلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ صَحِيحُ قَوْلِهَا إِنَّهُ) بفتح الهمزة وكسرها أي أن إسراءه كان (بجسده لإنكارها أن تكون رؤياه لربّه) أي ليلة الإسراء (رُؤْيَا عَيْنٍ وَلَوْ كَانَتْ عِنْدَهَا مَنَامًا لَمْ تنكره) أي لم تنكر كون رؤيته لربه مناما (فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى (11) [النَّجْمِ: 11] فَقَدْ جَعَلَ مَا رآه للقلب) أي لا للبصر (وهذا) أي الجعل (يدلّ على أنّه رؤيا نوم، ووحي) بالرفع عطف على رؤيا وقد أبعد الدلجي في قوله ووحي بالجر عطف على نوم أي ورؤيا وحي فيه (لا مشاهدة عين وحسّ)(1/421)
أي لا على أنه مشاهدة عين وحس بصري فهو عطف تفسيري وقال الأنطاكي مشاهدة نصب أي لا رؤيا مشاهدة عين فحذف المضاف وأعرب المضاف إليه بإعرابه انتهى وبعده لا يخفى (قلنا) أي في الجواب عنه (يقابله) أي يعارضه (قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) [النجم: 17] ) أي ما مال عما رآه وما تجاوزه (فقد أضاف الأمر) في الرؤية (لِلْبَصَرِ وَقَدْ قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) [النجم: 11] أي لم يوهم القلب) بالرفع (العين) بالنصب وفي نسخة عكس ذلك (غير الحقيقة) أي غير حقيقة ما رآه (بل صدق رؤيتها) ويؤيده قراءة التشديد (وَقِيلَ مَا أَنْكَرَ قَلْبُهُ مَا رَأَتْهُ عَيْنُهُ) أي فيكون ضمير رأى راجعا إليه صلى الله تعالى عليه وسلم لا إلى الفؤاد والله تعالى اعلم بالمراد وحاصله وما قبله أنه يقل قلبه لما رأى لم أعرفك ولو قال لكذب إذ قد عرفه كما عرفه بصره إذ الأمور القدسية يدركها القلب أولا ثم يوردها على البصر ثانيا بدليل حديث مسلم هل رأيت ربك قال رأيته بفؤادي كذا قرره الدلجي ولا يخلو عن خلجان في القلب لعله يظهر بعد ذلك بتوفيق الرب.
فصل [وأما رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم لربه عز وجل]
(وأمّا رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم لربّه جلّ) أي عظم شأنه (وعزّ) أي وغلب سلطانه (فاختلف السّلف فيها) أي في رؤيته له سبحانه وتعالى بعين بصره (فأنكرته عائشة رضي الله عنها) أي كونها ووقوعها أو قول مسروق لها هل رأى محمد ربه وفي أصل الدلجي فأنكرتها عائشة أي الرؤية المذكورة. (حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ سِرَاجُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الحافظ) أي للحديث (بقراءتي عليه قال حدّثني أبي) أي عبد الملك ووهم الحلبي في قوله أبوه هو القاضي سراج وكأنه وقع في أصله أبو الحسين بن سراج وهو مخالف للنسخ المعتمدة (وأبو عبد الله بن عتّاب) بفتح فتشديد (قالا) أي كلاهما (حدّثنا القاضي يونس بن مغيث) بضم ميم فغين معجمة مكسورة فتحتية فمثلثة قال ابن ماكولا في إكماله وأبو محمد بن عبد الله بن محمد بن مغيث الأندلسي يعرف بابن الصفار مشهور بالعلم والأدب جمع من أشعار الخلفاء من بني أمية كتابا وابنه يونس بن عبد الله بن محمد بن مغيث أبو الوليد قاضي الجماعة بقرطبة سمع أبا بكر محمد بن معاوية القرشي المعروف بابن الأحمر والعباس بن عمرو الصقلي وروى عنه أبو عمر بن عبد البر النمري وابو محمد بن حزم قاله الحميدي (حدّثنا أبو الفضل الصّقيلي) بكسر الصاد وسكون القاف نسبة إلى صقلية جزيرة من جزائر بحر الغرب ذكره الحلبي وغيره وضبط في بعض النسخ بضم الصاد وضبطه ابن خلكان بفتحتين وتبعه الحجازي وزاد تشديد اللام وقال التلمساني بفتح الصاد والقاف وكسرهما واللام مخففة فيهما (حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ قَاسِمِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أبيه وجدّه) أي قاسم وثابت (قالا) أي كلاهما (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بن آدم) هو مروزي يروي عن ابن عيينة وأبي بكر بن عياش(1/422)
وجماعة وعنه البخاري وأبو بكر بن أبي داود وطائفة توفي سنة ثمان وخمسين ومائتين (حدّثنا وكيع) تقدم ذكره (عن ابن أبي خالد) هو إسماعيل بن سعيد البجلي الكوفي عن ابن أبي أوفى وأبي جحيفة وقيس وخلق وعنه شعبة وغيره حافظ إمام وكان طحانا تابعي ثقة أحد الاعلام أخرج له الأئمة الستة (عن عامر) وهو الصواب لا ما وقع في بعض النسخ عن مجاهد ذكره الشمني وزاد الحلبي فإنه ليس له شيء من الكتب الستة عن مسروق وهو عامر بن شرحبيل أبو عمرو الشعبي الهمداني قاضي الكوفة أحد الأعلام ولد في خلافة عمرو وروايته عن علي في البخاري وروى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه والمغيرة وخلق قال أدركت خمسمائة من الصحابة وقال ما كتبت سوادا في بياض ولا حدثت بحديث إلا حفظته مات سنة ثلاث ومائة اخرج له الأئمة الستة وقال الدلجي قد روى المصنف هنا حديث مسلم بسند آخر شاهدا لإنكارها ذلك يقظة وهو بفتح الشين وسكون العين واختلف في نسبته وقد يضرب به المثل في الحفظ فيقال أحفظ من الشعبي وقال الزهري العلماء أربعة ابن المسيب بالمدينة والشعبي بالكوفة والحسن بالبصرة ومكحول بالشام وقال مكحول ما رأيت أفقه من الشعبي في زمانه (عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ ربّه) يعني ليلة الإسراء في حال اليقظة (فقالت لقد قفّ شعري) بفتح القاف وتشديد الفاء من القفقفة وهي الرعدة أي اقشعر وقام شعر جسدي من الفزع (ممّا قلت) أي طالبا مني تصديقي بثبوت رؤيته لربه أو لا ثبوتها أو لكوني سمعت ما لا ينبغي أن يقال (ثلاث من حدّثك) كذا بكاف الخطاب ثبت بخط القاضي المصنف وعند العرفي بحذفها وكلاهما صحيح والمعنى من اعلمك أو روى وأخبر (بهنّ فقد كذب) وفي نسخة كذبك أي افترى فرية بلا مرية فيهن وبيانها قولها (مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كذب ثمّ قرأت) أي للاستشهاد على دعوى المراد (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] الآية) أي وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير وأجيب بأن الآية دالة على أنه لا تحيط به ولا بحقيقته حاسة بصر إذا تجلى بنور كماله وصفة كبرياء جلاله لحديث مسلم نوراني أراه أي حجابه نور فكيف أراه إذ كمال النور يمنع الإدراك من غاية الظهور وأما إذا تجلى بما يسعه نطاق القدرة البشرية من صفات جماله الصمدية فلا استبعاد لرؤيته بدون إحاطة فنفي الآية رؤيته على سبيل الإحاطة لا يوجب نفي رؤيته بدونها لا محالة (وذكر) مسروق (الحديث) أي الخ قال التلمساني الأولى هذه والثانية قولها رضي الله تعالى عنها من زعم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كتم شيئا من الوحي ثم قرأت يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الآية والثالثة من زعم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يخبر بما يكون في غد فقد أعظم الفرية ثم قرأت إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية انتهى وزاد الانطاكي ولكنه رأى جبريل مرتين وقال الغزالي في الإحياء والصحيح أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما رأى الله تعالى ليلة المعراج لكن النووي صحح الرؤية في الفتاوى ونقله عن المحققين والله سبحانه وتعالى أعلم قال الحلبي(1/423)
هذا الحديث الذي ساقه القاضي هنا هو في البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وهو في البخاري في التفسير عن يحيى عن وكيع بالسند الذي ساقه القاضي وهو يدل ولو رواه القاضي من طريق البخاري كان يقع له أعلى من هذا وسبب عدول القاضي عن إخراج هذا الحديث من أحد هذه الكتب مع أنه بين القاضي وبين شيخ الشيخ البخاري وكيع سبعة وهذا الذي ساقه بينه وبين وكيع ثمانية فالذي في الصحيح أعلى ليتنوع وليظهر كثرة الشيوخ والمسموعات والله سبحانه وتعالى أعلم بالنيات (وقال جماعة) أي من المحدثين والمتكلمين (بقول عائشة وهو المشهور) أي كما رواه الشيخان (عن ابن مسعود) أي أنه رأى جبريل (ومثله) أي في كونه مشهورا ما رواه البخاري (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّمَا رَأَى جبريل عليه السلام واختلف عنه) أي عن أبي هريرة إذ قد روى عنه أنه قال رآه بعينه كابن مسعود وأبي ذر والحسن وابن حنبل. (وَقَالَ بِإِنْكَارِ هَذَا وَامْتِنَاعِ رُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا جماعة من المحدّثين، والفقهاء والمتكلّمين) جوز أن يكون المشار إليه ما لم يشتهر من قول أبي هريرة أنه رآه بعينه وأن يكون ما انكرته عائشة أي بإنكار ما انكرته وفاقا لها ولذا أكده بالجملة الثانية دفعا لتوهم كون انكارهم انكارا لانكارها كذا حققه الدلجي ونقل الحلبي أنه حكى أبو عبد الله ابن إمام الجوزية عن عثمان بن سعيد الدارمي الحافظ لما ذكره مسألة الرؤية ما لفظه وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف وإن كان جمهور الصحابة بل كلهم مع عائشة كما حكاه عثمان ابن سعيد الدارمي إجماعا للصحابة (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ رآه بعينه) وبه قال أنس وعكرمة والربيع (وروى عطاء عنه) أي عن ابن عباس (بقلبه) أي أنه رآه بعين بصيرته وعطاء هذا هو ابن أبي رباح بفتح الراء وبالموحدة أبو محمد المكي الفقيه أحد الأعلام يروي عن عائشة وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما وخلق وعنه أبو حنيفة والليث والأوزاعي وابن جريج وأمم أخرج له الأئمة الستة وقد أخرج هذا الحديث مسلم عن عطاء عن ابن عباس في صحيحه في باب الإيمان عن أبي بكر بن أبي شيبة عن حفص بن غياث عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عنه به (وعن أبي العالية عنه) أي عن ابن عباس (رآه بفؤاده مرّتين) وأبو العالية هذا هو رفيع بن مهران الرياحي بكسر الراء والمثناة تحت وهذه الرواية أخرجها مسلم في الإيمان (وذكر ابن إسحاق) أي محمد بن إسحاق بن يسار الإمام في المغازي عن عبد الله بن أبي سلمة (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَسْأَلُهُ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ ربّه) أي بعين بصره إذ لا خلاف في رؤيته ببصيرته (فقال نعم) والحاصل أنه اختلفت الرواية عن ابن عباس في مسألة الرؤية (والأشهر عنه) أي عن ابن عباس (أنّه رأى ربّه بعينه روي ذلك) أي القول الأشهر (عنه من طرق) أي بأسانيد متعددة اقتضت الشهرة (وقال) أي في بعض طرقه وهو ما رواه الحاكم والنسائي والطبراني أن ابن عباس قال تقوية لقوله إنه رأى ربه بعينه (إنّ الله اختصّ موسى بالكلام) أي من بين سائر الأنبياء عليهم السلام فلا ينافي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم وقع أيضا له الكلام على وفق(1/424)
المرام وكذا قوله (وإبراهيم بالخلّة) بضم الهاء فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم جمع له بين كونه خليلا وحبيبا (ومحمّدا بالرّؤية) أي البصرية هذا ولا منافاة بين قول ابن عباس رآه بعينه وبين قوله رآه بفؤاده لإمكان الجمع بينهما بثبوت الرؤية للبصر والبصيرة كما يشير إليه قوله تعالى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أي ما كذب فؤاده مرئيه بل صدقه وطابقه ووافقه (وحجّته) أي دليل ابن عباس أي على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رأى ربه (قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) أي بعينه إذ لا يقال ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى بقلبه فالمعنى ما اعتقد قلب محمد خلاف ما رأى ببصره وهي مشاهدة ربه تعالى بفؤاده بجعل بصره فيه أو ببصره بجعل فؤاده فيه لأن مذهب أهل السنة أن الرؤية بالإراءة لا بالقدرة هذا والراجح كما قال النووي عند أكثر العلماء إنه رآه بعيني رأسه ليلة الإسراء وإثبات هذا ليس إلا بالسماع منه صلى الله تعالى عليه وسلم وهو مما لا شك فيه وإنكار عائشة وقوعها لم يكن لحديث روته ولو كان لحديث ذكرته بل احتجت بقوله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ قلنا المراد بالإدراك الإحاطة إذ ذاته تعالى لا تحاط ولا يلزم من نفيها نفي الرؤية بدونها وبقوله وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً
قلنا لا تلازم بين الرؤية والكلام لجواز وجودها بدونه كذا قرره الدلجي فيما نقله عن النووي وفيه أنه لا يعرف حديث مسموع مرفوع بل كل من عائشة وابن عباس مستدل بآية من الكتاب والله تعالى أعلم بالصواب (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى أي افتشكون أو افتجادلونه بالاستفهام الإنكاري وإنما وقع الجدل والشك في رؤية البصر إذ لا يشك أحد في رؤية البصيرة ولعل الاستدلال بهذه الآية بناء على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وإلا فالظاهر أن الشك إنما وقع من الكفار في نفس الإسراء وما رأى في عالم السماء (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النجم: 11- 13] ) وهي فعلة من النزول اقيمت مقام المرة ونصبت نصبها قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كانت له في تلك الليلة عرجات لحط عدد الصلوات ولكل عرجة نزلة ذكره الدلجي وفي الاحتجاج بهذه الآية نظر ظاهر إذ جمهور المفسرين على أن ضمير المفعول راجع إلى جبريل عليه السلام لا سيما ضعف الاحتمال لضعف الاستدلال (قال الماورديّ) سبق ذكره (قِيلَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ كَلَامَهُ وَرُؤْيَتَهُ بين موسى ومحمّد صلى الله تعالى عليه وسلم فرآه محمّد مرّتين) أي حيث كان قاب قوسين أو أدنى وعند سدرة المنتهى (وكلّمه موسى مرّتين) أي مرة وقت إرساله إلى فرعون ومرة بعد هلاكه ورجوعه إلى الطور وفيه أن قائل هذا مجهول فالاستدلال به غير معقول.
(وحكى أبو الفتح الرّازي) الله أعلم به كذا ذكره الدلجي وقال التلمساني هو سليمان بن أيوب مات غريقا سنة سبع وأربعين وأربعمائة (وأبو اللّيث السّمرقندي) تقدم ذكره (الحكاية) أي التي ذكرها الماوردي (عن كعب) وفيه أن كعب الأحبار هو من أهل الكتاب والتواريخ فلا يكون قوله حجة في هذه المسألة (وروى عبد الله بن الحارث) هو زوج أخت محمد بن سيرين روى عن جماعة من الصحابة وروى هذا الحديث مرسلا كذا ذكره الشمني تبعا(1/425)
للحلبي وفي كون هذا الحديث مرسلا نظر ظاهر في المنقول ولا يخفى على من له المام بعلم الأصول وقال الأنطاكي هو أبو الوليد عبد الله بن حارث البصري روى عن عائشة وأبي هريرة وزيد بن أرقم وابن عباس وابن عمر وغيرهم وعنه ابنه يوسف والمنهال بن عمرو وعاصم الأحول وخالد الحذاء وجماعة وثقه أبو زرعة والنسائي وأخرج له الأئمة الستة (قال) أي عبد الله بن الحارث (اجْتَمَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَعْبٌ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَّا نَحْنُ بَنُو هَاشِمٍ فَنَقُولُ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ فَكَبَّرَ كَعْبٌ حَتَّى جاوبته الجبال وقال) أي كعب أو ابن عباس (إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ رُؤْيَتَهُ وَكَلَامَهُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وموسى فكلّمه موسى ورآه محمد بقلبه) أي وبعينه أيضا قاله الدلجي أقول الظاهر إن هذا قول كعب وإنه مخالف لقول ابن عباس وتكبيره كان لتعظيم الأمر وتفخيم القدر وأما ما قاله أبو الفتح اليعمري في سيرته في الإسراء ما لفظه وروينا من طريق الترمذي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن مخالد عن الشعبي قال لقي ابن عباس كعبا بعرفات فسأله عن شيء فكبر حتى جاوبته الجبال فقال ابن عباس إنا بنو هاشم نقول إن محمدا رأى ربه فقال كعب إن الله تعالى قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين فقال الحلبي لم أر هذا الحديث في أطراف المزي فإن كان في الجامع فلعله سقط من نسختي وإن كان من طريقه في غير الجامع فلم أقف عليه قلت وعلى تقدير ثبوته فلعله عنه روايتان (وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه في تفسير الآية) أي قوله تعالى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (قال رأى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ربّه) فيه أنه مبهم يحتمل احتمالين وأغرب الدلجي هنا حيث قال أي بقلبه بشهادة أول الآية وهو مناقض لما سبق عنه من تقرير الرواية بالبصر فتدبر. (وحكى السّمرقنديّ) أي كرواية ابن أبي حاتم (عن محمّد بن كعب) أي القرظي كما في نسخة صحيحة وهو تابعي جليل (وربيع بن أنس) هو أيضا تابعي مشهور (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ قَالَ رأيته بفؤادي ولم أره بعيني) وهذا الحديث صريح في طرفي الإثبات والنفي ولا يضر كون الحديث مرسلا لأنه حجة عند الجمهور لا سيما وقد اعتضد بما رواه ابن جرير عن محمد بن كعب عن بعض أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مرفوعا وأما قول الدلجي لعله في المرة الأولى إذ قد روى ابن عباس أنه رآه مرتين فلا يقاوم الحديث من وجوه يعلمها أهله (وروى مالك بن يخامر) بضم تحتية فخاء معجمة مخففة فألف فميم مكسورة فراء لا ينصرف للعلمية ووزن الفعل يقال له صحبة والأصح أنه تابعي روى عن جماعة من الصحابة منهم عبد الرحمن بن عوف وروى عنه معاوية بن أبي سفيان وجماعة من التابعين وفي نسخة وَرَوَى مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ (عَنْ مُعَاذٍ عَنِ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال رأيت ربّي) فيه احتمالان إن كان في الإسراء لكن قال المزي حديث مالك بن يخامر عن معاذ مبين في بعض الروايات أنه في النوم (وذكر كلمة) أي جملة من الكلام وقال الأنطاكي من دأب السلف إذا وقع في الحديث لفظ يستعظمون(1/426)
التصريح به أن يعبروا عنه بقولهم وذكر كلمة أي كلمة عظيمة (فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى الحديث) وهذا حديث جليل ولفظه طويل ونفعه جزيل فلا بد من إيراده ليقع الوقف على مراده فقد رواه أحمد وغيره عن معاذ قال صلى الله تعالى عليه وسلم صلاة الغدوة ثم أقبل علينا فقال إني سأحدثكم إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست وفي رواية فوضعت جنبي فإذا أنا بربي في أحسن صورة وهو حال منه صلى الله تعالى عليه وسلم أو من ربه ولا إشكال فيه كما قال البيضاوي إذ قد يرى النائم غير المتشكل متشكلا وعكسه ولا يعد ذلك خللا في الرؤيا ولا في خلد النائم فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ورواية المصابيح فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد قلت أنت أعلم أي رب مرتين قال فوضع كفه وفي رواية يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي وفي رواية فوجدت برد أنامله بين ثديي فعلمت ما في السماء والأرض وفي الرواية الثانية فتجلى لي كل شيء وعرفت ما في السماء والأرض ثم تلا هذه الآية وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ثم قال فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد قلت في الكفارات قال وما هن قلت المشي على الأقدام إلى الطاعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وفي رواية خلف الصلوات وإبلاغ الوضوء وأماكنه على المكاره وفي رواية في المكاره من يفعل ذلك يعش بخير ويمت بخير ويكن من خطيئته كيوم ولدته أمه ومن الدرجات إطعام الطعام وبذل السلام وأن يقوم بالليل والناس نيام ثم قال قل اللهم إني اسألك الطيبات وترك المنكرات وفعل الخيرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وتتوب علي وإذا اردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون قال الأنطاكي واعلم أن من العلماء من امتنع عن الكلام في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام في أحسن صورة منهم أحمد بن حنبل روي أنه هجر أبا ثور في تأويله قوله عليه الصلاة والسلام إن الله خلق آدم على صورته ومنهم من تكلم فيه فقيل قوله (في أحسن صورة) يحتمل أن يكون حالا من الرائي وهو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومعناه رأيته وأنا في أحسن صورة وصفة من غاية انعامه ولطفه تعالى علي ويحمل أن يكون حالا من المرئي وهو الرب جل جلاله وصورته تعالى ذاته المخصوصة المنزهة عن المماثلة وقال الخطابي الصورة ترد في كلام العرب على ظاهرها وعلى معنى حقيقة الشيء وعلى معنى صفته يقال صورة هذا أمر كذا وكذا أي صفته وقال وهو المراد هنا وقال في جامع الأصول المراد أنه في أحسن صفته ثم المراد بالاختصام تقاولهم في فضل تلك الأعمال واي بفتح الهمزة بمعنى يا وقوله مرتين متعلق بقوله فقال فيم يختصم الخ أي جرى السؤال من ربي والجواب مني مرتين وقوله فوضع كفه بين كتفي كناية عن تخصيصه تعالى إياه بمزيد الفضل وإيصال الفيض إليه وإلا فلا كف ولا وضع حقيقة كما أن من عادة الملوك إذا أراد أحدهم أن يقرب بعض خدمه من نفسه ويذكر معه أحوال مملكته أن يضع يده على ظهره ويلقى ساعده على عنقه تلطفا به وتعظيما لشأنه(1/427)
والبرد الراحة والضمير في بردها يعود إلى الكف وأراد بقوله بين ثديي قلبه وهو كناية عن وصول ذلك الفيض إلى قلبه انتهى وهذا كله يحتاج إليه إذا صح الحديث في اليقظة والله أعلم. (وحكى عبد الرّزاق) وهو ابن همام بن رافع الحافظ الكبير الصغاني أحد الاعلام صاحب التصانيف روى عن عبيد الله بن عمرو عن الأوزاعي والثوري ومعمر وخلائق وعنه أحمد وإسحاق وابن معين وجماعة وقد وثقه غير واحد وأخرج له الأئمة الستة ونقموا عليه التشيع وهو غير ثابت فيه بل كان يحب عليا رضي الله تعالى عنه ويبغض من قاتله وقد قال سلمة بن شبيب سمعت عبد الرزاق يقول والله ما انشرح صدري قط أن أفضل عليا على أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم (أنّ الحسن) أي البصري (كَانَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ) فيه احتمالان (وحكاه) أي نقل مثله (أبو عمر الطّلمنكيّ) بفتح الطاء المهملة واللام والميم فنون ساكنة فكاف مكسورة وهو الإمام الحافظ المقرئ أبو عمر بضم العين روى عنه ابن عبد البر وابن حزم وغيرهما وكان رأسا في علم القراآت ذا عناية تامة بالحديث إماما في السنة توفي في ذي الحجة سنة تسع وعشرين وأربعمائة (عن عكرمة) تقدم ذكره. (وحكى بعض المتكلّمين) قال الحلبي لا أعرفه (هَذَا الْمَذْهَبَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَحَكَى ابْنُ إسحاق) أي صاحب المغازي (أَنَّ مَرْوَانَ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ هَلْ رَأَى محمّد ربّه فقال نعم) ومروان هذا ابن عبد الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي ولد سنة اثنتين ولم يصح له سماع ولا رؤية روى عن عثمان وعلي وزيد بن ثابت وروى عنه عروة ومجاهد وعلي بن الحسين دولته تسعة أشهر وأيام وتملك ابنه عبد الملك بعده اخرج لمروان الستة غير مسلم إلا أن البخاري روى حديث الحديبية عنه مقرونا بالمسور بن مخرمة. (وَحَكَى النَّقَّاشُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ أَنَا أَقُولُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِعَيْنِهِ رآه رآه) أي كرره (حتّى انقطع نفسه) بفتح الفاء (يعني نفس أحمد) أي ابن حنبل كما في نسخة صحيحة وهذا تفسير من المصنف أو غيره قال بعض الحنابلة من العلماء كلاما معناه أن أحمد لم يقل إنه رآه ليلة الإسراء وإنما رآه في النوم يعني الحديث الذي فيه رأيت ربي في أحسن صورة الحديث يعني رؤيا الأنبياء وحي (وقال أبو عمر) الظاهر أنه أراد به ابن عبد البر فإنه الفرد الأكمل الأشهر خلافا للحلبي ومن تبعه حيث قال الظاهر أنه أبو عمر المتقدم يعني الطلمنكي (قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَآهُ بِقَلْبِهِ وَجَبُنَ) بفتح الجيم وضم الموحدة وقيل تفتح أي خاف أحمد وتأخر (عن القول برؤيته بالأبصار) أي الحسية (في الدّنيا وقال سعيد بن جبير لا أقول) أي أنه (رآه ولا لم يره) وهذا يدل على غاية الاحتياط منه وعلى تعارض الأدلة عنده (وقد اختلف في تأويل الآية) أي آية ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أو قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله تعالى عنهم فحكي) بصيغة المجهول (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ رَآهُ بِقَلْبِهِ وَعَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَأَى جِبْرِيلَ وَحَكَى عَبْدُ الله بن أحمد بن حنبل) هو الإمام الحافظ الثبت محدث العراق روى عن(1/428)
أبيه وخلائق وعنه النسائي وغيره (عن أبيه أنّه قال رآه) وقد سبق الكلام عليه من جهة مبناه ومعناه (وَعَنِ ابْنِ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْحِ: 1] قَالَ شَرَحَ صَدْرَهُ للرّؤية وشرح صدر موسى للكلام) أي إجابة لدعائه عليه الصلاة والسلام رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وما بينهما بون بين إذ الأول مراد ومطلوب للمحبوب والثاني مريد وطالب للمرغوب (وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ رضي الله تعالى عنه) كذا في النسخ والأولى أن يقال رحمه الله لأنه ليس من الصحابة (وجماعة من أصحابه أنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (رأى الله تعالى ببصره وعيني رأسه) قال الحلبي هذا هو الشيخ القدوة إمام المتكلمين علي بن إسماعيل بن أبي بشر بن سالم بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى عبد الله بن قيس أبو الحسن الأشعري كان أولا معتزليا ثم ترك ذلك برؤيا رآها في نومه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكان لا يتكلم في علم الكلام إلا أن يجب عليه قياما في الحق وكان حبرا عظيما لا يناضل ولا يباري قال القاضي أبو بكر الباقلاني أفضل أحوالي أن أفهم كلام أبي الحسن ولد سنة اثنتين ومائتين ومات قبل الثلاثين والثلاثمائة على الأصح قال الشيخ أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين كان شافعيا تفقه على الشيخ أبي إسحاق المروزي وقال التلمساني وأبو الحسن هذا مالكي المذهب (وقال) أي الأشعري (كلّ آية) أي معجزة (أُوتِيَهَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَقَدْ أوتي مثلها) أي حقيقة ونظيرها صورة (نبيّنا صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُصَّ مِنْ بَيْنِهِمْ بِتَفْضِيلِ الرُّؤْيَةِ) أي بزيادة حصول الرؤية واللقاء ووصول الدرجة العلياء في ليلة الإسراء (ووقف) أي توقف (بعض مشايخنا) جمع مشيخة وهو القياس أو شيخ على غير قاس (في هذا) أي في ذلك كما في نسخة، (وقال ليس عليه دليل واضح) أي على ثبوت وقوعه (ولكنّه جائز أن يكون) أي وجائز أن لا يكون وهذا يحتمل أن يكون في كلام القاضي وأن يكون من كلام الأشعري. (قال القاضي أبو الفضل وفّقه الله) أي المصنف (والحقّ الذي لا امتراء) افتعال من المرية أي لا شك (فِيهِ أَنَّ رُؤْيَتَهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا جَائِزَةٌ عقلا وليس في العقل ما يحيلها) أي شيء من توهم واحتمال يحكم باستحالتها لجزمه بجواز وقوعها فيها (وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهَا فِي الدُّنْيَا سُؤَالُ مُوسَى عليه السّلام لها) أي حيث قال رب أرني انظر إليك مع اعتقاده أنه تعالى يجوز أن يرى فيها فسألها (ومحال) بضم الميم أي ومن المحال (أَنْ يَجْهَلَ نَبِيٌّ مَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ وَمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ بَلْ لَمْ يَسْأَلْ إلّا جائزا غير محال) أي غير مستحيل كما في نسخة لاستحالة سؤال الأنبياء ما يكون من المحال (ولكن وقوعه ومشاهدته) أي لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة (مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مَنْ علّمه الله تعالى) بتشديد اللام أي أطلعه إياه (فقال الله تعالى) أي لموسى أي غير ناف للجواز (لَنْ تَرانِي [الأعراف: 142] ) أي دون لن أرى المؤذن بنفيه أي المشعر بنفي جواز بل فيه ما يدل على نفي وقوعه فقط حيث قال لن تراني (أي لن تطيق) أي تحمل تجلياتي (ولا تحتمل رؤيتي) أي(1/429)
في الدنيا لأنها دار الفناء واللقاء إنما يكون في دار البقاء وحال الإسراء يعد من أمر الآخرة بدليل الكشوفات الذاخرة والمقامات الفاخرة المقتضية لخرق العادة في قوة بنية نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم في تلك الحالة (ثمّ ضرب) أي بين (له مثلا) وفي نسخة مَثَلًا (مِمَّا هُوَ أَقْوَى مِنْ بِنْيَةِ مُوسَى) بكسر موحدة وسكون نون فتحتية أي من تركيب بناء جسده واعضاء جسمه (وأثبت) تفسير لا قوي (وهو الجبل) أي بحسب الهيكل الصوري حيث قال وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فسوف تراني (وَكُلُّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ مَا يُحِيلُ رُؤْيَتَهُ في الدّنيا) أي يقتضي ردها ويروى وقوعها محالا (بل فيه جوازها على الجملة) أي دليل جواز وقوعها في الجملة حيث علق وقوع رؤيته على استقرار الجبل في مكانه بعد تجلي رؤيته والتعليق بالممكن يفيد الإمكان إذ معنى التعليق هو أن يقع على تقدير وقوع المعلق عليه والمحال لا يقع على تقدير أصلا (وليس في الشّرع) أي في الكتاب والسنة (دليل قاطع على استحالتها) أي استحالة جوازها (ولا امتناعها) أي ولا دليل على امتناع وجودها (إذ كلّ موجود) أي لأنه سبحانه وتعالى موجود بل واجب الوجود وكل موجود جائز الرؤية (فرؤيته جائزة غير مستحيلة) كما قال الأشعري (ولا حجّة لمن استدلّ على منعها) أي امتناع جوازها (بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الْأَنْعَامِ: 103] لِاخْتِلَافِ التأويلات في الآية) أي ومع الاحتمال لا يصح أن يكون حجة إذ قد قيل المراد بالإدراك الإحاطة ولا يلزم منه نفي مطلق الرؤية وقيل ليس عاما في الأوقات فيخص ببعضها ضرورة الجمع بين الأدلة ولا في أشخاص إذ هو في قوة قولك لا كل بصر يدركه فيخص ببعضهم لقوله تَعَالَى كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ وقد أغرب عز الدين بن عبد السلام في قوله لا تراه الملائكة (وإذ ليس) عطف على الاختلاف وقيل على قوله كل موجود ولا يخفى بعده أي ولأنه (لا يقتضي قول من قال في الدّنيا) أي بمنعها في الدنيا (الاستحالة) أي للرؤية لأنه ليس نصا في المنع بل أخذ بتأويل واحتمال لا يقتضي الاستحالة (وقد استدلّ بعضهم بهذه الآية) أي آية لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ (نَفْسِهَا عَلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ وَعَدَمِ اسْتِحَالَتِهَا عَلَى الجملة) إذ مفهوم نفي الإحاطة جواز الرؤية (وقد قيل) أي في تأويل الآية (لا تدركه أبصار الكفّار) على أن اللام للعهد بقرينة قوله كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (وقيل لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ لا تحيط به) أي كما مر مرارا (وهو قول ابن عبّاس وقد قيل) أي في التأويلات (لا تدركه الأبصار) أي أنفسها (وإنّما يدركه المبصرون) أي بسببها وبقوة الهية فيها وهو بضم الميم وإسكان الباء وكسر الصاد قال تعالى فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ والمعنى أن الإدراك إنما يكون للمبصر بواسطة البصر لا للبصر نفسه (وَكُلُّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ لَا تَقْتَضِي مَنْعَ الرُّؤْيَةِ ولا استحالتها) أي بل تقتضي جوازها (وكذلك لا حجّة لهم) أي على منعها (بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَنْ تَرانِي [الْأَعْرَافِ: 142] وَقَوْلِهِ تُبْتُ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] لما قدّمناه) أي للتأويل الذي قدمناه وهو قوله أي لن تطيق مما يؤذن بجوازها كسؤال موسى إياها (ولأنّها) أي آية لَنْ تَرانِي(1/430)
(ليست على العموم) وفي نسخة من العموم أي في نفيها لجميع أفراد الإنسان في جميع الأزمان لجواز أن يراه غير موسى مما يخلق الله فيه استعدادا لها في أبانها كليلة الإسراء فإن لن لنفي المستقبل فقط ولا تفيد توكيد النفي في الاستقبال ولا تأبيده على ما عليه أهل السنة خلافا للزمخشري وأهل الاعتزال حيث يدعون أنها تفيد التوكيد أو التأبيد ورد بقوله تعالى وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً وبقوله فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا إذ يلزم تكرار الأبد وعدم فائدة التقييد باليوم (وَلِأَنَّ مَنْ قَالَ مَعْنَاهَا لَنْ تَرَانِي فِي الدّنيا إنّما هو تأويل) أي مما لا يقتضي استحالة ولا منعا فيها مطلقا لجواز اختصاص المنع فيها بموسى دون غيره على أنه قد يقال إن حالة الإسراء مما لا يعد من أحوال الدنيا بل إنما هي من مقامات العقبى أو حالة أخرى كالبرزخ (وأيضا ليس) وفي نسخة فليس (فيه) أي في قوله تعالى لَنْ تَرانِي (نصّ الامتناع) أي من الرؤية مطلها (وإنّما جاءت) أي آية لَنْ تَرانِي مفصحة بامتناعها (في حقّ موسى) أي خصوصا ولا يلزم من منع الخصوص منع العموم مع أنه قابل للتقييد بذلك المكان والزمان (وحيث تتطرّق التّأويلات) بحذف إحدى التاءين أي تردد وتتابع وتزاحم ويؤيده أنه في نسخة تتطرق ويقويه قوله (وتتسلّط الاحتمالات) عطف تفسير (فليس للقطع) أي لقطع المنع (إليه) أي إلى امتناع الرؤية (سبيل) أي طريق ودليل (وقوله: تُبْتُ إِلَيْكَ) أي مأول بقولهم (أي من سؤالي) أي من الاقدام على دعائي (ما لم تقدّره لي) روي بضم التاء وفتحها وفتح القاف فلا يلائم إلا مع ضم التاء وتشديد الدال فيكون المعنى ما لم تقدره لي في الأزل وكتبته علي في سابق علمك وأما سكونها فمعناه ما لم تجعله له في قدرتي ووسعي كذا ذكره التلمساني (وقد قال أبو بكر الهذليّ) بضم هاء وفتح ذال معجمة (فِي قَوْلِهِ: لَنْ تَرانِي أَيْ لَيْسَ لِبَشَرٍ أَنْ يُطِيقَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيَّ فِي الدُّنْيَا) أي والإسراء ليس من الدنيا بل من الأخرى (وأنّه) أي الشان (من نظر إليّ) أي في الدنيا (مات) أي في الحال بدليل صعق موسى حين رأى الجبل قال المزي ويؤيده ما في مسلم من حديث الدجال فاعلموا أنه أعور وأن الله سبحانه وتعالى ليس بأعور وأن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت (وَقَدْ رَأَيْتُ لِبَعْضِ السَّلَفِ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مَا مَعْنَاهُ أنّ رؤيته تعالى في الدّنيا ممتنعة) أي لا من حيث ذاتها لثبوت جوازها فيها كما مر الكلام عليها وإنما امتنعت فيها (لضعف تركيب أهل الدّنيا) أي بنيتهم (وقواهم) بضم القاف وتخفيف الواو أي حواسهم (وكونها متغيّرة عرضا) بفتحتين وضبطه بعضهم بفتح الغين المعجمة والراء وبالضاد المعجمة أي هدفا فالإنسان غرض والآفات سهام وفي نسخة صحيحة وكونها معرضة بتشديد الراء المفتوحة أي هدفا (للآفات) من نوائب مقلقة ونواكب للاكباد مفلقة تقتضي نقصانها (والفناء) أي مما يوجب زوالها (فلم تكن لهم قوّة على الرّؤية) أي في الدنيا (فإذا كان) أي الشأن (في الآخرة وركّبوا تركيبا آخر) أي أقوى وأبقى من الأول (ورزقوا قوى) بضم وتخفيف قاف منونا جمع قوة أي أعطوا حواس وفي نسخة قوة (ثابتة) من الثبوت وفي نسخة ثانية بالنون والباء (باقية) أي تامة وافية(1/431)
(وأتمّ) بصيغة الفاعل أو المفعول أي أكمل (ألله أنوار أبصارهم) أي الظاهرة (وقلوبهم) أي وبصائرهم الباطنة (قووا بها) بفتح قاف وضم واو وأصله قويوا فأعل بالنقل والحذف وهو جواب الشرط أي صاروا ذوي قوة في الآخرة (على الرّؤية) وهذا أمر ظاهر وقول باهر ولا غبار عليه ولا شقاق لديه إذ لا مرية أن الله تعالى يخلقهم في العقبى على خلق أكمل منهم في الدنيا من جهة جمع القوى كما جاءت الأخبار فيه في الأكل والشرب والجماع وغير ذلك فلا ينكر زيادة القوة السامعة والباصرة ونحوهما هنالك لا سيما وقد نفى الشرع إثبات الرؤية للعامة في الدنيا وأثبتها للخاصة في العقبى فلا بد من الجمع بين الأدلة كما هو دأب الأئمة وهو لا ينافي استواء القدرة الكاملة في حالتي الراهنة والمستقبلة الشاملة فاندفع قول الدلجي وهذا منهم دعوى بلا بينة إذ القادر على خلق ذلك لهم في الآخرة قادر على خلقه لهم في الدنيا فلا وجه لتخصيص ذلك بالآخرة ولا دليل عليه إذ الرؤية بمجرد خلقه غير مشروطة بشيء (وقد رأيت نحو هذا) أي مثل هذا القول المنقول عن بعض السلف بعينه (لمالك بن أنس) وهو إمام المذهب (رحمه الله قال لم ير) بصيغة المجهول أي ما يرى الله سبحانه وتعالى (في الدّنيا لأنّه) أي الله تعالى (باق ولا يرى الباقي بالفاني) أي بالحس الفاني أو بالمكان الفاني (فإذا كان) أي أمر الرؤية (في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية) أي وبصائر قوية (رئي الباقي بالباقي) وضبط الأنطاكي رئي بكسر الراء وسكون الياء ثم بهمزة على بناء المجهول (وهذا) أي الذي قاله مالك وما سبق هنالك (كلام حسن مليح) أي ومرام مستحسن صريح ولا عبرة بمنع الدلجي هذه العلة (وليس هو) أي امتناعه وفي نسخة صحيحة وليس فيه أي في امتناعه في الدنيا (دليل على الاستحالة) أي على كونه محالا في العقبى أو مطلقا أو في ذاته بل ليس امتناعه واستحالته (إلّا من حيث ضعف القدرة) أي قدرة العبد وضعف بنيته وفناء حالته وقوته (فَإِذَا قَوَّى اللَّهُ تَعَالَى مَنْ شَاءَ مِنْ عباده) أي على ما شاء من مراده (وأقدره) في أصل الدلجي قدره بتشديد الدال أي وجعله قادرا (على حمل أعباء الرّؤية) بفتح الهمزة وسكون العين فموحدة بعدها ألف ممدودة جمع عبء بالكسر وهو الحمل الثقيل ومنه العباء أي تحمل اثقالها تحت تجلي جمالها وجلالها (لم تمتنع) أي الرؤية (في حقّه) أي في أي وقت كان وفي أي شخص بأن روى ابن عطاء أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى أيوب عليه السلام إنك لتنظر إلي غدا فقال يا رب أبهاتين العينين فقال أجعل لك عينين يقال لهما عينا البقاء فنتظر إلى البقاء وحكي أنه دخل على ابن الماجشون رجل ينكر حديث القيامة وأن الله يأتيهم في صورته فقال له يا بني ما تنكر من هذا فقال إن الله تعالى أعظم من أن يرى في هذه الصفة فقال يا أحمق إن الله تعالى ليس تتغير عظمته ولكن تتغير عيناك حتى تراه كيف شاء فقال الرجل أتوب إليه ورجع عما كان عليه (وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ذُكِرَ فِي قُوَّةِ بَصَرِ موسى ومحمّد عليه الصلاة والسلام ونفوذ إدراكهما) بالذال المعجمة أي مضيه وبلوغه (بقوّة إلهية منحاها) بصيغة المجهول أي أعطياها (لإدراك(1/432)
ما أدركاه ورؤية ما رأياه) أي في الجملة إذ رؤية موسى كانت مترتبة على النظر حين تجلى الرب على الجبل بخلاف رؤية نبينا الأكمل (والله أعلم) أي بحقيقة الحال وحقيقة المآل.
(وقد ذكر القاضي أبو بكر) يعني الباقلاني لأن القاضي أبا بكر بن العربي معاصر للمصنف إذ مولده سنة ثمان وستين وأربعمائة ومماته سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ومولد المصنف سنة ست وسبعين وأربعمائة ومماته سنة أربع وأربعين وخمسمائة ذكره الشمني ونسبه بالنون على غير قياس إذ القياس أن يقال بالهمز بدله (في أثناء أجوبته عن الآيتين) أي الدالتين على نفي الرؤية وهما لا تدركه الأبصار ولن تراني (ما معناه) أي الذي مؤداه لا لفظه ومبناه (أنّ موسى عليه السّلام رأى الله تعالى) أي بواسطة تجلي ربه للجبل (فلذلك خرّ) بتشديد الراء (صعقا) بفتح فكسر ويروى بفتحتين أي سقط مغشيا عليه وإلا فالصعق بمجرد رؤية الجبل دكا بعيد في النظر السديد (وأنّ الجبل رأى ربّه فصار دكّا) أي مدكوكا مدقوقا (بإدراك) متعلق برأى (خلقه الله تعالى له) أي في الجبل كما نقله الماتريدي عن الأشعري وقال الإمام الرازي في المعلم خلق الله تعالى في الجبل حياة وعقلا وفهما وخلق فيه الرؤية فرأى بها (واستنبط) أي القاضي أبو بكر (ذلك) أي رؤيتهما زبهما (وَاللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) أي وبقي على حاله وشأنه عند تجلي ربه (فَسَوْفَ تَرانِي [الْأَعْرَافِ: 143] ثُمَّ قَالَ: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) أي بلا كيف (جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً [الْأَعْرَافِ: 143] وَتَجَلِّيهِ للجبل هو ظهوره له) أي ظهورا تاما بلا كيف (حتّى رآه) أي بناء (على هذا القول) أي الذي عزاه للقاضي أبي بكر (وقال جعفر) أي الصادق (بن محمّد) أي الباقر في حكمة الواسطة في الرؤية (شغله) أي سبحانه وتعالى أي موسى (بالجبل حتّى تجلّى) الأظهر حين تجلى (ولولا ذلك) أي الشغل بالجبل (لمات) أي موسى (صعقا بلا إفاقة) أي بعده مطلقا قال المصنف (وقوله هذا) أي قول جعفر (يدلّ على أنّ موسى رآه) أي رؤية بواسطة من وراء حجاب فلا ينافي قوله تعالى لَنْ تَرانِي بلا واسطة وهذا جمع سديد وقد أبعد الدلجي بقوله هنا وهذا بعيد (وقد وقع لبعض المفسّرين) أي حيث قال (في الجبل) أي في حقه (أنّه رآه) أي رأى تجلي ربه بإدراك وعلم خلقه في خلقته فاندك إذ الدك بمجرد التجلي بلا إدراك بعيد كيف وقد نقل الماتريدي عن الأشعري أن معنى التجلي أن الله تعالى خلق فيه حياة وعلما ورؤية فرآه وهذا نص منهما على اثباتها كذا ذكره الدلجي (برؤية الجبل له) أي لربه تعالى (اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِرُؤْيَةِ مُحَمَّدٍ نَبِيِّنَا لَهُ) أي الله سبحانه وتعالى (إذ جعله) أي جعل الله تعالى ما ذكر من رؤية الجبل له (دليلا على الجواز) أي للرؤية قال الدلجي ذكر الضمير نظرا لما بعده والأولى ما قدمناه مع أن المصدر يؤنث ويذكر فتدبر (ولا مرية) بكسر الميم وتضم أي ولا شك (في الجواز) أي جواز الرؤية (إذ ليس في الآيات) أي آية لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وآية لَنْ تَرانِي وآية فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي (نصّ في المنع) أي للرؤية بل هي مشيرة إلى الجواز في مقام المرام كما سبق عليه الكلام. (وأمّا(1/433)
وجوبها) أي وجوب وقوعها (لنبيّنا) صلى الله تعالى عليه وسلم، (والقول) أي الجزم (بأنّه رآه بعينه فليس فيه قاطع) أي من قواطع الأدلة أي على وقوع الرؤية (ولا نصّ) أي دليل صريح يعول في ثبوت وقوعه عليه (إذ المعول فيه) أي المعتمد عليه في هذا الاستدلال (على آيتي النّجم) أي قوله تعالى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (والتّنازع فيهما مأثور) أي والاختلاف في معنى الآيتين بين الأئمة في كتب التفسير والسير مذكور ومسطور (والاحتمال) أي العقلي والنقلي (لهما ممكن) أي من حيث دلالتهما على الرؤية وعدمها لعدم صراحتهما بها (وَلَا أَثَرَ قَاطِعٌ مُتَوَاتِرٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم بذلك) أي بكونه رآه بعينه وفي نسخة صحيحة لذلك أي لما ذكر (وحديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنه) أي الذي تقدم من أنه رآه بعينه (خبر عن اعتقاده) أي الذي نشأ عن استنباطه (لم يسنده إلى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حتى يعتبر (فيجب) بالنصب (العمل) وفي نسخة العلم (باعتقاد مضمّنه) بتشديد الميم المفتوحة أي مفهومه ومضمومه من رؤية ربه بعينه (وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ) أي قوله رأى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ربه. (وحديث معاذ) أي رأيت ربي في أحسن صورة (محتمل) بكسر الميم (للتّأويل) أي على ما تقدم من أنه رآه بفؤاده وفي منامه (وهو) أي والحال أن حديثه (مضطرب الإسناد والمتن) أي ومن المعلوم أن اضطراب أحدهما موجب لضعف الحديث فلا يصلح للاستدلال لا سيما مع ما سبق من الاحتمال ثم اضطرابه من حيث الإسناد فإنه تارة يروي عن عبد الرحمن بن عابس الحضرمي مرسلا فإن عبد الرحمن ليس بصحابي وتارة عن معاذ ابن جبل واضطرابه من حيث المتن فإنه رواه الطبراني في كتابه بإسناده عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل قال احتبس علينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن صلاة الغدوة حتى كادت الشمس تطلع فلما صلى الغدوة قال إني صليت الليلة ما قضى لي ووضعت جنبي في المسجد فأتاني ربي في أحسن صورة الحديث ورواه أحمد بن حنبل على هذا السياق وفيه أني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استيقظت فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة الحديث فقد اختلف متن الحديث كما ترى وسياق الإسناد واحد والاختلاف في متن حديث واحد موجب للاضطراب. (وحديث أبي ذرّ الآخر) بالرفع على أنه صفة لحديث (مختلف) بكسر اللام أي من حيث اللفظ والمبنى (محتمل) أي من حيث المعنى (مشكل) أي حيث لا يمكن الجمع بينهما ولا ترجيح أحدهما أو محتمل لأن يكون رآه ولم يره أو رآه وبعينه أو بقلبه مشكل من حيث اطلاق النور على الذات والنور بمعنى المنور من جملة الصفات (فروي) ويروى فيروى وهو حديث أبي ذر قال سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هل رأيت ربك فقال (نور) أي هو نور عظيم (أنّى أراه) بهمزة مفتوحة فنون مشددة مفتوحة بمعنى كيف أي كيف يتصور أني أرى الله تعالى فإن الشيء يرى بالنور وهو إذا غشي البصر حجبه عن رؤية ما(1/434)
وراءه من كمال الظهور فالضمير في اراه عائد إلى الله تعالى كما صرح الإمام أبو عبد الله المازري أي كمال النور منعني عن الرؤية وتمام الظهور كما جرت العادة بإغشاء الأنوار الأبصار فيمنعها من الإبصار قال الحلبي هكذا رواه جميع الرواة في جميع الأصول أي جميع أصول مسلم والروايات ومعنا حجابه النور فكيف أَرَاهُ. (وَحَكَى بَعْضُ شُيُوخِنَا أَنَّهُ رُوِيَ نُورَانِيٌّ) أي بفتح النون والراء بعده ألف فنون مكسورة وتحتية مشددة منونة و (أراه) بضم همزة على ما ذكره الحجازي قال المزي وهذا تصحيف والصواب الأول ويدل عليه قوله رأيت نورا وقوله حجابه النور انتهى وقال الشمني يحتمل أن يكون معناه راجعا إلى ما سبق ولا يخفى بعده وغرابته إذ الأول دال على نفي رؤيته واستبعاده والثاني على اثباته واستعداده، (وفي حديثه الآخر) أي وفي حديث آخر لأبي ذر (سألته) أي النبي صلى الله عليه وسلّم أرأيت ربك (فقال رأيت نورا) كيف أراه وفي شرح الدلجي قال المصنف وهذه الرواية لم تقع لنا ولا رأيتها في أصل من الأصول أي أصول مسلم ومحال أن يكون ذاته تعالى نورا إذ النور جسم يتعالى الله عنه ومن ثمة كان تسميته سبحانه وتعالى في الكتاب والسنة نورا بمعنى ذي النور أي منوره أو منه النور كما قيل نور السماء بالشمس والقمر والنجم ونور الارض بالأنبياء والعلم وروي بالنبات والاشجار أو المراد بالنور خالقه هذا وفي تخريج أحاديث الإحياء للعراقي في كتاب المحبة قال ابن خزيمة في القلب من صحة إسناده شيء أي من حيث إن في رواية أحمد عن أبي ذر رأيته نورا أني اراه ورجالها رجال الصحيح. (وليس يمكن الاحتجاج بواحد منها) أي من حديثي أبي ذر (على صحّة الرّؤية) أي وقوعها ونفيها لتعارض معنييهما وتناقض إسناديهما (فإن كان الصّحيح) أي متنا أو إسنادا (رَأَيْتُ نُورًا فَهُوَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ ير الله تعالى. وَإِنَّمَا رَأَى نُورًا مَنَعَهُ وَحَجَبَهُ عَنْ رُؤْيَةِ الله تعالى وإلى هذا) أي إلى معنى قوله رأيت نورا (يرجع قوله نور أنّى أَرَاهُ أَيْ كَيْفَ أَرَاهُ مَعَ حِجَابِ النُّورِ المغشّى) بصيغة الفاعل مخففا أو مشددا أي المغطى (للبصر وهذا) أي حديث نوراني أراه (مثل باقي الحديث الآخر) أي من حيث المعنى (حجابه النّور) كما رواه الطيالسي عن أبي موسى الأشعري وأصله في مسلم وأوله أن الله لا ينام ولا ينبغي أن ينام (وفي الحديث الآخر) أي الذي رواه ابن جرير عن محمد بن كعب عن بعض الصحابة (وفي الحديث الآخر) أي الذي رواه ابن جرير عن محمد بن كعب عن بعض الصحابة (لم أره بعيني ولكن رأيته بقلبي) زيد فيه ههنا (مرّتين وتلا) أي قرأ الراوي شاهدا لصحة رؤيته ربه بقلبه (ثُمَّ دَنا) أي قرب نبينا (فَتَدَلَّى [النجم: 8] ) أي زاد في التقرب إليه سبحانه وتعالى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (والله تعالى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْإِدْرَاكِ الَّذِي فِي الْبَصَرِ في القلب) أي على أن يجعله في القلب (أو كيف شاء) أي بأن يخلق إدراك في السمع أو غيره وأن يخلق إدراك الرؤية السمع في البصر ونحوه (لا إله غيره) أي حتى يمانعه ويدافعه عن مراده في عباده (فإن ورد حديث نصّ بيّن) بتشديد الياء المكسورة أي ظاهر لا يحتمل تأويلا (في الباب) أي في باب الرؤية(1/435)
من ثبوتها ووقوعها (اعتقد) بصيغة المجهول وفي نسخة احتمل (وَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ إِذْ لَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ) أي في جواز الرؤية وحصولها (ولا مانع قطعيّ) أي من جهة شهود العقل أو ورود النقل (يردّه) أي عند المحقق (والله الموفّق للصّواب) أقول والله سبحانه وتعالى أعلم أنه يمكن الجمع بين الأدلة في هذه المسألة المشكلة بأن ما ورد مما يدل على إثبات الرؤية إنما هو باعتبار تجلي الصفات وما جاء مما يشير إلى نفي الرؤية فهو محمول على تجلي الذات إذ التجلي للشيء إنما يكون بالكشف عن حقيقته وهو محال في حق ذاته تعالى باعتبار احاطته وحياكته كما يدل عليه قوله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وقوله سبحانه وتعالى وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ومما يؤيده أنه قال تعالى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ففي ذكر الرب والجعل تلويح لما قررناه وكذا في قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ تلميح لما حررنا وكذا في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته تصريح بما قررنا والحاصل أن ما علم يقينا من معرفته في الدنيا يصير عين اليقين بها في العقبى مع أن التجليات الصفاتية الكاشفة عن الحقيقة الذاتية لا نهاية لها في المقامات الأبدية والحالات السرمدية فالسالك المنتهي في السير إلى الله تعالى يكون في الجنة أيضا سائرا في الله كما قال تعالى وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى مع أنه لا نهاية لآخريته كما أنه لا بداية لأوليته فهو الأول والآخر والباطن والظاهر وهو أعلم بالظواهر والضمائر وما كشف للعارفين من الحقائق والسرائر.
فصل [في فوائد متفرقة]
في فوائد متفرقة مما وقع له صلى الله تعالى عليه وسلم في ليلة الإسراء (وأمّا ما ورد في هذه القصّة) أي قصة الإسراء (من مناجاته لله عز وجل) أي مكالمته سرا (وكلامه معه) جهرا أو من محادثته صلى الله تعالى عليه وسلم سبحانه وتعالى وكلام الله معه عز شأنه (بقوله) أي بدليل ما ورد من قوله تَعَالَى (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى
[النَّجْمُ: 11] إلى ما تضمّنتصه الأحاديث) أي ما وردت به السنة مما سيذكر في هذا المعنى (فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُوحِيَ هُوَ اللَّهُ تعالى إلى جبريل وجبريل إلى محمّد إلّا شذوذا منهم) أي إلا طائفة قليلة من المفسرين خارجة عن جمهورهم منفردة عنهم (فذكر عن جعفر بن محمّد الصّادق) صفة جعفر (قال أوحى إليه بلا واسطة) أي كما يقتضيه مقام الكرامة وحالة المباسطة (ونحوه عن الواسطيّ) أي منقول (وإلى هذا) أي قوله (ذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَلَّمَ رَبَّهُ في الإسراء) أي في ليلته أو حالته (وحكي عن الأشعري) أي القول بأنه كلمه فيها (وَحَكَوْهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنْكَرَهُ) أي نفي تكليمه بلا واسطة (آخرون) وسيرد ما يردهم (وَذَكَرَ النَّقَّاشُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الإسراء عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله دَنا فَتَدَلَّى أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (فارقني جبريل) أي في مقام معين له كما أخبر الله(1/436)
سبحانه وتعالى عن الملائكة بقوله وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وقال معتذرا لو دنوت انملة لاحترقت (فانقطعت الأصوات عنّي) أي بعد مفارقة جبريل مني وحصل الرعب والوحشة في قلبي (فسمعت كلام ربّي وهو يقول ليهدأ) بكسر لام الأمر ففتح فسكون ففتح فهمز ساكن أي ليسكن (روعك) بفتح الراء أي فزعك وإن روي بضم الراء فالمعنى ليطمئن نفسك فإني معك وأصل الروع بالضم القلب ومنه الحديث نفث جبريل في روعي فيحتمل أنه ذكره لأنه محل الروع فسمي باسم ما حل فيه أو سمي كله باسم القلب الذي فيه الروع فسمي باسم بعضه (يا محمّد ادن) بضم همزة ونون أمر من الدنو (ادن) كرر للتأكيد وإفادة زيادة القرب والتأييد فالدنو بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم دنو رتبة وقربة ومكانه لا دنو مكان ومسافة ومساحة أو المراد الدنو إلى عرشه المحيط بعلو العالم وفرشه. (وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْإِسْرَاءِ نَحْوٌ مِنْهُ) أي موقوفا عليه أو مرفوعا عنه فإن صح رفعه وكذا وقفه لأنه يعطى حكمه فلا كلام فيه مع أنه يمكن الجمع بأن ما أوحي إليه من الوحي الجلي وهو القرآن المبين فلا يكون إلا بواسطة جبريل الأمين كما قال تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وما أوحي إليه من الوحي الخفي فهو بلا واسطة أحد وبلا تقييد لغة كما هو قضية الإلهام مما لا يخفى على العلماء الأعلام ومشايخ الإسلام من هداة الأنام (وقد احتجّوا) أي الآخرون (في هذا القول) بأنه كلمه بلا واسطة بقوله تعالى وَما كانَ لِبَشَرٍ) أي لآدمي (أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً) كلاما خفيا يدرك بسرعة لا بتأمل وروية وهو إما بطريق المشافهة به كما وقع لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أو على سبيل الهتف كما حصل لموسى عليه السلام في وادي الطور بطوى (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي كما وقع لسائر الأنبياء من الوحي الخفي ولبعض الأصفياء من الإلهام الجلي (أَوْ يُرْسِلَ) أي الله تعالى إلى البشر (رَسُولًا) من الملائكة (فَيُوحِيَ) إليه أي بالواسطة بأن يبلغ الملك الرسول من البشر (بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ [الشورى: 51] ) أي من الإحكام والإنباء وهذا الذي ذكرناه أظهر مما ذكره المصنف بقوله (فقالوا هي) أي الآية الدالة على أنواع الكلام أو مكالمته تعالى للبشر على (ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَتَكْلِيمِ مُوسَى هذا) أي أحدها (وبارسال الملائكة) الأظهر الملك بصيغة الإفراد لأن المشهور ان جبريل هو صاحب الوحي ولعل وجه الجمع أنه ما يخلو عن صحبته جماعة من الملائكة كما يستفاد من قوله تعالى عالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا (كحال جميع الأنبياء) الأولى كحال سائر الأنبياء جميعها (وأكثر أحوال نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم) وهذا هو القسم الثاني قال الواحدي المفسر في قَوْلِهِ تَعَالَى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى الآية الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإخبار جبريل إليه عيانا وحاوره شفاها والنبي الذي تكون نبوته الهاما أو مناما فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا هذا كلام الواحدي قال النووي في تهذيبه فيه نقص في(1/437)
صفة النبي فإن ظاهره أن النبوة المجردة لا تكون برسالة ملك وليس كذلك. (والثّالث قوله) أي ما أفاده (إلا وحيا) وهو وما بعده أحوال أي إلا موحيا أو مسمعا من حجاب أو مرسلا (ولم يبق من تقسيم صور الكلام) أي المنحصر في هذا المقام ثم الكلام كذا في نسخ الكرام وقال التلمساني الكلام كذا ثبت بخط القاضي المصنف وبخط العراقي المكالمة وهو الصواب بدليل قوله (إلّا المشافهة مع المشاهدة) فاختص بها نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم والله سبحانه وتعالى أعلم وحاصل قوله إنه لم يبق من تقسيم صور الكلام الخ أنه ينبغي أن يحمل قوله وحيا على المشافهة مع المشاهدة إذ لم يبق من التقسيم إلا هذا (وقد قيل الوحي هنا) أي في عالم السماء أو في هذه الآية الاسمى (هو ما يلقيه) أي يقذفه الهاما (في قلب النّبيّ) أي قلب نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أو النبي من الأنبياء (دون واسطة) أي من الوحي الخفي كما سبق إليه الإشارة (وقد ذكر أبو بكر البزّار) بتشديد الزاء ثم راء نسبة إلى عمل بزر الكتان زيتا بلغة البغداديين (عَنْ عَلِيٍّ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مَا هُوَ أوضح) أي أظهر وأصرح (في سماع النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لكلام الله من الآية) أي من الاستدلال بمفهومها من الأقسام الثلاثة وقال الدلجي من آية فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
وهو بعيد كما لا يخفى (فذكر فيه) أي علي مرفوعا أو موقوفا يقتضي أن يكون في الحكم مرفوعا (فقال الملك) بفتح اللام (الله أكبر الله أكبر فقيل لي) فيه دلالة على أن الحديث مرفوع وفي نسخة له أي للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفيه إشارة إلى أن الحديث موقوف أو نقل بالمعنى (مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَكْبَرُ أنا أكبر، وقال) أي الله تعالى مِنْ وَراءِ حِجابٍ (في سائر كلمات الأذان مثل ذلك) أي صدق عبدي مع ما يناسب ما قبله من النداء وفيه أنه إنما يدل على كلامه بلا واسطة لا مع المشافهة والمشاهدة كما يقتضيه اقسام الآية (ويجيء الكلام في مشكل هذين الحديثين) أي حديث ابن عباس وعلي (في الفصل بعد هذا) أي الفضل (مع ما يشبهه) أي مما ورد في حديث غيرهما (وفي أوّل فصل من الباب منه) أي سيجيء الكلام على دفع إشكال المرام وضمير منه يعود إلى ما في قوله مع ما يشبهه (وكلام الله تعالى لمحمّد) عليه الصلاة والسلام (ومن اختصّه من أنبيائه) كموسى عليه السلام (جَائِزٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَقْلًا وَلَا وَرَدَ فِي الشّرع يمنعه) أي يمنع جوازه نقلا (فإن صحّ في ذلك خبر) أي في كلامه لغير موسى عليه السلام منهم (اعتمد عليه) بصيغة المجهول وفي نسخة احتمل عليه (وكلامه تعالى لموسى كائن) أي واقع (حقّ) أي ثابت (مقطوع به نصّ ذلك في الكتاب) أي بقوله وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى (وأكّده بالمصدر) أي بقوله تكليما (دلالة) بفتح الدال وتكسر أي علامة (على الحقيقة) أي ودفعا لتوهم ارادة المجاز في القضية بناء على ما ذهب إليه المحققون من أن الفعل إذا أكد بالمصدر دل على الحقيقة ولذا يقال أراد زيد إرادة لا يقال إراد الجدار إرادة لأنه لا يتصور منه حقيقة الإرادة (ورفع مكانه) أي الحسي المشعر بعلو قربه المعنوي (على ما ورد في الحديث) أي جاء التصريح في(1/438)
بعض طرق الحديث الصحيح بأنه (في السّماء السّابعة) أي على ما رواه البخاري في التوحيد أن موسى في السماء السابعة وإبراهيم في السادسة ثم قال بتفضيله لكلام الله تعالى وهو موافق لما في الأصل وقيل صوابه السادسة لأن موسى فيها وإبراهيم في السابعة فالسابعة لموسى غلط ويؤيده أنه قال الحاكم تواترت الأحاديث أنه في السادسة ثم هذه الرفعة في المقام (بسبب كلامه) أي تكليم الله تعالى إياه عليه السلام (ورفع محمّدا فوق هذا كلّه) كما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ (حتّى بلغ مستوى) أي مكانا مستويا لا ترى فيه عوجا ولا أمتا (وسمع صريف الأقلام) أي صوت جريانها بما تكتبه من الأقضية والأحكام (فكيف يستحيل في حقّ هذا) أي النبي عليه الصلاة والسلام (أو يبعد) أي يستغرب ويستبعد منه (سماع الكلام؟ فسبحان من اختصّ) وفي نسخة من خص (من شاء بما شاء) أي من جزيل كرمه وجميل نعمه (وجعل بعضهم فوق بعض درجات) أي في المقامات العاليات.
فصل [وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَظَاهِرُ الآية من الدنو والقرب]
أي في متممات هذه القصة ومكملات هذه القضية (وأمّا ما ورد في حديث الإسراء) أي أحاديث سيره إلى السماء (وَظَاهِرُ الْآيَةِ مِنَ الدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ مِنْ قَوْلِهِ: دَنا فَتَدَلَّى) أي حيث ظواهر الضمائر إليه صلى الله تعالى عليه وسلم لا إلى جبريل كما قيل (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) أي قدرهما (أَوْ أَدْنى [النجم: 8] ) أي بل أقرب وكون أو للتنويع أنسب (فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الدُّنُوَّ وَالتَّدَلِّيَ مُنْقَسِمٌ مَا بين محمّد وجبريل عليهما السّلام) إذ قد دنا كل منهما من الآخر (أو مختصّ بأحدهما) أي بأن محمدا أو جبريل دنا (من الآخر) وفيه أنه لم يكن بينهما بعد حتى يقال دنا فتدلى فتدبر قال النووي المراد بالقاب في الآية عند جميع المفسرين هو المقدار ثم اعلم أن من ذهب إلى أن الدنو والتدلي ما بين محمد وجبريل يقول المعنى دنا جبريل من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فتدلى أي نزل عليه وذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سأله أن يراه على صورته التي جبل عليها فقال لن نقوى على ذلك قال بلى قال فأين تشاء أن أتخيل لك قال بالأبطح قال لا يسعني قال فبمنى قال لا يسعني قال فبعرفات قال ذلك بالحرى أن يسعني فواعده فخرج النبي صلى الله عليه وسلّم للوقت فإذا جبريل قد استوى له أي قام في صورته التي خلقه الله تعالى عليها له ستمائة جناح وهو بالأفق الأعلى أي في جانب المشرق في اقصى الدنيا عند مطلع الشمس فسد الأفق من المغرب فلما رآه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كبر وخر مغشيا فتدلى جبريل عليه السلام فنزل عليه حتى إذا دنا منه قدر قوسين أفاق فرآه في صورة الآدميين كما في سائر الأوقات فضمه إلى نفسه وقال لا تخف يا محمد فقال صلى الله تعالى عليه وسلم ما ظننت أن أحدا من خلق الله هكذا قال كيف لو رأيت إسرافيل عليه السلام أن العرش لعلى كاهله وأن رجليه قد خرقنا تخوم(1/439)
الأرضين السفلى وأنه ليتصاغر من عظمة الله حتى يصير كالوصع يعني كالعصفور الصغير قيل ولم ير جبريل عليه السلام أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد فإنه رآه فيها مرة في الأرض ومرة في السماء ليلة المعراج عند سدرة المنتهى ذكره الأنطاكي (أو من السّدرة المنتهى) وهذا في غاية من البعد على ما لا يخفى (قال الرّازيّ وقال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) أي كما رواه ابن أبي حاتم (هُوَ مُحَمَّدٌ دَنَا فَتَدَلَّى مِنْ رَبِّهِ وَقِيلَ معنى دنا قرب) بضم الراء (وتدلّى زاد في القرب) أظن لا معنى له غيره (وقيل هما بمعنى واحد) أي جمع بينهما للتأكيد (أي قرب) غاية القرب والأول أظهر لأن التأسيس هو الأكثر ولأن زيادة المبنى تفيد زيادة المعنى وقال ابن الأعرابي تدلى إذا قرب بعد علو (وحكى مكّيّ والماوردي عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) أي كما رواه ابن جرير (هو الرّبّ دنا من محمّد) أي تجلى بوصف القرب له وأما قول الدلجي دنو علم فليس في محله إذ لا خصوصية له ولا بمقامه ثم لا معارضة بين قولي ابن عباس إذ نسبة القرب بينهما متلازمة بل إضافته إلى الرب هو الحقيقة فإنه لو لاقربه لما تصور تقربه كما حقق في قوله سبحانه وتعالى يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (فتدلّى إليه) أي نزل إليه صلى الله تعالى عليه وسلم (أي أمره وحكمه) يعني على حذف مضاف أو ارتكاب مجاز والأنسب في معناه قرب الرب منه فتقرب إليه والأول يسمى قرب الفرائض والثاني قرب النوافل هكذا قرره بعض أرباب الفضائل. (وحكى النّقّاش عن الحسن) أي البصري (قال دنا) أي الرب الأمجد (من عبده محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم فتدلّى فقرب منه) أي قرب مكانه لا قرب مسافة وقرب انعام لأقرب أقدام وقرب عناية لا قرب غاية (فَأَرَاهُ مَا شَاءَ أَنْ يُرِيَهُ مِنْ قُدْرَتِهِ وعظمته) أي مما لا إطلاع لأحد على تفصيل جملته وفيه إيماء إلى تفسير قَوْلِهِ لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (قال) أي الحسن أو النقاش وهو الأقرب والأنسب (وقال ابن عبّاس هو) أي مجموع قوله دَنا فَتَدَلَّى (مقدّم ومؤخّر) أي فيه تقديم وتأخير كما بينه بقوله (تدلّى الرّفرف) وهو بساط خضر من نحو الديباج وقيل ما تدلى من الأسرة من غالى الثياب والبسط وقيل هي المرافق وقيل النمارق والطنافس وقيل كل ثوب عريض وقيل هو البساط مطلقا (لمحمّد صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ ثُمَّ) وفي نسخة حتى (رفع) أي بصيغة المجهول أي لربه (فدنا من ربّه) أي دنوا بالنسبة إليه (قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما سبق عنه (فارقني جبريل) أي في مقام قرب الجليل وقال لو دنوت انملة لاحترقت (وانقطعت عنّي الأصوات) أي أصوات الملائكة وسائر المخلوقات (وسمعت كلام ربّي عزّ وجل) أي بجميع الحواس من جميع الجهات وهذا في المعنى هو تجلي الذات بجميع الصفات (وعن أنس في الصّحيح) أي على ما رواه شريك بن أبي نمير (عَرَجَ بِي جِبْرِيلُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَدَنَا الجبّار) أي القاهر لعباده على وفق مراده (ربّ العزّة) أي الغلبة والقوة في القدرة (فتدلّى) أي الجبار (حتّى كان منه) أي من سيد الأبرار (قاب قوسين) أي قدره وهو غاية القرب في(1/440)
الكونين (أو أدنى) أي بل أقرب مما يوصف بالقرب للمزيد فإنه في مقام المزيد أقرب من حبل الوريد (فأوحى إليه بما شاء) أي من غير واسطة أحد من العبيد ثم التقدير في الآية مكان مسافة قربه مثل قدر قوسين عربيين وفي أنوار التنزيل والمقصود من الآية تحقيق استماعه لما يوحى إليه بنفي العبد الملبس على الخلق (وأوحى إليه خمسين صلاة) أي بأن يصلي هو والأمة في كل يوم وليلة. (ثم خففت حتى قال يا محمد هي خمس وهي خمسون) أي خمسون حقيقة أو حكما (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) في أنها خمسون في الجملة وفي رواية أنهن خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ عشر فتلك خمسون صلاة هذا الحديث في الصحيح من رواية شريك عن أنس وقد استغرب الذهبي في الميزان هذا اللفظ فقال بعد أن ذكر حديث الإسراء إلى أن قال ثم علا به فوق ذلك ما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى وهذا من غرائب الصحيح كذا ذكره الحلبي (وعن محمّد بن كعب) أي القرظي كما في نسخة (هو) أي المراد بمن في الآية (محمّد دنا من ربّه فكان قاب قوسين) أي في مقام قربه لكمال حبه ووقع في أصل الدلجي هو محمد دنا محمد فتكلف له بأن وضع الظاهر موضع المضمر لكمال العناية بذكره إلا أنه مخالف لما في الأصول. (وقال جعفر بن محمّد) أي الصادق (أدناه ربّه منه) أي غاية الدنو وهو يحتمل جعل فاعل دنا الرب أو محمدا والأول أقرب (حتّى كان منه كقاب قوسين) ما أحسن هذه العبارة من زيادة الكاف المفيدة بحسب الإشارة إلى أنه ليس مقدار قوسين في المسافة في مقام القرب المعنوي بل يشبه به باعتبار القرب الحسي كما يستفاد هذا المعنى من قوله الآتي. (وقال جعفر بن محمد) أي الصادق ولم يطلقه لئلا يشتبه بجعفر الطيار، (والدّنوّ من الله لا حدّ له) أي لا يدخل تحت حدود العبارة ولا في ضمن وجود الإشارة على وفق سائر حقائق صفاته فضلا عن حقيقة ذاته (ومن العباد بالحدود) أي والدنو من العباد لا يتصور إلا بالحدود الغائية المنتهية إلى غاية ونهاية في الشهود. (وقال) أي جعفر (أيضا) أي حال كونه معاودا منتقلا إلى معنى الكلام في الدنو ومقام المرام (انقطعت الكيفيّة عن الدّنوّ) أي عن معرفة كنهه وحقيقته (ألا ترى كيف حجب جبريل عليه السلام) بفتح الحاء أي الرب الجليل (عن دنوّه) أي دنو الخليل فكيف يطعمع غيره إلى معرفة سواء السبيل مع اختلاف القال والقيل (ودنا محمّد إلى ما أودع قلبه) بصيغة المفعول أو الفاعل (من المعرفة والإيمان) أي من كمال المعرفة وزيادة الإيمان المنتجة إلى مقام الإحسان وشهود العرفان (فتدلّى بسكون قلبه إلى ما أدناه) أي قربه إليه وأشرق بأنوار المعارف وأسرار العوارف لديه (وزال عن قلبه الشّكّ والارتياب) أي عن توهم حلول الشك حول ذلك الجناب في حصول فتح هذا الباب والله تعالى أعلم بالصواب وهذا معنى خاص في الآية على طريق الإشارة القريب إلى معنى العبارة. (قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى) أي المصنف (اعْلَمْ أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ إِضَافَةِ الدُّنُوِّ والقرب هنا من الله) أي لعبده (أو إلى(1/441)
الله) أي من عبده (فليس بدنوّ مكان) أي مسافة بل دنو عناية ومكانة (ولا قرب مدى) بفتح الميم والدال منونا أي ولا قرب غاية ونهاية تعالى الله عن الاتصال والانفصال والحلول والاتحاد وما يقوله أرباب الضلال والإضلال (بل كما ذكرنا عن جعفر بن محمّد الصّادق ليس بدنوّ حدّ) أي يحس ببصر أو يدرك بنظر (وإنّما دنوّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم من ربّه. وقربه منه) عطف تفسير (إبانة عظيم منزلته) أي إظهار عظمته ومرتبته (وتشريف رتبته) أي وإظهار شرف رتبة قربته الناشئة من نهاية محبته وغاية طاعته (وإشراق أنوار معرفته) أي بذاته وصفاته. (ومشاهدة أسرار غيبه) أي مغيباته في ملكوت أرضه وسمواته (وقدرته) أي على ما تعلقت به مشيئته من وجود مخلوقاته (ومن الله تعالى) أي من جهته سبحانه وتعالى وهو متعلق بإبانة ووقع في أصل الدلجي زيادة الواو العاطفة وهو مخالف لما في الأصول المعتبرة (له) أي سبحانه وتعالى في حق نبيه أو لنبيه في مقام قربه (مبرّة) بفتح الميم والباء وتشديد الراء بمعنى البر أي مزيد جزيل فوائده إليه وجميل عوائده عليه (وتأنيس) أي وزيادة أنس (وبسط) أي غاية انبساط (وإكرام) أي وظهور إحسان وإنعام (ويتأوّل) بصيغة المجهول (فيه) أي في دنوه سبحانه وتعالى من نبيه (ما يتأوّل في قوله) أي على ما ورد في الكتب الستة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا (ينزل ربّنا إلى سماء الدّنيا كل ليلة) أي يؤول دنوه تعالى منه بما يؤول به نزوله سبحانه وتعالى. (على أحد الوجوه) أي من أن نزوله إنما هو يكون (نزول إفضال وإجمال وقبول وإحسان) والمعنى أنه تعالى يتجلى ذلك الزمان بهذه الصفات من إفاضة الفضل وإفادة الكرم ورعاية القبول ونهاية الإحسان (قال الواسطيّ من توهّم) أي من المريدين (أنّه بنفسه) أي بحوله وقوته (دنا) أي قرب من ربه (جعل ثمه) بفتح المثلثة وتشديد الميم أي في ذلك المقام (مسافة) أي ولا مسافة في قربه للاستحالة (بل كلّ ما دنا بنفسه من الحقّ) أي بزعمه (تدلّى بعدا) أي في حقيقة أمره ونتيجة حكمه (يعني) تفسير من المصنف أو غيره أي يريد (عن درك حقيقته) بسكون الراء وفتحها أي بعد عن إدراك حقيقته وتصور حقيته إذ هو منزه عن شمول إحاطته (إذ لا دنوّ للحقّ ولا بعد) أي دنو مسافة ولا بعد مساحة وأما قوله تعالى فَإِنِّي قَرِيبٌ فتمثيل لكمال علمه وتمام فيضه وإجابته، (وقوله قاب قوسين أو أدنى) يحتمل احتمالين في المعنى (فمن جعل الضّمير) أي في دنا ويروى فإن جعل الضمير (عائدا إلى الله تعالى لا إلى جبريل على هذا) أي يحتاج إلى تأويل وهو أنه (كان) أي الدنو (عبارة عن نهاية القرب) أي المعنوي (ولطف المحلّ) أي المقام الأنسي (وإيضاح المعرفة) من باب الافعال أو الافتعال أي وضوح المعرفة في مقام المشاهدة ويروى المنزلة بدل المعرفة (والإشراف) وفي نسخة بالقاف أي الاطلاع (على الحقيقة) أي المنزهة عن المسافة (من محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) أي من جهته ورعايته، (وعبارة) بالنصب عطف على عبارة السابقة (عن إجابة لرغبة) أي مرغوباته (وقضاء المطالب) بأداء مطلوباته (وإظهار التّحفّي) بفتح المثناة الفوقية والحاء المهملة وتشديد الفاء(1/442)
المكسورة أي المبالغة في ظهور البر والإحسان أو في إظهار العلم والإيقان يقال تحفى فلان بصاحبه أي بالغ في بره وتلطفه بالسؤال عن حاله ومنه قوله تعالى إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا قال الزمخشري هو البليغ في البر (وإنافة المنزلة) أي رفعة الرتبة أو زيادتها ويروى إبانة من البيان، (والمرتبة) أي القربة (من الله له ويتأوّل فيه) أي في هذا الدنو (ما يتأوّل في قوله) أي المروي في صحيح البخاري (مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا) هذا الحديث القدسي والكلام الأنسي تمثيل لقرب معنى القرب المعنوي في لباس القرب الحسي فإنه أوقع في النفس الأنسي (ومن أتاني يمشي) أي في طاعته (أتيته هرولة) أي سبقته مسرعا بجزاء عطيته أو بتوفيق عبادته فالدنو في الآية والقرب في الحديث (قُرْبٌ بِالْإِجَابَةِ وَالْقَبُولِ، وَإِتْيَانٌ بِالْإِحْسَانِ وَتَعْجِيلِ الْمَأْمُولِ) أي وإسراع لتحصيل المسؤول لكن بين المقامين بون بين وبين القربين تباين متعين فلا تقاس الملوك بالحدادين لتفاوت مراتب المقربين ومنازل السالكين من المحبين والمحبوبين نفعنا الله ببركاتهم أجمعين.
فصل [في ذكر تفضيله في القيامة بخصوص الكرامة]
(في ذكر تفضيله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِيَامَةِ بِخُصُوصِ الْكَرَامَةِ حَدَّثَنَا القاضي) أي الشهيد (أبو عليّ) أي الحافظ ابن سكرة (حدّثنا أبو الفضل) أي ابن خيرون (وأبو الحسين) بالتصغير وفي نسخة أبو الحسن بفتحتين والأول هو الصواب على ما حققه الحلبي وهو المبارك بن عبد الجبار (قالا) أي كلاهما (حدثنا أبو يعلى) وهو المعروف بابن زوج الحرة (حدّثنا السّنجيّ) بكسر السين وسكون النون فجيم منسوبا (حدّثنا ابن محبوب) هذا هو أبو العباس المحبوبي راوي جامع الترمذي عنه (حَدَّثَنَا التِّرْمِذِيُّ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ يَزِيدَ الْكُوفِيُّ) هو الطحان (حدّثنا عبد السّلام بن حرب) أي النهدي يروي عن عطاء بن السائب وغيره وعنه ابن معين ونحوه أخرج له الأئمة الستة (عن ليث) أي ابن سليم الكوفي أحد الأعلام روى عن مجاهد وطبقته ولا نعلم أنه لقي صحابيا وعنه شعبة وخلق وفيه ضعف يسير من سوء حفظه وكان ذا صلاة وصيام وعلم كثير وبعضهم احتج به (عن الرّبيع بن أنس) تقدم (عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنا أوّل النّاس خروجا) أي من القبر (إذا بعثوا) بصيغة المفعول أي أثيروا من قبورهم ونشروا (وأنا خطيبهم) أي متكلم عنهم فيما بينهم (إذا وفدوا) أي قدموا على ربهم (وأنا مبشّرهم) أي بما يسرهم (إذا أيسوا) أي قنطوا من رحمة ربهم من شدة حسابهم وهو عذابهم. (لواء الحمد) أي يومئذ كما في الجامع الصغير (بيدي) أي لإنفراده بالحمد الذي يليهم به أو لأنه يحمده الأولون والآخرون تحت لوائه كما قال آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولذا سمي مقاما محمودا وهو قيامه بالشفاعة العظمى وأصل اللواء الراية ولا يمسكها إلا صاحب الجيش وموضوع اللواء شهرة مكان الرئيس ليعتمدوا عليه ويرجعوا إليه (وأنا أكرم ولد آدم) أي هذا الجنس(1/443)
(على ربّي) أي عنده (ولا فخر) أي ولا أقول هذا فخرا من أثر عجبي بل تحدثا بنعمة ربي.
(وفي رواية ابن زحر) بفتح زاي فسكون حاء مهملة فراء وهو عبيد الله بن زحر الإفريقي العابد يروي عن علي بن يزيد وابن إسحاق وطبقتهما وله مناكير ضعفه أحمد وقال النسائي لا بأس به وقد أخرج له البخاري في الأدب المفرد (عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي لَفْظِ هَذَا الحديث) لعله من طريق أخرى للمصنف غير طرق الترمذي فاندفع به قول الحلبي هذه الرواية ليست في الكتب الستة فضلا عن الترمذي وتوجيه قول الدلجي إن هذه رواية أبي نعيم في الدلائل عن ابن زحر ثم رأيت التلمساني ذكر أنه ثبت بخط القاضي وفي رواية ابن زحر والربيع بن أنس يعني بالعطف وعند العرفي عن الربيع عن أنس يعني كما في الأصل وعلى كلا الوجهين المروي عنه هو أنس بن مالك (أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا وَأَنَا قائدهم إذا وفدوا) أي مقدمهم وفي الحديث قريش قادة رادة (وأنا خطيبهم إذا أنصتوا) أي سكتوا ولم يقدروا أن يتكلموا فاعتذر لهم عما فعلوا (وأنا شفيعهم إذا حبسوا) أي وقفوا يوم القيامة فيموج بعضهم في بعض فيفزعون إلى الأنبياء فيقول كل نفسي نفسي فيأتونه فيشفع لهم الشفاعة العظمى لفصل القضاء (وأنا مبشّرهم إذا أبلسوا) بضم همز وسكون موحدة وكسر لام فسين مهملة أي يئسوا وتحيروا ومنه قوله تعالى فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ وبه سمي إبليس وكان اسمه عزازيل هكذا ذكره التلمساني وروي يئسوا بتقديم الياء على الهمزة من اليأس وروي بتقديم الهمزة على الياء من الإياس وهو قطع الرجاء. (لواء الكرم) أي الذي ترتب عليه الحمد (بيدي) أي بتصرفي وأصل اللواء العلم والراية ويجوز أن يراد به حقيقته وهو الأولى لأن الرئيس علامته اللواء ويجوز أن يكون إشارة لرفعة مقامه وظهور مرامه ويؤيد الأول ما ورد من أنه يكون يوم القيامة لكل متبوع لواء يعرف به أنه قدوة حق أو أسوة باطل وجاء في حديث عقبة بن عامر أن أول من يدخل الجنة الحمادون لله تعالى على كل حال يعقد لهم يوم القيامة لواء فيدخلون الجنة ثم قيل اللواء ما كان مستطيلا والراية ما كان مربعا والأظهر أن اللواء هو الراية العظيمة فهي أعم والله تعالى أعلم (وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي وَلَا فخر) أي ولا أقول فخرا بل أمتثل أمرا (ويطوف عليّ ألف خادم) أي من أفضل خدام أهل الجنة (كأنّهم لؤلؤ مكنون) أي مصون عن الغبار والصفار مثل الدر في الصدف على طراوته أو لمصان المدخر لنفاسته وفي اللؤلؤ أربع لغات الهمز فيهما وتركه وهمز الأولى مع ترك الثانية وعسكه ويسمى كباره المرجان لقوله تعالى كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ لأن المراد الحمرة والبياض والله تعالى أعلم وخلاصة المعنى أنهم في الحسن والبياض والصفاء والضياء كأنهم لؤلؤ مستور في صدقه لم تمسه الأيدي من الكن وهو الستر (وعن أبي هريرة رضي الله عنه) كما روى الترمذي وصححه (وأكسى) بصيغة المجهول أي وألبس (حلّة) أي عظيمة (مَنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ العرش) تلويح بقربه من ربه وكرامته في مقام حبه (لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ يَقُومُ ذَلِكَ الْمُقَامَ غيري) يعني به المقام المحمود وصدر الحديث على ما في الجامع الصغير من رواية(1/444)
الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى حلة الحديث (وعن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه) أي الخدريّ كما في نسخة وقد رواه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة عنه مرفوعا (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القيامة) قيده به لظهور سيادته ووضوح رياسته مطلقا فيه لكل أحد من غير منازع ولا مدافع وفي الأصل ولا فخر هنا أيضا (وبيدي لواء الحمد ولا فخر) أي إلا بمثل هذا (وما نبيّ) وفي نسخة ولا نبي وفي نسخة صحيحة وما من نبي (يومئذ آدم) بالنصب ويجوز رفعه (فمن سواه) بكسر السين وضمها أي فمن بعده ولو كان أفضل منه كإبراهيم ونوح وموسى وعيسى عليهم السلام كما يستفاد من العطف بالفاء دون الواو (إلّا تحت لوائي) ووقع في اصل الدلجي آدم يومئذ فمن سواه فتكلف في توجيهه بقوله اعتراض بين النفي والاستثناء أفاد أن آدم بالرفع بدلا أو بيانا من محله (وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فخر) وفي الأصول هنا زيادة وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ (وعن أبي هريرة عنه) كما رواه مسلم وأبو داود (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مشفّع) بفتح الفاء المشددة أي أول مقبول في الشفاعة وإنما ذكر الثاني بإعادة أول لأنه قد يشفع اثنان فيشفع الثاني منهما قبل الأول ذكره النووي ففي البخاري يحبس المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا إلى أن قال فيأتونني فاستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء أن يدعني فيقول محمد ارفع وقل تسمع واشفع تشفع. (وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما) كما روى الترمذي والدارمي (أَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فخر) أي إلا بهذا قيل يعارض هذا الحديث ونحوه ما روي عنه عليه الصلاة والسلام اللواء يحمله يوم القيامة علي وأجيب بأن حديث علي هذا ذكره ابن الجوزي في الموضوعات قيل ولئن صح فالجواب أن عليا لما كان حاملا للواء بأمره أضاف حمله إلى نفسه والأولى أن يقال لواء علي خاص له ولأشياعه وكذا لأبي بكر وأتباعه وكذا لكل إمام وشيخ مقتدى مع تلاميذه ومريديه لما تقدم والله تعالى أعلم (وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ) أي بهذا بل لي عند الله فوق ذلك مما أفتخر به هنالك (وأنا أوّل من يحرّك حلق الجنّة) أي بابها للاذن بدخولها والحلق بفتحتين وقد تكسر حاؤه جمع حلقة (فيفتح لي) بصيغة المجهول (فأدخلها فيدخلها معي) أي من أمتي (فقراء المؤمنين) أي من المهاجرين وغيرهم على مراتبهم (ولا فخر) أي في هذا المقام إلا بالفقر وأما حديث الفقر فخري فموضوع كما صرح به الحفاط ثم الفقر قد يكون مذموما كما ورد كاد الفقر أن يكون كفرا ومنه حديث أعوذ بك من الفقر والمحمود منه إنما هو بغنى النفس كما ورد ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس ونعم ما قيل:
غنى النفس ما يكفيك عن سد حاجة ... فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا(1/445)
وقد قال الله تعالى وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ والفقير الحقيقي هو الذي يرى دوام افتقاره في حال اضطراره واختياره (وأنا أكرم الأوّلين والآخرين ولا فخر) أي إلا بالغيبة عنهم وبالحضور مع ربهم (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) كما روى مسلم (أنا أوّل النّاس يشفع) وفي نسخة يشفع بتشديد الفاء المفتوحة (في الجنّة) أي لرفع درجات المطيعين ولدخول العصاة من المؤمنين (وأنّا أكثر النّاس) أي من الأنبياء (تبعا) ولفظه في مسلم على ما في الجامع الصغير أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة وأنا أول من يقرع باب الجنة (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) كما في الصحيحين (قال النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وتدرون لما ذلك) كأنه قيل الله ورسوله أعلم فقال أو لما علم أنهم لا يدرون ما هنالك قال (يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. وَذَكَرَ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ) وهو إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض فيأتون آدم ليشفع لهم فيقول لست لها إلى أن قال فيأتونني فأقول أنا لها الحديث أي أنا الكائن لها والمتكفل بها ومن ثمة قيل أنت لها أحمد من بين البشر (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَطْمَعُ أَنْ أَكُونَ أَعْظَمَ الأنبياء أجرا يوم القيامة) لأنه أعظمهم في المشقة بما كلف من عموم الدعوة مع تمرد الكفرة وعتو الفجرة أو المعنى أكثرهم أجرا لكون أمته أكثرهم نفرا. (وفي حديث آخر) أي عنه أو عن غيره (أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ وَعِيسَى فِيكُمْ) أي محشورين في جملتكم (يوم القيامة) أما تخصيص إبراهيم عليه السلام فلقوله تعالى إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وهذا النبي والذين آمنوا ولموافقته في كمال التوحيد في مقام التفريد كما يشير إليه قوله تعالى ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ولكونه جده ومنه جده وأما عيسى عليه السلام فلما أنه يتبعه في ملته بعد نزوله من رفعته ويدفن بعد موته في تربته (ثُمَّ قَالَ إِنَّهُمَا فِي أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أمّا إبراهيم فيقول أتت دعوتي) أي أثر إجابة دعائي حيث قلت في ندائي رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ (وذرّيتي) أي وأنت من ذريتي المذكورة في دعوتي أيضا بقولي رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ الآية ولا نزاع أنه من نسل ولده إسماعيل وأنه لم يبعث منهم بني سواه فهو المجاب به دعوته (وأمّا عيسى عليه السلام فالأنبياء) أي جميعهم (أخوة) أي أولاد أب واحد حقيقة وكذا حكما لاتفاقهم فيما بعثوا لأجله من توحيد وإيمان بما يجب تصديقه ودعوة الخلق إلى الحق وإرشادهم إلى نظام معاشهم وتمام مرادهم في معادهم فتساويهم في أصولهم اعتقادا كان لهم واحد ولتفاوتهم واختلافهم في بعض فروعهم عملا (بنو علّات) بفتح عين مهملة وتشديد لام أي أولاد أمهات مختلفات وأبوهم واحد وبنو الاخياف لمن أمهم واحدة والآباء مختلفون وبنو الاعيان لمن أمهم واحدة وكذا أبوهم واحد كما بينه بقوله (أمّهاتهم شتّى) بفتح شين وتشديد تاء شتيت جمع كمرضى جمع مريض أي متفرقات في نسبة الولادات التي يتولد منها الاختلافات، (وإنّ عيسى أخي) أي بالخصوص من حيث إنه بشر بي قبلي وقام بديني بعدي ويروى وأن عيسى (ليس بيني وبينه نبيّ) ففيه كمال اتصال له بي وكأنه جار لي في(1/446)
مقامي. (وأنا) ويروى فأنا (أولى النّاس به) أي أحقهم ببره أو أخصهم باتصاله بي وقد روى البخاري ومسلم وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة الأنبياء بنو علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وليس بيننا نبي وأما ما ذكره في مستدرك الحاكم من أن فيما بين عيسى ومحمد عليهما السلام بعض الأنبياء كخالد بن سنان فأسانيده لا تقاوم الصحيح وعلى فرض صحته يقال المعنى ليس بيننا نبي مرسل. (قوله) صلى الله تعالى عليه وسلم أي في الحديث السابق (أنا سيّد النّاس) وفي نسخة ولد آدم (يوم القيامة) أتى بقيده ليفيد ظهوره كقوله تعالى وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ومالِكِ يَوْمِ الدِّينِ والْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ (هو سيّدهم في الدّنيا ويوم القيامة) أي وما بعده من العقبى (ولكن أشار صلى الله تعالى عليه وسلم لانفراده) أي إلى اختصاصه (فيه بالسّؤدد) بضم السين وسكون الواو وفتح الدال الأولى (والشّفاعة) أي العظمى (دُونَ غَيْرِهِ إِذْ لَجَأَ النَّاسُ إِلَيْهِ فِي ذلك) تحتمل إذ ان تكون تعليلية وأن تكون حينية ظرفية (فلم يجدوا سواه) أي ملجأ وملاذا يعتمدون عليه. (وَالسَّيِّدُ هُوَ الَّذِي يَلْجَأُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِي حوائجهم) أي في فضائها (فكان حينئذ) أي وقت يلجأون إليه ويتضرعون لديه (سَيِّدًا مُنْفَرِدًا مِنْ بَيْنِ الْبَشَرِ، لَمْ يُزَاحِمْهُ أحد في ذلك) أي ممن استحق السيادة (ولا ادّعاه) أي أحد ممن لا يستحقها وهذا منه صلى الله تعالى عليه وسلم (كما قال تعالى) أي يوم القيامة (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) فلا يجيبه أحد من هول ذلك المشهد فيجيب نفسه بقوله بعد (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غَافِرٍ: 16] وَالْمُلْكُ لَهُ تَعَالَى) أي والحال أن حقيقة الأمر ناطقة بأنه له الملك (في الدّنيا والآخرة لكن في الآخرة) لكون زوال أسبابه وارتفاع وسائطه (انقطعت دعوى المدّعين لذلك) أي للملك أو الملك في الجملة (في الدّنيا) أي لغفلتهم عن أنعت المولى (وكذلك لجأ إلى محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم جميع النّاس في الشّفاعة) أي ليريحهم من هول تلك الساعة (فكان سيّدهم في الأخرى دون دعوى) أي من أحد كان يدعي السيادة في الدنيا، (وعن أنس رضي الله عنه) كما في مسلم (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم آتي) بمد الهمزة أي أجيء (باب الجنّة يوم القيامة فأستفتح) أي فأطلب فتحها لأدخلها (فيقول الخازن) أي رضوان (من أنت) قيل واسم خازن النار مالك وناسب كل اسم ما وكل عليه فالجنة دار الكرامة والرضى فناسب رضوان والنار دار المشقة والعذاب والشدة فناسب مالك كذا ذكره التلمساني ولا يبعد أن يقال لأن الجنة إنما تحصل بالرضى عن المولى والنار إنما تنشأ عن طلب الملك والملك في الدنيا (فأقول محمّد فيقول بك) أي بسببك (أمرت أنه لا أفتح لأحد قبلك) أو أمرت أن افتح لك حال كوني لا أَفْتَحَ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ. (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمرو) أي ابن العاص كما في الصحيحين (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حوضي) أي مسافته أو دورته ومساحته (مسيرة شهر) أي قدر سير شهر (وزواياه) بفتح الزاء جمع زواية أي نواحيه (سواء) بفتح السين ممدودا أي مستوية أي لتربيع أرضه لا يزيد طوله على عرضه قيل أركانه أربعة وسقاته أربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين فمن أبغض واحدا لم يسقه الآخرون(1/447)
وأورد التلمساني حديثا في هذا المعنى ولكن الله تعالى أعلم بصحة المبنى (وماؤه أبيض) أفعل تفضيل وهو حجة للكوفي على البصري أي أشد بياضا (من الورق) بكسر الراء وسكونها وحكي كسر الواو وسكون الراء ونسب إلى الفراء وحكي فتحهما الصغاني وادعى أنه قرئ بها في قوله تعالى بِوَرِقِكُمْ أي الفضة أو الدراهم المضروبة وفي نسخة من اللبن بدل من الورق والأول هو المذكور في جميع نسخ صحيح مسلم والثاني وقع وفي نسخة المصابيح والجمع بتعدد الرواية (وريحه أطيب من المسك) أي من ريحه وفي تخصيصه إيماء إلى أنه أفضل نوع من جنس الطيب (كيزانه) جمع كوز (كنجوم السّماء) أي كثرة وإضاءة وهي من ذهب وفضة كما في رواية ثم قيل المراد به الكثرة لا عددها على الحقيقة والصواب ما قاله النووي من أن العدد على ظاهره ولا مانع شرعا ولا عقلا مما ثبت نقلا لا سيما وقد ورد مؤكدا بالقسم في حديث والذي نفسي بيده لأكثر من عدد نجوم السماء (من شرب منه لم يظمأ) أي لم يعطش (أبدا) أي بعده وفيه إشكال سيذكر في آخر الفصل حله (وعن أبي ذرّ نحوه) أي على ما رواه مسلم. (وقال) أي أبو ذر في حديثه هذا (طوله ما بين عمان) بضم العين وتخفيف الميم من قرى اليمن وبفتح العين وتشديد الميم من قرى الشام بالبلقاء من أقصى حوران والمعروف أنه غير مصروف والمعنى أن مسافة ما بين طرفيه طولا مثل المسافة منها (إلى أيلة) بهمزة مفتوحة وتحتية ساكنة قرية في آخر طرف الشام بساحل البحر متوسطة بين المدينة ودمشق وثمان مراحل بينها وبين مصر قيل هي التي قال الله تعالى وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ هذا وقد قال ابن قرقول عمان التي في الحوض رويناه بفتح العين وتشديد الميم وهي قرية بالشام من عمل دمشق وكذا قاله الخطابي وحكي أيضا فيه تخفيف الميم وفي الترمذي من عدن إلى عمان البلقاء والبلقاء بالشام قاله البكري ويقال فيه أيضا عمان بالضم والتخفيف وزعموا انه المراد بالحديث لذكره مع أيله جرباء وأذرع والكل من قرى الشام وأما عمان التي ببلاد اليمن فبالضم والتخفيف لا غير ووقع في كتاب ابن أبي شيبة ما يدل على أنها المراد في حديث الحوض لقوله ما بين بصرى وصنعاء اليمن ومثله في البخاري وفي مسلم وعرضه من مقامي إلى عمان بالفتح والتشديد عند الصدفي وعند غيره بالضم والتخفيف وقال ابن الأثير حديث الحوض من مقامي إلى عمان هي بفتح العين وتشديد الميم مدينة قديمة بالشام من أرض البلقاء فأما بالضم والتخفيف فهو صقع عند البحرين وله ذكر في الحديث وقال السهيلي بالضم والتخفيف قرية باليمن سميت بعمان بن سنان من ولد إبراهيم فيما ذكروا وبالفتح والتشديد قرية بالشام قرب دمشق سميت بعمان بن لوط بن هاران كان يسكنها فيما ذكروا وقال الحافظ المزي يتعين الضم والتخفيف فإن في الحديث الآخر أيلة وصنعاء (يشخب) بفتح الخاء وضمها من شخب اللبن كمنع ونصر أي يسيل سيلانا شديدا متواليا وقيل يصب بصوت وفي رواية يغت بغين معجمة وتاء مثناة ومعناه اتباع الصب وروي يعب بعين مهملة وباء موحدة ومعناه الشرب بسرعة في نفس واحد وفي رواية ابن ماهان يثعب(1/448)
بثاء مثلثة وعين مهملة وباء موحدة ومعناه يتفجر (فيه) أي في ذلك الحوض (ميزابان) بكسر الميم وسكون الياء وقد يهمز إذ أصله الهمز وقد يشدد تثنية ميزاب وهو مثعب الماء أي الجدول الذي يجري منه الماء إلى الحوض لكن في التعبير عنه بالميزاب إشعار بأن أرض الموقف في أسفل (من الجنّة) أي من أنهارها. (وعن ثوبان مثله، وقال) أي ثوبان في روايته فيما رواه مسلم (أحدهما من ذهب. والآخر من ورق) أي فضة وإنما نوع للزينة كما في الحلي المرصعة والعمارات المزخرفة، (وفي رواية حارثة بن وهب) أي فيما رواه الشيخان عنه وهو بالحاء المهملة وبعد الراء ثاء مثلثة خزاعي له صحبة وهو أخو عبد الله بن عمر بن الخطاب لأمه: (كما بين المدينة وصنعاء) بفتح الصاد وسكون النون ممدودة قاعدة اليمن ومدينته العظمى وهي من عجائب الدنيا كما قال الشافعي وأما صنعاء الروم فقرية في ناحية ربوة دمشق والله تعالى أعلم (وَقَالَ أَنَسٌ: أَيْلَةُ وَصَنْعَاءُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) أي فيما رواه الشيخان عنه (كما بين الكوفة والحجر الأسود) واختلاف الروايات يدل على أن المراد كثرة طوله وإنما ورد تقديره تمثيلا لكل أحد بحسب بعده وتقريبا لفهمه. (وروى حديث الحوض أيضا أنس) كما في الصحيحين (وجابر بن سمرة) فيما رواه مسلم وفي نسخة وجابر وسمرة فعلى تقدير صحته فقد روى جابر بن عبد الله حديثا في الحوض وهو في مسند أحمد وأما سمرة فلم يعرف حديثه فالصواب هو النسخة الأولى، (وابن عمر) كما رواه الشيخان وأبو داود (وعقبة بن عامر) كما رواه مسلم وغيره (وحارثة بن وهب الخزاعيّ) بضم أوله كما رواه البخاري والترمذي (والمستورد) بصيغة الفاعل على ما رواه الشيخان وهو ابن شداد بالشين المعجمة كما أفاده الحلبي (وأبو برزة) بفتح الموحدة وبتقديم الراء على الزاي (الأسلميّ) فيما رواه أبو داود وابن حبان والبيهقي (وحذيفة بن اليمان) كما رواه مسلم وغيره (وأبو أمامة) على ما رواه ابن حبان والبيهقي وهو صدي بن عجلان على ما هو الظاهر وإلا ففي الصحابة خمسة يقال لهم أبو أمامة (وزيد بن أرقم) فيما رواه أحمد بن حنبل والبيهقي (وابن مسعود) كما رواه الشيخان (وعبد الله بن زيد) كما في الصحيحين (وسهل بن سعد) بروايتهما أيضا (وسويد) بالتصغير (ابن جبلة) بفتح الجيم والموحدة تابعي وقيل صحابي فكان ينبغي تأخيره عمن اتفق على صحبته رواه عنه البيهقي وأبو زرعة الدمشقي في مسند أهل الشام ووقع في أصل الحلبي هنا زيادة قوله وابن بريدة وتفرع له اعتراض على المصنف لكنه مخالف لما في النسخ المصححة هذا وفي حاشية قال الصواب سويد بن غفلة بفتح الغين المعجمة والفاء وهو مخضرم عاش مائة وعشرين سنة ومات عام الفيل كذا في الأصل ولعله تصحيف وصوابه ولد عام الفيل (وأبو سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه) فيما رواه مسلم (وعبد الله الصّنابحيّ) بضم الصاد المهملة فنون بعده ألف فموحدة مكسورة فحاء مهملة فياء نسبة قيل هو صحابي نسب إلى جده صنابح رواه أحمد وابن ماجة عنه (وأبو هريرة رضي الله تعالى عنه) كما في الصحيحين (والبراء) بفتح الباء وتخفيف الراء أي ابن عازب كما في نسخة رواه أحمد(1/449)
والطبراني عنه (وجندب) بضم الجيم والدال ويفتح رواه الشيخان عنه وهو عبد الله بن سفيان البجلي وإلا ففي الصحابة من يقال له جندب غيره أثنا عشر قال ابن الأثير متى أطلق اسم جندب من غير ذكر أبيه فهو جندب بن عبد الله هذا وإلا فاسم أبي ذر الغفاري جندب بن جنادة الغفاري مشهور بكنيته (وعائشة) كما في مسلم (وأسماء بنتا أبي بكر رضي الله تعالى عنه) على في الصحيحين (وأبو بكرة) أي السقفي راه الطبراني واسمه نفيع مصغرا وهو ممن اعتزل يوم الجمل ولم يقاتل مع أحد من الفريقين وكان يقول أنا مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال السهيلي وقد تدلى من سور الطائف على بكرة فتسمى أبا بكرة وهو من أفاضل الصحابة (وخولة) بفتح الخاء المعجمة (بنت قيس) كما رواه أحمد وغيره عنها وهي انصارية نجارية زوج حمزة بن عبد المطلب (وغيرهم رضي الله عنهم) كأبي بكر الصديق في صحيح أبي عوانة والبيهقي وعمر للبيهقي في البعث وأبي بن كعب وأسامة بن زيد وحذيفة بن أسيد بفتح فكسر والحسن بن علي وسلمان الفارسي وسمرة بن جندب وأبي الدرداء وأبي معوذ كلهم في الطبراني وأسيد بن حضير في الصحيحين وابن عباس في البخاري وأم سليم في مسلم وجابر بن عبد الله وعائد بن عمرو وثابت بن أرقم وخولة بنت حكيم رواه أحمد في مسنده عنهم ولقيط بن صبرة في زيادات المسند وخباب بن الأرت في المستدرك وكعب بن عجرة في الترمذي والنسائي وبريدة في مسند البزار وعتبة بن عبيد والعرباض بن سارية في صحيح ابن حبان والنواس بن سمعان في كتاب ابن أبي الدنيا وعثمان بن مظعون في تاريخ ابن كثير وعبد الرحمن بن عوف في الطبراني ومعاذ بن جبل في حادي الأرواح ذكره الدلجي وقال زعم المصنف تواتر حديث الحوض والظاهر أن تواتره معنوي لا لفظي لقول ابن الصلاح وغيره لا يكاد يوجد شرط هذا وفي نسخة بعد قوله وسويد بن جبلة وأبو بكر وعمر وابن بريدة ونقل عن ابن جبير أن هذه الزيادة وقعت في طرة الأم بخط المؤلف بغير علامة يخرج إليها ثم ابن بريدة قال الحلبي هو تابعي فحديثه مرسل قلت المرسل حجة عند الجمهور فكيف إذا كان مع جمع حديثهم مشهور هذا وممن روى حديثا في الحوض ولم يذكره القاضي خولة بنت حكم وعبد الله بن عباس أخرجهما أحمد في مسنده كما ذكره الحلبي وقد جمع ذلك كله الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب البعث والنشور بأسانيده وطرقه المتكاثرات واختلف في أن الحوض هل هو قبل الصراط أو بعده أو له حوضان أحدهما بعده والآخر قبله والله تعالى أعلم هذا وقد قال المصنف ظاهر الحديث أن الشرب من الحوض يكون بعد الحساب والنجاة من النار فهذا هو الذي لا يظمأ بعده قال وقيل لا يشرب منه إلا من قدر له السلامة من النار قال ويحتمل أن من شرب من هذه الأمة وقدر عليه الدخول لا يعذب فيها بالظمأ بل يكون عذابه بغير ذلك لأن ظاهره الحديث أن جميع الأمة تشرب منه إلا من ارتد ومات كافرا قال وقيل إن جميع المؤمنين يأخذون كتبهم بإيمانهم ثم يعذب الله من يشاء من عصاتهم وقيل إنما يأخذ بيمينه الناجون خاصة قال وهذا مثله والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/450)
فصل [في تفضيله بالمحبة والخلة]
(في تفصيله بالمحبّة والخلّة) بضم المعجمة وتشديد اللام وسبق فيهما الكلام وسيأتي ما يتحقق به المرام في هذا المقام (جاءت بذلك) أي بتفصيل تفضيله (الآثار الصّحيحة) أي من الأخبار الصريحة (واختصّ بصيغة المفعول أو الفاعل (صلى الله تعالى عليه وسلم على ألسنة المسلمين بحبيب الله) يعني وألسنة الخلق أقلام الحق لا سيما وهذه الأمة لا تجتمع على الضلالة مع كونه جاء صريحا في بعض الأحاديث بأنه حبيب الله. (أنا) أي أخبرنا (أبو القاسم بن إبراهيم الخطيب) هو الإمام المقري يعرف بابن النخاس بالخاء المعجمة المشددة (وغيره) أي وغير أبي القاسم أيضا من المشايخ (عن كريمة) بفتح الكاف وكسر الراء هي الحرة الزاهدة (بنت أحمد) أي ابن محمد بن حاتم المروزي سمعت جامع البخاري من الكشميهني وسمعت زاهد بن أحمد السرخسي وحدثت كثيرا وكانت مجاورة بمكة إلى أن ماتت رحمها الله كذا ذكره الأمير في إكماله على ما نقله الحلبي فما في بعض النسخ بنت محمد غير صحيح (ثنا) أي حدثنا (أبو الهيثم) أي الكشميهني (وحدّثنا) بالواو الدالة على تحويل السند وفي أصل الحلبي وأخبرنا (حسين بن محمّد الحافظ سماعا عليه) هو ابن سكرة. (حدّثنا القاضي أبو الوليد) أي الباجي (حدّثنا عبد بن أحمد) بالوصف لا بالإضافة هو أبو ذر الهروي (حدّثنا أبو الهيثم) أي الكشميهني (حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) أي الفربري (حدّثنا محمّد بن إسماعيل) أي الإمام البخاري (حدّثنا عبد الله بن محمّد) الظاهر أنه المسندي ومستنداته أنه من طلبة أبي عامر وإلا فقد روى البخاري عن أربعة كل منهم اسمه عبد الله بن محمد على ما ذكره الحلبي وقال الكلاباذي هو عبد الله بن محمد بن جعفر بن السمان أبو جعفر المعروف بالمسندي لأنه كان وقت طلبه يتتبع الأحاديث المسندة ولا يرغب في المقاطيع والمراسيل (حدّثنا أبو عامر) أي عبد الملك بن عمرو بن قيس أي العقدي بفتح العين والقاف بصري أخرج له الستة (حدّثنا فليح) بضم الفاء وفتح اللام فمثناة تحتية ساكنة فحاء مهملة ابن سليمان العدوي مولاهم المدني واسمه عبد الملك ولقبه فليح محتج به في الصحيحين وقال ابن معين وأبو حاتم والنسائي ليس بالقوي اخرج له الأئمة الستة (حدّثنا أبو النّضر) بالضاد المعجمة هو سالم بن أبي أمية المدني التابعي (عن بسر) بضم موحدة وسكون سين مهملة (بن سعيد) أي ابن الحضرمي المدني الزاهد مات ولم يخلف كفنا (عن أبي سعيد) أي الخدري (عن النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خليلا غير ربّي لاتّخذت أبا بكر) أي خليلا والمعنى جعلته مخصوصا بالصداقة والمحبة وهو فعيل من الخلة بالضم وهي الصداقة التي تتخلل باطن القلب فالخليل الصديق الواد فعيل بمعنى الفاعل كما في هذا الحديث وإنما قال ذلك لقصر خلته على حب ربه وربما ورد بمعنى مفعول وهو المناسب لقوله. (وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ) كما سيأتي مصرحا في حديث(1/451)
ابن مسعود وربما يفرق بينه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين إبراهيم عليه السلام بهذا التغاير في المعنى مع الاشتراك في المبنى والحديث الأول رواه البخاري في فضل أبي بكر وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي أيضا (وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَقَدِ اتَّخَذَ اللَّهُ صَاحِبَكُمْ خَلِيلًا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما) كما رواه الدارمي والترمذي عنه، (قال جلس ناس) أي جمع (من أصحاب النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ينتظرونه) أي خروجه إليهم ووصوله لديهم رجاء إنزال فيضه عليهم. (قال فخرج) أي من مقامه متوجها لهم (حتّى إذا دنا منهم) أي قرب (سمعهم) وفي رواية فخرج سمعهم أي حال كونه قد سمعهم (يتذاكرون) أي متذاكرين كلاما فيما بينهم (فسمع حديثهم) أي فحققه وفهمه (فقال: بعضهم عجبا) أي تعجبا (إنّ الله) بالكسر أو تعجب عجبا أن الله بالفتح (اتّخذ إبراهيم من خلقه خليلا) أي كما أخبره تعالى وقد سقط لفظ إبراهيم من أصل الدلجي فقال يريد إبراهيم عليه السلام، (وقال آخر) أي بعض أو صحابي آخر (ماذا) أي ليس هذا وهو اتخاذ الله إبراهيم خليلا (بِأَعْجَبَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا) أي كما أخبر تعالى، (وقال آخر فعيسى كلمة الله وروحه) الفاء فصيحة أي إذا ذكرتم خليل الله وكليمه في مقام الافتخار فاذكروا عيسى فإنه كلمة الله خلقه بأمركن من غير أب أو إضافته للتشريف أي كلمته مقبولة عنده سبحانه ودعوته مستجابة لديه وهو روح مجرد من عند ربه نفخ فيه بغير واسطة أو رحمة منه، (وقال آخر آدم اصطفاه الله) في أصل خلقته من غير واسطة من أب وأم في فطرته وجعله أبا البشر وجد الأنبياء والاصفياء وذكره في كتابه بوصف الاجتباء وحاصل كلامهم أنه يتوهم من هذه الأوصاف لهم أنهم أفضل من نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم حيث ما بلغهم صريحا أنه اختص ببعض المقامات العاليات كما يشير إليه قوله تَعَالَى تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ (فخرج عليهم) أي وصل إليهم (فسلّم) فتكراره ليناط به غير ما نيط به أولا أو خرج أولا من مكان إلى آخر فسمع قولهم مارا ثم خرج منه وسلم عليهم (وقال:
«قد سمعت كلامكم) أي في تخصيص بعض الرسل ببعض الفضائل (وعجبكم) أي وإظهار تعجبكم باختصاصهم ببعض الشمائل كما بينه قوله (بأنّ الله) الخ وتكلف الدلجي حيث قدر له عاملا بقوله أي أدركت عجبكم وجعله من قبيل قلدته سيفا ورمحا وعلفتها تبنا وماء باردا وتبعه الأنطاكي ورأيت بخط قطب الدين عيسى الصفوي أنه لا حاجة إلى هذا التكلف فإن المراد سماع ما يدل على تعجبهم هذا وفي نسخة صحيحة إن الله وهي بكسر الهمز أو بفتحه (اتّخذ إبراهيم خليلا، وهو كذلك) أي خليله أو اتخاذه محقق (وموسى نجيّ الله) أي كما قال الله تعالى وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا من المناجاة وهي المكالمة سرا (وهو كذلك) أي نجيه أو أمره كذلك، (وعيسى روح الله وهو كذلك) أي ذو روح منه خلقه بلا واسطة أب (وآدم اصطفاه الله) أي اجتباه (وهو كذلك) بمعنى صفيه بالنبوة والرسالة كما قال الله تعالى اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ (ألا) أي تنبهوا لخصائصي مع اشتراكي معهم في الاصطفاء كما(1/452)
قال (وأنا حبيب الله) بمعنى محبوبه الذي هو أخص من كل مرتبة ومقام عند ربه (ولا فخر) أي ولا أقوله فخرا بل تحدثا بنعمته شكرا (وأنا حامل لواء الحمد) كما قال في حديث آخر وآدم ومن دونه تحت لوائي (يوم القيامة) أي في المحشر الأكبر في المقام المحمود الذي يحمده الأولون والآخرون (ولا فخر) أي إلا بقربي لربي (وأنا أوّل شافع) أي في الشفاعة العظمى أي كل مرتبة من مراتب الشفاعات الحسنى (وأوّل مشفّع) أي مقبول الشفاعة (ولا فخر) أي بالنسبة إلى ما لي من الذخر، (وأنا أوّل من يحرّك حلق الجنّة) بفتح الحاء واللام وبكسر أوله أي حلق بابها (فيفتح الله لي) أي بأمره لرضوان الجنة بأن يفتح لي كما في رواية (فيدخلنيها) أي الله بفضله وكرمه كما قال إلا أن يتغمدني الله برحمته (ومعي فقراء المؤمنين) أي بعمومهم على تفاوت مراتبهم مقدمون على أغنيائهم على اختلاف أحوالهم وهو لا ينافي ما ورد بلفظ ومعي فقراء المهاجرين لأنهم أفضل فقراء المؤمنين ووقع في أصل الدلجي ما يخالف الأصول المعتبرة (ولا فخر) أي بهذا أيضا لأنه ورد في الحديث القدسي والكلام الأنسي أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، (وأنا أكرم الأوّلين والآخرين) أي من الخلائق أجمعين وهذا فذلكة الكلام ونتيجة المرام (ولا فخر) أي في هذا المقام أيضا إذ الفناء عن السوي والبقاء في حضرة اللقاء هو المقام الأسنى والحاله الحسنى (وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) أي من أحاديث الاسراء (من قول الله تعالى) وفي نسخة في قول الله أي في جملة قوله سبحانه وتعالى (لنبيّه صلى الله تعالى عليه وسلم إنّي اتّخذتك خليلا) أي كما اتخذت إبراهيم فجمع له بين كونه خليلا وحبيبا فله في المزية زيادة مرتبة المحبوبية كما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ أي يحصل لكم حظ من المنزلة المحبوبية بواسطة المتابعة المطلوبية ويؤيده قوله (فهو مكتوب في التّوراة ليس) كذا في نسخة صحيحة من غير ضبط على هذه الصورة وهي ألف بعدها سين مهملة ثم جرة وفي بعض النسخ مكتوب بإزائها على الطرة ذكر ابن جبير بخطه في كتابه أن هذه اللفظة وقعت في الأم المبيضة بخط المؤلف كما هي هنا مبهمة فحكيتها كما وقعت ذكره الشمني ولا يبعد أن يكون بالتاء الفوقية في آخر الكلمة وهي للربط في الجملة بالفارسية وفي نسخة ضبط بكسر الهمزة وسكون السين المهملة وضم الموحدة وقيل بفتح الهمزة وسكون السين وضم المثناة فوق ولعلها كلمة سريانية بقرينة ذكرها في التوراة أي أنت كما في نسخة (حبيب الرّحمن) وفي نسخة أحمد حبيب الرحمن ولعله مدلولها هذا وقد قال الأنطاكي كذا وقع في النسخ خليلا ولعله مصحف فقد تقدم حديث أبي هريرة هذا في فصل ذكر تفصيله عليه الصلاة والسلام بما تضمنته كرامة الإسراء ولفظ الحديث هنالك قد اتخذتك حبيبا قال وأيضا لفظ الحبيب هنا أنسب بآخر الحديث وهو قوله أنت محمد حبيب الرحمن قال ثم إني وقفت على نسخة قديمة قد كان اللفظ فيها أولا إني اتخذتك حبيبا ثم غيرته أيدي التحريف فصيرته خليلا وعلامة الإهمال(1/453)
تحت الخاء كانت باقية فيها بعد والله يعلم المفسد من المصلح قلت حمل جميع النسخ على التصحيف بعيد عن صوب الصواب وميل إلى التحريف لا سيما والنسخة القديمة أيضا ظهرت سقيمة وصحت سلمية هذا من جهة المبنى وأما من حيثية المعنى فلا شك أن التأسيس أولى من التأكيد مع ما في مغايرة العبارة من الإشارة إلى الجمع بين النعتين الجليلين والوصفين الجميلين ثم الظاهر أن هذا رواية أخرى عن أبي هريرة لمغايرة الفاظهما في المحلين من الكتاب والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. (قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى) كذا في الأصول المعتبرة ووقع في أصل الدلجي هنا فصل (اختلف) بصيغة المجهول وفي نسخة اختلفوا (في تفسير الخلّة) بالضم (وَأَصْلِ اشْتِقَاقِهَا فَقِيلَ الْخَلِيلُ الْمُنْقَطِعُ إِلَى اللَّهِ) أي المعرض عما سواه يزيادة نعته بأنه (الَّذِي لَيْسَ فِي انْقِطَاعِهِ إِلَيْهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ اختلال) أي نقص وخلل لديه فعليه اشتقاقه من الخلال وهو وسط الشيء فإن الود يتخلل النفس ويخالطها بحيث لا يختل بحصول خلل فيه حال خلاله وفي هذا المعنى قوله تعالى وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا وقوله سبحانه وتعالى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ (وقيل الخليل المختصّ) أي بوصف الخلة سواء كان مشتقا من الخلة بضم الخاء كما سبق أو من الخلة بالفتح بمعنى الفقر والحاجة من الخل إذ كل خليل محتاج إلى أن يسد خلل خليله وفي الحديث اللهم ساد الخلة أي الحاجة والفاقة أو من الخلة بمعنى الخصلة فإنهما يتوافقان في الخصال كما ورد المرء على دين خليله وقيل هو المختص بخلافة مولاه والذي اختصه الله تعالى فجعله من خلاصة عباده وسلالة عباده ولكن لا يظهر وجه الاشتقاق في هذين القولين وإن كان الدلجي ذكرهما واقتصر عليهما ثم رأيت الأنطاكي قال المختص يعني بالصداقة والمحبة يقال دعا فلان فخلل أي خص (واختار هذا القول) أي الأخير (غير واحد) أي كثير من الأخيار، (وقال بعضهم أصل الخلّة) بالضم (الاستصفاء) أي الاختيار من الصفوة أو الصفاء أي يختار كل خليل رضى خليله أو يصفو معه في كل حالة كخليله (وَسُمِّيَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلَ اللَّهِ لِأَنَّهُ يُوَالِي فِيهِ ويعادي فيه) أي يحب في الله ويبغض في الله أو لابتغاء رضاه ليس له غرض سواه ففي البخاري الحب في الله والبغض في الله من الإيمان أي من كماله، (وخلّة الله له) أي لإبراهيم (نصره) أي على عدوه (وجعله إماما لمن بعده) كما قال تعالى إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً فلم يبعث نبي بعده إلا كان من ذريته مأمورا باتباع ملته قال الدلجي وفي نسخة وجعله أمانا لمن بعده بشهادة أجعل هذا بلدا آمنا والظاهر أنه تصحيف وتوجيهه تحريف (وقيل الخليل أصله الفقير المحتاج المنقطع) أي عن الأعوان والإخوان أو عما سوى الله تعالى في الأكوان (مأخوذ من الخلّة) بفتح الخاء (وهي الحاجة) أي شدتها الملحئة إلى الفافة (فسمّي بها) أي بالخلة يعني بالاتصاف بها في إطلاق الخليل ووقع في أصل الدلجي به بالضمير المذكر وهو واضح دراية لو ثبت رواية أي فسمي بالخليل (إبراهيم لأنّه قصر حاجته) أي حصرها (على ربّه) أي على طلبها من ربه أو على حصول قربه ليس له مأمول غيره في قلبه ويؤيده قوله (وانقطع إليه بهمّه) أي بهمته ونهمته وعزيمته ونيته(1/454)
أو المراد بالهم ما يهمه ويغمه لقوله (ولم يجعله) أي همه (قبل غيره) بكسر القاف وفتح الموحدة أي عند غيره والمعنى لم يكل همه إلى أحد غيره إذ ليس للغير أثر وجود في نظره وكان هذا حال الخليل في المقام الجليل (إذ جاءه جبريل وهو في المنجنيق) بفتح الميم والجيم وقيل بكسر أوله لأنه آلة للرمي ويؤيد الأول ما في كتب اللغة أنها هي آلة ترمي بها الحجارة معربة وأصلها بالفارسية «من جه نيك» أي ما أجودني ويقال جنق إذا رمى بالمنجنيق قالوا كنا نجنق مرة ونرشق أخرى (ليرمى به في النّار) بصيغة المجهول (فَقَالَ أَلَكَ حَاجَةٌ قَالَ أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا) وزيد في رواية فقال فاسئل ربك قال حسبي من سؤالي علمه بحالي؛ (وقال أبو بكر بن فورك) بضم الفاء وفتح الراء غير منصرف وقد ينصرف (الخلّة) بالضم (صفاء المودّة) أي خلوص المحبة التي لا يتخللها نوع من المخالفة (التي توجب الاختصاص) أي في حالتي المسرة والمضرة من المحبوب للمحب وعكسه (بتخلّل الأسرار) بفتح الهمزة جمع سر أي يدخل في قلوب الأخيار وصدور الاحرار والجملة حالية ولو قرئت بالباء الجارة وصيغة المصدر لكان له وجه وجيه (وقال بعضهم أصل الخلّة المحبّة) أي مطلقا في اللغة (ومعناها) أي مؤداها (الإسعاف) بكسر الهمزة أي انجاز الحاجة بلا مهلة (والإلطاف) بالكسر أي الاعانة على وجه اللطافة (والتّرفيع) أي رفعه على نفسه في مقام أنسه وهو معنى قول بعضهم الترفيع التعظيم والتكريم (والتّشفيع) أي قبول شفاعته وحصول رعايته؛ (وقد بيّن) أي الله تعالى (ذلك) أي هذا المعنى (في كتابه) أي في مفهوم المبنى (بِقَوْلِهِ: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ) أي اتباع ابنيه عزيز والمسيح على حذف المضاف المقدر أو نزلوا أنفسهم منزلتهما في المقام المعتبر فتدبر وكذا قوله (وَأَحِبَّاؤُهُ) أي محبوبوه أو محبوه ويلزم كونهم محبيه للملازمة الغالبية في نسبة المحبية والمحبوبية كما يشير إليه قوله سبحانه يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [المائدة: 18] ) أي إن صح ما زعمتم فلم يعذبكم بذنوبكم إذ من كان بهذه المثابة لا يعذب بهذه المثابة وقد عذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ والأصر وسيعذبكم في النار الموقدة باعترافكم أياما معدودة (فأوجب) أي الله بطريق الإشارة المفهوم من العبارة (للمحبوب أن لا يؤاخذ) بفتح الخاء أي لا يعاقب (بذنوبه) وإن كان قد يعاتب بعيوبه فالحبيب لا يعذب حبيبه بالنار والوالد لا يرمي ولده في العار (قال) أي الله سبحانه وتعالى (هذا) أي هذا الكلام أو قال ذلك البعض خذ هذا أو الأمر هذا أو هذا كما ذكر (والخلّة أقوى) أي في النسبة (من النبوّة) بتقديم الموحدة على النون وضمهما وتشديد الواو (لأنّ النبوّة قد تكون فيها) أي يوجد معها (العداوة) أي الموجبة للمخالفة (كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ) أي بعضهم (عَدُوًّا لَكُمْ) بالمخالفة الدينية أو الدنيوية (فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: 14] ) أي عن المخالطة والمغالطة (الآية) أي وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ عَدَاوَةٌ مَعَ خِلَّةٍ) أي مع صداقة على الحقيقة فإنهما ضدان لا يجتمعان على وجه الكمال نعم قد توجد(1/455)
عداوة من حيثية وصداقة من حيثية كمحبة ولد عاق وعداوة والد جاف وعلى هذه الحالة مدار معاشرة العامة بل ومداراة الخاصة (فإذا) بالتنوين أي فحينئذ (تسمية إبراهيم ومحمّد) وفي نسخة تسميته أي تسمية الله إبراهيم ومحمدا عليهما الصلاة والسلام (بالخلّة إمّا بانقطاعهما إلى الله) أي بالكلية (ووقف حوائجهما عليه) أي حتى في الأمور الجزئية (والانقطاع عمّن دونه) أي في الأحوال الظاهرية (والإضراب) أي الإعراض والانصراف (عن الوسائط والأسباب) أي في الخواطر السرية كما قال أرباب الإشارات التوحيد إسقاط الاضافات (أو لزيادة الاختصاص منه تعالى لهما) أي من بين الأنبياء والاصفياء (وخفيّ إلطافه) بفتح الهمزة أي ولزيادة الطافه الخفية (عندهما) أي من أخفى الشيء إذا ستره لا من خفيته بمعنى أظهرته وحديث خير الذكر الخفي يحتملهما على ما ذكره الدلجي لكنه بمعنى الظهور بعيد كما لا يخفى نعم لو قيل المعنى هنا ظهور الطافة لظهر له وجه وفي نسخة وحفي بالحاء المهملة وكسر همزة الطافه أي ولزيادة مبالغة في إكرامه من حفي إذا بالغ في الإكرام واستقصى عن سؤال المرام ومنه قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها ومنه أيضا حديث أن امرأة دخلت عليه عليه الصلاة والسلام فسألها فأحفى وقال إنها كانت تأتينا في زمن خديجة وأن كرم العهد من الإيمان (وما خالل) أي خالط وباشر (بواطنهما من أسرار إلهيّته) أي وأنوار صمديته (ومكنون غيوبه) أي ومن استار مغيباته، (ومعرفته) أي تعريفاته بذاته وصفاته (أو لاستصفائه) أي اختيار الله سبحانه وتعالى (لهما) ومنه حديث محمد خيرة الله من خلقه (واستصفاء قلوبهما عمّن سواه) أي تخليصهما عن التعلق بالعوائق من الخلائق (حتّى لم يخاللهما حبّ لغيره) بل إذا أحبا أحدا أحباه الله سبحانه وتعالى ولذا دعا صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله اللهم لا تجعل لفاجر علي يدا يحبه قلبي وبقوله اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك (ولهذا) أي المعنى المستفاد من هذا المبنى (قَالَ بَعْضُهُمْ الْخَلِيلُ مَنْ لَا يَتَّسِعُ قَلْبُهُ) بتشديد التاء وكسر السين ويروى من لا يتبع قلبه (لسواه) أي على جهة الشركة في المحبة الأصلية (وهو) أي هذا المعنى هو (عندهم معنى قوله عليه الصلاة والسلام) أي كما رواه البخاري أن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر (ولو كنت متّخذا خليلا) أي من الناس أرجع في المهمات عليه والجأ في الملمات إليه (لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا لَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ) ورواية المصابيح ولكن بالواو أي ليس بيني وبينه خلة لكن أخوة الإسلام ثابتة بيني وبينه في أعلى المرتبة فيقوم مقام اتخاذي له خليلا قال التلمساني كذا وقع في النسخ الصحيحة من الشفاء أخوة بالألف وفي الإكمال خوة دون ألف ثم قال كذا للعذري ولغيره بالألف وقوله عليه الصلاة والسلام لو كنت متخذا خليلا الخ قال في المشارق لو كنت متخذا خليلا أفتقر إليه وألتجئ إليه في جميع أموري لكان أبا بكر ولكن الذي التجئ إليه وافتقر إليه هو الله تعالى أو لو كنت منقطعا لحب مخلوق لكان أبا بكر لكن مرافقة الإسلام انتهى وفيه إيذان إلى أن الخلة فوق الأخوة والمودة. (واختلف العلماء أرباب(1/456)
القلوب) أي أصحاب القلوب الصافية والألباب الواعية من المشايخ الصوفية الجامعين بين المعارف اليقينية البهية والأخلاق السنية الرضية (أيّهما أرفع) أي أي الخصلتين أو الحالتين اعلى أو أغلى في الدرجة العلية والرتبة الجلية (درجة الخلّة) أي درجة الخلة أرفع من درجة المحبة (أو درجة المحبّة) أي أرفع من درجة الخلة فهما مرفوعان بناء على أنهما بدل من أيهما المرفوع ويجوز نصب درجة على أنه تمييز ذكره التلمساني وهو بعيد جدا لا سيما مع وجود أو الترديدية وكونهما معرفة بالإضافة نعم لو ثبت الجر لكان له وجه من حيث إنه بدل من المضاف إليه في أيهما والصحيح ما أشرنا إليه من أنهما مرفوعان بالابتداء وأن خبرهما أرفع مقدارا مع تقدير الاستفهام في أولهما (فجعلهما بعضهم سواء) أي في المرتبة ليس بينهما تفاوت في الدرجة (فَلَا يَكُونُ الْحَبِيبُ إِلَّا خَلِيلًا، وَلَا الْخَلِيلُ إِلَّا حَبِيبًا لَكِنَّهُ خَصَّ إِبْرَاهِيمَ بِالْخِلَّةِ وَمُحَمَّدًا صلى الله تعالى عليه وسلم بالمحبّة) أي بناء على الغلبة ولكن في هذا الاختصاص دلالة باهرة وإشارة ظاهرة إلى زيادة درجة المحبة على رتبة الخلة كما لا يخفى على أرباب المعرفة (وبعضهم قال درجة الخلّة أرفع) أي من مرتبة المحبة وهذا بعيد جدا إلا أن يراد بالخلة معنى الخصوص وبالمحبة معنى العموم وليس الكلام فيه لا في المنطوق ولا في المفهوم (واحتجّ) أي ذلك البعض لما زعمه (بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فيما رواه البخاري (لو كنت متّخذا خليلا غير ربّي) أي لاتخذت أبا بكر خليلا (فلم يتّخذه) أي غير ربه خليلا (وقد أطلق المحبّة لفاطمة وابنيها) أي الحسنين رضي الله تعالى عنهم (وأسامة) أي وكذا لأسامة ابن مولاه زيد بن الحارث الملقب بحب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقد كان أسامة أسود كالغراب وأبوه زيد أبيض كالقطن (وغيرهم) أي كأبي بكر وعمر وعائشة رضي الله تعالى عنهم فلو كانت المحبة أرفع من الخلة لم يتخذ غير ربه مما ذكر حبيبا كما لم يتخذ غيره خليلا وفيه أنه لم يطلق على أحد منهم بكونه حبيبا وإنما أراد بمحبتهم المحبة الطبيعية الناشئة عن النسبة الجزئية أو الحالة الصادرة عن تحقق الشمائل الرضية مع أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سمى حبيب الله بمعنى محبوبه فأين هذا المعنى من ذلك المبنى فليس له شريك في هذا الوصف على وجه الكمال كما لا يخفى وهذا هو المشهور عند الجمهور ولذا قال، (وأكثرهم جعل المحبّة) أي الخالصة دون المودة العامة (أرفع) أي درجة (من الخلّة) أي مع أنها من مراتب الخاصة (لِأَنَّ دَرَجَةَ الْحَبِيبِ نَبِيِّنَا أَرْفَعُ مِنْ دَرَجَةِ الخليل إبراهيم عليه السلام) يعني اختصاص هذا الوصف بمن هو أكمل يدل على انه أفضل من سائر أوصاف الكمل وإلا لكان الانعكاس أولى فتأمل فإنه اندفع به ما ذكره الدلجي بقوله وأنت خبير بأن أرفعية المحبة على الخلة إنما هي من أرفعية موصوفها لا من حيث ذاتها ثم مما يدل على هذا التحقيق الموجب للتوفيق أن الخليل إنما هو فعيل بمعنى الفاعل مسندا إلى إبراهيم عليه السلام وأما الحبيب فيحتمل أن يكون بمعنى فاعل أو مفعول ولا شك أن نسبة المفعولية في هذا المقام أتم من نسبة الفاعلية في المرام(1/457)
كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ لا سيما ومحبة الله تعالى كاملة سابقة ذاتية أبدية أزلية ومحبة العبد ناقصة لا حقة عرضية غرضية وأما حديث لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أبا بكر وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا فهو محمول على أنه اتخذ أن يكون خليلا خاصا لا يتخذ غيره خليلا على ما يدل عليه سياق الكلام وسياقه فهو بمعنى الفاعل على حاله وليس كما توهم الدلجي أنه بمعنى المفعول والحاصل أنه يقال محمد حبيب الله والله حبيب محمد ولا يقال الله خليل إبراهيم مع جواز إبراهيم خليل الله وقد صرحوا بأن المعنى الأول أصح يعني كونه مشتقا من الخلة بالضم لأنها تتصور من الجانبين والحاجة لا تتصور من الجانبين فلا يجوز أن يقال الله تعالى خليل إبراهيم لما فيه من إيهام أن يكون مأخوذا من الخلة التي هي الحاجة، (وأصل المحبّة) أي المأخوذة من حبة القلب أو أصل معناها (الميل إلى ما يوافق المحبّ) أي يلائم طبعه ويستلذ به وهذا ظاهر في كونه اسم الفاعل من أحبه فهو محب على ما صرح به الانطاكي وضبطه الحلبي بضم الميم وفتح الحاء أي المحبوب وتبعه الدلجي وزاد عليه قوله من إرادة طاعاته وابتغاء مرضاته لكنه مخالف للرواية وغير مناسب للدراية لأنه ليس اصل المحبة هذا بل نتيجة محبة المحب للمحبوب أن لا تقع منه المخالفة كما قالت رابعة رضي الله تعالى عنها:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه ... هذا لعمرك في الصنيع بَدِيعُ
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ ... إِنَّ المحب لمن يحب مطيع
هذا وقد قال الأنطاكي وفي بعض النسخ وقع محب بفتح الحاء والظاهر أنه خطأ لما سيأتي في كلام المصنف من أن حقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان (وليكن هذا) أي التعريف إنما يصح (في حقّ من يصحّ الميل) أي وجود ميلان القلب (منه) أي إلى محبوبه أو مطلقا (والانتفاع بالوفق) بفتح الواو وسكون الفاء أي وفي حق من يتصور منه الانتفاع والارتفاق بالشيء الذي فيه الموافقة له أو على وفق ميل القلب وهوى النفس إليه (وهي) أي المحبة بمعنى الميل (درجة المخلوق) أي صفته ورتبته، (فأنا الخالق) أي الذي قدس عن القلب والميلان وسائر نعوت الحدثان (فمنزّه عن الأعراض) بالغين المعجمة وهي العلل والحاجات وكذا عن الأغراض بالعين المهملة وهي الأمراض والآفات (فمحبّته لعبده تمكينه من سعادته) أي بأقداره على طاعته وعبادته، (وعصمته) بالرفع وأبعد الدلجي في تجويز الجر أي ومحافظته عن ارتكاب معصيته (وتوفيقه) أي على ارتكاب الحسنات واجتناب السيئات (وتهيئة أسباب القرب) بضم فسكون ولا يبعد أن يكون بضم ففتح أي من النوافل كصلاة وصوم وصدقة وتسبيح وتحميد وتكبير وتهليل وسائر القرب (وإفاضة رحمته عليه) أي بقبول ما منه إليه وجعله مقربا لديه (وقصواها) بضم القاف مقصورة أي غاية المحبة ونهايتها بالنسبة إلى الخلق (كشف الحجب عن قلبه) أي كشف الرب الحجب النفسانية والنقب الإنسانية عن(1/458)
قلب المحب لجمال الذات الربانية وكمال الصفات الصمدانية (حتّى يراه بقلبه) أي يرى جمال ربه بعين قلبه (وينظر إليه) أي إلى تجلي ربه في مقام عظمته (ببصيرته) أي بعين بصيرته فيفني عن نفسه وحجبه ويبقى ببقاء ربه فيكون محوا بعد ما كان صحوا وسكرا بعد ما كان فكرا وشكرا وحاضرا في الحضرة بعد ما كان غائبا في الغفلة (فيكون كما قال) أي سبحانه وتعالى (في الحديث) أي القدسي والكلام الأنسي على ما رواه البخاري لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه (فإذا أحببته) أي أظهرت حبي له فإن حبه سبحانه وتعالى قديم غير حادث بعد تقرب عبده (كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يبصر به ولسانه الذي ينطق به) وفي رواية زيادة ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها أي كنت حافظ أعضائه وحامي أجزائه أي يتحرك بغير رضائي وأن يسكن إلى غير قضائي والحاصل أنه جعل سلطان محبته لربه آخذا بمجامع قلبه فلا يهم إلا بمرضاة محبوبه ولا يسعى بجميع جوارحه إلا في سبيل مطلوبه وقيل أي كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه في الإسماع وبصره في النظر ولسانه في النطق وهنا معنى أدق من هذا وهو أنه يظهر للعبد في هذا المقام ما يتم به المرام وهو أنه يشاهد أن قوة سمعه وبصره ولسانه وسائر اركانه إنما هي من آثار قدرة ربه وقوته عز شأنه وليس المراد منه الحلول والاتحاد والاتصال على ما توهمه أهل الضلال كما قال (ولا ينبغي أن يفهم) بصيغة المفعول (من هذا) أي الحديث (سوى التّجرّد لله) أي تجرد القلب عن غير حب الرب (والانقطاع إلى الله) أي ترك الالتفات إلى ما سواه (والإعراض عن غير الله) أي بالتوجه الكلي إلى مولاه حتى كأنه بمسمع منه ومرأى له فيما يتحراه (وصفاء القلب لله) أي بحيث لا يخطر بباله سواه كما قال العارف بالله ابن الفارض نفعنا الله به
ولو خطرت لي في سواك إرادة ... على خاطري سهوا حكمت بردتي
(وإخلاص الحركات لله) وكذا جعل السكنات في رضاه لأن من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل إيمانه وقد قال تعالى حكاية عن حال إبراهيم إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها كان خلقه القرآن) أي في جميع الشأن (برضاه يرضى وبسخطه يسخط) أي لا ينشأ عنه شيء من الهوى ولا ينظر في جميع أحواله غرض السوى بل يدوم على التخلق بأخلاق المولى؛ (ومن هذا) أي المقام (عبّر بعضهم عن الخلّة) أي التي هي خلاصة المرام لسلالة الكرام من الأنام (بقوله قد تخلّلت مسلك الرّوح منّي) أي تداخلت لحبي إياك تخالط الروح من بدني وهو كالماء في العود الطري وكالطراوة في اللؤلؤ المعدني (وبذا) أي وبذلك التخلل المأخوذ من الخلة (سمّي الخليل) أي إبراهيم وغيره (خليلا فإذا ما) زائدة (نطقت) أي عنك (كنت حديثي) أي منك لما قيل من أن الإناء يترشح بما فيه ولما ورد من أحب شيئا أكثر من ذكره (وإذا ما سكتّ) أي بك أو عن غيرك أو عن بيان حالي معك (كنت الغليلا) بالغين المعجمة وألف(1/459)
الإطلاق أي حرارة العطش وفي نسخة الدخيلا أي الذي يداخل في الأمور ويخالل بما في الصدور (فإذا) بالتنوين وقد يكتب بالنون أي فحينئذ (مزية الخلّة وخصوصيّة المحبّة حاصلة لنبيّنا محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم بما دلّت عليه الآيات) وفي نسخة الآثار وهي ملائمة لقوله (الصّحيحة المنتشرة المتلقّاة بالقبول من الأمّة) كحديث لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أبا بكر خليلا وفي رواية ولكن أخي وصاحبي وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا وكحديث أنا حبيب الله ونحو ذلك من شواهد الأحاديث الصحيحة المطابقة للآيات الصريحة (وكفى بقوله تعالى) أي كفى شاهدا ودليلا قوله سبحانه وتعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ [آلِ عِمْرَانَ: 31] الآية) أي فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وفيه الغاية القصوى في المقام الأسنى حيث جعل متابعته شرط صحة دعوى محبته له تعالى ورتب على متابعته محبته سبحانه وتعالى له ولعل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تمنوا كونهم في أمته ومتابعة ملته لتحصيل هذا المرام وهو مرتبة المحبوبية والمرادية المجذوبية المطلوبية لأهل الكمال من السادة الصوفية ولذا قالوا جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين وقد قال الله تعالى يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ فالجملة الأولى إشارة إلى مقام المراد في المرتبة المريد والثانية إلى مقام المريد في حال الانابة ووصف المستزيد والحاصل أن هذه الآية الشريفة لما كانت دالة على المرتبة المنيفة، (حَكَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ الْكُفَّارُ إِنَّمَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ أَنْ تتّخذه حنانا) بفتح الحاء المهملة وتخفيف النونين أي معبودا مسجودا (كما اتّخذت النّصارى عيسى بن مريم) هذا باطل قطعا من وجهين أحدهما أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يرد هذا المعنى أصلا بل لما قيل له انسجد لك قال لو أمرت أن يسجد أحد لأحد لأمرت أن تسجد المرأة لزوجها وأيضا إنما نزل القرآن من أوله إلى آخره على رد أهل الشرك الغنيد وإثبات التوحيد على وجه التجريد والتفريد فكيف يتصور له أن يريد خلاف ذلك حيث يكون مناقضا لما هنالك ولكنهم على زعمهم وقياس الكاملين على نفوسهم ومقتضى طباعهم صدر هذا الكلام عنهم وظهر هذا المرام منهم وثانيهما أن التشبيه في كلامهم غير صحيح لأن عيسى ابن مريم لم يرد اتخاذ النصارى له إلها معبودا كما ظنوا لأنه من صغره إلى حال كبره كان يقول إني عبد الله وأبرئ الأكمة والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ولم يخطر بباله وجود من سواه فضلا عن إشراكه مع مولاه وأما ما ذكره الدلجي من قوله الحنان الرحمة والعطف أي نتخذه موضع حنان من الرحمة فنرحمه ونعطف عليه ونتبرك به كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم حنانا فلا يناسب التشبيه الذي يلائم التنزيه ولا يسبب لما قاله أهل التفسير (فأنزل الله غيظا لهم) أي زيادة غيظ في حالتهم (ورغما) بفتح الراء ويضم وحكي كسرها أي ردا (على مقالتهم هذه الآية) أي الآتية وهي قوله (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [آل عمران: 32] ) لان إطاعة كل واحد مستلزمة لإطاعة الآخر وفيه إيماء له خفاء إلى أن الرسول لا يأمر بالمنكر فتدبر (فَزَادَهُ شَرَفًا بِأَمْرِهِمْ بِطَاعَتِهِ وَقَرْنِهَا بِطَاعَتِهِ ثُمَّ(1/460)
توعّدهم على التولّي) أي الاعراض (عنه) أي ابتداء وانتهاء (بقوله تعالى فَإِنْ تَوَلَّوْا) يحتمل الماضي والمضارع أي تتولوا (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 32] ) أي لا يرضى عنهم ولا يثني عليهم وفي وضع الظاهر موضع المضمر تسجيل على كفرهم لئلا يشمل الفاجرين بنوع من التولي لا يكون موجبا للكفر وفيه أيضا تنبيه نبيه على أن مدار الأمر على الخاتمة ونوع حض على التوبة الموجبة للمحبة والمغفرة والمثوبة (وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ) بضم أوله وهو غير منصرف للعلمية والعجمة وقد يصرف (عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ كَلَامًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ المحبّة والخلّة يطول جملة إشاراته) أي وتفصيل عباراته (ترجع إِلَى تَفْضِيلِ مَقَامِ الْمَحَبَّةِ عَلَى الْخِلَّةِ وَنَحْنُ نذكر منه طرفا) بفتحتين أي شيئا يسيرا من الكلام (يهدي إلى ما بعده) أي من مقام المرام، (فمن ذلك قولهم: الخليل يصل) أي إلى من اتخذه خليلا (بالواسطة) أي اخذا لوصوله إليه بها دليلا (من قوله: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَامِ: 75] ) أي وليكون بواسطة إراءة الله له ذلك من الموقنين لما هنالك (والحبيب يصل إليه) أي لحبيبه كما في نسخة (به) أي بذاته دون واسطة من إراءة كائناته أخذا له (من قوله تعالى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) أي قدرهما أَوْ أَدْنى [النجم: 9] ) أي بل أدنى من قابهما (وَقِيلَ الْخَلِيلُ الَّذِي تَكُونُ مَغْفِرَتُهُ فِي حَدِّ الطّمع) أي لأنه من المريدين وهذا المعنى مأخوذ (من قوله تعالى وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي [الشُّعَرَاءِ: 82] ) أي يوم الدين (والحبيب الذي مغفرته في حدّ اليقين) أي الناجز الذي غير متوقف ولا متأخر إلى حين لكون صاحبه من المرادين (مِنْ قَوْلِهِ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] ) أي من جميع ما يصح فيه العتاب دون العقاب لعدم مناسبته في هذا الباب وفي عطف ما تأخر اعتناء عظيم فتدبر فإن الغفران السابق يشمل الواقع واللاحق (الآية) أي ومع زيادة إتمام النعمة وإكمال المنة بالهداية الخاصة والنصرة العامة المستفادة من تتمة الآية التي هي قوله سبحانه وتعالى وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً هذا وقد ذكر فرقا آخر بينهما بقوله، (وَالْخَلِيلُ قَالَ: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشُّعَرَاءِ: 87] ) أي لكونه طالبا في الطريق (وَالْحَبِيبُ قِيلَ لَهُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ [التحريم: 8] ) أي لأنه مطلوب في مقام التحقيق وهذا معنى في التوفيق هو الذي بينه المصنف بقوله (فابتدىء) أي الحبيب (بالبشارة) أي بنفي الخزي من يقال الفضاحة عنه (قبل السّؤال) أي بحصول المنال في المآل بخلاف الخليل حيث وقع منه السؤال ولم يقع جواب حصوله لا في الحال ولا في الاستقبال فيكون بين الخوف والرجاء في تحسين المآل ثم ذكر فرقا آخر فقال، (والخليل قال في المحنة) أي في ابتلائه بنمرود حين القاه في النار (حسبي الله) أي كان في دفع بلائي ورفع عنائي فكانت عليه بردا وسلاما، (والحبيب قيل له يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ [الأنفال: 64] ) ووجه الفرق أن بونا بينا بين من يقول هو حسبي وبين من يقال له أنا حسبك فإن كل أحد يدعي أنه محب لله ولكن الكمال هو أن يقول الله أنا محبوبه أو محبه ونظير(1/461)
هذا الفرق ما وقع بين قول يحيى وعيسى عليهما السلام حيث قال في الأول سلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا وقال الثاني والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم ابعث حيا ولا شك أن السلام الأول في هذا المحل أفضل لأنه شهادة من الله تعالى على سلامته في جميع حالاته بخلاف الثاني فإنه يخبر به عن حال نفسه وإن كان صادقا في مقاله ولا يتصور تخلف في وقوعه ثم هذا لا ينافي كون عيسى أفضل من يحيى لأنه قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل مع أنه قد يقال إن عيسى كان في مقام الانبساط والبقاء فطال لسانه وكان يحيى في مقام القبض والفناء فكل لسانه فقام الحق عنه في الانتهاء كما قال هو بحقه سبحانه وتعالى في الابتداء حيث لم يهم بمعصية في الاثناء ومن كان لله كان الله له ومن ترك حظ نفسه قام الله معه هذا (والخليل قال وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ) أي في الآخرين كما في نسخة أي ثناء جميلا وذكرا جزيلا قال واجعل لي لسان صدق) أي في الآخرين كما في نسخة أي ثناء جميلا وذكرا جزيلا فيمن يجيء بعده إلى يوم الدين فاستجيب له فما من أمة إلا وهم محبون له ومثنون عليه ومتمنون أن ينتسبوا إليه ولا يبعد أن يقال المراد بالآخرين هذه الأمة من السابقين واللاحقين (وَالْحَبِيبُ قِيلَ لَهُ وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [الشَّرْحِ: 4] ) أي فوق المنابر والمنابر مقرونا بذكر ربه بل مكتوبا على ساق عرشه وأشجار جنته وقصورها ونحور حورها (أعطي) أي الحبيب صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك المنال في الحال (بلا سؤال) وأجيب دعوة الخليل عليه السلام في الاستقبال؛ (وَالْخَلِيلُ قَالَ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) أي بعدني وإياهم عن عبادتها وهذه لغة نجد ولغة الحجاز جنبني وأراد بنيه لصلبه حتى يصدق عليه أن دعاءه مستجاب عند ربه لظهور الكفر من بعض أحفاده وفيه إيماء إلى أن عصمة الأنبياء بتوفيق الله تعالى وحفظه (والحبيب قيل له) أي من غير سؤال منه (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) أي الذنب المدنس (أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب: 33] ) بالنصب على المدح أو النداء ولعل المراد بأهل البيت من كان في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم من أولاده وذريته وأزواجه هذا والخليل قال الملائكة لسارة زوجته رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت فمن هنا نشأ فرق آخر بين نسبة أهل بيت الحبيب ونسبة أهل بيت الخليل (وفيما ذكرناه) أي من الخلاف في تفسير الخلة والمحبة وما صدر من أهل المعرفة (تنبيه على مقصد أصحاب المقال من تفضيل المقامات والأحوال) أي للمحبة والخلة وتفاوت مرتبة كل منهما في الحال والمآل وهو بالضاد المعجمة أو المهملة كما في النسخ المختلفة (وكُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) أي طريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلال أو على عادته وجبلته التي طبع عليها في أوائل الأحوال كما قال الله تعالى فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى الآيتين (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 84] ) أي وبمن هو أخطأ مسلكا ودليلا فسبحان من أراد جعله مهيبا عزيزا ولو شاء صيره مهينا ذليلا.(1/462)
فصل [في تفضيله بالشفاعة والمقام المحمود]
(في تفضيله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي على غيره (بالشّفاعة) أي العظمى تحت اللواء الممدود (والمقام المحمود) كالتفسير لما قبله (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ) أي يقيمك (مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] ) أي يحمده فيه الأولون والآخرون (أخبرنا الشّيخ أبو عليّ الغسّانيّ) بفتح الغين المعجمة وتشديد السين المهملة (الجيّانيّ) بفتح الجيم وتشديد التحتية (فيما كتب به) أي به كما في نسخة (إليّ) أي مرسلا أو أصلا إلى (بخطّه) أي إجازة فإن القاضي لم يسمع منه شيئا، (ثنا) أي حَدَّثَنَا (سِرَاجُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي حَدَّثَنَا أبو محمّد الأصيليّ حدّثنا أبو زيد) أي المروزي (وأبو أحمد) أي الجرجاني (قالا) أي كلاهما (حدّثنا محمّد بن يوسف) أي الفربري (حدّثنا محمّد بن إسماعيل) أي البخاري (حدّثنا إسماعيل بن أبان) بفتح الهمزة وفيه الصرف وعدمه والأجود الصرف هو أبو إسحاق الوراق أزدي كوفي روى عنه أحمد بن معين والدارمي وأبو حاتم وخلق وثقه أحمد وجماعة وقال البخاري صدوق وقال غيره فيه تشيع ذكره الحلبي قلت هو لا ينافي كونه صدوقا (حدّثنا أبو الأحوص) بحاء وصاد مهملتين له أربعة آلاف حديث (عن آدم بن عليّ) أي العجلي (قال سمعت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول) أي موقوفا لكنه لكونه مما لا يقال مثله من قبل الرأي يكون في الحكم مرفوعا (إنّ النّاس يصيرون) أي يكونون يوم القيامة (جثى) بضم الجيم فمثلثة مقصورا منونا جمع جثوة بضم جيمها وقد تكسر وحكي الفتح وهي ما جمع من تراب ونحوه ثم استعير للجماعة ومنه حديث عامر رأيت قبور الشهداء اجثاء أي اتربة مجموعة وأما قول بعضهم جمع جاث وهو الذي يكون معتمدا على ركبتيه فبعيد بل لا يصح لأن فاعلا لا يجمع لعى فعل مخففا وفي نسخة جثاء مضموم الجيم ممدود الآخر أي جماعات واحدها جثوة وفي أخرى بتشديد المثلثة جمع جاث وهو من يجلس على ركبتيه ومنه حديث علي أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله أي يصيرون فيه جماعات متخاصمين ومنه قوله تعالى وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا وهو الملائم لقوله (كلّ أمّة تتبع نبيّها يقولون) أي قائلين لأنبيائهم باسمائهم (يا فلان اشفع لنا) أي لخصوصنا أو لعمومنا (يا فلان اشفع لنا) أي وهكذا واحدا بعد واحد وهو يقول لست لها (حتّى تنتهي الشّفاعة) أي العظمى (إلى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فذلك) أي الوقت (يوم) بالرفع وروي بالنصب أي فذلك الحال في يَوْمُ (يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ. وَعَنْ أَبِي هريرة رضي الله تعالى عنه) أي فيما رواه أحمد والبيهقي (سئل عنها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعني قوله) أي يريد أبو هريرة بضمير عنها آية هي قَوْلَهُ (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] فقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جوابا لمن سأل (هي الشّفاعة) أي المراد بها مقام الشفاعة الكبرى لأهل الموقف عامة ولا يبعد أن يكون(1/463)
الضمير راجعا إلى المقام المحمود وتأنيثه باعتبار الخبر فتدبر. (وروى كعب بن مالك) أي كما رواه أحمد (عنه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أنا وأمّتي على تلّ) أي مكان مرتفع (ويكسوني ربّي حلّة خضراء) لعله إشارة إلى مقام سعادة السيادة (ثمّ يؤذن لي) أي في القول بعد أن الخلق ما كانوا ينطقون (فأقول ما شاء الله أن أقول) أي من محامد الحق وشفاعة الخلق (فذلك المقام المحمود) وهذا لا ينافي ما ورد عن بعضهم منهم مجاهد أن المقام المحمود هو أن الله يجلس معه محمدا على كرسيه كما ورد به حديث وتعقبه القرطبي بأنه قول غريب وإنه إن صح يتأول على أنه يجلسه مع انبيائه وملائكته ثم ذكر كلام ابن عبد البر قريبا منه على ما نقله الحلبي وفيه أنه تأول بعيد عن المقام سديد في حصول المرام بل المراد بالمعية انفراده صلى الله تعالى عليه وسلم عن البرية في مرتبة المزية كقول موسى إِنَّ مَعِي رَبِّي وسيأتي ما يؤيد هذا التأويل في مقام التفضيل. (وعن ابن عمر رضي الله عنهما) أي في رواية (وذكر حديث الشّفاعة) أي العظمى (قال فيمشي) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (حتّى يأخذ بحلقة الجنّة) بسكون اللام وتفتح (فيومئذ) أي فحينئذ (يبعثه الله المقام المحمود الذي وعده) بصيغة الفاعل أو المفعول أي وعده الله سبحانه وتعالى أن يقيمه يوم القيامة وفي رواية فاستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني إلى أن تلا عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم. (وعن ابن مسعود عنه) كما رواه أحمد وغيره (عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنّه) أي المقام المحمود الموعود (قِيَامُهُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ مَقَامًا لَا يَقُومُهُ غيره يغبطه) بفتح الياء وكسر الباء أي يتمناه (فيه الأوّلون والآخرون) وفي أصل الدلجي به وجعلها إما ظرفية أو سببية؛ (ونحوه عن كعب) أي كعب الأحبار (والحسن) أي البصري، (وفي رواية هو المقام الذي أشفع فيه لأمّتي) أي أصالة ولغيرهم تبعا أو جعل الكل أمة له لأنه أخذ الميثاق منهم بأنهم لو أدركوه لآمنوا به واتبعوه كما ورد لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي. (وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه) على ما رواه أحمد (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إني لقائم المقام المحمود) اللام المفتوحة للتأكيد في خبر إن وتوهم الدلجي حيث قال أي والله إني لقائم ثم قال وهذا مرشد إلى جواز القسم في الأمر العظيم انتهى ولا خلاف في جوازه مطلقا إلا أن بعض العارفين لم يحلفوا من جهة أمر الدنيا لحقارتها (قبل وما هو) وللدارمي عنه قيل له ما المقام المحمود (قال ذلك يوم) روي بالنصب على أنه ظرف مضاف إلى الجملة وبالرفع والتنوين فيقدر فيه (ينزل الله تبارك وتعالى على كرسيّه) أي يتجلى عليه كتجليه سبحانه على الطور وهو صلى الله تعالى عليه وسلم جالس على الكرسي كما سبقت به الرواية ولا يبعد أن يكون ينزل بضم أوله وكسر الزاء أي يوم يجلسه الله على كرسيه إشعارا للمقام عليه لكن يوافق المعنى الاول بقية الحديث الذي أشار إليه بقوله (الحديث) أي بطوله(1/464)
مع تتمة قوله فيئط أي يصوت كما يئط الرجل الجديد من تضايقه به أي لعظمة تجليه عليه وهو أي الكرسي يسع السماء والأرض ويجاء بكم حفاة عراة غرلا بضم فسكون أي قلفا غير مختونين لقوله تعالى كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فيكون أول من يكسى إبراهيم لأنه أول من عري في ذات الله حين ألقي في النار والظاهر أن الأول هنا إضافي لقوله عليه الصلاة والسلام فيما سبق ويكسوني ربي حلة خضراء مع أنه لا بدع أن يكون في المفضول بعض ما لا يوجد في الفاضل لا سيما وهو في مقام البنوة وحالة التبعية في مرتبة النبوة يقول الله تعالى اكسوا خليلي فيؤتى بريطتين أي ملاءتين رفيعتين بيضاوين من رياط الجنة ثم أكسى على أثره بفتحتين وبسكر فسكون أي على عقبه وهو يحتمل أن يكون خلعة أخرى بعد ما سبقت له الكسوة الأولى ثم أقوم عن يمين الله أو يمين عرشه أو كرسيه أو جانب يمينه حال تجليه مقاما يغبطني الأولون والآخرون أي يتمنون أن يعطوا مثل ما أعطى ولا ينالونه أبدا.
(وعن أبي موسى) أي الأشعري مات بمكة وقيل بالكوفة (عنه عليه الصلاة والسلام) كما رواه ابن ماجة (خيّرت) بصيغة المجهول أي جعلت مخيرا ورواية المصابيح أتاني آت فخيرني (بين أن يدخل نصف أمّتي الجنّة) أي من غير حساب وعذاب (وبين الشّفاعة) أي في هذا الباب (فاخترت الشّفاعة) أي من أول الوهلة (لأنّها أعمّ) أي في المنفعة والظاهر أن هذه الشفاعة دون الشفاعة العظمى مختصة بهذه الأمة إما لإدخال جماعة الجنة بغير محاسبة أو لمن استحق دخول النار فلا يدخلها أو لمن دخلها فيخرج منها وفي الجملة الشفاعة ثابتة على ما أجمع عليه أهل السنة لقوله تعالى يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ولا عبرة بمنع الخوارج وبعض المعتزلة مستدلين بقوله تعالى فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ فإنه مخصوص بالكافرين وأما تخصيصهم أحاديث الشفاعة بزيادة الدرجات في الجنة فباطل لتصريح الأدلة بإخراج من دخل النار من المؤمنين منها كما يشير إليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم (أترونها) بالاستفهام الإنكاري بمعنى النفي وبضم التاء وفتح الراء أي لا تظنون الشفاعة التي اخترتها (للمتّقين) أي عن المعاصي خاصة، (ولكنّها) وفي نسخة لا ولكنها الشفاعة (للمذنبين الخطّائين) وفي نسخة للمؤمنين أي الكاملين وفي أخرى للمنقين بفتح النون وتشديد القاف المفتوحة والظاهر أنه تصحيف عن الدلجي حيث اقتصر عليه نعم رواية ابن عرفة أترونها للمنقين ولكنها للمذنبين الملوثين فالتلويث يناسب التنقية في مقام المقابلة ثم رأيت الحلبي قال وهو كذا في أصلنا لسنن ابن ماجة وهو أصل صحيح وقفه الملك المحسن وقد كتب تجاهه على الهامش ن ق وعليها تصحيح مرتين والله تعالى أعلم ثم الخطائين بتشديد الطاء أي المبالغين في الخطأ أي بالتعمد أو الكثرة أو العظمة ويؤيده قوله عليه السلام فيما رواه أبو داود والترمذي شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وفي نسخة الخاطئين وفي أخرى للخاطئين بإعادة العامل تأكيدا. (وعن أبي هريرة رضي الله عنه) أي قال كما في نسخة وقد رواه البيهقي عنه وكذا شيخه أبو عبد الله الحاكم وصححه(1/465)
(قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا وَرَدَ) من الورود أي نزل (عليك في الشّفاعة) ما استفهامية وذا موصولة بمعنى الذي وصلته ما بعده وفي نسخة صحيحة ما رد بضم راء وتشديد دال أي ماذا أجيب عليك في مقام الشفاعة أو في أهلها وفي أخرى بصيغة الفاعل لله أو الملك (فقال شفاعتي) أي ورد على شفاعتي أو أجيب شَفَاعَتِي (لِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله) أي وإن لم يكن من أمتي وقيل التقدير وأني رسول الله اكتفاء بأحد الجزأين عن الآخر علما بأنه لا بد من الاتيان به في صحة الإسلام وقيل هذه الكلمة صارت علما لكلمتي الشهادة (مخلصا) أي لا كرها ولا نفاقا ولا رياء (يصدّق) بتشديد الدال أي يطابق ويوافق (لسانه) بالنصب على أنه مفعول أو بالرفع على أنه فاعل وقوله (قلبه) عكس ذلك. (وعن أمّ حبيبة) أي أم المؤمنين كما رواه البيهقي والحاكم (أريت) بضم الهمزة وكسر الراء أي أظهر الله لي (ما تلقى) أي من النوائب والمتاعب (أمّتي) وفي أصل الدلجي من أمتي أي بعضهم (من بعدي) متعلق بتلقى وفي نسخة بعدي أي بعد ذهابي إلى ربي (وسفك بعضهم دماء بعض) وهو مصدر مضاف إلى فاعله معطوف على ما تلقى ولا يبعد أن يكون سفك ماضيا عطفا على ما تلقى أي وما سفك ويؤيده قوله (وسبق) أي وما سبق (لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا سَبَقَ لِأُمَمٍ قَبْلَهُمْ) أي من الابتلاء ببعض اللمم (فسألت الله أن يؤتيني) أي يعطيني (شفاعة) وفي نسخة يوليني شفاعتهم بتشديد اللام المكسورة أي يجعلني متوليا لشفاعتهم (يوم القيامة فيهم) أي في حقهم (ففعل) أي أعطاه ما سأل. (وقال حذيفة) كما رواه البيهقي والنسائي وهو وإن كان موقوفا لكنه مرفوع حكما (يجمع الله النّاس في صعيد واحد) أي أرض مستوية لا ترى فيها عوجا ولا أمتا (حيث يسمعهم الدّاعي) أي صوته وهو بضم الياء وكسر الميم وهذا على الفرض والتقدير وقال الدلجي لعله بعد الشفاعة لفصل القضاء أيتها الخلائق هلموا إلى الحساب انتهى ويرد عليه ما سيأتي من بقية الحديث في الكتاب (وينفذهم البصر) بفتح الياء وضم الفاء والذال المعجمة وفي نسخة بضم الياء وكسر الفاء أي يبلغهم ويجاوزهم بصر الباصر بحيث لا يخفى أحد منهم من الأكابر والأصاغر لاستواء الصعيد الباهر وعن أبي عبيد ينفذهم بصر الرحمن أي يأتي عليهم جميعهم وفيه أن بصره تعالى دائما محيط بهم وقد يدفع بأن اثباته مقيدا لا ينافي دوامه ولعل وجه التخصيص هو إفادة هول المقام أو ظهور ذلك الوصف على وجه الكمال والتمام على سائر الأنام كما ذكروا في قوله سبحانه مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وعن أبي حاتم أن المحدثين يروونه بالذال المعجمة وإنما هو بالمهملة أي يبلغ أولهم وآخرهم حتى يراهم كلهم من نفد الشيء وانفدته قال الحجازي وفيما قاله نظر إذ في الصحاح نفذ البصر بالمعجمة القوم بلغهم وجاوزهم ونفذ بالمهملة فنى ولعله من أنفذ فيضم أول مضارعه انتهى وقال النووي محصله خلاف في فتح الياء وضمها وفي الذال والدال وفي الضمير في ينفذهم والأصح فتح الياء وبالذال المعجمة وأنه بصر المخلوق انتهى قال أبو عبيد وحمل الحديث على بصر المبصر أولى من حمله على(1/466)
بصر الرحمن لأن الله يجمع الناس يوم القيامة في أرض يشهد جميع الخلائق حساب العبد الواحد على انفراده ويبصرون ما يصير إليه هذا وقد روي أن صفوف أهل الجنة مائة وعشرون صفا منها ثمانون لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وباقيها لغيرهم زاد كعب ما بين كل صفين كما بين المشرق والمغرب (عراة) لا ثياب على بدنهم ولا نعال بأرجلهم وفي رواية حفاة وزاد الشيخان في روايتهما غرلا بضم الغين المعجمة وسكون الراء جمع أغرل وهو الأقلف (كما خلقوا) أي أول مرة (سكونا) أي غير ناطقين (لا تكلّم) بحذف إحدى التاءين أي لا تتكلم (نفس) أي بما ينفع أو ينجي من جواب أو شفاعة (إلّا بإذنه) كقوله تعالى لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وهذا في موقف وأما قوله هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ففي موقف آخر أو المأذون فيه هو الجوابات الحقة والممنوع منه هو الاعتذارت الباطلة (فينادى) بصيغة المفعول (محمّد) بالرفع والتنوين على أنه نائب الفاعل وفي رواية بالضم على حذف حرف النداء يؤيد الأول قوله (فيقول لبّيك) أي أحببت لك إجابة بعد إجابة (وسعديك) أي ساعدت طاعتك مساعدة بعد مساعدة (والخير في يديك) أي بتصرفك وفي حيز إرادتك وقدرتك في الدنيا والعقبى كما قال الله تعالى وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (والشّرّ ليس إليك) أي منسوبا وإن كنت خالقه أدبا أولا يتقرب به إليك أصلا أو لا يصعد إليك وإنما يصعد إليك الخير قولا وعملا أو ليس الشر بالنسبة إلى حكمك وحكمتك فإنك لا تحكم باطلا ولا تخلق عبثا وإلا فمن المعلوم عند أهل الحق من أهل السنة والجماعة أن جميع الكائنات خيرها وشرها ونفعها وضرها وحلوها ومرها من الله تعالى ومنسوبة إلى خلقه على وجه اراده (والمهتدي) أي في الحقيقة وفي نسخة والمهدي (من هديت) أي بخلق الهداية وتوفيق الطاعة وتحقيق الرعاية (وعبدك بين يديك) أي حاضر معتمد عليك (ولك) أي الحكم والقضاء (وإليك) أي مرجع الخلق والأمر في الابتداء والانتهاء (لا ملجأ) بالهمز مقصورا (ولا منجى) بالقصر وقد يهمز للازدواج وقد يبدل همز الأول ألفا للمشاكلة أي لا مستند ولا معتمد ولا ملاذ ولا معاذ (منك) أي من قضائك (إلّا إليك) أي بالرجوع إلى ساحة فنائك (تباركت) أي تكاثر خيرك (وتعاليت) أي تعظم شأنك (سبحانك ربّ البيت) بالنصب على النداء وجوز رفعه على الابتداء أي أنت رب البيت والإضافة للتشريف (قال) أي حذيفة (فذلك) أي المجمع المذكور والمقال المسطور هو (المقام المحمود الذي ذكره الله) . أي ذكره في كتابه المشهور بقوله عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (وقال ابن عبّاس) لفظه موقوف وحكمه مرفوع (إِذَا دَخَلَ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ الجنّة) لعل تقديم أهل النار للاشعار بأنها ممر الأبرار والفجار أو لأن ذكر النعمة أوقع في النفس بعد ذكر النقمة أو ترهيبا في أول الوهلة من أهوالها وترغيبا في الجنة نظرا إلى حسن مآلها (فيبقى آخر زمرة) أي جماعة (من الجنّة) أي من زمر أهلها باقية في النار (وآخر زمرة من النّار) أي ثابتة فيها (فتقول زمرة النّار) أي من الكفار (لزمرة الجنّة)(1/467)
أي الواقعة في النار من الفجار (ما نفعكم إيمانكم) أي المجرد عن الطاعة حيث لم يدخلكم الجنة (فيدعون ربّهم ويضجّون) بفتح الياء وكسر الضاد المعجمة وتشديد الجيم أي ويصيحون لما يجزعون من شماتة الأعداء في فظاعة البلاء ولذا قيل النار ولا العار (فَيَسْمَعُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَيَسْأَلُونَ آدَمَ وَغَيْرَهُ بَعْدَهُ في الشّفاعة لهم) ولعل الحكمة في سؤالهم من غير نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أولا ليظهر اختصاصه بذلك المقام آخرا (فكلّ) أي فكل واحد منهم (يعتذر) أي بما عوتب عليه وبما انسب من صورة الذنب إليه (حتّى يأتوا محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم فيشفع لهم) أي فيشفع في حقهم وتقبل شفاعته لهم (فذلك المقام المحمود) أي في الجنة وهو لا ينافي كونه المقام المحمود أيضا في الموقف (ونحوه) أي مثل قول ابن عباس فيما رواه أحمد والطيالسي (عن ابن مسعود أيضا ومجاهد) أي موقوفا أو مقطوعا (وذكره) أي مثله أو نحوه (عليّ بن الحسين) أي ابن علي بن أبي طالب وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم (عن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي مرسلا ورواه الحاكم عن أهل العلم عنه موصولا (وقال جابر بن عبد الله) أي كما رواه مسلم (ليزيد الفقير) هو يزيد بن صهيب الفقير لأنه كان يشكو فقار ظهره فهو فعيل بمعنى مفعول وفقرات الظهر خرزاته من عجب الذنب إلى نقرة القفا ثنتان وثلاثون فقرة وقد ضربت عائشة مثلا في عثمان فقالت ركبوا منه الفقر الأربع استعارته من فقار الظهر لما ارتكبوا منه لأنها موضع الركوب أي انتهكوا فيه أربع حرم حرمة الصحبة والصهورة والخلافة والبلدة روى عنه أبو حنيفة ومسعر وجماعة ثقة أخرج له الشيخان وغيرهما (سمعت) بفتح التاء أي اسمعت (بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ، يَعْنِي الَّذِي يَبْعَثُهُ اللَّهُ فِيهِ) أي من المقام المحمود (قال) أي يزيد (قلت نعم) أي سمعت اللفظ الذي أفادنيه (قال) أي جابر (فإنّه مقام محمّد) أي الخاص به (المحمود الذي يخرج الله به) أي بسببه (من يخرج) بضم ثم كسر أي من يخرجه من عصاة عامة المؤمنين أو خاصة هذه الأمة والأول أظهر لما سبق فتدبر (يعني من النّار) أي يريد إخراج من يخرجه من النار، (وذكر) أي جابر (حديث الشّفاعة في إخراج الجهنّميين) أي فوجا فوجا من النار على حسب مراتب الفجار. (وعن أنس رضي الله تعالى عنه نحوه) أي في رواية الشيخين (وقال) أي أنس (فهذا) أي الإخراج المذكور (المقام المحمود الذي وعده) أي الله سبحانه وتعالى وفي نسخة بصيغة المجهول (وعن سلمان) أي الفارسي وهو سلمان الخير وسلمان ابن الاسكار عاش ثلاثمائة وفي أصل التلمساني عن شيبان بدل عن سلمان قال وهو بشين معجمة وياء مثناة من أسفل وبعدها موحدة لعله شيبان بن عبد الرحمن النحوي انتهى والظاهر أنه مصحف لمخالفته سائر النسخ المعتبرة والأصول المعتمدة (المقام المحمود هو الشفاعة في أمته يوم القيامة) أي بالأصالة وفي غيرهم بالتبعية أو لأنه هو البادئ في مقام الشفاعة ويتبعه الأنبياء في تلك الساعة (ومثله عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) كما في(1/468)
الصحيحين (وقال قتادة) تابعي مشهور (كان أهل العلم) أي من أكابر الصحابة وإجلاء التابعين (يرون) بصيغة الفاعل من الرأي أو بصيغة المفعول أي يظنون (المقام المحمود شفاعته يوم القيامة) أي لعامة الخلق في اراحتهم من عذاب الموقف (وعلى) أي وكانوا على (أن المقام المحمود) أي هو كما في نسخة (مقامه عليه الصلاة والسلام للشفاعة) أي العظمى في الساعة الكبرى (مذاهب السلف) أي السالفين (من الصحابة والتابعين وعامة أئمة المسلمين) أي من المجتهدين والمفسرين والمحدثين وسائر علماء الدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين (وبذلك) أي وبطبق ما ذكر وعلى وفق ما سطر (جاءت) الشفاعة (مفسرة) أي مبينة (في صحيح الأخبار) أي مما كادت أن تتواتر عن الأخيار (عنه عليه الصلاة والسلام وجاءت مقالة في تفسيرها شاذة) أي منفردة (عن بعض السلف) وهو مجاهد مخالفة لنقل الثقات ضعيفة في أصول الروايات وحصول الدرايات (يجب أن لا تثبت) أي عند الاثبات لعدم الاثبات (إذ لم يعضدها) أي لم يقوها (صحيح أثر) من منقول (ولا سديد نظر) أي من معقول والنظر السديد والسداد ما كان موافقا للحق والرشاد ومنه قوله تعالى وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (ولو صحت) أي على فرض صحة بعض أسانيدها حيث لا يقاوم ما يعارضها (لكان لها تأويل غير مستنكر) أي معروف معتبر عند أرباب النظر جمعا بين الأدلة كما هو طريق المحققين من الأئمة وحاصله أنه روي عن مجاهد أنه قال يجلسه معه على العرش وعن عبد الله بن سلام قلا يقعده على الكرسي وأمثال ذلك مما ظاهره منكر من القول فيجب رده وانكاره على ناقله أو تأويله لحسن الظن بقائله وبعضهم أول ذلك بأن يجلسه مع انبيائه وملائكته على ما حكاه الطبري وقد قدمنا تأويلا آخر فتدبر (لكن ما فسره النبي (في صحيح الآثار يرده) بتشديد الدال أي يرد ظاهر ما جاء بخلافه ويدفعه فيتعين أن يأول غيره إليه ولا ينعكس الأمر عليه وفي نسخة ترده بفتح التاء وكسر الراء وتخفيف الدال أي ترد عليه ويلائمه قوله (فلا يجب أن يلتفت إليه) أي بتأويل قال وقيل لأنه تضييع عمر في توضيح أمر (مع أنه لم يأت) أي خلافه (في كتاب ولا سنة) أي ثابتة حتى يحتاج إلى تأويل ومعالجة (ولا اتفق) وفي نسخة ولا اتفقت (على المقال به أمة) أي جماعة من المجتهدين وعلماء الدين حتى يحتاج إلى تأويل بجمعه أرباب اليقين (وفي إطلاق ظاهره منكر من القول وشنعة) بضم فسكون أي وشناعة في العبارة يأتي دفعها بالإشارة (وفي رواية أنس وأبي هريرة وغيرهما) على ما في الصحيحين ونحوهما (دخل حديث بعضهم في حديث بعض) أي فيما ذكرناه هنا عنهم (قال عليه الصلاة والسلام يجمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة) أي يوم يقوم الناس لرب العالمين (فيهتمّون) بتشديد الميم أي فيحزنون حزنا شديدا إلا أنه لا يهتم أحد إلا لنفسه ولا يلتفت إلى غيره ولو كان أقرب أهله ويقصدون إزالة هذا الهم العظيم والكرب الفخيم وذلك لما وجد في حديث إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قبله ولا بعده مثله (أو قال فيلهمون) أي إلى طلب الشفاعة بالوسيلة إلى أحد من كبراء البرية(1/469)
(فيقولون لو استشفعنا إلى ربّنا) أي لكان حسنا أو لربما يكون فيه نجاتنا أو لو للتمني ولا جواب له (ومن طريق آخر) أي لهذا الحديث باعتبار إسناده أو راويه (عنه) أي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (ماج النّاس بعضهم في بعض) أي دخلوا فيما بينهم واضطربوا اضطراب ماء البحر حال شدة غليانه إيماء إلى قوله تعالى وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ في بعض وإشارة إلى قوله تعالى أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ، (وعن أبي هريرة) أي في حديث الشيخين (فتدنو الشّمس) أي تقرب من رؤوسهم قدر الميل كما في رواية على اختلاف في أن المراد منه ميل الفرسخ أو ميل المكحلة ثم قيل الشمس في الدنيا وجهها إلى جهة السماء وهي ظاهرة لنا من جهة القفا فينقلب أمرها في العقبى (فيبلغ النّاس) بالنصب وقيل بالرفع (من الغمّ) بيان مقدم لقوله (ما لا يطيقون) أي الصبر عليه والتحمل لديه وهذا معنى قوله (ولا يحتملون) أي لا يقدرون ولا يستطيعون (فيقولون) أي بعضهم لبعض (ألا تنظرون) أي ألا تختارون (من يشفع لكم) أي إلى ربكم في ازاحة شدة الموقف عنكم (فيأتون آدم) بدأوا بما بدأ الله به ليظهر جلالة ما ختم الأمر بسببه (فيقولون) أي له جل مقصودهم من الشفاعة لمعبودهم (زاد بعضهم) أي في بيان ما أجمل من القول (أنت آدم أبو البشر) أي فيتعين عليك الشفقة والمرحمة على الذرية مع كونك معظما مكرما عنده سبحانه وتعالى من جملة الطائفة البشرية (خلقك الله بيده) أي بقدرته من غير واسطة في خلقته (ونفخ فيك من روحه) أي الخاص بتشريفه وكرامته (وأسكنك جنّته) أي وأظهر عليك نعمته ورحمته (وأسجد لك ملائكته) أي تعظيما لشأنك وتفخيما لبرهانك (وعلّمك أسماء كلّ شيء) أي دليلا على ظهور سلطانك (اشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مكاننا) من الاراحة بمعنى الازاحة واعطاء الراحة بالإزالة من محل الغضب إلى موضع حكم به الرب من دار الثواب أو دار العقاب (ألا ترى ما نحن فيه) أي من الغم والحزن (فيقول إنّ ربّي غضب اليوم غضبا) أي عظيما لكونه عميما (لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مثله) أي فلا يمكنني الشفاعة فيه لا سيما (ونهاني عن الشّجرة) أي أكلها (فعصيت) أي بذوقها وهي شجرة الكرم وقيل السنبلة وقيل شجرة العلم عليها معلوم الله تعالى من كل لون وطعم ذكره الحلبي وفيها أقوال أخر وهي النخلة والتين والكافور ذكرها الحجازي. (نفسي نفسي) أي أهم عندي من غيري أو الزم نفسي أو أخلص نفسي ولا اجترئ على غير مقامي (اذهبوا إلى غيري) من الأنبياء والأصفياء عموما (اذهبوا إلى نوح) أي خصوصا لأنه أول أولي العزم من الرسل (فيقولون) أي فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ (أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أهل الأرض) أي من الكفار والفجار فلا ينافي أن آدم أيضا مرسل إلى أولاده الأبرار وكذا شيت ابن آدم وإدريس جد نوح ولد شيت على ما عليه علماء الأخبار (وسمّاك الله عبدا شكورا) أي وصفك به حيث قال في كتابه كانَ عَبْداً شَكُوراً أي مبالغا في الشكر مع أنه تعالى قال وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (ألا ترى ما نحن فيه) أي من الغم والحزن (ألا ترى ما بلغنا)(1/470)
بفتح الغين وجوز اسكانها وصلنا من الشدة (ألا تشفع لنا إلى ربّك) أي ليكون خلاصنا بسببك (فيقول إنّ ربّي غضب اليوم) أي أظهر (غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَا يَغْضَبُ بعده مثله) أي لانقطاع تكليف من يؤاخذ بترك ما كلفه (نفسي نفسي) فيه إيماء إلى قوله تعالى يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها. (قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (في رواية أنس ويذكر) أي نوح اعتذارا عن ترك الشفاعة في تلك الساعة (خطيئة التي أصاب) أي أصابها وتابها (سؤاله ربّه) بيان أو بدل مما قبله (بغير علم) حال من الضمير في سؤاله ووجه العتاب أنه كان الأولى أن يفوض الأمر إلى المولى ولم يقل أن ابني من أهلي حتى لا يقال إنه ليس من أهلك عندي (وفي رواية أبي هريرة) أي زيادة في قول نوح (وقد كانت لي دعوة) مستجابة في حق العامة (دعوتها على قومي اذهبوا إلى غيري) أي من بعدي من أكابر إخواني (اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ اللَّهِ فَيَأْتُونَ إبراهيم فيقولون أنت نبيّ الله تعالى) أي ورسوله (وخليله من أهل الأرض) أي في زمانه (اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نحن فيه) أي من الكرب (فَيَقُولُ إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا فذكر مثله) أي مثل آدم أو مثل نوح أو مثل ما تقدم (ويذكر ثلاث كلمات) أي في صورة كذبات وهي إِنِّي سَقِيمٌ وفعله كبيرهم هذا وأنها أختي لسارة (كذبهنّ) أي وليست كذبات وإنما هي معاريض وتوريات حيث اراد بقوله فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا معنى التبكيت بدليل قوله تعالى إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ وبقوله إِنِّي سَقِيمٌ أي سأسقم لأن من عاش يسقم أو يهرم ويموت وبقوله أختي في الإسلام إلا أن الأولى لمراتب الأنبياء تركها (نفسي نفسي لست لها) أي للشفاعة العظمى لكوني متلوثا بنوع من الخطايا (ولكن عليكم بموسى) استدراك لدفع ما أرهقهم من خيبة الأمل ووصمة الخجل وعليكم اسم فعل والباء زائدة لمزيد الاستعانة أي الزموا موسى واستعينوا به على الشفاعة عند المولى (فإنّه كليم الله تعالى) ويقتضي أنه ممن طال لسانه لا ممن كل بيانه. (وفي رواية فإنّه عبد) وفي نسخة عبد الله (أتاه الله التّوراة) أي وهي من أعظم الكتب الإلهية وأولها (وكلّمه) أي تكليما (وقرّبه) أي تشريفا وتكريما (نجيّا) أي مناجيا (قال فيأتون موسى فيقول لست لها) أي للحال التي ظننتم أني مستعد لها (ويذكر خطيئته التي أصاب) أي أصابها ووقع فيها (وقتله النّفس) أي وقتله القبطي وهو عطف تفسيري بدليل رواية بعض رواة البخاري بدون عاطفة وقد عده خطيئة كما عده من عمل الشيطان في الآية وسماه ظلما واستغفر ربه منه جريا على عادة الأنبياء في استعظامهم محقرات جائزة صدرت عنهم إذ لم يكن هذا عن عمد بل وقع خطأ في كافر حربي ظالم على مسلم سبطي قبل الاذن بقتله وقد أبعد الدلجي في شرحه للخطيئة بعجلته إلى ربه فإنها في نفسها نقيصة ومن ثمة عتبه عليها بشهادة وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى فإنه سؤال عن سببها تضمن إنكارها من حيث إنها نقيصة انضم إليها اغفال قومه انتهى ولا يخفى أن هذه جرأة عظيمة ونقيصة فخيمة من الدلجي حيث أثبت خطيئة لكليم الله تعالى هو عنها نزيه وقد لاطفه سبحانه وتعالى بقوله(1/471)
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى ليترتب عليه الجواب بالوجه الأولى كما قال تعالى وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى فكذا في الجواب هنا قال هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى أي ما تقدمتهم إلا بخطى يسيرة ابتغاء لمرضاتك في المسارعة إلى امتثال أمرك والمبادرة إلى الوفاء بوعدك (نَفْسِي نَفْسِي وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ الله) أي ذو وح خاص من خلقه أجراه فيه بنفخ جبريل في جيب درع أمه فأوجده في بطنها بلا توسط مادة أو إضافته للتشريف كبيت الله وناقة الله (وكلمته) أي حيث كان بكلمة كن أو كان يكلم الناس في المهد بطريق خرق العادة فكذا ينبغي أن يتكلم في مقام الشفاعة وهول الساعة في موقف القيامة (فيأتون عيسى فيقول لست لها) أي مجازا أو مأذونا لأمرها (عليكم بمحمّد) فإن علمه ووصفه معلم بكون المقام المحمود له خاصة (عبد) بالجر على أنه صفة لمحمد وبالرفع على تقدير هو عَبْدٌ (غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنبه وما تأخّر) أي بالنص في كتابه وأما غيره فممن أبهم في جوابه والحاصل أنه غير معاتب بما صدر عنه فيطلب هذا المقام منه (فأوتي) بصيغة المفعول المضارع المتكلم من أتى يأتي وإبدال الهمزة الثانية واوا للاجتماع الذي وقع فيه الإجماع والمعنى فيأتوني كما في رواية وهي بتشديد النون أي فيجيئونني ويطلبون الشفاعة مني (فأقول أنا لها) أي كائن أو معد أو مختص أو مدخر أو مأذون أو مخلوق (فأنطلق) أي إلى جهة العرش أو باب الجنة (فأستاذن على ربّي) أي في الطلوع إلى الكرسي أو في الدخول إلى الجنة وفي مقام الشفاعة لما ورد مصرحا به في مكان لا يقف فيه داع إلا أجيب ليس فيه بينه وبين ربه حجاب (فيأذن لي) أي ويتجلى علي بظهور آثار الجمال وسر مكاشفة استار الكبرياء والجلال (فإذا رأيته) أي علمته بهذا الحال من أوصاف الكمال (وقعت ساجدا) أي شكرا لما أنعم علي من الإفضال هذا ولا بدع أن يكون المراد بالرؤية رؤية الذات الجامعة لجوامع كمال الصفات فإنه جائز في الآخرة عند أهل السنة والجماعة خلافا للمحرومين من سعادة الزيادة ثم الحكمة في نقله صلى الله تعالى عليه وسلم من موقف العرض والحساب المؤذن بحالة السآمة والملامة إلى موقف الرحمة والكرامة لتقع الشفاعة موقع الإجابة كمن يتحرى بدعائه موقف الخدمة فإنه أحق بالاستجابة لموضع الحرمة وقد جاء في مسند أحمد أن هذه السجدة والسجدة والسجدة الآتية بعدها مقدار كل سجدة جمعة من جمع الدنيا وجاء في بعض الأخبار أن كل يوم مقدار عشر سنين فهاتان السجدتان كل سجدة مقدار سبعين سنة. (وفي رواية فآتي) أي فأجيء (تحت العرش فأخرّ ساجدا.
وفي رواية) أي بدل فآتي تحت العرش (فأقوم بين يديه) أي يدي العرش أو بين يدي ربه يعني في مقام العبودية والخلوص عن الملاحظة الغيرية (فأحمده بمحامد لا أقدر عليها) أي الآن كما في نسخة يعني لا أعرفها في الدنيا ولا أقدر على أن أعبر عنها لرواية ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن (إلّا أنّه) أي لكنه سبحانه وتعالى (يلهمنيها الله) أي في(1/472)
ذلك المقام لتكميل المرام وفي نسخة إلا أن يلهمنيها وفي أخرى أن يلهمنيه الله وفي نسخة بمحامد لا أقدر عليه قال النووي هكذا هو في الأصول يعني في أصول مسلم قال وهو صحيح ويعود الضمير في عليه إلى الحمد؛ (وفي رواية فيفتح الله عليّ بمحامده) وفي نسخة من محامده (وحسن الثّناء عليه) عطف تفسيري على ما قاله الدلجي والأظهر هو التأسيس بالمغايرة فإن الثناء أعم من الحمد كما لا يخفى من أن الحمد قد يرد بمعنى الشكر (شيئا) أي عظيما (لم يفتحه على أحد قبلي) أي ولا بعدي من باب الاكتفاء أو بالبرهان الأولى أو المعنى قبل وقتي هذا؛ (قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَيُقَالُ يَا محمّد ارفع رأسك) أي رفع الله قدرك (سل) أي لنفسك (تعطه) بهاء السكت على بناء المفعول مجزوما على جواب الأمر (واشفع) أي في حق غيرك (تشفّع) بتشديد الفاء المفتوحة أي تقبل شفاعتك ولا ترد دعوتك (فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا ربّ أمّتي) أي اسألك عفوهم أولا وعفو غيرهم آخرا أو لوحظ في الأمة معنى التغليب للاشرفية أو كان جميع الأمة في تلك الحالة كأمته لرجوعهم إلى حضرته والتجائهم إلى دعوته والتكرير للتأكيد أو أمتي حقيقة أمتي كافة مجازا وهذا كله إذا أريد به المقام المحمود من الشفاعة الكبرى كما هو الظاهر من السباق والسياق واللحاق (فيقول) أي الله سبحانه وتعالى أو ملك بأمره وفي نسخة فيقال (أدخل من أمّتك) أي من أهل الإجابة (من لا حساب عليه) أي لا مؤاخذة ولا عتاب إما عدلا وإما فضلا وهو الأظهر فضلا (من الباب الأيمن) أي الأبرك أو الأقرب بكونه يمينا فإن أبواب الجنة من جهة اليمين لا شك أنها كثيرة كما يشير إليه قوله (مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سوى ذلك من الأبواب) أي إن اختاروا دخلوهم منها وهذا غاية التعظيم ونهاية التكريم أنه يعرض عليهم جميع الأبواب ويختار لهم الأفضل الأبرك الأقرب إلى ذلك الجناب الأقدس قال المؤلف في شرح مسلم للجنة ثمانية أبواب باب الصلاة وباب الصدقة وباب الصوم ويقال له الريان وباب الجهاد وباب التوبة وباب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس وباب الراضين ثم قال فهذه سبعة أبواب جاءت في أحاديث ولعل الثامن هو الباب الأيمن الذي يدخل منه من لا حساب عليه والله تعالى أعلم (ولم يذكر) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. (في رواية أنس رضي الله تعالى عنه) أي عنه (هذا الفضل) أي من الكلام وهو قوله عليه الصلاة والسلام فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارفع رأسك إلى قوله فيما سواه من الأبواب، (وقال) أي في رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (مكانه) أي بدل ما سبق (ثمّ أخرّ) بفتح همزة وكسر خاء معجمة فتشديد راء أي أسقط (ساجدا) أي لله متوسلا به لأنه أقرب حال يكون العبد من ربه في مقام قربه (فَيُقَالُ لِي يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يسمع لك) أي كل كلامك (واشفع تشفّع وسل تعطه) أي جميع مرامك (فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيُقَالُ انْطَلِقْ فمن كان في قلبه مثقال حبّة) أي وزنها (من برّة) بضم موحدة وتشديد راء أي حنطة (أو شعيرة) شك من الراوي في رواية مسلم (من إيمان) أي من ثمراته من أعمال القلب كشفقة(1/473)
على مسكين أو خوف من الله تعالى أو نية صادقة أو نحو ذلك والله تعالى أعلم لأن نفس الإيمان لا يتجزأ ويدل عليه ما جاء في رواية أخرى وكان في قلبه من الخير ما يزن كذا (فأخرجه) أي من النار أو من موقف العار (فأنطلق) أي فأذهب (فأفعل) أي ما أمرت به من إخراج من يستوجب العذاب قال الغزالي وفي مفهوم هذا الحديث أن من إيمانه يزيد على مثقال حبة من برة أو شعيرة لا يدخل النار إذ لو دخل لأمر بإخراجه أولا قال ومن أهل النار من يعذب قليلا ومنهم من يعذب ألف سنة وأقصاه في حق المؤمنين سبعة ألف سنة قال وذلك آخر من يخرج من النار على ما ورد في الأخبار (ثمّ أرجع إلى ربّي) أي مقام الخطاب (فأحمده بتلك المحامد، وذكر مثل الأوّل) أي مثل ما تقدم أو مثل ما ذكر الراوي الأول وهو قوله ثم أخر ساجدا الخ (وقال فيه) أي في هذا الحديث من رواية مسلم (مثقال حبّة من خردل) أي من إيمان والخردل بالدال ويقال بالذال حب الرشاد والواحد خردلة، (فأفعل) وفي نسخة قال فافعل (ثمّ أرجع) أي إلى ربي كما في نسخة صحيحة، (وذكر مثل ما تقدّم وقال) وفي نسخة ثم قال (فيه) أي في الحديث من رواية مسلم (مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى) ثلاث مرات كذا في أصول مسلم على ما ذكره النووي (من مثقال حبّة من خردل) وهذا كله مثل للقلة لأن الإيمان والمعرفة عرض لا يوزن بالكمية وإنما يختلف باعتبار الكيفية، (فأفعل) وفي نسخة قال فافعل أي في المرة الثالثة ما أمرت به من الإخراج (وذكر في المرّة الرّابعة) أي من رواية البخاري (فيقال لي ارفع رأسك وقل متسمع) كما في نسخة أي يجب قولك وتستجب دعوتك (واشفع تشفّع وسل) وفي نسخة واسأل (تُعْطَهُ فَأَقُولُ يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ) أي في شفاعة من (قال لا إله إلّا الله) أي في إخراج من اكتفى بالتوحيد المقرون بإقرار النبوة من النار وإدخاله في دار الأبرار وفي هذا إشعار بأن ما سبق من تقدير مثقال حبة ونحوها من الإيمان ثمرته المعبر عنها بالإيقان أو العمل بالأركان لا مجرد الإيمان الذي هو التصديق القلبي والاعتراف اللساني فكأنه أراد بمن قال لا إله إلا الله من لم يصدر عنه عبادة سواه. (قال ليس ذلك) أي الأمر بالشفاعة في حقه راجعا (إليك) ولعل وجهه أنه لم يصدر عنه ما يوجب المتابعة الباعثة على الشفاعة وإنما وقع منه مجرد إطاعة الأمر الإلهي بالتوحيد الرباني وقبول إرسال النبي الصمداني هذا ولما كان النفي موهما أن لا شفاعة لهم اصلا ولا خلاص لهم فضلا وإنما يجب عذابهم عدلا كما توهم المعتزلة في هذه المسألة فصلا استدرك سبحانه وتعالى وأكده بالقسم وعظم شأنه بقوله (ولكن وعزّتي وكبريائي) أي ارتفاع مقامي (وعظمتي وجبريائي) بكسر الجيم والراء ممدودا قيل أتى به كذا اتباعا والصحيح أنه لغة في الجبروت أي وجبروتي المشعر بالجبر والقهر المشير إلى أني لا أبالي (لَأُخْرِجَنَّ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إلّا الله) أي ولو مرة من غير تكرار وإكثار يعني من شهد أنه لا معبود موجود قادر على كل شيء سواه وبه خص عموم حديث البخاري أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أي وعمل عملا صالحا لربه ويؤيده(1/474)
حديث الشيخين ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط أي غير لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، (وَمِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ عنه) أي عن أنس رضي الله تعالى عنه (قال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (فلا أدري في الثّالثة أو الرّابعة) اعتراض بين قال ومقوله أفاد صدور شك إما من أنس أو من قتادة في ايتهما قَالَ (فَأَقُولُ يَا رَبِّ مَا بَقِيَ فِي النّار إلّا من حبسه القرآن) أي منعه ترك الإيمان بما نزل به القرآن وقوله (أي من وجب عليه الخلود) حاصل المعنى وخلاصة المبنى وهذا تفسير قتادة قيل ومعناه من أخبر القرآن أنه مخلد في النار وهم الكفار. (وعن أبي بكر) أي الصديق رضي الله تعالى عنه برواية أحمد وابن حبان (وعقبة بن عامر) أي برواية ابن أبي حاتم وابن مردويه (وأبي سعيد) أي برواية الترمذي (وحذيفة) أي برواية أبي داود في البعث (مثله) أي مثل حديث أنس (قال فيأتون محمّدا فيؤذن له) أي في الشفاعة (وتأتي الأمانة والرّحم فتقومان) بالتأنيث تغليبا (جنبتي الصّراط) بفتح النون ويسكن أي جانبيه وناحيتيه وطرفيه يمنة ويسرة والمعنى أنهما يمثلان أو يجسمان فيشهدان للأمين والواصل وعلى الخائن والقاطع وقال بعضهم ويجوز أن تحمل الأمانة على الأمانة العظمى المؤذن بها آية إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ والرحم على صلتها الكبرى المشير إليها قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ إلى قوله تعالى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ فيدخل في الحديث معنى التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فكأنهما اكتفتا جنبتي الصراط المستقيم والدين القويم هذا وقد جاء أن الصراط صعوده ألف سنة واستواؤه ألف سنة وهبوطه ألف سنة وفي مسلم عن أبي سعيد بلغنا أنه أحد من السيف وأدق من الشعر وهذا جاء مسندا مرفوعا عنه عليه الصلاة والسلام وأما قول الحلبي فإن قيل الصراط مم هو فالجواب أنه شعرة من جفون عين مالك فغير منقول المبنى ولا معقول المعنى فلا يجزم بهذا الجواب بل يقال في مثل هذا لا أدري لأنه نصف العلم والله تعالى أعلم بالصواب؛ (فذكر) وفي نسخة وذكر بالواو (في رواية أبي مالك) كما أخرجه أبو داود في البعث (عَنْ حُذَيْفَةَ فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَشْفَعُ فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ) بصيغة المجهول أي فيوضع على متن جهنم جسرا ممدودا ففي حديث الحاكم على شرط مسلم ورواه غيره أيضا بوضع الصراط مثل حد الموسى (فيمرّون) أي عليه كما في نسخة وجاء في رواية فيتهافت أهل النار فيها وينجو أهل الجنة منها كما قال تعالى ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (أوّلهم كالبرق) أي الخاطف كما في رواية (ثمّ كالرّيح والطّير) أي وكالطير (وشدّ الرّجال) بالجيم أي عدوهم وجريهم وقد خطئ من رواه بالمهملة وهو العرفي وجعله جمع رحل وهي رواية ابن ماهان والمراد به هنا الناقة فإن الرحل ما يوضع على البعير ثم يعبر به تارة عن البعير مجازا لكن الأول هو الصحيح المعروف بخط المصنف مضبوط بالجيم وهو كذا لكافة رواة مسلم وعند الهروي الرحال بالحاء قال ابن قرقول وهو تصحيف هذا وقد أغرب بعضهم في قوله إن المرور للصراط بهم (ونبيّكم) بالرفع يعني نفسه على طريقة(1/475)
التجريد (على الصّراط) أي مستعليا (يقول اللهمّ سلّم سلّم) التكرير للتكثير أي بالنسبة إلى كل أحد من دعوة التغرير ويؤيده قوله (حتّى يجتاز النّاس) وحتى تحتمل الغاية والعلة (وذكر) أي النبي عليه الصلاة والسلام (آخرهم جوازا الحديث) بفتح الجيم أي مرورا على الصراط ولو روي بكسرها لجاز ويكون معناه مجاوزة عنه (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يجيز) بضم الياء وكسر الجيم وبالزاي أي من يمضي عليه ويقطعه وفي نسخة صحيحة يجوز وهما لغتان يقال جاز وأجاز بمعنى كما ذكره النووي وزاد في نسخة صحيحة يومئذ.
(وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) أي كما رواه الشيخان (عنه عليه الصلاة والسلام يوضع) يجوز تذكيره وتأنيثه (للأنبياء منابر) أي على قدر مراتبهم (يَجْلِسُونَ عَلَيْهَا وَيَبْقَى مِنْبَرِي لَا أَجْلِسُ عَلَيْهِ قائما) أي تاركا جلوسي حال قيامي (بين يدي ربّي منتصبا) أي على هيئة طالب الحاجة عند صاحب النعمة (فيقول الله تبارك وتعالى ما تريد أن أصنع بِأُمَّتِكَ فَأَقُولُ يَا رَبِّ عَجِّلْ حِسَابَهُمْ فَيُدْعَى بهم فيحاسبون فمنهم من يدخل الجنّة برحمته) أي بتوفيق طاعته (ومنهم من يدخل الجنّة بشفاعتي) أي لتقصيره في متابعتي (ولا أزال أشفع حتّى أعطى) بصيغة المفعول للمتكلم (صكاكا) بكسر الصاد جمع صك بفتح الصاد فارسي معرب أي كتبا (برجال) أي بأشخاص كتب فيها اسماؤهم (قد أمر بهم إلى النّار) أي أولا فيقع خلاصهم بالشفاعة آخرا (حتّى إنّ خازن النّار) بكسر الهمزة وفتحها (ليقول) بفتح اللام المؤكدة (يَا مُحَمَّدُ مَا تَرَكْتَ لِغَضَبِ رَبِّكَ فِي أمّتك من نقمة) بكسر نون وسكون قاف ويقال إنها ككلمة أي عقوبة وفي نسخة بقية أي من نفس باقية؛ (ومن طريق زياد) أي ابن عبد الله (النّميريّ) بضم النون وفتح الميم بصري اختلف في توثيقه وتضعيفه (عن أنس) كما رواه البيهقي وأبو نعيم (أنّ رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْفَلِقُ) بالفاء بعد النون أي تنشق وتنفرق (الأرض عن جمجمته) بضم الجيمين أي عن رأسه ومنه قوله تعالى فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى أي شاقهما للانبات والمعنى أنه أول من ينشق عنه القبر في البعث (ولا فخر) أي ولا أقول فخرا بل اتحدث شكرا أو أمتثل أمرا.
(وَأَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ. وَمَعِي لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَا أَوَّلُ من تفتح له الجنّة) أي بابها (ولا فخر) أي فيه وفيما قبله أيضا. (فآتي) الفاء تفصيلية أي فأجيء (فآخذ بحلقة الجنّة) بسكون اللام وتفتح والمعنى فأحركها كما في رواية (فَيُقَالُ مَنْ هَذَا؟ فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ، فَيُفْتَحُ لِي فيستقبلني الجبّار تعالى) أي بتجلي الصفات العلى (فأخرّ ساجدا) أي استعطافا له على مراده وطلبا منه لمرضاته على عباده (وذكر نحو ما تقدّم) أي من رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما؛ (ومن رواية أنيس) تصغير أنس وفي نسخة من رواية أنس والأول هو الصواب وهو رجل من الأنصار روى عنه شهر بن حوشب ولم ينسبه ولم يرو عنه غيره حديثه كذا في الاستيعاب وقال إسناده ليس بالقوي (سمعت رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَأَشْفَعَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَكْثَرَ ممّا في الأرض من حجر(1/476)
وشجر) وقد رواه أحمد بسند حسن عن بريدة إني لأشفع الخ والمعنى لعدد هو أكثر مما في الأرض جميعها من حجر وشجر والقصد الكثرة أو المراد بهما نوع من الحجر والشجر فتدبر وقد ابعد الدلجي حيث قال ولا يستبعد أن يستغيث به صلى الله تعالى عليه وسلم الناميات والجمادات مما لا يعقل فرقا من حر نار جهنم وبرد زمهريرها نعوذ بالله تعالى منهما (فَقَدِ اجْتَمَعَ مِنَ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآثَارِ) وفي نسخة صحيحة من اختلاف ألفاظ هذه الآثار أي الاخبار المنقولة عن الأخيار (أنّ شفاعته صلى الله تعالى عليه وسلم) أي للخلق (ومقامه المحمود) أي بين يدي الحق (من أوّل الشّفاعات) وهو الشفاعة العظمى لفصل القضاء (إلى آخرها) وهو إخراج المؤمنين من النار (من حين يجتمع النّاس) بفتح النون وفي نسخة بالتنوين أي من وقت فيه يجتمع الناس (للحشر) وهذا الجار والمجرور خبر ان أو ما قبله هو الخبر وهذا ظرف لوقوع الشفاعات وظهور مقامه المحمود فيه ومن ابتدائية أي فابتداؤها من حين اجتماعهم للحشر بعد سؤالهم الأنبياء ليشفعوا كما يشير إليه قوله (وتضيق بهم الحناجر) حتى لا يكاد أحد منهم يخرج نفسا من تفاقم الهم وتراكم الغم بصوادع القول وصوارع الهول فيرتفع إلى الحنجرة وهي رأس الغلصمة حيث تراه ناتئا فيضيق ومنه قوله تعالى وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وهذا كناية عن ضيق الأحوال عند مشاهدة الأهوال (ويبلغ منهم) أي يؤثر فيهم (العرق) أي عرق الخجالة (والشّمس) أي حرارتها مع دنوها (والوقوف) أي تعب القيام على أرجلهم (مبلغه) أي نهاية وصوله وغاية حصوله (وذلك) أي وجميع ما ذكر من أنواع التعب الحاصل لعامة الخلق (قبل الحساب) أي الذي يترتب عليه الثواب والعقاب (فيشفع حينئذ لإراحة النّاس من الموقف) بالراء أي لتخليصهم من تعبه وبالزاي لإزالتهم وتبعيدهم من نصه (ثمّ يوضع الصّراط) أي على ظهر جهنم كما ورد (وَيُحَاسَبُ النَّاسُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أبي هريرة وحذيفة رضي الله تعالى عنهما) أي كما سبق (وهذا الحديث أتقن) بالتاء الفوقية والقاف أي أحكم وبالقبول أحق ولو روي بالياء التحتية لجاز ومعناه أثبت (فَيُشَفَّعُ فِي تَعْجِيلِ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ من أمّته إلى الجنّة) أي أولا (كما تقدّم في الحديث) أي السابق (ثمّ يشفع فيمن وجب عليه العذاب) أي استحق العقاب لارتكاب المعاصي من المؤمنين (ودخل النّار منهم حسب) بسكون السين وفتحها ونصبه على المصدر أي وفق ومثل (ما تقتضيه الأحاديث الصّحيحة) أي بالدلالات الصريحة (ثُمَّ فِيمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أي وعمل عملا ما بمقتضاه (وليس هذا) أي قبول شفاعته لمن قال لا إله إلا الله (لسواه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي من بين الشفعاء (وفي الحديث المنتشر) أي المشتهر (الصّحيح) أي الوارد في الصحيحين (لكلّ نبيّ دعوة) أي عامة (يدعو بها) أي لأمته أو عليهم وقد دعا بها كل منهم في الدنيا كما وقع لنوح وصالح وهود وموسى عليهم السلام (واختبأت) وفي رواية ادخرت (دعوتي شفاعة لأمّتي يوم القيامة) أي لأجل النفع العام في أهم المقام(1/477)
(قال أهل العلم) أي بعضهم (معناه) أي معنى حديث لكل نبي دعوة لكل منهم (دعوة أعلم) بصيغة المجهول أي أعلم (أنّها) أي تلك الدعوة (تستجاب لهم) أني بضمير الجمع نظرا إلى معنى كل وأفرد في اعلم باعتبار لفظه وفي رواية اعلموا بصيغة الجمع مجهولا وهو ظاهر (ويبلغ) بصيغة المجهول أي يوصل (فيها مرغوبهم) ويحصل مطلوبهم (وإلّا) أي وإن لم يكن كذلك ولم يحصل على ما هنالك (فكم) أي فكثيرا (لكلّ نبيّ منهم من دعوة مستجابة) أي استجيب لهم في الدنيا (ولنبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم منها) أي من أصناف الدعوة (ما لا يعدّ) أي ما لا يحصى (لكن حالهم) أي في باقي دعواتهم (عند الدّعاء بها) أي بالدعوة التي لم يعلموا باستجابتها (بين الرّجاء والخوف) وهو لا ينافي غلبة رجاء المراد على خوف قوته في بعض المواد (وضمنت لهم) بصيغة المجهول مخففا أي جعلت مضمونة (إجابة دعوة) أي واحدة (فيما شاؤه) أي أرادوه واختاروه (يدعون بها على يقين من الإجابة) حال من ضمير يدعون؛ (وقد قال محمّد بن زياد) أي الجمحي البصري يروي عن أبي هريرة وعائشة رضي الله تعالى عنهما وغيرهما وعنه شعبة والحمادان وآخرون ثقة (وأبو صالح) أي السمان الزيات الكوفي هو من الأئمة الثقات روى عن عائشة وأبي هريرة وغيرهما وعنه بنوه وخلق سمع منه الأعمش ألف حديث توفي بالمدينة واسمه ذكوان بالذال المعجمة (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِكُلِّ نبيّ دعوة دعا بها) أي استعجل بها (في أمّته) أي في هلاكهم أو نجاتهم (فاستجيب له وأنا أريد أن أوخّر دعوتي) بهمز ويبدل وفي نسخة صحيحة أدخر بالدال المشددة أي أجعلها ذخيرة لوقت الشدة (شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي صالح) عن أبي هريرة كما في الصحيحين (لكلّ نبيّ دعوة مستجابة) أي في حق عامة أمته (فتعجّل كلّ نبيّ دعوته) أي طلب حصولها في الدنيا وأني ادخرت شفاعتي لأمتي في العقبى أي فإن نفعها أعم وأبقى زاد مسلم فهي نائلة أي واصلة وشاملة إن شاء الله تعالى من مات لا يشرك بالله شيئا. (وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هريرة) وأبو زرعة هذا هو هارم بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي الكوفي يروي عن جده وغيره وروى عنه خلق من التابعين وثقه ابن معين وغيره (وَعَنْ أَنَسٍ مِثْلُ رِوَايَةِ ابْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَتَكُونُ هَذِهِ الدَّعْوَةُ الْمَذْكُورَةُ مَخْصُوصَةً بالأمّة مضمونة الإجابة) أي في حق العامة (وإلّا فقد أخبر صلى الله تعالى عليه وسلم أنّه سأل) أي ربه (لأمّته) أي لبعضهم أو لكلهم (أشياء من أمور الدّين والدّنيا أعطي بعضها ومنع بعضها) أي من حيث إنها لم تكن مضمونة الإجابة (وادّخر لهم هذه الدّعوة) أي لعامة الأمة التي هي مضمونة الإجابة (ليوم القيامة) وفي نسخة صحيحة ليوم الفاقة أي لوقت شدة الحاجة (وخاتمة المحن) أي وغاية أنواع المحنة ونهاية أصناف الشدة (وعظيم السّؤال) بسكون الهمز ويبدل هو الأمنية (والرّغبة) عطف تفسيري (جزاه الله) أي عنا (أحسن ما جزى) أي الله تعالى (نبيّا عن أمّته) أي ورسولا عن دعوته (وصلّى(1/478)
الله عليه وسلّم تسليما كثيرا) أي سلاما كثيرا يترتب عليه مراما كبيرا هذا وقد ثبت أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال سألت ربي لأمتي ثلاثا فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها وفي مسلم استأذنت ربي في أن استغفر لها يعني أمه فلم يؤذن لي واستأذنت في أن أزور قبرها فأذن لي والله سبحانه وتعالى أعلم ثم قيل آخر من يخرج من النار هناد بعد سبعة آلاف سنة قال الحسن يا ليتني كنت هنادا يعني لقطعه بحسن الخاتمة خوفا من سوء العاقبة فنسأل الله تعالى العافية.
فصل [في تفضيله فِي الْجَنَّةِ بِالْوَسِيلَةِ وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ وَالْكَوْثَرِ وَالْفَضِيلَةِ]
(في تفضيله صلى الله تعالى عليه وسلم في الجنّة بالوسيلة) وهي منزلة القربة والوصلة (والدّرجة الرّفيعة) أي العالية التي ليس فوقها درجة (والكوثر) فوعل من الكثرة ومعناه الخير الكثير والعطاء الوفير وفي الحديث أعطيت الكوثر وهو نهر في الجنة يعني ويصب منه في حوض الكوثر يوم القيامة (والفضيلة) أي الصفة الزائدة التي عجز عن بيانها الواصفون مما لا عين رأي ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ولا يبعد أن يراد بها أنواع الفضيلة فهو تعميم بعد تخصيص (حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عيسى التّميميّ) تقدم، (والفقيه أبو الوليد هشام بن أحمد) سبق (بقراءتي عليهما قالا ثنا) أي حدثنا (أبو علي الغّسّاني) بتشديد السين المهملة مر ذكره (قال حدّثنا النّمريّ) بفتح النون هو الحافظ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ) أي عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن القرطبي (حدّثنا أبو بكر التّمّار) بتشديد الميم نسبة إلى التمر (حدّثنا أبو داود) وهو محدث العصر صاحب السنن (حدّثنا محمّد بن سلمة) أي المرادي أبو الحارث المصري وكان أحد الأئمة الأثبات. (حدّثنا ابن وهب) سبق ذكره (عن ابن لهيعة) بفتح فكسر حضرمي بصري ضعيف وكان قاضي مصر (وحيوة) بفتح الحاء المهملة وسكون التحتية ابن شريح المصري الحمصي كان حافظا مجاب الدعوة روى عنه البخاري وغيره (وسعيد بن أبي أيّوب) أي المصري ثقة (عن كعب بن علقمة) وفي نسخة عن كعب عن علقمة والأول هو الصواب كما صرح به الحلبي وغيره وهو تابعي روى عن سعيد بن المسيب وطائفة وعنه الليث وجماعة (عن عبد الرّحمن بن جبير) بضم الجيم وفتح الموحدة مصري فقيه مقرئ ثقة وكان مؤذنا (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) وفي نسخة العاصي بالياء والصواب الأول (أنّه سمع النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يقول) قال الحلبي هذا الحديث أخرجه القاضي كما ترى من سنن أبي داود وقد أخرجه أبو داود في الصلاة وأخرجه مسلم أيضا فيها بالسند الذي أخرجه أبو داود سواء إلا أنه قال عن ابن وهب عن حيوة بن شريح وسعيد بن أيوب وغيرهم كلهم عن كعب بن علقمة به وأخرجه الترمذي في المناقب وقال صحيح والنسائي في الصلاة وفي اليوم والليلة وإنما أخرجه المصنف من(1/479)
عند أبي داود ولم يخرجه من عند مسلم للتنوع في الروايات ولأن بينه وبين أبي داود في هذا الحديث خمسة أشخاص بالسماع ولو روي بالإجازة عن أبي علي الغساني كان بينه وبينه أربعة وليس كذلك مسلم فمسلم يقع له بالسماع بينه وبينه ستة وتارة خمسة فوقع له حديث مسلم موافقة في شيخه انتهى وحاصله أنه إنما أسنده إلى أبي داود دون مسلم لقرب سنده إليه (إذا سمعتم المؤذّن) أي صوته وفي نسخة يؤذن أي حال كونه يؤذن أو حين أذانه (فقولوا مثل ما يقول) أي من كلمات الأذان جميعها إلا الحيعلتين لحديث مسلم وغيره عن عمر المستفاد منه أنه يقال عند سماعهما لا حول ولا قوة إلا بالله ثم هل الأمر بالقول المعلق بالسماع واجب على من سمع حيث لا مانع أو مندوب قال النووي فيه خلاف ذكره الطحاوي والصحيح عن الجمهور ندبه واختلفوا هل يندب عن سماع كل مؤذن أو الأول فقط والأصح يندب إجابة الكل وكون الاول آكد (ثمّ صلّوا عليّ) قال الحلبي صرفه عن الوجوب الإجماع (فإنّه) أي الشأن (من صلّى عليّ مرّة) كذا في الأصول وكأنها سقطت من أصل الدلجي فقال أي مرة بقرينة المقام (صلّى الله عليه) أي بها كما في اصل الدلجي وقال بالمرة أو بالصلاة مرة لكنه هو غير موجود في الأصول والمعنى رحمه وضعف أجره (عشرا) أي باعتبار اقل المضاعفة الموعودة بقوله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها (ثمّ اسألوا) وفي نسخة ثُمَّ سَلُوا (اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ) أي عظيمة كائنة (في الجنّة لا تنبغي) وفي نسخة لا ينبغي أي لا تحصل أو لا تليق (إلّا لعبد) أي كامل (من عباد الله) تعالى أي من أنبيائه وأصفيائه (وأرجو أن أكون أنا هو) ثم جوز أن يجعل أنا مبتدأ خبره هو والجملة خبرا أكون وأن يجعل تأكيدا لاسمها وخبرها وضع موضع إياه أو موضع اسم إشارة أي أنا ذلك العبد وأتى بلفظ الرجاء تأدبا وإيماء إلى أنه لا يجب على الله شيء (فمن سأل الله لي الوسيلة) أي هذه الدرجة وفي معناه كل ما يتوسل به إلى زيادة الزلفة (حلّت) بتشديد اللام أي نزلت ووقعت (عليه الشّفاعة) أي وجبت وجوبا واقعا عليه وقيل غشيته وقيل حقت وثبتت له وفي الحديث إيذان بجواز سؤال الدعاء من المفضول ليفوز من الفاضل المدعو له مع ثواب الله سبحانه وتعالى لهما بفائدة عظيمة وعائد جسمية من نحو شفاعة وسعادة قربة مع الإيماء إلى أن مراتب القرب إلى الله تعالى لا يتصور فيها الانتهاء. (وفي حديث آخر) كما رواه الترمذي (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الْوَسِيلَةُ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ. وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله تعالى عنه) كما في البخاري (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إذ عرض لي) أي فاجأني وظهر لي (نهر) بفتح الهاء وتسكن (حافتاه) بتخفيف الفاء أي جانباه وطرفاه (قباب اللؤلؤ) بكسر القاف جمع قبة وهي بيت صغير مستدير ووقع في أصل الدلجي فيهما لؤلؤ مثل القباب وهو ليس من نسخ الكتاب ولا أظنه أنه رواية في هذا الباب بل هو من تصرف الكتاب وفي أصل التلمساني اللؤلؤ والدر فقيل هما بمعنى وقيل اللؤلؤ الكبير (قلت لجبريل ما هذا) أي الذي أراه (قال هذا الكوثر الذي أعطاكه الله تعالى) أي خاصة (قال) أي(1/480)
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (ثمّ ضرب) أي جبريل (بيده إلى طينته) بالإضافة وفي نسخة إلى طينة بالتنكير وتاء التأنيث أي من طينه (فاستخرج مسكا) أي شيئا هو مسك أو كمسك وسماه طينا جريا على غالب العادة في كون مقر الماء طينا أو بحسب الصورة. (وعن عائشة وعبد الله بن عمرو) بالواو (مثله) أي مثل حديث أنس قبله (قال) أي في حديثهما (ومجراه) أي جريان مائة (على الدّرّ) اسم جنس واحده درة وكذا قوله (والياقوت) أي ومن تحتهما المسك كالطين تحت حصى الماء فلا منافاة بين حديثهم (وماؤه أحلى) أي أكثر حلاوة وأشد لذاذة (من العسل وأبيض) وفي رواية وأشد بياضا (من الثّلج) وفي رواية أبيض من اللبن قال الدلجي ولا يلزم من كونه أحلى من العسل الاستغناء به عن أنهار العسل المصفى في الجنة لأنها ليست للشرب انتهى ولا يخفى أن نفي كونها للشرب يحتاج إلى بيان حجة في تحقيق المدعي والتحقيق أن الأنهار الأربعة عامة لأهل الجنة والكوثر موضوع للخاصة مع أنه قد يقال التقدير وماؤه أحلى من العسل الموجود في الجنة باعتبار كمال اللذة (وفي رواية عنه) أي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (فإذا هو) أي ماؤه (يجري) أي على وجه الأرض من غير نهر (ولم يشقّ) بصيغة الفاعل وفي نسخة بصيغة المفعول (شقّا) أي لم يمل إلى شق من أحد طرفيه بل يجري جريا مستويا كما أراده سبحانه أو تمناه صاحبه من أهل الجنة (عليه) أي على النهر (حديث حوض) أي عظيم (ترد عليه) وفي نسخة صحيحة ترده (أمّتي) أي ضيافة في الجنة أو يوم القيامة والثاني أظهر لقوله (وذكر) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (الحوض) ومطلقه ينصرف إلى الأشهر مع احتمال التعدد فتدبر ومعنى كون الحوض على النهر اعتماده عليه من حيث إن ماءه ممتد من مائة ومنتهى إليه إذ النهر في الجنة والحوض خارجها لما ورد ليردن على الحوض أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم فأقول إنهم مني فيقال لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن غير بعدي (ونحوه) أي ونحو ما ذكر عن المذكورين مروي (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا) كما في البخاري (قَالَ الْكَوْثَرُ الْخَيْرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ) أي ومنه الحوض وغيره ولعله لم يصفه بالكثير كما في بعض الروايات لما يستفاد من الصيغة للمبالغة. (وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّهْرُ الَّذِي فِي الجنة من الخير الذي أعطاه الله تعالى) أي لأنه مقصور على النهر أو الحوض بل الكوثر أتم وأعم والله تعالى أعلم. (وعن حذيفة فيما ذكر عليه الصلاة والسلام عن ربّه) أي روايا عنه (وأعطاني الكوثر نهرا من الجنّة) بنصب نهرا على أنه بدل أو بتقدير أعني أو على المدح ووقع في أصل الدلجي مخالفا للنسخ نهر بالرفع فقال خبر حذف مبتدأه أي هو بشهادة رواية أعطيت الكوثر وهو نهر في الجنة (يسيل) أي ينصب (في حوضي) أي يوم القيامة أو في الجنة (وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) كما روى ابن جرير وابن أبي حاتم بسند صحيح (في قوله) أي تفسير قوله تعالى (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: 5] قال) أي ابن عباس (أَلْفُ قَصْرٍ مِنْ لُؤْلُؤٍ تُرَابُهُنَّ الْمِسْكُ وَفِيهِ) أي وفي كل قصر أو فيما ذكر من(1/481)
القصور وقد اخطأ التلمساني بقوله صوابه فيهن (ما يصلحهنّ) بضم الياء وكسر اللام أي ما يصلح القصور ويزينهن ويحسنهن من الخدم والأزواج والأثاث وأصناف الحور وأنواع الحبور. (وفي رواية أخرى) أي مبينة للأولى (وفيه) أي وفي كل قصر (ما ينبغي) أي يليق (له من الأزواج) أي نساء الجنة من الحور وغيرها من نساء الدنيا وهن أفضلهن وأكملهن جمالا لما قدمن في الدنيا أعمالا (والخدم) أي من غلمان كأنهن لؤلؤ مكنون والله تعالى أعلم وقد ذكر الدارقطني من طريق مالك بن مغول عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن الله تعالى أعطاني نهرا يقال له الكوثر لا يشاء احد من أمتي أن يسمع خرير ذلك الكوثر إلا سمعه فقلت يا رسول لله كيف ذلك قال أدخلي أصبعيك في اذنيك وسدي فالذي تسمعين فيهما من خرير الكوثر ونقله السهيلي ذكره التلمساني.
فصل [فَإِنْ قُلْتَ إِذَا تَقَرَّرَ مِنْ دَلِيلِ الْقُرْآنِ وصحيح الأثر]
(فإن قلت إذا تقرّر) أي ثبت وتحرر (من دليل القرآن وصحيح الأثر) وفي نسخة الآثار ووقع في أصل الدلجي الأخبار (وإجماع الأمّة) أي من اتفاقهم (كونه أكرم البشر) يعني والبشر خير من الملك كما هو مقرر (وأفضل الأنبياء) وهم أعم من الرسل (فَمَا مَعْنَى الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِنَهْيِهِ عَنِ التَّفْضِيلِ) أي بين الأنبياء (كَقَوْلِهِ فِيمَا حَدَّثَنَاهُ الْأَسَدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا السَّمَرْقَنْدِيُّ ثنا) أي حدثنا (الفارسيّ) بكسر الراء وهو عبد الغفار (حدّثنا الجلوديّ) بضم الجيم واللام (حدّثنا ابن سفيان) وهو إبراهيم (حدّثنا مسلم) وهو صاحب الصحيح (حدّثنا محمّد بن مثنّى) وفي نسخة محمد بن مثنى بضم ميم وفتح مثلثة وتشديد نون منون (حدّثنا محمّد بن جعفر) وهو غندر وقد تقدم (حدّثنا شعبة) أي ابن الحجاج (عن قتادة سمعت أبا العالية) يراد به هنا رفيع بن مهران فإنه الذي يروي عنه قتادة وأما زياده بن فيروز فيروي عنه أيوب السختياني ومطر الوراق وبديل بن هبيرة كما حققه الحلبي (يَقُولُ حَدَّثَنِي ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم يعني) أي يريد به (ابن عبّاس) وهو عبد الله (عن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) قال الحلبي وهذا الحديث في البخاري ومسلم وأبي داود (قال ما ينبغي) أي ما يصح أو ما يصلح (لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بن متّى) بفتح الميم وتشديد المثناة فوق مقصورا وقد تقدم أنها أمه والمراد بعبد كل مكلف ثم يختلف الحكم بمرجع أنا فإن لم يكن نبينا فقد كفر لما فيه من الانتقاص الذي بمثله كفر إبليس إذ قال أنا خير منه وإن كان نبيا فينبغي له التواضع لما أكرم به النبوة كذا قرره الدلجي والظاهر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يريد أنه لا يجوز لأحد من أمتي أن يعظمني وأن يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى تفضيلا لي عليه وهذا من كمال التواضع لديه قال التوربشتي وإنما خص يونس بالذكر دون غيره من الرسل لما قصه الله تعالى في كتابه عنه من توليه عن قومه وتضجره منهم وقلة صبره فقال(1/482)
وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ وقال وَهُوَ مُلِيمٌ وقال إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
فلم يأمن صلى الله تعالى عليه وسلم أن يخامر بواطن ضعفاء أمته ما يؤدي إلى تنقيصه فبين أن ذلك ليس بقادح فيما منحه الله له من كرامة النبوة وشرف الرسالة وأنه مع ما صدر منه كإخوانه من المرسلين انتهى وقد يقال وجه تخصيصه من بين الأنبياء لكونه صلى الله تعالى عليه وسلم لما وقع عروجه إلى السماء ليلة الإسراء وحصل له مقام قاب قوسين أو أدنى مع سائر الكرامات وكان معراج يونس بطن الحوت في الظلمات لربما يتوهم متوهم أن معراج السموات أقرب إلى الرب فيكون صاحبه أفضل وأحب فدفع بأن الأمكنة بالنسبة إلى الله تعالى مستوية إذ هو بذاته تعالى منزه عن المكان ولو كان أعلى في ظهور الشأن (وَفِي غَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال يعني) أي يريد أبو هريرة بالقائل (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما ينبغي لعبد الحديث) أي الخ كما تقدم (وفي حديث أبي هريرة) أي كما رواه الشيخان (في اليهودي الذي قال) أي حين استب هو ورجل من الأنصار (والذي اصطفى موسى على البشر) أي في زمانه ولكنه بإطلاقه المتبادر كان يعم نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بحسب الظاهر (فلطمه رجل من الأنصار) أي غيرة على نبينا المختار (وقال تقول ذلك) أي أتقول هذا القول (والنبي بين أظهرنا) أي بيننا موجود وطالعنا بطلوعه مسعود (فبلغ ذلك) أي الخبر (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فدعا الأنصاري فأخبره بذلك (فقال لا تفضّلوا) بضم أوله وتشديد الضاد المكسورة أي لا توقعوا التفضيل (بين الأنبياء) يعني بمجرد الأهواء والآراء وزاد بعضهم ثم قال وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلَ مِنْ يُونُسَ بن متى ثم إن النسخ والأصول بالضاد المعجمة وأعرب الدلجي حيث قال ومعناه بالصاد المهملة أي لا تفرقوا بينهم بتفصيل وبالمعجمة لا توقعوه بينهم انتهى وهو صحيح المعنى وإنما الكلام في ثبوت المبنى مع ما فيه من معارضته لقوله تَعَالَى تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فلا بد من اعتقاد التفضيل بالإجمال أو التفصيل وأما قوله تعالى لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فالمعنى نؤمن بكلهم تعريضا لليهود فيما حكاه الله تعالى عنهم ويقولون نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، (وفي رواية) أي للشيخين ولأبي داود والنسائي (لا تخيّروني) بضم التاء وكسر الياء المشددة لا تفضلوني (على موسى) قاله تواضعا أو ردعا عن تفضيل يوجب نقيصة أو فتنة مفضية إلى عصبية وحمية جاهلية أو كان هذا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ والله تعالى أعلم (فذكر) أي الراوي (الحديث) أي بقيته وهي قوله قال فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أو كان فيمن استثنى الله تعالى وفي رواية فلا أدري أجوزي بالصعقة أم لا وهي لغة أن يغشى على الإنسان من صوت شديد سمعه وربما مات ثم استعمل في الموت كثيرا والمراد بها ههنا ما أفاده وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً قال المصنف رحمه الله تعالى وهذا من أشكل الاحاديث لأن موسى مات فكيف يصعق وإنما يصعق الأحياء فيتحمل أن تزن هذه الصعقة صعقة فزع بعد(1/483)
البعث حين تنشق السماء ويؤيده قوله فأفاق فإنه إنما يقال أفاق من الغشي وبعث من الموت وبه جزم التوربشتي حيث قال وأما الصعقة في الحديث فهي بعد البعث عند نفخة الفزع وأما البعث فلا تقدم لأحد على نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فيه واختصاص موسى عليه السلام بهذه الفضيلة لا يوجب له تفضيلا على من فاز بسوابق جمة ولواحق عمة (وفيه) أي وفي هذا الحديث (وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلَ مِنْ يُونُسَ بن متّى. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) كما في رواية البخاري (مَنْ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متّى) أي من جميع الوجوه. (فقد كذب) إذ قد يكون له خصوصية في نوع من الفضيلة قال الدلجي ويجوز رجوع أنا كما مر إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أو إلى كل قائل أي لا يقول ذلك أحد وإن بلغ في العلم والعبادة أو غيرهما من الفضائل ما بلغ إذ لم يبلغ يونس من درجة النبوة انتهى ولا يخفى أن أنا في الحديث السابق يحتمل الاحتمالين وأما هنا فالاحتمال إلى القائل بعيد عن موضع تحقيق وتأييد لأن جزاءه حينئذ فقد كفر كما سبق فتدبر وأيضا ما كان أحد يتوهم منه أنه يدعي كونه أفضل من يونس حتى ينهى عنه وإنما كان يتوهم بعضهم أن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل منه في أمر النبوة والرسالة أو في علو المرتبة وفضيلة الدرجة فنهاهم إما إعلاما بتسوية نسبة النبوة والرسالة وإما تواضعا لربه وهضما لنفسه وإما قبل علمه بعلو مقامه.
(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى وَفِي حَدِيثِهِ) أي ابن مسعود (الآخر) أي الذي رواه مسلم وأبو داود والترمذي (فجاءه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (رجل فقال يا خير البريّة) أي الخلق من برأه الله يبرؤه براءة خلقه فهو فعيل بمعنى مفعول والتاء للمبالغة في الكثرة وأصله مهموز كما قرأ به نافع وابن ذكوان ثم أبدلت الهمزة ياء وأدغمت وهي قراءة الباقين فقول صاحب النهاية ولم يستعمل مهموزا مبني على عدم علمه بالقراءة (فقال ذاك) وفي نسخة ذلك باللام (إبراهيم) قاله تواضعا وإكراما لكونه أبا أو لأنه أمرنا باتباعه أو قبل العلم بأنه أفضل منه. (فاعلم) جواب الشرط السابق أي فإن قلت الخ فاعلم (أنّ للعلماء في هذه الأحاديث) أي الناهية عن التفضيل بين الأنبياء (تأويلات) أي وجوها أربعة أو خمسة تقدم بيان بعضها في حل لفظها (أحدها) أي الوجه الأول منها (أنّ نهيه عن التفضيل) أي فيما بينهم (كَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ فَنَهَى عَنِ التَّفْضِيلِ إِذْ يَحْتَاجُ إِلَى توقيف) أي إلى سماع في تفضيل الأنبياء إذ لا درك فيه لعقول العلماء (وأنّ من فضّل) أي أحدا منهم على غيرهم (بلا علم) أي يقيني أو ظني يصلح للاستدلال (فقد كذب) أي في ذلك المقال، (وكذلك) أي مأول (قَوْلُهُ لَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْهُ) أي من يونس (لا يقتضي تفضيله هو) أي يونس على إطلاقه وقد أبعد الدلجي في قوله أي هو صلى الله تعالى عليه وسلم على يونس لدخوله في عموم النكرة في سياق النفي انتهى ووجه غرابته لا يخفى مع عدم ملائمته للمدعي بحسب المعنى (وإنّما هو) أي قوله هذا (في الظّاهر كفّ) بتشديد الفاء أي منع منه صلى الله تعالى عليه وسلم لغيره (عن التّفضيل) إذ من شأنه أن يكون منشأ(1/484)
للنقص أو التجهيل (الوجه الثّاني أنّه قاله صلى الله تعالى عليه وسلم على طريق التّواضع) أي مع إخوانه وأقرانه أو لربه في عظمة شأنه (ونفي التّكبّر، والعجب) أي عن باطنه تعليما لأمته وإرشادا إلى طريقته (وهذا) أي الوجه من التأويل (لا يسلم من الاعتراض) أي في صحة التعليل فإن عدم جريه على موجب علمه أخبار بخلاف وقوعه وهو ينافي منصب النبوة وفيه أن هذا الاعتراض إنما يرد لو ثبت نفيه تواضعا بعد علمه بكونه أفضل الأنبياء أو بتفصيل التفضيل بين الأصفياء وأما قبل العلم فلا يرد اعتراض أصلا مع احتمال حمل التواضع من حيث إنه لا مفضول إلا وقد يوجد فيه ما لا يوجد في الفاضل فليس أحد منهم أفضل مطلقا على أن من تواضع لله رفعه الله وقد أبعد التلمساني حيث قال الاعتراض هو أنه لا يظهر حينئذ فائدة تخصيص يونس عليه السلام بالذكر انتهى وتبعه الأنطاكي وبعد كلامهما لا يخفى لأنه كما قال الخطابي إنما خص يونس عليه السلام لأن الله تعالى لم يذكره في جملة أولي العزم من الرسل فكأنه قال فإذا لم آذن لكم أن تفضلوني على يونس فلا تفضلوني على غيره من أولي العزم بالأولى. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَلَّا يُفَضِّلَ بَيْنَهُمْ تَفْضِيلًا يُؤَدِّي إلى تنقّص بعضهم) أي طلب نقصان في المرتبة أو ظهور منقصة في المنقبة لبعضهم (أو الغض) بغين وضاد مشددة معجمتين أي النقص منهم جميعا كذا ذكره الدلجي وفيه أن النسخ كلها (منه) بضمير الإفراد الراجع إلى بعضهم فالاولى أن يفسر الغض بالإغماض الذي هو كناية عن الاعراض (لا سيّما) كلمة استثناء مركبة من سي بمعنى مثل ومن ما وهي إما موصولة فيرتفع الاسم بعدها خبر مبتدأ محذوف كما في جاء القوم لا سيما أخوك أي لا مثل الذي هو أخوك وأما زائدة فينجر ما بعدها بسي لأنها كما في أكرم القوم لا سيما أخيك أي لا مثل أخيك إكراما وقول امرئ القيس ولا سيما يوم بدارة جلجل ورد مرفوعا ومجرورا والمعنى هنا خصوصا إذا كان التفضيل المتنازع فيه (فِي جِهَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ أَخْبَرَ الله عنه بما أخبر) أي في تنزيله بقوله ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم وبقوله فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ وبقوله إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
فوقع النهي عن التفضيل عليه (لِئَلَّا يَقَعُ فِي نَفْسِ مَنْ لَا يَعْلَمُ) أي مقام قربه وأنه تداركه نعمة من ربه (منه) متعلق بيقع أي لئلا يقع في نفس الجاهل بمقامه من جهة منزلته (بذلك) أي بسبب ما أخبر الله عنه (غضاضة) بفتح أوله مرفوعة على أنها فاعل يقع أي نقص وحقارة (وانحطاط) أي تنزل (من رتبته) بضم الراء أي مرتبته (الرّفيعة) أي العالية التي هي أصل النبوة والرسالة (إذ قال تعالى) بدل من قوله إذ خبر الله تعالى (عنه) أي حكاية عن حاله ورواية عن مآله حيث قال في موضع (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) أي فارق قومه وخرج عنهم حال كونه مغاضبا عليهم لإصرارهم على الكفر والعدوان وعدم رجوعهم إلى الإيمان والإحسان وكان خروجه وذهابه لم يكن عن إذن من الرحمن ولذا عبر عنه بقوله (إذ أبق) بفتح الباء وحكي كسرها (إلى الفلك المشحون) أي المملوء فإن أصل الإباق هو الهرب من السيد فحسن إطلاقه عليه ههنا لهربه من قومه بغير إذن ربه (فَظَنَّ أَنْ(1/485)
لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء: 8] ) أي لن نضيق عليه أو لن نقضي عليه بالعقوبة وينصره قراءته مثقلا وروى الزمخشري أن معاوية قال لابن عباس رضي الله تعالى عنه ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك قال وما هي يا معاوية فقرأ هذه الآية فقال أو يظن نبي الله أن لا يقدر الله عليه فقال له هذا من القدر لا من القدرة قال ابن عرفة أي من الإرادة أي فظن أن لن نريد عقوبته (فَرُبَّمَا يُخَيَّلُ لِمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ حَطِيطَتُهُ) أي حط مرتبته ونقص منزلته عن رتبة نبوته ورفعة رسالته (بذلك) أي بسبب ما ذكره ومن جهة ما أخبر (الوجه الرّابع منع التّفضيل) أي نهيه (في حقّ النّبوّة والرّسالة) أي باعتبار أصلهما وحقيقة ماهيتهما لا في ذوات الأنبياء وزيادة خصائص الأصفياء، (فإنّ الأنبياء فيها على حدّ واحد) أي سواء غير متعدد (إذ هي) أي مادة النبوة والرسالة (شيء واحد) وهو البعثة المجردة الحاصلة بالوحي فقط وتسمى النبوة أو منضمة إلى تبليغ الغير وتسمى الرسالة وهي في حد ذاتها شيء واحد (لا يتفاضل) أي بالنسبة إى أصحابها فلا يقال مثلا نبوة آدم أفضل من نبوة غيره منهم ونظيرها حقيقة الإيمان فإنها شيء واحد بالنسبة إلى المؤمنين حال الإيقان وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام لا تفضلوني على إخواني المرسلين فإنهم بعثوا كما بعثت. (وإنّما التّفاضل في زيادة الأحوال) أي الناشئة عنها من تحسين الأخلاق والأعمال (والخصوص) أي والخصوصيات في مقامات أرباب الكمال (والكرامات) أي المعجزات وخوارق العادات (والرّتب) أي ومراتب العبادات والمجاهدات. (والألطاف) أي وأنواع الملاطفة وأصناف المخالطة من حسن المعاشرة والمجاملة والمداراة مع الأمة كاختلاف مراتب أهل الإيمان من ظهور ثمرات الإيقان ونتائج الإحسان ولوايح العوارف ولوامع المعارف وخوارق العادات للأولياء ومراتب الاجتهادات للعلماء والأصفياء. (وأمّا النّبوّة في نفسها) وكذا الإيمان في حد ذاته (فلا تتفاضل) أي لا تفاوت في حالاتها ولا تتزايد في مقاماتها، (وإنّما التّفاضل بأمور أخر) أي كما سبقت الإشارة إليها (زائدة عليها) أي على حقيقتها (ولذلك منهم رسل) أي بعض الأنبياء موصوفون بزيادة وصف الرسالة على نعت النبوة (ومنهم أولو عزم) أي الجد والاحتياط والحزم (من الرّسل) أي بناء على أن من تبعيضية وهو المعتمد لا بيانية ثم هم مجموعون في آيتين إحديهما قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وفي تقديم منك إشعار بأوليته وأفضليته صلى الله تعالى عليه وسلم على بقيتهم والباقي ذكر على ترتيب وجودهم حين بعثتهم وإن كان بعض أفضل من بعض في مقام كرمهم وجودهم وسيرتهم (ومنهم) أي وكان من الأنبياء (من رفع مكانا عليّا) كإدريس عليه السلام وهو سبط شيث وجد نوح كما قال تعالى وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا أي رفع إلى السماء وقيل إلى الجنة، (ومنهم من أوتي الحكم) أي النبوة أو الحكمة أو فهم التوراة (صبيا) أي حال صغره كيحيى عليه السلام كما قال تعالى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا قيل أوتي النبوة وهو ابن ثلاث سنين(1/486)
وقيل قرأ التوراة وهو صغير (وأوتي) أي أعطي (بعضهم الزّبور) وهو داود عليه السلام ووقع في أصل التلمساني ههنا الزبر بضمتين جمعا أي صحفا مزبورة أي مكتوبة كما قال تعالى وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (وبعضهم البيّنات) أي المعجزات الظاهرات أو المبينات للنبوة بحسب الدلالات كعيسى عليه السلام كما قال تعالى وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أي كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار بالمغيبات (ومنهم من كلّم الله تعالى) كموسى كلمه مرتين ليلة الحيرة وعلى الطور (ورفع بعضهم درجات) تفضيلا له على غيره في المقامات وهو نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إذ لا تحصى درجات كمالاته ولا تعد مراتب مقاماته وحالاته مع مشاركته لكل من الأنبياء في ظهور آياته واقتران زيادة معجزاته وخصوصياته ولعله أبهم اعتمادا على ما أفهم لأنه كالمتعين من حيث إنه الفرد الأكمل لا سيما في مقام الختم المؤذن بكونه الأفضل (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ [الإسراء: 55] الآية) فالتفضيل ثابت مقطوع به في الجملة بين أرباب النبوة وكذا بين أصحاب الرسالة لقوله (وقال) أي الله سبحانه وتعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْبَقَرَةِ: 253] ) أي بفضائل سنية وشمائل بهية وفواضل انسانية منزهة عن علائق جسمانية وعوائق شهوانية ونحوها في الدنيا ومراتب جلية ودرجات علية وأمثالها في العقبى فإن الدنيا مزرعة للآخرة (قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالتَّفْضِيلُ الْمُرَادُ لَهُمْ هنا في الدّنيا) أي غير مقصور في العقبى لا أنه غير موجود في الأخرى (وذلك) أي سبب تفضيلهم في الدنيا (بثلاثة أحوال) أي يعرف بثلاثة أوصاف (أن تكون آياته) أي خوارق عاداته (ومعجزاته) أي المقرونة بالتحدي فهي أخص مما قبله (أبهر) أي أظهر (وأشهر) ولا شك أن معجزات نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أظهر وأشهر ولو لم يكن إلا القرآن لكفى دليلا للبرهان (أو تكون أمّته أزكى) أي اتقى (وأكثر) أي أزيد من غيرهم كيفية وكمية أما الكيفية فقد قال تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وأما الكمية فقد ثبت أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال صفوف المؤمنين مائة وعشرون وأمتي منهم ثمانون وفي نسخة أظهر بالظاء المعجمة بدل أكثر والأظهر هو الأول فتدبر وعلى تقدير صحته فلعل معناه أغلب (أو يكون) أي النبي المفضل (في ذاته أفضل وأطهر) بالطاء المهملة أي أنور وقد تصحف بالمعجمة على الدلجي وفسره بأشهر ثم مما يدل على أفضلية نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم في ذاته أنه سبحانه وتعالى خلقه قبل جميع موجوداته بل جعله كالعلة الغائية في مراتب مخلوقاته وجعله أولا وآخرا في مقامات كائناته وجعل نور مشكاته محل فيوض أنوار ذاته واسرار صفاته ومعدن ظهور تجلياته هذا، (وفضله) أي وفضل كل نبي (فِي ذَاتِهِ رَاجِعٌ إِلَى مَا خَصَّهُ اللَّهُ به من كرامته) أي من إكرام الله له بمناقب عظيمة ومراتب جسيمة (واختصاصه) بالجر أي وإلى اختصاص كل نبي بمقام علي وحال جلي (من كلام) أي كما وقع لموسى في الطور ولنبينا في مقام دنا بل أدنى في معرض الظهور (أو خلّة) أي كما ثبت للخليل ولنبينا الجليل مع زيادة المحبة الخاصة(1/487)
والحالة الجامعة بين المحبية والمحبوبية بل الوسيلة لكل محب ومحبوب في المرتبة المطلوبية والمجذوبية (أو رؤية) أي بصرية كما اختص به نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم على ما تقدم أو رؤية بصيرية وهي مقام المشاهدة برفع الحجب الجسمانية كما يحصل للكمل من الافراد الإنسانية (أو ما شاء الله من ألطافه) أي الخفية وهي بفتح الهمزة جمع لطف وهو برد دقيق (وتحف ولايته) أي العلية وهي بضم التاء وفتح الحاء جمع تحفة بمعنى الهداية، (واختصاصه) أي إياهم بالمراتب الجلية (وقد روي) كما في تفسير ابن أبي حاتم ومستدرك الحاكم عن وهب بن منبه (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إنّ للنّبوّة) أي المقرونة بالرسالة (اثقالا) أي تكاليف مثقلة ذات مرارة تعرض لها بسبب التبليغ بشارة ونذارة كما أشار إليه قوله تعالى إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (وإنّ يونس) أي لعدم تحمله وغلبة ضجره في مقام صبره عند ترك انقياد قومه وإصرارهم وشدة عنادهم وتمادي أضرارهم (تفسّخ منها) أي انسلخ منها وتجرد عنها (تفسّخ الرّبع) بالنصب أي كتفسخه تحت الحمل الثقيل وهو بضم الراء وفتح الباء أي الفصيل وهو ولد الناقة يولد في الربيع والمعنى أن يونس عليه السلام لم يستطع أن يحمل أعباء النبوة كما أن الربع لا يستطيع أن يحمل الأثقال الكبيرة (فحفظ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بنهيه عن التفضيل بينهم (موضع الفتنة من أوهام) التي هي أوهام (من يسبق إليه) أي إلى فهمه من وهمه والوهم هو الاحتمال المرجوح عند تردد حكم العقل (بسببها) أي بسبب اثقالها من سآمة وضجر وضيق نفس وقلة صبر (جرح) بفتح الجيم وسكون الراء أي طعن (في نبوّته) وفي نسخة بفتح حاء وراء وبجيم أي ضيق والظاهر أنه تصحيف (أو قدح) أي عيب (في اصطفائه) أي بالرسالة أو في اجتبائه الثابت في قوله تعالى فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (وحطّ في رتبته) أي وضع من رفعته (ووهن في عصمته) أي ضعف فيها بتوهمه ذلك (شفقة) على الحفظ أي راعي هذا المعنى المفاد من المبنى أي مخالفة (منه صلى الله تعالى عليه وسلم على أمّته) ورحمة على أهل ملته كيلا يقع أحد في وهدة غفلته وينزجر عن الإقدام على جرأته (وقد يتوجّه على هذا التّرتيب) أي على ما رتب من أن يونس ممن خصه الله تعالى بعهد النبوة والطاف الكرامة (وجه خامس وهو أن يكون) لفظ (أنا) أي في الحديث السابق (رَاجِعًا إِلَى الْقَائِلِ نَفْسِهِ أَيْ لَا يَظُنُّ) يعني لا يتوهم (أحد) أي من العلماء والأولياء (وإن بلغ من الزّكاء) أن وصلية أي وإن وصل من الفهم العالي وهو بالزاء في خط المصنف وعند العرفي بالذال المعجمة ومعناه قريب من الأول فتأمل (والعصمة) أي من الأفعال الردية (والطّهارة) أي من الأخلاق الدنية (ما بلغ) أي من الغاية والنهاية في مرتبة الولاية (أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ لِأَجْلِ مَا حَكَى الله تعالى عنه) أي من ظهور تضجره وتبرمه وقلة صبره على تمادي قومه في ترك الإيمان بما جاء به (فإنّ درجة النّبوّة أفضل) يروى أعظم (وأعلى) أي من درجة الولاية ولهذا فرق بين الحفظ والعصمة حيث خصت العصمة للأنبياء والحفظ للأولياء إذ لا يتصور(1/488)
حصول الذنب عمدا من أرباب النبوة بخلاف أصحاب الولاية ولذا لما سئل جنيد أيزني العارف أطرق مليا ثم قال وكان أمر الله قدرا مقدورا وبهذا يتبين أنه لا يوجد في النبي ما يكون سببا لسلب النبوة أو الإيمان والمعرفة بخلاف الولي فإنه قد يخرج عن مرتبة الولاية بارتكاب الكبيرة ويخاف عليه من سوء الخاتمة نسئل الله العافية ولعل هذا التفصيل يبين لك معنى قوله، (وإنّ) بكسر الهمزة وفتحها (تلك الأقدار) أي المقدرات جمع قدر محركة وتسكن (لم تحطّه عنها) بتشديد الطاء أي لم تنزله عن درجة النبوة (حبّة خردل) وهي حبة الرشاد (ولا أدنى) أي أقل منها بقدر ذرة بل أقول إنها كلها كانت أسباب زيادة مثوبة ورفعة درجة من حيث إنها نشأت عن الغضب في الله والهجرة في مرضاته إلا أن بعضها كان خلاف الأولى بالنسبة إلى المقام الأعلى فإن حسنات الأبرار سيئات الأحرار فعوتب في ذلك تنبيها لما هنالك؛ (وسنزيد في القسم الثّالث في هذا) أي المبحث (بيانا) أي شافيا كافيا (إن شاء الله تعالى) أي أراد كونه جامعا مانعا (فقد بان لك الغرض) بفتح الغين المعجمة والراء أي المقصود (وسقط بما حرّرناه شبهة المعترض) أي المردود، (وبالله التّوفيق) أي على طاعة المعبود (وهو المستعان) أي في كل مورود (لا إله إلّا هو) أي الواجب الوجود وصاحب الكرم والجود وهو نعم الإله ولا إله سواه.
فصل [في أسمائه صلى الله تعالى عليه وسلم وما تضمنته من فضيلته]
(في أسمائه عليه الصلاة والسلام وما تضمّنته من فضيلته) أي المشعرة بتفضيله على سائر الأنبياء الكرام اعلم أن ابن العربي المالكي في الأحوذي شرح الترمذي حكى عن بعضهم أن لله تعالى ألف اسم وللنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ألف اسم ثم ذكر منها على التفصيل نيفا وستين قال الحلبي وقد رأيت مجلدين في القاهرة مصنفا يقال له المستوفى في اسماء المصطفى لابن دحية الحافظ جمع فيه للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فوق الثلثمائة قلت وكان شيخ مشايخنا السيوطي اختصره في كراريس وسماها بالبهجة البهية في الاسماء النبوية واقتصر منها على التسعة والتسعين وفق عدد اسماء الله الحسنى الثابتة بالطرق المرضية إذ قد قال ابن فارس هي الفان وعشرون وفي الجملة كثرة الاسماء تدل على شرف المسمى المشعرة بكثرة النعوت والأوصاف (حدّثنا أبو عمران) بكسر أوله (موسى بن أبي تليد) بفتح فكسر (الفقيه) بالرفع (ثنا) أي حدثنا (أبو عمر الحافظ) أي ابن عبد البر، (ثنا سَعِيدُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ) بفتح همزة وسكون مهملة وفتح موحدة فغين معجمة غير مصروف الإمام الحافظ محدث الأندلس سمع ابن قتيبة وابن أبي الدنيا وروى عنه حفيده قاسم بن محمد والحافظ الباجي وفي آخر عمره قطع الرواية خوفا من الغلط وانتهى إليه علو الإسناد والحفظ والجلالة وتوفي بقرطبة سنة أربعين وثلاثمائة (ثنا محمّد بن وضّاح) بتشديد الضاد المعجمة (ثنا يحيى) أي راوي الموطأ (ثنا مالك) أي الإمام (عن ابن شهاب) أي الزهري(1/489)
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أبيه) قال التلمساني لم يثبت في رواية يحيى هكذا وإنما أرسله ابن شهاب عن محمد بن جبير عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم قيل وارساله هو الصحيح عن مالك في الموطأ ووصله غيره عن مالك وغيره عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بن مطعم عن أبيه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم ورواه ابن بكر والقعنبي وابن القاسم وعبد الله بن يوسف وإسماعيل بن أبي أويس كيحيى ووصله معن بن عيسى وعبد الله بن نافع وأبو مصعب ومحمد بن المبارك الهروي ومحمد بن عبد الرحيم ورواه القعنبي عن مالك مرسلا وعن ابن عيينة مسندا والأكثر عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ ورواه حماد بن سلمة عن جعفر بن أبي وحشية عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه يعني جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل صحابي اسلم بعد الحديبية قال الحلبي هذا الحديث أخرجه القاضي من الموطأ كما ترى وهو في البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وإنما لم يخرجه من عند البخاري مثلا فإنه بين القاضي وبين مالك في هذا الحديث ستة أشخاص ولو أخرجه من طريق البخاري كان بينه وبين مالك في بعض الطرق ثمانية أشخاص فاجتمع له في رواية هذا الحديث علو لا يجتمع له إذا رواه من عند البخاري وكذا يجتمع له إذا أخرجه من بقية الكتب والله تعالى أعلم (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لي خمسة أسماء) أي عظيمة أو شهيرة (أنا محمّد) اسم مفعول من التحميد مبالغة الحمد نقل من الوصفية إلى الاسمية سمي به رجاء أن يحمده الأولون والآخرون بالهام الله تعالى وكان كذلك في الدنيا والعقبى وعن ابن قتيبة أن من أعلام النبوة أنه لم يسم قبله أحد باسمه صيانة من الله تعالى لرسمه إذ قد سماه به في كتبه وبشر به الأنبياء قبله فلو تسمى به غيره وقع الاشتراك له وربما انتشرت دواعي النبوة ووقعت الشبهة وقامت الفتنة لكن لما قرب زمنه وبشر بقربه أهل الكتاب تسمى به قليلون لم يدع أحد منهم النبوة لئلا تقع الشبهة والله تعالى ولي العصمة، (وأنا أحمد) اسم تفضيل بمعنى الفاعل أو المفعول كما سيأتي بيانه من المنقول. (وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ) أي الكفر العام أو غلبته على دين الإسلام ولم يقل به ليعود ضمير الصلة إلى الموصول لأن قصده الإخبار عن نفسه مع أن ضميرها عبارة عنه فلم يبال بعوده إليه لا من اللبس لديه وقال التلمساني روي الكفر ومعناه يذهب أصله والتشرع به حتى يكون معتقدا ومذهبا وروي الكفرة جمع كافر فالتقدير دين الكفرة أو نفس الكفرة قتلا وسبيا وإجلاء (وأنا الحاشر) أي الجامع (الذي يحشر النّاس) بصيغة المجهول (على قدمي) بتخفيف الياء وكسر الميم على الإفراد أي على سابقتي كذا قيل وبتشديدها مع فتح الميم على التثنية قال النووي كذا ضبطوه بالوجهين أي على أثري وبعد ظهوري وقيامي في قبري بدليل حديث أنا أول من تنشق عنه الأرض كما ذكره البغوي في شرح السنة وبهذا المعنى يغاير قوله (وأنا العاقب) أي الآتي عقب الأنبياء ليس بعدي نبي ففي الصحاح العاقب يعني آخر الأنبياء وكل من خلف بعد شيء فهو عاقبة وبالجمع بينهما أشار إلى حديث نحن الأولون الآخرون وقيل(1/490)
معنى على قدمي على أثري وزمان نبوتي وليس بعدي نبي بشهادة رواية وأنا الحاشر الذي يحشر الناس خلفه وعلى ملته دون غيره فيكون قوله وأنا العاقب كالتأكيد لما قبله. (وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مُحَمَّدًا) أي بقوله وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ومحمد رسول الله (وأحمد) أي بقوله حكاية عن عيسى وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (فمن خصائصه تعالى له) مصدر مضاف إلى فاعله أي فمما خصه الله سبحانه وتعالى به (أن ضمّن) بتشديد الميم أي تضمين الله سبحانه (أسماءه) أي من نحو أحمد ومحمد مع انهما أعلام له (ثناءه) أي ما يثنى به عليه (فطوى) بالفاء لا بالواو كما وقع في أصل الدلجي أي فأدخل (أثناء ذكره) أي خلال ذكر اسمه (عظيم شكره) كقوله وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، (فأمّا اسمه أحمد فأفعل) أي للتفضيل (مبالغة) أي لإفادته ثبوت زيادة الحمد وحذف متعلقه لإفادة الشمول وإلا فافعل ليس من صيغ المبالغة كالحماد لكن في المعنى أبلغ منه (من صفة الحمد) أي مأخوذ منه، (ومحمّد مفعّل مبالغة) أي للمبالغة (من كثرة الحمد) أي المحمودية المستفادة من مصدره الذي هو التحميد الموضوع باعتبار بنائه للتكثير والمبالغة في التكرير قال التلمساني وقد ضمن اسمه سورة الحمد انتهى وقد أشار إليه العارف الجامي حيث قال في ألم ألف لام الحمد ميم يعني بطريق التبديل على قواعد التعمية فيصير المعنى محمد وأن الإشارة به في ذلك إليه صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه الكتاب الجامع واللباب اللامع (فهو صلى الله تعالى عليه وسلم أجلّ من حمد) أي أعظمه بفتح فكسر (وأفضل من حمد) بضم فكسر أي أكرمه ففيه لف ونشر مرتب لمعنيي أحمد ومحمد وضبط في بعض النسخ بعكس ما ذكر فيكون لفا ونشرا مشوشا ولا يبعد أن يكون المعنيان مستفادين من احمد وحده لأن أفعل قد يبنى للفاعل وقد يبنى للمفعول ويراد بقوله (وأكثر النّاس حمدا) كون مصدره بمعنى المفعول وإن احتمل كونه للفاعل أيضا والحاصل أن صفة الحامدية والمحمودية فيه بلغت غاية الكمال ونهاية الجمال (فَهُوَ أَحْمَدُ الْمَحْمُودِينَ وَأَحْمَدُ الْحَامِدِينَ وَمَعَهُ لِوَاءُ الحمد يوم القيامة) أي المسمى بيوم الدين (ليتمّ له) بفتح ياء وكسر تاء وروي بصيغة المجهول (كمال الحمد ويتشهّر) من باب الافتعال وفي نسخة ويتشهر من باب التفعل أي وتظهر هيبته وتنتشر (في تلك العرصات) بفتح الراء جمع عرصة بسكون الراء وهو في الأصل كل موضع واسع لا بناء فيه من فناء الدار وساحتها وجمع للمبالغة كما في عرفات والمراد به مقامات يوم القيامة ومواقفها ولا يبعد أن يكون وجه الجمع هو أن كل عرصة مخصوصة بأمة (بصفة الحمد) أي العامة للخلق، (وَيَبْعَثَهُ رَبُّهُ هُنَاكَ مَقَامًا مَحْمُودًا كَمَا وَعَدَهُ) أي في كتابه بقوله عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (يحمده فيه الأوّلون والآخرون بشفاعته لهم) أي عامة وخاصة (ويفتح) أي الله تعالى (عليه فيه) أي في ذلك المقام (من المحامد) جمع محمدة بمعنى الحمد (كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم: ما لم يعط غيره) أي أحد من العالمين (وسمّى أمّته) أي وصفهم (في كتاب أنبيائه بالحمّادين) كما في حديث(1/491)
الدارمي عن كعب يحكي عن التوراة قال نجد مكتوبا فيها محمد رسول الله عبدي المختار لا فظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر مولده بمكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام وأمته الحمادون يحمدون الله تعالى في السراء والضراء يحمدون الله في كل منزل ويكبرونه على كل شرف رعاة للشمس يصلون الصلاة إذا جاء وقتها يتأزرون على أنصافهم ويتوضأون على أطرافهم مناديهم ينادي في جو السماء صفهم في القتال وصفهم في الصلاة سواء لهم بالليل دوي كدوي النحل (فحقيق) أي وإذا اختص بما منحه الحق من مناقب حميدة ومراتب محمودة فجدير (أن يسمّى محمّدا وأحمد) أي لأكثرية حامديته وأظهرية محموديته (ثمّ في هذين الاسمين) أي العظيمين الوسيمين (من عجائب خصائصه) أي غرائب خصوصياته، (وبدائع آياته) أي الدالة على كمال صفاته (فنّ آخر) أي نوع آخر من أنواع كراماته (وهو أنّ الله جلّ اسمه حمى) أي حفظ اسمي حبيبه ومنع بالقدرة (أن يسمّى بهما أحد قبل زمانه) أي لئلا يشاركه أحد في علو شأنه كما يشير إليه قوله تعالى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (أمّا أحمد الذي أتى في الكتب) أي من نحو الإنجيل (وبشّرت به الأنبياء) كموسى وعيسى عليهما السلام (فمنع الله تعالى بحكمته) أي وبإرادته وقدرته (أن يسمّى) وفي نسخة يتسمى (به أحد غيره) أي على جهة العلمية (ولا يدعى به مدعوّ قبله) أي على نسبة الوصفية (حتّى لا يدخل لبس) بفتح اللام أي التباس واشتباه صوري (على ضعيف القلب) أي ممن ينظر إلى مجرد الاسم ولم يتفكر في حقيقة مسماه (أو شكّ) أي تصوري في معدن النبوة ومنبع الرسالة فيستوي عنده الإسمان مع أن مسمياهما لا تستويان كما وقع لبعض أرباب العقول الخالية من المعقول والمنقول من التسوية بين اله العالمين وبين الإله المنحوت من الحجر والطين ولهذا قال الله تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ قال الانطاكي وهذا الذي ذكره المؤلف هو الصواب ونقل الحافظ أبو حفص الأنصاري عن القشيري قولا في تسمية الخضر بأحمد ثم قال وقد وهاه ابن دحية والله تعالى أعلم (وكذلك) أي وكاسمه أحمد (محمّد أيضا) أي حمى (لم يسمّ) وفي نسخة لم يتسم (بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ وَلَا غَيْرُهُمْ إِلَى أن شاع) أي بإخبار الرهبان وغيرهم (قبيل وجوده عليه الصلاة والسلام وميلاده) أي قبيل زمان ولادته (أن نبيّا) أي عظيم الشأن في آخر الزمان (يبعث) أي يرسل (اسمه محمّد فسمّى قوم) أي جمع (قَلِيلٌ مِنَ الْعَرَبِ أَبْنَاءَهُمْ بِذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يكون أحدهم هو) أي إياه يعني النبي المبعوث، (والله أعلم حيث يجعل رسالته) وفي قراءة رسالاته (وهم) أي المسمون بمحمد قبل ميلاده (محمّد بن أحيحة) بضم همزة وفتح حاءين مهملتين بينهما تحتية ساكنة (ابن الجلاح) بجيم مضمومة وتخفيف اللام في آخره مهملة وعده من الصحابة ابن عبد البر وأبو موسى (الأوسيّ) بفتح الهمزة نسبة إلى قبيلة من الأنصار، (ومحمّد بن مسلمة) بفتح فسكون ففتح (الأنصاريّ) أحد بني حارثة شهد بدر أو غيرهما ومات بالمدينة وفي عده منهم نظر ذكره الشمني وغيره. (ومحمّد بن بدّاء) بفتح(1/492)
موحدة وتشديد دال مهملة بعدها ألف ممدودة وفي نسخة صحيحة بباء موحدة فراء ممدودة وعده من الصحابة أبو موسى (البكريّ) بفتح فسكون (ومحمّد بن سفيان بن مجاشع) بضم الميم وكسر الشين المعجمة واختلف في صحبته على ما قاله أبو نعيم وأبو موسى قال التلمساني والصحيح أنه لم يسلم. (ومحمّد بن عمران) بكسر العين وسكون الميم وفي نسخة حمران بضم الحاء من الحمرة واقتصر عليه التلمساني (الجعفيّ) بضم الجيم (ومحمّد بن خزاعي) بضم الحاء وبالزاي المعجمة (السّلميّ) بضم ففتح (لا سابع لهم) وزاد بعضهم على المصنف اسماء أخر لا فائدة في ذكرها. (ويقال أوّل) وفي نسخة أن أول (من سمّي) بصيغة المجهول وفي نسخة تسمى (محمّدا محمّد بن سفيان) أي ابن مجاشع التميمي، (واليمن، تقول) أي وأهل اليمن يقولون (بل) وفي نسخة محمد بن سفيان باليمن ويقولون بل (محمّد بن اليحمد) أي هو المسمى به أولا واليحمد بضم الياء وسكون الحاء وكسر الميم على ما ضبطه المحققون كالنووي وغيره وفي نسخة بفتح الياء وضم الميم وفي أخرى بالفتح والكسر وفي القاموس يحمد كيمنع وكيعلم قال التلمساني وروي الحمد مصدر حمد (من الأزد) بالفتح الهمزة وسكون الزاي قبيلة عظيمة في اليمن فيكون هو السابع على ما هو الشائع (ثُمَّ حَمَى اللَّهُ كُلَّ مَنْ تَسَمَّى بِهِ أن يدّعي النّبوّة) أي بنفسه (أو يدّعيها أحد له) أي ويتبعه (أو يظهر عليه سبب) أي من خرق العادات (يشكّك) بكسر الكاف الأولى أي يوقع في الشك (أحدا) أي من أهل زمانه (في أمره) أي شأنه (حتّى تحقّقت السّمتان) بكسر السين وفتح الميم أي العلامتان الدالتان على المحمدية والأحمدية (له صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي بعض النسخ السيمتان بياء بعد السين والصواب الأول هذا وتحققت بصيغة الفاعل على ما هو المتبادر وضبطه الأنطاكي بضم التاء والحاء على بناء المجهول وهو خلاف الظاهر (ولم ينازع) بفتح الزاي أي يعارضه أحد (فيهما) أي في النعتين الموسومين، (وأمّا قوله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بي الكفر) أي يزيله ربي بسببي (ففسّر) بصيغة المجهول أي فبين (في الحديث) أي نفسه من غير احتياج إلى تفسير غيره غايته أن محوه مجمل محتمل كما بينه بقوله (ويكون محو الكفر) أي ذهاب أثره، (إمّا من مكّة وبلاد العرب) أي أيام حياته (وما زوي) بضم الزاي وكسر الواو أي قبض وجمع (له من الأرض) كما ورد أن الله زوي لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها (ووعد) بصيغة المجهول (أنّه يبلغه ملك أمّته) أي بعد مماته فعلى هذا يكون المحو خاصا (أو يكون) حقه أن يقول ويما أن يكون (المحو عامّا بمعنى الظّهور والغلبة) أي في الحجة على كل دين وملة في جميع الأمكنة والأزمنة (كما قال تعالى: لِيُظْهِرَهُ) أي ليغلبه ويعليه والضمير إلى دين الحق أو إلى الرسول المطلق (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة: 33] ) أي على الأديان جميعها بمحو أدلتها وبرهانها وظهور بطلانها وإبطال سلطانها (وقد ورد تفسيره في الحديث) أي على ما رواه البيهقي وأبو نعيم (أَنَّهُ الَّذِي مُحِيَتْ بِهِ سَيِّئَاتُ مَنِ اتَّبَعَهُ) قال(1/493)
الدلجي لقوله تَعَالَى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وفيه أن هذا حكم عام غير مختص به عليه الصلاة والسلام فالأولى أن تحمل السيئات على الصغائر والاتباع على معظم الحسنات واجتناب الكبائر بشهادة قوله تعالى إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ وقوله تعالى فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ولا يبعد أن تكون هذه الخصلة من خصائص هذه الملة. (وَقَوْلُهُ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قدمي) قد سبق تحقيق مبناه وتدقيق معناه إلا أنه زاد الموصول هنا ثم لم يقل على قدمه لأن قصده الإخبار عن نفسه كما في قول علي أنا الذي سمتني أمي حيدره واعاده هنا أيضا ليفسره بقوله (أي على زماني وعهدي) فالمراد بالناس الخلق الآتون بعده كما بينه بقوله (أي ليس بعدي نبيّ) أي يكون على عهده وفيه إيماء إلى أن عيسى عليه السلام بعد نزوله يكون تابعا له في دينه وحاكما على وفق قوله كما قال الله تعالى (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40] ) بكسر التاء وفتحها (وسمّي عاقبا لأنّه عقب) بفتح القاف أي خلف (غيره من الأنبياء) وجاء بعدهم لتكميل الخير وزيد في بعض النسخ المصححة هنا (وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ. وَقِيلَ مَعْنَى عَلَى قَدَمِي أَيْ يُحْشَرُ النّاس بمشاهدتي) أي بمشهد مني ومحضر عندي (كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي شاهدين لهم أو شاهدين عليهم (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143] ) أي شاهدا ومطلعا أو مزكيا ومثنيا الذي قررنا دفع قول الدلجي وهذا مخالف لظاهر الآية المفاد فيها بالتعدية بعلى ولو كانت كما زعم لكانت باللام على أن على قد تأتي بمعنى اللام في الكلام كقوله تعالى لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وزيد في بعض النسخ هنا (وقيل على قدمي) أي معناه (على سابقتي) أي سبق قدمي وتقدم قيامي من قبري وتحقق تقدمي في مقامي (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس: 2] ) أي مراتب تقدم مترتب على تفاوت صدق لهم في حالهم عند ربهم ووقوعهم على قدر مقامهم (وَقِيلَ عَلَى قَدَمِي أَيْ قُدَّامِي وَحَوْلِي أَيْ يجتمعون إلى يوم القيامة) يعني ويلجأون إلي في طلب الشفاعة (وقيل قدمي على سنّتي) أي على قدر متابعتي ومقدار طاعتي في الدنيا ليكون لهم القرب والمنزلة في العقبى وفي نسخة وقيل قدمي سنتي (ومعنى قوله لي خمسة أسماء) أي مع أن له اسماء كثيرة (قيل إنّها موجودة) أي الخمسة جميعها مذكورة ومسطورة (في الكتب المتقدّمة) أي بأجمعها (وعند أولي العلم) أي ومشهورة عند العلماء من الأنبياء والأصفياء (من الأمم السّالفة) أي الماضية فهذا وجه تخصيصها؛ (والله أعلم) أي بما أراد نبيه بها (وقد روي) أي كما في الدلائل لأبي نعيم وفي تفسير ابن مردويه من طريق أبي يحيى التيمي وهو وضاع عن سيف بن وهب وهو ضعيف عن أبي الطفيل (عنه صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي نسخة عليه الصلاة والسلام (لي عشرة أسماء) الجمهور على أن مفهوم العدد ليس بحجة فلا معارضة بينه وبين ما سبق من حديث لي خمسة اسماء (وذكر منها) أي من جملة العشرة (طه ويس؛ حكاه مكّيّ) أي كما سبق(1/494)
وأعاده هنا لبيان مبناه وتبيان معناه (وقد قيل في بعض تفاسير طه. إِنَّهُ يَا طَاهِرُ يَا هَادِي، وَفِي يس يا سيّد) إيماء بذكر الحروف الواقعة في اوائل المسميات إلى تلك الصفات غايته أنه مع تصريح ياء النداء في يس وتقديره في طه، (حكاه) أي هذا التأويل (السّلميّ) بضم ففتح وهو أبو عبد الرحمن بن عبد الخبير صاحب تفسير الحقائق (عن الواسطي) وهو الإمام الجليل الصوفي محمد بن موسى (وجعفر بن محمّد) أي وعنه أيضا وهو الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر أحد أكابر أئمة أهل بيت النبوة؛ (وذكر غيره) أي غير أبي محمد مكي (لي عشرة أسماء، فذكر) أي ذلك الغير (الخمسة) أي الاسماء (التي في الحديث الأوّل) وهي محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب، (قال) أي ذلك الغير في بيان الخمسة الأخر (وأنا رسول الرّحمة) الخ وأما تفسير الدلجي قال كما رواه ابن سعد عن مجاهد مرسلا فهو وإن كان يناسب المقام إلا أنه ينافي المرام هذا وقد جاء أنا رحمة مهداة وقال الله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (ورسول الرّاحة) أي لما يترتب على الرحمة الراحة في الدنيا والآخرة والأظهر أن المراد بالراحة نفي الكلفة ورفع المشقة عن هذه الأمة لقوله تعالى وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ولقوله وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ولقوله عليه الصلاة والسلام عليكم بدين العجائز (ورسول الملاحم) بفتح الميم وكسر الحاء المهملة جمع ملحمة وهو الحرب الشديد وأصلها معركة القتال وهي موضعه ولفظ مجاهد فيما رواه ابن سعد عنه مرسلا أنا رسول الرحمة أنا رسول الملحمة وأضيف إليها لحرصه على المجاهدة المأمور بها ومن ثمه قال علي كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلم يكن أحد منا إلى العدو أقرب منه ثم لا تعارض بين كونه رسول الرحمة ورسول الملحمة إذ هو سلم لأوليائه وحرب لاعدائه كالنيل ماء للمحبوبين ودماء للمحجوبين وكالقرآن شفاء ورحمة للمؤمنين وداء ونقمة للمتكبرين وقد قال الله تعالى في حقه بَشِيراً وَنَذِيراً أي للمطيعين والعاصين ولعل رحمته كانت غالبة تخلقا باخلاق ربه حيث قال في الحديث القدسي والكلام الأنسي سبقت رحمتي غضبي كما يشير إليه تقديم البشير في مقام العموم وهو لا ينافي تقديم الأنذار حال خطاب الكفار المفيد في ذلك المحل تقديم التخويف فتأمل قال التلمساني وروي أن قوما من العرب قالوا يا رسول الله أفنانا الله تعالى بالسيف فقال ذاك أنقى لآخركم فهذا معنى الرحمة المبعوث بها صلى الله تعالى عليه وسلم اعلم (وأنا المقفيّ) بصيغة الفاعل من باب الافتعال وفي نسخة المقفي بضم ففتح فتشديد فاء مكسورة بضيغة الفاعل كما صرح به شمر وهو أنسب بقوله (قفّيت) بتشديد الفاء وفي نسخة بتخفيفها وفي نسخة قفوت (النّبيّين) أي جئت بعدهم واتبعت هديهم او أريد به المولى الذاهب والمعنى أنه آخر النبيين فإذا قفى فلا نبي بعده وأما قول الدلجي قال الله تعالى ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا فيوهم أن الوصف بصيغة المفعول وليس كذلك (وأنا قيّم) بتشديد الياء المكسور، (والقيّم الجامع) أي للخير(1/495)
(الكامل) أي للفضائل والفواضل في تحسين الشمائل (كذا وجدته) أي بخط بعض العلماء أو في تصنيف بعض العلماء (ولم أروه) أي عن أحد من أئمة الحديث في طريق الأنبياء لكن رواه الديلمي في فردوسه ولم يسنده في مسند الفردوس وفي النهاية حديث أتاني ملك فقال أنت قيم وخلقك قيم أي حسن مستقيم (وأرى) بفتح الهمزة والراء أي أذهب أو بضم الهمزة وفتح الراء أي وأظن (أنّ صوابه قثم بالثّاء) أي المثلثة المفتوحة بعد القاف المضمومة وهو غير مصروف لأنه معدول عن قائم وهو المعطي (كما ذكرناه بعد) أي كما سيأتي ذكره بعد ذلك (عن الحربيّ) أي منقولا عنه بلفظ قثم بالمثلثة وهو المأخوذ من القثم بمعنى الجمع كما أشار إليه بقوله (وهو أشبه) أي من حيث اللفظ (بالتّفسير) أي الذي سبق قريبا من قوله الجامع الكامل واستحسن كلامه الحلبي ولا يبعد أن تكون الروايتان ثابتتين وكون إحديهما أشبه بالتفسير لا يفيد صوابها وتصحيف غيرها مع أنه قد يكون التفسير حاصل المعنى لا أصل المبنى على أن قوام الشيء واستقامته لا يكون إلا بكماله وجامعيته في حد ذاته ويؤيد ما قررنا ويقوى ما حررنا قوله (وقد وقع أيضا) أي القيم بالتحتية (في كتب الأنبياء) أي الماضية ومنها رواية المصنف (قَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اللَّهُمَّ ابْعَثْ لَنَا محمّدا مقيم السّنّة) أي مقومها بطريق الوفرة (بعد الفترة) أي الفتور في الطاعة (فقد يكون القيّم بمعناه) أي بمعنى المقيم الوارد بمعنى المقوم كما فسر الدعاء الوارد اللهم أنت قيم السموات بمعنى مقومها ومقيمها ومديمها وقد أبعد الدلجي في تقييد قوله معناه بالمثلثة، (وروى النّقّاش عنه عليه الصلاة والسلام لي في القرآن) أي مذكور ومسطور (سبعة أسماء محمّد) وهو قوله تعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ (وأحمد) وهو قول عيسى عليه السلام يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (وطه ويس) وفي نسخة تقديم وتأخير بينهما وسبق بيانهما (والمدّثّر، والمزّمّل) أي في أوائل سورهما (وعبد الله) كما في قوله سبحانه وتعالى وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ ولعله اقتصر عليها لشهرتها وإلا فله فيه اسماء كثيرة كالنبي والرسول والخاتم والحريص والعزيز والرؤوف والرحيم وأمثال ذلك مما يدل على صفات له هنالك. (وفي حديث) أي ثابت (عن جبير) بالتصغير (ابن مطعم) بضم ميم وكسر عين (رضي الله عنه هي) أي اسمائي (ستّ) الظاهر ستة ولعل وجه التّذكير تأنيث الضمير (محمّد، وأحمد وخاتم) بكسر التاء وفتحها (وعاقب وحاشر وماح) اسم فاعل من المحو وقد سبق معانيها في ضمن مبانيها؛ (وفي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه) كما رواه مسلم (أنّه كان صلى الله تعالى عليه وسلم يسمّي لنا نفسه أسماء) أي متعددة (فيقول: «أنا محمّد وأحمد والمقفّي) بكسر الفاء المشددة أي الذاهب المولى فمعناه آخر الأنبياء والمتبع لهم كالقفا فكل شيء يتبع شيئا فقد قفاه (والحاشر) أي الجامع للحشر والباعث للنشر (ونبيّ التّوبة) أي من حيث إنه يتوب على يده جمع كثير من أهل دينه أو لأن توبة هذه الأمة حاصلة بمجرد الندامة وما يتبعها من العلامة بخلاف توبة الأمم السالفة فإنها كانت بارتكاب الأمور الشاقة أو أنه كثير(1/496)
التوبة بالرجعة والأوبة لحديث البخاري إني لأستغفر الله تعالى في اليوم مائة مرة أو لأن باب التوبة ينغلق في آخر هذه الملة، (ونبيّ الملحمة) بفتح الميم والحاء القتال العظيم وهو كقوله بعثت للسيف. (ونبي الرحمة ويروى المرحمة والرّاحة) روايات أربع (وكلّ) أي من الألفاظ المذكورة (صحيح إن شاء الله تعالى) أي كما سيأتي وجوهها مسطورة (ومعنى المقفّي معنى العاقب) وقد سبق بيانه وقيل المتبع للنبي (وأمّا نبيّ الرّحمة والتّوبة والمرحمة والرّاحة فقد قال الله تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 107] ) يعني والرحمة مرادفة للمرحمة ومتضمنة للراحة ومتسببة عن التوبة (وكما وصفه) أي سبحانه وتعالى (بأنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بكونه منعوتا بالرحمة الموجبة للراحة والباعثة على التوبة المقتضية للمرحمة (يزكّيهم) أي يطهر أمته عن دنس المعصية (ويعلّمهم الكتاب والحكمة) أي السنة وكلها أسباب الرحمة وبواعث التوبة (ويهديهم إلى صراط مستقيم) أي ويدلهم على دين قويم. (وبالمؤمنين رؤوف رحيم) أي وعلى العاصين كافة كريم حليم (وقد قال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (في صفة أمّته إنّها أمّة مرحومة) أي مغفور لها متاب علينا كما رواه الحاكم في الكنى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بسند ضعيف ورواه أبو داود والطبراني والحاكم في المستدرك والبيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها عقاب في الآخرة إنما عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل والبلايا (وقد قال تعالى فيهم) أي في حقهم أصالة وفي حق غيرهم تبعا حيث نزل فِيهِمْ: (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [الْبَلَدِ: 17] ) أَيْ بموجبات الرحمة أو بها كافة على البرية (أَيْ يَرْحَمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَبَعَثَهُ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم ربّه تعالى) أي على وجه الإكرام (رحمة لأمّته) أي خاصة (ورحمة للعالمين) أي عامة إذ هو رحمة للكفار من عذاب الاستئصال في هذه الدار (ورحيما بهم) أي بخصوصهم وعمومهم بحسب استحقاقهم (ومترحّما) أي متكلفا لإظهار الرحمة أو مبالغا في استنزال المرحمة (ومستغفرا لهم) أي طالبا المغفرة لذنوب أمة الإجابة وتوفيق الإيمان لأمة الدعوة (وجعل) أي الله سبحانه وتعالى (أمّته أمّة مرحومة) أي لكونه نبي الرحمة (ووصفها بالرّحمة) أي بكونها راحمة كما قال الله تعالى رُحَماءُ بَيْنَهُمْ لكونه نبي الرحمة فهم جامعون بين الراحمية والمرحومية كما يشير إليه قوله (وأمرها بالتّراحم) أي بأن يترحم بعضهم على بعض (وأثنى عليه) أي ومدح التراحم وبالغ فيه ليكون سببا لرحمته سبحانه وتعالى عليهم وفي نسخة وأثنى عليها أي على صفة الرحمة (فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) كما رواه الشيخان عن أسامة بن زيد إلا أنه بلفظ يرحم بدل يحب (وقال) أي في حديث آخر رواه أبو داود والترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يرحمكم) بالجزم والرفع (من في السّماء) أي من الملأ الأعلى أو من في السماء ملكه وعرشه أو من هو معبود في السماء زاد الترمذي والرحمة شجنة من الرحمن أو قطعة مأخوذة من صفة الرحمن(1/497)
من وصلها وصله الله تعالى ومن قطعها قطعه الله تعالى وهو حديث مسلسل بالأولية لبعض أرباب الرواية لكن أسانيده غير صحيحة عند أصحاب الدراية لانقطاع التسلسل من عمرو بن دينار عن أبي قابوس عن مولاه ابن عمرو، (وأمّا رواية نبيّ الملحمة) على ما أخرجه ابن سعد عن مجاهد (فَإِشَارَةٌ إِلَى مَا بُعِثَ بِهِ مِنَ الْقِتَالِ والسّيف) أي وضرب السيف بعد انقطاع المقال وثبوت الحجة ووضوح المحجة حال الجدال بسببه (صلى الله تعالى عليه وسلم وهي) أي هذه الرواية او الإشارة (صحيحة) وعلى تصحيح المدعي صريحة قال تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ (وروى حذيفة مثل حديث أبي موسى) كما رواه أحمد والترمذي في الشمائل، (وفيه) أي وفي حديث حذيفة (ونبيّ الرَّحْمَةِ وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الْمَلَاحِمِ وَرَوَى الْحَرْبِيُّ) أي كأبي نعيم في الدلائل عن يونس بن ميسرة (في حديثه عليه الصلاة والسلام أنّه قال أتاني ملك فقال) أي لي كما في نسخة (أنت قثم) بالمثلثة (أي مجتمع) يعني لأنواع العطاء فإن القثم هو الإعطاء (قال) أي الحربي (والقثوم) بفتح القاف (الجامع للخير) يروي والقثم ويؤيده قوله (وهذا) أي قثم (اسم هو في أهل بيته عليه الصلاة والسلام معلوم) ، أي عند أهله وهو قثم بن العباس وقثم عم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا هذا وقال التلمساني والجامع إما للخير أو ما افترق في غيره أو جمع الله به شمل الأمة وكان قد افترق الملة ثم قال وقثم عم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو شقيق الحارث بن عبد المطلب وبه سميت محلة بسمرقند لأنه دفن فيها انتهى والصحيح أن قثم عمه مات صغيرا وأن المحلة التي بسمرقند دفن فيها قثم بن العباس على ما ذكره المغرب ونقله الأنطاكي (وقد جاءت من ألقابه عليه الصلاة والسلام) وهي الصفات الغالبة عليه (وسماته) بكسر أوله جمع سمة وهي العلامة (في القرآن) أي نعوته المعلمة المعلومة فيه مما نسب إليه (عدّة كثيرة) أي جملة معدودة مبنية لديه (سوى ما ذكرناه) أي ومعناه قررناه (كالنّور) أي في قوله تعالى قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ (والسّراج المنير) أي في قوله تعالى وَسِراجاً مُنِيراً، (والمنذر) أي في قوله تعالى وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ ولِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (والنّذير والمبشّر) أي في قوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (والبشير) قال تعالى فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ (والشّاهد) كما سبق لقوله تعالى وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (والشّهيد) قال تعالى وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً. (والحقّ المبين) لقوله تعالى قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ وهو أولى من قول الدلجي لما في حديث البخاري اللهم أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن وفيه ومحمد حق إذ فيه أن هذا ليس في القرآن والكلام في اسماء مذكورة فيه مع أنه خبر عنه لا وصف له كما في بقية الحديث والجنة حق والنار حق إلا أن حق المصنف كان أن يقول والمبين بالعطف للإشارة إلى أنهما وصفان مستقلان وللإشعار إلى قوله تعالى لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ فإن وصفه عليه الصلاة والسلام بمجموع الحق المبين غير معروف لا في الكتاب ولا في السنة ولعله ذكرهما(1/498)
بحذف العاطف (وخاتم النّبيّين) كما قال تعالى وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وهو بفتح التاء على الاسم آي آخرهم وبالكسر على الفاعل لأنه ختم النبيين فهو خاتمهم ذكر الأنطاكي والتحقيق أن المراد بالفتح ما يختم به من الطابع فقوله أي آخرهم حاصل المعنى لأجل المعنى لأجل المبني، (والرّؤوف الرّحيم) جمع بينهما من غير عاطف كما جاء في الآية بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ والرأفة شدة الرحمة فأخر لمراعاة الفاصلة أو للتعميم والتتميم (والأمين) لقوله تعالى عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ على أحد القولين في تفسيره ولحديث إني لأمين في الأرض أمين في السماء وكان قبل البعثة يسمى أمينا، (وقدم الصّدق) أي من حيث إنه أوحي إليه أن يبشر الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ ربهم فهو أولى بهذا الوصف من غيره وكان حق المصنف أن يأتي به منكرا على طبق وروده وقيل سمى قدم صدق لأنه يشفع لهم عند ربهم (ورحمة للعالمين) لقوله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (ونعمة الله) أي أنعم به على من آمن به في الدارين ذكره الدلجي والأولى أن يقال لقوله تعالى وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ كما قاله المفسرون (والعروة الوثقى) أي من حيث أن من آمن به فقد تمسك من الدين بعقد وثيق لا تحله شبهة ذكر الدلجي والأظهر لقوله تعالى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى أي بعهد المصطفى وذمة المجتبى قال الأنطاكي قيل إنه محمد عليه الصلاة والسلام وقيل هو الإسلام (والصّراط المستقيم) أي من حيث هداية من آمن به إليه ودلالته عليه كذا ذكره الدلجي ولعله مأخوذ من قوله تعالى يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي إلى نبي كريم ودليل قويم قال الأنطاكي قوله الصراط المستقيم قيل هو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل هو طريقه عليه الصلاة والسلام وقيل هو طريق الجنة وقيل طريق أهل السنة والجماعة وقيل هو الإسلام وقيل هو القرآن انتهى والكل متقارب البيان في معرض البرهان وزيد في نسخة هنا طه ويس وهي غير صحيحة لقول المصنف سوى ما ذكرناه وقد ذكرا فيما قدمناه وحررناه، (والنّجم الثّاقب) أي المضيء كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه بظهوره وهو مأخوذ من قَوْلِهِ تَعَالَى وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ولعل في إيراده إيماء إلى أنه مشبه به (والكريم) قال تعالى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (والنّبيّ الأمّيّ) أي الذي لا يقرأ ولا يكتب قال تعالى فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ (وداعي الله) لقوله تعالى وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ ولقوله سبحانه وتعالى وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وكان الأظهر أن يقال والداعي إلى الله ثم رأيت قوله تعالى أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ قال البغوي يعني محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم (في أوصاف كثيرة) أي مع صفات أخر كثيرة (وسمات جليلة) أي نعوت عظيمة شهيرة (وجرى منها) أي من اسمائه (في كتب الله المتقدّمة) كالتوراة والزبور والإنجيل (وكتب أنبيائه) أي الماضية من الصحف الوافية (وأحاديث رسوله) أي(1/499)
الثابتة (وإطلاق الأمّة) أي من العلماء والأئمة (جملة شافية) فاعل جرى جملة من الاسماء والصفات شافية في حصول المهمات (كتسميته بالمصطفى) وهو وإن شاركه سائر الرسل حيث قال الله تعالى الله يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ الآية إلا أنه هو الفرد الأكمل من هذا الجنس أفضل وكذا قوله، (والمجتبى) من قوله تعالى اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ، (وأبي القاسم) وهو كنيته بولده القاسم، (والحبيب) لما سبق من حديث إلا وأنا حبيب الله (ورسول ربّ العالمين) فإنه أولى من يطلق عليه من بين المرسلين (والشّفيع المشفّع) أي المقبول شفاعته التي تعم أمته وسائر أهل محبته (والمتّقي) اسم فاعل من الاتقاء وأصله الموتقى من الوقاية وهو من يقي نفسه مما يوجب العذاب ومما يقتضي الحجاب، (والمصلح) أي لما أفسده غيره من أمر الدين ففي التوراة وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ العوجاء أي ملة إبراهيم وسميت عوجاء لتغيير العرب إياها. (والطّاهر) أي بحسب الباطن والظاهر (والمهيمن) أي المبالغ في المراقبة لأحوال الأمة. (والصّادق) أي قولا ووعدا وفعلا (والمصدوق) أي من يأتيه الصدق من عند ربه شهادة في حق أمره (والهادي) أي للخلق إلى الحق (وسيّد ولد آدم) من المبدأ والمختم عموما (وسيّد المرسلين) أي خصوصا (وإمام المتّقين) أي من الأولياء الصالحين والعلماء العاملين (وقائد الغرّ) بضم الغين وتشديد الراء أي بيض الوجوه من آثار أنوار الوضوء إطلاقا لاسم الجزء على الكل إذ الغرة بياض في جبهة الفرس قدر الدرهم (المحجّلين) بتشديد الجيم المفتوحة أي المبيضين أيديا وأرجلا من أنوار الطهارة وآثار العبادة يوم القيامة وفيه إشارة إلى ما استدل به الأئمة على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة وقيل لا وإنما المختص الغرة والتحجيل لحديث هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي وأجيب بضعفه وعلى فرض صحته احتمل أن يكون الأنبياء اختصوا بالوضوء دون أممهم. (وخليل الرّحمن) لحديث مسلم وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا يعني نفسه (وصاحب الحوض المورود) أي يوم القيامة وقد ورد فيه أحاديث صحيحة وفي بيان اختصاصه صريحة (والشّفاعة) أي العظمى (والمقام المحمود) عطف تفسير أو مغاير إن أريد بالشفاعة جنسها الشامل لجميع أنواعها (وصاحب الوسيلة) لحديث مسلم سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ الله وأرجوان أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حلت عليه الشفاعة (والفضيلة) أي المرتبة على مرتبة الوسيلة لحديث الشيخين مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ حلت له شفاعتي يوم القيامة وفي رواية النسائي وابن حبان والبيهقي المقام المحمود، (والدّرجة الرّفيعة) أي العالية، (وصاحب التّاج) أي الخاص به في الجنة يلبس فيها ليمتاز به عن أهلها فقد روى أبو داود عن سهل بن معاذ عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من قرا القرآن وعمل بما فيه البس والداه تاجا يوم القيامة ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا(1/500)
لو كانت فيكم فما ظنكم بالذي عمل بهذا الحديث فما ظنكم بالذي جاء به ونزل عليه وهو سيد الأولين والآخرين وما أبعد الدلجي وغيره حيث فسروا التاج بالعمامة وقالوا كانت إذا ذاك خاصة بالعرب فهي تيجانهم ومن ثم قيل ألعمائم تيجان العرب انتهى وتعبيره بقيل غير مرضى إذ ورد في حديث رواه الديلمي في مسند الفردوس عن علي وابن عباس مرفوعا (والمعراج) أي وصاحبه الخاص به (واللّواء) لحديث آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة، (والقضيب) أي السيف فعيل بمعنى الفاعل من قضب إذا قطع وقيل العصا فهو فعيل بمعنى المفعول لأنه مقطوع من الشجر، (وراكب البراق) أي في ليلة الإسراء. (والنّاقة) أي وراكبها في حجة الوداع وغيرها (والنّجيب) عطف تفسير للناقة فإنه عرفا يطلق على الخفيف السريع من الإبل ولعله زيد لمراعاة السجع في مقابلة القضيب، (وصاحب الحجّة) أي القاطعة (والسّلطان) أي السلطنة الغالبة والدولة القاهرة (والخاتم) أي وصاحب الخاتم بفتح التاء وهو بخاتم النبوة أقرب وبكسرها وهو بملبوس اليد أنسب وأما قول الدلجي لأن الله تعالى ختم به أنبياءه بشهادة وخاتم النبيين أي آخرهم فليس في محله إذ يأباه إضافة الصاحب إليه (والعلامة) أي وصاحب العلامة الدالة على نبوته وإدامته وكم من علامة ظاهرة على رسالته وكرامته (والبرهان) أي صاحب البرهان الظاهر والتبيان الباهر، (وصاحب الهراوة) بكسر الهاء أي العصا وهو القضيب قاله سطيح وأراد به نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إذ كان كثيرا ما تحمل بين يديه ويمسكها ويمشي بها وتغرز له فيصلي إليها وقد أفردت رسالة لها وقال الهروي الهراوة هي العصا الضخمة وتبعه الجوهري (والنّعلين) أي وصاحبهما إذ كان يمشي بهما وأما ما قيل يا خير من يمشي بنعل فرد أي طاق واحدة لم تخصف مع غيرها على عادة عرب البادية وهم يمدحون رقته ويجعلونه من لباس الملك ونعمته؛ (ومن أسمائه في الكتب) أي من التوراة وغيرها، (المتوكّل) أي على ربه دون غيره في جميع أمره، (والمختار) أي من بين البرية (ومقيم السّنّة) كما ورد عن داود عليه السلام اللهم ابعث مقيم السنة أي مظهر الملة (والمقدّس) أي المنزه عن المنقصة (وروح القدس) بضم الدال وسكونها وسمي به لمجيئه بما فيه حياة الأرواح التي بها قوة الأشباح (وروح الحقّ) لإحياء الحق به فهو بمنزلة روحه، (وهو معنى البار قليط) بالباء الموحدة وبفتح الراء وتكسر وبسكون القاف وقد تسكن الراء وتفتح القاف وكسر اللام بعدها ياء مثناة ساكنة فطاء مهملة (في الإنجيل) أي باللغة العبرانية قيل وعند أكثر النصارى على أن معناه المخلص. (وقال ثعلب) هو العلامة المحدث شيخ اللغة والعربية أبو العباس أحمد بن يحيى البغدادي المقدم في نحوى الكوفيين مات سنة إحدى وتسعين ومائتين (البار قليط الذي يفرّق بين الحقّ والباطل) أي فرقا بينا وفصلا معينا بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر أصلا وقطعا (ومن أسمائه في الكتب السّالفة) باللام والفاء أي السابقة (ماذ ماذ) بفتح ميم فألف فذال معجمة منونة فيهما وفي نسخة بضم الذال من غير تنوين على أنه غير مصروف للعلمية والعجمة وفي(1/501)
نسخة بسكون الذال ولعله إجراء للفصل مجرى الوصل قال الحلبي ماذ بميم ثم ألف لا همزة ثم ذال معجمة ساكنة كذا في النسخة التي وقفت عليها وينبغي أن تضم الذال لأنه لا ينصرف للعجمة والعلمية أي أنت ماذ أو يا ماذ وإن كان في الأصل صفة انتهى وفيه بحث لا يخفى وأما ما ضبطه الدلجي بميم مضمومة فإشمام الهمزة ضمة بين الواو والألف ممدودة فغير مطابق للرواية وغير موافق للدارية ثم رأيت الحجازي نسبه إلى السهلي منقولا عن رجل اسلم من علماء بني إسرائيل قال، (ومعناه طيّب طيّب) ولعل التكرار كناية عن غاية من الطيب فإن الظاهر أن مجموع اللفظين هو الاسم (وحمّاطايا) بكسر الحاء المهملة وفتحها وسكون الميم وطاء مهملة ثم ياء تحتية وفي نسخة بفتح الحاء والميم مشددة أي حامي الحرم ومحتمي الحرم وفي النهاية لابن الأثير ما لفظه وفي حديث كعب أنه عليه الصلاة والسلام في الكتب السابقة محمد وأحمد وحمياطا كذا بفتح الحاء وسكون الميم فياء تحتية بعدها ألف فطاء فألف قال أبو عمرو سألت بعض من أسلم من اليهود عنه فقال معناه يحمي الحرم ويمنع من الحرم ويعطي الحلال انتهى، (والخاتم) بالخاء المعجمة (والحاتم) ، بالحاء المهملة وهذا هو المطابق للنسخ المعتمدة والحواشي المعتبرة وهو الموافق لترتيب ما سيأتي من معنييهما وعكس الحلبي في ضبطهما فقال الحاتم بالحاء المهملة والخاتم هذا بالخاء المعجمة (حكاه كعب الأحبار) وقد سبق عنه إلا أنه بلفظ حمياطا (وقال) الأظهر قال (ثعلب) كما في أصل الحلبي والدلجي (فالخاتم) أي بالمعجمة وفتح التاء أو كسرها (الذي ختم الأنبياء والحاتم) أي بالمهملة وكسر التاء لا غير وهو من له السماحة والملاحة والحلاوة والرحمة والراحة (أحسن الأنبياء خلقا) بفتح الخاء أي صورة وبشاشة (وخلقا) بضم الخاء أي سيرة ولطافة (ويسمّى) أي هو صلى الله تعالى عليه وسلم (بالسّريانيّة) بضم السين وسكون الراء وبتشديد الياء الثانية وهي اللغة الأولى التي تكلم بها آدم والأنبياء والألسنة ثلاثة سرياني وعبراني وعربي وهو لأهل الجنة وفي الموقف سرياني قال السيوطي وسؤال القبر بالسريانية أقول ولعله مختص بالأمم الماضية لئلا يخالف ظواهر الأحاديث الواردة وأما العبرانية فسميت بذلك لأن إبراهيم عليه السلام إنما نطق بالعبرانية حين عبر النهر فارا من نمرود وقد كان نمرود قال للطلاب الذين أرسلهم في طلبه إذا وجدتم من يتكلم بالسريانية فردوه فلما أدركوه استنطقوه فحول الله لسانه عبرانيا ذكره السهيلي (مشفّح) بضم ميم وفتح شين معجمة ففاء مشددة مفتوحة فحاء مهملة منونة وفي نسخة بالقاف بدل الفاء وهو أصل الحاشية الحجازية ولا يعرف له معنى في العربية وأما قول الدلجي غير منصرف للعلمية والعجمة فغير ظاهر لأنه مع مخالفته للنسخ المصححة غير صريح في العلمية بل ظاهر في الوصفية (والمنحمنّا) بضم ميم فنون ساكنة فحاء مهملة مفتوحة فميم مكسورة فنون مشددة مفتوحة وهو مقصور كذا في النسخ بالقلم ذكره الحلبي وتبعه الدلجي وعبر عنه بقيل ثم قال وقيل جميع حروفه مفتوحة إلا المهملة فساكنة انتهى(1/502)
وهو أصل صحيح من النسخ المعتمدة وفي نسخة بضم الميم الأولى وكسر الميم الثانية وضبطه الحجازي بفتح الميم والمهملة وسكون النون الأولى وتشديد الثانية ثم في آخره ألف في أكثر النسخ وفي بعضها بياء مبدلة من ألف كالمستصفى هذا وقد قال أبو الفتح اليعمري في سيرته والمنحمنا بالسريانية هو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم قال الحلبي وهذا الكلام يحتمل معنيين أحدهما أن يكون معناه بالسريانية محمد بالعربية ويحتمل غير ذلك قلت وفي سيرة ابن سيد الناس هو بالسريانية اسم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وهو في المعنى الثاني أظهر فتدبر وقال ابن إسحاق هو بالزنجانية محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، (واسمه أيضا في التّوراة أحيد) بفتح همزة فسكون حاء مهملة فكسر تحتية فدال مهملة مضمونة غير منونة وفي نسخة بضم الهمزة وكسر الحاء وسكون الياء التحتية وفي نسخة وهي موافقة لما ذكر الحلبي بضم فسكون ففتح وفي أخرى بضم ففتح وفي أخرى بكسر التحتية وهي التي اقتصر عليها الدلجي وفي أخرى بضم ففتح فسكون وفي آخرى فسكون ففتح وهو مختار الحلبي وصوبه الأنطاكي لحديث أورده أبو حذيفة إسحاق بن بشر في كتاب سماه المبتدأ وأسنده إلى ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال اسمي في القرآن محمد وفي الإنجيل أحمد وفي التوراة أحيد قال سميت أحيد لأني أحيد أمتي عن نار جهنم يوم القيامة انتهى ووجه تصويبه غير ظاهر كما لا يخفى (روي) وفي نسخة وروي (ذلك) أي كون اسمه في التوراة أحيد (عن ابن سيرين) وهو تابعي جليل وكان ثقة حجة كثير العلم والورع قيل كان يصوم يوما ويفطر يوما وله سبعة أوراد في اليوم والليلة هذا وقد قال المصنف بعد ما نقل من المبنى في الاسماء (ومعنى صاحب القضيب أي السّيف) يعني بدليل أنه، (وقع ذلك) أي اللفظ (مفسّرا في الإنجيل) أي مبينا بقرينة اقترانه بما يدل عليه (قال) أي الله سبحانه وتعالى في الإنجيل عند نعته عليه الصلاة والسلام (معه قضيب من حديد) أي معه سيف حديد مشابه للقضيب طولا وعرضا وطراوة ولطافة أو سيف قاطع من حديد حاد (يقاتل به) بكسر التاء أي يجاهد به أعداءه. (وأمّته كذلك) أي معهم قضبان يقاتلون بها اعداءه ويتابعون أهواءه ويتبعون اقتداءه (وقد يحمل) أي القضيب في الحديث (على أنّه القضيب الممشوق) أي الطويل الدقيق (الذي كان يمسكه عليه الصلاة والسلام) أي بيده حال القيام وعند خطبته للانام وموعظته لاصحابه الكرام، (وهو الآن عند الخلفاء) أي وكانوا يتداولونه واحدا فواحدا على سيرة الخطباء، (وأمّا الهراوة التي وصف بها) أي بكونه صاحبها وحاملها (فهي في اللّغة العصا) أي مطلقا أو الضخمة على ما ذكره الجوهري تبعا للهروي (وأراها) بضم الهمزة أي وأظنها أن المراد بها ههنا. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ الْعَصَا الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ الْحَوْضِ) أي حيث قال (أذود) بضم الذال المعجمة أي أدفع وأمنع وأطرد (النّاس) أي العصاة (عنه) أي عن حوضي (بعصاي) أي التي في يدي حينئذ (لأهل اليمن) أي أذود الناس لأجلهم حتى يتقدموا وفي هذا كرامة لأهل اليمن في تقديمهم للشرب منه مجازاة لهم(1/503)
بحسن صنيعهم وتقدمهم في الإسلام وفي نسخة لأهل اليمين وهي رواية مسلم في المناقب وهي التي جعلها الدلجي أصلا والحلبي صوبها وقال المراد بها الجهة المعروفة عن يمين الكعبة انتهى والأظهر أن المراد بأهل اليمين اصحاب اليمين من أرباب الجنة ويدخل في عمومهم أهل اليمن وخص بهم لأن السابقين يفهم منه بالأولى كما لا يخفى هذا وقد ضعف النووي هذا الظن من القاضي بأن المراد من وصفه بها تعريفه بصفة يراها الناس معه ويستدلون بها على صدقه وأنه المبشر به المذكور في الكتب السالفة فلا يصح تفسيرها بعصا تكون في الآخرة فالصواب ما قاله الأئمة في تفسير كونه صاحبها أنه يمسك القضيب بيده كثيرا وقيل لأنه كان يمشي والعصا بين يديه وتغرز له فيصلي إليها وهذا في الصحيح مشهور هكذا ذكره الدلجي وقرره تبعا للحلبي حيث قال وتعقبه النووي فإن هذا ضعيف وباطل إلى آخر ما ذكره وأقول لعل وجه ما اختاره المصنف هو الأحرى بحمل هذا النعت على الدار الآخرة لأن أخذ العصا من سنن الأنبياء في الدنيا فإذا لم يحمل على هذا المعنى لم يتميز عن إخوانه بالوصف الأول بخلاف الصفة الأولى فإنه النعت المختص به في العقبى لا سيما وعامة العرب لا يمشون إلا بالعصا فلا يصلح أن تكون العلامة لخاتم الأنبياء مع أن أخذه إياها إنما كان أحيانا ثم لا يلزم من ذكر نعوته في الكتب السابقة أن لا يكون بعضها متعلقا بالدار الآخرة وبعضها بالأحوال السابقة. (وأمّا التّاج فالمراد به العمامة) فيه بحث فإن المراد به غير معلوم إلا لرب العباد وأما باعتبار اللغة والعرف فهو مستعمل في غير العمامة على اختلاف في عرف العامة وأما ما ورد في الحديث فظاهره أنه أراد المعنى المجازي حيث نزل العمامة منزلة التاج وأقامها مقامه في مرتبة الوقار والرواج كما يدل عليه أو يشير إليه قوله (ولم تكن) أي العمامة (حينئذ) أي حين وجوده صلى الله تعالى عليه وسلم (إلّا للعرب) أي وكان الناس كلهم أصحاب التيجان إما مع العمامة أو بدونها (والعمائم) أي بدون التيجان (تيجان العرب) أي اكتفاء بها عن غيرها وفيه إشعار بأنهم من أهل القناعة الدنيوية وموصوفون بعدم التكلف في موجبات الرعاية العرفية والحاصل أن الأصح أن يراد بقوله صاحب التاج تاج الكرامة يوم القيامة كما قدمناه. (وأوصافه) أي نعوته من اسمائه، (وألقابه) أي المشعرة بأنواع مدحه وثنائه، و (سماته) بكسر السين أي شمائله وعلامات فضائله (في الكتب) أي الماضية والمتقدمة (كثيرة وفيما ذكرناه منها) أي وإن كانت قليلة يسيرة (مقنع) بفتح الميم والنون أي محل كفاية ومكان قناعة (إن شاء الله تعالى) إذ إحصاؤها غير ممكن كما لا يخفى (وكانت كنيته المشهورة أبا القاسم) لحديث البخاري كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في السوق فقال رجل يا أبا القاسم فالتفت إليه فقال إنما دعوت هذا فقال سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي ولعل وجهه أنه كان يدعي بالكنية تعظيما ولا يدعي باسمه للنهي الوارد عنه تكريما وزيد في رواية فإني إنما جعلت قاسما أقسم بينكم وفيه إشارة إلى أن المراد بأبي القاسم هو الموصوف بهذا الوصف وهو لا ينافي(1/504)
كونه أبا لولد له مسمى بالقاسم. (وروي عن أنس رضي الله تعالى عنه) كما في مسند أحمد والبيهقي (أنّه لمّا ولد إبراهيم) أي ابن نبينا عليه الصلاة والسلام من مارية (جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أبا إبراهيم) فهي كنيته أيضا وهو يحتمل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قد سمى ولده إبراهيم قبل نزول جبريل عليه السلام ويحتمل أن تكون تسميته وقعت في ضمن تكنيته اثناء تهنئته وفي الجملة صار صلى الله تعالى عليه وسلم أبا إبراهيم كما كان أبوه إبراهيم فكأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أحيى اسم جده عليهما الصلاة والسلام ثم قيل وكنيته أيضا أبو الأرامل وهو لقب في المعنى وإن كان كنية في المبنى فإن معناه مراعي الأرامل ومحافظ أحوالهن ومتفقد مالهن والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل [في تشريف الله تعالى له بما سماه به من أسمائه الحسنى]
(في تشريف الله تعالى بما سمّاه به من أسمائه الحسنى) تأنيث الأحسن لأن الأسماء في معنى الجماعة (ووصفه به من صفاته العلى) بضم العين جمع العليا ووصفه بفتح الواو والصاد والفاء عطفا على سماه ويحتمل كونه مصدرا معطوفا على تشريف الله تعالى. (قال القاضي أبو الفضل) يعني المصنف نفسه (وفّقه الله) أي لما يحبه ويرضاه (ما أحرى هذا الفضل) بالنصب فإن الصيغة للتعجب أي ما أحقه وأخلقه وأجدره وأليقه (بفصول الباب الأوّل) أي من هذا الكتاب وهو المعنون بالفصل في ثناء الله تعالى عليه وإظهار عظيم قدره لديه كما أشار في ضمن تعليله وجه الاحرى إليه بقوله (لانحراطه) أي لانضمامه (في سلك مضمونها وامتزاجه) أي اختلاطه (بعذب معينها) بفتح ميم وكسر عين أي بحلو مائها وعلو صفائها (لكن لم يشرح الله) وفي نسخة لكن الله لم يشرح (الصّدر للهداية إلى استنباطه) أي استخراجه من أماكنه وهو استدراك على وجه الأعتذار عما فاته من جعل هذا الفصل من تلك الفصول المناسبة لهذه الإسرار المتضمنة للأنوار (ولا أنار الفكر) بالنون أي لا أشرقه ولا أضاء له وفي نسخة بالثاء المثلثة أي ولا بعثه ولا هيجه (لاستخراج جوهره، والتقاطه) أي من بحره وبره الشامل لعموم كرم علمه وبر حلمه (إلّا عند الخوض) أي الشروع والدخول (في الفصل الذي قبله) أي فشرح الصدر للهداية إلى ذلك أولا على وفق ما هنالك (فرأينا أن نضيفه إليه) أي بتعقيبه له زيادة عليه (ونجمع به شمله) أي تفرقه عند حصوله لديه (فاعلم) أي أيها الطالب الراغب (أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ) أي الذين هم من جملة الاصفياء (بكرامة خلعها) أي ألقاها (عليهم) وفي نسخة عليه وعليهم أي ألبسهم خلعة الكرامة الواصلة إليهم والحاصلة لديهم وفي نسخة جعلها أي صيرها أعلاما عليهم (من أسمائه) بأن ذكر فيهم صفات هي مبادي اشتقاق وصف له وأخذ من بنائه (كتسمية إسحاق وإسماعيل) أي ابني إبراهيم الخليل على خلاف في المراد بالمبشر به من أحد أولاده الجليل وكان الأولى تقديم إسماعيل لأنه أكبر ولكونه جدا لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ولموافقة قوله سبحانه(1/505)
وتعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ (بعليم) في قوله تعالى وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (وحليم) في قوله سبحانه وتعالى فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ وجمع بينهما للإشعار بأن الكمال هو الوصف باجتماع العلم والحلم المنبعث عنهما جميع الفضائل البهية والشمائل السنيد وقد أغرب الدلجي حيث جعل الوصفين نشرا مرتبا على الابنين إذ لم يقل أحد بالتفضيل بينهما وإنما اختلفوا في أن أيهما المراد به مع الاتفاق على أن المبشر به أحدهما ولذا قال الأنطاكي ولعل المؤلف من أجل الاختلاف جمع هنا بين إسحاق وإسماعيل وقد أفرد السيوطي رسالة في تعيين الذبيح وتوقف في أن أيهما الصحيح لكن المعتمد عند المفسرين والمحدثين المعتبرين أنه إسماعيل لحديث أنا ابن الذبيحين وغيره من أدلة ليس هذا محل بسطها. (وإبراهيم بحليم) أي في قوله تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ولعل الاكتفاء به للعلم بأنه عليم أو للزومه أو لغلبة حلمه على علمه ولذا استغفر لوالده، (ونوح بشكور) أي في قوله سبحانه وتعالى إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً، (وعيسى ويحيى ببرّ) بفتح الباء وتشديد الراء مبالغة بار في قوله تعالى وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ
(وموسى بكريم) أي في قوله سبحانه وتعالى وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ في (وقويّ) أي في قوله سبحانه حكاية عن بنت شعيب وتقريرا لكلامها إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ وفي نسخة بدلهما بكليم والظاهر أنه أصل سقيم (ويوسف بحفيظ عليم) أي في قوله سبحانه حكاية عن يوسف مقرا شأنه ومعتبرا بيانه حيث انطق لسانه بقوله إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ الدخان (وأيّوب بصابر) أي في قوله تعالى إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً وفيه أن الصابر غير معروف من اسمائه وإنما الصبور من اسمائه سبحانه على المشهور (وإسماعيل بصادق الوعد) أي في قوله تعالى عند ذكره إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ ولعل وجهه قوله سبحانه وتعالى وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وحديث صدق الله وعده وإلا فصادق الوعد والصادق المطلق ليس من الاسماء المشهورة (كما نطق به) وفي نسخة صحيحة بذلك أي بما خص أنبياءه (الكتاب العزيز) أي بإنبائه على وفق اشتقاق اسمائه (من مواضع ذكرهم) بالإضافة أي في مواضع ذكرهم ووصفهم وشكرهم فيها كما قدمناه وفي نسخة صحيحة من مواضع بدل في ولعلها بمعناها أو بيان لما لإبهام مبناها (وفضّل نبيّنا محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم) أي على سائر الأنبياء والأصفياء بزيادة اشتقاق بناء الاسماء في الأنباء (بأن حلّاه) بفتح الحاء المهملة وتشديد اللام أي زينه (منها) أي من اسمائه سبحانه (في كتابه العزيز) أي البديع المنيع المشتمل على التعجيز أو القوي الغالب على سائر الكتب بنسخها على وجه التمييز وقد قَالَ: اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، (وعلى ألسنة أنبيائه) أي كما نقله بعض أوليائه (بعدّة كثيرة) أي بجملة كثيرة وهي بكسر العين والباء للسببية والباء الأولى بيانية أي بسبب تعداد نعوت كثيرة وأوصاف غزيرة (اجْتَمَعَ لَنَا مِنْهَا جُمْلَةٌ بَعْدَ إِعْمَالِ الْفِكْرِ) بكسر الهمزة أي استعماله (وإحضار الذّكر) بضم الذال وكسرها والمعنى بعد إفراغ الوسع تفكرا(1/506)
وتذكرا. (إذ لم نجد) أي من العلماء المصنفين (مَنْ جَمَعَ مِنْهَا فَوْقَ اسْمَيْنِ وَلَا مَنْ تفرّغ فيها لتأليف فصلين) أي ليعرف منه بيان فرعين أو أصلين (وحرّرنا) بحاء وراءين مهملات ويروى جردنا بجيم ودال أي أخرجنا (منها في هذا الفضل نحو ثلاثين اسما) أي مما اشتق من اسماء الله الحسنى والصفات العلى (ولعلّ الله تعالى) أي أرجو من كرمه أنه (كما ألهم) أي أرشد (إلى ما علّم) بتشديد اللام أي عرف (منها وحقّقه يتمّ النّعمة) أي يكملها (بإبانة ما لم يظهره لنا الآن) أي بإظهار اسراره وإبداء أنواره (ويفتح غلقه) بفتحتين أي إغلاقه واشكاله وأمثلته وأمثاله إذا عرفت ذلك. (فمن أسمائه) أي الله سبحانه وتعالى (الحميد) وهو فعيل بمعنى المفعول أو الفاعل والأول أظهر ولذا قدمه بقوله (ومعناه المحمود لأنّه حمد نفسه) أي أزلا (وحمده عباده) أي أبدا وقد يقال هو المحمود في ذاته سواء حمد أو لم يحمد على لسان مخلوقاته مع أنه وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ في مراتب تعيناته فهو المحمود في كل فعال وجميع حال إذ هو المولى لكل نوال (ويكون) أي الحميد (أيضا) أي كما يكون بمعنى المحمود (بمعنى الحامد لنفسه) أي في نفس أو في كلام قدسه تعليما لعباده على وفق مراده (ولأعمال الطّاعات) بمعنى ثنائه وشكر أهله وجزائه وقد يقال الحامدية والمحمودية في جميع مراتب الربوبية فهو الحامد وهو المحمود لأنه في نظر الشهود سوى الله والله ما في الوجود (وسمّى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي نبيا وهو مرفوع أو منصوب وهو الأظهر فتدبر (محمّدا وأحمد فمحمّد بمعنى محمود) بل ابلغ منه (وكذا) أي محمد أو محمود (وقع اسمه في زبر داود) بضم الزاء والباء أي في صحفه المزبورة بمعنى المكتوبة والمراد بها الزبور ووقع في أصل التلمساني على ما ضبطه بكسر الزاء وسكون الباء أي في كتابه وهو غير معروف في الرواية والدراية (وأحمد بمعنى أكبر) أي أعظم (من حمد) بفتح الحاء. (وأجلّ من حمد) بضم الحاء وفيه إيماء إلى أن أفعل التفضيل قد يكون بمعنى الفاعل وهو أكثر وقد يكون بمعنى المفعول وهو هنا أظهر والجمع بينهما أبهر لحيازته شرف الحامدية والمحمودية المشيرة إلى مرتبة المحبية والمحبوبية فأحمد بهذا الاعتبار يكون أبلغ من محمد في نظر النظار مع ما فيه من الإشارة إلى الصفة الجامعة بين مرتبة المجذوبية المطلوبية ومنزلة المرادية المحبوبية بالنسبة الأزلية الممتدة إلى الأبدية بخلاف وصف الحامدية المشعرة بتعلق الحادثة الكونية كما علم تحقيق هذا المعنى في قوله تعالى يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ من تدقيق المبنى (وقد أشار إلى نحو هذا) أي مما قررناه وحررناه (حسّان بقوله) أي ابن ثابت بن المنذر بن حرام بالراء الأنصاري النجاري عاش هو والثلاثة فوقه من آبائه كل واحد مائة وعشرين سنة وقد عاش حسان ستين في الإسلام وستين في الجاهلية وقد شاركه في الوصف الثاني حكيم بن حزام قيل وغيره أيضا (وشقّ) بفتح الشين أي الله تعالى (له) صلى الله تعالى عليه وسلم (من اسمه) قطع همزة الوصل ضرورة ولو قال من نعته او وصفه لخلص (ليجلّه) أي ليعظمه بالمشاركة في الجملة الاسمية من حيث تلاقي اسميهما اشتقاقا من مأخذ واحد ولم يرد(1/507)
الاشتقاق الاصطلاحي لأن مبدأهما متحد بل أراد كون اسمه بمعنى اسمه كما يشير إليه قوله (فذو العرش محمود وهذا محمّد) فمحمود مأخوذ من معنى الحمد على ما سبق وقد ورد يا الله المحمود في كل فعاله والحاصل أن لفظ شق من شق الشيء جعله شقين أي نصفين ومعناه أنه أعطاه من معنى اسمه جزءا من مبناه وقيل شق بمعنى اشتق أخذه منه وصاغه من حروف اسمه هذا وقد قال الإمام حجة الإسلام في المقصد الأسنى في اسماء الله الحسنى الحميد من عباد الله تعالى من حمدت عقائده وأخلاقه وأفعاله وأقواله وهو نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومن قرب منه من الأنبياء والأولياء فكل واحد منهم حميد بقدر ما حمد من أوصافه والحميد المطلق هو الله سبحانه وتعالى (ومن أسمائه تعالى الرّؤوف الرّحيم) أي ذو الرأفة والرحمة وقدم الأبلغ منهما لما مر غير مرة (وهما بمعنى) أي واحد (متقارب) أي في المؤدى وإن كانت الرأفة شدة الرحمة (وسمّاه) أي نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم (في كتابه بذلك) أي بما ذكر من الوصفين أو بالجمع بين النعتين (فقال بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْحَقُّ الْمُبِينُ وَمَعْنَى الْحَقِّ، الموجود) أي دوامه الثابت قيامه (والمتحقّق أمره) لأنه الثابت مطلقا لوجوب شأنه وأما غيره فلا وجود له في حد ذاته لإمكانه وهذا وجه قوله تعالى كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وإلى هذا المعنى أشار لبيد بقوله (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) وهذا إيراد شيخ مشايخنا أبو الحسن البكري قدس الله سره السري بقوله استغفر الله مما سوى الله (وكذلك المبين أي البيّن) يعني الظاهر (أمره) أي أمر وجوده وشأن ربوبيته (وإلهيّته) أي بوصف وأجبيته واحديته وواحديته ثم قوله (بان وأبان بمعنى واحد) يعني أن بان ههنا بمعنى أبان فهما لازمان وقد يكون أبان متعديا فيكون المبين بمعنى المظهر وهذا معنى قوله (ويكون بمعنى المبين لعباده أمر دينهم) أي ما يتعلق به من معاشهم في دنياهم (ومعادهم) أي وأمر معادهم في عقباهم وهذا المعنى في حقه تعالى (وسمّى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك) أي بما ذكر من الاسمين (في كتابه فقال) أي بعد قوله بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ [الزخرف: 39] ) وهذا على قول بعض المفسرين من أن المراد بالحق هو الرسول الأمين خلافا لمن قال إن المراد بالحق هو الكتاب المبين (وقال: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [الحجر: 89] ) أي الظاهر الإنذار أو مظهر الأخبار (وقال) أي بعد قوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ [يونس: 801] ) يعني به محمدا أو القرآن (وَقَالَ: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ [الْأَنْعَامِ: 5] قيل) أي المراد بالحق (محمّد) أي كذبوا بالنبي الثابت نبوته المتحقق معجزته بدليل الآيات السابقة المشيرة إليه فلا التفات إلى قول الدلجي وهذا القيل مما لا دليل عليه (وقيل القرآن) وكلاهما صحيح وفي المدعي صريح فإن تكذيب كل منهما يستلزم تكذيب الآخر سواء تقدم الأول أو تأخر فتدبر (ومعناه) أي ومعنى الحق (هنا) أي في كل من التفسيرين (ضدّ الباطل والمتحقّق صدقه وأمره) أي شأنه جميعه ثم المتحقق بكسر القاف(1/508)
الأولى وهو مرفوع عطفا على ضد الباطل فهو خبر بعد خبر إشعارا بأن للحق معنيين مشهورين وأما قول الحلبي بفتح القاف الأولى المشددة وهو مبتدأ وصدقه الخبر وأمره معطوف على الخبر فهو مرفوع أيضا فخطأ من جهة البناء الصرفي والإعراب النحوي (وهو بمعنى الأوّل) أي فيما سبق فتأمل، (والمبين) على أنه نعت الرسول الأمين معناه (البين أمره ورسالته) أي الظاهر والواضح بناء على أن أبان لازم (أو المبين) بتشديد الياء المكسورة أي المظهر والمخبر (عن الله تعالى ما بعثه به) أي من أمر الرسالة لتعليم الأمة بناء على أن أبان متعد (كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] ) أي من مرغوب ومرهوب (وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى النُّورُ وَمَعْنَاهُ ذُو النُّورِ) يعني على مضاف مقدر (أي خالقه) أو سمى نورا مبالغة كالعدل فمعناه النور ومبناه الظهور لأنه تعالى ظاهر بذاته وصفاته ومظهر حقائق مخلوقاته أو معنى ذي النور أن حجابه النور بحيث لو انكشفت سبحات وجهه لأحرقت ما انتهى إليها بصره من خلقه أو لأن ظهور الأشياء إنما هو بنوره وتبين الأمور ليس إلا لظهوره وأما اطلاق النور عليه سبحانه وتعالى بناء على ما هو في عرف الحكماء من أنه كيفية تدركها الباصرة أولا ثم بها تدرك سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من القمرين على الأجرام المحاذية لها فلا يصح حقيقة إلا أنه قد يتجوز من حيث إن ظهوره تعالى بذاته الموصوف بالقدم مبرأ عن ظلمة العدم وأن ظهور غيره ووجوده فائض عنه تعالى ثم تحقيق هذا المبنى وتدقيق هذا المعنى عند قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حيث قيل من جملة معانيه (أو منوّر السّموات والأرض) أي كما قرىء به في الآية على أن النور بمعنى التنوير مصدر بمعنى الفاعل وقوله (بالأنوار) أي بسبب الأنوار الحسية من الكواكب القمرية والشمسية (ومنوّر قلوب المؤمنين بالهداية) أي الوهبية أي بسبب امداد الأنوار المعنوية في الأفلاك القلبية (وسمّاه) أي النبي عليه السلام (نورا) أي على أحد التفسيرين (فَقَالَ: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: 15] قيل) أي المراد بالنور (محمّد وقيل القرآن) وقيل المراد بهما محمد لأنه كما هو نور عظيم ومنشأ لسائر الأنوار فهو كتاب جامع مبين لجميع الإسرار (وقال فيه) أي في حق نبيه (وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب: 46] ) أي شمسا مضيئا لقوله تعالى وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً ففيه تنبيه لنبيه على أن الشمس أعلى الأنوار الحسية وأن سائرها مستفيض منها فكذلك لنبي عليه السلام أعلى الأنوار المعنوية وأن باقيها مستفيد منه بحكم النسبة الواسطية والمرتبة القطبية في الدائرة الكلية كما يستفاد من حديث أول ما خلق الله نوري وأما الحق فهو في المقام المطلق (سمّي بذلك) أي بما ذكر من النور والسراج المنير (لوضوح أمره) أي أمر رسالته (وبيان نبوّته وتنوير قلوب المؤمنين) عموما (والعارفين) خصوصا (بما جاء به) وما ظهر لهم من الأنوار والأسرار بسببه قال الحلبي ولعل ابن سبع استنبط من هذا ومن الحديث الذي سأل فيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ربه أن يجعل في جميع أعضائه وجهاته نورا وضم ذلك لقوله واجعلني نورا ما(1/509)
قاله من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان من خصائصه أنه كان نورا وكان إذا مشى في الشمس أو القمر لا يظهر له ظل والله سبحانه وتعالى أعلم. (ومن أسمائه تعالى الشّهيد) من الشهود بمعنى الحضور (ومعناه العالم) أي بظاهر ما يمكن مشاهدته كما أن الخبير هو العالم بباطن ما لم يمكن إحساسه (وقيل) أي في معناه (الشّاهد على عباده يوم القيامة) الأولى إطلاقه لقوله تعالى وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً ولعل وجه تقييده المناسبة في إطلاقه على صاحب الرسالة (وسمّاه) أي الله نبيه في كتابه (شهيدا وشاهدا) كان الأولى تقديم شاهدا ليلائم ترتيب ما رتبه (فقال إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً [الفتح: 8] ) أي عالما أو مطلعا (وقال) أي في موضع آخر (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [الْبَقَرَةِ: 143] وَهُوَ بِمَعْنَى الأوّل) أي إلا أنه أبلغ وأدل والأظهر أنه من مادة الشهادة فتأمل فإنه المعول. (ومن أسمائه تعالى الكريم معناه الكثير الخير) أي النفع (وقيل المفضل) بضم الميم وكسر الضاد أي ذو الإفضال بالنوال قبل السؤال (وقيل العفو) وفيه أن عفوه من جملة كرمه (وقيل العليّ) أي رفيع الشأن عظيم البرهان يتعالى كرمه عن النقصان (وفي الحديث المرويّ) أي مما رواه ابن ماجة (في أسمائه تعالى الأكرم) وكذا جاء في التنزيل اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (وَسَمَّاهُ تَعَالَى كَرِيمًا بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة: 40] قيل) أي المراد به (محمّد وقيل جبريل) وهو الأظهر وعليه الأكثر (وقال عليه الصلاة والسلام أنا أكرم ولد آدم) وسنده قد تقدم وفي لفظ أنا أكرم الأولين والآخرين أي أفضلهم (ومعاني الاسم) أي اسم الكريم والأكرم على ما تقدم (صحيحة في حقّه عليه السلام) أي بالكمال والتمام إذ من جملة ما صدر عنه من الكرم والإنعام ما يدل عليه قول صفوان بن أمية وقد أعطاه غنما بين جبلين أن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر وهذا غاية الكرم في ابن آدم (ومن أسمائه تعالى العظيم) من عظم الشيء إذ اكبر جسما وهيئة ثم استعير لما كبر قدرا ورتبة (وَمَعْنَاهُ الْجَلِيلُ الشَّأْنِ الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ دُونَهُ) أي في الظهور والبرهان هذا وقيل الكبير اسم للكامل في ذاته والجليل في صفاته والعظيم فيهما فهو اجل منهما (وقال في النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) في كلامه القديم (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] ) فله العظمة المعنوية باعتبار أخلاقه البهية (ووقع في أوّل سفر) بكسر أوله أي أول دفتر (من التّوراة) أي من اسفارها (عن إسماعيل) أي ابن الخليل والمعنى عن جهته وفي حقه (وستلد عظيما) بالخطاب وفي نسخة بالغيبة بناء على جهتي التعبير من رعاية المبنى والمعنى فالمعنى ستلد ولدا عظيما يكون نبيا كريما (لأمّة عظيمة) أي في الكمية أو الكيفية كما يشير إليه قوله تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ وخيرية كل أمة تابعة لخيرية نبيها (فهو عظيم) أي في ذاته (وعلى خلق عظيم) أي في صفاته وتعبيره بعلى الموضوع للاستعلاء تمثيل لتمكنه من غاية الاستيلاء. (ومن أسمائه تعالى الجبّار) فعال للمبالغة من الجبر بضرب من القهر على ما هو في الأصل ثم قد يستعمل في الإصلاح المجرد كقول علي رضي الله تعالى عنه يا جابر كل كسير ومسهل كل عسير وتارة في القهر(1/510)
المجرد ومنه ما ورد لا جبر ولا تفويض ومن ثم قيل كما قال (ومعناه المصلح) أي لأمور عباده على وفق مراده (وقيل القاهر) أي فوق عباده فلا موجود إلا وهو مقهور تحت قدرته وهدف لإرادته ومشيئته (وقيل العليّ) أي الرفيع البرهان (العظيم الشّأن، وقيل المتكبّر) أي المستغني عن كل أحد في كل زمان ومكان ولا يستغني عنه أحد في كل شأن وأوان (وسمّي النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في كتاب داود) وفي نسخة في كتب داود أي زبوره أو زبره (بجبّار) الأظهر أن لقول بالجبار لقوله (فقال) أي مناديا له في عالم الأرواح ومستحضرا له في عالم الإشباح (تقلد أيّها الجبّار سيفك) أي للكفار (فإنّ ناموسك) بألف قال التلمساني يهمز ويسهل والناموس وعاء العلم وصاحب سرك الذي تطلعه على باطن أمرك وهو جبريل عليه السلام قال الأنطاكي والمراد هنا والله تعالى أعلم ما يوحي إليه وهو القرآن انتهى والأظهر أن يقال في المعنى أي اعتبارك واقتدارك وأنوار علومك وأسرارك (وشرائعك) أي أحكامك وأخبارك (مقرونة بهيبة يمينك) أي قوة تصرفك وغلبة قهرك وكثرة نصرك على وفق يقينك. (ومعناه في حقّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي باعتبار معانيه في حقه سبحانه والمناسبة التامة مما يقتضي شأنه (إمّا لإصلاحه الأمّة بالهداية والتّعليم) أي بإظهار العناية والرعاية مما تحتاجون في البداية والنهاية (أو لقهره أعداءه) أي ولجبره أحباءه (أو لعلوّ منزلته على البشر) أي جنس بني آدم في الفواضل النفسية والفضائل الإنسية (وعظيم خطره) بفتحتين أي قدره ومزيته على غيره (ونفى) أي الله تعالى (عَنْهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ جَبْرِيَّةَ التَّكَبُّرِ الَّتِي لا تليق به) وفي نسخة جبرية التكبر والأظهر جبرية القهر لقوله (فقال: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: 45] ) أي بمسلط وقهار تقهرهم على الإيمان وتقدرهم على العرفان أو أنت عليهم بوصف الجبابرة بل بنعت الرأفة والرحمة. (ومن أسمائه تعالى الخبير) مبالغة من الخبرة وهي العلم بالأمور الخفية، (ومعناه المطّلع بكنه الشّيء) بضم الكاف أي على غايته ونهايته. (العالم) وفي نسخة والعالم (بحقيقته) أي بماهيته وكيفيته (وقيل معناه المخبر وقال الله تعالى: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً [الفرقان: 59] ) واختلف في المراد بالسائل والمسؤول (قال القاضي بكر بن العلاء) هو بكر بن محمد بن زياد القشيري من أولاد عمران بن الحصين رضي الله تعالى عنه مات سنة أربع وأربعين وثلاثمائة ذكره التلمساني وقال الأنطاكي هو المالكي (المأمور بالسّؤال غير النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم والمسؤول الخبير هو النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فاسئل بما ذكر أو عما ذكر مما تقدم من خلق الأشياء ووصف الاستواء عالما يخبرك بحقيقة الإنباء وهو سيد الأنبياء (وقال غيره) أي غير بكر (بل السّائل النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم والمسؤول هو الله تعالى) وهو أظهر الأقوال وقيل جبريل أو من وحد الله في كتبه المتقدمة (فالنّبيّ خبير بالوجهين المذكورين) أي ما قدمه القاضي آنفا من قوله الخبير أما معناه العالم بحقيقة الشيء أو المخبر (قيل) أي في توجيه الوجهين (لِأَنَّهُ عَالِمٌ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْعِلْمِ بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ مِنْ مَكْنُونِ عِلْمِهِ وَعَظِيمِ مَعْرِفَتِهِ) يعني(1/511)
فيصلح أن يكون سائلا (مخبر لأمّته بما أذن) أي أبيح (له في إعلامهم به) أي بما ينفعهم معاشا ومعادا فيصح أن يكون خبيرا بمعنى مخبرا فيصير مسؤولا (ومن أسمائه تعالى الفتّاح) أي كما قال الله تعالى وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (ومعناه الحاكم بين عباده) كقوله تعالى رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا أي احكم لأن الحكم فتح أمر مغلق بين الخصمين وقد بين الله الحق وأوضحه وميز الباطل وأدحضه بإنزال الكتاب المبين وإقامة البراهين في أمر الدين (أو فاتح أبواب الرّزق) أي على أنواع الخلق من أسباب النعمة الدنيوية والأخروية (والرّحمة) أي من قبول التوبة وحصول المغفرة (والمنغلق) بالنون الساكنة والغين المعجمة المفتوحة واللام المكسورة أي المشكل (من أمورهم عليهم أو يفتح قلوبهم) أي أعين بصيرتهم فقوله (وبصائرهم) عطف تفسير وفي نسخة وأبصارهم فالمعنى أبصارهم الباطنة والظاهرة (لمعرفة الحقّ) أي وتمييزه عن الباطن (ويكون) أي الفتاح (أيضا بمعنى النّاصر) وكان الأظهر أن يقول ويكون الفتح بمعنى النصر (كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الْأَنْفَالِ: 19] أَيْ إِنْ تَسْتَنْصِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ النَّصْرُ وقيل معناه) أي معنى الفتاح (مبتدىء الفتح والنّصر) يعني ملاحظة المعنيين من الفتح وهو الافتتاح والفتح ولا يبعد أن تكون الدال مفتوحة فمعنى جاءكم الفتح أي مبتدأ ولذاو أوله وهذا كله بناء على النسخ المعتمدة من بناء الكلمة على الابتداء من باب الافتعال وفي أصل الدلجي مبدئ الفتح والنصر من الابداء من باب الأفعال ولذا قال أي مظهرهما (وسمّى الله تعالى نّبيّه محمّدا صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَاتِحِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ الطَّوِيلِ) أي على ما سبق بطوله (مِنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي العالية وغيره عن أبي هريرة) أي مرفوعا (وفيه من قول الله تعالى) يعني الحديث القدسي (وجعلتك فاتحا وخاتما) بكسر التاء فيهما (وفيه من قول النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَنَائِهِ عَلَى رَبِّهِ وَتَعْدِيدِ مراتبه) أي قياما بشكره (ورفع لي ذكري) أي بعد ما شرح صدري ووضع عني وزري (وجعلني فاتحا وخاتما) أي أولا بالنبوة في عالم الأرواح وآخرا بالرسالة في عالم الأشباح؛ (فيكون) أي فيحتمل أن يكون (الفاتح هنا بمعنى الحاكم) أي بين الخصوم بما أعطى له من العلوم (أو الفتاح لأبواب الرحمة على أمته) أي لكونه رحمة للعالمين وأمته أمة مرحومة (والفاتح) الأظهر أو الفاتح (لبصائرهم بمعرفة الحقّ والإيمان بالله) أي على جهة الصدق (أو النّاصر للحقّ) أي بخذلان اعدائه وتبيان أحبائه (أو المبتدي بهداية الأمّة) بكسر الدال بمعنى البادئ المأخوذ من الفتح بمعنى الافتتاح ومنه الفاتحة (أو المبدّأ) بضم الميم وفتح الموحدة وتشديد الدال المهملة ثم همزة مقصورة أي المبتدأ كما في نسخة (المقدّم في الأنبياء) أي عند خلق أنوارهم وتقسيم أسرارهم (والخاتم لهم) أي بالمنع عن إظهارهم (كما قال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْتُ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْخَلْقِ) أي في حال الخلقة (وآخرهم في البعث) أي في بعثة الدعوة. (ومن أسمائه تعالى في الحديث) أي على ما رواه الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا (الشّكور) وفي القرآن(1/512)
إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ وهو مبالغة الشاكر (ومعناه المثيب) أي المجازي بالجزاء الجزيل (على العمل القليل) فيرجع إلى صفة الفعل (وقيل المثني على المطيعين) فيرجع إلى صفة الذات وقيل الشكور لمن شكره فيكون من قبيل المقابلة وأما قول الدلجي المجازي عباده على شكرهم فليس من باب المشاكلة كما وهم بل يرجع إلى الأخص من المعنى الأول فتأمل (وَوَصَفَ بِذَلِكَ نَبِيَّهُ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [الإسراء: 3] ) ولقد قال أيضا في حق هذه الأمة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي لكل مؤمن كامل عالم عامل فإن الإيمان نصفان نصفه صبر ونصفه شكر فالأول باجتناب المعصية والثاني بارتكاب الطاعة وقد قال تعالى اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وقيل مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ وقيل الشكور هو المعترف بالعجز عن أداء الشكر هذا وقد قال الأنطاكي لم يقع هذا من القاضي موقعه لأنه في معرض تحرير ما فضل الله تعالى به نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وما خلع تعالى عليه من اسمائه وأما من خص بكرامة غير محمد من الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام فقد قدمهم في أول الفصل وذكر نوحا عليه الصلاة والسلام في جملتهم وكان في ذلك غنية عن إعادة ذكره هنا مرة أخرى (وقد وصف النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم نفسه بذلك) أي الوصف (فقال) أي في الحديث المتقدم كما ذكره الترمذي وغيره لما قيل له حين انتفخت قدماه من قيام الليل اتتكلف هذا وقد غفر الله لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ (أفلا أكون عبدا شكورا) يعني وعلى مشقة عبادته صبورا، (أي معترفا بنعم ربّي عارفا بقدر ذلك) أي بمقدار إنعامه عندي (مثنيا عليه) أي بلساني وجناني (مجهدا نفسي) أي في القيام بأركاني (في الزّيادة) أي في تحصيلها (مِنْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7] ) أي نعمة على نعمة والحاصل أن المبالغة في القيام بشكر المنحة موجبة لزيادة مراتب المنة ومقتضية لإزالة مثالب المحنة. (ومن إسمائه تعالى العليم) قال الله تعالى وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (والعلّام) كان حقه أن يقول علام الغيوب أو علام الغيب إذ لم يرد العلام في اسمائه سبحانه وتعالى (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي في آية وفي آخرى عالِمِ الْغَيْبِ إما للاكتفاء وإما على برهان الأولى وغيبوبته بالنسبة إلى غيره وإلا ففي الحقيقة لا غيب بالنسبة إليه تعالى لأنه موجد كل شيء وخالقهم. (ووصف نبيّه بالعلم) أي في الجملة مع المشاركة لغيره (وخصّه بمزيّة منه) أي بفضيلة زائدة منه على غيره لاختصاصه بفضل منته عليه (فقال: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
) أي من المعارف الدينية والعوارف اليقينية (وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
[النساء: 113] ) أي بالنسبة إلى غيرك من الأنبياء والأصفياء وإن أعطى كل منهم حظا جسيما (وقال) أي في مرتبة التكميل به مزية الكمال (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ) أي قراءته مبني (وَالْحِكْمَةَ) أي ألسنة لبيانه معنى (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة: 151] ) أي بعقولكم ما لا طريق إلى معرفته سوى الوحي بإبداء نبوته وإظهار رسالته وفي تكرير الفعل إيماء إلى أنه نوع آخر فتدبر ولعل المراد(1/513)
به أحوال الحقيقة وبما سبق من الكتاب والسنة أحكام الشريعة والطريقة وقد روي الشريعة أقوالي والطريقة فعالي والحقيقة أحوالي (ومن أسمائه تعالى الأوّل) أي وجودا بلا ابتداء (والآخر) أي شهودا بلا انتهاء (ومعناهما السّابق للأشياء قبل وجودها) أي أزلا (والباقي بعد فنائها) أي أبدا لحديث اللهم أنت الأول فليس قبلك أي قبل ابدائك شيء وأنت الآخر فليس بعدك أي بعد افنائك الخلق شيء وأنت الظاهر فليس فوقك أي فوق ظهورك شيء باعتبار مظاهر أفعالك وصفاتك وأنت الباطن فليس دونك أي دون بطونك شيء باعتبار حقيقة ذاتك اقض عني ديني واغنني من الفقر يعني فإنك الغني المغني (وتحقيقه) أي تحقيق كونه أولا وآخرا (أنّه ليس له أوّل) يعني وهو موجد الأشياء ومبدعها (ولا آخر) لأنه مفني الأشياء ومعيدها فهما بهذا المعنى من صفات التنزيه له تعالى وإن كان باعتبار مؤداهما من إفادة كونه أزليا وأبديا يكون وصفا ثبوتيا (وقال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْتُ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْخَلْقِ) أي في بدء عالم الخلق (وآخرهم في البعث) أي في نهاية عالم الأمر (وفسّر بهذا) أي بكونه أول الأنبياء خلقا (قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) أي عهدهم بتبليغ دعوة الحق والرسالة إلى الخلق (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الأحزاب: 7] ) أي وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وخصوا بالذكر لأنهم أشهر أرباب الشرائع وهم أولو العزم من الرسل (فقدّم) أي الله سبحانه (محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ذكره على المتقدمين من الأنبياء المذكورين مع أنه متأخر في الوجود عنهم في عالم الأشباح لسبق رتبته وتقدم نبوته في عالم الأرواح وقد روي أول ما خلق الله نوري وفي لفظ روحي وورد أنه أول من قال بلى في الميثاق (وَقَدْ أَشَارَ إِلَى نَحْوٍ مِنْهُ عُمَرُ بْنُ الخطّاب رضي الله عنه) أي فيما تقدم من قوله بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ بَعَثَكَ آخر الأنبياء وذكرك أولهم أي في الأنباء فقال وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ الآية (ومنه) أي ومن قبيل قوله كنت أول الأنبياء الخ أي باعتبار النسبة الأولية والسابقية والقبلية في الجملة من مرتبة المزيد (قوله نحن الآخرون) أي في الخلقة (السّابقون) أي في البعثة يوم القيامة أو المقضي لهم قبل الخليقة كما صرح به في حديث مسلم (وقوله) أي ومنه قوله (أنا أوّل من تنشقّ الأرض عنه) وفي نسخة عنه قبل الأرض، (وأوّل من يدخل الجنّة) أي هو وأمته من الباب الأيمن من أبوابها كما ورد في بعض طرق الحديث، (وأوّل شافع، وأوّل مشفّع) أي مقبول الشفاعة (وهو خاتم النّبيّين) أي لا نبي بعده (وآخر الرّسل) تأكيد لما قبله (صلى الله تعالى عليه وسلم) أي وعليهم أجمعين قال الدلجي وهو صلى الله تعالى عليه وسلم سمى بالأول والآخر إنما هو من حيث كونه أولا في الخلق وآخرا في البعث لا من حيث معناهما في حقه تعالى فلا التفات إلى ما ذكر هنا انتهى ولا يخفى أنه لا خصوصية للتفرقة بهذين الوصفين من بين سائر الصفات السابقة واللاحقة إذ لا يتصور اشتراك المخلوق مع الخالق في نعت من النعوت بحسب الوصف الحقيقي وإنما يكون بملاحظة المعنى المجازي أو(1/514)
العرفي فالله سميع بصير عليم حي قدير مريد متكلم وقد أثبت هذه الصفات أيضا لبعض المخلوقات ولكن بينهما بون بين ولا يخفى مثل هذا على دين وقد افرد المصنف كما سيأتي فصلا في بيان هذا الفضل لئلا يعدل أحد عن مقام العدل هذا وقد روى التلمساني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نزل جبريل فسلم علي فقال في سلامه السلام عليك يا أول السلام عليك يا آخر السلام عليك يا ظاهر السلام عليك يا باطن فانكرت ذلك عليه وقلت يا جبريل كيف تكون هذه الصفة لمخلوق مثلي وإنما هذه صفة الخالق الذي لا تليق إلا به فقال يا محمد اعلم أن الله أمرني أن اسلم بها عليك لأنه قد فضلك بهذه الصفة وخصك بها على جميع النبيين والمرسلين فشق لك اسما من اسمه ووصفا من وصفه وسماك بالأول لأنك أول الأنبياء خلقا وسماك بالآخر لأنك آخر الأنبياء في العصر وخاتم الأنبياء إلى آخر الأمم وسماك بالباطن لأنه تعالى كتب اسمك مع اسمه بالنور الأحمر في ساق العرش قبل أن يخلق أباك آدم بألفي عام إلى ما لا غاية له ولا نهاية فأمرني بالصلاة عليك فصليت عليك يا محمد ألف عام بعد ألف عام حتى بعثك الله بشيرا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا وسماك بالظاهر لأنه أظهرك في عصرك هذا على الدين كله وعرف شرعك وفضلك أهل السموات والأرض فما منهم من أحد إلا وقد صلى عليك صلى الله عليك فربك محمود وأنت محمد وربك الأول والآخر والظاهر والباطن وأنت الأول والآخر والباطن فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الحمد لله الذي فضلني على جميع النبيين حتى في اسمي وصفتي. (وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْقَوِيُّ وَذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) وهو تفسير لما قبله (ومعناه القادر) أي التام القدرة الكامل القوة (وقد وصفه الله تعالى) أي نبيه (بِذَلِكَ فَقَالَ: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير: 20] قيل) أي المراد به (مُحَمَّدٌ وَقِيلَ جِبْرِيلُ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الصَّادِقُ) كما رواه ابن ماجة في الاسماء الحسنى (في الحديث المأثور) أي المروي عن أبي هريرة مرفوعا وقد يؤخذ من قوله تعالى وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ (وورد في الحديث) أي الصحيح عن ابن مسعود (أيضا اسمه عليه الصلاة والسلام بالصّادق) أي فيما يقوله (المصدوق) أي فيما يخبره يعني المشهود له بصدق في كلامه سبحانه وتعالى بقوله وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. (ومن أسمائه تعالى) أي في القرآن (الوليّ) أي من قوله تعالى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا كذا ذكره الدلجي وكأنه غفل عن قوله تعالى فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وقوله تعالى وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (والمولى) قال تعالى فَنِعْمَ الْمَوْلى (ومعناهما) أي معنى كل من الولي والمولى (النّاصر) والأظهر المغايرة بينهما لقوله سبحانه وتعالى فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ فالولي هو المتصرف في أمر عباده على وفق مراده وكذلك المولى في وصفه تعالى بالمعنى الأعم من معنى النصير كما لا يخفى على الناقد البصير وهو لا ينافي أنه قد يراد بالولي والمولى الناصر كما بينه المصنف بقوله (وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ(1/515)
[المائدة: 55] ) وقال عليه الصلاة والسلام أنا ولي كل مؤمن رواه البخاري عن أبي هريرة وروى أحمد وأبو داود عن جابر نحوه (وقال الله تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وقال عليه الصلاة والسلام) أي على ما رواه الترمذي وحسنه (من كنت مولاه فعليّ مولاه) أي من أحبني وتولاني فليتوله فإنه مني قال الشافعي ولاء الإسلام كقوله تعالى ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ وقد قال عمر لعلي رضي الله تعالى عنهما أصحبت مولى كل مؤمن أي وليه على لسان نبيه قيل سببه أن أسامة بن زيد قال لعلي لست مولاي إنما مولاي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ.
(وَمِنْ أَسْمَائِهِ تعالى العفوّ) أي كثير العفو (ومعناه الصّفوح) أي كثير الاعراض عن الاعتراض وأصله إمالة صفحة العنق عن الجاني ثم استعمل مجازا في المعاني (وقد وصف الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم بهذا) وفي نسخة صحيحة بهذا نبيه (في القرآن. و) في (التّوراة) أما التوراة فكما سيأتي وأما القرآن فكما قال المصنف (وأمره بالعفو) ولا شك أنه كان ممتثلا لأمره فيتحقق وصفه به (فقال خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف: 199] ) أي هذه الخصلة الحميدة وهي المجاوزة عن مرتكب السيئة إذا كانت بنفسك متعلقة وتمامه وأمر أي الناس بالعرف أي المعروف شرعا وعرفا أو نقلا وعقلا وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي المعاندين من المجادلين (وقال) أي عز وجل (فَاعْفُ عَنْهُمْ) أي تجاوز (وَاصْفَحْ [المائدة: 13] ) أي تغافل (وقال له جبريل وقد سأله) أي النبي (عن قوله) أي عن معنى قوله تعالى (خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف: 199] ) أي الآية (قال أن تعفو عمن ظلمك) أي وتصل من قطعك وتعطي من حرمك (وقال في التّوراة) زيد في نسخة والإنجيل قال الأنطاكي قال شيخنا برهان الدين الحلبي هذا الحديث ذكره البخاري في صحيحه من رواية عبد الله بن عمرو ليس فيه ذكر الإنجيل (في الحديث المشهور) أي الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص فيما سبق (في صفته) أي نعته في التوراة (ليس بفظّ) أي سيئ الخلق (ولا غليظ) أي جافي القلب (ولكن يعفو) أي يمحو في الباطن (ويصفح) أي ويعرض في الظاهر فاشتق له من اسمه العفو لاتصافه بكثرة العفو.
(ومن أسمائه تعالى الهادي وهو) أي الهداية في صفة الحق (بمعنى توفيق الله تعالى لمن أراد من عباده) أن يخلق الاهتداء فيه فيصير مهتديا به فالمراد بالهداية هنا الدلالة الموصلة إلى المطلوب ومنه قوله تَعَالَى إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وقد يستعمل بمعنى البيان ومجرد الدلالة كما في قوله تعالى وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ وقوله سبحانه وتعالى وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ وهذا معنى قوله (وبمعنى الدّلالة) أي على طريق الحق وبيان سبيل الرشد (والدّعاء) أي وبمعنى الدعاء وهو قريب مما قبله (قال الله تعالى وَاللَّهُ يَدْعُوا) أي عامة الخلق بدعوة الحق (إِلى دارِ السَّلامِ) أي دار الله التي فيها رؤيته التي هي أعز المرام أو دار يسلم الله تعالى وملائكته على من فيها بوجه الدوام أو دار السلامة من الآفة والملامة (وَيَهْدِي) بتوفيقه (مَنْ يَشاءُ) بتخصيصه (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس: 25] )(1/516)
أي دين قويم (وأصل الجميع) أي جميع أنواع الهداية مما هو بمعنى التوفيق وهو خلق الاهتداء وما هو بمعنى الدلالة وما هو بمعنى الدعاء (من الميل) أي والإقبال (وقيل من التقديم) يعني فكان من هدى مال إلى ما هدى إليه أو قدم إليه وكلام القولين غير معروف في كتب اللغة مع أنه لا يظهر وجه الدلالة على سبيل الأصالة ثم لا فائدة فيه غير الإطالة (وقيل في تفسير طه إنه) أي معناه بإشارة مبناه (يا طاهر يا هادي يعني) أي يريد به أو بهما (النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقال تعالى له) أي في حقه عليه الصلاة والسلام (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي لتدعو كما قرئ به والمعنى تدل الخلق إلى طريق الحق (وقال فيه وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ) أي بأمره أي بتيسيره زيد في نسخة وسراجا منيرا والحاصل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم موصوف بكونه هاديا إلا أنه مختص بالمعنى الثاني وهو مجرد الدلالة والدعاء (فالله تعالى مختصّ بالمعنى الأوّل) وهو التوفيق لمن يشاء بخلق الاهتداء، (قال الله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) أي لا تقدر أن تخلق فيه قبول الهداية وإنما وظيفتك مجرد الدعوة والدلالة (وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص: 56] ) بتوفيقه للإجابة وقبول الهداية (وبمعنى الدّلالة يطلق على غيره تعالى) أي قد يطلق على غيره سبحانه وتعالى فاستعمال الهداية في حق البارئ بالمعنى الأعم وهو إرادة المعنيين واختصاصه تعالى بالمعنى الأول واختصاص غيره بالمعنى الثاني ولذا زيد في نسخة هنا فهو في حقه صلى الله تعالى عليه وسلم بمعنى الدلالة أي لا غير، (ومن أسمائه تعالى المؤمن المهيمن) بكسر الميم الثانية وقد تفتح (قيل هما بمعنى واحد) وهذا مبني على قول فاسد كما سيجيء معبرا عنه بقيل من أن الصيغة للتصغير وإن الهمزة مبدلة بالهاء فإن التصغير الذي وضع للتحقير غير مناسب لوصف العلي الكبير فالصحيح أن المهيمن مأخوذ من هيمن على كذا صار رقيبا إليه وحافظا عليه نعم قد يقال إن معناهما واحد من آمن غيره من الخوف على أن أصله مأمن قلبت الهمزة الأولى هاء والثانية ياء وقيل هو بمعنى الأمين أو المؤتمن (فَمَعْنَى الْمُؤْمِنِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى الْمُصَدِّقُ وَعْدَهُ عباده) أي وعده عباده كما في نسخة أي المنجز ما وعدهم في الدنيا من نعيم العقبى كما جاء في التنزيل وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ أو بالمعنى الأعم كما في الحديث صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده (والمصدّق) أي بذاته (قوله الحقّ) بنصبه على أنه نعت قوله أي من كلماته الثابتة في آياته قال الله تعالى فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ، (والمصدّق لعباده المؤمنين) كما أشار في التنزيل رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ (ورسله) حيث قال فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ (وقيل الموحّد نفسه) أي بقوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وقوله سبحانه إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فهو مؤمن بتصديقه لنفسه (وقيل المؤمن) بتخفيف الميم بعد الهمزة الساكنة وفي نسخة بتشديدها بعد الهمزة المفتوحة وهو مما لا حاجة إليه أي معطي الأمن والامان (عباده في الدّنيا من ظلمه) أي لتنزهه عن وقوعه(1/517)
وفي نسخة من غضبه وهي في غير محلها لعموم عباده كما يدل عليه عطف خواصهم عليه بقوله (والمؤمنين في الآخرة من عذابه) أي من عذابه المخلد أو من تعذيبه فإن ما يقع لبعض المجرمين فهو من باب تهذيبه أو أراد بالمؤمنين الكاملين، (وقيل المهيمن بمعنى الأمين) مفيعل من الأمانة (مصغّر منه) أي من الأمين بزيادة ميمه الاولى فصار مؤيمن كذا ذكره الدلجي وهو غير متجه في العربية بل الصواب أنه مصغر على ما قيل من المؤمن على أن اصله مؤيمن (فقلبت الهمزة هاء) إذ كثيرا ما يتعاقبان قلبا كما قيل أراق وهراق وايهات وهيهات وإياك وهياك وقد قدمنا ما يتعلق به من التحقيق والله ولي التوفيق (وقد قيل إنّ قولهم) أي قول المؤمنين (في الدّعاء) أي في عقبه (آمين) أي بالمد والقصر (اسم) وفي نسخة أنه أي آمين اسم (من أسماء الله تعالى) والظاهر أنه بكسر همزة وأنه بجملته ساد مسد خبر أن الأول فتأمل وقال الانطاكي إنه بفتح الهمزة وهو للتعليل أي لأنه اسم من اسماء الله تعالى كما روي ذلك عن مجاهد قال الانطاكي فمعناه يا آمين استجب انتهى ولا يخفى أن هذا تركيب في المعنى بين القولين في المبنى قال النووي في التهذيب وهذا لا يصح لأنه ليس في اسماء الله تعالى اسم مبنى ولا غير معرب مع أن اسم الله تعالى لا يثبت إلا قرآنا أو سنة متواترة وقد عدم الطريقان ذكره الحلبي ثم قال وقوله أو سنة متواترة كذلك آحادا وقد ذكر هو عن إمام الحرمين أنه يثبت إطلاقه عليه بالآحاد ذكره في قوله إن الله جميل يحب الجمال انتهى ولا يخفى أن ورود آمين ثبت آحادا بل كاد أن يثبت متواترا باعتبار جمع معنى ما ورد إفرادا إلا أن المراد به اسمه سبحانه في محل الاحتمال والله تعالى اعلم بالحال نعم قد ورد في الحديث آمين خاتم رب العالمين على لسان عباده المؤمنين كما رواه ابن عدي والطبراني في الدعاء عن أبي هريرة لكن المشهور في معناه استجب وهو اسم مبني على الفتح يمد ويقصر والد أكثر وورد في حديث قال بلال لرسول الله لا تسبقني بآمين أي بعد قراءة الفاتحة في الصلاة ولعل الكلام وقع مقلوبا والمعنى قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في التأمين لبلال لا تسبقني بآمين هذا وفي القاموس آمين بالمد والقصر وقد يشدد الممدود ويمال أيضا عن الواحدي في البسيط اسم من اسماء الله تعالى أو معناه اللهم استجب أو كذلك مثله فليكن أو كذلك فافعل انتهى فتأمل (ومعناه معنى المؤمن) ولعله مأخوذ من الأمين مقصورا بمعنى المؤمن كما أن البديع بمعنى المبدع ويكون المد متولدا من اشباع الحركة (وقيل المهيمن بمعنى الشّاهد) فهو مغاير للمؤمن من جهة المعنى على ما قدمناه من تحقيق المبنى إذ معنى الشاهد العالم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة أو الذي يشهد على كل نفس بما كسبت من خير أو شر (والحافظ) أي وبمعنى الحافظ والواو بمعنى أو أي الحافظ لعباده أحوالهم والمحصي عليهم أفعالهم وأقوالهم، (والنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أمين) أي مأمون يعني معصوم ومصون أو صاحب الأمانة وطالب الديانة (ومهيمن) أي بمعنى عالم ومشاهد ورقيب وقريب (ومؤمن) أي مصدق أو معطي الأمن (وقد سمّاه)(1/518)
أي الله (أمينا) أي عند بعض المفسرين (فقال: مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 21] ) وقيل المراد به جبريل الأمين (وكان صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فيما بين أهل الجاهلية (يُعْرَفُ بِالْأَمِينِ وَشُهِرَ بِهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَبَعْدَهَا) أي لكمال أمانته ووضوح ديانته وحفظ الله سبحانه إياه عن خيانته (وسمّاه العبّاس) أي في شعره كما في نسخة (مهيمنا في قوله) أي من أبيات أنشأها أو أنشدها في مدحه عليه السلام (ثم احتوى بيتك المهيمن من خندف علياء تحتها النّطق) وقد مر بيانه مبنى ومعنى فالمهيمن مرفوع على أنه فاعل احتوى وهو المناسب للمرام في هذا المقام (وقيل المراد يا أيّها المهيمن) فيكون المراد به الله تعالى، (قاله القتيبيّ) بالتصغير وفي نسخة بدون التحتية وفي أخرى بالعين بدل القاف والظاهر الأول فإنه الإمام أبو محمد عبد الله ابن مسلم بن قتيبة وقد صرح به التلمساني بأنه منسوب إلى قتيبة بالتصغير لكن ذكر الأنطاكي عن الأصمعي أن الأقتاب هي الأمعاء واحدتها قتبة وتصغيرها قتيبة وبها سمي الرجل والنسبة إليها قتبي كما تقول جهني في جهينة حكاه عن الجوهري وغيره ثم هو عن الدينوري بكسر الدال وفتح النون وقيل المروزي النحوي صاحب كتاب المعارف وأدب الكاتب كان فاضلا سكن بغداد وحدث بها عن إسحاق بن راهويه وأبي حاتم السجستاني وتلك الطبقة وله تصانيف كثيرة مفيدة منها غرائب القرآن وغريب الحديث ومشكل القرآن ومشكل الحديث ومنها التاريخ وطبقات الشعراء وغير ذلك توفي سنة ست وسبعين ومائتين على ما صححه ابن خلكان. (والإمام أبو القاسم القشيريّ) هو عبد الكريم بن هوزان النيسابوري صاحب الرسالة وولي الله توفي سنة خمس وستين وأربعمائة (وقال تعالى) أي في حق نبيه (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ أي يصدق بوجوده لما شاهد عنده من كرمه وجوده (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 61] ) أي يصدقهم بعلمهم بخلوصهم واللام مزيدة للفرق بين إيمان الشهود والتصديق وإيمان الأمان بوجود التحقيق فقوله (أي يصدّق) تفسير لمطلق الإيمان وقيل عدي بالباء واللام لأنه قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر به وقصد السماع من المؤمنين وأن يسلم لهم ما يقولون ويصدقهم لكونهم صادقين عنده ونحوه قوله تعالى وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ وقالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (وقال صلى الله تعالى عليه وسلم) أي كما في حديث مسلم على ما مر مبنى ومعنى (أنا آمنة) بفتحتين (لأصحابي) أي ذو من أمن هو من باب رجل عدل (فهذا بمعنى المؤمن) أي معطي الأمن والأمان لأهل الإيمان إذ كانت الصحابة في ظل حرم كنفه آمنين وأما قول الدلجي جمع أمين كبررة جمع بر فهو غير موافق أصلا لأنه غير مطابق وزنا وحملا. (ومن أسمائه تعالى القدّوس) بضم القاف ويفتح صيغة مبالغة من القدس وهو الطهارة والنزاهة ولذا قال (ومعناه المنزّه عن النّقائص) أي أزلا، (المطهّر عن سمات الحدث) بكسر السين جمع سمة وهي العلامة أي من صفات الحدوث أبدا وقد يقال في معناه المبرأ من أن يدركه حس أو يتخيله وهم أو يحيط به عقل أو يتصوره فهم لما قيل ما خطر ببالك فالله وراء ذلك (وسمّي بيت المقدس) أي على ما ورد وهو بفتح الدال المشددة وضم الميم وقيل(1/519)
بفتح الميم وكسر الدال مخففا والظاهر أن بيت مرفوع على نيابة الفاعل والمفعول الثاني مقدر وترك لظهوره وثقل تكرره أي سمي بيت المقدس ببيت المقدس وجزم الأنطاكي بأن بيت بالنصب على أنه المفعول الثاني لسمي والمفعول الأول القائم مقام الفاعل مستكن فيه أي وسمي بيت المقدس بيت المقدس انتهى ولا يخفى أن تقديرنا أولى لأن المفعول الثاني بالحذف أحرى لكونه فضلة والمفعول الأول بالثبات أنسب لكونه كالعمدة (لأنّه يتطهّر) بصيغة المجهول أي يتنظف (فيه من الذّنوب) بناء على أنه يعبد فيه علام الغيوب (ومنه الوادي المقدّس) أي كما جاء في القرآن وهو بمعنى المطهر أو المبارك وهو الأظهر (وروح القدس) أي ومنه روح القدس بضم الدال وسكونها في قوله تعالى وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ
بضم الدال وسكونها أي قويناه بجبريل (ووقع في كتب الأنبياء) أي الكرام والمعنى في جميعها أو بعضها (في أسمائه عليه الصلاة والسلام) أي من بيان نعوته وصفاته (المقدّس) أي وقع المقدس في جملة اسمائه وسماته (أي المطهّر من الذّنوب) يعني والمبرأ من العيوب (كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] ) أي على فرض وقوع ذلك فتدبر (أَوِ الَّذِي يُتَطَهَّرُ بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَيُتَنَزَّهُ باتّباعه عنها) أي عن العيوب (كما قال تعالى وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهرهم مما لا يليق بهم صدوره عنهم (وقال يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 129] ) أي من ظلمات أنواع الكفر إلى نور وحدة الإيمان والشكر أو من ظلمات الشبهة في الدين بما يهديهم الله به ويضيء لهم نور اليقين ولا يخفى بعد هذا المعنى من هذا المبنى فإن صيغة المفعول بمعنى الآلة للدلالة غير معقول ولا منقول وعلى تقدير أنه منقول فيلزم منه أن يكون هذا النعت لاتباعه أكثر قبول (أو يكون) أي النبي عليه الصلاة والسلام (مقدّسا بمعنى مطهّرا من الأخلاق الذّميمة) بالذال المعجمة أي الردية (والأوصاف الدّنيئة) بتشديد الياء التحتية وأصله الهمز من الدناءة بمعنى الرداءة كما في نسخة وهذا المعنى يقارب ما سبق من قوله المطهر من الذنوب لأن المراد به الطهارة من ذنوب الظواهر وغيوب السرائر. (ومن أسمائه تعالى العزيز) من عز يعز بالكسر (ومعناه الممتنع) أي بذاته (الغالب) باعتبار صفاته (أو الذي لا نظير له) من قوله فلان عزيز الوجود في نظر أرباب الشهود وهو معنى البديع المنيع (أو المعزّ لغيره) فهو فعيل بمعنى كبديع بمعنى مبدع على قول وقد يقال معناه القوي من عز يعز بالفتح ومنه قوله تعالى فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ أي قوينا (وقال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ أي القوة والغلبة والمنعة (وَلِرَسُولِهِ [المنافقون: 8] أي الامتناع) يعني بظهور السلطان (وجلالة القدر) أي بارتفاع الشأن له سبحانه وتعالى ولمن أعزه كرسوله فعزته بربه في الآية وكذا قوله تعالى وَلِلْمُؤْمِنِينَ لأن عزتهم بربهم أولا وبنبيهم آخرا هذا وذكر الحلبي أنه قال المعلق أراد به الشيخ تاج الدين عبد الباقي اليمني في الاكتفاء في شرح الشفاء منه ولقائل أن يقول يجوز أن يكون هذا الوصف أيضا للمؤمنين لشمول العطف إياهم فلا اختصاص للنبي والغرض اختصاصه وعجيب من القاضي كيف خفي عليه مثل هذا الشأن(1/520)
انتهى ولا يخفى أن قوله والغرض اختصاصه يحتاج إلى البيان فإنه غير ظاهر في معرض البرهان فإن أكثر الأوصاف المتقدمة إنما هي واقعة بالصفة المجتمعة ومنها المؤمن حيث أطلق عليه سبحانه وعلى رسوله وعلى كل فرد من أفراد اتباعه على أنه لا يلزم من وصف الشيء بالشيء اختصاصه به ولا نفيه عن غيره نعم كان الأحسن أن يستدل بقوله تعالى لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ الفعل على أن ما بعده وهو قوله عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ كلام منقطع عما قبله وصفة أخرى له (وقد وصف الله تعالى نفسه بالبشارة) يعني بطريق الإشارة لا على سبيل العبارة حيث أثبت له هذا الفعل وإن لم يذكر بطريق الوصف (والنّذارة) بكسر النون ولعل الانذار يؤخذ من قوله تعالى تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً على أن ضمير يكون راجع إلى الموصول على تجويز عوده إلى الفرقان وإلى عبده المعني به رسوله (فقال) أي عز وعلا (يُبَشِّرُهُمْ) بالتشديد والتخفيف (رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ) للعامة (وَرِضْوانٍ [التوبة: 21] ) للخاصة (وقال تعالى أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) أي في موضع (و) في محل آخر يُبَشِّرُكَ (بِكَلِمَةٍ مِنَ [آل عمران: 39] ) أي اسمه المسيح عيسى (وسمّاه الله تعالى) أي محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم (مُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي في قوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وزيد في نسخة وبشيرا أي أي وسماه بشيرا في قوله سبحانه وتعالى في موضع وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وهو فعيل بمعنى مفعل كالنذير (أي مبشّرا لأهل طاعته) يعنى بدار الثواب (ونذيرا) أي ومنذرا ومخوفا (لأهل معصيته) يعني دار العقاب. (وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: طه، ويس) ولعل في الطاء إيماء إلى أنه طاهر وفي الهاء إلى الهادي وفي الياء إلى يَداهُ مَبْسُوطَتانِ وفي السين إلى أنه سيد أو سميع، (وقد ذكر بعضهم أيضا) أي من المفسرين (أنّهما من أسماء محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي نسخة وشرف وكرم فهو طاهر وهاد كما تقدم وقد سبق أن يس معناه يا سيد كما يدل عليه قوله سبحانه إِلْ ياسِينَ على ما ذكره بعض المفسرين وقد قال بعض العلماء المعتبرين أن طه أيضا منادي بحذف حرف النداء وأن المعنى يا مشيها بالقمر ليلة البدر فإن الطاء والهاء أربعة عشر على حساب أبجد الجمل فتأمل وأغرب الدلجي في قوله إن هذا قيل بلا بينة ولا دليل يعتمد والله تعالى أعلم بمراده بهما انتهى ولا يخفى أن المراد خفي في المقطعات وسائر المتشابهات وإنما ذكر ما ذكر بناء على الاحتمالات الناشئة من العبارات أو المنبئة عن الإشارات.
فصل [قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى وها أنا أذكر نكتة]
(قال القاضي أبو الفضل) أي المصنف (وفّقه الله تعالى) أي لما يحبه ويرضاه (وههنا) أي في هذا المقام (أذكر نكتة) أي جملة مفيدة (أذيّل بها هذا الفصل) بتشديد التحتية المكسورة أي اجعل لها ذيلا لتمام المرام في مقام الفضل ووقع في أصل الدلجي وغيره وها(1/521)
أنا على أن ها حرف تنبيه بعده مبتدأ أو خبر نبه به عن حاله في ذكره بعد فكره وكذا ذكره الحجازي وقال ويروى أذكر (وأختم بها هذا القسم) أي من بين أقسام بيان الفصل بالفصل بين الفرع والأصل (وأزيح الإشكال بها) بضم الهمزة وكسر الزاء أي وازيل بها الإغلاق الواقع (فيما تقدّم) أي من متشابه الحديث وغيره (عن كلّ ضعيف الوهم) بسكون الهاء ويحرك (سقيم الفهم) أي حذارا من وقوعه فيما يرديه (تخلّطه) أي تلك النكتة تنجيه (من مهاوي التّشبيه) بفتح الميم وكسر الواو جمع مهواة وهي الحفرة العميقة المهلكة أي مهالكه في مباديه أو تناهيه ويروى وساوس جمع وسوسة وهي حديث النفس والشيطان (وتزحزحه عن شبه التّمويه) بضم الشين وفتح الموحدة أي وتبعده عن الشبهات المموهة الخالية عن التنزيه لأن الطريق القويم والدين المستقيم هو اعتقاد التنزيه المتوسطة بين التعطيل والتشبيه (وهو) قال الدلجي أي ضعيف الوهم وهو وهم والصواب أي ذلك الاشكال (أن يعتقد) أي ضعيف الخيال (أنّ الله تعالى جلّ اسمه) أي وصفه ورسمه (في عظمته) أي في ذاته (وكبريائه) أي في صفاته (وملكوته) أي في أرضه وسمواته (وحسنى أسمائه) أي وأسمائه الحسنى (وعلا صفاته) بضم العين وفتح اللام مقصورا ومعناه الرفيعة أي وصفاته العلى وضبط في نسخة صحيحة بفتح العين وكسر اللام وتشديد الياء مجرورا ومعناه الرفيع أي وصفاته العلية ونعوته السنية (لا يشبه) أي الله سبحانه (شيئا من مخلوقاته ولا يشبّه به) بصيغة المجهول أي ولا يمثل به شيء مكنوناته لكمال ذاته وجلال صفاته (وأنّ ما جاء) أي من الاسم والصفة (ممّا أطلقه الشّرع) أي في الكتاب والسنة (على الخالق) أي تارة (وعلى المخلوق) أي أخرى لما بينهما من الاشتقاق اللغوي (فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقيّ) بل إطلاقه على غيره سبحانه وتعالى إنما هو بالطريق المجازي؛ (إذ صفات القديم) أي الأزلي الأبدي لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه (بخلاف صفات المخلوق) أي المشاهد حدوثه بالدليل العقلي والنقلي (فكما أنّ ذاته تعالى لا تشبه الذّوات) أي وإن وقع الاشتراك في إطلاق الذات (كذلك صفاته) كالعليم والحليم والصبور والشكور والسميع والبصير والحي والمريد والمتكلم والقادر (لا تشبه صفات المخلوقين) أي من جميع الجهات (إذ صفاتهم) أي لحدوثها (لا تنفكّ) أي لا تزول (عن الأعراض) بالعين المهملة (والأغراض) أي عن عروضهما (وهو تعالى منزه عن ذلك) إذ لا عرض يعرض هنالك لأنه لا يعتري ذاته عرض ولا تعلل أفعاله بغرض وأما ما يشبه في فعله من العلة فهو محمول على سبب الحكمة (بل لم يزل بصفاته وأسمائه) أي موجودا ولا يزال بذاته ونعوته في نظر أرباب التوحيد وأصحاب التفريد مشهودا وأما صفات الأفعال كالخالق والرازق والمحيي والمميت فهي قديمة أيضا على ما اختاره المحققون من الماتريدي ومتابعيه خلافا للاشعري ومشايعيه وليس هذا محل تبيين مبانيها وتعيين معانيها وأما قول الدلجي من أنه سبحانه وتعالى موصوف بسمع وبصر يزيد الانكشاف بهما على الانكشاف بالعلم فهو خطأ نشأ من القياس حيث يوجب التشبيه(1/522)
بأوصاف الخلق من قبول نعت الزيادة والنقصان باعتبار بعض الحواس مع أنه سبحانه وتعالى يجب التنزه له عن ذلك إذ ليس كمثله شيء هنالك لا ذاتا ولا صفة ولا فعلا أصلا (وكفى في هذا) أي حسبك في كون ذاته وصفاته سبحانه وتعالى لا تشبه ذات مخلوقاته وصفات مكوناته في جميع حالاتهم وعلو مراتبهم ودرجاتهم (قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ) قيل الكاف زائدة في هذا المقام إذ الكلام يتم بدونه في حصول المرام وقيل بزيادة المثل مبالغة في نفي المثل كما في قولهم مثلك لا يبخل فإنه إذا نفي البخل عن مشابهه ومناسبه كان نفيه عنه أولى في مراتبه وقيل المعنى ليس كذاته وصفته شيء وقال التلمساني والمحققون على أن لا صلة هنا لأن المراد منه نفي المماثلة من وجه وهذا لأنه لم يقل أحد بأن لله مثلا من كل وجه وإنما قالوا بالمماثلة من وجه فيحتاج إلى نفي هذه المماثلة ومن شأنهم أنهم يقولون عند ثبوت المماثلة من كل وجه هذه مثله وعند ثبوتها من وجهه هذا كمثله انتهى وهنا وجه أدق وهو بالبيان أحق وهو أن نفي مثل المثل يوجب نفي المثل (ولله درّ من قال) الدر في الأصل اللبن حال كثرته وقصد به هنا عمله أو خيره (من العلماء والعارفين) أي الجامعين في العلم والمعرفة الباهرة بين الأنوار الظاهرة والأسرار الباطنة (المحقّقين) أي في تبيان المبنى والمدققين في برهان المعنى (التّوحيد إثبات ذات غير مشبهة) بكسر الباء مخففة أو بفتحها مثقلة أي غير مشبهة (للذّوات) أي لسائر ذوات الموجودات وفيه رد على الوجودية والاتحادية والحلولية (ولا معطّلة عن الصّفات) أي الصفات الكاملات القديمات إذ التعطيل نفيها وإليه ذهب المعتزلة هربا من تعدد القدماء مبالغة في التوحيد قلنا لا محذور في تعدد الصفات وإنما المحظور في تعدد الذوات؛ (وزاد هذه النّكتة) أي معناها (الواسطي بيانا) أي وضوحا وبرهانا وظهورا وتبيانا (وهي مقصودنا) أي ليعرف معبودنا ومشهودنا (فقال ليس كذاته ذات) أي لاتصافه بالقدم وحدوث غيره بالعدم (ولا كاسمه) أي الخاص به (اسم) أي كاسم الله والرحمن فإنهما لا يطلقان على غيره (ولا كفعله فعل) أي من خلق ورزق وإحياء وافناء وإيجاد وامداد (ولا كصفته صفة) أي لقدمها وحدوث غيرها ولكمالها ونقصان ما عداها (إلّا من جهة موافقة اللّفظ اللّفظ) أي مطابقة لفظة وصف الخلق لنعت الحق كالعليم والحليم وغيرهما مما سبق (وجلّت) بتشديد اللام أي عظمت (الذَّاتُ الْقَدِيمَةُ أَنْ تَكُونَ لَهَا صِفَةٌ حَدِيثَةٌ) أي حادثة وجدت او جديدة بعد عدم لأنها إن كانت صفة كمال صفة كما فخلوه عنها قبل حدوثها وجدت أو جديدة بعد عدم لأنها إن كانت صفة كمال فخلوه عنها قبل حدوثها مع جواز اتصافه بها نقص اتفاقا وإلا استحال اتصافه بها إجماعا وأيضا لا يجوز أن تكون ذات القديم محلا للحوادث كما في علم الكلام تمام المرام (كَمَا اسْتَحَالَ أَنْ تَكُونَ لِلذَّاتِ الْمُحْدَثَةِ صِفَةٌ قديمة) لامتناع وجود صفة قبل موصوفها وهو من العلوم الضرورية والأمور البديهية (وهذا) أي الكلام من زبدة المشايخ الكرام (كلّه مذهب أهل الحقّ والسّنّة والجماعة) أي من العلماء والأئمة (رضي الله عنهم) أي أجمعين. (وقد(1/523)
فسّر الإمام أبو القاسم القشيريّ قوله) أي قول الواسطي (هذا) أي المذكور سابقا (ليزيده بيانا) أي وبرهانا لاحقا (فقال هذه الحكاية) أي ما زاده الواسطي آنفا مما تقدم عنه الرواية (تشتمل على جوامع مسائل التّوحيد) أي مما عليها مدار أرباب الدراية وهي اعتقاد أن لا شريك له في الآلهية والصفات الذاتية والفعلية واستحقاق العبودية بمقتضى النعوت الربوبية (وكيف) استفهام تعجب أو إنكار أي ولا (تشبه ذاته) أي الغنية بصفاته (ذات المحدثات) أي المفتقرة إلى موجدها في جميع الحالات (وهي) أي والحال أن ذاته تعالى (بوجودها) أي بوجوب وجودها وثبوت شهودها واتصافها بكرمها وجودها (مستغنية) أي عن جميع الأشياء كما قال وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ (وكيف يشبه فعله فعل الخلق) يجوز كونه فاعلا أو مفعولا وفي نسخة من فعل الخلق (وهو) أي والحال أن فعله لا يعلل بغرض ولا عرض ولا عوض فصدوره عنه (لغير جلب أنس) لاستغنائه عن جليس وأنيس (أو دفع نقص) أي ولا دفع نقص (حصل) أي تداركا لما به يتكمل (ولا بخواطر) باللام ويروى بالباء فاللام تعليلية والباء سببية أي ولا يكون بحصول خواطر باعثة له عليه (وأغراض) بالغين المعجمة (وجد) أي شيء منها لامتناع أن يكون فعله معللا بغرض وتصحف على الدلجي بقوله وجد بكسر الجيم وتشديد الدال فقال ولا يكون فعله تعالى باجتهاد على أنه مستدرك بقول المصنف (ولا بمباشرة ومعالجة ظهر) أي لا بانفراده ولا بالواسطة بل كما قال تعالى إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، (وَفِعْلُ الْخَلْقِ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ) أي من الغرض والعرض والمباشرة والمعالجة، (وقال آخر) غير معرف كما ذكره الحلبي (من مشايخنا) أي مخاطبا لمريديه (ما توهّمتموه بأوهامكم أو أدركتموه بعقولكم) أي ولو في أكمل أحوالكم وأفضل مرامكم (فهو محدث) بفتح الدال أي حادث (مثلكم) واختصره بعض العارفين فقال كل ما خطر ببالك فالله وراء ذلك، (وقال الإمام أبو المعالي) عبد الملك أي ابن أبي محمد (الجوينيّ) بالتصغير وهو المشهور بإمام الحرمين ولد سنة تسع عشرة وأربعمائة وحج وجاور بمكة والمدينة أربع سنين ثم عاد إلى وطنه نيسابور وهو من جملة مشايخ الغزالي (مَنِ اطْمَأَنَّ إِلَى مَوْجُودٍ انْتَهَى إِلَيْهِ فِكْرُهُ) أي وتقرر فيه ذهنه وتصور أنه بعينه لا يتصور غيره (فهو مشبّه) بكسر الموحدة والمشددة أي فهو من أهل التشبيه لله بذلك الموجود مما سواه (ومن اطمأنّ) أي سكن (إلى النّفي المحض) أي ذاتا وصفة (فهو معطّل) أي من أهل تعطيل الكون من أن يكون له مكون كالدهرية أو المعتزلة (وإن قطع بموجود) أي من غير توهم تشبيه وتصور تعطيل (اعترف بالعجز عن درك حقيقته) بفتح الراء وسكونها أي إدراك حقيقته من جهة ذاته وصفاته (فهو موحّد) كما روي عن الصديق الأكبر رضي الله عنه. العجز عن درك الادراك أدراك ويؤيده حديث سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ويقويه قوله تعالى وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وهذا أحد محامل ما ورد عليكم بدين العجائز (وما أحسن قول ذي النّون المصريّ) وهو الزاهد الواعظ العارف بالله كان أبوه نوبيا وصار(1/524)
عالما فصيحا حكيما توفي سنة خمس واربعين ومائتين قال الدارقطني روى عن مالك بن أنس أحاديث في إسنادها نظر (حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ في الأشياء) أي في إيجادها (بلا علاج) أي بلا معالجة ومزاولة ومباشرة واستعمال آلة (وصنعه) أي وتعلم أن صنعه (لها بلا مزاج) أي بلا خلط شيء بشيء أو بأشياء لتركيبه في الإبداء بل خلق الأشياء إما إبداعا بدون مادة كالسموات أو تكوينا منها كالإنسان من نطفة بحسب ما تعلق القدرة بمقدورها على وفق الإرادة (وعلّة كلّ شيء صنعه) أي مجرد صنعته وظهور قدرته بحسب إرادته (ولا علّة لصنعه) لأن أفعاله لا تعلل (وما تصوّر) بصيغة المفعول أو الفاعل أي وما خطر (في وهمك فالله بخلافه) أي بخلاف ذلك قال المصنف؛ (وهذا كلام عجيب نفيس) أي مرام غريب (محقّق) أي ثابت في مقام العلم مدقق. (والفضل الآخر) وفي نسخة الآخر بكسر الخاء وهو الفقرة الثالثة يعني قوله وما تصور في وهمك فالله بخلافه هو (تفسير) أي توضيح وتعبير (لقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] والثّاني) أي من الفصول وهو قوله وعلى كل شيء صنعه ولا علة لصنعه (تفسير لقوله: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: 23] ) أي كما أشار إليه الحديث القدسي والكلام الأنسي خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي وخلقت هؤلاء للنار ولا أبالي ومجمله في التفسير قوله تعالى فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ وغايته أن فعله وقع أولا فضلا وثانيا عدلا (والثّالث) أي من الفصول وهو قوله التوحيد الخ (تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] ) أي ليس هناك إلا ظهور أثر القدرة على وفق الإرادة من غير تصور العلة (ثبّتنا الله وإيّاك على التّوحيد) أي على العلم بالوحدانية له سبحانه من جهة الذات (والإثبات) أي من جهة الصفات (والتّنزيه) أي واعتقاد أن ذاته ليست كسائر الذوات وصفاته ليست كصفات المحدثات، (وجنّبنا) أي بعدنا (طرفي الضّلالة والغواية من التّعطيل والتّشبيه) أي من جهة ذاته وصفته (بمنّه ورحمته) إذا لا يجب عليه شيء لبريته.(1/525)
الْبَابُ الرَّابِعُ [فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَشَرَّفَهُ بِهِ مِنَ الْخَصَائِصِ والكرامات]
أي من القسم الأول (فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ المعجزات) أي الأمور الخارقة للعادة الشاهدة بصدق دعوى الرسالة (وشرّفه به من الخصائص) أي الخصوصيات (والكرامات) حتى لعلماء أمته وأولياء ملته قال الحلبي نقل بعض مشايخي فيما قرأته عليه بالقاهرة عن الزاهد مختار بن محمود الحنفي شارح القدوري ومصنف القنية في رسالته الناصرية أنه قيل ظهر على يد نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم الف معجزة وقيل ثلاثة آلاف انتهى ولعله أراد غير المعجزات التي في القرآن كما سيأتي في كلام المصنف من البيان (قال القاضي أبو الفضل) أي المؤلف رحمه الله تعالى (حسب المتأمّل) بسكون السين أي كافيه (أن يحقّق أنّ كتابنا هذا) أي المسمى بالشفاء (لَمْ نَجْمَعْهُ لِمُنْكِرِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي ورسالته (ولا لطاعن في معجزاته فنحتاج) هو بالنصب بتقدير أن أي حتى نحتاج نحن معه في بحث الدين (إلى نصب البراهين) أي الأدلة النقلية والعقلية (عليها) أي على اثبات معجزاته (وتحصين حوزتها) بمهملة مفتوحة فواو ساكنة ثم زاء مفتوحة وأصلها بيضة الملك ودائرتها بأجمعها من حواليها وأطرافها وناحيتها أي وحفظ افرادها مجموعة محصنة (حتّى لا يتوصّل المطاعن إليها) أي إلى مقدماتها بالتردد في إثباتها (وتذكر) بالنصب عطفا على فنحتاج أي وحتى نظهر (شروط المعجز) وهو النبي المدعي (والتّحدّي) بالنصب أي ونبين التحدي وهو بكسر الدال المشددة طلب المعارضة وهو شرط كونه معجزة (وحده) بالنصب أيضا وهو بفتح الحاء وتشديد الدال أي وتعريفه بأنه طلب المعارضة (وفساد) أي ونذكر فساد (قول من أبطل نسخ الشّرائع) كاليهود وغيرهم (وردّه) أي ونذكر رد قول مبطله والحاصل أنا لم نجمعه لشيء من ذلك فلم نحتج إلى ذكر ما يدفع شيئا مما هنالك.
(بل ألّفناه) بتشديد اللام أي جمعنا كتابنا هذا (لأهل ملّته) أي لأهل إجابة دينه وشريعته من أمته (المليّن) بتشديد الموحدة المكسورة أي المجيبين (لدعوته المصدّقين لنبوّته ليكون) أي ما في تأليفنا هذا (تأكيدا في محبّتهم له ومنماة) بفتح الميم مفعلة من النمو أي ومزيدا (لأعمالهم) أي وفق متابعتهم له (ولِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الفتح: 5] ) أي بضم إيقانهم إلى مجرد إيمانهم (ونيّتنا) أي قصدنا وغرضنا (أن نثبت) بالتخفيف والتشديد أي نذكر (في هذا الباب أمّهات معجزاته) أي معظماتها وأصولها (ومشاهير آياته) أي من فصولها (لتدلّ) بالتاء الفوقية أي تلك المعجزات الواضحات والكرامات البينات (على عظيم قدره) وفي نسخة(1/526)
عظم قدره بكسر العين وفتح الظاء أي على عظمة مقدار قربه (عند ربّه) أي وفق كمال حبه وفي نسخة لندل بالنون أي بسبب تأليفنا وقع في أصل الدلجي بصيغة التذكير فقال أي ما نواه من إثباتها (وأتينا) بفتح الهمز أي وجئنا (منها) أي بعد أن نوينا إثباتها (بالمحقّق) بفتح القاف أي بالثابت وقوعه في القرآن القديم (والصّحيح الإسناد) أي الواقع في الحديث الكريم كحنين الجذع وتسبيح الحصى وتكثير الطعام والشراب، (وأكثره) أي أغلب ما ذكر في هذا الباب (ممّا بلغ القطع) أي العلم القطعي أو الأمر اليقيني (أو كاد) أي قارب أن يبلغه للتواتر المعنوي دون اللفظي وحذف خبر كاد مراعاة لسجع ما سبق من الإسناد أو للاكتفاء للعلم بالمراد (وأضفنا إليها) أي إلى المعجزات الثابتة بالكتاب والسنة (بَعْضَ مَا وَقَعَ فِي مَشَاهِيرِ كُتُبِ الْأَئِمَّةِ) من نحو صحاح الستة؛ (وإذا تأمّل المتأمّل المنصف) أي الخارج عن وصف التعسف يقال انصف إذا أعطى الحق من نفسه (ما قدّمناه من جميل أثره) أي مآثره الجميلة ومفاخره الجزيلة (وحميد سيره) أي شمائله الحميدة وفضائله السعيدة (وبراعة علمه) أي وتفوقه على جميع العلماء (ورجاحة عقله وحلمه) أي رزانتهما وزيادتهما على سائر العقلاء والحلماء (وجملة كماله) أي ومجمل كمالاته العلية (وجميع خصاله) أي اعماله وأحواله السنية (وشاهد حاله) من ظهور شمائله البهية (وصواب مقاله) أي من حكمه الجلية (لم يمتر) جواب إذا أي لم يشك (في صحّة نبوّته وصدق دعوته) أي في نسبة رسالته بتبليغ دعوة الحق إلى عامة الخلق (وقد كفى هذا) أي ما ذكرنا (غير واحد) أي ممن تأمل في حال كونه داخلا (في إسلامه) أي من جهة انقياده (والإيمان به) أي من حيث اعتقاده (فروينا) بصيغة المجهول وقد تشدد واوه وروي بصيغة الفاعل أيضا والمعنى فوصل إليها رواية (عن التّرمذيّ) وهو صاح الجامع (وابن قانع) وهو الحافظ عبد الباقي بن قانع وهو بالقاف والألف والنون والعين المهملة وقد تصحف بابن نافع بالنون أولا والفاء بعد الألف وقد سبق ترجمتهما (وغيرهما) أي من المخرجين (بأسانيدهم أنّ عبد الله بن سلام) بتخفيف اللام وهو من الصحابة الكرام (قَالَ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم المدينة) أي الأمينة السكينة (جئته) جواب لما أي أتيته (لأنظر إليه) أي إلى وجه أمره وظهور شأنه واتأمل في تحقيق بيانه وتدقيق برهانه (فلمّا استبنت وجهه) أي رأيت ظاهر وجهه الدال على صدق سره وباطنه وفي رواية فلما تبينت وجهه أي أبصرت وجهه ظاهرا (عرفت) أي ظهر لي من أمارات صدقه اللائحة على صفحة وجهه لأن الظاهر عنوان الباطن (أنّ وجهه ليس بوجه كذاب) وتركيبه بالإضافة ويجوز بالوصفية للمبالغة. (حدّثنا به) أي بالحديث الآتي بعد إتمام سنده والمراد بحديث عبد الله بن سلام هذا بعينه (القاضي الشّهيد أبو عليّ رحمه الله) وهو الحافظ ابن سكرة (قال حدّثنا أبو الحسين) بالتصغير هو الصواب على تقدم قي صدر الكتاب (الصّيرفيّ وأبو الفضل بن خيرون) بفتح الخاء المعجمة وسكون التحتية وضم راء وسكون واو ونون منصرف ويمنع (عن أبي يعلى البغداديّ) بالدال المهملة أولا والمعجمة(1/527)
ثانيا وهو أفصح من عكسه وكذا إهمالهما واعجامهما وهو معروف بابن زوج الحرة (عن أبي عليّ السّنجيّ) بكسر المهملة فنون ساكنة فجيم فياء نسبة (عن ابن محبوب) وهو المحبوبي (عن التّرمذيّ) صاحب الجامع، (حدّثنا محمّد بن بشّار) بفتح الموحدة وتشديد المعجمة (حدّثنا عبد الوهّاب الثّقفيّ) أي الحافظ أحد الاشراف عن أيوب ويونس وحميد وعنه أحمد وابن إسحاق وابن عرفة وثقه ابن معين وقال اختلط بآخره أخرج له الأئمة الستة (ومحمّد بن جعفر) وهو غندر وقد سبق (وابن أبي عديّ) بصري سلمي يروي عن حميد وطبقته وعنه جماعة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة (ويحيى بن سعيد) هذا هو القطان البصري أحد الاعلام عن هشام وحميد والأعمش وعنه أحمد وابن معين وابن المديني قال أحمد ما رأت عيناي مثله وقال بندار إمام أهل زمانه يحيى القطان واختلفت إليه عشرين سنة فما أظن أنه عصى الله قط (عن عوف بن أبي جميلة) بفتح الجيم وكسر الميم وهو عوف (الأعرابيّ) لدخوله درب الأعراب قاله ابن دقيق العيد أخرج له الأئمة الستة (عن زرارة) بضم الزاي في أوله (ابن أوفى) وفي نسخة ابن أبي أوفى قال الحلبي والصواب الأول وهو قاضي البصرة ويروي عن عمران بن حصين والمغيرة بن شعبة وعنه قتادة وغيره عالم ثقة كبير القدر أم في داره فقرأ فإذا نقر في الناقور فشهق فمات قال الحلبي وقد ذكر خبر موته كذلك الترمذي في جامعه في باب ما جاء في وصف صلاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالليل بسنده أخرج له الأئمة الستة (عن عبد الله بن سلام الحديث) أي على ما تقدم آنفا قال الحلبي وحديثه المذكور هنا على ما أخرجه القاضي عياض من جامع الترمذي أخرجه في الزهد وقال صحيح وهو في سنن ابن ماجة أيضا في الصلاة عن محمد بن بشار به أي بسنده وفي الأطعمة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة عن أبي عوف نحوه وكما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في أول أمره كلما نظر إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وتأمل في ذاته الكريمة كان يقول خلق هذا لأمر عظيم فلما دعاه إلى الإسلام قال هذا الذي كنت أرجو منك في سابق الأيام (وعن أبي رمثة) بكسر الراء وميم ساكنة ثم مثلثة (التّميميّ) بميمين وفي نسخة التيمي ويقالان في حقه على ما ذكره الحلبي (أتيت) وفي نسخة قال أتيت (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي جئته (ومعي ابن لي) لا يعرف اسمه (فأريته) بصيغة المجهول أي فأرانيه بعض من يعرفه من أصحابه وغيرهم (فلمّا رأيته) وظهر لي ما عليه من لوامح الصدق ولوائح الحق (قلت هذا نبيّ الله) رواه ابن سعيد؛ (وروى مسلم وغيره أنّ ضمادا) بكسر الضاد المعجمة وهو ابن ثعلبة من ازد شنوءة وكان صديقا له صلى الله تعالى عليه وسلم قبل بعثته بالنبوة (لمّا وفد عليه) أي جاء إليه بمكة وقد سمع بعض قريش يقول محمد مجنون فقال يا محمد إني راق هل بك شيء أرقيك (فقال له النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) نفيا لما نسب إليه بإثبات كمال العقل مما يظهر من دلالة كلامه عليه (أنّ الحمد لله) بكسر الهمزة وتشديد النون ونصب الحمد وفي نسخة واقتصر عليها الشمني(1/528)
بفتح الهمزة وكسر النون المخففة ورفع الحمد ووجهه غير ظاهر وإن اختاره كثير من الشراح واقتصر عليه بعض المحشيين نعم لفظ الحديث على ما في الحصن الحصين وإن تولى عقدا فخطبته أن الحمد لله فضبط هناك بالوجهين وأما ههنا فلا يصح كون أن المصدرية بعد القول لاقتضائه الجملة ولا التفسيرية لوجود القول الصريح وهي لا تكون إلا مقرونة بما فيه معنى القول كالوحي والنداء وأمثال ذلك (نحمده) جمع بين الجملة الاسمية والفعلية تأكيدا للقضية فإن الأولى تفيد الثبات والدوام والثانية تدل على تجدد الإنعام أو الأولى خبرية والثانية انشائية أو الأولى نظرا إلى أفراده ووحدته والثانية اشتراكا لغيره من أمته وأهل ملته وأما كون النون للعظمة على ما ذكره الدلجي فلا يلائم مقام العبودية (ونستعينه) أي في الحمد وغيره (من يهده الله) وفي نسخة صحيحة مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ (فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يضلل فلا هادي له) بحذف المفعول في جميع الأصول وفيه نكتة لا تخفى على أصحاب الوصول (وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له) تأكيد لما قبله (وأنّ محمّدا عبده ورسوله) أفرد الفعل في مقام التوحيد كما يناسبه مرام التفريد ولأن الشهادة أمر غيبي لا يطلع عليه كل أحد بخلاف ظهور الحمد والاستعانة بالحق فإنه ظاهر على جميع الخلق وهذا كله أولى مما حمله الدلجي على التفنن في العبارة والتنوع في الإشارة (قال) أي ضماد (له) أي للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم (أعد عليّ كلماتك هؤلاء) أي كررها لدي وأظهرها علي فإنه كما قيل:
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره ... هو المسك ما كررته يتضوع
ثم هؤلاء إشارة إلى الكلمات فإن هؤلاء قد يستعمل لغير العقلاء وقد جاء في رواية أنه عليه السلام أعادها عليه ثلاث مرات فقال لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء (فلقد بلغت قاموس البحر) بالقاف والميم أي وصلن إلى وسطه أو قعره أو لجته وتموج حجته وتبين محجته تعجبا من فصاحة مبانيها وبلاغة معانيها وفي نسخة قاعوس بالعين المهملة وفي أخرى قابوس بالموحدة وفي أخرى تاعوس بالتاء الفوقية أو النون مع العين المهملة والمعاني متقاربة ولعل بعض النسخ مصحفة (هات) بكسر التاء أي أعطني (يدك) أي اليمنى (أبايعك) بسكون العين جزما على جواب الأمر أي لأبايعك على الإيمان فبايعه وهو ممن اسلم في أول الإسلام على ما ذكره ابن عبد البر وأما قول الحلبي هات أمر من هاتى يهاتي فهو خلاف المشهور وما عليه الجمهور من أنه اسم فعل ولذا ذكره صاحب القاموس في مادة هيت وقال هات بكسر التاء أي اعطني لكن ذكره في المعتل اللام أيضا وقال هات يا رجل أي أعط والمهاتاة مفاعلة منه ويؤيده أنه يقال للمرأة هاتي. (وقال جامع بن شدّاد) بتشديد الدال الأولى وجامع هذا محاربي أسدي كوفي يقال له أبو صخرة يروي عن صفوان بن محرز وعدة وعنه القطان وابن عدي وهو ثقة توفي سنة ثمان عشرة ومائة على ما قاله ابن سعد ذكره الحلبي والحديث رواه البيهقي عنه أنه قال (كان رجل(1/529)
منّا) أي من أهل زماننا (يقال له طارق) وهو ابن شهاب أبو عبد الله المحاربي وله صحبة ورواية (فأخبر أنّه رأى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة فقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام له ولرفقائه (هَلْ مَعَكُمْ شَيْءٌ تَبِيعُونَهُ قُلْنَا هَذَا الْبَعِيرُ) أي معنا للبيع (قال بكم) أي تبيعونه من الثمن (قلنا بكذا وكذا) لعل العطف لبيان عددين (وسقا من تمر) بفتح الواو وتكسر أي ستين صاعا على ما في حديث (فأخذ) أي النبي عليه الصلاة والسلام (بخطامه) أي برسنه الذي يقاد به (وسار إلى المدينة) وفيه دلالة على صحة المعاطاة في المعاملة (فقلنا) أي فيما بيننا (بعنا) أي بعيرنا (من رجل لا ندري من هو) أي باسمه ولا برسمه (ومعنا ظعينة) أي امرأة مسافرة أو في هودجها أو تحمل إذا ظعنت أي ارتحلت على راحلتها وقد أبعد الدلجي في قوله أي امرأة سميت ظعينة لأنها تظعن أي تسير مع زوجها حيث سار (فقالت أنا ضامنة) أي متضمنة وفي نسخة بالإضافة وهو مصحفة (لثمن البعير) مبالغة في ضمانها بقبول الذمة لكمال الهمة وزوال التهمة (رَأَيْتُ وَجْهَ رَجُلٍ مِثْلَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ) أي في وقت كماله من القدر (لا يخيس) بفتح الياء أي لا يغدر (بكم فأصبحنا) أي على ذلك المنوال (فجاء رجل بتمر) أي كثير (فَقَالَ أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ هذا التّمر) أي مقدار ما شئتم ضيافة لكم (وتكتالوا) أي وأن تكتالوا (حتّى تستوفوا) أي حتى تقبضوا قيمة بعيركم وافية (ففعلنا وفي خبر الجلندي) بضم الجيم واللام وسكون النون ودال مهملة وألف مقصورة أو ممدودة على اختلاف في اللغة وعبارة القاموس وجلنداء بضم أوله وبفتح ثانية ممدودة وبضم ثانيه مقصورة اسم مالك عمان ووهم الجوهري فقصره مع فتح ثانيه انتهى وقوله (ملك عمان) بضم العين وتخفيف الميم على ما اختاره الحلبي وقال وفي نسخة عوض عمان غسان انتهى والظاهر أنه سهو أو تصحيف كما لا يخفى وذكر الدلجي أنه بفتح العين وتشديد الميم مدينة قديمة بالشام من أرض البلقاء وأما ما هو بالضم والتخفيف فصقع عند البحرين وحاصله أنه روى وسيمة في كتاب الردة عن ابن إسحاق في خَبَرِ الْجُلَنْدِيِّ مَلِكِ عَمَّانَ (لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام) أي مع سائر الأنام وهو يحتمل أن يكون بالكتابة او بالرسالة (قَالَ الْجُلَنْدِيُّ وَاللَّهِ لَقَدْ دَلَّنِي عَلَى هَذَا النّبيّ الأمّيّ) أي على صدق قضيته وثبوت حقيته (أنّه) أي كونه عليه الصلاة والسلام (لا يأمر بخير) أي أحدا (إلّا كان أوّل آخذ به) بصيغة الفاعل أي عامل له (ولا ينهى عن شيء) أي أحدا (إلّا كان أوّل تارك له) وفي نسخة عن شر بدل عن شيء وهي الملائم لمقابلة قوله بخير (وأنّه) أي عليه الصلاة والسلام (يغلب) بصيغة المعلوم أي على اعدائه (فلا يبطر) بفتح الطاء أي لا يطغى أو لا يفتخر عند احبائه (ويغلب) بصيغة المجهول (فلا يضجر) بفتح الجيم أي لا يجزع ولا يفزع بناء على قوله تعالى وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ ولما في حكم ابن عطاء ما دمت في هذه الدار لا تستغرب وقوع الأكدار وكما قيل الحرب سجال ولقوله بعضهم:(1/530)
فيوما علينا ويوما لنا ... ويوما نساء ويوما نسر
وفيه تنبيه على حسن الرضى تحت حكم القضاء مع العلم بأن في غالبيته نصرة الأولياء وفي مغلوبيته كثرة الشهداء كما قال تعالى قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ فكل أمر المؤمن مقرون بخير في الكونين وقد قال تعالى إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ (ويفي بالعهد وينجز) بضم الياء وكسر الجيم (الموعود) أي ويصدق الوعد، (وأشهد أنّه نبيّ) فلله دره وما أتم نظره حيث حملته محاسن جملته على الإقرار بنبوته من غير حاجة إلى إظهار حجته وبيان معجزته (وقال نفطويه) بكسر النون وسكون الفاء وفتح الطاء المهملة والواو فتحتية ساكنة فهاء مكسورة وقد سبق ذكره (في قوله تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) أي يفيض بالأنوار من حيث ذاته (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ [النور: 35] ) تفيد إنارته باستنارة صفاته (هَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم يقول) أي كأنه تعالى يقول (يكاد منظره) أي يقرب ظاهر رؤيته (يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَإِنْ لَمْ يَتْلُ قُرْآنًا) من التلاوة وروي وإن لم يقل من القول والفاعل فيهما ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم أي وإن لم ينضم لرؤيته تلاوة قراءته الدالة على أنواع معجزته (كما قال ابن رواحة) أي في نعته وهو بفتح الراء انصاري نقيب بدري أحد شعرائه صلى الله تعالى عليه وسلم حضر أحدا والخندق واستشهد بمؤتة بضم الميم أميرا فيها سنة ثمان من الهجرة:
(لو لم تكن فيه آيات مبينة) بكسر التحتية وفتحها أي لو لم يوجد في حقه آيات ظاهرة أو معجزات باهرة (لكان منظره ينبيك بالخبر) أصله ينبئك بالهمزة فسكن ضرورة ثم جواز إبداله ياء لغة هذا وقد نسب الشيخ تقي الدين بن تيمية هذا البيت إلى حسان مع تغير شطره الثاني حيث قال وما أحسن قول حسان:
لو لم تكن فيه آيات مبيّنة ... كانت بديهته تأتيك بالخبر
انتهى ولا يخفى أنه يمكن الجمع بالتوارد في المبنى وإن كان أحدهما أظهر في المعنى (وقد آن) أي حان (أن نأخذ) أي نشرع (في ذكر النّبوّة) وهي حالة الولاية قبل الرسالة (والوحي) أي وبيان الوحي الشامل لحال النبوة (والرّسالة) أي نعت الرسالة وما تتميز به عن مرتبة النبوة (وبعده) أي وبعد فراغ هذا الشأن نشرع (في معجزة القرآن) أي وما يتعلق به من البيان (وما فيه) أي في القرآن (من برهان) أي حجة (ودلالة) بفتح الدال وتكسر أي وبينة من آية وعلامة تبين مبانيها وتعين معانيها ثم في هذا الباب ثلاثون فصلا.
فصل [اعلم أن الله عز وجل قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْمَعْرِفَةِ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ]
(اعلم أنّ الله تعالى قادر على خلق المعرفة) أي جميع المعارف الجزئية من العلوم الشرعية والعرفية (في قلوب عباده) أي على وفق مراده كما حكي عن سنته سبحانه في بعض(1/531)
الأنبياء وكما روي عن مجاهد أوحى الله الزبور إلى داود عليه السلام في صدره (والعلم) أي وعلى خلق العلم الكلي الإجمالي المتعلق (بذاته) أي الأسنى (وأسمائه) أي الحسنى (وصفاته) أي العلى (وجميع تكليفاته) أي التي الزمها عقلاء مخلوقاته (ابتداء) أي بإفاضة جذبة من جذباته (ودون واسطة) أي من ارسال ملائكته (لو شاء) أي لو تعلقت به مشيئته واقتضته حكمته (كَمَا حُكِيَ عَنْ سُنَّتِهِ فِي بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ) أي وروي عن بعض الأولياء من أمته حيث حصل لهم العلم اللدني من الإلهام الإلهي في أمور خارقة للعادة ظهر تحقيقها عند أصحاب الإرادة (وَذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً [الشورى: 51] ) أي وحي الهام أو رؤيا منام كما وقع لأم موسى عليه السلام (وجائز) أي في قدرته بعد تعلق ارادته وفق حكمته (أن يوصل إليهم جميع ذلك) أي ما ذكر من العلوم الكلية والمعارف الجزئية (بواسطة) أي من ملك أو نبي أو ولي (تبلّغهم كلامه) أي مما يقتضي مرامه (وَتَكُونُ تِلْكَ الْوَاسِطَةُ إِمَّا مِنْ غَيْرِ الْبَشَرِ كَالْمَلَائِكَةِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ مِنْ جِنْسِهِمْ كَالْأَنْبِيَاءِ مع الأمم) وفي معناهم الأولياء مع اتباعهم فيما ينبغي لهم اتباعهم (ولا مانع لهذا) أي لما ذكر من حالتي الابتداء والواسطة في الابداء (من دليل العقل) أي وقد ثبت بدليل النقل (وإذا جاز هذا) أي نقلا وعقلا (ولم يستحل) أي ولم يعد ذلك محالا أصلا (وَجَاءَتِ الرُّسُلُ بِمَا دَلَّ عَلَى صِدْقِهِمْ مِنْ معجزاتهم) أي الباهرة وآياتهم القاهرة (وجب) أي على المرسل إليهم (تصديقهم في جميع ما أتوا به) أي من الامور الواجبة عليهم (لأنّ المعجز مع التّحدّي) أي طلب المعارضة (من النّبيّ) أي ممن يصح أن يكون له نعت النبوة ولم يكن من أهل الاستدراج والسحر والمكر والحيلة (قائم مقام قول الله تعالى) أي شهادته في تحقيق دعوته (صدق عبدي فأطيعوه) أي في الأصول (واتّبعوه) أي في الفروع (وشاهد على صدقه فيما يقوله) أي من أخبار الأولين وانباء الآخرين وأحوال الدنيا وأهوال العقبى فإن التصديق بالفعل كالتصديق بالقول وتوضيحه أنه إذا ادعى نبي الرسالة ثم قال آية صدقي في دعواي أن الله تعالى أرسلني أن يفعل كذا ففعل الله تعالى ذلك كان ذلك من الله تصديقا له فيما يدعيه من الرسالة بما فعل من نقض العادة فيكون ذلك كقوله عقيب دعواه صدقت ويستحيل من الحكيم تصديق الكاذب اللئيم ونظير هذا أن الرجل إذا قام في محفل عظيم وقال معشر الاشهاد إني رسول الملك إليكم ودعواه هذه بمرأى من الملك ومسمع ثم قال فإن كنت أيها الملك صادقا في دعواي فخالف عادتك وانتصب قائما وضع يدك على رأسي ثم اقعد فإذا فعل الملك اضطر الحاضرون إلى تصديق الملك إياه وعلم صدقه بالضرورة في دعواه (وهذا كاف) أي للمدعي، (والتّطويل فيه خارج عن الغرض) أي الأصلي ههنا (فمن أراد تتبّعه) أي مستقصى (وجده مستوفى في كتب أئمتنا) أي مصنفات ائمتنا كما في نسخة (رحمهم الله تعالى) حيث بالغوا في تحقيق أمر التوحيد وما يتعلق به من أمر النبوة وما يتبعه من إثبات المعجزة وغيرها مع الأدلة العقلية والنقلية وبيان المذاهب الباطلة كالحكماء(1/532)
والدهرية ثم المراد بالأئمة علماء هذه الأمة وأبعد الدلجي في قوله يعني المالكية إذ لا دخل لهذه المباحث في الفروع الفقهية الخلافية (فالنّبوّة في لغة من همز) وهو نافع من بين القراء (مأخوذة من النّبأ وهو الخبر) وتعديته بالهمزة تارة كقوله تعالى أَنْبِئُونِي وبالتضعيف أخرى كقوله سبحانه نَبِّئْ عِبادِي (وقد لا يهمز على هذا التّأويل) أي مع بقائه على هذا المبنى وإرادته من المعنى (تسهيلا) أي تخفيفا أوجبه كثرة الاستعمال بجعل الهمزة واوا وادغامها في مثلها كالمروة وأما في نحو النبي فتخفيفه بجعل الهمزة ياء وادغامها فيما قبلها وأما في الأنبياء فبابدال الهمزة ياء لانكسار ما قبلها، (والمعنى) أي حينئذ على القراءتين (أنّ الله تعالى أطلعه على غيبه) أي بعض مغيباته أو على غيبه المختص به من عند ربه (وأعلمه أنّه نبيّه فيكون نبيا) أي في المبنى، (منبّأ) أي في المعنى وهو بضم الميم وسكون النون وفتح الموحدة بعدها الهمزة المنونة أو بفتح النون وتشديد الموحدة (فعيل بمعنى مفعول) أي ولو كان على زنة مفعل (أو يكون) أي النبي (مُخْبِرًا عَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَمُنَبِّئًا) بالتخفيف أو التشديد مكسورا أي معلما (بِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أو يكون) أي النبي (عند من لم يهمزه) أي ولم يقل بتسهيله وإدغامه بعد تبديله (من النّبوّة) أي مأخوذا من النبوة بفتح النون وسكون الموحدة، (وهو) ذكر باعتبار ما أخبر بقوله (ما ارتفع من الأرض) أو بمعنى الرفعة (ومعناه) أي حينئذ على طبق مبناه (أنّ له رتبة شريفة ومكانة نبيهة) أي منزلة لطيفة (عند مولاه منيفة) بضم الميم وكسر النون أي زائدة أو مرتفعة وأصلها من أناف إذا أشرف ثم هو أيضا بهذا المعنى يحتمل أن يكون في المبنى بمعنى الفاعل أو المفعول أي مرتفع الشأن أو رفيع البرهان (فالوصفان في حقّه مؤتلفان) أي الوصفان بالمعنيين من الخبر والرفعة وبالمبنيين من البناء للمفعول والفاعل باعتبار كل منهما في حق النبي مجتمعان بل متلازمان وأما قول الدلجي فالوصفان من كونه منبئا أو منبأ فقاصر عن استيفاء حق الموصوف كما لا يخفى على أهل المعروف، (وأمّا الرّسول فهو المرسل) من ربه إلى مكلفي خلقه لإنفاذ حكمه، (وَلَمْ يَأْتِ فَعُولٌ بِمَعْنَى مُفْعَلٍ فِي اللُّغَةِ إلّا نادرا) أي قليلا وقوعه بل ولم يعلم لغيره وروده (وإرساله) أي لكونه ليس بحقيقي بل على وجه حكمي هو (أمر الله له بالإبلاغ) وروي بالبلاغ أي بتبليغ أمره (إلى من أرسله إليه) قال تعالى يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ثم هذا الإرسال قد يكون بواسطة الملائكة وقد يكون بدون الواسطة كما وقع لموسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى. (واشتقاقه) أي أخذه من حيث المبنى (من التّتابع) أي من حيث المعنى لقوله (ومنه قولهم جاء النّاس أرسالا) بفتح أوله جمع رسل بفتحتين (إذا تبع بعضهم بعضا) أي في المأتي وقد ورد أنهم صلوا عليه صلى الله تعالى عليه وسلم إرسالا أي بعضهم تبع بعضا (فكأنّه) أي الرسول (ألزم) بصيغة المجهول (تكرير التّبليغ) بالنصب على أنه مفعول ثان وفي نسخة التزم تكرير التبليغ فهو مفعول أول (أو) وفي نسخة بالواو (ألزمت) وفي نسخة التزمت (الأمّة اتّباعه)(1/533)
فهذا بيان التفرقة بين النبي والرسول بحسب المبنى وعلى مقتضى أصل اللغة في المعنى (واختلف العلماء) أي بحسب الاصطلاح الشرعي أو العرفي (هل النّبيّ الرّسول بمعنى) واحد فيكونان مترادفين في إطلاق كل منهما على الآخر (أو بمعنيين) أي متباينين أو متغايرين بأن يكون النبي أعم والرسول أخص. (فقيل هما سواء) أي في المعنى فكل منهما إنسان أوحى إليه بشرع مجدد أو غير مجدد (وأصله) أي أصل هذا المعنى باعتبار المبنى مأخوذ (من الأنباء) أي الأخبار (وهو الإعلام) يعني فليزم معنى النبوة إذا كانت من الانباء معنى الرسالة التي بمعنى الإعلام والإبلاغ وفيه أنه لا يلزم من انباء الله تعالى لعبده أمر أن يكون مأمورا بإعلامه لغيره (واستدلّوا) أي لكونهما سواء في المعنى (بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ [الحج: 52] فقد أثبت) أي الله تعالى (لهما الإرسال معا) أي ولم يجعل للعطف حكما بمغايرة بينهما، (ولا يكون) وفي نسخة قال ولا يكون والصحيح قالوا ولا يكون والأظهر فلا يكون (النّبيّ إلّا رسولا ولا) أي ولا يكون (الرّسول إلّا نبيّا) أي بناء على ذلك المعنى وفيه أن الإرسال هنا بالمعنى اللغوي وهو البعث والإظهار لا بالمعنى الاصطلاحي وإلا لكفى أن يقول وما أرسلنا من قبلك أحدا وسيأتي زيادة بيان لهذا المبحث (وقيل هما مفترقان من وجه) يعني ومجتمعان من وجه إذ العطف يقتضي التغاير في الجملة لا سيما مع وجود لا المزيدة للتأكيد والمبالغة (إذ قد اجتمعا) تعليل للقضية المطوية أي اجتمع مادتهما معنى (في النّبوّة) أي على تقدير أنها مهموزة وهي مأخوذة من الانباء (التي هي الاطلاع) أي لهما من عنده سبحانه وتعالى (على الغيب) أي على بعض الأمور الغيبية من الأمور الدينية والدنيوية والأخروية (والإعلام) أي وكذا الإعلام لهما من عند ربهما (بخواصّ النّبوّة) أي والرسالة والمعنى باختصاصهما بأمور لا توجد في غيرهما (أو الرّفعة) أي أو اجتمعا في الرفعة (بمعرفة ذلك) أي شأن النبوة والرسالة (وحوز درجتهما) أي إحاطة مرتبة كل منهما (وافترقا في زيادة الرّسالة للرّسول) أي باختصاص الإرسال (وهو الأمر بالإنذار) وهو الإعلام بالشيء الذي يحذر منه (والإعلام) تفسير أو أخص مما قبله لشموله التبشير وتبيين أحكام الإسلام (كما قلنا) أي بينا فيما سبق من الكلام (وحجّتهم) أي ودليل أصحاب هذا القيل من الاجتماع من وجه والافتراق من آخر لا كما قال الدلجي أي من قال بافتراقهما فتدبر (من الآية) أي من جهة الآية المتقدمة (نفسها) أي بعينها، (التّفريق بين الاسمين) أي ضرورة كون المعطوف غير المعطوف عليه كما هو الأصل في تغاير المتعاطفين (ولو كانا شيئا واحدا) أي هنا (لما حسن تكرارهما في الكلام البليغ) أي البالغ غاية البلاغة المعجز لأرباب الفصاحة عن قدرة المعارضة بأقصر سورة (قالوا) أي هؤلاء (والمعنى) أي المراد بالآية (وما أرسلنا من رسول) وفي نسخة من نبي (إلى أمّة) أي مأمور بالعبادة والدعوة (أو نبيّ) أي مأمور بالعبادة فقط (وليس بمرسل إلى أحد) أي من الخلق بدعوة إلى طريق فالأول كامل والثاني مكمل فهو أخص وذاك أتم وأعم(1/534)
والله تعالى أعلم (وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ مَنْ جاء بشرع مبتدأ) أي مجدد بأن لا يكون مقررا لشرع من قبله (ومن لم يأت به) أي بشرع مبتدأ وقد أوحي إليه فهو (نبيّ غير رسول، وإن أمر) أي ولو أمر (بالإبلاغ، والإنذار) لأنه لم يأت بزيادة من الأحكام والآثار، (والصّحيح) وكذا الشهير (والذي عليه الجمّاء) بفتح الجيم وتشديد الميم ممدودا وفي نسخة الجم (الغفير) بالغين المعجمة والفاء أي الجمع الكثير وهم الجماهير (أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رسولا) إذ النبي إنسان أوحي إليه سواء أمر بالتبليغ أم لا بخلاف الرسول فإنه نبي مأمور بتبليغ الرسالة سواء تكون هذه الرسالة تقدمت أو تجددت. (وأوّل الرّسل آدم عليه السلام) أي إلى بنيه وكانوا مؤمنين وكذا شيت وإدريس عليهما السلام وأما نوح عليه السلام فأول رسول إلى كفار قومه (وآخرهم محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) أي إجماعا بشهادة قوله تعالى وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ولحديث لا نبي بعدي (وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مرفوعا على ما رواه أحمد وابن حبان (إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ نبيّ وذكر) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (أنّ الرّسل منهم) أي من الأنبياء (ثلاثمائة وثلاثة عشر) وفي رواية خمسة عشر جم الغفير أي الجمع الكثير فهو من باب مسجد الجامع. (أوّلهم آدم عليه السّلام) أي أول الرسل آدم وهو في مستدرك الحاكم أيضا في ترجمة عيسى ابن مريم بسنده إلى أبي ذر قال دخلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو في المسجد فاغتنمت خلوته فقال لي يا أبا ذر إن للمسجد تحية ركعتان فركعتهما ثم قلت يا رسول الله إنك أمرتني بالصلاة فما الصلاة قال خير موضوع فمن شاء أقل ومن شاء أكثر ثم ذكر الحديث إلى أن قال قلت كم النبيون قال مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي قلت كم المرسلون منهم قال ثلاثمائة وثلاثة عشر وذكر باقي الحديث وتعقبه الذهبي في تلخيص المستدرك فقال قلت السعدي ليس بثقة انتهى وفي الصحيحين في باب الشفاعة قالوا يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض الحديث قال القاضي في شرح مسلم وتبعه النووي ومثل هذا يسقط الاعتراض بآدم وشيث ورسالتهما إلى من معهما وإن كانا رسولين فإن آدم إنما أرسل لبنيه ولم يكونوا كفارا بل أمر بتبليغهم الإيمان وطاعة الله وكذلك خلفه شيث بعده فيهم بخلاف رسالة نوح إلى كفار اهل الأرض قال القاضي وقد رأيت أبا الحسن بن بطال ذهب إلى أن آدم وإدريس رسولان هذا وذكر بعضهم أن عدد أصحابه عليه السلام كعدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا وذكر أبو زرعة أنه مات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه مائة ألف وأربعة عشر ألفا ولعله اقتصر على ذكر الصحابة الكبار أو الرواة منهم والله تعالى أعلم ثم قيل والرسل ثلاثمائة وأربعة عشر وقيل كعدد أصحاب طالوت الذين وزوا معه النهر ولم يجاوزه إلا مؤمن وهم ثلاثمائة وبضعة عشر وكذا عدد أهل بدر وقيل إن عدد الرسل مأخوذ من لفظ حروف محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وجملته ثلاثمائة وأربعة عشر وأن مد الحاء(1/535)
فخمسة عشر فالميم ثلاثة أحرف ميم وياء وميم والحاء حرفان حاء وألف والميمان المضعفان ستة أحرف والدال ثلاثة أحرف دال وألف ولام فإذا عددت حروف اسمه كلها ظواهرها الجلية وبواطنها الخفية حصل لك ثلاثمائة وأربعة عشر فالثلاثة عشر والثلاثمائة على عدد الرسل الجامعين للنبوة ويبقى واحد من العدد وهو مقام الولاية المفرق على جميع الأولياء والاقطاب التابعين للأنبياء فاسمه جامع للنبوة والولاية وفيه أنه هو اصلهم وما افترق فيهم اجتمع فيه ومن هذه الزبدة ما في البردة:
وكلهم من رسول الله ملتمس ... غرفا من البحر أو رشفا من الديم
هذا وقد ذكر التلمساني في حديث أبي ذر بلفظ طويل جدا ومن جملته بأبي أنت وأمي يا رسول الله فكم كتاب أنزل الله قال أنزل الله تعالى مائة كتاب واربعة كتب أنزل على شيث ابن آدم خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلاثين وعلى إبراهيم عشرا وروي عشرين وعلى موسى من قبل إنزال التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان الحديث ثم اعلم أن الأحوط أن لا نعين في الأنبياء والرسل عددا معينا ولا حدا مبينا بل نؤمن أن أولهم آدم وآخرهم نبينا الخاتم وأن ما بينهما من الأنبياء والمرسلين كانوا على الحق المبين لأنك متى حصرتهم على عدد يحتمل أن يكونوا أزيد من ذلك أو انقص مما هنالك فيؤدي إما إلى انكار بعض الأنبياء أو إلى شهادة غير النبي بأنه نبي وهذا طريق الماتريدي (فقد بان) أي ظهر وتبين (لك معنى النّبوّة والرّسالة وليستا) أي النبوة والرسالة (ذاتا للنّبيّ) لقضاء البديهية وبه (ولا وصف ذات) أي قائمة بها (خلافا للكرّاميّة) بتشديد الراء والياء التحتية للنسبة وفي نسخة بتخفيف الراء على أنه لغة بمعنى الكرم أو الكرامة وفي أخرى بكسر الكاف على أنه جمع الكريم والمعول هو الأول على أنه علم له أو لقب لكونه عاملا في الكرم أو حافظا له والله تعالى أعلم والحاصل أنهم ينسبون إلى محمد بن كرام ومحمد هذا كنيته أبو عبد الله السجزي سمع على ابن حجر وغيره مات بالقدس سنة خمس وخمسين ومائتين وهو صاحب المقالة كذا ذكره الحلبي وفي القاموس ومحمد بن كرام كشداد إمام الكرامية القائل بأن معبوده مستقر على العرش وأنه جوهر تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وكان قد سجن بنيسابور ثمانية أعوام لأجل بدعته ثم أخرج فسار إلى بيت المقدس وما يلي الشام (في تطويل لهم) أي في كثرة تعليل (وتهويل) أي تخويف وتخييل (ليس عليه تعويل) أي اعتماد من جهة دليل إذ قالوا هما صفتان قائمتان بذات الرسول سوى الوحي وأمر الله له بالتبليغ والمعجزة والعصمة وصاحبهما لاتصافه بهما رسول وإن لم يرسله الله ويجب عليه إرساله لا غير فهو إذا أرسل مرسل وكل مرسل رسول بلا عكس أي وليس كل رسول مرسلا إذ قد لا يرسله قالوا ويجوز عزل المرسل عن كونه مرسلا دون الرسول إذ لا يتصور عزله عن كونه رسولا على ما زعموا كذا ذكره الدلجي وقال التلمساني إن الكرامية قائلون بأن الأنبياء والرسل مجبولون على النبوة(1/536)
والرسالة وأنهم أنبياء مذ خلقوا من دون أن يوحى إليهم واستدلوا على ذلك بما روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ قَالَ وَآدَمُ بين الروح والجسد (وأمّا الوحي) أي وإن كان يطلق على معاني من الصوت الخفي والإلهام والإشارة ونحوها (فأصله الإسراع) لحديث إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته فإن كان شرا فانته وأن كان خيرا فتوحه أي فأسرع إليه وهاؤه للسكت كذا ذكره الدلجي والظاهر أنه تصحف عليه وأنه بالجيم وسكون الهاء الاصلي على أنه أمر من التوجه ويؤيده أن لفظ الحديث على ما في الجامع الصغير للسيوطي إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته فإذا كان خيرا فامضه وإن كان شرا فانته رواه ابن المبارك في الزهد عن أبي جعفر عبد الله بن مسور الهاشمي مرسلا وفي معناه حديث إذا أردت أمرا فعليك بالتؤدة حتى يريك الله منه المخرج رواه البخاري في الأدب المفرد والبيهقي في شعب الإيمان عن رجل من بلي مرفوعا (فلمّا كان النّبيّ) أي جنسه (يتلقّى) أي يأخذ ويتلقن (ما يأتيه من ربّه بعجل) أي بسرعة من غير تؤدة (سمّي وحيا) ولعله من هذا القبيل كان سرعة أخذ نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم في تناول التنزيل عند قراءة جبريل حتى نزل تسلية له في التحصيل قوله تعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
(وسمّيت أنواع الإلهامات) أي الواردة لافراد الإنسان والحيوانات (وحيا) كقوله تَعَالَى وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ وقوله سبحانه وتعالى وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ الآية (تشبيها) أي لها (بالوحي إلى النّبيّ) أي في تلقيها بعجله والإلهام هو القاء شيء في الروع يبعث على الفعل أو الترك يختص به الله من يشاء من عباده ومخلوقاته (وسمّي الخطّ) أي الكتابة (وحيا لسرعة حركة يد كاتبه) أو لسرعة إدراك الخط من صاحبه، (ووحي الحاجب) أي إشارته، (واللّحظ) أي إيماء العين (سرعة إشارتهما) أي حركتهما بهما (ومنه) أي ومن قبيل إطلاق الوحي على الإشارة المطلقة (قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 11] أي أومأ ورمز) أي أشار بأحد اعضائه (وقيل كتب) أي لهم على الأرض أن سبحوا (ومنه) أي من كون الوحي بمعنى الإشارة بالسرعة (قولهم) كما في حديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه (الوحا) بفتح الواو (الوحا) يمد ويقصر على ما ذكره الجوهري وقيل إن كرر مد وقصر وإن أفرد مد والتكرير للمبالغة ونصبه على الإغراء ومعناه كما قال (أي السّرعة السّرعة) بضم السين وقيل بفتحها أيضا يعني الزموها ويقال الوحاء الوحاء بكسر الواو أي البدار البدار بمعنى المبادرة والمسارعة (وقيل أصل الوحي السّرّ) أي الإسرار (والإخفاء) ومن ثمة قالوا هو الإعلام على وجه الخفاء، (ومنه) أي ومن كون الوحي هو السر (سمّي الإلهام وحيا) أي لخفائه على غير أهله (ومنه قوله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ [الأنعام: 121] ) يعني من المشركين (أي يوسوسون في صدورهم) يعني لإغوائهم (ومنه وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى [الْقَصَصِ: 7] أَيْ أُلْقِيَ في قلبها) بصيغة المجهول كما صرح به الحلبي وغيره ويجوز أن يكون بصيغة المعلوم أي قذف الله تعالى الهاما أو مناما أن(1/537)
أرضعيه أي ما أمكنك إخفاؤه فإذا خفت عليه الآية (وقد قيل ذلك) أي ما ذكر من الوحي بمعنى الإلهام أو المنام (فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً [الشُّورَى: 51] أَيْ مَا يلقيه في قلبه) يعني الهاما أو مناما (دون واسطة) أي كما يفهم من المقابلة بقوله أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ كموسى عليه السلام أو يرسل رسولا كجبريل أو غيره من الملائكة فالواسطة إما معنوية أو صورية ودونها مختصة بالواقعة القلبية والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق القضية.
فصل [اعلم أن معنى تسميتنا ما جاءت به الأنبياء معجزة]
(اعلم أنّ معنى تسميتنا ما جاءت به الأنبياء) أي من الآيات الخارقة للعادة (معجزة هو أنّ الخلق) أي المرسل إليهم (عجزوا) بفتح الجيم وهي اللغة الفصحى ومنه قوله تعالى أَعَجَزْتُ وتكسر على لغة فالمستقبل على عكسهما أي لم يقدروا حيث ضعفوا (عن الإتيان بمثلها) فكأنها أعجزتهم عن معارضة إظهار نظيرها وإلا فالمعجز في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى كما أنه قادر على اقدار العبد بنحوها أو على ابدائها على يد مظهرها والتاء للمبالغة أو لكونها وصفا للآية الخارقة للعادة (وهي) أي المعجزة (على ضربين) أي صنفين من حيث كونها مقدورة للبشر وغير مقدورة لهم، (ضرب هو من نوع قدرة البشر) أي في الجملة أو بالقوة على تقدير خلق القدرة فيه بأن يمكن دخوله تحت قدرتهم (فعجزوا عنه) أي بناء على صرفهم (فتعجيزهم) أي تعجيز الله تعالى إياهم (عنه) بصرف توجههم عَنْهُ (فِعْلٌ لِلَّهِ دَلَّ عَلَى صِدْقِ نَبِيِّهِ) لأنه كصريح قوله صدق عبدي في دعواه الرسالة لجري العادة بخلقه تعالى عقبه علما ضروريا بصدقه كمن قال لجمع أنا رسول الله إليكم ثم نتق فوقهم جبلا ثم قال إن كذبتموني وقع عليكم وإن صدقتموني أنصرف عنكم فكلما هموا بتصديقه بعد عنهم أو بتكذيبه قرب منهم فإنهم يعلمون حينئذ ضرورة صدقه مع قضاء العادة بامتناع صدور ذلك من الكاذب (كصرفهم) أي كصرف الله تعالى لكفار اليهود (عن تمنّي الموت) بقوله تعالى قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ثم أخبر عنهم بقوله وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم لو تمنوا اليهود الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار كما رواه البخاري وغيره (واعجازهم) بالجر عطفا على صرفهم أي وكاعجاز المشركين وغيرهم (عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ عَلَى رَأْيِ بَعْضِهِمْ) أي أنه بناء على صرفهم كالنظام من المعتزلة والمرتضى من الشيعة والحق إن عجزهم عنه إنما كان لعلو درجته في فصاحته وبلاغته وغرابة أساليبه وجزالة تراكيبه مع اشتماله على أخبار الأولين وآثار الآخرين وتضمنه للأمور الغيبية الواقعة سابقا ولاحقا فهو معجزة من جهة المبنى ومن حيثية المعنى (ونحوه) أي وكتعجيزهم عن نحو الإتيان بمثل القرآن من سائر خوارق العادة (وضرب) أي نوع من المعجزة (هو(1/538)
خارج عن قدرتهم) أي حتى بالقوة (فلم يقدروا على الإتيان بمثله) أي بالكلية (كإحياء الموتى) أي ليس من جنس أفعال البشر ولا الملك وأما احياؤهم بدعاء عيسى معجزة له فإنما كان من الله تعالى لا منه بدليل قوله تعالى وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ (وقلب العصا حيّة) أي تسعى معجزة لموسى. (وإخراج ناقة من صخرة) أي بلا واسطة وأسباب معهودة معجزة لصالح (وكلام شجرة) أي لموسى من قبل الله تعالى أو لنبينا عليه الصلاة والسلام بإظهار كلمة الإسلام (ونبع الماء من الأصابع) وفي نسخة من بين الأصابع معجزة لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم كما وردت به الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة (وانشقاق القمر) معجزة لبينا صلى الله تعالى عليه وسلم كما صح به الخبر ونص القرآن بقوله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ والمعنى أن ذلك وأمثاله (ممّا لا يمكن) وفي نسخة مما لا يجوز (أن يفعله أحد إلّا الله فيكون ذلك) أي هذا الضرب الذي لا يفعله إلا الله وفي نسخة فَكَوْنُ ذَلِكَ (عَلَى يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي صورة (من فعل الله تعالى) أي حقيقة كما حقق في قوله تعالى وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى (وتحدّيه) أي وطلب معارضة النبي (من يكذّبه أن يأتي بمثله تعجيز) وفي نسخة تعجيز له أي عن ذلك. (وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِ نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم ودلائل نبوّته وبراهين صدقه) أي في دعوى رسالته واعلاء حجته كانشقاق القمر ومجيء الشجر وتسليم الحجر وحنين الجذع وأما سقوط شرف بناء الأكاسرة وخرور الأوثان ليلة ولد وأظلال الغمام قبل البعثة فهو من الارهاصات لا المعجزات خلافا لما توهمه عبارة الدلجي (من هذين النّوعين معا) أي جميعا باعتبار البعض والبعض فمنها ما هو من نوع قدرة البشر ومنها ما هو خارج عنها (وهو) أي نبينا (أكثر الرّسل معجزة وأبهرهم آية) أي أنورهم (وأظهرهم برهانا) أي حجة وبيانا (كما سنبيّنه) في محله إن شاء الله تعالى وحده (وهي) أي معجزاته (في كثرتها لا يحيط بها ضبط) أي لجزئياتها (فإنّ واحدا منها) أي مما هو أعظمها (وهو القرآن) أي من حيث آياته وسوره المشتملة على دلالات بيناته (لا يحصى) بصيغة المجهول أي لا يحصر ولا يعد (عَدَدُ مُعْجِزَاتِهِ بِأَلْفٍ وَلَا أَلْفَيْنِ وَلَا أَكْثَرَ) لما أورثه من فنون البلاغة وصنوف الفصاحة من جملتها إفادة المعاني الكثيرة في المباني اليسيرة إلى غير ذلك من أنواعها العجيبة وأصنافها الغريبة التي عجز عنها الخطباء والبلغاء من العرب العرباء (لأنّ النّبيّ) وهو الرسول الأعظم والنبي الأفخم صلى الله تعالى عليه وسلم وشرف وكرم (قد تحدّى بسورة منه) أي طلب المعارضة بأقصر سورة من سور القرآن (فعجز عنها) بصيغة المجهول أي فعجز جميع أهل المعاني والبيان عن الاتيان بمثل سورة من القرآن تصديقا لقوله تعالى قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً أي معاونا ونصيرا، (قال أهل العلم وأقصر السّور) أي سور القرآن وفي نسخة سوره بالضمير (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1] ) أي إلى آخره وكان الأظهر الأقصر أن يقول وأقصر السور سورة الكوثر لأنها(1/539)
ثلاث آيات حروفها أقل من حروف آيات سورة هي ثلاث مثلها كقل هو الله أحد كذا قرره الدلجي وهو وهم منه لأن سورة الإخلاص أربع آيات نعم سورة العصر نحوها في عدد الآيات لكنها أطول منها باعتبار الحروف والكلمات في عددها (فكلّ آية) أي منه (أو آيات منه) أي من القرآن وسورة (بعددها) أي طويلة بعدد أقصر سورة من جهة الآيات أو الحروف أو الكلمات (وقدرها معجزة) فقوله تعالى فَأْتُوا بِسُورَةٍ أعم من أن تكون حقيقية أو حكمية (ثمّ فيها) أي في سورة الكوثر (نفسها) أي بعينها (معجزات) أي بخصوصها (على ما سنفصّله) أي نبينه (فيما انطوى) أي اشتمل القرآن واحتوى (عليه من المعجزات) أي التي لا تكاد تستقصى (ثمّ معجزاته صلى الله تعالى عليه وسلم) أي الثابتة لدينا والواصلة إلينا (على قسمين) أي باعتبار ما يكون حصوله قطعيا ووصوله ظنيا، (قسم منها علم) أي لنا من طريق كونه (قطعا) كذا قدره الدلجي بناء على جعله لفظ علم مصدرا والصحيح أنه فعل ماض مجهول وأن قطعا صفة لمصدر مقدر أي علم ذلك القسم علم قطع كما يدل عليه عطف قوله (ونقل إلينا متواترا) أي نقل تواتر وفي نسخة متواترا (كالقرآن) فإنه لكون طريق وصوله إلينا تواترا صار علمه لدينا قطعا (فلا مرية) بكسر الميم وقد تضم أي ولا شك ولا شبهة ويروى بلا مرية (ولا خلاف) أي بين أئمة الأمة (بمجيء النّبيّ به وظهوره من قبله) بكسر القاف وفتح الباء أي من جهته وهو عطف تفسير لزيادة تقرير (واستدلاله بحجّته) أي واستشهاد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بحجة القرآن على صدق محجته وتصديق نبوته وإرسال الله تعالى إياه إلى كافة بريته (وإن أنكر هذا) أي ما ذكر من مجيئه به وظهوره من قبله واستدلاله به (معاند) أي حائد يرد الحق مع علمه (جاحد) أي منكر له ملحد في حكمه (فهو) أي انكار ذلك (كإنكاره وجود محمّد في الدّنيا) حيث أنكر كل منهما انكار مكابرة ومجاحدة لتحقق وجودهما بثبوت مشاهدة وين كان أحدهما حسيا والآخر معنويا والحاصل أن وجوده صلى الله تعالى عليه وسلم وشهوده لا ينكره أحد من الموجودين (وإنّما جاء اعتراض الجاحدين) أي المنكرين والملحدين (في الحجّة به) أي في كونه حجة له قاله الدلجي والصحيح في الاحتجاج به أو في ثبوت الحجة بكتابه كما ورد في طعن المشركين إذ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (فهو) أي القرآن (في نفسه) أي في حد ذاته (وجميع ما تضمّنه) أي من سوره وآياته (من معجز) الأولى من معجزاته (معلوم ضرورة) أي بديهة لا تقتضي روية كما شهد به الأعداء من أهل الخبرة كالوليد بن المغيرة إذ قال في حقه لما تلى عليه بعضه إِنَّ لَهُ لِحَلَاوَةً وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً وَإِنَّ أسفله لمغدق وأن أعلاه لمثمر وما هو من كلام البشر، (ووجه إعجازه معلوم ضرورة ونظرا) كان الأولى أن يقال ووجه اعجازه مفهوم ضرورية ونظرية لئلا يقع تكرار صريح في العبارة أما ضرورة فلان سلاسة مبناه وجزالة معناه ونظم آياته والفة كلماته وصباحة وجوه فواتحه وخواتمه في بداياته ونهاياته في أعلى مراتب البلاغة وأعلى مناقب الفصاحة لا يحتاج العلم(1/540)
به إلى الدلالة فيحكم العقلاء بإعجازه في البداهة وأما نظرا فلافتقار بعض وجوهه إلى النظر والتفكر في خصوص ذلك الأمر (كما سنشرحه) أي نبين ذلك القدر، (قال بعض أئمتنا) أي أئمة المالكية وفي نسخة صحيحة بعض مشايخنا (ويجري هذا المجرى) أي مجرى كون القسم الأول من معجزاته الذي علم قطعا ونقل إلينا تواترا (على الجملة) أي في الجملة باعتبار المعنى لا بطريق المبنى (أنّه) فاعل يجري أي الشأن (قد جرى على يده) وفي نسخة صحيحة على يديه (صلى الله تعالى عليه وسلم آيات) أي علامات أو معجزات (وخوارق عادات) أي شاملة لمعجزات وكرامات (إن لم يبلغ واحد منها) أي لم يصل أمر واحد من تلك الأمور (معيّنا) أي مشخصا ومبينا (القطع) بالنصب أي العلم القطعي بالنسبة إلى غير الصحابي، (فيبلغه) أي العلم اليقيني (جميعها) أي باعتبار معانيها دون مبانيها (على مرية) أي بناء على ما صدر لديه (ولا يختلف مؤمن ولا كافر) كان الأولى أن يقول وكافر بدون لا أو يقول ولا يخالف مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ (أَنَّهُ جَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ عجائب) أي آيات غرائب مما أزاغت أبصارهم وحيرت بصائرهم (وإنّما خلاف المعاند) أي مخالفته مع الموحد (في كونها) أي في وصول العجائب فائضة (من قبل الله تعالى) أي من جهة المبدأ الفياض كما يقوله المؤمن الموحد أو حاصلة من تلقاء نفسه عليه الصلاة والسلام وأنه شاعر أو ساحر ونحوهما كما تفوه به المشرك الملحد (وقد قدّمنا كونها) أي كون المعجز فائضة (من قبل الله تعالى) أي لا واصلة من تلقاء نبيه (وأنّ ذلك) أي المعجز مع التحدي (بمثابة قوله) أي الله سبحانه وتعالى (صدقت) أي يا عبدي فيما ادعيت من رسالتي (فقد علم وقوع مثل هذا) أي الذي قدمناه (أيضا من نبيّنا) صلى الله تعالى عليه وسلم (ضرورة) أي بديهة (لاتّفاق معانيها) أي مع قطع النظر عن اختلاف مبانيها في كونها خوارق عادات وعلى صدق صاحبها علامات (كما يعلم ضرورة) أي عند الأخباريين وكذا عند بعض العامة (جود حاتم) بكسر التاء أي ابن عبد الله بن سعد الطائي مشهور بين العرب والعجم مات على كفره (وشجاعة عنترة) بفتح العين المهملة وسكون النون وفتح التاء الفوقية فراء بعدها هاء وهو العبسي، (وحلم أحتف) أي ابن قيس التميمي (لِاتِّفَاقِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ) أي من المؤرخين والأخباريين (على كرم هذا) يعني حاتما (وشجاعة هذا) يعني عنترة (وحلم هذا) احنف فأشار إلى كل واحد بما للقريب تنزيلا له في ذهنه منزلته (وإن كان كلّ خبر) أي من أخبار هؤلاء الثلاثة (بنفسه) أي بانفراده ويروى في نفسه (لا يوجب العلم) أي القطعي (ولا يقطع بصحّته) لعدم تواتر كل واحد منها منفردا في كل عصر وطبق ثم اعلم أن حاتما هذا والد عدي قدم المدينة ابنه على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سنة تسع في شعبان وكان نصرانيا فأسلم واسلمت أخته بنت حاتم قبل عدي رضي الله تعالى عنهما وأما عنترة فهو ابن معاوية بن شداد وكان عنترة شديد السواد وأمه زبيبة أمة سوداء كانت لأبيه وكان من أشهر فرسان العرب وأشدهم بأسا وفي القاموس عنتر كجعفر وجندب في لغية(1/541)
الذباب والعنترة صوته والشجاعة في الحرب هذا ولو قال كشجاعة علي لكان أظهر فإنه بهذا الوصف بين العرب والعجم أشهر وأما الأحنف فهو بفتح الهمزة ثم حاء مهملة ساكنة ثم نون مفتوحة ثم فاء روى عن عمر وعثمان وعلي وعدة وعنه الحسن وحيد بن هلاك وجماعة وكان سيدا نبيلا أخرج له الأئمة الستة مخضرم وقد أسلم في عهده عليه السلام ودعا له ولم يتفق له رؤيته قال صاحب القاموس تابعي كبير. (والقسم الثّاني) أي من معجزاته صلى الله تعالى عليه وسلم هو (ما لم يبلغ) أي لم يصل علمه (مبلغ الضّرورة، والقطع) قطعا يصير ضروريا بديهيا ولا فكريا قطعيا (وهو) أي هذا القسم الذي بمنزلة الجنس (على نوعين نوع مشتهر) أي عند الخاصة (منتشر) أي عند العامة وكلاهما بصيغة الفاعل (رواه العدد الكثير) أي من الصحابة والتابعين (وشاع الخبر به عند المحدّثين) أي من المخرجين والمصنفين (والرّواة) أي من المتأخرين (ونقلة السّير) بفتح النون والقاف جمع ناقل والسير بكسر السين وفتح الياء جمع سيرة أي ومن الذين نقلوا سير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من صفاته وآياته ومعجزاته (والأخبار) بفتح الهمزة أي الأحاديث المتعلقة بسيد الأبرار صلى الله تعالى عليه وسلم الواردة عن بقية العلماء الأخيار (كنبع الماء من بين أصابعه) أو من أصابعه كما في بعض طرقه (وتكثير الطّعام) أي المأكول والمشروب كما في حديث أنس وغيره وكحنين الجذع وكلام الضب والذراع مما رواه الشيخان وغيرهما.
(ونوع منه) وهو الذي غير مشتهر ولا منتشر (اختصّ به) أي بنقله (الواحد) أي تارة (والأثنان) أي أخرى (ورواه العدد اليسير) أي ولو وصل إلى مرتبة الجمع في بعض طرقه (ولم يشتهر) أي هذا القسم (اشتهار غيره) أي الثابت بالعدد الكثير والجم الغفير (لكنّه إذا جمع إلى مثله) أي في المبنى (اتّفقا في المعنى) أي المراد به ثبوت الإعجاز في المدعي (واجتمعا على الإتيان بالمعجز كما قدّمناه) أي من أنه لا مرية في جريان معانيها على يديه وأنه إذا ضم بعضها إلى بعض أفاد القطع لديه. (قال القاضي أبو الفضل) أي المصنف (وأنا أقول صدعا بالحقّ) أي جهرا به ومنه قوله تعالى فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ (إنّ كثيرا من هذه الآيات) أي الواردات كمجيء الشجر إليه وتسليم الحجر عليه وتسبيح الحصى في يديه (المأثورة) أي المروية (عنه عليه السلام) أي ولو كانت آحادا مبنى (معلومة بالقطع) لتواترها معنى (أمّا انشقاق القمر) أي على يديه بمكة حين سأله كفار قريش آية (فالقرآن نصّ بوقوعه) أي في الجملة لأنه ظني الدلالة وأما قوله الدلجي أما انشقاق القمر فإنه متواتر لفظا إذ القرآن نص بوقوعه فليس على إطلاقه (وأخبر عن وجوده) أي ثبوته وحصوله لقوله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وقرئ وقد انشق أي اقتربت وقد حصل من آيات اقترابها انشاق القمر قبلها (ولا يعدل عن ظاهر) أي من تحقق وقوعه وثبوت وجوده إلى تأويل بأنه سينشق يوم القيامة وأنه جيء بالماضي لتحقق وقوعه في مستقبله (إلّا بدليل) موجب لحمله عليه وصرفه إليه (وجاء) أي وقد ورد (برفع احتماله) أي احتمال الدليل الدال على صرف الآية عن(1/542)
ظاهرها (صحيح الأخبار) أي الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة (من طرق كثيرة) كخبر الصحيحين وغيرهما (ولا يوهن) وكان الأنسب في ترتيب السبب أن يقال فلا يوهن بالفاء وهو بضم الياء وكسر الهاء مخففا أو مثقلا أي لا يضعف (عزمنا) أي جزمنا (خلاف أخرق) أي مخالفة جاهل أحمق أفعل من الخرق ضد الرفق (منحلّ عرى الدّين) بضم ميم وسكون نون وحاء مهملة مفتوحة ولام مشددة مضاف إلى عرى بضم العين وفتح الراء جمع عروة وهي ما يتمسك به في أمر الديانة ومنه قوله تعالى فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها أي لا انقطاع لها (ولا يلتفت) بصيغة المجهول أي ولا ينظر (إلى سخافة مبتدع) بفتح السين المهملة والخاء المعجمة أي رقة عقل ضال عدل عن الحق المبين (يلقي) بضم الياء وكسر القاف أي يوقع (الشّكّ) أي التردد والشبهة (على قلوب ضعفاء المؤمنين) فربما قبلته ووقعت في ضلالة المبتدعين (بل يرغم بهذا أنفه) بصيغة الفاعل المتكلم من أرغم أنفه الصقه بالرغام بالفتح وهو التراب والمعنى نذله (وننبذ) بفتح النون الأولى وكسر الموحدة أي نطرح (بالعراء) أي بالصحراء والفضاء ومكان الخلاء (سخفه) بضم السين المهملة وتفتح وسكون الخاء المعجمة أي رقة عقله وكثافة جهله والمعنى نلقي جهله بالعراء لا شيء يستره من البناء وفي بعض النسخ يرغم وينبذ بصيغة التذكير وبناء المجهول وأنفه وسخفه مرفوعان (وكذلك) أي وكانشقاق القمر في كثرة الرواة طرقا صريحة وأسانيد صحيحة (قصّة نبع الماء) أي من بين أصابعه أو من أصابعه (وتكثير الطّعام رواها) أي قصة النبع والتكثير (الثّقات) أي من الرواة (والعدد الكثير) أي من الاثبات والمراد منهم طبقة الاتباع (عن الجمّاء) وفي نسخة الجم (الغفير) أي عن الجمع الكثير من التابعين (عن العدد الكثير من الصّحابة) فمن روى نبع الماء بالزوراء بقرب مسجده بالمدينة السكينة الشيخان عن أنس رضي الله تعالى عنه وبالسفر البخاري عن ابن مسعود وممن روى تكثير الطعام البخاري والنسائي عن الشعبي عن جابر في قضاء دين والده والشيخان والترمذي والنسائي عن أنس في قصة أبي طلحة يوم الخندق (ومنها) أي ومن جملة المعجزات أو من جملة رواية الثقات (ما رواه الكافّة) أي الجماعة (عن الكافّة) أي عن مثلهم في الكثرة (متّصلا) أي نقلا متصلا غير منقطع أصلا (عمّن حدّث بها) أي بالمعجزة أو بتلك الرواية الدالة عليها (من جملة الصّحابة) بيان لمن وفي نسخة من جلة الصحابة بكسر الجيم وتشديد اللام أي أكابرهم أو معظمهم ويؤيده قوله (وأخيارهم) على ما ضبط في نسخة صحيحة من فتح الهمزة ثم الياء التحتية لكن في أكثر النسخ إخبارهم بكسر الهمزة ثم الموحدة مجرورا ولا يظهر وجهه ولعله مرفوع عطفا على ما رواه أي ومنها نقل الصحابة (أنّ ذلك) أي ما ذكر من تكثير الطعام (كان في موطن اجتماع الكثير منهم) أي من الصحابة وغيرهم (في يوم الخندق) أي حول المدينة في غزوة الأحزاب وكانت سنة خمس (وفي غزوة بواط) بضم الباء الموحدة وتفتح جبل من جبال جهينة وكانت في شهر ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا من(1/543)
الهجرة (وعمرة الحديبيّة) بتخفيف الياء الثانية وتشدد وكانت سنة ست في ذي القعدة ووهم من قال في رمضان وإنما كان الفتح فيه (وغزوة تبوك) بفتح الفوقية وضم الموحدة ممنوعا وقد يصرف وكانت في السنة التاسعة وهي آخر غزواته صلى الله تعالى عليه وسلم بذاته وهو موضع بطرف الشام بينه وبين المدينة أربع عشرة مرحلة (وأمثالها من محافل المسلمين) أماكن اجتماعهم (ومجمع العساكر) أي مكان جمع المجاهدين وكان الأولى أن يؤتى بصيغة الجمع فيهما أو بافرادهما (ولم يؤثر) بصيغة المفعول من الأثر أي ولم ينقل (عن أحد من الصّحابة مخالفة للرّاوي) أي منه في قصتهما (فيما حكاه) أي رواه (ولا) أي ولا نقل عن أحد منهم (إنكار عمّا ذكر عنهم) بصيغة المجهول أي ذكره بعضهم (أنّهم) أي بقية الصحابة (رأوه) أي شاهدوه منه صلى الله تعالى عليه وسلم، (كما رواه) أي عنه (فسكوت السّاكت منهم) أي إذا وقعت الرواية في مكانهم أو زمانهم (كنطق النّاطق) أي بمنزلة رواية الراوي منهم به؛ (إذ هم المنزّهون) أي المبرؤون (عَنِ السُّكُوتِ عَلَى بَاطِلٍ وَالْمُدَاهَنَةِ فِي كَذِبٍ) بفتح الكاف وكسر الذال أو بكسر فسكون وهذا بشهادة قوله تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وبدلالة قوله عليه الصلاة والسلام خير القرون قرني فكلهم عدول رضي الله تعالى عنهم (وليس هناك رغبة) أي ميل وطمع (ولا رهبة) أي خوف وفزع والمعنى أنه ما كان هناك موجبة من مداراة مع الخلق ومداهنة في الحق (تمنعهم) من الإنكار وتحملهم على السكوت الذي هو بمنزلة الإقرار (وَلَوْ كَانَ مَا سَمِعُوهُ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ وَغَيْرَ معروف لديهم) أي ولو في الجملة (لأنكروه) أي ذلك المسموع أنكروا على ناقله أيضا (كما أنكر بعضهم) أي بعض الصحابة (على بعض) أي آخرين (أشياء رواها) أي نقلها بعضهم (من السّنن والسّير وحروف القرآن) بيان لأشياء والمراد بالسنن الأحاديث المتعلقة بالأحكام وبالسير الروايات المختصة بشمائله عليه الصلاة والسلام وبحروف القرآن قراآته كإنكار عمر رضي الله تعالى عنه على هشام بن حكيم بن حزام إذ سمعه يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فجاء به إليه فقال سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما اقرأتنيها فقال اقرأ يا هشام فقرأ فقال هكذا أنزلت ثم قال اقرأ يا عمر فقرأ فقال هكذا انزلت أن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه رواه الأئمة الستة (وخطّأ بعضهم بعضا) بتشديد الطاء أي نسب بعضهم بعضا إلى الخطأ في اجتهاداتهم واستنباطاتهم (ووهّمه) بتشديد الهاء أي ونسب بعضهم بعضا إلى الوهم في رواياتهم (في ذلك) أي في جميع ما ذكر من السنن والسير والقراآت (ممّا هو معلوم) أي عند أرباب الدرايات كتخطئة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نوفل البكالي في قوله إن موسى الخضر ليس موسى بني إسرائيل (فهذا النّوع) أي الذي رواه العدد اليسير لا الجمع الكثير (كلّه) أي جميع أفراده (يلحق) بفتح الياء على ما قاله الحلبي وغيره وكذا بفتح الحاء والأظهر أن يكون بصيغة المجهول ووقع في أصل الدلجي ملحق بالميم وصيغة المفعول وهو نسخة أيضا والمعنى يوصل(1/544)
(بالقطعيّ من معجزاته) ويعطي حكمه من كراماته (لما بيّنّاه) مما يؤذن بأن رواية بعضهم وسكوت بعضهم بمنزلة وقوع الإجماع فإن هذه الأمة لا تجتمع على الضلالة (وَأَيْضًا فَإِنَّ أَمْثَالَ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا أَصْلَ لها) أي كالموضوعات (وبنيت على باطل) أي غرض فاسد من الخيالات (لا بدّ مع مرور الأزمان) أي مضي الأوقات (وتداول النّاس) أي في الروايات (وأهل البحث) أي عن حال الرواة (من انكشاف ضعفها) أي لا فراق من تبين ضعف أمرها (وخمول ذكرها) أي وخموده عند أهل المعرفة بسندها (كما يشاهد) بصيغة المجهول وفي نسخة بضم النون وكسر الهاء أي كما يرى ويعلم ويظهر (فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ وَالْأَرَاجِيفِ الطَّارِئَةِ) بالهمزة ويبدل أي الحكايات العارضة، (وأعلام نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم) بفتح الهمزة أي معجزاته التي هي لشهرتها وانتشارها كالاعلام جمع علم على عجز من ناواه ورد من عاداه (هذه الواردة) أي كل واحد منها (من طريق الآحاد) أي المفيدة للظن مبنى لكنه إذا ضم بعضها إلى بعض صارت متواترة موجبة للقطع معنى (لا تزداد) أي بإيراد تلك الآحاد (مع مرور الزّمان إلّا ظهورا) أي إجلالا للمؤيد بها وإمدادا وارغاما لمنكرها عنادا (ومع تداول الفرق) أي للأمور فرقة ففرقة كذا قرره الدلجي بناء على ما وقع في أصله وفي أكثر النسخ تداول القرون وهو المناسب لمقابلة ما سبق من قوله تداول الناس (وكثرة طعن العدوّ) أي الأعداء فإنه يطلق على الجمع والمفرد مع أفراد لفظه ولذا قال (وحرصه على توهينها) أي إبطالها (وتضعيف أصلها) أي باعتبار متنها وإسنادها (وإجهاد الملحد) أي بذل الظالم وسعه عادلا عن الحق قال الدلجي وفي نسخة وإجهاد بلا تاء أي نفسه أي إيقاعها في مشقة وجد وكد ومبالغة (على إطفاء نورها) يعني وهي لا تزداد مع ذلك (إلّا قوّة وقبولا) أي للمنصف المذعن للحق (ولا للطّاعن) أي ولا تزداد للذام العائب (عليها إلّا حسرة وغليلا) بفتح الغين المعجمة أي حرارة وعطشا يهلك من كان عليلا (وكذلك) أي وكإعلامه بفتح الهمزة فيما ذكر من الازدياد (إخباره) بكسر الهمزة أي إعلامه (عن الغيوب) كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم مما أخبر به عن المغيبات في حديث الحاكم بلاء يصيب هذه الأمة حتى لا يجد الرجل ملجأ يلجأ إليه من الظلم وقد وجد هذا عند أهل العلم (وإنباؤه) بكسر الهمزة أي وإخباره (بما يكون) أي في الآخرين (وكان) أي وبما كان في الأولين أو بما يكون في الغيوب وبما كان من العدم، (معلوم) أي كل ذلك معلوم كونه (من آياته) أي علاماته الدالة على صدق حالاته وصحة معجزاته (على الجملة) أي من غير نظر إلى الطريق المفصلة (بالضّرورة) أي بالبداهة العقلية فهو في الجملة قطعي الدلالة من غير احتياج علمنا بكونه منها إلى كسب من تفكر واستدلال بالأدلة (وهذا حق) أي أمر ظاهر، (لا غطاء عليه) ولا مرية لديه (وقد قال به) أي بكون إخباره بما يكون الخ (من أئمتنا) أي الأشعرية (القاضي) قال الحلبي الظاهر أنه أبو بكر الباقلاني المالكي (والأستاد) بالدال المهملة وقيل بالمعجمة (أبو بكر) أي ابن فورك بضم الفاء (من الشافعية(1/545)
وغيرهما) أي من الأئمة الحنفية والحنبلية والمشايخ الماتريدية من أكابر أهل السنة والجماعة (وعندي أوجب قول القائل) بالنصب وفي أصل الدلجي ما أوجب أي ما اثبت قوله وفي نسخة وَمَا عِنْدِي أَوْجَبَ قَوْلَ الْقَائِلِ (إِنَّ هَذِهِ القصص المشهورة) أي في باب المعجزات وخوارق العادات (من باب خبر الواحد) أي إنما هي من خبر الآحاد وهي لا تفيد إلا ظنا مبينا لا علما يقينا وما الجأه إلى قوله هذا (إلّا قلّة مطالعته) أي ملاحظة هذا القائل (للأخبار) أي للأحاديث الصريحة (وروايتها) أي وقلة معرفته بالأسانيد الصحيحة، (وشغله بغير ذلك من المعارف) بضم الشين وفتحها وبضمتين أي وكثرة اشتغاله بغير ما ذكر من الأدلة النقلية المفيدة للعلوم اليقينية من الآلات والأدوات العربية والمعارف الجزئية التي مأخذها الأمور الظنية والعوارف الوهمية (وإلّا) أي وإن لم يكن موجب قوله ذلك قلة اعتنائه بما هنالك (فمن اعتنى) أي اهتم (بطرق النّقل) أي أسانيد المنقول في هذا الباب (وطالع الأحاديث والسّير) أي كتبهما على ما رتب في الأبواب (لم يرتب) من الارتياب أي لم يشك (في صحّة هذه القصص المشهورة) أي الروايات المأثورة والحكايات المذكورة وتبين له أنها (على الوجه الذي ذكرناه) أي على الطريق الذي قررناه والمنهج الذي حررناه من أنها من باب التواتر معنى وإن كانت من أحاديث الآحاد مبنى (وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِالتَّوَاتُرِ عِنْدَ واحد) أي من أهل الحديث والقراءة مثلا (ولا يحصل عند آخر) إذا كان عاريا عن معرفتها أصلا وفرعا (فإنّ أكثر النّاس يعلمون بالخبر كون) وفي نسخة إن في أخرى كون إن (بغداد موجودة وأنّها مدينة عظيمة) أي كبيرة مشهورة (ودار الإمامة والخلافة) ومحل العلماء ومنزل الأولياء بعد أن عمرت في زمن أبي جعفر المنصور العباس أخي السفاح سنة خمس وأربعين ومائة وكانت قبل ذلك مبقلة وسبق أنه يجوز في داليها اعجام وإهمال والمرجح إهمال الاول وإعجام الثاني كما صرح في رواية الشاطبية (وآحاد من النّاس) أي الذين في أطراف العالم واكنافه (لا يعلمون اسمها فضلا عن وصفها) أي من رسمها ووسمها (وهكذا) أي وكعلم بعض الناس بغداد وجهل غيرهم بها (يعلم الفقهاء من أصحاب مالك) أي مثلا من حيث تقليدهم لما هنالك (بالضّرورة) أي بالبديهة الضرورية من غير احتياج إلى التفكر والروية (وتواتر النّقل) وفي نسخة صحيحة والنقل المتواتر (عنه) أي عن مالك الإمام (أنّ مذهبه إيجاب قراءة أمّ القرآن) أي سورة الفاتحة من غير البسملة (في الصّلاة للمنفرد والإمام) أي دون المأموم وإن لم يسمع قراءة إمامه بل يكر له في الجهرية قراءتها وهذا موافق لمذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى على تفصيل في كتبهم والشافعي يوجبها على المأموم أيضا، (وإجزاء النّيّة) أي وإن مذهبه الاكتفاء بالنية (في أوّل ليلة من رمضان) أي لجميع أيامه (عمّا سواه) أي من بواقي لياليه (وأنّ الشّافعيّ) أي وكذا يعلم الفقهاء من أصحابه وربما يعلم غيرهم أيضا بالضرورة ونقل المتواتر عنه وكذا عن أبي حنيفة أنه (يرى) أي وجوبا لا ندبا (تجديد النّيّة كلّ ليلة) أو قبل نصف النهار الشرعي عند أبي حنيفة(1/546)
(والاقتصار) أي وأن الشافعي يرى الاقتصار (في المسح على بعض الرّأس) وهو ما يطلق عليه اسم المسح أخذا باليقين ومالك يرى وجوب مسح كله احتياطا وأبو حنيفة عمل بحديث مسلم في مسحه صلى الله تعالى عليه وسلم على الناصية وهو ربع الرأس ودليلنا حجة عليهما (وأنّ مذهبهما) أي مالك والشافعي (القصاص) أي القود (في القتل بالمحدّد) أي مما يجرح كالسنان (وغيره) مما لا يجرح كالعصا (وإيجاب النّيّة في الوضوء) أي في أوله (واشتراط الوليّ في النّكاح) أي في عقده (وَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُخَالِفُهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ) أي لما قام عنده مما صح من الدلائل كما بيناه في شرحنا المسمى بالمرقاة للمشكاة في حل المشكلات لكل طالب وسائل وما يتوقف عليه من الوسائل (وغيرهم) أي من الفقهاء المذكورين ونحوهم كالحنبليين (ممّن لم يشتغل بمذاهبهم ولا روى) وفي نسخة صحيحة ولا رأي (أقوالهم) أي ولا عرف مشار بهم (لا يعرف) وفي نسخة صحيحة ولا يعلم (هذا) أي ما ذكر من هذه المسائل وأمثالها (من مذاهبهم) أي ولو كان على منهجهم وادعى بأنه في مشربهم لكنه ما باشر إلا علوما أخر وضيع عمره فيما لا ينفعه فتدبر (فضلا عمّن) وفي نسخة عما (سواه) أي ممن لم يباشر العلوم أصلا ولم يمازج كتابا ولا فصلا ولا فرعا ولا أصلا (وعند ذكرنا آحاد هذه المعجزات) أي إجمالا كافيا (نزيد الكلام فيها بيانا) أي شافيا (إن شاء الله تعالى) .
فصل [في إعجاز القرآن العظيم الوجه الأول]
(في إعجاز القرآن) أي بيان اعجازه في إطنابه وإيجازه (اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ العزيز) أي الغالب على سائر الكتب لكونه معجزا ولكونه ناسخا لغيره في بعض أحكامه (منطو) أي مشتمل ومحتو (على وجوه من الإعجاز) أي أنواع (كثيرة) وأصناف غريزة (وتحصيلها) مبتدأ أي وتحصيل وجوهه الكثيرة بطريق إجمالها (من جهة ضبط أنواعها) أي مع اندماج أصنافها واندراج أجناسها (في أربعة وجوه) أي منحصرة فيها (أوّلها حسن تأليفه) أي تركيبه بين حروفه وكلماته وآياته وسوره وقصصه وحكاياته (والتئام كلمه) أي وانتظام كلماته في سلك مبانيها المتناسبة لمقتضى معانيها المتناسقة بين أعاليها وأدانيها (وفصاحته) أي ووضوح بيان معانيه مع اقتصاد مبانيه (ووجوه إيجازه) أي من قصر وحذف لاكتفاء وإيماء.
(وبلاغته) أي في عجائب التراكيب وغرائب الأساليب وبدائع العبارات وروائع الإشارات (الخارقة) أي المتجاوزة (عادة العرب) من فصاحتهم وبلاغتهم (وذلك) أي ما ذكر من عادتهم (أنّهم كانوا أرباب هذا الشّأن) أي من جهة الفصاحة (وفرسان الكلام) أي في ميدان البراعة (قد خصّوا من البلاغة، والحكم) بكسر ففتح جمع حكمة وهي كمال العقل واتقان العمل (ما لم يخصّ به غيرهم من الأمم) أي سابقة ولاحقة (وأوتوا من ذرابة اللّسان) بفتح الذال المعجمة أي حدته وبساطته وسلاطته (ما لم يؤت) أي مثله (إنسان) أي ممن عداهم وكان(1/547)
الاولى أن يقول الإنسان ويراد به جنسه لأنه أنسب في مقام سجعه (ومن فصل الخطاب) أي بيان المراد في الفصول والأبواب (ما يقيّد الألباب) بكسر التحتية الثانية المشددة أي يمنع أرباب العقول الخالصة أن يأتوا بمثل كلامهم وعلى نهج مرامهم (جعل الله لهم ذلك) أي ما خصوا به (طبعا وخلقة) أي سليقة وجبلة (وفيهم) أي وجعل ذلك فيهم (غزيزة) أي سجية (وقوّة) أي وقدرة بديعة (يأتون منه) أي من الكلام الوافي للمرام (على البديهة) من غير الروية (بالعجب) أي العجاب (ويدلون) بضم الياء واللام أي يتوسلون (به إلى كلّ سبب) أي من الأسباب في السؤال والجواب وسائر فصول الخطاب (فيخطبون) أي الخطب البليغة (بديها) أي من جهة البديهة (في المقامات) أي على حسب ما يلائمها من المقالات (وشديد الخطب) أي في الأمر العظيم الشأن والحال الذي يقع فيه تفخيم البيان، (ويرتجزون به) أي يوردونه مرجزا في حال الحرب (بين الطّعن والضّرب) فالطعن بالرمح ونحوه والضرب بالسيف وغيره (ويمدحون) أي بعضهم بعضا إظهارا لمفخرة أو كسبا لمحمدة أو جلبا لفائدة. (ويقدحون) أي ويطعنون ويذمون بعضهم بعضا أيضا لأحد الأغراض السابقة وهذا المعنى بحسب التقابل هو المناسب للمرام وأبعد الدلجي في قوله ويقدحون أفكارهم فيستخرجون سحر الكلام في أحسن النظام (ويتوسّلون) أي به إلى من يقصدون منه نجاح مآربهم (ويتوصّلون) أي به إلى الفوز بمطالبهم (ويرفعون) أي بمدحهم من أرادوا (ويضعون) أي بذمهم من شاؤوا (فيأتون من ذلك) الكلام على وجه الإجمال وطريق الكمال (بالسّحر الحلال) وهو ما لطف مبناه وشرف معناه ويستعار للكلام البليغ وقد ورد إن من البيان لسحرا أي سواء كان نثرا أو شعرا فإنه ربما سحر الإنسان وصرفه عن حيز التبيان والسحر في الشرع حرام إلا أنه حلال في مقال وقع في مقام مرام (ويطوّقون) بكسر الواو المشددة أي يحملون (من أوصافهم) أي صفاتهم الحميدة وسماتهم المجيدة من ظنوه أهلا لتلك الأحوال نعوتا (أجمل من سمط الّلآل) بكسر السين هو الخيط ما دام فيه الخرز وإلا فهو سلك وفي نسخة بضمها على أنه جمع سمط واختاره اليماني لكن في القاموس أن جمعه سموط هذا وقد قال الحلبي اللؤلؤة الدرة وجمعها اللؤلؤ واللآلي انتهى وفيه مسامحة إذ اللؤلؤ جنس واللآلي جمع وقد حذف المصنف ياءه مراعاة للسجع ونظيره في الفواصل قوله تعالى الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (فيخدعون الألباب) في ملهياتهم (ويذلّلون الصّعاب) أي يهونونها في مهماتهم بحسب ما يزينون مراماتهم في مقالاتهم على وفق مقاماتهم (ويذهبون) بضم الياء وكسر الهاء أي يزيلون (الإحن) بكسر الهمزة وفتح الحاء جمع إحنة بكسر فسكون وهي الحقد والضغينة وإضمار العداوة (ويهيّجون) بتشديد الياء الثانية المكسورة وفي نسخة بفتح الياء الأولى وكسر الهاء وتخفيف الياء الثانية أي يحركون ويثيرون (الدّمن) بكسر الدال المهملة وفتح الميم جمع دمنة وهي في الأصل ما تدمنه الإبل ونحوها بأبوالها وأبعارها أي تلبده في مرابضها ثم استعمل في الحقد لتلبده في باطنه ولكونه من دمائم خاطره وفي نسخة الزمن بفتح الزاء وكسر الميم(1/548)
المقعد والمفلوج وفي نسخة الذمر بفتح الذال المعجمة وكسر الميم فراء وهو الشجاع وهو وإن كان يخالف ما قبله من مراعاة السجع إلا أنه أبعد من التكرار المعنوي وأقرب للمقابل اللفظي بقوله (ويجرّئون الجبان) بتشديد الراء المكسورة أي يحملونه على الجرأة والشجاعة والجبان بفتح الجيم والموحدة المخففة ضد الشجيع (ويبسطون) بضم السين أي ويفتحون (يد الجعد البنان) أي البخيل اللئيم الشأن وأصل الجعد بفتح الجيم وسكون العين وهو الانقباض في الشعر ضد السبط المسترسل والبنان بفتح الموحدة وتخفيف النونين أطراف الأصابع جمع بنانة ومنه قوله تعالى بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (ويصيرون) بتشديد التحتية الثانية أي يحولون (النّاقص كاملا) بحسن رعايتهم وعين عنايتهم (ويتركون النّبية) أي المشهور بالنباهة والتنبه عن نوم الجهالة (خاملا) أي متروكا شأنه ومجهولا بيانه. (منهم البدويّ) أي من يسكن البادية مع كون غالبهم عنه المعرفة عارية (ذو اللّفظ الجزل) بفتح الجيم وسكون الزاء أي صاحب الألفاظ التي فيها الجزالة والسلاسة الكاملة في الدلالة في مراتب الفصاحة والبلاغة (والقول الفصل) أي البين أمره والمبين حكمه. (والكلام الفخم) أي العظيم المرام (والطّبع الجوهري) منسوب إلى جوهر وهو معرب واحده جوهرة وهذا مدح جزيل ووصف جليل كذا ذكره الحلبي واقتصر عليه ووقع في أصل الدلجي بلفظ الجهوري أي الشديد الصوت العالي والواو زائدة من جهر بصوته إذا رفعه بشدة وفي حديث العباس أنه نادى بصوت جهوري انتهى والظاهر أنه تصحيف في المبنى وتحريف في المعنى اللهم إلا أن يتكلف كما اقتصر عليه الشمني فقال المراد بالطبع الجبلة والجهوري الذي قد اشتهر من قولهم جهر بصوته إذا شهره ورفعه إذ الطبع لا يقبله والمقام لا يلائمه كما لا يخفى على من تأمله (والمنزع القويّ) بفتح الميم والزاء أي والمشرب الصفي (ومنهم الحضريّ) بفتحتين أي من يسكن الحاضرة ضد البادية من المصر أو القرية (ذو البلاغة البارعة) أي الفائقة اللائقة (والألفاظ النّاصعة) أي الخالصة من شوائب الركاكة لبلاغة مبانيها وفصاحة معانيها (والكلمات الجامعة) أي لمعان كثيرة في ضمن مبان يسيرة. (والطّبع السّهل) أي المنقاد للأهل كالماء في سلاسته والنسيم في لطافته (والتّصرّف في القول القليل الكلفة) أي اليسير المؤنة لسهولة المعونة (الكثير) أي وفي القول الكثير (الرّونق الرّقيق الحاشية) أي الجزيل الحسن في المبنى واللطيف الطرف في المعنى (وكلا البابين) أي بابي كلام كل في كل مقام مطابق لما قصد من المرام (فلهما في البلاغة الحجّة البالغة) أي الواصلة إلى مقام النهاية والغاية وأعاد المصنف الضمير في فلهما إلى معنى كلا وهو مذهب الكوفي والمختار رأى البصري وهو أن يفرد الضمير بناء على لفظه وبه جاء القرآن في قوله سبحانه وتعالى كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها (والقوّة الدّامغة) أي الماحقة للأمور الزاهقة ومنه قوله تعالى بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ وفي حديث علي دامغ جيش الاباطيل. (والقدح) بكسر القاف أي السهم والمراد به واحد الازلام لا الذي قبل أن يراش كما يتوهم من تقرير الحلبي نعم هو أصله لكن قصد هنا(1/549)
فصله بقرينة قوله (الفالج) بكسر اللام أي الفائز الغالب (والمهيع) بفتح الميم والتحتية أي الطريق الواسع (النّاهج) أي السبيل السالك الواضح وفي حديث علي اتقوا البدع والزموا المهيع (لا يشكّون أنّ الكلام طوع مرادهم) أي منقاد لما يرون من إيرادهم. (والبلاغة ملك قيادهم) بكسر الميم ثم كسر القاف وهو حبل تربط به الدابة ذكره الحلبي فيكون من القيد أي يقيدونه بما أرادوا والأظهر أنه ما يقاد به فهو من القود وهو السوق من قدام أي يقودونه حيث شاؤوا من روائع لطائفه وبدائع عوارفه (قد حووا) بفتح الواو أي حازوا وجمعوا (فنونها) أي من مبانيها (واستنبطوا عيونها) استخرجوا من معانيها لبابها (وَدَخَلُوا مِنْ كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا وَعَلَوْا صرحا) أي ورفعوا بناء ظاهرا (لبلوغ أسبابها فقالوا في الخطير والمهين) بفتح الميم أي في العظيم والحقير (وتفنّنوا في الغثّ) بفتح الغين المعجمة وتشديد المثلثة أي المهزول (والسّمين) ومنه قول ابن عباس لعلي ابنه الحق بابن عمك يعني عبد الملك بن مروان فقل له نغثك خير من سمين غيرك والمعنى فغايروا في كلامهم بين أسلوب وأسلوب وإيراد وإيراد بلطائف مبان وشرائف معان في كل مراد (وتقاولوا) أي فيما بينهم (في القلّ والكثر) بضم أولهما أي في القليل والكثير مدحا وهجوا وإيجازا وأطنابا (وتساجلوا) بالسين المهملة والجيم مأخوذ من السجل وهو الدلو أي تناوبوا وتراسلوا (في النّظم والنّثر) أي تفاخروا وتكاثروا وعن ابن الحنفية رحمه الله تعالى أنه قرأ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ فقال هي سجلة للبر والفاجر أي مرسلة مطبقة في الإحسان إلى كل واحد من أفراد الإنسان ومنه قولهم الحرب سجال (فما راعهم) أي ما أفزعهم شيء اليم (إلّا رسول كريم) أي جاءهم بخلاف هواهم لكن معه هداهم وطريق مناهم حين أتاهم (بكتاب الْعَزِيزُ) أي بديع منيع رفيع حيث لا نظير لمثله (لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي لا يتعلق البطلان به بوجه من وجوهه (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42] ) يحمده خلقه بما ظهر عليهم من نعمه (أحكمت آياته) أي نظمت نظما محكما متقنا لا يغشاه خلل لا لفظا ولا معنى (وفصّلت كلماته) أي ميزت وبينت ما يحتاج إليه في أبواب الدين من عقائد وأحكام وأخبار ومواعظ ووعد ووعيد على وجه اليقين (وبهرت بلاغته العقول) أي غلبتها (وظهرت فصاحته على كلّ مقول) أي نظما ونثرا (وتظافر) بالظاء المشالة أي تظاهر وتغالب على غيره (إيجازه وإعجازه) أي مبنى ومعنى ومنه قوله تعالى أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وهو الموافق لما في النسخ المصححة وتصحف علي الدلجي فقال تصافر بالصاد من تصافر القوم تعاونوا (وتظاهرت حقيقته ومجازه) أي تعاونت لبلوغهما أقصى مراتبهما (وتبارت) بمثناة فوقية فموحدة تعارضت (في الحسن مطالعه ومقاطعه) والمعنى تجارت فيه فواتح سوره وآياتها وقصصها وخواتمها تسارعا وتسابقا لا يتصور له لاحق فضلا عن أن يوجد له سابق ثم التباري معتل لا مهموز وفي الحديث نهى عن أكل طعام المتبارين أي المتسابقين المتعارضين بفعلهما ليغلب أحدهما الآخر في صنعهما وإنما كرهه لما فيه من المباهاة والرياء أو لاشتمالهما على(1/550)
عدم الرضى لإعطائهما بسيف الحياء ويمكن حمل كلام المصنف على هذا المعنى أي تعارضت مطالعه ومقاطعه في الحسن وتغالبت كأن كل واحدة منهم غالبت أختها وعارضت شبيهتها (وحوت) أي جمعت (كلّ البيان) بالنصب أي جميع ما يحتاج إلى البيان من جهة الأديان (جوامعه) أي بكلم قليلة وحكم جزيلة (وبدائعه) أي على أوفق إيجاز وأوثق إعجاز (واعتدل مع إيجازه) أي استقام قاله الدلجي والأظهر توسط بين غاية الاطناب ونهاية الإيجاز (حسن نظمه) وفي نسخة حسن لفظه بجزالة بلاغته وغرابته (وانطبق) أي احتوى (على كثرة فوائده) أي من معانيه (مختار لفظه) أي من إيجاز مبانيه (وهم أفسح) أوسع (ما كانوا في هذا الباب) أي باب السؤال والجواب (مجالا) أي قوة واحتمالا وفي نسخة صحيحة أفصح بالصاد وهو ظاهر المراد (وأشهر في الخطابة) أي في باب المخاطبة والمحاورة (رجالا) ولو قال في الخطاب لكان سجعا لما في الكتاب من لفظ الباب ثم نصب مجالا ورجالا كليهما على التمييز المحمول عن الفاعل فيهما والجملتان حاليتان أي مجالهم ورجالهم إذ مجالهم في باب البلاغة أظهر ورجالهم في باب الفصاحة أشهر (وأكثر) أي من غيرهم (في السّجع) أي في الكلام المقفى في النثر (والشّعر) بزيادة قيد الموزون في النظم (ارتحالا) أي انتقالا من كلام إلى كلام ومن مرام إلى مرام بقوة تفننهم في نوعي الكلام ووقع في أصل الدلجي بالجيم فقال أي بدون ترو ومهلة إذ كان لهم سجية وطبيعة انتهى وفي القاموس ارتجل الكلام تكلم به من غير أن يهيئه وفي نسخة سجالا أي تارة وتارة باعتبار المناوبة أو المغالبة (وأوسع) أي ممن عداهم (في الغريب) أي غريب الاستعمال (واللّغة) بالمعنى الأعم المتناول للقريب والغريب على وجه الكمال (مقالا) أي قالا مما يوجب حالا ومثالا (بلغتهم) متعلق بكتاب أو حال منه أي حال كونه بألسنتهم (التي بها يتحاورون) أي يتجاوبون في محاوراتهم (ومنازعهم) بفتح الميم أي محال المنازعة بمعنى المجاذبة في الأعيان والمعاني (التي عنها يتناضلون) بالضاد المعجمة أي يتغالبون بالكلام من النظم والنثر (صارخا بهم) أي حال كون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو القرآن المعظم داعيا لهم ومناديا عليهم (في كلّ حين) أي زمان من ليل ونهار منفردين أو مجتمعين تسجيلا عليهم بإنكارهم للدين واستكبارهم عن الحق معرضين (ومقرّعا) بتشديد الراء المكسورة بعد القاف أي وموبخا (لهم بضعا وعشرين عاما) بكسر الموحدة وقد تفتح ما بين الثلاث إلى التسع والمراد به هنا ثلاثة على الصحيح من أنه بعث على رأس الأربعين وعاش ثلاثا وستين وقيل خمسا وستين وقيل ستين وقد جمع بين الأقوال الثلاثة كما هو مقرر في محله ولعل المصنف لوقوع اختلاف ما أطلق بضعا وعشرين عاما (على رؤوس الملإ) أي من أشرافهم ورؤسائهم (أجمعين أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) اقتباس أورده شاهدا بثبوت نبوته وأم بمعنى بل والهمزة للإنكار أي بل أيقولون اختلقه محمد وجاء به من عنده وكذب على ربه (أَقُلْ) أي لهم إن كان الأمر كما زعمتم وتوهمتم (فَأْتُوا) على صورة الافتراء (بِسُورَةٍ) أي(1/551)
بأقصر سورة (مِثْلِهِ) أي تماثله في بلاغة مبانيه وفصاحة معانيه فإنكم عربيون مثلي بل أنتم مشهورون بالخطابة نظما ونثرا من قبلي (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي استعينوا بمن يمكن استعانتكم به من غير تعالى على الإتيان بسورة مثله لا به فإنه تعالى قادر عليه بانفراده (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: 38] ) أي في أنه أتى به من عنده (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) أي في شك وشبهة (مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) أي في كل سورة (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَةِ: 23] إِلَى قَوْلِهِ وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة: 24] ) وهو قوله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنه سبحانه وتعالى ما انزله عليه وما أوحاه إليه فإن لم تفعلوا أي في الحال ولن تفعلوا أي في الاستقبال فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ فهذه الآية منادية عليهم بعجزهم عن المعارضة في الأزمنة الحاضرة مع إخباره سبحانه وتعالى بأن الخلق كلهم عاجزون عن الإتيان بمثله إلى يوم القيامة (وقوله) أي وأصرح من هذا كله قوله تعالى (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ) ومنهم أصناف العرب (وَالْجِنُّ) ومنهم أنواع الملائكة (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ [الْإِسْرَاءِ: 88] ) في كمال مبناه وجمال معناه (الآية) يعني قوله لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً أي متعاونين على الإتيان بمثله وقال الدلجي ولم يدرج الملائكة في الفريقين مع عجرهم أيضا عنه لأنهما المتحديان به انتهى ولا يخفى أن إدراجهم معهم كما حررنا هو الأولى فإنه أظهر في المدعي لا سيما وقد قال بعض العلماء بأن نبينا مبعوث إلى الملائكة بل إلى الخلق كافة كما قررناه في محله اللائق به (وقيل) أي في آية أخرى وفي نسخة وقل (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هود: 13] ) أي مختلقات من عند أنفسكم وحاصله أنه ألزمهم الحجة بإتيان قرآن مثله ثم أرخى العنان بتنزله إلى عشر سور مثله ثم تحداهم بسورة واحدة كائنة من عندهم تسهيلا للأمر عليهم وتسجيلا بنداء العجز لديهم كذا قرره الشراح وهو المستفاد مما سيأتي وكلام المصنف على ما حرره وفيه أنهم من أول الوهلة طولبوا المعارضة لا بعد تمام القرآن سورة وسورة والقرآن كما يطلق على الكل يطلق على البعض كما عرف في علم الأصول بما يؤيده من دليل المنقول والمعقول فالوجه أن المراد بالقرآن قدر ما تتعلق به المعجزة وهو اقصر سورة أو قدرها من آيات وحروف وكلمات ويقويه قوله تعالى فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ وعلى كل تقدير فالتحدي بعشر سور مثله تهكم بهم في إثبات عجزهم (وذلك أنّ المفترى) بفتح الراء على ما صرح به الحلبي وغيره (أسهل) أي أهون تلفيقا (ووضع الباطل والمختلق) بفتح اللام أي المكذوب (على الاختيار) أي اختيار المعارض (أقرب) أي أنسب تزويقا وأروج تنميقا ومع ذلك فلم يجدوا إليه طريقا (واللّفظ) أي بعد وضعه في المبنى الفصيح (إذا تبع المعنى الصّحيح كان أصعب) أي ترتيبا وأتعب تهذيبا وهذا أيضا وجه عجزهم عن المعارضة لأن القرآن جمع بين غرائب المعاني وعجائب البيان (ولذلك) وفي نسخة ولهذا أي ولكون المبنى إذا اتبع المعنى أصعب في المدعي (قيل فلان يكتب كما يقال له) فيفتق أكمام ما قيل له من أخبار مبانيه عن أزهار(1/552)
معانيه ويراعي جميع ما يوافيه بتحريره ويدفع كل ما ينافيه بتقريره حتى يستحسنه المملي إذ عبر عن مراده في شأنه ما كان عاجزا هو عن إيراد بيانه (وفلان يكتب) أي ما يقال له إلا أنه (كما يريد) أي بنفسه لا أنه كما يراد منه بحسب أنسه (وللأوّل) أي من الكاتبين (على الثّاني فضل) أي مزيد سديد (وبينهما شأو بعيد) وفي نسخة صحيحة شأو وبعد وهو بفتح الشين المعجمة وسكون الهمزة فواو منون أي مدى ونهاية وسبق وغاية والمعنى فرق بعيد وفصل عميق لإتيان الأول بالمأمور مفرغا في قالب مراد آمره دون الثاني لإتيانه بمأموره في قالب مراد نفسه إذا عرفت ذلك (فلم يزل صلى الله تعالى عليه وسلم يقرّعهم) بتشديد الراء (أشدّ التّقريع) تفسيره قوله (ويوبّخهم غاية التّوبيخ) أي اسوأه ولا يبعد أن يكون أحدهما بمعنى يهددهم بل هو أولى لأن التأسيس بالنسبة إلى التأكيد أعلى (ويسفّه أحلامهم) بتشديد الفاء أي ينسب عقولهم إلى السفه وبعدهم سفهاء كقوله تعالى سَيَقُولُ السُّفَهاءُ وقوله أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ (ويحطّ) بضم الحاء وتشديد الطاء أي ينكس (أعلامهم ويشتّت) بتشديد التاء الأولى أي يفرق (نظامهم) ويمزق مرامهم (ويذمّ آلهتهم) أي يعيبها في حد ذاتها بقوله لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها (وإيّاهم) أي ويعيبهم على عبادتها بقوله وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وقوله مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وأمثالهما (ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم) أي بالاستيلاء عليها (وهم) أي والحال أنهم (في كلّ هذا) أي مما ذكر من الأحوال (ناكصون) أي راجعون القهقرى إلى وراء (عن معارضته محجمون) بحاء ساكنة فجيم مكسورة أي متأخرون (عن مماثلته) لظهور مباينته (مخادعون أنفسهم بالتّشغيب) أي بتهييج الشر وإثارة الفتنة والمخاصمة بين القريب والغريب وفي نسخة بالتكذيب وجمع بينهما أصل الدلجي وهو لا يناسب التهذيب خصوصا مع تكرار الباء وعدم العاطف المفيد للجمع أو الترتيب (والإغراء بالافتراء) أي الحث والالزام على وجه التزام نسبة سيد الأنبياء بالافتراء على خالق الأشياء وقد تصحف الإغراء على الدلجي بتوهم الاعتراء على ما في بعض النسخ فقال من عراه إذا مسه وأصابه إلى آخر ما ذكره (وقولهم) أي وبقول بعضهم كالوليد بن المغيرة كما حكى الله تعالى عنه بقوله ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فقال (إن هذا) أي ما هذا (إلّا سحر يؤثر) أي يروى عن أهل بابل وغيرهم وإنما قال هذا الكلام حين سمع النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ حم السجدة فقال لقد سمعت من محمد كلاما ليس بكلام إنس ولا جن وأنه ليعلو ولا يعلى فقيل قد صبا الوليد فقال ابن أخيه أنا اكفيكموه فقد إليه حزينا وكلمه بما أحماه فقال لهم تزعمون أن محمدا مجنون هل رأيتمون يخنق وزعمتم أنه كاهن هل رأيتموه تكهن وأنه شاعر هل رأيتموه يقول شعرا قالوا لا فقال ما هو إلا ساحر أما رأيتموه يفرق بين المرء وأهله وولده ومواليه فاهتز النادي فرحا وفي نسخة زيد هنا إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ؛ (وسحر مستمرّ) أي وقول(1/553)
بعضهم كما حكى الله تعالى عنهم وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ أي هو أو هذا سحر مطرد دائم صادر عنه أو ذاهب باطل كما قاله قتادة ومجاهد رحمة الله تعالى عليهما أو قوي محكم يغلب كل سحر كما قاله أبو العالية والضحاك (وإفك افتراه) أي وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ أي كذب صرفه عن وجهه واختلقه من تلقاء نفسه وأعانه عليه قوم آخرون، (وأساطير الأوّلين) أي وقالوا هذا أو هو أقاويلهم المزخرفة التي سطرها المتقدمون (اكتتبها) أي استكتبها لنفسه فهي تملي عليه بكرة وأصيلا.
(والمباهتة) أي والإغراء بالمباهتة من بهته إذا رماه بما يتحير منه والمعنى ومخادعون أنفسهم بأكاذيب وافتراآت يحيط بهم ضررها ويحيق بهم مكرها ولا يتخطاهم أثرها (والرّضى بالدّنيئة) بالهمز وقد يسهل أي وبرضاهم منه بالخصلة الرديئة (كقولهم قُلُوبُنا غُلْفٌ) جمع أغلف أي هي مغشاة بأغطية لا يصل إليها هداية ولا رواية؛ (وفي أكنّة) أي وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أي في أغطية (ممّا تدعونا إليه) أي مانعة من وصوله إليها فضلا عن حصوله لديها (وفي آذاننا وقر) أي ثقل وصمم، (ومن بيننا وبينك حجاب) أي حاجز مانع من تقربنا إليك ومن نفعنا بما لديك وزيد من تلويحا بأن ابتدأ منهم وانتشأ عنهم وامتد مستوعبا للمسافة المتوسطة بينهما بحيث لم يبق فراغ فيها (ولا تسمعوا) أي وقال الذين كفروا لأصحابهم وأحبابهم لا تسمعوا (لهذا القرآن والغوا فيه) أي بخرافات الكلام وساقطات المرام (لعلّكم تغلبون) أي قارئه بتشويش خاطره الباعث على ترك قراءته. (والادّعاء مع العجز) أي وبمجرد دعواهم مع ظهور عجزهم عن مدعاهم (بِقَوْلِهِمْ لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا [الْأَنْفَالِ: 31] ) ولعمري أي مانع كان لهم لو ساعدتهم الاستطاعة أن يشاؤوا ذلك حيث تحداهم وقرعهم بالعجز مع فرط أنفتهم واستنكافهم أي يغلبوا لا سيما في ميدان الفصاحة والبيان والتجأوا إلى معالجة السلاح من السيف والسنان والعاقل لا يترك الأسهل ويتبع الأثقل (وَقَدْ قَالَ لَهُمُ اللَّهُ وَلَنْ تَفْعَلُوا فَمَا فعلوا ولا قدروا) فإخباره صدق وكلامه حق (ومن تعاطى ذلك) أي ومن تجرأ على قصد المعارضة في ميدان الفصاحة والبلاغة (من سخفائهم) أي سفهائهم (كمسيلمة) أي الكذاب بهذيانات مخترعات منها قوله يا ضفدع الا تتقين أعلاك في الماء وأسفلك في الطين لا الماء تكدرين ولا الشراب تمنعين ومنها وقوله حين سمع أول سورة النازعات والزارعات زرعا والحاصدات حصدا والذاريات قمحا والطاحنات طحنا والحافرات حفرا والباردات بردا واللاقمات لقما لقد فضلتم على أهل الوبر وما سبقكم أهل المدر ومنها قول آخر الم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج من بطنها نسمة تسعى وقال آخر الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وثيل ومشفر طويل وإن ذلك من خلق ربنا لقليل (كشف عواره) بفتح العين المهملة وتضم وقيل الضم أفصح أي أظهر عيب نفسه (لجميعهم) أي من عقلائهم إذ لم يكن ما عارضه به من بديع كلامهم وبليغ نظامهم بل كان مما ينفر عنه الطبع السليم وينبو عنه السمع القويم من قلة سلاسته(1/554)
وكثرة ركاكته وأغرب من هذا أنه لما قتل مسيلمة على يد المسلمين من الصحابة قال رجل من بني حنيفة يرثيه
لهفي عليك أبا ثمامه ... لهفي على ركن اليمامه
كم آية لك فيهم ... كالشمس تطلع من غمامه
حكاه السهيلي وقال كذب بل كانت آياته معكوسة وراياته منكوسة فإنه كما يقال تفل في بئر قوم سألوه ذلك تبركا فملح ماؤها ومسح رأس صبي فقرع قرعا فاحشا ودعا لرجل في ابنين له بالبركة فرجع إلى منزله فوجد أحدهما قد سقط في البئر والآخر قد أكله الذئب ومسح على عيني رجل استشفى بمسحه فابيضت عيناه (وسلبهم الله ما ألفوه) أي استعملوه (من فصيح كلامهم) أي في صحيح مرامهم وهذا يومي ترجيح القول بالصرفة كما فهم الدلجي وصرح بقوله ولا أقول به بل الصارف عن معارضته كمال بلاغته وأنا أقول وإنما صرفوا عن ما ألفوا لما أراد الله بهم من فضاحتهم وإلا لو عارضوا بطبق كلمات محاورتهم لربما أوهموا الضعفاء أنهم قاموا بمعارضتهم كما يشير إليه قوله (وإلّا فلم يخف على أهل المنبر) أي أصحاب التمييز (منهم أنّه) أي كلامهم هذا في مقام معارضتهم (ليس من نمط فصاحتهم) بضم النون والميم أي من نوعها (ولا جنس بلاغتهم) أي في فنها (بل ولّوا) أي أهل الميز من عقلائهم ولو كانوا من فصحائهم وبلغائهم (عنه مدبرين) أي أعرضوا عن الإتيان بمثله مولين بأدبارهم عن نحوه (وأتوا مذعنين) أي منقادين مقرين بكونهم عاجزين غايته أنهم صاروا مفترقين (من بين مهتد) أي مصدق به وبمن أنزل عليه من جهة رسالته (وبين مفتون) أي متحير في بديع بلاغته ومنيع فصاحته متعجب من عجزهم عن معارضته (ولهذا) أي ولكونه ليس من نمط فصاحتهم وجنس بلاغتهم (لَمَّا سَمِعَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) مِنَ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النحل: 90] الآية) يعني وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (قال) أي الوليد (والله إنّ له لحلاوة) وفي نسخة حلاوة أي لذة عظيمة يدركها من له سجية سليمة (وإنّ عليه لطلاوة) بفتح الطاء وقد تضم أي رونقا وحسنا فائقا (وإنّ أسفله لمغدق) بغين معجمة اسم فاعل من الغدق بفتحتين وهو كثرة الماء تلويحا بغرارة معانيه في قوالب مبانيه وفي نسخة لغدق من غير ميم وضبط بفتح عين مهملة فسكون ذال معجمة استعارة من النخلة التي ثبت أصلها وهي العذق وهو رواية ابن إسحاق وبفتح معجمة فكسر مهملة من الغدق وهو الماء الكثير وهو رواية ابن هشام قال السهيلي ورواية ابن إسحاق أفصح لأنها استعارة تامة يشبه آخر الكلام أوله قال الحلبي فيوجه اللفظ الذي قاله القاضي في الكلام على رواية ابن إسحاق وابن هشام (وإنّ أعلاه لمثمر) إشارة إلى غزارة نفعه وزيادة رفعه بكريم فوائده وعميم عوائده (ما يقول هذا) أي مثل هذا (بشر) أي مخلوق وفي أصل(1/555)
الدلجي ما هذا بقول بشر وفي حاشية الحلبي قال الغزالي في كتاب الإحياء عند آداب تلاوة القرآن حديث أن خالد بن عقبة جاء إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال اقرأ علي فقرأ عليه إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الآية فقال أعد فاعاد فقال إن له لحلاوة الخ كما هو في الإحياء ذكره أبو عمرو بن عبد البر في استيعابه بغير إسناد ورواه البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عباس بسند جيد إلا أنه قال الوليد بن المغيرة بدل خالد بن عقبة كما قال القاضي وكذا ذكره ابن إسحاق في السيرة فإن صح ما قاله الغزالي تبعا لما في الاستيعاب فإنهما قضيتان والله تعالى أعلم بالصواب؛ (وذكر أبو عبيد) بالتصغير وفي نسخة أبو عبيدة بزيادة تاء وهو الإمام الحافظ القاسم بن سلام بتشديد اللام البغدادي معدود فيمن أخذ عن الشافعي الفقيه وكان إماما بارعا في علوم كثيرة منها التفسير والقراآت والحديث والفقه واللغة والنحو والتاريخ قال الخطيب كان أبوه سلام عبدا روميا لرجل من أهل هرات سمع أبو عبيد إسماعيل بن جعفر وشريكا وإسماعيل بن عياش وابن علية وغيرهم وروى عنه محمد بن إسحاق الصاغاني وابن أبي الدنيا والحارث بن أبي أسامة وآخرون توفي سنة أربع وعشرين ومائتين (أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: 94] ) ما مصدرية أو موصولة وعائدها محذوف أي أجهر بأمرك أو بالذي تؤمر به من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا أو افرق بين الحق والباطل على أن أصل الصدع بالحجة هو التمييز والإبانة وتتمة الآية وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أي ولا تبال بإنكار من أنكر وبإشراكه كفر (فسجد) أي الأعرابي وانقاد لما أبداه (وقال سجدت لفصاحته) أي لوصوله نهاية فصاحته وبلوغه غاية بلاغته؛ (وسمع آخر) أي أعرابي آخر أو رجل آخر من المشركين (رجلا) أي من المسلمين (يقرأ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) أي حين يئسوا من يوسف إذ لم يجبهم وزيادة السين التاء للمبالغة (خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف: 80] ) أي انفردوا واعتزلوا متناجين في تدبير أمرهم ووحده لكونه مصدرا أو فعيلا (فقال أشهد أنّ مخلوقا) أي أحدا من الأنام (لا يقدر على مثل هذا الكلام) أي في غاية النظام ونهاية المرام (وَحُكِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه كان يوما) أي من الأيام (نائما في المسجد) ولعله كان معتكفا في مسجد سيد الأنام (فإذا هو) أي عمر (بقائم) أي رجل واقف (على رأسه) ووقع في أصل الدلجي وعلى رأسه قائم فقال جملة حالية (يتشهّد شهادة الحقّ) أي يأتي بكلمتي الشهادة على وجه الإخلاص وطريق الصدق (فاستخبره) أي عمر عن سبب ذلك الخبر والمعنى أنه طلب منه خبره وما أوجب أثره (فأعلمه) أي ذلك القائم (أنّه) أي باعتبار أصله (من بطارقة الرّوم) بفتح الباء الموحدة جمع بطريق بكسرها وهو كالأمير أو الوزير في لغتهم (ممّن) أي وأنه من جملة من (يحسن كلام العرب) أي فهمه (وغيرها) أي وغير لغة العرب أو كلماتهم من كلام الترك والعجم والهند ونحوها (وأنّه سمع رجلا من أسرى المسلمين) أي من أسرائهم في أيدي أعدائهم (يقرأ آية من كتابكم فتأمّلتها فإذا) أي هي كما في نسخة (قد جمع) بصيغة المجهول أي(1/556)
اجتمع (فيها ما أنزل الله عَلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا) أي من علائق المعاش (والآخرة) أي من لواحق المعاد (وهي) أي تلك الآية الجامعة (قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ) في فرائضه (وَرَسُولَهُ) أي في سننه أو في جميع ما يأمرانه وينهيانه (وَيَخْشَ اللَّهَ) أي ويخف خلافه وعقابه وحسابه (وَيَتَّقْهِ [النور: 52] ) فيه قراآت مشهورة في محلها مسطورة أي ويتق الله فيما بقي من عمره في جميع أمره (الآية) تمامها فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ أي الظافرون بالمراد في المبدأ والمعاد؛ (وحكى الأصمعيّ) وهو عبد الملك بن أصمع البصري صاحب اللغة والغريب والأخبار والملح ولد سنة ثلاث وعشرين ومائة (أنّه سمع جارية) أي بنتا أو مملوكة خادمة تتكلم بعبارة فصيحة وإشارة بليغة وهي خماسية أو سداسية وهي تقول: استغفر الله من ذنوبي كلها فقال لها مم تستغفرين ولم يجر عليك قلم فقالت:
استغفر الله لذنبي كله ... قتلت انسانا لغير حله
مثل غزال ناعم في دله ... انتصف الليل ولم أصله
(فقال لها: قاتلك الله ما أفصحك) أي هي حقيقة بأن يقال لها ذلك تعجبا من فصاحة قولها كما يقال قاتله الله ما أعجب فعله أي بلغ في الكمال غاية لم يصل غيره إليها فاستحق أن يحسد فيه فيدعي عليه (فقالت أو) بفتح الواو (يعدّ هذا) بصيغة المجهول والمفهوم من الدلجي أن أصله بصيغة الخطاب المعلومة حيث قال عطف على مقدار أي ايعجبك وتعده (فَصَاحَةً بَعْدَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) أي أشرنا إليها إلهاما أو مناما (أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص: 7] ) أي أخفيه ما أمكنك فيه (الآية) وهي قوله تعالى فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ أي من لحوق الهم فألقيه في اليم ولا تخافي عليه ضياعه ولا تحزني فراقه أنا رادوه إليه لتقري عينا وجاعلوه من المرسلين عنا بمرأى منا (فجمع) أي الله سبحانه وتعالى (في آية واحدة بين أمرين) هما أرضعيه والقيه (ونهيين) أي لا تخافي ولا تحزني (وخبرين) يعني وأوحينا فإذا خفت عليه (وبشارتين) أي رادوه وجاعلوه (فهذا) أي الجمع بين المذكور في الآية ذكره الدلجي والأظهر أن هذا الذي ذكر من غاية الفصاحة ونهاية البلاغة في هذه الآية وغيرها مما سبق ذكره (نوع من إعجازه) أي إعجاز القرآن (منفرد) وفي نسخة مستقل (بذاته غير مضاف إلى غيره) أي من أنواعه المتعلقة بصفاته من حيث إخباره عن مغيباته وإنبائه عن أحكام عباداته ومعاملاته ومأموراته ومنهياته (على التّحقيق) أي عند أهل التوفيق (وعلى الصّحيح من القولين) أي اللذين سبق ذكرهما بالتصريح فإن الأول وهو الأولى هو القول بأنه خارج عن قدرة البشر وثانيهما أنه صرفهم عن معارضته خالق القوى والقدر فتأمل وتدبر (وكون القرآن) أي نزوله باعتبار ظهوره ووصوله (من قبل النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) بكسر القاف وبفتح الموحدة أي من جانبه وطرف حصوله (وأنّه أتى به معلوم ضرورة) أي(1/557)
بديهة لا يفتقر إلى إقامة بينة ولا قيام حجة (وكونه صلى الله تعالى عليه وسلم متحدّيا به) أي طالبا لمعارضته ولو بأقصر سورة (مَعْلُومٌ ضَرُورَةً وَعَجْزُ الْعَرَبِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهِ) أي المتحدين به الموجودين في زمنه (معلوم ضرورة وكونه) أي القرآن (في فصاحته) أي وبلاغته (خارقا للعادة معلوم ضرورة للعالم) بكسر اللام وفي نسخة صحيحة للعالمين أي للعلماء (بالفصاحة ووجوه البلاغة) أي لمقاماتها المقتضية (وسبيل من ليس من أهلها) أي من أهل المعرفة بفنون الفصاحة ووجوه البلاغة (علم ذلك) بكسر العين وفي نسخة بصيغة الماضي معلوما وقيل مجهولا والأول هو المعول أي هو أن يعلم كون القرآن في الفصاحة والبلاغة معجزة خارقا للعادة (بعجز المنكرين) أي لكونه كلام الله تعالى (من أهلها عن معارضته واعتراف المقرّين) أي بكونه كلامه (و) اعتراف (المفترين) أي القائلين بافترائه (بإعجاز بلاغته) أي لهم عن مناقضته (وأنت) أي أيها المخاطب (إذا تأمّلت) أي من جهة الإيجاز الباهر في الإعجاز الظاهر (قوله تعالى: وَلَكُمْ) أي ولغيركم (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179] ) أي المودع فيه من بدائع التركيب وروائع الترتيب مع ما فيه من المطابقة بين معنيين متقابلين وهما القصاص والحيات ومن الغرابة بجعل القتل الذي هو مفوت الحياة ظرفا لها ومن البلاغة حيث أتى بلفظ يسير متضمن لمعنى كثير فإن الإنسان إذا علم أنه إذا قتل اقتص منه دعاه إلى ردعه عن قتل صاحبه فكأنه أحيى نفسه وغيره فيرتفع بالقصاص كثير من قتل الناس بعضهم بعضا فيكون القصاص حياة لهم مع ما في القصاص من زيادة الحياة الطيبة في الآخرة وهو أولى من كلام موجز عندهم وهو أن القتل أنفى للقتل في قلة المباني وكثرة المعاني وعدم تكرار اللفظ المنفر للحظ وفي الإيماء إلى أن القصاص الذي بمعنى المماثلة سبب للحياة دون مطلق القتل بالمقابلة إذ ربما يكون سببا لفتنة فيها قتل فئة وفساد جماعة (وقوله) بالنصب (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا) أي عند موتهم أو بعثهم أو وقت هلاكهم (فَلا فَوْتَ) أي لهم من الله بهرب وسبب غريب (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ [سبأ: 51] ) أي من ظهر الارض إلى بطنها أو من الموقف إلى النار قعرها أو من نحو صحراء بدر إلى قليبها (وقوله تعالى ادْفَعْ) أي سيئة من أساء إليك من الكائنات (بِالَّتِي) أي بالحسنة التي (هِيَ أَحْسَنُ) الحسنات أو بالخصلة التي هي أحسن الأخلاق في المعارضات من الحلم والصبر والعفو وما يمكن دفعها به من المستحسنات (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) أي صديق قريب رفيق (وقوله وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) أي انشفي (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي [هود: 44] ) أي أمسكي (الآية) يعني وغيض الماء أي نقص وقضي الأمر أي أمر هلاك الأعداء وانجاء الأحباء واستوت استقرت السفينة على الجودي جبل بالموصل أو الشام روي أنه ركبها عاشر رجب وهبط منها بعد استقرارها عليه عاشر شهر المحرم وصامه فصار سنة وقيل بعدا للقوم الظالمين أي هلاكا لهم حين وضعوا العبادة في غير موضعها وفي نداء الأرض والسماء مع أنهما ليستا من العقلاء إيماء إلى باهر عظمته وقاهر قدرته حيث انقادتا(1/558)
لما يريد منهما إيجادا وإعداما كما حكى الله سبحانه وتعالى عنهما بقوله فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ امتثالا لأمره وانقيادا لحكمه مهابة من عظمته ومخافة من سطوته وين أردت تفصيل ما يتعلق بهذه الآية في الجملة فعليك بشرح الدلجي حيث ذكر بعض ما يتعلق بها من حسن مبانيها ولطافة معانيها وبدائع الحكم التي أودعت فيها.
(وقوله تعالى فَكُلًّا) أي عقيب ارسالنا الأنبياء إلى أممهم وتكذيبهم كلا منهم (أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) عاقبناه بإصراره على كفره وعدم رجوعه إلى توحيد ربه (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً [العنكبوت: 40] ) أي ريحا عاصفا فيه حصباء وهم قوم لوط (الآية) تمامها وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وهم ثمود ومدين وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وهو قارون وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وهم قوم نوح وفرعون مع قومه (وأشباهها) بالنصب أي أمثال هذه الآية ووقع في أصل الدلجي وأشباهه فقال أي أشباه ما ذكر (من الآي) أي من سائر آيات القرآن (بل أكثر القرآن) أي وبل إذا تأملت أكثر القرآن أي مما هو بمحل من إيجاز لا يرام وإعجاز لا يسام (حقّقت) جواب إذا تأملت أي عرفت (ما بيّنته من إيجاز ألفاظها) أي مبانيها (وكثرة معانيها وديباجة عبارتها) أي مما يكسوها زينة إشارتها (وحسن تأليف حروفها) أي من غير تنافر فيما بينها (وتلاؤم كلمها) بفتح فكسر أي توافق كلماتها وتناسبها في مقاماتها قال الدلجي وقد تخفف همزة تلاؤم فتصير ياء من الملائمة أي الموافقة لا واوا وما روي في الحديث بها فتحريف لا أصل له لأن الملاومة مفاعلة من اللوم انتهى ولا يخفى أن تخفيف الهمز المضموم بعد الألف لا يعرف إلا بالواو كالتناوش وأما عروض المشابهة بعد التخفيف فلا عبرة به أصلا كما حقق في تخفيف رئاء وأمثالها. (وأنّ تحت كلّ لفظة منها) أي من مبانيها (جملا) أي من جمل الكلام المجملة (كثيرة) أي من معانيها (وفصولا جمّة) أي غزيرة من الفصول المهمة والأمور المتمة (وعلوما زواخر) لها في مقام الكثرة فواخر كما قال ابن عباس:
جميع العلم في القرآن لكن ... تقاصر عنه أفهام الرجال
وقد سأل بعض الحكماء من بعض العلماء ما في كتاب الله تعالى من علم الطب فقال كله في نصف آية هي قوله تعالى كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا فقال صدقت وبالحق نطقت (ملئت الدّواوين) أي الدفاتر (من بعض ما استفيد منها) أي مما يعسر احصاؤه (وكثرت المقالات في المستنبطات عنها) أي مما لا يمكن استقصاؤه (ثمّ هو) مبتدأ أي القرآن الكريم (في سرد القصص الطّوال) أي في إيرادها متتابعة (وأخبار القرون السّوالف) أي أهلها السوابق متوالية (التي يضعف) أي يعجز (في عادة الفصحاء عندها الكلام) أي لطولها (ويذهب ماء البيان) أي عند إرادة تقرير فصولها (آية) خبر المبتدأ أي علامة ظاهرة (لمتأمّله) أي لمتذكره وحجة باهرة لمتدبره (من ربط الكلام) أي من جهة ارتباط اجزاء كلامه (بعضه ببعض) في(1/559)
ترتيب مقامه وتحصيل مرامه (والتئام سرده) أي وتناسب ما قبله لما بعده (وتناصف وجوهه) أي توافق ضروبه وتعانق فنونه كأن كلا منها أنصف الآخر في أخذ حظه من قولهم تناصفوا إذا انصف بعضهم بعضا من نفسه (كقصّة يوسف على طولها) أي المشتملة على دررها وغررها من بيان أبوابها وفصولها (ثمّ إذا تردّدت) أي تكررت (قصصه) بكسر القاف جمع قصة بخلاف فتحها فإنه مصدر قص كما يستفاد من قوله تعالى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ وليس كما يتوهم جمع بأنه جمع (اختلفت العبارات) أي إيجازا وإطنابا وتفننا في بيانها غيبة وخطابا (عنها) أي عن تلك القصة (على كثرة تردّدها) أي مع كثرة تردادها وتكرارها (حتّى تكاد كلّ واحدة) أي من القصص (تنسّي) بضم التاء وكسر السين مخففا أو مثقلا أي تذهب على خاطر المستمع المصغي المتأمل (في البيان) أي في مراتب بيانه ومناقب شأنه من القصص (صاحبتها) أي نظيرتها (وتناصف) بضم التاء وكسر الصاد أي وتحاكي (في الحسن) أي في حسن مطالعتها حال مقابلتها مرآة (وجه مقابلتها) بكسر الباء (ولا نفور للنّفوس من ترديدها) أي ولا تنفر للنفوس النفيسة من سمع تكريرها وتعداد تقريرها (ولا معاداة) أي من أحد (لمعادها) بضم الميم أي لمكررها والضمير للقصص على منوال ما قبلها ووقع في أصل الدلجي لمعاده بإفراد الضمير المذكر فقال أي القرآن والحاصل أنه كما قال الشاطبي:
وخير جليس لا يمل حديثه ... وترداده يزداد فيه تجملا
وكما قال غيره:
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره ... هو المسك ما كررته يتضوع
ولكن هذا بالنسبة إلى صاحب قلب سليم لا إلى من له طبع سقيم.
فصل [الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ إِعْجَازِهِ صُورَةُ نَظْمِهِ الْعَجِيبِ والأسلوب الغريب]
(الوجه الثّاني من إعجازه) أي من وجوه ضبط أنواع إعجاز القرآن (صورة نظمه العجيب) لما فيه من بدائع التركيب وروائع الترتيب، (والأسلوب) بضم الهمزة واللام الفن (الغريب) وكان المناسب أن يقول وأسلوبه الغريب (المخالف) أي بغرابته مع نهاية فصاحته وغاية بلاغته (لأساليب كلام العرب) أي لما أودع فيه من دقائق البيان وحقائق العرفان وحسن العبارة ولطف الإشارة وسلاسة التركيب وسلاسة الترتيب (ومناهج نظمها) أي طريق مبانيها الواضح البين عند أهلها (ونثرها) أي خطبا ورسائل وغيرها (الذي جاء عليه) أي نزل على وفقه القرآن إيماء بأن ما عجزوا عنه إنما هو كلام منظوم من عين ما ينظم كلامهم منه ليعلموا أنه ليس من كلام النبي الكريم بل هو منزل عليه من عند الله العظيم (ووقفت مقاطع آية) أي أواخر وقوف فواصلها من التام والكافي والحسن وباختلاف محالها وزيد في أصل الدلجي هنا لفظ عليه فقال أي على الأسلوب الغريب الذي قصرت عن وصف كنه إعجازه العبارة إذ(1/560)
الإعجاز كالملاحة يدرك ولا يوصف بالإشارة (وَانْتَهَتْ فَوَاصِلُ كَلِمَاتِهِ إِلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ قَبْلَهُ) أي من الكتب المتقدمة (ولا بعده) أي ولا يتصور أن يوجد بعده (نظير له) أي شبيهه ومثله في حسن المباني وروانق المعاني (ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه) أي لجزالة فصاحته وفخامة بلاغته (بل حارث فيه عقولهم) أي تحيرت (وتدلّهت) بالدال المهملة وفي نسخة تولهت بالواو أي أندهشت (دونه) أي عنده (أحلامهم) أي فهومهم في تصوره وتدبره (ولم يهتدوا إلى مثله) أي إلى إتيان شبهه (فِي جِنْسِ كَلَامِهِمْ مِنْ نَثْرٍ أَوْ نَظْمٍ أو سجع) أي في أحدها (أو رجز) بفتح الراء والجيم وفي آخره زاء وهو من بحور الشعر وأنواعه وقيل لا يسمى شعرا ولذا عطف عليه بقوله (أو شعر) وعلى الأول يكون تعميما بعد تخصيص وضبط في بعض النسخ بفتح الزاء وسكون الجيم في آخره راء والظاهر أنه تصحيف لعدم المناسبة بين السابقة واللاحقة (ولمّا سمع كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم الوليد بن المغيرة) وهو والد خالد رضي الله تعالى عنه لكن هلك على دينه لقلة يقينه (وقرأ عليه القرآن رقّ) بتشديد القاف أي تأثر بسماعه لما القي عليه (فجاءه أبو جهل) وهو ابن أخيه (منكرا عليه) أي رقته لديه (قال) وفي نسخة فقال أي الوليد (والله ما منكم أحد أعلم بالأشعار) أي بأنواع الشعر (مِنِّي وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا من هذا) أي من جنس الشعر (وفي خبره الآخر) أي عن الوليد كما رواه البيهقي عن ابن عباس (حين جمع قريشا عند حضور الموسم) أي قرب ورود أهله وهو بفتح ميم وكسر سين قال اليمني موسم الحاج مجمعهم سمي بذلك لأنه معلم يجتمع إليه وهو يصلح أن يكون اسما للزمان والمكان انتهى والظاهر الأول فتأمل (وقال) وفي نسخة فقال (إنّ وفود العرب) جمع وفد وهو القوم يجتمعون ويردون البلدة والقرية لمآرب تحوجهم إلى النقلة (ترد) أي يجيئون إليكم وينزلون عليكم (فأجمعوا فيه رأيا) بفتح الهمزة وكسر الميم من أجمع الأمر وأزمعه إذا نواه وعزم عليه أي اجتمعوا بالعزم على رأي فيه صلى الله تعالى عليه وسلم ومنه قوله تعالى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ وقرأ أبو عمرو بهمزة الوصل وفتح الميم ووجهه ظاهر ولا يبعد أن يضبط هنا كذلك أيضا أي أجمعوا رأيا فيه لا يوجد ما ينافيه كما أشار إليه بقوله (لا يكذّب بعضكم بعضا) وهو بتشديد الذال وتخفف كما قرئ بهما في قوله تعالى فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ والمعنى لا ينسب بعضكم بعضا إلى الكذب (قالوا) وفي نسخة فقالوا (نقول كاهن) وهو من يزعم أنه يخبر عن الكائنات في الأزمنة الآتية ويدعي معرفة أسرار المغيبات الماضية وكان في العرب كهنة كشق وسطيح وهما اللذان أخبرا بمبعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فمنهم من زعم أن له رئيا من الجن يلقى إليه أخبارا يسترقها من السماء ويلقطها مما يراه في أطراف الأرض ومنهم من زعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب من كلام من يسأله أو فعله أو حاله ويخصونه باسم العراف كمن يزعم معرفة المسروق ومكان الضال وحلوان الكاهن والعراف حرام (قال) أي الوليد (والله ما هو بكاهن) إذ لم يعهد منه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه سلك طريقهم في تزوير أقاويل باطلة روجها بسجع في كلمات(1/561)
متقابلة إذ كانوا يروجون أخبارهم المزورة وأقوالهم المصورة بأسجاع مزخرفة تروق السامعين يستميلون بها قلوبهم وأوهامهم ويستصغون إليها اسماعهم وأفهامهم ولا يتكلمون إلا بالسجع المتكلف في تأدية مرامهم ومن ثمة عاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قول من قال في حديث قتل الجنين كيف ندى من لا أكل ولا شرب ولا استهل ومثل ذلك يطل أي يهدر وفي رواية بطل إنما هذا من إخوان الكهان لما تضمنه سجعه من الباطل وما ليس تحته طائل وإلا فقد ورد السجع في كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرا (ما هو) أي ليس كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم المعنى به القرآن أو مطلق ما يظهره في عالم البيان (بزمزمته) أي بزمزمة الكاهن (ولا سجعه) وهو صوت خفي لا يكاد يفهم فكأنه والله تعالى أعلم إذا أراد حضور قرينه من الجن زمزم له فحضر عنده وأخبره والنفي الثاني بمنزلة الدليل للنفي الأول فتأمل أو معطوف عليه بحذف الباء كما سيأتي في قرائنه هذا وقيل زمزمة الكهان صوت يديرونه في خياشيمهم وأفواههم من غير صريح نطق وربما افهموا به من الفهم (قالوا مجنون) أي مصاب اختلط عقله من مس الجن على ما يعتقدون فيما يزعمون ولقد رأى رجل قوما مجتمعين على إنسان فقال ما هذا قالوا مجنون قال هذا مصاب إنما المجنون الذي يضرب بمنكبيه وينظر في عطفيه ويتمطى في مشيته وما أحسن مقابلته بالمصاب فإنه المخطئ في فعله عن صوب الصواب لكونه أصيب بآفة في عقله الخارج عن دائرة أولي الألباب، (قال) أي الوليد (ما هو بمجنون ولا بخنقه) بفتح الحاء المعجمة وكسر النون وتسكن وتفتح وبالقاف مصدر لدخول حرف الجر بعد لا المزيدة لتأكيد النافية السابقة والمقصود انه ليس بفعل نفي كما توهم قال الحلبي الخنق بكسر النون كذا في غير مؤلف في اللغة ولكن في مطالع ابن قرقول قال بضبط المصدر بفتح النون والإسكان ولم يتعرض للكسر فحصل من ذلك ثلاث لغات في المصدر قلت وفي القاموس اقتصر على الأول حيث قال خنقه خنقا ككتف فهو خنق أيضا وخنيق ومخنوق انتهى والمصدر هنا بمعنى المفعول أي ليس هو ممن أصابه الجن وخنقه ولا وسوس في صدره لعدم ظهور أثره في أمره كما أفاده بقوله (ولا وسوسته، قالوا: فنقول شاعر، قال) أي الوليد (مَا هُوَ بِشَاعِرٍ قَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ كُلَّهُ) أي أصنافه جميعه مأخوذ من الشعور وقال اليمني هو مصدر شعرت بالشيء بالفتح أشعر به أي فطنت له ومنه قولهم ليت شعري أي ليتني علمت وفي الاصطلاح هو الكلام المقفى المقصود به الشعر ليخرج ما لم يقصد مما وافق في الوزن والتقفية كما جاء في القرآن والسنة وعبارات الأئمة من غير قصد ويقال في كلامه سبحانه وتعالى إنه غير مقصود بالذات وإلا فلا يتصور بدون إرادته وقوع شيء من الكائنات (رجزه وهزجه) بفتحتين فيهما (وقريضه ومبسوطه ومقبوضه) بيان لبعض أنواعه وأصول أصنافه هذا وقوله قريظه في النسخ بالظاء المشالة وفي أصل الدلجي بالضاد المعجمة فقال فعيل بمعنى مفعول من القرض وهو لغة القطع وسمي الشعر قريضا لأن قارضه أي الشاعر يورده قطعا انتهى وهو الموافق لما في القاموس في حرف الضاد من قوله قرضه(1/562)
قطعه وجاراه كقارضه والشعر قاله وقال اليمني وسمي قريضا لكونه يقرض ويقال قرظته إذا مدحته ويجوز أن تكتب هذه اللفظة بالضاد والظاء، (ما هو بشاعر) تأكيد للأول وفي نسخة وما هو بشاعر انطقه الله تعالى بالصدق وما وفقه للحق فما أقربه في الظواهر وما أبعده في السرائر فهو ممن أضله الله على علم بقدرته القاهرة وإرادته الباهرة (قَالُوا فَنَقُولُ سَاحِرٌ، قَالَ مَا هُوَ بِسَاحِرٍ ولا نفثه ولا عقده) بالجر فيهما على أنهما معطوفان على مدخول الباء أي ولا هو بنفث الساحر أي نفخه ولا بعقده في خيط عند نفثه ومنه قوله تعالى وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (قالوا فما تقول قال ما أنتم بقائلين شيئا من هذا) أي مما رميتموه به من الأباطيل (إلّا وأنا أعرف أنّه باطل) أي وليس تحته طائل (وإنّ أقرب القول إنّه ساحر) بفتح الهمزة على أنه مع اسمه وخبره خبر أن الأولى فتأمل ولا تتبع طريق الدلجي في ضبط الهمزة بالكسر على أنه مقول لقول مقدر حيث قال وأقرب القول فيه أن يقال بأنه ساحر ثم قال الوليد (فإنّه سحر) أي كلامه مشابهه حال كونه (يفرّق) أي به كما في نسخة أي بكلامه المماثل للسحر (بين المرء وابنه) أي أعز أولاده وأقاربه وفي نسخة وأبيه أي والده الذي هو أقرب أسلافه وأجداده (والمرء وأخيه) أي شقيقه وأقوى قرينه ورفيقه (والمرء وزوجه) أي امرأته أو الشخص الشامل للمرأة وزوجها بأحد معنييه (والمرء وعشيرته) أي عموم قرابته بواسطة المخالفة في دينه وملته (فتفرّقوا) أي راضين على هذا القول من ذلك المجلس (وجلسوا على السّبل) أي سبل الوافدين وطرق الواردين (يحذّرون النّاس) أي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومتابعته واقتفاء سنته وطريقته، (فأنزل الله تعالى في الوليد) أي ما يشير إلى الوعيد الأكيد تهديدا شديدا (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: 11] ) حال من الياء في ذرني أي اتركني معه وحدي فأنا أكفيكه أو من العائد المحذوف أي ومن خلقته وحيدا لا مال له ولا ولد بل فريدا أو تهكم به صرفا له عن كونه لقب مدح له بأنه وحيد قومه في الدنيا تقدما ورياسة ويشار إلى ذمه وعيبه وبما يقتضي أن يكون وحيدا في شره (الآيات) أي من قوله تعالى وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً إلى قوله سبحانه وتعالى فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ، (وقال عتبة بن ربيعة) أي ابن عبد شمس بن عبد مناف قتل في بدر كافرا وقد قيل قتله حمزة حين كرهوه وعلي عليه (حِينَ سَمِعَ الْقُرْآنَ: يَا قَوْمُ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَمْ أَتْرُكْ شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ عَلِمْتُهُ وقرأته وقلته، والله لقد سمعت) أي من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (قَوْلًا، وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ مَا هو) أي ليس قوله (بِالشِّعْرِ وَلَا بِالسِّحْرِ وَلَا بِالْكِهَانَةِ؛ وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ نَحْوَهُ وَفِي حَدِيثِ إِسْلَامِ أَبِي ذرّ) أي الغفاري بكسر الغين وقد رواه مسلم (ووصف) أي والحال أنه قد وصف أبو ذر (أخاه أنيسا) بضم الهمزة وفتح النون وسكون التحتية فسين مهملة وكان أبو ذر أرسله قبل اسلامه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة والقصة مشهورة وهو صحابي معروف (فقال) أي أبو ذر: (والله ما سمعت بأشعر) أي بأكثر شعرا وأحسن نظما (من أخي أنيس لقد ناقض) أي عارض (اثني عشر(1/563)
شاعرا) أي معروفا (في الجاهليّة أنا أحدهم وأنّه) أي أنيسا (انْطَلَقَ إِلَى مَكَّةَ وَجَاءَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ) نقل بالمعنى أو التفات في المبنى وفي نسخة وجاءني (بخبر النّبيّ) أي بأخبار بعثته وإظهار نبوته (صلى الله تعالى عليه وسلم قلت فما يقول النّاس) أي في وصفه ونعته (قال يقولون شاعر كاهن ساحر) أي هم مختلفون بين قول شاعر وساحر أو هم قائلون بأنه لا يخلو عن واحد من هؤلاء الطوائف المذكورة أو مدعون بأنه جامع بين هذه الأوصاف الثلاثة المسطورة ثم قال أخو أبي ذر (لقد سمعت قول الكهنة) أي كثيرا (فما هو) أي قوله (بقولهم) أي لعدم المناسبة (ولقد وضعته) أي كلامه (على أقراء الشّعر) بفتح الهمزة وسكون القاف فراء ممدودة أي طرقه وأنواعه أي أنواع بحوره (فلم يلتئم) أي لم يلائم على شيء عن أوزانه (وما يلتئم) أي وما يتفق (على لسان أحد بعدي) أي غيري أيضا (أنّه شعر) إذ الشعراء اتفقوا على ذلك لما استوزنوا كلامه على اقراء شعرهم هنالك (وإنّه) أي النبي عليه الصلاة والسلام (لصادق) أي في دعوى الرسالة وفي قوله نقلا عن ربه وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ (وإنّهم لكاذبون) في كونه شاعرا أو كاهنا أو ساحرا؛ (والأخبار في هذا) أي المعنى المذكور والمدعي المسطور (صحيحة) أي إسنادا (كثيرة) متنا صريحة دلالة (والإعجاز) أي عن الإتيان بمثل هذا القرآن (بكلّ واحد من النّوعين) أي اللذين أحدهما (الإيجاز والبلاغة بذاتها) أي بانفرادها فهما مرفوعان كما في بعض النسخ على أنهما خبران لمبتدأ مقدر وفي بعضها بكسرهما على كونهما بدلين من النوعين وفي نسخة والإيجاز والبلاغة بذاتهما على أنهما عطف بيان لما قبلهما والحاصل أن الإيجاز والبلاغة كلاهما نوع كما سبق ذكره حيث عبر عنهما بصورة نظمه العجيب والنوع الآخر وهو الذي بينه بقوله (والأسلوب الغريب بذاته) أي مع قطع النظر عن بقية صفاته وفي نسخة أن بدل أو ووجهه لا يظهر فتأمل وتدبر ثم صرح بمقصوده في ضمن وروده تحت قوله، (كلّ واحد منهما) أي من النوعين وهو النظم العجيب والأسلوب الغريب (نوع إعجاز على التّحقيق) أي عند أرباب التوفيق واصحاب التدقيق وفي نسخة نوع إيجاز والظاهر أنه تصحيف إذ في المعنى تحريف (لَمْ تَقْدِرِ الْعَرَبُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا) أي لا بالنظم العجيب ولا بالأسلوب الغريب (إذ كلّ واحد) أي من النوعين (خارج عن قدرتها) أي عن قدرة العرب العرباء (مباين لفصاحتها وكلامها) أي مغاير لفصاحتهم وبلاغتهم من الشعراء والخطباء؛ (وإلى هذا) أي القول بأن كل واحد منهما نوع إعجاز بذاته (ذهب غير واحد) أي كثيرون (من أئمّة المحقّقين) بسلامة فطنتهم وصحة فطرتهم (وذهب بعض المقتدى بهم) بفتح الدال أي بعض من يقتدي الناس بهم ويميلون في الجملة إلى تقليدهم وقبول قولهم (إلى أنّ الإعجاز في مجموع البلاغة) أي المتضمنة للفصاحة، (والأسلوب) أي من جهة الغرابة والحاصل أن تحقق الإعجاز بهما مجتمعا لا بكل واحد منهما منفردا (وأتى على ذلك) أي واستدل على ما ذهب إليه أي من أن الإعجاز في مجموعهما (بقول تمجّه الأسماع) بضم الميم وتشديد(1/564)
الجيم أي تدفعه الطباع السليمة وتقذفه الفهوم المستقيمة (وتنفر منه القلوب) أي من أول الوهلة ومبدأ المقدمة. (والصّحيح ما قدّمناه) أي من كون الإعجاز لكل واحد منهما بذاته منفردا، (والعلم بهذا كلّه ضرورة وقطعا) عند أصحاب الذوق من أن وجه الاعجاز أمر من جنس البلاغة يدرك كالملاحة ولا يوصف ولا طريق إليه من جهة الصنيع إلا معرفة علوم المعاني والبيان والبديع مع معونة فيض الهي يورث العلم بكون ذلك ضرورة قطعا (ومن تفنّن) وفي نسخة ومن تكلم (في علوم البلاغة) وفي نسخة في فنون البلاغة أي ومن علم فنون البلاغة وصنوف الفصاحة (وأرهف خاطره) بالنصب أي رقق وحدد ذهنه بتوجه جنانه (ولسانه) أي بتحصيل بيانه (أدب هذه الصّناعة) فاعل ارهف والمعنى أن من أكثر ممارستها وأطال خدمتها حتى صارت له بديهة معرفتها (لم يخف عليه ما قلناه) أي ما قدمناه كما في أصل الدلجي من أن كلا منهما نوع إعجاز بذاته منفردا عند أهل التحقيق بصفاته (وقد اختلف أئمّة أهل السّنة) وفي نسخة ائمة المسلمين (في وجه عجزهم عنه) أي عن الإتيان بمثله (فأكثرهم يقول) أي قالوا مستمرين على قولهم (إنّه) أي وجه عجزهم (ممّا جمع) بصيغة المجهول وفي نسخة بصيغة الفاعل أي جمع الله (في قوّة جزالته) أي لطائف معانيه (ونصاعة ألفاظه) أي شرائف مبانيه بخلوصها من شوائب الركاكة وتنافر الكلمات والغرابة (وحسن نظمه وإيجازه) أي واستحسان نظم المعاني الكثيرة في ضمن المباني اليسيرة من غير خلل في مبناه ولا قصور في معناه (وبديع تأليفه وأسلوبه) أي على صنيع منيع ليس على أسلوب نظم الشعراء ولا نثر الخطباء (لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ) لاشتماله على لطائف وشرائف في باب البلاغة والفصاحة إلى أن خرج عن طاقة الخلق فتعين أنه من كلام الحق (وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَوَارِقِ الْمُمْتَنِعَةِ عَنْ أَقْدَارِ الخلق) بفتح الهمزة أي مقدوراتهم (عَلَيْهَا كَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَقَلْبِ الْعَصَا وَتَسْبِيحِ الْحَصَى) أي مما لا يقدر عليه غيره تعالى (وذهب الشّيخ أبو الحسن) أي علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن عبد الله ابن أمير العراقين بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري إمام أهل السنة (إلى أنّه) أي القرآن (مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ مِثْلُهُ تَحْتَ مَقْدُورِ البشر) أي في الجملة ممن هو ماهر في وجوه البلاغة وباهر في فنون الفصاحة، (ويقدرهم الله عليه) بضم الياء وكسر الدال أي وأن يعطيهم الله القدرة والقوة على اتيان مثله لأنه من جنس نتائج أفكارهم وكرائم اسرارهم (ولكنّه) الضمير للشأن (لم يكن هذا ولا يكون) أي هذا وفي نسخة زيد هذا هو الشأن أي الشأن عدم قدرتهم عليه (فمنعهم الله هذا وعجّزهم عنه) بتشديد الجيم أي وجعلهم عاجزين عن أمر المعارضة في ميدان المقاومة، (وقال به جماعة من أصحابه) أي من علماء الأمة لكن هذا هو القول بالصرفة وقد مر أنه مرجوح عند أكابر الأئمة (وعلى الطّريقين) أي من أن كونه معجزا بذاته عن مقاومته أو بتعجيزه سبحانه وتعالى إياهم عن معارضته (فعجز العرب عنه ثابت) أي بلا شبهة (وإقامة الحجّة عليهم) أي واقع (بما يصحّ أن يكون في مقدورهم) وفي نسخة مقدور(1/565)
البشر أي على ما ذهب إليه الأشعري وبعض اتباعه، (وتحدّيه) أي وطلب معارضته صلى الله تعالى عليه وسلم لهم (بأن يأتوا بمثله قاطع) أي بلا ريبة (وهو) أي تحديه أن يأتوا بمثله مع كونه مما يصح أن يكون في مقدورهم (أبلغ في التّعجيز وأحرى) أي اليق وأولى (بالتّقريع) أي بالتوبيخ (والاحتجاج) مبتدأ أي والاستدلال على عجزهم (بمجيء بشر مثلهم) وفي نسخة منهم أي من جملتهم (بشيء ليس من قدرة البشر لازم) أي على القول بأنه معجز بنظمه العجيب وأسلوبه الغريب (وهو) أي كونه ليس من قدرة البشر (أبهر آية) أي أظهر علامة (وأقمع) أي أقهر (دلالة) أي في ثبوت الحجة (وعلى كلّ حال) أي كل تقدير من قول الإعجاز بالصرفة أو البلاغة (فما أتوا) بفتح الهمزة أي فما جاؤوا (في ذلك) أي في معارضته (بمقال) أي في مقام جدال (بل صبروا على الجلاء) بفتح الجيم أي الخروج من أوطانهم (والقتل) أي وعلى قتل أنفسهم وإخوانهم (وتجرّعوا كاسات الصّغار) بفتح الصاد أي الحقارة (والذّلّ) أي المسكنة والمهانة (وكانوا) أي والحال أنهم كانوا (من شموخ الأنف) بضم الشين المعجمة أي من شماخته ورفعته كبرا وعتوا وهو بفتح الهمزة وسكون النون عضو معروف وجمعه أنوف وفي نسخة بضمتين على أنه جمع أنف وضبطه الحلبي بهمزة ممدودة يعني وضم نون على أنه جمع آخر (وإباءة الضّيم) بكسر همزة فموحدة فألف بعدها همزة أو ياء فتاء وفي نسخة بغير تاء وفي أخرى الضير براء بدل الميم وكلاهما بفتح الضاد أي وكانوا من منوع الضرر تحاميا عنه وتباعدا منه (بحيث لا يؤثرون ذلك) أي لا يختارون ما ذكر من الجلاء والقتل والصغار والذل (اختيارا) أي طوعا (ولا يرضونه إلّا اضطرارا) أي كرها (وإلّا) أي وإن لم يكن الأمر من عجزهم وصبرهم على ذلهم (فالمعارضة) أي للقرآن وسائر المعجزات (لو كانت من قدرهم) بضم وفتح أي مقدوراتهم (والشّغل بها أهون عليهم) والظاهر أن يقال فالشغل بالفاء أو لكان الشغل ولعل الجملة حالية وهو بضم فسكون وبضمتين وبفتح وبفتحتين أي الاشتغال بالمعارضة أسهل إليهم (وأسرع بالنّجح) بضم نون فسكون جيم أي بالظفر على المراد (وقطع العذر) أي المعذرة عند العباد في البلاد (وإفحام الخصم) أي الزامه (لديهم) أي عندهم (وهم) أي والحال أنهم (ممّن لهم اقتدار) وفي نسخة قدرة (على الكلام) وفي نسخة وهم من هم بفتح الميم قدرة بفتح القاف والدال جمع قادر وفي أخرى وهم ممن هم قدرة بفتحتين وقدرة في الجميع مرفوعة وفي اصل الدلجي وهم منهم قدرة بالنصب فقال تمييز للضمير المنفصل قبله والجملة حالية من ضمير لديهم (وقدوة) عطف على قدرة وهو بضم القاف وكسرها وحكي فتحها أي اقتداء وأسوة (في المعرفة به) أي بالكلام (لجميع الأنام) متعلق بالقدوة (وما منهم) أي من أحد (إلّا من جهد جهده) بضم الجيم وفتحه أي بذل جده وبالغ اجتهاده (واستنفذ) بالفاء والدال المهملة أي استفرغ (ما عنده) أي من قوة طاقته (في إخفاء ظهوره) أي ظهور نور القرآن أو علو نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم من جهة رفعة الشأن (وإطفاء(1/566)
نوره ويأبى الله إلا أن يتم نوره) ويعلو ظهوره وهو مقتبس من قوله تعالى يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ (فما جلوا في ذلك) أي فما أظهروا في مقام المعارضة مما اجتهدوا فيه غاية المجاهدة (خبيئة) بفتح الخاء المعجمة وكسر الموحدة فتحتية ساكنة فهمزة مفتوحة أو مبدلة مدغمة أي مخبوءة ومخفية (من بنات شفاههم) بفتح الموحدة قبل النون أي من كلمات صدرت من أفواههم والشفاه بكسر الشين المعجمة جمع الشفة بفتحها وتكسر وشفتا الإنسان طبقا فمه (ولا أتوا بنطفة) أي ولا جاؤوا بقطرة يسيرة (من معين مياههم) أي من ظواهر أنهار بلاغتهم وأسرار فصاحتهم بل صاروا بكما في معارضتهم (مع طول الأمد) أي الزمان (وكثرة العدد) أي الأعوان (وتظاهر الوالد وما ولد) الأولى أن يقال والولد أي ومعاونتهم ومعاضدتهم في مقام الرد وأما ما في نسخة من الأمل باللام يدل الأمد بالدال فتصحيف وتحريف (بل أبلسوا) بصيغة الفاعل أي أيسوا من المعارضة ويئسوا من المقاومة (فما نبسوا) بفتح النون والموحدة المخففة وقيل المشددة وبضم السين المهملة أي فما نطقوا (ومنعوا) بصيغة المفعول أي فما أعطوا القدرة على المقاومة (فانقطعوا) أي عن المعارضة (فهذان النّوعان) وفي نسخة صحيحة نوعان (من إعجازه) أي اجتماعا وانفرادا.
فصل [الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الْإِعْجَازِ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ من الأخبار]
(الوجه الثّالث من الإعجاز) أي من وجوهه (ما انطوى) أي اشتمل واحتوى (عليه من الأخبار) بكسر الهمزة أي الإعلام (بالمغيّبات) أي الكائنات في الأزمنة السابقة (وما لم يكن ولم يقع) أي بعد (فوجد) أي في الأيام اللاحقة (كما ورد) أي مطابقا لما ورد (على الوجه الذي أخبر كقوله تعالى) خطابا للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ) تعليق لعدته بالمشيئة تعليما لعباده وإيماء إلى عدم وجوب شيء على الله تعالى في تحقيق مراده وتلويحا بأن بعضهم لا يدخله لعلة من موت أو غيبة أو حكاية لما قاله ملك الرؤيا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأصحابه حالة الرواية (آمِنِينَ [الفتح: 27] ) حال من واو لتدخلن والجملة الشرطية معترضة (وقوله تعالى: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) أي الروم من بعد غلبة الفرس عليهم (سَيَغْلِبُونَ [الروم: 3] ) الفرس وكانوا مجوسا والروم نصارى فورد خبر غلبة الفرس إياهم مكة ففرح المشركون وشتموا بالمسلمين وقالوا أنتم والنصارى أهل كتاب ونحن وفارس أميون لا كتاب لنا وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ولنظهرن عليكم فنزلت الآية إلى قوله فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه لا يقرن الله أعينكم فو الله لتظهرن الروم على فارس في(1/567)
بضع سنين فقال أبي بن خلف كذبت أجعل بيننا وبينك أجلا فراهنه على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعلا الأجل ثلاث سنين فأخبر أبوبكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده أي في الإبل وماده في الأجل فجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين ومات أبي بعد قفوله من أحد بجرح من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بسرف كافرا وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية فأخذ أبو بكر القلائص من ورثة أبي فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تصدق بها وبه أخذ ائمتنا الحنفية جواز العقود الفاسدة في دار الحرب وأجاب الشافعية بأنه كان قبل تحريم القمار والله تعالى اعلم (وقوله) أي وكقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ) أي ليغلب دين الحق ويعليه (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الفتح: 33] ) أي على جنس الدين جميعه بتمام إفراده بتسليط المسلمين على أهله بالعزة والغلبة والقهر والقوة فضلا عن الحجة (وَقَوْلِهِ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور: 55] الآية) أي في الأرض كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من الأنبياء السالفة وأممهم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً (وَقَوْلِهِ:
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النَّصْرِ: 1] ) أي فتح مكة (إلى آخرها) أي إلى آخر السورة أو إلى آخر ما يتعلق به معنى الآية وهو قوله وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (فكان جميع هذا كما قال) أي وقع كله كما أخبر عنه أي فكان جميعه كما قال معجزة ومن أعلام النبوة (فغلبت الرّوم فارس في بضع سنين) أي يوم الحديبية قيل عند رأس سبع سنين وكان حقه أن يقول أيضا ودخل أهل الإسلام في المسجد الحرام آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين غير خائفين في عام عمرة القضاء وكان صلح الحديبية مقدمة فتح مكة وهذا وإن كان باعتبار الآية الواردة فيه مقدما لكن وقوعه عن قضية غلبة الروم صار مؤخرا؛ (ودخل النّاس في الإسلام) أي بعد فتح مكة (أفواجا) أي فوجا بعد فوج من أهل مكة والطائف واليمن وغيرها (فما مات صلى الله تعالى عليه وسلم وفي بلاد العرب كلّها لم يبق موضع لم يدخله الإسلام واستخلف) أي الله تعالى كما في نسخة (المؤمنين في الأرض) أي في عامة البلاد (ومكّن فيها دينهم) أي ثبته فيما بين العباد (وملّكهم إيّاها) أي الأرض وبلادها (من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب) أي ليتم نظام مرادهم ويكمل أمور معاشهم ومعادهم (كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فيما رواه مسلم عن ثوبان مرفوعا (زويت لي الأرض) بضم الزاء وكسر الواو أي جمعت وطويت لأجلي (فأريت) بصيغة المجهول وفي أصل الدلجي فرأيت (مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لي منها) أي بأسرها (وَقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] ) أي من التحريف بالزيادة والنقصان مما تواتر عند علماء الأعيان من قراء الزمان (فكان كذلك) أي بمقتضى حفظه (لا يكاد يعدّ) بصيغة المجهول أي يحصر (من سعى في تغييره) أي من مبانيه (وتبديل محكمه) أي في(1/568)
معانيه (من الملحدة) أي المائلة عن الحق إلى الباطل كالحلولية والاتحادية وأمثالهما (والمعطّلة) أي القائلة بتعطيل الكون من المكون كالدهرية ونحوها (لا سيّما القرامطة) بالرفع على أن سي بمعنى وما موصولة صدر صلتها محذوف أي ولا مثل الذين هم القرامطة وبالجر على أن ما زائدة وبالنصب على أنها أداة استثناء وهم طائفة معروفة وقال بعضهم فرقة من الإباضية وهم اتباع حمدان القرمطي (فأجمعوا كيدهم وحولهم) أي جهدهم (وقوّتهم) أي جدهم (اليوم) أي إلى يومنا هذا (نيّفا) بفتح النون وسكون الياء مخففة وقيل مشددة مكسورة أي زيادة (على خمسمائة عام) أي بالنسبة إلى تاريخ زمن المصنف وأما الآن فهو نيف وألف (فما قدروا) أي القرامطة وغيرهم من الملاحدة ونحوهم (عَلَى إِطْفَاءِ شَيْءٍ مِنْ نُورِهِ وَلَا تَغْيِيرِ كلمة من كلامه) وفي نسخة صحيحة من كلمه بفتح فكسر ويجوز بكسر فسكون (وَلَا تَشْكِيكِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِهِ) أي لا من حروف مبانيه ولا من حروف معانيه ولا ترديدهم في يعراب بل ونقطة مما ينافيه في باب (والحمد لله) أي على تمام هذه المنة وإتمام هذه النعمة (ومنه) أي ومن اعجاز القرآن في أخبار الغيب من مستقبل الزمان (قوله تعالى سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) أي جمع أهل الكفر (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: 11] ) أي الإدبار كما قرئ به وأفرد لقصد الجنس أو لإرادة كل واحد ولمراعاة الفواصل وعن عمر رضي الله تعالى عنه لما نزلت لم أعلم ما هو حتى كان يوم بدر سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو يلبس درعه ويقول سيهزم الجمع فعلمته (وقوله تعالى) أي ومنه قوله تعالى (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التوبة: 14] ) أي قتلا (الآية) أي ويخزهم أسرا وينصركم عليهم نصرا ويشف صدور قوم مؤمنين أي مما امتلأت منهم ضجرا قيل هم خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بطون من اليمن وردوا مكة واسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيرا فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اصبروا فإن الفرج قريب (وقوله تعالى) أي وكذا منه قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى [التَّوْبَةِ: 33] الْآيَةَ) وقد سبق وهذا من التكرير في التعبير (وقوله: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) أي ضررا يسيرا كطعن في الدين وتهديد في التخمين (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ [آل عمران: 111] الآية) أي يولوكم الأدبار أي منهزمين ثم لا ينصرون أي لا بنصر أحد لهم ولا بدفع البأس عنهم (فكان كلّ ذلك) أي فوقع هنالك كل ذلك كذلك من هزم جمعهم وتعذيبهم وشفاء صدور المؤمنين بنصرهم عليهم وانحصار الأذى في ضررهم وانهزامهم كبني قريظة والنضير وأمثالهم (وما فيه) أي ومما في القرآن (من كشف أسرار المنافقين واليهود ومقالهم) أي من إيضاح أقوالهم وإفضاح أحوالهم (وكذبهم في حلفهم وتقريعهم بذلك) أي ومن توبيخ الله إياهم بسوء أعمالهم وتقبيح آمالهم وتفظيع مآلهم (كقوله) أي كما في قوله سبحانه وتعالى:
(وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) أي فيما بينهم أو في نفوسهم (لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ [المجادلة: 8] ) أي هلا يعاقبنا بقولنا في محمد طعنا منا فيه وفي الإسلام ودفعا عنا بالسام بدل السلام قال(1/569)
الله تعالى وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (وقوله) أي وكقوله تعالى في حق المنافقين (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ [آل عمران: 154] الآية) أي لو كان لنا من الأمر شيء كما زعم محمد أن الأمر كله لله وأن حزبه هم الغالبون ما قتلنا ههنا أي في المعركة (وقوله) أي وكقوله تعالى في حق اليهود (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) أي بعض اليهود منهم قوم (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ [المائدة: 41] الآية) أي أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ الخ، (وَقَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) أي يميلونها عن مواضعها التي وضعها الله تعالى فيها بإزالتها من مكانها وإثبات غيرها في محلها أو يأولونها على ما يشتهون فيها (إلى قوله وَطَعْناً فِي الدِّينِ [النساء: 46] وقد قال مبديا) بالهمزة أو الياء أي حال كونه تعالى مظهرا (ما قدّره الله) بتشديد الدال أي ما قضاه (واعتقده) ويروى وما اعتقده (المؤمنون) أي مقتضاه الواقع (يوم بدر) على وفق رضاه من الظفر بإحدى الطائفتين العير والنفير (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) أي القافلة الراجعة من الشام أو الطائفة الآتية من بيت الله الحرام (أَنَّها لَكُمْ) حاصلة من أموال إحديها أو غنيمة أخريها (وَتَوَدُّونَ) أي تتمنون وتحبون (أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ) وهي السلاح يعني العير المقبلة مع أبي سفيان (تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال: 7] ) حيث لا حدة فيها ولا شدة بخلاف ذات الشوكة من النفير وهو الجمع الكثير ممن نفروا مع أبي جهل من مكة لاستنقاذ العير واستخلاصهم من أيدي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه متقوين بكثرة عددهم وعددهم (ومنه) أي ومن اعجازه سبحانه وتعالى (قوله تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: 95] ) أي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وعدي والحارث بن قيس والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب بن أسد قيل وكذا عمه أبو لهب وعقبة بن أبي معيط والحكم بن أبي العاص إلا أنه أسلم يوم الفتح والباقون أهلكوا بأنواع من العقوبة (ولما نزلت) أي هذه الآية فيهم على ما رواه الطبراني في الأوسط (بشّر النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ بِأَنَّ اللَّهَ كَفَاهُ إيّاهم) أي شرهم وأذاهم ورواه البيهقي وأبو نعيم بمعناه (وكان المستهزئون نفرا بمكّة) أي جماعة مترصدين للواردين بها والصادرين عنها (ينفّرون النّاس عنه) بتشديد الفاء أي يصدونهم عن الإيمان به (ويؤذونه) أي بهذا واضرابه (فهلكوا) أي بضروب البلاء وفنون العناء فتم نوره وكمل ظهوره؛ (وقوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] ) عدة من الله تعالى بعصمة روحه من غوائل عدوه (فكان كذلك) أي كما أخبر به من لا خلف في خبره (على كثرة من رام ضرّه) أي مع كثرة من قصد ضره (وقصد قتله والأخبار بذلك معروفة) أي مشهورة في كتب المغازي في باب السير (صحيحة) أي مذكورة عند أرباب الأثر فعصمه الله تعالى وحفظه حتى انتقل من دار الدنيا إلى منازل الحسنى في العقبى.(1/570)
فصل [الْوَجْهُ الرَّابِعُ مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ القرون السالفة]
(الوجه الرّابع) أي من وجوه اعجاز القرآن (ما أنبأ به) أي أخبر به واعلمه (من أخبار القرون السّالفة) أي الماضية (والأمم البائدة) أي الهالكة الفانية (والشّرائع الدّاثرة) أي الدار الدارسة (مِمَّا كَانَ لَا يَعْلَمُ مِنْهُ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ إلّا الفذّ) بفتح الفاء وتشديد الذال المعجمة أي الفرد الواحد المنفرد عن أقرانه في علو شأنه (من أخبار أهل الكتاب) بالحاء المهملة أي من علمائهم (الذي قطع عمره) أي صرفه (في تعلّم ذلك) أي الخبر الواحد من ألسنة كبرائهم أو من كتب فضلائهم (فيورده النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم على وجهه) إذ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (ويأتي به على نصّه) أي كما قرأه عليه جبريل من غير تصرف في لفظه (فيعترف العالم) أي منهم كما في نسخة (بذلك) أي بسبب ما أورده (بصحّته وصدقه) متعلق بيعترف (وأنّ مثله لم ينله بتعليم) أي لم يصل إليه بواسطة تعليم وتعلم من الخلق وحينئذ قد يغترف من بحر تحقيقه ويتشرف بتوفيق تصديقه لعلمه أنه أخبر الخلق بوحي من الحق (وقد علموا) أي جميعهم قبل ذلك (أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم أمّيّ) أي في جميع أمره (لا يقرأ ولا يكتب) أي في جميع عمره (ولا اشتغل بمدارسة) أي مع العلماء (ولا مثافنة) بالمثلثة والفاء والنون أي ولا مجالسة مع الشعراء والفضلاء وفي نسخة بالقاف والموحدة ولعلها مصحفة أو يراد بها المزاحمة في المعرفة من ثقوب الذهن وهو وصوله إلى الصواب ثم هذا فيما بينهم (ولم يغب عنهم) أي غيبة يمكنه التعلم فيها من غيرهم (ولا جهل حاله أحد منهم) أي منذ كان صغيرا إلى أن بعث كبيرا لأنه كان من أعيانهم والحاصل أنه كما قال صاحب البردة ذائقا من هذه الزبدة كفاك بالعلم في الأمي معجزة (وقد كان أهل الكتاب) أي من اليهود والنصارى (كثيرا ما) أي في كثير من الأوقات (يسألونه صلى الله تعالى عليه وسلم عن هذا) أي عن أخبار القرون الماضية (فينزل) بصيغة الفاعل أو المفعول مخففا أو مشددا (عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ مَا يَتْلُو عَلَيْهِمْ مِنْهُ ذكرا) أي بيانا لأعمالهم وأحوالهم وما جرى لهم في مآلهم (كقصص الأنبياء مع قومهم) أي أقوامهم من أممهم إجمالا تارة ومفصلا أخرى وعموما مرة وخصوصا كرة كما أشار إليه بقوله (وخبر موسى والخضر) بفتح فكسر وروي بكسر فسكون قيل لأنه إذا جلس أو صلى اخضر ما حوله وفي البخاري أنه جلس على فروة فإذا هي تهتز خلفه خضراء والفروة الأرض اليابسة أو الحشيش اليابس وفي اسمه اختلاف وكذا في كونه نبيا مرسلا أو غيره أوليا وبه جزم جماعة وأغرب ما قيل فيه إنه من الملائكة وقيل إنه ابن آدم وقيل ابن فرعون وقال الثعلبي نبي على جميع الأقوال معمر محجوب عن الأبصار واختلف في حياته وقد أنكرها جماعة منهم البخاري وقال ابن الصلاح هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة معهم على ذلك وإنما شذ بإنكارها بعض المحدثين قال الحلبي ونقل النووي عن الأكثرين حياته وقيل إنه لا يموت إلا في آخر الزمان وفي صحيح(1/571)
مسلم في أحاديث الدجال أنه يقتل رجلا ثم يحييه قال إبراهيم بن سفيان راوي مسلم يقال إنه الخضر وكذا قال معمر في مسنده وأما ما استدل به البخاري ومن تبعه كالقاضي أبي بكر بن العربي على أنه مات قبل انقضاء المائة لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد فالجواب أن هذا الحديث عام فيمن يشاهده الناس ويخالطونه لا في من ليس كذلك كالخضر بدليل أن الدجال خارج عن هذا الحديث لما روى مسلم من حديث الجساسة الدال على وجود الدجال في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى بقائه إلى زمن ظهوره مع أن مسلما روى عن ابن عمر أن المراد بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد انخرام ذلك القرن، (ويوسف وإخوته) كما هو مبين في سورته بأحسن صورته (وأصحاب الكهف) قال الحلبي واختلف في بقائهم إلى الآن فروي عن ابن عباس أنه أنكر أن يكون بقي منهم شيء بل صاروا ترابا قبل المبعث وقال بعض أصحاب الأخبار غير هذا وأن الأرض لم تأكلهم ولم تغيرهم وأنهم على مقربة من القسطنطينية وفي مكانهم أقوال وروي أنهم سيحجون البيت إذا نزل ابن مريم قال الإمام السهيلي الفيت هذا الخبر في كتاب البدء لابن أبي خيثمة هذا وقد اختلف في عدتهم ومدة إقامتهم (وذي القرنين) روى الحاكم في المستدرك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عن ذي القرنين فقال لا أدري أنبي هو أم لا وجاء فيه عنه عليه السلام أنه كان ملكا سيح في الأرض بالأسباب وقيل في قوله تعالى وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً أي علما يتبعه وفي قوله تعالى فَأَتْبَعَ سَبَباً أي طريقا يوصله وقال ابن هشام في غير السيرة السبب جبل من نور كان ملك يمشي به بين يديه فيتبعه واختلف في تسميته بذي القرنين كما اختلف في اسمه واسم أبيه فأصح ما قيل في ذلك ما روي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال سأل ابن الكوا علي بن أبي طالب فقال أرأيت ذا القرنين أنبيا كان أم ملكا فقال لا نبيا كان ولا ملكا ولكن كان عبدا صالحا دعا قومه إلى عبادة الله فضربوا على قرني رأسه ضربتين وفيكم مثله يعني نفسه وقيل ذو القرنين ملك الخافقين وأذل الثقلين وعمر الفين ثم كان في ذلك كلحظة عين (ولقمان وابنه) تقدم ذكرهما وفي سورته بعض حكمته (وأشباه ذلك من الأنباء) كخبر نوح وابنه وابني آدم (وبدء الخلق) أي ابتدائهم وانتهائهم (وَمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى ممّا صدّقه فيه العلماء) أي من أهل الكتاب (بها) أي حين تلاها عليهم (ولم يقدروا) أي وما قدر أحد منهم (على تكذيب ما ذكر منها) بصيغة الفاعل أو المفعول أي تكذيبه في شيء ذكر من الكتب المذكورة (بل أذعنوا) أي انقادوا له (لذلك) أي لعلمهم بصدقه (فمن موفّق) بتشديد الفاء المفتوحة أي موافق (آمن) أي بالقرآن وما أنزل عليه (بما سبق له) أي في الأزل (من خير) أي من سابقة إرادة السعادة له (ومن شقيّ) أي مخذول (معاند حاسد) وزيد في نسخة خاسر جاهل وقال الحجازي يروى خاسر ويروى جاهل أي لم يصدقه بما سبق له في الأزل من(1/572)
سابقة إرادة الشقاوة له (ومع هذا لم يحك عن واحد) وفي أصل الدلجي وغيره عَنْ وَاحِدٍ (مِنَ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ عَلَى شِدَّةِ عداوتهم له) أي مع مبالغتهم في مناقضتهم لحقه (وَحِرْصِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَطُولِ احْتِجَاجِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا في كتبهم) أي مما أوجب العلم بأنه رسول الله إلى كافة الناس (وتقريعهم) أي توبيخهم ردعا لهم (بما انطوت عليه مصاحفهم) أي بما اشتملت عليه كتبهم وكان الأظهر أن يقول صحفهم أو صحائفهم (وكثرة سؤالهم له عليه الصلاة والسلام) أي إخبارا أو امتحانا (وتعنيتهم إيّاه) أي تكليفهم له بما شق عليه بكثرة سؤالهم (عَنْ أَخْبَارِ أَنْبِيَائِهِمْ) وَأَسْرَارِ عُلُومِهِمْ (وَمُسْتَوْدَعَاتِ سِيَرِهِمْ) أي كل ذلك تعنتا وعنادا لا تفهما وإرشادا (وإعلامه لهم بمكنون شرائعهم) أي مخفيها ومستورها (ومصنّفات كتبهم مثل سؤالهم) أي على لسان قريش إذ قالوا لهم سلوه (عن الرّوح) كما رواه الشيخان (وذي القرنين وأصحاب الكهف) فيما رواه ابن إسحاق والبيهقي فإن أجاب عنها أو سكتت فليس بنبي وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي فبين لهم كما رواه الشيخان قصتي أصحاب الكهف وذي القرنين وأبهم أمر الروح كما هو مبهم في التوراة (وعيسى عليه الصلاة والسلام) أي وسؤالهم عن عيسى فبينه لأهل الكتابين (وحكم الرّجم) فبينه لليهود (وما حرّم إسرائيل على نفسه) أي وسؤالهم عنه كما روى الترمذي أي حرم باجتهاده أو بإذن من ربه لحوم الإبل والبانها فبينه لهم بقوله تعالى كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ (وما حرّم عليهم) بصيغة المجهول (من الأنعام) أي وسؤالهم عنه فبينه بقوله سبحانه وتعالى وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ الآية (ومن طيّبات كانت أحلّت لهم فحرّمت عليهم ببغيهم) أي وسؤالهم عنها فبينه بقوله تعالى فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ الآية، (وقوله) أي مثل قوله تعالى (ذلِكَ) أي سيماهم في وجوهم من أثر السجود (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ [الْفَتْحِ: 29] ) أي كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ الآية والمراد وصفهما العجيب الشأن فيهما (وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمُ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا القرآن) أي لكشف مستورهم (فأجابهم) أي عن ذلك كله (وعرّفهم بما أوحي إليه من ذلك) أي من بيانه (أنّه) بفتح الهمزة متعلق بما سبق وما بينهما معترضة أي فلم يحك عن أحد منهم أَنَّهُ (أَنْكَرَ ذَلِكَ أَوْ كَذَّبَهُ بَلْ أَكْثَرُهُمْ صرّح بصحّة نبوّته وصدق مقالته) وفي نسخة صحيحة مقاله وفي أخرى بفتح الصاد وتشديد الدال على أنه فعل ماض ومقاله مفعوله (واعترف بعناده) أي بعناد نفسه (وحسده إيّاه) وفي نسخة صحيحة وحسدهم (كأهل نجران) بفتح النون وسكون الجيم طائفة من النصارى حين حاجوه في عيسى فدعاهم إلى المباهلة كما في آيتها وسيأتي تفصيل حكايتها (وابن صوريا) بضم الصاد وكسر الراء مقصورا وفي نسخة ممدودا ويقال له ابن صوري وقد ذكر السهيلي عن النقاش أنه اسلم نقل ذلك الذهبي في تجريد الصحابة (وابني أخطب) بالخاء المعجمة يهوديان معروفان هلكا على كفرهما (وغيرهم ومن باهت في ذلك) أي فيما لم ينكر منه ولم يكذب فيه (بعض المباهتة) أي نوع(1/573)
من المباحثة (وَادَّعَى أَنَّ فِيمَا عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ لِمَا حكاه) أي النبي عليه الصلاة والسلام (مخالفة دعي) بصيغة المجهول أي فقد دعي من جانب ربنا سبحانه وتعالى (إلى إقامة حجّته وكشف دعوته) أي من أن عنده فيما حكاه مخالفة كموافقته لإبراهيم عليه السلام في تحليل لحوم الإبل وألبانها ويروى وكشف عورته (فقيل له) أي للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما قال لهم ذلك بهتوا ولم يجترئوا أن يأتوا بها وهذا برهان عظيم على نبوته وصدق دعوته (إلى قوله: الظَّالِمُونَ
[آل عمران: 93- 94] ) يعني فمن افترى على الله الكذب أي بزعمه أن ذلك حرم على بني إسرائيل وعلى من قبلهم قبل نزول التوراة من بعد ذلك أي بعد ظهور الحق له وثبوت الحجة عنده فأولئك هم الظالمون بعدم انصافهم من أنفسهم ومكابرتهم وعنادهم بعد ما تبين الحق لهم (فقرّع) بتشديد الراء (ووبّخ) بتشديد الموحدة أي فأظهر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم التقريع والتوبيخ لهم (ودعا) أي دعاهم (إلى إحضار ممكن غير ممتنع) وهو الاتيان بالتوراة فلم يقدروا على ذلك وتفرقوا باختلافهم هنالك (فمن معترف بما جحده) أي أنكره إما بإسلامه أو بإنصافه (ومتواقح) بالقاف والحاء أي ومن قليل حياء (يلقى) بضم الياء وكسر القاف أي يضع (على فضيحته) أي الكاشفة لعيبه التي هي ظاهرة (من كتابه يده) بالنصب على أنه مفعول يلقى وفي أصل الدلجي من كتابة يده بالإضافة والظاهر أنه تصحيف بل تحريف وهي آية الرجم سماها بالفضيحة لأنها سبب لهتك حالته قال الحلبي وقد جاء في صحيح البخاري أن عبد الله بن سلام قال له ارفع يدك يا أعور وسماه بعض الحفاظ عبد الله بن صوريا الأعور الحبر الذي تقدم ذكره وأنه اسلم بعده (ولم يؤثر) بصيغة المفعول أي ولم يرو أحد (أنّ واحدا منهم) أي من أهل الكتاب (أظهر خلاف قوله) صلى الله تعالى عليه وسلم (من كتابه) وفي نسخة من كتبه (ولا أبدى) أي ولا أظهر (صحيحا ولا سقيما من صحفه) جمع صحيفة والظاهر من تغاير المتعاطفين أن الصحيفة تطلق على الكتاب الصغير والكتاب إذا أطلق فالمراد به الكبير وإن كان معناه الأعم لا سيما حال الجمع بينهما وهذا أولى مما قاله الدلجي من أنه جمع بينهما تفننا وتزينا ومما يؤيد ما قدمناه حديث عيينة بن حصين أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كتب له كتابا فلما أخذه قال يا محمد أترى أني حامل إلى قومي كتابا كصحيفة المتلمس وهو شاعر معروف قدم هو وطرفة الشاعر على عمرو بن هند فنقم عليهما أمرا فكتب لهما كتابين إلى عامله بالبحرين يأمره بقتلهما وأعطى كلا صحيفة وقال إني كتبت لكما بجائزة فاجتازا بالحيرة فقرأ المتلمس صحيفته فإذا فيها الأمر بقتله فألقاها في الماء ومضى إلى الشام وقال لطرفة أقرأ صحيفتك وألقها فإنها كصحيفتي فأبى ومضى إلى العامل فقتله فضار مثلا (قال الله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ) اللام لام الجنس والمراد بهم اليهود والنصارى جميعهم (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) يعني محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ(1/574)
تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) كنعته صلى الله تعالى عليه وسلم وآية الرجم مما في التوراة وبشارة عيسى به عليهما السلام مما في الإنجيل (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [المائدة: 15] ) أي مما يخفونه مما لا ضرورة إلى تبيينه أو عن كثير منكم لحلمه حيث لا يؤاخذه بجرمه (الآيتين) يعني قوله تَعَالَى قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
فصل [هَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ إِعْجَازِهِ بَيِّنَةٌ لَا نزاع فيها ولا مرية]
(هذه الوجوه الأربعة) أي المتقدمة في فصولها السابقة (من إعجازه) أي إعجاز القرآن (بيّنة) أي واضحة ولائحة (لا نزاع فيها) أي ليس لأحد فيها منازعة (ولا مرية) أي لا شك ولا شبهة (وَمِنَ الْوُجُوهِ الْبَيِّنَةِ فِي إِعْجَازِهِ مِنْ غَيْرِ هذه الوجوه) الأربعة الواردة في حق تعجيز الأمة (آي) بهمزة ممدودة أي آيات (وردت بتعجيز قوم) أي جماعة خاصة (في قضايا) أي أحكام مختصة (وإعلامهم) بالجاي وبإخباره تعالى عنهم (أنّهم لا يفعلونها) أي كقوله تعالى وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً وأما شرح الدلجي بقوله ولن يفعلوا ففيه أن هذا من الأمور العامة لا من القضايا الخاصة (فما فعلوا ولا قدروا على ذلك) أي بل عجزوا عن المعارضة هنالك (كقوله لليهود) على ما نص عليه في سورة الجمعة بقوله قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لله الآية (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) أي الجنة وما فيها من المثوبة (عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً [البقرة: 94] ) أي لكم (مِنْ دُونِ النَّاسِ) أي باقيهم أو المؤمنين كما ادعيتم بقولكم لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً (الآية) أي فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في دعواكم على وفق متمناكم لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاقها وأحب الخلاص من دار الأكدار إليها وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي من الأعمال السيئة الموجبة لدخول النار المؤبدة (قال أبو إسحاق الزّجّاج) بتشديد الجيم الأولى (فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعْظَمُ حُجَّةٍ وَأَظْهَرُ دَلَالَةٍ على صحّة الرّسالة لأنّه) أي الله سبحانه وتعالى (قال لهم فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ [الْجُمُعَةِ: 6] وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أبدا فلم يتمنّه واحدا منهم وعن النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَقُولُهَا) أي لا يتمناه بهذه التمنية أو لا يتصور في نفسه هذه الأمنية (رجل منهم إلّا غصّ بريقه) بفتح الغين المعجمة وتشديد الصاد المهملة لا بضم أوله لأنه لازم لا يبني مفعول له ذكره الدلجي والظاهر ما ضبطه في بعض النسخ من أنه بصيغة المجهول وأن معناه شرق بريقه في حلقه بعد بلعه وفي القاموس الغصة الحزن وما اعترض من الحلق فأشرق (يعني يموت مكانه) الأظهر مات مكانه ولفظ الحديث هذا رواه البيهقي من طريق الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مرفوعا ورواه أحمد بسند جيد عن ابن عباس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولفظه لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا (فصرفهم الله عن تمنّيه) أي تمنى الموت (وجزّعهم) بتشديد الزاء أي أدخل الخوف قلوبهم(1/575)
(ليظهر) بضم الياء وكسر الهاء أو بفتحهما أي ليبين أو يتبين (صدق رسوله) أي في دعوى رسالته (وصحّة ما أوحي إليه) بصيغة المفعول له أو الفاعل (إذ لم يتمنّه) أي الموت (أحد منهم وكانوا على تكذيبه أحرص) أي من غيرهم (لو قدروا) أي على ما أمكنهم من المكيد (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ فَظَهَرَتْ بِذَلِكَ) أي بصرفهم عن تمنيهم مع كونهم على تكذيبه أحرص من غيرهم (معجزته وبانت) أي ظهرت (حجّته؛ قال أبو محمّد الأصيليّ) بفتح فكسر (من أعجب أمرهم أنّه) أي الشأن (لا يوجد منهم جماعة ولا واحد) أي منهم (من يوم أمر الله بذلك نبيّه) أي بقوله تعالى قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ إلى قوله فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ (يقدم عليه) بضم الياء وكسر الدال أي على تمني الموت (ولا يجيب إليه) أي إلى تمنيه إذا قيل له تمنه (وهذا) أي امتناعهم من تمنيه (موجود) أي ثابت فيما بينهم (مشاهد) بفتح الهاء أي معلوم (لمن أراد أنّ يمتحنه منهم، وكذلك) أي مثل ما تقدم من آية التمني (آية المباهلة) بفتح الهاء من البهلة وتضم اللعنة فهي الملاعنة والدعاء باللعنة على الظالم من الفريقين وبأهل بعضهم بعضا وتباهلوا أي تلاعنوا والابتهال الاجتهاد في الدعاء واخلاصه (من هذا المعنى) أي من حيثية عدم الإجابة إلى ما دعت إليه الآية (حيث وفد) بفتح الفاء أي قدم (عليه أساقفة نجران) جمع أسقف بضم الهمزة والقاف وتشديد الفاء رئيس دين النصارى وقاضيهم ونجران بنون مفتوحة وجيم ساكنة بلدة كان فيها النصارى بين مكة واليمن على نحو سبع مراحل من مكة (وأبوا الإسلام) بفتح الهمزة والباء وضم الواو أي وامتنعوا عن قبول الإسلام والإيمان وأصروا على اعتقادهم الفاسد في حق عيسى عليه السلام (فأنزل الله تعالى عليه آية المباهلة) أي الملاعنة (بقوله: فَمَنْ حَاجَّكَ) أي جادلك وخاصمك (فِيهِ [آل عمران: 61] ) أي في عيسى عليه السلام وأنكر خلقه وزعم أنه إله يعبد (الآية) يعنيى فَقُلْ تَعالَوْا أي هلموا بالعزم والرأي نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ أي يدع كل منا نفسه وأعز أهله وألصقهم بقلبه فتقديمهم على الأنفس لمخاطرة الإنسان لنفسه لهم ومدافعته عنهم كذا ذكره الدلجي والأظهر أن المراد بأنفسنا أقرب أقاربنا كما سيأتي خروجه صلى الله تعالى عليه وسلم مع الحسنين وفاطمة وراءهما وعلي وراءها فترتيبهم على مراتبهم ويؤخذ منه علو مناقبهم ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي نتضرع إلى رب العالمين فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ أي منا ومنكم (فامتنعوا منها) أي بعد ما دعاهم إليها (ورضوا بأداء الجزية) أي عوضا عنها (وَذَلِكَ أَنَّ الْعَاقِبَ عَظِيمَهُمْ قَالَ لَهُمْ قَدْ علمتم أنّه نبيّ) أي بما جاءكم من أمر الحق من ربكم (وأنّه ما لاعن قوما نبيّ قطّ) أي أبدا (فبقي كبيرهم ولا صغيرهم) وتمام الحديث فإن أبيتم إلا الف دينكم فوادعوه وانصرفوا فأتوه وهو محتضن حسينا وآخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي وراءه وعلي وراءها وهو يقول إذا دعوت فأمنوا فقال اسقنهم يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تباهلوا فتهلكوا فأذعنوا له وبذلوا له الجزية كل سنة ألفي حلة وثلاثين(1/576)
درعا من حديد فقال صلى الله تعالى عليه وسلم لو باهلوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا ولاستأصل الله نجران حتى الطير على الشجر (ومثله) أي ومثل فمن حاجك فيه (قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [البقرة: 23] ) والأظهر أن المثل هنا بمعنى النظير فإن المحاجة من القضايا الخاصة وهذه الآية من الأمور العامة (إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة: 24] فأخبرهم) أي الكفار وغيرهم (أنّهم) أي احدا منهم (لا يفعلون) أي المعارضة في الأزمنة المستقبلة (كما كان) أي كما تحقق عدم فعلهم في الأيام الماضية (وهذه الآية أدخل) أي من جهة المعجزة (في باب الإخبار عن الغيب) أي من حيث إنه سبحانه وتعالى نفى عنهم صدور ما طلب منهم تحديا في المستقبل أبدا (ولكن فيها) أي هذه الآية (من التّعجيز) أي لقريش وأمثالهم (ما في التي قبلها) أي من التعجيز لنصارى نجران بخصوصهم إذ كل منهما طلب منه الإسلام فأبوا وادعوا أنهم على الحق وكذبوا النبي المطلق فطولبوا بمصداقه فعجزوا.
فصل [ومنها الروعة]
(ومنها الرّوعة) بفتح الراء أي الخشية (الَّتِي تَلْحَقُ قُلُوبَ سَامِعِيهِ وَأَسْمَاعَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِهِ) أي سماعهم له على لسان تاليه (والهيبة) أي العظمة (التي تعتريهم) أي تصيبهم وتحصل لهم (عند تلاوته لقوّة حاله) أي حالته في تمام حلاوته وفي نسخة لقوة جلالته (وإنافة خطره) بفتحتين أي رفعة قدره وعظمة أمره (وهي) أي روعته أو تلاوته (على المكذّبين به أعظم) أي أصعب منها على المصدقين به (حتّى كانوا) أي المكذبون (يستثقلون سماعه ويزيدهم نفورا) أي هربا من استماعه (كما قال الله تعالى) أي فيما أخبر عنهم وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (ويودّون انقطاعه) أي تلاوته (لكراهتهم له) أي كما قال الله تعالى وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (ولهذا) أي ولما ذكر من ودادهم انقطاعه وكراهتهم تلاوته واستماعه (قال عليه الصلاة والسلام) أي كما رواه الديلمي وغيره عن الحكم بن عمير مرفوعا (إنّ القرآن) وفي نسخة صحيحة أن هذا القرآن (صعب) أي شديد (مستصعب) بكسر العين وتفتح وهو تأكيد (على من كرهه) وفي أصل الدلجي يكرهه (وهو) أي القرآن (الحكم) بفتحتين أي الحاكم بين الحق والباطل والفاصل بين البر والفاجر المبين لكل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر المميز بين السعيد والشقي بالثواب والعقاب، (وأمّا المؤمن) أي به كما في نسخة (فلا تزال روعته به) أي روعة القرآن بالمؤمن (وهيبته إيّاه مع تلاوته توليه) بضم التاء وسكون الواو أي تعطيه (انجذابا) وفي نسخة انجباذا أي اقبالا عليه (وتكسبه هشاشة) بفتح الهاء أي ارتياحا واستبشارا وفرحا وخفة (لميل قلبه إليه وتصديقه به) أي بما لديه (قال الله تَعَالَى:
تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أي ترتعد وتنقبض مما فيه من الوعيد بالعقوبة (ثُمَ(1/577)
تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزُّمَرِ: 23] ) أي تسكن وتطمئن إلى ما فيه من ذكر الوعد بالرحمة والمغفرة (وقال) أي الله سبحانه وتعالى (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ [الْحَشْرِ: 21] الآية) أي لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي متشققا ومتقطعا من هيبته (ويدلّ على أنّ هذا) أي ما يغشي قلوب سامعيه وأسماعهم عند تلاوة تاليه (شيء خصّ) أي القرآن (به) أي دون سائر كتب الله تعالى وصحفه (أنّه) بدل من هذا أو تقديره وهو أنه (يعتري) أي يصيب (مَنْ لَا يَفْهَمُ مَعَانِيهِ وَلَا يَعْلَمُ تَفَاسِيرَهُ) أي المتعلقة بجمل مبانيه كما هو مشاهد في كثير من العوام أنه يحصل لهم هذا المقام من وصول المرام بل وقد يحصل لمن لم يكن مؤمنا به (كما روي عن نصرانيّ أنّه مرّ بقارىء) أي بمن يتلو القرآن (فوقف يبكي فقيل له لم) أو مم (بكيت) وفي نسخة مم تبكي (فقال للشّجى) بفتح معجمة فسكون جيم وفي بعض النسخ بفتحتين مقصورا وهو الظاهر أي للحزن الذي أصابه من استماعه فرق فلبه وخشع بدنه أو للطرب الذي حصل له من أثر كلام الرب (والنّظم) أي لما جمع بين المعاني الدقيقة البيان وبين الفصاحة والبلاغة في ميدان التبيان (وَهَذِهِ الرَّوْعَةُ قَدِ اعْتَرَتْ جَمَاعَةً قَبْلَ الْإِسْلَامِ وبعده) أي في قليل من الأيام (فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ لَهَا لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ وَآمَنَ به ومنهم من كفر) أي استمر على كفره أو كفر حينئذ ثم رجع بعده إلى ربه ولعله تعالى اشار إلى هذا المعنى في قوله أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ أي اشتدت أو اسودت، (فحكي في الصّحيح) بل روي في الصحيحين (عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطّور) أي بسورة الطور (فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أي من غير موجد ومحدث وخالق فلا يعبدونه (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) أي أنفسهم (إلى قوله: الْمُصَيْطِرُونَ [الطور: 35- 37] ) يعني قوله تعالى أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ
في قولهم هو الله إذا سئلوا من خلق السموات والأرض إذ لو أيقنوا في خالقيته لما أعرضوا عن عبوديته قضاء لحق ربوبيته أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أي حتى يعطوا النبوة من شاؤوا أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ أي الغالبون على الاشياء يدبرونها كيف أرادوا وأم في المواضع الثلاثة منقطعة بمعنى بل والهمزة لإنكار القضية (كاد قلبي أن يطير) أي فزعا بما اعتراه من الروعة والهيبة أو فرحا لما حصل له من شرح الصدر وسعة القلب في معرفة الرب ويؤيده قوله (للإسلام: وفي رواية أخرى) أي عنه (وذلك أوّل ما وقر الإيمان) أي تمكن وتثبت واستقر (قلبي) وفي نسخة الإسلام بدل الإيمان. (وعن عتبة) بضم فسكون (ابن ربيعة) أي ابن عبد شمس بن عبد مناف قتل كافرا بالله في بدر والحديث رواه البغوي في تفسيره (أنّه كلّم النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ خِلَافِ قومه) أي مما لم يوافق اعتقاداتهم الباطلة وضلالاتهم العاطلة (فتلا عليهم حم كِتابٌ فُصِّلَتْ إلى قوله أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] ) أي قوم هود(1/578)
وصالح (فأمسك عتبة بيده على فيه) أي فم النبي عليه الصلاة والسلام كما في نسخة (وناشده الرّحم) أي أقسم وسأله بالقرابة التي بينهم (أن يكفّ) أي يمسك عن تلاوته ويقف في قراءته (وفي رواية) لابن إسحاق في سيرته عن محمد بن كعب القرظي (فجعل النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ وعتبة مصغ) أي مستمع إليه (ملق بيديه) وفي نسخة يديه أي مرسل لهما (خلف ظهره معتمد عليهما) أي مستندا إليهما (حتّى انتهى) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (إلى السّجدة) أي آيتها ونهايتها (فسجد النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ومن معه لله سبحانه وتعالى (وقام عتبة لا يدري بم يراجعه) أي يحاوره ويرادده (وَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى قَوْمِهِ حتّى أتوه) أي جاؤوا إليه وعاتبوا عليه بما جرى لديه (فاعتذر لهم) أي عن انقطاعه عنهم وعدم خروجه إليهم (وقال والله لقد كلّمني) أي محمد عليه الصلاة والسلام (بِكَلَامٍ وَاللَّهِ مَا سَمِعَتْ أُذُنَايَ بِمِثْلِهِ قَطُّ) أي لجزالة مبانيه وفخامة معانيه (فما دريت) أي ما علمت (ما أقول له) أي شيئا مما يناقضه وينافيه، (وقد حكي عن غير واحد) أي عن كثيرين (ممّا رام معارضته) أي قصد مناقضته (أنّه اعترته روعة وهيبة) أي اصابته فزعة وخشية (كفّ) أي منع نفسه وامتنع (بها) أي بتلك الروعة المقرونة بالهيبة (عن ذلك) أي عما قصده من محاولة المجادلة (فحكي أنّ ابن المقفّع) بضم الميم وفتح القاف وتشديد الفاء المفتوحة أو المكسورة فعين مهملة (طلب ذلك ورامه) أي قصده (وشرع فيه) أي فيما بدا له على ظن أن كلامه يفيد مرامه من المعارضة لما في القرآن من فنون البلاغة وفنون الفصاحة التي صار بها معجزة (فمرّ بصبيّ يقرأ وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ [هود: 44] الآية فرجع) أي قبل أن يسمع بقية الآية (فمحا) أي مسح وغسل (ما عمل) أي على منوال القرآن ظنا منه أن مهملاته تصلح كونها معارضا في مقام مناقضاته ومرام مجادلاته (وَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا لَا يُعَارَضُ وَمَا هو من كلام البشر) أي حتى يناقض (وكان) أي ابن المقفع (من أفصح أهل وقته) أي في دقة فهمه وحدة فطنته (وكان) أي ابن المقفع (من أفصح أهل وقته) أي في دقة فهمه وحدة فطنته (وكان يحيى بن حكم) بفتح الحاء المهملة والكاف وفي المشتبه للذهبي ابن حكيم زيادة ياء (الغزال) بتشديد الزاء وذكره الذهبي في قسم المخفف من المشتبه واختاره الشمني (بليغ الأندلس) بفتح الهمزة والدال وقيل بضمهما إقليم بالمغرب وضم اللام متفق عليه (في زمنه فحكي) بصيغة المجهول (أنّه رام) أي أراد (شيئا من هذا) أي الذي ذكر من المعارضة (فَنَظَرَ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ لِيَحْذُوَ عَلَى مِثَالِهَا) أي ليأتي على أسلوبها (وينسج) بكسر السين وضمها (بزعمه) بضم الزاء وفتحها أي وينظم الكلام ويسرد المرام بمقتضى ظنه وبموجب وهمه (على منوالها قال) أي يحيى المذكور (فاعترتني منه خشية ورقّة) أي أصابتني هيبة ولينة (حملتني على التّوبة) أي عن تلك الإرادة هي أقبح المعصية (والإبانة) أي وعلى الرجوع إلى الله تعالى والإقبال عليه في طلب العفو والمغفرة.(1/579)
فصل [وَمِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ الْمَعْدُودَةِ كَوْنُهُ آيَةً بَاقِيَةً لا تعدم ما دامت الدنيا]
(ومن وجوه إعجازه المعدودة) أي عند علماء الأعيان (كونه آية باقية) أي على صفحات الزمان متلوة في كل مكان (لا تعدم ما بقيت الدّنيا) أي لا تفقد مدة ما أراد الله تعالى بقاء الدنيا وأهلها في خير وعافية (مع تكفّل الله تعالى بحفظه) أي من النقصان والزيادة (فقال) أي الله سبحانه وتعالى ردا لإنكارهم واستهزائهم في يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] ) أي بحملنا القرآن على حفظه ولذا ورد أهل القرآن أهل الله وخاصته (وَقَالَ لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: 42] ) أي لا يجد إليه سبيلا ليتعلق به (الآية) يعني تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (وسائر معجزات الأنبياء عليهم السلام) أي حتى سائر معجزات نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم (انقضت بانقضاء أوقاتها) أي مضت بانقطاع ساعاتها (فلم يبق) وفي نسخة ولم يبق (إلّا خبرها) أي عند أرباب أثرها (والقرآن العزيز) أي البديع المنيع (الباهرة آياته الظّاهرة معجزاته) أي اللائحة مبانيه واللامعة معانيه (على ما كان عليه) أي في أول مباديه (اليوم) بالنصب أي إلى يومنا هذا (مدّة خمسمائة عام وخمس وثلاثين سنة) وفي نسخة وسبع عطف بيان وقال الدلجي اليوم خبر المبتدأ أعني القرآن وما بينهما صفات له هذا وفي نسخة منذ خمسمائة عام الخ وهذا تاريخ زمن المصنف رحمه الله تعالى ولذا قال (لأوّل نزوله إلى وقتنا هذا) ونقول وكذا مدة ألف وزيادة عشر إلى زماننا هذا (حجّته قاهرة) أي بينته غالبة وفي نسخة ظاهرة أي مبينة (ومعارضته ممتنعة والأعصار) أي أهلها من أرباب القرى وأصحاب الأمصار (كلّها طافحة) أي مملوءة وفائضة (بأهل البيان) أي في الفصاحة (وحملة علم اللّسان) أي اللغة (وأئمّة البلاغة وفرسان الكلام) أي في ميدان المرام (وجهابذة البراعة) أي المهرة في تقدم الصناعة وهو بفتح الجيم وكسر الموحدة جمع الجهبذ والبراعة مصدر برع إذا فاق، (والملحد) أي والحال أن المائل عن الحق إلى الباطل (فيهم كثير والمعادي للشّرع عتيد) أي المخالف والمناوي لهم حاضر مهيأ في مقام النكير وفي نسخة عنيد بالنون أي معاند شرير (فما منهم من أتى بشيء يؤثر) أي يروى (في معارضته ولا ألّف كلمتين) أي ولا ركبهما وألف بينهما (فِي مُنَاقَضَتِهِ وَلَا قَدَرَ فِيهِ عَلَى مَطْعَنٍ صحيح) أي لم يجد في القرآن محلا يتعلق به طعن صحيح أو عيب صريح (وَلَا قَدَحَ الْمُتَكَلِّفُ مِنْ ذِهْنِهِ فِي ذَلِكَ) أي في طعنه (إلّا بزند شحيح) أي بإخراج النار عند وريه فلم يور بقدحه وتحقيقه أن الزند بفتح الزاء وسكون النون قد يراد به موصل طرف الذراع في الكف وقد يطلق على العود الذي يقدح به النار وهو الأعلى والزندة بالهاء هي السفلى وهو في المدن قطعة حديد تضرب بحجر صلد والظاهر أن القاضي قصد معنيي الزند ووصف كلا منهما بالشحيح أما العضو فشحه أن لا يخرج درهما أو دينارا وأما زند النار فشحه كونه لا يخرج نارا وفي(1/580)
الجمع بينهما إشارة إلى غاية القلة (بل المأثور) أي المروي والمحكي (عن كلّ من رام ذلك) أي قصد الطعن فيه (إِلْقَاؤُهُ فِي الْعَجْزِ بِيَدَيْهِ وَالنُّكُوصُ عَلَى عَقِبَيْهِ) أي التأخر في الرجوع بالقهقرى أي إلى الورى.
فصل [وَقَدْ عَدَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَمُقَلِّدِي الْأُمَّةِ في إعجازه وجوها كثيرة]
(وقد عدّ جماعة من الأئمّة) وهم علماء السلف (ومقلّدي الأمّة) بفتح اللام وهم فضلاء الخلف (فِي إِعْجَازِهِ وُجُوهًا كَثِيرَةً. مِنْهَا أَنَّ قَارِئَهُ لا يملّه) بفتح الميم وتشديد اللام أي لا يسأمه (وسامعه لا يمجّه) بضم الميم وتشديد الجيم أي لا يدفعه (بل الإكباب) أي الإقبال والآداب (على تلاوته يزيده حلاوة) أي لذة (وترديده) أي تكراره (يوجب له محبّة) أي يقتضي زيادة مودة فقد ورد من أحب شيئا أكثر ذكره (لا يزال غضّا طريّا) أي لا تزول طراوته وطلاوته (وَغَيْرُهُ مِنَ الْكَلَامِ وَلَوْ بَلَغَ فِي الْحُسْنِ والبلاغة مبلغه) أي تمام نظام المرام (يملّ مع التّرديد) أي في السمع (ويعادى) بفتح الدال أي ويكره في الطبع (إذا أعيد) لقولهم المعادات معاداة ولقوله صلى الله تعالى عليه وسلم فضل كلام الله على غيره كفضل الله على خلقه (وكتابنا) أي الذي فيه خطابنا وعتابنا وثوابنا وعقابنا (يستلذّ به في الخلوات ويؤنس) بالهمز ويسهل وبالنون مخففا ومشددا أي ويستأنس (بتلاوته فهي الأزمات) بفتح الهمز والزاء جمع أزمة بفتح فسكون وهي الشدة أي في أوقات الآفات (وسواه من الكتب) أي المؤلفات المصنوعة والمركبات الموضوعة (لا يوجد فيها ذلك) أي ما ذكر من اللذة والأنسة المطبوعة (حتّى أحدث أصحابها لها لحونا وطرقا يستجلبون بتلك اللّحون تنشيطهم) أي تنشيط أنفسهم وغيرهم (على قراءتها ولهذا) أي لما اختص به القرآن من حسن البيان المستغنى عن الإتيان بأنواع الألحان (وصف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم القرآن بأنّه لا يخلق) كما رواه الترمذي وغيره عن علي كرم الله وجهه مرفوعا القرآن لا يخلق وهو بفتح الباء وضم اللام لا فتحها كما في نسخة نقلها الحلبي وتبعه الحجازي أو بضم ياء وكسر لام أي لا يبلى (على كثرة الرّدّ) أي مع كثرة ترديده وتكريره (ولا تنقضي عبره) بكسر ففتح جمع عبرة أي لا تنتهي مواعظه المعتبرة (ولا تفنى عجائبه) أي لا تنفد عجائب مبانيه وغرائب معانيه، (وهو الفصل) أي البالغ في الفرق بين الحق والباطل (ليس بالهزل) أي أمره جد كله (لا يشبع منه العلماء) أي تدبرا وتبصرا وعبارة وإشارة (ولا تزيغ) أي ولا تميل (به الأهواء) عن طريق السواء (ولا تلتبس به الألسنة) أي ولا تشتبه به اللغات المختلفة المتناقضة (هو الذي لم تنته الجنّ) أي طائفة من جن نصبيين وفي صحيح مسلم أنهم كانوا من الجزيرة ولا منع من الجمع (حين سمعته أن قالوا) أي لم يتوقفوا عن قولهم لبعضهم أو لقولهم حين رجوعهم إليهم، (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً [الجن: 1] ) أي مقروءا عجيبا من جهة جزالة مبانية ومدلولا غريبا من فخامة معانيه بديعا في بلاغته ومنيعا في فصاحته (يهدي إلى الرشد) أي صوب الصواب أو إلى(1/581)
طريق الثواب والعقاب هذا وذكر أبو علي الغساني في مناقب عمر بن عبد العزيز قال بينما عمر يمشي بأرض فلاة فإذا هو بجثة ميتة فكفنها بفضل ردائه ودفنها وإذا قائل يقول يا سرق أشهد بالله لقد سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول لك ستموت بأرض فلاة ويدفنك رجل صالح فقال من أنت يرحمك الله تعالى فقال رجل من الجن الذين سمعوا القرآن من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يبق منهم إلا أنا وسرق هذا سرق قدمات (ومنها جمعه لعلوم) أي كلية (ومعارف) أي جئية (لَمْ تَعْهَدِ الْعَرَبُ عَامَّةً وَلَا مُحَمَّدٌ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم قبل نبوّته خاصّة بمعرفتها) أي بعلم شيء منها (ولا القيّام بها) أي الدوام والثبات عليها (وَلَا يُحِيطُ بِهَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَمِ) أي من أحبار اليهود والنصارى وغيرهم (ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم) أي من السماوية وغيرها (فجمع) بصيغة المجهول أي فجمع الله (فيه من بيان علم الشّرائع) أي أصولها وفروعها من النقليات (والتّنبيه) أي في اثناء التعبيرات (على طرق الحجج) أي أنواع الدلالات (العقليّات) وفي نسخة العقلية (والرّدّ على فرق الأمم) أي من أرباب الضلالات (ببراهين قويّة) أي قاهرة (وأدلّة بيّنة) ظاهرة (سهلة الألفاظ) أي المباني (موجزة المقاصد) بصيغة المجهول مختصره المعاني (رام المتحذلقون) بالحاء المهملة والذال المعجمة من الحذق زيدت فيه اللام للمبالغة والتاء المطالبة أي قصد المبالغون في الحذاقة إذا أظهروا المهارة في مقام الفصاحة والبلاغة (بعد) أي بعد ورودها في عالم وجودها (أن ينصبوا أدلّة مثلها) أي مشابهتها في الجملة (فلم يقدروا عليها) أي على أن يقربوا إليها وأني لهم المقدرة على مقاومة المعجزة (كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي مع كبرهما وسعة قدرهما (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي مع صغر جرمهم (بَلى [يس: 81] ) جواب من الله إيماء إلى أن لا جواب سواه أي بلى قادر على خلقهم ابتداء وإيجادهم انتهاء وهو الخلاق العليم يعني إلا يعلم من خلق (وقُلْ) أي وكقوله سبحانه وتعالى (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس: 79] ) أي لبقاء قدرته وقف إرادته وقابلية المادة على حالته وهو بكل خلق عليم أي بأعضائه وأجزائه (ولَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ) أي غيره (لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] ) أي لخرجتا عن نظامهما واختلتا عن مرامهما لوجود التمانع المانع من إتمامهما (إلى ما حواه) أي منضما إلى ما جمعه القرآن أو مع ما اشتمله الفرقان (من علوم السّير) بكسر ففتح جمع سيرة أي المفهومة من أخبار الأنبياء والأصفياء، (وأنباء الأمم) أي أحوالهم الأعم من الأحياء والاعداء (والمواعظ) أي بالترغيب في ولائه والترهيب عن بلائه (والحكم) بكسر ففتح أي الكلمات المرشدة إلى تكميل النفوس الإنسانية باقتباس العلوم الربانية كقوله تعالى حكاية عن لقمان يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (وإخباره الدّار الآخرة) أي من النعيم المقيم والجحيم الأليم (ومحاسن الآداب والشّيم) بكسر ففتح أي الأخلاق في جميع الأبواب (مما(1/582)
تقدم ذكره) أي بيانه بقوله تعالى خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الآية (قال الله جلّ اسمه) أي عظم اسمه ومسماه (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ أي القرآن الجامع للفصول والأبواب (مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] ) يحتاج إليه أرباب الألباب (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النَّحْلِ: 89] ) أي مما يحتاج إليه من أمر الدين (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الروم: 58] ) أي بيّنا لهم فيه بعض الأمثال الحكمية ليقتبسوا المعاني الحقيقة من صور المباني الحسية (وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: إنّ الله أنزل عليه الصلاة والسلام) أي كما رواه الترمذي عن علي وتقدم بعضه وأورده هنا بتغيير بعض لفظه وبزيادة في صدره (أن الله أنزل هذا القرآن آمرا) أي بكل معروف واجبا كان أو ندبا (وزاجرا) أي ناهيا عن كل منكر حراما كان أو مكروها (وسنّة خالية) أي طريقة متبعة ماضية (ومثلا مضروبا) أي مبينا ومعينا في الألسنة الجارية (فيه نبؤكم) أي الخبر المتعلق بكم (وخبر ما كان قبلكم) أي من الأمم السالفة (ونبأ ما بعدكم) أي مما يكون إلى يوم القيامة (وحكم ما بينكم) بفتح الحاء والكاف أي والحكم الذي تحتاجون إليه فيما بينكم مما لكم وعليكم (لا يخلقه) بضم الياء وكسر اللام أي لا يبليه (طول الرّدّ) أي كثرة تكراره وترديد أخباره (ولا تنقضي عجائبه) أي لا تنتهي غرائبه، (هو الحقّ) أي الحكم العدل (ليس بالهزل) بل هو الجد في بيان الفصل (من قال به صدق) أي في قوله (ومن حكم به عدل) أي في حكمه (ومن خاصم به فلج) بفتح الفاء واللام والجيم أي غلب على مرغوبه وظفر بمطلوبه (ومن قسم به) بتخفيف السين ويجوز تشديده أي عين قسط كل واحد ونصيبه في حكم متعلق به (أقسط) أي عدل في أمره وأصاب في حكمه يقال أقسط فهو مقسط إذا عدل ومنه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وقسط فهو قاسط إذا جار ومنه قوله تعالى أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
فهمزة أقسط للسلب كما في شكا إليه فأشكاه أي أزال شكواه (ومن عمل به أجر) بصيغة المفعول أي أثيب على عمله من عند ربه وفضله (ومن تمسّك به) أي تشبث علما وتعلق عملا (هدي) بصيغة المجهول أي هداه الله فاهتدى (إلى صراط مستقيم) أي مذهب قويم ودين كريم (ومن طلب الهدى من غيره) أي من غير بابه (أضلّه الله) أي أعماه بحجابه (ومن حكم بغيره) أي عدولا عن حكمه وأمره (قصعه الله) أي كسره وأهلكه وفي الحديث استغنوا عن الناس ولو بقصعمة السواك وهي بالكسر ما انكسر منه بإبانة وفي رواية ولو بشوص السواك على ما رواه البزار والطبراني والبيهقي عن ابن عباس وفي النهاية شوص السواك غسالته وقيل ما يتفتت منه عند تسوكه، (هو الذّكر الحكيم) أي المشتمل على الحكم والاحكام والحاكم على وجه الإتقان والإحكام (والنّور المبين) أي الظاهر والمظهر لليقين (والصّراط المستقيم) أي ذو الاستقامة المنتهي إلى الفوز بالسعادة والكرامة معاشا ومعادا (وحبل الله المتين) من المتانة وهي القوة أي عهده المحكم الذي لا ينقطع وسبب وصول وعده الذي لا يمتنع وقال ابن الأثير حبل(1/583)
الله نور هداه وقيل عهده وأمانه الذي يؤمن من العذاب والحبل للعهد والميثاق انتهى (والشّفاء النّافع) أي لكل داء وبلاء؛ (عصمة لمن تمسّك به) أي معتصم وثيق لمن تشبث به وتعلق بذيله وفيه وفيما قبله اقتباس من قوله وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ (ونجاة لمن اتّبعه) بتشديد التاء أي تبعه علما وعملا، (لا يعوجّ) بتشديد الجيم (فيقوّم) بفتح الواو المشددة ونصب الميم أي لا يميل عن صوب الاستقامة فيحتاج إلى تقويم العدالة (ولا يزيغ) أي ولا يميل عن منهج الحق (فيستعتب) أي فيحتاج إلى العتب في عدوله عن نهج الصدق (ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق) بالوجهين (على كثرة الرّدّ) أي الترداد والتكثار في العد. (ونحوه) أي نحو هذا الحديث في المعنى مع اختلاف في المبنى (عن ابن مسعود) كما رواه الحاكم عنه مرفوعا (وقال) أي ابن مسعود (فيه) أي في مرويه (ولا يختلف) بالفاء أي ليس محلا للاختلاف بل وقع مبناه ومعناه على وجه الائتلاف والمعنى ما وجد فيه أحد تخالفا يسيرا ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وفي نسخة بالقاف فهو بمعنى لا يخلق على كثرة الرد كما سبق (ولا يتشانّ) بتشديد النون بعد الألف مأخوذ من الشن كما صرح به الهروي وابن الأثير في هذا الحديث وقال اليمني هو الصواب وهو الجلد اليابس البالي أي لا تذهب طلاوته ولا تبلى طراوته حين تكثر تلاوته وترداد قراءته لما أودع فيه من بدائع الكمال وروائع الجمال وفي نسخة صحيحة ولا يتشانأ بنون مخففة بعدها همزة من الشنئان ولكن ينبغي أن يضبط بصيغة المجهول وأما ما ذكره الحلبي من أنه بفتح أوله ثم مثناة فوقيه مفتوحة ثم شين معجمة ثم ألف ثم نون همزة ممدودة ونسبه إلى النسخة التي وقف عليها فلا يصح بوجه أي لا يتباغض ولا يكره ولا يمل، (فيه نبأ الأوّلين والآخرين) أي بما وقع لهم في الدنيا وبما سيقع لهم في العقبى. (وفي الحديث) أي القدسي من رواية ابن أبي شيبة مرسلا لكن بلفظ أنزلت على محمد توراة محدثة فيها نور الحكمة وينابيع العلم ليفتح بها أعينا عميا وقلوبا غلفا وآذانا صما وروى ابن الضرير في فضائل القرآن عن كعب أنه قال في التوراة (قال الله تعالى لمحمّد إني منزل عليك) بالتخفيف والتشديد أي ملق إليك (توراة) أي كتابا كالتوراة أو ما جمع مضمون ما في التوراة (حديثة) أي جديدة الإنزال أي قريبة العهد من الملك المتعال (تفتح بها أعينا عميا) أي عن سنن الحق (وآذانا صمّا) أي عن استماع الصدق (وقلوبا غلفا) أي ممنوعة عن طريق الوفق وممتنعة عن وصول الرفق (فيها ينابيع العلم) أي هي منابع العلوم الكثيرة والمعارف الغزيرة (وفهم الحكمة) أي وفيها معرفة الحكم الربانية والأحكام المحكمة الصمدانية (وربيع القلوب) أي وفيها من الأنوار والأسرار نظير ما يشتمل عليه فصل الربيع من أزهار أثمار الأشجار بواسطة الأمطار (وعن كعب) أي كعب الأحبار ويقال كعب الحبر (عليكم بالقرآن) أي خذوا بمبانيه والزموا بمعانيه (فإنّه فهم العقول) أي غاية فهوم عقول الفحول (ونور الحكمة) أي لعين البصر والبصيرة ونظر العبرة (وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي اليهود والنصارى (أَكْثَرَ الَّذِي(1/584)
هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل: 76] ) أي كلهم فيما بينهم أو كل صنف منهم من التشبيه والتنزيه وعزيز وعيسى وما فيه من أنواع التنبيه (وقال هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ أي لأحوالهم وأحكامهم وآمالهم في مآلهم (وَهُدىً [آل عمران: 138] ) لما فيه كمالهم (الآية) أي وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ أي نصائح في أعمالهم بها جمالهم وخص المتقين لكونهم المنتفعين، (فجمع فيه) بصيغة المجهول أي فجمع الله في كلامه ما أراد من مرامه (مع وجازة ألفاظه) بفتح الواو أي مع اختصار مبانيه (وجوامع كلمه) أي باعتبار إكثار معانيه (أضعاف ما في الكتب) أي الكتب المنزلة على الأنبياء (قبله التي ألفاظها على الضّعف) بالكسر أي التزايد (منه) أي من القرآن (مرّات) لاشتمالها على الإطناب الموجب لتكثير كلمات واحتواء القرآن على إيجاز بحسب البلاغة والفصاحة موجب إعجاز. (ومنها جمعه فيه) أي جمع الله سبحانه وتعالى في كلامه عز شأنه (بين الدّليل ومدلوله) أي برهانه وتبيانه (وذلك) أي وسبب ذلك الجمع في معرض البيان (أنّه احتجّ بنظم القرآن) أي بإدخال جواهر معانيه في سلك مبانيه (وحسن وصفه) أي وبحسن وصفه حيث صبغ حلي كلماته في قوالب مقاماته وفي نسخة رصفه بالراء بدل الواو أي تركيبه وصفه من تهذيبه (وإيجازه) أي بإتيان معان كثيرة في مبان يسيرة وفي أصل الدلجي وإعجازه أي كل منطيق فصيح (وبلاغته) أي بإتيان معان كثيرة في مبان يسيرة وفي أصل الدلجي وإعجازه أي كل منطيق فصيح (وبلاغته) أي الرائعة المنضمة إلى فصاحته البارعة (وأثناء هذه البلاغة) أي في خلالها (أمره ونهيه ووعده ووعيده فالتّالي له) أي ممن يدرك معانيه (يفهم موضع الحجّة والتّكليف) باعتبار مبانيه (معا) أي مجتمعين في بيان علومه (من كلام واحد) أي باعتبار منطوقه ومفهومه (وسورة منفردة) أي باعتبار عبارتها وإشارتها فيفهم مثلا من قوله تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ تحريم غير الألف بالأولى وأن الكف عنه أقوى ومن قوله فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر أنه حجة لوجوب صلاة العيد والأضحية وأنه مكلف بهما في القضية. (ومنها أن جعله) أي الله سبحانه (في حيز المنظوم) بفتح الحاء وتشديد التحتية المكسورة أي في مقامه (الذي لم يعهد) أي لم يعرف مثله ولم يسبق قوله يجعله ذا قرائن لها فواصل معلومة القوافي كقوافي الأبيات المنظومة (ولم يكن في حيّز المنثور) أي المتفرق الخارج عن هيئة المنظوم (لأنّ المنظوم أسهل) أي من المنثور (على النّفوس) أي في درك مبانيه (وأوعى للقلوب) أي وأحفظ لها في أخذ معانيه (وأسمح) بالحاء المهملة أفعل تفضيل من السماح وهو بمعنى الجود والكرم والمسامحة هي المساهلة وتسامحوا تساهلوا ومنه حديث السماح رباح أي أسهل قبولا وأقرب وصولا (إلى الآذان) بعد الهمزة جمع الأذن والمراد بها الاسماع وأغرب الدلجي في قوله اسمح بحاء مهملة من الاسماح لغة في السماح انتهى ووجه غرابته لا يخفى وقال الحلبي بالحاء المهملة من سمح العود إذا لان انتهى وهو تكلف مستغنى عنه مع أن صاحب القاموس استاذه ذكر أسمحت الدابة لانت بعد استصعاب وعود سمح لا عقدة فيه انتهى وكلاهما لا يلائم المقام كما لا يخفى على طباع الكرام هذا وقدم الحلبي على هذا قوله اسمخ هو من سماخ الأذن أي(1/585)
أسرع استقرارا في سماخ الأذن انتهى ويؤيده أنه في نسخة اسمع بالعين المهملة (وأحلى على الأفهام) لاشتمال ما فيه من التلاوة على أنواع من الحلاوة مع زيادة الطراوة والطلاوة (فالنّاس إليه أميل والأهواء إليه أسرع) أي وأقبل والحاصل أن منهجه ليس على طريق الشعراء في نظمهم وقوافيهم ولا على طريق الخطباء في التزام سجعهم في أواخر مبانيهم بلا كلام بديع منيع يباين كلام غيره سبحانه وتعالى معظمة شأنه وسلطنة برهانه. (ومنها تيسيره) أي تسهيله (تعالى حفظه لمتعلّميه) أي طالبي تعلمه نظرا (وتقريبه) أي تهوينه (على متحفّظيه) أي طالبي حفظه غيبا (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر: 22] ) تمام الآية فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كما في نسخة أي من متعظ وأصله مذتكر (وسائر الأمم) أي وبواقيها (لا يحفظ كتبها الواحد) أي كل ما يطلق عليه اسم الواحد (منهم) فاللام للعهد الذهني الذي هو في المعنى نكرة وهي في سياق النفي تفيد العموم وحينئذ يناسب قوله (فكيف الجمّاء) وفي نسخة الجم أي فيستبعد أن يحفظه الجم الغفير والجمع الكثير (على مرور السّنين عليهم) وفي نسخة الأعوام جمع عام بمعنى سنة (والقرآن) أي بحمد الله والمنة (ميسّر) وفي نسخة متيسر (حفظه للغلمان) بكسر الغين جمع غلام أي الأولاد الصغار (في أقرب مدّة) أي كسنة أو أقل أو أكثر بحث مراتب جودة الذهن والفطنة والفطرة. (ومنها مشاكلة بعض أجزائه بعضا) أي مشابهته في تناسب مبانيه وتجاذب معانيه (وحسن ائتلاف أنواعها) أي أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا وقصة وموعظة (والتئام أقسامها) أي توافقها في سلامة التركيب وسلاسة الترتيب (وحسن التّخلّص) أي الانتقال (مِنْ قِصَّةٍ إِلَى أُخْرَى وَالْخُرُوجِ مِنْ بَابٍ إلى غيره على اختلاف معانيه) أي المأخوذة من تفاوت مبانيه (وَانْقِسَامُ السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ إِلَى أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَخَبَرٍ واستخبار ووعد ووعيد وإثبات نبوّة) أقول وقد اجتمعت هذه الوجوه في آية وهي قوله تعالى قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ مع زيادة الاعتذار بقوله وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ مع التنبيه لهم في صدر الآية بالنداء وتنزيل النمل منزلة العقلاء وغير ذلك من الإشارات والإيماء (وتوحيد) أي في الذات (وتفريد) أي في الصفات (وترغيب) أي إلى الطاعة بالمثوبة (وترهيب) أي من المعصية بالعقوبة (إلى غير ذلك من فوائده) أي منضمة إلى ما عدا ذلك من منافعه وعوائده مما يلتقط من مساقط موائده كضرب مثال وبيان حال وإشعار إيثار يوجب للسالك وصوله (دون خلل يتخلّل فصوله) أي أنواع أبواب مما يقتضي حصوله وأبعد الدلجي في جعل الفصل بمعنى الفاصلة؛ (والكلام الفصيح) كان الأظهر أن يقول إذ الكلام أو لأن الكلام الصحيح ولو كان على المنهج الصحيح والغرض الصريح (إذا اعتوره) أي تداوله وفي أصل الدلجي إذا اعتراه أي غشيه والم به (مثل هذا) أي الذي يتخلل الفصول وهو في الحقيقة بمعنى الفضول (ضعفت قوّته) أي نزلت مرتبته في فن البلاغة (ولانت جزالته) أي وهانت منزلته عن درجة عظمة الفصاحة (وقلّ رونقه) أي حسنه وبهجته في تأديته الحلاوة (وتقلقلت ألفاظه) أي(1/586)
اضطربت مبانيها واختلفت معانيها وفي نسخة تقلقت بلام واحدة مشددة أي صارت قلقة في المبنى وغلقة في المعنى (فتأمّل) أي في بيان المراد (أوّل ص) أي سورتها حيث صدرها بقوله ص أي يا صادق وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ أي صاحب العز والشرف للموافق (وما جمع فيها من أخبار الكفّار وشفاقهم) وخلافهم مع سيد الأبرار بقوله تعالى حكاية عنهم بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ أي استكبار عن الحق واستدبار عن الصدق (وتقريعهم) أي ومن توبيخهم وتخويفهم (بإهلاك القرون من قبلهم) بقوله تعالى كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِمُحَمَّدٍ) صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم (وتعجّبهم ممّا أتى به) أي حيث قال تعالى وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (والخبر عن اجتماع ملئهم) وفي نسخة عن إجماع ملئهم (على الكفر) وذلك لما روي أن عمر رضي الله تعالى عنه لما اسلم شق ذلك على قريش فقال أشرافهم لأبي طالب أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء فاقض بيننا وبين ابن أخيك فقال هل هؤلاء قومك يسألونك القصد فلا تمل عليهم كل الميل فقال ما تسألونني قالوا ارفضنا وآلهتنا ونرفضك وإلهك فقال أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أمعط أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم قالوا نعم وعشرا قال قولوا لا إله إلا الله فقالوا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ أي في غاية من العجب (وما ظهر من الحسد في كلامهم) أي من قوله تعالى حكاية عن مرامهم أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا (وتعجيزهم) أي بقوله تعالى فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (وتوهينهم) أي وتحقيرهم بقوله سبحانه وتعالى جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (ووعيدهم بخزي الدّنيا) وفي نسخة بخزي في الدنيا أي بهزيمتهم فيها (والآخرة) أي بذوق أليم عذابها (وتكذيب الأمم قبلهم) أي أنبياءهم ورسلهم (وإهلاك الله لهم) أي للمكذبين منهم بقوله كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (ووعيد هؤلاء) يعني قريشا واضرابهم (مثل مصابهم) بقوله تعالى وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (وتصبير النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حمله على الصبر (على أذاهم) أي الذي من جملته ما بلغوا في تكذيبهم له وقالوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ فسلاه بقوله تعالى اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي لا تبال بقولهم ولا تكترث بفعلهم وكن معنا مشاهدا لنا في آياتنا وقدرتنا على كائناتنا (وتسليته) أي الشاملة (بكلّ ما تقدّم ذكره) أي بيانه عنهم (ثمّ أخذ) أي شرع بعد تسليته (في ذكر داود) أي بقوله تعالى وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ أي كثير الرجوع إلى أبواب رب الأرباب فأنت كذلك لازم الباب ولا تلتفت إلى ما صدر من أرباب الحجاب وأما ما ذكره الدلجي هنا فمما لا يصلح أن يفسر به فصل الخطاب ولذا أعرضت عن ذكره في الكتاب والله تعالى أعلم بالصواب (وقصص الأنبياء) أي حكاياتهم كسليمان وأيوب وإبراهيم(1/587)
وإسحاق ويعقوب وغيرهم عليهم السلام مع ما اشتمل عليه من عظيم الثناء وكريم العطاء، (كلّ هذا) أي الذي ذكره أول ص (في أوجز كلام وأحسن نظام) أي وأتم مرام (ومنه) أي من اعجاز القرآن أو من هذا القبيل الذي ذكر أول ص من إيجاز الفرقان (الجملة) الأولى الجمل (الكثيرة) أي من جهة المعاني (التي انطوت) أي اشتملت (عليها الكلمات القليلة) أي من حيثية المباني (وهذا) أي ما ذكر (كلّه) أي جميعه (وَكَثِيرٌ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ ذُكِرَ فِي إِعْجَازِ القرآن إلى وجوه) أي مع إلى وجوه أو منضما وجوه (كثيرة ذكرها الأئمّة لم نذكرها) أي نحن في وجوه اعجازه (إذ أكثرها داخل في باب بلاغته) أي المتضمنة لمراتب فصاحته (فلا نحبّ أن يعدّ) بصيغة المجهول أي فلا يليق أن يجعل على حدته وفي نسخة صحيحة فلا نحب أي لا نود أن نعد بنون المتكلم فيهما (فنّا منفردا) وفي نسخة منفردا أي من أنواع بلاغته (فِي إِعْجَازِهِ إِلَّا فِي بَابِ تَفْصِيلِ فُنُونِ البلاغة) وفي نسخة صحيحة بالضاد المعجمة (وكذلك) أي مثل ما هو داخل في بابها (كَثِيرٌ مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ عَنْهُمْ يُعَدُّ فِي خواصّه) أي التي لا توجد في غيره (وفضائله) أي الزائدة عن نحوه (لا إعجازه) بالجر وفي نسخة صحيحة لا في إعجازه؛ (وحقيقة الإعجاز) أي ما به العجز (الوجوه الأربعة التي ذكرناها) أي في فصولها (فليعتمد عليها وما بعدها) وأما ما عداها مما ذكرنا فإنما هو (مِنْ خَوَاصِّ الْقُرْآنِ وَعَجَائِبِهِ الَّتِي لَا تَنْقَضِي) أي لا تنتهي غرائبه وهذا غاية التحقيق (والله وليّ التّوفيق) .
فصل [في انشقاق القمر وحبس الشمس]
(في انشقاق القمر وحبس الشمس) قال اليمني لا يسمى قمرا إلا بعد مضي ثلاث ليال من الشهر والكرة الأرضية أكبر منه بمقدار مائة وعشرين مرة ومن جملة خواصه أنه يبلى الكتان إذا ترك في سمره ويعفن اللحم إذا ترك تحت وأما الشمس فيقال إنها تنور العالمين العلوي والسفلي وأن الله جعل فيها خواص إصلاح العالم من الحيوان والنبات والمعدن (قال الله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) أي قربت غاية القرب (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) روي أن الكفرة سألوه آية فانشق ويؤيده قراءة حذيفة وقد انشق القمر ويقويه قوله (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً أي معجزة (يُعْرِضُوا أي عن الإيمان بها (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر: 1- 2] ) أي دائم لترادف الآيات وتتابع المعجزات (أخبر تعالى بوقوع انشقاقه بلفظ الماضي) أي فيجب تحققه حقيقة ولا يجوز صرفه إلى المجاز بلا ضرورة وحمله على أنه سينشق يوم القيامة وأنه عبر بالماضي لتحقق وقوعه في المستقبل (وإعراض الكفرة عن آياته) أي وأخبر تعالى بإعراضهم عن آياته وهذا مما يدل على وقوعه فإنه لا يتصور الإعراض الحقيقي قبل تحققه (وأجمع) وفي نسخة صحيحة بالفاء أي فلهذا أجمع (المفسّرون) أي من السلف (وأهل السّنّة) أي أرباب الحديث أو أهل السنة والجماعة الجامعون بين الكتاب والسنة من السلف والخلف (على وقوعه) قال الأنطاكي في قول القاضي اجمع المفسرون نظر فقد نقل السجاوندي والنسفي في تفسيرهما(1/588)
عن الحسن البصري أن معناه سينشق عند الساعة وكذا أبو الليث قال في تفسيره وأكثر المفسرين قالوا إن هذا قد مضى انتهى ويمكن دفعه بأنه اراد بالمفسرين المشهورين منهم أو أنه لم يطلع على خلافهم وعلى تقدير الخلاف لا يلزم عدم وقوع انشقاق القمر في عهده صلى الله تعالى عليه وسلم إذا أجمعوا على تحققه بالأحاديث الستة وإنما الخلاف في معنى الآية هل يراد به الانشقاق الماضي أو الانشقاق الآتي والله سبحانه وتعالى أعلم (أخبرنا الحسين بن محمّد الحافظ) أي أبو علي الغساني (من كتابه) لأن المصنف ليس له إلا الإجازة في بابه (ثنا) أي حدثنا (القاضي سراج بن عبد الله ثنا الأصيليّ ثنا المروزيّ) تقدم ذكرهما (ثنا الفربريّ) بكسر الفاء وفتح الراء وقيل غيره وقد سبق ذكره (ثنا البخاري) أي صاحب الجامع الصحيح (ثنا مسدّد) بفتح الدال المهملة المشددة وهو كاسمه مسدد بصري أسدي (ثنا يحيى) أي ابن سعيد روى عنه أحمد وغيره وأخرج له الأئمة الستة (عن شعبة) أي ابن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث (وسفيان) أي ابن عيينة أحد الأعلام وهو الأعور الكوفي (عن الأعمش عن إبراهيم) أي النخعي (عن أبي معمّر) بفتح الميمين أزدي كوفي مخضرم (عن ابن مسعود) أي موقوفا كما ساقه القاضي عن البخاري وقد أخرجه البخاري في تفسيره وقد أخرجه أيضا عنه مسلم والترمذي والنسائي وقال الترمذي حسن صحيح (قَالَ انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي زمانه (فرقتين) أي فلقتين كما رواية الترمذي عن ابن عمر بمعنى قطعتين وفي الصحيحين بلفظ شقين بكسر السين المعجمة أي نصفين وفي لفظ في حديث جبير فانشق القمر باثنتين وفي رواية أبي نعيم في الدلائل فصار قمرين (فرقة) بالنصب على البدلية ويجوز رفعها على الابتدائية أي منهما فرقة (فوق الجبل) أي جبل حراء أو أبي قبيس (وفرقة دونه) أي أسفل منه أو قريب منه هذا وقد قال الحجازي يجوز النصب والضم أفصح منه ومنه قوله تعالى قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قلت وقد يقال الضم أصح إذا فصل النعت وإلا فالبدل في مثل هذا التركيب أفصح كما حقق في قوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لما رآه منشقا (اشهدوا) الظاهر أنه خطاب للكفار فإنهم أهل الإنكار والعنى أشهدوا على نبوتي أو الخطاب للمؤمنين فالمعنى أشهدوا على معجزتي وأخبروا من بعدي من أمتي، (وفي رواية مجاهد) أي في الصحيحين عن ابن مسعود زيادة قوله (ونحن مع النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْأَعْمَشِ وَنَحْنُ بمنى) وفي نسخة زيادة قوله بمنى وهذا لا يعارض قول أنس وذلك كان بمكة لأنه لم يصرح بأنه عليه الصلاة والسلام كان ليلته بمكة فمراده أن الانشقاق كان وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة وفيه إيماء إلى أنه لم يشاهد القضية بالرؤية بل وصلت إليه بالرواية لأنه إذ ذاك كان ابن أربع أو خمس بالمدينة (ورواه) أي الحديث المذكور (أيضا عن ابن مسعود الأسود) أي كما ذكره أحمد في المسند وأسود هذا تابعي جليل روى عن عمر رضي الله(1/589)
تعالى عنه وعلي ومعاذ وغيرهم له ثمانون حجة وعمرة وكان يصوم حتى احتضر ويختم القرآن في ليلتين (وقال) أي ابن مسعود (حتّى رأيت الجبل بين فرجتي القمر) بضم الفاء وتفتح أي فلقتيه (ورواه) أي الحديث المسطور (عنه) أي ابن مسعود (مسروق أنّه) أي انشقاقه (كان بمكّة) كما رواه البيهقي في دلائله (وزاد) أي مسروق في رواية عنه (فَقَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ سَحَرَكُمُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ) بفتح كاف فسكون موحدة فشين معجمة يعنون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأبو كبشة اسم رجل تأله قديما وفارق دين الجاهلية وعبد الشعرى فشبه المشركون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم به وقيل بل كانت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أخت من الرضاعة تسمى كبشة وكان أبوه من الرضاعة يكنى بها وقيل بل كان في أجداده لأمه من يكنى بذلك قيل وذكر بعضهم أن جماعة من جهة أبيه وأمه يكنون بأبي كبشة (فقال رجل منهم) وروى من القوم قيل إنه أبو جهل (إنّ محمّدا إن كان سحر القمر) أي لعيونكم وقت السحر (فَإِنَّهُ لَا يَبْلُغُ مِنْ سِحْرِهِ أَنْ يَسْحَرَ الأرض) أي أهلها (كلّها) أي جميعها (فَاسْأَلُوا مَنْ يَأْتِيكُمْ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ هَلْ رأوا هذا) أي الانشقاق (فأتوا) أي جاء بعضهم من بلد آخر (فسألوهم) أي أهل مكة قريش (فأخبروهم أنّهم رأوا مثل ذلك) أي كما ذكر من انشقاق القمر فرقتين (وحكى السّمرقنديّ عن الضّحّاك نحوه) أي بمعناه مع اختلاف في مبناه (وقال) أي السمرقندي فيما رواه (فقال) وفي نسخة قال (أبو جهل هذا سحر) أي نوع من الاختلاق (فابعثوا إلى أهل الآفاق) أي بنسبتهم إلى اختلاف المطالع في حيز الخلاف والشقاق (حتّى تنظروا أرأوا ذلك أم لا) أي أو ما رأوا ذلك كذلك هنالك (فأخبر أهل الآفاق أنّهم رأوه منشقا) أي بوصف الانشقاق (فقالوا) يعني الكفار (هذا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أي دائم بنعت الاستمرار أو ذاهب وماض وزائل ومار، (ورواه) أي الحديث السابق (عن ابن مسعود علقمة) أي ابن قيس الليثي النخعي ولد في حياته عليه الصلاة والسلام وروى عن أصحابه الكرام كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم (فهؤلاء الأربعة) أي مجاهد أو أبو معمر والأسود ومسروق وعلقمة (عن عبد الله) أي رووه كلهم عن ابن مسعود على وفق ما رواه عنه معمر فتدبر (وقد رواه غير ابن مسعود) أي من الصحابة (كما رواه ابن مسعود) أي فليس هو شاذا في هذه الرواية (منهم) أي ممن رواه (أنس وابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) كما رواه الشيخان عنهما وهما وإن لم يدركا بأعينهما فقد سمعا ممن حضر وروى ومرسل الصحابة بالإجماع حجة (وابن عمر) أي فيما رواه مسلم والترمذي (وحذيفة) أي ابن اليمان كما عند ابن جرير وابن أبي حاتم وأبي نعيم في الدلائل (وعليّ) أي ابن أبي طالب قال الدلجي لا يعرف مخرجه (وجبير بن مطعم) أي على ما رواه أحمد والبيهقي عنه (فَقَالَ عَلِيٌّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ الْأَرْحَبِيِّ) بفتح الهمزة فسكون الراء ففتح الحاء المهملة فموحدة مكسورة فياء نسبة إلى قبيلة من همدان وقيل إلى مكان أخرج له مسلم والترمذي والنسائي وفي نسخة الأرجي بجيم بعد راء ساكنة وفي أخرى بزاء بدل الراء قال الحلبي وكلاهما(1/590)
تصحيف والصواب ما تقدم والله تعالى أعلم (انشقّ القمر) هذا مقول علي كرم الله وجهه وفي نسخة وانشق القمر بالواو العاطفة إما على كلام سبق له أو أراد الحكاية (ونحن مع النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي وقد شاهدناه. (وَعَنْ أَنَسٍ سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم أن يريهم آية) أي معجزة باهرة وعلامة ظاهرة على صدق ما إدعاه من النبوة والرسالة (فأراهم انشقاق القمر مرّتين) أي فرقتين كما في نسخة صحيحة (حتّى رأوا حراء بينهما) وهو جبل على ثلاثة أميال من مكة على يسار المار منها إلى منى وهو بكسر الحاء المهملة ممدود ويقصر ويصرف ولا يصرف ويؤنث ويذكر وقد خطأ الخطابي فتح الحاء وقصر الراء وقال النووي والصحيح أنه مذكر مصروف. (رواه) أي الحديث (عن أنس قتادة) أي بهذا اللفظ (وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْهُ) أي عن أنس (أراهم القمر مرّتين) أي شقين أو فلقتين ويؤيده أنه في نسخة فرقتين وقيل بمعنى كرتين وقوله (انشقاقه) بالنصب بدل اشتمال من القمر وفي صحيح مسلم فأراهم انشقاق القمر مرتين قال الحلبي هذه المسألة فتشت عنها كثيرا حتى وجدتها في كلام أبي عبد الله ابن إمام الجوزية ذكرها في كتابه إغاثة اللهفان فذكر كلاما وفيه أن المرات يراد بها الأفعال تارة والأعيان تارة وأكثر ما تستعمل في الأفعال وأما الأعيان فكقوله في الحديث انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم مرتين أي شقين وفلقتين ولما خفي هذا على من لم يحط به علما زعم أن الانشقاق وقع مرة بعد مرة في زمانين وهذا مما يعلم أهل الحديث ومن له خبرة بأحوال الرسول وسيرته أنه غلط وأنه لم يقع الانشقاق إلا مرة واحدة انتهى وقال شيخي العراقي في سيرته التي نظمها أنه انشق مرتين بالإجماع وإن ذلك متواتر وقد راجعته بكتاب وذكرت له فيه كلام ابن القيم فلم يرد جوابه على أقول ولعله أعرض عن الجواب اكتفاء بما بين في الكتاب أن إرادة الفلقتين بالمرتين هو الصواب وقال العسقلاني وأظن قوله بالإجماع يتعلق بقوله انشق لا بمرتين فإني لا أعلم من جزم من علماء الحديث يتعدد الانشقاق ولعل قائل مرتين أراد فلقتين وهذا الذي لا يتجه غيره جمعا بين الروايات هذا (وَرَوَاهُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ وابن ابنه جبير بن محمّد) أي النوفلي (وَرَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عبد الله بن عتبة) أي ابن مسعود ولد أخي عبد الله بن مسعود وهو الفقيه الأعمى أحد الفقهاء السبعة معلم عمر بن عبد العزيز وكان من بحور العلم، (وَرَوَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مُجَاهِدٌ وَرَوَاهُ عَنْ حذيفة أبو عبد الرّحمن السّلميّ) بضم ففتح هو الإمام مقرئ الكوفة يروي عن عمر وعثمان وعنه عاصم بن أبي النجود وأبو إسحاق (ومسلم بن أبي عمران الأزديّ) والمقصود نفي توهم أن يكون أحد من الرواة وقع منفردا أو شاذا في الرواية بل ثبت تعدد الصحابة والتابعين في إسناد هذه الحكاية (وأكثر طرق هذه الأحاديث) أي مما بيننا وبين السلف (صحيحة والآية مصرّحة) بكسر الراء أي ودلالة الآية في هذه القضية صريحة فتكاد أن تصير متواترة معنوية وإن لم تكن لفظية (ولا يلتفت) بصيغة المجهول أي ولا ينظر عن(1/591)
صوب إقبال قبول (إلى اعتراض مخذول) أي متروك النصرة من المبتدعة كطبقة المعتزلة وجمهور الفلاسفة وعامة الملاحدة الواقع في قول مائل إلى المجاز وعادل عن الحقيقة في مدلول الآية متشبثا بأصلهم الفاسد بأن الأجرام العلوية لا يتأتى فيها الانخراق والالتيام ومتمسكا (بأنّه) أي الشأن (لو كان هذا) أي الانشقاق واقعا أو لو وقع هذا الأمر (لم يخف على أهل الأرض) أي كلهم (إذ هو شيء ظاهر لجميعهم) وهذا المقدار بيان الاعتراض واما بيان خذلانه فهو قوله (إِذْ لَمْ يُنْقَلْ لَنَا عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أنّهم رصدوه تلك اللّيلة) أي انتظروا انشقاق القمر حتى نظروا شقاقه أو رأوا خلافه في تلك الليلة وهذا معنى قوله (فلم يروه انشقّ) أي مع أن القاعدة الاصولية مضبوطة بأن رواية المثبت مقدمة على رواية النافي بلا شبهة كما في رواية الهلال مشاهدة هذا ومن المعلوم أنهم لم يترصدوه لكونهم غافلين عن القضية ذاهلين عن المقدمة المطوية وإنما أراد المصنف فرض الوقوع في البلية فبطل قول الدلجي بعد قوله فلم يروه انشق وفيه نظر لتوقف رصده على معرفة أنه سينشق في ليلة فيرصدونه ثم قال المصنف على طريق ارخاء العنان مع الخصم في ميدان البيان (وَلَوْ نُقِلَ إِلَيْنَا عَمَّنْ لَا يَجُوزُ تَمَالُؤُهُمْ) أي توافقهم وتواطؤهم (لكثرتهم) أي المتعاضدة (على الكذب كما كانت علينا به) أي بسبب نفيهم على فرض ترصدهم (حجّة) أي دلالة قاطعة ملزمة (إِذْ لَيْسَ الْقَمَرُ فِي حَدٍّ وَاحِدٍ لِجَمِيعِ أهل الأرض) أي لاختلاف مطالعه وتباين مقاطعه كما بينه بقوله (فَقَدْ يَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ على الآخرين) وفي نسخة على آخرين (وقد يكون) أي القمر في مرأى (مِنْ قَوْمٍ بِضِدِّ مَا هُوَ مِنْ مُقَابِلِهِمْ) أي بضد مرأى من قوم مخالفيهم (من أقطار الأرض) أي جوانبها (أو يحول بين قوم وبينه) أي بين القمر (سحاب أو جبال) وكذا حجاب (ولهذا) أي ولكونه ليس في حد واحد من العباد (نجد الكسوفات) أي محو أحد النيرين (في بعض البلاد دون بعض) أي من البلاد حتى لا يوجد فيه كسوف أصلا وقد نقل الحافظ المزي عن ابن تيمية أن بعض المسافرين ذكر أنه وجد في بلاد الهند بناء قديما مكتوبا عليه بني ليلة انشق القمر (وفي بعضها) أي ونجد الكسوفات في بعض البلاد أو في بعض الأوقات بالنسبة إلى بعض العباد (جزئيّة) أي وقوعها باعتبار بعض اجزائه (وفي بعضها كلّيّة) أي وقوعها يستوفي أطرافه كلها (وفي بعضها لا يعرفها) أي الكسوفات (إلّا المدّعون لعلمها) أي الماهرون والحاذقون بمعرفتها؛ (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) أي الغالب بقدرته (الْعَلِيمِ [يس: 38] ) أي المحيط علمه بإرادته وحكمته ووقع في أصل المصنف الحكيم بدل العليم ولا يرد عليه أنه مخالف للفظ التنزيل لأنه ما قصد به الآية إذ ليس عليه شيء من الدلالة هذا (وآية القمر كانت ليلا) أي مبهما وقته ومجهولا ساعته قال الخطابي الحكمة في وقوعها ليلا أن من طلبها من الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بعض من قريش خاص فوقع لهم ذلك ليلا ولو أراد الله تعالى أن يكون هذه المعجزة نهارا لكانت داخلة تحت الحس قائمة للعيان بحيث يشترك فيها الخاصة والعامة لفعل ذلك ولكن الله(1/592)
تعالى بلطفه أجرى سنته بالهلاك في كل أمة أتاها نبيها بآية عامة يدركها الحس فلم يؤمنوا وخص هذه الأمة بالرحمة فجعل آية نبيها عقلية وذلك لما أوتوه من فضل الفهم بالنسبة إلى سائر الأمم والله سبحانه وتعالى أعلم (والعادة من النّاس باللّيل) أي بحسب الأغلب (الهدوّ) بضم الهاء والدال فواو مشددة أو ساكنة بعدها همزة على أصل الكلمة ومعناه قوله (والسّكون) أي عن الحركة والمشي والتردد في الطرق مع قطع النظر عن ملاحظة ما في السماء وترصدهم إلى مراكز القمر ناظرين إليه غير غافلين عنه ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر (وإيجاف الأبواب) بهمزة مكسورة وتحتية ساكنة فجيم أي إغلاقها بسرعة (وقطع التّصرّف) أي بالتردد في داخل البيوت من إغلاقها واعماقها (ولا يكاد يعرف من أمور السّماء) أي لا سيما في فصل الشتاء (شيئا) أي من أمر السماء لحجاب البناء وعدم توجه نظرهم إى صوب الهواء (إلّا من رصد ذلك) أي انتظره قصدا لما هنالك ومنه قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ بالطريق المنتظر (واهتبل به) بفوقية فموحدة أي تحيل واعتنى بنظره (ولذلك) أي ولكون آيته كانت ليلا وفي نسخة وكذلك (ما يكون الكسوف القمريّ) أي بخلاف الشمسي النهاري (كثيرا) خبر كان أي لم يكن وقوعه كثيرا (في البلاد) وجعل الدلجي كثيرا حالا من اسم كان وخبرها في البلاد (وأكثرهم لا يعلم به) أي والحال أن أكثر الناس أو أكثر أهل البلاد لا يعلم بكسوف القمر (حتّى يخبر) أي بوقوعه في السمر والمعنى لا يقع فيها كثيرا مع عدم تعلق العلم به إلا يسيرا (وكثيرا ما) أي وأحيانا كثيرة (يحدّث الثّقات) أي من العلماء بالهيئة الفلكية (بعجائب يشاهدونها من أنوار) أي ظاهرة (ونجوم طوالع عظام) أي باهرة (تظهر في الأحيان باللّيل) أي في بعض الاوقات أو الساعات منه (ولا علم ولأحد بها) أي من غيرهم وفي نسخة ولا علم عند أحد منها ثم هذا مما يتعلق بانشقاق القمر على ما نزل به الآية وورد فيه صحيح الخبر وصريح الأثر وأما رد الشمس له صلى الله تعالى عليه وسلم فاختلف المحدثون في تصحيحه وضعفه ووضعه والأكثرون على ضعفه فهو في الجملة ثابت بأصله وقد يتقوى بتعاضد الأسانيد إلى أن يصل إلى مرتبة حسنة فيصح الاحتجاج به. (وخرّج) بتشديد الراء أي أخرج (الطّحاويّ في مشكل الحديث) وهو الإمام الحافظ العلامة صاحب التصانيف المهمة روى عنه الطبراني وغيره من الأئمة وهو مصري من أكابر علماء الحنفية لم يخلف مثله بين الأئمة الحنفية وكان أولا شافعيا يقرأ على خاله المزني ثم صار حنيفا توفي سنة إحدى وعشرين وثلثمائة وطحا من قرى مصر قال بعضهم كان أولا شافعيا ثم تقلد مذهب مالك كذا نقله التلمساني ولعله انتقل من مذهب مالك إلى مذهب أبي حنيفة كما يشهد به كتبه في الرواية والدراية (عن أسماء) وأصله وسماء من الوسامة فأبدلت واوه همزة وقيل جمع اسم والأول أولى وهو منقول عن سيبويه ولعل وجهه ان اطلاق الجمع على المفرد بعيد جدا مع أن اسم الجمع لا يجعل علما أبدا (بنت عميس) بضم مهملة وفتح ميم فتحتية ساكنة فسين مهملة وتقدمت ترجمتها(1/593)
(من طريقين) أي بإسنادين وكذا الطبراني رواه بأسانيد رجال بعضها ثقات (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم كان يوحى إليه) أي مرة (ورأسه في حجر عليّ) أي ابن أبي طالب كرم الله وجهه (فلم يصلّ) أي علي (الْعَصْرَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بعد ما أفاق من الاستغراق (أصلّيت يا عليّ قال لا فقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ فِي طَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِكَ) أي لما بينهما من الملازمة (فاردد عليه) أي لأجله (الشّمس) أي شرقها كما في نسخة بالتحريك ويسكن وهو منصوب على الظرفية أي في ارتفاعها أو على البدلية أي ضوءها (قالت أسماء فرأيتها غربت ثمّ رأيتها طلعت) أي رجعت على أدراجها من مغربها (بَعْدَ مَا غَرَبَتْ وَوَقَفَتْ عَلَى الْجِبَالِ وَالْأَرْضِ) ويروي وقعت بالعين بدل الفاء (وذلك بالصّهباء) بالمد ويقصر وهو موضع على مرحلة من خيبر وكذا رواه ابن مردويه بسند فيه ضعف عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال نام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حجر علي ولم يكن صلى العصر حتى غربت الشمس فذكر نحوه (قال) أي الطحاوي (وهذان الحديثان ثابتان) أي عنده وكفى به حجة (ورواتهما ثقات) أي فلا عبرة بمن طعن في رجالهما وإنما جعله حديثين لروايته له من طريقين هذا وقال ابن الجوزي في الموضوعات حديث رد الشمس في قصة علي رضي الله عنه موضوع بلا شك وتبعه ابن القيم وشيخه ابن تيمية وذكروا تضعيف رجال أسانيد الطحاوي ونسبوا بعضهم إلى الوضع إلا أن ابن الجوزي قال أنا لا أتهم به إلا ابن عقدة لأنه كان رافضيا بسبب الصحابة انتهى ولا يخفى أن مجرد كون راو من الرواة رافضيا أو خارجيا لا يوجب الجزم بوضع حديثه إذا كان ثقة من جهة دينه وكان الطحاوي لاحظ هذا المبنى وبنى عليه هذا المعنى ثم من المعلوم أن من حفظ حجة على من لم يحفظ والأصل هو العدالة حتى يثبت الجرح المبطل للرواية وأما ما قاله الدلجي تبعا لابن الجوزي من أنه لو قيل بصحته لم يفد ردها وإن كان منقبة لعلي وقوع صلاته أداء لفواتها بالغروب فمدفوع لقيام القرينة على الخصوصية مع احتمال التأويل في القضية بأن يقال المراد بقولها غربت أي عن نظرها أو كادت تغرب بجميع جرمها أو غربت باعتبار بعض أجزائها أو أن المراد بردها حبسها وبقاؤها على حالها وتطويل زمان سيرها ببطء تحركها على عكس طي الأزمنة وبسطها فهو سبحانه قادر على كل شيء شاءه وأما ما ذكره الذهبي من قوله وقد روى هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لم ترد الشمس إلا على يوشع بن نون وذكره ابن الجوزي من أن في الصحيح أن الشمس لم تحبس لأحد إلا ليوشع فالجواب أن الحصر باعتبار الأمم السالفة مع احتمال وروده قبل القضية اللاحقة.
(وحكى الطّحاويّ أنّ أحمد بن صالح) وهو أبو جعفر الطبري المصري الحافظ سمع ابن عيينة ونحوه وروى عنه البخاري وغيره وقد كتب عن ابن وهب خمسين ألف حديث وكان جامعا يحفظ ويعرف الحديث والفقه والنحو مات بمصر سنة مائتين وثمان وأربعين وكان(1/594)
أبوه من أهل طبرستان وجرت بين أحمد هذا وابن حنبل مذاكرات وكتب كل واحد منهما عن صاحبه وكان يصلي بالشافعي (كان يقول لا ينبغي لمن سبيله) وفي نسخة لمن يكون سبيله (العلم) أي بسير سيد الأنبياء (التَّخَلُّفُ عَنْ حِفْظِ حَدِيثِ أَسْمَاءَ لِأَنَّهُ مِنْ علامات النّبوّة) أي وآيات الرسالة. (وروى يونس بن بكير) بالتصغير وهو الحافظ أبو بكر الشيباني عن هشام بن عروة والأعمش ومحمد بن إسحاق بن بشار إمام المغازي وعنه أبو كريب وابن نمير والعطاردي قال ابن معين صدوق وقال أبو داود ليس بحجة يوصل كلام ابن إسحاق بالأحاديث أخرج له مسلم متابعة وقد خرج له البخاري في الشواهد وأخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة (في زيادة المغازي روايته) أي في روايته كما في نسخة (عن ابن إسحاق) أي إمام أهل المغازي (لمّا أسري برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ليلة المعراج (وأخبر قومه بالرّفقة) بضم الراء ويجوز تثليثها أي الجماعة من الرفقاء (والعلامة التي في العير) بكسر العين المهملة أي القافلة من الإبل والدواب تحمل الطعام وغيره من التجارات (قالوا) أي الكفار (متى تجيء) أي القافلة إلى مكة (قال يوم الأربعاء) بالمد وهو بتثليث الباء والأجود كسرها كذا في المحكم وقال ابن هشام فيه لغات فتح الهمزة وكسر الباء وكسر الهمزة وفتح الباء وكسرهما قال وهذه أفصح اللغات (فلمّا كان ذلك اليوم) أي الموعود وهو بالرفع على أنه نعت لذلك المتقدم الذي هو اسم كان التامة كقوله تعالى وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ وفي بعض النسخ المعتمدة ضبط بالنصب ولا وجه له (أشرفت قريش) أي اقبلت (ينظرون) أي ينتظرون (وقد ولّى النّهار) بتشديد اللام المفتوحة أي أدبر أوله آخره (ولم تجىء) أي العير (فدعا رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزِيدَ لَهُ فِي النَّهَارِ سَاعَةٌ) أي بسط في ساعاته (وحبست عليه الشّمس) أي ببطء تحركها وقيل توقفت وقيل ردت على أدراجها كما تقدم والله تعالى اعلم هذا وقد حبست الشمس له صلى الله تعالى عليه وسلم في يوم من أيام الخندق حين شغل عن صلاة العصر كما ذكره المصنف في غير هذا الكتاب وحبست لداود كما ذكره الخطيب في كتاب النجوم وضعف رواته كما نقله عنه مغلطاي في سيرته وفي تفسير البغوي أنها حبست لسليمان عليه السلام لقوله تعالى رُدُّوها عَلَيَّ ونوزع بأن الضمير عائد إلى الصافنات الجياد وأيضا لم يكن هناك مأمورون صالحون لرد الشمس عليه مع مخالفته للحديث الصحيح الصريح في حصر حبس الشمس ليوشع مما بين الأمم المتقدمة نعم ذكر الشيخ معين الدين في معراج النبوة أنها حبست لأبي بكر رضي الله تعالى عنه أيضا والله سبحانه وتعالى أعلم هذا وقد قال بعضهم حديث رد الشمس له صلى الله تعالى عليه وسلم ليس بصحيح وإن أوهم تخريج القاضي له في الشفاء عن الطحاوي من طريقين فقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وقال ابن تيمية العجب من القاضي مع جلالة قدره وعلو خطره في علوم الحديث كيف سكت عنه موهما صحته وناقلا ثبوته موثقا رجاله انتهى وفي المواهب قال شيخنا قال أحمد لا أصل له وتبعه ابن الجوزي(1/595)
فأورده في الموضوعات ولكن قد صححه الطحاوي والقاضي عياض وأخرجه ابن منده وابن شاهين من حديث اسماء بنت عميس وابن مردويه من حديث أبي هريرة انتهى قال القسطلاني وروى الطبراني أيضا في معجمه الكبير بإسناد حسن كما حكاه ابن العراقي في شرح التقريب عن اسماء بنت عميس ولفظه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صلى الظهر بالصهباء ثم أرسل عليا في حاجة فرجع وقد صلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم العصر فوضع عليه الصلاة والسلام رأسه في حجر علي فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صليت العصر قال لا يا رسول الله فدعا الله تعالى فرد عليه الشمس حتى صلى العصر قالت فرأيت الشمس طلعت بعد ما غابت حين ردت حتى صلى العصر قال وروى الطبراني أيضا في معجمه الأوسط بسند حسن عن جابر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمر الشمس فتأخرت ساعة من النهار انتهى وقال الخطابي انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء وذلك أنه ظهر في ملكوت السموات خارجا عن جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة فلذلك صار البرهان به أظهر قلت وفي معناه الشمس بل سلطانها أكبر وأبهر وأنور إلا أنها لكمال قرب غروبها لم تظهر للأكثر فتدبر وأما ما قال الجوزجاني بعد أن نقل عن ابن الملقن في شرح العمدة أنه روى الحسن وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا لم تحبس الشمس إلا ليوشع حيث سار إلى بيت المقدس هذا الحديث فيه رد لحديث اسماء فقد قدمت الجواب عنه وأما قوله وهذا حديث منكر مضطرب لأنه عليه الصلاة والسلام أفضل من علي ولم ترد الشمس له بل صلى العصر بعد ما غربت فمردود عليه لأنها إنما ردت على علي ببركة داعائه صلى الله تعالى عليه وسلم مع أن كرامات الأولياء في معنى معجزات الأنبياء وقد سبق عن البغوي أنها ردت عليه أيضا فما صلى العصر إلا في وقتها مع أن المفضول قد يوجد فيه ما لا يوجد في الفاضل كما يلزم من القول بعدم حبسها إلا ليوشع فتأمل وتوسع.
فصل [في نبع الماء من بين أصابعه الشريفة وتكثيره ببركته صلى الله تعالى عليه وسلم]
(فِي نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَتَكْثِيرِهِ ببركته صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي نسخة وتكثيره ببركته (أمّا الأحاديث في هذا) أي في هذا النوع من جنس المعجزة (فكثيرة جدّا) منصوب على المصدر وأريد به المبالغة في الكثرة فإن ذلك في مواطن متعددة وأعداد مختلفة كما ذكره ابن حبان في صحيحه ففي بعضها أتى بقدح وفي بعضها زجاج وفي بعضها جفنة وفي بعضها ميضأة وفي بعضها مزادة وفي بعضها كانوا خمس عشرة مائة وفي بعضها ثمانمائة وفي بعضها زهاء ثلاثمائة وفي بعضها ثمانين وفي بعضها سبعين انتهى وفي صحيح البخاري في حديث جابر في قصة نبع الماء من بين أصابعه أنهم كانوا ألفا وأربعمائة وفي رواية عنهم أنهم كانوا خمس عشرة مائة وهذه القصة كانت بالحديبية وفي عددهم أقوال مختلفة ثم هذه(1/596)
المعجزة أعظم من تفجر الماء من الحجر كما وقع لموسى عليه السلام فإن ذلك من عادة الحجر في الجملة قال الله تعالى وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وأما من لحم ودم فلم يعهد من غيره صلى الله تعالى عليه وسلم والله تعالى أعلم (رَوَى حَدِيثَ نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ أَصَابِعِهِ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ أَنَسٌ وجابر وابن مسعود) أما حديث أنس فرواه الشيخان عنه أيضا إلا أن المصنف ساقه شاهدا بسنده إلى الإمام مالك عنه فقال (حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ الْفَقِيهُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ حَدَّثَنَا الْقَاضِي عِيسَى بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَاتِمُ بْنُ محمّد) وقد تقدم ذكرهم (حدّثنا أبو عمر بن الفخّار) بفتح الفاء وتشديد الخاء المعجمة، (حدّثنا أبو عيسى) هو يحيى بن عبد الله بن يحيى ابن كثير الليثي وقد سبق ذكره (حدّثنا يحيى) وفي نسخة عن يحيى وهو يحيى بن يحيى الليثي وفي نسخة صحيحة قبل قوله ثنا يحيى ثنا عبد الله بن يحيى عن أبيه يحيى ويؤيده ما قاله الحلبي أنه سقط رجل بين أبي عيسى وبين يحيى وهو عبد الله أبو مروان ولا بد منه وقد تقدم على الصواب وكذا يأتي على الصواب أيضا وحاصله أن عبد الله يروي عن يحيى عن أبيه ويحيى عن مالك (قال حدّثنا مالك) وهو إمام المذهب (عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طلحة عن أنس بن مالك) وهو عمه لأمه (رأيت) وفي نسخة قال أي أنس رأيت (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وحانت صلاة العصر) أي وقد قرب وقتها أو دخل فإن الحين الوقت (فالتمس النّاس الوضوء) بفتح الواو أي ماء الوضوء بضمها وفي نسخة بضمها والمعنى ماءه بتقدير مضاف والمؤدي واحد وقيل يطلق على كل لكن الظاهر أن أحدهما مجاز (فَلَمْ يَجِدُوهُ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي جيء (بوضوء) أي في إناء (فوضع رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْإِنَاءِ يَدَهُ وَأَمَرَ النّاس أن يتوضّؤوا منه) أي من الماء ومن الإناء أو من ماء ذلك الإناء (قال) أي أنس (فرأيت الماء ينبع) بتثليث الموحدة والضم أشهر أي يفور (من بين أصابعه صلى الله تعالى عليه وسلم) قال النووي في كيفية النبع قولان أحدهما الماء كان يخرج من نفس أصابعه وينبع من ذاتها وهو قول أكثر العلماء وثانيهما أنه تعالى أكثر الماء في ذاته فصار يفور من بين أصابعه (فتوضّأ النّاس) أي منه (حتّى توضّؤوا من عند آخرهم) أي إلى انتهاء أولهم فالقضية معكوسة للمبالغة والمراد جميعهم وقال النووي من هنا بمعنى إلى وهي لغة (ورواه أيضا عن أنس قتادة) كما في صحيح مسلم (وقال) أي أنس أو قتادة عنه (بإناء) أي فأتى بإناء (فيه ماء يغمر أصابعه) بسكون الغين المعجمة وضم الميم أي يغطيها ويسترها (أو لا يكاد يغمر) شك من الراوي (قال) أي قتادة لأنس كما صرح به الترمذي (كم كنتم) أي حينئذ وكم اسم استفهام وسؤال عن العدد (قال زهاء ثلاثمائة) بضم زاء وهاء ممدودة أي كنا قدر ثلثمائة، (وفي رواية عنه) أي عن أنس (وهم بالزّوراء) بفتح الزاء وسكون الواو فراء ممدودة مكان يعرف بالمدينة قرب المسجد (عند السّوق) وفي البخاري بالسوق أي سوق المدينة قال الداودي وهو مرتفع كالمنار (ورواه أيضا(1/597)
حميد) بالتصغير وهو الطويل وكان طوله في يديه مات وهو قائم يصلي ثقة لكنه يدلس أخرج له الأئمة الستة (وثابت) تقدم ذكره (والحسن) بن أبي الحسن البصري (عن أنس) أي كلهم عنه إلا أن البخاري انفرد بالأولى والثالثة واتفقا على الثانية (وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ قُلْتُ كَمْ كَانُوا قَالَ ثمانين) أي كانوا ثمانين أي رجلا كما في نسخة، (ونحوه عن ثابت عنه) أي نحو مروي حميد عن أنس في العدد ورد عن ثابت عن أنس (وعنه) أي وعن أنس (أيضا) أي برواية ثابت أو غيره (وهم نحو من سبعين رجلا) لعل رواية السبعين والثمانين في غير قصة الحديبية لما سبق من تعدد القضية ثم رأيت النووي قال إنهما قضيتان جرتا في وقتين فحدث بهما جميعا أنس. (وأمّا ابن مسعود ففي الصّحيح) أي للبخاري وغيره (من رواية علقمة عنه) كما في نسخة أي عن عبد الله بن مسعود (بينما) أي بين ساعات أو أوقات (نحن مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حاضرون (وَلَيْسَ مَعَنَا مَاءٌ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطْلُبُوا مَنْ مَعَهُ فَضْلُ مَاءٍ) قيل إنما أطلب الماء كيلا يظن أنه موجد للماء فإن ذلك لله سبحانه وتعالى وفيه أن الكل من عنده تعالى (فأتي) أي جيء (بماء) أي في نحوه سقاء (فصبّه في إناء ثمّ وضع كفّه) أي مع أصابعه (فيه فجعل الماء ينبع) أي فشرع يخرج (مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي كما ينبع من الأرض وفي نبعه احتمالان من زيادة الكمية او الكيفية وهو أظهر كما يدل عليه طلبه فضل الماء ويشير إليه ما سبق من الترجمة في قوله تعالى وتكثيره ببركته. (وفي الصّحيح) أي للبخاري وغيره (عن سالم) أي الأشجعي (بن أبي الجعد) وهو من ثقات التابعين روي عنه أنه قال اشتراني مولاي بثلاثة دراهم وأعتقني فقلت بأي حرفة احترف فاحترفت بالعلم فما تمت لي سنة حتى أتاني أمير البلد زائرا فلم آذن له (عن جابر عطش النّاس) بكسر الطاء (يوم الحديبية) بالتخفيف وتشدد بئر بين مكة وجدة قبيل جدة وأما قول الدلجي بين مكة والطائف فوهم (ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين يديه ركوة) جملة حالية والركوة بفتح الراء وتضم إناء من جلد نحو الإبريق ذكره الدلجي وهو غير ملائم لوضع اليد فيه اللهم إلا أن يقال المراد به وضع اليد على فيه عند خروج الماء منه ثم رأيت في القاموس أن الركوة مثلثة زورق صغير انتهى وهو يحتمل أن فمه كبير ثم رأيت التلمساني ذكر أنها للماء من الأدم كالتور يتوضأ منه (فتوضّأ منها وأقبل النّاس نحوه) أي متعطشين إليه (وقالوا) عطف على وأقبل الناس وجعل الدلجي الواو للحال أي قائلين (لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ إِلَّا مَا فِي رَكْوَتِكَ) أي التي هي موجودة في حضرتك (فوضع النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يده في الرّكوة) أي ثانيا (فجعل الماء يفور) أي يرتفع متدفقا (من بين أصابعه كأمثال العيون) أي كأمثال مياهها أو شبه أصابعه بمنابع عيون الماء أي بين كل أصبعين يفور الماء كالعين (وفيه) أي في حديث سالم (فقلت) أي لجابر (كم كنتم) أي يومئذ (قال لو كنّا مائة ألف) أي مثلا (لكفانا) أي لكونه معجزة (كنّا) أي لكنا كنا (خمس عشرة مائة) يعني الفا وخمسمائة وقيل ثمانين ألفا رجلا أو أربعين أو خمسة(1/598)
وعشرين رجلا أو ألفا وستمائة بناء على الاختلاف في عدد من بايع تحت الشجرة قال الحلبي فيقال أربع عشرة مائة وكذا هو في الصحيح وأكثر الروايات كما قال البيهقي أنه ألف وأربعمائة هذا وقال اليمني قوله كذا خمس عشرة مائة هذه اللغة إلى الآن بنجد سمعتها منهم لا تألف ألسنتهم الآلاف بل يقولون عشر مائة وإحدى عشرة مائة وعشرون مائة وهلم جرا (وروي مثله) أي مثل حديث سالم كما في مسند الدارمي (عن أنس عن جابر) وهو من رواية الأصاغر عن الأكابر فإنهما صحابيان قال الحلبي كذا في النسخة التي وقفت عليها الآن بالشفاء وعلى عن التي بين أنس وجابر صح يعني أن أنسا رواه عن جابر فإن صح ذلك فرواية أنس عن جابر ليست في الكتب الستة (وفيه) أي وفي هذا الحديث (أنّه كان بالحديبية) يعني فالاختلاف مبني على اختلاف عدد من حضر في تلك القضية. (وَفِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) الوليد هذا ولد في حياته عليه الصلاة والسلام روى عن أبيه وعنه ابنه عبادة (عنه) أي عن جابر (في حديث مسلم الطّويل) صفة للحديث (في ذكر غزوة بواط) بضم الموحدة وتخفيف الواو في آخره طاء مهملة (قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم يا جابر ناد الوضوء) بفتح الواو وتضم وفي نسخة صحيحة الوضوء من غير الباء أي ناد الناس له أو به أو نصبه على الاغراء أي أعطوا أو ناولوا الماء وهو بيان النداء (وذكر الحديث بطوله وأنّه) أي الشأن (لم نجد) بالنون وفي نسخة بالياء وفي أصل الدلجي لم يجدوا (إلّا قطرة) أي شيئا قليلا من الماء (في عزلاء شجب) بالإضافة وهو بفتح العين المهملة فسكون الزاء فلام ممدودة فم المزادة الأسفل والشجب بمعجمة مفتوحة فجيم ساكنة فموحدة ما بلي من القربة وعتق من السقاية (فأتي) أي فجيء (به النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فغمزه) بالراء أي فغطاه وستره وفي اصل الدلجي بالزاء أي فكبسه بيده وعصره (وتكلّم بشيء) أي من الاسماء أو الدعاء والثناء (لَا أَدْرِي مَا هُوَ وَقَالَ نَادِ بِجَفْنَةِ الرّكب) بفتح الجيم وسكون الفاء وهي أكبر قصاع الأطعمة والركب اسم جمع أو جمع للراكب كالصحب وهم العشرة فصاعدا والباء مزيدة ولما كانت الجفنة محل الآية نوديت فكأنها تعقل أو على حذف أي يا قوم هاتوها أو عدي النداء بالباء لتضمنه معنى الإتيان أي ائت بها واحضرها (فأتيت بها) أي فجئت بها إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وقال الحلبي هو مبني لما لم يسم فاعله أي فأتوني بها وفي نسخة فأتيها بضم همزه وكسر ثانيه (فوضعتها بين يديه وذكر) أي جابر (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَسَطَ يَدَهُ فِي الْجَفْنَةِ وَفَرَّقَ) بتشديد الراء ونشر (أصابعه وصبّ جابر عليه) أي الماء، (وقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (بسم الله) أي وعلى بركة رسول الله وروي بسم الله كما أمره على ما في أصل المؤلف (قال) أي جابر (فرأيت الماء يفور) أي يظهر مرتفعا (مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ ثُمَّ فَارَتِ الْجَفْنَةُ وَاسْتَدَارَتْ) أي ارتفع ماؤها ودار (حتّى امتلأت) ورواية مسلم ثم فارت الجفنة فدارت كذا ذكره الدلجي تبعا للحلبي قيل لأن المقام مقام آية فكلما نبع الماء استدارت الجفنة وحديث جابر هذا ليس في شيء من الكتب(1/599)
الستة إلا في مسلم على ما صرح به الحلبي وغيره (وأمر النّاس بالاستقاء) أي بأخذ الماء (فاستقوا حتّى رووا) أي بأجمعهم وهو بضم الواو الأولى وأصله رويوا كرضوا ولقوا (فقلت هل بقي أحد له حاجة) يجوز أن تكون هل نافية كما في قوله تعالى فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ وفي حديث وهل ترك لنا عقيل من دار أي ما بقي من محتاج إلى الماء (فرفع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي يده كما في أصل الدلجي وغيره (من الجفنة وهي ملأى) فعلى من الملئ ويجوز أن يكون هل استفهامية ورفعه يده بعد جوابهم ما بقي لأحد حاجة ولا يبعد أن يكون المراد بقوله فقلت تردده في نفسه أنه هل بقي لأحد حاجة إليه أم لا فرفع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يده شهادة لنفي البقاء فيكون كرامة اخرى. (وعن الشّعبيّ) بفتح أوله تابعي جليل فحديثه هذا مرسل وهو حجة عند الجمهور خلافا للشافعي (أتي النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي جيء (في أسفاره بإداوة ماء) وهي بكسر الهمزة إناء صغير من جلد يتخذ للماء ويسمى المطهر (وَقِيلَ مَا مَعَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاءٌ غيرها) أي غير ما في الإداوة هذه وهي لم تكف الجماعة شربا ووضوءا (فسكبها) أي صبها (في ركوة) أي إناء صغير من جلد يشرب فيها الماء كانت معه كما في نسخة (ووضع إصبعه) بتثليث الهمزة والباء والأشهر كسر الهمزة وفتح الباء والمراد الجنس أي أصابعه (وسطها) بفتح السين وسكونها أي في وسطها (وغمسها) أي غطس اصابعه وأدخلها (في الماء وجعل النّاس يجيئون) أي يأتون إليه (ويتوضّؤون) أي منه (ويقومون) أي عنه وفي نسخة صحيحة ثم يقدمون؛ (قال التّرمذيّ) أي صاحب الجامع (وفي الباب) أي وفي الأحاديث الواردة في هذا النوع من الكتاب (عن عمران بن حصين) وهو كما سيأتي في الفصل الآتي من هذا الباب (ومثل هذا) أي ما ذكر من خوارق العادة (في هذه المواطن الحفلة) بفتح الحاء المهملة وكسر الفاء أي الممتلئة المجتمعة الغزيرة وفي نسخة الحفيلة بزيادة الياء وهما بمعنى (والجموع الكثيرة لا تتطرّق التّهمة بضم) التاء وسكون الهاء وتفتح أي لا تتوصل تهمة كذبه (إلى المحدّث به) بكسر الدال المشددة أي المخبر به (لأنّهم) أي السلف من الصحابة والتابعين (كانوا أسرع شيء إلى تكذيبه) أي تكذيب من أخبره لو عرفوا أنه كاذب في خبره (لما جبلت) بصيغة المجهول أي خلقت وطبعت (عليه النّفوس) أي النفوس كما في نسخة صحيحة (من ذلك) أي الإسراع إلى التكذيب (وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يَسْكُتُ عَلَى بَاطِلٍ) أي بأجمعهم لإنكارهم على الباطل ولو من بعضهم لكونه فرض كفاية على كلهم، (فهؤلاء) أي المذكورون من الصحابة وغيرهم (قد رووا هذا) أي الحديث الذي سبق من نبع الماء من بين أصابعه (وأشاعوه) أي نقلوه وأفشوا سنده (ونسبوا حضور الجمّاء الغفير له) وفي نسخة الجم الغفير أي الجمع الكثير كما في قضية الحديبية (ولم ينكر أحد من النّاس) أي ممن حضر تلك الوقعة (عَلَيْهِمْ مَا حَدَّثُوا بِهِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ) أي من شربهم وسقيهم (وشاهدوه) أي بأعينهم في غيرهم (فصار كتصديق جميعهم له) فيكون إجماعا سكوتيا منهم.(1/600)
فصل [وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ تَفْجِيرُ الْمَاءِ ببركته وانبعاثه]
(وممّا يشبه هذا) أي النوع (من معجزاته) وهو نبع الماء من بين أصابعه لكرامته (تفجير الماء ببركته وابتعاثه) بالرفع أي ثورانه وجريانه (بمسّه) أي إياه بجارحته (ودعوته) أي بلسانه أو جنانه. (فيما روى مالك) أي رواه كما في نسخة (في الموطّأ) بتشديد الطاء المفتوحة فهمزة وقيل بألف مقصورة وكذا أخرجه مسلم في صحيحه (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي قِصَّةِ غَزْوَةِ تبوك) وهي غزوة معروفة كانت سنة تسع من الهجرة (وأنّهم وردوا العين) أي التي كانت فيها (وهي تبضّ) بكسر الموحدة وتشديد المهملة أي تلمح وتلمع أو المعجمة أي تقطر وتسيل واختاره النووي (بشيء) أي قليل (من ماء) أي مما يسمى ماء (مثل الشّراك) بالجر على أنه نعت لشيء أو ماء وفي نسخة بالرفع على تقدير هو وفي أخرى بالنصب على أنه حال من شيء أي مماثلا للشراك في طوله وعرضه وهو سير رقيق يجعل في النعل والمقصود المبالغة في حد القلة (فغرفوا) أي اغترف القوم (من العين بأيديهم حتّى اجتمع) أي الماء كما في نسخة (في شيء) أي من الإناء فيما لديهم (ثمّ غسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيه وجهه. ويديه وأعاده) أي الماء المغسول به (فيها) أي في العين التي بها ماء يسير (فجرت) الفاء عاطفة أي فسالت (بماء كثير فاستقى النّاس) أي فشربوا منه وأسقوا دوابهم (قال) أي معاذ (في حديث ابن إسحاق) أي فيما يرويه إمام أهل المغازي عنه (فانخرق) بالنون والخاء المعجمة والراء أي انفجر وجرى (من الماء ما له حسّ) بكسر الحاء المهملة وتشديد السين أي حركة وصوت لجريه (كحسّ الصّواعق) جمع صاعقة وهو صوت شديد وربما كان معه نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه وأهلكته لكنها مع حدتها سريعة الخمود (ثمّ قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يوشك) أي يسرع ويدنو ويقرب (يا معاذ إن طالت بك حياة) أي مدة عمرك (أن ترى ما هاهنا) أي الموضع الذي ههنا لأجل كثرة ما فيه من الماء (قد ملىء) بصيغة المجهول أي امتلأ (جنانا) بكسر الجيم جمع جنة بالفتح وهي البستان الكثير الأشجار وهي مرة من مصدر جنه جنا إذا ستره فكأنها مرة واحدة بشدة إلفافها وإظلالها ونصبه على التمييز قال الحلبي هذا ذكره ابن إسحاق في طريق تبوك وقت الرجعة ولفظه ثم انصرف قائلا يعني من تبوك إلى المدينة وكان في الطريق ماء ما يروي الراكب والراكبين والثلاثة بواد يقال له وادي المشفق فذكر القصة والله تعالى أعلم. (وفي حديث البراء) أي على ما رواه البخاري عنه (وسلمة بن الأكوع) أي كما رواه مسلم عنه (وحديثه) أي حديث سلمة (أتمّ) أي من حديث البراء (فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً) أي ألف وأربعمائة (وبئرها لا تروي) أي بضم التاء وكسر الواو أي لا تكفي بمائها (خمسين شاة) قال المزي المعروف عند أهل الحديث خمسين أشياء بفتح الهمزة والمد وهي النخلة الصغيرة ذكره الشمني وقال التلمساني وهو الصواب (فنزحناها) أي فنزعنا ما فيها كله (فَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً(1/601)
فقعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على جباها) بفتح الجيم والموحدة المخففة مقصورا ما حول فمها وبالكسر ما جمع فيها من الماء وليس مرادا هنا ويروى شفاها بفتح المعجمة والفاء مقصورا أي جانبها وطرفها (قال البراء وأتي) أي جيء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (بدلو) أي فيه ماء (منها فبصق) أي بزق فيه (فدعا) أي بالبركة في مائها وكب ما في الدلو فيها وهذه رواية البراء من غير شك وتردد بها (وقال سلمة) أي ابن الأكوع (فإمّا دعا وإمّا بصق فيها) بكسر الهمزة على الشك فيهما ولعله اطلع على أحدهما دون الجمع بينهما بخلاف البراء فمن حفظ حجة على من لم يحفظ وعلى كل تقدير (فجاشت) بالجيم والشين المعجمة أي فارت البئر وارتفع ماؤها بوصف الكثير (فأرووا أنفسهم وركابهم) أي سقوا ذواتهم ودوابهم (وفي غير هاتين الرّوايتين) أي رواية البراء ورواية سلمة وكان الأول أن يقول وفي غير هاتين الروايتين كما في نسخة أو في غير هذه الرواية عنهما (هذه القصّة) أي قصة زيادة ماء البئر وفي نسخة فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ (مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ) أي الزهري (في الحديبيّة) وقد أبعد الدلجي حيث قال هذه القصة أي قصة الحديبية لما له إلى قصة الحديبية في الحديبية (فأخرج) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (سهما من كنانته) بكسر الكاف أي جعبته وهي كنانته التي فيها سهامه لأنها تكنها وتسترها (فوضع) أي سهمه وهو بصيغة الفاعل ويؤيده نسخة وضعه بإبراز الضمير وفي نسخة ضبط بصيغة المفعول وهو أتم مبنى وأعم معنى (في قعر قليب) أي عمق بئر لم تطو يعني لم تبن وقيل عادية وهو يؤنث ويذكر ولذا قال (ليس فيه ماء فروي النّاس) بكسر الواو أي بأنفسهم ودوابهم (حتّى ضربوا بعطن) بفتح المهملتين منزل الإبل حول الماء لتبرك فيه إذا شربت لتعاد إلى الشرب مرة أخرى وهو ضرب مثل للاتساع والاستغناء لا سيما في باب الاستقاء والمعنى حتى رووا ورويت ابلهم قال التلمساني والذي نزل بسهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو البراء بن عازب وقيل ناجية. (وعن أبي قتادة وذكر) على ما رواه البيهقي عنه (أَنَّ النَّاسَ شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَطَشَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَدَعَا بالميضأة) بكسر الميم وسكون التحتية وفتح الضاد المعجمة والهمزة مقصورا وقد يمد فوزنها مفعلة أو مفعالة من الوضوء بزيادة الميم للآلة أي مطهرة كبيرة يتوضأ منها والمعنى فطلبها (فجعلها في ضبنه) بكسر ضاد معجمة وسكون موحدة فنون فهاء ضمير أي حضنه بين كشحه وأبطه (ثمّ التقم فمها) أي أدخله في فمه تشبيها له باللقمة لأنه أدخل فمه فيها كما توهم التلمساني (فالله أعلم) أي وأنا لا أعلم (نفث) أي أنفخ بريق أو بلا ريق (فيها أم لا) أي أم لم ينفث (فشرب النّاس حتّى رووا) بضم الواو أي بأنفسهم ودوابهم (وملؤوا كلّ إناء معهم فخيّل إلي) لصيغة المجهول أي تصور في ذهني (أنّها) الميضأة ملأى (كما أخذها منّي) أي على حالها ما نقص شيء منها وقال التلمساني وروي إليه أقول والظاهر أنه تصحيف لديه (وكانوا اثنين وسبعين رجلا؛ وروى مثله) أي مثل مروى أبي قتادة (عمران بن حصين) بالتصغير (وذكر الطّبريّ) وهو محمد بن(1/602)
جرير (حَدِيثَ أَبِي قَتَادَةَ عَلَى غَيْرِ مَا ذَكَرَهُ أهل الصّحيح أنّ) وفي نسخة صحيحة أن على أنه بيان لما ذكره الطبري مخالفا لغيره وهو أن (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم خرج بهم) أي بأصحابه (ممدّا) أي معينا (لأهل مؤتة) بضم الميم وسكون الهمزة ويبدل قرية بين تبوك وحوران من الشام (عند ما بلغه قتل الأمراء) أي أمرائه وهم زيد بن حارثة مولاه عليه الصلاة والسلام وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة (وذكر) أي الطبري (حديثا طويلا فيه معجزات) أي باهرة (وآيات) أي علامات وكرامات ظاهرة (للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي تعظيما لقدره وتفخيما لأمره (وفيه إعلامهم) أي إخباره لأصحابه (أنّهم يفقدون الماء) بكسر القاف أي يعدمونه ولا يجدونه (في غد) فهو من أعلام النبوة لقوله تعالى ما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً (وذكر) أي الطبري (حديث الميضأة) أي كما سبق، (قال) أي أبو قتادة (والقوم) أي أصحابه (زهاء ثلاثمائة) أي قدرها تخمينا قال المزي الوجه نصب زهاء ولكن أهل الحديث يرفعونه ذكره الشمني (وفي كتاب مسلم) يعني صحيحه (أنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (قال لأبي قتادة) أي بعد ما قال لهم إنهم يفقدون الماء في غد (احفظ عليّ) أي لأجلي وفي نسخة علينا (ميضأتك فإنّه) أي الشأن (سيكون لها نبأ) أي خبر عظيم قال القاضي في الإكمال قال الإمام للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم في هذا الحديث معجزتان قولية وهو إخباره بالغيب أنها سيكون لها نبأ وفعلية وهي تكثير الماء القليل (وذكر) أي الطبري (نحوه) أي نحو ما سبق مما ذكره غيره (ومن ذلك) أي ومما يدل على تفجر الماء من بين أصابعه (حديث عمران بن حصين) أي كما في الصحيحين عنه أنه قال (حين أصاب النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه عطش) أي شديد (في بعض أسفارهم) وفي نسخة من أسفارهم (فوجّه رجلين) بتشديد الجيم أي فأرسلهما وهما علي بن أبي طالب وعمران بن حصين (من أصحابه) كما صرح بهما في بعض طرق هذا الحديث (وأعلمهما أنّهما يجدان امرأة) لا يعرف اسمها إلا أنها أسلمت بعد ذلك (بمكان كذا) وفي نسخة بتكرار كذا ويعين الموضع في حديث صاحبه حاطب بن أبي بلتعة وهو روضة خاخ (معها بعير عليه مزادتان) تنبيه مزادة بفتح الميم ظرف من جلد يحمل فيه الماء الراوية أكبر من القربة وميمها زائدة وهي من مادة الزيادة لزيادتها على القربة ولا يبعد أن تكون مأخوذة من الزاد والله تعالى أعلم بالمراد ثم قيل هي الرواية مجازا وإنما الراوية هو البعير الذي يحملها. (الحديث) أي بطوله والمعنى فذهبا على أثرها وطلباها (فوجداها وأتيا بها النّبيّ) وفي نسخة إلى النبي (صلى الله تعالى عليه وسلم فجعل) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (في إناء) أي مما عنده (من مزادتيها) أي بعض مائهما (وَقَالَ فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ) أي من ثناء أو دعاء أو اسماء (ثمّ أعاد الماء) أي رد الماء المأخوذ (في المزادتين ثمّ فتحت) بصيغة المجهول ولا يبعد أن يكون بصيغة الفاعل (عزاليهما) بفتح العين المهملة والزاء تثنية عزلاء وهو فمها الأسفل واللام مفتوحة وقيل هو جمع فاللام مكسورة (وأمر النّاس) وفي نسخة ثم امر الناس (فملؤوا(1/603)
أسقيتهم) جمع سقاء وهو إناء من جلد يتخذ للماء (حتّى لم يدعوا) بفتح الدال أي لم يتركوا (شيئا) أي من أوانيهم (إلّا ملؤوه قال عمران) وفي نسخة وعن عمران بن حصين (ويخيّل إليّ) بصيغة المضارع المجهول من التخييل وفي نسخة بصيغة المعنى الماضي المعلوم من التخيل أي وتصور عندي وتقرر في ذهني (أنّهما) أي المزادتين (لم تزدادا) وفي نسخة بصيغة الإفراد أي كل واحدة منهما (إلّا امتلاء) بكسر التاء على المصدرية أي من زيادة البركة في الكمية والكيفية (ثمّ أمر) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه أن يزودوها من زادهم زيادة على ما توهمت أنهم أخذوا من مزادتيها وفق مرادها (فجمع) بصيغة المفعول (للمرأة) وفي نسخة لها (من الأزواد) جمع زاد أي من جملتها (حتّى ملأ) أي ذلك الزاد وفي نسخة ملأوا (ثوبها وقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (اذْهَبِي فَإِنَّا لَمْ نَأْخُذْ مِنْ مَائِكِ شَيْئًا) أي من كميته (ولكنّ الله سقانا) أي بسبب زيادة كيفيته ببركة اسمائه. (وعن سلمة بن الأكوع) وفي نسخة وقال سلمة (قال النبيّ) وفي نسخة نبي الله (صلى الله تعالى عليه وسلم هل من وضوء) بفتح الواو أي أمعكم أو أعندكم أو أتم ماء وضوء (فجاء رجل بإداوة) بكسر الهمزة أي إناء صغير من جلد يتخذ للماء (فيها نطفة) أي شيء يسير من الماء (فأفرغها) أي صبها (في قدح فتوضّأنا كلّنا) بالرفع توكيد لنا (ندغفقة دغفقة) بدال مهملة وغين معجمة ففاء فقاف أي نصبه صبا كثيرا (أربع عشرة مائة) بيان لقوله كلنا أي الف وأربعمائة (وفي حديث عمر) كما رواه ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي والبزار عنه (في جيش العسرة) أي الضيق والشدة وهي غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة وكانت في نهار حر ووقت الثمار وكثرة ظلال الأشجار (وذكر) أي عمر رضي الله عنه (ما أصابهم) أي المسلمين (من العطش) أي الشديد (حتّى إنّ الرّجل) بكسر الهمزة وتفتح (لينحر بعيره) بفتح اللام المؤكدة (فيعصر فرثه) أي ما في كرشه (فيشربه فرغب أبو بكر) أي مال وتوجه (إلى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في الدّعاء) أي أمره أو في حمله على الدعاء (فرفع يديه) أي ويدعو ربه ويتضرع لديه ويثني عليه ويلتجئ إليه (فلم يرجعهما) من رجع المتعدي أي لم يرد يديه بعد رفعهما إليه وفي نسخة فلم ترجعا من رجع اللازم أي لم تغير اليدان عن حالهما (حتّى قالت السّماء) أي أمطرت فإن القول يستعمل في جملة من الفعل وقيل مالت وروي قامت بالميم أي اعتدلت بالسحاب أو قامت توجهها بالخيرات (فانسكبت) أي فانصب ماؤها بكثرة (فملؤوا ما معهم من آنية) أي جميع أوانيهم (ولم تجاوز) أي السماء المراد بها السحاب وفي نسخة بالتذكير أي ولم يتعد المطر (العسكر) ما انتهى عنهم بل كان السحاب كالظلة عليهم وفيه إيماء إلى أنه ما كان من القضايا الاتفاقية بل كان معجزة وكرامة خاصة لديهم (وعن عمرو بن شعيب) أي ابن محمد بن محمد بن عبد الله بن عمرو العاص أخرج له الأئمة الأربعة (أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم وهو رديفه) جملة حالية تحتمل احتمالين خلافا للتلمساني حيث جزم بأن ضمير هو للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمضاف لأبي طالب والرديف الراكب من خلف(1/604)
(بذي المجاز) بفتح الميم والجيم وزاء في آخره سوق عند عرفات من أسواق أهل الجاهلية (عطشت) بكسر الطاء قال الحلبي وهذا الحديث الذي ذكره القاضي هنا معضل ولا أعلمه في الكتب الستة والرواية عن أبي طالب معلوم ما فيها انتهى وذكر الدلجي عن ابن سعد أنا إسحاق بن يوسف الأزرق ثنا عبد الله بن عون عن عمرو وهو ابن دينار أن أبا طالب قال كنت بذي المجاز ومعي ابن أخي يعني نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقلت له عطشت (وليس عندي ماء) وروي عنده وروي معي وعند مثلث العين ذكره التلمساني (فنزل النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي عن البعير (وَضَرَبَ بِقَدَمِهِ الْأَرْضَ فَخَرَجَ الْمَاءُ فَقَالَ اشْرَبْ) قال الدلجي الظاهر أن هذا كان قبل البعثة يعني فيكون من الارهاصات ولا يبعد أن يكون بعد النبوة فهو من المعجزات ولعل فيه إيماء إلى أنه سيظهر نتيجة هذه الكرامات من بركة قدم سيد الكائنات في أواخر الزمان قريب الألف من السنوات عين في عرفات تصل إلى مكة وحواليها من آثار تلك البركات هذا وأبو طالب لم يصح اسلامه وأما اسلام أبويه ففيه أقوال والأصح اسلامهما على ما انقق عليه الأجلة من الأمة كما بينه السيوطي في رسائله الثلاث المؤلفة (والحديث) اللام للجنس أي والأحاديث (في هذا الباب كثير) أي غير ما ذكر في هذا الكتاب (ومنه الإجابة بدعاء الاستسقاء. وما جانسه) أي من أنواع استجابة الدعاء.
فصل [ومن معجزاته تكثير الطعام ببركته ودعائه عليه الصلاة والسلام]
(ومن معجزاته تكثير الطعام) أي كمية أو كيفية (ببركته) أي بركة حصول وجوده أو وصول يده (ودعائه) أي لربه مقرونا بثنائه (قال) أي المصنف (نا القاضي الشّهيد أبو عليّ رحمه الله تعالى) هو الحافظ ابن سكرة (حدّثنا العذريّ) بضم مهملة فسكون معجمة (ثنا الرّازيّ حدّثنا الجلوديّ) بضم الجيم وتفتح (ثنا ابن سفيان حدّثنا مسلم بن الحجاج) يعني صاحب الصحيح (ثنا سلمة بن شبيب) بفتح الشين المعجمة وكسر الموحدة الأولى بعدها تحتية ساكنة وهو أبو عبد الرحمن النيسابوري حجة أخرى له مسلم والأربعة مات سنة ست وأربعين وماءتين بمكة (ثنا الحسن بن أعين) بفتح فسكون ففتحتين ثقة أخرج له الشيخان وأبو داود والنسائي (ثنا معقل) بفتح الميم وكسر القاف صدوق تردد فيه ابن معين أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي (عن أبي الزّبير) بالتصغير حافظ ثقة روى عنه مالك والسفيانان وأخرج له مسلم والأربعة وأخرج له البخاري مقرونا بقوله كان مدلسا واسع العلم (عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم يستطعمه) أي يطلب طعاما منه لأهله (فأطعمه شطر وسق شعير) الوسق بفتح الواو وتكسر ستون صاعا وشطر الشيء نصفه وهو بفتح أوله ولا يصح كسره قال النووي والشطر هنا معناه شيء كذا فسره الترمذي (فما زال) أي ذلك الرجل السائل المستطعم منه عليه الصلاة والسلام (يأكل منه) أي من ذلك الطعام (وامرأته وضيفه) أي كذلك فهما مرفوعان أو معهما فهما منصوبان ويروى وصيفه بواو فمهملة (حتّى(1/605)
كاله) أي ليعرف نقصانه وكماله ويوجب اكتياله ما يبين حاله وماله ففني بهذه الحركة وزالت عنه البركة (فأتى) أي الرجل (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره) أي بأنه كاله وجرب حاله (فقال لو لم تكله) أي وما جربتيه (لأكلتم منه) أي كلكم طول عمركم (ولقام بكم) أي بأودكم مدة بقائكم وفي هذا الحديث أن البركة أكثر ما تكون في المجهولات والمبهمات وكان الصوفية من هنا قالوا المعلوم شوم قيل والحكمة في ذلك أن الكائل يكون متكلا على مقداره لضعف قلبه وفي تركه يكون متكلا على ربه والاتكال عليه سبحانه وتعالى مجلبة للبركة وأما الحديث الآخر كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه فقالوا المراد أن يكيله عند إخراج النفقة منه لئلا يخرج أكثر من الحاجة أو أقل بشرط أن يبقى الباقي مجهولا ثم هذا الرجل هو جد سعيد بن الحارث وذلك أنه استعان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في نكاحه امرأة فالتمس النبي عليه الصلاة والسلام ما سأله فلم يجد له فبعث أبا رافع الأنصاري وأبا أيوب بدرعه فرهناها عند يهودي في شرط وسق من شعير فدفعه عليه الصلاة والسلام إليه قال فأطعمنا منه ثم أكلنا منه سنة وبعض سنة ثم كلناه فوجدناه كما أدخلناه كذا ذكره التلمساني وهو خلاف ظاهر ما حرره القاضي ويمكن الجمع بينهما. (ومن ذلك) أي مما يدل على ما هنالك من تكثير الطعام ببركته ودعائه عليه الصلاة والسلام (حديث أبي طلحة المشهور) بالرفع صفة لحديث وهو المروي في الصحيحين عن أنس في قصته وأبو طلحة هذا هو عم أنس بن مالك زوج أم سليم أنصاري نجاري خزرجي بدري أحد الفقهاء قال صلى الله تعالى عليه وسلم صوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة ذكر أنه قتل يوم حنين عشرين رجلا وأخذ سلبهم روى عنه ابنه عبد الله وابن زوجته أنس بن مالك (وإطعامه) بالرفع (صلى الله تعالى عليه وسلم ثمانين أو سبعين رجلا) وجزم مسلم في روايته بثمانين رجلا (من أقراص) أي قليلة (من شعير جاء) وفي نسخة أتى (بها) أي بتلك الأقراص وفي نسخة به أي بما ذكر (أنس تحت يده أي إبطه) يعني حال كون أنس واضعا لها تحت إبطه من كمال قلتها (فأمر بها) أي بالأقراص أو بفتها (ففتّت) بضم الفاء وتشديد الفوقية الأولى مفتوحة أي فجعلت فتاتا والمعنى كسرها بأصابعه وثردها وفي حديث إذا قل طعامكم فأثردوه (وقال فيها) أي في حق الأقراص (ما شاء الله أن يقول) أي من ثناء ودعاء وأسماء وأمر بمجيء عشرة عشرة حتى أكل القوم كلهم الحديث بطوله قال النووي وإنما أذن صلى الله تعالى عليه وسلم لعشرة عشرة ليكون ارفق بهم فإن القصعة التي فت فيها تلك الأقراص لا يتحلق عليها أكثر من عشرة إلا بضرر يلحقهم لبعدها عنهم وقيل لئلا يقع نظر الكثير على الطعام اليسير فيزداد حرصهم ويظنون أنه لا يكفيهم فتذهب بركته ويحتمل أن يكون لضيق المنزل وهو أقرب؛ (وحديث جابر) أي ومن ذلك حديث جابر كما رواه البخاري عنه (في إطعامه صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الخندق) أي زمن حفره وهو يوم الأحزاب (ألف رجل من صاع شعير وعناق) بفتح أوله وهي الأنثى من أولاد المعز ما لم يتم لها سنة (وقال جابر فأقسم بالله لأكلوا) أي منه (حتّى تركوه) أي على(1/606)
حاله وفي أصل الدلجي لأكلوا حتى شبعوا للأكل حتى تركوه غاية للشبع (وانحرفوا) أي مالوا إلى حرف أي جانب وطرف والمعنى وانصرفوا (وإنّ برمتنا) بكسر الهمزة حيالة والبرمة بضم الموحدة هي القدر من حجر أو مدر (لتغطّ) بفتح التاء وكسر الغين المعجمة وتشديد المهملة أي تغلي من حرارة النار تحتها حق يسمع غطيطها وهو صوت غليانها (كما هي) أي على هيئتها الأولى وماهيتها بكمالها كأنه لم يؤخذ منها شيء وما كافة مصححة لدخول الكاف على الجملة وهي مبتدأ والخبر محذوف أي مثل ما هي قبل ذلك (وإنّ عجيننا ليخبز) أي كما هو وكل ذلك بعد أن شبعوا أو تركوا وانصرفوا (وكان) أي وقد كان (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بصق) أي بزق (في العجين والبرمة وبارك) أي ودعا لهما بالبركة؛ (رواه عن جابر سعيد بن ميناء) بكسر الميم ممدودا ويقصر ويجر ولا يجر بناء على أنه مفعال أو فعلاء وحديث سعيد هذا عن جابر في الصحيحين (وأيمن) بفتح الميم عطف على سعيد وهو أيمن الحبشي المكي وأمه أم أيمن حاضنة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومولاته أخو أسامة بن زيد لأمه استشهد يوم حنين وحديثه عن جابر في الخندق أخرجه البخاري في المغازي وزيد في بعض النسخ الصحيحة ههنا بعد قوله أيمن (وَعَنْ ثَابِتٍ مِثْلُهُ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وامرأته ولم يسمّهما) أي الراوي عنهما لكن جهالتهما لا تضر لكونهما صحابيين (قال) أي ثابت أو كل من الرجل والمرأة (وجيء بمثل الكفّ) أي من العجينة (فجعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يبسطها) أي يدلكها ويوسعها (في الإناء ويقول ما شاء الله) أي من الدعاء والثناء (فأكل منه من في البيت والحجرة) بضم الحاء وتفتح ناحية قريبة من الدار (والدّار) أي وما حولها من الفناء (وكان ذلك) أي المقام (قَدِ امْتَلَأَ مِمَّنْ قَدِمَ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم لذلك) أي المرام (وبقي) أي ذلك الطعام (بَعْدَ مَا شَبِعُوا مِثْلُ مَا كَانَ فِي الإناء) أي سابقا ببركته عليه الصلاة والسلام. (وحديث أبي أيّوب) أي ومن ذلك حديث أبي أيوب بدري مشهور وهو خالد بن زيد أنصاري نجاري عقبي بدري نزل عنده رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في خروجه من بني عمرو بن عوف حين قدم المدينة فلم يزل عنده حتى بنى مسجده ومساكنه شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفد على ابن عباس البصرة فقال إني أخرج لك عن مسكني كما خرجت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن مسكنك وأعطاه ما أغلق عليه ولما قفل اعطاه عشرين ألفا وأربعين عبدا مرض في غزوة القسطنطينية فقال إذا مت فاحملوني فإذا صففتم العدو فادفنوني تحت ارجلكم فدفن عند باب القسطنطينية فقبره في قرب سورها فقال مجاهد فكانوا إذا محلوا كشفوا عن قبره فيمطرون وحديثه هذا رواه الطبراني والبيهقي عنه (أنّه صنع لرسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَبِي بَكْرٍ مِنَ الطَّعَامِ زُهَاءَ ما يكفيهما) بضم الزاي أي مقدار ما يشبعهما وفيه إشعار بكمال اختصاصهما (فقال له النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادْعُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَشْرَافِ الْأَنْصَارِ) خصهم بالدعوة كي يسلموا بالألفة ومشاهدة المعجزة إذ كان ذلك أول الهجرة وسماهم(1/607)
انصارا لعلمه بأنهم يسلمون على يديه وينصرون دينه (فدعاهم فأكلوا حتّى تركوا) وفي نسخة تزكوه أي الأكل أو الطعام والثاني أظهر في المرام لقرينة المقام ولقوله (ثُمَّ قَالَ ادْعُ سِتِّينَ فَكَانَ مِثْلُ ذَلِكَ) أي فدعاهم فأكلوا حتى تركوه (ثمّ قال ادع سبعين فأكلوا حتّى تركوه وما خرج منهم أحد حتّى أسلم) أي أظهر الإسلام أو ثبت على ذلك المرام قال التلمساني في الأصل هكذا إلا حتى أسلم وصوابه حتى أسلم (وبايع) أي على الجهاد ونصرته عليه الصلاة والسلام لما شاهد المعجزة في بركة ذلك الطعام (قَالَ أَبُو أَيُّوبَ فَأَكَلَ مِنْ طَعَامِي مِائَةٌ وثمانون رجلا) وكأن عشرين أكلوا بعد المائة والستين؛ (وعن سمرة بن جندب) بضم الجيم والدال وتفتح وحكي بكسرهما وكان الأظهر أن يقول وحديث سمرة بن جندب وهو ما رواه الترمذي والبيهقي وصححاه والنسائي عنه ولفظه (أتي النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي جيء (بقصعة) بفتح القاف لا بكسر (فيها لحم فتعاقبوها) أي تناوبها في تناولها الصحابة جماعة بعد جماعة (من غدوة) بضم فسكون ففتحتين لأنها معرفة (حتّى اللّيل) أي إلى آخر نهار تلك الغدوة مع أخذ بعض الوقت من العشية (يقوم قوم ويقعد آخرون) جملة مستأنفة مبينة للتعاقب والمناوبة فلا ينافي ما قال التلمساني هكذا في الأصل والمعروف من حديث سمرة من غدوة إلى الظهر وقال فقيل لسمرة هل كان يمد قال فمن أي شيء تعجب ما كان يمد إلا من ههنا وأشار إلى السماء؛ (وَمِنْ ذَلِكَ، حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بكر) على ما في الصحيحين عنه (كنّا مع النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاثين) أي رجلا (ومائة) أي رجلا وهو لغة في مائة وثلاثين (وذكر) أي عبد الرحمن (في الحديث) أي في حديثه هذا (أنّه عجن صاع) من طعام بصيغة المفعول وفي نسخة عجن صاعا (من طعام وصنعت شاة) بصيغة التأنيث للمجهول ويحتمل المتكلم على بناء الفاعل وفي أصل الدلجي وصنع شاة أي فرغ من شأنها وهذا إيجاز بليغ إذ بسطه يقول وذبحت وسلخت وقطعت وهذا من كمال صانعه إذ العادة أن يعجز واحد عن القيام بأمورها كلها فقد روي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان في بعض اسفاره يأمر بإصلاح شاة فقال رجل يا رسول الله على ذبحها وقال آخر على سلخها وقال آخر على طبخها فقال عليه الصلاة والسلام وعلى جمع الحطب فقالوا إنا نكفيك فقال قد علمت أنكم تكفونني ولكني أكره أن أتميز عنكم لأن الله يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه وقام عليه الصلاة والسلام وجمع الحطب في ذلك المقام (فشوي سواد بطنها) على بناء المفعول ويحتمل الفاعل والمراد بسواد بطنها كبدها خاصة أو معاليقها مما في جوفها واختاره الهروي والنووي الأول وخص الكبد لأنه أصل الحياة وقيل القلب (قال) وفي نسخة ثم قال أي عبد الرحمن (وايم الله) بهمزة وصل أو قطع وضم الميم ويكسر وهو من الفاظ القسم كعمر الله وعهد الله وأصله وأيمن الله كما في نسخة وهو جمع يمين والمعنى أقسم ببركة الله وقدرته وقوته (ما من الثّلاثين ومائة) أي أحد (إلّا وقد حزّ له) بفتح الحاء وتشديد الزاء (حزّة) بفتح الحاء وتضم أي قطع له قطعة (من سواد بطنها) قال الحلبي قوله حزة بفتح(1/608)
الحاء في النسخة التي وقفت عليها ولا أعرفها وأحفظها إلا بالضم وهي القطعة المحزوزة وأما بالفتح فالمرة من الحز وليست المراد هنا إنما المراد القطعة انتهى ولا يخفى أن الظاهر أن المرة من الحز هو المراد في هذا المقام والله تعالى أعلم بالمرام ثم رأيت الشمني جوز الوجهين فتم النظام (ثمّ جعل) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (منها) أي من لحم الشاة وما معه من الطعام (قصعتين) أي جفنتين كبيرتين (فأكلنا أجمعون وفضل) بفتح الضاد في الماضي وضمها في المستقبل وبكسرها في الماضي وفتحها في المضارع أي وزاد (في القصعتين) وقيل الأول من الفضل في السودد والثاني من الفضلة وهي بقية الشيء وقد سوى بينهما الجوهري حيث قال فضل منه شيء مثل دخل يدخل وفيه لغة أخرى مثل حذر يحذر (فحملته) أي ذلك الزائد (عَلَى الْبَعِيرِ، وَمِنْ ذَلِكَ، حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن أبي عمرة الأنصاريّ عن أبيه) أي أبي عمرة وهو أنصاري بدري له حديث في بركة الطعام في بعض غزواته عليه الصلاة والسلام رواه عنه ابنه عبد الرحمن قال ابن المنذر قتل ابو عمرة مع علي رضي الله تعالى عنه بصفين أخرج له النسائي فقط كذا قرره الحلبي وقال الدلجي حديثه هذا رواه ابن سعد والبيهقي عنه انتهى وليس بينهما تناف إذ حصر الأول بالنسبة إلى صحاح الستة وهما خارجان عنهم البتة (ومثله) أي مثل مروي عبد الرحمن (لسلمة بن الأكوع وأبي هريرة) كما رواه البخاري عنهما (وعمر بن الخطّاب) كما رواه أبو يعلى بسند جيد عنه (فذكروا) أي هؤلاء الثلاثة (مخمصة) بفتح الميمين أي مجاعة شديدة (أصابت النّاس مع النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَدَعَا بِبَقِيَّةِ الأزواد) جمع زاد والباء زائدة كما في نسخة أي فطلبها ليبرك فيها فتكثر كميتها أو كيفيتها (فجاء الرّجل بالحثية من الطّعام) بفتح الحاء المهملة وسكون المثلثة فتحتية أي باليسير منه ويكون قدر الغرفة وفي نسخة بضم الحاء المعجمة وسكون الباء الموحدة فنون فتاء وهي ما يحمل في الحضن (وفوق ذلك) أي في الكثرة أو القلة (وأعلاهم) أي في الزيادة (الَّذِي أَتَى بِالصَّاعِ مِنَ التَّمْرِ فَجَمَعَهُ عَلَى نطع) بكسر النون وفتحها مع سكون الطاء وبفتحتين وكعنب بساط من الأديم كذا في القاموس وقال الحلبي تلميذه أفصحهن كسر النون وفتح الطاء انتهى وتبعه الشمني وهو خلاف ما يتبادر من عبارة القاموس وكذا هو على خلاف ما هو المشهور على ألسنة العامة من فتح النون وسكون الطاء مع أنه أخف أنواع هذه اللغة هذا وقد وقع في اصل الدلجي فجعله باللام بدل فجمعه بالميم فاحتاج لقوله أي ما جمع من الأزواد والظاهر أنه تصحيف والله تعالى أعلم بالمراد (قال سلمة فحزرته) بفتح الحاء المهملة والزاء فسكون الراء أي خمنته وقدرته (كربضة العنز) بفتح الراء وسكون الموحدة فمعجمة وقيل بكسر الراء وصوب لأنه للهيئة والفتح للمرة أي مثل جثتها إذا بركت والعنز هي الأنثى من المعز واشار سلمة بهذا إلى قلة التمر (ثمّ دعا النّاس) أي طلبهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (بأوعيتهم) الأوعية والأزودة واحد وقوله في نص الحديث حتى ملأ القوم ازودتهم قال القاضي في الإكمال كذا الرواية فيه في جميع أصول(1/609)
شيوخنا والأزودة هي الأوعية كما قال في الحديث الآخر أوعيتهم (فما بقي في الجيش وعاء) بكسر الواو أي ظرف وإناء (إلّا ملؤوه وبقي منه) أي قدر ما جعل كما في نسخة أي جمع أولا (وأكثر) وقد يقال أكثر (ولو ورده أهل الأرض لكفاهم) أي لما فيه من خير كثير ولعل هذا معنى قوله تعالى بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) كما روى ابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط بسند جيد أنه قال (أمرني النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أن أدعو له) أي أطلب أنا لأجله (أهل الصّفّة) بالضم والتشديد أي من فقراء المهاجرين وكانوا كثيرين من لم يكن له منزل فأووا موضعا مظللا من مسجده صلى الله تعالى عليه وسلم فعن ابن سعد بسنده إلى أبي هريرة قال رأيت ثلاثين رجلا من أهل الصفة يصلون خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أردية ثم قال أبو الفتح اليعمري منهم أبو هريرة وأبو ذر وواثلة بن الأسقع وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة لقد رأيت سبعين من أهل الصفة وقد عد من أهل الصفة أبو نعيم في الحلية مائة ونيفا فيهم أبو هريرة وابن الأسقع وأصحاب بئر معونة وفي عوارف المعارف للسهروردي أنهم كانوا نحو أربعمائة والله تعالى أعلم وعد منهم سعد ابن أبي وقاص وعمار بن ياسر وعقبة بن عامر وسلمان وبلال وصهيب وحذيفة وغيرهم قال في نظم الدرر وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد إذا أتت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هديه أرسلها إليهم واشركهم فيها وقال صاحب الكشاف أصحاب الصفة كانوا نحو أربعمائة رجل من مهاجري قريش لم يكن لهم مسكن في المدينة ولا عشيرة كانوا في صفة المسجد يتعلمون القرآن بالليل ويرضخون النوى بالنهار وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن كان عنده فضل طعام بهم إذا أمسى (فتتبّعتهم) بتشديد الموحدة أي فتفحصتهم (حتّى جمعتهم فوضعت بين أيدينا صحفة) أي قصعة مبسوطة (فَأَكَلْنَا مَا شِئْنَا وَفَرَغْنَا وَهِيَ مِثْلُهَا حِينَ وضعت) يعني أنها ما زادت ولا نقصت (إلّا أنّ فيها أثر الأصابع) أي أصابع الآكلين فإنها زادت، (وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه) كما رواه أحمد والبيهقي بسند جيد أنه (قال جمع رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبَ وَكَانُوا أَرْبَعِينَ) أي رجلا (منهم قوم) أي بعض (يأكلون الجذعة) أي الشاة الجذعة وهي بفتح الجيم وسكون الذال المعجمة الداخلة في السنة الثانية إذا كانت من المعز وما أتى عليه ثمانية أشهر من الضأن قيل والمراد بها هنا الإبل كما ورد مفسرا في بعض الأحاديث وهو منها ما يدخل في الخامسة أو الرابعة (ويشربون الفرق) بفتح الفاء والراء وتسكن مكيال يسع اثني ثلاثة آصع بكيل الحجاز وقيل إناء يسع صاعا بصاع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وذلك ستة عشر رطلا (فصنع لهم مدّا من طعام) أي قدر مد وهو بضم الميم مكيال وهو رطلان أو رطل وثلاث أو ملء كفي الإنسان والمعتدل إذا ملأهما ومد يده بهما وبه سمي مدا قال صاحب القاموس وقد جربت ذلك فوجدته صحيحا (فأكلوا) أي منه(1/610)
(حتّى شبعوا وبقي كما هو) أي كأن لم يؤكل شيء منه (ثمّ دعا بعس) بضم عين وتشديد سين مهملتين قدح كبير من خشب يروي الثلاثة والأربعة من لبن (فشربوا حتّى رووا) بضم الواو (وبقي كأنّه لم يشرب منه) أي شيء (وقال أنس) أي على ما رواه الشيخان واللفظ لمسلم (إنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم حين ابتنى) أي تزوج ودخل (بزينب) أي بنت جحش قال الحلبي المعروف أن مثل هذه القصة اتفقت في بنائه بصفية وفي شرح مسلم للمصنف أن الراوي أدخل قصة في قصة وقال بعضهم في حديث الصحيح يحتمل أنه اتفق الشيئآن يعني الشاة والحيس (أمره) أي أنسا (أن يدعو له قوما سمّاهم) أي جمعا عينهم بأسمائهم وخصهم ثم عمهم بعطف غيرهم حيث قال (وكلّ من لقيت) أي فدعوتهم (حتّى امتلأ البيت والحجرة) وهي موضع منفرد عنه وقيل يريد بالبيت الصفة وهكذا جاء مفسرا في حديث أنس الآتي في آخر هذا الفصل وهو قوله تزوج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وصنعت أم سليم حيسا إلى قوله حتى ملأوا الصفة والحجرة الحديث وكانت لكل واحد من نسائه صلى الله تعالى عليه وسلم حجرة هي بيتها (فقدّم) وفي نسخة وقدم (إليهم تورا) الفوقية إناء من صفر أو حجارة كالإجانة وهي التي تسمى مركنا طستا أو سطلا وقيل كان (فِيهِ قَدْرُ مُدٍّ مِنْ تَمْرٍ جَعَلَ حَيْسًا) أي بضم سمن وأقط إليه وربما يجعل عوضا عن الأقط دقيق أو فتيت أو سويق (فوضعه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (قدّامه) أي بين يديه (وغمس ثلاث أصابعه) أي فيه (وجعل القوم) أي شرعوا (يتغدّون) بتشديد الدال المهملة المفتوحة من الغداء وهو خلاف العشاء وفي نسخة بالذال المعجمة وهو ما يؤكل أعم من العشاء والغداء قال الحلبي في نسخة التي وقفت عليها بالذال المعجمة وهو غير مناسب لأن الغذاء بكسر الغين وبالذال المعجمتين أعم من الغداء بفتح الغين وبالدال المهملة وفي صحيح مسلم فدعا الناس بعد ارتفاع النهار فذكر القصة وفيه أيضا من حديث اطعمنا الخبز واللحم حين امتد النهار أي ارتفع وهذا صريح في أن ذلك كان في صدر النهار يعني فيناسب الدال المهملة لكن فيه أن المعنى الأخص مندرج في المعنى الأعم والله تعالى أعلم (ويخرجون) أي حتى خرج آخرهم (وبقي التّور) أي بما فيه (نحوا ممّا كان) وهو تمييز لنسبة بقي أو حال من التور (وكانوا) وفي نسخة وَكَانَ الْقَوْمُ (أَحَدًا أَوِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ) وَفِي أصل الدلجي أحد وثلاثين أَوِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ (وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي هذه القصّة) أي قصة وليمة زينب (أو مثلها) أي أو في مثل هذه القصة وهي قصة وليمة صفية (إنّ القوم كانوا زهاء ثلاثمائة) بضم الزاء أي قدرها (وإنّهم أكلوا حتّى شبعوا) بكسر الباء (وقال لي) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن شبعوا (ارفع) أي التور وفي أصل التلمساني لترفع بلام الأمر وتاء المخاطب وهو قليل ومنه قوله تعالى فبذلك فلتفرحوا في قراءة شاذة ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لتأخذوا مصافكم هذا وعن ابن عمر مرفوعا إذا وضعت القصعة فليأكل أحدكم مما يليه ولا يتناول من ذروة القصعة فإن البركة تأتيها من أعلاها ولا يقوم الرجل حتى ترفع المائدة ولا يرفع يده وإن شبع حتى يرفع(1/611)
القوم ليعذر فإن ذلك يخجل جليسه ولعله يكون له بالطعام حاجة رواه يحيى بن أبي كثير عن عروة عن ابن عمر فرفعته (فلا أدري) وفي أصل الدلجي فَمَا أَدْرِي (حِينَ وُضِعَتْ كَانَتْ أَكْثَرَ أَمْ حين رفعت) بصيغة التأنيث على بناء المجهول فيهما ولعله التأنيث باعتبار معنى التور من الإجانة ونحوها ولا يبعد أن يكون بصيغتي الفاعل للمتكلم على أن المفعول محذوف والتقدير وضعته ورفعته وأقول بل حين رفعت لحصول البركة وتعلق المعجزة حين رفعها بخلاف حال وضعها (وفي حديث جعفر) أي الصادق (بن محمّد) أي الباقر (عن أبيه) أي أبي جعفر محمد (عن عليّ) أي ابن أبي طالب جد والد محمد وهو زين العابدين علي بن الحسين بن علي كذا رواه ابن سعد منقطعا لأن محمدا ووالده لم يدركا عليا فقول الحلبي رواية الباقر عن علي مرسلة فيه نوع مسامحة (أنّ فاطمة طبخت قدرا) أي طعام قدر أو ذكرت المحل وأرادت الحال (لغذائهما) بفتح الغين المعجمة والدال المهملة (ووجّهت عليّا) أي أرسلته (إلى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي أصل التلمساني في النبي أي في طلبه والتوجه إليه أو في بمعنى إلى (ليتغذى معهما) أي فجاءها (فأمرها فغرفت منها لجميع نسائه صحفة صحفة) وهن كن تسعا عائشة وحفصة وزينب وأم حبيبة وأم سلمة وسودة وميمونة قرشيات وصفية قرظية وجويرية مصطلقية (ثمّ له عليه الصلاة والسلام ثم لعليّ ولها) أي ولأولادها أو ولمن كان معها (ثمّ رفعت القدر وإنّها لتفيض) بفتح الفوقية أي لتفور وتسيل من جوانبها (قالت) أي فاطمة (فأكلنا) وفي نسخة وأكلنا (منها ما شاء الله) أي أن نأكل منها.
(وأمر) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (عمر بن الخطاب أن يزوّد) بتشديد الواو المكسورة أي يعطي الزاد (أربعمائة راكب من أحمس) بفتح الهمزة والميم اسم رجل نسب إليه قبيلة معروفة والحماسة الشجاعة والشدة في الديانة ولذا سميت قريش الحمس لشدتهم في دينهم وذلك أنهم كانوا ايام منى لا يستظلون ولا يدخلون البيوت من أبوابها وفي رواية أربعمائة راكب من مزينة وهي قبيلة من مضر (فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هِيَ إِلَّا أصوع) بضم الواو جمع صاع قال الجوهري وإن شئت أبدلت من الواو المضمومة همزة وفي نسخة آصع بهمزة ممدودة وصاد مضمومة قال ابن قرقول وجاء في كثير من الروايات آصع والصواب أصوع (قال اذهب) أي فزودهم منه (فذهب فزوّدهم منه وكان) أي الذي أعطاهم (قدر الفصيل) أي ولد الناقة إذا فصل عن أمه أي فطم (الرّابض) بكسر الموحدة أي الحقير أو البارك (من التّمر وبقي) أي التمر بعد تزويدهم منه (بحاله) أي كان لم يؤخذ منه شيء (من) أي هذا الحديث من (رواية دكين) بالتصغير وأوله دال وقيل راء (الأحمسيّ) رواها أبو داود في الأدب إلا أنه قال عن دكين بن سعيد المزني قال أتينا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسألناه الطعام أي الزاد فقال يا عمر اذهب فأعطهم فارتقى بنا إلى علية بضم العين وتشديد اللام المكسورة فتحتية مشددة أي غرفة فأخذ المفتاح من حجزته بالزاي ففتح أي فأعطانا ما أعطانا قال الحلبي يقال له الأحمسي والمزني والخثعمي له صحبة وليس له في الكتب إلا في سنن أبي(1/612)
داود وليس له فيه إلا هذا الحديث وهو مختصر منه (ومن رواية جرير) يعني أيضا (ومثله من رواية النّعمان) بضم النون (ابن مقرّن) بتشديد الراء المكسورة وقيل بالسكون والتخفيف أحمسي أيضا اسلم مع إخوته الستة وقال السهيلي بنو مقرن المزني هم البكاءن الذين نزل فيهم قوله سبحانه وتعالى وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ الآية (الخبر) بالرفع أي الحديث هذا (بعينه) أي من غير زيادة ونقصان فيه على ما رواه أحمد والبيهقي بسند صحيح عنه (إلّا أنّه قال) أي النعمان (أربعمائة راكب من مزينة) أي كما مر عن أبي داود هذا والخبر مرفوع على أنه خبر ومثله مبتدأ وأبعد الدلجي بقوله منصوب بأعني (ومن ذلك) أي من قبيل تكثير الشيء ببركة دعائه وعظمة ثنائه (حَدِيثُ جَابِرٍ فِي دَيْنِ أَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ) كما رواه البخاري عنه (وقد كان) أي جابر (بذل لغرماء أبيه أصل ماله) أي أراد أن يبذل لهم أو عرض عليهم ورضي لهم أن يأخذوا جميع ماله وبذل بالمعجمة أي أعطى وأما بالمهملة فبمعنى العوض (فلم يقبلوه) أي استحقارا لأصل ماله لعدم الوفاء بكماله كما بينه بقوله (ولم يكن في ثمرها سنتين) أي ثمر البساتين المعبر عنها بأصل ماله أو ثمر نخيل جابر أو أبيه بكماله (كفاف دينهم) بفتح الكاف أي وفاء لأدائه قال الدلجي ومنه قول الحسن ابدأ بمن تعول ولا تلام على كفاف أي إذا لم يكن عندك كفاف فلا تلام على عدم اعطائه انتهى والكفاف قوت الرزق والأظهر أن المعنى فلا تلام على تحصيل ما يكفيك من المال عن السؤال وتشتت البال ثم صدر الكلام وهو قوله ابدأ بمن تعول من حديثه عليه الصلاة والسلام كما رواه الطبراني عن حكيم بن حزام (فجاءه النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن أمره) أي جابرا (بجدّها) بفتح الجيم وتشديد الدال المهملة أي بقطع ثمرها (وجعلها بيادر في أصولها) بفتح الموحدة وكسر الدال المهملة جمع بيدر أي جعلها كومات تحت نخيلها (فمشى فيها) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (ودعا) أي بالبركة فيه (فأوفى) أي أعطى (منه جابر غرماء أبيه وفضل) تقدم الكلام عليه وقال التلمساني تثلث ضاده والكسر أعلى أي زاد (مثل ما كانوا يجدّون) بضم الجيم وكسرها وتشديد الدال المهملة أي يقطعون (كُلَّ سَنَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ مِثْلُ مَا أَعْطَاهُمْ) أي فضل (قال) أي جابر (وكان الغرماء يهود) خبر كان غير منصرف علم طائفة من اليهود (فعجبوا) بكسر الجيم أي فتعجبوا (من ذلك) أي لما عظم موقعه عندهم مع خفاء سببه إذ هو شأن العجب وسبب تعجبهم هو وفاء دينهم الكثير من الشيء اليسير مع زيادته بدعائه وبركته فإن هذا وأمثاله مما ذكر سابقا ولا حقا من أعلى المعجزات وأعظم الكرامات. (وقال أبو هريرة) على ما رواه البيهقي عنه (أصاب النّاس مخمصة) أي مجاعة شديدة (فقال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هل من شيء) أي أهل عندك بعض شيء فمن تبعيضية لا زائدة كما قاله الدلجي ثم تنكير شيء للتقليل فيفيد المبالغة في المطالبة ولو بشيء يسير أو قدر حقير (قلت نعم) أي عندي (شيء) أي قليل (من التّمر في المزود) بكسر الميم وفتح الواو وعاء من جلد يجعل فيه الزاد (قال فأتني به) أي فأتيته به (فأدخل يده. فأخرج قبضة) بفتح(1/613)
القاف أي مرة من القبض بمعنى مقبوضة كالغرفة بمعنى المغروفة وهي مأخوذة من القبض وهو الأخذ بجميع الكف وبالضم اسم للشيء المقبوض كالغرفة بالضم بمعنى المغروف والرواية بالفتح كما ذكر الحجازي وهو ملء الكف قال الحلبي ويفتح أيضا ويؤيده ما في القاموس القبضة وضمه أكثر ما قبضت عليه من شيء هذا وفي نسخة بالصاد المهملة ففي القاموس قبصه تناوله بأطراف أصابعه وذلك المتناول القبضة بالفتح والضم والقبضة من الطعام ما حملت كفاك ويضم انتهى ولا يخفى أن هذا المبنى أبلغ في المعنى (فبسطها) أي يده (ودعا بالبركة) أي لما فيها، (ثمّ قال ادع عشرة) أي فدعوتهم (فأكلوا حتّى شبعوا ثمّ عشرة) بالنصب أي دعوتهم (كذلك) على ما في نسخة أي فأكلوا حتى شبعوا وهكذا بقية من هنالك (حتّى أطعم الجيش كلّهم وشبعوا) أي وتركوا فضلهم وقد سبقت الحكمة في الاقتصار على العشرة في الجفنة وقيل خصت العشرة لأن لها فضلا حيث إن الله تعالى أقسم بها وفي العشر ليلة القدر وفيها ليلة النحر وفيها يوم عاشوراء وقال تعالى وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ وقال تلك عشرة كاملة (وقال) وفي نسخة قال وفي نسخة ثم قال أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (خذ ما جئت به) أي مع الزيادة الحاصلة من البركة (وأدخل يدك) أي فيه (واقبض منه) بكسر الموحدة (ولا تكبّه) بفتح التاء وضم الكاف وتشديد الموحدة المفتوحة وقد تضم أي لا تقلبه (فقبضت) أي فأخذت (عَلَى أَكْثَرِ مِمَّا جِئْتُ بِهِ فَأَكَلْتُ مِنْهُ وأطعمت) أي غيري أيضا (حياة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي مدة حياته (وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إِلَى أَنْ قُتِلَ عُثْمَانُ) وهو عام خمس وثلاثين (فانتهب منّي) بصيغة المجهول أي سلب (فذهب) أي فاستمر غائبا عني في المكان ولعل فقده حينئذ لفساد الزمان (وفي رواية) أي حسنة للترمذي (لقد) وفي نسخة فَقَدْ (حَمَلْتُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ كَذَا وَكَذَا) كناية عن عدد مقدار ما حمله (مِنْ وَسْقٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَذُكِرَتْ مِثْلُ هذه الحكاية في غزوة تبوك) أي من الرواية (وأنّ التّمر) بكسر الهمزة والجملة حالية (كان بضع عشرة تمرة) وروي بضعة عشر والأول أولى (ومنه) أي ومن تكثير الطعام ببركة دعائه عليه الصلاة والسلام (أيضا) كما في نسخة أي كما وقع مكررا في مقام المرام (حديث أبي هريرة) كما رواه البخاري (حين أصابه الجوع) يعني أبا هريرة (فاستتبعه النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فأمره أن يتبعه فتبعه (فوجد) أي النبي أو أبو هريرة (لبنا) أي قليلا (في قدح) أي صغير (قد أهدي إليه) أي إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وأمره) أي أبا هريرة (أن يدعو أهل الصّفّة) أي بقيتهم إليه (قال) أبو هريرة رضي الله تعالى عنه (فقلت) أي في نفسي (ما هذا اللّبن) أي ما تأثيره (فيهم) والاستفهام بمعنى النفي أي لا يغني من شبعهم شيئا (كنت) أي أنا وحدي (أحقّ أن أصيب منه شربة) أي مرة واحدة وأغرب التلمساني في قوله بضم الشين (أتقوّى بها) يعني ولعلها تكفيني أم لا ومع هذا امتثلت الأمر (فدعوتهم) أي فحضروا (وذكر) أي أبو هريرة (أمر النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم له أن يسقيهم) بفتح الياء الأولى وضمها ولفظ الدلجي وأمرني أن أسقيهم ولعله نقل بالمعنى وتغيير(1/614)
في المبنى (فجعلت) أي شرعت (أعطي الرّجل فيشرب حتّى يروى) بفتح الياء والواو (ثمّ يأخذه الآخر) أي فيشرب (حتّى) يروى وهكذا حتى (روي جميعهم) بكسر الواو ولفظ الدلجي حتى رووا جميعهم بضم الواو على صيغة الجمع، (قال) أي أبو هريرة (فأخذ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم القدح) أي قدح اللبن (وقال بقيت، أنا) تأكيد لضمير بقيت ليصح عليه عطف قوله (وأنت) نحو قوله تعالى اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ (اقعد) أمر أدب (فاشرب فشربت، ثم قال اشرب) أي فشربت كما في أصل الدلجي (وما زال يقولها) أي كلمة أشرب (وأشرب حتّى قلت لا) أي لا أشرب أو لا أقدر على زيادة الشرب (والذي بعثك بالحقّ) أي إلى كافة الخلق (ما أجد) وفي نسخة صحيحة لا أجد (له مسلكا) أي مساغا وهو يحتمل أن يكون جوابا للقسم أو مستأنفا مبينا لامتناعه كأنه علة له (فأخذ) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (القدح فحمد الله) أي على ما منحه من البركة (وسمّى وشرب الفضلة) أي البقية وفيه إيذان بأن أفضل القوم يكون آخرهم شربا ذكره الدلجي وفي الحديث ساقي القوم آخرهم شربا رواه الترمذي وابن ماجة عن أبي قتادة وغيرهما عن غيره وفيه تنبيه أيضا على وجه حكمة تأخير أبي هريرة عن القوم مع الإيماء إلى وجه اختيار الإيثار لا سيما حال المخمصة والاضطرار والله تعالى أعلم بهذه الأسرار وعن عبد الله بن الحارث عن أبيه عن أبي عبد الرحمن السلمي قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اتخذوا عند الفقراء أيادي فإن لهم دولة قيل يا رسول الله وما دولتهم قال ينادى يوم القيامة يا معشر الفقراء قوموا فلا يبقى فقيرا إلا قام حتى إذا اجتمعوا قيل ادخلوا إلى صفوف أهل القيامة فمن صنع معكم معروفا فأوردوه الجنة قال فجعل يجتمع على الرجل كذا وكذا من الناس فيقول له الرجل الم أكسك فيصدقه ويقول الآخر يا فلان الم أكلم لك فلانا فلا يزال يخبرونه بما صنعوا إليه وهو يصدقهم حتى يذهب بهم جميعا حتى يدخلهم الجنة فيبقى قوم لم يكونوا يصنعون المعروف يا ليتنا كنا نصنع المعروف حتى ندخل الجنة وعن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان ممن كان قبلكم ملك مسرف على نفسه وكان مسلما وإذا أكل طعامه طرح ثفاله طعامه على مزبلة فكان يأوي إليها عابد فإن وجد كسرة اكلها وإن وجد بقلة أكلها وإن وجد عرقا تعرقه قال فلم يزل كذلك حتى قبض الله ذلك الملك فأدخله النار فخرج العابد إلى الصحراء مقتصرا على بقلها ومائها ثم إنه سبحانه وتعالى قبض ذلك العابد فقال له هل لأحد عليك معروف تكافئه قال لا يا رب قال فمن أين كان معاشك وهو اعلم به منه قال كنت آوي إلى مزبلة ملك فإن وجدت كسرة أكلتها وإن وجدت بقلة أكلتها وان وجدت عرقا تعرقته فقبضته فخرجت إلى البرية مقتصرا على بقلها ومائها فأمره تعالى أن خذ بيده فأدخله الجنة من معروف كان منه إليك وهو لم يعلم به أما إنه لو علم به ما أدخلته النار. (وفي حديث خالد بن عبد العزّى) أي ابن سلامة الخزاعي له صحبة روى عنه ابنه مسعود إلا أن حديثه ليس في الكتب الستة على ما في التجريد كما ذكره الحلبي وقال الدلجي حديثه هذا(1/615)
رواه البيهقي عنه (أنّه أجزر النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي أعطاه (شاة) أي تصلح للجزر وهو الذبح ولا تكون إلا من الغنم فلا يقال أجزرت القوم ناقة لأنها قد تصلح لغير الذبح إذ نزل عليه بالجعرانة وظل عنده وأمسى ثم بدت له صلى الله تعالى عليه وسلم العمرة فأرسل إلى رجل من تهامة يقال له مخرش بن عبد الله ليأخذ به طريقا إلى مكة يأمن فيه على نفسه لخوفه من دخولها وحده فانحدر به إلى الوادي حتى بلغا اشغاب قال يا مخرش من هذا المكان إلى الكر وما والاه فهو لخالد وما بقي من الوادي فهو لك ثم سار به حتى قضى نسكه وأحله مخرش أي حلقه ثم رجعا إلى خالد (وكان عيال خالد) بكسر العين أي من يعوله (كثيرا) أي عددهم (يذبح الشّاة) حال أو استئناف مبين لكثرتهم واللام في الشاة للجنس فهو في حكم النكرة أي قد يذبح خالد شاة (فلا تبدّ عياله) بضم الفوقية وكسر الموحدة وتشديد الدال المهملة من بد الشيء وأبده فرقه وأعطى كل واحد بدنه أي نصيبه على حدته قاله الهروي وفي الحديث اللهم أحصهم عددا وأقتلهم بددا أي متفرقين واحدا بعد واحد والمعنى لا نكفي الشاة كلهم إذا فرقت عليهم (عظما عظما وإنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) بكسر الهمزة جملة حالية (أكل من هذه الشّاة) أي التي أجزرها إياه (وجعل فضلتها) أي بقيتها (فِي دَلْوِ خَالِدٍ وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فَنَثَرَ) بفتح الموحدة فضم المثلثة بعدها راء أي كثر (ذلك لعياله) وفي نسخة صحيحة بالنون والمثلثة والمفتوحتين أي انتثر ذلك لعياله حتى وسعهم وقيل أي صبه وأخرجه ورمى به (فأكلوا وأفضلوا) أي ودخلوا في زيادة البركة (ذكر خبره الدّولابي) بضم الدال المهملة أنصاري رازي سمع محمد بن بشار وغيره من طبقته بالحرمين والعراق ومصر والشام وغيرها وصنف التصانيف وروى عنه ابن أبي حاتم وابن عدي والطبراني وغيرهم قال الدارقطني تكلموا فيه وما تبين في أمره الأخير توفي بين مكة والمدينة بالعرج في ذي القعدة سنة عشر وثلاثمائة هذا وقد قال ابن ماكولا في الإكمال ما لفظه وأما خناش أوله خاء معجمة مضمومة وبعدها نون وآخره شين معجمة فهو أبو خناش خالد بن عبد العزى في الصحابة ذكره أبو بشر الدولابي في كتاب الاسماء والكنى بسنده إلى أن قال عن مسعود بن خالد عن خالد بن عبد العزى بن سلامة أنه أجزر النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً وَكَانَ عِيَالُ خَالِدٍ كَثِيرًا يذبح الشاة فلا تبد عياله عظما عظما وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أكل منها ثم قال أرني دلوك يا أبا خناش ووضع فيها فضلة الشاة ثم قال اللهم بارك لأبي خناش فانقلب به فنثره لهم وقال تواسعوا فيه فأكل عياله وأفضلوا ذكره الحلبي (وفي حديث الآجرّيّ) بهمزة ممدودة وضم جيم وتشديد راء وبعده ياء نسبة صاحب كتاب الشريعة وهو أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي منسوب إلى عمل الآجر (في إنكاح النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لعليّ فاطمة) أي في تزويجها له (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِلَالًا بِقَصْعَةٍ مِنْ أَرْبَعَةِ أمداد أو خمسة) أي من دقيق خبز شعير أو حنطة (ويذبح جزورا) أي بعيرا (لوليمتها) وفي نسخة ويذبح جزورا بصيغة المضارع وفي(1/616)
أخرى وبذبح جزور بمصدر مضاف، (قال) أي بلال (فأتيته بذلك) أي فجئت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالذي أمره أن يصنعه من القصعة (فطعن في رأسها) أي في أعلاها بيديه لتنزل البركة عليه، (ثمّ أدخل النّاس) أي أمرهم بالدخول عليه (رفقة رفقة) بضم الراء وجوز تثليثها أي جماعة بعد جماعة (يأكلون منها) وفي نسخة صحيحة فأكلوا منها (حتّى فزعوا) أي عنها (وبقيت منها فضلة) وفي نسخة فضلة منها أي بقية وزيادة (فبرّك) بتشديد الراء أي فدعا بالبركة (فيها وأمر بحملها إلى أزواجه) أي من النساء التسع (وقال) أي لهن بعد إساله إليهن (كلن) أي بأنفسكن (وأطعمن من غشيكنّ) أي أتاكن وحضر عندكن فإن البركة توافي كلكن (وفي حديث أنس) كما رواه الشيخان (تزوّج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعض نسائه) قال الحلبي تقدم أن هذا كان في ابتنائه بصفية (فصنعت أمّي أمّ سليم) بالتصغير (حيسا) تقدم مبناه ومعناه (فجعلته في تور) سبق كذلك (فذهبت) أي أنا وفي نسخة فبعثتني (به) أي بالتور إلى رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَالَ ضَعْهُ وَادْعُ لِي فُلَانًا وفلانا) أي كأبي بكر وعمر خصوصا. (ومن لقيت) أي من غيرهما عموما (فدعوتهم) أي المعينين جميعهم (ولم أدع) بفتح الدال أي ولم أترك (أحدا لقيته) أي في طريقي ذاهبا وآئبا (إلّا دعوته وذكر) أي أنس (أنّهم) أي المدعوين والمجتمعين لا كما قال الدلجي أي الذين دعاهم (كانوا زهاء ثلاثمائة) أي مقدارهم تقريبا (حتّى ملؤوا الصُّفَّةَ وَالْحُجْرَةَ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم: تحلّقوا) بفتح اللام المشددة أي استديروا كالحلقة المفرغة (عشرة عشرة) أي كل عشرة حلقة أو كل حلقة عشرة (ووضع النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يده على الطّعام) أي المسمى بالحيس الذي صنعته أم سليم وجاء به أنس إليه عليه الصلاة والسلام (فدعا فيه) أي بما شاء الله من الدعاء (وقال ما شاء الله أن يقول) أي من أصناف الاسماء وأنواع الثناء (فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا كُلُّهُمْ، فَقَالَ لِي ارْفَعْ) فرفعته (فَمَا أَدْرِي حِينَ وُضِعَتْ كَانَتْ أَكْثَرَ أَمْ حين رفعت) بصيغة المجهول فيهما ولا يبعد أن يضبط بصيغة المتكلم المعلوم وتأنيث الضمير مع أنه راجع إلى التور باعتبار الآنية ووقع في أصل الدلجي وضع ورفع بصيغة التذكير فيتعين كونهما للمفعول كما لا يخفى (وأكثر أحاديث هذه الفصول الثّلاثة) أي التي أولهما فصل نبع الماء من بين أصابعه (فِي الصَّحِيحِ وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَى مَعْنَى حَدِيثِ هذا الفصل) وفي نسخة حديث الفصل هذا ووقع في أصل الدلجي حديث هذه الفصول (بضعة عشر) بكسر الباء وتفتح أي ثلاثة عشر أو أكثر (من الصّحابة) وأما قول الجوهري تقول بضع سنين وبضعة عشر رجلا فإذا جاوزت العشر لا تقول يضع وعشرون فهو منقوض بقوله عليه الصلاة والسلام صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ ببضع وعشرين درجة ولقوله في حديث مسلم وغيره الإيمان بضع وسبعون شبعة (رواه عنهم) أي روى معنى حديث هذا الفصل أو هذه الفصول عمن ذكر من الصحابة (أضعافهم من التّابعين ثمّ) أي بعدهم رواه عن أضعافهم منهم (من لا ينعدّ) بصيغة المجهول أي لا يحصر وفي نسخة لا ينعد (بعدهم) أي من تابعيهم (وأكثرها) أي(1/617)
وأكثر أحاديث هذه الفصول الثلاث وردت (في قصص مشهورة) بكسر القاف أي حكايات مأثورة (ومجامع مشهودة) أي محصورة مما تقدم فيها (ولا يمكن التّحدّث عنها إلّا بالحقّ) أي على وفق الصدق حذرا من التكذيب في رواية منها (ولا يسكت الحاضر لها) أي المشاهد لها (على ما أنكر منها) حذرا من أن ينسب إليه ما لا يليق بجنابه.
فصل [في كلام الشجر وشهادتها له بالنبوة وإجابتها دعوته]
(في كلام الشجر وشهادتها له بالنبوة وإجابتها دعوته صلى الله تعالى عليه وسلم قال) أي المصنف (حدّثنا أحمد بن محمّد بن غلبون) بفتح فسكون فضم موحدة وهو منصرف وقد يمنع بناء على أن مطلق المزيدتين علة عدم الانصراف (الشّيخ الصّالح فيما أجاز فيه) هذه لغة حكاها ابن فارس والمعروف أجازه لي ذكره الحلبي وغيره (عن أبي عمر) وفي نسخة أبي عمرو بالواو (الطّلمنكيّ) بتشديد لام مفتوحة فميم مفتوحة ونون ساكنة (عن أبي بكر بن المهندس) بكسر الدال (عن أبي القاسم البغوي) بفتحتين وهو الحافظ الكبير السند البغوي الأصل البغدادي ابن بنت أحمد بن منيع البغوي روى عن أحمد بن حنبل عاش مائة وثلاث سنين وتوفي ليلة عيد الفطر سنة سبع عشرة وثلاثمائة وله ترجمة في الميزان وقال في آخرها وهذا الشيخ الحجازي يعني به أبا العباس أحمد بن الشحنة راوي صحيح البخاري وغيره بينه وبين البغوي أربعة أنفس وهذا شيء لا نظير له في الاعصار وذلك أن الحجازي توفي سنة ثلاث وسبعمائة فيكون بين وفاته ووفاة البغوي أربعمائة سنة وبضع عشرة (حدّثنا أحمد بن عمران الأخنسيّ) بفتح الهمزة وسكون المعجمة روى عنه ابن أبي الدنيا وغيره (حدّثنا أبو حيّان) بتشديد التحتية (التّيميّ) وفيه أن الأخنسي لم يدركه على ما صرح به المزي ولعله اسقط محمد بن فضيل ويؤيده أنه وجد في نسخة صحيحة قبله حدثنا محمد بن فضيل ويؤيده ما سيأتي المصنف في أول فصل في الآيات في ضروب الحيوانات حديثا في إسناده حَدَّثَنَا أَبُو الْعَلَاءِ أَحْمَدُ بْنُ عِمْرَانَ حَدَّثَنَا محمد بن فضيل الخ والله تعالى أعلم (وكان) أي أبو حيان (صدوقا) وقد روي عن أبي زرعة والشعبي وعنه يحيى القطان وأبو أسامة أخرج له الأئمة الستة (عن مجاهد) تابعي جليل (عن ابن عمر) وقد رواه الدارمي والبيهقي والبزار أيضا عنه (قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم في سفر فدنا) أي قرب (منه أعرابيّ) أي بدوي (فقال يا أعرابيّ أين تريد قال أهلي) أي أريد أهلي أو أهلي أريدهم وفي نسخة إلى أهلي أي مرادي التوجه إليهم (قال هل لك) أي ميل ورغبة (إلى خير) أي من أهلك أو خير محض لك في حالك ومآلك (قال وما هو) أي ذلك الأمر أو الخير (قال تشهد) أي أن تشهد أي شهادتك أو خبر معناه أمر أي أشهد (أن) مخففة من المثقلة حذف اسمها أي أنه (لا إله) موجود أو معبود أو مشهود (إلّا الله وحده) حال مؤكدة أي متوحدا ومنفردا (لا شريك له) أي في وحدانية ذاته وسبحانية صفاته (وأنّ محمّدا عبده ورسوله) إلى كافة مخلوقاته (قال من(1/618)
يشهد لك على ما تقول) أي من دعوى التوحيد والرسالة (قال هذه الشّجرة السّمرة) بفتح فضم وهي بدل مما قبلها فإنها من الطلح شجر عظام من العضاة له شوك كثير وظل يسير قالوا وهو شجر الصمغ العربي (وهي بشاطىء الوادي) أي طرفه وجانبه (فأقبلت) أي بمجرد قوله عليه الصلاة والسلام هذه الشجرة تشهد على حقية الإسلام وفي نسخة صحيحة فادعها فإنها تجيبك وفي أخرى تجبك قال أي الأعرابي فدعوتها فأقبلت وهذا أبلغ في قبول الإجابة والمعنى فشرعت الشجرة في الإتيان إليه صلى الله تعالى عليه وسلم (تخذّ الأرض) بضم الخاء المعجمة وتشديد الدال المهملة ومنه الأخدود وهو الشق في الأرض أي حال كونها تشق الأرض وتسعى إليه على ساق بلا قدم (حتّى قامت) أي وقفت كما في نسخة (بين يديه فاستشهدها ثلاثا) أي طلب منها أن تشهد ثلاث مرات (فشهدت) أي ثلاثا (أنّه) أي الأمر (كما قال) أي النبي عليه الصلاة والسلام أن الله واحد لا شريك له وأنه عبد الله ورسوله (ثمّ رجعت إلى مكانها. وعن بريدة) بالتصغير وهو ابن الحصيب بن عبد الله الأسلمي أسلم حين مر به عليه الصلاة والسلام مهاجرا ثم قدم المدينة قبل الخندق وشهد الحديبية ومات بمدينة مرو بخراسان غازيا وأما بريدة بن سفيان الأسلمي فلا صحبة له وإن ذكره بعضهم في الصحابة بل هو تابعي متكلم فيه كما رواه البزار عنه أنه قال (سأل أعرابيّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم آية) أي علامة تكون معجزة دالة على صدق الرسالة (فَقَالَ لَهُ قُلْ لِتِلْكَ الشَّجَرَةِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم يدعوك قال) أي بريدة (فقالت الشَّجَرَةُ عَنْ يَمِينِهَا وَشِمَالِهَا وَبَيْنَ يَدَيْهَا وَخَلْفَهَا) أي من جهاتها كلها واضطربت في مكانها وارتفعت في شأنها متوجهة بجميع دواعيها إلى داعيها (فتقطّعت عروقها) أي المتعلقة بأصولها (ثمّ جاءت تحدّ الأرض تجرّ عروقها) حالان متداخلان أو مترادفان (مغبرّة) بتشديد الراء أو الباء (حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ الله) قال الدلجي لعله صلى الله تعالى عليه وسلم رد عليها السلام مكافأة لها لا وجوبا إذ ليست مكلفة انتهى وتعليله غير مستقيم كما لا يخفى (قال) وفي نسخة فقال (الأعرابيّ مرها فلترجع إلى منبتها) بكسر الموحدة سماعا وتفتح قياسا (فرجعت) أي بعد أمره لها (فدلّت عروقها) بتشديد اللام أي أرسلتها ومكنتها (في ذلك) أي المكان قال التلمساني الموضع سقط عند العرفي وثبت عند غيره (فاستوت) أي قائمة (فقال الأعرابيّ ائذن لي) يقرأ في الوصل بسكون همزة الأصل وفي الابتداء بهمزة الوصل وإبدال همزة الأصل بالياء أي مرني (أسجد لك) جواب الأمر وفي نسخة صحيحة أن أَسْجُدْ لَكَ (قَالَ لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يسجد لأحد) أي غير الله سبحانه وتعالى (لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) أي لما عليها من حقوقه. (قال فأذن لي) وفي نسخة فقال ائذن لي (أقبل) وفي نسخة أن أقبل (يديك ورجليك فأذن له) أي فقبلها.
(وفي الصّحيح) أي صحيح مسلم (في حديث جابر بن عبد الله) أي الأنصاري كما في نسخة وهما صحابيان جليلان (الطّويل) نعت الحديث (ذهب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم(1/619)
يقضي حاجته) كناية عن فعل الغائط أو البول (فلم ير شيئا يستتر به) أي من عيون الينس والجن فتحير في أمره (فإذا بشجرتين) أي ثابتتين أو نابتتين (بشاطىء الوادي) أي في جانبه (فانطلق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ذهب (إلى إحدهما فأخذ بغصن من أغصانها فقال) أي لها كما في نسخة (انقادي عليّ) أي استسلمي لي واطيعيني (بإذن الله) أي بأمره وتيسيره (فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُوشِ الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ) أي يلاينه وينقاد له وهو بالخاء والشينين المعجمات الذي جعل في أنفه خشاش وهو بالكسر عود يربط عليه حبل ويجعل في أنفه ويشد به الزمام لينقاد بسهولة ثم إن كان من شعر فهو خزامة أو من صفر أو حديد فهو برة بضم موحدة فتخفيف راء (وذكر) أي جابر (أنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (فعل بالأخرى) أي من الشجرتين (كذلك) أي مثل ما فعل بالأولى (حتّى إذا كان بالمنصف) بفتح الميم وإسكان النون وفتح الصاد وتكسر أي وسط الطريق (بينهما) أي بين موضعيهما وهو بيان أو تأكيد (قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للشجرتين (التئما) أي اجتمعا وانضما (عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَالْتَأَمَتَا. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى) أي لمسلم وغيره (فقال يا جابر قل لهذه الشّجرة) أي التي بشاطىء الوادي (يقول لك رسول الله الحقي) بفتح الحاء أي اجتمعي واتصلي (بصاحبتك) أي بنظيرتك وهي الشجرة التي في مقابلتك (حتّى أجلس خلفكما) أي فأقضى حاجتي مستترا بكما وفي أصل الدلجي حتى يجلس بناء على المعنى (ففعلت فرجعت) أي الشجرة عن حالتها التي كانت عليها وفي نسخة فزحفت بالزاء والحاء المهملة والفاء أي انتقلت من محلها (حتّى لحقت بصاحبتها فجلس خلفهما) الظاهر أن القضية متكررة وأن الشجرة الواحدة ما كانت تصلح أن تكون سترة (فخرجت أحضر) بضم الهمزة وسكون الحاء المهملة وكسر المعجمة أي أعدو وأجري وإنما فعل ذلك رضي الله تعالى عنه لئلا يحس به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قريب منه فيأذي بقربه (وجلست أحدّث نفسي) أي بهذا الأمر الغريب والحال العجيب (فالتفتّ) أي فنظرت إلى أحد طرفي (فإذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فاجأته بغتة فأبصرته. (مقبلا والشّجرتان قد افترقتا) أي من محل اجتماعهما وانتقلتا إلى موضعهما (فقامت كلّ واحدة منهما على ساق) أي في منبتها (فوقف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقفة) أي خفيفة (فقال برأسه) أي فأومأ له أو فأومأ به إلى الشجرتين (هكذا يمينا وشمالا) تفصيل لما قبله إجمالا ولعله كان وداعا للشجرتين أو لمن هناك من الملائكة وأما قول الدلجي وقد تبعه التلمساني إذنا منه لهما بالرجوع إلى مكانهما فيأباه الفاء كما لا يخفى على أهل الوفاء.
(وروى أسامة بن زيد نحوه) أي كما رواه البيهقي وأبو يعلى بسند حسن عنه (قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم في بعض مغازيه) أي غزواته (هل تعني) بالفوقية أي تقصد وتعين (مكانا لحاجة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لقضاء حاجته فيه وتصحف الدلجي وضبط لفظ تعني بالتحتية وتكلف بقوله هل استفهام اكتفى به عن المستفهم(1/620)
عنه استهجانا للتصريح باسمه ومن ثمة بينه الراوي بقوله يعني مكانا لحاجته نعم هذا إنما يصح بناء على نسخة هل ترى يعني مكانا الخ وقد تبعه التلمساني فقال أي ترى أو تجد وهو أما أحذفه للعلم به وأما حذفه الراوي لأنه لم يسمعه أو لم يفهمه أو لم يجده في أصله انتهى وكله تكلف وتعسف مستغنى عنه (فَقُلْتُ إِنَّ الْوَادِيَ مَا فِيهِ مَوْضِعٌ بِالنَّاسِ) أي ليس فيه مكان مستقر بهم بل كله خال عنهم فما التفت إلى كلامه حيث لم يكن على وفق مرامه (فَقَالَ هَلْ تَرَى مِنْ نَخْلٍ أَوْ حِجَارَةٍ) أي ولو في بعد وأغرب التلمساني في قوله إن بالناس معمول إن أي غاص أو ملآن أو عامر أو كائن وكائن بعيد هنا ثم قال موضع يستتر فيه أو يقضي الحاجة وحذف للعلم به (قلت أرى نخلات) بفتح الخاء (متقاربات) بكسر الراء وتفتح وفي أصل التلمساني مقاربات (قَالَ انْطَلِقْ وَقُلْ لَهُنَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ) وفي نسخة أن رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَأْمُرُكُنَّ أَنْ تَأْتِينَ لِمَخْرَجِ رَسُولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لتستره بكن (وقل للحجارة) أي لجنسها من الحجارات هنالك (مثل ذلك) أي كما قلته للنخلات من الإتيان لمخرجه (فقلت ذلك لهنّ فو الّذي بعثه بالحقّ) فيه تلويح إلى جواز القسم بالأمر العظيم ذكره الدلجي والصواب أنه قسم بفعل الله الكريم (لَقَدْ رَأَيْتُ النَّخَلَاتِ يَتَقَارَبْنَ حَتَّى اجْتَمَعْنَ وَالْحِجَارَةَ) أي ورأيت الحجارة (يتعاقدن حتّى صرن ركاما) بضم الراء أي متراكمة بعضها فوق بعض (خلفهنّ) أي وراء النخلات (فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ قَالَ لِي قُلْ لَهُنَّ) أي لمجموع النخلات والحجارة (يفترقن) أي ليفترقن أو مجزوم على جواب الأمر مبالغة في تأثيره لهن نحو قوله تعالى قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ الآية ثم قال جابر (والّذي نفسي بيده) وغاير بين القسمين تفننا (لرأيتهنّ) أي النخلات (والحجارة يفترقن) أي بجميع أفرادهن (حتّى عدن) بضم العين أي صرن على حالهن ورجعن (إلى مواضعهنّ وقال يعلى بن سيّابة) بسين مهملة بعدها تحتية مخففة مفتوحتين فألف فموحدة أمه وأبوه مرة وله صحبة أيضا حضر الحديبية وخيبر والفتح والطائف وفي تجريد الذهبي أن يعلى بن مرة بن وهب الثقفي بايع تحت الشجرة وله دار بالبصرة ولم يتعرض لكونه ابن سيابة وقد ذكره في التهذيب فجعلهما واحدا وكذا المزي جعلهما واحدا ثم قال وزعم أبو حاتم أنهما اثنان انتهى وسيأتي قريبا في كلام المصنف ما يؤيد الأول وقد روى حديثه هذا أحمد والبيهقي والطبراني بسند صحيح عنه أنه قال (كنت مع النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في مسير) أي سير سفر (وذكر نحوا من هذين الحديثين وذكر) أي يعلى (فأمر) أي المصطفى (وديّتين) بفتح الواو وكسر الدال المهملة وتشديد التحتية أي نخلتين صغيرتين وضبطهما الشمني بفتح الواو فسكون الدال وتخفيف الياء (فانضمّتا) أي اجتمعتا وفي أصل الحجازي فانضما قال وصححه المزي بالتأنيث وكذا رأيته في النسخ المصححة (وفي رواية أشاءتين) بفتح الهمزة والشين المعجمة الممدودة بمعنى وديتين وضبط في نسخة بكسر الهمزة وهو سبق قلم مخالف لما في كتب اللغة (وعن غيلان بن سلمة الثّقفيّ) بفتحتين نسبة إلى قبيلة ثقيف وغيلان هذا بفتح الغين(1/621)
المعجمة اسلم بعد الطائف وله عشر نسوة فأمره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يمسك أربعا ويفارق سائرهن فذهب فقهاء الحجاز إلى أنه يختار أربعا كما شاء وفقهاء العراق إلى أن يمسك الأربع التي تزوجها أولا وهو ممن وفد على كسرى وخبره معه عجيب قال له كسرى ذات يوم أي ولدك أحب إليك فقال له غيلان الصغير حتى يكبر والمريض حتى يبرأ والغائب حتى يؤوب فقال له كسرى زه مالك ولهذا الكلام هذا من كلام الحكماء وأنت من قوم جفاة لا حكمة فيهم فما غذاؤك قال خبز البر قال هذا العقل من البر لا من اللبن والتمر وكان شاعرا توفي في آخر خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم (مثله) أي نحو ما سبق مروي غيره (في شجرتين) أي من اجتماعهما وافتراقهما (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم مثله في غزاة حنين) بفتح الغين أي غزوته (وعن يعلى بن مرّة) وهو أبوه (وهو ابن سيّابة) وهي أمه (أيضا) أي هما واحد لا اثنان كما توهم بعضهم (وذكر) أي يعلى (أشياء) أي من خوارق العادات (رآها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر أنّ طلحة) بالتنوين واحدة الطلح شجر عظيم من شجر العضاة وبه سمي طلحة (أو سمرة) تقدم أنها بضم الميم وأنها من شجر الطلح فأوشك من الراوي كذا قرره الشراح وارادوا الشك في رواية المبنى مع اتحاد المعنى والأظهر أن السمرة نوع خاص من جنس شجر الطلح ويحتمل أن يكون أو بمعنى بل (جاءت) أي إحديهما أو أخريهما (فأطافت به) أي المت به وقاربته على ما في القاموس وفي أصل الدلجي فطافت به أي دارت حوله صلى الله تعالى عليه وسلم (ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَنْبَتِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم إنّها) أي الشجرة المذكورة (استأذنت) أي ربها (أن تسلّم عليّ) أي فأذن لها فجاءت وسلمت. (وفي حديث عبد الله بن مسعود) أي عند الشيخين (آذنت) بهمزة ممدودة وفتح الذال والنون أي اعلمت (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بالجنّ) أي بإتيانهم إليه وحضورهم لديه (ليلة استمعوا له) أي لقراءته أو لكلامه (شجرة) فاعل آذنت وهي سمرة على ما في بعض السنن قال الدلجي وفيه تلويح بأنه لم يرهم ولم يقرأ عليهم وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته انتهى وفيه أنه ثبت تصريح بتوجهه صلى الله تعالى عليه وسلم إليهم للقراءة عليهم وقد اخبر ببعض صورهم مما رآه لديهم نعم فيه إيماء بإتيان الشجرة في حضورهم حال الابتداء (وعن مجاهد عن ابن مسعود) نقل الحافظ العلاء عن أبي زرعة أنه مرسل ولا مضرة فإنه عند الجمهور حجة (في هذا الحديث) أي المتقدم آنفا (أنّ الجنّ قالوا من يشهد لك) أي بأنك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (قال هذه الشّجرة) أي الحاضرة (تعالي يا شجرة) بفتح اللام وسكون الياء وقد تكسر لامه كما قرئ في تعالوا بالضم وأغرب التلمساني حيث جزم بأن اللام مكسورة واقتصر عليها أي ارتفعي إلي عن مقامك واطلبي من عندي مرامك (فجاءت تجرّ عروقها) أي من محل أصولها (لها) أي لعروقها (قعاقع) بفتح القاف الأولى وكسر الثانية جمع قعقعة وهي حكاية حركة شيء يسمع له صوت من سلاح ونحوه (وذكر) أي مجاهد أو ابن مسعود (مثل(1/622)
الحديث الأوّل) أي في مبناه (أو نحوه) أي باعتبار معناه من اتيان الشجرة وبيان الشهادة ورجوعها إلى مكانها الأول فتأمل (قال القاضي أبو الفضل) أي المصنف (فَهَذَا ابْنُ عُمَرَ وَبُرَيْدَةُ وَجَابِرٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ ويعلى بن مرّة وأسامة بن زيد) راعي الترتيب بينهم لا باعتبار مراتبهم بل على حسب روايتهم لكن كان حقه على هذا أن يقدم أسامة ويعلى على ابن مسعود وإلا فهو أجل الصحابة بعد الخلفاء الأربعة ثم قوله (وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وابن عبّاس) بناء على ما سيأتي عنهم وقوله (وغيرهم) أي كالحسن وابن فورك وابن إسحاق من الأئمة المذكورين هنا ومنهم عمر أو عمرو على اختلاف فيهما (قد اتّفقوا على هذه القصّة نفسها) أي باعتبار مبناها (أو معناها ورواها عنهم من التّابعين أضعافهم) أي في العدة لا في الرتبة (فصارت في انتشارها) أي في فشو هذه القصة (من القوّة حيث هي) أي على حالها الاول؛ (وذكر ابن فورك) بضم الفاء يضرف ويمنع وهو الأظهر (أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم سار في غزوة الطّائف) وهي كانت في السنة الثامنة بعد الفتح وبعد حنين وفي أصل الدلجي زيد وحنين (ليلا) أي من الليالي (وهو وسن) بفتح الواو وكسر المهملة صفة مشبهة من الوسن بفتحتين وهو أول النوم ومقدمته ومنه السنة وأصلها الوسنة كالعدة والمعنى ليس بمستغرق في النوم بل هو نعسان (فاعترضته) أي ظهرت في عرض وجهه (سدرة) أي وهو سائر (فانفرجت له نصفين حتّى جاز) أي جاوز (بينهما وبقيت) أي تلك الشجرة (على ساقين) أي من غير التيام لهما (إلى وقتنا) أي هذا كما في نسخة (وهي) أي تلك الشجرة (هناك) أي في طريق الطائف (معروفة معظّمة) قلت ولعلها كانت في زمانهم وأما في وماننا هذا فليست مشهورة. (ومن ذلك) أي ومن قبيل ما ذكر من إجابة الشجرة (حديث أنس) كما رواه ابن ماجة والدارمي والبيهقي عَنْهُ (أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم ورآه) أي وقد رأى جبريل النبي عليهما الصلاة والسلام (حزينا) أي من تكذيب قومه له فالجملة حال من ضمير قال (أتحبّ أن أريك آية) أي علامة على صحة نبوتك وصدق رسالتك (قال نعم) أي أحب أن تريني آية من آيات ربي ليطمئن قلبي (فنظر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى شجرة) أي بعيدة كائنة (من وراء الوادي) أي الذي كان فيه والمعنى من قدامه أو خلفه (فقال) أي لجبريل ويحتمل عكس هذا القيل (ادع تلك الشّجرة) أي فدعاها (فجاءت تمشي) أي إليه (حتّى قامت) أي وقفت (بين يديه قال) كما مر (مرها فلترجع) أي إلى منبتها كما في نسخة وفي نسخة إلى مكانها أي فأمرها بالرجوع إلى محلها (فعادت إلى مكانها) أي مما كانت فيه أي في ابتداء حالها؛ (وعن عليّ نحو هذا) أي الحديث الذي رواه أنس (ولم يذكر) أي علي (فيه) أي في مرويه وفي نسخة فيها أي في هذه الرواية (جبريل) يعني بل فيه (قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على ما رواه أبو نعيم عنه (اللهمّ أرني آية) أي معجزة اطمئن بها وادفع الحزن عني بسببها ويكون من جملة نعتها (لا أبالي) أي لا أكترث ولا أحزن (من كذّبني بعدها فدعا شجرة) أي فجاءته (وذكر) أي على(1/623)
(مثله) أي مثل حديث أنس (وحزنه صلى الله تعالى عليه وسلم لتكذيب قومه) أي لا لضيق حاله وقلة ماله فكان حزنه لأمر دينه ومرضاة ربه فإن قلت سبق في حديث هند بن أبي هالة أن ابن القيم قال إنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا يجوز أن يكون حزنه على الكفار لأن الله تعالى قد نهاه عنه قلت لعل الحزن في الحديث المفسر هنا قبل النهي عن حزنه على الكفار على أن حزنه لتكذيب قومه لا يلزم أن يكون حزنا عليهم لجواز أن يكون لما نسبوه إليه مما هو معصوم منه وهو الكذب عليه (وطلبه) بالرفع أي واستدعاؤه (الآية) أي المعجزة (لهم) أي لاستقامة أمته أو إقامة حجته (لا له) أي لا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم لكمال يقينه في معرفته وعدم تردد في طويته (وذكر ابن إسحاق) أي إمام المغازي وكذا رواه أبو نعيم عن أبي أمامة (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أرى ركانة) بضم الراء وهو ابن عبد يزيد صحابي صارعه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأما ركانة المصري الكندي غير منسوب فمختلف في صحبته كذا حققه الفيروز آبادي (مثل هذه الآية) أي المعجزة (في شجرة دعاها) أي طلبها (فأتت) أي جاءت إليه (حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ ارْجِعِي فرجعت) أي إلى محلها (وعن الحسن) أي برواية البيهقي مرسلا (أنّه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَا إِلَى رَبِّهِ مِنْ قَوْمِهِ) أي بعضهم (وأنّهم يخوّفونه) أي بضربه أو حبسه أو إخراجه أو قتله (وسأله آية) أي علامة (يعلم بها) أي يزيد علمه بها ويطمئن قلبه بسببها (أن لا مخافة عليه) أن مخففة من المثقلة أي أنه كذا ذكره الدلجي والظاهر أن أن هنا مصدرية ومحلها نصب على المفعولية والمعنى يعرف بها عدم المخافة عليه من إيصال أذيتهم إليه (فأوحي إليه) بصيغة المفعول وفي نسخة بصيغة الفاعل وفي أخرى فأوحى الله إليه (أن ائت وادي كذا) وروي أرأيت وادي كذا أي أبصرت أو علمت وأن مصدرية أو تفسيرية (فيه شجرة) أي عظيمة وهي بالرفع مبتدأ خبره الجار قبله قال التلمساني أو بالنصب بفعل مضمر أي فانظر فيه شجرة أو اطلب انتهى ولا يخفى تكلفه بل تعسفه كما يدل عليه قوله (فادع غصنا منها) أي من الشجرة أو أغصانها (يأتك) وفي نسخة يأتيك بإثبات الياء على أنه مرفوع أو مجزوم على لغة (ففعل) أي ما ذكر (فجاء) أي الغصن منها (يخطّ الأرض خطّا) أي يشقها شقا بأثرها في الإتيان إليه (حتّى انتصب) أي وقف (بين يديه) أي أمامه وقدامه وأغرب التلمساني حيث فسر انتصب بقوله حبس وغرابته من جهة المبنى والمعنى لا تخفى (فحبسه ما شاء الله) أي من زمان بقائه لديه (ثمّ قال له ارجع كما جئت) أي على وجه خرق العادة (فرجع) أي يخط الأرض خطا حتى قام بمنبته (فَقَالَ يَا رَبِّ عَلِمْتُ أَنْ لَا مَخَافَةَ عليّ) أي بعد إراءتك لي هذه الآية وكان صاحب البردة أشار إلى هذه الزبدة بقوله:
جاءت لدعوته الأشجار ساجدة ... تمشي إليه على ساق بلا قدم
كأنما سطرت سطرا لما كتبت ... فروعها من بديع الخط في اللقم(1/624)
(ونحو منه) أي من مروي الحسن كما رواه البزار وأبو يعلى والبيهقي بسند حسن (عن عمر رضي الله عنه) أي ابن الخطاب وفي نسخة عن عمرو أي ابن العاص (وقال) أي أحدهما (فيه) أي مرويه أو وقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في دعائه بعد قوله (اللَّهُمَّ أَرِنِي آيَةً لَا أُبَالِي مَنْ كَذَّبَنِي بعدها وذكر) وفي نسخة فذكر أي الراوي المختلف فيه بقية الحديث (نحوه) أي نحو ما رواه الحسن (وعن ابن عبّاس) كما رواه البخاري في تاريخه والدارمي والبيهقي (أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم: قال لأعرابيّ أرأيت) أي أخبرني (إن دعوت هذا العذق) بكسر العين المهملة وسكون الذال المعجمة أي العرجون بما فيه من الشماريخ والعرجون عود العذق الذي كبه الشماريخ وهي العيدان التي عليها البسر والعذق بالفتح النخلة كلها (من هذه النّخلة) أي الحاضرة وأجابتني (أتشهد أنّي رسول الله قال نعم فدعاه فجعل ينقز) بضم القاف ويكسر وبالزاء أي فشرع يثب إليه متوجها لديه (حتّى أتاه) أي أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (فَقَالَ ارْجِعْ فَعَادَ إِلَى مَكَانِهِ وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ) بتشديد الراء أي أخرجه في جامعه (وقال هذا حديث صحيح) ووقع في أصل الدلجي وغيره حسن صحيح فقيل جمع بينهما لروايته من طريقين أحديهما تقتضي صحته والأخرى حسنه أو حسن لذاته صحيح لغيره باعتبار تعاضد رواياته أو حسن لغة صحيح حجة.
فصل [في قصة حنين الجذع له صلى الله تعالى عليه وسلم]
(في قصة حنين الجذع له صلى الله تعالى عليه وسلم ويعضد) بضم الضاد أي يقوي ويؤيد (هذه الأخبار) أي الأحاديث السابقة الواردة في كلام الأشجار ومجيئها إلى سيد الأخيار (حديث أنين الجذع) وفي نسخة حنين الجذع أي شوقه إليه وبكائه لديه صلى الله تعالى عليه وسلم والجذع بكسر الجيم أصل النخلة والمراد به هنا ما كان من عمد المسجد وكان يتكئ عليه حال الخطبة وسيجيء بقية القصة (وهو) أي وحديثه هذا (في نفسه) أي باعتبار مبناه (مشهور) أي عند السلف (منتشر) أي عند الخلف (والخبر به) أي بانينه وحنينه باعتبار معناه (متواتر) أي يفيد العلم القطعي لمن اطلع على طريق الحديث الآحادي المفيد بانفراده العلم الظني قال الحلبي وكذا قال غيره إنه متواتر وقد أبعد التلمساني حيث قال أراد به التواتر اللغوي يقال تواترت الكتب أي جاء بعضها في أثر بعض من غير أن ينقطع والأول أظهر فتدبر وقد قال السهيلي حديث خوار الجذع وحنينه منقول بالتواتر لكثرة من شاهد خواره من الخلف وكلهم نقل ذلك أو سمعه من غيره فلم ينكره أحد انتهى وسببه ما بينه المصنف بقوله (قد خرّجه) بتشديد الراء أي أخرجه (أهل الصحيح) أي ممن التزم الصحة في رواياته الواردة في كتابه كالبخاري ومسلم وابن حبان وابن خزيمة (ورواه من الصّحابة بضعة عشر) بكسر الموحدة وتفتح أي ثلاثة أو أكثر إلى تسعة إذ البضع منها إليها (منهم) أي بعضهم وهم عشرة منهم (أبيّ بن كعب) وهو أقرأ الصحابة وقد رواه عنه الشافعي وابن ماجة والدارمي والبيهقي(1/625)
(وجاب بن عبد الله) أي الصحابي ابن الصحابي وسيأتي حديثه (وأنس بن مالك) وهو خادمه عليه الصلاة والسلام وحديثه في الترمذي وصححه (وعبد الله بن عمر) وهو أشهر من أن يذكر (وعبد الله بن عباس) أي ابن عم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وسهل بن سعد) الساعدي رضي الله تعالى عنهما وحديثه رواه الشيخان (وأبو سعيد الخدريّ) رواه عنه الدارمي (وبريدة) بالتصغير وقد سبق ذكره (وأمّ سلمة) أي أم المؤمنين رواه عنها البيهقي (والمطّلب) بتشديد الطاء (ابن أبي وداعة) بفتح الواو وهو من مسلمة الفتح وقد رواه عنه الزبير بن بكار في أخبار المدينة (كلّهم) أي جميع المذكورين وغيرهم (يحدّث) أفرد ضميره باعتبار لفظ كل أي يحدثون (بمعنى هذا الحديث) أي وإن كانت الفاظهم مختلفة في باب التحديث وعلى هذا المنبى حصل التواتر في المعنى (قال التّرمذيّ وحديث أنس صحيح) أي إسناده (قال وفي نسخة وقال (جابر) أي ابن عبد الله كما في نسخة صحيحة (كان المسجد) أي مسجد المدينة وهو المسجد النبوي (مسقوفا على جذوع نخل) بمعنى نخيل فإنه اسم جنس ثم بناه عمر ثم عثمان رضي الله تعالى عنهما (وكان) وفي نسخة فكان (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي دائما أو غالبا (إذا خطب يقوم إلى جذع) أي معين (منها) أي من تلك الجذوع (فلمّا صنع له المنبر) بصيغة المجهول وقد صنعه له غلام امرأة من الأنصار أو غيره من اثل الغابة وله ثلاث درجات (سمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار) بكسر مهملة فمعجمة جمع عشراء بضم وفتح ممدودة وهي الناقة الحامل أو التي أتي لحملها عشرة أشهر على القول الأشهر وظاهر هذا الحديث أن الجذع بمجرد صنع المنبر قبل طلوع سيد البشر صدر منه البكاء لما أحس من علامة قرب البعد عن مقام دنا وحال الاتكاء. (وفي رواية أنس) أي وهي قوله فلما قعد على المنبر خار الجذع كخوار الثور أي صاح كصياحه (حتّى ارتجّ) بتشديد الجيم أي اضطرب وارتعد (المسجد) أي بأهله (لخواره) بضم الخاء المعجمة وبالواو وفي نسخة بالباء السببية بدل اللام للعلة وفي نسخة بضم الجيم فهمزة مفتوحة بعدها ألف وهو أظهر في هذا المقام باعتبار تمام المرام ففي القاموس جأر جؤارا إذا رفع صوته بالدعاء وتضرع واستغاث والبقرة والثور صاحا وأما الخوار بضم الخاء المعجمة من صوت البقر والغنم والظباء والسهام انتهى قال الحجازي وأما بالخاء المعجمة والواو المخففة فصياح الثور ولا أعلم به رواية انتهى والحلبي جعله أصلا ونسب الأول إلى نسخة في الهامش واليمني اقتصر على الثاني وجوز الشمني الوجهين والحاصل أن رواية الجيم أعم وفي الدراية أتم والله تعالى أعلم. (وفي رواية سهل) أي ابن سعد الساعدي (وكثر بكاء النّاس لما رأوا به) أي من الحنين والأنين من جهة التبعد عن خدمة سيد المرسلين أو من خشيته من التنزل في درجته وهو بكسر اللام وتخفيف الميم ويجوز بفتح اللام وتشديد الميم كما قرئ بهما في قوله تعالى وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا. (وفي رواية المطّلب) أي ابن أبي وداعة السهمي وزيد في نسخة صحيحة وأبي ويشير إليه قول الحلبي وهو بضم الهمزة وفتح(1/626)
الموحدة ثم ياء مشددة (حتّى تصدّع) بتشديد الدال أي تشقق (وانشقّ) عطف تفسير قاله الدلجي وغيره والأظهر أن المعنى واستمر على انشقاقه (حتّى جاء) أي أتاه (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فوضع يده عليه) أي تسلية لما لديه (فسكت) أي حيث سكن إليه وسيأتي في رواية أنه عانقه بيديه؛ (زاد غيره) أي غير المطلب ومن معه وقال الدلجي في رواية الشافعي عن أبي بن كعب (فقال النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ هَذَا بَكَى لِمَا فَقَدَ) صلى الله تعالى عليه وسلم بالوجهين أي بعد (من الذّكر) أي الموعظة البليغة في الخطبة ومنه قوله تعالى فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ (وزاد غيره) أي غير ذلك الغير وفي رواية أبي يعلى عن أنس، (والّذي نفسي بيده) أي بتصرف قدرته وقبضة إرادته (لو لم ألتزمه) أي اعتنقه (لم يزل هكذا) أي باكيا (إلى يوم القيامة تحزّنا) بضم الزاي إظهارا للحزن الزائد على الصبر (على رسول الله) أي على فراقه (صلى الله تعالى عليه وسلم) وما أحسن من قال من بعض أرباب الحال:
الصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم
(فأمر به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فدفن تحت المنبر) أي حتى يقرب إلى الذكر وما يتبعه من أثر الخير (كذا في حديث المطّلب) أي السهمي (وسهل بن سعد) أي الساعدي (وإسحاق) أي ابن عبد الله بن أبي طلحة وهو تابعي روى عن أبيه وعدة وعنه مالك وابن عيينة وجماعة وهو حجة ثقة أخرج له الأئمة الستة (عن أنس) وهو عمه من أمه (وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ سَهْلٍ فَدُفِنَتْ تَحْتَ منبره أو جعلت في السّقف) أي في سقف المسجد شك من الراوي ولعل وجه التأنيث كونه جذع النخلة فاكتسب التأنيث من الإضافة وفي أصل التلمساني فدفن قال وفي طريق فدفنت فأراد الخشبة وقال البرقي إنما دفنه وهو جماد لأنه صار في حكم المؤمن لحبه وحنينه قلت ولعل دفنه تحت منبره ليكون على قربه ولا يحرم من سماع ذكره وأما المنبر فقد احترق أول ليلة من رمضان سنة أربع وخمسين وستمائة وكان ذلك على الناس من أعظم مصيبة. (وفي حديث أبيّ) أي ابن كعب (فكان) أي أولا (إذا صلّى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم صلّى إليه) وهو لا ينافي أنه عند خطبته كان يعتمد عليه فلما (هدم المسجد) أي عند إرادة تجديده وتوسيعه في تحديده وهو في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه ليزيد فيه من جهة القبلة توسعة للأمة أو في أيام إباحة يزيد المدينة في أحد الأيام الثلاثة (أَخَذَهُ أُبَيٌّ فَكَانَ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ أَكَلَتْهُ الأرض) كذا في النسخة المصححة والمراد بها الدابة التي يقال لها الأرضة سميت بفعلها وأضيفت إليه في آية سبأ بقوله تعالى دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ قال المزي المشهور عند أهل الحديث الأرضة (وعاد رفاتا) بضم الراء ففاء فتاء فوقية أي وصار دقاقا وفتاتا قال الحلبي قوله إلى أن أكلته الأرض كذا في النسخة التي وقفت عليها بالشفاء والحديث المذكور أعني حديث أبي وهو مطول في مسند أحمد وفيه الأرضة وهي دابة تأكل الخشب وهو باختصار في سنن ابن ماجة في الصلاة انتهى(1/627)
وهذا يدل على تصحيح رواية جعله في السقف وينبغي أن يحمل رواية دفنه تحت منبره بعد أن أكلته الأرض عند أبي حفظا له عن تفرقه وصونا له عن مهانته وتحرقه وما أحسن مناسبة ما تحت منبره كون قبره لحصول دوام ذكره وتمام شكره فإن منبره على حوضه وحوضه داخل في روضه. (وذكر الإسفراييني) بكسر الهمزة وسكون السين وفتح الفاء وتكسر فراء ممدودة فهمزة فنون فياء نسبة إلى بلد في العجم في خراسان وفي نسخة بنون بين ياءين والظاهر أن المراد به أبو إسحاق ويحتمل أنه أبو حامد (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم دعاه إلى نفسه فجاءه يخرق) بضم الراء وكسرها أي يشق (الأرض فالتزمه) أي اعتنقه تودعا منه (ثمّ أمره فعاد إلى مكانه) والحاصل أن قصة حنين الجذع واحدة لرجوعها إلى معنى واحد في المآل وما وقع في ألفاظها من اختلاف الأقوال مما ظاهره التغاير الموجب للإشكال فمن تفاوت تقول الرجال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال (وَفِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ فَقَالَ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) أي خطابا للجذع (إن شئت أردّك إلى الحائط) أي البستان (الّذي كنت فيه) أي أولا على حالك قبل أن تصير محولا كما بينه بقوله (ينبت لك) بصيغة الفاعل ويجوز بالبناء ويجوز للمفعول أي يخرج لك (عروقك) وتثبت في محل أصولك (ويكمل) بفتح فسكون فضم وبضم ففتح فتشديد ميم مفتوحة أي ويتم (خلقك) أي خلقتك على ما عليه فطرتك (ويجدّد لك خوص) بضم الخاء ورق النخل (وثمرة) بالمثلثة (وإن شئت أغرسك) بكسر الراء (في الجنّة) أي الموعودة (فيأكل أولياء الله من ثمرك) أي تمرك، (ثمّ أصغى له النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ألقى له سمعه وقرب رأسه إليه (يستمع ما يقول) أي مما يرده عليه (فقال بل تَغْرِسُنِي فِي الْجَنَّةِ فَيَأْكُلُ مِنِّي أَوْلِيَاءُ اللَّهِ تعالى) أي في دار النعمة (وأكون) أي ثابتا ونابتا (في مكان لا أبلى فيه) بفتح الهمزة واللام أي لا أخلق ولا أعتق ولا أفنى قال الحلبي أبلى بفتح الهمزة ووقع في النسخة التي وقفت عليها الآن مضموم الهمزة بالقلم ولا يصح قلت يصح أن يكون مجهولا من أبلاه متعدي بلى كما صرح بإسناده صاحب القاموس (فسمعه) أي كلام الجذع (من يليه) أي يقربه والضمير له أي للنبي عليه الصلاة والسلام قيل وممن سمعه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال غاب الجذع فلم ير بعد ذلك ذكره التلمساني (فقال النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم: قد فعلت) أي قبلت أو جزمت على هذا الفعل أو غرست كما أردت. (ثمّ قال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (اخْتَارَ دَارَ الْبَقَاءِ عَلَى دَارِ الْفَنَاءِ فَكَانَ الحسن) أي البصري (إذا حدّث بهذا) أي الحديث (بكى وقال يا عباد الله الخشبة) أي مع كونها في حد ذاتها ليست من أهل الرقة والخشية (تحنّ) بفتح فكسر فتشديد نون أي تميل (إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شوقا إليه لمكانه) أي لمكانه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عنده سبحانه وتعالى أو لأجل مكانه المتبعد من مكانها (فأنتم أحقّ أن تشتاقوا إلى لقائه) ولله در القائل من أهل الفضائل:(1/628)
وألقى حتى في الجمادات حبه ... فكانت لإهداء السلام له تهدى
وفارق جذعا كان يخطب عنده ... فأنّ انين الأم إذ تجد الفقدا
يحن إليه الجذع يا قوم هكذا ... أما نحن أولى أن نحنّ له وجدا
إذا كان جذع لم يطق بعد ساعة ... فليس وفاء أن نطيق له بعدا
(رواه) أي الحديث الذي مر (عن جابر حفص بن عبيد الله) بالتصغير (ويقال عبد الله بن حفص) قال الحلبي ويقال جعفر بن عبد الله والصواب الأول وأنه حفص بن عبيد الله بن أنس بن مالك يروي عن جده وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما وغيرهما وعنه ابن إسحاق وأسامة بن زيد وجماعة قال أبو حاتم لا يثبت له السماع إلا من جده انتهى وحديثه هذا عن جابر في البخاري (وأيمن) أي الحبشي مولى ابن أبي عمرة المخزومي قال الذهبي في الميزان ما روى عنه سوى ولده عبد الواحد ففيه جهالة لكن وثقه أبو زرعة وقال ابن القطان إذا وثق وروى عنه واحد انتفت الجهالة وقد أخرج البخاري وحده لأيمن (وأبو نضرة) بفتح النون وسكون الضاد المعجمة واسمه المنذر بن مالك تابعي يروي عن علي مرسلا وعن ابن عباس وأبي سعيد وعنه قتادة وعوف قال الحلبي وقع في النسخة التي وقفت عليها الآن بالشفاء أبو بصرة بنقطة تحت الباء وهذا شيء لا نعرفه ولا أعلم أبا بصرة غير واحد واسمه جميل وهو صحابي غفاري وليس له شيء عن جابر فيما أعلم (وابن المسيّب) تابعي جليل (وسعيد بن أبي كرب) بفتح فكسر وهو منصرف وفي نسخة بفتح فسكون وهو همداني وثق (وكريب) بالتصغير يروي عن مولاه ابن عباس وعائشة وجماعة وعنه ابناه وموسى بن عقبة وطائفة وثقوه (وأبو صالح) أريد به ذكوان السمان وقد تقدم (ورواه) أي الحديث الذي سبق (عن أنس بن مالك، الحسن) أي البصري (وثابت) وهو كاسمه ثابت (وإسحاق بن أبي طلحة) مر ذكره (ورواه عن ابن عمر نافع) أي مولاه وهو من اعلام التابعين (وأبو حيّة) بتشديد التحتية كلبي كوفي روى عن عمر وهناك أبو حية روى عن علي (ورواه أبو نضرة) وهو الذي سبق ذكره قال التلمساني وهو في الموضعين في الأصل بموحدة من أسفل وصاد مهملة وصوابه بنون مفتوحة وضاد معجمة وهكذا عند الحلبي والأنطاكي (وأبو الودّاك) بتشديد الدال أي رويا الحديث المتقدم كلاهما (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ) بتشديد الميم أي روى الحديث المذكور (عن ابن عبّاس وأبو حازم) بكسر الزاء وهو سلمة بن دينار الأعرج المدني أحد الأعلام (وعباس) بتشديد الموحدة (ابن سهل) أي ابن سعد الساعدي كلاهما (عن سهل بن سعد) أي عن ابيه (وكثير بن زيد) الاسلمي أو الأيلي (عن المطّلب) أي ابن أبي وداعة (وعبد الله بن بريدة) وهو قاضي مرو وعالمها (عن أبيه والطّفيل بن أبيّ) بالتصغير فيهما كنيته أبو بطن لعظم بطنه (عن أبيه) أي أبي بن كعب. (قال القاضي أبو الفضل) أي المصنف (وفّقه الله فهذا حديث: كما تراه أخرجه) وفي نسخة خرجه (أهل(1/629)
الصّحّة) أي من أرباب الحفظ والثقة (ورواه من الصحابة من ذكرنا) أي من أجلائهم (وغيرهم) بالرفع (من التّابعين ضعفهم) أي زائد عليهم أو قدرهم مرتين منضمين (إلى من لم نذكره) أي للاختصار أو لعدم الاستحضار أو لعدم الاشتهار (وبدون هذا العدد) أي وبجمع أقل من هذا العدد المذكور وفي نسخة وبدون هذا العدد (يقع العلم) أي القطعي (لمن اعتنى بهذا الباب) أي اهتم بشأنه وجمع جميع ما يتعلق ببيانه (والله المثبّت) بتشديد الموحدة ويجوز تخفيفها أي من شاء من عباده (على الصّواب) .
فصل [ومثل هذا وقع في سائر الجمادات بمسه ودعوته]
(ومثل هذا) أي ما ذكر من حنين الجذع وقع له (في سائر الجمادات) أي بقيتها أو جملتها من غير النباتات التي هي قريبة من الحيوانات فهو في باب المعجزة أقرب وفي خرق العادة أغرب (حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عيسى التّيميّ) وفي نسخة ابن محمد (حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ المرابط) بضم الميم وكسر الموحدة أذن له أبو عمرو الداني (ثنا المهلّب) بتشديد اللام المفتوحة (ثنا أبو القاسم حدّثنا أبو الحسن القابسيّ) بكسر الموحدة (حدّثنا المروزيّ ثنا الفربري) بفتح الفاء ويكسر (حدّثنا البخاريّ) صاحب الصحيح (حدّثنا محمد بن المثنّى) بتشديد النون المفتوحة (حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ) بالتصغير نسبه إلى جده فإنه محمد بن عبد الله بن الزبير وليس من ولد الزبير بن العوام بل هو كوفي مولى لبني اسد قال بندار ما رأيت أحفظ منه وقال آخر كان يصوم الدهر (قال حدّثنا إسرائيل) أي ابن يونس بن أبي إسحاق إسماعيل السبيعي الكوفي أحد الاعلام وثقه أحمد وغيره وضعفه ابن المديني وغيره أخرج له الأئمة الستة (عن منصور) أي ابن المعتمر أبو عتاب السلمي من أئمة الكوفة يروي عن أبي وائل وزيد بن وهب وعنه شعبة والسفيانان (عن إبراهيم) أي ابن يزيد النخعي (عن علقمة) أي ابن قيس (عن ابن مسعود قال: لقد كنّا) أي نحن معشر الصحابة معه صلى الله تعالى عليه وسلم (نسمع تسبيح الطّعام وهو يؤكل) جملة حالية والحديث هذا قد ساقه القاضي كما رأيت من رواية البخاري وهو من علامات النبوة وخوارق العادة وقد أخرجه الترمذي في المناقب وقال حسن صحيح ذكره الحلبي، (وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) وفي أصل الدلجي وفي رواية عنه أيضا وقال كما في الترمذي (كُنَّا نَأْكُلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم الطّعام ونحن نسمع تسبيحه) أي تسبيح الطعام والجملة حالية من ضمير تأكل، (وقال أنس) وفي نسخة وعن أنس كما روى ابن عساكر في تاريخه (أخذ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم كفا من حصى) أي حجارة دقاق (فَسَبَّحْنَ فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم حتّى سمعن التّسبيح ثمّ صبّهنّ) أي حولهن واضعا لهن (في يد أبي بكر فسبّحن ثمّ) أي بعده وقعن (في أيدينا فما سبّحن وروى مثله) أي مثل حديث أنس (أبو ذرّ رضي الله عنه) على ما رواه البزار والطبراني في الأوسط والبيهقي عنه(1/630)
(وذكر) أي أبو ذر (أَنَّهُنَّ سَبَّحْنَ فِي كَفِّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ الله عنهما) ولعل القضية متعددة (وقال عليّ) وفي نسخة وعن عَلِيٌّ (كُنَّا بِمَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم فخرج إلى بعض نواحيها) أي جهاتها وأطرافها (فما استقبله) أي ما واجهه (شجرة) وفي نسخة شجر (ولا جبل) أي حجر كما روي (إِلَّا قَالَ لَهُ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ الله) رواه الدارمي والترمذي بسند حسن قال ابن إسحاق وهذا مما بدئ به صلى الله تعالى عليه وسلم من النبوة. (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم إنّي لأعرف) وفي رواية الآن (حجرا بمكّة كان يسلّم عليّ) أي يقال السلام عليك يا رسول الله رواه مسلم؛ (قيل إنّه الحجر الأسود) وقيل إنه الحجر المتكلم ومال إليه القابسي وقال إنه الحجر المبني للجدار المقابل لدار أبي بكر قال السهيلي روي في بعض المسندات إِنَّهُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ. (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها) أنها قالت قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (لمّا استقبلني جبريل بالرّسالة جعلت) أي شرعت (لا أمرّ) بفتح همز وضم ميم وتشديد راء من المرور (بحجر ولا شجر) وفي نسخة صحيحة بتقديم شجر على حجر وهو الأظهر فتدبر (إِلَّا قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنه) كما رواه البيهقي (لم يكن النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ إِلَّا سجد له) أي إنقاد وتواضع له بنحو السلام أو السجود التحية والإكرام كإخوة يوسف عليه السلام له أو كالملائكة لآدم عليه السلام بجعله قبلة، (وفي حديث العبّاس) على ما رواه البيهقي أيضا (إذا اشتمل عليه) أي على عمه (النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى بنيه) أي بني عمه وهم عبد الله وعبيد الله والفضل وقثم (بملاءة) بميم مضمومة ولام فألف ممدودة ريطة كالملحفة قطعة واحدة وأما قول الدلجي بهمزة ممدودة فسهو قلم من أثر وهم نشأ له تبعا للحلبي في قوله بهمزة مفتوحة ممدودة (ودعا لهم) أي للعباس وبنيه (بالسّتر من النّار) بفتح السين مصدر والاسم بالكسر بمعنى الحجاب ويؤيد الأول قوله (كستره إيّاهم بملاءته) كأن قال يا رب هذا عمي وصنو أبي وهؤلاء بنوه فأسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه (فأمّنت) بتشديد الميم أي تكلمت بكلمة آمين (أسكفّة الباب) بضم الهمزة والكاف وتشديد الفاء أي عتبته (وحوائط البيت) جمع حائط يعني الجدار وجدرانه المحدقة به من جميع نواحيه (آمين آمين) كرر إما تأكيدا أو تقديرا لوقوعه مكررا أو باعتبار كل من الأسكفة والحوائط وآمين بالمد ويقصر مبني على الفتح ومعنا استجب أو افعل وفي الحديث آمين خاتم رب العالمين. (وعن جعفر) أي الصادق (بن محمد عن أبيه) أي محمد الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم (مرض النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فأتاه جبريل بطبق) أي من سعف أو غيره (فيه رمّان وعنب) أي من فواكه الدنيا أو الجنة (فأكل منه النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي من مجموعهما أو من كل منهما أو من طبقهما (فسبّح) أي ما في الطبق عند أكله قال الدلجي لم أدر من رواه قلت يكفي أنه رواه المصنف وهو من أكابر المحدثين ولولا أن الحديث له أصل لما ذكره ولذا قال القسطلاني(1/631)
في المواهب ذكره العاصي عياض في الشفاء ونقله عنه عبد الحافظ أبو الفضل في فتح الباري، (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) كما رواه أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجة عنه أنه قال (صعد) بكسر العين أي طلع (النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ أُحُدًا) بضمتين وهو جبل عظيم قرب المدينة (فرجف بهم) بفتح الجيم أي اضطرب من هيبتهم وارتعد من خشيتهم (فقال أثبت أحد) أي يا أحد (فإنّما عليك نبيّ) أي ثابت النبوة (وصدّيق) أي مبالغ في ثبوت الصداقة (وشهيدان) أي ثابتان في مرتبة الشهادة ومنزلة حسن الخاتمة بالسعادة ووقع في أصل الدلجي بعد قوله فرجف بهم فضربه برجله وهو غير موجود في النسخ المعتبرة وفي أصل التلمساني أو صديق أو شهيد فهي كالواو للمصاحبة أو للتفصيل (ومثله) أي مثل ما روى أنس في أحد روى (عن أبي هريرة في حراء) بكسر الحاء ومد الراء منصرفا وممنوعا وقصره وهو جبل بمكة على يسار الذاهب إلى منى (وزاد) أي أبو هريرة (معه) أي مع ما ذكر (وعليّ) أي قوله وعلي بالعطف على ما قبله والمعنى روى ومعه عَلِيٌّ (وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَقَالَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ أو صدّيق أو شهيد) وفي رواية وسعد بن أبي وقاص بدل وعلي فتحركت الصخرة فقال اسكن حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد رواه مسلم والترمذي في مناقب عثمان ولم يذكر سعدا وقال اهدأ بدل اسكن (والخبر) أي الذي رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه رواه الترمذي والنسائي (في حراء أيضا عن عثمان قال) أي عثمان (وَمَعَهُ عَشَرَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَا فِيهِمْ وَزَادَ) أي عثمان (عبد الرّحمن) أي ابن عوف كما في نسخة (وسعدا) وهو ابن أبي وقاص (قال) وفي نسخة وقال أي عثمان (ونسيت) بفتح فكسر والأولى بضم فكسر مشددا (الاثنين) لعلهما طلحة والزبير.
(وفي حديث سعيد بن زيد) أي كما رواه أبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة (أيضا مثله) أي مثل الخبر المروي قبله (وذكر عشرة وزاد) أي سعيد (نفسه) أي ذكرها فيهم.
(وقد روي) بصيغة المجهول أي في حديث الهجرة من السيرة (أنه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (حين طلبته قريش قال له: ثبير) بفتح المثلثة وكسر الموحدة اسم لجبل بظاهر مكة على ما في القاموس وفي النهاية جبل معروف انتهى والمشهور أنه جبل عظيم بمنى قبالة مسجد الخيف على يسار الذاهب إلى عرفات وأما قول الشمني جبل بمزدلفة فمعناه أنه متصل بآخر مزدلفة وأما قول الحجازي جبل عظيم بالمزدلفة على يمنة الذاهب من منى إلى عرفات فأظنه أنه سهو أو هو من اسمائه وليس بمراد هنا (اهبط يا رسول الله) أي انزل عني (فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُوكَ عَلَى ظَهْرِي فَيُعَذِّبُنِي الله تعالى) أي بمشاهدة هذا الأمر فوقي وتحمل هذا الفعل مني (فقال حراء إليّ) أي التجئ واصعد إلي وارتفع لدي (يا رسول الله) وكان الخوف غالبا على ثبير والرجاء على حراء. (وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ) أي عَلَى الْمِنْبَرِ (وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام: 91] ) أي وما عظموه حق عظمته أو ما عرفوه حق معرفته بجعلهم له شريكا في الوهيته ووصفهم إياه بما لا يليق(1/632)
بربوبيته (ثمّ قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يمجّد الجبّار نفسه) بتشديد الجيم أي يذكر ذاته بوصف المجد والشرف والعظمة وروي يحمد (يقول) كذا في نسخة وهو جملة حالية (أنا الجبّار أنا الجبّار) بالرفع بإثبات التكرار وهو الذي يجبر العباد على وفق ما أراد ويقهرهم بالفناء عن البلاء (أنا الكبير) أي العظيم الذات الكريم الصفات قال الحجازي أنا الجبار مرتين وأنا الكبير ويروى مرتين (المتعال) أي المتعالي وهو الرفيع الشأن المنزه عن التعلق بالزمان والمكان ونحوهما من سمات الحدثان وصفات النقصان (فرجف المنبر) أي اضطرب اضطرابا شديدا وذلك لعظمة الله وهيبته (حتّى قلنا ليخرّنّ) بفتح اللام والياء وكسر الخاء المعجمة وتشديد الراء والنون أي ليسقطن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (عنه) أي عن المنبر. (وعن ابن عباس رضي الله عنهما) كما رواه البزار والبيهقي (قال كان حول البيت) أي على جدرانه ذكره الدلجي (ستّون وثلاثمائة صنم مثبتة الأرجل) بفتح الموحدة المخففة أو المشددة أي مسمرة (بالرّصاص) بفتح الراء على ما في القاموس قيل ويكسر (في الحجارة) أي من أحجار البيت ولا يبعد أن تكون الأصنام موضوعة على حجارات كائنة حول البيت منصوبة بتسميرها فيها الرصاص وكذا كانت الأصنام داخل البيت وفوقه أيضا قال الدلجي وروى أبو يعلى نحوه أي عنه وأنه قال (فلمّا دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المسجد) أي المسجد الحرام وهو يطلق على الكعبة وما حولها من البقعة (عام الفتح) أي سنة فتح مكة (جعل) أي شرع (يشير بقضيب) أي بسيف لطيف أو عود ظريف (في يده) حال من قضيب (إليها) معلق بيشير قال الحلبي وفي رواية صحيحة بقضيب يشبه القوس والقوس قضيب انتهى والتشبيه يحتمل أن يكون من حيثية طوله وعرضه أو من جهة انحراف في وسطه (ولا يمسّها) أي بيده تجنبا عنها لا لبعدها كما ذكره الدلجي، (ويقول) أي ما أمره الله أن يقول (جاءَ الْحَقُّ) أي ظهر الحق وأهله (وَزَهَقَ الْباطِلُ [الإسراء: 81] أي اضمحل وذهب أصله (الآية) أي أن الباطل كان زهوقا أي غير ثابت في نظر أهل الحق دائما (فما أشار) أي به كما في نسخة أي بقضيبه (إِلَى وَجْهِ صَنَمٍ إِلَّا وَقَعَ لِقَفَاهُ وَلَا) أي ولا أشار به (لقفاه إلّا وقع لوجهه) أي سقط عليه هيبة مما أشار به إليه (حتّى ما بقي منها صنم) الآخر ساقطا إما إلى وجهه وإما إلى قفاه؛ (ومثله في حديث ابن مسعود) أي على ما رواه الشيخان عنه (وقال) أي ابن مسعود (فجعل يطعنها) بفتح العين ويضم وهو أولى من عبارة الحلبي بضم العين ويفتح لما في كلام استاذه صاحب القاموس طعنه بالرمح كمنعه ونصره ضربه مع ما في الفتح من الخفة المعادلة لثقل العين كما حرر في يسع ويضع ويدع ويقع ثم المراد بالطعن هنا مجرد الإشارة لما سبق صريحا في العبارة والمعنى يشير إليه في صورة الطاعن لديه (ويقول) أي كما أمر به في آية أخرى (جاء الحقّ وما يبدىء الباطل وما يعيد) أي ظهر الحق ولم يبق للباطل ابتداء ولا إعادة أو ما يبدىء الضم خلقا ولا يعيده أو لا يبدئ ضرا لأهله في الدنيا ولا يعيده في العقبى؛ (ومن ذلك) أي من قبيل(1/633)
ما ذكر عن الجمادات (حديثه) أي خبره الذي رواه الترمذي والبيهقي (مع الرّاهب) وهو بحيرا بفتح الباء الموحدة وكسر الحاء المهملة مقصورا وقيل ممدودا واسمه جرجس أو جرجيس بزيادة ياء ابن عبد القيس من نصارى تيماء أو بصرى ذكره ابن منده وأبو نعيم في الصحابة أيمانه به صلى الله تعالى عليه وسلم قبل بعثته (في ابتداء أمره) أي أمر ظهوره (إذ خرج تاجرا) ظرف لحديثه معه أو لابتداء أمره (مع عمّه) أي أبي طالب وفيه أنه لم يكن في خروجه معه تاجرا بل تعرض له عند خروجه فقال تتركني وليس له أحد فأخذه معه وإنما خرج تاجرا بعد ذلك مع ميسرة غام خديجة وفي هذه لقي لسطور الراهب وقصته معه مشهورة وفي كتب السير مسطورة فقوله تاجرا حال من عمه لا من ضمير خرج (وكان الرّاهب) أي بحيرا (لا يخرج) أي في عادته (إلى أحد) أي ممن كان ينزل المكان (فخرج) أي في ذلك الزمان (وجعل يتخلّلهم) أي شرع يطلب أحدا في خلال من كان في تلك المحال (حَتَّى أَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قريش) أي من المشركين (ما علمك) أي ما سبب علمك به وبقربه عند ربه (فَقَالَ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إلّا خرّ ساجدا له ولا يسجد) أي الأشجار والأحجار (إلّا لنبيّ وذكر القصّة) أي على ما أوردها أهل الأخبار من أنه قال وإني لأعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ثم رجع فصنع لهم طعاما فلما أتاهم به كان صلى الله تعالى عليه وسلم في رعية الإبل فقال ارسلوا إليه (ثمّ قال) أي الراهب أو الراوي (فأقبل صلى الله تعالى عليه وسلم وعليه غمامة تظلّه فلمّا دنا من القوم وجدهم سبقوه) وفي نسخة قد سبقوه (إلى فيء الشّجرة) بفتح الفاء وسكون التحتية بعدهم همزة أي إلى ظلها (فلمّا جلس مال الفيء) أي فيء الشجرة (إليه) فقال انظروا مال الفيء إليه ثم قال أنشدكم الله تعالى أيكم وليه قالوا أبو طالب وإذا بسبعة من الروم قد اقبلوا فسألهم فقالوا إن هذا النبي قد خرج من بلاده في هذا الشهر فوجهوا إلى كل جهة جماعة ووجهونا إلى جهتك فقال افرأيتم أمرا أراده الله تعالى ايقدر أحد يدفعه قالوا لا فأقاموا عنده ثلاثة أيام ولم يزل يناشد عمه حتى رده وبعث معه أبو بكر بلالا وزوده الراهب زيتا كعكا قيل وذكر أبي بكر وبلال فيه وهم.
فصل [في الآيات في ضروب الحيوانات]
(في الآيات) أي الشاهدة بثبوت نبوته وصدق رسالته وما خص به من بديع الكرامات ومنيع المعجزات (فِي ضُرُوبِ الْحَيَوَانَاتِ حَدَّثَنَا سِرَاجُ بْنُ عَبْدِ الملك أبو الحسين الحافظ) سبق ذكره (حدّثنا أبي) قال الحلبي تقدم أبوه فما ضبط في بعض النسخ بصيغة التصغير تصحيف وتحريف (حدّثنا القاضي أبو يونس حدّثنا أبو الفضل الصّقليّ) بفتح الصاد وتكسر وسكون القاف (حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ قَاسِمِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أبيه وجدّه) أي كليهما (قال حدّثنا أبو(1/634)
الْعَلَاءِ أَحْمَدُ بْنُ عِمْرَانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فضيل) بالتصغير وهذا هو الأصل الصحيح ووقع في أصل المؤلف بإسقاط ثنا محمد بن فضيل (ثنا يونس بن عمرو) بالواو قال أبو معين ثقة وقال أبو حاتم لا يحتج به (ثنا مجاهد عن عائشة) قال يحيى بن سعيد لم يسمع منها قال وسمعت شعبة ينكر أن يكون سمع منها وتبعه على ذلك يحيى بن معين وأبو حاتم الرازي وحديثه عنها في الصحيحين وقد صرح في غير حديث بسماعه منها والله تعالى أعلم (قالت كان عندنا داجن) بكسر الجيم ما يألف البيت من الحيوان كالشاة والطير مأخوذ من المداجنة وهي المخالطة والملازمة (فَإِذَا كَانَ عِنْدَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) وفي نسخة صحيحة عندنا مؤخر (قرّ وثبت مكانه) أي الداجن (فلم يجيء ولم يذهب) أي ولم يغير شأنه توقيرا له وتكريما وهيبة منه وتعظيما (وإذا خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جاء وذهب) أي تردد واضطرب وهذا الحديث رواه أحمد والبزار وأبو يعلى والطبراني والبيهقي والدارقطني وهو صحيح وفي المدعي صريح؛ (وروي عن عمر) رضي الله تعالى عنه بصيغة المجهول إشعارا بضعفه فقد قال الحافظ المزي لا يصح إسنادا ولا متنا وقال ابن دحية إنه موضوع لكن قال القسطلاني قد رواه الأئمة فنهايته الضعف لا الوضع فممن رواه الطبراني والبيهقي قال وروي أيضا بأسانيد عن عائشة وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما وما ذكرنا هو أمثلها (أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان في محفل) بفتح الميم وكسر الفاء أي مجتمع (مِنْ أَصْحَابِهِ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ قَدْ صَادَ ضبّا) بفتح الضاد المعجمة وتشديد الموحدة حيوان معروف يقال إنه فارق جحره لم يهتد إليه وهو لا يشرب وأطول الحيوان روحا بعد ذبحه ويعيش سبعمائة سنة فصاعدا ويقال إنه يبول في كل أربعين يوما قطرة (فقال) أي الأعرابي (من هذا قالوا نبيّ الله فقال والّلات) بواو القسم (والعزّى) وهما صنمان كانوا يعبدونها في وسط الكعبة (لا آمنت بك) أي بنبوتك ورسالتك وفي نسخة لا أومن بك (أو) بسكون الواو (يؤمن) بالنصب أي إلى أن يؤمن أو حتى يؤمن كما في نسخة (بك هذا الضّبّ) أي فأؤمن أنا أيضا بك حينئذ (وطرحه بين يدي النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ألقى الضب بين جهتي يديه يعني قدامه (فقال النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم له: يا ضبّ؛ فأجابه بلسان مبين) أي بين أو مبين حروفه (يسمعه القوم جميعا لبّيك) أي إجابتي لك مرة بعد مرة (وسعديك) أي ومساعدتي لطاعتك كرة بعد كرة (يا زين من وافى القيامة) أي يا زينة من أتاها وحضرها، (قال) أي النبي عليه الصلاة والسلام له (من تعبد) أي ممن يسمى إلها (قال الذي في السّماء عرشه) أي ملكوته سبحانه (وفي الأرض سلطانه) أي ملكه المظهر شأنه (وفي البحر سبيله) أي طريق آياته ولعله من باب الاكتفاء فإن في البر كثيرا من عجائبه (وفي الجنّة رحمته) أي ثوابه من أثرها للمطيعين (وفي النّار عقابه) أي من أثر سخطه للعاصين (قال فمن أنا قال رسول ربّ العالمين وخاتم النّبيّين) أي آخرهم وهو بفتح التاء على ما قرأ به عاصم بمعنى ختموا به وبكسرها بمعنى ختمهم ويؤيده قراءة ابن مسعود ولكن نبينا ختم النبيين (وقد(1/635)
أفلح) أي فار (من صدّقك) بتشديد الدال أي أطاعك (وخاب) أي خسر (من كذّبك) أي عصاك. (فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ. وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ كَلَامِ الذِّئْبِ المشهورة) بالرفع (عن أبي سعيد الخدريّ) كما رواه أحمد والبزار والبيهقي وصححه (بينا) وفي نسخة بينما على أن ما زائدة كافة وأما ألف بينا فقيل هي إشباع فلا تمنع الجر وقيل مانعة له منه وهو المشهور عند الجمهور (رَاعٍ يَرْعَى غَنَمًا لَهُ عَرَضَ الذِّئْبُ لِشَاةٍ منها) أي وقت رعي غنمه فاجأ عروض الذئب أي ظهوره في تعرضه لشاة من جملة قطيع الغنم (فأخذها) أي الراعي (منه فأقعى الذّئب) أي الصق استه بالأرض ونصب ساقيه وفخذيه ووضع يديه على الأرض (وقال للرّاعي ألا تتّقي الله) أي أما تخاف والمعنى خف الله تعالى فالاستفهام للتوبيخ لا للإنكار الداخل على النفي المفيد لتحقق ما بعده كما ذكره الدلجي (حلت بيني وبين رزقي) بضم الحاء أي منعت رزقي عني وهو جملة مبينة قائمة مقام العلة (قال الرّاعي العجب) أي كل العجب (من ذئب يتكلّم بكلام الإنس) أي في مقام الْإِنْسِ، (فَقَالَ الذِّئْبُ أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَعْجَبَ مِنْ ذلك) أي وأغرب فيما هنالك (رسول الله بين الحرّتين) بفتح الحاء وتشديد الراء تثنية حرة وهي أرض ذات حجارة سود حول المدينة السكينة الطيبة (يحدّث النّاس بأنباء ما قد سبق) وفي نسخة صحيحة ما بدل من وإنما كان أعجب لأنه إخبار عما لم يعلم به غير الرب، (فأتى الرّاعي النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره) أي بكلام الذئب له (فقال النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم له) أي للراعي (قم فحدّثهم) أي الحاضرين والغائبين؛ (ثمّ قال) أي النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن حدثهم الراعي أو قبله (صدق) أي الراعي في قوله وبالحق نطق في نقله؛ (والحديث فيه قصّة) أي طويلة أو عظيمة وهو الأظهر لقوله (وفي بعضه طول) أي في بعض ألفاظه طول أي ليس هذا محل بسط تلك الفصول وروي أنه لما جاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأخبره صدقه ثم قال إنها أمارات بين يدي الساعة فقد أوشك الرجل أن يخرج فلا يرجع حتى يحدثه ثمة نعلاه وسوطه بما أحدث أهله بعده وفي رواية قال والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس وحتى يكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله ويخبره فخذه بما أحدث أهله بعده، (وروي حديث الذّئب عن أبي هريرة) أي من طرق (وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ الذِّئْبُ أَنْتَ أَعْجَبُ وَاقِفًا على غنمك) حال (وتركت) أي والحال أنك قد تركت (نبيّا) أي خدمته وصحبته مع أنه نبي عظيم ورسول كريم (لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ أَعْظَمَ مِنْهُ عنده قدرا) أي رفعة ورتبة (قد فتحت له أبواب الجنّة) أي وكذا لمن تبعه من أكابر الأمة (وأشرف أهلها) أي واطلع أهل الجنة (على أصحابه ينظرون قتالهم) أي في الغزوة وينتظرون وصالهم بالشهادة وحسن مآلهم في الجنة (وما بينك) أي والحال أنه لا حائل بينك (وبينه إلّا هذا الشّعب) بكسر أوله أي قطع هذا الوادي وهو ما انفرج بين الجبلين (فتصير في جنود الله) أي أحزابه المجاهدين؛ (قال الرّاعي من) وفي نسخة ومن (لي بغنمي) أي من يقوم لي برعاية غنمي (قَالَ الذِّئْبُ أَنَا أَرْعَاهَا حَتَّى تَرْجِعَ فَأَسْلَمَ(1/636)
الرّجل إليه غنمه ومضى) أي إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وما عنده من غنمه (وذكر) أي الراعي (قصّته) أي مع الذئب (وإسلامه ووجوده النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي على وفق ما حكاه الذئب له (يقاتل فقال له النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم عد) بضم العين وسكون الدال المهملة أي ارجع (إلى غنمك تجدها) جواب الأمر أي تصادفها (بوفرها) بفتح الواو وسكون الفاء أي بتمامها وكمالها ما نقص شيء منها (فوجدها كذلك) أي كما أخبره (وذبح للذّئب شاة منها. وعن أهبان) بضم الهمزة (ابن أوس) بفتح أوله أي وروي عنه أيضا (وأنّه) بكسر الهمزة ويجوز فتحها (كان صاحب القصّة) أي المحكية (وَالْمُحَدِّثَ بِهَا وَمُكَلِّمَ الذِّئْبِ وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ عمرو بن الأكوع) على ما في الروض الأنف (وأنّه كان صاحب هذه القصّة أيضا) فيه إيماء إلى تعدد القصة وتكرر القضية (وسبب إسلامه) أي في هذه الرواية (بمثل حديث أبي سعيد) متعلق بروي المقدر قبل قوله وعن أهبان والحاصل أنه اختلف في اسم الراعي المتكلم معه الذئب فقيل هو أهبان بن أوس السلمي أبو عقبة سكن الكوفة وقيل اهبان ابن عقبة وهو عم سلمة بن الأكوع وكان من أصحاب الشجرة وقيل اهبان بن عباد الخزاعي وقيل أهبان بن صيفي وعن الكلبي هو اهبان بن الأكوع وعند السهيلي هو رافع بن ربيعة وقيل سلمة بن الأكوع والجمع ممكن بحمل القصة على تعدد القضية واختلاف المراد بأهبان في الرواية (وقد روى ابن وهب مثل هذا) أي مثل ما جرى في أخذ الذئب شاة (أنّه جرى لأبي سفيان بن حرب) أي والد معاوية رضي الله عنهما (وصفوان بن أميّة) بالتصغير (مع ذئب وجداه أخذ ظبيا) أي أراد أخذه (فدخل الظّبي الحرم فانصرف الذّئب) أي تعظيما للحرم المحترم (فعجبا) بكسر الجيم أي فتعجبا (من ذلك) أي من انصرافه عما هنالك (فقال الذّئب أعجب من ذلك) أي مما تعجبتما (مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِالْمَدِينَةِ يَدْعُوكُمْ إِلَى الجنّة) أي إلى سببها وهو الإيمان (وتدعونه إلى النّار) أي موجبها وهو الكفران فهذا مقتبس من قوله تعالى عن مؤمن آل فرعون وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لا جرم إنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (فقال أبو سفيان) أي لصفوان (واللّات والعزّى لئن ذكرت هذا) أي الخبر (بمكّة) أي فيما بين أهلها (لتتركنّها خلوفا) بضم الخاء المعجمة واللام أي بلا راع ولا حام كذا في النهاية ويقال حي خلوف إذا غاب رجالهم وبقي نساؤهم وقيل أي متغيرة أخذا من خلوف فم الصائم والمعنى أن أهلها بعد سماعهم هذا تغيرت أحوالهم وذهبوا إلى المدينة ولم يبق أحد منهم إلا دخل في الإسلام معهم ولعل هذا كان سبب إسلامهم في آخر أمرهم؛ (وقد روي مثل هذا الخبر) أي الذي جرى لأبي سفيان وأحبابه (وأنّه) بفتح الهمزة وكسرها (جرى لأبي جهل وأصحابه) إلا أنه لم يسلم لما سبق له من الشقاوة الأبدية في كتابه هذا وعند ابن القاسم عن أنس كنت مع النبي(1/637)
صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة تبوك فشردت علي من غنمي فجاء الذئب فأخذ منها شاة فاشتدت الرعاء خلفه فقال الذئب طعمة اطعمنيها الله تعالى تنزعونها مني فبهت القوم فقال ما تعجبون الحديث وفي الروض أيضا في غزوة ذات السلاسل وهي في آخر الكتاب ما لفظه وذكر في هذه السرية صحبة رافع بن أبي رافع لأبي بكر وهو رافع بن عمير وهو الذي كلمه الذئب وله شعر مشهور في تكلم الذئب له وكان الذئب قد أغار على غنمه فاتبعه فقال له الذئب ألا أدلك على ما هو خير لك قد بعث الله نبيه وهو يدعو إلى الله فالحق به ففعل ذلك رافع واسلم (وعن عباس بن مرداس) بكسر الميم وكان الاولى أن يقول ومن ذلك حديث عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ (لَمَّا تَعَجَّبَ مِنْ كَلَامِ ضمار) بكسر الضاد المعجمة ويفتح وميم مخففة فألف فراء ذكره الصاغاني وغيره وفي نسخة بالدال (صنمه) بالجر بدل من ضمار أو بيان فإنه اسم لصنم كان يعبده هو ورهطه (وإنشاده) أي ومن قراءته برفع صوته (الشِّعْرَ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) روي أن مرداس لما احتضر قال لابنه عباس أي بني اعبد ضمارا فإنه سينفعك ولا يضرك فتفكر عباس يوما عند ضمار وقال إنه حجر لا ينفع ولا يضر ثم صاح بأعلى صوته يا إلهي الأعلى اهدني للتي هي أقوم فصاح صائح من جوف الصنم:
أودى ضمار وكان يعبد مدة ... قبل البيان من النبي محمد
وهو الذي ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتد
قل للقبائل من سليم كلها ... أودى ضمار وعاش أهل المسجد
فحرق عباس ضمارا ثم لحق بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم (فإذا طائر سقط) أي وقع ونزل (فَقَالَ يَا عَبَّاسُ أَتَعْجَبُ مِنْ كَلَامِ ضِمَارٍ ولا تعجب من نفسك) أي بتخلفك عن مورث أنسك (أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدعو) وفي نسخة صحيحة يدعوك (إلى الإسلام وأنت جالس) أي بعيد عن مقام المرام (فكان) أي كلام الطائر (سبب إسلامه) والحديث هذا كما في الطبراني الكبير بسند لا بأس به قريب مما هنا، (وعن جابر بن عبد الله) كما روى البيهقي عنه (عن رجل) وهو اسلم أو يسار وهو رجل أسود استشهد في غزوة خيبر كما ذكره أبو الفتح اليعمري في سيرته (أتى النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وآمن به وهو) أي النبي عليه الصلاة والسلام (على بعض حصون خيبر وكان) أي الرجل (فِي غَنَمٍ يَرْعَاهَا لَهُمْ فَقَالَ يَا رَسُولَ الله كيف بالغنم) أي مع أصحابها (قال أحصب) بفتح الهمزة وكسر الصاد أي ارم بالحصباء وهي دقاق الحصى (وجوهها) أي لترجع إلى دور مالكيها (فإنّ) أي لأن وفي نسخة بأن أي بسبب أن (اللَّهَ سَيُؤَدِّي عَنْكَ أَمَانَتَكَ وَيَرُدُّهَا إِلَى أَهْلِهَا) أي بكمالها من غير خلاف لها (ففعل فسارت كلّ شاة) أي في طريقها (حتّى دخلت إلى أهلها؛ وعن أنس) كما رواه أحمد والبزار بسند صحيح (دخل النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم حائط أنصاريّ) أي بستان واحد من الأنصار (وأبو بكر وعمر ورجل من الأنصار) أي معه (وفي الحائط غنم)(1/638)
وهو بحركتين الشاء لا واحد لها من لفظها والواحد شاة وهو اسم مؤنث للجنس يقع على الذكور والإناث وعليهما جميعا (فسجدت له) أي للنبي عليه الصلاة والسلام سجود التحية والإكرام وانقادت له بإظهار الإسلام فإنه مبعوث إلى كافة الأنام كما اختاره بعض الأعلام والظاهر أن سجودها كان بوضع الجبهة بعد القيام لقوله (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ نَحْنُ أَحَقُّ بِالسُّجُودِ لَكَ منها) أي فإنها مع قلة عقلها إذا كانت تسجد لك فكيف نحن مع كثرة انتفاعنا بك لكن أمرنا متوقف على أذنك (الحديث) بتثليث المثلثة وسيأتي تمامه (وعن أبي هريرة رضي الله عنه) كما رواه البزار بسند حسن (دخل النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَائِطًا فَجَاءَ بِعِيرٌ فَسَجَدَ لَهُ وذكر) أي أبو هريرة (مثله) أي مثل حديث أنس لا مثل حديث أبي هريرة كما توهم الدلجي فقالوا هذه بهيمة لا تعقل فسجدت لك ونحن نعقل فنحن أحق أن نسجد لك فقال لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر لو صلح لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لما له من الحق عليها؛ (ومثله) أي مثل حديث أبي هريرة (في البعير) وفي نسخة صحيحة في الجمل (عن ثعلبة بن مالك) كما رواه أبو نعيم قال المزي قدم ثعلبة من اليمن على دين يهود فنزل في بني قريظة فنسب إليهم ولم يكن منهم ولم يعرف من الصحابة من اسمه ثعلبة بن أبي مالك غيره واسم أبي مالك عبد الله (وجابر بن عبد الله) كما رواه أحمد والدارمي والبزار والبيهقي عنه (ويعلى بن مرّة) كما رواه أحمد والحاكم والبيهقي بسند صحيح عنه (وعبد الله بن جعفر) كما رواه مسلم وأبو داود عنه قال أبو هريرة (وكان لا يدخل أحد الحائط) أي ذلك البستان من غير أهله (إلّا شدّ عليه الجمل) أي حمل وصال عليه حفظا لحائطه واستغرابا لداخله ورعاية لصاحبه (فلمّا دخل عليه النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم دعاه) أي الجمل فجاءه خاضعا وانقاد له خاشعا (فوضع مشفره) بكسر الميم وسكون الشين المعجمة وفتح الفاء فراء أي شفته (على الأرض وبرك) بتخفيف الراء أي ناخ (بين يديه فخطمه) أي فوضع في رأسه بخطامه من رسنه وزمامه (وقال ما بين السّماء والأرض شيء) أي من حيوان أو غيره (إلّا يعلم) أي إلا أنه يعلم وفي نسخة لا يعلم أي ليس يوجد بينهما شيء لا يعلم قال المزي المعروف إلا يعلم وقد يكون رواية (أنّي رسول الله) أي إليه إلى غيره (إلّا عاصي الجنّ والإنس) أي إلا كافر الثقلين والصيغة تحتمل الإفراد والجمع بأن حذفت نونه للإضافة. (ومثله) أي مثل هذا المروي بعينه (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى وَفِي خَبَرٍ آخَرَ فِي حَدِيثِ الْجَمَلِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم سألهم عن شأنه) أي حاله معهم في مآله (فأخبروه أنّهم أرادوا ذبحه) الأولى نحره وكأنه أراد ذبحه اللغوي (وفي رواية أنّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال لهم) أي لأهل الجمل (إِنَّهُ شَكَا كَثْرَةَ الْعَمَلِ وَقِلَّةَ الْعَلَفِ؛ وَفِي رواية أنّه) أي الجمل (شَكَا إِلَيَّ أَنَّكُمْ أَرَدْتُمْ ذَبْحَهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَعْمَلْتُمُوهُ فِي شَاقِّ الْعَمَلِ مِنْ صِغَرِهِ فَقَالُوا نعم) قال بئس الجزاء أرادوا له كذا نقله الدلجي والظاهر أردتموه له وفي أصل صحيح ثم الحديث بقوله نعم والله تعالى أعلم، (وقد روي في قصّة العضباء) وهي الناقة المشقوقة الأذن ولقب ناقة النبي صلى الله تعالى عليه(1/639)
وسلم ولم تكن عضباء ذكره الفيروزآبادي فقيل إنها والقصوى والجدعاء واحدة وقيل اثنتان وقيل ثلاث ولم يكن بها عضب ولا جدع وقيل كان بأذنها عضب (وكلامها للنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وتعريفها له بنفسها) أي بذاتها وحالاتها (ومبادرة العشب إليها في الرّعي) أي في رعيها (وتجنّب الوحوش عنها وندائهم) والأظهر وندائها (لها إنّك لمحمّد) أي في زمان حالك أو في مآلك (وَإِنَّهَا لَمْ تَأْكُلْ وَلَمْ تَشْرَبْ بَعْدَ مَوْتِهِ حتّى ماتت، ذكره الإسفرايينيّ) حكى ابن عباس أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خرج ذات ليلة وناقة باركة في الدار فلما مر بها قالت السلام عليك يا زين القيامة يا رسول رب العالمين قال فالتفت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إليها فقال وعليك السلام فقالت يا رسول الله إني كنت لرجل من قريش يقال له أعضب فهربت منه فوقعت في مفازة فكان إذا غشيني الليل احترستني السباع فنادت بعضها لا تؤذوها فإنها مركب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وإذا أصبحت وأردت أن أرتع نادتني كل شجرة إلي إلي فإنك مركب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم حتى وقعت هنا قال فسماها عضباء شق لها اسمها من اسم صاحبها ثم قالت الناقة يا رسول الله إن لي إليك حاجة قال وما هي قالت تسأل الله أن يجعلني من مراكبك في الجنة كما جعلني في الدنيا قال صلى الله تعالى عليه وسلم قضيت ذكره التلمساني؛ (وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ أَنَّ حَمَامَ مَكَّةَ أَظَلَّتِ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) أي جعلت عليه ظلا (يوم فتحها) بفتح فسكون وفي نسخة بفتحات (فدعا لها بالبركة) هذا وقد قيل إنها من نسل الحمامة التي باضت على باب الغار بعد دخول سيد الأبرار لكن قال الدلجي وأما قصة العضباء فلم أدر من رواها ولا حديث حمام مكة. (وروي عن أنس) وفي نسخة عن ابن مسعود (وزيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة) على ما رواه ابن سعد والبزار والطبراني والبيهقي وأبو نعيم عنهم (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَمَرَ اللَّهُ لَيْلَةَ الْغَارِ شجرة) وفي نسخة شجرا (فثبتت تجاه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) بضم التاء المبدلة من الواو أي قبالته التي تقتضي مواجهته قال الدلجي هو مجاز عن انبتها كما في كُونُوا قِرَدَةً قلت الظاهر أنه أمر تكوين وأنه على حقيقته كما حقق في قوله تعالى إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (فسترته) أي تلك الشجرة عن أعين الفجرة وقد ذكر قاسم بن ثابت في الدلائل فيما شرح من الحديث أنه عليه الصلاة والسلام لما دخل الغار ومعه أبو بكر أنت الله على بابه الراءة مثل الطاعة قال قاسم بن ثابت وهي شجر معروفة فحجبت عن الغار أعين الكفار وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى الراءة من أعلاث الشجر وتكون مثل قامة الإنسان ولها خيطان وزهر أبيض يحشى منه المخاد ويكون كالريش لخفته ولينه لأنه كالقطن ذكره السهيلي والأعلاث من الشجر القطع المختلطة مما يقدح به من المرخ واليبس على ما في القاموس (وأمر حمامتين فوقفتا) بالفاء وروي بالعين أي نزلتا (بفم الغار) أي لئلا يظن الأغيار دخول سيد الأبرار ومن معه من أصحابه الكبار قال الدلجي فسمت صلى الله تعالى عليه وسلم عليهما أي دعا لهما وانحدرا إلى الحرام فافرخا(1/640)
كل حمام فيه؛ (وفي حديث آخر وأنّ) وفي نسخة صحيحة وأن (العنكبوت نسجت على بابه) أي على فم الغار (فلمّا أتى الطّالبون له) أي لسيد الأخيار (ورأوا ذلك) أي ما ذكر من وقوف الحمامتين ونسج العنكبوت (قالوا لو كان فيه أحد) أي ممن دخله هذا الوقت (لم تكن الحمامتان ببابه) أي ولا نسج العنكبوت ولعابه (والنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يسمع كلامهم فانصرفوا) أي ولم يدركوا مرامهم وفي مسند البزار أن الله عز وجل أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار وأرسل إليه حمامتين وحشيتين وأن ذلك مما صد المشركين عنه وأن حمام الحرمين من نسل تينك الحمامتين (وعن عبد الله بن قرط) بضم القاف وسكون الراء له صحبة ورواية قال ابن عبد البر كان اسمه في الجاهلية سلطانا فسماه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عبد الله انتهى قتل بأرض الروم والحديث رواه الحاكم والطبراني وأبو نعيم عنه أنه قال (قرّب) بضم القاف وتشديد الراء المكسورة أي أدنى (إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بدنات) بفتحتين جمع بدنة وحكي بضمتين وهي ناقة أو بقرة ذكره الجوهري وزاد ابن الأثير وهي بالإبل اشبه وسميت بدنة لعظمها وسمنها فلا يلتفت إلى قول الدلجي وهي خاصة بالإبل ولا يلزم من الحاقه صلى الله تعالى عليه وسلم البقرة بها في الأجزاء عن سبعة تناول اسمها للبقرة شرعا بل الحديث وآية الحج يمنعانه انتهى ولا يخفى أنه إذا ثبت إطلاق البدنة على البقرة لغة وإلحاقها بالإبل شريعة فالمخالفة فيها مكابرة ومنع الحديث وآية الحج لها مصادرة (خمس أو ستّ أو سبع) شك من الراوي (لينحرها يوم عيد) أي من أعياد الأضحى (فازدلفن إليه) افتعلن من الزلف وهو القرب ومنه قوله تعالى حكاية لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى ابدلت تاؤه دالا لمجاورتها الزاء ومنه المزدلفة والمعنى تقربن منه (بأيّهن يبدأ) أي في نحرها قال المزي صوابه يأيتهن بتاء التأنيث وفيه بحث. (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم في صحراء) أي بادية قفراء (فنادته ظبية يا رسول الله) فالتفت فإذا هي موثقة وأعرابي نائم (قال) أي لها (مَا حَاجَتُكِ قَالَتْ صَادَنِي هَذَا الْأَعْرَابِيُّ وَلِي خشفان) تنبيه خشف وهو بكسر الخاء وسكون الشين المعجمتين ولد الظبية الصغير (في ذلك الجبل فأطلقني) بفتح الهمزة وكسر اللام أي من القيد وأرسلني (حتّى أذهب) أي إلى ولدي (فأرضعهما) بضم الهمزة وكسر الضاد (وأرجع) أي إليك (قال أو تفعلين) بفتح الواو أي أتقولين هذا القول وتفعلين هذا الرجوع وفي نسخة صحيحة وتفعلين فالهمزة مقدرة وفي رواية قال أخاف أن لا ترجعي قالت إن لم أرجع فأنا شر ممن يأكل الربا وشر ممن ينام عن صلاة العشاء وشر ممن يسمع اسمك ولم يصل عليك (قالت نعم فأطلقها فذهبت ورجعت) أي بعد ما ارضعت (فأوثقها) أي فربطها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على حالها (فانتبه الأعرابيّ) أي وهو صلى الله تعالى عليه وسلم في المعالجة لها أو عندها (وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ تطلق) أي نعم هو أن تطلق أو هو خبر معناه أمر وفي نسخة صحيحة اطلق (هَذِهِ الظَّبْيَةَ؛ فَأَطْلَقَهَا فَخَرَجَتْ تَعْدُو فِي الصَّحْرَاءِ) أي تجري (وتقول) أي الظبية (أَشْهَدُ أَنْ لَا(1/641)
إله إلّا الله وأنّك رسول الله) رواه البيهقي في دلائل النبوة من طرق وضعفه جماعة من الأئمة حتى قال ابن كثير لا أصل له وأن من نسبه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقد كذب لكن طرقه يقوي بعضها بعضا وقد رواه أبو نعيم الأصبهاني في الدلائل بإسناده فيه مجاهيل عن أم سلمة نحو ما ذكره المصنف وكذا رواه الطبراني بنحوه وساقه الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب من باب الزكاة؛ (ومن هذا الباب) أي باب طاعة الحيوانات من طريق خرق العادات لبعض صحابته من تمام بركته صلى الله تعالى عليه وسلم (ما روي من) وفي نسخة في (تسخير الأسد لسفينة) غير منصرف للتأنيث والعلمية (مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) اعتقته ام سلمة وشرطت عليه أن يخدم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم واسمه مهران عند الأكثر وكنيته أبو عبد الرحمن على الأشهر ولقبه عليه الصلاة والسلام سفينة لقضية مشهورة (إذ وجّهه) أي كان التسخير حين أرسله النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (إلى معاذ باليمن) أي حال إقامته فيه لقضائه (فلقي) أي سفينة (الأسد فعرّفه) بتشديد الراء أي فذكر له (أنّه مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومعه كتابه) أي مكتوبه عليه الصلاة والسلام إلى معاذ أو غيره (فهمهم) بهاءين وميمين مفتوحتين فعل ماض من الهمهمة وهي الكلام بالخفية (وتنحّى عن الطّريق) أي وتبعد وتأخر الأسد عن طريق سفينة (وذكر) أي سفينة (في منصرفه) أي مرجعه أيضا (مثل ذلك) قال الدلجي لم أدر من رواه كذا وقد رواه البيهقي أن لقيه الأسد إنما كان حين ضل عن الجيش في أرض الروم قلت يحمل على تعدد الواقعة كما يشير إليه قول المصنف. (وفي رواية أخرى عنه) أي عن سفينة كما رواه البيهقي والبزار: (أنّ سفينة) أي من السفن (تكسّرت به) أي وسفينة في تلك السفينة (فخرج إلى جزيرة) وهي أرض ينجزر البحر عنها (فإذا الأسد) أي حاضر والمعنى فاجأه بغتة (فَقُلْتُ لَهُ أَنَا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم فجعل يغمرني) بسكون الغين المعجمة وكسر الميم وتضم بعدها زاء أي يشير إلى ويحرك علي (بمنكبه) بفتح الميم وكسر الكاف أي بما بين كتفه وعنقه (حتّى أقامني) أي دلني (على الطّريق) وفي إيراد هذا الحديث إشارة إلى أن كرامة الولي بمنزلة معجزة النبي من حيث الدلالة على صدق النبوة والرسالة فإن الكرامة متفرعة على صحة المتابعة (وأخذ عليه الصلاة والسلام) كان الأولى أن يقال ومن ذلك أنه أخذ عليه الصلاة والسلام (بأذن شاة لقوم من عبد القيس) قبيلة كبيرة مشهورة (بين إصبعيه) بكسر الهمزة وفتح الموحدة وجوز تثليث كل منهما فالوجوه تسعة (ثمّ خلّاها) أي تركها (فصار لها ميسما) بكسر الميم وفتح السين أي صار أثر أصبعيه لها علامة وهو في الأصل الحديدة التي يكوى بها ويجعل بسببها علامة فإطلاقه على العلامة مجاز في العبارة ظاهر العلاقة (وبقي ذلك الأثر فيها) أي في أصل تلك الشاة (وفي نسلها بعد) بالضم أي بعدها قال الدلجي لا أدري من رواه، (وما روي) أي ومن ذلك ما رُوِيَ (عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَمَّادٍ بِسَنَدِهِ مِنْ كلام الحمار) في سيرة مغلطاي كان له صلى الله تعالى عليه وسلم من الحمير يعفور وعفير ويقال(1/642)
هما واحد وآخر أعطاه سعد بن عبادة (أصابه) أي في سهمه وفي نسخة الذي أصابه (بخيبر وقال) أي الحمار وهو كان أسود (له اسمي يزيد بن شهاب) يعني ونعتي أن الله تعالى أخرج من نسلي ستين حمارا كلهم لم يركبه إلا نبي وقد كنت أتوقعك أن تركبني ولم يبق من نسل جدي غيري ولا من الأنبياء غيرك وكنت ليهودي وكنت أعثر به عمدا وكان يجيعني ويضربني على ما رواه ابن أبي حاتم عن حذيفة في رواية يجيع بطني ويضرب ظهري (فسمّاه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يعفورا) بالقصر وفي نسخة يعفور كيعقوب (وأنّه) أي النبي عليه الصلاة والسلام (كان يوجّهه) أي يرسله (إلى دور أصحابه) أي بيوتهم (فيضرب عليهم الباب برأسه ويستدعيهم) أي يطلب منهم إجابة الدعوة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم (وأنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لمّا مات) أي ودفن (تردّى) أي رمى بنفسه (في بئر) أي لأبي الهيثم بن التيهان (جزعا) أي فزعا (وحزنا) بفتحتين أو بضم فسكون (فمات) أي فصارت قبره رواه ابن حبان في الضعفاء من حديث أبي منظور وقال لا اصل له وإسناده ليس بشيء وذكره ابن الجوزي في الموضوعات قلت قصة يعفور ذكرها غير القاضي فقد نقلها السهيلي في روضه عن ابن فورك في كتاب الفصول قال السهيلي وزاد الجويني في كتاب الشامل أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا أراد أحدا من أصحابه أرسل هذا الحمار إليه فيذهب حتى يضرب برأسه الباب فيخرج الرجل فيعلم أن قد أرسل إليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي رواية فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هذا وقد أخرجه ابن عساكر عن أبي منظور وله صحبة نحو ما سبق وقال هذا حديث غريب وفي إسناده غير واحد من المجهولين ورواه أبو نعيم عن معاذ بن جبل كما تقدم والله تعالى أعلم. (وَحَدِيثُ النَّاقَةِ الَّتِي شَهِدَتْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِهَا أَنَّهُ مَا سَرَقَهَا وَأَنَّهَا ملكه) رواه الطبراني عن زيد بن ثابت فيه مجاهيل والحاكم من حديث ابن عمر قال لذهبي وهو موضوع وفيه نظر. (وفي العنز) أي وفي حديث العنز كما في نسخة صحيحة وهي الأنثى من المعز (الّتي أتت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في عسكره) أي حال كونه فيما بين جنده في غزوة له (وقد أصابهم عطش) أي شديد (ونزلوا على ماء) أي لضرورة بهم (وهم زهاء ثلاثمائة) أحوال متتابعة مترادفة أو متداخلة (فحلبها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأروى الجند) أي جميع العسكر، (ثمّ قال لرافع) أي مولاه كذا قال الدلجي لكن مولاه أبو رافع ولذا قال الحلبي رافع هذا لا أعرفه بعينه وفي الصحابة جماعة كثيرة يقال لكل منهم رافع (أملكها) بفتح الهمزة وكسر اللام أي أوثقها أو أربطها واحفظها (وما أراك) بضم الهمزة أي ما أظنك تملكها وتحفظها (فربطها) أي وغفل عنها (فوجدها قد انطلقت) أي ذهبت برأسها بحيث لم يدر أحد عنها، (رواه ابن قانع) وقد سبق ذكره (وغيره) منهم ابن سعد وابن عدي والبيهقي عن مولى أبي بكر رضي الله تعالى عنه، (وفيه) أي وفي حديث ابن قانع (فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إنّ الّذي جاء بها) أي الله سبحانه وتعالى (هو(1/643)
الّذي ذهب بها) فيه إيماء إلى أن إيجادها وإعدامها كليهما من خرق العادة (وقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (لفرسه عليه الصلاة والسّلام) كذا في بعض النسخ المصححة وإنما محله قبله بعد قال كما لا يخفى ثم قيل كانت أفراسه صلى الله تعالى عليه وسلم أربعة وعشرين اتفق منها على سبعة (وقد قام إلى الصّلاة) أي والحال أنه قد أراد قيامه إليها (في بعض أسفاره) متعلق بقام كما هو أقرب أو يقال وهو أنسب (لا تبرح) أي لا تفارق مكانك (بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ حَتَّى نَفْرَغَ مِنْ صَلَاتِنَا وجعله قبلته) أي في صوب قبلته أو في جهة مقابلته (فما حرّك عضوا) أي من أعضائه وهو بضم أوله ويكسر (حتّى صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حتى فرغ منها كما في أصل الدلجي والحق في بعض النسخ هنا وزعم بعضهم أنه من الأم؛ (ويلتحق بهذا) بصيغة المجهول أو المعلوم (ما روى الواقديّ) بكسر القاف قاضي العراق يروي عن ابن عجلان وثور وابن جريج وعنه الشافعي رحمه الله تعالى والصاغاني قال البخاري وغيره متروك وقد ذكر له ترجمة حسنة ابن سيد الناس في أول سيرته وذكر فيها ثناء الناس عليه وجرحهم له وأنه نسب إلى وضع الحديث وفي آخرها استقر الإجماع على وهن الواقدي (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَجَّهَ رُسُلَهُ إِلَى الْمُلُوكِ) أي لتبليغ الرسالة إليهم وتحقيق الحجة لديهم (فخرج ستّة نفر منهم) أي من رسله (فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَأَصْبَحَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ) أي صار لما بلغ عندهم وأراد تبليغهم (يتكلّم بلسان القوم الّذين بعثه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (إليهم) أي من الملوك واتباعهم من غير تعلم للسانهم وتعرف بشأنهم قال الكلاعي في النقاية وفي حديث ابن إسحاق قال عليه الصلاة والسلام إن الله بعثني رحمة كافة فأدوا عني يرحمكم الله ولا تختلفوا علي كما اختلف الحواريون على عيسى فقال أصحابه وكيف اختلفوا يا رسول الله قال دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضي وسلم وأما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه وتثاقل فشكا عيسى عليه الصلاة والسلام ذلك إلى الله تعالى فأصبح المتثاقلون وكل واحد منهم يتكلم بلغة الأمة التي بعث إليها؛ (والحديث في هذا الباب) أي في معنى هذا النوع من المعجزة (كثير) أي ورد بطرق متعددة وقضايا متكثرة (وقد جئنا منه بالمشهور) أي في صحته وثبوته (وما وقع) أي ومما ورد (منه في كتب الأئمّة) أي المعروفين بالسنة والسيرة.
فصل [في إحياء الموتى وكلامهم]
(في إحياء الموتى وكلامهم) أي للأحياء قال القرطبي في تذكرته وكذا نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أحيى الله على يديه جماعة من الموتى قال الحلبي وقد ذكر القاضي فيما يأتي جماعة منهم (وكلام الصّبيان) أي الأطفال قبل أوان التكلم (والمراضع) جمع راضع على خلاف القياس وهو أخص من الأول فتأمل ويحتمل أن يكون العطف تفسيريا ووقع في أصل الدلجي وكلام الصبيان المراضع بالوصف بدون العاطف (وشهادتهم) أي الصبيان (له بالنّبوّة)(1/644)
أي المتضمنة للرسالة (صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ وَالْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ محمد بن رشد) بضم فسكون (وَالْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى التّميميّ) سبق (وغير واحد) أي وكثيرون من مشايخنا (سماعا) أي رواية (وإذنا) أي إجازة (قالوا) أي كلهم (حدّثنا أبو عليّ الحافظ) الظاهر أنه أبو علي الغساني (حدّثنا أبو عمر الحافظ) أي ابن عبد البر (حدّثنا أبو زيد) أي عبد الرحمن بن يحيى كما في نسخة (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ) تقدم (حدّثنا أبو داود) صاحب السنن (حدّثنا وهب بن بقيّة) بفتح موحدة وكسر قاف وتشديد تحتية روى عنه مسلم والبغوي ثقة (عن خالد هو الطّحّان) بتشديد الحاء أحد العلماء ثقة عابد زاهد يقال اشترى نفسه من الله ثلاث مرات يتصدق بزنة نفسه فضة (عن محمد بن عمرو) أي ابن علقمة بن وقاص الليثي يروي عن أبيه وأبي سلمة وطائفة وعنه شعبة ومالك ومحمد بن عبد الله الأنصاري (وعن أبي سلمة) وهو أحد الفقهاء السبعة على قول الأكثر (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) قال المزي في الأطراف كذا وقع هذا الحديث في رواية سعيد عن ابن الأعرابي عن أبي داود مسندا موصولا وعند باقي الرواة عن أبي سلمة وليس فيه أبو هريرة فهو مرسل (أنّ يهوديّة) وهي زينب أخت عبد الله بن سلام وقيل زينب بنت الحارث (أهدت للنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بخيبر شاة مصليّة) بفتح الميم وكسر اللام وتحتية مشددة أي مشوية (سمّتها) بتشديد الميم من السم لا من التسمية أي وضعت السم فيها (فأكل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منها والقوم) بالرفع ويجوز نصبه وفي نسخة وأكل القوم أي منها أيضا (فقال أرفعوا أيديكم) أي عنها (فإنّها أخبرتني) أي حينئذ (أنّها مسمومة فمات) أي من أكلها (بشر بن البراء) بفتح الباء وتخفيف الراء وهو ابن معرور وإياك أن تعجمها فإنه تصحيف مغرور وهو خزرجي سلمي شهد العقبة وبدرا وأحدا قيل إنه مات في الحال وقيل لزمه وجعه حتى مات بعد سنة وقضية خيبر كانت في أول السابعة أو في آخر السادسة (وقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (ما حملك) أي أيتها اليهودية (على ما صنعت قالت) أي حملني ما تردد في باطني من أنك (إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ الَّذِي صَنَعْتُ وإن كنت ملكا) بكسر اللام أي ممن يدعى ملكا (أرحت النّاس منك قال) أي أبو هريرة كما رواه البيهقي عنه موصولا وأبو داود عن أبي سلمة مرسلا (فأمر بها) أي بقتلها (فقتلت. وقد روى هذا الحديث) أي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (أنس) أي كما في الصحيحين (وفيه قالت أردت قتلك) إن لم تكن نبينا (فَقَالَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَلِكَ) ويروى ليسلط على ذلك ويسلطك على أي على قتلي فإني نبي موعود بإكمال ديني وعصمة روحي (فقالوا نقتلها) وفي رواية إلا نقلتها (قال لا) أي لا تقتلوها ولعل هذا كان قبل موت بشر فلما مات أمر بقتلها به (وكذلك روي) أي هذا الحديث وفي نسخة وكذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ وَهْبٍ) أي ابن بقية وهو شيخ أبو داود (قال) أي أبو هريرة رضي الله تعالى عنه (فما عرض لها) أي فما(1/645)
تعرض لها ولم يأمر بقتلها، (ورواه أيضا، جابر بن عبد الله) كما رواه أبو داود والبيهقي عنه (وفيه) أي في حديثه (أخبرتني به هذه الذّراع قال) أي جابر (ولم يعاقبها) أي ولم يؤاخذها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بما صدر عنها قبل موت بشر منها (وفي رواية الحسن) أي البصري (أنّ فخذها تكلّمني أنّها مسمومة) قلت وفي الجمع بينهما نصاب الشهادة؛ (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فقالت) أي الشاة بكمالها أو ببعض اجزائها (إني مسمومة) أي فلا تأكل مني؛ (وكذلك ذكر الخبر ابن إسحاق) أي إمام المغازي (وقال فيه) أي في حديثه (فتجاوز عنها) أي عفا ابتداء؛ (وفي الحديث الآخر) الذي رواه الشيخان (عن أنس أنه قال فما زلت أعرفها) أي أثر سمها (في لهوات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) بفتح اللام والهاء جمع لهاة وهي اللحمة المعلقة في سقف أقصى الفم، (وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) كما رواه ابن سعد وهو في الصحيح (أنّ رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فيه) وفي نسخة منه (ما زالت أكلة خيبر) بضم الهمزة أي لقمتها وخيبر بلدة على أميال من المدينة السكينة أكل بها من الشاة المسمومة (تعادّني) بضم التاء وتشديد الدال أي يراددني ويراجعني ويعاودني الم سمها في أوقات معينة لها وهو مأخوذ من العداد بكسر العين وهو اهتياج وجع اللديغ لوقت معلوم فإنه إذا تمت له سنة من حين اللدغ هاج به الالم (فالآن) وفي نسخة والآن أي وهذا الزمان الذي أنا فيه (أوان قطعت أبهري) والأوان بفتح الهمزة ويكسر بمعنى الوقت وهو هنا بفتح النون لإضافته إلى المبنى كما في قوله:
على حين عاينت المشيب على الصبا أو بضمها على أنه مرفوع على الخبرية أي فهذا الزمان أوان قطعت على بناء الفاعل وهو الأكلة ومفعوله أبهري وهو بهمزة مفتوحة وسكون موحدة وفتح هاء عرق يكتنف الصلب والقلب إذا قطع لم يبق معه حياة وهو الذي يمتد إلى الحلق فيسمى الوريد وإلى الظهر فيسمى الوتين فكأنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال هذا أوان قتلني السم فكنت كمن انقطع أبهره كذا ذكره التلمساني والظاهر أنه على ظاهره وأن السم سرى إلى أبهره وقال الداودي الالم الذي حصل له من الأكلة هو نقص لذة ذوقه قال ابن الأثير وليس يبين لأن نقص الذوق ليس بألم قلت هو الم من العذاب الأليم كما يشهد به الذوق السليم (وحكى ابن إسحاق) أي في المغازي (إن) مخففة من المثقلة أي أن الشأن (كان المسلمون) أي الصحابة والتابعون (ليرون) بفتح اللام وضم الياء أي ليظنون وفي نسخة صحيحة بفتح الياء أي ليعتقدون (أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مات شهيدا) أي نوعا من الشهادة (مَعَ مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ) أي والرسالة لئلا يخلو من نوع من أبواب السعادة وهذا لا ينافي قوله تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إذ المراد به عصمته من القتل على أيديهم وأما ما دونه فقد احتمل صلى(1/646)
الله تعالى عليه وسلم في ذات الله ومرضاته حتى سم وسحر وكسرت رباعيته كما يشير إليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم حين أصيبت رجله بحجر في طريقه
هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
وقد أجيب بأن الآية نزلت بتبوك والسم كان بخيبر قبل ذلك والله تعالى أعلم (وقال ابن سحنون) بفتح السين وضم النون منصرفا وممنوعا وهو محمد بن سحنون بن سعيد التنوخي (أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم قتل اليهوديّة الّتي سمّته) وهو محمول على آخر أمرها فلا ينافي ما ورد من عدم التعرض لها في ابتداء حالها فقول الدلجي إن دعوى ابن سحنون يردها ما مر من حديث أنس وأبو هريرة رضي الله تعالى عنهما من رواية غير وهب بن بقية ليس في محله إذ سبق أن كل واحد من الحديثين يحمل نفيه قبل موت البراء وهذا معنى قول المصنف؛ (وقد ذكرنا اختلاف الرّوايات في ذلك) أي بحسب ما يتبين التخالف هنالك (عن أبي هريرة وأنس وجابر) أي ابتداء لا انتهاء كما يسير إليه قوله (وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ دَفَعَهَا لِأَوْلِيَاءِ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ فَقَتَلُوهَا) أي بعد موت البراء فارتفع النزاع وثبت ما ذكره ابن سحنون من الإجماع، (وكذلك) أي مثل هذا الاختلاف أو نحوه (قَدِ اخْتُلِفَ فِي قَتْلِهِ لِلَّذِي سَحَرَهُ، قَالَ الواقدي وعفوه عنه أثبت عندنا) أي من قتله (وقد روي) وفي نسخة وقد روي عنه (أنّه قتله) ولعله عفا عنه أولا بسبب سحره المتعلق بخاصة نفسه ثم قتله لما صدر عنه بالنسبة إلى غيره أو لدفع ضرره عن المسلمين في آخر أمره أو أوحي إليه بعد عفوه أن يأمر بقتله وهذه الجملة معترضة (وروى الحديث) أي حديث الشاة المسمومة (البزّار عن أبي سعيد) أي الخدري (فذكر مثله) أي نحو ما سبق (إلّا أنّه قال) أي أبو سعيد (في آخره) أي في آخر حديثه (فبسط) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يده) أي مدها، (وقال) أي لأصحابه كما في نسخة (كلوا بسم الله) أي مبتدئين باسمه ومستعينين بذكره (فأكلنا) أي منها (وذكر اسم الله) أي عليها (فلم تضرّ منّا أحدا) عن الحافظ ابن حجر أنه منكر ذكره الدلجي ولعل وجه الإنكار عموم نفي الأضرار مع أنه ثبت في الصحيح موت البراء منه كما سبق به التصريح وكذا تقدم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم تضرر منها إلى أن توفي بسببها وحصل له مرتبة الشهادة بها هذا والحديث رواه الجزري أيضا في الحصن الحصين بلفظ وأمر الصحابة في الشاة المسمومة التي أهدتها إليه اليهودية أن أذكروا اسم الله وكلوا فأكلوا ولم يصب أحدا منهم شيء وأسنده إلى مستدرك الحاكم قال صاحب السلاح رواه الحاكم في مستدركه عن أبي سعيد الخدري وقال صحيح الإسناد انتهى لكن قال بعض مشايخنا وفيه تأمل لا يخفى إذ المشهور بين أصحاب الحديث وأرباب السير أنه لم يأكل من تلك الشاة المسمومة أحد من الصحابة إلا بشر بن البراء كل منها لقمة ومات منها وأمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بإحراق تلك الشاة ودفنها تحت التراب واحتجم(1/647)
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة حجمه أبو هند بالقرن والشفرة وهو مولى لبني بياضة من الأنصار والله سبحانه وتعالى أعلم بالاسرار (قال القاضي أبو الفضل) أي المصنف (وَقَدْ خَرَّجَ حَدِيثَ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ أَهْلُ الصَّحِيحِ) أي الذين التزموا الصحة (وخرّجه الأئمّة) أي البقية من أصحاب السنن المشتملة على الصحيح وغيره من الأقسام، (وهو حديث مشهور) أي بين الخاص والعام عند الجمهور من العلماء الأعلام (واختلف أئمّة أهل النّظر) أي من المتكلمين وغيرهم (في هذا الباب) أي باب خلق الله تعالى الكلام في الأجسام (فَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ هُوَ كَلَامٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تعالى) أي في محل من الموجودات أعم من الحيوانات والنباتات والجمادات كما بينه مثلا بقوله (في الشّاة الميّتة) بتخفيف الياء ويجوز تشديدها (أو الشّجر والحجر) ذكرها بلفظ أو للتنويع (وحروف وأصوات) برفعهما عطف على كلام (يحدثها الله فيها) أي يوجدها في هذه الأشياء بلا حياة لها لعدم توقف ما ذكر عليها (ويسمعها) بضم الياء وكسر الميم أي من شاء أي خلقه (منها) أي من الأصوات والحروف (دون تغيير أشكالها) أي أنواع صورها (ونقلها عن هيئتها) أي حالتها وصفتها وتمام حقيقتها (وهو) أي هذا القول (مذهب الشّيخ أبي الحسن) أي الأشعري (والقاضي أبي بكر) أي ابن الطيب الباقلاني (رحمهما الله تعالى) أقول فعلى هذا كلام الشاة من جنس سلام الحجر وكلام الشجر فلا يصلح أن يكون مستندا لإحياء الموتى على ما ساقه المصنف كما لا يخفى بخلاف ما يستفاد من قوله (وآخرون ذهبوا إلى إيجاه) أي الله سبحانه وتعالى (الحياة) وفي نسخة إلى إيجاد الحياة لها (أوّلا ثمّ الكلام) بالنصب أو الجر أي ثم إيجاد الكلام (بعده) أي بعد إيجاد الحياة بها مع عدم تغيرها عن حالها، (وحكي هذا أيضا عن شيخنا) أي معشر أهل السنة (أبي الحسن) أي الأشعري (وكلّ) أي من القولين (محتمل) أي لإيجاد الحياة فيها أو لعدمها ولما كان التناقض بين القولين دفعه المصنف بحمل القول الثاني على الكلام النفسي لاستلزامه الحياة وحمل الأول على اللفظي لعدم استلزام خلقه في محل خلقها فيه بقوله (والله أعلم إذ لم نجعل) أي نحن ويجوز بصيغة الغائب أي أبو الحسن (الْحَيَاةَ شَرْطًا لِوُجُودِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ إِذْ لَا يستحيل وجودها مع عدم الحياة بمجرّدها) أي فيه (فأمّا إذا كانت) أي الحروف والأصوات (عِبَارَةً عَنِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ فَلَا بُدَّ مِنْ شرط الحياة لها) أي للأصوات (إِذْ لَا يُوجَدُ كَلَامُ النَّفْسِ إِلَّا مِنْ حيّ) أقول وظاهر الآيات والأحاديث يؤيد القول الأول فتأمل منها قوله تعالى وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ وحديث إن الجبل ينادي باسمه أي فلان هل مر بك أحد ذكر الله تعالى فإذا قال نعم قال استبشر الحديث مع أنه ليس هناك خرق للعادة فالصحيح من مذهب أهل السنة والصريح من مشرب الصوفية أن الأشياء لها معرفة بموجدها كما يدل عليه قوله سبحانه وتعالى وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وأن لها السنة مسبحة لخالقها ويفهمها جنسها ومن أراد الله إدراكها (خلافا للجبائيّ) بضم الجيم وتشديد الموحدة بعدها ألف ممدودة نسبة الى جبا قرية بالسواد(1/648)
وهو من متقدمي المعتزلة وكان إماما في علم الكلام وأخذه عن يعقوب بن عبد الله الشحام البصري رئيس المعتزلة بالبصرة في عصره وعنه أخذ الشيخ أبو الحسن الأشعري علم الكلام وله معه مناظرات مستحسنة بعد ما أقام على الاعتزال معه أربعين سنة ثم رجع عن حاله وحسن مآله ومال إلى مذهب أهل السنة وصار إمام الأئمة قيل إنه مالكي المذهب وقال السبكي أخذ فقه الشافعي عن أبي إسحاق المروزي توفي عام ثلاثين وثلاثمائة وأما الجبائي فمات سنة ثلاث وثلاثمائة (من بين سائر متكلّمي الفرق) أي فرق الإسلامية إذ لم يوافقه أحد منهم (في إحالته) أي عدم إمكانه (وُجُودِ الْكَلَامِ اللَّفْظِيِّ وَالْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ إِلَّا مِنْ حَيٍّ مُرَكَّبٍ عَلَى تَرْكِيبِ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ النّطق بالحروف والأصوات والتزم) أي الجبائي (ذلك) أي ما ذكره من التركيب (في الحصى) أي الذي سبح في يد المصطفى (والجذع) أي الذي حن وأنّ (والذّراع) أي الذي تكلم وبين (وقال) أي الجبائي (إنّ الله خلق فيها حياة وخرق) بالراء أي شق ويروى خلق (لها فما ولسانا وآلة) أي مما يتوقف النطق عليها (مكّنها) بتشديد الكاف وفي نسخة امكنها أي أقدرها الله تعالى (بها من الكلام وهذا) أي ما ادعاه دعوى بلا بينة منه فإنه كما قال المصنف (لو كان) أي وجد ما ذكره (لكان نقله والتّهمّم به) أي الاهتمام بنقله (أوكد) لكونه أغرب وأعجب فنقله أهم (من التّهمّم بنقل تسبيحه) أي الحصى في يديه صلى الله تعالى عليه وسلم (وحنينه) أي الجذع إليه واخباره أي الذراع له كذا في شرح الدلجي ولم يوجد لفظ وإخباره في الأصول المعتمدة (ولم ينقل أحد من أهل التفسير) أي شراح الحديث وفي نسخة من أهل السير أي أرباب التواريخ (والرّواية) أي من المحدثين (شيئا من ذلك) أي مما ادعاه الجبائي (فدلّ) أي عدم نقلهم ما ادعاه (عَلَى سُقُوطِ دَعْوَاهُ مَعَ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إليه في النّظر) أي في نظر العقل وخبر النقل إذ المقام مقام خرق العادة وهو إنما يكون على وفق القدرة والإرادة وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير (والله الموفّق) أي لتيسير كل عسير وفي نسخة والموفق الله لا سواه، (وروى وكيع) الظاهر أنه ابن الجراح وقد تقدم (رفعه) بالنصب وفي نسخة بصيغة الفعل أي رفع حديثه (عن فهد بن عطيّة) بالفاء في أوله وبالدال في آخره وفي نسخة بالراء وكلاهما لا يعرف على ما ذكره الدلجي تبعا للحلبي وفي المواهب عن مهد بالميم والدال ولعله تصحيف وإنما روى البيهقي عن سمر بن عطية بكسر السين المهملة وسكون الميم في آخره راء عن بعض أشياخه (أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أتي بصبيّ) أي جيء به إليه (قد شبّ) أي صار شابا (لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ فَقَالَ مَنْ أَنَا فَقَالَ رسول الله) أي أنت رسوله، (وروي) بصيغة المجهول وقد رواه البيهقي وابن عساكر (عن معرّض) بضم ميم وتشديد راء مكسورة وروي معرض بكسر أوله كأنه آلة (ابن معيقيب) بالتصغير وفي نسخة معيقب بحذف الياء الثانية (رأيت من النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم عجبا) وفي المواهب أسند الحديث إلى معيقيب اليماني قال حججت حجة الوداع فدخلت دارا بمكة فرأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورأيت منه عجبا أي خرق عادة متضمنا لكرامة(1/649)
(جيء) أي إليه (بصبيّ يوم ولد فذكر مثله) أي قال له من أنا قال رسول الله، (وهو حديث مبارك اليمامة) قال ابن دحية وهو موضوع ذكره الدلجي ولعله موضوع بإسناد غير معروف لما تقدم من الحديث هذا رواه البيهقي وابن عساكر فتأمل فإنه محل زلل (ويعرف) أي حديث المبارك أيضا (بحديث شاصونة) بضم الصاد وسكون الواو فنون فتاء وضبط في بعض النسخ بتحتية بدل النون وفي أخرى بفتح الصاد والواو وسكون الياء فهاء مكسورة أبو عبيد من أهل اليمن (اسم راويه) أي راوي حديث المبارك قال الحلبي هذا الصبي هو مبارك اليمامة وهو مذكور في الصحابة قال الذهبي في تجريده في الصحابة مبارك اليمامة في حديث معرض الصحابة (وفيه) أي في مروي شاصونة (فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صدقت) أي فيما نطقت (بارك الله فيك) أي في عمرك أو في أمرك (ثمّ إنّ الغلام لم يتكلّم بعدها) أي بعد هذه الكلمة أو الشهادة (حتّى شبّ) أي بلغ زمن التكلم وفيه إيماء إلى أن المراد بالغلام هنا هو الصبي قبل أن يصير شابا فهذا غير الصبي الذي تقدم والله تعالى اعلم (فكان) وفي نسخة صحيحة وكان (يسمّى مبارك اليمامة) أي لكونه صلى الله تعالى عليه وسلم دعا له بالبركة أضيف إلى اليمامة لأنه كان من أهلها وفي القاموس أن اليمامة جارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام وبلاد الجو منسوبة إليها سميت باسمها وهي أكثر نخيلا من سائر الحجاز وهي دون المدينة في وسط الشرق عن مكة هذا وقد جمع الجلال السيوطي رحمه الله تعالى جميع من تكلم وهو صغير في هذه الأبيات:
تكلم في المهد النبي محمد ... ويحيى وعيسى والخليل ومريم
ومبري جريج ثم شاهد يوسف ... وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم
وطفل عليه مر بالأمة التي ... يقال لها تزني ولا تتكلم
وماشطة في عهد فرعون طفلها ... وفي زمن الهادي المبارك يختم
(وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) بفتح الواو وتكسر وهي سنة عشر من الهجرة؛ (وعن الحسن) أي البصري (أتي رجل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) أي وأسلم هو وامرأته (فذكر) أي الرجل (له أنّه طرح بنيّة) بالتصغير (له في وادي كذا) يعني وأنها هلكت على ظنه بها أو تردد في حياتها ومماتها (فانطلق) أي فذهب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (معه إلى الوادي) أي المعهود. (وناداها) أي البنية أبوها أو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الأظهر (باسمها يا فلانة أجيبي) أي دعوة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (بإذن الله تعالى) أي بأمره وتيسيره (فخرجت) أي من الوادي وظهرت فيه (وهي تقول لبّيك وسعديك فقال لها) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (إِنَّ أَبَوَيْكِ قَدْ أَسْلَمَا فَإِنْ أَحْبَبْتِ أَنْ أردّك عليهما) أي بالحياة الأصلية أو المجددة ورددتك عليهما وإلا فتركتك على حالك (فقالت) وفي نسخة قالت (لا حاجة لي بهما) وفي نسخة فيهما (وجدت الله خيرا لي(1/650)
منهما) والحديث عن الحسن لم يعلم من رواه كذا ذكره الدلجي ثم سياقه محتمل أن يكون من كلام الصغار أو في احياء الموتى لأن القضية تحتملهما إلا أن المصنف رحمه الله تعالى لم يرتب في هذا المحل إذا كان اللائق به أن يذكر أولا ما يتعلق بإحياء الموتى ثم يأتي بكلام الصبيان على طبق العنوان ثم رأيت الحديث في دلائل البيهقي صريحا في إحيائها حيث ذكر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم دعا رجلا إلى الإسلام فقال لا أو من بك حتى تحيي لي ابنتي فقال صلى الله تعالى عليه وسلم أرني قبرها فأراه إياه فقال صلى الله تعالى عليه وسلم يا فلانة قالت لبيك وسعديك فقال صلى الله تعالى عليه وسلم اتحبين أن ترجعي إلى الدنيا فقالت لا والله يا رسول الله إني وجدت الله خيرا لي من أبوي ووجدت الآخرة خيرا من الدنيا فكان حق المصنف أن يقدم هذا الحديث بهذا اللفظ في صدر الباب ليكون مطابقا لعنوان الكتاب ثم يذكر ما أخرجه أبو نعيم أن جابرا ذبح شاة وطبخها وثرد في جفنة وأتى بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأكل القوم وكان عليه الصلاة والسلام يقول لهم كلوا ولا تكسروا عظمها ثم إنه صلى الله تعالى عليه وسلم جمع العظام ووضع يده عليها ثم تكلم بكلام فإذا الشاة قامت تنقص ذنبها كذا ذكره صاحب المواهب وأما ما ذكروا من احيائه عليه الصلاة والسلام أبويه فالأصح أنه وقع على ما عليه الجمهور الثقات كما قال السيوطي في رسائله الثلاث المؤلفات، (وعن أنس) كما رواه ابن عدي والبيهقي وابن أبي الدنيا وأبو نعيم (أَنَّ شَابًّا مِنَ الْأَنْصَارِ تُوُفِّيَ وَلَهُ أُمٌّ عجوز) أي مات حال وجودها (عمياء فسجّيناه) بتشديد الجيم أي غطيناه (وعزّيناها) بتشديد الزاء أي أمرناها بالصبر وحملناها على الشكر لوعد الأجر والحذر من الوزر ودعونا لها بجبر المصيبة ولولدها بالمغفرة (فقالت مات ابني) أي أمات (قُلْنَا نَعَمْ قَالَتْ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ) أي من نيتي في هجرتي (أنّي هاجرت إليك وإلى رسولك رجاء) بالنصب أي من أجل أملي (أن تعينني على كلّ شدّة) أي واقعة لي (فلا تحملنّ عليّ) بتشديد الياء (هذه المصيبة) إذ لست لحملها مطيقة هذا ولا يبعد أن يكون أن بمعنى إذ لكن الأولى ما قدمناه من أن الترديد غير راجع إلى علمه سبحانه وتعالى بل إلى معلومه من حيث عدم جزمها بكون هجرتها خالصة وقد أبعد الدلجي بقوله تجاهلا منها فيه (فما برحنا) بكسر الراء أي ما ذهبنا من مكاننا ولا نزلنا في موضعنا (حتى كشف الثوب) كذا في أصل الدلجي أي إلى أن كشفه وفي الأصول المعتمدة أن كشف الثوب أي فما زلنا كشفه وما فارقنا رفعه (عن وجهه) بعد دعائها إلى احيائه (فطعم وطعمنا) بكسر العين أي فعاش مدة بدعائها وأكل وأكلنا معه وفيه إشارة إلى أن الكرامات نوع من المعجزات بل هي أبلغ منها حيث حصل للتابع ما يحصل للمتبوع من خوارق العادات هذا وليس فيه صريح دلالة على إحيائه بعد أماته لاحتمال اغمائه مع وجود سكته لكن زال الغم بدعاء الأم. (وروي) أي على ما نقله البيهقي (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ كُنْتُ فِيمَنْ دَفَنَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شمّاس) بتشديد الميم قال الحلبي ثابت هذا أنصاري خطيب الأنصار وقد شهد له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم(1/651)
بالجنة وذلك أنه لما نزل قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآية احتبس ثابت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم وَكَانَ فِي أُذُنَيْهِ صَمَمٌ فَكَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ وقال لقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأنا من أهل النار فذكر ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال بل هو من أهل الجنة روى عنه بنوه وأنس (وكان) أي ثابت (قتل باليمامة) وكانت وقعة اليمامة سنة اثنتي عشرة في خلافة الصديق (فَسَمِعْنَاهُ حِينَ أَدْخَلْنَاهُ الْقَبْرَ يَقُولُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ؛ عُمَرُ الشَّهِيدُ، عُثْمَانُ) وفي نسخة وعثمان (البرّ) بفتح الموحدة (الرّحيم) أي البار لقومه عامة والرحيم برحمة خاصة. (فنظرنا) أي مختبرين حاله من حياة وموت (فإذا هو ميّت) هذا الحديث دليل كلام الموتى لا إحيائهم كما لا يخفى، (وذكر عن النّعمان بن بشير) كما رواه الطبراني وأبو نعيم وابن منده عنه وابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت عن أنس (أنّ زيد بن خارجة) بالخاء المعجمة ثم الجيم (خرّ ميّتا) أي سقط من قيام أو قعود حال كونه ميتا وجوز أن يكون التقدير وقد خر حيا فمات به في عقبه ويؤيده ما في رواية ابن أبي الدنيا على ما نقله عنه القسطلاني فبينما هو يمشي في طريق من طرق المدينة بين الظهر والعصر إذ خر فتوفي (في بعض أزقّة المدينة) بكسر الزاء وتشديد القاف جمع زقاق أي بعض طرقها المسلوكة في داخلها (فرفع) أي جسده (وسجّي) أي غطى وجهه (إذ سمعوه بين العشاءين والنّساء يصرخن) بضم الراء أي يبكين بصياحهن (حوله) أي ومعهن رجال من أهله (يقول أنصتوا أنصتوا) بفتح الهمزة وكسر الصاد المهملة فيهما أي اسكتوا واستمعوا والتكرير للتأكيد فنظروا فإذا الصوت من تحت الثياب (فحسر) بصيغة الفاعل أي كشف غطاؤه (عن وجهه) وفي نسخة بصيغة المفعول ويؤيده أنه في رواية فحسروا عن وجهه (فقال) أي القائل على لسانه كما في رواية (محمد رسول الله) صلى الله تعالى عليه وسلم (النبي الأمّيّ وخاتم النّبيّين) أي آخرهم (كان ذلك) أي كونه رسولا نبيا أميا وخاتما كليا (في الكتاب الأول) أي اللوح المحفوظ الذي كل ما فيه لا يبدل (ثمّ قال) أي زيد (صدق صدق) أي رسول الحق والتكرير للتأكيد أو صدق فيما أخبر به عن الابتداء كما أنه صدق فيما انبأ به عن الانتهاء، (وذكر أبا بكر وعمر وعثمان) أي بخير أو بأنهم صدقوا فيما عاهدوا الله عليه أو بأنهم ممن قال تعالى فيهم وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ وذلك لما كشف له من أحوال الآخرة هذا وقد تصحف علي الدلجي حيث قال صدق صدق أمر مخاطب (ثمّ قال) أي زيد (السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وبركاته) وهو سلام وداع إما غيبة وإما مشاهدة ويؤيده أنه في رواية قال هذا رسول الله الخ قال التلمساني روي تركناه أقول الظاهر إنه تصحيف (ثمّ عاد ميّتا كما كان) أي عود البدء واعلم أن صاحب الاستيعاب ذكر في زيد بن خارجة بن زيد أنه هو الذي تكلم بعد الموت لا يختلفون في ذلك قال الذهبي وهو الصحيح وقيل هو أبوه وذلك وهم لأنه قتل يوم أحد قال(1/652)
ابن عبد البر توفي في زمن عثمان فسجي بثوب ثم إنهم سمعوا جلجلة في صدره ثم تكلم فقال أحمد أحمد في الكتاب الأول صدق صدق أبو بكر الصديق الضعيف في نفسه القوي الأمين في أمر الله في الكتاب الأول صدق صدق عمر بن الخطاب القوي الأمين في الكتاب الأول صدق صدق عثمان بن عفان على منهاجه مضت أربع وبقي سنتان أتت الفتن وأكل الشديد الضعيف وقامت الساعة وسيأتيكم خبر بئر أريس وما بئر أريس هذا وعن سعيد بن المسيب أن رجلا من أنصار توفي فلما كفن وأتاه القوم يحملونه تكلم فقال محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أخرجه أبو بكر بن الضحاك والله سبحانه وتعالى اعلم.
فصل [في إبراء المرضى وذوي العاهات]
(في إبراء المرضى وذوي العاهات) أي الآفات (قال) أي المصنف (أخبرنا أبو الحسن عليّ بن مشرّف) بضم الميم وفتح الشين المعجمة وتشديد الراء المفتوحة (فيما أجازنيه وقرأته على غيره قال) أي أبو الحسن أو كل منه ومن غيره (حدّثنا أبو إسحاق الحبّال) بتشديد الموحدة (حدّثنا أبو محمد بن النّحّاس) بتشديد الحاء المهملة (ثنا أبو الورد) وهو راوي سيرة ابن هشام (عن البرقيّ) بفتح الموحدة وسكون الراء وهو أبو سعيد عبد الرحيم بن عبد الله بن عبد الرحيم بن أبي زرعة البغدادي الزهري مولاهم (عن ابن هشام) هو الإمام الأديب العلامة أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب صاحب السيرة قال السهيلي مشهور بكمال العلم متقدم في علم النسب والنحو والأدب وأصله من البصرة قدم مصر وحدث بالمغازي وتوفي بمصر سنة ثلاث عشرة ومائتين (عن زياد البكّائي) بفتح الموحدة وتشديد الكاف نسبة إلى جد له اشتهر بالبكاء وقيل سمي به لأنه دخل على أمه وهي تحت أبيه فبكى وصاح وقال إنه يقتل أمي روى عنه أحمد وقال ابن معين لا بأس به في المغازي خاصة (عن محمّد بن إسحاق) وهو الإمام في المغازي (ثنا ابن شهاب) وفي نسخة ابن هشام والأول هو الصواب والمراد به الزهري وهو أحد مشايخ ابن إسحاق المذكور (وعاصم بن عمر بن قتادة) أي ابن النعمان الظفري يروي عن أبيه وجابر وعنه جماعة صدوق وكان علامة في المغازي مات سنة عشرين ومائة أخرج له أصحاب الكتب الستة (وجماعة) أي آخرون (ذكرهم) أي ابن إسحاق (بقضيّة أحد) أي في غزوته (بطولها) أي بجميع ما يتعلق بها ومنها هذه القصة بخصوصها وقد رواها البيهقي أيضا (قال) أي ابن إسحاق (وقالوا) أي مشايخنا المذكورون (قال سعد بن أبي وقّاص) أي في غزوة أحد وهو أحد العشرة المبشرة (إنّ رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُنَاوِلُنِي السَّهْمَ لَا نَصْلَ لَهُ) بالصاد المهملة حديدة السهم والرمح وفي نسخة بالضاد المعجمة وهو تصحيف وتحريف. (فيقول ارم به) أي فأرمي به فيقتل من أصابه وهذا من خرق العادة ولعل هذا كان بعد فراغ السهام التي لها نصل (وقد رمى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي على ما رواه ابن إسحاق والبيهقي عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلا(1/653)
(يومئذ) أي يوم أحد (عن قوسه) وهي المسماة بالكتوم لانخفاض صوتها إذا رمى عنها (حتّى اندقّت) بتشديد القاف أي انكسرت وفي نسخة حتى اندقت سيتها كذا في السير (وأصيب) وروي وأصيبت (يومئذ عين قتادة يعني ابن النّعمان) بضم النون وهو تفسير من الراوي (حتّى وقعت على وجنتيه) بتثليث الواو والفتح أفصح أي سالت على أعلى خده فأتى به صلى الله تعالى عليه وسلم فقال يا رسول الله إن لي أمرأة أحبها وأخشى إن رأتني تقذرني فأخذها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيده وردها إلى موضعها وقال اللهم أكسه جمالا وفي رواية أنه أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له ما هذا يا قتادة فقال هذا ما ترى يا رسول الله فقال إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت رددتها ودعوت الله لك فلم تفقد منها شيئا فقال يا ارسول الله إن الجنة أجر جزيل وعطاء جليل جميل ولكني أكره أن أعير بالعور فردها إلي واسأل الله لي الجنة فقال افعل فاعادها إلى موضعها ودعا لي بالجنة وهذا معنى قوله (فردّها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) كما رواه ابن إسحاق عن عاصم بن عمر ابن قتادة مرسلا ووصله ابن عدي والبيهقي عن عاصم عن جده قتادة البيهقي من وجه آخر عن أبي سعيد الخدري عن قتادة (فكانت) أي عينه المردودة (أحسن عينيه) لأنها المقبولة وكانت أيضا أحدهما نظرا ولا ترمد إذا رمدت الأخرى ولهذا ظهر ضعف قول التلمساني يجوز أن يكون اكتفى بذكر إحدى العينين عن الأخرى إذ روي أنهما أصيبتا معا فردهما النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فبرئتا انتهى ويمكن الجمع بتفرق القضيتين هذا وقد وفد على عمر ابن عبد العزيز رجل من ذريته فسأله عمر من أنت فقال:
أبونا الذي سالت على الخد عينه ... فرددت بكف المصطفى أيما رد
فعادت كما كانت لأول أمرها ... فيا حسن ما عين ويا حسن ما خد
فوصله عمر وأحسن جائزته وقال:
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ... شِيبَا بماء فعادا بعد أبوالا
وأخرج الطبراني وأبو نعيم عن قتادة قال كنت يوم أحد أتقي السهام بوجهي دون وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فكان آخرها سهما ندرت منه حدقتي فأخذتها بيدي وسعيت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلما رآها في كفي دمعت عيناه فقال اللهم ق قتادة كما وقى نبيك بوجهه واجعلها أحسن عينيه وأحدهما نظرا (وَرَوَى قِصَّةَ قَتَادَةَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قتادة) أي كما تقدم قيل وهو الذي قدم على عمر بن عبد العزيز كما سبق (وَيَزِيدُ بْنُ عِيَاضِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ) كذا في النسخ ولم يعرف في رواة الحديث بل ولا في حملة العلم أحد يقال له يزيد بن عياض بن عمر بن قتادة وقال الحلبي الصواب يزيد بن عياض عن ابن عمر بن قتادة فيكون سقط عن وذلك لأن عاصم بن عمر شيخ يزيد هذا ويزيد ابن عياض ليثي حجازي حدث عن نافع وابن شهاب والمقبري وعاصم بن عمر بن قتادة(1/654)
وجماعة وعنه علي بن الجعد وشيبان وعدة قال البخاري وغيره منكر الحديث وقد رماه مالك بالكذب وقد أخرج له الترمذي وابن ماجة ولا يحتمل أن يكون يزيد بن عياض يروي عن عمر بن قتادة لأن عمر بن قتادة لم يرو عنه إلا ولده عاصم ولا يعرف إلا بروايته عنه وجده ذكره ابن حبان في الثقات (ورواها) أي قصة قتادة (أبو سعيد الخدريّ عن قتادة) فهي رواية الأكابر عن الأصاغر (وبصق) أي بزق (عَلَى أَثَرِ سَهْمٍ فِي وَجْهِ أَبِي قَتَادَةَ) كما رواه البيهقي من حديث أبي قتادة وهو الحارث بن ربعي وقيل غير ذلك (في يوم ذي قرد) بفتح القاف والراء فدال مهملة وحكى السهيلي عن أبي علي الضم فيهما وهو منصرف ماء على ليلتين وقيل ليلة من المدينة بينها وبين خيبر ويقال لها غزوة الغابة كان يومه قبل خيبر بثلاثة أيام ذكره الحجازي قال ابن سعد كانت في ربيع الأول سنة ست وفي البخاري بعد حنين بثلاثة أيام وقبل الحديبية وفي مسلم نحوه وقال ابن القيم في الهدى وهذه الغزوة كانت بعد الحديبية وقد وهم فيها جماعة من أهل المغازي والسير فذكروا أنها قبل الحديبية ثم استدل على صحة ما قال بما أورده فيه (قال) أي أبو قتادة (فما ضرب عليّ) أي ضربانا (ولا قاح) من القيح وهي المدة لا يخالطها دم يقال منه قاح الجرح يقيح إذا حصل فيه مادة بيضاء؛ (وروى النّسائيّ) بالقصر ويمده بإسناده في سننه وهو الذي تأخر بعد الثلاثمائة من أصحاب الكتب الستة سمع قتيبة وطبقته وأصحاب مالك انتهى إليه علم الحديث وروى عنه الكتاني وابن السني (عن عثمان بن حنيف) بضم مهملة وفتح نون وعثمان هذا هو أخو عبادة وسهل وله صحبة ورواية شهد أحدا وما بعدها وهو أحد من تولى مسح سواد العراق لعمر وولى البصرة لعلي (أَنَّ أَعْمَى قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ الله أن يكشف لي عن بصري) أي يزيل عنه ما حجبه (قال فانطلق) وفي نسخة صحيحة فانطلق أي اذهب (فَتَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ اللَّهُمَّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك) أي ملتجئا ومتوسلا (بنبيب) وفي رواية بنبيك (محمّد نبيّ الرّحمة يا محمّد) فيه التفات (إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّكَ أَنْ يَكْشِفَ عن بصري اللهمّ) التفات آخر (شفّعه فيّ) بتشديد الفاء والياء أي أقبل شفاعته في حقي (قال) أي عثمان الراوي (فرجع) أي الأعمى (وقد كشف الله عن بصره) والظاهر أن قوله يا محمد من جملة الدعاء المأمور به فلا يكون التصريح باسمه من باب سوء الأدب في ندائه فلا يحتاج إلى تكلف الدلجي بقوله ولعله كان قبل علمه بتحريمه أو قبل تحريمه بقوله تَعَالَى لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً هذا وقد رواه الترمذي أيضا وقال حسن صحيح غريب والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجة في الصلاة والحاكم والبيهقي وصححاه؛ (وروي) كما رواه أبو نعيم والواقدي عن عروة (أنّ ابن ملاعب الأسنّة) بضم الميم وكسر العين والأسنة بتشديد النون جمع سنان وهو الرمح ويقاله ملاعب الرماح أيضا وتعبيره بالملاعب أبلغ من اللعب سمي به لتقدمه وشجاعته فكأنه يلاعبها قال الحلبي لا أعرف ابنه وأما هو فعامر بن مالك عم عامر بن الطفيل وقد ذكره بعضهم في الصحابة لكن قال الذهبي في تجريده والصحيح أنه لم يسلم وقد قدم المدينة(1/655)
فعرض عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الإسلام فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام في قصة بئر معونة (أصابه استسقاء) أي المرض المعروف بكثرة شرب الماء وسببه اجتماع ماء أصفر في البطن (فبعث إلى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي واحدا يستشفيه (فأخذ) أي النبي عليه الصلاة والسلام (بيده حثوة من الأرض) بفتح الحاء المهملة وسكون المثلثة لغة في حثية بالياء من حثا التراب عليه يحثوه ويحثيه والمعنى أخذ قبضة منها (فتفل عليها) أي بصق قال أبو عبيد النفث بالفم شبيه بالنفخ وأما التفل فلا يكون إلا ومعه شيء من الريق، (ثمّ أعطاها رسوله) أي الذي جاء من عنده (فأخذها متعجّبا يرى) بضم الياء أو فتحها أي يظن أو يعتقد (أنّ قد هزىء به) بضم هاء وفتح وكسر زاء فهمز وأن مخففة من المثقلة اكتفاء بمرفوعها واسمها ضمير الشأن وضمير به راجع إلى ابن الملاعب وذلك لما شاع في هذا الباب أن ذلك تراب (فأتاه بها) أي بالحثوة (وهو على شفا) بفتح الشين المعجمة مقصورا منونا وهو حرف كل شيء ومنه قوله تعالى وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ أي حرفها وطرفها ويقال اشفى المريض على الموت وما بقي الا شفا أي قليل وأشفى عليه أشرف أي والحال أنه مشرف على الموت (فشربها) أي بانضمامها إلى ما عنده من الماء فكأنه عرف بالإيماء إليه أنه نافع للاستسقاء (فشفاه الله) أي عافاه مما ابتلاه (وذكر العقيليّ) بضم المهملة وفتح القاف صاحب كتاب الضعفاء قال ابن القطان أبو جعفر العقيلي مكي ثقة جليل القدر عالم بالحديث مقدم في الحفظ توفي سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة (عن حبيب بن فديك) مصغر فدك بالدال المهملة (ويقال فريك) أي بالراء وبالأول رواه البيهقي والطبراني ورواه ابن أبي شيبة بالثاني وأما حبيب فبفتح الخاء المهملة وروي بضم المعجمة مصغرا (أَنَّ أَبَاهُ ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ فَكَانَ لَا يُبْصِرُ بهما شيئا) وروي أنه عليه الصلاة والسلام سأله عما أصابه قال كنت أقود جملا لي فوقعت رجلي على بيض حية فعميت (فنفث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي نفخ (في عينيه فأبصر) أي بهما (فرأيته) أي أبي بعد ذلك (يُدْخِلُ الْخَيْطَ فِي الْإِبْرَةِ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ) أي سنة كما في رواية وفي رواية وأن عينيه لمبيضتان في المواهب رواها ابن أبي شيبة والبغوي والبيهقي والطبراني وأبو نعيم، (وَرُمِيَ كُلْثُومُ بْنُ الْحُصَيْنِ يَوْمَ أُحُدٍ فِي نحره) أي صدره (فبصق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيه فبرأ) بفتح الراء ويكسر وقيل برا من المرض بفتح الراء وبرئ من الدين بكسرها قال الدلجي لا أدري من رواه انتهى قال الخلبي كلثوم بن الحصين أبو ذر الغفاري شهد أحدا وبايع تحت الشجرة واستخلفه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على المدينة في عمرة القضاء وعام الفتح وأصيب بسهم في نحره فسمي المنحور وجاء إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فبصق عليه فبرأ روى الزهري عن ابن أخيه عنه وقد أخرج له أحمد في المسند والبخاري في كتاب الأدب المفرد وليس له في الكتب الستة شيء (وتفل) أي بصق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (على شجّة عبد الله بن أنيس) بالتصغير والشجة الضربة في الوجه والرأس(1/656)
فقط وقد يسمى بذلك ما يكون في سائر الجسد مجازا (فلم تمدّ) بضم التاء وكسر الميم وتشديد الدال من أمد الجرح صارت فيه مدة أي قيحا والمعنى لم تحصل مادة من القيح في ذلك الجرح والحديث رواه الطبراني وذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث عبد الله بن رواحة في نفر من أصحابه منهم عبد الله بن أنيس إلى اليسير بن رزام وكان بخيبر يجمع غطفان لغزو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلما قدموا عليه كلموه وقربوا له وقالوا إن قدمت على رسول الله استعملك وأكرمك فلم يزالوا به حتى خرج معهم فحمله عبد الله بن أنيس على بعيره حتى إذا كانوا بالقرقرة على تسعة أميال من خيبر ندم اليسير بن رزام على مسيره إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ففطن له عبد الله بن أنيس وهو يدير السيف فاقتحم به ثم ضربه بالسيف فقطع رجله وضربه اليسير بمخرش في يده من شوحط فأمه فلما قدم عبد الله بن أنيس على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تفل على شجته فلم تقح ولم تؤذه، (وَتَفَلَ فِي عَيْنَيْ عَلِيٍّ يَوْمَ خَيْبَرَ وَكَانَ) أي على (رمدا) بفتح الراء وكسر الميم أي ذا رمد بفتحتين وهو وجع العين وفي الحديث لا هم إلا هم الدين ولا وجع إلا وجع العين (فأصبح بارئا) بكسر الراء بعدها همزة أي فصار معافى والحديث رواه الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي ففي البخاري في غزوة خيبر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال أين علي بن أبي طالب فقالوا يا رسول الله يشتكي عينيه قال فأرسلوا إليه فأتى به فبصق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في عينيه فدعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع وفي رواية مسلم من طريق إياس بن سلمة عن أبيه قال فأرسلني النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى علي فجئت به أقوده أرمد فبصق في عينيه فبرأ وعند الطبراني من حديث علي قال فما رمدت ولا صدعت منذ دفع إلي صلى الله تعالى عليه وسلم الراية يوم خيبر وعند الحاكم من حديث علي فوضع صلى الله تعالى عليه وسلم رأسي في حجره ثم بصق في راحته فدلك بها عيني وعند الطبراني فما اشتكيتهما حتى الساعة قال ودعا لي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال اللهم أذهب عنه الحر والقر قال فما اشتكيتهما حتى يومي هذا (ونفث) أي ثلاث نفثات (عَلَى ضَرْبَةٍ بِسَاقِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ يَوْمَ خيبر فبرئت) بفتح الراء وفي نسخة فبرئت بكسر الراء وهي لغة أهل الحجاز وفي رواية فما اشتكاها قط رواه البخاري (وفي رجل زيد بن معاذ) أي ونفث فيها (حين أصابها السّيف إلى الكعب) أي إلى الكعب رجله (حين قتل ابن الأشرف) وهو كعب بن الشرف اليهودي وقصته مشهورة (فبرئت) أي رجله رواه عبد بن حميد في تفسيره عن عكرمة ورواه ابن إسحاق والواقدي أيضا لكن قالا بدل زيد بن معاذ الحارث بن أوس ورواه البيهقي من حديث جابر وذكر بدلهما عباد بن بشر وهو ممن حضر قتل كعب وأما زيد ابن معاذ فقال الحلبي لا أعرف أنه ذكر في هذه الواقعة بل ولا في الصحابة أحد يقال له زيد ابن معاذ إلا أن يكون أحد نسب إلى جده أو جد له أعلى بل الذي جرح في رأسه أو رجله على الشك من الراوي في قتل كعب بن الأشرف إنما هو الحارث بن أوس بن معاذ بن(1/657)
النعمان بن امرئ القيس بدري قتل يوم أحد وله ثمان وعشرون سنة وقيل الذي حضر كعبا وهو الحارث بن أوس بن النعمان الحارثي وقد حكى الذهبي القولين ثم قال وقيل هما واحد نسب إلى جده الأعلى لكن افترقا بالنسب كما ترى انتهى وقد سمي في رواية البخاري الذين قتلوا كعبا منهم الحارث بن مسلم وكذا مسلم في الجهاد فعليه الاعتماد هذا وقد وقال بعضهم إن زيد بن معاذ هو ابن أخي سعد بن معاذ وأنه نقله غير القاضي كذلك ولعلهما اطلعا على المراد (وعلى ساق عليّ بن الحكم) بفتحتين صحابي وهو أخو معاوية بن الحكم السلمي (يوم الخندق إذ انكسرت) أي نفث حين انكسرت ساقه (فبرأ) وفي نسخة فبرئ (مكانه) أي ولم يتعد زمانه (وما نزل عن فرسه) أي والحال إنه لم يقدر على نزوله عن فرسه إذ جاءه يستشفيه رواه أبو القاسم البغوي في معجمه (واشتكى عليّ بن أبي طالب) أي مرض أو اشتكى وجعا (فجعل) أي شرع علي أو قصد (يدعو) أي يطلب الله تعالى أن يعافيه (فقال النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم اللهمّ اشفه) روي بالضمير وهاء السكت وكذا قوله (أو عافه) والشك من الراوي (ثمّ ضربه برجله) أي لتصيبه بركة فعله بعد أثر قوله (فما اشتكى ذلك الوجع بعد) بضم الدال أي ما شكاه بعد دعائه وأصابه رجله لبعض اجزائه رواه البيهقي (وَقَطَعَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ يَدَ مُعَوِّذِ) بتشديد الواو المكسورة وتفتح (ابن عفراء) بمهملة ففاء فراء ممدودة قال الحلبي والمعروف أن ابن أبي جهل عكرمة فعل ذلك بمعاذ بن عمرو بن الجموح حين ضرب أباه وكذا نقله أبو الفتح اليعمري ابن سيد الناس عن القاضي عياض ثم قال معوذ صحابي قتل يوم بدر وهو من جملة أربعة عشر قتيلا من المسلمين في وقعة بدر رضي الله تعالى عنهم أقول ولا منع من الجمع فتأمل (فجاء) أي معوذ أو معاذ (يَحْمِلُ يَدَهُ فَبَصَقَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) أي عليها (وألصقها فلصقت) بكسر الصاد، (رواه ابن وهب ومن روايته أيضا) وكذا رواه البيهقي عن ابن إسحاق (أنّ خبيب بن يساف) بفتح الياء في نسخة إساف بكسر الهمزة ويفتح وأما خبيب فهو بخاء معجمة وموحدتين بصيغة التصغير في النسخ وهو موافق لما في القاموس ومطابق لما ذكره الحلبي وضبطه الدلجي بمهملة وباءين بينهما مثلثة والظاهر من كلامه أنه بفتح أوله وكسر ثانيه (أُصِيبَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) أي حال كونه معه أي بقربه (بضربة على عاتقه) أي ما بين منكبه وعنقه (حتّى مال شقّه) بكسر الشين وتشديد القاف أي أحد شقيه بانفصاله عنه بحد سيفه (فردّه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بإمالته إلى محله (ونفث عليه حتّى صحّ) أي التأم قال الحلبي وحبيب هذا خزرجي شهد بدرا واحدا وما بعدهما وكان نازلا بالمدينة فتأخر إسلامه حتى سار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بدر فلحقه في الطريق فأسلم وشهد بدرا فضربه رجل على عاتقه يومئذ فمال شقه فتفل عليه ولأمه ورده فانطلق فقتل الذي ضربه وتزوج ابنته بعد ذلك وكانت تقول لا عدمت رجلا وشحك هذا الوشاح فيقول لا عدمت رجلا عجل أباك إلى النار وتوفي في خلافة عثمان؛(1/658)
(وأتته امرأة من خثعم) قبيلة معروفة (معها صبي به بلاء) أي عارض (لا يتكلّم) أي بسببه (فأتي بماء فمضمض فاه) أي فمه (وغسل يديه) الظاهر إلى رسغيه (ثمّ أعطاها إيّاه) أي الماء (وأمرها بسقيه) أي بشرب الصبي منه (ومسّه به) أي مسحه ببله ووقع في أصل الدلجي وأمرها أن تسقيه ومس به أي مس صلى الله تعالى عليه وسلم الصبي بالماء (فبرأ الغلام وعقل عقلا يفضل) بضم الضاد المعجمة وتفتح أي يزيد ويغلب (عقول النّاس) رواه ابن أبي شيبة عن أم جندب مرفوعا. (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ جَاءَتِ امْرَأَةٌ بِابْنٍ لَهَا به جنون فمسح) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (صدره فثعّ ثعّة) بمثلثة ومهملة مشددة فيهما أي قاء مرة (فخرج من جوفه مثل الجرو الأسود) بتثليث الجيم ولد الكلب والسبع (فشفي) بصيغة المجهول أي برئ من جنونه وفي نسخة فسعى بفتح السين والعين المهملتين أي مشى واشتد عدوا والظاهر أنه تصحيف ثم فاعل سعى الجرو وهو الأقرب أو المبتلى وهو الأنسب والحديث رواه أحمد والبيهقي وابن أبي شيبة ففي مسند أحمد ثنا حما ثنا يزيد حدثنا حماد بن سلم عن فرقد السنجي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أن امرأة جاءت بولدها إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن به لمما وإنه يأخذه عند طعامنا فيفسد علينا طعامنا قال فمسح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صدره ودعا له فثع ثعة فخرج من فيه مثل الجرو الأسود فشفى وقد ذكره أحمد أيضا من طريق أخرى فقال حدثنا أبو سملى حدثنا حماد بن سلمة عن فرقد فذكر نحوه إلا أنه قال فثع أي سعل انتهى والظاهر أن قوله سعل بيان لسبب قيئه أي فسعل فقاء، (وانكفأت القدر) بهمزة مفتوحة بعد الفاء أي انقلبت البرمة وسقطت (على ذراع محمد بن حاطب) بحاء مهملة وطاء مكسورة فموحدة وفي نسخة حاتم وهو غير صحيح والمراد به ابن الحارث بن معمر القرشي من بني جمح ولد بالحبشة قيل هو أول من سمي في الإسلام محمدا له صحبة (وهو طفل) جملة حالية (فَمَسَحَ عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُ وَتَفَلَ فِيهِ فَبَرَأَ لحينه) أي على فوره رواه النسائي والطيالسي والبيهقي (وكانت في كفّ شرحبيل) بضم أوله ويقال له شراحيل (الجعفيّ) بضم الجيم (سلعة) بكسر السين وتفتح وسكون اللام وهي زيادات تحدث في الجسد بين الجلد واللحم كالغدة تكون من قدر حمصة إلى قدر بطيخة إذا غمزت باليد تحركت (تمنعه القبض على السّيف وعنان الدّابّة) بكسر العين أي لجامها أو زمامها (فشكاها للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فما زال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يطحنها) بفتح الحاء أي يعالجها ويفصحها بكفه (حتّى رفعها) أي أزالها من كفه (ولم يبق لها أثر) أي في محلها رواه الطبراني والبيهقي. (وسألته جارية) أي بنت أو مملوكة (طعاما، وهو يأكل) جملة حالية (فناولها من بين يديه) أي بعض ما لديه (وكانت) أي قبل ذلك (قليلة الحياء) لعلها لخلل كان بعقلها (فَقَالَتْ إِنَّمَا أُرِيدُ مِنَ الَّذِي فِي فِيكَ) أي في فمك (فناولها ما في فيه، ولم يكن) أي من عادته (يسأل شيئا فيمنعه) بالنصب على جواب النفي (فلمّا استقرّ) أي مأكولها الذي ناولها (في جوفها ألقي عليها من الحياء) أي شيء عظيم(1/659)
منه حتى بسببه (لم تكن امرأة بالمدينة) أي فضلا عن غيرها (أشدّ حياء منها) أي ببركته ويمن همته.
فصل [في إجابة دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم]
(في إجابة دعائه عليه الصلاة والسلام) أي لقوم وعلى بعض (وهذا باب واسع) أي متسع ذيله وما يتعلق به (جدّا) بكسر الجيم وتشديد الدال منصوب على المصدر أي وسعا كثيرا (وإجابة دعوة النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لجماعة بما دعا لهم) أي بالخير تارة (وعليهم) أي بالشر تارة وهذا مفهوم كلام المصنف بحسب الظاهر ولكن الأظهر أن المراد به أنه دعا لبعض منهم بالمنفعة ولآخرين منهم بالمضرة ولذا قال التلمساني فكأنه أوصله نفعا وصب عليه شرا (وهذا أمر متواتر في الجملة) وفي نسخة على الجملة أي لا على التفصيل (معلوم ضرورة) أي عند أهل السيرة. (وقد جاء في حديث حذيفة) أي من رواية أحمد بن محمد بن حنبل في مسنده (كان رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَعَا لِرَجُلٍ أَدْرَكَتِ الدَّعْوَةُ) أي أثرها (ولده وولد ولده) وفيه تنبيه على صحة معنى ما يقال الولد سر أبيه ويؤيده قوله تعالى وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً قيل كان بينهما سبعة آباء قال أي المصنف. (حدّثنا أبو محمد العتابيّ) بتشديد الفوقية (بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَاتِمُ بْنُ محمد) بكسر التاء (حدّثنا أبو الحسن) وفي نسخة بالتصغير والأول هو الصحيح (القابسيّ) بكسر الموحدة (حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يوسف) أي الفربري (حدّثنا محمّد بن إسماعيل) أي البخاري صاحب الجامع وقد أخرجه مسلم أيضا (حدّثنا عبد الله بن أبي الأسود) أي البصري من رواية مالك (حدّثنا حرمي) بفتح الحاء والراء وهو ثابت بن روح وكنيته أبو عمارة ابن أبي حفصة (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ الله عنه قال قالت أمّي) وهي أم سليم بنت ملحان (يَا رَسُولَ اللَّهِ خَادِمُكَ أَنَسٌ ادْعُ اللَّهَ له قال اللهمّ أكثر ماله) أي حلالا (وولده) أي صالحا (وبارك له فيما آتيته) أي أعطيته من المال والولد فأوتي مالا كثيرا وأولادا مات له في الطاعون الجارف سبعون ولدا من صلبه غير أولاد أولاده. (ومن رواية عكرمة) أي على ما انفرد بها مسلم وهو ابن عمار الحنفي اليمامي وكان مجاب الدعوة (قال أنس فو الله إِنَّ مَالِي لَكَثِيرٌ وَإِنَّ وَلَدِي وَوَلَدَ وَلَدِي ليعادّون) بضم الياء وتشديد الدال أي يعد بعضهم بعضا وليزيدون (اليوم على نحو المائة) قال التلمساني وفي رواية الصحيحين والمصابيح ليتعادون بزيادة التاء (وفي رواية) وهي غير معروفة (وما أعلم أحدا أصاب) اليوم (من رخاء العيش) أي سعة المعيشة وكثرة النعمة (ما أصبت) أي ببركة دعوة صاحب النبوة وأثر كثرة الملازمة والخدمة هذا واستدل بعضهم بدعائهم عليه السلام لأنس على تفضيل الغنى على الفقر وأجيب بأنه مختص بدعاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأنه قد بارك فيه ومتى بورك فيه لم يكن فيه فتنة فلم يحصل بسببه مضرة (ولقد دفنت بيديّ) بتشديد الياء (هَاتَيْنِ مِائَةً مِنْ(1/660)
ولدي لا أقول سقطا) بكسر السين ويجوز ضمها وفتحها وهو الجنين الذي يسقط قبل تمامه (ولا ولد ولده) أي لا أحسبها في العدد قال الحلبي واعلم أن في البخاري في الصوم من رواية حميد عن أنس قال حدثتني ابنتي أمينة أنه دفن لصلبي مقدم الحجاج البصري عشرون ومائة قيل وكان مقدمه سنة خمس وسبعين وقد ولد لأنس بعد ذلك أولاد كثيرة وتوفي سنة ثلاث وتسعين ونقل عن أبي قتيبة أنه وقع على الأرض من صلب المهلب ابن أبي صفرة البصري ثلاثمائة ولد. (ومثله) وفي نسخة صحيحه ومنه أي ومن دعائه المجاب (دعاؤه لعبد الرّحمن بن عوف بالبركة) على ما رواه البيهقي (قال) أي عبد الرحمن كما في نسخة صحيحه (فَلَوْ رَفَعْتُ حَجَرًا لَرَجَوْتُ أَنْ أُصِيبَ تَحْتَهُ ذهبا وفتح الله عليه) أي فتوحات كثيرة وأموالا غزيرة (ومات فحفر الذّهب) بصيغة المجهول أي استخرج مما كان مدفونا (من تركته) بفتح فكسر أي متروكاته بعد خيراته ومبراته (بالفؤوس) بضم الفاء والهمزة وسكون الواو جمع فأس بالهمزة ويبدل كراس ورؤوس وكأس وكؤوس (حتّى مجلت) بفتح الجيم ويكسر أي تنفطت من كثرة العمل (فيه الأيدي وأخذت كلّ زوجة) أي من زوجاته (ثمانين ألفا وكنّ أربعا) فجملته ثلاثمائة وعشرون ألفا (وقيل مائة ألف) بالنصب أي أخذت كل واحدة منهن مائة ألف فجملته أربعمائة أَلْفٍ (وَقِيلَ بَلْ صُولِحَتْ إِحْدَاهُنَّ لِأَنَّهُ طَلَّقَهَا في مرضه) أي الذي مات فيه (على نيّف) بتشديد التحتية المكسورة وتسكينها أي زيادة بمعنى كسر (وثمانين ألفا وأوصى بخمسين ألفا) أي ألف دينار في سبيل الله كما صرح به عروة بن الزبير وكذا أوصى بألف فرس في سبيل الله كما ذكر الحجازي وغيره (بعد صدقاته الفاشية) أي الكثيرة الشائعة (في حياته وعوارفه العظيمة) أي معروفاته الجزيلة قبل مماته (أَعْتَقَ يَوْمًا ثَلَاثِينَ عَبْدًا وَتَصَدَّقَ مَرَّةً بِعِيرٍ) بكسر العين أي بقافلة (فيها سبعمائة بعير وردت عليه) أي جاءت من سفر تجارة (تحمل من كلّ شيء) أي من أجناس الأموال وأنواعها (فتصدّق بها) أي بالأبعرة السبعمائة (وبما عليها) أي من أنواع البضائع المختلفة (وبأقتابها) جمع قتب بالتحريك وهو للبعير كالأكاف لغيره (وأحلاسها) جمع حلس بالكسر وهو كساء يلي ظهر البعير تحت القتب وفي ذكرهما مبالغة في الاستيفاء وتأكيد للاستقصاء هذا وقد قال الحلبي الذي استحضره من صدقات عبد الرحمن بن عوف أنه تصدق بشطر ماله أربعة آلاف ثم بأربعين ألفا ثم بأربعين ألف دينار ثم تصدق بخمسمائة فرس في سبيل الله ثم بخمسمائة راحلة وفي الترمذي أنه أوصى لأمهات المؤمنين بحديقة بيعت بأربعمائة ألف قال الترمذي حديث حسن وقال الزهري أوصى لمن بقي من أهل بدر لكل رجل بأربعمائة دينار وكانوا مائة فأخذوها وأخذ عثمان فيمن أخذ وأوصى بألف فرس في سبيل الله انتهى وروي أنه رضي الله تعالى عنه لما حث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الصدقة جاءه بأربعة آلاف درهم وقال يا رسول الله كان لي ثمانية آلاف درهم فأقرضت ربي أربعة وأمسكت لعيالي أربعة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك الله في ماله (ودعا لمعاوية) أي ابن(1/661)
أبي سفيان رضي الله عنهما (بالتّمكين في البلاد فنال الخلافة) أي أصابها في الجملة أو على وفق ما أراد إذ الصحيح أنه لا يسمى خليفة على خلاف بعد نزول الحسن والمعتمد أن الخلافة تمت بخلافة الحسن بعد أبيه بستة أشهر لقوله عليه الصلاة والسلام الخلافة بعدي في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك رواه أحمد والترمذي بسند صحيح وكذا ابن حبان عن سفينة ثم رأيت أنه قيل صوابه الإمارة وقد روى ابن سعد دعاءه عليه الصلاة والسلام اللهم علمه الكتاب ومكنه في البلاد وقه العذاب وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال لن يغلب معاوية وقد بلغ عليا هذه الرواية فقال لو علمت لما حاربته، (ولسعد بن أبي وقّاص) أي دعا له (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُجِيبَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ فما دعا) أي سعد (على أحد إلّا استجيب له) رواه الترمذي موصولا ورواه البيهقي عن قيس بن أبي حازم مرسلا بلفظ اللهم استجب له إذا دعا وحسنه قد استجيب له دعوات مروية في الصحيح وغيره منها أن رجلا نال من علي كرم الله وجهه بحضرته فقال اللهم إن كان كاذبا فأرني فيه آية فجاء جمل فتخبطه حتى قتله ومنها ما رواه البخاري أنه دعا على أبي سعدة اللهم أطل عمره وأطل فقره وعرضه للفتن قال الراوي فلقد رأيته شيخا كبيرا سقط حاجباه على عينيه يتعرض للجواري يغمزهن فيقال له فيقول شيخ مفتون اصابته دعوة سعد؛ (ودعا) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (بِعِزِّ الْإِسْلَامِ بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ بأبي جهل فاستجيب له في عمر) رواه الإمام أحمد والترمذي في جامعه وغيرهما عن ابن عمر به مرفوعا ولفظه اللهم أيد الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب وصححه ابن حبان والحاكم في مستدركه عن ابن عباس اللهم أيد الدين بعمر بن الخطاب وفي لفظ أعز الإسلام بعمر وقال إنه صحيح الإسناد وفيه عن عائشة اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة وقال ينه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأما ما يدور على الألسنة من قولهم اللهم أيد الإسلام بأحد العمرين فلا يعلم له أصل في المبنى وإن كان يصح نقله بالمعنى بناء على تغليب عمر على عمرو بن هشام وهو اسم أبي جهل وكان يكنى أولا أبا الحكم فكناه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أبا جهل فغلبت عليه هذه الكنية، (وعن ابن مسعود) وفي نسخة وقال ابن مسعود (ما زلنا أعزّة) جمع عزيز أي أقوياء وعظماء أو ظاهرين قاهرين (منذ أسلم عمر) قلت وفي الآية إشارة إلى هذه العزة حيث نزل عند إيمانه قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فإنه رضي الله تعالى عنه كان تمام الأربعين؛ (وأصاب النّاس في بعض مغازيه) أي مسير غزواته صلى الله تعالى عليه وسلم (عطش) أي شديد (فسأله عمر الدّعاء) أي الاستسقاء (فدعا فجاءت سحابة فسقتهم حاجتهم) بالنصب أي قدر كفايتهم (ثمّ أقلعت) بفتح الهمزة واللام أي أقشعت السحابة وانجلت (ودعا في الاستسقاء) أي يوم جمعة على المنبر في المدينة كما رواه الشيخان عن أنس (فسقوا) بصيغة المفعول (ثمّ شكوا إليه المطر) أي كثرته حيث خيف ضرره في الجمعة الثانية وهو على منبره (فدعا) أي بكشفه (فصحوا) بفتح الصاد وضم الحاء وفتحها(1/662)
أي فانكشف ما بهم من السحابة (وقال لأبي قتادة أفلح وجهك) جملة خبرية في المبنى دعائية في المعنى أي بقي وفاز وظفر (اللهمّ بارك له) أي لأبي قتادة (في شعره) بفتح العين ويسكن (وبشره) بفتحتين أي ظاهر جلده حتى يستمر أحسنين (فمات) أي أبو قتادة (وهو ابن سبعين سنة) جملة حالية وكذا قوله (وكأنّه ابن خمس عشرة سنة) بسكون الشين المعجمة وتكسر رواه البيهقي، (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (للنّابغة) أي الجعدي واسمه قيس بن عبد الله وقيل عكسه حين أنشده قصيدته الرائية (لا يفضض الله) بضم الضاد المعجمة الأولى وكسر الثانية على أن لا ناهية وضمها على أن لا نافية وهي أبلغ أي لا يسقط وقيل لا يكسر من فض كسر وفرق وروي لا يفض الله فاك من الفضاء وهو الخلاء أي يجعل الله فاك فضاء لا اسنان فيه (فاك) أي أسنانك أو أسنان فيك باعتبار أحد المجازين كقوله تعالى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (فما سقطت له سنّ) رواه البيهقي وابن أبي أسامة وروي مثله عن عمه العباس قال يا رسول الله إني مدحتك فقال لا يفضض الله فاك فأنشد الأبيات السابقة (وفي رواية فكان) أي النابغة (أحسن النّاس ثغرا) بفتح المثلثة وسكون الغين المعجمة أي سنا وقيل هو ما تقدم من الإنسان ويؤيد الأول عموم قوله (إِذَا سَقَطَتْ لَهُ سِنٌّ نَبَتَتْ لَهُ أُخْرَى وعاش عشرين ومائة) هو لغة في مائة وعشرين (وقيل أكثر من هذا) فقيل عاش مائة وثمانين سنة وقيل مائتين وأربعين سنة وكان في الجاهلية يصوم ويستغفر وبقي إلى أيام ابن الزبير وأخرج له بقي مخلد حديثا واحدا وفي الشعراء جماعة غيره يقال لكل منهم النابغة وإذا أطلق فهو المراد واختلف في سبب الدعاء له فقيل قوله:
بلغنا السماء مجدنا وسناءنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال إلى أين يا أبا ليلى قال فقلت إلى الجنة فقال نعم إن شاء الله وقال الحديث وقيل قوله:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... تأن إذا ما أورد الأمر أصدرا
وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أجدت فلا سقط له سن، (ودعا لابن عبّاس) كما رواه الشيخان (اللهمّ فقّهه في الدّين) أي علمه ما يحتاج إليه في أمر الدين من الأمور الواضحة للمجتهدين (وعلّمه التّأويل) أي تأويل الكتاب والسنة من آل يؤول إلى كذا إذا رجع إليه وأريد به صرف اللفظ عن ظاهره لدليل لولاه ما صرف عن حاله (فسمّي) أي ابن عباس (بعد) بضم الدال أي بعد دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم له (الحبر) بفتح الحاء وتكسر أي حبر الأمة وهو عالمها سمي به وهو المداد لمزاولته له غالبا في أداء المراد وفي نسخة البحر بدل الحبر أي بحر العلم، (وترجمان القرآن) بفتح التاء وضم الجيم وضمهما وحكي فتحهما أي مفسره ومعبره والترجمان في الأصل من يترجم الكلام أي ينقله من لغة(1/663)
إلى لغة أخرى وفي القاموس الترجمان كعنفوان وزعفران وريهقان المفسر للسان. (ودعا لعبد الله بن جعفر) أي ابن أبي طالب (بالبركة في صفقة يمينه) أي تبايعه وسمى صفته لوضع كل من البائعين يده في يد الآخر عرفا وعادة (فما اشترى شيئا إلّا ربح فيه) رواه البيهقي عن عمرو بن حريث؛ (ودعا للمقداد) أي ابن الأسود (بالبركة فكان له) وفي نسخة صحيحة عنده (غرائر) بفتح الغين جمع غرارة بالكسر وهي جوالق (من المال) رواه البيهقي في الدلائل عن بضاعة بنت الزبير (ودعا بمثله) أي بمثل ما دعا للمقداد من البركة (لعروة بن أبي الجعد) قال ابن المديني أخطأ من قال فيه عروة بن الجعد وإنما هو ابن أبي الجعد انتهى وهو صحابي مشهور وحديثه هذا رواه البخاري (وقال) أي عروة كما رواه أحمد (فلقد كنت أقوم) أي أقف كما في نسخة (بالكناسة) بضم الكاف موضع أو سوق بالكوفة وكانوا يرمون فيه كناسات دورهم (فما أرجع) أي عنها (حتّى أربح) بفتح الموحدة أي استفيد (أربعين ألفا) يحتمل الدينار والدرهم، (وقال البخاريّ في حديثه. فكان) أي عروة (لو اشترى التّراب) أي مثلا (ربح فيه، وروي مثل هذا) أي الدعاء بالبركة (لغرقدة) بغين معجمة فراء ساكنة (أيضا) قال الدلجي لا أدري من رواه (وندّت) بنون وتشديد أي نفرت وذهبت على وجهها شاردة (له) أي لغرقد (ناقة فدعا) أي النبي عليه الصلاة والسلام على ما هو ظاهر الكلام (فجاءه بها) وفي نسخة صحيحة فجاءه بها (إعصار ريح) بالإضافة والإعصار بالكسر ريح عاصف يستدير في الأرض ثم يسطع إلى السماء مستديرا كالعمود (حتّى ردّها) أي الأعصار الناقة (عليه) أي على غرقد، (ودعا لأمّ أبي هريرة) أي بالهداية كما رواه مسلم وغيره (فأسلمت) فعن أبي هريرة قال دعوت أمي يوما إلى الإسلام وهي مشركة فأسمعتني فى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما أكره فأتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا أبكي فقلت يا رسول الله ادع الله يهدي أم أبي هريرة فقال اللهم اهد ام أبي هريرة فخرجت مستبشرا بدعوته عليه السلام فلما صرت إلى الباب فإذا هو مجاف فسعمت أمي خشف قدمي فقلت مكانك يا أبا هريرة وسمعت خضخضة الماء ولبست درعها وعجلت عن خمارها ففتحت الباب ثم قالت أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فرجعت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا أبكي من الفرح فحمد الله وقال خيرا، (ودعا لعليّ أن يكفى) بصيغة المفعول أي يحفظ (الحرّ والقرّ) بضم القاف وفتحها وتكسر البرد أو شديده أي شرهما، (فكان) أي علي (يَلْبَسُ فِي الشِّتَاءِ ثِيَابَ الصَّيْفِ، وَفِي الصَّيْفِ، ثياب الشّتاء، ولا يصيبه) ويروى ولا يسيئه ويروى ولا يسوؤه (حرّ ولا برد) أي مع اختلاف الأحوال والحديث رواه ابن ماجة والبيهقي، (ودعا الله لفاطمة ابنته أن لا يجيعها) أي جوعا شديدا (قالت فما جعت. بعد) أي بعد ذلك الدعاء ابدا رواه البيهقي عن عمران بن حصين، (وسأله) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما في نسخة (الطّفيل) بالتصغير أي ابن عمرو كما في نسخة وهو ابن طريف الأزدي الدوسي قتل يوم اليمامة وكان شريفا مطاعا في قومه روى أبو الزناد عن الأعرج عن(1/664)
أبي هريرة أنه قال لما قال الطفيل بن عمرو للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن دوسا قد غلب عليهم الزنا والربا فادع الله عليهم قلنا هلكت دوس حتى قال عليه السلام اللهم أهد دوسا (آية) أي علامة تكون كرامة (لقومه) أي عندهم (فقال اللهمّ نوّر له فسطع) أي ظهر ولمع (له نور بين عينيه فقال يا ربّ أخاف أن يقولوا مثلة) بضم الميم ويفتح ويكسر وسكون المثلثة أي تنكيل وعقوبة وهي مرفوعة وقيل منصوبة (فتحوّل) أي فاستجيب دعاؤه وانتقل ذلك النور (إِلَى طَرَفِ سَوْطِهِ فَكَانَ يُضِيءُ فِي اللَّيْلَةِ المظلمة) وروي الظلماء (فسمّي ذا النّور) كالحسنين ابني علي وأسيد بن حضير وعباد بن بشر وحمزة بن عمرو الأسلمي وقتادة بن النعمان كل سمي بذلك وأما ذو النورين فهو لقب عثمان لأنه تزوج بنتين لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والحديث هذا وراه ابن إسحاق بلا سند والبيهقي عنه وابن جرير من طريق الكلبي. (ودعا على مضر) على وزن عمر وهم قبيلة (فأقحطوا) بصيغة المجهول أي فدخلوا في القحط باحتباس المطر عنهم وانقطاع الخير منهم (حتّى استعطفته قريش) أي طلبوا منه أن يعطف عليهم ويرحمهم، (فدعا لهم) أي بالمطر (فسقوا) بصيغة المجهول أي فأعطوا مطرا فأخصبوا رواه النسائي عن ابن عباس والبيهقي عن ابن مسعود وأصله في الصحيحين، (ودعا على كسرى) بكسر الكاف وتفتح لقب لكل ملك الفرس وهو هنا أبرويز بن هرمز قال الطبري وتفسيره المظفر بن هرمز بن أنوشروان وتفسيره بالعربية مجدد الملك (حين مزّق كتابه) بتشديد الزاء أي شقق مكتوبه عليه السلام (أن يمزّق الله ملكه) أي بتمزيق الله ملكه فمزقه كل ممزق، (فلم تبق له باقية) أي نفس باقية أو أثر وبقية قال السهيلي ولما دعا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عليه وقع أمره في الانحطاط إلى أن قتله ابن له يقال له شيرويه ومات ابنه الذي قتله بعد أبيه بزمن يسير وسببه أن أبرويز قيل له أن ابنك شيرويه يريد قتلك قال إذا قتلني فأنا أقتله ففتح خزانة الأدوية وكتب على حقة السم الدواء النافع للجامع وكان ابنه مولعا بالجماع فلما قتل أباه وفتح الخزانة ورأى تلك الحقة تناول منها فمات من ذلك ومات سائر أولاده وأكثر أقاربه بعد دعائه عليه الصلاة والسلام لستة أشهر ومالت عنهم الدولة حتى انقرضوا عن آخرهم في خلافة عثمان، (ولا بقيت لفارس) بكسر الراء مصروفا وممنوعا أي لأهل فارس (رياسة في أقطار الدّنيا) أي نواحيها رواه البخاري من طريق ابن عباس (ودعا على صبيّ قطع عليه) أي بمروره بين يديه (الصّلاة) أي صلاته كما في نسخة (أن يقطع الله أثره) ومن جملته مشي قدميه كما قال وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ، (فأقعد) بصيغة المجهول أي صار مقعدا لا يستطيع النهوض وفي رواية قطع صلاتنا قطع الله أثره وفي أصل الدلجي دابره بدل أثره فتكلف في وجهه بأن الدابر في الأصل الآخر ومنه قوله تعالى فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي آخرهم فلم يبق أحد منهم ثم استعير للزمانة كما هنا بسلب قوة مشيه هذا والحديث رواه أبو داود والبيهقي ورواه ابن حبان عن سعيد بن عبد العزيز عن يزيد بن مهران يقول مررت بين يدي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يصلي فقال اللهم(1/665)
اقطع أثره فما مشيت وقد ضعف عبد الحق وابن القطان إسناده وكذا ابن القيم وقال الذهبي أظن أنه موضوع ثم على تقدير ثبوته فيه إشكال وهو أنه عليه الصلاة والسلام كيف يدعو على الصبي وهو غير مكلف بالأحكام مع أن القاضي جزم بذلك في مقام المرام وجوابه نقل عن البيهقي في المعرفة أن الأحكام إنما صارت متعلقة بالبلوغ بعد الهجرة قال الحلبي وفي كلام السبكي أنها إنما سارت متعلقة بالبلوغ بعد أحد ثم قال الحلبي أو يقال إن هذا من باب خطاب الوضع لأنه اتلاف لا يشترط فيه التكليف انتهى وتبعه الأنطاكي وقرره التلمساني وفيه أن الصلاة صحيحة بالإجماع فليس من الاتلاف بلا نزاع نعم اتلاف لكمال الحال في حضور البال وهو غير مقتض لهذا النكال ولذا قال الدلجي وأجيب هنا بما لا يشفى ثم أقول ولعل الصبي كان من أولاد الكفار وقد أمره أهله بأن يقطع الصلاة على سيد الابرار فأراهم صلى الله تعالى عليه وسلم معجزة إظهارا للمعزة ودفعا للمذلة أو كان الصبي مراهقا فظنه عليه الصلاة والسلام بالغا وفي قطعه قاصدا فتبين أنه كان صبيا قاصرا أو يكون من باب قضية الخضر مع الصغير مكاشفا، (وقال لرجل) هو بسر بضم الموحدة وسكون المهملة ابن راعي العير الأشجعي قيل كان منافقا (رآه يأكل بشماله) فقال له (كل بيمينك، فقال لا أستطيع) أي أن آكل بيميني لعذر بي، (فقال لا استطعت) أن تأكل بيمينك دعاء عليه لكونه كاذبا فيما ادعاه (فلم يرفعها) أي يمينه بعد ذلك (إليّ فيه) أي فمه لا عند أكله ولا في حال غيره والحديث رواه مسلم عن سلمة بن الأكوع واستدل به على وجوب الأكل باليمين ولا دلالة فيه عند المحققين، (وقال لعتبة) بضم أوله وفي نسخة بالتصغير (ابن أبي لهب) أي ابن عبد المطلب ابن هاشم (اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ فَأَكَلَهُ الأسد) أي ليلا وهو مسافر وقد جعله أصحابه بينهم محيطين فتخطاهم نائمين فافترسه رواه ابن إسحاق عن عروة بن الزبير عن هبار ابن الأسود والحاكم من حديث أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه والبيهقي من طرق عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهم قال الحلبي واعلم أن عتبة اسلم يوم الفتح وكذا أخوه معتب ولم يهاجرا من مكة وهذا هو المشهور وبعضهم جعل هذا عقير الأسد وجعل عتيبة المصغر هو الذي أسلم وصحب والمشهور أن المصغر عقير الأسد والمكبر هو الصحابي والله تعالى أعلم وسبب دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم ما روى عروة بن الزبير أن عتيبة بن أبي لهب وكان تحته بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أراد الخروج إلى الشام فقال لآتين محمدا فلأوذينه فأتاه فقال يا محمد هو كافر بالنجم إذا هوى وبالذي دنى فتدلى ثم تفل في وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورد عليه ابنته وطلقها فقال عليه الصلاة والسلام اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فرجع عتيبة إلى أبيه فأخبره ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم إن هذه أرض مسبعة فقال أبو لهب لأصحابه أغيثونا يا معشر قريش فإني أخاف على ابني دعوة محمد فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم وأحدقوا بعتيبة فجاء الأسد يتشمم وجوههم حتى ضرب عتيبة فقتله هذا(1/666)
نسخة زيد هنا وقال لامرأة أكلك الأسد فأكلها قيل هذا بخطه ليس من الرواية، (وحديثه المشهور) أي كما رواه الشيخان (من رواية عبد الله بن مسعود فِي دُعَائِهِ عَلَى قُرَيْشٍ حِينَ وَضَعُوا السَّلَا) بفتح المهملة مقصورا هو للبهيمة كالمشيمة لبني آدم وهي جلد رقيق يخرج مع الولد من بطن أمه ملفوفا فيه قال الشمني أن شقت عن وجه الفصيل ساعة ينتج والإقتلته وكذا إذا انقطع السلا في البطن فإذا خرج السلا سلمت الناقة وسلم الولد وإن انقطع في بطنها هلكت وهلك الولد وقيل يخرج بعد الولد (عَلَى رَقَبَتِهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ مَعَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ وسمّاهم) أي قريشا مجملا ومفصلا حيث قال اللهم عليك الملأ من قريش اللهم عليك بأبي جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمثالهم، (فقال) وفي نسخة وقال أي ابن مسعود (فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر) أي معظمهم فإن اشقاهم عقبة بن أبي معيط الذي وضع على رقبته الشريفة السلا حمل من بدر أسيرا فقتله علي بعرق الظبية بأمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مقفلهم من بدر إلى المدينة ولعل الحكمة في تأخير الأشقى ليشاهد العقوبة في أصحابه في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأبقى قال الحلبي وعمار بن الوليد لم يقتل ببدر أيضا وإنما جرى له قصة مع النجاشي مشهورة وقد سحر فصار متوحشا وهلك على كفره بأرض الحبشة في زمن عمر رضي الله تعالى عنه، (ودعا على الحكم بن أبي العاص) أي ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وهو أبو مروان عم عثمان أسلم يوم الفتح وتوفي في خلافة عثمان (وكان يختلج بوجهه ويغمز) بكسر الميم (عند النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي يجلس خلفه صلى الله تعالى عليه وسلم فإذا تكلم يحرك شفتيه وذقنه حكاية لفعله ويرمز مشيرا بعينه أو حاجبه (أي لا) أي أراد به ردا لكلامه استهزاء وسخرية، (فرآه) أي النبي عليه الصلاة والسلام مرة وهو يختلج (فقال كذلك) وفي نسخة صحيحة كذلك كن (كن فلم يزل يختلج) أي يرتعد ويضطرب (إلى أن مات) رواه البيهقي من طرق عن عبد الرحمن بن أبي بكر وعن ابن عمر وعن هند ابن خديجة وفي رواية فضربه فصرع شهرين ثم أفاق مختلجا قد أخذ لحمه وقوته وقيل مرتعشا وقال التلمساني قوله يغمز إما يعيب لأنه كان يخبر المنافقين بسر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو لأنه كان يحكي فعله صلى الله تعالى عليه وسلم في مشيه وأمره ونحوه أولا بالفتح وتشديد الواو خلاف الأخير وروي أي لا بأي التفسيرية ولا النافية فعلى الأول معناه كان يختلج أولا قبل الدعوة ثم اختلج ثانيا بها ومعناه أنه كان صحيحا ثم هلك بالدعوة فهو مفعول أي يختلج أولا أي قبل الدعوة ويجوز أن يريد بالأول زمن الصحة وبالثاني زمن السقم فيكون خبرا لكان أو مفعول أي يختلج أولا يشير إلى ما كان عليه من الاستهزاء فمنى باولا عنه لأن فعله إنما كان عن جهالة ولا يخرجه ذلك عن عداد الصحابة فقد ذكر فيهم وعلى الثاني تفسير لفعله وحذف ما بعدها تشنيعا لذكره لأن ذكر مثل هذا لا يليق لأن فيه تنقيص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومعناه لا يكون كذلك الأولى أو الأحق ما شاكل هذا بموطن أو موطنين في غيبته أو حضوره والله تعالى أعلم (ودعا على(1/667)
محلّم) بكسر اللام المشددة (ابن جثّامة) بفتح الجيم وتشديد المثلثة (فمات) في حمص أيام ابن الزبير على ما قاله السهيلي (لسبع) أي بعد سبعة أيام (فلفظته الأرض) بفتح الفاء وإعجام الظاء أي قذفته الأرض ورمته على ظهرها بعد دفنه في بطنها وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ما لفظته الأرض أن لتقبل من هو شر منه ولكن أراد الله أن الأرض يجعله لكم عبرة فألقوه بين صوحي جبل فأكلته السباع والصوح هو الشق (ثمّ ووري) بضم أوله مجهول وارى أي ستر تحت الأرض (فلفظته مرّات) ظرف للفعلين (فألقوه) بفتح القاف أي رموه (بين صدّين) بفتح الصاد ويضم جبلين أو واديين (ورضموا عليه) بفتح الراء والضد المعجمة أي كوموا عليه (بالحجارة) رواه البيهقي عن قبيصة بن ذؤيب وابن جرير موصولا عن ابن عمر وقال الحسن بلغني أنه دعا الحديث وسبب دعائه على محلم أنه كان بعث سرية للغزو فيها محلم فأمر عليهم عامر بن الأضبط فلما بلغوا بطن واد قتل محلم عامرا غدرا فجرى ما جرى (وجحده رجل) أي من الصحابة على ما ذكره الدلجي ولعله كان منافقا (ببيع فرس) أي أنكره. (وهي) القصة (التي شهد فيها خزيمة) بالتصغير (للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بأنه اشتراه منه مع أنه لم يره وجعل صلى الله تعالى عليه وسلم شهادته وحدها مقبولة عن اثنين (فردّ الفرس بعد) بالضم أي بعد جحده وشهادة خزيمة له (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم على الرّجل) والمعنى فرد على الرجل فرسه (وَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَاذِبًا فَلَا تُبَارِكْ له فيها) أي فرسه (فأصبحت شاصية برجلها) أي رافعة بسبب نفخها من شصا بصره أي شخص (وَهَذَا الْبَابُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحَاطَ بِهِ) أي يجمع فصوله من فروعه وأصوله.
فصل [في كراماته صلى الله عليه وسلم]
(في كراماته وبركاته وانقلاب الأعيان) أي بتحولها وتغيرها عن حالتها الأولى (لَهُ فِيمَا لَمَسَهُ أَوْ بَاشَرَهُ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) والكرامة اسم من الاكرام (أنا) أي أخبرنا كما في نسخة (أحمد بن محمد) أي ابن غلبون الخولاني (ثنا) أي حَدَّثَنَا (أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ إِجَازَةً وَحَدَّثَنَا الْقَاضِي أبو عليّ سماعا) تقدم أنه الحافظ ابن سكرة (والقاضي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وغيرهما) أي وغير القاضيين أيضا (قالوا) أي جميعهم (حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الْقَاضِي حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ الهرويّ) سبق (حدّثنا أبو محمد) وهو السرخسي (وأبو إسحاق) وهو المستملي (وأبو الهيثم) وهو الكشميهني (قالوا) أي الثلاثة (حدّثنا الفربريّ) بكسر ففتح على الأشهر (حدّثنا البخاريّ) أي صاحب الجامع الصحيح (حدّثنا يزيد بن زريع) بالتصغير وهو أبو معاوية البصري الحافظ فقال الحلبي وقد سقط واحد بين البخاري وبين يزيد بن زريع فإن يزيد بن زريع ليس شيخا للبخاري وإنما هو شيوخه والساقط هو عبد الأعلى بن حماد وقد أخرج البخاري هذا الحديث الذي ذكره القاضي في كتاب الجهاد عن عبد الأعلى بن حماد عن يزيد ابن زريع بالسند الذي ساقه القاضي قال الحجازي وكذا وجدته في النسخة المعتمدة انتهى(1/668)
وعبد الأعلى هذا روى عن الحمادين ومالك وعنه الشيخان وأبو داود وأبو يعلى والبغوي (حدّثنا سعيد) أي ابن أبي عروبة (عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله عنه أنّ أهل المدينة فزعوا) بكسر الزاء أي خافوا واستغاثوا (مرّة) أي وقتا من الأوقات (فركب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي قبل الناس حين خرج من المدينة (فرسا لأبي طلحة) أي مستعارا منه (كان) أي الفرس (يقطف) بضم الطاء ويكسر أي يقارب خطوه في سرعة وزيد في أصل الدلجي به فقال أي بأبي طلحة (أو به قطوف) بضم أوله شك من رواه عن أنس ذكر الدلجي أو ممن بعده قال الجوهري القطوف من الدواب البطيء وقال أبو زيد هو الضيق المشي وقد قطفت الدابة قطفا والاسم القطاف (وقال غيره) أي غير أنس (يبطّأ) بفتح الطاء المهملة المشددة فهمزة أي لضيق الخطى وهو من البطئ وعند الطبري ثبطا أي ثقيلا وقال أبو عبيد في قوله تعالى فَثَبَّطَهُمْ أي عوقهم (فلمّا رجع) أي من الفزع إلى المدينة ولم ير بأسا (قال) أي لأبي طلحة (وجدنا فرسك بحرا) أي واسع الجري سريع العدو (فكان) أي ذلك الفرس (بعد) أي بعد ركوبه أو قوله هذا (لا يجارى) بضم الياء وفتح الراء من الجري بالجيم أي لا يسابق ولا يباري والمعنى لا سبقه غيره حينئذ (ونخس جمل جابر) بالنون والخاء المعجمة المفتوحتين أي طعنه عند دبره أو جنبه بمحجن أو نحوه (وكان) أي الجمل (قد أعيي) أي عجز عن المشي وتعب عن السير (فنشط) بكسر الشين المعجمة وفي مضارعه بفتحها أي خف وأسرع وفي النهاية كثيرا ما يجيء في الرواية انشط وليس بصحيح (حتّى كان) أي انتهى نشاطه إلى أن صار جابر (ما يملك) ويروى لا يملك (زمامه) رواه الشيخان. (وصنع مثل ذلك بفرس لجعيل) بضم الجيم وفتح العين المهملة فتحتية ساكنة (الأشجعي خفقها) أي ضربها (بمخفقة) بكسر الميم وفتح الفاء أي بدرة (معه وبرك عليها) بتشديد الراء أي دعا بالبركة لها (فلم يملك) أي جعيل بعد ذلك (رأسها نشاطا) بفتح النون أي من أجل إسراعها (وباع من نسلها) وفي نسخة من بطنها (باثني عشر ألفا) وهذا من أثر دعائه بالبركة لها وما قبله من أثر ضربه وتوجهه إليها فهما نشر ولف مرتب لما قبلهما رواه البيهقي (وركب حمارا قطوفا) بفتح القاف (لسعد بن عبادة فردّه) أي من محله الذي انتهى إليه أو من وصفه الذي كان عليه (هملاجا) بكسر فسكون ثم جيم أي سريع الهرولة فارسي معرب ويسمى الآن رهوانا (لا يساير) بصيغة المفعول أي لا تسايره دابة إلا سبقها رواه ابن سعد من حديث إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ (وكانت شعرات من شعره) بفتح العين ويسكن أي من شعراته كما في نسخة صلى الله تعالى عليه وسلم (في قلنسوة خالد بن الوليد) بفتح القاف واللام وضم السين ما يوضع على الرأس مثل الكوفية (فلم يشهد بها) أي فلم يحضر خالد بتلك القلنسوة (قتالا إلا رزق النّصر) بصيغة المفعول ونصب النصر أي أعطي الفتح والظفر رواه البيهقي (وفي الصّحيح) أي من رواية مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجة (عن أسماء بنت أبي بكر) أي الصديق رضي الله تعالى عنهما (أنّها أخرجت جنّة طيالسة) بالإضافة كما(1/669)
في شرح مسلم للنووي وفي نسخة بالوصف جمع طيلسان بفتح اللام ويثلث فارسي معرب وفي نسخة طيالسة بزيادة تحتية وفسرت بالخلق وهو أما من أصلها وأما لما طرأ عليها لأن هذه الجبة صارت بيد اسماء بعد موت أختها عائشة وهي ماتت بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بنحو خمس وأربعين سنة وفسرت بالأكسية وبالخضراء ثم طيالسة بالتنوين لأنها في زنة رفاهية وثمانية (وقالت) أي اسماء (أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يلبسها) بفتح الموحدة (فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها) جملة حالية أو مستأنفة مبينة وهي بصيغة المفعول وفي نسخة بصيغة المتكلم هذا وقال المصنف (وحدّثنا القاضي أبو عليّ) وهو ابن سكرة (عن شيخه أبي القاسم بن المأمون) أخذ عن أبي محمد الباجي (قال كانت عندنا قصعة) بفتح القاف ومن لطائف كلام أرباب اللغة لا تفتح الجراب ولا تكسر القصعة (من قصاع النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) بكسر القاف جمع (فكنّا نجعل فيها الماء للمرضى يستشفون) وفي نسخة فيستشفون (بها) أي فيشفيهم الله تعالى ببركة نسبتها (فأخذ جهجاه) بالتنوين وهو بالجيمين والهاءين ابن سعد أو سعيد أو مسعود وقال الطبري المحدثون يزيدون في آخره الهاء والصواب جهجا بدون هاء في آخره (الغفاريّ) بكسر أوله حضر بيعة الرضوان وعن عطاء أنه كان يشرب حلاب سبع شياه فلما اسلم لم يتم حلاب شاة (القضيب) هو عصا النبي التي كان الخلفاء يتداولونها (من يد عثمان) أي وهو على المنبر (ليكسره على ركبتيه) أي متعمدا عليها (فصاح به النّاس) وفي نسخة فصاح الناس به (فأخذته فيها الآكلة) بفتح فكسر ويسكن فسكون وبفتحتين أي الحكمة وفي نسخة بمد فكسر (فقطعها) أي ركبته وتذكير الضمير العائد إلى الأكلة بتأويل الداء (ومات قبل الحول) رواه أبو نعيم في الدلائل وابن السكن في معرفة الصحابة وقال ابن عبد البر هو الذي تناول العصا من يد عثمان وهو يخطب وكانت عصا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتوفي بعد عثمان بسنة ذكره الحلبي ثم كسر العصا ليس صريحا في كلام القاضي وهو صريح في كلام ابن عمر ولكني رأيت في حاشية على كتاب الروض الأنف للسهيلي عن ابن دحية نقلا عن ابن العربي في كتاب العواصم أنه لا يصح كسر العصا ممن أطاع ولا ممن عصا قلت وكذا يخالف بين قوليهما حيث قال القاضي مات قبل الحول وقال ابن عبد البر توفي بعد عثمان بسنة والله سبحانه وتعالى اعلم (وسكب) أي صب (من فضل وضوئه) بفتح الواو ويضم أي وماء وضوئه (في بئر قباء) بهمز مصروف ويمنع وقد يقصر ولعلها بئر أريس (فما نزفت) أي ما فنيت ولا نقصت وفي نسخة بصيغة المجهول ففي الصحاح نزفت ماء البئر إذا نزحته ونزفت هي فيتعدى ولا يتعدى ونزفت أيضا على ما لم يسم فاعله وحكى الفراء نزفت البئر إذا ذهب ماؤها (بعد) أي بعد صبه إلى يومنا هذا رواه البيهقي عن أنس، (وَبَزَقَ فِي بِئْرٍ كَانَتْ فِي دَارِ أَنَسٍ فلم يكن) أي ماء (بالمدينة) وفي نسخة في المدينة (أعذب منها) أي أطيب وأحلى ماء من تلك البئر رواه أبو نعيم ولله در القائل من صاحب الشمائل:(1/670)
ولو تفلت في البحر والبحر مالح ... لاصبح ماء البحر من ريقها عذبا
(ومر على ماء فسأل عنه فقيل) أي له كما في نسخة (له اسمه بيسان) بكسر موحدة وتفتح فسكون تحتية (وماؤه ملح) بكسر فسكون مبالغة مالح أي أجاج (فقال بل هو نعمان) بضم أوله وفي نسخة صحيحة بفتحه واختاره التلمساني للمشاكلة ولو كسر لكان له وجه وجيه لقضية حسن المقابلة وهو مأخوذ من النعمة بكسر أولها أو فتحها (وماؤه طيّب فطاب) أي بمجرد قوله صلى الله تعالى عليه وسلم قيل بيسان موضعان أحدهما بالشام وهو المراد في حديث الدجال والآخر بالحجاز وهو الذي مر به عليه الصلاة والسلام في غزوة ذي قرد فسأل عنه فقيل له اسمه بيسان فقال هو نعمان وهو طيب فغير صلى الله تعالى عليه وسلم فغير الله وصفه ورسمه فاشتراه طلحة فتصدق به فسماه عليه الصلاة والسلام طلحة الفياض (فأتي) كذا في نسخة صحيحة والظاهر وأتى بالواو كما في بعض النسخ المصححة وهو بصيغة المفعول أي وجيء (بدلو من ماء زمزم فمجّ) بفتح الميم وتشديد الجيم أي ألقى من فيه ماء (فيه) أي في الدلو وهو مؤنث وقد يذكر على ما في القاموس (فصار أطيب من المسك) رواه ابن ماجة وروى البيهقي عن وائل الحضرمي ولم يقل من ماء زمزم (وأعطى الحسن والحسين) أي كلا منهما (لسانه فمصّاه) بتشديد الصاد (وكانا يبكيان عطشا) جملة حالية وعطشا مفعول من أجله لا تمييز كما اختاره الحلبي (فسكتا) أي بسكون عطشها رواه الطبراني عن أبي هريرة (وكان لأمّ مالك) أي الأنصارية روى عنها عطاء بن السائب بواسطة رجل أو البهزية روى عنها طاوس والظاهر أن المراد بها الأول وقال الشارح الصواب أم أنس بن مالك فسقط ذكر أنس قاله أبو علي الغساني وهي أم سليم بنت ملحان (عكّة) بضم مهملة فكان مشددة إناء من جلد يجعل فيه السمن (تهدي) بضم التاء وكسر الدال أي ترسل (فيها للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم سمنا) أي ليأتدم به (فأمرها النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أن لا تعصرها) بضم الصاد أي أمرها بترك عصرها (ثُمَّ دَفَعَهَا إِلَيْهَا فَإِذَا هِيَ مَمْلُوءَةٌ سَمْنًا فيأتيها بنوها يسألونها الأدم) بضم فسكون وبضمتين وهو كل ما يؤتدم به (وليس عندهم شيء) من الأدم أو من السمن (فتعمد إليها) بكسر الميم أي تقصد على العكة (فتجد فيها سمنا فكانت تقيم إدمها) وفي نسخة أدمهم أي تديم ذلك الأدام (حتّى عصرتها) رواه مسلم عن جابر (وكان يتفل) بضم الفاء وكسرها (في أفواه الصّبيان المراضع) بفتح الميم أي أولاد المراضع كما قاله الحلبي وهو الظاهر وقال الدلجي جمع رضيع يعني مرضع اسم مفعول (فيجزئهم) بضم الياء وكسر الزاء فهمزة ويسهل لا كما قال الدلجي بفتح التحتية أي يكفيهم (ريقه إلى اللّيل ومن ذلك) أي من قبيل كراماته (بركة يده) البيضاء أي الحاصلة (فيما لمسه) أي مسه بها مطلقا (أو غرسه) أي من شجر وغيره كما في أصل الدلجي وفي النسخ المصححة وغرسه (ولسلمان) بالواو وهو الظاهر لأنه حديث مستقل رواه البيهقي عن سلمان أنه عليه الصلاة والسلام غرس(1/671)
له (حين كاتبه مواليه) وهم يهود وأصله من فارس من قوم مجوس فخرج يطلب الدين وطريق اليقين وجعل ينتقل من دين إلى دين حتى أخذه قوم من العرب فباعوه منهم فكاتبوه (على ثلاثمائة وديّة) بتشديد التحتية صغير فسيل النخل (يغرسها لهم) بكسر الراء (كلّها) بالرفع أي جميعها (تعلق) بفتح اللام وتضم أي تمسك أو تحبل (وتطعم) بضم التاء وكسر العين أي تعطي الثمرة أو تدرك (وعلى أربعين أوقيّة) بضم الهمزة وتشديد التحتية على المشهور وبحذف الهمزة وفتح الواو في لغة وهي كانت أربعين درهما من فضة في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم فالمراد هنا وزنها لقوله (من ذهب) قال الحلبي إنما كانت سلمان مولاه ففيه مجاز ولكن جاء في بعض طرقه وهو في المسند أنه عليه الصلاة والسلام اشتراه من قوم من اليهود بكذا وكذا درهما وعلى أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل يعمل فيها سلمان حتى تدرك (فقام صلى الله تعالى عليه وسلم وغرسها له) أي لسلمان أو لمالكه (بيده إلّا واحدة) بالنصب (غرسها غيره) وهو عمر بن الخطاب على ما ذكره ابن عبد البر بسنده في الاستيعاب وهو مسند أحمد أيضا وفي طريق أخرى ذكرها البخاري في غير صحيحه أن الذي غرسها سلمان فيجمع بينهما بأن واحدة غرسها عمر وأخرى غرسها سلمان وإن يكونا غرسا واحدة فلم تطعم ويكون الراوي مرة عزا غرسها لعمر ومرة عزا غرسها لسلمان إن كان الراوي واحدا وهو بريدة كما رواه أحمد وإن كان غيره فيكون فيه مجاز كذا حققه الحلبي ويؤيد الثاني من القولين قوله (فأخذت كلّها) أي نبتت وأثمرت (إِلَّا تِلْكَ الْوَاحِدَةَ فَقَلَعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم وردّها) أي بيده الكريمة (فأخذت) عروقها ونشبت في محلها (وفي كتاب البزّار) بتشديد الزاء وفي آخره راء (فأطعم النّخل) أي جنس ما ذكر (من عامه إلّا الواحدة) أي التي غرسها غيره عليه الصلاة والسلام (فقلعها رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَرَسَهَا فَأَطْعَمَتْ مِنْ عَامِهَا وَأَعْطَاهُ) أي سلمان (مثل بيضة الدّجاجة) بفتح الدال ويثلث أي مقدارها وزنا أو حجما (من ذهب بعد أن أدارها) أي تلك القطعة التي هي كالبيضة (على لسانه) أي مبالغة للبركة في شأنه وإذا جاز حمله على حقيقته فلا معنى لقول الدلجي لعله أراد بذلك أنه برك عليها أي دعا فيها بالبركة فلم يسمعه من شاهده فظن أنه إنما أدارها عليه (فوزن) أي سلمان (مِنْهَا لِمَوَالِيهِ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً وَبَقِيَ عِنْدَهُ مِثْلُ ما أعطاهم) أي كمية وأزيد منه كيفية وكان سلمان من المعمرين عاش على الأصح مائتين وخمسين سنة وقيل ثلاثمائة وخمسين سنة وقيل اربعمائة سنة مائة في المجوسية ومائة في اليهودية ومائة في النصرانية ثم لما اسلم قال يا رب عمرني في الإسلام مائة سنة فعاش مائة في الإسلام وكان يأكل من عمل يده ويتصدق بعطائه وهو أحد الذين اشتقاقت إليهم الجنة ومناقبه كثيرة وفضائله غزيرة مات بالمدائن سنة خمسين وثلاثين وما ترك شيئا يورث عنه. (وفي حديث حنش) بمهملة فنون مفتوحتين فمعجمة (ابن عقيل) بفتح العين وكسر القاف وفي بعض النسخ المصححة بالتصغير وهو حديث طويل رواه قاسم بن ثابت في الدلائل من طريق موسى بن عقبة عن المسور بن(1/672)
مخرمة عنه وقال الشارح لم ار له أثرا في كتاب الصحابة لابن عبد البر ولا خبرا فعلى من رآه أن يرسمه هنا (سقاني رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرْبَةً مِنْ سَوِيقٍ شَرِبَ أَوَّلَهَا وشربت آخرها فما برحت) بكسر الراء أي ما زلت (أجد شبعها) بكسر ففتح (إذا جعت وريّها) بكسر راء فتشديد تحتية (إذا عطشت) بكسر الطاء (وبردها إذا ظمئت) بكسر الميم من الظمأ وهو العطش الشديد من كثرة الحر أو شدة الحرارة (وأعطى قتادة بن النّعمان) بضم النون (وَصَلَّى مَعَهُ الْعِشَاءَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ مَطِيرَةٍ) جملتان معترضتان وردتا اعتراضا بين أعطى ومفعوله الثاني كذا ذكره الدلجي والظاهر أن الجملة واحدة وأن قوله في ليلة ظرف لقوله (عرجونا) بضم العين والجيم ويكسر مع فتح الجيم وقرئ بهما وهو أصل العذق الذي يعوج ويقطع منه الشماريخ فبقي على النخل يابسا ولعله هو العذق مطلقا وقيل إذا يبس واعوج وهو الملائم لقوله تعالى حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (وَقَالَ انْطَلِقْ بِهِ فَإِنَّهُ سَيُضِيءُ لَكَ مِنْ بين يديك عشرا) أي عشرة أذرع أو نحوها والعدد إذا حذف مميزه جاز تذكيره وتأنيثه (وَمِنْ خَلْفِكَ عَشْرًا فَإِذَا دَخَلْتَ بَيْتَكَ فَسَتَرَى سوادا) أي جسما ذا سواد أو جسما وشخصا (فَاضْرِبْهُ حَتَّى يَخْرُجَ فَإِنَّهُ الشَّيْطَانُ فَانْطَلَقَ فَأَضَاءَ له العرجون) هو أصل العذق كما تقدم (حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ وَوَجَدَ السَّوَادَ فَضَرَبَهُ حَتَّى خرج) رواه أحمد عن أبي سعيد بسند صحيح وفي توثيق عرى الإيمان للبارزي فإنه قنفذ بدل فإنه شيطان ولا تنافي فلعله تمثل بصورته أسود (ومنها) أي ومن كراماته مما كان سببا لانقلاب الأعيان (دفعه) أي إعطاؤه عليه الصلاة والسلام (لعكاشة) بضم أوله وتشديد الكاف وتخفيفه (جذل حطب) بكسر جيم ويفتح وسكون ذال معجمة أي أصل شجرة وأراد به هنا عودا وقيل هو الحطبة أو الخشبة الغليظة (وقال اضرب به حين انكسر سيفه) ظرف لدفعه (يوم بدر) أي زمن وقعته (فعاد) أي فتحول (في يده سيفا) وفي نسخة فصار فيكون مجازا عنه إذا لم يكن قط سيفا فيعود (صارما) أي قاطعا (طويل القامة أبيض) أي بريق اللمعان (شديد المتن) من المثانة وهي القوة أو قوى الظهر فإن المتن هو أصل الشيء الذي به قوامه بمنزلة الظهر للأعضاء ومنه متن الحديث (فقاتل به) أي في وقعة بدر حتى انقضت (ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ يَشْهَدُ بِهِ الْمَوَاقِفَ) أي لقتال الكفرة (إلى أن استشهد) أي عكاشة (فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَكَانَ هَذَا السَّيْفُ يقال له) وفي نسخة يسمى (العون) بالمصدر للمبالغة أو بمعنى المعين أو المعان والمستعان رواه البيهقي وقال الخطابي يجب أن يعلم أن الذين لزمهم اسم الردة من العرب كانوا صنفين صنف منهم ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر وهم المعنيون بقول أبي هريرة وكفر من كفر وهم أصحاب مسيلمة ومن نحا نحوهم في إنكار نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم والصنف الآخر هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة فأقروا بالصلاة وانكروا الزكاة يعني إعطاءها لا وجوبها وهؤلاء هم أهل بغي وإنما لم يخصوا بهذه السمة لدخولهم في غمار أهل الردة بخلاف المسلمين فأضيف الاسم في الجملة إلى الردة إذ كانت أعظم الأمرين خطبا وصار مبدأ قتال أهل البغي مؤرخا(1/673)
بأيام علي رضي الله تعالى عنه إذ كانوا منفردين في عصره ولم يختلطوا بأهل شرك في دهره (ودفعه) أي ومنها دفعه عليه الصلاة والسلام (لعبد الله بن جحش) بفتح جيم فسكون مهملة (يوم أحد وقد ذهب سيفه) جملة حالية اعتراضية (عسيب نخل) أي جريدة منه مما لا خوص عليه وما نبت عليه الخوص فهو سعف والخوص الأوراق (فرجع) أي انقلب (في يده سيفا) رواه البيهقي وفي سيرة ابن سيد الناس أنه أعطى سلمة بن أسلم يوم بدر قضيبا من عراجين ابن طاب كان في يده فإذا هو سيف جيد فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيدة انتهى ونقل الواحدي بإسناده (ومنه) أي ومن هذا النوع (بركته في دور الشّياه الحوائل) بالهمز جمع الحائلة وهي الشاة العديمة اللبن (باللّبن الكثير كقصّة شاة أمّ معبد) بفتح الميم والموحدة وقصتها ما رواه ابن سعد والطبراني عن أبي معبد الخزاعي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما هاجر ومعه أبو بكر ومولاه عامر بن فهيرة وعبد الله بن الأريقط استأجره دليلا وهو على دين كفار قريش فأخذ بهم طريق الساحل فمروا بقديد على أم معبد عاتكة بنت خالد الخزاعية وكانت برزة تختبي بفناء بيتها فتطعم وتسقي من مر بها وكانوا مرملين مسنتين فطلبوا منها لبنا فلم يجدوا فرأوا عندها شاة خلفها الجهد عن الغنم فقال اتأذنين لي أن أحلبها قالت نعم فدعا بها فاعتقلها ومسح ضرعها وسمى الله فتفاجت ودرت ودعا بإناء بربض الرهط فحلب فيه ثجا وسقى القوم حتى رووا ثم شرب آخرهم ثم حلب فيه ثانيا ثم تركه عندها وارتحلوا فجاء زوجها أبو معبد يسوق أعنز عجافا يتساوكن هزالا فرأى اللبن فعجب فقال أنى لك هذا قالت مر بنا رجل مبارك الحديث (وأعنز معاوية) بفتح همزة وسكون عين وضم نون جمع قلة لعنز أي شاة انثى وفي أصل العرفي المصحح من أصل المؤلف معونة بفتح الميم وضم العين وبالنون من العون والظاهر أنه تصحيف فقد ذكر الطبري في كتاب الدلائل معاوية (ابن ثور) بفتح مثلثة وسكون واو وفد على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو شيخ كبير ومعه ابنه بشر فدعا له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومسح رأسه وأعطاه اعنزا عشرا فقال محمد بن بشر بن معاوية بن ثور في أبيه:
وأبي الذي مسح الرسول برأسه ... ودعا له بالخير والبركات
والتقدير وقصتها كما رواه ابن سعد وابن شاهين عن الجعد بن عبد الله (وشاة أنس) أي وقصتها (وغنم حليمة مرضعته وشارفها) وهي المسنة من النوق وقيل من الأبل وقيل من المعز على ما رواه أبو يعلى والطبراني وغيرهما بسند حسن (وشاة عبد الله بن مسعود) أي كما رواه البيهقي (وكانت) أي تلك الشاة (لم ينز) بفتح الياء وسكون النون وضم الزاء أي لم يثب ولم يعل (عليها فحل) أي للضراب وروي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مسح ضرع شاة حائل لا لبن لها لابن مسعود فدرت وكان ذلك سبب اسلامه (وشاة المقداد) كما في صحيح مسلم وكلها كانت مثل شاة أم معبد وقد درت ببركته صلى الله تعالى عليه وسلم هذا(1/674)
وقصة شاة المقداد مختصة ما روي عنه أنه قال أقبلت أنا وصاحبان لي وقد ذهب اسماعنا وأبصارنا من الجهد يعني الجوع فعرضنا أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلم يقبلنا أحد فأتينا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فانطلق بنا إلى أهله فإذا ثلاث أعنز فقال احتلبوا هذا اللبن بيننا فكنا نحتلب فكان يشرب كل إنسان نصيبه ونرفع للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم نصيبه فيجيء من الليل فيشربه فوقع في نفسي ذات ليلة أي نبي الله يأتي الأنصار فيتحفونه ما به حاجة إلى هذه الجرعة فشربتها ثم ندمت على ما فعلت خشية أنه إذا جاء فلم يجده يدعو علي فأهلك وجعل لا يجيء النوم وأما صاحباي فناما فجاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كعادته وكشف عن نصيبه فلم يجد شيئا فرفع رأسه إلى السماء فقلت الآن يدعو علي فقال اللهم أطعم من أطعمني واسق من سقاني قال فأخذت الشفرة وانطلقت إلى الاعنزايتها اسمن أذبحها له أذاهن حفل كلهن فعمدت إلى إناء فحلبت فيه حتى علته رغوة فجيئت به إليه فشرب ثم ناولني فلما عرفت أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قد روى وأصبت دعوته ضحكت حتى القيت على الأرض فقال أفدني سوءتك يا مقداد يعني أنك فعلت سوءة من الفعلات فما هي قال فقلت يا رسول الله كان من أمري كذا وكذا فقال صلى الله تعالى عليه وسلم ما هذا إلا رحمة من الله (ومن ذلك) أي من قبيل كراماته وزيادة بركاته كما رواه ابن سعد عن سالم بن أبي الجعد مرسلا (تزويده أصحابه سقاء) بكسر أوله أي وعاء (ماء بعد أن أوكاه) بألف بعد الكاف أي ربطه بالوكاء وهو خيط يشد به الوعاء (وَدَعَا فِيهِ فَلَمَّا حَضَرَتْهُمُ الصَّلَاةُ نَزَلُوا فَحَلُّوهُ) بضم اللام المشددة أي ففتحوا السقاء بحل الوكاء (فإذا به) أي فيه وفي نسخة فإذا هو فاجأهم ذلك الماء في السقاء (لبن طيّب وزبدة) بتاء وحدة وفي أصل الدلجي زبده بالإضافة أي زبد اللبن (في فمه) وفي نسخة في فمه أي في فم السقاء (من رواية حماد بن سلمة) متعلق بقوله تزويده قال الحلبي هو الإمام أبو سلمة أحد الأعلام قال ابن معين إذا رأيت من يقع فيه فاتهمه على الإسلام وقد تقدم عليه الكلام (ومسح على رأس عمير بن سعيد) بضم عين وفتح ميم وفي نسخة عمر بن سعد كلاهما صحابي قال الحلبي وما أعرف من جرت له القصة منهما قلت ولا يبعد ثبوت القضية عنهما ففي كل نسخة إشارة إلى أحدهما بل روى الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن محمد بن عبد الرحمن ابن سعد أنه عبادة لا عمير ولا عمر فتدبر (وبرّك) أي دعا له بالبركة (فمات وهو ابن ثمانين فما شاب) أي رأسه خصوصا أو شعره عموما والله تعالى أعلم (وروي مثل هذه القصص) أي الروايات المتضمنة للحكايات الدالة على عموم البركات من سيد السادات وسند أرباب السعادان (عن غير واحد) أي عن كثيرين من الصحابة (منهم السّائب بن يزيد) وقد سبق ذكره. (ومدلوك) وهو ابن سفيان الفزاري مولاهم اسلم مع مواليه علق البخاري حديثه وقيل هو مولى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وذكره ابن حبان في ثقاته فقال مدلوك أبو سفيان كان يسكن الشام أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأسلم فدعا له النبي صلى الله تعالى(1/675)
عليه وسلم ومسح برأسه فكان رأس أبي سفيان ما مسه من يد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أسود وسائر رأسه أبيض (وكان يوجد لعتبة بن فرقد) أي ابن يربوع السلمي له صحبة ولي الموصل لعمر وكان شريفا وشهد خيبر وابتنى بالموصل دارا ومسجدا وأما ابنه عمرو فمن الأولياء ذكره الذهبي (طيب يغلب طيب نسائه) أي رائحة وفائحة (لأنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مسح بيديه على بطنه وظهره) رواه البيهقي والطبراني (وسلت الدّم) أي مسحه وأماطه (عن وجه عائذ) بالذال المعجمة بعد الهمز (ابن عمرو) أي ابن هلال أبو هبيرة المزني بايع تحت الشجرة وكان من الصالحين (وكان) أي وقد كان (جرح يوم حنين) وفي نسخة يوم أحد (ودعا له فكانت) أي بعده كما في نسخة أي بعد سلته من موضعه (له غرّة) أي بياض في وجهه من غير سوء به (كغرّة الفرس) وفي أصل الدلجي ولا كغرة الفرس أي بل أعلى منها رواه الطبراني (وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِ قَيْسِ بْنِ زَيْدٍ الْجُذَامِيِّ) بضم الجيم له وفادة (ودعا له) أي بالبركة (فهلك) أي مات (وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ وَرَأْسُهُ أَبْيَضُ وَمَوْضِعُ كفّ النبيّ) وفي نسخة كف رسول الله (صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَرَّتْ يَدُهُ عَلَيْهِ مِنْ شعره) أي بقية شعر رأسه (أسود فكان) أي قيس بسبب تلك الغرة في جبهته (يدعى الأغرّ) أي تشبيها لما في وجهه من البياض كغرة الفرس ذكره ابن الكلبي (وروي مثل هذه الحكاية) أي من مسح الرأس وظهور أثر المسح كما رواه البيهقي (لعمرو بن ثعلبة الجهني) بضم ففتح (ومسح وجه آخر) وفي نسخة على وَجْهَ آخَرَ (فَمَا زَالَ عَلَى وَجْهِهِ نُورٌ) قال الحلبي هذا الآخر لا أعرفه وقال الدلجي لعله خزيمة بن سواد بن الحارث إذ قد روى ابن سعد عن وحرة السعدي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مسح وجهه فصارت له غرة بيضاء (ومسح وجه قتادة بن ملحان) بكسر الميم وسكون اللام قال الحلبي مسح رأسه ووجهه ولعل غالب مسحه كان على وجهه ولذا اقتصر عليه (فكان لوجهه بريق) أي لمعان عظيم (حتّى كان ينظر في وجهه) بصيغة المجهول (كما ينظر في المرآة) بكسر الميم والهمزة الممدودة رواه أحمد والبيهقي (ووضع يده على رأس حنظلة بن حذيم) بكسر حاء مهملة وسكون ذال معجمة ففتح تحتية وفي نسخة بالجيم مصغرا وهو تصحيف وضبطه التلمساني بخاء معجمة مضمومة وراء مفتوحة وبمثناة من أسفل ساكنة قال وروي مثل ما قدمنا واخترناه قال وكذا ذكره أبو عمرو وهو الذي روى حديث لا ينم بعد احتلام قال الذهبي حديثه في مسند أحمد ولأبيه صحبة وذكر في التجريد حنيفة والد حذيم لهما صحبة ولابنه حنظلة قيل ولابن ابنه أيضا لكن قال موسى بن عقبة فيما نقله عنه ابن الجوزي وغيره ما نعلم أربعة أدركوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا هؤلاء يعني أبا قحافة وابنه أبا بكر وابنه عبد الرحمن وابنه محمد ويكنى أبا عتيق قال الحلبي ومحمد أبو عتيق الصحيح أنه تابعي ولو قال موسى بن عقبة عبد الله بن الزبير وأمه أسماء وأبوها أبو بكر وأبوه أبو قحافة لكان صوابا فإن هؤلاء لا خلاف في صحبتهم (وبرّك عليه) أي دعا له بالبركة (فكان حنظلة يؤتى بالرّجل) اللام للعهد الذهني فهو(1/676)
في حكم النكرة أي برجل من الرجال (قد ورم وجهه) بكسر الراء أي تورم وانتفخ (والشّاة) أي وبالشاة (قد ورم ضرعها) بفتح أوله أي ثديها (فيوضع) وفي نسخة فيضع أي محال الورم منها (على موضع كفّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي من رأسه (فيذهب الورم) أي من وجه الرجل وضرع الشاة رواه البيهقي وغيره (ونضح) بالحاء المهملة وقيل بالمعجمة وقيل بمهملة إن اعتمد ويعجم إن لم يعتمد رش (في وجه زينب) أي ربيبته (بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ نَضْحَةً مِنْ مَاءٍ فَمَا يعرف كان) وفي نسخة فما كان يعرف (فِي وَجْهِ امْرَأَةٍ مِنَ الْجَمَالِ مَا بِهَا) أي مثل ما كان بوجهها من الكمال رواه ابن عبد البر في استيعابه وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين ابتنى بأم سلمة دخل عليها بيتها في ظلمة فوطىء على زينب فبكت فلما كان من الليلة الآخرى دخل في فاطمة فقال انظروا زيانبكم لئلا اطأ عليها أو قال أخروا حكاه السهيلي هكذا ومن قصتها أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يغتسل فدخلت عليه فنضح في وجهها بالماء فلم يزل ماء الشباب في وجهها حتى كبرت وتوفيت يوم مات معاوية (ومسح على رأس صبي به عاهة) أي آفة من قرع ونحوه (فبرأ) أي زال ما به (واستوى شعره) أي على حاله بل أحسن منه في مآله هذا الحديث لا يعرف من رواه بهذا اللفظ إلا أن أبا نعيم روى عن الأوزاعي أنه انطلق إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بابن له مجنون فمسح وجهه ودعا له فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوته له أعقل منه أي ببركة دعائه وكان القياس أن يقال ولا أحسن منه ببركته ومسح وجهه هذا وزيد في نسخة هنا وروي مثله خبر المهلب بن قبالة بفتح القاف والباء الموحدة المخففة وباللام وروي هلب بن قنافة بضم الهاء وسكون اللام وآخره موحدة وقنافة بضم القاف وفتح النون مخففة وبالفاء كذا ذكره أبو عمرو قيل وهو الصواب ولعلهما قصتان لرجلين وقال الطبري هو المهلب بن يزيد بن عدي بن قنافة الطائي وفد على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو أقرع فمسح على رأسه فنبت شعره فسمي المهلب (وعلى غير واحد) أي ومسح على كثيرين (من الصّبيان والمرضى والمجانين) عطف على الصبيان (فبرؤوا) بفتح الراء ويكسر فعوفوا من مرضهم وجنونهم (وأتاه رجل به أدرة) بضم همزة وتفتح وسكون دال وبفتحتين أي نفخة في خصيته (فأمره أن ينضحها) بفتح الياء وكسر الضاد المعجمة أي يرشها (بماء من عين) أي ماء وفي نسخة من عين غس بفتح غين معجمة وتشديد سين مهملة (مجّ) أي صب من فيه (فيها) أي في تلك العين وفي نسخة فيه أي في الماء أو في ذلك المكان (ففعل) أي النضح (فبرأ) قال الدلجي لا أعلم من رواه. (وعن طاوس) يكتب بواو ويقرأ بواوين كداود والهمزة غلط فيهما وهو ابن كيسان اليماني من ابناء الفرس وقيل اسمه ذكوان فلقب به لأنه كان طاوي القراء كما قاله ابن معين روى عن أبي هريرة وابن عباس وعائشة وخلق وعنه الزهري وسليمان التيمي وابنه عبد الله بن طاوس وجمع وهو رأس في العلم والعمل توفي بمكة سنة ست أو خمس ومائة أخرج له الأئمة الستة (لم يؤت النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ما جيء (بأحد به مسّ) أي(1/677)
جنون أو وله (فصكّ) بتشديد الكاف أي ضرب (في صدره إلّا ذهب) أي ما به من المس (والمسّ الجنون) لأنه يحصل بسببه كذا وقفه المصنف على طاوس ولم يعلم من رواه عنه من المخرجين، (ومجّ) بتشديد الجيم صب من فمه (في دلو) أي فيه ماء (من بئر) وسبق في رواية القاضي من بئر زمزم (ثمّ صبّ) بفتح الصاد ويضم أي كب الدلو يعني ماءه (فيها) في تلك البئر (ففاح) أي سطح وانتشر (منها ريح المسك) أي مثل ريحه تشبيها بليغا وإنما شبه به لأنه أعلى أنواع الرائحة وإن كان رائحة ما مجه أتم أصناف الفائحة لأن مصدرها الخاتمة والفاتحة رواه أحمد عن وائل بن حجر وفي شرح التلمساني فمج أطيب من المسك هكذا رواه وصوابه فصار أطيب أو فعاد أطيب ويجوز أن يكون معناه فصار المج أطيب من المسك، (وأخذ قبضة من تراب) بضم القاف وتفتح أي مقبوضة منه (يوم حنين) وفي نسخة يوم بدر وهو أصل التلمساني قال وروي حنين بحاء مهملة والكل صحيح والمعنى حين وقع من بعضهم الفرار ومن باقيهم القرار (وَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِ الْكُفَّارِ وَقَالَ شَاهَتِ الوجوه) أي قبحت مأخوذة من الشوهة وهو القبح وأول من تكلم به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذكره التلمساني (فانصرفوا يمسحون القذى) بقاف مفتوحة وذال معجمة وألف مقصورة جمع قذاة وهي ما يقع في العين وغيرها من تراب وتبنة ونحوها أي يميطونها ويزيلونها (عن أعينهم) رواه مسلم عن سلمة بن الأكوع، (وَشَكَا إِلَيْهِ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النّسيان) أي نسيان ما يسمعه من الحديث والقرآن (فأمره ببسط ثوبه) أي بفتحه ونشره لديه (وغرف) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (بيده فيه) أي تشبيها بمن أخذ شيئا والقاه في ثوبه (ثمّ أمره بضمّه) أي بجمع ثوبه إلى صدره (ففعل فما نسي شيئا بعد) أي من أمره في عمره رواه الشيخان، (وما يروى في هذا كثير) أي ما يروى عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في هذا المعنى وهو الدعاء لذهاب النسيان كثير طرقه ولا يبعد أن يكون المعنى وما يروى عن أبي هريرة لأجل هذا كثير مع أن زمن صحبته يسير وهو أربع سنين (وضرب صدر جرير بن عبد الله) أي البجلى (ودعا له) أي بالثبات ظاهرا وباطنا ولذا خص الضرب بصدره لأنه محل الرهبة والجزع (وكان) أي جرير (ذكر له) أو كان صلى الله تعالى عليه وسلم ذَكَرَ لَهُ (أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ) أي حال جريها (فصار من أفرس العرب) بضم الفاء أي شجعانهم وفي نسخة من أفرس العرب (وأثبتهم) أي على الخيل من ركبانهم كذا في الصحيحين، (ومسح رَأْسِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ) أي ابن أخي عمر بن الخطاب (وهو صغير) جملة حالية من عبد الرحمن لا من زيد كما توهم الدلجي (وكان دميما) بدال مهملة أي قبيحا ورميما لكونه هزيلا قصيرا والدمامة بالمهملة في الخلق بالفتح وبالمعجمة:
في الخلق بالضم وعلى هذا ينشد
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبعدا إنه لدميم(1/678)
(ودعا له بالبركة ففرع) بفاء وراء مفتوحتين فمهملة أي طال وعلا وغلب (الرّجال) وفي نسخة الناس (طولا وتماما) رواه الزبير بن بكار عن إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزبيري عن أبيه.
فصل [وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْغُيُوبِ]
(ومن ذلك) أي من قبيل هذا النوع المكنون (ما أطلع عليه) بضم همز وسكون مهملة وفي نسخة بتشديدها مضمومة أي ما الهم إليه (من الغيوب) أي الأمور المغيبة في الحال (وما يكون) أي سيكون في الاستقبال (والأحاديث في هذا الباب) أي في هذا النوع من أنواع الكتاب (بَحْرٌ لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ وَلَا يَنْزِفُ غَمْرُهُ) بصيغة المفعول فيهما ويجوز فتح الياء وكسر الزاء والغمر الماء الكثير في البحر الكبير أي لا يحاط غايته ولا تفنى نهايته (وهذه الجملة) أي الآتية وفي نسخة وَهَذِهِ الْمُعْجِزَةُ (مِنْ جُمْلَةِ مُعْجِزَاتِهِ الْمَعْلُومَةِ عَلَى القطع) أي على الوجه القطعي والطريق اليقيني (الواصل إلينا خبرها على التّواتر) أي لدينا (لكثرة رواتها) أي مع اختلاف مبانيها الدالة (واتفاق معانيها على الاطّلاع على الغيب) أي على اطلاعه صلى الله تعالى عليه وسلم على بعض المغيبات عنا. (حَدَّثَنَا الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الفهريّ) بكسر الفاء المعروف بالطرطوشي (إجازة وقرأته) وفي نسخة وقرأته (على غيره) أي رواية (قال أبو بكر) احتراز عن غيره (ثنا أبو عليّ التّستريّ) بضم التاء الأولى وفتح الثانية بينهما سين مهملة لام عجمة كما في لسان العامة وهو أحد رواة سنن أبي داود (ثنا أبو عمر الهاشميّ حدّثنا اللّؤلؤيّ) بهمزتين وقد تبدل الأولى راوي سنن أبي داود (ثنا أبو داود) وهو حافظ العصر صاحب السنن وإنما أسند المصنف هنا من حديث أبي داود عن حذيفة ورواه عنه مع رواية الشيخين لما في روايته له من طريق آخر من الزيادة كما سيأتي (ثنا عثمان بن أبي شيبة) روى عنه الشيخان وغيرهما (حدّثنا جرير) بفتح الجيم فكسر الراء روى عنه احمد وإسحاق وابن معين وجماعة وله مصنفات (عن الأعمش) وهو سليمان بن مهران (عن أبي وائل) هو شقيق بن سلمة الاسدي الكوفي مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام لكن لم ير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكان من العلماء العاملين (عن حذيفة) أي ابن اليمان (قال قام فينا) أي خطيبا أو واعظا أو معناه خطبنا (مقاما) بفتح الميم في مكان أو قياما (فما ترك) وفي نسخة ما ترك (شيئا) أي مهما (يكون) أي يحدث من القدم (في مقامه ذلك) ظرف لما ترك (إلى قيام السّاعة إلّا حدّثه) وفي نسخة حدث به أي حدث بوجوده (حفظه) ما ذكره (من حفظه) أي جميعه (ونسيه من نسيه) أي بعضه أو كله (قد علّمه) متعلق بيكون أي عرف هذا الخبر (أصحابي هؤلاء) أي من الصحابة الحاضرين أو الموجودين قال الدلجي لم أر هذه الزيادة من مختصات رواية أبي داود لأن لفظه قد علمه أصحابه صلى الله تعالى عليه وسلم (وإنّه) أي الشأن (ليكون منه) أي ليحدث ويقع مما أخبرنا به (الشّيء) أي الذي قد نسيته فأراه(1/679)
موجودا في الأعيان (فأعرفه) أي أنه مما أخبرنا به (فأذكره) أي أتذكره بعد ما نسيته (كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عنه) أي كما إذا غاب وجه الرجل عن الرجل فينساه (ثمّ إذا رآه عرفه) أي بعد نسيانه إياه قال الدلجي إلى هنا رواية الشيخين وزاد أبو داود بسند آخر من طريق قبيصة بن ذؤيب عن أبيه عن حذيفة وإن كان صنيعه يقتضي اتصاله به، (ثمّ قال) أي حذيفة كما في أكثر النسخ (ما أدري أنسي أصحابي) أي حقيقة (أم تناسوه) أي تكلفوا نسيانه لقلة اهتمامهم به لقيامهم بما هواهم منه ولما أراد الله من اختصاص كل منهم ببعض ما استفادوا عنه (وَاللَّهِ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم من قائد فتنة) أي أمير لها يقودها إلى المحاربة ويجرها إلى المخاصمة بالطرق الباطلة المحدث بدعة كعلماء المبتدعة من الخوارج والروافض والمعتزلة يحدث من زمانه صلى الله تعالى عليه وسلم (إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الدُّنْيَا يَبْلُغُ مَنْ مَعَهُ) أي مع قائد الفتنة (ثلاثمائة فصاعدا) أي فأكثر والجملة صفة قائد (إلّا قد سمّاه) أي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك القائد (لنا) أي لأجلنا (باسمه واسم أبيه وقبيلته) أي التي تؤويه (وقال أبو ذرّ) أي على ما رواه أحمد والطبراني بسند صحيح وأبو علي وابن منيع عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال (لقد تركنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي مات عنا (وَمَا يُحَرِّكُ طَائِرٌ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إِلَّا ذكرنا) بتشديد الكاف أي أفهمنا (منه) من ذلك الطائر أو تحريكه (علما) أي حكما إجماليا أو تفصيليا (وقد خرّج أهل الصّحيح) أي من التزم صحة ما رواه كالشيخين وابن حبان وابن خزيمة والحاكم في كتبهم المعروفة (والأئمة) كمالك وأحمد وبقية أصحاب الكتب الستة وغيرهم ممن لم يلتزموا في كتبهم الصحة (ما أعلم به) مفعول خرج أي ما أخبر به (أصحابه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الظُّهُورِ) أي الغلبة (على أعدائه) وفي نسخة على اعدائهم (وفتح مكّة) تخصيص بعد تعميم وهذا مما رواه الشيخان وغيرهما (وبيت المقدس) كما رواه البخاري عن عوف بن مالك (واليمن والشّام والعراق) كما في الصحيحين عن سفيان بن أبي زهير (وظهور الأمن حتّى تظعن) بسكون المعجمة وفتح المهملة أي ترحل (المرأة من الحيرة) بمهملة مكسورة مدينة بقرب الكوفة وأخرى عند نيسابور (إلى مكّة لا تخاف إلّا الله) على ما رواه البخاري عن عدي بن أبي حاتم (وأنّ المدينة) أي السكينة (ستغزى) بالغين والزاء على بناء المفعول وهو من الغزو أي ستحارب وتقاتل وفي رواية بمهملتين قال الحافظ المزي الرواية في الحديث بالعين المهملة والراء يعني من العرى أي تصير عراء والمعنى ستخرب ليس فيها أحد فقد رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بلفظ يتركون المدينة على خير ما كانت لا يغشاها إلا العوافي وهذا لم يقع بعد كما اختاره النووي وغيره وإنما يقع قرب الساعة وقال التلمساني وقع هذا في زمن يزيد بن معاوية ندب عسكرا من الشام إلى المدينة فنهبها والوقعة معروفة بالحرة وهي أرض بظاهر المدينة ذات حجرات سود وقتل فيها كثير من ابناء المهاجرين والأنصار وكانت في ذي الحجة سنة ثلاث وستين وعقيبها هلك يزيد(1/680)
(وَتُفْتَحُ خَيْبَرُ عَلَى يَدَيْ عَلِيٍّ فِي غَدِ يومه) كما رواه الشيخان عن سهل بن سعد بلفظ لأعطين الراية غدا لرجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه فدعا عليا وكان أرمد فبصق في عينيه فبرأ وفتح الله على يديه (وَمَا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِهِ مِنَ الدُّنْيَا ويؤتون من زهرتها) أي يعطون من بهجتها من كثرة المال وسعة الجاه كما رواه الشيخان من طرق (وقسمتهم) أي ومن تقسيمهم فيما بينهم (كنوز كسرى) بكسر الكاف وبفتح أي ملك فارس (وقيصر) أي وكنوزه وهو ملك الروم كما في الصحيحين من طرق عن أبي هريرة وغيره (وما يحدث بينهم) أي بين أمته (من الفين) بكسر ففتح جمع فتنة وفي نسخة الفتون بالضم مصدر فتن بمعنى الافتتان (والاختلاف والأهواء) على ما رواه الشيخان من طرق ولعل المراد بالاختلاف ظهور التنافس في الملك واختلاف أمر الأمراء وبالأهواء ظهور المعتزلة والغلاة من أهل البدعة (وسلوك سبيل من قبلهم) أي وسلوكهم على نهج من تقدمهم من الأمم فقد رواه الشيخان عن أبي سعيد بلفظ لتتبعن سنن من كان قبلكم شهرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم فسأل اليهود والنصارى قال فمن (وافتراقهم) أي اختلافهم (على ثلاث وسبعين فرقة) أي طائفة كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن أبي هريرة قيل وأصولهم ثمانية معتزلة عشرون فرقة وشيعة اثنتان وعشرون فرقة وخوارج على سبع فرق ومرجئة على خمس فرق ونجارية ثلاث فرق وجبرية محضة فرقة واحدة ومشبهة فرقة واحدة وطرقهم مختلفة (النّاجية منها) أي من تلك الفرق (واحدة) أي فرقة واحدة كما في نسخة صحيحة وهم الذين قال فيهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هم الذين على ما أنا عليه وأصحابي وهم أهل السنة والجماعة من الفقهاء كالأئمة الأربعة والمحدثين والمتكلمين من الأشاعرة والماتريدية ومن تبعهم لخلو مذاهبهم من البدعة (وأنّه) أي الشأن وفي نسخة وأنها أي القصة وفي نسخة صحيحة وأنهم (ستكون لهم) أي لأمته (أنماط) بفتح الهمزة جمع نمط وهو ضرب فراش ويغشى عليه الهودج أيضا وهذا في الصحيحين عن جابر وفي الترمذي عن علي (ويغدو) أي يصرح أو يمر (أحدهم في حلّة، ويروح) أي يمسي أو يرجع (في أخرى وتوضع بين يديه صحفة) أي إناء كالقصعة المبسوطة (وترفع) أي من بين يديه (أخرى) أي صحفة أخرى (ويسترون بيوتهم كما تستر الكعبة) وفيه إيماء إلى أن الدنيا تبسط عليهم بالسعة، (ثمّ قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مخاطبا لأصحابه الكرام (آخر الحديث) أي في آخر الكلام (وأنتم اليوم خير منهم يومئذ) قالوا والعاطفة رد لقولهم نحن يومئذ خير من اليوم ظنا منهم أنهم يصرفون الدنيا في طرق العقبى فالمعنى ليس الأمر كما تظنون بل وأنتم اليوم خير لأن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى وفيه تنبيه على أن الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر، (وأنّهم إذا مشوا المطيطاء) بضم الميم وفتح الطاءين بينهما ياء ساكنة والكلمة ممدودة وتقصر وهي مشية فيها مد اليدين والتبختر والخيلاء ومنه قوله تعالى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى وفي نسخة المطيطيا بزيادة ياء بعد طاء مكسورة أو(1/681)
مفتوحة (وخدمتهم بنات فارس والرّوم) أي بسبيهم لهن (ردّ الله بأسهم) أي شدة عداوتهم بكثرة محاربتهم (بينهم) أي لطغيانهم بكثرة المال وسعة الجاه والإقبال (وسلّط) أي الله (شرارهم على خيارهم) لأن الغالب غلبة أهل الشر في الشوكة والدولة الدنيوية والحديث رواه الترمذي عن ابن عمر كما قاله الدلجي وأما ما ذكره الحلبي من أن الحديث رواه الذهبي في ميزانه من ترجمة محمد بن خليل الحنفي الكرماني ولفظه وروي عن ابن المبارك عن ابن سوقة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر الحديث ثم قال لا يصح فلا يعارض ما تقدم فإن عدم صحته يحمل على روايته مع أنه لا يلزم من عدم الصحة نفي الثبوت بطريق الحسن وهو كاف في الحجة هذا وقد ثبت أنهم بعد أن فتحوا بلاد فارس والروم وغنموا أموالهم وسبوا ذراريهم واستخدموهم سلط الله على عثمان شرارا فقتلوه وعلى علي جماعة حتى قتله اشقاهم وهلم جرا إلى أن قتل زياد بأمر يزيد وشرار أعوانهم الحسين رضي الله عنه وأصحابه خيار زمانهم وقد سلط بنو أمية سبعين سنة على بني هاشم ففعلوا ما فعلوا (وقتالهم التّرك) كما في الصحيحين بلفظ لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا أقواما نعالهم الشعر وحتى تقاتلوا الترك صغار الأعين حمر الوجوه ذلف الأنوف كأن وجوههم المجان المطرقة والظاهر أن المراد بهم التتار ولعل القضية متأخرة أو وقعت وليس لنا بها معرفة (والخزر) أي وقتالهم الخزر بضم معجمة وسكون زاء فراء طائفة من الترك جمع أخزر والخزر بفتحتين ضيق العين وصغرها وكذا ضبط الأصل أيضا في كثير من النسخ واقتصر عليه الشمني وفي حديث حذيفة كما في بهم خنس الأنوف خزر العيون فالعطف تفسيري (والرّوم) وهم طائفة معروفة وقد سبق في الصحيح قتالهم مع قيصر فلا وجه لقول الدلجي لا أدري من روى حديث الطائفتين (وذهاب كسرى) أي ذهاب ملكه بذهابه (وفارس) أي وذهاب قومه أي من أرض العراق وغيره (حَتَّى لَا كِسْرَى وَلَا فَارِسَ بَعْدَهُ وَذَهَابِ قيصر) أي ملك الروم من الشام ونحوه (حتّى لا قيصر بعده) رواه الشيخان بدون فارس وذكر الحارث عن ابن محيريز مرفوعا فارس نطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعد هذا ابدا وقد وقع ما أخبر به من زوال ملكهما من إقليمهما فلم يبق من كسرى وقومه طارفة عين بدعوته صلى الله تعالى عليه وسلم أن يمزق كل ممزق وقيصر أعني به هرقل قد انهزم من الشام في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه إلى أقصى بلاده فافتتح المسلمون بلادهما فلله الحمد والمنة وأخذ السهيلي من هذا أن لا ولاية للروم على الشام إلى يوم القيامة انتهى وأراد بالروم كفارهم من الإفرنج والنصارى ثم قيل التقدير ولا مثل كسرى ولا مثل قيصر لأنه علم ولا تدخل عليه لا إلا إذا كان أول بالنكرة (وذكر) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (أنّ الرّوم ذات قرون) أي كلما هلك قرن خلفه قرن إلى آخر الدهر قال الفارسي معناه إن هلك منهم رئيس خلفه آخر وليسوا كالفرس لأنهم مزقوا وقد ورد في هذا المعنى حديث وكأنه تفسير لهذا قال عليه السلام فارس نطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعد ها أبدا والروم ذات قرون كلما هلك قرن(1/682)
خلف مكانه قرن أهل صخر وبحر هيهات إلى آخر الدهر انتهى (وبذهاب الأمثل فالأمثل) أي الأفضل فالأفضل (من النّاس) أي من الصحابة والتابعين واتباعهم ومن بعدهم والفاء مؤذنة بترتيب التفاضل فأثبتت الأمثلية للأول ثم للثاني وهكذا حتى تبقى حثالة لا يباليهم الله بالة (وتقارب الزّمان) كما في حديث الترمذي لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فيكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة أي العرفية والساعة الضرمة بالنار والمراد به آخر الزمان واقتراب الساعة لأن الشيء إذا قل وقصر تقارب أطرافه والظاهر أنه أريد به زمن عيسى فإنه لكثرة الخيرات تستقصر الأوقات للاستلذاذ بالمسرات أو زمن الدجال فإنه لكثرة اهتمام الناس بما يدهمهم من همومهم لا يدرون كيف تنقضي أيامهم أو أريد به تسارع الأزمنة فيتقارب زمانهم في المنحة أو المحنة أو أريد به قلة البركة في أعمالهم مع كثرة الحركة في أحوالهم، (وقبض العلم) أي بقبض العلماء لحديث أن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا كما رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة (وظهور الفتن، والهرج) بفتح الهاء فسكون الراء فجيم قيل لغة حبشية ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة يتقارب الزمان يقبض العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج قالوا وما الهرج قال القتل القتل، (وقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما في حديث الشيخين عن أم المؤمنين زينب (ويل) أي هلاط عظيم (للعرب من شرّ قد اقترب) ولعل المراد به فتنة عثمان في محنة المحاصرة وفتنة علي مع معاوية وفتنة الحسين مع يزيد وهلم جرا من المزيد ويفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، (وأنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (زويت له الأرض) أي جمعت وضمت (فأري) بصيغة المفعول وفي نسخة فرأى (مشارقها ومغاربها) ولفظ مسلم عن ثوبان أن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها أي جمعها لي وطواها بتقريب بعيدها إلى قريبها حتى اطلعت على ما فيها جميعها (وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِهِ مَا زُوِيَ لَهُ مِنْهَا) وهذه الجملة من تتمة حديث مسلم عن ثوبان ولفظه وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا والمعنى زويت لي جملة الأرض مرة واحدة وستفتحها أمتي جزءا فجزءا حتى تملك جميع أجزائها (ولذلك) أي ولأجل تقييده لها بمشارقها ومغاربها (كان أمتدّت) بتشديد الدال أي انبثت أمته وانتشرت ملته وفي نسخة وكذلك كان بكاف التشبيه والمعنى وكذا وقع ثم استأنف للبيان فقال امْتَدَّتْ (فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ مَا بَيْنَ أَرْضِ الهند) بدل أو بيان للمشارق والمغارب (أقصى المشرق) بيان الأرض الهند أو بدل منه (إلى نحر طنجة) بفتح طاء وسكون نون وفتح جيم بلدة عظيمة بساحل بحر المغرب (حيث لا عمارة) بكسر أوله (وراءه) أي فيما وراء ذلك المكان (وذلك) أي ما ملكت أمته (مَا لَمْ تَمْلُكْهُ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ وَلَمْ تمتدّ في الجنوب) بفتح الجيم أي في الجهة الغربية إذا توجهت للقبلة وهو ريح يخالف الشمال مهبه من مطلع سهيل أي إلى مطلع الثريا (ولا في الشّمال) بكسر أوله وهو(1/683)
الجهة الشرقية إذا توجهت للقبلة (مثل ذلك) أي مثل امتداد جهتي المشرق والمغرب ولعل في اتيانهما بلفظ الجمع إيماء إلى ما هنالك وكذلك إلى ظهور كثرة العلماء منهما بالنسبة إلى غيرهما وأن علماء المشرق أكثر وأظهر من علماء المغرب فتدبر (وقوله) أي كما رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص مرفوعا (لَا يَزَالُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ) أي على طريق الحق ومنهج الصدق وسبيل الطاعة من الجهاد وتعليم العلوم للعباد (حتّى تقوم السّاعة) أي إلى قرب القيامة (ذهب ابن المديني) هو الإمام أبو الحسن علي بن عبد الله المديني الحافظ يروي عن أبيه وحماد بن زيد وخلق وعنه البخاري وأبو داود والبغوي وأبو يعلى قال شيخه عبد الرحمن بن مهدي علي بن المديني اعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وخاصة بحديث ابن عيينة تلومونني على حب علي بن المديني والله لا تعلم منه أكثر مما يتعلم مني وكذا قال يحيى القطان فيه وقال البخاري ما استصغرت نفسي إلا بين يدي علي قال النسائي كأن الله خلقه لهذا الشأن توفي بسامرا هذا والمديني نسبة إلى المدينة المشرفة قاله ابن الأثير وقال إن أصل المديني منها ثم انتقل إلى البصرة وقال إن الأكثر فيمن ينسب المدينة مدني ثم قال المديني فنسبة إلى أماكن وساق سبعة وأما الجوهري فقال المدني نسبة إلى مدينة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأما المديني فنسبة إلى المدينة التي بناها المنصور هذا وهو بفتح الميم وكسر الدال وسكون الياء لا بصيغة التصغير كما توهمه بعض معاصرينا من العلماء (إلى أنّهم) أي أهل الغرب (العرب لأنّهم المختصّون بالسّقي بالغرب) بغين معجمة فسكون راء (وهي الدّلو) أي العظيمة وفي نسخة وهو الدلو، (وغيره) أي غير ابن المديني (يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْمَغْرِبِ وَقَدْ وَرَدَ المغرب) أي بدل الغرب فارتفعت الشبهة في مبناه (كذا في الحديث بمعناه) لكن فيه أنه لا يعلم من رواه نعم يروي عن مالك عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم يكون بالمغرب مدينة يقال لها فاس أقوم أهل المغرب قبلة وأكثرهم صلاة وهم على الحق مستمسكون لا يضرهم من خالفهم يدفع الله عنهم ما يكرهون إلى يوم القيامة. (وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ) كما رواه أحمد والطبراني عنه مرفوعا (لا تزال طائفة من أمّتي) أي أمة الإجابة (ظاهرين على الحقّ) أي مستعلين عليه غير مخففين لديه (قاهرين لعدوّهم) أي غالبين عليهم من قهره غلبه واللام للتقوية (حتّى يأتيهم أمر الله) أي بفنائهم أو خفائهم (وهم كذلك) أي لا بثون على ما هنالك (قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ ببيت المقدس) بفتح الميم وكسر الدال وضبطه بضم الميم وفتح الدال المشددة ولعل مثل هذا الحديث حمل ابن المديني على تأويل ما تقدم وقال غيره المراد بأهل الغرب أهل الشام لأنه غرب الحجاز بدلالة رواية وهم بالشام لكن لا منع من الجمع بأن يوجد في كل منهما جمع يقومون بأمر الحق من إظهار العلم وإفشاء شعار الدين والاجتهاد في باب الجهاد مع الكفار والملحدين ويؤيده ما رواه مسلم عن جابر بن سمرة مرفوعا لن يبرح هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة(1/684)
من المسلمين حتى تقوم الساعة. (وأخبر) أي النبي عليه الصلاة والسلام (بملك بني أمّية) فيما رواه الترمذي والحاكم عن الحسن بن علي ورواه البيهقي عن سعيد بن المسيب مرسلا وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضغيف وعن أبي هريرة وفي سنده الزنجي وهو غير معروف ذاتا وحالا والمراد ببني أمية بنو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وأول خلفائهم وأفضلهم عثمان بن عفان ثم معاوية بن أبي سفيان وهو أول الملوك بقي تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر ثم ابنه يزيد ثلاث سنين وأشهر ثم معاوية بن يزيد ومات بعد أربعين يوما ثم مروان بن الحكم ومات بعد سبعة أشهر ثم عبد الملك بن مروان ومات في شوال سنة ست وثمانين ثم بويع ابنه الوليد وكان مدته تسع سنين ثم بويع أخوه سليمان بن عبد الملك وكانت ولايته سنتين ثم بويع عمر بن عبد العزيز بن مروان وولايته سنتان ثم بويع هشام بن عبد الملك بن مروان ومات سنة خمس وعشرين ومائة ثم بويع الوليد بن يزيد بن عبد الملك فقتل سنة ست وعشرين ومائة ثم بويع يزيد بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المسمى بالناقص وكانت ولايته خمسة أشهر ثم بويع إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك فخلع نفسه ومدته سبعون يوما ثم بويع مروان بن محمد بن مروان بن الحكم سنة سبع وعشرين ومائة وقيل سنة اثنتين وثلاثين ومائة وهو آخرهم ومجموعهم أربعة عشر ما عدا عثمان رضي الله تعالى عنه (وولاية معاوية) أي ابن أبي سفيان وهو منهم لكن خص لأنه متميز عنهم بأشياء منها قوله (ووصّاه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه البيهقي عنه بلفظ ما حملني على الخلافة وإلا قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يا معاوية إن ملكت وفي رواية إذا وليت فأحسن وضعفه البيهقي ثم قال غيره إن له شواهد منها حديث سعيد بن العاص أن معاوية أخذ الإداوة فتبع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له يا معاوية إن وليت أمرا فاتق الله واعدل ومنها حديث رشد بن سعد عنه سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم يقول أبو الدرداء كلمة سمعها معاوية منه صلى الله تعالى عليه وسلم فنفعه الله بها، (واتّخاذ بني أميّة مال الله دولا) بضم ففتح جمع دولة بضم فسكون وقد يفتح أوله أي متداولة متناوبة فيها من غير استحقاق لها والحديث رواه الترمذي والحاكم عن الحسن بن علي ورواه البيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بلفظ إذا بلغ بنو أبي العاص أربعين رجلا اتخذوا دين الله دغلا وعباد الله خولا ومال الله دولا وعن أبي سعيد الخدري إذا بلغوا ثلاثين الحديث، (وخروج ولد العبّاس) أي ابن عبد المطلب وفي نسخة وخروج بني العباس أي ظهورهم في غلبة أمورهم (بالرّايات السّود) أي الأعلام الملونة بالسواد تفاؤلا بغلبتهم على العباد (وملكهم) بضم الميم أي تملكهم (أضعاف ما ملكوا) أي ملك غيرهم من ملوك البلاد فقد رواه أحمد والبيهقي بأسانيد ضعيفة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال تظهر الرايات السود لبني العباس حتى ينزلوا بالشام ويقتل الله على أيديهم كل جبار وعدو لهم في إسناده عبد القدوس وهو(1/685)
ضعيف وفي رواية تخرج الرايات السود من خراسان لا يردها شيء حتى تنصب بإيليا وهي بيت المقدس في إسناده رشد بن سعيد وهو ضعيف وأما أولاده الخلفاء وأحفادهم الأمراء فأولهم أبو العباس السفاح بويع سنة اثنتين وثلاثين ومائة ثم أبو جعفر المنصور ثم المهدي بن المنصور ثم الهادي ثم موسى بن الهادي ثم الرشيد أبو جعفر هارون بن المهدي ومات بطوس ثم الأمين محمد بن الرشيد وقتل ثم المأمون بن الرشيد ثم المعتصم بالله وهو محمد ابن هارون ثم الواثق واسمه هارون أبو جعفر ثم المتوكل أبو الفضل جعفر بن محمد المعتصم ثم المنتصر أبو جعفر محمد بن المتوكل ثم المستعين بالله أحمد بن محمد بن المعتصم وخلع نفسه ثم المعتز بالله بن المتوكل على الله ثم المهدي بالله أبو عبد الله بن الواثق ثم المعتمد أبو العباس بن المتوكل ثم المعتضد أحمد بن أحمد الواثق بن المتوكل ثم المكتفي علي بن المعتضد ثم المقتدر جعفر بن المعتضد ثم القاهر محمد بن المعتضد وخلع نفسه عام اثنين وعشرين وثلاثمائة وقد ارتكب أمورا قبيحة لم يسمع بمثلها في الإسلام قال بعضهم صليت في جامع المنصور ببغداد فإذا أنا بإنسان عليه جبة عتابية قد ذهب وجهها وبقيت بطانتها وبعض قطن فيها وهو يقول أيها الناس تصدقوا علي فإني كنت بالأمس أميرا وصرت اليوم فقيرا فسألت عنه فقيل لي إنه القاهر بالله وكانت له حربة يأخذها بيده فلا يضعها حتى يقتل إنسانا ثم الراضي محمد بن جعفر ثم المقتفي بعد أخيه وهو أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر بالله ثم الفضل وهو المطيع للدين المقتدر بالله وخلع نفسه ثم الطائع عبد الكريم بن الفضل بن المطيع القادر ثم القادر بالله ثم ولده القائم بأمر الله ثم ابنه المقتدي بأمر الله ثم ابنه المستظهر بالله ثم ابنه المسترشد بالله ثم ابنه المستكفي بالله وكان خلفاء بني العباس ثلاثين وكلهم ببغداد إلى أن استولى عليهم الزمان سنة ست وخمسين وستمائة ولله الأمر من قبل ومن بعد (وخروج المهديّ) بفتح الميم وتشديد التحتية قال الحلبي واسمه محمد بن عبد الله من ولد فاطمة من ولد الحسن كما في الأحاديث انتهى وأصل أحاديثه في أبي داود في سننه وقيل من أولاد الحسين وقيل من ذريتهما وليس المراد به أحد الأئمة الاثني عشرية كما اعتقد الشيعة وأنه مخفي في المكان وسيظهر في آخر الزمان ولا أحد المشايخ الذي انتهت إليه الطائفة المهدوية القائلة بأنه جاء ومضى وأن من لا يعتقد ذلك فهو ضال وقد أفرد شيخ مشايخنا جلال الدين السيوطي رسالة مفردة في معرفة المهدي فعليك بها وينبغي أن لا يتوهم أن المهدي هذا من بني العباس ولذا ذكر الدلجي أحاديث مما يوهم أنه هو ثم دفعه بأن المراد غيره فقال رواه أحد والبيهقي بأسانيد ليست بقوية عنه صلى الله تعالى عليه وسلم تقتتل عند كنزكم هذا ثلاثة كلهم ولد خليفة لا يصير إلى واحد منهم ثم تقبل الرايات السود من خراسان فيقتلونكم مقتلة لم تروا مثلها ثم يجيء خليفة الله المهدي فإذا كان كذلك فأتوه ولو حبوا على الثلج فإنه خليفة الله وفي إسناده مجهول وفيه أبو اسماء وهو ضعيف وفي رواية أخرى يخرج رجل من أهل بيتي عند انقطاع أمن الزمان وظهور الفتن يقال له السفاح يكون(1/686)
عطاؤه حثيا في سنده عطية العوفي وهو ضعيف قال التلمساني وعلامة وقته خسوف القمر أول ليلة من رمضان أو ثالثه أو السابع والعشرين وهي علامة لم تكن منذ خلق الله السموات والأرض (وما ينال أهل بيته) أي وما يصيبهم من المحن كقضية الحسنين وبقية أئمة أهل البيت (وتقتيلهم وتشريدهم) أي تطريدهم كما أخبر به فيما رواه الحاكم من حديث أبي سعيد أن أهل بيتي سيلقون بعدي من أمتي قتلا وتشريدا وضعفه الذهبي (وقتل عليّ) كما رواه أحمد عن عمار بن ياسر والطبراني عن علي وصهيب وجابر بن سمرة (وأنّ أشقاها) أي أشقى الطائفة أو الثلاثة حيث تيسر له ما قصده فإن من العصمة أن لا يقدر بخلاف من قصد قتل معاوية وابن العاص فكان اشقاهم بل اشقى الآخرين لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال يا علي أتدري من أشقى الأولين قال الله ورسوله أعلم قال عاقر الناقة قال أتدري من اشقى الآخرين قال الله ورسوله أعلم قال قاتلك ولما جرح هذا الشقي عليا أدخل عليه فقال أطيبوا طعامه والينوا فراشه فإن أعش فأنا ولي دمي عفوا وقصاصا وإن مت فالحقوه بي أخاصمه عند رب العالمين فلما مات علي أخرج من السجن وقطع عبد الله بن جعفر يديه ورجليه وكحل عينيه بمسمار محمي وجعل يقرأ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إلى آخر السورة وأن عينيه لتسيلان ثم أمر به فقطعوا لسانه ثم جعلوه في قوصرة وأحرقوه بالنار (الذي يخضب) بكسر الضاد أي يصبغ (هَذِهِ مِنْ هَذِهِ أَيْ لِحْيَتِهِ مِنْ رَأْسِهِ) يعني بدمها قال الأسنوي في المهمات تبعا للنووي في تهذيبه أن الأشقى هو عبد الرحمن بن ملجم بميم مضمومة فلام ساكنة فجيم مفتوحة أو مكسورة، (وأنّه) أي عليا (قسيم النّار) أي والجنة كما قيل
على حبه جنة ... قسيم النار والجنة
فهو من باب الاكتفاء ويشير إليه قوله (يدخل أولياؤه الجنّة وأعداؤه النّار) والمعنى أن الناس فريقان فريق معه وهم مهتدون وفريق عليه فهم ضالون اعداء له فيكون سببا لدخولهما الجنة والنار ويلائمه ما ضبط في نسخة يدخل بصيغة المعلوم من باب الافعال لكن الحديث لا يعرف من رواه إلا أنه قد جاء ما يقوي معناه (فكان) أي علي (فيمن) وفي نسخة ممن (عاداه الخوارج) وهم المحكمية خرجوا عليه عند التحكيم وكانوا اثني عشر ألفا أصحاب صلاة صيام قال فيهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يحقر أحدكم صلاته في جنب صلاتهم وصومه في جنب صومهم لا تجاوز قراءتهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية على ما جاء في طرق، (والنّاصبّة) بالموحدة الذين يتدينون ببغض علي رضي الله تعالى عنه وقد نصبوا له الحرب وقد روى مسلم تكون أمتي فرقتين فيخرج من بينهما مارقة يلي قتلها أولاهم بالحق وهم الذين قتلهم علي بالنهروان وكانوا أربعة آلاف ولم يقتل من المسلمين سوى تسعة (وطائفة ممّن ينسب) بالياء والتاء وروي ينتسب (إليه) أي إلى حب علي كرم الله تعالى وجهه (من الرّوافض كفّروه) أي لتركه في زعمهم الكاذب الخلافة لغيره(1/687)
وهي حقه فكان رضي بالباطل وسكت عن الحق مع قدرته عليه، (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (يقتل عثمان وهو يقرأ المصحف) بضم الميم ويكسر ويفتح ورواه الترمذي عن ابن عمر ولفظه ذكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتنته فقال يقتل هذا مظلوما لعثمان وحسنه، (وأنّ الله) بفتح الهمزة وكسرها (عسى أن يلبسه) بضم أوله (قميصا) أي خلعة الخلافة والتلبس بها، (وأنّهم) أي أهل الفتنة (يريدون خلعه) أي عزله عنها فامتنع من انخلاعها لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم كما رواه الترمذي وحسنه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال يا عثمان إنه لعل الله أن يقمصك قميصا فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم فقتلوه ظلما وعدوانا فأهدر الله بدمه سبعين الفا قتلوا بصفين وغيرها، (وأنّه) أي الشأن (سيقطر دمه) بضم الطاء وفي نسخة بصيغة المجهول أي ستقع قطرات دمه (على قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة: 137] ) كما رواه الحاكم عن ابن عباس قال الذهبي إنه موضوع لكن نقل المحب الطبري في الرياض أن أكثرهم يروي أن قطرة من دمه أو قطرات سقطت على قوله تعالى فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ في المصحف ونقل عن حذيفة قال أول الفتن قتل عثمان وآخرها خروج الدجال والذي نفسي بيده لا يموت أحد وفي قلبه مثقال حبة من حب قتله عثمان إلا تتبع الدجال إن أدركه وإن لم يدركه آمن به في قبره أخرجه السلفي الحافظ (وَأَنَّ الْفِتَنَ لَا تَظْهَرُ مَا دَامَ عُمَرُ حيّا) كما رواه البيهقي فهو سد باب الفتنة كما أخبر به حذيفة، (وبمحاربة الزّبير لعليّ) كما رواه البيهقي في دلائل النبوة من طرق أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أخبر بمحاربة الزبير لعلي وهو ظالم له وذكره به على يوم الجمل فقال بلى والله لقد نسيته منذ سمعته منه صلى الله تعالى عليه وسلم ثم ذكرته الآن والله لا أقاتلك فرجع يشق الصفوف راكبا فعرض له ابنه عبد الله فقال مالك فقال ذكرني علي حديثا سمعته من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول لتقاتلنه وأنت ظالم له فقال له ابنه إنما جئت لتصلح بين الناس لا لمقاتلته فقال قد حلفت أن لا أقاتله قال اعتق غلامك وقف حتى تصلح بينهم ففعل فلما اختلف الأمر ذهب (وبنباح كلاب الحوأب على بعض أزواجه) أي وأخبر صلى الله تعالى عليه وسلم بنباحها وهو بضم نون وتكسر فموحدة أي صياحها والحوأب بمهملة ثم همزة مفتوحتين موضع بين البصرة ومكة نزلته عائشة لما توجهت للصلح بين علي ومعاوية فلم تقدر اتفاقا فكانت وقعة الجمل، (وأنّه يقتل حولها) أي حول بعض الأزواج وهي عائشة رضي الله تعالى عنها (قتلى كثيرة) أي جمع كثير من المقتولين قيل قتل يومئذ نحو من ثلاثين ألفا وفي نسخة كثيرة نظرا إلى الجماعة (وتنجو بعد ما كادت) أي إلى الهلاك كما رواه البزار بسند صحيح عن ابن عباس (فنبحت) بفتح الباء وكسرها أي كلاب ذلك الموضع (على عائشة عند خروجها) أي توجهها من مكة (إلى البصرة) كما رواه أحمد وكذا البيهقي بلفظ لما أتت الحوأب سمعت انباح الكلاب فقالت ما أظنني إلا راجعة إني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لنا أيتكن تنبح عليها(1/688)
كلاب الحوأب ترجعين لعل الله أن يصلح بك بين الناس (وأنّ عمّارا) وهو ابن ياسر (تقتله الفئة الباغية) رواه الشيخان ولفظ مسلم قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لعمار تقتلك الفئة الباغية وزاد وقاتله في النار (فقتله) أي عمارا (أصحاب معاوية) أي بصفين ودفنه علي رضي الله تعالى عنه في ثيابه وقد نيف على سبعين سنة فكانوا هم البغاة على علي بدلالة هذا الحديث ونحوه وقد ورد إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق وقد كان مع علي رضي الله تعالى عنهما وأما تأويل معاوية وابن العاص بأن الباغي علي وهو قتله حيث حله على ما أدى إلى قتله فجوابه ما نقل عن علي كرم الله وجهه أنه يلزم منه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قاتل حمزة عمه والحاصل أنه لا يعدل عن حقيقة العبارة إلى مجاز الإشارة إلا بدليل ظاهر من عقل أو نقل يصرفه عن ظاهره نعم غاية العذر عنهم أنهم اجتهدوا وأخطأوا فالمراد بالباغية الخارجة المتجاوزة لا الطالبة كما ظنه بعض الطائفة (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَيْلٌ لِلنَّاسِ مِنْكَ) أي مشقة وهلاك في الآخرة بقتله ظلما (وويل لك من النّاس) أي في الدنيا فلقد حاصره الحجاج بمكة ورمى البيت بالمنجنيق فهدم ركنه الشامي (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام على ما رواه الشيخان (في قزمان) أي في حقه وهو بضم القاف وسكون الزاي ذكره الحلبي رجل من المنافقين قاتل قتالا شديدا (وقد أبلى مع المسلمين) بفتح الهمزة واللام جملة حالية أبانت شجاعته ومحاربته لغير الله بدليل قوله عليه الصلاة والسلام (إنّه من أهل النّار) فقتل نفسه أي في خيبر كما ذكره البخاري وصوبه المصنف وأقره النووي ومسلم في حنين والخطيب تبعا لأصحاب السير في أحد وأقره النووي ولعل الأشخاص متعددة فكل ذكره في قضية (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (في جماعة فيهم) أي في حق جماعة من جملتهم (أَبُو هُرَيْرَةَ وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ وَحُذَيْفَةُ آخِرُكُمْ موتا في النّار) أي يكون في موته في نار الدنيا لا أنه يدخل في نار العقبى كما توهم الدلجي على ما سيأتي فعامله موتا وهو إبهام أو تورية وايهام (فكان بعضهم) أي تلك الجماعة (يسأل عن بعض) أي عن حياته ومماته كما رواه البيهقي عن ابن حكيم الضبي إذا لقيت أبا هريرة سألني عن سمرة فإذا أخبرته بحياته وصحته فرح وقال كنا عشرة في بيت فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم آخركم موتا في النار فمات منا ثمانية ولم يبق غيري وغيره وفي رواية للبيهقي عنه وكان إذا أراد أحد أن يغيظ أبا هريرة قال مات سمرة فيصعق ويغشى عليه ثم مات أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قبل سمرة (فكان سمرة آخرهم موتا هرم وخرف) بكسر الراء فيهما أي أصابه خلل في بدنه وخبل في عقله (فاصطلى بالنّار) أي استدفأ بها (فاحترق فيها) وفي تاريخ ابن عساكر عن ابن سيرين أن سمرة أصابه كزاز هو داء من البرودة أو برد شديد لا يكاد يدفأ منه فأمر بقدر عظيمة صلى الله تعالى عليه وسلم فملئت ماء وأوقد تحتها واتخذ فوقها مجلسا فكان يصل إليه بخارها فيدفأ فلم يلبث أن سقط به فاحترق ويوافقه ما رواه البيهقي عن بعض أهل العلم أنه(1/689)
مات في الحريق تصديقا لقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تعالى عليه وسلم وقد أغرب الدلجي حيث استدل به بأنه يدخل النار في الآخرة ثم يخرج منها ثم قال ويحتمل أنه يورد النار بقتل زياد وابن زياد بحضرته خلقا كثيرا ثم ينجى منها بإيمانه بشهادة حديث البيهقي عن ابن سيرين كان سمرة عظيم الأمانة صدوق الحديث يحب الإسلام وأهله قال عبد الله بن صبيح لابن سيرين بهذا وبصحبته رسول الله صلى الله تعالى عليه نرجو له بعد تحقيق قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيه الخير انتهى ولا يخفى أن هذا الحديث ما يقتضي دخوله في النار ثم نجاته منها بل الظاهر نجاته منها ابتداء وأن احتراقه في الدنيا يكون سبب خلاصه عنها في العقبى على تقدير وقوع ذنب يستحقها وإلا فهو موجب زيادة درجة عالية في الجنة وغرفها ثم حضوره مجلس زياد وابن زياد حين قتلهما خلقا كثيرا لا يدل على استحقاق عذاب ولا استيجاب عتاب إذ لم يعرف أنه كان راضيا بفعلهما وربما كان مكرها في حضوره عندهما هذا وللبيهقي أنه استجمر فغفل عنه أهله حتى أخذته النار ولا يخفى إمكان الجمع بين هذا وما تقدم والله تعالى أعلم وأما حديث البيهقي عن أوس بن خالد كنت إذا قدمت على أبي محذورة سألني عن سمرة وإذا قدمت على سمرة سألني عن أبي محذورة فسألت أبا محذورة عن سؤالهما إياي فقال كنت أنا وسمرة وأبو هريرة في بيت النبي عليه الصلاة والسلام فجاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال آخركم موتا في النار فمات أبو هريرة رضي الله تعالى عنه ثم أبو محذورة ثم سمرة فلا يخلو من الاشكال لما سبق من معارضته في المقال والله تعالى اعلم بالحال، (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم (في حنظلة) أي ابن أبي عامر الأنصاري (الغسيل) أي مغسول الملائكة (سلوا زوجته عنه) أي عن حاله قبل موته (فإنّي رأيت الملائكة تغسّله) أي بعد قتله شهيدا بأحد مع أن الشهيد لا يغسل (فسألوها فقالت إنّه خرج جنبا) حين غسلت أحد شقي رأسه وسمع الهيعة وكان قد ابتنى بها تلك الليلة (وأعجله الحال عن الغسل) أي عن تمامه لمبادرته إلى القتال ومسارعته للامتثال، (قال أبو سعيد) أي الخدري (ووجدنا رأسه يقطر ماء وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام، (الخلافة في قريش) رواه أحمد والترمذي ولعل المراد به أن الخلافة على استحقاقها في طائفة من قريش وهم الخلفاء الأربعة فيكون إخبارا عن الغيب المطابق للواقع بعده وأما إذا أريد به الحكم بأن الخلافة منحصرة فيهم وأن شرط صحة الخلافة أن يكون الخليفة واحد منهم كما ذكره الدلجي فلا يلائم سياقه في هذا الباب كما لا يخفى على أولي الألباب ويؤيد ما قدمناه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم كما رواه البخاري عن معاوية (ولن يزال هذا الأمر) أي أمر الخلافة (في قريش ما أقاموا الدّين) يعني فإذا لم يقيموا أمر الدين على ما ينبغي انتقل الأمر عنهم إلى غيرهم فكان كما أخبرهم زاد البخاري في رواية ولا يعاديهم أحد إلا كبّه الله على وجهه أي في الدنيا أو في العقبى قال النووي انعقد الإجماع(1/690)
في زمن الصحابة ومن بعدهم على أن الخلافة مختصة بقريش لا تجوز لغيرهم ولا عبرة بمن خالف فيه من أهل البدعة (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (يكون) أي سيوجد (في ثقيف) بفتح فكسر هو أبو قبيلة من هوازن (كذّاب ومبير) بضم فكسر أي مهلك من أبار أهلك مأخوذ من البوار وهو الهلاك ومنه قوله تعالى وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً أي هلكى (فرأوهما الحجّاج والمختار) أي فرأى السلف أن أحدهما الحجاج وهو بفتح الحاء كليب بن يوسف والآخر المختار بن أبي عبيد وأن الثاني هو الكذاب والأول هو المبير فهما لف ونشر مشوش ففي حديث اسماء بنت أبي بكر من طريق مسلم وغيره أنها قالت مسافهة للحجاج حدثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن في ثقيف كذابا ومبيرا فأما الكذاب فقد رأيناه وأما المبير فلا أخالك إلا إياه وقال الترمذي في جامعه ويقال الكذاب المختار والمبير الحجاج ثم ذكر بسنده إلى هشام بن حسان قال أحصوا ما قتل الحجاج صبرا فبلغ مائة وعشرين ألفا انتهى وأما المختار فهو الكذاب حيث زعم أن جبريل أتاه بوحي الكتاب فقد رواه البيهقي عن رفاعة بن شداد قال دخلت على المختار يوما فقال دخلت وقد قام جبريل من هذا الكرسي فأهويت إلى السيف فذكرت حديثا حدثينه عمرو بن الحمق الخزاعي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال إذا أمن الرجل رجلا على دمه ثم قتله رفع له لواء الغدر يوم القيامة فكففت عنه قال النووي في شرح مسلم واتفق العلماء على أن المراد بالكذاب المختار بن أبي عبيد وبالمبير الحجاج بن يوسف انتهى وكان المختار واليا على الكوفة ولقبه كيسان وإليه ينسب الكيسانية كان خارجيا ثم صار زيديا ثم صار شيعيا وكان يدعو إلى محمد ابن الحنفية ومحمد يتبرأ منه وكان أرسل ابن الأشتر بعسكر إلى ابن زياد لقتال الحسين فقتله وقتل كل من كان في قتل الحسين ممن قدر عليه وكان غرضه في ذلك صرف وجوه الناس إليه والتوسل به إلى تحصيل الإمارة لديه فكان يظهر الخير ويضمر الشر ولما ولي مصعب بن الزبير البصرة من جهة عبد الله بن الزبير قاتل المختار وقتله؛ (وأنّ) وفي نسخة صحيحة وبأن (مسيلمة) بضم الميم وفتح السين ثم كسر اللام (يعقره الله) بكسر القاف أي يهلكه أو يقتله أو يهلكه قتلا فقتله وحشي بن حرب في قتال أهل الردة زمن أبي بكر رواه الشيخان بلفظ ولئن توليت ليعقرنك الله؛ (وأنّ فاطمة) أي بنته الزهراء رضي الله عنها (أوّل أهله) أي أهل بيته كما في نسخة (لحوقا به) أي موتا ووصولا إليه ففي الصحيح عن الزهري عن عروة عن عائشة مكثت فاطمة بعد وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم ستة أشهر، (وأنذر بالرّدّة) أي وحذر صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه وخوفهم وعرفهم بأنها ستكون كما في حديث الشيخين لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض وفي حديث مسلم لا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان فوقعت الردة في خلافة أبي بكر ارتد عامة العرب إلى أهل مكة والمدينة والبحرين وكفى الله أمرهم بالصديق صاحب مقام التحقيق (وأنّ) وفي نسخة وبأن (الخلافة)(1/691)
أي الحقيقة الحقية (بعده ثلاثون سنة ثمّ تكون) أي تصير الخلافة (ملكا) أي سلطنة بالغلبة فقد روى أحمد والترمذي وأبو يعلى وابن حبان عن سفينة بلفظ الخلافة بعدي في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك (فكانت) أي الخلافة (كذلك) أي ثلاثين سنة (بمدّة الحسن بن عليّ) أي بمضي مدة خلافته وهي ستة أشهر تقريبا وفيه دلالة على أن معاوية لم يحصل له ولاية الخلافة ولو بعد فراغ الحسن له بالإمارة ويشير إليه ما رواه البخاري في تاريخه والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة بلفظ الخلافة بالمدينة والملك بالشام ثم اعلم أن خلافة أبي بكر كانت سنتين وثلاثة أشهر وعشرين يوما وخلافة عمر عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام وخلافة عثمان إحدى عشرة سنة وإحدى عشر شهرا وثمانية عشر يوما وخلافة علي أربع سنين وعشرة أشهر أو تسعة وتمامها بخلافة الحسن (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (إنّ هذا الأمر) أي أمر ملة هذه الأمة (بدأ) بهمزة أي ابتدأ أو بألف أي ظهر (نبوّة ورحمة) أي نبوة مقرونة بالرحمة العامة. (ثمّ يكون) أي الأمر (رحمة وخلافة) أي رحمة في ضمن الخلافة (ثمّ يكون) أي الأمر (ملكا) قال التلمساني وفي أصل المؤلف ثم ملكا (عضوضا) بفتح العين أي سلطنة خالية عن الرحمة والشفقة على الرعية فكأنهم يعضون بالنواجذ فيه عضا حرصا على الملك ويعض بعضهم بعضا حثا على الهلك وفيه إيماء إلى ما قال عارف بهذا الباب الدنيا جيفة وطالبها الكلاب وفي النهاية ثم يكون ملك عضوض أي يصيب الرعية عسف وظلم فكأنهم يعضون فيه عضا بأسنانهم أي يتحملون فيه محنة شديدة في شأنهم وفي رواية وسترون بعدي ملكا عضوضا وفي أخرى ثم يكون ملوك عضوض قيل وهو جمع عض بالكسر أي شرير خبيث (ثمّ يكون) أي الأمر (عتوّا) بضمتين فتشديد أي تكبرا (وجبروتا) بفتحتين فعلوت من الجبر بمعنى القهر مبالغة أي تجبرا وقهرا (وفسادا في الأمّة) أي في أمر دينهم ودنياهم هذا ولفظ البيهقي أن الله بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة وكانتا خلافة ورحمة وكانتا ملكا عضوضا وكانتا عتوا وجبرية وفسادا في الأمة يستحلون الفروج والخمور والحرير وينصرون على ذلك ويرزقون أبدا حتى يلقوا الله تعالى وقد ابتدأ هذا الفساد من بدأ إمارة يزيد وولاية زياد وهلم جرا في الزيادة إلى يومنا هذا فيما بين سلاطين البلاد والله رؤوف بالعباد (وأخبر) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (بشأن أويس) أي ابن عامر (القرني) بفتحتين أي منسوب إلى بطن من مراد قبيلة باليمن وغلط الجوهري في نسبته إلى قرن المنازل روي أنه كان به بياض فدعا الله فأذهبه إلا قدر دينار أو درهم وله أم كان بها بارا ولو أقسم على الله لأبره وقال من لقيه فليستغفر وعن عمر مرفوعا يأتي عليكم أويس بن عامر مع إمداد أهل اليمن من مراد ثم قرن كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل قال الأرزنجاني في شرح المشارق الإمداد جمع مدد والمراد هنا القافلة قال وكان عمر إذا أتى إمداد اليمن يسألهم أفيكم أويس بن عامر فلما كانت السنة التي توفي فيها عمر قام على جبل أبي قبيس(1/692)
فنادى بأعلى صوته يا أهل الحجيج من اليمن أفيكم أويس فقام شيخ طويل اللحية فقال إنا لا ندري من أويس ولكن ابن أخي يقال له أويس وهو أخمل ذكرا وأهون أمرا من أن نرفعه إليك وأنه ليرعى إبلا حقير بين أظهرنا فقال له عمران اين ابن أخيك قال بإزاء عرفات فركب مر وعلي سراعا إلى عرفات فإذا هو قائم يصلي والإبل حوله ترعى فسلما عليه وقالا من الرجل قال عبد الله قالا قد علمنا أن أهل السموات والأرض كلهم عبيد الله فما اسمك الذي سمتك به أمك قال يا هذان ما تريدان قالا وصف لنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أويسا القرني وأخبرنا أن تحت منكبه الأيسر لمعة بيضاء فاوضحها لنا فإن كانت بك فأنت هو فأوضح منكبه فإذا اللمعة فاشتدا يقبلانه وقالا نشهد أنك أويس القرني فاستغفر لنا غفر الله لك قال ما أخص باستغفاري نفسي ولا أحدا من ولد آدم ولكنه في المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات يا هذان قد أشهر الله لكما حالي وعرفكما أمري فمن انتما قال علي أما هذا فعمر أمير المؤمنين وأما أنا فعلي بن أبي طالب فاستوى أويس قائما وترهب بهما فقال له عمر مكانك يرحمك الله حتى أدخل مكة فآتيك بنفقة من عطائي وفضل كسوة من كسوتي فقال يا أمير المؤمنين ما أصنع بالنفقة والكسوة أما ترى علي إزار ورداء من صوف متى أخرقهما وقد أخذت من رعايتي أربعة دراهم متى آكلها يا أمير المؤمنين إن بينك وبينه عقبة كؤودا ولا يجاوزها إلا كل ضامر مخف به فأخف يرحمك الله فلما سمع عمر ذلك ضرب بدرته الأرض نادى بأعلى صوته ألا ليت عمر لم تلده أمه إلا من يأخذها بما فيها ولها ثم قال أمير المؤمنين خذ أنت ههنا حتى آخذ عنها فولى عمر ناحية مكة وساق أويس ابله فوافى القوم وخلا عن الرعاية وأقبل على العبادة حتى لقي الله تعالى وروى الحاكم في مستدركه عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا خير التابعين أويس ولا ينافيه قول أحمد وغيره أن خيرهم سعيد بن المسيب لأن مرادهم في العلوم الشرعية لا في أكبرية الدرجة العلية قال الحلبي وقد قتل مع علي بصفين في وقعتها وقال ابن حبان واختلفوا في محل موته فمنهم من يزعم أنه مات على جبل أبي قبيس بمكة ومنهم من يزعم أنه مات بدمشق ويحكون في موته قصصا تشبه المعجزات التي رويت عنه وقد كان بعض أصحابنا ينكر كونه في الدنيا ثم ساق بسنده إلى شعبة قال سألت عمرو بن مرة وأبا إسحاق عن أويس القرني فلم يعرفاه أقول ولعلهما لم يعرفاه لعدم كونه من رواة الحديث إذ لم يرو شيئا وكان غلب عليه حب الخمول والعزلة والخلوة وكره الصحبة والخلطة وقد علم كل أناس مشربهم وعرف كل طائفة مذهبهم (وبأمراء) أي وبأن امراء (يؤخّرون الصّلاة عن وقتها) فقد روى مسلم من طرق عن أبي ذر ولفظه كيف أنت إذا كنت عليك امراء يؤخرون الصلاة عن وقتها قلت فما تأمرني قال صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة زاد في رواية أخرى وإلا كنت قد أخرت صلاتك قال النووي أي عن وقتها المختار لا عن جميع وقتها وروي يميتون الصلاة وهو بمعنى يؤخرون قال وقد وقع هذا في ومن بني أمية (وسيكون في(1/693)
أمّته) وفي أصل الدلجي فِي أُمَّتِهِ (ثَلَاثُونَ كَذَّابًا فِيهِمْ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ) رواه أحمد والطبراني والبزار منهم مسيلمة الحنفي والأسود العنسي بالنون والمختار بن أبي عبيد الثقفي وسجاح بفتح السين فجيم زعمت أنها نبية في زمن مسيلمة، (وفي حديث آخر ثلاثون دجّالا) وفي نسخة رجلا (كذّابا أحدهم) وفي نسخة وهي الأولى آخرهم (الدّجّال الكذّاب) أي الأعور الذي يقتله عيسى ابن مريم كما رواه الشيخان عن أبي هريرة ولفظهما بين يدي الساعة ثلاثين رجلا كذابا (كلّهم يكذب) وفي نسخة يكذبون (على الله ورسوله) قال الحلبي وفي الصحيح قريب من ثلاثين وقد جاء تعيين عددهم في حديث آخر أنهم سبعة وعشرون دجالا فيهم أربع نسوة والدجل تمويه الشيء وتغطيته والمموه الدجال وهو الكذاب أيضا لأنه يدجل الحق بالباطل. (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (يوشك) أي يقرب (أن يكثر فيكم العجم) أي ضد العرب لا الفرس فقط (يأكلون فيئكم) بفتح الفاء وسكون الياء مهموزا أي أموالكم (ويضربون رقابكم) أي يريقون دماءكم أو يبلغون في إيذائكم وقد وقع في دولة الترك من بعدهم رواه البزار والطبراني بسند صحيح (ولا تقوم السّائحة حتّى يسوق النّاس بعصاه) أي يسترعيهم مسخرين له كراعي غنم يسوقها بعصاه وهو كناية عن طاعة الناس له واستيلائه عليهم ولم يرد نفس العصا إلا أن في ذكرها دليلا على خشونته وعسفه بهم في إطاعته (رجل) قال القرطبي في تذكرته لعله الجهجاه (من قحطان) وهو أبو اليمن رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ولفظهما لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه. (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الشيخان (خيركم قرني) ولفظهما خير أمتي وفي رواية خير الناس قرني وهم الصحابة (ثمّ الذين يلونهم) وهم التابعون (ثمّ الذين يلونهم) وهم الاتباع وثم تفيد التنزل في الرتبة إلى أن يرتفع الاشتراك في الخيرية فيستقيم قوله (ثمّ يأتي بعد ذلك قوم) وفي تغيير العبارة إيماء إلى ما أشرنا إليه وفي رواية لهما ثم إن بعدكم قوما (يشهدون ولا يستشهدون) بصيغة المجهول أي يبادرون بتأدية الشهادة قبل أن يطلب منهم أداؤها فإنها لا تقبل وأما حديث خير الشهود من يأتي بالشهادة قبل أن يسألها فمعناه أن يظهر عند غير القاضي أن عنده الشهادة حيث جهل أو شك صاحب الشهادة أنها عنده أم لا أو هل يظهر الشهادة أم يخفيها وقيل يشهدون بالزور قال الحلبي وقيل معناه يحلفون ولا يستحلفون كما قال في رواية أخرى يسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه كذبا شهادته واليمين تسمى شهادة ومنه قوله تعالى فشهادة أحدهم (ويخونون ولا يؤتمنون) بفتح الميم (وينذرون) بضم المعجمة وتكسر (ولا يوفون) أي بنذرهم وفي رواية ولا يفون من وفى يفي (ويظهر فيهم السّمن) بكسر ففتح وفي حديث يكون في آخر الزمان قوم يتسمنون وفي رواية ويل للمتسمنات يوم القيامة وفي رواية ويخلف قوم يحبون السمانة وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم لمالك بن الصيف أليس في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين قال نعم قال له فأنت الحبر السمين فقال ما أنزل الله على(1/694)
بشر من شيء. (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (لَا يَأْتِي زَمَانٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ منه) رواه البخاري ولفظه قال الزبير اتينا إنسا فشكونا إليه الحجاج فقال اصبروا فإنه لَا يَأْتِي زَمَانٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ منه حتى تلقوا ربكم سمعته من نبيكم وفي رواية أشر منه وهو لغة كأخير في خير قال بعض الحفاظ إلا والذي بعده شر منه فيما يتعلق بالدين قال الحلبي والذي فهم الحسن غير ذلك حيث سئل الحسن فقيل له ما بال زمن عمر بن عبد العزيز بعد زمن الحجاج فقال لا بد للناس من تنفيس يعني أن الله ينفس عباده وقتا ما ويكشف البلاء عنهم حينا ما قلت وهو ما ينافي ما سبق من التنزل في أمر الدين كما هو مشاهد في نظر أرباب اليقين فإنه كلما يبعد عن النور تبقى الظلمة في الظهور فالبعد عن الحضرة يفيد هذا الترتيب في الحالة ويشير إليه صدر الحديث خير القرون قرني ثم وثم في الجملة بل جاء في حديث رواه أحمد والبخاري والنسائي عن أنس مرفوعا لا يأتي عليكم عام ولا يوم إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم. (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين (هلاك أمّتي على يدي أغلمة) تصغير تحقير لا غلمة جمع غلام يعني صبيان (من قريش) وفي رواية أعوذ بالله من أمارة الصبيان وقال إن أطعتموهم اذلتكم وإن عصيتموهم أهلكتكم إذ هم صغار الأسنان (وقال أبو هريرة راويه) أي راوي هذا الحديث (لو شئت سمّيتهم لكم) أي لبينتهم وقلت لكم إنهم (بنو فلان وبنو فلان) لكني ما أشاء تسميتهم صريحا خوف الفساد والفتنة إلا أن في العبارة إشارة بالكناية والمراد يزيد بن معاوية فإنه بعث إلى المدينة السكينة مسلم بن عقبة فأباحها ثلاثة أيام فقتل من خيار أهلها كثيرا فيهم ثلاثة من الصحابة وأزيلت بكارة ألف عذراء وبعده بنو مروان بن الحكم بن العاص فلقد صدر عنهم ما أوجب أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تبرأ منهم كما رواه الشيخان أنه قال إِنَّ آلَ أَبِي فُلَانٍ لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ ولكن لهم رحم سأبلها ببلالها فالمكنى هو الحكم بن العاص وبنوه فإنهم آله فكنى عنهم بعض رواة هذا الحديث حذرا منهم إذ كانوا ولامر وأصحاب الشر هذا وقد قال القرطبي هم والله تعالى أعلم يزيد بن معاوية وعبد الله بن زياد ومن جرى مجراهم من أحداث ملوك بني أمية. (وأخبر) أي النبي عليه الصلاة والسلام (بظهور القدريّة) كما رواه الترمذي وأبو داود والحاكم أنه قال القدرية مجوس هذه الأمة إشارة إلى مدح أمته وذمهم جعلهم مجوسا حيث شابه مذهبهم مشربهم فالمجوس أثبتوا الهين زعموا أن الخير من فعل النور وسموه يزدان والشر من فعل الظلمة وسموه أهرمن وقد قال الله تعالى وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ أي خلقهما وأما القدرية فزعموا خالقين خالق الخير وهو الله وخالق الشر وهو الإنسان وقد قال تعالى اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وهو ما ينافي أن ينسب إليه الفعل خلقا وإيجادا والينا عملا واكتسابا (والرّافضة) بالألف بمعنى الرفضة أي وأخبر بظهور الطائفة الرافضة التاركة لحب جل الصحابة وقد رواه البيهقي من طرق كلها ضعيفة إلا أنها يتقوى بعضها ببعض ويعضدها ما رواه البزار بلفظ يكون في أمتي قوم في(1/695)
آخر الزمان يسمون الرافضة يرفضون الإسلام أي بالكلية لأنهم يستحلون سب الصحابة ويكفرون أهل السنة والجماعة والمعنى يتركون كمال الإسلام وجماله إن لم يصدر منهم ما ينافي أحكام الإيمان وفي رواية يلفظونه أي يرمونه فاقتلوهم فإنهم مشركون أي مشابهون لهم حيث لم يعملوا بالكتاب والسنة (وسبّ آخر هذه الأمّة أوّلها) أي وأخبر بظهور هذا الأمر من الرافضة وقد رواه أبو القاسم البغوي عن عائشة مرفوعا بلفظ لا تذهب هذه الامة حتى يلعن آخرها أولها وللترمذي من حديث طويل عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ولعن هذه الأمة أولها فارتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتتابع كنظام قطع سلكه والتتايع بالياء التحتية هو الوقوع في الشر كما أنه بالموحدة يستعمل في الخير هذا وقد ظهر لعن السلف على لسان الروافض والخوارج جميعا ولعل مذمة الرافضة في بعض الأحاديث وردت بالمعنى اللغوي الشامل لكل من الطائفتين وإن كان العرف خصها باعتبار الغلبة (وقلّة الأنصار) أي وأخبر صلى الله تعالى عليه وسلم بقلتهم والأظهر أن المراد بهم طائفة معروفة من الصحابة وقد يتوسع ويراد بهم ذريتهم أيضا ولا يبعد أن يراد بهم انصار الدين ومعاونيهم حتى يشمل المهاجرين وغيرهم وقد رواه البخاري عن ابن عباس خرج علينا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه فجلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن الناس يكثرون ويقل الأنصار أي بعدي (حتّى يكونوا كالملح في الطّعام) كناية عن غاية قلتهم فيما بين أهل الإسلام وتمام الكلام فمن ولي منكم شيئا يضر فيه قوما وينفع آخرين فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم (فلم يزل أمرهم يتبدّد) أي يتفرق (حتّى لم يبق لهم جماعة، وأنّهم) أي وأخيرا (سيلقون بعده أثرة) بفتحتين وبكسر فسكون وحكي بضم فسكون أي إيثار الناس أنفسهم عليهم فيما هم أولى به من العطايا ومناصب القضايا ففي الصحيحين بلفظ أنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض قال اليعمري كانت هذه الأثرة زمن معاوية، (وأخبر بشأن الخوارج) أي على علي بالنهروان وكانوا أربعة آلاف فقتلهم علي قتلا ذريعا ولم يقتل ممن معه إلا تسعة (وصفتهم) أي وبيان حالهم وأفعالهم حيث قال فرقة يحسنون القول ويسيئون الفعل أو العمل يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يرجعون إليه حتى يرتد إلى فوقه هم شر الخلق والخليقة طوبى لمن قتلهم، (والمخدّج) بضم الميم وسكون المعجمة وفتح الدال المخففة وبالجيم أي الناقص وكان ناقص اليد واسمه نافع وفي نسخة مشددة أي بناقص الخلق (الذي فيهم) أي بأن إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة (وأنّ سيماهم التّحليق) أي علامتهم المبالغة في حلق شعورهم وقيل جلوسهم حلقا حلقا (ويرى) بصيغة المجهول وقال الدلجي بصيغة الخطاب العام (رعاة الغنم) وفي أصل الدلجي رعاء الشاء وهو نائب الفاعل أو المفعول الأول والثاني قوله (رؤوس النّاس) أي رؤساءهم، (والعراة والحفاة) وفي نسخة(1/696)
والحفاة العراة (يتبارون) بفتح الراء أي يتفاخرون (في البنيان) أي في إطالة بيوتهم وتحسينها وتزيينها فقد روى الشيخان معناه ببعض مبناه فلمسلم وإن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان وللبخاري وإذا تطاول رعاء الإبل إليهم في البنيان وله أيضا وإذا كانت الحفاة العراة رؤوس الناس فذلك من أشراطها ولهما وإن ترى الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض وفيه إشارة إلى أن أرباب الجهالة والقلة والذلة يغلبون على أهل العلم والغنى والعزة (وأن تلد الأمّة ربّتها) أي سيدتها فإن ولد الأمة من سيدها لحسيدها لأنه سبب لعتقها فهي بنتها فبالأولى ابنها قال الحلبي وفي رواية ربها وفي رواية بعلها أي تلد مثل سيدها ومالكها ومتصرفها أراد به كثرة السبي والسراري في أوقات السعة أو في أزمنة الفتنة أو كناية عن كثرة العقوق وقلة تأدية الحقوق (وأنّ قريشا) أي وأخبر بأن كفار قريش بالخصوص (والأحزاب) أي وسائر طوائف الكفار (لا يغزونه أبدا) ولعله بعد غزوة الخندق فعن سليمان ابن صرد أنه عليه الصلاة والسلام قال حين أجلى الأحزاب عنه الآن نغزوهم ولا يغزوننا نحن نسير إليهم (وأنّه) أي النبي عليه الصلاة والسلام (هو يغزوهم) أي يبدؤوهم بالمحاربة كما وقع له ولأصحابه بفتح مكة وأما قوله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم فتحها لا تغزى قريش بعده أي لا يكفرون فيغزون وقوله في رواية أخرى لا تغزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة أي لا تعود مكة دار كفر يغزى عليه وأما ما قيل من أن المعنى لا يغزوها كفار أبدا فإن المسلمين قد غزوها مرات فيرده قصة القرامطة وكذا حديث يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة يقلعها حجرا حجرا، (وأخبر بالموتان) بضم الميم وتفتح أي بالوباء (الذي يكون بعد فتح بيت المقدس) كما رواه البخاري عن عوف بن مالك قال أتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم فقال اعدد ستا بين يدي الساعة موتى ثم فتح بيت المقدس ثم موتان يأخذ فيكم كقصاص الغنم العقاص بضم القاف داء يأخذ الغنم لا يلبثها حتى تموت من وقتها ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا ثم فتنة لا يبقى من العرب حي إلا دخلته ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية أي راية تحت كل غاية اثنا عشر ألفا انتهى وكان هذا الموتان في خلافة عمر بعمواس من قرى بيت المقدس وبها كان عسكره وهو أول طاعون وقع في الإسلام مات به سبعون ألفا في ثلاثة أيام وبنو الأصفر هم الروم لأن جدهم المنسوبون إليه كان أصفر وهو روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام، (وما وعد من سكنى البصرة) بفتح الموحدة وحكي ضمها إلا أنه لا يجوز في النسبة اتفاقا فقد روى أبو داود عن أنس أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال له يا أنس إن الناس يمصرون امصارا منها يقال لها البصرة فإن مررت بها أو دخلتها فإياك وسباخها وكلاءها بتشديد اللام أي ساحلها وسوقها وباب أمرائها وعليك بضواحيها أي نواحيها الظاهرة بها فإنه يكون خسف وقذف ورجف وقوم يبيتون ويصبحون قردة وخنازير ولعل هذه الامور وردت معنوية(1/697)
أو ترد بعد ذلك صورية هذا وقد بنى البصرة عتبة بن غزوان في خلافة عمر سنة سبع عشرة وسكنها الناس سنة ثماني عشرة لم يعبد الصنم قط على أرضها (وَأَنَّهُمْ يَغْزُونَ فِي الْبَحْرِ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ) كما في الصحيحين بلفظ كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان من خالات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من الرضاع وكانت تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها يوما فأطعمته ثم جلست تفلي رأسه فنام ثم استيقظ يضحك فقالت مم تضحك قال ناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر أي وسطه ومعظمه وقيل ظهره ملوكا على الأسرة أو كالملوك على الأسرة فقالت ادع الله تعالى أن يجعلني منهم فدعاهم ثم نام ثم استيقظ يضحك فقالت مم تضحك فقال كالأول فقالت ادع الله تعالى أن يجعلني منهم فقال أنت من الأولين فركبت البحر في زمن معاوية فصرعت عن دابتها بعد خروجها منه فهلكت والأسرة جمع سرير وهو بساط الملك، (وأنّ) أي وأخبر بأن (الإيمان لو كان منوطا) أي معلقا (بالثّريّا لناله رجال من أبناء فارس) وهم المشهورون الآن باسم العجم ولفظ الشيخين عن أبي هريرة كنا كنا عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذ نزلت سورة الجمعة فلما نزلت وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قالوا من هم يا رسول الله فوضع يده على سلمان الفارسي ثم قال لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء وجمع اسم الإشارة مع أن المشار إليه واحد لإرادة الجنس ولو هنا لمجرد الفرض والتقدير مبالغة لحدة فطنتهم وقوة فطرتهم وأراد بآخرين التابعين اللاحقين بالصحابة السابقين وأعلاهم في هذا المقام الافخم هو الإمام الأعظم والله تعالى أعلم (وهاجت ريح) أي هبت بشدة (في غزاته) أي على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وغزاته في بعض غزواته وهي غزوة تبوك من أرض الشام على ما ذكره الدلجي أو غزوة بني المصطلق كما قرره الحلبي وهو أولى بالاعتماد، (فقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (هَاجَتْ لِمَوْتِ مُنَافِقٍ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وجدوا ذلك) أي موت المنافق على وفاق ما أخبره هنالك وهذا المنافق هو رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بني قينقاع وكان من عظماء اليهود وكهناء المنافقين كذا قاله أبو إسحاق على ما ذكره الحلبي (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه الطبراني عن رافع بن خديج (لقوم من جلسائه) وهم أبو هريرة الدوسي وفرات بن حبات العجلي والرجال بن عنقوة اليمامي وهو المراد من قوله (ضرس أحدكم) أي واحد منكم لا كل واحد منكم (في النّار أعظم من أحد) أي هيئة وصورة في هذا تلويح بأن يموت أحدهم كافرا الحديث ضرس الكافر في النار مثل أحد رواه مسلم وغيره (قال أبو هريرة فذهب القوم يعني) أي يريد بقوله ذهبوا. (ماتوا وبقيت أنا ورجل فقتل) أي ذلك الرجل (مرتدّا يوم اليمامة) ناحية شرقي الحجاز معروفة؛ (وأعلم) أي أخبر صلى الله تعالى عليه وسلم كما رواه أبو داود والنسائي عن زيد بن خالد الجهني (بالذي غلّ) أي خان فأخذ من الغنيمة قبل القسمة (خرزا من خرز يهود) بفتح الخاء المعجمة والراء(1/698)
فزاء وهي الجواهر وما ينتظم من نحوها والمراد بها هنا فصوص من الحجارة (فوجدت) أي تلك الخرز (في رحله) أي بعد موته فعن زيد بن خالد الجهني قال توفي رجل يوم خيبر فذكروا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال إن صاحبكم قد غل في سبيل الله قال ففتحنا متاعه فوجدنا خرزات من خرزات يهود ما تساوي درهمين، (وبالذي) أي واعلم صلى الله تعالى عليه وسلم كما رواه الشيخان عن أبي هريرة بالذي (غلّ الشّملة. وحيث هي) أي وبالمكان الذي هي فيه وهي كساء يشتمل به الرجل ولفظهما أهدى رجل لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غلاما اسمه مدعم فبينما هو يحط رحلا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جاء سهم عائر أي لا يدري راميه فقتله فقالوا هنيئا له الجنة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم قبل القسمة لتشتعل عليه نارا ذكره الدلجي وقال الحلبي الذي غل الشملة هذا كركرة قال النووي يقال بكسر الكافين وبفتحهما جعله في المبهمات وكذا هو في سنن ابن ماجة في الجهاد (وناقته) ضبط بالرفع في النسخ ولعل التقدير وكذا ناقته أي قضيتها أو وحيث هي وناقته كما في اصل التلمساني والظاهر جرها أي واعلم صلى الله تعالى عليه وسلم كما رواه البيهقي بناقته ومكانها (حين ضلّت) أي ضاعت وفقدت (وكيف تعلّقت بالشّجرة بخطامها) أي برسنها أو زمامها وذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم حين قفل من غزوة بني المصطلق أخذتهم ريح كادت أن تدفن الراكب وهي التي أخبر أنها هاجت لموت منافق وضلت ناقته عليه الصلاة والسلام في تلك الليلة فقال رجل من المنافقين كيف يزعم أنه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته إلا يخبره الذي يأتيه بالوحي فأتاه جبريل عليه السلام وأخبره بقول المنافق وبمكان الناقة وأخبر صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه بها وقال ما أزعم أني أعلم الغيب ولكن الله أخبرني بقول المنافق وبمكان ناقتي وهي في الشعب وقد تعلق زمامها بشجرة فخرجوا يسعون قبل الشعب فوجدوها حيث قال وكما وصف فجاؤوا بها وآمن ذلك المنافق (وبشأن كتاب حاطب) بكسر الطاء وهو ابن أبي بلتعة وكان مكتوبه بالخفية (إلى أهل مكّة) وهم سهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أبي لهيعة من مسلمة الفتح أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم فإنه منجز له ما وعده وقيل كتب أن محمدا قد نفر فإما إليكم وإما إلى غيركم فعليكم الحذر ذكرهما السهيلي ولا منع من الجمع فتدبر ومن فضائل حاطب على ما في نظم الدر أنه عليه الصلاة والسلام حين بعثه إلى المقوقس قال له إن كان صاحبك نبيا فلم لم يدع على قومه حين أخرجوه من بلده فقال له حاطب منعه الذي منع عيسى من الدعاء على من رام صلبه فأسكته بذلك وأخجله هنالك (وبقضية عمير) وفي نسخة بقضية عمير وهو بالتصغير ابن وهب بن خلف (مع صفوان) أي ابن أمية بن خلف (حين سارّه) بتشديد الراء أي خافته صفوان بقتله صلى الله تعالى عليه وسلم (وشارطه) أي(1/699)
جعل له جعلا (على قتل النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فخاب سعيهما وضاع كيدهما (فلمّا جاء عمير النّبيّ) وفي نسخة إلى النبي (صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاصِدًا لِقَتْلِهِ وَأَطْلَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم على الأمر) أي الذي جاء بصدده، (والسّرّ) أي المخفي عن غيره (أسلم) أي عمير وكذا أسلم صفوان بعد حنين ذكره الحلبي والحديث رواه ابن إسحاق والبيهقي والطبراني؛ (وَأَخْبَرَ بِالْمَالِ الَّذِي تَرَكَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ رَضِيَ الله عنه عند أمّ الفضل) أي زوجته وهي لبابة بنت الحارث أول امرأة أسلمت بعد خديجة وقيل بل هي فاطمة بنت الخطاب وفي نسخة أم الفضيل بالتصغير وهو غلط محض بل لم يعلم في الصحابيات من يقال لها أم الفضيل بالتصغير وكان ذلك (بعد أن كتمه) أي العباس ذلك الخبر عن الغير، (فقال) أي العباس (ما علمه غيري وغيرها) أي وما هذا إلا بإعلام الله سبحانه إياك (فأسلم) أي فصار سبب إسلامه بعد أن فدى نفسه فقيل له لم لم تسلم قبل الفداء ليبق لك ما افتديت به فقال لم أكن لا حرم المؤمنين مما طعموا من مالي أقول ولعله أخر إسلامه بعد أن تحقق حاله لئلا يظن به أنه إنما اسلم لئلا يدفع ماله والحديث رواه أحمد عن ابن عباس والحاكم وصححه والبيهقي عن الزهري وغيره مرسلا، (وأعلم أنّه) وفي نسخة بأنه أي النبي عليه السلم (سيقتل) أي بيده (أبيّ بن خلف) كما رواه البيهقي عن عروة وسعيد بن المسيب مرسلا وسبق أنه عليه السلام جرحه بأحد في عنقه فمات بسرف (وفي عتبة) وفي نسخة عتيبة وهي الصواب كما تقدم (ابن أبي لهب) أي واعلم صلى الله تعالى عليه وسلم في شأنه أنه (يأكله كلب من كلاب الله) وفي نسخة يأكله كلب الله وأبعد الدلجي في تقديره هنا حيث قال وقال في عتبة لعدم دلالة عليه وللزوم كسر همزة أنه مع أن الرواية بالفتح. (وعن مصارع أهل بدر) أي واعلم كما في مسلم عن مواضع هلاك كفار قريش ممن قتل بها بقوله هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان (فكان كما قال) أي كما أخبره في الحال، (وقال) النبي عليه الصلاة والسلام كما روى الشيخان وغيرهما من طرق (في الحسن) أي ابن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما (إنّ ابني هذا سيّد) أي كريم حليم (وسيصلح الله به بين فئتين) وفي رواية ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين أي جماعتين كثيرتين من أشياعه واتباع معاوية وقد بلغت كل فئة أربعين ألفا قال الحسن البصري فلما ولي ما أهريق بسببه محجمة دم وقال هشيم لما اسلم الأمر لمعاوية قال له معاوية قم فتكلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن أكيس الكيس التقي وإن أعجز العجر ألا وإن هذه الأمر الذي اختلف فيه أنا ومعاوية حق لامرئ كان أحق به مني أو حق لي تركته لمعاوية إرادة إصلاح المسلمين وحقن دمائهم وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ثم استغفر ونزل وفي رواية خطب معاوية ثم قال قم يا حسن فكلم الناس فتشهد ثم قال أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا وإن لهذا الأمر مدة والدنيا دول وأن الله قال لنبيه عليه الصلاة والسلام قل إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ(1/700)
الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين وفي شرح السنة قد خرج مصداق هذا الحديث في الحسن بترك الأمر حين صارت الخلافة إليه وكان أحق بها وأهلها فسلمها إلى معاوية وترك الملك والدنيا ورعا ورغبة فيما عند الله وإشفاقا على الأمة من الفتنة لا من القلة والذلة إذ كان معه يومئذ أربعون ألفا قد بايعوه على الموت فأصلح الله به بين الفرقتين أهل الشام فرقة معاوية وأهل العراق فرقة الحسن (ولسعد) أي وقال كما رواه الشيخان لسعد بن أبي وقاص في مرضه بمكة وقد قال له سعد اخلف عن أصحابي (لعلّك تخلّف) بفتح اللام المشددة أي يؤخر موتك (حتّى ينتفع بك أقوام) أي من الأبرار (ويستضرّ) وفي نسخة بصيغة المجهول أي ويتضر (بك آخرون) أي أقوام من الفجار زيد في رواية اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على اعقابهم لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن مات بمكة وذلك لكراهتهم الموت بأرض هاجروا منها حذرا من ردهم على أعقابهم بموته فيها (وأخبر) أي فيما رواه الشيخان عن أنس (بقتل أهل مؤتة) بضم ميم فهمزة ساكنة ويبدل (يوم قتلوا) أي امراء غزوها فقال أخذ الراية زيد بن حارثة فأصيب ثم جعفر بن أبي طالب فأصيب ثم عبد الله بن رواحة فأصيب ثم خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح الله على يديه (وبينهم) أي والحال أن بينه عليه الصلاة والسلام وبين أهل مؤتة وأمرائهم الكرام (مسيرة شهر أو أزيد) أي بل أكثر ويؤيده ما في نسخة بالواو فأو بمعنى الواو أو بمعنى بل ولعل الدلجي حمل أو على الشك من الراوي فقال بل اقل من شهر لأنها من أرض البلقاء آخر حوران الشام إلى جهة مدينة الإسلام (وبموت النّجاشي) بفتح النون ويكسر وتخفيف آخره ويشدد لقب لكل من ملك الحبشة واسم هذا اصحمة وكان ممن آمن وأخبر عليه الصلاة والسلام بموته كما رواه الشيخان عن أبي هريرة (يوم مات) أي سنة تسع من الهجرة، (وهو بأرضه) وصلى عليه صلاة الغائب عن أصحابه وقد أحضرت جنازته لديه، (وأخبر فيروز) بكسر الفاء وتفتح وسكون الياء وبضم الراء غير منصرف للعجمة والعلمية أي وأخبره صلى الله تعالى عليه وسلم كما رواه البيهقي (حين ورد عليه) وفي نسخة إذ ورد عليه أي حين وفد على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (رسولا من كسرى) أي ملك فارس وهو وزيره (بموت كسرى ذلك اليوم) أي في يوم ورود فيروز أو في يوم موت كسرى (فلمّا حقّق فيروز القصّة) أي ما قصه عليه من موته في وقته (أسلم) ففاز فيروز فوزا عظيما (وأخبر أبا ذر) كما رواه أحمد (بتطريده) أي بإخراجه من المدينة إلى الربذة (كما كان) أي كما وقع في زمان عثمان بن عفان وفي أصل الدلجي فكان كما كان أي فكان إخباره بتطريده كما كان ثم لا ينافيه ما في دلائل النبوة للبيهقي من أن امرأته أم ذر قالت والله ما سيره عثمان إلى الربذة ولكن قال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا بلغ البناء سلعا فاخرج فلما بلغه وجاوز خرج أبو ذر إلى الشام وذكر رجوعه ثم خروجه إلى الربذة وموته بها إذ يمكن حمل كلامها على أن تسييره عثمان لم يكن قهرا(1/701)
عليه إذ كان أمكنه أن يمتنع منه إلا أنه وافق حكمه أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بخروجه اختيارا فاختار خروجه من غير أن يكون هناك إكراه واجبارا وإلا فالأمر بإخراجه محقق بلا شبهة لقوله (ووجده في المسجد) أي مسجد المدينة (نائما، فقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (له) أي لأبي ذر (كيف بك إذا أخرجت منه) أي في هذا المسجد وما حواليه (قال أسكن المسجد الحرام) أي وما حوله من الحرم، (قال فإذا أخرجت منه الحديث) أي بطوله قيل كان أخرجه عثمان إلى الشام لأنه كان إذا مر به عثمان يقرأ قوله تعالى يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ ثم رضي عليه فرده إلى المدينة ثم أخرجه إلى الربذة هي قرية خربة فسكنها إلى أن مات (وبعيشه وحده وموته وحده) أي وأخبر أن أبا ذر يعيش وحيدا ويموت فريدا فكان كما أخبره عليه الصلاة والسلام على ما رواه أحمد وابن راهويه وابن أبي أسامة والبيهقي واللفظ له قالت أم ذر لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيت فقال وما يبكيك فقلت وما لي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض وليس عندي ما يسع كفنا لي ولا لك قال فأبشري ولا تبكي فإني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المسلمين وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد مات في قرية وجماعة فأنا ذلك الرجل فأبصري الطريق فبينما أنا وهو كذلك إذا أنا برجال على رحالهم كأنهم الرخم فألحفت بثوبي فأسرعوا حتى دخلوا عليه فقال لهم كما قال ثم قال أنتم تسمعون أنه لو كان عندي ثوب يسعني كفنا لي أو لامرأتي لكفنت فيه إني أنشدكم الله ثم أنشدكم الله أن لا يكفني رجل منكم كان أميرا عريفا أو بريدا أو نقيبا وليس منهم أحد إلا قارف ما قال إلا فتى من الأنصار قال أنا اكفنك يا عم في ردائي هذا وثوبين في عيبتي من غزل أمي قال فكفني فكفنه وقاموا فدفنوه وعن ابن مسعود قال لما خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى غزوة تبوك تخلف أبو ذر يتلوم بعيره فقالوا يا رسول الله تخلف أبو ذر فقال دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم قال فلما أبطأ عليه بعيره أخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج ماشيا يتتبع أثر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في شدة الحر وحده فلما رآه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دمعت عيناه وقال يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده فكان كذلك لما مات رضي الله تعالى عنه بالربذة لم يكن معه إلا امرأته وغلامه فلما غسلاه وكفناه وضعاه على قارعة الطريق ينتظران من يعين على دفنه إذ أقبل عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق فلما رآهم الغلام قام إليهم وقال هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأعينونا على دفنه فنزل ابن مسعود وجعل يبكي رافعا صوته ويقول صدق رسول الله في قوله، (وأخبر أنّ أسرع أزواجه به لحوقا) أي وصولا إليه بعد موته (أطولهنّ يدا فكانت زينب) أي بنت جحش. (أسرعهن) لحوقا به (لطول يدها بالصّدقة) رواه مسلم ولفظه عن أم المؤمنين عائشة قالت قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أسرعكن لحوقا بي أطولكن(1/702)
يدا فكن يتطاولن أيتهن أطول يدا فكانت زينب أطولنا يدا لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق ورواه الشعبي مرسلا فقال قلن لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ايتنا أسرع لحوقا بك قال أطولكن يدا في الصدقة وللبخاري عن عائشة اجتمع زوجاته صلى الله تعالى عليه وسلم فقلن له ايتنا أسرع لحوقا بك قال أطولكن يدا فأخذنا قصة نذرعها وكانت سودة بنت زمعة أطولنا ذراعا فتوفي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فكانت أسرعنا لحوقا به فعرفنا أن طول يدها في الصدقة وكانت تحب الصدقة قال الدلجي وهو مخالف لحديث مسلم والشعبي مع منافاة ما أفاده قولها إن طول يدها كان بالصدقة من أنه طول معنى لما أفاد قولها كانت أطولنا ذراعا من أنه طول حسا انتهى ولا منافاة لظنها أولا أن المراد بالطول هو الحسي فتبين لها بعدها أن المقصود هو الطول المعنوي كما هو المعتبر عند أرباب النظر مع ما في العبارة من حسن الإشارة إلى أن التلويح أبلغ من التصريح وأن في التعمية حسن التورية عند الفصيح ثم يمكن الجمع بين ما ورد في الصحيحين أن تكون إحداهما أسرع حقيقيا والأخرى إضافيا ولعل الاسرع منهما هي الأكثر منهما مبادرة إلى الصدقة وهذا مما الهمني الله من التحقيق والله ولي التوفيق ثم رأيت الحلبي قال زينب هذه بنت جحش توفيت سنة عشرين أو إحدى وعشرين لا زينب بنت خزيمة التي تدعى أم المساكين لأنها توفيت في آخر الربيع الأول على رأس تسعة وثلاثين شهرا من الهجرة (وأخبر بقتل الحسين) أي ابن علي رضي الله تعالى عنهما (بالطّفّ) بفتح الطاء وتشديد الفاء مكان بناحية الكوفة على شط نهر الفرات واشتهر الآن بكربلاء كأنه مركب من الكرب والبلاء وحذفت الباء الأولى تخفيفا والاكتفاء بحسب الإيماء واستشهد وهو ابن خمس خمسين سنة ووجد به ثلاث وثلاثون طعنة وثلاث وثلاثون ضربة وكان جميع من حضر معه من أهل بيته وشيعته سبعة وثمانين منهم علي بن الحسين الأكبر وكان يرتجز ويقول:
أنا علي بن الحسين بن علي ... نحن وبيت الله أولى بالنبي
تالله لا يحكم فيها ابن الدعي وقتل من ولد أخيه عبد الله بن الحسن والقاسم بن الحسن ومن أخواته العباس بن علي وعبيد الله بن علي وجعفر بن علي وعثمان بن علي ومحمد بن علي وهو أصغرهم ومن ولد جعفر بن أبي طالب محمد بن عبد الله بن جعفر وعون بن عبد الله بن جعفر ومن ولد عقيل ابن أبي طالب عبد الله بن عقيل وعبد الرحمن بن عقيل وعبد الله بن عقيل وقتل معه من الأنصار أربعة والباقي من سائر العرب ودفنوا بعد قتلهم بيوم وذكر أبو الربيع بن سبع في مناقب الحسين عن يعقوب بن سفيان قال كنت في ضيعتي فصلينا العتمة ثم جلسنا في البيت ونحن جماعة فذكروا الحسين بن علي فقال رجل ما من أحد أعان على قتل الحسين إلا أصابه عذاب قبل أن يموت وكان في البيت شيخ كبير فقال أنا ممن شهدها وما أصابني أمر(1/703)
أكرهه إلى ساعتي هذه فطفئ السراج فقام لإصلاحه ففارت النار فأخذته فجعل يبادر بنفسه إلى الفرات ينغمس فيه فأخذته النار حتى مات قلت بل جمع له بين الإحراق والإغراق (وأخرج بيده تربة) أي قبضة من التراب، (وقال فيها مضجعه) بفتح الميم والجيم ويكسر أي مقتله أو مدفنه رواه البيهقي من طرق ولفظ حديثه عن عائشة أن جبريل كان عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فدخل عليه الحسين فقال جبريل من هذا فقال ابني فقال ستقتله أمتك وإن شئت أخبرتك بالأرض التي يقتل فيها فأشار بيده إلى الطف من العراق فأخذ تربة حمراء فأراه إياها، (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه ابن عدي والبيهقي (في زيد بن صوحان) بضم أول المهملتين اختلف في صحبته (يَسْبِقُهُ عُضْوٌ مِنْهُ إِلَى الْجَنَّةِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ في الجهاد) ولفظ البيهقي عن علي قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من سره أن ينظر إلى رجل يسبقه بعض أعضائه إلى الجنة فلينظر إلى زيد بن صوحان وفي إسناده هذيل بن بلال ضعفه البيهقي وفي الحديث إيماء إلى جواز تعلق الروح بالإجزاء من غير تمام الأعضاء كما حققه العلماء، (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام والتحية والثناء (في الذين كانوا معه) أي كما سبق ذكرهم من الشيخين وعثمان وغيرهم رضي الله تعالى عنهم (على حراء) أي وقد تحرك بهم كما مر في الانباء والمعنى قال في حقهم وعلو شأنهم مخاطبا للجبل (اثبت) أي مع الثابتين من الإعلام (فإنّما عليك نبيّ وصدّيق وشهيد) وفي نسخة بأو في الموضعين فهي للتنويع ولفظ مسلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحرك فقال اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد زاد بعضهم سعدا مكان علي (فقتل عليّ وعمر وعثمان) كذا في النسخ ولعل تقديم علي لثبوت شهادته بصريح الخبر وفي أصل الدلجي فقتل عمر وعثمان وعلي (وطلحة والزّبير وطعن سعد) أي وجرح حصلت له الشهادة بسبب الجراحة وبشهادة الحديث وقال التلمساني أي أصابه طاعون وهو شهادة لكل مسلم انتهى لا كما قال الدلجي ولم تنله الشهادة كما لا يخفى على أهل الإفادة (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه البيهقي (لسراقة) بضم السين وهو ابن مالك بن جعشم بضمتين (كيف بك) أي كيف حالك (إذا لبست سوارى كسرى) تثنية السوار بكسر السين وتضم وجمعه اسورة وجمع الجمع اساور وهو ما يلبس في اليد وفيه تنبيه على هلكه وزوال ماله وملكه مع كمال شوكته وقوته منتقلا إلى أصحابه صلى الله تعالى عليه وسلم وأئمة أمته (فلمّا أتي عمر بهما) أي جيء بسواريه (ألبسهما إيّاه) أي سراقة إظهارا لتحقيق ما صدر عنه صلى الله تعالى عليه وسلم إخبارا (وقال) أي عمر (الحمد لله الذي سلبهما كسرى) أي ملك العجم (وألبسهما سراقة) أي واحدا من بدو العرب ولعل في تقديم المفعول الثاني إيماء إلى الاهتمام بذكرهما وما يعقبه من شكرهما فاندفع اعتراض الدلجي ولو قال ألبسه إياهما لكان أولى، (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه أبو نعيم في الدلائل عن جرير بن عبد الله والخطيب في تاريخه (تبنى) أي(1/704)
ستبنى (مدينة بين دجلة) بكسر الدال وتفتح نهر مشهور بالعراق (ودجيل) بالتصغير بالأهواز عليه مدن كثيرة مخرجه من أصفهان (وقطربل) بضم قاف وسكون مهملة فضم راء وموحدة فلام مشددة ممنوعا من الصرف موضع بالعراق (والصّراة) بمهملة مفتوحة نهر بالعراق وفي بعض الأصول بالهاء بدل الصاد ذكره الشمني قال الحلبي والهراة كذا في الأصل وهو بفتح الهاء بلد معروف وفي القاموس الهراة بلد بخراسان وقرية بفارس والنسبة هروي محركة (تجبى إليها) بضم التاء وسكون الجيم وفتح الموحدة أي تجمع وتجلب إلى تلك المدينة (خزائن الأرض) لأنها صارت دار الملك (يخسف بها) أي يستحق أن يخسف بها لكثرة ظلم أهلها ولأن بناءها أسس على شفا جرف هار (يعني) أي يريد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (بها) أي بتلك المدينة (بغداد) مر بيان لغاتها وقد بناها أبو جعفر الدوانيقي ثاني خلفاء بني العباس لكن قال أحمد بن حنبل لم يحدث به أي بحديث بغداد ثقة ومداره على عمار بن سيف وهو مغفل وقال الذهبي في ميزانه حديثه منكر؛ (وقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْوَلِيدُ هُوَ شَرٌّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ فِرْعَوْنَ لقومه) رواه أحمد ورواه البيهقي عن سعيد بن المسيب مرسلا وحسنه قال وولد لأخي أم سلمة من أمها غلام فسموه الوليد فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا تسموا باسماء فراعنتكم فسموه عبد الله فإنه سكون فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْوَلِيدُ بن عبد الملك ثم رأينا أنه ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك لفتنة الناس إذ خرجوا عليه لأمور اقترفها فقتلوه فانفتحت به الفتن على الأمة كذا ذكره الدلجي وقال الحديث في مسند أحمد من حديث سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله تعالى عنه وسعيد اختلف في سماعه من عمر وقد ذهب أحمد إلى أنه سمع منه وقد ذكر هذا الحديث ابن الجوزي في موضوعاته من طريق أحمد ثم نقل عن ابن حبان أنه خبر باطل إلى آخر كلامه. (وقال) أي كما في الصحيحين (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ دَعْوَاهُمَا واحدة) وهي الإسلام أو الخلافة فوقع كما أخبر في حرب صفين فإن صفوان بن عمرو قال كان أهل الشام ستين ألفا فقتل منهم عشرون ألفا وأهل العراق مائة وعشرون ألفا فقتل منهم أربعون ألفا. (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (لعمر) أي ابن الخطاب كما رواه البيهقي وشيخه الحاكم عن الحسن بن محمد مرسلا (في سهيل بن عمرو) أي في شأنه وقد قال له عمر يا رسول الله دعني أنزع ثنيته فلا تقوم خطيبا في قومه فقال دعها (عسى أن يقوم مقاما ما يسرّك يا عمر فكان) أي الأمر (كذلك) أي مثل ما أخبر عنه هنالك (فإنه قام بمكّة) أي عند الكعبة (مقام أبي بكر) أي في مرتبته وثبات حالته في المدينة (يوم بلغهم موت النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) بتخفيف اللام أي وصلهم خبر موته صلى الله تعالى عليه وسلم (وخطب بنحو خطبته) أي بمثل خطبة الصديق في المدينة يومئذ (وثبّتهم) بتشديد الموحدة أي حملهم على الثبات في الدين (وقوّى بصائرهم) بتشديد الواو أي وصار سببا لتقوية كشف بصائرهم في اليقين فقال من كان محمد الهه فإن محمدا قد مات والله حي(1/705)
لا يموت وكانت خطبة أبي بكر من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت إلا أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه زاد عليه بإتيان الآيات البينة الدالة على موته صلى الله تعالى عليه وسلم لزيادة كماله في الرتبة قال البيهقي ثم لحق في أيام عمر بالشام مرابطا في سبيل الله حتى مات بها في طاعون عمواس، (وقال لخالد) أي ابن الوليد (حين وجّهه) بتشديد الجيم أي أرسله (لأكيدر) بالتصغير ملك كندة اختلف في إسلامه وصحبته (إنّك تجده يصيد البقر) أي بقر الوحش قال الخطيب كان نصرانيا ثم أسلم وقيل بل مات نصرانيا وجمع بينهما بأنه اسلم ثم ارتد قال ابن مندة وأبو نعيم الأصبهاني في كتابيهما معرفة الصحابة أن أكيدر هذا اسلم وأهدى للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم حلة سيراء فوهبها لعمر قال ابن الأثير إما الهدية والمصالحة فصحيحان وأما الإسلام فغلطا فيه فإنه لم يسلم بلا خلاف بين أهل السير وكان أكيدر نصرانيا فلما صالحه عليه الصلاة والسلام عاد إلى حصنه وبقي فيه ثم إن خالدا حاصره زمن أبي بكر فقتله مشركا نصرانيا لنقض العهد قال وذكر البلادري أن أكيدر لما قدم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعاد إلى دومة بضم الدال ويقال دومة الجندل موضع بين مكة وبرك الغماد والحجاز والشام فلما توفي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ارتد أكيدر ومنع ما قبله فلما سار خالد من العراق إلى الشام قتله. (فَوُجِدَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ موته) أي وقعت هذه الأخبار المذكورة جميعها إلا أن منها ما وقع في حياته ومنها ما وقع أو سيقع بعد مماته (كما قال عليه الصلاة والسلام) أي على نهج ما أخبر به عنه في ذلك المقام من المعنى المرام (إلى) أي منضمة أو منتهية إِلَى (مَا أَخْبَرَ بِهِ جُلَسَاءَهُ مِنْ أَسْرَارِهِمْ) أي خفيات أفعالهم (وبواطنهم) أي مكنونات أحوالهم كقوله لرجل وصف له بالعبادة هل حدثت نفسك أنه ليس في القوم خير منك قال نعم وفي رواية ومواطنهم أي ومشاهدهم وفي أصل التلمساني ومواصلتهم أي مواصلة الناس من أهل الإسلام ونقل ما يصنعون إلى إخوانهم الكفرة (واطّلع عليه) أي وإلى ما انكشف عليه (من أسرار المنافقين) أي فيما بينهم (وكفرهم) أي من جهة تواطئهم كما ظهر منهم في غزوة تبوك وهم سائرون بين يديه انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات فأعلمهم به فقالوا لا ما كنا في شيء من أمرك بل كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر فوبخهم الله وكذبهم بقوله تعالى قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (وقولهم فيه) أي ومن تكلمهم في حقه عليه الصلاة والسلام (وفي المؤمنين) أي من أصحابه الكرام كما وقع لرئيس المنافقين عبد الله بن أبي حين قال لأصحابه وقد استقبله نفر من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم فأخذ بيد أبي بكر فقال مرحبا بسيد بني تميم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله ثم أخذ بيد عمر فقال مرحبا بسيد بني عدي الفارق في دين الله ثم أخذ بيد علي فقال مرحبا بابن عم رسول الله صلى الله تعالى عليه(1/706)
وسلم وخنتنه ثم افترقوا فقال لأصحابه كيف رأيتموني فعلت فأثنوا عليه فنزلت فيهم وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ الآيات (حتّى إن) مخففة (كان بعضهم) أي المنافقين (ليقول لصاحبه) أي رفيقه إذا طعن في الإسلام وأهله (اسكت) أي من نحو هذا الكلام (فو الله لو لم يكن عنده من يخبر) أي شيء من الأشياء (لأخبرته حجارة البطحاء) أي صغار الحصى كما وقع يوم فتح مكة حين دخل النبي عليه الصلاة والسلام في البيت وأمر بلالا أن يؤذن فقال عتاب بن أسيد لقد أكرم الله أسيدا أنه لم يسمع هذا فقال الحارث بن هشام أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته وفي رواية أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا فقال أبو سفيان لا أقول شيئا تكلمت لأخبرته عني هذه الحصباء فلما خرج قال لهم لقد علمت الذي قلتم وأخبرهم فقال عتاب والحارث نشهد أنك رسول الله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك، (وإعلامه) أي ومن إخباره عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين عن عائشة (بِصِفَةِ السِّحْرِ الَّذِي سَحَرَهُ بِهِ لَبِيدُ بْنُ الأعصم) أي من يهود (وكونه) أي من كون سحره (في مشط) بضم الميم وسكون المعجمة وتثلث وبضمهما ما يمشط به (ومشاقّة) وفي نسخة صحيحة ومشاطة وكلاهما بضم أولهما بمعنى وهو ما يسقط من الشعر عند امتشاطه (في جفّ طلع نحلة) بضم الجيم وتشديد الفاء أو وعائه في غشائه الذي يكون فوقه ويروى جب بالموحدة وهما بمعنى وهو داخلها وقوله (ذكر) بفتحتين صفة طلع أو نخلة على أن التاء للوحدة كالنملة وليس بفعل ماض معلوم أو مجهول كما يتوهم من أقوال الدلجي (وأنّه) أي السحر فيما ذكر (ألقي في بئر ذروان) بفتح الذال المعجمة وسكون الراء وهي بالمدينة بستان لبني زريق ويقال له بئر ذي أروان كذا في مسلم وكلاهما صحيح وما في مسلم أصح وادعى ابن قتيبة أنه الصحيح ذكره النووي وأما بالواو قبل الراء فموضع بين قديد والجحفة (فكان) أي فوقع الأمر (كما قال) أي من خبر السحر، (ووجد على تلك الصّفة) أي الهيئة من كونه في مشط ومشاطة، (وإعلامه) أي ومن إخباره (قريشا) كما رواه البيهقي عن الزهري (بأكل الأرضة) بفتح الهمزة والراء دويبة تأكل الخشب (ما في صحيفتهم التي تظاهروا) أي تعاونوا وتناصروا (بِهَا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَقَطَعُوا بِهَا رَحِمَهُمْ) أي قرابتهم ممن بينهم وبينهم نسب يجمعهم (وأنّها) أي وبأن الأرضة (أبقت فيها كلّ اسم لله) وقد روى ابن أبي الدنيا في سيرته مرسلا أنها لم تترك فيها اسما لله إلا لحسته وبقي فيها ما كان من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم وقد ذكر الروايتين أبو الفتح اليعمري في سيرته ولعل القضية متعددة أو وقع وهم لبعض في قلب الرواية والمذكور في الأصل هو الأنسب بالدراية فإن لله الأسماء الحسنى باقية على صفحات الدهر بالنعت الأسنى ثم رأيت الحلبي احتار أن كونها لحست اسم الله أقوى وإن كان فيه ابن لهيعة وهو مرسل والآخر ذكره ابن هشام انتهى ولا يخفى أن التعارض إذا وقع فيجمع مهما أمكن وإلا فيرجح(1/707)
وإلا فيحمل على التعدد إذا تصور بأن يقال علقت واحدة في الكعبة وأخرة عندهم والله تعالى اعلم (فوجدوها) أي الصحيفة (كما قال) أي من أكل بعض ما فيها وإبقاء باقيها (ووصفه) عطف على إعلامه أي ونعته عليه الصلاة والسلام (لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ بَيْتَ الْمَقْدِسِ حِينَ كَذَّبُوهُ فِي خبر الإسراء) أي في صبيحة ليلة أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى منتهيا إلى السماء (ونعته إيّاه) أي بيت المقدس لهم على ما مر (نعت من عرفه) أي كنعت من عرفه حق معرفته (وإعلامهم) أي وإعلامه إياهم (بعيرهم) بكسر العين أي بقافلة إبلهم (التي مرّ عليها في طريقه) أي حين رجع من مسيره إلى مقام تحقيقه (وإنذارهم) أي أعلامهم (بوقت وصولها) وأن جملا أورق يقدمها في يوم كذا قبل أن تغيب الشمس في مغربها (فكان) أي فوقع ذلك (كلّه كما قال) أي كما أخبره صلى الله تعالى عليه وسلم (إلى ما) أي مع مَا (أَخْبَرَ بِهِ مِنَ الْحَوَادِثِ الَّتِي تَكُونُ) أي ستوجد ويأتي أمرها (ولم تأت بعد) بضم الدال أي ولم تقع عقب زمن إخباره بل ستأتي بعد أزمان متباعدة عن آثاره (منها) أي من الحوادث التي تكون (ما ظهرت مقدّماتها) بكسر الدال المشددة وتفتح وفي نسخة مقدماته (كقوله) أي فيما رواه أبو داود (عمران بيت المقدس) بضم العين أي كثرة عمارته باستيلاء الكفار على إمارته (خراب يثرب) أي سبب خراب المدينة المشرفة وضعف جماعته (وخراب يثرب خروج الملحمة) أي علامة ظهور الحرب والفتنة، (وخروج الملحمة فتح القسطنطينيّة) بضم القاف والطاء الأولى وتفتح وبكسر الطاء الثانية وبعدها ياء ساكنة فنون وتاء تأنيث كذا في النسخ المصححة وفي رواية السجزي بزيادة مشددة وهي دار ملك الروم ثم كل سابقة مما ذكر علامة مستعقبة للاحقة وفي حاشية الحجازي وقسطنطينية ويروى بلام التعريف وفيها ست لغات فتح الطاء الأولى وضمها مع تخفيف الياء الأخيرة ومع تشديدها ومع حذفها وحذف النون والقاف مضمومة بكل حال ثم اختلفوا هل افتتحت أم لا فقيل كان ذلك في زمن عمر أو عثمان وقيل لا بل إنما ستفتح مع قيام الدجال والله تعالى أعلم بالحال (ومن أشراط السّاعة) أي وإلى ما أخبر به من علاماتها المتقدمة كما في الصحيحين أن من اشراط الساعة أن يرفع العلم ويكثر الجهل والزنا وشرب الخمر وتقل الرجال وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم والواحد (وآيات حلولها) أي علاماته المؤذنة بوقوعها وحصولها لحديث مسلم لن تقوم الساعة حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوفات خسفا بالمشرق وخسفا بالمغرب وخسفا بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم (وذكر النّشر والحشر) أي ومن ذكره صلى الله تعالى عليه وسلم إياهما في أشراط الساعة فالمراد بهما ما يقع قبل القيامة من التفرقة والجمع كما حكى النووي عن العلماء من أن آخر أشراطها في الدنيا قبل النفخة الأولى نفخة الصعق أي الموت بدليل ذكره مع آيات حلولها ولقوله عليه الصلاة والسلام ويحشر بقيتهم النار تبيت معهم وتقيل معهم كما في(1/708)
حديث مسلم يحشر الناس أي أحياء إلى الشام على ثلاث طرائق راغبين راهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير ويحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا وأما ما بعد بعثهم من القبور فعلى خلاف هذه الصفة من ركوب الإبل والتعاقب عليها بل هو على ما ورد من كونهم حفاة عراة غرلا كما بدأكم تعودون هذا ووقع في أصل الدلجي والنشر بعد الحشر وفسره بالبعث وهو إعادة ما افناه ولا يخفى أنه لا يناسب المقام مع أنه لغة غير مطابق للمرام فالصواب ما قدمناه في الأصل من النسخ المصححة المشيرة إلى أن الحشر بعد النشر في علامات الساعة بخلاف يوم القيامة فإن الحشر قبل النشر لأنه يجمع الخلق أولا ثم يفرق بينهم كما أخبر عنه سبحانه وتعالى بقوله فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، (وأخبار الأبرار) جمع بر أو بار أي وذكر أخبارهم بما يسرهم مجملا وتفصيلا لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم إخبارا عن الله سبحانه وتعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، (والفجّار) جمع فاجر من فاسق وكافر وأخبارهم أي بما يسوؤهم كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم إن التجار يوم القيامة يبعثون فجارا إلا من اتقى الله وصدق، (والجنّة، والنّار) أي ومن ذكرهما (وعرصات القيامة) أي وذكر مواقفها من الميزان والحوض والصراط وغيرها وكان الأنسب تأخير الجنة والنار عن عرصات القيامة هذا وإن أردت تفصيل ذلك في الجملة فعليك بكتاب شيخ مشايخنا جلال الدين السيوطي المسمى بالبدور السافرة في أحوال الآخرة.
(وبحسب هذا الفصل) بسكون السين والياء زائدة كما في قولهم بحسبك درهم أي حسبك والمعنى كفى هذا الفصل من كماله في الفضل (أن يكون ديوانا مفردا) أي دفترا منفردا (يشتمل على أجزاء وحده) أي متوحدا غير منضم إلى غيره (وَفِيمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ نُكَتِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذكرناها كفاية) أي غنية لمن له دراية (وأكثرها في الصّحيح) أي رواية (وعند الأئمّة) أي من كتب أصحاب السنة (والله ولي التوفيق) أي بالهداية في البداية والنهاية.
فصل [في عصمة الله تعالى له صلى الله تعالى عليه وسلم من الناس وكفايته من آذاه]
(في عصمة الله تعالى له) أي في وقايته وحمايته (من الناس وكفايته من آذاه) أي وكفاية الله إياه شر من آذاه ممن عاداه ويروى وكفاية من آذاه (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] ) أي يمنعك منهم ويكفيك عنهم (وَقَالَ تَعَالَى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور: 48] ) أي بمرأى منا ومرعى في حفظنا وجمع العين مناسبة لضميرها أو مبالغة في تعبيرها (وقال: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] ) وفي إنكار النفي مبالغة في إثبات الكفاية (قيل بكاف محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم أعداءه المشركين) فالمراد بعبده الفرد الأكمل أو المعهود الأفضل ويؤيده أن المشركين كانوا يقولون له إنا نخاف أن يعتريك آلهتنا بسوء لتعييبك إياها وقد روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى العزى ليكسرها فقال له(1/709)
سادنها إني أحذركها يا خالد إن لها شدة لا يقوم لها شيء فعمد إليها خالد فهشم انفها فنزل أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي مما لا يقدر على نفع وضر في نفسه (وقيل) أي في معنى الآية (غير هذا) أي القول بقصر الكفاية على محمد بل كافيه ولا كافي غيره فتكون الإضافة للجنس ويؤيده قراءة حمزة والكسائي أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ بصيغة الجمع (وَقَالَ: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الْحِجْرِ: 95] وَقَالَ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: 30] الآية) وقد سبق معناهما وما يتعلق بمبناهما وقد قال الله تعالى أيضا فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي بالأقوال والأحوال. ( [أخبرنا القاضي الشّهيد أبو عليّ الصّدفيّ) بفتحتين وهو ابن سكرة (بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ وَالْفَقِيهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بن عبد الله المعافريّ) بفتح الميم وتضم وكسر الفاء هو الاشبيلي وهو المعروف بابن العربي سمع نصر بن إبراهيم المقدسي وطبقته وروى عنه جماعة توفي بفاس سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة وهو على دابته بباب فاس وقد كان سقي سما فمات شهيدا مظلوما (قالا) أي كلاهما (حدّثنا أبو الحسين) بالتصغير وهو الصواب (الصّيرفيّ) وهو المبارك بن عبد الجبار (قال حدّثنا أبو يعلى البغداديّ) وهو المعروف بابن زوج الحرة (حدّثنا أبو عليّ السّنجيّ) بكسر السين والجيم بينهما نون ساكنة (حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَرْوَزِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى الحافظ) أي الترمذي كما في نسخة وهو صاحب الجامع (حدّثنا عبد بن حميد) بالتصغير وتقدم أن هذا من غير إضافة (ثنا مسلم بن إبراهيم) أي الأزدي سمع ابن المبارك وغيره روي عنه البخاري وأبو داود والدارمي (ثنا الحارث بن عبيد) هو أبو قدامة الأيادي البصري روى عن ثابت الجوني أخرج له مسلم واستشهد به البخاري (عن سعيد الجريريّ) بضم الجيم وفتح الراء روى عن أبي الطفيل ويزيد بن الشخير وعنه شعبة ويزيد بن هارون (عن عبد الله بن شقيق) هو العقيلي البصري يروي عن عمر وأبي ذر والكبار وعنه قتادة وأيوب قال أحمد ثقة تحمل عن علي رضي الله تعالى عنه (عن عائشة) قال الحلبي أخرجه الترمذي في التفسير عن الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ عبد الله بن شقيق قال ولم يذكروا عائشة (قالت كان النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يحرس) بصيغة المجهول أي يحفظ من الأعداء (حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] ) أي يحرسك من قتلهم إياك (فأخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رأسه من القبّة) هي بيت صغير من الخيام مستدير من بيوت العرب (فقال لهم يا أيّها النّاس انصرفوا) إلى رحالكم وكونوا على حالكم (فقد عصمني ربّي عزّ وجلّ) أي فقد تكفل بعصمتي ومحافظتي من كيد أعدائي من غير واسطة لي (وروي أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا اخْتَارَ له أصحابه شجرة يقيل) بفتح الياء وكسر القاف أي يستريح (تحتها) من القيلولة وهي نوم نصف النهار ومنه قوله تعالى أَوْ هُمْ قائِلُونَ ومنه شعر الهاتف بمكة في حديث الهجرة إلى المدينة:
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد(1/710)
أي نزلا فيها عند القائلة وهي وقت الاستراحة من الظهيرة (فأتاه أعرابيّ) أي بدوي (فاخترط سيفه) أي سله من غمده ومرجع الضمير إما هو عليه السلام وإما الأعرابي (ثُمَّ قَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي فَقَالَ اللَّهُ) أي الله يمنعني منك (فرعدت) وفي نسخة صحيحة فرعدت بالبناء للمفعول فيهما وفي نسخة فارتعدت ويروى فذعرت بذال معجمة من الذعر وهو الفزع لكن لا يلائم إسناده إلى قوله (يد الأعرابيّ) أي إصابته رعدة وحركة مضطربة من الخوف (وسقط سيفه) في أصل الدلجي وسقط السيف من يده (وضرب برأسه الشّجرة حتّى سال دماغه) أي دما ونحوه (فنزلت الآية) أي آية وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وما رواه من الزيادة فغير معروف عند أرباب الدراية، (وقد رويت هذه القصّة) أي مثلها (في الصّحيح) أي للبخاري وغيره (وأنّ غورث بن الحارث) فوعل آخره مثلثة ويهمل أوله ويعجم مكبرا ومصغرا كما في الرواية الأخرى وتقدم أنه اسلم وصحب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وروي أنه دعثور فعلول كبهلول وعينه مهملة ذكره التلمساني (صَاحِبُ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَفَا عَنْهُ فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ وَقَالَ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ وَقَدْ حكيت) في نسخة وهي الأولى وقد حكي (مثل هذه الحكاية أنّها) وفي نسخة وَأَنَّهَا (جَرَتْ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدِ انْفَرَدَ من أصحابه) جملة حالية (لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ فَتَبِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَذَكَرَ) بصيغة المجهول والمعلوم (مثله) أي مثل قوله من يمنعك أو مثل ما حكي من أنه اخترط سيفه الخ فرده الله خاسئا (وقد روي) أي كما في سيرة ابن إسحاق الكبرى موصولا عن جابر بن عبد الله (أنّه وقع له) أي للنبي عليه الصلاة والسلام (مثلها في غزوة غطفان) بفتحتين قبيلة (بذي أمر) بفتحتين موضع معروف من ديارهم ويقال لها غزوة نجد أيضا وولي المدينة حينئذ عبد الله ابن أم مكتوم استعمله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عليها حين خرج إليها محاربا لهم (مع رجل اسمه دعثور) بالضم (ابن الحارث) أي الغطفاني والظاهر أن الخبرين واحد ويؤيده قول الذهبي في تجريده الأشبه أنه غورث بن الحارث وقال الحجازي ويروى غويرث (وأنّ الرّجل) أي المشار إليه (أَسْلَمَ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ الَّذِينَ أَغْرَوْهُ) من الإغراء أي الزموه وحثوه على فعله هذا وفي نسخة أغووه أي أضلوه (وكان) أي الرجل (سيّدهم) أي رئيسهم (وأشجعهم) جملة معترضة (قالوا له أين ما كنت تقول) أي من دعوى القدرة وإظهار الشجاعة (وقد أمكنك) أي والحال أنك قد تمكنت من الفتك فيه (فَقَالَ إِنِّي نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ أَبْيَضَ طَوِيلٍ دفع في صدري فوقعت لظهري) وفي نسخة إلى ظهري (وسقط السّيف) أي من يدي (فعرفت أنّه ملك وأسلمت؛ قيل وفيه نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ [المائدة: 11] ) أي قصدوا أن يمدوها فتكا وأهلاكا (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) أي فمنعها الله أن تمد إليكم (الآية) تمامها وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وفي رواية أن المشركين رأوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه بعسفان قد صلوا الظهر جميعا فندموا أن لا كانوا أكبوا عليه وهموا أن(1/711)
يوقعوا بهم فعلا إذ قاموا إلى صلاة العصر فنزلت صلاة الخوف وقيل أتى صلى الله تعالى عليه وسلم بني قريظة ومعه الخلفاء الأربعة يستقرضهم دية مؤمنين قتلهما عمرو بن أمية خطأ ظنهما كافرين فقالوا نعم يا أبا القاسم اجلس نطعمك ونقرضك فجلس في صفة فهموا بقتله فعمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله يده فأخبره جبريل فخرجوا من عندهم سالمين. (وَفِي رِوَايَةِ الْخَطَّابِيِّ أَنَّ غَوْرَثَ بْنَ الْحَارِثِ) وفي نسخة غويرث مصغرا واختاره الحلبي وتبعه الحجازي وروى الخطابي أن غورث أو غويرث بن الحارث المحاربي على الشك أهو بالغين المهملة والمعجمة ولم يشك في التصغير والمشهور ما ذكره الحافظ المزي أن غورث بالمعجمة غير مصغر كما أورده المصنف فيما تقدم والله سبحانه وتعالى اعلم (المحاربيّ) بضم الميم وكسر الراء والموحدة (أراد أن يفتك) بكسر التاء الفوقية وتضم وحكي الفتح أيضا أي يأخذ على غرة وغفلة باطشا (بالنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بقتله فجأة (فلم يشعر) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بِهِ (إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ مُنْتَضِيًا) بالضاد المعجمة والتحتية أي سالا (سَيْفَهُ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِ بِمَا شِئْتَ فَانْكَبَّ من وجهه) أي انقلب أو سقط ومن ابتدائية أو بمعنى على وفي أصل الدلجي فاكب لوجهه أي عليه (من زلّخة) بضم زاء وتشديد لام مفتوحة فخاء معجمة وقيل مشددة (زلّخها) بضم أوله وكسر ثانيه مخففة أي من أجل زلخة (بين كتفيه وندر) أي خرج وسقط (سيفه من يده والزّلّخة وجع الظّهر) أي بحيث لا يتحرك من شدته ويروى بتخفيف اللام من الزلخ وهو الزلق (وقيل في قصّته) أي قصة غورث (غير هذا) أي ما ذكر من نوع آخر وهو ما روي أنه أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو عليه السلام متقلد بسيفه قال ابن هشام وكان محلى بفضة فقال يا محمد أرني سيفك فأعطاه إياه فجعل الرجل يهز السيف وينظر مرة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومرة إلى السقف فقال من يمنعك مني يا محمد قال الله فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فشام السيف ومضى فأنزل الله هذه الآية، (وذكر) بصيغة المجهول أي وذكر بعضهم وفي أصل الدلجي ذكر بصيغة الفاعل أي ذكر الخطابي (أنّ فيه) أي في غورث (نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ [الْمَائِدَةِ: 11] الْآيَةَ) أي كما سبقت (وقيل كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يخاف قريشا) أي من أن يقتلوه أو يخذلوه (فلمّا نزلت هذه الآية) أي ونحوها من قوله تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وما اخترنا من الجمع بينهما أولى مما قال الدلجي أي هذه الآية أو وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ (استلقى) جواب لما أي رقد على قفاه أو كناية عن استراح من أذى من آذاه (ثمّ قال من شاء فليخذلني) أو من شاء فلينصرني فإن ربي لا يخذلني فالأمر للتهديد نحو قوله تعالى فمن شاء فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ أو المعنى فليخذلني أي فليقتلني فإنه لا يقدر على ذلك فالأمر للتعجيز. (وَذَكَرَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ كَانَتْ حَمَّالَةُ الحطب) وهي العوراء أخت أبي سفيان بن حرب زوجة أبي لهب عم النبي(1/712)
صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل بنت هشام أخت أبي جهل (تضع العضاة) بكسر العين وفي آخر الكلمة هاء وقفا ووصلا وهي أشجار عظام ذات شوك ولعل التقدير ترمى شوكها وقد تصحف على الحلبى حيث ضبط بفتح الغين والضاد المعجمتين وهو مخالف لما في الأصول المعتمدة والحواشي المعتبرة (وهي جمر) جملة حالية ولعل المراد تشبيه الشوك بالجمرة حال حدتها فإن الجمرة هي النار المتوقدة ثم اعلم أن بعضهم ذكر في معناه أنه شجر لجمره حرارة شديدة وقد قال أهل التفسير إنها كانت تضع الشوك ولذا سميت حمالة الحطب على أحد الأقوال ولعلها كانت تضع الشوك مرة والجمر أخرى أو كانت تجمع بينهما والله تعالى أعلم (على طريق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يمشي عليها (فكأنّما يطؤها كثيبا أهيل) بفتح فسكون فتحتية فلام وروي بميم وهما بمعنى أي رملا سائلا حيث لم يتضرر بها (وذكر ابن إسحاق عنها) أي عن حمالة الحطب ورواه أبو يعلى والبيهقي وابن أبي حاتم عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنهما (أنّها) أي حمالة الحطب (لَمَّا بَلَغَهَا نُزُولُ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد: 1] ) وزيد في نسخة وتب (وذكرها) أي وبلغ ذكر الله إياها (بِمَا ذَكَرَهَا اللَّهُ مَعَ زَوْجِهَا مِنَ الذَّمِّ) أي بقوله وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (أتت رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ أبو بكر وفي يدها فهر) بكسر الفاء وسكون الهاء بعدها راء حجر ملء الكف (فلمّا وقفت عليهما) أي قريبا من مكانهما (لم تر) جواب لما أي ما رأت (إلّا أبا بكر وأخذ الله ببصرها) أي صرفه وحجبه (عن نبيه عليه الصلاة والسلام فَقَالَتْ يَا أَبَا بَكْرٍ أَيْنَ صَاحِبُكَ فَقَدْ بلغني أنّه يهجوني) أي يذمني (والله لو وجدته) أي حاضرا ولو صادفته (لضربت بهذا الفهرفاه) أي فمه فرجعت خائبة خاسئة، (وعن الحكم بن أبي العاص) والد مروان بن الحكم عم عثمان بن عفان اسلم يوم الفتح وقد روى أبو نعيم في الدلائل والطبراني بسند جيد عنه (قال تواعدنا) أي اجتمعنا وتمالأنا معشرا من الكفار (على النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي على قتل النبي المختار واستمر هذا الإصرار (حتّى إذا رأيناه) أي في موضع (سمعنا صوتا خلفنا) أي صوتا عظيما من ورائنا (ما ظننّا أنّه بقي بتهامة) أي بأرضها والمراد بها هنا مكة (أحد) أي حيا هكذا في الأصول بقي ووقع في أصل الدلجي لم يبق فتكلف بل تعسف حيث قال الظن وإن لم به حرف النفي فليس بمنفي بل المنفي ظنا هو البقاء أي ظننا أنه لم يبق بتهامة أحد هذا وتهامة أولها من ذات عرق إلى البحر (فوقعنا) أي سقطنا (مغشيّا علينا) أي من فزع ما سمعنا وهول ما ظننا (فما أفقنا) أي ما انتبهنا (حتّى قضى صلاته) أي فرغ عليه الصلاة والسلام منها (ورجع إلى أهله) أي مضى كما في نسخة (ثمّ تواعدنا ليلة أخرى فجئنا) أي قاصدين له (حتّى إذا رأيناه) أي خاليا في مكان (جاءت الصّفا والمروة) أي حضرتا أو تصور شيء بصورتهما (فحالت بيننا وبينه، وعن عمر تواعدت أنا وأبو جهم بن حذيفة) بالرفع هو عبد الله بن(1/713)
حذيفة بن غانم العدوي اسلم عام الفتح وصحب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكان مقدما في قريش معظما وكانت فيه وفي بنيه شدة وقد أدرك بنيان الكعبة حين بناها ابن الزبير فعمل فيها ثم قال قد عملت في الكعبة مرتين مرة في الجاهلية بقوة غلام يافع وفي الإسلام بقوة شيخ فان وهو صاحب الأنبجانية (ليلة) أي من الليالي حال غفلة (قتل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) بالنصب على نزع الخافض وهو علي كما في نسخة صحيحة (فجئنا منزله) أي لنتفحص حاله (فسمعنا له) أي صوتا وفي نسخة فتسمعنا له أي لصوته (فافتتح) أي ابتدأ القراءة (وقرأ الْحَاقَّةُ) أي الساعة الواجب وقوعها الثابت مجيئها ويحقق الأمور فيها وتعرف حقيتها مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: 1- 2] ) خبر المبتدأ أي أي شيء هي فوضع المظهر موضع المضمر تفخيما لشأنها وتعظيما لهولها (إِلَى فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: 8] ) أي ما ترى لهم من بقية أو بقاء أو نفس باقية وما بينهما من معلوم القرآن وتفسيره مما لا يحتاج إلى البيان (فَضَرَبَ أَبُو جَهْمٍ عَلَى عَضُدِ عُمَرَ وَقَالَ) عمر (انج) أمر من نجا ينجو (وفرّا) وفي نسخة ففرا أي ذهبا كلاهما (هاربين) أي شاردين وفيه مبالغة لا تخفى (فكانت) أي القضية وقال الدلجي أي المواعدة أو قراءة الحاقة (من مقدّمات إسلام عمر) أي مقتضياته وكذا من إسلام أبي جهم على ما تقدم (ومنه) أي ومن قبيل أخذ بصر الأعداء محافظة لسيد الأحباء (العبرة المشهورة) بكسر العين وهي ما يعتبر من القضية العامة (والكفاية التّامّة عند ما أخافته قريش) أي خوفوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وأجمعت) وفي نسخة واجمعت أي عزمت (على قتله وبيّتوه) بتشديد التحتية أي دبروه ليلة ليقتلوه غيلة على غرة وغفلة (فخرج عليهم من بيته) كما رواه ابن إسحاق والبيهقي عنه عليه الصلاة والسلام (فقام على رؤوسهم وقد ضرب الله على أبصارهم) أي حجبها عن رؤيته (وذرّ التّرّاب) بذال معجمة فراء مشددة أي نثره وفرقه (على رؤوسهم) قال الحلبي وكانوا مائة وفي نسخة بتخفيف الراء فهمزة وهو تصحيف وتحريف (وخلص منهم) أي نجا وتخلص من غير أن يصيبه شيء وفي رواية أنه خرج من ظهر البيت طأطأت له جارية اسمها مارية خادمته عليه الصلاة والسلام حتى تسور الجدار الذي للبيت من ظهره (وحمايته) أي ومنه حفظه بحجبه (عن رؤيتهم) أي له ولأبي بكر (في الغار) متعلق بأحد المصدرين وقال الدلجي حال والتقدير وهما في الغار وهو تكلف بل تعسف (بما هيّأ الله) أي قدره (له من الآيات) أي من خوارق العادات (ومن العنكبوت) عطف بيان لبعض ما قبله (الّذي نسج عليه) أي على باب الغار وهو غار ثور جبل يمنة مكة (حتّى قال أميّة بن خلف) وهو ممن مات كافرا (حين قالوا) أي أصحابه (ندخل الغار) بصيغة الاخبار على تقدير الاستفهام وروي أدخل فعل أمر أي رجاء أن يكون فيه مخفيا (ما أربكم فيه) بفتح الهمزة والراء وهو مقول أمية أي شيء حاجتكم الداعية لدخولكم في الغار (وعليه من نسج العنكبوت ما أرى) بضم الهمزة وفتحها أي شيء أظن (أنّه قبل أن يولد محمّد) أي كائن أو موجود على باب الغار وفي نسخة إن هو إلا من قبل(1/714)
أن يولد محمد وفي نسخة ما رابكم بدل ما اربكم أي أي شيء أوقعكم في الريبة وشبه المظنة أنه في الغار والحال الخ (ووقفت) بالفاء وروي بالعين أي سقطت (حمامتان على فم الغار) وهو نقب في الكهف (فقالت قريش) أي كلهم أو بعضهم (لَوْ كَانَ فِيهِ أَحَدٌ لَمَا كَانَتْ هُنَاكَ الحمام) أي لكمال نفرته عن الأنام (وقصّته) أي ومن ذلك قصته عليه السلام كما رواه الشيخان عن البراء (مع سراقة بن مالك بن جعشم) بضم جيم وشين معجمة (حين الهجرة) بكسر الهاء وقال التلمساني بفتح وبكسر (وقد جعلت قريش فيه) أي في حق النبي (وفي أبي بكر) أي في أخذهما (الجعائل) جمع جعيلة أو جعالة بالفتح وهي الأجرة على شيء فعلا أو قولا والجعل بالضم الاسم وبالفتح المصدر فتدبر وقد عين السهيلي ذلك فقال بذلت قريش مائة ناقة لمن يرد عليهم محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم (فأنذر به) على بناء المفعول أي فاعلم سراقة بتوجهه صلى الله تعالى عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة (فركب فرسه واتّبعه) بتشديد الفوقية أي تبعه رجاء أن يلحقه (حتّى إذا قرب) بضم الراء أي دنا (منه دعا عليه النّبي صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لما رأى عليه من آثار الشر وتوهم الضر (فساخت) بالخاء المعجمة أي غاصت وغابت في الأرض وانخسفت (قوائم فرسه فخرّ عنها) أي فسقط أو فنزل عنها (واستقسم بالأزلام) جمع زلم بفتحتين أو بضم ففتح وهي سهام لا ريش بها ولا نصل كان يكتب على أحدها أفعل وعلى الآخر لا تفعل وغيرها غفل وكان محلها داخل الكعبة عند السدنة كما في تفسير قوله تعالى وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ وكان بعضهم يضعها في متاعه أو جعبته فإذا عرض له مهم أخرج منها سهما فإن خرج له افعل فعل أو لا تفعل انفعل وان خرج الغفل أعاد العمل وقيل كان المكتوب على الواحد أمرني ربي وعلى الثاني نهاني ربي والثالث غفل لا شيء عليه وقيل إن الازلام حصى بيض كانوا يضربون بها لذلك والأول أعرف وأصل معنى استقم ضرب بها لإخراج ما قسم الله له من أمره ونهيه وطلب معرفة تمييزه بكونه ان خرج له ما يحب فعله أو خرج له ما يكره كف عنه وهذا كله بناء على زعمه (فخرج له ما يكره) أي من الفال وعلى كل فال مع هذا ما التفت عن تلك الحال (ثُمَّ رَكِبَ وَدَنَا حَتَّى سَمِعَ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم وهو) أي النبي (لا يلتفت) أي إليه أو مطلقا (وأبو بكر يلتفت) أي إلى سراقة أو إلى جوانبه أو إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وقال للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أتينا) بصيغة المجهول أي لحقنا من طلبنا أو لحقونا أو أتانا البلاء وجاءنا العناء (فقال لا تحزن إنّ الله معنا) أي ناصرنا ومعيننا أو معية خاصة من قرب الرب إلينا وفيه إيماء إلى ما ورد من أن الله يتجلى للناس عامة ولأبي بكر خاصة. (فساخت) أي قوائم فرسه (ثانية) أي مرة أخرى (إلى ركبتيها وخرّ عنها فزجرها) أي صاح عليها ونهرها (فنهضت) أي فقامت ووثبت (ولقوائمها مثل الدخّان) بتخفيف الخاء وتشدد أي من آثار الغبار المرتفع (فناداهم) أي النبي والصديق وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر (بالأمان) أي بطلبه (فكتب له النّبيّ أمانا) أي أمر بكتابته لقوله (كتبه(1/715)
ابن فهيرة) بضم الفاء وفتح الهاء وسكون الياء كان أسود وهو ممن عذب في الله قتل ببئر معونة والتمس ليدفن فلم يوجد فرأوا أن الملائكة دفنته وهو قديم الإسلام اسلم قبل أن يدخل عليه السلام دار الأرقم بن أبي الأرقم ثم ما تقدم هو في الصحيح قال التلمساني اشتراه أبو بكر من الطفيل بن عبد الله بعد ما اسلم فأعتقه وكان يرعى الغنم في جبل ثور ثم يروح بها على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر في الغار وكان رفيقهما إلى المدينة حين هاجرا وشهد بدرا وأحدا وقتله عامر بن الطفيل يوم بئر معونة يروى عنه أنه قال حين طعنت ابن فهيرة رأيت نورا خرج من الطعنة (وقيل أبو بكر) أي ونقل في السيرة أنه كتبه أبو بكر وجمع بأن عامرا كتبه أولا فلم يرض سراقة إلا بكتابة أبي بكر لسيادته المعروفة في قريش وأن عامرا مولاه قال الحلبي وكتابه عليه الصلاة والسلام نيف وأربعون نفرا ومنهم الخلفاء الأربعة وأكثرهم ملازمة لكتابه عليه السلام زيد بن ثابت ثم معاوية بن أبي سفيان بعد الفتح ذكر ذلك غير واحد من الحفاظ انتهى وقيل معاوية لم يكتب الوحي وإنما كتب غيره والله تعالى أعلم (وأخبرهم) أي سراقة (بالأخبار) أي أخبار الأغيار من كفار قريش وما جعلوه من الجعائل فيهما (وأمره النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أن لا يترك أحدا) أي ممن يلقاه من ورائه (يلحق بهم) بل يدفعه عن اتصاله إليهم ويلحق بالرفع وهو حال وفي نسخة بالنصب ووجهه إسقاط إن وابقاء عملها وهو قليل ومعناه هنا بعيد جدا (فانصرف) أي سراقة (يقول للنّاس) أي المقبلين لطلبهم (كفيتم) بصيغة المجهول (ما ههنا) أي ما يتصور وجوده في جهتها أو المعنى ليس أحد ممن تطلبونه ههنا وأغرب التلمساني في قوله أمنتم من خوفكم وعصمتم مما هنا (وقيل بل قال لهما) أي سراقة (أراكما دعوتما عليّ) أي بالمضرة (فادعوا لي) أي بالمنفعة (فنجا) أي بعد ما دعوا له (وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ ظُهُورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي فكان من مقدمات إسلامه (وفي خبر آخر) غير معروف عند أهل الأثر (أنّ راعيا عرف خبرهما) أي من أنهما توجها إلى صوب المدينة ونحوها (فخرج) أي من مكانه (يشتدّ) أي يعدو عدوا سريعا (يعلم) أي حال كونه يريد أن يعلم وفي نسخة ليعلم (قريشا) أي بأحوالهما (فلمّا ورد مكّة ضرب) بصيغة المفعول أي ضرب بعض حجبه (على قلبه) وحبس على خاطره (فما يدري ما يصنع) أي من كمال الذهول والغفلة والدهشة والوحشة (وأنسي ما خرج له) أي لأجله وفي نسخة إليه أي إلى حصوله (حَتَّى رَجَعَ إِلَى مَوْضِعِهِ وَجَاءَهُ فِيمَا ذَكَرَ ابن إسحاق) في المغازي (وغيره) كأبي نعيم في الدلائل عن ابن عباس أنه أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (أبو جهل بصخرة وهو) أي والحال أنه عليه الصلاة والسلام (ساجد وقريش ينظرون) أي إليه كما في نسخة (ليطرحها عليه) وحلف لئن رآه ليدمغنه (فلزقت) بكسر الزاء أي لصقت كما في رواية (بيده ويبست) بكسر الموحدة أي جفت (يداه إلى عنقه) أي مغلولتين إليه وممنوعتين من الحركة لديه في طرحها عليه (وأقبل يرجع) أي وشرع راجعا (القهقرى) بفتح القافين مقصورا هو الرجوع إلى الوراء فقوله (إلى(1/716)
خلفه) تأكيدا لما قبله أو تجريد لمعناه من أصله (ثمّ سأله) أي أبو جهل (أن يدعو له ففعل) أي دعا له ولم يؤاخذه كرما وشفقة وحلما ولما كان بينهما قرابة ورحما مما يقتضي لطفا ورحما (فانطلقت يداه) أي عقب ما دعا الله تعالى (وكان) أي أبو جهل (قد تواعد مع قريش بذلك) أي بطرح صخرة عليه (وحلف) أي عندهم (لئن رآه) أي ساجدا كما في نسخة (ليدمغنّه) أي ليصيبن دماغه وليهلكنه (فسألوه عن شأنه) أي عن رجوعه بعد ظهور طغيانه (فذكر أنّه عرض لي) وفي نسخة له أي ظهر (دونه) أي بين يديه أو حواليه (فحل) أي من الإبل أو نحوه (ما رأيت مثله) أي عظمة وهيبة (قطّ) أي أبدا (همّ) وفي نسخة فهم (بي) أي قصدني (أن يأكلني فقال النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك جبريل) أي تمثل له بصورة الفحل (لو دنا) أي قرب مني (لأخذه) أي أخذ عزيز مقتدر، (وَذَكَرَ السَّمَرْقَنْدِيُّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ) وهو أبو جهل بن هشام بن المغيرة أو أحد أقاربه (أتى النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقْتُلَهُ فَطَمَسَ اللَّهُ عَلَى بَصَرِهِ) أي محا قوة نظره (فلم يره) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما في نسخة (النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ قَوْلَهُ فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ) أي وهو أعمى (فلم يرهم حتّى نادوه) أي فعرف مكانهم ثم رآهم أو استمر على عماه (وذكر) أي السمرقندي (أنّ في هاتين القّصتين) أي قصة أبي جهل والنبي بعدها وروي القضيتين (نَزَلَتْ إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا [يس: 8] الآيتين) وفي نسخة إلى قوله مُقْمَحُونَ والإقماح رفع الرأس وغض البصر وقد روى أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس بلفظ أن ناسا من قريش قاموا ليأخذوه فإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم وإذا هم عمى لا يبصرون فقالوا ننشدك الله والرحم فدعا حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت يس إلى قوله لا يُؤْمِنُونَ، (ومن ذلك ما ذكره ابن إسحاق) أي وغيره كما في نسخة صححية كالكلبي في تفسيره (فِي قِصَّتِهِ إِذْ خَرَجَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ) وقال الحجا أي وغيره الذي ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل السير أن ذلك ما كان من بني النضير وهو سبب غزوهم لا من بني قريظة فإن سببهم غزوة الخندق ثم قريظة والنضير أخوان هما ابنا الخزرج من ذرية هارون أخي موسى عليه السلام بالتصغير قال الحلبي والصواب أن يقول بني النضير كما في سيرة ابن سيد الناس (في أصحابه) وفي نسخة في نفر من أصحابه أي مع جماعة منهم الخلفاء الأربعة فيهم (فجلس إلى جدار بعض آطامهم) بمد الهمزة أي أبنيتهم المرتفعة كالحصون فتخافتوا بينهم أنكم لن تجدوه على مثل هذه الحالة من يعلو على مثل هذا الجدار ويرسل عليه ما يقتله فقال سلام بن مشكم لا تفعلوا فو الله ليخبرن بما هممتم به وأنه ينقض ما بيننا وبينه من العهد وأما نقض بني قريظة فسببه غزوة الخندق لأنهم ظاهروا قريشا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ونقضوا العهد وسيأتي من عند السمرقندي أنه خرج إلى بني النضير فذكر القصة فهذه هي الصواب (فانبعث) أي فقام وأسرع أشقاهم (عمرو بن جحّاش) بفتح الجيم وتشديد الخاء أو بكسر وتخفيف والشين معجمة قتل كافرا (أحدهم) وفي نسخة منهم أي(1/717)
أحد منهم (ليطرح عليه رحى) بالقصر ويمد (فقام النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بعد إخبار جبريل بذلك كما سيأتي (فانصرف إلى المدينة) أي وتبعه أصحابه (وأعلمهم) أي بعد إنصرافه أو قبله (بقصّتهم) أي تمالئهم على قتله (وقد قيل إنّ هذه الآية) وفي نسخة أن قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ [الْمَائِدَةِ: 11] الْآيَةَ) أي بتمامها (في هذه القصّة) أي قصة بني النضير (نزلت وحكى السّمرقنديّ أنّه) أي النبي عليه الصلاة والسلام (خَرَجَ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ يَسْتَعِينُ فِي عَقْلِ الكلابيّين) أي في دية الاثنين من قبيلة بني كلاب بكسر أوله (اللّذين قتل) أي قتلهما كما في رواية (عمرو بن أميّة) أي الضمري وفي نسخة الكلابي الذي قتله عمرو بن أمية فالمراد به الجنس إذ صرح أبو الفتح اليعمري في السيرة أنهما من بني عامر وقتلهما عمرو على ظن أنهما كافران بعد قتل أصحابه ببئر معونة ورجوعه إلى المدينة عتيقا لعامر بن الطفيل العامري وذلك للجوار الذي كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عقده إذ كان بني نبي النضير وبني عامر وحلف على يده صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يعلم به عمرو بن أمية (فقال) أي له كما في نسخة صحيحة (حييّ) بالتصغير (ابن أخطب) بالخاء المعجمة وهو أعدى عدوه عليه السلام (اجلس يا أبا القاسم حتّى نطعمك) أي نضيفك مع أصحابك (ونعطيك ما سألتنا) أي من الاستعانة في الدية (فجلس النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ الله عنهما وتوامر) بالواو والهمزة وهو أفصح أي تشاور (حييّ معهم) أي مع يهود (على قتله فأعلمه جبريل بذلك فقام) أي وحده (كأنّه يريد حاجته) أي قضاء حاجته واستمر على مشيته (حتّى دخل المدينة) فلما استلبث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه ثم سار إليهم وحاصرهم ست ليال فتحصنوا بحصونهم فقطع نخيلهم وحرقها تنكيلا لهم ثم قال لهم اخرجوا ولكم ما حملت الإبل فنزلوا على ذلك وحملوا على ستمائة بعير فلحقوا بخيبر وهذه القصة بعينها هي الأولى وكان هذه عند القاضي قضية أخرى والله تعالى أعلم بما هو أولى وأحرى هذا وحيي هذا والد صفية أم المؤمنين يهودي قتل على كفره مع بني قريظة صبرا (وذكر أهل التّفسير الحديث) أي السابق المروي (عن أبي هريرة) وفي نسخة ومعنى الحديث عن أبي هريرة وفي أصل الدلجي وعن أبي هريرة والحديث في صحيح مسلم وسنن النسائي (أنّ أبا جهل وعد قريشا) أي وحلف عندهم وعهد (لئن رأى محمّدا يصلّي ليطأنّ رقبته) وفي نسخة على رقبته أي ليضعن رجله فوق رقبته صلى الله تعالى عليه وسلم واللام جواب قسم محذوف أي والله لا موطئة للقسم كما توهم الدلجي (فلمّا صلى الله تعالى عليه وسلم) أي تلبس بالصلاة (أعلموه) أي أخبروا أبا جهل (فأقبل) أي على قصد أذيته من وضع الرجل على رقبته (فلمّا قرب منه ولّى) أي أدبر (هاربا) أي فارا (ناكصا على عقبيه) أي راجعا إلى خلفه مخالفا لحلفه (متّقيا بيديه) أي متحفظا بهما لشيء ظهر عليه متوجها إليه (فسئل) أي عن سبب رجوعه واتقائه (فقال لمّا دنوت منه) أي قربت (أشرفت)(1/718)
أي اطلعت (على خندق) أي واد أو حفير (مملوء نارا كدت) أي قاربت (أهوي) بكسر الواو أي أسقط (فيه وأبصرت هولا عظيما) أي أمرا شديدا يهول ويفزع (وخفق أجنحة) أي وأبصرت ضرب أجنحة وتحريكها (قد ملأت) أي الأجنحة لكثرتها (الأرض) أي جميعها (فقال صلى الله تعالى عليه وسلم تلك) أي أصحاب تلك الأجنحة (الملائكة) أي لا الطيور (لو دنا) أي أبو جهل مني حينئذ (لاختطفته) أي أخذته الملائكة سرعة (عضوا عضوا) أي بأن وقع كل عضو وجزء منه في يد ملك أو جمع منهم (ثمّ أنزل على النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم كَلَّا) أي حقا (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ [العلق: 6] ) أي لأجل أن علم نفسه (استغنى) عن ربه (إلى آخر السّورة؛ ويروى) بصيغة المجهول وفي نسخة وروي والحديث لأبي نعيم في الدلائل (أن شيبة) وفي نسخة أن رجلا يعرف بشيبة (ابن عثمان الحجبيّ) بفتح الحاء والجيم منسوب إلى الحجبة جمع الحاجب بمعنى البواب فإنه كان من سدنة الكعبة المشرفة وفي نسخة الجمحي بالجيم المضمومة وفتح الميم فحاء وهي غلط كما صرح به الحلبي (أدركه) أي لحق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يوم حنين) وهو واد بقرب ذي المجاز أو ماء بقرب الطائف من الحجاز (وكان حمزة قد قتل أباه وعمّه) جملة معترضة مشيرة إلى الباعث على القضية من أخذ الثأر كما في عادة الجاهلية (فقال) أي عثمان (اليوم أدرك ثأري) بمثلثة وهمزة ويجوز تخفيفها أي دم حميمي من أبي وعمي بانتقامي فيه (من محمّد) أي بأن أقتله بدل حمزة فإنه ابن أخيه وهذا يرد من قال إنه اسلم يوم الفتح ولعله أظهر إسلامه ولم يحقق مرامه ثم إن التلمساني ضبط الثار بالتاء المثناة الفوقية وهو تصحيف وتحريف (فلمّا اختلط النّاس) أي اشتغلوا فيما بينهم من الحرب (أتاه) أي عثمان (من خلفه ورفع سيفه ليصبّه عليه) أي فيقتله (فقال فلمّا دنوت منه ارتفع إليّ) أي لدي (شواظ) بضم أوله ويكسر أي لهب (مِنْ نَارٍ أَسْرَعُ مِنَ الْبَرْقِ فَوَلَّيْتُ هَارِبًا) أي حذرا منه (وأحسّ بي النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فدعاني) أي فجئته (فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي وَهُوَ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إليّ) جملة حالية (فما رفعها) أي يده عني (إِلَّا وَهُوَ أَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيَّ، وَقَالَ لِي ادن) أي أقرب إلى العدو (فقاتل فتقدّمت أمامه أضرب) أي الناس (بسيفي وأقيه بنفسي) أي وأحفظه بدفع الناس عنه ووقايته منهم بتفدية نفسي (ولو لقيت أبي) أي والدي فرضا (تلك السّاعة لأوقعت به) أي بأبي وقتلته (دونه) أي دون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مجاوزا عنه أو مدافعا منه واعلم أن في السيرة لأبي الفتح اليعمري عن ابن سعد أن طلحة بن أبي طلحة وهو كسر بن الكتيبة صاحب اللواء قتله علي ثم حمل اللواء عثمان بن أبي طلحة فحمل عليه حمزة فقطع يده وكتفه حتى انتهى إلى مؤتزره وبدا سحره أي رئته وفي التجريد والتهذيب للذهبي في ترجمة شيبة بن أبي طلحة أن عليا قتل أباه يوم أحد ذكره الحلبي ففي نسبة قتلهما إلى حمزة نوع مسامحة؛ (وعن فضالة بن عمرو) بفتح الفاء أي ابن الملوح الليثي وفي نسخة عمير بالتصغير عوض عمرو بالواو وهو الموافق لما ذكره الذهبي في الصحابة على ما حرره الحلبي(1/719)
والحديث رواه ابن إسحاق وابن سيد الناس، (قال أردت قتل النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ قَالَ: أَفَضَالَةُ قُلْتُ نَعَمْ) وفي رواية زاد يا رسول الله؛ (قال ما) وفي رواية ماذا (كُنْتَ تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ قُلْتُ لَا شَيْءَ) وفي رواية زاد كنت أذكر الله تعالى؛ (فضحك واستغفر لي) أي قال غفر الله لك ما خطر ببالك أو أراد به استحقاق الغفران بتوفيق الإيمان وفي رواية فضحك النبي ثم قال استغفر الله (ووضع يده على صدري فسكن قلبي) أي واطمأن بمعرفة ربي، (فو الله ما رفعها) أي يده عن صدري (حَتَّى مَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ منه؛ ومن مشهور ذلك) أي ما ذكر من عصمة الله سبحانه له على ما رواه ابن إسحاق والبيهقي بلا سند وأبو نعيم في الدلائل مسندا إلى عروة (خبر عامر بن الطّفيل) أي ابن مالك العامري سيد بني عامر في الجاهلية كذا قال الذهبي في تجريد الصحابة وقال روى عنه أبو ذر بابة ذكره المستغفري وأجمع أهل النقل على أن عامرا مات كافرا وقد أخذته عدة وكان يقول غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية قال الحلبي ولا شك فيما قاله الذهبي في قصته لما في صحيح البخاري بنحو من اللفظ الذي ذكره (وأربد) بفتح فسكون ففتح (ابن قيس) هو أخو لبيد بن ربيعة لأمه ولبيد صحابي وكان أربد شاعرا أيضا بعث الله عليه صاعقة فأحرقته كافرا بالله سبحانه وتعالى وفيه نزل قوله تعالى وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ الآية (حين وفدا على النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي متفقين على قتله (وكان عامر قال له) أي لأربد (أنا أشغل عنك وجه محمّد) أي بالكلام معه (فاضربه أنت) أي من خلفه (فلم يره فعل شيئا) أي مما قاله (فلمّا كلّمه في ذلك) أي بالمعاتبة عن تقصيره هنالك (قال له والله ما هممت) أي ما عزمت (أَنْ أَضْرِبَهُ إِلَّا وَجَدْتُكَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَفَأَضْرِبُكَ) الهمزة الأولى استفهام انكاري والثانية للمتكلم وهو أربد والمخاطب هو عامر قال البرقي في غريب الموطأ وفد عامر وأربد على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فدعواه أن يجعل الأمر بعده إلى عامر ويدخلان في دينه فأبى عليه الصلاة والسلام فقال له أكون على أهل الوبر وأنت على أهل المدر فأبى عليه الصلاة والسلام فخرجا من عنده (ومن عصمته له تعالى له) وفي نسخة وفي عصمته له تعالى وهو خطأ فاحش (أنّ كثيرا من اليهود) أي من أحبارهم ورهبانهم (والكهنة) أي ممن يزعم أنه يخبر عن الكوائن المستقبلة (أنذروا به) اعلموا الناس بقرب نوره وخوفوهم بظهوره فإن الإنذار إعلام بتخويف (وعيّنوه لقريش) أي وبينوه لهم خصوصا من جهة نسبه وحسبه وعلامة ولادته وأمارة سيادته وسعادته (وأخبروهم بسطوته بهم) أي بغلبته عليهم وشوكته لديهم (وحضّوهم) أي حثوهم وحرضوهم (على قتله) أي قبل ظهور نصره (فعصمه الله تعالى) أي من كيد كل عدو مكره (حتّى بلغ) بتخفيف اللام أي وصل وتم (فيه أمره) وفي نسخة حتى بلغ عنه أمره بتشديد اللام ونصب أمره، (ومن ذلك نصره بالرّعب) بسكون العين ويضم أي بالخوف في قلب اعدائه (مسيرة شهر) أي من كل جانب له (كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم) أي كما(1/720)
فصل [ومن معجزاته الباهرة ما جمعه الله تعالى له من المعارف والعلوم]
(ومن معجزاته الباهرة) أي آياته الظاهرة (ما جمعه الله له من المعارف) أي الجزئية (والعلوم) أي الكلية والمدركات الظنية واليقينية أو الاسرار الباطنية والأنوار الظاهرية (وخصّه به) أي ما خصه بِهِ (مِنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى جَمِيعِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا والدّين) أي ما يتم به إصلاح الأمور الدنيوية والأخروية واستشكل بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم وجد الأنصار يلقحون النخل فقال لو تركتموه فتركوه فلم يخرج شيئا أو أخرج شيصا فقال أنتم بامر دنياكم وأجيب بأنه إنما كان ظنا منه لا وحيا وقال الشيخ سيدي محمد السنوسي أراد أنه يحملهم على خرق العوائد في ذلك إلى باب التوكل وأما هنالك فلم يمتثلوا فقل أنتم أعرف بدنياكم ولو امتثلوا وتحملوا في سنة وسنتين لكفوا أمر هذه المحنة انتهى وهو في غاية من اللطافة (ومعرفته) بالرفع عطفا على ما والأقرب جره بالعطف على الاطلاع (بأمور شرائعه) أي أحكامه المتعلقة بالعبادات والمعاملات (وقوانين دينه) أي من القواعد الكلية المندرج تحتها الفروع الجزئية، (وسياسة عباده) أي الجامعة بين صلاح معاش الخلق ومعادهم (ومصالح أمّته) أي المتعلقة بأمر زادهم في حق عبادهم وزهادهم (وما) أي ومعرفته بما (كان في الأمم قبله) أي من أحوالهم وما جرى لهم من نجاة وهلاك في مآلهم (وقصص الأنبياء والرّسل) أي من دعاة الخلق إلى دين الحق (والجبا برة) أي من الكفرة والفجرة المتكبرة، (والقرون الماضية) أي الأزمنة الخالية (من لدن آدم) بضم الدال وسكون النون وبسكون الدال وكسر النون ويروى من زمن أي من ابتداء زمن آدم (إلى زمنه) أي زمن الخاتم سيد العالم صلى الله تعالى عليهما وسلم (وحفظ شرائعهم وكتبهم) أي مما قذفه الله في قلبه فروى قلبه عن ربه (ووعي سيرهم) بسكون العين أي وإحاطة أنواع سيرتهم وأصناف طريقتهم مع اتحاد جنس ملتهم (وسرد أنبائهم) أي وذكر أخبارهم متتابعا (وأيّام الله فيهم) أي وقائعه الكائنة فيهم من الهلاك والنجاة (وصفات أعيانهم) أي أفاضلهم كذا قاله التلمساني والأظهر أن المراد بهم جماعة معينة من المؤمنين كذي القرنين والخضر ولقمان ومن الكافرين كفرعون وقارون وهامان (واختلاف آرائهم) جمع رأي بمعنى أهوائهم كعبادة قوم إبراهيم الأوثان وقوم موسى العجل وقول النصارى بالأقانيم الثلاثة من العالم والحياة وروح القدس وتعبيرهم عنها بالأب والأم والابن (والمعرفة بمددهم) بضم الميم جمع مدة أي أيام مكثهم في الدنيا جملة (وأعمارهم) أي على اختلافها قلة وكثرة (وحكم حكمائهم) بكسر الحاء وفتح الكاف أي والمعرفة بما صدر من أنواع الحكمة عن أصناف حكمائهم (ومحاجّة كلّ أمّة) أي مجادلتهم ومغالبتهم (من الكفرة) أي بما يناسبهم في الدعوة كإبطال الأصنام بأن ليس لها منفعة ولا قدرة لها على مضرة وكمحاجة نصارى نجران في دعواهم أن عيسى ابن الله فدعاهم إلى المباهلة فأبوا وبذلوا له الجزية (ومعارضة كلّ فرقة من الكتابين) أي من أهل الكتابين وهما التوراة والإنجيل (بما(1/721)
في كتبهم) كمعارضة يهود في دعواهم أن من زنى منهم محصنا عقوبته التحميم والتجبية أي يسود وجوههما ويحملان على دابة يخالف بين وجوههما بجعل ظهر أحدهما لظهر الآخر فقال صلى الله تعالى عليه وسلم أنشدكم بالله ما تجدون في التوراة على من زنى قال حبرهم إذ نشدتنا فعليه الرجم فأمر صلى الله تعالى عليه وسلم بهما فرجما عند باب مسجده في بني غنم بن مالك بن النجار (وإعلامهم بأسرارها) أي وإعلامه أهل الكتاب بأسرار كتبهم (ومخبّآت علومها) أي مخفيات أخبارهم وفي نسخة علومها (وإخبارهم) أي وأعلامه إياهم (بما كتموه من ذلك) كنعته صلى الله تعالى عليه وسلم في التوراة والإنجيل (وغيّروه) أي بذكر اضداده وبتصحيفه أو تحريفه لمبناه أو معناه (إلى الاحتواء) أي مع احتوائه واشتمال علومه في بنائه (على لغات العرب) أي مع كثرتها واختلاف مادتها وبنيتها وهيئتها في تأديتها من متداولاتها (وغريب الألفاظ فرقها) بكسر الفاء وفتح الراء أي غرائب معاني طوائف العرب من شواذها ونوادرها (والإحاطة بضروب فصاحتها) أي بأنواع فصاحتها في مفرداتها ومركباتها حيث خاطب كل فرقة بلغاتها كما مر في مخاطبته لإقيال حضر موت في محاوراتها، (والحفظ لأيّامها) أي وقائع العرب في الحرب في أوقاتها (وأمثالها) أي كلماتها التي يضربون المثل بها كقولهم الصيف ضيعت اللبن ونحوها ومنه قوله عليه الصلاة والسلام حمى الوطيس أي اشتد حمى تنور الحرب (وحكمها) أي والحكميات الواردة في لسانها مع اللطافة في شأن بيانها وسلطان برهانها (ومعاني أشعارها) كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم اصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد:
ألاكل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل
وكإنشاده نحو قوله:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وأمثالها (والتّخصيص بجوامع كلمها) أي مما مبانيها يسيرة ومعانيها كثيرة وقد جمعت أربعين حديثا مما اشتمل كل على كلمتين فقط (إلى المعرفة) أي منضمة إلى المعرفة (بضرب الأمثال الصّحيحة) أي من الكلمات البديعة المشيرة إلى المرادات الصريحة، (والحكم البيّنة لتقريب التّفهيم للغامض) أي الخفي بالنسبة إلى الجاهل، (والتّبيين للمشكل) لكونه صلى الله تعالى عليه وسلم مبينا لما نزل (إلى) أي مع (تمهيد قواعد الشّرع) أي مما شرع لنا من طريقي الأصل والفرع (الذي لا تناقض فيه) أي فيما أرسل إلينا وفي نسخة فيها أي في قواعده لدينا (ولا تخاذل) أي ولا تعارض فيما أنزل علينا أي لا كثيرا ولا يسيرا كما قال الله تعالى وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (مع اشتمال شريعته) أي المتضمنة لمكارم الأفعال (على محاسن الأخلاق) أي في طريقته (ومحامد الآداب) أي المورثة لمجامع الأحوال في حقيقته (وكلّ شيء مستحسن مفصّل) بالصاد أي مبين ومعين وفي نسخة(1/722)
بالمعجمة أي مفضل على غيره كما يشير إلى هذا المرام قوله عليه الصلاة والسلام بعثت لأتمم مكارم الأخلاق (لم ينكر منه) أي من شرعه ولو هو (ملحد) أي جائر لكنه (ذو عقل سليم) أي وطبع قويم (شيئا) أي أصلا (إلّا من جهة الخذلان) وهو عدم توفيق العرفان فينكره من غير البرهان بل على جهة العدوان وطريق الطغيان (بل كلّ جاحد له) أي منكر لما ذكر (وَكَافِرٍ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ بِهِ إِذَا سَمِعَ مَا يدعو إليه صوّبه) أي فيما ظهر لديه (واستحسنه دون طلب إقامة برهان عليه) أي كما سبق من كلام المغيرة وأبي جهل وأبي طالب (ثمّ ما أحلّ لهم من الطّيّبات) أي مما حرم على غيرهم منها كلحم كل ذي ظفر وشحم البقرة (وحرّم عليهم من الخبائث) كالميتة والدم ولحم الخنزير مما أحل لغيرهم كالخمر (وصان) أي وما حفظ (به أنفسهم) أي دماءهم (وأعراضهم) بفتح الهمزة جمع عرض (وأموالهم من المعاقبات والحدود) أي المرتبة على أسبابها كالقصاص وحد القذف والسرقة (عاجلا) أي في الدنيا (والتّخويف) وفي أصل الدلجي والتحريق (بالنّار آجلا) أي في العقبى (مِمَّا لَا يَعْلَمُ عِلْمَهُ وَلَا يَقُومُ بِهِ) أي بعمل كله (ولا ببعضه إلّا من مارس الدّرس) أي من درس الكتب الالهية (والعكوف على الكتب) أي القيام والاطلاع على كتب العلماء الربانية (ومثافنة بعض هذا) بالمثلثة والفاء والنون أي متابعة بعض ما ذكر (إلى الاحتواء) أي مع اشتمال شريعته (على ضروب العلم وفنون المعارف كالطّيب) بكسر الطاء وتثلث (والعبارة) بكسر العين أي التعبير للرؤيا (والفرائض) أي المتعلقة بالارث (والحساب) أي كمية الأعداد (والنّسب) بفتحتين أي معرفة الأنساب (وغير ذلك من العلوم) أي أنواعها الآتي بعضها (مِمَّا اتَّخَذَ أَهْلُ هَذِهِ الْمَعَارِفِ كَلَامَهُ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم فيها) قال الدلجي أي في شريعته والظاهر في هذه المعارف (قدوة) بضم القاف وكسرها وتفتح أي مقتدى (وأصولا) أي قواعد كلية (في علمهم) أي في أساس علومهم (كقوله عليه الصلاة والسلام) على ما رواه ابن ماجة عن أنس (الرّؤيا لأوّل عابر) أي معبر ذي رأي ثاقب عالم بالعبارة على وجه الإشارة إذا أصاب وكان يحسن تعبيرها فإذا اعتبر شروطها وعبرها وقعت وكان ابن سرين يقول إني اعتبرت الحديث والمعنى أنه يعبرها به كما يعبرها بالقرآن فيعبر الغراب مثلا برجل فاسق والمرأة بالضلع أخذا من تسميته صلى الله تعالى عليه وسلم فاسقا وتسميتها ضلعا (وهي) أي الرؤيا (على رجل طائر) كما رواه أبو داود والترمذي وصححه أي قدر جار وقضاء ماض وحكم نافذ من خير أو شر أو نفع أو ضر وقال ابن قتيبة أراد أنها غير مستقرة يقال للشيء إذا لم يستقر هو على رجل طائر وعلى قرن ظبي وقال ابن الأثير هو من قولهم اقتسموا دارا فطار سهم فلان إلى ناحية كذا يعنى أن الرؤيا التي يعبرها المعبر الأول فكأنها سقطت ووقعت حيث عبرت كما يسقط الذي يكون على رجل الطائر بأدنى حركة انتهى والحاصل أن هذا تمثيل وتصوير لجعلها على قدر قدره الله تعالى لصاحبها بشيء متعلق برجل طائر يسقط بأدنى حركة فإذا عبرها أول عابر فكأنها كانت على رجله فسقطت وكل حركة جرت لك من شيء فهو طائر ومنه قوله تعالى وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ(1/723)
طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أي حركاته في عباداته ومعاملاته في ذمته غير منفكة عنه (وقوله) أي كما رواه الشيخان وغيرهما هذا وقد قيل الرؤيا أمثال يضربها ملك الرؤيا والله يعلم بها من يشاء روي أن امرأة أتت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت رأيت كأن جائزة بيتي قد انكسرت فقال عليه الصلاة والسلام يرد الله غائبك فرجع زوجها ثم غاب فرأت مثل ذلك فأتت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلم تجده ووجدت أبا بكر رضي الله تعالى عنه فأخبرته فقال يموت زوجك فذكرت ذلك للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال هل قصصتها على أحد قالت نعم قال كما قيل لك (الرّؤيا ثلاث) أي ثلاثة أنواع (رؤيا حقّ) بالإضافة أي ثابت موافق وصدق مطابق كرؤية الأنبياء والأصفياء فإنها تخرج على وجهها أو على نحو ما أول بها (ورؤيا يحدّث بها الرّجل نفسه) فيراها في منامه فهي أضغاث أحلام وخيالات منام (ورؤيا تحزين) بالجر وفي نسخة بالرفع (من الشّيطان) بأن يرى في منامه ما يكون سببا لحزنه كما في حديث مسلم جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال رأيت في المنام كأن رأسي قطع فضحك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقال إذا الم الشيطان بأحدكم في منامه فلا يحدث به الناس وفي رواية إذا رأى في منامه ما يحبه فليحمد الله وإذا رأى ما يكره فليتعوذ من شرها ولا يحدث بها أحدا فإنها لا تضره. (وقوله) أي فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا (إِذَا تَقَارَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ تكذب) وفي رواية إذا اقترب والمراد اقترب الساعة ويؤيده حديث في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب وقيل المراد قصر الأيام والليالي على الحقيقة وقيل تقارب الليل والنهار من الاعتدال لقول العابرين أن أصدق الأزمان لوقوع العبارة وقت انفتاق الأنوار والأزهار ووقت أدراك الثمار حين يستوي الليل والنهار وفي بعض الأخبار أصدق الرؤيا بالأسحار رواه أحمد والترمذي وابن حبان والبيهقي عن أبي سعيد هذا وكان الأنسب للمصنف أن يرتب كل ما يتعلق بعلم من العلوم المذكورة على وفق ما قدمه من المعارف المسطورة لكنه رحمه الله شوش النشر وقدم الرؤيا على الطب ثم قال (وقوله) كما رواه الدارقطني في العلل عن أنس وضعفه وابن السني وأبو نعيم في الطب عن علي وعن أبي سعيد وعن الزهري مرسلا (أصل كلّ داء البردة) بفتحتين وقد تسكن الراء أي التخمة وثقل الطعام على المعدة وسميت بردة لأنها تبرد المعدة فلا يستمرئ الطعام في العادة وعلاجه أولا بالقيء وثانيا بالإسهال (وما روي عنه) أي عن النبي عليه الصلاة والسلام (في حديث أبي هريرة) كما رواه الطبراني في الأوسط (من قوله المعدة) بفتح فكسر وقيل بكسر فسكون (حوض البدن) لجمعها الطعام كجمع الحوض الماء (والعروق إليها واردة) أي تتصاعد إليها بمنافع الطعام نفعا لأبدان الأنام. (وإن) وصلية (كان هذا) أي الحديث (حديثا) وفي نسخة وإن كان هذا الحديث (لا نصحّحه) أي لا نحكم بصحته بل ولا بثبوته (لضعفه) أي لضعف سنده عند بعضهم (وكونه موضوعا) أي عند غيرهم (تكلّم عليه الدّارقطني) أي مضعفا له والله سبحانه وتعالى اعلم؛ (وقوله) كما رواه الترمذي عن ابن عباس(1/724)
(خير ما تداويتم به السّعوط) بفتح فضم ما يجعل في الأنف من الدواء (واللّدود) ما يسقاه المريض في أحد شقي فمه (والحجامة) بكسر أوله (والمشي» ) بفتح فكسر فمشددة المسهل ويقال بفتح ميم فسكون شين فتحفيف وسمي به لحمله صاحبه على كثرة المشي إلى الخلاء.
(وخير الحجامة) أي وقوله عليه الصلاة والسلام كما رواه الحاكم عن ابن عباس وصححه خير الحجامة (يوم سبع عشرة) أي من كل شهر (وتسع عشرة) بسكون الشين وتكسر (وإحدى وعشرين) زاد أبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا كان شفاء من كل داء هذا والتأنيث باعتبار مضاف مقدر أي يوم ليلة سبع عشرة مراعاة للأسبق منهما فإن ليلة الشهر منه وقيل سبق الليل في الوجود أيضا وفي قوله تعالى اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ إيماء إلى ذلك وأنه أصل هنالك وأبعد الدلجي في قوله بحذفه المميز كما في حديث من صام رمضان فأتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر كله فإن لفظ اليوم مميز مستغنى عن مميز آخر وأما قوله تعالى ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فلمجرد التأكيد (وفي العود) أي وفي قوله كما رواه البخاري عن أم قيس في العود (الهنديّ) قيل هو القسط البحري وقيل عود التبخر قاله ابن الأثير (سبعة أشفية) قيل المراد بها الكثير (منها ذات الجنب) كما في حديث وخص بالذكر لأنه أصعب داء قلما يحصل فيه شفاء. (وقوله) أي كما رواه أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم عن المقدام ابن معدي كرب (مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بطنه إلى قوله فإن كان لا بدّ) أي بحسب ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لا محالة (فثلث للطّعام وثلث للشّراب وثلث للنّفس) والنفس بفتحتين بمعنى التنفس وفي الأصول المذكور لطعامه وشرابه ولنفسه بالإضافة (وقوله) أي في علم النسب كما رواه أحمد والترمذي (وقد سئل عن سبإ) بكسر الهمزة وبفتحها وبإبدالها الفا كما قرىء بها في قوله تعالى لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آية (أَرَجُلٌ هُوَ أَمِ امْرَأَةٌ أَمْ أَرْضٌ فَقَالَ رجل) أي هو أبو قبيلة سميت به مدينة بلقيس باليمن ومن ثمة قيل اسم مدينة (ولد عشرة) أي ولد له عشرة أولاد وهو بمكة (تيامن منهم ستّة) أي أخذوا نحو اليمن فنزلوا فيه وتوالدوا وأكثر قبائله منهم وهم كندة والأشعرون والأزد ومذحج وأنمار وحمير الذين منهم خثعم وبجيلة وفي الحديث الإيمان يمان والحكمة يمانية لأن الإيمان بدا من مكة لأنها من تهامة وتهامة من اليمن (وتشأمّ أربعة) أي أخذوا نحو الشام وهو من العريش إلى الفرات وهم عاملة ولخم وجذام وغسان. (الحديث: بطوله) أي مما يدل على طول باعه في هذا الفن؛ (وكذلك جوابه في نسب قضاعة) بضم القاف، (وغير ذلك) أي من سائر النسب (ممّا اضطرّت العرب) بصيغة الفاعل أو المفعول ورجحه التلمساني أي اضطربت واختلفت والتجأت أو التجئت (على شغلها بالنّسب) أي مع كمال اشتغالهم بعلم النسب (إلى سؤاله) أي سؤالهم إياه (عمّا اختلفوا فيه من ذلك) ومن ذلك ما رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني عن عمرو بن مرة الجهني قال صلى الله تعالى عليه وسلم من كان هنا من معد فليقم فقمت فقال اقعد فقلت ممن نحن قال أنتم من قضاعة بن مالك بن حمير (وقوله) أي(1/725)
كما رواه البزار وقال العسقلاني إنه منكر (حمير) بكسر فسكون ففتح ممنوعا قبيلة معروفة من اليمن (رأس العرب) أي أساسها وأصلها (ونابها) أي عمدة أهل كلامها لشرفهم فإنهم ولد معد بن عدنان من ولد إسماعيل بن خليل الرحمن (ومذحج) بالذاك المعجمة والحاء المهملة والجيم كمجلس على ما في القاموس وقيل بفتح وهو قبيلة فعبارة الدلجي بالدال المهملة (هامتها) بتخفيف الميم وهي وسط الرأس أي أشرفها أو رأسها (وغلصمتها) بفتح الغين المعجمة ثم لام ساكنة رأس الحلقوم وهو الموضع الثاني في الحلق وهو إشارة إلى تمكنهم في الشرف وعلوهم وإصالتهم وعظمهم (والأزد) بالزاء الساكنة قبيلة من اليمن (كاهلها) بكسر الهاء مقدم الظهر ما بين كتفيه وهو محل الحمل أي عمدتها (وجمجمتها) بجيمين مضمومتين عظم الرأس المشتمل على الدماغ أي سادتها وقيل جماجم العرب هي القبائل التي تجمع البطون فكاهل مضر تميم (وهمدان) بفتح فسكون فدال مهملة قبيلة معروفة (غاربها) بكسر الراء ما بين السنام والعنق (وذروتها) بكسر الذال وضمها وبفتح وسكون الراء أي أعلاها والحاصل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم بين ما لهذه القبائل من الفضائل وهذا من علم الأنساب (وقوله) أي في علم الحساب كما رواه الشيخان عن أبي بكرة (إنّ الزّمان قد استدار) أي رجعت أشهره إلى ما كانت من حرمة وغيرها وبطل نسيء الجاهلية من تأخيرهم حرمة شهر إلى آخر وكانت حجة الوداع التي ذكر في خطبتها هذا الحديث في السنة التي استدار فيها (كهيئته) أي ترتيبه وصفته (يوم خلق الله السّموات والأرض وقوله) أي في معرفة المساحة كما رواه الشيخان عن ابن عمرو (في الحوض) أي الكوثر (زواياه سواء) أي مربع تربيعا مستويا لا يزيد طوله على عرضه، (وقوله) أي في معرفة جمع العدد كما رواه أبو داود (في حديث الذّكر) أي الإذكار حيث قال تسبح عشرا وتحمد عشرا وتكبر عشرا وتلك ثلاثون (وإنّ الحسنة بعشر أمثالها. فتلك) أي الكلمات المذكورة دبر الصلوات المزبورة مجموعها (مِائَةٌ وَخَمْسُونَ عَلَى اللِّسَانِ وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فِي الميزان وقوله) أي فيما رواه الطبراني بسند ضعيف عن أبي رافع. (وهو بموضع) أي في موضع ليس به حمام وفي أصل التلمساني ومر بدل وهو على كل فالجملة حال (نعم موضع الحمّام هذا) وهذا من علم الهندسة ومعرفة المساحة فكان أولى بعد ذكر الحوض لما بينهما من المناسبة (وقوله) كما رواه الترمذي عن أبي هريرة وصححه (ما بين المشرق والمغرب قبلة) أي لأهل المدينة ونحوهم ممن هو في جنوبه أو شماله قال التلمساني هذا في طيبة ولكل مدينة بين مشرقها ومغربها لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جعل جميع ما يقع بين المشرق والمغرب قبلة ومساحة الكعبة لا تفي بما بينهما وإنما تفي جهتها فهو حجة العامة في عهد اشتراط إصابة عين الكعبة للنائي عنها وهذا من جملة علوم الهندسة المتعلقة بمعرفة القبلة وظاهره أن القبلة هي الجهة لا عين الكعبة وإلا فلا وجه للخصوصية فهو حجة للحنفية على الشافعية. (وقوله) أي في معرفة الفرس (لعيينة) بالتصغير وهو ابن حصين الفزاري من المؤلفة قلوبهم شهد حنينا والطائف قال(1/726)
الذهبي وكان أحمق مطاعا دخل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم واساء الأدب فصبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على جفوته وأعرابيته وقد ارتد ثم اسر فمن عليه الصديق ثم لم يزل مظهر الإسلام وكان يتبعه عشرة آلاف فقاه انتهى وقال غيره اسلم يوم الفتح وقيل قبله وقال الواقدي إنه عمي في خلافة عثمان (أو للأقرع) أي ابن حابس التميمي وفد بعد الفتح وشهد مع خالد بن الوليد حرب أهل العراق وكان على مقدمته واستعمله عبد الله بن عامر على جيش سيره إلى خراسان فأصيب هو والجيش بجوزجان وكان من المؤلفة (أنا أفرس) مأخوذ من الفراسة أي أنا أعرف (بالخيل منك) وفي نهاية غريب الحديث أنه صلى الله تعالى عليه وسلم عرض الخيل وعنده عيينة فقال له أنا أعلم بالخيل منك فقال له وأنا أفرس منك (وقوله) أي كما رواه الترمذي عن زيد بن ثابت (لكاتبه) أي لأحد من كتابه أو لكاتبه الأخص به وهو زيد وقيل معاوية وفي أبي داود عن ابن عباس قال السجل كان كاتبا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقد سبق في كلام الحلبي أن كتابه بلغوا ثلاثا وأربعين إلا أن ابن أبي سرح ارتد ثم رجع ومات ساجدا لله وأما ابن خطل فقتل يوم الفتح وهو متعلق بأستار الكعبة لقوله عليه الصلاة والسلام من قتل ابن خطل فهو في الجنة واختلف في قاتله (ضع القلم) أي إذا فرغت (على أذنك) أي فوقها (فإنّه) أي وضعه هذا (أذكر) أي أكثر تذكرا قال الحلبي لأنه يقتضي التؤدة وعدم العجلة (للمملّ) بضم الميم الأول وكسر الثاني وتشديد اللام أي للمملي كما في نسخة من أمللت وأمليت وبهما ورد القرآن وليملل الذي عليه الحق فهي تملي عليه (هذا) أي ما ذكر مما جمع له صلى الله تعالى عليه وسلم من المعارف والعلوم (مع أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم كان لا يكتب) والأظهر أن الإشارة إلى ما سبق من تعليم بعض كتابه ما يتعلق بعلم الخط وآدابه وأما عدم كتابته فلحديث أنا أمة لا نكتب ولا نحسب ذكره الدلجي وفيه أن نفي الشيء عن الجنس لا يوجب انتفاءه عن جميع أفراده بدليل أنه كان فيهم من يكتب فالأولى هو الاستدلال بقوله تعالى وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (ولكنّه) أي مع كونه أميا (أوتي علم كلّ شيء) أي لدنيا (حتّى قد وردت آثار) أي أخبار (بمعرفته حروف الخطّ وحسن تصويرها) أي من تطويلها وتدويرها (كقوله لا تمدّ) وفي نسخة لا تمدوا أي لا تطولوا (بسم الله الرّحمن الرّحيم) أي سينه من غير تبيين سنه مخافة أن يظن باء ممدودة فيقرأ بالباء والميم من غير سين بينهما لما روى الدارمي عن زيد بن أنس إذا كتبت فبين السين في بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (رَوَاهُ ابْنُ شَعْبَانَ) وهو أبو إسحاق المصري المالكي له ترجمة في الميزان قال فيها وهاه ابن حزم ولا أدري لماذا انتهى ومات سنة خمس وخمسين وثلاثمائة (من طريق ابن عبّاس؛ وقوله) أي كما في مسند الفردوس (فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي يُرْوَى عَنْ مُعَاوِيَةَ أنّه كان يكتب بين يديه عليه الصلاة والسلام فقال له ألق الدّواة) بفتح الهمزة وكسر اللام أمر من الاق الدواة إذا جعل لها ليقة وأصلح لها مدادها وهو بمعنى مجرده لاق على ما في القاموس فقوله الجوهري والاق(1/727)
لغة أي قليلة لا ردية (وحرّف القلم) بتشديد الراء المكسورة أمر من التحريف أي اجعل طرف شقه الأيمن أزيد من الطرف الآخر قليلا لأنه أسرع في الكتابة وأبدع في اللطافة (وأقيم الباء) أي طولها (وفرّق السّين) أي أسنانها (ولا تعوّر الميم) أي لا تطمسها بل بين وسطها وهو بتشديد الواو بعد العين المهملة وأما ما في أصل الدلجي بالقاف بعد كونه عينا فأصلح في نسخة قرئت على المصنف وعليها خطه فخطأ فاحش وتصحيف وتحريف لما في القاموس قار الشيء قطعه من وسطه خرقا مستديرا كقوره (وحسّن الله) أي جميع حروفه (ومدّ الرّحمن) أي أكثر حروفه من الحاء والميم والنون أو آخرها وهو الأولى (وجوّد الرّحيم) أي حروفه لا سيما الميم وقد روى الديلمي عن أنس إذا كتب أحدكم بسم الله الرحمن الرحيم فليمد الرحمن أي مدا ليمدد له الرحمن مدا وقيل خص الرحمن بالمد لعموم الرحمة الشاملة للدنيا والآخرة وخص الرحيم بالتجويد لأنه يخص أصحاب التوحيد (وهذا) أي ما ذكر مما شهد بأن مما أوتيه من المعارف معرفة حروف الخط (وإن لم تصحّ الرّواية) أي من أحد رواة الحديث وأصحاب الدراية (أنّه عليه الصلاة والسلام كتب) أي بيده (فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرْزَقَ عِلْمَ هَذَا وَيُمْنَعَ الكتابة، والقراءة) أي لحكمة تقتضي هنالك كما قدمنا ذلك قال الدلجي ولا يبعد أيضا وإن كان يحرم عليه التوصل إليهما معرفة أن يقعا منه في وقت معجزة له وكرامة بشهادة ما في صحيح البخاري فأخذ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الكتاب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله وفيه في عمرة القضاء أنه قال لعلي امح رسول الله قال لا والله لا أمحوك أبدا فأخذ الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله انتهى ولا يخفى أن لفظ كتب وقع مجازا لا شك فيه على ما قاله الحلبي وأبو الوليد الباجي حقيقة وهو في هذا القول شاذ منفرد عن الجماعة والمسألة شهيرة وملخصها أن اللفظة صحيحة مبنى وهي مجاز معنى لا أنها ليست بصحيحة أصلا كما توهم عبارة المصنف هذا ووقع في سيرة أبي الفتح اليعمري ما لفظه وقد روى البخاري أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كتب ذلك بيده قال الحلبي قوله بيده لم أرها في صحيح البخاري والله سبحانه وتعالى اعلم ثم اعلم أن المراد بالقراءة القراءة بالنظر لا مطلق القراءة فالمعنى منع الكتابة والقراءة من الكتابة وقد أبعد التلمساني في جعل القراءة معطوفة على العلم أي رزق العلم والقراءة ومنع الكتابة انتهى وبعده لا يخفى في إعراب المبنى وإغراب المعنى. (وأمّا علمه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ وَحِفْظُهُ مَعَانِيَ أَشْعَارِهَا) أي خصوصا (فأمر مشهور قد نبّهنا على بعضه) أي بعض ما ورد عنه في لغات العرب لا في أشعارهم (أوّل الكتاب) وفي نسخة في أول الكتاب أي على ما سبق من غرائب مبانيها وبيان معانيها ومنها قوله عليه الصلاة والسلام وقد أنشد كعب بن زهير في لاميته قوله:
قنواء في حرتيها للبصير بها ... عتق مبين وفي الخدين تسهيل(1/728)
فقال لأصحابه ما الحرتان فقالوا العينان فقال صلى الله تعالى عليه وسلم الأذنان وما قاله صلى الله تعالى عليه وسلم هو المعروف عند العرب الأول في الحرتين ومنها ما أنشده كعب بن مالك في قصيدته العينية وفيها قوله:
مجالدنا عن جزمنا كل فححمة ... مدربة فيها القوانس تلمع
فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أيصلح أن يقول مجالدنا عن ديننا فقال كعب نعم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فهو أحسن فقال كعب مجالدنا عن ديننا على ما قاله نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم (وكذلك حفظه لكثير من لغات الأمم) أي مما عدا العرب (كقوله في الحديث سنه سنه) بفتح السين وتخفيف النون وتشدد فهاء ساكنة فيهما وفي رواية سناه سناه وفي أخرى سنا سنا بفتح مهملتها وكسرها رواية القابسي وشدد نونها وخففها أبو ذر وغيره قال ابن قرقول كلها بفتح السين وتشديد النون إلا عند أبي ذر فإنه خفف النون وإلا القابسي فإنه كسر السين وقال ابن الأثير في النهاية قيل سنا بالحبشية حسن وهي لغة وتخفف نونها وتشدد وفي رواية سنة وفي الحديث وفي أخرى سناه بالتشديد والتخفيف فيهما وقال الهروي في الحديث إنه صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ الحميصة بيده ثم ألبسها أم خالد وقال لها أبلي وأخلقي ثلاث مرات ثم نظر إلى علم فيها أخضر وأصغر فجعل يقول يا أم خالد سنا سنا بالحبشية حسن وهي لغة انتهى وأم خالد هذه هي ابنة خالد ابن سعيد التي ولدت بأرض الحبشة وهي امرأة الزبير بن العوام وهي التي كساها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهي صغيرة وأبوها أول من كتب بسم الله الرحمن الرحيم ومات بأجنادين شهيدا استعمله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على صنعاء اليمن فلما توفي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أراد أبو بكر رضي الله تعالى عنه أن يستعمله قال له لا أعمل لأحد بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (وهي) أي معنى هذه الكلمة (حسنة بالحبشيّة) أي باللغة المنسوبة إلى الحبشة ولا يبعد أن تكون عربية وحذف الهاء للإيماء إلى قصد الرمزية وقال عكرمة السنا الحسن ولا يبعد أن يطلق السنا بمعنى النور ويراد به الحسن والظهور؛ (وقوله) أي كما رواه الشيخان وغيرهما من طرق (ويكثر الهرج) بهاء مفتوحة فراء ساكنة فجيم (وهو القتل بها) أي بالحبشة وقد سئل عنه صلى الله تعالى عليه وسلم فقال القتل ونص عليه كثير من أئمة اللغة فهو من توافق اللغتين وأما قول ابن قرقول الهرج بإسكان الراء فسره في الحديث بالقتل بلغة الحبشي فقوله بلغة الحبش من بعض الرواة وإلا فهي كما عرفت عربية صحيحة (وَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَشْكَنْبَ دَرْدَ) بفتح الهمزة وسكون الشين وتفتح والكاف ساكنة فنون وفتح الياء وتكسر وتضم وتسكن فدالين مهملتين مفتوحتين بينهما راء ساكنة وفي نسخة الأولى منهما معجمة وفي أخرى دردم بميم في آخره (أي وجع البطن بالفارسيّة) فإن اشكنب هو البطن ودرد معناه الوجع ولعل أصلها أشكم بدردم بكسر الهمزة(1/729)
وفتح الكاف بعده ميم وباتصال الباء بدردم بالمهملتين وميم المتكلم فيكون فيه نوع تقريب أو لفظ غريب هذا والحديث رواه ابن ماجة وفي سنده داود ابن علية والكلام فيه معروف قال الذهبي في ميزانه روى جماعة عن داود ابن علية عن مجاهد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال يا أبا هريرة اشكنب درد قلت لا الحديث أخرجه أحمد في مسنده والأصح ما رواه المحاربي عن ليث عن مجاهد مرسلا فقوله لا يدل على استفهام مقدر أو ملفوظ أن تكن الشين مفتوحة فإنه لغة ويدل أيضا على بطلان نسخة زيادة الميم لكنه فيه إشكال وهو أنه لا يظهر وجه خطاب أبي هريرة بهذه الكلمة اللهم إلا أن يحمل على المزاح والمطايبة في المخاطبة ثم رأيت التلمساني ذكر الحديث ولفظه قال أبو هريرة دخلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو مضطجع على بطنه فقلت له ما هذا يا رسول الله فقال اشكنب دردم ثم فسره صلى الله تعالى عليه وسلم وتمام الحديث وعليك بالصلاة فإنها شفاء من كل سقم ونقل الأنطاكي من إكمال ابن ماكولا عن أبي الدرداء قال رآني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا نائم مضطجع على بطني فضربني برجله فذكر الحديث قال وهو مخالف لما تقدم قلت ولا منع من الجمع والله تعالى أعلم هذا وحديث «العنب دو دو يعني ثنتين ثنتين والتمريك» يعني واحدة مشهور على ألسنة العامة ولا أصل له عند الخاصة (إلى غير ذلك) أي مع غير ما ذكر من المعارف السنية والعوارف البهية (مُمَا لَا يَعْلَمُ بَعْضَ هَذَا وَلَا يَقُومُ به) أي بكله (ولا ببعضه) أي عادة (إلّا من مارس الدّرس) أي داوم المدارسة ولازم المدرسة (والعكوف على الكتب) أي المواظبة على مطالعة الكتب المطولة (ومثافنة أهلها) بالمثلثة والفاء والنون أي مجالسة أهل العلوم وفي نسخة بالقاف والموحدة بمعنى المباحثة (عمره) بالنصب أي في جميع أيام عمره من غير ضياع دهره (وهو) أي والحال أنه عليه الصلاة والسلام (رجل) معروف وموصوف (كما قال الله تعالى) في حقه عند قوله فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ (أمّيّ) أي منسوب إلى أمه يعني كما ولد بعينه (لم يكتب) أي بيده (ولم يقرأ) أي بنظره أو مطلقا قبل بعثه (ولا عرف) أي هو صلى الله تعالى عليه وسلم (بصحبة من هذه صفته) أي بمصاحبة أهل الدراسة والقراءة والكتابة (ولا نشأ) أي ولا انتشأ ولا تربى (بين قوم لهم علم) أي دراية (ولا قراءة) أي رواية (بشيء من هذه الأمور) أي التي يمكن بمدارستها الاتصاف بممارستها (ولا عرف هو قبل) أي قبل بعثته ودعوى نبوته (بشيء منها) أي من أمور القراءة والدراسة والكتابة ويروى ولا عرف هو قبل شيئا (قال الله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ) أي قبل نزول القرآن (مِنْ كُتُبٍ) أي من الكتب الإلهية وغيرها (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت: 48] ) أي ولا تكتبه من قبل أيضا وقوله بيمينك أي بيدك للتأكيد كما في قولهم رأيت بعيني وسمعت بأذني (الآية) تمامها إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي لو كنت قارئا كاتبا لشك أهل الباطل المتعلق بغير الطائل إذ لا كل كاتب وقارئ قادر أن يأتي بهذا الكتاب الذي عجز عن الاتيان بأقصر سورة منه جميع أرباب(1/730)
الألباب والحاصل أن صدور هذا النور وظهور هذه الأمور على يد الأمي أظهر معجزة وأبهر كرامة وأبعد شبهة مما لو ظهر على يد القارئ الكاتب لا سيما وقد كان يحصل الارتياب لأهل الكتاب لكونه النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل هذا والجمهور على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكتب وقيل كتب مرة واحدة وهو قول الباجي وصوبه بعضهم فإنه لا يقدح في المعجزة كونه كتب مرة واحدة بل يكون معجزة ثانية قال القرطبي في مختصره قوله في البخاري فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الكتاب فكتب ظاهر قوي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كتب بيده وقد أنكره قوم تمسكا بقوله تعالى وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ الآية ولا نكرة فيه فإن الخط المنفي عنه الخط المكتسب من التعلم وهذا خط خارق للعادة أجراه الله تعالى على أنامل نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم مع بقائه أنه لا يحسن الكتابة المكتسبة وهذا زيادة في صحة نبوته انتهى ولا يخفى أن في قوله وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل نزول القرآن وحصول النبوة والرسالة إشارة إلى أنه كان ممنوعا من القراءة والكتابة وهو لا ينافي أن يعطيهما الله تعالى له بعد تحقق رسالته زيادة في الكرامة؛ (إنّما كانت غاية معارف العرب النّسب) أي علم النسب لكل قبيلة إلى حدها من أبيها وجدها (وأخبار أوائلها) أي وقائع سلفها من هزلها وجدها وتنعمها وكدها (والشّعر) أوزانها وقوافيها (والبيان) أي النثر في الخطب وأمثالها أو ما يتعلق بما فيها حتى كاد أن يكون بيانهم في شعرهم ونثرهم سحرا وشاع وذاع فيما بينهم ذكرا وفكرا وبلغوا غاية البلاغة ووصلوا نهاية الفصاحة نظما ونثرا (وَإِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ لَهُمْ بَعْدَ التَّفَرُّغِ لِعِلْمِ ذلك) أي عمرا (والاشتغال بطلبه ومباحثة أهله عنه) أي عصرا؛ (وهذا الفنّ) أي النوع من العلم بجميع افنانه وأغصانه في جميع أحيانه وأزمانه (نقطة من بحر علمه) أي ونكتة من نهر فهمه وشكلة من شطر كلمه (صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا سَبِيلَ إِلَى جَحْدِ الْمُلْحِدِ) أي إنكار المائل عن الحق والمعاند (بشيء ممّا ذكرناه) أي من المطالب والمقاصد (ولا وجد الكفرة حيلة) أي مكيدة يتشبثون بها في عقيدة (في دفع ما نصصناه) وفي نسخة ما نصصناه أي حكيناه وبيناه (إلّا قولهم أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النحل: 24، والفرقان: 5] ) أي هو يعني القرآن أقاصيص السابقين كما حكى الله عنهم بقوله وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلا وقد تولى الله سبحانه وتعالى جوابهم بقوله وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (وإِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل: 103] ) أي من الإعجام أؤ الاروام (فردّ الله قولهم) أي مقولهم هذا لا كما قال الدلجي هو أساطير الأولين وإنما يعلمه بشر (بقوله: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ) وفي قراءة بفتح الياء والحاء أي يميلون (إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النَّحْلِ: 130] ثمّ قالوه مكابرة العيان) بكسر العين أي المعاينة والمشاهدة (فَإِنَّ الَّذِي نَسَبُوا تَعْلِيمَهُ إِلَيْهِ إِمَّا سَلْمَانُ) أي الفارسي كما في نسخة صحيحة وسماه النبي صلى الله(1/731)
تعالى عليه وسلم سلمان الخير (أو العبد الرّوميّ) وهو غلام حويطب بن عبد العزى أسلم وكان ذا كتب (وَسَلْمَانُ إِنَّمَا عَرَفَهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَنُزُولِ الْكَثِيرِ مِنَ الْقُرْآنِ وَظُهُورِ مَا لَا يَنْعَدُّ مِنَ الآيات) أي القرآنية أو المعجزات البرهانية والعلامات الفرقانية فلا يتصور أنه كان يعلمه سلمان؛ (وَأَمَّا الرُّومِيُّ فَكَانَ أَسْلَمَ وَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم؛ واختلف في اسمه) أي كما سيأتي من أنه يعيش أو بلعام أو جبرا أو يسار (وقيل بل كان النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يجلس عنده) أي إليه ويقبل عليه لما كان يلمح قابلية الهداية لديه (عند المروة وكلاهما أعجميّ اللّسان) أي وضعيف البيان (وهم الفصحاء اللّدّ) بضم اللام وتشديد الدال جمع الألد وهو شديد الخصومة (والخطباء اللّسن) بضم فسكون جمع ألسن وقيل جمع لسن بفتح فكسر وهو المنطلق اللسان في ميدان النطق والبيان (وقد عجزوا) بفتح الجيم وتكسر (عن معارضة ما أتى به) أي أظهره (والإتيان بمثله) بل عن الإتيان بأقصر سورة من نحوه (بل عن فهم وصفه) وفي نسخة رصفه بالراء والظاهر أنه تصحيف وقيل معناه الاتقان (وصورة تأليفه) أي تركيبه (ونظمه) أي سلكه فهم إذا عجزوا عن هذا كله (فكيف بأعجميّ ألكن) أفعل للمبالغة من اللكنة وهي بالضم المعجمة من اللسان والعي في النطق والبيان وأبعد الدلجي في تعبيره أي ابكم (وقد كان سلمان أو بلعام الرّوميّ) بالموحدة المفتوحة وسكون اللام ويقال بلعم (أو يعيش) بفتح التحتية الأولى وكسر العين قال الذهبي في تجريده يعيش غلام ابن المغيرة قال عكرمة هو الذي نزل فيه بفتح يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ وقال الحلبي يعيش رأيتهم قد ذكروه في الصحابة (أو جبر) بفتح جيم وسكون موحدة هو غلام للفاكه بن المغيرة اسلم وقد روي أن مولاه كان يضربه ويقول له أنت تعلم محمدا فيقول له لا والله بل يعلمني ويهديني قال الحلبي ما رأيت له ذكرا في الصحابة وكذا في قوله (أو يسار) بفتح التحتية (على اختلافهم في اسمه) أي اختلاف العلماء في تعيينه أو اختلاف السفهاء في نسبته من كمال تحيرهم في تبيينه (بين أظهرهم) أي كانوا كلهم فيما بينهم عارفين بأخبارهم (يكلّمونهم) وفي نسخة يكلمونه (مدا أعمارهم) بفتح الميم والدال مقصورا أي مدتها (فهل حكي عن واحد منهم) كسلمان والرومي (شيء) أي صدور شيء ما (مِنْ مِثْلِ مَا كَانَ يَجِيءُ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة (وهل عرف واحد منهم) أي وهم عندهم (بمعرفة شيء من ذلك) أي مما جاء به عليه الصلاة والسلام (وما منع) أي وعلى الفرض والتقدير أي شيء منع (العدوّ) أي أعداءه من المنكرين وروي المغرور (حينئذ على كثرة عدده) بفتح العين أعدادهم (ودؤوب صلبه) بضم دال وهمزة فسكون واو فموحدة أي جده وتعبه في كده (وقوّة حسده أن يجلس إلى هذا) أي من سلمان أو غيره وأخطأ الدلجي بقوله أي ما جاء به عليه السلام (فيأخذ عنه) وفي نسخة عليه (أيضا) أي على زعمه (ما يعارض به) أي ما جاء به عليه السلام (وَيَتَعَلَّمُ مِنْهُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى شِيعَتِهِ)(1/732)
بسكون الغين المعجمة وتفتح على لسان العامة أي على تهيج شره وخصامه كذا في أصل الدلجي وهو ظاهر جدا وفي النسخ على شيعته فعلى للعلة أي لأجل مشايعيه ومتابعيه (كفعل النّضر بن الحارث) تقدم أنه قتل كافرا (بما كان يمخرق) من المخرقة بالخاء المعجمة وهي كلمة مولدة كما ذكره الجوهري أي يزخرف (به من أخبار كتبه) أي مما لا يجدي نفعا له ولغيره (ولا غاب النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم عن قومه) أي غيبة يمكن فيها من تعلمه (ولا كثرت اختلافاته) ترداداته (إلى بلاد أهل الكتاب) وفي نسخة الكتب أي كالمدينة ونحوها من بلاد قومه (فيقال) بالنصب (إنّه استمدّ منهم) أي استفاد عنهم (بل لم يزل) أي من أول عمره إلى آخر أمره (بين أظهرهم) أي بينهم (يرعى) أي الغنم (في صغره وشبابه) وقال الدلجي يرعى من المراعاة وهي الملاحظة والمحافظة وهو بعيد جدا (على عادة أنبيائهم) أي أنبياء سلفهم وفي أصل الدلجي ابنائهم بإصلاح أنبيائهم وكذا في نسخة صحيحة وهو ظاهر جدا (ثمّ لم يخرج عن) وفي نسخة من (بلادهم إلّا في سفرة) أي واحدة (أو سفرتين) أي مرة مع عمه أبي طالب فرده من الطريق بإشارة بحيرا وأخرى في تجارته لزوجته خديجة ومعه غلامها ميسرة والترديد بأو نظرا إلى ان الخرجة الأولى هل تسمى سفرة أو لا فاندفع قول الحلبي وهاتان سفرتان ذكرهما جماعة وكان ينبغي أن يقول إلا في سفرتين على أنه قد يقال المعنى بل سفرتين (لم يطل فيهما) ويروى فيهما (مكثه) بضم الميم وتفتح أي إقامته ولبثه (مدّة يحتمل) بصيغة المعلوم أو المجهول (فيها تعليم القليل) أي اليسير (فكيف الكثير) أي فكيف يحتمل فيها تعليم الكثير والاستفهام للإنكار (بَلْ كَانَ فِي سَفَرِهِ فِي صُحْبَةِ قَوْمِهِ ورفاقه وعشيرته) بفتح الراء (لم يغب عنهم ولا خالف حاله) بالنصب أو الرفع والمعنى وما اختلف حاله (مدّة مقامه بمكّة من تعليم) أي عن معلم عربي ومن بيان لحاله لا مزيدة كما قاله الدلجي وفي نسخة ومن تعلم وهو الأظهر (واختلاف إلى حبر) بفتح الحاء وتكسر أي عالم يهودي وأغرب الدلجي بقوله بكسر المهملة أفصح من فتحها نعم كذلك في معنى المداد إلا أنه ليس ههنا المراد (أو قسّ) بفتح القاف ويكسر وضمه خطأ فسين مشددة أي عالم نصراني وكذا القسيس (أو منجم) أي متعلق بعلم النجوم (أو كاهن) أي ممن يزعم أنه يخبر عن كائن (بل لو كان بعد) بضم الدال أي بعد مكثه وتصور تعلمه (هذا كلّه) اسم كان وفي أصل الدلجي بل لو كان هذا كله بعد وهو ظاهر جدا وفي نسخة صحيحة بَلْ لَوْ كَانَ هَذَا بَعْدُ كُلُّهُ (لَكَانَ مجيء ما أتى به في) وفي نسخة من (معجز القرآن) بل من معجزاته (قاطعا لكلّ عذر ومدحضا) أي مزيلا ودافعا (لكلّ حجّة) أي داحضة وفي نسخة صحيحة لكل شبهة (ومجليّا) بضم ميم وسكون جيم وتخفيف لام فتحتية مخففة وفي نسخة بفتح الجيم وكسر اللام المشددة لا كما قال الحلبي بإسكان الخاء والمعنى كاشفا وموضحا (لكلّ أمر) أي مما يلوح عليه مخايل ريبته.(1/733)
فصل [ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام وكراماته وباهر آياته أنباؤه مع الملائكة]
(ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام) أي خصوصياته في حالاته (وكراماته وباهر آياته) أي غالب معجزاته (أنباؤه) بفتح الهمزة أي أخباره الواقعة له (مع الملائكة والجنّ وإمداد الله) أي إعانته (له بالملائكة) أي المقربين كما في وقعة بدر وحنين (وطاعة الجنّ له) كجن نصيبين (ورؤية كثير من أصحابه لهم) أي للملائكة والجن وهذا إجمال يتبين لك بعد تفاصيل أحواله. (قال الله تعالى: وَإِنْ تَظاهَرا) بتشديد الظاء وتخفيفها والخطاب لعائشة وحفصة أي وإن تتعاونا (عَلَيْهِ) أي على النبي بما يسؤه لديه من الافراط في الغيرة لكثرة ميلهما إليه (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ) أي ناصره (وَجِبْرِيلُ [التحريم: 4] ) بكسر الجيم وفتحها (الآية) أي وصالح المؤمنين كأبي بكر وعمر والملائكة أي بقيتهم بعد ذلك أي بعد نصره سبحانه وتعالى ظهير أي مظاهرون له (وقال تعالى إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال: 12] ) أي بأني معكم معينا لهم (وقال إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) أي بمناجاتكم ومناداتكم يا غياث المستغيثين اغثنا أعنا على أعدائنا وعن عمران رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رأى الكفار ألفا وأصحابه ثلاثمائة أي في بدر فرفع يديه مستقبلا يقول اللهم انجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه حتى سقط رداؤه فقال أبو بكر يا نبي الله حسبك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك (فَاسْتَجابَ لَكُمْ) أي ربكم (أَنِّي مُمِدُّكُمْ [الأنفال: 9] ) أي بأني معاونكم (الآيتين) أي بألف من الملائكة مردفين بكسر الدال أي متتابعين وبفتحها أي يردف بعضهم ببعض وكان الظاهر أن يقول الآية ولعله أراد إشارة بالآيتين من السورتين أي الأنفال وآل عمران وهي قوله تعالى إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ فيكون الإيماء إلى القصتين من بدر وأحد حيث وقع الوعد في الثاني مقيدا بشرط الصبر ولما فقد فقد المدد والنصر ولا يبعد أن يراد بالآيتين قوله إِذْ يُوحِي وقوله إِذْ تَسْتَغِيثُونَ بل هو الأظهر فتدبر، (وقال وَإِذْ صَرَفْنا) أي أملنا ووجهنا (إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ) أي جن نصيبين (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف: 29] الآية) أي فلما حضروه نهضوا قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ الآيات هذا وقد ورد أنه لما حرست السماء نهضوا فوافوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بوادي النخلة منصرفه يقرأ في صلاة الصبح فاستمعوا قراءته وأما حديث ابن مسعود أنه حضر معه ليلة الجن فثابت أيضا كما بينته في محله وسيأتي أيضا تقرير بعضه. (حدّثنا سفيان بن العاصي) كذا بالياء والأظهر أنه بلا ياء فإنه معتل العين لا اللام كما قدمنا (الفقيه) سبق ذكره (بسماعي عليه) أي في حضوري لديه (حدّثنا أبو اللّيث السّمرقنديّ) أي من أئمة الحنفية (ثنا عبد الغافر الفارسيّ)(1/734)
بكسر الراء ويسكن (حدّثنا أبو أحمد الجلوديّ) بضم الجيم وتفتح (ثنا ابن سفيان) وهو إبراهيم بن محمد بن سفيان راوي صحيح مسلم عنه (ثنا مسلم) أي القشيري النيسابوري صاحب الصحيح (ثنا عبيد الله) مصغرا (ابن معاذ) بضم الميم قال أبو داود كان يحفظ عشرة آلاف حديث روى عنه مسلم وغيره (ثنا أبي) أبوه معاذ بن معاذ التميمي العنبري الحافظ قاضي البصرة قال أحمد إليه المنتهى في الثبت بالبصرة (ثنا شعبة) إمام جليل في الحديث (عن سليمان الشّيبانيّ) أخرجه له الأئمة الستة (سمع زرّ بن حبيش) بالتصغير وزر بكسر الزاء وتشديد الراء هو أبو مريم الأسدي عاش مائة وعشرين سنة وكان من أكابر القراء المشهورين من أصحاب ابن مسعود وسمع عمر وعليا وعنه عاصم بن أبي النجود وخلق (عن عبد الله) أي ابن مسعود (قال) أي الله سبحانه وتعالى (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النَّجْمِ: 18] قال) أي ابن مسعود (رأى) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (جبريل في صورته) أي اصل خلقته (له ستمائة جناح) يدل على كمال عظمته كما يشير إليه مزيته قوله تعالى جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وهذا الموقوف أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي قال التلمساني قيل رأه في صورته مرتين خاصة وما عداهما لم يره هو وغيره من الملائكة إلا في صورة الآدميين ليأنس بهم ومن تمام الحديث له ستمائة جناح مثل الزبرجد الأخضر فغشي عليه؛ (والخبر) أي الحديث والأثر (في محادثته) أي مكالمته عليه الصلاة والسلام (مع جبريل وإسرافيل وغيرهم) بصيغة الجمع لتعظيمهما أو لأن أقل الجمع اثنان وفي نسخة وغيرهما (من الملائكة) كعزرائيل وملك الجبال ومالك خازن النار (وما شاهده من كثرتهم) كحديث أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فيها موضع قدم إلا وفيه ملك إما راكع أو ساجد (وعظم صور بعضهم) عزرائيل وإسرافيل وسائر حمله العرش (ليلة الإسراء مشهور) أي رواه الأئمة كخبر يا محمد هذا ملك الجبال يسلم عليك قال التلمساني وروى ابن عباس مرفوعا أنه رأى ليلة المعراج في مملكة الله تعالى رجالا على أفراس بلق شاكي السلاح طول كل واحد مسيرة ألف سنة وكذلك طول كل فرس يذهبون متتابعين لا يرى أولهم ولا آخرهم قال فقلت يا جبريل من هؤلاء قال ألم تسمع قوله تعالى وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ثم قال أنا أهبط وأصعد وأراهم هكذا يمرون لا أدري من أين يجيئون ولا أين يذهبون ذكره النسفي في زهر الرياض قاله الأنطاكي (وقد رآهم) أي الملائكة وفي أصل الدلجي رآه أي جبريل (بحضوره) أي بحضوره عليه السلام وهي بفتح فسكون وقال التلمساني إن الحاء مثلثة ويقال أيضا بسكون الضاد وفتحها (جماعة من أصحابه) أي الكرام (في مواطن مختلفة) أي متفاوتة الأيام (فرأى أصحابه) أي بعضهم (جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ يَسْأَلُهُ عن الإسلام) وفي نسخة زيادة والإيمان والحديث رواه الشيخان وغيرهما من طرق متعددة والمعنى في صورة رجل غير معروف كما في أصل الحديث المذكور فقول(1/735)
الدلجي كدحية ليس في محله وإن تجج بتوشيح شرحه (ورأى ابن عبّاس وأسامة) أي ابن زيد كما في نسخة وهو ابن حارثة (وغيرهما عنده) أي بحضرته (جبريل في صورة دحية) بكسر الدال وتفتح وهو ابن خليفة الكلبي المشهور بالحسن الصوري وقد اسلم قديما وشهد المشاهد كلها بعد بدر وأرسله عليه السلام بكتاب معه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى هرقل وأما رؤية ابن عباس له فزواها الترمذي ولفظه ابن عباس رأى جبريل مرتين وأما رؤية أسامة له فرواها الشيخان عنه وفيها أن أم سلمة رأته وأما غيرهما كعائشة فروى رؤيتها البيهقي وقال التلمساني وحارثة بن النعمان رأى جبريل مرتين وأقرأه جبريل عليه السلام وجرير بن عبد الله البجلي مسحه ملك وحنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة وحسان بن ثابت أيده الله بجبريل لمناضحته عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم وسعد بن معاذ نزل لجنازته سبعون ألف ملك ما نزلوا من قبل قط (ورأى سعد) أي ابن أبي وقاص كما في الصحيحين (على يمينه ويساره جبريل وميكائيل) لف ونشر مرتب على ما هو الظاهر المتبادر (في صورة رجلين عليهما ثياب بيض) بالوصف وتجوز الإضافة قال الحلبي في مسلم يعنى جبريل وميكائيل ولم يسميا في البخاري فكونهما جبريل وميكائيل لم يقله سعد وإنما الراوي عنه قاله عنه أو من دونه ذكر ذلك والله تعالى أعلم قلت ولفظ مسلم رأيت عن يمين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد يعنى وميكائيل (ومثله) أي ومثل ما روى سعد (عن غير واحد) أي صدر عن كثير من الصحابة؛ (وسمع بعضهم زجر الملائكة) بفتح الزاء وسكون الجيم أي جثهم وحملهم على السرعة (خيلها يوم بدر) أي كما رواه عن عمر (وبعضهم رأى تطاير الرّؤوس من الكفّار) أي في بدر (ولا يرون الضّارب) كما رواه البيهقي عن سهل بن حنيف وأي واقد الليثي وقال أبو داود المازني على ما في رواية ابن إسحاق إني لاتبع رجلا من المشركين يوم بدر لاضربه إذ رفع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قتله غيري (ورأى أبو سفيان بن الحارث) بن عبد المطلب وهو ابن عم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يومئذ) أي يوم بدر (رجالا بيضا) بكسر الباء جمع أبيض ولم يضم الباء محافظة على الياء (على خيل بلق) بضم فسكون جمع ابلق والبلق محركة سواد وبياض كالبلقة بالضم (بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ) وفي نسخة لا يقوم لها شيء أي لا يطيق ولا يقاوم لتلك الرجال شيء أي مما خلق الله تعالى فإن ملكا واحدا كاف في اهلاك أهل الدنيا جميعا فقد أهلك جبريل مدائن قوم لوط بريشة من جناحه وثمود بصيحة من صياحه هذا وقد روى البيهقي عن سهيل بن عمرو أنه هو الذي رآهم لكن لا منع من الجمع بعد تحقق السمع (وقد كانت الملائكة تصافح عمران بن حصين) كما رواه ابن سعد عن قتادة وفي مسلم أنها كانت تسلم عليه (وأرى النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَمْزَةَ جِبْرِيلَ فِي الْكَعْبَةِ فَخَرَّ) أي سقط حمزة(1/736)
(مغشيّا عليه) أي من عظمته وهيبته وحديثه هذا رواه البيهقي عن مسلم بن يسار مرسلا (ورأى عبد الله بن مسعود الجنّ) كما رواه البيهقي عنه (ليلة الجنّ) أي ليلة أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن ينذرهم (وسمع) أي ابن مسعود (كلامهم وشبّههم) أي في الخلق والنطق (برجال الزّطّ) بضم الزاء وتشديد الطاء قوم من السودان أو الهنود طوال قال الحلبي وفي حديث مسلم عنه أنه لم يكن مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة الجن لكن ذكر ابن سيد الناس في سيرته ما لفظه أن الحديث المشهور عن عبد الله بن مسعود من طرق متظاهرة يشهد بعضها لبعض ويشيد بعضها بعضا قال ولم تنفرد طريق ابن زيد إلا بما فيها من التوضئ بنبيذ التمر انتهى وقد جاء الحديث الذي ذكره من غير طريق ابن زيد وهو ابن ماجة من حديث ابن عباس وفيه الوضوء بنبيذ التمر لكن في السند عبد الله بن لهيعة والعمل على تضعيف حديثه وهو مرسل صحابي والعمل على قبوله خلافا لبعض الناس أي من الشافعي واتباعه هذا وقد ورد من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خطب ذات ليلة ثم قال ليقم من لم يكن في قلبه مثقال ذرة من كبر فقام عبد الله ابن مسعود فحمله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مع نفسه فقال ابن مسعود خرجنا من مكة فخط رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حولي خطا وقال لا تخرج عن هذا الخط فإنك إن خرجت عنه لم تلقني إلى يوم القيامة ثم ذهب يدعو الجن إلى الإيمان ويقرأ القرآن حتى طلع الفجر ثم رجع بعد طلوع الفجر وقال لي هل معك ماء اتوضأ به قلت لا إلا نبيذ التمر في إداوة فقال تمرة طيبة وماء ظهور وأخذه وتوضأ به وصلى الفجر وقد روى أبو داود والترمذي وابن ماجة والدارقطني عن ابن مسعود نحوه وكذا الطحاوي وغيره وقد اثبت البخاري كون ابن مسعود مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم باثني عشر وجها فلا يلتفت إلى قول الدلجي وأما حديث ابن مسعود أنه حضر معه ليلة الجن فضعيف ففي صحيح مسلم أنه لم يكن معه فإنا نقول رواية البخاري أصح وأرجح والقاعدة أن الإثبات مقدم على النفي عند الأثبات مع أن ليلة الجن كانت ست مرات أو المراد بنفي كونه معه أنه لم يحضر مجلس المحاورات والله أعلم بالحالات؛ (وذكر ابن سعد) وهو مصنف الطبقات الكبرى والصغرى ومصنف التاريخ ويعرف بكتاب الواقدي سمع ابن عيينة وابن معين وحدث عنه ابن أبي الدنيا وغيره مات سنة ثلاثين ومائتين (أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ لَمَّا قُتِلَ يَوْمَ أحد) أي وكان صاحب الراية (أَخَذَ الرَّايَةَ مَلَكٌ عَلَى صُورَتِهِ فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم يقول له) أي ظنا منه أنه هو (تقدّم) إلي جهة العدو (يا مصعب فقال له الملك) أي مرة في جوابه (لست بمصعب فعلم) بصيغة الفاعل أو المفعول أي فعرف (أنّه ملك) لكن روى ابن أبي شيبة في مصنفه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال يوم أحد أقدم مصعب فقال له عبد الرحمن بن عوف يا رسول الله ألم يقتل مصعب قال بلى لكن قام مكانه وتسمى باسمه انتهى وفيه احتمال أنه عرفه من أول الوهلة وأنه لم يعرفه حتى عرفه ثم كان يقول له مصعب من قبيل تجاهل(1/737)
العارف أو تنزيل المجهول منزلة المعلوم أو تسمية له باسمه أو على تقدير مضاف نحو نائبه والله تعالى أعلم؛ (وقد ذكر غير واحد من المصنّفين) كالبيهقي وابن ماكولا في اكماله (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنّه قال بينا نحن جلوس) يروى أنا جالس (مع النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ بِيَدِهِ عَصًا فسلّم على النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فردّ عليه) أي السلام، (وقال نغمة الجنّ) بفتح النون أي هذه حركته وصوته وفي نسخة نغمة جني، (من أنت) أي منهم (قال أنا هامة) بتخفيف الميم وفي بعض الروايات الهام (بن الهيم) بكسر فسكون تحتية وفي نسخة صحيحة بفتح هاء وكسر تحتية مشددة أو مخففة (ابن لاقس) بكسر القاف أو لاقيس بزيادة تحتية (ابن إبليس) كان اسمه عزازيل قال التلمساني وهو أبو الجن كما أن آدم أبو البشر وقد ذكره البغوي في تفسيره عن مجاهد قال من ذرية إبليس لاقيس بالياء (فذكر أنّه لقي نوحا ومن بعده) أي من الأنبياء وغيرهم (في حديث طويل) قال بعضهم إنه موضوع كما ذكره الحلبي (وأنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم علّمه سورا في القرآن) قال الحلبي وفي الميزان في حديثه المذكور أنه عليه السلام علمه المرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت والمعوذتين وقل هو الله أحد الحديث بطوله ذكر الأنطاكي وغيره أنه قال بينا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يمشي في بعض جبال مكة أو عرفات إذ أقبل شيخ أعرج بيده عصا يتوكأ عليها فقال السلام عليك يا محمد فقال صلى الله تعالى عليه وسلم مشية الجن ونغمتهم قال نعم من أي الجن أنت قال أنا الهام بن الهيم بن لاقيس فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كم أتى عليك قال أنا كنت يوم قتل قابيل هابيل غلاما أطوف في الآكام وأفسد أطايب الطعام وأمنع من الاستعصام وآمر بقطيعة الأرحام فقال صلى الله تعالى عليه وسلم بئس صفة الشاب المؤمل والشيخ المرجو قال مهلا يا محمد دعني عنك من اللوم إنما جئتك تائبا وكانت توبتي في زمن نوح عليه الصلاة والسلام وعلى يديه ولقد كنت معه في السفينة وعاتبته في دعائه على قومه حتى بكى وأبكاني وقال والله أصبحت من النادمين وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولقد كنت مع هود حين دعا على قومه فأهلكهم أن بالريح العقيم فعاتبته في دعائه على قومه حتى بكى وأبكاني وقال والله أصبحت من النادمين وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولقد كنت مع هود حين دعا على قومه فأهلكهم أن بالريح العقيم فعاتبته في دعائه على قومه حتى بكى وأبكاني وقال والله أصبحت من النادمين وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولقد كنت مع صالح في مسجده حين دعا على قومه فأخذتهم الصيحة فعاتبته في دعائه على قومه حتى بكى وأبكاني وقال والله أصبحت من النادمين وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولقد كنت مع إبراهيم يوم قذف في النار واسعى بين منجنيقه واطفئ نيرانهم حتى جعلها الله عليه بردا وسلاما وأن موسى بن عمران أوصاني إن بقيت إلى أن يبعث عيسى ابن مريم أن أقرأه منه السلام فلقيت عيسى فاقرأته السلام وقال لي عيسى ابن مريم إن بقيت إلى أن تلقى محمدا فاقرأه مني السلام فجئت اقرأ عليك السلام فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى عيسى السلام ما دامت السموات والأرض وعليك يا هام فإنك قد أديت الأمانة فما حاجتك قال إن موسى علمني التوراة وعيسى علمني(1/738)
الإنجيل وأحب أن تعلمني شيئا من القرآن فاقرأه في صلاتي فعلمه عشر سور من القرآن فلم ير بعد انتهى لكن قال ابن نصر هذا الحديث موضوع وقاله ابن الجوزي أيضا وقال العقيلي لا أصل له والله تعالى أعلم (وذكر الواقديّ) وكذا روى النسائي والبيهقي عن أبي الطفيل (قتل خالد) أي ابن الوليد (عند هدمه العزّى) تأنيث الأعز سمرة كانت لغطفان يعبدونها وكانوا بنوا عليها بيتا (للسّوداء التي خرجت له) أي لخالد من الشجرة بعد قطعها (ناشرة) أي مفرقة (شعرها عريانة) أي واضعة يدها على رأسها داعية يا ويلها (فجزّ لها) بجيم وزاء مخففة وتشدد للمبالغة أي قطعها نصفين (بسيفه) وهو يقول يا عزى كفرانك لا غفرانك إني رأيت الله قد أهانك ويروى فجدلها بتشديد الدال أي فصرعها وفي رواية فخزلها بالخاء المعجمة والزاء المخففة أي فقطعها (وأعلم) أي خالد (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فقال) أي له كما في نسخة (تلك العزّى) زيد في رواية لن تعبد أبدا وفي رواية تلك شيطانة (وقال عليه السلام) كما في الصحيحين عن أبي هريرة (إنّ شيطانا) من شطن إذا بعد لبعده عن الخير أو من شاط إذا هلك لهلاكه في الشر (تفلّت) بتشديد اللام أن تخلص بغتة (البارحة) أي في الليلة الماضية (ليقطع عليّ صلاتي) والمعنى تعرض لي بغتة ليغلبني في أداء صلاتي غفلة (فأمكنني الله منه) أي أقدرني الله عليه (فأخذته فأردت أن أربطه) بكسر الموحدة وتضم (إلى سارية من سواري المسجد) أو منضما إلى أسطوانة من أسطوانات مسجد المدينة (حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سليمان رَبِّ اغْفِرْ لِي) أي ما صدر عني في أمر ديني وهو بدل من دعوة أخي (وَهَبْ لِي) أي من الدنيا مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: 35] ) أي لا يتسهل لغيري في حياتي أو بعد مماتي مبالغة في زيادة خارقة للعادة (فردّه الله خاسئا) أي خائبا وهذا صريح في أن هذا الشيطان أحد الجن الموثقة بالقيود لدلالة تفلت عليه ولإشارة التنكير إليه فلا وجه لقول الحلبي هذا الشيطان يحتمل أن يكون إبليس وأنه جاء ليلقي في وجهه عليه السلام شهابا من نار فأخذه ويحتمل أن يكون غيره والذي ظهر لي أنهما قصة واحدة انتهى كلامه وقال القاضي يفهم منه أن مثل هذا مما خص به سليمان عليه السلام دون غيره من الأنبياء واستجيبت دعوته في ذلك ولذلك امتنع نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم من أخذه إما تواضعا أو تأدبا أو تسليما لدعوة سليمان عليه السلام قلت والتسليم أولى واسلم وأما ما نقل عن الحجاج أنه قال لقد كان حسودا فصريح في كفره وقال ابن عطية وهذا من فسقه وقال ابن عرفة كان بعضهم يقول هذا من جهله والله سبحانه وتعالى اعلم بحاله ومآله (وهذا باب واسع) أي لا يمكن استقصاؤه ولا يتصور استيعابه.
فصل [وَمِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ وَعَلَامَاتِ رِسَالَتِهِ مَا تَرَادَفَتْ]
(ومن دلائل نبوّته) أي دلالات بعثته من أول حالته (وعلامات رسالته) وبخط القاضي وعلامة رسالته (ما ترادفت به الأخبار) أي تتابعت وتواترت الآثار (عن الرّهبان والأحبار) أي(1/739)
من زهاد النصارى وعبادهم وعلماء اليهود وقوادهم كخبر الراهب بحيرا وكان في زمنه أعلم النصارى وقد سافر به عمه أبو طالب في اشياخ من قريش إلى الشام فوافوا بصرى من ديار الشام فنزل من صومعته وكان قبل ذلك لا ينزل لمن نزل به الحديث وقد تقدم وكخبر حبر بني عبد الأشهل من اليهود إذ أتى نادى قومه فذكر البعث والحساب والميزان والجنة والنار وذلك قبل مبعثه عليه السلام فقالوا ويحك هذا كائن وأن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار ويجزون بأعمالهم قال نعم ولوددت إن حظي من تلك النار أن توقدوا أعظم تنور ثم تقذفوني فيه وتطبقوه علي وأني أنجو به من النار غدا فقيل له ما علامة ذلك قال نبي بعثه الله من هذه البلاد وأشار بيده إلى مكة قالوا متى فرمى بطرفه إلى أصغر القوم فقال إن يعش هذا يدركه فلما بعث آمنا به وصدقناه وكفر هو به فقلنا له ألست الذي قلت ما قلت وأخبرتنا فقال ليس به (وعلماء أهل الكتب) أي من غيرهم وفي نسخة الكتاب على قصد الجنس وفي أصل الدلجي وعلماء أهل الزمان فهو من باب عطف العام على الخاص (من صفته وصفة أمّته) كخبر عبد الله بن سلام قال في التوراة صفة محمد عليه الصلاة والسلام وعيسى ابن مريم يدفن معه وخبر كعب الأحبار قال نجد في التوراة محمد رسول الله عبدي المختار إلى أن قال مولده بمكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام وأمته الحامدون يحمدون الله تعالى في السراء والضراء الحديث وقد سبق (واسمه) أي محمد في التوراة وأحمد في الإنجيل وقال وهب بن منبه في الزبور يا داود سيأتي من بعدك نبي يسمى أحمد ومحمدا صادقا سيدا لا أغضب عليه أبدا ولا يعصيني أبدا وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأمته مرحومة وأعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل حتى يأتوا يوم القيامة نورهم مثل نور الأنبياء (وعلاماته) أي كما في الإنجيل صاحب المدرعة والعمامة والنعلين والهراوة ونحو ذلك (وذكر الخاتم الذي بين كتفيه) كما هو في كتب أهل الكتاب وقد بينت في شرح الشمائل هذا الباب (وَمَا وُجِدَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِ الْمُوَحِّدِينَ) وفي اصل الدلجي وَمَا وُجِدَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِ الْمُوَحِّدِينَ أي القائلين بالوحدة الإلهية (المتقدّمين) أي في زمن الجاهلية (من شعر تبّع) بضم التاء وتشديد الموحدة أحد ملوك اليمن وشعره هذا بعد منصرفه من المدينة وكان قد نازل أهلها الأوس والخزرج واليهود فكانوا يقاتلونه نهارا ويضيفونه ليلا واستمر ثلاث ليال فاستحيى فأرسل ليصالحهم فخرج إليه من الأوس أحيحة ابن الجلاح ومن يهود بنيامين القرظي فقال له أحيحة أيها الملك نحن قومك وقال بنيامين أيها الملك هذه بلدة لا تقدر أن تدخلها قال ولم قال لأنها منزل نبي يبعثه الله من قريش فأنشده شعرا منه:
ألقى إلى نصيحة كي أزدجر ... عن قرية محجورة بمحمد(1/740)
قال التلمساني وهو أبو كريب الذي كسا البيت ولم يسبقه إليه أحد ومن شعره المتواتر عنه قوله:
شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله بارئ النسم
فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم
في أبيات كتبها وأودعها إلى أهله فكانوا يتوارثونها كابرا عن كابر إلى أن هاجر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأدوها إليه ويقال كان الكتاب والأبيات عند أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه (والأوس بن حارثة) والحارثة بحاء مهملة ابن لأم الطائي وهو ممن يوحد الله تعالى من أهل الفترة (وكعب بن لؤيّ) بضم لام ففتح همزة وتبدل وتشديد تحتية وهو سابع أجداده عليه الصلاة والسلام وأما ما في نسخة لؤي بن كعب فخطأ (وسفيان بن مجاشع) أي وأشعارهم فيه صلى الله تعالى عليه وسلم لكنها غير مشهورة (وقسّ بن ساعدة) بضم القاف وتشديد السين أسقف نجران وكان من حكماء العرب ومن شعره:
الحمد لله الذي ... لم يخلق الخلق عبث
لم يخلنا منه سدى ... من بعد عيش وأكترث
أرسل فينا أحمدا ... خير نبي قد بعث
صلى عليه الله ما ... حج له ركب وحث
وقد رآه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعكاظ وغيره ومن ثمه عده ابن شاهين وغيره في الصحابة (وما ذكر) عطف على ما وجد أي وما نقل (عن سيف بن ذي يزن) بفتح الياء والزاء مصروفا ويمنع وهو من ملوك حمير ومن كان شريفا من أهل اليمن يقال له ذو يزن وقد ذكره الذهبي في الصحابة وقال ما لفظه سيف بن ذي يزن أهدى إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حلة وهو مشهور انتهى وقال الدلجي خبره أنه قال لجده عبد المطلب بن هاشم وقد وفد عليه ومن معه من قومه ليهنوه بنصرته على الحبشة أني مفض إليك من سر علمي ما لو غيرك لم أبح به إذ قد رأيتك معدنه فاكتمه حتى يأذن الله فيه أني أجد في علمنا الذي ادخرناه لأنفسنا وحجبناه عن غيرنا خبرا عظيما فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس عامة ولرهطك كافة ولك خاصة قال فما هو قال إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة كانت له الإمامة ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة فقال أيها الملك لقد أتيت بخبر ما آب به وافد ثم قال أيها الملك ابن لي ما ازداد به سرورا قال سيف هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد اسمه محمد يموت أبوه وأمه ويكفل جده وعمه وقد ولدناه مرارا والله باعثه جهارا أو جاعل له منا أنصارا يعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه ويضرب بهم الناس عن العرش ويفتح بهم كرائم أهل العرض يعبد الرحمن ويدحض الشيطان ويحمد النيران ويكسر الأوثان قوله فصل(1/741)
وحكمه عدل يأمر بالمعروف ويفعله وينهى عن المنكر ويبطله فقال أيها الملك قد أوضحت بعض الإيضاح قال سيف والله إنك لجده فهل أحسست بشيء مما ذكرت لك قال نعم إنه كان لي ابن كنت به معجبا وعليه شفيقا وأن زوجته كريمة من كرائم قومي آمنة بنت وهب فجاءت بغلام سميته محمدا مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه قال له سيف فاحتفظ به وأحذر عليه اليهود فإنهم له أعداء ولن يجعل الله تعالى لهم عليه سبيلا وأطو ما ذكرت لك عمن معك فلست آمن عليك أن يحسدوك أو أبناؤهم ولولا أني أعلم أني أموت قبل مبعثه لجعلت يثرب دار ملكي فإنها مهاجره وأهلها أنصاره وبها قبره ولولا خوفي عليه لأعلنت على حداثة سنه امره ولأوطأت على أنوف العرب كعبه وقد صرفت ذلك إليك من غير تقصير مني معك وإذا حال الحول فأتني بخبره وما يكون من أمره فمات سيف قبل الحول وقد ذكره الذهبي في الصحابة مع إيمانه به في حياته ولم يره فالحق أنه مخضرم والله تعالى أعلم (وغيرهم) أي كالراهب الذي قال لسلمان الفارسي إذ قال له بمن توصيني أكون عنده بعدك أعبد الله أي نبي والله ما أعلم أحدا على ما كنا عليه أوصيك أن تكون عنده ولكن قد أظلك زمان نبي يبعث من الحرم مهاجره بين حرتين في أرض سبخة ذات نخل فيه علامات لا تخفى بين كتفيه خاتم النبوة يأكل الهدية دون الصدقة فإن استطعت أن تخلص إليه فافعل. (وما عرّف) بتشديد الراء على بناء الفاعل لا المفعول كما وهم الدلجي أي وما أعلم (به من أمره) أي بعضه (زيد بن عمرو بن نفيل) بالتصغير قال الحلبي زيد هذا والد سعيد أحد العشرة وهو ابن عم عمر بن الخطاب وكان زيد يتعبد في المقبرة قبل النبوة على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويتطلب أحكامه الكرام ويوجد الله ويعيب على قريش ذبائحهم على الأنصاب ولا يأكل مما ذبح على النصب وكان إذا دخل الكعبة قال لبيك حقا تعبدا ورقا عذت بما عاذ به إبراهيم جاء ذكره في أحاديث وتوفي قبل النبوة فرثاه ورقة بن نوفل بأبيات معناها أنه خلص نفسه من جهنم بتوحيده واجتنابه عن عبادة الأوثان وفي صحيح البخاري في كتاب المناقب ذكره وبعض مناقبه قال الدلجي ذكر زيد عن راهب بالجزيرة إذ قال له وقد سأله عن دين إبراهيم عليه السلام أن كل من رأيت يعني من الأحبار والرهبان في ضلال أنك تسأل عن دين الله ودين ملائكته وقد خرج في أرضك نبي أو هو خارج يدعو إليه أرجع إليه فصدقه واتبعه فلقيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قبل أن يبعث ببلدح فقال له أي عم ما لي أرى قومك قد أنفوك قال أما والله إن ذلك لغير ثائرة مني إليهم ولكني أراهم على ضلالة فخرجت ابتغي هذا الدين ثم أخبره بما عرف به راهب الجزيرة من أمره صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قال فرجعت فلم اختبر شيئا بعد فقدم صلى الله تعالى عليه وسلم له سفرة فيها لحم فقال أنا لا آكل مما لم يذكر اسم الله عليه ثم مات قبل أن يبعث فقال صلى الله تعالى عليه وسلم أنه يبعث يوم القيامة أمة واحدة كما رواه النسائي هذا وعد ابن منده له ولغيره ممن رآه عليه السلام واجتمع به قبل البعثة من الصحابة الكرام توسع في الكلام إذ لم يجتمع به صلى الله تعالى عليه وسلم(1/742)
بعدها مؤمنا (وورقة بن نوفل) أي وما عرف به من أمره ورقة بن نوفل بن أسد عن رهبان كثيرين وقد أخبرته خديجة بنت خويلد بن أسد بما أخبرها به غلامها ميسرة من قول الراهب وأنه رأى ملكين يظلانه فقال إن كان هذا حقا فمحمد نبي هذه الأمة وقد عرفت إن لها نبيا ينتظر وهذا زمانه ثم إنه كان يستبطئ الأمر حتى قال شعرا:
تبكر أم أنت العشية رائح ... وفي الصدر من إضمارك الحزن فادح
لغرقة قوم لا أحب فراقهم ... كأنك عنهم بعد يومين نازح
فأخبار صدق خبرت عن محمد ... يخبرها عنه إذا غاب ناصح
فذاك الذي وجهت يا خير حرة ... بغور وبالنجدين حيث الصحاصح
إلى سوق بصرى والركاب التي غدت ... وهن من الأحمال قعص دوائح
يخبرنا عن كل خير بعلمه ... وللحق أبواب لهن مفاتح
بان ابن عبد الله أحمد مرسل ... إلى كل من ضمت عليه الأباطح
وظني به أن سوف يبعث صادقا ... كما بعث العبدان هود وصالح
وموسى وإبراهيم حتى يرى له ... بهاء وميسور من الذكر واضح
وتتبعها حبا لؤي جماعة ... شبابهموا والأشيبون الجحاجح
فإن أبق حتى يدرك الناس دهره ... فأنى به مستبشر الود فارح
والأفاني يا خديجة فاعلمي ... عن أرضك في الأرض العريضة سائح
وهذه شواهد صدق بإيمانه مع ما ذكر بعضهم بأنه صحابي بل هو أول الصحابة من أنه اجتمع به بعد الرسالة إذ صح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أتاه بعد مجيء جبريل إليه وإخباره له عن ربه بأنه رسول هذه الأمة بعد إنزال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ عليه وبعد قول ورقة له أبشر فأنا اشهد أنك الذي بشر به ابن مريم وأنك على ناموس عيسى وأنك نبي مرسل وقد ورد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رآه في الجنة وعليه ثياب خضر وفي مستدرك الحاكم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لا تسبوا ورقة فإني رأيته في الجنة وعليه جبة أو جبتان وأما ما نقله الذهبي عن ابن منده أنه قال الأظهر أنه مات بعد النبوة قبل الرسالة فواه جدا ويرده ما في صحيح البخاري عنه صريحا (وعثكلان) بفتح العين والكاف وتضمان واقتصر عليه بعضهم (الحميريّ) بكسر الحاء وفتح الياء نسبة إلى حمير أبي قبيلة من اليمن ومنهم كانت الملوك في الدهر الأول أي وما عرف به من أمره من الرهبان لكني لم أر من ذكره في معرض البيان (وعلماء اليهود) وفي نسخة وعلماء يهود أي من كتبهم أو من أخبارهم عن أحبارهم كقوله عالم منهم كان بمكة يتجر في نادي من قريش هل ولد فيكم الليلة مولود قالوا لا نعلم قال الله أكبر أما إذا أخطأكم خبر فانظروا واحفظوا ما أقول لكم ولد في هذه الليلة(1/743)
نبي هذه الأمة الأخيرة بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس فتفرقوا متعجبين من قوله فسأل كل أهله فقالوا قد ولد الليلة لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمدا فأخبروا اليهودي به فقال اذهبوا ننظره فدخلوا به على أمه فرأى العلامة فخر مغشيا عليه ثم أفاق فقالوا ويلك ما دهاك فقال ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل افرحتم به معشر قريش ليسطون بكم سطوة يطير خبرها في المشرق والمغرب (وشامول) بشين معجمة ثم ميم وفي آخره لام لا كاف كما في أصل الدلجي (عالمهم صاحب تبّع) وهو الذي مر بالمدينة ومعه رهبان فقالوا له إن هذه مهاجر نبي آخر الزمان وإنا لن نبرح منها لعلنا ندركه أو ابناؤنا فأعطى كل واحد منهم مالا وجارية فمكثوا فيها وتوالدوا بها فيقال الأنصار من ذريتهم (من صفته وخبره) بيان لما عرف به زيد ومن ذكر من بعده (وما ألفي) بضم همزة فكسر فاء وأما القاف كما في نسخة فهو تصحيف والمعنى ما وجد (من ذلك) أي مما دل على ما ذكر من صفته وخبره (فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِمَّا قَدْ جَمَعَهُ الْعُلَمَاءُ) أي علماء هذه الأمة (وبيّنوه) ففي التوراة أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام أن هاجر تلد ويكون من ولدها من يده فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة إليه بالخشوع وقال لموسى عليه السلام إني مقيم لهم نبيا من بني إخوتهم مثلك وأجري قولي في فيه يقول لهم ما آمرهم والرجل الذي لا يقبل قول النبي الذي يتكلم باسمي فأنا انتقم منه وفي الإنجيل قال عيسى عليه السلام إني أطلب إلى ربي فارقليطا يكون معكم إلى الأبد وفيه على لسانه فارقليط روح القدس الذي يرسله ربي باسمي أي النبوة هو الذي يعلمكم ويمنحكم جميع الأشياء ويذكركم ما قلته وإني قد أخبرتكم بهذا قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنوا به وفارقليط معناه كاشف الخفيات وفيه أقول لكم الآن حقا انطلاقي عنكم خير لكم فإن لم تنطلق عنكم إلى ربكم لم يأتكم الفارقليط وإن انطلقت أرسلت به إليكم فإذا جاء يفيد العالم ويؤنبهم ويوبخهم ويوقعهم على الخطيئة والبراذن روح اليقين يرشدكم ويعلمكم ويدبر لجميع الخلق لأنه ليس يتكلم بدعة من تلقاء نفسه (ونقله عنهما) أي عن التوراة والإنجيل وفي أصل الدلجي عنهم فإن صح نسخة فالضمير إلى العلماء لكنه لا يلائم قوله (ثقات من أسلم) وفي نسخة ثقاة من أسلم بالإضافة (منهم) أي من علماء اليهود والنصارى (مثل ابن سلام) هو الحبر عبد الله بن سلام من علماء اليهود وأخباره شهيرة كثيرة (وابني سعية) بفتح فسكون فتحتية أو فنون والمعروف انهما اثنان فما في بعض النسخ وبني سعية من غير ألف لعله سهو أو محمول على ان أقل الجمع اثنان وأن قول الحلبي فيحتمل أن القاضي رأى معهما أسد بن عبيد فظنه أخاهما فهو من الظن السوء به نعم قوله ويحتمل أنه وقف على أنهم ثلاثة ظن حسن وتوجيه مستحسن هذا وفي دلائل النبوة للبيهقي وسيرة ابن سيد الناس عن ابن إسحاق قال أسيد أو ثعلبة ابني سعية وأسيد بن عبيد نفر من هذيل ليسوا من بني قريظة ولا النضير يعني نسبهم فوق ذلك وهو بنو عم القوم اسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قالوا قدم علينا(1/744)
قبل البعثة بسنتين حبر من يهود الشام يقال له ابن الهيبان فأقام عندنا فكنا نستسقي به فحضرته الوفاة فجئناه فقال يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من الرخاء إلى أرض البؤس قالوا أنت أعلم قال إنما خرجت أتوقع مبعث نبي قد أظل زمانه ومهاجره هذه البلاد فاتبعوه فلا يسبقكم إليه أحد فإنه يبعث بسفك دماء من خالفه وسبي ذراريهم ثم مات فلما فتحت خيبر قال أولئك النفر الثلاثة وكانوا شبانا أحداثا يا معشر يهود والله إنه للذي كان يذكر لكم ابن الهيبان قالوا ما هو به قالوا بلى ثم نزلوا فاسلموا وخلوا أموالهم وأولادهم وأهليهم في الحصن فردها عليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (وبنيامين) سمي أخي يوسف عليه السلام (ومخيريق) بالتصغير وخاؤه معجمة قال السهيلي إنه أسلم وأوصى للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال المصنف أوصى بسبعة حوائط قال الحلبي قاتل يوم أحد حتى قتل وقال الواقدي كان حبرا عالما فآمن بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو من بني النضير انتهى وقد صرح غير واحد من الحفاظ بأنه اسلم (وكعب) أي كعب الأحبار (وأشباههم ممّن أسلم من علماء اليهود) أي ولو بعد موته عليه الصلاة والسلام مثل كعب فإنه تابعي مخضرم ولم ير النبي عليه الصلاة والسلام وإنما اسلم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه (وبحيرا) بفتح باء وكسر حاء فراء ممدودا ومقصورا ممن شهد له بالرسالة قبل دعوى النبوة فهو من الصحابة إن لم يشترط الاجتماع بعد البعثة (ونسطور) بفتح النون وسكون السين وفي نسخة نصطور وفي نسخة بنون في آخر بدل الراء (الحبشة) قيده بهم احترازا من نسطور الشام وهو الذي جرى له ما جرى مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في متجره لخديجة في رحلته الثانية إلى الشام (وضغاطر) بفتح أوله وكسر الطاء وهو الأسقف الرومي اسلم على يد دحية الكلبي وقت الرسالة فقتلوه فهو تابعي مخضرم وذكره الذهبي في تجريد الصحابة (وصاحب بصرى) بضم موحدة وسكون مهملة مقصورا والمراد به عظم بصرى كما في البخاري (وأسقف الشّام) بضم همزة وقاف وتشديد فاء ولعله نسطوره المحترز عنه فيما تقدم (والجارود) أي ابن العلاء وفد في قومه على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال والله لقد جئت بالحق ونطقت بالصدق والذي بعثك بالحق نبيا لقد وجدت وصفك في الإنجيل وبشر بك ابن البتول فطول التحية لك والشكر لمن أكرمك لا أثر بعد عين ولا شك بعد يقين مد يدك فأنا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ محمد رسول الله ثم آمن قومه (وسلمان) أي الفارسي (والنّجاشيّ) وهو أصحمة (ونصارى الحبشة وأساقف نجران) بفتح الهمزة وكسر القاف وتخفيف الفاء جمع اسقف أي علمائهم ورؤسائهم ونجران بفتح نون وسكون جيم موضع باليمن فتح سنة عشر كذا في القاموس وقال الذهبي في تجريد الصحابة ما لفظه أسقف نجران قال أبو موسى لا أدري أسلم أم لا ويذكره غيره نقله الحلبي (وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى وَقَدِ اعترف بذلك) أي بصحة نبوته وعموم رسالته (هرقل) بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف وفي نسخة بسكون الراء وفتح القاف وفي أخرى بفتح الهاء والقاف (وصاحب رومة) كذا في أكثر(1/745)
النسخ وقال الحلبي صوابه رومية بتخفيف الياء كما في الصحيح وهي مدينة رياسة الروم وعلمهم (عالما النّصارى ورئيساهم) كما في البخاري ثم هرقل كتب إلى صاحب له برومية وكان نظيره في العلم وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص حتى جاءه كتاب من صاحبه يوافقه على خروج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأنه نبي ويروى النصرانية ورئيساها (ومقوقيس) بضم الميم وكسر القاف الثانية (صاحب مصر) أي ملك القبط قال الذهبي في تجريد الصحابة المقوقس صاحب الإسكندرية أهدى لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا مدخل له في الصحابة ذكره ابن منده وأبو نعيم وما زال نصرانيا ومنه أخذت مصر واسمه جريج انتهى وسماه الدارقطني جريج بن مينا انتهى وأثبته أبو عمرو في الصحابة ثم أمر بأن يضرب عليه وقال يغلب على الظن أنه لم يسلم وكانت شبهته في إثباته في الصحابة رواية رواها ابن إسحاق عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الله بن عتبة قال أخبرني المقوقس أنه أهدى لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومسلم قدحا من قوارير وكان يشرب فيه قال الحلبي فائدة لهم شخص آخر معدود في الصحابة يقال له المقوقس في معجم ابن قانع قال الذهبي لعله الأول (والشّيخ صاحبه) وهذا لا يعرف اسمه (وابن صوريا) بضم الصاد وكسر الراء ممدودا ومقصورا قال الحلبي اسمه عبد الله ذكر السهيلي عن النقاش أنه أسلم وقال الدلجي اسلم ثم ارتد إلى دينه والله تعالى أعلم (وابن أخطب) هو حيي أبو صفية أم المؤمنين (وأخوه) هو أبو ياسر بن اخطب قتلا كافرين صبرا مع أسرى بني قريظة (وكعب بن أسد) صاحب عقد بني قريظة وعهدهم موادعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم نقض العهد فقاتلهم النبي عليه السلام فغلبهم فقتل مقاتلتهم وسبى ذريتهم فقتلوا صبرا ومعهم كعب بن أسد وكانوا ستمائة أو سبعمائة أو ثمانمائة أو تسعمائة (والزّبير) بفتح الزاء وكسر الباء (ابن باطيا) بكسر الطاء قال الدلجي وفي نسخة باطا بلا تحتية وقال الحلبي وفي غير هذا المؤلف بأطا بلا مد ولا همزة وهو أي الزبير والد عبد الرحمن بن الزبير الذي تزوج امرأة رفاعة القرظي الحديث كما في البخاري وقال ابن منده وأبو نعيم هو عبد الرحمن بن الزبير بن زيد ابن أمية الأوسي (وغيرهم) أي قد اعترف بثبوت نبوته وحقية رسالته هؤلاء وَغَيْرُهُمْ (مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ مِمَّنْ حَمَلَهُ الْحَسَدُ) وهو إرادة زوال نعمة الغير (والنّفاسة) بفتح النون من نفست عليه الشيء نفاسة إذا لم تره يستأهله أنفة (على البقاء) أي بقائه على الكفر في الدنيا (على الشّقاء) أي تبعه بالعذاب في العقبى وفي نسخة الشقاوة وفي أصل الدلجي وبعض النسخ على البقاء على الشقاء أي المداومة على الشقاوة، (والأخبار في هذا) أي فميا ذكر من دلالا نبوته وعلامات رسالته (كثيرة لا تنحصر) أي بحيث لا تحصى ولا تستقصى (وقد قرّع) بفتح القاف وتشديد الراء أي ضرب عليه السلام بشدة وأبلغ بحدة (أسماع يهود) وفي نسخة اليهود (والنّصارى بما ذكر) أي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام (أَنَّهُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَتِهِ وَصِفَةِ أَصْحَابِهِ) كقوله تعالى ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ الآية وفي الإنجيل أيضا(1/746)
جد في أمري واسمع واطلع با ابن الطاهرة البتول إني خلقتك من غير فحل إلى آخر ما تقدم وفي التوراة أيضا قال موسى رب إني أجد في التوراة أمة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله فأجعلهم أمتي قال تلك أمة محمد قال إني أجد فيها أمة هم الآخرون السابقون يوم القيامة فأجعلهم أمتي قال تلك أمة محمد قال أجد أمة أناجيلهم في صدورهم يقرؤونها وكان من قبلهم يقرؤون في كتبهم نظرا ولا يحفظونها فاجعلهم أمتي قال تلك أمة محمد الحديث وفي الزبور يا داود يأتي بعدك نبي يسمى أحمدا ومحمدا صادقا سيدا أمته مرحومة افترضت عليهم أن يتطهروا لكل صلاة كما افترضت على الأنبياء وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء وأمرتهم بالحج والجهاد يا داود إني فضلت محمدا وأمته على الأمم كلها أعطيتهم ستا لم أعطها غيرهم لا أؤاخذهم بالخطأ والنسيان وكل ذنب فعلوه عمدا إذا استغفروني منه غفرته لهم وما قدموه لآخرتهم طيبة به أنفسهم عجلته لهم أضعافا مضاعفة ولهم في المذخور عندي أضعاف مضاعفة وأعطيتهم على المصائب إذ صبروا وقالوا إنا لله وإنا إليه راجعون الصلاة والهدى والرحمة إلى جنات النعيم فإن دعوني استجبت لهم فإما أن يروه عاجلا أو أصرف عنهم سوءا أو أدخره لهم في الآخرة (واحتجّ) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (عليهم) حيث أنكروا نعته ونعت أمته (بما انطوت) أي اشتملت (عليه من ذلك) أي النوع (صحفهم) أي كتبهم (وذمّهم) أي النبي عليه الصلاة والسلام (بتحريف ذلك) أي بتغيير مبناه أو تعبير معناه (وكتمانه) أي بعدم تبيانه (وليّهم ألسنتهم) أي فتلها وصرفها (ببيان أمره) أي وتبيان ذكره (ودعوتهم) بالتاء وفي نسخة ودعواهم (المباهلة) بالنصب على نزع الخافض والمعنى وقرع اسماع نصارى نجران بما أمره ربه به من دعواهم إلى المباهلة أي الملاعنة الكاملة (على الكاذب) أي في المعاملة فأبوا حذرا من العقوبة وبذلوا له الجزية كما مرت القصة (فما منهم) أي من اليهود والنصارى (إلّا من نفر) أي هرب وفي نسخة صحيحة نفر أي أعرض (عن معارضته وإبداء) بكسر الهمزتين والمد وفي نسخة وأبدى بصيغة الماضي أي أظهر (ما ألزمهم من كتبهم إظهاره) كآية الرجم وغيره (ولو وجدوا) أي في كتبهم (خلاف قوله لكان إظهاره) أي المسارعة إليه في مقام الجدال (أهون علهيم مِنْ بَذْلِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَتَخْرِيبِ الدِّيَارِ وَنَبْذِ القتال) أي طرح المقاتلة بين الرجال (وقد قال لهم) أي لليهود حين قالوا عندما قرع سمعهم قوله تعالى فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وقوله وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ الآية لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على إبراهيم ومن بعده حتى انتهى الأمر إلينا فرد الله عليهم بقوله تعالى (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران: 93] ) فبهتوا ولن يقدروا أن يأتوا فثبت أنها لم تحرم إلا عليهم بظلمهم وبغيهم وهو أمر له بمحاجتهم ومدافعتهم بما في كتابهم تبكيتا وتوبيخا لهم (إلى ما أنذر به) أي مع ما أعلم بظهوره ووجود نوره (الكهّان) أو بما خوفوه من حلول البأس والنقم بمن خالف وما(1/747)
اسلم (مثل شافع بن كليب) بالتصغير وفي نسخة بسين مهملة وهو من كهان العرب إلا أنه غير معروف النسب (وشقّ) بكسر أوله وتشديد ثانيه من كهانهم لم يكن له سوى عين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة فكأنه شق إنسان (وسطيح) بفتح فكسر كاهن بني ذؤيب من غسان بفتح معجمة وتشديد مهملة لم يكن في بدنه عظم سوى رأسه بلا جسد ملقى لا جوارح له لا يقدر على جلوس إذا غضب انتفخ فجلس وزعم الكلبي أنه عاش ثلاثمائة سنه وأنه خرج مع الأزد أيام سيل العرم ومات في أيام شيرويه بن هرمز والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة وهو الذي أول رؤيا المؤبذان أن إبلا صعابا تقول خيلا عرابا قطعت دجلة وانتشرت في بلادها بما حاصله أن ملكه يزول بظهور النبي عليه الصلاة والسلام وقد فتح بلاده في زمن عمر رضي الله تعالى عنه على يد الصحابة الكرام (وسواد بن قارب) بكسر الراء أزدي كان كاهنهم في الجاهلية أخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن أخبره أن الله يبعث نبيا فانهض إليه على ما سيأتي مفصلا (وخنافر) بضم الخاء المعجمة وكسر الفاء كاهن بني حمير أسلم على يد معاذ ولم ير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فهو تابعي مخضرم (وأفعى نجران) بفتح همزة وسكون فاء فعين مهملة مقصورا كاهنهم في الجاهلية وهذا هو الظاهر المتبادر من السياق واللحاق وقال الحلبي ما أدري ما أراد القاضي أحية أم شخص اسمه أفعى (وجذل بن جذل) بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة فيهما (الكنديّ) بكسر الكاف قبيلة وهو كاهنهم فيها (وابن خلصة) بفتح الخاء المعجمة واللام (الدّوسي) بفتح الدال (وسعدي) بضم السين وفتح الدال مقصورا (بنت كريز) بالتصغير وفي آخره زاء وفي نسخة صحيحة سعد ابن بنت كريز وفي أصل الدلجي سعد بن كرز (وفاطمة بنت النّعمان) ويروى نعمان وهو بضم النون ولم تعرف لهم ترجمة (ومن لا ينعدّ كثرة) أي ممن أخبر بظهوره وسطوع نوره (إلى) أي مع (مَا ظَهَرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ نُبُوَّتِهِ) أي من بيان حصول نبوته (وحلول وقت رسالته) كقول بأجر صنم مازن الطائي وهو مازن السادن وقد عتر له عتيرة:
يا ماز انهض وأقبل ... تسمع كلاما تجهل
هذا نبي مرسل ... جاء بحق منزل
آمن به كي تعدل ... عن حر نار تشعل
وقودها بالجندل ... فقلت هذا والله لعجب
ثم عترت له ... بعد أيام أخرى فقال
يا مازن استمع تسر ... ظهر خير بطن شر
وهو نبي من مضر ... يدين لله الكبر
فدع نحيتا من حجر ... تسلم من حر سقر
فقلت هذا والله لعجب وخير يراد وقدم علينا رجل من الحجاز فقلنا ما وراءك فقال(1/748)
ظهر رجل من تهامة يقول أجيبوا داعي الله اسمه أحمد فقلت هذا والله نبأ ما سمعت منه فكسرته ورحلت إليه صلى الله تعالى عليه وسلم فشرح لي الإسلام فأسلمت وكقوله صنم عمرو بن جبلة
يا عصام يا عصام جاء الإسلام ... وذهب الأصنام
وقول صنم طارق من بني هند بن حرام
يا طارق يا طارق ... بعث النبي الصادق
(وسمع) بصيغة المجهول أي وما سمع (من هواتف الجن) كذا في أصل الدلجي وفي النسخ الجان وهو غير ظاهر فإنه أبو الجن ولعله لغة والهاتف هو الصائح بالشيء الداعي إليه كسماع ذئاب بن الحارث هاتفا منهم
يا ذئاب يا ذئاب ... اسمع العجب العجاب
بعث محمد بالكتاب ... يدعو بمكة فلا يجاب
وكسماع ابن مرة الغطفاني ... جاء حق فسطح
ودمر باطل فانقمع ... وكسماع خالد بن بطيح
جاء الحق القائم والخير الدائم وكسماع سواد بن قارب من رئيه وهو نائم ليلا
قم فافهم واعقل إن كنت تعقل ... قد بعث نبي من لؤي بن غالب
ثم قال:
عجبت للجن وأجناسها ... وشدها العيس بأحلاسها
تهوى إلى مكة الهدى ... ما مؤمنو الجن كأرجاسها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى رأسها
ثم نبهني وأفزعني وقال يا سواد إن الله بعث نبيا فانهض إليه تهتد وترشد ثم نبهني في الليلة الثانية وقال:
عجبت للجن وطلابها ... وشدها العيس بأقتابها
تهوى إلى مكة تبغى الهدى ... ليس قدماها كأذنابها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى نابها
ثم نبهني في الثالثة وقال:
عجبت للجن وأخبارها ... وشدها العيس بأكوارها
تهوى إلى مكة تبغي الهدى ... ليس ذوو الشر كأخيارها(1/749)
فانهض إلى الصفوة من هاشم ... ما مؤمنو الجن ككفارها
فوقع في قلبي حب الإسلام فأتيته عليه الصلاة والسلام بالمدينة فلما رآني قال مرحبا بك يا سواد قد علمنا ما جاء بك فقلت له قلت شعرا فاسمعه مني ثم إني أنشدت:
أتاني رئي ليلة بعد هجعة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك نبي من لؤي بن غالب
فشمرت عن ساقي الإزار ووسطت ... بي الذ علب الوجناء عقد السباسب
فاشهد أن الله لا رب غيره ... وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين شفاعة ... إلى الله يا بن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى ... وإن كان فيما جاء شيب الذوائب
فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب
قال فضحك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال أفلحت يا سواد (ومن ذبائح النّصب) جمع نصيب بمعنى منصوب للعبادة أي وما سمع منها كسماع عمر رضي الله تعالى عنه من عجل رأى رجلا يذبحه لنصب يقول يا آل ذريح أمر نجيج رجل نصبح يقول لا إله إلا الله (وأجواف الصّوّر) أي وما سمع من أجوافها كما مر عن مازن السادن وغيره (وَمَا وُجِدَ مِنَ اسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشَّهَادَةِ لَهُ بِالرِّسَالَةِ مَكْتُوبًا فِي الحجارة والقبور) مفعول ثان لوجد أو حال من ضميره (بالخطّ القديم ما) أي الذي (أكثره مشهور) أي كما هو في كتب السير وغيرها مسطور (وَإِسْلَامُ مَنْ أَسْلَمَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مَذْكُورٌ) أي في كتب العلماء الأخيار بنقل الثقة في الأخبار.
فصل [وَمِنْ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْآيَاتِ عِنْدَ مولده عليه الصلاة والسلام]
(ومن ذلك) أي مما يدل على نبوته ورسالته (ما ظهر من الآيات) أي خوارق العادات (عند مولده) أي قرب ولادته صلى الله تعالى عليه وسلم (وما حكته) أي آمنة بنت وهب أنها أتيت فقيل لها قد حملت بسيد هذه الأمة فإذا خرج فقولي أعيذه بالواحد من شر كل حاسد (ومن حضره) أي وما حكاه من حضر مولده (من العجائب) أي مما سيأتي قريبا (وكونه) بالرفع أي وجوده (رافعا رأسه) أي للدعاء (عندما وضعته شاخصا ببصره إلى السّماء) كما رواه البيهقي عن الزهري مرسلا. (وما رأته) أي أمه (مِنَ النُّورِ الَّذِي خَرَجَ مَعَهُ عِنْدَ وِلَادَتِهِ) حتى رؤيت منه قصور بصرى كما رواه أحمد والبيهقي عن العرباض وأبي أمامة (وما رأته إذ ذاك) أي وقت ولادته (أمّ عثمان بن أبي العاص) أي الثقفي (من تدلّي النّجوم) أي نزولها ودنوها منه تبركا بحضرته (وظهور النّور) أي الذي سطع منه بأشعته (عند ولادته حتّى ما تنظر) أي أم عثمان (إلّا النّور) وفي رواية إلا لنور كما رواه البيهقي والطبراني عن ابنها عنها (وقول الشّفاء)(1/750)
بكسر أوله ممدودا ومقصورا والأول هو المفهوم من القاموس حيث قال الشفاء الدواء وسموا شفاء وقد صرح بالمد أيضا في اسماء الأسانيد وقال الحلبي الشفاء بكسر الشين المعجمة وبالفاء مقصورا فيما أعلمه انتهى والتحقيق أن الشفاء مصدر في الأصل ثم نقلته العرب علما للمؤنث وأما قول الدلجي بمعجمة مفتوحة ففاء مشددة فالظاهر أنه تصحيف وتحريف (أمّ عبد الرّحمن بن عوف) قال الذهبي وهي بنت عوف بن عبد الزهرية من المهاجرات (لمّا سقط صلى الله تعالى عليه وسلم على يديّ) بالتثنية وفي نسخة بالإفراد على إرادة الجنس (واستهلّ) بتشديد اللام أي رفع صوته بأن عطس وقال الحمد لله بدليل قولها (سمعت قائلا يقول رحمك الله) وقال الحلبي أي صاح وقال الدلجي عطس لا صاح من غير أن يذكر الحمد لله فالجمع أولى كما لا يخفى والمناسب لعلو شأنه وظهور برهانه أن لا يكون أول كلامه عبثا في مرامه بل يكون ذكرا ملائما لمقامه على طبق ما ورد عن آدم عليه السلام من أنه عطس عند وصول روحه إلى بعض أعضائه الكرام (وأضاء لي ما بين المشرق والمغرب) أي مما يتنور بنوره من معمورة العالم وتحقيق هذا المبحث قد تقدم ويشير إليه قولها (حتّى نظرت إلى قصور الرّوم) أي بأرض الشام رواه أبو نعيم في الدلائل عن ابنها عبد الرحمن بن عوف عنها. (وما تعرّفت به حليمة) أي السعدية (وزوجها) المسمى بالحارث وذكر ابن إسحاق بسنده أنه اسلم (ضئراه) بكسر أوله وسكون همزة تثنية الظئر وهي المرضعة وقد يطلق على أبي الرضاعة أيضا كما هنا وقد يقال إنه للتغليب (من بركته ودرور لبنها) أي نزوله بكثرة (له) أي لأجله صلى الله تعالى عليه وسلم ولولدها رضيعه بعد أن لم يكن لها لبن يغنيه (ولبن شارفها) بكسر الراء أي درور لبن ناقتها المسنة (وخصب غنمها) بكسر الخاء المعجمة روى ابن إسحاق وابن حبان والطبراني وأبو يعلى والحاكم والبيهقي بسند جيد عن عبد الله بن جعفر عنها أنها قالت أخذته وتركته المراضع ليتمه فجئت به رحلي فأقبل عليه ثدياي فشرب حتى روي وشرب أخوه حتى روي وقام زوجي إلى شارفنا فوجدها حافلا فحلب ما شرب وشربت حتى روينا وبتنا بخير ليلة وقال والله يني لأراك قد أخذت نسمة مباركة الم تر ما بتنا به الليلة من الخير والبركة قالت وكانت أتاني قمراء قد أزمت بالركب فلما رجعنا إلى بلادنا سبقت حتى ما يتعلق بها حمار فتقول صواحبي هذه أتانك التي خرجت عليها معنا فأقول والله إنها لهي فقلن والله إن لها شأنا فقدمنا أرض بني سعد به وما أعلم أرضا أجدب منها وإن غنمي لتسرح ثم تروح شباعا لينا فنحلبها وما حولنا أرض تبض لها شاة بقطرة لبن وأن أغنامهم لتسرح ثم تروح جياعا فيقولون لرعيانهم أسرحوا مع غنم ابن أبي ذؤيب فيسرحون فتروه جياعا ما فيها قطرة لبن وتروح غنمى شباعا لبنا فنحلبها فلم يزل الله يرينا البركة ونتعرفها حتى بلغ سنتيه (وسرعة شبابه) أي وما تعرق ظئراه من سرعة شبابه بالنسبة إلى جنابه (وحسن نشأته) أي نمائه وبهائه في كبر جثته قبل تكامل هيئته قالت والله ما بلغ سنتيه حتى صار غلاما جفرا فقدمنا به على أمه ونحن أضن شيء به لما رأينا فيه من البركة بسببه ثم قلنا(1/751)
لها دعينا نرجع به حذرا عليه من وباء مكة فما زلنا بها حتى قالت نعم (وما جرى من العجائب) وهي ما عظم وقوعه وخفي سببه (ليلة مولده صلى الله تعالى عليه وسلم) كما رواه البيهقي وابن أبي الدنيا وابن السكن عن مخزوم بن شاهين (من ارتجاج إيوان كسرى) أي اضطرابه جدا وتحركه شديدا مع إحكام بنائه من غير خلل نشأ به والإيوان بالكسر الصفة العظيمة وأصله أوان فأعل كديوان وسبق أن كسرى بكسر أوله ويفتح معرب خسرو لقب ملوك الفرس كقيصر لقب ملوك الروم وتبع لملوك اليمن والنجاشي لملوك الحبشة (وسقوط شرفاته) بضم الشين المعجمة والراء وتفتح وحكي سكونها جمع شرفة بضم فسكون وهو جمع قلة وضعت موضع كثرة لأنهن أربع عشرة ولعل الحكمة في عدولها عن الكثرة إلى القلة تحقيرا لها لخراب مآلها هذا وقد ملك منهم ملوك بعددها عشرة في أربع سنين وأربعة إلى خلافة عثمان وفتح المسلمين (وغيض بحيرة طبريّة) بفتحتين مدينة معروفة في الشام بناحية الأردن ذات حصن بينها وبين بيت المقدس نحو مرحلتين وهي من الأرض المقدسة والبحيرة مصغرة مع أنها عظيمة وغيضها نقصها هذا والمعروف أن الغائضة هي بحيرة ساوة من قرى بلاد فارس قال الحلبي اللهم إلا أن يريد عند خروج يأجوج ومأجوج فإن أوائلهم يشرب ماءها ويجيء آخرهم فيقول لقد كان بها ماء انتهى وبعده عن السياق من السباق واللحاق لا يخفى وفي نسخة صحيحة بدل طبرية ساوة والله تعالى اعلم (وخمود نار فارس) أي انطفائها وقت غيض بحيرتها فكأنها طفئت بمائها (وكان لها ألف عام لم تخمد) بفتح التاء وضم الميم وتفتح فإنه ورد من باب نصر ينصر وباب علم يعلم (وأنّه) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه ابن سعد وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه (كَانَ إِذَا أَكَلَ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وآله) أي وأهل بيته (وهو صغير) جملة حالية معترضة (شبعوا) بكسر الباء (ورووا) بضم الواو (وإذا) وفي نسخة فإذا (غاب) أي عنهم (فأكلوا في غيبته لم يشبعوا) بفتح الباء وزيد في نسخة ولم يرووا بفتح الواو ولعل النسخة الأولى مبنية على الاكتفاء أو على تغليب شبع الطعام على ري الماء (وكان سائر ولد أبي طالب) بفتحتين وبضم فسكون أي بقية أولاده أو جميعهم (يصبحون) أي يدخلون في الصباح (شعثا) بضم أوله جمع أشعث أي مغبرة شعورهم مغيرة وجوههم متغيرة ألوانهم بقرينة المقابلة بقوله (ويصبح صلى الله تعالى عليه وسلم صقيلا) أي صافي اللون (دهينا) أي مدهون الشعر بريق الوجه (كحيلا) أي كان مكحول العينين هذا وأولاده عقيل وطالب وجعفر وعلي وأم هانىء وحمامة وأم طالب فأسلموا كلهم إلا طالبا مات كافرا ويقال أن الجن اختطفته ثم اعلم أنه قال الحلبي استعمل القاضي رحمه الله تعالى سائر بمعنى جميع والشيخ أبو عمرو بن الصلاح أنكر كون سائر بمعنى جميع وقال إن ذلك مردود عند أهل اللغة معدود في غلط العامة وأشباههم من الخاصة قال الزهري في تهذيبه أهل اللغة اتفقوا على أن سائر بمعنى الباقي وقال الحريري في درة الغواص في أوهام الخواص ومن أوهامهم الفاضحة وأغلاطهم الواضحة أنهم يستعملون(1/752)
سائر بمعنى الجميع وهو في كلام العرب بمعنى الباقي واستدل بقصة غيلان لما أسلم على عشر نسوة وقال له صلى الله تعالى عليه وسلم أمسك أربعا وفارق سائرهن انتهى وقال ابن الصلاح ولا التفات إلى قول صاحب الصحاح سائر الناس جميعهم فإنه ممن لا يقبل ما ينفرد به وقد حكم عليه بالغلط وهذا من وجهين أحدهما تفسير ذلك بالجميع وثانيهما أنه ذكره في سر وحقه أن يذكر في سار وقال النووي وهي لغة صحيحة ذكرها غير الجوهري ولم ينفرد بها وافقه عليها الجواليقي في أول شرح أدب الكاتب إلى آخر كلام النووي في تهذيبه انتهى كلام الحلبي وتبعه الدلجي في تفسير السائر بالجميع وقال صاحب القاموس السائر الباقي لا الجميع كما توهم جماعات أو قد يستعمل فقد ضاف أعرابي قوما فأمروا الجارية بتطبيبه فقال بطني عطري وسائري ذري انتهى ولا يخفى أنه يحتمل كلام الأعرابي أن يكون السائر بمعنى الباقي بل هو المتبادر على ما هو الظاهر والتحقيق أن السائر بمعنى الباقي حقيقة وبمعنى الجميع مجازا وأنه مأخوذ من السؤر مهموزا وهو البقية الملائمة لمعنى الباقي بخلاف السور معتلا وهو سور البلد المناسب لمعنى الجميع وبهذا يرتفع الخلاف لمن ينظر بعين الانصاف ويظهر فساد ما في كلام ابن الصلاح من المناقضة ونوع من المعارضة (قالت أمّ أيمن) وهي بركة بنت محصن (حاضنته) أي مربيته ومرضعته أيضا على ما قيل وهي مولاة له صلى الله تعالى عليه وسلم حبشية اعتقها أبو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم واسلمت قديما وابنها أيمن بن عبيد الحبشي ثم تزوجها زيد بن حارثة زارها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما واختلف في زمن وفاتها (ما رأيته صلى الله تعالى عليه وسلم اشتكى) أي بلسانه (جوعا ولا عطشا صغيرا) أي حال كونه صغيرا (ولا كبيرا) إذ كان ربه يطعمه ويسقيه بمعنى يخلق قوتهما فيه وحديثها رواه ابن سعد وأبو نعيم في الدلائل. (ومن ذلك حراسة السّماء) بكسر الحاء أي حفظها من بلوغ الجن إليها (بالشّهب) أي بالنجوم رجوما لئلا يكون لهم هجوما (وقطع رصد الشّياطين) أي ترصدهم وانتظارهم ظهور شيء إليهم ونزول خبر عليهم (ومنعهم استراق السّمع) أي بالكلية فإنهم كانوا لا يسمعون إلا القول الحق من ملائكة السماء فيلقونه إلى أوليائهم فيكذبون معه ما شاؤوا من أنبائهم فمنعوا منه بظهور نوره صلى الله تعالى عليه وسلم فلما بعث اشتد الأمر بهم وكثر الحرس عليهم كما قال تعالى حكاية عنهم وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً الآيات (وما نشأ) بالهمز أي ومن ذلك ما تربى (عليه) وجبل إليه (من بغض الأصنام) كما في حديث البيهقي عن زيد بن حارثة قال كان صنم يتمسح به المشركون إذا طافوا بالبيت فطفت به قبل البعثة فلما مررت بالصنم تمسحت به فقيل لي لاتمسه ثم طفنا فقلت في نفسي لأمسنّه حتى أنظر ما يؤول فمسحته فقال الم تنه قال زيد فو الذي أكرمه بالذي أكرمه ما التمس صنما قط (والعفّة) أي وما نشأ من النفرة (عن أمور الجاهليّة) أي معايبها. (وما خصّه الله به من ذلك) أي من الأعمال الرضية والأحوال الزكية (وحماه) أي وحفظه قبل بعثته من الصفات الرديئة والسمات الدنيئة، (حتّى في ستره) بفتح(1/753)
السين أي تستره من التعري وهو كشف العورة (في الخبر المشهور عند بناء الكعبة) كما رواه الشيخان عن جابر والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما (إذ) أي حين (أخذ إزاره) أي بأمر عمه العباس (ليجعله على عاتقه) وهو ما بين المنكب والعنق (ليحمل عليه الحجارة) أي ولم تظهر عليه الإمارة (وتعرّى) أي وانكشفت عورته (فسقط إلى الأرض) أي مائلا إليها وطمحت عيناه إلى السماء (حتّى ردّ) أي بنفسه (إِزَارَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ مَا بَالُكَ) وفي نسخة ما لك أي ما حالك (قال إنّي نهيت عن التّعرّي) في رواية وكنت وابن أخي يحمل الحجارة على رقابنا وأزرنا تحتها فإذا غشينا الناس أتزرنا فبينا أنا أمشي ومحمد أمامي خر لوجهه وهو ينظر إلى السماء فقلت ما شأنك فأخذ إزاره وقال إني نهيت أن أمشي عريانا قال فكنت أكتمها الناس مخافة أن يقولوا مجنون (وَمِنْ ذَلِكَ إِظْلَالُ اللَّهِ لَهُ بِالْغَمَامِ فِي سفره) أي على ما مر في حديث بحيرا الراهب كما رواه الترمذي والبيهقي. (وفي رواية) أي لابن سعد عن نفيسة بنت منبه (أنّ خديجة) رضي الله تعالى عنها (ونساءها رأينه لمّا) بتشديد الميم أي حين (قدم وملكان يظلّانه فذكرت) أي خديجة (ذلك) أي خبر الإظلال (لميسرة) أي غلامها قال الحلبي لا أعلم له ذكرا في الصحابة وكان توفي قبل النبوة وإلا فلو أدركها لأسلم انتهى وفيه بحث لا يخفى والله تعالى أعلم (فَأَخْبَرَهَا أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ مُنْذُ خَرَجَ مَعَهُ في سفره) أي من أول أمره إلى آخره؛ (وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ حَلِيمَةَ رَأَتْ غَمَامَةً تُظِلُّهُ وهو عندها) كما رواه الواقدي وابن سعد وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس، (وروي ذلك) أي تظليل العمامة له (عن أخيه من الرّضاعة) وفي رواية عن أخته بالفوقية وهي أصح كما في سيرة أبي الفتح اليعمري من أن حليمة بعد رجوعها من مكة كانت لا تدعه أن يذهب مكانا بعيدا فغفلت عنه يوما في الظهيرة فخرجت تطلبه حتى وجدته مع أخته فقالت في هذا الحر فقالت أخته يا أمه ما وجد أخي حرا رأيت غمامة تظل عليه إذا وقف وقفت وإذا سار سارت الحديث قال الحلبي صريح أن يكون ما في الأصل غلط تصحف على الكاتب اللهم إلا أن يروى أن أخاه من الرضاعة رأى ذلك أيضا والله تعالى اعلم. (وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ تَحْتَ شَجَرَةٍ يَابِسَةٍ فَاعْشَوْشَبَ مَا حولها) أي كثر عشبه وهو الكلاء ما دام رطبا والمعنى أنه نبت فيه عشب كثير، (وأينعت) بتقديم التحتية على النون (هي) أي الشجرة والمعنى أدرك ثمارها ونضجت ومنه قوله تعالى كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذا أثمر وينعه أي نضجه (فأشرقت) بالقاف أي أضاءت بحسن صفائها كإشراق الشمس بضيائها ويروى بالفاء أي علت وارتفعت (وتدلّت) بتشديد اللام وفي أصل الدلجي بلامين أي استرسلت ونزلت (عليه أغصانها بمحضر من رآه) قال الدلجي لم أدر من رواه (وميل فيء الشّجرة) أي ظلها (إليه في الخبر الآخر) أي المتقدم عن بحيرا الراهب (حتّى أظلّته وما ذكر) أي ومن ذلك ما ذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عبد الرحمن بن قيس وهو مطعون عن عبد الملك بن عبد الله بن الوليد وهو مجهول عن ذكوان (من أنّه كان لا ظلّ لشخصه فِي شَمْسٍ وَلَا قَمَرٍ لِأَنَّهُ كَانَ نُورًا) أي بنفسه والنور لا ظل(1/754)
له لعدم جرمه وهذا معنى ما في النوادر ولفظها لم يكن له ظل في شمس ولا قمر ونقله الحلبي عن ابن سبع أيضا (وأنّ الذّباب) أي ومن ذلك ما ذكر من أن الذُّبَابَ (كَانَ لَا يَقَعُ عَلَى جَسَدِهِ وَلَا ثيابه) قال الدلجي لا علم لي بمن رواه انتهى وقال الحلبي نقل أيضا بعض مشايخي فيما قرأته عليه بالقاهرة عن ابن سبع أنه لم يقع على ثيابه ذباب قط قلت فعلى جسده بالأولى كما لا يخفى. (ومن ذلك تحبيب الخلوة إليه) أي بنزول القرآن عليه كما في الصحيحين ولفظ البخاري ثم حبب إليه الخلا أي العزلة عن الملا (ثمّ إعلامه بموته ودنوّ أجله) كما رواه الشيخان وغيرهما (وأنّ قبره بالمدينة) وفي نسخة في المدينة (وفي بيته) كما رواه أبو نعيم في الدلائل عن معقل بن يسار ولفظه المدينة مهاجري ومضجعي من الأرض وروى البيهقي عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أن قبره يكون في بيته (وأنّ بين بيته وبين منبره) وفي نسخة صحيحة وبين منبره (روضة من رياض الجنّة) كما سيأتي ما فيه من الأحاديث الواردة (وتخيير الله له عند موته) أي بين الدنيا والآخرة كما رواه البيهقي في الدلائل عن عائشة بلفظ كنا نتحدث أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يموت حتى يخير بين الدنيا والآخرة فسمعته في مرضه الذي مات فيه يقول مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فظننا أنه كان يخير وفي رواية قالت لما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت وقال اللهم الرفيق الأعلى وهي آخر كلمة تكلم بها وفي رواية أن جبريل قال له إن ربك يقرؤك السلام ورحمة الله ويقول إن شئت شفيتك وكفيتك وإن شئت توفيتك وغفرت لك قال ذلك إلى ربي يصنع بي ما يشاء (وما اشتمل) أي ومن ذلك ما احتوى (عليه حديث الوفاة) كما رواه الشافعي في سننه والعدني في مسنده والبيهقي في دلائله (من كراماته وتشريفه) أي بخدمة الملائكة له وعموم رسالته إليهم وإرسال جبريل إليه يقول إن الله يقرؤك السلام ورحمة الله وفي رواية قال يا محمد إن الله أرسلني إليك إكراما وتفضيلا وخاصة لك ليسألك عما هو أعلم به منك يقول لك كيف تجدك قال أجدني مغموما مكروبا (وصلاة الملائكة) أي ومن ذلك صلاة الملائكة (على جسده) أي بعد خروج روحه الشريفة (على ما رويناه) بصيغة الفاعل ويحتمل المفعول (في بعضها) أي في بعض الروايات والأسانيد من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال وإن الملائكة يدخلن قبلكم من حيث يرونكم ولا ترونهم فيصلون علي صلاة الجنازة بتحريم وتكبير وتسليم ثم صلى عليه أصحابه كذلك كما رواه يحيى بن يحيى في الموطأ بلاغا قال اخبرنا مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم توفي يوم الاثنين ودفن يوم الثلاثاء وصلى عليه الناس أفذاذا لا يؤمهم أحد ورواه الشافعي في الأم بلفظ فقد صلى الناس على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرادى لا يؤمهم أحد وذلك لعظم أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتنافسهم في أن لا ينوي الإمامة في الصلاة عليه واحد من الأمة صلوا عليه مرة بعد مرة أقول الأظهر أنهم صلوا عليه في محله ولا كان يسع(1/755)
ذلك المحل إماما لقومه كله فصلوا فرادى لإدراك فضله وتكرار الصلاة عليه من خصوصيات حكمه هذا ومن زعم أن المراد بالصلاة هنا الدعاء فقد عدل عن الحقيقة من غير قرينة صارفة (واستئذان ملك الموت عليه) أي ومن طلب إذن ملك الموت في الدخول عليه لقبض روحه (ولم يستأذن على غيره قبله) أي من الأنبياء والأصفياء فضلا عما بعده من العلماء والأولياء وروي أن جبريل قال إن ملك الموت بالباب يستأذن عليك ولم يستأذن على أحد قبلك ولا بعدك فقال ائذن له فقال السلام عليك يا محمد إن الله أمرني أن أطيعك فيما أمرتني به أن أقبض نفسك قبضتها وإن أتركها تركتها (وندائهم الذي سمعوه أن لا تنزعوا) بكسر الزاء غيبا وخطابا أي لا تخلعوا (القميص عنه) أي عن بدنه (عند غسله) بضم الغين أو فتحه وذلك حين قالوا ما تدري أنجرده من ثيابه أم نغسله بها فألقي عليهم النوم فما منهم رجل إلا وذقنه في صدره ثم سمعوا قائلا لا يدرون من هو غسلوه وعليه ثيابه فغسلوه وعليه قميص يصبون الماء فوقه رواه أبو داود والبيهقي وصححه واستشهد له بما رواه عن شيخه أبي عبد الله الحاكم من طريق بريدة قال أخذوا في غسله فإذا هم بمناد من داخل لا تخرجوا عنه قميصه (وَمَا رُوِيَ مِنْ تَعْزِيَةِ الْخَضِرِ وَالْمَلَائِكَةِ أَهْلَ بيته عند موته) إذا سمعوا قائلا لا يرون شخصه السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته إن في الله خلفا من كل هالك وعزاء من كل مصيبة ودركا من كل فائت فبالله ثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب رواه البيهقي في دلائل النبوة نقله الدلجي وقال الحلبي حديث تعزية الخضر رواه الشافعي من حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه قال لما مرض النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الحديث الطحاوي آخره قال علي أتدرون من هذا هذا الخضر وهذا مرسل وقد رواه الشافعي أيضا في الأم بإسناد ضعيف إلا أنه لم يقل الخضر بل سمعوا قائلا يقول وإنما ذكره أصحاب الشافعي قاله النووي في شرح المهذب وقال بعض مشايخي أخرجه الحاكم في المستدرك من رواية أنس وفيه فقال أبو بكر وعلي هذا الخضر لكن في إسناده عباد بن عبد الصمد وهو ضعيف وقد أخرجه الشافعي أيضا في غير الأم وفيه فقال أتدرون من هذا هذا الخضر رواه الطحاوي عن المزني عنه في السنن المشهورة (إلى ما ظهر على أصحابه من كراماته) أي الظاهرة (وبركته) أي الوافرة (في حياته وموته) أي بعد مماته (كاستسقاء عمر بعمّه) أي العباس كما رواه البخاري (وتبرّك غير واحد) أي كثيرين من الصحابة والتابعين (بذرّيته) كالحسين وزين العابدين وصالحي أولادهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين وأرضاهم.
فصل [قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى قد أتينا في هذا الباب]
(قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ أتينا) أي أوردنا (في هذا الباب) أي الرابع من أبواب الكتاب (على نكت) بضم ففتح أي لطائف وشرائف (من معجزاته واضحة) صفة نكت(1/756)
وقال الدلجي حال مما قبله (وجمل من علامات نبوّته مقنعة) نعت جمل وهو بضم ميم وسكون قاف وكسر نون وفتح عين وقال الدلجي حال من جمل أي تغني من عرف حقيقتها (في واحد) خبر مقدم (منها) أي من النكت والجمل (الكفاية والغنية) بضم فسكون أي الاكتفاء والاغتناء في باب الاعتناء (وتركنا الكثير) أي من الأنباء (سوى ما ذكرنا) أي من النكت والجمل (واقتصرنا من الأحاديث الطّوال) بكسر الطاء أي الطويلة الاذيال (على عين الغرض) أي نفس المراد (وفصّ المقصد) أي زبدة المقصود والفص للخاتم بفتح الفاء ويثلث والصاد مشددة والمقصد بفتح الصاد وتكسر قال الحلبي بكسر الصاد وجد بخط النووي (ومن كثير الأحاديث) أي واقتصرنا وقد أبعد الحلبي في تقديره وأتينا (وغريبها) أي مما انفرد رواتها بها (على ما صحّ) أي سنده (واشتهر) أي نقله عند أهله (إلّا يسيرا) أي شيئا قليلا (من غريبه ممّا ذكره مشاهير الأئمّة) أي من نقاد الأمة وحفاظ السنة بحيث إنه خرج عن حيز الغرابة (وحذفنا الإسناد في جمهورها) أي أكثرها (طلبا للاختصار) أي حذرا من الإكثار الممل للنظار (وبحسب هذا الباب) بسكون السين وزيادة الباء أي ويكفي هذا الباب الرابع الموضوع في المعجزات (لو تقصّي) بتاء وقاف مضمومتين فصاد مشددة مكسورة أي لو استقصي وضبطه الدلجي بالفاء أي لو تتبع (أن يكون ديوانا) أي دفترا ومصنفا على حدة (جامعا) أي محيطا وحاويا (يشتمل على مجلّدات عدّة) بكسر فتشديد أي كثيرة وقال الدلجي وحسب مبتدأ خبره أن يكون ديوانا وجواب لو محذوف أي لأمكن. (ومعجزات نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أظهر) أي أكثر وأبهر (من سائر معجزات الرّسل) الأظهر من معجزات سائر (بوجهين) أي نظرا إلى الكمية والكيفية كما يشير إليه قوله (أحدهما كثرتها) أي مع شهرتها إذ الكثرة لا تستلزم الشهرة (وَأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ نَبِيٌّ مُعْجِزَةً إِلَّا وَعِنْدَ نبيّنا مثلها) أي شبيهها ونظيرها (أو ما هو أبلغ منها) أي دلالة كانشقاق القمر والإسراء ونحوهما وأما معجزة القرآن المجيد كما مثل به الدلجي فهذا ليس محلها (وقد نبّه النّاس على ذلك) أي على هذا المعنى على وجه الاستقصاء منها أنه تعالى خلق آدم بيده فقد شرح صدر نبينا بنفسه وأنه رفع إدريس مكانا عليا فقد رفعه في المعراج دنو الدنيا وغير ذلك مما يطول بيانها وقد سبق بعضها وسيأتي شيء منها (فإنّ أردته فتأمّل فصول هذا الباب) أي من معجزات نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم (ومعجزات من تقدّم من الأنبياء) أي وقابل بين واحدة مع ما يناسبها من الانباء (تقف على ذلك) أي المعنى (إن شاء الله؛ وأمّا كونها) أي معجزاته (كثيرة فهذا القرآن) أي ظاهر كثرته، (وكلّه معجز) أي والحال أن جميعه باعتبار كله وجزئه مُعْجِزٌ (وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ الْإِعْجَازُ فِيهِ عِنْدَ بعض أئمة المحقّقين) بل عند أكثر المدققين حيث قالوا إعجازه بالفصاحة والبلاغة (سورة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1] ) أي أقصر سورة نحوها (أو آية في قدرها) لقوله تعالى فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وفي حكم السورة قدرها لا أقلها (وذهب بعضهم) أي ممن قال بالصرفة (إلى أنّ كلّ آية منه) أي من القرآن (كيف كانت) أي وجدت طويلة أو قصيرة (معجرة) خبر أن (وزاد آخرون) أي على ما ذكر (أنّ كلّ جملة منتظمة منه) أي(1/757)
من القرآن وفي أصل الدلجي مُنْتَظِمَةٍ مِنْهُ (مُعْجِزَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ كَلِمَةٍ أو كلمتين) ويؤيده ظاهر قوله تعالى فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ ولعل الإعجاز أولا كان بعشر سور ثم بسورة ثم بحديث كما هو أسلوب التدريج على وجه الترقي، (والحقّ) أي الثابت عند الجمهور (ما ذكرناه أوّلا لقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23] ) وفي نسخة من مثله (فهو) أي اتيان نحو سورة (أقلّ ما تحدّاهم) أي طلب معارضتهم (به مع ما ينصر هذا) أي يؤيده ويقويه (من نظر) أي نظر اعتبار وتفكر واستبصار (وتحقيق) أي مشتمل على تدقيق (يطول بسطه) أي والقصد وسطه (وإذا كان هذا) أي أكثر ما تحداهم به أقل (ففي القرآن من الكلمات) أي الاسمية والفعلية والحرفية (نَحْوٌ مِنْ سَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ كَلِمَةٍ وَنَيِّفٍ) بتشديد التحتية وتخفيفها أي وبعض زيادة وجمع بينه وبين نحو مبالغة في الملاحظة لقصد المحافظة (على عدد بعضهم) أي ممن عد كلماته (وعدد إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1] ) أي إلى آخرها (عشر كلمات فتجزىء القرآن) بتشديد الزاء فهمز مبينا للمفعول وفي نسخة فيتجزأ بالهمز وفي أخرى بالألف وفي أصل الدلجي فتجزى القرآن بصيغة المصدر المضاف (على نسبة عدد إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) أي كلماتها العشر (أزيد) بالنصب وعلى أصل الدلجي وبعض النسخ بالرفع أي أكثر (من سبعة آلاف جزء) أي حصة (كلّ واحد منها بمعجز في نفسه) أي مع قطع النظر عما قبله وما بعده وما فيه من إخبار الله تعالى عن نبأ ما قبله وما بعده؛ (ثمّ إعجازه كما تقدّم) أي في محله (بوجهين) أي من طرق الإعجاز (طريق بلاغته) أي باشتماله على لطائف الإعجاز (وطريق نظمه) أي بسلوكه بين الاطناب والإيجاز (فَصَارَ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ) أي السبعة آلاف (معجزتان) أي باعتبار الطريقين (فتضاعف العدد من هذا الوجه) أي الذي له جهتان فيصير أربعة عشر ألفا (ثمّ فيه) أي في القرآن من حيث مجموعه (وجوه إعجاز أخر) بضم ففتح (من الإخبار بعلوم الغيب) أي مما تقدم أو تأخر (فقد يكون في السّورة الواحدة) أي حقيقة أو حكما (مِنْ هَذِهِ التَّجْزِئَةِ الْخَبَرُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الغيب) كقصة موسى وهارون وفرعون وهامان وقارون (كلّ خبر منها بنفسه) أي بانفراده (معجز) أي مستقل في بابه (فتضاعف العدد) أي فتزايد المبلغ المضاعف (كرّة أخرى) أي في الجملة لا في نحو كل سورة فلا يصير ثمانية وعشرين ألفا على ما جزم به الدلجي (ثمّ وجوه الإعجاز الأخر التي ذكرناها) قال الدلجي وهي الغيبة وفيه أنها مما سبق ذكره (توجب التّضعيف) أي إلى ما لا يكاد يحصى ولا يستقصى؛ (هذا) أي التضعيف الوافر (في حقّ القرآن) هو الظاهر (فلا يكاد يأخذ العدّ) أي العدد كما في نسخة (معجزاته) أي لكثرتها (ولا يحوي) أي ولا يكاد يشتمل (الحصر براهينه) لعظمتها، (ثمّ الأحاديث الواردة) أي الصريحة، (والأخبار الصّادرة) أي الصحيحة (عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه، الأبواب) أي المذكورة فيها من المعجزات وخوارق العادات والإخبار عن المغيبات (وعن مّا دلّ على أمره) أي ظهور أمره وحكمه (ممّا أشرنا إلى جمله) بضم ففتح أي إلى جمل من مفصله (يبلغ نحوا من هذا) أي التضعيف (الوجه(1/758)
الثّاني) أي من وجهي كون معجزاته أظهر من معجزات غيره (وضوح معجزاته صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ظهورها وانتشارها واشتهارها (فإنّ معجزات الرّسل كانت) أي واردة على أيديهم (بقدر همم أهل زمانهم) أي حالا ومقدارا في شأنهم (وبحسب) هذا (الفنّ) بفتح السين (الذي) قد (سما فيه قرنه) أي علا وارتفع أهل عصره شهرة بمعرفة ذلك الفن في دهره كما بينه بقوله (فلمّا كان زمن مُوسَى غَايَةُ عِلْمِ أَهْلِهِ السِّحْرُ بَعَثَ إِلَيْهِمْ مُوسَى بِمُعْجِزَةٍ تُشْبِهُ مَا يَدَّعُونَ قُدْرَتَهُمْ عَلَيْهِ) أي وما يزعمون مهارتهم لديه ويوجهون همتهم إليه (فجاءهم منها) أي على يد موسى (ما خرق عادتهم) أي من انقلاب العصا حية تسعى واليد السمراء بيضاء من غير سوء (ولم يكن) أي ذلك المعجز (في قدرتهم) أي في نطاق قواهم وقدرهم (وأبطل سحرهم) وما أظهره من التخييل عند مكرهم؛ (وكذلك زمن عيسى عليه السلام أغنى) أفعل تفضيل من الغاية أي أنهى (ما كان) أي علم أهله (الطّبّ) بكسر الطاء ويثلث وهو علاج الأمراض الظاهرة وفي نسخة أعيى بالعين المهملة بمعنى أعجز وفي أخرى بالغين المعجمة والنون أي أوفى وفي أخرى بالمهملة والنون أي اقصد وكلها صحيحة على ما لا يخفى (وأوفر ما كان أهله) أي أكثر ما كان أهل قرنه في تتبعه (فجاءهم) أي على يد عيسى (أَمْرٌ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ وَأَتَاهُمْ مَا لَمْ يحتسبوه) أي شيئا لم يظنوا وجوده لديه وأمره مفوضا إليه (من إحياء الميّت) ويروى الموتى وفي نسخة الميتة (وإبراء الأكمه) أي الذي ولد ممسوح العين ذكره الدلجي قال الحلبي الأكمه هو الذي يولد أعمى ويقال الأعشى وقد قال البخاري في الصحيح أن الأكمة من يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل انتهى وهو تفسير للأعشى على ما لا يخفى (والأبرص) من في بدنه بياض من المرض المعروف (دون معالجة ولا طبّ) أي بمداواة بل كان يأتيه من إطاق الاتيان لديه ومن لم يطق ذهب إليه عليه الصلاة والسلام فربما اجتمع عنده الألوف من المرضى وذوي العاهات فيداويهم بالدعوات والآيات (وهكذا سائر معجزات الأنبياء) عليهم الصلاة والسلام أي كانت بقدر علم أهل زمانهم من الأنام، (ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى الله تعالى عليه وسلم وجملة معارف العرب وعلومها) أي من الجزئيات والكليات (أربعة) أي من أنواع المدركات وأصناف الملكات (البلاغة) أي المقرونة بالفصاحة (والشّعر) أي النظم المقابل للنثر (والخبر) بفتحتين أي الإخبار بأنساب العرب وأيامها من وقائعها ومعرفة تاريخها وتفصيل ما جرى فيها من ضروب خروجها وفنون رجوعها (والكهانة) بكسر الكاف وتفتح وهي مزاولة الخبر عن الكائنات وإظهارها وادعاء معرفة اسرارها (فأنزل) بصيغة المجهول أي فأنزل الله تعالى كما في نسخة وفي أخرى زيادة عليه (القرآن الخارق لهذه الأربعة فصول) أي المتقدمة وهي البلاغة والشعر والخبر والكهانة. (من الفصاحة) أي من أجل فصاحة القرآن (والإيجاز) أي وإيجاز الفرقان، (والبلاغة الخارجة عن نمط كلامهم) بفتح النون والميم أي نوعه ونهجه (وَمِنَ النَّظْمِ الْغَرِيبِ وَالْأُسْلُوبِ الْعَجِيبِ الَّذِي لَمْ يهتدوا) أي فصحاؤهم وبلغاؤهم وخطباؤهم وشعراؤهم (في المنظوم) أي من كلامهم (إلى طريقه) أي في مرامه (ولا علموا في أساليب الأوزان) أي(1/759)
نظما ونثرا وفي أصل الدلجي في أساليب الكلام والافنان من النثر المسجع والنظم المرصع (منهجه) أي طريقته السهلة الممتنعة (ومن الإخبار) بكسرة الهمزة (عن الكوائن والحوادث) أي الكائنات والمحدثات من الأعيان والأكوان (والأسرار) أي في البواطن (والمخبأت) أي في الظاهر (والضّمائر فتوجد على ما كانت) أي ذاتا أو صفة (ويعترف المخبر) بفتح الباء أي من أخبر (عنها بصحّة ذلك وصدقه، وإن كان) أي ولو كان ذلك المعترف المخبر (أعدى العدوّ) أي بكونه من أهل الكفر والنكر (فأبطل) أي القرآن أو النبي او الله سبحانه وتعالى (الْكِهَانَةَ الَّتِي تَصْدُقُ مَرَّةً وَتَكْذِبُ عَشْرًا ثُمَّ اجتثّها) بتشديد المثلثة أي اقتلعها (من أصلها برجم الشّهب ورصد النّجوم) بفتح الصاد أي جعلها معدة لحفظ السماء من استراق الشياطين السمع من الانباء حيث ترميهم بشهب منفصلة من نارها لا نفسها لثبوتها في مقارها كقبس أخذ من نار وهي ثابتة لم تنقص مما لها من مقدار (وجاء) أي في القرآن (من الأخبار) بفتح الهمزة (عن القرون السّالفة) أي السابقة (وأنباء الأنبياء والأمم البائدة) أي الهالكة ومنه حديث الحور العين نحن الخالدات فلا نبيد أبدا (والحوادث الماضية) أي الواقعات المتقدمة من المنفعة والمضرة (ما) أي شيء أو الذي (يعجز من تفرّغ لهذا العلم) أي في صرف جميع عمره (عن بعضه) أي عن معرفة بعض أمره (على الوجوه التي بسطناها) أي أوضحناها (وبيّنّا المعجز فيها) أي مع ما وشحناها ورشحناها (ثمّ بقيت هذه المعجزة) المتعلقة بالفصاحة والبلاغة والاخبار عن الكوائن الحادثة (الجامعة لهذه الوجوه) أي المذكورة المسطورة المضمومة (إلى الفصول الأخر) أي المتقدمة (التي ذكرناها في معجزات القرآن) أي فيما مضى من البيان (ثابتة إلى يوم القيامة) أي حال كونها مستمرة دائمة (بيّنة الحجّة) أي ظاهرة الدلالة في الاعجاز مع غاية الايجاز (لكلّ أمّة تأتي) أي بعد جماعة تنقضي (لا يخفى وجوه ذلك) أي المعجز المتقدم (عَلَى مَنْ نَظَرَ فِيهِ وَتَأَمَّلَ وُجُوهَ إِعْجَازِهِ إلى) أي منضما إلى (ما أخبر به من الغيوب) بضم الغين وكسرها أي المغيبات (على هذه) وفي نسخة على هذه (السّبيل) فإن السبيل يذكر ويؤنث ومنه قوله تعالى وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ومنها جائر (فلا يمرّ عصر ولا زمن) أي ولا ينقضي قرن ولا دهر (إلّا ويظهر فيه صدقه) أي زيادة صدقه أو موجب تصديقه (بظهور مخبره) بضم الميم وفتح الموحدة (على ما أخبر) أي على طبقه ووفقه وأغرب الدلجي بقوله على ما أخبر من وجوه الفصاحة والإيجاز والبلاغة (فيتجدّد الإيمان ويتظاهر البرهان) فيستمر الإيقان ويتقوى العرفان (وليس الخبر كالعيان) بكسر أوله إذ غاية إفادة الخبر غالبا ظنية ونهاية أفاده المعاينة يقينية؛ (وللمشاهدة زيادة في اليقين) ، أي المستفاد مثلا من المتواتر استدلالا (والنّفس أشدّ طمأنينة) أي سكونا (إلى عين اليقين) أي الذي تفيده المعاينة (منها) أي من الطمأنينة (إلى علم اليقين) أي المستفاد بالتواتر استدلالا (وإن كان كلّ) أي من علم اليقين وعين اليقين (عندها) أي عند النفس (حقّا) أي ثابتا وصدقا لكن عين اليقين اسكن لها على ازدياد طمأنينتها وأعون لها على عدم ترددها ووسوستها ومن ثم لما قيل للخليل أَوَلَمْ تُؤْمِنْ أي بعلم الوحي المقدر(1/760)
والاستدلال بالخبر المكرر قالَ بَلى إي ربي وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بمصاحبة علم العيان لعلم البرهان ومن ههنا قيل علمان خير من علم واحد (وسائر معجزات الرّسل انقرضت بانقراضهم) بل اندرس بعضها حال حياتهم كما أشار إليه بقوله (وعدمت) بصيغة المجهول أي وانعدمت (بعدم ذواتها) أي بعدم وجودها وتحقق صفاتها وفي أصل الدلجي بعدم ذواتهم أي وجودا في الدنيا وإلا فثبت أن الأنبياء في البرزخ أحياء فالجملة تأكيد لما قبلها وعلى الأول تأسيس وهو أولى في محلها، (ومعجزة نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم لا تبيد) أي لا تفنى أبدا (ولا تنقطع) أي ولا تنقضي سرمدا (وآياته) أي علاماته الدالة على صدقه (تتجدّد) أي يوما فيوما (ولا تضمحل) بتشديد اللام أي ولا تزول أصلا (ولهذا) أي المعنى إلا عليّ (أشار صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله) أي الذي هو غاية المرام في هذا المقام المندرج (فيما حدّثنا القاضي الشّهيد أبو عليّ) أي الحافظ ابن سكرة (حدّثنا القاضي أبو الوليد) وهو الباجي (حدّثنا أبو ذرّ) أي الهروي (حدّثنا أبو محمّد) أي ابن حمويه السرخسي (وأبو إسحاق) أي المستملي (وأبو الهيثم) أي الكشميهني (قالوا) أي كلهم (حدّثنا الفربريّ) بكسر الفاء وتفتح (حدّثنا البخاريّ) أي صاحب الجامع (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) أي العامري الأويسي الفقيه عن مالك ونافع مولى ابن عمر (حدّثنا اللّيث) أي ابن سعد (عن سعيد عن أبيه) أي أبي سعيد المقبري روى أن عمر جعله على حفر القبور فسمي به توفي سنة مائة (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) والحديث كما ترى رواه البخاري وقد أخرجه مسلم والنسائي أيضا (قال ما من الأنبياء نبيّ) هو أعم من رسول (إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عليه البشر) أي ليس نبي منهم إلا أعطاه الله من المعجزات شيئا الجأ من شاهده إلى الإيمان به فخص كل نبي بما أثبت دعواه من خوارق العادة التي أعطاه مولاه في زمانه وبعد انقراضه اختفى شأنه ولم يبق سلطانه ولم يلمع برهانه كقلب العصا لموسى حية تسعى (وإنّما كان الذي أوتيت) أي بخصوص ما أنعم علي (وحيا أوحاه الله إليّ) أي معجزا في أعلى طبقات البلاغة وأقصى غايات الفصاحة كريم الفائدة عميم العائدة على السابقين واللاحقين من هذه الأمة قرنا بعد قرن على مرور الأزمنة ولذا رتب عليه قوله (فأرجو) أي بسبب بقائه وظهور ضيائه (أني أكثرهم) وفي اصل الدلجى أن أكون أَكْثَرُهُمْ (تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ) أي المذكور (عند بعضهم وهو) أي هذا المعنى المسطور هو (الظّاهر) أي المتبادر (والصّحيح) أي الصريح (إن شاء الله) أي فلا يعدل عما قدمناه، (وذهب غير واحد) أي كثيرون (مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَظُهُورِ معجزة نبيّنا) أي وتأويل غلبة معجزة نبينا (صلى الله تعالى عليه وسلم إلى معنى آخر) أي غير ما أفاده منطوقا (من ظهورها بكونها) أي من قوة معجزة نبينا بسبب كونها (وحيا) أي خفيا (وكلاما) أي جليا (لا يمكن التّحيّل فيه ولا التّخيّل عليه) بالحاء المهملة من الحيلة (ولا التّشبيه) أي من حيث إنه لا يتصور فيه التمويه (فإنّ غيرها) أي غير معجزة نبينا (مِنْ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ قَدْ رَامَ الْمُعَانِدُونَ لَهَا) أي قصدوا لإبطالها (بأشياء طمعوا في التّخييل بها) أي(1/761)
بتلك الأشياء (على الضّعفاء) أي ليتوصلوا بذلك إلى إبطال معجزات الأنبياء (كإلقاء السّحرة حبالهم وعصيهم) أي في معارضة معجزة موسى بالقاء العصا، (وشبه هذا) بالرفع أي وشبيه هذا الذي فعله سحرة فرعون (بما يخيّله السّاحر) أي جنسه على الضعيف في دينه وأمر يقينه (أو يتحيّل فيه) أي يطلب الحيلة في دفعه أنه صدق أو في إثباته أنه حق؛ (والقرآن كلام) أي لله تعالى كما في أصل الدلجي كلام الله تعالى والأظهر أنه أريد به هنا أنه مطلق كلام أي إعجاز القرآن واقع في كلام (ليس للحيلة ولا للسّحر، ولا للتّخييل فيه) أي في الكلام (عمل) أي مما يوجب التمويه (فكان) أي القرآن (من هذا الوجه عندهم) أي عند أرباب هذا المعنى (أَظْهَرَ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ كَمَا لَا يتمّ لشاعر، ولا خطيب أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا أَوْ خَطِيبًا بِضَرْبٍ مِنَ الحيل، والتّمويه) أي مما يكدر أمر المعجزة وينافيه، (والتّأويل الأوّل) أي الذي هو المعول (أخلص) أي أظهر وأنص (وأرضى) عند النفوس الخلص، (وفي هذا التّأويل الثّاني ما يغمّض) أي بصيغة المفعول مخففا وقال الحلبي مشددا أي يغطى (الجفن) بفتح الجيم وسكون الفاء أي غطاء العين (عليه) ويروى عنه (ويغضى) بصيغة المجهول من الإغضاء بمعنى الإغماض وفي أصل الدلجي بالفاء وهو تصحيف وتحريف كما لا يخفى والتحقيق أنه لا منع من الجمع وأن بناء الثاني على التدقيق والله ولي التوفيق وعلى كل تقدير ظهر الوجهان في ثبوت المعجزة للقرآن. (ووجه ثالث) أي وهنا وجه آخر وفي نسخة صحيحة وجه بدون عاطفة والمعنى وجه ثالث في كون القرآن معجزا خارقا للعادة (على مذهب من قال بالصّرفة) بفتح الصاد وقيل بكسرها وهو مذهب بعض المعتزلة والشيعة حيث قالوا صرف الله هممهم عن الاتيان بأقصر سورة منه مع تمكنهم عنه، (وأنّ المعارضة) أي بمثله في الجملة (كانت في مقدور البشر، فصرفوا عنها) أي بسلب دواعيهم لا بسلب قدرتهم كما ذكره الدلجي فإنه مذهب آخر كما سيأتي، (أَوْ عَلَى أَحَدِ مَذْهَبَيْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أنّ الإتيان بمثله من جنس مقدورهم) أي من جنس كلامهم الذي لهم القدرة عليه (ولكن لم يكن ذلك) أي الاتيان بمثله بعد من تمكنهم منه (قبل ولا يكون بعد) أي قبل التحدي ولا بعده كما ذكره الدلجي والأظهر أن المراد بقوله قبل الزمان السابق وبقوله ولا يكون بعد الزمان اللاحق إلى يوم القيامة ويؤيده قوله (لأنّ الله تعالى لم يقدرهم) أي على الاتيان بمثله قبله (ولا يقدرهم عليه) أي بعده (وبين المذهبين فرق بين) بتشديد التحتية المكسورة أي ظاهر لتمكنهم على المذهب الأول منه إلا أنهم صرفوا عنه ولعدم تمكنهم منه على الثاني مع كونه من جنس مقدورهم (وعليهما) أي وعلى المذهبين (جميعا) أي جميعهما (فتترك العرب) وفي نسخة بغير الفاء أي ترك معارضتهم (الإتيان بما في مقدورهم) أي في الجملة (أو ما هو من جنس مقدورهم) أي في الصورة (ورضاهم بالبلاء) أي العناء في أبدانهم، (والجلاء) أي عن أوطانهم وهو بفتح الجيم الخروج من البلد (والسّباء) بكسر السين ممدودا أي والسبي كما في نسخة أي أسر أطفالهم ونسائهم وأعيانهم، (والإذلال) أي لأنفسهم في بعض الأحوال، (وتغيير الحال) أي بمحالفتهم من الخير إلى الشر (وسلب(1/762)
النّفوس) أي في حال القتال (والأموال) أي بذلها في فك رقابهم من الأغلال، (والتّقريع) أي قهرا، (والتّوبيخ) أي زجرا، (والتّعجيز) أي بالإذلال، (والتّهديد) أي بعظائم النكال (والوعيد) أي بوخائم الوبال (أبين آية) خبر لقوله ترك والمعنى أظهر علامة وأبهر دلالة، (لِلْعَجْزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَالنُّكُولِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ) أي والاعراض والامتناع عن معارضة نحوه، (وإنّهم) بكسر الهمزة ويجوز فتحها (مُنِعُوا عَنْ شَيْءٍ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِهِمْ) وفي نسخة مقدرتهم بضم الدال وتفتح أي قدرتهم (وإلى هذا) أي المذهب الثاني (ذهب الإمام أبو المعالي) أي عبد الملك بن أبي محمد (الجوينيّ) بالتصغير النيسابوري وهو الملقب بإمام الحرمين أفصح الشافعية وله اليد الباسطة في الطول من علمي الكلام والأصول توفي سنة ثمان وسبعين وأربعمائة (وغيره) أي من علماء أهل السنة والجماعة (قال) أي أبو المعالي (وهذا عندنا أبلغ في خلاف الْعَادَةِ بِالْأَفْعَالِ الْبَدِيعَةِ فِي أَنْفُسِهَا كَقَلْبِ الْعَصَا حيّة ونحوها) وكإخراج اليد البيضاء ويحياء الموتى وغيرهما، (فإنّه قد يسبق إلى بال النّاظر) أي قلب المتأمل (يدارا) بكسر الباء أي مبادرة ومسارعة من أول وهلة قبل التأمل في حقيقة أمره وخفية سره (أنّ ذلك) أي ما ذكر من قلب العصا حية ونحوها (من اختصاص صاحب ذلك بمزيد معرفة في ذلك الفنّ وفضل علم) أي في ذلك النوع كما توهم في فرعون حيث قال إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ (إلى أن يردّ ذلك) أي السابق إلى بال الناظر مما ذكر من وهم الخاطر (صحيح النّظر) أي فيتحقق الفهم ويضمحل الوهم ويتبين لقلب الحي أن قلب العصا حية ونحوها مما لا يدخل تحت طوق البشر إذ هو فعل فاعل القوي والقدر (وأمّا التّحدي للخلائق) أي طلب المعارضة منهم باعتبار السابق واللاحق (المئين) وفي نسخة مئين جمع مائة وفي نسخة في المئين (مِنَ السِّنِينَ بِكَلَامٍ مِنْ جِنْسِ كَلَامِهِمْ لِيَأْتُوا بمثله) أي على وفق مرامهم (فلم يأتوا) أي الخلائق بتمامهم كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى الْمُعَارَضَةِ ثمّ عدمها) أي بترك المناقضة (إلّا أن منع الله الخلق عنها) أي عن المعارضة لأحد الوجوه الثلاثة في بيان المعجزة (بمثابة ما لو قال نبيّ) أي وقد طلب منه آية وعلامة دالة على صدق دعواه للنبوة (آيَتِي أَنْ يَمْنَعَ اللَّهُ الْقِيَامَ عَنِ النَّاسِ مع مقدرتهم) وفي نسخة مع قدرتهم (عليه وارتفاع الزّمانة عنهم) أي عن بعضهم للاستواء في حال عجزهم ولا يبعد أن تكون الواو بمعنى أو التنويعية (فلو كان ذلك) أي الذي قال ذلك النبي (وعجّزهم الله تعالى عن القيام) أي في ذلك المقام (لكان ذلك من أبصر آية وأظهر دلالة) أي في إقامة البرهان وإبانة التحقيق (وبالله التّوفيق) ونظيره قوله تعالى لزكريا آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا؛ (وقد غاب عن بعض العلماء) أي خفي عليه (وجه ظهور آيته) أي معجزته التي هي القرآن (على سائر آيات الأنبياء) أي في باقي الأزمان ولم يدر أنها ببقائها معلومة لكل واحد في كل أوان متلوة بكل مكان (حتّى احتاج للعذر عن ذلك) أي الذي زعمه من عدم(1/763)
ظهورها هناك (بدقّة أفهام العرب وذكاء ألبابها) أي شدة فطانة فهومهم وحدة علومهم (ووفور عقولها) أي وكثرة تعلقهم وتأملهم (وأنّهم أدركوا المعجزة فيه) أي في القرآن (بفطنتهم) أي ما الجأهم إلى الاعتراف بكونه من معجزتهم (وجاءهم من ذلك) أي مما أدركوا فيه هنالك (بحسب إدراكهم) بفتح السين أي بمقتضى إدراكاتهم، لغاية فصاحته ونهاية بلاغته، (وغيرهم) أي ممن بعدهم ما عدا العرب (من القبط) أي قوم فرعون (وبني إسرائيل) أي قوم موسى (وغيرهم) أي ممن بعدهم ما عدا العرب (لم يكونوا بهذه السّبيل) أي بهذه الطريقة من دقة الفهم وذكاء الفطنة (بل كانوا من الغباوة) بفتح الغين المعجمة وهي عدم الفطنة وكمال الجهالة (وقلّة الفطنة) أي في بعض القضية (بحيث جوّز عليهم) أي على عقولهم (فرعون أنّه ربّهم) كما قال الله تعالى حكاية عنه أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وقد قال عز وعلا فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (وجوّز عليهم السّامريّ) وكان من عظماء بني إسرائيل واسمه موسى بن ظفر (ذلك) أي كون ظهور ربهم (في العجل بعد إيمانهم) أي بموجبات إيقانهم (وعبدوا) أي طائفة من بني إسرائيل (المسيح) أي عيسى ابن مريم (مع إجماعهم على صلبه وَما قَتَلُوهُ) أي اليهود (وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء: 157] ) أي كما أخبر الله عنهم والمعنى صلبو من ألقي عليه الشبه بعد قتله كما قال تعالى وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ؛ (فجاءتهم) أي اليهود (من الآيات الظّاهرة البيّنة) أي الواضحة (للأبصار) المنفتحة (بقدر غلظ أفهامهم) أي وغلظ أوهامهم (ما) فاعل جاء وفي نسخة مما (لا يشكون فيه ومع هذا) أي المجيء بالأمور الظاهرة والأحوال الواضحة (قالوا) وفي نسخة فقالوا أي خطابا لنبيهم كما حكى الله عنهم بقوله تعالى (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] ) أي معاينة ظاهرة (ولم يصبروا على المنّ والسّلوى) أي على أكلهما وجعلوا الترنجبين من الحلوى والسماني من طير الشوي طعاما واحدا وقالوا لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ (واستبدلوا الذي هو أدنى) أي أقرب إلى الدناءة وأدون في المقدار والمرتبة كالبقل والقثاء والفوم والعدس (بالذي هو خير) أي في المرتبة واللذة وعدم الحاجة إلى الكد والمشقة وأقرب إلى الحيلة، (والعرب على جاهليّتها) أي على حالتها التي كانت عليها قبل ظهور النبوة من الجهل بأمور الشريعة وأحوال الديانة (أكثرها يعترف بالصّانع) بل جميعها كما هو ظاهر قوله تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ولذا جاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بكلمة التوحيد وهو أن يقولوا لا إله إلا الله لا بأن يقولوا الله موجود لأن هذا مما اجمع عليه أهل الملل والنحل ولا يلزم من قول بعضهم حيث قالوا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ إن الدهر خالقهم إذ لم يقل به أحد منهم بل أرادوا به أن طول الزمان ودورة الدوران يقتضي أن يحيى بعضنا ويموت بعضنا فنسبوا بعض الأفعال إلى الدهر كما قد يتفوهون به أهل العصر وقد قال الله تعالى أنا الدهر أي خالقه أو المتصرف فيه (وإنّما كانت) أي العرب (تتقرّب بالأصنام إلى الله زلفى) أي تقربا كما قال الله تعالى حكاية عنهم ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى وَيَقُولُونَ(1/764)
هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ (ومنهم من آمن بالله وحده) أي وسفه من عبد غيره (من قبل الرّسول صلى الله تعالى عليه وسلم) أي من قبل إرساله (بدليل عقله وصفاء لبّه) أي آمن بتوحيد ربه كزبد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعد وكذا ورقة بن نوفل إلا أنه أدرك البعثة وآمن به وتشرف بالصحبة؛ (ولمّا جاءهم) أي العرب (الرّسول بكتاب الله) وهو القرآن الكريم والفرقان القديم (فهموا حكمته) أي لحدة فطنتهم وشدة معرفتهم (وتبيّنوا بفضل إدراكهم) أي بزيادة قابليتهم وأهليتهم (لأوّل وهلة معجزته فآمنوا به) أي بعضهم أولا وجلهم آخرا (وازدادوا كلّ يوم إيمانا) أي واكتسبوا يوما فيوما إحسانا وإيقانا (ورفضوا الدّنيا) أي تركوها (كلّها) أي مالها وجمالها (في صحبته) أي وبيمن همته وبركة متابعته (وهجروا ديارهم وأموالهم) أي وفارقوهما باختيارهم (وقتلوا آباءهم وأبناءهم) أي وسائر أقاربهم وأحباءهم (في نصرته) أي في نصرة دينه وقوة يقينه؛ (وأتي) أي وأورد ذلك البعض من العلماء (في معنى هذا) أي المبنى من عبارات البلغاء واعتبارات الفصحاء وإشارات العقلاء (بما يلوح له رونق) أي بما يلمع له ضياء ويلمح له صفاء (ويعجب منه) بصيغة المفعول أي ويبرق من أثره وظهور أمره (زبرج) بكسر الزاء والراء بينهما موحدة ساكنة وفي آخره جيم أي زينة من ذهب أو جوهر أو وشي (لو احتيج إليه) أي إلى كلامه (وحقّق) أي أمره في مرامه، (لكنّا) يروى فقد (قَدَّمْنَا مِنْ بَيَانِ مُعْجِزَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم وظهورها) أي ووضوح أمرها (مَا يُغْنِي عَنْ رُكُوبِ بُطُونِ هَذِهِ الْمَسَالِكِ وظهورها) مثل معقولات المعاني بمحسوسات المباني وقصد الاستغناء عن هذه الاستعلاء ونحن نقول لا منع من الجمع فإن الآيات والمعجزات لكل منها ظهر وبطن ولكل حد مطلع (ورضي الله تعالى عنهم وبالله أستعين) أي في كل وقت وحين (وهو حسبنا) أي كافينا ووافينا وشافينا (ونعم الوكيل) أي اعتمادا واستنادا معاشا ومعادا باطنا وظاهرا وأولا وآخرا والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وعلى آله وصحبه نجوم الاقتداء والاهتداء وعلى اتباعهم من العلماء والأولياء والحمد الله الذي هدانا لهذا وأغنانا عما سواه وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله اللهم اختم لنا بالخيرات أعمالنا وبالمبرات آجالنا وبالمسرات أحوالنا واغفر لنا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب الدعوات آمين آمين آمين يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وقد تم نصف الكتاب بعون الملك الوهاب ويتلوه القسم الثاني الذي ليس له ثان في هذا الباب عند أرباب الألباب والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب حرره مصنفه الجاني في أوائل جمادى الثاني من شهور عام عشرة بعد الألف السابع من عالم المباني رحمه الله تعالى رحمة واسعة بمنه آمين.(1/765)
فهرس المحتويات
المقدمة 3
ترجمة القاضي عياض 5
خطبة الكتاب 9
أما بعد بيان سبب تأليف الكتاب وتصنيفه 15
القسم الأول في تعظيم العلي الأعلى جل وعلا 33
(الْبَابُ الْأَوَّلُ) فِي ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ عليه السلام 39
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِيمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مَجِيءَ المدح والثناء 39
الفصل الثاني: في وصفه تعالى بالشهادة وما تعلق به من الثناء والكرامة 61
الفصل الثالث: فيما ورد من خطابه تعالى إياه مورد الملاطفة والمبرة 73
الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي قَسَمِهِ تَعَالَى بِعَظِيمِ قَدْرِهِ صلى الله تعالى عليه وسلم 81
الفصل الخامس: في قسمه عز وجل 90
الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِيمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى في جهته عليه الصلاة والسلام مورد الشفقة والإكرام 108
الفصل السابع: فيما أخبره الله بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ عَظِيمِ قَدْرِهِ 114
الْفَصْلُ الثَّامِنُ: فِي إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقَهُ بصلاته عليه وولايته له 120
الْفَصْلُ التَّاسِعُ: فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْفَتْحِ مِنْ كراماته عليه السلام 129
الْفَصْلُ الْعَاشِرُ: فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كتابه العزيز من كراماته عليه ومكانته عنده 140
(الْبَابُ الثَّانِي) فِي تَكْمِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ المحاسن خلقا وخلقا 149
فصل: قال القاضي رحمه الله تعالى إذا كانت خصال الكمال والجلال الخ 153
فصل: إن قلت أكرمك الله تعالى لا خفاء على القطع بالجملة الخ 158
فصل: وأما نظافة جسمه وطيب ريحه وعرقه عليه الصلاة والسلام 164
فصل: وَأَمَّا وُفُورُ عَقْلِهِ وَذَكَاءُ لُبِّهِ وَقُوَّةُ حَوَاسِّهِ وفصاحة لسانه واعتدال حركاته وحسن شمائله 174 فصل: وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول 183
فصل: وأما شرف نسبه وكرم بلده ومنشأه 204
فصل: وأما تَدْعُو ضَرُورَةُ الْحَيَاةِ إِلَيْهِ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ فَعَلَى ثلاثة ضروب الضرب الأول 207
فصل: وأما الضرب الثاني ما يتفق التمدح بكثرته والفخر بوفوره 214
فصل: وأما الضرب الثالث فهو ما تختلف فيه الحالات 223
فصل: وأما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة 229
فصل: وأما أَصْلُ فُرُوعِهَا وَعُنْصُرُ يَنَابِيعِهَا وَنُقْطَةُ دَائِرَتِهَا فَالْعَقْلُ الخ 239
فصل: وأما الحلم 241
فصل: وأما الجود 254
فصل: وأما الشجاعة والنجدة 261
فصل: وأما الحياء والإغضاء 268
فصل: وأما حسن عشرته وآدابه 282
فصل: وأما الشفقة والرأفة والرحمة لجميع الخلق الخ 280
فصل: وأما خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم في الوفاء 287 فصل: وأما تواضعه صلى الله تعالى عليه وسلم 293
فصل: وأما عدله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمانته وعفته وصدق لهجته 301
فصل: وأما وقاره صلى الله تعالى عليه وسلم 307
فصل: وأما زهده صلى الله تعالى عليه وسلم في الدنيا 313
فصل: وأما خوفه صلى الله تعالى عليه وسلم من ربه عز وجل 319
فصل: اعلم وفقنا الله تعالى وإياك أن صفات جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام الخ 326
فصل: قد آتيناك أكرمك الله سبحانه من ذكر الأخلاق الحميدة 339
فصل: في تفسير غريب هذا الحديث ومشكله 357
فصل: (الْبَابُ الثَّالِثُ) فِيمَا وَرَدَ مِنْ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ ومشهورها بتعظيم قدره عند ربه عز(1/767)
وجل 365
الفصل الأول: فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ مَكَانَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عز وجل 365
فصل: في تفضيله صلى الله تعالى عليه وسلم بما تضمنته كرامة الإسراء إلخ 385
فصل: ثم اختلف السلف والعلماء هل كان إسراء بروحه أو جسده 408
فصل: إبطال حجج من قال أنها نوم 416
فصل: وأما رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم لربه عز وجل 422
فصل: في فوائد متفرقة 436
فصل: وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَظَاهِرُ الآية من الدنو والقرب 439
فصل: في ذكر تفضيله في القيامة بخصوص الكرامة 443
فصل: في تفضيله بالمحبة والخلة 451
فصل: في تفضيله بالشفاعة والمقام المحمود 463
فصل: في تفضيله فِي الْجَنَّةِ بِالْوَسِيلَةِ وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ وَالْكَوْثَرِ وَالْفَضِيلَةِ 479
فصل: فَإِنْ قُلْتَ إِذَا تَقَرَّرَ مِنْ دَلِيلِ الْقُرْآنِ وصحيح الأثر الخ 482
فصل: في أسمائه صلى الله تعالى عليه وسلم وما تضمنته من فضيلته 489
فصل: في تشريف الله تعالى له بما سماه به من أسمائه الحسنى 505
فصل: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى وها أنا أذكر نكتة إلخ 521
(الْبَابُ الرَّابِعُ) فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَشَرَّفَهُ بِهِ مِنَ الْخَصَائِصِ والكرامات 526
فصل: اعلم أن الله عز وجل قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْمَعْرِفَةِ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ 531
فصل: اعلم أن معنى تسميتنا ما جاءت به الأنبياء معجزة إلخ 538
فصل: في إعجاز القرآن العظيم الوجه الأول إلخ 547
فصل: الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ إِعْجَازِهِ صُورَةُ نَظْمِهِ الْعَجِيبِ والأسلوب الغريب 560
فصل: الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الْإِعْجَازِ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ من الأخبار 567
فصل: الْوَجْهُ الرَّابِعُ مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ القرون السالفة 571
فصل: هَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ إِعْجَازِهِ بَيِّنَةٌ لَا نزاع فيها ولا مرية 575
فصل: ومنها الروعة الخ 577
فصل: وَمِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ الْمَعْدُودَةِ كَوْنُهُ آيَةً بَاقِيَةً لا تعدم ما دامت الدنيا 580
فصل: وَقَدْ عَدَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَمُقَلِّدِي الْأُمَّةِ في إعجازه وجوها كثيرة 581
فصل: في انشقاق القمر وحبس الشمس 588
فصل: في نبع الماء من بين أصابعه الشريفة وتكثيره ببركته صلى الله تعالى عليه وسلم 596
فصل: وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ تَفْجِيرُ الْمَاءِ ببركته وانبعاثه 601
فصل: ومن معجزاته تكثير الطعام ببركته ودعائه عليه الصلاة والسلام 605
فصل: في كلام الشجر وشهادتها له بالنبوة وإجابتها دعوته 618
فصل: في قصة حنين الجذع له صلى الله تعالى عليه وسلم 625
فصل: ومثل هذا وقع في سائر الجمادات بمسه ودعوته 630
فصل: في الآيات في ضروب الحيوانات 634
فصل: في إحياء الموتى وكلامهم 644
فصل: في إبراء المرضى وذوي العاهات 653
فصل: في إجابة دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم 660
فصل: في كراماته صلى الله عليه وسلم 668
فصل: وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْغُيُوبِ الخ 679
فصل: في عصمة الله تعالى له صلى الله تعالى عليه وسلم من الناس وكفايته من آذاه 709
فصل: ومن معجزاته الباهرة ما جمعه الله تعالى له من المعارف والعلوم 721
فصل: ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام وكراماته وباهر آياته أنباؤه مع الملائكة الخ 734
فصل: وَمِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ وَعَلَامَاتِ رِسَالَتِهِ مَا تَرَادَفَتْ الخ 739
فصل: وَمِنْ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْآيَاتِ عِنْدَ مولده عليه الصلاة والسلام 750
فصل: قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى قد أتينا في هذا الباب الخ 756(1/768)
الجزء الثّاني
[المقدمة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ذي الجلال والإكرام، الذي يجب أن يبدأ بذكره المرام، ويختم بشكره الكلام
(الْقِسْمُ الثَّانِي فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْأَنَامِ مِنْ حقوقه صلى الله تعالى عليه وسلم)
أي القسم الثاني من كتاب الشفا في حقوق المصطفى في بيان ما يجب على المكلفين من حقوق خاتم النبيين وسيد المرسلين (قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى) يعني المصنف (وهذا) أي القسم الثاني (قسم) أي عظيم (لخّصنا فيه الكلام) أي اقتصرنا واختصرنا (في أربعة أبواب على ما ذكرناه) أي وفق ما قررناه وحررناه (في أوّل الكتاب ومجموعها) أي مجموع أبواب هذا القسم الأربعة (في وجوب تصديقه عليه الصلاة والسلام) أي الإيمان به فيما جاء عن ربه (واتّباعه في سنّته) أي في وجوب متابعته في شريعته وطريقة حقيقته (وطاعته) أي وفي وجوب امتثال أوامره واجتناب زواجره كما بينه في فصول الباب الأول (ومحبّته) أي وفي وجوب محبته وجعل محبته تابعة لمحبته كما ورد لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به لأن محبته سبب لمتابعته ومتابعته علامة لمحبة الله تعالى ابتداء ومحبة الله تعالى إياه انتهاء كما قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ كما عينه في فصول الباب الثاني (ومناصحته) أي وفي وجوب قبول نصحه له في أمره ونهيه ونصحه لرسوله ودينه كما ورد الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وقد أوضحنا معنى هذا الحديث في شرح الأربعين والمناصحة مفاعلة للمبالغة قصد هنا منها المبالغة في النصح وهو الخلوص لغة والنصيحة في الشريعة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له (وتوقيره) أي وفي وجوب تعظيمه لقوله تعالى: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ كما زينه في فصول الباب الثالث (وبرّه) أي في وجوب الإحسان بأهل وده والقيام بحكمه وأمره (وحكم الصلاة عليه والتّسليم) أي وفي وجوب حكمهما من وجوب وغيره (وزيارة قبره صلى الله تعالى عليه وسلم) أي وفي بيان زيارة قبره وما يتعلق به كما حسنه في الباب الرابع، وهذا الأمر اجمالي سيرد عليك القدر التفصيلي في ضمن الأبواب وفصولها بالوجه التكميلي.(2/3)
الْبَابُ الْأَوَّلُ [فِي فَرْضِ الْإِيمَانِ بِهِ وَوُجُوبِ طاعته واتّباع سنّته]
(فِي فَرْضِ الْإِيمَانِ بِهِ وَوُجُوبِ طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ سنّته صلى الله تعالى عليه وسلم وشرف وكرم) وفخم وعظم أي في بيان فرضية تصديقه في المعتقدات وفي وجوب طاعته في الواجبات واستحباب متابعته في المستحبات أو التقدير وفي وجوب اتباع شريعته التي تعم جميع الحالات وفي المغايرة بين الفرض والوجوب ايماء بأن الأول ركن الدين ومهماته والأخيران من مكملاته ومتمماته ولا يلزم من عدمهما فقد الأول بخلاف العكس فتأمل (إذا تقرّر بما قدّمناه) أي في ضمن ما تحرر (ثبوت نبوّته) أي بظهور معجزاته (وصحّة رسالته) أي بوضوح آياته (وجب الإيمان به) لأنه فرع ثبوتهما كتوقف المشروط على الشرط (وتصديقه فيما أتى به) أي من عند ربه تعالى من جهة الوحي الجلي أو من طريق الوحي الخفي والمعنى ووجب تصديقه بجميع ما في الكتاب والسنة وان كان وجوب تصديقه من جهة السنة ثابتا بالكتاب أيضا لقوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ولقوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ واحذروا أي من مخالفتهما فيما أمرا به ونهيا عنه وبما قررنا ظهرت المغايرة في العطف وإما كونه عطف تفسير كما ذكره الدلجي رحمه الله تعالى عند من يقول: الإيمان هو التصديق فقط فلا وجه له لأن المحققين على أن الإيمان هو التصديق والإقرار شرط لاجراء أحكام الإسلام والأعمال شرط الكمال بخلاف المعتزلة والخوارج حيث ادخلوا الأعمال في أجزاء الإيمان وعلى كل تقدير ففرق بين الإيمان برسالته عليه الصلاة والسلام وتصديق ما جاء به من الأحكام حتى لا يحرم الحلال ولا يحلل الحرام (قال الله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) وهو الفرد الأكمل والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم الأفضل (وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) [التغابن: 8] أي القرآن المشبه بالنور الفرقان بين الحق والباطل والبرهان المزيل لظلمات الشكوك والظنون والأوهام الحاصلة للجاهل والغافل وسمي نورا لأنه بإعجازه ظاهر بنفسه مظهر ما فيه لغيره (وقال: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) أي بتصديق من بعثت إليهم وإخلاصهم وهدايتهم وبتكذيبهم وضلالتهم (وَمُبَشِّراً) أي بالجنة ونعيمها للمؤمنين (وَنَذِيراً) أي بالنار وأليمها للكافرين (لِتُؤْمِنُوا) قرىء بالخطاب والغيبة في السبعة أي لتصدقوا (بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) [الفتح: 8- 9] ، قال الدلجي رحمه الله تعالى: الخطاب له ولأمته أي على سبيل التغليب أولهم تنزيلا لخطابه منزلة خطابهم انتهى. والأظهر أن الضمير للأمة على قراءة الخطاب والغيبة كما يدل عليه سياق الكلام والله تعالى أعلم بحقيقة(2/5)
المرام (وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ) أي بذاته وصفاته (وَرَسُولِهِ) أي الثابت رسالته بمعجزاته (النَّبِيِّ) أي الجامع بين نعتي الرسالة والنبوة التي هي عبارة عن ولايته التي يأخذ بها الفيض السبحاني ويفيد النوع الإنساني (الْأُمِّيِّ) [الأعراف: 158] أي المنسوب إلى أم القرى وهي مكة المكرمة كما قال تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها أو المنسوب إلى أمة العرب التي غالبها لم يقرأ ولم يكتب كما ورد أنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الحديث أو المنسوب إلى الأم يعني على الوصف الذي خرج به من بطن أمه ما اكتسب شيئا من القراءة والكتابة ونحوهما، وفيه إيماء إلى أنه على أصل الفطرة كما قال تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها وكما ورد كل مولود يولد على الفطرة الآية أي إلى آخرها وهو قوله تعالى: الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ أي بما أنزل عليه وعلى غيره من الرسل أو بأسمائه وصفاته واتبعوه في مأموراته ومنهياته لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ تفوزون بما تسعدون ببركاته (فالإيمان بالنبيّ محمد صلى الله تعالى عليه وسلم واجب) أي امتثالا لأمر ربه (متعيّن) أي لا يمكن التخلص عن حكمه (لا يتمّ) أي لأنه لا يتم لأحد (الإيمان) أي الشرعي (إلّا به) أي إلا بالإيمان به أو إلا بسببه (ولا يصحّ الإسلام) أي استسلام الأحكام (إلّا معه) أي إلا مع الإيمان به أو مع موافقة انقياده في حكم ربه. وفي نسخة إيمان وإسلام بتنكيرهما ثم هذا بناء على تغايرهما حقيقة واتخاذهما شريعة قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) [الفتح: 13] . قيل: وضع الظاهر موضع الضمير إيذانا بأن من لم يجمع بين الإيمانين فهو كافر وعندي إن الأظهر في المعنى أن يقال واعتدنا للكافرين منهم ومن غيرهم فيكون المعنى الأعم هو الأتم أو المعنى اعتدنا لمن مات على كفره لتكون الآية جامعة بين النذارة والبشارة وهذا الملحظ أولى لأنه يشمل الكل كما لا يخفى (حدّثنا أبو محمد الخشنيّ الفقيه) بضم الخاء وفتح الشين المعجمتين نسبة إلى قبيلة خشينة، وقد تقدم.
وفي نسخة زيد الفقيه وقوله: (بقراءتي عليه) أي لا بمجرد سماعي لديه (ثنا) أي قال حدثنا (الإمام أبو عليّ الطّبريّ) بفتح مهملة وموحدة (حدّثنا) أي حدثنا (عبد الغافر الفارسيّ) بكسر الراء ويسكن. وفي نسخة: القاري وهو تصحيف وقد تقدم أيضا (حدّثنا) أي حدثنا (ابن عمرويه) بفتح مهملة وسكون ميم وفتح راء وواو فسكون تحتية فكسرها وضبط أيضا بضم راء وسكون واو فتحتية وفوقية مفتوحتين وهو الجلودي وقد تقدم (ثنا) أي حدثنا (ابن سفيان) وهو إبراهيم بن محمد بن سفيان راوي صحيح مسلم عنه (ثنا) أي حدثنا (أبو الحسين) رحمة الله تعالى عليه هذا هو مسلم صاحب الصحيح (ثنا) أي حدثنا (أميّة) بالتصغير (ابن بسطام) بكسر الموحدة وفتحها ويصرف وقد يمنع (ثنا) أي حدثنا (يزيد بن زريع) بضم الزاء مصغرا أخرج له الأئمة الستة (ثنا) أي حدثنا (روح) بفتح الراء أخرج له الستة ما عدا الترمذي رحمه الله (عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ) أحد علماء المدينة روى عنه شعبة ومالك وأخرج له مسلم والأربعة (عن أبيه.) هو عبد الرحمن بن يعقوب(2/6)
الجهني أخرج له مسلم والأربعة (عن أبي هريرة رضي الله عنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (أمرت) أي أمرني الله تعالى إذ لا آمر له سواه (أن أقاتل النّاس) أي بمقاتلة الكفار وهو عام خص منه من أقر بالجزية (حتّى يشهدوا أن) أي أنه (لا إله إلّا الله) استثناء من الكثرة المفهومة من إله إذ مفهومه كلي في الذهن يتوهم منه الكثيرة في الخارج مع أنه ليس هناك إلا واحد واجب الوجود الموصوف بنعوت الكرم والجود. وفي رواية حتى يقولوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جئت به،) أي مما أمرني ربي أو ألهمني في قلبي (فإذا فعلوا ذلك) أي آمنوا بهما والتزموا أحكامهما أو إذا فعلوا ما أقاتلهم لأجله (عصموا منّي دماءهم وأموالهم) أي منعوها فلا يجوز سفك دمائهم وأخذ أموالهم بسبب من الأسباب (إلّا بحقّها) أي إلا بحق يتعلق بها كقتل نفس بعدوان وزنى بعد احصان وكفر بعد إيمان كما ورد ويلحق بها ترك صلاة وزكاة بتأويل باطل فيهما (وحسابهم على الله) أي فيما يسرونه من كفر ومعصية فالحكم بالإيمان لظواهرهم والله متول لسرائرهم والحديث هذا قد أخرجه القاضي كما ترى من عند مسلم وهو في الإيمان. ورواه البخاري رحمه الله تعالى أيضا وفي رواية أخرجها الستة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال السيوطي وهو متواتر ولفظه أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إله إلا الله وإني رسول الله فإذا قالوها عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ على الله. وفي رواية عن أنس رضي الله تعالى عنه قيل: وما حقها، قال زنى بعد احصان أو كفر بعد اسلام أو قتل نفس فيقتل بها (قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى) يعني المصنف (والإيمان به صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بالنبي عليه الصلاة والسلام (هو تصديق نبوّته) أي إنبائه عن الحق (ورسالة الله تعالى له) أي إلى الخلق والإضافة فيهما بمعنى الباء أوفى أي تصديقه بهما أو فيهما وهذا باعتبار ذاته وصفاته (وتصديقه في جميع ما جاء به) أي من معتقداته (وما قاله) أي وفي جميع مقولاته من مأموراته ومنهياته (ومطابقة تصديق القلب بذلك) أي بما ذكر (شهادة اللّسان) بالنصب وقيل بالرفع أي إقراره (بأنّه رسول الله) أي إلى جميع أفراد الإنس والجن أو إلى الخلق كافة (فإذا اجتمع) أي في العبد (التّصديق به بالقلب) وهو حقيقة الإيمان (والنّطق) أي معه (بالشّهادة بذلك) أي بما ذكر (باللّسان) أي وبالإقرار الذي هو شطر أو شرط على خلاف بين الأعيان (تمّ) أي كمل (الإيمان به) أي بالجنان (والتصديق له) أي باللسان (كما ورد في هذا الحديث) أي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (نفسه) أي بعينه إلا أنه (من رواية ابن عمر رضي الله تعالى عنهما) أي لا من أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (أمرت أن) أي بأن (أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله) ، الحديث أخرجه الشيخان وفد سبق أن هذا اللفظ جاء من طريق أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أيضا وقد رواه أصحاب الستة عنه إلا أنه بلفظ أني رسول الله (وقد زاده) أي النبي عليه الصلاة والسلام ما ذكر (وضوحا في حديث جبريل) عليه السلام أي سؤاله عنه (إذ قال) أي حين(2/7)
قال جبرائيل عليه السلام (أخبرني عن الإسلام فقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما في نسخة وفي نسخة قال: ( «أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأنّ محمّدا رسول الله» ) وهو الإقرار فعده من الإسلام وهو الانقياد الظاهري دال على أن الإيمان هو التصديق القلبي والانقياد الباطني (وذكر أركان الإسلام) أي بقية أركانه إذ الجملة خمسة كما ورد بني الإسلام على خمس حيث قال أن تشهد بالله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا (ثمّ سأله) أي سأله جبرائيل (عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله) أي أن تصدق بحقيقة ذاته وحقيقة صفاته (وملائكته) أي بأنهم عباد مكرمون مطيعون معصومون لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة (وكتبه) أي بأنها منزلة من عنده (ورسله) أي بأنهم مبعوثون من الله تعالى إلى خلقه صادقون فيما جاؤوا به (الحديث) ؛ وتمامه واليوم الآخر أي وبأنه وما فيه كالبعث والحساب والثواب والعقاب حق وصدق وتؤمن بالقدر خيره وشره أي حلوه ومره والحديث بطوله مذكور في الأربعين وقد شرحناه في المبين المعين وهو حديث رواه الستة وغيرهم (فقد قرّر) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (أنّ الإيمان به) أي بالله سبحانه وتعالى وبما يجب الإيمان به من غيره (محتاج) وفي نسخة يحتاج (إلى العقد بالجنان) بفتح الجيم أي الاعتقاد الجازم بالقلب (والإسلام) أي وإن الإسلام (به) أي الانقياد الظاهري إليه وهو الإقرار به (مضطرّ إلى النّطق باللّسان) أي ليتم بالبيان فإن اللسان ترجمان الجنان (وهذه الحال) وفي نسخة الحالة (المحمودة التّامة) وفي نسخة هي المحمودة التامة أي عند الخاصة والعامة فإنه حينئذ نور على نور وسرور على سرور وجمع بين الظاهر والباطن فيصدق عليه أنه مؤمن مسلم إذ لا خلاف بين أهل السنة أنه حينئذ مؤمن وإن اختلفوا في كون الإقرار شطرا للإيمان أو شرطا لإجراء أحكام الإسلام فاندفع قول الدلجي رحمه الله تعالى إن هذا ذهاب منه إلى أن الإيمان اسم لفعل القلب واللسان وعليه بعض الأشعرية وغيرهم وإما قوله ووصفها بكونها تامة مؤذن بأن العقد بالجنان كاف وإن لم ينطق باللسان فهو مع كونه مناقضا لما سبق له من البيان مدفوع بالفرق الظاهر بين التمام والكمال كما لا يخفى على أرباب الحال لأن تمام الشيء يتوقف على حصول جميع اجزائه بخلاف كماله فإنه يتوقف على وجود ضيائه وبهائه وهو ههنا بأن يكتسب جميع الأوامر ويجتنب جميع الزواجر من الصغائر والكبائر والمعتزلة والخوارج جعلوا الأركان من أجزاء الإيمان والله المستعان هذا ويدل على ما قررنا ويشهد لما حررنا قوله: (وأمّا الحالة المذمومة) أي عند جميع الأمة المسلمة (فالشّهادة باللّسان دون تصديق القلب) أي من غير اعتقاد الجنان (وهذا) أي الاعتقاد المشتمل على الشقاق (هو النّفاق) أي الحقيقي وهو ابطان الكفر واظهار الإيمان وهذا كافر إذا علم حاله بالاتفاق (قال الله تعالى:) حال لازمة أي متعاليا عما لا يليق بذاته وصفاته (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) أي توهيما منهم شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم لا زعما منهم كما قاله(2/8)
الدلجي رحمه الله لأنهم ما يزعمون ذلك حيث يعلمون حقيقة ما هنالك (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) أي كما ظهروه ولو كان مخالفا لما ابطنوه والجملة احتراس من نفي رسالته المتوهم من قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [المنافقون: 1] ) ولذا فسره المصنف بقوله: (أي كاذبون في قولهم) أي في دعواهم (ذلِكَ) أي كونك رسول الله صادرا (عن اعتقادهم وتصديقهم وهم لا يعتقدونه) أي والحال أنهم لا يعتقدون قولهم إنك لرسول الله (فلمّا لم يصدّق) أي لم يوافق (ذلك) أي قولهم وظواهرهم (ضميرهم) أي قلوبهم وبواطنهم وفي نسخة ضمائرهم وهو يحتمل الرفع والنصب (لم ينفعهم أن يقولوا) أي مجرد قولهم (بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) أي لاعتقادهم أن قولهم ذلك كذب وخبر على خلاف ما عليه خال المخبر عنه (فخرجوا عن اسم الإيمان) أي عن أن يسموا بما اشتق منه فلم يكونوا مؤمنين في الدنيا (ولم يكن لهم في الآخرة حكمه) أي حكم الإيمان فلا يحشرون مع المؤمنين (إذ لم يكن معهم) أي إيمان كما في نسخة (ولحقوا بالكافرين) وفي نسخة بالكفار (فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) بفتح الراء وسكونها أي الطبقة السفلى من دركاتها كما أن المخلصين من المؤمنين في أعلى أماكن الجنة وأرفع درجاتها (وبقي عليهم حكم الإسلام) أي بحسب ظواهر الأحكام فيعاملون كالمسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم (بإظهار شهادة اللّسان) أي بسبب اظهارها منهم وهذا (في أحكام الدّنيا المتعلّقة بالأئمّة) أي أئمة الدين من العلماء العاملين (وحكّام المسلمين) أي من القضاة والسلاطين (الذّين أحكامهم على الظّواهر) أي جارية وسارية (بما أظهروه من علامة الإسلام) أي من الإذعان والانقياد وقبول الأحكام وهذا كله بحسب الظواهر (إِذْ لَمْ يُجْعَلْ لِلْبَشَرِ سَبِيلٌ إِلَى السَّرَائِرِ ولا أمروا) أي الأئمة والحكام (بالبحث عنها) أي عن السرائر (بل نهى النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّحَكُّمِ عَلَيْهَا وَذَمَّ ذَلِكَ) أي التحكم هنالك (وقال) أي فيما رواه البخاري لأسامة بن زيد لما قتل من اضطره فأسلم اقتلته بعد أن أسلم فقال معتذرا إنما أسلم مكرها فقال: (هلا شققت عن قلبه) أي لم ما كشفت عن ضميره وهذا أمر تعجيز إذ لا اطلاع على قلب أحد إلا لربه وقيل هلا إذا دخل على المضارع يفيد الأمر كقولك هلا تضرب زيدا وإذا دخل على الماضي يفيد التوبيخ كقولك هلا ضربت زيدا والحديث في صحيح مسلم عن أسامة بن زيد قال بعثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلا فقال لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي عليه الصلاة والسلام فقال أقال لا إله إلا الله وقتلته قلت يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح فقال: هلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا الحديث والمعنى قالها عن قلبه أم لم يقل عن قلبه وأبعد الأنطاكي حيث قال الفاعل في قوله أقالها هو القلب (والفرق) وفي نسخة وللفرق (بين القول) أي باللسان (والعقد) أي بالجنان (ما جعل) بصيغة المفعول أو الفاعل وما مصدرية أي جعله أو موصولة أي الذي جعله النبي صلى الله تعالى(2/9)
عليه وسلم (في حديث جبريل) عليه السلام أي المتقدم (الشّهادة) بالرفع أو النصب أي الإقرار (من الإسلام) أي من أركانه حيث قال مجيبا له عن سؤاله عنه أن تشهد (والتّصديق من الإيمان) أي وجعله فيه منه بقوله مجيبا له عن سؤاله عنه أن تؤمن (وبقيت حالتان أخريان بين هذين) أي الحالين وهما الحالة المحمودة لخلص المؤمنين والحالة المذمومة للمنافقين فيحتاج إلى بيانهما (إحديهما: أن يصدّق) أي المكلف (بقلبه ثمّ يخترم) بالخاء المعجمة على صيغة المجهول أي يقتطع ويموت (قبل اتّساع وقت للشّهادة) أي قبل أن يأتي بها (بلسانه) أي لضيق زمانه (فاختلف فيه) أي في أنه مؤمن أم لا (فَشَرَطَ بَعْضُهُمْ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ الْقَوْلَ وَالشَّهَادَةَ به) فعلى هذا لا يكون مؤمنا لعدم تمكنه من الإتيان بها وهذا قول ضعيف سواء قيل إن الإقرار شرط لإجراء الأحكام لا لحقيقة الإسلام أو شطر لأن قائله قائل بأنه ركن قابل لسقوطه في بعض الأنام كالأخرس وخال ضيق المقام (ورآه بعضهم) أي المصدق المذكور قبل تمكنه من الإقرار المسطور (مؤمنا) أي مصدقا ومسلما (مستوجبا للجنة) أي لعذره بعدم تمكنه من الإتيان به وأيضا لو لم يعتبر إيمانه للزم أن يكون في النار مخلدا وهو غير واقع كما أشار إليه المصنف حيث قال: (لقوله عليه الصلاة والسلام) أي فيما رواه الشيخان (يخرج) بصيغة المفعول أو الفاعل (مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذرّة من الإيمان) وفيه تلويح إلى أنه وإن صغر قدره فقد عظم عند الله تعالى أمره ولا يضيع أجره وقد قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وهي كل جزء من أجزاء الهباء في الهواء والمراد بها غاية القلة التي قد يعبر عنها بالعدم أي لا يظلم أصلا (أجزائه بخلاف كماله فإنه يتوقف على وجود ضيائه وبهائه وهو ههنا بأن يكتسب جميع (فلم يذكر) أي النبي عليه الصلاة والسلام (سوى ما في القلب) أي لأن غيره غير نافع عند الرب في العقبى لانقضاء أحكام ظاهر الإسلام في الدنيا (وهذا) أي المؤمن بالجنان العاجز عن إقرار اللسان (مؤمن بقلبه) أي فينفعه إيمانه عند ربه (غير عاص) أي حيث اطاعه وآمن به (ولا مفرّط بترك غيره) أي بترك غير أمره من إقراره لعدم إدراك وقته وفقد استقراره (وهذا) أي الرأي من هذا البعض (هو الصحيح في هذا الوجه) أي لما بيناه من الوجه الذي عيناه (الثانية) أي الحالة الثانية (أن يصدّق بقلبه) أي ويكتفي بعلم ربه (ويطوّل مهله) بفتح الميم وسكون الهاء وتحرك أي زمانه (وعلم ما يلزمه من الشهادة) أي النطق بها (فلم ينطق بها جملة) أي مطلقا (ولا استشهد في عمره) أي ولا تشهد في عمره مرات كثيرة كما كان اللائق به أن يكررها ويتلذذ بذكرها ويقوم بشكرها (ولا مرّة واحدة) أي بل ولا كرة (فهذا) أي المؤمن المذكور بالوصف المسطور (اختلف فيه أيضا) أي كما اختلف فيما قبله (فقيل هو مؤمن) أي لأنه أتى بما يكفي من مقصود الإيمان (لأنّه مصدّق) أي بقلبه وهو من أحسن الأحوال (والشّهادة من جملة الأعمال) أي أركان الإسلام الموجبة للكمال (وهو) في نسخة فهو (عاص بتركها) أي بترك الشهادة كما لو ترك الصلاة والزكاة (غير مخلّد) أي في النار كما في نسخة(2/10)
والمعنى إن دخلها لا يخلد فيها كما هو شأن المؤمن العاصي حيث يكون تحت المشيئة إلا أن هذا القول لا يصح عند من يقول الإقرار شطر وكذا عند من يقول إنه شرط حيث لا يوجد المشروط بدون الشرط حال إمكان وجوده فبطل قول الدلجي وهذا كما مر عند المحققين هو الحق ولا يعصى عند من يقول الإيمان هو التصديق فقط انتهى ولا يخفى أنه مخالف للإجماع لأن تارك الشهادة مع القدرة عاص عند الكل من غير نزاع وإنما الخلاف في أنه مؤمن أو ليس بمؤمن والله سبحانه وتعالى أعلم (وقيل ليس بمؤمن حتّى يقارن عقده) أي اعتقاده وتصديقه بالجنان (شهادة) أي إقرار بالله وبرسوله وفي نسخة شهادة اللسان وهي بالنصب وقيل بالرفع وكلاهما جائز لأن من قارن الشيء فقد قارنه ذلك الشيء وإنما قيل بنفي إيمانه (إذ الشّهادة إنشاء عقد والتزام إيمان) أي قبول أحكام الإسلام (وهي) أي الشهادة (مرتبطة مع العقد) أي جزم القلب (ولا يتمّ التّصديق مع المهلة) بضم فسكون أي مع الإمهال زمانا يسعه القيام بشرطه أو شطره (إلّا بها) أي بالشهادة سواء قلنا إنها شرط أو شطر كما بينا (وهذا) أي القول الثاني (هو الصّحيح) أي في أنه ليس بمؤمن لعدم قرانه عقد جنانه بإقرار لسانه مع تمكنه من بيانه في مهلة زمانه وأما قول الدلجي إن هذا إنما يقول به من يجعل الأعمال جزءا منه فخطأ ظاهر إذ أجمع أهل السنة على أن الأعمال ليست جزءا من حقيقة الإيمان خلافا للخوارج والمعتزلة وأما نسبة هذا القول إلى الشافعي رحمه الله تعالى والمحدثين فمحمول على أنها جزء من كمال الإيمان وإنما الخلاف لفظي في مراتب الإيقان فبطل قول الدلجي إن الإيمان قول وعمل واعتقاد كما هو مذهب الفقهاء والمحدثين أو قول واعتقاد كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأشياعه انتهى ولا يخفى أن هذا غفلة منه عن تحقيق الأشعري واتباعه ثم هذا الخلاف فيما إذا لم يؤمر بأداء الشهادة وإذا أمر بها وامتنع وتأبى عنها كأبي طالب فهو كافر بالإجماع (وهذا) أي ما ذكرنا في بحث الإيمان وفي نسخة وهذه أي هذه المسائل أو الأقوال هي الوسائل التي كتب فيها الرسائل لينتفع بها كل طالب وسائل (نبذ) بنون مفتوحة وسكون موحدة فذال معجمة أي شيء قليل يسير على ما في القاموس وهو مطابق لما في النسخ المعتبرة وموافق لما في الشروح المعتمدة وأما ما ذكره الدلجي من قوله بنون وباء موحدة مفتوحتين وفي نسخة بضم النون وسكون الباء جمع النبذة فليس في النسخ وهو مخالف لما في كتب اللغة بل في القاموس أن النبذة بفتح النون وتضم الناحية ولا ريب أن هذا المعنى لا يناسب مقام المرام فهو خالف الرواية والدراية نعم في نسخة نبذ بضم ففتح جمع نبذة أي قطعة يسيرة والمعنى أن ما ذكر من الإيمان وما يتعلق به صحة وعدما في هذا المكان شيء يسير يترتب عليه أمر كثير (يفضي) من الإفضاء أي يوصل ويؤدي (إِلَى مُتَّسَعٍ مِنَ الْكَلَامِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وأبوابهما) أي مما يتعلق بهما من الأحكام (وفي الزّيادة فيهما والنّقصان) وفيه أن لا خلاف في زيادة مراتب الإسلام المتعلقة بالأعمال ونقصانها وإنما الخلاف في زيادة نفس الإيمان ونقصانه ويتفرع عليهما قوله:(2/11)
(وهل التّجزّي ممتنع على مجرّد التّصديق) أي كما عليه أهل التحقيق (لا يصحّ) أي التجزي وهو قبول الزيادة والنقصان أصلا (فيه) أي في الإيمان (جملة) أي اجمالا بل يحتاج إلى بيانه تفصيلا كما أو ضحه بقوله (وإنّما يرجع) أي التجزي (إلى ما زاد عليه) أي على نفس الإيمان (من عمل) أي وإحسان قول (أو قد يعرض فيه) بكسر الراء ويضم أي يحصل التجزي في التصديق (لاختلاف صفاته وتباين حالاته) أي وتغاير مقاماته وتفاوت درجاته (من قوّة يقين) أي علمي (وتصميم اعتقاد) أي عن دليل قوي (ووضوح معرفة) أي بانضمام مشاهدة (ودوام حالة) أي من غير فتور فيها ولا قصور عنها (وحضور قلب) أي بالغيبة عن غير الرب وهو حال الاطمئنان ومقام الإحسان الذي بينه عليه الصلاة والسلام بقوله الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ولا شك أن مقام الإحسان وأحكام الأركان من أحكام الإيمان وكمال الاتقان لأن الإيمان يقبل الزيادة والنقصان على هذا الوجه كما حققناه في شرح الأربعين ودققناه في شرح الفقه الأكبر بتوفيق المعين (وفي بسط هذا) أي المبحث الشريف (خروج عن غرض التّأليف) لأن المقصود منه اداء حقوق صاحب الاصطفاء بمتابعته على وجه الاستيفاء (وفيما ذكرنا غنية) أي استغناء عن تطويله (فيما قصدنا) أي أردنا (إن شاء الله تعالى) أي إن كان على وفق إرادته سبحانه وتعالى.
فصل [وَأَمَّا وُجُوبُ طَاعَتِهِ فَإِذَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وتصديقه فيما جاء به]
(وأمّا وجوب طاعته) أي اطاعة النبي عليه الصلاة والسلام في حكومته واتباع شريعته (فَإِذَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا جَاءَ به) مجملا (وجبت طاعته) أي مطلقا وهو جواب الشرط (لأنّ ذلك) أي وجوب طاعته (ممّا أتى به) أي من جملة ما جاء به من الدين بالضرورة (قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [الأنفال: 20] ذكر الله تحسين وتزيين وتوطئة وتنبيه على أن طاعته في طاعة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم بشهادة إفراد الضمير في قوله ولا تولوا عنه أي عن رسوله وبدليل قوله تَعَالَى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ أو يقال إفراد الضمير إيماء إلى أن الطاعتين متلازمتان أو الضمير إلى كل واحد منهما والأظهر أن المعنى أطيعوا الله تعالى فيما أنزل من كتابه والرسول فيما أوحي إليه من خطابه في مقام ايجابه (وَقَالَ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) [آلِ عِمْرَانَ: 32] ولم يقل وأطيعوا الرسول لما سبق من تلازم الطاعتين وتداوم الحالتين وأما حيث قال أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ كما في نسخة صحيحة فللإشارة إلى استقلاله بالطاعة فيما ثبت عنه بالسنة وضبط الشريعة (وَقَالَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آلِ عمران: 132] أي بإطاعتهما ومتابعة شريعتهما (وقال وَإِنْ تُطِيعُوهُ [النور: 54] ) أي نبي الخلق (تَهْتَدُوا) أي إلى الحق (وَقَالَ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ) [النساء: 80] لأنه المبلغ والآمر في الحقيقة وهو الله وقد نزلت الآية في المنافقين حين قال النبي عليه الصلاة والسلام من أحبني فقد أحب(2/12)
الله ومن أطاعني فقد أطاع الله فقالوا لقد قارف الشرك وهو ينهى عنه ما يريد إلا أن تتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى (قال وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) أي اعطاكم من أمره وامتثاله فتمسكوا به (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ) أي عن اتيانه (فَانْتَهُوا) [الحشر: 7] أي عنه لوجوب طاعته وامتثال متابعته (وقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ الآية) [النساء: 69] أي فالذين أطاعوهما يكونون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصديقين المبالغين في التصديق والصدق والتحقيق من العلماء والأولياء والشهداء والصالحين أي القائمين بحقوق الله وحقوق خلقه الجامعين بين تعظيم أمره والشفقة على عباده ومن بيانية حال منه أو من ضميره وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً أي لأنهم في أعلى عليين ذلك الفضل من الله أي لا يجب عليه سبحانه وتعالى شيء وكفى بالله عليما أي بالمطيعين والعاصين (وَقَالَ وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) [النساء: 64] أي بأمره وتيسيره (فجعل) أي الله (طاعة رسوله طاعته) أي طاعة نفسه بقوله مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ (وقرن طاعته بطاعته) أي في كثير من آياته (ووعد على ذلك) أي ما ذكر من الطاعة والإطاعة (بجزيل الثّواب) بقوله تعالى فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الآية (وأوعد على مخالفته بسوء العقاب) بقوله فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (وأوجب امتثال أمره واجتناب نهيه) بقوله تعالى وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (قال المفسّرون والأئمة) أي المجتهدون (طَاعَةُ الرَّسُولِ فِي الْتِزَامِ سُنَّتِهِ وَالتَّسْلِيمِ لِمَا جَاءَ بِهِ وَقَالُوا: مَا أَرْسَلَ اللَّهُ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا فَرَضَ طَاعَتَهُ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ إليهم) ونهاهم عن معصيته لقوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ أي الا ليطيعه من بعث اليهم بسبب إذنه لهم في طاعته أو بتوفيقه لمتابعته فمن لم يطعه في شريعته ولم يرض برسالته فهو كافر في ملته (وقالوا من يطع الرّسول في سنّته) الأولى سنته بصيغة الجمع ليلائم قوله (يطع الله في فرائضه) جواب الشرط والمعنى من يطع الرسول فيما أمر به ونهى عما لم يرد به القرآن الكريم يطع الله في فرائضه الثابتة في الفرقان العظيم لأن أمره ونهيه من أمره ونهيه لقوله تعالى: ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ولقوله عليه الصلاة والسلام لا ألفينّ أحدكم على اريكته يأتيه الأمر مما أمرت أو نهيت فَيَقُولُ لَا أَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ الله عملنا به فهذا نهي مؤكد منه صلى الله تعالى عليه وسلم لمن لم يعمل بسنته إذ العمل بها كالعمل بكتاب الله وشريعته (وسئل سهل بن عبد الله) أي التستري (عن شرائع الإسلام) أي جميعها (فقال وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) [الحشر: 7] أي تمسكوا به في أمره ونهيه (وقال السّمرقنديّ) أي الفقيه أبو الليث رحمه الله تعالى (يُقَالُ أَطِيعُوا اللَّهَ فِي فَرَائِضِهِ وَالرَّسُولَ فِي سنّته) أي في شريعته الشاملة لفريضته وسنته المستفادة من أحاديثه الواردة وفق طريقته (وقيل: أطيعوا الله تعالى فيما حرّم عليكم) والأول أبلغ لأن الفرض يشمل فعل الواجب المحتم وترك الفعل المحرم (والرّسول فيما بلّغكم) أي أوصلكم من أمره ونهيه ولو(2/13)
لم يسنده إلى ربه (ويقال: أطيعوا الله بالشّهادة له بالرّبوبيّة) أي بوصف الوحدة ونعت العبودية له وحده (والنّبيّ بالشّهادة له بالنّبوّة) أي المقترنة بالرسالة وفي نسخة بالرسالة والأولى أشمل والثانية أكمل وكان الجمع بينهما أفضل إظهارا للنعمة بهما عليه وتعظيما للمنة لديه والمعنى إن هذه الإطاعة أقل ما يطلق عليه اسم الطاعة (حدّثنا أبو محمد بن عتّاب) بفتح فتشديد فوقية (بقراءتي عليه) أي لا بسماعي لديه (ثنا) أي قال حدثنا (حاتم بن محمد) أي ابن الطرابلسي (ثنا) أي حَدَّثَنَا (أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خلف) بفتحتين وهو القابسي (ثنا) أي حدثنا (محمد بن أحمد) وهو أبو زيد المروزي (ثنا) أي حدثنا (محمّد بن يوسف) أي الفربري (ثنا) أي حدثنا (البخاريّ) وهو صاحب الصحيح (ثنا) أي حدثنا (عبدان) بفتح فسكون موحدة وهو بوزن التثنية غير مصروف وهو العتكي المروزي يقال تصدق بألف ألف (أنا) أي أخبرنا (عبد الله) أي ابن وهب فيما يغلب على الظن لأن مسلما روى هذا عن اثنين وعنه به (أنا) أي أخبرنا (يونس) أي ابن يزيد الأيلي أحد الأثبات روى عن القاسم وعكرمة والزهري وعنه ابن المبارك وابن وهب أخرج له أصحاب الكتب الستة (عن الزهري) تابعي جليل (قال أخبرنا أبو سلمة بن عبد الرحمن) أحد الفقهاء السبعة على قول الأكثر (أنه سمع أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال من أطاعني) أي فيما جئت به عن الله تعالى (فقد أطاع الله) لقوله تَعَالَى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ (ومن عصاني فقد عصى الله) وهو اللازم لجعل طاعته طاعته والحاصل أن الأول معلوم الكتاب والثاني مفهوم الخطاب (ومن أطاع أميري فقد أطاعني) أي بطريق القياس لأن طاعته من طاعته لكن بشرط أن يأمر بطاعته لا بمعصيته كما يستفاد من إطاعته فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق والحديث الأول رواه الشيخان وإن أسنده المصنف من طريق البخاري (وطاعة الرَّسُولِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ إِذِ اللَّهُ أَمَرَ بطاعته فطاعته امتثال لما أمر الله وطاعة له) أي للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم باتباعه فيما أمر ونهى ومن جملة ذلك تأمير أميره هنالك (وقد حكى الله تعالى عن الكفار في دركات جهنم) أي طبقاتها السفلية بحسب مقامات أهلها في المعاصي الجلية والخفية حيث قال: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) أي تصريف من جهة إلى جهة استيعابا لجميع أعضائهم واستيفاء لسائر أجزائهم كقطعة لحم تدور في قدر غلت فترامى بها الغليان من ناحية إلى أخرى والمراد من الوجوه ذواتهم أو أريد بها أشرف أعضائهم وألطف أجزائهم لا سيما وسائر البدن تابع لها في إقبالها وإدبارها (يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا) بإثبات الألف رسما واختلفت القراءة وقفا ووصلا (فتمنوا طاعته) أي حين شاهدوا التعني (حيث لا ينفعهم التمني وقال) وفي نسخة وقد قال: (عليه الصلاة والسلام) أي فيما رواه الشيخان (إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بشيء) وفي نسخة بأمر أي مأمور به إيجابا أو ندبا (فأتوا منه ما استطعتم) أي من غير ترك الواجب (وفي حديث أبي هريرة(2/14)
رضي الله تعالى عنه عليه الصلاة والسلام كل أمتي) أي جميعهم (يدخلون الجنة إلا من أبى) أي امتنع عن دخول الجنة والظاهر أنه استثناء منقطع والمراد بالأمة أمة الإجابة ودخول الجنة أعم من أن يكون أولا أو آخرا ولا يبعد أن يكون الاستثناء متصلا على أن المراد بالأمة أمة الدعوة وأن المعصية مختصة بالكفرة (قالوا ومن أبى) وفي نسخة قالوا يا رسول الله ومن يأبى أي عن دخول الجنة مع أن فيها حصول النعمة ووصول المنة (قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فقد أبى) أي بتركه الطاعة التي هي سبب لدخولها وموجب لوصولها والحديث رواه الحاكم بلفظ كلكم يدخل الجنة إلا من أبى الحديث كذا ذكره الدلجي وفي الجامع الصغير برواية البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ولفظه كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبى (وفي الحديث الآخر الصحيح) أي الذي رواه البخاري في صحيحه (عنه عليه الصلاة والسلام مثلي ومثل ما بعثني الله تعالى به) أي مما يورث الفوز بنصر الدنيا وذخر العقبى والمعنى حالتنا العجيبة الشأن وصفتنا الغريبة البرهان (كمثل رجل أتى قوما) أي جاءهم يحذرهم من عدوهم وراءهم (فقال يا قوم إني رأيت الجيش) أي عسكر العدو (بعيني) بصيغة التثنية للمبالغة في التأكيد ودفع توهم المجاز في الخبر الأكيد (وإني أنا النذير العريان) أي المخوف الذي ليس له غرض في التحذير بل هو عار عن تلبيس وتدليس في وصف النذير وقيل هذا مثل ضربه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مبالغة في صدق النذارة لأنه إذا كان عريانا كان أبين وقيل بل كان يتجرد عن ثيابه ويلوح بها في مقام خطابه ليجتمعوا إليه ويحققوا ما لديه وقيل هو الذي سلب العدو ما عليه من الثوب فأتى قومه عريانا يخبرهم فصدقوه لما عليه من آثار الصدق (فالنجاء) بفتح النون قبل الجيم ممدودا وقد يقصر وهو منصوب على الإغراء أي الزموا النجاء وهو الإسراع إلى المنجى والملجأ في حال البلاء لتسلموا من الأعداء وقيل إنه منصوب على المصدر أي انجوا النجاء بمعنى اطلبوا النجاة وهو في غالب النسخ مرة واحدة وفي بعضها النجاء النجاء مرتين للتأكيد أو أحدهما إشارة إلى أمر الدنيا والآخرة إيماء إلى أمر العقبى (فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا) بتخفيف الدال وقطع الهمزة وفي بعض النسخ بتشديدها ووصل الهمزة فقيل هما لغتان تستعملان في سير الليل كله وقال أكثرهم ادلج سار آخر الليل وأدلج سار الليل كله وقيل إن ساروا من آخر الليل فأدلجوا بالتشديد وإن ساروا من أول الليل فأدلجوا بالتخفيف والقول الأكثر هو الأوسط المعتبر لكن المراد في الحديث هو المعنى الأعم فتدبر (فانطلقوا على مهلهم) بسكون الهاء وبفتح أي فذهبوا على مهلتهم بوصف تؤدتهم من غير عجلتهم (فنجوا) أي فتخلصوا من عدوهم ونهبتهم وفي حديث علي إذا سرتم إلى العدو فمهلا مهلا وإذا وقعت العين على العين فمهلا مهلا قال الأزهري الساكن الرفق والمتحرك التقدم أي إذا سرتم فتأنوا وإذا لقيتم فاحملوا أي وتعنوا (وكذّبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم) أي دخلوا في الصبح في محلهم (فصبّحهم الجيش) بتشديد(2/15)
الموحدة أي نزلوا عليهم وقت صباحهم قبل رواحهم (فأهلكهم) أي الجيش (واجتاحهم) أي استأصلهم ولم يبق واحدا منهم (فذلك) أي المثل المذكور (مثل من أطاعني) أي انقاد لي في الطاعة على وجه الصدق (واتّبع ما جئت به) أي من الأمر الحق فيه إيماء إلى أنه لا ينبغي لأحد أن يكتفي بظاهر الطاعة عن اتباع ما جاء به من العبادة (ومثل من عصاني) أي بالوجه المطلق (وكذّب ما جئت به من الحقّ) فيه إشارة إلى أن مطلق العصيان غير مستأصل للإنسان بل العصيان مع التكذيب هو الموجب لاستئصال البنيان لكونه كمال العدوان (وفي الحديث الآخر) أي الذي رواه الشيخان (في مثله) بفتحتين أي في تمثيله صلى الله تعالى عليه وسلم (كمثل من بنى دارا) وأصل هذا المثل منسوب إلى الملائكة حيث قالوا في حقه عليه الصلاة والسلام إما في حال اليقظة وإما في حال المنام مثله كمثل رجل بنى دارا (وجعل فيها مأدبة) بضم الدال المهملة وقد تفتح أي أطعمة ملونة موضوعة للدعوة (وبعث داعيا) أي إلى الناس ليحضروها ويأكلوا منها (فمن أجاب الدّاعي) أي بقبول الدعوة (دخل الدّار) أي دار النعمة (وأكل من المأدبة) أي على قدر الطاقة في الطاعة (وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ) أي دار القربة (ولم يأكل من المأدبة) أي لأن نصيبه الفرقة والحرقة (فالدّار الجنّة) أعدت للمتقين الذين أجابوا دعوة سيد المرسلين (والدّاعي) أي إلى الله تعالى ودار نعمته (محمد) صلى الله تعالى عليه وسلم (فمن أطاع محمدا) صلى الله تعالى عليه وسلم (فقد أطاع الله) لأنه الداعي إليه بأمره (ومن عصى محمدا) صلى الله تعالى عليه وسلم (فقد عصى الله تعالى) أي بخروجه عن حكمه (ومحمّد فرق) بفتح فسكون أي فارق (بين النّاس) أي من المؤمنين والكافرين بتصديقه وتكذيبه فهو مصدر وصف به للمبالغة كرجل عدل وفي نسخة بفتح الراء مشددة ومخففة بالقاف أي فصل بينهم بإعزاز المطيعين وإذلال العاصين.
فصل [وَأَمَّا وُجُوبُ اتِّبَاعِهِ وَامْتِثَالُ سُنَّتِهِ وَالِاقْتِدَاءُ بِهَدْيِهِ]
(وأمّا وجوب اتباعه) أي متابعته (وامتثال سنّته) أي طريقته (والاقتداء بهديه) أي سمته وحالته وسيرته (فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ) أي تدعون محبته وتريدون مودته (فَاتَّبِعُونِي) أي فيما يظهر مني من شريعته وطريقته وحقيقته (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) جواب الأمر وهو جواب الشرط أي يرض عنكم ويكشف حجب قلوبكم (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران: 31] أي جميع عيوبكم (وقال تعالى فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ) وفي وصفه به تلويح إلى أن كمال علمه من معجزاته (الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ) أي بكتبه وآياته (وَاتَّبِعُوهُ) أي في أوامره وزواجره (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: 158] ) ببركات ظواهره وسرائره (وقال فَلا وَرَبِّكَ) زيدت لا لتأكيد معنى القسم كما قاله الدلجي تبعا لغيره لكن يأباه الجمع بين الفاء والواو فالأظهر أن تقديره فليس الأمر كما يظنون من أنهم يصلون إلى الله تعالى من غير أن يتبعوا رسوله وربك (لا يُؤْمِنُونَ) أي بي ولا بك (حَتَّى(2/16)
يُحَكِّمُوكَ) أي يجعلوك حكما (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) أي اختلفوا في أمرهم ويرضوا بحكمك في حقهم (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً) أي ضيقا (مِمَّا قَضَيْتَ) أي حكمت به أو من حكمك (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء: 65] مصدر مؤكد لفعله بمنزلة تكريره (أي ينقادوا لحكمك) يعني انقيادا كاملا يكون لجميع أحكامك شاملا ولظواهرهم وبواطنهم كافلا (يقال) أي في اللغة (سلّم) بتشديد اللام (واستسلم وأسلم إذا انقاد) أي مطلقا (وقال تعالى: كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ) بضم الهمزة وكسرها أي خصلة (حَسَنَةٌ) من حقها أن يؤتسى ويقتدى بها (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ) أي ثوابه أو لقاءه (وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) [الأحزاب: 21] أي نعيم الآخرة أو لمن كان يخاف عقابه أو حجابه واليوم الآخر أي حسابه وعذابه (قال محمّد بن عليّ التّرمذي) أي الحكيم وهو ليس صاحب الجامع (الأسوة في الرّسول) أي معناها في حقه (الاقتداء به) أي في أمر شريعته (والاتّباع لسنّته) أي طريقته (وترك مخالفته في قول أو فعل) وكذا في جميع ما علم من حالته (وقال غير واحد) أي كثير من المفسرين (بمعناه) أي بمعنى قول الحكيم وإن اختلف عنهم مبناه (وقيل هو) أي قوله تعالى لَقَدْ كانَ لَكُمْ الآية (عتاب) أي ملامة من الله (للمتخلّفين عنه) أي في غزواته وخصوص حالاته وعلو درجاته ورفعة مقاماته (وقال سهل) أي ابن عبد الله كما في نسخة وهو التستري من أكابر الصوفية (في قوله تعالى) أي في تفسيره (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة: 7] قال بمتابعة السّنّة) وفي نسخة سنته أي أنعمت عليهم بسبب اتباع طريقته (فأمرهم الله تعالى بذلك) أي باتباع شريعته (ووعدهم الاهتداء باتّباعه) أي بمتابعته حيث قال وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (لأنّ الله تعالى أرسله بالهدى) أي بالهداية الموصلة إلى المولى (ودين الحقّ) أي الملة الثابتة بمخالفة الهوى (ليزكّيهم) أي يطهرهم من الشرك والمعاصي (ويعلّمهم الكتاب) أي القرآن الجامع لمكارم الأخلاق (والحكمة) أي السنة أو الأحكام المحكمة والمعارف الصادرة عن أهل الحكمة ممن جمع بين ايقان العلم واتقان العمل (ويهديهم إلى صراط مستقيم) هو الدين القويم بالطاعة في الدنيا وطريق الجنة في العقبى (ووعدهم) أي على اتباعه (محبّته تعالى في الآية الأخرى) وهي قوله تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وهذا معنى قوله (ومغفرته) أي ووعدهم غفران ذنوبهم (إذا اتّبعوه) أي في الإيمان به وامتثال أمره ونهيه (وآثروه) بألف ممدودة أي قدموه على أنفسهم وآثروه (على أهوائهم) واختاروا هداه على آرائهم وأحبوه ازيد من آبائهم وأبنائهم (وما تجنح) بفتح النون وتضم أي وعلى ما تميل (إليه نفوسهم) أي من محبة الجاه والمال والجمال المتعلقة بالأمور الدنيوية الشاغلة عن المراتب الدينية والمناقب الأخروية (وأنّ صحّة إيمانهم) أي وأخبر في قوله تعالى فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ الآية أن صحته (بانقيادهم له) أي لأمره (ورضاهم بحكمه) أي فيما شجر بينهم (وترك الاعتراض عليه) أي فيما حكم لهم أو عليهم (وروي) كما في تفسير ابن المنذر (عن(2/17)
الحسن) أي البصري (أنّ أقواما) أي جمعا كثيرا (قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُحِبُّ اللَّهَ) أي ونطلب رضاه (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران: 31] الآية وروي) قال الدلجي لا أدري من رواه (أنّ الآية) أي هذه الآية (نزلت في كعب بن الأشرف) وهو يهودي قتل غيلة كافرا بالله تعالى (وغيره) أي من اليهود (وأنّهم قالوا نحن أبناء الله) زعما منهم أنهم أشياع عزير (وأحبّاؤه) يعنون به كما قال المصنف (ونحن أشدّ حبّا لله) أي مقربون قرب الأولاد من آبائهم بل هم مبعدون عنه بعد أعدى الأعداء من أعدائهم إذ لو كانوا أبناءه وأحباءه لم يأتوا قبيحا من عيوبهم ولما عذبوا بذنوبهم مسخا في الدنيا ومسا بالنار دائما في العقبى لا أياما معدودات كما زعموا وتمنوا من جهة النفس والهوى وقد أجاب عنه سبحانه وتعالى بقوله قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ بالإيمان وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ بالكفران وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من الإحسان والخذلان وهذا لا ينافي قوله (فأنزل الله الآية) أي آية قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ حيث لا مانع من تعدد الجواب في مقام الخطاب والعتاب (وقال الزّجّاج معناه) أي معنى ما ذكر من الآية أو معنى إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ (أن تقصدوا طاعته) أي تريدوها وتحبوا القيام بحقها (فافعلوا ما أمركم به) أي رسولنا وهذا تفسير بالمعنى لقوله تعالى فَاتَّبِعُونِي أي اتبعوا أمري ونهيي (إِذْ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ طَاعَتُهُ لَهُمَا ورضاه بما أمرا) أي ونهيا (ومحبّة الله لهم) أي لعباده (عفوه عنهم) أي برأفته (وإنعامه عليهم برحمته) حتى يدخلهم في جنته (ويقال الحبّ من الله) أي للعبد (عصمة) أي حفظ له عن المعصية (وتوفيق) أي للعبادة (ومن العباد) أي والحب من العباد لله (طاعة) أي اطاعة له في أمره ونهيه ومتابعة رسوله (كما قال القائل) قيل القائل رابعة العدوية وفي الأحياء أن قائله عبد الله بن المبارك:
(تعصي الإله وأنت تزعم حبّه هذا) أي الجمع بين اختيار المعصية واظهار المحبة (لعمري) بفتح العين اعتراض بين المبتدأ والخبر وما في حيزه من جار ومجرور وخبر أقسم به والتقدير والله لبقائي أو لعمري مما أقسم به إن هذا الأمر (في القياس) وفي نسخة في الفعال وهو موافق لتفسير أبي الليث وأحياء الغزالي (بديع) أي عجيب وغريب وبعيد عن القياس أو من فعال الناس لأنه.
(لو كان حبك صادقا لأطعته) .
كما هو القياس لكنك لم تطعه فلم يكن حبك له صادقا بدليل قوله.
(إن المحب لمن يحب مطيع) .
وفي رواية يطيع (ويقال محبّة العبد لله) أي غاية ميله إليه سبحانه وتعالى (تعظيمه له) أي في شأنه (وهيبته منه) أي في سلطانه (ومحبّة الله له) أي للعبد (رحمته له) أي بإنعامه فيكون من الصفات الافعالية (وإرادته الجميل له) أي بإكرامه فيكون من النعوت الذاتية(2/18)
والجميل منصوب على أنه مفعول المصدر الذي هو ارادته (وتكون) أي وقد تكون المحبة (بمعنى مدحه وثنائه عليه) أي على العبد عند ملائكته وعلى ألسنة رسله أو على ألسنة الخلق فإنها أقلام الحق (قال القشيريّ) وهو الإمام أبو القاسم صاحب الرسالة والتفسير (فإذا كان) أي الحب (بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَدْحِ كَانَ مِنْ صِفَاتِ الذّات) والأظهر ما قدمناه (وسيأتي بعد) أي بعد ذلك (في ذكر محبّة العبد غير هذا) أي غير ما ذكر هنا (بحول الله تعالى) أي بتصرفه وقوته وهو متعلق بسيأتي (حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ الْفَقِيهُ قال ثنا) أي حدثنا (أبو الأصبغ) بفتح الهمزة والموحدة وفي آخره غين معجمة (عيسى بن سهل وثنا) أي وحدثنا وفي نسخة وأخبرنا (أبو الحسن يونس بن مغيث) اسم فاعل من الإغاثة (الفقيه) أي الكامل في الفقه (بقراءتي عليه) أي هذا الحديث (قالا) أي عيسى ويونس كلاهما (ثنا) أي حدثنا (حاتم بن محمد) بكسر الفوقية (قال ثنا) أي حدثنا (أبو حفص الجهنيّ) بضم ففتح نسبة إلى قبيلة جهينة بالتصغير (ثنا) أي حدثنا (أبو بكر الآجرّي) بهمزة ممدودة وضم جيم وتشديد راء وهو الإمام الحافظ القدوة (ثنا) أي حدثنا (إبراهيم بن موسى الجوزيّ) بفتح الجيم وسكون الواو وكسر الزاء منسوب إلى الجوز (ثنا) أي حدثنا (داود بن رشيد) بالتصغير خوارزمي روى عنه مسلم وأبو داود وابن ماجه والبغوي والسراج وخلق أخرج عنه الستة ما عدا الترمذي ووثقه غير واحد (ثنا) أي حدثنا (الوليد بن مسلم) هو الحافظ أبو العباس عالم أهل الشام روى عنه أحمد وإسحاق قال ابن المديني ما رأيت في الشاميين مثله أخرج له الجماعة وهو مدلس (عن ثور بن يزيد) هو الحافظ الحمصي روى عن خالد بن معدان وعن عطاء وعنه القطان وأبو عاصم وكان ثبتا قدريا أخرجوه من حمص وأحرقوا داره أخرج له البخاري والأربعة (عن خالد بن معدان) هو الكلاعي عن معاوية وثوبان وغيرهما يقال كان يسبح في اليوم أربعين ألف تسبيحة وقيل غير ذلك أخرج له الجماعة (عن عبد الرّحمن بن عمرو السلميّ) بضم ففتح هو الصواب كما في سنن أبي داود وجامع الترمذي وسنن ابن ماجة وفي بعض النسخ الأسلمي (وحجر) بضم مهملة وسكون جيم (الكلاعيّ) بفتح الكاف (عن العرباض) بكسر العين المهملة وفي آخره ضاد معجمة (ابن سارية) أي ابن نجيح السلمي من البكائين من أهل الصفة أخرج له أصحاب السنن الأربعة (في حديثه) أي في حديث رواه العرباض (في موعظة النّبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخلفاء الرّاشدين المهديّين) أي الخلفاء الأربعة ومن سار سيرتهم كعمر بن عبد العزيز والراشد اسم فاعل من الرشد وهو خلاف الغي والمهدي من هداه الله تعالى إلى الحق (عضّوا) بفتح فتشديد (عليها بالنّواجذ) بالذال المعجمة أي تمسكوا بها كما يتمسك العاض بجميع أضراسه (وإيّاكم ومحدثات الأمور) تحذير منها ومن الرضى بها جمع محدثة وهي ما لم يكن معروفا من كتاب ولا سنة ولا إجماع أمة (فإنّ كلّ محدثة بدعة وكلّ بدعة) بالنصب وفي نسخة بالرفع (ضلالة) وخص منها البدعة الحسنة بحديث من سن سنة حسنة فله أجرها(2/19)
وأجر من عمل بها ومنه قول عمر رضي الله تعالى عنه في التراويح نعمت البدعة هذه والحديث في الأربعين للنووي وقد أوضحناه في شرحه المبين المعين بيان مبناه وعيان معناه وقد أخرجه أبو داود في السنة عن أحمد بن حنبل عن الوليد بن مسلم بالسند الذي ساقه القاضي والترمذي في العلم وقال حسن صحيح وابن ماجه في السنة والمصنف عدل عن السنن الثلاث وأخرجه من خارجها طلبا للعلو في الإسناد فإن بينه وبين شيخ شيخ أبي داود في هذا الحديث وهو الوليد بن مسلم ستة اشخاص ولا يتفق له ذلك في رواية أبي داود (زاد في حديث جابر) على ما رواه مسلم (بمعناه) أي زيادة أفادت عدم روايته بلفظه ومبناه (وكلّ ضلالة في النّار) أي وكل محدثة فيها بإسقاط المكرر (وفي حديث أبي رافع) كما رواه الشافعي في كتابه الأم عن سفيان بن عيينة عن سالم أبي النضر عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه (عنه عليه الصلاة والسلام لا ألفينّ) بضم الهمزة وكسر الفاء ونون مشددة أي لا أجدن (أحدكم متّكئا على أريكته) أي جالسا على سريره أو فراشه متمكنا على مقعده أو مائلا في قعوده معتمدا على أحد شقيه كما هو شأن الجهلة من المتكبرين الراضين بالقعود مع المتخلفين كما قيل:
دع المكارم لا يرحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
(يأتيه الأمر من أمري) أي يبلغه أمر من أموري أو من مأموري بدليل قوله (ممّا أمرت به) على أن من فيه بيانية وبدلالة رواية ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكىء على أريكته فيقول بيننا وبينكم كتاب الله تعالى (أو نهيت عنه فيقول لا أدري) أي غير القرآن ولا أتبع سوى الفرقان (ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه) أي وما وجدنا في غيره أو مخالفا فيه تركناه والحديث جاء محذرا من ترك امتثال أوامره واجتناب زواجره لأنه عليه الصلاة والسلام جاء مبينا لما في القرآن من الأحكام ولقوله تعالى وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وقوله وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وقوله مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وقوله قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي وأمثال ذلك مما يدل على أنه لا يسوغ لمسلم أن يخالفه في أمر أو نهي هنالك (وفي حديث عائشة رضي الله عنها) كما رواه الشيخان (صنع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا ترخّص فيه) أي اختار الرخصة على العزيمة في عمل ذلك الشيء عملا بقوله عليه الصلاة والسلام إن الله يحب أن يؤتى برخصة كما يحب أن يؤتى بعزائمه والظاهر أن ما ترخص فيه هو الإفطار في السفر أو القصر وهو الأظهر لقوله عليه الصلاة والسلام صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته ومن هنا قال أبو حنيفة إن القصر واجب وإتمامه إساءة (فتنزّه عنه) أي تبعد عن ذلك الشيء أو عن الترخص فيه (قوم) أي جماعة من الرجال ما بلغوا مبلغ الكمال (فبلغ ذلك النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم(2/20)
فحمد الله) أي شكره (وأثنى عليه) أي فيما أفاض إليه (ثمّ قال ما بال قوم) أي ما حالهم وشأنهم (يتنزّهون عن الشيء أصنعه) جملة وصفية أو حالية (فو الله إنّي لأعلمهم بالله وأشدّهم له خشية) إذ بقدر المعرفة بالله وصفاته تكون الخشية من عقوباته وحجاب حالاته ومقاماته كما يشير إليه قوله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (وروي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم) من حديث أبي الشيخ وأبي نعيم والديلمي (أنه قال: القرآن صعب) أي باعتبار مبناه (مستصعب) بكسر العين وتفتح أي باعتبار معناه (على من كرهه) أي ولم يتلذذ بمقتضاه ومفهومه أنه سهل متيسر على من أحبه وارتضاه كما يشير إليه قوله تعالى وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فهو كالنيل ماء للمحبوبين ودماء للمحبوبين وشفاء للمؤمنين وشقاء للعاصين (وهو) أي القرآن (الحكم) بفتحتين الحاكم العدل والفاتح الفصل والجد الذي ليس فيه الهزل أو ذو الحكمة من كمال الفضل (فمن استمسك بحديثي) أي تعلق به من كمال رضاه (وفهمه) أي القرآن من جهة معناه (وحفظه) أي من جهة مبناه أي ضبط حكمه وراعاه (جاء) أي ورد يوم القيامة (مع القرآن) أي بعلمه وعمله بهما (ومن تهاون بالقرآن وحديثي) بأن لم يعمل بهما ولو حفظهما وفهمهما (فقد خسر الدّنيا والآخرة) أي وتلك الخسارة الظاهرة (أمرت أمّتي) بصيغة المجهول للتأنيث وفي نسخة بصيغة الفاعل المتكلم والأول هو الظاهر أي أمرهم الله (أن يأخذوا بقولي) أي اعتقادا لقوله تعالى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (ويطيعوا أمري) أي اعتمادا لقوله تَعَالَى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ (ويتّبعوا سنّتي) أي استنادا لقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (فمن رضي بقولي) أي بحديثي (فقد رضي بالقرآن) وفي الكلام قلب للمبالغة أي فمن رضي بالقرآن فقد رضى بقولي ومن لم يرض بقولي فلم يرض بِالْقُرْآنِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (وقال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنِ اقْتَدَى بِي فَهُوَ مِنِّي) أي متصل بي ومعي أو من أشياعي واتباعي وقد رواه عبد الرزاق في مصنفه من مراسيل الحسن إلا أنه بلفظ من استن بسنتي أي اتبعها وعمل بها فهو مني (ومن رغب عن سنّتي) يقال رغب في الشيء إذا أراده ورغب عنه إذا لم يرده والمعنى ومن مال عنها كراهة لها (فليس منّي) كما في الصحيحين (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كتاب الله تعالى) هذا مقتبس من قوله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً (وخير الهدي) بالنصب ويجوز رفعه (هدي محمّد) وهو بفتح الهاء وسكون الدال فيهما بمعنى السمت والطريقة وضبط في بعض النسخ بضم الهاء وفتح الدال على أنه ضد الضلالة لقوله تعالى قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى والمعنى به سيرته السنية وطريقته الرضية وهيئته السوية (وشرّ الأمور) بالوجهين (محدثاتها) جمع محدثة بالفتح وهي البدعة التي تخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة قال الدلجي لا أدري من روى هذا الحديث ولعله انكره من حيث اسناده إلى أبي هريرة وإلا فقد ورد من حديث جابر كما رواه أحمد ومسلم والنسائي(2/21)
وابن ماجه ولفظه أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وإن أفضل الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار الحديث وروى البيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عقبة بن عامر الجهني وأبو نصر السجزي في الإبانة عن أبي الدرداء مرفوعا وابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه موقوفا بلفظ أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وأوثق العرى كلمة التقوى وخير الملل ملة إبراهيم عليه السلام وخير السنن سنة محمد وأشرف الحديث ذكر الله تعالى وأحسن القصص هذا القرآن وخير الأمور عوازمها وشر الأمور محدثاتها وأحسن الهدى هدى الأنبياء وأشرف الموت قتل الشهداء وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى وخير العلم ما نفع وخير الهدى ما اتبع وشر العمى عمى القلب واليد العليا خير من اليد السفلى وما قل وكفى خير مما كثر وألهى وشر المعذرة حين يحضر الموت وشر الندامة يوم القيامة ومن الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبرا ومنهم من لا يذكر الله إلا جهرا وأعظم الخطايا اللسان الكذوب وخير الغنى غنى النفس وخير الزاد التقوى ورأس الحكمة مخافة الله تعالى وخير ما وقر في القلب اليقين والارتياب من الكفر والنياحة من عمل الجاهلية والغلول من جشاء جهنم والكنز كيّ من النار والشعر من مزامير إبليس والخمر جماع الإثم والنساء حبالة الشيطان والشباب شعبة من الجنون وشر المكاسب كسب الربا وشر المأكل مال اليتيم والسعيد من وعظ بغيره والشقي من شقي في بطن أمه وإنما بصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع والأمر بآخره وملاك العمل خواتمه وشر الرؤيا رؤيا الكذب وكل ما هو آت قريب وسباب المؤمن فسوق وقتال المؤمن كفر وأكل لحمه من معصية الله تعالى وحرمة ماله كحرمة دمه ومن يتأل على الله يكذبه ومن يغفر يغفر الله له ومن يعف يعف الله عنه ومن يكظم الغيظ يأجره الله ومن يصبر على الرزية يعوضه الله ومن يتبع السمعة يسمع الله به ومن يصبر يضعف الله له ومن يعص الله يعذبه الله اللهم اغفر لي ولأمتي استغفر الله لي ولكم كذا في الجامع الصغير وإنما ذكرته لما فيه من النفع الكثير للصغير والكبير (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله تعالى عنه) وفي نسخة العاصي والأول هي الأولى لما حققناه فيما سبق من أصل المبنى (قال النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم العلم) أي أصوله (ثلاثة) أي أقسام (وما سوى ذلك) يعني كل علم سوى هذه الثلاثة وما يتعلق بها مما تتوقف عليه (فهو فضل) أي زائد لا يفتقر إلى علمه وإن لم يسع المرء جهله (آية محكمة) أي أحكم بيانها فلم يحتج إلى زيادة بيان في شأنها (أو سنّة قائمة) أي أحاديث ثابتة مستمرة العمل بها دائمة (أو فريضة عادلة) أي في القسمة أو عادلة ومساوية في العمل بها الكتاب والسنة وهي الثابتة بإجماع الأمة أو قياس الأئمة رواه أبو داود وابن ماجه (وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تعالى) أي البصري كما رواه عبد الرزاق عن معمر عن زيد عن الحسن مرسلا والدارمي عن ابن مسعود موصولا (قال عليه الصلاة والسلام عمل قليل في سنّة) أي مصاحبا لها (خير من عمل كثير في بدعة) أي من أصلها لأن ذاك وإن قل(2/22)
كثر نفعه بل هو نفع كله وذا أكثر ضررا ونفعه قليل وإن كثر عمله ففي بمعنى مع كما في قوله تعالى ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ أي معهم والحاصل أن الاقتصاد في السنة أفضل من الاجتهاد في البدعة ولو كانت مستحسنة (وقال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْخِلُ الْعَبْدَ الجنّة) أي أعلى مراتبها (بالسنّة) أي بسبب القيام بها (تمسّك بها) أي أخذها وعمل بمقتضاها ففاز بمقام القدس ومرام الإنس وفي نسخة يتمسك بها فالأولى استئناف والثانية حال والحديث غير معروف المبنى لكنه صحيح المعنى (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) كما رواه الطبراني في الأوسط (قال المتمسّك بسنّتي عند فساد أمّتي) أي حين يكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي خير من الساعي فإن قلت من يتمسك بالسنة إذا فسدت الأمة أجيب بأن المراد أكثر الأمة ولا يبعد أن يراد بفسادهم سوء اعتقادهم بترك العمل بالأحاديث واعتمادهم على مجرد ما يفهمونه بعقولهم الكاسدة وآرائهم الفاسدة كما هو طريق أهل البدعة بخلاف مذهب أهل السنة والجماعة حيث جمعوا بين الكتاب والسنة على ما ورد (له أجر مائة شهيد) أي حيث جاهد في طريق سديد (وقال عليه الصلاة والسلام) كما رواه الترمذي (إنّ بني إسرائيل افترقوا) أي تفرقوا (على اثنتين وسبعين ملّة) أي مذهبا ومشربا وفي نسخة فرقة أي جماعة (وإنّ أمّتي) أي أهل الدعوة والإجابة (تفترق) وفي رواية ستفترق (على ثلاث وسبعين) أي بزيادة ملة (كلّها) أي جميع الملل السابقة والنحل اللاحقة (في النّار) أي في طريقها فكأنهم فيها (إلّا واحدة) أي إلّا أهل ملة واحدة أو إلّا جماعة (قالوا) أي بعض الصحابة (وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الَّذِي) أي الجمع والفوج الذي أو أهل الطريق الذي (أنا عليه اليوم وأصحابي) أي من متابعة الكتاب والسنة ومجانبة الأمور المحدثة والبدعة (وعن أنس) رضي الله تعالى عنه (قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «من أحيا سنّتي» أي أشاعها بعملها أو أذاعها بنقلها (فقد أحياني) أي رفع ذكري وأظهر أمري (ومن أحياني كان معي) أي مشاركا لي في علو قدري وفي نسخة كان معي في الجنة أي مصاحبا لي في النعمة رواه الأصبهاني في ترغيبه واللالكائي في السنة (وعن عمرو بن عوف المدني) كما رواه الترمذي وحسنه ابن ماجه (أنّ النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ مَنْ أحيا سنّة من سنّتي) أي من سنني (قد أميتت بعدي) بترك ذكرها أو العمل بها (فإنّ له من الأجر مثل من) أي مثل أجر مَنْ (عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ) أي ذلك الأجر الذي يكون له (من أجورهم) أي من أجور من عمل بها تبعا له (شيئا) مفعول ينقص وقد اعتبر في ضميرهم معنى من دون لفظها (ومن ابتدع بدعة ضلالة) بالإضافة أو بالوصف أي بدعة سيئة كالبناء على القبور وتجصيصها لا بدعة مستحسنة كالمنارة وترصيصها (لا يرضي الله ورسوله) من الإرضاء صفة كاشفة والمعنى لا تكون موافقة للكتاب والسنة ولا مأخوذة من القياس أو اجماع الأمة (كان عليه) أي من الإثم (مِثْلُ آثَامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذلك من أوزار النّاس شيئا) أي من آثام من عمل بها تبعا له.(2/23)
فصل [وأما وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنِ اتِّبَاعِ سُنَّتِهِ]
(وأمّا ما ورد عن السّلف) أي عن الصالحين من الصحابة والتابعين (والأئمة) أي العلماء العالمين المجتهدين في أمر الدين (من اتّباع سنّته) وفي نسخة في اتباع سنته فالجار متعلق بورد وعلى الأول بيانية (والاقتداء بهديه) أي طريقته (وسيرته) أي هيئته فالأول بيان الكمية والثاني بيان الكيفية أو هما إيماء إلى قاله وحاله وهذا الأمر التقريري أولى من القول بالعطف التفسيري (فَحَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو عِمْرَانَ مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرّحمن بن أبي تليد) بفتح فوقية وكسر لام فتحتية (الفقيه) أي الكامل في الفقه (سماعا عليه) لا قراءة لديه ولا بواسطة إليه (قال ثنا) أي حدثنا (أبو عمر الحافظ) أي ابن عبد البر (ثنا) أي حدثنا (سعيد بن نصر ثنا) أي حدثنا (قاسم بن أصبغ) بفتح همزة وموحدة وغين معجمة منونة كذا في نسخة مضبوطة والظاهر أنه غير منصرف كأحمد وأسلم والله تعالى أعلم (ووهب بن مسرّة) بفتح ميم وسين مهملة وتشديد راء (قالا) أي كلاهما (ثنا) أي حدثنا (محمد بن وضّاح) بتشديد الضاد المعجمة (ثنا) أي حدثنا (يحيى بن يحيى) الليثي راوي الموطا وفي نسخة اقتصر على يحيى الأول لشهرته فتأمل (ثنا) أي حدثنا (مالك) وهو الإمام صاحب المذهب (عن ابن شهاب) أي الزهري (عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ) بفتح فكسر وفي نسخة بالتصغير وخالد أخو عتاب أسلم عام الفتح وكان من المؤلفة قلوبهم وأما الرجل فغير معروف (أنّه سأل عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما فقال يا أبا عبد الرّحمن) يكتب بلا ألف ويقرأ بها على الصحيح (إِنَّا نَجِدُ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَصَلَاةَ الْحَضَرِ فِي القرآن) أي في قوله تعالى وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ الآية إلى قوله إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (ولا نجد صلاة السّفر) أي بوصف القصر في القرآن صريحا وإلّا فصلاة الخوف متضمنة للقصر في الآية على ما ورد في السنة (فقال ابن عمر رضي الله عنهما يا ابن أخي) أي في الإسلام جريا على عادة العرب في خطاب الأقوام وإيماء إلى الشفقة على الأنام (إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم ولا نعلم شيئا) أي من حقيقة الأحكام (وإنّما نفعل كما رأيناه يفعل) أي فنتبعه ونقتدي به في جميع أموره وقد رأيناه يقصر في السفر فقصرنا معه بل وقد أمرنا بالقصر وأوجب علينا هذا الأمر بقوله هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فأقبلوا صدقته والأمر للوجوب ولذا قال أبو حنيفة بأن الإتمام إساءة ومكروه كراهة تحريمية والحاصل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مبين للشريعة بالكتاب والسنة فمن ترك شيئا منهما فقد وقع في الضلالة والبدعة والحديث رواه مالك والنسائي وابن ماجه (وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى) أي ابن مروان بن الحكم الأموي القرشي وأمه ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو تابعي جليل وإمام جميل وسادس الخلفاء على ما قيل روى عن عبد الله بن جعفر وأنس وابن المسيب وجماعة وعنه ابناه(2/24)
والزهري وعدة أخرج له أصحاب الكتب الستة مات بدير سمعان من أرض حمص سنة إحدى ومائة وله من العمر أربعون ومدة ولايته سنتان وخمسة أشهر وأيام ومناقبه ظاهرة ومراتبه متواترة وهذا الحديث رواه عنه اللالكائي في السنة أنه قال (سنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي شرع طريقة مرضية (وولاة الأمر) أي وسن الخلفاء الراشدون (بعده سننا) أي موافقة لقواعد الكتاب والسنة كجمع عمر رضي الله تعالى عنه الناس على أبي بن كعب في صلاة التراويح وأمر عثمان رضي الله تعالى عنه بكتابة المصاحف ثم بعثها إلى الآفاق (الأخذ بها) أي العمل بسنته وسنة من بعده (تصديق لكتاب الله) أي حيث قال وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ (واستعمال لطاعة الله) أي في طاعة رسوله لقوله سبحانه وتعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وقد قال عليه الصلاة والسلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي والمراد الخلفاء الأربعة رضي الله تعالى عنهم وإن عم كل من سار بسيرتهم من الأئمة (وقوّة على دين الله) أي واستعمال سنته وسنة من أتى على طريقته تقوية على كمال ملته وجمال شريعته (ليس لأحد تغييرها) أي بزيادة ونقصان فيها (ولا تبديلها) أي بغيرها ظنا أنه أحسن منها (ولا النّظر) أي ولا يجوز لأحد النظر (في رأي من خالفها) أي بلا دليل شرعي من اجماع أو قياس بل بمجرد رأية واتباع عقله وقد تسفه الدلجي هنا من قلة فهمه وكثرة جهله وسوء ظنه بالإمام الأعظم والهمام الأفخم الأقدم حيث قال وكفاك هذا حاكما بالغا قول من قال بنفوذ شهادة الزور ظاهرا وباطنا وقوله لو أقام رجل شاهدي زور أن فلانة امرأته فشهدا بذلك جاز له أن يطأها مع علمه بأنها ليست زوجته وهذا لم يرد به كتاب ولا سنة انتهى ولا يخفى أن الخلق عيال أبي حنيفة في الفقه كما صرح به الشافعي فهل يتصور لإمام المجتهدين أن يتكلم برأيه المجرد في أمر الدين أو يتوهم أن يكون جاهلا بالكتاب والسنة وهو إمام الأئمة ومقتدى أكثر الأمة فهذا ظن فاسد ووهم كاسد ولكنه خلف لسلفه كما بينته في تشييع الحنفية لتشنيع الشافعية مع أن المسألة المذكورة هي الرواية المشهورة عن علي كرم الله وجهه حيث قال شاهداك زوجاك فبهذا علم أن هذا القائل لم يصل إلى مقام الاجتهاد والتأييد بل هو واقع في حضيض التقليد بل حمله عليه التعصب الجاهلي والتكسب الغافلي حيث تكلم بهذا القليل ولم يعرف إن المجتهد أسير الدليل كما قال الشافعي يجوز نكاح الرجل ووطئه بنته الحاصلة من الزنا نظرا إلى ما قام عنده من الدليل مع عدم التفات إلى قبح صوري في هذا القيل والله سبحانه وتعالى يهديهم إلى سواء السبيل (من اقتدى بها) أي بسنته وسنتهم (فهو مهتد) أي ما دام مقتديا بها وفي نسخة فهو مهتد (ومن انتصر بها) أي استعان بها واستوثق بسببها واستدل على مطلوبه بمدلولها (منصور) أي فهو منصور كما في نسخة (ومن خالفها) أي فلم يتمسك بها وعمل بغيرها (واتّبع غير سبيل المؤمنين) أي المجتمعين عليها (ولّاه الله ما تولّى) أي جعله واليا لما(2/25)
تولاه من الضلال وخلى بينه وبين ما اختاره من الوبال (وأصلاه جهنّم) أي ادخله فيها وأحرقه بها (وساءت) أي قبحت جهنم (مصيرا) أي مرجعا له ولمن تبعه والحديث مقتبس من قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الحسن) أي البصري رحمه الله تعالى (عَمَلٌ قَلِيلٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ عَمَلٍ كثير في بدعة) وقد سبق هذا الحديث مرفوعا فلعله جاء عنه موقوفا أيضا فلذا ذكره هنا مكررا ليكون لتأكيد الأمر مقررا والمعنى أن الاقتصاد فِي السُّنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْبِدْعَةِ (وقال ابن شهاب) أي الزهري كما أخرجه عنه اللالكائي في السنة (بلغنا عن رجال من أهل العلم) أي من الصحابة والتابعين (قالوا: الاعتصام بالسنّة نجاة) أي الاستمساك بها سبب خلاص من ورطة الهلاك ووصمة الانهماك (وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه) كما في سنن سعيد بن منصور عنه رضي الله تعالى عنه (إلى عمّاله) أي بالأمصار (بتعلّم السنّة) أي الأحاديث أو السنن وفي نسخة بتعليم السنة أي للناس (والفرائض) أي تفصيلها وتمييزها عما عداها أو أريد بها علم الفرائض وقسمة المواريث (واللّحن أي اللّغة) تفسير من أحد رواة الحديث أو من المصنف والمراد باللغة أصولها الشاملة لعلم الصرف وفروعها المركبة الكافلة لعلم النحو المتعلق بالمباني وكذا علم البيان والمعاني (وقال) أي عمر رضي الله تعالى عنه أيضا على ما رواه الدارمي (إنّ ناسا يجادلونكم- يعني بالقرآن) تفسير في الأصل أي بظواهر الآيات القرآنية ومجملات الدلالات الفرقانية (فخذوهم بالسّنن) وفي نسخة بالسنة أي فغالبوهم بالأحاديث النبوية لأنها مبنية للأحكام الدنيوية والأخروية وهذا معنى قوله (فإنّ أصحاب السّنن أعلم بكتاب الله تعالى) أي من غيرهم لأنهم جامعون بينهما بخلاف من اقتصر على معرفة أحدهما فالمراد بأصحاب السنن العلماء بالحديث المبين للكتاب وأما قول الدلجي كالبخاري ومسلم وأبي داود فخارج عن صوب الصواب (وفي خبره) أي خبر عمر الذي رواه مسلم عنه (حين صلّى) أي عمر رضي الله تعالى عنه (بذي الخليفة) بالتصغير وهو مكان معروف قرب المدينة ميقات أهلها ومن مر بها من غيرها (ركعتين) أي سنة الإحرام ولبى في هذا المقام (فقال اصنع) أي افعل أنا (كما رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصنع) أي في حجته محافظة على سلوك محجته واتباع سنته وطريقته وحجته والظاهر أنه أراد القرآن كما يدل عليه قوله (وعن عليّ رضي الله تعالى عنه) كما رواه الشيخان (حين قرن) بين الحج والعمرة قيل أي تمتع إذ القرآن قد يطلق على التمتع من حيث إن القارن متمتع أيضا بسقوط إحدى السفرتين وحصول ثواب الهدى بالجمع بين العبادتين كما أنه قد يطلق التمتع على القرآن بالمعنى اللغوي الشامل للمعنى الشرعي ولعل قوله تعالى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ من هذا القبيل (فقال له عثمان رضي الله تعالى عنه) وهو الصواب بخلاف ما(2/26)
في نسخة فقال له عمر (ترى) من الرأي لا من الرؤية أي تعلم (أنّي أنهى النّاس عنه) أي عن القرآن أو التمتع (وتفعله) أي أنت مخالفا لأمري (قال) أي علي لعثمان (لم أكن أدع) أي وادعا وتاركا ويروى لا أدع (سنّة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لقول أحد من النّاس) وفيه دليل صريح ونقل صحيح أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنا في حجة الإسلام ويدل عليه سكوت عثمان على وجه الإلزام وكأنه كان يظن أن أفضل أنواع الحج هو الافراد والتمتع مبنيا على أن أشهر الحج تكون مخصوصة بالحج وأن العمرة تقع في غيرها قبلها أو بعدها كما كان عليه أهل الجاهلية قبل حجه عليه الصلاة السلام من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور ولدفع هذا الأمر أمر صلى الله تعالى عليه وسلم بعض الصحابة بفسخ الحج للعمرة ولعله ما بلغ عثمان هذا المعنى أو كان له تأويل في هذا المبنى وقد قيل وإنما نهى عثمان عن المتعة لتكون أشهر الحج للحج لا غير ولتكون العمرة في غيرها حتى يزار البيت في أشهر الحج وبعدها وقيل إنما نهى عنها لمنفعة أهل مكة ليكون لهم موسمان في كل عام والله أعلم وحمل فعله صلى الله تعالى عليه وسلم على أحدهما لا على الجمع بينهما كما عليه المحققون الذين جمعوا بين الرواية والدراية هذا وقال الحلبي في النسخة التي وقفت عليها فقال له عمر وفي الهامش عثمان عوض عمر وعليه صح وفي صحيح البخاري وسنن النسائي كلاهما في الحج من حديث مروان بن الحكم قال شهدت عثمان وعليا رضي الله تعالى عنهما وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما فلما رأى على نهيه أهل بهما وقال لبيك بعمرة وحجة وقال ما كنت لأدع سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقول أحد وأخرج الشيخان والنسائي كلهم في الحج من حديث سعيد بن المسيب قال اجتمع علي وعثمان بعسفان وكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة فقال على ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تنهى عنه دعنا منك فقال إني لا أستطيع أن أدعك فلما رأى علي ذلك أهل بهما جميعا وأخرج مسلم من حديث عبد الله بن شقيق كان عثمان ينهى عن المتعة وكان علي يأمر بها فقال عثمان لعلي كلمة فقال علي لقد علمت أن قد تمتعنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال رجل ولكنا كنا خائفين انتهى ولا يظهر وجه الخوف فإنه عليه الصلاة والسلام حج بيت الله الحرام بعد فتح مكة وغلبة أهل الإسلام ثم المراد بالتمتع التمتع اللغوي وهو القرآن فلا مخالفة بين الأحاديث المروية عن علي كرم الله تعالى وجهه والله أعلم (وعنه) أي عن علي وهو غير معروف عنه (إنّي) وفي نسخة صحيحة إلّا أني أي انتبهوا فإني (لست بنبيّ) أي لا يوحى إلي بوحي جلي (ولا يوحى إليّ) أي بوحي خفي أعمل به (ولكنّي أعمل بكتاب الله وبسنّة نبيّه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي نسخة وسنة نبيه (ما استطعت) أي قدر ما قدرت بحسب الطاقة البشرية (وكان ابن مسعود يقول) كما رواه الدارمي والطبراني واللالكائي في السنة عنه وعن(2/27)
أبي الدرداء (القصد في السّنّة) أي التوسط في العمل بها بين الكثرة والقلة (خير من الاجتهاد في البدعة) أي أحسن من المبالغة في بذله الوسع والطاقة والكثرة من الطاعة في حال الأخذ بالبدعة ولو كانت مستحسنة وأما تقييد الدلجي بالضلالة فنشأ من بعض الجهالة لأنها قوبلت بالسنة الثابتة ولا شك أنها خير من البدعة الحسنة ولا معنى لمقابلتها ببدعة الضلالة إذ لا خير فيها في جميع الحالة لا محالة (وقال ابن عمر) رضي الله تعالى عنهما كما رواه عبد بن حميد في مسنده بسند صحيح (صلاة السّفر ركعتان) أي لا زيادة عليهما كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام قولا وفعلا في الليالي والأيام (من خالف السنة) أي لم يقبلها (كفر) أي قارب الكفر أو كفر بالنعمة فإن القصر رخصة وهي منة ولذا سمي صدقة وقيل من خالفها عنادا أو مستحلا فقد كفر وخرج عن دائرة الإسلام بامتناع قبول أحكامه عليه الصلاة والسلام وهذا إذا كانت السنة متواترة معلومة من الدين بالضرورة وتركها من غير تأويل لها (وقال أبيّ بن كعب) كما رواه الأصفهاني في ترغيبه واللالكائي في سننه (عليكم بالسّبيل) أي الزموا طريق الطاعة (والسنّة) أي ومتابعة الشريعة (فإنّه ما على الأرض من عبد) أي من عبيده سبحانه وتعالى (على السّبيل) أي سبيل الله تعالى (والسنّة) أي سنة رسول الله والمعنى يكون ثابتا على طريق الكتاب والسنة (ذكر الله في نفسه) أي في باطنه والمعنى بحضور قلبه سواء كان الذكر بلسانه أو بمجرد ذكر جنانه ولا شك أن الجمع أولى لظهور برهانه فلا معنى لقول الدلجي أي بدون تلفظ لوضوح بطلانه (ففاضت عيناه) أي سالت دموعهما من أثر بكائه (من خشية الله) أي من خوف عقابه أو حجابه (فيعذّبه) بالنصب أي الألم يعذبه (الله أبدا) أي لا في دنياه ولا في آخرته حيث طلب مرضاة مولاه وفي نسخة فيعذبه بالرفع (وَمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ) أي الطريقة المرضية (والسّنّة) أي الهيئة السنية (ذكر الله في نفسه) أي من غير أن يتعلق به الرياء والسمعة (فاقشعرّ جلده) أي انقبض واجتمع (من خشية الله) أي من عظمة مولاه (إلا كان مثله) بفتحتين أي صفته العجيبة وحالته الغريبة (كمثل شجرة قد يبس ورقها) أي أوراقها وذهب رونقها ورواجها (فهي كذلك) أي فبينما هي في أوقات كونها كذلك (إذا أصابتها ريح شديدة) أي من جوانبها (فتحاتّ) بتشديد الفوقية الثانية أي فتناثر (عنها ورقها) كرر بدلا أو تأكيدا لبعد المسافة بينهما باعتراض المثل (إلّا حطّ عنه خطاياه) بصيغة المجهول أي وضع عنه عيوبه ومحي عنه ذنوبه (كما تحاتّ عن الشّجرة ورقها) أي تساقط (فإنّ اقتصادا) أي توسطا (في سبيل) أي في طريق خير (وسنّة) أي طريقة حسنة من كتاب وسنة (خير من اجتهاد) أي مبالغة في الطاعة وسع الطاقة (في خلاف سبيل وسنّة) أي في مخالفتهما (وموافقة بدعة) أي ولو حسنة لا بدعة ضلالة كما قاله الدلجي هنا أيضا وهذا عطف تفسير ولم يوجد في بعض النسخ (وانظروا) أي وتأملوا حرصا منكم (أن يكون عملكم إن) كان (اجتهادا أو اقتصادا) أي مبالغة في الجد أو توسطا في(2/28)
الجهد (أن يكون) بدل من أن يكون الأول أو تأكيد له لبعد المسافة بينهما باعتراض الشرط والمعنى أن يوجد (على منهاج الأنبياء عليهم السلام) أي شريعتهم ويروي مناهيج الأنبياء أي شرائعهم (وسنتهم) أي طريقتهم لتصلوا إلى مقام حقيقتهم (وَكَتَبَ بَعْضُ عُمَّالِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ) أي نوابه (إلى عمر) أي إليه حال كونه (يخبره بحال بلده) أي مما عليه أهله من فساده (وكثرة لصوصه) أي سراقه ونهابه (هل نأخذهم) بالنون وفي نسخة صحيحة بالياء التحتية (بالظّنّة) بكسر الظاء المعجمة المشالة وتشديد النون أي التهمة والمعنى هل نؤاخذهم ونعاقبهم بمجرد العلامات الدالة على أخذ السرقة عملا بالسياسة (أو) وفي نسخة أم (نحملهم على البيّنة) أي بذلك (فلا أصلحهم الله) تعالى أي عند انكارهم (وما جرت عليه) فيه (السّنّة) وفي نسخة صحيحة وما جرت به السنة أي من أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر (فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ خُذْهُمْ بِالْبَيِّنَةِ وَمَا جَرَتْ عليه السّنّة) أي وبما يترتب عليها من غرم وقتل وقطع ونحوها (فإن لم يصلحهم الله تعالى) أي أيضا بخلاف ما هناك ولا يبعد أن تكون الجملة الثانية دعائية والأول أظهر والمعنى أن الله تعالى حكيم في صنعه وعليم في حكمه فلا تجوز الزيادة والنقصان في حده وقد روي أن بعض الملوك كان يقتل اللصوص بالسياسة ومع هذا تكثر السرقة فذكر ذلك لبعض العلماء هنالك فقال له اعمل بالسنة تندفع بها الكثرة فسمع كلام ذلك الإمام وعمل بالشريعة في تلك الأحكام فقلت السرقة فسأله عن الحكمة فقال لما كثرت مشاهدة قطع الأيدي اعتبر أهل الفساد وقل اللصوص في العباد (عن عطاء) أي ابن أبي رباح أو عطاء الخراساني (في قوله) أي في تفسير قوله تعالى فَإِنْ تَنازَعْتُمْ) أي اختلفتم أنتم وأولو الأمر منكم (فِي شَيْءٍ) أي من أمور الدين (فَرُدُّوهُ) أي ارجعوا فيه (إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) [النِّسَاءِ: 59] أَيْ إِلَى كِتَابِ الله وسنّة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي إلى حكمهما فيكم وهذا يشمل حياته ومماته عليه الصلاة والسلام (وقال الشّافعي رحمه الله تعالى) وهو الإمام المجتهد روى عن مالك وروى عنه أحمد وأخرج له أصحاب السنن الأربعة وذكره البخاري في موضعين من صحاحه في الركاز والعرية ويقال إنه غيره ومال إلى كل قول بعض وولد سنة خمسين ومائة يوم مات أبو حنيفة رحمه الله تعالى ومات سنة أربع ومائتين (لَيْسَ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم إلّا اتّباعها) أي اقتداؤها علما وعملا قال تعالى لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وهذا قريب في المعنى مما يحكى عنه إذا صح الحديث فهو مذهبي (وقال عمر رضي الله تعالى عنه) فيما رواه الشيخان (ونظر إلى الحجر الأسود) جملة معترضة حالية (إنك) والله كما في نسخة حجر (لا تنفع ولا تضر) أي في حد ذاتك وهو لا ينافي ما ورد من أنه يشهد لمن استلمه يوم القيامة (وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ ثُمَّ قَبَّلَهُ) وهذا يدل منه رضي الله تعالى عنه على كمال المتابعة للسنة وخبر لولا(2/29)
واجب الحذف عند النحاة لأن طول الكلام سد مسد الخبر مع الجواب لكن المسألة مفصلة فإن خبر لولا منقسم إلى أقسام ثلاثة قسم واجب الحذف وهو ما دل على كون مطلق كقولك لولا زيد لهلك عمرو وقسم واجب الإثبات وهو ما دل على كون مقيد إذ لو حذف لما فهم المعنى كقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله تعالى عنها لولا قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم فلو حذف حديثو عهد لكان المعنى لولا قومك على كل حال من أحوالهم لنقضت الكعبة ومن جملة أحوالهم بعد عهدهم بالكفر فيما يستقبل فكل ما لم يفهم عند الحذف يتعين الإتيان به ومنه قول الشافعي:
ولولا الشعر بالعلماء يرزي ... لكنت اليوم أشعر من لبيد
وكذا قول الخنساء ترثي أخاها صخرا:
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
ومنه قول عمر هذا والتقدير لولا رؤيتي تقبيل النبي عليه الصلاة والسلام مستصحبة لما قبلتك وقسم إن شئت اثبتته وإن شئت حذفته كقولك لولا أخو زيد يبصره لغلب فمن راعى الكون المطلق حذف ومن راعى الكون المقيد اثبت (ورؤي) وفي نسخة رئي بكسر الراء وسكون الياء فهمزة على بناء المجهول من ريأ مقلوب رأى (عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما) كما رواه أحمد والبزار بسند صحيح (يدير ناقته في مكان) أي يطيفها حوله حتى عاد إلى موضع أوله (فسئل عنه) أي عن سبب فعله وإن إدارته لأي شيء (فقال لا أدري) أي وجهه وحكمته (إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم فعله) أي مرة وفي نسخة يفعله (ففعلته) أي اقتداء به صلى الله تعالى عليه وسلم في فعله وهذا يشير إلى أن أكابر الصحابة كانوا يتبعونه في الأمور العادية أيضا (وقال أبو عثمان الحيريّ) بمهملة مكسورة فمثناة تحتية محلة بنيسابور كان يسكنها وهو شيخ الصوفية بها ذكره الذهبي في المشتبه وفي نسخة الجنيدي بالتصغير وهو تصحيف وتحريف على ما قاله أبو القاسم القشيري في رسالته من نسبة هذا القول إليه والثناء عليه بقوله فمنهم أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري المقيم بنيسابور وكان قد صحب شاه الكرماني ويحيى بن معاذ الرازي ثم ورد بنيسابور مع شاه الكرماني على أبي جعفر الحداد وأقام عنده وزوجه أبو جعفر بنته مات سنة ثمان وتسعين ومائتين (من أمر السّنّة) بتشديد الميم أي من جعل السنة أميرا وحاكما (على نفسه قولا وفعلا) أي واعتقادا (نطق بالحكمة) لأنه تبع من لا ينطق عن الهوى واختار سبيل الهدى (ومن أمّر الهوى على نفسه) بأن تبع رأيه وهواه في فعله وقوله وأمور دنياه وأخراه (نطق بالبدعة) أي بالأمور الخارجة عن طريق السنة والمائلة عن سبيل المرضي لمولاه (وقال سهل التّستريّ أصول مذهبنا) أي معاشر الصوفية لا جماعة المتصوفة بشهادة(2/30)
الإضافة (ثلاثة: الاقتداء بالنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في الأخلاق) أي الأحوال الباطنة (والأفعال) أي الأعمال الظاهرة (والأكل من الحلال) أي الطيب الخارج عن الشبهة (وإخلاص النّيّة في جميع الأعمال) أي تخليصها من شوائب الرياء والسمعة إذ قد تصير العادات بها عبادات والكل مأخوذ من مكارم أفعاله ومحاسن أقواله صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى آله وزيد في نسخة وقد كان على خلق عظيم وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت كان خلقه القرآن أي يأتمر بأوامره وينتهي بزواجره (جاء فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أنه) [فاطر: 10] أي العمل الصالح الذي يرفعه الله تعالى أو يرفع الكلم الطيب إلى الله تعالى (هو الاقتداء به) أي برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما في نسخة أي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله وقد فسر الكلم الطيب بقول لا إله إلّا الله وقيل هو ذكر من تسبيح وتهليل وقراءة قرآن وغير ذلك والهاء في قوله يرفعه راجع إلى الكلم الطيب وعليه أكثر المفسرين فمن قال حسنا وعمل غير صالح رد الله عليه قوله ومن قال حسنا وعمل صالحا رفعه العمل كما جاء في الحديث لا يقبل الله قولا إلّا بعمل ولا عملا إلّا بنية ولا نية إلّا بإصابة السنة (وحكي عن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى) هو الإمام المذهب أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني الزاهد الرباني روى عن البخاري وغيره وعنه ابناه وجمع وفي نسخة أن أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (قَالَ كُنْتُ يَوْمًا مَعَ جماعة تجرّدوا) أي عن ثيابهم (ودخلوا الماء) أي بلا سترة والظاهر أن الجملة حالية والمعنى أنهم تجردوا عن ثيابهم بعد أن دخلوا وسط الماء على أن الواو لمطلق الجمع (فاستعملت الحديث) أي إطلاق الحديث الذي رواه مثله الترمذي أيضا (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يدخل الحمّام) بصيغة النهي وقيل بالنفي وأريد النهي بل هو أبلغ (إلّا بمئزر) بكسر ميم وسكون همزة ويبدل وفتح زاء أي إلّا بإزار يستر عورته (ولم أتجرّد) أي أنا من ثيابي احتياطا في ذلك المقام (فرأيت) أي في المنام (تلك اللّيلة) أي القابلة من يوم تجردهم (قائلا) يقول (لي يا أحمد أبشر) أي بكل خير وفي نسخة أبشر يا أحمد (فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ بِاسْتِعْمَالِكَ السُّنَّةَ وجعلك إماما) أي يقتدى بك (يُقْتَدَى بِكَ، قُلْتُ مَنْ أَنْتَ قَالَ جِبْرِيلُ) عليه الصلاة والسلام.
فصل [وَمُخَالَفَةُ أَمْرِهِ وَتَبْدِيلُ سُنَّتِهِ ضَلَالٌ وَبِدْعَةٌ مُتَوَعَّدٌ من الله تعالى عليه بالخذلان والعذاب]
(ومخالفة أمره) وكذا مناقضة نهيه بعد الانقياد لحكمه (وتبديل سنّته) أي بتغييرها مبنى أو بتفسيرها معنى على خلاف مراده وطريقته (ضلال) أي في الاعتقاد (وبدعة) أي في الاجتهاد لا تصلح للاعتماد (متوعّد) بفتح العين المشددة أي موعود (من الله تعالى عليه) أي ما ذكر من المخالفة والمبادلة (بالخذلان) أو بترك النصرة له وعدم التوفيق للطاعة وخلق المعصية فيه في الدنيا (والعذاب) أي وبالعقوبة في العقبى (قال الله تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ(2/31)
يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي معرضين عنه أو ما نعين عن مقتضى حكمه (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) أي كراهة أن يلحقهم محنة وبلية في الدنيا (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63] أي مؤلم في العقبى والآية دالة على أن الأمر للوجوب الأكيد حيث رتب على تركه الوعيد الشديد (وقال تعالى وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) أي يخالفه لأن كلا من المتخالفين يكون في شق غير شق الآخر (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) أي ظهر له الحق ببيان المولى (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء: 115] أي غير ما هم عليه من اعتقاد علم أو اعتماد عمل (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى الآية) أي نجعله واليا لما تولاه من ضلال وبدعة ونصله جهنم أي ندخله فيها ونحرقه بها وساءت أي جهنم مصيرا أي مرجعا لهم والآية مؤذنة بحرمة مخالفة الإجماع (حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جعفر وعبد الرّحمن بن عتّاب) بتشديد الفوقية وفي نسخة أبو محمد بلفظ التثنية فإن كلاهما مكنى بأبي محمد (بقراءتي عليهما) قيل هو فوق السماع لأنه أدل على القابلية الظاهرة في الطباع (قالا) أي كلاهما (ثنا) أي حدثنا (أبو القاسم حاتم بن محمد ثنا) أي حدثنا (أبو الحسن القابسيّ) بالقاف وكسر الموحدة (ثنا) أي حدثنا (أبو الحسين) وفي نسخة صحيحة الحسن (بن مسرور الدّبّاغ) أي صانع الدبغ أو بائعه (ثنا) أي حدثنا (أحمد بن أبي سليمان ثنا) أي حدثنا (سحنون) بفتح سين وضم نون (ابن سعيد) وهو عبد السلام (ثنا) أي حدثنا (ابن القاسم ثنا) أي حدثنا (مالك) وهو إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى (عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) كذا رواه مسلم وأبو داود عنه والنسائي عنه واختار المصنف طريق مالك فإن بينه وبين مالك سبعة أشخاص وبينه وبين مسلم ثمانية (أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خرج إلى المقبرة) بتثليث الباء والفتح أفصح والظاهر أن المراد به مقبرة البقيع في المدينة (وذكر الحديث) أي بطوله (في صفة أمته) أي نعتهم وفضلهم حيث قال لكم سيما ليست لأحد من الأمم تردون علي غرا محجلين من أثر الوضوء الحديث (وفيه) وفي جملته (فليذادنّ) بفتح اللام القسمية وضم الياء وذال معجمة فألف ودال مهملة فنون مشددة من الذود وهو الطرد والبعد أي فليصدن ويمنعن (رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ) أي عن مزاحمة بعير الرجال في الشرب من حوض ماء الزلال (فأناديهم) أي ظنا أنهم من أصحابي وأهل ناديهم (ألا) أي تنبوا (هلمّ ألا هلمّ ألا هلم) أي تعالوا وأقبلوا وهو بلغة قريش يستوي فيه الواحد والجمع بخلاف بني تميم فإنهم يقولون هلم هلما هلموا هلمي والأول افصح وبه ورد التنزيل قال هلم شهداءكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا وقال الخليل أصله لمّ من قولهم لمّ الله شعثه أي جمعه كأنه أراد لم نفسك إلينا أي أقرب والهاء للتنبيه وحذف ألفها لكثرة الاستعمال وجعلا اسما واحدا في الأمر بإلاقبال (فيقال) أي فيقول المانعون والدافعون وهم الملائكة الجامعون (إنّهم قد بدّلوا بعدك) أي دينهم كفرا بدليل قوله (فأقول فسحقا فسحقا فسحقا) أي ثلاث مرات وهو بسكون الحاء وضمها بمعنى بعدا وانتصب بتقدير الزمهم الله(2/32)