الجزء الأوّل
[المقدمة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير أنبيائه ورسله وخير من أشرقت عليه الشمس سيّدنا ونبينا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد؛ فإن كتاب «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» للقاضي عياض، من الكتب التي عدّها كثير من العلماء والمحققين من خير الكتب في موضوعه، فقد قال عنه المقري في أزهار الرياض: مما كمل تأليفه، رضوان الله عليه، «الشفا» الذي بلغ فيه الغاية القصوى، وسار صيته شرقا وغربا، ولقد لهجت به الخاصة والعامة، عجما وعربا، ونال به مؤلفه وغيره من الرحمن قربا. ثم قال: وفضائل هذا الكتاب لا تستوفى، ولا يمتري من سمع كلامه العذب السهل المنور في وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم أو وصف إعجاز القرآن، أن تلك نفحة ربانية، ومنحة صمدانية، خص الله بها هذا الإمام، وحلاه بدرها النظيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وقال القاري: كتاب «الشفا» في شمائل صاحب الاصطفاء أجمع ما صنف في بابه مجملا في الاستيفاء.
وقد اعتنى الأئمة بشرح هذا الكتاب والتعليق عليه، وكما اعتنى الناس بذلك اعتنوا أيضا بتصحيحه وضبطه وإتقانه. فمن العلماء الذين شرحوا الشفا، نذكر:
1- الشهاب الخفاجي، وقد شرحه شرحا مطولا، أسماه: «نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض» .
2- شرح «الملّا علي القاري» وقد شرحه شرحا متوسط الطول. وهو الكتاب الذي بين أيدينا.
3- الشيخ حسن العدوي الحمزاوي، وقد شرحه شرحا مختصرا، وأسماه:
«المدد الفياض» .(1/3)
4- كتاب «مزيل الخفا عن ألفاظ الشفا» تأليف العلامة تقي الدين أحمد بن محمد بن حسن الشمني التميمي الداري الحنفي.
5- كتاب «المقتفى في حل ألفاظ الشفا» تأليف العلامة برهان الدين إبراهيم بن محمد بن خليل الحلبي سبط ابن العجمي.
6- ولما كان القاضي عياض قد اعتمد في مؤلفه «الشفا» على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فقد عنى السيوطي به، وخرّج أحاديثه في كتابه: «مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا» .(1/4)
ترجمة القاضي عياض
هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرون بن موسى بن عياض بن محمد بن عبد الله بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي. وهو من أهل سبتة، وأصله من مدينة بسطة.
ولد في منتصف شعبان من سنة ست وسبعين وأربعمائة، وتوفي، رحمه الله، بمراكش مغربا عن وطنه وسط سنة أربع وأربعين وخمسمائة.
وقدم الأندلس طالبا للعلم، فأخذ بقرطبة عن جلة علمائها.
وأخذ بالمشرق عن القاضي الصدفي، وعن غيره وعني بلقاء الشيوخ والأخذ عنهم، وجمع من الحديث كثيرا، وله عناية كبيرة به واهتمام بجمعه وتقييده.
وقد استقضى ببلده، مدينة سبتة، مدة طويلة حمدت سيرته فيها، ثم نقل منها إلى قضاء غرناظة، فلم تطل مدته بها.
وقال هو عن نسب أجداده: استقر أجدادنا في القديم بجهة بسطة من بلاد الأندلس، ثم انتقلوا إلى مدينة فاس وكان لهم استقرار بالقيروان، فلا أدري أكان قبل استقرارهم بالأندلس أم بعد.
قال: وكان عمرون والد جد أبي رحمة الله على جميعهم، رجلا خيرا صالحا، من أهل القرآن، انتقل من مدينة فاس إلى مدينة سبتة بعد دخول بني عبيد المغرب «1» .
وقال عنه ابنه: نشأ أبي على عفة وصيانة، مرضيّ الحال، محمود الأقوال والأفعال، موصوفا بالنّبل والفهم والحذق طالبا للعلم، حريصا مجتهدا فيه، معظما
__________
(1) الصلة (1/ 453) ، أزهار الرياض (1/ 28) .(1/5)
من الأشياخ من أهل العلم، كثير المجالسة لهم، والاختلاف إليهم، إلى أن برع أهل زمانه، وساد جملة أقرانه؛ فكان من حفاظ كتاب الله تعالى، مع القراءة الحسنة، والحظ الوافر من تفسيره وجميع علومه.
وكان من أئمة الحديث في وقته، أصوليا متكلما، فقيها حافظا للغة والأخبار والتواريخ، حلو الدعابة، صبورا حليما، حسن العشرة جوّادا سمحا، دؤوبا على العمل، صليبا في الحق «1» .
وفي أزهار الرياض يتمثل بقول ابن عاصم في وصف عياض: قد كان، رحمه الله، علم الكمال، ورجل الحقيقة، وقارا لا يخفّ راسيه، ولا يعري كاسيه، وسكونا لا يطرق جانبه، ولا يرهب غالبه؛ وحلما لا تزل حصاته، ولا تمهل وصاته، وانقباضا لا يتعدّى رسمه، ولا يتجاوز حكمه؛ ونزاهة لا ترخص قيمتها، ولا تلين عزيمتها، وذهنا لا يخبو نوره، ولا ينبو مطروده، وفهما لا يخفى فلقه، وحفظا لا يسبر غوره، ولا يذبل نوره، وطلبا لا تتحد فنونه، ولا تتعيّن عيونه، بل لا تحصر معارفه، ولا تقصر مصارفه «2» .
وقال الملاحي: كان القاضي رحمه الله بحر علم، وهضبة دين وحلم، أحكم قراءة كتاب الله بالسبع، وبلغ من معرفته الطول والعرض، وبرّز في علم الحديث، وحمل راية الرأي ورأس في الأصول، وحفظ أسماء الرجال، وثقب في علم النحو، وقيّد اللغة، وأشرف على مذاهب الفقهاء وأنحاء العلماء، وأعراض الأدباء «3» .
وقال المقري في أزهار الرياض: وكان القاضي أبو الفضل كثير الاعتناء بالتقييد والتحصيل.
قال ابن خاتمة: كان لا يبلغ شأوه، ولا يبلغ مداه في العناية بصناعة الحديث، وتقييد الآثار، وخدمة العلم من حسن التفنّن فيه، والتصرف الكامل في فهم معانيه، إلى اضطلاعه بالأداة، وتحققه بالنظم والنثر، ومهارته في الفقه، ومشاركته في اللغة
__________
(1) أزهار الرياض (3/ 27) .
(2) أزهار الرياض (3/ 6) .
(3) أزهار الرياض (3/ 7) .(1/6)
والعربية، وبالجملة فقد كان جمال العصر، ومفخر الأفق، وينبوع المعرفة، ومعدن الإفادة، وإذا عدّت رجالات المغرب فضلا عن الأندلس حسبناه منهم.
وقال: وكان، رحمه الله، معظّما للسنّة، عالما عاملا، خاشعا قانتا، قوّالا للحق، لا يخاف في الله لومة لائم، وكان معتنيا بضبط الألفاظ النبوية على اختلاف طرقها، وكتابه «المشارق» أزكى شاهد على ذلك.
وكان حاضر الجواب، حادّ الذهن، متوقّد الذكاء، جامعا للفنون، أخذ منها بالحظ الأوفر، وكان بارع الخط المغربي، حسن العبارة، لطيف الإشارة؛ وتآليفه شاهدة بذلك. وله في الفقه المالكي اليد الطولى، وعليه المعوّل في حل ألفاظ المدونة، وضبط مشكلاتها، وتحرير رواياتها، وتسمية رواتها.(1/7)
ترجمة الملّا علي القاري «1» (000- 1014 هـ 000- 1606 م)
علي بن (سلطان) محمد، نور الدين الملّا الهروي القاري: فقيه حنفي، من صدور العلم في عصره. ولد في هراة وسكن مكة وتوفي بها. وقيل: كان يكتب في كل عام مصحفا وعليه طرر من القراآت والتفسير فيبيعه فيكفيه قوته من العام إلى العام. وصنف كتبا كثيرة، منها «تفسير القرآن- خ» ثلاثة مجلدات، و «الأثمار الجنية في أسماء الحنفية» و «الفصول المهمة- خ» فقه، و «بداية السالك- خ» مناسك، و «شرح مشكاة المصابيح- ط» و «شرح مشكلات الموطأ- خ» و «شرح الشفاء- ط» و «شرح الحصن الحصين- خ» في الحديث، و «شرح الشمائل- ط» و «تعليق على بعض آداب المريدين، لعبد القاهر السهروردي- خ» في خزانة الرباط (2503 ك) و «سيرة الشيخ عبد القادر الجيلاني- ط» رسالة، ولخص مواد من القاموس سماها «الناموسن» وله «شرح الأربعين النووية- ط» و «تذكرة الموضوعات- ط» و «كتاب الجمالين، حاشية على الجلالين- ط» جزء منه، في التفسير، و «أربعون حديثا قدسية- خ» رسالة، و «ضوء المعالي- ط» شرح قصيدة بدء الأمالي، في التوحيد، و «منح الروض الأزهر في شرح الفقه الأكبر- ط» ورسالة في «الرد على ابن العربي في كتابه الفصوص وعلى القائلين بالحلول والاتحاد- خ» و «شرح كتاب عين العلم المختصر من الإحياء- ط» و «فتح الأسماع- خ» فيما يتعلق بالسماع، من الكتاب والسنة ونقول الأئمة، و «توضيح المباني- خ» شرح مختصر المنار، في الأصول، و «الزبدة في شرح البردة- خ» في مكتبة عبيد. ونقل لي عن هامشه، بشأن الخلاف حول اسم أبي صاحب الترجمة، الحاشية الآتية: «ودأب العجم أن يسموا أولادهم أسماء مزدوجة مثل فاضل محمد وصادق محمد وأسد محمد واسم أبيه سلطان محمد. فهو من هذا القبيل على ما سمع وأما كونه من الملوك فلم يسمع» .
__________
(1) انظر الأعلام للزركلي (5/ 12، 13) .(1/8)
[خطبة الكتاب]
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي أنزل القرآن شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، وشفى به من كان اشفى على شفائر جهنم من الكافرين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وسيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وأتباعه أجمعين إلى يوم الدين.
(أما بعد) فيقول أفقر العباد إلى كرم ربه الباري علي ابن سلطان محمد القاري لما رأيت كتاب الشفاء في شمائل صاحب الاصطفاء، أجمع ما صنف في بابه مجملا في الاستيفاء لعدم إمكان الوصول إلى انتهاء الاستقصاء، قصدت أن اخدمه بشرح يشرح بعض ما يتعلق به من تحقيق الاعراب والنباء، رجاء أن أسلك في سلك مسالك العلماء يوم الجزاء، فأقول وبالله التوفيق، وبتأييده ظهور التحقيق، أن المصنف رحمه الله تعالى كان وحيد زمانه وفريد أوانه، متقنا لعلوم الحديث واللغة والنحو والآداب، وعالما بأيام العرب والأنساب، ومن تصانيفه المفيدة الاكمال في شرح مسلم، كمل به المعلم في شرح مسلم، للمازري ومنها مشارق الأنوار فسر به غريب الحديث ومنها الشفا في حقوق المصطفى ومنها شرح حديث ام ذرع إلى غير ذلك وله أشعار لطيفة متضمنة المضامين منيفة مولده منتصف شعبان سنة ست وسبعين واربعمائة وتوفي يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة وقيل في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وخمسمائة قال: (بسم الله الرحمن الرحيم) اقتداء بالكلام المجيد واقتفاء بالحديث الحميد ثم قال (اللهمّ صلّ على محمّد، وآله) أي وأتباعه المتضمنين لأصحابه (وسلّم) وهذا طريق المغاربة حيث يأتون بالتصلية والتحية بين البسملة والحمدلة كما في الشاطبية ولعل فيه اشعارا بأن البسملة المشتملة على نعت الألوهية وصفات الرحمانية والرحيمية بمنزلة شطر الشهادتين من كلمة التوحيد فلا بد من انضمام الشطر الآخر لإتمام معنى التمجيد ليترتب على توفيق تحصيل هذا المقام مقال التحميد ثم في بعض النسخ المصححة قبل قوله الحمد لله (قال الفقيه) وفي نسخة الشيخ الْفَقِيهُ (الْقَاضِي الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ عِيَاضُ بن موسى بن عياض) بكسر العين (اليحصبيّ) بتثليث الصاد والفتح أخف وبه ثبتت رواية الشاطبي وهو نسبة إلى يحصب بن مالك قبيلة من حمير باليمن (رحمة الله عليه) ولا شك أن هذا الادخال من المقال صدر من بعض أرباب الكمال من تلاميذ المصنف أو من بعده ولكن اللائق في فعله أن يأتي به قبل البسملة ليقع الكل من مقوله. ولعله تحاشى من تقديم ذكره فوقع وهم في حقه فالأولى أن يفعل مثل هذا العنوان وراء الكتاب على قصد التبيان أو بقلم آخر أو لون مغاير في هذا المكان ثم تحقيق مباحث البسملة والحمدلة وما يتعلق بهما من وجوه التكملة قد كثر في تصانيف العلماء وتآليف الفضلاء، وقد ذكرنا طرفا منها في بعض(1/9)
تصانيفنا كما هو دأب البلغاء والمقصود بعون الملك المعبود هو أن المصنف قال (الحمد لله) بالجملة الاسمية لإفادة الديمومية لأن الفعل دال على اقتران مدلوله بزمان والزمان لا ثبات له فكذا ما قارنه واللام فيه للاستغراق عند أهل السنة خلافا للمعتزلة إذ كل كمال إنما هو لله سبحانه وتعالى في حقيقة الحال أو طريقة المآل (المنفرد باسمه الأسمى) وفي نسخة المتفرد من باب التفعل بمعنى المتوحد الممتاز عن المشاركة فمآلهما واحد في المعنى وان اختلفا في المبنى والأسمى افعل التفضيل من السمو وهو الارتفاع أي الممتاز عن المشاركة في اسمه الأعلى والإضافة للتعميم فإن لله الأسماء الحسنى وكل واحد منها في مرتبته هو الأعلى والأغلى وأغرب الشمني في تفسير الأسمي بالعالي (المختصّ) صفة لله كالمنفرد ويجوز قطعهما بنصبهما أو رفعهما أي المخصوص (بالملك الأعز الأحمى) أي الموصوف باختصاص الاستيلاء على البلاد والعباد باطنا وظاهرا على وجه الأعزية الذي لا يحوم حوله ذل ومغلوبية لأنه في غاية المنعة ونهاية الحماية بحيث لا يقربه أحد أولا وآخرا والملك بضم الميم فإنه أبلغ من كسرها وعليه النسخ المصححة والأصول المعتمدة. وقال التلمساني: هو بضم الميم وكسرها (الّذي ليس دونه) أي قريب منه (منتهى) أي موضع غاية ومحل نهاية فيفيد معنى البقاء فإنه أول قديم بلا ابتداء وآخر كريم بلا انتهاء أو المراد أنه ليس للقرب منه نهاية يدركها أحد ولو كان من أهل العناية ويلائمه قوله (ولا وراءه مرمى) مقتبس من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم ليس وراء الله مرمى ولا منتهى أي ليس غيره أو بعده مقصد للورى وأصل المرمى بفتح الميمين موضع الرمي شبه بالغرض والهدف الذي ينتهي إليه سهم الرامي. قال النابغة:
وليس وراء الله للمرء مذهب وفي النهاية أي ليس بعد الله لطالب مطلب فإليه انتهت العقول ووقفت فليس وراء معرفته والإيمان به غاية تقصد وحاصل الجملتين انه تعالى ليس في جهة ولا في حيز ومسافة ليكون للقرب غاية وللبعد منه نهاية، وأما القرب والبعد الثابت في نحو حديث ولا مقرب لما باعدت ولا مباعد لما قربت فإنما هو القرب والبعد المعنوي لا الصوري والحسي وإنما كمال القرب في الحب بحيث لا يشهد السالك إلا الله ويفني عن شهود ما سواه حتى يفني عن نفسه ويبقى ببقاه ونهاية البعد هو الغفلة عن الله على وجه يشاركه ما خلقه وسواه (الظّاهر) أي بالأدلة الدالة على وجوده وكمال كرمه وجوده لعين الحقيقة في شهوده (يقينا) وقطعا (لا تخيّلا) أي لا ظنا بالقوة الخيالية (ووهما) بسكون الهاء أي ولا وهما كما في نسخة مصححة ولا غلطا بالقوة الوهمية والمراد أن الله تعالى ظاهر بصفاته لدلالة مصنوعاته وظهوره لنا ليس على جهة ظن ووهم منابل ظهورا يغلب نورا أدركناه بعيون بصائرنا في الدنيا وسيرونه الأحباء بعيون أبصارهم في العقبى والحاصل أن جميع المخلوقات دالة على وجوب وجوده وألوهيته وتحقيق وحدانيته:
ففي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد(1/10)
(الباطن) وفي نسخة والباطن أي باعتبار ذاته دون صفاته (تقدّسا) أي تنزها فإنه كما قال الغزالي وغيره كل ما خطر ببالك فالله وراء ذلك (لا عدما،) بضم فسكون لغة في المفتوحين أي لا فقدا وعدما إذ لا يقتضي عدم ظهوره نفي وجوده ونوره لانه قد ثبت بالدليل القطعي قدمه وما ثبت قدمه استحال عدمه والتحقيق المتضمن للتدقيق على وجه التوفيق أنه باطن لا يدرك أحد حقيقة ذاته ولا يحيط أحد بكنه صفاته وهذا بالنسبة إلى ما سواه فإنه لا يعرف الله إلا الله ونصبهما على التمييز وأما قول الدلجي تمييز أو تعليل لكونه باطنا فهو وان كان صحيحا في هذا المبنى لكن التعليل لا يصح بحسب المعنى في قوله (وسع كلّ شيء رحمة وعلما) أي أحاط بكل شيء رحمته وعلمه فإن كل شيء لا يستغني عن رحمته إيجادا وامدادا وعلمه شامل للجزئيات والكليات احصاء واعدادا والجملة مقتبسة من قوله تعالى:
رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً والاقتباس أن يتضمن الكلام شيئا من القرآن أو الحديث على وجه لا يكون فيه إشعار بأنه منه (وأسبغ) أي أكمل بالرحمة الخاصة والعلم المختص بالهداية (على أوليائه) أي المؤمنين على قدر كمالاتهم ومراتب حالاتهم (نعما) بكسر ففتح جمع نعمة، وفي نسخة بضم فسكون مقصورا لغة في النعمة لكنه يكتب بالياء مع انه غير ملائم لقوله: (عمّا) بضم المهملة وتشديد الميم جمع عميمة وهي العامة الشاملة التامة ووهم من قال من المحشيين انها جمع عمة فإنه يقال نخل عم نخلة عميمة والحاصل أن رحمته وسعت كل شيء في أمر الدنيا لكن له رحمة خاصة بأرباب العقبى كما قال:
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الآية. وكذا علمه بكل شيء محيط بمعنى المعية كما قال: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ لكن لأرباب الخصوص معية خاصة كما يدل عليه قول موسى عليه الصلاة والسلام: إِنَّ مَعِي رَبِّي وقول نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم للصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه: «لا تحزن إن الله معنا» وتأمل التفرقة بين الكلامين فإن الثاني مشير إلى مقام جمع الجمع والأول مشير إلى مقام التفرقة والمنع، وأما ما ذكره الدلجي من أن تصدير هذه الفقرة بالواو الموضوعة للجمع دون ما قبلها مع أن أجزاء الصفات المتعاقبة على موصوف واحد مشعرة به يلوح بزيادة جمعية وارتباط معية ففيه مناقشة خفية لأن أجزاء الصفات المفردة يؤتى بها من غير واو الجمعية في الجمل الاسمية، كقوله تعالى: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ مع جواز إتيان العاطف بخلاف الجمل الفعلية، ولهذا قال: (وبعث) أي أرسل الله (فيهم) أي في أوليائه ولأجل أحبائه، ولذا قيل إنه لم يرسل في الحقيقة إلى أعدائه ثم المؤمنون هم المراد بأوليائه لقوله تَعَالَى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ (رَسُولًا) أي نبيا مرسلا أمر بتبليغ الرسالة موصوفا بكونه (من أنفسهم) بضم الفاء أي من جنسهم العربي أو البشري دون الملكي للحكم الإلهي (أنفسهم) بفتح الفاء ونصب السين أي أشرفهم وأعظمهم في نفوسهم فالأول جمع النفس بسكون الفاء والثاني افعل من النفيس وجمع بينهما كما قرىء في الآية بهما ونصب أنفسهم الثاني على أنه صفة رسولا أو(1/11)
بدل أو حال. وفي البعض الحواشي ضبط بالرفع على انه خبر مبتدأ محذوف أي هو أنفسهم من نفس بالضم صار مرغوبا فيه لشرفه (عربا وعجما) بضم فسكون فيهما وهو لغة في فتحتيهما والمراد بالعرب هنا أعم من سكان القرية والبادية كما أن المراد بالعجم ضد العرب الشامل لأهل الفارس والترك والهند وغيرهم ونصبهما على التمييز. وقال الدلجي: حالان لازمان من ضمير أنفسهم وردا بيانا لنوعي المنفوسين، وأما قول بعضهم في حاشيته وأنفسهم بفتح الفاء أي أعلاهم وخيارهم وهو من النفاسة ولا يجوز ضمها لأن الضمير عائد إلى الأولياء فخطأ ولعله مبني على أن لفظ أنفسهم لم يكن مكررا عنده وإلا فإن أراد عدم جواز الضم في أنفسهم الثاني فلا كلام فيه إلا أن تعليله لا يصح وان أراد مطلقا فغلط محض (وأزكاهم) أي أطهرهم وانما هم (محتدا) بفتح الميم وكسر الفوقية أي أصلا وطبعا (ومنمى) بفتح الميمين مصدر ميمي أي نموا وزيادة وارتقاء، وقد ذكر الحلبي وغيره أنه إذا كان الفعل معتل اللام مثل رمى فقياس المصدر منه مفعل مثل نمى منمى ورمى مرمى وسرى مسرى انتهى. وفيه أن مصدر الثلاثي المجرد مطلقا يجيء على مفعل بفتح العين قياسا مطردا كمقتل ومضرب ومشرب كما في الشافية فلا وجه لقيده بالمعتل نعم هذا القيد يعتبر في أسمى الزمان والمكان منه والله أعلم. واختار الدلجي أنهما اسما مكان فمحتد من حتد إذا أقام والمراد بهما مكة المشرفة فإن للأمكنة دخلا ما في شرف الأخلاق وطهارتها وحسن الافعال ونجابتها (وأرجحهم) بالنصب عطفا على أنفسهم الثاني أي أرزنهم (عقلا) أي تعقلا (وحلما) أي تحلما (وأوفرهم) أي أتمهم (علما وفهما) وفي نسخة بالعكس رعاية لحلما والفهم هو العلم وسرعة ادراك الشيء فالحمل على المعنى الثاني أولى واختلف في حقيقة العقل والأقرب قول القاضي أبي بكر العقل علم ضروري بوجوب الواجبات وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات ولعله اراد به تعريف العقل الكامل والله تعالى أعلم. وقيل الفهم إزالة الوهم (وأقواهم) أي أشدهم، وفي نسخة أوفاهم أي أزيدهم (يقينا) أي علما زال فيه الريب تحقيقا (وعزما) أي اهتماما بالغا ليس فيه رخصة ما فقيل جدا وقيل صبرا (وأشدّهم) أي بهم كما في نسخة صحيحة (بهم رأفة) أي زيادة رحمة (ورحما) بضم فسكون أي رحمة وعطفا. قال الله تعالى: وَأَقْرَبَ رُحْماً. قرأ الشامي بضم الحاء والباقون بسكونها. وفي نسخة مقصور وهو تعميم بعد تخصيص لا مجرد تغاير لفظي كما ذكره الحلبي وفيه إيماء إلى قوله تعالى:
بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ، ثم من قوله: (لا تخيلا ووهما) إلى هنا منصوبات على التمييز خلافا لما بعده ولذا فصله بقوله: (زكّاه) بتشديد الكاف أي طهره (روحا وجسما) فهما بدلان من الضمير فإنه عينهما لا غيرهما على خلاف التمييز. وقال الدلجي: مميزان حولا عن كونهما مفعولين وإيراد هذه الفقرة بلا عاطف دون ما قبلها لكمال انقطاع بينهما لاختلافهما ثبوتا وسلبا انتهى. وهو وهم منه وغفلة صدرت عنه لأن هذا الكلام إنما يصح لو عطف في زكاه وترك العطف في حاشاه، ثم المراد بالجسم الجسد وهو جسم كثيف ظاهري بخلاف(1/12)
الروح، فإنه جسم لطيف باطني، أما تزكية روحه صلى الله تعالى عليه وسلم فلكونه أشرف الأرواح المطهرة لا من أشرفها كما قال المحشي فإنه كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم:
«أول ما خلق الله روحي وسائر الأرواح، إنما خلق ببركة روحه ونور وجوده» كما روي لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك فإنه صحيح معنى لو ضعف مبنى، وأما تزكية جسده فلشق جبريل عليه السلام صدره واستخراج حظ الشيطان منه وغسله بماء زمزم لا بماء الجنة كما قاله المحشي إلا أنه إن صح رواية يجمع بينهما دراية، ويمكن أن يكون الروح والجسم كنايتين عن الخلق والخلق، فإنهما مزكيان من جانب الحق وأغرب المحشي حيث قال في رأفة ورحما اشترط من أجاز العطف أن لا بد من زيادة معنى في المعطوف. وقال هنا فيه دلالة على جواز العطف وان تغاير اللفظان والمعنى واحد من غير زيادة. وأبعد الحلبي حيث تبعه في الموضعين، وقال هنا: وهذا لا زائد ولا مساو، ولعله فعل ذلك للسجع انتهى. وقد بينت لك الفرق بين الرأفة والرحمة، وأما الفضل بين الروح والجسد فظاهر للعامة فضلا عن الفضلاء الخاصة (وحاشاه) أي نزهه الله وبرأه (عيبا ووصما) أي عارا على ما صرح به في القاموس فهو تخصيص بعد تعميم خلافا لمن زعم أنهما متساويان، وتبعه الحلبي والدلجي ثم نصبهما بنزع الخافض أي من غيب ووصم (وآتاه) بالمد أي اعطاه الله تعالى (حكمة) وهي في الأصل ما يمنع من الجهالة فإنها مأخوذة من الحكمة بفتحتين وهي اللجام المانع من النفور أي علما بالشرائع المشتملة على الحكم المبنية على الاتقان والأحكام (وحكما) بضم فسكون أي قضاء بالأحكام. قال المحشي وتبعه الدلجي فيه تجنيس التحريف وهو تحريف من أحدهما والصواب التطريف وهو أن يختلف المتجانسان في إعداد الحروف وتكون الزيادة في الآخر على ما في شرح مختصر التلخيص ثم هما منصوبان على المفعولية الثانية. وأغرب التلمساني بقوله: هما مترادفان وجمعهما للتأكيد (وفتح به) أي فتح الله تعالى بسبب نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم (أعينا عميا) عن رؤية الحق وهو بضم فسكون جمع عمياء بفتح فسكون ممدودا.
وأبعد التلمساني حيث قال: عميا صفة للأعين وهو جمع أعمى. وقال المحشي: كان الأولى أن يأتي بجمع كثرة لكن قد يأتي جمع القلة بمعنى الكثرة كقوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ بمعنى جنان، وقد تأتي الكثرة بمعنى القلة كقوله تعالى: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ أي اقراء، وتبعه الحلبي وقالا الأولى أن يأتي به جمع كثرة لكنه تبع الحديث الصحيح والمراد به هنا وبالحديث الكثرة انتهى.
وقال الحافظ العسقلاني الكثرة العددية من الأمور النسبية فيحتمل أن يكون العدول عن جمع الكثرة في الحديث إلى جمع القلة للإشارة إلى أن الكفار أكثر من المسلمين (وقلوبا) جمع قلب وسمي به لتقلبه في أيدي مقلب القلوب عز وجل كما قال الشاعر:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ... ولا القلب إلا انه يتقلب
(غلفا) بضم فسكون جمع أغلف كأنه جعل في غلاف فهو لا يعي، وَقالُوا قُلُوبُنا(1/13)
غُلْفٌ أي ذوات غلف لا تعي كلمة الحق ولا تفهمها لأنها لا تصل إليها (وآذانا) بمد الهمزة جمع اذن (صمّا) بضم فتشديد ميم جمع صماء لا أصم كما سبق أي لا تسمع النصيحة، والحاصل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أتاهم بآيات واضحة ومعجزات لائحة فاجتلت أبصارهم ووعت قلوبهم وقبلت أسماعهم (فآمن به) أي صدق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وما جاء به (وعزّره) أي عظمه ووقره وهو بتشديد الزاء، ووهم التلمساني حيث قال:
تخفف وتشدد. ففي القاموس العزر اللوم والتعزير التعظيم أو المعنى منعه من عدوه إذ أصل العز والمنع ومنه التعزير لأنه يمنع من معاودة القبيح (ونصره) أي أيده وأعانه إيماء إلى قوله تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ والضمير في الآية يجوز أن يكون لكل منهما والأظهر أن يكون إلى الأخير، فإن الإيمان به متضمن للأول فتأمل، ثم الفاعل قوله:
(من) أي الذي (جعل الله له في مغنم السّعادة) أي في غنائم السعادة الإيمانية وحيز السيادة الإيقانية (قسما) بكسر فسكون أي حظا ونصيبا مقسوما، وأما بفتح القاف فهو مصدر (وكذّب به) أي كفر بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وصدف عن آياته) أي أعرض عن معجزاته البرهانية أو مال عن قبول آياته القرآنية (من كتب الله) أي قدر وقضى وأوجب (عليه الشّقاء) بالمد مفتوحا ويكسر أي الشقاوة كما في نسخة وهي الأولى من الأولى كما لا يخفى. وقال التلمساني: الشقاء العذاب وهو ممدود انتهى. ولا يخفى عدم الملائمة بالمقابلة للسعادة مع أن صاحب القاموس قال: الشقاء الشدة والعسر ويمد، والظاهر أن معناه التعب كما فسر به قوله تعالى: (فشقى) وقوله: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى لا بمعنى العذاب المتعارف والله أعلم. (حتما) أي حتما مقضيا يعني وجوبا متحتما لازما لا بد له من فعله ولا تبديل ولا تحويل فيه أصلا وقطعا (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ) أي في الدنيا الدنية التي هي محل تحصيل الكمالات الدينية (أَعْمى) أي عن الأمور العلمية والعملية أو عن طريق الحق وبصيرة الصدق (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) [الإسراء: 72] . فاعل أو خبر أي فهو فيها أعمى بالطريق الأولى أو أشد عمى مما كان في الدنيا أو أعمى عن النجاة ورؤية سبيل أهل الهدى والحاصل أن أعمى في الموضعين افعل وصف، والمعنى من كان في الدنيا لا يبصر طريق هدايته لا يرى في العقبى سبيل عنايته وقيل أعمى الثاني للتفضيل كأجهل وأبله، ولهذا عطف عليه في الآية، وَأَضَلُّ سَبِيلًا ولم يمله أبو عمرو ويعقوب لأن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم المتوسط كما في أعمالكم ولا يبعد أن يراد بالعمى في الدنيا الجهالة والضلالة في الأمور الدينية وكونه أعمى في الآخرة بالطريق الصورية والمعنوية (صلّى الله تعالى عليه وسلّم) جملة خبرية مبنى انشائية معنى (صلاة تنمو) بفتح فسكون فضم من النمو أي تزيد عددا دائما (وتنمى) بصيغة المجهول من الإنماء أي ويزيدها الله أو يزيد ثوابها أبدا والمعنى تزيد في نفسها أو يزاد فيها، وفي نسخة صحيحة بدل الأولى تنمى كترمى بالياء بدل الواو وهو الأولى من جهة صنيع الجناس المستحسن في المبنى مع انه(1/14)
اللغة الأشهر عند الأكثر، ففي الصحاح نمى المال وغيره ينمى نماء، وربما قالوا ينمو نموا وانماه الله تعالى إنماء انتهى. وفي غالب النسخ المصححة تنمو بالواو. وعن الخليل انه أفصح وبهذا يتبين أن قول الحلبي وفي لغة ينمو وهو ضعيف هو الضعيف لمخالفة الجمهور ولمعارضة شيخه مجد الدين الفيروزآبادي صاحب القاموس حيث قال: نما ينمو زاده كنمى ينمى. وأما ما نقل عن الكسائي لم أسمعه بالواو إلا من أخوين من بني سليم. ثم سألت بني سليم فلم يعرفوه فالجواب عنه أنه على تسليم صحته يكون لغة لغيرهم ومن حفظ صار حجة على من لم يحفظ (وعلى آله) أي اتباعه ولذا لم يقل وأصحابه. وفي نسخة: وصحبه على انه تخصيص بعد تميم أو المراد بالآل أقاربه والعطف لزيادة التشريف والتكريم (وصحبه وسلّم) بفتح اللام عطف على صلى (تسليما) أي تسليما عظيما. ووقع في بعض النسخ زيادة كثيرا وهو مخل بالسجع المرعى في الفواصل ثم ظاهر آية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً دال على وجوب الصلاة والسلام عليه كلما ذكر وكذا حديث من ذكرت عنده فلم يصل على دخل النار فأبعده الله تعالى، وحديث رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ علي. وبه قال الطحاوي من الحنفية والحليمي من الشافعية واللخمي من المالكية وابن بطة من الحنابلة والجمهور على أنها في العمر فرض مرة والمحققون على انها فرض في كل مجلس ذكر صلى الله تعالى عليه وسلم والله تعالى أعلم.
(أمّا بعد) بضم الدال مبنيا لحذف المضاف إليه وكونه منويا. وقال الحلبي: وبفتحها.
اجازه هشام. وقال النحاس: إنه غير معروف ورفعها منونة، وكذا نصبها انتهى. وذكر النووي في باب الجمعة: من شرح مسلم أنه اختلف العلماء في أول من تكلم بأما بعد فقيل داود عليه الصلاة والسلام. وقيل: يعرب بن قحطان. وقيل: قس بن ساعدة. وقال بعض المفسرين: أو كثير منهم أنه فصل الخطاب الذي أوتيه داود. وقال المحققون: فصل الخطاب الفصل بين الحق والباطل انتهى. وفي الكشاف: ويدخل فيه، يعني في فصل الخطاب. أما بعد فإن المتكلم إذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه فصل بينه وبين ذكر الله تعالى بقوله: أما بعد، انتهى. وفي غريب مالك للدارقطني بسند ضعيف أن يعقوب عليه الصلاة والسلام لما جاءه ملك الموت قال من جملة كلامه: أما بعد.. فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء وهذا يدل على أن أول من تكلم به يعقوب لا داود عليهما الصلاة والسلام، ونظير فصل الخطاب كلمة هذا فإنه يفصل بها بين الكلامين كقوله تعالى: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ أي الأمر هذا أو هذا كما ذكر أو خذ هذا أو هذا المعد للمتقين وأما تنظير المحشي بقوله تعالى: هذا وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ فغفلة عن لفظة التنزيل وهو قوله تعالى هذا ذِكْرٌ وهو ليس من هذا الباب نعم نظيره ما قال الشاعر:
هذا وكم لي بالحبيبة سكرة ... أنا من بقايا خمرها مخمور(1/15)
فإنه أشار بهذا إلى الكلام تقدم ثم استأنف كلاما ثانيا والله تعالى أعلم. ثم اعلم أن قس بن ساعدة الإيادي بضم القاف وتشديد المهملة بليغ حكيم ومنه الحديث يرحم الله قسا إني لأرجو يوم القيامة أن يبعث أمة واحدة قيل هو أول من كتب من فلان إلى فلان وفيه نظر لقوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وأول من خطب بعصا وأول من أقر بالبعث من غير سماع قيل إنه عاش ستمائة سنة وقد رآه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بسوق عكاظ وهو راكب جملا له أحمر وورد رحم الله قسا إنه كان على دين أبي إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. رواه الطبراني عن غالب بن ابجر. وفي رواية: رحم الله قسا كأني انظر إليه على جمل أورق تكلم بكلام له حلاوة ولا احفظه، رواه الأزدي في الضعفاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ومن قوله: أيها الناس اسمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت ثم هو من أهل الفترة وأما يعرب بن قحطان فهو أبو اليمن. وقيل: هو أول من تكلم بالعربية وههنا قولان آخران في أول من قال: أما بعد. فقيل: كعب بن لؤي. وقيل:
سحبان، وهو بليغ يضرب به المثل. لكن هذا القول غير صحيح لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقولها في خطبته وهو قبل سحبان اجماعا لأنه كان في زمن معاوية وما أجيب عنه بأنه أول من قالها بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الإسلام لا يخفى بعده لأني ما أظن أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يتركونها في خطبهم بعد ما سمعوها منه صلى الله تعالى عليه وسلم في خطبته والله أعلم. (أشرق الله) أي أضاء ونّور (قلبي وقلبك بأنوار اليقين) أي بأنواع أنواره من علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين على قدر مراتب العارفين في ميادين الدين والأصل في النور الظهور. واعلم أن مقتضى القواعد العربية واستعمال الفضلاء الأدبية إيراد الفاء بعد: أما بعد، بل بعد بعد أيضا. إما لتقدير أما وإما لتوهم أما مع رفع توهم الإضافة وإفادة الدلالة التعقيبية. وقد قال سيبويه: إن معنى أما بعد مهما يكن من شيء بعد فتعين اتيان الفاء الجزائية وسيأتي في قوله فإنك فالجمل المذكورة دعائية اعتراضية وأما قول التلمساني في قوله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فكانت لمساكين يعملون فليس في محله لأن أما هذه تفصيلية لا شرطية (ولطف لي ولك) باللام فيهما على الأصول المصححة لا بالباء الموحدة (بما) أي بمثل ما وفي نسخة كما (لطف بأوليائه) فما مصدرية.
وفي نسخة صحيحة بما لطف لأولياء فما موصولة. وفي نسخة: بعباده (المتقين) بالباء جمعا بين اللغتين وتفننا في العبارتين. فمن الأولى قوله تعالى: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ، ومن الثانية اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ ولطف بفتح الطاء من اللطف وهو على ما في المجمل بمعنى الرفق والرأفة، وعلى ما في الصحاح بمعنى التوفيق والعصمة. وقيل: بمعنى الهداية. وأما بالضم فمعناه دق وصغر والألطف ما قال بعضهم من أن اللطف في اللغة الرقة وهو من الله تعالى زيادة بره للأنام بأمور تدق عن الأفهام منها هدايتهم للإيمان والإسلام وتوفيقهم لطاعاته ومراعاة الأحكام وكفهم عن المعاصي والآثام وتيسير أسباب الراحات(1/16)
الدنيوية والأخروية عليهم ودفع المضار المانعة عنهم وجلب المنافع اليهم ثم التقوى هو التوقي عن مخالفة المولى (الّذين، شرّفهم) أي الله تعالى كما في نسخة (الله بنزل قدسه) بضمتين ويسكن الثاني فيهما إلا أن السكون في الثاني أقل وفي الأول أكثر ثم النزل ما يهيأ للضيف من الكرامة لأنسه، وقيل: النزل المنزل وبه فسر قوله تعالى: جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا، وقد جزم المحشي بأنه مراد المصنف هنا والظاهر أنه لا منع من الجمع كما أشار إليه صاحب القاموس النزل بضمتين المنزل وما هيىء للضيف أن ينزل عليه كالنزل، والمعنى بالنزل الحال المقدس عن الدنس، وفي نسخة بنور قدسه وهو أظهر معنى، لأن المراد به وبما بعده مقامات العارفين في الدنيا، وان كانت سبب درجات في العقبى فلا يلائم تفسير نزل قدسه بالجنة لنزاهتها عن الكدورات الدنيوية كما اختاره الدلجي، ثم قال: ويجوز أن يريد به ما يهيأ لهم من الطعام إذا دخلوها الوارد به نزل أهل الجنة زيادة كبد الحوت، وأما ما هو في وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلًا
فحال من ضمير تدعون تلويحا بأن ما يتمنونه بدعائهم بالنسبة إلى عطائهم مما لا يخطر ببالهم كالنزل للضيف (وأوحشهم) من الوحشة ضد الأنسية.
يقال: أوحشه فاستوحش أي جعلهم ذوي وحشة (من الخليقة) وفي نسخة من بين الخليقة (بأنسه) لأن الاستئناس بالناس من علامة الإفلاس، ولا يمكن دفع العوائق إلا بقطع العلائق، فالمعنى أبعدهم الله تعالى عن الخليقة وقرّبهم منه على مراعاة الشريعة والطريقة والحقيقة فيكونون كائنين بائنين قريبين غريبين عرشيين فرشيين مع الخلق في الصورة ومع الحق في السريرة كما هو دأب الأنبياء وعادة الأولياء به آنسون ومن غيره آيسون (وخصّهم من معرفته) أي جعلهم أهل الخصوص من أجل معرفته، وفي نسخة بمعرفته أي جعلهم مخصوصين بها بحيث لا يلتفتون إلى معرفة غيره أصلا (ومشاهدة عجائب ملكوته) فعلوت من الملك بزيادة الواو والتاء للمبالغة وفرق بين الملك والملكوت إذا اجتمعا بأن يخص الأول بظاهر الملك والثاني بباطنه أو الأول بالعالم السفلي والآخر بالعالم العلوي، قال الله تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وقال عز وجل: فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ومعنى المشاهدة المعاينة، وأغرب التلمساني حيث فسرها بالحضور مع قوله مصدر شاهد بمعنى رأى ثم العجائب جمع عجيب وهو ما يتعجب فيه من الأمر الغريب (وآثار قدرته) أي من مطالعة مصنوعاته (بما ملأ قلوبهم حبرة) بفتح المهملة وسكون الموحدة أي مسرة من الحبور وهو السرور، وقيل معناها النعم والكرامة ومنه قوله تعالى: فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ أي ينعمون ويسرون ويكرمون، ثم الجار متعلق بخص أو بالمشاهدة، وما مصدرية أو موصولة وقلوبهم مفعول به وحبرة مفعول ثان كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم في حق الكفار يوم الأحزاب ملأ الله قبورهم نارا أو منصوب بنزع الخافض وإيصال الفعل كقوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ. وقيل: منصوب على التمييز. وأما ما ذكره التلمساني من أنه يقال بفتح الباء الموحدة وتسكينها فوهم لأن الفتح إنما جاء بدون التاء على(1/17)
ما في القاموس نعم الحبرة هي سرور ظهر حبره أي أثره على وجوههم فكساها بهاء وجمالا. ففي الحديث: «يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره بكسرهما وقد يفتحان أي بهاؤه وجماله (وولّه) بالتشديد (عقولهم) أي جعلها والهة بتدبرها وتفكرها (في عظمته) وفي نسخة من عظمته (حيرة) أي ذوات تحير بما غشاها من ضياء جمال وبهاء كمال. وفي نسخة ووذر عقولهم أي تركها متحيرة ولا يخفي صنعة التجنيس بين حبرة وحيرة (فجعلوا همّهم به) أي بالله ودينه قائمين بحقوق ألوهيته ووظائف عبوديته (واحدا) أي هما واحدا إشارة إلى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم من جعل الهموم هما واحدا كفاه الله تعالى هم الدنيا والآخرة. والمراد بالهم هنا القصد والهمة والعزم والجزم التام ولا يبعد أن يكون بمعنى الحزن الموجب للاهتمام في سبيل الله أو بسبب دينه، فالضمير له سبحانه وأبعد التلمساني في جعل الضمير للوله المفهوم من وله (ولم يروا) أي لم يعتقدوا أو لم يبصروا (في الدارين غيره مشاهدا) بضم الميم وفتح الهاء أي مشهودا لأنه كما قال بعض العارفين من أرباب الأسرار ليس في الدار غيره ديار وقال آخر من أصحاب الشهود سوى الله والله ما في الوجود وزاد أبو يزيد على من سواه. وقال: ليس في جبتي غير الله ومن هذا المقام المحقق الحسين ابن منصور الحلاج نطق وقال: أنا الحق، وقال مجنون بني عامر في هذا المعنى:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
فهذا مقام وحال لأرباب الكمال بلا حلول ولا اتحاد ولا اتصال ولا انفصال، ويؤيد هذا المقال قول الملك المتعال كل شيء هالك إلا وجهه ويقويه ما ورد عن النبي النبيه عليه الصلاة والسلام أصدق كلمة قالها لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وفي نسخة بكسرة الهاء وهو لطيف جدا موافق للفظ واحدا فإنه يفيد بانضمام الفتح لأرباب الفتوح انه شاهد ومشهود كما أنه حامد ومحمود قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ
وفهم كل طائفة مذهبهم كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ لعل بعض أرباب النسخ استنكر لفظ مشاهدا فأسقطه مع انه لم يتم بدونه التسجيع بقوله واحدا وكأنهم اكتفوا بلفظ غيره حالة وقفه (فهم بمشاهدة جماله وجلاله يتنعّمون) وفي أصل التلمساني يتمتعون أي يتعيشون والمعنى انهم بمطالعة صفات انعام ولائه ونعوت بلائه وابتلائه يتلذذون فاستوى عندهم المنحة والمحنة في ثبوت كمال المحبة خلافا للناقصين في المودة على ما أخبر الله تعالى في حقهم من الحرف بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ وفي هذا الحال قال بعض أرباب الكمال:
وليس لي في سواك حظ ... فكيف ما شئت فاختبرني
وفي القضية إشارة خفية إلى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم إن قلوب بني آدم بين(1/18)
اصبعين من أصابع الرحمن أي بين صفتي الجمال والجلال ونعتي البسط والقبض المعبر عنهما بالبقاء والفناء والتفرقة والجمع وأمثال ذلك من اصطلاحات الصوفية والسادات السنية وفي كثير من النسخ المصححة كماله بدل جماله وهو غير ملائم لمقابله لأن الكمال هو الجمع بين الجمال والجلال وقد يوجه بإتيان الأخص بعد الأعم والله تعالى أعلم. ثم لما ترقى إلى أعلى المقامات وهو مشاهدة الذات تنزل إلى ملاحظة الصفات فإن تلك الحالة العالية قد تكون لحظة ولمحة لا تستمر في الأزمنة الماضية فقال (وبين آثار قدرته) أي من صفات الأفعال (وعجائب عظمته) أي من صفات الذات، ولو قال وأنوار عظمته لكان له وجه حسن في بلاغته (يتردّدون) أي تارة إلى هذا ينظرون وأخرى بهذا ينتظرون بخلاف أهل الحجب والغفلة فهم في ريبهم يتحيرون (وبالانقطاع إليه) لقوله تعالى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (والتّوكّل عليه) لقوله عز وعلا: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (يتعزّزون) وفيه إشارة لطيفة إلى أنهم إلى غيره ما يتذللون لأنهم بما آتاهم الله تعالى يرضون ويقنعون (لهجين) بفتح فكسر أي حال كونهم مولعين ملازمين ومواظبين مداومين متمسكين (بصادق قوله) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي وبقوله الصادق المطابق (قُلِ اللَّهُ) أي موجودا ومعبودا ومشهودا وقل الله وليس في الكون سواه (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام: 92] . أي اترك أهل الغفلة واللعب والاشتغال بما لا يعنيهم في دينهم وما لا يحملهم على الحضور مع ربهم حال كونهم في شروعهم في الباطل وهو ما سوى الحق يضيعون أعمارهم ويخربون آثارهم عبثا بلا فائدة عائدة في أمر أوليهم، وفي حال أخراهم، وهذا المعنى الذي أومى إليه الشيخ من الاشارات الصوفية لا ينافي ما ذكره المفسرون وأرباب العربية من أن لفظ الجلالة فاعل لفعل مقدر أو مبتدأ خبره محذوف لما يدل عليه السياق والسباق بالاتفاق لانه جواب عن سؤال تقدم في قوله تعالى في حق اليهود: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظموه حق عظمته أو ما عرفوه حق معرفته إذ قالوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ إلى أن قال: قُلِ اللَّهُ أي امتنعوا عن الجواب وعجزوا عن الكلام الصواب قُلِ اللَّهُ أي أنزل الكتاب. وفي هذا كفاية لأولي الألباب (فإنّك) سبق انه جواب أما والجملة الدعائية معترضة بينهما (كرّرت عليّ السّؤال) أي راجعته وأكثرته (في مجموع) أي في مصنف جمع فيه صنف من الشمائل النبوية ومؤلف اجتمع فيه نوع من الفضائل المصطفوية (يتضمّن التّعريف) أي يحتوي الاعلام (بقدر المصطفى عليه الصّلاة والسّلام) أي بتعظيمه كقوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وتوهم الحلبي بأن المراد بالقدر هو المقدار، فقال: لو قال ببعض قدره لكان أحسن والمراد بالمصطفى المختار المجتبى والمرتضى لحديث أن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بني هاشم وهذا بحسب النسب، وأما بطريق الحسب فلقوله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ولقوله(1/19)
تعالى: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ ولا شك انه الفرد الأكمل في هذا المعنى (وما يجب له من توقير) أي ويتضمن بيان ما يجب له من تعظيم واحترام (وإكرام، وما) أي وبيان أي شيء (حكم من لم يوفّ) بالتخفيف ويجوز التشديد أي من يكمل ولم يوفر (واجب عظيم ذلك القدر) الإضافة بيانية أي القدر الواجب من تعظيم ذلك القدر العظيم (أو قصّر) أي أو ما حكم من فرط (في حقّ منصبه) بفتح الميم وكسر الصاد أي مقامه (الجليل) بالجيم وهو الشريف المنيف (قلامة ظفر) بضم فسكون اختير للسجع وإلا فبضمتين هو الأفصح ويجوز بكسر الظاء وسكون الفاء أيضا وقد قرىء بهن في الآية لكن السكون مطلقا شاذ والقلامة بالضم ما يسقط من الظفر وهو كناية عن الشيء الحقير والأمر اليسير (وأن أجمع لك ما لأسلافنا) أي لعلمائنا المتقدمين (وأئمّتنا) أي لمشايخنا المتأخرين (في ذلك من مقال) أي فيما ذكر من وجوب تعظيم قدره والحكم فيمن صدر عنه بخلافه من الأقوال (وأبيّنه) أي المقال (بتنزيل صور، وأمثال) أي بتصوير صور وأمثال وتقرير محامل يزول به الاشكال إيضاحا للمعنى وإيصالا إلى الذهن في المبنى (فاعلم) أي ايقن وتنبه أيها المخاطب (أكرمك الله تعالى) أي كما قصدت إكرام النبي المكرم (أنّك حمّلتني) بتشديد الميم أي كلفتني بالحمل (من ذلك) أي الأمر الذي سألتني (أمرا، إمرا) بفتح الهمزة في الأول وكسرها في الثاني أي أمرا شاقا أو شيئا عظيما. وأما قوله تعالى: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أي عجبا أو منكرا (وأرهقتني) أي أوقعتني (فيما ندبتني) أي دعوتني (إليه عسرا) بضم فسكون وقد يضم أي أمرا عسيرا لا أقدر عليه من التحفظ عن السهو اليسير كما قيل في قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (وأرقيتني) أي أصعدتني وأطلعتني من الترقي بمعنى الصعود وهو يائي. وفي القاموس رقى إليه كرضى رقيا صعد كارتقى وترقى أو مهموز حيث قال رقا في الدرجة صعد لكن النسخ المصححة بالمركز تؤيد الأول فتأمل، والحاصل انهما لغتان والأول هو الأشهر في البيان، وأما قول التلمساني بهمزة ويسهل والهمزة أفصح، وقيل: التسهيل فيتوهم منه أن الأصل هو الهمزة وهو غير صحيح لأن التسهيل بمعنى الابدال غير مطابق لقواعد الاعلال فإنه إنما يكون على طبق ما قبله من الحركة كما لا يخفى على أرباب الكمال والله تعالى أعلم بالحال (بما كلّفتني مرتقى) بضم الميم مصدرا أي ارتقاء (صعبا) أي شديدا وليس كما توهم التلمساني بقوله وكان المعنى أرقيتني فارتقيت مرتقى صعبا أي محلا عسيرا حيث جعل المرتقى اسم مكان فاحتاج إلى تقدير فارتقيت والله تعالى أعلم (ملأ قلبي رعبا) بضم فسكون وقد يضم أي خوفا وفزعا ووقع في أصل التلمساني خوفا ورعبا، فقال معناهما واحد لكنه مخالف لسائر الأصول من النسخ المصححة، ثم الضمير في ملأ راجع إلى ما أو المرتقى، والثاني أقرب لكن يؤيد الأول قوله (فإنّ الكلام في ذلك) أي المكلف (يستدعي تقدير أصول) أي تمهيد قواعد مقررة (وتحرير فصول) أي تشييد فروع محررة مما يجب له صلى الله تعالى(1/20)
عليه وسلم ويجوز ويمتنع كما سيأتي (والكشف) أي ويستدعي البيان (عن غوامض) جمع غامضة وهي ما لا يدرك إلا بعد روية (ودقائق) جمع دقيقة وهي أدق مما قبلها مما يدق فهمه في كل قضية (من علم الحقائق) بيان لما قبلها وهي جمع الحقيقة وهي الأمور الثابتة من الأدلة النقلية والعقلية وقد أبعد الحلبي والتلمساني في عطف الكشف على الكلام مع عدم ظهور خبره في المقام (ممّا يجب) أي اثباته (للنّبيّ ويضاف إليه) أي وجوبا (أو يمتنع أو يجوز) أي اطلاقه (عليه ومعرفة النّبيّ والرّسول) أي بالحدود الفارقة بينهما ومعرفة مجرورة معطوفة على مدخول عن أو من أو منصوبة على انها معمولة ليستدعي أيضا (والرّسالة والنّبوّة) بالجر لا غير والمراد بهما الحالان فهما مغايران لما قبلهما (والمحبّة، والخلّة) بضم الخاء وهما نعمتان كاملتان ما اجتمعتا في غير نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم (وخصائص هذه الدّرجة العليّة) بالجر جمع خصيصة وهي ما يختص به الشخص والدرجة المنزلة والمرتبة والرفعة ودرجات الجنة أرفع منازلها والدرجات ضد الدركات وقد سومح في التسجيع بين العلية وما قبلها فإنه من الأمور الرسمية، ثم رأيت ابن السكيت قال العلية بفتح العين وكسر اللام وكسر العين وسكون اللام فتعين الثاني لموافقة المرام (وههنا) أي وفي هذه المواضع المذكورة فها للتنبيه وهنا اسم اشارة للمكان القريب (مهامه فيح) أي مفازات واسعة ومهامة بفتح الميم الأول وكسر الثانية جمع مهمة بفتحتين مفازة بعيدة وخلاء ليس فيه ماء والفيح بكسر الفاء جمع فيحاء بفتح ومد لا جمع أفيح كما توهمه التلمساني أي الأرض الواسعة (تحار) بفتح التاء أي تتحير (فيها) أي في سبيل معرفتها إفهام ذوي النهى كما قد تحار في سير المفازة المحسومة إذا سلكتها (القطا) وهو بفتح القاف مقصورا طير يضرب به المثل في كمال الهداية فيقال هو أهدى من القطا سمي بصوته، وقد قيل انه يترك فراخه ويطلب الماء مسيرة عشرة أيام وأكثر فيرده ويرجع فيما بين طلوع الفجر وظهور الشمس ولا يخطىء صادرا ولا واردا وهو اسم جنس وقول الجوهري على ما نقله الحلبي وغيره انه جمع قطاة فيه تجوز والحاصل أن القطا يعرف في المجاهل مظان المياه فلا يكاد يخطئها فإذا رأت الماء قالت قطا قطا فتعرف العرب دنو الماء ولهذا يقال فلان أصدق من القطا (وتقصر) بضم الصاد (بها) وفي نسخة فيها (الخطى) بضم ففتح جمع الخطوة بضم وفتح أي تعجز في تلك المفازة أو سيرها الخطوات من الاعياء (ومجاهل) بفتح الميم وكسر الهاء عطفا على مهامها وهو جمع مجهل للمكان الذي لا علم فيه يهتدي به (تضلّ) بفتح فكسر أي تضيع وتهلك (فيها الأحلام) بالفتح جمع الحلم بالكسر أي العقول (إن لم تهتد) أي الأحلام (بعلم علم) بفتح العين واللام في الأول وبكسر فسكون في الثاني أي بعلامة يعلم بها فالعلم بمعنى العلوم أو المراد به نوع من العلوم وأغرب الحلبي بقوله الظاهر أن المراد بالعلم الجبل وأبعد محش آخر بقوله المراد به الراية ولعل محمل كلامهما قصد الاستعارة بهما. وقال الدلجي من اضافة المشبه به إلى المشبه من التشبيه المؤكد أي بعلم(1/21)
كالعلم (ونظر سديد) بين مهملة أي وبتأمل على صوب صواب (ومداحض) بالرفع أي مزالق (تزلّ) بفتح فكسر فتشديد (بها) أي بسببها أو فيها (الأقدام، إن لم تعتمد) أي الاقدام مجازا أو أصحابها (على توفيق من الله وتأييد) بياءين أي تقوية وإعانة على نيل المراد من التحقيق (لكنّي) أي مع هذا كله من صعوبة الحال ومزلة أقدام الرجال بحيث كاد قبولها أن يكون من المحال تحملت المقال وقبلت السؤال (لما رجوته) بكسر اللام وتخفيف الميم على أن اللام للعلة وما موصوفة أو موصولة وهو بصيغة المتكلم وفي نسخة بالخطاب وهو بعيد ولا يبعد أن يضبط لما بفتح اللام وتشديد الميم على الظرفية كما عليه جمهور القراء في قوله تعالى:
لَمَّا صَبَرُوا إلا أنه يمنعه وجود من البيانية بعده والحاصل أن خبر لكن مقدر كما أشرنا إليه وقوله (لي ولك) متعلق برجوته (في هذا السّؤال، والجواب) أي بسببهما لف ونشر غير مرتب وقدم نفسه في الدعاء لأنه الأدب المستحب وقدم السؤال لأن وجوده مقدم على الجواب وشهوده (من نوال) بيان لما أي حصول حسن منال وطيب حال ومآل في الدنيا (وثواب) أي تحصيل جزاء وعطاء في العقبى (بتعريف قدره الجسيم، وخلقه العظيم) بضمتين ويسكن الثاني أي بسبب تبيينهما (وبيان خصائصه) أي فضائله المختصة (التي لم تجتمع قبل) أي قبل خلقه (في مخلوق) ومن المعلوم استحالة وجود مثله بعده (وما يدان) أي وبيان ما يطاع (الله تعالى به) أي ويتخذ دينا (فِي مَخْلُوقٍ، وَمَا يُدَانُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ من حقّه الذي هو أرفع الحقوق) أي بعد حق الحق (لِيَسْتَيْقِنَ) متعلق بتعريف أي ليثبت أو يتيقن (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي نبوته إيقانا يريد العلماء به (وَيَزْدادَ) أي بذلك (الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) [المدثر: 31] . يريد العوام أو الأعم والله أعلم ثم قوله ليستيقن علة لقوله بتعريف قدره وبيان خصائصه. وأما قول التلمساني أي لكني أفعل لما رجوته وليستيقن فمخالف للنسخ المصححة حيث لم يوجد فيها الواو العاطفة (ولما) عطف على لما رجوته أي ولأجل ما (أَخَذَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) أي من الميثاق. وفي نسخة مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي من العلماء (لَتُبَيِّنُنَّهُ) بفتح اللام على انه جواب للقسم الذي ناب عنه قوله أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أي استخلفهم والمعنى ليظهرن أمر محمد صلى الله تعالى عليه وسلم جميعه (لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) أي شيئا منه وهو المناسب للمقام أو الضمير للكتاب وهو مشتمل على المرام. وفي بعض النسخ بالخطاب فيهما وهو صحيح وقد قرأ بهما السبعة في الكتاب فالياء لغيبتهم والتاء حكاية لمخاطبتهم وتتمة الآية المقتبس منها فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ وعن علي كرم الله تعالى وجهه ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا (ولما) أي وللحديث الذي (حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ أَحْمَدَ الفقيه رحمه الله بقراءتي عليه) وهو هشام بن أحمد بن هشام بن خالد الأندلسي الوقشي بفتح الواو والقاف وبالشين المعجمة نسبة إلى وقش قرية من قرى طليطلة بالأندلس الكناني الفقيه الحافظ ولد سنة ثمان(1/22)
وأربعمائة واشتغل بالفنون وقرأ على المشايخ ومهر في النحو والعربية واللغة وفنون الأدب واعتنى بالحديث. قال القاضي عياض كان غاية في الضبط والإتقان وله تنبيهات وردود على كبار المصنفين في بعضها يقال وكان له نظر في الأصول واتهم بالاعتزال وكان من المتسعين في ضروب المعارف وكان يعرف الفرائض والهندسة وغيرهما ومات في جمادى الآخرة سنة تسع وثمانين وأربعمائة كذا ذكره الحلبي وقال التلمساني: وهو هشام بن أحمد بن هشام الهلالي يعرف بابن بقوة بالباء الموحدة المفتوحة والقاف الساكنة بعدها واو مفتوحة وتاء مقلوبة في الوقف هاء وهو إمام حافظ وشيخ من شيوخه الذين اعتمد على النقل عنهم في هذا الكتاب وغيره وكثرت الروايات عنه في أسانيد القاضي رحمه الله تعالى وتكرر السماع عليه ذكره الحافظ أبو محمد بن عبد الله الحجري وأبو العباس أحمد بن الزبير الثقفي وللقاضي رحمه الله تعالى شيخ آخر على نحو هذا الاسم هو القاضي أبو الوليد هشام بن أحمد بن سعيد الكناني الوقشي الضابط صاحب كتاب غريب الموطأ جليل النفع كثير القدر والله تعالى أعلم (قال) أي هشام (حدّثنا الحسين بن محمّد) زاد في نسخة الجيآني بجيم مفتوحة فسكون تحتية فهمزة ممدودة فنون فياء نسبة وهو الحافظ أبو علي الغساني وستأتي ترجمته مبسوطة كذا ذكره الحلبي. وقال التلمساني له كتب مفيدة جدا توفي سنة ثمان وتسعين وأربعمائة (حدّثنا أبو عمر) بضم العين (النّمريّ) بفتح النون والميم نسبة إلى نمر بكسر الميم وهو أبو قبيلة وإنما فتح في النسب استيحاشا لتوالي الكسرات وهو حافظ الغرب، وشيخ الإسلام أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عامر النمري القرطبي الأندلسي الشاطبي ولد في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وستين وثلاثمائة وترجمته شهيرة وتصانيفه كثيرة، توفي بشاطبة ليلة الجمعة سلخ شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وأربعمائة، واستكمل خمسا وتسعين سنة وخمسة أيام. واعلم أنه وقع في أصل التلمساني زيادة. حدثنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب الشيباني التبريزي البغدادي مات في ذي الحجة سنة ثمان وستين وأربعمائة حتى قال الناس مات في هذه السنة حافظ المغرب يعنون أبا بكر الخطيب وأبا عمر رحمهما الله تعالى (حدّثنا أبو محمّد بن عبد المؤمن) أي القرطبي من قدماء شيوخ ابن عبد البر قال الذهبي في الميزان كان تاجرا صدوقا لقي ابن داسة والكبار كذا ذكره الحلبي. وقال التلمساني: يعرف ابن الزيات شيخ أبي عمر بن عبد البر روى عنه في المسند الكبير (حدّثنا أبو بكر محمّد بن بكر) أي ابن محمد بن عبد الرزاق بن داسة بمهملتين وتخفيف الثانية عند الجمهور بصري وهو أحد رواة أبي داود عنه مشهور الترجمة وقد روى عنه بالاجازة أبو نعيم الأصبهاني (حدّثنا سليمان بن الأشعث) وهو الإمام الحافظ صاحب السنن أبو داود السجستاني. قال أبو عبيد الآجري: سمعته يقول ولد سنة ثنتين ومائتين وكتب عنه شيخه أحمد بن حنبل حديث القتيرة وأراه كتابه فاستحسنه ومناقبه معروفة. قيل: الين الحديد لأبي داود كما الين الحديد لداود عليه الصلاة والسلام،(1/23)
مات في سادس عشر شوال سنة خمس وسبعين ومائتين بالبصرة (حدّثنا موسى بن إسماعيل) وهو أبو سلمة التنودكي نسبة إلى تنودك دار اشتراها الحافظ روى عن شعبة وهمام وخلق وروى عنه البخاري وأبو داود. وقال عباس الدوري: كتبنا عنه خمسة وثلاثين ألف حديث توفي سنة ثلاث وعشرين ومائتين ثقة ثبت اخرج له الجماعة أصحاب الكتب الستة (حدّثنا حمّاد) وهو ابن سلمة بن دينار الإمام أبو سلمة أحد الأعلام. روى عن أبي عمران الجوني وغيره وروى عنه شعبة ومالك وغيرهما صدوق يغلط وليس هو في قوة مالك وأخرج له مسلم والأربعة كذا ذكره الحلبي. وقال التلمساني هو حماد بن زيد بن درهم يكنى أبا إسماعيل الأزرقي مولى لحرين حازم البصري الأزدي أخو سعيد مات سنة تسع وتسعين ومائة (أخبرنا عليّ بن الحكم) أي البناني البصري روى عن أنس وأبي عثمان النهدي وطائفة منهم نافع وعنه الحمادان وعبد الوارث وعدة اخرج له البخاري والأربعة (عن عطاء) أي ابن أبي رباح أبو محمد القرشي مولاهم المكي أحد الأعلام يروي عن عائشة وأبي هريرة وخلق. وعنه الأوزاعي وابن جريج وأبو حنيفة والليث وأمم. توفي وله ثمانون سنة، اخرج له الأئمة الستة كذا ذكره الحلبي. وقال التلمساني: هو ابن يسار أبو محمد مولى ميمونة بنت الحارث زوج النبي عليه السلام، وهو هلالي مدني توفي سنة ثلاث ومائة (عن أبي هريرة، رضي الله عنه) وهو عبد الرحمن بن صخر على الأصح من بين نيف وثلاثين قولا وقد رأى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في كمه هرة فقال أبو هريرة فاشتهر به وقد بسطنا ترجمته في المرقاة شرح المشكاة والأوجه في وجه عدم انصراف هريرة في ابي هريرة هو أن هريرة صارت علما لتلك الهرة. ونقل التلمساني في كنيته أنه هل يجر أو لا قال أبو الفضل قاسم بن سعيد العقباني أنه يجر ورواه عن الأئمة المشارقة منهم ابن حجر يعني العسقلاني ونصره الشيخ أبو عبد الله بن مرزوق. وقال هريرة: اسم جنس مصروف أضيف إليه فهو على ما هو عليه وهو جزء اسم وجزء الاسم يجر وذكر لي بعض أصحابنا أن أبا الفضل هو الذي أفاد المشارقة صرفه فإنهم كانوا لا يجرونه فأبدى لهم علة الجر واستحسنوها وصوبوها وقال قوم إنه لا يجر وبه قال الشمني المشرقي وأبو عبد الله من شيوخنا وألف فيه وقال: إنه بعد التركيب حدث فيه المنع لأنه علم وفيه تأنيث وهما مانعان ومنه قوله في أبي خراشة:
أبا خراشة أما أنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع
وروى أبو شاة في قوله: فقال رجل يقال له أبو شاة واكتبوا لأبي شاة بالوجهين وهو كأبي هُرَيْرَةَ (- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم:) وهو سيد العالمين محمد ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان على هذا النسب وقع اجماع الأمة وقد ضبطت هذه الأسماء في(1/24)
رسالتي المسماة بالمورد في المولد وقد ولد صلى الله تعالى عليه وسلم بالشعب وقيل بالدار التي عند الصفا التي بنتها زبيدة مسجدا ( «من سئل عن علم) أي مما يتعين تعليمه وقيل الحديث ورد في الشهادة وقيل في تبليغ الرسالة عند الحاجة والأظهر أن المراد به العلم الشرعي كما قال به الحليمي وكثيرون ويؤيده حديث ابن ماجه من كتم علما مما ينفع الله به الناس في الدين ألجمه الله بلجام من نار والعلوم الشرعية ما يستفيدون من الكتاب والسنة من أصولها وفروعها ومقدماتها التي تتوقف على معرفتها بقدر الحاجة إليها دون التوغل فيها (فكتمه) أي بعد ما علمه (أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) أي عند قيامهم من قبورهم واللجام بالكسر ما تلجم به الدابة ليمنعها عن النفور شبه ما يوضع في فيه من نار بلجام في فم الدابة وهو إنما كان جزاء امساكه عن القول الحق وخص اللجام بالذكر تشبيها له بالحيوان الذي يسخر ويمنع من قصد ما يريده فإن العلم من شأنه أن يدعو الناس إلى الحق القويم ويرشدهم إلى الطريق المستقيم وقد أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي، وقال الترمذي حسن وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان والحاكم وصححه. وفي حديث ابن مسعود فكتمه عن أهله وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من كتم علما علمه الله أو أخذ عليه اجرا جيء به يوم القيامة ملجما بلجام من نار» وقال الشافعي:
ومن منح الجهال علما أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقط ظلم
وسئل بشر عن هذا الحديث فقال إياي تعني دع هذا للجاج هنا حتى يأتي أهله فإن نشره في غير أهله كمنعه عن أهله. وروي عن أنس مرفوعا، قال: لا تطرحوا الدر في أفواه الكلاب يعني الفقه والعلم في ايدي الظالمين والمرائين وطالبي الدنيا. وعن أنس أيضا مرفوعا طلب العلم فريضة وواضع العلم في غير أهله كمعلق الجوهر واللؤلؤ على الخنزير. وروي مرفوعا أن عيسى عليه الصلاة والسلام قام خطيبا في بني إسرائيل، وقال: لا تكلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها ولا تمنعوها عن أهلها فتظلموهم ومما ينسب لعلي كرم الله تعالى وجهه:
وناشر العلم بين الجاهلين به ... كموقد الشمع في بيت لعميان
(فبادرت) عطف على الخبر المقدر لقوله لكني قبلت وما تأخرت بل أقبلت فبادرت (إلى نكت) بضم ففتح جمع نكتة وهي ما خفي إدراكه حتى يفتقر إلى تفكر ونكت في الأرض أي طعنها، وأما قول بعض هي كل نقطة من بياض في سواد وعكسه فليس في محله المراد أي إلى بيان لطائف (سافرة) بكسر الفاء أي مضيئة ومنيرة وموضحة ومبينة. وفي نسخة سافرة أي كاشفة (عن وجه الغرض) أي المطلب والمقصد (مؤدّيا من ذلك) أي حال كونه مؤديا من أجل ما ذكر (الحقّ المفترض) بفتح الراء (اختلستها على استعجال) ، وكان الأولى أن يقول الاستعجال ليلائم تعريف البال. وفي نسخة اختلسها بالمضارع المتكلم ووقع في نسخة اختلسوها بالواو أي المفروض من نشر العلم واظهاره لا سيما بعد السؤال وتكراره(1/25)
وهو خطأ ظاهر ثم الاختلاس بالخاء المعجمة اختطاف الشيء بسرعة ففي الكلام تأكيد أو تجريد (لما) بكسر اللام علة للمبادرة أو الاختلاس وما موصولة أي الأمر الذي (المرء بصدده) أي في سبيله مما استقبله (من شغل البدن والبال) ، أي من الاشتغال المتعلق بالقالب والقلب والمال والحال وحسن المآل ثم الشغل بضمتين وبضم فسكون وقرئ بهما في السبع وبفتح فسكون وقيل بفتحتين ضد الفراغ والبال بالموحدة القلب والحال ويصح ارادة كل منهما خلافا لما قاله الحلبي من أن المراد به الأول لذكر البدن (بما طوقه) أي الإنسان كما في نسخة صحيحة هو بضم طاء وكسر واو مشددة أي بسبب ما حمله الله وكلفه وفي نسخة صحيحة بما قلده الإنسان أي ألزمه كالطوق في عنقه (من مقاليد المحنة) أي مفاتح المشقة والبلية (التي أبتلي بها) بصيغة المجهول والظاهر أنه أراد بالمحنة جميع الأمور التكليفية والحوادث الكونية النازلة على الافراد الإنسانية والحلبي حملها على محنة مباشرة الأحكام والقضاء وأورد حديث من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين رواه أصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وقال الترمذي حسن غريب وقال الحاكم: صحيح الإسناد وفي رواية للنسائي من استعمل على القضاء فكأنما ذبح بالسكين وقال التلمساني أراد المصنف بذلك كونه في حيطة القضاء التي هي محنة وبلية كما قال بعضهم (فكادت) أي قربت مقاليد المحنة (تشغل) أي الإنسان (عن كلّ فرض، ونفل) وهو بفتح التاء والغين وأما أشغل فهو لغة جيدة أو قليلة أو رديئة على ما في القاموس، (وتردّ) أي وكادت ترد السالك (بعد حسن التّقويم) أي باستقامته على الطريق القويم (إلى أسفل سفل) وهو بضم السين وكسرها ضد العلو والمعنى إلى قبح التنزل بارتكاب الفعل الذميم إيماء إلى قوله تعالى لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ أي من الفطرة المستقيمة ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ أي من ارتكاب المعصية إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ يعني وهم في أعلى عليين وثوابهم، غير مقطوع في كل زمان وحين، (ولو أراد الله بالإنسان) أي بفرد من هذا الجنس وفي نسخة بعبده (خيرا) أي في تحصيل كماله وتحسين مآله (لجعل شغله) أي جعل اشتغال خاطره (وهمّه) أي ما يهم به الإنسان ويروى ووهمه أي باله يعني اهتمام باله (كلّه، فيما يحمد) بصيغة المعلوم أي في فعل مأمور وترك منهي مما يمدحه الإنسان (غدا) أي يوم القيامة (أو يذمّ) أي مما يكره السالك (محلّه) بفتح الحاء ويجوز كسرها والحاصل أن يكون شغله وهمه في بيان الامر الممدوح والمذموم بأن يرتكب الأول ويجتنب الثاني وقال الشمني أي فيما يحمد بفعله واجبا كان أو نفلا أو فيما يذم بتركه وهو الواجب انتهى وبعده لا يخفى وفي نسخة صحيحة ولا يذم بصيغة المجهول فيه وفيما قبله وهو ظاهر جدا ومحله مفعول ليحمد ويذم على التنازع خلافا للتلمساني حيث جعل العائد على الموصول فيما يحمد منصوبا محذوفا وأما بناء الفعلين على صيغة المجهول ورفع محله كما قاله الدلجي فمخل للتسجيع بقوله كله؛ (فليس ثمّ) بفتح فتشديد ويوقف عليه بلا هاء السكت كما في قوله تعالى وَإِذا(1/26)
رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ وقال التلمساني ولك الإتيان بهاء السكت وهو الأكثر أي هناك غدا (سوى حضرة النّعيم) أي حضوره وفيه إشارة إلى قوله تعالى وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً وفي نسخة صحيحة نضرة النعيم واقتصر عليه التلمساني اشعارا إلى قوله تعالى تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أي بهجته وحسنه وابعد من قال إنه من إضافة الشيء إلى نفسه ويمنعه البصري ويجوزه الكوفي على ما ذكره التلمساني. (أو عذاب الجحيم) أي لانحصار المنزلتين كما قال الله تعالى إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ؛ (ولكان) عطف على لجعل (عليه) أي لوجب عليه الاشتغال (بخويّصته) بضم ففتح فسكون فمشددة تصغير خاصة والمراد بها نفسه أو الأمر الذي يختص به من المهمات الدينية والدنيوية وروي بخويصة نفسه وقد قيل المراد بها الموت وفيه إيماء إلى قوله تعالى عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وإلى ما ورد عليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة ومن غريب ما وقع أن بعض الناصحين قال لمن كان في صدد أن يكون من السلاطين عليك بخويصة نفسك فلما تولى بعد مدة من الزمان قال اقتلوه فإن صفير صاده في اذني إلى الآن، (واستنقاذ مهجته) بضم الميم أي استخلاص روحه مما يرديه، (وعمل صالح يستزيده) أي الإنسان بأن يجعل ذلك العمل سببا لزيادة درجته، (وعلم نافع) أي شرعي (يفيده) أي لغيره فيكون معلما (أو يستفيده) بنفسه بأن يكون عالما أو من غيره فيكون متعلما (جبر الله تعالى صدع قلوبنا) أي أصلح الله كسرها بما اعتراها من طوارق محن وبوارق احن، (وغفر عظيم ذنوبنا) أي ومحا عيوبنا العظيمة وسترها (وجعل جميع استعدادنا) أي عدتنا في أمر زادنا، (لمعادنا) أي ليعود نفعه لنا في مرجعنا وآخر أمرنا، (وتوفّر دواعينا) أي وجعل تكثير مكاسبنا ومطالبنا (فيما ينجينا) من الانجاء أو التنجية أي فيما يخلصنا وفيه إيماء إلى الدعاء المأثور لا تجعل الدنيا أكبر همنا وفي نسخة بفتح الفاء في توفر على أنه جملة دعائية معطوفة على ما قبلها من الجمل ولو روي بصيغة المضارع المعلوم لناسب قوله: (ويقرّبنا إليه زلفى) ، أي تقريبا خاصا وفي التنزيل ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى قال البيضاوي زلفى مصدر أو حال واغرب التلمساني في قوله إنه جمع مفرده زلفة إذ الصواب إن جمع زلفة ككلف جمع كلفة (ويحظينا) بضم أوله وكسر الظاء المعجمة أي يرفع قدرنا ويخصنا بالمنزلة العلية والمرتبة الحظية (بمنّه) أي بسبب امتنانه وهو متعلق بيحظينا ويقربنا أيضا وأبعد التلمساني في قوله أي متوسلين بمنه (ورحمته) .
أي بإحسانه والمعنى أنه لا يعاملنا باعمالنا ولعل الجمل المضارعية أحوال من الجمل الدعائية (ولمّا نويت تقريبه) ، أي وحين أردت تقريب التصنيف إلى عالم وجوده بفضل الله وجوده (ودرّجت تبويبه) ، بتشديد الراء أي جعلت تبويبه مرتبا ومدرجا يعني درجة في التأليف (ومهّدت تأصيله) بتشديد الهاء أي صيرت أصوله ممهدة مؤسسة واغرب التلمساني حيث قال مهدت أي فرشت وتأصيله أي تفريقه (وخلّصت تفصيله) ، أي وجعلت فصوله مبينة معينة (وانتحيت) أي وقصدت (حصره وتحصيله) أي تبيينه في الأمور التي ذكرها قال التلمساني وفي رواية بالخاء(1/27)
المعجمة والباء الموحدة من الانتخاب وهو التصفية إلا أن الرواية الأولى أظهر من الثانية قلت بل لا يظهر له معنى أصلا لقوله انتخبت حصره فهو تصحيف وتحريف بلا شبهة.
(ترجمته) جواب لما أي سميته: (بالشّفاء) وهو بكسر الشين ممدودا وقصر وقفا أو مراعاة للسجع بقوله (بتعريف حقوق المصطفى) وقد أجازوا للناثر ما يجوز للشاعر من الضرائر وقصر الممدود سائغ اتفاقا وأجاز عكسه الكوفيون ومنعه البصريون حجة الأولين:
فلا فقر يدوم ولا غنا ورد بأن الرواية الصحيحة:
فلا فقري يدوم ولا غناكا وأغرب الحلبي في نقل كلام ابن مرزوق بقوله ويقال إنه قصره لأن هذا الكتاب يقصر عن حقوقه صلى الله تعالى عليه وسلم والله أعلم. (وحصرت الكلام فيه) أي في هذا الكتاب (في أقسام أربعة) وفي نسخة أربعة أقسام وهذا بيان بعد الإجمال والله أعلم بالحال (القسم الأول) : بكسر القاف وهو النصيب والجزء وأما بالفتح فهو مصدر قسمت الشيء (في تعظيم العليّ الأعلى) من باب إضافة المصدر إلى فاعله أي الله سبحانه وتعالى، (لقدر هذا النّبيّ) صلى الله تعالى عليه وسلم زيد في نسخة الكريم والأولى وجود المصطفى (قولا وفعلا) كما سيأتي كذلك، (وتوجّه الكلام) بصيغة الماضي أي انحصر (فيه) أي في القسم الأول ولا يبعد أن يكون مصدرا مبتدأ خبره قوله (في أربعة أبواب الباب الأول) أي من القسم الأول (في ثنائه تعالى) أي حسن ذكره (عليه، وإظهاره عظيم قدره) أي مرتبته (لديه) وهو مع مراعاته للسجع أخص من عنده على ما قاله النحويون من أن عنده يجوز أن يكون بحضرته وفي ملكه وأما لديه فمختص بالحضرة، (وفيه عشرة فصول) سيأتي تفصيلها (الباب الثاني) أي من القسم الأول (في تكميله تعالى له المحاسن) أي المناقب الصورية والمعنوية جمع حسن على غير قياس وكأنه جمع محسن (خلقا) بالفتح (وخلقا) بضمتين وبسكون الثاني وقدم الأول لسبق وجوده الناشىء منه إظهار كرمه وجوده، (وقرانه) بكسر القاف أي وفي مقارنته وجمعه (جميع الفضائل الدّينيّة والدّنيويّة) بحذف الألف عند مباشرة ياء النسبة والمراد بها الفضائل الدنيوية التي تنتفع في الأمور الأخروية وإلا فقد قال أنتم أعلم بأمور دنياكم ثم الدنيا على ما قاله المصنف في مشارق الأنوار اسم لهذه الحياة لدنوها من أهلها وبعد الآخرة عنها انتهى وقيل لدناءتها، (فيه) أي في حقه (نسقا) بفتحتين أي جمعا متتابعا ولا معنى لقول التلمساني هنا أي عطفا وتبعا ولقد أجاد الدلجي حيث أفاد أي مناسبا بعضها بعضا مستوية في كمالها كجواهر منتظمة في نظام واحد زيادة لجمالها، (وفيه سبعة وعشرون فصلا) قال التلمساني بل ستة وعشرون فصلا أقول ولعله أتي بالسابع فضلا. (الباب الثالث) أي من القسم الأول من الكتاب (فيما ورد من صحيح الأخبار) أي الأحاديث والآثار، (ومشهورها) أي مشهور الأخبار عند الاخيار (بعظيم قدره عند ربّه. ومنزلته) أي مكانته وهو عطف تفسير لعظيم(1/28)
قدره، (وما خصّه) أي الله تعالى كما في نسخة يعني وبما جعله مخصوصا (بِهِ فِي الدَّارَيْنِ مِنْ كَرَامَتِهِ، وَفِيهِ، اثْنَا عشر فصلا) هكذا في النسخ كلها التي عليها الرواية والتصحيح والمقابلة والذي في هذا الباب من الفصول خمسة عشر ولعله أراد بالاثني عشر فصولا مهمة وبزيادة الثلاثة مكملة ومتممة وهذا ملخص كلام التلمساني (الباب الرّابع) أي في القسم الأول (فيما أظهره الله تعالى على يديه) أي بسببه (من الآيات) ، أي العلامات التي هي خوارق العادات (والمعجزات) وهي تخص بالتحدي (وشرّفه به من الخصائص، والكرامات) ، تعميم بعد تخصيص وإيماء إلى أن كرامات أولياء أمته بمنزلة معجزاته وفي مرتبة كراماته (وفيه ثلاثون فصلا) قال التلمساني الذي فيه من الفصول تسعة وعشرون ولعله عد ما صدر من الباب إلى الفصل فَصْلًا. (الْقِسْمُ الثَّانِي: فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْأَنَامِ) قال المحشي: فيه أقوال فقيل كل من يعتريه النوم وقيل الأنام الأناس وقيل الانام المخلوقات قلت يرد القوم الأول أنه مهموز لا معتل العين ففي القاموس الانام كسحاب الخلق أو الجن والإنس أو جميع ما على وجه الأرض انتهى ولعل الخلق خصه بالحيوانات أولا ولا يخفى أن المعاني الثلاثة محتملة في قوله تعالى وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ وأما هنا فيراد به الإنس والجن أو جميع الخلق على القول بأنه بعث إلى الخلق كافة كما في رواية مسلم فيجب على كل فرد من المخلوقات ما يناسبه في كل مقام (من حقوقه عليه الصّلاة والسّلام، ويترتّب القول) قال التلمساني أي يتمكن والظاهر أن المعنى يجيء الكلام مرتبا (فيه) أي في هذا القسم (في أربعة أبواب الباب الأوّل) أي في القسم الثاني: (في فرض الإيمان به) أي في بيان كون الإيمان به فرضا عينيا على جميع الأعيان، (ووجوب طاعته) أي في سائر ما أمر به ونهى عنه، (واتّباع سنّته) أي متابعة طريقته أي قولا وفعلا وتخلقا، (وفيه خمسة فصول) قال التلمساني بل هي أربعة والعذر تقدم. (الباب الثّاني) أي من القسم الثاني، (في لزوم محبّته، ومناصحته) أي مصادقته وموافقته ومخالصته، (وفيه ستّة فصول) بل هي خمسة. (الباب الثّالث) أي من القسم الثاني (في تعظيم أمره) أي شأنه أو حكمه، (ولزوم توقيره) أي تعظيمه ونصره، (وبرّه) أي زيادة إحسانه وعدم مخالفته فإنه فوق منزلة الأب وفي قراءة شاذة وهو أب لهم فيجب بره ويحرم عقوقه ولو في أمر مباح في حده وقيل طاعته، (وفيه سبعة فصول) بل ستة. (الباب الرّابع) أي من القسم الثاني (فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَالتَّسْلِيمِ، وَفَرْضِ ذَلِكَ) بالجر أي وفي بيان فرض ما ذكر (وفضيلته) أي وفي ثواب ما ذكر وزيادة فضله (وفيه عشرة فصول) بل تسعة.
(القسم الثّالث فيما يستحيل) أي لا يمكن وجوده (في حقّه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي عقلا ونقلا (وما يجوز عليه شرعا) أي قولا وفعلا، (وما يمتنع) أي في الجملة وما لا يجوز عليه شرعا، (ويصحّ) أي وما يصح (من الأمور البشريّة أن يضاف) أي ينسب خلاصة فائدتها (إليه وهذا القسم) أي الثالث- (أكرمك الله) جملة اعتراضية بين المبتدأ وخبره وردت دعاء لمن خوطب به كما في قوله:(1/29)
إن الثمانين وبلغتها ... قد احوجت سمعي إلى ترجمان
وقد يرد الاعتراض للتنزيه كما في قوله تعالى وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ أو للتنبيه في مثل
واعلم فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا
(هو سرّ الكتاب) أي خلاصته، (ولباب ثمرة هذه الأبواب) أي أبواب هذا القسم كما ذكره الدلجي والصواب أبواب هذا الكتاب والمعنى أنه زبدة نتيجتها وخلاصة فائدتها، (وما قبله) أي من القسمين (له كالقواعد) جمع القاعدة وهي الاساس في المنقولات والمعقولات من قوانين كلية مشتملة على مسائل جزئية، (والتّمهيدات) أي التوطئات، (والدّلائل) أي وكالدلائل العقلية والنقلية (على ما نورده فيه) أي في حقه ما يجب ويستحب ويباح ويحرم وغير ذلك مما يعزر قائله أو يؤدب (من النّكت البيّنات) أي اللطائف الواضحات، (وهو) أي هذا القسم الثالث أيضا (الحاكم على ما بعده) أي من القسم الأخير. (والمنجز) بصيغة الفاعل مخففا أي وهو الموفي (من غرض هذا التّأليف وعده) أي الذي سبق وعده، (وعند التّقصّي) بالقاف بمعنى الاستقصاء والتتبع أي وعند بلوغ المقصد الأقصى (لموعدته) بفتح الميم وكسر العين والتاء فيه للوحدة وهو بمعنى الموعد والمراد به المصدر وإن كان يصلح أن يكون زمانا أو مكانا وقيل الموعدة اسم للعدة (والتّفصّي) بالفاء أي التخلص والتفلت (عن عهدته) أي التزامه وتحمله، (يشرق) بفتح الياء والراء أي يضيق، (صدر العدوّ) أي قلبه واغرب التلمساني بقوله هو مقدم كل شيء وأوله (اللّعين) ، أي الملعون حسدا منه والمراد بالعدو الجنس أو ابليس واقتصر عليه التلمساني والأول أظهر واتم لشموله كل كافر كما يدل عليه مقابلته بالمؤمن في قوله (ويشرق) بضم أوله وكسر الراء أي يضيء ويستنير (قلب المومن باليقين) قيد مخرج للمنافقين وفي الكلام تجنيس تحريف، (وتملأ أنواره) أي أنوار يقينه (جوانح صدره) بفتح الجيم وكسر النون جمع جانحة أي اضلاعه التي تحت الترائب مما يلي الصدر كالضلوع مما يلي الظهر والمراد الإحاطة بجميع جوانب صدره، (ويقدر) بضم الدال وقول التلمساني بضم وبكسر ليس في محله أي يعظم أو يعرف (العاقل) بالمهملة والقاف وفي نسخة بالمعجمة والفاء، (النّبيّ حقّ قدره) أي حق عظمته أو حق معرفته.
فمبلغ العلم فيه أنه بشر ... وأنه خير خلق الله كلهم
ولذا قال بعض العارفين الخلق عرفوا الله تعالى وما عرفوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم (وليتحرّر) أي يتلخص ويتخلص (الكلام فيه في بابين الباب الأوّل) أي من القسم الثالث (فيما يختصّ بالأمور الدّينيّة، ويتشبّث) أي يتعلق (به القول في العصمة) وهي خلق الله تعالى الامتناع من المعصية والأمور الدنية (وفيه ستّة عشر فصلا) هذا صحيح ليس فيه اعتراض أصلا. (الباب(1/30)
الثّاني) أي من القسم الثالث (في أحواله الدّنيويّة، وما يجوز طروّه) بضمتين فسكون واو فهمز وفي نسخة بالادغام أي وقوعه وحدوثه (عليه من الأعراض البشريّة) أي من العوارض الإنسانية فإن الأعراض جمع عرض بفتحتين وهو ما يعرض للإنسان من مرض ونحوه من السهو والنسيان ثم اعلم أن صاحب القاموس ذكر مادة طرأ مهموزا ومغتلا وعلى تقدير الهمزة يجوز الابدال والادغام (وفيه تسعة فصول) بل ثمانية. (القسم الرّابع في تصرّف وجوه الأحكام) أي تنوع أنواعها من مسائلها ونوازلها (على من تنقّصه) أي من عد فيه نقصا أو تكلم بما يتضمن نقصه (أو سبّه) تخصيص بعد تعميم أي شتمه، (عليه الصلاة والسلام) وفي معناه سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (وَيَنْقَسِمُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي بَابَيْنِ الْبَابُ الْأَوَّلُ) أي من القسم الرابع (في بيان ما هو في حقّه كسب ونقص) تعميم بعد تخصيص (من تعريض) أي كناية وتلويح (أو نصّ) أي ظاهر وتصريح وقال محش نص عليه إذا عينه وعرض إذا لم يذكره منصوصا عليه بل يفهم الغرض بقرينه الحال (وفيه عشرة فصول) بل تسعة. (الباب الثّانيّ) أي في القسم الرابع (في حكم شانئه) بهمز بعد النون أي مبغضه ومنه قوله تعالى إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ، (ومؤذيه) بالهمز ويجوز ابداله أي مضره وهو اخص مما قبله وبعده وهو قوله، (ومشقصه) وفي نسخة متنقصه، (وعقوبته) أي وفي بيان عقابه وجزائه في الدنيا (وذكر استتابته) أي طلب توبته (والصّلاة) أي وذكر صلاة الجنازة (عليه ووارثته) أي من المسلم أو المسلم منه، (وفيه عشرة فصول) قال الحلبي هكذا في الأصول لكن بخط مغلطاي أن صوابه خمسة يعني عوض عشرة. (وختمناه) أي القسم الرابع (بباب ثالث: جعلناه تكملة) أي تكميلا (لهذه المسألة ووصلة) بضم الواو أي توصيلا (للبابين اللّذين قبله) أي من القسم الرابع (في حكم من سبّ الله تعالى) متعلق بالباب الثالث (ورسله) وكذا حكم انبيائه (وملائكته، وكتبه) أي المنزلة، (وآل النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وصحبه) عموما أو خصوصا (واختصر الكلام) بصيغة المجهول الماضي وفي نسخة بصيغة المتكلم وفي أخرى واختصرنا الكلام أي بالاقتصار على المقصود (فيه) أي في هذا الباب (في خمسة فصول) بل في عشرة فصول على ما ذكره التلمساني وقال الحلبي هكذا وقع أيضا في الأصول وصوابه عشرة فصول لأنه فيما يأتي ذكره عشرة. (وبتمامها) أي بإتمام فصول هذا الباب الثالث من القسم الرابع (ينتجز الكتاب) أي ينقضي وينتهي، (وتتمّ) أي وتكمل (الأقسام) أي الأربعة، (والأبواب) أي الثلاثة عشر جميعها وهو كالتفسير لما قبله، (وتلوح) أي تضيء وتظهر به (في غرّة الإيمان) أي بياض جبهته ومقدمه طلعته (لمعة) بالضم أي قطعة (منيرة) أي منورة لمن اطلع عليها وقد يقال الغرة استعيرت للشرف والشهرة، (وفي تاج التّراجم) بكسر الجيم أي ويلوح في تاج تراجم الإيقان، (درّة خطيرة) أي ذات خطر وقدر ويعني جوهرة نفيسة أو لؤلؤة ليس لها قيمة لمن وقع يده عليها ثم كل من لمعة ودرة مرفوعة على الفاعلية لأن لاح فعل لازم ففي القاموس الاح بدا والبرق(1/31)
أومض كلاح وجعل التلمساني ضمير يلوح إلى الكتاب المتقدم ذكره وانتصابهما على الحال (تزيح) استئناف مبين أو جملة حالية من الازاحة أي تزيل اللمعة وفي معناها الدرة (كلّ لبس) ، بفتح فسكون أي إشكال وخلط وشبهة وخبط (وتوضح) أي تكشف وتظهر (كلّ تخمين) أي قول من غير تحقيق، (وحدس) أي صادر عن ظن ووهم وهو قد سقط من أصل المؤلف على ما قاله بعضهم لكن لا بد من ذكره لتمام السجع وهما بمعنى واحد، (وتشفي صدور قوم مؤمنين) عطف على تلوح وفي نسخة بحذف الياء ولعله قصد التلاوة لكنه مع ما بعده بصيغة التأنيث في نسخة صحيحة (وتصدع بالحقّ) أي تجهر به وتظهره (وتعرض عن الجاهلين) أي تتركهم إيماء إلى قوله سبحانه وتعالى فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، (وبالله تعالى- لا إله) أي توكلنا إذ لا معبود بحق موجود (سواه) أي غيره الجملة معترضة حالية (أستعين) أي أطلب المعونة به لا بغيره من المخلوقين بقوله تعالى إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أي نخصك بالاستعانة لأن غيرك عاجز عن الاعانة وفي نسخة وبالله لا سواه أستعين لا إله إلا هو الملك الحق المبين.(1/32)
القسم الأول [في تعظيم العلي الأعلى جل وعلا]
(في تعظيم العليّ الأعلى) أي رفعة ورتبة (لقدر النّبيّ المصطفى) وفي نسخة بحذف النبي ووجوده أولى كما لا يخفى (قولا) ورد به القرآن الكريم والفرقان القديم (وفعلا) من معجزات باهرة وآيات ظاهرة ونصبهما بنزع الخافض. (قال الفقيه) على ما في نسخة (القاضي الإمام) على ما في أخرى (أبو الفضل رحمه الله تعالى) ففيه إشعار بأنه ملحق من كلام غيره وفي نسخة صحيحة وفقه الله وسدده ففيه تصريح بأنه من كلام نفسه لكن لا يلائمه حينئذ وصف الإمام (لا خفاء) بفتح الخاء أي لا يخفى (على من مارس) أي لازم ودارس (شيئا) أي قليلا (من العلم، أو خصّ) بصيغة المجهول أي خصه الله تعالى من بين العوام (بأدنى لمحة) بفتح اللام وهي النظرة الخفية ويروى لحظة وأما قول التلمساني هي بضم أوله أي شيء قليل من النظر وأصله من لمح البصر وهو نظر لا تردد فيه واللمحة بالفتح المرة وهو الأولى ههنا لأنه إذا كان يفهم ذلك مرة فيظهر فذو المرار أولى وأشهر فهو كلام غير محرر إذ ضم اللام غير مشتهر فتدبر (من الفهم) ويروى من الفهم وهو أظهر، (بتعظيم الله قدر نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم) الباء ظرفية متعلقة بخفاء وقدر منصوب على المفعولية (وخصوصه إيّاه) أي وتخصيص الله تعالى نبينا (بفضائل) أي بزوائد من الكرامات، (ومحاسن) أي ومستحسنات من الاخلاق المكرمات، (ومناقب) أي وبنعوت وصفات كثيرات من الكمالات العلمية والعملية التي أسناها معرفة الله سبحانه وتعالى من حيث الذات والصفات، (لا تنضبط) أي لا تجتمع لكثرتها ولا تنحصر ولا تدخل تحت ضبط (لزمام) بكسر الزاي قال التلمساني يروى بالباء واللام انتهى لكنه في النسخ المصححة باللام فقط أيّ لضابط يرى ضبطها ويقصد ربطها ويجتهد في احصائها ويتوهم إمكان استقصائها وهو مستعار من زمام الناقة وهو ما يجعل في حلقة مسلوكة في انفها لحصول انقيادها، (وتنويهه) أي وبرفع ذكره ومن تبعيضية وأبعد الدلجي في قوله من زائدة (من عظيم قدره) أي من قدره العظيم وفي نسخة صحيحة من عظم قدره وفي أخرى بعظيم قدره (بما تكلّ) بفتح فكسر فتشديد أي بما تعجز وتعي (عنه الألسنة) أي ألسنة الإنسان في البيان، (والأقلام) أي وتبيان البنان، (فَمِنْهَا مَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ ونبّه به على جليل نصابه) أي عظيم منصبه، (وأثنى) أي وما أثنى (به عليه) أي في كتابه (من أخلاقه) أي أحواله الباطنة (وآدابه) أي أفعاله الظاهرة كما أخبر به عنه صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله أدبني ربي فأحسن تأديبي،(1/33)
(وحضّ) بتشديد المعجمة أي ورغب وحث (العباد على التزامه) أي حملهم على قبول تكليفه بوصف دوامه (وتقلّد إيجابه) أي بإطاعة جنابه فيما أوجبه في كتابه: (فكان جلّ جلاله) أي عظمت عظمته وعز جماله (هو الذي تفضّل) أي اعطاه من فضله (وأولى) أي أنعم عليه بما علم المولى بأنه الأولى وهذا قبل ظهور وجوده لما تعلق به من كرمه وجوده (ثمّ طهّر وزكّى) أي طهره بالتخلية وزكاه بالتحلية في عالم دنياه بما ينفعه في عقباه من التحلية وأما قول الدلجي ثم طهره من عبادة الأصنام فلا يناسب لمقامه عليه السلام (ثمّ مدح) أي مدحه (بذلك، وأثنى) أي عليه مع أنه من آثار فعله وأنوار فضله فهو الحامد والمحمود كما أنه هو الشاهد والمشهود في جميع ميادين الوجود فليس في الدار غيره موجود، (ثمّ أثاب) أي جازاه (عليه الجزاء الأوفى) أي بالجزاء الأوفر والحظ الأكبر أو نصبه على المصدر من غير فعله، (فله الفضل بدءا وعودا) أي فله الإحسان على وجه الزيادة في الابتداء والإعادة، (والحمد أولى، وأخرى) ، أي في الدنيا والعقبى وفي نسخة والحمد أولى وأخرى عطفا على الفضل أي وله الحمد كما في قوله تعالى هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ فهذه النسخة أولى من الأولى كما لا يخفى ويجوز أن يكونا اسمي تفضيل أي وله أولي الحمد وأخراه الخ والمراد استيعابه كقوله تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا وأما قول بعضهم إن اسم التفضيل لا يستعمل إلا مضافا أو موصولا بمن أو معرفا باللام فمنقوض بقوله سبحانه وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى كانوا هم أظلم واطغى المهم إلا أن يعتبر من المقدرة في حكم المذكورة (ومنها ما أبرزه) أي أظهره (للعيان) بكسر العين أي للمعاينة (من خلقه) بفتح الخاء المعجمة خلافا لمن توهم وضبطه بالضم إذ المراد هنا شمائله الظاهرة ومن لبيان ما الموصولة (على أتمّ وجوه الكمال) أي أكمل أنواع وجوه كمال الجمال وهي صفات اللطف والإكرام (والجلال) وهي صفات القهر والانتقام أو المراد بالكمال النعوت الثبوتية وبالجلال الصفات السلبية وهي قولنا في حقه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا في زمان ولا في مكان وسائر الأمور الحدوثية فحينئذ يقال معناه المنزه عن شوائب النقصان في نظر أرباب الحال وفي نسخة بكسر الخاء المعجمة بمعنى الخصال، (وتخصيصه) أي ومن جعله مخصوصا (بالمحاسن الجميلة) أي الحسنة من الأفعال، (والأخلاق الحميدة) أي المحمودة من الأحوال، (والمذامي الكريمة) أي المرضية من الأقوال، (والفضائل العديدة) أي الكثيرة التي عدها من المحال وهو من العد ومعناه الكثير لا من العدد فيتوهم أنها حصرت واحصيت ويروى السديدة أي الفضائل الواقعة على سنن السداد (وتأييده) أي ومن تقويته (بالمعجزات الباهرة) أي البارعة الفائقة الغالبة القاهرة، (والبراهين الواضحة) أي وبالادلة الظاهرة (والكرامات البيّنة) أي الخوارق اللائحة وهي أعم من المعجزات فإنها مقرونة بالتحدي مع عدم المعارضة مما يصدق الله تعالى بهما انبياءه في دعوى النبوة سميت معجزة للاعجاز عن الاتيان بمثلها وسميت آية لكونها علامة دالة على تصدق الله تعالى لهم مع أن المقام مقام يذم(1/34)
فيه الإيجاز ويمدح الاطناب سيما في خطاب الاحباب (التي شاهدها) أي عاينها وأغرب التلمساني بقوله أي حضر لها ففاعل بمعنى فعل أي شهدها (من عاصره) أي من أدرك عصره وزمانه ويروى من عاصرها أي البراهين والكرامات، (ورآها من أدركه) أي صادف أوانه ويروى من أدركها، (وعلمها علم اليقين) وفي نسخة علم يقين أي من غير شك وتخمين قال بعض العارفين علم اليقين ما كان بشرط البرهان وعينه بحكم البيان وحقه بنعت العيان فعلم اليقين لأصحاب العقول وعينه لأصحاب العلوم وحقه لأصحاب المعارف (من جاء بعده) أي من التابعين واتباعهم، (حتّى انتهى) أي إلى أن وصل (علم حقيقة ذلك) أي بلغ حقيقة ما هنالك (إلينا وفاضت أنواره) أي ظهرت آثاره وكثرت أنواره ويروى أنوارها (عَلَيْنَا: «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا» . حَدَّثَنَا) وفي بعض النسخ أخبرنا (الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الحافظ) رحمه الله تعالى وهو الأندلسي المعروف بابن سكرة بضم فتشديد ترجمته معروفة استشهد بثغر الأندلس سنة أربع عشرة وخمسمائة وكان من أهل العلم بالحديث (قراءة منّي عليه) نصب قراءة على نزع الخافض أو على أنه تمييز أو حال أي حدثنا بقراءة أو من جهة قراء أو حال قراءة مني عليه لا بقراءته ولا بقراءة غيره وهذا على مذهب من لا يرى بين حدثنا وأخبرنا وأنبأنا فرقا كالبخاري ومن تبعه، (قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الجبّار) أي ابن أحمد الحمامي بفتح مهملة وتخفيف وهو من أهل الخير والصلاح على ما ذكره ابن ماكولا في اكماله، (وأبو الفضل أحمد بن خيرون) بفتح معجمة فسكون تحتية ممنوعا وقد يصرف ثقة عدل متقن له ترجمة في الميزان توفي سنة ثمان وثمانين وأربعمائة قال الحلبي رأيت عن المزني أن الأصل في خيرون الصرف ولكن المحدثون لا يصرفونه لشبهه بالجمع المذكر السالم انتهى والأظهر أنه بناء على اعتبار المزيدتين مطلقا عند بعضهم كالفارسي كما قالوا في سيرين وغلبون، (قالا) أي كلاهما: (حدّثنا أبو يعلى البغداديّ) بالمعجمة في الثانية وهو الأصح وإلا فيجوز بمهملتين ومعجمتين وبإهمال إحديهما وإعجام الأخرى وهو أحمد بن عبد الواحد بن محمد بن جعفر يعرف بابن زوج الحرة، (قال حدّثنا أبو عليّ السّنجيّ) بكسر المهملة وسكون نون فجيم نسبة إلى بلدة تسمى سنج مرو، (قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَحْبُوبٍ) هو أبو العباس المحبوبي المروزي التاجر الأمين راوي جامع الترمذي عنه مشهور، (قال: حدّثنا أبو عيسى بن سورة) بفتح مهملة وسكون واو فراء (الحافظ) أي الترمذي وهو صاحب الجامع الضرير قيل ولد اكمه قال الذهبي ثقة مجمع عليه ولا التفات إلى قول أبي محمد بن حزم أنه مجهول فإنه ما عرفه ولا أدري بوجود الجامع ولا إلى علل الدين انتهى ولا شك أن تجهيل الترمذي يضر ابن حزم بلا عكس كما لا يخفى، (قال: حدّثنا إسحاق بن منصور) هذا هو الكوسج الحافظ روى عن ابن عيينة فمن بعده وعنه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه (حدّثنا عبد الرّزاق) أي ابن همام بن نافع أبو بكر الصغاني الحافظ أحد الأعلام روى عن ابن جريج ومعمر وأبي ثور وعنه أحمد وإسحاق(1/35)
صنف الكتب أخرج له أصحاب الكتب الستة، (أنبأنا معمر) بفتح الميمين ابن راشد أبو عروة البصري عالم اليمن أخرج له الجماعة قال معمر طلبت العلم سنة مات الحسن ولي أربع عشرة سنة (عن قتادة) هو ابن دعامة أبو الخطاب السدوسي الأعمى الحافظ المفسر روى عن عبد الله بن سرجس وأنس وخلق وعنه أيوب وشعبة وخلق (عن أنس رضي الله تعالى عنه) أي ابن مالك خادم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وترجمته شهيرة ومناقبه كثيرة (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم: أتي) أي جيء (بالبراق) بضم الموحدة وتخفيف الراء سمي به لسرعة سيره كالبرق أو لشدة بريقه وقيل لكونه أبيض وقال المصنف لكونه ذا لونين يقال شاة برقاء إذا كان في خلال صوفها الأبيض طاقات سود وقد وصف في الحديث بأنه أبيض وقد يكون من نوع الشاة البرقاء وهي معدودة في البيض انتهى وهو دابة دون البغل وفوق الحمار ويضع حافره عند منتهى طرفه كما في الصحيح وفي رواية على ما نقله ابن أبي خالد في كتاب الاحتفال في اسماء خيل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن وجهه كوجه الإنسان وجسده كجسد الفرس وقوائمه كقوائم الثور وذنبه كذنب الغزال لا ذكر ولا انثى وفي تفسير الثعلبي جسده كجسد الإنسان وذنبه كذنب البعير وعرفه كعرف الفرس وقوائمه كقوائم الإبل وإظلافه كأظلاف البقر وصدره كأنه ياقوتة وظهره كأنه درة بيضاء وله جناحان في فخذيه يمر كالبرق (ليلة أسري به) ظرف بني على الفتح لإضافته إلى الجملة الفعلية الماضوية المبنية للمجهول (ملجما مسرجا) اسما مفعول من الالجام والإسراج وهما حالان مترادفان أو متداخلان (فاستصعب) أي استعسر البراق (عليه) أي لبعد عهده بالأنبياء من جهة طول الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام على ما ذكره ابن بطال في شرح البخاري وهي ستمائة سنة على ما ذكره التلمساني أو لأنه لم يركبه أحد قبل نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بناء على خلاف سيأتي في ذلك وقيل استصعب تيها وزهوا بركوبه عليه السلام، (فقال له جبريل) وفيه ثلاث عشرة لغة والمتواتر منها أربع معروفة، (أبمحمّد تفعل هذا) أي يا براق كما في رواية وضبط تفعل بخطاب المذكر ولو روي بصيغة المجهول الغائب لكان له وجه والهمزة للإنكار التوبيخي والإشارة إلى الاستصعاب المفهوم من استصعب (فما ركبك) بخطاب المذكر تعظيما له (أحد أكرم) بالرفع والنصب (على الله تعالى منه) وفي رواية فو الله ما ركبك ملك مقرب ولا نبي مرسل أفضل ولا أكرم على الله منه فقال قد علمت أنه كذلك وأنه صاحب الشفاعة وأني أحب أن أكون في شفاعته فقال أنت في شفاعتي (قال) النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو أنس رواية عنه (فارفضّ) بتشديد الضاد المعجمة أي فسال البراق (عرقا) نصب على التمييز المحول من الفاعل أي تبدد عرقه حياء وخجالة مما صدر عنه بمقتضى طبعه فهذا يؤيد القول الأول فتأمل وقد قال الزبيدي في مختصر كتاب العين في اللغة وصاحب التحرير وهي دابة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والثناء قال النووي وهذا الذي قالاه من اشتراك جميع الأنبياء معه يحتاج إلى نقل صحيح انتهى وقد قال ابن بطال ما معناه ركبها(1/36)
الأنبياء وأقره السهيلي على ذلك وفي سيرة ابن هشام أنه بلغه عن عبد الله يعني ابن الزبير في حج إبراهيم البيت وفي آخره وكان إبراهيم يحجه كل سنة على البراق انتهى ونقل القرطبي في تذكرته قبيل أبواب الجنة بيسير عن ابن عباس ومقاتل والكلبي في قوله تعالى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ أن الموت والحياة جسمان فيجعل الموت في هيئة كبش لا يمر بشيء ولا يجد ريحه شيء إلا مات وخلق الحياة في صورة فرس انثى بلقاء وهي التي كان جبريل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يركبونها خطوها مد البصر فوق الحمار دون البغل لا تمر بشيء يجد ريحها الا حيي إلى أن قال حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس والماوردي عن مقاتل والكلبي وفيها أيضا في صفة الجنة ونعيمها أن البراق يركبها الأنبياء مخصوصة بذلك في أرضها وهذا من كلام الترمذي الحكيم وحديث فما ركبك أحد أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم صريح في ذلك وكل هذا يرد على النووي كذا قاله الحلبي لكن فيه بحث إذ ليس فيما ذكر نقل صحيح ولا دليل صريح على أن البراق واحد مشترك فيه فعلى تقدير صحة التعدد ينبغي أن يجعل اللام للجنس جمعا بين الروايات وأن يكون لكل نبي براق لكن أخرج الطبراني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا وأبعث على البراق فهذا يشير إلى اختصاصه عليه السلام يومئذ به واشتراكه قبل ذلك اليوم وقد ذكر السيوطي في البدور السافرة قال معاذ وأنت تركب العضباء يا رسول الله قال لا تركبها ابنتي وأنا على البراق اختصصت به دون الأنبياء يومئذ الحديث فهذا ظاهره اتحاد البراق مع احتمال اختصاصه بركوبه صلى الله تعالى عليه وسلم دون الأنبياء حينئذ والله تعالى أعلم وقد جاء في بعض الروايات أن جبريل عليه الصلاة والسلام أيضا ركب معه عليه الصلاة والسلام والظاهر أنه ركب خلفه بل جاء صريحا فيما رواه الطبراني في الأوسط من رواية محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن أبيه أن جبريل أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالبراق فحمله بين يديه الحديث قال الطبراني لا يروى عن ابن أبي ليلى إلا بهذا الإسناد قال الحلبي وهو معضل ويرده قول العسقلاني ليس بمعضل بل سقط عليه قوله عن جده وهو ثابت في أصل الطبراني انتهى وفي مسند أبي يعلى عن علقمة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال أتيت بالبراق فركب خلفي جبريل عليه السلام الحديث قال الحلبي فهذا نقل في المسألة ولكنه مرسل قلت والمرسل حجة عند الجمهور وقد ذكر ابن حبان في صحيحه أن جبريل عليه السلام حمله على البراق رديفا له قال الحلبي هذا وما تقدم يتعارضان لكن حديث أبي يعلى ضعيف ولو صح لجمع بينهما بأنه تارة ركب هذا ذهابا أو إيابا والآخر كذلك إذا قلنا إن الإسراء مرة وهو الصحيح على ما قاله بعضهم قلت الصواب في دفع التعارض والجمع بين التناقض أن يجعل رديفا حالا من الفاعل في حمله على ما هو الظاهر ليكون الضميران المستتران لجبريل عليه السلام والبارزان له صلى الله تعالى عليه وسلم وهو المقتضي للأدب خصوصا في الرسول بالنسبة إلى المطلوب المحبوب ويؤيده أنه صلى الله تعالى عليه وسلم(1/37)
قال لأبي ذر وقد رآه يمشي أمام أبي بكر أتمشي أمامه وهو خير منك ثم اعلم أنه اختلف في الإسراء والمعراج هل كانا في ليلة واحدة أو لا وأيهما كان قبل الآخر وهل كان ذلك في اليقظة أو المنام أو بعضه كذا وبعضه كذا أو يقال أسري به ولا يتعرض لمنام ولا يقظة على ما في أوائل الهدي لابن القيم فتصير الأقوال خمسة وهل كان المعراج مرة أو مرات واختلفوا في زمانه فقيل للسابع والعشرين من شهر الربيع الأول وقيل من الآخر وقيل لسبع عشرة خلت من شهر رمضان وقيل ليلة سبع وعشرين من رجب وبه جزم النووي في الروضة في السير وخالف في الفتاوى فقال إنهما ليلة السابع والعشرين من شهر الربيع الأول وخالف المكانين المذكورين في شرح مسلم فجزم بأنهما ليلة السابع والعشرين من شهر الربيع الآخر تبعا للقاضي عياض وعن الماوردي أنهما في شوال وسيأتي أقوال سبعة في تعيين السنة.(1/38)
الْبَابُ الْأَوَّلُ [فِي ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ عليه السلام]
أي من القسم الأول (في ثناء الله تعالى) أي مدحه (عليه وإظهاره عظيم قدره لديه) أي عنده في مقام قربه كما يفهم من الآيات المتلوة والأحاديث النبوية وقال الدلجي أي عنده في اللوح المحفوظ لتعلم الملائكة زيادة شرفه وتمييزه على غيره إذ هي المرادة. هنا فيلتزموا توقيره وتعظيمه انتهى لكنه يحتاج إلى نقل كما لا يخفى ثم قال الدلجي الثناء هنا باعتبار غايته فهو إما أنعام بأنواعه من تكريم وتعظيم فيرجع إلى صفات الأفعال وأما إرادة ذلك فيرجع إلى صفات الذات وإلا فهو في الأصل إما بمعنى الحمد والشكر أو المدح أو عام فيهما ومورد ذلك كله الجوارح وهو في حقه محال فيكون مجازا مرسلا لكون العلاقة غير المشابهة ففيه بحث ظاهر إذ الثناء من باب الكلام وهو في حقه سبحانه وتعالى ثابت حقيقة على ما عليه أهل السنة والجماعة خلافا للمعتزلة فلا يحتاج إلى اعتبار مجاز الغاية بخلاف صفتي الغضب والرحمة لما حقق في محلهما والله تعالى أعلم (اعلم) خطاب عام وهو الاحق أو خاص بالسائل كما سبق (إن في كتاب الله العزيز) أي النادر في بابه أو الغالب على سائر الكتب بنسخه في خطابه (آيات كثيرة مفصحة) أي موضحة مصرحة (بجميل ذكر المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم) أي المجتبى في باب الصفاء والوفاء (وعد محاسنه) أي وبتعداد مكارم اخلاقه (وتعظيم أمره وتنويه قدره) أي رفعة شأنه وحكمه (اعتمدنا منها) أي من تلك الآيات (على ما ظهر معناه) أي من منطوق الدلالات (وبان فحواه) أي تبين مقتضاه من مفهوم العلامات على ما له من الكمالات (وجمعنا ذلك) أي ما ذكر من الأصول (فِي عَشَرَةِ فُصُولٍ) .
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ [فِيمَا جَاءَ من ذلك مجيء المدح والثناء]
أي النوع الأول من هذا الباب (فيما جاء) أي في كتابه (من ذلك) أي مما ذكر من الآيات (مجيء المدح والثناء) نصب مجيء على المصدر. (وتعداد المحاسن) بفتح التاء أي ومجيء تكرار أخلاقه الحسنة وهو جمع حسن على غير قياس ونصبه على ما في نسخة غير مستقيم (كقوله تعالى) وفي نسخة لقوله تعالى باللام وهو غير ملائم للمرام: (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ الآية) بدأ بها فإنها مشتملة على جملة من امتنانه سبحانه وتعالى مما يوجب تعظيم رسوله ويعلي شأنه منها القسم المستفاد من اللام المقرونة بقد الدالتين على تحقيق الكلام ومنها الإيماء في جاء إلى أن رسولنا لو كان في الصين لكان(1/39)
الواجب عليكم المأتي إليه لتعلم علم الدين ومعرفة اليقين فيكون إتيانه فضلا منا عليكم وإحسانه منه إليكم فيجب حسن استقباله وإطاعة أمره وإقباله ومنها تنكير رسول فإنه يشير إلى أنه رسول عظيم تفخيما لشأنكم وتأييدا لبرهانكم ومنها أنه جعل من جنسكم البشري فإنكم لن تطيقوا على التلقين الملكي وليكون أدعى إلى متابعته حيث يفعل أيضا بمقتضى مقالته ولو كان ملكا لربما قيل إن القوة البشرية ليست كالقدرة الملكية ومنها أنه جعل من صنفكم العربية وإلا لقلتم أمرسل إليه عربي والرسول إليه أعجمي ثم بقية الآية عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي شديد شاق عليه عنتكم وتعبكم ووقوعكم في عذابكم حريص عليكم أن تؤمنوا كلكم بالمؤمنين منكم ومن غيركم رؤوف رحيم والرأفة أشد الرحمة فذكر الرحيم تذييل أو عكس مراعاة للفواصل لا لكونه أبلغ كما توهم الدلجي (قال السّمرقنديّ) بفتح سين مهملة وميم وسكون راء هو المشهور على الألسنة وأما ما ضبطه بعض المحشيين كالتلمساني وغيره من سكون ميم وفتح راء فهو لحن على ما صرح به القاموس وهو الإمام الجليل الحنفي المحدث المفسر نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي الفقيه أبو الليث المعروف بإمام الهدى تفقه على الفقيه أبي جعفر الهندواني وهو الإمام الكبير صاحب الأقوال المفيدة والتصانيف المشهورة العديدة توفي سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة له تفسير القرآن أربع مجلدات والنوازل في الفقه وخزانة الفقه في مجلدة وتنبيه الغافلين وكتاب البستان وذكر التلمساني أنه أبو علي واسمه الحسن بن عبد الله منسوب إلى بلدة سمرقند من أهل الظاهر روى عن داود بن علي الظاهري لكن المعتمد هو الأول وسيأتي في مواضع من كتاب الشفاء حيث يروي عنه القاضي بواسطة واحدة والله أعلم وأبو الليث السمرقندي متقدم يلقب بالحافظ وهو الفرق بينهما ذكره التلمساني. (وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: 128] بِفَتْحِ الْفَاءِ) وهي قراءة شاذة مروية عن فاطمة وعائشة رضي الله تعالى عنهما وقرأ به عكرمة وابن محيص وغيرهما وفي المشترك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قرأها كذلك، (وقراءة الجمهور بالضّمّ) وضبطه بعضهم بالفتح وهو غير مشهور وضبط قراءة بصيغة المصدرية ويمكن قراءته بالجملة الفعلية ثم رأيت في حاشية أنهما روايتان والجمهور بالضم معظم الناس، (قال الفقيه القاضيّ أبو الفضل وفّقه الله تعالى) أي المصنف، (أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَوِ الْعَرَبَ أَوْ أَهْلَ مَكَّةَ أَوْ جَمِيعَ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ المفسّرين من المواجه) أي من الذي وقع له المواجهة من المؤمنين أو غيرهم (بهذا الخطاب) يعني جاءكم فمن بفتح الميم موصول وكسر نونه في الوصل لالتقاء الساكنين والمواجه بصيغة المفعول مرفوع ثم الظاهر العموم الشامل لجميع الإنس بل والجن أيضا على وجه التغليب أما من اختار المؤمنين فلأنهم المرادون في الحقيقة والمنتفعون بمتابعته في الطريقة وأما من اختار العرب فلما يدل عليه ظاهر قوله تعالى حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ولما يتبادر من قوله أَنْفُسِكُمْ(1/40)
جنس العرب ولا ينافي ما اخترناه من العموم فتح الفاء لأنه إذا كان أشرف جنس العرب فيكون أفضل سائر الأجناس فإنهم أكرم الناس لما تقرر في محله وأما من اختار أهل مكة فلما أشار إليه المصنف بناء على قراءة الضم. (أَنَّهُ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، يَعْرِفُونَهُ) اي محله ومرتبته بحليته ونعته (ويتحقّقون مكانه) أي مكان ولادته ونسبه ورتبته أو رفعة قدره وعلو شأنه ويؤيده ما في نسخة مكانته وهو مخل بالتسجيع لما قبله ملائم لقوله (ويعلمون صدقه، وأمانته، فلا يتّهمونه بالكذب) في دعوى رسالته أي ولذا كانوا يسمونه محمد الأمين لكمال ديانته (وترك النّصيحة لهم) أي وترك ارادة الخير لهم (لكونه منهم) وهو أبعد للتهمة في ترك النصيحة في حقهم، (وأنّه) بالفتح عطف على أنه السابق الواقع مفعولا ثانيا لا علم ولا يبعد أن يكون مجرور المحل معطوفا على كونه والحاصل أنه: (لَمْ تَكُنْ فِي الْعَرَبِ قَبِيلَةٌ إِلَّا وَلَهَا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) على للمصاحبة كقوله تعالى وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ أي مع رسول الله (ولادة) ، أي قرابة قريبة (أو قرابة) أي بعيدة، (وهو) أي هذا المعنى المستفاد من قوله وأنه الخ (عند ابن عبّاس) ، كما رواه عنه البخاري والطبراني (وغيره) أي من المفسرين (مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] ) في قوله تعالى قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على التبليغ أجرا إلا المودة أي لكن المودة في القربى لازمة من الجانبين وأنا لا أقصر في نصيحتكم وإرادة الخير لكم ومحبتكم فيجب عليكم أيضا أن تجتهدوا في متابعتي ونصرتي ودفع الاذى عن أهل ملتي (وكونه) قال الحلبي هو بالرفع لكن الظاهر كما اقتصر عليه الدلجي أنه بالجر عطفا على قوله والمعنى وهو معنى كونه عليه السلام (من أشرفهم) أي نسبا، (وأرفعهم) أي حسبا، (وأفضلهم) أي سخاوة ونجادة (على قراءة الفتح) أي بناء عليها (وهذه) أي المنقبة (نهاية المدح) أي من هذه الجهة، (ثمّ وصفه) أي الله سبحانه وتعالى (بعد) بالضم أي بعد قوله من أنفسكم (بأوصاف حميدة، وأثنى عليه بمحامد) بالمنع جمع محمدة بمعنى مدحة (كثيرة) أي عديدة: (من حرصه على هدايتهم) أي دلالتهم على العقائد الدينية، (ورشدهم) أي إرشادهم إلى ما فيه صلاح أمورهم من الأحكام الشرعية، (وإسلامهم) أي انقيادهم واستسلامهم للحوادث الكونية بقوله حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ (وشدّة ما يعنتهم) من الأفعال والتفعيل أي ما يشق عليهم ولا يطيقونه، (ويضرّ بهم) ضبط في نسخة بضم الياء وكسر الضاد وهو غير صحيح لوجود الباء في مفعوله وقول الدلجي إن الباء زائدة غير صحيح ففي القاموس ضره وبه وأضره والصواب ضبطه بفتح وضم التقدير وما يضرهم (في دنياهم وأخراهم وعزّته عليه) أي ومن غلبة ما يعنتهم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لقوله عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ وكان الأولى مراعاة الترتيب القرآني كما لا يخفى بأن يقدم قضية العزة على الشدة ثم يقول. (ورأفته، ورحمته بمؤمنيهم) أي ومؤمني غيرهم وفي نسخة بمؤمنهم بصيغة الإفراد على إرادة الجنس بطريق الاستغراق(1/41)
بقوله بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ والرأفة أدق من الرحمة ولعل التفاوت بحسب القابلية والرتبة، (قال بعضهم: أعطاه) أي الله (اسمين من أسمائه رؤوف) بالاشباع ودونه فمن الأول قول كعب بن مالك الأنصاري.
نطيع نبيا ونطيع ربا ... هو الرحمن كان بنا رؤوفا
ومن الثاني قول جرير:
يرى للمسلمين عليه حقا ... كفعل الوالد الرؤوف الرحيم
(رحيم) أي على وصف التنكير وأما بصيغة التعريف فالظاهر أنه لا يجوز إطلاقهما على غيره سبحانه (ومثله) أي ومثل معنى الآية الأولى (فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) خصوا لكونهم المنتفعين (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 164] . الْآيَةَ. وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) أي العرب الذين غالبهم ما قرأ ولا كتب (رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة: 2] ) أي أميا مثلهم لكن الأمية في حقه عليه الصلاة والسلام معجزة ومنقبة وفي حق غيره معيبة ومنقصة (الآية) تمامها يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي مع كونه أميا فهذا أظهر معجزاته ويزكيهم أي يطهرهم من خبائث الأحوال والأعمال ويعلمهم الكتاب والحكمة أي السنة والشريعة. (وقوله) أي وفي الآية الأخرى وقوله: (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 151] الْآيَةَ) إلى قوله فَاذْكُرُونِي بالطاعة أذكركم بالمثوبة. (وروي عن عليّ بن أبي طالب، كرم الله تعالى وجهه عنه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي كما رواه ابن أبي عمر العدني في مسنده (فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: 129] قَالَ: نسبا) أي قرابة مختصة بالآباء على ما في القاموس ونصبه على التمييز وكذا قوله (وصهرا) قال البيضاوي في وقوله تعالى وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً أي قسمه قسمين ذوي نسب أي ذكورا ينسب إليهم وذوات صهر أي اناثا يصاهر بهن والحاصل أنه شريف الجانبين وكريم الطرفين ثم قوله (وحسبا) أريد به ما يعده الإنسان من مفاخر آبائه من الدين أو الكرم أو المال وقيل الحسب والكرم قد يكونان بمن لا شرف لآبائهم والشرف والمجد لا يكونان إلا بهم (ليس في آبائي) أي أسلافي من الأب والجد والأم والجدة (من لدن آدم) بفتح لام وضم دال وسكون نون ويجوز سكون الدال وكسر النون أي من عند ابتداء زمن آدم عليه الصلاة والسلام إلى وجود الخاتم صلى الله تعالى عليه وسلم (سفاح) بكسر السين وهو صب ماء الرجل بلا عقد على ما قاله المحشي والأولى أن يقال المراد به الوطء من غير مجوز لأن السرية لا عقد لها والحاصل أن المراد به الزنا وما لا يجوز وطؤه شرعا (كلّها نكاح) أي ذو عقد أو كل واحد منا ناكح أو قصد به المبالغة كرجل عدل وهو واقع على التغليب وإلا فأم إسماعيل عليه الصلاة والسلام سرية اللهم إلا أن يقال قد اعتقها وعقد عليها قال المحشي ويروى كلها نكاح وهو(1/42)
كذا في نسخة ولعل التقدير كل المجامعة ذات نكاح وفي حديث لما خلق الله تعالى آدَمَ أَهْبَطَنِي فِي صُلْبِهِ إِلَى الْأَرْضِ وَجَعَلَنِي فِي صُلْبِ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ وَقَذَفَ بِي فِي النَّارِ فِي صُلْبِ إِبْرَاهِيمَ ثُمَّ لَمْ يزل ينقلني من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة إلى أن أَخْرَجَنِي مِنْ بَيْنِ أَبَوَيَّ لَمْ يَلْتَقِيَا عَلَى سفاح قط، (قال ابن الكلبيّ) وهو محمد بن السائب أبو النصر المفسر النسابة الأخباري وترجمته معروفة في الميزان وغيره: (كتبت للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم خمسمائة أمّ) لعله أراد به التكثير وإلا فمحال أن يكون بينهما خمسمائة أم إذ بينه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين عدنان أحد وعشرون أبا إجماعا وبين عدنان وآدم على ما بينه ابن إسحاق وغيره ستة وعشرون ابا فيكون بينه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين آدم عليه الصلاة والسلام سبعة وأربعون أبا بسبع وأربعين أما ولا يبعد أنه عد امهاته وأمهات أعمامه وأمهات أعمام آبائه إلى آدم والله تعالى أعلم (فما وجدت فيهنّ سفاحا) أي ذات سفاح (ولا شيئا ممّا كان عليه الجاهليّة) أي من اخذ الأخدان لشهادة حديث ابن عدي والطبراني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح وقد نقل عن أكثر أهل السير كزبير بن بكار وغيره أن كنانة خلف على برة بعد أبيه خزيمة على عادة العرب في الجاهلية في أن أكبر ولد الرجل يخلف على زوجته إذا لم يكن منها وهذا مشكل لأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول كلنا نكاح ليس فينا سفاح ما ولدت من سفاح أهل الجاهلية وذكر السهيلي وغيره في هذا اعذارا منها أن الله تعالى يقول وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أي من تحليل ذلك قبل الإسلام وفائدة هذا الاستثناء أن لا يعاب نسب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى وبعده لا يخفى وذكر الحافظ أبو عثمان وعمرو بن بحر في كتاب له سماه كتاب الأصنام قال وخلف كنانة بن خزيمة بن مدركة على زوجة أبيه بعد وفاته وهي برة بنت اد بن طابخة تحت كنانة بن خزيمة فولدت له النضر بن كنانة وإنما غلط كثير من الناس لما سمعوا أن كنانة خلف على زوجة أبيه لا تفارق اسمها وتقارب نسبها قال وهذا الذي عليه مشايخنا من أهل العلم بالنسب قال ومعاذ الله أن يكون أصاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مقت بنكاح وقال من اعتقد غير هذا فقد أخطأ وشك في الخبر ويؤيد ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم تنقلت في الأصلاب الزاكية إلى الأرحام الطاهرة؛ (وعن ابن عبّاس، رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) [الشعراء: 218] ) أي كما رواه ابن سعد والبزار وأبو نعيم في دلائله بسند صحيح عنه أنه (قال من نبيّ إلى نبيّ حتّى أخرجتك) وفي نسخة صحيحة حتى أخرجتك (نبيّا) ولا يخفى أن المراد به أن بعض الآباء كانوا من الأنبياء وفي الآية عنه وعن غيره معاني أخر، (وقال جعفر بن محمّد) أي ابن عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب الهاشمي المدني المعروف بالصادق أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأمها اسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر وكان يقول ولدت في الصديق مرتين متفق على إمامته(1/43)
وجلالته وسيادته قال البخاري في تاريخه ولد سنة ثمانين وتوفي سنة ثمان وأربعين ومائة انتهى وقد أخرج له مسلم والأربعة وكذا البخاري في كتابه أدب المفرد: (علم الله تعالى عجز خلقه عن طاعته) أي عن معرفة ما يطلب منهم فعلا وتركا من طاعته بغير واسطة رسول وبعثته لبيان عبادته، (فعرّفهم) بتشديد الراء أي فأعلمهم (ذلك) أي العجز (لِكَيْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَنَالُونَ الصَّفْوَ مِنْ خدمته) أي الخالص من طاعته بل إنما ينالون بالواسطة من فضله ورحمته كما قال الله تعالى قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا وفي قضية إبليس إيماء إلى أن كثرة الخدمة غير مفيدة مع قلة الرحمة، (فأقام بينه وبينهم مخلوقا من جنسهم في الصّورة) أي مباينا لصنفهم في السيرة؛ (أَلْبَسَهُ مِنْ نَعْتِهِ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ، وَأَخْرَجَهُ إِلَى الخلق سفيرا) أي وأظهره مرسلا إليهم حال كونه رسولا مصلحا لما بينهم (صادقا) أي مطابقا قوله فعله وموافقا حكمه خبره، (وجعل طاعته طاعته) بنصبهما أي كطاعة الله تعالى أي فيما يأمره وينهاه وهو تشبيه بليغ مفيد للمبالغة وهو أن طاعته عين طاعته وكذا قوله (وموافقته موافقته) أي في أمر دينه ودنياه فلا تجوز مخالفته في طريق مولاه كما قال سبحانه وتعالى في حقه فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ (فَقَالَ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] ) وقد روي من أحبني فقد أحب الله ومن عصاني فقد عصى الله تعالى وكذا قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ (وَقَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) [الأنبياء: 107] ) وكذا قوله صلى الله تعالى عليه وسلم إنما أنا رحمة مهداة على ما رواه الحاكم عن أبي هريرة (قال أبو بكر محمّد بن طاهر) وفي نسخة محمد ابن طاهر أي ابن محمد بن أحمد بن طاهر الاشبيلي القيسي وبهذا يعرف أن ليس المراد به عبد الله بن طاهر الأبهري الذي هو من أقران الأشبيلي خلافا لما توهمه التلمساني قال العسقلاني هو مغافري شاطبي روى عن أبيه وابن علي النسائي وغيرهما وأجاز له أبو الوليد الباجي: (زيّن الله محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم بزينة الرّحمة) أي بزيادة المرحمة (فكان كونه) أي وجوده (رحمة) وأغرب الدلجي في قوله مكان كونه موصوفا بالرحمة رحمة، (وجميع شمائله) جمع شمال بالكسر وهو الخلق بالضم والمراد بها أخلاقه الباطنة، (وصفاته) الظاهرة من نحو كرمه وجوده (رحمة) الأولى مرحمة لتغاير الأولى والمعنى محل رحمة نازلة (على الخلق) أي عامة وخاصة، (فَمَنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ رَحْمَتِهِ فَهُوَ النَّاجِي) قال التلمساني أي الخالص والصواب المخلص (في الدّارين) أي حالا ومآلا (من كلّ مكروه) أي مغضوب (والواصل فيهما) أي وهو الواصل في الكونين (إلى كلّ محبوب) وفيه إيماء إلى ما ورد من أن الله تعالى خلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصاب من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه فقد ضل وغوى؛ (ألا ترى) بصيغة الخطاب المعلوم ويجوز أن يقرأ بصيغة الغائب المجهول أي ألا تعلم (أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً) أي ذا رحمة وأريد بها المبالغة (لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ) أي من غير تقييد للمؤمنين أو(1/44)
لأمته دون غيرهم من المخلوقين ويستفاد من نسبة الرحمة الإلهية أنها ليست من الأمور العارضية (فكانت حياته رحمة، ومماته رحمة) بل وليس هناك موت ولا فوت بل انتقال من حال إلى حال وارتحال من دار إلى دار فإن المعتقد المحقق أنه حي يرزق. (كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم) فيما رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده والبزار بإسناد صحيح:
(حياتي خير لكم) وهو ظاهر (وموتى لكم) قال الدلجي بشهادة وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ حيا وميتا انتهى وغرابته لا تخفى فالأظهر أن يقال لأنه قال تعرض على أعمالكم فأشفع في غفران سيئاتكم وأدعو لكم في تحسين حالاتكم والمعنى أني متوجه إليكم وراحم عليكم وشفيع لكم حيا وميتا بالنسبة إلى حاضركم وغائبكم أو التقدير وموتي قبلكم خير لكم فيوافق ما أراده المصنف بقوله. (وكما قال عليه الصّلاة والسّلام) أي على ما رواه مسلم (إذا أراد الله تعالى رحمة بأمه) قال الحافظ المروزي المعروف رحمة أمة وكذا رواه مسلم كذا ذكره الحجازي قلت وفي الجامع الكبير أيضا بلفظ أن الله تعالى إذا أراد رحمة أمة من عباده: (قبض نبيّها قبلها) أي قبل موت جميعها (فجعله لها فرطا وسلفا) أي بين يديها كما في الصحيح وهما بفتحتين أي متقدما وسابقا فإنهما ما أصيبت بمصيبة أعظم من موت نبيها وأصل الفرط هو الذي يتقدم الواردين ليهيئ لهم ما يحتاجون إليه عند نزولهم في منازلهم ثم استعمل للشفيع فيمن خلفه ثم تتمة الحديث على ما في صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعا وإذا اراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي فأهلكها وهو ينظر فاقر عينيه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره. (وقال السّمرقنديّ) أي أبو الليث إمام الهدى الحنفي كما ذكره الدلجي (رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ) بالنصب على الحكاية. (يعني) أي يريد سبحانه وتعالى بالعالمين (للجنّ والإنس) أي المؤمنين بقرينة تقابله بقوله. (وقيل لجميع الخلق) أي المكلفين لقوله: (للمؤمن رحمة) بالنصب ويجوز رفعها أي رحمة خاصة (بالهداية) وكان الأولى أن يقول رحمة للمؤمن بالهداية ليطابق الآية وليوافق قوله، (ورحمة للمنافق بالأمان من القتل، ورحمة للكافرين بتأخير العذاب) أي إلى العقبى ولا يبعد أن يكون تقديم المؤمن إشارة إلى حصر الرحمة المختصة بالهداية كما قال الله تعالى هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أي بالدلالة الموصلة التي هي خلق الهداية في خواص الإنسان من أهل الإيمان مع أنه هدى للناس باعتبار عموم الهداية بالدلالة المطلقة التي هي بمعنى البيان. (قال ابن عبّاس رضي الله عنهما) أي فيما رواه جرير وابن أبي حاتم في تفسيرهما والطبراني والبيهقي في دلائله: (هُوَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ إِذْ عُوفُوا مِمَّا أصاب غيرهم من الأمم المكذّبة) أي من أنواع العقوبة ومآل هذا القول إلى ما قبله ثم الأظهر أن العالمين يشمل الملائكة أيضا ويدل عليه قوله. (وحكي) بصيغة المجهول وقال الحجازي ويروى (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَلْ أصابك من هذه الرّحمة) أي المنقسمة على هذه الأمة من نبي الرحمة (شيء) أي من الرحمة مختص بك فالاشارة إلى موجود في الذهن إذ(1/45)
الرحمة معنى يوجده الله تعالى فيمن يشاء من خلقه وفيها يتفاوتون. (قال: نعم، كنت أخشى العاقبة) أي آخر أمري من سوء الخاتمة لما وقع لإبليس من الزلة (فأمنت) بفتح فكسر وضبطه التلمساني بصيغة المجهول ففي القاموس الأمن ضد الخوف أمن كفرح وقد أمنه كسمع ائتمنه واستأمنه انتهى ولا يخفى أن بناء المجهول غير ظاهر في المعنى إذ المراد فصرت آمنا ببركة القرآن الذي نزل عليك (لِثَنَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيَّ بِقَوْلِهِ: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) أي صاحب مكانة (مُطاعٍ) أي بين الملائكة (ثَمَّ) أي فيما هنالك (أَمِينٍ [التكوير: 20- 21] ) أي على أمر الوحي وغيره ووجه الاستدلال به أنه تعالى حيث مدحه في محكم كتابه العظيم وأخبر عن حسن حاله للنبي الكريم لا يتصور تبدل حاله ولا تغير مآله ولا يبعد أن يجعل قوله أمين بمعنى مأمون العاقبة وقد سنح بالبال والله تعالى أعلم بالحال أنه صلى الله تعالى عليه وسلم وشرف وكرم رحمة لجميع خلق الله تعالى فإن العالمين لا شك أنه حقيقة فيما سواه ولا صارف بالاتفاق يصرفه عن دلالة الإطلاق ثم من المعلوم أنه لولا نور وجوده وظهور كرمه وجوده لما خلق الإفلاك ولا أوجد الاملاك فهو مظهر للرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء من الحقائق الكونية المحتاج إلى نعمة الإيجاد ثم إلى منحة الإمداد وينصره القول بأنه مبعوث إلى كافة العالمين من السابقين واللاحقين فهو بمنزلة قلب عسكر المجاهدين والأنبياء مقدمته والأولياء مؤخرته وسائر الخلق من أصحاب الشمال واليمين ويدل عليه قوله تعالى تبارك الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ومن جمله انذاره للملائكة قوله سبحانه وتعالى وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ويقويه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم بعثت إلى الخلق كافة وقد بينت وجه ارساله إلى الموجودات العلوية والسفلية في رسالتي المسماة بالصلاة العلية في الصلاة المحمدية. (وروي عن جعفر بن محمّد) أي الباقر (الصّادق) نعت لجعفر (في قوله تعالى:
فَسَلامٌ) أي فسلامة من كل ملامة (لَكَ) أي لرحمتك (مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الواقعة: 91] ) خبر سلام أي حاصل من أجلهم ولو كان من أعظمهم وأجلهم. (أي بك) أي بسبب وجودك أو بسبب كرمك وجودك (إِنَّمَا وَقَعَتْ سَلَامَتُهُمْ مِنْ أَجْلِ كَرَامَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بالشفاعة العظمى فإنها شاملة للنفوس العليا والسفلى من الأولى والأخرى فشملت رحمته في الابتداء والانتهاء في الدنيا والعقبى وقال التلمساني لمحمد روي باللام والباء واللام تعليلية والباء سببية فتكون كرامة مضافة إلى ضمير الفاعل وهو الله سبحانه وتعالى انتهى والنسخ المصححة والأصول المعتمدة على الإضافة إلى المفعول وهو الظاهر في المعنى قال الدلجي أي من أجل إكرام الله إياه فوضع الظاهر موضع المضمر وإلا ظهر أنه التفات من الخطاب إلى الغيبة ثم أغرب الدلجي أن من على هذا زائدة ويجوز أنت كون بمعنى لام التعدي أي لسببك وقع السلام لأصحاب اليمين من أجل إكرام الله تعالى اياك وما قاله تكلف بعيد انتهى والكل تكلف بل تعسف والتحقيق أنه أراد أن الخطاب في(1/46)
ذلك للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والتقدير فسلامة عظيمة لأجلك وبسببك حاصلة لأصحاب اليمين وقوله من أجل توضيح لقوله بك إما بطريق عطف البيان أو على سبيل الاستئناف في التبيان وهذا التأويل خلاف ما قاله أهل التفسير فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين يقال له سلام لك أي مسلم لك أنك منهم أو يا محمد لا ترى فيهم إلا ما تحب من سلامتهم من العذاب وأن منهم من يقول يوم القيامة سلام عليك، (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: 35] ) أي منورهما كما قرئ به ومظهر ما خلق فيهما أو موجد أنوارهما (الآية) بالنصب ويجوز رفعها وخفضها أي اقرأها أو هي معلومة أول إلى آخرها والمراد ما بعدها وهو قوله تعالى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وقد أوضحت معنى الآية في الرسالة المسماة بالصلاة العلية في الصلاة المحمدية عند قوله اللهم صل وسلم على نورك الأسنى واعلم أن النور في الأصل كيفية تدركها الباصرة ويستحيل اطلاقه على الله تعالى إلا بتقدير مضاف ونحوه من نوع تأويل. (قال كعب) وفي نسخة كعب الاحبار بالحاء المهملة وهو كعب بن ماتع بالمثناة الفوقية أدرك زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يره وأسلم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وقيل في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وقيل أدرك الجاهلية وصب عمر وأكثر ما روي عنه وروي أيضا عن جماعة من الصحابة وروى عنه أيضا جماعة من الصحابة والتابعين وكان يسكن في حمص وكان قبل إسلامه على دين اليهود ويسكن اليمن توفي في خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين متوجها للغزو ودفن بحمص ويقال له كعب الحبر أيضا بفتح الحاء وكسرها لكثرة علمه أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وأغرب شارح حيث قال هو كعب بن مالك الأنصاري، (وابن جبير) وهو سعيد بن جبير أحد أكابر التابعين والعلماء العاملين روى عن ابن عباس وغيره وعنه أمم من المحدثين أخرج له الجماعة في كتبهم الستة وكان أسود الصورة وأنور السيرة مستجاب الدعوة قتل سنة خمس وتسعين وهو ابن تسع وأربعين شهيدا في شعبان ومما يدل على كماله في اليقين وتمكنه في الدين ما روي أنه لما دخل على الحجاج بعد إرساله إليه قام بين يديه فقال له أعوذ منك بما استعاذت مريم إذ قالت أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
فقال له ما اسمك قال سعيد بن جبير وقال شقي بن كسير فقال أمي أعلم باسمي قال شقيت وشقيت أمك فقال الغيب يعلمه غيرك قال لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى فقال لو علمت أن ذلك بيدك ما اتخذت إلها غيرك قال لأوردنك حياض الموت فقال إذا أصاب في اسمي أمي يعني إذا كنت شهيدا أكون سعيدا قال فما تقول في محمد قال نبي ختم الله تعالى به الرسل وصدق به الوحي وأنقذ به من الجهالة إمام هدى ونبي رحمة قال فما تقول في الخلفاء قال لست(1/47)
عليهم بوكيل وإنما استحفظت أمر نبي قال فأيهم أحب إليك فقال أحسنهم خلقا وأرضاهم لخالقه واشدهم منه فرقا قال فما تقول في علي وعثمان في الجنة هما أم في النار لو دخلت فرأيت أهلهما لأخبرتك فما سؤالك عن أمر غيب عنك قال فما تقول في عبد الملك بن مروان قال فما لك تسألني عن امرئ أنت واحد من ذنوبه قال فما لك لم تضحك قط قال لم أر ما يضحكني وكيف من خلق من التراب وإلى التراب يعود قال فإني أضحك من اللهو قال ليست القلوب سواء قال فهل رأيت من اللهو شيئا قال لا فدعا بالزمر والعود فلما نفخ فيه بكى فقال له الحجاج ما يبكيك قال ذكري يوم ينفخ في الصور وأما هذا العود فمن نبات الأرض وعسى أن يكون قطع في غير حقه وأما هذه المثاني والأوتار فإن الله سيبعثها معك يوم القيامة قال فإني قاتلك قال إن الله قد وقت وقتا أنا بالغه فإن أجلي قد حضر فهو أمر قد فرغ منه ولا محيص ساعة عنه وإن تكن العافية فالله أولى بها قال اذهبوا به فاقتلوه قال أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له استحفظ لها يا حجاج حتى القاك يوم القيامة فأمر به ليقتل فلما تولوا به ليقتلوه ضحك فقال الحجاج ما أضحكك قال عجبت من جراءتك على الله وحلم الله عنك ثم استقبل القبلة فقال إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قال فحولوه عن القبلة قال فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ قال اضربوا به الأرض قال مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى قال اضربوا عنقه قال اللهم لا تحل له دمي ولا تمهله بعدي فلما قتله لم يزل دمه يغلي حتى ملأ أثواب الحجاج وفاض حتى دخل تحت سريره فلما رأى ذلك هاله وافزعه فبعث إلى بياذوق المتطبب فسأله عن ذلك فقال لأنك قتلته ولم يهله ذلك ففاض دمه ولم يخمد في نفسه ولم يخلق الله شيئا أكثر دما من الإنسان فلم يزل به ذلك الفزع حتى منع منه النوم فيقول ما لي ولك يا سعيد بن جبير ستة أشهر ثم إن بطنه استسقى حتى انشق فمات فلما دفن لفظته الأرض وبقي بعد سعيد بن جبير ستة أشهر ونقل أن السجون عرضت بعد موته فوجد فيها ثلاثة وثلاثون ألفا من المظلومين وقد أحصى من قتله صبرا فوجد مائة ألف وعشرين ألفا: (المراد بالنّور) أي بنوره (الثّاني هنا) أي في تتمة هذه الآية: (محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) لقوله، (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ نُورِهِ [النُّورِ: 35] أَيْ نُورِ محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) على أنه عطف بيان لما قبله وبها يندفع ما قاله الدلجي في قوله هنا أي في هذه الآية من قوله مثل نوره هو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فضميره لله تعالى وقوله مثله نوره أي نور محمد عليه السلام إن كان قولهما فهو مناقض لما قبله إلا أن يقال الإضافة بيانية أي مثل محمد الذي هو نور وهو بعيد أو لغيرهما فلا تناقض انتهى والأظهر أن يقال المراد بالنور محمد والتقدير مثل نور الله الذي هو مشرق ظهوره ومظهر نوره في عالم الكون بخلقه وأمره حسب قضائه وقدره كمشكاة إلى آخره فإن النور عبارة عن الظهور وقد انكشف به الحقائق الإلهية والأسرار الأحدية والأستار الصمدية(1/48)
وبه اشرقت الكائنات وخرجت عن حيز الظلمات وبه صلى الله تعالى عليه وسلم فسر بعض المفسرين قوله تَعَالَى قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ. (وقال) وفي نسخة وقاله وهو غير صحيح (سهل بن عبد الله) هو التستري منسوب إلى تستر قال النووي هو بمثناتين من فوق الأولى مضمومة والثانية مفتوحة بينهما سين مهملة مدينة بخوزستان وقال التلمساني والتاآن مضمومتان وقيل بضم الثانية وتفتح وقيل بفتح فقط وقيل بفتح الأولى وبضم الثانية ويقال ششتر بشينين معجمتين من أعمال الأهواز وقيل بحوزستان انتهى وفي القاموس تستر كجندب بلد وبشينين معجمتين لحن وسورها أول سور بعد الطوفان وقد روي أنه كان صاحب الكرامات العالية ولم يكن في وقته له نظير في المعاملات ولم يزل يشتغل في الرياضة العملية إلى أن كان يفطر في كل يوم على أوقية من خبز الشعير بلا أدام فكان يكفيه لقوته درهم واحد في عام وهو مع ذلك يقوم الليل كله ولا ينام وأسلم عند وفاته يهود تنيف على التسعين لما رأوا الناس انكبوا على جنازته وشاهدوا أقواما ينزلون من السماء فيتمسحون بجنازته ويصعدون وينزل غيرهم فوجا بعد فوج وقد توفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين (المعنى) أي معنى الآية كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (الله هادي أهل السّموات والأرض) أي فهم بنوره يهتدون وبظهوره يوحدون ففسر النور بالهادي لأن النور هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره وقدر المضاف ليتعلق كمال هدايته بأرباب ولايته (ثم قال) أي سهل بن عبد الله: (مثل نور محمّد) أي صفة نوره العجيبة الشأن الغريبة البرهان (إذ كان) أي حين صار (مستودعا) بفتح الدال أي مودعا (في الأصلاب) أي أصلاب الآباء أولهم آدم عليه الصلاة والسلام من الأنبياء فنوره صلى الله تعالى عليه وسلم في كل صلب انتقل إليه (كمشكاة صفتها كذا) أي كصفة كوة غير نافذة موصوفة بكونها فيها مصباح أي سراج أو فتيلة المصباح في زجاجة أي قنديل من الزجاج الزجاجة كأنها إلى آخرها فشبه مادة جسمه وقالبه في أصلاب الآباء السالفة بالكوة في الحائط التي ليست نافذة فصح قوله.
(وأراد بالمصباح قلبه، والزّجاجة) أي وأراد بالزجاجة (صدره: أي كأنّه) يعني صدره المعبر به عن الزجاجة (كوكب) أي نجم (درّيّ) بضم أوله وتشديد آخره أي مشرق يتلألأ كأنه منسوب إلى الدر المضيء وتخفيف ياء فهمزة نسبة إلى الدرة بمعنى الدفع فكأنه يدفع الظلام بنوره ويرفع الحجاب لظهوره وبكسر أوله مع التخفيف والهمز ولعله من تغيرات النسب كما يقال في بصري وبصري (لما فيه من الإيمان والحكمة) أي من نور الإيمان والإيقان والمراد بالحكمة نور النبوة والإيقان على وجه العيان، (توقد) بصيغة المجهول أي من أوقد مذكرا أو مؤنثا وتوقد بصيغة الماضي المعلوم فقراءة التأنيث مرجعها الزجاجة وقراءة التذكير مرجعها مصباح الزجاجة على حذف المضاف (من شجرة مباركة) أي مبتدأة منتشئة من شجرة كثيرة البركة زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ: (أَيْ مِنْ نُورِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) إذ هو أصل شجرة التوحيد وفضل ثمرة التفريد، (وضرب) بصيغة المفعول(1/49)
والفاعل أي بين وعين (المثل بالشّجرة المباركة) فطوبى لشجرة لها هذه الثمرة فجعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكونه معدن اسرار عوارف المنافع وأنوار لطائف الشرائع الذين هم الأنبياء وأتباعهم الاصفياء إذ غالبهم بل كلهم بعده من ذريته فهو شجرة النبوة مشبهة بشجرة مباركة زيتونة لكثرة نفعها إذ هو فاكهة وادام ودواء ودهن له ضياء والحاصل أن نور محمد صلى الله تعالى عليه وسلم انتقل من آبائه الكرام إلى أن ظهر ظهروا بينا في ظهر إبراهيم عليه الصلاة والسلام إذ صار علما في علم التوحيد ولا سيما في باب التفويض والاستسلام فهو شجرة كثيرة الخير لأن من بعده من الأنبياء كلهم من ذريته وكان أكثرهم في جهة الشام من الأرض التي بارك الله تعالى حولها وكان الزيتونة إشارة إليها وقوله لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أي حيث لا تقع الشمس عليها حينا دون حين بل حيث تقع عليها طول النهار كالتي تكون على قلة جبل مرتفعة أو صحراء واسعة فإن ثمرتها تكون أنمى وزيتها أصفى أولا نابتة في شرق المعمورة ولا غربها بل في وسطها وهو توابع الشام فإن زيتونه أجود الزيتون في غيرها وهذا بطريق العبارة وأما بتحقيق الإشارة فإيماء إلى قبلة أهل التوحيد وكعبة أهل التفريد حيث إنها ليست شرقية كقبله النصارى ولا غريبة كقبلة اليهود وبالجملة إشارة إلى أن الملة الحنفية أعدل الملل الإسلامية فأهلها متوسطون بين الخوف والرجاء فلا خوف لهم يزعجهم إلى بعد القنوط ولا رجاء يجرهم إلى بساط الانبساط وقال بعضهم لا دنيوية أو لا أخروية بل جذبة الهية إلى مكانة معنوية (وَقَوْلُهُ: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ [النُّورِ: 35] أَيْ: تَكَادُ نبوّة محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) أي المقتبسة من شجرة النبوة. (تبين) بفتح فوقية وكسر موحدة أي تظهر (للنّاس قبل كلامه) أي بادعاء النبوة حالة الرسالة لقوة ما فيها من الأنوار الإلهية ولكونه مظهر الأسرار الصمدية (كهذا الزّيت) أي في صفاء ظاهره وباطنه حيث يضيء ولو لم تمسسه نار من الأنوار الحسية وبعد اجتماع النبوة والرسالة والجمع بين الخلوة والجلوة نُورٌ عَلى نُورٍ كما في اجتماع النار مع ضياء الزيت في كمال الظهور يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ أي لأجل نوره وبواسطة ظهوره أو إلى حضرة نوره وأخذ النور من حضوره من يشاء من خواص أوليائه وأكابر أصفيائه وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ فيه إشعار بأن ما قبله إنما هو مثل للاستئناس ليدرك المعنى في قالب المبنى لكن لا يعقلها إلا العالمون العاملون والمخلصون الكاملون رضي الله تعالى عنهم وجعلنا بفضله منهم، (وقد قيل في الآية) أي على ما ذكره المفسرون وأرباب العربية (غير هذا) أي غير ما ذكرنا مما يتعلق بالعبارة والعاقل تكفيه الإشارة لأن الزيادة على العلامة ربما تورث الملالة والسآمة (وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي القرآن في غير هذا الموضع نورا) أي عظيما مطلقا (وَسِراجاً مُنِيراً) أي شمسا مضيئة حقا ولعل وجه التذكير أنها كوكب والظاهر أنه من باب التشبيه البليغ وكون المشبه به أقوى من حيث شهرته ووضوح دلالته العامة للخاص والعام من عالم الخلق. (فقال) أي الله تعالى: (جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ) أي لظهور الحق(1/50)
وإبطال الباطل وأطلق عليه عليه الصلاة والسلام لأنه يهتدي به من الظلمات إلى النور (وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: 15] بين الإعجاز ومبين الاحكام بالإيجاز وهذا شاهد للمدعي الأول وبيانه أن الأصل في العطف المغايرة وقد حاول بعض المفسرين بأنه من باب الجمع بين الوصفين باعتبار تغايرهما اللفظي وأن المراد بهما القرآن وقد يقال في مقابلهم وأي مانع من أن يجعل النعتان للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه نور عظيم لكمال ظهوره بين الأنوار وكتاب مبين حيث إنه جامع لجميع الاسرار ومظهر للأحكام والأحوال والأخبار (وقال) أي الله سبحانه مخاطبا له صلى الله تعالى عليه وسلم: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) أي على من بعثك إليهم بتصديقهم وتكذيبهم أو شاهدا على جميع الشهداء من الأنبياء كما يستفاد من قَوْلُهُ تَعَالَى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً وهو وما بعده أحوال مقدرة مخبرة بحيازته جميع الجهات المعتبرة (وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي منذرا ولعل وجه العدول رعاية الفواصل أو تفنن العبارة في المحل القابل فهو بشير ونذير ومبشر ومنذر للمطيعين بالجنة والوصلة وللعاصين بالحرقة والفرقة (وَداعِياً) أي جميع الخلق (إِلَى اللَّهِ) أي إلى دينه وحبه ومقام قربه (بِإِذْنِهِ) أي بأمره وتيسيره (وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب: 45، 46] ) يميز بين الحق والباطل في المعتقدات وبين الحلال والحرام في المعاملات وبين محاسن الاخلاق ومساويها في الرياضات فهو الداعي بالشريعة والطريقة والحقيقة إلى المراتب الحقية والدرجات العلية عليه أفضل الصلاة وأكمل التحية.
(ومن هذا) أي الباب أو النوع أو القبيل (قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] إلى آخر السّورة) استفهام أفاد انكار نفي الشرح مبالغة في اثباته إذ انكار النفي نفي له ونفي النفي إثبات أي قد شرحناه لك ومن ثم عطف عليه قوله وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ إشارة إلى المبنى ورعاية للمعنى ومعنى قوله. (شرح: وسّع) بالتشديد، (والمراد بالصّدر هنا: القلب) لأن الصدر غير قابل للتضييق والتوسيع أي وسع قلبه لتجليات ربه وتنزلات حكمه بعد ما كان يضيق صدره لما ينعكس عليه من غبار غيره لقوله تَعَالَى وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ أي فينا أو في القرآن أو فيك ثم قال تعالى كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ فهذا نهي تكوين كما أن قوله تعالى لكِنْ أمر تكوين فيكون المأمور ولا يكون المنهي وبه ينتفي التلوين ويتحقق التمكين المعبر عنه بمرتبة جمع الجمع بين مناجاة الحق ومفاداة الخلق بحيث لا تحجبه الكثرة عن الوحدة ولا عكسه. (قال ابن عبّاس رضي الله عنهما) أي كما رواه أبن أبي حاتم عن عكرمة وابن مردويه وابن المنذر في تفسيرهما عنه أنه قال: (شرحه بنور الإسلام) وفي نسخة بالإسلام وفي أخرى بالإيمان والمعاني متقاربة البيان أي فسح قلبه ووسعه بسبب نور الانقياد وتفويض الأمر إلى المريد المراد العالم بالعباد والعباد في جميع البلاد وفيه إيماء إلى قوله تعالى أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ، (وقال سهل: بنور الرّسالة) أي شرحه به خصوصا(1/51)
فلا ينافي ما تقدم عموما. (وقال الحسن) أي الحسن البصري وهو من أفاضل التابعين ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر رضي الله عنه تعالى ومات بالبصرة سنة عشر ومائة وهو ابن ثمان وثمانين سنة وكانت أمه خادمة أم سلمة رضي الله تعالى عنها من أمهات المؤمنين فكان إذا بكى في صغره جعلت ثديها في فمه فأصاب لذلك بركة عظيمة حتى صار عالما زاهدا يضرب به المثل في كمال العلم والعمل أخرج له الجماعة في الكتب الستة: (ملأه) بالهمزة أي ملأ قلبه (حكما) أي ما يحكم من الأحكام (وعلما) أي بجميع ضروريات الانام وفي نسخة بكسر الحاء وفتح الكاف جمع الحكمة فلعله أراد بها السنة وبالعلم ما يتعلق بالكتاب من جهة دلالة المعنى وقراءة المبنى، (وقيل معناه: ألم نطهّر قلبك) من الاستئناس بالناس (حتّى لا يؤذيك) وفي نسخة لا يقبل (الوسواس) أي لا يشوش عليك الموسوسون من الإنس والشياطين حالة الحضور في حضرة العيان وهو أتم وأعم من تفسير بعضهم الوسواس بالشيطان والحاصل أن الهمزة للتقرير في البيان والمعنى قد طهرنا لك صدرك ولذا عطف عليه قوله (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) أي إثمك وأصله ما يحمل على الظهر ولذا قال (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح: 8- 9] ) أي أثقله حتى ظهر نقيضه ونقيض الظهر صوته.
(وقيل) أي في المراد من قوله وزرك (ما سلف من ذنبك) يعني من التقصيرات أو الهفوات والغفلات (يعني) أي يريد صاحب القيل بهذا القول (قبل النّبوّة) لأنه كان بعدها في مرتبة العصمة، (وقيل أراد) أي الله تعالى به (ثقل أيّام الجاهليّة) وهو بكسر المثلثة وفتح القاف ضد الخفة ويجوز تسكينها تخفيفا وهو لا ينافي أن الثقل بالكسر والسكون واحد الأثقال لأنه لا شك أن المراد به نوع من أثقال الأحمال وهو الواقع في ازمنة الجاهلية من أصحاب الفترة قبل ظهور نور الدولة الإسلامية وقبل إعلاء أعلام العلوم الدينية ولعل فيه إيماء إلى قوله تعالى مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ أي تفاصيل ما يتعلق به على وجه الإيقان ومنه قوله تعالى وَوَجَدَكَ ضَالًّا أي جاهلا عن كمال المعرفة فهدى أي فهداك هداية كاملة وهدى بك جميع الأمة وأما الثقل بفتحتين بمعنى متاع المسافر فلا يبعد أن يكون مرادا هنا إشعارا بأنه صلى الله عليه وسلم حال سلوكه وسيره كان حاملا لأمور ثقيلة على ظهره فرفعها الله تعالى عنه حتى تمكن في مقام تفويضه وتسليم أمره، (وَقِيلَ أَرَادَ مَا أَثْقَلَ ظَهْرَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ) أي من أعبائها فإنه من باب التوجه من الحق إلى الخلق وهو مستثقل عند أرباب الولاية إلا بعد حصول مرتبة جمع الجمع الذي يزيل تفرقة بالكلية بحيث لا تشغله الكثرة عن الوحدة ولا الوحدة عن الكثرة (حتّى بلّغها) بتشديد اللام أي حتى بلغ الرسالة بعد ما بلغ تلك الحالة، (حكاه الماورديّ) من علماء الظاهر وهو ممن تفقه على أبي حامد الاسفراييني وصنف في الفقه والتفسير والأصول توفي سنة خمسين وأربعمائة وهو أبو الحسن بن علي بن حبيب الشافعي (والسّلميّ) من علماء الباطن وهو أبو عبد الرحمن بن عبد الله بن حبيب الكوفي سمع عليا وأبا موسى وغيرهما توفي في زمن بشر بن مروان(1/52)
بالكوفة سنة اثنتي عشرة وأربعمائة وهو بضم السين وفتح اللام منسوب إلى سليم كذا ذكره التلمساني وهو غير صحيح فإنه متناقض الآخر والأول فتأمل والصواب ما ذكره الحلبي بقوله هو أبو عبد الرحمن السلمي النيسابوري شيخ الصوفية وصاحب تاريخهم وطبقاتهم وتفسيرهم مولده سنة ثلاثين وثلاثمائة وتوفي في شعبان سنة اثنتي عشرة وأربعمائة له ترجمة في الميزان، (وقيل عصمناك) أي حفظناك من ارتكاب الذنوب في فعلك (ولولا ذلك) أي عصمتنا لك (لأثقلت الذّنوب ظهرك) وهذا معنى بديع (حكاه السّمرقنديّ) أي أبو الليث وبقي قوله تعالى، (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [الشَّرْحِ: 4] قَالَ يَحْيَى بْنُ آدم) أي ابن سليمان الأموي مولاهم الكوفي أحد الأعلام أخرج له أصحاب الكتب الستة توفي سنة ثلاث ومائتين:
(بالنبوّة) أي ورفعنا ذكرك بسبب النبوة بين الملائكة أو بالنبوة المقرونة بالرسالة بين جميع الأمة أو بالنبوة الروحانية المختصة قبل خلقة آدم بين أرواح المرسلين والملائكة المقربين، (وقيل) أي في معناه (إذا ذكرت ذكرت معي) وسيأتي أن هذا حديث مرفوع قيل، (في قوله) كذا بالإضافة إلى الضمير أي في قول القائل والأظهر أن يقال في قوله: ( «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» ) كما في نسخة وهو مجرور كما هو ظاهر وأغرب الحلبي حيث تبع ضبط بعضهم بالرفع وحاول وجهه بما لا طائل تحته ولعله مبني على أنه وجد في نسخة قول بلا حرف الجر. (وقيل في الأذان) والأول أعم ولا يبعد أن يقال المراد برفع ذكره أنه جعل ذكره ذكره كما جعل طاعته طاعته ولا مقام فوق هذا في الرتبة وهو تشبيه بليغ يمنع الاتحاد القائل به أهل الإلحاد، (قال الفقيه القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى) أي المصنف (هذا) أي ما ذكر في هذه السورة من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر (تقرير) أي تثبيت وتمهيد (من الله جلّ اسمه) أي عظم اسمه فضلا عن مسماه (لنبيّه صلى الله تعالى عليه وسلم على عظيم نعمه لديه) أي دال على عظمة نعمته السابقة الظاهرة والباطنة عنده سبحانه وتعالى (وشريف منزلته) أي قربه ومرتبته، (عنده) أي عنديته المعبر بها عن المكانة (وكرامته) أي وعلى شريف إكرامه وإعظامه (عليه) سبحانه وتعالى، (بأن شرح قلبه للإيمان) أي الكامل الإيقان (والهداية) أي الموصلة إلى مقام الإحسان أو هداية أفراد الإنسان إلى مراتب حقائق الإيمان (ووسّعه) بتشديد السين أي وجعل قلبه وسيعا (لوعي العلم) أي حفظه، (وحمل الحكمة) أي وتحمل ما يحكم العلم به من أمر النبوة (ورفع عنه صلى الله عليه وسلّم ثقل أمور الجاهليّة عليه وبغّضه) بتشديد الغين المعجمة أي جعله مبغوضا (لسيرها) بكسر ففتح جمع سيرة والضمير إلى الجاهلية أي لقواعدها وكان الظاهر أن يقول وبعض سيرها له ولعله من باب القلب على قصد المبالغة وأما ما ضبط بصيغة المصدر في بعض النسخ فلا وجه له أصلا لا نوعا ولا فصلا (وما كانت) عطف على سيرها أي ولما كانت الجاهلية (عليه بظهور دينه) متعلق برفع أي بغلبة أمر دينه وتعليته (على الدّين كلّه) أي على الأديان جميعها، (وحطّ) أي وضع الله (عنه عهدة أعباء الرّسالة، والنّبوّة) أي تكليف ثقلهما(1/53)
وحملهما وهو الجمع بينهما بالأخذ عن الحق وهو مرتبة النبوة والإيصال إلى الخلق وهو منزلة الرسالة وهو أمر صعب إلا لمن وفقه الله تعالى وقواه ومنه قوله تعالى إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا والاعباء بفتح الهمزة جمع عبء بكسر فسكون فهمز (لتبليغه) باللام وفي نسخة بالباء وما لهما واحد إذ اللام تعليلية والباء سببية أي لإبلاغه صلى الله تعالى عليه وسلم (للنّاس ما نزّل إليهم) أي متلوا كان أو غيره من أمر ونهي ووعد ووعيد وهذا مقتبس من قوله تعالى وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (وتنويهه) أي ولرفعه قدره المشعر (بعظيم مكانه) أي مكانته وشأنه (وجليل رتبته) أي عظيم مرتبته (ورفعة) أي ولرفع الله (ذكره) وفي نسخة ورفعة ذكره ويروى ورفيع ذكره، (وقرانه) أي ولجمع الله أي في كلامه بأمره وحكمه (مَعَ اسْمِهِ اسْمَهُ قَالَ قَتَادَةُ: رَفَعَ اللَّهُ ذكره في الدّنيا والآخرة) أي رفعة حسية ومعنوية (فليس خطيب) أي فوق منبر (ولا متشهّد) أي عند إيجاب الإيمان أو تجديد الإيقان، (ولا صاحب صلاة) أي في قعدة أخيرة (إِلَّا يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وأنّ محمّدا رسول الله) أو عبده ورسوله وأن الأولى مخففة من المثقلة. (وروى أبو سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه) كما في صحيح ابن حبان ومسند أبي يعلى (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فقال إنّ ربّي وربّك يقول تدري) أي أتدري كما في نسخة صحيحة (كيف رفعت ذكرك) وفي نسخة فقلت: (الله ورسوله أعلم) الظاهر أن قوله ورسوله سهو قلم وإن وقع في نسخة زيادة يعني جبريل فإنه لا يلائم المقام، (قال) أي الله سبحانه وتعالى: (إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي. قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ) هو أبو العباس أحمد ابن محمد بن سهل بن عطاء الآدمي الزاهد البغدادي أحد مشايخ الصوفية بالعراق كان قانتا مجتهدا في العبادة لا ينام من الليل إلا ساعتين ويختم القرآن في كل يوم وله أحوال ومعارف وكرامات سنية مات سنة تسع وتسعين وثلاثمائة كذا ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني والحاصل أنه قال معنى رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ: (جعلت تمام الإيمان بذكري معك) وفي نسخة بذكرك معي وهو الأظهر فلا يصح ولا يعتد به شرعا ما لم يتلفظ بكلمتيه إقرارا بحقية وحدانيته تعالى وحقية رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم بناء على اشتراط التلفظ بهما في صحته من قادر وبه قال الجمهور والحق إن اشتراطه مع إظهاره إنما هو لإجراء أحكام الإسلام عليه في الدنيا من عصمة دمه وماله ونحو ذلك فمن آمن بقلبه ولم يتلفظ بهما نفعه إيمانه عند الله تعالى وكان تاركا للأفضل كذا ذكره الدلجي وفيه أبحاث ليس هنا محلها، (وقال) أي ابن عطاء: (أيضا جعلتك ذكرا من ذكري) أي نوع ذكر من أذكاري، (فمن ذكرك ذكرني) أي فكأنه ذكرني وهو قريب مما قدمناه. (وقال جعفر بن محمّد الصّادق) بالرفع (لا يذكرك أحد بالرّسالة) أي بالإرسال للعبودية (إلّا ذكرني بالرّبوبيّة) أي وبتوحيد الألوهية، (وأشار بعضهم) كالماوردي (بذلك) أي بقوله وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (إلى مقام الشّفاعة) فإنه يظهر رفعته في تلك الحالة على جميع البرية ثم لا منع من إرادة الجمع، (ومن ذكره) جار(1/54)
ومجرور مضاف (معه تعالى) أي مع ذكره، (أن قرن) بفتح أن المصدرية (طاعته) صلى الله تعالى عليه وسلم، (بطاعته) سبحانه وتعالى (واسمه باسمه فقال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) وكان الأظهر أن يقال وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول كما في نسخة. (وآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحديد: 7] ) وربما يقال الآية الأولى هي الأولى للدلالة على الاتحاد في المدعي بحسب المعنى. (فجمع بينهما) أي من غير إعادة العامل (بواو العطف المشرّكة) بتشديد الراء وفي نسخة بتخفيفها أي الجاعلة للمعطوف اشتراكا في المعطوف عليه بالنسبة إلى الفعل المسند إليه وهو لا ينافي أن بينهما تفاوتا في المرتبة حيث إن الإيمان بالله يقتضي الأصالة والإيمان برسوله يوجب التبعية، (وَلَا يَجُوزُ جَمْعُ هَذَا الْكَلَامِ فِي غَيْرِ حقّه) أي في حق أحد غير حقه (عليه الصلاة والسلام) أي ممن لا يكون في مرتبته من وجوب الإيمان والإسلام وإلا فيقال آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأمثاله وكان الأظهر أن يقال ولا يجوز لأحد غير الله سبحانه وتعالى أن يجمع هذا الجمع في الكلام كما يدل عليه استدلاله بالأحاديث الواردة عنه عليه الصلاة والسلام حيث قَالَ (حَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ محمّد الجيّانيّ) بفتح الجيم وتشديد التحتية نسبة إلى بلدة بالأندلس مات سنة ثمان وتسعين وأربعمائة له كتب مفيدة في تقييد الألفاظ وغيرها (الحافظ) وهو في اصطلاح المحدثين من أحاط علمه بمائة ألف حديث (فيما أجازنيه وقرأته على الثّقة) بكسر المثلثة وهو المعتمد وهو أبو علي بن سكرة الصدفي أو غيره من مشايخه (عنه) مرويا عن الجياني وقد أجاز وكان يمكنه السماع منه (قال) أي الجياني في الإجازة أو الراوي عنه في القراءة (أنبأنا أبو عمر النّمريّ) بفتحتين وقد سبق أنه الحافظ ابن عبد البر، (قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ. قال حدّثنا أبو بكر بن داسة) سبق ذكره، (حدّثنا أبو داود السّجزيّ) بكسر مهملة وسكون جيم فزاي نسبة إلى سجستان بكسر أوله وقيل بفتحه على غير قياس وهو إقليم ذو مدائن بين خراسان والسند وكرمان. (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الباهلي (الطّيالسيّ) أخرج له الجماعة الستة قال أحمد هو اليوم شيخ الإسلام مات سنة سبع وعشرين ومائتين، (حدّثنا شعبة) هو ابن الحجاج سمع كثيرا من التابعين ومات سنة ومائة وستين (عن منصور) أي ابن المعتمر أبو عتاب السلمي توفي سنة إحدى وثلاثين ومائة (عن عبد الله بن يسار) بتحتية مفتوحة وسين مهملة هذا هو الجهني الكوفي أخرج له أبو داود والنسائي وهو أخو سليمان وسعيد توفي عام إحدى وثلاثين ومائة (عن حذيفة رضي الله عنه) أي ابن اليمان (عن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أسنده المصنف هنا من طريق أبو داود ورواه أيضا النسائي وابن أبي شيبة: (قَالَ لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، وشاء فلان) أي مع إعادة الفعل بصريحه فكيف مع حذفه وتقديره لتوهم الاشتراك في معية المشيئة وإن كانت الواو مفيدة لمطلق الجمع والاشتراك لا شك أنه من الاشراك وفلان يشمل جميع الخلق ولو من الأنبياء والأصفياء، (ولكن) أي يجوز له أن يقول (ما شاء الله ثمّ شاء فلان)(1/55)
على ما في الأصول المصححة أي متابعة لمشيئة وموافقة لإرادته لأن للمشيئة ولو تأخرت تأثيرا في قضيته فإن ما شاء الله كان سواء شاء أو أبى فلان وما لم يشأ لم يكن سواء شاء أو ما شاء فلان مع أن العبد لم يكن له مشيئة إلا بعد تعلق مشيئة الله بمشيئته كما قال سبحانه وتعالى وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ. (قال الخطّابيّ) بفتح معجمة وتشديد مهملة هو الإمام الحافظ أبو سليمان البستي نسبة إلى جده ويقال إنه من سلالة زيد بن الخطاب كان إماما كبيرا تفقه على القفال وغيره توفي ببست سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة: (أرشدهم صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الأدب) أي الواجب مراعاته من جهة الرب (فِي تَقْدِيمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَشِيئَةِ من سواه، واختارها) قال الحجازي ويروى واختازها بمهملة وزاء والظاهر انه تصحيف أي واختار العبارة في تغييرها لتعبيرها (بثمّ التي هي للنّسق) بفتحتين أي للعطف بالترتيب (والتّراخي) أي المهلة في الوجود والرتبة (بخلاف الواو التي هي للاشتراك) وهو قد يكون بالمعية والقبلية والبعدية وبخلاف الفاء التعقيبية، (ومثله) أي مثل الحديث المتقدم في النهي (الْحَدِيثُ الْآخَرُ: أَنَّ خَطِيبًا خَطَبَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم) قيل هو ثابت ابن قيس بن شماس. (فَقَالَ: مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ) بفتحهما وبكسر الثاني بمعنى اهتدى، (ومن يعصهما) أي فقد غوى كما في نسخة صحيحة أي ضل عن طريق الهدى.
(فقال له النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ قُمْ) أي من هذا المجلس (أو قال اذهب) أي فإنك قليل الأدب والحديث أخرجه النسائي في اليوم والليلة وأبو داود في الأدب ورواه مسلم أيضا (قال أبو سليمان) أي الخطابي: (كره) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (منه) أي من الخطيب (الجمع بين الاسمين بحرف الكناية) مأخوذة من الكن وهو الستر وهو تعبير كوفي بمعنى الضمير المأخوذ من الضمور والضمار الذي هو الخفاء ويقابلها الظهور والظاهر وهو ضد المضمر وهو تعبير بضري (لما فيه) أي في الجمع بينهما بالكناية (من التّسوية) أي توهمها المقتضي للشركة بينهما وفيه أن توهم التسوية موجود ظاهرا في المظهر أيضا مع أن إطاعتهما وعصيانهما متلازمان في ترتب الهداية والغواية كما يشير إليه قوله تعالى وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ بإفراد الضمير الشامل لكل منهما وإن كانت رتبته تعالى أجل وأعظم من أن تقابل بمرتبة مخلوق وإن كان تشرف وتكرم ولذا قال النووي والصواب أن سبب النهي والذم هو أن الخطيب شأنه الإيضاح واجتناب الرمز والإشارة لا كراهة الجمع بين الاسمين بالكناية لأنه ورد في مواضع منها قوله عليه الصلاة والسلام أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سواهما ومما يقوي كلام النووي أن كلام الخطيب جملتان مستقلتان، (وذهب غيره) أي غير الخطابي وأراد بعضهم (إلى أنّه إنّما كره له الوقوف) أي التوقف (على يعصهما) لو صح هذا الوقف سواء أتى بعده بقوله فقد غوى أو اقتصر اكتفاء بما يعرف من الد فإنه مقصر لا محالة لعدم تمام الكلام ونظام المرام ووجود الإيهام، (وقول أبي سليمان) أي الخطابي (أصحّ) أي من قول القائل السابق (لما(1/56)
رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ يعصهما فقد غوى، ولم يذكر) في هذا الحديث (الوقوف على يعصهما) وأنت قد عرفت الاحتمالين ومن حفظ حجة على من لم يحفظ والاثبات مقدم على النفي، (وقد اختلف المفسّرون) للقرآن، (وأصحاب المعاني) أي من أرباب البيان (في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ) الأكثر على النصب عطفا على اسم إن (يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56] هل يصلّون) أي جملتها باعتبار كنايته العائدة (راجعة على الله تعالى والملائكة جميعا) وخبر عنهم مشركة بينهم في ضمير واحد (أم لا) أي بل هي راجعة إلى الملائكة فقط ويقدر لله عامل آخر لتغاير الصلاتين (فأجازه بعضهم) أي ممن قال بالجمع بين المعنيين المشتركين في إطلاق واحد فإن الصلاة من الله تعالى أنزل الرحمة ومن الملائكة الاستغفار والدعوة ومنهم الشافعي وأتباعه، (ومنعه آخرون) أي منع رجوعها إليهم (لعلّة التّشريك) أي بين المعنيين ومنهم أبو حنيفة وأشياعه أو لأجل توهم الاشتراك في العقل وأجازه الأولون لظهور المغايرة عند أرباب العقل ونهى الخطيب إنما كان لترك الأدب الذي هو كما مر شأن الخطبة من الإيضاح واجتناب الرمز (وخصّوا) أي البعض الآخرون (الضّمير) أي في يصلون (بالملائكة وتَقْدِرُوا الآية) أي هكذا (إنّ الله يصلّي، وملائكته يصلّون) أي وجعلوا خبر الثاني دليلا على خبر الأول كما في
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
والمحققون يجعلونه من باب عموم المجاز ويقولون التقدير أن الله وملائكته يعظمون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كل بما يناسبه من أنواع التعظيم وأصناف التكريم والأولى عندي أن يقال الضمير راجع إلى الكل والمعنى يثنون عليه فالله تعالى عند الملائكة المقربين وفي كتابه المبين وعلى لسان جبريل الأمين والملائكة فيما بينهم لا سيما إذا قلنا إنه أيضا مبعوث إليهم فيجب حينئذ تعظيمه لديهم وثناؤه عليهم وهذا المعنى لغوي حقيقي على ما ذكره صاحب القاموس من أن الصلاة هي الرحمة والدعاء والاستغفار وحسن الثناء هذا وقراءة ابن عباس ورويت عن أبي عمرو وملائكته بالرفع إما عطفا على محل اسم ان أو مبتدأ خبره محذوف وهو مذهب البصريين. (وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قال الدلجي ولم أدر من رواه (أنّه قال) أي مخاطبا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم (من فضيلتك عند الله تعالى) أي من جملة فضائلك في حكمه (أن جعل طاعتك طاعته، فقد قال تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] وقد قال تعالى) الظاهر أنه ليس من قول عمر وعطفه عليه لقربه منه معنى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] الآيتين) يعني وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ فالآية الثانية تدل على ما تقدم من أن إطاعة الرسول كإطاعة الله وقوله فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا أو تعرضوا عن كل من إطاعة الله وإطاعة الرسول فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ(1/57)
بالإعراض عن طريق المؤمنين المطيعين وأما الآية الأولى فهي في رتبة مقام المحبوبية أولى حيث جعل متابعة حبيبه شرطا لتحقق محبته ثم رتب على محبته المقرونة باتباعه محبة ثانية مجازاة من الله سبحانه وتعالى على محبتهم فمتابعتهم له محفوفة بمحبتين لله سابقة ولا حقة أزلية وأبدية علمية وتنجزيه بل المحبة الأولية هي التي أوجبت المحبة الآخرية كما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ والحاصل أنه تعالى سد باب المحبة على جميع الخلق إلا بملازمة باب الحبيب ومتابعة آداب الطبيب الجامع بين مرتبة المحبة والمحبوبية والمريدية والمرادية والطالبية والمطلوبية والسالكية والمجذوبية فأبواب أرباب الهدى سدت السدى ومن جاء هذا الباب لا يخشى الردى ثم المحبة ميل نفس إلى ما فيه كمال يحملها على ما يقرب إليه فإذا علم العبد أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله وإن كل كمال في نفسه أو غيره إنما هو من الله وبه وإليه لم يكن حبه إلا له تعالى وفيه تعالى وذلك يدعو إلى طاعته المستلزمة لطاعة رسوله ولكونها بالإرادات أشد منها بالإدراكات فسرت بإرادة طاعته والتحرز عن معصيته ومحبته تعالى لعباده إرادة هدايتهم وتوفيقهم في الدنيا وحسن ثوابهم في الآخرى والعقبي. (وروي) أي عن جماعة كابن المنذر عن مجاهد وقتادة (أنّه لمّا نزلت هذه الآية) أي قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ، (قالوا) أي بعض الكفار (إنّ محمّدا يريد أن يتّخذه حنانا) أي ربا ذا رحمة (كما اتّخذت النّصارى عيسى حنانا) ومنه قوله تعالى وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وقيل محببا وقيل متمسحا به ومنه قول ورقة بن نوفل حين مر ببلال وهو يعذب والله لئن قتلتموه لاتخذته حنانا أي لأجعلن قبره موضع حنان أي مظنة رحمة من الله فاتمسح به متبركا كما يتمسح بقبور الصالحين الذين قتلوا في سبيل الله من الأمم الماضية فيرجع ذلك عارا عليكم ومسبة عند الناس راجعة إليكم، (فأنزل الله عز وجل) أي بعد تلك الْآيَةَ (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [آلِ عِمْرَانَ: 32] ) تأكيدا للمتابعة (فقرن طاعته بطاعته صلى الله تعالى عليه وسلم) أي تعظيما لقدره وتشريفا لأمره، (رغما لهم) بفتح الراء وهو الأشهر أي غيظا لألوفهم وكرها لألوفهم ففي القاموس الرغم الكره ويثلث وأصل هذه الكلمة من الرغام وهو التراب يقال رغم أنفه بالكسر إذا لصق بالرغام فالمعنى إلصاقا لأنوفهم بالتراب جزاء لأنفتهم من ملازمة هذا الباب ومتابعة هذا الجناب على وفق الكتاب وآداب رب الأرباب لأولي الألباب، (وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى في أُمُّ الْكِتابِ) أي أصل الكتاب المشتمل على إجمال جميع الأبواب من الثناء على الله والتعبد له والاستعانة به وطلب الهداية إليه والوعد والوعيد منه وهو سورة الفاتحة الخاتمة (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) أي من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهذا أولى ما قيل في الآية وهو صلى الله تعالى عليه وسلم يدخل فيه دخولا أوليا بلا مرية (فقال أبو العالية، والحسن البصريّ) أما الحسن بن أبي الحسن البصري فقد تقدمت ترجمته مجملة وأما أبو العالية فهما اثنان تابعيان من أهل البصرة فأحدهما أبو العالية(1/58)
الرياحي بكسر الراء وبالتحتية واسمه رفيع بن مهران اسلم بعد عامين من موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم روى عن عمر وأبي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم وروى عنه قتادة وغيره أخرج له الجماعة توفي سنة تسعين والثاني أبو العالية البراء بفتح موحدة وتشديد راء بعده همزة واسمه زياد يروي عن ابن عباس وغيره وروى عنه أيوب السجستاني وغيره أخرج له الشيخان والنسائي والثاني بالكنية أشهر والمراد هنا الأول وله تفسير وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يعظمه ويجلسه معه على السرير ويفرش تحته: (الصّراط المستقيم) بالنصب على الحكاية وهو أولى من الرفع المبني على الإعراب بالابتدائية (هو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وخيار أهل بيته، وأصحابه) بشهادة حديث خير القرون قرني وحديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ولا يخفى أنه لا يصح الحمل إلا بتقدير وهو طريق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وخيار اتباعه أو يحمل عليه مبالغة كرجل عدل فكأنه صلى الله تعالى عليه وسلم واتباعه لكمال اتباعه عين الطريق في عالم التحقيق فإن من المعلوم أنه ليس هناك صراط حسي فليس المراد إلا أنه طريق معنوي فمن تبعه أوصله إلى مطلوبه وبلغه إلى محبوبه، (حكاه) أي روى هذا التفسير (عنهما أبو الحسن الماورديّ) تقدم ذكره أي عن أبي العالية والحسن ورواه في المستدرك عن أبي العالية وصححه، (وحكى مكّيّ عنهما نحوه) أي بمعناه لا بلفظه ومكي هذا هو أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي أصله من القيروان وانتقل إلى الأندلس وسكن قرطبة وهو من أهل التبحر في علوم القرآن والعربية كثير التأليف في علم القرآن توفي سنة سبع وثلاثين وأربعمائة بقرطبة، (وقال) أي مكي (هو رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَاحِبَاهُ، أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ الله عنهما) ولعل وجه تخصيصهما أنهما مما اتفق الامة على حقيقتهما وجلالتهما وعلى ثبوت احكامهما بمحضر بقية الصحابة في مجالسهما فكان أقوالهما وأفعالهما بمنزلة الإجماع التقريري أو السكوتي بخلاف من بعدهما فإنه وقع الاختلاف في أمورهم من حيث تنكير بعض الصحابة وتقرير آخرين منهم في شأنهم ولا عبرة بطعن كلاب أهل النار من المبتدعة الرافضة طريق الابرار الخارجة عن الصراط المستقيم والدين القويم، (وحكى أبو اللّيث السّمرقنديّ مثله) أي مثل المحكي السابق في الصراط المستقيم عن المكي راويا له (عن أبي العالية في قوله عز وجل) أي تفسير قوله (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) أي أنه رسول الله وصاحباه ومآلهما واحد لأن الثاني بدل او عطف بيان للأول (قال) أي أبو الليث (فبلغ ذلك) أي فوصل تفسير أبي العالية هذا (الحسن) أي البصري من عاصم، (فقال صدق والله) أي في البيان (ونصح) أي الأمة في هذا التبيان (وحكى الماورديّ ذلك) أي القول المذكور (في تفسير صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ عن عبد الرّحمن بن زيد) أي ابن اسلم المدني روى عن أبيه وابن المنكدر وعنه أصبغ وقتيبة وهشام ضعفوه له تفسير وقد أخرج له الترمذي وابن ماجه ووالده زيد يروي عنه(1/59)
البخاري بواسطة، (وَحَكَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ) أي بعض العارفين (في تفسير قوله تعالى: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ) أي تمسك (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى [لقمان: 22] إنّه) أي العروة الوثقى وتذكيره باعتبار خبره وهو (محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) إذ من وثق به نجا ومن تبعه اهتدى (وقيل) أي المراد بالعروة (الإسلام، وقيل شهادة التّوحيد) والمآل متحد عباراتنا شتى وحسنك واحد. (وقال سهل) أي التستري (في قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: 34] . قال) أي سهل (نعمته بمحمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) ويروى نعمته محمد عليه الصلاة والسلام والأول هو الصحيح لعدم صحة الحمل في الثاني اللهم إلا أن يقال التقدير نعمته نعمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم والإضافة إلى الجلالة نظرا إلى الحقيقة والأصالة والمراد بنعمته إنعامه به علينا إذ إنعامه أصل النعم لصدورها عنه فائضة علينا لا يحصى عد أنواعها إجمالا فضلا عن إفرادها تفصيلا، (وقال تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) أي بالحق المطابق للواقع (وَصَدَّقَ بِهِ) أي جمع بين مجيء الصدق واتيان التصديق (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر: 33] ) أي في التحقيق وجمع المشار إليه بالنظر إلى أن معنى الموصول الجنس المفيد للعموم فالمراد بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم والجمع من حيث إنه الفرد الأكمل للتعظيم أو المراد هو وأمته وهذا أظهر في باب التكريم (الآيتين) فيه أن البقية ليس لها دخل في القضية (أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ هو محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لأن الكلام فيه والمراد هو وحده أو ومن معه من الأنبياء أو وأمته من الأصفياء، (وقال بعضهم: وهو الذي صدق به) وهو الظاهر لعدم إعادة الموصول، (وقرىء صدق بالتّخفيف) وهو يؤيد أنه هو الذي صدق به لأن الثاني متعين فيه، (وقال غيرهم الّذي صدّق به المؤمنون) وفيه اشعار بتقدير الموصول وهو جائز عند بعض أرباب الأصول، (وقيل أبو بكر رضي الله تعالى عنه) أي وأتباعه أو جمع لتعظيمه، (وقيل عليّ رضي الله تعالى عنه) أي وأتباعه وأشياعه أو جمع لتكريمه والأظهر أن تفسير الجمع بينهما لإرادة أمثالهما وخصا بالذكر لأنهما أول من وقع منه التصديق على خلاف بين المرتضى والصديق، (وقيل غير هذا من الأقوال) ومن جملتها ما أشرنا إليه في سابق الحال. (وعن مجاهد رضي الله عنه) أي ابن جبير بفتح جيم فسكون موحدة وقيل جبير بالتصغير روى عن أبي هريرة وابن عباس وعنه قتادة وابن عون كان إماما في القراءة والتفسير حجة في الحديث قال كان ابن عمر يأخذ لي بركابي ويسوي على ثيابي إذا ركبت قيل إنه رأى هاروت وماروت وكاد يتلف أخرج له الستة (فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] قال بمحمّد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه) أي بما يذكر ويروى عنه وعن أصحابه لما يفيد من الدلالات اليقينية والإفادات العلمية في الأمور الشرعية مما تطمئن به القلوب وتسكن به النفوس أو بمجرد ذكره وذكر أصحابه فإن عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة وعند نزول الرحمة يحصل للقلوب الاطمئنان والسكينة.(1/60)
الفصل الثّاني [في وصفه تعالى بالشهادة وما تعلق به من الثناء والكرامة]
(في وصفه تعالى له) وفي نسخة في وصفه له تعالى وهو خطأ فاحش (بالشّهادة، وما يتعلّق بها من الثّناء والمدح والكرامة) المراد بالشهادة شهادته صلى الله تعالى عليه وسلم بالتزكية للأمة أو بالتبليغ للأنبياء في موقف القيامة بناء على الاحتمالين المفهومين من قَوْلُهُ تَعَالَى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً وقوله وما يتعلق به أي بوصفه فهو تعميم بعد تخصيص ببعضه وفي نسخة صحيحة وما يتعلق بها والمتبادر أنها ترجع إلى الشهادة والتحقيق أنها لمعنى ما المبين بما بعدها (قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) أي على من بعثت إليهم بتصديقهم وتكذيبهم ونجاتهم وضلالهم يوم القيامة أو شاهدا لله بالوحدانية أو مشاهدا له بالصمدانية (وَمُبَشِّراً) أي للمؤمنين بالجنة والوصلة (وَنَذِيراً [الأحزاب: 45] ) أي منذرا ومخوفا للكافرين بالحرقة والفرقة ولعل وجه العدول عن منذرا إلى نذيرا مراعاة للفاصلة أو تفنن في العبارة ولذا لم يقل بشيرا مع أنه بمعنى مبشر (الآية) وتمامها وداعيا إلى الله أي إلى الإقرار به وبتوحيده بإذنه أي بتيسيره أو بأمره وهو قيد لجميع ما تقدم لا للدعوة وحدها كما يستفاد من البيضاوي والله تعالى أعلم وَسِراجاً مُنِيراً أي يستضاء به من ظلمات الجهالة ويقتبس من نوره ما يتخلص به عن الضلالة (جمع الله تعالى له في هذه الآية) أي بعد ما تعلق به عين العناية وتحقق له كمال الرعاية (ضروبا) أي أنواعا وأصنافا (من رتب الأثرة) بضم الراء وفتح ثاء جمع رتبة بمعنى المنزلة والمرتبة المخصوصة والأثرة محركة وبضم وبالكسر ما يستأثر به على غيره والأثرة بالضم المكرمة المتواترة كالمأثرة على ما في القاموس وقال النووي بالفتحتين هو الأفصح، (وجملة أوصاف) أي وجمع له نعوتا مجملة أو كثيرة (من المدحة) بكسر الميم أي الثناء والذكر الحسن وإذا فتحت الميم قلت المدح، (فجعله) أي الله تعالى (شاهدا على أمّته لنفسه) أي لذاته الشريفة (بإبلاغهم الرّسالة) من إضافة المصدر إلى مفعوله أي بإبلاغه إياهم ما يتعلق بأمر الرسالة (وهي) أي هذه الخصلة التي هي الشهادة لنفسه على الأمة بدون البينة (من خصائصه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حيث لم يجعل غيره شاهدا بنفسه لنفسه على أمته فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا جحدت أمتهم تبليغهم إياهم فشهدوا لأنفسهم به فإن الله تعالى يطالبهم بالبينة وهو أعلم فنشهد لهم به فتقول أممهم لنا بم عرفتم ذلك فنقول بإخبار الله تعالى لنا في كتابه فيسأل الله تعالى نبينا عنا فيزكينا بشهادة وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً الآية وكفى بها حاكما على كون الإجماع حجة، (ومبشّرا لأهل طاعته) أي بالثواب العظيم، (ونذيرا لأهل معصيته) أي بالعقاب الأليم، (وداعيا إلى توحيده، وعبادته) أي من الدين القويم وفي أصل الدلجي وداعيا إلى الله بإذنه على وفق الآية أي بتيسيره وتسهيله، (وَسِراجاً مُنِيراً) أي مضيئا (يهتدى به للحقّ) بصيغة المجهول أي يهتدي الخلق به إلى(1/61)
الحق كما يمد بنور السراج نور الأبصار وإلى صراط مستقيم (حدّثنا الشّيخ أبو محمّد بن عتّاب رحمه الله) بفتح مهملة وتشديد فوقية فموحدة قال الحجازي ليس للقاضي عياض رواية عن محمد بن عتاب وإنما يروي عن أبي محمد بن عبد الله بن محمد بن عتاب انتهى وكذا قال التلمساني هو عبد الله بن محمد بن عتاب سمع منه القاضي في رحلته إلى الأندلس انتهى وقال العسقلاني هو مسند الأندلس في زمانه عبد الرحمن بن محمد بن عتاب القرطبي الأندلسي سمع من أبيه وكان واسع الرواية فأكثر عنه وعن حاتم بن محمد الطرابلسي وغيرهما وأجاز له جماعة من الكبار منهم مكي بن أبي طالب المقري وكان ابن عتاب عارفا بالقراآت ذكر الكثير من التفسير والعربية واللغة والفقه كريما متواضعا زاهدا ومات سنة عشرين وخمسمائة (حدّثنا أبو القاسم حاتم بن محمّد) أي ابن عبد الرحمن بن حاتم التميمي المعرف بابن الطرابلسي وقد قرأ عليه أبو علي الغساني صحيح البخاري مرات (حدّثنا أبو الحسن) أي علي بن محمد بن خلف المغافري الفروي (القابسيّ) بكسر الموحدة وإنما قيل القابسي لأن عمه كان يشد عمامته شدة أهل قابس توفي سنة ثلاث وأربعمائة بمدينة القيروان ودفن بباب تونس، (حدّثنا أبو زيد المروزيّ) وهو محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد الإمام البارع المحقق النحرير المدقق الزاهد العابد المجمع على جلالته وعظمته قال الحاكم جاور بمكة وحدث بها وببغداد بصحيح البخاري عن الفربري وهو أجل الروايات بجلالة أبي زيد توفي بمرو سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة، (حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) بتثليث السين وبالهمزة والإبدال كيونس وهو ابن مطر بن صالح ابن بشر ابن إبراهيم الفربري وكان ثقة ورعا توفي سنة عشرين وثلاثمائة قال أبو نصر الكلابادي كان سماعه لهذا الكتاب يعني صحيح البخاري من محمد بن إسماعيل البخاري مرتين مرة بفربر سنة ثمان وأربعين ومائتين ومرة ببخارى سنة اثنتين وخمسين ومائتين انتهى وروي أنه قال سمعت الجامع بفربر في ثلاث سنين وفربر مدينة بخراسان بكسر الفاء أو بفتحها وفتح الراء الأولى فقيل الكسر أكثر وقيل الفتح أشهر، (قال حدّثنا البخاريّ) وهو أظهر من أن يذكر وهو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وقد روى عنه الترمذي وابن خزيمة والصحيح أن النسائي لم يسمع منه وكان إماما حجة حافظا في الحديث والفقه مجتهدا من أفراد العالم مع دينه وورعه وتألفه ذهب بصره في صبا فرده الله تعالى عليه بدعاء أمه ومات يوم الفطر بعد الظهر سنة خمسين ومائتين، (حدّثنا محمّد بن سنان) بكسر السين مصروف وممنوع وهو أبو بكر العوني الباهلي البصري روى عنه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه، (حدّثنا فليح) بضم فاء وفتح لام وسكون تحتية تصغير فالح أو أفلح مرخما وهو ابن سليمان العدوي روى عن نافع وغيره وعنه جماعة وأخرج الأئمة الستة (حدّثنا هلال) أي ابن علي وهو هلال بن أبي ميمونة يروي عن أنس وعطاء بن يسار وأبي سلمة وعنه مالك وفليح وغيرهما أخرج له أصحاب الكتب الستة (عن عطاء بن يسار) بفتح تحتية وخفة مهملة(1/62)
وروى عن ميمونة وأبي زيد وأبي ذر وعدة وعنه زيد بن أسلم وشريك وخلق وكان من كبار التابعين وعلمائهم أخرج له الأئمة الستة، (قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العاص) اختلف في كتابته والجمهور كما قاله النووي على كتابته بالياء وهو الفصيح عند أهل العربية ويقع في كثير من كتب الحديث والفقه وأكثرها بخلاف الياء وهي لغة انتهى وقال ابن الصلاح في الإملاء على المسلسل بالأولية بقول كثير من أهل الضبط في حالة الوصل بالياء جريا على الجادة والمتداول على الألسنة والمشهور حذف الياء وهو مشكل على من استطرف من العربية ولم يوغل وربما أنكره ولا وجه لإنكاره فإنه لغة لبعض العرب شبه ما فيه الألف واللام بالمنون لما بينهما من التعاقب وبها قرأ عدة من القراء السبعة كما في قوله تعالى الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ وشبهه انتهى وقد اثبت ابن كثير ياء المتعال وصلا ووقفا والجمهور على حذفها في الحالين وأراد بشبهه التلاق والتناد فإن قالون بخلاف عنه وورشا وافقا ابن كثير في اثبات الياء وصلا لا وقفا والحاصل أن المنقوص لا خلاف في جواز حذف لامه في اسم الفاعل واثباته وإنما الكلام على أن العاص هل هو اسم الفاعل من عصى بمعنى مرتكب العصيان أو حامل العصا أو الضارب بها أو هو معتل العين فلا يكون من هذا الباب وحينئذ اثبات الياء فيه خلاف الصواب والذي اقتصر عليه صاحب القاموس حيث قال في الأجوف والأعياص من قريش أولاد أمية بن عبد شمس الأكبر وهم العاص وأبو العاص والعيص وأبو العيص هذا وترجمة عبد الله مشهورة وفي الكتب المطولة مسطورة قيل بينه وبين أبيه عمرو في السن اثنتا عشرة وقيل إحدى عشرة سنة وقد أسلم قبل ابيه وأخرج البخاري هذا الحديث منفردا عن بقية أصحاب الكتب الستة في موضعين أحدهما في التفسير وثانيهما في البيوع وهو الذي ساقه القاضي أبو الفضل منه حيث قال (فقلت) وفي نسخة قُلْتُ (أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) قال الحلبي وقع في روايتنا أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم في التوراة ولم يذكر ههنا القاضي يعني بل ذكره فيما سيأتي، (قال) أي ابن عمرو (أجل) أي نعم أخبرك فكان قوله أخبرني متضمنا لمعنى اتخبرني أو ألا تخبرني على ما هو مقتضى حسن الأدب في العبارة وإن كان الأمر أيضا هنا محمولا على الالتماس دون التحكم والإجبار (والله) قسم ورد ردا للمكذبين من اليهود والنصارى والمشركين (إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي القرآن) وفيه إشعار بأنه حافظ للكتابين وأن ما يوجد في القرآن مع إيجازه وإعجازه أكثر مما يوجد في غيره من التوراة ونحوه وإيماء إلى أن اليهود حذفوا بعض صفاته من التوراة أو غيروا مبانيه أو معانيه قال الحلبي فإن قيل ما الحكمة في سؤال عطاء بن يسار لعبد الله بن عمرو عن صفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في التوراة وهو قرشي سهمي قيل لأنه كان يحفظها وقد روى البزار من حديث ابن لهيعة عن وهب عنه انه رأى في المنام كان في إحدى يديه عسلا وفي الأخرى سمنا وكأنه يلعقهما فأصبح فذكر ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه(1/63)
وسلم فقال تقرأ الكتابين التوراة والقرآن فكان يقرأهما انتهى والظاهر أن العسل معبر بالقرآن حيث فيه شفاء للناس وإيماء إلى حلاوة الإيمان وإشعار بأنه أعلى وأغلى من الأدهان وأن الجمع بينهما نور في عالم الاتقان بالنسبة إلى أهل الإيقان (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) حال مقدرة من الكاف (وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) وهذا منصوص في القرآن ولعل معناه مذكور في التوراة. (وحرزا) أي حفظا أو حفظا (للأمّييّن) أي يمنعهم بهدايته إياهم من كل مكروه والأميون جمع الأمي وهو من لا يحسن الكتابة والقراءة نسبة إلى أمة العرب حيث كانوا لا يحسنونهما غالبا أو إلى الأم بمعنى أنه كما ولدته أمه وهذا المعنى مستفاد من القرآن حيث قال هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ الآية وفي تخصيصهم تشريف لهم (أنت عبدي ورسولي) وهذا أيضا موجود في القرآن حيث أضافه بوصف العبدية والرسالة إليه سبحانه وتعالى، (سمّيتك المتوكّل) حيث قال وتوكل على الله أو لكونه رئيس المتوكلين في قوله سبحانه وتعالى وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (ليس، بفظّ) فيه التفات تنشيطا للسامع والمعنى ليس هو سيىء الخلق قليل التؤدة، (ولا غليظ) أي قاسي القلب قليل الرحمة كما قال سبحانه وتعالى وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ وأما تفسير الحلبي وغيره الغليظ بالشديد القول فلا يلائم مبنى الآية وإن كان شدة القول والجفاوة متفرعة على غلظ القلب والقساوة (ولا صخّاب) بصاد وتشديد معجمة وهو سخاب بالسين المهملة من السخب وهو لغة ربيعة بمعنى رفع الصوت وصيغته فعال للنسبة كتمار لأن المراد به نفيه مطلقا من غير قيد قليل وكثير وقوله (في الأسواق) قيد واقعي لأن الغالب أن يقع فيها ارتفاع الصوت للمخاصمة والمشاجرة على وفق المشاهدة أو احترازي فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يرفع صوته في التلاوة حال الإمامة وفي الموعظة حال الخطبة (ولا يدفع بالسّيّئة) أي منه (السّيّئة) أي الواصلة إليه من غيره مع أنه جائز لقوله تعالى وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها وسميت الثانية سيئة للمشاكلة والمقابلة أو بالإضافة إلى التحمل والصبر كما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وهي مقابلة السيئة بالحسنة لكن الأفضل والأكمل ما قاله سبحانه وتعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وهي المقابلة بالإحسان وهذا طريق أهل العرفان (ولكن يعفو) أي ولكن يدفعها بالتي هي أحسن فكان يعفو أي عن الخطائين في الباطن (ويغفر) أي في الظاهر وكان حقه أن يقول ثم ويحسن إليهم على ما هو المتبادر مما سبق ومما يفهم من قوله تعالى وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ولذا حكي أن بعض الأكابر دخل عليه خادم بطعام حار فانكب على بدنه فقرأ الخادم وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ قال كظمت فقرأ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال عفوت فقرأ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال اعتقتك وقد وقع مثل هذا كثيرا في نعته صلى الله تعالى عليه وسلم حيث حلم على جفاوة الأعراب فيما اغلظوا له بالقول والفعل وأحسن إليهم بالمال الكثير، (ولن يقبضه الله حتّى(1/64)
يقيم) أي الله (به) أي بسببه وببركته (الملّة العوجاء) أي غير المستقيمة لأن العرب غيرتها عن استقامتها فصارت كالعوجاء والمراد بها ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهي العادلة المائلة عن الأديان الباطلة إلى دين الحق الذي هو التوحيد المطلق كما أشار إليه بقوله، (بأن يقولوا لا إله إلّا الله) أي ومحمد رسول الله فهو من باب الاكتفاء أو من إطلاق الجزء وارادة الكل أو على أن الكلمة المذكورة هي علم للشهادتين ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة إذ من المعلوم أن اليهود والنصارى وأمثالهم يقولون لا إله إلا الله ولا تفيدهم هذه الكلمة من دون إقرارهم بأن محمدا رسول الله وفي الحديث إيماء إلى قوله سبحانه وتعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (ويفتح) بالنصب عطفا على يقيم أو يقولوا (به أعينا) جمع عين (عميا) جمع أعمى، (وآذانا) بالمد جمع أذن (صمّا) جمع أصم، (وقلوبا غلفا) جمع أغلف والغلف غشاء القلب وغلافه المانع من قبول الحق ووصول الصدق وتعقل أمر المبدأ والمعاد كما أخبر الله تعالى عن أحوالهم بقوله صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ أي عن سماع الحق والنطق به وإدراكه ببصرهم فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي الحق ولا يعلمون الصدق ولعله لم يقل والسنة بكما لأنه يلزم من الصمم الأصلي البكم الفرعي والله أعلم، (وذكر مثله) بصيغة المجهول ولعل مثله مروي لابن عمر ولعطاء بن يسار كما في البخاري تعليقا وأسنده الدارمي (عن عبد الله بن سلام) بتخفيف اللام وقيل مشدده ابن الحارث الإسرائيلي ثم الأنصاري الخزرجي الصحابي كان حليفا لبني الخزرج كنيته أبو يوسف بابنه وهو من ولد يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وكان اسمه في الجاهلية حصينا فسماه عليه الصلاة والسلام عبد الله أسلم أول قدمه عليه الصلاة والسلام المدينة ونزل في فضله قوله تعالى وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ على مثله وكذا قوله سبحانه وتعالى قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ شهد مع عمه فتح بيت القدس وشهد له صلى الله تعالى عليه وسلم بالجنة روى عنه ابناه محمد ويوسف وغيرهما توفي سنة ثلاث وأربعين أخرج له أصحاب الكتب الستة، (وكعب الأحبار) بالحاء المهملة وسبق بعض ترجمته والمعنى وذكر مثله أيضا عن كعب الأحبار فيما رواه الدارمي من طريق أبي واقد الليثي، (وفي بعض طرقه) أي طرق هذا الحديث (عن ابن إسحاق) كما رواه ابن أبي حاتم في تفسير سورة الفتح عن وهب بن منبه وفي بعض النسخ أبي إسحاق بالياء وهو تصحيف وصوابه بالنون وهو الإمام صاحب المغازي رأى عليا وأسامة والمغيرة بن شعبة وأنسا وروى عن عطاء والزهري وطبقته وعنه شعبة والحمادان والسفيانان وخلق وكان من بحور العلم صدوقا وله غرائب في سعة ما روى تستنكر واختلف في الاحتجاج به وحديثه حسن بل وفوق الحسن وقد صححه جماعة مات سنة إحدى وخمسين ومائة أخرج له البخاري في التاريخ ومسلم والأربعة في سننهم: (ولا صخب)(1/65)
بفتح فكسر على الوصف وسبق معناه ويفهم من بعض الحواشي أنه رفع الصوت في السوق فقوله (في الأسواق) للتأكيد أو لقصد التجريد، (ولا متزين بالفحش) بالضم أي ولا متجمل ولا متخلق ولا متصف بالقول الفاحش والفعل الفاحش قال الحجازي ويروى ولا متدين وكذا قال التلمساني بالدال من الدين وبالزاء من الزينة والظاهر أنه مصحف وإن تكلف له السيد قطب الدين عيسى بأن معناه لا يجعله دينا وطريقة انتهى ولا يخفى أنه لا يفيد نفي الفحش عنه بالكلية وهو المطلوب في المدحة الجلية وفي حاشية المنجاني ولا متزي بالفحش أي متصف به والزي غالبا إنما يكون في الأوصاف الحسنة وقد يجيء في خلافها وقرئ قوله تعالى هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً بالراء والزاي وعين زي واو وإنما قلبت واوها ياء لسكونها وانكسار ما قبلها وفيما تصرف منه من الأفعال لطلب الخفة والفحش البذاء بالمنطق وأصل الفحش في كل شيء الخروج عن المقدار والحد حتى يقبح وقيل نفى تزينه به عنه مع كونه لا يراه زينة إنما هو باعتبار كون أهله يرونه زينة وفخرا بشهادة أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، (ولا قوّال) بتشديد الواو (للخنا) بفتح الخاء المعجمة مقصور الكلام القبيح ومنه قول زهير شعر:
إذا أنت لم تقصر عن الجهل والخنا ... أصبت حليما او أصابك جاهل
فهو من باب التخصيص بعد التعميم وفعال ليس للمبالغة بل للنسبة كما في قوله تعالى وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ واللام في الحديث والآية لمجرد التقوية (أسدّده) قطعه عما قبله لكمال انقطاع بينهما لأنه حكاية عن صفات نفسية سلبية وهذا عن هبات إلهية ثبوتية أي أقيمه وأوفقه (لكلّ جميل) أي نعت جزيل، (وأهب له) بفتح الهاء أي أعطيه من فضلي (كلّ خلق كريم) أي مكارم الأخلاق المتعلقة بالخالق والمخلوق ولذا قال تعالى وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، (ثم أجعل) ويروى وأجعل (السّكينة) أي سكون القلب واطمئنانه ورزانة القالب ووقاره فهي فعيلة من السكون والكاف منها مخففة عند الكافة إلا ما حكاه القاضي في مشارق الأنوار عن الكسائي والفراء من جواز تشديدها قال المنجاني وهو نقل غريب وتدفع غرابته بجعل التشديد للمبالغة كما في السكيت والسكين ثم رأيت صاحب القاموس قال السكينة والسكينة بالكسر مشددة الطمأنينة وقرئ بهما في قوله تعالى فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي ما تسكنون به إذا أتاكم (لباسه) أي دثاره وهو مما يظهر آثاره، (والبرّ) أي الطاعة لله والإحسان بخلق الله (شعاره) بكسر أوله أي دأبه وعادته، (والتّقوى ضميره) أي في صدره كما في الحديث التقوى ههنا فيه إيماء إلى أن كمال التقوى محصور فيه، (والحكمة) أي العلمية والعملية (معقوله) أي بحيث يظهر وجه معقوله في مقوله وقال التلمساني الحكمة أي النبوة والعلم ومعقوله مكتومه وسره ولا يخفى خفاء أمره، (والصّدق) أي في المنطق (والوفاء) أي بالوعد (طبيعته) أي غريزته وجبلته التي لا يمكنه مخالفتها، (والعفو) أي عن الاساءة،(1/66)
(والمعروف) أي الإحسان في محله شرعا وعرفا (خلقه) بالضم أي دأبه وعادته، (والعدل) أي في حكمه أو الاعتدال في حاله (سيرته) أي طريقته، (والحقّ) أي اظهاره (شريعته) أي دينه وملته (والهدى) بضم الهاء أي الهداية (إمامه) بكسر الهمزة أي قدوته مما يقتدى به في جميع حالاته وفي نسخة معتمدة بالفتح أي قدامه ونصب عينيه لا يتعدى منه ولا يميل عنه، (والإسلام) أي الاستسلام الظاهر والباطن (ملّته) أي دينه الذي يمليه ويقرره، (وأحمد اسمه) أي في التوراة والإنجيل وهو لا ينافي أن يكون له اسماء أخر بل فيه إيماء بأنه ابلغ الأسماء وذلك لإفادة المبالغة الزائدة التي لا توجد في غيره من الأبنية ولو كانت من هذه المادة كمحمد ومحمود فإنه بمعنى أحمد من كل حمد وحمد فله النسبة الجامعة بين كمال صفتي الحامدية والمحمودية المترتبة على جمال نعتي المحبة والمحبوبية فتأمل فإنها من الأسرار الخفية والأنوار الجلية (أهدي به) بفتح الهمزة أي أرشد الخلق بسببه (بعد الضّلالة) أي بعد تحقق حضور حصولها منهم أو بعد تعلق ثبوت وصولها بهم وفيه إيماء إلى أن ظلمة ضلالتهم لا ترتفع إلا بنور هدايته لهم مشيرا إلى الحديث القدسي والكلام الأنسي أن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه فقد غوى وارتدى ولا يبعد أن يكون المراد بعد ضلالته مشيرا إلى قوله تعالى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى أي جاهلا بالطريق أو عاشقا بالتحقيق (وأعلّم) بتشديد اللام المكسورة أي اجعل الناس ذوي معرفة (به) أي بالوحي وإنزال القرآن عليه (بعد الجهّالة) أي بعد ظهور زمان الجاهلية أيام الفترة أو بعد جهالته لقوله سبحانه وتعالى مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ يعني تفصيله، (وأرفع به) أي ببركته رتبه هذه الأمة (بعد الخمالة) بفتح الخاء المعجمة بمعنى الخمول أي بعد أن لم يكن لهم ذكر وقدر وشأن وبرهان في الظاهر وإن كانوا في علم الله تعالى وفي اللوح خير أمة أو أرفع شأنه بتعليمنا إياه ببيانه بعد خمول ذكره وخفاء أمره كقوله تعالى وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ، (وأسمّي به) بتشديد الميم والمكسورة كذا ضبطه الشراح ولا يبعد أن يجوز بتخفيف الميم أي أشهره بالمعرفة (بعد النّكرة) بضم النون (وأكثر به) من التكثير ويجوز من الإكثار أي أجعل الكثرة ببركته (بعد القلّة) أي في ماله وفي عدد اتباعه، (وأغني) من الاغناء أي أجعله غنيا أو أمته أغنياء (به) أي بنبوته وجهاده ورياضته وصبره على فاقته (بعد العيلة) بفتح العين وهي الفقر ومنه قوله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إن شاء، (وأجمع به بعد الفرقة) إيماء إلى قوله تعالى وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وهذا معنى قوله (وأؤلّف) أي أوقع الألفة والمودة (به بين قلوب مختلفة) أي في أغراض فاسدة، (وأهواء متشتّتة) أي آراء مبتدعة غير مجتمعة (وأمم متفرّقة) وجماعات من قبائل متباينة قال التلمساني وقع هنا بخط المصنف بتقديم التاء على الفاء من التفرق وبتقديم الفاء على التاء من الافتراق وهي نسخة العوفي، (وأجعل أمّته خير أمّة(1/67)
أخرجت للنّاس) كان حقه أن يقول به هنا أيضا لأن خيرية أمته إنما هي لأجل أفضلية نبوته بناء على الملازمة العادية لكن جعله سببا أولى من عكس القضية كما أشار صاحب البردة إلى هذه الزبدة بقوله:
لما دعا الله داعينا لطاعته ... بأفضل الرسل كنا أفضل الأمم
(وفي حديث آخر) رواه الدارمي عن كعب موقوفا والطبراني وأبو نعيم في دلائله عن ابن مسعود: (أخبرنا رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِفَتِهِ فِي التَّوْرَاةِ عَبْدِي) أي المخصوص عندي (أحمد المختار) أي على سائر الأخيار وفي نسخة بالجر فاللام للجنس الاستغراقي أي أحمد كل ما اخترته واصطفيته من الأنبياء والملائكة والأصفياء (مولده) أي مكان ولادته وظهور رسالته (بمكّة ومهاجره) بضم الميم وفتح الجيم أي موضع هجرته ومحل نقلته (بالمدينة) ليحصل للحرمين الشريفين بركته أولا وآخرا وباطنا وظاهرا وليكون زيادة البقعتين بمنزلة ابداء الشهادتين (أو قال طيبة) بفتح الطاء وهو اسم من اسماء المدينة كطابة والتقدير أنه قال بالمدينة أو بطيبة كما في نسخة فأو للشك في الاسم لا في المسمى وقد روي أن لها في التوراة أحد عشر اسما هذان منها وكانت قبل الإسلام تسمى بيثرب باسم رجل من العماليق قبيلة منسوبة إلى عملاق كان يسكنها فلما جاء الإسلام وسكنها عليه الصلاة والسلام كره له هذا الاسم لما فيه من لفظ التثريب فسماها طيبة وقد جاء في القرآن لفظ يثرب ولكن الله سبحانه وتعالى لم يسمها بذلك وإنما قاله حكاية عن الكفار والمنافقين وقال وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فارجعوا فنبه سبحانه وتعالى بما حكى عنهم أنهم قد رغبوا عن اسم سماها به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبوا إلا ما كانوا عليه من جاهليتهم وقد سماها الله سبحانه وتعالى المدينة بقوله ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم وقد روى في معنى قوله تعالى وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ أنه المدينة وأن مخرج صدق مكة وسلطانا نصيرا الأنصار وقد ورد من سمى المدينة بيثرب فليستغفر الله وهي طابة رواه أحمد في مسنده عن البراء (أمّته الحمّادون لله) أي المبالغون في حمده سبحانه وتعالى تبعا لنبيهم أحمد فكما أنه أحمد الخلق فهم أحمد الأمم ومما يدل على كثرة حمدهم ودوام شكرهم تقييده بقوله (على كلّ حال) أي من السراء والضراء وفي حاشية المنجاني أمته الحمادون يحمدون الله على كل حال وفي رواية حماد بن سلمة عن كعب أنه قال وجدت في التوراة زيادة على هذا وهي يوضئون اطرافهم ويتزرون على انصافهم في قلوبهم اناجيلهم يصلون الصلاة لوقتها رهبان بالليل ليوث بالنهار ولم تزل اليهود بعد ما غيرت من صفات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تغار على ظهور شيء مما بقي فيها وتكتم أشد الكتم وقد أخرج أبي ابن شيبة عن عبد الله بن مسعود في مسنده أنه قال الله تعالى عز وجل ابتعث نبيه لإدخال(1/68)
رجل الجنة وذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دخل كنيسة فإذا هو بيهود فإذا يهودي يقرأ التوراة فلما أتوا على صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمسكوا وكان في ناحيتها رجل مريض فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما لكم أمسكتم فقال المريض إنهم أتوا على صفة نبي فأمسكوا يعني على عادتهم أو لأجل حضورك عندهم قال ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة وقال للقارئ ارفع يدك فرفع يده فقرأ حتى أتى على صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أي بكمالها فقال هذه صفتك وصفة أمتك ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لولا أخاكم وأخرج الواقدي في مصنفه مما يتعلق بصفات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال كان النعمان السابي حبرا من أحبار اليهود فلما سمع بذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قدم عليه فسأله عن أشياء قال إن أبي كان يختم على سفر ويقول لا تقرأه على يهود حتى تسمع بنبي قد خرج بيثرب فإذا سمعت به فافتحه قال النعمان فلما سمعت بك فتحت السفر فإذا فيه ما يحل وما يحرم وإذا فيه إنك خير الأنبياء وأن أمتك خير الأمم واسمك أحمد وأمتك الحمادون قربانهم دماؤهم وأناجيلهم في صدورهم لا يحضرون قتالا إلا وجبريل معهم يتحنن عليهم تحنن الطير على فراخه ثم قال إذا سمعت به فاخرج إليه وآمن به فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجب أن يسمع أصحابه حديثه فأتاه يوما فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يا نعمان حدثنا فابتدأ النعمان الحديث من أوله فرؤي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتبسم وقال أشهد أني رسول الله والنعمان هذا هو الذي قتله الأسود العبسي وقطعه عضوا عضوا وهو يقول أشهد أن محمدا رسول الله وأنك مفتر كذاب على الله (وقال تعالى) أي في حق المتقين من المؤمنين (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ) أي الجامع بين مرتبة النبوة وهي أخذ الفيض من الحضرة بالحق المسمى بالولاية وبين مرتبة الرسالة وهي تبليغ الأحكام الشرعية إلى الخلق فهو برزخ جامع بين الاستفادة والإفادة وبين الكمال والتكميل الذي هو أعلى مقامات أرباب السعادة ولعل وجه تقديم الرسالة في الذكر مع تأخر تحققها في الوجود هو الاهتمام بنعت الرسالة أو الترتيب بحسب التدلي لا الترقي في المرتبة (الْأُمِّيَّ [الأعراف: 157] ) أي مع كونه عاريا عن الكتابة والقراءة السابقة الدالة على أن معارفه كلها من العلوم اللدنية والفتوحات العندية (الآيتين) أي اقرأ إلى آخر الآيتين الدالتين على نعوته الجلية وصفاته البهية وهو الذي يجدونه أي يصادفون نعته ويعلمون صفته مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل وهما زبدة الكتب المنزلة على اليهود والنصارى يأمرهم بالمعروف استئناف مبين لأوصافه المكتوبة عندهم أو مطلقا أي يأمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بما يعرفه جميع أرباب المعرفة بالمنقولات ويستحسنه أرباب الطبيعة المستقيمة من أصحاب المعقولات حين يأمرهم بمكارم الأخلاق ومحاسن الصفات وينهاهم عن المنكر أي جنس المنكرات شرعا وعرفا نقلا وعقلا ويحل لهم الطيبات أي الحلالات(1/69)
والمستلذات ويحرم عليهم الخبائث أي المحرمات والمضرات ويضع عنهم أي عن من تبعه من اليهود والنصارى خصوصا إصرهم أي عهودهم الثقيلة التي أخذ عليهم العمل بها في التوراة من العبادات والرياضات والسياحات والأغلال التي كانت عليهم من التكاليف الشاقات كقطع الأعضاء الخاطئة وقرض مواضع النجاسات وتعين القصاص في العمد والخطأ وإحراق الغنائم وظهور الذنوب على أبواب فاعليها فالذين آمنوا به وعزروه أي عظموه في نفسه ونصروه على عدوه وأتبعوا النور الذي أنزل معه أي مع رسالته وهو القرآن أو الوحي الشامل للكتاب والسنة أولئك هم المفلحون الفائزون بالرحمة الأبدية قل يا أيها الناس أي الشامل لليهود والنصارى وغيرهم عامة أني رسول الله إليكم جميعا أي كافة بخلاف موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فإنهما كانا مبعوثين إلى بني إسرائيل خاصة ولعله من هنا قال عليه الصلاة والسلام ولو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي يعني لما كان هو وغيره كعيسى إلا اتباعي الذي له ملك السموات والأرض أي حيث يعم ملكه العلويات والسفليات شملت رسالته جميع الموجودات على ما بيناه في بعض المصنفات لا إله إلا هو فكأنه لا رسول له إلا هو فإنه لولا هو لما خلق غيره ولما وجد من يعرف معنى هو لا من حيثية مبناه ولا من طريقة معناه يُحْيِي وَيُمِيتُ بالإبقاء والإفناء وبالهداية والاغواء فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي تأكيد وتثبيت أو تبكيت لتوفقهم على الإيمان بمثل هذا النبي الذي يؤمن بالله إيمان مشاهدة وعيان ومراقبة وإيقان وكلماته وبجميع كلمات الله المنزلة على الأنبياء مجملة ومفصلة واتبعوه لأن متابعته تورث المحبة لعلكم تهتدون لكي تهتدوا ببركة متابعته إلى طريق محبته وآداب مودته. (وقد قال تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ) قيل ما مزيدة للمبالغة والأظهر أنها مبهمة مفسرها رحمة والمعنى فبرحمة عظيمة ونعمة جسيمة كائنة (مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159] ) أي تلطفت للخلق وتوجهت إليهم من الحق حيث وفقك للرفق وفيه إشارة خفية إلى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يريد الثبات على النبوة التي هي الولاية الخاصة الموجبة أن لا يغفل صاحبها عن الحضرة لحظة ولا لمحة مما يوجب التفرقة المانعة عن مقام الجمعية وأراد الله سبحانه وتعالى له الترقي إلى مقام جمع الجمع بحيث لا تحجبه الكثرة عن الوحدة ولا تمنعه الوحدة عن الكثرة وبهذا تبين أن مقام الرسالة أعلى مرتبة من ولاية الرسول المعبر عنها بالنبوة خلافا لمن توهم خلاف ذلك فقال الولاية خير من الرسالة وإن أول كلامه بأن المراد بالولاية النبوة لا جنس الولاية معللا بأن الولاية هي أخذ الفيض اللازم منه توجه صاحبه إلى الحق وأن الرسالة هي الإفادة بالإضافة المستلزمة للإقبال على الخلق فإنا نقول إذا استغرق في عين الجمع بحيث إنه فنى عن الجميع ولم يوجد في عين الشهود غيره موجود ولا في الدار غيره ديار فأنى يتصور منه الإقبال والإدبار وهذا بحر بلا قعر فيرجع إلى ساحل بلا وعر (الآية) وتمامها قوله وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا أي سيىء الخلق مع الخلق بناء على أن الاستئناس بالناس من علامة الإفلاس(1/70)
غليظ القلب أي شديدة بالعزلة عنهم لانفضوا من حولك أي تفرقوا عن مجلسك ولم يحصل لهم حظ من انسك فاعف عنهم ما صدر من الغفلة منهم واستغفر لهم فيما يختص بحق الله تعالى إتماما للشفقة عليهم وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ تلطفا بهم فَإِذا عَزَمْتَ بعد المشاورة أو الاستخارة فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ولا تعتمد على ما سواه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ المعتمدين على ما قدره وقضاه فيهديهم إلى الصلاح وينصرهم بالنجاح والفلاح. (قال السّمرقندي ذكّرهم الله تعالى) وفي نسخة ذكر الله تعالى بتشديد الكاف (منّته) أي امتنانه وفي نسخة بنونين على صيغة الجمع لاشتمال هذه المنة على منن كثيرة (أنّه) أي سبحانه وتعالى (جعل) ويروى أن جعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، رحيما بالمؤمنين رؤوفا أي للمتقين فإن الرأفة أرق من الرحمة (ليّن الجانب) أي مع الأقارب والأجانب في جميع المراتب (ولو كان) أي بالفرض (فظّا) أي سيىء الخلق في الفعل (خشنا) أي غليظا (في القول لتفرّقوا من حوله) أي ولم ينتفعوا بفعله وقوله، (ولكن جعله) أي الله سبحانه وتعالى (سمحا) أي جوادا زيادة على ما طلب منه في معاملاتهم أو مسامحا لهم في فرطاتهم وزاد في نسخة سهلا أي لينا (طلقا) بفتح فسكون أي منبسط الوجه (برّا بفتح الباء أي بارا كثيرا الإحسان إلى أمته كالولد البار بأبويه وقرابته أو جامعا للخير كله فإنه من البر الذي هو وسيع الفضاء (لطيفا) أي رفيقا شريفا يراعي قويا وضعيفا (هكذا) أي مثل ما سبق لفظا أو معنى (قاله الضّحّاك) وهو ابن مزاحم الهلالي الخراساني يروي عن أبي هريرة وابن عباس وابن عمر وأنس رضي الله تعالى عنهم وعنه خلق وثقه أحمد وابن معين وضعفه شعبة أخرج له أصحاب السنن الأربع وتوفي سنة خمس ومائة، (وقال تعالى:
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي خيارا أو عدولا أو معتدلين في الأخلاق غير واقعين في طرفي الإفراط والتفريط من التشبيه والتعطيل والإسراف والتقتير والتهور والجبن وأمثال ذلك (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي بتبليغ رسالة أنبيائهم إليهم (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143] ) أي مطلعا ومشاهدا ومشرفا (قال أبو الحسن القابسيّ) بكسر الموحدة وسبق ذكره (أبان الله تعالى) أي أظهر ظهورا بينا (فضل نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم، وفضل أمّته بهذه الآية) أي بسببها أو فيها بقوله (وفي قوله) أي سبحانه وتعالى (في الآية الأخرى وَفِي هذا) متعلق بما قبله وهو أي سبحانه وتعالى سماكم المسلمين من قبل يعني في الكتب المتقدمة وفي هذا أي القرآن (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) بالتبليغ إليكم (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [الحج: 78] ) بتبليغ رسلهم إليهم. (وكذلك) أي ومثل هذا المعنى يفيده (قوله تعالى: فَكَيْفَ) أي كيف حال الكفرة يوم الحسرة (إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) أي بنبي يشهد على أمته (الآية) وفي بعض النسخ بتمامها وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ أي على الشهداء من الأنبياء أو على أمتك من الأصفياء والأولياء شهدا حين يشهدون على الأمم المكذبة بتبليغ الأنبياء إليهم الرسالة، (وقوله تعالى: وَسَطاً أي(1/71)
عدولا) وفي نسخة عدلا أي موصوفين بالعدالة والديانة (خيارا) أي مختارين من هذه الأمة إن كان الخطاب للصحابة وإن كان الخطاب لجميع الأمة فهم خيار الأمم السالفة (ومعنى هذه الآية) أي بناء على مبنى هذه العاطفة على الجملة المقدرة المعبر عنها بقوله: (وكما هديناكم) أي المستفاد من قوله تعالى يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فالمعنى كما هديناكم إلى صراط المستقيم والدين القويم المشترك بين عامة أهل التوحيد والتسليم (فكذلك خصّصناكم) بتشديد الصاد ويجوز تخفيفها (وفضّلناكم) أي على عامة الأمم الماضية (بأن جعلناكم أمّة) أي جماعة مجتمعة غير متفرقة بل متفقة على حقيقة واحدة (خيارا) أي مختارين بخير الرسل (عدولا) عادلين عاملين بأفضل الكتب، (لتشهدوا للأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام) أي الرسل (على أممهم) أي بتبليغ الرسالة يوم القيامة (ويشهد لكم الرّسول بالصّدق) أي بصدق القول وحق الأمانة والديانة، (قيل) قد ثبت بطرق متكاثرة كادت أن تكون متواترة فكان حقه أن يقول صح ونحوه ولا يعبر بقيل المشعر بضعفه إذ رواه البخاري وغيره (إنّ الله جلّ جلاله) أي عظم كبرياؤه (إذا سأل الأنبياء: هل بلّغتم) أي أممكم فيما أرسلتكم به إليهم (فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَتَقُولُ أُمَمُهُمْ، مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ، فَتَشْهَدُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَيُزَكِّيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي ويجيز الله تعالى شهادتهم بتزكيته لهم، (وقيل معنى الآية: إنّكم) بالفتح ويجوز الكسر أي أيها الأمة (حجّة) أي ذو شهادة ثابتة (على كلّ من خالفكم) أي من الأمم المكذبة (والرّسول صلى الله تعالى عليه وسلم حجّة) أي بينة واضحة دالة (عليكم) أي على صدقكم وصدق من وافقكم. (حكاه السّمرقنديّ) أي نقل هذا القول عن بعض المفسرين، (وقال تعالى) أي فيما أثنى عليه وبين إكرامه لديه: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي من أمتك لا من غيرهم (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يُونُسَ: 2] ) ما قدموه من الأعمال الصالحة كما قاله الخطابي وغيره من المفسرين وقال بعضهم ما قدم لهم عند ربهم من السعادة السابقة في اللوح المحفوظ وقد قال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه
لنا القدم الأولى إليك خلفنا ... لا ولنا في طاعة الله تابع
(قال قتادة والحسن) تقدم ذكرهما (وزيد بن أسلم) هو أبو أسامة مولى عمر بن الخطاب توفي سنة ست وثلاثين ومائة (قدم صدق هو محمّد صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ لَهُمْ وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا) أي في رواية أخرى: (هي) أي قدم صدق وأنت الضمير لتأنيث خبره وهو قوله (مصيبتهم بنبيّهم) سواء أدركوا الموت أو حصل لهم جملة الفوت فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم حينئذ يكون لهم فرط حق وقدم صدق عند ربهم قال الحجازي يروي هي فضيلتهم بينهم أي فيما بينهم ولا يخفى عدم ملائمته للمقام ولعله تصحيف أو تحريف ولو كان فضيلتهم بنبيهم لكان وجها وجيها فإنه حينئذ لهم سبق حال صدق وتقدم مقام حق(1/72)
عند ربهم وهذا معنى نسخة هي محبتهم لنبيهم، (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) نسبة إلى خدرة بضم الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة قبيلة (هي شفاعة نبيّهم محمّد صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُوَ شَفِيعُ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ولعل التعبير بها عن القدم لاقدامه عليها وتقدمه على سائر أهلها (وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: هِيَ سابقة رحمة أودعها في محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) يعني في أمته ببركة متابعته على وفق محبته ووجه الاختصاص مع أن الرحمة بكل أمة لاحقة على وفق سابقة لأن سبق وجوده وأثر كرمه وجوده وظهور نوره ونشر سروره مما لا يلحقه أحد من أخوانه كما أشار إليه بقوله كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد ثم قوله أودعها بصيغة الفاعل وهي نسخة المصنف وفي نسخة العوفي على بناء المفعول وجعله التلمساني مضارعا وهو مستقيم بإسناد الفعل إليه سبحانه وتعالى وأما قوله ويتجه إذا سقط في من الكلام ومحمد مرفوع إذ هو النائب عن الفاعل وهو الله سبحانه وتعالى فكلام ساقط الاعتبار كما لا يخفى على المعربين الأخيار، (وقال محمّد بن عليّ التّرمذيّ) هو من كبار المشايخ له تصانيف في علوم القوم ومن تأليفه نوادر الأصول في الحديث بأسانيده وهو أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن بشر الزاهد المؤذن روى عن أبيه وقتيبة بن سعيد وغيرهما واعتنى بهذا الشأن ورحل فيه وروى عنه يحيى بن منصور وخلق كثير من علماء نيسابور فإنه قدمها سنة خمس وثمانين ومائتين وعاش نحوا من ثمانين سنة وهو معظم جليل علما وعملا واعتقادا عند أكابر ما وراء النهر من العلماء والسادة الصوفية لا سيما الطائفة السادة النقشبندية وتكلم على اعتقاده أبو العباس بن تيمية من أجل كتابه خاتم الولاية ولعله ما فهم مقصوده من الإشارات الخفية وقد سبق تحقيق الترمذي مبنى ومعنى ومنها أبو عيسى الحافظ الترمذي كما تقدم والله أعلم (هو) أي قدم صدق (إمام الصّادقين والصّدّيقين) بكسر الهمزة أي قدوتهم ومقتداهم أو بفتحها أي مقدمهم خلقة ورتبة وقدامهم في مقام الشفاعة كما أشار إليه بقوله (الشّفيع المطاع) أي المقبول الشفاعة ولعله عدل عن الشفيع المشفع للإيماء إلى قوله سبحانه وتعالى ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ يعني بخلاف المؤمنين فإنه لهم شفيع مطاع مع أن النفي في الآية منصب على القيد والمقيد جميعا (والسّائل المجاب) أي المستجاب في سؤاله الأعم من الشفاعة وبقية أحواله (محمّد صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَكَاهُ عَنْهُ السُّلَمِيُّ) .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ [فيما ورد من خطابه تعالى إياه مورد الملاطفة والمبرة]
(فِيمَا وَرَدَ مِنْ خِطَابِهِ إِيَّاهُ مَوْرِدَ الْمُلَاطَفَةِ والمبرّة) أي في عتابه المنزل في كتابه والمورد بفتح الميم وكسر الراء محل ورود الكلام ومقصد المرام والمبرة بفتحتين وتشديد الراء بمعنى البر وهو الاتساع في الإحسان على ما في القاموس (فمن ذلك) أي من هذا القبيل (قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) معاتبة على وجه الملاطفة (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] ) أي(1/73)
للمنافقين حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين (قال أبو محمّد المكيّ) مر الكلام عليه وفي نسخة مكي (قيل هذا) أي قوله عَفَا اللَّهُ عَنْكَ (افتتاح كلام) أي ابتداء كلام الله سبحانه له في كتابه عند خطابه (بمنزلة: أصلحك الله) وما صنعت في حاجتي، (وأعزّك الله) هلا شرفتني بزيارتك لي ونحو ذلك فيما يخاطب به الملوك والعظماء بتقديم الدعاء والثناء على انباء الأنباء ونظيره ما ورد في الحديث لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترطت أن يخرجوني والحاصل أن العادة جارية في مقام التبجيل والإكرام لمخاطبة الكرام بنحو هذ الكلام وإن لم يكن هناك شيء من الآثام ثم التشبيه لا يقتضي المشابهة من جميع الوجوه فلا يرد أن مثل هذا الكلام إنما يكون بين المتساويين في الإقدام أو من الأدنى في مخاطبة الأعلى لا بالعكس كما لا يخفى. (وقال عون بن عبد الله) بن عتبة بن مسعود الهندي الكوفي الزاهد الفقيه أخو عبيد الله الذي هو أحد الفقهاء السبعة بمدينة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم روى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل روايته عن الصحابة مرسلة لكن حديثه عن ابن عمر في مسلم ولم يلحقه وعنه الزهري وأبو حنيفة وقد أخرج له مسلم والأربعة توفي في حدود ستين ومائة (أخبره بالعفو قبل أن يخبره بالذّنب) تسلية له في هذا الباب وملاطفة معه في مقام العتاب وقوله يخبره من باب الافعال أو التفعيل وهما بمعنى واحد وأما قول الحلبي وكأنه أراد التنويع في الكلام ليس له نتيجة في المرام لأن التشديد في هذا المقام ليس للتنويع المتفرع على التكثير بل للتعدية كما صرح به صاحب القاموس والجوهري في التقرير (وحكى السّمرقنديّ) أي أبو الليث (عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَعْنَاهُ عَافَاكَ اللَّهُ يَا سليم القلب) أي عن ذكر غير الرب كما فسر به قوله تعالى إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (لم أذنت لهم، قال) أي السمرقندي أو بعضهم المنقول عنه ما تقدم (ولو بدأ) بالهمزة أي ابتدأ الله (النّبيّ) أي له (صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي نسخة ولو بدأه (بِقَوْلِهِ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: 43] لَخِيفَ عَلَيْهِ أن ينشقّ قلبه) أي ينصدع وينقطع (من هيبة هذا الكلام) أي المشعر بأنه وقع في الآثام، (لكن الله تعالى برحمته أخبره بالعفو) أي مبتدئا بالمسامحة عن إجازته (حتّى سكن قلبه) أي وسلم من الدهش لبه وفي نسخة يسكن قلبه وفي بعض النسخ بتشديد الكاف فقلبه منصوب، (ثُمَّ قَالَ لَهُ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ بِالتَّخَلُّفِ) أي عن غزوة تبوك (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الصَّادِقُ فِي عُذْرِهِ مِنَ الكاذب؟) أي في عذره لما حكي عن مجاهد أن بعضهم قالوا في غزوة تبوك نستأذنه في الإقامة إن أذن لنا أقمنا وإن لم يأذن لنا أقمنا واعتذرنا له بعد ذلك بعذر يقبله منا (وفي هذا) أي الخطاب في مقام العتاب وفي نسخة وهذا (من عظيم منزلته عند الله تعالى ما لا يخفى على ذي لبّ) أي صاحب عقل سليم من وهم سقيم، (ومن إكرامه إيّاه وبرّه به) أي إنعامه له (مَا يَنْقَطِعُ دُونَ مَعْرِفَةِ غَايَتِهِ نِيَاطُ الْقَلْبِ) بكسر النون عرق من الوتين ينوط القلب به من(1/74)
جانب الصلب إذا قطع مات صاحبه وقال بعض المفسرين هو الوريد ويروى في غير الشفاء مناط القلب، (قال نفطويه) بكسر نون وسكون فاء وفتح طاء مهملة وواو فسكون تحتية فهاء مكسورة وفي نسخة بضم الطاء وسكون الواو وفتح الياء والتاء المنقلبة عنها الهاء وقفا على وفق القياس وقيل بسكون الهاء وصلا أيضا ويؤيده ما ذكره ابن الصلاح أن أهل العربية يقولون فيه وفي نظائره بواو مفتوحة مفتوح ما قبلها ساكن ما بعدها ومن ينحو بها نحو الفارسية يقولها بواو ساكنة مضموم ما قبلها مفتوح ما بعدها وآخرها هاء على كل قول والتاء خطأ وسمعت الحافظ أبا محمد عبد القادر بن عبد الله يقول سمعت الحافظ ابا العلاء يقول أهل الحديث لا ينحون وبه أي يقولون نفطويه مثلا بواو ساكنة تفاديا من أن يقع في آخر الكلام وبه انتهى وهو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي النحوي الواسطي ظاهري المذهب له التصانيف الحسان في الآداب توفي سنة ثلاث وثلاثمائة ببغداد ودفن بباب الكوفة: (ذهب ناس) أي من المفسرين (إلى أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم معاتب بهذه الآية) بصيغة المفعول (وحاشاه من ذلك) أي هو منزه عن أن يعاتب أو ينسب إليه ذنب، (بل كان مخيّرا) ضبط بضم الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الموحدة في حاشية الحلبي وهو تصحيف وتحريف فالصواب أنه بتشديد التحتية المفتوحة أي مختارا بين الأذن وعدمه إذ لم يتقدم له في ذلك نهي من الله سبحانه كما ذكره الزمخشري وأقول بل التخيير مصرح به في قوله تعالى فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ، (فلمّا أذن لهم) أي في هذه القضية وفي نسخة فلما أن أذن (أعلمه الله تعالى) بما اضمروه مما هو من دأبهم (أنّه لو) وفي نسخة أن (لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم) أي وظهر خلافهم وتحقق شقاقهم، (وأنّه لا حرج) أي لا إثم (عليه في الإذن لهم) زاد القشيري بعد ذكر هذا المعنى في تبيين المبنى أن عفا ههنا ليس بمعنى غفر بل كما قال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَفَا اللَّهُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخيل والرقيق وهي لم تجب عليهم قط فكذلك قوله تعالى عَفَا اللَّهُ عَنْكَ أي لم يلزمك ذنب وَإِنَّمَا يَقُولُ الْعَفْوُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ ذنب من لم يعرف كلام العرب انتهى ولعل الأولى أن يقال وقع العتاب ولا يلزم من العتاب تحقق العقاب المحتاج إلى العفو وإنما هو بيان أن عدم إذنهم كان أصلح بخصوص شأنهم لفضاحة حالهم وخزية مآلهم خلاف ما اختاره صلى الله تعالى عليه وسلم من الأخذ برضاهم بدناءة أفعالهم استبقاء لهم على أحوالهم واعتمادا على الله في إدبارهم وإقبالهم. (قال الفقيه القاضي وفّقه الله تعالى) أي المصنف (يجب على المسلم) أي الكامل (المجاهد نفسه) أي في مرضاة ربه (الرّائض بزمام الشّريعة خلقه) بضمتين ويسكن الثاني وهو منصوب والمراد به تدريبه وتمرينه بما شرعه الله إلينا من أنواع تهذيبه والرائض بهمزة مكسورة اسم فاعل من رضت المهر أروضه رياضة ذللته وجعلته طوع إرادتك والزمام بالكسر بمعنى اللجام وهو مستعار للأحكام (أن يتأدّب بأداب القرآن) أي من المستحسنات كما قال الله تعالى وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ(1/75)
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وفي نسخة بآداب القرآن فهو مصدر بمعنى المفعول أي بما يتأدب به منه (في قوله وفعله) أي مع الحق فيتسم بالعدل والصدق في معاملاته، (ومعاطاته) أي عطائه وأخذه ومناولاته، (ومحاوراته) بالحاء المهملة أي مخاطباته ومجاوباته ومراجعاته ومعارضاته مع الخلق فإن الصالح من قام بحقوق الله وحقوق العباد وكلها مستفاد من القرآن على أحسن البيان ولذا لما قيل لعائشة رضي الله تعالى عنها عن خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم قالت كان خلقه القرآن تعني كان يمتثل لمأموراته ويجتنب عن منهياته وفيه إيماء إلى أنه لا يكون كمن قال لاخيه وهو يحاوره أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً مفتخرا بذلك متغررا به كافرا لنعمة ربه معرضا نفسه لسخطه مستوليا عليه حرصه متماديا في غفلته تاركا نظره في عاقبته ولعمري إن أكثر الأغنياء الأغبياء وإن لم يلهجوا بنحوه فألسنة أحوالهم ناطقة مع شهود أفعالهم، (فهو) أي القرآن (عنصر المعارف الحقيقيّة) أي اساسها ومنبعها من الأمور العلمية والأحوال العملية بضم العين والصاد وبفتح الأصل (وروضة الآداب الدّينيّة والدّنيويّة) أي المحتاج إليها في أمور الدين والدنيا مما له تعلق بأمر العقبى وطريق المولى لقوله تعالى وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ والعجب كل العجب من المؤمن بالكتاب والسنة المبينة للخطاب أن يعدل عن تعلمهما والعمل بهما مع أن بعضهما فرض عين خاصة ومنهما فرض كفاية عامة وهو يقدم عليهما اكتساب العلوم المذمومة أو المباحة من المنطق والكلام والهيئة والحساب والفلسفة ودقائق العربية وغيرهما مما كان السلف لم يتداولوها ولم يتناولوها بل طعنوا فيها وفي من قبل عليها، (وليتأمّل) أي وليتدبر المسلم المذكور (هذه الملاحظة العجيبة) أي والمخاطبة الغريبة الكائنة (في السّؤال) أي سؤاله سبحانه وتعالى بصورة الاستفهام عنه عليه الصلاة والسلام (من ربّ الأرباب) أي المنزه عن المناسبة بينه وبين ما خلق من التراب (المنعم على الكلّ) أي عموما وخصوصا (المستغني عن الجميع) أي جميع العباد والسعداء والاشقياء أو عن عبادة جميعهم هذا قال الجوهري كل وبعض معرفتان ولم يجيئا عن العرب بالألف واللام وهو جائز لأن فيهما معنى الإضافة أضيفت أو لم تضف انتهى وقال ابن فارس كل اسم موضوع للإحاطة يكون مضافا أبدا إلى ما بعده وقد صرح الزجاج بقوله بدل البعض من الكل كما حكاه عنه أبو حيان (ويستثر) بفتح التحتية وسكون المهملة وفتح الفوقية وكسر المثلثة من ثار الشيء إذا ارتفع وانتشر واستثاره طلب ظهوره ويروى ويتبين وجعله الحجازي أصلا كما في نسخة والظاهر أن يكون مجزوما للعطف على يتأمل كما جزم به الدلجي ويجوز رفعه كما في نسخة أي يظهر وينشر ويبحث ويستخرج (ما فيها) أي في هذه الملاطفة العجيبة (من الفوائد) أي المنافع الغريبة، (وكيف) أي ومن جملتها أن يعلم أنه سبحانه وتعالى كيف (ابتدأ) أي في الخطاب (بالإكرام) أي بتعظيمه بقوله عَفَا اللَّهُ عَنْكَ مصدرا في الكتاب (قبل العتب) بفتح وسكون(1/76)
أي قبل بيان العتاب، (وآنس) بالمد وفي نسخة بالفتح والشد وأصل الإيناس ضد الإيحاش فالمعنى كيف اذهب وحشة الإنس وأظهر لذة الإنس من حضرة القدس (بالعفو) أي بذكره (قبل ذكر الذّنب) من إضافة المصدر إلى مفعوله وفي نسخة قبل ذكره الذنب وجعله الحجازي أصلا والآخر رواية والمراد الذنب باعتبار الصورة الظاهرة المأخوذة من المعاتبة المعبر عنها بخلاف الأولى لما قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين من حيث الغفلة في تلك الحالة عن مشاهدة المولى ولذا استدركه المنصف بقوله (إن كان) أي بالفرض والتقدير (ثمّ) بالفتح فالتشديد أي هناك (ذنب) والمعنى أنه لا ذنب هناك حقيقة وإنما وقع في صورة المعتبة، (وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [الإسراء: 74] ) المعنى ولولا ثبوت تثبيتنا إياك لقد قاربت أن تميل إليهم شيئا يسيرا من أدنى الميل إذ ذاك لكن امتنع قرب ميلك وهواك لوجود تثبيتنا إياك ونظيره لو لاك لما خلقت الافلاك وهذا لأن لولا حرف امتناع للشيء لوجود غيره وأن مع الفعل في تأويل المصدر والجملة في محل الرفع على الابتداء والخبر محذوف لعلم السامع به واللام جواب لو كقولهم لولا زيد أي موجود لهلك عمرو والمحققون يقدرون مضافا قبل المبتدأ ليستغنى به عن تقدير الخبر مع قيام لو مقامه واختلفوا في سبب نزول الآية فقيل وهو المحكي عن مجاهد وابن جبير أن قريشا قالوا لا ندعك تستلم الحجر الأسود حتى تمس أوثاننا فخطر في باله أن يفعل ليتمكن من استلام الحجر في مآله وقيل في استدعاء الأغنياء طرد الفقراء وقيل غير ذلك وقد روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين. (قال بعض المتكلّمين) أي من جملة المفسرين (عاتب الله الأنبياء) أي كآدم ونوح وداود عليهم الصلاة والسلام (بعد الزّلّات) أي العثرات الصورية والخطرات البشرية الضرورية فإن الزلة ما صدر من سالك الطريقة من غير قصد المخالفة، (وعاتب نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم قبل وقوعه) أي قبل وقوع الزلل وحصول الخلل (ليكون) أي النبي عليه الصلاة والسلام (بذلك) أي بسبب ذلك العتاب على وجه الاهتمام (أشدّ انتهاء) أي عن المخالفة، (ومحافظة لشرائط المحبّة) أي وأكثر مراعاة لشرائط المودة من الموافقة والمتابعة في الطاعة، (وهذه) أي الحالة (غاية العناية) أي ونهاية الرعاية في الحماية فإن المعاتبة إنما تكون على حسب المكانة أما ترى أن الله تعالى أخذ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمثاقيل الذر لقربهم عنده وحضورهم وتجاوز عن العامة أمثال الجبال لمكان بعدهم وغيبتهم فإن الزلة على بساط الآداب ليست كالذنب على الباب كما لا يخفى على أولي الألباب، (ثمّ انظر) أي أيها الناظر بعين الاعتبار وتفكر فيما يشار إليه من علو المقدار لأحمد المختار صلى الله تعالى عليه وسلم (كيف بدأ) أي الله (بثباته) أي على الموافقة (وسلامته) أي من المخالفة (قبل ذكر ما عتبه عليه) وفي نسخة عاتبه عَلَيْهِ، (وَخِيفَ أَنْ يَرْكَنَ إِلَيْهِ، فَفِي أَثْنَاءِ عتبه براءته، وفي طيّ تخويفه) أي في ضمن إخافته (تأمينه) أي جعله مأمونا من المخالفة(1/77)
(وكرامته) أي بالثبات على الموافقة، (ومثله) أي في هذا المعنى. (قوله تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ) أي الشان (لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) قرأ نافع من أحزنه يحزنه والباقون من حزنه يحزنه بفتح الزاي في الماضي وضمها في الغابر وكلاهما متعديان بمعنى واحد وأما حزن يحزن من باب علم فهو لازم فاعلم والزم والمعنى بالتحقيق أو في بعض أوقاتك من التضييق نعلم أن الشأن ليوقعك في الحزن ما يقولون في شأننا أو في حق القرآن أو في كقوله تَعَالَى وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ [الأنعام: 33] ) بالتشديد للجمهور وبالتخفيف لنافع والكسائي والمعنى لا ينسبونك إلى الكذب ولا يتهمونك به ولا ينكرون أمانتك وديانتك أو لا يكذبونك في الحقيقة (الآية) أي ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون يعني ينكرونها أو ينكرون عليك بسبب اتيان آياتنا فقط وفي هذا نوع تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم وتهديد لهم ولكن لم يظهر لإيرادها وجه مناسبة ولا جهة ملائمة لما نحن فيه من مرتبة المعاتبة وقضية الملامة (قال عليّ كرم الله وجهه) كما رواه الترمذي وصححه الحاكم، (قال أبو جهل للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم: إنّا لا نكذّبك) أي في الصدق والأمانة، (ولكن نكذّب ممّا جئت به) أي من القرآن الدال على التوحيد والديانة، (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ [الْأَنْعَامِ: 33] الآية) وفي نسخة فنزلت وإنما هو شهادة من الله تعالى له بالصدق والديانة وبيان أن هذا مما اتفق عليه الأمة عامة (وروي أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم: لمّا كذّبه) وفي نسخة أكذبه (قومه حزن) بكسر الزاء أي اغتم (فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: مَا يُحْزِنُكَ؟) بالوجهين السابقين فقال: (كَذَّبَنِي قَوْمِي.
فَقَالَ: إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّكَ صَادِقٌ) يعني لكن جئت بشيء ليس لغرضهم موافقا، (فأنزل الله تعالى الآية) أي المتقدمة قال الدلجي وحديث جبريل هذا أورده بصيغة روي ولم أعرف من رواه، (ففي هذه الآية منزع) بفتح ميم فسكون نون وفتح زاء أي مأخذ ومشرع (لَطِيفُ الْمَأْخَذِ مِنْ تَسْلِيَتِهِ تَعَالَى لَهُ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) أي بإذهاب حزنه وجلب أنسه، (وإلطافه به) بكسر الهمزة أي إكرامه (في القول) أي في قوله، (بأن قرّر عنده) أي بما اطمأنت به نفسه (أَنَّهُ صَادِقٌ عِنْدَهُمْ، وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَذِّبِينَ لَهُ) أي في الحقيقة بل مكذبين لنا أو غير مكذبين في الباطن، (لأنهم معترفون بصدقه قولا واعتقادا، وقد كانوا) أي عامة المشركين (يسمّونه) سماه وأسماه بمعنى والمراد هنا يصفونه ويعدونه (قبل النّبوّة الأمين) أي من الأمانة في القول والفعل والعهد والوعد ضد الخيانة، (فدفع) أي الله سبحانه وتعالى (بهذا التّقرير) أي المذكور في الآية بالتحرير وهو في أصل المصنف بالراءين وجعل التلمساني اصله بالدال بعد القاف بمعنى الفرض والتصوير قال وبالراء بمعنى تبيينه وتمهيده وكل منهما قريب من الآخر فتدبر (ارتماض نفسه) أي اقلاقها وإحراقها (بسمة الكذب) بكسر السين أي بوسمته وعلامته من الوسم وأصلها في المكي للأمارة والكذب بفتح فكسر هو الأفصح ويجوز بكسر فسكون وهو أنسب إذا قوبل بالصدق للمشاكلة اللفظية كما قال به(1/78)
بعض أرباب العربية في الأبواب الأدبية، (ثمّ جعل) أي الله سبحانه وتعالى (الذّمّ لهم بتسميتهم) أي بتسميته إياهم (جاحدين) أي منكرين عنادا (ظالمين) أي بوضع التكذيب موضع التصديق (فَقَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] فحاشاه) أي نزهه سبحانه وتعالى (من الوصم) أي العيب وهو بسكون الصاد وضبط في حاشية بكسر الصاد وهو وهم لأنه حينئذ وصف لا مصدر ولا وجه له هنا، (وطوّقهم) أي الزم أطواقهم في أعناقهم (بالمعاندة) أي بسبب المناظرة على وجه العناد (بتكذيب الآيات) متعلق بالمعاندة (حقيقة المعاندة) منصوب على المفعول الثاني لطوق وفي بعض النسخ حقيقة للظلم أي تحقيقا للظلم، (إِذِ الْجَحْدُ إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ عَلِمَ الشَّيْءَ ثُمَّ أَنْكَرَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: 14] ) أي تعديا وتكبرا ونصبهما على العلة لجحدوا والجملة بينهما معترضة بالحالية لا يقال إن الجحد بمعنى الإنكار في الماضي مطلقا كما هو مقرر في علم التصريف فوجود العلم يؤخذ من جملة واستيقنتها لأنا نقول الجحد في اللغة هو الإنكار مع العلم كما صرح به صاحب القاموس ففي الآية تجريد أو تأكيد ثم حاصل كلام المصنف رحمه الله تعالى أن الجمع بين الأمرين وهو نفي تكذيبهم وإثبات جحدهم أنهم كانوا غير مكذبين له بقلوبهم فإنهم يعلمون صدقه في كل قضية ولكنهم جحدوا بناء على عنادهم كما تدل عليه الآية الثانية وهذا تأويل حسن ومسلك مستحسن ويصححه ما روي إِنَّ الْأَخْنَسَ بْنَ شُرَيْقٍ لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا الْحَكَمِ أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس ههنا غيري وغيرك فقال له وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش وقيل وجه ثان في الجمع بينهما وهو أن يكون معنى الآية إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم لما أصروا على تكذيبك مع ظهور المعجزات الخارقة على وفق دعواك لم يكذبوك وإنما كذبوني أنا وهذا كما يقول القائل لرجل أهان عبدا له أنك لم تهن عبدي وإنما اهنتني وهنا وجه ثالث وهو أن الظالمين ما خصوك بالتكذيب بل عم تكذيبهم لسائر المرسلين ويلائمه ما ذكره المصنف بقوله (ثمّ عزاه) بتشديد الزاء أي سلاه وصبره (وآنسه) بالضبطين أي سكنه وأزال وحشته (بما ذكره عمّن قبله) أي من الأنبياء (ووعده النّصر) أي على الأعداء (بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام: 34] الآية) يعني فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ. (فمن قرأ لا يكذبونك بالتّخفيف) وهو نافع والكسائي، (فمعناه لا يجدونك كاذبا) فهو من باب ابخلته وجدته بخيلا (وقال الفرّاء) بتشديد الراء وهو الإمام النحوي اللغوي الكوفي مات سنة سبع ومائتين في طريق مكة ولم يكفه يعمل الفرو ولا يبيعها وإنما قيل له ذلك لأنه يفري الكلام أي يصنعه ويأتي بالعجب منه (والكسائيّ) بكسر الكاف لأنه كان ملتفا بكساء(1/79)
عند قراءته على حمزة وقيل لأنه أحرم بكساء وهذا القول جزم به أبو عمرو الداني في التيسير ونظمه الشاطبي في كتابه وهو أحد القراء السبعة والإمام في النحو واللغة من أهل الكوفه روى عن أبي بكر بن عياش وحمزة الزيات وابن عيينة وغيرهم وعنه الفراء وأبو عبيد القاسم بن سلام وغيرهما توفي سنة تسع وثمانين ومائة بالري وقيل بطوس والحاصل أنهما قالا في معنى لا يكذبونك بالتخفيف: (لا يقولون إنّك كاذب) فيكون معناه النسبة كالإكفار والتكفير وهو أنسب للجمع في المعنى بين القراءتين، (وقيل لا يحتجّون) أي لا يستدلون (على كذبك ولا يثبتونه) أي شبهة فضلا عن حجة وهو راجع إلى قولهما في المعنى وإن اختلف في المبنى، (ومن قرأ بالتّشديد) وهم الباقون، (فَمَعْنَاهُ لَا يَنْسِبُونَكَ إِلَى الْكَذِبِ، وَقِيلَ لَا يعتقدون كذبك) وهو خلاصة المعنيين وزبدة القراءتين (وممّا ذكر من خصائصه) أي الدالة على زيادة قدره (وبرّ الله تعالى به) أي اكرامه له من بين أصفيائه (أنّ الله تعالى خاطب جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام) أي المذكورين في القرآن (بأسمائهم) أي بأعلامهم دون أوصافهم الدالة على إعظامهم (فقال يا آدم) أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ، (يا نوح) اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا، (يا إبراهيم) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا، (يا موسى) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ، (يا داود) إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً، (يا عيسى) إِنِّي مُتَوَفِّيكَ، (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وأمثال ذلك، (ولم يخاطب) بفتح الطاء ويروى ولم يخاطبه كذا ذكره الحجازي لكن لا يلائمه قوله (هو) ولعله غير موجود في تلك الرواية (إِلَّا: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، يا أيّها المزّمّل يا أيّها المدّثر) يعني فهذا كله دال على رفعة منزلته عنده فإن السيد إذا دعا أحد عبيده بأوصافه المرضية وأخلاقه العلية ودعا غيره باسمه العلم الذي لا يشعر بوصف من الأوصاف الجلية دل على أن عزته عنده أكثر من غيره كما في عرف المخاطبة وآداب المحاورة ومعنى المزمل وأصله المتزمل المتغطي بالثوب وكذا المدثر لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها حين رجع من غار حراء بعد ما حاوره الملك ما حاوره زملوني زملوني وفي رواية أخرى دثروني دثروني على ما ورد في الصحيح وإنما خوطب بالمزمل في هذا والمدثر في هذا المقام للملاطفة والتأنيس إذ من عادة العرب إذا قصدت الملاطفة أن تسمي المخاطب باسم تشتقه من الحالة التي هو فيها كقوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة قم يا نومان ولعلي بن أبي طالب وقد نام في التراب قم يا أبا تراب هذا بحسب دلالة الخطاب ومن ذلك أنه تعالى منع الخلق صريحا أيضا في الكتاب لسد هذا الباب حيث قال لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً وقد قال كثير من العلماء أي لا تقولوا يا محمد يا أحمد ونحوهما ولكن قولوا يا رسول الله يا نبي الله وإن مناداته عليه الصلاة والسلام بأسمائه الاعلام من نوع الحرام في الأحكام.(1/80)
الْفَصْلُ الرَّابِعُ [فِي قَسَمِهِ تَعَالَى بِعَظِيمِ قَدْرِهِ صلى الله تعالى عليه وسلم]
(في قسمه تعالى بعظيم قدره) القسم بفتحتين الحلف (قال الله تعالى: لَعَمْرُكَ أي قسمي يا محمد لعمرك (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ) أي غمرتهم وغفلتهم (يَعْمَهُونَ [الحجر: 72] ) أي يتحيرون ويترددون والضمير لقوم لوط وقيل راجع إلى قريش وهو بعيد جدا غير ملائم للسابق واللاحق على ما ذكروه والأظهر أن الجملة قسمية معترضة فيما بين القصة فلا يبعد أن يكون الضمير راجعا إلى كفار قومه صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الملائم لخطابه وحكاية غفلتهم عن جنابه ثم رأيت الطبري جزم بأن ضمير يعمهون لقريش والجملة اعتراض بين الأخبار بقبائح قوم لوط وبين الأخبار بهلاكهم تنبيها على أن من كان هذا دأبه فجدير أن لا ينفعه تأديب ولا يؤثر فيه تأنيب وتنفيرا للسامع عن هذه القبائح المورثة للفضائح (اتّفق أهل التّفسير في هذا) أي قوله لعمرك (أنّه قسم من الله تعالى بمدّة حياة محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) وقيل المراد به لوط كما ذكره البيضاوي فالمراد بأهل التفسير أكثرهم وجمهورهم مع أن البغوي أيضا اقتصر على الأول ثم إذا كان المراد به لوطا فالقائل الملك لئلا ينافي ما رواه البيهقي وابن أبي شيبة وابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إلا قال لعمرك بل أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا قال ما حلف الله بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم قال لعمرك، (وأصله) أي أصل الاستعمال لعمرك (بضمّ الْعَيْنِ مِنَ الْعُمْرِ وَلَكِنَّهَا فُتِحَتْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ) والأظهر أن يقال العمر بضمتين وهو الأفصح الوارد في القرآن وبالضم والفتح أيضا على ما في القاموس إلا أنه لا يستعمل في القسم إلا بالفتح لخفة لفظه وكثرة دورانه كما في البيضاوي وغيره، (ومعناه) أي كما رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس، (وبقائك) أي ومدة بقائك في الدنيا (يا محمّد) كقوله تعالى وَالْعَصْرِ أي عصر نبوته في قول أو بقائك بنا بعد فنائك فينا، (وقيل) أي كما رواه ابن ابي طلحة عن ابن عباس أيضا وعزى إلى الأخفش (وعيشك) أي وطيب معيشتك في الكونين لقوله تعالى فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً أي في الدنيا بالزهد فيها والتقليل منها والصبر على مرّها والشكر على حلوها (وقيل وحياتك) أي باسمنا المحيي والتخصيص للتشريف والكل بمعنى واحد وإنما ذكرها لاختلاف ألفاظها، (وهذه) أي المعاني كلها (نهاية التّعظيم وغاية البرّ) أي التكريم، (وَالتَّشْرِيفِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) أي فيما رواه البيهقي في دلائله وأبو نعيم وأبو يعلى (ما خلق الله تعالى) أي ما قدر (وما ذرأ) أي خلق وكأنه مختص بالذرية وفي الحديث أنهم ذرء النار أي أنهم خلقوا لها (وما برأ) أي خلق الخلق من البراء وهو التراب أو مختص بذات الروح ولذا يقال يا بارئ النسمة أو معناه خلق خلقا بريئا من التفاوت أو أريد بالثلاثة معنى واحد وكرره للتأكيد كما(1/81)
في الحديث نعوذ بالله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه من شر ما خلق وذرأ وبرأ والمراد ما أوجد من العدم (نفسا) أي شخصا ذا نفس (أكرم: عليه) أي أنفس عنده وأفضل لديه (من محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) ثم كان كالدليل عليه، (وما سمعت الله عز وجل) أي ما علمته (أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِهِ وَقَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ) بجيم وزاء مفتوحتين بينهما واو ساكنة فألف بعده همزة أوس بن عبد الله الرابعي البصري يروي عن عائشة وغيرها وعنه قتادة وعدة أخرج له الجماعة الستة وأما أبو الحوراء بالحاء المهملة والراء فراوي حديث القنوت (مَا أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِ محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم لأنّه أكرم البريّة عنده) والبرية بالهمزة والتشديد بمعنى الخليقة ومنه قوله تعالى أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وهي فعيلة بمعنى مفعولة وأنثت لأنها خرجت عن الصفة واستعملت استعمال الاسماء المخصة وأما ما جزم به المنجاني من أنها غير مهموزة فغفلة عن القراءة لأن نافعا وابن ذكوان قرآ في الآية بالهمزة (وقال تعالى: يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: 1- 2] ) عطف على يس إن جعل مقسما به وإلا فواوه للقسم وأسند إليه الحكمة لأنه صاحبها أو ناطق بها (الآيات) أي إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
(اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى يس عَلَى أَقْوَالٍ) أي صدرت من بعض المتأخرين أقوال فالجمهور من السلف وجمع من الخلف على أن الحروف المقطعة في أوائل السور مما استأثر الله تعالى به علما ويقولون الله أعلم بمراده بذلك (فحكى أبو محمّد مكّيّ) وقد مر ذكره (أنّه روي) أي في دلائل أبي نعيم وتفسير ابن أبي مردويه من طريق أبي يحيى التيمي قيل وهو وضاع عن سيف بن وهب وهو ضعيف عن أبي الطفيل (عن النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لِي عِنْدَ رَبِّي عشرة أسماء) وهو لا ينافي الزيادة لأنها قاربت الخمسمائة (وذكر) أي ابو محمد مكي ويحتمل أن يكون مرفوعا لكن عبارته تأبى عنه وهي (أن منها:
طه، ويس، اسمان له) ومع هذا ليس الحديث المذكور بصحيح وقد ضعفه القاضي أبو بكر ابن العربي على ما ذكره المنجاني ثم قال وأما هذا القول وهو أنه اسم للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ذهب إليه سعيد بن جبير وقد جاء في الشعر ما يعضده وذلك قول السيد الحميري.
يا نفس لا تمحضي بالنصح جاهدة ... على المودة إلا آل ياسينا
يريد إلا آل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ويكون حرف النداء على هذا محذوفا من الآية وكان الأصل أن يكتب ياسين على أصل هجائها ولكن اتبعت في كتبها على ما هي عليه المصاحف الأصلية والعثمانية لما فيها من الحكمة البديعية وذلك أنهم رسموها مطلقة دون هجاء لتبقى تحت حجاب الاخفاء ولا يقطع عليها بمعنى من المعاني المحتملة ومما يؤيد هذا المعنى قوله تعالى سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ بمد الهمزة عل قراءة نافع وابن عامر(1/82)
فقد قال بعض المفسرين معناه آل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قيل أصل طه معناه طاء من الوطئ فأبدل الهمزة هاء وأجري الوصل مجرى الوقف وقيل معناه يا رجل بالحبشية أو العبرانية أو القبطية أو اليمانية (وَحَكَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عَنْ جَعْفَرٍ الصّادق أنّه أراد) بقوله يس (يا سيّد) أي بطريق الرمز (مخاطبة لنبيّه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ملاطفة ومطايبة ومخافتة وهذا مختصر مما نقله السلمي عنه بقوله قال الصادق في قوله يس يا سيد مخاطبا لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ولذا قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنا سيد آدم ولم يمدح بذلك نفسه ولكنه أخبر عن مخاطبة الحق إياه بقوله يس وهذا شبيه بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم حيث قرأ على المنبر ونادوا فلما أخبر الله تعالى عنه بالسيادة وأمره بتصريحه صرح بذلك فقال إن الله تعالى دعاني سيدا وأنا سيد ولد آدم ولا فخر أي ولا فخر لي بالسيادة لأن افتخاري بالعبودية أجل من إخباري عن نفسي بالسيادة انتهى والحاصل أن الياء منها للنداء والسين إشارة إلى لفظ سيد اكتفاء بفاء الكلمة لدلالتها على باقيها وهذا مذهب العرب يستعملونه في كلامهم وأشعارهم وقد حكى سيبويه أن الرجل منهم يقول للآخر إلا تا أي إلا تفعل فيقول الآخر بلى سا أي بلى سأفعل ويكتفون بذلك عن ذكر الكلمتين بكمالهما وقد ورد في الحديث كفى بالسيف شا واستغنى بذلك عن أن يقول شاهدا (وعن ابن عبّاس) أي على ما رواه ابن أبي حاتم (يس) أي معناه (يا إنسان) ولما كان الإنسان اسما لعموم أفراد الإنس قال (أراد محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لأنه الفرد الأكمل والمقصود من الخلق الأول، (وقال) أي ابن عباس كما رواه ابن جرير (هو) أي يس (قسم) أي اقسم به سبحانه وتعالى بحذف حرف القسم فالواو في قوله وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ عاطفة أو معادة (وهو) أي يس اسم على ما رواه ابن أبي طلحة عنه (أيضا من أسماء الله تعالى) أي تصريحا أو تلويحا وهو لا ينافي أن يكون من اسمائه صلى الله تعالى عليه وسلم لأن الأسماء بمعنى الأوصاف لا بمعنى الاعلام وقد أطلق بعض صفات الله تعالى عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كالرؤوف والرحيم وأمثالهما مع الفرق بين أوصافه سبحانه وتعالى ووصفه صلى الله تعالى عليه وسلم وغيره (وقال الزّجّاج) هو أبو إسحاق إبراهيم النحوي نسبة إلى الزجاج لصنعته مات سنة عشر وثلاثمائة ببغداد، (قيل معناه: يا محمّد) أي بطريق الإيماء كما سبق في يا سيد وغيره، (وقيل يا رجل) أي بالحبشية كما روي عن الحسن وسعيد بن جبير ومقاتل انها لغة حبشية يعني أنهم يسمون الإنسان سين، (وقيل يا إنسان) أي بلغة طي كما رواه الكشاف وعن ابن عباس على أن أصله يا انيسين بالتصغير فاقتصر على شطره لكثرة النداء به. (وعن ابن الحنفيّة) كما رواه البيهقي في دلائله وهو محمد بن علي بن أبي طالب نسبة إلى أمه وهي خوله بنت جعفر بن قيس بن مسلم من سبايا بني حنيفة واشتهر بها وهو من كبار التابعين دخل على عمر بن الخطاب وسمع عثمان بن عفان وغيره وأخرج له الجماعة مات سنة ثمانين وولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر (يس يا محمّد) أي بأحد(1/83)
التأويلات السابقة. (وعن كعب) أي كعب الاحبار (يس» قَسَمٌ أَقَسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ قَبْلَ أن يخلق السّماء والأرض بألفي عام) الظاهر أن المراد به الكثرة الخارجة عن التعديد لا التحديد وأن المقصود به هو أنه سبحانه وتعالى أقسم برسوله الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم في كلامه القديم. (يا محمّد إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) فكأنه أراد أن التقدير أقسم بك يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، (ثُمَّ قَالَ تعالى) أي إظهارا بعد ذكره اضمارا وتأكيدا بعد اقسامه تأييدا:
(وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: 2- 3] ) على أنه لا بدع أنه سبحانه أقسم به صلى الله تعالى عليه وسلم قبل خلق الكائنات بألفي عام عند إبداع روحه الشريف وابداء نوره اللطيف صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قال في كتابه القديم مطابقا لما أقسم برسوله العظيم صلى الله تعالى عليه وسلم وبهذا يندفع ما ذكره المنجاني من أن هذا القول عندي في غاية الإشكال لأن القرآن كلام الله وكلامه صفة من صفاته القديمة فلا يصح أن يذكر في تقدمه عن خلق الأرض مقدارا معينا لأن خلقها محدث فالأولى أن تضعف الروايات الواردة عن كعب بهذا ما أمكن فإن صح ذلك عنده فليترك علمه إلى الله سبحانه وتعالى إذ لا يقول كعب هذا إلا بتوقيف وليس ذلك مما يدرك بالاجتهاد والرأي انتهى وفيه أن كعبا ممن ينقل عن الكتب السالفة والعلماء الماضية فلا يقال في حقه إنه لا يقول إلا بتوقيف فإن هذا الحكم مختص بالأقوال الموقوفة المروية عن الصحابة رضي الله عنهم ممن ليس لهم رواية عن غيره صلى الله تعالى عليه وسلم فموقوفهم حينئذ حكم مرفوعهم كما هو مقرر في علم أصول الحديث حتى لم يعدوا عمرو بن العاص ممن لا يقول إلا بالتوقيف فافرق بين القول الصحيح والضعيف وقد يجاب بأن المراد به أنه أبرزه في أم الكتاب أي اللوح المحفوظ إذ ما من كائن إلا وهو مكتوب فيه ثم قال المصنف. (فإن قدّر) أي فرض وفي نسخة قرر (أنّه) أي يس (من أسمائه صلى الله تعالى عليه وسلم وصحّ فيه) أي في القول (أنّه قسم) أي أيضا (كان فيه من التّعظيم ما تقدّم) أي من أن الله تعالى ما أقسم بحياة أحد غيره صلى الله تعالى عليه وسلم، (ويؤكّد فيه القسم) أي المستفاد من المقدر المرموز، (عطف القسم الآخر) بالفتح وجوز الكسر وهو المذكور المصرح (عليه) أي على ذلك القسم فتكون الواو الثانية عاطفة أو مؤكدة كما أشرنا إليه، (وإن كان) أي مجموع يس (بمعنى النّداء) يعني وليس المراد به أنه من الاسماء وإن كان يس بمعنى المنادى (فقد جاء قسم آخر فيه) أي قسم آخر ليس وجهه مما يظهر (بعده) أي بعد ندائه (لتحقيق رسالته) أي بقوله إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (والشّهادة بهدايته صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حيث قال عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، (أقسم الله تعالى باسمه) أي بناء على القول الأول في يس، (وكتابه) أي في قوله وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (إِنَّهُ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ بِوَحْيِهِ إِلَى عِبَادِهِ، وَعَلَى صراط مستقيم، من إيمانه) أي الموجب لإيقانه والمقتضي لإكمال أعمال أركانه، (أي) يعني معنى صراط مستقيم أنه من الثابتين (على طريق لا اعوجاج فيه) أي لا ميل إلى طرفي الإفراط والتفريط من تشبيه(1/84)
وتعطيل وجبر وقدر (ولا عدول عن الحقّ) أي عن الحكم الثابت بالوجه الصدق أو عن الوصول إليه سبحانه وتعالى والحصول على رضاه عز شأنه. (قال النّقاش) أبو بكر محمد ابن الحسن بن محمد بن زياد الموصلي البغدادي المفسر المقري توفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة وقد اثنى عليه أبو عمرو الداني وقد طعنوا في رواية حديثه (لَمْ يُقْسِمِ اللَّهُ تَعَالَى لِأَحَدٍ مِنْ أَنْبِيَائِهِ بالرّسالة في كتابه) أي القرآن لعدم علم النقاش بسائر خطابه ولا يبعد أن يراد به جنس كتابه (إلّا له) صلى الله تعالى عليه وسلم، (وفيه) أي وفي هذا التخصيص (من تعظيمه وتمجيده) أي تكريمه صلى الله تعالى عليه وسلم (على تأويل من قال) أي في يس (إنّه سيّد ما فيه) أي الذي فيه من غاية التفخيم الذي يعجز عن بيانه نطاق التكليم. (وقد قال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فخر) قال المنجاني وأكثر الروايات في هذا الحديث أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وهكذا رواه مسلم والترمذي قلت وفي الجامع الصغير أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مشفع ورواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة ورواه أحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي سعيد ولفظه أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نَبِيٌّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ ولا فخر انتهى ولا شك أن زيادة الثقة مقبولة والمعنى لا أقوله افتخارا لمقامي بل تحدثنا بنعمة ربي أو المعنى لا فخر بهذا بل بما فوقه مما لا يعبر ثم السد في اللغة الشريف الذي فاق قومه في الخير وهو فعيل بكسر العين من ساد يسود وهو المعتمد الذي عليه البصريون ونظيره صيب وثيب والحاصل أن المصنف أتى بهذا الحديث عاضدا للقول بأن المراد في الآية يا سيد كما بيناه سابقا (وقال جل جلاله) أي عظم شأنه وعز سلطانه: (لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ [البلد: 1- 2] ) ادخال النافية للتأكيد شائع في كلام العرب وسائغ عند علماء الأدب فالمعنى أنه سبحانه وتعالى أقسم بالبلد الحرام وقيده بحلول رسوله عليه الصلاة والسلام به إظهارا لمزيد فضله وإشعارا بأن شرف المكان بشرف أهله وهذا المعنى باعتبار مفهومه يفيد ما عبر عنه المصنف بقوله (قِيلَ لَا أُقْسِمُ بِهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ فيه بعد خروجك منه. حكاه مكّيّ) أي هذا القول عن بعضهم وبما قررناه وبيناه وحررناه اندفع ما قاله المنجاني من أن هذا الذي حكاه عن مكي لا يستقيم تنزيله على الآية لأنه عكس مقتضاها الا ترى أن الواو من قوله تعالى وَأَنْتَ حِلٌّ واو الحال وإذا كانت كذلك فيكون معنى الآية لا أقسم بهذا البلد إذا كنت فيه وهو ضد ما قال مكي وإنما تتأول الآية على أن تكون لا زائدة فيها أي أقسم بهذا البلد وأنت حل به ساكن فيه وإلى هذا ذهب الزجاج انتهى ولعل منشأ هذا الاعتراض هو المقابلة بقوله، (وقيل لا زائدة) وليس كذلك فإن مراده مستقيم على تقدير عدم زيادة لا ايضا كما قال مجاهد إنها رد لكلام تقدم والمعنى ليس الأمر كما توهم من توهم وأقسم بعدها إثبات للقسم ويؤيده قراءة الحسن البصري لا قسم بدون الألف(1/85)
وعلى التنزل يمكن أن يكون مراده المغايرة في معنى حل على القول بزيادة لا أيضا ولذا قال (أَيْ أُقْسِمُ بِهِ، وَأَنْتَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ حلال لك) أي من دخول الحرم بغير إحرام والمعنى أنت به حلال حال كونه خالصا لك (أو حل لك ما فعلت فيه) أي من قتل بعض المشركين في عام الفتح حيث قال صلى الله تعالى عليه وسلم إن مكة حرمها الله تعالى يوم خلق السموات والأرض لم تحل لأحد قبلي ولا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً من نهار ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالامس (على التّفسيرين) أي على القولين للمفسرين في معنى الحل أنه من الحلول أو من الحلال لا تفسيري كونها زائدة ونافية كما ذكره الدلجي، (والمراد بالبلد عند هؤلاء مكّة) وهو المشهور عند الجمهور. (وقال الواسطيّ، أي نحلف) كان الأولى أحلف (لك) وقال الحجازي يروى بحلولك (بهذا البلد الذي شرّفته بمكانك) أي بكونك وإقامتك (فيه حيّا وببركتك ميّتا يعني المدينة) فيه بحيث لأنه يحتمل أنه أراد به مكة أيضا لأنه شرفها بمكانه فيها حيا ويصل إليها بركاته مماتا وإن بعد عنها دفنا بل هذا هو الأظهر معنى والأوفق مبنى فلا يحتاج إلى قوله، (والأوّل) أي من قولى البلد أهي مكة أم المدينة (أصحّ لأنّ السّورة مكيّة) أي اتفاقا (وما بعده يصحّحه) أي يؤيده ويوضحه (قوله تعالى) بدل مما بعده: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ [البلد: 2] ) وفيه أنه لا يظهر وجه تصحيحه ولا بيان توضيحه لأن حلوله في المدينة أظهر لشموله حيا وميتا ولا بدع أن الآية نزلت إشارة إلى ما سيقع من القضية (وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ عَطَاءٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تعالى: وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين: 3] ) أي الآمن أو المأمون فيه يأمن فيه من دخله (قال) أي ابن عطاء (أمّنها الله تعالى) بهمزة ممدودة ويجوز بالقصر والتشديد ففي القاموس آمنه وأمنه فاندفع به اعتراض الحلبي أي جعل مكة ذات أمن (بمقامه) أي بسكناه (فيها وكونه بها فإنّ كونه) أي وجوده فيها (أمان حيث كان) صلى الله تعالى عليه وسلم وأغرب التلمساني حيث قال والأمين فعيل كمفعل أو مفعول وهذا على زيادة لا وعلى نفيها فالقسم به دونها انتهى ووجه غرابته لا يخفى لأن البلد الأمين في سورة التين وليست هي مصدرة بلا أقسم حتى يستقيم هذا القسم والله أعلم وفي نسخة زيادة ثم هذا القول من ابن عطاء لا يخلو عن نوع غطاء فإن الله سبحانه وتعالى جعله بلدا آمنا قبل ظهوره صلى الله تعالى عليه وسلم كما قال تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ والمراد بالبلد الأمين مكة باتفاق المفسرين وهذه جملة معترضة بين المتعاطفين بقوله (ثمّ قال تعالى: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ [البلد: 3] من قال) أي كمجاهد (أراد آدم) أي بقوله تعالى وَوالِدٍ (فهو عامّ) أي في جميع ولده ولا يبعد أن يراد به خلاصة افراد الأولاد وسلالة العباد وسيد الأنبياء وسند الاصفياء الذي قيل فيه لولا وجود الخاتم ما كان ذكر لآدم صلى الله تعالى عليه وسلم، (ومن قال هو إبراهيم وما ولد) أي من أولاده الصلبية يعني إسماعيل وإسحاق وأسباطه من أنبياء بني إسرائيل من نسل يعقوب وسبطه الأعظم وحافده الأفخم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من نسل إسماعيل الجميل(1/86)
يأني البيت الجليل مع والده الخليل وربما يقال هو المقصود بالذات من إبراهيم وولده الكريم كما أنه زبدة الكائنات وخلاصة الموجودات ولذا قال المصنف (فهي) أي الآية المذكورة (إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إِشَارَةً إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله تعالى عليه وسلم فتتضمّن السّورة) أي المسطورة (القسم به صلى الله تعالى عليه وسلم في موضعين) أي بحسب المتعاطفين من حيث كونه ولدا لإبراهيم وكونه والدا بشهادة ما في الكشاف ونقله ابن الجوزي عن ابن عمران الجوني انه صلى الله تعالى عليه وسلم هو المراد بالوالد ونصره القرطبي بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم إنما أنا لكم بمنزلة الوالد وقد ذكر البيضاوي القولين حيث قال ووالد عطف على هذا البلد والوالد آدم أو إبراهيم وما ولد ذريته أو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم والتنكير للتعظيم وإيثار ما على من لمعنى التعجب كما في قوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ أي بأي شيء وضعت يعني موضوعا عجيب الشأن غريب البرهان فاندفع ما قاله المنجاني من أن ما تقع على ذوي العقول عند النحويين على أن كثيرا منهم قالوا إن من يختص بذوي العقول وما عام ويؤيده قوله تعالى وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها وإن قال بعضهم إن المراد بها معنى الوصفية المنبئة عن العظمة كأنها قيل والشيء القادر الذي بناها ودل على وجوده وكمال قدرته وجوده بناؤها وأنت ترى أن هذا تكلف مستغنى عنه إذ جوز أن ما ترد بمعنى من على في القاموس كقوله تعالى وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ ثم وقع التناقض بين قولي المنجاني حيث قال فيلزم على قول القاضي أن تكون ما في الآية واقعة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وذلك خروج بها عما قرر النحويون لها والذي يظهر في الآية والله تعالى أعلم أن الوالد والولد اسما جنس عامان لكل والد ومولود وهو قول ابن عباس فيكون قوله سبحانه وتعالى وَما وَلَدَ على هذا التأويل جاء منبها على العاقل الذي لم يلد إذ لو اقتصر في الآية على ذكر الولد لخرج منها من لم يلد ولدا البتة انتهى ووجه التناقض لا يخفى إذ جنس المولود من قبيل ذوي العقول في المعنى فيؤول إلى قول القاضي في المعنى غايته أنه أراد الفرد الأكمل من الجنس الثاني بل لو أريد به الفرد الأفضل من النوعين لا يبعد لصدق الوالدية والولدية عليه ثم التنبيه الذي ذكره لا يخفى على الفقيه النبيه حيث إن المراد بما ولد ما ولده الوالد من آدم أو إبراهيم أو جنس الوالد. (وقال تعالى: الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ) قيل فيه صنعة التبديل من علم المعمى في استخراج الاسماء والتقدير ألف لام ميم الحمد فيبقى محمد فهو نداء أو مبتدأ خبره ذلك الكتاب أي هو النسخة الجامعة في الرتبة اللامعة والمرتبة الساطعة واسطة بين الخالق والخليقة (لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 1- 2] ) وسيأتي الكلام فيه (قال ابن عبّاس رضي الله عنهما) أي فيما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم (هذه الحروف) أي المقطعة في أول هذه السورة وأمثالها من سائر السور المسطورة (أقسام) جمع قسم بمعنى مقسم به (أقسم الله تعالى بها) وفي نسخة بهذا أي بما ذكر على طريق(1/87)
الإشارة والرمز إلى اسماء الله سبحانه وتعالى وأوصاف نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يكون الألف رمزا إلى ما أوله الهمز وكذا اللام وكذا الميم وكذا سائر الحروف وحرف القسم حينئذ محذوف، (وعنه) أي ابن عباس (وعن غيره فيها غير ذلك) حتى قيل فيها سبعون قولا منها ما عليه العشرة وغيرهم ومنهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن الله تعالى أعلم بمراده بذلك وقيل معنى ألم أنا الله أعلم وعن ابن عباس أن الألف آلاء الله واللام لطفه والميم ملكه وقيل هي اسماء الله بشهادة قول علي يا كهيعص يا حم عسق ولعله أراد يا منزلهما وقيل اسماء للقرآن أو لليسور وقيل الألف من أقصى الحلق وهو مبدأ المخارج واللام من طرف اللسان وهو وسطها والميم من الشفة وهي آخرها فجمع بينها تلويحا بأن العبد ينبغي أن يكون أول كلامه ووسطه وآخره ذكره الله تعالى (وقال سهل بن عبد الله التّستريّ) وروي عن ابن عباس أيضا (الألف هو الله سبحانه تعالى) أي إشارة إلى لفظة الله بناء على الحرف الأول منه في المبنى أو إلى وحدانيته بحسب المعنى لكن يؤيد الأول قوله، (واللّام جبريل) أي بناء على الحرف الأخير، (والميم محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) نظرا إلى أوله وأوسطه كذلك وما أنسبه حيث كرر مسمى الميم في الاسم والمسمى (وحكى هذا القول السّمرقنديّ) أي مطلقا (ولم ينسبه إلى سهل) وهذا أمر سهل إذ لا منافاة بين الإطلاق والتقييد مع احتمال التوارد في مقام التأييد فلا ينافيه ما عزاه السجاوندي إلى ابن عباس أيضا (وجعل) أي السمرقندي (معناه) أي معنى هذا القول المستفاد من الإشارة إلى الاسماء المستورة بحسب التراكيب المفيدة المأثورة (اللَّهُ أَنْزَلَ جِبْرِيلَ عَلَى مُحَمَّدٍ بِهَذَا الْقُرْآنِ لا ريب فيه) أي في المنزل، أو المنزل أو المنزل به أو المنزل عليه أو في كل واحد منها وهو نفي عند أرباب التحقيق ومعناه نهي بالنسبة إلى أهل التقليد والتضييق والله ولي التوفيق أو المعنى لا ريب فيه وتوضيحه إن يقال من حيث إنه لوضوح شأنه وسطوع برهانه لا يرتاب فيه عاقل بعد النظر الصحيح في كونه وحيا بالغا حد الإعجاز لا من حيث إنه لا يرتاب فيه أحد لكثرة المرتابين بشهادة وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فإنه لم ينفه عنهم بل عرفه بما يزيله منهم وهو أن يبذلوا قواهم في معارضة سورة منه وغاية جهدهم فإذا عجزوا تيقنوا أن لا شبهة فيه ولا ريبة ثم بهذا لا يزول وجه إشكال تقديم جبريل على النبي الجليل، (وعلى الوجه الأوّل) أي من قول ابن عباس وهو أن المراد بها القسم (يحتمل القسم) أي المقسم عليه (أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ ثمّ فيه) أي في القسم أو الكتاب على الاحتمال الثاني، (من فضيلة قرآن اسمه باسمه) وفي نسخة من فضيلته قرآن اسمه باسمه وهو بكسر القاف بمعنى مقارنته (نحو ما تقدّم) أي في التشهد والخطبة كما قال حسان رضي الله عنه.
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد(1/88)
(وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: 1] أقسم) أي الله تعالى (بقوّة قلب حبيبه محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) أي التي هو من حروفها اكتفى به عنها (حيث حمل الخطاب) أي من ربه، (والمشاهدة) أي له ليلة الإسراء (ولم يؤثّر ذلك فيه لعلوّ حاله) أي مع وجود المجاهد ويناسبه قوله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ الآية، (وقيل هو) أي ق (اسم للقرآن) أي بطريق الإشارة وإما بطريق العبارة فهو اسم للسورة، (وقيل هو اسم لله تعالى) أي بناء على رمزه إلى الاسماء التي أولها القاف كالقادر والقاهر والقوي والقريب، (وقيل جبل محيط بالأرض) أي فوقع القسم به لعظمته وهذا قول مجاهد إن ق اسم جبل محيط بالدنيا وأنه من زمردة خضراء منها خضرة السماء والبحر لكنه ضعيف جدا، (وقيل غير هذا) أي غير ما ذكر أي إيماء إلى قيام الساعة وقال سهل رضي الله تعالى عنه اقسم بقدرته وقوته كما حكى عنه السلمي وقيل معناه قضى الأمر من رسالة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أو إخبار بقهر الكفرة أو تنبيه على قيام الموتى من القبور فكلها منقولة عن المفسرين وجميعها داخل في قول من قال هي حروف أخذت من اسماء وأفعال واستغنى بها عن ذكر ما بقي منها والله تعالى أعلم ولا يبعد أن يكون إيماء إلى الأمر بالوقوف على الأحكام أي التوقف فيما أشكل من المرام كقول الشاعر:
قلت لها قفي فقالت لي قاف (وقال جعفر بن محمّد) أي الصادق (فِي تَفْسِيرِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النَّجْمِ: 1] . إِنَّهُ محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) لأنه النجم الأكبر والكوكب الأنور وقوله إِذا هَوى أي إذا صعد إلى مقام دَنا فَتَدَلَّى أو إذا أحب المولى وترك السوى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (وقال) أي الصادق (النّجم قلب محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم، هوى انشرح من الأنوار) أي لما انبسط وانبثّ فيه من الأسرار وأغرب المنجاني حيث انكر على العالم الرباني بقوله هذا تحامل على اللغة في تفسير الهوى وتحكم فيها والمنقول عن جعفر أنه إنما فسر الهوى هنا بالنزول ليلة المعراج كما حكي عنه ذلك في تفسير الغزنوي وهو أقرب إلى الاشتقاق اللغوي، (وقال انقطع عن غير الله) أي عن التعلق بما سواه. (وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) [الْفَجْرِ: 1- 2] الْفَجْرُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه لأنّ منه تفجّر الإيمان) أي تبين منه الإيقان وظهر منه العرفان بنزول القرآن وحينئذ يناسب أن يفسر ليال عشر بالعشرة المبشرة لأن الكواكب السيارة المنيرة في ميدان الولاية تختفي في زمان النبوة وآوان الرسالة لأن أحوال الاصفياء بالنسبة إلى أحوال الأنبياء لا تخلو عن ظلمة الكدورات النفسانية والحجابات الشهوانية فناسب أن يعبر عنهم بالليالي العشر كما يلائم أن يومي إلى مرتبة النبوة والرسالة بطلوع الصبح وظهور نور الفجر وبهذا اندفع ما قاله المنجاني من أن هذا التأويل بعيد لأن الفجر في الآية مردف بالليالي العشر وفي حمله على(1/89)
ما ذكر تنافر في النظم وعدم تناسب في اللفظ انتهى وأما أقوال المفسرين في معنى الفجر وليال عشر فمشهورة لا تخفى والمشهور أن الفجر هو الصبح والليالي العشر ذي الحجة ومن ثم فسر بفجر عرفة أو الفجر والعشر الأول من المحرم أو الأواخر من شهر رمضان ونكرت لزيادة فضلها والله تعالى أعلم.
الفصل الخامس في قسمه
أي في حلفه في كلامه (تعالى جده) أي عظمته لقوله تعالى وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا ولما في الحديث كان الرجل منا إذا قرأ البقرة وآل عمران جد بدال مهملة في أنفسنا أي عظم وجل وعن أنس والحسن رضي الله تعالى عنهما غناه بشهادة حديث ولا ينفع ذا الجد منك الجد أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه وإنما ينفعه إيمانه وإحسانه (له) صلى الله تعالى عليه وسلم (لتحقق مكانته) أي منزلته الرفيعة (عنده) بكسر العين أفصح ويجوز فتحها وضمها ففي القاموس عند مثلثة الأول ظرف في الزمان والمكان غير متمكن (قال جل اسمه) أي عظم وصفه ونعته فكيف مسماه وذاته (وَالضُّحى) أي أقسم بضوء الشمس إذ هو المراد بقوله وَضُحاها أو بوقته حين ارتفعها وخص بالقسم لأنه تعالى كلم فيه موسى عليه الصلاة والسلام فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ بشهادة وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ولعل هذا هو المأخذ في فضيلة صلاة الضحى أو بالنهار كله بدلالة أن يأتيهم بأسنا ضحى في مقابلة بياتا أو مقابلة قوله تعالى (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى [الضحى: 1- 2] ) أي ركد ظلامه أو سكن أهله وقدم الليل في السورة قبلها لأنه الأصل بدليل قوله تعالى نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ ولما ورد من أن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره الحديث وعكس هنا لشرف النهار بحسن ضوئه ونوره وكمال ظهوره والأنسب بهذا المقام في تحقيق المرام أن يقال إن في الضحى إيماء إلى وجهه صلى الله تعالى عليه وسلم كما أن في الليل إشعارا إلى شعره عليه الصلاة والسلام أو إلى حاليه إشارة فيهما إلى صبح الوصال وليل الفراق أو إيماء بهما إلى حاليه من مقامي القبض والبسط أؤ الفناء والبقاء كما يشير إليه قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ لَيُغَانُ على قلبي الحديث.
(السّورة) وفي شرح الدلجي السورة منصوب بفعل كأعني قلت أو اقرأ ويجوز رفعها على أن تقديره السورة معروفة وجرها على نزع الخافض كما في النسخة المشهورة والسورة طائفة من القرآن مترجمة أقلها ثلاث آيات منقولة من سور المدينة لأنها محيطة بطائفة منه أو محتوية على ما فيها من العلوم كاحتواء سور المدينة على ما فيها هذا إن كانت واوها أصلية وإن كانت مبدلة من همزة فلكونها قطعة من القرآن فمن السؤر الذي هو بقية الشيء وهذا المعنى هو الأولى كما لا يخفى إذ المعنى الأول يدل على المغايرة بين السورة وما هي مشتملة عليه وليس كذلك في السُّورَةُ. (اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ) أي سورة والضحى (فقيل كان ترك النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامَ اللَّيْلِ لِعُذْرٍ نَزَلَ بِهِ فتكلّمت(1/90)
امرأة في ذلك بكلام) أي بما لا يليق ذكره لأهل الإسلام ويؤيده ما رواه البخاري اشتكى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فقالت له امرأة إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لما رأيت من عدم قيامك فأنزل أي الله تعالى وَالضُّحى وروى مسلم نحوه وحديث الثعلبي أنه صلى الله عليه وسلّم أصيب في اصبعه فدميت فقال:
هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم الليل فقالت له أم جميل امرأة أبي لهب ما أرى شيطانك إلا قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث فنزلت وروى ابن السكن أنها إحدى عماته صلى الله تعالى عليه وسلم فقال ابن عساكر وكانت عماته صلى الله تعالى عليه وسلم ستا وجميعهن متن مشركات إلا صفية بنت عبد المطلب أم الزبير ويؤيد الأول رواية الحاكم أنها امرأة أبي لهب ولعلهما قالتا له ذلك ثم قيل هي أخت أبي جهل زوج أبي لهب وكان اسمها أم جميل وكان أبو بكر بن العربي لا يكنيها إلا بأم قبيح وقد أجاد فيما أفاد وقيل هي أخت أبي سفيان بن حرب وهي زوج أبي لهب أيضا وكانت عوراء وكان أحول والقول الأخير ذكره الحاكم في مستدركه في تفسير سورة والضحى وقال إسناده صحيح (وقيل) وعليه جمهور المفسرين على ما قيل (بل تكلّم به المشركون) أي بمثل ذلك الكلام (عند فترة الوحي) أي عند انقطاعه وعدم اتصاله من الفتور بمعنى القصور وكانت المدة سنتين ونصفا وقيل بل كان ذلك بضعة عشر يوما (فنزلت السّورة) أي والضحى وفي نسخة هذه السورة ويدل عليه حديث مسلم والترمذي أبطأ جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلّم فقال المشركون قد ودع محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فأنزل الله سبحانه وتعالى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى ويمكن الجمع بين القولين بأنه لما فتر الوحي اتفق إذ ذاك أنه اشتكى فلم يقم فقالت المرأة ما قالت وقال المشركون من الرجال ما قالوا وقال البيضاوي روي أن الوحي تأخر اياما لتركه الاستثناء كما مر في سورة الكهف أو لزجره سائلا ملحا أو لأن جروا ميتا كان تحت سريره أو غير ذلك فقال المشركون إن محمدا ودعه ربه وقلاه أي تركه وأبغضه فنزلت ردا عليهم، (قال الفقيه القاضيّ أبو الفضل رحمه الله) كذا في بعض النسخ وهو متروك في بعضها (تضمّنت هذه السورة) أي سورة والضحى (من كرامات الله تعالى) أي من أنواع إكرامه سبحانه (له صلى الله تعالى عليه وسلم) قال الدلجي من مزيدة أو للتعظيم أي تضمنت شيئا عظيما أكرمه الله به انتهى ولا يخفى أن كونها مزيدة لا يناسب المقام لأن الزائدة إنما تكون للتنصيص على عموم في النفي نحو ما جاءني من رجل أو لتوكيد العموم نحو ما جاءني من أحد وكونها للتعظيم غير معروف فالصواب أنها للتبعيض فإنه لا شك أن ما تضمنت هذه السورة من بعض كرامات الله له (وتنويهه به) من نوه بالشيء أي رفعه ونوهت باسمه أي رفعت ذكره والمقصود رفعة شأنه وسطوع برهانه (وتعظيمه واستثناه إيّاه) أي بما خصه الله تعالى واستثناه مما سواه (ستّة وجوه)(1/91)
بالنصب على أنه مفعول تضمنت وفي نسخة بستة وجوه وكان الوجه أن يقول ستة أوجه إلا أنه أوقع جمع الكثرة في موضع جمع القلة توسعا إذ قد يكثر استعمال أحدهما في الآخر (الأوّل) أي الوجه الأول من الستة (القسم له) أي لأجله صلى الله تعالى عليه وسلم (عمّا أخبره به) أي في هذه السورة (من حاله) أي مما يدل على عظيم جماله وكريم كماله فمن بيان لما أقسم له على نفيه (بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) [الضُّحَى: 2] أي وربّ الضّحى) أي على حذف مضاف يكون هو المقسم به وذلك لأنه لا يقسم بمخلوق لأن فيه تعظيم غير الله تعالى ولذا قال صلى الله عليه وسلّم من حلف بغير الله فقد أشرك والأظهر أن النهي في ذلك بالنسبة إلى المخلوق وأما الخالق سبحانه وتعالى فيقسم بما شاء من خلقه تشريفا له وتعظيما لشأنه، (وهذا) أي القسم له على ذلك (من أعظم درجات المبرّة) بفتحات وتشديد الراء من البر بمعنى الخير (الثّانيّ) أي من الستة (بيان مكانته عنده) تقدم بيانه (وحظوته لديه) بكسر أوله ويضم على ما في الصحاح والقاموس وبسكون الظاء المعجمة بمعنى المنزلة والفضيلة والمحبة وقيل الحاء مثلثة لأن كل اسم على فعلة ولامه واو بعدها هاء التأنيث فإنه مثلث الفاء وأصله من حظيت المرأة عند زوجها إذا كانت ذات حظ ونصيب منه وفي المثل أن لا حظية فلا الية يقول إن احظأتك الحظوة فلا تأل أن تتودد إلى الناس لعلك تدرك بعض ما تريد ذكره الجوهري (بقوله) متعلق بقوله بيان مكانته (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) بتشديد الدال وتخفف (وَما قَلى [الضحى: 3] ) حذف مفعول قلى لظهوره أو اكتفاء بسبق ذكره مع كونه مراعاة للفاصلة (أي ما تركك) تفسير لودعك (وما أبغضك) تفسير لما قلى على طريق اللف والنشر المرتب والمعنى ما قطعك قطع المودع إذ التوديع مبالغة في الودع أي الترك إذ من ودعك فقد بالغ في تركك وفي الحديث غير مودع ربي أي غير قاطع طاعته ولا مفارق لعبادته وقرأ عروة وابنه هشام ودعك مخففا مع استغناء أكثر العرب عنه بترك فلم ينطق به ماضيا لكن قد جاء في الحديث شر الناس من ودعه الناس اتقاء فحشه وفي الشعر أيضا كقوله:
وكان ما قدموا لأنفسهم ... أعظم نفعا من الذي ودعوا
ومن التشديد قوله:
ليت شعري من خليلي ما الذي ... رابه في الحب حتى ودعه
ثم قلي يائي وقيل واوي وعلى الأول يقال في مضارعه يقلي ويقلى بالياء والألف إلا أن الألف شاذ كما في أبى يأبى (وقيل ما أهملك) أي ما تركك هملا (بعد أن اصطفاك) أي كملا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا خلاك ولا قطعك منذ اصطفاك ورفعك (الثّالث) أي من الستة (قوله) أي عز قائلا (وَلَلْآخِرَةُ) أي والدار الآخرة (خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى [الضحى: 4] ) أي من الدنيا أو الحال الآخرة خير لك من الأولى إيماء إلى أنه دائما في الترقي(1/92)
إلى الدرجات العلى (قال ابن إسحاق) تقدم أنه إمام أهل المغازي (أي مالك) بفتح ميم وهمز ممدود ورفع لام أي ما تؤول إليه ومصيرك (في مرجعك) أي معادك باقيا خالصا من الشوائب مما أعد لك من المراتب (عند الله) في العقبى (أعظم ممّا أعطاك من كرامة الدّنيا) ويروى كما في بعض النسخ ما لك على أن ما موصول والعائد محذوف يعني الذي أعطاكه في الاخرى خير لك من الذي اعطاكه في الأولى. (وقال سهل: أي ما ادّخرت) بتشديد الدال المهملة وقيل بالمعجمة من الذخيرة وهي الشيء النفيس يخبأ للنوائب وذاله معجمة ويقال ادخرته على افتعل يهمل ويعجم والمعنى واحد وقيل بالمعجمة ما يكون للآخرة وبالمهملة ما يكون للدنيا ونسب إلى أئمة اللغة وهي غير مشهورة ودلالة قوله تعالى تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ عليه غير صحيحه والمعنى الذي خبأته (لك من الشّفاعة) أي العظمى أو الخاصة بهذه الأمة (والمقام المحمود) أي المرتبة العلية الشاملة للشفاعة الكاملة لجميع الافراد البشرية (خير لك ممّا أعطيتك في الدّنيا) أي من الرفعة وعلو المرتبة ونفاذ الحكومة ويؤيده ما ورد في الحديث القدسي والكلام الأنسي أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ويجوز أن يراد بالمقام المحمود كما هو ظاهر الآية كل مقام يتضمن كرامة وإن كان الأكثرون على أنه مقام الشفاعة الكبرى الذي يحمده فيه الأولون والآخرون بشهادة حديث هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي أي خصوصا وسائر الأمم عموما. (الرّابع) أي من الستة (قوله تعالى وَلَسَوْفَ) خبر مبتدأ محذوف دخله بعد حذفه لام الابتداء لتأكيد مضمون الجملة أي ولأنت سوف (يُعْطِيكَ رَبُّكَ) أي ما يرضيك وتقر به عينك (فَتَرْضى [الضحى: 5] ) أي غاية الرضى والجمع بين حرفي التأكيد والتأخير للإيماء بأن العطاء كائن لا محالة وفي مصحف ابن مسعود ولسيطيك ثم أكثر المفسرين على أن هذا العطاء في الأخرى وعن بعض العلماء أنه إشارة إلى فتح مكة في الدنيا (وهذه الآية) أي ولسوف وفي بعض النسخ وَهَذِهِ آيَةٌ (جَامِعَةٌ لِوُجُوهِ الْكَرَامَةِ، وَأَنْوَاعِ السَّعَادَةِ) أي ما أعطاه في الدنيا وما وعده في العقبى، (وشتات الإنعام) بكسر الهمزة من أنعم إذا زاد على الإحسان أي متفرقا أنواع الإكرام مما لا يعلم كنهه أحد من الأنام (في الدّارين، والزّيادة) بالجر أي وجامعة للزيادة على ما أعطاه في الدنيا ووعده في العقبى من أنواع الكرامة والدرجات العلى. (قال ابن إسحاق) تقدم ذكره وقال التلمساني هو صاحب السير والمقدم فيها والمشهور بالمغازي والتاريخ توفي ببغداد سنة إحدى وخمسين ومائة وكان بينه وبين مالك كلام ومحاورة وذلك أن الأئمة اتفقوا على أن مالكا عربي صريح النسب من ذي أصبح حميري يماني وذهب ابن إسحاق إلى أنه من الموالي وقوله شاذ رواه الأئمة والله سبحانه وتعالى أعلم والحاصل أنه قال في سيرته (يرضيه) أي الله سبحانه وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام (بالفلج) وهو على ما في الصحاح بفتح الفاء واللام وبالجيم والاسم بضم الفاء وسكون اللام أي الفوز بأحبائه والظفر بأعدائه ومنه قوله صلى الله تعالى(1/93)
عليه وسلم في وصف القرآن مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عدل ومن خاصم به فلج قال ابن هشام معناه ظهر وغلب وظفر والحاصل أن في الأصل نسختين مضبوطتين وفي المثل من يأت الحكم وحده يفلج أي يظهر على خصمه (في الدّنيا) كيوم بدر وقريظة والنضير وفتح مكة (والثّواب في الآخرة) أي مما أخفى له من قرة أعين وهذا القول من ابن إسحاق ليس كقول سهل بل هو قول ثالث يشير إلى أن الآية مقتضية رضاه في الدنيا والعقبى معا قيل وهو الصواب في معنى الآية. (وقيل يعطيه الحوض) أي المورود (والشّفاعة) أي المقام المحمود وهو داخل فيما قبله بلا مراء وكل الصيد في جوف الفرا وفسر عطاء وغيره الحوض بالخير الكثير تمسكا بما في رواية البخاري ومسلم أي عن أنس بن مالك بينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في المسجد أغفى اغفاء ثم رفع رأسه فقال نزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر: 1- 3] ثم قال أتدرون ما الكوثر هو نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوض ترده أمتي يوم القيامة آنيته عدد نجوم السماء وفي رواية لهما الكوثر نهر في الجنة عليه حوضي أي يمد ماؤه منه وفي مسلم ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل يغث فيه ميزابان يمدانه من الجنة أحدهما من ذهب والآخر من ورق ويغث بغين معجمة مضمومة فمثناة فوقية مشددة ومعناه يجري جريا متتابعا له صوت. (وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ آلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) وهو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه على ما ذكره الثعلبي في تفسيره (أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ آيَةٌ فِي الْقُرْآنِ أَرْجَى منها) أي من آية وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ثم بيّن وجهه بقوله، (ولا يرضى رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ النّار) ورواه عنه أيضا ابو نعيم في الحلية موقوفا والديلمي في مسند الفردوس مرفوعا فبطل بهذا قول الحلبي قد ظهر لي والله تعالى أعلم أن هذا الرجل هو الحسن بن محمد ابن الحنفية وذلك أنه أول المرجئة وله فيه تصنيف انتهى وروي أنه لما نزلت قال إذن لا أرضى أن يكون واحد من أمتي في النار قال الدلجي وهذا إن صح فيشكل بما ورد مؤذنا بدخول بعض عصاتهم فيها ومن ثم قال ابن عبد السلام وغيره لا يجوز الدعاء لجميع المؤمنين بمغفرة جميع ذنوبهم إذ لا بد من دخول بعض منهم فيه ويعارضه رب رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ انتهى ولا يخفى أن المعارضة مدفوعة إذ ليس في الآية لفظ الجميع الشامل للإفراد كلها والإشكال السابق أيضا مدفوع بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا يرضى رضى كاملا إلا إذا وقعت شفاعته لجميع أمته كاملا وهذا أمر في المستقبل فلا ينافي دخول بعض الأمة النار في الماضي فتأمل هذا وفي حديث الترمذي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال ما في القرآن آية أحب إلي من قوله سبحانه وتعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وقيل أرجى آية في القرآن لأهل التوحيد قوله تعالى وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ وقيل قوله تعالى إِنَّا قَدْ(1/94)
أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى وقيل قوله تعالى وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وقيل قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ وقيل قوله تعالى قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الآية وقيل قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ الآية ووجهه أنه سبحانه وتعالى أمرنا بالاحتياط لدنيانا الفانية التي نهانا عن الاغترار بها والركون إليها والاعتناء بها وأمرنا بالإعراض عنها والزهادة فيها فإذا لطف بنا فيها بما ارشدنا إليه مع حقارتها في طول آية من كلامه فكيف بالدار الباقية دار الخلد في النعيم والالتذاذ الذي لا يساوي بل لا يداني بالنظر إلى وجهه الكريم وفيه قول آخر وهو ما في صحيح مسلم من حديث الإفك فأنزل الله تعالى وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى إلى قوله تعالى وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ قال حبان بن موسى قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله عز وجل انتهى وقد أخرج الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ارجى آية في القرآن لهذه الأمة قوله تعالى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي هذا وأخوف آية في القرآن قيل وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وقيل سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ وقيل قوله تعالى فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ وقيل إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ وقيل قوله تعالى أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
وعن أبي حنيفة وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وعن الشافعي أنها قوله تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ انتهى واجتمعت الآيات سبعة في الخوف وعشرة في الرجاء إيماء إلى أنه سبقت رحمته غضبه وغلب رجاء ثوابه خوف عقابه.
(الخامس) أي من الستة (ما عدّه تعالى عليه) أي ذكر له (من نعمه) أي نعمائه وهو أنسب إلى قوله (وقرّره من آلائه) وهما مترادفان على ما قيل والأظهر أن وقت اجتماعهما يراد بهما نعمه الظاهرة والباطنة واختلفت في مفرد الآلاء فقيل إلى بالفتح والتنوين كرحى وقيل بالكسر والتنوين كمعى وقيل بفتحها وسكون اللام وبالواو كدلو وقيل بكسرها وسكون اللام وبالياء كنحى وقيل بالفتح وترك التنوين وقوله (قبله) بكسر القاف وفتح الموحدة أي عنده وجهته ونحوه (في بقيّة السّورة) من أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً إلى فَأَمَّا الْيَتِيمَ تلويحا بأنه تعالى كما أحسن إليه سابقا يحسن إليه لاحقا كما قيل:
لقد أحسن الله فيما مضى ... كذلك يحسن فيما بقي
فمما عد وقرر موردا له على خلاف ترتيب السورة ما أشار إليه بقوله (من هدايته) مصدر مضاف إلى فاعله أي من هداية الله إياه (إلى ما هداه له) أي المستفادة بقوله تعالى وَوَجَدَكَ ضَالًّا أي جاهلا بتفاصيل أحكام الشريعة فَهَدى أي فهداك إليها ودلك عليها (أو هداية النّاس به) أي فهدى الناس بك زيادة على هدايتك في نفسك فجمع الله له بين الهداية القاصرة والمتعدية المعبر عنهما بالكمال والتكميل اللذين يصل بهما العبد إلى مقام(1/95)
التعظيم ومرتبة التبجيل كما ورد عن عيسى عليه السلام من تعلم وعمل وعلم يدعي في الملكوت عظيما (على اختلاف التّفاسير) أي في هدى من التقادير على ما أشرنا إليها في ضمن التحارير فهدى إما بمعنى هداه الله أو بمعنى هدى به الناس، (ولا مال له) جملة حالية والتقدير ومن كونه لا ماله (فأغناه) الله (بما أتاه) أي اعطاه من مال خديجة أو من الغنائم (أَوْ بِمَا جَعَلَهُ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْقَنَاعَةِ والغنى) أي غنى القلب كما أشار إليه صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس وبقوله القناعة كنز لا ينفد وهو من قنع بكسر النون في الماضي قناعة إذا رضي بما أعطاه الله تعالى وبفتحه قنوعا إذا سأل مما سواه ومنه القانع والمعتر أي السائل تصريحا والمعترض تلويحا وما أحسن ما قال من قال من أهل الحال:
العبد حر إن قنع ... والحر عبد إن طمع
فاقنع ولا تقنع فما ... شيء أضر من الطمع
وهذا المعنى مستفاد من قوله وَوَجَدَكَ عائِلًا أي فقيرا أو محتاجا إلى الخلق فأغناك عنهم بغناه بل أحوج إليك كل من سواه كما أشار إليه بقوله آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة (ويتيما) ومن كونه يتيما أي لا أب له لموت أبيه قبل ولادته فآواه إلى عمه أبي طالب (فحدب) بفتح الحاء وكسر الدال المهملتين أي رق له ورحمه وعطف (عليه عمّه) وأذهب عنه غمه وهمه حتى قال:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمر ما عليك غضاضة ... فأبشر وقر بذاك منك عيونا
وفي نسخة عمه منصوب ولا يستقيم إلا إذا كانت الدال مشددة (وآواه إليه) وأحسن في تربيته عليه حيث ضمه إلى نفسه في جملة حاله وجعله من عمدة عياله وآوى متعد ممدودا أو مقصورا لكن التعدية في المد أكثر كما أن اللزوم في القصر أشهر، (وقيل آواه الله) أي ملحوظا بعين عنايته وكفايته محفوظا في ظل حمايته ورعايته وفي نسخة آواه إلى الله أي أغناه بذاته عما سواه وروي أوى إلى الله مقصورا ومعناه لجأ إليه وتوكل عليه وأسلم الأمر لديه وهذه المعاني الأخيرة أنسب إلى ما حكي عن جعفر الصادق أنه سئل لم أفرد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أبويه فكان يتيما في صغره فقال لئلا يكون عليه حق للمخلوق انتهى ويمكن أن يقال لئلا يكون له تعلق بغير الحق فإن الاستئناس بالناس من علامة الإفلاس (وقيل يتيما لا مثال لك) أي لا نظير يماثلك هذا مراد من قال هو درة يتيمة عصماء أي محفوظة ممنوعة معصومة عن أن يكون لها نظير في الصورة والسيرة وفي الكشاف أنه من بدع التفاسير ومعناه ألم يجدك واحدا في قريش عديم النظير (فآواك إليه) والوجود في السورة بمعنى العلم فيتيما وضالا وعائلا مفاعيل ثواني له أو بمعنى المصادفة فهي أحوال من(1/96)
المفعول الأول ولعل وجه تقديم الهداية في كلام المصنف إيماء إلى رعاية العناية وإشارة إلى أن الواو لا تفيد الترتيب في العبارة وأما الترتيب الذكري في السورة فهو على وفق الوجود الوقوعي حيث يوجد اليتيم قبل البلوغ وبعده تتحقق الهداية الكاملة العلمية ثم رعاية القناعة العملية، (وقيل المعنى ألم يجدك) أي والناس في ضلال (فهدى بك ضالّا، وأغنى بك عائلا) ، أي فقيرا حين وجدك وفيهم عيلة (وآوى بك يتيما) إذ وجدك وفيهم أيتام وهذا من بدع التفاسير أيضا وإن كان يلائمه في الجملة ما بعده من بقية السورة وهي قوله تعالى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وتذكر حال يتمك وَأَمَّا السَّائِلَ لكونه فقيرا فَلا تَنْهَرْ فلا تزجر ولا تقهر وتذكر حال فقرك وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ بإظهار الهداية والعلم بالبداية والنهاية وتذكر حال جهلك فيكون اللف والنشر مشوشا اعتمادا على فهم السامع ويمكن أن يكون مرتبا بأن يكون المراد سؤال العلم كا هو قول أبي الدرداء وغيره وأن التحدث بنعمة الرب هو الإحسان إلى الفقير المنكر القلب لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم التحدث بالنعم شكر ويمكن أن يحمل على المعنى الأعم ويستفاد منه المراد الأخص والله تعالى أعلم بمراده في كتابه؟ (ذكّره) بتشديد الكاف أي ذكره صلى الله تعالى عليه وسلم ربه تذكير امتنان لا ناشئا عن نسيان (بهذه المنن) جمع المنة بمعنى النعمة والعطية (وأنّه) بكسر الهمزة والواو للحال أي الشأن أو الله سبحانه أو هو صلى الله تعالى عليه وسلم (على المعلوم من التّفسير) أي بناء على ما علم من أنواع التفسير على ما سبق من التحرير (لم يهمله) من الإهمال أي لم يتركه ربه تعالى (في حال صغره) أي جهله (وعيلته) أي فقره (ويتمه) أي فقد أبيه، (وقبل معرفته) أي وفيما قبل معرفته الكاملة (به) تعالى، (ولا ودّعه) عطف على لم يهمله ولا تركه ولا دفعه، (ولا قلاه) أي ولا أبغضه ولا قطعه، (فكيف) أي حاله (بعد اختصاصه) بالكرامات السنية (واصطفائه) بالمقامات البهية والمعنى بعد ارساله واعلامه أنه اصطفاه واجتباه على خليقته لكرامته عنده ومنزلته وإلا فقد كان اصطفاه في ازليته قبل ظهور أبديته بدليل قوله كنت نبيا وآدم بين الماء والطين وفي رواية وآدم منجدل في طينته أي وآدم مراد إيجاده منهما في وقته فلا بينة ولا انجدال حال نبوته ثم اعلم أن ملخص الأقوال في تفسير قوله سبحانه وتعالى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ستة أقاويل أولها أنه وجدك ضالا عن الشريعة وأحكامها فأرشدك إليها بتمامها وثانيها أنه وجدك منسوبا إلى الضلالة عند الأعداء فبين أمرك بالبراهين القاطعة للأحباء وثالثها أنه وجدك بين قوم ضلال فأرشدك إلى ما تميزت به عنهم إلى مقام الوصال ورابعها أنه وجدك ضالا بتزويج ابنتك في الجاهلية لبعض الكفرة فبين لك أن المشرك لا يتزوج المسلمة قال ثعلب وهذا هو قول أهل السنة في هذه الآية وخامسها أنه وجدك ضالا بين مكة والمدينة فأراك الطريق وذلك عليه وبينه أو إشارة إلى ضلالته وهو صغير في شعاب مكة حيث وجده ورقة بن نوفل ورجل من قريش فرداه إلى جده عبد المطلب وسادسها أنه وجدك ضالا أي عاشقا ومحبا فهداك إلى محبوبك والقول الأول في(1/97)
تفسير الآية هو المعول كما بينه قوله تعالى مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
. (السّادس) أي من الستة (أمره) فعل ماض على ما صرح به الحلبي والأظهر أنه مصدر مضاف إلى مفعوله (بإظهار نعمته عليه) مصدر مضاف إلى الفاعل عام في جميع ما أنعم به عليه إذا أضافة المفرد قد تفيد العموم (وشكر ما شرّفه به) أي ما أحسنه إليه وعظمه لديه (بنشره) أي ببسط ما شرفه به وإظهاره تبجحا بالنعمة وقياما بشكر المنعم لا افتخارا بالعطية والحال الملم (وإشادة ذكره) أي وتشهير ذكر ما شرفه به ورفع قدره وتعظيم شأنه وأعلاء أمره وبيانه وتعريف حاله (بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضُّحَى: 11] فإنّ من شكر النّعمة التّحدّث بها) لحديث التحديث بالنعمة شكر وفي نسخة التحديث وفي أخرى الحديث ومن التحدث بها إظهارها في الملبس والمركب ونحوهما لحديث إذا أنعم الله على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه (وهذا) أي أمره بإظهارها (خاصّ له) صلى الله تعالى عليه وسلم (عامّ لأمّته) لأنه إمامهم فأمره كأمرهم وقال مجاهد معنى قوله تعالى وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ بث الشرائع والقرآن والمشتمل على البدائع والأولى حمل الآية على عموم النعمة ولعل هذا منشأ ما كان بعض الصالحين يخبر بجميع ما يفعله من الطاعات للسالكين كأنه ينحو إلى أنها نعمة أنعم الله سبحانه وتعالى بها عليه فيجب عليه التحدث بها مع أنه قد يقصد أن الناس يقتدون به في فعلها (وقال تعالى) حال لازمة من ضمير قال أي متعاليا عما لا يليق بجنابه الكريم (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النَّجْمِ: 1] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النَّجْمِ: 18] . اختلف المفسّرون في قوله تعالى:
وَالنَّجْمِ [النجم: 1] ) أي في المراد به اختلافا مصحوبا (بأقاويل معروفة منها) أي من جملة الأقاويل قولهم (النّجم على ظاهره) فالمراد به إما جنس النجوم أو الثريا لغلبته عليها وهي سبعة كواكب على ما ذكره السهيلي ولا يكاد يرى السابع منها لخفائه وفي الحقيقة إنها اثنا عشر كوكبا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يراها كلها بقوة جعلها الله تعالى في بصره كما ذكر ابن خيثمة من طريق ثابت عن العباس عم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو الزهرة لأنهم كانوا يعبدونها فنبهوا على انتقالها وزوالها كما ذكره الغزنوي في تفسيره أو الذي يرحم به فهواه غروبه أو انتثاره وانكداره يوم القيامة أو انقضاضه أو طلوعه إذ يقال هوى هويا بالفتح إذا سقط وغرب وبالضم إذا علا وصعد. (ومنها) أي من جملة الأقاويل إن النجم هو (القرآن) لأنه نزل منجما في دفعات متعددة وأوقات مختلفة فالهوى بمعنى النزول ويؤيده قوله فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ الآيات على ما اختاره بعض المفسرين وقيل إنه اسم جنس للصحابة ولعلماء هذه الأمة كما ورد عن سيد الأئمة أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ذكره في عين المعاني قال الدلجي فالهوى على هذا كناية عن الموت يعني موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى ولا يخفى بعده فإن الاقتداء بهم والاهتداء أعم من زمن حياته وبعد وفاته فالهوى بمعنى الظهور والعلو. (وعن جعفر بن محمّد) أي الصادق (أنّه) أي(1/98)
النجم المقسم به (محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) قال الدلجي وكثيرا ما يذكر المصنف السلام بدون الصلاة مع كون إفراد أحدهما مكروها قلت المحققون كالجزري وغيره على أنه لا يكره وإنما الجمع أفضل، (وقال) أي جعفر (هو قلب محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) اقول بل هو صلى الله تعالى عليه وسلم بقلبه وقالبه نور يستنار منه الأنوار ويستضاء منه الأسرار وقد ورد اللهم اجعلني نورا وقد سماه الله تعالى نورا على ما تقدم والله تعالى أعلم فالهوى بمعنى الظهور كما هو ظاهر في معنى النور وأما على إرادة قلبه فلعل المراد بهواه ميله إلى ربه وغيبته عن غيره واستغراقه في حبه ويؤيد ما قلناه من إرادة كله قوله، (وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) أي البادي ليلا وأصله لسالك الطريق وخص عرفا بالآتي ليلا ثم استعمل في البادي فيه (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) أي شيء أعلمك أنه ما هو يعني أنه شيء عظيم لا يعرفه أحد ثم بينه أنه (النَّجْمُ الثَّاقِبُ [الطارق: 1- 3] ) أي المضيء كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه أي (إِنَّ النَّجْمَ هُنَا أَيْضًا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) عبر عنه أولا بوصف عام ثم بين بما يخصه تفخيما لشأنه وتعظيما لبرهانه بجامع أن كلا يهتدي به وإن كان بينهما بون بين (حكاه السّلميّ) أي نقله في تفسير الحقائق. (تضمّنت) أي فقد جمعت (هذه الآيات) أي من قوله وَالنَّجْمِ إِذا هَوى إِلَى قَوْلِهِ لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (من فضله وشرفه) أي الزائد على غيره (العدّ) بكسر العين وتشديد الدال المهملتين أي الشيء الكثير الذي لا تنقطع مادته وأصله في الماء يقال ماء عد إذا كانت له مادة غير منقطعة كماء العين والبئر (ما يقف) أي العد الذي يقف (دونه) أي ينقطع قبله والضمير للعد وقال الدلجي أي يقف دون كل منهما (العدّ) بالفتح أي الاحصاء والاستقصاء والعد أيضا العدد هذا ولما نسبت الكفار المسمى بالهدى إلى الضلال والردى وأن ما ينطق به إنما هو عن الرأي والهوى رد الله عليهم وكذبهم، (وأقسم جلّ اسمه) أي عظم كمسماه (على هداية المصطفى وتنزيهه) أي براءة ساحته وأغرب التلمساني حيث قال أي تعظيمه، (عن الهوى) أي فيما أخبر به للورى، (وصدقه فيما تلا) أي قرأ، (وأنّه) أي متلوه (وَحْيٌ يُوحَى أَوْصَلَهُ إِلَيْهِ عَنِ اللَّهِ جِبْرِيلُ) أي عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى على خلاف في مرجع الضمير المنصوب هل هو القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلّم، (وهو) أي جبريل (الشّديد القوى) من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أي شديد قواه لأنه هو الواسطة في ابتداء خوارق العادة كاقتلاع قرى قوم لوط ورفعها إلى السماء ثم قلبها وصياحه صيحة واحدة لقوم ثمود فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ وقيل المراد به الحق جل جلاله يعني شديد القوى والقدرة والحكمة ونسب هذا القول إلى الحسن (ثمّ أخبر تعالى) أي بعد قسمه وبراءة ساحته (عن فضيلته بقصّة الإسراء) أي بقضية المعراج المبتدأ بعد الإسراء إلى المسجد الأقصى كما أشار إليه بقوله، (وانتهائه إلى سدرة المنتهى) أي بقوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى وهي عند أكثر المفسرين شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش ينتهي إليها علم الخلائق،(1/99)
(وتصديق بصره فيما رأى) أي بِقَوْلِهِ تَعَالَى مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى يعني ما رأى النبي صلى الله عليه وسلّم ببصره من صورة جبريل أو من ذاته سبحانه أي ما كذب قبله بصره بما حكاه له فإن الأمور القدسية تدرك أولا بالقلب ثم بالبصر أو ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ولو قاله لكذب لأنه عرفه بفؤاده كإراءة بصره يقينا لا تخييلا إذ قد سُئِلَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ قَالَ رَأَيْتُهُ بِفُؤَادِي والجمع بين روايات المحدثين وقول المفسرين واختلاف الصحابة والتابعين أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رأى ربه مرتين مرة ببصره وأخرى ببصيرته هذا وقيل الضمير في رأى عائد على الفؤاد نفسه أي ما كذب الفؤاد ما رآه بل صدقه وتحققه والرؤية ههنا حينئذ بمعنى العلم وكذب بالتخفيف ككذب بالتشديد كما قرئ بهما، (وأنّه رأى من آيات ربّه الكبرى) أي بقوله لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي رأى ليلة الإسراء عند عروجه إلى السماء بعض آياته الملكية والملكوتية أو كلها فمن مزيدة والكبرى صفة للآيات، ((وقد نبّه) أي الله سبحانه وتعالى (على مثل هذا) أي رؤيته من آيات ربه (في أوّل سورة الإسراء) أي بقوله لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا والأظهر أن قوله لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا في المسجد الأقصى وقوله لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى في السموات العلى، (ولمّا كان ما كاشفه) أي الذي رآه (عليه السلام) أي برؤيته بمعنى اطلع عليه ورآه ابتداء لا بمعنى رفع غطاءه وإن زعم لأنه لو اراد هذا المعنى لقال وكشفه ولعدم مناسبته للمقام إذ لا يقال رفع غطاء ما هنالك (من ذلك الجبروت) بفتحتين فعلوت مبالغة من الجبر بمعنى القهر كالعظموت من العظمة والمراد أنه رأى ما يدل عليه إذ هو معنى المعنى لا يشاهد بالبصر الظاهر إلا أن تحمل الرؤية على رؤية البصيرة فالمراد بها العلم والمعرفة (وشاهده من عجائب الملكوت) مبالغة من الملك كالرهبوت من الرهبة والرحموت من الرحمة والمحققون على أن الملك ظاهر السلطنة والملكوت باطنها وقيل المراد بالملك العالم السفلي وبالملكوت العلوي (لا تحيط به العبارات) أي لا تشمله أنواع التعبيرات ولا تحويه أصناف التفسيرات لقصور الافهام عن إدراكه على وجه الحقيقة والجملة خبر كان (ولا تستقلّ) بتشديد اللام أي لا تستبد (بحمل سماع أدناه) أي أقله (العقول) لعجزها عن حمل أقله فضلا عن حمل أكثره (رمز) جواب لما أي أشار الله سبحانه وتعالى (عنه تعالى) أي عما كاشفه صلى الله تعالى عليه وسلم وأطلع عليه (بالإيماء) متعلق برمز ولعل الإيماء أغمض من الرمز في الإنباء من جهة الإخفاء كالإشارة بالعين والحاجب ونحوهما (والكناية) عطف على الإيماء والمراد بهما التلويح وترك التصريح بدليل قوله (الدّالة على التّعظيم) والحاصل أنه سبحانه وتعالى رمز وأومأ وكنى عما كاشفه بما المبهمة الدالة على الفخامة والعظمة (فقال فَأَوْحى
) أي جبريل أو الله تعالى (إِلى عَبْدِهِ
) أي عبده الخاص الواصل إلى مقام الاختصاص صلى الله تعالى عليه وسلم (ما أَوْحى
[النجم: 10] ) أي شيئا عظيما لا يعلم كنهه سواه ففي إبهامه من التفخيم ما ليس في إيضاحه وقيل المعنى فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحاه جبريل إلى محمد عليه الصلاة والسلام(1/100)
وقد قال بعضهم أوحى إلى عبده أن لا يدخل أحد من الأمم الجنة قبل أمته ولعل المعنى أن هذا من جملى ما أوحي إليه (وهذا النّوع) أي الرمز بالكناية والإيماء (من الكلام) أي من أنواعه (يسمّيه أهل النّقد) أي النظر السديد، (والبلاغة) أي الفصاحة والمراد العارفون بجيد الكلام وبهرجه تشبيها لهم بصيارفة الذهب والفضة (بالوحي والإشارة) أي هنا لعدم الصراحة بالموحى به والمشار إليه فهما اسمان لمعنى واحد إذ هما أحد ما صدقا به كالكناية والإلهام والكلام الخفي قد يتفاوت وضوحا وخفاء، (وهو) أي النوع المسمى بهما (عندهم أبلغ أبواب الإيجاز) أي من حيث إنه جوامع الكلم المشابهة لكونها مبهمة للألغاز حيث فيها مبان يسيرة ومعان كثيرة يذهب فيها الفكر كل مذهب يمكن الانصراف إليها هذا وقيل كل كلام إما ناقص عن معناه أو مساو له أو زائد عليه إيجازا أو مساواة أو إطنابا وأعلاها الأول من حيث إن المعاني هي المقاصد والعبارات طرق لها فكلما قلت العبارة كان ذلك كالقرب في الطريق فكان أحق بالسلوك ويليه المساواة في الاستحسان لاقتفائها له في القرب وأكثر صياغة العبارات مصوغة عليها والاطناب كالبعد في الطريق فتراه متروكا غالبا إلا فيما يحتاج إليه من باب الخطب والمواعظ ومقام التوكيد ولكل مقام مقال بحسب اختلاف الأحوال كما قال قائلهم:
يومون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ حيفة الرقباء
(وَقَالَ: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: 18] أي الدالات على عظمته تعالى (انحسرت الأفهام) جمع فهم وهو عبارة عن إزالة الوهم المستولي على القلب يقال فهم كذا إذا عقله والمعنى كلت العقول (عن تفصيل ما أوحى) أي إليه إذ لا يحيط به حد ولا يحصيه عد والمراد تفصيل الشيء بيان أجزائه مفصلة وأغرب التلمساني حيث فسره بالتميز، (وتاهت الأحلام) أي وذهبت العقول متحيرة (في تعيين تلك الآيات الكبرى) فلم تهتد إلى معرفة شيء منها لكثرتها وفي نسخة في تعبير تلك الآيات أي تبيينها وتفسيرها والعقل محله القلب لقوله تعالى فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها. (قال القاضي أبو الفضل) كذا في نسخة (واشتملت) أي دلت (هذه الآيات) أي السابقة (على إعلام الله) مصدر مضاف إلى فاعله أي على اخباره سبحانه وتعالى (بتزكية جملته) أي بتطهير ذاته وتنمية صفاته عليه السلام، (وعصمتها) أي ويحفظ الله جملته (من الآفات) أي التي تجري في الذوات (في هذا المسرى) بفتح الميم والراء مصدر ميمي أو اسم مكان (فزكّى فؤاده) أي مدح الله قلبه (ولسانه وجوارحه) أي أعضاءه التي يكتسب العمل بها وينتسب الفعل إليها والمراد هنا بصره لما سيجيء في بيان حصره (فقلبه) وهو تفصيل لما أجمله والظاهر كما في أصل الدلجي وغيره فزكى قلبه (بِقَوْلِهِ تَعَالَى مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى) وتقدم ما تعلق به من المعنى (ولسانه بقوله: تعالى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] ) أي لا يصدر نطقه عن هواه بل بوحي(1/101)
من الإله جليا كالكتاب أو خفي كالسنة وقد تعلق بظاهر الآية من لم يجوز له الاجتهاد وهو بعيد عن طريق السداد وعن استنباط المعنى المراد وأما ما ذكره ابن عطية من أن ضمير ينطق عائد إلى القرآن وإن لم يجر ذكره لدلالة الكلام عليه أي لا ينطق هذا القرآن بشهوتكم ومرادكم ونسب النطق إليه من حيث يفهم منه الأمور كلها قال تعالى هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ فغير ملائم لمقام المرام (وبصره بقوله: تعالى ما زاغَ الْبَصَرُ) أي ما مال عما رآه إلى ما سواه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يحول بصره عما رآه إلى جهة من الجهات (وَما طَغى [النجم: 17] ) أي ما تجاوز وما تعدى عن رؤية ما أمر برؤيته غيره في المقام الأعلى بل تثبت فيه ورآه رؤية صحيحة مستقيمة من غير وجل ودهشة وحيرة هذا وقد بقي الكلام على بقية الآيات فيما بين ذلك وهو قوله سبحانه وتعالى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى فظاهره أن الضمير في استوى لجبريل عليه الصلاة والسلام والكناية بقوله تعالى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا مانع من عكس الترتيب في هذا التركيب ولا يبعد أن يكون الضمير أن يرجعان إلى أحدهما والجملة حالية وأما جعل الضميرين لله سبحانه وتعالى فهو غير ظاهر كما لا يخفى ثم قوله تعالى فَتَدَلَّى أي دنى جبريل من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فتدلى وزاد في القرب وقيل أي دنى محمد من ربه فتدلى وأما قوله تعالى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى أي مقدارهما بل أدنى فهو كناية عن كمال القرب فإن كان بين الرسولين فلا إشكال وإن كان بين الله ورسوله فهو كناية عن المكانة أو من الآيات المتشابهات وقد ذكرت بعض الفوائد المتعلقة بأوائل سورة النجم في رسالتي المعمولة للمعراج (وقال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)) أي بالكواكب الرواجع من خنس إذا تأخر وهي ما عدا النيرين وهو زحل المشتري والمريخ والزهرة وعطارد ومجموع السبعة السيارة نظمت في قوله:
زحل شرى مريخه من شمسه ... فتزاهرت بعطارد أقمار
(الْجَوارِ الْكُنَّسِ [التكوير: 15- 16] ) أي السيارات التي تختفي تحت ضوء الشمس من كنس الوحش إذا دخل كناسه أي بيته (إلى قوله: وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ [التكوير: 25] ) وهو كل متمرد من الجن والإنس والدوارب قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (لرجيم) أي مرجوم ومطرود ومبعد وما بينهما هو قوله سبحانه وتعالى وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ أي أقبل أو أدبر والأول أنسب بقوله تعالى وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أي أسفر قال المصنف (لا أقسم، أي أقسم) يعني على القول بزيادة لا وإلا فالمعنى فلا عبرة بما قالوا في حق القرآن وفي شأن المنزل عليه بل اقسم أي بما ذكر إِنَّهُ أي القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ أي قاله عن ربه كَرِيمٍ أي مكرم معظم، (عند مرسله) وهو الله سبحانه وتعالى ذِي قُوَّةٍ أي صاحب قوة وقدرة (على تبليغ ما حمّله) بتخفيف الميم على صيغة الفاعل وكذا يجوز بصيغة(1/102)
المفعول مشددا وكذا بصيغة الفاعل على ما ضبطه في بعض النسخ (من الوحي) أي مما أوحي إليه من الحق إلى الخلق، (مكين) أي ذي مكانة ومنزلة عليه عارية عن المنقصة في مرتبته (أي متمكّن المنزلة) أي الجاه ولكون المكانة على حسب حال المتمكن قال عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ تلويحا بعظم مكانته ومنزلته وعلو مرتبته كما أشار إليه المصنف بقوله (من ربّه، رفيع المحلّ) بفتح الحاء وجوز كسرها أي على الشأن (عنده) أي عنده سبحانه وتعالى عندية منزهة عن المكان والزمان وقوله تعالى عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ متعلق بقوله تعالى ذِي قُوَّةٍ أو بمكين (مطاع) أي ذي إطاعة مع كونه صاحب طاعة، (ثمّ) بفتح المثلثة (أي في السّماء) إذ قد بلغ فيها ليلة الإسراء ملائكة السماء فأطاعوه أجمع في ذلك الإنباء وقرئ بضم المثلثة فالمراد بها التراخي في الرتبة، (أمين على الوحي) أي مأمور على تحمل ما أوحى إليه وتبليغ ما أنزل عليه ومقبول القول لديه والظرف يحتمل وصله بما بعده وما قبله.
(قال: عليّ بن عيسى) أي الرماني النحوي المنسوب إلى زمان الفاكهة وبيعه أو لقصر الرمان موضع معرف بواسط وهو من أصحاب ابن دريد مات سنة أربع وثمانين وثلاثمائة وهو صاحب كتاب النكت في إعجاز القرآن إمام مشهور في سائر العلوم وعن ابن السراج أنه تمذهب إلى الاعتزال والله تعالى أعلم بالحال، (وغيره) أي من أرباب المقال: (الرّسول الكريم) كان الأولى أن يقول رَسُولٍ كَرِيمٍ (هنا) أي في هذا المقام العظيم (محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم فجميع الأوصاف) أي المذكورة هنا (بعد) أي بعد ذكره وفي نسخة تعد بضم منقوطة بنقطين وفتح عين وتشديد مهملة أي تذكر (على هذا) أي على هذا القول (له) أي لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم. (وقال غيره) أي غير علي بن عيسى وهم الأكثرون من العلماء (هو) أي الرسول الكريم (جبريل فترجع الأوصاف إليه) أي بخلاف وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ فإن المراد به محمد صلى الله عليه وسلّم بإجماع المفسرين وذلك أن المشركين قالوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ فنفى الله سبحانه وتعالى عنه ذلك بهذه الآية وبقوله سبحانه وتعالى ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وقد تمسك بعض المعتزلة وطائفة من أهل السنة في تفضيل الملائكة لعده فضائل جبريل عليه الصلاة والسلام واقتصاره على نفي الجنون عنه صلى الله عليه وسلّم وضعف بأن المقصود منه نفي قولهم إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ لأعد فضلهما والموازنة بينهما، (وَلَقَدْ رَآهُ) أي بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (يعني) أي يريد الحق سبحانه وتعالى بالرائي (محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم قيل) أي نقل عن ابن مسعود وغيره (رأى) أي محمد (ربّه) وقدم هذا القول لأنه أوفى بالغرض الذي هو مدح الرسول، (وقيل رأى) أي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم (جبريل في صورته) أي التي خلق عليها فقيل إن ذلك إشارة إلى رؤيته إياه عند سدرة المنتهى وقيل إنه إشارة إلى رؤيته إياه في غار حراء حين رآه على كرسي بين السماء والأرض حسبما ثبت في الصحيح، (وما هو) أي ليس النبي صلى الله عليه وسلّم (على الغيب) أي على ما يخبر به مما أوحي إليه(1/103)
وغيره من الأمور الغيبية (بظنين) بالظاء المشالة وهو قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي، (أي بمتّهم) يعني من الظنة وهي التهمة، (وَمَنْ قَرَأَهَا بِالضَّادِ فَمَعْنَاهُ مَا هُوَ بِبَخِيلٍ) أي في تبليغ رسالته إلى عموم أمته من الضنة وهي البخل (بالدّعاء به) متعلق ببخيل أي بدعائه الخلق إلى الحق وفي رواية كما في نسخة بالدعاية بالتحتية كالبداية وقيل هي من الادعاء إذا قال في الحرب أنا فلان كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة حنين أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، (والتّذكير بحكمه) أي وبتذكيرهم بأحكام ربهم (وبعلمه) يحتمل أن يعود ضميره إلى الحكم أي وليس ببخيل بعلم كونه واجبا أو مندوبا أو حراما أو مكروها أو مباحا لهم ويحتمل عوده إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أي ولا يبخل أن يعلمهم إياه كما علمه ولا يكتم شيئا (وهذه لمحمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) أي وهذه الآية وهي وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ على القراءتين صفة لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم (باتّفاق) أي من المفسرين إذ لم يقل أحد بعود ضمير هو إلى جبريل عليه الصلاة والسلام، (وقال تعالى: ن) اسم للحرف أو الحوت وأريد به الجنس أو للحوت الذي عليه الأرض أو للدواة فإن بعض الحيتان يخرج منه شيء أشد سوادا من الحبر يكتب به وينصر الأول سكونه ورسمه بصورة مسماه ويؤيد الثاني قوله تعالى وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ وحينئذ فالأنسب أن يراد به ذلك الحوت بعينه أو المراد جنسه الداخل فيه ويقوي الثالث قوله تعالى (وَالْقَلَمِ [القلم: 1] ) وهو ما كتب به اللوح المحفوظ أو ما يكتب به مطلقا (وما يسطرون) أي يكتبون والكتبة هم الحفظة كراما كاتبين أو الأعم والله أعلم (الآيات) أي الواردة في أول السورة في حقه صلى الله تعالى عليه وسلم من حسن السيرة والصورة (أقسم الله تعالى بما أقسم به) لكثرة فوائده (من عظيم قسمه) أي تعظيما له وتكريما في تخصيص ذكره (على تنزيه المصطفى) أي تبرئته وتبعيده (ممّا غمصته) بمعجمة ومهملة بينهما ميم أي عابه واحتقره (الكفرة به وتكذيبهم له) أي وعلى تكذيبهم للمجتبي في قولهم له أنه كذاب وساحر ومجنون (وآنسه) من باب الأفعال أو التفعيل أي جعله ذا أنس بقربه ومستأنسا بحبه (وبسط أمله) أي نشر مأموله ومقصوده وأكثر له رجاءه فيما شاءه (بقوله محسنا) من باب التفعيل أو الأفعال حال من ضمير ما قبله أي مزينا (خطابه) في كتابه بقوله (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: 2] ) جواب القسم في الآية ومقول القول في الأصل أي ما أنت بمجنون منعما عليك بالنبوة وغيرها والمعنى أنهم مجانين حيث قالوا إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ والحال أنك أعقل العقلاء وافضل العلماء وأكمل العرفاء وسيد الأنبياء وسند الأصفياء والأولياء (وهذه) أي الحالة العظيمة أو المنقبة الجسيمة المأخوذة من قوله آنسه وبسط أمله أو التأنيث باعتبار الخبر وهو قوله (نهاية المبرّة في المخاطبة) أي غاية الإحسان والمطاوعة في المكالمة والمجاوبة (وأعلى درجات الآداب في المحاورة) أي المراجعة والمراددة (ثمّ) أي بعد أن نزهه وبرأه عما لا يليق به مما نسبوا إليه (أَعْلَمَهُ بِمَا لَهُ عِنْدَهُ مِنْ نَعِيمٍ دَائِمٍ) أي أبد الآبدين (وثواب غير منقطع) أي غير ممتنع في زمان(1/104)
وحين (لا يأخذه عدّ) أي لا يضبطه عد ولا يحيط به حد (ولا يمنّ به عليه) من الامتنان أي ولا يجعله تحت الامتنان مع أن له المنة في الإحسان افتعال من المن وهو الإحسان الذي تمن به على غيرك وفي نسخة ولا يمن به عليه يقال من وأمتن عليه إذا عد عليه بمعروف اسداه إليه صنعه وقيل الامتنان عد الصنيع لإظهار الفضل، (فقال، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي غير منقطع أو غير ممنون به عليك فإنه يعطيك بلا واسطة، (ثمّ أثنى عليه بما منحه) أي أعطاه (من هباته) جمع هبة أي موهوباته وتفضلاته، (وهداه إليه) أي ودله عليه والحاصل أن المصنف رحمه الله تعالى جمع بين أقوال المفسرين في معنى قوله غَيْرَ مَمْنُونٍ أي غير منقطع وهو قول الأكثر أو غير محسوب ولا معدود وهو قول طائفة أو غير ممتن به وهو قول ضعيف ذكره الهروي في غريبه، (وأكّد ذلك) أي الذي يدل على ما منحه (تتميما للتّمجيد) من المجد وهو الكرم والعظمة أي تكميلا للتعظيم والتكريم بنسبته إليه (بحرفي التّوكيد) وهما ان واللام (فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [الْقَلَمِ: 4] ) قيل استعظمه لفرط احتماله أذى قومه مع مبالغتهم في عداوتهم وهو يقول اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون (قيل) أي في تفسير خلقه العظيم (القرآن) أي ما فيه من مكارم الأخلاق ومن ثم قيل هو ما أمره الله بقوله خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في تفسيره صل من قطعك وأعط من حرمك وأعف عمن ظلمك وهذا القول هو المروي عن عائشة رضي الله عنها أنها لما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلّم قالت كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ يَرْضَى بِرِضَاهُ وَيَسْخَطُ بِسُخْطِهِ، (وقيل الإسلام) وهو المنقول عن ابن عباس والمراد بالإسلام ههنا هو التوحيد الحقيقي والانقياد الظاهري والباطني لأوامر الله وأحكامه وقضائه وقدره كما قال تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، (وقيل الطّبع الكريم) ولذا كان يخالق الناس بمكارم الاخلاق ويخالطهم بلطفه وارفاقه وهو المنقول عن الماوردي، (وقيل ليس لك همّة) أي مقصد ونهمة (إلّا الله) أي الذي بيده كل رحمة ونعمة فكان مع الخلق بقالبه مباينا لهم بقلبه وهذا منسوب إلى الجنيد. (قال الواسطيّ أثنى عليه بحسن قبوله) أي أثنى الله على نبيه بقبوله الحسن (وحسن إقباله) أي ذي المنن (لما أسداه إليه من نعمه) أي لما أوصله إليه وأولاه من نعمه الظاهرة والباطنة في دنياه وأخراه (وفضّله بذلك) أي بما ذكر (على غيره) أي من جميع خلقه (لأنّه جبله) أي طبعه وخلقه (على ذلك الخلق) وفي نسخة على تلك الخلق فالخلق بمعنى الخصلة أو السجية (فسبحان اللّطيف) أي بعباده يرزق من يشاء (الكريم) أي الذي وسع كرمه كل شيء (المحسن) أي الذي لا يستغني أحد عن إحسانه وبره وامتنانه (الجواد) أي الكثير العطاء والجود بالنسبة إلى كل موجود (الحميد) الذي يحمده كل أحد من مخلوقاته وهو حامد لأنبيائه وأصفيائه القائمين بوظائف طاعاته وعباداته وفي أصل الدلجي المجيد أي ذي المجد والكرم ففي الحديث القدسي والكلام الأنسي وذلك أني جواد ماجد رواه الترمذي والبيهقي (الذي يسّر الخير) أي سهله وفي نسخة(1/105)
للخير أي هيأ إهلاله كما قال تعالى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (وهدى إليه) أي ودله عليه كما قال تعالى وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (ثمّ أثنى على فاعله) أي فاعل الخير نحو قوله تعالى إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (وجزاه عليه) أي أثابه بما منحه عليه في الدنيا ووعد له بالمزيد في العقبى بنحو قوله تعالى إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ هذا (سبحانه) اسم للتسبيح بمعنى التنزيه وقد يجعل علما له فيقطع عن الإضافة ويمنع الصرف ثم نصبه بفعل ترك إظهاره ويصدر به الكلام للتنزيه عن السوء والملام فهذا أيضا معنى قوله (سبحانه) بدلا مما قبله (ما أغمر) بالغين المعجمة فميم وراء في نسخة ما أعم (نواله) بفتح النون والصيغة للتعجب أي ما أكثر عطاءه (وأوسع إفضاله) بكسر الهمزة أي بره وإحسانه (ثمّ سلّاه) من التسلية وهي التعزية والتهنئة والمعنى أزال عنه ما حز به من الغم وكربه من الهم (بعد هذا) أي بعد هذا المدح والثناء ووعد البر والعطاء وأبعد الدلجي حيث قال أي بعد ما قالوه (عن قولهم) متعلق بسلاه أي عن مقول الكفار في حقه مما لا يليق بجنابه وهو في أصل الدلجي متصل بسلاه وقوله بعد هذا (بما وعده به من عقباهم) بضم العين أي من سوء عاقبتهم الذي هو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين وفي نسخة من أعقابهم أي عذابهم وحجابهم (وتوعّدهم) أي وبما أوعدهم وخوفهم (بقوله: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) [القلم: 5] . الثّلاث الآيات) أي إلى قوله تعالى وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وهو منصوب بأعني أو أقرأ ويجوز رفعه وخفضه كما تقدم والضمير في فستبصر للنبي صلى الله عليه وسلّم وفي ويبصرون للكفار وهذا الإبصار إما في هذه الدار وإما في دار القرار للأبرار وفي دار البوار للفجار والمعنى فستر أو فستعلم ويبصرون بأيكم المفتون أي أيكم الذي فتن بالجنون والباء مزيدة أو بأيكم الجنون على أن المفتون مصدر بمعنى الفتنة كما قالوا ليس له معقول أي عقل ما فالمعنى بأيكم الفتنة وهي كناية عن الفساد والجنون الذي رموه به أو بأي الفريقين الجنون ابفريق المؤمنين أم بفريق الكافرين أي في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم فالباء على هذا ظرفية وخلاصته في أي فريق منكم الرجل المفتون ثم ختم الله سبحانه تعالى الآية بوعيدهم ووعد نبيه صلى الله عليه وسلّم فأوعدهم بقوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ووعده بقوله تعالى وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فكأنه قال هو أعلم بالمجانين على الحقيقة واليقين وهو أعلم بالمهتدين بحيازتهم كمال العقل في الدين (ثمّ) أي بعد أن مدحه الله وسلاه متوعدا إياهم (عطف) أي التفت وكر (بعد مدحه على ذمّ عدوّه) قيل هو الأخنس بن شريق وكان ثقيفا ملصقا في قريش والأظهر أنه الوليد بن المغيرة ونقل الثعلبي في تفسيره أنه أبو جهل ونسب هذا إلى ابن عباس رضي الله عنهما أيضا وقيل هو عتبة بن ربيعة وكثير الله من المفسرين على أن جميع الصفات التي في هذه الآيات إنما جاءت أجناسا ولم يرد بها رجل بعينه بل المراد أن كل من يكون متصفا بوصف منها فلا تطعه فيها (وذكر سوء خلقه) أي وعلى ذكر سوء خلق عدوه، (وعدّ معايبه) أي وعلى تعداد قبائح مبغضه (متولّيا) أي مباشرا بنفسه (ذلك بفضله) أي من غير وجوب شيء عليه (ومنتصرا لنبيّه صلى الله(1/106)
تعالى عليه وسلّم) أي منتقما لأجله من أعدائه (فذكر) أي الله سبحانه وتعالى في كلامه بعد ذلك (بضع عشرة) بسكون الشين وتكسر وروي بضعة عشر (خصلة) بفتح الخاء أي خصلة قبيحة وخلة ذميمة والبضع بفتح الموحدة ويكسر ما بين الثلاث إلى التسع وهذا هو المشهور وأراد المصنف إحدى عشرة خصلة وهذا على قول من يقول بدؤه الواحد ومنتهاه العشرة لأنه قطعة من العدد ويجري في التذكير والتأنيث مجرى العدد المركب (من خصال الذّمّ فيه) أي من بعض الخصال المذمومة في عدوه (بقوله تعالى: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [القلم: 8] ) تهييج لتصميمه على معاصاتهم (إلى قوله: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [القلم: 15] ) وهو قوله وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ أي لو تلين فتدع نهيهم عن الشرك فيميلون أيضا إليك في بضع ما تدعوهم إليه وذلك أن قريشا قالوا في بعض الأوقات لرسول الله صلى الله عليه وسلّم لو عظمت آلهتنا لعبدنا إلهك وعظمناه فنهاه الله عن ذلك بقوله فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ أي كثير الحلف حقا وباطلا وكفى به زاجرا لمن اعتاد الحلف حيث يخاف عليه من الكذب كما ورد كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع مهين أي ذي مهانة وحقارة وحاصله أنه ضعيف وحقير ووزنه فعيل لا مفعول والميم أصلية لا زائدة هماز عياب في أعراض الناس مشاهدة مغتاب في حقهم غيبة مشاء بنميم نقال للحديث على وجه السعاية للفساد والنمم مصدر كالنميمة وهو نقل القبائح مناع للخير أي كثير المنع منه فقيل المراد بالخير هو المال فعلى هذا هو وصف بالشح وقيل بل هو على عمومه في المال وجميع أفعال الخير والخصال معتد متجاوز في الظلم أثيم كثير الإثم عتل جاف غليظ من عتله أي دفعه بعنف وشدة بعد ذلك أي بعد ما عد من مثالبه ومعايبه زنيم أي دعي كالوليد بن المغيرة ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده قيل إن الله سبحانه وتعالى لا يعيب أحدا بالأنساب ولكن ذكره ليعرف بذلك وما أحسن قول حسان:
وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
إن كان ذا مال وبنين علة لما بعده وقرأ حمزة وشعبة بهمزتين فالتقدير الآن كان ذا مال كثير وبنين متعددة قيل كانوا عشرة وقيل اثني عشر إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي قال ذلك حين تليت عليه والأساطير جمع اسطورة بضم الهمزة كأحدوثة وأحاديث وقيل الأساطير جمع اسطار والاسطار جمع سطر بفتح الطاء كذا في حاشية المنجاني وفي القاموس السطر الصف من الشيء كالكتاب والشجر وغيره وجمعه اسطر وسطور واسطار وجمع الجمع اساطير والخط والكتابة ويحرك في الكل انتهى وأراد الكافر به الاباطيل المنسوبة إلى المتقدمين وقائله النضر بن الحارث وسببه أنه دخل بلاد فارس وتعلم أخبار رستم وغيره (ثمّ ختم) أي الله سبحانه (ذلك) أي ما ذكره من مثالب ذلك الشقي (بالوعيد الصّادق) وفي نسخة بالوعيد الصدق (بتمام شقائه) أي تعبه أو كمال شقاوته (وخاتمة بواره) أي هلكه ودماره(1/107)
(بقوله تعالى: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم: 16] ) أي سنكويه على أنفه إهانة له وخص الأنف لأن السمة عليه أبشع وظهورها اشنع وأشيع وقيل أي نجعل على وجهه يوم القيامة سمة سوداء تكون منبهة عليه ومعرفة به قبل دخوله النار كما قال الله تعالى يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ أو معناه أنه يعذب إذ ذاك بنار تجعل على أنفه فتكون فيه كالسمة وقيل هذا في الدنيا وهي كناية عن ضربة يضرب بها وجهه وأنفه فتبقى فيه كالسمة قالوا وقد حل ذلك يوم بدر على أنف الوليد جراحة ظاهرة وعلامة باهرة وقيل ليس السمة هنا على حقيقتها وإنما هي كناية عن شهرته بما يبقى له مذموما ولا يمكنه إخفاؤه كالموسوم بسمة على أنفه والخرطوم في الأصل إنما هو للسباع كالفيل واستعمل في الآية للإنسان استعارة وإشارة إلى أنه شبيه بالحيوان صورة وسيرة كما قال تعالى أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ أي الكاملون في الغفلة عن الحضرة وقيل إنما عدل عن الأنف إلى الخرطوم لأن الأنف محل العز والأنفة لا كذلك الخرطوم لأنه محل المذلة والإهانة ولذا قيل الأنف في الأنف وقيل الخرطوم الوجه كله وهذا في الإنسان وربما قيل له في الأنف كغيره ومجمل الكلام وزبدة المرام في هذا المقام أي سنجعل له سمة أي علامة على الخرطوم أي على أنفه إما حسا كضرب أنفه بالسيف يوم بدر وبقيت علامة في أنفه حتى يأنف من أنفه أو يكون سوادا في وجهه زائدا عن غيره من الكفار في القيامة لشدة عناده وعتوه وأما معنى كسوء ذكره بالذم والمقت والاشتهار بالشر بحيث لا يخفى ذلك بوجه فيكون ذلك كوسمة على أنفه ويمكن تحقيق الجميع في حفه (فكانت نصرة الله له) أي لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم على عدوه (أتمّ من نصرته) عليه الصلاة والسلام بنفسه (لنفسه) أي فإن من كان لله كان الله له، (وردّه) أي كان رده (تعالى على عدوّه أبلغ من ردّه) صلى الله تعالى عليه وسلم (وأثبت في ديوان مجده) أي في ديوان كرمه وشرفه وهو بكسر الدال وتفتح والجمع دواوين ودياوين وأصله ديوانه بالفارسية وذلك أن كسرى أمر كتابه أن يجتمعوا في دار واحدة ويعملوا حساب السواد في ثلاثة أيام وأعجلهم فيه وأطلع عليهم لينظر ما يصنعون فنظر إليهم فرآهم يحسبون بأسرع ما يمكن وينسخون كذلك فعجب من كثرة حركتهم فقال أين ديوانه أي هؤلاء مجانين وقيل شياطين ثم قيل في كل مخفل ديوان وأول من دون في الإسلام عمر رضي الله تعالى عنه.
الْفَصْلُ السَّادِسُ [فِيمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى في جهته عليه الصلاة والسلام مورد الشفقة والإكرام]
(فِيمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي جِهَتِهِ) أي في حقه (صلى الله تعالى عليه وسلم مورد الشفقة والإكرام) أي مورد الرحمة والكرامة وهو منصوب على المصدرية (قَالَ تَعَالَى: طه (1) مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) [طه: 1- 2] قِيلَ طه اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ عليه الصلاة والسلام) أي الحديث تقدم لي عند ربي عشرة اسماء وذكر منها طه وهو في حساب العدد(1/108)
المرموز في أبجد أربعة عشر إيماء إلى أن بدر وجهه في غاية من النور ونهاية من الظهور، (وقيل هو اسم لله تعالى) قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ولعله إشارة إلى الطاهر والهادي والمعنيان صادقان في حق الله تعالى ورسوله حقيقة ومجازا وقد قيل المعنى طوبى لمن اهتدى بك (وقيل معناه يا رجل) أي في لغة عك ولعل أصله يا هذا فقلبوا ياءه طاء واقتصروا على ها (وقيل) أي في معناه (يا إنسان) قلبوا وأتوا بهاء السكت كذا ذكره الدلجي ووجهه غير ظاهر مع أن هاء السكت إنما يكون ساكنا والأظهر أن أصله يا هذا المراد به الرجل أو الإنسان، (وقيل هي حروف مقطّعة) أي يراد بها هجائية بنائية (لمعان) أي موضوعة لمعان إيمائية والله أعلم بمراده بالطريقة القطعية. (قال الواسطيّ أراد يا طاهر) وفي معناه يا طيب، (يا هادي) أي أراد بالطاء افتتاح اسم وبالهاء ابتداء اسم، (وقيل هو أمر من الوطىء) أي بالهمزة (والهاء كناية عن الأرض) فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه فإنه كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه وأصله طأ قلبت همزته هاء أوطأها قلبت همزته ألفا وأورد عليه كتابتهما على صورة الحرف وكذا على القول بأن أصله يا هذا وأجيب بأنه اكتفى بشطري الكلمتين وعبر عنهما باسمهما على صورة مسماهما في رسمهما (أَيِ اعْتَمِدْ عَلَى الْأَرْضِ بِقَدَمَيْكَ وَلَا تُتْعِبْ نفسك بالاعتماد على قدم واحدة) أي فإنه شاق عليك (وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: 2] ) أي لتتعب في أمر العبادة بل المراد به أنك تعبد على وجه الراحة فإنك إنما بعثت بالحنيفية السمحة ثم الشقاء شائع بمعنى التعب ومنه سيد القوم اشقاهم ولعل الحكمة في عدوله عن تتعب للأشعار بأنه أنزل عليه ليسعد بحكم الضد أو لمراعاة الفواصل الآتية (نزلت) وفي نسخة ونزلت (الآية) أي أول سورة طه (فيما كان النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَكَلَّفُهُ مِنَ السَّهَرِ، وَالتَّعَبِ، وَقِيَامِ اللّيل) أي حتى تورمت قدماه وذلك لأنه قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بآية من القرآن ليلة كما رواه الترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها وروي أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي حتى تورمت قدماه قال فقيل له اتفعل هذا وقد جاءك أن الله تعالى قد غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تأخر قال أفلا أكون عبدا شكورا. (حدثنا) وفي نسخة أَخْبَرَنَا (الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عبد الرّحمن) أي ابن علي بن شبري بشين معجمة مكسورة وباء موحدة ساكنة وبعد الراء مثناة من أسفل أحد العلماء الصالحين من رجال الأندلس مات سنة ثلاث وخمسمائة بإشبيلية (وغير واحد) أي وكذا حدثنا جمع كثير (عن القاضي أبي الوليد الباجيّ) بموحدة وجيم هو سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث المنجيني القرطبي الذهبي صاحب التصانيف نسب إلى باجة مدينة بقرب اشبيلية وقيل هو من باجة القيروان التي ينسب إليها أبو محمد الباجي الحافظ مات بالمدينة سنة أربع وسبعين وأربعمائة قيل كان يحضر مجلسه أربعون ألف فقيه روى عنه الخطيب وابن عبد البر وهما أكبر منه والحميدي وأبو علي الصدفي وغيرهم (إجازة) أي من طريق الإجازة (ومن(1/109)
أصله) أي كتابه الذي قرأ فيه على مشايخه (نقلت) فكان في سنده إجازة ومناولة (قال حدّثنا أبو ذرّ الحافظ) أي المشهور بحفظ الحديث يعني به الهروي واسمه عبد الرحمن بن أحمد ابن محمد بن عبد الله بن غفير بغين معجمة ابن خليفة بن إبراهيم المالكي توفي في ذي القعدة سنة خمس وثلاثة وأربعمائة في الحرم مجاورا فيه وهو منسوب إلى الهرة بفتح الهاء والراء مع تخفيفه ودون همز موضع بين مكة والطائف وأما الهراة فموضع بين مكة وعسفان كذا ذكره التلمساني وأما هراة بالكسر بلا همزة فبلدة عظيمة بخراسان قال الحلبي وسمع منه جماعة وروى عنه بالإجازة جماعة منهم الخطيب وابن عبد البر وغيرهما، (قال حدّثنا أبو محمّد الحمويّ) بفتح المهملة وضم الميم المشددة وكسر الواو وياء نسبة إلى جده حمويه وهو عبد الله بن محمد بن حمويه السرخسي توفي سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، (حدّثنا إبراهيم بن خزيم) بضم خاء معجمة وفتح زاي قال التلمساني هو ابو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن خزيم (الشّاشيّ) بشينين معجمتين وأما الشامي على ما في بعض النسخ فتصحيف، (حدّثنا عبد بن حميد) بالتصغير أي ابن نصر القرشي الكشني بكاف وشين له تأليف في كتاب الله العزيز ومعانيه توفي سنة تسع وأربعين ومائتين قال الحلبي هو مصنف المسند وقد قرأت منتخبه بالقاهرة سمع يزيد بن هارون ومحمد بن بشر العبدي وعلي بن عاصم وابن أبي فديك وغيرهم روى عنه مسلم والترمذي وعلق عنه البخاري في دلائل النبوة من صحيحه فسماه عبد الحميد، (حدّثنا هاشم بن القاسم) هو أبو النصر يعرف بقيصر التميمي روى عن ابن أبي ذئب وعكرمة وعنه أحمد والحارث بن أبي أسامة أخرج له جماعة توفي سنة سبع ومائتين (عن أبي جعفر) هو محمد بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ هو والد جعفر بن محمد الصادق توفي عام عشرة ومائة وقال الحلبي أبو جعفر هذا اختلف في اسمه فقيل عيسى بن أبي عيسى بن هامان مروزي كان يتجر إلى الري روى عن عطاء وابن المنكدر وعنه جماعة اخرج له الأربعة (عن الرّبيع بن أنس) هو ولد أنس بن مالك صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخديمة رضي الله تعالى عنه قال الحلبي الربيع تابعي وهو بفتح الراء بصري نزل خراسان وروى عن أنس وأبي العالية وعنه الثوري وابن المبارك قال أبو حاتم صدوق توفي سنة تسع وثلاثين ومائة أخرج له جماعة، (قال كان النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا صَلَّى قَامَ عَلَى رِجْلٍ وَرَفَعَ الْأُخْرَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: طه [طه: 1] يَعْنِي طَأِ الْأَرْضَ يَا مُحَمَّدُ مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: 2] الآية) أي إلا تذكرة لمن يخشى أي لكن أنزلناه موعظة لمن يخاف مخالفة المولى ويتبعه بالطريق الأولى فهذا الحديث أسنده المصنف هنا من تفسير عبد بن حميد عن الربيع بن أنس مرسلا ورواه ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه موصولا بلفظ لما نزل يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا فقامه كله حتى تورمت قدماه فجعل يرفع رجلا ويضع أخرى فهبط جبريل عليه الصلاة والسلام فقال طه أي طأ الأرض بقدميك ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى
والحاصل أن هذا التأويل في طه هو مختار(1/110)
الربيع بن أنس ويعزى إلى مقاتل أيضا وله تأويلان أحدهما أن يريد أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يعتمد إذا صلى على إحدى رجليه ويرفع الأخرى تحريا منه صلى الله تعالى عليه وسلم للأمور الشاقة ونفورا من الراحة فقيل له طأ الأرض برجليك معا ولا تعتمد على قدم واحدة فتتعب بذلك نفسك وهذا التأويل هو الذي تأوله المصنف وثانيهما أن يريد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تدعوه مشقة الصلاة إلى أن يتروح برفع إحدى قدميه وحط الأخرى فقيل له طأ الأرض بمعنى لا تلزم نفسك من القيام ما تتعب معه فتضطر إلى الترويح بإحدى قدميك قال المنجاني وهذا التأويل أحسن من التأويل الذي تأوله القاضي وإلا فالقيام على رجل واحدة لم يثبت في الشرع أنه من جملة التطوعات فيفعله النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اختيارا دون أن يوجب ذلك موجب من تعب أو تورم قدم بل لم ينج ذلك الفقهاء إلا للضرورة قلت لا مانع من أنه كان في الشرع من التطوع ثم نسخ قال وما يستغرب في هذه الآية ما رواه الفراء في كتاب معاني القرآن له مسندا عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رجلا قرأ بمحضره طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى فقال ابن مسعود اقرا طه بكسر الطاء والهاء فقال له الرجل يا أبا عبد الرحمن أليس أمرا من الوطئ فقال له عبد الله اقرا طه بالكسر فهكذا اقرأنيهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم قلت لعل روايته كانت بالإمالة فيهما وهي لا تنافي كونهما من الوطئ والله أعلم. (ولا خفاء بما في هذا كلّه) الباء بمعنى في وعدل إليه حذرا عن التكرار أي فيما ذكر من الآية والحديث (من الإكرام) أي إكرام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وحسن المعاملة) أي له صلى الله تعالى عليه وسلم بإعلام حسن القيام وهذا إن جعلنا طه طأ الأرض كما تقدم فيه الكلام (وَإِنْ جَعَلْنَا طه مِنْ أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم كما قيل) أي وقد سبق (أو جعلت) أي هذه الكلمة (قسما) أي أقسم الله تعالى به (لحق الفضل بما قبله) أي اتصل هذا الفصل بالفصل الذي قبله لإنبائه بما أقسم به تعالى تحقيقا لمكانته وإفاد نهاية المبرة في مخاطبته وإعلاء درجات الآداب في محاورته، (ومثل هذا) أي ما ذكر من كون طه من اسمائه صلى الله تعالى عليه وسلم أو مقسما به أو هما وما قبلهما (من نمط الشّفقة) أي من نوع المرحمة (والمبرّة) لمناسبة بينهما قال الدلجي إذ النمط في الأصل الجماعة من الناس أمرهم واحد وفي الحديث خير هذه الأمة النمط الأوسط يلحقهم التالي ويرجع إليهم العالي انتهى ولا يخفى بعد هذا المعنى في مقام المرام بل النمط بفتح النون والميم جاء بمعنى الطريق والنوع من الشيء أيضا على ما في القاموس ويمكن حمل الحديث الذي ذكره عليه كما لا يخفى وقد قال الحلبي النمط الضرب من الضروب والنوع من الأنواع يقال ليس هذا من ذلك النمط أي من ذلك النوع قاله الهروي في غريبه وأخذ منه ابن الأثير وحذف منه بعض شيء، (قوله تعالى) خبر لقوله مثل هذا (فَلَعَلَّكَ) أي لفرط إعراضهم وتباعدهم عن ما فيه تحصيل جميع اغراضهم (باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) أي المجدد إنزاله (أَسَفاً(1/111)
[الكهف: 6] ) أي حزنا وتأسفا وتلهفا (أي قاتل نفسك) ويجوز بالإضافة كما قرئ في الآية (لذلك) أي لعدم إيمانهم بالقرآن (غضبا) أي عليهم (أو غيظا) أي في نفسه (أو جزعا) أي قلة صبر وتحمل والحاصل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم شبه لما تداخله من الوجد أسفا على توليهم وتباعدهم عن الإيمان بمن فارق أعزته فذهبت نفسه حسرات على آثارهم باخعها وجدا عليهم متلهفا على فراقهم، (ومثله) أي مثل فلعلك باخع نفسك مما ورد مورد الشفقة والإكرام بشهادة لعل فإنها للإشفاق (قوله تعالى أيضا: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) وقرئ بالإضافة هنا أي اشفق على نفسك أن تقتلها غما (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 3] ) أي مخافة أن لا يؤمنوا أو لئلا يؤمنوا (ثمّ قال) أي الله سبحانه وتعالى تسلية لشأنه (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً أي دلالة ملجئة إلى الإيمان أو بلية قاصرة على أهل الكفران والطغيان (فَظَلَّتْ) أي صارت (أَعْناقُهُمْ أي جماعاتهم واشرافهم وساداتهم (لَها خاضِعِينَ [الشعراء: 4] ) أي لتلك الآية منقادين ولاقتضائها خاشعين أو لتلك البلية ذليلين خاسئين وهو عطف على الجزاء أعني ننزل إذ لو قيل أنزلنا مكانه لصح وقيل اصل الكلام فظلوا لها منقادين فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع لأن الأعناق لما وصفت بصفة لا تكون حقيقة إلا لمن يعقل عوملت معاملة من يعقل فجمعت جمعه (ومن هذا الباب) أي باب الشفقة والإكرام (قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) أي فاجهر به وأظهره من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهرا أو أفرق بين الحق والباطل وأصله الإبانة والتمييز وما موصولة وعائدها محذوف أي بما تؤمر به وجوز الدلجي كون ما مصدرية هنا وهو بعيد عن المعنى كما لا يخفى (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر: 94] ) أي إهانة لهم ولا تلتفت إلى ما يقولون وأغرب التلمساني حيث فسر أعرض بقوله اترك والغ (إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ [الحجر: 97] ) أي فينا أو في القرآن أو فيك (إلى آخر السّورة) وهو قوله سبحانه وتعالى إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ أي دفعنا عنك شرهم بقمعهم وإهلاكهم قيل كانوا خمسة نفر فمات كل واحد منهم بنوع من عذابه الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي عاقبة أمرهم وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي فافزع إليه بالتسبيح والتحميد وقل تسبيحا مقرونا بالحمد جمعا بين الصفات السلبية والنعوت الثبوتية أو فنزهه عما يقولون من الباطل واحمده على أنه هداك إلى الحق وكن من الساجدين أي المصلين وكان صلى الله عليه وسلّم إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أي الموت باتفاق المفسرين وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم عند موت عثمان ابن مظعون أما هو فقد رأى اليقين قال المنجاني ويحتمل أن يكون إشارة إلى النصر الذي وعد الله سبحانه وتعالى على الكفار قلت هذا مع مخالفته للإجماع غير مناسب أن تكون النصرة غاية العبادة فإن العبادة لا يجوز انفكاكها عن العباد ما دامت الارواح في الإجساد (وقوله) أي ومنه أيضا قوله (تَعَالَى وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ [الْأَنْعَامِ: 10] ) تسلية له عما(1/112)
كان يرى من قومه ليقتدي بالرسل المتقدمين عن وقته حيث صبروا على ما كذبوا وأوذوا وقد قال الله تعالى فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ (الآية) يعني فحاق بالذين سخروا منهم أي من المستهزئين وقيل من المرسلين ما كانوا به يستهزئون أي فأحاط بهم الذي كانوا به يستهزئون حيث هلكوا لأجله أو فنزل بهم جزاء استهزائهم قيل يجوز أن يكون ضمير به راجعا إلى الشرع وما ترتب عليه من الثواب وأن يكون راجعا إلى العذاب والله تعالى أعلم بالصواب وأما ما جوزه المنجاني من رجعه إلى القرآن فلا يناسبه المقام كما لا يخفى على أرباب المعاني والبيان (قال مكّي) سبق ذكره (سلّاه) أي الله تعالى (تعالى بما ذكر) أي من قوله وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ (وهوّن عليه ما يلقى) وفي رواية ما يلقاه (من المشركين) أي من فرط الإيذاء (وأعلمه أنّ) وفي نسخة أنه (من تمادى) أي أصر واستمر (على ذلك يحلّ به) بضم الحاء أي ينزل به ومنه قوله تعالى أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ وأما يحل بكسر الحاء فمعناه يجب لكن لا يناسب المقام وإن قرئ بهما قوله تعالى فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي (ما حلّ) أي شيء عظيم نزل أو الذي حل (بمن قبله) أي من اعداء الأنبياء (ومن هذا) أي الباب وفي نسخة وَمِثْلُ هَذِهِ التَّسْلِيَةِ (قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) أي قومك فلا يهولنك تكذيبهم لك (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [فاطر: 4] ) فكان الله سبحانه وتعالى يقول لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم تأس بمن قبلك من الأنبياء فإن هذه الأنواع التي يعاملك بها قومك من التكذيب وغيره قد كانت موجودة في سائر الأمم قبلك مع أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام فلست منفردا بهذا وحدك وفيه إيماء إلى أن الليلة إذا عمت طابت فإن أجل ما يخفف عن الإنسان حزنه مشاركة غيره له فيه كما قالت الخنساء:
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم «1» لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... اعزي النفس مني بالتأسي
(ومن هذا) أي الباب أو القبيل (قوله تعالى: كَذلِكَ) أي مثل تكذيب قومك لك وقولهم افتراء عليك معلم مجنون (مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا) أي ما جاءهم رسول إلا قالوا في حقه هو (ساحِرٌ) أي خداع (أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات: 52] ) أي به جنون وأو للتنويع باعتبار قوم دون قوم أو وقت دون وقت ولا يبعد أن تكون للشك مشيرا إلى تحيرهم في أمره مع الإيماء إلى المناقضة بين أقوالهم فإن الساحر هو العالم وهو لا يكون إلا في كمال العقل والمجنون لا يكون إلا خاليا عنه (عزّاه الله تعالى) بتشديد الزاء أي حمله على الصبر وسلاه (بما أخبر به عن الأمم السّالفة) أي عن الجماعات السابقة (ومقالها) أي وأقاويل تلك الأمم وفي نسخة ومقالتها (لأنبيائهم قبله ومحنتهم) أي ابتلائهم وفي نسخة ومحنهم بفتح فسكون وهو مجرور ووهم الحجازي حيث قال بفتح النون أي وبامتحان
__________
(1) وفي بعض النسخ على قتلاهم قاله مصححه طاهر.(1/113)
انبيائهم واختبارهم في ولائهم عند بلائهم وابتلائهم (بهم) أي بقومهم وأقوالهم (وسلّاه) أي النبي عليه الصلاة والسلام (بذلك) أي بما ذكر من ابتلاء الأنبياء (عن محنته) أي بليته عليه الصلاة والسلام (بمثله) أي بنظير ما فعل الأمم بالأنبياء (من كفّار مكّة) في تأذيتهم له (وأنّه) أي وبأنه (ليس أوّل من لقي ذلك) أي الايذاء من قومه (ثمّ) أي بعد أن سلاه (طيّب نفسه) أي أرضاه (وأبان عذره) أي أظهره (بقوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ [الذاريات: 54] ) إشفاقا عليه بترك معالجتهم (أي أعرض عنهم) أي بعد ما بذلت جهدك في الدعوة والزمت عليهم الحجة (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات: 54] ) في مكالمتهم (أي) حينئذ (في أداء ما بلّغت) أي من الإعلام (وإبلاغ ما حمّلت) بضم حاء وتشديد ميم مكسورة أي كلفت من الأحكام والمعنى فما تلام في إعراضك عنهم بعد ما كررت عليهم مبالغا في تبليغ ما أمرت به لهم (وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور: 48] ) أي بمرأى منا (أي اصبر على أذاهم) أي وبقائك في عناهم (فإنّك بحيث نراك ونحفظك) وجمع العين لجمع الضمير مبالغة في كثرة أسباب الحفظ والعصمة؛ (سلّاه الله تعالى بهذا) أي بما ذكر (في آي كثيرة من هذا المعنى) أي كما لا يخفى على حفاظ المبنى.
الفصل السّابع [فيما أخبره الله بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ عَظِيمِ قَدْرِهِ]
(فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي كِتَابِهِ العزيز) أي الذي لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ أو الغالب على سائر الكتب بنسخه إياها والنادر في الوجود لبقائه على صفحات الدهر إلى اليوم الموعود (من عظيم قدره) أي مرتبته (وشريف منزلته) أي يشهدان بفضيلته (على الأنبياء وحظوة رتبته) بكسر الحاء وضمها وسكون الظاء المعجمة وقد تقدمت ومن بيان لما (في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) هو كما اختاره المصنف على ظاهره من أخذ الميثاق عليهم بما ذكر أو ميثاقهم الذي وثقوه على أممهم (لَما آتَيْتُكُمْ) وفي قراءة نافع آتيناكم واللام موطئة القسم لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف وما شرطية والتقدير لمهما آتيتكم وهو ظاهر قول سيبويه ودخلت اللام عليها كما تدخل على إن إذا كان جوابها قسما نحو قوله تعالى وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أو موصولة صلتها ما بعدها والعائد محذوف أي الذي آتيتكموه (مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ [آل عمران: 79] ) من لبيان ما (إلى قوله) تعالى (مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81] ) يعني ثم جاءكم وهو عطف على صلتها وعائدها محذوف أي جاءكم به رسول مصدق وقرأ حمزة لما بالكسر على أن ما مصدرية أي لأجل إتياني إياكم بعض الكتاب والحكمة ثم مجيء رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أي الله تعالى للنبيين أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي أي قبلتم عهدي قالوا أقررنا قال فاشهدوا أي بعضكم على بعض بالإقرار وأنا معكم من الشاهدين على إقراركم ونشاهدكم وهذا توكيد عظيم وتعظيم جسيم مع علمه تعالى بأنهم لا يدركون زمانه ولا(1/114)
يلحقون مكانه (قال أبو الحسن القابسي) سبق ذكره (اختصّ الله تعالى محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم بفضل) أي بزيادة فضيلة (لم يؤته غيره) أي من فضلاء انبيائه (أبانه به) جملة استئناف أي أظهره الله تعالى بما آتاه من فضله وفي نسخة ضبط ابانة بالمصدر على أنه منصوب على العلة أي اظهارا بفضله وكماله واشعارا بعلو شأنه وتمام جماله (وهو ما ذكره في هذه الآية) أي مما يدل على تلك الإبانة، (قال المفسّرون أخذ الله الميثاق بالوحي) أي إلى أنبيائه (فلم يبعث نبيّا إلّا ذكره له محمّدا ونعته) أي وذكر له صفته كما في التوراة والإنجيل وغيرهما على ما مر (وأخذ عليه) أي على كل نبي (ميثاقه) أي الخاص به وهو (إن أدركه ليؤمننّ به) بفتح النونين وإليه أشار صلى الله عليه وسلّم بقوله حين رأى عمر أنه ينظر في صحيفة من التوراة لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي أي لأجل أخذ الميثاق بذلك وإلا فكان الأمر يقتضي عكس ما هنالك لان اللاحق يكون تابعا للسابق، (وقيل أن يبيّنه) أي أخذه عليه أَنْ يُبَيِّنَهُ (لِقَوْمِهِ وَيَأْخُذَ مِيثَاقَهُمْ أَنْ يُبَيِّنُوهُ لمن بعدهم) وفي نسخة لمن بعده أي وهكذا إلى أن يبعث فيؤمنوا به كما بينه سبحانه وتعالى بقوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ الآية؛ (وَقَوْلُهُ ثُمَّ جَاءَكُمْ: الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الْمُعَاصِرِينَ لمحمّد) اللام للتقوية وفي نسخة المعاصرين محمدا صلى الله عليه وسلّم أي الذين كانوا في زمانه ولا يخفى أن هذا المعنى لا يصح على القول بأنه تعالى أخذ ميثاق النبيين بذلك إذ من قاله لا يجعل الخطاب إلا لهم وإنما يصح عند من قال ميثاق معاصريهم وإضافته في الآية إلى النبيين نظرا إلى أنهم هم الذين أخذوه على أممهم وأنهم يأخذونه على من بعدهم وهكذا إلى أن يبعث فتقدير الآية وإذ اخذ الله الميثاق الذي أخذه النبيون على أممهم (قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه) كما رواه ابن جرير في تفسيره عنه أنه قال موقوفا يكون في الحكم مرفوعا (لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ آدَمَ فَمَنْ بعده) أي نبيا بعد نبي (إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَئِنْ بُعِثَ وَهُوَ حَيٌّ لِيُؤْمِنَنَّ به ولينصرنّه) بفتح ما قبل النون الثقيلة فيهما لإفراد الضمير بهما (ويأخذ) بالنصب بفتح الذال عطف على ما دخله اللام ونون التوكيد مرادة كإرادتها في قوله:
لا تهين الفقير علك أن تر ... كع يوما والدهر قد رفعه
حيث أراد لا تهينن فحذفت لما استقبلها ساكن أي وليأخذن (العهد بذلك على قومه) وفي نسخة برفع يأخذ (ونحوه عن السّدّي) أي ونحو هذا القول المروي عن علي منقول عن السدي (وقتادة) تقدم الكلام على قتادة وأنه من أجلاء التابعين وعظماء المفسرين وأما السدي فهو بضم السين وتشديد المهملتين كان يجلس في سدة باب الجامع وهما اثنان كبير وصغير فالكبير هو اسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كربة السدي الكوفي يروي عن ابن عباس وأنس وطائفة وعنه زائدة وإسرائيل وأبو بكر بن عياش وخلق وهو حسن الحديث أخرج له مسلم والأربعة وأما الصغير فهو محمد بن مروان الكوفي روى عن هشام بن عروة والأعمش تركوه(1/115)
واتهمه بعضهم وهو صاحب الكلبي والظاهر أن المراد هنا الأول والله أعلم (في آي) أي حال كون هذه الآية مندرجة في ضمن آيات كثيرة (تضمّنت فضله) أي فضائله صلى الله تعالى عليه وسلم (من غير وجه واحد) أي بل من وجوه متعددة (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) أي بتبليغ الرسالة وتحمل الدعوة إلى الأمة (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الأحزاب: 7] الآية) أي وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وهو تخصيص بعد تعميم تلويحا ببيان فضلهم وزيادة شرفهم فإنهم أولو العزم من الرسل ومشاهير أرباب الشرائع وقدم نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم تعظيما وتكريما وإيماء إلى تقديم نبوته في عالم الأرواح المشار إليه بقوله كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد وأخذنا منهم ميثاقا غليظا أي عظيما شأنه ومؤكدا باليمين برهانه وكرر لبيان وصفه تعظيما لمقامه (وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ- إلى قوله- وَكِيلًا [النساء: 163] ) وفي نسخة صحيحة شهيدا وهو الصواب وفيه تلويح إلى فضله حيث قدمه على رسله إذ كان يمكن أن يقال (كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده أوحينا إليك) على نحوه والحاصل أنه قدم من جهة الفضل والشأن لا من جهة التقدم في الزمان والواو وإن لم تقتض الترتيب لكن العرب توتر تقديم المتقدم في الذكر على المتأخر في اللفظ وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلّم حيث قال عند الصفا ابدأ بما بدأ الله به وحكى الحافظ في كتاب البيان والتبيين أن عبد بني الحسحاس لما أنشد عمر رضي الله تعالى عنه قوله:
هريرة ودع إن تجهزت غاديا «1» ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال له عمر لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك (رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه تعالى عنه) وهو بعض خبر هنا ذكره الرشاطي كله في اقتباس الأنوار (أنّه قال) أي عمر (فِي كَلَامٍ بَكَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) بنصب النبي على أنه مفعول والمعنى رثاه بعد موته من بكيته مخففا ومشددا أي بكيت عليه وذلك حين أفاق من غشيته وتحقق عنده موت النبي صلى الله عليه وسلّم بخطبة أبي بكر وموعظته قائلا بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ كان لك جذع تخطب الناس عليه فلما كثر الناس اتخذت منبرا لتسمعهم عليه فحن الجذع لفراقك حتى جعلت يدك عليه فسكن فامتك أولى بالحنين عليك حين فارقتهم (فقال) أي عمر (بأبي أنت وأمّي) متعلق بمقدر ولحذفه أبدل من ضميره المتصل ضمير منفصل وحذفت الجملة لظهور المعنى حتى قيل الباء للتعدية وقد يذكر الفعل كقول الصديق فديناك بآبائنا وأمهاتنا أي أفديك بأبي وَأُمِّي (يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ بَعَثَكَ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ) أي في مقام الوجود. (وذكرك في أوّلهم) أي في أول بعضهم عند ذكرهم إجمالا أي في معرض الكرم والجود (فَقَالَ: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الأحزاب: 7] الآية) أي على ما سبق. (بأبي أنت وأمّي) أي أفديك بهما مرة بعد أخرى لأنك بذلك أولى وأحرى
__________
(1) في نسخة (غازيا) .(1/116)
(يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عنده) أي عند الله سبحانه (أنّ أهل النّار يودّون) أي يتمنون ويحبون (أنّ يكونوا أطاعوك وهم بين أطباقها) أي طبقات النار (يعذّبون يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرّسولا) أي فلم يصبنا هذا العذاب تمنوا حيث لا ينفعهم التمني من جميع الأبواب والرسولا بالألف مرسوم والجمهور على إثباتها وقفا ووصلا ومن جملة ما قال عمر رضي الله تعالى عنه بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بلغ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ جَعَلَ طَاعَتَكَ طاعته فقال من يطع الرسول فقد أطاع الله بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بلغ من فضيلتك عنده أن أخبرك بالعفو قبل أن يخبرك بالذنب فقال عفا الله عنك لم أذنت لهم بأبي أنت وأمي يا رسول الله لئن كان موسى بن عمران أعطاه الله حجرا يتفجر منه الأنهار فما ذاك بأعجب من أصابعك حين نبع منها الماء صلى الله تعالى عليه وسلم عليك بأبي أنت وأمي يا رسول الله لئن كان سليمان بن داود أعطاه الله الريح غدوها شهر ورواحها شهر فما ذاك بأعجب من البراق حين سرت عليه إلى السماء السابعة ثم صليت الصبح من ليلتك بالأبطح صلى الله تعالى عليك بأبي أنت وأمي يا رسول الله لئن كان عيسى ابن مريم أعطاه الله تعالى إحياء الموتى فما ذاك بأعجب من الشاة المسمومة حين كلمتك فقالت لا تأكلني فإني مسمومة صلى الله تعالى عليك وسلم بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ولو دعوت علينا لَهَلَكْنَا مِنْ عِنْدِ آخِرِنَا فَلَقَدْ وُطِئَ ظَهْرُكَ وَأُدْمِيَ وَجْهُكَ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُكَ فَأَبَيْتَ أَنْ تَقُولَ إلا خيرا وقلت اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ اتبعك في قلة سنينك وقصر عمرك ما لم يتبع نوحا في كثرة وطول عمره فلقد آمن بك الكثير وما آمن معه إلا قليل بأبي أنت وأمي يا رسول الله لو لم تجالس إلا الأكفاء ما جالستنا ولو لم تنكح إلا إلى الاكفاء ما نكحت إلينا ولو لم تواكل إلا الأكفاء ما واكلتنا لبست الصوف وركبت الحمار ووضعت طعامك بالأرض تواضعا منك صلى الله تعالى عليك وسلم. (قال قتادة) أي كما رواه ابن أبي حاتم في تفسيره وابن لال في مكارم الأخلاق وأبو نعيم في دلائله عنه مرسلا (إنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُنْتُ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الخلق) أي خلق روحه قبل أرواحهم أو في عالم الذر أو في التقدير بكتابته في اللوح أو ظهوره للملائكة (وآخرهم في البعث) أي لكونه خاتم النبيين، (فلذلك) أي فلأجل كونه أولهم خلقا (وقع ذكره مقدّما) أي في الآية السابقة (هنا قبل نوح وغيره) أي من أولي العزم فضلا عن غيرهم قال السهيلي واسم نوح عبد الغفار وسمي نوحا فيما ذكر لكثر نوحه على نفسه أو على قومه. (قال السّمرقندي) وهو الإمام أبو الليث من أئمتنا الجامع بين التفسير والحديث والفقه والتصوف (في هذا) أي في ذكر وقوعه مقدما (تفضيل نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم لتخصيصه بالذّكر قبلهم) أي إظهارا للكرم والجود (وهو آخرهم) أي بعثا كما في نسخة يعني أي والحال أنه آخرهم من جهة البعث والوجود. (الْمَعْنَى أَخَذَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ إِذْ أخرجهم من ظهر آدم كالذّرّ) وهو صغار النمل والمعنى أن للأنبياء ميثاقا خاصا بعد دخولهم(1/117)
في الميثاق العام المعنى به قوله تعالى أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى بتبليغ الرسالة وأخص من هذا الميثاق ميثاق الأنبياء اصالة وأممهم تبعا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لو فرض أنه وجد في أي زمان من الأزمنة لتبعه جميع الأنبياء وجميع أممهم من العلماء والأولياء والأصفياء فكأنهم تابعون بالقوة وعلى فرض وقوعه بالفعل والحاصل أنه تعالى قال للخلق في عالم الذر بعد قوله لهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى اعلموا أنه لا إله غيري وأنا ربكم فلا تشركوا بي شيئا فإني سأنتقم ممن أشرك بي وأني مرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي ومنزل عليكم كتبا فقالوا شهدنا أنك ربنا والهنا لا رب لنا غيرك فأخذ بذلك مواثيقهم ثم كتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم فنظر إليهم آدم فرأى فيهم الغني والحسن وغيرهما فقال يا رب لو سويت بينهم فقال إني احب أن أشكر فلما قررهم بتوحيده وأشهد بعضهم على بعض أعادهم إلى صلب آدم فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ ميثاقه وكان إعطاء الكافرين العهد إذ ذاك وهم كارهون على جهة التقية وقد وردت الأحاديث بهذا من طريق عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وغيرهما رضي الله تعالى عنهم وقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام أول من قال بلى فذلك قوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وفي قراءة ذريتهم أي أخرج ذريته بعضا من صلب بعض على ما يتوالدون واكتفى بذكر ظهورهم عن ذكر ظهره إذ كلهم بنوه وأخرجوا من ظهره وأشهدهم على أنفسهم أي أشهد بعضهم على بعض وأغرب الدلجي في أنه بعد ما ذكر الميثاق على الوجه المسطور المطابق لمذهب أهل السنة المؤيد بالأحاديث النبوية والآثار عن الصحابة مال إلى مذهب المعتزلة وتبع الزمخشري وسائر أهل البدعة حيث قالوا قوله تعالى أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى تخييل وتصوير للمعنى أي نصب لهم أدلة ربوبيته وأودع عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها فصاروا بمنزلة من قيل لهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شهدنا فنزل تمكينهم من العلم بها وتمكنهم من منزلة الإشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل انتهى (والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل) وفي كتاب القصص لوثمية بن الفرات يرفعه إلى أبي موسى الأشعري أنه قال لما خلق الله سبحانه وتعالى آدم عليه السلام قال له يا آدم فقال نعم يا رب قال من خلقك فقال أنت يا رب خلقتني قال فمن ربك قال أنت لا إله إلا أنت قال فآخذ عليك الميثاق بهذا قال نعم فأخرج الله سبحانه وتعالى الحجر الأسود من الجنة وهو إذ ذاك أبيض ولولا ما سوده المشركين بمسهم إياه لما استشفى به ذو عاهة إلا شفي به فقال الله سبحانه وتعالى امسح يدك على الحجر بالوفاء ففعل ذلك فأمره بالسجود فسجد لله سبحانه وتعالى ثم اخرج من ظهره ذريته فبدأ بالأنبياء منهم وبدأ من الأنبياء بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فأخذ عليه العهد كما أخذه على آدم ثم أخذ العهد على الأنبياء والرسل كذلك وأن يؤمنوا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وإن ينصروه أن أدركوا زمانه فالتزموا ذلك وشهد به بعضهم على بعض وشهد الله سبحانه وتعالى بذلك على جميعهم وأخذ بعد العهد على سائر بني آدم فسجدوا كلهم إلا الكافرين والمنافقين لم يطيقوا ذلك لصياصي(1/118)
خلقت في اصلابهم ثم أمر الله سبحانه وتعالى آدم فرفع رأسه ونظر إلى ذريته فرأى الأنبياء والعلماء كالسرج والكواكب فقال يا رب من هؤلاء قال هم الأنبياء والعلماء من ذريتك فقال يا رب ومن هؤلاء الذين اراهم بيض الالوان قال هم أصحاب اليمين وقد أعددت لهم الجنة والكرامة وخلقتهم سعداء قال ومن هؤلاء الذين أراهم سودا قال هم أصحاب الشمال وقد أعددت لهم الهوان وجعلتهم أشقياء فقال يا رب لو سويت بين خلقك أجمعين فقال يا آدم خلقت الجنة وجعلت لها أهلا وخلقت النار وجعلت لها أهلا ثم اختلفت العلماء في محل أخذ هذا العهد ففي كتاب الثعلبي أنه كان في السماء وأن الله سبحانه وتعالى أخرج آدم من الجنة ولم يهبط إلى الأرض فأخذ عليه وعلى ذريته العهد هنالك وفي تاريخ الطبراني أن الله سبحانه وتعالى أهبط آدم من السماء إلى نعمان وأخذ عليه وعلى ذريته هذا العهد هنالك ونعمان واد في طريق الطائف يخرج إلى عرفات وهو مفتوح النون ويقال له نعمان الإراك لكثرته به (وَقَالَ تَعَالَى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [البقرة: 253] الآية) الإشارة إلى من ذكرت قصصهم في السورة أو إلى كلهم المعهودين في العلم واللام استغراقية ثم فصله سبحانه وتعالى بقوله مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ بلا واسطة وهو موسى عليه الصلاة والسلام قيل ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فكلم موسى ليلة الحيرة في الطور ومحمدا ليلة المعراج في مقام النور حين كان قاب قوسين أو ادنى وقرئ كلم الله بالنصب وكالم الله إذ قد كلم الله كما أن الله كلمه ومن ثمه قيل كليم الله بمعنى مكالمه. (قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَرَادَ بِقَوْلِهِ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم) أي رفعه على سائر الأنبياء من وجوه متعددة ومراتب متباعدة ومنها أنه خص بالدعوة العامة (لأنّه بعث) أي بالحجج المتكاثرة والآيات المتعاقبة المتواترة والفضائل العلمية والفواضل العملية (إلى الأحمر والأسود) أي العرب والعجم لغلية الحمرة والبياض على ألوان العجم والأدمة والسمرة على ألوان العرب وقيل الجن والإنس، (وأحلّت له الغنائم) أي ولم تحل لأحد قبله (وظهرت على يديه المعجزات) أي الكثيرة، (وليس أحد من الأنبياء أعطى فضيلة) أي خصلة حميدة (أو كرامة) أي خارقة عادة (إلّا وقد أعطي محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم مثلها) أي مثل تلك الفضيلة أو الكرامة بل مع الزيادة لكن جنسا لا نوعا كانشقاق القمر في مقابلة انفلاق البحر لموسى عليه السلام وغير ذلك مما لا يعد ولا يحصى قيل وفي ابهام درجات تفخيم لجلال شأنه وتعظيم لعلي برهانه إذ هو العلم المعين لهذا الوصف المستغني عن التعيين عند أرباب اليقين. (قَالَ بَعْضُهُمْ وَمِنْ فَضْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خاطب الأنبياء بأسمائهم) أي كيا آدم ويا نوح ويا إبراهيم ويا موسى ويا عيسى (وخاطبه بالنّبوّة والرّسالة في كتابه) أي كلامه القديم وخطابه العظيم (فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ [الأحزاب: 1] ويا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ [المائدة: 67] ) بل وفد قال الله تَعَالَى لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً (وحكى السّمرقندي عن الكلبيّ) هو أبو المنذر هشام ابن محمد بن السائب الكلبي توفي في السنة التي مات فيها الشافعي رضي الله تعالى عنه(1/119)
وهي سنة أربع وثمانين ومائة كذا ذكره التلمساني (فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: * وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) [الصافات: 83] ) أي أتباعه (إِنَّ الْهَاءَ عَائِدَةٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ إِنَّ مِنْ شِيعَةِ مُحَمَّدٍ لإبراهيم أي على دينه. ومنهاجه) أي طريقه الواضح، (وأجازه الفرّاء) يروى وأجازه الفراء، (وحكاه عنه مكّيّ) ونسبه بعضهم إلى الكسائي أيضا فكان الله أخبر إبراهيم بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فآمن به وشايعه في دينه وعود الضمير على غير متقدم لفظا شائع سائغ كقوله تعالى حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ وإنما جعل منها لتقدمه عليه خلقا ونبوة كما يدل عليه حديث أنه حيث سئل مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ قَالَ وَآدَمُ بَيْنَ الروح والجسد وفي رواية وآدم منجدل في طينته وهذا أولى مما قيل في جواب الإشكال الوارد من أن المتعارف هو أن المتأخر في الزمان هو الذي يكون من شيعة المتقدم لكن قد جاء عن العرب عكس ذلك:
وما لي الا آل أحمد شيعة والسبب في هذا أن من كنت على منهاجه ودينه فقد كان على منهاجك سواء تقدم أو تقدمت، (وقيل المراد نوح) ويروى على نوح (عليه السّلام) وهو قول أكثر المفسرين كما هو الظاهر المتبادر من حيث تقدم مرجعه فإبراهيم ممن شائع في دينه لاتفاق شرعهما في الفروع غالبا وإن كان بينهما ألفان وستمائة وأربعون سنة ونبيان هود وصالح عليهما الصلاة والسلام كذا ذكره الدلجي.
الْفَصْلُ الثَّامِنُ [فِي إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقَهُ بصلاته عليه وولايته له]
(في إعلام الله تعالى خلقه) أي مخلوقه (بصلاته عليه وولايته له) بكسر الواو وقد يفتح وبهما قرئ قوله تعالى ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ من شيء والكسر قراءة حمزة من السبعة فتلحين الأصمعي قراءة الأعمش في هذه الآية بكسر الواو خطأ ظاهر وقوله إن الولاية بالكسر إنما هي في الإمارة والسلطان ونحوهما بصيغة الحصر مدفوع ولو سلم فالكسر مشترك في المعنيين والله أعلم وقيل بالفتح بمعنى النصرة وبالكسر تولى الأمر أي موالاته ونصرته له (ودفعه) مصدر مضاف إلى فاعله أي ودفع الله (العذاب بسببه) أي من أجله وجهته وفي نسخة رفعه بالراء واختاره الحلبي وهو تصحيف في مبناه وتحريف في معناه إذ الرفع لا يستعمل إلا بعد الوقوع ولذا قيل الدفع أهون من الرفع (قال تعالى) أي حين قال الكفار مبالغة في الإنكار اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: 33] ) بيان لما كان موجبا لإمهالهم مع علم الله سبحانه وتعالى بأقوالهم وأفعالهم (أي ما كنت بمكّة) أي مدة كونك فيها إذ جرت سنته تعالى أن لا يعذب قوما عذاب استئصال ما دام نبيهم بين اظهرهم ومن ثمة كان العذاب إذا نزل بقوم أمر نبيهم بالخروج بمن آمن وفيه تلويح بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر (فلمّا(1/120)
خرج النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم من مكّة) أي مهاجرا إلى المدينة، (وبقي فيها من بقي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَزَلَ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 33] ) وهو إما بمعنى وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر من المؤمنين ممن تخلف عن رسول الله من المستطيعين أو بمعنى نفي الاستغفار أي ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم وعن الحسن أن الآية منسوخة بقوله تعالى وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ والظاهر أن لا تنافي بينهما إذ النفي منصب على عذاب الاستئصال والإثبات محمول على غيره من الاسر والقتل وأنواع الخزي والنكال قال المنجاني وهذا التأويل قال به جماعة من المفسرين منهم ابن عباس والضحاك ومقتضاه أن الضمير في قوله سبحانه وتعالى معذبهم عائد على كفار مكة والضمير في قوله تعالى وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ عائد على المؤمنين الباقين بمكة بعد رسول صلى الله تعالى عليه وسلم أي وما كان الله ليعذب الكافرين والمؤمنون يستغفرون بينهم فتكون الآية على هذا نحوا من قوله تعالى وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ الآية وقوله تعالى لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا الآية أيضا وعلى هذا التأويل فالمؤمنون مفهومون من سياق الكلام وإلا فلم يتقدم لهم ذكر في الآية وأما التأويل الثاني الذي ذكر القاضي في هذه الآية بقوله. (وَهَذَا مِثْلَ قَوْلِهِ: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا [الْفَتْحِ: 25] الآية) أي وما ذكر مما دل على إمهالهم وتأخير العذاب في آجالهم لأجل من فيها من المؤمنين وتحسين أفعالهم وأقوالهم مثل قوله سبحانه وتعالى لَوْ تَزَيَّلُوا أي لو تفرقوا وتميز المؤمنون من الكافرين لعذبنا الذين كفروا منهم أي من أهل مكة عذابا أليما بالقتل والأسر. (وقوله) أي ومثل قوله تعالى (وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ [الفتح: 25] الآية) أي ونساء مؤمنات بمكة لم تعلموهم أي بأعيانهم لاختلاطهم بأهل كفرهم وطغيانهم أن تطؤوهم بدل اشتمال من رجال ونساء أو من ضمير هم في تعلموهم أي أن تدوسوهم فتهلكوهم ومنه الحديث آخر وطأة وطأها الله بعرج واد بالطائف فتصيبكم منهم معرة من عره إذا غشيه بمكروه أي فيغشاكم من جهتهم مكروه كوجوب الدية والكفارة بقتلهم والتأسف عليهم وتعيير الكفار لكم به والإثم بتقصيركم في البحث عنهم بغير علم حال أي أن تطؤهم غير عالمين بهم وجواب لولا محذوف لدلالة الكلام عليه والمعنى لولا كراهة أن تهلكوا مؤمنين ومؤمنات بين أظهر الكفار جاهلين به فيصيبهم مكروه بإهلاكهم لما كف أيديكم عنهم وقوله تعالى لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ علة لما دل عليه كف الأيدي عنهم صونا لمن فيها من المؤمنين أي كان ذلك لأجل أن يدخل الله في رحمته من يشاء من مؤمنيهم أو مشركيهم أو منهما بتوفيقه للإسلام أو لزيادة الخير والإنعام (فلمّا هاجر المؤمنون) أي من مكة (نَزَلَتْ وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْفَالِ: 34] ) أي وما يمنع من تعذيبهم بعد أن فارقتهم والمؤمنون وكيف لا يعذبون وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن اولياءة إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون (وهذا) أي ما ذكر في دلالة الآية على تأخير العذاب عنهم وهو فيهم (من أبين ما يظهر(1/121)
مكانته) أي من أظهر دليل يبين علو مرتبته ورفعة شأنه وعظمته (صلى الله تعالى عليه وسلم) لكل أحد عند ربه، (ودرأته) وقع بخط بعض الأكابر هنا درأ به على أنه فعل ماض وجار ومجرور أي دفع به والظاهر أنه تصحيف والصواب أنه بكسر الدال المهملة وسكون الراء وهمز وتاء أي ومن أبين ما يظهرها دفعه سبحانه (العذاب عن أهل مكّة بسبب كونه) أي وجوده المتضمن لكرمه وجوده فيهم لأنه بعث رحمة للعالمين (ثمّ كون أصحابه) بجر الكون عطفا على ما تقدم (بعده بين أظهرهم) أي بينهم وفي جوارهم فلفظ أظهرهم مقحم للمبالغة (فلمّا خلت مكّة منهم، عذّبهم) أي الله كما في نسخة (بتسليط المؤمنين عليهم) أي بتسليط رسوله إياهم وأبعد التلمساني حيث فسر التسليط بالقهر (وغلبتهم إيّاهم، وحكّم فيهم سيوفهم) بتشديد الكاف المفتوحة أي جعلها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حكما فيهم حدا وصفحا قتلا وقطعا وأسرا (وأورثهم أرضهم) أي مزارعهم (وديارهم) أي بيوتهم وحصونهم ومعاقلهم، (وأموالهم) أي نقدهم وأثاثهم ومواشيهم روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين فتكلم فيه الأنصار فقال لهم إن لكم منازلهم وروي أنه قال لهم أما ترضون أن الناس يرجعون بالأموال إلى بلادهم وأنتم ترجعون برسول الله إلى أهليكم وقال عمر رضي الله تعالى عنه أما تخمس كما خمست يوم بدر فقال صلى الله تعالى عليه وسلم لا إنما جعلت هذه لي طعمة وهذا صريح بأن مكة فتحت عنوة وعليه الإمام أبو حنيفة والأكثرون من أهل العلم وعن الإمام الشافعي أنها فتحت صلحا ومن ثمة كان يجيز إجارة دورها وبيعها بدليل حديث وهل ترك لنا عقيل من رباع لكن لا يخفى بعد وجه الاستدلال به وأبعد من قال فتح أعلاها صلحا وأسفلها عنوة، (وفي الآية) أي آية وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (أيضا تأويل آخر) وهو أن الضميرين راجعان إلى الكفار فيحتمل أن يكون وهم يستغفرون في موضع الحال بتقدير أن لو كان أي وما كان الله معذبهم وهم بحال توبة واستغفار من كفرهم لو وقع منهم واختاره الطبري وأن يكون إشارة إلى من سبق في علم الله أنه يؤمن منهم أو من ذريتهم أي وما كان الله معذبهم ومنهم من يخرج فيستغفر الله ويؤمن به واختاره الزجاج وأن يكون إشارة إلى قولهم في دعائهم غفرانك اللهم فجعله الله كما قال ابن عطية أمانا لهم من عذاب الدنيا كما قرره الدلجي والأظهر ما حرره المنجاني من أن التأويل الآخر الذي ذكره القاضي في هذه الآية مبني على أن الضميرين معا عائدان على المؤمنين لما أسنده القاضي من الحديث ليبينه به وهو قوله.
(حَدَّثَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ بقراءتي عليه) وهو الحافظ ابن سكرة كما سبق (قال حدّثنا أبو الفضل بن خيرون) بالصرف وعدمه فعلون من الخير ضد الشر قد تقدم ذكره، (وأبو الحسين) بالتصغير على الصحيح، (والصّيرفيّ) وهو المبارك بن عبد الجبار وتقدم ترجمته، (قالا) أي أبو الفضل وأبو الحسين كلاهما، (حدّثنا أبو يعلى ابن زوج الحرّة) بضم حاء مهملة وتشديد راء وقد سبق، (حدّثنا أبو عليّ السّنجيّ) تقدم أنه بكسر(1/122)
السين المهملة وسكون النون فجيم فياء نسبة، (حدّثنا محمّد بن أحمد بن محبوب المروزيّ) بفتح الميم والواو نسبة إلى مرو وهو أبو العباس راوي جامع الترمذي كما سبق (حدّثنا أبو عيسى الحافظ) أي الترمذي صاحب السنن، (حدّثنا سفيان بن وكيع) أي ابن الجراح يروي عن أبيه ومطلب بن زياد وعنه الترمذي وابن ماجه شيخ صدوق إلا أنه ابتلي بوراق سوء كان يدخل عليه فكلم في ذلك فلم يرجع مات سنة سبع وتسعين ومائة، (حدّثنا ابن نمير) بضم نون وفتح ميم وسكون ياء فراء يكنى أبو عبد الرحمن الهمداني الكوفي واسمه عبد الله يروي عن هشام بن عروة والأعمش وعنه ابنه وأحمد وابن معين حجة أخرج له الجماعة مات سنة أربع وثلاثين ومائتين (عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر) بكسر الجيم وهو أبو بشر الاسدي مولاهم البصري يروي عن أبيه وعدة وعنه أبو نعيم وطلق بن غنام ضغيف أخرج له الترمذي وابن ماجه (عن عبّاد بن يوسف) بفتح عين مهملة وتشديد موحدة وهو أبو عثمان الكندي ثقة وقيل ابن سعيد وقيل هو عبادة بن يوسف والأول أصح بصري ثقة روى عن أبي بردة وروى عنه إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر كذا ذكره التلمساني واضطرب كلام الحلبي فيه (عن أبي بردة) بضم الموحدة والصحيح أن اسمه عامر وهو قاضي الكوفة (ابن أبي موسى) يروي عن أبيه وعن علي والزبير وعنه بنوه عبد الله ويوسف وسعيد وبلال وحفيده بريد بن عبد الله وكان من النبلاء توفي سنة أربع ومائة أخرج له الجماعة (عن أبيه) وهو أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس بن سليم بضم ففتح أمير زبيد وعدن للنبي صلى الله عليه وسلّم وأمير البصرة والكوفة لعمر رضي الله تعالى عنهما روى عنه بنوه أبو بردة وأبو بكر وإبراهيم وموسى مناقبه جمة توفي سنة أربع وأربعين أخرج له الجماعة والحديث الذي أخرجه المؤلف هنا انفرد الترمذي بإخراجه من بين الستة ذكره في التفسير وقال غريب وإسماعيل يضعف في الحديث انتهى ويقويه أنه رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا وأبو الشيخ نحوه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه موقوفا أيضا، (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ أَمَانَيْنِ لِأُمَّتِي» ) يحتمل أمة الإجابة وهو ظاهر الآية ويحتمل أمة الدعوة وهو الملائم لعموم الرحمة بالأمنة (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) وهذه الأمنة ظاهرة في عمومهم (وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الْأَنْفَالِ: 33] ) وهذه الأمنة لائحة لخصوصهم ويؤيده قوله. (فإذا مضيت) أي انتقلت من دار الإكدار إلى دار القرار (تركت فيكم الاستغفار) أي فعليكم بالإكثار منه في الليل والنهار ولا يبعد أن يكون الاستغفار من الإبرار سببا وباعثا لدفع عذاب الاستئصال عن الكفار ويؤيده قوله، (ونحو منه) أي من هذا الحديث في المعنى، (قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) [الأنبياء: 107] ) لأن ما بعث به سبب لإسعادهم وموجب لصلاح معاشهم ومعادهم وكونه رحمة للكفار وأهل فسادهم أمنهم به من الخسف والمسخ وعذاب الاستئصال في بلادهم. (قال صلى الله تعالى عليه وسلم: أنا أمان لأصحابي) وفي(1/123)
لفظ أنا أمنة لأصحابي وهو حديث صحيح رواه مسلم عن سعيد بن بردة عن أبيه عن أبي موسى قال صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء فخرج علينا فقال: ما زلتم هنا قلنا: نعم فقال: أجدتم أو أحسنتم قال فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء فقال النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي وأمتي ما يوعدون قال المنجاني وفي لفظ هذا الحديث أمنة وفي الحديث الذي ذكره القاضي أمان ولعلهما روايتان في الحديث أقول أو نقل القاضي بالمعنى مع قرب المبنى إذ الأمنة بضم الهمزة والميم والأمن والأمان بمعنى واحد على ما ذكره المنجاني والظاهر أنه بفتحهما على ما في القاموس هذا ولعله صلى الله تعالى عليه وسلم أراد بذهاب النجوم انتثارها لقوله تعالى وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ وبإتيان السماء ما توعد انفطارها وتبديلها كما قال تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وبإتيان أصحابه ما يوعدون ما أنذرهم به من الفتن والارتداد وبإتيان أمته ما يوعدون ما أخبرهم به من ظهور البدع واختلاف الآراء والهرج وغلبة الروم وتخريب الكعبة وغير ذلك مما وقع أكثره وبقي ما لا بد من وقوعه وبكونه أمانا لأصحابه: (قيل من البدع) فلم يكن منهم من ارتكب بدعة بشهادة حديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، (وقيل من الاختلاف، والفتن) قال الدلجي وفيه ما فيه لكن يلزمنا الكف عما جرى بينهم بصدوره منهم اجتهادا بتأويلات صحيحة للمصيب أجران على اجتهاده وإصابته وللمخطئ أجر على اجتهاده بشهادة حديث الشيخين أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد انتهى وفيه ما فيه لأن ما جرى بينهم ما جرى منهم إلا بعد غيبته صلى الله تعالى عليه وسلم عنهم وارتفاع الأمان منهم وليس معنى قوله أمان لأصحابي أنهم في أمن من الفتنة إلى آخر أعمارهم بل مقيد بمدة كونه فيهم ولذا قال وإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون. (قال بعضهم: الرّسول صلى الله تعالى عليه وسلم هو الأمان الأعظم) أي لا غيره وإن كان أصحابه أيضا أمانا (ما عاش وما دامت سنّته) أي المستمرة المعتادة له (باقية) أي ثابتة موجودة وهي بالنصب خبر دام وما شرطية جزاؤها قوله (فهو باق) أي فهو صلى الله تعالى عليه وسلم باق حكما لبقاء حكمه في أمته (فإذا أميتت سنّته) أي عدمت وفنيت وتركت ولم يعمل بها أو عمل بخلافها (فانتظروا البلاء والفتن) الخطاب عام لما في نسخة فانتظروا البلاء وكان الأولى أن يقال فينتظر البلاء والفتن أي المحن الدنيوية والفتن الدينية وقيل المعنى فإذا أميتت سنته بموت أهلها فانتظروا البلاء والفتن بدليل حديث أن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم أو لم يبق عامل اتخذ الناس رؤساء جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56] الآية) تقدم بعض الكلام عليها؛ (أبان الله تعالى) أي أظهر وبين (فضل نبيّه(1/124)
صلى الله تعالى عليه وسلم بصلاته عليه) أي أولا تعظيما (ثمّ بصلاة ملائكته) أي ثانيا تكريما (وأمر عباده بالصّلاة والتّسليم عليه) أي بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً وفي نسخة وأمر عباده بالجر والإضافة عطفا على صلاته أي وبأمر عباده بهما عليه ثالثا بأن يقولوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ الخ على ما ورد في حديث الصلاة أو بأن يقولوا السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ كما في حديث التشهد وذلك يدل على وجوب الصلاة والسلام عليه في الجملة كلما ذكر لحديث رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ علي فدخل النار فأبعده الله وجوز الصلاة على غير ملك ونبي تبعا ويكره استقلالا لكونها في العرف شعارا لذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن ثمة كره أن يقول محمد عز وجل وإن كان عزيزا جليلا وقيل المراد بالتسليم هو الانقياد لأوامره (فالصلاة) أي مطلقا (من الملائكة ومنا) أي بني آدم (له دعاء) لحديث إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب وإن كان صائما فليصل أي فليدع ووقع في شرح الدلجي من الملائكة استغفار وهو الملائم لقوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا والظاهر أن الاستغفار على ظاهره وقوله تعالى وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ عام اريد به خصوص المؤمنين إذ لا يجوز الاستغفار للكافرين إلا بقصد طلب إيمانهم المستلزم استحقاق المغفرة في شأنهم وقال الدلجي أي بسعيهم فيما يستدعي المغفرة من شفاعة وإلهام وإعداد الأسباب المقربة إلى الطاعة وذلك في الجملة يعم المؤمن والكافر وحيث خص به صلى الله تعالى عليه وسلم فالمراد به السعي فيما يليق بجنابه (ومن الله تعالى رحمة) أي رحمة عظيمة أو رحمة خاصة جسيمة والمراد من الرحمة الإحسان وإرادة الانعام لاستحالة معناها الذي هو رقة القلب في حق الرب سبحانه وتعالى (وقيل يصلون) أي معناه (يباركون) من البركة وهي كثرة الخير أي يكاثرونه ويزايدونه عليه ذكره الدلجي والظاهر أن معنى يباركون يدعون له بالبركة في ذاته وصفاته وأهل بيته واتباعه من أمته وحيث كانت المغايرة ظاهرة بين الصلاة والبركة قال المصنف (وقد فرق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين علم) أي أصحابه (الصلاة عليه بين لفظ الصلاة والبركة) في حديث قد أمرنا أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك فقال قولوا اللهم صلى عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ على إبراهيم وعلى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبراهيم إنك حميد مجيد والأظهر أن يراد بقوله يصلون يعظمون ويثنون عليه ليشمل جميع الألفاظ الواردة التي من جملتها الترحم ونحوه (وسنذكر حكم الصلاة عليه) أي هل هو فرض أو سنة وهل هو فرض عين أو كفاية وما يتعلق بالمسألة من الفروع والأدلة (وقد حكى أبو بكر بن فورك) بضم الفاء وفتح الراء وهو غير منصرف للعلمية والعجمة وقيل منصرف هو إمام جليل فقها وأصولا وكلاما ونحوا ووعظا مع جلالة وورع زائد ومهابة وهو أصبهاني ومات شهيدا بالسم في سنة ست وأربعمائة ونقل إلى نيسابور ودفن بها قال ابن عبد الغفار يستجاب الدعاء عنده (أنّ بعض العلماء تأوّل) أي(1/125)
فسر (قوله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ على هذا) أي على هذا المعنى. (أَيْ فِي صَلَاةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ وَمَلَائِكَتِهِ وأمره الأمّة بذلك) أي بالصلاة عليه كما في نسخة (إلى يوم القيامة) واعلم أن قوله وقد حكي إلى هنا لم يثبت في الأصل الذي هو خط المؤلف القاضي وثبت في الأصل المروي عن أبي العباس الغرقي ثم اعلم أن القرة بمعنى السرور والفرحة وأصلها من القر بمعنى البرد يقال أقر الله عينه أي ابرد الله دمعته لأن دمعة الفرح باردة ودمعة الحزن حارة ثم أكثرا لأقوال وأظهرها أنها الصلاة الشرعية لما فيها من المناجاة وكشف المعارف وشرح الصدر وسيأتي الكلام بعد إن شاء الله تعالى. (وذكر بعض المتكلّمين) أي من المفسرين (في تفسير حروف كهيعص (1) [مريم: 1] أنها مأخوذة من كفاية الله وهدايته وتأييده وعصمته وصلاته عليه فزعم (أنّ الكاف من كاف) اسم فاعل من كفى يكفي (أي كفاية الله لنبيّه عليه الصلاة والسلام قال) أي الله سبحانه وتعالى (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] ) واستفهامه لإنكار النفي مبالغة في اثبات كفايته له والمراد بعبده عبده الخاص وهو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فالإضافة شخصية والمراد به الفرد الأكمل والإضافة للجنس أو المراد جميع عباده أو خواصهم من انبيائه وأوليائه وينصره قراءة حمزة والكسائي عباده بلفظ الجمع وهو صلى الله تعالى عليه وسلم يدخل فيهم دخولا أوليا وقيل في الكاف إشارة إلى أنه الكافي في الإنعام والانتقام لعموم الأنام وقيل الكاف إشارة إلى أنه الكاتب على نفسه الرحمة (والهاء) بالنصب ويجوز رفعه (هدايته له) أي هداية الله لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وكان الأنسب أن يقال والهاء من هادي أي هِدَايَتُهُ لَهُ (قَالَ: وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً [الْفَتْحِ: 2] ) أي يدلك بلطفه إلى طريق دينه أو إلى تبليغ الرسالة وإقامة مراسم الرياسة (والياء تأييده له قال أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ [الأنفال: 62] ) أي قواك بنصرته على اعدائك والأولى أن يقال الياء إشارة إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ أو إيماء إلى يسر المنحة بعد المنحة أو إلى يده المبسوطة بالرحمة على نبي هذه الأمة أصالة وعلى أتباعه تبعية لئلا يرد عليه ما ذكره المنجاني من أن صاحب هذا القول إن أراد أن هذه حروف أخذت من أوائل هذه المصادر على ما تقدم من اقتصار العرب على أول حرف من الكلمة فإن لفظ التأييد ينقض عليه لأن فاءه همزة لا ياء وإنما الياء عينها وإن أراد أنها أحرف أخذت من هذه المصادر سواء كان كل حرف منها فاء الكلمة أو عينها فهو قول خارج عن القياس الصناعي (والعين عصمته له قال تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] ) أو إشارة إلى علمه بحاله في سره وجهره قال عز وعلا وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (والصّاد صلاته عليه قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56] ) أي يثنون شأنه ويعظمون برهانه أو إيماء إلى اسمه الصادق في وعده والصبور في وعيده ثم اعلم أن أوائل الصور على القول المعتبر من المتشابه الذي لا يعلم حقيقته والمراد به إلا الله سبحانه وتعالى وقيل إشارة للإعجاز بالقرآن وقيل إشارة لأسماء الله وقيل(1/126)
لاسماء رسوله وقيل بيان لمدة الأمة المحمدية وجملة ذلك ثلاثون سنة ومائتان وأربعة آلاف وإن أسقط المكرر فتسعمائة وثلاثة وهو الأقرب لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعث في الألف السابعة وروى جعفر بن عبد الواحد القاضي حديثا يرفعه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال إن أحسنت أمتي فبقاؤها يوم من أيام الآخرة وإن أساءت فنصف يوم وذلك خمسمائة وروي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال الدنيا سبعة آلاف سنة بعث في آخرها الفا وهو ضعيف وروي موقوفا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الدنيا سبعة أيام كل يوم منها ألف سنة وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم منها ويدل عليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين يعني الوسطى والسبابة وقد ورد عن علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه أنه كان يقول في دعائه اغفر لي يا كهيعص فيحتمل أن يكون كهيعص عند علي رضي الله تعالى عنه اسما لله تعالى بجملتها ويحتمل أن يريد نداء الله سبحانه وتعالى بجميع اسمائه التي تضمنتها كهيعص من كاف وهاء ونحو ذلك (وقال تعالى: وَإِنْ تَظاهَرا) وقرأ الكوفيون بالتخفيف والخطاب لعائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهما أي وإن تتعاونا (عَلَيْهِ أي على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالمكر والحيلة في قضية مارية والغل لديه وبسائر مما يسوؤه فإنه لن يضره ولن يعدم من ينصره (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ الآية مولاه أي وليّه) يعني ناصره ومتوليه فيما أولاه (وجبريل) هو رسول الحق إليه يعينه فيما هو عليه (وصالح المؤمنين قيل الأنبياء) يعني والمرسلون (وقيل الملائكة) أي المقربون فيكون تعميما بعد تخصيص لكن فيه أنه يتكرر مع قوله تعالى والملائكة بعد ذلك ظهير أي متظاهرون عليه (وقيل أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما) أي وأمثالهما من أكابر الصحابة لما ذكر الماوردي أنهم أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وقيل عليّ رضي الله عنه) أي ونحوه من أهل البيت وأقاربه (وقيل المؤمنين) أي جميعهم (على ظاهره) بناء على أن كل مؤمن بظاهره صالح والأظهر أن يقال المراد وصالح المؤمنين من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين والخلفاء الراشدين وسائر الصحابة من السابقين واللاحقين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وصالح بغير واو وهو مفرد أو جمع حذف منه الواو لفظا فحذف رسما وأما تعليل التلمساني بقوله وسره دلالة السرعة في النصرة لأن مدة الواو تفيد مدا وبعدا ولا كذلك حذفها فهو في غاية البعد هذا وإن صح حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال هم أبو بكر وعمر وكان بينة صدق لكونهما المراد به في القول الصدق أو ذكرهما مثلا والمراد به أمثالهما والله تعالى أعلم بكتابه ورسوله ببيان خطابه وقد ورد عن علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه أنه كان يقول في دعائه اغفر لي يا كهيعص كما سبق ثم اعلم أنه ورد في صحيح البخاري أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال مكثت أريد أن اسأل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عن آية سنة فما استطيع أن اسأله هيبة له حتى خرج حاجا فخرجت معه فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق عدل(1/127)
إلى الاراك لحاجة له فوقفت له حتى فرغ ثم سرت معه فقلت له يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أزواجه قال تلك حفصة وعائشة رضي الله تعالى عنهما قال فقلت والله إني كنت لاريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما استطيع هيبة لك قال فلا تفعل ما ظننت أن عندي منه علما فاسألني فإن كان لي علم أخبرتك به هذا وذهبت طائفة من العلماء إلى أن ذلك كان في قضية مارية القبطية وذلك أن المقوقس أهداها إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سرية فلما كان بعض الأيام وهو يوم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما جاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مارية فواقعها فجاءت حفصة فوجدتهما فأقامت خارج البيت حتى أخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مارية وذهبت فدخلت خفصة غير متغيرة فقالت يا رسول الله أما كان في نسائك أهون عليك مني أفي بيتي وفراشي فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مرضيا لها أيرضيك أن أحرمها فقالت: نعم قال: فإني قد حرمتها ثم قال لا تخبري بهذا أحدا وخرج عنها فقرعت الجدار الذي بينها وبين عائشة وأخبرتها بذلك لتسرها ولم تر في افشائه لها حرجا واستكتمتها ذلك فنزلت الآية وهي قوله تعالى وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً إلى قوله تَعَالَى وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ واختلفوا هل حرمها بيمين أو لا على قولين فقال قتادة والحسن والشعبي حرمها بيمين وقال غيرهم لم يحرمها بيمين ويروى ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذهبت طائفة إلى أن تظاهرهما عليه إنما كان في قصة شربه صلى الله تعالى عليه وسلم العسل في بيت زينب بنت جحش وذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يمكث عندها فتسقيه عسلا قالت عائشة رضي الله عنها فتواطأت أو قالت فتواصيت أنا وحفصة على أن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير أو أكلت مغافير وهو شجر كريه الرائحة فدخل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على إحديهما فقالت له ذلك فقال بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له واستكتمتها ذلك فأخبرت به عائشة فنزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ يعني العسل لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم ولن أعود له إلى قوله سبحانه وتعالى إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ الآية والوجه الأول هو قول أكثر العلماء وروي مرسلا عن زيد بن أسلم من طرق صحاح رواه ابن وهب عن مالك رضي الله تعالى عنه قال حرم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أم إبراهيم رضي الله عنهما فقال هي حرام فأنزل الله في ذلك سورة التحريم وأما الوجه الثاني فبه تواردت الأحاديث الصحيحة وأخرجه البخاري عن عبيد بن عمير عن عائشة رضي الله تعالى عنها بنحو ما سبق وقال فيه إنه شرب عند زينب عسلا كما تقدم وجاء في صحيح مسلم أنه شرب عند حفصة وأن اللتين تظاهرتا عليه هما عائشة وسودة رضي الله تعالى عنهما وأكثر المحدثين على ما في البخاري والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/128)
الْفَصْلُ التَّاسِعُ [فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْفَتْحِ مِنْ كراماته عليه السلام]
(فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْفَتْحِ مِنْ كَرَامَاتِهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) اعلم أن سورة الفتح نزلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في منصرفه من الحديبية سنة ست من الهجرة وهو متوجه إلى المدينة فهي على هذا في حكم المدني وقد قيل بل نزلت بالمدينة وعلى بعضها نزل بها وقد ثبت في فضلها حديث لقد أنزل الله علي سورة هي أحب إلي ما طلعت عليه الشمس أي شمس الوجود (قال الله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا) أي بعظمتنا (لَكَ) أي لا لغيرك أو لأجلك (فَتْحاً مُبِيناً [الفتح: 1] ) أي ظاهرا (إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] ) ومعناه قوله سبحانه تعالى وهو القاهر فوق عباده وكثير من السلف وبعض الخلف على أن الله سبحانه وتعالى يدا لا بمعنى الجارحة بل إنها صفة له تعالى على وجه يليق بذاته وكذا قالوا في الاستواء وسائر آيات المتشابه وأحاديث الصفات ثم ما بينهما سيأتي مبينا وفي اثناء الكلام معينا وقد اختلف في هذا الفتح قال كثير إن هذا هو ما اتفق له صلى الله تعالى عليه وسلم في طريق الحديبية من التيسير واللطف وذلك أن المشركين كانوا إذ ذاك أقوى من المسلمين فيسر الله سبحانه أن وقعت بينه وبينهم المصالحة ريثما يتقوى صلى الله تعالى عليه وسلم واتفق له بعد ذلك بيعة الرضوان وهي الفتح الأعظم واستقبل صلى الله تعالى عليه وسلم فتح خيبر فامتلأت أيدي أصحابه خيرا ولم يشترك فيه مع أهل الحديبية احد ممن تخلف منهم ثم ما وقع في ذلك الوقت من الملحمة التي كانت بين الروم وفارس فظهرت فيها الروم وكان ذلك فتحا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واصحابه لانهضام شوكة الكفر العظمى ولأنه صلى الله تعالى عليه وسلم علم كونه فتحا له من سورة الروم فكانت هذه كلها من جهة الفتح الذي جاءت الآية منبهة عليه وقد ذكر ابن عقبة أنه لما كان صلح الحديبية ونزلت الآية قال رجال من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والله ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصد هدينا فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالرواح عن بلادهم ويرغبوا إليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين وهو أعظم الفتوح فقال المسلمون صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح يا رسول الله وأنت أعلم بالله وبأمره منا وذهب بعض المفسرين إلى أن الفتح في الآية إنما هو إشارة إلى فتح بمكة فمعنى فتحنا على هذا قضينا وقدرنا والأظهر إن فتح الحديبية كان سببا لفتح مكة وذهب بعضهم إلى أن الفتح في الآية إنما هو الهداية إلى الاسلام أي على الوجه العام ومال الزجاج إليه واستحسنه لإمكان الجمع بالحمل عليه قال المصنف (تضمّنت هذه الآيات) أي الواردة في صدر السورة (من فضله) أي من جملة فضائله (وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَكَرِيمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ونعمته لديه ما) أي الذي أو شيئا (يقصر(1/129)
الوصف عن الانتهاء إليه) أي لقصور إحاطة العلم به (فابتدأ جلّ جلاله بإعلامه) أي بإعلام الله نبيه (بما قضاه له من القضاء البين) أي بما حكم له وقدره من الفتح المبين حيث قال إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً أي إنا قضينا لك على أهل مكة أن تدخلها من قابل عام الحديبية (بِظُهُورِهِ وَغَلَبَتِهِ عَلَى عَدُوِّهِ وَعُلُوِّ كَلِمَتِهِ وَشَرِيعَتِهِ) أي طريقته وفي نسخة شيعته أي أمته بعد صده بها عنها وهذا قول آخر للمفسرين مغاير لما سبق من وجه أو هو وعد بفتح مكة كما تقدم وعبر بالماضي لتحققه أو بما اتفق له بعد نزولها كفتح خيبر وفدك أو بما ظهر له في الحديبية من آية عظيمة وهي أن ماءها نضب فلم يبق بها قطرة فتمضمض ثم مج فيها فدرت ماء حتى رووا كلهم (وأنّه) عطف على أعلامه أي وبأنه صلى الله تعالى عليه وسلم (مغفور له غير مؤاخذ) بالهمز ويبدل واوا وهو تأكيد لما قبله لتضمنه معناه (بما كان وما يكون) حيث قال لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ والمعنى لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك ولا يكون على هذا اثبات لوقوع الذنب ثم غفرانه خلافا لما يتوهم من كلام المصنف (قَالَ بَعْضُهُمْ أَرَادَ غُفْرَانَ مَا وَقَعَ وَمَا لم يقع أي أنّك مغفور لك) أي مما يصح أن يعاتب عليه لما في قوله تعالى لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى والأظهر أن في الآية إيماء إلى أن العبد ولو وصل إلى أعلى مرتبته المقدرة لم يحصل له استغناء عن المغفرة لقصور الأطوار البشرية في القيام بحق العبودية على ما اقتضته الربوبية وقيل عد الاشتغال بالأمور المباحة والتفكر بالهمة في مهمات الأمة سيئات من حيث إنها غفلة عن مرتبة الحضرة في الجملة ولذا قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين ثم قوله تعالى لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ علة للفتح من حيث إنه مسبب عن جهاد الكفار والسعي في إعلاء دينه وإزاحة شرك الأغيار وتكميل النفوس الناقصة إجبارا واعتبارا ليصير ذلك بالتدريج اختبارا وتخليص الضعفة من أيدي الظالمة اختيارا (وقال مكّيّ جعل الله المنّة) أي العطية والامتنان بالفتح أو بالهداية إلى الإسلام (سببا للمغفرة وكلّ) أي من المنة والهداية والمغفرة حاصل (من عنده) أي لقوله سبحانه وتعالى قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (لا إله غيره) أي حتى يكون قضاء شيء من عنده ويروى لا إله إلا هو (منّة) أي عطية وامتنانا حال أو مفعول مطلق (بَعْدَ مِنَّةٍ وَفَضْلًا بَعْدَ فَضْلٍ ثُمَّ قَالَ) أي الله عز وجل (ويتمّ نعمته عليك) أي بجمعه لك النبوة والملك وظهور دينك وفتح البلاد عليك وغير ذلك ومنها قوله، (قيل بخضوع من تكبّر لك) متعلق بخضوع والمعنى بتواضع من تكبر عليك لأجلك بالانقياد لك والخضوع والخشوع بين يديك والتذلل إليك وفي نسخة بِخُضُوعِ مَنْ تَكَبَّرَ عَلَيْكَ (وَقِيلَ بِفَتْحِ مَكَّةَ والطّائف) أي وإقبال أهلهما إليك طوعا وكرها (وَقِيلَ يَرْفَعُ ذِكْرَكَ فِي الدُّنْيَا وَيَنْصُرُكَ وَيَغْفِرُ لك) بصيغ الأفعال تفسير على وفق المفسر وهو قوله ويتم وهو الأظهر وقال التلمساني بباء الجر وكلها مصادر ويجوز الفعل وكذا قال الحجازي ويروى برفع ذكرك وبنصرك وغفر لك بالموحدة وتنوين الأخير انتهى وفيه أن الغفر بمعنى المغفرة قليل(1/130)
الاستعمال ثم هذه أقوال تناولها عموم الآية ولا مرجح لها فالأولى حملها على عمومها ثم مجمل هذه الأقوال ومحصل هذه الأحوال ما ذكره المصنف بقوله (فأعلمه) أي الله سبحانه (بتمام نعمته عليه) الأول بإتمام نعمته أي بإكمال إنعامه وإحسانه إليه (بخضوع متكبّري عدوّه له) الباء متعلق بنعمته أو بدل مما قبله أو بمعنى من البيانية له ولما بعده أي من تواضع أعدائه المتكبرين عليه سابقا غاية التواضع ولاحقا (وفتح أهمّ البلاد عليه) لأن مكة كانت صقع المشركين وكانت العرب إنما تنتظر بالإسلام ما يكون من أهل مكة مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فإن اسلموا اسلموا فكانت مكة لهذا المعنى أهم البلاد لأن إسلام أهلها يستلزم إسلام جميع المشركين أو أكثرهم ولهذا أكثر المسلمون بعد فتح مكة ودخلوا في دين الله أفواجا وفي نسخة أسنى البلاد أي أفضلها لكون القبلة فيها ومعدن النبوة بها وهي أم القرى ويتبعها ما حولها (وأحبّها له) أي على الإطلاق وإنما صارت المدينة أحب من سائر البلاد إليه بعد خروجه منها كما هو ظاهر حديث اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي فاسكني أحب البقاع إليك فأسكنه المدينة كما أخرجه الحاكم في مستدركه إلا أن في سنده عبد الله المقبري وهو ضعيف جدا فلا يصلح لاستدلال المالكية لأفضلية المدينة ومما يدل على قول الجمهور في أفضلية مكة ما رواه الزهري عن أبي سلمة عن عبد الله بن عدي الحمراء وفي رواية عن أبي هريرة يرفعه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين خرج إلى الهجرة هو وأبو بكر رضي الله تعالى عنه وقف ينظر إلى البيت ثم قال والله إنك لأحب أرض الله إلي وإنك لأحب ارض الله إلى الله ولولا إن أهلك أخرجوني ما خرجت وما جاء في حديث آخر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لمكة ما أطيبك من بلد وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك فاندفع بهذا ما قيل من أن الأحب لا يعارض الأفضل خصوصا بحسب الجبلة الطبيعية (ورفع ذكره) أي مما نشأ عليه كله من نصره إياه على عدوه فعمومها شامل له بخصوصه وهو بالجر عطف على ما قبله وأما قوله (وهدايته الصّراط المستقيم) وكذا ما بعده فبالجر إلا أنه عطف على تمام أي وأعلمه بهدايته إلى الصراط المستقيم أي بقوله وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وهو بالصاد والسين وإشمام الزاء في السبعة وبالزاء الخالصة في الشاذة والهداية يتعدى بنفسه تارة كقوله تعالى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وبإلى أخرى كقوله تعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وباللام أيضا ومنه قوله سبحانه وتعالى إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (المبلّغ الجنّة والسّعادة) بكسر اللام المشددة ويجوز تخفيفها نعت للصراط أي الموصل إلى أسباب الجنة وأبواب السعادة وأصناف السيادة (ونصره النّصر العزيز) بقوله تعالى وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً أي نصرا غالبا قويا فيه عز ومنعة وقوة وشوكة ظاهرة وباطنة أو نصرا يعز به المنصور فوصف بوصفه للمبالغة وقال المنجاني عزيز في هذه الآية بمعنى معز كأليم بمعنى مؤلم وحبيب بمعنى محب فنصر معز وهو المتضمن لغلبة العدو(1/131)
وقهره ونصر لا بهذه الصفة وهو المتضمن لدفع أذى العدو فقظ (ومنّته) أي وأعلمه بامتنانه (على أمّته المؤمنين بالسّكينة) أي بإنزال السكينة (والطّمأنينة) عطف تفسير وهو بضم أوله وبهمز ويسهل فيبدل مصدر اطمأن سكن ويروى الطمأنينة والسكينة قيل السكينة هي الرحمة وقيل الوقار والرزانة وقيل الإخلاص والمعرفة (التي جعلها الله في قلوبهم) بقوله تعالى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أتي يقينا مع يقينهم برسوخ العقيدة أو ليزدادوا إيمانا بالشرائع المجددة اللاحقة مع إيمانهم بالأحكام المقررة السابقة لأن حقيقة الإيمان وهي التصديق غير قابلة للزيادة والنقصان عند أرباب التحقيق والله ولي التوفيق (وبشارتهم) بكسر الباء بمعنى ما يسر به أي وأعلمه ببشارة أمته (بما لهم) أي عند ربهم كما في رواية (بعد) بضم الدال أي بعد حالهم (وفوزهم) أي نجاتهم وظفرهم (العظيم) أي في مآلهم (والعفو عنهم) أي المحو لعيوبهم (والسّتر لذنوبهم) أي فيما جرى لهم والستر بالفتح مصدر وبالكسر اسم بقوله تعالى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً واللام علة لما دل عليه قوله تعالى وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من التدبير وحسن التقدير أي دبر ما دبر من تسليط المؤمنين على الكافرين ليعرفوا نعمة ربهم ويشكروها فيدخلوا الجنة ويتنعموا بما فيها (وهلاك عدوّه) أي أعداء النبي والمؤمنين (في الدّنيا والآخرة ولعنهم) أي طردهم (وبعدهم من رحمته وسوء منقلبهم) بفتح اللام أي قبح انقلابهم أي سوء مرجعهم ومصيرهم والمعنى أنه أعلمه ذلك بقوله تعالى وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وظنهم هو أن لا ينصر الله رسوله والمؤمنين وعليهم دائرة ما ظنوه وتربصوه بالمؤمنين لا يتجاوزهم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم السين في دائرة السوء لا في مطلق السوء على ما في الجلالين وهما لغتان (ثمّ قال) أي الله سبحانه وتعالى: (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) أي مزكيا للأصفياء أو مشاهدا للقاء في مقام البقاء (وَمُبَشِّراً) أي للمؤمنين الأحباء بما يحبونه (وَنَذِيراً [الفتح: 8] ) للكافرين الأعداء بما يكرهونه وهي أحوال مقدرة وردت ببعض ما أوتيه مخبرة (الآية) كما سيأتي (فعدّ) أي الله تعالى بذلك (محاسنه) أي فضائله الحسنة (وخصائصه من شهادته على أمّته لنفسه بتبليغه الرّسالة لهم) أي بخلاف سائر الأنبياء فإنه لا تقبل شهادتهم على أممهم لأنفسهم بل يحتاجون إلى أن هذه الأمة يشهدون على الأمم بتبليغ أنبيائهم لهم كما تقدم بيانه (وقيل شاهدا) أي يشهد يوم القيامة (لهم بالتّوحيد) أي بتوحيدهم لله (ومبشّرا لأمّته) أي ويبشرهم (بالثّواب) أي في دار النجاة (وقيل بالمغفرة) أي يبشر أحباءه بحسن المآب (ومنذرا عدوّه) أي يخوف أعداءه (بالعذاب وقيل) أي في معنى منذرا (محذّرا) أي يحذر أمته (من الضّلالات) أي من أنواع الضلالة التي هي الكفر والفسق والبدعة (ليؤمن بالله) أي حق الإيمان (ثمّ به) أي برسوله(1/132)
(من سبقت له من الله الحسنى) أي المنزلة الأسنى وهي الجنة العليا أو المثوبة الحسنى ويدل عليه قوله تعالى (ليؤمنوا بالله ورسوله) (ويعزّروه) أي يمنعوه ويحرسوه من أعدائه (أي يجلّونه) وهو من الإجلال أي يعظمونه وإثبات النون بناء على أصله قبل دخول لام الأمر على مفسره (وقيل ينصرونه) أي على عدوه في الجهاد أو في الاجتهاد في نصرة دينه (وَقِيلَ يُبَالِغُونَ فِي تَعْظِيمِهِ وَيُوَقِّرُوهُ أَيْ يُعَظِّمُونَهُ) الأظهر أن يقال يهابونه ويكرمونه ويخدمونه ويعدونه من أهل الوقار (وقرأه بعضهم) أي من قراء الشواذ وقد نسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (ويعزّزوه بزاءين) بالياء بعد الألف وبالهمز وكلاهما صحيح ذكره التلمساني والثاني غير صحيح لأن الفرق المعروف بين الراء والزاء بالياء في الثاني وبتركه في الأول فتأمل ولذا لم يقل بالزاء المعجمة لاستغنائه بالصورة عن القيد ولا راء مهملة لما تقدم والله تعالى أعلم (من العزّ) أي العزة والتفعيل للتكثير والمبالغة والمعنى يعززوه غاية العزة وأما جمهور القراء فقراءتهم بضم أوله وكسر الزاء مشددة وبعدها راء وقرأ الجحدري بفتح التاء وضم الزاء وكسرها وهو شاذ (والأكثر) أي القول الأكثر من المفسرين (والأظهر) أي من العلماء المعتبرين (أنّ هذا) أي قوله تعالى وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ أنزل (في حقّ محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) لأنه أقرب ذكرا فيرجع ضميراهما إليه ومما يدل عليه قوله تعالى فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ (ثمّ قال: وَتُسَبِّحُوهُ [الفتح: 8] ) أي ينزهوه أو يصلوا له (بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي نهارا وليلا (فهذا) أي ضمير يسبحوه (راجع إلى الله تعالى) ويؤيده أن أرباب الوقوف القرآنية جعلوا الوقف المطلق فوق قوله سبحانه وتعالى وَتُوَقِّرُوهُ إيماء إلى قطع ما قبله عما بعده وقيل الضمائر الثلاثة لله وأريد بتعزيره تعالى تقوية دينه وتأييد نبيه ثم اعلم أن ابن كثير وأبا عمرو قرآ بالغيبة في الأفعال الأربعة والباقون بالخطاب له ولأمته أو لهم تنزيلا لخطابه منزلة خطابهم فعلى الأول تقدير الآية أنا إرسلناك ليؤمنوا بالله وبك يا محمد وعلى الثاني تقديره ليؤمنن بك من آمن (وقال ابن عطاء جمع) بالبناء للمجهول لأن فاعله معلوم والمعنى اجتمع (للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه السّورة) أي سورة الفتح (نعم مختلفة) أي متعددة متكثرة أو مختلفة من حيث ذواتها وإن كانت من حيث صفاتها مؤتلفة (من الفتح المبين) من بيانيه للنعم المتقدمة (وهو) أي الفتح المبين (من أعلام الإجابة) بفتح همزة أعلام على أنه جمع علم بفتح اللام أي من علامات قبول إجابة الله، (لدعوته) صلى الله تعالى عليه وسلم إذ قد سأله النصر في مواطن كثيرة وفي الحديث من فتح له باب الدعاء فتح له باب الإجابة (والمغفرة) أي ومن المغفرة (وهي) أي المغفرة (من أعلام المحبّة) لقوله تعالى ردا لأهل الكتاب في محكم الخطاب وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ والمعنى أنكم لو كنتم احبائه لما عذبكم بذنوبكم كما يعذب أعداءه بل غفر لكم وأكثر عليكم عطاءه ونعماءه ومن المعلوم أن المحبة من الله تعالى إما أرادة إنعام أو نفس(1/133)
إحسان وإكرام لنزاهة ذاته القدسي عن الميل النفسي (وتمام النّعمة) أي ومن تمام النعمة (وهي من أعلام الاختصاص) أي منة له بما لم يؤته أحدا غيره كما يستفاد من قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي (والهداية) أي ومن الهداية (وهي من أعلام الولاية) أي التأييد والنصرة، (فالمغفرة) بالرفع مبتدأ (تبرئة) أي تنزيه منه له (من العيوب) أي عيوب الذنوب وفي نسخة تنزيه من العيوب وأما قول الحلبي وهو بكسر الراء المشددة ثم همزة مضمومة من البراءة فخطأ ظاهر في العبارة إذ الصواب أنه بفتح التاء وسكون الموحدة وبكسر الراء المخففة وفتح الهمزة مصدر برأه يبرؤه تبرئة على وزن تفعلة والذي ذكره إنما هو بضم الراء مصدر تبرأ منه وهو غير مناسب للمقام كما لا يخفى على العلماء الاعلام (وتمام النّعمة إبلاغ الدّرجة الكاملة) أي إيصاله تعالى له إلى درجة لا درجة فوقها، (والهداية وهي الدّعوة إلى المشاهدة) أي إلى الحضرة في مقعد صدق وقرب مكانة وكرامة لأقرب مكان ومسافة: (وقال جعفر بن محمّد) أي ابن علي بن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم (مِنْ تَمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ أَنْ جَعَلَهُ حَبِيبَهُ) أي اصطفاه وخصه بكرامة تشبه كرامة الحبيب عند محبه فالمحبة أصفى ود لأنها من حبة القلب بخلاف الخلة فإنها ود تخلل النفس وخالطها (وأقسم بحياته) أي في قوله تعالى لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ أي وحياتك يا محمد وتقديره لعمرك قسمي والعمر بفتح العين لغة في العمر بالضم خص به القسم ايثارا لخفته لكثرة دوران القسم على ألسنتهم (ونسخ به شرائع غيره) لقوله عليه الصلاة والسلام لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي (وعرج) بفتح الراء أي صعد (به إلى المحل الأعلى) أي المنزل الأعلى وهو بفتح الحاء وكسرها والأول أولى والمراد به مقام قاب قوسين أو أدنى (وحفظه في المعراج) أي عن مطالعة السوي والمعراج الدرجة وقيل سلم تعرج فيه الأرواح وجاء أنه أحسن شيء لا تتمالك الروح إذا رأته أن تخرج وأن تشخص بصر الميت من حسنه (حتّى ما زاغ البصر وما طغى) أي ما مال إلى الهوى ولا تجاوز عن المولى (وبعثه إلى الأسود والأحمر) أي إلى العرب والعجم أو الجن والإنس لقوله عليه الصلاة والسلام بعثت إلى الأحمر والأسود وفي رواية بعثت إلى الناس كافة ولقوله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ أي الا رساله عامة لهم محيطة بهم من الكف فإنها إذا عمتهم كفتهم عن أن يخرج منها أحد منهم (وأحلّ له ولأمّته الغنائم) لقوله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لأحد قبلي وفي رواية أحلت لنا الغنائم (وجعله شفيعا) أي يوم الجمع لجميع الخلائق (مشفعا) بتشديد الفاء المفتوحة أي مقبول الشفاعة في مقام محمود يحمده فيه الأولون والآخرون كما روي عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعا (وسيّد ولد آدم) أي وجعله سيد البشر ولما كان بعض أولاد آدم أفضل منه فيلزم منه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل من آدم عليه الصلاة والسلام بطريق البرهان الذي يسمى بالأولى ومنه قوله تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ أي فكيف الضرب(1/134)
بالكف وهو مقتبس من قوله عليه الصلاة والسلام أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر أي ولا أقول فخرا لنفسي بل تحدثا بنعمة ربي وتقييد يوم القيامة لأنه وقت ظهوره ونظيره الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ والحديث رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد مع زيادة وما من نبي آدم فمن سواه إلا تحت لوائي ولا فخر وفي رواية لمسلم وأبي داود مع زيادة وأول شافع وأول مشفع ولا فخر وفي البخاري أنا سيد الأولين والآخرين ولا فخر (وقرن) أي جمع ووصل (ذكره بذكره) كما يستفاد من قوله تعالى وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ومن قوله سبحانه وتعالى وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ (ورضاه برضاه) لقوله تعالى وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ (وجعله أحد ركني التّوحيد) أي المعتبر في الدين (ثمّ قال: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) أي يعقدون الميثاق معك على قتال أهل الشقاق (إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] ) لأنه المقصود بالبيعة بالاتفاق (يعني) أي يريد الله بهذه المبايعة (بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ أَيْ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ بِبَيْعَتِهِمْ إيّاك يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] ) استئناف مؤكد لما قبله (يريد) أي الله أن يده فوق أيديهم (عند البيعة) أي على طريق الخصوصية قال التلمساني قوله يريد عند البيعة صوابه معناه عند البيعة وإلا فالإرادة والعناية في كلام المخلوقين ولا ينبغي أن يقول المفسر يعني ولا يريد ولكن يقول من معناه أو يجوز أو يحتمل ونحو ذلك مما يجري على الألسنة (قيل) أي المراد بيد الله (قوّة الله) وقدرته والمعنى قوته وقدرته في نصر رسوله فوق قواهم وقدرهم وقد أشار الهروي في غريبه إلى هذا القول فيكون في الآية على هذا ذكر نعمة مستقبلة وعد الله بها نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وهي النصر له وعلى القول الذي بعده يكون فيما ذكر نعمة حاصلة قد شرف الله بها المبايعين واستعمال اليد أيضا في اللغة بمعنى القوة موجودة ومنه قوله تعالى أُولِي الْأَيْدِي أي أولي القوى (وقيل ثوابه) أي المترتب على مبايعتهم بأيديهم وانقيادهم في متابعتهم فاليد بمعنى النعمة (وقيل منّته) أي عطيته ومنه يقال لفلان على يد وفي الحديث اللهم لا تجعل لفاجر علي يدا يحبه قلبي وقد قال الشاطبي رحمه الله إليك يدي منك الأيادي تمدها والمعنى منته عليهم ونعمته لديهم ببيعتهم مما منحوه من العز في الدنيا والثواب في العقبى فوق منتهم عليك بمبايعتهم لك على أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم قال المنجاني وإليه ذهب أكثر المفسرين واستعمال اليد في اللغة بمعنى النعمة كثير ومنه قول الشاعر:
لجودك في قومي يد يعرفونها ... وأيدي الندى في الصالحين فروض
وإلى هذا المعنى يرجع قول من قال هي من الله سبحانه الثواب أعني اليد في الآية المثوبة من المبايعين الطاعة فإن الثواب من الله تعالى داخل تحت منته والطاعة منهم داخلة تحت ما يمتنون به وإلا فليس اليد في اللغة اسما للثواب ولا للطاعة (وقيل) أي المراد بيد الله (عقده) وفي نسخة عفوه وهو تصحيف وتحريف والمعنى أنه تعالى أوجد البيعة وأتم عقدها(1/135)
فاستعار لإيجاد عقدها اسم اليد من حيث كان الآدميون إنما يفعلونه بأيديهم وهو من باب إطلاق اسم السبب على المسبب وجاء قوله سبحانه وتعالى فَوْقَ أَيْدِيهِمْ مرشحا لهذه الاستعارة والأيدي من المبايعين على هذا هي الجوارح على حقيقتها ولذا قال المصنف، (وهذه) أي هذه الأقوال المختلفة المعاني في لفظ اليد هل هي على سبيل الاشتراك والحقيقة أو على سبيل النقل والمجاز والمختار أنها (استعارات) أي إطلاقات مجازية لمناسبات سببية (وتجنيس في الكلام) أي وتفنن في العبارات الإيمائية ولم يرد به التجنيس الصناعي وهو اتفاق اللفظ واختلاف المعنى على ما ذكره التلمساني وغيره بل اللغوي بمعنى المناسبة لأن العقد مثلا إذا أطلق عليه اسم اليد فإنما يراد التي بمعنى الجاحة فبينها وبين الأيدي في الآية مناسبة والمناسبة كما ذكره التلمساني ذكر الشيء مع ما يناسبه على جهة الاستعارة والتشبيه (وتأكيد لعقد بيعتهم إيّاه) أي من حيث إن بيعتهم معه صلى الله تعالى عليه وسلم كبيعتهم مع الله تعالى لا تفاوت بينهما فيده التي تعلو أيديهم هي يد الله تخييلا (وعظم شأن المبايع) بصيغة المفعول والمراد به محمد (صلى الله تعالى عليه وسلم) وقوله عظم بكسر العين وفتح الظاء مجرور عطفا على ما قبله أي وتأكيد لعظمة شأنه وفخامة سلطانه من حيث جعل بيعتهم له بيعتهم لله سبحانه كجعل طاعته طاعته (وقد يكون من هذا) أي من قبيل قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ (قوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) أي كفار بدر بنصركم وتسليطكم إياه (وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) أي بهما إذ هو الخالق للقتل وأسبابه وهم المباشرون له بقوة الله عند اكتسابه (وَما رَمَيْتَ) أي رميا يوصل التراب إلى أعينهم ولم تقدر عليه (إِذْ رَمَيْتَ) أي يومي بدر وحنين وجوههم صورة واكتسابا أو أخذا وإرسالا (وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: 17] ) أي حقيقة وتبليغا وأصابه فبلغ رميه تعالى منه حدا لم يبلغ رميك من إيصاله التراب إلى أعينهم جميعا فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه فانهزموا وتمكنتم منهم قتلا وأسرا (وإن كان الأوّل) يعني إن الذين يبايعونك وإن وصلية (في باب المجاز) أي أدخل في ذلك الباب والأظهر أن يقال من باب المجاز كما في أصل الدلجي وكذا قوله (وهذا) أي فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ الآية (فِي بَابِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْقَاتِلَ وَالرَّامِيَ بِالْحَقِيقَةِ) وروي في الحقيقة (هو الله وهو خالق فعله) أي فعل المباشر من قتله ونحوه (ورميه وقدرته عليه) أي إيجادا وإبداعا وهو القاتل مباشرة واكتسابا ومن ثم أسند الفعل إليه حقيقة أيضا كما أنه نفاه عنه أيضا لكن بين الحقيقتين بون بين وبيان ظاهر لمذهب أهل السنة والجماعة من أن العبد له نسبة الكسب في الحقيقة على الجملة والحاصل أنه سبحانه وتعالى وصف نفسه في هذه الآية بالقتل والرمي من حيث كونه هو الذي حصل أثرهما ومنفعتهما وإن كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه هم الذين قتلوا ورموا فهو على هذا من باب اطلاق السبب الذي هو القتل والرمي على المسبب الذي هو الأثر على الحقيقة ونسبة الفعل إلى غيره مجاز فلا تشبيه فيه لهذه الآية السابقة ولا تفريق بينهما فافهم (ومسببه) أي هو سبحانه وتعالى مسبب(1/136)
سبب فعل عبده وفي نسخة مشيئته أي ارادته كذا ذكر في حاشية وليس لها وجه ظاهر بل هو تصحيف كما لا يخفى (ولأنّه) أي الشأن (لَيْسَ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ تَوْصِيلُ تِلْكَ الرَّمْيَةِ حيث وصلت) أي إلى وجوههم فأعمت أبصارهم (حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَمْلَأْ) أي تلك الرمية (عينيه) أي ترابا (وكذلك قتل الملائكة لهم حقيقة) أي في الصورة الكسبية والإضافة النسبية مثل إسناد القتل إلى الأفراد البشرية وإنما احتاج إلى ذكرهم لئلا يتوهم أن القدرة الملكية ليست كقوى البشرية في الاحتياج إلى القوة الإلهية والقدرة السبحانية فإن المخلوقات بأسرها متساوية في مرتبة العبودية فاندفع بتحريرنا ما توهم الدلجي خلاف تقريرنا حيث قال وما أحق هذا بالتعجب لأن القاتل حقيقة أيضا بالنسبة إليهم هو الله وهو خالق فعلهم وقدرهم إيجادا وإبداعا وهم القاتلون مباشرة واكتسابا فلا خصوصية لهم بكون قتلهم حقيقة بدون إسناده إلى الله حقيقة انتهى وظهر لي وجه آخر أنه أراد بقوله حقيقة إنه وقع من الملائكة نوع من المباشرة في قتل الكفرة لا أنه إنما كان نزول المعركة لمجرد وصول البركة وحصول النصرة (وقد قيل في هذه الآية الأخرى) أي الأخيرة وهي قوله تعالى فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ الآية (إنّها على المجاز العربيّ) بالباء أي اللغوي أعني استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة بين المعنى المجازي والحقيقي وهي هنا السببية وفي نسخة العرفي بالفاء قال العلامة محمد بن خليل الانطاكي الحنفي في حاشيته المسماة بزبدة المقتفى اعلم أن المجاز أن تجوز مستعمله عن معنى وضع ذلك اللفظ له واضع اللغة فهو المجاز اللغوي كالأسد للشجاع وإن تجوز عما وضعه الشارع له وهو الله ورسوله فهو المجاز الشرعي كالصلاة للدعاء وإن تجوز عما وضعه طائفة معينة فهو المجاز العرفي الخاص كالفعل للحدث وإن لم تكن معينة فهو المجاز العرفي العام كالدابة للشاة (ومقابلة اللّفظ) أي وعلى مقابلة اللفظ (ومناسبته) أي له لما بينهما من العلاقة المؤذنة باستعمال ما وضع للسبب من اللفظ في مسببه (أي ما قتلتموهم) أي أيها الأمة حين قتلتموهم بآلات القتل (وما رميتهم أنت) أيها النبي (إذ رميت وجوههم بالحصباء) بالمد أي بالحصى أو بالأحجار الصغار يخالطها التراب (وَالتُّرَابِ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى قُلُوبَهُمْ بِالْجَزَعِ) أَيْ واوقع في صدورهم الرعب والفزع (أي أنّ منفعة الرّمي) أي وكذا فائدة القتل (كَانَتْ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ فَهُوَ الْقَاتِلُ وَالرَّامِي بالمعنى) أي الذي هو ابتلاهم بالرعب وإدخال التراب في أعينهم حتى انهزموا (وأنت) أي القاتل والرامي (بالاسم) أي من حيث مباشرتهما بالوسم وصورة المبنى وحذف قوله القاتل والرامي في الجملة الأخيرة للعلم به من الجملة المتقدمة إذ هو من دلائل الأوائل على الأواخر والله أعلم بالظواهر والضمائر والحاصل فيه ما حكي عن المهدوي وأوضحه هبة الله بن سلامة أن الرمي أخذ وارسال وتبليغ وإيصال فالذي اثبت الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم هو الأخذ والإرسال والذي نفى عنه وأثبته لنفسه هو التبليغ والإيصال والله تعالى أعلم بالحال ثم اعلم بطريق الانعطاف إلى(1/137)
القضية الأمنية أن السكينة لواقعة في الآية السكينة هي كناية عن تسكين نفوس المؤمنين بتحصيل اليقين وذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان أخبرهم حين توجه للحديبية بأنهم يدخلون مكة آمنين ويطوفون بالبيت لرؤيا كان رآها فذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنه خلق في نفوسهم ثقة بهذا وجعلها مستقرة في نفوسهم ومستمرة إلى أن يقع ما وعدهم به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ويشاهدوه معاينة فيزدادوا بذلك إيمانا مع إيمانهم وقد قضى الله أن يكون ما وعدهم به رسوله لأن رؤيا الأنبياء وحي ولكن في غير ذلك التوجه ولهذا لما انكشف أمر الحديبية عن الصلح قال بعض أصحابه يا رسول الله ألم تقل لنا انا ندخل مكة آمنين ونطوف بالبيت فقال لهم: بلى أفقلت لكم في عامي هذا فكان تحقق هذا في عام الفتح وإلى ذلك أشار الله سبحانه وتعالى بقوله لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ وجاء قوله سبحانه وتعالى في هذه الآية وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بأثر ذكر السكينة زيادة في تسكين نفوسهم وإشعارا بأن الله سبحانه وتعالى قادر على ما يشاء ثم عقب ذلك بوصفه نفسه بالعلم والحكمة أي فلا تستعجلوا ما وعدكم به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فإن الله يعلم في تأخير ذلك حكمة وهو معنى قوله تعالى فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً وقوله سبحانه وتعالى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أريد بهم الذين أنزل السكينة في قلوبهم فصدقوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث الترمذي بسند صحيح من رواية قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه قال نزل على رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ مرجعه من الحديبية فقرأها عليهم فقالوا هنيئا مريئا يا نبي الله قد بين الله لك ما يفعل بك فما يفعل بنا فنزل لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ والواو لمطلق الجمع وإلا فتكفير السيئة قبل إدخالهم الجنة هذا وقد ذكر المفسرون في قوله تعالى الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ معنيين أحدهما أنه كناية عن قولهم لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً والآخر أنه كناية عما يعتقدونه من صفات الله سبحانه وتعالى غير ما هي عليه فهو ظن سوء باعتبار أنه كذب وموصل لصاحبه إلى جهنم ودائرة السوء المصيبة السوء وسميت دائرة من حيث إنها تحيط بصاحبها كما تحيط الدائرة بمركزها على السواء من كل الجهات وإلى هذا مال النقاش في تفسيره وذهب بعضهم إلى أنها سميت دائرة لدورانها بدوران الزمان لأن الزمان لما كان يذهب ويجيء على ترتيب واحد صار كأنه مستدير ومنه حديث وإن الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السموات والأرض فكأن الخطوب والحوادث في طيه تدور بدورانه ثم سميت بيعة الحديبية بيعة الرضوان لقوله سبحانه وتعالى فيها لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وهي سمرة من شجرة العضاة وذهبت بعد سنين من الهجرة(1/138)
ومر عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خلافته بذلك الموضع فاختلف أصحابه في موضعها وكثر تشاجرهم في ذلك فقال عمر هذا هو التكلف سيروا واتركوها وكان الذين بايعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ألفا وأربعمائة في إحدى الروايتين عن جابر وألفا وخمسمائة في الرواية الأخرى عنه فبايعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أن لا يفروا قال جابر ولم يبايعوه على الموت وقال سلمة بن الأكوع في حديثه بايعناه على الموت وكلا الحديثين صحيح لأن بعضهم بايع على أن لا يفر ولم يذكر الموت وبعضهم بايع على الموت ولم يتخلف عن هذه البيعة أحد ممن حضر مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا الجد ابن قيس فإنه اختبأ تحت ناقته وكان عثمان رضي الله عنه غائبا بمكة وبايع عنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيده وقال هذه يد عثمان رضي الله عنه وكانت هذه البيعة بسبب غيبة عثمان عند ما شاع أن أهل مكة قتلوه وكان صلى الله تعالى عليه وسلم عندما توجه إلى مكة أراد أن يبعث رجلا إلى قريش يخبرهم أنه لا يريد حربا وإنما جاء معتمرا فبعث إليهم خراش بن أمية الخزاعي فلما وصل إليهم أرادوا قتله فمنعته الأحابيش قال ابن قتيبة في المعارف وهم جماعة اجتمعوا فتخالفوا أن يكونوا كلا على من سواهم والتحبش في كلام العرب التجمع وخلوا سبيل خراش حتى أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره بذلك فأراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يبعث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إليهم فقال عمر يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي وليس بمكة من عدي بن كعب من يمنعني وقد علمت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ولكن أدلك على رجل أعز بها مني عثمان ابن عفان رضي الله تعالى عنه فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عثمان فبعثه إلى أبي سفيان واشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت للحرب وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته فخرج عثمان إلى مكة فلقيه إياد بن سعيد بن العاص قبل أن يدخل مكة فترجل له وحمله على دابته وأجازه بالزاء فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم ما أرسله به فقالوا له حين فزع إن شئت أن تطوف بالبيت فطف فقال مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم واحتبسته قريش عندها تبره وتكرمه فاتفق أن خرج صارخ في عسكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد قتل عثمان فاغتم المؤمنون وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا نبرح إن كان هذا حتى نلقي القوم وأمر مناديه فدعا إلى البيعة وبلغ بعد ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن الذي كان من أمر عثمان باطل وجاء إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سالما فحمد الله على ذلك والمبايعة في الآية مفاعلة من البيع لأن الله سبحانه وتعالى باع منهم الجنة بأنفسهم وأموالهم وباعوه أنفسهم وأموالهم بالجنة وبقية قضية الحديبية في المواهب اللدنية.(1/139)
الْفَصْلُ الْعَاشِرُ [فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كتابه العزيز من كراماته عليه ومكانته عنده]
(فيما) أي في ذكر ما (أظهره الله تعالى في كتابه العزيز) أي المنيع الذي لا يعتري ساحة عزه إبطال وتحريف أو الكثير النفع العديم النظير اللطيف (من كرامته عليه ومكانته عنده) الأولى لديه (وما) أي وفي بيان (خصّه به من ذلك) أي الإكرام (سوى ما انتظم) أي غير ما دخل (فيما ذكرناه قبل) هو مبني على الضم مقطوع عن الإضافة أي قبل ذلك في الفصول السابقة من الفضائل المتقدمة (من ذلك) أي الذي أكرم به ولم ينتظم فيما ذكره قبل (ما نصّه الله تعالى) أي صرحه وفي نسخة قصه (من قصّة الإسراء في سورة سبحان) وفي نسخة في قصة الإسراء من سورة سبحان وهي غير صحيحة، (والنّجم) أي وفي سورته وقد سبق الكلام عليه، (وما انطوت) أي ومن ذلك ما اشتملت (عليه القصّة) أي القضية (من عظيم منزلته وقربه) أي قرب مكانته المفهوم من قوله تعالى دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (ومشاهدته) أي مطالعته (ما شاهد من العجائب) أي ما رآه من الغرائب المستفاد من قَوْلِهِ تَعَالَى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى كرؤية الأنبياء وتمثلهم له ووقوفه على مقاماتهم وعجائب الملكوت وغرائب الجبروت ومشاهدة الملائكة المقربين وحملة العرش والكروبيين ورؤية العرش المحيط بالسموات والأرضين ورؤية رب العالمين مع كون ذهابه وإيابه في برهة من الليل مسيرة ما لا يعلمه أحد من المهندسين وقد ورد أن ما بين الأرض وسماء الدنيا مسافة خمسمائة عام وكذا ما بين كل سماء وسماء وكذا غلظ كل سماء وجميع السموات والأرضين بجنب الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة وهو بجنب العرش كحلقة ملقاة في فلاة وقد تعجب قريش من ذلك وأحالوه ولا استحالة فيه عند أرباب العقول إذ ثبت عند الحكماء في علم الهندسة أن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة ومع ذلك فطرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى في أقل من ساعة وقد حكم علماء الكلام من علماء الأنام بأن الأجسام متساوية في قبول الأعراض وأن الله قادر على جميع الممكنات فلا ينكر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة فيه صلى الله تعالى عليه وسلم أو في البراق كيف وقد ورد أنه يضع حافره عند منتهى طرفه والتعجب من لوازم المعجزات، (وَمِنْ ذَلِكَ عِصْمَتُهُ مِنَ النَّاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أي يحفظك من تعرض أعدائك لك روى الترمذي كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه فقال يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله ولا ينافيه ما في البخاري وغيره من شج وجهه وكسر رباعيته يوم أحد لخصوص العصمة بالقتل تنبيها على أنه يجب على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتحمل ما دون النفس لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أشد الناس من جهة البلاء أو أنهما بعد وقعته قال المنجاني والمراد بالناس في الآية الكفار بدليل قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ قلت الظاهر هو العموم ولا دلالة في الآية على(1/140)
قصد الخصوص عند أرباب الفهوم وإن كان الخصوص من الخارج هو المعلوم (وقوله تعالى) بالجر أي ومن ذلك عصمته منهم قبل نزول تلك الآية بقوله تَعَالَى (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْفَالِ: 30] الآية) ذكر سبحانه وتعالى بعد الفتح مكر قريش به بمكة قبل الهجرة ليشكر نعمة ربه بخلاصه من مكرهم به واحتيالهم عليه فالقضية مكية والآية مدنية أي واذكر إذا يمكرون بك في دار الندوة متشاورين في أمرك بحضور عدو الله إبليس حيث دخل فيه وقال أنا شيخ من نجد سمعت اجتماعكم ولكن تعدموا مني رأيا ونصحا ليثبتوك بوثاق أو حبس إشارة إلى قول أبي البحتري ارى أن تحبسوه وتشدوا منافذه إلى كوة تلقون إليه منها طعامه وشرابه حتى يموت فقال إبليس بئس الرأي يأتيكم من قومه من يخلصه منكم أو يقتلوك إشارة إلى قول أبي جهل لعنة الله عليه أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما مع كل واحد سيف ويضربونه ضربة واحدة فيتفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم فإذا طلبوه عقلناه فقال إبليس صدق الفتى أو يخرجوك إشارة إلى قول هشام بن عمرو أرى أن تحملوه على جمل فتخرجوه من أرضكم فلا يضركم ما صنع فقال له إبليس بئس الرأي يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم فتفرقوا على رأي أبي جهل فأخبره جبريل بذلك وقال له لا تنم الليل في مكان نومك فأمر عليا أن ينام فيه وخرج عليهم وقد اجتمعوا عشاء لقتله وأخذ كفا من تراب فنثره على رؤوسهم يقرأ يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إلى قوله تعالى لا يُبْصِرُونَ وهذا معنى قوله تعالى وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ فمكر الله من باب المشاكلة أو محمول على المعاملة (وقوله) بالجر أي ومنه عصمته بقوله تعالى (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة: 40] ) أي إن لم تنصروه ولم تخرجوا معه إلى غزوة تبوك فسينصره من نصره عند قلة أوليائه وكثرة أعدائه إذ أخرجه الذين كفروا وليس معه إلا أبو بكر فخذا الجواب وأقيم ما هو كالدليل عليه مقامه وأسند إليهم الإخراج لتسبب أذن الله له في الخروج عن همهم به فكأنهم أخرجوه وقوله ثاني اثنين حال من ضمير أخرجه أي أحد اثنين روي أن جبريل لما أمره بالخروج قال من يخرج معي قال أبو بكر (وما دفع الله) أي ومنه ما دفعه الله (به) أي بنصره (عنه في هذه القصّة) أي قصة مكرهم به لقوله تعالى وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ولما قيل من حفر بئرا لأخيه وقع فيه والمعنى ما حفظ الله له (من أذاهم) أي ليلة عزموا على قتله (بعد تحزبهم) أي تجمعهم ووقع في نسخة بعد تحريهم براء مكسورة مشددة فتحتية أي بعد قصدهم (لهلكه) بضم أوله وسكون ثانيه أي هلاكه (وخلوصهم) أي وبعد انفرادهم واعتزالهم خالصين من مخالطة غيرهم (نجيّا) مصدر أو وصف أريد به معنى الجمع وقد جاء مفردا في قوله تعالى وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا وجمعا في قوله تعالى خَلَصُوا نَجِيًّا كما هو المراد هنا أي متناجين ومتشارين (في أمره) أي على أي صفة يؤذونه ليظفروا بحاجتهم فطوقوا بخيبتهم (والأخذ) بالجر في أكثر النسخ واقتصر عليه الدلجي حيث قال والظاهر كما في نسخة مصححة رفعه عطفا على ما دفع لا على أذاهم(1/141)
لفساد المعنى كما لا يخفى إلا أن الأقرب والأظهر الأنسب أنه مجرور عطفا على تحزبهم وخلوصهم والمعنى بعد الأخذ (على أبصارهم عند خروجه عليهم) أي مع أبي بكر إلى الغار ليلة قصدوا قتله وكذا الكلام من حيث المبنى والمعنى على قوله (وذهولهم) أي غفلتهم (عن طلبه في الغار) أي مع ترددهم حوله فلم يهتدوا إليه وذلك بآيات أظهرها الله في الحال من نسج العنكبوت على الغار حَتَّى قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ حِينَ قَالُوا ندخل الغار ما أرى إلا انه قبل أن ولد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وبعث حمامتين عَلَى فَمِ الْغَارِ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ لَوْ كَانَ فيه أحد لما كانت الحمام هناك والمراد بالغار نقب بأعلى جبل ثور عن يمين مكة مسيرة ساعة واللام فيه للعهد (وما ظهر) أي لهم (في ذلك من الآيات) إذ خرج عليهم وهم ببابه فلم يروه بناء على حجاب الله ونقابه تحت قبابه ونثره التراب على رؤوسهم فلم يعلموا به حتى قيل لهم إلى غير ذلك من الآيات والمعجزات (ونزول السّكينة عليه) أي ومن نزول الطمأنينة والأمن الذي تسكن عنده النفوس على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويؤيده قوله تعالى وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها أو على أبي بكر رضي الله تعالى عنه لأنه الذي كان منزعجا لقوله تعالى إذ يقول لصاحبه لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فأنزل الله سكينته عليه ويؤيده أن بعض القراء جعل عليه وقفا لازما وجعل ما بعده كلاما مستأنفا أو عطفا على صدر القصة مما يكون محلا قابلا لئلا يلزم تفكيك الضمير مع تجويز بعضهم ذلك كما في قوله تعالى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ الآية وأما قول الدلجي أن هذا هو الحق فليس في محله لورود الخلاف عن أكابر المفسرين على أن التحقيق في مقام الجمع على جهة التدقيق أن يقال المعنى فأنزل الله سكينته على منهما بناء على إرادة زيادة الاطمئنان والسكون فيهما كما يدل عليه ما في مصحف حفصة فأنزل الله سكينته عليهما ولا ينافيه ما ورد في تسلية الصديق من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم ما ظنك باثنين الله ثالثهما (وقصّة سراقة) بالجر عطفا على الآيات أي ومن قصة سراقة (بن مالك) أي ابن جعشم وهو الذي أعطت له قريش الجعائل وأخذ في طلب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين هاجر وساخت قوائم فرسه عند ذلك وهو الذي ألبس له عمر رضي الله عنه سواري كسرى وقال الحمد لله الذي سلبهما من كسرى وألبسهما تراقة وقد كان أخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك فهي معجزة دائمة باقية إلى يوم القيامة (حسب) بفتح الحاء والسين وقد يسكن الثاني واقتصر عليه الحلبي وغيره أي على قدر (ما ذكره أهل الحديث والسّير) بكسر ففتح جمع سيرة وارباب السير من الشمائل والمغازي (في قصّة الغار وحديث الهجرة) أي مفصلا ومجملا أنه تبعهما حين توجها من الغار مهاجرين إلى المدينة ليفتك بهما فرده الله خاسئا ثم أسلم بالجعرانة منصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الطائف قال الحلبي وفي الصحابة من اسمه سراقة ثمانية عشر غيره (ومنه) أي ومن ذلك (قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) ومعناه سيأتي أي الكثير من أنواع التفضيل إلا أن فوعل أبلغ من فعيل وفيه تسلية(1/142)
له عن موت ابنه إبراهيم (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) فيه التفات من التكلم إلى الغيبة إذ مقتضى الظاهر فصل لنا أي فدم على الصلاة كما أمرنا أو على صلاة العيد خالصا لوجهه وشكرا لأنعمه فإنها جامعة لأنواع شكره لاشتمالها على أصناف ذكره ويؤيد الوجه الثاني قوله تعالى (وَانْحَرْ [الكوثر: 1- 3] ) أي ضح بالبدن التي هي خيار أموال العرب وتصدق على المحتاجي من الفقراء والمساكين وقيل المراد بالنحر وضع المصلي يده في الصلاة عند نحره ويروى هذا عن علي كرم الله وجهه (إِنَّ شانِئَكَ) أي مبغضك (هُوَ الْأَبْتَرُ) أي مقطوع الخير والبركة في الدنيا والآخرة أو الذي انقطع عن بلوغ أمله فيك (أعلمه الله) أي منة عليه في هذه السورة (بما أعطاه) أي ببعض ما أولاه وإلا فعطاؤه لا يمكن احصاؤه (والكوثر حوضه) أي لما في مسلم اتدرون ما الكوثر قيل الله تعالى ورسوله أعلم قال نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوضي ترده أمتي يوم القيامة وضمير هو راجع إلى النهر إشعارا بأن له نهرا من الجنة منصبا في حوضه يوم القيامة فلا ينافيه قوله (وقيل نهر) بفتح الهاء ويسكن (في الجنّة) كما يدل عليه حديث الترمذي رأيت في الجنة نهرا حافتاه قباب اللؤلؤ قلت ما هذا يا جبريل قال الكوثر الذي أعطاك الله وحديثه أيضا أعطاني الله الكوثر نهرا في الجنة يسيل في حوضي (وقيل الخير الكثير) وهذا هو الأظهر لأنه هو الحق كما عبر به الدلجي لأنه فوعل من الكثرة بمعنى المفرط المبالغ فيها ويؤيده خبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في البخاري الكوثر هو الخير الكثير الذي اعطاه الله قيل لسعيد بن جبير إن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة قال هو من الخير الكثير الذي اعطاه (وقيل الشّفاعة) أي العظمى الشاملة للخلائق كلها المستفاد منها الكثرة (وقيل المعجزات الكثيرة وقيل النبوّة) أي لاشتمالها على خيرات كثيرة واللام للعهد أي النبوة العظيمة أو النبوة المختوم بها ليتميز بها عن غيره بنوع المزية (وقيل المعرفة) أي الكاملة وهذه الأقوال حسنة معانيها إلا أنه لا دلالة على ما فيها؛ (ثمّ أجاب) أي الله سبحانه وتعالى (عنه) أي بدلا منه صلى الله تعالى عليه وسلم (عدوّه) أي العاص بن وائل أو أبا جهل ونحوه (وردّ عليه) حين مات ابنه القاسم (قوله) أي أن محمدا قد أصبح ابتر أي قليل العدو مقطوعا من الولد إذا مات مات ذكره لأنه لا عقب له (فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الْكَوْثَرِ: 3] أي عدوّك ومبغضك) بالنصب تفسير لشانئك؛ (والأبتر الحقير الذّليل) أي على ما قيل وهو الذي لا ذكر حسن له ولا ثناء جميل (أو المفرد) بفتح الراء أي المنفرد (الوحيد) أي الذي لا ولد له ولا عقب (أو الذي لا خير فيه) وأما هو صلى الله تعالى عليه وسلم فذكره حسن وثناؤه جميل ونسبه مستمر وآثار أنواره باقية إلى يوم القيامة وما لا يدخل تحت العبارة في الآخرة (وَقَالَ تَعَالَى:
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: 87] وقيل) وهو المحكى عن ابن عمر وابن مسعود والمنقول عن ابن عباس (السّبع المثاني: السّور الطّوال) بكسر الطاء جمع الطويلة كما صرح به الشراح فاندفع به قول المنجاني هكذا وقع في الكتاب وصوابه الطول(1/143)
مضموم الطاء دون ألف فيه لأن السورة مؤنثة فهي طولى والجمع طول لا غير وقوله (الأول) بضم همزة وفتح واو مخففة جمع الأولى وهي البقرة وآل عمران والنسائي والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال مع براءة لأنهما في حكم سورة واحدة ومن ثم لم يفصل بينهما بالبسملة وقيل السابعة سورة يونس أو يوسف بدل الأنفال، (والقرآن العظيم) بالنصب على الحكاية ويجوز رفعهما بناء على أنه مبتدأ خبره: (أمّ القرآن) أي أصله أو بمنزلة أمه لاشتمالها على كليات معانيه ومهمات مبانيه إذ أولها تمجد وأوسطها تعبد وآخرها وعد وتوعد فكأنها هو في التحقيق دون التعدد وفيه إطلاق الكل على الجزء لا سيما وهو الأكمل في المعنى ولذا وجبت قراءتها في الصلاة، (وقيل) وهو المحكي عن عمر وعلي والحسن البصري (السّبع المثاني أمّ القرآن) لحديث البخاري أم القرآن هي السبع الثاني، (والقرآن العظيم سائره) أي باقيه أو جميعه بناء على أنه مأخوذ من السؤر بالهمزة بمعنى البقية أو من السور الذي هو الجمع والإحاطة والشمول من سور الحصن فالعطف من باب عطف الخاص على العام، (وقيل السّبع المثاني: ما في القرآن) أي هو جميع القرآن وتسبيعه لما في القرآن (من أمر) أي إيجابا كأقيموا الصلاة أو ندبا كافعلوا الخير (ونهي) أي تحريما كلا تقربوا الزنا أو كراهة كلا تيمموا الخبيث منه تنفقون إذ روي أنهم كانوا يتصدقون بردى التمر فنزلت والمعنى لا تقصدوا الردى منه حال كونكم تتصدقون (وبشرى) أي ومن بشارة للمؤمنين (وإنذار) أي تخويف للمخالفين (وضرب مثل) كقوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ (وإعداد نعم) بكسر الهمزة على ما في نسخة مصححة أي تعداد نعم كثيرة وتذكار منح غزيرة وهو بالمعنى المصدري أنسب للعطف على ما قبله من المصادر وقال الدلجي تبعا لبعضهم بفتح همزته جمع عدد بمعنى ونعم معدودة وأغرب التلمساني بقوله ولا يصح الكسر هنا لمخالفة المعنى انتهى (وآتيناك نبأ القرآن العظيم) أي أعطيناك علم ما اشتمل عليه مما ذكر من قصص ومواعظ وبلاغة واعجاز وثناء على الله بما هو أهله وغير ذلك كذا قرره الدلجي والأظهر أن يخص النبأ بالقصص ليكون السابع للسبع المثاني ومع هذا لا يظهر وجه العدول عن نمط السابق من ذكر المصادر إلى الجملة الفعلية في المرتبة التفصلية (وقيل سمّيت أمّ القرآن) أي الفاتحة (مثاني: لأنّها تثنّى) بصيغة المجهول مثقلا ومخففا وهو أظهر لأن المثاني هو جمع المثنى كالمرامي جمع المرمى ونظيره المعنى والمعاني وقد أبعد التلمساني في قوله مثنى المعدول من اثنين اثنين أي تكرر (في كلّ ركعة) أي صلاة تسمية للشيء باسم جزئه أو في كل قومة باعتبار الركعة بعدها ففي الفائق أنها تثنى في قومات الصلاة أي في كل قومة أو في مجموع القومات وقيل سميت مثاني لأن آياتها نزلت مرة بمكة حين فرضت الصلاة ومرة بالمدينة حين حولت القبلة ثم سميت سبعا لأنها سبع آيات بالاتفاق غير أن منهم من عد التسمية آية دون انعمت عليهم ومنهم من عكس، (وقيل بل الله تعالى استثناها) أي خصها من بين الآيات (لمحمّد صلى الله تعالى عليه(1/144)
وسلم، وذخرها) بالذال المعجمة أو أدخرها بالمهملة كما في نسخة أي جعلها ذخيرة (له دون الأنبياء) لما في مسلم والنسائي ورواه الحاكم أيضا وصححه من حديث ابن عباس بينا جبريل قاعد عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سمع نقيضا أي صوتا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة الحديث والمعنى أنه خص بإعطاء معانيهما المأخوذة من مبانيهما فاندفع قول الدلجي تبعا للمنجاني وهذا لا يخص بالفاتحة بل جميع السورة كذلك (وسمّي القرآن مثاني: لأنّ القصص) بكسر القاف جمع القصة قبل وهي المراد هنا وبفتحها مصدر معناه الخبر والحكاية (تثنّى) بالتأنيث أو التذكير أي تكرر (فيه) والمثاني جمع مثناة أو مثنى من التثنية بمعنى التكرير أو من الثني بمعنى اللين والعطف لما فيه أيضا من تكرير الأوامر والنواهي والوعد والوعيد والأخبار والأمثال وغير ذلك أو من الثناء لما فيه من كثرة ذكره تعالى بصفاته العظمى وأسمائه الحسنى، (وقيل) أي عن الإمام جعفر الصادق (السّبع المثاني) أي معناه في قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي (هو أنا أكرمناك بسبع كرامات: الهدى) هو وما بعده مجرور بدل بعض من كل أو مرفوع خبر مبتدأ محذوف أي هي الهدى أو منصوب بتقدير أعني والمراد بالهدي الهداية الكاملة المتعدية المكملة ولا يلائم المقام تفسير التلمساني له بضد الضلالة، (والنبوّة) أي المتضمنة للرسالة وقال التلمساني أي الرفعة ولا يخفى أنه أحد معانيها اللغوية، (والرّحمة) أي لجميع الأمة، (والشّفاعة) أي العظمى يوم القيامة، (والولاية) وهي النصرة والانتقام من العدو بالغلبة، (والتّعظيم) أي ظهور العظمة، (والسّكينة) أي السكون والوقار والطمأنينة قيل فمن أوتي السبع المثاني باعتبار أخذ جميع المعاني أمن من الدخول في سبعة أبواب جهنم، (وقال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ [النحل: 44] ) أي القران وسمي ذكرا لأنه يذكر به الرحمن وموعظة وتنبيه للكسلان وشرف لأهل العرفان (الآية) يعني لتبين للناس أي الجن والإنس ففيه تغليب وقيل يشملهما ما نزل إليهم أي ما أمروا به ونهوا عنه وما أخبروا به وتشابه عليهم حكمه لإجماله والتبيين أعم من أن يكون بنص على المراد به أو بالرشاد إلى ما يدل عليه كأساس قياس وبرهان عقل وإيناس (وقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) أي حال كونك تكفهم وتمنعهم بشرعك عن ظلمهم وكفرهم فالتاء للمبالغة كما في علامة (بَشِيراً) أي مبشرا (وَنَذِيراً) [سبأ: 28] ) أي مخوفا للفجار (وقال تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 158] ) حال من ضمير إليكم فإنه مفعول في المعنى (الآية) وتمامها الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، (قال القاضي) أي المصنف (رحمه الله فهذه) أي الآية (من خصائصه) جمع خصيصة أي خصلة لم يشاركه فيها أحد لورودها شاهدة باختصاصه برسالة عامة ومشعرة بأن كل رسول(1/145)
بعث إلى قومه خاصة (وَقَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) أي بلغة قبيلته الذين هو منهم وبعث فيهم (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] ) ما أمروا به وما نهوا عنه فيفهموا عنه بيسر وسهولة أمر (فخصّهم بقومهم) أي لغة ورسالة ودعوة ونذارة وبشارة (وبعث محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الخلق) أي المخلوقين (كافة) أي جميعا من الكف بمعنى الإحاطة والجمع أو من الكف بمعنى المنع أي لكفهم بدعوته عن أي يخرج منها أحد منهم لإحاطتها بهم (كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «بعثت إلى الأحمر والأسود» ) أي العرب والعجم كما تقدم وفي صحيح مسلم بعثت إلى الخلق وفي حديث بعثت إلى الناس كافة فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب فإن لم يستجيبوا لي فإلى قريش فإن لم يستجيبوا لي فإلى بني هاشم فإن لم يستجيبوا لي فإلى وحدي ذكره السيوطي في جامعه الصغير عن ابن سعد عن خالد بن معدان مرسلا وفيه كما في الآية السابقة إيماء إلى حكمة أنه بعث بلسان العرب وأن العجم أمروا بتتبع لغتهم مع كمال الأدب ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم احبوا العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي رواه الطبراني والبيهقي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس وفيه إشعار بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما أرسل إلى العرب والعجم وهم مختلفوا الألسنة من الفارسية والتركية والهندية وغيرها مما يتعذر في العادة أن يكون واحد يعرف جميع اللغات المختلفة في أصناف المخلوقات اختار الله له سبحانه أفضل أنواعه وأمر الغير بتعلمه واتباعه مع أنه أيسر اللغات وأسهلها وأضبطها وأجمعها وأشملها وأيضا كان من أنفة العرب وغلاظتهم أنه لو نزل القرآن بلسان العجم أو لم يتكلم الرسول إلا بلغة غير العرب معهم لما آمنوا وتعللوا بما حكى الله تعالى عنهم في قوله تعالى وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لقالوا لولا فصلت آياته ءأعجمي وعربي وقال في موضع آخر ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ وفي الآيتين الشريفتين تشريف لطائفة العجم ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم لو كان الدين أو العلم في الثريا لناله رجال من فارس (وقال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ) أي أحق بهم في جميع أمورهم أو مقيد بأمر دينهم (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي من أرواحهم فضلا عن آبائهم وأبنائهم (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: 6] ) جمع أم أصلها أمهة وهي لغة قيل مختصة بالآدميات والأمات بالحيوانات وقيل الهاء زائدة (قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي ما أنفذه) بالنون والفاء والذال المعجمة أي أظهره وأمضاه (فيهم من أمر فهو ماض عليهم) أي ناقض وماض (كما يمضي حكم السّيد على عبده) إذ لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم فقوله كما يمضي كالنظير لأنه دون مرتبته في التأثير (وَقِيلَ اتِّبَاعُ أَمْرِهِ أَوْلَى مِنَ اتِّبَاعِ رَأْيِ النّفس) وهذا قول صحيح وعلى طبق ما تقدم صريح فتعبيره بقيل ليس لكونه كلاما غير مرضي بل لجلالة قائلة أو جهالة حاله وقد روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم ندب إلى غزوة تبوك فقال أناس نستأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت ويدل على(1/146)
هذا المعنى آيات أخر نحو قوله تَعَالَى قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ وكما قال تَعَالَى لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ وقال صلى الله تعالى عليه وسلم لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ من ولده ووالده والناس أجمعين رواه الشيخان وغيرهما عن أنس رضي الله تعالى عنه وقد ورد في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان لا يصلي على ميت وعليه دين وكان يقول صلوا على أخيكم فلما نزلت هذه الآية النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فهو لورثته وأخرج النسائي في السنن نحوه إلا أنه قال فلما فتح الله الفتوح ولم يقل فلما نزلت الآية، (وأزواجه أمّهاتهم أي هنّ) على ما في النسخ المصححة وقال التلمساني أي هم في الحرمة وضميرهم عائد إلى الأزواج وعليه الروايات هنا وعبر بضمير جماعة المذكرين اعتبارا للفظ الأزواج (في الحرمة) أي الاحترام والتعظيم (كالأمّهات) أي الحقيقة تنزيلا لهن منزلتهن في العظمة بل اللائق أن يكون لهن مزية تعظيما لحضره النبوة ثم إنهن فيما عدا ذلك كالأجنبيات ولذا حجبن ولم يتعد التحريم إلى بناتهن وهذا إنما هو فيمن دخل بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من النساء وأما من تزوجها وفارقها قبل الدخول فليس لها هذا الحكم وقد كان عمر رضي الله عنه أمر برجم امرأة فارقها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل الدخول فنكحت بعده فقالت له لم وما ضرب رسول الله علي حجابا ولا دعيت أم المؤمنين فكف عمر عنها (حرم) بفتح الحاء وضم الراء ورفع قوله (نكاحهنّ) ويجوز ضم الحاء وكسر الراء المشددة أيضا وفي نسخة حرام بزيادة الألف وفي أخرى حرم بصيغة الفاعل من التحريم أي حرم الله ورسوله نكاحهن (عليهم بعده) أي بعد تزوجه لهن قيل ولو طلق قبل الدخول ببعضهن كما يستفاد من إطلاق قوله تَعَالَى وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً وإنما حرمهن عليهم (تكرمة له) أي لتكريمه وتعظيمه المستفاد من الآية (وخصوصيّة) أي بها يتميز عن غيره من إفراد أمته وهي بضم الخاء وقول الحجازي بفتحها سهو (ولأنّهنّ له أزواج في الجنّة وفي الآخرة) قال البغوي وكذلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أزواجهم لهم في الآخرة وفي نسخة في الجنة والظاهر ان هذا مقيد بمن مات منهن في عصمته أو هو توفي عنهن وهن في عدته لتخرج من اختارت الدنيا حين نزلت آية قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا الآية فإنها كانت في آخر عمرها تلتقط البعر في سكك المدينة وأيضا لما أراد صلى الله تعالى عليه وسلم أن يطلق سودة قالت لا تطلقني يا رسول الله ويومي لعائشة رضي الله تعالى عنها لأني أريد أن أكون من نسائك في الجنة أو قولا هذا معناه (وقد قرىء)(1/147)
أي في الشواذ قيل وهي قراءة مجاهد ونسبت إلى أبي بن كعب أيضا (وهو أب لهم) إذ كل نبي أب لأمته كما قال الله تعالى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ من حيث إن به حياتهم الأبدية وتعلم الآداب الدينية ومن ثم صاروا أخوة في الدين كما قال الله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ من حيث انتسابهم إلى أصل واحد هو الإيمان الناشىء عنه صلى الله تعالى عليه وسلم (ولا يقرأ به) بصيغة المجهول أي ولا يجوز أن يقرأ به أحد (الآن) أي في هذا الزمان (لمخالفته المصحف) بتثليث الميم والضم أتم وهو ما يجمع فيه القرآن لقول عائشة رضي الله تعالى عنها ما بين دفتي المصحف كلام الله والمراد من المخالفة عدم وجود تلك الجملة من جميع المصاحف العثمانية إذ أحد أركان القراءة هي المطابقة الرسمية وثانيها الموافقة العربية وثالثها النقل المواتر الإجماعية والعمدة هي الأخيرة والأخريان تابعتان لها لازمتان لوجودها واختلف في محل الجملة الشاذة فقيل قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قبل قوله وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وقراءة أبي بعده وروي عن عكرمة أنه قال وهو أبوهم وهو أشبه بالتفسير وعلى جميع التقادير هو من باب التشبيه البليغ نحو زيد أسد أي كالأسد لا على الحقيقة أي إلا فيمن له الولادة وأما ما ذكره الدلجي أن المراد بالمصحف هو الإمام الذي نسخه عثمان وعليه الناس فقد يوهم أنه مصحف خاص وليس كذلك بل المراد المصاحف التي كتبت بأمره واختلف في عددها فأرسل واحدا إلى مكة وآخر إلى الشام وآخر إلى الكوفة وآخر إلى البصرة وأبقى عنده واحدا في المدينة والآن لم يتحقق وجود واحد منها في محالها (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
[النساء: 113] الآية) أي وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
أي فيما أنعم عليك وبما علمك في خفيات الأمور وأمور الدين ومعارف اليقين وفي بعض النسخ (وأنزلنا عليك الكتاب والحكمة) وهو لا يصح لمخالفته تنزيل الآية (قيل فضله العظيم بالنّبوّة) وفي نسخة النبوة إذ لا فضل أعظم منها إذا قرنت بالرسالة العامة (وقيل بما سبق له في الأزل) أي من تعلق العناية القديمة العظمى حيث جعل رئيس من سبقت له الحسنى كما بدل عليه خلق نوره أولا وجعله نبيا في عالم الأرواح قبل ظهور الأشباح (وأشار الواسطي إلى أنّها) أي هذه الآية (إشارة إلى احتمال الرّؤية) أي تحملها وإطاقتها (الَّتِي لَمْ يَحْتَمِلْهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ) .(1/148)
الْبَابُ الثَّانِي [فِي تَكْمِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ المحاسن خلقا وخلقا]
أي من القسم الأول وفصوله سبعة وعشرون بعد صدر الباب على ما سبق في أول الكتاب (في تكميل الله تعالى له المحاسن) جمع حسن على غير قياس والمراد بها الأوصاف المستحسنة (خلقا وخلقا) بفتح الخاء في الأول وبضمها وضم اللام وسكونها في الثاني وهما منصوبان على التمييز أي محاسن خلقه وخلقه من صورته الظاهرة الطاهرة وسيرته الباطنة الباهرة (وقرانه) أي وفي مقارنة ذاته عليه الصلاة والسلام (جميع الفضائل الدينية والدنيوية فيه نسقا) بفتحتين أي من جهة كون بعضها تبعا لبعض من الصفات المتوالية والمكارم المتعاقبة.
(اعلم أيّها المحبّ لهذا النّبيّ الكريم) خطاب عام في موضع التفخيم أو خاص لمن سأله هذا التأليف المتضمن للتعليم ويؤيده قوله (الباحث) أي المفتش والمتفحص (عن تفاصيل جمل قدره) أي مجملات مقداره (العظيم) والجملة الندائية معترضة بين الخطاب وما خوطب به من الجملة الفعلية (أنّ خصال الجمال والكمال) وفي نسخة الجمال بدل الجلال والجمال تمام الصورة والجلال ظهور العظمة والأولى على ما عرف في علم الأخلاق أن يقال إن خصال الجمال والجلال المقتضية للكمال (في البشر نوعان: ضروريّ) أي أحدهما ضروري (دنيويّ) أي مما لا بد له منه فيها (اقتضته الجبلّة) بكسر الجيم والموحدة وتشديد اللام أي دعته الخلقة التي خلق عليها وطبيعته التي جبل للميل إليها ومنه قوله تعالى وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ وقرأها الحسن بالضم وقال التلمساني وبسكون الباء وفتح اللام مخففة فتثليث الجيم بالهاء وبدونها والجبل يضم ويشدد ومنه قوله تعالى وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً (وضرورة الحياة الدّنيا) أي واقتضته الحاجة الضرورية الكائنة في الحياة الدنيوية مما ليس اختياريا، (ومكتسب) بصيغة المجهول أي وثانيهما مكتسب (دينيّ وهو ما يحمد فاعله) أي مما يتوقف اكتسابه على الشرع من الكمالات العلمية التي أعظمها معرفة الله وصفاته العلية (ويقرّب) بكسر الراء المشددة وفي نسخة بصيغة المجهول أي ما يقرب به (إلى الله تعالى زلفى) أي قربة اسم مصدر لا زلف وفيه أن التقسيم غير جامع لأنه غير شامل للوهبي الحاصل بالجذبة دون الخلقة الأصلية ولا بالتعلقات العارضية؛ (ثمّ هي) أي الخصال (على فنّين) بفتح فاء وتشديد نون (أيضا) أي صنفين (منها) أي من الخصال (ما يتخلّص) أي يتمحض (لأحد الوصفين) أي من الضروري والكسبي من غير امتزاج وتداخل بحيث لا يصدق عليه اسم الآخر ضروريا أو كسبيا (ومنها ما يتمازج ويتداخل) عطف تفسير أي يتخالط بأن يكون(1/149)
ضروريا وكسبيا كما سيأتي بيانهما ويظهر شأنهما. (فأمّا الضّروريّ المحض) أي الخالص الذي لا يكون مكتسبا (فما ليس للمرء) بفتح فسكون فهمز والحسن لا يهمز ويخفف وابن إسحاق يضم الميم والهمز والعقيلي بكسر الميم والهمز ومؤنثه المرآة كذا ذكره التلمساني والأظهر أنه الشخص بالمعنى الأعم والله أعلم (فيه اختيار) أي في حصوله (ولا اكتساب) أي في وصوله أي بل فيه اضطرار واضطراب في تحصيله (مِثْلُ مَا كَانَ فِي جِبِلَّتِهِ مِنْ كَمَالِ خلقته وجمال صورته) فيه من البديع صنعة جناس لاحق بين كمال وجلال (وقوّة عقله) أي تعقله قال التلمساني مذهب أهل اللغة أن العقل هو العلم وقيل بعض العلوم الضرورية وقيل قوة تميز بها بين حقائق المعلومات ومحله عند أهل السنة القلب بدليل قوله تعالى فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها وقال المعتزلة محله الدماغ ووافقهم أبو حنيفة والفضل بن زياد (وصحّة فهمه) أي إدراكه (وفصاحة لسانه) أي طلاقته وطراوة بيانه مع رعاية مطابقته ووضوح دلالته (وقوّة حواسّه) أي من سمعه وبصره وشمه وذوقه ولمسه (وأعضائه) جمع عضو بضم العين وكسرها أي جوارحه وقد قيل ليس في الإنسان جارحة أحب إلى الله عز وجل من اللسان ولذلك أنطقه الله بتوحيده فإذا فحش ولم يحل اللسان فبأي شيء يذكر ويناجي ويدعو ويتلو، (واعتدال حركاته) أي وسكناته بسلامتهما من آفتهما فهو من باب الاكتفاء (وشرف نسبه) إذ في الغالب أن من تحلى به ربأ بنفسه من سفاسف الأمور إلى أعاليها ومن ذمائم الصفات إلى معاليها (وعزّة قومه) أي وغلبة قبيلته إذ المؤمن كثير بأخيه كما قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (وكرم أرضه) أي طيب مكانه الذي نشأ فيه بأن يكون بلد المسلمين ومنزل الصالحين وأبعد التلمساني في تخصيص أرضه بأرض مكة إذ ليس الكلام في خصوصه عليه الصلاة والسلام (ويلحق به) أي يتصل بالضروري المحض وفي نسخة بصيغة المجهول واقتصر عليه الحلبي أي ويوصل به (ما تدعوه) أي كل شيء من الأمور العادية تدعو المرء (ضرورة حياته) أي شدة احتياجه فيها (إليه من غذائه) بكسر الغين وبالذال المعجمتين على ما في الأصول المصححة وعلى ما ذكره أهل الحواشي المعبرة ما يتغذى به من الطعام والشراب وما به نماء الجسم وقوامه وأما الغذاء بفتح أوله وبدال مهملة فهو طعام الغدوة من الطلوع إلى الزوال ضد العشاء بالفتح وهو غير ملائم لمقام المرام فتجويز الدلجي الوجهين وتقديم الثاني على الأول وتفسيره بقوله هو الطعام بعينه ليس في محله وكذا تقييد المحشي للأول بالقصر والثاني بالمد (ونومه) أي في ليلة ونهاره (وملبسه) بفتح الموحدة (ومسكنه) بفتح الكاف وكسرها (ومنكحه) بفتح الكاف مصادرا وأسماء لما يلبس ويسكن وينكح (وماله) أي جميع ما ينتفع به من الأمور الحسية (وجاهه) أي قدره ومنزلته واعتباره من الأحوال المعنوية قيل هو والوجه بمعنى قلب منه لأنه إن توجه بوجهه قبل منه، (وقد تلحق) ضبط معروفا ومجهولا (هذه الخصال الآخرة) أي الأخيرة المتعلقة بالأمور العادية الواقعة في(1/150)
الأحوال الدنيوية (بالأخرويّة) أي بالخصال الأخروية (إذا قصد بها التّقوى) مصدر تقوى من باب التفعل أي طلب القوة على الطاعة وفي نسخة التقوى بالتخفيف أي إذا كانت مقترنة بتقوى الله (ومعونة البدن) أي إذا قصد بها مساعدته ومعاونته (على سلوك طريقها) أي سبيل الآخرة وأبعد الدلجي تبعا للتلمساني في قوله أي طريق الخصال الأخروية (وكانت) أي تلك الخصال الملحقة (على حدود الضّرورة) أي على طبق داعية الحاجة وقدر الكفاية من غير زيادة (وقوانين الشّريعة) وفي نسخة قواعد الشريعة أي وكانت أيضا على وفق الأصول الشرعية مما أبيح وجوز له من ارتكابه وهذا معنى قولهم في حديث إنما الأعمال بالنيات أن العادات تصير بالنيات عبادات؛ (وأمّا المكتسبة الأخرويّة) أي الخصال المكتسبة المستفادة المتعلقة بالأمور الأخروية (فسائر الأخلاق العليّة) أي جميعها وهي صفات وأحوال وأفعال وأقوال يحسن بها حالة الإنسان بينه وبين خالقه وأبناء جنسه (والآداب الشّرعية من الدين) أي الإيمان بما يجب تصديقه والطاعة فيما يجب عمله وتركه (والعلم) أي معرفة النفس ما لها وما عليها مما به تمام معاشها ونظام معادها (والحلم) أي الصبر على الايذاء وعدم العجلة في العقوبة على الاعداء (والصّبر) أي على أنواع المصائب وأصناف البلاء وأجناس القضاء (والشّكر) أي بالثناء على المنعم بما أولاه من النعماء وأن يصرف جميع النعم إلى ما خلقت لأجله في مقام رضى المولى (والعدل) ضد الميل عن الحق بالجور وهو ملكة يقتدر بها على اجتناب ما لا يحل فعله في باب الحكومة وقد ورد كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته وقال الله تعالى إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (والزّهد) أي عزفة النفس وقلة ميلها إلى الدنيا والمشتهيات وترك ما عدا الضروريات من المباحات أو ترك ما سوى الله مريدا به وجه الله وهو زهد المقربين (والتّواضع) أي لين الجانب والتذلل للصاحب، (والعفو) أي الصفح والمجاوزة وعدم المؤاخذة، (والعفّة) وهي قمع النفس عن المعصية أو مختصة بالزنا ونحوها وأغرب التلمساني بقوله وهو العفو عما يشين ويعيب وتركه اختيارا، (والجود) وهو الكرم المحمود بأن يكون بين طرفي افراط يسمى سرفا وتفريط يسمى بخلا وقد قيل لا سرف في خير ولا خير في سرف فهو بذل ما ينبغي فيما ينبغي كما ينبغي (والشّجاعة) وهي صفة حميدة متوسطة بين التهور والجبن (والحياء) بالمد وهو انقباض الروح عن القبيح حذرا من الذم متوسط بين وقاحة وجراءة على القبائح وعدم المبالاة بها وبين الخجالة والانحصار عن الفعل مطلقا وهو محمود إذا كف عن المعصية وذمائم الخسة ومذموم إذا كف عن تحصيل الفريضة واكتساب الفضيلة والأول من الرحمن والثاني من الشيطان (والمروة) بضم الميم والراء وتشديد الواو وقد يهمز وهو الإنسانية وكمال المرء بالأخلاق الزكية والتبعد عن الأمور الدنية (والصّمت) أي السكوت عن غير الخير لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت (والتّؤدة) بضم ففتح همز وقد تبدل واوا وهي بمعنى التأني وعدم العجلة لما قيل:(1/151)
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
وفي نسخة التودد من المودة أي التحبب إلى الصلحاء والفقراء والضعفاء فإنهم في الآخرة ملوك وشفعاء (والوقار) بفتح الواو أي الرزانة والطمأنينة وعدم الطيش والخفة (والرّحمة) أي التعطف والرأفة (وحسن الأدب) فإنه أحسن من الذهب وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم أدبني ربي فأحسن تأديبي وجعل حسن الأدب من جملة الآداب الشرعية لأنه حالة خاصة من عموم الأحوال المرضية لحديث أن من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه (والمعاشرة) أي المخالطة بالمخالقة على وجه الموافقة لقوله عليه الصلاة والسلام خالق الناس بخلق وقوله خياركم أحسنكم أخلاقا ومن كلام الشيخ أبي مدين المغربي حسن الخلق معاملة كل شخص بما يؤنسه ولا يوحشه (وأخواتها) أي أشباهها من الأخلاق الحميدة المفصلة في نحو كتاب الاحياء والعوارف والرسالة «1» (وهي) أي هذه الملكات النفسانية المكتسبة (التي جماعها) بكسر الجيم أي جمعها واجتماعها كذا قيل وفي الحديث الخمر جماع الإثم لأنها تجمع عددا منه والأظهر أن يقال مجمعها ومجتمعها (حسن الخلق) أي المحمود عند جميع الخلق وقد قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وكان خلقه القرآن يأتمر بأوامره وينزجر بزواجره ويرضى برضاه ويسخط بسخطه ومجمله قوله تعالى خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وقال جبريل عند نزوله هو أن تعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك وتعطي من حرمك. (وَقَدْ يَكُونُ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ مَا هُوَ في الغريزة) أي مخلوق ومودع في السجية والطبيعية وهي بفتح غين معجمة وكسر راء مهملة ثم زاء. (وأصل الجبلّة) أي الفطرة (لبعض النّاس) أي ممن طبع عليه في أول خلقته وابتداء نشأته ومنه قول القائل:
كل امرئ راجع يوما لشيمته ... وإن تخلق أخلاقا إلى حين
(وبعضهم لا تكون فيه فيكتسبها) بالرفع أي فهو يحصلها للاقتداء بغيره فيها فتصير له كالغريزة وقال الحلبي هو بالنصب جواب النفي انتهى وفيه بحث لا يخفى (وَلَكِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مِنْ أصولها في أصل الجبلّة شعبة) أي شائبة وقطعة خلق عليها ليرجع فيما يكتسبه إليها بميل طبعه الأول فيها (كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى وتكون) أي تصير (هذه الأخلاق دنيويّة إذا لم يرد) بصيغة المفعول أي لم يقصد (بها وجه الله والدّار الآخرة) أي بخلاف ما إذا أريد بها ذلك فإنها صارت حينئذ قربات عند الله فيثاب عليها (ولكنّها) أي الغريزة وإن لم يرد بها ذلك (كلّها) بالنصب أي جميعها (محاسن وفضائل) أي باعتبار افرادها (بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ. وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي موجب حسنها) بكسر الجيم لا بفتحها كما قال التلمساني وسبقه الانطاكي لأنه بمعنى المقتضي وهو لا يناسب المقام كما لا يخفى أي سببها وباعثها
__________
(1) هي للإمام الأستاذ أبي القاسم القشيري قاله مصححه طاهر.(1/152)
(وتفضيلها) أي وفي تفضيلها على غيرها أو بعضها على بعض أهو ذاتي اقتضته ذواتها وطبائعها أو يخلق الله تعالى له في ذواتها قولان ثانيهما هو الحق لاستناد جميع الكائنات إليه ابتداء إذ هو الخالق وحده وهي ملكات محمودة مكملة للإنسان وإن تفاوتت النفوس بحسب الفطرة وفي الكمال باعتبار زيادة اعتدال الابدان فكلما كان البدن أعدل كانت النفوس الفائضة أكمل وإلى الخيرات أميل وللكمالات أقبل وعكسه عكسه كما قيل الظاهر عنوان الباطن ثم لا نزاع في أنها من واجبات العقل لحكمه بها من حيث إنها صفات كمال ثم ورد الشرع مؤيدا له ومقررا لحكمه بها وإنما النزاع في أن العاقل قبل وروده أو بعده ولم يبلغه هل يجب عليه بعض الأفعال أو يحرم بعضها بمعنى استحقاق الثواب والعقاب في الآخرة أم لا فعندنا لا إذ لا حكم له ولا إثابة ولا تعذيب قبل وروده وعند المعتزلة نعم بناء على مسألة الحسن والقبح كذا حققه العلامة الدلجي وقال المنجاني ذهب بعضهم إلى أن جميع الأخلاق سيئها وحسنها جبلة وغريزة في العبد ليس فيها اكتساب وإلى هذا مال الطبراني وحكاه عن ابن مسعود والحسن وذهب بعضهم إلى أن جميع هذه الأخلاق إنما هي من كسب العبد باختياره وليس في جبلته شيء منها مخلوقا وهذا مذهب طائفة كثيرة من السلف وذهب الباقون إلى ما ذكره القاضي وعليه المحققون وقال الانطاكي لا شك أن الإنسان لا اختيار له في تغيير خلقتها الأصلية وهيئتها الجبلية فالطويل لا يمكن أن يجعل نفسه قصيرا ولا القصير طويلا ولا القبيح يقدر على تحسين صورته ولا على عكس هيئته وأما الأخلاق المكتسبة من الجود والشجاعة والتواضع والعفة فقد تكون في بعضهم غريزة وجبلة بجود الهي وكمال فطري بحيث يخلق ويولد كامل الأخلاق والآداب كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبعضهم لا تكون فيه فيكتسبها بالمجاهدة والرياضة بأن يحمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب فمن أراد مثلا أن يجعل لنفسه خلق الجود فيتكلف تعاطي فعل الجود ويواظب عليه فإنه يصير ذلك عادة له وطبعا فيصير جوادا وكذا من أراد أن يجعل لنفسه خلق التواضع فيواظب على أفعال المتواضع مدة مديدة يصير التواضع له خلقا وكذا جميع الأخلاق المحمودة يمكن تحصيلها بهذا الطريق فإذا الأخلاق الحسنة قد تكون بالطبع أغنى الفطرة وقد تكون بالطبع أغنى باعتبار الأفعال الجميلة وزعم بعض من غلبت عليه البطالة وما اشتغل بالمجاهدة في تهذيب الأخلاق أن الرياضة لا تؤثر في تغيير الأخلاق أنها طباع لا تتغير كالخلقة لكنا نقول لو كانت الأخلاق لا تتغير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات ولما قال صلى الله تعالى عليه وسلم حسنوا أخلاقكم وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكن إذ ينقل الصيد من التوحش إلى الأنس والكلب من الأكل إلى التأديب والفرس من الجماع إلى السلاسة وكل ذلك تغيير الأخلاق بتوفيق الملك الخلاق.
فصل [قال القاضي رحمه الله تعالى إذا كانت خصال الكمال والجلال]
أي هذا فصل في تعداد خصال حميدة اختص بها ذاته السعيدة مجملة وتذكر فيما بعده(1/153)
من الفصول العديدة مقتبسة من الكتاب والسنة (قال القاضي رحمه الله تعالى) كذا في نسخة (إذا كانت خصال الكمال والجلال ما ذكرناه) أي في الفصل السابق (ووجدنا) وفي نسخة ورأينا أي علمنا (الواحد منّا يتشرّف) بضم الراء أي يصير شريفا رفيعا وفي نسخة بصيغة المجهول من التشريف أي يكرم ويعظم وفي أخرى يتشرف أي يفتخر (بواحدة منها) أي ولو في أقل مراتبها (أو اثنتين) أي منها (إن اتّفقت) أي هذه الخصلة وفي نسخة إن اتفقنا (له في كلّ عصر) متعلق باتفقت والعصر مثلثة وأبعد الدلجي في تجويز تعلقه بتشرف وتقديمه وفي نسخة زيادة (وأوان) عطف خاص على عام فإن العصر الدهر وهو الزمان والأوان زمان مخصوص كزمان الربيع والداعي إلى عطفه الخطابة في أن كل وقت لا يخلو من أحد يشرف بذلك ثم ما يشرف به لا يخلو من أن يكون (إمّا من نسب) أي رفعه نسب (أو جمال) أي حسن صورة (أو قوّة) أي بدنية متحملة لمزاولة أفعال شاقة والقدرة أخص منها لاشتراط الإرادة فيها إذ هي التمكن من إظهار القوة مع الإرادة (أَوْ عِلْمٍ أَوْ حِلْمٍ أَوْ شَجَاعَةٍ أَوْ سماحة) أي جود وعطاء ومسامحة ومساهلة (حتّى يعظم قدره) غاية لوصفه بما ذكر أي يرفع شأنه بين الرجال (ويضرب) بصيغة المجهول أي يبين ويعين (باسمه الأمثال) فيقال أجود من حاتم وأعدل من نوشيروان أو هو حسان زمانه أو مجتهد أوانه أو أشجع اقرانه أو أسخى إخوانه (ويتقرّر) أي يثبت (له بالوصف بذلك) أي بسبب اتصافه أي بما ذكر من الصفات (في القلوب) أي في قلوب الخلق من أهل الحق (أثرة) بضم همزته وكسرها وفتحها وسكون المثلثة وبفتحهما أي مكرمة يتفرد بها (وعظمة) عطف تفسير في المعنى (وهو) أي ذلك الواحد منا (منذ) بضم ميم وتكسر بمعنى مذ (عصور خوال) أي والحال أنه من ابتداء دهور خالية وأزمنة ماضية، (رمم) بكسر راء وفتح ميم أي رميم جمع رمة عظامه (بوال) أي بالية متفتتة اعضاؤه وأجزاؤه فالمغايرة حاصلة بينهما خلاف ما فهمه الدلجي وجعلها عطف بيان كأبي حفص عمر ثم إذا كان الأمر كما ذكر (فَمَا ظَنُّكَ بِعَظِيمِ قَدْرِ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ كلّ هذه الخصال) أي الحميدة العديدة (على وجه الكمال) وهو استفهام يورث تعجبا من هذه الحالة لا سيما وهي منضمة (إلى ما لا يأخذه عد) أي إحصاء من خصال لا توجد إلا في الأنبياء والأصفياء وأرباب الكمال (ولا يعبّر عنه مقال) أي لا يحصره قول (ولا ينال) بضم الياء أي لا يحصل (بكسب ولا حيلة) أي باكتساب ولا باحتيال (إلّا بتخصيص الكبير المتعال) أي بطريق التفضل والهبة والجذبة والعناية من العظيم الشأن في ذاته المستعلي على كل شيء بقدرته أو الكبير عن نعت المخلوقين والمتعالي عن مشابهة الامثال (من فضيلة النّبوّة) بيان لما وهي بالهمز بناء على أنه من النبأ بمعنى الخبر لإنباء الله تعالى إياه وإخباره عنه سبحانه وتعالى أو بتشديد الواو بناء على إبداله أو على إنه مأخوذ من النبوة بمعنى الرفعة فإن النبي عليه الصلاة والسلام رفيع الشأن عظيم البرهان (والرّسالة) وهي كونه واسطة بين الله تعالى وبين عباده والرسالة أخص من النبوة فإن الرسول هو المأمور بتبليغ الأحكام والنبي هو الذي(1/154)
أوحي إليه سواء أمر بالتبليغ أم لا (والخلّة) بضم الخاء أي الخصلة التي توجب الاختصاص من صفاء المودة حيث تتخلل النفس وتخالطها (والمحبّة) وهي مودة تشق شغاف القلب وتصل إلى سويداء الفؤاد (والاصطفاء) أي بالخصائص الروحانية والجسمانية لقوله تعالى اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ (والإسراء) أي إلى السماء (والرّؤية) أي رؤية الله تعالى بالبصر أو بالبصيرة أو رؤيته من آيات ربه الكبرى لحديث البخاري رأى رفرفا أخضر في الجنة قد سد الأفق وحديث مسلم رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ ومع وجود هذه الاحتمالات في عبارة الرؤية لا يرد ما قاله الحلبي من أن المؤلف لم يترجح عنده أنه عليه الصلاة والسلام رأى ولا ما رأى كما سيأتي ذلك وهنا قد جزم بها فهذا تناقض على انه قد يقال تردد هناك وجزم هنا والله أعلم (والقرب والدّنوّ) أي قرب مكانة ودنو رفعة (والوحي) أي في ذلك المكان الأعلى (والشّفاعة) أي العظمى، (والوسيلة) وهي منزلة في الجنة وهي أعلى العليا (والفضيلة) أي زيادة المرتبة على العامة والخاصة من حسن المنقبة (والدّرجة الرّفيعة) أي في الجنة العالية أو يوم القيامة أو ليلة الإسراء (والمقام المحمود) لحديث أبي حاتم يبعث الله النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تل فيكسوني ربي حلة خضراء فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَقُولَ فَذَلِكَ المقام المحمود انتهى وبه يحصل الفرق بينه وبين الشفاعة الكبرى (والبراق) أي ركوبه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، (والمعراج) من الصخرة إلى السماء فإلى الجنة والعرش وما فوقه من المقام الأعلى وهو بكسر أوله لم من نور من السماء إلى الأرض فيه تصعد الملائكة وهو الذي يمد إليه الميت بصره على ما ذكره التلمساني وقد سبق ما يتعلق بالبراق في أول الكتاب مما يغني هنا عن الإطناب، (والبعث إلى الأحمر والأسود) لحديث بعثت إلى الأحمر والأسود أي العجم والعرب أو الإنس والجن أو الخلق كافة لحديث مسلم بعثت إلى الخلق كافة (والصّلاة بالأنبياء) أي ببيت المقدس عند الصخرة تارة وأخرى بالسماء (والشّهادة بين الأنبياء والأمم) أي يوم القيامة كما مر عند قوله تعالى لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ الآية (وسيادة ولد آدم) لحديث أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر بل سيادة جميع العالم لحديث أنا سيد الأولين والآخرين ولا فخر (ولواء الحمد) أي المشار إليه بقوله عليه السلام آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة وقوله بيدي لواء الحمد يوم القيامة وفي الرياض النضرة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عنه فقال له ثلاث شقق ما بين السماء والأرض على الأولى مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم وفاتحة الكتاب وعلى الثانية لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وعلى الثالثة أبو بكر الصديق عمر الفاروق عثمان ذو النورين علي المرتضى (والبشارة والنّذارة) بكسر أولهما لقوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (وَالْمَكَانَةِ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ وَالطَّاعَةِ ثُمَّ وَالْأَمَانَةِ) أي كونه مطاعا أمينا لقوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ على قول بعض المفسرين (والهداية) أي القاصرة لقوله تعالى وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً(1/155)
والمتعدية لقوله سبحانه وتعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (ورحمة للعالمين) لقوله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (وإعطاء الرّضى) لقوله تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (والسّؤل) بضم السين وسكون الهمزة ويبدل بمعنى المسؤول ومنه قوله تعالى قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ولا شك أنه أفضل الخلق فهو به أحق (والكوثر) وقد مر (وسماع القول) لحديث الشفاعة وقل تسمع واشفع تشفع (وإتمام النّعمة) لقوله تعالى وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ (والعفو عمّا تقدّم وما تأخّر) وفي نسخة وما تأخر لقوله تَعَالَى لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ (وَشَرْحِ الصَّدْرِ وَوَضْعِ الْإِصْرِ وَرَفْعِ الذّكر) لقوله تعالى أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (وعزّة النّصر) لقوله تعالى وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (ونزول السّكينة) وهي الطمأنينة (والتّأييد) أي التقوية (بالملائكة) لقوله فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها أي بملائكته يوم بدر وحنين والأحزاب وعن كعب قال ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون الفا من الملائكة حتى يحفوا بالقبر يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط مثلهم فصنعوا مثل ذلك حتى إذا انشقت الأرض خرج في سبعين ألفا من الملائكة رواه البيهقي في شعبه وفي صحيح الدارمي نحوه (وإيتاء الكتاب والحكمة) لقوله تعالى وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
(والسّبع المثاني والقرآن العظيم) لقوله تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (وتزكية الأمّة) أي أمته يوم القيامة لقوله تعالى وَيُزَكِّيهِمْ أي إذا شهدوا للأنبياء حين أنكرت أممهم التبليغ والإنباء (والدّعاء إلى الله) لقوله تعالى وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ (وصلاة الله تعالى والملائكة) أي وملائكته عليه لقوله تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ (والحكم بين النّاس بما أراه الله) أي بما أعلمه الله وبين حكمه وألهمه لقوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بما أراك الله (ووضع الإصر) بكسر الهمزة قيل وتضم أي حط العهد الثقيل والتكليف الوبيل وقيل المراد به العقوبة من نحو المسخ (والأغلال) أي العبادات الشاقة (عنهم) أي عن أمته لقوله وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ وهي جمع غل وهو ما يوضع في العنق شبه ما كان لازما لهم من مشاق الأعمال بالأغلال (والقسم باسمه) أي الحلف بعمره لقوله تعالى لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (وإجابة دعوته) أي في مواطن كثيرة كبدر إذ قال اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم (وتكليم الجمادات) لحديث البخاري إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قيل هو الحجر الأسود وقيل الحجر المذكور في جدار زقاق الحجر (والعجم) بضم فسكون جمع أعجم وهو من الحيوان ما لا يقدر على الكلام ومنه الحديث إذا ركبتم هذه الدواب العجم وحديث العجماء جبار أي وتكليم البهائم كنطق الضب والظبي والجمل وحماره عليه الصلاة والسلام الذي قال له اسمي يزيد بن شهاب حين قال له يعفور (وإحياء الموتى) أي المعنوية والحسية لما ورد(1/156)
أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما قفل من غزاة فمات بعير بعض أصحابه دعا الله فأحياه حتى ركبه إلى المدينة ثم مات وكما روي في قصة البنت التي طرحها أبوها في الوادي فماتت (وإسماع الصّمّ) كأمره صلى الله تعالى عليه وسلم الحجارة أن يجتمعن لقضاء حاجته فتعاقدن حتى صرن ركاما على ما في الصحيح (ونبع الماء من بين أصابعه) لما في البخاري عن جابر فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه (وتكثير القليل) لحديثي أنس في قصة أبي طلحة وزاد في البخاري فإنه أمر بما بقي منه فجيء بقليل منه فدعا وبرك فيه فكثر حتى ملؤوا كل وعاء معهم (وانشقاق القمر) قال أنس سأله قريش آية فانشق مرتين وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما انفلق فلقتين ذهبت فلقة وبقيت فلقة وعن ابن مسعود رأيت حراء عليه فلقتي القمر (وردّ الشّمس) أي في الخندق وصبيحة الإسراء وأما ما ذكره التلمساني من أنها وقفت ليلة الإسراء أو زيد في كمية الليل فلا يصح بل هو من بسط الزمان من غير تغير في ظاهر العيان (وقلب الأعيان) أي الذوات الثابتة لحديث عكاشة كان معه صلى الله تعالى عليه وسلم يوم بدر عصا فصارت بيده سيفا صارما (والنّصر بالرّعب) بسكون العين ويضم أي بالخوف لقوله تعالى وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ولحديث نصرت بالرعب (والاطلاع على الغيب) أي اطلاعه على بعض المغيبات لحديث خروج الدجال والدابة وغيرهما فالاطلاع بتشديد الطاء وهو مطاوع الاطلاع بالتخفيف لأن الله عز وجل هو الذي أطلعه ويمكن أن يكون هنا بالتخفيف والتقدير اطلاع الله إياه وأما قول التلمساني ولا يشدد لفساد المعنى فغفلة عن تحقيق المبنى (وظلّ الغمام وتسبيح الحصى) أي في كفيه الكرام، (وإبراء الآلام) لأحاديث بها رواها الاعلام والآلام جمع الألم والله أعلم (والعصمة من النّاس) لقوله تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (إلى) أي منتهية هذه الفضائل البهية إلى (ما لا يحويه محتفل) بكسر الفاء أي لا يشمله جامع مهتم بجمعه لكثرة إفراده، (ولا يحيط بعلمه إلّا مانحه) أي معطيه صلى الله تعالى عليه وسلم (ذلك ومفضّله) أي ولا يحيط بعلمه إلا مفضله على غيره (به لا إله غيره إلى) أي منضمة هذه إِلَى (مَا أَعَدَّ لَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، من منازل الكرامة، ودرجات القدس) بضم وبضمتين أي المنزهة عن النقصان والزوال في الجنة العالية (ومراتب السّعادة والحسنى) أي والمثوبة الحسنى مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (والزّيادة التي تقف دونها العقول ويحار) بفتح الياء أي يتحير في معرفتها ويحيل إحاطتها (دون ادانيها) أي عند أوائلها فضلا عن أقاصيها وفي نسخة عند إدراكها (الوهم) أي أوهام الخواص والعوام ولعلها رؤية الملك العلام لقوله تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وقد جاء تفسيرها في الحديث الصحيح بالرؤية رزقنا الله تعالى تلك السعادة وختم لنا بالشهادة قال التلمساني وروي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حاز خصال الأنبياء كلها واجتمعت فيه إذ هو عنصرها ومنبعها فأعطي خلق آدم ومعرفة عيسى وشجاعة نوح وخلة إبراهيم ولسان إسماعيل ورضى إسحاق وفصاحة صالح وحكمة لوط وبشرى يعقوب وجمال يوسف وشدة موسى وصبر(1/157)
أيوب وطاعة يونس وجهاد يوشع وصوت داود وحب دانيال ووقار إلياس وعصمة يحيى وزهد عيسى وأغمس صلى الله تعالى عليه وسلم في جميع أخلاق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وليقتبسوها منه وقد أفصح بذلك البوصيري حيث قال:
فكل آي أتى الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم
فصل [إن قلت أكرمك الله تعالى لا خفاء على القطع بالجملة]
أي في جمل من أوصافه صلى الله تعالى عليه وسلم (إن قلت أكرمك الله) جملة دعائية معترضة بين القول ومقوله (لا خفاء على القطع بالجملة) أي بطريق الإجمال في التفضيل لا بطريق التفصيل إذ قد يتوهم عدم القطع بأن يوجد في غيره نعت له بالخصوص يكون أعلى وبهذا تبين أن لا يصح قول الدلجي فضلا عن القطع بالتفصيل (أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم أعلى النّاس قدرا) أي مرتبة، (وأعظمهم محلّا) أي منزلة وكان الأحسن كما قال الدلجي أن يقال أعظمهم قدرا وأعلاهم محلا إذ العظمة بالقدر أليق والعلو بالمحل أوفق (وأكملهم محاسنا وفضلا) والمنصوبات كلها مميزات (وقد ذهبت) خطابا للمصنف من جملة المقول حالية معترضة بين الشرط والجزاء أي وقد سلكت (في تفاصيل خصال الكمال مذهبا جميلا) أي طريقا حسنا من كمال جماله (شوّقني) أي هيجني وأقلقني (إلى أن أقف عليها) أي أطلع على خصال الكمال (من أوصافه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي شمائله وفضائله (تفصيلا) أي تبيينا وتفريعا فصلا فصلا. (فاعلم) خطاب خاص أو عام لمن يصلح له (نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبِي وَقَلَبَكَ، وَضَاعَفَ فِي هَذَا النّبيّ الكريم حبّي وحبّك) جملة دعائية معترضة بين العامل ومعموله وهو (أنّك إذا نظرت إلى خصال الكمال النّبيّ هي غير مكتسبة) أي غير مستفادة (وفي جبلّة الخلقة) عطف على غير أي في أصل الخلقة وجبلة الطبيعة والإضافة بيانية، (ووجدته) أي صادفته (صلى الله تعالى عليه وسلم حائزا) بالحاء أي حاويا وجامعا (لجميعها محيطا بشتات محاسنها) أي متفرقاتها (دون خلاف) أي بلا خلاف (بين نقلة الأخبار) أي الأحاديث والآثار (لذلك) أي لما ذكر من حيازته جميع خصال الأبرار (بل قد بلغ بعضها مبلغ القطع) أي بسبب التواتر المعنوي ثم خصال كماله أنواع كما فصله المصنف بقوله. (أمّا الصّورة) أي الصورة النبوية (وجمالها) أي وجمال تلك الصورة الخلقية (وتناسب أعضائه في حسنها) أي مما لم يتصور أن تكون كسبية بل هي خلقية هبية (فقد جاءت الآثار الصّحيحة، والمشهورة) أي المستفاضة (الكثيرة) نعت لهما (بِذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وأبي هريرة) واسمه عبد الرحمن على الصحيح من ثلاثين قولا ومنع هريرة من الصرف مع أنه ليس فيه من العلل إلا التأنيث لأن العلم الإضافي قد ينزل منزل كلمة ويجري عليه أحكام الأعلام. (والبراء بن عازب) وهما صحابيان أنصاريان، (وعائشة أمّ المؤمنين وابن أبي هالة) أي من خديجة الكبرى رضي الله تعالى عنها فهو ربيبه صلى الله(1/158)
تعالى عليه وسلم واسمه هند شهد بدرا وقتل مع علي كرم الله وجهه يوم الجمل، (وأبي جحيفة) بضم جيم وفتح حاء، (وجابر بن سمرة) بفتح فضم (وأمّ معبد) بفتح الميم والموحدة عاتكة بنت خالد وهي التي نزل عليها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة وكان منزلها بقديد مصغرا (وابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما أي عبد الله (ومعرّض بن معيقيب) بتشديد الراء المكسورة والتصغير في معيقيب وقال التلمساني معرض بكسر الميم وفتح الراء وهو مخالف للأصول المصححة وللحواشي المصرحة. (وأبي الطّفيل) مصغرا واسمه عامر بن وائلة مات بمكة وهو آخر من مات من الصحابة في الدنيا شيعي تفضيلي (والعداء بن خالد) بفتح عين وتشديد دال مهملتين ممدودا (وخريم بن فاتك) بكسر التاء وتصغير خريم بالخاء المعجمة والراء (وحكيم بن حزام) بكسر الحاء وبالزاء ولد في الكعبة قبل عام الفيل بثلاث عشرة سنة ولا يعرف أحد ولد في الكعبة غيره على الأشهر وفي مستدرك الحاكم أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ولد أيضا في داخل الكعبة عاش مائة وعشرين سنة ستين في الجاهلية وستين في الإسلام وروي أنه لما حج في الإسلام أهدي مائة بدنة مجللة بالخبر وأهدي ألف شاة ووقف وأعتق بمائة وصيف بعرفات في أعناقهم أطواق الفضة منقوش عليها عتقاء الله (وغيرهم) أي ومن حديث غيرهم (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم: كان أزهر اللّون) أي نيره أو أحسنه ومنه زهرة الحياة الدنيا أو أبيضه لحديث أبيض مشرب حمرة وهو أفضل ألوان البياض ومعنى قوله ليس بالأبيض الأمهق والا بالأدم بل هو أزهر وهو بين البياض والحمرة وقيل معنى أزهر ما قابل السمرة وابيض ما سواه ودليله قول عائشة رضي الله تعالى عنها كنت أدخل الخيط في الإبرة حال الظلمة لبياض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومنه قول ابي طالب في مدحه عليه الصلاة والسلام:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
(أدعج) أي شديد سواد الحدقة (أنجل) بالنون والجيم أي ذا نجل بفتحتين وهو سعة شق العين مع حسنها (أشكل) في بياض عينيه يسير حمرة ووهم سماك بن حرب ففسره في مسلم بأنه طويل شق العين (أهدب الأشفار) أي كثير شعر حروف أجفان عينيه وهو الهدب جمع شفر بضم وفتح وهو شفير حرف العين وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا أن الله تعالى لا يعذب حسان الوجوه سود الحدق يعني من المسلمين قال التلمساني والظاهر أنه لا يعذبهم يعني الكافرين وهم في تلك الصورة بل يسود وجوههم ويزرق أعينهم كما يدل عليه قوله تعالى يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ وقوله وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (أبلج) بالموحدة والجيم أي أبلج الوجه وهو مشرقه ولم يرد أبلج الحاجبين أي نقي ما بينهما لحديث أم معبد في دلائل البيهقي وغيره أنها وصفته بأنه أبلج الوجه أقرن أي(1/159)
متصل الحاجبين (أزجّ) بالزاء والجيم والمشددة أي دقيق شعر الحاجبين طويلهما إلى مؤخر العين مع تقوس (أقنى) أي مرتفع قصبة الأنف مع احديداب يسير فيها هذا والمشهور أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان اشم الانف أي مرتفع قصبته مع استواء أعلاه قال في الصحاح فإن كان فيها احديداب فهو القنى وقد يجمع بينهما بأن ارتفاعها كان يسيرا جدا من رآه متأملا عرفه اشم ومن لم يتأمله ظنه أقنى (أفلج) بالفاء والجيم أي متباعد ما بين ثناياه وقلته ممدوحة (مدوّر الوجه) أي لكن إلى الطول أميل لما ورد في شمائله أن وجهه لم يكن مدورا وقد يشبه تدوير الوجه بالدينار لاستواء دائرته (واسع الجبين) وهو ما اكتنف الجبهة من يمين وشمال فهما جبينان فيما بين الحاجبين (كثّ اللّحية) بتشديد المثلثة أي كثير شعرها بحيث (تملأ صدره) أي ما يقابلها مع قصر فيها وانبساط إذ كان يأخذ منها ما زاد على القبضة وربما كان يأخذ من أطرافها أيضا والحاصل أنه لم يكن كوسج ولا خفيف اللحية ولا مقصوصها غير نازلة إلى صدره وقال التلمساني روي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال من سعادة المرء خفة عارضيه ويروى لحيته ومعناه أنها لا تكون طويلة فوق الطول وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اعتبروا عقل الرجل في ثلاث في طول لحيته ونقش خاتمه وكنيته وعن الحسن بن المثنى أنه قال إذا رأيت رجلا ذا لحية طويلة ولم يتخذ لحية بين لحيتين كان في عقله شيء وقيل ما طالت لحية إنسان قط إلا ونقص من عقله مقدار ما طال من لحيته ومنه قول الشاعر:
إذا كبرت للفتى لحية ... فطالت وصارت إلى سرته
فنقصان عقل الفتى عندنا ... بمقدار ما طال من لحيته
(سواء البطن والصّدر) بالإضافة إليهما ونصب سواء أي كان مستويهما تلويح باعتدالهما خلقا وإشعارا بأن خروجهما أو احدهما عن الاعتدال بروزا أو تطامنا ليس بمحمود وروي برفع سواء منونا مع رفع البطن والصدر (واسع الصّدر) أي حسا ومعنى إذ وسع كل أحد شفقة وحلما (عظيم المنكبين) بكسر الكاف تثنية المنكب وهو مجمع عظم العضد والكتف (ضخم العظام) أي غليظها مطلقا وخصوصا كان (عبل العضدين) مثنى عضد بفتح وضم هو الصحيح وهو الساعد من المرفق إلى الكتف والعبل بفتح عين وسكون موحدة أي ضخمها وكذا قوله (والذّراعين) وهو ما بين مفصل الكف والمرفق (والأسافل) أي الفخذين والساقين وهذا كله مما يؤذن بكمال قوته لحديث البخاري أنه أعطي قوة ثلاثين رجلا (رحب الكفّين) بفتح الراء وسكون الحاء أي واسعهما صورة ومعنى إذ وسع كل أحد عطاء وقال الدلجي في نوع الترشيح من بديعيته.
عم الورى بيد سحاء يرشحها ... عطاؤه ليس يخشى الفقر من عدم
(والقدمين) أي واسعهما طولا وعرضا، (سائل الأطراف) أي تام الأيدي والأرجل(1/160)
والأصابع طويلها وهو بالسين المهملة وروي بالمعجمة (أنور المتجرّد) بفتح الراء المشددة أي كان ما تجرد من بدنه أشرق من غيره (دقيق المسربة) بفتح ميم وسكون سين مهملة وضم راء وقال التلمساني وبفتحها وهي خيط الشعر الذي بين الصدر والسرة ودقيق بالدال قال التلمساني ويجوز فيه الراء قلت بينهما فرق دقيق (ربعة القدّ) بفتح الراء وسكون الموحدة أي مربوع القامة كما رواه البيهقي وابن أبي حيثمة في تاريخه، (ليس) أي هو أوقده (بالطّويل البائن) أي المفرط في الطول من بان بمعنى بعد أو ظهر (ولا بالقصير المتردّد) بكسر الدال وهو الذي كأنه تردد بعض خلقه على بعض من قصره والجملة بيان لما قبلها (ومع ذلك) أي مع كونه ربعة (فَلَمْ يَكُنْ يُمَاشِيهِ أَحَدٌ يُنْسَبُ إِلَى الطُّولِ إلّا طاله) أي غلبه النبي (عليه الصلاة والسلام) في الطول مزية خص بها تلويحا بأنه لم يكن أحد عند ربه أفضل منه لا صورة ولا معنى، (رجل الشّعر) بكسر الجيم ويفتح وقد يسكن وبفتح العين وتسكن أي بين الجعودة والسبوطة، (إذا افتر) بتشديد الراء أي إذا أبدى أسنانه حال كونه (ضاحكا) أي متبسما (افترّ) أي انكشف (عن مثل سنا البرق) بقصر سنا وقد يمد وقيل بالقصر النور وبالمد الشرف والعلو أي يشبه ضوءه، (وعن مثل حبّ الغمام) أي السحاب وهو البرد بفتحتين يعني مثله في البياض والصفاء وامتزاج الماء فهو بهذا الاعتبار العالي أولى من تشبيه الأسنان باللآلي ثم التشبيه الثاني أبلغ من الأول فتأمل وقد أبعد الدلجي في تفسير حب الغمام بقطراته ثم قال شبه بياض ثغره في صفائه ونقائه بضوء البرق وما يطفو على ثناياه من ريقه بقطرات الغمام تشبيها بليغا انتهى موهما أن التركيب من التشبيه البليغ وليس كذلك كما لا يخفى على أرباب المعاني والبيان وقيل أول ما يضحك تلألأ كالبرق وإن بدت أسنانه فهو كالبرد، (إذا تكلّم رئي) بكسر راء وسكون ياء فهمزة مفتوحة وروي رئي بتقديم الهمز مجهولا من الرؤية وهو ظاهر ولعل الأول من قبيل القلب دخل فيه الاعلال قال التلمساني وهو الأفصح والمعنى ظهر (كالنّور) أي شيء مثل النور (يخرج من ثناياه) أي يبدو منها أو من سناها بكثرة بياضها وشدة صفائها أو إيماء إلى درر كلماته وغرر بنائها والحديث رواه الترمذي في شمائله والدارمي والبيهقي (أحسن النّاس) بالنصب عطفا على ما سبق ويجوز أن يكون بالرفع على أن التقدير هو أحسن الناس (عنقا) أي جيدا لاعتداله في كماله (ليس بمطهّم) بتشديد الهاء المفتوحة أي لم يكن مدور الوجه على في الصحاح وغيره وقيل هو السمين الفاحش وقيل المنتفخ الوجه وقيل النحيف الجسم، (ولا مكلثم) بفتح المثلثة أي لا بمجتمع لحم الوجه بل مسنون الوجه والحاصل أنه لم يكن وجهه مفرطا في الاستدارة وأما حديث علي وفي وجهه تدوير فمعناه أن فيه نوع تدوير أي قليلا منه وأبعد اليمني في قوله يريد عنقه أي ليس بمدور ولا بمجتمع بل إنه مستطيل (متماسك البدن) أي ليس برهل ولا مسترخ لحمه بل يمسك بعضه بعضا ويقويه ويشده(1/161)
(ضرب اللّحم) أي خفيفه ولطيفه لا يابسه وكثيفه وقيل هو اللحم بين اللحمين لا بالناحل ولا بالمطهم. (قال البراء) بن عازب أي كما رواه الشيخان وغيرهما (ما رأيت من ذي لمّة) بكسر لام وتشديد ميم وهي من شعر الرأس ما يجاوز شحمة الأذن ويلم بالمنكبين (في حلّة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) ظاهره أنها ثوب واحد بشهادة وصفها بحمراء مع اتفاق أهل اللغة أنها لا تطلق إلا على ثوبين بشهادة حديث وعليه حلة أتزر بإحديهما وارتدى بالأخرى ولك أن تجيب بأن وصفها باعتبار لفظها لا باعتبار معناها وكفى به دليلا لمن جوز لبس الأحمر بلا كراهة كالشافعي ومالك رحمهما الله تعالى كذا ذكره الدلجي وفي القاموس الحلة بالضم ازار ورداء بردا أو غيره ولا تكون حلة إلا من ثوبين أو ثوب له بطانة وكذا قال الخليل وغيره لأن كل واحد يحل على الآخر أو على الجسم وقيل الثوب الجديد الذي من طيه فاندفع دعوى اتفاق أهل اللغة على الإطلاق بل قال المنجاني إن هذا الحديث يرد عليهم انتهى وليس في الحديث الذي استشهد به دلالة إلا على أحد استعمال الحلة وأما كون هذا الحديث دليلا كافيا لتجويز لبس الأحمر فهو كاف مع قطع النظر عما ورد فيه أنواع من الخبر والأثر مما يدل على كراهة لبسه في الحضر والسفر مع أن الحديث ليس فيه تصريح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لبس الأحمر بل يدل على أنه ما رؤي من كان صاحب لمة ولابس حلة حمراء مع أن الحسن في تلك الحالة على غاية من الصفاء فنفى أن يكون أحسن من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أي لبس كان أو على تقدير لابسه ثم على تسليم لبسه يحمل على بيان الجواز وأن النهي وارد على سبيل الكراهة لا التحريم أو أنه قضية واقعة يحتمل وقوعها قبل النهي مع أنه قد يقال للثوب الذي فيه خطوط حمر كثيرة أنه أحمر فتدبر فإن الجمع بين الأحاديث المتعارضة هو المعتبر وقد قال أبو عبيد الحلل يرد اليمن ثم الدليل المبيح والمحرم إذا اجتمعا يقدم دليل المحظور مع أنه يكفي في دليل امتناعه التشبه بالنساء ولا شك أن تركه أحوط في حق الرجال العقلاء ومع وجود هذه الأنواع من الاحتمال كيف يكفي للاستدلال والله تعالى أعلم بالحال وأغرب الانطاكي الحنفي حيث قال في حاشيته وفي هذا دليل على جواز لبس الأحمر للرجال وادعى النووي الإجماع على جواز لبسه في المهذب انتهى ولا يخفى أن دعوى الإجماع باطلة مع وجود مخالفة الإمام الأعظم في المسألة وغيره من الأئمة ولعله أراد به الاتفاق في مذهبه والله تعالى أعلم بمقاله ومشربه هذا وقد قال المنجاني وقد اختلف السلف الماضون في ذلك فكره بعضهم لبسها هي والمصبوغة بالصفرة وأجازهما قوم آخرون وفرق بعضهم في هذا بين المشبع في الصبغ وغير المشبع فأجاز ما لم يكن مشبعا وكره ما أشبع صبغه ورأى آخرون أن ما اتخذ من هذه الثياب للمهنة جاز مطلقا وما اتخذ للباس كره ودليل الأولين ما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى(1/162)
أن يتعصفر الرحل ويتزعفر وروي في الصحيح عن ابن عمر قال رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على ثوبين معصفرين فقال الفقهاء فإنها ثياب الكفار وقال إبراهيم الخزاعي حدثتني عجوز قالت كنت أرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رأى على الرجل الثوب المعصفر ضربه وقال دعوا هذه الثياب للنساء وأما ما ذكره المنجاني من نسبة عدم الكراهة لأبي حنيفة فغير صحيح والله تعالى أعلم. (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) والمساواة منفية أيضا بالمشاهدة العرفية (كأنّ الشّمس تجري في وجهه) أي يتوهج كتوهج الشمس لحسنه وصفائه وبهاء ضيائه وقال التلمساني وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم هبط علي جبريل فقال يا محمد إن الله تعالى يقول كسوت حسن يوسف من نور الكرسي وكسوت نور وجهك من نور عرشي، (وإذا ضحك يتلألأ) بهمزتين أي تلمع ثناياه كاللآلي (في الجدر) بضمتين جمع الجدار وهو حائط الدار رواه أحمد والترمذي وابن حبان. (وقال جابر بن سمرة) رضي الله تعالى عنه كما رواه الشيخان وغيرهما (وقال) أي والحال أنه قال (له رجل كان) وفي رواية أكان (وجهه صلى الله تعالى عليه وسلم مثل السّيف؟ فقال) أي جابر (لا) أي لقصور ضيائه واحتمال فناء صفائه ولتوهم طول بنائه (بل مثل الشّمس والقمر) أي بل كان نظيرهما لاشتمالهما على كمال النور وعلى نوع من الاستدارة في مقام الظهور ولذا قال تصريحا بما قدمه تلويحا، (وكان) أي وجهه (مستديرا) أي لا مستطيلا فلا ينافي ميلانه إلى الطول. (وَقَالَتْ أُمُّ مَعْبَدٍ فِي بَعْضِ مَا وَصَفَتْهُ به) أي من رواية البيهقي في دلائله عن أخيها حبيش بن خالد عنها (أجمل النّاس) أي أتمهم جمالا وحسنا صوريا (من بعيد وأحلاه) أي أحلى الناس وأفرد لأنه اسم جنس فروعي لفظه دون معناه وكذا قول (وأحسنه من قريب) أي تبين حلاوة ملاحته وطراوة فصاحته. (وفي حديث ابن أبي هالة) أي الآتي (يتلألأ) أي يضيء (وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر) خص به لأنه زمان كماله وسمي بالبدر لمبادرته الشمس للغروب ليلة تمامه ومبادرتها إياه للطلوع في صباحه (وقال عليّ رضي الله تعالى عنه) على ما في جامع الترمذي وشمائله (في آخر وصفه) أي نعت علي له صلى الله تعالى عليه وسلم (من رآه بديهة) أي مفاجأة من غير روية كناية عن أول الوهلة (هابه) أي خافه مخافة العظمة ووقع في قلبه منه المهابة (ومن خالطه معرفة) أي من حيث عرف ما كان عليه من حسن العشرة ودوام البشاشة فنصبها على التمييز وأبعد التلمساني في جعلها مفعولا له أو حالا (أحبّه، يقول ناعته) أي واصفه (لم أر) أحدا من الناس (قبله ولا بعده مثله صلى الله تعالى عليه وسلم) لكرم شمائله وشرف فضائله والمراد من قوله قبله أي قبل وجوده ولا بعده استيفاء زمانه وإلا فعلي كرم الله وجهه أصغر سنا منه صلى الله تعالى عليه وسلم وهذا إذا كانت الرؤية بصرية وأما إذا كانت علمية فلا إشكال والله أعلم بالحال. (والأحاديث في(1/163)
بسط صفته) أي تفصيل نعوته (مشهورة) أي عند المحدثين (كثيرة) أي عند المؤرخين (فلا نطيل) أي الكتاب (بسردها) أي بذكرها متصلة مفصلة في الأبواب (وقد اختصرنا) أي أوردنا على وجه الاختصار (في وصفه نكت) وفي نسخة على نكت (ما جاء فيها) بضم النون وفتح الكاف جمع نكتة أي لطائف ودقائق ما ورد في تلك الأحاديث (وجملة) أي وأوردنا جملة مجملة (ممّا فيه كفاية) ومن بيانية أو تبعيضية (في القصد إلى المطلوب) أي من وصف المحبوب، (وختمنا هذه الفصول) أي الكافلة باعتبار كل فصل بإبراز ما ورد في وصفه وفضله (بِحَدِيثٍ جَامِعٍ لِذَلِكَ نَقِفُ عَلَيْهِ هُنَاكَ إِنْ شاء الله تعالى) .
فصل [وأما نظافة جسمه وطيب ريحه وعرقه عليه الصلاة والسلام]
(وأمّا نظافة جسمه) أي لطافة بدنه، (وطيب ريحه) أي الخارج منه (وعرقه) أي وطيب عرقه وهو بفتحتين رطوبة تلحق الإنسان بسبب حرارة أو غيرها، (ونزاهته) أي تباعده وبراءته (عن الأقذار) بالذال المعجمة أي الأوساخ والأدناس الحسية المعنوية بل كما قيل عن الأنجاس الحقيقية (وعورات الجسد) أي ونزاهته عيوب توجد في أجساد الناس مما يشين الإنسان والعورة بسكون الواو ويحرك مأخوذة من العار الذي يلحق الذم بسببه كنقص فيه وخلل في عضو منه (فكان قد خصّه الله في ذلك) أي ما ذكر (بخصائص لم توجد في غيره) الجملة صفة كاشفة لما قبلها (ثمّ تمّمها) أي كمل تلك الخصائص الحسية (بنظافة الشّرع) أي بلطائف الآداب الشرعية والخصائص المعنوية التي من جملتها قوله (وخصال الفطرة) وهي أصل الخلقة فإن الله تعالى خلق عباده قابلين للحق حتى لو خلوا وما خلقوا عليه لاهتدوا به كما ورد حديث كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه الحديث وقال تعالى فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وقال أبو بكر ابن العربي هي عبارة عن أصل الخلقة فإن الإنسان يخلق سليما من عشرة أقذار ثم تطرأ عليه ثم أمر بالتنظيف منها أو المراد بالفطرة هي الإسلام والمذكورة في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم عشر من الفطرة ولذلك أتى بالألف واللام للمعهود علما كقوله تعالى إِذْ هُما فِي الْغارِ وإن لم يتقدم لها ذكر فقد علم ضرورة فالمعنى خصال دينية (العشر) أي خصوصا لما في مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الابط وحلق العانة وانتقاص الماء قال مصعب بن شيبة راويه ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة وقال وكيع انتقاص الماء يعني الاستنجاء وروى أبو داود نحوه إلا أنه قال بدل انتقاص انتضاح وفي رواية انتقاض بفاء وضاد معجمة وكلها كناية عن الاستنجاء هذا وحلق اللحية منهي عنه وأما إذا طالت زيادة على القبضة فله أخذها هذا وقال المؤلف في شرح مسلم ولعل العاشرة الختان لأنه مذكور في قوله عليه الصلاة والسلام الفطرة خمس أو(1/164)
خمس من الفطرة قلت فإذن يعد المضمضة والاستنشاق خصلة واحدة لاتحاد حكمهما والله تعالى أعلم. (وقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والأولى قد بدون واو (بني الدّين على النّظافة) أي الطهارة الباطنة والظاهرة وهذا الحديث وإن قال العراقي في تخريج أحاديث الاحياء لم أجده هكذا بل في الضعفاء لابن حبان من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها تنظفوا فإن الإسلام نظيف وللطبراني في الأوسط بسند ضعيف من حديث ابن مسعود رضي الله عنه النطافة تدعو إلى الإسلام انتهى فقد روى الرافعي في تاريخه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه بعض حديث مرفوعا تنظفوا بكل ما استطعتم فإن الله تعالى بنى الإسلام على النظافة ولن يدخل الجنة إلا كل نظيف وينصره حديث الترمذي أن الله نظيف يحب النظافة فنظفوا أفنيتكم (حدّثنا سفيان بن العاصي) بتثليث سين سفيان سمع الباجي وابن عبد البر وغيرهما وأخذ عنه المصنف وأكثر (وغير واحد) أي كثيرون من مشايخنا (قالوا حدّثنا أحمد ابن عمر) صاحب كتاب الاعلام بأعلام النبي عليه السلام (قال حدّثنا أبو العبّاس الرّازيّ) وهو ابن بندار الخراساني، (قال حدّثنا أبو أحمد الجلوديّ) بضم الجيم بلا خلاف ذكره الدلجي وغيره قال التلمساني بضم الجيم وفتحها منسوب لجلود قرية ببغداد وقيل بالشام وقيل سكة نيسابور الدراسة وقيل بإفريقية وقيل كان يبيع الجلود وكان شيخا صالحا نيسابوريا ينتحل مذهب سفيان الثوري (قال حدّثنا ابن سفيان) أي المروزي النيسابوري (قال حدّثنا مسلم) أي النيسابوري صاحب الصحيح روى عن أحمد بن حنبل وغيره وعنه الترمذي وابن خزيمة وأبو عوانة وغيرهم (قال حدّثنا قتيبة) هو ابن سعيد الثقفي البلخي يكنى أبا رجاء سمع الليث ومالكا وابن عيينة وغيرهم (حدّثنا جعفر بن سليمان) الضبعي سمع ثابتا البناني ومالك بن دينار وروى عنه ابن المبارك قيل مع كثرة علمه كان أميا (عن ثابت) هو ثابت كاسمه وهو ابن أسلم البناني بضم الموحدة يروي عن أنس وابن عمر وابن الزبير وخلق وعنه الحمادان وأمم وكان رأسا في العلم والعمل يلبس الثياب الفاخرة ويقال لم يكن في وقته أعبد منه أخرج له الجماعة وهو ثقة بلا مدافعة (عن أنس) خادم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جاوز عمره المائة وكذا أولاده وفي الصحابة من اسمه أنس اثنان وعشرون وفيهم أنس بن مالك اثنان هذا وهو المشهور وأنس بن مالك أبو أمية القشيري وقيل الكعبي وانتقل أنس إلى البصرة في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه ليفقه الناس بها وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة، (قال ما شممت) بكسر ثانية ويفتح (عنبرا) هو شيء لفظه البحر أي رمى به ويقال إنه روث دابة من دواب البحر ولا يصح وأصول الطيب خمسة أصناف المسك والكافور والعود والعنبر والزعفران وكلها تحمل من أرض الهند إلا الزعفران والعنبر وأجود العنبر هو المدور الأبيض كبيض النعام أو دون ذلك (قطّ) أي فيما مضى من عمري وهو بفتح قاف وتشديد طاء مهملة مضمومة وتنون وهي للأبد لما مضى وقد تكسر الطاء ويضمان وتخفف الطاء مع ضمها وإسكانها (ولا مسكا) وأطيب المسك ما خرج من الظباء بعد بلوع النهاية في النضج وغزلان(1/165)
المسك نوع خاص من الظباء (ولا شيئا) أي آخر من أنواع الطيب (أطيب) أي أفيح (من ريح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) وتتمته ولا مست قط ديباجا ولا حريرا ولا شيئا ألين لمسا من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والحديث كما ترى في مسلم وكذا في الشمائل. (وعن جابر بن سمرة) أي فيما رواه مسلم أيضا عنه قال صليت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم خرج وأنا معه فاستقبله ولدان فجعل يمسح خدي أحدهم واحدا واحدا وأما أنا فمسح خدي فوجدت ليده بردا أو ريحا كأنما أخرجها من جونة عطار كذا في مسلم أو ريحا بالألف وكثيرا ما يوجد بدونها فلعله رواية فيه ولهذا رواه بلفظ (أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم مسح خدّه) أي جانب وجهه مما يلي الوجنة من الأسفل (قَالَ فَوَجَدْتُ لِيَدِهِ بَرْدًا وَرِيحًا كَأَنَّمَا أَخْرَجَهَا من جؤنة عطّار) وهو بضم الجيم وسكون الواو وقد تهمز أو همزتها أصلية وقد تبدل لا أنها تحذف كما قال الدلجي وهي سفط مغشي بجلد يجعل فيه العطار طيبه والعطار فعال نسبة لا مبالغة، (قال غيره) أي غير جابر بن سمرة (مسّها بطيب أم لم يمسّها يصافح) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (المصافح) أي له (فيظلّ) بفتح معجمة وتشديد لام يقال ظل يفعل كذا إذا فعله نهارا ففي الكلام تجريد أو تأكيد وقد يجيء بمعنى دام وصار والمعنى فيصير ذلك المصافح له (يومه) أي طول نهاره (يَجِدُ رِيحَهَا، وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِ الصَّبِيِّ) أي مثلا (فيعرف) بصيغة المجهول أي فيميز (من بين الصّبيان) بكسر الصاد ويضم جمع الصبي (بريحها) أي بسبب ريح يده صلى الله تعالى عليه وسلم على رأس ذلك الصبي (ونام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي كما رواه مسلم (في دار أنس) أي على فراش أمه أم سليم بضم السين بنت ملحان بكسر الميم وقيل بفتحها وأما ما وقع في بعض كتب الشافية أن أم سليم جدة أنس رضي الله تعالى عنه فخطأ (فعرق) بكسر الراء (فجاءت أمّه) أي أم أنس (بقارورة) أي بإناء من زجاج (تجمع فيها عرقه) أي تبركا وتطيبا (فسألها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك) أي عن جمعها إياه المستفاد من الفعل (فقالت نجعله في طيبنا وهو) أي طيبه أو طيبنا باختلاط طيبه (من أطيب الطّيب) بل أطيب وفي رواية نرجو بركته لصبياننا زاد البخاري فأوصى أنس أن يجعل منه في حنوطه قال الدلجي وإنما نام على فراشها لأنها وأختها أم حزام كما في إكمال المصنف خالتاه من الرضاعة وأنكر فإن صح ففي الحديث جواز الخلوة بمن بينها وبينه محرمية أو النوم عندها لعصمته صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى وهو غريب إذ ليس في الحديث ما يدل على وقوع الخلوة مع أن جوازها مع المحرم لا يعرف له خلاف وقد ورد لا يخلون رجل بامرأة ثيب إلا أن يكون ناكحا أو ذا محرم ثم قوله لعصمته ينافي ما استدل به على جوازه لكونها علة لاختصاصه فكان حقه أن يقول وإلا أي وإن لم يصح فالنوم عندها لعصمته صلى الله تعالى عليه وسلم هذا وفي صحيح مسلم أنه كان يدخل بيت أم سليم وينام على فراشها إذا لم تكن فيه فجاء ذات يوم فنام عليه فأتت فقيل لها هذا النبي نائم على فراشك فجاءت وقد عرق(1/166)
الحديث. (وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ عَنْ جَابِرٍ) أي ابن عبد الله صحابيان أنصاري آخر من مات بالمدينة من الصحابة وعنه استغفر لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خمسا وعشرين استغفارة كل ذلك أعده بيدي يقول أديت عن أبيك دينه فأقول نعم فيقول يغفر الله لك (لم يكن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يمرّ في طريق) أي من طرق المدينة وغيرها (فيتبعه) بتخفيف التاء وفتح الباء وبتشديد التاء وكسر الباء ويرفع وينصب أي فيجيء عقبه (أحد إلّا عرف) أي ذلك الأحد (أنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (سلكه) أي دخل ذلك الطريق ومر به (من طيبه) متعلق بعرف أي من أجل طيبه وبسببه وروى البزار وأبو يعلى بسند جيد عن أنس رضي الله عنه كان إذا مر في الطريق من طرق المدينة وجد فيه رائحة الملك فيقال مر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من هذا الطريق. (وذكر إسحاق بن راهويه) بضم هاء ثم فتح ياء وتاء على الصحيح وهو مروزي عالم خراسان روى عنه الجماعة إلا ابن ماجة (أنّ تلك) أي الرائحة (كانت رائحته) بالنصب وفي نسخة أن تلك رائحته أي في اصل خلقته (بلا طيب صلى الله تعالى عليه وسلم) أي من غير استعمال طيب في ثوبه أو بدنه وروى ابن أبي بكر في سيرته أن أم سلمة وضعت يدها على صدر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد موته فمكثت جمعا لا تأكل ولا تتوضأ إلا وجدت ريح المسك بين يديها.
(وروى المزنيّ) بضم ميم وفتح زاي فنون وياء نسبة مصري كان ورعا زاهدا مجاب الدعوة متقللا من الدنيا قال الشافعي رحمه الله في حقه لو ناظر الشيطان لغلبه له تصانيف كالمبسوط والمختصر وغيرهما وصنف كتابا مفردا على مذهبه لا على مذهب الشافعي وهو مدفون بالفراقة بالقرب من قبر الشافعي وفي نسخة صحيحة الحربي وهو بحاء مهملة وباء موحدة وهو إبراهيم بن إسحاق حنبلي المذهب أصله من مرو ونسب إلى الحربية وهي محلة معروفة ببغداد وهي تنسب إلى حرب بن عبد الله صاحب المنصور (عن جابر أردفني النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي أركبني (خلفه) الردف بكسر الراء من يركب خلف راكب يقال اردفني فردفني (فالتقمت خاتم النّبوّة) بفتح التاء وكسرها يقال لقمه والتقمه أي أدخله في فمه كاللقمة والمراد بخاتم النبوة الذي كان كالتفاحة أو بيضة الحمامة أو كرز الحجلة بين كتفيه وقد أوضحته في شرح الشمائل (بفمي) وفي نسخة بفي بكسر الفاء وتشديد الياء وذكره من باب التأكيد كقولهم رأيت بعيني وسمعت بأذني (فكان) أي الخاتم (ينمّ) بكسر النون وتضم وبتشديد الميم أي يجلب الريح ويفوح (عليّ مسكا) أي ريح مسك أو كمسك ومنه النميمة والطيب نمام أي يفوح وإن لم يرد صاحبه ذلك والزجاج كذلك لأن المرآة ترى للإنسان ما فيه من حسن أو قبح ولا تستر شيئا وفي المثل أتم من الزجاج وفي رواية يثج بضم مثلثة وقد تكسر أي يسيل تشبيها له بثج دماء الهدي أي سيلانها بسرعة ومعناه ههنا يفوح وتسطع رائحته بكثرة هذا وقد جمع بعضهم من أردفه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فبلغ نيفا وثلاثين ولم يذكر منهم جابرا (وقد حكى بعض المعتنين) اسم فاعل من الاعتناء أي المهتمين (بأخباره(1/167)
وشمائله) أي سيره وأثاره (صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يتغّوط) أي يريد إخراج الغائط وهو ما يبرز من ثفل الطعام من المحل المعتاد ويطلق على المطمئن من الأرض كما في قوله تعالى أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ (انشقّت الأرض فابتلعت غائطه وبوله وفاحت) بالفاء وفي نسخة بالباء الموحدة بدل الفاء أي ظهرت (لذلك رائحة طيّبة صلى الله تعالى عليه وسلم) ذكره البيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها وقال أنه موضع كما سيأتي. (وأسند محمّد بن سعد) روى عن ابن عيينة وعنه ابن أبي الدنيا (كاتب الواقدي) وهو صاحب الطبقات وله تأليف جيد مفيد في تعريف رجال الحديث قال ابن جماعة هو ثقة لكنه يروي عن الضعفاء منهم شيخه محمد بن عمر الواقدي والواقدي ولي القضاء ببغداد للمأمون وروى عن مالك حديثا كثيرا وروى عنه الشافعي وغيره واستقر الإجماع على ضعفه كما في الميزان (في هذا) أي في أن الأرض تبتلع ما يخرج منه وتفوح له رائحة طيبة (خَبَرًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قالت للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم إنّك تأتي الخلاء) هو بالمد (فلا نرى منك شيئا) ويروى فلا يرى منك شيء (من الأذى) بالقصر وهو ما يكره ويغتم به، (فقال يا عائشة أو ما) أي أجهلت وما (علمت أن الأرض تبتلع) وفي نسخة تبلع بفتح اللام (مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا يُرَى مِنْهُ شيء) وروى الدارقطني في إفراده عنها قالت قلت يا رسول الله أراك تدخل الخلاء ثم يجيء الرجل يدخل بعدك فما يرى لما خرج منك أثرا فقال أما علمت أن الله أمر الأرض أن تبتلع ما خرج من الأنبياء. (وهذا الخبر) أي الذي أسند ابن سعد (وإن لم يكن مشهورا) أي معروفا بين المحدثين وليس المراد به المشهور المصطلح عندهم نعم قال ابن دحية بعد أن أورده هذا سند ثابت قيل وهو أقوى ما في الباب ومع هذا (فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِطَهَارَةِ هذين الحدثين منه صلى الله تعالى عليه وسلم) عبر عن الخارجين بهما استهجانا للتصريح باسمهما (وهو قول بعض أصحاب الشّافعي رحمه الله) وعليه كثير من الخراسانيين لكن المعتمد في المذهب خلافه كما ذكره الدلجي وقال أبو بكر بن العربي بول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ونحوه طاهران وهو أحد قول الشافعي وقال النووي في الروضة إن بوله ودمه وسائر فضلاته طاهرة على أحد الوجهين وفيه أن الحديث السابق لا يدل على المدعي كما لا يخفى بل على ضده كما يدل عليه الابتلاع اللهم إلا أن يقال الريح الطيبة تدل على الطهارة وفيه بحث نعم قال البغوي بذلك مستدلا بشهادة الاستشفاء ببوله ودمه على ما نقله الدلجي وقرره وفيه نظر أيضا من جهة عدم لزومه إذ وقع الاستشفاء ببول الإبل والجمهور ومنهم القائل به على نجاسته. (حكاه) أي القول بطهارتهما (الإمام أبو نصر بن الصّبّاغ) بالباء الموحدة المشددة (في شامله) هو بغدادي شافعي المذهب له تآليف منها الشامل ومنها الكامل. (وَقَدْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ عَنِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ) أي في كونهما طاهرين أو نجسين (أبو بكر) وفي رواية ابو الحسن (بن سابق) بكسر الموحدة (الْمَالِكِيُّ فِي كِتَابِهِ الْبَدِيعُ فِي فُرُوعِ الْمَالِكِيَّةِ وتخريج ما لم يقع لهم) أي للمالكية (منها) أي من الفروع التي هي(1/168)
(على مذهبهم) أي ولم يخرجوها وإنما خرجت (من تفاريع الشّافعيّة) والظاهر المتبادر أن قوله وتخريج مجرور عطفا على فروع كما أشار إليه التلمساني وصرح به الانطاكي وأبعد الدلجي وجعله منصوبا عطفا على القولين ثم قال والتخريج في اصطلاحهم أن ينص الشافعي على حكمين مختلفين في صورتين متشابهتين ولم يظهر لهم ما يصلح فارقا بينهما فينقلوا نصه في كل صورة منهما إلى الأخرى كمسألتي الاجتهاد في الأواني والقبلة إذ قد منع في الأولى العمل بتغيير الاجتهاد وجوزه في الثانية فنقلوا منعه في تلك إلى هذه وتجويزه في هذه إلى تلك فصار في كل قولين منصوص عليهما ومخرج المنصوص في كل هو المخرج في الأخرى، (وشاهد هذا) أي دليل هذا القول على طهارة ما ذكر (أنّه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ شَيْءٌ يُكْرَهُ ولا غير طيّب) وفيه أنه منقوض بما صح عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبأنه كان يستنجي بنحو حجر ومدر وأيضا أنه لو كان الخارجان منه طاهرين لما كانا حدثين ناقضين كالعرق والدمع والبزاق والمخاط ونحوها والإجماع على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم في نواقض الوضوء كالأمة إلا ما صح استثناؤه كالنوم بدليل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان ينام عيناه ولا ينام قلبه كما سيأتي. (ومنه) أي ومن الشاهد بأنه لَمْ يَكُنْ مِنْهُ شَيْءٌ يُكْرَهُ وَلَا غَيْرُ طيب (حديث عليّ رضي الله عنه) أي فيما رواه ابن ماجة وأبو داود في مراسيله أنه قال (غسّلت النّبيّ عليه الصلاة والسلام) بتشديد السين وتخفيفها وهو أظهر (فذهبت) أي شرعت وقصدت (أنظر ما يكون من الميّت) أي من خروج دم وغيره من النجاسات عند خروج روحه أو حين غسله (فلم أجد شيئا) أي منها خرج منه، (فقلت طبت حيّا وميّتا) ونصبهما على الحال أو على نزع الخافض أي في الحياة والممات أو على التمييز ذكره التلمساني ولا يخفى بعد ما عدا الأول فتأمل فإنه موضوع زلل ومحل خطل ثم أنت ترى أن هذا الحديث لا يصلح أن يكون شاهدا كما لا يخفى وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه حين غسل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مسح بطنه فلم يجد شيئا فقال طبت حيا وميتا وفي رواية فاح ريح المسك في البيت لما في بطنه قيل وانتشر في المدينة (قال) أي على (وسطعت) أي ارتفعت وانتشرت وفاحت (مِنْهُ رِيحٌ طَيِّبَةٌ لَمْ نَجِدْ مِثْلَهَا قَطُّ ومثله) أي ومثل قول علي طبت حيا وميتا (قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قبّل النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بعد موته) رواه البزار عن ابن عمر بسند صحيح وهو بعض خبر في البخاري (ومنه) أي ومن الشاهد (شرب مالك بن سنان) بكسر السين المهملة وأما الشرب فبضم المعجمة ويجوز فتحها وكسرها (دمه) أي دم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يوم أحد ومصّه إيّاه) قيل شربه ابتلاعه ومصه أخذه من الجرح بفيه أو شربه ابتلاعه دفعة ومصه ابتلاعه قليلا قليلا وروي إذ ذلك مرفوعا من مس دمه دمي لم تصبه النار (وتسويغه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي تجويزه (ذَلِكَ لَهُ.
وَقَوْلُهُ لَهُ لَنْ تُصِيبَهُ النَّارُ) رواه الطبراني عن أبي سعيد الخدري عن أبيه مالك بن سنان وقتل(1/169)
مالك يوم أحد وهو جبل معروف يخفف ويثقل وقيل يخفف ذكره التلمساني والتشديد فيه غريب ورواه البيهقي عن عمر بن السائب ثم في الحديث قد يقال إن الضرورات تبيح المحظورات، (ومثله) وفي أصل الدلجي ومنه أي ومن الشاهد كما رواه الحاكم والبزار والبيهقي والبغوي والطبراني والدارقطني وغيرهم فالعجب من ابن الصلاح أنه قال هذا حديث لم أجد له أصلا بالكلية وهو في هذه الأصول (شُرْبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ دَمَ حِجَامَتِهِ فقال له عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ وَوَيْلٌ لهم منك ولم ينكر عليه) وفيه أن هذا حكم مسكوت عنه بعد وقوعه ولم يدخل تحت تقريره إذ لم يطلع على شربه حال فعله مع أن في قوله وَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِنْكَ نوع نكير عليه إذ الويل الفضيحة المترتبة على الفتنة وروى الزبير بن بكار أنه حين ولدته أمه رآه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال هو هو فسمعته أمه فامسكت عن إرضاعه فقال أرضعيه ولو بماء عينيك كيس كيس بين ذئاب في ثياب ليمنعن البيت وليقتلن دونه وهذا مما أخبر به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من المغيبات إذ قد بويع له بالخلافة سنة خمس وستين بعد وفاة معاوية وأطاعه أهل الحجاز واليمن والعراقين وخراسان وحج بالناس ثماني سنين ثم وقعت الفتنة وعمرو بن سعيد على المدينة نائبا لعبد الملك بن مروان فكان يبعث البعوث إليه منها إلى مكة حتى أرسل له عبد الملك الحجاج فابتدأ حصاره غرة ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين وحج تلك السنة الحجاج ووقف بعرفة عليه درع ومغفر ولم يطف الناس بالبيت في تلك الحجة فحاصره ستة اشهر وسبعة عشر يوما ثم قتل في نصف جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين وعمره اثنتان وسبعون سنة وايام على ما ذكره الدلجي وروى الشعبي قال هاج الدم برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فحجمه أبو طيبة فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اشكموه فأعطوه دينارا وقال ابن الزبير واره يعني الدم قال فتوارى ابن الزبير فشرب الدم فبلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فعله فقال اما إنه لا تصيبه النار أو لا تمسه النار قال الشعبي فقيل لابن الزبير كيف وجدت طعم الدم فقال أما الطعم فطعم العسل وأما الرائحة فرائحة المسك أقول فهذا من باب قلب الأعيان الذي عد من معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبهذا يندفع نزاع الفقهاء ويؤيده ما ذكره التلمساني عن عائشة رضي الله تعالى عنها وذكرت أنها لا تجد في الخلاء شيئا فقال أنا معاشر الأنبياء تنبت أجسادنا على أرواح الجنة فما خرج منها من شيء ابتلعته الأرض ولكن رواه البيهقي في الدلائل عنها ثم قال هذا من موضوعات الحسين بن علوان لا ينبغي ذكره ففي الأحاديث الصحيحة المشهورة من معجزاته كفاية عن كذب ابن علوان انتهى وروي أن رجلا قال رأيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أبعد في المذهب فلما خرج نظرت فلم أر شيئا ورأيت في ذلك الموضع ثلاثة أحجار اللاتي استنجى بهن فأخذتهن فإذا بهن يفوح منهن روائح المسك فكنت إذا جئت يوم الجمعة المسجد أخذتهن في كمي فتغلب رائحتهن روائج من تطيب وتعطر (وقد روي نحو من هذا عنه) أي عن النبي(1/170)
صلى الله تعالى عليه وسلم (في امرأة شربت بوله) أي من غير علم بأنه بول كما سيأتي (فقال لها لن تشتكي) بإسكان الياء على أن النون حذفت للناصب (وجع بطنك أبدا) وفي رواية لن تلج النار بطنك والحديث رواه الحاكم وأقره الذهبي والدارقطني. (ولم يأمر واحدا منهم) أي أحدا ممن شربه وفيه تغليب الرجال على النساء (بغسل فمه) لا دلالة في الأحاديث على الأمر ولا على عدمه مع أن غسل الفم من البول كان عندهم من قبيل المعلوم بالضرورة وعلى تسليم عدم الأمر لا يثبت طهارته لاحتمال الذهول أو للاعتماد على الظهور إلا أن يثبت أنه رأى أحدا منهم يصلي من غير غسل فم مثلا وسكت عليه وأقره كما هو مقرر عند أرباب الأصول، (ولا نهاه) أي أحدا (عن عودة) أي عن عود شرب بوله وفيه أنه لا يحتاج إلى النهي عن العود إلا إذا وقع ذلك الفعل عن العمد من غير ضرورة ولا حالة جذبه وسيأتي اعتذارها بأنها شربته بغير علمها وفي نسخة صحيحة بلفظ عودة بالتاء للوحدة هذا وروى ابن عبد البر أن سالم بن أبي الحجاج حجمه صلى الله تعالى عليه وسلم ثم ازدرد أي ابتلع دمه فقال أما علمت أن الدم كله حرام وفي رواية لا تعد فإن الدم كله حرام. (وَحَدِيثُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الَّتِي شَرِبَتْ بَوْلَهُ صَحِيحٌ) أي ولصحته (ألزم الدّارقطني) بفتح الراء وتسكن نسبة إلى دار قطن محلة ببغداد وهو صاحب السنن وروى عنه الحاكم وأبو ذر الهروي وأبو نعيم وغيرهم (مسلما، والبخاري) أي كلا منهما (إخراجه) أي تخريج الحديث وذكره بإسناده (في الصّحيح) أي في كل من صحيح البخاري ومسلم إذ رجاله كرجالهما في الضبط والعدالة وغيرهما لكن إنما يتوجه هذا الإلزام عليهما لو التزما تخريج جميع الصحيح ولم يلتزماه والحاصل أن هذا الحديث في مرتبة الحديث الذي اتفق عليه الشيخان من كمال الصحة وإن لم يخرجاه في جامعيهما لكن انتقد عليه فإنه جاء من جهة أبي مالك النخعي وأنه ضعيف وفي علل الدارقطني أيضا أنه مضطرب من جهة أبي مالك والله تعالى أعلم، (واسم هذه المرأة بركة) بالفتحات (واختلف في نسبها) فقيل هي بنت يسار مولاة أبي سفيان بن حرب بن أمية كانت هي وزوجها قيس بن عبيد الله هاجرا مع أم حبية بنت مولاها ابي سفيان وزوجها عبيد الله بن جحش فلما تنصر زوج أم حبيبة وبقيت على الإسلام خطبها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فزوجها له النجاشي واصدقها عنه أربعمائة دينار أو اربعمائة أوقية ذهب ثم بعثها إليه مع شرحبيل ابن حسنة وقدمت بركة هذه معها وكانت تخدمها وتخدم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهي اسم لثلاثة منهن أم أيمن (وقيل هي أمّ أيمن) أي الحبشية مولاته وحاضنته ومرضعته ورثها من أبيه ثم أعتقها لما تزوج خديجة فتزوجها عبيد بن زيد من بني الحارث فولدت له أيمن وبه كنيت ثم تزوجها بعد النبوة زيد بن حارثة فولدت له أسامة حبه صلى الله تعالى عليه وسلم وإلى هذا القول ذهب ابن عبد البر وغيره وقال الواقدي كانت أم أيمن عسيرة اللسان فكانت إذا دخلت قال سلام اللا عليكم يعني سلام الله عليكم فرخص لها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن تقول سلام عليكم أو السلام عليكم كذا ذكره(1/171)
التلمساني تبعا للحلبي وفيه أن هذا جائز لغيرها أيضا فلا وجه للترخيص لها ولعل الرخصة أن تقول سلام بدون عليكم ويؤيده قولهم إن ذلك كان تكرمة لها وروي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال هي أمي بعد أمي (وكانت تخدم النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) بضم الدال وتكسر على ما في القاموس فاندفع قول التلمساني ولا يصح الكسر كما تقوله العامة، (قالت) أي المرأة (وكان لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قدح من عيدان) بفتح عين مهملة ووزنه فعلان أو فيعال جمع عيدانة وهي النخلة الطويلة وقيل بكسرها جمع عود (يوضع) أي القدح (تَحْتَ سَرِيرِهِ يَبُولُ فِيهِ مِنَ اللَّيْلِ فَبَالَ فيه ليلة ثمّ افتقده) أي طلبه ليصبه (فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ شَيْئًا فَسَأَلَ بَرَكَةَ عَنْهُ) أي عن بوله الذي كان في القدح (فَقَالَتْ قُمْتُ وَأَنَا عَطْشَانَةٌ فَشَرِبْتُهُ وَأَنَا لَا أعلم) أي أنه بول قال الدلجي تبعا لغيره من المحشيين الصواب عطشى لأنه مؤنث عطشان إلا أن تكون لغة قلت الصواب إن عطشانة جاء في لغة كما في القاموس وقيل هي لغة بني أسد ثم القدح إناء يشرب منه ويقال للصغير الغمر بضم الغين وهو أول الأقداح وهو الذي لا يبلغ الري ثم القعب وهو قد روى الرجل ثم القدح وهو يروي الاثنين والثلاثة ثم غيرها على ما في كتب اللغة والسرير مرفع يصنع من خشب ويوضع في ناحية من البيت أو السطح يتخذ للرقاد وقاية من الأض وما فيها. (روى حديثها) أي بكماله (ابن جريج) بالجيمين مصغرا مجمع على كونه ثقة ولد سنة ثمانين ومات سنة خمسين ومائة روى عن مجاهد وعطاء وطاوس وابن أبي مليكة وعنه ابن عيينة والثوري وغيرهما وهو مجمع على ثقته وهو أول من صنف الكتب في الإسلام وقد روى عن حكيمة بنت أميمة بنت أبي صيفي عن أمها قالت كان لرسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَحٌ مِنْ عِيدَانٍ يُوضَعُ تَحْتَ سريره ليبول من الليل فيه فبال فيه ليلة ووضع تحت سريره ثم افتقده فلم يجد فيه شيئا فقال لامرأة يقال لها بركة كانت تخدمه ما فعل بالبول الذي كان في هذا القدح فقالت يا رسول الله أني شربته وروى عبد الرزاق عنه قال أخبرت أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يبول في قدح من عيدان ثم يوضع تحت سريره فجاء فإذا هو ليس فيه شيء فقال لامرأة يقال لها بركة كانت تخدم أم حبيبة جاءت معها من أرض الحبشة أين البول الذي كان في القدح قالت شربته قال صحة يا أم يوسف وكانت تكنى أم يوسف فما مرضت قط حتى ماتت (وغيره) أي ورواه أيضا غير ابن جريج كأبي داود وابن حبان والحاكم عن أميمة عن أمها وروى الحاكم والدارقطني عن أم أيمن قالت قام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الليل إلى فخارة في جانب البيت فبال فيها فقمت من الليل وأنا عطشانة فشربت ما فيها وأنا لا أشعر فلما اصبح قال يا ام أيمن قومي فأهرقي ما في تلك الفخارة قد والله شربته فضحك ثم قال أما والله لا يجعن بطنك بعدها أبدا وهذا يدل على أنهما واقعتان وقعتا كما قال ابن دحية لبركة أم يوسف وبركة أم أيمن وينصره ما في خصائص تدريب البلقيني أنهما شربتاه هذا وقد شرب أيضا دمه عليه الصلاة والسلام أبو طيبة عاش مائة وأربعين سنة وسفينة مولى النبي صلى الله تعالى عليه(1/172)
وسلم رواه البيهقي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ذكره الرافعي في الشرح الكبير قال ابن الملقن ولم أجده في كتب الحديث (وكان النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قد ولد مختونا) أي لا قلفة له (مقطوع السّرة) بضم السين رواه أبو نعيم والطبراني في الأوسط وفي دلائل البيهقي بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنه عن أبيه أنه ولد معذورا مسرورا أي مقطوع السرة مختونا يقال عذره وأعذره ختنه وروى الخطيب عن أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعا وصححه أيضا في المختار من كرامتي على ربي أني ولدت مختونا ولم ير أحد سوءتي وقال الحاكم تواترت الأخبار بولادته مختونا وتعقبه الذهبي بقوله ما أعلم صحته فكيف يكون متواترا قلت يجوز أن يكون الشيء متواترا عند بعض دون بعض وقيل ختن لما شق قلبه عند مرضعته حليمة أي ختنته الملائكة عندها كما ذكره التلمساني وقيل ختنه جده يوم سابع ولادته وصنع له مأدبة وسماه محمدا (وروي) في بعض الروايات (عن أمّه آمنة) بالمد على وزن فاعلة وهي بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب ولم تلد غيره صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يتزوج غيرها عبد الله على الأصح فيهما وفي اسم آمنة أمان أمته وفي حليمة حلم وفي بركة بركة فتلك آمنة من سائر النقم وذكر السهيلي أن الله عز وجل أحيى للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أبويه فأمنا به ثم أماتهما وكذلك نقله السيوطي في خصائص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لكنه حديث موضوع كما صرح به ابن دحية وقد بينت هذه المسألة في رسالة مستقلة (أنّها قالت ولدته نظيفا) أي نقيا (ما به قذر) بفتحتين أي وسخ ودرن كذا رواه ابن سعد في طبقاته وروي أنه ولدته أمه بغير دم ولا وجع قال المسعودي ولد عليه الصلاة والسلام في شهر ربيع الأول من سنة أربعين من ملك كسرى نوشيروان في دار ابن يوسف وهذه الدار بنتها بعد ذلك الخيزران أم الهادي والرشيد مسجدا. (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا رَأَيْتُ فرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قطّ) أي إما حياء منه أو منها أو منهما والحديث رواه ابن ماجة والترمذي في شمائله وروي عنها أنها قالت ما رأيت منه ولا رأى مني أي العورة، (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْصَانِي النَّبِيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بأن لا (لا يغسّله غيري) بتخفيف السين وتشديدها (فَإِنَّهُ لَا يَرَى أَحَدٌ عَوْرَتِي إِلَّا طُمِسَتْ عيناه) بصيغة المجهول وأبعد التلمساني في قوله بفتح الميم مع أنه قال والطمس المحو والمطموس العين هو الذي لا شق بين جفنيه انتهى والمعنى عميت قال الدلجي قوله فإنه علة لترك غسله لغير علي كرم الله وجهه وتحذير من إقدام غيره عليه وخصه بذاك لعلمه صلى الله تعالى عليه وسلم بأن له قدرة على غض بصره انتهى وفيه نظر لأن غض البصر من كل أحد ممكن إذا أوصاه به وفي السيرة عن يونس بن بكر أنه نودي وهو يغسله أن ارفع طرفك إلى السماء وفيه إشكال إذ لا يمكن غسله بكماله مع غض البصر ورفعه وأيضا لا يخلو من أنه يغسل مجردا أو مصحوبا بما يغطي عورته من سرته إلى ركبته أو في قميصه ولا أظن أن الاحتمال الأول يصح إذ لا يجوز لغيره أن يفعل هذا به فكيف(1/173)
بمثله صلى الله تعالى عليه وسلم مع قوله فإنه أي الشان لَا يَرَى أَحَدٌ عَوْرَتِي إِلَّا طُمِسَتْ عَيْنَاهُ فهو بيان تنبيه لعلى وغيره ممن كان يعينه في غسله من أهل البيت أن لا يقصدوا رؤية عورته ليحترسوا ويحترزوا عن كشفها ووقوع نظرهم عليها هذا وعن ابن إسحاق لما اختلفوا هل يغسلونه في ثوبه أو لا نودوا أن اغسلوه في ثوبه انتهى والمراد بثوبه قميصه كما بينته في شرح الشمائل للترمذي، (وفي حديث عكرمة) وهو مولى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأحد فقهاء مكة وتابعيهم ومفسريهم لكنه أباضي خارجي (عن ابن عبّاس رضي الله عنهما) كما رواه الشيخان عنه (أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم نام حتّى سمع له) بصيغة المفعول (غطيط) أي صوت يخرج مع نفس النائم (فَقَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ قَالَ عِكْرِمَةُ لِأَنَّهُ صلى الله تعالى عليه وسلم. كان محفوظا) أي من أن يخامر قلبه نوم وإن خامر عينيه لحديث أنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا وأما نومه عن صلاة الصبح في الوادي وعن صلاة التهجد أحيانا فالأظهر أنه تجديد للوضوء ويجوز أن يكون عن نقض قبله أو بعده وقيل عن مخامرة قلبه مع ندرة ليبين لأمته لكنه مردود لما سبق من عموم الأوقات المفهوم من الحديث الذي تقدم والله أعلم.
فصل [وَأَمَّا وُفُورُ عَقْلِهِ وَذَكَاءُ لُبِّهِ وَقُوَّةُ حَوَاسِّهِ وفصاحة لسانه واعتدال حركاته وحسن شمائله]
(وأمّا وفور عقله) أي زيادته على عقل غيره (وذكاء لبّه) بفتح الذال المعجمة ممدودا أي حدة فهمه وسرعة دركه واللب أخص من العقل فإنه مختص بالعقل السليم والفهم القويم من لب الشيء خالصه وسره منه قوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (وقوّة حواسّه) بتشديد السين جمع حاسة من حس بمعنى أحس وهي أسباب علمه من سمع وبصر وذوق وشم ولمس يعم جميع البدن (وفصاحة لسانه) أي حسن تعبيره وبيانه (واعتدال حركاته) أي وسكناته من قيام وقعود ومشي ورقود ونحو ذلك (وحسن شمائله) أي من خلقه وخلقه (فلا مرية) بكسر الميم وتضم كما قرئ بهما في قوله تعالى فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ إلا أن الضم شاذ أي فلا شك (أنّه كان أعقل النّاس وأذكاهم) بالذال المعجمة أي أحدهم طبعا وأطيبهم نفعا، (ومن تأمّل صلى الله تعالى عليه وسلم) أي تفكر (تدبيره) أي نظره باعتبار عاقبته (أمر بواطن الخلق وظواهرهم) أي بتصرفه فيهما إلى حسن مآلهما (وسياسة العامّة والخاصّة) من سست الرعية سياسة أمرتها ونهيتها والظاهر أنها بكسر السين وأبدلت الواو ياء لحركة ما قبلها كالقيام والصيام فإنها من مادة السوس على ما في القاموس وقال الحلبي بفتح السين والظاهر أنه سبق قلم أو زلة قدم ثم المراد بالخاصة العالم والمتعلم وبالعامة من عداهم كما ورد الناس اثنان عالم ومتعلم والباقي همج رعاع اتباع لا يعبأ الله بهم وعن علي كرم الله وجهه وقد سئل عن العامة فقال همج رعاع اتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق وأجمع الناس في تسميتهم على أنهم غوغاء وهم الذين إذا اجتمعوا غلبوا وإذا تفرقوا لم يعرفوا انتهى والغوغاء مأخوذ من غوغاء الجراد لأنه يركب بعضه بعضا(1/174)
فسميت العامة باسمه لأجل الشبه الحاصل بينهما في الارتكاب أي يتبع بعضهم بعضا من غير فائدة ولا منفعة وإنما هم يقبلون لا لشيء ويدبرون لا لشيء (مع عجيب شمائله) أي أخلاقه العجيبة (وبديع سيره) بكسر ففتح جمع سيرة أي سيرة الغريبة (فضلا) مصدر لفعل محذوف يقع متوسطا بين نفي وإثبات لفظ ومعنى فالمعنى لم ينل أحد عقله يفضل فضلا (عمّا أفاضه) أي زيادة عما أبداه وبينه وأذاعه وأفشاه (من العلم) أي اعتقاديا وعمليا (وقرّره) أي أثبته وحرره (من الشّرع) بيان لما أفاضه وقرره وذلك كله (دون تعلّم سبق) أي له من غيره (ولا ممارسة) أي ملازمة (تقدّمت) أي منه لشيء من ذلك (ولا مطالعة للكتب منه لم يمتر) من الامتراء وهو جواب الشرط أي لم يشك (في رجحان عقله وثقوب فهمه) بضم المثلثة أي في سرعة دركه (لأوّل بديهة) أي في أول وهلة بدون تفكر ومهلة فكأنه يثقب العلم بقوة فهمه كما يثقب النجم الظلام بقوة ضوئه، (وهذا) أي ما ذكر (ممّا لا يحتاج إلى تقريره) أي ذكره وتحريره (لتحقّقه) وفي نسخة لتحققه أي لظهور تحققه وثبوت أمره عقلا ونقلا، (وقد قال وهب بن منبه) بتشديد الموحدة المكسورة وهو تابعي جليل من المشهورين بمعرفة الكتب الماضية روى عن ابن عباس وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وروى عنه ابن دينار وعوف الأعرابي وآخرون واتفقوا على توثيقه ويقال إنه ما وضع جنبيه على الأرض ثلاثين سنة وكان يقول لأن أرى في بيتي شيطانا أحب إلي من أن أرى وسادة لأنها تدعو إلى النوم وله إخوة منهم همام بن منبه وعمر بن منبه وهم من ابناء الفرس الذين بعث بهم كسرى إلى اليمين (قرأت في أحد وسبعين كتابا) أي من كتاب الله المنزلة وفي معارف ابن قتيبة قرأت من كتيب الله اثنين وَسَبْعِينَ كِتَابًا (فَوَجَدْتُ فِي جَمِيعِهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم أرجح النّاس) أي الخلق (عقلا وأفضلهم رأيا) أي تدبيرا ناشئا من العقل الكامل الذي ينظر في بدء الأمر ودبره وأوله وآخره وقيل الرأي رأي القلب وهو ما رآه من حالة حسنة (وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فَوَجَدْتُ فِي جَمِيعِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعْطِ جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ بَدْءِ الدُّنْيَا إِلَى انْقِضَائِهَا مِنَ الْعَقْلِ فِي جنب عقله صلى الله تعالى عليه وسلم إلّا كحبّة) أي لم يعطهم جميعا منه شيئا نسبته إلى عقله إلا كنسبة حبة (رمل من بين رمال الدّنيا) أي بالنسبة إلى رمالها وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس والظاهر أنه كان أفضلهم رأيا في الأمور الدينية وكذا في الأعمال الدنيوية باعتبار الأكثرية أو حالة جزمه بالقضية فلا ينافيه حديث البخاري أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رأى أهل المدينة يأبرون النخل بكسر الباء وضمها فسألهم عنه فقالوا كنا نفعله فقال لعلكم لو لم تفعلوا لكان خيرا فتركوه ففسد ذلك العام فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مثلكم فإذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوه وإذا أمرتكم بشيء من رأيي أي مع تردد فيه وعدم جزم بحسنه فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب أي في غير ما أوحى إليه وحيا جليا أو خفيا كما أشار إليه قوله تَعَالَى قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ الآية (وقال مجاهد) أي كما رواه عنه ابن المنذر والبيهقي مرسلا بلفظ (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. إذا قام في(1/175)
الصّلاة) وفي نسخة إلى الصلاة والأظهر هو الأول فتأمل (يَرَى مِنْ خَلْفِهِ كَمَا يَرَى مِنْ بَيْنِ يديه) من فيهما جارة ويجوز أن تكون موصولة وكذا ما ورد مثلها مما سيأتي (وبه) أي وبما ذكر من أنه يرى من خلفه (فسّر) أي مجاهد (قوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء: 218] ) بالنصب عطفا على الضمير المفعول في قوله سبحانه وتعالى وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ والمعنى ويرى تردد بصرك في من وراءك من المصلين لتصفح أحوالهم من الكاملين والغافلين (وفي الموطّإ) للإمام مالك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (عنه عليه السّلام) وصدره أترون قبلتكم هذه فو الله لا يخفى علي ركوعكم ولا سجودكم، (إنّي لأراكم من وراء ظهري ونحوه) أي نحو حديث الموطأ بحسب المعنى (عن أنس) رضي الله تعالى عنه (في الصّحيحين) وهو ما روياه عن أنس مرفوعا اقيموا الركوع والسجود فو الله اني لأراكم من بعدي وربما قال من بعد ظهري إذا ركعتم وسجدتم، (وعن عائشة رضي الله عنها مثله) أي مثل ما في الصحيحين لفظا ومعنى (قالت) أي عائشة رضي الله تعالى عنها (زيادة) على ما سبق أي هذه المعجزة العظيمة والخصلة الكريمة زيادة فضيلة (زاده الله إيّاها في حجّته) أي لصحة نبوته (وفي بعض الرّوايات) أي لعبد الرزاق والحاكم (إِنِّي لَأَنْظُرُ مِنْ وَرَائِي كَمَا أَنْظُرُ مِنْ بين يديّ) فالموصولة متعينة فيهما وفي نسخة إلى ما وفي رواية كما انظر من بين يدي فالاحتمالان في من جائزان، (وفي أخرى) أي وفي رواية أخرى لمسلم (إِنِّي لَأُبْصِرُ مِنْ قَفَايَ كَمَا أُبْصِرُ مِنْ بين يديّ وحكى بقيّ بن مخلد) بفتح الموحدة وكسر القاف وتشديد التحتية ومخلد بفتح الميم واللام بينهما خاء معجمة وهو أبو عبد الرحمن القرطبي الحافظ صاحب المسند الكبير والتفسير الجليل الذي قال فيه ابن حزم ما صنف تفسير مثله أصلا سمع ابن أبي شيبة وغيره وكان مجتهدا ثبتا لا يقلد أحدا قال ابن حزم كان بقي ذا خاصة من أحمد بن حنبل وجاريا في مضمار البخاري ومسلم والنسائي انتهى وكان مجاب الدعوة وقيل إنه كان يختم القرآن كل ليلة في ثلاث عشرة ركعة ويسرد الصوم وحضر سبعين غزوة (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى فِي الظُّلْمَةِ كَمَا يَرَى في الضّوء) وفي رواية كما يرى في النور قال البيهقي إسناده ضعيف كما رواه أيضا من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان يرى بالليل في الظلمة كما يرى بالنهار في الضوء وقال ليس بقوي وقال ابن الجوزي لا يصح ولا ينافيه ما في روضة الهجرة للسهيلي من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما تزوج أم سلمة دخل عليها في ظلمة فأصابت رجله زينب فبكت ثم في ليلة أخرى دخل في ظلمة أيضا فقال انظروا ربائبكم لا أمشي عليها لاحتمال ما سبق على حالة من أحواله المسماة بالمعجزة والكرامة وهي لا تستدعي استيفاء الأوقات والمداومة فتحمل إحداهما على الندرة أو تخص تلك الحالة بوقت الصلاة هذا وقد ذكر النووي في شرح مسلم قال العلماء معناه أن الله خلق له صلى الله تعالى عليه وسلم إدراكا في قفاه يبصر به من ورائه وقد انخرفت العادة له صلى الله(1/176)
تعالى عليه وسلم بأكثر من هذا وليس يمنع من هذا عقل ولا شرع بل ورد الشرع بظاهره فوجب القول به وذكر المصنف كما سيأتي أنه قال أحمد بن حنبل وجمهور العلماء هذه الرؤية رؤية العين حقيقة وذكر مختار بن محمود مصنف القنية الزاهد من أصحابنا الحنفية وشارح القدوري في رسالته الناصرية أنه عليه الصلاة والسلام كان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط وكان يبصر بهما ولا يحجبهما الثياب (وَالْأَخْبَارُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ فِي رُؤْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم الملائكة والشّياطين) أما الأول فكرواية البخاري وغيره أنه رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ على كرسي بين السماء والأرض قد سد الأفق وقد رأى كثيرا منهم ليلة الإسراء وربما قيل إنه أمر فيهم ونهي وأما الثاني فكحديث البخاري أن عفريتا تفلت علي البارحة في صلاة المغرب وبيده شعلة من نار ليحرق بها وجهي فأمكنني الله منه فدفعته ثم أردت أن أربطه بسارية من سواري المسجد فذكرت دعوة أخي سليمان وفي رواية لولا دعوة أخي سليمان لأصبح يلعب به ولدان المدينة؛ (ورفع النّجاشيّ) بفتح النون وتكسر وبتشديد الياء وتخفف وقيل هو أول من لقب من ملك الحبشة واسمه كما في البخاري اصحمة وقيل صحمة أو صمحة كتب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا قد بايعتك وأسلمت لله رب العالمين ورفع بصيغة المجهول والنجاشي وما عطف عليه مرفوع على نيابة الفاعل كما صرح به الحلبي وابعد الدلجي وجعله مخفوضا حيث قال وجاءت أيضا يعني الأحاديث في رفع النجاشي (له حتّى صلّى عليه) أي يوم مات في رجب سنة تسع من الهجرة وقد أخرج أبو داود من طريق يزيد بن مروان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور وأما حديث صلاته عليه فرواه الشيخان وغيرهما وبه استدل الشافعي على جواز الصلاة على الغائب وأما حديث رفعه له فظاهره أن المرفوع هو على نعشه حتى قيل إنه أحضر بين يديه فلم تقع الصلاة إلا لعى حاضر وقيل رفع له الحجاب وطويت له الأرض حتى رآه قال الدلجي وجميع ما ذكر وإن كان ممكنا وقوعه فدعوى بلا بينة إذ لم يشهد به كتاب ولا سنة ومن ثمة أنكره ابن جرير لعدم وجوده في خبر ورواية عالم في أثر وإنما الوارد في رواية أبي علي والبيهقي أن معاوية بن معاوية المزني رفع له وهو صلى الله تعالى عليه وسلم بتبوك حتى صلى عليه انتهى ولا يخفى أن ثبوت هذه القضية في الجملة مع ذلك الاحتمال ينفي التعلق بفعله صلى الله تعالى عليه وسلم في مقام الاستدلال كيف وقد جاء في المروي ما يومي إليه وهو ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث عمران بن حصين أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال إن أخاكم النجاشي توفي فقوموا وصلوا عليه فقام عليه الصلاة والسلام وصفوا خلفه فكبر أربعا وهم لا يظنون أن جنازته بين يديه فهذا اللفظ يشير إلى أن الواقع خلاف ظنهم لأنه هو فائدته المعتد بها فإما أن يكون سمعه منه عليه الصلاة والسلام أو كشف له وقد صرح القسطلاني في شرح البخاري ناقلا عن أسباب(1/177)
النزول للواحدي عن ابن عباس قال كشف للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن سرير النجاشي حتى رآه وصلى عليه وقال التلمساني ذكر ابن قتيبة في آداب الكتاب والكلاعي في النقاية أنه توفي ورفع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى صلى عليه حين منصرفه من غزوة تبوك هذا مع أنه قد يقال إن ذلك خص به النجاشي فلا يلحق به غيره ودليل الخصوصية أنه لم يصل على غائب إلا عليه وعلى بعض آخر صرح فيه بأنه رفع له كما رواه الطبراني من حديث أبي أمامة وابن سعد في الطبقات عن أنس أن معاوية بن معاوية المزني ويقال الليثي نزل جبريل عليه الصلاة والسلام بتبوك فقال يا رسول الله إن معاوية بن معاوية المزني مات بالمدينة أتحب أن أطوي لك الأرض فتصلي عليه قال نعم فضرب بجناحه الأرض فرفع له سريره فصلى عليه وخلفه صفان من الملائكة في كل صف سبعون الف ملك ثم رجع فقال عليه الصلاة والسلام لجبريل بم أدرك هذا قال بحبه سورة قل هو الله أحد وقراءته إياها حائيا وذاهبا وقائما وقاعدا وعلى كل حال (وبيت المقدس) بفتح الميم وكسر الدال وجوز ضم ميمه وفتح داله المشددة وهو بالرفع أي ورفع له أيضا بيت المقدس كما في الصحيحين (حين وصفه لقريش) الظاهر حتى وصفه لقريش حين كذبوه في أخباره أنه أسرى به إليه ثم إلى ما شاء الله تعالى ثم رجع إلى مكة في ليلة وارتد كثير ممن اسلم وأخبروا أبا بكر بذلك فقال لهم والله لقد صدق أنه ليخبرني أن الخبر يأتيه من السماء في ساعة واحدة من ليل أو نهار فأصدقه وهو أبعد مما تعجبون منه ثم قال يا نبي الله صفه لي فإني جئته فرفع له حتى نظر إليه فطفق يصفه له ويصدقه وفي مسلم لقد رأيتني في الحجر وقريش فسألني عن مسراي فسألتني عن أشياء من بيت المقدس فكربت كربة ما كربت مثلها قط فرفعه الله لي فما سألوني عن شيء منه إلا أنبأتهم به. (والكعبة) أي ورفع الكعبة له أيضا حتى رآها (حين) وفي نسخة حتى (بنى مسجده) أي بالمدينة ليجعل محرابه إليها على ما رواه الزبير بن بكار في تاريخ المدينة عن ابن شهاب ونافع بن جبير بن مطعم مرسلا قال الدلجي وهو غريب والمعروف أن جبريل هو الذي اعلمه بها واراه سمتها لا أنها رفعت له حتى رآها بشهادة ما في جامع العتبية من سماع مالك قال سمعت أن جبريل هو الذي أقام له قبلة مسجده انتهى ولا يخفى أنه يمكن الجمع بينهما بأن اخبره جبريل ثم رفع له البيت الجليل أو بأن يحمل كل قضية على مسجد من مسجد المدينة وقبا فإن قيل لا خلاف في أنه أول قدومه المدينة كان يصلي إلى بيت المقدس إلى أن حولت القبلة بعد بنائه مسجده فكيف يجعل محرابه إلى الكعبة فالجواب أنه يمكن تقديم بناء المسجد وتأخير بناء المحراب إلى الكعبة بعد التحويل مع أنه قد يقال إنه صلى الله تعالى عليه وسلم صلى بعض الصلاة أول البناء إلى الكعبة ثم حول إلى بيت المقدس ثم حول إلى الكعبة ويؤيده خبر بعض نساء الأنصار كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين بنى مسجده يؤمه جبريل إلى الكعبة ويقيم له القبلة وهذا ايضا يؤيد الجمع الأول فتأمل. (وقد حكى عنه صلى الله(1/178)
تعالى عليه وسلم) قال التلمساني جاء ذلك في حديث ثابت من طريق العباس عمه عليه الصلاة والسلام ذكره ابن حيثمة (أَنَّهُ كَانَ يَرَى فِي الثُّرَيَّا أَحَدَ عَشَرَ نجما) والثريا تصغير ثروى وهي المرأة الكثيرة المال من الثروة وهي الكثرة النجم المعروف لكثرة كواكبه مع ضيق المحل وقال السهيلي الثريا اثنا عشر كوكبا وكان يراها كما جاء ذلك في حديث ثابت من طريق العباس وقال القرطبي لا تزيد على تسعة فيما يذكرونه انتهى ولعله بالنسبة إلى غيره صلى الله تعالى عليه وسلم وبالجملة فذلك لحدة بصره وقوة نظره ويقال لها النجم وهي أنجم لانها لا تفترق فهي كالواحد (وهذه) أي الأخبار المذكورة والآثار المسطورة (كلّها محمولة على رؤية العين وهو) أي هذا القول أو هذا الحمل وابعد الدلجي في قوله ذكره نظرا إلى ما بعده وهو (قول أحمد بن حنبل وغيره) أي من المحققين وهم الجمهور كما سبق والإمام أحمد من مرو وسكن ببغداد من صغره ومات بها رحمه الله تعالى وروى عنه الشيخان قال الأنطاكي تبعا للحلبي وروى عنه البغوي والظاهر أنه وهم (وذهب بعضهم) أي كالنووي في شرح مسلم (إلى ردّها إلى العلم) أي فهي رؤية علم وكشف قال المنجاني ومعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى خلق له علما بجميع ما يفعل وراءه صلى الله تعالى عليه وسلم وذلك خروج عن ظاهر الحديث وإنما تميل إليه المعتزلة لأنهم يشترطون في الإدراك بنية مخصوصة تخلق له وأغرب الدلجي في قوله أي خلق الله تعالى له في قفاء قوة إدراكية يدرك بها من ورائه على طريق خرق العادة انتهى ولا يخفى أن مآله إلى أن الرؤية بصرية وأغرب من ذلك أنه لما ذكر هذا قال وأغرب مختار بن محمود الحنفي حيث قال وكان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط لا يحجب بصرهما الثياب والله أعلم بالصواب، (والظّواهر تخالفه) أي ظواهر هذه الأخبار تخالف ما ذهب إليه البعض من العلماء الأخبار وأبعد بعضهم على ما ذكره المصنف في مشارق الأنوار حيث قال إنما هي بالتفاتة يسيرة إلى من ورائه معللا بأنه لو كان يرى من خلفه لما قال أيكم الذي ركع دون الصف فقال أبو بكر أنا يا رسول الله فقال زادك الله حرصا ولا تعد والجواب أن في نفس الحديث ما يدل على مدعانا إذ صرح بأنه رأى رجلا ركع قبل دخوله في الصف وعدم علمه بخصوص فاعله إما لبعده عنه وإما لكثرة الصفوف أو لاستغراق ونحوه مما يمنع التوجه إلى صوبه وتعمقه في قصده فرآه مجملا لا مفصلا مع أن خوارق العادات لا يلزم تحققها في جميع الأوقات وقال ابن عبد البر هذا قبل أن يمنحه الله بهذه الفضيلة فقد كانت خصائصه تتزايد في كل وقت وحين والله الموفق والمعين (ولا إحالة) مصدر أحاله والمحال هو الشيء الممتنع فالمعنى لا امتناع شرعا وعقلا وعادة (في ذلك) أي في كونه رواية عين بطريق المعجزة (وهي من خواصّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وخصالهم) أي المختصة بهم (كَمَا أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحمد) أي التميمي البستي (العدل من كتابه حدّثنا أبو الحسن المقرىء) أي العالم بعلم القراءة وهو نزيل مكة (الفرغانيّ) نسبة إلى فرغانة بالفتح بلد بالمغرب على ما(1/179)
في القاموس وآخر بالمشرق والظاهر أنه المراد ههنا لقوله (حَدَّثَتْنَا أُمُّ الْقَاسِمِ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أبيها) وهو أبو بكر محمد بن إسحاق الكلابادي مؤلف كتاب الأخبار عن فوائد الأخيار وقيل الأخبار بفوائد الأخيار وكان بعد الأربعين والثلاثمائة (حَدَّثَنَا الشَّرِيفُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الحسني) قال التلمساني هو الشريف أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى الرضى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنهم قلت ولا يصح هذا لأن النسخ كلها متفقة على نسخة الحسنى بفتحتين والله سبحانه وتعالى أعلم (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن محمّد بن مرزوق) هو البصري يروي عن زيد بن هارون ومحمد بن عبد الله الأنصاري (حدّثنا همام) بفتح هاء فتشديد ميم وهو ابن يحيى بن دينار العودي قال الحلبي وغيره وصوابه هانىء بن يحيى وقال التلمساني هو همام بن الحارث النخعي الكوفي سمع حذيفة وعمارا وروى عنه إبراهيم النخعي انتهى والظاهر أنه وهم منه كما لا يخفى من مرتبة الإسناد والله أعلم بالصواب والسداد في المراد (حدّثنا الحسن) أي ابن أبي جعفر الجفري كما سيأتي قريبا وهو بضم الجيم وسكون الفاء نسبة إلى مكان بالبصرة وهو أحد الضعفاء (عن قتادة) تابعي جليل (عن يحيى بن وثاب) بتشديد المثلثة ثقة مقاله خاشع مقرئ يروي عن ابن عباس وابن عمر وعلقمة وعنه الأعمش وَغَيْرِهِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لمّا تجلّى الله تعالى) أي ظهر بلا كيف (لموسى عليه السّلام) أي في ضمن تجليه للجبل كما يشير إليه قوله تعالى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فلا يحتاج إلى ما تكلف له الدلجي تبعا للمنجاني قوله ولا يعزب عنك أن المتجلى له كما ذكر في الآية إنما هو الجبل فالتقدير لما تجلى الله للجبل لأجل سؤال موسى أن يراه وتعسفه ظاهر مع أنه يفيد أنه لم يقع التجلي لموسى فلم يحصل ترتب بين لما وجوابها وهو قوله (كان يبصر) أي يرى كما في أصل التلمساني (النّملة على الصّفا) بالقصر أي الصخرة الملساء ولا يبعد أن يكون بالمد لمشاكلة قوله (في اللّيلة الظّلماء) أي شديدة الظلمة (مسيرة عشرة فراسخ) أي مقدارها تحديدا أو تقريبا أو تكثيرا والفرسخ فارسي معرب وهو ثلاثة أميال والميل منتهى البصر أو أربعة آلاف خطوة والخطوة ثلاثة اقدام معتدلة بوضع قدم أمام قدم يلصق به قال التلمساني يصح في شين عشرة الفتح والكسر والسكون وهو وهم منه لأن الوجوه الثلاثة إنما تجوز إذا ركبت العشرة مع غيرها من الأعداد المؤنثة المقدمة عليها كإحدى عشرة وأمثالها وأما عند الانفراد بها فلا يجوز إلا الفتح فيها ثم اعلم أن هذا الحديث رواه الطبراني في الصغير بنحوه هذا الإسناد وقال لم يروه عن قتادة إلا الحسن تفرد به هانئ قال الحلبي أما هانئ بن يحيى السلمي فذكره ابن حيان في الثقات وقال يخطئ وأما الحسن بن أبي جعفر الجفري فضعيف (ولا يبعد على هذا) أي على طبق هذا الحديث ووفقه من المعجزة المترتبة على التجلي الموجب(1/180)
لتجلية الغين وتحلية العين (أن يختصّ) بصيغة الفاعل أو المفعول أي يصير مخصوصا (نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم بما ذكرناه من هذا الباب) يعني زيادة قوة باصرة ذلك الجناب وأدخل الدلجي في العبارة ما ليس في الكتاب (بعد الإسراء) أي بعد اسرائه إلى سدرة المنتهى (والحظوة) بضم الحاء وتكسر أي وبعد الحظ والحظاء (بما رأى من آيات ربّه الكبرى) أي من عجائب الملكوت وغرائب الجبروت ورؤية الرب بنظر العين أو ببصر القلب على ما تقدم والله أعلم وهذا بالنظر إلى القوى البصرية الحسية والمعنوية. (وقد جاءت الأخبار) أي الدالة على قوته البدنية كخبر أبي داود والترمذي (بأنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (صرع) أي رمى وضرب على الأرض في حالة المصارعة (ركانة) بضم الراء وهو ابن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف (أشدّ أهل وقته) أي أقواهم في غلبة المصارعة وهو بالنصب بدل ويجوز رفعه (وكان) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (دعاه إلى الإسلام) جملة حالية قال الترمذي إسناده ليس بالقائم وقال البيهقي مرسل جيد وروي بإسناد موصولا إلا أنه ضعيف وفي سيرة ابن إسحاق خلا ركانة مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض شعاب مكة قبل أن يسلم فقال يا ركانة ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه فقال لو أعلم ما تقول حقا لاتبعتك فقال أرأيت إن صرعتك تعلم أن ما أقول حق قال نعم فلما بطش به صلى الله تعالى عليه وسلم اضجعه لا يملك من أمره شيئا ثم قال عد يا محمد فعاد فصرعه أيضا فقال يا محمد إن ذا العجب فقال صلى الله تعالى عليه وسلم وأعجب من ذلك إن شئت أن أريكه إن اتقيت الله واتبعت أمري قال ما هو أدعو لك هذه الشجرة فدعاها فأقبلت حتى وقفت بين يديه صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لها ارجعي مكانك فرجعت فلما رجع ركانة إلى قومه فقال يا بني عبد مناف ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فو الله ما رأيت اسحر منه ثم أخبرهم بما رأى قال الحجازي وأسلم قبل الفتح قبل أن توفي بالمدينة سنة أربعين في زمن معاوية وقيل إنه من أجداد الشافعي قال المنجاني ولابنه يزيد أيضا إسلام وصحبة، (وصارع) يعني أيضا (أبا ركانة في الجاهليّة) صفة للملة أو الأمة أو الفترة (وَكَانَ شَدِيدًا وَعَاوَدَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ) بالنصب على نزع الخافض ويجوز رفعه أي كل ما ذكر من المرات (يصرعه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) قال الدلجي هذا وخبر أنه عليه السلام صارع أبا جهل فصرعه فلم يصحا بل لا أصل لهما وفيه أنه في مراسيل أبي داود ويزيد بن ركانة أو ركانة بن يزيد على الشك لكن الظاهر أن الصحيح ركانة كما قاله الحلبي وغيره لا كما قاله النووي إنه الصواب والله أعلم نعم مصارعة أبي جهل لا تصح اتفاقا هذا وقد ذكر السهيلي أن أبا الأشد بن الجمحي واسمه كلدة بفتح اللام وكان بلغ من شدته فيما زعموا أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينزعوه من تحت قدميه فيتخرق الجلد ولا يتزحزح عنه وقد دعا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المصارعة وقال إن صرعتني آمنت بك فصرعه صلى الله تعالى عليه وسلم مرارا(1/181)
ولم يؤمن به، (وقال أبو هريرة رضي الله عنه) كما رواه الترمذي في شمائله والبيهقي في دلائله: (مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم في مشيه) وفي نسخة مشيته بكسر الميم وزيادة التاء أي في هيئة مشيه وهي غير ملائمة لأسرع كما قاله المنجاني فتأمل في تحقيق المباني والمعاني (كأنّما الأرض) بالرفع لزيادة ما الكافة المانعة ما قبلها عما بعدها من العمل (تطوى له) بصيغة المجهول أي تنزوي وتجمع وتقرب وتدنو وقيل تطوى كطي الملاءة وأما المشي في الهوى وعلى الماء كما وقع لبعض الأصفياء فإنه يصدر بإذن رب السماء ثم بين وجهه بقوله، (إنّا) أي معشر الصحابة (لنجهد أنفسنا) بفتح النون والهاء وفي نسخة بضم النون وكسر الهاء من جهد دابته وأجهدها إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها فالمعنى لنتعب أنفسنا بالجهد فوق طاقتها (وهو غير مكثرث) بكسر الراء أي والحال أنه صلى الله تعالى عليه وسلم غير مبال بمشينا ولا متأثر يمشي هونا ورفقا لقوله تعالى الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ولقوله تعالى وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ومع ذلك يسبق من شاءه كرامة خص بها إذا أعطي قوة زائدة على قوى سائر البشر لحديث كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين رجلا أي في المشي والبطش والجماع ونحوها وكان يطوف على نسائه في غسل واحد وكن تسعا، (وفي صفته عليه السّلام) أي نعته من جهة حسن شمائله (أنّ ضحكه كان تبسّما) لما في البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عَنْهَا مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم مستجمعا قط ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم ويشير إليه قوله تعالى فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً وفيه إيماء إلى أن الاقتصاد في الضحك هو الذي ينبغي وان كان الضحك جائزا لما ورد في بعض الروايات أنه ضحك حتى بدت نواجذه وعن عبد الرزاق أنه سئل ابن عمر أكان أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يضحكون أي أحيانا قال نعم وأن إيمانهم لأعظم من الجبال نعم يكره الاكثار منه كما قال لقمان لابنه إياك وكثرة الضحك فإنها تميت القلب وكما يشير إليه قوله تعالى فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً ولأن كثرة الضحك تنبئ عن الغفلة والبكاء ينبئ عن الرحمة وروي عن الحسن أنه كان لا يضحك وهذا لما غلب عليه من الخوف والقبض بخلاف من غلب الرجاء والبسط فإنه يضحك ولا يبكي والأعدل هو الاعتدال من هذه الخصال على وفق شمائله صلى الله تعالى عليه وسلم من تفصيل الأحوال (إذا التفت) كذا في بعض النسخ والظاهر كما في أصل الدلجي وإذا التفت أي إلى أحد الجانبين (التفت معا) وفي رواية جميعا أي بجميع نظره لا بمؤخر عينيه كما هو دأب سارق النظر ويسمى نظر العداوة ومنه قوله تعالى يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ فاندفع قول الدلجي أي بجميع بدنه وينبغي أن يخص هذا بالتفاته وراءه وأما التفاته يمنة ويسرة فالظاهر أنه يعنقه (وإذا مشى) أي في مسيرة (مشى تقلّعا) بضم اللام المشددة أي رفع رجليه رفعا بقوة لا اختيالا لشدة عزمه ولأن تقريب الخطى من مشية النساء والأغنياء الأغبياء (كأنّما ينحطّ من صبب) بفتح المهملة والموحدة الأولى أي كأنما ينحدر من مرتفع(1/182)
قاله الدلجي تبعا للشمني وفي القاموس الصبب محركة تصبب نهر أو طريق يكون في حدوره وما انصب من الرمل وما أنحدر من الأرض وكل هذه المعاني تشير إلى أن الصبب بمعنى المنخفض لا بمعنى المرتفع وقد صرح الحجازي وغيره بأنه ما انحدر من الأرض وأغرب الحلبي حيث قال من موضع مرتفع منحدر فالأولى أن يقال من بمعنى في كما في قوله تعالى إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ويؤيده أنه جاء في رواية كأنما يهوي في صبوب بفتح الصاد وضمها فالمعنى كأنما ينزل من علو إلى سفل فإنه حينئذ يكون المشي بقوة لكن لا بإبطاء ولا بسرعة والمقصود من الحديث هذه الفقرة الدالة على كمال قوته البدنية في مسيرته الحسية وأما مسيرته المعنوية فقد علم في القضية الإسرائية.
فصل [وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول]
(وأمّا فصاحة اللّسان وبلاغة القول) أي في معرض البيان وخص الفصاحة باللسان لنطقه بالمفرد والمركب المطابقين لمقتضى الحال وهما يوصفان بها كالمتكلم والبلاغة بالقول إذ لا يكون إلا كلاما ذا اسناد يبلغ به المتكلم إرادته ويوصف بها الكلام كالمتكلم دون الكلمة لأنها لا يبلغ بها الغرض فراعى المصنف اصطلاح علماء المعاني والبيان في تقرير هذا الشأن (فقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك) أي مما ذكر من الفصاحة والبلاغة (بالمحلّ الأفضل والموضع الذي لا يجهل) بصيغة المجهول أي الظاهر بالوجه الأكمل (سلاسة طبع) بفتح السين ونصبت بنزع الخافض أي بسهولة جبلة وانقياد طبيعة وفي نسخة مع سلامة طبع (وبراعة منزع) بفتح الميم والزاء أي مأخذ ومطلع والبراعة بفتح الموحدة مصدر برع الرجل فاق أقرانه ووصفها بصفة صاحبها مبالغة أي منزعا بارعا وحاصله جودة لسان ولكافة بيان وأما قول التلمساني إنه بكسر الميم وهو السهم الذي نزع به واستعاره القاضي للسان مجازا إذ هو آلة الكلام ففي غاية من البعد مع مخالفته للأصول المعتمدة (وإيجاز مقطع) أي ومقطعا موجزا من أوجز أتى بكلام قل مبانيه وكثر معانيه والمقطع بفتح الميم والطاء منتهى المرام كما أن النزع مبدأ الكلام فالمعنى أن كلامه حسن الابتداء ومستحسن الانتهاء وهو المطلع والمقطع بأسلوب الشعراء من الفصحاء والبلغاء وأما ذكره التلمساني من أنه بكسر الميم وهو في الأصل شفرة حادة يقطع بها الشيء استعاره للقول مجازا إذ هي آلة فهو مع مخالفته للنسخ المصححة في غاية من التكلف ونهاية من التعسف (ونصاعة لفظ) بفتح النون أي ولفظا ناصعا أي خالصا من شوائب تنافر الحروف وغرابة الألفاظ وارتكاب الشذوذ (وجزالة قول) أي وقولا جزلا لا ركاكة فيه ولا ضعف تأليف وتركيب ينافيه بل نسجت خبره الحبرية على منوال تراكيب العربية (وصحّة معان) أي ومعاني صحيحة يستفاد منها مقاصد صريحة قال التلمساني ومعان جمع معنى بالياء وبدونها ولا خفاء لما فيه من ايهام أنهما لغتان وليس كذلك بل اختلافهما بحسب تفاوت إعرابهما (وقلّة تكلّف) أي قلة طلب كلفة في التأدية بعد(1/183)
تأمل وتفكر وتروية وكان الأولى أن يقال وعدم تكلف لقوله سبحانه وتعالى حكاية عنه وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ولعله أراد بالقلة العدم والله أعلم ومنه قول أبي أوفى كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقل اللغو أي لا يلغو رأسا ومنه أيضا قوله تعالى فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ أي لا يؤمنون أصلا (أوتي جوامع الكلم) جملة مستأنفة مبينة ومؤكدة لما قبلها أي أعطي الكلمات الجامعة للمعاني الكثيرة في المباني اليسيرة وقد جمعت أربعين حديثا يشتمل كل حديث على كلمتين وهو أقل ما يتركب منه الكلام الإسنادي كقوله الإيمان يمان والعدة دين والسماح رباح وأمثالها مما أدرجته في شرح الشمائل للترمذي والكلم بفتح كاف وكسر لام اسم جمع للكلمة ومنه قوله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وقيل جمع لها وهو ضعيف (وخصّ ببدائع الحكم) بكسر ففتح جمع حكمة أي الحكمة البديعة المتضمنة للمعاني المنيعة (وعلم ألسنة العرب) أي وخص بمعرفة لغات طوائف العرب من قومه وغيرهم لأنه بعث إلى جميعهم فعلمه الله الألسنة ليخاطب كل قوم بما يفهمون لقوله تَعَالَى وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ وفي نسخة وعلم بصيغة الماضي المعلوم وفي أخرى بصيغة المجهول من التعليم عطفا على أوتي وقيل كان يعلم جميع الألسنة إلا أنه لم يكن مأمورا بإظهارها أو أراد أن يكون التكلم بالعربية هو ألسنة لأنه أفضل أنواع اللغة لأن كلام الله عربي ولسان أهل الجنة في الجنة عربي وأصل النبي عربي قيل ومن أسلم فهو عربي ولأنه أيسر اللغات وأضبط للكليات كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ (يخاطب) وفي نسخة فكان يخاطب (كلّ أمّة) أي طائفة (منها) أي من طوائف العرب (بلسانها ويحاورها) بالحاء المهملة أي ويجاوبها (بلغتها) وفي نسخة بلغتها (ويباريها) بالراء والياء أي يعارضها ويروى بدله ويباينها (في منزع بلاغتها) أي مأخذها ومرجع لغتها (حتّى) هي مستأنفة ههنا على ما ذكره الدلجي والأظهر أنها للغاية أي إلى حد (كان كثير من أصحابه) أي من أتباعه وأحبابه (يسألونه في غير موطن) أي في مواطن كثيرة (عن شرح كلامه) أي بيان مرامه (وتفسير قوله) عطف تفسير والأول مختص بالجمل والمركبات والثاني بالمفردات أو الأعم والله أعلم وقد صرح التلمساني بأن الصحابة كانوا يسألون عن كثير من مفردات اللغة نحو حتى تزهى وتزهو وحتى تشقح وسؤالهم عن لفظ الطاعون ونحو ذلك انتهى ثم هذا الذي ذكرناه أمر ظاهر وشأن باهر. (من تأمّل حديثه وسيره) أي أحاديثه في كتب المحدثين والأئمة المجتهدين وأقواله في كتب ارباب السير والمؤرخين وفي نسخة وسبره بالموحدة على أنه فعل ماض أي نظر في صناعة أساليبه وصياغة تراكيبه (علم ذلك) أي تفصيله (وتحقّقه) أي وثبت عنده وزال الريب عنه (وليس كلامه) أي لم يكن تكلمه (مع قريش) أي من أهل مكة (والأنصار) أي من أهل المدينة (وأهل الحجاز ونجد) أي وحواليهما (ككلامه مع ذي المشعار) بكسر ميم وسكون معجمة فمهملة أو معجمة بعدها ألف وراء وهو أبو ثور مالك بن نمط (الهمدانيّ) بميم ساكنة فمهملة نسبة إلى همدان قبيلة من اليمن قدم عليه الصلاة والسلام مرجعه من تبوك(1/184)
مع كثير من قومه مسلمين فقال هذا وفد همدان ما اسرعها إلى النصر وأصبرها على الجهد وأما همان بفتح الميم مع الذال المعجمة أو المهملة فبلد بعراق العجم قيل هاجر ذو المشعار في زمن عمر رضي الله تعالى عنه إلى الشام ومعه أربعة آلاف عبد فاعتقهم كلهم وانتسبوا إلى همدان (وطهفة) بكسر المهملة وسكون هاء ففاء (النّهديّ) بفتح فسكون قبيلة باليمن قدم عليه السلام بعد فتح مكة كما قال ابن سعد وغيره (وقطن بن حارثة) بقاف ومهملة مفتوحتين وحارثة بالمثلثة (العليميّ) بالتصغير نسبة إلى بني عليم قدم عليه فسأله الدعاء له ولقومه في غيث السماء في حديث فصيح كثير الغريب على ما رواه ابن شهاب عن عروة (والأشعث بن قيس) قدم عليه مع كثير من قومه وعليهم الحبرات قد كففوها بالحرير فقال لهم الم تسلموا قالوا بلى قال فما هذا الحرير في أعناقكم فرموا به ثم ارتد بعد وفاته عليه الصلاة والسلام ثم رجع إلى الإسلام وجيء به إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه أسيرا فعدد عليه فعلاته فلم ينكرها ثم قال با أبا بكر استبقني لحربك وزوجني أختك فزوجه ثم خرج ودخل سوق الإبل فلم يلق ذات أربع تؤكل إلا عقرها ثم قال يا قوم انحروا وكلوا هذه وليمتي ولو كنت في بلدي لأولمت كما يولم مثلي اغدوا علي فخذوا أثمان ما عقرت لكم ثم خرج مع سعد إلى العراق ويشهد معه مشاهد كثيرة في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وسكن الكوفة إلى أن توفي وشهد معه مشاهد كثيرة في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وسكن الكوفة إلى أن توفي بها بعد علي بأربعين يوما وصلى عليه الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهم أجمعين (ووائل بن حجر) بضم حاء وسكون جيم فراء واما وائل فيهمز كقائل وقول الحلبي بالمثناة التحتية قبل اللام في غير محله لأنه بناء على ما قبل إعلاله، (الكنديّ) بكسر الكاف قال الدلجي تبعا للمنجاني كذا ههنا ولعله تأخير من تقديم إذ هي نسبة الأشعث ونسبة وائل هي الحضرمي قلت لا يبعد أن يكون كنديا حضرميا ثم رأيت الحلبي صرح بأن وائل بن حجر كان من ملوك حمير الكندي الصحابي شهد مع علي في صفين وكانت معه راية حضر موت بشر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم به قبل قدومه عليه ثم قدم فأسلم فرحب به وأدناه من نفسه وقرب محله وبسط له رداءه وأجلسه عليه ودعا له بالبركة ولولده ولولد ولده وولاه على أقيال حضر موت وأرسل معه معاوية بن أبي سفيان فخرج معه معاوية رجلا ووائل على ناقته راكب فشكا إليه معاوية حر الرمضاء فقال انتعل ظل الناقة فقال معاوية له وما يغني ذلك عني لو جعلتني ردفا فقال له وائل اسكت فلست من ارداف الملوك ثم عاش وائل بن حجر حتى ولي معاوية فدخل عليه فعرفه معاوية واذكره بذلك ورحب به وأجازه لوفوده عليه فأبى من قبول جائزته وقال يأخذه من هو أولى به مني فأنا عنه في غنى (وغيرهم) أي ومع غير المذكورين أيضا (من أقبال حضر موت) بفتح همزة وسكون قاف فتحتية جمع قيل بفتح وسكون وأصله قيل بالتشديد أي المنفذ قوله ويدل عليه أنه يجمع على أقوال بالواو أيضا وقال السهيلي القيالة الإمارة ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في تسبيحه الذي رواه الترمذي(1/185)
سبحان من لبس العز وقال به أي ملك به وقهر على ما فسره الهروي وهم بلغة حمير صغار الملوك دون الملك الأعظم من ملوك اليمن وحضر موت بسكون الضاد وفتح الباقي وبضم الميم بلد وقبيلة ويقال هذا حضر موت غير مصروف للتركيب والعلمية ويضاف فيقال حضر موت بضم الراء على إعراب الأول بحسب عامله وإعراب الثاني بإعراب ما لا ينصرف وإن شئت تنون الثاني (وملوك اليمن) تعميم بعد تخصيص؛ (وانظر كتابه) أي مكتوبه الذي بعث به ذا المشعار بعد قدومه عليه الصلاة والسلام على ما ذكره أبو عبيدة وغيره (إلى همدان) أوله بسم الله الرحمن الرحيم كتاب من محمد رسول الله لأهل مخلاف خارق ويام وأهل خباب الضب وحقاف الرمل من همدان مع وافدها ذي المشعار مالك بن نمط ومن اسلم من قومه على أن لهم إلى آخره (إنّ لكم) بكسر الهمزة وفتحها وفي أصل الدلجي أن لهم وهو الملائم لما سيأتي من قوله ولهم (فراعها) بكسر الفاء أي ما ارتفع من الأرض (ووهاطها) بكسر الواو جمع وهط بالطاء المهملة وهي المواضع المطمئنة منها (وعزازها) بفتح مهملة فزايين ما خشن وصلب منها وما يكون إلا في أطرافها ومنه قول ابن مسعود للزهري بعد خدمته وملازمته مدة مديدة زاعما أنه بلغ الغاية ووصل النهاية أنك في العزاز في الأطراف من العلم لم تتوسط بعد وفي الحديث نهى عن البول في العزاز أي حذرا عن الرشاش، (تأكلون) بالخطاب أو الغيبة (علافها) بكسر العين جمع علف وهو ما يعتلف منها أو ما تأكله الماشية، (وترعون عفاءها) بفتح مهملة وتخفيف فاء ممدودا وروي بكسر العين وهو ما ليس لأحد فيه ملك ولا أثر من عفا الشيء أي خلص وصفا وفي الحديث أقطعهم من أرض المدينة ما كان عفاء وهو احد ما فسر به قوله تعالى خُذِ الْعَفْوَ، (لنا من دفئهم) بكسر مهملة وسكون فاء فهمز ومنه قوله تعالى لَكُمْ فِيها دِفْءٌ أي ما تستدفئون به من أصوافها وأوبارها وأما في الحديث فهو كناية عن الأنعام وفي المجمل الدفء نتاج الإبل وألبانها والانتفاع بها وقيل هي الغنم ذات الدفء وهو الصوف والأظهر أن يراد به الأنعام وسميت دفئا لأنها يتخذ من أوبارها وأصوافها وأشعارها ما يستدفأ به من الأكسية وغيرها قال الدلجي فصله عما قبله ملتفتا من الغيبة إلى التكلم لشبه انقطاع بينهما إذ ذاك مما خصهم به من أراضيهم وما يخرج منها وهذا مما خص به نفسه أو من معه من مواشيهم أي من إبلهم وغنمهم ضأنا ومعزا وما ينتفع به منها سميت دفئا لأنه يتخذ منها ما يستدفأ به انتهى ولا يخفى أنه ليس ههنا التفات من الغيبة إلى المتكلم بل من خطاب في قوله لكم بناء على الأصول المصححة إلى غيبة في قوله لنا من دفئهم (وصرامهم) بكسر أوله ويفتح جمع صرمة أي من نخيلهم أو من ثمراتهم لأنها تصرم وتقطع (ما سلّموا) بتشديد اللام المفتوحة أي استسلموا لا وأطاعونا (بالميثاق) أي العهد والحلف المؤكدة قيل ولعله اراد الإسلام أي لا تقبل صدقة إلا من مسلم وقيل أراد بالميثاق أنه لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق ولا يفر بزكاته ولا يخفى بعض ماله (والأمانة) أي من دون الخيانة من المالك أو العامل وقيل(1/186)
المراد بالأمانة الطاعة وقيل هي الأمان ويؤيده ما سيأتي من قوله عليه الصلاة والسلام لنهد من أقر فله الوفاء بالعهد والذمة. (ولهم من الصّدقة) أي من الأموال التي تجب عليهم فيها الصدقة والزكاة (الثّلب) بكسر المثلثة وسكون اللام فموحدة أي الهرم من ذكور الإبل الذي سقطت أسنانه قيل وتناثر هلب ذنبه (والنّاب) أي ولهم الهرمة من إناثها التي طال نابها وهي من أمارات هرمها (والفصيل) وهو ما فصل عن أمه وفطم عنها من أولاد الإبل وقد يطلق على أولاد البقر والمراد صغارها (والفارض) أي المسن من الإبل وقيل من البقر أيضا بديل قوله تعالى لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ ويروى العارض بالعين المهملة وهي المريضة أو المعيوبة (الدّاجن) وفي أصل الدلجي بالعطف وهو الظاهر وهو بكسر الجيم ما يألف البيوت ولا يرسل إلى المرعى وأغرب الأنطاكي في جعله وصفا للفارض أو العارض على اختلاف الروايتين في الداجن اعتبارا للعادة لأن المنقطع عن السوم يعلف في الأهل غالبا (والكبش الحواريّ) بفتحتين وهو كبش يتخذ من جلده نطع فإن جلده أحمر وروى الحواري أي الأبيض والمعنى لا يؤخذ منهم في هذه الأشياء التي خصوا بها وقيل المعنى لا تؤخذ هذه الأشياء منهم إما لنفاستها كالحوري وإما لخساستها كغيره وإنما يؤخذ الوسط العدل (وعليهم فيها) أي في الصدقة (الصّالغ) بكسر لام فمعجمة ما دخل في السنة السادسة من البقر والغنم والسين لغة فيه وفي النهاية لابن الأثير وعليهم الضالع بالضاد المعجمة والعين المهملة فليس بتصحيف كما زعمه المنجاني (والقارح) بالحاء المهملة بعد الراء المكسورة ما دخل من الخيل في خامس سنة. (وقوله) أي وانظر قوله (لنهد) بفتح فسكون أي لأجل قبيلة من اليمين وهو يحتمل أن يكون مشافهة أو مكاتبة فيقال وانظر قوله في كتابه لنهد لا كما قال الدلجي وانظر كتابه صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه أبو نعيم في معرفة الصحابة والديلمي في مسند الفردوس (للهمّ بارك لهم في محضها) أي لبنها الذي لم يخالطه ماء ذكره المنجاني والظاهر أن المراد به ما لم يخرج منه زبده حلوا كان أو حامضا وهو بميم مفتوحة فحاء مهملة ساكنة وضاد معجمة ومنه الحديث وذلك محض الإيمان (ومحضها) بالخاء المعجمة أي ما مخض من لبنها وأخذ زبده مصدر بمعنى المفعول والمخض تحريك سقاء اللبن لاستخراج زبده وفيه صنعة التجنيس والتصحيف (ومذقها) أي ما خلط من لبنها بالماء من المذق بالذال المعجمة والقاف بمعنى المزج والخلط وقيل اللبن الرقيق وهو التحقيق وبالله التوفيق (وابعث راعيها) أي ملكها ومربيها وقد يكون مالكها وهي بمنزلة رعيته كما ورد كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته (في الدّثر) بفتح مهملة فسكون مثلثة أي المال الكثير وقيل المراد به هنا الخصب والنبات (وافجر) بضم الجيم ومنه قوله تعالى حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً قرىء بالتشديد والتخفيف في السبعة (له الثّمد) بفتح مثلثة وميم فدال مهملة وقد تسكن ميمه أي الماء القليل الذي لا مادة له والمعنى أجره لهم حتى يصير كثيرا (وبارك لهم في المال) أي الحلال وإلا فبعض المال وبال في المآل ولذا قال صلى الله تعالى عليه(1/187)
وسلم نعم المال الصالح للرجل الصالح (والولد) أي الصالح وإلا فبعض الولد كمد وكبد وفي بعض النسخ وبارك له بصيغة الإفراد والمتبادر منه أنه راجع إلى الراعي والأظهر أنه خطاب عام لهم على الانفراد الذي هو أتم من الاجتماع فالمعنى بارك لكل منهم في ماله وولده، (من أقام الصّلاة) أي واظب عليها وقام بشرائطها وأركانها (كان مسلما) أي منقادا وأسلم نفسه من التعرض إليها بقتلها وأسرها وقد قيل في الصلاة جميع العبادات من قيام وقراءة وركوع وسجود ودعاء وثناء وصبر وهو حبس النفس والحواس والخواطر وزكاة وهو بذل المال في الماء واللباس وصيام وهو الإمساك عن الأكل والشرب واعتكاف وهو لزوم المكان الواحد لأدائها وحج وهو التوجه للكعبة وجهاد وهو مجاهدة النفس ومحاربة الشيطان وشهادة وهي ذكر الله ورسوله، (ومن آتى الزّكاة) أي أعطاها مستحقيها (كان محسنا) أي في إسلامه أو ببذله إلى إخوانه، (ومن شهد) أي بقلبه وأقر بلسانه (أن) أي أنه (لا إله إلّا الله) أي وأن محمدا رسول الله (كان مخلصا) أي في إيمانه واقتصر على أحد ركنيه لأنهم كانوا عبدة أصنام فقصد به نفي الهية ما سوى الله مع اشتهاره عندهم بأنه رسول الله وايناسه منهم الإيمان به بدليل قدوم كبرائهم عليه مؤمنين فهو من باب الاكتفاء أو لأن هذه الكلمة علم لمجموع الشهادتين بإطلاق البعض وإرادة الكل ولذا ورد من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة وإذا عرفت ذلك فقوله مسلما يراد به المعنى اللغوي فلا يحتاج إلى قوله الدلجي كان مسلما ومؤمنا أيضا إذ مآلهما واحد شرعا وإن اختلفا مفهوما فإن الإسلام هو الانقياد الظاهري والإيمان هو الإذعان الباطني ولا يستغني أحدهما عن الآخر لكن تخصيصه بإقامة الصلاة يوهم أنها وأمثالها جزء الإيمان على ما ذهب إليه المعتزلة فالأولى أن يقال المعنى كان مسلما كاملا وأن الواو في الجمل الشرطية لمجرد الجمعية؛ (لكم يا بني نهد ودائع الشّرك) جمع وديع من قولهم أعطيته وديعا أي عهدا وميثاقا أي أقررتكم على العهود والمواثيق التي كنتم تتعاهدونها مصالحة ومهادنة قبل الإسلام والأظهر أنها جمع وديعة والمراد بها ما استودعوه من أموال الكفار الذين لم يسلموا فأحله لهم لأنه مال كافر قدر عليه بلا عهد وشرط ويؤيده رواية ما لم يكن عهد ولا وعد (ووضائع الملك) بكسر الميم والوضائع جميع وضيعة وهي الوظيفة التي تلزم المسلمين في أملاكهم من صدقة وزكاة والمعنى ولكم الوظائف التي تلزمكم لتجاوزها منكم ولا نزيدها عليكم فصح قوله لكم دون عليكم أو بضم الميم أي ولكم ما وظفه ملوككم في الجاهلية عليكم وما استأثروا به دونكم من مغنم وغيره والمعنى لا نأخذها منكم ثم قول الحلبي بعد الألف مثناة تحتية ليس على ظاهره بل باعتبار أصله وإلا فهو مقلوب بالهمزة كنظائره من الودائع والصحائف، (لا تلطط) كلام مستأنف وهو بضم مثناة فوقية فسكون لام فمهملتين نهي لم يرد به واحدا معينا كما رواه البيهقي بل لكل من يأتي منه توجيه الخطاب وتوجه الكتاب (في الزّكاة) أي لا تمنعها من لط الغريم والط إذا منع الحق أو نهى اراد به جنس المخاطب كما رواه غيره(1/188)
بصيغة الجمع وكذا قوله (ولا تلحد) وما بعده وهو من الإلحاد أي لا تعدل عن الحق ولا تمل إلى الفساد وظلم العباد في البلاد (في الحياة) أي في مدة حياتك في الدنيا وقيل الفعلان بصيغة النفي مجهولان وروى الزمخشري بالنون فيهما وأغرب التلمساني في قوله أي لا تمسك الزكاة ومنه قوله عليه الصلاة والسلام الطوابيا ذا الجلال والإكرام أي الزموا هذا القول وتمسكوا به انتهى وهو وهم فإن الظوا في الحديث بالظاء المعجمة (ولا تتثاقل) أي لا تتكاسل (عن الصّلاة) . وفي نسخة بصيغة الجمع وفي أخرى بصيغة المجهول والمعنى أدها بالقيام بشرائطها وأركانها (وكتب لهم) قال الحجازي ويروي لكم ويروي عليكم (في الوظيفة الفريضة) بالنصب أي الهرمة المسنة وهي الفارض أيضا والمعنى هي لكم لا تؤخذ منكم في الزكاة كذا قاله الدلجي وغيره وتبعهم الانطاكي إلا أنه قال الفريضة بالرفع على الحكاية ولا يخفى أن هذا الحكم قد استفيد مما سبق مع أنه كان الملائم بسياق الكلام من سباقه ولحاقه أن يقال وكتب لكم في الوظيفة الفريضة بالرفع على أن الجملة المصدرة بقوله لكم هي المكتوب لهم وفي حاشية الحجازي أن الوظيفة هي ما يقدر كل يوم من رزق أو عمل ولا يخفى عدم مناسبته لفحوى الكلام ومقام المرام وقال التلمساني الفريضة بالرفع على الحكاية انتهى وفي رواية عليكم في الوظيفة الفريضة أي عليكم في كل نصاب ما فرض فيه وفي نسخة وكتب لهم في الوظيفة الفريضة بالجر فالمكتوب لهم قوله (ولكم الفارض) بالفاء في أكثر النسخ المعتمدة وقد سبق أنه المسنة من الإبل أو البقر وروي بالعين المهملة وهو الأظهر لئلا يتكرر فتدبر أي ولكم المريضة التي عرض لها آفة من قولهم بنو فلان أكالون للعوارض تعبيرا لهم أي لا يأكلون إلا ما عرض له مرض حذر موته والمعنى لا تؤخذ منكم في الزكاة فهي لكم (والفريش) بفاء مفتوحة ثم شين معجمة أي الحديثة العهد بالتاج كالنفساء من النساء ففي الصحاح هي كل ذات حافر بعد نتاجها لسبعة ايام وقيل ما لا يطيق من الإبل حمل الأثقال ويؤيده قوله تعالى وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً وقد جاء فرش وفريش بمعنى واحد وقيل ما انبسط على الأرض من نبات لا ساق له (وذو العنان) بكسر العين المهملة سير اللجام أي والفرس (الرّكوب) بفتح الراء ورفع الباء وهو الصواب أي الذلول الذي يلجم ويركب بلا كلفة ومشقة لتكرر ركوبه لأن فعول من أوزان المبالغة (والفلوّ) بفتح فاء وضم لام وتشديد واو كعدو وبضم أوله مع التشديد كسمو وقد تكسر فاؤه مع سكون لامه وتخفف واوه كجرو وهو ولد الفرس المسمى بالمهر بالضم إذا كان صغيرا بلغ السنة أو فطم عن الرضاعة لأنه يفلى عن أمه أي يعزل عنها قال التلمساني ويروى الفلو بدون الواو العاطفة انتهى وهو لا يصح (الضّبيس) بفتج معجمة فكسر موحدة فتحتية فمهملة أي الصعب العسر الأخلاق الذي لم يرض وقيد الصفة للغلبة لا للاحتراز إذ غالب أحوال الخيل الصعوبة وأما تخصيص الفلو فللدلالة على أن الخيل فيها الزكاة كما هو مذهب ائمتنا الحنفية والمعنى لا يؤخذ منكم شيء في المذكورات وأما ما روي من أن الله قد عفا لكم عن صدقة الخيل والرقيق فمحمول على(1/189)
الخيل التي تركب كما أن الرقيق يراد به ما يخدم فالخيل السائمة والرقيق للتجارة فيهما الزكاة، (لا يمنع سرحكم) بصيغة المفعول نفي بمعنى النهي وفصل عما قبله لعدم مناسبة بينهما ويقال سرحت الماشية مخففا وسرحت هي متعد ولازم وإذا رجعت يقال راحت تروح وارحتها أنا ومنه قوله تعالى وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ أي حين تردونها من مرعاها إلى منازلكم وحين تخرجونها إليه ولعل تقديم الإراحة لما فيها من زيادة إفادة الراحة والمعنى لا تمنع ماشيتكم السارحة من مرعى مباح تريده (ولا يعضد) بصيغة المفعول أي لا يقطع (طلحكم) وهو شجر عظام من شجر الغضاة له شوك كالسدر وهو شجر حسن اللون لخضرته أي نضر له أنوار طيبة الرائحة ولكون العرب يستحسنوته لخضرته وحسن لونه وعطره نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن قطع ما ألفوه جبرا لخواطرهم ووعدا لهم ببقاء ما يحبون وهو المراد بقوله تعالى وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وهو في الآية الموز وقيل الطلع وقرئ بالعين (ولا يحبس درّكم) بمهملة مفتوحة فراء مشددة أي لا تمنع ماشيتكم التي هي ذات الدر أي اللبن عن الخروج إلى المرعى لتجتمع بموضع يعدها فيه المصدق لما فيه من الإضرار بها لعدم رعيها وفي رواية لا تحشر دركم أي لا تحشر إلى المصدق ليعدها بل إنما يعدها عند أصحابها وأغرب اليمني في تفسيره الدر هنا بمعنى المطر ولعل وجهه أنه جعل قوله ولا يحبس خبرا مغيا لقوله ما لم تضمروا وأما على ما ذهب عليه الجمهور فمتعلق ما دام مقدر ثم المعنى لكم ما قرر وما عليكم حرر (ما لم تضمروا الرّماق) من الإضمار ضد الإظهار والرماق بالكسر بمعنى النفاق يقال رامقته رماقا نظرت إليه نظر العداوة أو المعنى ما لم تضق قلوبكم عن الحق يقال عيشه رماق أي ضيق قاله ابن الأثير ويروى الإماق بفتح الهمزة وكسرها وأصله إلا معاق فخفف همزه قال في المجمل يقال أمأق الرجل إذا دخل في المأقة وهي الأنفة وفي الحديث ما لم تضمروا الامئاق أي ما لم تضمروا الأنفة انتهى والأنفة التعاظم وقيل هو الغدر وقيل الرمق القطيع من الغنم فارسي معرب فالمعنى لا تخفوا القطيع من الغنم والله أعلم (وتأكلوا الرّباق) بالكسر جمع ربقة بكسر فسكون وهي في الأصل عروة تجعل في حبل يربط بها ما خيف ضياعه من البهم فشبه ما يلزم الاعناق من العهد بالرباق واستعار الأكل لنقض العهد فإن البهيمة إذا أكلت الربقة خلصت من الرباط والمعنى ما لم تنقضوا عهود الإسلام التي الزمها أعناقكم وما لم تخلعوها ومنه حديث حذيفة من فارق الْجَمَاعَةَ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ من عنقه قال التلمساني والربقة بكسر وبفتح وفي بعض النسخ الرفاق بالفاء بدل من الباء جمع رفقة أي بحيث لا تقطعون الطرق وتظهرون الحرب إذ كل ذلك يقتضي نقض العهد ونكث البيعة وقد يقع التصحيف في مثل هذا والله أعلم، (من أقرّ) استئناف آخر أي من ثبت واستقر واعترف مذعنا منقادا بالملة (فله الوفاء بالعهد) أي بما عوهد عليه (والذّمّة) أي وبالأمان أو الضمان الحاصل لديه (ومن أبى) أي امتنع من مقتضيات الملة أو تقاعد وتقاصر عن أداء الزكاة والصدقة (فعليه(1/190)
الرّبوة) بكسر الراء ويجوز ضمه وفتحه أي الزيادة في الفريضة الواجبة عليه عقوبة له وفي رواية من أقر بالجزية فعليه الربوة أي من امتنع من الإسلام هربا من الزكاة كان عليه من الجزية أكثر مما يجب عليه من الزكاة واعلم أنه روى بهز ابن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه كان يقول في كل أربعين بنت لبون من أعطاها مؤتجرا فله أجرها ومن أبى فأنا آخذها وشطر ماله عزة ربنا رواه أبو داود وقال أحمد هو عندي صالح فقيل يأخذ الإمام معها شطر ماله وهو اختيار أبي بكر من الحنابلة وقول قديم للشافعي وعند الجمهور يأخذها من غير زيادة بدليل أن العرب منعت الزكاة ولم ينقل أنه أخذ منهم زيادة عليه وقال الجرمي غلط بهز في هذه الرواية وإنما قال وشطر ماله يعني يجعل شطرين فيستخير عليه المصدق فيأخذ الصدقة من خيار الشطرين عقوبة لمنعه الزكاة وأما ما لا يلزم فلا. (ومن كتابه لوائل بن حجر) أي على ما رواه الطبراني في الصغير والخطابي في الغريب والمعنى من مكتوبه لأجل وائل بن حجر وهو بضم الحاء كما سبق (إلى الأقيال) أي الملوك الصغار لحمير وقيل الذين يخلفون الملوك إذا غابوا جمع قيل مخففا وقيل مشددا وقد تقدم (العباهلة) بفتح عين مهملة فموحدة أي ملوك اليمن الذين أقروا على ملكهم فلم يزالوا عنه والتاء فيه لتأكيد الجمع كما في الملائكة (والأرواع) جمع رائع كالأنصار والاشهاد جمع ناصر وشاهد أو جمع أروع أي الحسان الوجوه والهيئات أو الذين يروعون الناس أي يفزعونهم بجمالهم وحسن حالهم وقيل السادة واحدهم أروع (المشابيب) جمع مشبوب أي الرؤوس السادة الحسان المناظر الزهر الألوان كأنما وجوههم تتلالأ نورا وتلمع سرورا وقيل الرجال الذين ألوانهم بيض وشعورهم سود وقيل الأذكياء وأما قول المنجاني والمشيب دخول الرجل في حد الشيب من الرجال فوهم منه في الخيال لاختلاف المادة في ميزان الأفعال فالصواب ما قاله غيره من أنه من شب من الشباب أو شب النار أوقدها؛ (وفيه) أي وفي كتابه لوائل (في التّيعة) بكسر فوقية وسكون تحتية فمهملة أي في الأربعين من الغنم (شاة لا مقوّرة الألياط) بفتح الواو والراء المشددة من الاقورار بمعنى الاسترخاء في الجلد والالياط بفتح الهمزة جمع ليط بالكسر وهو في الأصل القشر اللائط بعوده أي اللازق به شبه به الجلد لالتزاقه باللحم من الهزال والمعنى لا مسترخية الجلد لهزالها وقيل لا مقطوعة الجلد (ولا ضناك) بكسر المعجمة ثم كاف منونة وقال التلمساني بفتح الضاد وكسرها والنون الخفيفة وجوز المنجاني ضمها يستوى فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع أي ولا مكثرة اللحم وممتلئة الشحم لكرمها يريد أن هذه الشاة لا سمينة ولا هزيلة بل متوسطة الحال (وأنطوا) بهمزة قطع وضم مهملة لغة يمانية أي وأعطوا في الزكاة (الثّبجة) بفتح مثلثة وكسر موحدة فجيم مفتوحة بعدها تاء أي الشاة الوسطى التي ليست بأدنى ولا أعلى من ثبج كل شيء وسطه والتاء لانتقالها من الاسمية إلى الوصفية قال التلمساني ويروى الشجة بالشين والجيم من شج سار بشدة (وفي السّيوب) بضمتين جمع سيب وهو الركاز (الخمس) بضمتين ويسكن(1/191)
الميم لأن السبب لغة العطاء والركاز عطاء من الله تعالى وقال الزمخشري هي المعدن أو المال المدفون في الجاهلية لأنه من فضل الله وعطائه لمن أصابه (ومن زنى مم) بسكون الميم الثانية (بكر) بتنوين في الراء خلافا لبعضهم لأنها نكرة عامة في سياق الشرط ثم أبدلت نون من ميم لكثرة استعمالهم ذلك لفظا في مثل من ماء سيما إذا كان بعدها باء كما هنا ونحو منبر وعنبر ولو كان معرفة بلغتهم لقيل ومن زنى من أمبكر كما قال ليس من أمبر أمصيام في أمسفر ومن الجارة تبعيضية أو بيانية مفسرة للاسم المبهم الشرطي وترجمة عنه أي ومن زنى من الإبكار (فاصقعوه) بهمزة وصل وقاف مفتوحة أي اضربوه كما قال له ابن الأثير وأصل الصقع الضرب ببطن الكف وقيل أي فاضربوه على صوقعته أي في وسط رأسه قال التلمساني وعند الشارح فاصفعوه بالفاء عوض القاف أي فاضربوه (مائة) أي مائة ضربة (واستوفضوه) بالفاء والضاد المعجمة أي اطردوه أو أنفوه وغربوه (عاما) أي سنة (ومن زنى مم ثيّب) يجري فيه ما جرى في مم بكر إلا أن هناك القلب الحقيقي لأجل الباء وهنا الإخفاء المتولد من قبل الثاء وقيل القلب فيه للمناسبة والمشاكلة كقولهم ما قدم وحدث بضم دال حدث لمناسبة قدم وقيل هي لغة يمانية كما يبدلون الميم من لام التعريف أي ومن زنى من ذوي الإحصان (فضرّجوه) بمعجمة مفتوحة وتشديد راء مكسورة فجيم أي فارجموه حتى تدموه وتضرجوه أي تلطخوه بدمائه (بالأضاميم) أي برمي الحجارات جمع إضمامة بالضاد المعجمة وهو ما جمع وضم من الحجارة لأن بعضها يضم إلى بضع كالجماعات من الناس والكتب قال التلمساني يريد انه لا يرجم بحجر ههنا وحجر في موضع آخر لأن ذلك تعذيب له ولا في محل فيه حجارة صغيرة أو قليل الحجارة ولا يرجم بحجر في وقت ثم بحجر في وقت آخر وهذا كله يشمله الاضاميم (ولا توصيم) أي لا تواني ولا محاباة (في الدّين) أي في إقامة الحدود لقوله تعالى وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ وقيل التوصيم التكسير والمعنى ولا تقصدوا تكسيره بالحجارة وقيل المعنى لا عيب ولا هوان ولا كسر ولا عار في الدين (ولا غمة) بضم غين معجمة وتشديد ميم أي لا ستر ولا غطاء وفي رواية ولا عمه مهملة فميم مخففة مفتوحتين فهاء أي لا حيرة ولا تردد وفي رواية ولا غمد بكسر معجمة وسكون ميم فدال مهملة أي لا ستر ولا خفاء أو لا تستر ولا الباس (في فرائض الله) بل هي واضحة والمعنى لا تستر فرائض الله ولا تخفى بل تظهر وتجهر بها وقال التلمساني لا غمة بضم الغين المعجمة وبفتحها أي لا ضيق ولا كربة وقيل لا إبهام ولا إلباس ولا سترة أي لا تخفى فرائض الله لأنها من أعلام الإسلام وتاركها يستحق الملام فحقها أن يعلن بها إماطة للتهمة عن تركها بخلاف التطوع فإنه لا يلام بتركه ولا تهمة فيه فحقه أن يخفى (وكلّ مسكر) خمرا كان أو غيره كثيرا أو قليلا على خلاف في الأخير فيما عدا الخمر (حرام) أي شربه وأغرب التلمساني في ذكره قاعدة منطقية بقوله هذه نتيجة وكيفية تركيب المقدمتين هو أن تقول كل مسكر خمر وكل خمر حرام فينتج كل مسكر حرام انتهى ولم يعرف أن الكبرى ممنوعة هنا(1/192)
(ووائل بن حجر) مبتدأ. (يترفّل) بفاء مشددة أي يتأمر ويترأس (على الأقيال) خبر معناه الإمراء لقوله بعده في آخر كتابه أمره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فاسمعوه وهو معنى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في الكتاب الآخر وكان وجه إلى المهاجرين أبو أمية مع وائل هذا فكان فيه من محمد رسول الله إلى المهاجر بن أبي أمية أن وائلا يستسعي ويترفل على الأقيال حيث كانوا من حضر موت أي يستمل على الصدقات ويصير اميرا على الأقيال ويفتخر عليهم بكتابه عليه الصلاة والسلام كما قال الشاعر:
إذا نحن أمرنا «1» امرأ ساد قومه ... وإن لم يكن من قبل ذلك يذكر
ولما كان أبو أمية مشتهرا تركه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على حاله كما يقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وحكى أبو زيد في نوادره عن الأصمعي عن يحيى بن عمر أن قريشا كانت لا تغير الأب في الكنية تجعله مرفوعا في كل وجه من الرفع والجر والنصب والحاصل أنه شبه امارته بالثوب لأنها لتلبسه بها كأنها هو واستعير لها ترفيله وهو إطالته وإسباله فكأنه يرفل فيها أي يجر ذيلها عليهم زهوا وقول التلمساني هنا إلى وائل إلى كاللام وروى بها فليس في محله ولعله فيما تقدم والله تعالى أعلم ثم جملة (أين هذا) أي كلامه هذا مع ما ذكر من الأقيال وكتابه لهم (من كتابه لأنس في الصّدقة المشهور) نعت لكتابه كما رواه أبو داود والترمذي والدارقطني وختمه ولم يدفعه له فدفعه أبو بكر بعد وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم له حين وجهه إلى البحرين مصدقا فإن ذا بمحل من جزالة ألفاظ مألوفة وسلاسة تراكيب مأنوسة وذاك بمحل من غلاقة الفاظ غريبة وقلاقة اساليب عجيبة حتى أنها في النطق عسرة بالنسبة إلى غير أهل تلك اللغة وسبب هذا التغاير ما بينه المصنف بقوله (لَمَّا كَانَ كَلَامُ هَؤُلَاءِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ) أي هذا المقدار غريبا غير مألوف (وبلاغتهم على هذا النّمط) أي هذا النوع وحشيا غير مأنوس (وأكثر استعمالهم هذه الألفاظ) أي التي هي غير مألوفة لغيرهم وإن كانت مأنوسة لهم وجواب لما قوله (اسْتَعْمَلَهَا مَعَهُمْ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) أي مما تشابه عليهم من أمر ونهي ونحوهما بنص أو إرشاد أي دال على ذلك كالقياس واستحسان العقل (وليحدّث النّاس بما يعلمون) أي بما يفهمون ويعقلون لا بما لا يدركون فينكرون كما سبق من كلامه وكتابه؛ (وكقوله في حديث عطيّة السّعديّ) أي المنسوب إلى قبيلة بني سعد وهو ابن عروة ويقال ابن عمرو بن عروة على ما رواه الحاكم والبيهقي وصححه عنه قدمنا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لي ما أغناك الله فلا تسأل شيئا (فإنّ اليد العليا هي المنطية) أي المعطية (واليد السّفلى هي المنطاة) أي المعطاة وأن مال الله مسؤول ومنطى. (قال) أي عطية (فكلّمنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بلغتنا) أي في الانطاء بمعنى الاعطاء كما قرىء بالنون في قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ وهذا
__________
(1) في نسخة (رفلنا) .(1/193)
الحديث في المعنى نحو حديث مالك والشيخين وأبي داود والنسائي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال على المنبر وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة اليد العليا خير من اليد السفلى والعليا هي منفقة والسفلى هي سائلة قال أبو داود وقد اختلف عن أيوب عن نافع في هذا الحديث فقال عبد الوارث اليد العليا هي المتعففة وكذا قال واقد عن حماد بن زيد عن أيوب وقال أكثرهم عن حماد هي المنفقة قال الخطابي رواية المتعففة أشبه وأصح في المعنى لأن ابن عمر قال إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذكر هذا الكلام وهو يذكر الصدقة والتعفف عنها فعطف الكلام على سببه الذي خرج عليه وعلى ما يطابقه في معناه أولى وقد توهم بعضهم أن معنى العليا هو كون يد المعطي مستعلية فوق يد الآخذ من علو الشيء أي فوقه وليس ذلك عندي بالوجه وإنما هو من علو المجد والكرم يريد التعفف عن المسألة والترفع عنها انتهى كلامه وفي غريب الحديث لابن قتيبة زعم قوم أن العليا هي الآخذة والسفلى هي المعطية فقال وما أرى هؤلاء إلا أنهم استطابوا السؤال فأحبوا أن ينصروا مذهبهم ونسبه في المشارق للمتصوفة وأقول لعل وجه قولهم هذا إنه ينبغي للمعطي أن يتواضع لله في حال اعطائه ويجعل يده تحت يد الفقير الآخذ وأن يعلم أن الله تعالى هو الآخذ حقيقة وإن كان هو المعطي أيضا لما ورد من أنه يأخذ الصدقة ويربيها وينميها كما يربي أحدكم فلوه ولقوله تعالى مخاطبا لنبيه عليه الصلاة والسلام خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ولأن الآخذ هو سبب المراتب العالية للمعطي فلو لم يأخذ أحد ذلك لم يحصل له الثواب والله أعلم بالصواب ثم هنا دقيقة أخرى بالتقحيق أحرى وهي أنه إذا كانت اليد العليا خيرا من اليد السفلى واليد العليا هي المعطية فيشكل بما اجتمعت عليه السادة الصوفية وجمهور القادة الفقهية من أن الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر فالجواب على ما ذكره بعض المحققين أن هذا الحديث بعينه يدل على المدعي فإن المعطي لم تحصل له المرتبة العليا إلا بإخراج شيء من الدنيا والآخذ لم يتسفل عن مرتبته القصوى إلا بأخذ شيء منها والحاصل أن الأول قول ظاهري حسي للفقهاء والثاني قول باطني معنوي للأولياء والجامع بينهما هو المحقق والله هو الموفق وقيل إن تفسير اليد العليا بالمعطية والسفلى بالسائلة مدرج في الحديث وقيل معنى المتعففة المنقبضة عن الآخذ وروي عن الحسن البصري أنه قال معنى الحديث يد المعطي خير من اليد المانعة. (وقوله) أي وكقوله على ما ذكره أبو نعيم في دلائله (في حديث العامريّ) أي مخاطبا له بلغته (حين سأله) أي العامري (فقال له النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم سل عنك أي سلّ عمّا شئت) أي عما شئت كما في نسخة ويجوز سل عن أمرك وشأنك (وهي) وفي نسخة وهو (لغة بني عامر وأمّا كلامه المعتاد) أي المأنوس لجميع العباد (وفصاحته المعلومة) أي لسائر البلاد (وجوامع كلمه) أي لمعان كثيرة بألفاظ يسيرة (وحكمه) جمع حكمة (المأثورة) أي المروية عنه الدالة على اتقان علمه وإحكام عمله (فقد ألّف النّاس فيها الدّاواوين) جمع ديوان بكسر داله وقد تفتح وهو فارسي معرب وأصله ذو وإن اعل إعلال دينار وجمعه دنانير وقد سبق الكلام فيه والأظهر(1/194)
مما قالوا في وجه التسمية إن الديوان بالفارسية اسم للشياطين فسمي الكتاب من الحساب باسمهم لحذقهم بالأمور ووقوفهم على الحلبي والخفي وجمعهم لما شذ وتفرق وقد يسمى مكانهم باسمهم وأول من وضعه في الإسلام عمر رضي الله تعالى عنه لحفظ ما يتعلق بالناس والمراد هنا الكتب المؤلفة من الجوامع والمسانيد وأمثال ذلك (وجمعت في ألفاظها ومعانيها الكتب) أي في بيان غرائبها وجمعت بصيغة المجهول وكان الأولى أن يقال وجمعوا في مبانيها ومعانيها الكتب؛ (ومنها) أي ومن جوامع كلمه وحكمه (ما لا يوازى) بهمز أبدل واوا من آزيته بمعنى حاذيته وهو بإزائه أي بحذائه ولا تقل وأزيته على ما في الصحاح وهو بصيغة المجهول أي لا يماثل ولا يقابل (فصاحة) تمييز للنسبة أي من جهة الفصاحة (ولا يبارى) أي ولا يعارض ولا يساوى (بلاغة كقوله) على ما رواه أبو داود والنسائي: (المسلمون تتكافأ) بالهمز في آخره وفي نسخة بحذف إحدى التاءين أي تتماثل وتتساوى (دماؤهم) أي في العصمة والحرمة خلاف ما في الجاهلية فكل مسلم شريفا أو وضيعا كبيرا أو صغيرا حرا أو عبدا في ذلك سواء أو في القصاص والدية فيقاد الشريف بالوضيع والكبير بالصغير والعالم بالجاهل والذكر بالأنثى وكذا حكم الدية إلا أنه يخص منه العبد إذ لا يكافىء حرا في بعض الصور على خلاف في المسألة (ويسعى بذمّتهم) أي بعهدهم وأمانهم (أدناهم) أي أقلهم منزلة كعبد وامرأة فإنه إذا أعطى أحدهما أمانا لأحد أو لجيش فليس لأحد منا إخفاره أي نقض أمانه لحديث البخاري ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولحديث الترمذي أن المرأة لتأخذ على القوم أي تجير على المسلمين ولحديث أبي داود إن كانت المرأة لتجير على المؤمنين ومنه حديث ذمة المسلمين واحدة (وهم) أي المسلمون (يد) أي قوة (على من سواهم) أو جماعة يتعاونون على أعدائهم من أهل الملل لا يخذل بعضهم بعضا أو هم مع كثرتهم قد جمعتهم أخوة الإسلام وجعلتهم في وجب الاتفاق بينهم تعاونا وتعاضدا على من آذاهم وعاداهم كيد واحدة فيجب أن ينصر كل أخاه على من آذاه فهو تشبيه بليغ (وقوله) أي كقوله فيما رواه ابن لال في مكارم الأخلاق (النّاس) أي في تساوي إجراء الأحكام عليهم (كأسنان المشط) بضم الميم وتكسر وقد تفتح وتضم أو تكسر وتفتح شينه وهو مثل في التساوي وهو قريب من قوله تتكافأ دماؤهم وقيل في تساوي الاخلاق والطباع وتقاربها ويؤيده ما جاء في رواية أخرى الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على عجمي ولا فضل لعجمي على عربي وإنما الفضل بالتقوى.
(والمرء) أي كقوله فيما رواه الشيخان المرء (مع من أحبّ) أي في كل موطن خير أو في المحشر أو في الجنة فيه إيماء إلى أن الله يتفضل على من أحب قوما بأن يلحقه بهم في منازلهم وإن لم يكن له مثل أعمالهم وقيل شرطه اتباع عمل محبوبه وإلا فلا فائدة لهذه المحبة والأظهر أنه شرط للكمال وأنه يكفي في إثبات المحبة مجرد التوحيد وثبوت النبوة لما في صحيح مسلم أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف(1/195)
ترى رجلا أحب قوما ولما يلحق بهم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المرء مع أحب (ولا خير) أي وكقوله فيما رواه ابن عدي في كامله بسند ضعيف المرء على دين خليله وَلَا خَيْرَ (فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لك) أي من الحق مثل (ما ترى له) أي مثله اغترارا بماله من كثرة المال وسعة الجاه فيتكبر مع جهله على العلماء والصلحاء والفقراء المتواضعين له وروي يرى بالياء والتاء للفاعل والمفعول على ما ذكره التلمساني والظاهر بناء الفاعل على الخطاب بل هو الصواب هذا وروي لا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لَكَ مثل ما يرى لنفسه فيؤول معناه إلى حديث لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. (والنّاس معادن) أي وكقوله على ما رواه الشيخان الناس معادن أي لمكارم الأخلاق كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا بضم القاف أي مارسوا الفقه وضموا الحسب إلى النسب وجمعوا بين الشرع والطبع في الطلب وحكي بكسر القاف وهو متعين إذا كان الفقه بمعنى الفهم وحاصله أن الناس مختلفون بحسب الطباع كالمعادن وأنهم من الأرض كما أن المعادن منها وفيها الطيب والخبيث فإن منها ما يستعد للذهب الابريز ومنها ما يستعد للفضة ومنها ما يستعد لغير ذلك ومنا ما يحصل منه بكد وتعب كثير شيء يسير ومنها ما هو بعكس ذلك ومنها ما لا يحصل منه شيء أصلا فكذلك بنو آدم منهم من لا يعي ولا يفقه ومنهم من يحصل له علم قليل بسعي طويل ومنهم من أمره عكس ذلك ومنهم من يفاض عليه من حيث لا يحتسب كما هو معلوم في كثير من الأولياء والصالحين والعلماء العاملين وروي معادن في الخير والشر كالذهب والفضة (وما هلك امرؤ عرف قدره) رواه السمعاني في تاريخه بسند فيه مجهول ويقرب منه ما روي عن علي رضي الله عنه ما ضاع امرؤ عرف قدره لأن الضائع بمنزلة الهالك. (والمستشار مؤتمن) أي على ما استشير فيه استظهار برأيه والحديث رواه الأربعة والحاكم والترمذي ايضا في الشمائل في قضية أبي الهيثم وفي بعض الروايات زيد فيه (وهو بالخيار ما لم يتكلّم) وفي رواية احمد وهو بالخيار إن شاء تكلم وإن شاء سكت فإن تكلم فليجتهد رأيه قال الدلجي وهما شاهدا صدق بأن الإشارة به بمجرد الاستشارة غير واجبة انتهى والأظهر أن المراد به أنه إن لم يكن له رأي يسكت وإلا فيتكلم ويظهر رأيه لأن الدين النصيحة وفي الإخفاء نوع من الخيانة المنافية للأمانة وعن عائشة رضي الله تعالى عنها المستشير معان والمستشار مؤتمن وعن علي كرم الله وجهه إذا استشير أحدكم فليشر بما هو صانع لنفسه (ورحم الله عبدا قال خيرا فغنم) أي بقوله الخير (أو سكت) أي عما لا خير فيه (فسلم) أي عن الشر بسكوته رواه أبو الشيخ في الثواب والديلمي ومنهم من فضل السكوت لأنه اسلم للنفس وآمن من سوء العاقبة ومنهم من فضل الكلام لوجود الغنيمة والأولى أن يقال لكل مقام مقال على أن الأظهر هو الأول لقوله عليه الصلاة والسلام من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت. (أسلم) بحذف العاطف وفي نسخة صحيحة وقوله أسلم وهو أمر بالإسلام جوابه (تسلم) بفتح اللام من السلامة وهذا القدر من الحديث متفق(1/196)
عليه بين الشيخين في كتابه عليه الصلاة والسلام لهرقل ولمسلم زيادة (وأسلم يؤتك الله أجرك مرّتين) وللبخاري في الجهاد اسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين أي إن تسلم يعطك الله أجرك مرتين مرة لإيمانه بعيسى عليه الصلاة والسلام ومرة لإيمانه بمحمد عليه الصلاة والسلام وهذا الحديث مع إيجازه جامع لمراتب الإسلام وما يترتب عليه من أنواع السلامة في الدنيا والآخرة مع المناسبة اللفظية في العبارة الزاخرة (وإنّ أحبّكم) أي وقوله فيما رواه الترمذي أن أحبكم (إليّ) أي في الدنيا والعقبى (وأقربكم منّي مجالس) لعل وجه الجمع اعتبار الأنواع (يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا) جمع أحسن والمراد بالأخلاق الشمائل والأحوال واستدل بهذا الحديث على أن أفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة جاز أن يطابق موصوفه وأن لا يطابقه لأنه عليه السلام أفرد أحب وأقرب وجمع أحاسن ففيه جمع بين اللغتين وتفنن في العبارتين (الموطّئون) بصيغة المفعول من التوطئة أي المذللون (أكنافا) جمع كنف بكسر وبفتح وهو الجانب أي الذين جوانبهم وطيئة يتمكن منها من يصاحبهم ولا يتأذى منهم مأخوذ من فراش وطيء لا يؤذي جنب النائم والمراد منهم المتواضعون اللينون الهينون كما ورد في أوصاف المؤمنين (الذين يألفون) بفتح اللام (ويؤلفون) بصيغة المجهول أي يألفون الناس والناس يألفونهم وذلك لحسن أخلاقهم وسهولة طباعهم وضياء قلوبهم وصفاء صدورهم وروي في الحديث وأن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجالس يوم القيامة الثرثارون المتشدقون المتفيهقون وروي أبغضكم إلي المشاؤون بالنميمة المفرقون للأحبة الملتمسون للبرآء العيب. (وقوله) أي وكقوله فيما رواه البيهقي في شعبه أصيب رجل يوم أحد فقالت أمه لتهنئك الشهادة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما يدريك (لعلّه كان يتكلّم بما لا يعنيه) بفتح أوله وسكون المهملة وكسر النون أي بما لا يهمه من أمر دنياه وعقباه (ويبخل) لعل الواو بمعنى أو (بما لا يغنيه) . بضم أوله وسكون المعجمة أي من أقوال وأفعال وطلب رياسة وحب محمدة وأمثال ذلك مما يجلب له شرا ولا يذهب عنه ضرا وقد قال الحسن من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه وفي رواية للبيهقي كما رواه الترمذي أن رجلا توفي وقالوا أبشر بالجنة فقال فلعله قد تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه قال الترمذي وهذا هو المحفوظ أقول لكن لا يخفى حسن صنعة التجنيس بين يعنيه ويغنيه في الحديث الأول (وقوله) أي وكقوله فيما رواه الشيخان (ذو الوجهين) أي الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه بمعنى أنه يأتي كلا بما يجب من خير أو شر وهذه هي المداهنة المحرمة وقيل هو الذي يظهر لكل طائفة وجها يرضيها به ويوهمها أنه عدو للأخرى ويبدي لها مساويها (لا يكون عند الله وجيها) أي ذا قدر ومنزلة لما يتفرع عليه من الفساد بين العباد بخلاف المصلح بين الناس في البلاد وأصل الوجيه هو المستقبل بالخير والتعظيم وذلك كناية عن المحبة لأن من أحب أحدا يديم النظر إلى وجهه ويستقبله بالتكريم وفي رواية الطبراني عن ابن سعيد ذو الوجهين في الدنيا يأتي يوم القيامة له وجهان من نار. (ونهيه) أي وكنهيه(1/197)
فيما رواه الشيخان (عن قيل وقال) بفتح لامهما وخفضهما منونا أي عن فضول ما يتحدث به في المجالس من قولهم قيل كذا وقال كذا ويجوز بناؤهما على أنهما ماضيان في كل منهما ضمير راجع إلى مقدر وهو الأشهر الأكثر بناء على الحكاية ويجوز إعرابهما إجراء لهما مجرى الأسماء ولا ضمير فيهما وعن أبي عبيد أنهما مصدران تقول قلت قولا وقيلا وقالا وقد قرئ قال الحق بدل قول الحق والمراد النهي عن نقل أقوال الناس مما لا فائدة فيه وقيل المراد النهي عن كثرة الكلام ابتداء وجوابا مما يوقع في الخطأ وما لا يجدي نفعا فيرجع إلى حديث كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع ونسب للشافعي:
لقاء الناس ليس يفيد شيئا ... سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ العلم أو إصلاح حال
(وكثرة السّؤال) أي عما بأيدي الناس بأن يسأل الناس أموالهم أو عن أخبارهم مما لا فائدة فيه من التجسس وقيل النهي عن الأغلوطات وفي كثرة السؤال دليل جواز القلة وشرطه الحاجة ولله در القائل:
بلوت مرارة الأشياء طعما ... فلا شيء امر من السؤال
وقيل السؤال عن المتشابهات وقيل كثرة سؤال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما لم ينزل ولم تدع الحاجة إليه ومنه قوله تعالى لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ومنه حديث وسكت عن أشياء غير نسيان فلا تبحثوا عنها والكثرة بالفتح وتكسر (وإضاعة المال) أي بصرفه في غير مرضاة الله عز وجل ويدخل في الاسراف في النفقة والبناء والملبوس والمفروش وأمثال ذلك وقيل إهماله وترك القيام عليه وقيل دفعه إلى السفهاء وقيل عدم صرفه في موضعه اللائق به كما قيل:
وما ضاع مال أورث المجد أهله ... ولكن أموال البخيل تضيغ
(ومنع) بالجر منونا وفي نسخة بفتح العين (وهات) بالكسر وفي نسخة بالفتح ويروى على بناء الماضي أي منع ما يجب عليه اعطاؤه وطلب ما ليس به (وعقوق الأمّهات) أي والآباء فهو من باب الاكتفاء أو لأن أكثر العقوق يقع بهن لضعفهن ورحمهن ولأنهن ما كان عند العرب كثير حرمة لهن أو للإيماء بأن عصيانهن اقبح لأنهن أكثر محبة وأشد شفقة لقوله تعالى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ الآية ولما ورد من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لما قيل له من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله قال أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك (ووأد البنات) بهمزه ساكنة وتبدل أي دفنهن حيات أنفة وغيرة ومنهم من وأد تخفيفا لمؤنتهن وخشية الإملاق بهن ولذا خصهن بالذكر وإلا فالوأد حرام وكثر ذلك الفعل بهن ومنه حديث العزل الوأد الخفي ومع هذا جاء في الحديث أن دفن البنات من المكرمات ونعم الصهر القبر وروي عن ابن عباس رضي الله(1/198)
تعالى عنهما مرفوعا للمرأة ستران قيل وما هما قال الزوج والقبر قيل فأيهما استر قال القبر.
(وقوله) أي وكقوله فيما رواه أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي ذر (اتّق الله حيثما كنت) وفي الأصول من كتب الحديث حيثما كنت وكذا في أصل الدلجي ولذا قال وما زائدة بشهادة رواية حذفها والمعنى اتق الله باكتساب أوامره واجتناب زواجره في كل مكان وزمان فإنه معك أينما كنت وحيثما كنت والخطاب لرواية من صحابته أو عام لكل فرد من أفراد أمته (وأتبع) بفتح الهمزة وكسر الموحدة أي أعقب والحق (السّيّئة) أي الصادرة منك (الحسنة) أي من صلاة أو صدقة ونحوهما وروي بحسنة (تمحها) بفتح أوله وضم الحاء مجزوما بجواب الأمر وهو مقتبس من قوله تعالى إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ وقيل المعنى بالحسنة بالحديث التوبة ثم المراد بمحوها إزالتها حقيقة بعد كتابتها أو محوها كناية عن عدم المؤاخذة بها والظاهر أن جنس الحسنة يمحو جنس السيئة فلا ينافي ما ورد من أن الحسنة تمحو عشر سيئات وخص من عمومها السيئة المتعلقة بالعبد كالغيبة فلا يمحوها إلا الاستحلال ولو بعد التوبة نعم قبل وصولها إليه ترفع بالحسنة لحديث إذا اغتاب أحدكم من خلفه فليستغفر له فإن ذلك كفارة له وقيل تمحها بحسنة يضاد أثرها أثر السيئة التي ارتكبها فسماع الملاهي يكفر بسماع القرآن ومجالس الذكر وشرب الخمر يكفر بتصدق شراب حلال ونحو ذلك فإن المعالجة بالأضداد (وخالق النّاس) أي خالطهم وعاشرهم (بخلق حسن) أي بطلاقة وجه وكف أذى وبما تحب أن يعاملوك به فإن الموافقة مؤنسة والمخالفة موحشة. (وخير الأمور أوسطها) هذا حديث مستقل رواه ابن السمعاني في تاريخه أي المتوسطة بين الإفراط والتفريط في الأخلاق كالكرم بين التبذير والبخل والشجاعة بين التهور والجبن وفي الأحوال كالاعتدال بين الخوف والرجاء والقبض والبسط وفي الاعتقاد بين التشبيه والتعطيل وبين القدر والجبر وفي المثل الجاهل إما مفرط إما مفرط وفي التنزيل وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا والحاصل أن الإنسان مأمور أن يجتنب كل وصف مذموم بالبعد عنه وأبعد الجهات والمقادير من كل طرفين وسطهما فإذا كان في الوسط فقد بعد عن الاطراف المذمومة ولعل هذا معنى قولهم كن وسطا وامش جانبا.
(وقوله) أي وكقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أحبب) من أحبه فإن حببته أحبه بالكسر شاذ وقوله (حبيبك) بمعنى محبوبك والمعنى أحبب الذي تحبه مما سوى الله ورسوله (هونا ما) ما زائدة للمبالغة في القلة أي حبا يسيرا ولا تسرف في حبه ولا تبالغ في تعلق القلب به كثيرا فإنه (عسى أن يكون) أي يصير وينقلب (بغيضك) أي مبغوضك (يوما ما) . أي حينا من الأحيان وتتمته وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما إذ ربما انقلب ذلك الحب بتغير الأحوال بغضا فتندم عليه إذا أبغضته أو انقلب البغض حبا فتستحي منه إذا أحببته ويقرب من هذا الكلام قول عمر(1/199)
رضي الله تعالى عنه لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا وفي معنى هذا الحديث أنشد أبو عمرو بن عبد البر في بهجة المجالس:
وأحبب إذا أحببت حبا مقاربا ... فإنك لا تدري متى أنت نازع
وأبغض إذا أبغضت بغضا مقاربا ... فإنك لا تدري متى أنت راجع
والمقارب المقتصد (وقوله) أي وكقوله فيما رواه الشيخان (الظّلم) أي على النفس أو على الغير (ظلمات) بضم الظاء واللام وقال التلمساني ويفتح ويضم الثاني أي أنواع الظلم القاصر او المتعدي ظلمات حسية على أصحابه فلا يهتدون بسببه إلى الخلاص (يوم القيامة) أي في يوم يسعى نور المؤمنين الكاملين بين أيديهم وبإيمانهم بسبب إيمانهم وإحسانهم ويحتمل أن يراد بها الشدائد كما في قوله تعالى قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ (وقوله) أي وكقوله فيما رواه الترمذي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (في بعض دعائه) أي في بعض دعواته لما فرغ من صلاته ليلة الجمعة (اللهمّ إنّي أسألك رحمة من عندك) أي من فضلك وكرمك لا بمقابلة عمل من عندي الحديث كذا في أصل الترمذي وليس في بعض النسخ لفظ من عندك (تهدي بها قلبي) أي تدله إليك وتقربه لديك (وتجمع بها أمري) أي حالي عليك (وتلمّ) بضم اللام وتشديد الميم (بها شعثي) بفتحتين أي تجمع لها تفرق خاطري وتضم بها تشتت أمري بمقام جمعي وحضوري (وتصلح بها غائبي) أي قلبي أو باطني بالأخلاق الرضية والأحوال العلية (وترفع بها شاهدي) أي قالبي أو ظاهري الأعمال البهية والهيئات السنية أو يراد بهما اتباعه الغائبون والحاضرون (وتزكّي بها عملي) أي تزيد ثوابه وتنميه أو تظهره وتنزهه عن شوائب الرياء والسمعة وسائر ما ينافيه (وتلهمني بها رشدي) أي صلاح حالي في حالي ومآلي (وتردّ) أي تجمع (بها ألفتي) بضم الهمزة اسم من الائتلاف وأما الإلفة بالكسر فالمرأة تألفها وتألفك وألفه كعلمه ألفا بالكسر والفتح على ما في القاموس فقول الدلجي بضم الهمزة وكسرها مصدر بمعنى المفعول ليس في محله والمراد بها الألفة في العبادة أو حسن الصحبة مع ارباب السعادة ومنه حديث المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف على ما رواه الدارقطني عن جابر مرفوعا ومنه قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (وتعصمني) أي تحفظني وتمنعني (بها من كلّ سوء) أي تصرفني عنه وتصرفه عني وهو بضم السين وقد تفتح الضرر الحسي والمعنوي (اللهمّ إنّي أسألك الفوز) أي النجاة (في القضاء) أي فيما قضيته وقدرته علي من البلاء وفي نسخة عند القضاء أي حين حلول القضاء وضيق الفضاء بتوفيق الرضى وروى المنجاني في العطاء ثم قال ويروى في القضاء كما ذكره المصنف في الشفاء (ونزل الشّهداء) بضمتين وتسكن الزاي وأصله ما يعد للضيف أول نزوله والمراد هنا جزيل الثواب وجميل المآب وقيل النزل بمعنى المنزل ويؤيده رواية ومنازل الشهداء (وعيش السّعداء) أي الحياة الطيبة المقرونة(1/200)
بالطاعة والقناعة من غير التعب والعناء وفي رواية زيادة ومرافقة الأنبياء (والنّصر على الأعداء) أي من النفس والشياطين وسائر الكافرين والحديث طويل كما ذكره بعض الشراح وفي هذا الحديث دليل واضح على أن السجع في الدعاء إنما يكون مكروها على ما ذكره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره إذا كان عن تكلف وتعسف يمنعه عن حسن الثناء ويشغله عن حضور القلب عن الدعاء ثم هذه الروايات من الكلمات الجامعات منضمة (إلى ما روته الكافّة عن الكافة) أي جميع الرواة عن الثقات وحكي عن سيبويه أنه لا يجوز استعمال كافة معرفا بل نكرة منصوبة على الحالية كقاطبة (من مقاماته) بيان لما والمعنى من مقالاته في اختلاف مقاماته وحالاته ومجالس وعظه ودلالاته (ومحاضراته) أي في محاوراته (وخطبه) أي في جمعه وجماعاته (وأدعيته) أي وقت مناجاته (ومخاطباته) أي في مجاوباته (وعهوده) أي في مبايعاته (ممّا لا خلاف) أي بين العلماء الأنام (أنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (نزل) فعل ماض وقد وهم اليمني في ضبطه بضم النون والزاي منونا وذكر معانيه التي هي غير ملائمة للمقام فالمعنى أنه تنزله وحل ووصل (من ذلك) أي مما ذكر من علو المقام (مرتبة) بقاف فموحدة أي موضعا مشرفا كما في الصحاح وفي نسخة بقاف فألف وكلتاهما بمعنى مرتبة كما في نسخة وقال اليمني هي الصواب والحاصل أن النسخ كلها بمعنى درجة عالية (لا يقاس) أي عليه (بها غيره) فأين الثريا من يد المتناول في الثرى ولا يقاس الملوك بالحدادين في السلوك (وجاز) بالحاء والزاي أي ضم وجمع (فيها سبقا) بفتح فسكون مصدر سبق وهو التقدم في السير ويستعار لإحراز الفضل والخير وبفتحهما ما يجعل من المال رهنا في المسابقة وأغرب الحلبي من بين الشراح في قوله إنه يتعين ههنا فتح الباء (لا يقدر قدره) بصيغة المجهول أي لا تعرف عظمة شأنه ورفعة برهانه (وقد جمعت) بصيغة المتكلم في أكثر النسخ وضبطه الدلجي بتاء تأنيث ساكنة مبنيا للمفعول (من كلماته) من تبعيضية أو زائدة وأنت الضمير نظرا إلى الكلمات كذا ذكره الدلجي والظاهر كون من تبعيضية لقلة وجودها زائدة في الكلام الموجب مع أن كلماته لا تستقصي في مقام الرواية والمفعول أو نائب الفاعل قوله (الّتي لم يسبق إليها) بصيغة المجهول أي ما سبقه واحد إلى تلك الكلمات البالغة لإصابتها نهاية البلاغة وغاية الفصاحة (ولا قدر أحد أن يفرغ) من الإفراغ أي (في قالبه) بفتح اللام وتكسر ففي القاموس القالب كالمثال يفرغ فيه الجواهر وفتح لامه أكثر والمعنى لم يقدر أحد أن يكسب جواهر المعاني في قوالب زواهر المباني (عليها) أي على نهج تلك الكلمات التي ليس لها مناني (كقوله) أي يوم حنين على ما رواه مسلم والبيهقي الآن (حمي الوطيس) بفتح الحاء وكسر الميم أي اشتد الحرب والوطيس في الأصل التنور شبه به الحرب لاشتعال نارها وشدة إيقادها فاستعار لها اسمه في إيرادها استعارة تحقيقية لتحقق معناها حسا وقرنها بقوله حمى ترشيحا للمجاز وقيل هو الوطئ الذي يطس الناس أي يدقهم وقال الأصمعي هو حجارة مدورة إذا حميت لم يقدر أحد(1/201)
على وطئها عبر به عليه الصلاة والسلام عن اشتباك الحرب وقيامها على ساق فهو كلام في غاية الإيجاز ومما يشبه الألغاز وكاد أن يكون من باب الاعجاز (ومات حتف أنفه) أي كقوله فيما رواه البيهقي في شعب الإيمان ولفظه من مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله يعني إذا خرج مجاهدا في سبيل الله والمعنى مات بلا مباشرة قتل ولا ضرب ولا غرق ولا حرق وخص الأنف لأنه أراد أن روحه تخرج من أنفه بتتابع نفسه أو لأنهم كانوا يتخيلون أن المريض تخرج روحه من أنفه والجريح من جراحته (ولا يلدغ المؤمن من جحر) بضم جيم فسكون حاء (مرّتين) أي كما رواه البخاري وغيره وروي لا يلسع وهو إما خبر فمعناه أن المؤمن الفطن هو اليقظ الحازم الحافظ الذي لا يؤتى من جهة الغفلة فيخدع وهو لا يشعر مرة بعد مرة وأما نهي فمعناه لا يخدعن المؤمن من باب واحد من وجه واحد مرة بعد أخرى فيقع في مكروه بل فليكن حذرا يقظا في أمر دنياه وأخراه وسبب الحديث أن أبا عزة الجمحي أسر ببدر فمن عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أن لا يهجوه ولا يحرض عليه فغدر ثم أسر بأحد فقال يا رسول الله غلبت أقلني فقال لا أدعك تمسح عارضيك بمكة تقول خدعت محمدا مرتين وأن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ثم أمر بضرب عنقه (والسّعيد من وعظ) بصيغة المجهول أي أتعظ (بغيره) كما رواه الديلمي وروي تمامه والشقي من وعظ به غيره (في أخواتها) أي أشباه هذه الكلمات والمعنى أنها جمعت معها كالأعمال بالنيات والمجالس بالأمانات والحرب خدعة وأمثالها من الكلما الجامعات منها كل الصيد في جوف الفرا أي الحمار الوحشي قاله لأبي السبيعي لما أسلم أي اجتمع كمال خصال الناس فيه وإياكم وخضراء الدمن ولا يجني على المرء إلا يده والبلاء مؤكل بالمنطق وترك الشر صدقة وسيد القوم خادمهم والخيل في نواصيها الخير وإن من الشعر لحكمة ونية المؤمن خير من عمله والدال على الخير كفاعله ونعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ والندم توبة ونحو ذلك (مما يدرك النّاظر العجب) أي مما يتصوره وفي نسخة بنصف الناظر ورفع العجب فالمعنى مما يلحقه العجب إذا نظر (في مضمّنها) بفتح الميم المشددة وفي نسخة من ضمنها أي مضمونها وما يتضمنها من المعاني البديعة في المباني المنيعة (ويذهب به) أي ومما يذهب بالناظر (الفكر في أداني حكمها) بكسر ففتح جمع حكمة والمعنى فيتعجب بتأمله في فهمها باعتبار أدانيها فما ظنك بأقاصيها (وقد قال له أصحابه) أي كما رواه البيهقي في شعب الإيمان. (ما رأينا الذي هو أفصح منك) الجملة من المبتدأ والخبر صلة الموصول وهو عائد الموصول لا ضمير أفصح كما توهم الدلجي فإن ضميره راجع إلى المبتدأ كما لا يخفى على المبتدي (فقال وما يمنعني) أي من أن أكون أفصح (وإنّما أنزل القرآن) أي الذي هو في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة مع إيجاز المباني وحسن البيان والمعاني (بلساني لسان عربي مبين) أي واضح او موضح ولسان بدل أو بيان. (وقال مرّة أخرى) أي كما رواه اصحاب الغرائب(1/202)
ولم يعرف له سند (أنا أفصح العرب بيد) أي غير (أنّي) أو على أني (من قريش) فيكون من باب المدح بما يشبه الذم كقول القائل:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
ومنه قول النابغة:
فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقى من المال باقيا
وفي مشارق الأنوار للمصنف أن بيد بمعنى لأجل وفي المعنى هنا بمعنى من أجل أني من قريش (ونشأت) أي تربيت وفي رواية ارضعت (في بني سعد) أي وهما طائفتان فصيحتان من العرب العرباء وفيهم البلغاء من الشعراء والخطباء وللطبراني أنا أعرب العرب ولدت في قريش ونشأت في بني سعد فأنى يأتيني اللحن وأما حديث أنا أفصح من نطق بالضاد بيد اني من قريش فنقله الحلبي عن ابن هشام لكن لا أصل له كما صرح به جماعة من الحفاظ وأن كان معناه صحيحا والله أعلم وأغرب التلمساني في قوله وتكسر همزة إني على الابتداء وقال روى الحديث محمد بن إبراهيم الثقفي عن أبيه عن جده (فجمع له) بصيغة المجهول أي فاجتمع له الجمع الله له (بذلك) أي بسبب ما ذكر من أصالة قريش وحضانة بني سعد (صلى الله تعالى عليه وسلم) كان محله بعدله (قوّة عارضة البادية) أي حلاوة كلام أهل البادية (وجزالتها) بالرفع وهو ضد الركاكة (ونصاعة ألفاظ الحاضرة) أي وخلوص ألفاظ أهل الحضور في القرى من شوائب خلط الخلطة بغيرهم، (ورونق كلامها) أي وحسن تعبير أهل الحاضرة المفهومة للعامة والخاصة حال كون ذلك كله منضما (إلى التّأييد الإلهي الذي مدده) بالرفع أي زيادته المتوالية وإمداده (الوحي الذي لا يحيط بعلمه بشري) أي منسوب إلى البشر وهم بنو آدم ولو قال الآدمي بدله كان أنسب معنى وأقرب مبنى لسجع الإلهي والحاصل أن كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم متناه في الفصاحة والبلاغة ولكن لا يبلغ مرتبة المعجزة خلافا لبعض المتكلمين حيث قال إن اعجازه دون اعجاز القرآن ولعله أراد باعتبار المعنى دون المبنى. (وقالت أمّ معبد) بفتح ميم وموحدة وهي عاتكة بنت خالد الخزاعية (في وصفها له) أي للنبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) حين نزل بها في طريق المدينة سنة الهجرة كما ذكره اصحاب السير وأصحاب الشمائل تضمنا للمعجزات وخوارق العادات حينئذ فمن جملة ما وصفت أنه (حلو المنطق) أي مستلذه ومستحلاه لاشتماله على حلاوة كلامه وعذوبة مرامه وسلاسة سلامه وحسن بدئه وختامه ونظام تمامه. (فضل) أي مفصول مبين ومفهوم معين أو فاصل بين الحق والباطل أو حق لا باطل ومنه قوله تعالى في التنزيل إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ أي فاصل قاطع (لا نزر) بفتح نون فسكون زاء أي لا يسير فيشير إلى خلل (ولا هذر) بفتح هاء وسكون ذال معجمة أي ولا كثير فيميل إلى ملل وأما الهذر بفتح الذال فمعناه الهذيان وأغرب الأنطاكي حيث اقتصر في ضبطه على الفتح (كأنّ منطقه) أي منطوقة (خرزات) أي جواهر(1/203)
متعالية ولآلئ متغالية (نظمن) بصيغة المجهول أي سلكن في سلك كلماته وضمن عباراته متتابعة متناسقة متناسبة متوافقة والحاصل أنه تشبيه بليغ لارادة زيادة المبالغة على ما صرح به الدلجي إلا أنه مبني على أن كان منطقه من الأفعال الناقصة وفي بعض النسخ المصححة بتشديد النون على أنها من الحروف المشبهة فحينئذ لا يكون تشبيها بليغا كما لا يخفى على البلغاء (وكان جهير الصّوت) أي عاليه وهو مما يمدح في أحوال الرجال ولذا مدح أيضا بسعة الفم والله تعالى أعلم (حسن النّغمة) بفتح النون وسكون العين المعجمة أي حسن الصوت حيث تقبله الاسماع وتألفه الطباع كما روي أن الله لم يبعث نبيا إلا حسن الصورة وحسن الصوت (صلى الله تعالى عليه وسلم) أي أولا وآخرا والله تعالى أعلم.
فصل [وأما شرف نسبه وكرم بلده ومنشأه]
(وأمّا شرف نسبه) أي المنسوب إلى قومه (وكرم بلده ومنشأه) أي الذي ولد وتربى فيه وقيل المراد من منشأة محل مرضعته حليمة من بني سعد (فما لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ وَلَا بيان مشكل ولا خفي منه) أي مما ينسب إليه (فإنّه) أي باعتبار نسبه (نخبة بني هاشم) أي خيارهم (وسلالة قريش) أي خلاصتهم وصفوتهم سلت من خالصيهم والظاهر أنه مرفوع وجعله التلمساني مجرورا على أنه بدل من بني هاشم (وصميمها) بالرفع أي قوامهم ومدارهم محضهم وخالصهم من غير خلطة غيرهم وأصل الصميم العظم الذي به قوام العضو وظاهر كلام الدلجي أن صميمها مجرور عطفا على قريش (وأشرف العرب) لأنه من بني هاشم وبنو هاشم من قريش وهم أشرف العرب في النسب وفي شرح الدلجي أفضل العرب من غير عاطفة بالجر صفة لقريش (وأعزّهم) أي وهو أقواهم واشجعهم وأسخاهم (نفرا) أي جماعة وقرابة (من قبل أبيه وأمّه) أي من قبل قبيلة أبويه (ومن أهل مكّة) أي وهو من أهل مكة (أَكْرَمِ بِلَادِ اللَّهِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى عِبَادِهِ) وفي هذا حجة على بعض المالكية في تفضيلهم المدينة السكينة على مكة المكينة وفي بعض النسخ من أكرم ولعله تصرف من بعضهم والله تعالى أعلم نعم يستثنى ما حوى بدنه الكريم فإنه أفضل حتى من الكعبة بل من العرش العظيم وعن المحب الطبري أن بيت خديجة يلي المسجد الحرام في الفضيلة ولم يذكر المصنف في هذا الفصل شيئا مما جاء في فضل مكة لظهوره وكمال وضوح نوره. (حدّثنا قاضي القضاة) اللام للعهد إذ لا يجوز هذا الإطلاق على سبيل الاستغراق إلا على الملك الخلاق نحو ملك الملوك وسلطان السلاطين وأمثال ذلك (حسين بن محمّد الصّدفيّ) بفتحتين ففاء فياء نسبة (رحمه الله) تعالى وقد سبق ترجمته (حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ سُلَيْمَانُ بْنُ خَلَفٍ) وهو الباجي.
(حدّثنا أبو ذر عبد بن أحمد) أي الهروي وهو عبد من غير إضافة فلا يكتب همزة ابن البتة ولو وقع أول الصفحة (حدّثنا أبو محمّد السّرخسيّ) هو الحموي وقد سبق ضبطه (وأبو إسحاق) أي المستملي وكان من الثقات (وأبو الهيثم) وهو محمد بن المكي بن الزراع(1/204)
الكشميهني بضم الكاف وسكون الشين المعجمة وفتح الميم وسكون التحتية وفتح الهاء بعدها النون وياء النسبة نسبة إلى قرية قديمة من قرى مرو (حدّثنا) أي قالوا حدثنا كما في نسخة (محمّد بن يوسف) وهو الفربري، (قال حدّثنا محمّد بن إسماعيل) أي الإمام البخاري، (حدّثنا قتيبة بن سعيد) تقدم ذكره. (حدّثنا يعقوب بن عبد الرّحمن) أي ابن محمد بن عبد الله ابن القاري بالتشديد نسبة إلى القارة (عن عمرو) بالواو وهو مولى المطلب أخرج له الأئمة الستة واختلف في كونه ثقة (عن سعيد المقبريّ) بفتح الميم وضم الموحدة ويجوز فتحها وقال التلمساني بتثليث الموحدة وقيل له ذلك لأنه كان يسكن قرب المقابر وهو سعيد بن أبي سعيد المقبري وأما ما في بعض النسخ عن أبي سعيد فخطأ على ما ذكره الحلبي وفيه بحث لأن الحجازي صرح بأن كنيته أبو سعيد وأبوه كيسان وكنيته أبو سعيد أيضا (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بني آدم قرنا فقرنا) أي خلقت وجعلت من خير طبقاتهم كائنين طبقة بعد طبقة (حَتَّى كُنْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ مِنْهُ) أي حتى وجدت من بين الجمع الذي ظهرت منهم والقرن من الاقتران يطلق على أهل كل زمان يقترنون في أعمارهم وأحوالهم في مقداره أقوال عشرة عشرون ثلاثون أربعون خمسون ستون سبعون ثمانون مائة سنة مائة وعشرون مطلق من الزمان فتلك عشرة كاملة والأظهر أنه من الزمان ما غلب فيه وجود الأقران ولذا قيل:
إذا ذهب القرن الذي أنت منهمو ... وخلقت في قرن فأنت غريب
والمراد بالبعث تقلبه في أصلاب آبائه أبا فأبا كانتقاله من نابت بالنون ابن إسماعيل ثم من النضر بن كنانة ثم من قريش بن النضر ثم من عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ولله در القائل:
كم من أب قد علا بابن ذوي شرف ... كما علا برسول الله عدنان
(وعن العبّاس) كما رواه البيهقي في دلائل النبوة والترمذي وحسنه (قال: قال النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم إنّ الله خلق الخلق) أي إنسا وملائكة وجنا ويحتمل تخصيصه بالثقلين (فجعلني من خيرهم) أي فتخيرهم وجعلني من خيرهم وهم الإنس (من خير قرنهم) بصيغة الإفراد وهو بدل مما قبله (ثمّ تخيّر القبائل) أي اختارهم (فجعلني من خير قبيلة) أي من العرب وهم قريش (ثمّ تخيّر البيوت) أي البطون (فجعلني من خير بيوتهم فأنا) أي بفضل الله علي ونظر لطفه في سابق علمه إلى (خيرهم نفسا) أي ذاتا إذ خلقني خاتم النبوة وتمم بي دائرة الرسالة وجعلني مدار الوجود ومظهر الكرم والجود (وخيرهم بيتا) أي مكانا في النسب والحسب من جهة الأم والأب. (وعن واثلة) بمثلثة مكسرة (ابن الأسقع) وهو من أرباب الصفة وضبط بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وفتح قاف فعين مهملة وقال التلمساني بالسين والصاد ويجوز الزاء كما رواه مسلم والترمذي واللفظ له (قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إبراهيم) قيل هو معرب أب رحيم والولد(1/205)
بفتحتين أو بضم فسكون أي اختار من أولاده وكانوا ثلاثة عشر (إسماعيل) إذ كان نبيا رسولا إلى جرهم وعماليق الحجاز وأغرب التلمساني حيث قال إسماعيل باللام والنون (واصطفى من ولد إسماعيل) وكانوا اثني عشر ولدا على ما ذكره ابن إسحاق (بني كنانة) وهو بكسر الكاف ابن نابت وبين كنانة ونابت فيما ذكر ابن إسحاق ثلاثة عشر أبا (واصطفى من بني كنانة) وكانوا أربعة منهم النضر (قريشا) وهم أولاد النضر روي أن في الرجل من قريش قوة رجلين من غيرهم (واصطفى من قريش بني هاشم) اسمه عمرو وسمي بذلك لأنه أول من هشم الثريد لقومه وأضيافه من الحجاج وغيرهم في سنة القحط (واصطفاني من بني هاشم) أي بني عبد المطلب بن هاشم (قال الترمذي وهذا حديث صحيح) أي إسناده قال المنجاني وقد خرجه مسلم في صحيحه؛ (وَفِي حَدِيثٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما رواه الطّبري) أي محمد بن جرير أحد الأعلام وصاحب التصانيف من أهل طبرستان وسمع خلائق وأخذ القراءة عن جماعة توفي سنة عشر وثلاثمائة وكذا الطبراني في معجميه الكبير والأوسط (أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم قال إنّ الله عزّ وجلّ اختار خلقه) أي تخيرهم وقيل أوجدهم لأن المختار عند المتكلمين هو الفاعل لا على سبيل الإكراه (فَاخْتَارَ مِنْهُمْ بَنِي آدَمَ ثُمَّ اخْتَارَ بَنِي آدم) أي تنقاهم (فاختار منهم العرب ثمّ اختار العرب) أي انتقدهم (فاختار منهم قريشا) وهم أولاد النضر بن كنانة وسموا قريشا لأن قصيا قرشهم أي جمعهم في الحرم بعد ما كانوا متفرقين (ثُمَّ اخْتَارَ قُرَيْشًا فَاخْتَارَ مِنْهُمْ بَنِي هَاشِمٍ ثمّ اختار بني هاشم فاختارني) أي منهم (مِنْهُمْ فَلَمْ أَزَلْ خِيَارًا مِنْ خِيَارٍ أَلَا) للتنبيه على تحقيق ما بعده من الأمر النبيه (من أحبّ العرب فبحبّي) أي فبسبب حبه إياي (أحبّهم ومن أبغض العرب فببغضي) أي فبسبب بغضه إياي (أبغضهم) أي والمعنى إنما أحبهم لأنه أحبني وإنما أبغضهم لأنه أبغضني فثبت بذلك قول بعض المالكية من سبهم وجب قتله لكن قد يقال المعنى فبسبب حبي وبغضي إياهم أحبهم وأبغضهم لا بسبب آخر فمن أحبهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من أهل الإيمان يجب محبتهم ومن أبغضهم من أهل العدوان يجب عداوتهم وأما الطعن في جنس العرب فهذا محل بحث وسيأتي تحقيقه (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) عَلَى ما رواه ابن أبي عمر والعدني في مسنده (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم كانت روحه) وفي أكثر النسخ أن قريشا أي من حيث هو فيهم كانت (نورا بين يدي الله تعالى) أي مقربا عنده سبحانه وتعالى (قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ بِأَلْفَيْ عَامٍ يُسَبِّحُ ذلك النّور) أي قبل عالم الظهور (وتسبّح الملائكة بتسبيحه) أي بسببه أو بما يقول من تسبيحه على طبقه ووفقه (فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ أَلْقَى ذَلِكَ النُّورَ في صلبه) بضم فسكون وفي القاموس بالضم وبالتحريك هو عظم من لدن الكاهل إلى العجب وقال التلمساني هو عمود الظهر ويقال بضم الصاد وفتحها (فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فأهبطني الله عز وجل إِلَى الْأَرْضِ فِي صُلْبِ آدَمَ وَجَعَلَنِي فِي صلب نوح) أي بعد ما كان في صلب شيث وإدريس (وقذف بي) أي بعد ذلك (في صلب إبراهيم) أي من صلب سام بن(1/206)
نوح (ثُمَّ لَمْ يَزَلِ اللَّهُ تَعَالَى يَنْقُلُنِي مِنَ الأصلاب الكريمة والأرحام الطّاهرة حتّى أخرجني) أي أطهرني (من) وفي نسخة بين (أبويّ لم يلتقيا) أي أبواي من آدم وحواء إلى عبد الله وآمنة (على سفاح) بكسر السين أي على غير نكاح (قطّ) أي أصلا وقطعا (ويشهد بصحّة هذا الخبر شعر العبّاس) وهو قوله.
من قبلها طبت في الظلال وفي الخ (المشهور في مدح النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) كما سيأتي في كلام القاضي والله أعلم.
فصل [وأما تَدْعُو ضَرُورَةُ الْحَيَاةِ إِلَيْهِ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ فَعَلَى ثلاثة ضروب الضرب الأول]
(وَأَمَّا مَا تَدْعُو ضَرُورَةُ الْحَيَاةِ إِلَيْهِ مِمَّا فصّلناه) أي مما بيناه فيما تقدم أول الباب من فضائله فيه (فعلى ثلاثة ضروب) وفي بعض النسخ أضرب أي على ثلاثة أنواع أو أصناف (ضرب الفضل) أي هو الفضل ويجوز فيه الإضافة (في قلّته) وهو الذي أورده هنا، (وضرب الفضل في كثرته) أورده في فصل ثان، (وضرب تختلف الأحوال فيه) ذكره في فصل ثالث؛ (فأمّا ما) أي ضرب (التّمدّح والكمال بقلّته اتّفاقا) أي بين العلماء والحكماء من العرب والعجم وغيرهم من العقلاء (وعلى كلّ حال) أي وفي قلته على كل حال بأصل الخلقة أو بحكم المجاهدة (وعادة وشريعة) أي عقلا ونقلا أو عادة وعبادة (كالغذاء) بكسر المعجمة الأولى ما يتغذى به من الطعام والشراب وهو أعم من الغداء بفتح المعجمة والدال المهملة وهو ما يؤكل أول النار كما أن العشاء بالفتح ما يؤكل بعد الزوال إلى العشاء بالكسر فتجويز الدلجي ضبطه بالمعجمة والمهملة من المهمل الذي ليس في محله المستعمل وكذا قول اليمني وأما الغداء بفتح الغين المعجمة والدال المهملة فهو الطعام بعينه وهو خلاف العشاء انتهى مع ما فيه من التناقض بين قوله هو الطعام بعينه وبين قوله وهو خلاف العشاء (والنّوم) أي وكالنوم، (ولم تزل العرب) أي من العقلاء (والحكماء) أي منهم ومن غيرهم من القدماء (تتمادح) أي تتفاخر (بقلّتهما وتذمّ) أي وتتعايب (بكثرتهما) او التقدير تذم التقيد بكثرتهما وفي نسخة وتذم كترتهما (لأنّ كثرة الأكل والشّرب) بتثليث الشين والضم ثم الفتح أشهر وأما الكسر ففي معنى النصيب أكثر (دليل على النّهم) بفتحتين أي الافراط في شهوة الطعام (والحرص) أي على جمع المال لنيل المنال أو على طول الحياة لحصول اللذات (والشّره) بفتحتين أي غلبة الحرص وقيل وهو أن يأكل نصيبه ويطمع في نصيب غيره فهما مجروران عطفا على النهم بفتحتين للتفسير والتأكيد ثم قوله (وغلبة الشّهوة) مبتدأ خبره قوله، (مسبّب) بكسر الباء والمسبب في الحقيقة هو الله تعالى فكان الأولى أن يقول سبب أي أمر موجب وباعث مجتلب (لمضارّ الدّنيا والآخرة) وفي بعض النسخ ضبط الحرص والشره وغلبة الشهوة كلها بالرفع فيكون مسبب خبرا ثانيا لأن ويؤيده قوله (جالب) بلا عاطف وليس كما قال الدلجي عطف على دليل أو مسبب ثم المعنى(1/207)
جاذب ومكسب (لأدواء الجسد) جمع الداء بمعنى المرض (وخثارة النّفس) بضم الخاء المعجمة أي ثقلها بلا طيب ونشاط (وامتلاء الدّماغ) وهو أعلى الرأس من القحف أي من رطوبات ابخرة متصاعدة تورث استرخاء اعضائه الذي به النوم الذي يفوت خيرا كثيرا؛ (وقلّته) عطف على كثرة الأكل وهو اسم أن أو على محلها أي قليل من الأكل (دليل على القناعة) أي الرضى باليسير والتسليم للقسمة (وملك النّفس) بكسر الميم أي وعلى قدرتها وحكمها على قمعها ومنعها من الميل إلى الشهوات واتباعها؛ (وقمع الشّهوة) بالرفع مبتدأ خبره (مسبّب للصّحة) وجوز الدلجي جره عطفا على ما قبله فيكون مسبب خبرا ثانيا لقلته وهو بعيد لفظا ومعنى وجوز الحجازي رفع ملك النفس أيضا فتأمل والمراد من الصحة صحة الظاهر وهو الجسد من الآلام والأسقام لأن التخمة أصل كل علة (وصفاء الخاطر) أي وسبب لخلوص الباطن من الكدورات المتولدة بانهماك النفس في المستلذات (وحدّة الذّهن) أي لذكائه وهي شدة قوة للنفس معدة لاكتساب الآراء المستقيمة (كَمَا أَنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ دَلِيلٌ عَلَى الْفُسُولَةِ) بضم الفاء والسين المهملة أي الرذالة وفتور النفس (والضّعف) بالضم والفتح أي ضعف البنية، (وعدم الذّكاء والفطنة) أي وعلى عدمها وقوله (مسبّب) خبر ثان لأن أو عدم الذكاء مبتدأ خبره مسبب (للكسل) أي الملالة في الطاعة (وعادة العجز) أي وتعود العجز عن القيام بالعبادة روي أن من خصائصه عليه الصلاة والسلام أنه كان لا يتثاءب ولا يتمطى لأنهما من عمل الشيطان (وتضييع العمر) بضمهما ويسكن الثاني (في غير نفع) أي بلا منفعة حقيقية لأن النفس إذا توجهت إلى معرفة شيء ومزاولة عمل ولم تجد لها آلة تساعدها من صدق تخيل وصحة فكر وتأمل وجودة حفظ وتعقل لفقد اعتدال المزاج بسبب كثرة الأكل والنوم فترت همتها عن العلم والعمل واعتادها الكسل مع حصول عجز البدن عن وصول الأمل وإضاعة العمر في غير نفع مدة الأجل (وقساوة القلب) أي وفي شدته وغلظته (وغفلته) أي إهماله وتركه عن تحصيل منفعته (وموته) أي وموت قلبه لأن حياته بذكر ربه وفكر حبه؛ (والشّاهد على هذا) أي والدليل الظاهر على ما ذكرناه من أن كثرة الأكل والنوم تورث ما قدمناه (ما يعلم ضرورة) أي بديهة بأوائل الفطرة من غير حاجة إلى الفكرة كالعلم بجوع النفس وعطشها وقبضها وبسطها وكالعلم بأن الواحد نصف الاثنين والاثنين أكثر من واحد ونصب ضرورة على التمييز (ويوجد مشاهدة) أي معاينة منا ومن غيرنا وهي منصوبة على المفعولية، (وينقل) أي يروى إلينا ممن سبق علينا (متواترا) أي نقلا متتابعا مرة بعد مرة وفي الاصطلاح خبر اقوام عن أمر محسوس يستحيل عادة تواطئهم على الكذب (من كلام الأمم المتقدّمة والحكماء السّافلين) أي السابقة كقول الحارث ابن كلدة أفضل الدواء الازم يريد قلة الأكل والحمية وقول بعض الحكماء خصلتان يقسو بهما القلب كثرة الأكل وكثرة الكلام وقول داود لابنه سليمان عليهما السلام إياك وكثرة النوم فإنه يفقرك إذا احتاج الناس إلى أعمالهم (وأشعار العرب وأخبارها) ومن الأول قول الأعشى(1/208)
تكفيه حذة لحم إن الم بها ... من الشواء وتروى شربة الغمر
ومن الثاني قول قس بن ساعدة وقد قال له قيصر ما أفضل الأكل قال ترك الإكثار منه قال فما أفضل الحكمة قال معرفة الإنسان قدره قال فما أفضل العقل قال وقوف الإنسان عند علمه (وصحيح الحديث) كما سيأتي (وآثار من سلف وخلف) أي من الصحابة والتابعين كما سيجيء (ممّا لا يحتاج إلى الاستشهاد عليه) أي لكونه مما لا يخفى (وإنّما تركنا ذكره هنا اختصارا) أي في اللفظ (واقتصارا) أي في المعنى (على اشتهار العلم به) أي بناء واعتمادا على شهرته لكمال كثرته؛ (وكان النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخَذَ مِنْ هَذَيْنِ الْفَنَّيْنِ) أي النوعين من الغداء والنوم (بالأقلّ) أي بالحد الأقل الذي لا يجوز التجاوز عنه ويجب الانتفاع به حفظا للبنية وقوة على الطاعة؛ (هذا) أي هذا الحد الذي أخذ به منهما واكتفى فيه عن طلب غيرهما (ما لا يدفع) بصيغة المجهول أي لا ينكر ولا يمنع (من سيرته) لكمال شهرته وكثرة نقلته (وهو الذي أمر به) أي غيره (وحضّ عليه) أي من وافق سيره (لا سيّما) مركبة من لا وسى وما وسى اسم بمنزلة مثل وزنا ومعنى أي لا مثل ما وتكون ما زائدة أو موصولة قال ثعلب من استعمله بلا واو مخفف الياء أخطأ وليس كما قال بل تحذف واوه ويخفف كقوله:
وبالعقود وبالإيمان لا سيما ... عقد وفاء به من أعظم القرب
كذا قرره الحجازي وفيه بحث لا يخفى (بارتباط أحدهما بالآخر) أي خصوصا مع ملاحظة ارتباطهما وانعقادهما في تلازمهما من حيث إن النفس إذا شبعت تشوقت إلى الراحة بالنوم وفترت عن العبادة فتنام كثيرا فتحسر في حياته كثيرا وتندم عند مماته كثيرا لقلة زاده ليوم معاده بدليل ما سيأتي من الأخبار والآثار منها ما قال المصنف رحمه الله تعالى. (حدّثنا أبو عليّ) أي ابن سكرة (الصّدفيّ) بفتحتين (الحافظ) أي للكتاب والسنة (بقراءتي عليه) أي هذا الحديث دون إملائه لي وهذا بيان لأحد نوعي الأخذ ودليل على كمال الحفظ وقد سبقت ترجمته (حدّثنا أبو الفضل) وهو أحمد بن خيرون وقد سبق ذكره (الأصفهانيّ) بفتح الهمزة وتكسر والفاء مفتوحة ويروى بالباء بدل الفاء وأما النطق بموحدة بين الباء والفاء فلفظ فارسي قيل وأهل المشرق يقولون بالفاء وأهل المغرب بالباء وهي مدينة عظيمة من بلاد العجم من نواحي العراق ومن شرف أصبهان أنها لا تخلو أبدا من ثلاثين رجلا يستجاب دعاؤهم لدعوة الخليل عليه السلام لما حمل منهم نمرود ثلاثين للحرب فلما رأوا الخيل آمنوا به فدعا لهم بذلك كذا ذكره التلمساني (حدّثنا أبو نعيم الحافظ) قال الحلبي هذا هو الحافظ الكبير محدث العصر أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني الصوفي الأحول سبط الزاهد محمد بن يوسف البناء ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وله مصنفات كثيرة (حدّثنا سليمان بن أحمد) هذا هو الإمام الواسطي الحافظ الكبير الثبت مسند الدنيا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي بالمعجمة الشامي(1/209)
ولد سنة ستين ومائتين واعتنى به أبوه ورحل به في حداثته وسمع بمدائن الشام والحرمين واليمن ومصر وبغداد والكوفة والبصرة وأصفهان والجزيرة وغير ذلك وحدث عن أكثر من ألف شيخ وصنف المعجم الكبير والمعجم الأوسط وهو كتاب جليل تعب عليه وكان يقول هو روحي والمعجم الصغير يذكر فيه عن كل شيخ حديثا وله مصنفات كثيرة مفيدة وعاش مائة سنة (حدّثنا أبو بكر بن سهل) أي الدمياطي روى عن عبد الله بن يوسف وكاتب الليث وطائفة وعنه الطحاوي والطبراني وجماعة توفي سنة تسع وثمانين (حدّثنا عبد الله بن صالح) أي الجهمي كاتب الليث على أحواله روى عن معاوية بن صالح وموسى بن علي وطائفة وعنه البخاري وابن معين وخلق قال الفاضل الشعراني ما رأيته إلا يحدث أو يسبح (حدّثني معاوية بن صالح) هو الحضرمي الحمصي قاضي الأندلس روى عن مكحول وغيره وعنه ابن وهب وابن مهدي وجمع (أنّ يحيى بن جابر) أي الطائي الشامي قاضي حمص (حدّثه عن المقدام) بكسر الميم (ابن معد يكرب) بعدم الانصراف وقد يصرف قال الحلبي فيه لغات رفع الباء ممنوعا والإضافة مصروفا وممنوعا انتهى ولا يخفى أن الرفع لا وجه له هنا (أنّ رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وعاء شرّا من بطنه) ويرى من بطن لما فيه من الضرر الكثير به وسائر الأوعية إنما استعملت فيما هي له وهو إنما خلق ليتقوم به الصلب من الطعام فامتلاؤه يفضي إلى فساد الدين والدنيا فيكون شرا منها في مقام المرام، (حسب ابن آدم) بسكون السين أي كافيه (أكلات) بضمتين وقد تفتح الكاف وتسكن أيضا على ما صرح به بعضهم جمع أكلة بالضم والسكون لما يجعل في الفم من اللقمة وهو المراد ههنا وفي جمعها للقلة وهو لما دون العشرة إرشاد إلى قلة عددها وفي رواية لقيمات إشارة إلى قلة قدرها قال التلمساني وكان ذلك عادة عمر رضي الله تعالى عنه يقتصر على سبع أو تسع وأما بفتحتين فهو جمع الأكلة بمعنى المرة من الأكل وتجويزه ههنا للدلجي ليس في محله ويروى حسب المسلم وحسب المؤمن ورواية الترمذي بحسب ابن آدم أكلات (يقمن صلبه) بضم أوله أي يقوين ظهره بالضم وبالتحريك عظم من لدن الكاهل إلى العجب كما في القاموس فقول الدلجي تسمية للكل باسم جزئه إذ كل شيء من الظهر فيه فقار فهو صلب فيه بحث نعم خص الصلب لأنه عمود البدن وفيه النخاع الساقي للبدن وهو أصله ولذا من قطع نخعه مات وهو كناية عن أنه لا يتجاوز ما يحفظه من ضعفه ويتقوى على طاعة ربه والإسناد في الجملة مجازي لأن الإقامة صفة الهية، (فإن كان لا محالة) بفتح الميم ويضم أي لا بد ولا حيلة ولا فراق من التجاوز عن الإقامة البتة (فثلث) بضمتين وتسكن اللام مبتدأ والتقدير ثلث منه (لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه) بفتح الفاء أي لتنفسه وبه يحصل نوع صفاء ورقة وكسر شهوة ورفع غفلة وسهولة مواظبة على الطاعة والعبادة والتخلص من القساوة والبلادة ومحافظة صحة البدن واعتدال المزاج غير المحتاج للمعالجة وقيل التقدير فإن كان لا بد أن يملأ بطنه ولم يقنع بما فيه قوة فليملأ ثلث بطنه بالطعام وثلثه بالشراب ويترك ثلثه خاليا(1/210)
لخروج النفس ثم الأصول المعتمد والنسخ المصححة بضمير الغائب وتوهم الدلجي وذكره بلفظ طعامك وشرابك ونفسك وعلل بأنه التفات من الغيبة إلى الخطاب والله تعالى أعلم بالصواب وسمع عمر رضي الله تعالى عنه قول عنترة:
ولقد أبيت على الطوى واطيله ... حتى أنال كريم المأكل
فقال ذاك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتأول كريم المأكل بالجنة ولقد صدق في تأويله رضي الله تعالى عنه وروي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة ثم أحسن ما قيل في الحديث إن لا محالة عائد إلى ضرورة الأكل وإن الثلث في حيز الاستحسان والإباحة وقيل المستحسن نصفه وهو السدس وأقل منه شيئا وهو السبع لقوله فإن كان لا بد ولا محالة هذا وقيل لسهل بن عبد الله الرجل يأكل في اليوم أكلة واحدة قال أكل الصديقين قيل فأكلتين قال أكل المؤمنين قيل فثلاثا قال قل لأهلك يبنوا لك معلفا وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا أراد أن يشتري غلاما وضع بين يديه تمرا فإن أكل كثيرا قال ردوه فإن كثرة الأكل من الشؤم (وَلِأَنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ) أي إنما تنشأ من أجل كثرتهما غالبا وإلا فقد تكون من الضعف وغيره من العلل (قال سفيان الثّوريّ) نسبة إلى أبي قبيلة وهو أحد الأئمة الأعلام من علماء الأنام روى عن ابن المنكدر وغيره وعنه الأوزاعي ومالك وشعبة وأمثالهم وأخرج له الأئمة الستة قال ابن المبارك ما كتبت عن أفضل منه ولا عبرة بمن تكلم فيه وفي أمثاله إذ قل من لم يتكلم في حقه (بقلّة الطّعام يملك سهر اللّيل) بصيغة المجهول؛ (وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لَا تَأْكُلُوا كَثِيرًا فَتَشْرَبُوا كثيرا فترقدوا كثيرا فتخسروا كثيرا) أي فتندموا كثيرا لنقص العمر الذي هو أنفس الجواهر كذا في الأصول المعتمدة وقال التجاني زاد الغزالي فتخسروا كثيرا. (وقد روي) أي عن جمع كأبي يعلى وغيره (عنه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ ما كان على ضفف) بفتح المعجمة والفاء الأولى (أي كثرة الأيدي) يعني على الطعام وفيه حث على أن الأولى أن لا يأكل أحد وحده لما فيه من الدلالة على كرم النفس والسخاوة والمواساة والسماحة وحصول الكفاية مع توقع البركة لما في حديث مسلم طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية حملا للآكل على الاكتفاء بنصف الشبع قال ابن راهويه عن جرير تأويله شبع الواحد قوت الاثنين وهلم جرا وقد فسر الضفف بعضهم بكثرة العيال وبعضهم بالضيق والشدة واستشهد في المجمل بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يشبع من خبز ولحم إلا على ضفف أي على كثرة الأيدي على الطعام وقال مالك بن دينار سألت رجلا من أهل البادية عن الضفف فقال هو التناول مع الناس وقيل هو أن تكون الأكلة أكثر من مقدار الطعام والجفف بالجيم وقيل بالحاء أن يكونوا بمقداره ويروى على شظف بالشين والظاء المعجمتين(1/211)
بمعنى الضيق والشدة. (وعن عائشة رضي الله عنها لم يمتلىء جوف النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم شبعا) بكسر ففتح ويسكن (قطّ) تقدم ضبطه قال الدلجي لم أعرف من رواه ولا يعارضه ما أفهم شبعه في الجملة كحديث مسلم عنها ما شبع رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزٍ بر حتى مضى لسبيله وفي رواية من خبز شعير يومين متواليين فإن دلالة المفهوم ضعيفة فليست بحجة كما قال أبو حنيفة ولأن الامتلاء صفة زائدة على الشبع؛ (وأنّه) بالفتح فيكون من جملة رواية عائشة رضي الله تعالى عنها أو بالكسر على الاستئناف والضمير للشأن أوله صلى الله تعالى عليه وسلم (كَانَ فِي أَهْلِهِ لَا يَسْأَلُهُمْ طَعَامًا وَلَا يتشهّاه) لعدم التفاته إلى غير مولاه (إِنْ أَطْعَمُوهُ أَكَلَ وَمَا أَطْعَمُوهُ قَبِلَ وَمَا سقوه) ويجوز أسقوه (شرب) وهذا كان دأبه في آدابه وغالب حاله في سائر أفعاله كما هو طريق الأنبياء والأولياء في مقام الفناء والبقاء والمصنف لما استشعر اعتراضا واردا على ظاهر الحديث من حيث العموم دفعه بقوله؛ (ولا يعترض) بصيغة المجهول أي ولا يجوز لأحد أن يعترض (على هذا) أي قولها لا يسألهم طعاما (بحديث بريرة) بفتح فكسر أي بحديث وقع في حق بريرة وهي مولاة لعائشة رضي الله تعالى عنها واختلف أنها قبطية أو حبشية (وقوله) أي فيما رواه الشيخان عنه (ألم أر البرمة) بضم الباء وهي القدر من الحجارة أو أعم (فيها لحم) بفتح فسكون ويفتح (إِذْ لَعَلَّ سَبَبَ سُؤَالِهِ ظَنُّهُ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ) أي ولو بعد أن ملكته (فأراد بيان سنّته) وهي أنه إذا ملك المتصدق عليه الصدقة حل له أكلها هدية ويؤيد ظنه جهلهم حله له بعد ملكها إياه قوله؛ (إِذْ رَآهُمْ لَمْ يُقَدِّمُوهُ إِلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ أنّهم لا يستأثرون) أي لا يختصون (عليه به فصدق عليهم ظنّه) بتشديد الدال وتخفيفها كما قرئ به في الآية والمعنى فصدق في ظنه جهلهم ذلك فيكون من باب الحذف والإيصال وجوز تعديته بنفسه كما في صدق وعده على ما ورد وكقوله سبحانه وتعالى وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ أو فحقق ظنه أو وجده صادقا في جهلهم ذلك (وَبَيَّنَ لَهُمْ مَا جَهِلُوهُ مِنْ أَمْرِهِ بِقَوْلِهِ هو لها صدقة ولنا هديّة) أي ففيه مبادلة معنوية واختلاف من حيثية فإن هذا اللحم بإهدائها إياه له انتقل من حكم الصدقة إلى حكم الهبة كما لو اشتراه منها غني أو ورثه عنها (وفي حكمة لقمان) روي أنه كان عبدا حبشيا نجارا وقيل نوبيا فرزق العتق وكان خياطا وقيل هو ابن أخت داود عليه السلام وقيل ابن خالته وقيل كان من أولاد آزر وعاش ألف سنة وأدرك داود وأخذ منه العلم والأكثرون على أنه كان وليا وذهب الآخرون إلى أنه كان نبيا ويروى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثيرا التفكر حسن اليقين أحب الله تعالى فأحبه فمنّ عليه بالحكمة وخيره في أن يجعله خليفته يحكم بالحق فقال يا رب إن خيرتني قبلت العافية وإن عزمت علي فسمعا وطاعة فإنك ستعصمني (يا بنيّ) وهو تصغير الشفقة ويجوز فتح يائه وكسرها كما قرئ بهما في الآية (إذا امتلأت المعدة) أي طعاما وشرابا وهي بفتح فكسر ويجوز كسرهما وإسكان عينها مع فتح الميم(1/212)
وكسرها على ما نقله الحلبي وفي القاموس المعدة ككلمة وبالكسر موضع الطعام قبل انحداره إلى الامعاء وهو لنا بمنزلة الكرش لغيرنا (نامت الفكرة) أي غفلت أو ماتت ويؤيده ما ورد لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب وقد قالت الصوفية في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً هذا مثل ضربه الله للاولياء ليفهموا الدنيا وأهلها وذلك أن البعوضة تحيى إذا جاعت وتموت إذا شبعت وكذلك أهل الدنيا إذا امتلاؤا من الدنيا وركنوا إليها أخذتهم وأماتت قلوبهم وأهلكتهم (وخرست الحكمة) بكسر الراء أي سكنت وما ظهرت وهي كمال النفس باقتباس العلوم العقلية واكتساب الحقائق النقلية ولذا قيل الحكمة اتقان العلم والعمل (وقعدت) وفي رواية وكلت (الأعضاء عن العبادة) أي فترت وثقلت منها وكسلت عنها بسبب ما يعتريها من النوم المانع عنها؛ (وقال سحنون) بفتح السين وضمها قيل نون وهو مصروف وقيل ممنوع وهو أبو سعيد عبد السلام بن سعيد التنوخي الملقب بسحنون الفقيه المالكي قرأ على القاسم بن وهب وأشهب ثم انتهت إليه الرياسة في العلم بالمغرب وأدرك مالكا ولم يقرأ عليه وصنف كتاب المدونة في مذهب مالك وحصل له ما لم يحصل لأحد من أصحاب مالك توفي سنة اربعين ومائتين وقال التلمساني وعند القرافي ذو النون وهو أبو الفيض المصري العابد مات سنة خمس وأربعين ومائتين فيمكن أن يكون أحدهما راويا عن الآخر لأنهما في عصر واحد (لا يصلح العلم) أي على الوجه الأنفع (لمن يأكل حتّى يشبع) قال التلمساني وتمامه ولا لمن يهتم بغسل ثيابه. (وفي صحيح الحديث قوله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي كما رواه البخاري (أمّا أنا فلا آكل متّكئا والاتّكاء) أي المراد منه ههنا (هو التّمكّن) على الوطاء (للأكل والتّقعدد في الجلوس له) أي كمال الاعتماد في العقود والتقعدد المراد منه هو القعود (كالمتربّع وشبهه) أي على أي هيئة (من تمكّن الجلسات) بكسر الجيم جمع جلسة للهيئة (الَّتِي يَعْتَمِدُ فِيهَا الْجَالِسُ عَلَى مَا تَحْتَهُ) أي من الأوطئة (والجالس على هذه الهيئة يستدعي الأكل) أي الكثير (ويستكثر منه) أي بشهوة نفس وشره طبع، (والنّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ جُلُوسُهُ لِلْأَكْلِ جُلُوسَ المستوفز) أي كجلوس المستوفز وهو اسم فاعل من استوفز في قعدته انتصب فيها غير مطمئن أو وضع ركبتيه ورفع اليتيه أو استقل على رجليه ولم يستو قائما وقد تهيأ للوثوب كذا في القاموس فقوله (مقعيا) حال مؤكدة في بعض الوجوه إذ الإقعاء أن يجلس على ركبتيه وهو الاحتفاز والاستيفاز وقيل أي ملصقا مقعده بالأرض ناصبا ساقيه وفخذيه ويضع على الأرض يديه (ويقول) أي كما رواه البزار عن ابن عمر بسند ضعيف وأبو بكر الشافعي في فوائده من حديث البراء إنه عليه الصلاة والسلام كان يقول:
(إنّما أنا عبد) أي تواضعا منه وإرشادا إليه (آكل كما يأكل العبد) لا كما يأكل الملوك والمترفين وزاد ابن سعد وأبو يعلى بسند حسن عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا (وأجلس كما يجلس العبد) وزاد الديلمي وابن أبي شيبة وابن عدي وأشرب كما يشرب الْعَبْدُ (وَلَيْسَ مَعْنَى الْحَدِيثِ فِي الِاتِّكَاءِ الْمَيْلُ على شقّ عند المحقّقين) بل هو المعنى الأعم الشامل له ولغيره(1/213)
بخلاف ما فهم العامة من أن الاتكاء منحصر في الميل إلى أحد شقيه أو الاستناد إلى ما رواءه وبهذا يجمع بين ما قاله المصنف ههنا وما ذكره في الإكمال من أن الخطابي خالف في هذا التأويل أكثر الناس وأنهم إنما حملوا الاتكاء على أنه الميل على أحد الجانبين ولذا أنكره عليه ابن الجوزي وقال المراد به المائل على جنبه والله سبحانه وتعالى أعلم. (وكذلك) أي ومثل كون أكله قليلا (نومه صلى الله تعالى عليه وسلم كان قليلا) أي ليصرف أوقاته النفيسة في طاعته وعاداته الأنيسة (شهدت بذلك الآثار الصّحيحة) أي والأخبار الصريحة التي أغنت شهرتها عن إيراد كثرتها، (ومع ذلك) أي مع كون نومه قليلا (فقد قال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قلبي) كما رواه الشيخان فنومه كله يقظة ليعي الوحي إذا اوحي إليه في المنام إذ رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحي بدليل قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ (وكان نومه على جانبه الأيمن استظهارا) أي استعانة بذلك (عَلَى قِلَّةِ النَّوْمِ لِأَنَّهُ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ أهنأ) بفتح نون فهمز أي ألذ وأشهى ويروى أهدأ أي أسكن واوفق (لهدوّ القلب) بالهمز ويسهل أي سكونه واطمئنانه (وما يتعلّق به) أي ولهدوء ما يتعلق به (من الأعضاء الباطنة حينئذ) أي حين إذ ينام على الأيسر (لميلها إلى الجانب الأيسر فيستدعي) جزاء شرط محذوف أي إذا كان النوم عليه أهنأ بسبب ما ذكرنا فيستدعي (ذلك الاستثقال فيه) أي الاستغراق في النوم ويروى الاستقلال ولعله بمعنى الاستبداد (والطّول) أي وطول مدته، (وَإِذَا نَامَ النَّائِمُ عَلَى الْأَيْمَنِ تَعَلَّقَ الْقَلْبُ وقلق) بفتح قاف وكسر لام أي لم يستقر ولم يطمئن (فأسرع) أي ذلك (الافاقة) أي من النوم وسهلت اليقظة (ولم يغمره) بضم الميم أي لم يستوعبه أو لم يعله ولم يغلبه (الاستغراق) أي في عالم النوم لوضع القلب مائلا طرفه الأسفل إلى الأيسر لتتوفر الحرارة عليه فيعتدل الجسم إذ الحرارة كلها مائلة إلى الأيمن لوضع الكبد فيه ثم هذا التعليل في بيان حكمه نومه على الجانب الأيمن دون الأيسر لا ينافي ما ثبت في الحديث الصحيح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يحب التيامن في أمره كله ولما في التيامن من اليمن لفظا ومعنى ولثناء الله سبحانه وتعالى على أهل اليمين وإعطاء كتبهم بإيمانهم ونحو ذلك.
فصل [وأما الضرب الثاني ما يتفق التمدح بكثرته والفخر بوفوره]
(والضّرب الثّاني) أي مما تدعو ضرورة الحياة إليه فهو (ما يتّفق التّمدّح بكثرته والفخر بوفوره) أي الافتخار بزيادته مما حاز منه المصطفى الحظ الأوفى وفاز بالنصيب الأصفى (كالنّكاح والجاه) أي المحمودين. (أمّا النّكاح فمتّفق فيه) أي فمجمع عليه (شرعا) أي من جهة شرائع الأنبياء كافة (وعادة) أي للعقلاء والحكماء عامة (فإنّه) أي النكاح مع ذلك (دليل الكمال) أي في خلقة الرجال خصوصا مع قلة الأكل (وصحّة الذّكوريّة) بالرفع والجر كالتفسير لما قبله (ولم يزل التّفاخر بكثرته عادة معروفة) أي بحيث إن إنكاره مكابرة (والتّمادح به سيرة ماضيّة عادية) بتشديد الياء أي طريقة قديمة لا حادثة؛ (وأمّا في الشّرع) أي وأما(1/214)
التفاخر بكثرته والتمادح به في الشريعة (فسنّة مأثورة) أي مروية منقولة كثيرة، (وقد قال ابن عبّاس) كما رواه البخاري (أفضل هذه الأمّة) أي أكمل إفرادها ثناء (أكثرها نساء) حيث أبيح له تسع منهن، (مشيرا إليه صلى الله تعالى عليه وسلم) وقد تزوج عليه الصلاة والسلام إحدى عشرة توفي قبله اثنتان خديجة وزينب وما عداهما الباقيات بعده (وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم) كما ذكره ابن مردويه في تفسيره عن ابن عمر مرفوعا (تناكحوا) زيد في نسخة تناسلوا (فإنّي مباه بكم) اسم فاعل من المباهاة أي مفاخر بكثرتكم (الأمم) أي السالفة (يوم القيامة) كما في نسخة ولفظ الطبراني في الأوسط تزوجوا الولود فإنه مكاثر بكم الأمم وفي رواية أبي داود والنسائي وابن ماجة فإنا مكاثر بكم الأمم (ونهى) كما رواه الشيخان (عن التّبتّل) قال اليمني في حاشيته التبتل الانقطاع عن الدنيا ومنه قوله تعالى وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا انتهى وعدم صحته في المقام لا يخفى فالصواب أن المراد بالتبتل هنا هو انقطاع الرجل عن النساء وعكسه فإنه من شريعة النصارى وطريقة الرهابين وهذا لا ينافي قوله تعالى وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا إذ معناه انقطع عن تعلق القلب بالخلق إلى التوجه بالحق انقطاعا خاصا يعبر عنه بكائن بائن وقريب غريب وعرشي فرشي على اختلاف عبارات الصوفية نظرا إلى الأعمال الصادرة من الأحوال الباطنة والظاهرة (مع ما فيه) أي في النكاح من فوائد كثيرة كما بينه بقوله (من قمع الشّهوة) أي دفعها للرجل والمرأة (وغضّ البصر) أي خفضه وغمضه لهما (اللّذين نبّه عليهما صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله) أي فيما رواه الطبراني (من كان ذا طول) بفتح الطاء أي قدرة وسعة على المهر والنفقة ولفظ الشيخين من استطاع منكم الباءة (فليتزوّج فإنّه أغضّ للبصر وأحصن للفرج) أي أمنع وأحفظ له وهو مقتبس من قوله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وباقي الحديث ومن لا فالصوم له وجاء على ما رواه النسائي (حتّى لم يره العلماء) أي من الأولياء مع كونه من قضاء الشهوة (ممّا يقدح في الزّهد) أي في هذه الدنيا وشهواتها ومستلذاتها وكان شيخنا المرحوم على المتقي يقول كل شهوة تظلم القلب إلا النكاح فإنه ينوره ويصفيه، (قال سهل بن عبد الله) أي التستري وهو من أجل الزهاد وأكمل العباد (قد حبّبن) بصيغة المجهول من التحبيب أي جعلت النساء محبوبة (إلى سيّد المرسلين فكيف يزهد فيهنّ) بصيغة المجهول أي فكيف يجوز ويتصور الزهد في حقهن والميل عنهن (ونحوه لابن عيينة) وهو من علماء السنة روى عنه أحمد وخلق قال أبو نعيم أدرك سفيان ستة وثلاثين من أعلام التابعين وقد قال سفيان الثوري أيضا ليس في النساء سرف والله إني لمشتاق إلى العرس؛ (وَقَدْ كَانَ زُهَّادُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) كعلي وابنه الحسن وابن عمر (كثيري الزّوجات والسّراري) بتشديد الياء وتخفف جمع سرية وكل ما كان مفرده مشددا جاز في جمعه التشديد والتخفيف كذا قال بعضهم قال الجوهري هي الأمة التي بوأت لها بيتا وهي فعيلة منسوبة إلى السر وهو الجماع(1/215)
أو الإخفاء لأن الإنسان كثيرا ما يسرها ويسترها عن حرمه وإنما ضمت سينه لأن الأبنية قد تغير في النسبة خاصة كما قالوا في النسبة إلى الدهر دهري وإلى الأرض السهلة سهلي وكان الأخفش يقول إنها مشتقة من السرور لأنها يسر بها ويقال تسررت جارية وتسريت أيضا كما قالوا تظنيت وتظننت انتهى (كثيري النّكاح) أي الجماع ويبعد أن يراد به العقد لأنه علم في ضمن ما تقدم وأعاد لفظ الكثير اهتماما بالقضية قال عمر رضي الله تعالى عنه إني أتزوج المرأة وما لي فيها من ارب وأطؤها وما لي فيها من شهوة فقيل له في ذلك فقال حتى يخرج مني من يكاثر به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم؛ (وحكي في ذلك عن عليّ) بن أبي طالب روي أنه نكح بعد وفاة فاطمة رضي الله تعالى عنهما بسبع ليال فكان لعلي أربع نسوة وتسع عشرة وليدة غير من متن أو طلقن (والحسن) أي وعن الحسن الظاهر أنه ابن علي كرم الله تعالى وجهه ويحتمل الحسن البصري بناء على قاعدة المحدثين من أنه المراد عند الإطلاق لكنه يبعد هنا لتقديمه على قوله (وابن عمر) وكان من زهاد الصحابة وعلمائهم وأنه كان يفطر من الصوم على الجماع قبل الأكل وروي أنه جامع ثلاثة من جواريه في شهر رمضان قبل العشاء الأخيرة (وغيرهم) أي وعن غيرهم (غير شيء) أي شيء كثير فكان الحسن بن علي أشد الناس حبا للنساء قيل إنه أرخى ستره على مائتي حرة لأنه كان مطلاقا وكان ربما عقد على أربع في عقد واحد ولما خطب بنت سعيد بن المسيب الفزاري وخطبها أخوه الحسين وابن عمهما عبد الله بن جعفر شاور عليا فقال له أما الحسن فمطلاق والحسين شديد الخلق ولكن عليك بابن جعفر فزوجها له، (وقد كره غير واحد) أي من العلماء (أن يلقى الله عزبا) بفتح الزاي قيل ويسكن من لا أهل له كذا قيل وهو من العزب بمعنى البعد ومنه قوله تعالى لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فالعزب هو البعيد عن النساء وكأنه أراد أن يلقاه عاملا بجميع ما يرضاه ولذا قيل في تفسير قوله تعالى وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي متزوجون لأن من كمال الإسلام القيام بسنته عليه الصلاة والسلام وهذه الكراهة رويت عن أبي مسعود وماتت امرأتان لمعاذ بن جبل في الطاعون وكان هو أيضا مطعونا فقال زوجوني فإني أكره أن ألقى الله عزبا. (فإن قيل) وفي نسخة صحيحة فإن قلت (كيف يكون النّكاح) أي أصله (وكثرته من الفضائل) أي التي أجمع عليها في كل شريعة (وَهَذَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ حَصُورًا) ، أي ممنوعا من النساء بالعجز عنهن أو لعدم الالتفات إليهن (فكيف يثني الله عليه بالعجز) أو عدم الميل (عمّا تعدّه فضيلة) أي شرعا وعادة (وهذا عيسى) أي ابن مريم كما في نسخة (عليه السّلام) قد (تبتّل من النّساء) أي انقطع عنهن ولم يمل إليهن وأبعد الدلجي في قوله منقطعا إلى ربه ومنه وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أي انفرد له بالطاعة وجه بعد لا يخفى على أرباب الصفاء مع ما تقدم في كلامنا إليه من الإيماء (ولو كان) أي النكاح فضيلة (كما قررته لنكح) أي لتزوج كل منهما (فَاعْلَمْ أَنَّ ثَنَاءَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى يَحْيَى بِأَنَّهُ حَصُورٌ لَيْسَ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ كان هيوبا) فعول من الهيبة أي جبانا عن النكاح وخائفا من(1/216)
النساء وفي الحديث الإيمان هيوب أي صاحبه يهاب الذنب فيتقيه (أو لا ذكر له) وفي رواية معه أي لا همة له فيه (بل قد أنكر هذا) أي ما ذكر من القولين (حذّاق المفسرين) أي مهرتهم (ونقّاد العلماء) أي محققوهم (وقالوا هذه نقيصة وعيب) أي لا يوجب الثناء (ولا تليق بالأنبياء عليهم السّلام) أي لا تضاف إليهم. (وإنّما معناه) أي معنى كونه حصورا (أَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنَ الذُّنُوبِ أَيْ لَا يَأْتِيهَا كأنّه حصر عنها) بصيغة المجهول أي حبس ومنع وحفظ وعصم منها وهذا بناء على أنه فعول بمعنى مفعول، (وقيل مانعا نفسه من الشّهوات) أي المستلذات من المباحات لا من المستحبات فهو بمعنى فاعل، (وقيل ليست له شهوة في النّساء) أي شهوة كثيرة أو مطلقا لكنه يباشر هذه الخصلة لما فيها من الفضيلة كما سبق عن عمر رضي الله تعالى عنه وأحسن الأجوبة أوسطها وأما تقييد الدلجي بأنه الذي لا يقرب النساء مع القدرة فلا وجه له في هذه الحالة التي تفوته الفضيلة هذا وقد ذكر التلمساني أن عيسى عليه الصلاة والسلام يتزوج في آخر الزمان بعد نزوله وقتله الدجال امرأة من جهينة ويولد له ولد ذكر ويتوفى عليه الصلاة والسلام ويدفن مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بينه وبين أبي بكر وأما يحيى فإنه لم يمت حتى ملك بضع امرأة لكنه لم يبن عليها ففعله هذا إنما كان لنيل الفضيلة وإقامة السنة وقيل لغض البصر ودفع الفتنة. (فقد بان لك من هذا) أي الذي ذكرناه (أنّ عدم القدرة على النّكاح نقص) أي للكمل، (وإنّما الفضل في كونها) أي القدرة (موجودة) أي قائمة بمحلها ثابتة (ثمّ قمعها) قال الدلجي مبتدأ والظاهر أنه مجرور عطفا على كونها أي ثم الفضل في قمع القدرة عن النكاح مخالفة للشهوة (إمّا بمجاهدة) أي برياضة نفسانية (كَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ بِكِفَايَةٍ مِنَ اللَّهِ) أي لهذه المؤنة بالعصمة من غير حاجة إلى المجاهدة (كيحيى عليه السّلام فضيلة زائدة) بالنصب على التمييز من قوله موجودة وجعله الدلجي خبر المبتدأ بناء على إعرابه في رفع قمعها فاحتاج إلى أن يقول زائدة على فضيلة القدرة على قمعها وكان حقه أن يقول مع عدم قمعها والظاهر أن المصنف أراد أن القوة مع القدرة على قمعها فضيلة زائدة لا خصلة راتبة كما عبر الفقهاء بالسنن الزوائد والرواتب ولا شك أن الزوائد قد تترك لبعض العوارض الموجبة لكون تركها حينئذ أفضل من فعلها بالنسبة إلى بعض الأشخاص والأحوال وأوقاتها فهذه الفضيلة زائدة قد تترك (لكونها شاغلة) وفي رواية مشغلة بضم الميم وكسر الغين أو بفتحها (في كثير من الأوقات) أي عن الطاعات التي تورث الدرجات العاليات في روضات الجنات (حاطّة) بتشديد الطاء أي واضعة منزلة له من علو الحالات لكونها مرغبة ومميلة وجارة (إلى الدّنيا) أي محبتها أو جمعها والاشتغال بها لحصول تلك الفضيلة الزائدة والحاصل أن كل فضيلة لها مضار ومنافع كالنكاح والتبتل والعزلة والخلطة والغنى والفقر فينظر إلى زيادة المنفعة وقلة المضرة بالنسبة إلى طالبها وصاحبها فيحكم بمقتضاه ولا يجوز الإطلاق فيما استفتاه ولذا قال المصنف (ثمّ هي) أي الفضيلة الزائدة (في حقّ من أقدر عليها) بصيغة المجهول من الأقدار أي من أعطى له الاقتدار(1/217)
عليها (وملّكها) بأن لم يتزلزل فيها وهو بفتح الميم واللام وقال التلمساني هو بضم الميم وكسر اللام مشددة على طبق اقدر قلت الأول أولى وأظهر ويؤيده قوله (وقام بالواجب فيها ولم يشغله) بفتح أوله وثالثه وفي لغة بضم أوله وكسر ثالثه أي لم تمنعه (عن ربّه) أي طاعته وحضوره (درجة علياء) بالرفع أي مرتبة قصوى وهي مضبوطة في النسخ المعتبرة بضم العين مقصورا وضبط محش بفتح العين والمد (وهي درجة نبينا محمد صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَمْ تَشْغَلْهُ كَثْرَتُهُنَّ عَنْ عبادة ربّه) أي طاعته وحضوره لوصوله إلى مقام جمع الجمع في كمال حصوله وهو أن لا تحجبه الكثرة عن الوحدة ولا تمنعه الوحدة عن الكثرة فكل من له حظ في هذا المقام بمتابعته عليه الصلاة والسلام وله مؤنة القيام فتحصيل هذه الفضيلة الزائدة له من كمال المرام دون من لم يصل إلى هذه المرتبة فإن عليه ترك هذه الزيادة والاشتغال بالأمور المهمة والفضائل المؤكدة (بل زاده ذلك) أي ما ذكر من كثرتهن (عبادة لتحصينهنّ) أي لتحصينه إياهن (وقيامه بحقوقهنّ) أي من أمر المعيشة وحسن العشرة (واكتسابه لهنّ) أي ما يتعلق بهن من آدابهن (وهدايته إيّاهنّ) أي بالعلوم الدينية لا سيما ما يجب عليهن (بل صرّح أنّها) أي كثرتهن (ليست من حظوظ دنياه) أي التي تغيبه عن حضور مولاه (هو) أي بخصوصه (وإن كانت من حظوظ دنيا غيره) أي دائما أو في بعض الأوقات لأرباب الحالات (فقال عليه السّلام) أي كما رواه الحاكم والنسائي (حبّب إليّ من دنياكم) تمامه النساء والطيب وقر عيني في الصلاة وليس زيادة ثلاث في صحيح الروايات وإنما أضاف الدنيا إليهم إشارة إلى تبرئه عنها وتقلله منها وعدم مبالاته بها والتفاته إليها لقلة بقائها وكثرة عنائها وسرعة فنائها وخسة شركائها وأورد الفعل بصيغة المجهول إيماء بأن حبه لها لم يكن إلا لما خلق في جبلته وميل طبيعته وأنه كالمجبور عليه في محبته وأما قول الدلجي تلويحا بأن حبه لها لم يكن من جبلته فهو خلاف موضوع الصيغة كما لا يخفى على أرباب الصنعة (فدلّ) أي هذا الحديث على (أنّ حبّه لما ذكر) أي بنفسه (من النّساء والطّيب اللّذين هما) كما في نسخة التي هي (من أمر) وفي نسخة من أمور (دنيا غيره) أي في الأصالة بحسب العادة (واستعماله لذلك) أي وإن استعماله لما ذكر من النساء والطيب وفي رواية واشتغاله بذلك (ليس لدنياه) أي لمجرد حظها (بل لآخرته) أي قصد مثوبته ورفع درجته (للفوائد التي ذكرناها ما في التّزويج وللقاء الملائكة في الطّيب) أي لمحبتهم إياه (ولأنّه) أي الطيب (أيضا ممّا يحضّ) أي يحث ويحرض (على الجماع ويعين عليه) أي على ذاته أو كثرته (ويحرّك أسبابه) أي مقدماته كالقبلة والشهوة (وكان حبّه لهاتين الخصلتين) أي مباشرة النساء والطيب (لأجل غيره) كمباهاته بالكثرة مثوبا ولقائه الملائكة والنساء مطيبا (وقمع شهوته) أي ولأجل قمعها بمنع الخواطر الردية ودفع الوساوس النفسية ولو كان قادرا على قمعها بمجاهدة رياضية أو بكفاية إلهية فإن هذه السيرة أعلى المراتب البهية وأولى بقواعد الملة السمحاء الحنيفية ولما كان هذا الحب جعليا وعارضيا كسائر محبة الأشياء مما سوى الله تعالى حيث إنها لا تحب إلا ابتغاء المرضاة قال(1/218)
المصنف (وكان حبّه الحقيقي المختصّ بذاته) أي بذات الله (في مشاهدة جبروت مولاه) أي عظموت قدرته ومطالعة ملكوت عظمته (ومناجاته) أي في مقام حضور حضرته بغيبته عن الشعور بذاته المعبر عنه بمقام الفناء والبقاء والمحو والصحو (ولذلك ميّز بين الحبّين) أي غيريا وذاتيا (وفصل بين الحالين) أي فرق بين المقامين الجليلين بالجملتين من الفعلية والاسمية المشير بالأولى إلى الحالة الجعلية العارضية وبالثانية إلى المستمرة الذاتية كما في الرواية المشهورة بلفظ وقرة عيني في الصلاة وأما ما ذكره المصنف بقوله (فقال وجعلت قرّة عيني في الصّلاة) ففيه إشارة لتعبيره بالقرة إلى هذه المحبة إيماء إلى زيادة هذه المودة وقال الدلجي بين الحالين أي محبة ومناجاة وكأنه قصد بهذا أن المراد بقرة عيني في الصلاة الصلاة التي هي معراج المؤمن ومناجاة الموقن خلافا لمن قال المراد بها الصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم (فقد ساوى) أي المصطفى (يحيى وعيسى في كفاية فتنتهنّ وزاد) أي عليهما (فضيلة) أي كاملة (بالقيام بهنّ) مع أنه لم يشغله ذلك عن قيامه بحقوق مولاه لاجلهن فهذا الحال أكمل لمن قدر عليهن؛ (وكان صلى الله تعالى عليه وسلم ممّن أقدر على القوّة) بصيغة المفعول من الاقدار أي ممن أعطي القدرة على قوة الشهوة بكثرة الجماع (في هذا) أي الأمر الذي حبب إليه مما يتعلق بدنياه وخدمه مولاه (وأعطي الكثير منه) أي الحد الكثير الزائد على العادة من أمر الجماع قوة الباءة (ولهذا أبيح له من عدد الحرائر) وهو التسع (ما لم يبح لغيره) أي من هذه الأمة وهو الزائد على الأربع؛ (وقد روينا) بفتح الراء والواو مخففة وبضم الراء وكسر الواو مشددة ولا يبعد أن يكون بضم الراء وكسر الواو المخففة بناء على الحذف والإيصال أي روى إلينا (عن أنس) كما في البخاري والنسائي (أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يدور على نسائه) أي يجامعهن (في السّاعة) أي الواحدة والمراد بها الزمن القليل لا الساعة النجومية (من اللّيل) أي مرة (والنّهار) أي تارة (وهنّ) أي مجموعهن (إحدى عشرة) بسكون الشين وتكسر والمعنى منها سريتاه مارية وريحانة فلا ينافي رواية وهن تسع. (قال أنس وكنّا) أي معشر الصحابة (نتحدّث) أي فيما اختص به صاحب النبوة من القدرة والقوة (أنّه أعطي قوّة ثلاثين رجلا) أي في الجماع (خرّجه النّسائي) أي ذكره في سننه وهو هكذا في صحيح البخاري في كتاب الغسل هذا وليس أحد من أصحاب الكتب الستة توفي بعد الثلثمائة إلا النسائي فإنه توفي في سنة ثلاث وثلاثمائة، (وروي) بصيغة المجهول (نحوه عن أبي رافع) وهو مولى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقد أخرج الترمذي وابن ماجة في الظهارة والنسائي في عشرة النساء عنه أنه عليه الصلاة والسلام طاف على نسائه يغتسل عند هذه وعند هذه الحديث، (وعن طاوس) وهو ابن كيسان اليماني من ابناء الفرس يقرأ بواوين قيل ويهمز قال ابن معين لقب بذلك لأنه كان طاوس القراء روى عن أبي هريرة وابن عباس وعائشة رضي الله تعالى عنهم وتوفي بمكة سنة ست ومائة (أُعْطِيَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قُوَّةَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا فِي الجماع، ومثله عن صفوان بن سليم) بالتصغير إمام كبير قدوة ممن يستشفى بحديثه وينزل(1/219)
القطر من السماء بذكره ويقال لم يضع جنبيه على الأرض أربعين سنة وأنه مات وهو ساجد ويقال إن جبهته نقبت من كثرة السجود روي عن ابن عمر وغيره وعنه مالك وطبقته وفي الحلية لأبي نعيم عن مجاهد قوة أربعين رجلا كل رجل من رجال أهل الجنة وروى الترمذي أن رجال أهل الجنة قوة كل رجل منهم بقوة سبعين رجلا وصححه وروي بقوة مائة رجل وقال صحيح غريب قلت فعلى هذا كان صابرا عنهن غاية الصبر لكثرة الاشتياق إليهن ثم اعلم أن قوله وعن طاوس إلى آخر ما ههنا زيادة على ما في بعض النسخ المصححة والأصول المعتمدة، (وقالت سلمى) بفتح السين المهملة والميم مقصورا (مولاته) وخادمته صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل هي مولاة صفية عمته وهي زوج أبي رافع وداية فاطمة الزهراء وقابلة إبراهيم ابن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي الصحابيات من اسمها سلمة غير هذه خمس عشرة وقد روى ابن سعد وأبو داود عنها وعن زوجها أبي رافع عن رافع ولده منها (طاف النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة) أي دار (على نسائه التّسع) وهو كناية عن جماعهن (وتطهّر من كلّ واحدة) أي اغتسل من أجل قربان كُلِّ وَاحِدَةٍ (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْأُخْرَى وَقَالَ هذا) أي التفريق بالغسل (أطهر) أي أنظف (وأطيب) أي ألذ وأنشط وفي رواية أحمد وأزكى وأطيب فالمراد بأزكى أنمى وأقوى وقيل الطهارة للظاهر والطيب والتزكية للباطن أي لزيادة الصفاء والضياء لا ان أولاهما لإزالة الأخلاق الذميمة وأخراهما للتحلي بالشيم الحميدة كما ذكره الدلجي فإنه لا يناسب بالنسبة إلى الشمائل المصطفوية فإنها منزهة عن الأخلاق الردية ومتحلية على الدوام بالشيم الرضية البهية السنية؛ (وقد قال سليمان عليه الصلاة والسّلام) على ما رواه الشيخان (لأطوفنّ اللّيلة) من الطواف بمعنى الدوران وكذا الإطافة ومن ثمه ورد في رواية لأطيفن اللَّيْلَةَ (عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ) على الشك من الراوي وفي رواية على ستين وفي أخرى على تسعين ولمسلم على سبعين امرأة كلهن تأتي بغلام يقاتل في سبيل الله فقال له صاحبه أو الملك قل إن شاء الله فلم يقل ونسي فلم تأت واحدة منهن إلا واحدة جاءت بشق غلام فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لو قال إن شاء الله لم يحنث أي لم يفته متمناه وكان أدرك لحاجته فيما قضاه، (وإنّه فعل ذلك) فدل ذلك على كمال قوته ولا تعارض بين هذه الروايات إذ ليس في إثبات قليلها نفي لكثيرها ومفهوم العدد ليس بحجة عند جمهور أرباب الأصول مع احتمال تعدد الواقعات والله أعلم بالحالات؛ (قال ابن عبّاس) كما رواه ابن جرير في تفسيره عنه موقوفا (كَانَ فِي ظَهْرِ سُلَيْمَانَ مَاءُ مِائَةِ رَجُلٍ وكان لَهُ ثَلَاثُمِائَةِ امْرَأَةٍ وَثَلَاثُمِائَةِ سَرِيَّةٍ وَحَكَى النَّقَّاشُ) وفي نسخة وغيره كذا رواه الحاكم عن محمد بن كعب بلغني أنه (كان له سبعمائة امرأة وثلاثمائة سريّة) وفي المستدرك للحاكم في ترجمة عيسى ابن مريم أن سليمان كان له تسعمائة سَرِيَّةٍ، (وَقَدْ كَانَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى زهده) أي مع كمال زهده وتورعه المفاد من قوله (وأكله من عمل يده) ويروى من يده (تسع وتسعون امرأة) هذا هو الصواب وفي أصل التلمساني تسعة(1/220)
وتسعون وفي الكشاف كان لداود أيضا ثلاثمائة سرية (وتمّت بزوج أوريّاء) بضم همزة وقيل بفتحها فواو ساكنة وراء مكسورة وتحتية ممدودة أي بزوجته (مائة) بالرفع على أنها فاعل تمت أي من النساء بتزوجه إياها بعد نزول أورياء له عنها بسؤاله على ما كان من دعاتهم في زمانه أو بعد ما مات عنها زوجها لما رآها بغتة وأحب جمالها فتنة وطلب ربه مغفرة وأناب إليه معذرة هذا وقيل إنها أم سليمان عليه الصلاة والسلام، (وقد نبّه) أي الله سبحانه وتعالى (على ذلك) أي على ما ذكر من العدد (في الكتاب العزيز بقوله تعالى) أي حكاية من لسان أحد الملكين اللذين أتياه في صورة الخصمين (إِنَّ هذا أَخِي) أي في الدين (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً [ص: 22] ) وهي الأنثى من الضأن وقعت ههنا كناية عن المرأة فإن الكناية أبلغ من الصراحة من حيث التأثير مع ما فيه من مراعاة الأدب في التعبير لا سيما وهو في مقام التعيير (وفي حديث أنس) بسند جيد للطبراني (عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فُضِّلْتُ عَلَى النَّاسِ بِأَرْبَعٍ) أي من الخصال (بالسّخاء) أي الكرم والجود مع الاحباء (والشّجاعة) بالنسبة إلى الأعداء (وكثرة الجماع) أي للنساء (وقوّة البطش) أي الأخذ حال العطاء وأما تفسيره بالأخذ الشديد بقوة كما ذكره بعضهم فلا يخفى أنه لا يناسب المقام فإنه حينئذ من جزئيات الشجاعة لا خصلة مستقلة من الأربع (وأمّا الجاه) أي الذي بتوسل به إلى مساعدة الضعفاء (فمحمود عند العقلاء) من الحكماء والعلماء (عادة) أي مستمرة لكنها مقيدة بما إذا كانت على وفق الشريعة حتى تكون معتبرة (وبقدر جاهه) أي جاه الشخص في العيون (عظمه) بكسر ففتح فضمير أي عظمته (في القلوب) أي قلوب الخلق أو بقدر جاهه صلى الله تعالى عليه وسلم عند الحق كان عظمته في قلوب الخلق ويدل عليه أنه عليه السلام أخذ من أبي جهل للأراشي ثمن ابله التي اشتراها أبو جهل منه ومطله فقالت قريش لأبي جهل ما رأينا مثل ما صنعت من انقيادك لأمر محمد مع فرط أذاك له وعداوتك إياه فقال ويحكم ما هو إلا أن ضرب بأبي وسمعت صوته فملئت رعبا (وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ عِيسَى عليه السّلام وَجِيهاً) أي ذا جاه ووجاهة عظيمة (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [آل عمران: 45] ) أي عند أهلهما أو في الدنيا بالرسالة وفي العقبى بالشفاعة (لَكِنَّ آفَاتِهِ كَثِيرَةٌ فَهُوَ مُضِرٌّ لِبَعْضِ النَّاسِ) وفي رواية ببعض الناس (لعقبى الآخرة) أي في الآخرة التي هي عقبى كما قال تعالى تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (فلذلك) أي فلكون الجاه مضرا ببعضهم (ذمّه من ذمّه ومدح ضدّه) أي الخمول وعدم الاعتبار فيما بين الخلق (وورد في الشّرع مدح الخمول) وهو بضم الخاء المعجمة ضد الشهرة كما ورد في حديث رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره وفي الحديث إن الله يحب الاتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا (وذمّ العلوّ في الأرض) أي ورد في الشرع ذم الجاه والشهرة كما في الحديث ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حب المال والجاه لدين المؤمن وفي رواية من حب الشرف والمال(1/221)
والحاصل أن الجاه والمال مضران لأرباب الكمال الجامعين بين العلم والعمل والحال؛ (وكان صلى الله تعالى عليه وسلم قد رزق من الحشمة) أي الوقار والهيبة (والمكانة) أي التمكن في مرتبة الجلالة (في القلوب والعظمة) أي الإجلال والمهابة في العيون (قبل النّبوّة عند الجاهليّة) كما مر عن أبي جهل في تلك القضية وما روي عنه أيضا أنه ساوم رجلا من بني زبيد ثلاثة أبعرة هي خيرة إبله ثلث ثمنها فامتنع الناس من الزيادة لأجله فأخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك فزاده حتى رضي فاشتراها منه ثم باع منها بعيرين بالثمن ثم باع الثالث وأعطى ثمنه أرامل بني عبد المطلب وأبو جهل مخزي ينظره ولا يتكلم ثم قال له صلى الله تعالى عليه وسلم إياك أن تعود لمثل ما صنعت بهذا الأعرابي فترى مني ما تكره فقال لا أعود يا محمد فقال له أمية بن خلف ذللت في يد محمد فقال إن الذي رأيتم مني لما رأيت معه رجالا عن يمنيه ويساره يشيرون برماحهم إلى ما خالفته لكانت إياها أي لأهلكوني (وبعدها) أي ورزق الجاه بعد النبوة عندهم (وهم يكذّبونه) بالتشديد والتخفيف أي والحال أن أهل الجاهلية ينسبونه إلى الكذب (وَيُؤْذُونَ أَصْحَابَهُ وَيَقْصِدُونَ أَذَاهُ فِي نَفْسِهِ خِفْيَةً) بضم الخاء وكسرها وسكون الفاء أي مخفيا لما تكن من هيبته في صدورهم وعظمته في قلوبهم (حتّى إذا واجههم) أي قابلهم علانية (أعظموا أمره) أي حشموا قدره (وقضوا حاجته) أي مقصده إليهم في سيره وهذا باعتبار غالب معاملاتهم معه فلا ينافي ما وقع من وضع أبي جهل سلا الجزور على ظهره وهو ساجد في الحجر. (وأخباره في ذلك معروفة سيأتي بعضها) أي في محله إن شاء الله سبحانه وتعالى؛ (وقد كان يبهت) على صيغة المجهول صورة مع ذكر فاعله كما في قوله تعالى فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ من البهت وهو الحيرة وفعله كعلم ونصر وكرم وعنى وهو أفصح فيجوز بناؤه على الفاعل أيضا أي يدهش ويتخير (ويفرق) بفتح الياء والراء أي يخاف ويفزع (لرؤيته) وفي نسخة من رؤيته (من لم يره) لما ألقي عليه من الهيبة والعظمة في قلوبهم (كما روي عن قيلة) بفتح قاف فسكون تحتية وهي بنت مخرمة العنبرية وقيل الكندية وقيل التميمية (أنّها لمّا رأته أرعدت) بصيغة المجهول أي أخذتها الرعدة بكسر الراء وهي اضطراب المفاصل خوفا والمعنى أنها ارتعدت (من الفرق) بفتحتين وهو الخوف ورواية أبي داود والترمذي في الشمائل عن عبد الله بن حسان عن جدته عنها أنها رأته في المسجد وهو قاعد القرفصاء قالت فلما رأيته متخشعا في الجلسة ارتعدت من الفرق وزاد ابن سعد (فقال يا مسكينة عليك السّكينة) بالنصب أي الزمي الطمأنينة وفي رواية بالرفع أي السكينة لازمة عليك ولم يثبت هنا ما ثبت في بعض النسخ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَأْكُلُ القديد وذلك غير صحيح على ما ذكره التلمساني والمسكينة بكسر الميم والسكينة بفتح السين مخففة هو الفصيح؛ (وفي حديث أبي مسعود) أي عقبة بن عمرو الأنصاري كما رواه البيهقي عن قيس عنه مرسلا وقال هو المحفوظ ورواه الحاكم وصححه (أنّ رجلا قام بين يديه) أي قدامه صلى الله تعالى عليه وسلم (فأرعد(1/222)
فقال له هوّن) أي سهل أمرك (عليك فإنّي لست بملك) بكسر اللام قيل وتسكن أي بسلطان من السلاطين الظلمة حتى تفزع مني (الحديث) أي الخ ولم يذكره لطوله. (فأمّا عظيم قدره بالنّبوّة) وهي أخذ الفيض من الحق (وشريف منزلته بالرّسالة) وهي إيصال الفيض إلى الخلق (وإنافة رتبته) بكسر الهمزة وبالفاء وفي نسخة بالباء والنون أي رفعة رتبته وزيادتها أو ظهورها (بالاصطفاء) أي على سائر الأنبياء (والكرامة في الدّنيا) أي بأنواع المعجزة منها الإسراء ومقام دنا فتدلى ووصوله إلى سدرة المنتهى (فأمر هو مبلغ النّهاية) من أثر العناية ليس فوقه غاية؛ (ثُمَّ هُوَ فِي الْآخِرَةِ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ) كما في حديث البخاري أنا سيد ولد آدم ولا فخر والمراد أنه سيد هذا الجنس وهو نوع البشر الذي هو أفضل أنواع المخلوقات بدليل حديث البخاري أيضا أنا سيد الأولين والآخرين ولا فخر وزيد في بعض الأصول هنا ولا فخر لكنه لا يصح لأن يكون حكاية. (وعلى معنى هذا الفصل) أي الأخير (نظمنا هذا القسم) يعني الأول (بأسره) أي جميعه في سلك مدحه بصفات شريفة وسمات منيفة.
فصل [وأما الضرب الثالث فهو ما تختلف فيه الحالات]
(وأمّا الضّرب الثّالث) أي مما تدعو ضرورة الحياة إليه وليست فضيلة ذاتية محتوية عليه (فهو) من هذه الحيثية واختلاف النية (ما تختلف الحالات في التّمدّح به) أي بنفسه أو بكثرته (والتّفاخر بسببه) أي فيما بين العامة. (والتّفضيل لأجله) أي عند الخاصة (ككثرة المال) فإنها تمدح في بعض الأحوال (فصاحبه على الجملة) أي على الإجمال لا على تفصيل جميع الاحوال (معظّم عند العامّة) من حيث إن قلوبهم بيد حبه أسيرة (لاعتقادها توصّله به) أي توصل صاحب المال بسببه (إلى حاجاته) أي قضاء مهمات صاحبه وفي نسخة حاجته (وتمكّن أغراضه) بالغين المعجمة وتمكن بالرفع أو الجر (بسببه وإلّا) أي وإن لم يكن هذا الاعتقاد الموجب لتعظيم صاحب المال عند العامة في الجملة (فليس) أي المال (فضيلة) وفي نسخة فضيلته (في نفسه) أي في حد ذاته وباعتبار جميع جهاته وعموم صفاته؛ (فمتى كان المال بهذه الصّورة) أي من قضاء الآمال (وصاحبه منفقا له في مهمّاته ومهمّات من اعتراه) أي غشيه واعترضه (وأمّله) بتشديد الميم أي ومن رجا كرمه ومنه قول القائل:
املتهم ثم تأملتهم ... فلاح لي أن ليس فيهم فلاح
وهو معنى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم أخبر تقله والناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة (وتصريفه) بالجر أي وتصرفه بوضعه (في مواضعه) اللائقة به (مشتريا به المعالي) جمع معلاة أي مستبدلا به المفاخر العالية ومختارا به الأوصاف المتعالية (والثّناء الحسن والمنزلة) أي الجاه والمرتبة (من القلوب) وفي نسخة في القلوب (كان) أي المال (فضيلة في صاحبه) أي في الجملة (عند أهل الدّنيا) أي من العامة مع أنه لا عبرة بهم عند الخاصة، (وإذا صرفه في وجوه البّرّ) أي الطاعة والإحسان (وأنفقه في سبل الخير) وفي نسخة سبيل الخير (وقصد(1/223)
بذلك) أي الصرف (الله) أي رضاه مآبا (والدّار الآخرة) أي ثوابا (كان) أي ما له (فضيلة) أي لما يؤدي إلى الفضيلة (عند الكلّ) أي الخاصة والعامة (بكلّ حال) أي مطلقا لا في الجملة، (ومتى كان صاحبه ممسكا له) من الإمساك أي بخيلا به (غير موجّهه وجوهه) أي غير منفقه ومصرفه في وجوه ما ذكر من صرفه في مهماته ومهمات من تأمل منه قضاء حاجاته أو اكتساب محمدة أو اجتلاب محبة (حريصا على جمعه) مبالغا في منعه (عاد كثره) بضم الكاف وتكسر أي رجع كثيره وفي نسخة كثرته بفتح الكاف وتكسر وأما قول التلمساني ويصح بفتح الكاف والراء وضم الثاء فلا يصح (كالعدم) بمنزلة يسيره أو مشبها بعدمه حيث لم ينتفع به فيكون كمن لا مال له وقد ورد الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ وَمَالُ من لا مال له وجمع من لا عقل له وقد ورد أن الحسن البصري رحمه الله تعالى رأى رجلا يقلب دنانير في كفه فقال له الك هي قال نعم قال إنها ليست لك حتى تخرجها من يديك يعني أن حظك منها وحظ غيرك إذ لم تنفقها وتخرجها واحد إذ لا نفع فيها بأعيانها وورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما تصدقت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت يعني أن المال الذي لم ينفقه ولم يتصدق به قد تساوى فيه مع غيره ممن لا مال بيده إذ لا فائدة في عين المال بل فيه الوبال في المآل (وكان منقصة) بفتح القاف وكسرها أي وكان المال نقيصة (في صاحبه) أي في حقه دنيا وأخرى كما ورد تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم وكما ورد أن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة (ولم يقف) أي المال (به) أي بصاحبه (على جدد السّلامة) بفتح الجيم والدال المهملة الأولى أي طريقها المستوية تقول العرب من ملك الجدد أمن العثار وبضم الجيم جمع جدة كمدة أي طرقها من الجادة التي تسلم المارة فيها من العثرة ومنه قوله تعالى وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ أي طرائق وأما ما ضبط في بعض النسخ والحواشي بضمهما فلا مناسبة له هنا فإنه جمع جديد على ما في القاموس (بل أوقعه) أي ما له عند مآله (في هوّة رذيلة البخل) بضم هاء وتشديد واو مفتوحة أي في وهدة دناءته وعمق نقيضته والبخل بضم فسكون وبفتحهما قراءتان في السبع (ومذلة) وفي نسخة ومذمة (النّذالة) بفتح النون والذال المعجمة الخساسة والسفالة؛ (فإذا) بالتنوين وفي نسخة بالنون والفاء فصيحة معربة عن شرط مقدر أي ومتى كان المال كما وصف كان حينئذ (التّمدّح) أي تمدح صاحبه لنفسه ويروى المتمدح (بالمال) أي على توهم الكمال (وفضيلته) أي وفضيلة المال أو صاحبه (عند مفضّله) أي مرجحيه من العامة وفي نسخة بصيغة الإفراد (ليست لنفسه) أي ذاته (وإنّما هو) أي المال أو التمدح به (للتّوصّل به إلى غيره وتصريفه) بالجر اي انفاقه (في متصرّفاته) بفتح الراء أي في محاله؛ (فجامعه إذا لم يضعه مواضعه) أي من مهماته ومهمات من يرجوه (ولا وجّهه وجوهه) أي من أنواع البر واصناف الخير (غير مليء) بفتح الميم وكسر اللام فتحتية فهمزة ويجوز إبدالها وإدغامها أي غير ثقة (بالحقيقة) أي في نفس الأمر (ولا غنيّ بالمعنى) أي بل بمجرد الصورة والمبنى فكأنه فاقد لا واجد (ولا ممتدح) وفي(1/224)
نسخة ولا متمدح أي ولا ممدوح (عند أحد من العقلاء) فضلا عن العلماء والفضلاء (بل هو فقير أبدا) أي بقلبه ولو كان غنيا يدا قال المتنبي:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر
(غير واصل إلى غرض من أغراضه) أي لخسته وبخله؛ (إذ ما بيده من المال الموصل) بالتشديد أو التخفيف (لها) وفي نسخة إليها أي الذي في شأنه أن يوصل صاحبه إلى أغراضه (لم يسلّط عليه) بصيغة المجهول أي لم يمكن منه ولم يفوض إليه؛ (فأشبه خازن مال غيره) أي حافظه (ولا مال له) أي إلا وديعة عنده (فكأنّه ليس في يده من المال شيء) أي من الأشياء (والمنفق) أي في وجوه البر والخير من صدقة وصلة (مليّ) أي ثقة (غنيّ) واجد لا فاقد (بتحصيله فوائد المال) من جميل الحال وحسن الْمَالِ (وَإِنْ لَمْ يَبْقَ فِي يَدِهِ مِنَ المال شيء) حيث يدل على كمال كرمه واعتماده على رزق ربه وقد قال الله تعالى وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وورد اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا وهذا المعنى في حديث نعم المال الصالح للرجل الصالح. (فانظر سيرة نبيّنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم) أي طريقته (وخلقه) أي سحبيته الشريفة (في المال) أي في حق أخذه وإعطائه وامتناعه عن التلبس بوجوده وبقائه (تجد) بالجزم أي تعلمه (قد أوتي خزائن الأرض) أي عرضت عليه (ومفاتيح البلاد) أي أعطيت له وفي نسخة في رواية صحيحه مفاتح البلاد ومنه قوله تعالى وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ وهو كناية عن فتحها عليه وعلى أمته بعده وجباية أموالهم إليهم واستخراج كنوزها لديهم وتلويح بالتوصل إليها كما يتوصل بالمفاتيح إلى ما أغلق عليه من أبوابها وقد روي مرفوعا في صحيح مسلم بينا أنا نائم أوتيت مفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي أي في تصرفي وتصرف أمتي (وأحلّت له الغنائم) أي لزيادة الفضيلة (ولم تحلّ) بصيغة المجهول المناسب لأحلت أو بفتح أوله وكسر ثانيه أي والحال أنه لم تبح (لنبيّ قبله) إذ جاء في الآثار أنهم كانوا يجمعون الغنائم فتأتي نار من السماء فتأكلها وفي حديث مسلم لم تحل الغنائم لأحد من قبلنا وذلك لأن الله تعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا، (وفتح عليه في حياته صلى الله تعالى عليه وسلم بلاد الحجاز) سميت بها لحجزها بين نجد والغور (واليمن) بالرفع والجر سمي به لكونه عن يمين الكعبة لمن وقف بالباب ووجهه لخارج وهو المعتبر لكونه بمنزلة المنبر (وجميع جزيرة العرب) وهي ما بين أقصى عدن إلى ريف العراق طولا ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى طرف الشام عرضا وقال مالك هي الحجاز واليمن واليمامة وقيل هي المدينة وقيل مكة والمدينة واليمامة واليمن ولعل هذا معنى قول مالك (وما دانى ذلك) أي ما قارب بلاد الحجاز وجزيرة العرب (من الشّأم) بالهمز الساكن وإبداله الفا ويقال بفتح الشين والمد وهو من العريش إلى الفرات طولا وقيل إلى نابلس وعرضا من جبل طي من نحو القبلة إلى بحر الروم وما سامت ذلك من البلاد قال ابن عساكر(1/225)
في تاريخه دخل الشام عشرة آلاف عين رأت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واشتقاقه منه لكونه عن شمال الكعبة وأما قول الحلبي قد دخله عليه الصلاة والسلام أربع مرات فغير معروف بل لم يدخل دمشق أصلا وإنما بلغ إلى بصرى مدينة حران (والعراق) أي عراق العرب من الكوفة والبصرة قيل فارسي معرب وقيل سمي المكان عراقا لكثرة عروق اشجاره (وجلبت إليه) ويروى وجلب وروي وجبيت أي وجيء له (من أخماسها) في الغنيمة (وجزيتها) من أهل الذمة (وصدقاتها) من أغنياء الأمة (ما لا يجبى) أي ما لا يؤتى به (للملوك إلّا بعضه) أي لكثرته مع زيادة بركته روي أن اعظم مال أتي به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من مال الجزية ما قدم عليه من البحرين وقدره مائة ألف درهم وثمانون ألفا، (وهادته) أي صالحه وفي نسخة صحيحة هادته بمعنى أهدته (جماعة من ملوك الأقاليم) أي بإرسال هدايا إليه فقبلها منهم كما في كتب السير دلالة عليه (فما استأثر) أي ما انفرد وما استبد وما اختص (بشيء منه) أي مما هادوه (وَلَا أَمْسَكَ مِنْهُ دِرْهَمًا بَلْ صَرَفَهُ مَصَارِفَهُ) أي انفقه في مواضعه من أنواع الخير واصناف البر (وأغنى به غيره) أي لغناه بربه واستغنائه بقلبه (وقوّى به المسلمين) على مهماتهم وقضاء حاجاتهم ونصرهم على اعدائهم ودفع بلائهم وكان يعطى عطاء من ليس يخشى الفقر انتهاء (وقال) أي كما رواه الشيخان عنه (صلى الله تعالى عليه وسلم ما يسرّني) أي لم يوقعني في السرور ولم يفرحني (أنّ لي أحدا) بضمتين ووجد بخط المبرد بإسكان الحاء جبل عظيم بالمدينة (ذهبا) تمييز لرفع الإبهام عن جبل أحد (يبيت) أي يثبت ليلة (عندي منه) أي من مقدار أحد ذهبا (دينار إلّا دينارا) بالنصب على الاستثناء وفي نسخة بالرفع على البدل (أرصده لديني) وفي نسخة لدين وهو بفتح الهمزة وضم الصاد وبضم وكسر من الإرصاد أي أحفظه منتظرا لقضاء ديني وقال بعضهم رصدته رقبته وأرصدت أعددت قال تعالى شِهاباً رَصَداً وارصادا لمن حارب الله ولعل التعبير بالبيتوتة لإرادة المبالغة لأن الدليل مظنة فقد الفقير والغيبوبة توهم حصول الذهول والغفلة ووقع في أصل الدلجي درهم إلا دينارا فتكلف وقال نصبه على الاستثناء من عام عبر عنه بالدرهم ورفعه على البدل وكأنه قال ما يسرني أن يبيت عندي شيء منه إلا ما أرصده لدين لي بفتح الهمزة وضم الصاد وبضم وكسر (وأتته دنانير مرّة) وهي كثيرة (فقسمها) أي على من استحقها (وبقيت) وفي نسخة بقي (منها ستّة) وفي نسخة بقية أي قليلة يسيرة (فدفعها لبعض نسائه) نظرا إلى حدوث حاجة لهن إليها وفي رواية فرفعها بعض نسائه بالراء وهو إما بأمره وإما على عادة النساء في حفظ المال لأمر المعاش وغيره (فلم يأخذه نوم حتّى قام وقسمها) اتكالا على كرم ربه عند الاحتياج إليها (وقال الآن) وهو اسم للزمان الحاضر (استرحت) أي حصل الراحة لقلبي المعتمد على رزق ربي وفيه دلالة واضحة على ما كان عليه من التقلل للدنيا ملازمة الفاقة في أيام حياته إلى أوان مماته كما يدل عليه قوله (ومات ودرعه مرهونة) أي عند يهودي هو أبو الشحم وقيل أبو شحمة (في نفقة عياله) أي إلى سنة في ثلاثين صاعا من شعير(1/226)
على ما في البخاري والترمذي والنسائي وفي البزار أربعين وفي مصنف عبد الرزاق وسق شعير وهو ستون صاعا ويمكن الجمع بتعدد الواقعة حقيقة أو حكما عند نزول قوله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً الآية ولعل عدوله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الصحابة إلى معاملته بيان للجواز أو قلة الطعام عند غيره أو حذرا من أن يضيق على أصحابه أو لأنهم لا يأخذون منه رهنا ولا يتقاضون منه ثمنا بل ولا يعطونه دينا وهو لا يريد تكون صنيعة لأحد عليه أو ليكون حجة على اليهود في قولهم إن الله فقير ونحن أغنياء حيث لم يقتض القرض لصاحبه الافتقار وعدم الاقتدار ولعله كان منعوتا في كتابهم أنه يكون مختارا للفقر على الغنى وأنه لا يبالي بكلام الأعداء من الأغنياء الأغبياء الذين يدعون الاستغناء (واقتصر من نفقته وملبسه ومسكنه) بفتح الكاف وكسرها أي من أجلها أو في حقها (على ما تدعوه ضرورته إليه) أي على مقدار قليل لا بد له منه مما تقتضيه الحاجة الضرورية إليه (وزهد) بكسر الهاء أي ولم يرغب (فيما سواه) ؛ فزهد فعل ماض عطف على اقتصر ووقع في أصل الدلجي وزهده بالضمير فتحير في امر مرجعه فقال عطف على الضمير المجرور بإلى أو على ضرورته أي وإلى هده أو ويدعوه زهده فيما سواه إليه ذهابا إلى الاقتصاد المحمود إذ ما قل وكفى خير مما كثر والهى (فكان يلبس) بفتح الياء والباء معا (ما وجده) أي أصابه وصادفه أي تيسر له من غير كلفة وشهوة (فيلبس في الغالب الشّملة) وهي كساء يشتمل به وقال ابن حماد هي شبه العباء وهي أكسية فيها خطوط سود كل كساء خشن فهو شملة ثم هي ضبطت في النسخ بالفتح لكن في القاموس الشملة هيئة الاشتمال وبالكسر كساء دون القطيفة يشتمل به انتهى والظاهر أنه وهم منه فإن صيغة الهيئة وهي النوع إنما هي بالكسر والفعلة موضوعة للمرة وقد تكون للاسم كما هنا ولذا أطلق صاحب النهاية حيث قال الشملة كساء يتلفف به (والكساء) بكسر الكاف معروف (الخشن) بفتح وكسر أي الغليظ ضد الرقيق (والبرد) أي اليماني وهو الثوب الذي فيه خطوط (الغليظ) أي الخشن واختار هذا كله زهدا وقناعة وتنزها عما يلبسه من لا خلاق له تفاخرا وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا أن الله يحب المتبذل الذي لا يبالي ما لبس تفاخرا وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا أن الله يحب المتبذل الذي لا يبالي ما لبس (ويقسم) بالتخفيف ويجوز تشديده بقصد التكثير (على من حضره أقبية الدّيباج) بكسر الدال وقد يفتح وهو نوع من الحرير والأقبية جمع القباء بالمد كالأكسية جمع الكساء وهو صنف من الثياب (المخوّصة) بتشديد الواو المفتوحة أي المنسوجة (بالذّهب) أي بمثل خوص النخل وهو ورقه وقيل فيه طرائق من ذهب مثل خوص النخل أو المكنوفة به وفي رواية المزرورة بالذهب أي التي لها أزرار منه أو المطوقة به أو التي زينت أزرارها به وفي الحديث مثل المرأة الصالحة مثل التاج المخوص بالذهب (ويرفع) أي منها (لمن لم يحضر) أي يغيب من أصحابه المستحقين لها كمخرمة بن نوفل كما في حديث الصحيحة عن ابن المسور قال أبي يا بني بلغني أن النبي صلى الله تعالى(1/227)
عليه وسلم قدمت عليه أقبية فأذهب بنا إليه فذهبنا فوجدناه في منزله فقال لي ادعه لي فاعظمت ذلك فقال لي يا بني أنه ليس بجبار فدعوته فخرج ومعه قباء من ديباج مزرور بالذهب فقال يا مخرمة خبأت لك هذا وجعل يريه محاسنه ثم أعطاه له ولمسلم فنظر إليه فقال رضي مخرمة زاد البخاري وكان في خلق مخرمة شدة محبة هذا وكان يفعل ذلك إيثارا لغيره وتنزها عما يتباهى العوام به؛ (إذ المباهاة) أي المنافسة والمفاخرة (في الملابس) أي الثمينة (والتّزيّن بها) أي في المنازل المكينة (ليست من خصال الشّرف والجلالة) أي شمائل أرباب الشرافة وأصحاب العظمة المعنوية (وهي) أي تلك الملابس (من سمات النّساء) بكسر السين أي من خصال النسوة وعلاماتهن المتزينة بالحلي الصورية، (والمحمود) أي الممدوح (منها) أي من الملابس المطلقه (نقاوة الثّوب) بفتح النون النظافة وفي نسخة بضمها وهي خياره لكنه غير ملائم للمرام في هذا المقام (والتّوسّط في جنسه) لورود الذم عن لبس الشهرتين (وكونه لبس مثله) أي لباس بعض أمثاله حال كونه (غير مسقط لمروءة جنسه) أي أبناء جنسه وفي نسخة حسبه بفتحتين فموحدة (ممّا لا يؤدّي) أي يؤول (إلى الشّهرة في الطّرفين) أي المكتنفين من الأعلى والأدنى للتوسط إفراطا وتفريطا وخير الأمور أوساطها وقد قال الثوري كانوا يكرهون الشهرتين الثياب الجيدة والثياب الرديئة إذ الأبصار تمتد إليهما جميعا وقد ورد النهي عن الشهرتين أيضا (وقد ذمّ الشّرع ذلك) أي ما ذكر من الشهرتين أيضا أو المباهاة في الملابس؛ (وغاية الفخر فيه) أي في ذلك المذموم (في العادة عند النّاس إنّما يعود) أي ترجع غايته (إلى الفخر بكثرة الموجود ووفور الحال) أي وسعة الجاه وكثرة المال وقد سبق أن هذا مذموم في المآل (وكذلك التّباهي) أي ومثل الفخر حكم الافتخار (بجودة المسكن) أي بتجصيصها وتزيينها وتبييضها (وسعة المنزل) بفتح السين أي من جهة طولها وعرضها زيادة على مقدار الحاجة (وتكثير آلاته) أي أمتعته وظروفه ومفارشه (وخدمه) أي من عبيده وجواريه (ومركوباته) أي زيادة على مقدار حاجاته (ومن ملك الأرض وجبى إليه) بصيغة المجهول أي أتي إليه (ما فيها) من كل زوج كريم وصنف جسيم (فترك ذلك) أي مع القدرة عليه (زهدا وتنزّها) أي رفعة للنفس وبعدا لها عما يشينها فإن الزهد هو عزوب النفس عن الدنيا مع القدرة عليها رغبة في العقبى وهذا في الحقيقة لا يتصور ممن لا مال له ولا جاه على وجه الكمال ولهذا لما قيل لابن المبارك يا زاهد قال الزاهد عمر بن عبد العزيز إذ جاءته الدنيا راغمة فتركها أما أنا ففيم زهدت والزهد أعلى المقامات وأعلى الحالات وقد ورد في الدنيا يحبك الله إذ جعله سببا لمحبة الله له (فهو حائز) أي جامع ومشتمل (لفضيلة الماليّة) التي هي اسباب التلذذ بالأعراض الدنيوية والأغراض الشهوية (ومالك للفخر) أي للافتخار في العادة بين العامة (بهذه الخصلة) أي الكثرة المالية والوسعة الجاهية (إن كانت فضيلة) بسبب ما مر من كونه وسيلتها وإلا فليست هي فضيلة في ذاتها فإن شرطية تقديرية وقال التلمساني هي بفتح الهمزة وهي تفسيرية ولا يخفى بعد ما قاله (زائد عليها في الفخر ومعرق)(1/228)
بضم الميم وكسر الراء وتفتح أي له عرق أي أصل (في المدح) والمعنى هو زائد بهما على فضيلة المال (بإضرابه) بكسر الهمزة أي بسبب إعراضه (عَنْهَا وَزُهْدِهِ فِي فَانِيهَا وَبَذْلِهَا فِي مَظَانِّهَا) بفتح ميم وتشديد نون أي محالها من صلة رحم وجهة بر وهو بالظاء المشالة وقد تصحف على التلمساني فضبطه بالضاد وقال أراد مواضع البخل.
فصل [وأما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة]
(وأمّا الخصال المكتسبة) وتسمى ملكات نفسانية لأنها تخلقات كسبية لا سجية جبلية (من الأخلاق الحميدة) أي المحمودة من الشمائل المعدودة من الأحوال السعيدة (والآداب الشّريفة) أي الناشئة من النفوس النفيسة اللطيفة (التي اتّفق جميع العقلاء) أي من الفضلاء والعلماء إذ لا عبرة بالجهلاء (على تفضيل صاحبها) أي بالنسبة إلى فاقدها (وتعظيم المتّصف) بتشديد التاء المثناة أي المتلبس والمتخلق (بالخلق الواحد منها فضلا عمّا فوقه) أي أكثر منه مما أجمع على حسنها وطوبى لمن جمعها بأجمعها (وأثنى الشّرع على جميعها وأمر بها) أي جمعا وأفرادا مجملا ومفصلا (ووعد السّعادة الدّائمة) أي تعلقها (للمتخلّق بها) أي للذي اتخذها خلقا كما هو مذكور في الترغيب والترهيب وكتب الأخلاق من الأحياء وغيره (ووصف بعضها بأنّه من أجزاء النّبوّة) كحديث السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربع وعشرين جزءا من النبوة وحديث أن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمس وعشرين جزءا من النبوة والمعنى أن هذه الخصال منحها الله تعالى أنبياءه فهي من شمائلهم وفضائلهم وأنها جزء من أجزائها فاقتدوا بهم فيها لا أن النبوة تتجزأ ولا أن من جمعها يكون نبيا إذ النبوة غير مكتسبة بل هي كرامة مختصة بمن تعلقت به المشيئة أو المعنى أن هذه الخصال جزء من خمس وعشرين جزءا مما جاءت به النبوة ودعت إليه أصحاب الرسالة وتأنيث اربع وخمس على معنى الخصال أو القطعة مع أن الاجزاء تجري مجرى الكل في التذكير والتأنيث (وهي) أي الخصال المكتسبة التي ورد باستحسانها الكتاب والسنة هي (المسمّاة بحسن الخلق) أي في الجملة (وهو) أي حسن الخلق (الِاعْتِدَالُ فِي قُوَى النَّفْسِ وَأَوْصَافِهَا، وَالتَّوَسُّطُ فِيهَا دون الميل إلى منحرف أطرافها) فإن لها ثلاث قوى نطقية اعتدالها حكمة وشهوية اعتدالها عفة وغضبية اعتدالها شجاعة فللنطق طرف إفراط هو الجربزة كاستعمال الفكرة واشتغال الآلة فيما لا ينبغي وتفريط وهو الغباوة كتعطيل الفكرة عن اكتساب العلوم وإفادتها واستفادتها وللشهوة طرف إفراط هو الفجور كالانهماك في اللذات وتفريط هو الخمود كترك ما رخص شرعا وعقلا من اللذات وللغضب طرف إفراط هو التهور كالإقدام على ما لا ينبغي وتفريط هو الجبن كترك الإقدام على ما ينبغي فما بينهما هو التوسط في الأخلاق المسماة مثلا بالحكمة والعفة والشجاعة وأما قول الدلجي فللحكمة والعفة والشجاعة طرف إفراط وتفريط خبط وتخبط؛ (فَجَمِيعُهَا قَدْ كَانَتْ خُلُقَ نَبِيِّنَا(1/229)
صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الِانْتِهَاءِ فِي كَمَالِهَا. وَالِاعْتِدَالِ إلى غايتها) يحتمل عطف الاعتدال على الانتهاء وهو الظاهر الأنسب في المعنى والعطف على كمالها وهو خلاف المتبادر لكنه الأقرب في المبنى (حتّى) أي إلى حد (أثنى الله عليه بذلك فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) [الْقَلَمِ: 5] ) وقد قيل هو ما أمر به من قوله سبحانه وتعالى خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وقيل هو ما ورد من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم هو أن تعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك وتعطي من منعك والأكمل في تفسيره ما ذكره المصنف بقوله. (قالت عائشة رضي الله عنها) أي وقد سألها سعيد بن هشام عن خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم: (كان خلقه القرآن) بالرفع ويجوز نصبه زاد البيهقي في دلائله على ما هو في بعض النسخ (يرضى برضاه) أي يرضى ما فيه من الواجب والمندوب والمباح (ويسخط بسخطه) أي ويغضب ويكره ما ينافيه من الحرام والمكروه وخلاف الأولى وزاد في نسخة يعني التأدب بآدابه والتخلق بمحاسنه والالتزام لأوامره وزواجره، (وقال عليه الصلاة والسلام) على ما رواه أحمد والبزار (بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق) ورواه مالك في الموطأ ولفظه بلغني أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال بعثت لأتمم حسن الأخلاق ورواه البغوي في شرح السنة بلفظ أن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال أي الملكات النفسية والحالات القدسية التي جمعها حسن الخلق المتضمن لأداء حق الحق والخلق مما لا يستحصى ولا يتصور أن يستقصى وفيه إيماء إلى أن الأنبياء كانوا موسومين بالأخلاق الرضية والشمائل البهية إلا أنها لم تكن على وجه الكمال الذي لا يكون فوقه كمال وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم مجتمع الأخلاق العلية ومنبع الأحوال السنية بحيث لا يتصور فوقها كمال حتى من تعدى عن ذلك الحد وقع في النقصان في المآل ويدل على ما قررنا على وجه حررنا حديث مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل قصر أحسن بنيانه وترك منه موضع لبنة فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنيانه إلا موضع تلك اللبنة فكنت أنا سددت موضع اللبنة ختم لي النبيون ويشير إلى هذا المبنى قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. (قال أنس رضي الله تعالى عنه) فيما رواه الشيخان (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحسن النّاس) أي من الأولين والآخرين (خلقا) بشهادة الله الكريم وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ؛ (وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه مثله، وكان) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (فيما ذكره المحقّقون مجبولا) أي مخلوقا ومطبوعا (عليها في أصل خلقته) أي من ابتداء نشأته الروحية (وأوّل فطرته) أي خلقته الجسدية وفي بعض النسخ في أصل خلقته بالظرفية بدلا من من الابتدائية (لم تحصل له باكتساب ولا رياضة) خلافا لما قاله الفلاسفة والحكماء الرياضيةإ (لّا بجود إلهي) أي لكن حصلت له بجذبة صمدانية (وخصوصيّة ربّانيّة؛ وهكذا) أي وكذا فعل الله (لسائر الأنبياء)(1/230)
وفي رواية سائر الأنبياء أي باقي الأنبياء الماضية وأما وجود الأخلاق الحميدة في غيرهم فقيل إنها جبلية وطبيعية مثل الأنبياء وهذا بعيد عن مشرب الأصفياء ولو مال إليه الطبراني من العلماء وقيل كتسبة لا جبلية ولا طبيعية وهذا قول ظاهر البطلان لمشاهدة تفاوت الأحوال في أخلاق الأطفال والصبيان كما يدل عليه حكاية حاتم الطائي وأخيه ورواية أمهما في ابتداء ارضاعهما وقيل منها ما هي جبلية طبع عليها في أول الخلقة وما هي كسبيه تحصل بالرياضة وتصير لصاحبها ملكة ويؤيده حديث أشبح عبد القيس حيث قال له صلى الله تعالى عليه وسلم إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والإناءة فقال يا رسول الله أشيء من قبل نفسي أو جبلني الله عليه فقال جبلك الله عليه فقال الحمد الله الذي جبلني على خلقين يرضاهما الله ورسوله والتحقيق أن حال الإنسان مركب من الأخلاق المحمودة الملكية ومن الأخلاق المذمومة الشيطانية فإن مال إلى الأولى فهو خير من الملائكة المقربين وإن مال إلى الثانية فهو شر من الشياطين وتحقيق هذا المرام لا يسعه الكلام في هذا المقام وقد صنف في هذا المبحث كتب الأخلاق منها الناصرية ومنها الدوانية ومنها الكشافية وقد حقق الإمام الغزالي في الأحياء الأدلة على وجه الاستقصاء؛ (ومن طالع سيرهم) أي سلوك الأنبياء في سيرهم (منذ صباهم إلى مبعثهم) أي من مبدئهم إلى منتهاهم (حقّق ذلك) أي عرف حقيقة ما ذكر من أن أخلاقهم مرضية وهبية لا رياضة كسبية (كَمَا عُرِفَ مِنْ حَالِ عِيسَى وَمُوسَى وَيَحْيَى وسليمان وغيرهم عليهم السّلام بل غرزت) بصيغة المجهول أي طبعت وغرست (فيهم هذه الأخلاق في الجبلّة) أي الطبيعة الأصلية (وأودعوا العلم والحكمة في الفطرة) أي أول الخلقة الإنسانية (قال الله تعالى: وَآتَيْناهُ) أي أعطينا يحيى (الْحُكْمَ) أي النبوة وإتقان المعرفة (صَبِيًّا [مريم: 12] ) أي صغيرا. (قال المفسّرون: أعطى الله يحيى العلم) بصيغة المجهول أو المعلوم ويؤيده نسخة أعطى الله تعالى (بكتاب الله) أي التوراة أو بمضمون كتب الله تعالى مجملة أو مفصلة (في حال صباه) فيه إيماء إلى أن صبيا نصب على الحال من المفعول وقد روي أنه نبئ وفهم العلم بالكتاب وهو ابن ثلاث أو سبع؛ (وقال معمر) بفتح الميمين ابن راشد أبو عروة الأزدي مولاهم عالم اليمن روى عن الزهري وهمام وخلق وعنه ابن المبارك وعبد الرزاق اخرج له الأئمة الستة (كان) أي يحيى (ابن سنتين أو ثلاث) على ما رواه عنه أحمد في الزهد وابن أبي حاتم في تفسيره والديلمي عن معاذ ولم يسنده والحاكم في تاريخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه بسند واه والتحقيق أن يحيى عليه الصلاة والسلام أعطي هذا المقام وهو في بطن أمه كما ورد من أن السعيد من سعد في بطن أمه وإنما قيده سبحانه وتعالى بحال الصبا لتعلق علم الخلق به حينئذ فاختلاف الروايات مبني على اختلاف إطلاع الناس على ما به من الحالات (فَقَالَ لَهُ الصِّبْيَانُ لِمَ لَا تَلْعَبُ فَقَالَ أللّعب خلقت) فهمزة الاستفهام للإنكار(1/231)
على ما في الأصول المصححة واللعب فيه لغتان فتح اللام وكسر العين وكسر أوله وسكون ثانيه ووقع في أصل الدلجي ما للعب خلقت بما النافية ولعله رواية في المبنى أو نقل بالمعنى ثم أغرب واعترض على معمر في قوله أو على المصنف في اعتماده على نقله حيث قال والذي قاله معمر كان يومئذ ابن ثمان سنين وهو الأصح وما ذكر ههنا فغريب في الرواية عنه بشهادة ما رواه ابن قتيبة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ دخل يحيى بيت المقدس وهو ابن ثمان فنظر إلى العباد به واجتهادهم فرجع إلى أبويه فمر في طريقه بصبيان يلعبون فقالوا هلم فلنلعب فقال إني لم أخلق للعب فذلك قوله تعالى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا انتهى ووجه الغرابة لا يخفى إذ لا يبعد أن يكون ظهور آثار النبوة عليه كان وهو ابن سنتين أو ثلاث ثم وقع له هذا المقام عقب هذا ولو بعد سنين مع الأطفال مع أنه لا مانع من تعدد الواقعة ولو بالاحتمال (وقيل في قوله تعالى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ من الله صدق يحيى بعيسى) أي آمن به (وهو ابن ثلاث سنين) وحكى السهيلي عن ابن قتيبة أنه كان ابن ستة أشهر (فشهد) وفي نسخة وشهد (له أنّه كلمة الله وروحه) فهو أول من آمن به وسمي كلمة لوجوده بأمره تعالى بلا أب فشابه المخترعات التي هي عالم الأمر المعبر عنه يقول كن كما قال الله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ؛ (وقيل) كما في تفسير محمد بن جرير الطبري (صدّقه) أي آمن به يحيى (وهو في بطن أمّه) حال من ضمير الفاعل (فكانت) بالفاء وفي نسخة وكانت (أمّ يحيى) أي وهي حامل به (تقول لمريم) أي اختها إذا دخلت عليها وهي حامل بعيسى والله إنك لخير النساء وأن ما في بطنك لخير مولود (إِنِّي أَجِدُ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا في بطنك تحيّة له) أي تعظيما وتسليما وتكريما وهذا يدل على أن مريم حملت مدة الحمل كما عليه الأكثر وهو لا ينافي ما تقدم والله أعلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حملته ووضعته في ساعة واحدة فتصديقه إنما كان وهو ابن ثلاث كما سبق؛ (وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى كَلَامِ عِيسَى لِأُمِّهِ عِنْدَ وِلَادَتِهَا إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ لَهَا، أَلَّا تَحْزَنِي [مريم: 24] ) الأولى أن لا تحزني (على قراءة من قرأ مِنْ تَحْتِها [مريم: 24] بفتح الميم والتاء كما قرأ به ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر (وعلي) أي وكذا علي (قول من قال إنّ المنادي عيسى) كأبي بن كعب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد لأنه خاطبها من تحت ذيلها لما خرج من بطنها وفيه احتراز عن قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعلقمة والضحاك أن المنادي جبريل لأنه كان بمكان منخفض عنها قال الدلجي لا وجه لتخصيص القراءة الأولى بالخلاف في المنادي مع وقوعه في الثانية قلت حيث تعارض القولان عن الأئمة ولا يتصور الجمع بينهما إلا بتعدد القضية أشار المصنف إلى أن القراءة الأولى محملها على المعنى الأول أولى وهو أن يكون المنادي عيسى فلا ينافي احتمال وجود آخر في المعنى على ما لا يخفى (ونصّ) أي صرح الله سبحانه وتعالى (على كلامه)(1/232)
أي نطق عيسى (في مهده فقال) أي الله في كلامه حكاية عنه (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) ردا على إثبات اله سواه وافتخارا بالعبودية واحترازا عن دعوى الربوبية (آتانِيَ الْكِتابَ) أي أعطاني الله من فضله علم الإنجيل أو جنس الكتاب (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم: 30] ) في سابق قضائه أو تنزيلا للمحقق وقوعه منزلة الواقع به كما في أَتى أَمْرُ اللَّهِ كذا ذكره الدلجي والظاهر المتبادر أنه جعله نبيا في ذلك الحال من غير توقف على الاستقبال فلا يحتاج إلى تأويله بالمآل ويؤيده ما روي عن الحسن أكمل الله عقله ونبأه طفلا وقضية يحيى صريحة أيضا في هذا المعنى غايته أن أعطاه النبوة في سن الأربعين غالب العادة الإلهية وعيسى ويحيى خصا بهذه المرتبة الجليلة كما أن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم خص بما ورد عنه من قوله كنت نبيا وإن آدم لمنجدل بين الماء والطين هذا وفي المستدرك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا لم يتكلم في المهد إلا عيسى وشاهد يوسف وصاحب جريج وابن ماشطة فرعون ولفظ مسند أحمد وابن ماشطة ابنة فرعون وزاد البغوي في تفسير سورة الأنعام إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وممن تكلم صغيرا يحيى بن زكريا ومبارك اليمامة كلمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذكره في الدلائل ورضيع المتقاعسة ورضيع التي مر عليها راكب فقالت اللهم اجعل ابني مثل هذا والصبي الذي في حديث الساحر والراهب الذي قال لأمه أصبري فإنك على الحق وهو في أواخر مسلم وفي كلام السهيلي في آخر روضته أن أول كلمه تكلم بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو مرضع عند حليمة إن قال الله أكبر قال السهيلي رأيته كذا في بعض كتب الواقدي (وقال) أي عز قائله (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) أي الحكومة أو الفتيا إذ روي أنه تحاكم إلى داود صاحب غنم وصاحب زرع أو كرم رعته ليلا فحكم بها لصاحب الحرث لاستواء قيمتها وقيمة نقصه فقال سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة غير هذا أوفق بهما فعزم عليه ليحكم فدفع الغنم لصاحب الحرث ينتفع بدرها ونتاجها وأصوافها والحرث لصاحب الغنم يصلحه فإذا عاد إلى ما كان عليه ترادا ولعلهما قالا مقالهما اجتهادا فقال داود اصبت القضاء ثم حكم بذلك والأول نظير قول أبي حنيفة في العبد الجاني والثاني نظير قول الشافعي بالغرم للحيلولة في العبد المغصوب إذا أبق إما في شرعنا فلا ضمان عند أبي حنيفة لحديث جرح العجماء جبار أي هدر إلا أن يكون معها حافظ أو أرسلت عمدا وأوجبه الشافعي ليلا لا نهارا لجري العادة في حفظ الدواب بالليل دون النهار لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم لما دخلت ناقة البراء حائطا على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل الماشية حفظها بالليل وفي الحديث إشارة لطيفة إلى قول أبي حنيفة في تقييد القضية بحالة العمدية إذ تخلص الدابة ليلا أو نهارا واتلافها من غير تقصير من صاحبها لا يوجب الغرامة المنفية في الملة الحنيفية حيث قال ليس عليكم في الدين من حرج (وَكُلًّا) أي من داود وسليمان (آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً(1/233)
[الأنبياء: 68] ) أي معرفة بموجب الحكومة وعلما بسائر القضايا الشرعية (وقد ذكر) بصيغة المجهول (من حكم سليمان) كذا في النسخ المتعددة المعتمدة ووقع في أصل الدلجي وقد ذكر عن سليمان (وهو صبيّ) أي في حال صباه (يلعب) أي مع الصبيان (في قضيّة المرجومة) أي التي كانوا يريدون أن يرجموها وفي نسخة في قضية المرجومة وهي ما رواه ابن عساكر في تاريخه بسنده إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن امرأة حسناء في بني إسرائيل راودها عن نفسها أربعة من أكابرهم وقيل من قضاتهم الذين رفعت حكمها إليهم فامتنعت فاتفقوا أن يشهدوا عليها عند داود أنها مكنت من نفسها كلبا لها قد عودته ذلك منها فأمر برجمها أو هم به فلما كان عشية يوم رجمها جلس سليمان واجتمع إليه ولدان فانتصب حاكما وتزيى أربعة منهم بزي أولئك الأربعة وآخر بزي المرأة وشهدوا عليها بأن مكنت من نفسها كلبا فسألهم متفرقين عن لونه فقال أحدهم أسود وآخر أحمر وآخر عيسى وآخر أبيض فأمر بقتلهم فبلغ ذلك داود فاستدعى من فوره بالشهود فسألهم متفرقين عن لون كلبها فاختلفوا فقتلهم (وفي قصّة الصّبيّ ما اقتدى) أي الذي اقتدى (به) أي بسليمان ورجع إلى حكمه (داود أبوه) عطف بيان لدفع توهم أن يكون غيره وهذه القضية رواها الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى بينما امرأتان معهما ابنان لهما فأخذ ذئب أحدهما فتحاكمتا إلى داود في الآخر فقضى به للكبرى فدعاهما سليمان وقال هاتوا السكين أشقه بينهما فقالت الصغرى رحمك الله هو ابنها لا تشقه فقضى لها به مستدلا بشفقتها عليه بقولها لا تشقه ورضى الكبرى بشقه لتشاركها في المصيبة أو لما كان بينهما من العداوة ولعل داود عليه السلام حكم به للكبرى لكونه في يدها أو اعتمادا على نوع من الشبه وهو لا يخلو من الشبه فإن قيل المجتهد لا ينقض حكم المجتهد فالجواب إن سليمان فعل ذلك وسيلة إلى حقيقة القضية فلما أقرت بها الكبرى عمل بإقرارها أو لعل في شرعهم يجوز للمجتهد نقض حكم المجتهد وقيل كان بوحي ناسخ للأول قيل وكان قضاؤه وهو ابن اثنتي عشرة سنة ومات وهو ابن اثنتين وخمسين سنة وقيل كان حكم داود باجتهاد وحكم سليمان بوحي والوحي ينقض غيره، (وحكى الطّبريّ) وفي نسخة وقال الطبري وهو محمد بن جرير (أنّ عمره) أي سن سليمان (كان حين أوتي الملك اثني عشر عاما) أي سنة، (وكذلك) أي ومثل ما ذكر عن سليمان في صغره (قصّة موسى) قيل وزنه مفعل أو فعلل أو فعلى (مع فرعون وأخذه بلحيته وهو طفل) وقصته أن فرعون كان يرى أن من يأخذ بلحيته ويأخذ منها خصلة هو الذي يقتله ويسلب ملكه فبينا موسى في حجره إذ تناول لحيته فأخذ منها خصلة فقال هذا عدو لنا فقالت له امرأته المسلمة آسية بنت مزاحم أنه صغير فألقى له الدر والجمر فأخذ الجمر وأدخله في فيه فمنه كان في لسانه عقد وفرعون هذا هو عدو الله الوليد بن مصعب ابن الريان كان من القبط العماليق وعمر أكثر من أربعمائة سنة وقد كتبت رسالة مسماة بفر(1/234)
العون ممن ادعى إيمان فرعون، (وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) أي كمال هدايته وصلاح حالته (مِنْ قَبْلُ [الأنبياء: 68] ) أي قبل أوان معرفته (أي هديناه) ووقع في أصل الدلجي هداه بالإضافة (صغيرا) أي قبل بلوغه، (قاله مجاهد وغيره) وقال غيرهم قبل موسى وهارون وقيل قبل محمد عليه الصلاة والسلام، (وقال ابن عطاء) هو أبو العباس أحمد بن سهل بن عطاء مات سنة تسع وثلاثمائة (اصطفاه) أي في سابق قضائه في عالم الأرواح (قبل إبداء خلقه) أي إظهار جسده من العدم إلى الوجود في عالم الأشباح، (وقال بعضهم) كالكواشي وغيره (لَمَّا وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مَلَكًا يَأْمُرُهُ عَنِ اللَّهِ أَنْ يعرفه بقلبه) التامة الشاملة للأفعال والصفات والذات الكاملة (ويذكره بلسانه) بوصف المداومة (فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ وَلَمْ يَقُلْ أَفْعَلُ فَذَلِكَ رشده) أي حيث بالغ في الامتثال حتى عبر بالماضي عن الحال فكأنه امتثله وأخبره ومن هنا قيل النفي أبلغ من النهي، (وَقِيلَ إِنَّ إِلْقَاءَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي النّار ومحنته) أي بليته من نمرود (كانت وهو ابن ستّ عشرة سنة) وفي عين المعاني عن ابن جريج ست وعشرين إذ أقسم (ليكيدن أصنامهم فألقوه فيها فكانت عليه بردا وسلاما) (وإنّ ابتلاء إسحاق) عليه الصلاة والسلام (بالذّبح) أي كان كما في نسخة صحيحة (وهو ابن سبع سنين) وقيل ثلاث عشرة وهذا على أحد القولين في الذبيح مع خلاف في الترجيح حتى توقف فيه شيخ مشايخنا جلال الدين السيوطي في رسالة مستقلة بعد ذكره من الطرفين بعض الأدلة لكن المشهور بل الصحيح أنه إسماعيل لحديث أنا ابن الذبيحين أي إسماعيل وعبد الله إذ قد نذر عبد المطلب أن يسر الله حفر زمزم أو بلغ بنوه عشرة ذبح أحدهم فتم متمناه فاسهم فخرج على عبد الله ففداه بمائة من الإبل ومن ثم شرعت الدية مائة ولأن ذلك كان بمكة وكان قرنا الكبش معلقين بالكعبة حتى احترقا في فتنة ابن الزبير ولأن بشارته بإسحاق كانت مقرونة بأنه يولد له يعقوب المنافي للأمر بذبحه مراهقا وأيضا كانت مقرونة بالنبوة في آية أخرى والغالب في الأنبياء وصولهم إلى حد الأربعين ولأن إسماعيل كان أول ولده الابتلاء حينئذ أشق على ذبحه وفقده قيل وهذا هو الصواب عند علماء الصحابة والتابعين والقول بأنه إسحاق باطل منشأه الحسد من اليهود للعرب بأن يكون أبوهم هو الذبيح قال ابن قيم الجوزية في الهدي وهو مردود بأكثر من عشرين وجها وأما حديث سئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أي النسب اشرف فقال يوسف صديق الله ابن يعقوب إسرائيل بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله فأما الذي قال صلى الله تعالى عليه وسلم على ما رواه البخاري وغيره الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الْكَرِيمِ يوسف ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فزوائده مدرجة من الراوي وما روي من أن يعقوب كتب إلى يوسف مثله فلم يصح، (وَإِنَّ اسْتِدْلَالَ إِبْرَاهِيمَ بِالْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ كَانَ) أي في نفسه (وهو ابن خمسة عشر شهرا) فحكاه الله تعالى عنه جهرا(1/235)
ولا بدع أنه كان زمان مراهقته وأول مقام نبوته تنبيها لقومه على خطائهم بعبادة غيره سبحانه وتعالى وإرشادا لهم إلى طريق الحق على سبيل النظر والاستدلال على حدوث عالم الخلق وأن للشمس والقمر والكواكب وسائر الأشياء النورانية والظلمانية محدثا دبر طلوعها وسيرها وانتقالها وزوالها من حالها بدليل قوله تعالى يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (وقيل أوحى) وفي نسخة أوحى الله (إلى يوسف) بضم السين وفتحها وكسرها مع الهمزة وعدمه وكان بخده الأيمن خال أسود وبين عينيه شامة وبقي في الرق ثلاث عشرة سنة وقيل ثنتي عشرة قيل عدد حروف اذكرني عند ربك فإن عد المضاعف اثنين فثلاث عشرة وإلا فاثنتا عشرة وعن علي كرم الله تعالى وجهه أن أحسن الحسن الخلق الحسن وأحسن ما يكون الخلق الحسن إذا كان معه الوجه الحسن (وهو صبيّ) أو بالغ فعن الحسن وله سبع عشرة سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة ودفن بمصر بالنيل ثم حمله موسى عليهما الصلاة والسلام حين خرجت بنو اسرائيل من مصر إلى الشام (عندما همّ إخوته بإلقائه في الجبّ) أي في قعر بئر وهي على ثلاثة فراسخ من منزل أبيهم (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا [يوسف: 15] الآية) أي إلى وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ففيه بشارة إلى مآل أمره أي لنخلصنك ولنخبرن إخوتك بما فعلوه وهم لا يشعرون أنك يوسف لعلو شأنك ورفعة مكانك وكان الحال كما قال تعالى فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ وأبعد من جوز تعلق جملة وهم لا يشعرون بأوحينا كما لا يخفى لأن الوحي لا يكون إلا على وجه الخفاء (إلى غيره ذلك ممّا ذكر من أخبارهم) ويروى ما ذكر من أخبار غيرهم، (وَقَدْ حَكَى أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ أَخْبَرَتْ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم ولد حين ولد) أي أول ما ولد (باسطا يديه إلى الأرض) أي معتمدا بيديه على الأرض وقد جاء كذلك مفسرا (رافعا رأسه إلى السّماء) إيماء إلى بسط دينه وملكه على بساط الأرض ورفعة شأنه بالإسراء إلى جهة السماء. (وقال في حديثه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي على ما رواه أبو نعيم في الدلائل (لمّا نشأت) أي انتشأت بحيث ميزت بين الخير والشر وفرقت بين الحق والباطل وهو أولى من قول الدلجي تبعا للتلمساني أي شببت وصرت شابا (بغّضت) بالتشديد للمبالغة أي كره الله (إليّ الأوثان) أي عبادتها والمعنى أنه خلق في جبلته وفطرته بناء على تحقق عصمته محبة الله وبغض عبادة ما سواه (وبغّض إليّ الشّعر) لما أراد أن ينزهه عن كونه شاعرا وأن يكون كلامه شعرا وهو لا ينافي أن يكون موزونا في طبعه كما حقق في موضعه (ولم أهمّ) بفتح فضم وتشديد ميم مضمومة أو مفتوحة أي لم أقصد (بشيء ممّا كانت الجاهليّة تفعله) أي من المعازف وغيرها مما نهى الله عنه (إلّا مرّتين فعصمني الله منهما) أي من الاستمرار عليهما وفي أكثر النسخ منها أي من أفعال الجاهلية بتمامها (ثمّ لم أعد) أي لم ارجع إليها أبدا فعن علي كرم الله وجهه على ما رواه البزار بسند صحيح عنه(1/236)
مرفوعا بلفظ مَا هَمَمْتُ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْمَلُونَ بِهِ غَيْرَ مَرَّتَيْنِ كُلُّ ذَلِكَ يَحُولُ الله بيني وبين ما أريد ثم ما هممت بعدهما بشيء حتى أكرمني الله برسالته ورواه الحاكم في المستدرك في التوبة بلفظ ما هممت بقبيح مما هم به أهل الجاهلية إلا مرتين من الدهر كلتاهما بعصمني الله منها قلت ليلة لفتى من قريش كان بأعلى مكة يرعى غنما لأهله أبصر غنمي حتى أسمر هذه الليل كما يسمر الصبيان فجئت أدني دار من دور مكة فسمعت غناء وصوت دفوف ومزامير فقلت ما هذا فقيل فلان تزوج فلانة فلهوت بذلك الغناء وذلك الصوت حتى غلبتني عيناي فما ايقظني إلا حر الشمس ثم رجعت إلى صاحبي فقال لي ما فعلت فأخبرته ثم فعلت الليلة الأخرى مثل ذلك فسمعت كما سمعت حتى غلبتني عيناي فما أيقظني إلا مس الشمس ثم رجعت إلى صاحبي فقال لي ما فعلت فما قلت شيئا أي وذلك حياء قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما هممت غيرهما بسوء مما يعمله أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته وفيه تنبيه على أن هذا الهم إنما كان حال الصغر دون البلوغ كما يشير إليه قوله كما يسمر الصبيان وهذا أوفى دليل على قبح سماء اللهو وضرب الدف إلا ما شرع له خلافا لما يفعله الجهلة من الصوفية حيث يجمعون بين الإذكار وضرب الدفوف ونفخ المزمار حتى في مجالس المواليد ومزار قبور المشايخ الابرار والحاصل أن الأنبياء مخلوقون على المكارم الرضية ومجبولون على الشمائل البهية وأنه لا يضر في ذلك ما وقع لهم حال الصغر على سبيل الندرة (ثمّ يتمكّن الأمر لهم) أي يزداد (وتترادف) أي تتوالى وتتابع (نفحات الله تعالى) جمع نفحة أي عطياته ومعارفه وجذباته (عليهم وتشرق) من الإشراق أي تضيء (أنوار المعارف في قلوبهم) أي وآثار العوارف على صدورهم (حتّى يصلوا إلى الغاية) وفي نسخة إلى الغاية أي نهاية أرباب الهداية وأصحاب العناية (وَيَبْلُغُوا بِاصْطِفَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ بِالنُّبُوَّةِ فِي تحصيل هذه الخصال الشّريفة النّهاية) بالنصب مفعول يبلغوا والمراد بها النهاية التي ما فوقها نهاية لكن كما قيل النهاية هي الرجوع إلى البداية فهم بين فناء وبقاء ومحو وصحو في مرتبة الكمال بين صفتي الجلال والجمال (دون ممارسة ولا رياضة) أي من غير معالجة وملازمة رياضة كسبية بل بخلقة جبلية وجذبة الهية (قال الله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي وصل موسى نهاية قوته وغاية نشأته من ثلاثين إلى أربعين سنة (استوى) أي استحكم عقله واستقام حاله بلغ أربعين سنة وهو سن بعث الأنبياء عليهم السلام غالبا في سنة الله وعادته سبحانه وتعالى (آتَيْناهُ حُكْماً) أي نبوة (وَعِلْماً [يوسف: 22، القصص: 14] ) أي معرفة تامة وأبعد الدلجي في تفسيره الحكم بعلم الحكماء ثم في ترجيحه (وقد نجد) أي نصادف نحن (غيرهم) أي غير الأنبياء من العقلاء والحكماء والأولياء (يطبع على بعض هذه الأخلاق) أي الكريمة المستحسنة (دون جميعها) وفي أصل الدلجي دون بعضها (ويولد عليها) أي يولد بعضهم على تلك الأخلاق (فيسهل عليه(1/237)
اكتساب تمامها) بواسطة تخلقه واتصافه بها (عناية) أي بعناية (مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا نُشَاهِدُ مِنْ خَلْقِهِ بعض الصّبيان) بكسر الخاء المعجمة وسكون اللام (على حسن السّمت) أي الهيئة والطريقة والتحلية بحلية أهل الحقيقة كما روي عن بعض ارباب هذا الشأن أنه لم يكن يرضع في نهار رمضان (أو الشّهامة) بفتح المعجمة أي على الجلادة وذكاء الفطنة (أو صدق اللّسان) أي مع نطق البيان (أو السّماحة) أي الجود والكرم والصبر والحلم وقلة الأكل وكثرة الحياء وكمال الأدب والرضى بما أعطي من المأكل والملبس وغيرهما (وكما نجد بعضهم) أي بعض غير الأنبياء أو بعض الصبيان (على ضدّها) أي في الصغر والكبر؛ (فبالاكتساب يكمل) بضم الميم أي يتم (ناقصها وبالرّياضة والمجاهدة يستجلب معدومها) بصيغة المجهول (ويعتدل منحرفها) أي مائلها لمن وفقه الله تعالى على إكمالها واستقامة أحوالها، (وباختلاف هذين الحالين) أي الجبلي والكسبي (يتفاوت النّاس فيها) أي قلة وكثرة وتحصيلا وتعطيلا، (وكلّ ميسّر) أي معد ومهيأ (لما خلق له) وهو مقتبس من حديث اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة؛ (ولهذا) أي ولتفاوت الناس فيها وفي أكثر النسخ ولهذا (ما) أي وثبت لهذا ما (قد اختلف السّلف فيها) أي في الأخلاق (هل هذا الخلق) أي الحسن أو جنسه (جبلّة أو مكتسبة فحكى الطّبريّ) أي صاحب التفسير والتاريخ (عن بعض السّلف أنّ الخلق الحسن) أي وكذا ضده (جبلّة وغريزة في العبد؛ وحكاه) أي بعض السلف أو الطبري (عن عبد الله بن مسعود) رضي الله تعالى عنه (والحسن) أي البصري (وبه قال هو) أي ابن جرير الطبري؛ (والصواب ما أصّلناه) أي جعلناه أصلا فيما مر أن منها ما هو جبلة غريزية ومنها ما هو كسبية رياضية وكان حق المصنف أن يقول والظاهر أو الصحيح كما في نسخة مكان قوله والصواب مراعاة لما سبق من السلف كما يقتضيه حسن الآداب ثم التحقيق ما قدمناه. (وقد روى سعد) أي ابن أبي وقاص كما في مقدمة كامل بن عدي وفي مصنف ابن أبي شيبة عن أبي أمامة (عن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال كلّ الخلال) بكسر الخاء جمع خلة بالفتح أي الصفات والخصال (يطبع عليها المؤمن إلّا الخيانة) ضد الأمانة (والكذب) أي فلا يطبع عليهما بل قد يواجدن فيه ويعرضان ويحدثان تخلقا وتكسبا (وقال عمر رضي الله عنه) أي ابن الخطاب كما في أكثر النسخ (في حديثه) أي الذي رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وسعيد بن منصور عنه موقوفا (الجرءة) على وزن الجرعة الشجاعة ويقال بفتح الراء وحذف الهمزة كما يقال للمرأة مرة وبفتح الجيم والراء والمد (والجبن) ضدها وهو بضم الجيم وسكون الباء وقد يضم (غرائز) جمع غريزة أي طبائع وقرائح (يضعهما) وفي نسخة يضعها (الله حيث يشاء) أي كما قال تعالى الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ انتهى كلامه رضي الله تعالى عنه. (وهذه الأخلاق(1/238)
المحمودة والخصال الجميلة) وفي نسخة الشريفة بدلها وفي نسخة جميعها (كثيرة ولكنّنا) وفي رواية ولكنا وفي أخرى ولكننا (نذكر أصولها) أي في فصولها (ونشير إلى جميعها) أي باعتبار فروعها (ونحقّق) أي نثبت (وصفه صلى الله تعالى عليه وسلم بها) أي على وجه كمالها (إن شاء الله تعالى) أي إتمام ما قصدنا إليه.
فصل [وأما أَصْلُ فُرُوعِهَا وَعُنْصُرُ يَنَابِيعِهَا وَنُقْطَةُ دَائِرَتِهَا فَالْعَقْلُ]
أي في بيان أصول هذه الأخلاق تصريحا والإشارة إلى جميعها تلويحا وتحقق وصفه صلى الله تعالى عليه وسلم بها توضيحا (أمّا أصل فروعها) أي أفرادها من حيث انبعاثها من العقل الذي هو معدنها (وعنصر ينابيعها) بضم العين والصاد ويفتح أي أصلها الذي كأنها تنبع منه حين ظهورها والعطف تفسير في العبارة وتفنن بالإشارة (ونقطة دائرتها) أي مركزها وقطبها الذي هو مدارها (فالعقل) أي ادراك النفس بإشراق ظهوره وإفاضة نوره كالشمس بالنسبة إلى الأبصار (الذي منه ينبعث العلم) بالكليات (والمعرفة) بالجزئيات (ويتفرّع من هذا) أي من كونه أصلا (ثقوب الرّأي) أي نفوذه وإحكامه (وجودة الفطنة) بفتح الجيم أي حسن الفهم (والإصابة) بالرفع وفي نسخة بالجر والمراد بها إدراك الغرض على وجه الصواب، (وصدق الظّنّ) بالرفع لا غير والمراد موافقته للواقع في الخارج والذهن (والنّظر للعواقب) أي التأمل والتدبر في عواقب الأمور ليتميز محمودها من مذمومها فيكسب المدائح ويجتنب القبائح (ومصالح النّفس) أي لمصالحها ومنافعها ومحاسن عاقبتها مما لها دون ما عليها (ومجاهدة الشّهوة) أي لمدافعتها وفي بعض النسخ بالرفع أي ويتفرع منه مجاهدة النفس بترك الشهوات واللهوات والغفلات وحملها على الطاعات والعبادات (وحسن السّياسة) بالرفع أي سياسة الناس بالعدالة وصدق اللهجة ووقف النهجة (والتّدبير) أي وحسن التدبير لأمورهم معاشا ومعادا (واقتناء الفضائل) بالرفع أي تكسب الشمائل (وتجنّب الرّذائل) ويحصل الكل بمخالفة الشهوة والهوى وموافقة الشريعة والهدى (وقد أشرنا) أي فيما سبق (إلى مكانه) أي محله (منه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لتمكنه من كمال العقل الذي هو أساس العمل بالعدل في جميع مراتب القول والفعل (وبلوغه منه) أي وإلى وصول منه على كمال فصوله في حصوله (ومن العلم) أي وتمكنه من العلم الحاصل المنفرع على العقل الكامل (الغاية) أي بلوغه للغاية القصوى كما في نسخة (الَّتِي لَمْ يَبْلُغْهَا بَشَرٌ سِوَاهُ وَإِذْ جَلَالَةُ محلّه من ذلك) أي من أجل جلالة محله من العقل والعلم (وممّا تفرّع) وفي نسخة ومما يتفرع (منه متحقّق) ويروى متحققه أي ثابت مقطوع به في أمره لا ريب في علو قدره (عند من تتبّع) أي علم بالتتبع وفي نسخة بصيغة المضارع المجرد والأظهر أن يكون بالمضارع المزيد أي يطالع (مجاري أحواله) أي الجارية على سنن الحق ووفق الصدق (واطّراد سيره) جمع سيره أي ويشاهد استمرار شمائله الرضية الظاهرية وفق أحواله البهية الباطنية فإن الظاهر عنوان الباطن(1/239)
والإناء يترشح بما فيه (وطالع) أي علمها بطريق المطالعة (جوامع كلامه) اليسير المبنى والكثير المعنى (وحسن شمائله وبدائع سيره) أي وطالع ورأى في الكتب أخلاقه الحسنة وسيره البديعة وسير سلوكه المنيعة (وحكم حديثه) بكسر الحاء وفتح الكاف جمع حكمه أي أحاديثه المشتملة على الحكم الكاملة الشاملة لإتقان العلم والعمل (وعلمه) أي طالع إحاطة علمه (بما في التّوراة والإنجيل) بكسر الهمزة ويفتح. (والكتب المنزلة) إما مفصلة وإما مجملة مما يحتاج إليه أمر دينه في الجملة (وحكم الحكماء) أي علمه حكمهم ومعرفته حكمتهم (وسير الأمم الخالية) أي الماضية (وأيّامها) أي وقائعها في قصص الأنبياء السالفة (وضرب الأمثال) أي الواقعة في الأقوال والأفعال (وسياسات الأنام) أي أنواع زجر العوام كالأنعام لتحصيل تمام النظام في الليالي والأيام (وتقرير الشّرائع) أي بيان أحكامها أصولا وفروعا (وتأصيل الأداب النّفيسة) أي وتأسيس أبواب الآداب المرغوبة وفي نسخة النفسية والظاهر أنه تصحيف (والشّيم الحميدة) أي الأخلاق والعادات المطلوبة (إلى فنون العلوم) أي منضمة أو منتهية إلى غير ذلك من أنواع المعارف وأصناف العوارف (لتي اتّخذ أهلها كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم فيها قدوة) بتثليث القاف والكسر أشهر ثم الضم أي مقتدى اقتدوا به (وإشاراته حجّة) أي واتخذوا إشاراته بها وبغيرها دلالة بينة واستدلوا بها (كالعبارة) بكسر العين مصدر عبر الرؤيا يعبر بمعنى التعبير والتفسير أي ذكر عاقبتها وآخر أمرها ومثله التأويل أي ذكر مآلها ومرجعها (والطّبّ) بتثليث الطاء والكسر أصح وأفصح مصدر طب أي عالج ووصف الدواء وأزال الداء وصار سبب الشفاء (والحساب) مصدر حسب أي عد وهو علم يعرف به مقادير العدد بنوع الجمع والتفريق (والفرائض) جمع فريضة من الفرض بمعنى التقدير وهو علم يعرف به علم الميراث ومراتب الورثة من أصحاب الفرائض والعصبة وحكم سائر القرابة (والنّسب) بفتحتين من نسب الرجل عزوته إلى أبيه ورجل نسابة أي بليغ العلم بالأنساب وتاؤه للمبالغة كالعلامة (وغير ذلك) أي من علوم شتى ظهرت عليه في متفرقات حالاته (ممّا سنبيّنه في معجزاته) أي في أواخر الباب الرابع في ذكر مُعْجِزَاتِهِ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى دُونَ تَعْلِيمٍ) أي من غير تعليم له من بشر ولا تعلمه من أحد (ولا مدارسة) أي بينه وبين من يدرس غيبا (ولا مطالعة كتب من تقدّم) ليتعلم منها نظرا فيما لا يعلم (ولا الجلوس إلى علمائهم) أي علماء أهل الكتاب ولا عرفاء المشركين في كل باب (بل نبيّ أمّيّ) أي منسوب إلى امه على وصف ما خلق حين تولده من غير قراءة وكتابة ومباشرة شعر وخطابه (لم يعرف) بصيغة المجهول أي لم يشتهر (بشيء من ذلك) أي مما ذكر (حتّى شرح الله صدره) أي وسعه ونوره بالإيمان والمعرفة والعلم والحكمة (وأبان أمره) أي وأظهر قدره بآيات ظاهرة ومعجزات باهرة (وعلّمه) أي ما لم يكن يعلم (وأقرأه) أي ما لم يكن يقرأ ويتعلم كما قال سبحانه وتعالى في مبدأ وحيه اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ، (يعلم ذلك) بصيغة المجهول أي يعرف جميع ما ذكر (بالمطالعة) في دلائل نبوته(1/240)
وشمائل سيرته (والبحث عن حاله) أي التفحص عن أفعاله (ضرورة) أي علما ضروريا قارب أن يكون بديهيا (وبالبرهان) أي يعلم ذلك بالدليل (القاطع) مما قام من الإرهاصات بعد خلقته والمعجزات (على) دعوى (نبوّته نظرا) أي علما نظريا واستدلالا فكريا. (فلا تطوّل بسرد الأقاصيص) أي بإيراد قصص الأنبياء متتابعة مما يفيده بالطريق الضروري (وآحاد القضايا) أي ولا بسردها مجتمعة مما يقتضيه على السبيل الفكري، (إذ مجموعها ما لا يأخذه حصر) يحصيه عددا (ولا يحيط به حفظ جامع) يضبطه علما أبدا، (وبحسب عقله) بفتح الحاء والسين على ما في الأصول المصححة وضبطه الأنطاكي بسكون السين وقال أي بعقله فقط والصواب ما قلنا والمعنى وبمقدار كمال عقله (كانت معارفه عليه الصلاة والسلام) في نهاية لا ترام وغاية لا تسام بل ولا تشام مرتقيا ومعتليا (إلى سائر ما علّمه الله تعالى) أي باقيه (وأطلعه عليه من علم ما يكون) في عالم الشهادة (وما كان) في عالم الغيب من السعادة والشقاوة (وعجائب قدرته وعظيم ملكوته) أي من ظهور قوته ووضوح سلطنته (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
) من تفاصيل الشريعة وآداب الطريقة وأحوال الحقيقة (وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
[النساء: 113] ) حيث أنعم عليك إنعاما جسيما (حارت العقول) أي دهشت وترددت (في تقدير فضله عليه) أي في تقرير علمه لديه وتصوير إحسانه إليه (وخرست الألسن) بكسر الراء أي سكتت وبكمت الألسنة (دون وصف يحيط بذلك) أي عجزت عن أن تنطق بما يحصي مما منّ الله به عليه (أو ينتهي إليه) أي دون نعت ينحصر لديه لأنه مظهر الاسم الأعظم والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل [وأما الحلم]
(وأمّا الحلم والاحتمال والعفو مع المقدرة) بفتح الدال وضمها وحكي كسرها بمعنى القوة وفي نسخة مع القدرة (والصّبر على ما يكره) بصيغة المجهول أي ما تكرهه النفس ويخالفه الهوى (وبين هذه الألقاب) أي الأخلاق والآداب (فرق) أي فارق دقيق به يتميز كل عن الآخر في هذا الباب (فإنّ الحلم حالة توقّر وثبات) أي صفة تورث طلب وقار وثبوت في الأمر واستقرار (عند الأسباب المحرّكات) أي للغضب الباعث على العجلة في العقوبة، (والاحتمال) بالنصب أو الرفع (حبس النّفس) أي تحملها (عند الآلام والمؤديات) أي عند ورد ما يؤلمه ويوجعه من الأمراض ويؤذيه ويتعبه من الأعراض فالآلام من المحن الإلهية والأذى من جهة الحيوانات والآدمية فليس هذا من عطف العام على الخاص كما توهمه الدلجي وفي نسخة المرديات بالراء والدال المهملة أي المهلكات (ومثلها) أي المذكورات (الصّبر) فإنه حبس النفس على ما تكره إلا انه أعم منها فهو كالجنس وكل مما ذكر كالنوع فإن الصبر يكون على العبادة وعن المعصية وفي المصيبة وهو في الله وبالله ومع الله وعن الله:
والصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم(1/241)
أي عنك أو على بعدك (ومعانيها متقاربة) أي وإن كانت حقائق مبانيها متباينة، (وأمّا العفو فهو ترك المؤاخذة) وأصله المحو ثم استعمل في معنى المجاوزة عن مجازاة المعصية وهو مصدر وليس كما قال الدلجي إنه من أبنية المبالغة (وهذا) أي ما ذكر من الأخلاق الكريمة (كلّه) أي جميعه على الحالة المستقيمة (مِمَّا أَدَّبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) كما ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أدبني ربي فأحسن تأديبي (فقال) أي من جملة ما أدبه به سبحانه وتعالى (خُذِ الْعَفْوَ) أي المساهلة والمسامحة (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ [الأعراف: 199] ) أي بالمعروف من حسن المعاشرة (الآية) أي وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ بالمجاملة وحسن المعاملة وترك المقابلة كما قال تعالى وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً أي سلام الموادعة الذي فيه السلامة من المواقعة وقد قيل ليس في القرآن آية اجمع لمكارم الأخلاق منها، (روي) أي كما في تفسير ابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في مكارم الأخلاق وابن أبي الدنيا مرسلا ووصله ابن مردويه (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ) يعني خذ العفو إلى آخرها (سأل جبريل عليه السّلام) قيل جبر وميك اسمان اضيفان إلى إيل أو آل وهما اسمان لله تعالى ومعنى جبر وميك عبد بالسريانية ورده أبو علي الفارسي بأنهما لا يعرفان من أسماء الله سبحانه وتعالى وبأنه لو كان كذلك لم ينصرف آخر الاسم في وجوه العربية وكان آخره مجرورا أبدا كعبد الله قال النووي وهذا الذي قاله هو الصواب انتهى وفي جبريل اربع قراءات وتسع لغات (عن تأويلها) أي تحقيق تفسيرها (فقال له) أي جبريل (حتّى أسأل العالم) أي الحقيقي الذي هذا كلامه ولم يعرف غيره حقيقة مراده ومرامه فصاحب البيت أدرى بما فيه من بيان مبانيه وتبيان معانيه (ثمّ ذهب وأتاه) أي بعد سؤاله إياه (فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وَتَعْفُوَ عمّن ظلمك وقال) أي الله تعالى (له) أي للنبي عليه الصلاة والسلام حكاية عن وصية لقمان لابنه يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ [لقمان: 17] ) أي من أنواع المحن وأصناف الضرر خصوصا من جهة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (الآية) أي أن ذلك من عزم الأمور أي من مفروضاتها وواجباتها التي لا رخصة في إهمالها لأرباب كمالها (وقال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ) أي أصحاب اثبات والحزم (مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35] ) إما بيانية وإما تبعيضية وهو المشهور وعليه الجمهور وهم الخمسة المجتمعة في آية مختصة وهي قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وقدم صلى الله تعالى عليه وسلم لما أنه في الرتبة قد تقدم وقيل هم الصابرون على بلاء الله فنوح صبر على أذى قومه كانوا يضربونه حتى يغشى عليه وإبراهيم صبر على النار وذبح ولده والذبيح على ذبحه ويعقوب على فقد ولده وبصره ويوسف على الجب والسجن والرق وأيوب على الضر وموسى على محن قومه وداود على قضيته وبكائه أربعين سنة على خطيئته وعيسى على(1/242)
زهده وعدم بناء لبنة على لبنة وزكريا على قطع المنشار ويحيى على الذبح وقيل هم المأمورون بالجهاد وقيل من يصيبهم فتنة منهم وقيل هم أهل الشرائع وقيل استثنى من الرسل آدم لقوله تعالى وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ويونس لقوله سبحانه وتعالى وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ (وقال) أي الله له ولأتباعه (وَلْيَعْفُوا) أي ما فرط في حقهم من بعضهم (وَلْيَصْفَحُوا [النور: 22] ) بالأغماض منهم والإعراض عنهم (الآية) أي الا تحبون أن يغفر الله لكم أي لعفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم واعتدى عليكم وفيه التفات يفيد الاهتمام بأمرهم وقد روى البخاري أنه لما نزلت قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه بلى أحب ورجع إلى مسطح نفقته التي قطعها عنه لخوضه مع أهل الإفك وخطأه وصدر الآية وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ في سبيل الله وكان مسطح قريب أبي بكر ومسكينا ومهاجريا وفي الآية دليل على فضل الصديق وسعه علمه بالتحقيق وإذا كان هذا العفو والصفح موصوفا أكابر الأمة بهما فكيف صاحب النبوة لا يكون موصوفا بأعلى مراتبهما (وقال تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ أي على الأذى (وَغَفَرَ) أي ستر ومحا وتجاوز وعفا (إِنَّ ذلِكَ) ما ذكر من الصبر والغفران (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 40] ) أي من أفضل الأمور وأما قول الدلجي أي أن ذلك الصبر والغفران منه لمن عزم الأمور فحذف منه كما حذف في نحو السمن منوان بدرهم أي منه للعلم به فليس في محله إذ هو مستغني عنه في صحة حمله وحله (ولا خفاء) أي عند أهل الصفاء (بما يؤثر) أي فيما يروى (من حلمه) أي صبره مع أحبابه (واحتماله) أي تحمله على أعدائه حتى قال أبو سفيان له ما أحلمك حين قال له يا عم أما آن لك أن تسلم بأبي أنت وأمي، (وأنّ) بفتح الهمزة وفي نسخة بكسرها (كلّ حليم) أي صاحب حلم (قد عرفت منه زلّة) بفتح الزاي أي عثرة وفي الحديث اتقوا زلة العالم وانتظروا فيئته وفي الحديث ما أعز الله بجهل قط ولا أذل الله بعلم قط وقيل ما عز ذو باطل ولو طلع القمر من جبهته (وحفظت عنه هفوة) بالفاء أي معرة بمقتضى ما قيل نعوذ بالله من غضب الحليم مع أن الكامل من عدت مساويه لكنه عصم عند باريه عصمة لا يشاركه أحد فيها ولا يساويه فالكلية عامة شاملة لأصحاب النبوة وأرباب الفتوة ولذا قيل إن الأنبياء كلهم معصومون صغرا وكبرا من الكبيرة والصغيرة فإن مراتب العصمة متفاوتة (وهو صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لثباته في محامد صفاته (لا يزيد مع كثرة الأذى) أي الواصل منهم إليه (إلّا صبرا) أي تحملا عليهم بل إحسانا إليهم (وعلى إسراف الجاهل) أي مجاوزته الحد في التقصير إليه ويروى الجاهلية أي على اسراف أهلها (إلّا حلما) أي تجاوزا وكرما. (حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عليّ التّغلبيّ) بمثناة فوقية مفتوحة وسكون غين معجمة وفتح لام وتكسر نسبة إلى قبيلة وإماما وقع في بعض النسخ من الثاء المثلثة والعين المهملة فتصحيف في المبنى وتحريف في المعنى مات سنة ثمان وخمسمائة (وغيره) أي من المشايخ المشاركين له في هذه الرواية(1/243)
(قالوا حدّثنا محمد بن عتاب) بفتح المهملة وتشديد المثناة الفوقية وآخره باء موحدة (أنبأنا) أي قال أخبرنا (أبو بكر بن واقد) بالفاء المكسورة أو القاف (القاضي وغيره) أي وغير أبي بكر (حدّثنا) أي قال حدثنا (أبو عيسى) أي الليثي واسمه يحيى بن عبيد الله بن أبي عيسى (حدّثنا) أي قالوا حدثنا (عبيد الله) يعني أباه (أنبأنا) أي قال أخبرنا (يحيى بن يحيى) لم يخرج له في الكتب الستة شيء والموطأ مشهور به وموطوؤه أصح الموطآت (أنبأنا) أي قال أخبرنا (مالك) أي ابن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي إمام المذهب قيل تابعي ولم يصح (عن ابن شهاب) أي الزهري (عن عروة) أي ابن الزبير بن العوام من الفقهاء السبعة بالمدينة كان يصوم الدهر ومات وهو صائم (عن عائشة رضي الله تعالى عنها) كما رواه الشيخان وأبو داود أيضا عَنْهَا (قَالَتْ مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) أي ما خيره الناس (في أمرين) أي في اختيار أحدهما (قطّ) أي أبدا (إلّا اختار أيسرهما) أي أهونهما على المخير أو أسهلهما عنده لأنه ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم يسروا ولا تعسروا وأن هذا الدين يسر وقال الله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (ما لم يكن) أي الأيسر (إثما) أي ذا إثم (فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ) أي تنزها واجتنابا فبالأولى أن لا يختاره ولو كان سهلا ففيه تلويح باستحباب الأخذ بالأيسر والأرفق ما لم يكن حراما أو مكروها فإن الله تعالى يحب أن يؤتى رخصه كما يجب أن يؤتى عزائمه وأما قول الدلجي بني خير لمفعوله وحذف فاعله تعويلا على ظاهر القرينة وإيذانا بعمومه إذ كان هو الله أو غيره فالله ما جعل له الخيرة في أمرين جائزين إلا اختار أيسرهما كاختياره حين قال له جبريل إن شئت جعلت عليهم أي على قريش الأخشبين بقاءهم بقوله دعني أنذر قومي رجاء أن يوحدوه أو يخرج من أصلابهم من يوحده فلا يخفى أنه غفلة منه عما في نفس الحديث ما لم يكن إثما إذ من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى أو جبريل عليه الصلاة والسلام لا يخيره بين أمرين يحتمل أن يكون أحدهما إثما ثم رأيت النووي ذكر عن القاضي أنه يحتمل أن يكون تخيره من الله فيخيره فيما فيه عقوبتان أو فيما بينه وبين الكفار من القتال وأخذ الجزية أو في حق أمته في المجاهدة في العبادة والاقتصاد فكان يختار الأيسر في هذا كله قال وأما قوله ما لم يكن إثما فيتصور إذا خيره الكفار أو المنافقون فأما إذا كان التخيير من الله أو من المسلمين فيكون الاستثناء منقطعا انتهى ولا يخفى أن التخيير من المسلمين أيضا يتصور فيما لم يصل إلى بعضهم كونه إثما في الدين، (وما انتقم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لنفسه) أي ما انتصر ولم يعاقب أحدا لأجل خاصة نفسه ما بلغت به الكراهة حدا يورثه انتقاما من أحد على مكروه أتاه من قبله (إلّا أن تنتهك حرمة الله تعالى) بصيغة المجهول أي إلا أن يبالغ احد في خرق حرمة الله التي تتعلق بحقه سبحانه وتعالى أو بحق أحق من خلقه ومن جملته خرق حرمته صلى الله تعالى عليه وسلم على وجه يجب الانتقام من هاتكها والاستثناء منقطع أي لكن إذا انتهكت حرمة الله انتصر لله وانتقم له تعالى(1/244)
بسببها (فينتقم لله) أي لا لحظ نفسه (بها) بسبب حرمة الله ممن ارتكبها والحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود كما أخرجه المصنف عن مالك في موطئه وفي رواية مسلم ما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله أي ما أصيب بأذى من أحد وعاقبه به انتصارا لنفسه لكن إذا بالغ في خرق شيء من محارم الله التي من جملتها حرمته انتصر لله وعاقبه له لا لنفسه فلم يكن انتقامه إلا لله لا لغرض سواه وإن كان فيه موافقة هواه لكن المدار على متابعة هذاه والحاصل أن في الحديث دلالة على كمال حلمه وعفوه وتحمل الأذى وترك الانتقام لنفسه مع مراعاة الله في حقه فهو الجامع بين فضله وعدله تخلقا بأخلاق ربه (وروي أنّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لمّا كسرت) بصيغة المجهول أي انكسرت (رباعيته) على وزن الثمانية بفتح راء وكسر عين وتخفيف ياء تحتية وهي التي بين الثنية والناب وللإنسان ثنايا أربع ورباعيات أربع وأنياب أربعة وأضراس عشرون وقد كسرها عتبة بن أبي وقاص وهو أخو سعد بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فكسرت رباعيته يعني شطبت وذهبت منها فلقة (وشجّ وجهه) بصيغة المفعول شجه عبد الله بن شهاب الزهري كلاهما (يوم أحد شقّ ذلك) أي ما ذكر أو كل واحد منهما (على أصحابه شديدا) وفي نسخة شقا شديدا (وقالوا لو دعوت) أي الله (عليهم) أي بإنزال العقوبة إليهم (فقال إنّي لم أبعث لعّانا) أي صاحب لعن وطرد عن رحمة الله تعالى (ولكنّي بعثت داعيا) أي هاديا إلى الحق (ورحمة) للخلق كما قال تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (اللهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون) أي ولا تؤاخذهم بما يجهلون والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان مرسلا وآخره موصولا وهو في الصحيح حكاية عن نبي ضربه قومه زاد ابن هشام في سيرته أنها ثنيته اليمنى السفلى وجرح شفته السفلى وأن ابن قميئة جرحه في وجنته فدخلت حلقتان من المغفر في وجنته فنزعهما أبو عبيدة ابن الجراح حتى سقت ثنيته قال يعقوب بن عاصم فكان ابن قميئة هلك حتف أنفه أن سلط الله عليه كبشا فنطحه فقتله أو فألقاه من شاهق فمات وأما ابن شهاب فأسلم وأما عتبة ففي تهذيب النووي أن ابن منده عده من الصحابة وأنكره أبو نعيم إذ لم يذكره فيهم أحد قبله فالصحيح أنه لم يسلم قال السهيلي ولم يولد من نسله ولد فبلغ الحلم إلا وهو ابخر أو اهتم فعرف ذلك في عقبه وفي مستدرك الحاكم أنه لما فعل عتبة ما فعل جاء حاطب بن أبي بلتعة فقال يا رسول الله من فعل هذا بك فأشار إلى عتبة فتبعه حاطب حتى قتله فجاء بفرسه إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفي تفسير عبد الرزاق بسنده إلى مقسم قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي وقاص حين كسر رباعيته ودمى وجهه انتهى فإن قلت حديث عبد الرزاق في تفسيره يدل على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم دعا على عتبة حين كسرها وهذا الحديث بظاهره يدل على ضده قلنا لا يلزم من دعائه عليه عدم دعائه على الجميع مع أن النفي قد يوجه لكثرة اللعن لا لأصله فكأنه قال لم أبعث كثير(1/245)
اللعن عليهم إذ قد روى البخاري وغيره اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش اللهم عليك بعمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمارة بن الوليد والتحقيق أنه عليه الصلاة والسلام ما دعا عليهم جملة بل دعا على من علم منهم أنهم لا يؤمنون فقوله عليك بقريش عام أريد به المخصوصون بقرينة المقام والله أعلم بالمرام. (وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه) قال الدلجي لم يعرف (أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ بِأَبِي أَنْتَ وأمّي) أي فديتك بهما وأنت مفدى بهما (يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ [نوح: 26] الآية) أي من الكافرين ديارا كما في نسخة أي أحدا يدور في الأرض فيقال إنه من الدور (ولو دعوت علينا مثلها) أي مثل دعوة نوح (لهلكنا من عند آخرنا) أي إلى عند أولنا فهو كناية عن الاستئصال (فلقد وطىء ظهرك) بصيغة المجهول وهمز في آخره وكذا قوله (وَأُدْمِيَ وَجْهُكَ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُكَ فَأَبَيْتَ أَنْ تَقُولَ إلّا خيرا) وهو الدعاء بالهداية والاعتذار عنهم بالجهالة والغواية (فَقُلْتَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى) أي المصنف (انظر) أي تأمل ايها المعتبر بنظر الفكر والعقل (مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ جِمَاعِ الْفَضْلِ) بكسر الجيم أي ما يجمعه (ودرجات الإحسان) أي بالعقل (وحسن الخلق) أي مع شرار الخلق (وكرم النّفس) أي على عموم الأنام (وغاية الصّبر) أي عن العدو (والحلم) أي التحمل وعدم الجزع المؤدي إلى الدعاء غالبا، (إذ لم يقتصر صلى الله تعالى عليه وسلم على السّكوت عنهم) أي في التحمل منهم (حتّى عفا عنهم) وصفا لهم (ثمّ أشفق) أي خاف (عليهم ورحمهم) أي من غاية الشفقة ونهاية الرحمة (ودعا) أي لهم و (شفع) أي عند ربه (لهم) وهو بفتح الفاء على ما في القاموس شفعه كمنعه فقول المنجاني بكسر الفاء سهو من الكتاب (فقال اغفر) أي استر قومي ووفقهم لما يستحقون المغفرة لأجله (أو اهد) أي اهدهم بالإيمان وأو للشك أو للتنويع، (ثُمَّ أَظْهَرَ سَبَبَ الشَّفَقَةِ، وَالرَّحْمَةِ بِقَوْلِهِ لِقَوْمِي) بإضافتهم إليه، (ثمّ اعتذر عنهم بجهلهم) أي بسبب جهلهم بحاله ومقام كماله (فقال فإنّهم لا يعلمون) وليس المراد بقومه قريش وحدهم كما توهمه الدلجي وقال كل ذلك لكونهم رحمة إذ ما من بيت إلا وله فيه قرابة بل لكونه رحمه للعالمين فالمراد بقومه جميع أمته بدليل حديث الشيخين إِنَّ آلَ أَبِي فُلَانٍ لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ إنما وليي الله وصالح المؤمنين لكن لهم رحم أبلهم ببلالها أي أصلهم بما يظهر أثرها وقد ورد بلوا ارحامكم أي صلوها وكأنه اراد بالبل حفظ أصلها وطراوة فرعها، (ولمّا قال له الرّجل) أي وحين قال له الرجل المنافق وهو ذو الخويصرة حرقوص ابن زهير التميمي قتل في الخوارج يوم النهروان على يد علي كرم الله تعالى وجهه (اعدل فإنّ هذه قسمة) أي قسمة غنائم بدر وقيل كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقسم ذهيبة في ترتبها بعث بها علي رضي الله تعالى عنه من اليمن (ما أريد بها وجه الله لم يرده) بالزاي أي ما زاده (في جوابه أن بيّن له ما جهله ووعظ) عطف علي بين أي ونصح صلى الله(1/246)
تعالى عليه وسلم (نفسه) أي نفس الرجل (وذكّرها) بالتشديد أي وعرفها وأعلمها (بما قال له فقال: ويحك) قيل هو بمعنى ويلك وقيل هو كلمة ترحم يقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها فلجهله رحمه مبينا له ما جهله من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أحرى الخلق بالعدل بقوله (فمن يعدل) بالرفع فإن من استفهامية (إن لم أعدل) شرط حذف جزاؤه لدلالة ما قبله عليه والمعنى أيعدل غيري وأنا أجور كلا (خبت) بكسر الخاء (وخسرت) بكسر السين وضم تاءيهما (إن لم أعدل) أي فرضا وتقديرا إرشادا إلى أن من لم يعدل فقد باء بالخيبة والخسران واشعارا بكمال اتصافه بالعدل بل بزيادة الحلم والعفو والفضل وروي بفتح تاءيهما فالمعنى حرمت كل خير وخسرته في متابعتي إن لم أعدل في قسمتي على فرض قضيتي فكأنه قال خبت أيها التابع إذا كنت لا أعدل لكونك تابعا ومقتديا لمن لا يعدل أو خبت وخسرت إذ لا تستقر في الإسلام بما تقول إن نبيك ممن لا يعدل ومعنى الخيبة الحرمان والخسران الضياع والنقصان وحاصله أنك خبت في الدنيا وخسرت في العقبى إذا اعتقدت أني لم أعدل قال الحافظ المزي والضم أولى لأنه تعليق بعدم العدل الذي هو معصوم منه صلى الله تعالى عليه وسلم وقال النووي الفتح أشهر ولعله أسقط ما وجب له عليه من قتله رعاية لإيمانه الظاهر والله أعلم بالسرائر ولما ورد في بعض طرق هذا الحديث من زيادة قوله عليه الصلاة والسلام ويخرج من ضئضيء هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية (ونهى من أراد من أصحابه) وهو خالد بن الوليد أو عمر وهو عند الأكثر أو كلاهما فتدبر (قتله) بناء على ظهور ارتداره بسبب طعنه في النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بنفي عدله والحديث رواه الشيخان، (ولمّا تصدّى له) أي وحين تعرض له صلى الله تعالى عليه وسلم (غورث بن الحارث) على ما رواه البيهقي وهو بفتح الغين المعجمة ويضم وقيل بالمعجمة والمهملة وقيل مصغر (ليفتك به) بكسر التاء وضمها فتكا بالتثليث أي ليقتله غفلة (ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي والحال أنه (منتبذ) بكسر الموحدة وبالذال المعجمة أي منفرد عن أصحابه (تحت شجرة) أي في ظلها (وحده) حال مؤكدة أي ليس عنده أحد من احبابه (قائلا) اسم فاعل من القيلولة وقت الظهيرة أي مستريحا أو نائما (والنّاس قائلون) أي نازلون للقيلولة (في غزاة) وهي ذات الرقاع في رابع سنة من الهجرة (فلم ينتبه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لم يستيقظ من نومه أو لم يتنبه من غفلته عن عدوه (إلّا وهو) أي غورث (قائم) أي عند رأسه (والسّيف صلتا) بفتح الصاد ويضم أي حال كونه مسلولا أو التقدير صلته صَلْتًا (فِي يَدِهِ فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟
فقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (الله) أي مانعي أو يمنعني؛ (فسقط) أي السيف كما في أصل صحيح (من يده: فأخذه النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وقال) أي لغورث (مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قَالَ كُنْ خَيْرَ آخِذٍ) بالمد أي متصفا بالحلم والعفو والكرم؛ (فتركه وعفا عنه) وكان ذلك سببا لإسلامه؛ (فَجَاءَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خير النّاس) ورواه(1/247)
الشيخان بدون سقوط السيف وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم من يمنعك مني وجواب غورث وروي أنه كان أشجع قومه فقالوا له قد أمكنك محمد فاختار سيفا من سيوفه واشتمل عليه وأقبل حتى قام على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالسيف مشهورا فقال يا محمد من يمنعك مني قال الله فدفع جبريل في صدره ووقع السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم وقام به على رأسه وقال من يمنعك مني اليوم فقال لا أحد ثم قال أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ محمدا رسول الله ثم أقبل فقال والله لأنت خير مني فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنا أحق بذلك منك. (ومن عظيم خبره) أي حديثه صلى الله تعالى عليه وسلم (في العفو) أي في جنس عفوه (عفوه عن اليهوديّة التي سمّته) أي جعلت له السم (في الشّاة بعد اعترافها على الصّحيح) متعلق بعفوه (من الرّواية) أي بعد اعترافها على ما رواه الشيخان وكان ينبغي للمؤلف أن يقدم قوله على الصحيح من الرواية على قوله بعد اعترافها وهي زينب بنت الحارث بن سلام بتشديد اللام كما ذكره البيهقي في الدلائل وموسى بن عتبة في المغازي وقال ابن قيم الجوزية هي امرأة سلام بن مشكم وقال ابو داود هي اخت مرحب وفي رواية أبي داود أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قتلها وفي شرف المصطفى قتلها وصلبها وروى ابن إسحاق أنه صفح عنها وجمع بأنه عفا عنها لحق نفسه إذ كان لا ينتصر لها ثم قتلها قصاصا بمن مات من أصحابه بأكله منها كبشر بن البراء إذ لم يزل معللا به حتى مات بعد سنة ويقال إنه مات في الحال لكن فيه اشكال لما جاء في رواية أنها أسلمت ففي جامع معمر عن الزهري أنه قال أسلمت فتركها قال معمر والناس يقولون قتلها وأنها لم تسلم والله أعلم بالأحوال وبالصحيح من الأقوال؛ (وإنّه) بالكسر والأظهر أنه بالفتح والتقدير ومن عظيم خبره في العفو أنه (لم يؤاخذ لبيد بن الأعصم) وقد هلك على التهود وقد حكى القاضي خلافا في مؤاخذته عليه الصلاة والسلام لبيدا وسيجيء في إحياء الموتى ولعله أشار إلى صحة عدم المؤاخذة (إذ سحره) أي حين سحره (وقد أعلم به) بصيغة المجهول أي أوحى الله إليه أو جاءه جبريل وأخبره بأنه سحره (وأوحي إليه بشرح أمره) أي ببيان حاله كما رواه أحمد والنسائي والبيهقي في دلائله سحر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رجل من اليهود فاشتكى لذلك فجاء جبريل فقال إن رجلا من اليهود سحرك عقد لك عقدا في بئر كذا فبعث عليا فجاء بها فحلها فكأنما نشط من عقال فما ذكر ذلك لليهودي ولا أظهره في وجهه حتى مات، (ولا عتب عليه) أي أعرض عن معاتبته (فضلا عن معاقبته) وكان السحر أخذه عن النساء وهي امرأته زينب اليهودية وبناته منها قيل قال تعالى وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ ولم يقل النفاثين تغليبا لفعل النساء أو المراد النفوس النفاثات قال الدلجي والسحر مزاولة نفوس خبيثة أقوالا وأفعالا يترتب عليها أمور خارقة للعادة وتعلمه للعمل به حرام وفعله كبيرة واعتقاد حله كفر ولتأثيره زيادة بيان تأتي في محل تقريره ومكان تحريره وقال الإمام الرازي استحداث الخوارق إن كان لمجرد النفس فهو(1/248)
السحر وإن كان على سبيل الاستعانة بالخواص السفلية فهو علم الخواص وإن كان على سبيل الاستعانة بالفلكيات فذلك دعوة الكواكب وأن كان على سبيل تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية فذلك الطلسمات وإن كان على سبيل النسب الرياضية فذلك الحيل الهندسية وإن كان على سبيل الاستعانة بالأرواح الساذجة فذلك العزيمة انتهى وقال غيره السحر اسم يقع على أنواع مختلفة وهي السيميا والهيميا وخواص الحقائق من الحيوان وغيرها والطلسمات والأوفاق والرقى والاستخدامات والعزائم (وكذلك لم يؤاخذ) على ما رآه الشيخان (عبد الله بن أبيّ) أي ابن سلول بفتح السين المهملة وهي أمه فلا بد من تنوين أبي وكتابة ألف بعدها ورفع ابن لأن سلول أم عبد الله وزوجة أبي فلو لم يفعل ذلك لتوهم أن سلول أم أبي وليس كذلك وسلول غير مصروف للعلمية والتأنيث وقيل منصرف وقيل الصواب أن يكتب ابن بالألف لأن علة الحذف وقوعه بين علمين مذكرين أو مؤنثين فلو اختلفا لم يحذف وهو رئيس أهل النفاق وهو القائل:
متى ما يكن مولاك خصمك لم تزل ... تذل ويصرعك الذين تصارع
وهل ينهض البازي بغير جناحه ... وإن جذ يوما ريشه فهو واقع
وابنه عبد الله بن عبد الله من فضلاء الصحابة (وأشباهه) أي وكذا لم يؤاخذ أمثاله (من المنافقين) قال ابن عباس كان المنافقون من الرجال ثلاثمائة ومن النساء مائة وسبعين (بعظيم ما نقل عنهم) وفي نسخة منهم (في جهته) أي من الجرائم (قولا وفعلا) كقوله تعالى حكاية عن ابن أبي يقولون لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأذل أراد بالأعز نفسه وبالأذل أعز خلق الله سبحانه وتعالى (بل قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على المريسيع ماء لبني المصطلق (لمن أشار) أي من أصحابه (بقتل بعضهم) أي بعض المنافقين بعد أن بلغه وقد هزم بني المصطلق قول ابن أبي وقد لطم حليفا له جعال رجل من فقراء المهاجرين مساعدة لأجير لعمر ما صحبنا محمدا إلا لنلطم والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قيل سمن كلبك يأكلك أما والله إن رجعنا الآية ثم قال لقومه والله إن أمسكتم عن جعال وذويه فضل طعامكم لم يركبوا رقابكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فقال زيد بن أرقم أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد في عز من الرحمن وقوة من المسلمين ثم أخبره به الله فقال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنقه فقال إذن ترغاد له أنوف كثيرة فقال عمر إن كرهت أن يقتله رجل من المهاجرين فمر سعد بن عبادة أو محمد بن مسلمة أو عبادة بن الصامت فليقتلوه فقال (لا، لئلا يتحدّث) بصيغة المجهول ويروى لا يتحدث الناس وهو نفي معناه نهي وقال الدلجي لا آذن لك يتحدث وفي رواية فكيف إذا تحدث الناس (أنّ محمّدا يقتل أصحابه) قيل هذا في حكم العلة لترك قتله مع رعاية إسلامه الظاهري وإنكاره هذا القول في أخباره ولعل حكمة العلة أنه يكون تنفيرا عن دخول الأنام في(1/249)
الإسلام ولذا ورد يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا ولذا كان يتألف الكفار المصرحين لكونه رحمة للعالمين وفي هذا دليل على ترك بعض الأمور التي يجب تغييرها مخافة أن يترتب عليها مفسدة أكبر منها (وعن أنس رضي الله عنه) كما رواه الشيخان (كنت مع النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وعليه برد) أي شملة مخططة أو كساء أسود مربع (غليظ الحاشية فجبذه) أي فجذبه كما في نسخة والأول لغة في معنى الثاني أو مقلوبة في حروف المباني والمعنى فجره (أعرابيّ) مجهول لم يعرف اسمه (بردائه جبذة شديدة) أي دفعه عنيفة (حَتَّى أَثَّرَتْ حَاشِيَةُ الْبُرْدِ فِي صَفْحَةِ عَاتِقِهِ) أي جانب ما بين كتفه ومنكبه ولم يتأثر هو صلى الله تعالى عليه وسلم من سوء أدبه، (ثمّ قال) أي الأعرابي على عادة أجلاف العرب (يا محمّد أحمل لي) بفتح الهمزة أي أعطني ما احمل لي وأغرب التلمساني حيث قال المعنى أعني على الحمل وفي نسخة أحملني والظاهر أنه تصحيف في المبنى لأنه تحريف في المعنى (عَلَى بَعِيرِيَّ هَذَيْنِ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عندك) زاد البيهقي (فإنّك لا تحمل لي) وفي نسخة لا تحملني وفيه ما سبق إلا أن يقال معناه أعطني على التجريد وفي أصل التلمساني لا تحمله (من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حلما وكرما (ثُمَّ قَالَ الْمَالُ مَالُ اللَّهِ وَأَنَا عَبْدُهُ، ثمّ قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (ويقاد منك) فعل مجهول من القود أي يقتص منك ويفعل بك (يا أعرابيّ ما فعلت بي) أي مثل فعلك معي من جذب ثوبي (قال لا) أي لا يقاد مني (قال لم) أي لأي شيء (قال لأنّك لا تكافىء) بالهمز أي لا تجازي (بالسّيئة السّيّئة) بل تجازي بالسيئة الحسنة (فضحك النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي تعجبا (ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر) ويروى على بعير تمر وقيل إذا أحب الله عبدا سلط عليه من يؤذيه، (وعن) وفي أكثر النسخ قالت (عائشة رضي الله تعالى عنها) ، كما في الصحيحين (ما رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منتصرا من مظلمة) بكسر اللام وتفتح أي ما يطلب عند الظلم وأما قول المنجاني وبفتح الميم الثانية وكسرها فلا وجه له (ظلمها) بصيغة المجهول (قطّ) أي أبدا (ما لم تكن) أي المظلمة (حرمة من محارم الله) أي متعلقة بحقوق الخلق أو الحق خارجة عن خاصة نفسه وحرماته فرائضه أو ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه (وما ضرب بيده شيئا قطّ) واحترزت بقولها بيده عن ضرب غيره بأمره تأديبا أو تعزيرا أو حدا وهذا كله من باب الكرم والرحم على العامة والخاصة (إلّا أن يجاهد في سبيل الله) أي فإنه كان يضرب بيده مبالغة في مقام جده واجتهاده في جهاده ثم ما ضرب أحدا من أعدائه إلا كان حتف أنفه وعذابا له في آخر أمره بدليل قول أبي بن خلف وقد خدشه يوم أحد في عنقه فجزع جزعا شديدا بألم شديد فقيل له ما هذا الجزع فقال والله لو بصق محمد علي لقتلني (وما ضرب خادما ولا امرأة،) تخصيص بعد تعميم ودفع لتوهم أن النفي الأول متعلق بمن كان خارجا عن أهله وإشعارا بأن التحمل منهما أشد ثم فيه جواز ضرب المرأة والخادم للأدب إذ لو لم يكن مباحا لم يتمدح بالتنزه عنه(1/250)
(وجيء إليه برجل) على ما روى أحمد والطبراني بسند صحيح (فقيل هذا أراد أن يقتلك) أي فحصل للرجل روع في روعه وفزع في روحه (فقال له النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لن تراع) بضم أي لن تفزع بمكروه (لن تراع) كرره تأكيدا والمعنى لا تخف لا تخف قال التلمساني وتضع العرب لن بمعنى لا كما ههنا (ولو أردت ذلك) أي قتلي (لم تسلّط عليّ) بصيغة المجهول إعلاما منه بأن قتله محال لقوله تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (وجاءه زيد بن سعنة) بفتح سين فسكون عين مهملتين فنون وهو الأصح على ما ذكره الذهبي في تجريده والنووي في تهذيبه وفي رواية بتحتية بدل النون (قبل إسلامه) وهو يهودي (يتقاضاه) أي حال كونه طالبا (دينا) أي قضاء دين له (عليه) صلى الله تعالى عليه وسلم (فجبذ ثوبه) أي جذب رداءه وأزاله وأبعده (عن منكبه) بكسر الكاف (وأخذ بمجامع ثيابه) جمع مجمع وهي أطرافه وحواشيه أو إزاره كله ويقال له التلبب (وأغلظ له) أي في القول بخصوصه (ثمّ قال) قصدا لعموم قومه (إنّكم يا بني عبد المطّلب مطل) بضمتين ويسكن الثاني جمع مطول كفعول بمعنى فاعل أي مدافعون في وعدكم (فانتهره عمر) أي زجره (وَشَدَّدَ لَهُ فِي الْقَوْلِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم يتبسّم) حال مبينة لكمال حلمه وحسن خلقه وجميل عفوه (فقال رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَهُوَ كُنَّا إِلَى غَيْرِ هذا) أي الذي صدر (منك) أي من الزجر الأكيد والقول الشديد (أحوج) أي أكثر احتياجا (يا عمر) فكان الأولى بك أنك (تأمرني بحسن القضاء) أي الأداء لدينه (وتأمره بحسن التّقاضي) أي المطالبة لحقه، (ثمّ قال لقد بقي من أجله) أي من أجل دينه لا عمره (ثلاث) أي ثلاثة أيام وحذف تاؤه لحذف مميزه الذي هو أيام كما في حديث من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنه صام الدهر كله، (وأمر) أي النبي عليه الصلاة والسلام (عمر يقضيه ماله) أي ماله من الحق (ويزيده عشرين صاعا لما روّعه) بتشديد الواو أي لأجل ما خوفه عمر زجرا فيجازيه برا (فكان) أي فصار ذلك (سبب إسلامه) والحديث رواه البيهقي مفصلا ووصله ابن حبان والطبراني وأبو نعيم بسند صحيح، (وذلك) أي كونه سبب إسلامه (أنّه كان يقول) كما روى عنه عبد الله بن سلام (مَا بَقِيَ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إِلَّا وقد عرفتها في محمّد) وفي رواية في وجه محمد (إلّا اثنتين لم أخبرهما) بفتح الهمزة وضم الموحدة أي لم أخبر بهما فلم أعرفهما ويروى لم أجدها أي لم أتحققهما (يسبق حلمه جهله) أي جهل الذي يفعل به، (ولا تزيده شدّة الجهل) أي عليه (من أحد إلا حلما) بل لطفا وكرما، (فاختبره) أي امتحنه (هو بهذا) أي الذي صدر منه في حقه قولا وفعلا (فوجده) ويروى فاختبرته بهذا فوجدته (كما وصف) بصيغة المجهول أي نعت في كتب الأولين في صفة المرسلين وكان أعلم من أسلم من أحبار اليهود وأجلهم وأكثرهم ما لا شهد مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مشاهد كثيرة وتوفي راجعا من غزوة تبوك إلى المدينة، (والحديث) الأحاديث الواردة المخبرة (عن حلمه صلى الله تعالى عليه وسلم وصبره وعفوه عند المقدرة) بفتح الدال وضمها وحكي كسرها بمعنى القدرة وهو احتراز عن توهم(1/251)
كون عفوه عن معجزة (أكثر من أن تأتي عليه صلى الله تعالى عليه) أن نذكر كله أو معظمه، (وحسبك) أي كافيك ومغنيك (ما ذكرناه ممّا في الصّحيح) أي في الكتب الصحيحة (والمصنّفات الثّابتة) أي ولو لم تكن من الصحاح الستة أو ولو لم تكن صحيحة بل ثابتة حسنة فإنها حجة بينة (إلى ما بلغ) أي منضمة إلى ما وصل مجموعه (متواترا) أي في المعنى (مبلغ اليقين) أي مبلغا يحصل به اليقين للمؤمنين في أمر الدين (من صبره) بيان لما أي من تحمله (على مقاساة قريش) أي مكايدتهم ومعارضتهم ومخالفتهم (وأذى الجاهليّة) أي وتأذيه من أهل جاهليتهم وسفلتهم (ومصابرة الشّدائد) أي مبالغة المحن وفي نسخة ومصابرة الشدائد (الصّعبة) أي الشاقة (معهم) أي مع أعدائه (إلى أن أظفره الله عليهم) بنصره وأظهره كما في نسخة (وحكّمه فيهم) بتشديد الكاف أي جعله حاكما عليهم متصرفا في أمرهم (وهم لا يشكّون) أي لا يترددون بناء على زعمهم وقياسه على أنفسهم (في استئصال شأفتهم) بفتح شين معجمة فسكون همزة ففاء فتاء أي جمعهم وقطع أثرهم وهي في الأصل قرحة تخرج للإنسان في أسفل القدم فتكوى فتذهب فهم يقولون في المثل استأصل الله شأفته أي أذهبه كما أذهبها وروي في استئصاله بالإضافة ونصب شأفتهم التي في استهلاكه دابرهم من أصلهم وفصلهم (وإبادة خضرائهم) بفتح خاء وسكون ضاد معجمتين بعدهما راء فألف ممدودة أي إهلاك جماعتهم وتفريق جمعهم فالإبادة بكسر الهمزة مصدر أباده الله أي أهلكه وخضراؤهم سوادهم ومعظمهم والمعنى لا يشكون في هلاكهم وذهابهم وفنائهم (فما زاد على أن عفا) أي تجاوز عن أفعالهم (وصفح) أي وأعرض عن أقوالهم، (وقال) أي لهم تلويحا بلطفه إليهم وشفقته عليهم واستخراجا لما في ضمائرهم واستظهارا لما في سرائرهم (ما تقولون) أي فيما بينكم أو ما تظنون بي (إنّي فاعل بكم) أي بعد ما ظفرت عليكم (قالوا خيرا) أي نقول قولا خيرا أو نظن ظنا خيرا أو نفعل خيرا، (أخ كريم) أي هو أو أنت وهو في معنى العلة أي لأنك أخ كريم (وابن أخ كريم) أي فلا يجيء من مثلك إلا ما يوجب الكرم والعفو عمن ظلم، (فقال أقول) أي في جواب قولكم (كما قال أخي يوسف) أي لإخوته فأنا مقتد بالأنبياء العقلاء لا بالأغبياء الجهلاء (لا تَثْرِيبَ) لا تعيير ولا توبيخ ولا تعييب (عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف: 92] ) أي هذا الوقت الذي ظهر فضلي لديكم أولا أذكر لكم الذنب في هذا اليوم الذي محله التثريب فما ظنكم بغيره من الزمان البعيد أو الغريب وأما ما جوزه التلمساني من الوقف على عليكم وجعل اليوم ظرفا لما بعده ففي غاية من البعد مبنى ومعنى (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ) أي ما فرط منكم وظهر عنكم (الآية) أي وهو أرحم الراحمين وإنما رحمتي أثر من آثار رحمته كما قال تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وكما في الحديث الشريف أنا رحمة مهداة أي رحمة لكم ومهداة إليكم. (اذهبوا فأنتم الطّلقاء) بضم ففتح ممدودا جمع طليق بمعنى مطلوق وهو الأسير يخلى عن سبيله أي الخلصاء من قيد الأسر فإنهم كانوا حينئذ اسراء وقد قال ذلك يوم فتح مكة آخذا بعضادتي باب الكعبة على ما رواه ابن سعد(1/252)
والنسائي وابن زنجويه وجاء نوفل بن معاوية إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال يا رسول الله أنت أولى الناس بالعفو ومن منا من لم يعادك ويؤذك ونحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ ولا ما ندع حتى هدانا الله بك وأنقذنا بوجودك من الهلكة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد عفوت عنك فقال فداؤك أبي وأمي وقد روى سفيان عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم أنه قال الطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف أي أهل الطائف كما رواه ابن سيرين قال التلمساني وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما فتح مكة طاف بالبيت وصلى ركعتين ثم أتى الكعبة وفيها رؤساء قريش فأخذ بعضادتي الباب وقال ماذا ترون أني صانع بكم فقالوا أخ كريم وابن أخ كريم ملكت فاسمح فقال أني أقول لكم كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ الآية وقال أنتم الطلقاء ولكم أموالكم قال فخرجوا كأنما نشروا من القبور فدخلوا في الإسلام (وقال أنس) كما رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي (هبط ثمانون رجلا من التّنعيم) وهو أقرب أطراف مكة إليها وهو على ثلاثة أميال منها وقيل أربعة وهو من جهة المدينة والشام سمي بذلك لأنه عن يمينه جبل يقال له نعيم وعن شماله جبل يقال له ناعم والوادي نعمان بفتح النون (صلاة الصّبح) أي نزلوا وقت صلاة الفجر (ليقتلوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بغتة وغفلة (فأخذوا) بصيغة المجهول (فأعتقهم رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ [الفتح: 24] ) أي كفار مكة (عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ الآية) وهي ببطن مكة أي داخلها أو قريبا منها من بعد أن أظفركم عليهم أي أظفركم وغلبكم فهزمهم وأدخلهم بطنها وقد ذكر المفسرون أن سبب نزولها عام الحديبية أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية فبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خالد بن الوليد في جماعة فهزمهم حتى أدخلهم بطن مكة أو كان يوم فتح مكة وبه أخذ أبو حنيفة أن مكة فتحت عنوة ولا ينافيه ما ذكر من أن السورة نزلت قبله إذ هي من جملة المعجزات والأخبار عن المغيبات قبل وقوعها (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (لأبي سفيان) أي ابن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف شهد مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حنينا وأعطاه من غنائمها مائة وأربعين أوقية وزنها له بلال كان شيخ مكة ورئيس قريش بعد أبي جهل أسلم يوم الفتح ونزل المدينة سنة إحدى وثلاثين ودفن في البقيع (وقد سيق إليه) أي جيء به إليه والجملة معترضة بين القول ومقوله مبينة لحال صاحبها والمعنى به العباس ليلا مردفا له على بغلته إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وهو متوجه لفتح مكة (بعد أن جلب) أي ساق (إليه الأحزاب) وهي جموع مجتمعة للحرب من قبائل متفرقة والمعنى بعد كثرة قبائحه وجملة فضائحه منها أنه جمع أحزاب كفار مكة وغيرهم وأتى أهل المدينة على عزم قتلهم ونهبهم وهم أهل الخندق وكانوا ثلاثة عساكر وعدتهم عشرة آلاف قال ابن إسحاق وكانت في شوال سنة خمس وكان الحصار أربعين يوما (وقتل عمّه) أي وتسبب بقتل عمه حمزة إذ قتله(1/253)
وحشي وهو من جملة عسكره ثم أسلم (وأصحابه) أي وقتل سائر أصحابه مجازا قيل هم سبعون وقيل سبعون من الأنصار خاصة وقيل مجموع القتلى سبعون أربعة من المهاجرين حمزة ومصعب بن عمير وشماس بن عثمان المخزومي وعبد الله بن جحش الأسدي وباقيهم من الأنصار (ومثّل بهم) بتشديد المثلثة أي أمر أن يفعل بهم المثلثة أو تسبب بها على وجه المبالغة من قطع أنف وأذن ومذاكير وسائر أطرافهم والممثلة بحمزة زوجته هند بنت عتبة لقتل حمزة أباها في بدر وفي صحيح البخاري عن أبي سفيان وستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسوؤني قيل والذي فعل المثلة هند ومن معها من النسوة وقال البغوي في تفسيره لم يبق أحد من قتلى أحد إلا مثل به غير حنظلة بن راهب فإن ابا عامر الراهب كان مع أبي سفيان فتركوا حنظلة لذلك (فعفا عنه) أي مع هذا كله وجميع ما صدر عنه من الفعل (ولاطفه في القول) أي بالغ في اللطف والرفق معه حيث قال له (ويحك يا أبا سفيان) أي ترحما له وتوجعا عليه إذ لم يؤمن به بعد ولم يسلم على يديه قيل ويح كلمة ترحم لمن وقع في هلكة لا يستحقها وقيل ويح باب رحمة وويل باب هلكة وويس استصغار (ألم يأن) من أنى يأنى أي جاء أناه أي ألم يقرب الوقت (لك أن تعلم) أي علما يقينا (وتشهد أن لا إله إلّا الله) أي توحده حق توحيده الموجب للعلم بحقية رسوله (فقال) أي أبو سفيان متعجبا من سعة حلمه وكثرة صلته وقوة كرمه (بأبي أنت وأمّي) أي افديك بهما (ما أحلمك) صيغة تعجب من الحلم وفي بعض النسخ ما أجملك من الجمال فيكون بمعنى التجمل كما أن الأول بمعنى التحمل (وأوصلك) أي ما أكثر رحمك على رحمك وما أكثر عطاءك لأعدائك (وأكرمك) أي ما أكثر كرمك على من اساء إليك وخالف عليك وأبعد الدلجي في قوله وأكرمك عند ربك حيث لا يلائم المقام كما لا يخفى على ذوي المرام (وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبعد النّاس غضبا) أي عليهم (وأسرعهم رضى) أي لطفا إليهم (صلى الله تعالى عليه وسلّم) قال التلمساني وفي الحديث جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم وهذا آخره والله أعلم ومما يناسب الباب ما ذكر التلمساني في شرح الكتاب أنه قيل لا يكمل الإنسان حتى يقبل الاعتذار ويعفو عند الاقتدار ويكون الاظهار منه مثل الإضمار وسأل معاوية صعصعة ابن صوحان فقال صف لي الناس فقال خلق الله الناس أصنافا فطائفة للعبادة وطائفة للتجارة وطائفة للخطابة وطائفة للنجدة وطائفة فيما بين ذلك يكدرون الماء ويجلبون الغلاء ويضيقون الطريق في البناء والصحراء.
فصل [وأما الجود]
(وأمّا الجود والكرم والسّخاء والسّماحة ومعانيها متقاربة) أي في إطلاقات المحاورة (وقد فرّق بعضهم) بتخفيف الراء وتشدد وقيل فرق بالتخفيف في المعاني وبالتشديد في الأجسام ويجوز استعمال كل مكان الآخر تجوزا أي فصل وميز جمع (بينها) أي بين معاني(1/254)
الألفاظ المتقدمة (بفروق) أي دقيقة (فجعلوا) أي هؤلاء البعض (الكرم الإنفاق بطيب النّفس) أي بنشاطها وانبساطها (فيما يعظم) بضم الظاء أي يجل (خطره) بفتحتين ويسكن الثاني أي قدره (ونفعه) أي يكثر الانتفاع به فلا يطلق على ما يحقر قدره ويقل نفعه (وسمّوه) أي الكرام (أيضا حرية) أي من رق العبودية للأمور العارضية ولذا ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم وفي بعض النسخ جرءة بضم جيم وسكون راء فهمزة ولعل وجهه تلازم السخاوة والشجاعة فإن أحدهما بذل الروح والآخر بذل المال والأول أقوى كما لا يخفى على أرباب الكمال قال التلمساني وحقيقة الحرية كمال العبودية وقيل هي أن لا يكون العبد تحت رق المخلوقات ولا يجري عليه سلطان المكونات وعلامة صحته سقوط التمييز عن قلبه بين الأشياء فيتساوى عنده أخطار الأعراض (وهو ضدّ النّذالة) بفتح نون فذال معجمة أي الرذالة والسفالة وما أحسن هذه المقالة:
أتمنى على الزمان محالا ... أن ترى مقلتاي طلعة حر
وهو من لم يستعبده هواه ولم تسترقه دنياه والأظهر أن يقال الكرم إنما هو عطاء ابتداء من غير ملاحظة عوض وغرض انتهاء (والسّماحة التّجافي) بنصبهما عطفا على مفعولي جعلوا ويجوز رفعهما أي والسماحة هي التباعد والتنحي (عمّا يستحقّه المرء عند غيره) أي من أداء عين أو قضاء دين (بطيب نفس) أي بلطافة نفاسته، (وهو ضدّ الشّكاسة) بفتح الشين المعجمة وإهمال ما بعد الألف أي صعوبة الخلق والمضايقة وفي التنزيل متشاكسون أي مختلفون متعسرون هذا وفيه أن بعض الأحاديث يدل على أن المراد بالسماحة السخاوة الخاصة وهي المساهلة في المعاملة كما ورد رحم الله من سمح في البيع والشراء والقضاء والاقتضاء وفي حديث السماح رباح، (والسّخاء سهولة الإنفاق) أي على الأقارب والأجانب والفقير والغنى وسائر المراتب (وتجنّب اكتساب ما لا يحمد) بصيغة المجهول أي تبعد اقتناء ما لا يمدح من البخل وارتكاب الذم الموجب لترك مدحه في الأغلب الأعم (وهو الجود) أي مرادفه من غير اعتبار مخالفة وقيل الجود اعطاء الموجود وانتظار المفقود والاعتماد على المعبود وقيل الجود هو بذل المجهود ونفي الوجود وقد يقال من أعطى البعض فهو سخي ومن بذل الأكثر فهو جواد ومن أعطى الكل فهو كريم وقيل السخاء الإنفاق من الإقتار ومنه.
ليس العطاء من الفضول سماحة ... حتى تجود وما لديك قليل
(وهو) أي السخاء الذي بمعنى الجود (ضدّ التّقتير) أي التضييق في الإنفاق والإمساك وهو نقيض الإسراف في الانفاق والظاهر أنه حال اعتدال بين البخل والاسراف فانظر فيه بعين الإنصاف ولا تدخل في حد الاعتساف هذا ولم يظهر وجه عدول المصنف عن النشر المرتب إلى خلافه فيما ارتكب، (فكان صلى الله تعالى عليه وسلم لا يوازى) بصيغة المفعول مهموزا ومسهلا من آزيته وأجاز بعضهم وأزيته أي لا يقاوم ولا يقابل ولا يماثل به أحد (في هذه(1/255)
الأخلاق الكريمة ولا يبارى) بصيغة المجهول وهو بالباء الموحدة والراء أي لا يعارض في هذه الشمائل الحميدة والفضائل العديدة وغيرها من الأحوال السعيدة كما أشار إلى هذه الزبدة صاحب البردة بقوله:
فاق النبيين في خلق وفي خلق ... ولم يدانوه في علم ولا كرم
(بهذا) أي بما ذكر وأمثاله، (وصفه) أي نعته (كلّ من عرفه) أي معرفة مشاهدة ومعاينة أو معرفة شهرة ومطالعة سيرة كما يدل عليه الحديث الذي رواه بسنده عن البخاري وقد رواه أيضا غيره ( [حَدَّثَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ الصَّدَفِيُّ رَحِمَهُ الله) بفتحتين وهو الحافظ ابن سكرة (حدّثنا القاضي أبو الوليد الباجيّ) بالموحدة والجيم (حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْهَيْثَمِ) بفتح هاء وسكون تحتية فمثلثة (الكشميهنيّ) بضم فسكون شين معجمة وفتح ميم وتكسر وسكون ياء ففتح هاء (وأبو محمّد) واسمه عبد الله بن أحمد بن حمويه (السّرخسيّ) بفتح راء وسكون خاء وقيل بالعكس وضبطه التلمساني بكسر السين الأولى والمشهور هو الفتح (وأبو إسحاق البلخيّ) وهو المشهور بالمستملي (قالوا) أي المشايخ الثلاثة (حدّثنا أبو عبد الله الفربريّ) بكسر فاء وفتح راء وسكون موحدة وقال المصنف يجوز فتح الراء وكسرها قال الحازمي والفتح أفصح قيل ولم يذكر ابن ماكولا غيره (حدّثنا البخاريّ) أي إمام المحدثين (حدّثنا محمّد بن كثير) بالثاء المثلثة العبدي البصري (حدّثنا سفيان) المراد به الثوري ههنا نعم رواه ابن عيينة (عن ابن المنكدر) عن جابر لكن انفرد به مسلم عن ابن المنكدر تابعي جليل (سمعت جابر بن عبد الله) أي الأنصاري رضي الله تعالى عنهما (يقول) أي كما رواه البخاري في الأدب عنه ومسلم في فضائله صلى الله تعالى عليه وسلم والترمذي في شمائله (ما سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن شيء) أي عن شيء كما في أصل التلمساني والمراد شيئا من باب العطاء (فقال لا) أي لا أعطي والمعنى ما سأله أحد من متاع الدنيا شيئا فمنعه بل كان يعطي أو يعده بالعطاء لقوله تعالى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً فلا ينافيه قوله تعالى حكاية عنه صلى الله تعالى عليه وسلم قلت لا أجد ما أحملكم عليه أي الآن وأرجو في مستقبل الزمان وروي في كتاب أخيار الخلفاء في أخبار الظرفاء عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال للزبير إن مفاتيح الرزق مقرونة بباب العرش ينزل الله تعالى أرزاق العباد على قدر نفقاتهم فمن كثر كثر عليه ومن قلل قلل له انتهى ويؤيده قوله تعالى وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وحديث اللهم أعط منفقا خلفا وممسكا تلفا هذا وقد قال بعض أرباب الكمال.
ما قال لا قطّ إلا في تشهده ... ولا نعم قط إلا جاءت النعم
وقال آخر:
فلو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله(1/256)
(وعن أنس رضي الله عنه وسهل بن سعد رضي الله عنهما) هو الساعدي الأنصاري (مثله) أي نحوه في المبنى والمعنى. (وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما) كما روى عنه الشيخان (كان النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أجود النّاس بالخير) أي بكل ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم وقد سقط لفظ بالخير من أصل الدلجي فقدر بكل ما ينفع وقرر أنه حذف للتعميم أو لفوات أحصائه كثرة (وأجود ما كان) بالنصب عطفا على ما قبله وما مصدرية أي وكان أجود أكوانه باعتبار اختلاف أزمانه حاصلا (في شهر رمضان) فهو حال سد مسد الخبر وهذا لأنه منبع النعم ومعدن الخير والكرم وفيه يسبغ الله نعمه على عباده فتخلق بأخلاق الله في أهل بلاده وقال النووي يجوز في أجود الرفع والنصب والرفع أصح وأشهر وفيه نظر إذ جاء في الصحيح خلافه بالتصريح وكان أجود ما يكون ثم وجه الرفع أنه مبتدأ وفي شهر رمضان خبر وأما القول بضمير الشأن في كان فلا محوج إليه ولا معول عليه (وَكَانَ إِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَجْوَدَ بالخير) أي بجميع أنواعه (من الرّيح المرسلة) بصيغة المجهول أي في عموم المنفعة والسرعة على أن الريح قد تكون خالية من المطر وقد تكون جالبة للضرر وقيل المراد بالريح الصبا قال النووي وفيه الحث على الجود والزيادة في رمضان وعند لقاء الصالحين وعلى مجالسة أهل الفضل وزيارتهم وتكريرها ما لم يورث المزور كراهة ذلك واستحباب كثرة التلاوة سيما في رمضان ومدارسة القرآن وغيره من العلوم الشرعية وأن القراءة أفضل من التسبيح والإذكار. (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) على ما رواه مسلم (أنّ رجلا) وهو صفوان بن أمية الجمحي القرشي أسلم بعد الفتح وشهد مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حنينا والطائف وهو مشرك فلما أعطاه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مما أفاء الله عليه وأكثر قال أشهد بالله ما طابت بهذا الأنفس نبي فأسلم يومئذ أخرج له مسلم والأربعة وأحمد في مسنده ومات بمكة في خلافة معاوية (سأله) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا من العطاء (فأعطاه غنما) أي قطيعة غنم والمراد غنما كثيرا يملأ واديا (بين جبلين) لسعة جوده وسماحة نفسه والظاهر أنه كان بعد اسلامه أو صار سببا لإسلامه لقوله (فرجع إلى بلده) ويروى إلى قومه (وقال أسلموا) فإن اعطاءه من بين أخلاقه كالمعجزة (فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى فاقة) أي حاجة أبدا لكرم نفسه وشرف طبعه وتوكله على رزق ربه، (وأعطى غير واحد) أي كثيرا من المؤلفة (مائة من الإبل) كأبي سفيان بن حرب وابنيه معاوية ويزيد ومع مائة كل واحد منهم أربعين أوقية وكحكيم بن حزام والحارث بن هشام وغيرهم، (وأعطى) كما رواه مسلم (صفوان) أي ابن أمية (مائة) من الإبل (ثمّ مائة ثمّ مائة) أي في وقت واحد أو في أزمنة متعددة، (وهذه) أي الخصال الممدوحة (كانت حاله) وفي نسخة خلقه (صلى الله تعالى عليه وسلم) أيضا (قبل أن يبعث) لما خلقت هذه الشمائل وطبعت هذه الفضائل في أصل فطرته ومادة خلقته قبل بعثته بل قبل حصول ولادته كما ورد كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد (وقد قال له ورقة) بتحريك الواو والراء فالقاف (ابن نوفل)(1/257)
وهو ابن عم خديجة رضي الله تعالى عنها وكان تنصر واختلف في إسلامه (إنّك تحمل الكلّ) بفتح الكاف وتشديد اللام أي الثقيل من العيال واليتيم ومن لا قدرة له من ضعيف الحال أي فيما بين قومه وفي التنزيل وهو كل على مولاه أي ثقيل في المؤنة ضعيف في الصنعة (وتكسب) بفتح أوله ويضم وتكسر السين (المعدوم) بالواو في النسخ المعتبرة الحاضرة قال النووي فتح التاء هو الصحيح المشهور وروي بضمها وقال الدلجي وتكسب هنا بضم أوله والمعدم بدون واو أي المحتاج تفيده المعارف والمال وتعينه على تحصيلهما والذي رواه مسلم والبخاري أنه من قول خديجة رضي الله تعالى عنها بزيادة اللام في خبر ان والواو في مفعول تكسب انتهى ولا منع من الجمع كما لا يخفى وقال ابن قرقول فتح أوله أكثر الروايات وأصحها ومعناه تكسبه لنفسك وقيل تكسبه غيرك وتعطيه إياه يقال كسبت مالا وكسبته غيري لازم ومتعد وروي بضم أوله والمعنى تكسب غيرك المال المعدوم أي تعطيه واختاره النووي وقيل تعطي الناس مالا يجدونه عند غيرك من مكارم الأخلاق وأنكر الفراء وغيره أكسب في المتعدي وصوبه ابن الأعرابي وأنشد:
فأكسبني مالا وأكسبته حمدا ثم المراد من المعدوم هو العاجز عن الكسب أو الرجل المحتاج وسمي معدوما لكونه كالمعدوم الميت حيث لم يتصرف كغيره ومن يجوز ضم التاء يقول صوابه المعدم بضم ميم وكسر دال (وردّ على هوازن) وهي قبيلة معروفة (سباياها) أي أسراها (وكانت) في نسخة صحيحة وكانوا (ستّة آلاف) أي من النساء والذرية ورد عليهم أيضا من الأموال أربعة وعشرون الفا من الإبل وأكثر من أربعين ألفا من الغنم وأربعة آلاف أوقية من فضة والأوقية أربعون درهما قيل وقوم ذلك فبلغ خمسمائة الف ألف ومن جملة جوده إعطاؤه مال جزية البحرين في يومه وكان مقداره مائة ألف وثمانين ألف درهم بعثه إليه عامله العلاء بن الحضرمي (وأعطى العبّاس) على ما رواه البخاري عن أنس تعليقا أنه أعطاه (من الذّهب، ما لم يطق حمله) من الإطاقة أي شيئا لم يقدر على حمله وحده مع قوة تحمله (وحمل إليه) بصيغة المجهول أي أتى إليه (تسعون ألف درهم) على ما رواه أبو الحسن بن الضحاك في شمائله عن الحسن مرسلا (فوضعت) بصيغة المجهول أي فسكبت ونشرت (على حصير) أي خصفة (ثمّ قام إليها يقسمها) حال وفي نسخة فقسمها (فما ردّ سائلا) أي ممن جاءه وحضر عنده (حتّى فرغ منها) أي من قسمتها وهو غاية لقوله قام أو يقسمها وأبعد الدلجي في جعله غاية لعدم رده سائلا إذ مفهومه أنه حينئذ رد سائله وقد سبق أنه لم يكن قائلا لا لمن يكون سائلا نوالا كما يدل عليه قوله (وجاءه رجل) كما رواه الترمذي في شمائله أنه جاءه رجل قال الحلبي هذا الرجل لا أعرفه (فسأله) أي شيئا معينا ومقدارا مبينا (فقال ما عندي شيء) أي مما عينت أو على قدر ما بينت (ولكن ابتع عليّ) أمر من الابتياع بباء موحدة ثم مثناة فوقية أي(1/258)
اشتر واستلف مقدار ما تختار حوالة على فالمفعول محذوف وقال التلمساني أي اعدد علي أو احسب هكذا ثبت الحديث بتقديم الياء على التاء انتهى وجوز الدلجي تقديم المثناة الفوقية على الباء الموحدة وليست عندنا في النسخ المعتمدة (فإذا جاءنا) أي من عند الله (شيء) اي مما أولاه (قضيناه) أي حكمنا به لك أو أديناه عنك (فقال له عمر) أي بناء على نظر الرحمة إليه (مَا كَلَّفَكَ اللَّهُ مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ) أي من تحمل الدين بمقتضى الوعد لما ورد من أن العدة دين والدين شين (فكره النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك) بناء على جبر خاطر السائل وما يعتريه من خيبة الأمل ولما سبق في الآية من أنه مأمور بالعدة (فقال) له (رجل من الأنصار) قيل هو بلال لكنه من المهاجرين وقد يجمع بأنها قالا له والإمام الغزالي مال إلى جعل القائل نفس السائل حيث قال في الأحياء فقال الرجل (يا رسول الله أنفق) أي بلالا (ولا تخش) أي لا تخف كما في نسخة (من ذي العرش إقلالا) أي تقليلا فإن الملك كله ملك لصاحب العرش سبحانه وتعالى تعظيما وتبجيلا (فتبسّم صلى الله تعالى عليه وسلم) أي انشراحا بمن تكلم (وعرف البشر) بصيغة المجهول أي وظهرت البشاشة والطلاقة وآثار السرور وظهور النور (في وجهه) أي بتهلله وإشراق خده ولله در القائل:
تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
(وقال بهذا أمرت) أي بهذا الكرم أمرني ربي قبل ذلك أو جاءني جبريل على وفق ما هنالك. (ذكره التّرمذي) . أي في شمائله وذكر ابن قتيبة في كتاب مشكل الحديث أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دعا بلالا بتمر فجعل يجيء به قبصا قبصا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا قال والقبص بالصاد الأخذ بأطراف الأصابع وبالضاد المعجمة بالكف كلها (وذكر) بصيغة المفعول وفي نسخة على بناء الفاعل أي وذكر الترمذي في شمائله أيضا (عن معوّذ) بكسر الواو المشددة وتفتح والذال المعجمة وقيل مهملة (ابن عفراء) بفتح عين وسكون فاء فراء ممدودا اسم أمه وهي من المبايعات تحت الشجرة وأما اسم أبيه فالحارث بن رفاعة بن سواد بفتح السين النجاري الأنصاري (قال أتيت النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بقناع) بكسر قاف وفتح نون (من رطب) وفي أصل الدلجي بالإضافة من غير من (يريد) أي يعني الراوي بقوله قناع (طبقا) بفتحتين أي وعاء مما يؤكل عليه وأما قول الحجازي صوابه بالمثناة الفوقية في الموضعين على تصحيح الرواية عن الربيع ففيه أن الربيع غير مذكور في المتن بل معوذ لا غير ولا يجوز تغيير التصنيف فالصواب بالياء التحتانية على أنه يرجع إلى معوذ أو إلى الراوي بالمعنى الأعم والله تعالى أعلم (وأجر) بفتح همزة وسكون جيم وكسر راء منونة جمع جرو مثلث الجيم والكسر أشهر أي قثاء صغار (زغب) بضم زاء وسكون غين معجمة جمع أزغب أي ذوات زغب أي صغار الريش أول ما يطلع شبه به ما على القثاء من الزغب وضبط في حاشية بفتح(1/259)
الزاي والغين المعجمة ويعني بها الشعرات الصفر على ريش الفرخ والفراخ زغب بضم فسكون على ما ذكره الجوهري وهذا وصف منه للقثاء باللطافة والغضاضة إذ القثاء اللطاف لا تخلو عن شيء يكون عليها شبه الزغب (يريد) يعني بأجر زغب (قثّاء) أي موصوفا بما ذكر وهو بكسر القاف ويضم ممدودا (فأعطاني) أي لأجل بدله أو مما كان عنده في نظيره (ملء كفّه) وفي رواية ملء يديه وفي رواية ملء يدي وفي أخرى كفي (حليّا) بفتح فسكون وجمعه حلي ووزنه فعول كضرب وضروب ثم دخله الإبدال والإدغام وكسرت اللام لتصح الياء وكسر الحاء أيضا حمزة والكسائي للاتباع وفي نسخة بضم فكسر فتشديد تحتية (وذهبا) تخصيص بعد تعميم إذ الحلي ما يصاغ ولو من الفضة وغيرها قال الدلجي كذا هنا من رواية معوذ ابن عفراء والذي في مسند أحمد وشمائل الترمذي بسند جيد عن ابنة الربيع مصغر ربيع قالت بعثني معوذ ابن عفراء بقناع من رطب وعليه أجر زغب من قثاء وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يحب القثاء فأتيت بها وعنده حلية قدمت عليه من البحرين فملأ يده فأعطاني وللترمذي فأتيته بقناع من رطب وأجر زغب فأعطاني ملء كفيه حليا أو ذهبا وأبوها معوذ قتل ببدر ولم يعرف له رواية عنه صلى الله تعالى عليه وسلم؛ (قال أنس رضي الله تعالى عنه) أي فيما رواه الترمذي (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يدّخر) بدال مهملة مبدلة من معجمة إذا أصله لا يذتخر (شيئا لغد) أي لا يؤخر لمستقبله من الزمان شيئا من مأكول ومشروب لسماحة نفسه وسخاوة كفه وثقته بربه أو المعنى لا يدخر لخاصة نفسه لقوة حاله فلا ينافيه أنه كان يدخر قوت سنة لعياله. (والخبر) أي الأخبار الواردة المؤذنة (بجوده وكرمه) أي بناء على أثر نور وجوده صلى الله تعالى عليه وسلم (كثير) أي فلا يمكن إحصاؤه ولا يتصور استقصاؤه (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) لا يعرف من رواه عنه (أتى رجل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يسأله) أي شيئا من العطاء (فاستلف) أي فاستسلف له كما في نسخة والمعنى أخذ السلف واستقرض من رجل لأجله (نصف وسق) وهو بفتح الواو ويكسر وسكون السين ستون صاعا والنصف مثلث النون والكسر أشهر (فجاء الرّجل) أي رب الدين (يتقاضاه) أي يطالبه بوفائه (فأعطاه وسقا) أي بكماله (وقال نصفه قضاء) أي وفاء (ونصفه نائل) أي عطاء ثم اعلم أن في بعض النسخ هنا زيادة لا تخلو عن إفادة وهي قوله وقال أبو علي الدقاق من شيوخ الصوفية المشاهير وعلمائهم النحارير وتكلم في الفتوة وهي غاية الكرم والإيثار على رأيهم واصطلاحهم في ألفاظهم أن هذا الخلق لا يكون إلا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فإن كان واحد في القيامة يقول نفسي نفسي وهو يقول أمتي أمتي انتهى قال ابن مرزوق هذه الرواية ثبتت في رواياتنا في هذا الموضع من الشفاء وقال التلمساني وقد ثبتت هذه الزيادة أيضا ملحقة بخط العراقي في الطرة ثم قال نقل هذا من خط المؤلف رحمه الله تعالى انتهى وقال برهان الحلبي هذا في بعض النسخ ثابت وأبو علي المذكور هو الحسن بن علي بن محمد بن إسحاق بن عبد الرحيم بن أحمد الاستاذ شيخ(1/260)
الاستاذ أبي القاسم القشيري تعقب على الحصري وأعاد على القفال المروزي في درس الحصري ثم سلك طريق التصوف حتى صار إنسان وقته وسيد عصره توفي ذي الحجة سنة خمس وأربعمائة قال فيما يرويه عنه صلى الله تعالى عليه وسلم من أكرم غنيا لغناه ذهب ثلثا دينه وذكر فيه حكمة ذكرها السبكي في الطبقات.
فصل [وأما الشجاعة والنجدة]
(وأمّا الشّجاعة) بفتح أولها معروفة (والنّجدة) بفتح نون فسكون جيم فدال مهملة بمعنى الشجاعة على مقالة الجوهري وقيل الإغاثة والإعانة وفرق المصنف بينهما بقوله (فالشّجاعة فضيلة قوّة الغضب) أي زيادتها (وانقيادها) أي مطاعة تلك القوة ومتابعتها (للعقل) أي لتقع على ما ينبغي من النعوت الآدمية وهو احتراز عن الصفة السبعية والبهيمية ولا بد من قيد انقيادها للشرع لتكون من الأوصاف البهية. (والنّجدة ثقة النّفس) أي وثوقها بربها واعتمادها على خالقها (عند استرسالها) أي إشرافها وطلبك إرسالها (إلى الموت) أي حال تثبتها من ابتدائها إلى زمان انتهائها باختياره إلى حد فنائه وزوال بقائه (حيث يحمد فعلها) أي عقلا ونقلا (دون خوف) أي من غير خوف لها يمنعها عما هي بصدده من كمالها والحاصل أن النجدة قوة تنشأ عن الشجاعة لا أنها غيرها في أصلها، (وكان صلى الله تعالى عليه وسلم منهما) أي من الشجاعة والنجدة وروي منها فالضمير لكل منهما (بالمكان) أي بالمحل (الذي لا يجهل) وبيانه قوله (قد حضر المواقف الصّعبة) بفتح فسكون أي الشديدة كبدر واحد وحنين وغيرها (وفرّ) أي هرب (الكماة) بضم كاف وتخفيف ميم جمع كمي بفتح فكسر فتشديد أي شجاع مكمي في سلاحه إذ قد كمى نفسه وسترها بدرعه وبيضته كأنه جمع كام كقاض وقضاة (والأبطال) بفتح الهمزة جمع بطل بفتحتين وهو الشجاع والمغايرة بينهما من حيث الستر وعدمه أو الثاني أبلغ والمعنى ولوا مدبرين (عنه) أي عن مساعدته صلى الله تعالى عليه وسلم (غير مرّة) أي مرات كثيرة وإن كان قصد بعضهم الكرة بعد الفرة (وهو ثابت) أي بقلبه وقدمه (لا يبرح) بفتح الياء والراء أي لا يزول عن مكانه (ومقبل) على شانئه وشأنه بكمال الإقبال (لا يدبر) أي لا ينوي الإدبار ولا التحول والانتقال (ولا يتزحزح) أي ولا يتبعد عن مواجهة الكفار والجمل المنفية أحوال مؤكدة لما قبلها والمعنى أنهم فروا عنه حال ثباته وإقباله على أعدائه، (وما شجاع) بتثليث أوله والضم أشهر أي ما وجد أحد شجيع من شجعان العرب والعجم (إلّا وقد أحصيت له فرّة) على صيغة المجهول أي ضبطت له ولو مرة واحدة من الفرار والهزيمة (وحفظت عنه جولة) بفتح جيم وسكون واو أي تردد ونفرة (سواه) أي غيره صلى الله تعالى عليه وسلم وعدم الفرار لكماله في مقام الوقار والقرار. (حدّثنا أبو عليّ الحيّانيّ) بفتح الحاء المهملة وتشديد التحتية وفي آخره نون ثم ياء النسبة وهو الحافظ الغساني وقيل بكسر الجيم والظاهر أنه تصحيف (فيما كتب لي) أي من هذا الحديث ونحوه مقرونا بالإجازة له مع إمكان السماع منه (حدّثنا القاضي سراج)(1/261)
بكسر سين مهملة وتخفيف راء بعدها ألف فجيم (حدّثنا أبو محمّد الأصيليّ) بفتح فكسر صاد مهملة ويقال بالزاء أيضا نسبة إلى بلد بالمغرب، (حدّثنا أبو زيد الفقيه) وهو المروزي (حدّثنا محمّد بن يوسف) أي الفربري (حدّثنا محمّد بن إسماعيل) أي الإمام البخاري (حدّثنا ابن بشّار) بموحدة فشين معجمة مشددة العبدي مولاهم قال أبو داود وكتبت عنه خمسين ألف حديث (حدّثنا غندر) بضم غين معجمة فنون ساكنة فدال مهملة مفتوحة وقد تضم فراء هذلي بصري وهو منصرف (حدّثنا شعبة) أي ابن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث (عن أبي إسحاق) أي السبيعي الهمداني الكوفي تابعي جليل روى عنه السفيانان وأبو بكر بن عياش وخلائق وله نحو ثلاثمائة شيخ وهو يشبه الزهري في كثرة الرواية وقد غزا عشر مرات وكان صواما قواما (سمع البراء) بفتح الموحدة وتخفيف الراء وهو ابن عازب رضي الله تعالى عنه (وسأله رجل) لا يعرف (أفررتم يوم حنين) وهو واد بين مكة والطائف وتصحف حنين على التلمساني بخيبر ولذا قال وكانت غزوة حنين في السابعة من الهجرة وقدم جعفر بن أبي طالب ومن معه من الحبشة حينئذ وقد وقع في صحيح البخاري في غزوة الفتح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في رمضان إلى حنين وقد تقدم أنها كانت في شوال وهو المعروف ولعل المراد الفتح لأن الفتح تعقبه حنين والمعنى افررتم يوم حنين معرضين (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم قال) أي نعم كما في نسخة ولعله حذف استهجانا للتصريح به ثم استدرك بقوله (لكنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يفرّ) بتشديد الراء المفتوحة ويجوز كسرها لكسر ما قبلها وقال التلمساني إنما لم يجبه ببلى او نعم لأن موجب لا قد وقع ولم يكن قصدا بل رشقتهم هوازن بنبلها ذا صباح وقد تفرقوا لحوائجهم ولم يعلموا أن للعدو كمينا فكان جولة وليس هزيمة وقد وقع ذلك من الطلقاء لأن منهم من لم يكن صادق الإسلام يومئذ انتهى ثم في هذا الاستدراك دفع توهم فراره صلى الله تعالى عليه وسلم بعد فرارهم عنه ولا والله ما فر قط بل الإجماع قاض بتحريم اعتقاد فراره وهذا الحديث أخرجه البخاري في الجهاد ومسلم في المغازي والنسائي في السير وهو كما في الأصل بناء على ما في بعض الطرق وفي بعضها أفررتم يوم حنين ولم يذكر عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم وعلى هذه الرواية قال النووي ما نصه هذا الجواب الذي أجاب به البراء من بديع الأدب لأن تقدير الكلام أفررتم كلكم فيقتضي أنه عليه الصلاة والسلام وافقهم في ذلك قال البراء لا والله ما فر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولكن جماعة من أصحابه جرى لهم كذا وكذا، (ثمّ قال) أي البراء (لقد رأيته على بغلته البيضاء) كذا في الصحيحين وفي مسلم أنها التي أهداها له فروة بن نفاثة قال بعض الحفاظ واسمها فضة وفي رواية على بغلته الشهباء وكلتاهما واحدة وقال بعضهم هي التي تسمى الدلدل وكذا سماها النووي في شرح مسلم في غزوة حنين وقال قال العلماء لا يعرف له صلى الله تعالى عليه وسلم بغلة سواها انتهى وذكر الحلبي أن فروة بن نفاثة أهدى فضة والمقوقس أهدى الدلدل وقيل كان له صلى الله تعالى(1/262)
عليه وسلم ست بغلات وقيل سبع (وأبو سفيان) أي ابن عمه الحارث بن عبد المطلب وكان أخ الرضيع له صلى الله تعالى عليه وسلم أرضعتهما حليمة وآلف الناس به قبل النبوة ثم كان أبعدهم عنه بعدها ثم أسلم يوم الفتح بالأبواء موضع بطريق مكة ومات سنة عشرين بالمدينة (آخذ بلجامها) زاد البرقاني والعباس رضي الله تعالى عنه آخذان بلجامها يكفانها عن إسراع التقدم إلى العدو شفقة منهما عليه بمقتضى البشرية وإن علما مرتبة عصمته النبوية وسيأتي رواية أخرى في هذا المعنى مع اختلاف في المبنى وفي ركوب البغلة حال الغزوة إيماء إلى كمال تحقق النجدة وزوال تصور الجولة وكيف وهو يقول اللهم بك أصول وبك أجول، (والنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يقول) والجملة حالية وأما قول الدلجي وضع فيها مبتدأها موضع المضمر أي وهو يقول فغفلة منه عن المنقول إذ لو أتي بالضمير لتوهم رجعه إلى أقرب المذكور وهو أبو سفيان المسطور (أنا النّبيّ لا كذب) بسكون الباء للوزن أو للسجع وهو الرواية على ما ذكره المازري وضبط في بعض النسخ بفتح الباء على ما أصله في البناء وقد ورد على زنة منهوك الزجر وهو ليس بشعر عند بعضهم وأن كان مقصودا ثم لا يسمى الكلام شعرا ما لم يقصد بوزنه الشعر ومنه ما جاء في التنزيل ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون وأمثال ذلك وأما قول الدلجي من رواه بفتح الباء ليخرج عن الوزن فقد نسب أفصح الخلق إلى النطق بغير فصيح فغير صحيح لأن فتح الباء كما عرفت هو الإعراب الصحيح فلا يعدل عنه إلا وقفا سواء أريد به نظم أو سجع والمعنى أنا النبي صدقا لا أفر إذا لقيت العدو حقا وروي بلا كذب بزيادة الباء ولعله حينئذ يخفف ياء النبي والمعنى لا كذب في النبوة لظهور المعجزة أو لا كذب في النصرة أو لا كذب في النبوة لأنها حق وما وعده ربه صدق. (وزاد غيره) أي غير البراء (أنا ابن عبد المطّلب) وهو بسكون الباء مع أنها في أصل الإعراب بالجر ومن قرأ بالكسر أراد إخراجه من وزن الشعر كما تقدم ثم انتسابه لجده لاشتهاره به لموت أبيه قبل ولادته مع كثرة نسبة الناس إياه إليه ولا ينافي هذا نهيه عن الافتخار بالآباء الكفار إذ لم يقل افتخارا بل إظهارا واشتهارا وإعلاما بأنه ما ولى مع من ولي وتعريفا بموضعه ليرجع إليه أهل دينه، (قيل فما رئي) بصيغة المجهول ويقال فما رئي بالنقل والبدل أي ما أبصر (يومئذ) أي يوم حنين (أحد كان أشدّ منه) أي أقوى قلبا وأشجع قالبا منه صلى الله تعالى عليه وسلم قال البغوي بعد حديث البراء بإسناده المتصل إلى مسلم على ما سبق ورواه محمد بن إسماعيل عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن إسحاق وزاد فما رئي من الناس يومئذ أشد منه ورواه أبو زكريا عن أبي إسحاق وزاد قال كنا إذا احمر البأس نتقي به وأن الشجاع منا للذي يحاذيه أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى فوجه تعبير المصنف بقيل غير ظاهر كما لا يخفى، (وقال غيره) أي غير البراء أو غير قائل هذا القيل (نزل النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم عن بغلته) وهذا يدل على كمال نعته في قضية شجاعته قال البغوي في حديثه المسند إلى مسلم عن أبي إسحاق قال رجل للبراء يا أبا عمارة أفررتم يوم حنين قال لا والله ما ولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولكنه خرج(1/263)
شبان أصحابه واخفاؤهم وهم حسر ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورسول الله على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث يقود به فنزل واستنصر وقال أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ثم صفهم، (وَذَكَرَ مُسْلِمٌ عَنِ الْعَبَّاسِ قَالَ فَلَمَّا الْتَقَى المسلمون) وهم ستة عشر ألفا أو اثنا عشر ألفا أو عشرة آلاف على اختلاف (والكفّار) وهم أربعة آلاف من هوازن وثقيف وكان المسلمون يومئذ أكثر ما كانوا قط حتى قال رجل من الأنصار لن نغلب اليوم عن قلة فلم يرض الله قوله ووكلهم إلى أنفسهم كما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم المشركون وخلوا عن الذراري ثم نادوا يا حماة السوء اذكروا الفضائح فتراجعوا وانكشف المسلمون وهذا معنى قوله (ولّى المسلمون) أي رجعوا وانهزموا (مدبرين) حال مؤكدة منهم قال الكلبي كان حول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس مدبرين وقال آخرون لم يبق مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غير العباس وأبي سفيان وأيمن ابن أم أيمن فقتل يومئذ بين يدي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (فطفق) بكسر الفاء أي جعل (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يركض بغلته نحو الكفّار) أي يحركها ويدفعها إلى صوبهم وأصل الركض تحريك الرجل ومنه قوله تعالى ارْكُضْ بِرِجْلِكَ (وأنا آخذ بلجامها) جملة حالية (أكفّها) حال أخرى أو استئناف بيان (إرادة أن لا تسرع) بنصب الإرادة على العلة للجملة السابقة أي أمنعها من أجل أن لا نعجل إلى جهة العدو وهو من الإسراع (وأبو سفيان آخذ بركابه) وفي رواية بعكس القضيتين وتقدم أنهما كانا آخذين بلجامها فالجمع بأنه كان الأخذ بالمناوبة مرة وبالجمع كرة (ثمّ نادى) أبو سفيان أو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو العباس على الالتفات (يا للمسلمين) بفتح اللام الأولى أي اقبلوا (الحديث) بالنصب على الأصح أي انظر الحديث أو طالعه بكماله قال البغوي في حديثه المسند إلى مسلم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أي عباس ناد أصحاب السمرة فقال العباس رضي الله تعالى عنه وكان رجلا صيتا فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السمرة قال فو الله لكان عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفه البقرة على أولادها فقالوا يا لبيك يا لبيك قال فاقتلوا الكفار ثم أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حصيات فرمى بهن في وجوههم ثم قال انهزموا ورب محمد قال فو الله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى أحدهم كليلا وأمرهم مدبرا وقال سلمة بن الأكوع غزونا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حنينا قال فلما غشوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تراب الأرض ثم استقبل وجوههم فقال شاهت الوجوه فما خلف الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا مدبرين وقال سعيد بن جبير أمد الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة مسومين كما قال تعالى وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها. (وقيل) أي روي كما في حديث ابن أبي(1/264)
هالة (كان رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا غَضِبَ. وَلَا يَغْضَبُ إِلَّا لله) جملة حالية معترضة بين الشرط وجوابه وهو قوله (لم يقم لغضبه شيء) أي ما يدفعه عنه ويمنعه منه كما قال علي كرم الله وجهه كان صلى الله تعالى عليه وسلم لا يغضب للدنيا فإذا أغضبه الحق لم يعرف أحدا ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له؛ (وقال ابن عمر) كما رواه الدارمي (ما رأيت أشجع ولا أنجد) من النجدة وقد عرفت الفرق بينها وبين ما قبلها ولا يبعد أن المراد بالجمع بينهما المبالغة في وصف زيادة الشجاعة (ولا أجود) أي لا أسخى (ولا أرضى) أي باليسير فهو من باب القناعة أو ولا أسرع رضى من الرجوع عن الغضب فهو من قبيل حسن الخلق وجيمل العشرة قيل ولا أدوم رضى (من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) وضبط الدلجي ولا أحوذ بمهملة ومعجمة من حوذ يحوذ أي أجمع وهو مما استعمل بلا إعلال أي ما رأيت أحوذ يا اجمع لأموره لا يشذ عليه منها شيء متمكنا منها حسن السياق لها منه صلى الله تعالى عليه وسلم ومثله حديث عائشة رضي الله تعالى عنها تصف عمر كان والله أحوذيا نسيج وحده أي متمكنا في أموره حسن السياق لها انتهى والظاهر أنه تصحيف في المبنى بل وتحريف في المعنى لأن الأحوذي ليس أفعل التفضيل المناسب هنا للسياق من السباق واللحاق فقد قال صاحب القاموس الأحوذي الخفيف الحاذق والمشمر للأمور القاهر لها لا يشذ عليه شيء كالحويذ وأحوذ ثوبه جمعه والصانع القدح أخفه انتهى وقوله أحوذ وكذا استحوذ بمعنى غلب واستولى جاء على أصله من غير اعلاله وأما أفعل سواء كان وصفا أو تفضيلا فلا يعل كأسود وأجود؛ (وقال عليّ كرم الله وجهه) كما رواه أحمد والنسائي والطبراني والبيهقي (إنّا كنّا إذا حمي البأس) بهمز ويلين ومعناه ما في قوله. (ويروى اشتدّ البأس) وأما ما وقع في اصل الدلجي إذا حمي الوطيس فلا أصل له في النسخ المعتبرة والأصول المعتمدة (واحمّرت الحدق) بفتحتين جمع حدقة وهي ما احتوت عليه العين من سوادها وبياضها وسبب احمرارها غضب صاحبها وفي الحديث الغضب جمرة توقد في قلب ابن آدم أما ترى إلى انتفاخ أو داجه واحمرار عينيه (اتّقينا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فَمَا يَكُونُ أَحَدٌ أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ) أي تحفظنا به وأخذناه وقاية لنا من عدونا وأعل أتقى بقلب واوه ياء لكسر ما قبلها ثم تاء وأدغمت (ولقد رأيتني) أي قال علي والله لقد رأيت نفسي (يوم بدر) أي وكذا غيري لقوله (ونحن نلوذ) أي نلتجئ ونستتر (بالنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي الحديث اللهم بك أعوذ وبك الوذ وفي أصل الدلجي ونحن نتقي برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفسره بنستتر ونحتمي إلا أنه ليس في الاصول المعتمدة الحاضرة (وهو أقربنا إلى العدوّ) أي والحال أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أقرب منا إلى عدونا وهو تصريح بما سبق من تلويح (وكان من أشدّ النّاس يومئذ) أي وقت البأس وشدة الحرب أو يوم حنين (بأسا) أي قوة قلب في شدة حرب وإذا كان حاله هذا في مثل هذا الوقت ففي سائر الأوقات بالأولى فلا يحتاج إلى قول الدلجي بل أشدهم مطلقا كما لا يخفى وما أحسن من قال من أرباب الحال:(1/265)
له وجه الهلال لنصف شهر ... وأجفان مكحلة بسحر
فعند الابتسام كليل بدر ... وعند الانتقام كيوم بدر
(وقيل كان الشّجاع) أي منا (هو الذي يقرب منه صلى الله تعالى عليه وسلم إذا دنا العدوّ) أي قاربوا (ولقربه منه) أي لقرب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من العدو؛ (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) كما في حديث الشيخين (كان النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أحسن النّاس) أي صورة وسيرة وصونا وفصاحة وملاحة (وأجود النّاس) أي سخاوة وكرامة (وأشجع النّاس) أي قلبا وثباتا، (لقد فزع) بكسر الزاي (أهل المدينة ليلة) أي خافوا تبييت العدو ولما سمعوا صوتا أجنبيا في ناحية من نواحي المدينة ولا حاجة إلى قول الدلجي من أن الفزع هو في الأصل الخوف ثم استعير ههنا للنصر والاستغاثة (فانطلق ناس) أي ذهب جمع من أهل المدينة (قبل الصّوت) بكسر القاف وفتح الباء الموحدة أي إلى جانبه ونحوه ليتحققوا ما به (فتلقّاهم) أي المنطلقين (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) حال كونه (راجعا قد سبقهم إلى الصّوت) أي منفردا (استبرأ) ويروى وقد استبرأ (الخبر) أي تعرف حقيقة الأثر وكشف الأمر وعرف عدم سبب الضرر وقال التلمساني استبرأ استقصى بهمز ويسهل وفيه نظر إذ لا يجوز تسهيل الهمز المتحرك المتطرف إلا وقفا والأظهر من استبرأ أي بحث عن ذلك واستنقى ما ينقى هنالك (على فرس) أي حال كونه راكبا على فرس كائن (لأبي طلحة) وهو أحد أصحابه (عري) بضم فسكون أي لا سرج عليها للاستعجال في ركوبها والفرس هذا اسمه مندوب كما في الصحيح (والسّيف في عنقه) أي متقلد به (وهو يقول) أي للمقبلين أو لأهل المدينة أجمعين (لن تراعوا) بضم التاء والعين أي لا تخافوا مكروها يصيبكم. (وقال) أي كما رواه أبو الشيخ في الأخلاق (عمران بن حصين) وفي نسخة صحيحة حصين الخزاعي وقد كانت الملائكة تصافحه وتسلم عليه حتى اكتوى وقيل كان يراهم (ما لقي رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم كتيبة) بفتح كاف وكسر فوقية أي جماعة عظيمة من الجيش (إلّا كان أوّل من يضرب) أي يقبل على ضربهم ويتوجه إلى حربهم ولا ينافي هذا ما سبق من أنه عليه الصلاة والسلام ما ضرب بيده شيئا قط لا امرأة ولا خادما ولا غيرهما لأنه ما من عام إلا وخص فالمراد به ما عدا الكفار (ولمّا رآه أبيّ بن خلف) على ما رواه ابن سعد والبيهقي وعبد الرزاق مرسلا والواقدي موصولا (يوم أحد وهو) أي أبي (يقول أين محمّد) سؤال عن مكانه. (لا نجوت إن نجا) دعاء على نفسه فأجابه الله فأهلكه ونجى حبيبه صلى الله تعالى عليه وسلم وقد ورد البلاء موكل بالمنطق (وقد كان) أي أبي (يقول للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي قبل ذلك (حين افتدى) أي فك نفسه بإعطائه الفدية عنها (يوم بدر) متعلق بافتدى وظرف لقوله وهو (عندي فرس) أي عظيمة اسمها العود على ما في رواية (أعلفها) بفتح همز وكسر لام أي اطعمها من العلف وأصل الفرس للأنثى(1/266)
وقد يطلق على الذكر (كلّ يوم فرقا) بفتح الفاء والراء ويسكن كيلا يسع ثلاثة آصع (من ذرّة) بضم ذال معجمة وتخفيف راء نوع من الحبوب مختص بالدواب وفي النهاية لابن الأثير أن الفرق بالتحريك مكيال يسع ستة عشر رطلا وهي اثنا عشر مدا وثلاثة آصع عند أهل الحجاز وأما الفرق بالسكون فمائة وعشرون رطلا (أقتلك عليها) أي أريد أن أقتلك حال كوني عليها (فقال له النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أنا أقتلك) أي عليها أو على غيرها (إن شاء الله) وقد نال هواه بصدق متمناه والاستثناء امتثال لقوله سبحانه وتعالى وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وهذه جمل معترضة بين لما وما دل على جوابها من إفادة صدورها في بدر قبل رؤيته له في أحد (فلمّا رآه) أي أبي بن خلف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يوم أحد شدّ أبيّ على فرسه) جواب لما الثانية دال على جواب الأولى كقوله تعالى فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ بعد قوله وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ الآية والمعنى هنا حمل أبي مستعليا عليها بقوة كائنة (على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فاعترضه) أي حال بين أبي وبينه صلى الله تعالى عليه وسلم (رجال من المسلمين) أي يصدونه عنه ويدفعونه منه (فقال النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لأصحابه (هكذا) أي مشيرا إلى جانب أبي (أي خلّوا طريقه) أي أبي فإن جوابه على والمعنى تنحوا عنه ولا تحولوا بيني وبينه (وتناول الحربة) أي أخذها (من الحارث بن الصّمّة) بكسر الصاد وتشديد الميم فتاء أبو عمرو بن عتيك الخزرجي الأنصاري أبو سعد آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بينه وبين صهيب وكسر بالروحاء في غزوة بدر فرده عليه السلام ثم ضرب له بأجره وسهمه وثبت معه عليه الصلاة والسلام يوم أحد هذا وقال ابن الأثير في النهاية أن كعب بن مالك ناوله الحربة ولا منع من الجمع (فانتفض بها) أي حرك بالحربة (انتفاضة) أي تحريكا شديدا وهزا شديدا (تطايروا) من الطيران أي تنحوا وتبعدوا (عنه) أي تفرقوا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو عن أبي والمتفرقون أما المسلمون واقتصر عليه الأنطاكي وأما المشركون وهو أبلغ وأنسب بقوله (تطاير الشّعراء) بفتح المعجمة وسكون المهملة وبالمد جمعه شعر بضم فسكون أي كتطاير ذباب أحمر أو أزرق يقع على الحيوان فيؤذيه أذى شديدا وفي رواية تطاير الشعارير قال صاحب النهاية وفي الحديث تطاير الشعر بضم الشين وسكون العين وهو جمع الشعراء ويروى الشعارير وقياس واحده شعرور انتهى قال التلمساني قوله الشعر كهذا بخط القاضي في الأصل وفي تصحيح أبي العباس العرفي الشعراء (عن ظهر البعير إذا انتفض) أي تحرك البعير تحركا شديدا (ثمّ استقبله النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي توجه إلى أبي حتى وصله (فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ) بفتح فوقية وهمزة ساكنة بين دالين مهملتين ثم همزة مفتوحة قيل وأصل الهمزتين هاآن وقيل يبدلان أي تدحرج وقيل تمايل وفي أصل الدلجي تردى أي سقط (منها) أي من أجل ضربة تلك الحربة (عن فرسه مرارا) لما غشيه من مرارة الالم وحرارة الهم (وقيل بل كسر) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بقوة ضربه (ضلعا)(1/267)
بكسر معجمة ففتح لام وتسكن أي واحدا (من أضلاعه) أي عظام أحد جوانبه (فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ يَقُولُ قَتَلَنِي مُحَمَّدٌ وَهُمْ يقولون لا بأس بك) وفي نسخة عليك (فقال لو كان ما بي) أي لو نزل مثل ما معي من الألم (بجميع النّاس لقتلهم) أي صار سببا لقتلهم (أليس قد قال أنا أقتلك) أي بقيد إن شاء الله تعالى (والله لو بصق عليّ) أي لو رمى بزاقه على بدني بقصد قتلي (لقتلني) أي ابرارا لكلامه وإظهارا لمرامه (فمات) أي أبي المسرف في عمره للاشتغال بكفره (بسرف) بفتح مهملة وكسر راء ففاء ممنوعا ويجوز صرفه مكان على ستة أميال من مكة كان فيه زواج ميمونة زوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في عمرة القضاء واتفق أنها ماتت به بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفيه قبرها وبني مسجد عليها (في قفولهم) بضم قاف ففاء أي رجوع الكفار من أحد وهو معهم وفي أصل الدلجي من رجوعه (إلى مكّة) ولا ينافيه ما ذكره البغوي في تفسيره أنه مات بمكة لأن سرف من توابعها هذا وقد قال النسفي في تفسيره ولم يقتل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيده غيره انتهى وبالجملة فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أشجع الناس كما يومي إليه قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ مع ما ورد من إعطائه قوة ثلاثين رجلا وربما يقاوم بعض الرجال ألفا كبعض أصحابه من المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم أجمعين بل له من القوة الإلهية التي تعجز عنها القوى البشرية والملكية هذا وقيل الشجاعة صبر ساعة وقيل الشجاع هو الذي يميز النصراني الذي يقصده هل هو أكحل الحدقة أو ازرقها عند المقابلة وقيل هو الذي يميز كيف أمسك عدوه الرمح وقيل هو الذي يأتي عدوه وهو يسير السير الرفيق الذي يسير به بين بيوت قومه ونقل عن بعض الشجعان أنه إذا رأى القوم مقبلين إليه نزل عن فرسه وتوسد حتى إذا وصلوا إليه نهض نحوهم وسألوه عن حالته في المطاعنة فقال ما ضربت قط برمي إلا وأنا أميز بين أن أضرب به قائم السن أو منبسطا وأتخير حيث أضرب وهذا نهاية الشجاعة والاقدام وقد سبق نزوله عليه الصلاة والسلام في أثناء محاربة الأقوام وقال مهلهل في هذا المرام.
لم يطيقوا لينزلوا فنزلنا ... وأخو الحرب من أطاق النزولا
فصل [وأما الحياء والإغضاء]
(وأمّا الحياء) وهي حالة تعتري من له الحياة الكاملة وقال ابن دقيق العيد الحياة تغير وانكسار يعرض للإنسان لخوف ما يعاب به أو يذم عليه وقيل الحياء حالة تنشأ عن رؤية التقصير (والإغضاء) وهو لغة إرخاء الجفن إلى حيث يقارب الانطباق فهو دون الاغماض وقد يتوافقان معنى ومنه قوله تعالى إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ومنه قول الفرزدق في علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما:
يغضي حياء ويغضي من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم
(فالحياء رقّة تعتري وجه الإنسان) أي تغشاه والمعنى تظهر من باطنه على ظاهره (عند فعل ما يتوقّع) بصيغة المفعول أي عند إرادة فعل شيء يتوقع (كراهيته) وفي نسخة كراهيته بزيادة ياء(1/268)
مخففة أو مشددة (أو ما) أي أو عند إرادة فعل شيء (يكون تركه خيرا من فعله) والأول حياء الابرار والثاني حياء الأحرار وإذا وصف به ربنا سبحانه وتعالى كما ورد في الكتاب والسنة فالمراد به الترك اللازم للانقباض، (والإغضاء التّغافل) أي التجاوز (عمّا يكره الإنسان بطبيعته) أي بسجيته لا بشريعته إذ المكروه شرعا هو الداعي إلى الدين فإن الدين النصيحة ولأن الحياء من العلم مذموم على ما في الرواية الصحيحة (وكان النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أشدّ النّاس) أي أقواهم (حياء وأكثرهم) بالنصب (عن العورات) متعلق بقوله (إغضاء) وأخر مراعاة للسجع ونصب حياء وإغضاء على التمييز وآثر الحياء بالأشدية لكونه سببا للإغضاء والسبب أقوى من مسببه لكونه منشئه وبعض أثره والعورات بسكون الواو جمع عورة وهي كل ما يجب ستره إذ الغالب عند كشفها أدرك المعرة لمن انكشفت منه فهي عورة ما دامت منكشفة ومنه ما ورد اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا (قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ ذلِكُمْ) أي مكثكم في بيته مستأنسين لحديث بعضكم بعضا (كان يؤذي النبي) أي وأنتم ما تدركونه (فيستحي منكم) أي من اخراجكم (الآية) أي قوله تعالى وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي من إظهاره فلا يترك بيان إسراره وكفى به شاهدا للعقلاء في تأديب الثقلاء. (حدّثنا أبو محمّد بن عتّاب) بفتح مهملة وتشديد فوقية وقد تقدم ترجمته (رحمه الله) جملة دعائية (بقراءتي عليه) أي الحديث الآتي (ثنا) أي حدثنا (أبو القاسم حاتم بن محمّد) أي التميمي المعروف بابن الطرابلسي قرأ عليه أبو علي الغساني البخاري مرات (ثنا أبو الحسن القابسيّ) بكسر الموحدة (ثنا أبو زيد المروزيّ) بفتح الميم وسكون راء وفتح واو فزاء (ثنا محمّد بن يوسف) أي الفربري (ثنا محمّد بن إسماعيل) أي الإمام البخاري (ثنا عبدان) بفتح مهملة وسكون موحدة فدال يقال إنه تصدق بألف ألف (ثنا عبد الله) أي ابن المبارك المروزي شيخ خراسان وقال الحلبي أبوه تركي مولى تاجر وأمه خوارزمية وقبره بهيت يزار ويتبرك به (انا) أي أَخْبَرَنَا (شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ) أي ابن أبي عتبة (مولى أنس) أي ابن مالك (يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه) كما في الصحيحين وأخرجه الترمذي في الشمائل وابن ماجه في الزهد (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أشدّ حياء من العذراء) بفتح المهملة فسكون المعجمة وبالراء والمد أي حياؤه أشد حياء من البنت العذراء وهي من لم تزل عذرتها أبي جلدة بكارتها (في خدرها) بكسر خاء معجمة وسكون دال مهملة أي حال كونها في داخل سترها فإنها حينئذ أشد حياء من غيرها وذهابه عنها عادة لمخالطتها ولذا نزل سكوتها منزلة إذنها في باب نكاحها ولو مع وليها؛ (وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ) أي عرفنا أنه كرهه بتغير وجهه ولو لم يتكلم بوجهه لأن وجهه مثل الشمس والقمر فإذا كره شيئا كسا وجهه ظل كالغيم عليهما (وكان صلى الله تعالى عليه وسلم لطيف البشرة) بفتحتين أي رقيق الجلدة العليا أي يتغير بأدنى كراهة والجملة كالعلة المبينة للسابقة (رقيق الظّاهر) تأكيد لما قبله أي يسرع أثر الحياء عليه ولله در القائل:
إذا قل ماء الوجه قل حياؤه ... ولا خير في وجه إذا قل ماؤه
أو معناه كان لينا سهلا رفيقا مهلا (لا يشافه) أي لا يواجه (أحدا بما يكرهه) أي لا يخاطبه(1/269)
تصريحا بل يظهره تلويحا أو لا يخاطبه حاضرا ويؤيده ما سيأتي وأصل المشافهة هو المخاطبة من فيه إلى فيه ثم توسع فيه فقيل بمعنى واجهه ومنه حديث كلمه شفاها (حياء وكرم نفس) أي من أجل كثرة حيائه وكرم نفسه في سخائه وقد ورد أن الحياء خير كله ولا يأتي إلا بخير وأنه شعبة من الإيمان، (وعن عائشة رضي الله عنها) كما رواه أبو داود (كان النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَلَغَهُ عَنْ أَحَدٍ مَا يكرهه) أي شيء لا يعجبه (لم يقل ما بال فلان) أي حاله وشأنه بتعيين اسمه أو وسمه أو رسمه (يقول كذا) أي أو يفعل كذا (ولكن يقول) أي منكرا له (ما بال أقوام) بصيغة الجمع لإفادة عموم الحكم له ولغيره مع الإبهام (يصنعون) أي يفعلون (أو يقولون) شك من الراوي أو أريد به تنويع الصنفين من الفعل والقول (كذا) إشارة إلى ما انكره (ينهى عنه) أي عما أنكره تلويحا (ولا يسمّي فاعله) أي تصريحا إذ المقصود المعتبر هو نهي المنكر لا خصوص فاعله من البشر. (وروى أنس) كما رواه أبو داود (أنّه) أي الشأن أو النبي عليه السلام (دخل عليه رجل) وهو غير معروف (به أثر صفرة) أي بعينه أو علامة من طيب كزعفران ونحوه (فلم يقل له شيئا) أي مشافهة (وكان لا يواجه أحدا) أي لا يقابله (بما يكره) أي حياء (فلمّا خرج) أي الرجل (قال) أي لأصحاب مجلسه (لو قلتم له يغسل هذا) أي الأثر الذي به لكان حسنا فالجواب مقدر ولو للتمني وقوله يغسل خبر معناه الأمر أو التقدير ليغسل (ويروى ينزعها) بكسر الزاء أي يزيلها أو يفسخ المتلطخ بها وإنما كرهها لأنها من زي النساء وحليهن وأما قول التلمساني ينزع بفتح الزاء لا غير فوهم بناء على ما هو المفهوم من القاموس أنه بكسر الزاء ومنه قوله تعالى يَنْزِعُ عَنْهُما بكسر الزاء اتفاقا نعم شرط الفتح موجود لكن لا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط بخلاف عكسه كما هو مقرر في محله ثم اعلم أن هذه الأخلاق الحسنة والأوصاف المستحسنة كانت غالبة عليه وسجية داعية إليه فلا ينافيه ما وقع من النوادر لحكمة من إرادة الزواجر أو لبيان الجواز في الظواهر من حديث سواد بن عمرو قال اتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا متخلق فقال وَرْسٌ وَرْسٌ حُطَّ حُطَّ وَغَشِيَنِي بِقَضِيبٍ فِي يده الحديث كما أورده المؤلف في أواخر القسم الثالث والله تعالى أعلم (قالت عائشة رضي الله عنها) كما رواه الترمذي (في الصّحيح) أي من الحسن الصحيح في جامعه وشمائله (لم يكن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فحّاشا) أي ذا فحش في كلامه وهذا يدل على كثرة حيائه وشدة صفائه ويروى فحاشا أي ذا فحش فالصيغة للنسبة لا للمبالغة وأصل الفحش هو الخروج عن الحد والفواحش عند العرب القبائح (ولا متفحّشا) أي متكلفا له ولله درها إذ نفت عنه الفحش طبعا وتكلفا (ولا سخّابا) بتشديد الخاء المعجمة أي ولا صاحب رفع صوت (بالأسواق) لحسن خلقه وكرم نفسه وشرف طبعه وحيائه من ابناء جنسه ويروى في الأسواق وفيه احتراز عن المساجد لضرورة رفع صوته حال القراءة والخطبة ثم السوق أما من قيام الناس فيها على سوقهم وإما من سوق الأرزاق إليها (ولا يجزي) بفتح أوله وكسر الزاء وسكون الياء أي ولا يجازي (بالسّيئة السّيّئة) أي الواصلة إليه الحاصلة منه وسميت الثانية سيئة مشاكلة أو صورة أو(1/270)
لأنها خلاف الأولى لقوله سبحانه وتعالى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ كما حقق في قوله تعالى وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ومن هنا قالوا حسنات الأبرار سيئات الأحرار وهو في ذلك ممتثل لقوله تعالى فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ (ولكن) وفي نسخة ولكنه (يعفو) أي يمحوها بالباطن (ويصفح) أي يعرض عن صاحبها بالظاهر أو يسامح عن الصغائر والكبائر مما ليس فيهما حق لأحد لقوله تعالى فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، (وقد حكي) بصيغة المفعول (مثل هذا الكلام) أي في نعت سيد الأنام عليه الصلاة والسلام (عن التّوراة من رواية ابن سلّام) بتخفيف اللام أحد الصحابة الكرام من علماء اليهود حيث دخل في الإسلام (وعبد الله بن عمرو بن العاص) أي ومن روايته أيضا وهو صحابي قرشي كان يطالع كتب العلماء الأعلام وقد جاء في رواية أنه رأى في منامه أن في إحدى يديه سمنا وفي الأخرى عسلا فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تحفظ الكتابين فحفظ القرآن والتوراة ولهذا سأله عطاء بن يسار عن صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في التوراة كما في الصحيح ولعل هذا قبل نزول قوله تعالى أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ فإن فيه الاكتفاء أو أن العسل فيه شفاء والسمن منه داء ودواء، (وروي عنه) أي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما في الإحياء لكن لم يعرف العراقي وروده في الانباء (أنّه كان من حيائه لا يثبت) من التثبيت أو الاثبات أي لا يشبع (بصره في وجه أحد) أي ناظرا إليه لاستيلاء الحياء عليه (وأنّه كان يكنّي) بضم ياء وتشديد نون أو بفتح وتخفيف أي يلوح ولا يصرح ويعرض (عمّا اضطرّه الكلام إليه) أي عن شيء لا بد منه ولا يسعه السكوت عنه (ممّا يكره) بصيغة الفاعل لا المفعول كما ضبطه الحلبي أي مما لا يستحسن التصريح به تخلقا بأخلاق ربه واقتداء بآدابه في نحو أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ وقوله تعالى فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وكقوله صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث المستيقظ فإنه لا يدري اين باتت يده حيث لم يقل فلعل يده وقعت على دبره أو ذكره أو نجاسة في بدنه ونظائره كثيرة في الأحاديث الصحيحة ثم هذا فيما إذا علم أن السامع يفهم المقصود بالكناية وإلا لكان يصرح لينتفي اللبس والوقوع في خلاف المطلوب وعلى هذا يحمل ما جاء من ذلك مصرحا به والله أعلم، (وعن عائشة رضي الله عنها) كما رواه الترمذي في الشمائل (مَا رَأَيْتُ فَرْجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم قطّ) أي أبدا وهو يدل على كمال الحياء من الجانبين لكنها ما استفادت الحياء إلا من حياء سيد الاصفياء وفي رواية عنها ما رأيت منه ولا رأى مني بحذف المفعول وتريد العورة وهو نهاية المبالغة منها في باب حيائها حيث حذفت آلة الكناية عنها وفي الحديث أن من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت وأنشدوا:
إذا لم تخشى عاقبة الليالي ... ولم تستحي فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء(1/271)
ثم الحياء محمود فيما يجب على الإنسان توقيه أو يكره له فعله ومذموم فيما يؤدي إلى ترك الواجب أو السنة.
فصل [وأما حسن عشرته وآدابه]
(وأمّا حسن عشرته) أي معاشرته ومخالطته مع أمته ولو لم يكونوا من عشيرته (وأدبه) الأدب طبيعي وهو ما جبل عليه الإنسان من الأخلاق السنية والأوصاف الرضية وكسبي وهو ما يكتسب من العلوم الدينية والأعمال الأخروية وصوفي وهو ضبط الحواس ومراعاة الانفاس ووهبي وهو حصول العلم اللدني وما يتعلق به من الكشف الغيبي وهو يجوز رفعه عطفا على المضاف وجره على المضاف إليه وهو الأحسن لحصول تسلط الحسن عليه وكذا قوله، (وبسط خلقه) أي نشر أخلاقه صلى الله تعالى عليه وسلم ومجمل حسن الخلق هو بسط المحيا وبذل الندا وتحمل الأذى وكمال الصدق والاتصاف بأخلاق الحق (مع أصناف الخلق) أي ليتوصل به إلى انقيادهم لدينه (فبحيث) بالفاء جواب أما أي فهو بمحل (انتشرت) أي كثرت واشتهرت (به) أي بما ذكر من الأمور الثلاثة (الأخبار الصّحيحة) وكذا الآثار الصريحة منها خبر الترمذي في شمائله (قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فِي وَصْفِهِ عليه الصّلاة والسّلام) أي في جملة ما منحه من الصفات الحميدة والنعوت السعيدة (كان أوسع النّاس صدرا) أي لا يمل ولا يضجر في الاحتمال مما يرد عليه من الأحوال واختلاف الخلق في الأقوال والأفعال وفي أصل الدلجي كان أجود الناس صدرا قال أي قلبا وفي رواية أوسع الناس صدرا وقال التلمساني أجود بخط المؤلف وأوسع بتصحيح العرفي انتهى لكن النسخ المعتمدة والأصول المصححة على ما قدمناه وهو الموافق لقوله تعالى أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وقوله تعالى أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وفسر الشراح بمعنى الانشراح والانفساح وقد ورد هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده فسئل هل لذلك من علامة فقال التجافي عن الدنيا والإقبال على العقبى والاستعداد للموت قبل نزوله (وأصدق النّاس لهجة) بفتح فسكون ويفتح أي وكان أصدقهم لسانا وبيانا وفيه وضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بأن الناس هم الصادقون في الأنفاس (وألينهم عريكة) أي وكان أسهلهم طبيعة سلسا منقادا هينا مطواعا (وأكرمهم عشرة) أي صحبة وخلطة. (حدّثنا أبو الحسن عليّ بن مشرّف) بفتح الراء المشددة (الأنماطيّ) بفتح فسكون نون (فيما أجازنيه وقرأته على غيره قال ثنا) أي حدثنا (أبو إسحاق الحبّال) بفتح مهملة وتشديد موحدة محدث مصر (حدّثنا أبو محمّد) بالتنوين أبدل منه (ابن النّحّاس) بتشديد الحاء المهملة يعني به عبد الرحمن بن عمر بن محمد ابن سعيد بن إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب النحاس المصري (ثنا ابن الأعرابيّ) أحد من رويت سنن أبي داود عنه (حدّثنا أبو داود) أي السجستاني صاحب السنن (ثنا هشام) أي ابن خالد بن يزيد وقيل زيد بن مروان (بن مروان) أي الأرزق الدمشقي (ومحمّد بن المثنّى) على(1/272)
وزن المثنى هو المقري أبو موسى الحافظ وروى عنه البخاري ونحوه (قالا) أي كلاهما (ثنا الوليد بن مسلم) وهو أحد أعلام الشام روى عنه أحمد وغيره قيل صنف سبعين كتابا (ثنا الأوزاعيّ) روى عنه قتادة ويحيى بن أبي كثير شيخاه وهو إمام أهل الشام في زمنه وكان رأسا في العلم والعبادة واختلف في بيان نسبته ذكر التلمساني أن الإمام مالكا كان يقود دابته وهو راكبها وسفيان بن عيينة يسوقها وروي أنه أفتى في سبعين الف مسألة روى عن كبار التابعين كعطاء ومكحول وعنه قتادة والزهري ويحيى بن أبي كثير وهم من التابعين وليس هو من التابعين فهذا من رواية الأكابر عن الأصاغر (سمعت يحيى بن أبي كثير) بفتح فكسر مثلثة أبو نصر اليماني روى عن أنس وجابر كليهما مرسلا وعن أبي سلمة وخلق (يَقُولُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أسعد بن زرارة) بضم زاء فراءين بينهما ألف وإلى المدينة روى عن شعبة وابن عيينة وطائفة وهو أسعد بالهمز وله أخ يقال له سعد بن زرارة (عن قيس بن سعد) أي ابن عبادة وهو أبو عبد الله الخزرجي وهو صاحب الشرطة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم روى عنه الشعبي وابن أبي يعلى وطائفة وكان ضخما مفرط الطول نبيلا جميلا جوادا سيدا من ذوي الرأي والدهاء والتقدم وهو أبو قيس سيد الخزرج وأحد النقباء الاثني عشر ليلة العقبة وكان شريف قومه ليس في وجهه شعر ولا لحية وكانت الأنصار تقول لوددنا لو نشتري لقيس لحية بأموالنا وكان مع ذلك جميلا وكان أسود اللون توفي بالمدينة في آخر خلافة معاوية (قال زارنا) أي إيانا أو واحدا منا (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) إذ كان من عادته تعهد أصحابه وتفقد أحبابه إذ حسن العهد من الإيمان وتمام الإحسان (وذكر) أي قيس (قصّة) أي طويلة (في آخرها) أي وكان في آخر تلك القصة قوله (فلمّا أراد) أي النبي عليه الصلاة والسلام (الانصراف) أي الرجوع إلى منزله وكان قد جاء على رجله قصدا لزيادة أجره (قرّب) بتشديد الراء أي قدم (له) وفي نسخة إليه (سعد حمارا) أي ليركبه تلطفا إليه وترحما عليه (وطّأ) بتشديد طاء فهمز أي رحل (عليه) أي فوق الحمار (بقطيفة) أي كساء له خمل ومنه تعس عبد القطيفة الذي يعملها ويهتم بتحصيلها (فركب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) إذ الذهاب إلى العبادة حقيقة العبادة بخلاف الأياب فإنه من ضروريات العادة ومنه تشييع الأكابر إلى الجنازة مشاة ورجوعهم ركبانا (ثمّ قال سعد) أي لولده (يَا قَيْسُ اصْحَبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) بفتح الحاء أي كن في صحبته وخدمته وفي أصل الدلجي أصحبه والظاهر أنه أختصار منه غير لائق به كما فعل في كثير من مواضع كتابه (قال قيس فقال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اركب) أي أنت أيضا معي أو على دابة اخرى (فأبيت) أي امتنعت تأدبا معه أو حياء منه (فَقَالَ إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ تَنْصَرِفَ) بكسر إما فيهما (فانصرفت) أي فاخترت أهون الأمرين وأحسن الحكمين والحديث رواه أبو داود في الأدب والنسائي في اليوم والليلة. (وفي رواية أخرى) أي لهما أو لأحدهما أو لغيرهما (اركب أمامي) بفتح أوله أي قدامي (فصاحب الدّابّة) أي ولو بالقوة (أولى بمقدّمها)(1/273)
بفتح الدال المشددة وقد تخفف بالركوب في صدرها لما جاء في طرق متعددة صاحب الدابة وحق بصدرها وفي رواية إلا من اذن وفي أصل الدلجي أي بالركوب في صدرها لما جاء في طرق متعددة صاحب الدابة أحق بصدرها وفي رواية إلا من أذن وفي أصل الدلجي أحق بصدرها قال وفي رواية أولى بمقدمها وصنيعه هذا أيضا مخالف للأصول المعتمدة والنسخ المصححة؛ (وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) كما في شمائل الترمذي من حديث هند بن أبي هالة (يؤلّفهم) بتشديد اللام أي يوقع الألفة فيما بينهم ويجمعهم كما يستفاد من قوله تعالى فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ وهو لا ينافي إسناد التأليف إلى الله تعالى في الآية بل ولو نفي التأليف ايضا في آية أخرى من قوله تعالى وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ فإن الآيتين من قبيل قوله سبحانه وتعالى وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أو المعنى كان يؤلفهم معه ويتألف بهم كما يشير إليه قوله تَعَالَى فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ الآية ولما ورد المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف كما رواه أحمد في مسنده عن سهل بن سعد ورواه الدارقطني عن جابر ولفظه المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف (ولا ينفّرهم) بالتشديد وقيل بكسر الفاء المخففة أي لا يعمل شيئا مما ينفر عنه طباعهم فهو كالتأكيد لما قبله أو المعنى يبشرهم ولا ينفرهم لحديث يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا على ما رواه أحمد والنسائي وابن ماجة عن أنس رضي الله عنه (ويكرم كريم كلّ قوم) هو كالتخصيص بعد التعميم وفي حديث رواه ابن ماجة وغيره عن جماعة من الصحابة مرفوعا إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وفي رواية إذا أتاكم الزائر فأكرموه (ويولّيه) بتشديد اللام المكسور أي ويجعله واليا وأميرا (عليهم) ابقاء لما اختار والديهم (ويحذر النّاس) بفتح الذال المعجمة أي يخافهم وتفسيره قوله (ويحترس منهم) أي يحترز من مكر شرارهم لما ظهر في آثارهم فورد الحزم سوء الظن على ما رواه أبو الشيخ في الثواب عن علي كرم الله وجهه وفي رواية احترسوا من الناس بسوء الظن كما رواه الطبراني في الأوسط وابن عدي عن أنس رضي الله تعالى عنه (من غير أن يطوى) أي يدفع ويمنع (عن أحد منهم بشره) بكسر الموحدة أي بشاشة وجهه (ولا خلقه) أي ولا طلاقة خلقه وزيادة لا لمبالغة نفيها، (يتفقد) وفي نسخة يتعهد (أصحابه) أي يطلبهم ويتجسس أحوالهم بالسؤال عنهم ليعرف المانع عن خدمته وملازمة حضرته منهم فيزور مريضهم ويدعو لغائبهم (ويعطي كلّ جلسائه) أي جميع من جالسه (نصيبه) أي حظه بسلام أو كلام أو طلاقة وجه والتفات خد أو إشارة وبشارة، (لا يحسب) بكسر السين وفتحها أي لا يظن (جليسه) أي مجالسه (أنّ أحدا) أي من جلسائه (أكرم عليه) أي على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (منه) أي من ذلك الجليس بحسب حسبانه لما يناله من أنواع الألفة وأصناف المودة وأجناس الكرامة، (من جالسه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لمصاحبة ومكالمة (أو قاربه لحاجة) أي دينية أو أخروية وأو للتنويع لا للترديد ومن خبرية لا شرطية وقاربه مفاعلة من(1/274)
القرب بالراء والباء وتصحف على الأنطاكي فقال أو قاومه أي قام معه كما يقال جالسه إذا جلس معه (صابره) أي انتظره صلى الله تعالى عليه وسلم وحبس نفسه على ما يريد صاحبه متصبرا (حتّى يكون) أي مجالسه أو مقاربه (هو) ضمير فصل والأصح أنه لا محل له (المنصرف عنه) بالنصب على خبر كان والمعنى بالغ في صبره حتى ينصرف مجالسه من تلقاء نفسه وهذا كله لقوله تعالى وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ الآية (ومن سأله حاجة) أي طلب عطية (لم يردّه) بفتح الدال المشددة وتجوز ضمها لضم ما قبلها (إلّا بها) أي بالحاجة بعينها حيث قدر عليها أو بوعده لها وهو معنى قوله (أو بميسور من القول) كتسهيل رزق عملا بقوله تعالى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً ومن القول الميسور الدعاء له بتحصيلها أو بإزالة طلبها فأو على طريقة منع الخلو أي لا يخلو حاله إذا سئل عن احدهما إما عطاء ونقدا وإما دعاء ووعدا ثم قيل الميسور مصدر وقيل اسم مفعول (قد وسع النّاس) بالنصب أي عمهم وشملهم (بسطه) أي سرور ظاهره وطيب باطنه جودا ورحمة وحلما وعفوا ومغفرة وسلما أو انبساطه فقوله (وخلقه) تفسير له وعلى الأول تعميم بعد تخصيص (فصار لهم أبا) أي رحمة وشفقة وهو كما جاء في قراءة شاذة عند قوله تَعَالَى النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وهو أب لهم مع أن كل نبي أب لأمته بل هو أفصل وأكمل تربية من الأب لولده إذ الأب سبب لإيجاده والنبي باعث لإمداده وإسعاده ويشير إليه قوله تعالى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ (وصاروا) أي الناس كلهم (عنده في الحقّ) أي في مراعاة حقهم بحسن خلقه معهم (سواء) أي مستوين لعصمته من الأغراض النفسية الحاملة على خلاف التسوية، (بهذا) أي بما ذكر من الأوصاف البهية (وصفه ابن أبي هالة) وهو هند ربيبه من خديجة، (قال) أي ابن أبي هالة (وكان) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (دائم البشر) أي متهلل الوجه وهو لا ينافي أنه كان كثير الأحزان لاختلاف الظاهر والباطن في العنوان فإنه بالظاهر مع الخلق وبالباطن مع الحق والحزن من لوازم الانكسار والذل والافتقار (سهل الخلق) أي لأصبعه (ليّن الجانب) بتشديد الياء المكسورة أي لا شديده (ليس بفظّ) أي سيىء الخلق في القول (ولا غليظ) أي في الفعل قال ابن عباس رضي الله عنهما الفظ الغليظ في القول وغليظ القلب في الفعل (ولا سخّاب) وفي رواية وكذا في نسخة بالصاد أي كثير الصياح (ولا فحّاش) أي ذا فحش في قوله وفعله، (ولا عيّاب) مبالغة عائب أي وكان لا يعيب على أحد ما يفعله من مباح وإذا كان حراما أو مكروها نهى عنه من غير تعييب وتعيير بل بقصد تبديل وتغيير قال التلمساني وهو والذي بعده فعال على النسب أي ليس بذي عيب ولا بذي مدح وليسا بفعال مبالغة للزوم بعض الأمر ومثله وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي ليس بذي ظلم وإلا لزم بعضه قلت ليس هذا نظيرهما لأنهما على النسبة يستقيم في ذي عيب لا في ذي مدح كما لا يخفى (ولا مدّاح) مبالغة مادح أي لا يبالغ في مدح أحد بما يؤدي إلى اطراء ولا يمدح طعام ولا يذمه كما جاء(1/275)
في رواية لأنه كان شاكرا للنعمة لا ناظرا للذة ويؤيده قوله (يتغافل عمّا لا يشتهي) أي لا يحبه قولا وفعلا مما لا يترتب عليه إثم أصلا (ولا يؤيس) بضم ياء فسكون همزه وقد تبدل ففتح ياء من الإياس من باب الأفعال الذي هو متعد لأيس اللازم من المجرد والضمير في قوله (منه) راجع إليه صلى الله تعالى عليه وسلم والمعنى لا ييأس أحد من فيض وجوده وأثر كرمه وجوده وأما تجويز الدلجي كونه مبنيا للفاعل تبعا لبعض المحشيين وقوله والمعنى لا يؤيس من نفسه أو مما تغافل عنه أحدا بتغافله عنه بحيث لا يكون كذلك فهو مخالف لما في الأصول من صحة المبنى ومناف لما قدمناه من ظهور المعنى وجعل التلمساني قوله ولا يؤيس منه عطفا على لا يشتهى وقال أي ما لم يحضر في وقته ولم يحصله له فيه شهوة فيتركه ويغفله وإن كان مما يمكن حضوره في وقته ويوئس هو بضم أوله وسكون الواو ثم همزة مكسورة واليأس هو القنوط أي ما وجد مما يجوز له تناوله من المباح يستعمله وما لم يجده من ذلك لم يكن منه تكلف له قال ويفسر هذا حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنه كَانَ فِي أَهْلِهِ لَا يَسْأَلُهُمْ طَعَامًا وَلَا يشتهيه فإن أَطْعَمُوهُ أَكَلَ وَمَا أَطْعَمُوهُ قَبِلَ وَمَا سَقَوْهُ شرب الحديث انتهى وما فيه لا يخفى وقال الانطاكي بعد نقله عن الحلبي أنه ضبطه بكسر الهمزة وينبغي أن يجوز بضم أوله ثم بهمزة مفتوحة وياء مكسورة مشددة يقال آيس منه فلان مثل أيئس وكذا التأييس حكاه الجوهري انتهى وينبغي أن تكون الدراية تابعة للرواية كما لا يخفى، (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) أي سهلت أخلاقك لهم وكثر احتمالك عنهم والتقدير فبرحمة وما مزيدة للتأكيد كذا قالوا ولعلهم أرادوا تأكيد التعظيم المستفاد من تنوين التنكير المفيد للتفخيم ولا يبعد أن يكون ما إبهامية ورحمة تفسيرية والجمع بينهما أوقع للمراتب النفسية في إفادة القضية (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) أي سيئ الخلق (غَلِيظَ الْقَلْبِ) أي قاسيه على الخلق (لَانْفَضُّوا) أي تفرقوا (مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] ) ولم ينتفعوا بقولك ولم يصيبوا من رحمتك وفضلك وطولك وأما بقية الآية وهي قوله تعالى فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فليست في نسخ الشفاء وإن كان شرحها الدلجي ومزجها بتفسيرها (وَقَالَ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فُصِّلَتْ: 33] الآية) وهي تحتمل قوله تعالى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ واقتصر الدلجي عليها وقد قيل في معنى هذه الآية ادفع بكلمة التوحيد سيئة الشرك ويؤيده ما بعده من قوله سبحانه وتعالى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ وقيل ادفع بالطاعة المعصية أي إذا أعلمت سيئة فاتبعها حسنة تمحها كما ورد في الحديث مضمونة أو ادفع بالتوبة المعصية ويحتمل قوله تعالى وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي اصفح عنها وقابلها بالحسنة التي هي أحسن مطلقا وإن كانت المعاقبة بمثلها حسنة أيضا أو بأحسن ما يمكن أن يقابل به من الحسنات ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في أمر الديانات وتمام الآية فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ(1/276)
نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ولا شك أن معنى الآية الثانية هو الملائم لباب حسن الخلق في معاشرة الخلق ويؤيده ما روي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جاءه أعرابي فصيح فقال اصغ إلي أوصك ثم قال:
فحي ذوي الأضغان تسلى نفوسهم ... تحيتك الحسنى فقد ترفع الثقل
فإن هتفوا بالقول فاعف تكرما ... وإن خنسوا عنك الكلام فلا تسل
فإن الذي يؤذيك منه استماعه ... كأن الذي قالوا وراءك لم يقل
فقرأ عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فقال الأعرابي ليس هذا من كلام البشر وكان سبب إسلامه (وكان) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على ما رواه ابن سعد مرسلا (يجيب من دعاه) أي ولو بعد منزل الداعي ومأواه ولم يكن له مال ولا جاه تواضعا وشفقة على خلق الله وجبرا لخواطرهم وتألفا لظواهرهم وليقتدي به أمته مع معاشرهم من معاشرهم (ويقبل الهديّة) على ما رواه البخاري أيضا رعاية لزيادة المحبة وإفادة الوصلة والمودة وتفاديا من المباغضة والمقاطعة لما ورد تهادوا تحابوا على ما رواه أبو يعلى في مسنده عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وفي رواية أحمد عنه تهادوا إن الهدية تذهب وحر الصدر أي غشه (ولو كانت) أي الهدية وهي فعيلة من الإهداء (كراعا) بضم أوله وهو مستدق الساق وهو أدون من الذراع وأما قول التلمساني أي ذا كرع فمفوت للمبالغة المطلوبة وروى البيهقي عن أنس ولفظه تهادوا فإن الهدية تذهب بالسخيمة أي الحقد ولو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلى كراع لقبلت ولو هنا للتقليل كما في حديث ردوا السائل ولو بظلف محرق واتقوا النار ولو بشق تمرة والتمس ولو خاتما من حديد (ويكافىء) بكسر الفاء بعدها همز وتسهل أي يجازي (عليها) أو على الهدية وأصل المكافأة المماثلة وهو أقل حسن المعاملة وكان يكافئ بأكثر منها لما سبق عن بنت معوذ ابن عفراء ولقوله تعالى وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها على أحد التفاسير فيها من أن المراد بالتحية هي الهدية وفي رواية البخاري ويثبت عليها من الإثابة وهو مطلق المجازاة أو المجازاة الحسنى لقوله تعالى فَأَثابَهُمُ اللَّهُ. (قال أنس رضي الله تعالى عنه خدمت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عشر سنين) أي بعد الهجرة ومبدأ عمره عشر سنين أيضا (فما قال لي أفّ) بفتح الفاء وكسرها وينون الثاني وفيها لغات عشر وهذه الثلاث عن السبعة ومعناه الاستقذار والاستحقار وقال الهروي يقال لكل ما يضجر منه ويستثقل ونقل أبو حيان فيها نحو الأربعين وجها من اللغة في الارتشاف وقد نظمها السيوطي (قطّ) أي أبدا في تلك المدة (وما قال لشيء صنعته) أي فعلته (لم صنعته ولا لشيء تركته) أي ما صنعته (لم تركته) وهذا الحديث كما يدل على حسن خلقه وكمال حلمه صلى الله تعالى عليه وسلم ونظره إلى قضاء الله وقدره يدل على كمال فضيلة أنس رضي الله تعالى عنه وجمال منقبته وجميل أدبه في(1/277)
خدمته مع صغر سنه لكنها كلها مستفادة من بركة ملازمته ومداومة حضرته؟ (وعن عائشة رضي الله عنها) كما رواه أبو نعيم في دلائل النبوة بسند واه عَنْهَا (مَا كَانَ أَحَدٌ أَحْسَنُ خُلُقًا مِنْ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) كما قال حسان:
تراه إذا ما جئنه متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
(ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته) أي من أزواجه وذريته وأقاربه وأحبابه (إلّا قال لبّيك) أي تأدبا معهم وتعليما لهم وإحضارا لنداء ربه على لسان خلقه وقد ورد أدبني ربي فأحسن تأديبي على ما رواه ابن السمعاني عن ابن مسعود؛ (وقال جرير بن عبد الله) البجلي اليمني (ما حجبني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ما منعني عن الدخول عليه (قطّ) أي أبدا (منذ أسلمت) أي تلطفا معه وتعظيما بجنابه أن يرده عن بابه ويكسر خاطره بحجابه (ولا رآني إلّا تبسّم) لأنه كان مظهر الجمال مع كونه سيدا مطاعا عريض الجاه وسيع البال وقد بسط رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رداءه إكراما له. (وكان يمازح أصحابه) كما ذكره الترمذي في باب مزاحه صلى الله تعالى عليه وسلم مع أصحابه من الرجال والنساء والكبار والصغار ولذا كان ابن سيرين مداعبا ويضحك حتى يسيل لعابه وإذا أريد على شيء من دينه كان الثريا أقرب إليه من ذلك (ويخالطهم) أي تواضعا (ويحادثهم) أي يخاطبهم ويكالمهم تأنيسا (ويداعب صبيانهم) أي يلاعبهم ويمازحهم ومنه قوله لجابر هلا بكرا تداعبها وتداعبك ففي القاموس الدعابة بالضم اللعب وداعبه مازحه (ويجلسهم) بضم أوله أي يعقد صبيانهم (في حجره) بفتح الحاء وتكسر أي في حضنه تلطفا بهم وتطييبا لقلوب آبائهم (ويجيب دعوة الحرّ والعبد والأمّة) أي إذا كانا معتقين أو إذا جاآه وطلباه إلى منزل سيدهما (والمسكين) تواضعا لربه وتمسكنا لخلقه مع جلالة قدره ورفعة محله لحسن خلقه (ويعود المرضى في أقصى المدينة) أي ولو كانوا في أبعد منازلها (ويقبل عذر المعتذر) أي ولو كانت اعذاره ليست على تحققها وفي الحديث أنه قبل عذر من تخلف عن غزوة تبوك بحسب ما أبرزوا من أقوال ظواهرهم ووكل إلى الله أحوال سرائرهم، (قال أنس رضي الله تعالى عنه) كما رواه أبو داود والترمذي والبيهقي عنه (مَا الْتَقَمَ أَحَدٌ أُذُنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) بضم الذال وسكونها فيه استعارة وضع اللقمة في الفم لوضع الفم عند الأذن أي ما جعل أحد أذنه محاذية لفمه ليحادثه مخافتة (فينحّي) من التنحية أي فيبعد (رأسه) وهو في حكم المستثنى أي إلا فيستمر ملقما له أذنه غير منحي عنه وجهه (حتّى يكون الرّجل) المانقم (هو) ضمير فصل (الذي ينحّي رأسه) في محل نصب على أنه خبر كان وحتى غاية لقوله فينحي رأسه (وما أخذ أحد بيده) أي مصافحة أو مبايعة (فيرسل) أي فيطلق (يده) من وضع الظاهر موضع المضمر أي إلا فتستمر يده في يد آخذها (حتّى يرسلها الآخر) بفتح الخاء المعجمة فراء نقيض الأول وفي أصل الدلجي بكسر خاء فذال معجمة وحتى غاية لتركها حتى(1/278)
يرسلها هو وهو تصحيف (ولم ير) بصيغة المجهول أي ولم بيصر حال كونه (مقدّما) بكسر الدال المهملة المشددة أي لم يعلم مقدما (ركبتيه بين يدي جليس له) أي فضلا عن أن يمد رجليه عند أحد من جلسائه وهذا كله تواضع وكمال تأدب وحسن عشرة (وكان) على ما في حديث ابن أبي هالة (يبدأ) أي يبتدىء وفي رواية يبدر بضم الدال والراء أي يبادر ويسبق (من لقيه بالسّلام) فإن هذه السنة أفضل من الفريضة لما فيه من التواضع والتسبب لأداء الواجب والضمير البارز له صلى الله تعالى عليه وسلم والضمير المستتر لمن ويحتمل العكس والأول أقرب إلى الأدب (ويبدأ أصحابه بالمصافحة) مفاعلة من الصاق صفحة الكف بالكف ويلزم منه مقابلة الوجه بالوجه عند اللقاء لأنها ملحوظة في معنى المصافحة خلافا لما يتوهم من كلام الدلجي ثم يستفاد من الحديث أن ما يفعله بعض العامة من مد الأصابع أو إشارة بعضها ليس على وجه السنة ثم رأيت التلمساني قال وصفتها وضع بطن الكف على بطن الأخرى عند التلاقي مع ملازمة ذلك على قدر ما يقع من السلام أو من السؤال والكلام أن عرض لهما وأما اختطاف اليد في أثر التلاقي فهو مكروه هذا وزاد الدلجي عن أبي ذر ما لقيته قط إلا صافحني وأسنده إلى أبي داود وهو ليس بموجود في النسخ المصححة والأصول المعتمدة (لم ير) أي كما رواه الدارقطني في غريب مالك وضعفه والمعنى لم يبصر أو لم يعلم (قطّ مادّا رجليه) أو إحديهما (بين أصحابه حتّى لا يضيق بهما على أحد) وهو كالعلة لتركه مدهما أي كان يترك مدهما حذرا من أن يضيق بهما على أحد من جلسائه شفقة عليهم وهو لا ينافي قصد تواضعه وإرادة أدبه معهم وفيه اقتباس من قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ أي ولو بلسان الحال تفسحوا في المجلس فافسحوا يفسح الله لكم، (يكرم من يدخل عليه) أي استئناسا والجملة وقعت استئنافا كما وقع ما قبلها ولعله فصلها عما قبلها حذرا من توهم كونها تتمة حديث سبقها (وربّما بسط له) أي فرش للداخل عليه (ثوبه) إكراما له منهم وائل ابن حجر الحضرمي ولعل المراد بثوبه رداؤه لقوله (ويؤثره) أي يقدمه على نفسه ويفرده (بالوسادة) أي بالجلوس عليها والاعتماد على المخدة (التي تحته) أي كانت تحته مفروشة إجلالا له وتكريما (ويعزم) أي يؤكد (عليه) أي على الداخل له (في الجلوس عليها) لدفع الوحشة وحصول المعذرة (إن أبى) أي امتنع من الجلوس عليها تأدبا لتلك الحضرة (ويكنّي) بتشديد النون (أصحابه) أي يجعل لهم كنى جمع كنية كأبي تراب وأبي هريرة وأم سلمة وهو من الكناية لما فيها من ترك التصريح بأسمائهم الاعلام وهو من آداب الكرام وأما أبو لهب فعدل عن اسمه عبد العزى كراهة لذكره أو تفاؤلا لمقره أو لاشتهاره به وأبعد من قال لتألفه (ويدعوهم بأحبّ أسمائهم) أي تارة أو المراد من الاسماء ما يعم الاعلام والألقاب والكنى والمعنى أنه لا ينبزهم بما يكرهونه بل يدعوهم بما يحبونه (تكرمة لهم) أي تكريما لهم وتعليما لهم في العمل بأصحابهم والتكرمة بكسر الراء وقول التلمساني بضم الراء وهم (ولا يقطع على أحد حديثه) أي بإدخال كلام في اثنائه قبل تمامه (حتّى يتجوّز) غاية لترك قطعه(1/279)
حديثه إلى أن يتجاوز منه ويتعدى إلى ما لا يليق به وقال التلمساني أي يفرط ويكثر والأول هو الأظهر فتديره (فيقطعه) أي فحينئذ يقطع حديثه (بنهي) أي صريح له أو عام يشتمله (أو قيام) أي بتلويح والأول زجر له والثاني إعراض عنه وهو مفيد لنهيه عنه إذ لا يقر على مثله، (ويروى بانتهاء أو قيام، وروي) أي كما في الأحياء وفي نسخة وَرُوِيَ (أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْلِسُ إِلَيْهِ أَحَدٌ وهو يصلّي) أي والحال أنه عليه الصلاة والسلام في صلاة من النوافل (إلّا خفّف صلاته) أي في إطالة صلاته (وسأله عن حاجته) أي دنيوية كانت أو أخروية (فإذا فرغ) أي عن قضاء حاجته (عاد إلى صلاته) أي المعتادة بالإطالة قال العراقي ولم أجد له أصلا، (وكان أكثر النّاس تبسّما) لكونه مظهر الجمال والبسط غالب عليه في كل حال وهذا معنى قوله (وأطيبهم نفسا) أي مستبشرا غير عبوس (ما لم ينزل عليه) بصيغة المجهول ويصح كونه للفاعل (قرآن) أي وحي متلو (أو يعظ) أي ما لم يعظ وينصح الناس ويعلمهم التأديب بالترغيب والترهيب (أو يخطب) أي في المنبر عند الجمع الأكبر فإنه حينئذ لم يكن متبسما ولا منبسطا بل كان يغلب عليه القبض لما فيه من مقال الإجلال بإظهار مظاهر ذي الجلال ففي كل مقام مقال ولكل مقال حال لأرباب الكمال (قال) أي على ما رواه أحمد والترمذي بسند حسن (عبد الله بن الحارث) وهو آخر من توفي من الصحابة بمصر والمراد به ابن جزء ابن عبد الله بن معدي كرب الزبيدي بضم الزاء وفي الصحابة من اسمه عبد الله بن الحارث أربعة عشر غيره على ما ذكره الحلبي وقال حديثه المذكور ههنا أخرجه الترمذي في المناقب من الجامع وهو في الشمائل أيضا (مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعن أنس) قال كما رواه مسلم (كان خدم المدينة) بفتحتين جمع خادم والمعنى خدام أهلها (يأتون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا صلّى الغداة) أي صلاة الصبح (بآنيتهم) متعلق بيأتون والباء للتعدية أي يجيئون بأوانيهم (فيها الماء فما يؤتى) بصيغة المفعول من أتى يأتي أي ما يجاء (بآنية إلّا غمّس) أي أدخل (يَدَهُ فِيهَا وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْغَدَاةِ الباردة) أي وهو مع ذلك لا يمتنع مما هنالك (يريدون به) أي يغمس يده فيها (التّبرك) أي طلب البركة وحصول النعمة وزوال النقمة وكمال الرحمة هذا وفي الحديث المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من الذي يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم.
فصل [وأما الشفقة والرأفة والرحمة لجميع الخلق]
(وأمّا الشّفقة) أي الخوف على وجه المحبة (والرّأفة) وهي شدة الرحمة (والرّحمة) أي المرحمة العامة (لجميع الخلق) أي مؤمنهم وكافرهم وأنسهم وجنهم وقريبهم وغريبهم وفقيرهم وغنيهم حتى مماليكهم والحيوانات وسائر الموجودات وفي نسخة صحيحة بتأخير الرأفة عن الرحمة وهو الأنسب في مقام المرتبة لكن الأول أوفق بما جاء في التنزيل فهو أولى (فقد قال الله تعالى فيه) أي في حقه عليه الصلاة والسلام (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ(1/280)
أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] ) كذا في أكثر النسخ وفي بعضها بعد قوله فيه عزيز الخ أي شديد شاق عليه عنتكم ولقاؤكم المكروه فما مصدرية وعلى متعلق بقوله عزيز ويجوز أن يكون عزيز منقطعا عما بعده والمعنى عزيز الوجود عزيز الجود بديع الجمال منيع الجلال منبع الكمال ويكون عليه ما عنتم جملة خبرها مقدم وعلى للضرر أي ويضره ولا يهون عليه تعبكم ومشقتكم حريص عليكم أي على منفعتكم دينا ودنيا بالمؤمنين منكم ومن غيركم رؤوف رحيم في الدنيا والآخرة وقدم أبلغهما رعاية للفاصلة أو للتذييل والتتميم وقدم الجار لاختصاصهم برحمته في الأولى والعقبى (وَقَالَ تَعَالَى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ) لأنه أرسل لإسعادهم وصلاح معاشهم ومعادهم أن اتبعوه ولم يخالفوه (قال بعضهم) أي بعض العلماء وفصله عما قبله لاختلاف القائل قدما وحدوثا (من فضله صلى الله تعالى عليه وسلم أنّ الله تعالى أعطاه) أي من جملة ما فضل به على غيره ومما دل على كمال خيره أن الله تعالى أعطاه بخلقه سبحانه وتعالى فيه الرأفة والرحمة (اسمين من أسمائه) أي نعتين سماه بهما (فقال بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] ) وفي قراءة رؤوف بالقصر (وحكى نحوه) أي نقل مثل ما ذكر عن بعضهم (الإمام أبو بكر بن فورك) بضم فاء وسكون واو وفتح راء وكاف منون وقد يمنع بلغت تصانيفه في الأصلين ومعاني القرآن قريبا من مائة مصنف توفي سنة ست وأربعمائة (حَدَّثَنَا الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمّد الخشنيّ) بضم الخاء المعجمة وفتح الشين المنقوطة فنون فياء نسبة لقبيلة خشين (بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ حَدَّثَنَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَبُو عَلِيٍّ الطّبريّ) بفتح الطاء المهملة والموحدة هكذا هو في الأصول المعتبرة والنسخ المعتمدة وقال الحلبي كذا وفي نسخة في الأصل الذي وقفت عليه إمام الحرمين ثنا أبو علي الطبري انتهى والطبري منسوب إلى طبرستان وقيل إلى طبرية (ثنا عبد الغافر الفارسيّ) بكسر الراء وهو النيسابوري صاحب تاريخ نيسابور وكتاب مجمع الغرائب والمفهم لشرح مسلم ولد سنة إحدى وخمسين وأربعمائة سمع جده لأمه أبا القاسم القشيري وتفقه على امام الحرمين ولزمه أربع سنين حدث عنه جماعة وروى عنه ابن عساكر بالاجازة (ثنا أبو أحمد الجلوديّ) بضم الجيم واللام وقد تقدم (ثنا إبراهيم بن سفيان) سبق ذكره (ثنا مسلم بن الحجّاج) أي صاحب الصحيح (ثنا أبو الطّاهر) روى عن ابن عيينة والشافعي وخلق وعنه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة (نا) أي انبأنا وفي نسخة أنا بمعنى أخبرنا (ابن وهب) أحد الأعلام سمع مالكا وغيره أخرج له أصحاب الكتب الستة طلب للقضاء فجنن نفسه وانقطع (نا) أي أنبأنا (يونس) أي ابن زيد الأيلي بفتح همزة وسكون تحتية روى عن عكرمة والزهري وعنه ابن المبارك وغيره قال الحلبي وفي يونس ست لغات ضم النون وفتحها وكسرها مع الهمزة وعدمه (عن ابن شهاب) أي الزهري (قال غزا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غزوة وذكر حنينا) بالتصغير أي وذكر ما يدل على أنه أراد بها حنينا وهو واد بين مكة والطائف(1/281)
وراء عرفات على بضعة عشر ميلا من مكة وكانت غزوته في شوال سنة ثمان (قال) أي ابن شهاب (فأعطى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي في تلك الغزوة من غنائمها (صفوان بن أميّة) تصغير أمة (مائة من النّعم) بفتحتين أي الإبل والبقر والشاة وقيل الإبل والشاة وهو جمع لا واحد له من لفظه وفي رواية من الغنم (ثمّ مائة ثمّ مائة) أي ثالثة تألفا إليه وشفقة عليه وانقاذا له من النار ولمن تبعه من الكفار، (قال ابن شهاب ثنا) أي حدثنا كما في نسخة (سعيد بن المسيّب) بفتح التحتية المشددة عند العراقين وهو المشهور وبكسرها عند المدنيين وذكر أن سعيدا كان يكره الفتح وهو إمام التابعين وسيدهم جمع بين الفقه والحديث والعبادة والورع روي عنه أنه صلى الصبح بوضوء العشاء خمسين سنة وعنه أنه قال ما نظرت إلى قفاء رجل في الصلاة مذ خمسين سنة لمحافظته على الصف الأول وقال أيضا ما فاتتني التكبيرة الأولى مذ خمسين وكان يسمى حمامة المسجد وكان يتجر في الزيت (أنّ صفوان قال والله لقد أعطاني) أي رسول الله (ما أعطاني) أي الذي أعطانيه من المئين (وإنّه لأبغض الخلق إليّ) الجملة الحالية (فما زال يعطيني) أي بعد ذلك (حتّى أنّه) أي أنه عليه الصلاة والسلام صار الآن (لأحبّ الخلق إليّ) وذلك لعلمه عليه الصلاة والسلام أن دواءه من داء الكفر ذلك المبتج إسلامه إذ الطبيب الماهر يعالج بما يناسب الداء وقد رأى أن داء المؤلفة حب المال والأنعام فدواهم بأكرم الانعام حتى عرفوا من نقمة الكفر بنعمة الإسلام ثم اعلم أن الراوي إذا قدم الحديث على السند كَانَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم كذا وكذا أخبرني به فلان ويذكر سنده أو قدم بعض الإسناد مع المتن كهذا الحديث الذي نحن فيه فهو إسناد متصل لا يمنع ذلك الحكم باتصاله ولا يمنع ذلك من روى ذلك أي تحمله من شيخه كذلك بأن يبتدئ بالإسناد جميعه أولا ثم يذكر المتن كما جوزه بعض المتقدمين من أهل الحديث قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح وينبغي أن يكون فيه خلاف نحو الخلاف في تقديم بعض المتن على بعض فقد حكى الخطيب المنع من ذلك على القول بأن الرواية على المعنى لا تجوز والجواز على القول بأن الرواية على المعنى تجوز ولا فرق بينهما في ذلك كذا ذكره الحلبي، (وروي) بصيغة المجهول وقد روى أبو الشيخ والبزار (أنّ أعرابيّا) وهو غير معروف (جاءه) أي أتى النبي عليه الصلاة والسلام (يطلب منه شيئا) أي من مطالب الدنيا (فأعطاه ثمّ قال) أي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (أحسنت إليك) بهمزة ممدودة وسكون هاء لاجتماع همزة الاستفهام وهمزة الأفعال للتقرير وهو حمل المخاطب على الإقرار بأنه أحسن إليه وأنعم عليه، (قال الأعرابي لا) أي لا أعطيتني كثيرا ولا قليلا (ولا أجملت) أي ولا أتيت يا جميل أو ولا أوصلتني جميلا حيث لا أحسنت جزيلا وقيل معناهما واحد كرر للتأكيد وقيل ما أجملت ما أكثرت وهو أولى كما لا يخفى ولا يبعد من غلظته وجلفته لديه إن أراد بقوله ولا أجملت دعاء عليه ويؤيده قوله، (فغضب المسلمون وقاموا إليه) ليوافوه بما استحقه زجرا عليه(1/282)
(فأشار) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (إليهم أن كفّوا) أي كفوا أو بأن كفوا بضم فتشديد أي امتنعوا عنه وكفوا أنفسكم منه شفقة عليه وإحسانا إليه (ثمّ قام) أي النبي عليه الصلاة والسلام (ودخل منزله) أي للاهتمام (وأرسل) وفي نسخة فأرسل (إليه وزاده شيئا) أي على ما قدمه عليه (ثمّ قال أحسنت إليك) كما سبق (قال نعم فجزاك الله به) أي بسبب ما أحسنت به إلى (من أهل وعشيرة خيرا) بالنصب على أنه مفعول ثان لجزى ومن تبعيضية والجملة اعتراض بين الفعل ومفعوله نصب على الاختصاص أو على الحال أي اخصك من بينهما أو حال كونك منهما، (فقال له النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم إنّك قلت ما قلت) أي شيئا عظيما مستهجنا قبيحا (وفي نفس أصحابي) أي وفي نفوسهم وفي أصل التلمساني وفي نفس أصحابي بصيغة المفرد (من ذلك) أي قولك (شيء) أي أمر عظيم وخطب جسيم (فإن أحببت) أي أردت إزالة ذلك (فقل بين أيديهم) أي عندهم (ما) وفي نسخة مثل ما (قلت بين يديّ) أي من المديح ليكون كفارة لذلك القبيح (حتّى يذهب) أي بقولك لهم ذلك (ما في صدورهم عليك) أي من الغضب لما صدر عنك فإن المعالجة بالاضداد، (قال نعم) أي أقول لهم ذلك. (فلمّا كان الغد) أصله غدو فحذفوا الواو بلا عوض (أو العشيّ) بفتح فكسر فتشديد وأو لشك الراوي (جاء) أي الأعرابي (فقال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ هَذَا الْأَعْرَابِيَّ قَالَ مَا قال) أي ما سمعتموه في أول الحال (فزدناه) أي بعض المال (فزعم أنّه رضي) أي به عنا (أكذلك) استفهام تقرير أي أحق ما نقلته عنك (قَالَ نَعَمْ فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خيرا) فكان المراد بالأهل هو الأخص أو الأعم والله أعلم. (فقال) أي النبي كما في نسخة صحيحة (صلى الله تعالى عليه وسلم: مثلي ومثل هذا) المثل بفتحتين في الأصل هو النظير ثم استعمل في القول السائر الممثل مضربه بمورده أي موضع ضربه بموضع وروده فالمورد هو الحالة الأصلية التي ورد فيها كحالة المنافقين والمضرب هو الحالة المشبهة كحالة المستوقد نارا ولا يضرب إلا بما فيه غرابة زيادة في التوضيح والتقرير فإنه أوقع للنفس وأقمع للخصم ويريك المخيل محققا والمعقول محسوسا ثم استعير لما له شأن عجيب وفيه أمر غريب من صفة أو حال أو قصة نحو مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ولله المثل الأعلى ومثل الجنة التي وعد المتقون وأمثالها والمعنى هنا شبهي وشبه العجيب الشأن والغريب البيان (مثل رجل له ناقة شردت عليه) أي نفرت وذهبت في الأرض عنه أو غلبت عليه (فأتبعها النّاس) من الاتباع أو الاتباع أي فتبعوها ليلحقوها (فلم يريدوها إلّا نفورا) أي تنفرا منهم وتبعدا عنهم (فناداهم صاحبها خلّوا بيني وبين ناقتي) أي اتركوني معها (فإنّي أرفق بها) أي أشفق عليها (منكم وأعلم) أي بحالها وطبعها وطريق أخذها (فَتَوَجَّهَ لَهَا بَيْنَ يَدَيْهَا فَأَخَذَ لَهَا مَنْ قمام الأرض) بضم القاف وتخفيف الميم جمع قمامة وهي في الأصل الكناسة أريد بها ههنا ما تلقمه من الأرض فتأكله شبه بالكناسة لخسته فاستعير له اسمها لمشاركة صفته (فردّها) أي طمعها إليه (حتّى جاءت واستناخت) أي طلبت البروك(1/283)
وهو بنون قبل الألف وخاء معجمة بعدها يقال أناخ الجمل فاستناخ أي بركه فبرك (وشدّ عليها رحلها) أي ربط عليها قتبها (واستوى عليها) أي استقر عليها جالسا (وإنّي لو تركتكم حيث قال الرّجل) أي حين قوله (ما قال) أي شيئا قاله أو لا (فقتلتموه دخل النّار) أي عقوبة له بما ظهر من الكفر في اساءة أدبه معه صلى الله تعالى عليه وسلم فكان حسن ملاطفته وزيادة عطيته سببا لإرضائه وباعثا لتوبته فهو أرفق بأمته وأعلم بحالهم منهم فإنه بهم رحيم وبدوائهم حكيم ومما يناسب المقام ويلائم المرام ما روي عن خوات بن جبير من الصحابة الكرام أنه قال نزلت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمر الظهران فإذا نسوة يتحدثن فأعجبتني فأخرجت حلة من عيبتي فلبستها وجلست إليهن فمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فهبته فقلت يا رسول الله جمل لي شرود وأنا ابتغي له قيد والله فمضى وتبعته فألقى على ردائه ودخل الاراك فقضى حاجته وتوضأ ثم جاء فقال يا أبا عبد الله ما فعل شراد جملك ثم ارتحلنا فجعل كلما لحقني قال السلام عليك يا أبا عبد الله ما فعل شراد جملك فتعجلت المدينة وتركت مجالسته والمسجد فطال ذلك علي فتحينت خلو المسجد ثم دخلت فطفقت أصلي فخرج من بعض حجره فصلى ركعتين خففهما وطولت رجاء أن يذهب عني فقال طول أبا عبد الله ما شئت فلست ببارح حتى تنصرف فقلت والله لأعتذرن إليه فانصرفت فقال السلام عليك يا أبا عبد الله ما فعل شراد الجمل فقلت والذي بعثك بالحق ما شرد ذلك الجمل منذ اسلمت فقال رحمك الله مرتين أو ثلاثا ثم لم يعد.
(وروي عنه) بصيغة المجهول وهو مروي من طريق أبي داود عنه (أنّه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ) من التبليغ أو الإبلاغ كما قرئ بهما في السبعة قوله تعالى أُبَلِّغُكُمْ وهو يحتمل النهي والنفي وهو بمعنى النهي كما هو أبلغ أي لا يوصلني أحد منكم بأن ينقل (عن أحد من أصحابي شيئا) أي مما ينكر فعله من أيهم كان من أي وقت كان وهذه النكرات وردت في حيز نفي متوشحة بنهي فعمت جميع الأصحاب والأوقات والأشياء مكروهة أو حراما بشهادة المقام إذ لا يتعلق نهى بماح ومأذون فيه (فإنّي أحبّ أن أخرج) أي من الدنيا (إليكم وأنا سليم الصّدر) جملة حالية وفيه إيماء إلى قوله تعالى إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي سالم من الغش والحقد للخلق ومن الغفلة عن ذكر الحق.
(ومن شفقته على أمّته عليه الصلاة والسلام تخفيفه) أي عنهم أعباء التكاليف (وتسهيله عليهم) أي وتهوينه بما يقوي قلوبهم عليه من الترغيب والترهيب. (وكراهته) أي لهم (أشياء مخافة أن تفرض) أي تلك الأشياء (عليهم) ومخافة منصوب على العلة للأفعال الثلاثة وفي نسخة بدلها خوف أن تفرض عليهم وهذا حكم إجمالي أو رد لكل ما يناسبه جمعا وتقسيما (كقوله) على ما رواه الشيخان (لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مع كلّ وضوء) أي أمر وجوب فيؤخذ استحبابه في كل حال ولو كان للصائم بعد الزوال فإن لولا لامتناع الشيء لوجود غيره والمعنى امتنع الأمر بالفريضة لوقوع المشقة. (وخبر صلاة(1/284)
اللّيل) بالجر وهو الصحيح وفي نسخة بالرفع على أنه مبتدأ خبره يأتي ولعله أراد به ما رواه الشيخان في قيام الليل من خبر خذوا من العمل ما تطيقون إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يريد يستغفر الله فيسب نفسه وما روياه في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص حيث قال وأما أنا فأرقد وأقوم وأصلي ومنعه عن قيام الليل كله وقد روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم خرج ليلة في شهر رمضان فصلى بالقوم عشرين ركعة واجتمع الناس في الليلة الثانية فخرج وصلى بهم فلما كانت الليلة الثالثة كثر الناس فلم يخرج وقال عرفت اجتماعكم لكن خشيت أن نفرض عليكم (ونهيهم) بالوجهين أي ونهيه إياهم (عن الوصال) كما روياه وهو أن لا يفطر أياما متوالية؛ (وكراهته) أي لأجلهم (دخول الكعبة) أي دخوله فيها على ما رواه أبو داود وصححه الترمذي (لئلّا تتعنّت أمّته) من الاتعاب وهو الإيقاع في التعب والمشقة وفي نسخة لئلا تتعب أمته بفتح التاء والعين ورفع أمته وفي نسخة صحيحة لئلا يعنت من أعنت غيره إذا أوقعه في العنت وهو المشقة وفي نسخة بتشديد النون المكسورة؛ (ورغبته لربّه) أي دعاؤه إياه على طريقة الميل والرغبة (أن يجعل سبّه) أي شتمه عليه الصلاة والسلام (ولعنه لهم) أي بأن دعا عليهم بالطرد والبعدان صدر شيء منهم لبعضهم أو لكلهم (رحمة بهم؛ وأنّه) ضبط بالكسر والفتح وهو الأظهر أي ومن شفقته عليهم كما وراه الشيخان أنه (كان يسمع بكاء الصّبيّ) أي الصغير والبكاء يمد ويقصر (فيتجوز) أي فيقتصر ويخفف ويتعجل (في صلاته) أي المعقودة للجماعة رحمة لهم وحذرا من ذهاب خشوع من صلى معه من والديه. (ومن شفقته صلى الله تعالى عليه وسلم أن دعا ربّه) أي سأله (وعاهده) أي وأخذ عهده سبحانه وتعالى فيما بينه وبينه (فقال أيّما رجل) وكذا حكم المرأة تبعا (سببته أو لعنته) ليس أو للشك بل للتنويع (فاجعل ذلك له زكاة) أي نماء وبركة يتبارك بها (ورحمة) أي ترحما بها (وصلاة) أي ثناء أو بعادة وقال الدلجي عطف تفسير إذ هي منه تعالى رحمة وقال الأنطاكي عطف الصلاة على الرحمة وإن كانت في معناها لتغاير اللفظ ولا يخفى أن ما اخترناه هو السديد لأن التأسيس أولى من التأكيد (وطهورا) يتطهر به وجعله الدلجي أيضا من باب التأكيد حيث فسر الزكاة بالطهارة خلافا لما قدمناه (وقربة) أي وسيلة (تقرّبه بها إليك يوم القيامة) قال الدلجي إنما أعاده لما فيه من الزيادة أقول وكان الأولى للمصنف أن يجمعهما من غير فصل بينهما واعلم أن أول الحديث اللهم إن محمدا بَشَرٌ يَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ وَإِنِّي قَدِ اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه فأيما رجل سببته أو لعنته الحديث قيل وإنما يكون دعاؤه عليهم رحمة وزكاة ونحو ذلك إذا لم يكن اهلا للدعاء عليه والسب واللعن بأن كان مسلما كما جاء في الحديث كذلك في بعض الروايات فأيما رجل من المسلمين سببته الحديث وإلا فقد دعا صلى الله تعالى عليه وسلم على الكفار والمنافقين ولم يكن ذلك رحمة بلا شبهة فإن قيل كيف يدعو صلى الله تعالى عليه وسلم على من ليس(1/285)
بأهل للدعاء عليه أو سبه أو لعنه فالجواب أن المراد ليس بأهل لذلك عند الله تعالى وفي باطن الأمر ولكنه في الظاهر مستوجب له فيظهر له صلى الله تعالى عليه وسلم استحقاقه لذلك بأمارة شرعية وهو مأمور بحكم الظواهر والله يتولى السرائر (ولمّا كذّبه قومه) أي ومما يدل على كمال شفقته على أمته حديث الشيخين أنه لما كذبه قريش من كفار مكة (أتاه جبريل عليه السّلام) أي تسلية لحاله وتسكينا لتألمه (فقال له إنّ الله قد سمع قول قومك لك) أي لأجلك (وما ردّوا عليك) أي من تكذيب وغيره في حقك وقيل المعنى وما أجابوك وذلك لأنه سبحانه وتعالى لا يعزب عن علمه مسموع إلا أن سمعه صفة تتعلق بالمسموعات من غير جارحة على هيئة الموجودات فإنه سبحانه وتعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فنزه سبحانه وتعالى أولا عن التشبيه والتمثيل ثم أثبت ردا على أهل التعطيل (وقد أمر ملك الجبال) أي أذنه بالانقياد لك (لتأمره) أي لأجل أن تأمره (بما شئت فيهم) أي فيطيعك في حقهم (فناداه ملك الجبال) أي فحضره الملك وناداه باسمه أو بوصف من أوصافه (وسلّم عليه) الواو لمطلق الجمع لمناسبة تقديم السلام على النداء والكلام (وقال مرني بما شئت) أي في قومك وحذف مفعوله للتعميم ثم خصص بقوله (إن شئت أن أطبق) بضم الهمزة وكسر الموحدة أي أوقع وأرمي (عليهم الأخشبين) أي فعلت وفي أصل الدلجي أطبقت وهو الأوفق لكنه مخالف للأصول المصرحة والنسخ المصححة والمراد بالأخشبين وهو بالخاء والشين المعجمتين فموحدة تثنية الأخشب وهو الجبل الخشن وأنشد أبو عبيدة:
كان فوق منكبيه أخشبا ... جبلان مطبقان بمكة
قيل هما أبو قبيس وقعيقعان أو الجبل الأحمر الذي أشرف على قعيقعان وعن ابن وهب هما جبلان تحت عقبة مني فوق المسجد (قال) وفي أصل الدلجي فقال (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بل أرجو) أي لا أريد استئصالهم بل أتوقع (أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ الله وحده) أي منفردا (ولا يشرك به شيئا) أي شيئا من الإشراك لا جليا ولا خفيا والجملة الثانية كالمؤكدة لما قبلها ويمكن اعتبار مغايرتها لها وما ذاك إلا لكونه رحمة للعالمين وقد أمضى الله سبحانه وتعالى رجاءه فكأنه صلى الله تعالى عليه وسلم دعا لهم بالخير ولو بواسطة تحمل الضير. (وروى ابن المنكدر) تقدمت منقبته وأنه تابعي جليل فالحديث مرسل إلا أنه ليس مما يقال بالرأي فيكون له حكم الموصول كما قالوا في موقوف الصحابي بهذا المعنى إنه يكون في حكم المرفوع لا سيما ويعضده الحديث السابق المروي في الصحيحين والحاصل أنه روي (أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ السَّمَاءَ والأرض والجبال أن تطيعك) أي بإطاعتك فمرها بما شئت فقال (أؤخّر عن أمّتي) أي العذاب الذي استحقوه بكفرهم (لعلّ الله أن يتوب عليهم) أي على(1/286)
بعضهم بتوفيق إيمانهم أو يخرج مؤمنا من أصلابهم؛ (قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «مَا خُيِّرَ رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا) أي أهونهما كما اختار تأخير العذاب عن أمته كما صرح به صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديث الأول بقوله بل للاضراب عما خير فيه من الاطباق وعدمه وحديث عائشة رضي الله تعالى عنهما سبق الكلام عليه وذكر السيوطي في جامعه الصغير برواية الترمذي والحاكم في مستدركه عن عائشة رضي الله تعالى عنها بلفظ ما خير بين أمرين إلا اختيار ارشدهما هذا وما أحسن ما قيل في المداراة:
ودارهم ما دمت في دارهم ... وأرضهم ما دمت في أرضهم
وقوله:
ما دمت حيا فدار الناس كلهم ... فإنما أنت في دار المداراة
من يدر داري ومن لم يدر سوف يرى ... عما قليل نديما للندامات
(وقال ابن مسعود) أي فيما رواه الشيخان (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتخوّلنا) بالخاء المعجمة أي يتعهدنا (بالموعظة) أي بالنصائح المفيدة وقيل هو تخويف بسوء العاقبة وقال أبو عمرو بن الصلاح والصواب بالمهملة أي يتحرى الحال التي ينشطون فيها للموعظة فيعظم فيها ولا يكثر عليهم فيملوا منها ورواه الأصمعي يتخوننا بالنون بدل اللام مع الخاء المعجمة بمعنى يتعهدنا (مخافة السّامة) بهمزة ممدودة أي الملالة (علينا؛ وعن عائشة:
أنّها ركبت بعيرا) بفتح أوله ويكسر أي جملا (وفيه صعوبة فجعلت تردّده) أي من الترديد وهو الرد بالتشديد (فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عليك بالرّفق) أي الزمي اللطف مع كل شيء في كل حال والباء زائدة والمعنى استعملي الرفق وقد ورد مرفوعا ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه كما رواه عبد بن حميد والضياء عن أنس رضي الله تعالى عنه وفي صحيح مسلم بروايته عن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا مرفوعا ولفظه عليه بالرفق أن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه وروى البخاري في تاريخه عنها أيضا عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش.
فصل [وأما خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم في الوفاء]
(وأمّا خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم في الوفاء) أي القيام بمقتضى الوعد (وحسن العهد) أي وفي تهد العقد ومراعاة الوجد (وصلة الرّحم) بالإحسان إلى ذوي القرابة خصوصا (فَحَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَامِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بقراءتي عليه) والقراءة أحد وجوه الرواية على اختلاف في أنها الأفضل أو السماع من الشيخ هو الأكمل وتحقيق الفصول في الأصول (قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ) وفي نسخة ابن أحمد (حدّثنا أبو إسحاق الحبّال) بفتح مهملة فتشديد موحدة (حدّثنا أبو محمّد بن النّحّاس) بفتح نون وتشديد مهملة (حدّثنا ابن الأعرابي(1/287)
حدّثنا أبو داود) أي صاحب السنن (حدّثنا محمّد بن يحيى) إمام جليل نيسابوري روى عن ابن مهدي وعبد الرزاق وعنه البخاري والأربعة وغيرهم ولا يكاد يفصح البخاري باسمه لما جرى بينهما قال أبو حاتم هو إمام أهل زمانه (حدّثنا محمّد بن سنان) بكسر أوله مصروف روى عنه البخاري وغيره (حدّثنا إبراهيم بن طهمان) بفتح مهملة وسكون هاء وهو أبو سعيد الخراساني يروي عن سماك بن حرب وثابت البناني وعنه ابن معين وخلق وثقه أحمد وأبو حاتم وكان من أئمة الإسلام فيه إرجاء أخرج له اصحاب الكتب الستة (عن بديل) بضم موحدة وفتح دال مهملة وسكون تحتية فلام وهو ابن ميسرة العقيلي يروي عن أنس وجماعة وعنه شعبة وحماد بن زيد (عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شقيق) وفي نسخة أبي شقيق (عن أبيه) أبوه هو عبد الله بن شقيق وهو عقيلي بصري يروي عن عمر وأبي ذر وعنه قتادة وأيوب وثقه أحمد وغيره (عن عبد الله عن أبي الحمساء) بمهملتين بينهما ميم ساكنة فألف ممدودة وفي نسخة بخاء معجمة فنون وهو تصحيف كما قال الحلبي وقال التلمساني وهو الأكثر في الرواية والصواب بالميم وفي نسخة عن أبي الحمساء وأبو الحمساء لا إسلام له ولا رواية (قال بايعت النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ببيع) أي بعقد بيع لا بعهد بيعة (قبل أن يبعث) أي بالرسالة (وبقيت له بقيّة) إما من الثمن أو المثمن فإن البيع من الأضداد (فوعدته) وفي نسخة وهي الأظهر فواعدته (أن آتيه بها) أي أجيئه بالبقية (في مكانه) أي الذي صدر فيه البيع أو غيره (فنسيت) أي أن آتيه بها (ثمّ ذكرت بعد ثلاث) أي ثلاث ليال أو ثلاثة أيام ولم يلحق التاء به لحذف مميزه وقيل المراد الليالي بأيامها والليل سابق والحكم للسابق وأبعد من قال ويحتمل ثلاث ساعات وأغرب التلمساني بقوله وهو الأقرب ووجه الغرابة أن الانتظار ثلاث ساعات مما لا يستغرب (فجئت) وفي نسخة فجئته بإبراز ضميره (فإذا هو في مكانه) أي مكان وعده (فقال يا فتى لقد شققت علّي) أي أوقعت المشقة علي وثقلت علي (أنا ههنا منذ ثلاث) يفيد أنه ما تحول من مكانه ذلك (أنتظرك) أي لتأتيني هنالك وهذا من جملة أخلاق جده إسماعيل عليه السلام حيث قال تعالى وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ قال مجاهد لم يعد شيئا إلا وفى به وقال مقاتل وعد رجلا أن يقيم مكانه عليه السلام حتى يرجع إليه الرجل فأقام إسماعيل مكانه ثلاثة أيام للميعاد حتى رجع إليه الرجل وقال الكلبي انتظره إسماعيل حتى حال عليه الحول. (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) كما رواه البخاري في الأدب المفرد (كان النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) الظاهر إن كان للاستمرار الغالبي أو لمجرد الربط التركيبي (إذا أتى) أي جيء (بِهَدِيَّةٍ قَالَ اذْهَبُوا بِهَا إِلَى بَيْتِ فُلَانَةَ) كناية عن علم امرأة وهي هنا لا تعرف من هي (فَإِنَّهَا كَانَتْ صَدِيقَةً لِخَدِيجَةَ إِنَّهَا كَانَتْ تُحِبُّ خديجة) وهو للتأكيد إذ تفيد الجملة الأولى أن خديجة كانت تحبها أيضا او فيه الحث على البر والصلة وحسن العهد؛ (وعن عائشة رضي الله عنها) كما في الصحيحين (قالت ما غرت) بكسر غين معجمة وسكون راء وفي نسخة صحيحة قالت ما غرت (على امرأة) أي من نساء النبي(1/288)
صلى الله تعالى عليه وسلم (ما غرت) أي كغيرتي (على خديجة لما كنت) علة لغيرتها أي لأجل كوني دائما (أسمعه) أي اسمع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يذكرها) أي ذكرا جميلا وثناء جزيلا قال الطبري وغيره الغيرة من النساء مسموح لهن ومفسوح في أخلاقهن لما جبلن عليه وأنهن لا يملكن عندها أنفسهن ولهذا لم يزجر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عائشة عليها ولا رد عليها عذرها لما علم من فطرتها وشدة غيرتها قال الزبيدي والعامة تكسرها والصواب فتحها، (وإن كان) بكسر الهمزة على أن أن مخففة من المثقلة أي وأنه عليه الصلاة والسلام كان (ليذبح الشّاة) بفتح اللام وهي المسماة بالفارقة نحو قوله تعالى وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً (فيهديها) بضم الباء أي فيرسلها هدية (إلى خلائلها) جمع خليلة أي صدائقها لكل واحدة منها قطعة (واستأذنت عليه أختها) أي طلبت الإذن في الاتيان إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أخت خديجة وهي هالة بنت خويلد بن أسد أم أبي العاص بن الربيع زوج زينب بنته صلى الله تعالى عليه وسلم واسمه لقيط بن الربيع ذكرها ابن منده وأبو نعيم في الصحابة (فارتاح لها) وفي نسخة صحيحة إليها أي فرح بمأتاها وأكرمها ورحب بها ونظر إليها، (ودخلت عليه امرأة) أي أخرى في وقت آخر (فهشّ لها) بتشديد شين معجمة أي فرح بها واستبشر منها (وأحسن السّؤال عنها) لزيادة الاستيناس بها بسبب طول عهدها (فَلَمَّا خَرَجَتْ قَالَ إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا أَيَّامَ خديجة) أي في زمانها (وإنّ حسن العهد من الإيمان) وفي الجامع الصغير أن حسن العهد من الإيمان رواه الحاكم في مستدركه عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا، (ووصفه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (بعضهم) أي بعض السلف (فقال كان يصل ذوي رحمه) أي يحسن إليهم ويعطف عليهم وإن بعدوا عنه أو أساؤوا إليه (من غير أن يؤثرهم) أي يختارهم ويفضلهم (على من هو أفضل منهم) أي من غيرهم عدلا منه وإعطاء لكل ذي حق حقه لقوله تعالى يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ولقوله سبحانه وتعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ فلا يفضل أحد بني هاشم أو غيرهم على عالم من علماء الدين وأكابرهم كما يستفاد من حديث الشيخين الذي ذكره بقوله. (وقال صلى الله تعالى عليه وسلم إنّ آل بني فلان) وفي أصل الحجازي أن آل بني فلان ثم قال وفي بعض النسخ أن آل أبي فلان قال ابن قرقول وهو المشهور انتهى وقال بعضهم أن آل بني فلان غلط بل هو آل أبي فلان والمراد الحكم بن أبي العاص وقال بعضهم هو أبو العاص بن أمية بن شمس بن عبد مناف كنى عنه الراوي حذرا من آل بني أمية إذ كانوا حينئذ أمراء (ليسوا لي بأولياء) وقال ابن قرقول وفي الحديث المشهور أن آل أبي ليسوا أولياء قال وبعد قوله أبي بياض في الأصول كأنهم تركوا الاسم تورعا أو تقية وعند ابن السكن أن آل أبي فلان كنى عنه بفلان انتهى ولا يخفى أن قوله تورعا لا وجه له إذ نص صلى الله تعالى عليه وسلم على اسمه ثم على تقدير آل أبي فلان لا يبعد أن يكون كناية مبهمة ليشمل جميع أقاربه وقد يحمل عليه رواية آل أبي من غير فلان إذ الظاهر أن المقصود ليس منحصرا في(1/289)
جميع قريبه دون غيرهم كما يدل عليه عموم قوله ليسوا لي بأولياء أي حقيقة حتى أواليهم صداقة لقوله تعالى إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ ولقوله سبحانه وتعالى فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ هذا وقد قال التلمساني والذي لم يسم ذلك يحتمل عم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويجوز غيره وهو أولى وراوي الحديث هو عمرو بن العاص وفي بعض الروايات قال سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جهارا غير سر يقول إن آل أبي سفيان ليسوا لي بأولياء ثم ساق الحديث ومعنى الحديث من كان غير صالح تقي فليس بولي لي وإن قرب نسبه مني (غير أنّ لهم) أي لآل أبي فلان (رحما) أي قرابة (سأبلّها) بضم موحدة ولام مشددة أي سأصلها وأراعيها وأقوم بحقها (ببلالها) بكسر الموحدة وفتحها قال البخاري في صحيحه وبلالها أصح يعني بكسر الباء قال وبلالها يعني بفتحها لا أعرف له وجها وسقط كلام البخاري هذا من الأصل الأصيل انتهى والبلال جمع بلل وهو ما يبل به الحلق من ماء أو لبن وفيه استعارة ومعناه أن القطع حرارة كالنار والوصل برودة كالماء وهو يبرد حرارة القطيعة ويطفئها أي أصلها في الدنيا ولا أغني عنهم من الله شيئا في العقبى شبهت قطيعتها بالحرارة تطفأ بالماء وتندى بالصلة ومنه حديث بلوا ارحامكم ولو بالسلام كما رواه البزار والطبراني والبيهقي أي صلوها كما في رواية. (وقد صلّى عليه الصّلاة والسّلام) كما رواه الشيخان (بأمامة) بضم الهمزة (ابنت ابنته زينب) أي بنت أبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس من بنته صلى الله تعالى عليه وسلم (يحملها على عاتقه) جملة حالية وفي نسخة صحيحة فجعلها على عاتقه وقال التلمساني يحملها بفتح الميم وكسرها معا إلا أن الفتح أفصح وروي فحملها على عاتقه والعاتق ما بين المنكب والكتف (فإذا سجد) أي اراد أن يسجد (وضعها) أي على الأرض بعمل يسير (وإذا قام) أي أراد القيام (حملها) وهذا بيان لكيفية صلاته بها ومثل هذا لا يشغل أرباب الكمال عما هم فيه حسن الحال حيث وصلوا إلى مرتبة جمع الجمع الذي لا تحوم حولهم التفرقة بأن لا تمنعهم الوحدةة عن الكثرة ولا الكثرة عن الوحدة فهم كائنون بائنون قريبون غريبون عرشيون فرشيون بحسب الأرواح اللطيفة والأشباح الشريفة كما قال قائلهم:
رق الزجاج ورقت الخمر ... فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
فالذي ما زاغ بصره وما طغى فيما رأى من آيات ربه الكبرى كيف يشغل قلبه عن ربه قطعه من لحمه ولكن هذا مشرب ارباب السرائر دون مذهب أصحاب الظواهر وقد علم كل اناس معراج مشربهم وسلك كل طائفة منهاج مذهبهم قال الخطابي وإسناد وضعها وحملها في كل خفض ورفع فيها إليه مجاز لأنه يشغله عن صلاته وإنما كانت قد ألفته وأنست به فإذا سجد جلست على عاتقه فلا يدفعها فتبقى محمولة إلى ان يركع فيرسلها إلى الأرض فإذا كل(1/290)
سجد فعلت كذلك قاله الدلجي وظاهر قوله فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها يأباه إلا قربية صارفة إلى المجاز وقال ابن بطال كان في صلاة نافلة أشهب عن مالك ورواه النووي بما رواه ابن عيينة عن أبي قتادة قال رأيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه وينصره رواية أبي قال بينا نحن ننتظر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لصلاة الظهر أو العصر فخرج إلينا وأمامة على عاتقه فقام في مصلاه وقمنا خلفه قال النووي وزعم بعض المالكية أنه منسوخ قال ابن دقيق العيد وروي عن مالك وقال ابن عبد البر لعله نسخ تحريم العمل في الصلاة بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم إن في الصلاة لشغلا ورد بأنه كان قبل بدر عند قدوم راويه عبد الله بن مسعود من الحبشة وقدوم زينب بأمامة كان بعد ذلك ونقل أشهب وغيره أن حملها كان لضرورة دعت إليه إذ لم يكن من يتعهدها حتى يفرغ وتركها بلا متعهد أشق واشغل عليه من حملها مصليا وزعم بعضهم أنه خاص به قال النووي وهذه كلها دعاوى مردودة لا بينة عليها ولا ضرورة إليها والحديث قاض بجواز ذلك صريحا ليس فيه ما يخالف قواعد الشرع وما في جوفها من نجاسة معفو عنه لكونه في معدته وثياب الأطفال وأجسادهم على طهارتها وأدلة الشرع شاهدة بأن هذه الأفعال لا تبطلها هذا وإنما فعل ذلك تشريعا للجواز وقد أفاد أن لمس المحارم لا ينقض وضوءا والعمل اليسير لا يبطل صلاة انتهى كلامه وأبو أمامة أبو العاص أسر يوم بدر فمن عليه بلا فداء إكراما لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بسبب زينب ثم أسلم قبيل فتح مكة وحسن إسلامه ورد صلى الله تعالى عليه وسلم زينب عليه بنكاح جديد أو بالنكاح الأول ثم بعد موته تزوجها علي بوصاية فاطمة إليه في ذلك ثم بعد على تزوجها المغيرة بن نوفل بن عبد المطلب بن هاشم وليس لزينب ولا لرقية ولا لأم كلثوم رضي الله تعالى عنهن عقب وإنما العقب لفاطمة رضي الله تعالى عنها وزينب أكبر بناته صلى الله تعالى عليه وسلم قال التلمساني روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أهديت له هدية فيها قلائد من جزع فقال لأدفعنها إلى أحب أهلي فقال النساء ذهبت بها ابنة ابن أبي قحافة فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمامة بنت زينب فأعلقها في عنقها (وعن أبي قتادة) كما رواه البيهقي وهو أنصاري فارس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعرف بذلك (قال وفد) بفتح الفاء أي قدم (وقد للنّجاشي) أي جماعة من عنده رسلا إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وقد سبق ضبط النجاشي وترجمته (فقام النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يخدمهم) بضم الدال وتكسر وإنما خدمهم بنفسه تواضعا لربه وإرشادا لأمته (فقال له أصحابه نكفيك) أي خدمتهم (فقال إنّهم كانوا لأصحابنا مكرمين) أي حين هاجروا إليهم ونزلوا عليهم (وإنّي أحبّ أن أكافئهم) بكسر فاء بعدها همزة مفتوحة أي أجازيهم بمثل ما فعلوا بهم من الإحسان جزاء وفاقا.
(ولمّا) أي وحين (جيء بأخته من الرّضاعة) بفتح الراء وتكسر وفي نسخة من الرضاع (الشّيماء) بفتح الشين المعجمة وسكون التحتية ممدودة وفي أصل الدلجي بلا ياء وهي رواية(1/291)
ذكرها المحب الطبري وهي مجرورة بيانا لأخته ويجوز رفعها ونصبها كما هو معلوم في أمثالها عند أربابها قال الحلبي الشيماء فيها قولان هل هي بنت حليمة أو أختها قال الحجازي أبوها الحارث أدرك الإسلام وأسلم بمكة وأسلمت واسمها جدامة بجيم مضمومة فمهملة فألف فميم وقيل خذافة بمعجمة مكسورة وذال معجمة وبفاء وقيل بميم (في سبايا هوازن) متعلق بجيء أي في أسارى قبيلة هوازن من بني سعد بن بكر (وتعرّفت له) أي أعلمت باسمها ومكانها وأطلعته على شأنها مما وقع له معها في زمانها وهو عطف على جيء وجعله الدلجي جملة حالية اعتراضية بين لما وجوابها وهو وقوله (بسط لها رداءه) إجلالا لها وإكراما لأجلها ومكافأة لفعلها إذ هي التي كانت تربيه مع أمها حليمة (وقال لها) أي على وجه التخيير (إن أحببت أقمت عندي مكرّمة) بضم ميم وفتح راء أي معظمة (محبّبة) بضم ميم ففتح فتشديد أي محبوبة وفي أصل التلمساني محببة قال وروي محبة وهما بمعنى والأول أكثر والثاني قليل أغنى عنه محبوبة في الثلاثي (أو متّعتك) أي إن كنت تريدين المراجعة أعطيتك متاعا حسنا ودفعت إليك ما تتمتعين به وتنتفعين منه وزودتك (ورجعت إلى قومك) أي رجوعا مستحسنا (فاختارت قومها) لعلها الضرورة الجأتها إليه (فمتّعها) أي فزودها وأعطاها أشياء تتمتع بها فقيل أعطاها غلاما له اسمه مكحول وجارية فزوجت أحدهما من الآخر فلم يزل فيهم من نسلهما بقية قيل وقد فازت هي وأبوها وأخوها بسعادة الإسلام وزيادة الإكرام ببركته عليه الصلاة والسلام والحديث رواه ابن إسحاق والبيهقي، (وقال أبو الطّفيل) تصغير طفل وفي نسخة ابن الطفيل وهو تصحيف وهو عامر بن واثلة بالمثلثة الكناني آخر من مات من الصحابة على الإطلاق كان مولده عام احد وتوفي سنة مائة من الهجرة وقد روى أربعة أحاديث وكان تفضيليا وقد روى أبو داود بسند صحيح عنه (رأيت النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي وكان جالسا يوما بالجعرانة يقسم لحما (وأنا غلام) أي حال كوني غير بالغ وقيل الصبي إذا فطم سمي غلاما إلى سبع سنين (إذ أقبلت امرأة حتّى دنت منه) أي قربت ووصلت إليه (فبسط لها رداءه) تكريما لها (فجلست عليه) أي بأمره (فقلت) لمن عنده (من هذه قالوا أمّة التي أرضعته) فقيل هي حليمة وقيل ثوبية قال الحافظ الدمياطي لا يعرف لحليمة صحبة ولا إسلام وقال المرأة التي بسط لها رداءه أختها الشيماء وروى ابن عبد البر في استيعابه عن عطاء بن يسار أن حليمة بنت عبد الله مرضعة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جاءت يوم حنين فقام لها وبسط لها رداءه وفي سيرة مغلطاي وصحيح ابن حبان وغيره ما يدل على إسلامها. (وعن عمرو بن السّائب) كذا في النسخ المصححة المعتبرة عمرو بالواو قال الحجازي وهو ابن راشد المصري مولى بني زهرة تابعي ذكر الحافظ عبد الغني في إكماله فيمن اسمه عمرو وهمه الحافظ المزي وقال اسمه عمر بضم العين قال الحلبي وهو غلط صريح صوابه عمر بن السائب بضم العين وحذف الواو وهو يروي عن أسامة بن زيد وجماعة وعنه الليث وابن لهيعة وغيرهما ذكره ابن حبان في الثقات والحديث رواه أبو داود مرسلا عنه(1/292)
أنه بلغه (أنّ رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا يَوْمًا فَأَقْبَلَ أَبُوهُ من الرّضاعة) هو الحارث بن عبد العزى واختلف في إسلامه (فَوَضَعَ لَهُ بَعْضَ ثَوْبِهِ فَقَعَدَ عَلَيْهِ ثُمَّ أقبلت أمّه) أي حليمة (فوضع لها شقّ ثوبه) بكسر الشين أي طرفه (مِنْ جَانِبِهِ الْآخَرِ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ أخوه من الرّضاعة) وهو عبد الله بن الحارث المذكور على ما هو الظاهر فيهم جميعا لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم كانت له مراضع خمس وقيل ثمان (فقام صلى الله تعالى عليه وسلم فأجلسه بين يديه) أي تكريما له وتعظيما لوالديه. (وكان يبعث) أي يرسل من المدينة إلى مكة (إلى ثويبة) بضم مثلثة وفتح واو فسكون تحتية فموحدة (مولاة أبي لهب) بفتح الهاء وتسكن عمه عليه الصلاة والسلام يقال إنها أسلمت (مرضعته) بالجر بيان أو بدل لثويبة (بصلة) أي نفقة (وكسوة) قال التلمساني بضم الصاد وكسرها وكسوة بضم وبكسر وقرىء بهما في السبع انتهى ولا نعرف أحدا من القراء أنه قرأ بضم الكاف وكذا الصاد غير معروف في اللغة (فَلَمَّا مَاتَتْ سَأَلَ: مَنْ بَقِيَ مِنْ قَرَابَتِهَا فقيل لا أحد) أي ما بقي منهم أحد والحديث رواه ابن سعد عن الواقدي عن غير واحد من أهل العلم وفي الروض الأنف كان يصلها من المدينة فلما فتح مكة سأل عنها وعن ابنها مسروح فقيل ماتا. (وفي حديث خديجة رضي الله عنها) كما رواه الشيخان (أنّها قالت له صلى الله تعالى عليه وسلم أبشر) بفتح الهمزة وكسر الشين المعجمة أي استبشروا فرح ولا تحزن (فو الله لا يحزنك الله) بضم الياء وسكون الخاء المعجمة وكسر الزاء أي لا يهينك ولا يذلك ولمسلم أيضا لا يحزنك من الحزن وهو بفتح الياء وضم الزاء وبالنون أو بضم أوله وكسر ثالثه كما في بعض الروايات وبعض النسخ وقد قرئ بهما في السبعة (أبدا) أي دائما سرمدا (إنّك لتصل الرّحم وتحمل الكلّ) بفتح فتشديد أي ثقيل الحمل العاجز عن تحمل مؤنة عياله (وتكسب المعدوم) أي تصل كل معدوم من فقير محروم وفي رواية بضم أوله أي تعطي الناس الشيء المعدوم (وتقري الضّيف) بفتح أوله وكسر الراء أي تطعمهم (وتعين) أي الخلق (على نوائب الحقّ) بالإضافة البيانية إشعارا بأنها تكون في الحق والباطل قال لبيد.
نوائب من خير وشر كلاهما ... فلا الخير ممدود ولا الشر لازب
وقال التلمساني المراد بالحق هو الله سبحانه وتعالى لأنه الخالق لها قال العلماء ومعنى كلام خديجة رضي الله تعالى عنها أنك لا يصيبك مكروه لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق ومحاسن الشمائل وفي هذا دلالة على أن خصال الخير سبب السلامة من مصارع السوء.
فصل [وأما تواضعه صلى الله تعالى عليه وسلم]
(وأمّا تواضعه صلى الله تعالى عليه وسلم) وهو هضم نفسه من الملكات المورثة للمحبة الربانية والمودة الإنسانية (على علوّ منصبه) بكسر الصاد أي مع سمو منزلته (ورفعة وثبته) أي مرتبته من تمام نبوته ونظام رسالته وفي نسخة رتبه جمع رتبة وأغرب الدلجي في(1/293)
جعل على على صرافته وصرف عبارته إلى تمثيل تمكنه منهما واستقراره عليهما بحال من اعتلى شيئا واقتعد غاربه وغرابته لا تخفى على أرباب الصفاء (فكان أشدّ النّاس تواضعا) أي لعظم قدره وكرم أمره (وأعدمهم كبرا) كذا في الاصول المصححة ولعله أراد بأنه كان يتكبر أحيانا لظهور كبرياء الله سبحانه وتعالى فيه بالنسبة إلى بعض المتكبرين لما ورد من أن التكبر على المتكبر صدقة وفي أصل الدلجي وأعدمهم كبرا وذكر الحجازي أنه رواية والمعنى أفقدهم وهو يرجع إلى المعنى الأول لكنه باعتبار اللفظ فيه أنه لا يصاغ اسم التفضيل إلا من فعل وجودي والحاصل أنه بلغ من هذا المعنى السلبي مبلغا لا يشاركه فيه أحد ثم قال وفي نسخة وأقلهم كبرا والأولى أجود لافتقار الثانية إلى حملها على نفيه من أصله لكونه في مقام مدح له انتهى وقد ذكر عند قوله تعالى فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ أنه وصف مصدر محذوف أي إيمانا قليلا وقيل لا قليلا ولا كثيرا يقال قلما يفعل أي لا يفعل اصلا ومن استعمال القلة بمعنى النفي حديث النسائي عن ابن أبي اوفى قال كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يكثر الذكر ويقل اللغو، (وحسبك) مبتدأ خبره الجملة بعده أي وكافيك (أنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على ما رواه أحمد والبيهقي (خيّر بين أن يكون نبيّا ملكا) بكسر اللام أي سلطانا (أو نبيّا عبدا) أي أو أن يكون نبيا عبدا من جملة عباد الله تعالى داخلا في الرعايا والضعفاء وسلك المساكين والفقراء (فاختار أن يكون نبيّا عبدا) أي تباعدا عما هو من شأن الملوك من التكبر والتجبر والتكاثر للخدم والترفع عن الخدمة وتقربا إلى ما هو من صفات العبيد من التقلل في الدنيا والتكثر في خدمة المولى، (فقال له إسرافيل عند ذلك) من اختيار النعت الجليل (فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَاكَ بِمَا تَوَاضَعْتَ لَهُ) أي في هذا العالم (أنّك سيّد ولد آدم يوم القيامة) وهذا كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم من تواضع لله رفعه الله كما رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وكقوله عليه الصلاة والسلام تواضعوا وجالسوا المساكين تكونوا من كبراء الله وتخرجوا من الكبر رواه أيضا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه وقوله تواضعوا لمن تتعلمون منه وتواضعوا لمن تعلمونه ولا تكونوا جبابرة العلماء رواه الخطيب في الجامع عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وقوله التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله تعالى رواه ابن أبي الدنيا ثم تقييده بقوله يوم القيام لظهور سيادته فيه عيانا لكل أحد كقوله سبحانه وتعالى لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ مع كون الملك له مطلقا (وأوّل من تنشقّ الأرض عنه) للبعث (وأوّل شافع) أي يوم القيامة للعامة أو في الجنة لرفع درجات الخاصة لحديث مسلم أنا أول شفيع في الجنة.
(حدّثنا أبو الوليد بن العوّاد) بتشديد الواو (رحمه الله) جملة دعائية (بقراءتي عليه في منزله بقرطبة) بضم قاف وطاء بلد بالمغرب (سنة سبع وخمسمائة) والمقصود مما ذكره كله كمال استحضاره لروايته عنه (قال حدّثنا أبو عليّ الحافظ) أي الغساني وقد تقدم (حدّثنا أبو عمر)(1/294)
بضم العين وهو يوسف بن عبد الله بن عبد البر بن عاصم النميري القرطبي وانتهى إليه مع إمامته علو الاسناد الدال على جلالته وترجمته مسطورة ومصنفاته مشهورة (حدّثنا ابن عبد المؤمن) وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن (حدّثنا ابن داسة) بتخفيف السين المهملة (حدّثنا أبو داود) أي صاحب السنن (حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة) صاحب التصانيف الحجة عن شريك وابن المبارك وعنه الشيخان وغيرهما قال الغلاس ما رأينا أحفظ منه وقال الذهبي في الميزان ابو بكر ممن قفز القنطرة وإليه المنتهى في الثقة (حدّثنا عبد الله بن نمير) بضم نون وفتح ميم عن هشام بن عروة والأعمش وعنه أحمد وابن معين حجة وأخرج له الأئمة الستة (عن مسعر) بكسر ميم ويفتح وبفتح عين وهو ابن كدام بن أبي سلمة الهلالي الكوفي أخذ العلم عن عطاء وغيره وعنه القطان ونحوه وله ألف حديث وهو من العباد القانتين أخرج له أئمة الستة (عن أبي العنبس) بفتح عين فسكون نون فموحدة مفتوحة فسين مهملة (عن أبي العدبّس) بفتح العين والدال المهملتين وتشديد الموحدة فسين مهملة (عن أبي مرزوق) قال ابن حيان لا يجوز الاحتجاج بما انفرد به (عن أبي غالب) اختلف في توثيقه (عن أبي أمامة) أي الباهلي (قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم متوكئا) أي متحملا ومعتمدا (على عصا) أي لعارض من ضعف أو مرض (فقمنا له) أي تعظيما وتكريما (فقال) أي تواضعا (لا تقوموا) أي لي أو مطلقا (كما تقوم الأعاجم) أي بطريق الالتزام أو على سبيل الوقوف على الأقدام (يعظّم بعضهم) أي بعض تلك الجماعة (بعضا) على ما هو دأب الملوك الفخام والأكابر العظام ولا يعارضه حديث قوموا لسيدكم خطابا للأنصار حين أقبل سعد راكبا على الحمار وهو شاكي يحتاج إلى استعانة جمع في نزوله إلى محل القرار وأبعد من استدل به على استحباب القيام المتعارف بين الأنام والأقرب أن يحمل النهي على التنزيه أو خاص لطائفة العرب لأن يستمروا على عاداتهم من تكلف في مقام الأدب قال التلمساني والقيام أربعة أقسام فمحظوره القيام لمن يحب أن يقام له ومكروهه القيام لمن لا يحب أن يقام له ومجازه القيام للعالم المتواضع وحسنه القيام للقادم من سفر وإنما خشي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من فعلهم أن يتخذوه سنة وكان لا يحب التشبه بأهل الضلالة (وقال) أي تواضعا لله وترحما على خلق الله (إنّما أنا عبد) أي مشابه للعبيد في مقام التواضع وعدم التكلف والتصنع (آكل كما يأكل العبد) أي من غير سفرة وخوان وجمعه إخونة وأخوان (وأجلس كما يجلس العبد) على التراب من غير سرير وفرش حرير وفي رواية لا آكل متكئا إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ وأجلس كما يجلس العبد وربما جثى على ركبتيه وربما نصب اليمنى وجلس على ظهر قدميه اليسرى وعن عبد الله بن جعفر قال رأيت في يمين النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قثاء وفي شماله رطبا يأكل من ذا مرة ومن ذا مرة (وكان صلى الله تعالى عليه وسلم) أيمن كمال تواضعه مع قدرته على(1/295)
ركوب الفرس والبغل والناقة (يركب الحمار) أي وحده تارة ومع غيره أخرى كما ورد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في طريف قبا (ويردف خلفه) من الإرداف أو من الثاني بكسر الدال في الماضي وفتحها في المستقبل أي ويركب ورآه ظهره على الناقة وغيرها من أراد من أصحابه كالصديق وذي النورين والمرتضى وعبد الله بن جعفر وزيد وأسامة والفضل ومعاوية وغيرهم ممن بلغ عددهم خمسة وأربعين (ويعود المساكين) من المرضى (ويجالس الفقراء) أي ويجتنب مجالسة الأغنياء ويقول اتقوا مجالسة الموتى والمغايرة بين الفقراء والمساكين من تفنن العبارة وإن اختلف الفقهاء في الفرق بينهما في مصرف الصدقة (ويجيب دعوة العبد) أي إلى بيت سيده أو المراد به العبد المعتوق بأن يأتي بيته جبرا لخاطره وتواضعا مع ربه وامتثالا لأمره سبحانه وتعالى بقوله وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (ويجلس) كما في حديث هند بن أبي هالة كان يجلس (بين أصحابه) أي فيما بينهم (مختلطا بهم) لا يتخير مجلسا يترفع به عليهم بل كان من دأبه معهم أنه (حيثما انتهى به المجلس) أي وخلا فيهم المكان المؤنس (جلس) أي تواضعا له سبحانه وتعالى وإرشادا لأصحابه ليتأدبوا بآدابه. (وفي حديث عمر) أي من رواية البخاري (عنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا تطروني) من الإطراء وهو المبالغة في الثناء إلى حد يقع الكذب في الاثناء أي لا تجاوزوا الحد في مدحي بأن تنسبوا إلى ما لا يجوز في وصفي (كما أطرت النّصارى عيسى ابن مريم) حتى زعموا أنه ابن الله وغير ذلك (إنّما أنا عبد) أي من عبيد ربي (فقولوا عبد الله ورسوله) وفيه إيماء إلى ما قيل:
لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف اسمائي
والنهي إنما هو عن الإطراء لا لمطلق المدح والثناء لتقريره صلى الله تعالى عليه وسلم خديجة على مدحها له وأما حديث إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب فمحمول على المجاوزة عن الحد بالكذب ونحوه في هذا الباب كما تشير إليه صيغة المبالغة وقد أشار صاحب البردة إلى زبدة هذه العمدة بقوله:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... وأحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
(وعن أنس رضي الله عنه) كما رواه مسلم (أنّ امرأة) قيل لعلها أم زفر ماشطة خديجة إذ قد ورد مرسلا أنها كانت صحابية ويحتمل غيرها (كان في عقلها شيء) أي من جنون (جَاءَتْهُ فَقَالَتْ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَّةً قَالَ اجلسي يا أمّ فلان) لعل الراوي لم يعرف اسم ابنها فكنى عنه (في أي طرق المدينة) أي اجزائها (شئت) أي أردت أنت مما هو اهون عليك أو قريب إليك (أجلس إليك) أي معك أو متوجها إليك وهو مجزوم لجواب شرط فقدر بعد الأمر أي إن تجلسي أجلس إليك (حتّى أقضي حاجتك) أي من الكلام أو طلب المرام، (قال) أي أنس (فجلست فجلس النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ(1/296)
حاجتها) من كمال تواضعه لها وملاطفته معها. (قال أنس رضي الله تعالى عنه) على ما رواه أبو داود والبيهقي (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يركب الحمار) بل عريانا أحيانا (وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ وَكَانَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ) أي زمن غزوتهم وهي عقب غزوة الخندق (راكبا على حمار مخطوم) أي في رأسه خطام وهو حبل كالزمام (بحبل من ليف) أي ورق نخل (عليه إكاف) جملة حالية من ضمير مخطوم والإكاف بكسر الهمزة أو ضمها البردعة أو ما يشد فوقها. (قال) أي أنس رضي الله تعالى عنه (وكان يدعى إلى خبز الشّعير، والإهالة) وهي بكسر الهمزة كل ما يؤتدم به من الأدهان وقيل ما أذيب من الشحم والإلية (السّنخة) بفتح السين المهملة وبكسر النون أي المتغيرة الرائحة الزنخة (فيجيب) أي من دعاه إلى ذلك. (قال) أي أنس (وحجّ صلى الله تعالى عليه وسلم على رحل) أي كور أو قتب وهو للبعير كالسرج للفرس (رثّ) بتشديد المثلثة أي خلق بال (وعليه) أي وعلى كتفه أو على رحله (قطيفة) أي كساء له خمل (ما تساوي أربعة دراهم فقال) أي مع هذا كله (اللهمّ اجعله حجّا) بفتح الحاء وكسرها على ما قرئ بهما في السبع وزيد في نسخة مبرورا (لا رياء فيه ولا سمعة) بل اجعله خالصا لوجهك الكريم (هذا) مبتدأ محذوف الخبر من اسمي فعل أمر وإشارة يورد كأما بعد للانتقال من أسلوب مقال إلى مقال آخر من الأحوال والواو بعده الحال ويذكر بعده خبره كما في قوله تعالى هذا ذِكْرُ أي تأمل هذا الصنيع الجليل والقصد الجميل يورثاك تعجبا من حجه على تلك الهيئة من التواضع والاستكانة كذا حققة الدلجي والأظهر أن يقال إنه مركب من كلمتي التنبيه والإشارة أي تنبه لهذا (وقد) أي والحال أنه قد (فتحت عليه الأرض) أي وألقت أفلاذها من ذهب وغيره من فلذاتها إليه صلى الله تعالى عليه وسلم (وأهدى) كما روى مسلم عنه (في حجّه ذلك) أي عام الوداع (مائة بدنة) أي ناقة تقربا إلى ربه وإرشادا لمن يقتدى به وإيماء إلى أن ترك تكلفه في ثوبه ومركوبه لم يكن عن افتقار به وقد نقل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نحر بيده الكريمة ثلاثا وستين بقدر سني عمره وأمر عليا كرم الله وجهه بنحر البقية في يومه (ولمّا فتحت عليه مكّة) على ما رواه ابن إسحاق والبيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها والحاكم والبيهقي وأبو يعلى عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما فتحت عليه مكة (ودخلها بجيوش المسلمين) أي بأصناف منهم (طأطأ) بهمزتين أولاهما ساكنة وقد تبدل وثانيتهما مفتوحة أي خفض مفتوحة وأطرق وأرخى (على رحله) أي حال كونه راكبا فوقه (رأسه) مفعول طأطأ (حتّى كاد) أي قارب صلى الله تعالى عليه وسلم (يمسّ) بفتح الميم كقوله تعالى لا يَمَسُّهُ وقال التلمساني بضم الميم لا غير والظاهر أنه وهم منه أي يصيب برأسه أو قارب رأسه أن يمس (قادمته) أي مقدمة رحله فحتى غاية لطأطأة رأسه وقوله (تواضعا لله) مفعول لأجله وفيه إيماء إلى ما يشير إليه قوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ(1/297)
الْقَرْيَةَ إلى أن قال وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً أي متواضعين لا متكبرين كالجبارين (ومن تواضعه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ) مثلث النون وبالهمزة ست لغات (ابن متّى) بفتح ميم وتشديد مثناة وهي أم يونس عليه السلام ولم يشتهر نبي بأمه غير عيسى ويونس كذا ذكره ابن الأثير في الكامل أما يونس فللغلبة وأما عيسى فلأنه لا أب له ومنه قول القائل:
ألا رب مولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلده أبوان
مشيرا إلى آدم عليه السلام ولم يلده بفتح الياء وسكون اللام وفتح الدال للضرورة وقد قيل إنه من بني إسرائيل وإنه من سبط بنيامين قال الحجازي وما ذكر في قصص الكسائي من أن متى أبوه ليس بصحيح فإن قيل ما الجمع بين قوله في صحيح البخاري لا تفضلوني على يونس ابن فلان ونسبه إلى أبيه وظاهره أن متى أبوه وأجيب بأن متى مدرج في الحديث من كلام الصحابي لبيان يونس بما اشتهر به ولما كان ذلك موهما أن الصحابي سمعه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دفع ذلك بقوله ونسبه إلى أبيه أي لا كما فعلت أنا من نسبته إلى أمه كذا ذكره الحجازي وتبعه الدلجي وغيره ولكن لا يخفى أن مثل هذا التصرف لا يجوز للراوي مع ما فيه من قلة أدب في نسبته إلى أمه لولا أنه منقول من أصله هذا ثم الحديث بهذا اللفظ غير معروف ولفظ البخاري لا يقولن أحدكم إني خير من يونس بن متى ولعل وجه تخصيصه نفيه سبحانه وتعالى عنه العزم بقوله تعالى فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ أو لما وقع له صلى الله تعالى عليه وسلم من المعراج العلوي وليونس عليه السلام من المعراج السفلي إيماء إلى أن الأمكنة بالإضافة إلى قرب الله تعالى على حد سواء تستوي فيه الأرض والسماء وقد أجاب العلماء عن هذا الحديث بأجوبة منها أنه قاله تأدبا وتواضعا ومنها أنه قال قبل أن يعلم أنه افضلهم فلما علم قال أنا سيد ولد آدم بل وفي البخاري أنا سيد الأولين والآخرين ولا فخر ومنها أنه نهى عن تفضيل يؤدي إلى الخصومة كما ثبت سببه في الصحيح بورود لا تفضلوني على موسى كما سيجيء ومنها أنه نهى عن تفضيل يؤدي إلى نقص بعضهم لا عن كل تفضيل لثبوته في الجملة كما قال تَعَالَى تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ ومنها أنه نهى عن التفضيل في نفس النبوة لا في ذوات الأنبياء وعموم رسالتهم وزيادة خصائصهم ومزية حالاتهم وهذا معنى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم على ما رواه الشيخان (ولا تفضّلوا بين الأنبياء) وأما قوله عليه الصلاة والسلام (ولا تخيّروني على موسى) فسببه ما رواه الشيخان وأبو داود والنسائي من أنه استب مسلم ويهودي قال والذي اصطفى موسى على العالمين فلطم المسلم وجهه وذكر ذلك للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسأل المسلم عنه فأخبره فقال لا تخيروني على موسى أي تخيير مفاضلة يؤدي(1/298)
إلى مخاصمة وأما قوله صلى الله تعالى عليه وسلم كما رواه الشيخان (ونحن أحقّ بالشّكّ من إبراهيم) أي إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى إنما صدر عنه تواضعا لربه وهضما لنفسه لا اعترافا به في حق إبراهيم ولا في حقه فكأنه قال إذا كنت لم أشك في إحياء الله الموتى فإبراهيم بعدم الشك أولى فأثبته لهما بنفي الشك عنهما وقيل بل قال ذلك على سبيل التقديم لأبيه أي أنه لم يشك ولو شك لكنت أنا أحق بالشك منه ثم قوله رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى شاهد صدق بأن سؤاله لم يكن من قبل الشك والشبهة بل من قبل رؤية تلك الكيفية العجيبة الدالة على كمال قدرته الباهرة شوقا إلى معرفتها مشاهدة كاشتياقنا إلى رؤية الجنة معاينة والحاصل أنه عليه الصلاة والسلام أراد بقوله أرني الترقي من علم اليقين إلى عين اليقين كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم ليس الخبر كالمعاينة ويدل عليه بقية الآية حيث قال تعالى أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي وأما قوله صلى الله تعالى عليه وسلم، (ولو لبثت) أي لو مكثت (في السّجن) فرضا وتقديرا (ما لبث يوسف) بتثليث السين مهموز أو غيره ست لغات أي مدة لبثه في السجن (لأجبت الدّاعي) وهو رسول الملك والمعنى لأسرعت إلى إجابة دعوته مبادرة إلى الخلاص من السجن ومحنته قال ذلك هضما لنفسه ورفعة لمقام يوسف ورتبته وإيثارا للأخبار بكمال تثبته وحسن نظره في بيان نزاهته وإظهار براءته وحمدا لصبره وترك عجلته وتنبيها على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإن كانوا من الله بمكان لا يرام فهم بشر يطرأ عليهم من الأحوال بعض ما يطرأ على غيرهم من الأنام وأن ذلك لا يعد نقصا لهم في مقام المرام وتمام النظام (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام على ما رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال (للذي قال له) أي خاطبه بقوله (يا خير البريّة) بالتشديد والهمز على ما قرىء بهما في السبع أي الخليقة (ذاك إبراهيم) تعليما لأبوته وتعليما لأمته ودفعا للافتخار عن ذاته. (وسيأتي الكلام على هذه الأحاديث) أي على حل ما فيها من الاشكال الذي تقدم بعض الأجوبة عنه (بعد هذا) أي محل اليق منه (إن شاء الله تعالى) أي بيانه فيه. (وعن عائشة والحسن) أي البصري (وأبي سعيد) أي الخدري وكان حقه أن يقدم على الحسن اللهم إلا أن يراد به الحسن بن علي كرم الله وجهه لكن قاعدة المحدثين أن الحسن إذا أطلق فهو البصري (وغيرهم) أي وغير المذكورين أيضا كما رواه البخاري وغيره (في صفته) أي نعته صلى الله تعالى عليه وسلم (وبعضهم يريد على بعض) أي وبعض الرواة منهم يزيد على بعضهم بعض العبارات في تفصيل الصفات ومجمله قوله. (وكان في بيته في مهنة أهله) بفتح الميم وكسره وأنكره الأصمعي ورجحه المزي بقوله وهو أوفق لزنته ومعناه أي خدمة أهله وفي الحديث ما على أحدكم لو اشترى ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته في أهله مما يتعين عليهم رفقا بهم ومساعدة لهم وتواضعا معهم وبيانه قوله (يفلي ثوبه) بكسر اللام(1/299)
أي يزيل قمله كراهة لوجوده وتنظيفا لوسخه لما في الشفاء لابن سبع أنه لم يقع على ثيابه ذباب قط ولم يكن القمل يؤذيه تكريما له وتعظيما فيه وروي أم حرام كانت تفلي رأسه (ويحلب شاته) بضم اللام وتكسر (ويرقع ثوبه) بفتح القاف وفي نسخة من الترقيع (ويخصف نعله) بكسر الصاد أي يخرزها ويطبق طاقا على طاق من الخصف وهو الجمع والضم ومنه قوله سبحانه وتعالى وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي يطبقان ورقة على ورقة على بدنهما بالخزر أو الربط أو اللصق ومن أحسن ما قيل في مثال نعله صلى الله تعالى عليه وسلم:
أمرغ في المثال بياض شيبي ... لما عقد النبي له قبالا
وما حب المثال يشوق قلبي ... ولكن حب من لبس النعالا
وقال بعضهم:
يا لاحظا لمثال نعل نبيه ... قبل مثال النعل لا تتكبرا
والثم له فلطا لما عكفت به ... قدم النبي مروحا ومبكرا
أو لا ترى أن المحب مقبل ... طللا وإن لم يلف فيه مخبرا
أقول وأنا في هذا الحال أقبل خيال المثال تعظيما لنبي ذي الجلال (ويخدم نفسه) بضم الدال وكسرها وهو تعميم بعد تخصيص ثم ذكر ما يعم نفعه له ولغيره بقوله (ويقمّ البيت) بضم القاف وكسرها وتشديد الميم أي يكنسه (ويعقل البعير) بكسر القاف أي يربط ركتبه بالعقال وهو ما يعقل به من الحبال ومنه العقل لأنه يمنع صاحبه عما يضره ويبعثه على ما ينفعه (ويعلف) بكسر اللام قيل ويضم أوله (ناصحه) أي بعيره الذي يستقي عليه الماء (ويأكل مع الخادم) أي مملوكا أو غيره وهو يشمل المذكر والمؤنث (ويعجن معها) أي مع الخادمة من الجارية وغيرها وخص العجن بها لأن الغالب أنه من عملها (ويحمل بضاعته) أي مشتراه من مأكول وغيره (من السّوق) أي إلى محله في بعض أوقاته إذ ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان له خدم يقومون بماله من المرام. (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) على ما رواه البخاري في الأدب تعليقا ووصله ابن ماجه (إن) هي المخففة من المثقلة والمعنى أن الشان (كانت الأمة من إماء أهل المدينة) أي من جنسها (لتأخذ) بفتح اللام الفارقة (بيد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتنطلق به) أي تذهبه (حيث شاءت) أي من طرق المدينة وبيوتها (حتّى تقضي حاجتها) أي منه عليه الصلاة والسلام بشفاعة ونحوها. (ودخل عليه رجل) هو غير معروف (فأصابته من هيبته) أي مخافته وعظمته (رعدة) بكسر الراء أي اضطراب أو برودة (فقال له هوّن عليك) أي يسر أمرك ولا تخف (فإنّي لست بملك) أي سلطان جائر والحديث سبق إلا أنه أعاده هنا لما فيه من زيادة قوله (إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَأْكُلُ القديد) وهو اللحم المجفف فعيل بمعنى المفعول تنبيها له على أنه مأكول(1/300)
المساكين (وعن أبي هريرة رضي الله عنه) كما رواه الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عنه أنه قال (دخلت السّوق مع النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فاشترى سراويل) فارسي معرب شابه من كلام العرب ما لا ينصرف معرفة ونكرة (وقال للوزّان) بتشديد الزاء أي وأزن الفضة من الصيرفي وغيره (زن) بكسر الراء (وأرجح) بفتح همز وكسر جيم أي اعطه راجحا على وزنه بالزيادة (وذكر القصّة) أي بطولها ومن جملته، (قال) أي أبو هريرة رضي الله تعالى عنه (فوثب) أي فقام الوزان بسرعة متوجها (إلى يد النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يقبّلها) بتشديد الموحدة جملة حالية أي حال كونه مريدا لتقبيلها لما رأى فيها من زيادة السخاوة وحسن المعاملة (فجذب يده) أي تواضعا وتباعدا عما يوجب النخوة والعجب والغرور (وقال هذا) أي التقبيل (تفعله الأعاجم) أي أهل فارس (بملوكها) أي ويورثهم كبرا وفخرا ولأصحابهم ذلا (ولست بملك) أي من جنس ملوكهم (إنّما أنا رجل منكم) أي بشر مثلكم أو واحد من جنس عربكم أعاملكم بمعاملة أدبكم وهذا لا ينافي ما ورد عن أنهم كانوا يتبركون به وبآثاره ولا ما ذكره النووي وغيره من أن تقبيل يد الغير إن كان لجاه وغنى فمكروه أو لصلاح وعلم فمستحب (ثمّ أخذ السّراويل) أي من بايعه بعد تسليم ثمنه (فذهبت) قصدت (لأحمله فقال صاحب الشّيء أحقّ بشيئه) أي بمتاعه المختص به (أن يحمله) لأنه أبقى على تواضعه وأنفى لكبره وقد قيل لم يثبت أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لبس السراويل لكن اشتراها قيل بأربعة دراهم وفي الاحياء بثلاثة ولم يلبسها وجاء في الهدى لابن القيم من أنه لبسها قالوا وهو من سبق القلم لكن السيوطي صحح لبسه صلى الله تعالى عليه وسلم والله سبحانه وتعالى أعلم هذا وقد ذكر التلمساني أنه أخرج أبو داود الحديث عن سماك بن حرب قال حدثني سويد بن قيس قال جلبت أنا ومخرمة العبدي بزامن هجر فأتينا به مكة فجاءنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يمشي فساومنا بسراويل فبعناه وثم رجل يزن بالأجر فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زن وارجح وكذلك ذكر الترمذي الحديث وصححه أبو عمرو في الاستيعاب ثم نقل عن شيخه أن في الحديث فوائد منها الرجحان في الوزن وهو من الورع الظاهر الفضل لأن التطفيف حرام والتحري فيه طول أو شغب تمام والرجحان يقطعه والفضل يظهره قال وفيه رد على أبي حنيفة المانع هبة المجهول قلت إنما نشأ هذا من جهله بمرتبة الإمام وعدم فرقه بين الشائع الحاضر والمجهول الحاضر في هذا المقام والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة المرام.
فصل [وأما عدله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمانته وعفته وصدق لهجته]
(وأمّا عدله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حكمه على وفق الحق ومنهاج الصدق (وأمانته) أي في أداء روايته وقضاء ديانته (وعفّته) أي عما لا يليق بحضرته (وصدق لهجته) أي منطقه وحكايته، (فكان صلى الله تعالى عليه وسلم آمن النّاس) بهمزة ممدودة أعظمهم(1/301)
أمانة وأمنا من أن يقع منه خيانة (وأعدل النّاس) لأنه أعلمهم وأحكمهم وأرحمهم وكان الأظهر أن يقدم أعدل على آمن ليكون النشر مرتبا (وأعفّ النّاس) أي أكثرهم عفة واصبرهم على ما يوجب نزاهته (وأصدقهم لهجة) أكثرهم صدقا من جهة الناطقة (منذ كان) أي من ابتداء ما وجد لما جبل عليه من الأخلاق الحسنة ولا وجه لقول الدلجي من حين اعترف لأن قوله (اعترف) استئناف بيان وفي نسخة ثم اعترف (له بذلك) أي بما ذكر من الشمائل الرضية (محادّوه) بتشديد الدال المضمومة أي مخالفوه ومنه قوله تعالى مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ لكون كل واحد منهما في حد كما قيل في وجه اشتقاق قوله سبحانه وتعالى مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ
(وعداه) بكسر عينه مقصورا اسم جمع أي أعداؤه ومعادوه (وكان يسمّى قبل نبوّته) أي ظهورها ودعوتها (الأمين) ؛ لغاية أمانته ونهاية ديانته (قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ كَانَ يُسَمَّى الْأَمِينَ بِمَا جمع الله فيه من الأخلاق الصّالحة) أي لأن تستعمل في طريق الحق وسبيل الخلق. (وقال تعالى) أي مكرم (مُطاعٍ) أي (ثَمَّ) أي عند الملأ الأعلى والحضرة العليا (أَمِينٍ [التكوير: 21] ) موصوف بالأمانة في دعوى النبوة ووحي الرسالة (أكثر المفسّرين على أنّه) أي المراد بالمطاع الأمين (محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) وكثير منهم على أنه جبريل عليه السلام وسياق النظم يؤيده وسباق الكلام يؤكده وعلى كل فاتصافه بالوصفين لا أحد ينكره؛ (ولمّا اختلفت قريش) على ما رواه أحمد والحاكم وصححه الطبراني أنه حين اختلفت أكابر قريش ورؤساؤهم (وتحازبت) بالزاي أي وصارت أحزابا وطوائف مجتمعة وضبطه بعضهم بالراء وهو تصحيف (عند بناء الكعبة) حين أجمرت امرأة فطارت شرارة فاحترقت الكعبة فهدموها وأرادوا تجديد بنائها فوقع خلافهم (فيمن يضع الحجر) أي الأسود والركن الأسعد في موضعه الأصلي قيل هدمه وكل يقول انا وأتباعي نضعه افتخارا بوضعه لأنه الركن الأعظم في ذلك المقام الأفخم وكاد أن يقع بينهم القتال لكثرة منازعة الرجال (حكّموا) جواب لما أي حكموا فيما بينهم لدفع النزاع عنهم (أن يكون الواضع أوّل داخل عليهم) أي ولا يكون واحدا منهم (فإذا بالنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم داخل) أي ففاجأهم دخوله وباغتهم وصوله (وذلك) أي ما ذكر (قبل نبوّته) أي دعوى نبوته وظهور رسالته (فقالوا) أي مقرين له بوصف أمانته (هذا محمّد هذا الأمين قد رضينا به) ففرش صلى الله تعالى عليه وسلم رداءه المبارك ووضع الحجر عليه وأمر كل رئيس أن يأخذ بطرف منه وهو آخذ من تحته الذي فوض فيه الأمر إليه ووضعوه في موضعه. (وعن الرّبيع بن خثيم) بضم معجمة وفتح مثلثة روى عن ابن مسعود وغيره وعنه الشعبي ونحوه وكان ورعا قانتا مخبتا حتى قال ابن مسعود لو رآك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأحبك فطوبى له ثم طوبى له قال التلمساني وهو من الزهاد الثمانية ومن رجال حلية أبي نعيم (كان يتحاكم) بصيغة المجهول (إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الجاهليّة قبل الإسلام) أي قبل زمن البعثة وظهور النبوة (وقال صلى الله تعالى عليه وسلم) كما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه. (والله إنّي لأمين في السّماء)(1/302)
أي عند الله وملائكته المقربين (أمين في الأرض) عند المؤمنين وغيرهم من المجرمين لكمال أمانته وظهور ديانته وعدم خلفه في وعده وتحقق صدقه في قوله (حدّثنا أبو عليّ الصّدفيّ) بفتحتين (الحافظ) أي المعروف بحفظ الحديث (بقراءتي عليه ثنا) أي حدثنا (أبو الفضل بن خيرون) بفتح معجمة وضم راء بصرفه ومنعه والأول أظهر. (ثنا أبو يعلى ابن زوج الحرّة) تقدم (ثنا أبي علي السنجي) بكسر مهملة فسكون نون فجيم مروزي (ثنا محمّد بن محبوب المروزيّ) أي راوي جامع الترمذي عنه. (ثنا أبو عيسى) أي الترمذي (الحافظ) أي المعروف وهو جامع السين وصاحب الشمائل. (ثنا أبو كريب) بالتصغير الهمداني الكوفي روى عن ابن المبارك وخلق وعنه أصحاب الكتب الستة روي أنه ظهر له بالكوفة ثلاثمائة ألف حديث، (ثنا معاوية بن هشام) أي القصار الكوفي روى عن حمزة والثوري وعنه أحمد وغيره وهو من الزهاد الثمانية (عن سفيان) أي الثوري على ما صرح به عبد الغني الحافظ وإن أطلق على غيره (عن أبي إسحاق) أي الهمداني الكوفي أحد الأعلام الشهير بالسبيعي روى عن كثير من الصحابة والتابعين وقد رأى عليا كرم الله وجهه (عن ناجية بن كعب) بنون فألف فجيم مكسورة فتحتية مخففة تابعي وليس بصحابي (عن عليّ) أي ابن أبي طالب كرم الله وجهه (أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم إنّا لا نكذّبك) بالتشديد والتخفيف أي لا ننسبك إلى الكذب لثبوت صدقك (ولكن نكذّب) بالتشديد لا غير (بما جئت به) أي من القرآن والإيمان بالتوحيد والبعث ونحو ذلك فدلت هذه المناقضة الظاهرة على أن كفر أكثرهم كان عنادا؛ (فأنزل الله تعالى) أي في شأنه وعظيم برهانه (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ [الأنعام: 33] ) بالتشديد وقرأ نافع والكسائي بالتخفيف (الآية) وهي قوله سبحانه وتعالى وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ أي المتلوة أو المصنوعة يجحدون أي ينكرون فتكذيبهم في الحقيقة راجع إلى ربهم ففيه وعيد أكيد وتهديد شديد لهم وتسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم. (وروى غيره) أي غير الترمذي زيادة عليه (لا نكذّبك وما أنت فينا بمكذّب) تأكيد لنفي الكذب عنه وهو بتشديد الذال المعجمة والمفتوحة وفي نسخة بمكذوب. (وقيل) أي روى كما أخرجه ابن إسحاق والبيهقي عن الزهري وكذا ابن جرير عن السدي والطبراني في الأوسط (إنّ الأخنس) بفتح همزة وسكون معجمة وفتح نون فمهملة (ابن شريق) بفتح معجمة وكسر راء له صحبة وقال التلمساني ذكره الحلبي قتل يوم بدر كافرا وفيه نزل قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا (لقي أبا جهل يوم بدر) وكان يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من رمضان سنة اثنتين من الهجرة (فقال له) أي بحكم العادة أو تلطف العبارة (يا أبا الحكم) بفتحتين كنيته في الجاهلية فغيرها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكناه أبا جهل (ليس هنا غيري وغيرك) أي أحد (يسمع كلامنا) أي فيما بيننا، (تخبرني) خبر معناه أمر أي أخبرني (عن محمّد) أي عن وصفه (صادق) وفي نسخة زيادة هو والتقدير أصادق هو في معتقدك (هو أم كاذب عندك) والمراد من الاستفهام(1/303)
حمله على الإقرار بما يعرفه من صدقه عليه الصلاة والسلام (فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ) أي لموصوف بالصدق ولا يخفى ما في الجملة من زيادة الأدوات المؤكدة (وما كذب محمّد قطّ) اعتراف بالحق وروي أن أبا جهل قال بعد قوله وما كذب محمد ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فهذا يدل على أنه ما منعه عن توحيد الله إلا طلب الجاء فالخلق حجاب عظيم عن الحق. (وسأل هرقل) بكسر ففتح وضبط بكسرتين وكذا بضمتين بينهما ساكن ولا ينصرف للعجمة والعلمية وهذا اسمه العلم وأما قيصر فهو لقب كل من ملك الروم (عنه) أي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (أبا سفيان) بن حرب على ما رواه الشيخان (فقال) أي هرقل مخاطبا لأبي سفيان ومن معه (هل كنتم تتّهمونه) بتشديد التاء الثانية (بالكذب) أي هل كنتم تنسبونه إلى الكذب ولو بالتهمة بناء على المظنة (قبل أن يقول ما قال) أي من دعوى الرسالة (قال لا) وهذا السؤال يدل على كمال عقل هرقل ومعرفته بصفة الأنبياء لكن لم ينفعه علمه حيث لم يقترن بعمله إذ هلك كافرا بعد فتح عمر رضي الله تعالى عنه بلاده وتوغل في بلاد الكفر هربا من الإسلام ولا تغتر بمن شذ فزعم إسلامه ذكره الدلجي وقال الحلبي في الاستيعاب أنه آمن وهذا مؤول أي بأنه أظهر الإيمان وتمنى الامان لكنه غرته سلطنة الزمان. (وقال النّضر بن الحارث) أي العبدري وهو بفتح النون وسكون الضاد المعجمة وكان شديدا العداوة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ أسيرا ببدر فأمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عليا رضي الله تعالى عنه فقتله بالصفراء عقيب الواقعة وأما النضير بالتصغير فهو أخوه وكان من المؤلفة وأعطى يوم حنين مائة من الإبل فاحذر أن يتصحف عليك كما توهم الحلبي ثم حديثه هذا رواه ابن إسحاق والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (أنه قال لقريش) أي لأكابرهم (قد كان محمّد فيكم غلاما حدثا) بفتحتين أي من حال صغره قبل أوان كبره والأنسب أن يراد به ههنا ما قبل من أن الغلام هو الصغير إلى حد الالتحاء (أرضاكم فيكم) الظرفان حالان لازمان (وأصدقكم حديثا) أي قولا ووعدا (وأعظمكم أمانة) أي صدقا وديانة وهذه الشهادة لكونها من أهل العداوة حجة لما قيل الفضل ما شهدت به الأعداء (حتّى إذا رأيتم في صدغيه) بضم فسكون الشعر المتدلي على ما بين الأذن والعين (الشّيب) أي بياض الشعر (وجاءكم بما جاءكم) أي بما أظهر لكم من الحق وكلام الصدق (قلتم) أي في حقه (أنه ساحر) في غيبته وحضوره، (لا والله ما هو بساحر) الجملة القسمية مؤكدة لما يفهم من الجملة المقدرة المنفية بلا النافية. (وفي الحديث) وفي نسخة عنه أي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها (ما لمست) بفتح الميم (يده يد امرأة قطّ لا يملك رقّها) بكسر راء وتشديد قاف أي لا يملكها نكاحا أو ملكا فقد قال لأسماء التزويج رق المرأة فلتنظر أين تضع رقها وأما ما في البخاري أتت امرأة تبايع فقبض يدها فمحمول على المحرم أو من فوق الثوب. (وفي حديث عليّ) أي ابن أبي(1/304)
طالب كرم الله وجهه (في وصفه صلى الله تعالى عليه وسلم أصدق النّاس لهجة) أي لسانا وبيانا وقد تقدم، (وقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (في الصّحيح) أي في الحديث الذي صح عنه وقد تقدم ذكره (ويحك فمن يعدل) بالرفع (إن لم أعدل؟ خبت وخسرت) بالتكلم أو الخطاب لرئيس الخوارج (إِنْ لَمْ أَعْدِلْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عنها) أي على ما سبق من رواية الترمذي وغيره عَنْهَا (مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم في أمرين) وزيد في نسخة قَطُّ (إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ منه) سبق حل مبناه وبيان معناه (قال أبو العبّاس) أي البصري (المبرّد) بفتح الراء المشددة وكان إماما في النحو واللغة مات ببغداد ودفن بمقابر باب الكوفة (قسّم) بتخفيف السين أولى من تشديدها وإن اقتصر الانطاكي على الثاني (كسرى) بكسر الكاف وفتح الراء مقصورا اسم لكل من ملك الفرس واسمه الخاص برويز (أيّامه) أي زمان دولته وأوان مملكته (فقال) أي كسرى في قسمته وقته (يصلح يوم الرّيح للنّوم) المبني على السكون لكون الوقت غير قابل للحركة من القيام للخدمة ولا للقعود في الصحبة (ويوم الغيم للصّيد) لعدم التأذي بشدة الحرارة التي تقتضيها كثرة حركة المعالجة، (ويوم المطر للشّرب واللهو) لعدم إمكان الخروج، (ويوم الشّمس للحوائج) جمع حاجة على خلاف القياس أي لحوائج الخلق والنظر إلى مهماتهم بالعدل وفق الصدق. (قال ابن خالويه) بفتح اللام والواو وسكون التحتية وكسر هاء ويقال بضم لام وسكون واو وفتح تحتية فتاء تقلب هاء وقفا نحوي لغوي أصله من همذان بفتح الميم والذال المعجمة دخل بغداد وأدرك أجله العلماء مثل ابن الأنباري وابن مجاهد المقري وتوفي بحلب سنة سبعين وثلاثمائة وله تصانيف كثيرة (ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم) كذا في النسخ بثبوت ما قبل كان والظاهر زيادتها ويكن جعلها موصولة أو موصوفة أو كان زائدة وما تعجبية وحاصله أنه إنما كان أعرفهم بسياسة دنياهم ولم يكن يعرف ما يتعلق بآخرتهم من مراتب عبادة مولاهم ولذلك استشهد بقوله تعالى (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الروم: 7] ) وحاصله أنه ليس في تقسيمه كبير منفعة بخلاف تجزئية صاحب النبوة ولهذا استدركه بقوله (ولكن) بالتخفيف أولى (نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم) على ما رواه الترمذي وغيره عنه (جزّأ) بتشديد الزاء فهمز أي قسم (نهاره) أي ساعات يومه (ثلاثة أجزاء) أي أقسام (جزءا) بالنصب وجوز بالرفع وقد يضم زاءه (لله) تقديما لرضاه وقياما بالاشتغال بذكره عما سواء (وجزءا) بالوجهين (لأهله) إيثارا لهم على حقه (وجزءا لنفسه) لحديث أن لنفسك عليك حقا ثم لعل هذا الجزء الأول من الصبح إلى الظهر والثاني إلى العصر والثالث إلى المغرب والمعنى حصته لنفسه لا دخل فيها لغيره من الأهل خاصة دون العامة لقوله، (ثمّ جزّأ جزأه بينه وبين النّاس) أي عموما بحسب حاجاتهم والحاصل أنه جعل ذلك الوقت أيضا وقتا للحق لنفعه بنفسه عموم الخلق فإن كان أحد منهم احتاج إليه وحضر لديه أقبل عليه وأفاده بالفوائد(1/305)
الدينية والدنيوية والعوائد الحسية والمعنوية النافعة في الدرجات الأخروية وإلا فاشتغل بمراعاة نفسه خاصة لفراغه من الواجبات المفروضة عليه من جهة حق الله تعالى وحقوق الأهل بحسب تقديم الأهم فالأهم والله تعالى أعلم (فكان) أي من عادته في جزء خاصة نفسه (يستعين بالخاصّة) أي من أرباب صحبته وأصحاب خدمته (على العامّة) أي قضاء حاجتهم والمجاهدة في منفعتهم لقوله تعالى وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ولقوله عليه الصلاة والسلام الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله كما رواه الطبراني عن ابن مسعود والمعنى يأمر الخاصة بتبليغ العامة إذ ليس كل إنسان يتوصل إلى ذلك (ويقول أبلغوا) أي وكان يقول لهم أوصلوا إلى (حاجة من لا يستطع إبلاغي) أي إبلاغ حاجته لي (فإنّه) أي الشأن (من أبلغ حاجة من لا يستطيع) أي إبلاغها كما في نسخة صحيحة (آمنه الله) بهمزة ممدودة أي جعله في أمن من الضرر (يوم الفزع الأكبر) وهو وقت النفخة الثانية أو حالة الانصراف إلى العقوبة والحديث رواه الطبراني في الكبير بسند حسن عن أبي الدرداء ولفظه ثبت الله قدميه على الصراط يوم القيامة وكذا لفظ الترمذي في الشمائل برواية الحسن عن أخيه الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم (وعن الحسن) أي البصري على ما رواه أبو داود في مراسيله (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يأخذ أحدا) أي لا يؤاخذه ولا يجازيه (بقرف أحد) بفتح قاف وسكون راء أي بذنبه وكسبه ومنه قوله تعالى وَمَنْ يَقْتَرِفْ أو بظن أحد ورميه وفي نسخة بقذف أحد بسكون الذال المعجمة من قذفه بالمكروه أي نسبه إليه (ولا يصدّق أحدا على أحد) أي ولا يقبل كلام أحد في حق أحد سواء ترتبت عليه المؤاخذة أم لا فهو تعميم بعد تخصيص، (وذكر أبو جعفر) وهو محمد ابن جرير (الطّبريّ) بفتحتين نسبة إلى طبرية وكذا رواه ابن راهويه في مسنده والبيهقي في دلائله (عن عليّ كرم الله وجهه عن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ما هممت بشيء) أي ما قصدت عملا (ممّا كان أهل الجاهليّة يعملون به) وإنما أعاد المصنف هذا الحديث ههنا مع تقدمه لإفادة زيادة قوله (غير مرّتين كلّ ذلك) ضبط الرفع والنصب وهو أظهر أي في جميع ما ذكر من الكرتين (يحول الله) أي يصير بحوله حائلا ومانعا (بيني وبين ما أريد من ذلك) أي عمل أهل الجاهلية وهذا معنى قوله تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ إلى أي يحجز ويمنع وقال أبو عبيد يملك عليه قلبه فيثرفه كيف شاء، (ثمّ) أي بعد ما هممت بهما (ما هممت بسوء) أي أبدا بتوفيقه وعصمته (حتّى أكرمني الله برسالته) ومن المعلوم أن بعد تحقق نبوته لم يتصور وجود مخالفته ثم بين المرتين من الحالتين المذكورتين بقوله، (قلت ليلة لغلام) أي لفتى أو مملوك (كان يرعى معي) أي غنمي أو غنم غيري وهو الأظهر لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم ما من نبي إلا وقد رعاها يعني الغنم قيل ولا أنت يا رسول الله قال نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة ولعل الحكمة أن يتدرب على سياسة الرعية على سبيل الشفقة والرحمة ولا يبعد أن تكون الغنم له أو لغيره لكن كانت غي عهدته بقوله(1/306)
(لو أبصرت إلي غنمي) أي تمنيت والتمست منك إن راعيت حفظ ما يتعلق بي (حتّى أدخل مكّة فأسمر بها) بفتح الهمزة وضم الميم أي أحادث ليلا مطلقا أو ليلا مقمرا والسمر في أصله ضوء القمر وجعل الحديث فيه سمرا ومنه قوله تعالى مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ كانوا يجتمعون حول البيت بالليل وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميتهم إياه سمرا فلهذا ذمهم الله بقوله تَهْجُرُونَ (كما يسمر الشّباب) أريد به الجنس ووقع في أصل الدلجي بلفظ الشباب والمعنى فاسمر سمرا مشابها لسمرهم في مشاهدة قمرهم حال سهرهم ورقادهم في سحرهم لغلبة سكرهم وكثرة نكرهم وقلة فكرهم، (فخرجت لذلك) أي لقصد السمر (حتّى جئت أوّل دار من مكّة) أي مما فيها آلات لذات الشهوة (سمعت عزفا) بفتح مهملة فسكون زاء ففاء أي لعبا بالمعازف وهي الملاهي أو صوتا حسنا وغناء في الطباع مستحسنا مختلطا (بالدّفوف والمزامير) أو بسبب ضرب الدفوف وأصوات الملاهي كالعود والطنبور ونحوها (لعرس بعضهم فجلست) أي خارج الباب أو داخله أو بعد الأذن وبعد رفع الحجاب (أنظر) أي حال كوني انظر لعبهم وأتسمع لهوهم أو من أجل أن أنظر إليهم واتسمع لديهم؛ (فضرب) بصيغة المجهول (على أذني) بضم الذال وتسكن وبفتح النون وتشديد ياء المتكلم أو بكسر النون وتخفيف ياء الإضافة على إرادة الجنس أي أنامني الله إنامة ثقيلة لا يمنعني عن النوم اضطراب أصوات ولا كثرة حركات ومنه قوله تعالى فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أي أنمناهم (فنمت) بكسر النون (فما أيقظني إلّا مسّ الشّمس) أي إصابة حرها على بدني (فرجعت ولم أقض شيئا) أي مما قصدت من المعصية وارتكاب السيئة ولعل سماع المزامير كان مباحا في الشرائع المتقدمة، (ثمّ عراني) أي أصابني (مرّة أخرى مثل ذلك) أي مما هممت به في المرة الأولى فعصمني منها المولى (ثم لم أهمّ) بضم هاء وتشديد ميم مفتوحة ويجوز ضمها وكسرها أي لم أقصد (بعد ذلك) أي ما ذكر من المرتين (بسوء) أي بهم سوء قط وهو بضم السين ويفتح.
فصل [وأما وقاره صلى الله تعالى عليه وسلم]
(وأمّا وقاره صلى الله تعالى عليه وسلم) بفتح الواو رزانته ورصانته وحلمه وتحمله (وصمته) أي وسكوته وسكونه وطمأنينته وسكينته (وتؤدته) بضمتين بضم ففتح همز ويبدل أي تأنيه في قوله وعمله وتثبته ومهلته بلا عجلة (ومروءته) فسكون واو فهمزة وتبدل وتدغم فتشدد (وحسن هديه) أي سيرته وطريقته المشتملة على حقائق شريعته ودقائق حقيقته (فحدّثنا) كذا بالفاء ههنا على ما في النسخ المصححة (أبو عليّ الجيانيّ) بفتح جيم وتشديد تحتية ثم نون وهو الغساني (الحافظ إجازة) أي نوعا من أنواع الإجازة ومنها المناولة ولو بالمكاتبة (وعارضت) أي قابلت (أصلي بكتابه) أي المروي عن مشايخه (قال ثنا) أي حدثنا (أبو العبّاس الدّلائي) بكسر دال مهملة فلام مشددة وقد تخفف بعدها ألف ممدودة (أنا) أي(1/307)
أخبرنا وفي نسخة ثنا (أبو ذرّ الهرويّ) تقدم ذكره (أنا) أي أخبرنا (أبو عبد الله الورّاق) بتشديد الراء. (ثنا) أي حدثنا (اللّؤلؤيّ) بهمزتين وقد تبدل الأولى (ثنا أبو داود) أي صاحب السنن. (ثنا عبد الرّحمن) أي ابن محمد (بن سلام) بتشديد اللام قيل وهو يكتب بهمزة الابن ههنا إيماء لوجود الفاصلة روى عن ابن المبارك وابن فضالة وروى عنه أبو زرعة (قال ثنا الحجّاج) وفي نسخة صحيحة حجاج (بن محمّد) وهو الأعور المصيصي الحافظ عن ابن جريج وشعبة وعنه أحمد وغيره قال ابن ماجه بلغني أن ابن معين كتب عنه نحوا من خمسين ألف حديث (عن عبد الرّحمن بن أبي الزّناد) وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان روى عن أبيه وشرحبيل بن سعد وعنه هناد وعلي بن حجر (عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ وُهَيْبٍ) بالتصغير وفي نسخة عن وهب وهو تصحيف قال الحلبي هو عمر بن عبد العزيز بن وهيب الأنصاري مولى زيد بن ثابت روى عن خارجة بن زيد وعنه عبد الرحمن ابن أبي الزناد وأخرج له أبو داود في المراسيل هذا الحديث قال الذهبي في الميزان لا يعرف من ذا (سمعت خارجة بن زيد) أي ابن ثابت الأنصاري وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة المقول فيهم:
ألا كل من لا يهتدي بأئمة ... فقسمته ضيزى عن الحق خارجه
فخذهم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجه
وكنيته أبو زيد (يقول) أي خارجة وهو تابعي فيكون حديثه هذا مرسلا وهو حجة عند الجمهور (كان النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أوقر النّاس) أكثرهم حلما وأعظمهم تحملا في جميع أوقات أنسه لا سيما (في مجلسه) أي المعد لمصاحبة جنسه محافظة على رعاية آدابه تعليما لأصحابه وأحبابه وطلبة حديثه وحملة كتابه (لا يكاد يخرج شيئا من أطرافه) أي من بزاق فمه أو مخاط أنفه أو قطع ظفره أو قلع وسخه ووقع في اصل الدلجي شيء بالرفع وقال في قوله لا يكاد يخرج مبالغة في لا يخرج أي لا يقرب أن يظهر من تحت ثيابه شيء من أطرافه فضلا عن أن يظهر منها شيء انتهى فتدبر واختر ما صفا ودع ما كدر. (وروى أبو سعيد الخدريّ) كما أخرجه عنه أبوداود وكذا الترمذي في شمائله (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا جلس في المجلس) أي في جنس مجلسه الخاص فيما بين أصحابه (احتبى بيديه) بأن جمع بين ظهره وساقيه إما بيديه أو بثوبه كما في رواية والاسم الحبوة بضم الحاء وكسرها والعامة تقول حبية (ولذلك كان أكثر جلوسه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي هيئات جلوسه وحالات قعوده (محتبيا) لكثرة التواضع لديه وعدم التكلف فيما كان سلف العرب عليه ولذا قال أكثر الأوقات إليه وفي الحديث الاحتباء حيطان العرب وأحيانا يقعد على هيئة التحية. (وعن جابر بن سمرة) كما روى مسلم وأبو داود (أنّه تربّع) أي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا جلس في المجلس تربع أحيانا لقوله(1/308)
(وربّما) بالتشديد والتخفيف (جلس القرفصاء) بضم القاف والفاء وروي بكسرهما وبمد وقصر فيهما وعن الفراء إذا ضممت مددت وإذا كسرت قصرت ومعناه عن أبي عبيد أن يجلس على اليتيه ملصقا بطنه بفخذيه محتبيا بيديه (وهو) أي جلوسه القرفصاء على ما رواه الترمذي (في حديث قيلة) بفتح قاف فسكون تحتية بنت مخرمة العنبرية وقيل العدوية وقد تقدم (وكان كثير السّكوت) لتفكره في مشاهدة الملكوت وتذكره مطالعة الجبروت (لا يتكلّم في غير حاجة) أي من قضية ضرورية دينية أو دنيوية أو مسألة عملية أو علمية لقوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ولحديث أن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، (يعرض عمّن تكلّم بغير جميل) أي بما لا يستحسن ذكره ولا يباح أمره إذا صدر عمن تكلم بناء على جهله لقوله تعالى وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ والظاهر أن المراد بالإعراض هو الصفح وعدم الاعتراض فيختص بالمكروهات التنزيهية على مقتضى القواعد الشرعية وأما المحرمات القطعية وكذا المكروهات التحريمية فلا بد للشارع من أن يأمر ويزجر قياما بحق النبوة والرسالة وأما قول الدلجي في تفسير غير جميل حراما أو مكروها إذ لا يقر على باطل وإعراضه كاف عن انكاره صريحا لإشعاره بعدم رضاه به فهو ليس من الحمل الجميل لأن الإنكار القلبي لا يكون كافيا إلا للعاجز عن إنكاره بيده ولسانه وهذا غير متحقق في زمانه لا سيما بالنسبة إلى عظمة شأنه وإن كان زماننا هذا يكتفي فيه بالسكوت وملازمة البيوت والقناعة بالقوت إلى أن يموت على محبة الحي الذي لا يموت، (وكان ضحكه) بكسر فسكون وروي بفتح فكسر (تبسّما) أي من جهة الابتدائية كقوله تعالى فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها أو من طريقة الأغلبية لما في الشمائل للترمذي من حديث عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم وأما القهقهة فمنفية ويمكن حمله على ظاهره من عمومه لما في الشمائل أيضا من حديث جابر بن سمرة وكان لا يضحك إلا تبسما لكن الشراح حملوه على غالب حاله وقيل كان لا يضحك في أمر الدنيا إلا تبسما أما في أمر الآخرة فكان قد يضحك حتى تبدو نواجذه على ما في الترمذي أيضا وهو توفيق حسن وجمع مستحسن (وكلامه فصلا) أي وكان كلامه فرقا بين الحق والباطل أو فاصلا بين الحلال والحرام وأو بينا يتبينه كل من سمعه ولا يشتبه على من يتفهمه وما ذلك إلا لجعله تعالى له مبينا للأنام في مشكلات الأحكام كَمَا قَالَ تَعَالَى لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ او مختصرا ملخصا لقوله (لا فضول) بالفتح أي لا زيادة في كلامه (ولا تقصير) أي ولا نقصان عن قدر الحاجة أو لا إيجاز ولا إطناب بل التوسط المحمود في كل باب بالجمع بين المباني اليسيرة والمعاني الكثيرة، (وكان ضحك أصحابه عنده) أي في حضرته (التّبسّم) أي لا غير (توقيرا له) أي تعظيما لحرمته (واقتداء به) أي في كيفية ضحكه وهيئته.
(مجلسه مجلس حكم) بضم فسكون أي مجلس علم بالأحكام أو عمل بالعدل في حق(1/309)
الأنام ولو ثبت كسر حاء وفتح كا لكان له وجه وجيه في المرام بأن يكون مجلسه للصحبة ملآن من أنواع الحكمة ويؤيده أن رواية الترمذي مجلس علم وفي نسخة بكسر حاء وسكون لام وكذ وقع في أصل الدلجي وهو ملكة تورث التؤدة وعدم العجلة عند حركة الغضب وداعية العقوبة (وحياء) أي ومجلس حياء مشتمل على صفاء وضياء وهي ملكة تمنع مما لا يليق فعله في الحضرة والغيبة (وخير) أي ومجلس كل خير من خيري الدنيا والآخرة فهو تعميم بعد تخصيص (وأمانة) أي مجلس أمانة دون خيانة تخصيص للاهتمام بأمرها لتعلقها بغير صاحبها ولذا ورد لا إيمان لمن لا أمانة له على ما رواه أحمد وابن حبان في صحيحيهما عن أنس رضي الله تعالى عنه (لا ترفع) بصيغة المجهول مذكرا أو مؤنثا (فيه) أي في مجلسه (الأصوات) تأدبا لسيد الكائنات ولقوله سبحانه وتعالى لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآيات (ولا تؤبن) بضم فسكون همز وتبدل وفتح موحدة مخففة وقد تشدد أي لا ترمى بصريح ولا تذكر بقبيح (فيه الحرم) بضم وفتح جمع الحرمة وهي ما لا يحل انتهاكه وروي بضمتين بمعنى النساء من الأهل وما يحميه الرجل والمعنى لا تقذف ولا تعاب من ابنته أي رميته بسوء ومنه حديث النهي عن شعر تؤبن فيه النساء وكذا حديث الإفك أشيروا علي في أناس أبنوا أهلي وحاصله أن مجلسه كان يصان من رفث القول وفحش الفعل وقد تصحف على اليمنى حيث قال مأخوذ من المآثر واحدها مأثرة ويحتمل لا تؤبر أي لا تلدغ من أبرته العقرب لدغته انتهى، (إذا تكلّم) أي هو صلى الله تعالى عليه وسلم (أطرق جلساؤه) أي خفضوا رؤوسهم وسكنوا نفوسهم (كأنّما) بزيادة ما الكافة (على رؤوسهم الطّير) يجوز في مثله ثلاثة أوجه بحسب القراءة وهي كسر الهاء وضم الميم وكسرهما وضمهما وفي التشبيه تنبيه على المبالغة في وصفهم بالسكوت والسكينة وعدم الخفة لأن الطير لا يكاد يقع إلا على شيء ساكن من الحركة. (وفي صفته) أي وجاء في نعت مشيه على ما في الشمائل وغيره (يخطو) بضم طاء وسكون واو أي يمشي (تكفّؤا) بضم فاء مشددة فهمزة وتبدل وفي نسخة بكسر فاء وفتح تحتية أي تمايلا إلى قدام قال النووي وزعم كثيرون أن أكثر ما يروى بلا همز وليس كما قالوا انتهى وقال صاحب النهاية هكذا روي غير مهموز والأصل الهمز وبعضهم يرويه مهموزا لأن مصدر تفعل من الصحيح تفعلا كتقدم تقدما وتكفأ تكفؤا والهمزة حرف صحيح وأما إذا اعتل انكسر عينه نحو تسمى تسميا وتخفى تخفيا فإذا خففت الهمزة التحق بالمعتل فصار تكفيا بالكسر (ويمشي هونا) أي مشيا هونا لقوله تعالى وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أي سكونا لا سريعا ولا بطيئا ولا خيلاء بل افتقارا للحق وتواضعا للخلق وفي رواية الهويني تصغير هوني تأنيث أهون فالتقدير مشية هوينى (كأنّما ينحطّ) بتشديد الطاء أي ينزل (من صبب) بفتحتين وموحدتين أي منحدر ويلزم منه الميل إلى القدام لا السرعة المنافية لمقام المرام كما زعم من ليس له في هذا الفن المام وفي رواية(1/310)
للترمذي في صبب وهو أظهر فتدبر (وفي الحديث الآخر إذا مشى) أي في جميع أوقاته (مشى مجتمعا) أي مشيا معتدلا مستويا مجتمعا بين توالي حركاته لا متفرقا في حركاته وسكناته وقال الهروي أي ما كان يمشي مسترخيا (يعرف في مشيته) بكسر الميم أي هيئة مشيه وضبط في نسخة بفتحها وهو سهو قلم من كاتبها (أنّه غير غرض) بفتح معجمة وبكسر راء وتنوين معجمة مأخوذ من الغرض بفتحتين وهو الضجر والملال ومنه قول الحسن علم الله أنها بلد غرض فرخص لعباده من شاء أن ينفر في النفر الأول ومن شاء أن ينفر في النفر الآخر وروي بلد غرض بالإضافة والصفة (ولا وكل) بفتحتين على ما في النسخ المصححة ففي القاموس رجل وكل محركة عاجز وقال الدلجي بكسرهما وقال التلمساني الغرض بفتح الراء وروي بكسرها والوكل بفتح الكاف وحكي كسرها والله تعالى أعلم (أي غير ضجر) تفسير من المصنف لغرض على وزانه أي غير قلق وملل (ولا كسلان) تفسير لو كل يعني ولا عاجز يكسل في فعله أي الهداية والدلالة فيكل أمر إلى غيره معتمدا على تحصيله. (وقال عبد الله بن مسعود) فيما رواه البخاري عنه موقوفا (إنّ أحسن الهدي) بفتح فسكون أي السيرة والطريقة المشتملة على حجية الشريعة وحقية الحقيقة وفي نسخة بضم وفتح مقصورا أي الهداية والدلالة (هدي محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي نفس الأمر هديه هدى ربه لفنائه في بقائه فيصح إسناده إليه تارة وإلى ربه أخرى كما قال تعالى قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ وفي آية أخرى قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى. (وعن جابر بن عبد الله) صحابيان أنصاريان (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ فِي كَلَامِ رَسُولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم ترتيل) أي تبيين لحروف البناء وتمهيل في كيفية الأداء لقوله تعالى وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا وقوله لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (ترسيل) عطف تفسير وهو موافق لما في المصابيح وفي نسخة صحيحة بأو على أنه شك من الراوي. (وقال ابن أبي هالة) واسمه هند وأمه خديجة رضي الله تعالى عنهما فهو ربيبه صلى الله تعالى عليه وسلم (كان سكوته على أربع) أي على أربعة أحوال والحال يذكر ويؤنث لأنها بمعنى الوصف والصفة (على الحلم) على جهة التحمل مع القدرة والمجاوزة عن المؤاخذة (والحذر) أي الحراسة من عداء المخالفة، (والتّقدير والتّفكّر قالت عائشة) رضي الله تعالى عنها كما رواه الشيخان (كان رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ) أي لو أحصى عدد حروفه المحصي من أهل الحساب (لأحصاه) أي لقدر على إحصائه وعد عدده وجمعه وحفظه وهذا مبالغة في الترتيل والتبيين وقد روي أنه كان صلى الله تعالى عليه وسلم إذا تكلم تكلم ثلاثا ولعل الأول للسماع والثاني للتنبيه والثالث للفكر والأظهر أن الثلاث باعتبار مراتب مدارك العقول من الأعلى والأوسط والأدنى، (وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يحبّ الطّيب والرّائحة الطيب) أي الحاصلة من غير جنس الطيب كبعض الأزهار والاثمار (ويستعملهما كثيرا) استعمالا مناسبا لكل منهما مع أنه بذاته بل وبفضلاته طيب كما هو مقرر في محله فكان(1/311)
استعمالهما لزيادة المبالغة بنية ملاقاة الملائكة ولأنهما يورثان النشاط والقوة (ويحضّ عليهما) أي يحث ويحرض على استعمالهما (ويقول حبّب إليّ من دنياكم النّساء) وفي رواية تأخيره (والطّيب) كما رواه النسائي والحاكم في المستدرك من حديث أنس بإسناد جيد وضعفه العقيلي وليس فيه لفظ ثلاث وإنما وقع في بعض الكتب كالإحياء وغيره فما وقع في بعض النسخ من لفظ ثلاث بعد دنياكم خطأ فاحش ومما يدل على بطلانه تغيير سياق الحديث وتعبيره بقوله، (وجعلت قرّة عيني في الصّلاة) إيماء إلى أن قرة العين ليست من الدنيا لا سيما من الدنيا المضافة إلى غيره صلى الله تعالى عليه وسلم ودفعا لما تكلف بعضهم من أن الصلاة حيث كانت واقعة في الدنيا صحت إضافته إليها في الجملة على اختلاف في أن المراد بالصلاة هل هي العبادة المعروفة أو الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام والله تعالى أعلم بحقيقة المرام ثم تحقيق الكلام ما ذكره حجة الإسلام في الإحياء حيث قال الدنيا والآخرة عبارة عن حالين من أحوال القلب فالقريب الداني منهما يسمى دنيا وهي كل ما قبل الموت والمتراخي المتأخر يسمى آخرة وهي ما بعد الموت ثم الدنيا تنقسم إلى مذمومة وغير مذمومة فغير المذمومة ما يصحب الإنسان في الآخرة ويبقى معه بعد الموت كالعلم والعمل فالعالم قد يأنس بالعلم حتى يصير الذ الأشياء عنده فيهجر النوم والمطعم والمشرب في لذته لأنه اشهى عنده من جميعها فقد صار حظا عاجلا له في الدنيا ولكن لا يعد ذلك من الدنيا المذمومة كذلك العابد قد يأنس بعبادته ويستلذ بها بحيث لو منعت عنه لعظم ذلك عليه حتى قال بعضهم ما أخاف الموت إلا من حيث يحول بيني وبين قيام الليل فقد صارت الصلاة من حظوظه العاجلة وكل حظ عاجل قاسم الدنيا ينطلق عليه من حيث الاشتقاق من الدنو وعلى هذا ينزل جعله عليه الصلاة والسلام الصلاة من حكم ملاذ الدنيا أو لأن كل ما يدخل في الحس والمشاهدة فهو في عالم الشهادة وهو من الدنيا والتلذذ بتحريك الجوارح بالركوع والسجود إنما يكون في الدنيا فلذلك أضافها عليه الصلاة والسلام إلى الدنيا إلا أنها ليست من الدنيا المذمومة في شيء فإن الدنيا المذمومة هي حظ عاجل لا ثمرة له في الآخرة كالتنعم بلذائذ الأطعمة والمباهاة بالقناطير المقنظرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والقصور والدور ونحوها يريد على قدر الضرورة والحاجة (ومن مروءته صلى الله تعالى عليه وسلم) أي أخلاقه المرضية وشمائله البهية (نهيه) كما رواه أحمد (عن النّفخ في الطّعام والشّراب) أي جميعا ولأبي داود وابن ماجه والترمذي وصححه نهيه عن النفخ في الإناء وللترمذي في الشراب لأنه في الطعام يؤذن بالعجلة وشره النهمة وقلة التؤدة وفي الإناء يورث رائحة كريهة ولأنه قد ينفصل بالنفخ فيهما من الفم ما يكون موجبا لنفرة الطبيعة وقيل نفس الآدمي سم (والأمر) كان الأولى ان يقال وأمره ليحسن عطفه على نهيه أي ومن مروءته أيضا الأمر (بالأكل ممّا يليه) أي الآكل بصيغة الفاعل لحديث الشيخين قل بسم الله وكل بيمينك مما يليك على الخلاف في أن الأمر(1/312)
للوجوب أو الندب وعليه الأكثر، (والأمر بالسّواك) أي وكذا أمره به من جملة مروءته كما في حديث لا مرية في صحته ومن فوائد السواك إزالة تغير الفم وتنظيف الأسنان وتطييب النفس وغيرها مما بلغ أربعين آخرها أنه يذكر الشهادة عند الخاتمة على ضد أكل الأفيون وشرب الدخان نسأل الله العافية (وإنقاء البراجم) بالجر عطفا على بالسواك وفي نسخة بالرفع على أن التقدير ومن مروءته تنظيف البراجم (والرّواجب) وهما جمع برجمة بالضم وراجبة والمراد بهما مفاصل الأصابع من ظهر الكف وباطنها (واستعمال خصال الفطرة) بالاحتمالين وهي فيما رواه الشيخان خمس الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الاظفار ونتف الابط زاد مسلم المضمضة وقص الشارب وإعفاء اللحية والاستنجاء وأبو داود من حديث عمار الانتضاح ومن حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فرق الرأس والاستنشاق في معنى المضمضة وقد سبق في معانيها ما يغني عن إعادتها هنا.
فصل [وأما زهده صلى الله تعالى عليه وسلم في الدنيا]
(وأمّا زهده في الدّنيا) أي عدم ميله إليها وقلة المبالاة بوجودها وفقدها اعتمادا على خالقها (فقد تقدّم من الأخبار) أي الأحاديث الواردة عن الثقات الأخبار (أثناء هذه السّيرة) أي سيرة سيد الأبرار (ما يكفي) أي يغني عن الإعادة والتكرار، (وحسبك من تقلّله منها) أي كافيك من منفعتها (وإعراضه عن زهرتها) بفتح الزاء أي زينتها وبهجتها؛ (وقد سيقت إليه) أي والحال إنها جلبت لديه وعرضت عليه (بحذافيرها) جمع حذفار وقيل حذفور أي بأسرها من أولها وآخرها (وترادفت) أي تتابعت (عليه فتوحها) والجملتان معترضتان بين المبتدأ وخبره وهو قوله (أن توفّي) بصيغة المجهول بعد أن المصدرية والمعنى كافيك مما ذكر حال حصول ما ذكر وفاته (صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي نسخة إلى أن توفي على أنها متعلقة بتقلله إيماء إلى اختيار زهده في الدنيا باعتبار الحالة الأولى والأخرى دفعا لما توهم بعضهم من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم في آخر عمره اختار الغنى ومما يأبى هذا المعنى قوله (ودرعه) أي والحال أنها (مرهونة عند يهوديّ في نفقة عياله) كما سبق تفصيل أحواله، (وهو يدعو) أي والحال أنه مع ذلك يطلب من ربه كفاية أمره وأمر من يتعلق به من أهله وآله (ويقول) كما رواه الشيخان (اللهمّ اجعل رزق آل محمّد قوتا) أي بلغة تسد رمقهم ليقوموا بعبادة من خلقهم وفي رواية لمسلم والترمذي وابن ماجة اللهم اجعل رزق آل محمد في الدنيا قوتا وفسر القوت بما يمسك رمق الإنسان لئلا يموت والظاهر أن المراد به هنا قدر الكفاية لما في رواية كفانا. (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ الْعَاصِي وَالْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الحافظ) هو ابن سكرة وليس بالغساني كما حرره الحلبي (والقاضي أبو عبد الله التّميميّ قالوا) أي كلهم (ثنا) أي حَدَّثَنَا (أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الرَّازِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْجُلُودِيُّ) بضم الجيم (ثنا أبو سفيان) وفي نسخة صحيحة ابن سفيان (ثنا أبو الحسين مسلم بن الحجّاج) أي(1/313)
صاحب الصحيح (ثنا أبو بكر بن أبي شيبة) تقدم ذكرهم، (ثنا أبو معاوية) وهو محمد بن خازم بالخاء المعجمة والزاء أحد الأعلام وحفاظ الإسلام روى عن الأعمش وهشام وعنه أحمد وإسحاق وابن معين وكان مرجئا أخرج له الأئمة الستة (عن الأعمش) تابعي جليل روى عن ابن أبي أوفى ورزين وأبي وائل وعنه شعبة ووكيع وخلق له ألف وثلاثمائة حديث (عن إبراهيم) هو النخعي أبو عمران الكوفي الفقيه رأى عائشة رضي الله تعالى عنها وروى عن خاله الأسود وعلقمة وجماعة وكان عجبا في الورع رأسا في العلم (عن الأسود) أي ابن يزيد النخعي عن عمر وعلي ومعاذ حج ثمانين مرة كل مرة بعمرة وكان يصوم حتى يحتضر ويختم في ليلتين (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا شبع) بكسر الموحدة أي ما أكل حتى شبع (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثلاثة أيّام) أي بلياليها (تباعا) بكسر التاء الفوقية مصدر تابع أي متابعة وموالاة (من خبز) أي مطلقا ووقع في أصل الدلجي من خبز بر وليس من البر (حتّى مضى سبيله) أي إلى أن توفاه الله تعالى بحسب ما قدره وقضاه والحديث في أواخر مسلم وقد أخرجه البخاري وغيره أيضا. (وفي رواية أخرى) أي له أو لغيره أو للشيخين كما قاله الدلجي (مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ وَلَوْ شَاءَ) أي الله كما في نسخة صحيحة ويدل عليه قوله (لأعطاه) إذ لو كان التقدير لو شاء رسول الله لكان المناسب أن يقول لأعطاه الله أو لأعطى أي متمناه (ما لا يخطر) بكسر طاء ويضم أي ما لم يمر (ببال) أي لا يحدث في خلال خيال، (وفي رواية أخرى) أي لهما (مَا شَبِعَ آلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم من خبز برّ) لقلة وجوده أو لكثرة زهده (حتّى لقي الله) وفي نسخة زيادة عز أي تعالى شأنه وجل أي أعظم برهانه (وقالت عائشة رضي الله عنها) كما رواه مسلم (ما ترك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بعد وفاته، (دينارا) أي من الذهب (ولا درهما) أي من الفضة وهو بكسر الدال وفتح الهاء وتكسر ولله در القائل:
النار آخر دينار نطقت به ... والهم آخر هذا الدرهم الجاري
والمرء بينهما إن لم يكن ورعا ... معذب القلب بين الهم والنار
(ولا شاة ولا بعيرا) أي وإنما ترك ما في التمسك به نجاة الثقلين والفوز بسعادة الكونين وهو الكتاب والسنة فمن أخذ بهما ظفر بكنوز الجنة، (وفي حديث عمرو بن الحارث) أخو جويرية من أمهات المؤمنين له ولأبيه صحبة كما رواه البخاري عنه (ما ترك) أي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما في نسخة (إلا سلاحه) بكسر أوله والمراد سيوفه ورماحه وقسيه ودروعه ومغافره وغيره ذلك مما علقه الحلبي على البخاري (وبغلته) أي البيضاء وهي دلدل (وأرضا جعلها صدقة) الأقرب أن الضمير إلى الأرض وجعلها صدقة لا ينفي كونها مخلفة عنه بطريق تكلمه عليها لكونه ناظرا لها والأنسب عوده إلى الجميع والمعنى جعلها بعد موته صدقة كما حقق في حديث نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة ثم(1/314)
الاستثناء مفرغ أي ما ترك شيئا يعتد به إلا ما ذكر ونحوه إن ثبت أنه ترك غيره. (قالت عائشة رضي الله عنها) كما رواه الشيخان (ولقد مات وما في بيتي) اللام ابتدائية أو قسمية والواو حالية أي لهو قد أو والله لقد مات والحال أنه ليس في بيتي (شيء يأكله ذو كبد) بفتح فكسر ويجوز سكونه مع كسر وفتح أي ذو حياة وخص الكبد لأنه منبع الدم (إلّا شطر شعير) لعله نصف صاع وقال الترمذي أي شيء من شعير ثم المختار رفعه على البدلية ويجوز نصبه على الاستثناء (في رفّ لي) بفتح راء وتشديد فاء خشب يرفع عن الأرض في جدار البيت يرقى عليه ما يراد حفظه وهو الرفرف أيضا وفي الصحاح الرف شبه الطاق وتمام الحديث فأكلت منه حتى طال علي فكلته ففني وهو متفق عليه ثم قالت. (وقال لي) أي تسلية لحالي (إنّي عرض عليّ) بني للمفعول وحذف فاعله إجلالا (أن يجعل لي) بالتذكير أو التأنيث أي يصير ويقلب لأجلي (بطحاء مكّة) أي حصاها أو مسيلها (ذهبا فقلت لا) أي لا اختاره (يا ربّ) فاختر لي (أجوع يوما) أو معناه لا أريد بل أريد أن أجوع يوما أي وقتا (فأصبر) وقدمه لأنه مذكر للافتقار إليه وباعث للاتكال عليه ومبالغة في احتقار عرض عروض الدنيا لديه (وأشبع يوما) أي وقتا آخر (فأشكر) لأكون مؤمنا كاملا فإن الإيمان نصفان نصفه صبر ونصفه شكر كما في الحديث وإليه يشير قوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وهذا مقام الأنبياء والأولياء من أرباب الكمال وهو التربية بنعتي الجلال والجمال ثم بين ما يترتب على كل منهما من حسن الحال بقوله (فَأَمَّا الْيَوْمُ الَّذِي أَجُوعُ فِيهِ فَأَتَضَرَّعُ إِلَيْكَ) أي اتذلل وألتجئ (وأدعوك) بما أؤمل لديك (وأمّا اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك) أي فأشكرك (وأثني عليك) وصنيعنا في تفسير الحمد بالشكر أولى من قول الدلجي إن العطف تفسيري فإن التأسيس أولى من التأكيد لا سيما ومقام النعمة يقتضي الشكر الموجب للمزيد ومما يؤيده أيضا ما رواه الترمذي بلفظ فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك وإذا شبعت شكرتك وحمدتك (وفي حديث آخر) قال الدلجي لا أدري من رواه بهذا اللفظ قلت فكان ينبغي أن يذكر من رواه بهذا المعنى ليكون مؤيدا له في المبنى والحاصل من كلامه ونقل غيره (أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ إِنَّ الله تعالى يقرئك السّلام) أي يسلم عليك وفي القاموس اقرأ عليه السلام أبلغه كاقرأه ولا يقال أقرأه إلا إذا كان السلام مكتوبا وفي الاكمال اقرأته السلام وهو يقرئك السلام بضم الياء رباعيا فإذا قلت يقرأ عليك السلام فبفتح الياء وقيل هما لغتان وبهذا يندفع ما تكلف الدلجي بقوله يقال اقرأ فلانا السلام كأنه حين يبلغه سلامه يحمله على أن يقرأ السلام ويرده (ويقول) أي الله سبحانه وتعالى (لك) أي اعتبارا أو اختيارا (أتحبّ أن أجعل هذه الجبال) من الصفا وأبي قبيس وغيرهما مما حوالى مكة وأطرافها أو جنس هذه الجبال بأنواعها وأصنافها (ذهبا وتكون) أي جبال الذهب (معك حيثما كنت) أي من جهة الشرق والغرب وما بينهما وما مزيدة للتأكيد (فأطرق ساعة) أي خفض رأسه تأدبا وتفكرا مع سكوته انتظارا لما يلهمه ربه من الخيرة كما ورد في دعائه اللهم خر لي واختر لي ولا تكلني إلى اختياري (ثُمَّ قَالَ يَا(1/315)
جِبْرِيلُ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ له ومال من لا مال له) أي في المآل (قد) للتقليل (يجمعها) أي يريد جمعها (من لا عقل له) أي لقلة معرفته بحقيقة الدنيا من سرعة فنائها وكثرة عنائها وقلة غنائها وخسة شركائها ولمنافاتها للآخرة باعتبار درجاتها (فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ ثَبَّتَكَ اللَّهُ يَا مُحَمَّدُ بالقول الثّابت) الجملة دعائية أو خبرية والمراد ههنا بالقول الثابت هو الحق المطلق المحقق وإن ورد في التنزيل في جواب المؤمن للملكين في القبر حيث قال تعالى يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ مع أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فقول الدلجي في هذا المقام أي أدامك على قول لا إله إلا الله لا يناسب المرام كما لا يخفى على الكرام ثم في الحديث على إمكان قلب الأعيان هذا وقد رواه أحمد الدنيا دار من لا دار له قد يجمعهما من لا عقل له والبيهقي ولفظه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لجبريل يوما ما أمسي لآل محمد كفة سويق ولا سفة دقيق فاتاه إسرافيل فقال إن الله تعالى سمع ما ذكرت فبعثني إليك بمفاتيح الأرض وأمرني أن أعرض عليك إن أحببت أن أسير معك جبال تهامة زمردا وياقوتا وذهبا وفضة فعلت وفي رواية لأحمد والله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة ولابن سعد وكذا لابن عساكر لو شئت لسارت معي جبال الذهب وللطبراني لو سألت أن يجعل لي تهامة كلها ذهبا لفعل (وعن عائشة رضي الله عنها) كما رواه الشيخان (قالت إنّ) قال الأنطاكي إن كلمة تأكيد بمعنى قد واللام للتأكيد أيضا وقيل إن نفي واللام استناد والأظهر الأشهران أن مخففة من المثقلة وقد روي أنا (كنّا آل محمّد) يجوز رفعه على البدل من المضمر ونصبه على الاختصاص والثاني أظهر (لنمكث شهرا) أي قدره (ما نستوقد نارا إن هو) أي ما قوتنا (إلّا التّمر والماء) وفي رواية إلا الأسودان. (وعن عبد الرّحمن بن عوف) على ما رواه الترمذي والبزار بسند جيد (هلك) واعترض بأن الصواب نحو توفي وقبض لأن الهلاك أكثره في العذاب وفي موت الكفار ويمكن دفعه بأنه قال تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ ونسخة قال هلك أي مات (رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَشْبَعْ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ من خبز الشّعير) أي فضلا عن خبز البر فلا عبرة بما يتوهم من قيده باعتبار مفهومه من حصول شبعه من غيره (وَعَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ) أي بمعناه مع اختلاف مبناه (قال ابن عبّاس) كما روى ابن ماجه والترمذي وصححه (كان رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبِيتُ هُوَ وَأَهْلُهُ اللَّيَالِيَ الْمُتَتَابِعَةَ) أي فيها بأيامها (طاويا) حال منه لأنه الأصل والأعلى أو من أهله فهو بالأولى (لا يجدون) أي أهله أو هو وأهله (عشاء) وهو تأكيد لما قبله ولعل الاقتصار على العشاء للإيماء بأنه الأهم من الغداء. (وعن أنس رضي الله عنه) برواية البخاري (قال ما أكل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على خوان) بكسر أوله ويضم أي مائدة أو هو ما يؤكل عليه من نحو كرسي على عادة المترفهين لئلا يفتقروا إلى الانحناء حال أكلهم وسئل قتادة على ما كانوا يأكلون يعني الصحابة قال على(1/316)
السفر (ولا في سكرّجة) بضم الثلاثة وتشديد الراء وجوز فيها الفتحة إناء صغير يؤكل فيه القليل من الأدم فارسي معرب وأكثر ما يوضع فيه وأمثاله ما يعتاده المترفهون من إحضار المخللات ونحوها من المهضمات والمرغبات في أطراف المأكولات (ولا خبز له) بصيغة المجهول الماضي (مرقّق) بصيغة المفعول أي أرغفة واسعة رقيقة وتسمى الرقاق كطويل وطوال وقيل اللين الأبيض المسمى بالحواري (ولا رأى شاة سميطا قطّ) فعيل بمعنى مفعول أي مسموطا بمعنى مشويا بجلده فإن الغالب سمطها بأن ينزع صوفها بالماء الحار بعد تنظيفها من القاذورات وإخراج ما في بطنها من النجاسات وإلا فحرام في أصح الروايات وكذا حكم الرؤوس والدجاجات والسمط لا يحسن إلا في صغار الغنم. (وعن عائشة رضي الله عنها) برواية الصحيحين (إنّما كان فراشه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي الخاص كما بينته بقولها (الذي ينام عليه أدما) بفتحتين أي جلدا مدبوغا وقيل الأحمر منه وقال الدلجي جلدا أسود (حشوه ليف) بكسر اللام أصول سعف النخل، (وعن حفصة رضي الله عنها) أي ابنة عمر أم المؤمنين كما في الشمائل للترمذي (قَالَتْ كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم في بيتي) أي مكاني المنسوب إلي ووقع في أصل الدلجي بلفظ في بيته وتصح الإضافة بأدنى الملابسة وإنما الكلام في ثبوت الرواية (مسحا) بكسر الميم بلاسا من شعر أبيض وقيل من شعر أسود (نثنيه) بكسر النون المخففة أي نطويه (ثنتين) بكسر المثلثة أي عطفتين وفي نسخة ثنيين بالتذكير على المصدر وفي أخرى ثنتين أي مرتين (فينام عليه) وهذا من دأبه وعادته في كل وقته (فثنيناه له ليلة بأربع) أي أربع طاقات والباء من باب الزيادات وبات عليه من غير شعوره ابتداء به لاستغراقه في شهود نوره ووجود حضوره (فلمّا أصبح قال ما فرشتم لي اللّيلة) استفهام انكاري أو استعلام (فذكرنا ذلك له) أي ثنيه أربعا ليوجب له راحة ونفعا (فقال ردّوه بحاله) أي على وفق عادتي (فإنّ وطأته منعتني اللّيلة صلاتي) أي لينته منعتني كمال حضوري في طاعتي أو شغلتني عن القيام لصلاتي وقراءتي (وكان) كما رواه الشيخان والترمذي وابن ماجة (ينام أحيانا) أي في بعض الأوقات (على سرير مرمول بشريط) أي منسوج بحبل مفتول من سعف (حتّى يؤثر) أي يظهر أثر خشونة الشريط (في جنبه) لكونه يرقد عليه من غير حائل بينه وبينه قيل حتى ابتدائية والصيغة المضارعية حكاية الحال الماضية وقيل مرادقة لكي التعليلية والأولى أظهر فتدبر. (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَمْ يمتلىء) بهمز هو الصحيح وفي نسخة بلام مفردة ولعل وجهها التخفيف المسهل ثم معاملته معاملة المعتل فتأمل أي ما امتلأ (جوف النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم شبعا) بكسر ففتح وقد يسكن وقيل الأول نقيض الجوع والثاني ما شبع من الشيء فالمعول هو الأول إذ نصبه على التمييز فتأمل (قطّ) أي أبدا ولعل مرادها غالب أحواله أو شبعا مفرطا غير مناسب لكماله (ولم يبث) بضم موحدة وتشديد مثلثة أو بضم أوله وكسر ثانيه أي لم ينشر ولم يظهر (شكوى) أي شكايته ولا بطريق حكايته في جميع حالاته (إلى أحد) من أصحابه وزوجاته لقوله تعالى في(1/317)
ضمن آياته حكاية عن يعقوب في شدة ما ابتلاه قال نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
(وكانت الفاقة) أي الحاجة الملازمة من الفقر المقتضي للصبر (أحبّ إليه من الغنى) المقتضي للشكر وهذا صريح في تفضيل الصبر على الشكر كما ذهب إليه أجلاء الصوفية وأكثر علماء الفقهية هذا وقد ورد لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة على ما رواه الترمذي عن فضالة بن عبيد (وإن) مخففة من المثقلة أي وأنه (كان ليظلّ) بفتح الظاء المعجمة وتشديد اللام أي يكون في طول النهار (جائعا) بهمزة مكسورة (يلتوي) أي حال كونه يتقلب ويضطرب (طول ليلته من الجوع) أي من استمرار جوعته أو من أجل حرارة لذعته ولذا ورد اللهم أني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع كما رواه الحاكم في مستدركه عن ابن مسعود مرفوعا وهذا كله لكمال زهده في الدنيا وإقبال قلبه على الأخرى بناء على رضى المولى (فلا يمنعه) أي جوعه (صيام يومه) أي الذي فيه ولو كان نفلا أو صيام يوم عادته في مستقبله وهذا بيان بعض شدة حاله (ولو شاء) أي الغني وما يترتب عليه من التنعم وحصول المنى ووصول الهدى (سأل ربّه جميع كنوز الأرض) أي استدعاه لا سيما وقد عرضها عليه مولاه (وثمارها) يجوز نصبها وهو الأشهر في المبنى وجرها وهو الأظهر في المعنى أي جميع ثمار اشجارها أو جميع فوائدها وعوائد فرائدها (ورغد) والرغد بفتحتين ويسكن على ما في القاموس (عيشها) أي سعة معيشتها وطيب منفعتها (وَلَقَدْ كُنْتُ أَبْكِي لَهُ رَحْمَةً مِمَّا أَرَى بِهِ وَأَمْسَحُ بِيَدِي عَلَى بَطْنِهِ مِمَّا بِهِ من الجوع) أي من أثر جوعه المختص به وهذا يدل على أنه كان يطعم أهله ويؤثرهم على نفسه (وأقول) أي والحال أني اقول حينئذ (نفسي لك الفداء) بالمد تفاديا به من ألم الجوع وشدته ومرارة حرارته (لو تبلّغت من الدّنيا بما يقوتك) بضم قاف أي لو توسعت من البلغة وتوصلت إلى المتعة بقدر ما يقويك على قيام الطاعة ويعينك على زيادة العبادة لكان أولى من هذه الحالة فجواب لو مقدر وما قدرناه أحسن من التقدير المشهور وهو لكان أحسن ويجوز أن يكون لو للتمني ويشير إلى ما اخترناه ما صدر عنه صلى الله تعالى عليه وسلم من الجواب الدال على أن اختاره هو الصواب.
(فيقول يا عائشة ما لي وللدّنيا) استفهامية انكارية أي لا حاجة لي إليها ولا إقبال لي عليها قال التلمساني قيل يجوز أن يكون ما استفهامية وتقديره أي الفة ومحبة لي معها حتى أرغب فيها وقيل يجوز أن يكون ما نافية أي ليس لي الفة إلى آخرة انتهى ثم بين إعراضه عنها بقوله (إخواني من أولي العزم من الرّسل) أي كلهم وأجلهم (صبروا على ما هو) أي على أمر عظيم هو (أشدّ من هذا) أي مما أنا صابر عليه لما روي أن بعضهم مات من الجوع وبعضهم من شدة اذى القمل وبعضهم من كثرة الجراحات وشدة الأمراض والعاهات وقد خصني الله تعالى فيما حثني وحضني على الاقتداء بهم بقوله سبحانه وتعالى فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ وفيه إيماء إلى أن العبرة في الكتاب والسنة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (فمضوا على حالهم) أي التي كانوا عليها مما يقتضي الصبر ولم يطلبوا(1/318)
من ربهم السعة ولا دفع المضرة نظرا إلى كمال حسن مآلهم (فقدموا على ربّهم) راضين بقضائه صابرين على بلائه شاكرين على نعمائه (فأكرم مآبهم) أي مرجعهم إليه (وأجزل) أي أعظم (ثوابهم) لديه (فأجدني أستحي) بياءين وفي نسخة بياء واحد أي فأرى نفسي مستحيية (إن ترفّهت) أي لو تنعمت (في معيشتي أن يقصّر بي) بتشديد الصاد المفتوحة (غدا دونهم) أي دون مرتبتهم وتحت درجتهم وهمتي أن أكون فوق جملتهم (وَمَا مِنْ شَيْءٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ اللّحوق بإخواني) أي في الجملة (وأخلائي) أي أحبائي في الملة. (قالت فما أقام) أي في الدنيا (بعد) بالضم أي بعد قوله ذلك (إلّا شهرا حتّى توفّي صلى الله تعالى عليه وسلم) غاية لإقامته أي إلى أن مات وانتقل إلى رحمة ربه وهذا يدل على اختياره الفقر في جميع أمره إلى آخر عمره قال الدلجي رحمه الله تعالى لم أدر من روى هذا الحديث لكن روى ابن أبي حاتم في تفسيره عنها قالت ظل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صائما ثم طواه ثم ظل صائما ثم طواه ثم ظل صائما قال يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن الله تعالى لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ولم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم فقال فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ قفاها وإني والله لأصبرن كما صبروا جهدي ولا قوة إلا بالله قال التلمساني هنا مسألة وهي من قال ما لي صدقة على أعقل الناس فأفتى الفقهاء على أنه يعطى الزهاد لأن العاقل من طلق الدنيا وأنشدوا:
طلق الدنيا ثلاثا ... وأطلبن زوجا سواها
إنها زوجة سوء ... لا تبالي من أتاها
أنت تعطيها مناها ... وهي تعطيك قفاها
فإذا نالت مناها ... منك ولتك وراها
فصل [وأما خوفه صلى الله تعالى عليه وسلم من ربه عز وجل]
أي ثالث (وأمّا خوفه ربّه) معمول للمصدر المضاف إلى فاعله وفي نسخة من ربه (وطاعته له) أي كمال انقياده في جميع حالاته (وشدّة عبادته) أي كمية وكيفية (فعلى قدر علمه بربّه) أي بمقدار معرفته بعظمته (ولذلك) أي لكون ما ذكر على قدر علمه (قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (فيما حدّثناه) أي في جملة ما رواه لنا (أبو محمّد بن عتّاب) بتشديد التاء الفوقية (قراءة منّي) أي بين أقراني (عليه) ففيه دلالة على تسوية إطلاق الحديث على القراءة والسماع (قال ثنا) أي حدثنا (أبو القاسم الطّرابلسيّ) بضم الموحدة واللام (ثنا أبو الحسن القابسيّ) بكسر الموحدة (ثنا أبو زيد المروزيّ ثنا أبو عبد الله الفربريّ) بكسر ففتح فسكون (ثنا محمّد بن إسماعيل) أي البخاري صاحب الصحيح. (ثنا يحيى بن بكير) بالتصغير روى عن مالك والليث قال أبو حاتم لا يحتج به وضعفه النسائي قال الذهبي كان(1/319)
ثقة واسع العلم وذكر في الميزان أنه وثقه غير واحد قال الحلبي كيف لا وقد احتج به البخاري وروى عنه (عن اللّيث) أي ابن سعد عالم أهل عصره روى عن عطاء وابن أبي مليكة ونافع قال أبو نعيم في الحلية أدرك نيفا وخمسين رجلا من التابعين وعنه قتيبة وخلق كان نظير مالك في العلم وقال الشافعي الليث أفقه من مالك ولكن أضاعه أصحابه وقيل كان دخله في السنة ثمانين ألف دينار فما وجبت عليه زكاة وقد حج وأهدى إليه مالك طبقا فيه رطب فرد إليه على الطبق ألف دينار وأخرج أبو نعيم عن لؤلؤ خادم الرشيد قال جرى بين الرشيد وبين بنت عمه زبيدة بنت جعفر كلام فقال لها هارون أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة ثم ندم فجمع الفقهاء فاختلفوا ثم كتب إلى البلدان فاستحضر علماءها إليه فلما اجتمعوا جلس لهم فسألهم فاختلفوا وبقي شيخ لم يتكلم وكان في آخر المجلس فسأله فقال إذا خلا أمير المؤمنين في مجلسه كلمته فصرفهم فقال يدنيني أمير المؤمنين فأدناه فقال اتكلم على الأمان قال نعم فأمر بإحضار مصحف فأحضر فقال تصفحه يا أمير المؤمنين حتى تصل إلى سورة الرحمن فأقرأها ففعل فلما انتهى إلى قوله تعالى وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ قال أمسك يا أمير المؤمنين قل والله فاشتد ذلك على هارون فقال يا أمير المؤمنين الشرط املك فقال والله حتى فرغ من اليمين قال قل إني اخاف مقام ربي فقال ذلك يا أمير المؤمنين فهي جنتان وليست بجنة واحدة قال فسمعنا التصفيق والفرح من وراء الستر فقال الرشيد احسنت والله وأمر له بالجوائز والخلع وأمر له باقطاع وأن لا يتصرف واحد بمصر إلا بأمره وصرفه مكرما وقد ذكروا في ترجمته أنه كان لا يتكلم كل يوم حتى يتصدق على ثلاثمائة وستين مسكينا عدد أيام السنة (وعن عقيل) بضم مهملة وفتح قاف وهو ابن خالد الأيلي أخرج له الأئمة الستة (عن ابن شهاب) هو الزهري (عن سعيد بن المسيّب) بفتح التحتية المشددة وتكسر وهو من أجلاء التابعين وساداتهم (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يقول) يدل على تكرر سماعه لهذا الحديث عنه (قال رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قليلا ولبكيتم كثيرا) أخرجه البخاري في الدقائق وروى أحمد والبخاري أيضا ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس وزاد الحاكم عن أبي ذر ولما ساغ لكم الطعام ولا الشراب ورواه الطبراني والحاكم والبيهقي عن أبي الدرداء بزيادة ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى لا تدرون تنجون أو لا تنجون (زاد) أي شيخنا السابق أو بعض مشايخنا وقد أخطأ الدلجي بقوله أي زاد أبو هريرة أو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه يصير التقديران أحدهما زاد في روايتنا عن أبي عيسى رفعه إلى أبي ذر وخطأه لا يخفى على من له ذرة من العقل الذي يدرك مراتب النقل (في روايتنا) أي من غير قراءتنا (عن أبي عيسى التّرمذيّ) أي صاحب السنن (رفعه) أي الترمذي إسناده أو حديثه (إلى أبي ذرّ رضي الله عنه) أي في قوله مرفوعا كما صرح به الترمذي في الزهد وقال حسن غريب ويروى عن أبي ذر موقوفا وأخرج ابن ماجه فيه نحوه ورواه محمد بن حميد الرازي ورفعه أيضا (إنّي أرى ما لا(1/320)
ترون) أي أبصر ما لا تبصرون من عجائب الملكوت (وأسمع ما لا تسمعون) أي من غرائب أخبار عالم الجبروت (أطّت السّماء) بتشديد الطاء أي صوتت (وحقّ لها) بصيغة المجهول أي وينبغي لها (أن تئطّ) لكثرة ما عليها من الملائكة فكأنهم أثقلوها كثرة وقوة حتى اطت كالقتب وهو تمثيل للتلويح بكثرتها وإن لم يكن ثم أطيط لها تقريرا لعظمة خالقها ومثله حديث العرش على منكب إسرافيل وأنه ليئط أطيط الرحل الجديد بعظمته وعجزه عن حمله إذ من المعلوم أن اطيط الرحل وهو الكور براكبه إنما يكون لقوة ما فوقه من ثقله (ما فيها موضع أربع أصابع) ظرف مستقر لاعتماده على حرف النفي (إلّا وملك) حال من فاعل الظرف وهو موضع أي إلا وفيه مالك (واضع) بالتنوين (جبهته) أي جبينه (ساجدا لله) حال من الضمير قبله، (والله لو تعلمون ما أعلم) أي من شدائد الأحوال وعظائم الأهوال (لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا) جواب القسم الساد مسد جواب لو وفيه مقابلة الضحك والقلة للبكاء والكثرة ووقع هنا للدلجي خبط وعدم ربط وتقديم وتأخير لا يليق بضبط الكتاب ولا بحديث الباب لا بد من إصلاحه على نهج الصواب، (وما تلذّذتم بالنّساء على الفرش) بضمتين جمع فراش فهو من قبيل مقابلة الجمع بالجمع، (ولخرجتم إلى الصّعدات) بضمتين جمع صعيد أي الطرقات (تجأرون) أي حالي كونكم ترفعون أصواتكم وتستغيثون وتتضرعون في جميع حالاتكم (إلى الله» لوددت أنّي) بكسر الدال الأولى أي لأحببت وتمنيت ووقع في أصل الدلجي بزيادة الواو قبل وفي رواية ليتني (شجرة تعضد) بصيغة المجهول أي تقطع، (روي) استئناف بصيغة المجهول أي نقل (هذا الكلام) أي بخصوصه مما سبق من المرام وهو قوله (وَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ، مِنْ قَوْلِ أَبِي ذرّ نفسه) موقوفا عليه من غير رفعه، (وهو) أي إسناده الموقوف (أصحّ) أي من إسناده المرفوع قال الحلبي ولما وقفت على قوله وددت إلى آخره من زمن طويل قطعت بأن هذا ليس من كلام النبوة ثم رأيت بعض الحفاظ المتأخرين من مشايخ مشايخي في أربعين له قال إنه مدرج ثم رأيت كلام القاضي أنه من قول أبي ذر وهو أصح وهذه العبارة ما هي مخلصة والذي ذكره بعض مشايخ مشايخي من إنه مدرج هو الصواب فيما يظهر لي انتهى وقد تصحف قوله وهو أصح على الدلجي بما وقع له في أصله وهو واضح بزيادة واو ونقطة صاد يعني وهو ظاهر ثم بينه بقوله أي من حيث إنه أشبه بكلامه وأليق بحاله مع كونه صلى الله تعالى عليه وسلم أعلم بمكانته عند ربه وأنزه من أن يتمنى عليه دون ما أعطاه انتهى ولا يخفى أن الكلام في صحة الرواية وإلا فلا يخفى وجه ظهور الدراية لأن مثل هذا الكلام إنما ينشأ عن غلبة الخوف من مشاهدة الله بوصف عظمته ومطالعة نعت سخطه المقتضي لعقوبته الجائزة من حيث العقل أنه المطابق للنقل أنه سبحانه وتعالى لو عذب أهل سمواته وأرضه يكون عادلا في قضائه وحكمه إذ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون فمن نظر إلى نعوت الجمال حصل له البسط في الحال والمقال ومن طالع صفات الجلال وقع في قبض الحال وضيق البال والكلال وبهذا يجمع بين قول بعضهم من عرف الله طال(1/321)
لسانه وقول آخرين من عرف الله كل لسانه هذا وقد ذكر الحافظ أبو نعيم في الحلية أن عمر رضي الله تعالى عنه مر برجل من المنافقين جالس والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي فقال له ألم تصل مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له مر إلى عملك فذكر ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له عليه الصلاة والسلام إن لله تعالى في السموات السبع ملائكة يصلون له غنى عن صلاة فلان قال عمر ما صلاتهم يا نبي الله قال فلم يرد عليه شيئا فأتاه جبريل عليه السلام فقال يا نبي الله سألك عمر عن صلاة فلان فقال اقرأ على عمر السلام وأخبره بأن أهل سماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون سبحان ذي الملك والملكوت وأهل السماء الثانية ركع إلى يوم القيامة يقولون سبحان ذي العزة والجبروت وأهل السماء الثالثة قيام إلى يوم القيامة يقولون سبحان الحي الذي لا يموت انتهى وفي آخر الحديث ما فيها موضع أربع أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ. (وفي حديث المغيرة) أي ابن شعبة كما رواه الشيخان وغيرهما عنه وهو من دهاة العرب وكذا زياد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان قال ابن وضاح أحصن المغيرة في الإسلام ألف امرأة (صلّى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي من كثرة صلاة الليل (حتّى انتفخت قدماه) أي تورمت قال ابن مرزوق إنما ذلك من طول القيام فتنصب المواد إلى الأسافل فتستقر في القدم فيرم لذلك وينتفخ وذلك لبعده من حرارة القلب قيل كان يصلي الليل كله حتى تورمت قدماه من طول القيام فأنزل الله عليه من القرآن ما خففت به عليه وعلى من تبعه وهو قوله إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى وكذا قوله طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى، (وفي رواية) أي لهما عنه (كان يصلّي) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (حتّى ترم قدماه) على زنة تعد مضارغ ورم كورث بمعنى تورمت كما في رواية وأما تشديد الميم على ما في بعض النسخ فخطأ فاحش والعدول عن الماضي لحكاية الحال الماضية كقولهم مرض حتى لا يرجونه فالظاهر أنه مرفوع ومنه قوله سبحانه وتعالى حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ بالرفع على قراءة نافع، (فقيل له أتكلّف هذا) بحذف إحدى التاءين وتشديد اللام أي أتتحمل هذا التحمل وجوز الدلجي كونه من كلف بكسر اللام ومنه حديث إني أراك كلفت بعلم القرآن وحديث اكلفوا من العمل ما تطيقون لكنه غير موافق لما في القاموس فإنه قال كلف كفرح أولع وهو مناسب للحديث الأول ثم قال واكلفه غيره وهو الملائم للحديث الثاني أي كلفوا أنفسكم أو غيركم ما تطيقون من أعمالكم ثم قال صاحب القاموس وتكلفه تجشمه والمتكلف المتعرض لما لا يعنيه انتهى ولا يخفى أن هذا المبنى هو المناسب في المعنى الواو هنا بالجملة الحالية بقوله (وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تأخّر) كما أخبر الله سبحانه وتعالى في سورة الفتح بِقَوْلِهِ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وفي عطف ما تأخر اعتناء عظيم فتدبر وحاصله أنك معصوم من ارتكاب الذنب المتعارف ولو فرض أن يقع منك ما لا يليق بمقامك فإن حسنات الأبرار سيئات الأحرار فإنه مغفور عنك ثم لما كان الغالب أن كثرة العبادة ينشأ(1/322)
عن غلبة خوف العقوبة (قال أفلا أكون عبدا شكورا) على ما أنعم علي من المغفرة وجاء الحديث طبق الآية في مدح نوح عليه الصلاة والسلام إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً وفي ذكر العبد إيماء إلى أنه لا بد لي من القيام بوظائف العبودية ومبالغة في أداء شكر حقوق الربوبية.
(ونحوه) أي مثله في المعنى مع اختلاف يسير في المبنى (عن أبي سلمة وأبي هريرة) كذا في النسخ بالعطف والظاهر تكرار عن لما في الشمائل للترمذي بإسناده بلفظ عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأبو سلمة هذا تابعي جليل أحد الفقهاء السبعة وهو ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد العشرة ويحتمل أن يكون في ذلك حديث لأبي سلمة الصحابي موقوفا أو مرفوعا والله أعلم (وقالت عائشة رضي الله عنها) أي فيما رواه الشيخان (كان عمل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ديمة) بكسر الدال أي دائما باعتبار الغلبة فلا ينافي تركه على سبيل الندرة وما الطف عبارتها بقولها ديمة فإنها في الأصل المطر الدائم فلا يبعد أن يجعل من التشبيه البليغ مع قصدها المبالغة في عموم الفائدة، (وأيّكم يطيق ما كان يطيق) أي لما كان له من قوة النبوة الموجبة للمداومة. (وقالت) أي فيما روياه عنها أيضا (كان يصوم حتّى نقول) بالنصب وروي بالرفع كما سبق وروي بالوجهين مخاطبا والمعنى حتى نظن (لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ. ونحوه عن ابن عبّاس وأمّ سلمة) وهي آخر أمهات المؤمنين توفيت في إمارة يزيد (وأنس وقال) أي كل منهم رضي الله تعالى عنهم لا أنس وحده كما اقتصر عليه الانطاكي لكونه أقرب مبنى فإن الجمع أنسب معنى (كنت) أيها المخاطب (لا تشاء أن تراه في اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْتَهُ مُصَلِّيًا وَلَا نَائِمًا) أي ولا تشاء أن تراه نائما (إلّا رأيته نائما) لما ورد عنه أما أنا فأصلي وأنام وأصوم وأفطر. (وقال عوف بن مالك) وهو من أكابر الصحابة وقد روى عنه أبو داود والنسائي والترمذي (كنت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة) ولعله كان في السفر (فاستاك) أي أول ما استيقظ (ثمّ توضّأ) والظاهر أنه اكتفى بالاستياك الأول. (ثمّ قام يصلّي) أي التهجد؛ (فقمت معه) يحتمل مقتديا ومتابعا (فبدأ) أي القراءة (فاستفتح البقرة) أي بعد الفاتحة لكونها كمقدمتها أو لبيان الجواز بترك قراءتها، (فلا يمرّ بآية رحمة إلّا وقف) أي في موقفها (فسأل) أي الله الرحمة، (وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إِلَّا وَقَفَ فَتَعَوَّذَ) أي التجأ من العقوبة لكونه واقفا بين مقامي الخوف والرجاء ووصفي الفناء والبقاء وملاحظا نعتي الجلال والجمال كما هو حال أهل الكمال، (ثمّ ركع فمكث) بضم الكاف وفتحها أي لبث فيه (بقدر قيامه يقول سبحان ذي الجبروت) فعلوت للمبالغة من الجبر بمعنى القهر والغلبة فإنه هو القاهر فوق عباده (والملكوت) مبالغة الملك أو باطنه أن الملك ظاهره وهذا المعنى متعين عند الجمع بينهما (والكبرياء) أي العظمة المناسب ذكرها في الركوع ولذا لما نزل قوله سبحانه وتعالى فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال اجعلوها في ركوعكم يعني قولوا فيه سبحان ربي العظيم، (ثمّ سجد) أي سجودا طويلا كما هو الظاهر (وقال مثل ذلك) أي نظيره أو بعينه لشمول معنى الكبرياء وصف العلاء الملائم ذكره في(1/323)
السجود لانه لما نزل قوله سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال اجعلوها في سجودكم أي قولوا فيه سبحان ربي الأعلى (ثمّ قرأ آل عمران) أي في ذلك الركعة أيضا أو في أخرى وهو الظاهر لقوله، (ثمّ سورة سورة) أي ثم قرأ في كل ركعة سورة، (يفعل مثل ذلك) أي من تطويل الركوع والسجود والتسبيح المذكور وغير ذلك. (وعن حذيفة مثله) أي مثل حديث عوف كما في مسلم (وقال) أي زيادة على تلك الرواية مع احتمال إطلاعه على غير تلك الحالة (سَجَدَ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، وَجَلَسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ نحوا منه) أي قريبا من طوله (وقال) أي حذيفة (حَتَّى قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ وَالْمَائِدَةَ) أي في ركعة والظاهر في أربع ركعات بتسليمة أو تسليمتين. (وعن عائشة) أي برواية الترمذي (قالت قام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بآية من القرآن) وهي إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ اقتداء بعيسى عليه الصلاة والسلام في الكلام وإيماء إلى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يريد المغفرة والرحمة ورفع العقوبة عن جميع أمة الإجابة مع التسليم تحت الإرادة وإنما كررها للتدبر في معناها وما يتعلق بمبناها من آثار القدرة وأسرار العزة وأنوار الحكمة (ليلة) أي في ليلة من الليالي وهو يحتمل كلها أو بعضها والأظهر أكثرها وظاهر القيام أن تكرارها كان في الصلاة حال الوقوف وأما ما رواه أحمد والنسائي بسند صحيح عن أبي ذر بلفظ قام حتى أصبح بآية إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فلا يدل على إحياء الليل كله لأنه لم يكن من دأبه فيحتمل أنه قام من الليل أو قام لصلاة التهجد حتى أصبح. (وعن عبد الله بن الشّخير) بكسر شين وخاء مشددة معجمتين صحابي نزل البصرة وأدرك الجاهلية والإسلام فهو مخضرم كما روى أبو داود والترمذي والنسائي عنه (أتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يصلّي) جملة حالية (ولجوفه) أي صدره (أزيز) بكسر الزاي الأولى أي حنين من البكاء ويراد به هنا الخنين بالخاء المعجمة وهو البكاء مع غنة وانتشاق الصوت من الأنف (كأزيز المرجل) أي كغليانه وهو بكسر ميم وفتح جيم قدر من نحاس على ما في الصحاح وسمي به لأنه إذا نصب كأنه أقيم على رجله. (وقال ابن أبي هالة) وهو هند ربيبه عليه الصلاة والسلام من خديجة (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم متواصل الأحزان) أي متتابعها لعلمه بشدائد الأحوال وموارد الأهوال حالا ومآلا ولكونه في سجنه سبحانه المقتضي أحزانه وما أحسن قول ابن عطاء:
ما دمت في هذه الدار لا تستغرب وقوع الاكدار وأما ما ورد من قوله أعوذ بك من الحزن فمحمول على حزن يتعلق بالدنيا كما قال سبحانه وتعالى لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ، (دائم الفكرة) أي في عاقبة الأمر (ليست له راحة) لقيامه بما كلف من تحمل أعباء الرسالة ومن وظائف العبادة وقد بسطت تحقيق هذه الأحاديث كلها باعتبار مبناها ومعناها في جمع الوسائل لشرح الشمائل.(1/324)
(وقال صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فيما رواه مسلم وغيره (إنّي لأستغفر الله) أي أطلب مغفرته وأسأل رحمته (في اليوم) أي الواحد بل ورد عنه في المجلس الواحد (مائة مرّة) أي بلفظ استغفر الله أو بزيادة العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه أو بلفظ رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم (وروي) كما في البخاري والترمذي (سبعين مرّة) وكل منهما يحتمل التحديد والتكثير وكأنه صلى الله تعالى عليه وسلم عد اشتغاله بدعوة الأمة ومحاربة الفكرة وتألف المؤلفة ومعاشرة الأهل والعشيرة ومباشرة الأكل والشرب وسائر ضرورات المعيشة مما يحجزه عن كمال الحضور وظهور نور السرور الحاصل من مراقبته ومشاهدته ولهذا المعنى لما سئل الشبلي عن سبب سد باب إفادته فقال لأن أكون طرفة عين مع رب العالمين خير عندي من علوم الأولين والآخرين وقد قال الغزالي ضيعت قطعة من العمر العزيز في تصنيف البسيط والوسيط والوجيز مع أن الأخير هو خلاصة مذهب الإمام الشافعي من طريق النووي والرافعي وهذا بالنسبة إلى قياس ما ظهر لنا من أحوالنا وإلا فالأمر كما روي عن الأصمعي في حديث إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر ربي من أنه لو صدر هذا على قلب صلى الله تعالى عليه وسلم لفسرته ولله در أدبه حيث عظم قلب حبيب ربه الذي هو مهبط وحيه. (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن سنّته) أي طريقته المبنية على شريعته وحقيقته (فقال المعرفة رأس مالي) لأنها المقصودة من أصل الخلقة قال الله تعالى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ قال ابن عباس أي ليعرفون، (والعقل أصل ديني) أي بناء مداره ومحل اعتباره (والحبّ أساسي) أي أساس قلبي في حضوري مع ربي (والشّوق مركبي) لأن صاحب الشوق وطالب الذوق في سلوك الطائرين وفاقدهما سيره ضعيف في منازل السائرين (وذكر الله أنيسي) أي مؤنسي وسبب لأن يكون جليسي لحديث أنا أنيس من ذكرني وجليس من ذكرني وفي نسخة أنسي بضم فسكون (والثّقة) أي بالله كما في رواية يعني أن الاعتماد على ربي (كنزي) لما ورد القناعة كنز لا يفنى ولما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ (والحزن رفيقي) حيث إنه لا ينفك عن قلبي لما سبق من أنه كان متواصل الأحزان ولحديث إن الله يحب قلب كل حزين (والعلم سلاحي) لأني أحارب به عدوي من نفسي وشيطاني وأدفع عني به كيد إخواني (والصّبر ردائي) أي موضع تحملي ومحل تجملي وسبب رفعتي وكبريائي (والرّضى) بالقصر مصدر وفي نسخة بالمد على أنه اسم (غنيمتي) لأنه مغتنم في جميع ما يجري من القضاء ولذا قيل الرضى بالقضاء باب الله الأعظم وقد قال تعالى وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ وفيه إيماء بأن رضى الله والعبد متلازمان لا يتصور أنهما ينفكان (والعجز فخري) أي افتخر بإظهار العجز والافتقار في مرتبه العبودية إلى الاحتياج للقدرة والقوة الربوبية كما يشير إليه قوله تعالى وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ ولعل هذا هو وجه ما وقع في نسخة من لفظ الفقر بدل العجز وإن قال ابن تيمية إن حديث الفقر فخري كذب وقال(1/325)
العسقلاني إنه باطل فإن الحكم بوضعه إنما هو باعتبار ما وصل من سنده لا من حيث مبناه المطابق معناه لما ورد في كتاب الله ولا يبعد أن يكون هذا من علي كرم الله وجهه موقوفا بمضمون ما سمعه عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض أحوال متفرقة مرفوعا. (والزّهد حرفتي) يعني أن أرباب الدنيا لأجل تمتعها وانتفاعها كل أحد يتعلق بحرفة من حرفها لتحصيل طرف من طرفها وأنا لقلة ميلي إليها وعدم إقبالي عليها جعلت زهدي عنها كسبي فيها اعتمادا على باريها (واليقين) بجميع مراتبه من علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين (قوّتي) أي قوة قلبي في معرفة ربي وفي نسخة بسكون الواو أي قوة روحي وسبب زيادة فتوحي (والصّدق شفيعي) لما قيل من أن الصدق أنجى ولقوله تعالى والمصنف هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ (والطّاعة حسبي) أي كفايتي في مرضاة ربي، (والجهاد خلقي) بضم وضمتين أي دأبي وعادتي وهو يشمل الجهاد الأكبر والأصغر، (وقرّة عيني في الصّلاة) أي من جملة عباداتي أو من جملة عناياتي بناء على أن المراد بالصلاة العبادة المشهورة أو الدعوة المأثورة (وفي حديث آخر) أي برواية أخرى (وثمرة فؤادي) أي نتيجة معارف قلبي (في ذكره) أي ذكر ربي (وغمّي) أي همي الذي يغمني في كل حالتي (لِأَجْلِ أُمَّتِي: وَشَوْقِي إِلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ) أي في نهاية رتبتي فهذه كلمات جامعة معانيها مطابقة لما في الكتاب والسنة والمصنف ثبت ثقة حجة فحسن الظن به أنه ما رواها إلا عن بينة وإن لم تكن عندنا بينة وأما قول الدلجي قال الأئمة موضوع يحتمل أن يكون باعتبار بعض أفراده بناء على اختلاف إسناده كما بيناه والله أعلم.
فصل [اعلم وفقنا الله تعالى وإياك أن صفات جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام]
أي رابع (اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ صِفَاتَ جَمِيعِ الأنبياء) أي نعوتهم عامة (والرّسل) أي خاصة (صلوات الله عليهم) أي كافة (من كمال الخلق) بالفتح وتفسيره قوله (وحسن الصّورة وشرف النّسب) أي مما يقتضي جمال الحسب (وحسن الخلق) بالضم أي السيرة والسريرة والعشرة مع العشيرة، (وجميع المحاسن) أي من الشمائل البهية والفضائل العلية (هي هذه الصّفات) أي المتقدم ذكرها في الفصول الماضية ثم هذه الجملة خبر ان واللام فيه للعهد لا كما توهم الدلجي أنها للاستغراق المبين بمن (لأنّها صفات الكمال والكمال) بالرفع (والتّمام) عطف تفسير كما قال الدلجي إلا أن بينهما فرقا دقيقا وهو أن التمام ما لا يتم الشيء إلا به حتى لو فقد يسمى ناقصا والكمال ليس كذلك لأنه أمر زائد على مقدار التمام فتأمل في مقام المرام (البشري) أي المنسوب إلى جنس البشر جميعهم (والفضل) أي الأمر الزائد على الكمال العرفي (الجميع) مبتدأ خبره (لهم صلوات الله عليهم) والجملة خبر لما قبلها من المبتدءات أي من حيث جميعها فيهم لا في غيرهم ومجموعها حاصل لهم في الجملة بحسب المشاركة وإن كانت تختلف حالهم في مزية المرتبة بل هو المناسب لحال الملك(1/326)
العلوي ولذا لم يقل والكمال والتمام البشريان (إذ رتبتهم أشرف الرّتب) أي رتب الموجودات إلا أن في الملائكة خلافا لبعض الأئمة أو رتب البشر فهو بإجماع الأمة وهذا في الدنيا وقوله (ودرجاتهم أرفع الدّرجات) أي في العقبى (ولكن فضّل الله بعضهم على بعض) أي في الدنيا والآخرة (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [البقرة: 253] ) الإشارة إلى من يعلمه نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فاللام للعهد وإنما لم نقل بالاستغراق لقوله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ على أنه لا يبعد أنه سبحانه وتعالى أعلم نبيه بجميعهم وإن لم يعلمه بقصصهم ثم المراد بالفضيلة هنا هو الأمر الزائد على أصل معنى الرسالة لاستوائهم باعتبار تلك الحالة كما يدل عليه بقية الآية مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ أي تفضيلا له كموسى ليلة الحيرة في الطور وكمحمد ليلة المعراج ولعل تخصيص موسى بقوله وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً لتكرير تكليمه له أو لاختصاصه به بالنسبة إلى من تقدم كما يشير إليه قوله تعالى وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ أي على جميعهم لا على باقيهم كما قاله الدلجي درجات هو نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم تفضيلا على غيره بمناقب متكاثرة ومراتب متوافرة كالدعوة العامة والفضيلة التامة الجامعة بين الرؤية والمكالمة وبين المحبة والخلة وكالآيات الكاملة والمعجزات الظاهرة الشاملة فهو المفرد العلم الأكمل الغني عن البيان في هذا المحل أو هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث خص بالخلة التي هي من أعلى مراتب المقام أو إدريس عليه الصلاة والسلام رفعه الله مكانا عليا وقيل بقية أولي العزم من الرسل (وقال: وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ) أي بني إسرائيل (عَلى عِلْمٍ أي بهم (عَلَى الْعالَمِينَ [الدخان: 32] ) أي عالمي زمانهم لكثرة الأنبياء فيهم والمعنى أنا اصطفيناهم عالمين بأنهم أحقاء باصطفائنا إياهم وإذا كان بنو إسرائيل مصطفين لوجود الأنبياء فيهم فبالأولى ثبوت الاصطفاء لهم فتأويلنا هذا الكلام المصنف أولى من قول الدلجي هذا على توهم جعل الضمير للانبياء والحق جعله لبني إسرائيل قبله (وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم) أي كما رواه الشيخان (إنّ أوّل زمرة) أي طائفة (يدخلون الجنّة) بصيغة المعلوم أو المجهول كما قرئ بهما في السبعة (على صورة القمر) أي في هيئته من كمال إنارته (ليلة البدر) وهي ليلة أربع عشرة سمي بدرا لمبادرته غروب الشمس في الطلوع أو لتمامه فيها (ثمّ قال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (آخر الحديث) أي آخره بعد عد جميع زمره وإنما اختصره المصنف لطوله (على خلق رجل واحد) أي كلهم على صورة رجل واحد وهذا على رواية فتح الخاء والأظهر رواية الضم بشهادة رواية اخلاقهم على خلق رجل واحد وبدلالة رواية أخرى لا اختلاف بينهم ولا تباغض في قلوبهم على قلب رجل واحد وأغرب الدلجي حيث جعل الرواية الثانية شاهدة لرواية الخلق بالفتح نعم قد يرجح الفتح كما قال الحلبي لظاهر قوله (على صورة أبيهم آدم عليه السّلام) أي صورة خلقه ولا يبعد أن يكونوا أيضا على سيرة خلقه خلافا للدلجي حيث اقتصر على الأول فتدبر(1/327)
وتأمل (طوله ستّون ذراعا في السّماء) أي في جهتها احتراسا من طول عرضه من جهة الأرض فقد قيل أرضه سبعة أذرع وقيل التقدير وهو في السماء. (وفي حديث أبي هريرة) كما روياه أيضا (رأيت موسى) أي في ليلة المعراج أو في المنام أو في بعض الكشوفات (فإذا هو رجل ضرب) بفتح فسكون أي خفيف اللحم مستدق الجسم على ما ذكره الدلجي تبعا للخليل أو ما بين الجسمين كما قاله الحلبي وهو الأولى لأنه الوصف الأعلى كما ذكره في شمائل المصطفى هذا وقد قال ابن قرقول وقع عند الأصيلي بكسر الراء وسكونها معا ولا وجه للكسر كما قاله القاضي وفي حديث آخر مضطرب وهو الطويل غير الشديد وفي صفاته في كتاب مسلم عن ابن عمر جسيم سبط يحمل على هذا القول الموافق لرواية مضطرب لا على كثرة اللحم وإنما جاء جسيم في صفة الدجال (رجل) بكسر الجيم وروي فتحها أي شعره بين الجعودة والسبوطة (أقنى) أي طويل الأنف مع ارتفاع وسطه ودقة ارنبته (كأنّه من رجال شنوءة) بفتح معجمة وضم نون فواو وهمزة وقد تبدل فتدغم قبيلة من اليمن ويمكن الوجهان في قول الشاعر:
نحن قريش وهمو شنوءه ... بنا قريش ختم النبوه
(ورأيت عيسى فإذا هو رجل ربعة) بفتح راء وسكون موحدة وقد تفتح أي بين الطول والقصر وهو لا ينافي كونه إلى الطول أقرب كما هو أنسب على ما في شمائله صلى الله تعالى عليه وسلم (كثير خيلان الوجه) بإضافة الكثير أي شاماته جمع خال وهو نقطة سوداء تكون في الجسد ويستحسن قليلة في الوجه (أحمر) أي أبيض مائل إلى الحمرة على ما حقق في نعته صلى الله تعالى عليه وسلم هذا وقد اختلف في صفة عيسى عليه السلام فروى أبو هريرة بأن عيسى أحمر وقال ابن عمر والله ما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بأن عيسى أحمر وإنما اشتبه على الراوي وروى ابن عمر أنه عيسى آدم والآدم الأسمر وفي البخاري من طريق مجاهد عن ابن عمر أنه احمر فالمراد ما قارب الحمرة والأدمة كما قدمنا فإنه قد جاء في شمائله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه اسمر مع أنه جاء أيضا كونه أبيض مشربا بالحمرة فتدبر (كأنّما خرج من ديماس) بكسر الدال ويفتح ويؤيد الأول قولهم أعل بقلب ميمه الأولى ياء لكسر ما قبلها فقيل معناه لكن أو الستر أي كأنه مخدر لم ير شمسا وهو بظاهره لا يلائم كونه أحمر فالصواب ما جاء مفسرا في حديث بأنه الحمام وفي الحديث رأيته يطوف بالبيت ثم رأيت بعده الدجال يطوف بالبيت واستشكل بأنه كيف ذلك وقد حرم الله عليه دخول مكة وأجيب بأن التحريم مقيد بوقت فتنته أو حرمت عليه جسمه وهذا باعتبار روحه وفيه إيماء إلى أن مرجع الكل إلى باب المولى وأن لا يقدر أحد أن يخرج عن حكمه تعالى (وفي حديث آخر) لم أعرف من رواه كما قاله الدلجي (مبطّن) بتشديد الطاء المهملة المفتوحة أي ضامر البطن وإن كان قد يطلق على عظيمه (مثل السّيف) أي لاستوائهما واعتدالهما كما ذكره(1/328)
الدلجي وغيره فهو تأكيد والأظهر أنه نعت مستقل ومعناه أنه مثله ضياء وصفاء وفي الشمائل للترمذي فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة بن مسعود وهو ثقفي قتله رجل من ثقيف عند تأذينه بالصلاة، (قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وأنا أشبه ولد إبراهيم به) بفتح واو ولام وبضم فسكون أي أولاده من الأنبياء. (وقال في حديث آخر) على ما رواه البخاري (في صفة موسى كأحسن) ووقع في أصل التلمساني كأشبه (ما أنت راء) بكسر همز من غير ياء اسم فاعل من باب رأى وما موصولة أو موصوفة (من أدم الرّجال) أي من سمرهم وهو بضم همز وسكون دال مهملة جمع آدم أفعل شديدة السمرة قال ابن الأثير الأدمة في الإبل البياض مع سواد المقلتين وهي في الناس السمرة الشديدة وهي من أدمة الأرض وهو لونها وبه سمي آدم عليه الصلاة والسلام وقال النضر بن شميل إنما قيل لآدم آدم لبياضه وقد استدل بعضهم على أن موسى اسمر بقوله سبحانه وتعالى تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فدل ذلك على أنها خالصة اللون وهذا أحسن والله تعالى أعلم. (وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) كما رواه أبو يعلى وابن جرير، (عنه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَعْدِ لُوطٍ نَبِيًّا إِلَّا فِي ذُرْوَةٍ مِنْ قومه) بكسر الذال المعجمة ويروى مثلثة أي في رفعة أو في عزة كما في حديث سعيد بن منصور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما موقوفا والمعنى في منعة وحرمة وغلبة ونصرة (ويروى في ثروة) بفتح المثلثة (أي كثرة) أي توجب غلبة (ومنعة) بفتحتين ويسكن النون أي قوة تمنع المذلة وقيل المنعة بالتحريك جمع مانع أي جماعة يمنعونه ويحمونه من اعدائه هذا والتقييد ببعدية لوط يفيد انه لم يكن في منعة كما يشير إليه قوله لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أي بدنية أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ أي قبيلة قوية واستشكل الدلجي قوله تعالى لليهود فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ولو كانوا في منعة لما قتلوا منهم ببيت المقدس في يوم واحد ثلاثمائة نبي انتهى ويمكن دفعه بأن منعتهم مقيدة بكونهم في قبيلتهم والقضية واقعة في غير محلتهم أو المراد بالمنعة ما تعلق به من أمر النبوة ومخالفة الأمة مع أنه قد تكون المغلوبية لأرباب المنعة. (وحكى التّرمذيّ) بل روى في الشمائل (عن قتادة) أي مرسلا (ورواه الدّارقطنيّ) وهو الحافظ المشهور إمام المحدثين في زمانه تفقه على الاصطخري وسمع البغوي وروى عنه الحاكم وغيره منسوب إلى دار قطن محلة ببغداد (من حديث قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه) أي موقوفا (ما بعث الله تعالى نبيّا إلّا حسن الوجه) فحسن الوجه يدل على معروف صاحبه كما قيل الظاهر عنوان الباطن وقد أنشد:
يدل على معروفه حسن وجه ... وما زال حسن الوجه أهدى الدلائل
وقد روى الدارقطني في الإفراد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا ابتغوا الخير عند حسان الوجوه ورواه الطبراني بلفظ التمسوا وقبح الوجه على عكسه باعتبار مفهومه كما قيل:
يدل على قبح الطوية ما يرى ... بصاحبها من قبح بعض ملامحه(1/329)
والظاهر أن الأمرين غالبيان لتصور خلافهما في بعض افراد الإنسان وفي الحديث اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي فالجمع بينهما كمال الجمال (حسن الصّوت) قال تعالى يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ قرئ بالحاء المهملة وإن كانت المعجمة لهما شاملة (وَكَانَ نَبِيُّكُمْ أَحْسَنُهُمْ، وَجْهًا وَأَحْسَنُهُمْ صَوْتًا صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) أي من الكل فيشتمل حسن صورة يوسف وصوت داود باعتبار الصباحة والملاحة وزيادة البلاغة والفصاحة هذا وقد قيل يوسف أعطي شطر حسن آدم وقيل شطر حسن جدته سارة لأنها لم تفارق الحور إلا فيما يعتري الآدمية من الحيض وغيره وقد أعطي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كمال الجلال والجمال من تمام الصباحة فما رآه احد إلا هابه ومن تمام الملاحة فما رآه أحد إلا أحبه وفي الحديث دلالة على جواز مثل هذه الإضافة إذا لم يرد بها المهانة أو البراءة. (وفي حديث هرقل) على ما في الصحيحين من أنه قال لأبي سفيان (وَسَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَنْسَابِ قَوْمِهَا) والزعم قد يستعمل بمعنى القول ولعله استعمل بمعنى الظن لما يوهم من معنى التهمة أو لأن أمر النسب مبني على غلبة الظن لا على الحقيقة كما روي عن ابن سلام في قوله تعالى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وقد رفع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هذا الوهم في نسبه بما ورد عنه في أحاديث مضمونها أني ولدت من أب إلى أب إلى آدم كلهم من نكاح ليس فيهم سفاح وهذا كله على مقتضى ما وقع في أصل الدلجي وأما على ما صح عندنا من النسخ المعتمدة فذكرت أنه فيكم فلا إشكال (وقال تعالى في أيّوب) أي في نعته (إِنَّا وَجَدْناهُ) أي علمناه أو صيرناه (صابِراً) بتخليقنا أو بتوفيقنا (نِعْمَ الْعَبْدُ) أي أيوب مبتدأ خبره ما قبله وخص بالمدح لصبره على بلائه ورضاه بقضائه ولا يضره شكواه ما به من ضر إلى مولاه (إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 44] ) أي كثير الرجوع إلى الله وقال الانطاكي أي تواب والتحقيق هو الفرق بين أواب وتواب بأن التوبة عن المعصية والأوبة عن الغفلة قيل كان ببلاد حوران وقبره مشهور عندهم بقرب نوى وفي قربه عين جارية يتبركون بها على زعم أنها المذكورة في القرآن (وقال تعالى: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ) أي التوراة (بِقُوَّةٍ [مريم: 12] ) أي بجد وجهد ومبالغة في مواظبته (إلى قوله: وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
[مريم: 15] ) وهو قوله سبحانه وتعالى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ أي الحكمة أو النبوة أو المعرفة بالشريعة صبيا وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا أي رحمة وشفقة منا عليه أو رحمة وتعطفا في قلبه على أبويه وزكاة أي طهارة أو نماء ورفعة وكان تقيا أي عن المعاصي نقيا وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ
أي مبالغا في برهما ولم يكن جبارا متكبرا عصيا عاقا وَسَلامٌ
أي من الله عليه يَوْمَ وُلِدَ
أي من أن يمسه الشيطان كغيره من بني آدم كما أخبر به صلى الله تعالى عليه وسلم وَيَوْمَ يَمُوتُ
أي من ضمة القبر ونحوها أي حين يدفن في حجرته عليه السلام وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
من هول القيامة وخوف العقوبة قال سفيان بن عيينة أوحش ما يكون الإنسان في هذه الأحوال الثلاثة يوم ولد فيخرج مما كان ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر لم ير نفسه فيه فخص يحيى(1/330)
بالسلامة في هذه المواطن قلت ولعل وجه تخصيصه ما روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا أَلَمَّ بِذَنْبٍ أَوْ كاد إلا يحيى بن زكريا عليهما السلام (وقال تعالى: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) من التبشير أو البشارة لثبوتهما في السبعة (بِيَحْيى إلى الصَّالِحِينَ) يعني قوله مصدقا بكلمة من الصالحين أي القائمين بحقوق الله تعالى وحقوق عباده أجمعين (وقال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) أي اختارهما (وَآلَ إِبْراهِيمَ) أي إسماعيل وإسحاق وأولادهما ومنهم نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم من نسل إسماعيل ويدخل إبراهيم في من اصطفى دخولا أوليا كما لا يخفى (وَآلَ عِمْرانَ [آل عمران: 33] ) أي موسى وهارون ابني عمران بن يصهر أو عيسى وأمه بنت عمران بن ماثان وكان بين العمرانين ألف وثمانمائة سنة على ما ذكره الدلجي (الآيتين) يعني قوله عَلَى الْعالَمِينَ أي على عالمي زمانهم أو على المخلوقين جميعهم ذرية أي حال كونهم ذرية واحدة بعضها من بعض في الديانة وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ بأقوالهم وأحوالهم فاصطفاهم لعلمه بهم (وَقَالَ فِي نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [الإسراء: 3] ) حامدا لله في جميع حالاته مع القيام بوظائف طاعاته قيل كان نوح عليه الصلاة والسلام إذا أكل طعاما أو شرب شرابا أو لبس ثوبا قال الحمد لله فسمي عبدا شكورا أي كثير الشكر (وقال) أي بعد قوله تعالى إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ (اللَّهَ يُبَشِّرُكِ) بالوجهين (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) أي بوجود من يخلق بأمركن من عنده سبحانه بغير واسطة وجود أب (اسْمُهُ الْمَسِيحُ) مبتدأ وخبر أي مسح بالبركة والميمنة أو مسح الأرض بالسياحة (إلى الصَّالِحِينَ [آل عمران: 45- 46] ) وهو قوله عيسى ابن مريم وجيها حال مقدرة أي ذا وجاهة في الدنيا بالنبوة والآخرة بالكرامة والشفاعة ومن المقربين في الحضرة وصحبة الملائكة وعلو الدرجة في الجنة ويكلم الناس أي ومكلما لهم في المهد وكهلا أي طفلا وكهلا كلام الأنبياء من غير قصور في الحالين من تغيير الإنباء ومن الصالحين فيه إشارة إلى أن مرتبة الصلاح غاية الفوز والفلاح (وقال تعالى) أي حكاية عن عيسى (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) انطقه الله به في أول الحالات لكونه مبتدأ المقامات ولكون ردا على من زعم الوهيته من أهل الضلالات (آتانِيَ الْكِتابَ) أي الإنجيل (إلى ما دُمْتُ حَيًّا [مريم: 30- 31] ) أي قوله تعالى وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أي نفاعا للغير معلما للخير أين ما كنت وَأَوْصانِي أي أمرني بالصلاة والزكاة أي إن ملكت مالا أو بالصدقة على حسب الطاقة أو طهارة النفس من الخباثة ما دمت حيا أي في مدة حياتي إلى ساعة مماتي (وقال) أي في حق موسى عليه الصلاة والسلام (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى [الأحزاب: 69] الآية) يعني فبرأه الله مما قالوا أي حيث قذفوه بعيب في بدنه برصا أو أدرة لفرط تستره حياء على وفق طبعه وشرعه فأطلعهم الله على براءته منه ونزاهته عنه وكان عند الله وجيها أي ذا وجاهة وقربة عند ربه عندية مكانة لا مكان لتنزهه سبحانه وتعالى (قال النّبي صلى الله تعالى عليه وسلم) كما رواه الشيخان (كان موسى رجلا حييّا) بكسر التحتية الأولى وتشديد الثانية فعيل بمعنى شديد الحياء في جميع الأحوال (ستيرا) بكسرتين مع تشديد(1/331)
الثانية أي كثير التستر في حال الاغتسال وفي نسخة صحيحة بفتح فكسر تحتية مخففة قال ابن الأثير ستير قليل بمعنى فاعل أقول واختيار المبالغة أبلغ وانسب بقوله (ما يرى من جسده شيء استحياء) وفي نسخة استحاء أي لأجل كمال حيائه من رفقائه (الحديث) وتمامه قوله عليه الصلاة والسلام فآذاه من آذاء من بني إسرائيل فقالوا ما تستر هذا التستر إلا عن عيب بجلده إما برص أو أدرة وهي بالضم نفخ الخصية وأن الله أراد أن يبرئه فخلا يوما وحده أي منفردا ليغتسل فوضع ثوبه أي جميعه وهو المناسب لدفع الأدرة أو الزائد عن إزاره إن كان البرص على زعمهم فوقه ففر الحجر أي بعد فراغه من غسله ويحتمل كونه من قبله فجمح بجيم فميم مفتوحة فحاء مهملة أي أسرع في أثره يقول أي قائلا ثوبي أي ألقه أدرة بأحجر حتى انتهى أي مشيه ووصل إلى ملأ بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن خلق الله حالان من ضمير رأوه إذ الرؤية بصرية ليس لها إلا مفعول واحد فقالوا والله ما بموسى من بأس فأخذ ثوبه أي من فوق الحجر وقد ضربه حيث فر ولعله سبحانه وتعالى به أمر فوالله إن بالحجر لندبا بفتح النون والدال المهملة والموحدة أي تأثيرا من أثر ضربه ثلاثا صفة لاسم أن مبينة لعدده وفي رواية أو أربعا أو خمسا والظاهر أن الجملة القسمية من تمام الحديث وجوز الدلجي أن تكون مدرجة فيه من كلام الراوي لكن ليس فيه ما يشعر به ولا يلجئه وفي الحديث أن تكون مدرجة فيه من كلام الراوي لكن ليس فيه ما يشعر به ولا ما يلجئه وفي الحديث جواز الغسل عريانا في الخلوة وإن كان الأفضل ستر العورة وبه قال الأئمة الأربعة وفيه إيماء إلى ابتلاء الأنبياء والأولياء بإيذاء السفهاء وصبرهم عليه في حال البلاء وأن الأنبياء منزهون من النقائص خلقا وخلقا (وقال تعالى عنه) أي حكاية بعد قوله فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً [الشعراء: 21] ) أي نبوة وعلما (الآية) تمامها وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (وقال في وصف جماعة منهم) موسى مد حالهم (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الدخان: 18] وقال) أي حكاية لقول بنت شعيب في حق موسى (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [الْقَصَصِ: 26] ) روي أن شعيبا قال لها وما علمك بقوته وأمانته فذكرت اقلابه الحجر الثقيل الذي لا يحمله إلا أربعون أو عشرون وغضه البصر حين بلغته الرسالة وأمره إياها بأن تمشي وراءه وتدله بالحجارة إن أخطأ تلقاءه (وقال: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35] ) تقدم أنه منهم ومن أفضلهم أو هذا الوصف يعمهم (وقال: وَوَهَبْنا لَهُ) أي لإبراهيم (إِسْحاقَ) أي ابنه (وَيَعْقُوبَ) ابن إسحاق سبطه (كُلًّا) أي منهما (هَدَيْنا [الأنعام: 84] إلى قوله) أي في كلام يطول منتهيا إلى قوله إجمالا (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] ) بهاء السكت وفي قراءة ابن عامر بكسرها وفي رواية لابن ذكوان بإشباعها على أنه ضمير راجع إلى المصدر وقرأ حمزة والكسائي بحذف الهاء وصلا والكل بسكونه وقفا والمعنى اقتد بطريقتهم وسيرتهم وسريرتهم أو بما توافقوا عليه من أمر التوحيد والنبوة والبعثة وأمثالها دون الفروع المختلف فيها إذ ليست مضافة إلى كلهم مع عدم إمكان الاقتداء في جميعها بهم لتباين أحكامهم (فوصفهم) أي الله(1/332)
سبحانه وتعالى (بأوصاف) أي نعوت معنوية لا كما توهم الدلجي من زيادة حسية (جمّة) أي كثيرة (من الصّلاح) من بيانية وهو مستفاد من قوله كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (والهدى) أي من صدر الآية وختمها (والاجتباء) من قوله وَاجْتَبَيْناهُمْ (والحكمة) أي الحكم (والنّبوّة) من قوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وكان ينبغي أن يذكر نعت الاحسان قبل الصلاح فإنه مستفاد من قوله تعالى وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (وقال وَبَشَّرُوهُ) أي إبراهيم (بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات: 28] ) أي كثير العلم (وحليم) أي وفي آية أخرى بِغُلامٍ حَلِيمٍ أي ذي حلم وحاصله أنه جامع بين العلم والحلم ولا يخفى حسن تقدم العلم ولعل هذا وجه تقديم المصنف له مع أن ترتيب القرآن عكس ذلك حيث جاء في الصافات حليم بالحاء وفي الذاريات عليم بالعين على احتمال خلاف ذلك باعتبار حال النزول لكن كان حقه أن يقول فبشرناه بغلام حليم وبشروه بغلام عليم فإن ما فعله اقتصار محل لا سيما اقتصاره على قوله فبشرناه فإنه لا يصح إلا مع قوله بغلام حليم بالحاء وإلا فيلزم منه التركيب الممنوع في علم القراءة كالتلفيق المنهي في المعاملة ثم المبشر به إسماعيل وهو أصح من القول بأنه إسحاق وقد تقدم والله تعالى أعلم (وَلَقَدْ فَتَنَّا) أي امتحنا (قَبْلَهُمْ) أي قبل كفار مكة (قَوْمَ فِرْعَوْنَ أي معه بإرسال موسى إليهم وإيقاع الفتنة بالإمهال في العقوبة وتوسعة الرزق عليهم (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) أي على الله والمؤمنين أو في نفسه لشرف نسبه وفضل حسبه (إلى أَمِينٌ [الدخان: 17- 18] ) وهو قوله أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ أي حق الدعوة من الإجابة وقبول الطاعة عباد الله أي يا عباد الله أو سلموهم إلى وأرسلوهم معي إلى حيث ما أمر الله إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ غير متهم في أمر الدين (وقال) أي حكاية عن إسماعيل خطابا لوالده إبراهيم عليهما السلام عند قصد ذبحه بأمر ربه لما رأى في نومه (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصَّافَّاتِ: 102] ) أي على حكم الله وقضائه أو في ابتلائه من أمره بذبحه (وَقَالَ فِي إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مريم: 54] ) وخص به لأنه وعد بالصبر على ذبحه وقد وفى بوعده (الآيتين) أي تمامهما وهو قوله وَكانَ رَسُولًا أي إلى قبيلة جرهم نبيا لعله أخر للفاصلة أو دفعا لتوهم كونه رسولا بالواسطة كقوله سبحانه وتعالى إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ أي من أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام وكان يأمر أهله أي أهل بيته أو جميع أمته بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا أي في مقاله وفعاله وحاله (وفي موسى) أي وقال في حقه (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً [مريم: 51] ) أي لربه في عبادته عن الرياء وعن متابعة هواه بل طالبا لرضاه إذ سلم وجهه لله وأخلص نفسه عما سواه وفي قراءة للسبعة بفتح اللام أي أخلصه الله واختاره لنفسه واجتباه وهذا أكمل مقام في منازل السائرين وأفضل حال في مراحل الطائرين وتمام الآية وكان رسولا نبيا (وفي سليمان نِعْمَ الْعَبْدُ) أي قال في حقه هذا القول (إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 30] ) أي كثير الرجوع إلى رب الأرباب (وقال) أي في حق جماعة منهم (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) وقرأ ابن كثير عبدنا فالمراد به إبراهيم لخصوصية أو الإضافة جنسية فتوافق الجمعية(1/333)
وهو أولى كما لا يخفى (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ أي أصحاب القوة في مباشرة الطاعات العملية وأرباب البصيرة في الأمور العلمية وفيه تعريض بالبطلة والجهلة الواقعين في تحصيل الشهوات النفسانية واللذات الحيوانية (إلى الْأَخْيارِ [ص: 45- 46] ) يعني قوله سبحانه وتعالى إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ أي جعلناهم خالصين لنا بخصلة خالصة لهم هي ذكرى الدار أي دار القرار لما فيها من قرب الجوار كما قال مجنون العامري:
وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا
فالخواص لا يذكرون الجنة ولا يطلبونها بالمرة إلا لما فيها من وعد الرؤية ومنزلة القربة وقرأ نافع وهشام بإضافة الخالصة إضافة بيانية وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ أي المجتبين من بين أمثالهم الأخيار أي المختارين بأفعالهم (وفي داود أنه أواب) أي حيث كان يفطر يوما ويصوم يوما وينام بعض الليل ويقوم بعضه (ثمّ قال: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) أي قويناه بالهيبة وكثرة الجنود في الخدمة ودوام النصرة والغلبة (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) أي اتقان العلم والعمل أو الحكومة والنبوة (وَفَصْلَ الْخِطابِ [ص: 20] ) أي الخصام بتمييز الحق عن الباطل في الأحكام أو الكلام الملخص الذي يتبينه المخاطب في كل باب أو قوله أما بعد في كل خطبة أو في أول كتاب (وقال عن يوسف) أي اخبارا عما خاطب به الملك بقوله (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف: 55] ) فدل على غاية حفظه ونهاية علمه بتقرير الحق سبحانه وعظم شأنه وقد روي عن مجاهد أن الملك أسلم على يديه أي لما رأى من وفور علمه وحفظه وشفقته ومرحمته على خلق الله من خاصة وعامة حتى ما كان يشبع في حالته مع وجود الخزائن تحت تصرفه وحيز ارادته مما شهدت أموره الخارقة عن العادة بصحة ثبوته ورسالته (وفي موسى) حيث قال للخضر (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً [الكهف: 69] ) أي معك غير منكر لك وتعليق الوعد بالمشيئة للإشارة إلى أن أفعال العباد جارية على وفق الإرادة الإلهية (وقال تعالى عن شعيب) لعل المصنف اختار تزيين التلويح والتفنن في مقام التحسين فتارة عبر بفي وأخرى بعن (سَتَجِدُنِي أي مخاطبا لموسى (إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القصص: 27] ) أي في حسن المعاملة والوفاء بالمعاهدة والمعاشرة بالمجاملة والتعليق للاتكال على توفيقه سبحانه وتعالى ومعونته لا للاستثناء في معاهدته بكونه إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل فإن هذا ليس من شأن الكمل (وقال) أي في حقه أيضا (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ) من قولهم خالفت فلانا إلى كذا إذا قصدته مع إعراضه عنه والمعنى ما أريد أن آتي ما نهيتكم عنه لأستبد به لعلمي بأنه خطأ وفي ارتكابه خطر فلو كان صوابا لآثرته ولم أتركه فضلا عن أن أنهى غيري عَنْهُ (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: 88] ) أي ما أريد بأمركم للمعروف ونهيكم عن المنكر إلا حصول الصلاح ووصول الفلاح ما دمت استطيعه أو القدر الذي أطيقه قال الثعلبي نقلا عن(1/334)
عطاء وغيره أنه من نسل مدين بن إبراهيم الخليل ويقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وعمي في آخر عمره قال قتادة بعثه الله رسولا إلى أمتين مدين وأصحاب الأيكة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن شعيبا كان كثير الصلاة فلما طال تمادى قومه على كفرهم بعد المعجزة وكثرة المراجعة وأيس من صلاحهم ورجوعهم إلى فلاحهم دعا الله عليهم بقوله رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ فاستجاب الله للدعوة وأهلكهم بالرجفة وهي الزلزلة وأهلك أصحاب الأيكة بعذاب الظلة قال السمعاني في الأنساب قبر شعيب في خطين وهي قرية بساحل بحر الشام وعن ابن وهب أن شعيبا ومن معه من المؤمنين ماتوا بمكة وقبورهم غربيها بين دار الندوة وبين باب بني سهم وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما قبر إسماعيل في الحجر وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود انتهى وما صح قبر نبي من الانبياء عليهم الصلاة والسلام غير قبر نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إيماء إلى أن غيره من الأنبياء كالبدر السائرة المستورة عن عين الشهود عند ظهور نور شمس دائرة الوجود (وقال: وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء: 74] ) أي حكمة ونبوة وحكومة في الخصومة قال الثعلبي نقلا عن وهب بن منبه خرج لوط من أرض بابل في العراق مع عمه إبراهيم تابعا له على دينه مهاجرا معه إلى الشام ومعهما سارة أمرأة إبراهيم عليه السلام وخرج معهما أزر أبو إبراهيم مخالفا لإبراهيم في دينه مقيما على كفره حتى وصلوا حوران فمات بها آزر فمضى إبراهيم وسارة ولوط إلى الشام ثم مضوا إلى مصر ثم عادوا إلى الشام فنزل إبراهيم فلسطين ونزل لوط الأردن فأرسله الله إلى أهل سدوم وما يليها وكانوا ألفا يأتون الفواحش قال أبو بكر بن عياش عن أبي جعفر استغنت رجال قوم لوط بوطىء رجالهم واستغنت نساؤهم بنسائهم (وقال إِنَّهُمْ) أي الأنبياء المذكورين في سورتهم (كانُوا) أي بحملتهم (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ [الأنبياء: 89] ) أي يبادرون إلى الطاعات (الآية) وهي قوله تعالى وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً أي للرغبة في المثوبة والقربة والرهبة عن العقوبة بالحرقة والفرقة وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ أي خاضعين أو لأجلنا مع خلقنا متواضعين أو خائفين وجلين حزينين ولعله أشار إلى هذا المعنى بقوله (قال سفيان) أي الثوري أو ابن عيينة وهما تابعان جليلان وجزم التلمساني بالأول (هو) أي معنة الخشوع (الحزن الدّائم) أي المورث للمسارعة إلى الخير (في آي كثيرة) متعلق بقوله وقال تعالى في أيوب أي قد ورد ما ذكر من الآيات الشاهدة على شرف حالهم وكمال جمالهم مما هي نبذة يسيرة مندرجة في آيات كثيرة لا يمكن إحصاؤها وإتيانها بأسرها (ذكر فيها من خصالهم) أي بعض نعوتهم الشاهدة على جميل حالهم (وَمَحَاسِنِ أَخْلَاقِهِمُ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِهِمْ وَجَاءَ مِنْ ذلك) أي من قبيل ما ذكر في الآيات (في الأحاديث كثير) أي مما ينبغي أن يروى منها قدر يسير (كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي على ما رواه البخاري وابن حبان والحاكم: (إِنَّمَا الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ(1/335)
الْكَرِيمِ: يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إبراهيم) وفي اتيان إنما إيماء بحصر كرم النسب وشرف الحسب فيه إذا لم يتفق لأحد أنه (نَبِيٌّ ابْنُ نَبِيٍّ ابْنُ نَبِيٍّ ابْنُ نَبِيٍّ) غيره مع إيذان تعريف المبتدأ والخبر به أيضا لتأكيده فلا ينافيه ما رواه أحمد والبخاري عن ابن عمر وأحمد أيضا عن أبي هريرة بلفظ أن الكريم الخ مع أنه وافق لموازنة ما بعده حتى قيل أنه موزون بلفظه ثم الظاهر أن قوله نبي ابن نبي الخ مدرج من كلام الراوي أو تفسير للقاضي. (وفي حديث أنس) أي كما رواه البخاري بعد قوله تنام عيني ولا ينام قلبي (وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ) أي فلا يتطرق إليهم ما يحجزهم من إشراق الأنوار الأحدية أو يحجبهم عن الأسرار الصمدية (وروي) أي من طريق الطبراني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا (أنّ سليمان كان مع ما) ويروى فيما (أعطي من الملك) مما يقتضي تكبرا وتجبرا وترفعا (لَا يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ تَخَشُّعًا وَتَوَاضُعًا) أي لله كما في نسخة (وكان) أي سليمان على ما روى أحمد في الزهد عن فرقد السنجي (يطعم النّاس لذائذ الأطعمة) وفي أصل التلمساني لذائذ جمع لذيذة وهو ما يوافق الطبع ويلائمه (ويأكل خبز الشّعير وأوحي إليه) وفي نسخة وأوحى الله تعالى إليه (يا رأس العابدين) أي من الملوك أو الموجودين (وابن محجّة الزّاهدين) أي على غيره وفي نسخة محجة بفتحات وتشديد جيم أي مجمعهم أو معظم طريقهم وفيه غاية المبالغة (وكانت العجوز) ووقع في اصل الدلجي وإن كانت فقال هي المخففة من المثقلة (تعترضه) أي تأتيه من عرض طريقه (وهو على الرّيح في جنوده) أي وهو معهم في تلك العظمة (فيأمر الرّيح) أي بالوقوف لأجلها (فتقف) أي بأمره لها (فينظر في حاجتها) أي يتأمل فيها ويقضي بها (ويمضي) أي يتوجه إلى مقصده، (وَقِيلَ لِيُوسُفَ مَا لَكَ تَجُوعُ وَأَنْتَ عَلَى خزائن الأرض) جملة حالية (قال أخاف أن أشبع فأنسى الجائع) أي جنس الجائعين وأغفل عن تفقد المحتاجين وفي نسخة الجياع بكسر الجيم جمع الجيعان، (وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْهُ عليه الصلاة والسلام) كما في البخاري (خفّف على داود القرآن) أي قراءة الزبور (فكان يأمر بدوابّه) أي لأجله وأصحابه وروي بدابته فيحتمل إضافة الجنسية لكن إرادة الواحدية أبلغ في مقام خرق العادة (فتسرج) له (فيقرأ القرآن قبل أن تسرج) أي فيختمه في زمن يسير مع أنه كتاب كبير بناء على خرق العادة من بسط الزمان أوطى اللسان وقد وقع نظير هذا لبعض أكابر هذه الأمة (وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ قَالَ الله تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) أي كالشمع يتصرف فيه كيف يشاء من غير طرق وإحماء (أَنِ اعْمَلْ) بأن المصدرية بتقدير الباء السببية أي وأحينا إليه وأمرناه إن أعمل فإن مصدرية أو مفسرة وأما قول التلمساني إن التقدير تكلف لعدم الدليل على الحذف ففي غير محله نشأ من قلة تأمله (سابِغاتٍ) أي دروعا واسعات (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) [سبأ: 10- 11] ) أي اجعله على قدر الحاجة في النساجة والسرد في اللغة اتباع الشيء بالشيء من جنسه ومنه سرد الحديث والمعنى لا تصغر حلقه فتضيق حال لابسها ولا توسعها فينال لابسها من(1/336)
خلالها وقيل لا تقصد الخصافة فتثقل في الجملة والخفة فتزيل المنعة وفي البخاري ولا تدق المسمار فتسلس هو من قولهم سلس أي لين وروي فيتسلسل أي فيتصل فيسرع كسره باندقاقه (وَكَانَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ عَمَلًا بِيَدِهِ يغنيه عن بيت المال) أي فعلمه الله صنعة الدرع وسبب ذلك ما روى عنه أنه كان يسأل الناس عن نفسه فيثنون عليه فرأى ملكا في صورة آدمي فسأله فقال نعم الرجل إلا أنه يطعم عياله من بيت المال قيل وكان يعني داود عليه الصلاة والسلام بعد ذلك يأخذ الحديد بيده فيصير كالعجين فيعمل منه الدرع في بعض يوم يبيعها بألف درهم فيأكل ويتصدق ويجعل ثلثه في بيت المال (وقال عليه الصلاة والسلام) كما رواه الشيخان وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر (أحبّ الصّلاة) أي أنواع صلاة الليل (إلى الله صلاة داود، وأحبّ الصّيام) أي صيام النافلة (إلى الله صيام داود وكان ينام) كذا في النسخ والأظهر كان بلا عاطفة ليكون بيانا لقضية سالفة أي كان ينام (نصف اللّيل) للاستراحة الموجبة للتقوية على العبادة (ويقوم ثلثه) من أول النصف الثاني لأنه أفضل أجزائه (وينام سدسه) لينشط لعبادة أول نهاره (ويصوم يوما ويفطر يوما) إما رعاية لحالة الاعتدال لئلا يضعف بالصوم على وجه الاتصال أو لتتصور له مداومة الأعمال ففي الصحيحين أحب الأعمال إلى الله أدومها إن قل ولئلا يصير الصوم عادة فلا يتخلص عبادة أو لأن هذه الكيفية أشق على النفس والأجر عل قدر المشقة ثم في الجملتين الأخيرتين بيان علية الأحب في المقدمتين ولفظ الجامع الصغير أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما وأحب الصلاة إلى الله صلاة دَاوُدَ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وينام سدسه انتهى (وكان يلبس الصّوف ويفترش الشّعر) أي نفسه أو ما يصنع منه تواضعا لربه ولذا اختاره الصوفية (ويأكل خبز الشّعير بالملح والرّماد) ولعله أراد به ما اختلط بالخبز واستهلك فيه وإلا فأكل الرماد حرام لما فيه من مضرة العباد (ويمزج شرابه بالدّموع) كما رواه ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه ومجاهد موقوفا (ولم ير ضاحكا بعد الخطيئة) أي المعهودة المسماة بالخطيئة وإن لم تكن خطيئة في الحقيقة إلا أن حسنات الابرار سيئات الأحرار إذ لم يثبت عنه سوى أنه خطب امرأة كان قد خطبها أوريا فزوجها أهلها من داود رغبة فيه أو سأله أن ينزل له عنها فتزوجها وكان ذلك في زمانه عادة لهم فأرسل الله إليه ملكين تنبيها له على ان ذلك خلاف الأولى فيما هنالك لاستغنائه بتسع وتسعين امرأة فلما تنبه في هذا الباب استغفر ربه وخر راكعا وأناب وقد بالغ في تضرعه وبكائه لما له من عظيم المرتبة وكريم المنزلة في مقام حيائه (ولا شاخصا ببصره) أي ولا رؤى رافعا له مع تحديد نظره (إلى السّماء) أي إلى جهتها وفي نسخة نحو السماء (حياء من ربّه عزّ وجلّ) أي لكمال قربه والحديث رواه أحمد في الزهد عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الله الجدلي بلفظ ما رفع داود رأسه إلى السماء بعد ما أصاب الخطيئة حتى مات وبهذه الرواية مع ما قدمناه من الدراية اندفع قول الحلبي لو قال القاضي غير هذه(1/337)
العبارة كان أحسن (ولم يزل باكيا حياته كلّها) أي في جميع مدة عمره إلى حالة مماته بعد تلك الواقعة؛ (وقيل بكى) بل روى ابن أبي حاتم عن أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعا وعن مجاهد وغيره أنه بكى (حتّى نبت العشب) بضم فسكون هو الحشيش (من دموعه) أي من كثرة وقوع دموعه على الأرض (وحتّى اتّخذت الدّموع في خدّه أخدودا) أي شقا مستطيلا ممدودا والمعنى أثرت في خده أثرا كالشق والحفر الطويل في الأرض ومنه قوله تعالى قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ وهو مفرد جمعه أخاديد (وقيل) كما في الكشاف وغيره (كان يخرج متنكّرا يتعرّف سيرته فيسمع الثّناء عليه) أي في غيبته (فيزداد تواضعا) أي لربه شكرا لمزيد نعمته؛ (وقيل لعيسى عليه السّلام) كما رواه أحمد في الزهد وابن أبي شيبة في مصنفه (لو اتّخذت لك حمارا) أي لو اخترته لتركبه أحيانا عند الحاجة إليه (قال أنا أكرم على الله تعالى من أن يشغلني بحمار) أي بأن يتعلق قلبي به وبكلفته وخدمته ويشغلني بفتح الغين فإن الاشغال لغة رديئة؛ (وكان) كما روى أحمد في الزهد عن عبيد بن عمير ومجاهد والشعبي وابن عساكر في تاريخه أنه كان (يلبس الشّعر) أي ثوبه (ويأكل الشّجر) أي ورقه (ولم يكن له بيت) أي مسكن يأوي اليه. (أَيْنَمَا أَدْرَكَهُ النَّوْمُ نَامَ؛ وَكَانَ أَحَبُّ الْأَسَامِي) جمع الأسماء (إليه أن يقال له مسكين) وقد رواه أحمد في الزهد عن سعد بن عبد العزيز بلفظ بلغني أنه ما من كلمة كانت تقال لعيسى ابن مريم أحب إليه من أن يقال هذا المسكين؛ (وقيل) كلمة رواه أحمد أيضا في الزهد وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه موقوفا (إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مدين) سمي باسم ابن إبراهيم الخليل (كانت ترى خضرة البقل) أي الذي كان يأكله بعد خروجه من مصر خائفا يترقب متوجها إلى مدين (في بطنه من الهزال) بضم الهاء نقيض السمن على ما في القاموس فبطل قول التلمساني هو الضعف قيل وصوابه لو قال من الطوى أو الجوع انتهى ولا يخفى بعده عن المدعي وهو متعلق بقوله كانت ترى وتعليله كما ترى. (وقال عليه الصلاة والسلام) كما رواه الحاكم وصححه عن أبي سعيد مرفوعا (لَقَدْ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلِي يُبْتَلَى أَحَدُهُمْ بِالْفَقْرِ) أي بشدة الحاجة في مطعمه (والقمل) أي بكثرته في ثوبه وبدنه (وكان أحبّ إليهم من العطاء إليكم) رضي بقضاء المولى وعلما بأن ما أعده الله لهم خير وأبقى وقد أورد المؤلف هذا الحديث في الفصل الأخير من القسم الثالث بطريق آخر وهو وقوله وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا وَضَعَ يده على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى قوله فقال النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ يُضَاعَفُ لَنَا الْبَلَاءُ إِنْ كَانَ النَّبِيُّ لَيُبْتَلَى بِالْقَمْلِ حَتَّى يقتله وإن كان النبي ليبتلى بالفقر وإنهم كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء. (وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِخِنْزِيرٍ لَقِيَهُ اذْهَبْ بسلام) أي مناو منك (فقيل له في ذلك) استعظاما لمرتبته مع الخنزير في حقارته (فَقَالَ أَكْرَهُ أَنْ أُعَوِّدَ لِسَانَيِ الْمَنْطِقَ بِسُوءٍ) أي النطق به لقوله سبحانه وتعالى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ(1/338)
أَحْسَنُ ولقوله تعالى وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً؛ (وقال مجاهد) كما رواه ابن أبي حاتم وأحمد في الزهد عنه (كان طعام يحيى العشب) أي زهدا وقناعة ورفضا للنعمة (وكان) أي مع ذلك (يبكي من خشية الله عز وجل) أي مخافته مع أنه قط ما همّ بمعصية (حتّى اتّخذ الدّمع مجرى في خدّه) أي موضع جري كالنهر في وجهه من أثر دمعه لشدة معرفته بربه لقوله سبحانه وتعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (وَكَانَ يَأْكُلُ مَعَ الْوَحْشِ لِئَلَّا يُخَالِطَ النَّاسَ) لأن الاستيناس بالناس من علامة الإفلاس (وحكى الطّبريّ) وهو الإمام محمد بن جرير (عن وهب) أي ابن منبه (أنّ موسى عليه السّلام كان يستظلّ بعريش) هو بيت من عيدان تنصب ويظلل عليها قال التلمساني هو بسقوط لا في أصل القاضي وبثبوته في رواية العراقي أي لا يستظل انتهى ولا يخفى بعده وعدم مناسبته لما بعده من قوله (يأكل في نقرة) بضم نون وسكون قاف أي حفرة ومنه نقرة القفاء (من حجر) أي بدلا من طرف خشب أو خزف، (ويكرع) بفتح الراء (فيها) أي يأخذ الماء بفيه من غير كف ولا إناء فيشربه منها (إِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْرَبَ كَمَا تَكْرَعُ الدَّابَّةُ) أي حين لم تلق وعاء الماء (تواضعا لله) أي لإكرامه (بما أكرمه الله من كلامه) وفيه إيماء إلى أن زهده هذا كان مستمرا إلى كماله وآخر حاله (وأخبارهم) أي آثار الأنبياء (في هذا كلّه) أي في هذا المعنى جميعه (مسطورة) أي مكتوبة ومضبوطة ومحفوظة (وصفاتهم في الكمال) أي في كمال ذواتهم (وجميل الأخلاق وحسن الصّورة) ووقع في أصل التلمساني الصور جمع الصورة وهو الأنسب لجمع ما قبله من الأخلاق وما بعده من قوله، (والشّمائل معروفة مشهورة) أي مذكورة في محلها وقد سئل محمد بن سالم بماذا يعرف الأولياء في الخلق فقال بلطف لسانهم وحسن إخلاقهم وبشاشة وجوههم وسخاء أنفسهم وقلة اعتراضهم وقبول عذر من اعتذر إليهم وتمام الشفقة على إخوانهم (فلا نطوّل بها) أي بذكر جميعها (ولا تلتفت) أيها المخاطب (إِلَى مَا تَجِدُهُ فِي كُتُبِ بَعْضِ جَهَلَةِ المؤرّخين) بالهمز والواو أي المدعين علم تواريخ الأنبياء وغيرهم (والمفسّرين) أي التابعين لهم فيما نقلوه من أخبارهم (ممّا يخالف هذا) أي الذي ذكرناه عنهم في سيرهم الثابتة عن علماء السلف وخيارهم.
فصل [قد آتيناك أكرمك الله سبحانه من ذكر الأخلاق الحميدة]
(قد أتيناك) بالمد أي أعطيناك وأعلمناك وفي نسخة صحيحة اتيناك بالقصر أي جئناك والأول أولى لقوله بعد الجملة المعترضة الدعائية وهي قوله (أكرمك الله من ذكر الأخلاق الحميدة) اللهم إلا أن يدعي أن من بمعنى الباء ثم الأخلاق الحميدة هي الشمائل السعيدة، (والفضائل المجيدة) أي الكريمة العظيمة، (وخصال الكمال العديدة) جمع خصلة بمعنى الخلة بالفتح أي المعدودة المعتدة الدالة على كمال ذاته وجمال صفاته صلى الله تعالى عليه وسلم وشرف وكرم (وأريناك) أي أظهرنا لك (صحّتها) أي صحة روايتها ونسبه ثبوتها(1/339)
المناسبة (له صلى الله تعالى عليه وسلم وجلبنا) بجيم فلام فموحدة أي أوردنا وروينا وتصحف على الدلجي بقوله وحكينا (من الآثار ما فيه مقنع) بفتح ميم ونون أي ما يقنع به ويكتفى بذكره (والأمر) أي الشأن في مناقبه (أوسع) أي أكثر من أن يذكر هنا جميع مراتبه (فمجال هذا الباب) بالجيم وزيادة الميم أي سعته وكثرته (في حقّه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي من جهة نعته وصفته (ممتدّ) أي طويل لا يكاد ينتهي إلى حد معتد (ينقطع دون نفاده) بفتح نون ثم دال مهملة أي قبل تصور فراغه أو من غير تحقق فنانه وجوز إعجام الدال بمعنى مضيه (الأدلّاء) جمع أدلة جمع دليل أي دال على مساحة البر. (وبحر علم خصائصه) أي الذي لسعته وكثرته (زاخر) أي ممتلىء كثير ممدود عرضا وطولا قال التلمساني ووصف ابن عباس عليا رضي الله تعالى عنهم فقال هو قمر باهر في ضوئه وبهائه وأسد خادر في شجاعته ومضائه وفرات زاخر في جوده وسخائه وربيع باكر في خصبه وحيائه وروي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه وصف به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (لا تكدّره الدّلاء) جمع دلو أي لا تؤثر فيه حين أخذ بعضه بنقص يورث صفوه كدرة في ساحته وفيه إيماء إلى أنه لم يصل أحد من العلماء إلى غاية بربره وحلمه ولا نهاية من ساحل كرمه وعلمه ولذا قال (ولكنّ أتينا فيه بالمعروف) أي اختصرنا في وصفه على ما هو معروف من الروايات (ممّا أكثره في الصّحيح والمشهور) أي في مرتبة الحسن (من المصنّفات واقتصرنا في ذلك) أي المعروف مما هنالك (بقلّ من كلّ) بضم كل من القاف والكاف وتشديد اللامين وهما لغتان في القلة والكثرة أي على نقل قليل من كثير وفي الحديث الربا وإن كثر فإنه إلى قل أي إلى قلة وانتقاص لقوله تعالى يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ (وغيض من فيض) بالضاد المعجمة فيهما والغيض النقص والفيض الزيادة يقال أعطى غيضا من فيض أي قليلا من كثير ويقال غاض الكرام وفاض اللثام والمعنى وآتينا هنا بنعت يسير من وصف غزير وهو أولى من جعله تفسيرا لما قبله وتأكيدا واعتباره تفننا كما ذكره الدلجي (ورأينا أن نختم هذه الفصول) أي الواردة في هذا الباب من جملة الكتاب (بذكر حديث الحسن) أي ابن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما الوارد بالإسناد الحسن عنه (عن ابن أبي هالة) وهو خاله هند (لجمعه) علة لقوله رأينا أو نختم أي لاستجماع حديثه أو استحضاره نفسه (من شمائله) أي أخلاقه صلى الله تعالى عليه وسلم (وأوصافه كثيرا) أي شيئا كثيرا مما لم يجمعه غيره إلا نزرا يسيرا (وإدماجه) أي ولإدخال هند أو الحسن في حديثه (جملة كافية) أي جملا وافية (من سيره) أي من شمائله الخلقية (وفضائله) أتي الوهبية، (ونصله) عطف على نختم أي ورأينا أن نلحق حديثه بعد تمامه (بتنبيه لطيف) في تبيين مجمله (على غريبه) من جهة المبنى (ومشكله) من طريقة المعنى. (حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الحافظ) أي ابن سكرة وقد تقدم (رَحِمَهُ اللَّهُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ثنا) أي حَدَّثَنَا (الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طاهر) بطاء مهملة (التّميميّ قراءة عليه) بالنصب وفي نسخة قرأت عليه (أخبركم) أي قال(1/340)
أخبركم في ضمن اخباري لكم (الفقيه الأديب) أي الجامع بين علمي المسائل الشرعية والقواعد العربية (أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحسن النّيسابوريّ) بفتح نون فتحتية ساكنة فسين مهملة معرب المعجمة بلد بخراسان (وَالشَّيْخُ الْفَقِيهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أحمد بن الحسن المحمّديّ) أي المنسوب إلى مسمى بمحمد بصيغة المفعول، (وَالْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ جعفر الوخشيّ) بفتح واو وسكون خاء فشين معجمتين وقيل بالحاء المهملة قرية من أعمال بلخ سمع أبا بكر الخيري بخراسان وأبا نعيم الحافظ بأصبهان وأبا عمر الهاشمي بالبصرة وابا عمر بن مهدي ببغداد وتمام الرازي بدمشق وأبا محمد بن النحاس بمصر روى عنه طائفة وحدث عنه الخطيب وهو أقرانه وسمع منه الحسن بن البلخي سنن أبي داود (قالوا) أي كلهم (ثنا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بن الحسن الخزاعيّ) بضم خاء معجمة منسوب لقبيلة خزاعة (أنا) أي أخبرنا (أبو سعيد الهيثم بن كليب) بالتصغير (الشّاشيّ) بمعجمتين منسوب إلى بلد مشهورة من بلاد ما وراء النهر صاحب المسند ومحدث ما وراء النهر (أنا أبو عيسى محمّد بن عيسى بن سورة) بفتح المهملة والراء (الحافظ) وهو الترمذي صاحب الجامع والشمائل (قال حدّثنا سفيان بن وكيع) أي ابن الجراح ضعيف (ثنا جميع) بضم جيم وفتح ميم وسكون تحتية (ابن عمر بن عبد الرّحمن العجليّ) بكسر مهملة فسكون جيم منسوب إلى قبيلة عجل (إملاء من كتابه) أي رواية من كتابه المقروء على شيخه وهو أقوى من الإملاء عن ظهر قلبه وثقه ابن حبان وضعفه غيره (قال حدّثني رجل من بني تميم) قال الأنطاكي هو أبو عبد الله التميمي (من ولد أبي هالة) بفتح الواو واللام وبضم فسكون أي أحفاده (زوج خديجة) بالجر بدل من أبي هالة (أمّ المؤمنين رضي الله عنها) أي قبل وصولها إليه صلى الله تعالى عليه وسلم (يكنّى أبا عبد الله) بفتح الكاف وتشديد النون المفتوحة وبسكون الكاف وتخفيف النون أي يعرف ذلك الرجل بهذه الكنية (عن ابن لأبي هالة) أي بلا واسطة وهو غير معروف كما صرح به الذهبي في ميزانه وأصل هالة علم لدارة القمر فهو أقوى في منع الصرف من هريرة في أبي هريرة لأن هريرة اسم جنس ثم هذا الإسناد ظاهره الاتصال ولكنه منقطع لأن الرجل لم يسم بل لم يسم فيه رجلان ومثل هذا يسمى منقطعا ولكنه إن سمى فيه الرجل من طريق آخر فهو متصل من وجه ومنقطع من وجه وإن لم يسم مطلقا فهو منقطع أبدا كذا ذكره بعض الأئمة وقال بعض علمائنا إنه لا يضر الإسناد مثل هذه الجهالة فهو في حكم المرسل وهو حجة عند الجمهور والله تعالى أعلم (عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله تعالى عنه قال) أي الحسن (سَأَلْتُ خَالِيَ هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ قَالَ القاضي) كان حقه أن يكتب رمز «ح» إشارة إلى التحويل من سند إلى آخر أو يأتي بالعاطفة فيقول وقال القاضي (أبو عليّ رحمه الله) وهو ابن سكرة (وَقَرَأْتُ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي طَاهِرٍ أَحْمَدَ بْنِ الحسن) وروى فيه الحسين بالتصغير (ابن أحمد بن خذادادا) بضم خاء فذال معجمتين فألف فدال مهملة بعدها ألف فدال مهملة أو معجمة لغة فارسية ومعناه(1/341)
بالعربية عطاء الله (الكرجيّ) بفتح كاف فسكون راء فجيم (الباقلّاني) بتشديد اللام وبعد ألفه نون فياء نسبة لباقلا على غير قياس (قال وأجاز لنا الشّيخ الأجلّ) أي الجليل القدر أو أجل زمانه وأكمل أقرانه (أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خَيْرُونَ) بفتح معجمة فسكون تحتية فضم راء يصرف ويمنع (قالا) أي كلاهما (ثنا) أي حَدَّثَنَا (أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شَاذَانَ) بمعجمتين (ابن حرب بن مهران) بكسر الميم (الفارسيّ) بكسر الراء ويسكن (قراءة عليه فأقرّ به) أي اعترف بجواز نقله عنه وهو شرط فيمن قيل له أخبركم فلان أو أخبرني فلان عنك أو نحوه وإن لم يقربه فلا يكون دليلا ولا حجة ولا بد من الإقرار وفيه تصحيح الرواية (قال) أي أبو علي المذكور (أنا) أَخْبَرَنَا (أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْحَسَنِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ) بالتصغير في الثلاثة (ابن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ أَخِي طاهر العلويّ) بفتحتين قال الحلبي هذا الرجل ترجمه الذهبي في الميزان ونسبه كما هنا ثم قال روي بقلة حيائه عن الديري عن عبد الرزاق بإسناد كالشمس على خير البشر وعن الدبري عن عبد الرزاق عن معمر عن محمد بن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر مرفوعا قال وذريته يجتمعون الأوصياء إلى يوم القيامة فهذان دالان على كذبه وعلى رفضه عفا الله عنه ولولا أنه متهم لازدحم عليه المحدثون فإنه معمر انتهى ولا يخفى أنهما يدلان على كذبه ووضعه وعلى تفضيله أيضا وإما على رفضه بمعنى سبه وبغضه فلا غايته أن الحديث ضعيف أو موضوع من طريقه لكنه لا يضر حيث إنه ثابت بإسناد الترمذي في شمائله وإنما أراد المصنف أن يتبرك بذكر مشايخه في إسناده ويسلك بنفسه في سلك استناده وإلا فكان يكفيه أن يسند الحديث إلى الترمذي المعروف بثبوت سنده إما بكونه صحيحا أو حسنا أو ضعيفا لأنه وغيره ملتزمون أن لا يذكروا حديثا فيه راو حكم بوضعه (ثنا) أي حَدَّثَنَا (إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ) بالتصغير (ابن عليّ بن أبي طالب قال حدّثني) وفي نسخة قال حدثنا (عليّ بن جعفر) أي الصادق (بن محمّد بن عليّ بن الحسين) قال الحلبي على هذا يروى عن أبيه وأخيه موسى والثوري وعنه أحمد البزي وجماعة أخرج له الترمذي فقط قال الذهبي ما رأيت أحدا بينه ولا وثقه ولكن حديثه منكر جدا ما صححه الترمذي ولا حسنه وقد رواه عن نصر بن علي عنه عن أخيه موسى عن أبيه عن أجداده من أحبني انتهى والحديث هو مَنْ أَحَبَّنِي وَأَحَبَّ هَذَيْنِ وَأَبَاهُمَا وَأَمَّهُمَا كَانَ معي في درجتي يوم القيامة أخرجه الترمذي في المناقب وانفرد بالإخراج له كذا ذكره الحلبي (عن أخيه موسى بن جعفر) أي ابن محمد العلوي الكاظم روى عن أبيه وعبد الله بن دينار ولم يدركه وعنه ابنه علي الرضى وأخواه علي ومحمد وبنوه إبراهيم وإسماعيل وحسين قال أبو صالح حاتم ثقة إمام مات في حبس الرشيد أخرج له الترمذي وابن ماجة وقال المسعودي قبض موسى ببغداد مسموما لخمس عشر خلت من ملك الرشيد سنة ست وثمانين ومائة وهو ابن أربع وخمسين سنة (عن(1/342)
جعفر بن محمّد) أي الصادق (عن أبيه محمّد بن عليّ) هو أبو جعفر الباقر سمي به لتبقره في العلم أي لتوسعه فيه روى عن أبويه وجابر وابن عمر وطائفة وعنه ابنه جعفر الصادق والزهري وابن جريج والأوزاعي وآخرون أخرج له الأئمة الستة (عن عليّ بن الحسين) هذا زين العابدين روى عن أبيه وعائشة رضي الله تعالى عنها وأبي هريرة وجمع وعنه بنوه محمد وزيد وعمر والزهري وأبو الزناد وخلق قال الزهري ما رأيت قرشيا أفضل منه أخرج له الأئمة الستة قال المسعودي وكل عقب الحسين فهو من علي بن الحسين هذا (قال قال الحسن بن عليّ رضي الله تعالى عنهما واللفظ) أي لفظ الحديث الآتي (لهذا السّند) أي لأهل هذا السند الثاني وهو بالنون لا بالياء التحتية قال التلمساني هذا إسناد شريف لأنه مروي عن أهل البيت ومثله الإسناد المروي في صفة الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حتى قال فيه الأئمة إسناد لو ذكر على ذي علة أو حمى لبريء أو مصاب لا فاق ولو رقى به ملسوع لبرئ (سَأَلْتُ خَالِي هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ عَنْ حلية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) بكسر حاء وسكون لام فتحتية أي وصفه ونعته (وكان) أي هند (وصّافا) أي كثير الوصف له عليه الصلاة والسلام جملة معترضة (وأنا أرجو) جملة حالية أي اتمنى وأحب كما في رواية (أن يصف لي منها) أي من حليته (شيئا) أي بعضا منها (أتعلّق به) أي اتشبث به علما وعملا وهذا الحديث من طريق الترمذي في الشمائل وقد انفرد بإخراجه عن أصحاب الكتب الستة وقد بسطت الكلام على دقائق مبانيه وحقائق معانيه في جمع الوسائل لشرح الشمائل وهنا اتبع المصنف في ضبط مبناه أولا وربط معناه ثانيا وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق (قال) أي هند (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فخما مفخّما) أي مهيبا عظيما في العيون (مفخما) بتشديد الخاء المعجمة المفتوحة أي معظما مكرما في القلوب كما يشير إلى هذا المعنى ما ورد أنه من رآه فجأة هابه ومن خالطه عشرة أحبه وليس المراد بهما بيان ضخامته في جسمه وخلقته لما سيأتي خلافه في نعته ولا يبعد أن يقال معناهما عظيم عند الحق ومعظم عند الخلق (يتلألأ وجهه) أي يضيء من كمال نوره وجمال ظهوره (تلألؤ القمر ليلة البدر) أي كاضاءته حال بدره وبدوره (أطول من المربوع) أي القصير المربوع القامة (وأقصر من المشذّب) بتشديد الذال المعجمة المفتوحة أي الطويل البائن (عظيم الهامة) بتخفيف الميم أي كبير الرأس المشير إلى الوقار والرزانة (رجل الشّعر) بكسر الجيم وفتح العين ويسكن أي متكسره قليلا (إن انفرقت عقيقته) أي انفرق شعر رأسه من ذات نفسه (فرق) أي تركه مفروقا (وإلّا فلا) أي وإن لم ينفرق فلا يفرقه عن قصد منه والفرق هو الطريق الأبيض الذي هو حاجز بين ناحيتي شعر الرأس (يجاوز شعره) أي شعر رأسه (شحمة أذنيه) أي أحيانا ويروى شحمة اذنه بالإفراد والشحمة معلق القرط وهو ما لان من أسفلها (إذا هو وفّره) بتشديد الفاء وقيل بتخفيفها وفي نسخة صحيحة وفره بزيادة الضمير أي تركه وافرا أو جعله وفرة إذ لا يسمى وفرة إلا إذا وصل إلى الشحمة (أزهر اللّون) أي أبيض نيرا وقد جاء من حديث علي(1/343)
رضي الله تعالى عنه أنه كان أبيض مشربا بحمرة على ما أخرجه أبو حاتم عنه وكذا أخرج عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان أبيض اللون وفي المسند من رواية عبد الله من طريقين إن رجلا سأل عليا عن نعته عليه الصلاة والسلام فقال فيه إنه أبيض شديد الوضح ولعل الأول باعتبار الوجه والأعضاء التي تبدو للشمس وهذا باعتبار سائر البدن والمراد بالوضح كمال صفاء بياضه فلا ينافي ما جاء في الصحيح من حديث أنس أنه عليه السلام لم يكن بالأبيض الأمهق ولا بالآدم وأما ما في المسند لأحمد من حديث أنس أنه عليه الصلاة والسلام كان اسمر فالمراد به اسمر إلى البياض كما ذكره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (واسع الجبين) أي من جمال خلقه ويمكن أن يكون كناية عن كمال خلقه وأصل الجبين ما بين الصدغين (أزجّ الحواجب) بتشديد الجيم الأولى أي دقيقها مع غزارة شعرها وتقوس أصلها (سوابغ) أي كوامل طولا وشوامل أصلا والسين أعلى من الصاد (من غير قرن) بفتحتين وقد يسكن أي من دون اجتماع واتصال بين الحاجبين وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أُمِّ مَعْبَدٍ وَصْفُهُ بِالْقَرْنِ ولعل منشأ الخلاف من جهة قرب الرائي وبعده أو المراد بالإثبات قرب القرن وبالنفي بعده لأن المطلوب اعتداله المحمود من كل وجه له وأما ما جوزه الحلبي من أنه كان بغير قرن ثم حدث له القرن فيبعد تصوره (بينهما) أي بين حاجبيه، (عرق) بكسر أوله (يدرّه) من الإدرار أي يكثر دمه ويحركه ويهيجه (الغضب) أي عند مشاهدة مخالفة الرب فلا يخالف حديث لا يغضب (أقنى العرنين) بالكسر أي طويل الأنف مع دقة أرنبته وحدب في وسطه على ما في نهاية ابن الأثير ويكنى به عن العزيز الذي معه منعة وذلك لشموخ أنفه وارتفاعه على قومه هذا وقال الجوهري وعرنين كل شيء أوله وعرنين الأنف تحت مجتمع الحاجبين وهو أول الانف حيث يكون فيه الشمم (له) أي لأنفه بخصوصه (نور يعلوه) أي يظهر عليه أو يرفعه من كثرة ضيائه وشدة بهائه وقوة صفائه (يحسبه) بكسر السين وفتحها أي يظن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو أنفه الوضيء (من لم يتأمّله) أي وجهه (أشمّ) مفعول ثان ليحسبه والاشم الطويل قصبة الأنف قال الجوهري وهو من ارتفع وسط قصبة أنفه مع استواء أعلاه وأشراف أرنبته قليلا من منتهاه فإن كان فيه أحد يدأب فهو أقنى (كثّ اللّحية) بتشديد المثلثة أي غزير شعرها وكثير أصلها وفي رواية كان كثيف اللحية وفي أخرى عظيم اللحية ذكره ميرك شاه رحمه الله تعالى فما في شرح الشمائل لابن حجر المكي من قوله غير دقيقها ولا طويلها ينافي الرواية والدراية لأن الطويل مسكوت عنه مع أن عظم اللحية بلا طول غير مستحسن عرفا كما أن الطول الزائد على القبضة غير ممدوح شرعا ثم هذا لا ينافي ما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا من سعادة المرء خفة لحيته كما رواه الأربعة فإن الكثيف والخفيف من الأمور الإضافية فيحمل على الاعتدال الذي هو الكمال في جميع الأحوال ولا يبعد أن يحمل الكثيف على أصله والخفيف على عدم طوله وعرضه وأما قول الفقهاء في تعريف اللحية الخفيفة هي ما تظهر البشرة من تحتها فحادث اصطلاحا ومبنى(1/344)
الأحاديث هذه على المعنى اللغوي تصحيحا وإصلاحا (أدعج) أي في العين وهو شدة سواد الحدقة مع شدة بياضها (سهل الخدّين) أي سائلهما غير مرتفع الوجنتين (ضليع الفم) أي عظميه أو واسعه والعرب تمدح عظيمه وتذم صغيره ولعله للإيماء إلى سعة الفصاحة وظهور أثر الملاحة (أشنب) بمعجمة فنون فموحدة أي أبيض الأسنان أو الشنب رونقها وماؤها وبهاؤها (مفلّج الأسنان) بتشديد اللام المفتوحة أي مفرج الثنايا لحديث علي أفلج الثنايا ولأن تباعد الأسنان كلها عيب (دقيق المسربة) بضم الراء ما دق من شعر الصدر كالخيط سائلا إلى السرة (كأنّ) بتشديد النون (عنقه) أي رقبته وجيده (جيد دمية) بضم المهملة صورة تعمل من عاج أو رخام أو غيرهما ويتأنق في تحسينها ويبالغ في تزيينها حال كون عنقه (في صفاء الفضّة معتدل الخلق) بفتح الخاء أي متناسب الأعضاء في الحسن والبهاء (بادنا) أي عظيم البدن من جهة اللحم أو خلقه العظيم وليس معناه السمين الضخم بل صلب الجسم غير مسترخي اللحم كما قال (متماسكا) أي ليس بمسترخي اللحم وروي متماسك بالرفع أي هو متماسك يمسك بعضه بعضا لشدته ولا ينافيه ما ورد من أنه عليه السلام كان ضرب اللحم أي خفيفه يعني بالإضافة إلى السمين البطين (سواء البطن والصّدر) بالإضافة أي مستويان لا يرتفع أحدهما على الآخر فهما معتدلان (مشيح الصّدر) بضم ميم وكسر معجمة فتحتية فمهملة أي بادية وظاهره لا تطامن ولا انخفاض به كما أنه لا ارتفاع له وروي بفتح الميم ومهملتين من المساحة أو السياحة أي عريضه وهو إيماء إلى سعة صدره في أمره وأنشراح قلبه بحكم ربه (بعيد ما بين المنكبين) أي وسيع ما بين الكتف والعنق قال ههنا بعيد وفيما سبق عظيم فعظمه إما لبعده فهما سواء أو هناك كثير اللحم وهنا بعيد فهما موصوفان وما موصولة (ضخم الكراديس) أي عظيم رؤوس العظام وجسيمها جمع كردوس وهو رأس العظم أو كل عظمين التقيا في مفصل كالمنكبين والوركين (أنور المتجرّد) بفتح الراء المشددة وهو ما جرد عنه ثوبه من جسده (موصول ما بين اللّبّة) بفتح اللام وتشديد الموحدة أي موضع القلادة وهو الصدر أو النحر وما موصولة (والسّرّة بشعر) متعلق بموصولة (يجري كالخطّ) بتشديد الطاء المهملة أي يمتد مشابها للخط المستطيل وهو ما سبق من معنى المسربة شبهه بجريان الماء وهو امتداده في سيلانه (عاري الثّديين) بفتح فسكون أي ليس عليهما شعر وقيل لحم ويؤيد الأول قوله (ما سوى ذلك) أي ما سوى الخط والمعنى إلا ما سبق من شعر المسربة وروي مما سِوَى ذَلِكَ (أَشَعَرَ الذِّرَاعَيْنِ وَالْمَنْكِبَيْنِ وَأَعَالِيَ الصَّدْرِ) جمع أعلى أي ما فوقه فإن جميعها كثير الشعر لما تقدم أن ما بعده قليل الشعر وأما ما ورد عن علي كرم الله وجهه على ما في حسان المصابيح من أنه عليه الصلاة والسلام كان أجرد والأجرد هو الذي لا شعر عليه فمحمول على أنه أريد بالأجرد ضد الأشعر والمعنى أنه لم يكن على جميع بدنه شعر لا الأجرد المطلق (طويل الزّندين) بفتح فسكون أي عظمي الذراعين من اليدين (رحب الرّاحة) بفتح فسكون وقد يضم أوله أي وسيع الكف وهو قد(1/345)
يكون كناية عن نهاية الجود وغاية الكرم (شئن الكفّين والقدمين) بسكون المثلثة وقيل بالفوقية وهما لغتان على ما في القاموس أي يميلان إلى غلظ وقصر أو إلى غلظ فقط ويحمد ذلك في الرجال لأنه أشد لقبضهم وبطشهم وأقوى لمشيهم وثباتهم ذكره ابن الأثير في المثلثة (سائل الأطراف) بالسين المهملة واللام اسم فاعل (أو قال) شك من الراوي (سائن الأطراف) بالنون وهما بمعنى أي ممتدها وقد تبدل اللام نونا ذكره الدلجي وزيد في نسخة صحيحة وسائر الأطراف بالراء ويدل عليه ذكره في كلام المصنف عند حل مشكله وقد قال ابن الأنباري روى سائل الاطراف أو قال سائن بالنون وهما بمعنى واحد تُبْدَلُ اللَّامُ مِنَ النُّونِ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِهَا وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَسَائِرُ الْأَطْرَافِ فإشارة إلى ضخامة جوارحه كما وقعت مفصلة في الحديث قال الأنطاكي هو بواو العطف أي وسائر أطرافه ضخم (سبط العصب) بفتح سين مهملة وسكون موحدة وفي نسخة بكسرها وروي بتقديم الموحدة والعصب بفتح المهملتين على ما في الأصول المصححة والنسخ المعتبرة وأما قول الحلبي هو تصحيف والصواب بالقاف فهو عن صوب الصواب تحريف والمعنى ممتدة أطناب مفاصله وممتلئة من غير تعقد ونتوء وروي القصب بالقاف قال الهروي وهو كل عظم عريض كاللوح وكل أجوف فيه مخ كالساعد رواه ابن الأنباري قالوا وهو الأشبه والمراد عظام ساعديه وساقيه باعتبار طولهما (خمصان الأخمصين) بضم الخاء المعجمة الأولى مبالغة من الخمص أي شديد تجافي أخمص القدم عن الأرض وهو الموضع الذي لا يلصق بها منها عند الوضع (مسيح القدمين) أي ملساوين لينين لا نتوء بهما وهو بفتح الميم وكسر المهملة قال الحجازي ويروى بضم الميم وشين معجمة (ينبو عنهما الماء) على زنة يدعو أي يأبى عن قبولهما وقوفه فيهما لملاستهما (إذا زال) أي عن مكانه (زال تقلّعا) بضم اللام المشددة ويروى قلعا بكسر اللام وسكونها ويروى إذا مشى تقلع أي رفع رجليه من الأرض رفعا بقوة كأنه يثبت في المشية بحيث لا يظهر منه العجلة وشدة المبادرة عملا بقوله تعالى وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي لا مشي الخيلاء ولا سير متماوت كالنساء وروي إذا مشى مشى تقلعا وزيد في نسخة صحيحة (ويخطو تكفأ) بضم فاء مشددة فهمز أو واو وسبق بيان مبناه وتبينان معناه (ويمشي هونا) أي برفق وسكون ووقار وسكينة من غير دفع ومزاحمة لقوله تعالى وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وهو لا ينافي قوله (ذريع المشية) بالذال المعجمة وكسر الميم أي سريعها بسعة الخطوة كما يشير إليه قوله (إذا مشى كأنّما ينحطّ) أي ينزل (من صبب) أو في صبب كما في رواية أي منحدر من الأرض لقوة مشيه وتثبت خطوه في وضعه وحطه قال الأزهري الانحطاط من صبب والتكفؤ إلى قدام والتقلع من الأرض قريب بعضها من بعض في المعنى وإن اختلفت الفاظها في المبنى وأما حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ما رأيت أحدا أسرع في مشيه من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فمحمول على السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت لا أنه عليه الصلاة والسلام كان يثب وثوب الشطار أو(1/346)
على أن السرعة كانت تقع في مشيه عليه السلام لسعة خطوه من غير قصد له كيف وقد روي أنه عليه السلام قال سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن على ما رواه جماعة من الحفاظ (وإذا التفت) أي يمنة أو يسرة أو إلى أحد من جانبيه (التفت جميعا) أي مجتمعا إليه ومقبلا بكليته عليه فلا يسارق النظر ولا يكون كالطير الخفيف الطيش بل يقبل جميعا ويدبر جميعا (خافض الطّرف) أي بصره حياء من ربه وتواضعا لأصحابه، (نظره إلى الأرض أطول) أي أكثر مدة (من نظره إلى السّماء) لأنه أجمع للفكرة وأوسع للعبرة (جلّ نظره) بضم الجيم وتشديد اللام أي معظمه (الملاحظة) مفاعلة من اللحظ وهو مراعاة النظر بشق العين مما يلي الصدغ وكأنه أراد بها هنا حال كثرة تفكره في أمره المانع من توجهه بجميع نظره إلى جانب من طرقه أو إلى أحد من أهله (يسوق أصحابه) أي يقدمهم أمامه ويمشي خلفهم تواضعا لربه وتعلميا لأصحابه وهذا في الحضر وأما في السفر فلزيادة مراعاة أضعف القوم ومحافظتهم من ورائهم وكان لا يدع أحدا يمشي خلفه ويقول دعوا خلفي للملائكة قال النووي وإنما تقدمهم في سؤر صنعه جابر لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم دعاهم إليه فجاؤوا تبعا له كصاحب الطعام إذا دعا طائفة مشى أمامهم انتهى ولا يبعد أن يقال إنما نقدمهم مبادرة إلى ما أراد من تكثير الطعام بوضع يده الشريفة عليه عليه الصلاة والسلام (ويبدأ) وفي رواية ويبدر بضم الدال أي يتبادر (من لقيه بالسّلام) لأنه الاكمل وثوابه الأفضل لما فيه من التواضع أولا والتسبب لفرض الجواب ثانيا ولذا عدت هذه الخصلة من السنن التي هي أفضل من الفريضة وفيه إشارة إلى أنه يستحب للأكبر أن يبتدئ به على الأصغر كما روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة الإسراء لما وصل إلى مقام الانتهاء وقال التحيات لله والصلوات والطيبات وبالغ في الثناء قال الله تعالى السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فأجابه صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك يرجع السلام السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فقالت الملائكة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله والحديث إلى هنا اتفق عليه الترمذي والطبراني والبيهقي في روايتهم عن ابن أبي هالة وقد اقتصر عليه السيوطي في جامعه الصغير وأما بإسناد المصنف على وفق ما في الشمائل للترمذي فقد قال الحسن بن علي لخاله هند لما وصل إلى هذا المحل وقد حصل له الحظ الأكمل من بعض فعله الأجل (قلت صف لي منطقه) أي كيفية آداب نطقه وبيان أخبار صدقه (قال) أي هند (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم متواصل الأحزان) أي وهو مما يوجب تكليل اللسان وتقليل البيان (دائم الفكرة) أي في أمر الآخرة (ليست له راحة) لأنه في دار محنة وهذا كله مما يقتضي قوله (ولا يتكلّم في غير حاجة) وكونه (طويل السّكوت) ثم ليس المراد بحزنه الما بفوت مطلوب عاجل ولا بتوقع مكروه آجل فإن ذلك منهي عنه لقوله سبحانه وتعالى لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ ولا ما أصابكم ولما ورد من دعائه عليه الصلاة والسلام اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وإنما المراد به التيقظ والاهتمام لما يستقبله من الأمور العظام كما أشار إليه(1/347)
قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة حال وصولهم إلى غاية المنن الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ وأما ما نقله الحلبي عن ابن إمام الجوزية من أن حديث هند بن أبي هالة في صفته عليه الصلاة والسلام أنه كان متواصل الأحزان لا يثبت وفي إسناده من لا يعرف وكيف يكون وقد صانه الله تعالى عن الحزن على الدنيا وأسبابها ونهاه عن الحزن على الكفار وغفر لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فمن أين يأتيه الخزن فمدفوع بما نقله الحلبي أيضا عن شيخ الإسلام ابي العباس بن تميمة في حديث هند بن أبي هالة أنه عليه الصلاة والسلام كان كثير الصمت دائم الفكر متواصل الأحزان أما لفظه فالصمت والفكر للسان والقلب وأما الحزن فليس المراد به الألم على فوت مطلوب أو حصول مكروه فإن ذلك لم يكن من حاله انتهى وهذا تقرير لثبوت الحديث في المبنى واحتياج تأويله في المعنى ثم هذا كله من هند يدل على كماله حيث ذكر هذه المقدمة توطئه في مقام مقاله إجمالا ثم بينه تفصيلا بقوله (يفتتح الكلام ويختمه) أي يطلب ابتداءه وانتهاءه (بأشداقه) أي جوانب فمه لرحب شدقه والعرب تتمدح به (ويتكلّم بجوامع الكلم جمع جامعة) أي بالكلم الجوامع لمباني يسيرة ومعاني كثيرة وفي الحديث كان يستحب الجوامع من الدعاء أي الجامعة لمقاصد صالحة وفوائد صحيحة (فضلا) أي يتكلم حال كون كلامه كلاما بينا يعرفه كل أحد هينا ومنه قوله سبحانه وتعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ أي بين الحق والباطل أو قاطع جامع مانع (لا فضول فيه) أي عريا من الفائدة فيكون مملا (ولا تقصير) أي فيه عن أصل معناه وما يتعلق بمبناه من منافعه الزائدة فيكون مخلا (دمثا) بفتح مهملة وكسر ميم فمثلثة أي كان لين الخلق سهلا (ليس بالجافي) أي غليظ الطبع أو الذي يجفو أصحابه (ولا المهين) بفتح الميم وضمها قال ابن الأثير فالضم من الإهانة أي لا يهين أحدا من الناس فتكون الميم زائدة والفتح من المهانة أي الحقارة فتكون الميم أصلية انتهى ومنه قوله تعالى حكاية عن فرعون أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ أي حقير (يعظّم النّعمة) أي نعمة الله (وإن دقّت) أي قلت وصغرت (لا يذمّ شيئا) أي من نعمه سبحانه وتعالى أو أحدا من خلقه لنزاهته عن البذاء والأذى مع قوله (لم يكن يذمّ) أي يعيب (ذواقا) بفتح أوله وتخفيف واوه أي مأكولا ومشروبا وأما حديث إن الله لا يحب الذواقين والذواقات فيعني بهما سريع النكاح وسريع الطلاق (ولا يمدحه) أي لنزاهة ساحة قلبه عن الرغبة إلى غير ربه فيميل إلى التمتع بمتاع الحياة الدنيا والتوجه إلى حظ نفسه منها ليترتب عليه مدحها وذمها قيل لبعضهم ما بال عظة السلف تنفع وعظة الخلف لا تنجع فقال علماء السلف إيقاظ والناس نيام وعلماء الخلف نيام والناس موتى أو كالأنعام (ولا يقام لغضبه إذا تعرّض للحقّ) ببناء المفعول فيهما والمعنى لا يقوم أحد من الخلق لدفع غضبه إذا تعرض أحد له في أمر ربه (بشيء) أي بسبب مأمور أو منهي وروي لشيء باللام أي لأجل أمر وحاصله أنه إذا تعدى الحق لم يقم لغضبه شيء (حتّى ينتصر له) أي يقوم بنصرة الحق الواجب في حقه هذا غاية لعدم التعرض لغضبه (ولا يغضب لنفسه) أي لحظها وبسببها (ولا(1/348)
ينتصر لها) أي لمجرد حقها (إذا أشار) أي وقت خطابه فيما بين أصحابه (أشار بكفّه كلّها) قصدا للإفهام ودفعا للإبهام واستثنى منه حال ذكر التوحيد والتشهد حيث كان يشير بالمسبحة إلى تحقيق المرام (وإذا تعجّب) أي من شيء عظم وقعه عنده (قلّبها) بتشديد اللام وتخفيفها أي قلب كفه إلى السماء للإيماء إلى انه فعل الرب وأنه ينقلب عن قرب حال ما به العجب (وإذا تحدّث) أي تكلم (اتّصل) أي كلامه (بها) أي مقرونا بكفه وإشارته إليها تأكيدا بسببها وتصحف الدلجي حيث وضع الفاء موضع التاء ثم قال أي قصد من قولهم فصل علينا أي خرج من طريق أو ظهر من حجاب قاصدا بها (فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسرى) ويروى براحته اليمنى باطن ابهامه ولعل اختلاف الرواية بناء على تعدد الحالة في الرؤية هذا بيان كيفية اتصال كلامه بها وهذا عادة من تحدث بأمر مهم وفعل ملم تأكيدا بالجمع بين تحريك اللسان وبعض الأركان على أن له وقعا في الخطب والشأن وتوجها من جانب الجنان فكأنه بكليته متوجه إلى حصول قضيته (وإذا غضب) أي ظهر أثر غضبه على أحد (أعرض) أي عنه ليبعد منه ويسهل أمره (وأشاح) بشين معجمة وحاء مهملة في آخره أي مال وانقبض ذكره الأنطاكي تبعا للمصنف والأظهر أن يقال بالغ في إعراضه بصفح عنقه عنه ممتثلا لقوله سبحانه وتعالى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ (وإذا فرح) أي حصل له سرور (غضّ طرفه) بفتح فسكون أي غمض عينيه أو خفض بصره وأطرق رأسه تواضعا لربه وتباعدا عن حصول شرهه وأشره، (جلّ ضحكه التّبسّم) أي معظم أنواع ضحكه التبسم وهو ما لا صوت فيه مطلقا وقد روي أن يحيى إذا لقي عيسى عليهما السلام يلقاه عيسى متبسما ويلقاه حزينا يشبه باكيا فقال يحيى لعيسى أراك تبتسم كأنك آمن وقال عيسى ليحيى أراك تحزن وتبكي كأنك أيس فأوحى الله إليهما أحبكما إلي أكثركما تبسما ولعل يحيى كان غلب عليه القبض والخوف لكونه مظهر الجلال وعيسى غلب عليه البسط والرجاء لأنه مظهر الجمال والكمال وهو كون الجلال ممزوجا بغلبة الجمال لقوله الأنسي في الحديث القدسي سبقت رحمتي غضبي وفي رواية غلبت (ويفترّ) بتشديد راء أي يبدي أسنانه ضاحكا (عن مثل حبّ الغمام) أي البرد النازل من السحاب حال البرد (قال الحسن) أي ابن علي (فكتمتها) أي اخفيت هذه الحلية أو هذه الرواية (عن الحسين بن عليّ زمانا) أي اختبارا وامتحانا (ثمّ حدّثته) أي أخبرته بهذا الحديث أي ليتبين إطلاعه عليه (فوجدته قد سبقني إليه) أي مع زيادة فضيلة وجدت لديه كما بينه بقوله (فَسَأَلَ أَبَاهُ عَنْ مَدْخَلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم ومخرجه) بفتح العين فيهما (ومجلسه) بكسر اللام أي عن كيفية دخوله وخروجه وجلوسه أو عن أحوال مجلسه وهو مكان جلوسه وهو بكسر اللام سواء كان مصدرا أو مكانا وقال الحلبي هو بفتح اللام أي هيئة جلوسه وهو خطأ فاحش لأن الجلسة بكسر الجيم وهو الموضوع للنوع والهيئة (وشكله) بفتح أوله وجوز كسره وهو يحتمل صورته وسيرته لكن الثاني هو المراد هنا لتقدم ما تعلق بالأول ولقوله فيما سيأتي فسألته عن سيرته (فلم يدع منه شيئا) أي فلم يترك الحسن شيئا من(1/349)
متعلقات جميع ما ذكر إلا وقد سأله وحققه وهذا من كمال انصاف الحسن وجمال خلقه المستحسن ثم هذا بطريق الإجمال وأما بطريق التفصيل فكما بينه بقوله. (قال الحسين سألت أبي) أي عليا كرم الله وجهه (عن دخول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي زمان دخوله وكيفية وصوله وهذا من قبيل رواية الأكابر عن الأصاغر أو من رواية الأقران فإن ما بينهما تفاوت قليل من الزمان (فقال) أي على (كان دخوله) أي في بيته (لنفسه) أي لحقه خاصة ولأهل بيته عامة حال كونه (مأذونا له) أي من عند ربه (في ذلك) أي فله الأجر الجزيل والثناء الجميل لما هنا لك وقيل كان مأذونا له أن يدخل حيث شاء من بيوته لأنه سبحانه وتعالى لم يوجب قسما عليه في زوجاته وقيل معناه أنه لا يدخل بغير استئذان (فكان إذا أوى) بالقصر هو الأولى ومنه المأوى أي وصل إلى منزلة واستقر في محله (جزّأ) بتشديد الزاء فهمز أي قسم (دخوله) أي زمنه (ثلاثة أجزاء) أي أقسام (جزءا لله وتعالى) بالنصب يعبده في النوافل كالإشراق والضحى ونحوهما من الأمور الكوامل (وجزءا لأهله) أي يدبر أمرهم وحالهم ويصلح شأنهم ومآلهم فيما لهم (وجزءا لنفسه) أي لاستراحتها كالقيلولة ونحوها ولورود وفود ضرورة قضية الجأت بعض الناس إلى الدخول عليه والمشورة بين يديه وعرض أحوال الجهاد وأعمال العباد وأمثال ذلك عليه وهذا معنى قوله (ثمّ جزّأ جزأه بينه وبين النّاس) أي من خواص أصحابه وزمرة أحبابه (فيردّ) أي في بعض زمن نفسه (ذلك) أي نفعه لما هنالك (على العامّة) أي الذين لم يقدروا عليه في تلك الحالة (بالخاصّة) أي بواسطتهم وحصول رابطتهم وقد قال ابن الأثير أراد أن العامة كانت لا تصل إليه في هذا الوقت فكانت الخاصة تخبرهم بما سمعوا منه فكأنه أوصل الفوائد إلى الخاصة بالعامة وقيل إن الباء بمعنى عن أي يجعل وقت العامة بعد الخاصة فيكونون بدلا منهم (ولا يدّخر) أي لا يخفى من العلم أو المال (عنهم شيئا) أي مما ينفعهم وأصل يدخر بالدال المهملة المشددة يذتخر بالمعجمة قلبت التاء دالا مهملة لاتحادهما مخرجا فصار يذدخر بمعجمة فمهملة ثم أدغم بالمهملة بعد قلب المعجمة بها وهذا نطق الأكثر ومنه قوله تعالى وأدكر (فكان) كذا في النسخ وكان الظاهر بالواو (من سيرته) أي من حسن طريقته (في جزء الأمّة) أي أمة الإجابة لشريعته (إيثار أهل الفضل) أي اختيارهم لاعتبارهم (بإذنه) أي بأمره إكراما لهم ونفعا لمن تبعهم أو بأمر أهل الفضل ومنه حديث الشراب في الغلام وهو ابن عباس رضي الله تعالى عنه مع الأشياخ أبي بكر وعمر فاستأذن فأذنوا له، (وقسمته) بفتح القاف أي قسمته كما في نسخة صحيحة وهو مصدر مضاف إما إلى الفاعل أو المفعول أي قسمة الجزء أو قسمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إياه (على قدر فضلهم) أي الأفضل فالأفضل (في الدّين) أي بالعلم والعمل المتعلق به المسمى بالتقوى لقوله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ لا بمجرد النسب ومقتضى الحسب أو كثرة الذهب ثم هم مع تفاوتهم في مراتب الفضيلة متفاوتون في مقدار استحقاقهم بحسب الحاجة كما يشير إليه قوله (مِنْهُمْ ذُو الْحَاجَةِ وَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَتَيْنِ وَمِنْهُمْ ذو الحوائج)(1/350)
أي ثلاثا فأكثر وهو جمع حاجة من غير قياس وقيل جمع حائجة (فيتشاغل بهم) أي على حسب منافعهم (ويشغلهم) بفتح الياء والغين لا بضم أوله وكسر ثالثه فإنه لغة رديئة (فيما يصلحهم) أي ذلك الوقت وفي نسخة يصلحهم ولعله من قبيل حكاية الحال الماضية (والأمّة) بالنصب عطفا على الضمير فالتقدير ويصلح عامة الأمة (من مسألته) وروي من مسألتهم (عنهم) أي من أجل سؤاله عن أحوالهم وتفقده لأعمالهم وجعل الدلجي من بيانا لما وهو غير صحيح في المعنى لأنه لو أريد هذا المعنى لقال من مسألتهم عنه كما لا يخفى (وأخبارهم) أي ومن أجل إخباره إياهم (بالذي ينبغي لهم) أي يصلح لهم خاصة أو للعامة كافة (ويقول) أي في جميع المراتب (ليبلّغ) بالتشديد والتخفيف (الشّاهد) أي ليوصل الحاضر (منكم الغائب) أي الموجود أو من سيوجد في عالم الوجود ما سمعه مني ولو بالمعنى خلافا لبعضهم من الصحابة كالصديق ومن التابعين كابن سيرين وأبي حنيفة وبعض علماء الأمة وقيل المراد بالشاهد الصحابي الأكبر والغائب الأصغر أو الشاهد الصحابي والغائب التابعي أو الشاهد العالم والغائب الجاهل ومنه قول القائل شعر:
أخو العلم حي خالد بعد موته ... واوصاله تحت التراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ... يعد من الأحياء وهو عديم
أو الشاهد الحضري والغائب البدوي أو الشاهد السامع والغائب من لم يسمع أو الشاهد الذكور والغائب الإناث أو الشاهد المسلم والغائب الكافر وروى الشاهد الغائب بدون منكم (وأبلغوني) أي أوصلوا إلى (حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته) وروى إبلاغ حاجته (فإنّه) أي الشأن (من أبلغ سلطانا) أي نبيا أو خليفة أو قاضيا أو حاكما أو أميرا أو وزيرا أو لو سلطانا جائرا (حاجة من لا يستطيع إبلاغها) أي بنفسه إلا بكلفة ومشقة (ثبّت الله قدميه) أي على الصراط أو في الموقف (يوم القيامة) لما قام بحق الإخوة وثبت في مقام الرحمة والشفقة (لا يذكر عنده) بصيغة المجهول (إلّا ذلك) أي الذي ينشأ عنه نفعهم ويترتب عليه رفعهم (ولا يقبل) أي هو (من أحد غيره) أي غير ما فيه منفعة هنالك ولا يبعد أن يقرأ ولا يقيل بصيغة المفعول فتأمل (قال) أي على (في حديث سفيان بن وكيع) أي بروايته خاصة (يدخلون روّادا) بضم فتشديد أي حال كونهم طالبين منه العلم وملتمسين منه الحكم وروي بكسر أوله مخففا على أنه مصدر أي يتحينون وقت الوصول إليه وروي لو إذا باللام والذال المعجمة أي ملتجئين إليه ومتحصنين ممتنعين به أو متقربين لما عنده (ولا يتفرّقون) أي لا يفترقون بعد دخولهم (إلّا عن ذواق) بفتح أوله أي عن علم وحكم وحلم يكتسبونها منه أو عن مذوق من مأكول أو مشروب يحضر عنده واقتصر أهل الذوق على الأول فتأمل وإن كان الجمع إن تصور أو تيسر فهو الأكل بالنسبة إلى الكمل (ويخرجون أدلّة) جمع دليل أي هداة (يعني فقهاء) أي علماء بالكتاب والسنة قال التلمساني هذا القول لابن شاذان على ما نقله بعض الشيوخ(1/351)
وروي بذال معجمة أي متواضعين أو منقادين (قلت) القائل هو الحسين بالتصغير لأبيه رضي الله تعالى عنهما (فَأَخْبِرْنِي عَنْ مَخْرَجِهِ كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِيهِ) لا تتبع في جميع أفعاله من دخوله وخروجه وسائر أحواله (قال) أي علي (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يحزن لسانه) بضم زاي أي يجعله مخزونا ومحبوسا وممنوعا (إلّا ممّا يعنيهم) بكسر النون أي يهمهم وينفعهم وفي نسخة من الإعانة أي يساعدهم ويقوي دينهم من جواهر لفظه وزواجر وعظه ومنه:
إذ المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخازن
(ويؤلّفهم) بتشديد اللام أي يوقع الألفة بينهم من سحائب كرمه وسواكب نعمه فيجمعهم (ولا يفرّقهم) بتشديد الراء أي لا يتكلم بما ينفرهم لأنه برحمة من الله لان لهم (يكرم) من الإكرام أي يعظم (كريم كلّ قوم) أي رئيسهم وشيخهم ويقول أيضا إذ أتاكم كريم قوم فأكرموه كما رواه ابن ماجة وغيره (ويولّيه) بتشديد اللام أي يجعله واليا (عليهم) أي تألفا به وبهم (ويحذر النّاس) أي لقوله تعالى وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عن بعض ما أنزل الله إليه ثم عطف بالتفسير قوله (ويحترس منهم) أي يتحفظ عنهم ففي الحديث الحزم سوء الظن وفي لفظ احترسوا من الناس بسوء الظن والمعنى لا تثقوا بكل أحد منكم فإنه أسلم لكم فهو لا ينافي قوله تعالى إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ او فيحذر من الغائب ويحترس من الحاضر والمراد من الناس جنسهم كالأعرابي لأجميعهم في هذا الباب (من غير أن يطوي) بكسر الواو أي يمنع (عن أحد) وفي نسخة على أحد (بشره) بكسر الموحدة أي بشاشة بشرة وجهه وطلاقته (وخلقه) أي حسن عشرته وطراوته وهذا في حق من حضر منهم في خدمته إذا وجدوا (ويتفقّد أصحابه) أي يتعرف أحوالهم إذا غابوا وفقدوا (ويسأل النّاس عمّا في النّاس) أي مما يوجب التفقد والتفحص للاستئناس (ويحسّن الحسن) بتشديد السين وتخفف أي يبين حسن ما يكون حسنا ويجعله مستحسنا (ويصوّبه) بتشديد الواو أي يحكم بكونه صوابا ترغيبا فيه وتحريضا عليه وروي ويقويه (ويقبّح القبيح ويوهنه) بتشديد الياء والهاء مشددة أو مخففة بعدها نون او ياء أي يظهر قبحه وضعفه تنفيرا عنه وتحذيرا منه (معتدل الأمر) أي كان أمره وشأنه كله في غاية من الاعتدال ونهاية من كمال الجمال مما للقلب فيه راحة وللعين قرة (غير مختلف) حال مؤكدة أي غير مفرط ولا مفرط أو غير متناقض ولا متعارض (لا يغفل) بضم الفاء أي لا يظهر الغفلة بالمرة لأرباب الصحبة (مخافة أن يغفلوا أو يملّوا) بفتح ميم وتشديد لام أي يسأموا وأو للتنويع (لكلّ حال) أي من أحوال الدنيا والعقبى (عنده عتاد) بفتح مهملة ومثناة فوقية أي عدة زاد ومعد معاد (لا يقصّر عن الحقّ) أي لا يفرط في إقامته (ولا يجاوزه إلى غيره) أي ولا يتعدى عن غاية مرتبته (الذين يلونه) أي يقربونه (من النّاس خيارهم) مبتدأ وخبر (وأفضلهم عنده أعمّهم نصيحة) أي لله وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم كافة وقد ورد خير الناس أنفعهم للناس والنصيحة الخلوص لغة وهي كلمة جامعة(1/352)
يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةِ إِرَادَةِ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ بها خالصة (وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة) أي مشاركة في الرزق والمعيشة قلبت همزتها واوا بدليل حديث ما أحد عندي أعظم يدا من أبي بكر آساني بنفسه وماله وآساه بالهمز أعلى من واساه وقيل لا تكون المواساة إلا من كفاف (وموازرة) أي معاونة من الوزر بمعنى الملجأ أو بمعنى الحمل وروي بالهمز مكانه من الأزر بمعنى الظهر لأن منه قوة البدن فوازره بمعنى قواه ووقع في أصل الدلجي تقديم موازرة وهو مخالف للأصول المعتبرة (ثم قال) أي الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما (فسألته) أي أبي (عن مجلسه) أي جلوسه صلى الله تعالى عليه وسلم أو مكانه وكيفية حاله ومراتب شأنه ولذا أبدل منه بقوله (عمّا كان يصنع فيه) أي في جلوسه أو مجلسه وقد أغرب الدلجي حيث قال هنا أيضا ما سبق له من أنه بفتح اللام كما تقدم قريبا والظاهر أنه يجوز بكسر اللام وقد تقدم أن فتحها خطأ مبنى ومعنى (فقال) أي علي (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يجلس) أي بعد قيامه من نوم أو غيره (ولا يقوم) أي بعد جلوسه (إلّا على ذكر) أي من إفادة علم وذكر أو بيان حمد وشكر عملا بقوله تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ (ولا يوطّن الأماكن) من الإيطان أو التوطين أي لا يجعل لنفسه مجلسا معينا يعرف به بحيث لا يجلس في غيره (وينهى) أي غيره أيضا (عن إيطانها) أي اتخاذها معينة وقيل مصلى لصلاته المبينة فروى الحاكم وغيره أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نهى أن يوطن الرجل المكان يصلي فيه وفي رواية نهى عن أن يوطن الرجل في المكان بالمسجد كما يوطن البعير والمعنى أنه نهى أن يألف الرجل مكانا معلوما من المسجد مخصوصا يصلي فيه كالبعير لا يأوي من العطن إلا إلى مبرك قد وطنه واتخذه مناخا له ولعله اريد به خصوص من لم يألف من المسجد مكانا يفتي به أو يدرس فيه فإن له أن يقيم من سبقه إليه لئلا يتفرق أصحابه عليه ولكن الأولى أن لا يلتزم جلوسه لمكان معين بحيث لا يتقدم ولا يتأخر عنه نظرا إلى عموم النهي ورخص للإمام بوقوفه في موضع معين من محراب المساجد للضرورة ولعل نهي غيره مخالفة دخول الرياء والسمعة في الطاعة ثم رأيت النووي صرح به حيث قال وإنما ورد النهي عن إيطان موضع من المسجد للخوف من الرياء ونحوه وإلا فلا بأس بملازمة الصلاة في موضع من البيت لحديث عقبان بن مالك فلم يجلس يعني النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين دخل البيت ثم قال أين تحب أن أصلي من بيتك فأشرت إلى ناحية من البيت الحديث وقال التلمساني كان مقعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عند العمود المخلق وكان لأصحابه مواضع فيه معروفة الأماكن وقال بعض الشيوخ نهيه عن ذلك لوجوه أحدها خوف الرياء والسمعة والتظاهر بالملازمة والثاني أن يغيب فيقع الناس فيه فيأثمون به والثالث أن يرى أنه استحقه دون غيره قلت والرابع أنه يعتقد عدم جوازه في غيره كما قيل في كراهة تعيين سورة في صلاته وينبغي أن يستثني ملازمة المواضع المأثورة كما أنه استثنى ما ورد في قراءته الآثار المسطورة ولا يبعد أن النهي مختص بموضع يتبارك الناس بالصلاة فيه كتحت الميزاب(1/353)
والمقام والمحراب والله أعلم بالصواب (وإذا انتهى إلى قوم) أي جالسين أو إلى مجلسهم (جلس حيث ينتهي به المجلس) ولم يتقدم عليهم ولم يتميز عنهم بل كان يجلس حيث اتفق معهم فإن شرف المكان بالمكين دون العكس المبين (ويأمر بذلك) تأكيدا للأمر بالقول بانضمامه إلى الفعل ويقول ان الله يكره عبده أن يراه متميزا عن أصحابه (ويعطي كلّ جلسائه نصيبه) أي من مباشرته ومحادثته (حتّى لا يحسب جليسه) أي لا يظن مجالسه (أنّ أحدا أكرم عليه منه) أي من غاية استجلاب خاطره ونهاية جبر حال ظاهره (من جالسه أو قاومه) أي وافقه في جلوسه أو قيامه بمعنى جلس معه أو قام (لحاجة) أي عارضة لصاحبه (صابره) أي بالغ في حبس نفسه للصبر معه (حتّى يكون هو المنصرف عنه) أي بعد انقضاء حاجته منه (من سأله حاجة لم يردّه) بفتح الدال وضمها (إلّا بها) أي إلا بقضائها أو وعد ادائها كما بينه بقوله (أو بميسور) أي بما تيسر له (من القول) وهو يشمل دعاءه له بحصولها فأو للتنويع وفيه إيماء إلى قوله تعالى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً (قد وسع النّاس) بالنصب أي عمهم (بسطه وخلقه) أي بسط يده وانبساط خلقه وسماحة نفسه وسعة كرمه (فصار لهم أبا) أي من كمال الشفقة وحسن تأديب الترتبة لأن نبي كل قوم بمنزلة ابيهم كما قال تعالى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ وفي قراءة شاذة بعد قوله سبحانه وتعالى وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وهو أب لهم (وصاروا عنده في الحقّ) أي في حق الرحمة والرأفة (متقاربين) أي كالأولاد عند الوالدين متساوين في أصل المحبة (متفاضلين فيه بالتّقوى) أي عن المعصية والتقوى على الطاعة لقوله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ (وفي الرّواية الأخرى) أي عنه أو عن غيره (وصاروا عنده في الحقّ سواء) أي في حكم الحق للخصومة أو في أصل حق المودة مستوين. (مجلسه مجلس حلم) أي وقار وسكينة (وحياء وصبر وأمانة) أي لا مقام وقاحة وخفة وخيانة (لا ترفع فيه الأصوات) لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ الآية وهذا بيان لحلمهم وحيائهم (ولا تؤبن فيه الحرم) وضبطهما تقدم أي لا يذكرون فيه بسوء وهذا بيان لصبرهم وأمانتهم، (ولا تثنى) بضم أوله فسكون نون وفتح مثلثة أي لا تشاع ولا تذاع ولا تذكر من النثاء وهو أعم من ذكر الحسن والقبيح وخبر الخير والشر وقيل مختص بالشر وهو في هذا المقام أظهر فتدبر وفي نسخة بمثناة فمثلثة فنون أي لا تعاد (فلتاته) بفتحتين وقد تسكن اللام أي زلات مجلسه وعثرات من حضر في مقام أنسه والمعنى لم يكن لمجلسه فلتة فتنقل فالنفي منصب على القيد والمقيد كقوله تعالى لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أي أصلا (وهذه الكلمة) أي الجملة الأخيرة وهي ولا تنثى فلتاته ثابتة (من غير الرّوايتين) أي المذكورتين في سند هذا الحديث (يتعاطفون) أي فيه كما في نسخة صحيحة أي في مجلسه خصوصا يتحابون وبتراحمون (بالتّقوى) أي بسببها لحديث أبي داود والترمذي لا تنزع الرحمة إلا من شقي أو بحسب تفاوت مراتبها حال كونهم (متواضعين) أي بعضهم لبعض كما قال تعالى أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى(1/354)
الْكافِرِينَ وكما قال أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (يوقّرون فيه) أي في مجلسه خصوصا الكبير أي في السن أو الرتبة بما يجب له من العظمة (ويرحمون الصّغير) أي بمقتضى الشفقة (ويرفدون) بضم الفاء وكسرها وحكي فتحها وفي نسخة من الارفاد أي يعينون ويغيثون (ذا الحاجة) ويعطون صاحب الفاقة وقيل رفد أعطى وارفد اعانه والرفد بالكسر هو العطاء (ويرحمون الغريب) أي لبعده عن بلاده وأصحابه ومفارقة أولاده وأحبابه (ثم قال) أي الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما (فسألته) أي أبي (عن سيرته صلى الله تعالى عليه وسلم في جلسائه) أي عن طريقته في حقهم حال حضورهم في خدمته (فقال) أي علي (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دائم البشر) أي غير مقيد طلاقه وجهه وبشاشة بشرته بوقت دون وقت في حالته، (سهل الخلق) أي لين الطبع مع عموم الخلق، (ليّن الجانب) بتشديد التحتية وتخفف أي في كمال من الرفق، (ليس بفظّ) أي سيىء الخلق (ولا غليظ) أي سيىء القلب (ولا سخّاب) أي صياح وفي رواية ولا سخوب والصاد لغة فيهما وكلاهما للمبالغة إلا أن النفي لأصل المعنى لا للزيادة والأظهر أن الكلمة بوضعها للنسبة كتمار ومنه قوله تعالى وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وجاء في حديث المنافقين خشب بالليل سخب بالنهار أي إذا جن عليهم الليل سقطوا نياما كالخشب فإذا أصبحوا تساخبوا على الدنيا تهالكا عليها وتمالؤوا إليها وفي رواية في الأسواق فالمراد نفي رفع الصوت بالمخاصمة والمشاجرة على ما هو المعروف في العادة فلا ينافي ما ورد من أنه كان إذا دخل السوق قال لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له إلى آخره مع غيره مما ثبت من الأدعية في أثره (ولا فحّاش) أي ذي فحش من كلام غليظ (ولا عيّاب) أي على أحد قولا وفعلا مرضيا أو في غيبة أحد أو لمأكول ومشروب كما سبق (ولا مدّاح) أي مبالغ في مدح أحد ويروى بالزاء أي كثير المزح لما ثبت في وصفه من مدحه ومزحه أحيانا وأما ما وقع عند شارح بالراء فتصحيف لمخالفته الأصول وإن قال إنه من المرح وهو الفخر والتجبر (يتغافل عمّا لا يشتهي) أي مما لا يجب على أحد فيه أن ينتهي (ولا يؤيس منه) بالبناء للفاعل أو المفعول من اليأس ضد الرجاء على ما مر له من بيان المعنى (قد ترك نفسه) أي لم يجعل لها حظا (من ثلاث) أي ثلاث خصال بينها بإفادة ابدال مع إعادة من بقوله (في الرّياء) وكذا من السمعة فإنهما من الشرك الأصغر وهذا إنما يبتلى به من لا يعرف الله ممن يلتفت إلى ما سواه ووقع في أصل التلمساني الرياء بدون من فجوز جره على بدل المفصل من المجمل كقوله تعالى حكاية نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ورفعه على أنه خبر لمحذوف قلت لو صحت هذه الرواية لجاز نصبه بتقدير أعني كما لا يخفى على أرباب الدراية، (والإكثار) أي ومن إكثار القول الممل للحضار أو من إكثار متاع الدنيا لكمال توجهه إلى المولى والدار الآخرة التي هي بالاستكثار أولى وأحرى، (وما لا يعنيه) أي ومما لا يهمه ولا ينفعه ولا يغنيه وكيف لا وفي حديث الترمذي من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وقد قال سبحانه وتعالى وَالَّذِينَ(1/355)
هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وهو يشمل القول والفعل وتوجه القلب وإقبال العقل، (وترك النّاس) أي أبعدهم عن ساحة ما ينقصهم (من ثلاث) بينها بإبدالها كما قال الدلجي بقوله (كان لا يذمّ أحدا) أي بما يضع قدره؛ (ولا يعيّره) بتشديد التحتية أي لا يعيبه بعيب سبق أمره إذ ورد في حديث الترمذي عن معاذ مرفوعا من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله قال التلمساني هما واحد وإلا كان العدد أربعا قلت الصواب أنهما عددان لأنهما متغايران وأن الثالث قوله (ولا يطلب عورته) أي لا يسيء ظنه به فيتجسس عن أمره ويتفحص عن خلله لقوله سبحانه وتعالى وَلا تَجَسَّسُوا ولحديث أبي داود على المنبر يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم فإن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته بمعنى كشف الله حاله وفضحه فهو من باب المشاكلة لوروده بالمقابلة وقد تمت الثلاث فعطف على ما قبلها قوله. (ولا يتكلّم إلّا فيما يرجو ثوابه) أي في فعله أو يخاف من عقابه في تركه ولعله ترك للاكتفاء أو لكمال ظهوره، (إذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنّما على رؤوسهم الطّير) أي إكراما له واحتراما لقوله وسبق تحقيقه (وإذا سكت تكلّموا) أي تأدبا معه وزيادة استفادة منه (لا يتنازعون عنده الحديث) أي لا يتجاذبونه بينهم كما بينه بقوله (من تكلّم عنده أنصتوا له) أي سكتوا له أو أسكت بعضهم بعضا لأجله (حتّى يفرغ) أي من كلامه وتحصيل مرامه، (حديثهم حديث أوّلهم) مبتدأ وخبر متضمن لتشبيه بليغ أي حديث آخرهم كحديث أولهم في الرغبة إليه والنشاط لديه وعدم الملالة والسآمة عليه وفي رواية حتى يفرغ حديث أولهم وروي حتى يفرغ من كلامهم حَدِيثُهُمْ حَدِيثُ أَوَّلِهِمْ (يَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ) أي بحكم المؤانسة وحق المجالسة (ويتعجّب ممّا يتعجّبون منه) تطييبا لخواطرهم وتحسينا لسرائرهم وظواهرهم (ويصبر للغريب على الجفوة) بفتح جيم فسكون فاء أي الغلظة والسقطة والغلطة (في المنطق) أي في العبارة وهذا كله كان دأبه في العادة (ويقول إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها) جملة حالية أو استينافية بيانية (فأرفدوه) بهمزة قطع أو وصل أي أعطوه ولو بعض كفايته أو أعينوه على قضاء حاجته (ولا يطلب الثّناء) أي ولا يقبله كما في رواية (إلّا من مكافىء) بكسر فاء فهمز أي معتقد لثنائه أو مقتصد في ثنائه غير متجاوز إلى اطرائه ألا تراه يقول ولا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ولكن قولوا عبد الله ورسوله فإذا قيل هو نبي الله أو رسول الله فقد وصف بما لا يوصف به أحد من أمته فهو مدح مكافىء له وما أحسن قول البردة في هذه الزبدة
دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
(ولا يقطع على أحد حديثه) أي كلامه في اثنائه بل ينصت له (حتّى يتجوّزه) أي يتعداه ويتخلص (فيقطعه بانتهاء) أي لحديثه ولو بعد في قعوده (أو قيام) أي له على طريق وداعه؛ (هنا انتهى حديث سفيان بن وكيع) أي شيخ الترمذي؛ (وزاد الآخر) أي بسند المصنف من(1/356)
طريق أبي علي الحافظ ابن سكرة منتهيا إلى الحسن بن علي راويا عن أخيه حسين رضي الله تعالى عنهم (قلت) أي لأبي (كيف كان سكوته صلى الله تعالى عليه وسلم قال) أي علي (كان سكوته على أربع) أي حالات أو صفات (على الحلم) أي الوقار والسكينة دون الخفة والعجلة، (والحذر) أي مما يخشى فيه من الضرر، (والتّقدير) أي تقدير الشيء بمعنى التصوير، (والتّفكّر) أي فيما يحتاج إليه من التقدير. (فأمّا تقديره) تفصيل على خلاف ترتيب ما أجمل به (ففي تسوية النّظر) أي التأمل في الأمر أو مساواة النظر بالبصر (والاستماع بين النّاس) كما قرر في آداب القضاء من العدالة بين الخصماء على حد سواء في الاستواء وروي الاستمتاع بمعنى الانتفاع. (وأمّا تفكّره ففيما يبقى) أي من أعمال العقبى (ويفنى) أي من أحوال الدنيا كقوله تعالى الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا أو فيما يبقى عند المولى ويفنى عند السوى كقوله تعالى ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ (وجمع له الحلم صلى الله تعالى عليه وسلم في الصّبر) أي في حال صبره (فكان لا يغضبه) بضم أوله وكسر ضاده أي لا يحمله على الغضب (شيء يستقرّه) بتشديد الزاء أي يستخفه ويفزعه (وجمع له في الحذر) أي التيقظ في الحضر والسفر والتحرس عن الضرر (أربع) أي من الخصال الحميدة والأحوال السعيدة إحداها (أخذه بالحسن) أي قولا أو فعلا (ليقتدى به) أي علما وعملا سواء كان واجبا أو مندوبا أو مباحا فهو مرفوع على أنه مبتدأ خبره مقدر أو على أنه خبر مبتدأ محذوف هو هو أو على أنه بدل من أربع بدل الكل بتأخير الربط أو بدل البعض بتقديمه على وجه شموله ويجوز نصبه بتقدير أعني أيضا لا كما توهم الدلجي في اقتصاره على ضبط نصبه على أنه مفعول من أجله، (وتركه القبيح) أي حراما أو مكروها أو ما هو خلاف الأولى (لينتهى عنه) بصيغة المفعول أي لينتهي عنه غيره تبعا له والمعنى أنه كان يترك ما يعد قبيحا في حق غيره وإن كان وجوده صحيحا في حقه ليكون دليلا على انتهائه صريحا أو ليعلم أنه عامل بعلمه ومتعظ يوعظه كما قال الله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ (واجتهاد الرّأي) أي بذل الجهد في ظهور الأحرى (بما أصلح أمّته) أي بسبب إصلاح أمرهم وموجب فلاح أجرهم (والقيام لهم) أي لمصالحهم ونظام أحوالهم (بما جمع لهم أمر الدّنيا والآخرة) بنصب الأمر على ما في الأصول المعتمدة على أنه مفعول جمع ووقع في أصل الدلجي من أمر الدنيا والآخرة بزيادة من وهو يحتمل أن تكون تبعيضية أو بيانية وهو الأولى كما فسره بقوله من معاش ومعاد قال المصنف. (انتهى الوصف) أي وصف نبي الله (بحمد الله) تعالى أي مقرونا بحمده حيث لا يستحق الحمد سواه ولا ينبغي أن يحمد إلا إياه.
فصل [في تفسير غريب هذا الحديث ومشكله]
(في تفسير غريب هذا الحديث) أي باعتبار مبناه (ومشكله) من جهة معناه وإنما سمي(1/357)
غريبا لغرابة استعماله حيث غيره في المداولة أكثر نصيبا ويكون إلى الفهم قريبا. (قوله المشذّب) بفتح الذال المعجمة المشددة (أي البائن الطّول) بالإضافة أي المفرط فيه المباين عن قد الطوال أو المفارق عن رتبة قامة الربعة (في نحافة) أي حال كونه واقعا في صفة النحافة التي هي ضد الضخامة (وهو) أي المشذب (مثل قوله في الحديث الآخر) أي للترمذي والبيهقي (ليس بالطّويل الممغّط) بتشديد الميم الثانية فمعجمة فمهملة أي المتناهي طولا والممتد قامة وأصله منمغط اسم فاعل من باب الانفعال والنون للمطاوعة فقلبت ميما وأدغمت يقال مغطت الحبل إذا مددته وانمغط النهار إذا امتد وفي نسخة بكسر العين المهملة ويروى بصيغة المفعول من باب التفعيل بالغين المعجمة والكل بمعنى، (والشّعر) بفتح العين وتسكن (الرّجل) بفتح راء فكسر جيم مبتدأ موصوف خبره (الذي كأنّه مشط) بضم ميم فتخفيف شين معجمة مكسورة (فتكسّر قليلا) أي فبقيت جعودته يسيرة وسبوطته كثيرة ومنه الترجيل وهو تسريح الشعر وتنظيفه وتحسينه لا أنه من الترجيل كما توهمه الدلجي لأن المزيد يؤخذ من المجرد لا بالعكس (ليس) أي شعره الرجل (بسبط) بسكون الموحدة وتكسر والأول أنسب بقوله (ولا جعد) والجملة تفسير لما قبلها أؤ بيان لما كان عليه من أصل خلقه والحاصل أنه لم يكن شديد السبوطة والجعودة وقد روى أحمد وأبو داود أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن الترجل الا غبا ولعل العلة ما ينشأ عن الكثرة مما يشعر ببطر النعمة قال النووي والسبط بفتح الباء وكسرها لغتان مشهورتان ويجوز إسكان الباء مع كسر السين ومع فتحها على التخفيف كما في كتف، (والعقيقة) وهي في الأصل الشعر الذي يولد به الولد يقال عقّ عن المولود إذا حلق عقيقته يوم سابع ولادته وذبح عنه شاة وسميت باسمه عقيقة كما سمي به (شعر الرّأس) لأنه نسيت أصوله (أراد) أي الراوي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان لا يفرق شعر رأسه باختياره بل دأبه أنه (إن انفرقت) أي عقيقته (من ذات نفسها) وروي من ذاتها (فرّقها) أي تركها متفرقة (وإلّا تركها) أي على حالها أي (معقوصة) أي وفرة واحدة قيل وكان هذا في صدر الإسلام وروى الشيخان وغيرهما أنه كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به وكانوا يسدلون شعورهم وكان المشركون يفرقون فسدل صلى الله تعالى عليه وسلم ناصيته ثم فرق بعد ومن ثمه قال النووي المختار جوازهما والفرق أفضل (ويروى عقيصته) أي إن انفرقت عقيصته فرقها وإلا تركها على حالها وهي فعيلة بمعنى مفعولة كضفيرة بمعنى مضفورة زنة ومعنى وأصله اللى وإدخال أطراف الشعر في أصوله، (وأزهر اللّون نيّره) بتشديد التحتية المكسورة أي أبيض مشرق متلألىء ومنه الزهرة نجم مشهور (وقيل أزهر حسن ومنه) أي من هذا القبيل أو الاشتقاق (زهرة الحياة الدّنيا أي زينتها) يعني حسنها وبهجتها (وهذا) أي كونه أزهر (كما قال) أي واصفه (في الحديث:
الآخر) أي مما رواه الشيخان والترمذي (ليس بالأبيض الأمهق) أي الشبيه بالأبرص (ولا بالآدم) أي بالأسمر القريب إلى الأحمر بل كان بياضه مشربا بحمرة (والأمهق هو النّاصع البياض) أي خالصه كلون الجص (والآدم الأسمر اللّون) وأما ما ورد في الحديث أنه كان اسمر اللون(1/358)
فمحمول على أن ما برز منه للشمس كان اسمر وما سترته ثيابه كان أبيض والحاصل أن أصل خلقته أبيض وقد كان تعتريه السمرة فلا ينافي كونه اسمر فتدبر. (ومثله) أي ومثل كون لونه بينهما المفاد بلا ولا (في الحديث الآخر) أي الذي رواه الترمذي والبيهقي (أبيض مشرب) بضم ميم وفتح راء مخففة أو مشددة للمبالغة أي مشرب بحمرة كثيرة ولذا قال (أي فيه حمرة) وهذا أحسن الوجوه وأحسن الألوان من أفراد أنواع الإنسان كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنه في القرآن بقوله في وصف الحور البيض كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ ولا عبرة ببعض الطباع العادية من ميلهم إلى الصفر أو الخضر أو السودان هذا وفي شرح المصابيح لابن الفقاعي الإشراب خلط بلون بلون كأن أحد اللونين يسقى الآخر يقال بياض مشرب حمرة بالتخفيف فإذا شدد كان للتكثير والمبالغة قلت ومنه قوله تعالى وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ أي أخلط حبه في قلوبهم، (والحاجب الأزجّ) أفعل من الزجج وهو دقة الحاجبين مع سبوغهما إلى مؤخر العين وحسنهما (المقوّس) بفتح الواو المشددة أي المشبه بالقوس في نوع من الإدارة فلا ينافيه أنه (الطّويل) أي طرفه وهو احتراز من كون قصيرا فلا ينافي أنه لم يكن اشم (الوافر الشّعر) احتراز من كونه خفيفا، (والأقنى السّائل الأنف) أي طويله وممتده مع دقة ارنبته (المرتفع وسطه) احتراز من حديثه فإن كثرتها غير مستحسن، (والأشمّ الطّويل قصبة الأنف والقرن) بفتحتين وتكسر الراء (اتصال شعر الحاجبين) أي طرفيهما حتى يتلاقيا؛ (وضدّه البلج) بفتحتين بعدهما جيم وهو الذي بينهما فصل بين والجمع بين الروايات أن شعر حاجبيه لم يكن في غاية من الاتصال ولا في نهاية من الأنفصال بل على حد الاعتدال المطلوب في جمال أرباب الكمال فلا تنافي بين ما سبق من المصنف وبين ما ذكره بقوله (ووقع في حديث أمّ معبد) بفتح ميم فسكون عين مهملة فموحدة وهي التي رأته صلى الله تعالى عليه وسلم في طريق الهجرة من مكة إلى المدينة. (وصفه) أي وصفها إياه (بالقرن) وقد يجمع بينهما بأن أم معبد رأته من بعد فظنت أنه أقرن لقرب طرفيهما التقاء فوصفته بالقرن وعلي كرم الله تعالى وجهه حققهما من قرب فرآهما كادا يلتقيان فوصفه بالبلج وأما قول الدلجي من أن الصحيح وصفه بالبلج إذ هو المحمود عند العرب دون القرن فغير صحيح لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم خلق على جمال موصوف بكمال عند العرب والعجم نعم يستبعد تجويز الحلبي حدوث القرن له عليه الصلاة والسلام بعد فإنه ينزه عليه الصلاة والسلام عن حدوث ما يعد عيبا فيه، (والأدعج) من الدعج وهو السواد في العين وغيرهما وقيل هو شدة سواد العين في شدة بياضها وهو المراد ههنا وقوله (الشّديد سواد الحدقة) أي حدقة العين من باب الاقتصار أو من قبيل الاكتفاء والاختصار أو لتحقق البياض في غالب العادة وإنما تختلف الحدقة باعتبار السواد والزرقة والشهلة. (وفي الحديث الآخر) أي الذي رواه مسلم (أشكل العين، وأسجر العين) بمهملة فجيم وهما بمعنى واحد، (وهو الذي في بياضها حمرة) أي يسيرة والشكلة بالضم شكلة محبوبة محمودة ثم اعلم أن في القاموس عين سجراء خالطت بياضها حمرة فما ضبط في بعض النسخ الصحيحة بالحاء(1/359)
المهملة ليس في محله لما في القاموس من أن السحر بفتحتين هو البياض يعلو السواد وأما ضبط بعضهم بالشين المعجمة فلا وجه له أصلا، (والضّليع) أي الفم كما سبق أي عظيمه وهو ممدوح في الرجال كما مر وقيل كما قال المصنف: (الواسع) فالمراد به الوسع في الجملة كما في اعتدال الخلقة لا ضيقه بالمرة (والشّنب) بفتح النون (رونق الأسنان. وماؤها) أي صفاؤها وبهاؤها وإنما يتمادح بكثرة الريق في المحاورات والخطب والحرب لأنه يدل على ثبات جنان المتكلم ورباطة جأشه ففؤاده رطب بخلاف الجبان إذا تكلم في هذه المحافل جف ريقه في فمه وما الذ قول العارف ابن الفارض قدس سره:
عليك بها صرفا وإن شئت مزجها ... فعدلك عن ظلم الحبيب هو الظلم
(وقيل) أي في معناه (رقّتها) بالراء بمعنى دقتها (وتحزيز فيها) بزايين أي أشر وتحديد فيها (كما يوجد في أسنان الشّباب) أي لأنهم في زمان ازدياد قواهم النامية واشتعال حرارتهم الغريزية المورثة لابتهاج نضارة الأعضاء وبهائها وحسن رونقها وبريق مائها، (والفلج) بفتحتين (فرق بين الثنايا) واحدتها ثنية ومجموعها أربع وهي الأوائل المبدوءة، (ودقيق المسربة) بضم الراء (خيط الشّعر الذي بين الصّدر والسّرّة) أي الذي لدقته وقلته وطوله كالخيط الدقيق الممتد من الصدر إلى السرة، (بادن ذو لحم) أي البادن باعتبار أصله هو الضخم من البدانة وهي كثرة اللحم ولم يكن صلى الله تعالى عليه وسلم سمينا بدينا ولذا عطف عطف تفسير بقوله (ومتماسك) ثم بينه بعطف بيان حيث قال (معتدل الخلق) أي متوسطه ومع ذلك (يمسك بعضه بعضا) أي ولم يكن لحمه مسترخيا فلم يكن صلى الله تعالى عليه وسلم ضخما بل كان فخما فأفرق بينهما فهما ولا تتبع ما قال بعضهم وهما والحاصل أن مضمون هذا الحديث في إفادة اعتدال خلقه من جهة لحمه وغيره (مثل قوله في الحديث الآخر) أي على ما رواه الترمذي والبيهقي (لم يكن بالمطهّم) بتشديد الهاء المفتوحة (ولا بالمكلثم) بفتح المثلثة (أي ليس بمسترخي اللّحم) تفسير للمطهم أي لم يكن فاحش السمن والأوجه أن معناه لم يكن منتفخ الوجه لأنه من لوازم كثرة اللحم. (والمكلثم القصير الذّقن) بفتحتين أي الحنك الداني إليه والمشهور تفسيره بمدور الوجه سواء كان مع خفة لحمه أو كثرته، (وسواء البطن والصّدر) هكذا الرواية بتقديم البطن على الصدر وإن كان الأظهر عكسه كما وقع في أصل الدلجي لكنه ليس بمعتبر حيث يخالف الأصول (أي مستويهما) يعني لا ينبو أحدهما عن الآخر بأن لا يكون بطنه ضخما مرتفعا ولا صدره منخفضا (ومشيح الصّدر) بضم ميم فشين معجمة مكسورة على ما في النسخ المعتبرة (إن صحّت هذه اللّفظة) أي بالضبطة المذكورة (فيكون) أي المشيح (من الإقبال) اسم فاعل من أشاح بمعنى أقبل فالمراد أنه مقبل الصدر (وهو) أي الإقبال (أحد معاني أشاح) ومنها أعرض ذكره الدلجي وفي القاموس الشيح بالكسر الجاد في الأمور كالشائح والمشيح والحذر وقد شاح وأشاح على(1/360)
حاجته والمشيح المقبل عليك والمانع لما وراء ظهره (أي أنّه كان بادي الصّدر) بالياء أي ظاهره (ولم يكن في صدره قعس) بفتحتين وهو خروج الصدر ودخول الظهر ضد الحدب (وهو تطامن فيه) بفتحتين فسكون همز وقد يبدل أي انخفاض (وبه) أي بكون المعنى باديا صدره إلى آخره (يتّضح قوله قبل) أي يتبين معنى ما روي من قبل ذلك (سواء البطن والصّدر) بالإضافة وقيل بتنوين سواء رفع ما بعده (أي ليس بمتقاعس الصّدر) أي غير منخفضة؛ (ولا مفاض البطن) مجرور بالعطف على متقاعس وزيد لا للتأكيد وهو بضم ميم ففاء فمعجمة أي ضخمه ومرتفعة، (ولعلّ اللّفظ) أي صحف على أن أصله (مسيح بالسّين) أي المهملة (وفتح الميم) أي لا بضمها (بمعنى عريض) أي وسيع الصدر مأخوذ من المساحة وهو طول المسافة ومنه الساحة وهي فناء الدار المتسعة (كما وقع في الرّواية الأخرى) أي بهذا اللفظ صريحا وينصره تلويحا حديث كان مسيح القدمين أي ممسوح ظاهرهما وهما ملسا وإن إذا مسهما الماء نبا عنهما، (وحكاه ابن دريد) بالتصغير (والكراديس) جمع الكردوس (رؤوس العظام وهو) أي قوله والكراديس رؤوس العظام (مثل قوله في الحديث الآخر) أي الذي رواه الترمذي والبيهقي (جليل المشاش) بضم الميم أي ضخم رؤوس العظام كالركبتين والمرفقين والكتفين على ما في النهاية أو رؤوس العظام اللينة التي يمكن مضغها على ما في الصحاح وهو أقرب إلى مادة المشمشة يقال تمشمش العظام تمشمشا (والكتد) بالجر عطف على المشاش وهو بفتح التاء أفصح من كسرها وهذا لفظ الحديث ثم قال المصنف. (والمشاش رؤوس المناكب) جمع منكب وهو ما بين الكتف والعنق، (والكتد مجتمع الكتفين) بفتح الميم الثانية وهو الكاهل وقيل ما بين الكاهل إلى الظهر، (وشثن الكفّين، والقدمين لحيمهما) وهو خلاف ما مر في تعريفهما؛ (والزّندان) تثنية زنذ (عظما الذّراعين) أي رأساهما على طبق ما سبق أو قصبتاهما على خلاف ما تحقق قال الأصمعي أخبرني أبي أنه لم ير حدا أعرض زندا من الحسن البصري كان عرضه شبرا؛ (وسائل الأطراف أي طويل الأصابع) أي من أطراف يديه ورجليه؛ (وذكر ابن الأنباريّ) بفتح الهمزة بعدها نون ساكنة منسوب إلى مدينة الأنبار مدينة بالفرات وهو محمد بن القاسم بن بشار وقد جاء في بعض الأحاديث قال الأنباري ولم يسمعه وهو محمد بن سليمان الأنباري فاعلمه كذا ذكره التلمساني (أنّه) أي هذا اللفظ (روي سائل الأطراف) أي بالشك في روايته لقوله، (أو قال) أي الراوي (سائن بالنّون قال) أي الأنباري (وهما بمعنى) أي واحد كجبريل وجبرين (تبدل اللّام من النّون) يعني فالأصل هو النون والأظهر أن الأصل هو الكلام وأن النون تبدل منها لتقاربهما في مخرجيهما أو لتجانسهما في حيزهما وهذا كله (إن صحّت الرّواية بها) أي بالنون فإن الرواية باللام ثابتة بلا مرية. (وأمّا على الرّواية الأخرى) أي بالراء كما بينه بقوله (وَسَائِرُ الْأَطْرَافِ فَإِشَارَةٌ إِلَى فَخَامَةِ جَوَارِحِهِ كَمَا وقعت مفصّلة في الحديث) أي كما مر في فصل قبله (ورحب الرّاحة) بفتح الراء وضمها (أي واسعها) وهي الكف حقيقة وهو ظاهر(1/361)
(وقيل كنّى) أي واصفه (بها) أي بالراحة وفي نسخة صحيحة به أي بقوله رحب الراحة (عن سعة العطاء والجود) ولا منع من الجمع بين العبارة والإشارة؛ (وخمصان الأخمصين) بضم أوله (أَيْ مُتَجَافِي أَخْمَصَ الْقَدَمِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي لا تناله الأرض من وسط القدم) وفي النهاية أن خمصان للمبالغة قال وسئل ابن الأعرابي عنه فقال إذا كان خمص الأخمص بقدر لم يرتفع جدا ولم يستو أسفل القدم جدا فهو أحسن ما يكون وإذا ارتفع جدا فهو ذم فالمعنى أن أخمصه معتدل الخمص، (ومسيح القدمين أي أملسهما ولهذا) أي لكونهما ملساوين (قال) الراوي في الحديث السابق (ينبو عنهما الماء) وقد تقدم معناه. (وفي حديث أبي هريرة) أي كما رواه البيهقي (خلاف هذا) أي خلاف كون قدميه اخمصين لأنه (قال فيه إذا وطىء بقدمه) بكسر الطاء أي داس بهما أو وقف عليهما (وطىء بكلّها ليس له أخمص) ويمكن الجمع بينهما بأن مراد أبي هريرة أنه وطئ بكلها لا ببعضها كما يفعله بعض أرباب الخيلاء وأن قوله ليس له أخمص محمول على نفي المبالغة كما تقدم أو أنه مدرج من الراوي بحسب ما فهمه من حديثه وهذا الجمع أولى مما اختاره المصنف حيث قال (وهذا) أي معنى قوله ليس له اخمص (يوافق معنى قوله مسيح القدمين) وفيه أنه لا منافاة بين كونه أخمص وبين كونه مسيحا لما سبق من أنه قدمه كانت ملساء كأنها ممسوحة وأما قوله الأنطاكي من أن باطيس ذكر في المعنى في صفته عليه الصلاة والسلام أنه كان لرجله أخمص فمحمول على ما ذكرناه من الجمع بأنه كان له بعض الخمص لا أنه لم يبلغه حديث أبي هريرة أو لم يصح الحديث عنده كما اختاره الأنطاكي (وبه) أي بمسيح القدمين (قالوا) أي بعضهم (سُمِّيَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ أَيْ لَمْ يَكُنْ له أخمص) أي بطريق المبالغة لا بالكلية مع أن الأنسب أن يقال لكون قدمه ملساء ممسوحة (وقيل مسيح لا لحم عليهما) وفيه أنه لا يظهر وجه المناسبة الاشتقاقية حينئذ أصلا (وهذا) أي قوله لا لحم عليها (أيضا يخالف قوله شثن القدمين) أي عند من فسره بلحيمهما كالمصنف وأما عند من فسره بميلهما إلى غلظ وقصر أو في أناملهما غلظ بلا قصر فلا إذ لا تلازم بين اللحيمية والغلظ فقد يكون الغلظ بلا كثرة اللحم (والتقلّع رفع الرّجل بقوّة) أي مع تثبت في المشي بحيث لا يظهر فيه شدة ولا سرعة، (والتّكفّؤ:
الميل إلى سنن الممشي) بفتحتين وفي نسخة الممشي على أنه مصدر ميمي أو اسم مكان أي إلى صوبه (وقصده) أي من جهته معتدلا بها من غير انحراف عنها وفي الحديث القصد القصد تبلغوا أي الزموا الأمر الوسط في العمل تصلوا ما تقصدونه من المحل فنصبه على الاغراء وتكراره للتأكيد بالبناء، (والهون) مبتدأ وخبره (الرّفق والوقار) وفي رواية كان يمشي الهوينا تصغير الهونى تأنيث الأهون فيكون القصد منه المبالغة في الهون المندوب في قوله تعالى وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وفي الأدب المفرد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أحبب حبيبك هونا ما أي لا إفراط فيه بل قليلا بشهادة ضم ما إليه؛ (والذّريع: الواسع الخطو) أي من الذرع وهو الطاقة والوسع ومنه قوله تعالى وَضاقَ بِهِمْ(1/362)
ذَرْعاً (أَيْ إِنَّ مَشْيَهُ كَانَ يَرْفَعُ فِيهِ رِجْلَيْهِ بسرعة) أي بقوة (ويمدّ خطوه) أي في مشيه (خلاف مشية المختال) أي لعصمته من الاختيال لقوله عز وجل وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا والمشية بكسر الميم لأنه مصدر للنوع (ويقصد) بكسر الصاد (سمته) أي مقصده في طريقه بدون ميل عن وسطه لقوله سبحانه وتعالى وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ. (وكلّ ذلك) أي ما ذكر من المراعاة في مشيه إنما كان (برفق) أي وفق لطف (وتثبّت) أي طلب ثبات (دون عجلة) إذ هي أيضا مذمومة كالخيلاء فكان مشيه معتدلا (كما قال) الراوي (كأنّما ينحطّ) أي ينزل (من صبب) وفي رواية في صبب وهو بفتحتين أي منحدر وروي كأنما يهوي من صبوب بضمتين، (وقوله يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه) أي بجوانب فمه جمع شدق بالكسر (أي لسعة فمه) يعني إنما كان ذلك لاتساع فيه؛ (والعرب تتمادح بهذا) أي بوسع الفم وعظمته لدلالته على فصاحة صاحبه وبلاغته؛ (وتذمّ بصغر الفم) الباء زائدة أو سببية أي تذم الإنسان لصغر فمه ولا يعارض حديث أبغضكم إلي الثرثارون المتشدقون لأن المراد بهم المتوسعون في الكلام بدون احتياط واحتراز في نظام المرام والمستهزئون بالناس بلى الشدق ونأي الجانب والتمطي ونحو ذلك من أفعال اللئام، (وأشاح) أي بناء على أحد معانيه (مال) أي إلى كذا مانعا لما وراء ظهره (وانقبض) أي مما أرهقه وأغضبه إذ المشيح هو الحذر والجاد في الأمر أي المقبل عليه وفي الحديث أنه صلى الله تعالى عليه وسلم ذكر النار ثم أعرض وأشاح أي حذر منها كأنه ينظر إليها أوجد في الإيصاء باتقائها أو أقبل ومال في خطابه إليه، (وحبّ الغمام) أي السحاب (البرد) بفتحتين شبه بحب الأرض ولو من بعض الوجوه. (وقوله فيردّ ذلك بالخاصّة على العامّة) ولما كانت الجملة المضارعية لحكاية الحال الماضية صح تفسيره بقوله (أي جعل من جزء نفسه) أي بعض أوقات حظ نفسه (ما يوصّل الخاصّة إليه) أي زمانا مجعولا لا يكون وسيلة إلى توصيل الخاصة إليه (فتوصّل عنه للعامّة) أي بالواسطة لعدم إمكان الزمان أو لضيق مكانه عن وصول كافة الخلق إلى حصول إدراك شأنه وما لا يدرك كله لا يترك كله (وَقِيلَ يُجْعَلُ مِنْهُ لِلْخَاصَّةِ ثُمَّ يُبَدِّلُهَا فِي جزء آخر بالعامّة) وقد عرفت وجه ضعفه فيما تقدم والله تعالى أعلم؛ (ويدخلون) أصحابه عنده (روّادا) بضم راء وتشديد واو جمع رائد (أي محتاجين إليه وطالبين لما عنده) لما لديه من هداية ومعرفة نازلة عليه (ولا يتفرقون) أي لا ينصرفون كما في نسخة (إلّا عن ذواق) بفتح أوله بمعنى مذوق من الذوق المعنوي أو الحسي، (قيل عن علم يتعلّمونه) أي ثم يصيرون هداة للسان يعلمونهم ومثل هذا يروى عن أبي بكر بن الأنباري وزاد عليه فقال فيقوم لهم ما يتعلمونه مقام الطعام والشراب لأنه عليه الصلاة والسلام كان يحفظ أرواحهم كما يحفظ الطعام والشراب أجسامهم وأشباحهم (ويشبه) أي والأشبه (أن يكون) أي ذواقهم (على ظاهره أي في الغالب والأكثر) أي من مأكول أو مشروب باعتبار الأكثر الأغلب وإلى هذا المعنى قال الإمام الغزالي في الإحياء والحمل على المعنى الأعم هو الأتم والله تعالى أعلم؛(1/363)
(والعتاد) بالفتح (العدّة) بالضم (والشّيء الحاضر المعدّ) بصيغة المجهول أي المهيأ لما يقع من الأمور الملمة والأحوال المهمة؛ (والموازرة المعاونة) من الوزر وهو في الأصل الحمل والثقل ومنه قوله تعالى وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي أي معينا يحمل عن بعض حملي وفي حديث البيهقي نحن الأمراء وأنتم الوزراء جمع وزير وهو من يوازر السلطان فيحمل عنه ما حمله من أثقال الزمان، (وقوله لا يوطّن الأماكن) بتشديد الطاء وتخفيفها (أي لا يتّخذ لمصلّاه موضعا معلوما) أي لا يصلي إلا فيه، (وقد ورد نهيه عن هذا) أي إيطان المكان في المساجد (مفسّرا) أي مصرحا ومبينا (في غير هذا الحديث) أي من حديث الحاكم وغيره كما سبق. (وَصَابَرَهُ أَيْ حَبَسَ نَفْسَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ صاحبه ولا تؤبن فيه) أي في مجلسه (الحرم) بضم ففتح (أَيْ لَا يُذْكَرْنَ فِيهِ بِسُوءٍ وَلَا تُثْنَى فلتاته أي لا يتحدّث بها) أي مطلقا وهو يحتمل احتمالين كما بينه بقوله (أي لم تكن فيه فلتة) فالنفي إلى القيد والمقيد (وإن كانت) أي فلتة فرضا وتقديرا (من أحد) أي غيره صلى الله تعالى عليه وسلم (سترت) أي في ذلك المجلس وما ذكرت في غيره لقوله عليه الصلاة والسلام المجالس بالأمانة؛ (ويرفدون يعينون) أي كل من يريد الإعانة أو الإغاثة، (والسّخّاب الكثير الصّياح) بكسر الصاد، (وقوله ولا يقبل الثّناء إلّا من مكافىء) استثناء مفرغ (قيل من مقتصد في ثنائه ومدحه) أي لم ينته وصفه إلى إطرائه، (وقيل إلّا من مسلم) أي كامل فإن ثناءه لا يكون إلى في محله اللائق به وتوضيحه أنه كان لا يقبل الثناء عليه إلا من رجل يعرف حقيقة اسلامه وحقيقة مرامه ولا يدخل عنده في جملة المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم فإذا كان المثنى عليه بهذه الصفة قبل ثنائه وكان مكافئا ما سلف من نعمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عنده وإحسانه إليه، (وقيل إلّا من مكافىء على يد) أي نعمة (سبقت من النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم له) أي من إحسان صوري وإلا فلا يخلو أحد منه من إنعام معنوي؛ (ويستفزّه) بتشديد الزاء: (يستخفّه) بتشديد الفاء، (وفي حديث آخر) أي كما رواه مسلم (في وصفه صلى الله تعالى عليه وسلم منهوس العقب) بمهملة ومعجمة على ما ذكره ابن قرقول في مطالعه ثم فسره بما فسره المصنف (أي قليل لحمها) يعني كأنه نهس فإن النهس هو أخذ اللحم بالأسنان ثم قال وقيل هو بالمعجمة ناتئ العقبين معروقهما وفسر في الحديث شعبة المهملة قال قليل لحم العقب انتهى ولا يخفى أن تفسير شعبة الراوي هو الأولى هنا وفي رواية منهوس الكعبين وفي أخرى القدمين؛ (وأهدب الأشفار) أي أشفار العين جمع شفر بالضم وهي حروف الأجفان التي ينبت عليها الشعر وذلك الشعر هو الهدب وجمعه أهداب وحرف كل شيء شفره وشفيره (أي طويل شعرها) وعن الشعبي كانوا لا يوقتون في الشفر شيئا أي لا يوجبون فيه شيئا مقدرا وهو مخالف للإجماع على وجوب الدية في الأجفان ذكره الدلجي وفيه أنه إنما نفي الشيء المقدر في الشريعة وهو لا ينافي ما ذكره الفقهاء بطريق الحكومة.(1/364)
الْبَابُ الثَّالِثُ [فِيمَا وَرَدَ مِنْ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ ومشهورها بتعظيم قدره عند ربه عز وجل]
أي من القسم الأول (فيما ورد من صحيح الأخبار ومشهورها) أي عند المحدثين فهو متوسط بين المتواتر والآحاد والغالب فيه أن يكون صحيحا وربما يكون حسنا ولا يكون ضعيفا أو عند العامة فيشمل الصحيح وغيره وربما يكون موضوعا والأظهر أن الشيخ أراد به النوع الأول كما يقتضيه مقام المرام فتأمل وعلى كل فهو من قبيل عطف العام على الخاص لا عكسه كما زعم من توهم أن كل مشهور صحيح (بعظيم قدره) متعلق بورد والباء للتعدية أي بمقداره المعظم (عند ربّه ومنزلته) أي وبرفعة مرتبته عند ربه الأكرم (وما خصّه به في الدّارين) أي الأولى والآخرة (من كرامته صلى الله تعالى عليه وسلم) بيان لما. (لا خلاف أنّه أكرم البشر) لما في الترمذي والدارمي أنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر كذا ذكره الدلجي وكأنه ذهب وهمه إلى أن اللام في الأولين والآخرين للعهد أو للجنس المراد بهم البشر والأظهر أن اللام للاستغراق وأنه أكرم الخلائق بالاتفاق ولا عبرة بخلاف المعتزلة وأرباب الشقاق، (وسيّد ولد آدم) لحديث الترمذي أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبِيَدِي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن دونه إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عنه الأرض ولا فخر، (وأفضل النّاس منزلة عند الله) أي مرتبة ومكانة، (وأعلاهم درجة) أي أرفعهم قربة، (وأقربهم زلفى) أي تقربا وأكثرهم حبا لكونه حبيب رب العالمين. (واعلم أنّ الأحاديث) جمع حديث على غير قياس (الواردة في ذلك) أي في بيان ما ذكر (كثيرة جدّا) بكسر جيم وتشديد دال منصوب منون مصدر والمراد به المبالغة في الكثرة (وقد اقتصرنا منها على صحيحها ومنتشرها) أي مشتهرها الشامل لحسنها دون ضعيفها لعدم اقتضاء الاقتصار (وَحَصَرْنَا مَعَانِيَ مَا وَرَدَ مِنْهَا فِي اثْنَيْ عشر فصلا) أي تفاؤلا باثني عشر نقيبا.
الفصل الأول [فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ مَكَانَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عز وجل]
(فيما ورد بين ذكر مكانته) أي قرب منزلته (عند ربّه عزّ وجلّ والاصطفاء) أي اجتبائه في رفعة مرتبته (ورفعه الذّكر) أي بين خليقته (والتّفضيل) أي وبيان زيادة فضيلته، (وسيّادة ولد آدم) أي وسيادته لأبناء جنسه المكرم على غيره (وما خصّه) أي الله تعالى (به في الدّنيا من مزايا الرّتب) أي من الرتب الدالة على مزيته (وبركة اسمه الطّيّب) أي الدال على طيب مسماه من ذاته وصفاته (حدثنا) وفي نسخة أَخْبَرَنَا (الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحمد(1/365)
الملقب بالعدل) بفتح العين وسكون الدال التميمي مات عام إحدى وخمسمائة (إذنا بلفظه) أي بعبارته دون إشارته. (حدّثنا أبو الحسن الفرغانيّ) بفتح أوله منسوب إلى فرغانة ناحية بالمشرق قال التلمساني هو علي بن عبد الله المقري (حَدَّثَتْنَا أُمُّ الْقَاسِمِ بِنْتُ أَبِي بَكْرِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِيهَا، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ وَهُوَ ابْنُ عقيل) بالتصغير وقال التلمساني هو بفتح العين وكسر القاف ابن المهتدي المرادي اللؤلؤي (عَنْ يَحْيَى وَهُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَحْيَى الحمّانيّ) بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم وبعد الألف نون ثم ياء نسبة حافظ كوفي روى عن شريك وخلق وعنه أبو حاتم وابن أبي الدنيا والبغوي وطائفة وثقه يحيى بن معين وغيره وأما أحمد فقد كان يكذب جهارا وقال النسائي ضعيف كذا ذكره الحلبي وغايته أن الحديث بهذا الإسناد ضعيف لكن يتقوى بما رواه الطبراني والبيهقي كما نقله الدلجي فلا يضر قول الحلبي هذا الحديث ليس في الكتب الستة، (حدّثنا قيس) قال الحلبي الظاهر أنه أبو محمد قيس بن الربيع الكوفي روى عنه أبو نعيم وغيره اختلف في توثيقه (عن الأعمش) هو إمام جليل (عن عباية) بفتح مهملة فموحدة فألف بعدها تحتية وقيل بهمزة فهاء وأصله لباس فيه خطوط سود (ابن ربعيّ) بكسر راء وسكون موحدة فمهملة بعدها ياء نسبة روي عن علي وعنه موسى بن طريف وكلاهما من غلاة الشيعة له عن علي أناقيم الناس (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إنّ الله تعالى قسّم الخلق) أي من الثقلين (قسمين) بكسر أوله أي شقيا وسعيدا لا فاضلا وأفضل كما ذكره الدلجي مقدما على ما اخترناه (فجعلني من خيرهم قسما) أي من قسم السادة التي هم أرباب السعادة كما يدل عليه قوله. (فذلك) أي جعلهم قسمين يؤذن به (قوله تعالى أَصْحابُ الْيَمِينِ) أي السعادة في أنواع من النعيم المقيم (وَأَصْحابُ الشِّمالِ) أي الشقاوة في أصناف من عذاب الجحيم فقيل سموا بهما لأخذهم كتبهم بأيمانهم أو لأنهم أصحاب اليمين والمشأمة على أنفسهم (فَأَنَا مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَنَا خَيْرُ أَصْحَابِ اليمين) وقد أغرب الدلجي حيث قال بعد قوله فجعلني من خيرهم قسما وهم العرب بشهادة فذلك قوله تعالى وَأَصْحابُ الْيَمِينِ (ثمّ جعل) أي الله سبحانه وتعالى (القسمين) أي المذكورين في اثناء السورة المراد بهما أصحاب اليمين وأصحاب الشمال (أثلاثا) أي ثلاثة أصناف في آخر السورة بجعل القسم الأول الذين هم أرباب السعادة صنفين كما سيأتي لا أثلاثا متفاوتين شقاوة وسعادة كما ذكره الدلجي إذ لم يذكر تفاوت ارباب الشقاوة في هذه السورة أصلا وإن كانوا متفاوتين في الدركات كما أن أهل الجنة متفاوتون في الدرجات (فجعلني في خيرها ثلثا) وهم المقربون (وذلك) أي جعلهما أثلاثا يؤذن به (قوله تعالى فأصحاب الميمنة) أي المنزلة السعيدة (وأصحاب المشأمة) أي المنزلة الشقية (والسّابقون السّابقون) أي في مرتبة القربة العلية. (فَأَنَا مِنَ السَّابِقِينَ وَأَنَا خَيْرُ السَّابِقِينَ ثُمَّ جعل الأثلاث قبائل) أي من العرب وغيرهم (فجعلني من خيرها قبيلة) وهم العرب وأبعد الأنطاكي حيث قال هم قريش (وذلك) أي جعلها قبائل يشير إليه (قوله) أي بعد(1/366)
قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً) جمع شعب بالفتح لا بالكسر كما توهم بعضهم فإنه طريق بين الجبلين وأما بالفتح فما تتشعب منه القبيلة (وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا [الحجرات: 13] ) الآية) تمامها إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ ثم الشعب جمع عظيم ينسب إلى أصل واحد وهو يجمع القبائل (فَأَنَا أَتْقَى وَلَدِ آدَمَ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ ولا فخر) أي ولا أقوله افتخارا به بل تحدثا بنعمة الله لأمره أو ولا فخر لي بذلك لأنه ليس من قبلي ولا بقوتي وحولي بل من فضل الله وتوفيقه من أجلي أو ولا فخر لي بهذا المقام بل افتخاري بقرب ربي الذي هو غاية المرام، (ثمّ جعل القبائل) أي قبائل العرب (بيوتا) أي بطونا وأفخاذا وفصائل متفاوتة في الشرف والفضائل من قريش وغيرهم (فجعلني من خيرها بيتا) وهو بيت بني هاشم من بطن قريش (فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) أي وسخ والشرك ودنس المعصية (أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب: 33] ) نصبه على المدح أو النداء وهذا معنى ثالث لأهل البيت على ما قرر في محله (وَيُطَهِّرَكُمْ) أي من الأخلاق الدنية (تَطْهِيراً) أي مبالغا بحيث يسرع في تبديلها بتنوير الأمور الدينية المشتملة على الأحوال الدنيوية والأخروية (الآية) كذا في بعض النسخ وهو ليس في محله لأنه آخر الآية وما بعدها ليس له تعلق بما قبلها فمحله اللائق به بعد قوله أهل البيت كما في نسخة صحيحة وأما تخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما بحديث إدخالهم في كسائه ثم قراءتهم هذه الآية واحتجاجهم بها على عصمتهم وكون إجماعهم حجة فضعيف لمنافاة التخصيص ما قبل الآية وما بعدها نعم الحديث قاض بأنهم اهل البيت وخواصهم لا بأنه ليس غيرهم منهم؛ (وعن أبي سلمة) أي ابن عبد الرحمن بن عوف أحد الفقهاء السبعة عند الأكثر (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) كما رواه الترمذي وصححه. (قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى وَجَبَتْ لك النّبوّة) أي في أي زمان ثبتت مرتبة النبوة (قال وآدم بين الرّوح والجسد) جملة حالية وردت جوابا لقولهم متى وجبت أي وجبت لي في الحالة التي كان آدم فيها بين تصوير جسمه وبين إجراء روحه في بدنه وفي الحديث إيماء إلى ان الغايات والكمالات سابقة شهودا لاحقة وجودا هذا وفي حديث أحمد إني عند الله مكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته (وعن واثلة) بالمثلثة (ابن الأسقع) وكان من أصحاب الصفة اسلم ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتجهز لغزوة تبوك وخدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاث سنين توفي بدمشق وله مائة سنة وقد روى مسلم وغيره عَنْهُ (قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إبراهيم إسماعيل) كذا في النسخ المصححة ووقع في اصل الدلجي زيادة أن الله اصطفى من ولد آدم إبراهيم واصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل الحديث وقال إنما أعاده هنا لزيادة صدره (واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة) بكسر الكاف (وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه) أي الذي رواه الترمذي وصدره أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا(1/367)
بُعِثُوا وَأَنَا قَائِدُهُمْ إِذَا وَفَدُوا وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا أَنْصَتُوا وَأَنَا شَفِيعُهُمْ إِذَا حُبِسُوا وَأَنَا مبشرهم إذا آيسوا الكرامة والمفاتيح بيدي ولواء الحمد يومئذ بيدي (أَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي وَلَا فخر) زاد الدارمي يطوف على ألف خادم كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور (وفي حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنه) أي الذي رواه الترمذي والدارمي وصدره جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسمعهم يتذاكرون قال بعضهم إن الله اتخذ إبراهيم خليلا وقال آخر إن الله كلم موسى تكليما وقال آخر عيسى كلمة الله وقال آخر آدم اصطفاه الله فخرج عليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله وَهُوَ كَذَلِكَ وَمُوسَى نَجِيُّ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ وعيسى روح الله وكلمته وهو كذلك وآدم اصطفاه اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ أَلَا وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ وَلَا فَخْرَ وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ القيامة تحته آدم فمن دونه وَلَا فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ يوم القيامة وَلَا فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حِلَقَ الجنة فيدخلنيها ومعي فقراء المهاجرين ولا فخر (أنا أكرم الأوّلين والآخرين) أي على الله كما في رواية (ولا فخر. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها عنه عليه الصلاة والسلام) كما رواه البيهقي وأبو نعيم والطبراني (أتاني جبريل عليه السّلام فقال قلّبت) بتخفيف اللام وتشديدها وهو أبلغ أي فتشت وتفحصت وقيل نظرت ورأيت (مشارق الأرض ومغاربها) أي بجميع أطرافها وجوانبها (فلم أر رجلا أفضل من محمّد) عدل إلى الغيبة مصرحا باسمه الشريف المفيد للمبالغة الدالة على كثرة صفاته الحميدة وسماته السعيدة (ولم أر بني أب) أي أهل بيت (أَفْضَلَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ الله تعالى عنه) كما في الصحيح (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أتي بالبراق) أي جيء به وسبق بيان مبناه ومعناه (ليلة أسري به) بصيغة المجهول (فاستصعب) أي البراق (عليه) أي عند إرادة ركوبه (فقال له جبريل أبمحمّد تفعل هذا) فيه إيماء إلى أن هذا كان دأبه لغيره كما يشير إليه تقديم المتعلق على فعله والهمزة لإنكار استصعابه كما علله بقوله (فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ فارفضّ عرقا) بتشديد الضاد المعجمة أي سال عرقه من شدة ما اعتراه من الهيبة والحياء. (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْهُ عليه الصلاة والسلام) كما رواه ابن أبي عمر العدني (لمّا خلق الله آدم اهبطني) أي من الجنة حال كوني (في صلبه) بضم أوله وقدم التلمساني فتحه (إلى الأرض) يعني وهكذا ينقلني من صلب كريم إلى رحم طاهر بعده (وَجَعَلَنِي فِي صُلْبِ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ وَقَذَفَ بي) أي القاني (في النّار في صلب إبراهيم) أي حين القاه نمرود فيها وقد وقع في أصل الدلجي حتى مكان الواو العاطفة في وجعلني وقذف وهو مخالف للأصول المعتمدة والنسخ المصححة (ثمّ لم يزل ينقلني) أي يحولني (في الأصلاب الكريمة) كذا في النسخ بلفظ في ولعله بمعنى من الملائم لقوله (إلى الأرحام الطّاهرة) جمع رحم وهو هنا مقر الولد من المرأة كما أن الصلب مقر المني من الرجل (ثم) وفي نسخة صحيحة حتى (أخرجني) أي أظهرني (بين أبويّ) أي فيما بينهما لقوله تعالى(1/368)
يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (لم يلتقيا) أي لم يجتمعا في جماع (على سفاح) بكسر السين أي على حال غير نكاح (قطّ) أي لاحين شهودي ولا قبل وجودي (وإلى هذا) أي هذا المعنى وهو نفي السفاح في المبنى (أَشَارَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عنه) وفي أصل التلمساني عمه من العمومة وهو بدل من العباس (بقوله) أي فيه كما في نسخة أي في حقه وفي أخرى فيه بقوله (من قبلها) أي قبل الدنيا أو الولادة من غير ذكر لها كما في قوله تعالى حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ الشمس كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ أي الأرض إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي القرآن وأما رجع الضمير إلى النبوة كما ذكره الدلجي وغيره فغير مناسب لمقام المرام نعم لو وضع الرسالة موضعها لوقع في الجملة موقعها وقيل من قبل نزولك الأرض (طبت في الظّلال) أي في ظلال الجنة قال التلمساني ثبت بخط القاضي الظلال وروى العرفي طبت في الجنان (وفي مستودع) بفتح الدال كما في قوله تعالى فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ أي طبت في مستودع من صلب آدم بقوله (حيث يخصف الورق) بصيغة المجهول وهو مستفاد من قوله تعالى وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ والمعنى يضم بعضه إلى بعض ويلصق ورقة فوق آخرى (ثمّ هبطت البلاد) أي من الجنة إلى الدنيا في صلب آدم (لَا بَشَرٌ أَنْتَ وَلَا مُضْغَةٌ وَلَا عَلَقُ) أي والحال أنك لم تكن حينئذ واحدا منها والمضغة قطعة قدر ما يمضغ في الفم والعلق اسم جنس مفرده علقة وهي قطعة لحم من دم جامد ورتب بينها في التنزيل للترقي وهنا للتدلي ولذا قال (بل نطفة تركب السّفين) أي بل نزلت وأنت في صلبه نطفة ثم صرت إلى نوع حال كونك تركب السفينة وإنما أتى بلفظ الجمع لكبره أو هو اسم جنس وإن صرح صاحب الصحاح بأنه جمع لما فيه من المسامحة أو لعدم الفرق بينهما عند بعض أهل اللغة وقيل جمع التعظيم أو لضرورة الوزن وأما ما روي حجة بدل نطفة فلا يلائم مقام المرام ثم قد للتحقيق في قوله (وقد ألجم نسرا وأهله الغرق) بفتحتين أي منعهم من الكلام وظهور المرام وهو مأخوذ من اللجام وفي قوله نسرا إشارة إلى قوله تعالى حكاية عن قوم نوح وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وقد روي أنه كان لآدم عليه السلام بنون خمسة يسمون بهذه الأسماء وكانوا عبادا فماتوا فحزن أهل عصرهم فصور لهم إبليس اللعين مثالهم من صفر ونحاس ليستأنسوا بهم فكرهوها في القبلة فجعلوها في مؤخر المسجد فلما هلك العصر قال اللعين لأولادهم هذه آلهة آبائكم فاعبدوها ثم إن الطوفان دفنها فأخرجها اللعين للعرب فكان ود لكلب بدومة الجندل وسواع لهذيل بساحل البحر ويغوث لغطيف من مراد ويعوق لهمدان ونسر لذي الكلاع من حمير ثم أحدثوا للأصنام اسماء أخر (تنقل من صالب إلى رحم) بصيغة المفعول وصالب بكسر اللام وفتحها لغة في الصلب بالضم إلا أنه قليل الاستعمال كما قاله ابن الأثير (إذا مضى عالم بدا طبق) العالم بفتح اللام والمعنى إذا ذهب قرن ظهر قرن وقيل للقرن طبق لأنه طبق الأرض بكسر الطاء أي مائها ثم ينقرضون ويأتي طبق آخر ومنه طبقات المشايخ وغيرهم وقد قيل الطبق(1/369)
الجماعة من الناس ويرجع معناه إلى الأول فتأمل وزيد في بعض النسخ أبيات أخر ويدل على صحة وجودها كلام بعض المحشيين في بيان الفاظ ورودها وهو قوله (ثمّ احتوى) أي اجتمع وانضم وفي أصل الدلجي حتى احتوى فهي غاية لما دل عليه البيت قبله أي منقلا من صلب إلى رحم قرنا فقرنا إلى أن احتوى (بيتك المهيمن) أي الشاهد (من خندف) بكسر الخاء المعجمة وسكون النون وكسر الدال المهملة وقد تفتح بعدها فاء وهو في الأصل مشية كالهرولة والمراد به امرأة الياس بن مضر سميت بها القبيلة واسمها ليلى وهي القضاعية أم عرب الحجاز فهو غير منصرف قوله (علياء) بفتح العين ممدودة منصوبة أي منزلة علياء مفعول احتوى (تحتها) وفي نسخة دونها (النّطق) بضم النون والطاء جمع نطاق قال ابن الأثير وهي أعراض من جبال بعضها فوق بعض أي نواح وأوساط فيها شبهت بالنطق التي يشد بها أوساط الناس ضربه مثلا له في ارتفاعه وتوسطه في عشيرته وجعلهم تحته بمنزلة أوساط الجبال وأراد ببيته شرفه في عشيرته أو نفسه في حد ذاته والمهيمن نعته أي حتى احتوى شرفك الشاهد على فضلك أعلى مكان من نسب خندف فإن أصل النطق هو الجبل الاشم إذ السحاب لا يبلغ اعلاه وقال القشيري وغيره أيها المهيمن على أن النداء لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والله أعلم ثم قيل في الياس أنه موافق اسم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وصحح السهيلي أنه اليأس الذي هو ضد الرجاء وأما الياس فجد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفيه يقول لا تسبوا الياس فإنه كان مؤمنا وذكر أنه كان يسمع في صلبه تلبية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالحج وهو أول من أهدى البدن إلى البيت (وأنت لمّا ولدت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق) وفي نسخة صحيحة وضاءت أي أضاءت وهما لغتان ومنه الضوء أي استنارت بنورك نواحيها (فنحن في ذلك الضياء وفي النّور وسبل الرّشاد نخترق) بسكون موحدة السبل لغة في ضمها جمع السبيل وهو مجرور عطف على ما قبله وقوله تخترق بفتح نون فسكون خاء معجمة أي ندخل ونقتحم وقال التلمساني أي وسبل الرشاد نخترقها بمعنى نقطعها فالسبل منصوب والأبيات عن العباس رضي الله تعالى عنه رواه أبو بكر الشافعي والطبراني عن خريم بن أوس بن حارثة وذكر هذه الأبيات في الغيلانيات بسنده إلى خريم بضم الخاء المعجمة وفتح الراء قال هاجرت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقدمت عليه منصرفه من تبوك فأسلمت فسمعت العباس يقول يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قل لا يفضض الله فاك قال فأنشد العباس يقول فذكرها سبعة أبيات آخرها نخترق وكذا قال ابن عبد البر في استيعابه في خريم وذكر ابن إمام الجوزية في كتاب هدي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة تبوك نحوه وزاد بعضهم بيتا آخر وجد بخط علي أبي الغساني وهو:
يَا بَرْدَ نَارِ الْخَلِيلِ يَا سَبَبًا ... لِعِصْمَةِ النّار وهي تحترق(1/370)
أي تحرق (وروى عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أبو ذرّ) كما رواه أحمد والبيهقي والبزار وكان خامسا في الإسلام روى عنه ابن عباس رضي الله تعالى عنه وعبادة بن الصامت وخلق توفي بالربذة (وابن عمر) كما رواه الطبراني وأبو نعيم (وابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) كما رواه أحمد وابن أبي شيبة والبزار (وأبو هريرة رضي الله تعالى عنه) كما أخرجه الشيخان (وجابر بن عبد الله) كما رواه الشيخان والنسائي (أنّه) أي النبي عليه الصلاة والسلام (قال أعطيت خمسا) أي خمس خصال (وفي بعضها ستّا) رواه مسلم عن أبي هريرة فضلت على الأنبياء بست فكأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أعطي أولا خمسا فحدث بها ثم زيد السادسة فحدث بها مع أنه لا يلزم استيفاؤها حيث ما بينها بل قد يكتفي بالحالة اللائقة ببعضها لا سيما والعدد لا مفهوم له حتى عند القائل به (لم يعطهنّ نبيّ قبلي) وفي رواية جابر لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي (نصرت بالرّعب) بسكون العين وضمها أي الفزع والخوف بإلقاء الله تعالى إياه في قلوب عداه ممن كانت المسافة بينه وبينهم (مسيرة شهر) أي قدر سير في شهر وفي رواية شهر أمامي وشهر خلفي، (وجعلت لي) أي لأجلي أصالة ولأمتي تبعا (الأرض) أي جميع وجهها ولا وجه لقول التلمساني كلها أو مكة وحولها أو ما رأته أمته (مسجدا وطهورا) حيث لا يختص جواز الصلاة بمكان دون مكان لا متى بخلاف غيرنا فإنه لا صلاة لهم إلا في كنائسهم وبيعهم كما بينه بقوله (فأيّما رجل من أمّتي أدركته الصّلاة) أي بعد دخول وقتها (فليصلّ) أي في ذلك المكان إما بطهارة أصلية إن وجد الماء وإما بطهارة خلفية من التراب إن لم يجد الماء كما فهم من قوله طهورا فالتفريع مترتب عليهما وفي بعض النسخ بالواو وفي رواية وأظنه مصحفا فأينما وما مزيدة فيهما (وأحلّت لي الغنائم ولم تحلّ) بصيغة المجهول وفي نسخة بصيغة المعلوم (لنبيّ قبلي) أي فضلا عن أمة له بل كانوا يجمعونها في موضع فتنزل نار من السماء فتحرقها (وبعثت إلى النّاس) أي الإنس والجن ولعل اقتصاره إيماء إلى الاكتفاء ثم المراد بالناس مؤمنهم وكافرهم ولذا قال (كافّة) وفي رواية كافة عامة وفي رواية جابر قبله وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وفي رواية مسلم وبعثت إلى الخلق كافة فلا يرد أن نوحا عليه الصلاة والسلام بعد خروجه من الفلك كان مبعوثا إلى جميع أهل الأرض لأن هذا العموم في رسالته لم يكن في أصل البعثة وإنما وقع لأجل حدوث الحادثة وهي انحصار الخلق في الموجودين معه بخلاف نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم في عموم رسالته في أصل بعثته وشمول دعوته (وأعطيت الشّفاعة) وفي رواية عد هذا رابعا واللام فيها للعهد إذ المراد بها الشفاعة العظمى في المقام المحمود وله صلى الله تعالى عليه وسلم شفاعات أخر يحتمل اختصاص بعضها به منها في جماعة يدخلون الجنة بغير حساب ومنها في أناس استحقوا دخول النار فلا يدخلونها ومنها في أناس دخلوا النار فيخرجون منها ومنها في رفع درجات أناس في الجنة ومنها شفاعته لمن مات بالمدينة ومنها شفاعته لمن صبر على لأوائها ومنها شفاعته لفتح باب الجنة كما رواه مسلم ومنها شفاعته(1/371)
لمن زار عليه الصلاة والسلام لما روى ابن خزيمة في صحيحه عن ابن عمر مرفوعا من زار قبري وجبت له شفاعتي ومنها شفاعته لمن أجاب المؤذن وصلى عليه صلى الله تعالى عليه وسلم لما في الصحيحين من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم حلت له شفاعتي ومنها تخفيف العذاب عمن استحق الخلود فيها كما في حق أبي طالب لقوله ولعل تنفعه شفاعتي ولقوله ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار قال القرطبي في تذكرته في الجواب عن الآية ما نصه فإن قيل فقد قال الله تعالى فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ قيل له لا تنفع في الخروج من النار كعصاة الموحدين الذين يخرجون من النار ويدخلون الجنة وقال الحلبي إنها شفاعة بالحال لا بالمقال فبسببه صلى الله تعالى عليه وسلم يخفف عن أبي طالب أي لا أنه يطلبها وهو لا يخلو عن الاحتمال فلا يكفي لدفع الاشكال بخلاف ما سبق من جواب السؤال والله تعالى أعلم بالأحوال. (وفي رواية أخرى) أي عن أبي ذر (بدل هذه الكلمة) وهي قوله أعطيت الشفاعة (وقيل لي سل تعطه) بصيغة المفعول فهاء السكت وفي نسخة بالضمير (وفي رواية أخرى) أي للبزار والبيهقي رحمهما الله تعالى (وعرض عليّ أمّتي فلم يخف) أي لم يكتم (عليّ التّابع من المتبوع) أي في الخير والشر وقيل المراد بالتابع الوضيع الذي يقتدى بغيره وبالمتبوع الشريف الذي يقتدى به ويرجع إلى قوله (وفي رواية) أي عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه (بعثت إلى الأحمر والأسود) وظاهره عموم الخلق كما ذهب إليه بعضهم وقال بعثت حتى إلى الحجر والمدر والشجر وجميع الكائنات كما بينته في بعض المقامات. (قيل السّود) وهو جمع الأسود (العرب لأنّ الغالب على ألوانهم الأدمة) بضم الهمزة أي السمرة الشديدة (فهم من السّود) أي في الجملة. (والحمر) بضم فسكون جمع الأحمر (العجم) أي لأن الغالب على ألوانهم الشقرة مع البياض وكأنه أراد بالعجم الفرس ومن يشاركهم في هذا المعنى من الترك بناء على الإطلاق العرفي وأما العجم المقابل للعرب بحسب الوضع اللغوي فلا يلائم المقام لدخول الهنود والسنود والحبوش والسودان وغيرهم معهم (وقيل البيض والسّود من الأمم) أي على الوجه الأعم وهو في إفادة التعميم أتم، (وقيل الحمر الإنس) أي لنورهم وظهورهم. (والسّود الجنّ) لاجتنانهم وتسترهم. (وفي الحديث الآخر عن أبي هريرة رضي الله عنه) كما رواه الشيخان (نصرت بالرّعب وأوتيت جوامع الكلم) أي القرآن العظيم والفرقان الحكيم أو الأحاديث الجامعة والكلمات اللامعة التي مبانيها يسيرة ومعانيها كثيرة ويؤيده ما رواه أبو يعلى في مسنده عن عمر ولفظه أعطيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا (وبينا) أي بين أوقات (أنا نائم) أي في بعضها (إذ جيء بمفاتيح خزائن الأرض) جمع مفتاح وأما مفاتح بدون الياء فجمع مفتح بمعنى مخزن (فوضعت في يديّ) بفتح الدال وتشديد التحتية كذا ضبطه الحفاظ ولعل في اختيار التثنية إشعارا بكسرة المفاتيح والمراد بها ما فتح الله على أمته من الكنوز الحسية والمعنوية لحديث أوتيت مفاتيح الكلم وفي رواية مفاتح الكلم وفي سيرة الكلاعي أن رستم من الأرامنة أمير جيش يزدجرد رأى في منامه وقد(1/372)
جاءهم سعد بن أبي وقاص من قبل عمر لفتح بلادهم أن ملكا نزل من السماء فأخذ جميع اسلحتهم وأعطاها للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأعطاها لعمر فكان الفتح والغنيمة والنصر الذي يكاد يفوت الحصر في عصر عمر. (وفي رواية) أي رواها مسلم (عنه) أي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (وختم بي النّبيّون) هذا وقد روى أحمد في مسنده عن علي كرم الله وجهه مرفوعا أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد وجعل لي التراب طهورا وجعلت أمتي خير الأمم ثم اعلم أن له خصوصيات أخر كإعطاء الآيات من خواتيم سورة البقرة والمفصل من القرآن وجعل صفوف أمته كصفوف الملائكة وغير ذلك مما يحتاج إلى تأليف مستقل لبيان تفصيل ما هنالك (وعن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه) صحابي جهني مضري (أنّه قال عليه الصلاة والسلام) كما رواه الشيخان (إنّي فرط لكم) وأما ما وقع في أصل الدلجي من قوله أنا فرطكم فليس في الأصول المعتمدة والنسخ المعتبرة والمعنى أنا متقدمكم وفرط صدق لكم وأصل الفرط الذي يتقدم لطلب الماء بالحبل والرشاء وأسباب ضرب الخباء (وأنا شهيد عليكم) أي بالثناء الجميل والوفاء الجزيل (وإنّي والله لأنظر إلى حوضي) أي وإلى من يشرب منه ومن يذب عنه في الموقف والمحشر (الآن) أي في هذا الحاضر من الزمان (وإنّي قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض) بمعنى عرضت علي فلم اقبلها لعدم الالتفات إلى الدنيا والتوجه الكلي إلى الآخرة والإقبال القلبي إلى المولى والعلم بأن الآخرة خير من الأولى وبأن الجمع بينهما على وجه الكمال من جملة المحال كما بينه حديث من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخر اضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى كما رواه أحمد والحاكم عن أبي موسى ويؤيد ما قررناه من المراد بمفاتيح الأرض هنا بخلاف ما سبق من أن المراد بها ما يسره الله عليه وعلى أمته من فتح البلاد واتساع العباد مع أنه لا يبعد أيضا عن المراد قوله (وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بعدي) أي جميعكم (ولكنّي أخاف) أي عليكم كما في نسخة صحيحة (تنافسوا) بفتح أوله على أنه حذف إحدى التاءين منه أي ترغبوا (فيها) أي في الدنيا الدنية الخسيسة كما يرغب في الأشياء الغالية العالية النفيسة فهو مأخوذ من ميل النفس إلى النفيس ومنه قوله تعالى وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ ومنه اقتباس إمامنا الشاطبي رحمه الله تعالى بقوله:
عليك بها ما عشت فيها منافسا ... وبع نفسك الدنيا بأنفاسها العلى
وأغرب الحلبي كغيره في رجع ضمير فيها إلى خزائن الأرض نعم ذكر المفاتيح سابقا يدل على كون الضمير للدنيا لاحقا نحو قوله وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ لدلالة الناس أو الدابة على الأرض مع أن قرينة المقام كافية في تعيين المرام (وعن عبد الله بن عمر) بالواو وفي نسخة بتركها وقد رواه أحمد بسند حسن (أن رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ) أي المنسوب إلى أم القرى وهي مكة أو إلى(1/373)
أمة العرب لكون غالبهم أميين لا يقرؤون ولا يكتبون أو المضاف إلى الأم بمعنى أني على أصل ولادتي وجبلتي من غير قراءتي وكتابتي وذلك شرف له وعيب في غيره وهذا المعنى هو الأولى بالمدعي كما أفاد صاحب البردة هذه الزبدة بقوله:
كفاك بالعلم في الأمي معجزة وقد قال تعالى ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (لا نبيّ بعدي) أي وإن وجد أحد يكون تابعا لي (أوتيت جوامع الكلم) أي مع كوني أميا (وخواتمه) قيل هو وجوامع بمعنى أي ختم علي بأن أجمع المعنى الكثير في المبنى اليسير أو المراد بخواتمه أنه لا يكون بعد وجود ختمه احتياج إلى غيره وهو المناسب لكونه خاتم النبيين (وقد علّمت) بضم عين وتشديد لام مكسورة ويجوز تخفيفها مع فتح أوله كما قال تعالى وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
(خزنة النّار) أي الملائكة الموكلين عليها وكبيرهم يسمى مالكا مشتق من الملك وهو القوة (وحملة العرش) أي من الملائكة فهم اليوم أربعة ويكونون يومئذ ثمانة كما أخبر الله عنهم لكن على خلاف في تمييز العددين من الصفوف أو الألوف أو الصنوف. (وعن ابن عمر) كما روى أحمد بسند حسن (بعثت بين يدي السّاعة) أي قدامها وقريبا من وقوعها كما رواه أحمد والشيخان والترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه بعثت أنا والساعة كهاتين (ومن رواية ابن وهب) هو عبد الله بن وهب المصري أحد الأعلام عن ابن جريج وعنه أحمد وغيره قال يونس بن عبد العلي طلب للقضاء فجنن نفسه وانقطع أخرج له الأئمة الستة (أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم قال) أي على ما رواه البيهقي من حديث اسماء في الإسراء حيث أتى سدرة المنتهى (قال الله تعالى سل يا محمّد) أي ما شئت (فقلت ما أسأل يا ربّ) أي من المقامات العالية حيث أعطيت جميعها للأنبياء الماضية كما بينه بقوله (اتّخذت إبراهيم خليلا) أي بقولك وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا (وكلّمت موسى تكليما) كما قلت وكلم الله موسى تكليما، (واصطفيت نوحا) كما قلت إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً، (وأعطيت سليمان ملكا لا ينبغي) أي لا يكون (لأحد من بعده) حيث بينته بقوله فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ الآية. (فقال الله تعالى ما أعطيتك) أي الذي أعطيتكه (خير من ذلك) أي كله، (أعطيتك الكوثر) فوعل من الكثرة ومعناه الخير الكثير وفي النهاية هو نهر في الجنة وجاء في التفسير أنه القرآن ولعل هذا هو المراد في هذا المقام ويشير إليه قوله سبحانه وتعالى وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
وفيه إشارة إلى مزية العلم والمعرفة على كل مقام وحال ومرتبة قال ابن عرفة انظر في قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أهو إنشاء أم خبر فإن قيل الإنشاء هنا مستحيل لأن كلام الله تعالى قديم أزلي فالجواب أنه باعتبار ظهور متعلقه فإن قلت في تعلقه خلاف هل هو قديم أو حادث قلنا التعلق التنجيزي حادث وأما التعلق الصلوحي فيصح هنا(1/374)
كذا ذكره التلمساني (وجعلت اسمك مع اسمي) أي مقرونا به في كلمة الشهادة (ينادى به) بصيغة المفعول (في جوف السّماء) أي وقت الأذان والخطبة أو فيما بين أهل السماء (وجعلت الأرض طهورا) أي حكيما (لك ولأمّتك) أي خاصة (وَغَفَرْتُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تأخّر) أي جميع ما فرط وما يفرط منك مما يصح أن يعاتب عليك (فأنت تمشي في النّاس) وفي نسخ بالناس وفي أخرى بين الناس (مغفورا لك) حال من ضمير تمشي، (ولم أصنع ذلك) أي غفران ما تقدم وما تأخر ذكره الدلجي والأظهر إن الإشارة إلى جميع ما تقدم والله تعالى أعلم وحينئذ لا إشكال في قوله (لأحد قبلك) بخلاف ما اختاره ودفعه بقوله ولعله من غير الأنبياء وإلا فهم كذلك وفيه أنهم ليسوا كذلك إذ لم يعلم أنهم بشروا بغفران ما تقدم وما تأخر ويؤيده أن غفرانهم مشوب بمخافة المعاتبة بدليل حديث فيأتون نوحا فيقولون ألا تشفع لنا فيقول نفسي لست لها الحديث، (وجعلت قلوب أمّتك مصاحفها) فيه منقبة عظيمة لحفاظ القرآن من الأمة كما يشير إليه قَوْلِهِ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ وتنبيه نبيه على أن الأمم السالفة غالبهم لم يكونوا يحفظون شيئا من صحفهم، (وخبّأت لك شفاعتك) أي ادخرتها عندي لليوم الموعود والمقام المحمود وهي الشفاعة العظمى لفصل القضاء حين يفزع الناس حتى الأنبياء (ولم أخبأها لنبيّ غيرك) بل أوفيت إجابة دعواتهم في الدنيا فلم يبق لهم حينئذ شفاعة شاملة في العقبى. (وفي حديث آخر، رواه حذيفة) كما في تاريخ ابن عساكر مرفوعا (بشّرني يعني ربّه) تفسير من المصنف أو ممن قبله (أوّل من يدخل الجنّة معي) أي بقرب زماني لا آني (من أمّتي) أي من الصحابة والتابعين وغيرهم (سبعون ألفا) أي أصالة (مع كلّ ألف سبعون ألفا) تبعا في العلم والعبادة (ليس عليهم حساب) فلا يكون لجميعهم عذاب ولا حجاب وروي سبعمائة ألف مع كل واحد سبعمائة ألف ذكره التلمساني.
(وأعطاني أن لا تجوع أمّتي) أي جوعا شديدا بجدب وقحط بحيث يهلك جميعهم (ولا تغلب) بصيغة المجهول أي ولن تغلب بعدو يستأصلهم أي يأخذهم من أصلهم لحديث أني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة أن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم الحديث، (وأعطاني النّصرة) أي الإعانة على الاعداء (والعزّة) أي القوة والغلبة والمنعة، (والرّعب) أي الخوف مع بعد المسافة كما بينه بقوله (يسعى بين يدي أمّتي) أي يتقدم الرعب لأعدائي قدامهم (شهرا) يعني وكذا من خلفهم شهرا لما تقدم وفيه تنبيه نبيه على أن الرعب غير مخصوص بحضرته بل يوجد من عموم أمته، (وطيّب) بفتح التحتية المشددة أي وأحل (لي ولأمّتي الغنائم) جمع غنيمة ووقع في أصل الدلجي المغانم جمع مغنم وهما قريبان في الدراية وإنما الكلام في صحة الرواية، (وأحلّ لنا) أي بخصوصنا على وجه يعمنا (كثيرا ممّا شدّد) الله تعالى (على من قبلنا) أي بتحريمه عليهم أو بتكليفه لديهم كقتل النفس في التوبة وقطع موضع النجاسة وخمسين صلاة في اليوم والليلة وصرف ربع المال في الصدقة، (وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي تضييق وهو تعميم بعد(1/375)
تخصيص وتنبيه على ما أباح لنا من الرخص عند الاعذار كالتيمم والقصر والإفطار كما بينه بقوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وقد ورد في ذلك أن الله رأى صعفنا وعجزنا. (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) أي برواية الشيخين (عنه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ) من الأولى مزيدة وللتأكيد مفيدة والثانية تبعيضية مشيرة إلى المبالغة (إلّا وقد) بالواو (أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ البشر) ما موصولة أو موصوفة وفي بعض الروايات الصحيحة أو من عليه البشر وكتبه بعضهم أيتمن وروى القاضي أمن من الأمان ولا يظهر له وجه في هذا الشأن والمعنى أن الله تعالى أيد كل نبي بعثه من المعجزات بما يصدق دعواه وتقوم به الحجة على من عاداه، (وإنّما كان الذي أوتيته) أي من الآيات المتلوة المشتملة على أنواع من المعجزات من الفصاحة والبلاغة في المبنى والأنباء الواقعة في الأزمنة السابقة واللاحقة في المعنى الباقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة النافعة في أمور الدنيا وأحوال الآخرة مع ما فيها من معرفة الذات والصفات الأسنى والأسماء الحسنى (وحيا) أي وحيا يتلى ومعجزة تدوم وتبقى (أوحى الله إليّ؛ فأرجو) وفي نسخة بالواو ولكن الفاء التفريعية مع إفادة التعقيبية هي الأولى والمعنى أتوقع (أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة) أي لاستمرار تلك المعجزة بخلاف معجزة سائر الأنبياء حيث انقضت في حال الأحياء وإنما أراد بقوله الذي أوتيته معظم ما أعطي من المعجزات المشتملة على أنواع من الأنباء وإلا فقد أعطى معجزات كثيرة من جنس معجزات الأنبياء (ومعنى هذا) أي الحديث بجملته (عند المحقّقين بقاء معجزته) أي الخاصة به وهي الآية الكبرى والنعمة العظمى (ما بقيت الدّنيا) أي مدة بقائها، (وسائر معجزات الأنبياء) أي بقيتها (ذهبت للحين) أي حين وقوعها في حياة نبيها (ولم يشاهدها إلّا الحاضر لها) أي حال معاينتها ووقت مشاهدتها (ومعجزة القرآن) أي مبنى ومعنى باقية دون كل معجزة (يقف عليها قرن بعد قرن) أي جماعة بعد انقراض جماعة (عيانا) بكسر العين أي معاينة (لا خبرا) إذ ليس الخبر كالمعاينة كما ورد (إلى يوم القيامة) وقد وقع في أصل الدلجي يقف عليها عيانا لا خبرا قرن بعد قرن وهو مخالف للأصول المصححة، (وفيه) أي من هذا الحديث أو في هذا المعنى (كلام يطول) أي من جهة المبنى (هذا نخبته) أي خلاصته، (وقد بسطنا القول فيه) أي اطنبنا في هذا الحديث، (وفيما ذكر فيه) أي في هذا المعنى (سوى هذا) أي الكلام الذي قدمناه (آخر باب المعجزات) أي في آخره لأنه المحل الأليق به. (وعن عليّ رضي الله عنه) كما رواه ابن ماجة والترمذي وحسنه (كلّ نبيّ أعطي سبعة) قال الحجازي ويروى أربعة والظاهر أنه تصحيف أو وهم (نجباء) أي نقباء فضلاء وزيد في رواية وزراء رفقاء (وأعطي نبيّكم عليه الصلاة والسلام أَرْبَعَةَ عَشَرَ نَجِيبًا مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ وابن مسعود وعمّار رضي الله تعالى عنهم) ولفظ الترمذي قلنا من هم قال أنا وابناي وجعفر وحمزة وأبو بكر وعمر ومصعب بن عمير وبلال وسلمان وعمار وابن مسعود ولم يذكر ابن عبد البر مصعبا وزاد تكملة لهم حذيفة وابا ذر والمقداد وقال التلمساني(1/376)
ذكر أبو نعيم عن علي مرفوعا ولفظ لم يكن نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي سبعة نقباء نجباء وزراء وأني قد أعطيت أربعة عشروهم حمزة وجعفر وعلي وحسن وحسين وأبو بكر وعمر وعبد الله بن مسعود وأبو ذر والمقداد وحذيفة وعمار وسلمان وبلال انتهى وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى النقباء ثلاثمائة والنجباء سبعون والأبدال أربعون والأخيار سبعة والعمدة أربعة والغوث واحد وحكى أبو بكر المطوعي عمن رأى الخضر وتكلم معه وقال له أعلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما قبض بكت الأرض فقالت إلهي وسيدي بقيت لا يمشي على نبي إلى يوم القيامة فأوحى الله تعالى إليها أجعل على ظهرك من هذه الأمة من قلوبهم على قلوب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا أخليك منهم إلى يوم القيامة قلت له وكم هم قال ثلاثمائة وهم الأولياء وسبعون وهم النجباء وأربعون وهم الأوتاد وعشرة وهم النقباء وسبعة وهم العرفاء وثلاثة وهم المختارون وواحد وهو الغوث فإذا مات الغوث نقل من الثلاثة واحد وجعل مكان الغوث ونقل من السبعة إلى الثلاثة ومن العشرة إلى السبعة ومن الأربعين إلى العشرة ومن السبعين إلى الأربعين ومن الثلاثمائة إلى السبعين ومن سائر الخلق إلى الثلاثمائة وهكذا إلى يوم ينفخ في الصور انتهى ولا ينفخ فيه وفي الأرض من يقول الله ولا حول ولا قوة إلا بالله جعلنا الله من خواص المسلمين وحشرنا معهم يوم الدين (وقال صلى الله تعالى عليه وسلم) كما في الصحيحين (إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ) أي لما جاء به أبرهة الحبشي في جيشه لتخريب الكعبة فأهلكهم الله بطير أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل (وسلّط عليها رسوله والمؤمنين) أي أمرهم بالغلبة عليها أو أذن لهم يقتال أهلها ففتحوها سنة ثمان من الهجرة، (وإنّها لم تحلّ) وفي نسخة لا تحل وفي أخرى لن تحل والفعل يحتمل معروفا ومجهولا (لأحد بعدي) أي من بعدي كما وقع في أصل الدلجي وفيه التفات من الغيبة (وإنّما أحلّت لي ساعة من نهار) يعني فإن ترخص أحد بقتال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقولوا له كما في الحديث كذا ذكره أكثرهم إجمالا وقال أبو بكر ابن العربي في العارضة أراد بذلك دخوله بغير إحرام لأجل القتال لأنه أحلت له لأجل القتال ساعة من نهار لأن القتال فيها حلال أبدا بل واجب حتى لو تغلب فيها كفار أو بغاة وجب قتالهم فيها بالإجماع انتهى وهو الأقرب إلى قواعد مذهبنا والله تعالى أعلم (وعن العرباض) بكسر أوله (ابن سارية) وهو من أكابر الصحابة وأصحاب الصفة سلمي سكن الشام ومات بها (قال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَخَاتَمُ النّبيّين) كذا في النسخ المعتبرة بالواو العاطفة ووقع في أصل الدلجي بغير واو فضبطه بالنون بمعنى لديه وهو الموافق لرواية المصابيح وقال وفي رواية أني عبد الله مكتوب خاتم النبيين ثم الخاتم تكسر تاؤه وتفتح كما قرىء بهما في السبعة (وإنّ آدم لمنجدل) أي والحال أنه لساقط (في طينته) أو مطروح على الجدالة وهي الأرض الصلبة والمراد بطينته خلقته المركبة من الماء والتربة ومنجدل خبر لأن والجار خبر ثان (وعدة أبي إبراهيم) بكسر العين وتخفيف الدال أي وعده(1/377)
بمقتضى دعائه بقوله رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ الآية ويؤيده ما في نسخة دعوة أبي إبراهيم وصدر الحديث وسأخبركم ببادىء أمري أو بادئ نبوتي وبعثتي هو عدة إبراهيم وللحاكم وغيره وسأونبئكم بتأويل ذلك هو دعوة أبي إبراهيم رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ الآية (وبشارة عيسى ابن مريم) يعنى قوله تعالى حكاية عنه وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ وزاد الحاكم ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج من رحمها نور اضاء له قصور الشام وصححه لكن تعقبه الذهبي بأن أبا بكر بن أبي مريم أحد رواة إسناده ضعيف. (وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) كما رواه البيهقي والدارمي وابن أبي حاتم (قَالَ إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم على أهل السّما) أي من الملائكة المقربين (وعلى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم) أي أجمعين (قالوا) أي أصحاب ابن عباس (فَمَا فَضْلُهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِأَهْلِ السَّمَاءِ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ [الأنبياء: 29] الآية) أي فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين (وقال لمحمّد صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح: 1] الآية) وهي لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وفيه بحث لا يخفى إذ قال تعالى له صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ مع أن القضية فرضية وتقديرية وإلا فعصمة الأنبياء والملائكة قطعية ولذا قال الكشاف هذا على سبيل التمثيل مع إحاطة علمه سبحانه وتعالة بأن لا يكون كما قال تعالى وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ انتهى فلعل مراد الخبر هو أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مبعوث إليهم كما يفيده قوله تعالى تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً وإنذاره للملائكة قطعي بقوله وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ والله تعالى أعلم، (قَالُوا فَمَا فَضْلُهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؟
قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4] الآية) أي ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم، (وقال لمحمد وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً) أي رسالة عامة (لِلنَّاسِ [سبأ: 28] ) وقد يقال المراد بالناس عمومهم الشامل للأولين والآخرين على تقدير وجودهم في المتأخرين كما يستفاد من قوله تعالى إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ وكما أشار إليه حديث لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي وكما يقع بالفعل متابعة عيسى عليه السلام بعد نزوله لشريعته ويكون مفتخرا بكونه من أمته (وعن خالد بن معدان) بفتح ميم وسكون عين فدال مهملتين كلاعي شامي روى عن ابن عمر وثوبان ومعاوية رضي الله تعالى عنهم كان يسبح في اليوم والليلة أربعين ألف تسبيحة أخرج له الأئمة الستة وقد أخرج عنه ابن إسحاق ووصله أحمد والدارمي (أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عن نفسك) أي مبدأ أمرك (وقد روي نحوه) بصيغة المجهول والواو للحال أي مثله معنى لا مبنى (عن أبي ذرّ) رضي الله(1/378)
تعالى عنه صحابي جليل (وشدّاد) بتشديد الدال الأولى (ابن أوس) بفتح فسكون وهو ابن ثابت بن المنذر بن حرام بالراء صحابي أنصاري ابن أخي حسان بن ثابت نزل بيت المقدس ومات بالشام، (وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَالَ) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في جواب كل منهم (نعم) أي أخبركم بأول قصتي وما ظهر من نبوتي على لسان إبراهيم وغيره (أنا دعوة أبي إبراهيم يعني قوله) أي حكاية عن إبراهيم وإسماعيل واقتصاره على الأول لأنه المعول (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ) أي في الأمة المسلمة المذكورة في الآية الماضية (رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة: 129] ) ولم يبعث فيها من ذريته من نسل إسماعيل غيره صلى الله تعالى عليه وسلم فهو المجاب به دعوتهما (وبشّر بي عيسى) أي بشارته حين قال لقومه وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ وفي نسخة وبشر بي عيسى بالموحدة وياء الإضافة والظاهر أنه تصحيف لمخالفة ما قبله وإن كان يلائم قوله (ورأت أمّي) وفي بعض الروايات ورؤيا أمي ولعل العدول لئلا يتوهم أن الرؤيا منامية (حين حملت بي) بالباء للتعدية وفي رواية حين وضعتني ويمكن جمعهما بالجمل على مرتين وأما تجويز الدلجي كون الرؤيا منامية فبعيد جدا من حيث استدلاله صلى الله تعالى عليه وسلم برؤيتها فإن رؤيا غير الأنبياء ليست معتمدا عليها حتى لا يعمل بمقتضاها (أنّه خرج منها نور أضاء له) أي استنار لذلك النور (قصور بصرى) بضم موحدة فسكون مهملة مقصورا مدينة بحوران (من أرض الشّام) وهي أول مدينة فتحت صلحا في خلافة عمر وذلك في شهر الربيع الأول لخمس بقين منه سنة ثلاث عشرة وقد وردها صلى الله تعالى عليه وسلم مرتين، (واسترضعت) أي كنت رضيعا (في بني سعد بن بكر) قبيلة معروفة (فبينا أنا) أي بين أوقات كنت أنا (مع أخ لي) أي رضاعا (خلف بيوتنا نرعى بهما لنا) بفتح موحدة وسكون هاء جمع بهمة ولد الضأن ذكرا كان أو أنثى وقيل ولد الضأن والمعز مجتمعة ولعله باعتبار الغلبة وإلا فولد المعز حال انفراده يسمى سخلة (إذ جاءني رجلان) أي على صورة رجلين فقيل هما جبريل وإسرافيل (عليهما ثياب بيض) تركيب توصيف، (وفي حديث آخر ثلاثة رجال) قيل ثالثهم ميكائيل أي جاؤوا (بطست) بفتح طاء وجوز كسره وضمه فسين مهملة وكذا بمعجمة على ما في القاموس فلا عبرة بمن قال إنه لغة العامة وأنه خطأ وهو إناء معروف يكون من نحاس أو صفر وأصله الطسس أبدل من إحدى السينين ثاء (من ذهب) فيه إيماء إلى ذهاب حظ الشيطان عنه بعصمة ربه وذهابه عن الأمة بسببه قال التلمساني وفيه دليل على جواز تغشية آلات الطاعة بالذهب والفضة كالمصحف وآلات الغزو انتهى والأظهر أن استعمال آنية الذهب والفضة حرام لا أعلم فيه خلافا بين علماء الأنام لكن الملائكة لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يؤمرون فلا يقاس الإنسان بالملك كما يقاس الحداد بالملك هذا وقد ذكر البغوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هي طست ذهب من الجنة يغسل فيه قلوب الأنبياء عليهم السلام (مملوءة) يجوز همزه(1/379)
وإبداله مدغما ولعل التاء للمبالغة أو باعتبار كونه آنية (ثلجا) بسكون اللام وهو ماء جامد لأنه يبرد القلب وينظفه وقد روي حكمة وفسرت بالنبوة والأولى تفسيرها بإتقان العلم وإحسان العمل (فأخذاني) أو فأخذوني (فشّقا بطني) أو شقوه (قال) ووقع في أصل الدلجي وقال (فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ نَحْرِي إِلَى مراقّ بطني) بفتح الميم وتخفيف الراء وتشديد القاف لا واحد له من لفظه وميمه زائدة أي من أعلى صدري إلى مارق ولان من بطني (ثم استخرجا) أي أخرجا أو اخرجوا (منه قلبي فشقّاه) أي قلبي (فاستخرجا منه علقة) أي قطعة دم منعقدة (سوداء) يكون فيها الحسد والحقد والشهوة النفسية وسائر الأخلاق الرديئة (فطرحاها) أي رمياها بقوة وفي رواية مسلم وقالا هذه حظ الشيطان منك قال العلامة تقي الدين بن السبكي تلك العلقة خلقها الله تعالى في قلوب البشر قابلة لما يلقيه الشيطان فيها فأزيلت من قلبه صلى الله تعالى عليه وسلم فلم يكن فيه مكان قابل لأن يلقي الشيطان فيه شيئا قال فهذا معنى الحديث فلم يكن للشيطان فيه صلى الله تعالى عليه وسلم حظ قط فإن قلت لم خلق هذا القابل في هذه الذات الشريفة وكان يمكن أن لا يخلقه فيها قلت لأنه من جملة الاجزاء الانسانية فخلقه تكملة للخلق الإنساني ونزعه أمر ثان طرأ بعده انتهى ونظيره خلق الأشياء الزائدة في بدن الإنسان من القلفة وتطويل الظفر والشارب وأمثال ذلك فلله الحكمة البالغة وعلى العبد احتمال الكلفة (ثُمَّ غَسَلَا قَلْبِي وَبَطْنِي بِذَلِكَ الثَّلْجِ حَتَّى أنقياه) أي نظفاه عن تلوت تعلق العلقة قال التلمساني شق قلبه صلى الله تعالى عليه وسلم مرتين مرة في صغره عند ظئره وذلك ليذهب عنه حظ الشيطان ومرة عند الإسراء ليدخل على طهارة ظاهرة وباطنة على الرحمن قلت ومرة عند نزول القرآن في جبل حراء على ما ذكره أبو نعيم والطيالسي وغيره على ما في المواهب اللدنية وقد قيل شق صدره مرة في صباه ليصير قلبه مثل قلوب الأنبياء ومرة ليلة المعراج ليصير قلبه مثل قلوب الملائكة قلت ومرة عند نزول الوحي ليصير مثل قلوب الرسل والله تعالى أعلم. (قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ ثُمَّ تَنَاوَلْ أَحَدُهُمَا شَيْئًا فَإِذَا بِخَاتَمٍ فِي يَدِهِ مِنْ نُورٍ يحار) بفتح أوله أي يتحير (النّاظر دونه) أي عنده فلا يدري كيف يهتدي إلى معرفة كنهه (فختم به قلبي) أي لئلا يصل إليه ما لا يليق بجناب ربي (فامتلأ إيمانا وحكمة) أي إيقانا وإحسانا أو علما وفهما (ثمّ أعاده) أي رده (مكانه وأمرّ) بتشديد الراء أي أذهب (الآخر) أي منهما (يده على مفرق صدري) بفتح الميم والراء وبكسر الراء ذكره الشمني والحلبي وقال الدلجي بكسر الميم مع فتح الراء وبفتحها مع كسرها انتهى لا يخفى أن كسر الميم الموضوع للآلة غير مناسب هنا فإنه وسط الرأس حيث يفرق فيه الشعر في أصل اللغة إلا أنه استعير هنا لموضع الشق (فالتأم) بهمزة مفتوحة بعد التاء أي فاجتمع أو التحم وانتظم (وفي رواية) أي للدارمي وأبي نعيم في الدلائل (إنّ جبريل قال قلب) أي هذا قلب (وكيع أي شديد) تفسير من أحد الرواة ومعناه متين في العلم ومحكم في الفهم كما يشير إليه قوله (فيه) وفي أصل التلمساني له (عينان تبصران) أي تدركان(1/380)
للأمور العقلية (وأذنان سميعتان) وفي نسخة تسمعان أي تعيان العلوم النقلية وضمير فيه راجع إلى القلب وهو أقرب أو إلى القالب وهو أنسب (ثمّ قال) أي أحدهما (لصاحبه) أي من الملكين (زنه) بكسر الزاء أمر من الورن (بعشرة من أمّته) أي في الفهم والعقل أو في الأجر والفضل (فوزنني بهم) أي حسا أو معنى (فرجحتهم) بتخفيف الجيم أي فغلبتهم في الرجحان (ثمّ قال) أي أحدهما لصاحبه (زنه بمائة من أمّته فوزنني بهم) أي بمائة منهم (فوزنتهم) أي رجحتهم في الوزن (ثُمَّ قَالَ زِنْهُ بِأَلْفٍ مِنْ أُمَّتِهِ فَوَزَنَنِي بهم فوزنتهم ثمّ قال دعه عنك) أي استرك وزنه (فلو وزنته بأمّته) أي جميعهم (لوزنها) أي لما منح من المنح السنية ومن المنن العلية (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (في الحديث الآخر) أي في الرواية الأخرى وهي حديث ثلاثة رجال بشهادة قوله (ثمّ ضمّوني إلى صدورهم وقبّلوا رأسي) أي إشعارا برياستي وأني رئيس أمتي (وما بين عيني) بصيغة التثنية لا غير إيماء إلى أنه قرة العينين في الكونين (ثمّ قالوا يا حبيب) أي يا محبوب لمطلق الخلق والحق ويروى فقالوا إنك حبيب الله (لم ترع) بضم ففتح فسكون من الروع أي لا تفزع وفي التعبير بالماضي مبالغة في تحققه وفي رواية لن تراع بتأكيد نفي الاستقبال (إِنَّكَ لَوْ تَدْرِي مَا يُرَادُ بِكَ مِنَ الخير) أي الذي لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (لقرّت عيناك) بفتح القاف وتشديد الراء أي لطابت نفسك وسكن قلبك أو لسررت وفرحت وأصله برد الله تعالى دمعة عينيك لأن دمع السرور بارد وقيل معناه بلغك الله تعالى أمنيتك حتى ترضى وتسكن عينك فلا تستشرف إلى غيره (وفي بقية هذا الحديث) أي حديث ثم ضموني (من قولهم) بيان للبقية (مَا أَكْرَمَكَ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ مَعَكَ) معية مكانة وقربة وحضور وجمعية لامعية مكانية واجتماعية واتصالية واتحادية على ما تقوله الطائفة الإلحادية (وملائكته) أي معك كذلك في الحفظ والحراسة والنصرة والمعونة؛ (قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (في حديث أبي ذرّ) كما رواه الدارمي (فما هو) أي الأمر والشأن (إلّا أن ولّيا) أي أدبرا الملكان ورجعا (عنّي فكأنّما أرى الأمر) أي أمر النبوة والرسالة (معاينة؛ وحكى أبو محمّد المكّيّ وأبو اللّيث السّمرقنديّ؛ وغيرهما؛ أنّ آدم عليه السلام عند معصيته) أي الصورية وهي التي خرج بسببها من الجنة (قال) كما رواه البيهقي والطبراني من حديث ابن عمر بسند ضعيف (اللهمّ بحقّ محمّد) أي المغفور من ذريتي (اغفر لي خطيئتي ويروى وتقبّل توبتي) ولا منع من الجمع (فقال له الله تعالى من أين عرفت محمّدا) أي ولا رأيته أبدا. (قال رأيت في كلّ موضع من الجنّة) أي من شرف قصورها وصدور حورها وأطراف أنهارها واتحاف أشجارها (مَكْتُوبًا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله. ويروى) أي بدلا من هذه الجملة أو زائدا بعد هذه الكلمة (محمّد عبدي ورسولي) أي المختص بي من بين عبيدي ورسلي الشامل للملائكة (فعلمت أنّه أكرم خلقك عليك) أي حيث خصصته بتشريف الإضافة إليك ولم تذكر غيره من الخلق لديك (فتاب الله عليه وغفر له) أي رجع عليه بقبول توبته وحصول(1/381)
مغفرته ووصول هدايته كما قال تعالى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (وهذا) أي قوله اللهم بحق محمد لا كما توهم الدلجي أنه لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ (عند قائله) أي رواية وناقله (تَأْوِيلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [البقرة: 37] ) أي تلقاها من إلهامه وإعلامه وإن كان المشهور عند الجمهور إن المراد بالكلمات هي قوله رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا الآية (وفي رواية الآجري) بمد الهمزة وضم الجيم وتشديد الراء بعدها ياء نسبة قال الحلبي الظاهر أنه الإمام القدوة أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي مصنف كتاب الشريعة في السنة والأربعين وغير ذلك روى عنه أبو نعيم الحافظ وخلق وكان عالما عاملا سكن مكة ومات بها سنة ستين وثلاثمائة وفي نسخة وفي رواية أخرى بمض همزة وسكون خاء معجمة (فقال آدم) أي في جواب ما تقدم (لمّا خلقتني) أي حين خلقتني في أول وهلتي (رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه) أي في قوائمه كما في رواية (مَكْتُوبٌ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله) يعني وليس فيه ذكر رسول سواه (فعلمت أنّه) أي الشأن (لَيْسَ أَحَدٌ أَعْظَمُ قَدْرًا عِنْدَكَ مِمَّنْ جَعَلْتَ اسمه مع اسمك) أي مقرونا به في عرشك الذي هو أعظم خلقك (فأوحى الله إليه وعزّتي وجلالي) أي وعظمتي (إنّه لآخر النّبيّين من ذرّيتك) إيماء إلى أنه بمنزلة الثمرة لهذه الشجرة وأنه في مرتبة العلة الغائية في الخلقة الإنسانية وإشارة إلى أنه الغاية القصوى والمقصد الأسنى من مظاهر الأسماء الحسنى كما يدل عليه قوله (ولو لاه ما خلقتك) ويقرب منه ما روي لو لاك لما خلقت الأفلاك (قال) أي الآجري (وكان آدم يكنّى) بصيغة المجهول مخففا ومثقلا (بأبي محمّد) كما رواه البيهقي عن علي مرفوعا ووجه تخصيصه لكونه أفضل أولاده أو للتشرف باستناده، (وقيل بأبي البشر) أي عموما وفيه تنبيه أنه لم يكن يكنى بغيره من أولاده وذريته إشعارا بخصوصيته ولما تحت العموم من اندراج قضيته ولا يبعد تقدير مضاف بأن يقال كان يكنى بأبي خير البشر فاقتصر فتدبر (وروي عن سريج بن يونس) أي ابن إبراهيم الحارث البغدادي العابد القدوة أحد ائمة الحديث روى عنه مسلم والبغوي وأبو حاتم وهو بضم مهملة وفتح راء وسكون تحتية فجيم وأما ضبطه بالشين المعجمة في نسخة فتصحيف وكذا بالحاء المهملة (أنّه قال إنّ لله ملائكة سيّاحين) بتشديد التحتية أي سيارين على وجه الأرض للعبادة (عيادتها) بالتحتية أي زيارة تلك الجماعة من الملائكة السياحة وتفقدها من عاد يعود إذا زار ورجع للزيارة وفي نسخة بالموحدة ولا يخفى مزية العبادة على العادة بالتعمية المخفية (على كلّ دار) وفي نسخة على دار أي واقعة للمحافظة على كل دار (فيها أحمد أو محمّد) أي مسمى بأحدهما وفي نسخة عبادتها كل دار واقتصر عليها الشمني حيث قال عبادة بالباء الموحدة مبتدأ خبره كل دار على حذف مضاف أي حفظ أهل كل دار أو إعانة أهل كل دار (إكراما منهم لمحمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) حيث عظموا دارا فيها سميه، (وروى ابن قانع القاضي) بالقاف وكسر النون فمهملة هو ابن مرزوق واسمه عبد الباقي صاحب معجم الصحابة وكتاب اليوم والليلة(1/382)
وتاريخ الوفيات من أول سنة الهجرة فروى في معجم الصحابة له وكذا رواه الطبراني (عن أبي الحمراء) بفتح حاء مهملة فسكون ميم فراء ممدودة قال الحجازي هو مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واسمه بلال بن الحارث وقال اليمني هو اسم لصحابيين أحدهما مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أخرج هذا الحديث ابن ماجة عنه والآخر مولى أبي عفراء ولا يعلم له رواية وقال الحلبي كان ينبغي للقاضي أن يذكر بقية هذا السند من ابن قانع إلى أبي الحمراء حتى نعرفهم ونعرف من أبو الحمراء فإن أبا الحمراء في الصحابة اثنان أحدهما مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اسمه هلال بن الحارث بن ظفر أخرج حديثه ابن ماجة في التجارات أعني غير هذا الحديث المذكور في الأصل وأما هذا فليس له شيء في السنة والله تعالى أعلم روى عنه أبو داود والأعمش وغيره قال ابن معين كان بحمص وقال البخاري يقال ليس له صحبة ولا يصح حديثه انتهى وأما الثاني فيقال مولى الحارث بن رفاعة شهد بدرا واحدا ولا أعلم له رواية وإن كان أبو الحمراء من التابعين أو من بعدهم فلا أعلم فيهم أحدا يقال له أبو الحمراء وقد وقفت على الحديث المذكور لكن من رواية أنس وقد قال الذهبي فيه شيء تراه (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُسْرِيَ بِي إِلَى السَّمَاءِ إِذَا عَلَى الْعَرْشِ مَكْتُوبٌ لَا إِلَهَ إِلَّا الله محمّد رسول الله أيّدته) أي قويته (بعليّ) أي لغاية قوته وعلو همته فال الدلجي وقد ورد انه حمل باب حصن خيبر وتترس به ورواه ابن عدي عن عيسى بن محمد عن الحسين بن إبراهيم البياني عن حميد الطويل عن أنس بلفظ لما عرج بي رأيت على ساق العرش مَكْتُوبًا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله أيدته بعلي أو نصرته بعلي قال في الميزان وهذا اختلاف من الحسين بن إبراهيم (وفي التّفسير عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) كما رواه الخطيب فيما رواه مالك عنه (فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما [الكهف: 82] ) وقد رواه البزار مرفوعا من حديث أبي ذر وموقوفا على عمر وعلي (قال) أي ابن عباس وكذا من روى نحوه من غيره (لوح) أي الكنز المذكور جامع في المبنى والمعنى فإنه لَوْحٌ (مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ مَكْتُوبٌ عَجَبًا لِمَنْ أيقن بالقدر) أي بتقديره الذي لا يتصور تغييره (كيف ينصب) بفتح الصاد أي كيف يتعب وما قدر له يأتيه أن تعب وإن لم يتعب لكن قد يقال إن من جملة ما قدر تقديره أن يتعب فكيف لا يتعب قال البغوي القدر سر من أسراره سبحانه وتعالى لم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا ولا يجوز الخوض فيه ولا البحث عنه بل الله تعالى خلق فمنهم شقي ومنهم سعيد وقال رجل لعلي أخبرني عن القدر فقال طريق مظلم لا تسلكه فأعاده السؤال فقال بحر عميق لا تلجه فأعاد فقال سر الله قد خفي عليك (عجبا لمن أيمن بالنّار) أي بوجودها (كيف يضحك) أي قبل ورودها (عجبا لمن يرى) وفي نسخة لمن رأى (الدّنيا وتقلّبها بأهلها) أي في انقلاب أحوالها لا سيما ومآلها إلى زوالها (كيف يطمئنّ إليها) أي يغتر بها ولا يعتبر بمن مضى فيها (أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا مُحَمَّدٌ عبدي ورسولي) أي إلى الخلق كافة(1/383)
كما أن إلاله الههم عامة. (وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما) قال الدلجي لا أعلم من رواه عنه (قال عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبٌ إِنِّي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لا أعذّب من قالها) أي من صميم قلبه وتوفيق ربه على ثباته إلى مماته، (وذكر أنّه وجد) بصيغة المفعول فيهما وضمير أنه للشأن (على الججارة القديمة) أي العتيقة (مكتوب محمّد تقيّ) أي من الشرك ونقي من الشك (مصلح) أي لما أفسد الخلق من الحق تغييرا أو تبديلا، (وسيّد) أي للخلق (أمين) أي عند الخلق والحق؛ (وذكر السّمنطاريّ) بكسر مهملة وميم وسكون نون فمهملة من جملة المحدثين والأئمة المصنفين تآليف كثيرة في فنون العلوم على ما ذكره التلمساني (أَنَّهُ شَاهَدَ فِي بَعْضِ بِلَادِ خُرَاسَانَ مَوْلُودًا وُلِدَ عَلَى أَحَدِ جَنْبَيْهِ مَكْتُوبٌ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَعَلَى الْآخَرِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) أقول إذا ثبت ما سبق من كونه مكتوبا على العرش وغيره بروايات معتبرة فلا يحتاج إلى مثل هذه الرواية التي يحتمل أن تكون معتمدة وكذا قوله، (وذكر الأخباريّون) بالخاء المعجمة (أَنَّ بِبِلَادِ الْهِنْدِ وَرْدًا أَحْمَرَ مَكْتُوبًا عَلَيْهِ بالأبيض) أي منقوش به بجعل الأحمر على أطرافه بالأبيض كالاسفيداج ونحوه وفي نسخة صحيحة مكتوبا على الورد الأحمر بِالْأَبْيَضِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله) وعن الحافظ المزي أخبرني من سافر إلى بلاد الهند أن فيه شجرة معروفة يسقط منها في كل سنة ورقة مكتوب عليها لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وقال ابن القيم في تاريخه في ترجمة الحسن بن أحمد بن الحسن الوراق الخواص المصيصي مسندا عنه إلى علي بن عبد الله الهاشمي الرقي أنه قال دخلت في بلاد الهند إلى بعض قراها فرأيت وردة كبيرة طيبة الرائحة سوداء عليها مكتوب بخط أبيض لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أبو بكر الصديق عمر الفاروق فشككت في ذلك وقلت إنه معمول فعمدت إلى وردة لم تفتح ففتحتها فكان فيها مثل ذلك وفي البلد منه شيء كثير وأهل تلك القرية يعبدون الحجارة لا يعرفون الله تعالى انتهى وقال الشيخ عبد الله بن أسعد اليافعي في كتاب المسمى بروض الرياحين قال بعض الشيوخ دخلت بلاد الهند فدخلت مدينة فيها شجر يحمل ثمرا يشبه اللوز له قشران فإذا كسر خرج منه ورقة خضراء مطوية مكتوب عليها بالحمرة لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ كتابة جلية وهم يتبركون بها ويستسقون بها إذا منعوا من الغيث فحدثت بهذا أبا يعقوب الصياد فقال لي ما استعظم هذا كنت اصطاد على نهر الإبلة فاصطدت سمكة مكتوب على جنبها الأيمن لا إله إلا الله وعلى جنبها الأيسر محمد رسول الله فلما رأيتها قذفتها في الماء احتراما لما عليها كذا ذكره الشمني والذي يخطر بالبال الفاتر والله أعلم بالظواهر والسرائر أن هذه كلها كشوفات مكشوفات لأهلها لا يراها من لم يستأهلها وربما يقال أن اسمه سبحانه وتعالى مع اسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مرسوم على كل شيء من الأشياء بحكم قوله تعالى وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ أي جعلنا ذكرنا معك في كل شيء من ملك وفلك وبناء وسماء وفرش وعرش وحجر ومدر وشجر وثمر ونحو ذلك ولكن أكثر الخلق لا يبصرون تصويرهم ونظيرهم قوله سبحانه وتعالى وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ(1/384)
وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (وروي عن جعفر) أي الصادق (ابن محمّد عن أبيه) أي محمد الباقر وهو من أكابر أهل البيت وأجلاء التابعين أدرك جابرا وغيره (إذا كان يوم القيامة نادى مناد) أي في الموقف كما في رواية (أَلَا لِيَقُمْ مَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ فَلْيَدْخُلِ الْجَنَّةَ لكرامة اسمه) صلى الله تعالى عليه وسلم أي لإظهار كرامته وأشعار شفاعته وإليه أشار صاحب البردة بقوله:
فإن لي ذمة منه بتسميتي ... محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم
(وروى ابن القاسم) أي العتقي واسمه عبد الرحمن جمع بين الزهد والعلم صحب مالكا عشرين سنة ومات بمصر أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي (في سماعه) أي عن مالك ورد عنه قال خرجت إلى مالك اثنتي عشرة مرة انفقت في كل مرة ألف دينارا خرج له البخاري وغيره (وابن وهب) وقد سبق ترجمته قريبا وهو ممن تفقه على مالك بن دينار والليث بن سعد وصنف الموطأ الكبير والموطأ الصغير وكان مالك يكتب إليه إلى أبي محمد المفتي (فِي جَامِعِهِ عَنْ مَالِكٍ سَمِعْتُ أَهْلَ مَكَّةَ) أي بعض علمائهم (يَقُولُونَ مَا مِنْ بَيْتٍ فِيهِ اسْمُ مُحَمَّدٍ إلّا نما) من النمو أي زاد وزكا يعني كثر بركته وفي نسخة نمى بناء على أن المادة واوية أو يائية وفي أخرى إلا قد وقوا بضم واو وقاف أي حفظوا (ورزقوا ورزق جيرانهم) أي ببركة أسمائهم وإيمانهم وإيقانهم وإحسانهم (وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال) أي على ما رواه ابن سعد من حديث عثمان العمري مرفوعا (مَا ضَرَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ محمّد ومحمّدان وثلاثة) أي وأكثر ويميز بينهم مثلا بالأصغر والأوسط والأكبر هذا وفي مسند الحارث بن أبي أسامة عنه صلى الله تعالى عليه وسلم من كان له ثلاثة من الولد ولم يسم أحدهم بمحمد فقد جهل (وعن عبد الله بن مسعود) كما رواه أحمد والبزار والطبراني (أنّ الله تعالى نظر إلى قلوب العباد) أي جميعهم من أولهم إلى آخرهم (فاختار منها قلب محمّد عليه الصلاة والسلام فاصطفاه لنفسه) أي اختاره لذاته أن يكون مظهر صفاته (فبعثه برسالته) أي إلى جميع كائناته؛ (وحكى النّقّاش أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً [الأحزاب: 53] الآية) تمامها إن ذلكم كان عند الله عظيما. (قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْإِيمَانِ إنّ الله تعالى فضّلني عليكم تفضيلا) أي زائدا يليق بقدره وهو على وفق محله (وفضّل نسائي على نساءكم تفضيلا) أي احتراما وتكريما ورفعا لشأنه وتعظيما.
فصل [في تفضيله صلى الله تعالى عليه وسلم بما تضمنته كَرَامَةُ الْإِسْرَاءِ]
(فِي تَفْضِيلِهِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ كَرَامَةُ الإسراء من المناجاة) أي المكالمة. (والرّؤية) أي البصرية أو القلبية (وإمامة الأنبياء) أي إمامته لهم في بيت المقدس (والعروج به إلى سدرة المنتهى) فإنها ينتهي إليها ما ينزل من فوقها وما يصعد من تحتها (وما رأى من آيات ربّه الكبرى) هذا بيان قضيته إجمالا وأما تفصيل قصته في الجملة اكمالا فقوله (ومن خصائصه(1/385)
عليه الصلاة والسلام) أي من جملة ما خص في الإعطاء ولم يعط مثله لسائر الأنبياء (قصّة الإسراء) أي إسرائه إلى السماء (وما انطوت) أي اشتملت (عليه من درجات الرّفعة) أي بحسب ما ثبت في اثناء الأنباء (ممّا نبّه عليه الكتاب العزيز) أي من بعض الإسراء (وشرحته صحاح الأخبار) أي وبينته الأحاديث والآثار وفي نسخة صحائح الأخبار قال الحلبي وكلاهما جمع صحيح وإطلاق كل منهما فصيح (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) أي سيره (لَيْلًا منصوب على الظرفية وتنكيره للدلالة على تقليل المدة الاسرائية مع ما فيه من الصنعة التجريدية فإن السري والإسراء كلاهما هو السير بالليل واختير زيادة الهمزة للمبالغة في مقام التعدية المقرونة بالمصاحبة والمعية المشيرة إلى التخلية من مقام التفرقة إلى التحلية والتجلية في مرتبة الجمعية مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الآية) أي الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ثم سبحان علم للتسبيح بمعنى التنزيه ولعل إيراده هنا للتنبيه على أنه منزه عن المكان وإن إسراءه عليه الصلاة والسلام لإعلاء الشأن ولإطلاعه على عجائب الملك والملكوت في ذلك الزمان وهو مضاف إلى الموصول الذي بعده كما يدل عليه قوله فَسُبْحانَ اللَّهِ ونحوه ونصبه على المصدرية وأغرب السمين في إعرابه حيث قال وهو منصرف لوجود الزيادة والعلمية وقال وَالنَّجْمِ إِذا هَوى قوله إلى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى وقد الفت رسالة مستقلة في خصوص هذه المسألة وبدأتها بتفسير صدر سورة الإسراء وختمتها بتفسير صدر سورة والنجم وذكرت فيما بينهما بعض ما يتعلق بهذه الكرامة العظمى وسميتها المدراج العلوي في المعراج النبوي وههنا اتبع كلام الشيخ في تبيين مبناه وتعيين معناه واتتبع كلام شراحه وحواشيه واختار ما ألقاه من مقتضاه ثم الظاهر من الآية المذكورة أن ابتداء الإسراء كان من نفس المسجد لحديث بينا أنا في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان أتاني جبريل بالبراق وليطابق المبتدأ المنتهي لأنه ليس حرم للمسجد الأقصى أو من الحرم كما قال صاحب البردة:
سريت من حرم ليلا إلى حرم وسماه مسجدا لإحاطته به ولحديث أنه كان في بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته وقص عليها من قصته ويمكن الجمع بينهما بأن كان في بيت أم هانئ فرجع بعد صلاة العشاء إلى المسجد وأتى الحجر عند البيت كما يشير إليه قوله بين النائم واليقظان عند نزوله رجع إليها وقص عليها القصة وكان ذلك قبل الهجرة بسنة ثم وجه تسميته الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام والمراد ببركة حوله بركات الدين والدنيا لأنه مهبط الوحي ومتعبد الأنبياء من لدن موسى إلى زمن عيسى عليهم الصلاة والسلام وهو محفوف بالأنهار والأشجار والأزهار والأثمار وفي الحديث بارك الله فيما بين العريش والفرات وخص فلسطين بالتقديس ذكره الدلجي ومن جملة إراءة الآيات ذهابه في لحظة مسيرة أربعين ليلة(1/386)
ورؤيته ببيت المقدس للأنبياء وإمامته لهم مع علو حالاتهم ووقوفه على مقاماتهم (وقال) أي الله سبحانه وتعالى (وَالنَّجْمِ) أي الثريا أو نجوم السماء أو الرجوم من النجوم أو الكواكب إذا انتثرت أو نجوم القرآن (إِذا هَوى [النجم: 1] ) أي غرب أو طلع أو أنقض أو انتثر أو نزل وانتشر (إِلَى قَوْلِهِ لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: 18] فلا خلاف) كذا بالواو بلا خلاف في النسخ المصححة وفي أصل الدلجي فلا بالفاء فحاول أن الفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كذلك فلا ريب (بين المسلمين) أي من أهل السنة وطائفة المعتزلة وغيرهم (في صحّة الإسراء به عليه الصلاة والسلام) أي بطريق إجمال المرام (إذ هو نصّ القرآن) أي وعليه إجماع أئمة الإسلام إلا أن المعتزلة ومن تبعهم من المبتدعة فسروا الإسراء إلى بيت المقدس لا إلى السماء ممن أنكر مطلق الإسراء فهو كافر بال امتراء (وجاءت بتفصيله وشرح عجائبه) أي بسط غرائبه (وخواصّ نبيّنا محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم فيه) أي وظهور خصوصياته في اسرائه وتنزلاته في مراتب سنائه (أحاديث كثيرة منتشرة) أي مشتهرة كادت أن تكون متواترة (رأينا أن نقدّم أكملها) أي أكمل الأحاديث الواردة في الاسراء تصريحا وتوضيحا (ونشير إلى زيادة من غيره) أي غير اكملها تلويحا وترشيحا (يجب ذكرها) أي يتعين بيانها تحقيقا وتصحيحا. (حدّثنا القاضي الشّهيد أبو عليّ) أي ابن سكرة (والفقيه أبو بحر) بفتح موحدة وسكون مهملة وهو ابن العاص (بسماعي عليهما) أي منهما أو واقع على كلامهما. (وَالْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ) أي وكثير (من شيوخنا) أي المحدثين (قالوا) أي كلهم (حدّثنا أبو العبّاس العذريّ) بضم مهملة وسكون ذال معجمة نسبة إلى عذرة قبيلة (حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الجلوديّ) بضم الجيم (حَدَّثَنَا ابْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ) أي صاحب الصحيح (حدّثنا شيبان بن فرّوخ) بفتح فاء وضم راء مشددة فواو ساكنة فمعجمة غير منصرف للعجمة والعلمية وصرف في نسخة قال التلمساني وصرفه أكثر قيل عنده خمسون ألف حديث وهو من التابعين (حدّثنا حماد بن سلمة) أحد الأعلام روى عن شعبة ومالك وأبو نصر التمار قال عمرو بن عاصم كتبت عن حماد بن سلمة بضعة عشر ألفا (حدّثنا ثابت البنانيّ) بضم الموحدة وتخفيف النون بعدها ألف فنون فباء نسبة إلى قبيلة بنانة كان رأسا في العلم والعمل يابس الثياب الفاخرة ويقال لم يكن في وقته أعبد منه أخرج له الأئمة الستة وقال الذهبي هو ثابت كاسمه (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال أتيت) بصيغة المجهول المتكلم (بالبراق) بضم الموحدة لشدة بريقه ولمعانه وسرعة سيره وطيرانه كالبرق (وهو دابّة) أي مركوب (أبيض) وفيه إيماء إلى ما قيل إنه ليس بذكر ولا أنثى (طويل) أي مائل إلى الطول (فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ منتهى طرفه) بفتح فسكون أي نظره وبصره (قال فركبته حتّى أتيت بيت المقدس) أي حضرته وهو بفتح فسكون فكسر وعلى زنة محمد أيضا لأن فيه يتقدس من الذنوب أو لأنه منزه عن العيوب قال التلمساني وروي باب(1/387)
المقدس (فربطته) أي البراق (بالحلقة) بإسكان اللام وفتحها (التي يربط) بضم الموحدة وكسرها (بها الأنبياء) أي دوابهم عند باب المسجد كما صرح به صاحب التحرير وسيأتي فيه ما ينافيه والبراق إن ثبت أن له الإسراء أيضا إلى بيت المقدس ويؤيده أن إبراهيم عليه السلام كان يزور هاجر بمكة عليه ويقويه قول جبريل له فما ركبك أحد أكرم على الله تعالى منه كما سيأتي وفي حديث الترمذي من طريق بريدة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم حين انتهى إلى بيت المقدس أشار جبريل عليه السلام إلى الصخرة فخرقها وربط البراق بها ويمكن الجمع بأنه كان الخرق فيها مسدودا فأظهر خرقها ثم في ربطه دليل على أن الإيمان بالقدر لا يمنع الحازم من توقي المهالك والحذر في السفر والحضر ومنه قوله عليه الصلاة والسلام اعقل وتوكل وقد قال وهب بن منبه كذا وجدته في سبعين كتابا من كتب الله القديمة ثم اعلم أن نسخ الشفاء كلها اتفقت على لفظ بها بضمير المؤنث وهو ظاهر وقال النووي في شرح مسلم وهو في الأصول يعني أصول مسلم به بضمير المذكر أعاده على معنى الحلقة وهو الشيء انتهى ولا يخفى أن الأولى رجع الضمير إلى خرقها بحذف مضاف أو ارتكاب مجار آخر فتدبر (ثمّ دخلت المسجد) أي أقصى (فصلّيت فيه ركعتين) أي تحية المسجد (ثمّ خرجت) أي منه (فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لبن) أي امتحانا من الله تعالى قال التلمساني هكذا في مسلم وفي البخاري وإناء من ماء وروي ثلاثة لبن وخمر وعسل وروي أربعة لبن وخمر وعسل وماء ولعل هذا هو الأظهر حيث عرض عليه من الأنهار الأربعة الموعودة في الجنة واختياره اللبن لأنه مغن عن غيره بخلاف غيره وقيل العسل إشارة لزهرة الحياة الدنيا ولذتها وحلاوتها والماء للغرق ولذا قيل لو اخترته لغرقت وغرقت أمتك ولعل المراد بغرقهم استغراقهم في جمع المال الذي يؤدي إلى سوء الحال ونقصان المآل وأما الخمر فإشارة إلى جميع الشهوات (فاخترت اللّبن) أي أعرضت عن الخمر وروي فأخذت اللبن (فقال جبريل اخترت الفطرة) أي علامة الإسلام والاستقامة لكونه طيبا طاهرا أسهل المرور في الحق سليم العاقبة سائغا شرابه وطيبا مذاقه والخمر أم الخبائث جالبة لأنواع شرور الحوادث (ثمّ عرج بنا) أي صعد بنا (إلى السّماء) بنون المتكلم إما لتعظيمه أو له ولمن معه فالضمير إلى الله تعالى أو جبريل أو البراق وفي نسخة صحيحة بصيغة المجهول وجزم به الأنطاكي وكذا فيما بعده وهو في غاية من القبول مع الإشارة إلى أن سيره من المسجد الأقصى إلى السموات العلى لم يكن بالبراق بل بالمعراج الذي له درجة من ذهب وأخرى من فضة وبه سميت القصة (فاستفتح جبريل) أي باب السماء الدنيا استئذانا للملائكة ولا يبعد أن يكون الاستفتاح كناية عن مجرد الاستئذان فلا يكون هناك فتح واغلاق وهو الأظهر في مقام أدب الإجلال والاستحقاق (فقيل من أنت؛ قال) أي جبريل (جبريل) أي أنا جبريل (قيل ومن معك) أي لما كوشف لهم أن أحدا معه أو استدلوا باستئذانه على خلاف دأبه ومقتضى شأنه (قال محمّد) أي هو أو معي محمد (قيل وقد بعث(1/388)
إليه) أي أطلب وقد بعث إليه للإسراء وصعود السماء وليس استفهاما عن بعثة الدعوة لبلوغها من الظهور في الملكوت إلى ما لا يخفى على الخزنة ولكونه أوفق بقام الاستفتاح والاستئذان في الجملة وقيل كان سؤالهم استعجابا بما أنعم الله عليه من القربة واستبشارا بعروجه لحصول الرؤية ثم هذا مؤذن بأن للسموات أبوابا حقيقة وعليها ملائكة مؤكلة هذا وفي رواية صحيحة أرسل إليه وهو قابل للتأويل المذكور مع أنه لا يبعد أن تكون بعثة الرسالة خفيت على بعض الملائكة لكمال اشتغالهم بالعبادة على ما ذكره الطبري (قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أنا بآدم صلى الله تعالى عليه وسلم فرحّب بي) بتشديد الحاء أي قال لي مرحبا كما ورد مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح أي لقيت رحبا وسعة (ودعا لي بخير) أي في الدارين (ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إليه قال قد بعثت إليه ففتح لنا) فيه إيماء إلى أن أهل كل سماء لا يدرون عن حال أهل سماء أخرى أو أرادوا التلذذ بهذه المذاكرة التي هي بالمحاورة أحرى وفيه اشعار إلى غاية بسط الزمان ونهاية طي المكان ولا يبعد أن تكون هذه المكالمة على لسان الملائكة أو بالمناداة من غير الواسطة استقبالا لصاحب الرسالة كما يشير إليه تعبير الأفعال بقيل ونحوه من العبارة فيكون كلام الجبار مع سيد الأبرار من وراء الأستار في لباس الاعيار كما يقتضيه معنى المعية والحالة الجمعية من شهود عين الوحدة في عين الكثرة (فإذا أنا بابني الخالة) لأن أم يحيى ايشاع أخت مريم (عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريّاء) ممدودا أو مقصورا (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا فَرَحَّبَا بِي وَدَعَوَا لِي بخير) وفي نسخة صحيحة دعيا لي بالياء ففي القاموس دعيت لغة في دعوت (ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَذَكَرَ مثل الأوّل) أي مثل ما ذكر فيما قبله من استفتاح الباب والسؤال والجواب وهذا اختصار من المصنف أو من غيره والله تعالى أعلم (فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الحسن) أي نصفه أو بعضه والمراد بالحسن جنسه أو حسن حواء أو حسن سارة أو حسن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الأظهر والله تعالى أعلم وروي في حديث مرفوع مررت بيوسف الليلة التي عرج بي إلى السماء فقلت لجبريل من هذا فقال يوسف فقيل يا رسول الله كيف رأيته فقال كالقمر ليلة البدر قال البغوي في تفسيره إنه ورث ذلك الجمال من جدته وكانت قد أعطيت سدس الحسن وقال ابن إسحاق ذهب يوسف وأمه يعني جدته بثلثي الحسن انتهى فالمراد بالشطر البعض لا النصف كما قال البعض والله تعالى أعلم (فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ وَذَكَرَ مِثْلَهُ فَإِذَا أنا بإدريس عليه الصلاة والسلام) وهو سبط شيث وجد والدنوح أول مرسل بعد آدم عليه السلام وأول من خط بالقلم وخاط اللباس ونظر في علم النجوم والحساب وأما قولهم إدريس مشتق من الدرس إذ قد روي أن الله تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة فلقب به لكثرة الدراسة فمدفوع بعدم صرفه للعلمية والعجمة (فرحّب بي(1/389)
وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم: 57] ) هو شرف النبوة ومقام القربة وعن الحسن هو الجنة إذ قال لملك الموت أذقني الموت ليهون علي ففعل بإذن الله تعالى ثم حيي فقال له أدخلني النار ازدد رهبة ففعل ثم قال له ادخلني الجنة أزدد رغبة ففعل ثم قال ملك الموت له اخرج فقال قد ذقت الموت ووردت النار فما أنا بخارج فقال الله تعالى بإذني دخل دعه وقيل هو في السماء الرابعة لهذا الحديث (ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَإِذَا أَنَا بإبراهيم مسندا) بصيغة الفاعل منصوب على الحال كما في مسلم وشرح السنة وفي بعض نسخ المصابيح مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي وهو مسند (ظهره إلى البيت المعمور) قال المصنف يستدل به على الاستناد إلى القبلة وتحويل الظهر إلى الكعبة وفي استدلاله نظر لاحتمال كون إبراهيم حينئذ متوجها إلى الكعبة أو إلى العرش على خلاف أيهما أفضل في باب الاستقبال أو باعتبار نظر ذي الجلال مع احتمال أن يكون التقدير مسندا ظهره إلى شيء من أجزاء السماء أو إلى طرف بابها متوجها إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يوم سبعون ألف ملك لا يعوذون إليه) أي لكثرتهم وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال البيت المعمور في السماء الرابعة يقال له الضراح وهو بمعجمة مضمومة ومهملة بينهما راء فألف من الضراحة بمعنى المقابلة إذ هو مقابل للكعبة كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وممن رواه بصاد مهملة فقد تصحف بصراح الغلط وروى أبو هريرة في السماء الدنيا وقيل في الرابعة وقيل في السادسة ولعل كل بيت في كل سماء يسمى البيت المعمور بالمعنى المذكور وأنه في السماء السابعة على القول المشهور الوارد في حقه أنه نقل من محل الكعبة إلى السماء كما بين في محله المسطور (ثمّ ذهب بي) أي جبريل وضبطه الأنطاكي بصيغة المفعول (إلى سدرة المنتهى) أي ينتهي علم الخلائق عندها وخصت السدرة لأن ظلها مديد وطعمها لذيذ ورائحتها طيبة فشابهت الإيمان الذي يجمع قولا ونية وعملا فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه وامتداده وطعمها بمنزلة النية لكمونه ورائحتها بمنزلة القول لظهوره (وإذا ورقها كآذان الفيلة) بكسر فاء وفتح تحتية جمع فيل قيل والآذان بالمد جمع الأذن (وإذا ثمرها) كذا في النسخ المصححة ووقع في اصل الدلجي وإذا نبقها (كالقلال) بكسر القاف جمع قلة كقباب جمع قبة وفي رواية كقلال هجر بفتحتين مدينة قرب المدينة ويعمل بها القلال تسع الواحدة مزادة من الماء سميت قلة لأنها تقل أي ترفع وتحمل وليست بهجر الذي هو من توابع البحرين؛ (قال فلمّا غشيها) بفتح فكسر أي علاها وغطاها (من أمر الله تعالى) أي من أجل أمره وارادته أو من آثار عظمته وأنوار قدرته (ما غشي) أي ما غشيها كما في نسخة وهو مستفاد من قوله تعالى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (تغيّرت) أي السدرة مما غشيها من أسرار القدرة (فما أحد من خلق الله يستطيع) أي يقدر(1/390)
(أن ينعتها) أي يصف كيفية غشيتها أو ماهية ما غشيها (من حسنها) أي من غاية ضيائها ونهاية بهائها فقيل هو فراش من ذهب فقيل لعله شبه ما غشيها من الأنوار التي تنبعث منها وتتساقط على مواقعها بالفراش وجعلها من الذهب لا ضاءتها وصفاء ذاتها وعن الحسن غشيها نور رب العزة فاستنارت (فأوحى الله إليّ ما أوحى) وهو تفسير لقوله تعالى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
وفي إبهامه تفخيم للموحي كما لا يخفى (ففرض) أي الله تعالى كما في نسخة (عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ) بيان لما أوحي كله أو بعضه (فنزلت إلى موسى) أي منتهيا إليه (فَقَالَ مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ قُلْتُ خَمْسِينَ صَلَاةً قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التّخفيف) أي تخفيف هذا التكليف هذا وإن كان متضمنا للتعريف والتشريف ويجوز في فاسأله التخفيف بالنقل وغيره كما قرئ بهما في السبعة (فإنّ أمّتك) أي جميعهم (لا يطيقون ذلك) وكأنه علم عليه الصلاة والسلام ضعفنا وعجزنا فرحمنا فجزاه الله تعالى أفضل الجزاء عنا ثم علل ذلك بقوله (فإنّي قد بلوت بني إسرائيل) أي جربتهم وبلاه وابتلاه بمعنى ففي الحديث اللهم لا تبتلنا إلا بالتي هي أحسن (فخبرتهم) بتخفيف الموحدة عطف تفسيري أو إشارة إلى أنه جربهم مدة بعد مرة والمعنى امتحنتهم وعالجتهم فلقيت منهم الشدة وعدم الطاقة فيما قصدت منهم من تحمل الكلفة وقبول الطاعة (قال فرجعت إلى ربّي) قال النووي معناه رجعت إلى الموضع الذي ناجيته أولا فناجيته فيه ثانيا (فقلت يا ربّ خفّف عن أمّتي) أي الضعفاء وفيه إيماء إلى قوة الأنبياء والأصفياء إذ كثير منهم واظبوا على ألف ركعة في اليوم والليلة وقد أشار موسى عليه السلام إلى هذا المعنى فيما سبق من المبنى وبهذا يظهر ضعف قول الدلجي لم يقل خفف عني حياء من ربه لسؤاله التخفيف عنه (فحطّ عنّي) أي فوضع عني في ضمن الحد عن أمتي (خمسا) ولم يقل عن أمتي لئلا يتوهم بقاء فرضية الخمسين عليه وفيه إشارة إلى أن من كان لله كان الله له (فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ حَطَّ عَنِّي خَمْسًا قال إنّ أمّتك لا يطيقون ذلك) أي لا يقدرون على هذا أيضا (فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ قَالَ فَلَمْ أزل أرجع بين ربّي) وفي نسخة بين يدي ربي (تعالى وبين موسى) أي بين موضع مناجاتي له تعالى وملاقاتي لموسى ويجوز أن يكون الرجوع بمعنى المراجعة في السؤال وإحضار البال والله تعالى أعلم بالحال (حتّى قال) أي الرب سبحانه وتعالى (يا محمّد إنّهنّ) ضمير مبهم تفسيره قوله (خمس صلوات) ذكره الدلجي والأظهر أن يقال التقدير أن الصلاة المفروضة أو الخمسين خمس صلوات محتمة (كلّ يوم وليلة) بالنصب على الظرفية وفي نسخة في كل يوم وليلة (لكلّ صلاة) أي من الخمس (عشر) أي ثواب عشر صلوات (فتلك خمسون صلاة) أي بحسب المضاعفة ولعل هذه المراجعة منهما لما الهم إليهما حيث لم يكن الوجوب حتما مبرما أو أوجبها أولا ثم رحمنا فنسخها بيانا فيجوز نسخ وجوب الشيء قبل وقوعه كنسخ وجوب ذبح إسماعيل عليه السلام عند قصده تبيانا لمحل فضله وكرمه ثم لما كان نية نبينا وهمة صفينا له أصالة ولأتباعه نيابة(1/391)
أن يقوم بوظيفة خمسين صلاة وجوزي بذلك حيث خفف عليهم في الكمية وزيد لهم في الكيفية ذكر قضية كلية وقاعدة مطردة قياسية في ضمن الحديث القدسي والكلام الأنسي بقوله (ومن همّ بحسنة) أي من صلاة نافلة وغيرها بأن قصدها وعزم على فعلها (فلم يعملها) أي لعاقة عن عملها (كتبت له حسنة) بصيغة المجهول ونصب حسنة على المصدرية والمعنى كتبت له الحسنة التي هم بها ولم يعملها كتابة واحدة لأن الهم سببها وسبب الحسنة حسنة فوضع حسنة موضع المصدر وفي بعض النسخ بصيغة الفاعل والاسناد إلى المتكلم وهو ظاهر لكن لا يلائم ما بعده لم تكتب (فإن عملها كتبت له عشرا) وهذا أقل المضاعفة كما قال الله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها (ومن همّ بسّيّئة فلم يعملها) أي فلم يقدر على عملها (لم تكتب) أي تلك السيئة التي هم بها (شيئا) أي ولا سيئة واحدة إذا ندم وتركها خوفا من الله تعالى بل تكتب له حسنة لأجلها كما ورد كتبها الله تعالى عنده حسنة كاملة وقد زاد مسلم في رواية إنما تركها من جر أي بفتح الجيم وتشديد الراء أي من أجلي أو شيئا من الزيادة إذا كان همها باقيا فإن هم السيئة المصمم سيئة وشيئا وعشرا منصوبان وفي بعض نسخ المصابيح مرفوعان ولعله غلط من الناسخ (فإن عملها كتبت سيّئة واحدة) أي باندراج الهم في العمل حيث لا مضاعفة في السيئة كما يستفاد الحصر من قوله تعالى وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها (قَالَ فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ فقال ارجع إلى ربّك فاسأله التّخفيف فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي نسخة صحيحة فَقُلْتُ (قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ منه) بياءين وفي نسخة بياء واحدة ولعل وجه الحياء هو أن المبالغة في تخفيف العبادة نوع من الجفاء والقيام بماتعين وتحتم من باب الوفاء في تحمل البلاء لحصول الولاء هذا ولعل الحكمة في وجوب الصلاة ليلة الإسراء للإيماء إلى أنها معراج المؤمن إلى أعلى كمالاته ومقاماته ومحل مناجاته من بين عباداته وكمال ترقي منازل سعاداته وأما حكمة ظهور الأنبياء المذكورين بخصوصهم من بين عمومهم وتخصيص كل بسماء المشير إلى مراتب علوهم فلم يتكلم به أحد من السلف ولم يظهر تحقيقه من الخلف فتبعنا السابقين كما هو وظيفة اللاحقين ثم الصلوات الخمس فرضت بمكة اتفاقا وكذا الزكاة مطلقا وأما تفصيلها فبينت بالمدينة وفرض رمضان ثم الحج بها أيضا فما ذكره التلمساني من أنه فرضت الصلاة والزكاة والحج ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة وفرض صيام رمضان وزكاة الفطر وهو بمكة خطأ فاحش (قال القاضي رضي الله تعالى عنه) كذا في النسخ لكن الأولى أن يقال رحمه الله تعالى لأن الترضية في العرف مختصة بالصحابة كما أن التصلية والتسليم مختصان بالأنبياء والعزة والجلالة بالله سبحانه وتعالى (جوّد) بتشديد الواو أي حسن (ثابت) أي البناني (رحمه الله تعالى) وفي نسخة رضي الله تعالى عنه (هذا الحديث) أي بيان روايته وضبط عبارته الدالة على درايته (عن أنس رضي الله تعالى عنه ما شاء) أي ما شاء الله تعالى(1/392)
من تجويده وتحسينه وتحريره (ولم يأت أحد) من الرواة (عنه) أي عن أنس رضي الله تعالى عنه (بأصوب من هذا) أي أقرب إلى الصواب من هذا المروي في هذا الكتاب (وقد خلّط) بتشديد اللام (فيه) أي في هذا الحديث (غيره) أي غير ثابت من الرواة (عن أنس) رضي الله تعالى عنه (تخليطا كثيرا) أي وتخبيطا كبيرا (لا سيّما) أي خصوصا ما ورد (من رواية شريك بن أبي نمر) أي عن أنس وشريك هذا بفتح الشين ونمر بفتح نون وكسر ميم فراء مدني روى عن ابن أنس وابن المسيب وجماعة وعنه مالك وأنس بن عياض وطائفة قال ابن معين لا بأس به وقال النسائي ليس بالقوي انتهى وشريك هذا تابعي صدوق وثقه أبو داود وقال ابن عدي روى عنه مالك رحمه الله تعالى فإذا روى عنه ثقة فإنه ثقة ووهاه الحافظ أبو محمد بن حزم لأجل حديثه في الإسراء الذي أشار إليه القاضي وله فيه أوهام معروفة وقد نبه مسلم على ذلك بقوله في صحيحه وقدم فيه شيئا وأخر وزاد ونقص انتهى وقال الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين بعد ذكر رواية شريك هذا فقد روي حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتقين والأئمة المشهورين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة يعني عن أنس فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك وقد زاد فيه زيادة مجهولة وأتى فيه بألفاظ غير معروفة وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث انتهى والأماكن في حديث الإسراء معدودة عند أهل العلم فيقال أربعة ويقال ثمانية ذكره الحلبي (فقد ذكر) أي شريك (في أوّله) أي مبدأ حديثه (مجيء الملك له) أي لأجله (وشقّ بطنه وغسّله بماء زمزم وهذا) أي ما ذكر كله (إنّما كان وهو صبيّ وقبل الوحي) فيه أنه يمكن تعدده فلا وهم إلا بسبب ما بينه المصنف بقوله (وقد قال شريك في حديثه) أي هذا بعينه (وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَذِكْرُ قِصَّةِ الإسراء) أي معه (ولا خلاف أنّها) أي في أن قصة الإسراء (كانت بعد الوحي) فثبت وهمه بهذا التعارض الواقع بين كلاميه ولكن قال الإمام الحافظ أبو محمد الحسين البغوي هذا الاعتراض الذي اعترض به على رواية شريك لا يصح عندي لأن ذلك كان رؤيا في النوم أراه الله تعالى عز وجل قبل الوحي بدليل آخر الحديث فاستيقظ وهو بالمسجد الحرام ثم عرج به في اليقظة بعد الوحي تحقيقا لرؤياه من قبل كما أنه رأى عليه الصلاة والسلام فتح مكة في المنام عام الحديبية سنة ست من الهجرة ثم كان تحقيقه سنة ثمان ونزول قوله تعالى لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ انتهى وبهذا الجمع يزول الإشكال عن قَوْلُهُ تَعَالَى وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ فيكون التقدير تصديق الرؤيا وتحقيقها إذ لا تترتب الفتنة على نفس الرؤيا كما لا يخفى (وقد قال غير واحد) أي كثير من العلماء المحدثين (إنّها كانت) أي قصة الإسراء (قبل الهجرة بسنة) فقد ذكر النووي أن معظم السلف وجمهور المحدثين والفقهاء على أن الاسراء كان بعد البعثة بستة عشر شهرا وقال السبكي الإجماع على أنه كان بمكة والذي نختاره ما قاله شيخنا أبو محمد الدمياطي أنه قبل الهجرة بسنة وهو في الربيع الأول انتهى وروى السيد جمال الدين المحدث في(1/393)
روضة الأحباب أنه كان في سبعة وعشرين من شهر رجب على وفق ما هم عليه في الحرمين الشريفين من العمل وقيل في الربيع الآخر وقيل في رمضان وقيل في شوال وقيل بعد نقض الصحيفة وقيل بعد بيعة العقبة وقيل أسري به في الحجة لأنه كان ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوما وقيل ليلة اثني عشر من الربيع الأول ليلة الاثنين منه فيكون زمان معراجه كميلاده ومدراجه باعتبار يوم الاثنين وشهر الربيع الأول والله سبحانه وتعالى أعلم (وقيل قبل هذا) أي قبل ما قبل الهجرة وفي نسخة غير هذا أي غير هذا القول إلا أنهم اتفقوا على أنها كانت بعد الوحي (وقد روى ثابت) أي البناني (عَنْ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَيْضًا مَجِيءَ جِبْرِيلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم وهو يلعب مع الغلمان) جمع غلام يعني الصبيان (عند ظئره) بكسر أوله أي مرضعته حليمة أو زوجها الذي لبنها منه فإنه يطلق عليهما (وشقّه) أي وكذا روى ثابت شق جبريل (قلبه تلك القصّة) بدل اشتمال على كل واحدة من القصة حال كونها (مفردة من حديث الإسراء) أي غير منضمة إلى قصة المعراج (كما رواه النّاس) أي كما رواه غيره من الرواة الثقات (فجوّد) أي ثابت (في القصّتين) أي قصة الشق وقصة الإسراء حيث لم يخلط بينهما (وفي أنّ الإسراء) أي ولا خلاف في أَنَّ الْإِسْرَاءَ (إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى كَانَ قِصَّةً وَاحِدَةً وَأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى بيت المقدس) أي أولا (ثمّ عرج من هناك) أي من بيت المقدس إلى سدرة المنتهى عند من قال بالجمع بينهما من أهل السنة والجماعة خلافا للمعتزلة (فأزاح) أي أزال ثابت (كلّ إشكال أوهمه غيره) أي من شريك ونحوه في روايتهم (وقد روى يونس) أي ابن يزيد الأيلي وهو الحافظ أبو بكر الشيباني سمع ابن إسحاق وابن شهاب والأعمش قال ابن معين صدوق وقال أبو داود ليس بحجة يواصل كلام ابن إسحاق بالأحاديث (عن ابن شهاب) أي الزهري (عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ: أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال فرج) بصيغة المجهول مشددا ومخففا أي كشف وفتح (سقف بيتي فنزل جبريل عليه السلام ففرج صدري) أي شق كما في رواية ومنه قوله تعالى وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ أي انشقت كما في آية أخرى (ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جَاءَ بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا فأفرغها) أي الحكمة وما في معناها أو من مقتضاها (في صدري ثمّ أطبقه) أي غطاه وأصلحه (ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ وذكر) أي يونس (القصّة) أي قصة المعراج بطولها. (وروى قتادة الحديث) أي حديث الإسراء (بمثله) أي بمثل مروي يونس (عن أنس) أي ابن مالك (عن مالك بن صعصعة) أي الخزرجي المازني له حديث الإسراء أخرج له البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد في مسنده وليس له في الكتب غير حديث الإسراء على ما ذكره الحلبي قال النووي في تهذيبه روي له عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم خمسة أحاديث اتفق البخاري ومسلم على أحدها وهو حديث الإسراء والمعراج وهو أحسن أحاديث الإسراء انتهى وكذا ذكر ابن الجوزي في تنقيحه أن له خمسة(1/394)
أحاديث (وفيها) أي وفي رواية قتادة عن أنس بن مالك (تقديم وتأخير وزيادة ونقص) أي في بعض مواضعها (وخلاف في ترتيب الأنبياء في السّموات) أي بالنسبة إلى بعضهم وبعضها. (وحديث ثابت) أي البناني (عن أنس أتقن وأجود) أي من حديث قتادة عن أنس عن مالك وكذا غيره مما قدمه على ما تقدم والله تعالى أعلم (وقد وقعت في حديث الإسراء زيادات) أي من الفوائد على اختلف روايات (نذكر منها) أي من جملتها (نكتا) بضم ففتح جمع نكتة وجمعها أيضا نكات وهي بمعنى النقط وتطلق على معاني لطيفة (مفيدة في غرضنا) أي مقصودنا في هذا الباب من الكتاب (منها في حديث ابن شهاب) أي الزهري (وفيه) أي وفي حديثه الذي رواه (قول كلّ نبيّ له) أي مختصا له صلى الله تعالى عليه وسلم (مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ إِلَّا آدَمَ وإبراهيم فقالا له والابن الصّالح) أي بدل والأخ الصالح لأنه كان من ذرية إسماعيل ولقوله تعالى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ وأما ما يقوله أهل النسب والتاريخ أن أدريس أب من آباء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وإنه جد نوح عليه السلام فإنه لا ينافي كونه أبا له فإن قوله الأخ الصالح يحتمل أنه قاله تأدبا وتلطفا وهو أخ له وإن كان ابنا فإن الأنبياء إخوة كما أن المؤمنين إخوة (وفيه) أي وفي حديث الزهري أو في حديث الإسراء (من طريق ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) أي كما أخرجه البخاري (ثمّ عرج بي) بصيغة المفعول أو الفاعل (حتّى ظهرت بمستوى) بصيغة المجهول في أوله باء أو لام أي صعدت بمكان عال أو في مكان مرتفع وقيل الباء بمعنى على وقيل هو عبارة عن فضاء فيه استواء (أسمع فيه صريف الأقلام) أي صوت حركتها وجريانها على المخطوط فيه مما تكتبه الملائكة من أقضية الله سبحانه وتعالى ووحيه وينسخ من اللوح المحفوظ ومنه قوله تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ وفي نسخة صرير براءين وهو أشهر في اللغة على ما صرح به بعضهم ثم جمع الاقلام يحتمل أن يكون للتعظيم أو لكبره في التجسيم، (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) أي مرفوعا (ثمّ انطلق بي) بصيغة المجهول أو المعلوم (حتّى أتيت سدرة المنتهى فغشيها ألوان) أي أصناف من الأنوار وأنواع من الاسرار (لا أدري ما هي) أي ماهيتها وحقيقتها (قَالَ ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ. وَفِي حَدِيثِ مَالِكِ بن صعصعة رضي الله تعالى عنه) أي كما رواه الشيخان وغيرهما (فلمّا جاورته يعني موسى عليه السلام) تفسير من بعض الرواة (بكى) أي تأسفا على قومه إذ لم يتبعوه فينتفعوا به انتفاع هذه الأمة بنبيهم إذ لا حسد في ذلك العالم لآحاد المؤمنين فضلا عن الأنبياء والمرسلين كذا قرره الدلجي وغيره ويؤيده قوله يدخل من أمته الجنة أكثر من أمتي ولا يبعد أن يراد به الغبطة على تلك المنزلة وكثرة الأمة والظاهر أنه لمجاوزته عن مقامه ومرتبته كما يشير إليه قوله فلما جاوزته ولما سيأتي صريحا من قول موسى عليه السلام لم أظن أن يرفع على أحد ويعضده قوله عليه الصلاة والسلام لقيت موسى في السماء السادسة فلما جاوزته بكى وقال يزعم بنوا إسرائيل أني أكرم ولد آدم وقد جاوزني هذا وكأنه سلم التقديم لإبراهيم لكونه جدا له يحق له التعظيم مع(1/395)
سبقه عليه سبعمائة سنة في مقام التقديم ولذا عبر عنه عليه الصلاة والسلام بالغلام فتأمل في هذا المقام لعله يتبين لك المرام ثم الأظهر أن وجه الغبطة في القربة أمور كثيرة من أنواع علو الرتبة (فَنُودِيَ مَا يُبْكِيكَ قَالَ رَبِّ هَذَا غُلَامٌ بعثته) وفي نسخة بعث (بَعْدِي يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِهِ الْجَنَّةَ أَكْثَرُ مِمَّا يدخل من أمّتي) ولعله سماه غلاما مع كونه حينئذ كهلا أو شيخا على اختلاف القولين في تعريفهما والغلام إنما يطلق فيمن بلغ سبعا أو ثماني وقد يطلق على الطفل تفاؤلا وقد يقال له ما دام شابا فكأنه نظر إلى قصر عمره وتأخر عصره مع جموم مناقبه وعموم مراتبه. (وفي حديث أبي هريرة) أي ومنها في حديثه الذي رواه البيهقي وغيره (وقد رأيتني) بضم التاء حكاية عن نفسه وفي أصل الدلجي ولقد رأيتني (في جماعة من الأنبياء) أي بأجسامهم أو بأرواحهم ممثلة بصورهم التي كانوا عليها (فحانت الصّلاة) أي دنت الصلاة الجامعة لعظمة تلك الواقعة وقد أبعد الدلجي في قوله ولعلها صلاة الصبح إذ الإسراء لا يكون إلا آخر الليل وهي مما فرض على الأنبياء انتهى وقد سبق أن ابتداء الإسراء كان بعد صلاة العشاء وهو لم يكن إلا زمنا قليلا من الليل على ما يفيده تنكير ليلا فلا يتصور حمله على صلاة الصبح أصلا (فأممتهم) بتخفيف الميم الثانية أي صليت بهم تلك الصلاة إماما وقال النووي في بعض فتاواه ويحتمل أن تكون صلاته بالأنبياء ليلة الإسراء ببيت المقدس قبل صعوده إلى السماء ويحتمل أن تكون بعد نزوله منها قلت وهذا يتوقف على صحة أن يكون رجوعه إليه منها ثم قال واختلف العلماء في هذه الصلاة فقيل إنها الصلاة اللغوية وهي الدعاء والذكر والثناء وقيل هي الصلاة المعهودة المعروفة وهذا أصح لأن اللفظ يحمل على الحقيقة الشرعية قبل اللغوية إلا إذا تعذر حمله على الشرعية ولم يتعذر هنا فوجب الحمل على الحقيقة الشرعية وكان قيام الليل وإحياؤه واجبا قبل ليلة الإسراء ثم نسخ ليلة الإسراء ووجبت فيها الصلوات الخمس (فقال قائل منهم يا محمّد هذا مالك خازن النّار) فيه إشعار بأن الصلاة كانت في السماء وفي رواية أنها كانت في المسجد الأقصى ولا منع من الجمع ولا لنزول مالك وإن كان مقرة في السماء (فسلّم عليه) بصيغة الأمر لأنه عليه السلام كالقائم وهو كالقاعد والقائم يسلم على القاعد وإن كان مفضولا (فالتفتّ) أي نظرت إليه (فبدأني بالسّلام) لأنه كان بمنزلة الوافد أو عملا بالأفضل خصوصا مع التأدب بالنبي الأكمل وأما ما قيل إنما بدأه به ليزيل ما يستشعره من الخوف منه فليس في محله (وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) أي المحكي عنه ما تقدم من الزيادة (ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَنَزَلَ فربط فرسه) أي براقه (إلى صخرة) أي قريبة من صخرة بيت المقدس أو إلى صخرة عظيمة معروفة مشهورة في وسط المسجد الأقصى قال البرقي في غريب المواطن قيل إن مياه الأرض كلها تخرج من تحت صخرة بيت المقدس وهي من عجائب مخلوقات الله تعالى في أرضه ومن غرائبها فإنها صخرة صماء في وسط المسجد الأقصى مثل الجبل بين السماء والأرض قد انقطعت عن الأرض كلها من كل جهة(1/396)
لا يمسكها إلا الله الذي أمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه وفي أعلاها من جهة الحرف موضع قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين ركب البراق ليلة الإسراء قد مالت من تلك الجهة من هببته ومن الجهة الأخرى إثر أصابع الملائكة التي أمسكتها إذا مالت به ذكره التلمساني أعلم أن التعبير بالفرس جاء في تذكرة القرطبي برواية البيهقي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة وكذا رواه الطبراني وجاء في التفسير في سورة الملك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومقاتل والكعبي في قوله تعالى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ إن الموت والحياة جسمان فجعل الموت في هيئة كبش لا يمر بشيء ولا يجد ريحه شيء إلا مات وخلق الحياة على صورة فرس انثى بلقاء وهي التي كان جبريل والأنبياء عليهم السلام يركبونها خطوها مدى البصر فوق الحمار ودون البغل لا تمر بشيء يجد ريحها إلا حي ولا تطأ شيئا إلا حي وهي التي أخذ السامري من أثرها والقاه في العجل حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والماوردي عن مقاتل انتهى فلا يحتاج إلى ما تكلف بعضهم من القول بتعدد الإسراء والله تعالى أعلم (فصلّى مع الملائكة) أي الحاضرين من الزائرين (فلمّا قضيت الصّلاة) بصيغة المجهول (قالوا يا جبريل من هذا معك فقال) وفي نسخة قَالَ (هَذَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ قَالُوا وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قَالُوا حيّاه الله) جملة دعائية إما من الحياة بمعنى البقاء أي بقاه الله وأبقاه بمعنى عمره أو من التحية أي سلمه الله أو سلم عليه (من أخ) إذ المؤمنون إخوة عموما والأنبياء خصوصا لحديث الأنبياء إخوة بنو علات أبوهم واحد أي الإيمان وأمهاتهم شتى يعني الشرائع (وخليفة) أي لله في الأرض حيث يحكم بحكمه من أمره ونهيه (فنعم الأخ ونعم الخليفة) أي هو صلى الله تعالى عليه وسلم (ثمّ لقوا) أي النبي وجبريل ومن معه من الملائكة أو لأن الاثنين أقل الجمع أو جمع للتعظيم والمعنى ثم لقي (أرواح الأنبياء) أي ممثلة أو منضمة إلى اشباحهم ولعل الاقتصار على الأرواح لكمال صفائهم وضيائهم ثم هذه الملاقاة إما ببيت المقدس بعد انقضاء الصلاة أو بعد العروج في مراتبهم من السموات (فأثنوا على ربّهم) أي شكرا لما أنعم عليهم (وذكر) أي أبو هريرة (كلام كلّ واحد منهم) أي مما اثنوا على ربهم (وَهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَدَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ ثُمَّ ذكر كلام النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فيما اثنى على ربه روي إن إبراهيم عليه السلام قال الحمد لله الذي اتخذني خليلا وأعطاني ملكا عظيما وجعلني أمة قانتا يؤتم بي وانقذني من النار وجعلها بردا وسلاما وقال موسى عليه الصلاة والسلام الحمد لله الذي كلمني تكليما واصطفاني وأنزل علي التوراة وجعل اهلاك فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي وجعل من أمتي قوما يهدون بالحق وبه يعدلون وقال داود عليه السلام الحمد لله الذي جعل لي ملكا عظيما وعلمني الزبور وألان لي الحديد وسخر لي الجبال يسبحن معي والطير وآتاني الحكمة وفصل الخطاب وقال سليمان عليه الصلاة والسلام الحمد لله الذي سخر لي الرياح(1/397)
وسخر لي الشياطين يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وعلمني منطق الطير وآتاني ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي وجعل ملكي ملكا طيبا ليس فيه حساب وقال عيسى عليه الصلاة والسلام الحمد لله الذي جعلني كلمته وجعلني مثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله تعالى وجعلني ابرئ الأكمة والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله تعالى ورفعني وطهرني وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم فلم يكن للشيطان علينا سبيل (فقال) أي أبو هريرة رضي الله تعالى عنه (وأنّ محمّدا صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ كُلُّكُمْ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ وَأَنَا أَثْنَى عَلَيَّ رَبِّي الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَنِي رَحْمَةً للعالمين) أي لعامة الخلق (وكافّة للنّاس) أي أجمعين كما في نسخة (بشيرا) أي بالثواب (ونذيرا) أي بالعقاب (وأنزل عليّ الفرقان) أي المبالغ في الفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام (فيه تبيان كلّ شيء) أي من مهمات أمور الدنيا والدين إما بالنص أو بالإحالة على السنة لقوله تعالى وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا أو بالحث على الإجماع لقوله تَعَالَى وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أو بالقياس لقوله تعالى فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (وجعل أمّتي خير أمّة) أي أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ الآية (وجعل أمّتي أمّة وسطا) أي خيارا عدولا أو معتدلين في أعمارهم وأخلاقهم وأرزاقهم مقتصدين في أعمالهم (وجعل أمّتي هم الأوّلون) أي في دخول الجنة (وهم الآخرون) أي في حصول الخلقة وفي إتيان ضمير الفصل تبيان أنهم هم المختصون بهذا الفضل كذا ذكره الدلجي لكن فيه بحث إذ هم في هذا التركيب مبتدأ والأولون خبره والجملة في محل نصب على أنه مفعول ثان لجعل هذا وفي صحيح مسلم نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق نحن أول من يدخل الجنة (وشرح لي صدري) أي ليسع مناجاة الحق ودعوة الخلق (ووضع عنّي وزري) أي ثقل حمل أعباء النبوة وما ترتب عليه من لأواء المشقة (ورفع لي ذكري) أي باقتران اسمه لاسمه واشتراك طاعته لرسمه (وجعلني فاتحا) أي لأبواب التحقيق وأسباب التوفيق وحاكما في خلقه أو بادئا في ظهور أمره ووجود نوره ويناسبه قوله (وخاتما) أي وجعلني خاتم النبيين والأظهر أن يقال معناهما أولا وآخرا لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قَالَ كُنْتُ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْخَلْقِ وَآخِرَهُمْ في البعث (فقال إبراهيم بهذا) أي بمجموع ما ذكر فيما حمده وشكره (فضلكم محمّد) أيها الأنبياء وهو بتخفيف الضاد أي بهذا صار أفضلكم (ثمّ ذكر) أي أبو هريرة رضي الله تعالى عنه (أنّه) أي جبريل (عرج به) وفي نسخة بصيغة المجهول فضمير أنه للشأن (إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَمِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ نحو ما تقدّم) فيه إيماء إلى أن ملاقاته الأنبياء هذه كانت ببيت المقدس والله تعالى أعلم. (وفي حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه) أي مما رواه أبو نعيم في دلائله وابن عرفة في جزئه (وانتهى بي) يعني جبريل عليه السلام(1/398)
قاله الدلجي لكنه بصيغة المجهول في النسخ المصححة (إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ) كذا في مسلم قال النووي في جميع أصوله وعن المصنف هو الأصح وقول الأكثرين ومقتضى تسميتها بالمنتهى أنها في السماء السابعة ولذا صحح في بعض النسخ المعتمدة بلفظ السابعة وقد جمع بينهما النووي بأن أصلها في السادسة ومعظمها في السابعة انتهى وفي الروايات الأخر من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أنها فوق السماء السابعة قال المصنف وخروج النهرين الظاهرين النيل والفرات من أصلها مؤذن بأنه في الأرض انتهى وفيه بحث لا يخفى ومع تسليم ظاهر ما ادعى يمكن الجمع بأن مبدأها في الأرض ومعظمها في السماء السادسة وانتهاءها ومحل اثمارها وغشيان أنوارها في السماء السابعة ويؤيده قوله (إليها) أي إلى السدرة (ينتهي من يعرج به من الأرض) بصيغة المجهول وكذا قوله (فيقبض منها) أي تقبضه الملائكة الموكلون فيها بأخذ ما صعد به من الأعمال والأرواح إليها (وإليها ينتهي ما يهبط) أي ينزل (من فوقها فيقبض منها) أي فيقبضه من أذن له بقبضه وإيصاله إلى من قضى له به وفي الحاشية قال ابن عباس والمفسرون سميت سدرة المنتهى لأن علم الملائكة ينتهي إليها ولم يجاوزها أحد إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سبحانه وتعالى أعلم (قال) أي الله سبحانه وتعالى (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى [النجم: 16] ) أي يغطيها ما يغطي مما يصعد إليها من تحتها ويهبط عليها من فوقها وهذه عبارة لم أر من عبر بها وبهذا يجمع بين روايات مختلفة إذ روي أنه يغشاها جم غفير من الملائكة وفي رواية رفرف من طير خضر وتقدم عن الحسن أنه نور رب العزة (قال) أي ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (فراش من ذهب) الفراش بفتح الفاء الطائر الذي يلقى نفسه في ضوء السراج وقد يطلق على الحباب الذي يعلو النبيذ ونحوه وقد ذهب توجيهه (وفي رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) أي ومنها في روايته (من طريق الرّبيع بن أنس رحمه الله تعالى) والربيع هذا بصري نزل خراسان روى عن جماعة من الصحابة وروى عن النووي وابن المبارك وطائفة (ر فقيل لي هذه) أي المشار إليها (سدرة المنتهى) وفي نسخة صحيحة السدرة بالألف واللام قال الأنطاكي هذا ما وقع في النسخ في هذه الرواية السدرة بالألف واللام وفي باقي الروايات سدرة المنتهى بدونهما وكذا وقع في صحيح مسلم السدرة بالألف واللام في قوله عليه الصلاة والسلام ثم ذهب بي إلى السدرة المنتهى قال النووي في شرحه وفي غيره من الروايات سدرة المنتهى يعني بدون الألف واللام ولم يذكر لذلك علة (ينتهي إليها كلّ أحد) أي روحه أو عمله أو بكليته عند دخول جنته (من أمّتك خلا على سبيلك) أي مضى على طريقتك ومنه قوله تَعَالَى وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ أي مضى نبي منذر وأما ما ضبط في حاشية بضم الخاء وتشديد اللام على أنه مبني للمفعول فتصحيف وتحريف (وَهِيَ السِّدْرَةُ الْمُنْتَهَى يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا أَنْهَارٌ من ماء غير آسن) بهمزة ممدودة أو مقصورة كما قرىء بهما في السبعة غير متغير طعما ولونا وريحا، (وأنهار من لبن لم يتغيّر(1/399)
طعمه) لعل الاقتصار على الطعم لأن مدار التنعم عليه أو للزوم تغييره بتغيير لونه وريحه (وأنهار من خمر لذّة) تأنيث لذ أي لذيذة أو ذات لذة (للشّاربين) وقد يقال وصفها بلذة للمبالغة كأنها نفسها وعينها، (وأنهار من عسل مصفّى) أي مخلص من خلط شمع وغيره من فضلات النحل وغيرها فإنه مخلوق لا من صنع نحل، (وهي) أي سدرة المنتهى (شجرة) أي عظيمة (يسير الرّاكب في ظلّها سبعين عاما) وفي رواية الترمذي مائة سنة (وأنّ ورقة منها) أي من أوراق تلك الشجرة بسبب كبرها وكثرة طولها وعرضها (مظلّة الخلق) بضم الميم وكسر الظاء المعجمة من الإظلال وفي نسخة بفتحهما أي محل ظلالهم والمعنى أن ظلها شامل لهم حافل عليهم والتشبيه السابق لورقها بآذان الفيلة من حيثية الهيئة لا ينافي كبرها باعتبار العظمة (فغشيتها نور) أي نور عظيم من الأنوار الالهية لقوله (وغشيتها الملائكة) أي بأنوارهم الملكية فبقي نور على نور قيل غشيها ملائكة كأمثال الطير يقعن على الشجر وهذا التقرير أولى من قول الدلجي في قوله غشيها نور لعله نور الملائكة حين أقبلت إذ قد خلقت من نور ثم رأيت في حاشية أنه في التفسير فغشاها نور رب العزة وقد سبق أنه قول الحسن فهو أحسن (قال) أي الراوي (فَهُوَ قَوْلُهُ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى [النجم: 16] ) أي فما سبق هو معنى قوله تعالى ما يَغْشى وإيضاح له بعد إبهامه تفخيما وتعظيما وتكثيرا لما يغشاها (فقال تبارك) أي تكاثر خيره وتزايد بره (وتعالى) أي تنزه شأنه وتبين برهانه (له) أي للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم (سل) أي تعط (فقال إنّك اتّخذت إبراهيم خليلا) أي والخلة أعظم خلة إذ هي كرامة جليلة ومقامة جميلة تشبه كرامة الخليل عند خليله مأخوذة من الخلال فإنها ود يتخلل النفس ويخالطها وقد روي أن إبراهيم عليه السلام بعث إلى خليل له بمصر يمتار منه لأزمة أي شدة منه أصابت الناس فقال لو ان إبراهيم أراد لك لنفسه فعلت ولكن يريد لأضيافه وقد علم إبراهيم ما أصاب الناس فاجتاز غلمانه ببطحاء لينة فملأوا منها أوعيتهم فوجده أهل بيته دقيقا حواري فخبزوا منه فشم إبراهيم رائحة الخبز فقال من أين لكم هذا فقيل من خليلك المصري فقال بل من خيلي الله فسماه الله تعالى خليلا (وأعطيته ملكا عظيما) أي ملكا جسيما كما قال الله تعالى فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً أي آل إبراهيم معه ومنهم داود وسليمان (وكلّمت موسى تكليما) أي وعظمته بذلك تعظيما وتكريما (وأعطيت داود ملكا عظيما) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان أشد ملوك الأرض سلطانا كان يحرس محرابه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل ذكره البغوي في تفسيره (وألنت له الحديد) أي كالشمع لا يحتاج إلى إحماء وطرق (وسخّرت له الجبال) أي معه كما في أصل الدلجي وقد قال الله تعالى إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (وأعطيت سليمان ملكا عظيما) أجمله ثم فصله بالعطف التفسيري في قوله (وسخّرت له الجنّ والإنس والشّياطين) أي كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (والرّياح وأعطيته ملكا لا(1/400)
ينبغي) أي لا يوجد (لأحد من بعده) وهذا تعميم بعد تخصيص وإعادة لما فيه زيادة وتلويح إلى ما حكاه الله عنه رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي وإنما قاله ليكون له معجزة خارقة للعادة لا أنه قصد به الحسد في الرياسة والمنافسة أو لئلا يقع أحد فيما وقع فيه من ابتلاء الحالة التي لا تخلو من نوع المحاسبة والمناقشة وصنف من المخاطرة من نقصان كمال المرتبة (وعلّمت عيسى التّوراة) أي تبعية (والإنجيل) أصلية يروى وعلمت موسى التوراة وعيسى الإنجيل (وجعلته يبرىء الأكمه) أي من ولد أعمى أو هو الممسوح العين (والأبرص) أي ممن ببدنه بياض أمهق كالجص روي أنه ربما اجتمع الألوف عليه ومن لم يطق اتيانه ذهب إليه وما يداوي إلا بالدعاء لديه والمعنى أن هذا في حال الكبر (وأعذته وأمّه من الشّيطان الرّجيم) أي في حال الصغر (فلم يكن له) أي الشيطان (عليهما سبيل) أي لقوله سبحانه إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ولاستعاذة جدته حنة امرأة عمران (فقال له ربّه تعالى) أي تسلية لنبينا عن مرتبة الغبطة بالعطية من أعلى الرتبة (قد اتّخذتك خليلا وحبيبا) والمحبة أخص من الخلة فإنها من حبة القلب ولأن الفعيل يحتمل معنى الفاعلية والمفعولية فله الجمع بين مرتبيي المحبية والمحبوبية ويؤيده أن في نسخة صحيحة خليلا وحبيبا وهي في إرادة هذا المعنى صريحة وأما قوله (فَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ مُحَمَّدٌ حَبِيبُ الرَّحْمَنِ) فلا ينافيه ما قدمناه من البيان إذا ذكر بما خص به من مقام الأعيان هذا وقد قال الدلجي هذا مدرج من كلام الراوي إقامة بينة لصحة زيادة رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ولعل وجه تخصيص إضافته إلى الرحمن لكونه رحمة للعالمين من عند ارحم الراحمين (وأرسلتك إلى النّاس كافّة) أي رسالة عامة فإرساله إلى الناس تعميما يفيد تعظيما بالنسبة إلى من أوتي ملكا عظيما ثم زاد عليه بما ضم إليه من قوله (وجعلت أمّتك هم الأوّلون) أي في دخول الجنة شهودا (وهم الآخرون) أي في الدنيا وجودا (وجعلت أمتك) أي أمة الإجابة (لَا تَجُوزُ لَهُمْ خُطْبَةٌ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّكَ عبدي ورسولي) أي ولو خارج الخطبة فلا يرد على أبي حنيفة في تجويز الخطبة على نحو تسبيحة وتحميدة أو المراد بالأمة أمة الإجابة والمراد بنفي الجواز أنه لا ينبغي ترك الشهادة لا سيما حال القدرة فالمعنى على نفي الكمال كحديث كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء أي ناقصة مقطوعة الفائدة كحديث كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم الله أو بالحمد لله فهو أجذم أو أبتر أو أقطع روايات (وجعلتك أوّل النّبيّين خلقا) أي لأنه سبحانه وتعالى خلقه قبل آدم فلما خلق آدم قذفه في صلبه فلم يزل في صلب كريم إلى رحم طاهر من السفاح حتى خرج من بين أبويه فكان أولهم خلقا ووجودا (وآخرهم بعثا) وشهودا مع زيادة أنه أعظمهم خلقا (وأعطيتك) أي خاصة (سبعا من المثاني) وهي الفاتحة على الصحيح من قوله سبحانه وتعالى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ الآية (ولم أعطها نبيّا قبلك) تأكيد لما قبله وتأييد (وأعطيتك خواتيم سورة البقرة) الظاهر أنها من قوله آمَنَ الرَّسُولُ إلى آخر السورة (من(1/401)
كَنْزٍ تَحْتَ عَرْشِي لَمْ أُعْطِهَا نَبِيًّا قَبْلَكَ) أي بإنزال مضمونها على أحد منهم ادخارا لك وقال التوربشتي بل المعنى أنه استجيب له ولمن سأل بحقه مضمون قوله تعالى غُفْرانَكَ رَبَّنا الخ قال الدلجي ويؤيده أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما دعا بهن قيل له قد فعلت وأوثر الإعطاء مناسبة للتعبير بكنز تحت العرش انتهى ولا يخفى أنه لا منافاة بين الجمع فالحمل عليه أولى (وجعلتك فاتحا وخاتما) أي مبدأ للخيرات ومنتهى للمبرات أو أولا وآخرا باعتبار الأرواح والأشباح من بين الأنبياء (وفي الرّواية الأخرى) أي التي رواها مسلم (قال) أي ابن مسعود (فأعطي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاثا) أي مما لم يعطها غيره (أعطي الصّلوات الخمس) أي فريضة في كل يوم وليلة (وأعطي خواتيم سورة البقرة) أي قراءة وإجابة (وغفر لمن لا يشرك بالله شيئا) أي من الشرك (من أمّته المقحمات) أي السيئات المهلكات أهلها ولو من غير توبة وفيه إشارة إلى أنه من خصوصيات هذه الأمة المرحومة ببركة نبي الرحمة لكنه مع هذا تحت المشيئة ومختص بمن تعلقت به الإرادة لقوله تعالى وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فاندفع ما أورده الدلجي من وجه الإشكال بقوله يفيد ظاهره العموم فيلزم أنه لا يعذب أحد مع الإجماع على تعذيب بعض عصاة المؤمنين أي من هذه الأمة وإلا فلا إشكال وأبعد من قال أراد بغفرانها أن لا يخلد أحد منهم في النار لا أن لا يعذب أصلا إذ فيه أنه لا خصوصية حينئذ قطعا ثم المقحمات بضم ميم وكسر حاء مهملة مخففة وقيل منتقلة الذنوب العظام التي من شأنها أن تقحم صاحبها في النار وتدخله الشدة في دار البوار وهو مرفوع على أنه نائب الفاعل لقوله غفر والمعنى أنه أعطي الشفاعة لأهل الكبائر من الأمة (وقال) أي ابن مسعود فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى [النجم: 11] الآيتين) أي في هذه الآية وما بعدها من قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى (رأى جبريل في صورته) أي التي خلق عليها في أصل جبلته (له ستمائة جناح) أي مختص بزيادة الأجنحة على سائر الملائكة كما قال سبحانه وتعالى جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ وأشار إليه سبحانه وتعالى بقوله عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى لأن القوة على قدر زيادة الأجنحة اللازمة لعظم الجثة ومنه حديث أبي داود وغيره أن الملائكة لتضع اجنحتها لطالب العلم إما حقيقة صيانة لأمره وحفظا لشأنه أو تواضعا تعظيما لحقه وأما ما ذكره السهيلي من أنه قد قال أهل العلم في أجنحة الملائكة أنها ليست كما يتوهم من أجنحة الطير ولكنها صفات ملكية لا تفهم إلا بالمعاينة فهو خلاف الظاهر المتبادر من معنى الحقيقة التي لا ينافيها عقل ولا نقل وقد أبعد بقوله واحتجوا بالآية فإنه لم ير طائر له ثلاثة أجنحة أو أربعة حيث غفلوا عن أنه لا يقاس الغائب على الحاضر وجهلوا معنى قوله سبحانه وتعالى يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وفي الآية قول آخر لبعض الأئمة وهو أنه رأى ربه تعالى والمعنى ما كذب بصره ما حكاه له قلبه. (وفي حديث شريك) أي ومنها في روايته (أنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه(1/402)
وسلم (رأى موسى في السّابعة) أي السماء السابعة كما في أصل الدلجي وقد تقدم الجمع بينهما فلا يحتاج إلى حمله على تعدد الإسراء أو تكلفه بأن إحديهما موضع استقراره والأخرى غير موضع استيطانه أو باعتبار طلوعه ورجوعه وهذا أولى مما قاله الأنطاكي ولعله رآه في السادسة ثم ارتقى إلى السابعة وهذا وجه التوفيق بين ما روي في صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام وجد إبراهيم في السادسة وبين ما روي أنه وجده في السماء السابعة انتهى والأظهر أنه من وهم بعض الرواة فإن النسيان يغلب الإنسان (قال) أي شريك أو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (بتفضيل كلام الله) أي له كما في أصل الدلجي والمعنى أن جعله في السابعة مسبب عن ذلك قال يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي ولا تطلب المعراج ولا الرؤية في ذلك المدراج (ثمّ علي به) بصيغة المفعول وفي أصل الدلجي ثم علا بي أي جبريل (فوق ذلك) أي فوق ما ذكر من السماء السابعة والسدرة (بما لا يعلمه إلّا الله) أي بمقدار لا يعلمه سواه فلا يحتاج إلى ما تكلف له الدلجي بقوله إن بدل من فوق ذلك والباء للاستعلاء كما في قوله تعالى وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ أي عليه أو بمعنى إلى كما في وقد أحسن بي أي علا بي على مكان أو إلى مكان لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ (فَقَالَ مُوسَى لَمْ أظنّ أن يرفع عليّ أحد وقد روي) بصيغة المجهول أي ومنها أنه قد روي (عن أنس: أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم صلّى بالأنبياء ببيت المقدس) أي إماما وهو لا ينافي ما روي أنه صلى بهم في السماء أو صلى مع الملائكة في المسجد الأقصى. (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) أي ومنها ما رواه البزار والبيهقي عَنْهُ (قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم بينا أَنَا قَاعِدٌ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ دَخَلَ جِبْرِيلُ عليه السّلام فوكز) بالواو والزاي أي دفع بأطراف أصابعه أو ضرب بكفه مجموعة (بين كتفيّ) بتشديد التحتية وهذا ضرب تلطف ومحبة أو سبب قيام وخفة ويشير إليه قوله (فَقُمْتُ إِلَى شَجَرَةٍ فِيهَا مِثْلُ وَكْرَيِ الطَّائِرِ) أي مكانين مماثلين للوكرين وهو بفتح الواو عش الطائر سواء كان في حجر أو في شجر وقيل إن كان في شجر فهو عش وإن كان في حجر فهو وكر (فقعد) أي جبريل (في واحدة) ولعل تأنيث الوكر باعتبار البقعة أو القطعة من الشجرة (وقعدت في الأخرى) وما ذكرناه أولى وأحرى مما قاله الحلبي أن تأنيثه هنا حمل على الغالب إذ الغالب أن ما يلازم الوكر الانثى للبيض والجلوس عليه وغير ذلك فاكتسب التأنيث بحسب الإضافة انتهى ويرده ما في القاموس من أن الوكر عش الطائر وإن لم يكن فيه وأما قول الدلجي انثهما باعتبار أن كلا منهما بمعنى العش وأهل مكة يذكرونه ويؤنثونه والغالب الآن على ألسنتهم التأنيث فليس في محله لأنه غير مسموع بل في القاموس ما يدل على أنه من وجهين مدفوع حيث قال العش بالضم موضع الطائر يجمعه من دقاق الحطب في افنان الشجر وبفتح (فنمت) بفتح النون والميم من النمو أي زادت وفي نسخة صحيحة فسمت بالسين المهملة والميم المخففة من السمو أي ارتفعت والضمير إلى(1/403)