ـ[السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة]ـ
المؤلف: محمد بن محمد بن سويلم أبو شُهبة (المتوفى: 1403هـ)
الناشر: دار القلم - دمشق
الطبعة: الثامنة - 1427 هـ
عدد الأجزاء: 2
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع](/)
الجزء الأول
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدّمة الكتاب
الحمد لله الذي عمر الأرض ببني الإنسان، ومن عليهم بنعمتي العقل والبيان، ليميزوا بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وأرسل إليهم رسلا مبشرين ومنذرين، وهادين إلى الحق وإلى الصراط المستقيم، لتقوم على الناس الحجة، وتنقطع المعذرة.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي العربي، الذي أرسله الله سبحانه على حين فترة من الرسل، والناس في ضلالة عمياء، وجهالة جهلاء، ففتح الله به أعينا عميا، واذانا صمّا، وقلوبا غلفا، فكانت حياته خيرا وبركة على الدنيا كلها، وبعثته رحمة للعالمين.
أما بعد:
فإن خير ما يتدارسه المسلمون، ولا سيما الناشئون والمتعلمون، ويعنى به الباحثون والكاتبون دراسة السيرة المحمدية؛ إذ هي خير معلّم ومثقّف، ومهذب ومؤدب، واصل مدرسة تخرّج فيها الرعيل الأول من المسلمين والمسلمات، الذين قلّما تجود الدنيا بأمثالهم.
ففيها ما ينشده المسلم، وطالب الكمال من دين، ودنيا، وإيمان واعتقاد، وعلم، وعمل، واداب وأخلاق، وسياسة وكياسة، وإمامة وقيادة، وعدل ورحمة، وبطولة وكفاح، وجهاد واستشهاد، في سبيل العقيدة والشريعة، والمثل الإنسانية الرفيعة، والقيم الخلقية الفاضلة.
ولقد كانت السيرة النبوية مدرسة تخرج فيها أمثل النماذج البشرية، وهم(1/7)
الصحابة- رضوان الله عليهم- فكان منهم الخليفة الراشد، والقائد المحنك، والبطل المغوار، والسياسي الداهية، والعبقري الملهم، والعالم العامل، والفقيه البارع، والعاقل الحازم، والحكيم الذي تتفجر من قلبه ينابيع العلم والحكمة، والتاجر الذي يحول رمال الصحراء ذهبا، والزارع والصانع اللذان يريان في العمل عبادة، والكادح الذي يرى في الاحتطاب «1» عملا شريفا يترفع به عن التكفف والتسول، والغني الشاكر الذي يرى نفسه مستخلفا في هذا المال ينفقه في الخير والمصلحة العامة، والفقير الصابر الذي يحسبه من لا يعلم حاله غنيا من التعفف، وكل ذلك كان من ثمرات الإيمان بالله، وبرسول الله، وبهذا كانوا الأمة الوسط، وكانوا خير أمة أخرجت للناس!!
لقد كان السلف الصالح من هذه الأمة الإسلامية يدركون ما لسيرة خاتم الأنبياء، وسير الصحابة النبلاء، من اثار حسنة في تربية النشء، وتنشئة جيل صالح لحمل رسالة الإسلام، والتضحية في سبيلها بالنفس والمال، فمن ثمّ كانوا يتدارسون السيرة، ويحفظونها، ويلقنونها للغلمان كما يلقنونهم السور من القران، روي عن زين العابدين علي بن الحسين- رضي الله تعالى عنهما- قال: «كنا نعلّم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نعلّم السورة من القران» «2» .
وهذا هو الإمام الزهري عالم الحجاز والشام وهو من قدماء من عنوا بجمع السيرة، بل قيل إن سيرته أول سيرة ألفت في الإسلام «3» ، يقول: «في علم السيرة علم الدنيا والاخرة» «4» ، وإنها لكلمة صدق وحق، وروي عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه- قال: «كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول: يا بني هذه شرف ابائكم، فلا تضيعوا ذكرها» «5» نعم- والله- إنها لشرف الاباء، والمدرسة التي يتربى فيها الأبناء!!
__________
(1) الاحتطاب جمع الحطب الذي توقد به النار، من الصحاري ورؤوس الجبال.
(2) رواه الخطيب وابن عساكر.
(3) السيرة الحلبية، ج 1 ص 2.
(4) رواه الخطيب وابن عساكر.
(5) شرح المواهب، ج 1 ص 473.(1/8)
فما أجدر المسلمين في حاضرهم: رجالا ونساء، وشبابا وشيبا أن يتعلموها ويعلموها غيرهم، ويتخذوا منها نبراسا يسيرون على ضوئه في تربية الأبناء، والبنات، وتنشئة جيل يؤمن بالله ورسوله، ويؤمن بالإسلام، وصلاحيته لكل زمان ومكان، والتضحية بكل شيء في سبيل سيادته وانتشاره، لا يثنيهم عن هذه الغاية الشريفة بلاء وإيذاء، أو إطماع وإغراء.
لسنا نريد من دراسة السيرة العطرة: سيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وسير الرعيل الأول وهم الصحابة الكرام، أن تكون مادة علمية يجوز بها طلاب العلم في المعاهد، والمدارس، والجامعات الامتحان أو الحصول على الإجازات العلمية أو أن تكون حصيلة علمية نتفيهق بها، ونتشدّق في المحافل والنوادي، وقاعات البحث والدرس، وفي المساجد، والمجامع، كي نحظى بالذكر والثناء، وننتزع من السامعين مظاهر الرضا والإعجاب.
ولكنا نريد من هذه الدراسة أن تكون مدرسة نتخرج فيها، كما تخرج السادة الأولون، وأن نكون مثلا صادقة لصاحب الرسالة صلّى الله عليه وسلّم، وصحابته الكرام عليهم الرضوان- في إيمانهم وعقيدتهم، وفي علمهم وعملهم، وأخلاقهم وسلوكهم، وسياستهم وقيادتهم حتى يعتز بنا الإسلام، كما اعتز بهم، ونكون في حاضرنا- كما كانوا- خير أمة أخرجت للناس.
وقد شاء الله سبحانه- وله الخيرة- أن أخرج سفرا في القسم الثاني من السيرة، وهو من بعد الهجرة إلى الوفاة النبوية منذ سنين، وقد نفد، وها أنذا أكمل ما بدأت، وهو الكتابة في القسم الأول من قبل الميلاد إلى الهجرة.
وقد شاء الله أيضا- ولله الحمد والمنة- أن أراجع بعض ما كتبت في القسم الأول في المدينة المنورة، وفي الروضة الشريفة، التي هي من رياض الجنة «1» ، وأنا على قيد أذرع من البقعة المشرفة التي ضمت أفضل مخلوق على
__________
(1) روى مسلم في صحيحه بسنده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما بين بيتي ومنبري، روضة من رياض الجنة» .(1/9)
الله، وأطهر جسد عرفته الدنيا: جسد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأن أبدأ بتبييض هذا الجزء في «طيبة» طابت وطاب المقام فيها.
ومن الله أستمد العون والتوفيق، فاللهم أعن وسدّد، امين.
وكتبه أبو السادات «1» محمّد بن محمّد أبو شهبته
من علماء الأزهر الشريف والمتخصص في القران وعلومه، والسنة وعلومها
__________
(1) لقد منّ الله عليّ بثلاثة ذكور، هم: محمد رضا، وأبو بكر، وعمر، فلم يكن أحب إلى نفسي من هذه الكنية.(1/10)
مقدّمات تمهيديّة لدراسة السّيرة
1- منهجي في هذه الدراسة.
2- تاريخ التأليف في السيرة وأشهر كتبها.
3- التأليف في السيرة في العصر الحاضر.(1/11)
- 1- منهجي في هذه الدراسة
1-: [ذكر الايات القرانية المتعلقة بحوادث السيرة]
لما كانت هذه الدراسة في ضوء القران والسنّة، فسأعنى بذكر الايات القرانية المتعلقة بحوادث السيرة ووقائعها، وشرح ما غمض منها، وإزالة ما عسى أن يكون بين ظواهر هذه الايات من توهم الاختلاف أو التعارض، وتنزيل هذه الايات على حسب الوقائع والحوادث.
بل رأيت كما رأى ابن إسحاق، ومن بعده ابن هشام، شرح الايات في الموضوع الواحد شرحا موجزا ولا سيما في الغزوات: كالأحزاب، والحديبية، وبني النضير، وكما صنعت في ايات الإفك. وإنّ من نافلة القول أن نقول: إن المرجع الأول في دراسة السيرة النبوية هو القران الكريم، لأنه الكتاب المتواتر الذي يفيد القطع واليقين، ولا يتطرق إليه الشك والارتياب، فهو أوثق المصادر، وأولاها بالقبول.
2-: [ذكر الأحاديث المتصلة بموضوعات البحث]
وسأعنى أيضا بذكر الأحاديث المتصلة بالموضوعات التي سأعرض لها. ولن أذكر منها إلا ما هو صالح للاحتجاج من حديث صحيح، أو حسن، أو مقبول، ولن أذكر شيئا من الأحاديث الموضوعة أو الإسرائيليات المكذوبة، أو الروايات الشديدة الضعف، إذ في الأحاديث الثابتة ما يغني عنها، ومما ينبغي أن يعلم أن كتب السير والموالد فيها الصحيح والضعيف، بل والمكذوب المختلق، وذلك مثل ما زعمه بعض الكاتبين في الإسراء والمعراج من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وطىء العرش بنعليه، وأن الله- جل جلاله- قال: لقد شرف(1/13)
العرش بنعلك يا محمد، وهو كلام باطل، وقد سئل الإمام رضيّ الدين القزويني عن ذلك فقال: «أما حديث وطء النبي صلّى الله عليه وسلّم العرش بنعله، فليس بصحيح، ولا ثابت، بل وصوله إلى ذروة العرش لم يثبت في خبر صحيح، ولا حسن، ولا ثابت أصلا، وإنما ثبت في الأخبار انتهاؤه إلى سدرة المنتهى فحسب» .
ومن ذلك الروايات التي تزعم تمسّح النبي صلوات الله وسلامه عليه بالأصنام، فكلها باطلة عقلا ونقلا، والروايات التي رويت عن ابن عباس وغيره من الصحابة التي ذكروا فيها عمر الدنيا، وأنها سبعة الاف سنة فهي إسرائيليات مكذوبة، ولا تمت إلى الإسلام بصلة، وعمر الدنيا أضعاف أضعاف ذلك، فلا نلتفت إلى شيء من ذلك مما قد نجده في بعض كتب التفسير، والحديث، والتاريخ والسير ونحوها.
3-: [الاعتماد على كتب التاريخ والسير]
إن اعتمادي بعد القران والأحاديث الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد على كتب التاريخ والسير قديمها وحديثها، بعد البحث والتمحيص والتحقيق، والموازنة بين الروايات، والأخذ بما يصلح للاحتجاج منها، وترك ما عداه. ولن اخذ برواية راو، أو قول قائل يصادم عقلا، أو يخالف نقلا متواترا أو صحيحا، أو يمس عصمة النبي صلّى الله عليه وسلّم، إلا إذا كان للرواية مخرج محتمل معقول، أو تأويل قريب مقبول، من غير تكلّف ولا تمحّل. وفي مقدمة كتب السّير كتاب شيخ كتّاب السير، وإمام أهل المغازي: محمد بن إسحاق، إلا إذا عارض روايته ما هو أصح منها كرواية صاحبي الصحيحين، فإني أرجّح ما في الصحيح، وابن إسحاق على جلالته في السيرة له بعض أوهام عرضت لها أثناء الكتاب، وبينت وجه الحق فيها.
4-: [تحامل المبشرين والمستشرقين على النبي ص]
إن كثيرين من المبشرين، والمستشرقين، الذين يتأكّلون بالباطل قد تحاملوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم استجابة لنداء الصليبية التي ورثوها من ابائهم،(1/14)
ورضعوها في لبان أمهاتهم، ورموه بأشنع الصفات التي يتنزه القلم عن ذكرها، وأسفّوا في ذلك غاية الإسفاف «1» ، ولكن المنصفين منهم- وقليل ما هم- ردّوا عليهم، وأنصفوا النبي صلّى الله عليه وسلّم بعض الإنصاف، وإن لم تخل كتبهم من الغمز واللمز.
وقد استندوا في طعونهم وسفاهاتهم إما على روايات باطلة اعتبروها صحيحة، وإما على روايات صحيحة حرّفوها عن مواضعها، وإما على أوهام تخيّلوها.
ومن الأباطيل التي تمسك بها بعض الكاتبين في السيرة من الغربيين، وأبواقهم المقلّدون لهم قصة الغرانيق، وزعمهم قيام الإسلام على السيف والإكراه، وطعنهم في النبي بسبب تعدد زوجاته صلّى الله عليه وسلّم، وقصة زواجه بالسيدة زينب بنت جحش على ما يذكرها من لا علم عندهم، ولا تحقيق ولا تمييز بين الغث والسمين.
ومن مزاعمهم إنكارهم الوحي بالمعنى الشرعي، وتفسيرهم له بالوحي النفسي، بل أسفّ بعضهم فجعل الحالة التي كانت تعتري النبي صلوات الله وسلامه عليه عند الوحي نوعا من الصّرع، إلى غير ذلك مما أشبعت القول فيه في هذه السيرة المحققة.
ومن عجيب أمر المبشرين والمستشرقين أنهم في سبيل إرضاء أهوائهم، ونزواتهم الجامحة، وأحقادهم الموروثة يصحّحون الروايات المكذوبة، والإسرائيليات المدسوسة، ما دامت تسعفهم وتساعدهم على باطلهم، على حين نجدهم يحكمون على روايات صحيحة، بل في أعلى درجات الصحة بالوضع والاختلاق؛ لأنها لا تؤيدهم فيما يجترحون من طعون، وتجن أثيم على مقام النبي وال بيته.
ولست أدّعي أني في ردّي أباطيل المستشرقين والمبشرين ابن بجدتها،
__________
(1) حياة محمد، لإميل در منغم، ترجمة عادل زعيتر ص 11؛ وحياة محمد، لهيكل ص 10، 11.(1/15)
وأبو عذرتها «1» ، فقد سبق إلى تزييف ذلك في القديم والحديث علماء أجلاء جازاهم الله خيرا- ولكني- ولله الحمد والمنّة- قد أمكنني أن أضيف كثيرا إلى ما سبقت إليه، حتى غدا كأنه جديد.
كما أعانني تخصصي في الأصلين الشريفين: القران وعلومه، والسنّة وعلومها، وصحبتي لهما ما يقرب من نصف قرن؛ أن أنقد المرويات وأمحصها وأن أميّز بين صحيحها وضعيفها، وغثّها وسمينها، وأن أضيف إلى ما قاله السابقون بعض ما فاتهم، وذلك كما صنعت في إبطال قصة الغرانيق، وفرية قيام الإسلام على السيف، وبيان الحكم لتعدد زوجاته صلّى الله عليه وسلّم، فقد استقصيت فيها القول، وأمطت اللثام عن وجه الحق.
5-: [الجمع بين الهيكل التاريخي للسيرة النبوية التعليق على المواقف]
لن أقصر دراستي في السيرة النبوية على السرد التاريخي فحسب، كما صنع معظم المتقدمين، وبعض المتأخرين، ولا على التعليق على مواقف السيرة، أو جلها، مع إغفال الهيكل الأصلي، أو الجانب التاريخي كما صنع بعض المحدثين، وإنما جمعت بين الحسنيين: الهيكل التاريخي مع تحرّي الحقيقة، والتعليق على المواقف، ولا سيما الحاسمة في تاريخ الدعوة، وانتزاع العبر النافعة، والدروس المفيدة منها.
وما أذكر أنى تركت حدثا مهما، أو موقعة فاصلة، أو سرية مهمة، أو عملا بارعا، أو سياسة راشدة، أو قيادة حكيمة، أو أي تصرف كريم للنبي صلّى الله عليه وسلّم، أو لأحد أصحابه، إلا وقفت عنده، أو عندها وقفة أو وقفات، ليتبين للقارىء فرق ما بين الأخلاق المحمدية، وسياساته الحكيمة الرشيدة في السلم، والحرب، ومع الأصدقاء، ومع الأعداء، وما بين أخلاق غيره، وسياسته ومعاملته لأصحابه، ولأعدائه، مهما بلغ ذلك الغير من العقل، والعلم، والكياسة، والسياسة، والقيادة، والعدل، والرحمة؛ لكي أخلص من ذلك إلى الفرق البعيد ما بين النبوة، وغير النبوة، والبشر الرسول، وغير الرسول.
__________
(1) يقال فلان ابن بجدتها، للعالم بالشيء، وأبو عذرتها إذا أتى بما لم يسبق إليه.(1/16)
وفي الحق أن المحدثين في باب التحليل، والتعليق، والموازنة بين المواقف قد أربوا في ذلك على المتقدمين، وأكسبوا السيرة جدّة ورواء، وقد تفاوتوا في ذلك على حسب تفاوتهم في المواهب، وسعة العلم والأفق، والاطلاع على سير الاخرين.
6- النبوة شيء، والعبقرية شيء اخر.
وقد حرصت حينما فكرت في عنوان لهذا الكتاب ألاأتكلّف، فسميته «بالسيرة» «1» ، وهو اللفظ الذي اختاره قدماء المؤلفين في السير، وقدماء الفقهاء حتى صار عرفا إذا ذكر اسم السيرة ألاينصرف إلا إلى سيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو سير أصحابه الكرام رضوان الله عليهم. وقد أضفت «في ضوء القران والسنّة» لأن طبيعة البحث والمنحى تقتضي ذلك، ولم أرتض أن أجعل العنوان «العبقرية» «2» وكذلك حرصت حينما كتبت في هذه السيرة، وحلّلت المواقف، وعلّقت عليها على ألاأصف النبي بالعبقرية، كما صنع مؤلفو «العبقريات» أو الزعامة السياسية، أو القيادة الحربية كما صنع الذين ألّفوا في الزعامات والقيادات، أو أعدّ النبي بطلا فحسب كما صنع «كارليل» في كتابه «الأبطال» أو «رسول الحرية» ، كما فعل بعض الكاتبين، إلى غير ذلك مما افتنّ فيه المؤلفون؛ لأني أؤمن عن يقين وعلم أنه صلّى الله عليه وسلّم فوق هؤلاء جميعا، إنه النبي والرسول، وكفى!!
__________
(1) قال في المصباح المنير: «والسيرة: الطريقة، وسار في الناس سيرة حسنة أو قبيحة. والجمع سير مثل سدرة وسدر، وغلب اسم السير في ألسنة الفقهاء، على المغازي، والسيرة أيضا، الهيئة والحالة» .
(2) العبقرية نسبة إلى عبقر، أرض تزعم العرب أنها تسكنها الجن، ضرب بها العرب المثل لكل شيء عجيب عظيم، وقيل: قرية تصنع بها الثياب والبسط الفاخرة، فنسبوا إليها كل أمر عجيب، وكل شيء فاخر. وفي الكتاب الكريم: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ، وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ جيد البسط وفاخرها، ويطلق العبقري أيضا على سيد القوم، وقيمهم، وأعقلهم.(1/17)
والعبقري: هو الأصيل الرأي، البعيد النظر، الذي لا يفوقه أحد في حل المشكلات، من غير تعمّل، ولا تكلّف، وقد وصف به النبي صلّى الله عليه وسلّم سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه- ففي الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب، فجاء أبو بكر، فنزع ذنوبا أو ذنوبين نزعا ضعيفا «1» ، والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت- أي الدلو- غربا «2» ، فلم أر عبقريا يفري فريه، حتى روى الناس، وضربوا بعطن» «3» . ولم أعلم أحدا غير عمر وصفه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالعبقري، وهو ما عبّر عنه النبي صلوات الله وسلامه عليه في حديث اخر «بالمحدّث» .
ففي الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما بسندهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدّثون، فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر بن الخطاب» والمحدّثون: هم الملهمون في إصابة الحق والصواب، وفي حل المعضلات وابتداع ما لم يسبقوا إليه. قال الإمام الخطابي: «يلقى الشيء في روعه، فكأنه قد حدّث به، يظن فيصيب، ويخطر الشيء بباله فيكون» . وقال أبو أحمد العسكري وغيره: «هو من ألقي في روعه شيء من قبل الملأ الأعلى، فيكون كالذي حدثه غيره» «4» . ووقع في بعض الروايات تفسير المحدّث بأنه «الملهم بالصواب الذي يلقى على فيه» ، ووقع في
__________
(1) القليب: البئر، الذنوب: الدلو الملأى بالماء، وهو كناية عن قصر مدة خلافته- رضي الله عنه- وقلة الفتوحات لاشتغاله بحروب الردة وتثبيت دعائم الإسلام وبحسبه فضلا هذا.
(2) الغرب: الدلو الكبير.
(3) يفري فريه: يعمل عمله، ويقدر الأمور مثله، والعطن: مبارك الإبل حول الابار والمياه، والكلام كناية عن طول خلافته، وكثرة الفتوحات في عهده، وانتفاع الناس بثمرات الفتوح، وتدوينه الدواوين، وتمصيره الأمصار.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج 7 ص 39، 40.(1/18)
صحيح مسلم من رواية ابن وهب «ملهمون» ، وهي «الإصابة بغير نبوة» ، ووقع في رواية للبخاري زيادة «من غير أن يكونوا أنبياء» «1» .
فمن ثمّ نرى أن المعاني كلها تلتقي عند معنى الإلهام، وأن في بعض الروايات التنصيص على أنه إلهام بغير نبوة، فدل على فرق ما بين إلهام الأنبياء وإلهام المحدّثين غير الأنبياء، وهذا الإلهام بغير نبوة هو ما يعرف بالعبقرية، فهي لا ترجع إلى الذكاء، والفطنة، والتجربة، وإنما مرجعها إلى الإلهام وإلقاء الصواب في النفس من غير تعمّل وتكلّف، فالعبقرية إذا تليق بملهم محدّث من أصحابه كعمر، والزعامة إنما تليق بسياسي محنك كمعاوية مثلا، والقيادة الحربية إنما تليق بأمثال سيف الله خالد، وسعد، وأبي عبيدة، والبطولة إنما تليق بالكثيرين من أصحابه كعلي، وأبي دجانة، وأبي طلحة، والمقداد بن عمرو، وطلحة بن عبيد الله- رضي الله عنهم أجمعين- على ما اتصفوا به من قوة الإيمان، وحسن السيرة، وسمو الأخلاق.
إنه صلّى الله عليه وسلّم فوق أي عبقري، وأجلّ من أي زعيم، وأعظم من أي قائد، وأشجع من أي بطل، وأسمى من أي مصلح، لقد جمع له من صفات هؤلاء خيرها، وأفضلها، وأعدلها، وأرحمها. ولكنه فوق هؤلاء جميعا، إنه نبي يوحى إليه، ورسول يبلّغ عن ربه، وهذا ما لا يدرك ولا ينال.
فجعل العبقرية، أو الزعامة، أو القيادة، أو البطولة، أو الإصلاح، أو أو ... عنوانا له صلّى الله عليه وسلّم فيه تحيّف عليه، وهضم لحقه صلّى الله عليه وعلى اله وسلم.
والذين كتبوا في حياة النبي وسيرته من غير المسلمين لا يؤمنون به على أنه نبي ورسول، فمن ثمّ كتبوا عنه على أنه عظيم، أو بطل، أو مصلح، أو زعيم أو نحو ذلك، وإن كان بعضهم كتب عنه تحت عنوان «حياة محمد» ولا يجوز لنا معاشر المسلمين المؤمنين، ولا سيما أهل العلم، والدين، أن نجاريهم فيما عنونوا
__________
(1) صحيح البخاري- كتاب فضائل الصحابة- باب مناقب عمر، وصحيح مسلم- كتاب فضائل الصحابة- باب فضائل عمر.(1/19)
به وفيما وصفوه مما يخلّ بالنبوة، أو يخدشها؛ لأننا نعتقد أنه نبي ورسول، وكل الصيد في جوف الفرا.
ومما يزيد الضوء والتوضيح لما أريد أن الفاروق الملهم العبقري، وصاحب الموافقات «1» ، والذي قال فيه النبي «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» «2» كان كثيرا ما يبدي رأيا، ويبدي رسول الله رأيا، فإذا به يعود إلى رأي رسول الله مذعنا مقتنعا، فمن ذلك أنه لما عرض على النبي أن يقتل رأس النفاق ابن أبيّ بعد ما كاد يثير فتنة بين المهاجرين والأنصار قال له النبي: «وكيف يتحدّث الناس- يا عمر- أن محمدا يقتل أصحابه» ؟!! ثم كان من المؤمن الصادق عبد الله بن عبد الله بن أبيّ أن جاء إلى النبي يعرض عليه قتل أبيه فقال له: «لا بل نترفّق به، ونحسن صحبته ما دام بيننا» !! وصار من أمر رأس النفاق أنه كلما أبدى لونا من ألوان النفاق لامه قومه وعنفوه، فأراد أن يبين الرسول لسيدنا عمر بعد نظره، وأصالة رأيه لمّا أبى على عمر قتله فقال: «كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي لأرعدت له انف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته» !! فقال عمر: قد- والله- علمت لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعظم بركة من أمري!!.
وفي قصة حاطب بن أبي بلتعة قال الفاروق عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، وما كان- علم الله- منافقا، فقال له النبي:
«وما يدريك يا عمر لعل الله اطّلع على أهل بدر، فقال لهم: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم ذنوبكم» !!
فإذا عمر يبكي بعد أن تبين له الحق، فيقول: «الله ورسوله أعلم» !! وسيدنا عمر هو القمة في العبقرية، ولكن أين العبقرية من النبوة؟! ومن العجيب حقا أن هذا المعنى الدقيق سبق إلى العلم به العباس عم
__________
(1) كان الفاروق عمر يرى الرأي ويتمناه فينزل الوحي بموافقته.
(2) رواه أحمد وغيره.(1/20)
النبي صلّى الله عليه وسلّم، على حين غفل عن إدراكه كبار الكتاب، وحذّاق المؤلفين المعاصرين الذين ضربوا في كل علم وفن بسهم، وليس أدل على هذا من هذه القصة:
ذلك أنه لما أسلم أبو سفيان بن حرب ليلة الفتح- وكان العباس رضي الله عنه قد سبقه إلى الإسلام- قال النبي للعباس: «خذ أبا سفيان، وقف به عند خطم «1» الجبل» وذلك ليرى جيش الفتح، فمرت به كتائب الله، وفيها «الكتيبة الخضراء» كتيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يملك أبو سفيان نفسه أن قال: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما!! فقال له العباس رضي الله عنه: إنها النبوة يا أبا سفيان!! فقال: نعم- والله- إنها النبوة!!
لقد وقفت عند هذه الكلمة طويلا، وهي التي أوحت إلي بما كتبت، وأكّدت في نفسي ما كنت علمت «2» .
7- المعجزات الحسية:
الذي أؤمن به أن القران هو المعجزة العظمى للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والاية العقلية الباقية على وجه الدهر، وأنه اية الايات، ومعجزة المعجزات، ولكني أؤمن أيضا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أوتي من المعجزات الحسية مثل ما أوتي الأنبياء السابقون، بل وأعظم، وهذه المعجزات الحسية بعضها ثابت بالقران الكريم نصا: كالإسراء، وانشقاق القمر، أو بالإشارة إليه كالمعراج، وبعضها ثابت بالأحاديث المتواترة، والكثير منها ثابت بالأحاديث الصحيحة المروية في الصحيحين وغيرهما من كتب
__________
(1) هو ما برز منه في الطريق.
(2) أذكر أنه طلب إلي من منذ بضعة عشر عاما أن أكتب مقالا لمجلة الأزهر بمناسبة الميلاد النبوي، فكتبت مقالا تحت عنوان «عبقرية النبي السياسية» وقد عرض المقال على أستاذنا الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله رحمة واسعة، وكان شيخ الأزهر انذاك، فقرأ المقال وارتضاه، إلا أنه وقف عند العنوان، وصار يبتسم ابتسامته الوقورة المعبّرة، ففهمت ما أراد، واستشرته، فأشار علي أن أغيّر «عبقرية» «بموهبة» فأذعنت بعد أن اقتنعت، وكتبت تحت هذا العنوان بضع مقالات موسمية في مجلة «الأزهر» ، ومن يومها وأنا أبالغ في التحرّي حينما أكتب عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم.(1/21)
السنن والمسانيد. ولا يطعن في كونها معجزات أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يتحدّ الناس بها كما تحدّاهم بالقران الكريم؛ لأن فريقا من العلماء لا يشترط في المعجزة أن تكون مقترنة بالتحدي، ثم إن بعضها وإن لم يقع التحدّي به صراحة، لكنه في قوة المتحدّى به، ففي الصحيحين وغيرهما عن عدة من الصحابة أن المشركين من أهل مكة «سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يريهم اية، فأراهم القمر شقّين حتى رأوا حراء بينهما» .
ولا أدري ما الداعي إلى إنكار المعجزات الحسية؟! والشيء إذا تواردت عليه الأدلة والبراهين ازداد قوة وثبوتا، وفي كتب الأحاديث من الصحاح والسنن والمسانيد الكثير من المعجزات الحسية، والإمامان البخاري ومسلم وهما من هما، دقة وتحريا عن الرجال، وتشدّدا في الحكم بالتصحيح- قد خرّجا في صحيحيهما قطعة كبيرة منها، وعقد الإمام البخاري لذلك بابا كبيرا «1» ، ومن أراد زيادة في بحث «المعجزات الحسية» فليرجع إلى الفصل الذي كتبته في الرسالة التي ألفتها في «الإسراء والمعراج» «2» .
والأقدمون من المؤلفين في السير والتاريخ ذكروا الكثير من المعجزات الحسية، وإن اختلفوا في ذكرها قلّة وكثرة، وابن إسحاق- شيخ كتاب السّير وعمدتهم- ذكر منها جملة مع قرب عصره من عصر النبوة، وقد لقي الكثيرين ممن أخذوا العلم والحديث عن الصحابة العدول، وروى عنهم.
وقد ابتدع هذه البدعة السيئة- وهي الاكتفاء بالقران- المستشرقون، ثم سرت عدوى هذه البدعة إلى كتابنا المعاصرين كالدكتور محمد حسين هيكل رحمه الله- في كتابه «حياة محمد» ، وكذلك صنع المستشرق الفرنسي الذي أسلم (اتيين دينيه) وزميله السيد سليمان إبراهيم الجزائري، في كتابيهما «حياة محمد» ، وقلما تجد أحدا من المؤلفين المتأخرين في «السيرة النبوية» يذكر شيئا من المعجزات الحسية.
__________
(1) صحيح البخاري- باب علامات النبوة.
(2) ص 20- 27.(1/22)
ومن هؤلاء من يتلطف فيقول: إنه ما دام القران اية دالة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنحن في غنية عن غيره من الايات، ولا سيما والكثير منها لم يثبت إلا بالطرق الاحادية التي لا تفيد اليقين، ومنهم من يجاهر فينكر المعجزات الحسية جملة!!.
وأحب أن أقول لهؤلاء وأولئك: إن موقفهم من المعجزات الحسية وإنكارها، حدا ببعض المبشرين والمستشرقين إلى الطعن في النبي، وتفضيل غيره من الأنبياء عليه، بحجة أن النبي محمدا عليه الصلاة والسلام ليس له من المعجزات الحسية المتكاثرة ما لموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وهكذا نراهم قد أعطوا لأعداء النبي- وإن لم يقصدوا- متكأ لهمزه ولمزه.
وأما أنا- اتباعا للمنهج العلمي الصحيح- فلن أجاريهم في هذا، فالشيء ما دام من الممكنات العقلية، ثم أخبر بوقوعه الرواة الموثوق بهم عدالة، وضبطا، وأمانة، فلا يجوز أن ننكره استنادا إلى استبعاده في العادة، وهل المعجزات إلا أمور خارقة للعادة.
وقد يكون من العوامل التي جعلتني أقف هذا الموقف بعد البحث والروية أني من المتخصصين في الحديث الشريف وعلومه، الذين سبحوا في بحاره، وغاصوا في أعماقه، حتى وصلوا إلى شيء من لالئه ودرره، واقتنعوا بعد الدراسة الطويلة المضنية بدقة ووفاء القواعد التي وضعها أئمة الحديث، وصيارفته وأطباؤه، لمعرفة الصحيح، من الحسن، من الضعيف، والمقبول من المردود «1» ، وليس من البحث العلمي السليم إنكار المرويات جملة، وإنما الطريقة العلمية الصحيحة نقدها من ناحية السند والمتن، فإن لم نجد فيها مطعنا قبلناها، وإلا تركناها، فإذا لم نتبع هذه الطريقة صار الإنكار هوى وشهوة.
وإليك ما ذكره الإمام الحافظ الكبير ابن حجر في هذا، قال: «وأما ما عدا القران من نبع الماء من بين أصابعه وتكثير الطعام، وانشقاق القمر، ونطق
__________
(1) أعلام المحدثين للمؤلف ص 35- 42.(1/23)
الجماد، فمنه ما وقع التحدّي به، ومنه ما وقع دالا على صدقه من غير سبق تحدّ، ومجموع ذلك يفيد القطع بأنه ظهر على يده صلّى الله عليه وسلّم من خوارق العادات شيء كثير، كما يقطع بوجود جود حاتم، وشجاعة علي، وإن كانت أفراد ذلك ظنية وردت مورد الاحاد، مع أن كثيرا من المعجزات النبوية قد اشتهر، وانتشر، ورواه العدد الكبير، والجم الغفير، وأفاد الكثير منه القطع عند أهل العلم بالاثار، والعناية بالسير والأخبار، وإن لم يصل عند غيرهم إلى هذه الرتبة لعدم عنايتهم بذلك، بل لو ادّعى مدّع أن غالب هذه الوقائع مفيدة للقطع بطريق نظري لما كان مستبعدا، وهو أنه لا مرية أن رواة الأخبار في كل طبقة قد حدّثوا بهذه الأخبار في الجملة، ولا يحفظ عن أحد من الصحابة، ولا من بعدهم مخالفة الراوي فيما حكاه من ذلك، ولا الإنكار عليه فيما هنالك، فيكون الساكت منهم كالناطق، لأن مجموعهم محفوظ من الإغضاء على الباطل» «1» .
ومعذرة إذا كنت أطلت في هذا، فالأمر يتعلق بمنهجين، وطريقتين، فكان لا بد من بيان الطريقة المثلى، والمنهج الحق المبين.
8-: [الاعتناء بذكر التشريعات الإسلامية وتاريخها]
قد عنيت- ما استطعت- بذكر التشريعات الإسلامية وتاريخها، ولا سيما في القسم الثاني المدني الذي حفل بها، لأنها وثيقة الصلة بالسيرة النبوية، كما أخذت نفسي بذكر نبذ موجزة- ولكنها مفيدة- عن هذه التشريعات، حتى أعطي للقارئ صورة صادقة للإسلام الصحيح، وذلك كما صنعت في تشريع الصلاة، والأذان، وتحويل القبلة إلى الكعبة، والصوم، والزكاة، والعيدين، والحجاب، ونكاح المتعة ونحوها، وكذلك الأحداث المتعلقة بالسيرة كبناء مسجد قباء، والمسجد النبوي، وفضلهما، ومنزلة المساجد في الإسلام، ومسجد الضرار، وزواج النبي من أزواجه، مع بيان الحكمة في هذا الزواج، وذكر تعريف بكل زوجة، ومواليد المشاهير من الصحابة،
__________
(1) فتح الباري، ج 7 ص 392- 393 ط الحلبي.(1/24)
ووفياتهم، والتعريف بفضلهم ومنزلتهم بإيجاز، حتى لا يصل الكتاب إلى بضعة أسفار، إلى غير ذلك مما لا يستغني عن معرفته مسلم، فضلا عن طالب علم.
ولذلك التزمت التسلسل الزمني في السيرة بذكر السنوات وما حدث فيها كما صنع كثير من المؤلفين، ليسهل على القارىء لهذه السيرة معرفة تاريخ هذه التشريعات حتى بمجرد النظر إلى الفهرس، وقد اثرت هذه الطريقة على الطريقة الموضوعية في البحث، وإن كنت في بعض الأحيان التزمت الطريقة الموضوعية في البحث كما صنعت في هذا الجزء حينما عرضت لسياسة «الاضطهاد والإيذاء» وسياسة «الإطماع والإغراء» وعدم جدوى السياستين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين المخلصين.
وفي الجزء الثاني حينما عرضت لبيان «موقف الإسلام من اليهود، وموقف اليهود من الإسلام» فقد جمعت الموضوع في مكان واحد، وكذلك فاتني، أو إن شئت الدقة فقل: أعجلت عن أن أكتب فصلا اخر عن «موقف الإسلام من المنافقين وموقف المنافقين من الإسلام» وسأتدارك ذلك- إن شاء الله- في الطبعة الثانية للجزء الثاني، كما فاتني أن أذكر في الفصول الموجزة التي ختمت بها الجزء الثاني عن المثل الكامل صلّى الله عليه وسلّم، وجوانب حياته المشرقة بعض الفصول مثل «النبي المشرّع» و «النبي القاضي» و «النبي المفتي» ونحوها وسأتدارك ذلك بمشيئة الله تبارك وتعالى.
وقد التزمت هذا المنهج بذكر التشريعات، وأخلاق الرسول في نفسه، ومع ربه تبارك وتعالى، ومع أهله وزوجه وولده، ومع أصحابه، ومع أعدائه، وفي سره، وعلنه، ويسره، وعسره، ومنشطه، ومكرهه، حتى يخرج القارىء لهذه السيرة العطرة بصورة مشرقة معبرة عن الرسالة، وعن الرسول.
9-: [ذكر النقول بنصها]
قد حرصت ما استطعت على ذكر النقول بنصها ولا سيما فيما يتعلق بما ذكره ابن إسحاق في سيرته، إلا أن يكون هناك نص أصح منه، أو أوثق أو أوفى مروي في غير السيرة فإني أؤثره عليه، وذلك لما يمتاز به التأليف في(1/25)
العصور الأولى من قوة الأسلوب، وفحولة المعاني، وجزالة الألفاظ، وإشراق الديباجة، والتزام أساليب العرب، ومذاهبهم في البيان.
وإنك لتقرأ في كتب الحديث، أو في سيرة ابن هشام، أو إن شئت الإنصاف سيرة ابن إسحاق، فتحس بأنك تعيش في جو عربي أصيل، وأنك بين قوم عرب أصلاء، فلا ميوعة في الألفاظ، ولا ضحولة في المعاني، ولا مسخ لمناهج العرب في التعبير، ولهذا اثرت المحافظة على النصوص حتى تكون السيرة إلى فائدتها العلمية أداة من أدوات تقويم اللسان، واستقامة البيان، وتعلم الأساليب العربية الفحلة، ولن يستقيم للأمة العربية اليوم أساليبها البيانية، وتتقوم ألسنتها على القواعد العربية، حتى ترجع إلى منابع العربية الفصحى السليمة وهي القران، والحديث، وما أثر عن العرب الخلّص في الجاهلية والإسلام.(1/26)
- 2- تاريخ التأليف في السيرة وأشهر كتبها
لقد عني المسلمون عناية فائقة بأحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسننه، وأيامه، ومغازيه، وقبل أن تدوّن الأحاديث تدوينا عاما في اخر القرن الأول الهجري، كانت مقيدة في الحوافظ، مدوّنة في الصدور عند جمهرة الصحابة، والتابعين، وكان القارئون الكاتبون منهم يدونون منها ما استطاعوا من لدن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى عهد التدوين، ومن ذلك ما يتعلق بسيرة النبي ومغازيه.
السيرة جزء من الحديث
وقد شغلت السيرة النبوية حيزا غير قليل من الأحاديث، والذين ألفوا في الأحاديث لم تخل كتبهم غالبا عن ذكر ما يتعلق بحياة النبي ومغازيه، وخصائصه، ومناقبه، ومناقب صحابته، وقد استمر هذا المنهج حتى بعد انفصال السيرة عن الحديث في التأليف، وجعلها علما مستقلا، وأقدم كتاب وصل إلينا في الأحاديث، وهو «موطأ» الإمام مالك- رحمه الله- (المتوفى 179) ، لم يخل من ذكر جملة من الأحاديث فيما يتعلق بسيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأوصافه، وأسمائه، وذكر ما يتعلق بالجهاد.
وصحيح الإمام أبي عبد الله البخاري (المتوفى 256) ذكر فيه قطعة كبيرة مما يتعلق بحياة النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة وبعدها، كما ذكر كتاب «المغازي» وما يتعلق بخصائصه وفضائله عليه الصلاة والسلام، وفضائل أصحابه ومناقبهم، وذلك كله لا يقل عن عشر الكتاب «1» ، وكذلك صحيح الإمام
__________
(1) صحيح البخاري: كتاب الجهاد، وكتاب المغازي، وكتاب الفضائل، وأبواب المناقب.(1/27)
أبي الحسين مسلم بن الحجاج (المتوفى 261) اشتمل على جزء كبير من سيرة النبي، وفضائله، وفضائل أصحابه، والجهاد والسير «1» .
وكذلك صنع الإمام أحمد (المتوفى 241) في مسنده الكبير، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، لم تخل كتبهم من كتاب الجهاد، وذكر طرف مما يتعلق بالسير، وهذا يدل على الصلة الوثيقة بين الأحاديث والسير، فهي جزء منها.
التأليف في السير على سبيل الاستقلال
وكذلك ألّفت في السيرة النبوية كتب خاصة بها، وقد بدأ التدوين فيها على سبيل الاستقلال في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، وأول من عرف بالمغازي والسير جماعة منهم:
1- أبان بن عثمان بن عفّان: ابن الخليفة الثالث- رضي الله عنه- وكان أبان واليا على المدينة لعبد الملك بن مروان سبع سنين، وعرف بالحديث والفقه، والظاهر أن سيرته التي جمعت لم تكن إلا صحفا فيها أحاديث عن حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأيامه، ومغازيه، وقد فقدت فيما فقد من كتب المسلمين وكانت وفاته سنة خمس ومائة.
2- عروة بن الزبير بن العوام: أبوه الزبير حواريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أسلم قديما، وشهد الغزوات، والمشاهد كلها، وأمه السيدة أسماء بنت الصديق التي شهدت الكثير من أحداث السيرة، وكان لها عمل مشهور مذكور في الهجرة، وكان عروة ثقة كثير الحديث، وقد خرّج له أصحاب الصحاح، وغيرهم، وقد روى الحديث عن خالته السيدة عائشة- رضي الله عنها- وعن غيرها من الصحابة، وكان معروفا بتدوين العلم والحديث، روى ابنه هشام قال: «أحرق أبي يوم الحرّة كتبا قد كانت له» ، فكان يقول: «لأن تكون عندي أحب إلي من أن يكون لي مثل أهلي وولدي» ، ولم يصل لنا شيء من كتبه.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي، ج 12، 13، 15، 16.(1/28)
ولكن وصل إلينا الكثير من روايته في كتب الحديث والسير وتوفي سنة اثنتين أو ثلاث أو خمس وتسعين للهجرة.
3- الإمام محمد بن شهاب الزهري: عالم الحجاز، والشام، وهو من الثقات في الرواية، أجمع العلماء على جلالته، أخرج له أصحاب الصحاح، والسنن، والمسانيد، وهو من أوائل من دوّنوا الحديث بأمر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه- (المتوفى 101) بل قيل: إنه أول من دوّن الحديث مطلقا، وكذلك قيل: إنه أول من دوّن في السيرة، وسيرته أول سيرة ألفت في الإسلام «1» ، وهي من أوثق السير وأصحها، ويعتمد عليه ابن إسحاق كثيرا في السيرة توفي سنة 120 هـ.
طبقة أخرى
ثم جاء بعد هؤلاء طبقة «2» أخرى، من مشاهيرهم:
1- عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري: كان جده قتادة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، شهد بدرا وأحدا والمشاهد، وأصيبت عينه يوم أحد، فسقطت على وجنته، فردها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعادت أحسن عينيه وأحدّهما، وابنه عمر روى المغازي والأخبار عن أبيه، ورواها عن عمر ابنه عاصم، قال فيه ابن سعد: كان راوية للعلم، وله علم بالمغازي والسير، أمره عمر بن عبد العزيز أن يجلس في مسجد دمشق، ويحدث الناس بالمغازي ومناقب الصحابة، ففعل، وكان من المصادر المهمة التي اعتمد عليها ابن إسحاق، والواقدي، توفي سنة عشرين ومائة، وقيل: تسع وعشرين ومائة.
2- عبد الله بن أبي بكر، بن محمد، بن عمرو، بن حزم الأنصاري:
جده الأعلى عمرو صحابي، بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى اليمن، ليفقههم في الدين، ويعلمهم القران والسنة، وجده محمد قيل: له رؤية، مات يوم الحرة،
__________
(1) الروض الأنف، ج 1 ص 122؛ السيرة الحلبية، ج 1 ص 2.
(2) الطبقة في اصطلاح المحدثين: جماعة تقاربوا في السن، واجتمعوا في لقاء المشايخ، والأخذ عنهم.(1/29)
وأبوه أبو بكر كان قاضي المدينة، وواليها، وهو أول من دوّن الحديث بأمر عمر بن عبد العزيز أو من أوائلهم، فقد نشأ إذا في بيت علم ورواية، وقد نقلت عن عبد الله أخبار كثيرة ذكرها ابن إسحاق، والواقدي، وابن سعد، والطبري توفي سنة خمس وثلاثين ومائة.
طبقة أخرى
ثم جاء بعد هذه الطبقة طبقة أخرى عاشت في العصر العباسي الأول، من أشهرهم:
1- موسى بن عقبة: مولى الزبيريين، والظاهر أنه استفاد من هذه الصلة، قال فيه الإمام مالك: «عليكم بمغازي ابن عقبة، فهي أصح المغازي» . وكانت سيرته التي كتبها مختصرة موجزة وصل إلينا منها بعض مقتطفات، ينقل عنه ابن سعد والطبري بعض أخبار السيرة، وقد روى له البخاري في الصحيح «1» ، وكانت وفاته سنة إحدى وأربعين ومائة.
2- محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي: وهو من أصل فارسي، كان جده يسار من سبي «عين التمر» سباه خالد بن الوليد، وكان ولاؤه لقيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، فلذلك قيل له: المطّلبي ولد نحو سنة خمس وثمانين، لقي كثيرا من علماء المدينة وأخذ عنهم، قال فيه الإمام الشافعي: «من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق» وهو يعتبر ثقة في المغازي، لكنه مضعّف في رواية الحديث، وجرحه بعض المحدثين، وأثنى عليه اخرون، ألف ابن إسحاق كتابه المغازي، وهو أقدم كتاب وصل إلينا في السيرة، ألّفه للمهدي بأمر أبيه المنصور، جمع فيه تاريخ العالم منذ خلق الله ادم إلى زمنه، وقد طوّل فيه فلم يرضه المنصور، وأمره باختصاره فاختصره، ولكن الكتاب جاء بعد هذا يفيض بالكثير مما لا يتصل بسيرة الرسول، ويعرض الكثير مما لا يؤيده دليل، ويفشو فيه الشعر المنحول «2» ، والخبر المفحش، والرواية
__________
(1) صحيح البخاري- كتاب المغازي- باب الخندق، وباب غزوة بني المصطلق، تعليقا في التراجم، وروى له في أصول الكتاب.
(2) المنسوب لغير قائله.(1/30)
المنكرة، هذا إلى سوقه على نهج لا يؤلف بين أجزائه نظام «1» ، وأيضا فله أوهام أغلاط- فيه كما سنبين بعض ذلك فيما يأتي، توفي ببغداد سنة إحدى وخمسين ومائة، وقيل اثنتين وخمسين.
3- الواقدي محمد بن عمر بن واقد مولى بني هاشم: كان الثاني بعد ابن إسحاق في العلم بالمغازي والسير والتواريخ، وكان معاصره مع صغر سنه عنه، وقد لقي الكثيرين من الشيوخ، وروى عنهم، وكان كثير العلم بالتاريخ والحديث، وقد اختلف في تقديره المحدّثون ما بين معدل ومجرّح له، ويروى أنه اختلط «2» في اخر عمره، قال فيه البخاري: «منكر الحديث» ولكنهم لا يطعنون في سعة علمه بالمغازي قال فيه الإمام أحمد بن حنبل: «إنه بصير بالمغازي» على حين قال فيه أيضا «الواقدي يركب الأسانيد» «3» . عني الواقدي بالمغازي والسير بخاصة، والتاريخ الإسلامي بعامة، وكان لا يعرف كثيرا من أمور الجاهلية.
وقد كانت كتبه عمدة للمؤرخين من بعده، ونقلوا منها واقتبسوا، وللواقدي كتاب «التاريخ الكبير» مرتب على السنين، اقتبس منه الطبري في تاريخه كثيرا، وكتاب «الطبقات» ذكر فيه الصحابة والتابعين حسب طبقاتهم، ويظن أن كاتبه ابن سعد قد تأثر به في «طبقاته» ، ولم يبق لنا من كتبه إلا كتاب «المغازي» وكان من أكبر المصادر التي اعتمد عليها الطبري في تاريخه، توفي ببغداد سنة سبع ومائتين وقيل تسع.
طبقة أخرى
ثم جاء بعد ذلك طبقة أخرى، من مشاهيرهم:
1- أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري «4» : من
__________
(1) مقدمة مختصر سيرة ابن هشام، ص 3.
(2) أصابته غفلة وسوء حفظ.
(3) أي يضع للمرويات أسانيد قوية بدل الضعيفة.
(4) بفتح الميم والعين المهملة، وبعد الألف فاء مكسورة، نسبة إلى المعافر بن يعفر قبيل كبير، ينسب إليه بشر كثير عامتهم بمصر.(1/31)
مصر، وأصله من البصرة، وله كتاب في «أنساب حمير وملوكها» وكتاب في «شرح ما وقع في أشعار السيرة من الغريب» وله الكتاب الذي اشتهر به «السيرة» وهو مختصر لسيرة ابن إسحاق، مع بعض الزيادات، أو التعقبات والتصحيحات، ولئن كانت سيرة ابن إسحاق لم تصلنا بعينها فقد وصلتنا مهذبة على يد ابن هشام.
وقد تلقّاها عن زياد بن عبد الله البكّائي «1» (المتوفى سنة 182) عن ابن إسحاق وقد بين ابن هشام في المقدمة منهجه حيال سيرة ابن إسحاق فقال:
«وأنا- إن شاء الله- مبتدىء هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم، ومن ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ولده، وأولادهم لأصلابهم: الأول فالأول من إسماعيل إلى رسول الله، وما يعرض من حديثهم، وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل على هذه الجهة- للاختصار، إلى حديث سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق مما ليس لرسول الله فيه ذكر، ولا نزل فيه من القران شيء، وليس سببا لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيرا له، ولا شاهدا عليه- لما ذكرت من الاختصار-، وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره، وبعضه لم يقر لنا البكائي بروايته، ومستقص- إن شاء الله تعالى- ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له، والعلم به» «2» .
من أجل هذا نسي ابن إسحاق، وذكر ابن هشام، فلم يعد يذكر هذا الكتاب في السيرة إلا مقرونا باسم ابن هشام، لا يكاد يذكر ابن إسحاق إلى
__________
(1) هو أبو محمد زياد بن عبد الله البكائي شيخ ابن هشام، روى عنه البخاري في كتاب الجهاد، وخرّج له مسلم في مواضع من كتابه، وكفى بهما مزكّيين، وموثّقين، وذكر البخاري في «التاريخ» عن وكيع قال: «زياد أشرف من أن يكذب في الحديث» ، وقد وهم الترمذي، فنقل عن البخاري أنه قال: «قال وكيع: زياد على شرفه يكذب في الحديث» ولو صح ما نقله عنه الترمذي لما خرّج له حديثا، ولا خرّج له مسلم (الروض الأنف، ص 5) .
(2) سيرة ابن هشام، ج 1 ص 3.(1/32)
جانبه، وهذا بالنسبة للمتأخرين، أما المتقدمون فلا يذكرون إلا ابن إسحاق، وكانت وفاة ابن هشام سنة ثماني عشرة ومائتين.
وقد شرح هذه السيرة شرحا يدل على تبحّر في العلم، وتضلّع في علم اللغة والأدب والأخبار، الإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي «1» الأندلسي، المولود سنة ثمان وخمسمائة والمتوفى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، في كتابه القيم «الروض الأنف» وكان- رحمه الله- إلى جانب علمه معروفا بالصلاح، والتقوى، والورع.
3- محمد بن سعد تلميذ الواقدي وكاتبه: يدوّن له كتبه وأخباره، ومن أجل هذا لقب «بكاتب الواقدي» ولد بالبصرة سنة ثمان وستين ومائة، واباؤه موال للحسن بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس، وأجلّ كتبه «الطبقات الكبير» في ثمانية أجزاء، وقد خصّص الجزء الأول والثاني من كتابه لسيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومغازيه، وخصّص الأجزاء الستة الاخرى لأخبار الصحابة والتابعين مرتبا لهم على حسب الأمصار، ثم رتّب علماء كل مصر حسب شهرتهم وزمنهم، وقد حظي ابن سعد بثناء بعض المحدثين، قال فيه الخطيب البغدادي: «محمد بن سعد عندنا من أهل العدالة، وحديثه يدل على صدقه، فإنه يتحرّى في كثير من روآياته» وهو أحد شيوخ المؤرخ الكبير البلاذري، وتوفي ببغداد سنة ثلاثين ومائتين «2» .
وممن عرف في التأليف في المغازي من طبقة تلي هؤلاء:
سعيد بن يحيى، بن سعيد، بن أبان، بن سعيد، بن العاص، بن أبي أحيحة، أبو عثمان البغدادي: ثقة ربما أخطأ، من العاشرة، روى له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. وقد قال الحافظ الذهبي في ترجمة أبيه يحيى بن سعيد بن أبان: «المحدّث الثقة، وحدّث عنه ابنه سعيد بن يحيى
__________
(1) سهيل الذي ينسب إليه واد بالأندلس من كورة «مالقا» ، وفيه قرى، وفي إحدى هذه القرى ولد السهيلي.
(2) ضحى الإسلام، ج 2 ص 320- 338.(1/33)
صاحب المغازي، وأحمد بن حنبل» وكانت وفاته سنة تسع وأربعين ومائتين، ولعله هو الذي يعنيه الحافظ المؤرخ ابن كثير في بدايته بقوله: قال الأموي.
منهج هؤلاء المؤلفين
وقد نهج مؤلفو هذه الكتاب منهج المحدّثين في الرواية: من ذكر الأسانيد، والنظر في الرواة، وإن لم يلتزموا ما التزمه المحدّثون من التشدد في التعديل والتجريح، وقبول الرواية، وربّ رجل مجرّح عند أهل الحديث وهو ثقة عند أهل السير، وهذا يرجع إلى اختلاف الغرضين، فغرض المحدث ذكر الأحاديث التي هي مناط معرفة الحلال والحرام، ومن ثمّ كان لا بد من التشدد في الرواية، وغرض المؤلف في السير والتواريخ ذكر أخبار ليست مناط الحلال والحرام غالبا، فمن ثمّ تساهلوا، ووجدت في كتبهم الروايات المرسلة، والمنقطعة، والمعضلة، والشاذة، والمنكرة، بل الموضوعة المختلقة على قلة «1» بل المحدثون أنفسهم يتشدّدون ويبالغون في التحرّي عن الرواة حينما يروون أحاديث الأحكام، ويتساهلون بعض الشيء في رواية الفضائل، روي عن الإمام أحمد أنه قال:
«نحن إذا روينا في الحلال والحرام شدّدنا، وإذا روينا في الفضائل تساهلنا» ، وفي معنى الفضائل المغازي، والسير، وروي عنه أيضا أنه قال: «ثلاثة ليس لها أصل: التفسير، والملاحم، والمغازي» ، ومراده أنه يغلب فيها رواية المراسيل، والمنقطعات، والبلاغات «2» ، ونحوها، وإلّا فقد صحّ فيها أحاديث كثيرة.
كتب ألّفت في السير بعد
ثم جاء بعد هؤلاء علماء كثيرون ألّفوا في السير، ما بين مطنب، وما بين موجز، وما بين متوسط، ومنهم من اعتنى بذكر الأسانيد، ومنهم من حذفها
__________
(1) المرسل: ما حذف منه الصحابي. المنقطع: ما حذف منه واحد من الرواة في موضع أو مواضع. المعضل: ما حذف منه اثنان من الرواة على التوالي. الشاذ: ما خالف فيه الراوي الثقة من هو أوثق منه. المنكر: ما خالف فيه الراوي الضعيف من هو أقوى منه. الموضوع: هو المختلق المكذوب على رسول الله أو من بعده من الصحابة والتابعين.
(2) ما يقال فيها بلغني عن فلان كذا، ولم يكن لقيه قطعا.(1/34)
خشية التطويل وهم الكثير، ومنهم من ألف فيها نظما: من هؤلاء من تقيد بنظم السيرة لابن هشام، ومنهم من لم يتقيد بذلك، ومن أشهر هذه الكتاب:
1- «جوامع السيرة» للإمام الحافظ أبي محمد علي بن أحمد بن حزم، الأندلسي الظاهري المتوفّى سنة ست وخمسين وأربعمائة.
2- «السيرة» للحافظ الكبير عبد المؤمن بن خلف الدمياطي المصري المتوفّى سنة خمس وسبعمائة.
3- «عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير» مجلدان، للإمام أبي الفتح محمد بن محمد المعروف بابن سيد الناس الأندلسي، المتوفّى سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، ثم اختصره وسماه «العيون في تلخيص سيرة الأمين المأمون» وقد شرحه الشيخ برهان الدين إبراهيم بن محمد الحلبي المتوفّى سنة إحدى وأربعين وثمانمائة، ونظمه الشمس محمد بن يونس الشافعي المتوفّى سنة خمس وأربعين وثمانمائة.
4- «مختصر السيرة» للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة، وقد اقتصر فيه على أصح الأقوال، وأقواها.
5- «المواهب اللدنية بالمنح المحمدية» للشيخ العلّامة شهاب الدين أبي العباس أحمد بن محمد القسطلاني الشافعي المصري، المتوفّى سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة، وهو كتاب جليل القدر، كثير النفع، لا نظير له في الاستيفاء، وذكر الأقوال والاراء والحجج، اعتمد فيها على سيرة الحافظ ابن سيد الناس، وسيرة الشمس الشامي وغيرها. وقد شرحها كثيرون، ومن أجل الشروح شرح الإمام الحافظ محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المصري المالكي، المتوفّى سنة اثنتين وعشرين ومائة بعد الألف، وهو شرح جليل تعرض فيه لنقد المرويات، وبيان صحيحها من ضعيفها، وبيان الراجح من الأقوال، وهو يدل على سعة علم الإمام الزرقاني وتبحره.
6- «سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد» المعروفة بالسيرة(1/35)
الشامية، للشيخ محمد بن يوسف الصالحي، المتوفّى سنة اثنتين وأربعين وتسعمائة.
7- «إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون» المعروفة بالسيرة الحلبية للشيخ علي بن برهان الدين الحلبي، المتوفّى سنة أربع وأربعين وألف للهجرة، وقد اعتمد فيه على سيرة ابن سيد الناس، وهو من الكتاب التي عنيت بتزييف بعض المرويات، وبيان بطلانها، اعتمادا على ما ذكره الأئمة السابقون كالإمام القاضي عياض- رحمه الله.
نظم السيرة
وكذلك عني بنظم السيرة كثيرون، منهم من تقيد بسيرة ابن هشام، ومنهم من لم يتقيد، فمن الأولين:
1- الشيخ عبد العزيز بن أحمد المعروف بسعد الدريني، المتوفى في حدود سنة سبع وتسعين وستمائة.
2- والشيخ فتح الدين محمد بن إبراهيم المعروف بابن الشهيد، المتوفى سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة في أكثر من عشرة الاف بيت.
ومن الاخرين:
1- الإمام الحافظ عبد الرحيم بن الحسين العراقي، المتوفى سنة ست وثمانمائة.
2- والشيخ برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي، المتوفى سنة خمس وثمانين وثمانمائة «1» .
كتب الموالد
وثمّة كتب أخرى وهي «كتب الموالد» وهي كثيرة جدا، وقد عنيت بمولد
__________
(1) كشف الظنون عن أسامي الكتاب والفنون، ج 2 ص 1012، 1013؛ مقدمة سيرة ابن هشام، ج 1 ص 7، 8.(1/36)
النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما صاحب ميلاده من إرهاصات «1» ، وايات، وعلامات، وعن نشأته في طفولته، وشبابه، وكهولته، حتى بعثه الله سبحانه رحمة للعالمين، وما صاحب هذه النشأة من خوارق العادات، وما تحمله في سبيل تبليغ الرسالة، وما منّ الله به عليه من المعجزات بعد النبوة، وشمائله وأخلاقه قبل النبوة وبعدها، وما خصّه الله به من خصائص إلى غير ذلك مما تعنى به هذه الكتاب، وفي هذه الكتاب الصحيح والضعيف، والجيد والرديء، فلا يؤخذ كل ما فيها من غير بحث وتمحيص.
كتب جمعت بين التاريخ والسيرة
وكذلك ألّفت كتب في التاريخ العام ولكنها تشمل على السيرة منها:
1- «تاريخ الأمم والملوك» للإمام الحافظ، المفسر، الفقيه، المؤرخ محمد بن جرير الطبري، المتوفّى سنة عشر وثلاثمائة.
2- «مروج الذهب» للإمام العالم المؤرخ الرحّالة أبي الحسن علي بن الحسين المسعودي، المتوفّى سنة ست وأربعين وثلاثمائة.
3- «تاريخ الإسلام» للإمام الحافظ الكبير مؤرخ الإسلام أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الدمشقي المعروف بالذهبي، المتوفّى سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، فقد بدأه بسيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهي تكاد تكون مجلدا كبيرا.
4- «البداية والنهاية» للإمام الحافظ إسماعيل بن كثير الدمشقي، المتوفّى سنة أربع وسبعين وسبعمائة، وقد ذكر سيرة النبي في نحو أربعة أجزاء، وهذا الكتاب هو خير كتب التاريخ في بيان الصحيح من الضعيف من المرويات، والتنبيه إلى الروايات الموضوعة، والإسرائيليات الباطلة، التي دست في السيرة والتاريخ.
__________
(1) الإرهاصات: ما يقع بين يدي النبوة من خوارق العادات.(1/37)
- 3- التأليف في السيرة في العصر الحاضر
1- كتب المستشرقين
وقد ألّف في السيرة الكثيرون من المستشرقين من كل جنس ولون. ومن هؤلاء المنصفون- وقليل ما هم- وغير المنصفين- وهم الكثيرون-، ولا عجب فأغلبهم مبشّرون بدياناتهم، والكثرة الكاثرة منهم صليبيون لا يزالون يحملون الحقد على الإسلام، ونبي الإسلام، فمن ثمّ لا يجدون ثغرة ينفثون منها أحقادهم وسمومهم إلا نفذوا منها، ولا رواية واهية منكرة أو مختلقة إلا طبّلوا لها وزمروا، ولا عليهم لو زيفوا الصحيح ما دام ذلك يساعدهم على أهوائهم، ولأجل أن يلبّسوا على الأغرار من المسلمين تستّروا تحت ستار البحث العلمي، وحرية الرأي، وما هو من البحث، ولا حرية الرأي في شيء، وإنما الغرض حلّ عرى الإيمان من نفوس المسلمين، والتشكيك في سيرة مثلهم الأعلى وقدوتهم، وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقد ساعد على تقبل ارائهم أن المغلوب ينظر إلى الغالب على أنه فوقه في كل شيء، فمن ثمّ نظر بعض المتعلمين، ولا سيما الذين لم يحظوا من الثقافة الإسلامية وعلوم الإسلام الأصيلة بحظ يؤهلهم للتمييز بين الحق والباطل، والخطأ والصواب- نظروا إلى المستشرقين على أنهم قمم في التفكير، وفي البحث، فلا يراجعون ما يقولون! ولا ينقض ما إليه ينتهون، بل بلغ ببعض الذين تثقفوا ثقافة إسلامية أن انزلقوا فيما انزلق إليه غيرهم، ومنهم من قام بترجمة بعض هذه الكتاب من غير أن يعلّق على ما فيها من خطأ بين، وباطل(1/38)
صراح، وليته اكتفى بهذا، ولكنه شارك في الإثم، فكال لها المديح والثناء!! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
2- كتب المسلمين
وقد ألّفت في العصر الأخير كتب كثيرة في سيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وحياته الفذّة، وسير أصحابه النبلاء، في كل قطر ومصر، منها الجيد الأصيل، ومنها ما عليه مؤاخذات وانتقادات، ومنها الموجز، ومنها الوسيط ومنها المبسوط، ومنها ما نحي فيه إلى المنهج القصصي، ومنها ما نهج فيه المنهج المسرحي، ومنها ما تابع مؤلفوها فيها بعض المستشرقين، وانزلقوا فيما انزلقوا إليه أو بعضه، ومنها ما رد مؤلفوها فيها عليهم، وأظهروا خطأهم، وأبانوا عن تعصبهم، وكانت لهم في ذلك جهود مشكورة.
ردّ بعض أباطيل المستشرقين من غير تأليف في السيرة
ومن العلماء المتأخرين من تعرض لرد بعض أباطيل المستشرقين، وذلك كما صنع الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في إبطال قصة الغرانيق، وقصة زواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بالسيدة زينب بنت جحش، وقد سار على نهجه من جاء بعده من المؤلفين في السيرة كما فعل العلامة الشيخ محمد الخضري في «نور اليقين في سيرة سيد المرسلين» ، والدكتور محمد حسين هيكل في كتابه «حياة محمد» ، وغيرهما من المؤلفين والكاتبين الذين أسهموا في هذا المضمار الشريف في كل قطر ومصر، والذين هم أكثر من أن يحصوا، فجزاهم الله خير الجزاء.
جهود العلماء المتقدمين
ومما ينبغي أن يعلم أن ردّ هاتين القصتين الباطلتين، وغيرهما من القصص الباطل، والمرويات الموضوعة، قد سبق إليها بعض الأئمة الكبار، الذين جمعوا بين علم المعقول، وعلم المنقول، ويكاد يكون في القمة من هؤلاء؛ الإمام الحافظ الأصولي، العلامة أبو الفضل القاضي عياض بن موسى السبتي الأندلسي، المتوفّى سنة أربع وأربعين وخمسمائة، فقد ألف كتابه «الشفا في التعريف بحقوق المصطفى» وهو كتاب لو كتب بالذهب لكان قليلا عليه،(1/39)
وهو وإن لم يكن كتاب سيرة بالمعنى المعروف إلا أنه اشتمل على كثير مما يتعلق بسيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، مع رد بعض الأباطيل التي دست في السيرة النبوية، وألصقت بها زورا كهاتين القصتين، فالزمه- أيها القارىء- واشدد به يديك.
عناية الأمة الإسلامية بسيرة نبيها
أما بعد:
فمهما يكن من شيء فلم تعن أمة من الأمم في القديم والحديث باثار نبيها وحياته، وكل ما يتصل به من قرب أو بعد، مثل ما عنيت الأمة الإسلامية في تاريخها الطويل، هذه العناية التي كان من اثارها هذه الثروة الطائلة من الكتاب المؤلفة في مولده، وسيرته، وحياته، وشمائله، وفضائله، وخصوصياته، ومعجزاته، وأخلاقه، وادابه، وأزواجه، وأولاده، وأجداده، وجداته، ونسبه من لدن جده الأعلى خليل الرحمن، وابنه الذبيح إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، إلى خروجه من بين أبويه الشريفين الكريمين، وحيوات من بقي من ذريته من بعده، وخدمه، ومماليكه، وسراريه «1» ، ومرضعاته، وحاضناته.
بل بلغت العناية بالعلماء وكتاب السير أن بحثوا في نياقه، وبغاله، وحميره، وأسمائها، ومن أين جاءت، وكتبوا عن وصف نعاله، ومطهرته، وأسوكته، إلى غير ذلك مما يدل على غاية الحب، والعناية باثاره، ومخلفاته صلّى الله عليه وسلّم، وإن ما يتعلق بالسيرة النبوية وسير ال بيت النبي ليكوّن مكتبة حافلة قيمة تعدو الألوف عدّا.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه رسول الله حقا، فما كان لمدّع أن يكون له هذا الحب كله، ولا هذه العناية كلها! ولا هذا التكريم والتعظيم.
وعلى أن رسالته هي خاتمة الرسالات، وأحقها بالخلود، وأبقاها على الزمان، وعلى أنه لا نبي بعده، بنفسي، وأبي، وأمي هو صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) جمع سرّية بضم السين وتشديد الراء المكسورة الأمة المملوكة.(1/40)
الباب الأوّل
الفصل الأول: موجز لتاريخ العرب قبل الإسلام.
الفصل الثاني: الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
الفصل الثالث: ولاة البيت وتاريخ مكة إلى مولد الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
الفصل الرابع: زواج عبد الله بامنة.(1/41)
الفصل الأوّل موجز لتاريخ العرب قبل الإسلام
كان لزاما على من يكتب في السيرة المحمدية، وأحداثها، واثارها البعيدة، لا في حياة العرب فحسب، بل في حياة البشر جميعهم، أن يعرض عرضا موجزا لتاريخ العرب في الجاهلية من ناحية جغرافية بلادهم، وأحوالهم الدينية، والاجتماعية، والأخلاقية، والسياسية، حتى يكون الدارس للسيرة على بيّنة من هذه البلاد، وسكانها، الذين اختير منهم خاتم الأنبياء، والذي أرسل بأعظم رسالة إلهية، والتي أحدثت أعظم إصلاح في العالم كله، لم تحدثه رسالة من الرسالات.
شبه جزيرة العرب
هي عبارة عن هذا الجزء الذي يقع في الجنوب الغربي من قارة اسيا، وهي أكبر جزيرة في العالم، ويبلغ متوسط عرضها سبعمائة ميل، ومنتهى طولها ألف ومائة ميل، ومساحتها حوالي ألف ألف ميل مربع «1» .
ويحدها من الجنوب: البحر العربي (المحيط الهندي) ، ومن الشرق:
الخليج العربي ونهر الفرات، ومن الغرب: البحر الأحمر وبرزخ السويس (قديما) (قناة السويس الان) ، ومن الشمال: البحر الأبيض المتوسط، وهكذا
__________
(1) أي مليون ميل مربع، مكة والمدينة في عصر الجاهلية وعصر الرسول عن جزيرة العرب في القرن العشرين، ص 1.(1/43)
نرى أنها تحيط بها البحار والأنهار من جميع نواحيها إلا جزا قليلا منها، ولهذا يطلق عليها البعض تجوّزا (جزيرة العرب) «1» .
وهذا التحديد الذي يقول به الهمداني يدخل بلاد الشام كلها، والبادية التي بين العراق والشام وبادية سيناء في جزيرة العرب، وهو يتفق وما ذكره (هيرودوت) المؤرخ القديم، غير أنه اعتبر النيل الحد الغربي للقارة، وجعل صحراء مصر الشرقية كما هي معروفة الان من الجزيرة العربية.
موقع الجزيرة الهام
وتحتل شبه جزيرة العرب موقعا هاما إذ أنها تربط بين قارات ثلاث:
اسيا، وإفريقيا، وأوروبا، وأما من الناحية الحضارية للعالم قبل الإسلام فهي تربط بين الحضارتين السائدتين حينئذ: الحضارة الرومانية، والحضارة الفارسية.
طبيعة جزيرة العرب
وشبه جزيرة العرب أرض صحراوية تتخللها جبال كثيرة. تختلف ارتفاعا وطولا، وعرضا، ولعل أعظمها جبال (السّراة) الممتدة من سورية وفلسطين شمالا، إلى بلاد اليمن جنوبا، وهي توازي ساحل البحر الأحمر، وتقترب منه في مواضع عديدة، ويتراوح ارتفاع هذه الجبال ما بين عشرة الاف قدم «2» ، وثلاثة الاف قدم، فتبلغ قممها في الشمال: في (مدين) وفي الجنوب: في اليمن، وعسير، حوالي عشرة الاف قدم، بينما تكون خلف مكة ثمانية الاف قدم، وقرب المدينة ثلاثة الاف قدم.
وتحصر بينها وبين ساحل البحر الأحمر أرضا سهلة ضيقة تعرف (بتهامة) تشرف عليها هذه المرتفعات وتنحدر إليها انحدارا شديدا قصيرا. وسواحلها المهيمنة على البحر الأحمر يصعب رسوّ السفن فيها لخلوّها من المرافىء الصالحة ولوجود الشعب المرجانية التي تمتد في بعض المواضع بعيدا في البحر، وتوجد جبال أخرى في (نجد) وفي الأقسام الجنوبية من شبه الجزيرة متفاوتة الارتفاع.
__________
(1) المرجع السابق عن «صفة جزيرة العرب» ، للهمداني، ص 46، 47.
(2) القدم ثلاثون سنتيمتر.(1/44)
الحرار
وفي شبه جزيرة العرب حرار كثيرة، وهي أرض ذات حجارة سود نخرة، واحدتها حرّة، وتسمى لابة ولوبة، وقد تكونت من فعل البراكين، ويشاهد منها نوعان: نوع يتألف من فجوات البراكين نفسها، ونوع يتألف من حممها التي كانت تقذفها، فتسيل على جوانب الفتحة، ثم تبرد، وتتفتت بفعل التقلبات الجوية، فتكون ركاما من الأحجار البركانية التي تغطي الأرض بطبقات، قد تكون رقيقة، وقد تكون سميكة.
وقد اشتهر كثير من مناطق الحرار بالخصب، والنماء، وبكثرة المياه، ولا سيما حرار المدينة التي استغلت استغلالا جيدا، ومنها خيبر حيث كانت واحة عظيمة، وتضم قرى كانت تشتهر بأنواع المزروعات من قديم الزمان. وليس في بلاد العرب نهر واحد بالمعنى المعروف من الأنهار، وإنما هي جداول غير صالحة للملاحة، وهي إما قصيرة سريعة الجريان، شديدة الانحدار، وإما ضحلة تجف في بعض المواسم، وبها كثير من العيون العذبة وحول هذه العيون الواحات، والوديان ذات الأشجار الوارفة، وتوجد بها بعض المزروعات، والخضر، والفاكهة.
الجنس العربي
والجنس الذي يسكن شبه الجزيرة يسمى (الجنس العربي) وهو أحد الأجناس الساميّة «1» ، ولكنه أكثرها محافظة على خصائص الساميين، ويتكلم اللغة العربية، وهي إحدى اللغات السامية، ولكنها أيضا أكثرها محافظة على خصائص اللسان السامي، وترجع هذه المحافظة إلى طبيعة الحياة في شبه الجزيرة، وهي طبيعة الانعزالية، والمحافظة على الأنساب والأحساب، وعدم التزوج من غيرهم، أو تزويجه منهم، فقد حرست هذه الحياة الجنس العربي،
__________
(1) نسبة إلى سام بن نوح، وهم الشعوب الذين يتكلمون بالعربية، والعبرانية، والسريانية، والحبشية.(1/45)
واللغة العربية من الهجمات التي تعرض لها غير العرب من الساميين وغير اللغة العربية من فروع اللسان السامي «1» .
وإذا كانت الأمة العربية من الجنس الأبيض أرقى الأجناس البشرية، بل قد عدّها بعض علماء التشريح نموذجا للتقويم البشري الكامل (أنثروبولوجيا) فإن لغتها أرقى اللغات الحية على الإطلاق، وأثراها، وأخفها على اللسان، وأعذبها على السمع، وأشملها لمقوّمات الاداب والعلوم من الألفاظ والتراكيب «2» .
والأمة العربية من أقدم الأمم وأشهرها، كان لها في التاريخ القديم والحديث اثار لا تزال باقية إلى الان، وقد خلّد الله سبحانه وجودها بأن اختار منها خاتم أنبيائه ورسله سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم، فكان شاهد صدق على أنها الأمة الجديرة بقيادة العالم إذا عضّت بالنواجذ على هذا الدين الذي هو خاتم الأديان وأوفاها بحاجة البشرية، كما خلّد لغتها حينما جعل اية خاتم أنبيائه العظمى وحيا يتلى، وقرانا عربيا مبينا، باقيا ما بقي مسلم على هذه الأرض، وما من أمة إسلامية إلا وتاريخها ممتزج بتاريخ هذه الأمة العربية، ولهذه الأمة التي حملت لواء الإسلام إلى الدنيا كلها فضل عليها.
أقسام العرب
1- العرب البائدة
وهي قبائل عاد، وثمود، والعمالقة، وطسم، وجديس، وأميم، وجرهم، وحضرموت ومن يتصل بهم، وهذه بادت قبل الإسلام، وكان لهم ملوك امتد ملكهم إلى الشام ومصر، والمؤرخون يقسمون العرب البائدة إلى قسمين: العمالقة وهم من نسل لاوز بن سام بن نوح، ومن عداهم من نسل إرم بن سام بن نوح، فالأولون يقال لهم الساميون والاخرون الاراميون، والعماليق ملكوا مصر مدة، وأسسوا فيها أسرة ملوكية، وملكوا العراق وأسسوا
__________
(1) التاريخ الإسلامي والحضارة العربية، ج 1 ص 39.
(2) دائرة معارف القرن العشرين مادة عرب، ج 6 ص 226.(1/46)
بها دولة تسمى «دولة حمورابي» أول ملوكهم، والذي عرف بالقانون المشهور «قانون حمورابي» وذلك في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد والعرب الباقية هم القحطانيون والعدنانيون.
2- القحطانية
وهم أولاد قحطان الذين كانوا يسكنون الجنوب: اليمن وما حواليها، ومنهم ملوك اليمن، ومملكة معين، وسبأ، وحمير، وقد خرجت منهم جماعات، وقبائل في ظروف متعددة من أهمها انهيار سد مأرب، ونزلوا بأجزاء مختلفة من الجزيرة العربية، ومن هؤلاء «اللخميون» الذين نزلوا «الحيرة» على تخوم فارس وكونوا ملكا بها، ومنهم أيضا (أولاد جفنة) ملوك الغساسنة الذين كانوا يسكنون على حدود بلاد الروم، ومنهم ملوك كندة الذين كانوا بحضرموت، وكان منهم أبو امرىء القيس، كما أن منهم (الأزد) الذين تفرع منهم الأوس والخزرج، ومنهم الجراهمة الذين حطوا رحالهم بالقرب من وادي مكة، واتصل بهم نبي الله إسماعيل لما كبر، وصاهرهم، والقحطانيون يقال لهم: العرب العاربة.
3- العدنانية
نسبة إلى عدنان الذي ينتهي نسبة إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وهم المعروفون بالعرب المستعربة، أي الذين دخل عليهم دم ليس عربيا، ثم تمّ اندماج بين هذا الدم وبين العرب، وأصبحت اللغة العربية لسان المزيج الجديد.
وهؤلاء هم عرب الشمال، موطنهم الأصلي مكة، وهم إسماعيل وأبناؤه، والجراهمة الذين تعلّم منهم إسماعيل العربية، وصاهرهم، ونشأ أولاده عربا مثلهم، ومن أهم ذرية إسماعيل (عدنان) جد النبي صلّى الله عليه وسلّم الأعلى، ومن عدنان كانت قبائل العرب، وبطونها فقد جاء بعد عدنان ابنه معدّ، ثم نزار، ثم جاء بعده ولداه: ربيعة، ومضر، ومنهما كانت معظم القبائل العربية، فمن أشهر قبائل مضر: هوازن، وغطفان، وتميم، وعدي، وقريش، ومن أشهر قبائل ربيعة: عبد القيس، وبكر، وتغلب، وحنيفة.(1/47)
ولم تتسع مكة وما جاورها لعرب الشمال، فبدأوا يهاجرون يبحثون عن مساقط الماء، ومنابت العشب، فنزل عبد القيس البحرين، ونزل بنو حنيفة اليمامة، ونزل بنو هوازن بنواحي أوطاس، وهكذا تفرقت القبائل في ربوع الجزيرة، والعدنانيون يقال لهم: العرب المستعربة، لأن جدهم الأعلى وهو إسماعيل تعلم العربية وتلقنها من جرهم.
أما قضاعة فقد اختلف فيهم، فقيل: إنهم عدنانيون وعليه الأكثر، وقيل: إنهم من قحطان، وهو قول ابن إسحاق، والكلبي، وطائفة من أهل النسب «1» .
وهذا الذي ذكرنا من تقسيم العرب إلى عدنانية وقحطانية هو ما عليه جمهرة علماء الأنساب وغيرهم، ومن العلماء من يرى أن العرب: عدنانية، وقحطانية ينتسبون إلى إسماعيل عليه الصلاة والسلام.
وقد ترجم الإمام البخاري في صحيحه لذلك فقال: باب نسبة اليمن إلى إسماعيل عليه السلام، وذكر في ذلك حديثا عن سلمة قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قوم من أسلم يتناضلون بالسهام «2» ، فقال: «ارموا بني إسماعيل وأنا مع بني فلان» - لأحد الفريقين- فأمسكوا بأيديهم، فقال:
«ما لكم» ؟ قالوا: كيف نرمي وأنت مع بني فلان؟ فقال: ارموا وأنا معكم كلكم» وفي بعض الروايات: «ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا» .
قال البخاري: وأسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة، يعني: أن خزاعة فرقة ممن كان تمزق من قبائل سبأ حين أرسل الله عليهم سيل العرم.
__________
(1) البداية والنهاية، ج 2 ص 156.
(2) يلعبون بها ليتعودوا على فنون الحرب.(1/48)
سكان جزيرة العرب
يسكن شبه جزيرة العرب فريقان:
1- بدو
وهم الذي يسكنون البادية، ويرتحلون وراء العشب والكلأ، ويتتبعون مواقع الغيث والمطر، وهم يسكنون الخيام، وهي البيوت من الوبر، والشعر، وهم الأكثرون ولا سيما في الشمال: الحجاز وما والاها من نجد وتهامة.
2- حضر
وهم الذين يسكنون القرى والمدن، ويسكنون بيوتا من اللبن، أو الحجر، ومعظم هؤلاء كانوا يسكنون في الجنوب: اليمن وما جاورها، وعلى تخوم بلاد فارس والروم.
وجود بعض المدنيّات والحضارات في جزيرة العرب
وقد نشأت من قديم الزمان ببلاد العرب حضارات أصيلة، ومدنيات عريقة من أشهرها:
1- حضارة سبأ باليمن
وقد دل القران الكريم- الذي هو أوثق المصادر وأحقها بالقبول- على أنه كان في بعض بلاد العرب حضارات قديمة، وعمران، وخصب، ونماء، ورخاء، وتقدم. ففي اليمن استفادوا من مياه الأمطار والسيول التي كانت تضيع في الرمال، وتنحدر إلى البحار، فأقاموا الخزانات والسدود بطرق هندسية بديعة، وأشهر هذه السدود (سد مأرب) ، واستفادوا بمياهها في الزروع المتنوعة، والحدائق ذات الأشجار الزاكية، والثمار الشهية، قال عزّ شأنه:
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ(1/49)
وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) «1» .
كما دل القران الكريم أيضا على أنه كانت هناك في هذا الزمن الغابر قرى متصلة، ما بين اليمن، إلى بلاد الحجاز، إلى بلاد الشام، وأن قوافل التجارة والمسافرين كانوا يخرجون من اليمن إلى بلاد الشام، فلا يعدمون ظلا، ولا ماء، ولا طعاما، قال عزّ شأنه:
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) «2» .
2- حضارة عاد بالأحقاف
كما قامت حضارات أخرى في غير اليمن، فقد كان في الأحقاف شمال حضرموت قبيلة (عاد) ، وهم الذين أرسل إليهم نبي الله هود عليه السلام، وكانوا أصحاب بيوت مشيدة، ومصانع متعددة، وجنات، وزروع، وعيون. قال عزّ شأنه:
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ «3» أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) «4» .
__________
(1) الايات 15- 17 من سورة سبأ.
(2) الايتان 18- 19 من سورة سبأ.
(3) لأنه منهم كقولك: يا أخا العرب لمن كان منهم.
(4) الايات 123- 134 من سورة الشعراء.(1/50)
3- حضارة ثمود بالحجاز
وكذلك كانت حضارة في بلاد الحجر حيث تسكن ثمود، وقد دلّ القران الكريم على ما كانوا يتمتعون به من القدرة على نحت البيوت في الجبال، وعلى ما كان يوجد في بلادهم من عيون وبساتين وزروع؛ قال عزّ شأنه:
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ «1» وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ «2» (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ «3» (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) «4» .
وقال فيهم أيضا:
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ «5» اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) «6» .
وقد اضمحل كل ذلك من زمان طويل، ولم يبق منه إلا اثار ورسوم، فقد درست القرى والمدن، وتخربت الدور والقصور، ونضبت العيون، وجفت الأشجار، وانمحت البساتين والزروع.
يقول بعض الباحثين: «وتدل البحوث والدراسات التي قام بها السياح
__________
(1) جمع جنة وهي البستان.
(2) أي ثمرها نضيج طيب لين.
(3) الفراهة الكيس والمهارة.
(4) الايات 141- 150 من سورة الشعراء.
(5) أي نعمه.
(6) الاية 74 من سورة الأعراف.(1/51)
والعلماء عن بلاد العرب على أن تغييرا كبيرا طرأ على جوها، وأن هذا الجفاف الذي نعهده الان في هذه البلاد لم يكن على النحو الذي كان عليه في العصور التي سبقت الإسلام، وأن ذلك الجفاف أثر تأثيرا سيئا في شبه جزيرة العرب، فجعل أكثر بقاعها صحارى جرداء، كما أثّر في حالة سكانها، فقاوم نشوء المجتمعات الكبرى، وأثر تأثيرا خطيرا في تاريخ الأمة العربية، وفي حدوث الهجرات» ، إلى أن قال: «وكل ذلك يدل على مدى التغير الذي طرأ في بلاد العرب سواء أكان من الناحية المناخية أم من الناحية الجيولوجية، فأدى إلى مقاومة الحضارة، ومنع نشوء المجتمعات الكبرى بها، وحوّل أراضيها إلى بقاع صحراوية، وطبع الحياة فيها بطابع الرحلة، والانعزالية الاجتماعية والسياسية، ويميل كثير من السياح، وعلماء طبقات الأرض الذين جابوا أنحاء شبه الجزيرة العربية إلى تأييد القول بظهور الجفاف في الألف الثاني قبل الميلاد» «1» .
ولا يفوتني في هذا المقام أن أنبه إلى أن هذه الحقائق التي جاء بها القران منذ قرابة أربعة عشر قرنا على لسان النبي العربي الأمي، ثم جاء علماء الاثار وطبقات الأرض في العصر الأخير، فوصلوا إلى ما أيّد هذه الحقائق كل التأييد- من أكبر الأدلة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومن المعجزات الدالة على أنه نبي يوحى إليه، ولم يكن النبي منقّبا ولا باحثا عن الاثار، ولا كان هناك من أهل الكتاب ولا غيرهم من كان يعلم هذا، وصدق الله:
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) «2» .
__________
(1) مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول، ص 119.
(2) الاية 111 من سورة يوسف.(1/52)
أقسام شبه جزيرة العرب
قسّم جغرافيو العرب شبه الجزيرة إلى خمسة أقسام:
(1) الحجاز، (2) وتهامة، (3) ونجد، (4) والعروض، (5) واليمن.
وزاد الأصطخري وابن حوقل ثلاثة أصقاع وهي:
(1) بادية العراق، (2) وبادية الجزيرة، (3) وبادية الشام «1» .
فالحجاز هي الجبال الممتدة من الجنوب إلى الشمال، وسميت حجازا، لأنها حجزت بين الغور وتهامة غربا، وبين نجد شرقا، وما بين هذه الجبال إلى سيف البحر على امتداده يسمّى (تهامة) ، وما يوجد شرق الحجاز من الأرض المرتفعة إلى أطراف العراق والسماوة يسمّى (نجدا) ، والجزء الذي يضم بلاد اليمامة والبحرين وما والاها يسمّى (العروض) ، وما يوجد حول صنعاء وما والاها من البلاد إلى حضرموت والشّحر وعمان يسمّى: (اليمن) ، والذي يهمنا التعريف به هو الحجاز.
الحجاز
وهو عبارة عن سلسلة الجبال الكثيرة، والممتدة من بلاد اليمن إلى بلاد الشام، كما قال معظم الجغرافيين، وما حول هذه الجبال، وما يتخللها من وديان يدخل في الحجاز أيضا، وسمي حجازا لأنه حجز بين إقليم نجد شرقا، وبلاد تهامة غربا كما ذكرنا، ولكن اسم الحجاز في العرف يشمل تهامة أيضا بل عدّ بعض العلماء تبوك، وفلسطين من أرض الحجاز «2» .
وطول الحجاز من الجنوب إلى الشمال سبعمائة ميل، وعرضه من الشرق إلى الغرب خمسون وثلاثمائة ميل. وتعتبر جبال السراة هي العمود الفقري لشبه
__________
(1) مكة والمدينة، عن الأصطخري، ص 20، 21؛ وصبح الأعشى 4/ 245.
(2) المصدر السابق عن معجم البلدان 3/ 218، ط السعادة.(1/53)
الجزيرة العربية، وتختلف جبال الحجاز ارتفاعا وانخفاضا، فمنها ما يبلغ بضعة الاف من الأمتار، ومنها لا يزيد عن مائتي متر.
أودية الحجاز
وتتخلل هذه الجبال وديان كثيرة، وعيون وابار، وحول العيون والابار توجد الواحات، ومن أشهر هذه الوديان:
1- وادي إضم:
ويقع جنوب خيبر حتى يقارب المدينة حيث تتصل به أودية فرعية، كوادي العقيق.
2- وادي القرى:
وهو يستمد مياهه من السيول التي تنحدر إليه من العيون التي عند خيبر، ثم يتجه غربا حتى يصب في البحر الأحمر جنوب قرية (الوجه) . ووادي القرى واد مهم، لأنه كان ممر القوافل، التي كانت من أهم وسائل نقل التجارة في العالم القديم.
3- وادي الرمة:
عند حرة (فدك) يتكون من التقاء بضعة أودية ثم يتجه نحو الشرق حتى جبل (القصيم) ويبلغ طوله أكثر من خمسين وتسعمائة كيلومترا.
4- وادي الصفراء:
وهو واد كثير النخل والزروع في طريق الحجاج، سلكه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض غزواته، وبينه وبين بدر مرحلة، وسمي باسم قرية (الصفراء) وهي قرية كثيرة النخل والزروع، وماؤها عيون تجري إلى ينبع.
وكان يمر بالحجاز أحد طريقي التجارة البرّيّين بين الشرق والغرب مبتدئا من اليمن، مخترقا تهامة والحجاز، مارا بمكة، ويثرب (المدينة) حتى يصل إلى (أيلة) على خليج العقبة، ثم منها إلى موانىء البحر الأبيض المتوسط.
الحجاز لم تطأه قدم مغير
وقد شاء الله تبارك وتعالى ألاتطأ الحجاز قدم دخيل قط، أو مغير، ولا كان لأحد من الدول المجاورة القوية عليها سلطان، ولعل ذلك لوعورة الأرض وكثرة الجبال، وضيق المسالك، وسعة مغاورها، كما أن حالته الاقتصادية(1/54)
لم تكن لتطمع أحدا فيه، فمن ثمّ بقي أهله على ما فطروا عليه من الحرية، والانطلاق، وما اتصفوا به من الخلال الكريمة، وبقيت أنسابهم سليمة من الهجنة «1» ، ولغتهم سليمة من العجمة، ولا سيما مكة المكرمة، فلم يكن بها إلا العرب الخلّص، ما عدا أناسا لا حول لهم ولا طول، ولا أثر لهم يذكر في حياة العرب في الجاهلية، وإنما كانوا يحترفون بعض الحرف كالحدادة، والصياغة، وخدمة الأشراف، والعمل لهم في تجاراتهم، وبساتينهم، وهم طبقة العبيد والأرقاء من الحبشة، والروم وفارس، ممن لا يتطاولون إلى قريش، أو مصاهرتها، أو التأثير فيها.
وبعضهم كان نصرانيا كجبر الرومي، وعدّاس النّينوي، إلا أنهم لم يكن لهم من علم النصرانية إلا الانتماء إليها، وبعضهم كان على دين قريش، وقد صار معظم هؤلاء من أسعد الناس بالإسلام وأكرمهم عند الله تبارك وتعالى، أمثال بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي- رضي الله عنهم- وأرضاهم.
أشهر مدن الحجاز
يشتمل الحجاز على قرى ومدن كثيرة أهمها: مكة، ويثرب (المدينة) ، والطائف، وجدة.
مكّة
وهي بلد الله الحرام، وفيها الكعبة المشرفة التي يحيط بها المسجد الحرام، وهي تقع في واد سهل منبسط غير ذي زرع، تحيط به الجبال من كل جانب مع تخلل شعاب بين هذه الجبال، وفي شمال مكة يوجد جبل «حراء» الذي به «غار حراء» ، وفي جنوبها يقع جبل ثور الذي يوجد به «غار ثور» .
ومكة مدينة في نشأتها لعين (زمزم) وللكعبة البيت الحرام، وهي وما حولها
__________
(1) الهجين من الإبل والخيل: من أبوه عربي وأمه غير عربية، الهجنة: اختلاط نسب العرب بنسب العجم.(1/55)
حرم معلوم الحدود. وضعت على حدوده نصب، وعلامات يعرف بها، يأمن فيه الإنسان، والحيوان، والطير، فلا يسفك فيه دم، ولا يهاج فيه حيوان، ولا يصاد فيه طير، بل ولا يقطع شجرها، وقد حرمها الله وما حولها من يوم أن خلق السموات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة كما روي في الصحيحين «1» ، وقد أظهر الله هذا التحريم على لسان الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وتسمى (بكّة) ، قال تعالى:
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) «2» .
وتسمى: (أم القرى) «3» قال تعالى:
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها (7) «4» .
ولمكة مكانة ممتازة في نفوس المسلمين، ففيها الكعبة، والمسجد الحرام، والصفا والمروة، وبجوارها عرفات، والمزدلفة، ومنى، وهي من مشاعر الحج، فلذلك تهفو إليها قلوب الألوف لقضاء الحج والعمرة، من لدن الخليل إبراهيم عليه السلام إلى وقتنا هذا.
ويرجح بعض الباحثين في السيرة نشأتها إلى سنة خمسين وألفين قبل الميلاد «5» ، وقد اختلف في أول من أنشأها، فجمهور المؤرخين على أن أول من بناها وسكنها العماليق «6» ، ثم خلفهم عليها جرهم حتى أسكن الخليل إبراهيم
__________
(1) صحيح البخاري- كتاب الحج- باب لا يحل القتال بمكة؛ وصحيح مسلم- كتاب الحج- باب تحريم مكة.
(2) الاية 96 من سورة ال عمران.
(3) العرب يطلقون القرية على البيوت المجتمعة صغرت أم كبرت، وفي الحديث الصحيح «أمرت بقرية تأكل القرى» أي المدينة.
(4) الاية 7 من سورة الشورى.
(5) حياة محمد ورسالته، ص 14.
(6) هم من العرب البائدة، وهم من نسل لاوز بن سام بن نوح، والعماليق ملكوا مصر مدة، وكونوا بها أسرة مالكة حوالي القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، وملكوا العراق(1/56)
إسماعيل وأمه هاجر بهذا الوادي، فنشأ إسماعيل به حتى صار رجلا، واختلط بهم وصاهرهم، ثم غلبت خزاعة جرهما عليها، واستمروا حكامها حتى جاء قصي بن كلاب، فجمع قريشا فيها، بعد أن تمكن من إجلاء خزاعة عنها، وبذلك عادت لقريش السيادة على مكة وحماية البيت حتى ظهور الإسلام.
والذي تدل عليه قصة بناء الكعبة في صحيح البخاري، أن الخليل لما أسكن ابنه وأمّه هناك لم يكن بها أحد. وأن الجراهمة أول من أقاموا بجوار إسماعيل، مما يدل على أن مكة لم تنشأ إلا بعد نبع زمزم، وبناء البيت، واتصال إسماعيل بالجراهمة، ومصاهرته فيهم، وستأتي هذه القصة إن شاء الله تعالى.
المدينة
وهي تقع على بعد نحو من ثلاثمائة ميل شمال مكة، وكان اسمها الغالب عليها في الجاهلية يثرب، وقد ورد في القران الكريم، وهي تقع بين حرّتين، وأرضها تشتهر بالخصب من قديم، وبها البساتين، والنخيل، والفواكه، والزروع.
وقيل إن تاريخ نشأتها يرجع إلى نحو سنة ستمائة وألف قبل الميلاد، وكان يسكنها العماليق في بادىء الأمر، ثم ارتحل إليها بعض اليهود لما تعرضوا لموجات من الاضطهاد، والقتل، والأسر على يد «بختنصر» البابلي وغيره فأقاموا بها «1» ، حتى نزل بعد انهيار (سد مأرب) بعض القبائل العربية الجنوبية، وهما قبيلتا الأوس والخزرج، فوجدوا الثروة والمال مع اليهود فاستعانوا بإخوانهم
__________
- وأسسوا بها دولة حمورابي اسم أكبر ملوكها، ومؤسس أقدم شريعة في العالم في القرن السالف الذكر، وقد أغار على الدولة البابلية الأولى، وقد فني المقهورون في القاهرين وصارت الدولة البابلية عربية بحتة (دائرة معارف القرن العشرين مادة عرب) .
(1) من هذا يتبين أن اليهود طارئون ودخلاء على المدينة، ومن كرم العرب أن تركوهم يساكنونهم فيها، حتى جاء الإسلام، فاستعملوا الدس، والغدر، والخيانة مع النبي والمؤمنين، فلم يكن بدّ من إجلائهم عنها كما سيأتي في الجزء الثاني إن شاء الله تعالى.(1/57)
العرب، فأعانوهم، فقتلوا رؤساءهم وأذلوهم، وأصبح للأوس والخزرج الزعامة بيثرب.
وقد استمرت الحال على هذا حتى مجيء الإسلام، وسارعت إليه القبيلتان، وعرفتا فيما بعد (بالأنصار) .
وكانت المدينة من قديم الزمان تقع على طريق القوافل التجارية بين الجنوب والشمال، وبين مكة والشام، مما جعلها تزدهر، وقد اكتسبت بعد مجيء الإسلام وهجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إليها مكانة ممتازة، فقد أضحت عاصمة الإسلام، وقلبه النابض، وقطبه الذي تدور عليه رحاه، وقد جعل النبي المدينة حرما امنا، ففي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
«إن إبراهيم حرّم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها، ومدّها، بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة» وفي رواية: «بمثل ما دعا به إبراهيم» «1» . وفي الحديث الصحيح أيضا: «إن إبراهيم حرّم مكة وأنا أحرم ما بين لابتيها فلا يسفك فيها دم، ولا يصاد بها صيد، ولا يهاج بها طير، ولا يعضد «2» بها شجر» ، وكذلك ورد أنها حرم في صحيح البخاري «3» .
وكانت تسمى (يثرب) فسماها النبي (طيبة) و (طابة) ، ونهى أن يقال (يثرب) ، وفي المدينة المسجد النبوي، ثاني المساجد المشرفة التي تشد إليها الرحال، وإن كان ثالثها في البناء، وفي المسجد النبوي (الروضة) ففي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» وفي المسجد النبوي أفضل بقعة ضمّت أفضل جسد لبشر.
وفي المدينة وما جاورها اثار وذكريات عزيزة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأصحابه، ولأيام
__________
(1) صحيح مسلم- كتاب الحج- باب فضل المدينة.
(2) يقطع.
(3) صحيح البخاري- كتاب الحج- باب حرم المدينة.(1/58)
الإسلام، وأحداثه وتشريعاته، وفيها (البقيع) مقبرة خيار المسلمين من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من أئمة العلم، والدين، فلا عجب إذا كانت تهفو إليها قلوب ألوف المسلمين كل عام، وميناء المدينة التي تشرف على البحر الأحمر (ينبع) وتبعد عنها نحوا من مائة وثلاثين ميلا.
الطائف
وهي بلدة تقع على بعد نحو خمسة وسبعين ميلا إلى الجنوب الشرقي من مكة، على ربوة عالية يبلغ ارتفاعها نحو خمسة الاف قدم على ظهر جبل (غزوان) ، فمن ثمّ كان هواؤها باردا في الصيف، وكانت- ولا تزال- مصيف أهل مكة، وغيرهم، قال الشاعر:
تشتو بمكة نعمة ... ومصيفها بالطائف
ويحيط بها وديان كثيرة تتجمع بها المياه في موسم الأمطار، وبها عيون وابار كبيرة، وأرضها خصبة تكثر بها الحدائق، التي تثمر الفواكه الجيدة، وبها تجود الزروع والحبوب، ولا تزال إلى وقتنا هذا، يجلب منها لأهل مكة وغيرها الفواكه كالعنب، والمشمش، والرمان، وغيرها.
وكانت تسكن الطائف قديما قبيلة ثقيف، وكانت من أعتى القبائل، وأصعبها مراسا وعنادا، وقد استأنى بهم النبي، ودعا لهم حتى هداهم الله للإسلام.
جدّة
هي ميناء مكة على البحر الأحمر، وهي تبعد عن مكة نحو خمسة وسبعين كيلومترا، وأرضها رمليّة، وليس بها زراعة، وهي أهم موانىء الحجاز كلها، وعن طريقها يدخل المستورد، ويخرج المصدّر، وهي من المراكز التجارية المهمة بالبلاد، وتقع على أحد الطريقين المعبدين بين مكة والمدينة الان، وقد أصبحت الان عروس موانىء البحر الأحمر بعد أن ضربت في الحضارة والعمران بحظ كبير، وقد استبحر فيها العمران من جميع جهاتها ولا سيما من جهة مكة.(1/59)
أحوال الجزيرة السياسية والدينية والاجتماعية
الأحوال السياسية
قلنا إن سكان الجزيرة ينقسمون إلى بدو، وحضر، وكان النظام السائد بينهم هو النظام القبلي، حتى في الممالك المتحضرة التي نشأت بالجزيرة: كمملكة اليمن في الجنوب، ومملكة الحيرة في الشمال الشرقي، ومملكة الغساسنة في الشمال الغربي، فلم تنصهر الجماعة فيها في شعب واحد، وإنما ظلت القبائل واحدات متماسكة.
والقبيلة العربية مجموعة من الناس، تربط بينها واحدة الدم (النسب) ، وواحدة الجماعة، وفي ظل هذه الرابطة نشأ قانون عرفي ينظم العلاقة بين الفرد والجماعة، على أساس من التضامن بينهما في الحقوق والواجبات، وهذا القانون العرفي كانت تتمسك به القبيلة في نظامها السياسي والاجتماعي «1» .
والقبيلة لها رئيس يسمى «السيد» أو «الشيخ» وأحيانا يطلقون عليه الأمير، أو الملك.
وهذا الرئيس إنما ترشحه للرياسة منزلته من القبيلة وصفاته، وخصائصه، من شجاعة، ومروءة، وكرم، ونحوها، فمن ثمّ لم تكن هذه الرئاسة وراثية، فقد تنتقل هذه الرئاسة إلى ابنه إذا كان كفئا وإلا فلابن أخيه، أو لغيره إذا لم يكن كذلك.
ولرئيس القبيلة حقوق أدبية ومادية، فالأدبية أهمها احترامه وتبجيله، والاستجابة لأمره، والنزول على حكمه وقضائه، وأما المادية فقد كان له في كل غنيمة تغنمها (المرباع) وهو ربع الغنيمة، و (الصفايا) وهي ما يصطفيه لنفسه من الغنيمة قبل القسمة، و (النشيطة) وهي ما أصيب من مال العدو قبل اللقاء، و (الفضول) وهو ما لا يقبل القسمة من مال الغنيمة، وقد أجمل الشاعر العربي ذلك بقوله:
__________
(1) مكة والمدينة، ص 34.(1/60)
لك المرباع فينا، والصفايا ... وحكمك، والنشيطة، والفضول «1»
وعليه إزاء هذه الحقوق واجبات كثيرة، ومسؤوليات ضخمة، فهو في السلم جواد كريم، مسؤول عن إكرام الضيوف، وقرى الوافدين، وعابري السبيل، وإغاثة المحتاج من أبناء القبيلة، وإجارة المستجير، وفي الحرب يتقدم الصفوف، ويعقد الصلح، والمعاهدات.
وقصارى القول أنه رمز القبيلة، ولسانها الناطق، وعقلها المعبّر بمعونة العقلاء ذوي التجربة والسنّ من رجال القبيلة.
وتسود الحريّة النظام القبلي، فقد نشأ العربي في جو طليق، وفي بيئة طليقة، فمن ثم كانت الحرية من أخص خصائص العرب، ويعشقونها، ويأبون الضيم والذل.
وكل فرد في القبيلة ينتصر لها، ويشيد بمفاخرها، وأيامها، وينتصر لكل أفرادها محقا أو مبطلا، حتى صار من مبادئهم: «انصر أخاك ظالما، أو مظلوما» وكان شعارهم:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
والفرد في القبيلة تبع للجماعة، وقد بلغ من اعتزازهم برأي الجماعة أنه قد تذوب شخصيته في شخصيتها، قال دريد بن الصمة:
وهل أنا إلا من غزيّة إن غوت ... غويت، وإن ترشد غزيّة أرشد
ممّ تتكون القبيلة؟
وتتكون القبيلة من طبقات ثلاث:
1- طبقة الأحرار:
وهم أبناء القبيلة الصرحاء، وهم الذين يجمع بينهم الدم الواحد، والنسب المشترك.
__________
(1) المرجع السابق، ص 31.(1/61)
2- طبقة الموالي:
وهم من انضموا إلى القبيلة من العرب الأحرار من غير أبنائها بطريق الحلف، أو الجوار، أو العتقاء من الأرقاء فيها.
3- طبقة الأرقاء:
وهم المجلوبون عن طريق الشراء، أو أسرى الحرب «1» .
فالطبقة الأولى: هي صلب القبيلة، وهي تتمتاع بحقوق كثيرة، ولكن يقابلها كثير من الواجبات، نظمها القانون العرفي الذي تحكم به القبيلة.
والطبقة الثالثة: كانت في وضع اجتماعي سيىء، فقد سلبوا معظم حقوقهم الإنسانية، وفرضت عليهم من الواجبات ما أرهقهم، وأهدر إنسانيتهم، وكان من حسنات الإسلام- وما أكثرها- أن ردّ لهؤلاء كرامتهم، وأوصى بهم خيرا، وفتح لهم باب الحرية على مصراعيه.
أما الطبقة الثانية وكانت بين بين، فلهم حقوق، وعليهم واجبات.
ممالك وحضارات في شبه الجزيرة
وقد قامت ممالك وحضارات قديمة في شبه الجزيرة العربية، فنشأت في الجنوب مملكة معين، ثم قتبان، وسبأ، وحمير، وأعظم هذه الممالك:
مملكة سبأ «2»
وقد كانوا ذوي ملك عظيم، وأهل فن هندسي دقيق، وخبرة بإقامة السدود والخزانات، ومن أعظم السدود التي أقاموها «سد مأرب» .
سد مأرب
كانت الأمطار تهطل بغزارة على أرض اليمن ثم تنحدر إلى البحر فتضيع فيه، فلا ينتفع بها إلّا موسم نزولها، وكانت مملكة سبأ قد بلغت مبلغا عظيما في فن العمارة، فعمدوا إلى مكان ضيق يوشك أن يلتقي عنده جبلان عظيمان،
__________
(1) مكة والمدينة في الجاهلية والإسلام، ص 31، 36.
(2) قال علماء النسب: اسم سبأ: عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان قالوا: وكان أول من سبى من العرب فسمي سبأ لذلك، ويقال: إنه أول من لبس التاج.(1/62)
وفي هذا المضيق أقاموا سدا هائلا، وهو «سد مأرب» «1» ، وجعلوا له أبوابا، وعيونا يصرفون منها المياه، وبذلك أمكنهم أن يحتفظوا بالماء وراء السد لينتفعوا به وقت ما يريدون، فزادت رقعة الأرض المزروعة، وزرعوا في العام أكثر من مرة، كما استفادوا به أيضا في التحكم في السيول التي كانت تغرق القرى، وتتلف المزروعات، فكثر الخصب، وعم الرخاء، وعاش أهلها في نعمة عظيمة، وثمار وزروع كثيرة، وأرزاق متنوعة متتالية «2» .
وقد كانوا يتولّون السد بالرعاية والتجديد، فكان كلما تهدم منه جانب أسرعوا بإصلاحه حتى لقد حدث ذلك عدة مرات، فلما ضعفت الدولة في اخر أيامها شغلها ذلك عن العناية بالسد فبدأ يضعف، وقلّت مقاومته للسيول الجارفة، فانهار أمامها انهيارا يكاد يكون كليا، فعمّ السيل البلاد، وسبب الدمار والخراب، وهو ما عبر عنه القران الكريم «بسيل العرم» «3» وبسبب هذا السيل العام، وما حدث قبله من سيول كثيرة، تبدلت الحال غير الحال، وعمّ الخراب الديار والبلاد، وبعد أن كانت بلادهم ذات بساتين مثمرة، وزروع نافعة، صارت ذات أشجار لا تغني ولا تسمن من جوع، وذلك كما قال تعالى:
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) «4» .
وبسبب هذه السيول المتلاحقة، ولا سيما أعظمها، وهو سيل العرم، كانت هجرة بعض القبائل العربية من اليمن، فتفرقوا في غور البلاد ونجدها، حتى
__________
(1) في القاموس: مأرب كمنزل موضع باليمن.
(2) البداية والنهاية، ج 2 ص 199.
(3) العرم: الصعب الشديد فهو إضافة الموصوف إلى الصفة، وقيل العرم: المطر الشديد، وقيل اسم الوادي الذي كان يأتي منه السيل وبني فيه السد، وقيل العرم: جمع عرمة وهو كل ما بني لحجز الماء فهو اسم للسد.
(4) الايتان 16- 17 من سورة سبأ.(1/63)
صار مثلا «تفرقوا أيدي سبأ» فنزلت طوائف منهم الحجاز، ومنهم خزاعة نزلوا ظاهر مكة، ومنهم أهل المدينة- وهم الأوس والخزرج- فكانوا أول من سكنها، ونزلت طوائف أخرى منهم بالشام، وهم الذين تنصروا فيما بعد، وهم: غسان، وعاملة، وبهراء، ولخم، وجذام، وتنوخ، وتغلب، وغيرهم «1» ، وأقام أكثرهم باليمن منهم: مذحج، وكندة، وأنمار، والأشعريون، وبجيلة، وحمير، وقد كان انهيار السد سببا في سقوط مملكة (سبأ) وقيام مملكة حمير.
ملوك سبأ
وكان أعظم ملوك سبأ (بلقيس) وقد قص القران قصتها مع سيدنا سليمان عليه السلام، وقصته مع الهدهد حينما غاب، ثم أتى له بخبرها، ومما قصه الله- تبارك وتعالى- يتبين لنا أنها وقومها كانوا يعبدون الشمس من دون الله، وما كانت تتمتاع به مملكتها من أسباب القوة والرخاء، وما كان لها من مجلس شورى، وما كانت تتصف به من عقل ورزانة، وما بلغ فن المعمار في عهدها، وكيف كان عرشها على درجة من الفخامة، والأبهة، اقرأ إن شئت قوله تعالى:
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) ....
إلى قوله تعالى:
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً
__________
(1) البدآية والنهاية، ج 2 ص 159، 161.(1/64)
كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)
«1» .
مملكة حمير
وبعد أن تضعضع ملك سبأ، وضعف أمر القائمين عليه قامت مملكة «حمير» ، وقد حاولت أن تصلح السدود الموجودة، ولكنها لم تلبث أن انهارت مرة أخرى، وكان من ملوكهم ملك اسمه (ذو نواس) وكان قد اعتنق اليهودية، وكان باليمن نصارى يسكنون (نجران) وقد تسربت النصرانية إلى بلاد اليمن من الحبشة، وكان (ذو نواس) متعصبا لليهودية، فلهذا، ولخوفه أن يمتد نفوذ الحبشة إلى بلاده عن طريق النصارى خيّرهم بين اعتناق اليهودية، أو الموت، فأبوا اعتناق اليهودية، فحفر لهم أخدودا- شقا في الأرض- وأضرمه نارا، ثم صار يعرض عليهم اليهودية، فمن أبى قذفه في النار، حتى أفنى الكثيرين منهم بهذا العمل العاري عن الرحمة والإنسانية، وقيل إنه وأتباعه هم المرادون بقوله تعالى في سورة البروج:
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) «2» .
فلو صح أنهم المرادون بالايات، فيكون هؤلاء المسيحيون كانوا على التوحيد الحق الذي جاء به عيسى عليه السلام، وقيل في أصحاب الأخدود غير ذلك «3» .
__________
(1) الايات 20- 44 من سورة النمل.
(2) الايات 4- 8 من سورة البروج.
(3) فقد روى الإمام مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده قصة أخرى تغاير هذه في التفاصيل إلا أنها تتفق معها في الغاية، وذكر ابن إسحاق قصة أخرى قريبة مما ذكرها مسلم إلا أنها تختلف بعض الشيء، والذي يظهر لي- والله أعلم- أن قصة الأخدود تعددت زمانا ومكانا، وأشخاصا، وإن كانت نهايتها واحدة وهي فتنة بعض المؤمنين(1/65)
اثار سبأ وحمير
وقد خلّفت سبأ وحمير اثارا تدل على العظمة، والرقي، والحضارة، وهي تشمل كثيرا من الأطلال والنقوش، كما كان لها أسطول ضخم ينقل البضائع بين موانىء اليمن، والهند، والصين، والصومال وسومطرة، بحيث كانت التجارة شبه احتكار في يدها، وكذلك كانت سبأ في إبان عظمتها التجارية تسيطر على طرق النقل التجارية التي تجتاز الحجاز متجهة إلى الشمال حيث الشام و (العقبة) ومنها إلى البحر الأبيض «1» .
استيلاء الحبشة على اليمن
وبعد قصة الأخدود المحزنة فرّ رجل من أهل نجران، وذهب إلى قيصر الروم يستنصره، فكتب قيصر إلى النجاشي ينيبه عنه في الدفاع عن النصرانية، وأمده بالسفن، فجرّد النجاشي لذلك حملة بقيادة (أرياط) فانتصر على الحميريين، وأغرق (ذو نواس) نفسه لما عاين الهزيمة وبذلك أصبحت اليمن تابعة للحبشة.
أبرهة
ولم يطل الأمر لأرياط، فقد تمرد عليه أحد مساعديه، وهو (أبرهة) فقتله غيلة وغدرا، وخلص الأمر له، وأبرهة هذا هو الذي قصد مكة لهدم الكعبة ولكن الله رد كيده، ونكل به وبجيشه كما سيأتي.
استيلاء فارس على اليمن
ثم فر أحد أولاد ملوك حمير، وهو (سيف بن ذي يزن) إلى ملك الفرس واستنصره على الأحباش، فأرسل جيشا بقيادة (وهرز) ، وتعاون هو و (سيف)
__________
- الصادقين عن دينهم بعرضهم على النار، فلما أبوا الفتنة رموا فيها، وكان من أسرار الإعجاز القراني أن جاء على هذا النهج الحكيم، من غير تعيين للأشخاص، ولا تحديد للزمان، والمكان لتشمل كل هؤلاء، الذين وقع بهم البلاء (البداية والنهاية، ج 2 ص 142- 145) .
(1) التاريخ الإسلامي، والحضارة الإسلامية، ج 1 ص 49.(1/66)
على القضاء على الأحباش، ولما تم انتصار الفرس أمر كسرى أن يتوج سيف بن ذي يزن ملكا على اليمن، ثم لم يلبث أن قتله الأحباش الذين استبقاهم عبيدا له، وقيل: كان بتدبير من الفرس، ولم يزل الأمراء الفرس يتتابعون على اليمن حتى انتهى الأمر إلى (باذان) ، فلما أرسل النبي كتابا إلى كسرى، داعيا له إلى الإسلام، أمر كسرى (باذان) أن يأتي بالنبي مكبلا، فأرسل اثنين للنبي يطلبانه، فقابلهما النبي صلّى الله عليه وسلّم بحلم، وقال لهما: «إن ربي قتل ربكم في ليلة كذا» وكان كسرى قد قتله ابنه في هذه الليلة، فرجعا إلى باذان، وأخبراه، فلما استيقن الخبر أسلم بسبب هذا، فأبقاه النبي أميرا على اليمن.
مملكة الأنباط
وكذلك قامت في الشمال مملكة الأنباط، وهم قبائل بدوية نزحت من الأرض المعروفة اليوم بشرق الأردن، ونزلت جنوب سوريا، وكوّنت لها مملكة امتدت من غزة شمالا حتى العقبة جنوبا، وقد تحكمت هذه المملكة في طريق التجارة بين الشمال والجنوب، وعاصمة مملكتهم (البتراء) أو (بطره) ، وهي مدينة شهيرة في بلاد العرب حتى اليوم، تمتاز باثارها الفخمة، وبخاصة أنقاض المعبد الذي كان به الالهة التي يعبدها (الأنباط) ، ولا تزال أعمدته الشاهقة شاهدا على ما وصلت إليه هذه المملكة من حضارة ورقي «1» .
مملكة الحيرة وغسان
وكذلك تكونت في الشمال الشرقي من شبه الجزيرة على تخوم فارس (مملكة الحيرة) وتكونت في الشمال الغربي على حدود الروم مملكة (غسان) ، وكانت كل من فارس والروم تتعرض لهجمات بعض القبائل العربية في شمال الجزيرة، يختطفون خلالها ما يستطيعون الحصول عليه ثم يفرون عائدين إلى قلب الجزيرة، حيث لا تستطيع جيوش الفرس والروم ملاحقتهم خوفا من وعورة الطريق، وقلة الماء، لذلك عمد الفرس والروم أن يقيموا حاجزا بينهم
__________
(1) المرجع السابق، ص 53، 54.(1/67)
وبين العرب. وكان ذلك الحاجز عبارة عن بعض القبائل العربية تألّفها الفرس والروم وأسكنوها في شمال شبه الجزيرة، وأمد كل من الفرس والروم هذه القبائل بعون من السلاح والمال، وكانت هذه القبائل تعرف مسالك الجزيرة، وتستطيع الوقوف في وجه هجمات المغيرين، وبذلك تكونت في الحيرة مملكة تحمي الفرس، وتحميها الفرس، وتكونت مملكة غسان تحمي الروم، وتحميها الروم.
ملوك الحيرة
ومن أشهر ملوك الحيرة: عمرو بن عدي، والمنذر بن ماء السماء، والنعمان بن المنذر، وقد غضب كسرى على النعمان لأنه أنف أن يزوج أحدا من بناته وأخواته من كسرى، وأولاده، فتوعده كسرى وطلبه، ولكن النعمان هرب، فظفر به وألقاه في السجن حتى مات.
ملوك الغساسنة «1»
وهم من قبيلة جفنة وكانت (جلّق) - دمشق- عاصمتهم، ومن أشهرهم: الحارث بن جبلة، والمنذر بن جبلة، وجبلة بن الأيهم، وهو اخر ملوك الغساسنة، وفي عهده فتح المسلمون بلاد الشام، (وجبلة) هو صاحب القصة المشهورة مع سيدنا عمر بن الخطاب «2» ، وبسببها تنصّر بعد أن أسلم، ثم لحق ببلاد الروم.
وكان ملوك الحيرة، وغسان بوصفهم من سلالة يمنية يحتفظون في مظاهرهم وحضارتهم بالحضارة اليمنية. وأبرز مثال لذلك القصران الشهيران:
(الخورنق) و (السدير) .
على أن أهم دور قامت به هاتان المملكتان هو أنهما كانتا جسرا عبرت عليه
__________
(1) سموا باسم بئر نزلوا عليه وهم خارجون من اليمن.
(2) ذلك أنه وطىء إزاره وهو يطوف بالكعبة رجل مسلم، فلطمه جبلة لطمة شديدة، فذهب الرجل شاكيا إلى أمير المؤمنين عمر، فأراد أن يقصه منه، ففر ثم تنصر ولحق ببلاد الروم حتى مات.(1/68)
ألوان من حضارة الفرس والروم إلى شبه الجزيرة، وأهم هذه الألوان الحضارية هي: الدين، وضروب من المعازف، وأدوات اللهو، والقراءة، والكتابة، وبعض الألفاظ اللغوية، والفنون الحربية وغيرها.
الحالة الدينية عند العرب «1»
يكاد يتفق علماء الأديان على أن التدين غريزة في الإنسان، وقد عبر عن هذه الحقيقة معجم (لاروس) للقرن العشرين بقوله: «إن الغريزة الدينية مشتركة بين كل الأجناس البشرية حتى أشدها همجية، وأقربها إلى الحياة الحيوانية، وإن الاهتمام بالمعنى الإلهي، وبما فوق الطبيعة، هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية، وإن هذه الغرايز الدينية لا تخفى بل لا تضعف ولا تذبل» ، وشرح (بارتلمي سانت هلير) نشأة التدين بقوله: «ما العالم؟
ما الإنسان؟ من أين جاا؟ من صنعهما؟ ما نهايتهما؟ وما الموت؟ وماذا بعد الموت؟ ... هذه الأسئلة لا توجد أمة، ولا شعب، ولا مجتمع إلا وضع لها حلولا جيدة، أو رديئة، مقبولة أو سخيفة، وهذا هو التدين» «2» .
وقد اختلف علماء الأديان في تحقيق الظروف التي تنمّي غريزة التدين في النفس، فيرى بعضهم أنها تنمو حيث يصل الإنسان إلى مستوى من السمو الفكري، والوعي الثقافي، الذي يفكر فيه: كيف خلق؟ ومن خلقه؟ وإلى أين يصير؟
ويرى بعضهم أن غريزة التدين تنمو حيث يظهر اختلاف المظاهر الكونية، وحين يشتد إحساسه بالضعف أمام هذه المظاهر.
ويرى فريق ثالث: أنها تنمو تبعا للرخاء، وهدوء البال، فيجد فراغا من شغله، وهمومه، للبحث في الكون، وخالقه، ومدبره.
__________
(1) حينما يتكلّم عن الدين كظاهرة من الظواهر البشرية يراد به ما هو أعمّ من أن يكون سماويا أو أرضيا، حقا أو باطلا.
(2) «الدين» ، ص 75، 76.(1/69)
والحق أن كلّا من هؤلاء نظر إلى المسألة من جانب خاص، ولا يمكن أن ينهض واحد منها ليكون سببا لنمو فكرة التدين عند جميع البشر، وفي جميع البيئات، والظروف والملابسات «1» .
ومهما يكن من شيء فقد كان العرب من طوائف البشر المتدينين، بل والمتصلبين في عقائدهم على ما كان فيها من زيغ وضلال، ووثنية.
الوثنية
وقد كان معظم العرب وثنيين يعبدون الحجارة من الأصنام، والأوثان، والأنصاب «2» ، بل كان بعض معبوداتهم شجرة كبيرة يعظمونها «3» ، وليس من شك في أن دين إبراهيم عليه السلام كان التوحيد الخالص، وكذلك دين إسماعيل، قال تعالى:
وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) «4» .
وليس من شك في أن أبناء إسماعيل وذريته كانوا على التوحيد الخالص وإنما طرأت عليهم الوثنية بعد.
نشأة الوثنية ببلاد العرب
وقد اختلف العلماء في: متى نشأت الوثنية في بلاد العرب؟ وعلى يد من دخلت؟
فقال فريق من العلماء إن أول من أدخل الأصنام إلى بلاد العرب
__________
(1) التاريخ الإسلامي والحضارة، ج 1 ص 86.
(2) فرّق بينها ابن الكلبي بأن الصنم ما كان على صورة إنسان من خشب، والوثن ما كان على صورة إنسان من حجر، والنصب حجارة تنصب على هيئة هيكل أو بناء، فيعبدونها ويذبحون عندها.
(3) تفسير الزمخشري عند تفسير قوله تعالى في سورة النجم أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ، وَالْعُزَّى....
(4) الاية 125 من سورة البقرة.(1/70)
عمرو بن لحيّ «1» الخزاعي، فقد ذكر ابن إسحاق أنه خرج إلى الشام وبها يومئذ العماليق، وهم يعبدون الأصنام، فاستوهبهم واحدا منها وجاء به إلى مكة، فنصبه في الكعبة، وهو (هبل) وكان قبل ذلك في زنم الجراهمة قد فجر رجل يقال له: (إساف) بامرأة يقال لها: (نائلة) في الكعبة، فمسخهما الله حجرين كي يعتبر بهما الناس، ويتعظوا، فأخذهما عمرو بن لحي فنصبهما حول الكعبة، فصار من يطوف يتمسح بهما.
وروى ابن الكلبي أن سبب ذلك أن عمرو بن لحي كان له تابع من الجن يقال له: أبو ثمامة، فأتاه ليلة، فقال: أجب أبا ثمامة، فقال لبيك من تهامة، فقال: ادخل بلا ملامة، فقال: ائت سيف جدة، تجد الهة معدة، فخذها ولا تهب، وادع إلى عبادتها تجب، قال: فتوجه إلى جدة «2» ، فوجد الأصنام التي كانت تعبد في زمن نوح وإدريس، وهي: ودّ، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر «3» ، فحملها إلى مكة، ودعا إلى عبادتها، فانتشرت بسبب ذلك عبادة الأصنام في العرب، وصارت فيهم بعد أن كانت في قوم نوح. وفي مسند الإمام أحمد «أول من سيّب السوائب، وعبد الأصنام عمرو بن لحي الخزاعي» «4» .
ويذكر ابن الكلبي رأيا اخر في منشأ عبادة الأصنام، ذلك أنهم كانوا لا يظعن من مكة ظاعن إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم، وصبابة به، فحيثما حل وضعوه، وطافوا به كطوافهم بالكعبة؛ تيمنا منهم بها، وصبابة بالحرم، وحبّا له، وهم بعد يعظمون الكعبة، ومكة، ويحجون
__________
(1) بضم اللام وفتح الحاء- المهملة- وتشديد الياء.
(2) بضم الجيم وتشديد الدال المهملة: بلد بالحجاز.
(3) في صحيح البخاري عن ابن عباس أن ودا، وسواعا، ويغوث، ويعوق، ونسرا كانت أسماء أناس من عظاماء قوم نوح، وصالحيهم، فلما ماتوا صنعوا لهم هذه التماثيل لتكون تذكارا لهم، وعظة، واعتبارا لغيرهم، ليفعل مثل فعلهم، وبتوالي الزمن تنوسي هذا المعنى وعبدت من دون الله، ثم نقلها عمرو بن لحي إلى العرب.
(4) فتح الباري، ج 7 ص 359، 360.(1/71)
ويعتمرون، ثم لم يلبثوا أن عبدوا ما استحبوا من هذه الحجارة، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وصارت إلى ما صاروا إليه الأمم قبلهم «1» .
ومهما يكن من شيء فقد انتشرت عبادة الأصنام في بلاد العرب، وكان من أعظم أصنامهم (هبل) الذي كان بجوف الكعبة، وكان من العقيق «2» على صورة إنسان، وكان مكسور الذراع، فأبدله القرشيون ذراعا من ذهب، ومن أشهرها (ودّ) وكان لكلب بدومة الجندل، أما (اللّات) فكانت بالطائف لثقيف، وكانت صخرة كبيرة تعظمها ثقيف، وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بهدمها بعد خضوعهم، ودخولهم في الإسلام، وأما (العزّى) فكانت بوادي نخلة، وقد قطعها خالد بن الوليد بأمر النبي، وأما (مناة) فكانت بالمشلّل من قديد «3» على ساحل البحر الأحمر، وكانت الأنصار وغسان يعظمونها قبل الإسلام، وكانوا يحجون إليها، وكان من أهلّ لها لم يطف بين الصفا والمروة، ويتحرج من ذلك، فلما أسلموا بقوا على تحرجهم فأنزل الله قوله:
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما (158) «4» .
فجاءت الاية لنفي هذا الحرج الذي كان في نفوسهم، فلذلك لم يكن في نفي الجناح وهو الحرج ما ينفي وجوب السعي أو فرضيته، وكان الواحد منهم يصنع لنفسه الصنم من العجوة أو الحلوى فإذا جاع أكله! ووجد أحدهم يوما صنما له وقد بال عليه الثعلب، فرمى به وقال:
أربّ يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب
__________
(1) الأصنام، ص 6.
(2) هذا يدل على أن بعض الأصنام قد يكون من غير الخشب والحجر، وأن ما ذكره ابن الكلبي أمر غالبي.
(3) مكان بين مكة والمدينة.
(4) الاية 158 من سورة البقرة.(1/72)
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى
ولم يكن العرب يعتقدون أنها تخلق، أو تدبر الكون، وإنما كانوا يعتقدون أن الخالق هو الله قال عز شأنه:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) «1» .
أي كيف يصرفون عن عبادة الله الحق إلى عبادة الأصنام. وقال:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) «2» .
ولكنهم كانوا يزعمون ما حكاه الله تعالى عنهم:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى (3) «3» .
وهكذا صدق عليهم قوله تعالى:
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) «4» .
ومن هذه الايات يتبين لنا أن الله- عزّ شأنه- نفى الوسائط بينه وبين خلقه في عبادته، وجعل طريق الوصول إليه مفتوحا لمن يريد، وأن المشركين ناقضوا أنفسهم حينما أقروا بألوهية الله، وأشركوا معه غيره في العبادة.
عبادة الملائكة والجن
ومن العرب من كان يعبد الملائكة ويسمّيها بنات الله، ومنهم من كان يعبد
__________
(1) الاية 87 من سورة الزخرف.
(2) الاية 61 من سورة العنكبوت.
(3) الاية 3 من سورة الزمر.
(4) الاية 106 من سورة يوسف.(1/73)
الجن، زاعما أن بينها وبين الله نسبا وصهرا، قال تعالى موبخا لهم ومنكرا عليهم، ومسفّها اراءهم:
أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) «1» .
فالجنّة المراد بها الجن وهو الظاهر، وقيل: المراد بها الملائكة، ومنهم من زعم أن الله اتخذ ولدا من الملائكة، قال سبحانه في الرد عليهم:
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) «2» .
إنكار البعث
ومن عقائدهم الباطلة إنكار البعث، وقد قرر القران الإنكار في ايات عديدة، قال سبحانه حكاية لمقالتهم:
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) «3» .
وقال:
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) «4» .
__________
(1) الايات 153- 158 من سورة الصافات.
(2) الايتان 26- 27 من سورة الأنبياء.
(3) الايتان 36- 37 من سورة المؤمنون.
(4) الايات 1- 4 من سورة ق.(1/74)
وقال:
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) «1» .
وكان بعضهم دهريين يقولون كما حكى الله عنهم:
وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ (24) «2» .
إنكارهم الرسالة
وكانوا ينكرون رسالة الرسل، وأن يرسل الله رسولا من البشر قال تعالى:
أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) «3» .
وقال إنكارا عليهم، وبيان أن الله ما أرسل رسولا إلا من البشر:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ (44) «4» .
وقال أيضا:
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) «5» .
__________
(1) الايتان 78- 79 من سورة يس.
(2) الاية 24 من سورة الجاثية.
(3) الاية 2 من سورة يونس.
(4) الايتان 43- 44 من سورة النحل.
(5) الايتان 7- 8 من سورة الأنبياء.(1/75)
الاستقسام بالأزلام «1»
ومن عقائدهم الاستقسام بالأزلام، وكانت ثلاثة مكتوب على أحدها «أمرني ربي» ، وعلى الاخر «نهاني ربي» ، والثالث غفل- ليس عليه شيء-.
كان أحدهم إذا أراد سفرا، أو غزوا، أو تجارة، أو نكاحا، أو أمرا ما ضرب القداح، وكانت عند سادن- خادم- الصنم الأكبر (هبل) ، وكانت توضع في خريطة «2» ، ثم يجلجلها، ثم يضع السادن يده، فإذا خرج الامر مضى لشأنه، وإذا خرج الناهي أمسك، وإذا خرج الغافل أجالها مرة أخرى «3» .
وقد حرم الإسلام هذا قال تعالى:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ....
إلى قوله: ... وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ (3) «4» .
وقال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) «5» .
التحليل والتحريم
وقد كانوا يحلّلون ويحرمون ما لم يأذن الله به، ومن ذلك تحريمهم البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، وكان أول من سيّب السوائب عمرو بن لحيّ، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه «6» في النار، وكان أول من سيب السوائب» .
__________
(1) الأزلام جمع زلم بفتح الزاي واللام: القدح وهو قطعة من خشب، والاستقسام: طلب معرفة ما قسم له.
(2) كيس من جلد.
(3) تفسير الكشاف عند قوله: «وأن تستقسموا بالأزلام» .
(4) الاية 3 من سورة المائدة.
(5) الاية 90 من سورة المائدة.
(6) في القاموس «القصب- بالضم- الظهر والمعي» أي يجر أمعاءه في النار.(1/76)
أما البحيرة فهي التي بحرت أذنها أي شقت، كانت الناقة، أو الشاة إذا ولدت خمسة أبطن شقوا أذنها، وتركوها للطواغيت- الأصنام- فلا يركبها أحد، ولا ينتفع بلحمها ولا وبرها، ولا لبنها.
وأما السائبة: فكان الواحد منهم ينذر إن برأ من مرضه، أو قدم من سفر ليسيّبنّ بعيرا. فكانوا يتركونه لالهتهم فلا يحمل عليه شيء.
وأما الوصيلة: فهي الناقة البكر تبكر في أول نتاجها بأنثى ثم تثني بأنثى فكانوا يسيّبونها لالهتهم، ويقولون: وصلت إحدى الأنثيين بالاخرى، ليس بينهما ذكر.
وأما الحام: فهو فحل الإبل إذا نتج منه عشرة أبطن قالوا: حمى ظهره، ويتركونه لأصنامهم، ولا ينتفعون منه بشيء. وهذا ولا شك تشريع بما لم يأذن به الله، وفيه إضاعة للمال بغير داع؛ فلذلك أنكر الله سبحانه عليهم ذلك، قال عز شأنه:
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) «1» .
كما بين لهم أن التحليل والتحريم من الله، وأن صنيعهم هذا كذب، وافتراء على الله قال عز شأنه:
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) «2» .
وكذلك جعلوا للأصنام نصيبا في الأنعام والزروع، وجعلوا لله نصيبا واثروا جانب الأصنام على جانب الله، قال سبحانه:
__________
(1) الاية 103 من سورة المائدة.
(2) الاية 116 من سورة النحل.(1/77)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ «1» وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ «2» ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) «3» .
وكذلك كانوا يحرمون ذكور الأنعام حينا، ويحرمون إناثها حينا اخر، وتارة ثالثة كانوا يحرمون الذكور والإناث، لا يستقرون على حال ولا يستندون إلى حجة، فجادلهم الله بالحكمة، والمنطق القويم، فقال سبحانه:
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) «4» .
إلى غير ذلك من ابتداعاتهم وافترااتهم.
__________
(1) أي لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان، والتصدق على الفقراء والمساكين.
(2) من إنفاق عليها بذبح الذبائح عندها والعناية بها، وإجراء الأرزاق على سدنتها ونحو ذلك.
(3) الاية 136 من سورة الأنعام.
(4) الايتان 143- 144 من سورة الأنعام.(1/78)
اليهودية والنصرانية في جزيرة العرب
أما اليهودية فقد كانت بخيبر وما جاورها، ويثرب (المدينة) وفي بلاد اليمن. وفي الحق أن اليهودية لم تجد قبولا ولا انتشارا في بلاد العرب، ولعل ذلك لأن اليهود يزعمون أنهم شعب الله المختار، فلذلك لم يقبل العربي أن يدخل دينا يجعله في طبقة دنيا عن طبقة دعاة هذا الدين، وأيضا فقد كانوا لا يهمهم نشر دينهم، بقدر ما يهمهم جمع الأموال، هذا إلى أن أخلاقهم التي كانوا يتصفون بها من اللؤم، والغدر، والخيانة، والحرص والشره إلى المال، والتي تعتبر على الضد من أخلاق العرب- زهّدت العرب في دينهم، والانتظام في سلكهم وجماعتهم.
أما النصرانية فكانت منتشرة بنجران شمال اليمن، وطبيعي أنها جاءت من الحبشة، وفي شمال الجزيرة في دولة الغساسنة، وقد كانت وثيقة الصلة بالروم، فمن ثم انتشرت فيها النصرانية أكثر من غيرها، وفي الحيرة فقد تنصر معظم الأسرة المالكة، وقد ذكر ياقوت في «معجم البلدان» أنه كان بالحيرة بيعة «1» - كنيسة- وأنها من أقدم الكنائس ببلاد العرب، وقد ذكر أنه كان على واجهتها كتابة نصها: «بنت هذه الكنيسة هند أمة المسيح، وأم عبده» وفي غير هذه الأقاليم لا تجد أثرا يذكر للنصرانية.
والسبب في عدم انتشار النصرانية في بلاد العرب التعقيدات التي فيها ولا سيما في باب الألوهية، فإنها لا يقبلها العقل العربي، والأمور التي يزعم القسس أنها من الأسرار، وطبيعة العربي تأبى ذلك أيضا.
__________
(1) البيعة- بكسر الباء- متعبد النصارى، وتجمع على بيع بكسر الباء وفتح الياء.(1/79)
الحنيفيون «1»
وقد كان في العرب من يدين بشريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، في الألوهية والتوحيد، والإيمان بالبعث، واليوم الاخر، وأن رسولا سيبعث في اخر الزمان، ويخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وهم (الحنيفيون) منهم:
1- قسّ بن ساعدة الإيادي: كان خطيبا، حكيما، عاقلا، له نباهة، وفضل، وكان يدعو إلى توحيد الله، وعبادته، وترك عبادة الأوثان، كما كان يؤمن بالبعث بعد الموت، وقد بشّر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد روى أبو نعيم في دلائل النبوة عن ابن عباس قال: «إن قس بن ساعدة كان يخطب قومه في سوق (عكاظ) فقال في خطبته: سيعلم حق من هذا الوجه- وأشار بيده إلى مكة- قالوا: وما هذا الحق؟ قال: رجل من ولد لؤيّ بن غالب يدعوكم إلى كلمة الإخلاص، وعيش الأبد، ونعيم لا ينفد، فإن دعاكم فأجيبوه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول من يسعى إليه» وقد أدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكنه مات قبل البعثة.
وروي أن النبي قال: «رحم الله قسا كأني أنظر إليه على جمل أورق تكلم
__________
(1) سموا بذلك من حنف عن الشيء أي مال عنه، لأنهم مالوا عن الدين الباطل إلى الدين الحق، سواء أكانوا على دين إبراهيم أم على دين المسيح الحق، وإن كانت الكلمة تطلق على الأولين غالبا، وفي الكتاب الكريم «ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما» .(1/80)
بكلام له حلاوة لا أحفظه» فقال بعض قومه: نحن نحفظه، فقال: «هاتوه» فذكروا خطبته المشحونة بالحكم والمواعظ.
وروى الطبراني في كتابه «المعجم الكبير» والحافظ البيهقي في كتابه «دلائل النبوة» عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قدم وفد عبد القيس على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أيكم يعرف قسّ بن ساعدة الإيادي» ؟ قالوا: كلنا نعرفه يا رسول الله، قال: «فما فعل» ؟ قالوا: هلك، قال: «فما أنساه بعكاظ في الشهر الحرام، وهو على جمل أحمر وهو يخطب الناس وهو يقول: يا أيها الناس:
اجتمعوا، واستمعوا، وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو ات ات، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا ... » إلى اخر خطبته المشهورة ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أفيكم من يحفظ شعره» ؟ فأنشده بعضهم قوله:
في الذاهبين الأول ... ين من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إل ... يّ ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محال ... ة حيث صار القوم صائر
ولذلك قال الجاحظ في «البيان والتبيين» : «ولإياد وتميم خصلة ليست لأحد من العرب، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الذي روى كلام قس بن ساعدة وموقفه على جمله بعكاظ، وموعظته، وهو الذي روّاه لقريش والعرب، وهو الذي عجب من حسن كلامه، وأظهر من تصويبه، وهذا إسناد «1» يعجز عنه الأماني، وتنقطع دونه الامال، وإنما وفق الله ذلك الكلام لقس بن ساعدة، لاحتجاجه للتوحيد، ولإظهاره معنى الإخلاص وإيمانه بالبعث، ولذا كان خطيب العرب قاطبة» «2» .
__________
(1) في البداية والنهاية: «وهذا شرف ... » .
(2) البيان والتبيين، ج 1 ص 52، ط ثالثة.(1/81)
ولو أن الرواية بهذا كانت ثابتة لاستقام كلام الجاحظ، ولكن بعض حفاظ الحديث ونقاده قالوا: في السند راو كذاب متهم بوضع الحديث، وقد حكم الحافظ ابن الجوزي عليها بالوضع، ووافقه بعض الحفاظ.
نعم رويت رواية أمثل من هذه وأقوى، ولكنها تفيد أن الذي أورد القصة بكمالها: نظمها ونثرها بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الصدّيق أبو بكر رضي الله عنه- وأغلب طرق القصة لا تخلو من ضعف «1» ، ومهما يكن من شيء فقد كان قس بن ساعدة من الحنفاء الداعين إلى الله وتوحيده، والإيمان باليوم الاخر في هذا العصر الجاهلي المظلم.
2- زيد بن عمرو بن نفيل: ابن عم الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه- ووالد الصحابي الجليل سعيد بن زيد، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وكان حنيفيا على دين الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، وكان لا يأكل ما ذبح على الأنصاب، وقد التقى بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بمكان يقال له: (بلدح) «2» وكانت قدّمت إلى النبي سفرة «3» ، فأبى أن يأكل منها. ثم قدمت لزيد، فأبى، وقال: لا اكل ما تذبحون على أنصابكم، روى البخاري في صحيحه بسنده عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي الوحي، فقدمت إلى النبي سفرة فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست اكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا اكل إلا ما ذكر اسم الله عليه» ، وكان زيد بن عمرو بن نفيل يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله؟!
وهذه الرواية الصحيحة ترد ما ذكره بعض الكتاب في السيرة من أن
__________
(1) البداية والنهاية، ج 2 ص 231- 237؛ اللالىء المصنوعة، ج 1 ص 55.
(2) مكان في طريق التنعيم، ويقال: واد.
(3) طعام المسافر.(1/82)
النبي أكل مما ذبح على النصب، أما زيد فقد أبى أن يأكل منها، وهو زعم باطل «1» .
ثم ذكر البخاري في قصة طويلة أن زيدا خرج إلى الشام يطلب الدين الحق، فلقي عالما من علماء اليهود، فلم يعجبه ما قال، ثم خرج فلقي عالما من النصارى فلم يقع في نفسه ما عرض عليه، ولكنه وجدهما يذكران دين إبراهيم وأنه هو الدين الحنيف، فلما سمع قولهما في إبراهيم خرج، فلما برز رفع يديه وقال: «اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم» .
وروى البخاري تعليقا «2» عن أسماء بنت أبي بكر قالت: «رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري، وكان يحيي الموؤودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها، أنا أكفيك مؤنتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها:
إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤنتها» «3» .
وروى ابن إسحاق أنه كان يقول: «اللهم لو أني أعلم أحب الوجوه إليك لعبدتك به، ولكني لا أعلمه» ثم يسجد على راحته، وروى ابن سعد، والفاكهي عن عامر بن ربيعة أن زيدا قال له: «إني خالفت قومي واتّبعت ملة إبراهيم، وإسماعيل، وما كانا يعبدان، وكانا يصليان إلى هذه القبلة، وأنا أنتظر نبيا من بني إسماعيل يبعث، ولا أراني أدركه، وأنا أومن به وأصدقه، وأشهد أنه نبي، وإن طالت بك حياة فأقرئه مني السلام» ، قال عامر: فلما أسلمت أعلمت النبي صلّى الله عليه وسلّم بخبره، فردّ عليه السلام، وترحم عليه، وقال: «لقد رأيته في الجنة يسحب ذيولا» ، وروى أن سعيد بن زيد، وعمر بن الخطاب سألا رسول الله عن زيد فقال: «غفر الله له ورحمه، فإنه مات على دين إبراهيم» ولما بعث
__________
(1) انظر: «محمد رسول الحرية» لعبد الرحمن الشرقاوي.
(2) المعلق: هو ما حذف من مبتدأ إسناده راو أو أكثر، وقد يحذف السند كله.
(3) صحيح البخاري- باب زيد بن عمرو بن نفيل.(1/83)
النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان بالشام وبلغه ذلك، عاد ليؤمن به، فقتل بمضيعة من أرض البلقاء «1» .
3- ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى: ابن عم السيدة خديجة رضي الله عنها- وكان ممن كره عبادة الأوثان، وما كان عليه قريش من الضلال، فخرج هو وزيد بن عمرو بن نفيل إلى الشام يبحثان عن دين تركن إليه نفوسهما، فأما زيد فقد انتهى أمره إلى الحنيفية- كما أسلفنا- واتّبع دين إبراهيم، وأما ورقة فأعجبه دين النصرانية فتنصّر، ولعله لقي من الرهبان من بقي على دين عيسى الحق، ولم يبدل، ولم يحرف، فقد كان موحّدا، وبشر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي صحيح البخاري في حديث بدء الوحي الطويل: «وكان امرا قد تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي» ولما أخبره النبي صلّى الله عليه وسلّم بخبره قال: «هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني فيها حيا إذ يخرجك قومك» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أو مخرجي هم؟» قال: نعم لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا» ، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي «2» .
وقد اختلف في وفاته، فذهب الكثيرون إلى أنه مات قبل أن يؤمر النبي بالإنذار على ما في الصحيح، وقيل عاش حتى شهد المبعث، وأنه كان يمر على بلال وهو يعذب على رمضاء مكة ويقول: «أحد. أحد» فيقول ورقة: «أحد.
أحد، يا بلال، والله لئن قتلتموه لأتخذنّه حنانا «3» » .
وأيّا ما كان فقد مات على التصديق بالنبي والإيمان به، روى البيهقي في الدلائل وأبو نعيم أنه لما توفي قال صلّى الله عليه وسلّم: «لقد رأيت القسّ «4» في الجنة عليه
__________
(1) فتح الباري، ج 8 ص 142- 144؛ سيرة ابن هشام، ج 1 ص 224- 232.
(2) صحيح البخاري- باب كيف كان بدء الوحي.
(3) بركة أتبرك به.
(4) القس- بفتح القاف وتشديد السين- والقسّيس- بكسر القاف وتشديد السين-: رئيس النصارى في العلم والدين.(1/84)
ثياب الحرير، لأنه امن بي وصدقني» ، وفي رواية: «رأيت ورقة في بطنان الجنة عليه السندس» ولذلك عدّه بعض العلماء أول من امن بعد خديجة من الرجال، وعده البعض من الصحابة «1» .
4- أمية بن أبي الصّلت بن عوف الثقفي: كان ممن طلب الدين، ونظر في الكتاب، ويقال: إنه ممن دخل في النصرانية، وأكثر في شعره من ذكر التوحيد، والبعث، وأحوال القيامة، وكان يعلم من الكتاب أن نبيا سيبعث من العرب، وكان يرجو أن يكون هو، فتحنّث وتعبّد أملا في هذا، وكأنه ظن أن النبوة تنال بالرياضات، وما علم أنها فضل من الله يؤتيه من يشاء.
ولما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم حسده، وقال: «إن الحنيفية حق، ولكن الشك يداخلني في محمد» . ولما قيل له: أفلا تتبعه؟ قال: «أستحي من نسيّات ثقيف أني كنت أقول لهن: إني أنا هو، ثم أصير تابعا لغلام من بني عبد مناف!!» ولما أنشدت أخته النبي شيئا من شعره قال: «امن شعره، وكفر قلبه» وقد روي في صحيح البخاري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم» وقد عاش حتى وقعة بدر الكبرى: فرثى من مات بها من الكفار، ثم مات من غير أن يسلم بين كمده، وحسده، وحسرته، قيل سنة اثنتين بعد بدر، وقيل سنة تسع.
__________
(1) شرح المواهب، ج 1 ص 292، 293.(1/85)
الحياة الاجتماعية عند العرب
لقد كان للعرب أوضاع، وتقاليد اجتماعية، وقوانين عرفية فيما يتعلق بالأنساب والأحساب، وعلاقة القبيلة بالاخرى، وعلاقة الأفراد بعضهم ببعض، وفيما يتعلق بالأسرة من نكاح، وطلاق، وثبوت نسب، ووضع المرأة في الأسرة، والبنين، والبنات، ونظام التوارث إلى غير ذلك مما يتعلق بالحالة الاجتماعية ويمكن إجمال ذلك فيما يأتي:
1- الاعتزاز الذي لا حدّ له بالأنساب، والأحساب «1» ، والتفاخر بهما
وقد حرص العرب حضرا وبدوا على المحافظة على أنسابهم، فلم يصاهروا غيرهم من الأجناس الاخرى، اعتزازا بالدم العربي أن يختلط بغيره، ولعلك على ذكر مما ذكر انفا من إباء النعمان بن المنذر أن يزوج إحدى بناته من كسرى، أو أحد أولاده مع أنه كان تابعا له، وتحمل في سبيل ذلك ما تحمل.
وقد بالغوا في التفاخر بهما حتى أضاعوا وقتهم فيه، قال تعالى:
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) «2» .
ولما جاء الإسلام قضى على ذلك، وبيّن لهم أن التفاضل إنما هو بالتقوى والعمل الصالح، وأن النسب الأصيل إذا اجتمع إليه العلم والعمل بلغ
__________
(1) النسب- القرابة من جهة الاباء والأمهات، والحسب- بفتح الحاء والسين- ما يعد من الماثر والفضائل كحسن الخلق، والشجاعة، والجود ونحوها، مأخوذ من الحساب، لأنهم كانوا إذا تفاخروا حسب كل واحد مناقبه، ومناقب ابائه.
(2) الايتان 1- 2 من سورة التكاثر.(1/86)
الإنسان غاية الكمال. وكذلك حافظوا على أنساب خيولهم الأصيلة، وإبلهم الكريمة، وهو مظهر من مظاهر الاعتزاز بالأنساب.
2- الاعتزاز بالكلمة، وسلطانها، ولا سيما الشعر
فقد كان شعرهم سجل مفاخرهم وأحسابهم، وأنسابهم، وديوان معارفهم، وعواطفهم، فلا تعجب إذا كان نجم فيهم الخطباء المصاقع، والشعراء الفطاحل، وقد كان البيت من الشعر يرفع القبيلة، والبيت يخفضها، ولذلك ما كانوا يفرحون بشيء فرحهم بشاعر ينبغ في القبيلة لأنه كان يعتبر رمز القبيلة، والمنافح عنها، والمتغني بمفاخرها وأمجادها، وكانت تستهويهم الكلمة الفصيحة، والأسلوب البليغ. ولمكان الفصاحة والبلاغة من العرب كانت اية النبي الكبرى قرانا يتلى، وفي أعلا درجات الفصاحة، والبلاغة، وقد أهّلتهم ملكة البيان لحمل رسالة الإسلام فيما بعد، والمنافحة عنها باللسان والبيان.
3- المرأة في المجتمع العربي
وقد كانت المرأة عند كثير من القبائل كسقط المتاع، فقد كانت تورث، وكان الابن الأكبر للزوج من غيرها من حقه أن يزوجها بعد وفاة أبيه، أو يعضلها عن النكاح، حتى أبطل الإسلام ذلك وكان الابن يتزوج امرأة أبيه، فحرم الإسلام ذلك، وسماه (نكاح المقت) وما كانوا يورثونها ويقولون إنما يرث من يحارب ويجالد حتى جعل الإسلام لها حقا مفروضا، كما كانوا يجمعون بين الأختين حتى حرم ذلك الإسلام.
ومن الحق أن نقول: إن بعض القبائل كانت تجلّ المرأة، وتأخذ رأيها في الزواج، وكتب الأدب والتاريخ فيها الكثير من القصص في ذلك.
والعرب جميعا يغارون على أعراضهم، ويحافظون على نسائهم أكثر من أنفسهم، والعربي قد يقتل، وقد يسطو على الأموال، ولكن تأبى عليه مروءته أن ينتهز ضعف امرأة، أو واحدتها في سفر مثلا، فينتهك عرضها.
والمرأة العربية الحرة كانت تأنف أن تفترش لغير زوجها وحليلها، وكانت(1/87)
أيضا تتسم بالشجاعة تتبع المحاربين وتشجعهم، وقد تشارك معهم في القتال إذا دعت الضرورة.
والمرأة البدوية تشارك زوجها في رعي الماشية، وسقيها، وتغزل الوبر والصوف، وتنسج الثياب، والبرود، والأكسية، مع التصون والتعفف. ومن صفاتها أنها تضجر من الحضر وترى الحرية، والهدوء، والصفاء في البادية، وليس أدل على هذا من قصة (ميسون بنت بحدل) التي تزوجها خليفة المسلمين معاوية بن أبي سفيان، فولدت له يزيد، فإنها لم تطق حياة القصور، والنعيم والترف، وتاقت إلى الخيام، والعيش الجاف، وإلى بدوي مثلها فقالت:
لبيت تخفق الأرواح فيه ... أحبّ إلي من قصر منيف
ولبس عباءة وتقرّ عيني ... أحبّ إلي من لبس الشّفوف
وأكل كسيرة في قعر بيتي ... أحبّ إلي من أكل الرغيف
وخرق «1» من بني عمي ضعيف ... أحبّ إلي من علج «2» عنيف
فلما بلغت معاوية- رضي الله عنه- مقالتها سرّحها، وأعادها معززة إلى أهلها.
4- النكاح والطلاق
[أ- النكاح]
لم يكن للعرب حدّ محدود في النكاح، فقد جاء الإسلام ومنهم من له العشر من النساء والأكثر، والأقل، فقصر ذلك على أربع إن علم أنه يستطيع الإنفاق عليهن، والعدل بينهن، فإن خاف عدم العدل فليكتف بواحدة، وما كانوا في الجاهلية يلتزمون العدل بين الزوجات، وكانوا يسيئون عشرتهن، ويهضمون حقوقهن حتى جاء الإسلام فأنصفهن، وأوصى بالإحسان إليهن في العشرة، وقرر لهن حقوقا ما كنّ يحلمن بها.
__________
(1) بكسر الخاء، وسكون الراء: رجل نحيف هزيل.
(2) العلج: رئيس العجم والمراد به رئيس، غليظ، متعجرف.(1/88)
أنكحة الجاهلية
وكانت هناك في الجاهلية أنكحة كثيرة منها الصحيح الذي هو كأنكحتنا اليوم بخطبة، وولي، ومهر، ومنها الفاسد، فمن الفاسد: نكاح الاستبضاع، ونكاح التواطؤ، ونكاح البغايا، ونكاح الشغار، ونحوها، والنكاح الصحيح كان يلتزمه أكثر العرب، ولا سيما الأشراف منهم. وإليك ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن عائشة- رضي الله عنها- «أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء «1» : فنكاح منها نكاح النساء اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليّته أو «2» ابنته، فيصدقها، ثم ينكحها.
ونكاح اخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها «3» : أرسلي إلى فلان، فاستبضعي «4» منه، ويعتزلها زوجها، ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.
ونكاح اخر: يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها «5» ، فإذا حملت، ووضعت، ومرّ ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، تسمّي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع به الرجل.
ونكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة، لا تمنع من جاءها، وهنّ البغايا، كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن
__________
(1) جمع نحو: أي ضرب وزنا ومعنى أو نوع.
(2) أو للتنويع لا للشك.
(3) حيضها.
(4) أي اطلبي منه المباضعة، وهو الجماع، مشتقة من البضع وهو الفرج، وإنما كانوا يطلبون ذلك من أكابرهم، ورؤسائهم المعروفين بالشجاعة، أو الكرم، أو غير ذلك من الفضائل.
(5) والظاهر أنه يكون عن رضا منها، وتواطؤ بينهم وبينها.(1/89)
دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن، ووضعت حملها جمعوا لها، ودعوا لها القافة «1» ، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط «2» به، ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك.
فلما بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم بالحق هدم نكاح الجاهلية، إلا نكاح الناس اليوم» «3» .
وذكر بعض العلماء أنحاء أخرى لم تذكرها عائشة- رضي الله عنها- كنكاح الخدن وهو في قوله تعالى: وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ كانوا يقولون:
ما استتر فلا بأس به، وما ظهر فهو لوم، وهو إلى الزنا أقرب منه إلى النكاح، وكنكاح المتعة وهو النكاح المعين بوقت، ونكاح البدل: كان الرجل في الجاهلية يقول للرجل: انزل لي عن امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي، وأزيدك «4» .
ومن الأنكحة الباطلة نكاح الشّغار وهو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الاخر ابنته، ليس بينهما صداق.
[ب-] الطلاق
وكذلك كانوا يسرفون في الطلاق من غير أن يكون هناك داع مشروع، أو مقبول، حتى جاء الإسلام فبيّن لهم النبي أن «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» «5» . ولم يكن للطلاق حدّ محدود، فكان الرجل يطلق ثم يراجع، وهكذا فلما جاء الإسلام قيّد ذلك، وأعطى للزوج فرصة لتدارك أمره، ومراجعة زوجته مرتين، فإن طلّق الثالثة فقد انقطعت عروة النكاح، ولا تحلّ له إلا بعد زوج اخر، ففي الكتاب الكريم:
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ «6» .
__________
(1) جمع قائف وهو الذي يعرف شبه الولد بالوالد بالسمات الخفية.
(2) استلحقه به.
(3) صحيح البخاري- كتاب النكاح- باب لا نكاح إلا بولي.
(4) فتح الباري، ج 9، ص 150.
(5) رواه الحاكم وصحّحه.
(6) الاية 229 من سورة البقرة.(1/90)
ثمّ قال بعد:
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ «1» .
ومما كان يلحق بالطلاق في التحريم الظّهار، وهو أن يقول الزوج لزوجته: أنت علي كظهر أمي، وكان تحريما مؤبدا حتى جاء الإسلام، فوسمه بأنه منكر من القول وزور، وجعل للزوج مخرجا منه، وذلك بالكفّارة قال تعالى:
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) «2» .
5- وأد البنات وقتل الأولاد
ومن الماسي التي كانت تزاولها بعض القبائل وأد «3» البنات خشية العار، وقتل الأولاد من الفقر أو خشية الفقر، قال تعالى:
وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) «4» .
وقال:
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ «5» .
__________
(1) الاية 230 من سورة البقرة.
(2) الايات 2- 4 من سورة المجادلة.
(3) الوأد كان بأن يحفر للبنت حفرة في التراب، ثم تلقى فيها حية، ويهال عليها التراب.
(4) الايتان 8- 9 من سورة التكوير.
(5) الاية 151 من سورة الأنعام.(1/91)
وقال:
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) «1» .
وقد ذكروا أن السبب في وأد البنات أن قبيلة حاربت أخرى فغلبتها وسبت نساءها، وبناتها، وتزوجوا بهنّ، فلما تصالحوا خيّر النساء والبنات أن يرجعن إلى أزواجهن وأهليهن، وبين البقاء عند من تزوجوهن فاخترن البقاء، فال رجال القبيلة الاخرى على أنفسهم أن يئدوا البنات وهنّ صغار، ثم فشت هذه العادة عند غير هذه القبيلة، مجاراة لها، أو خوفا أن يصيبها ما أصابها.
وقد بلغ من سفههم أنهم كانوا يجعلون لله البنات، ولهم الذكور، وكان من العار والخزي أن يبشّر الواحد منهم بأن امرأته ولدت أنثى، ويدركه من الحسرة والكمد ما يجعله في حيرة من أمره، وقد بين لنا القران الكريم ذلك بهذا البيان البارع قال سبحانه:
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) «2» .
وكان في العرب قبائل لا تئد البنات، كما كان فيهم من يستقبحون هذه الفعلة الشنعاء كزيد بن عمرو بن نفيل، وقد حدثناك من خبره، فلما جاء الإسلام قضى على ذلك، وكرّم البنات والبنين، وأوصى بهنّ وبهم خيرا، وكان في المثل العالية التي كان يضربها النبي في معاملة بناته، وبناتهن، وأولادهن، وبنات المسلمين أكبر معلم ومهذب في هذا.
__________
(1) الاية 31 من سورة الإسراء.
(2) الايات 57- 59 من سورة النحل.(1/92)
6- الحروب، والسطو، والإغارة
وكانت تقوم بين القبائل الحروب لأتفه الأسباب، من أجل ناقة، أو سباق فرس، أو نحو ذلك، وذلك كحرب البسوس التي قامت بين بكر، وتغلب أربعين عاما من أجل ناقة حتى أكلت الكثير من أبطالهم ورؤسائهم، وكان من ضحاياها كليب بن ربيعة. وكحرب داحس والغبراء، التي قامت ودامت طويلا بسبب سباق فرسين.
وكان يغلب على بعض قبائل البدو السطو والإغارة قصد نهب الأموال، وسبي الأحرار وبيعهم، كزيد بن حارثة فقد كان عربيا حرا، وكسلمان الفارسي فقد كان فارسيا حرا، وقد قضى الإسلام على ذلك حتى كانت تسير المرأة فضلا عن الرجل- من صنعاء إلى حضرموت، لا تخاف إلا الله والذئب على غنمها.
7- العلم والقراءة والكتابة
وقد كان العرب أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، وهذه هي الصفة التي كانت غالبة عليها، ولم يكونوا أهل كتاب وعلم كاليهود والنصارى، بل كان يغلب عليهم الجهل والأمية، والتقليد، والجمود على القديم وإن كان باطلا، وكان فيهم قليل ممن يكتب ويقرأ، ولكنهم مع أميتهم وعدم اتساع معارفهم- كانوا يشتهرون بالذكاء، والفطنة، والألمعية، ولطف المشاعر، وإرهاف الحس، وحسن الاستعداد، والتهيؤ لقبول العلم والمعرفة، والتوجيه الرشيد، ولذلك لما جاء الإسلام صاروا علماء، حكماء، فقهاء، وزالت عنهم الأمية، وصار العلم والمعرفة من أخص خصائصهم.
وكان فيهم من يعلم علم النجوم ومساراتها، والاهتداء بها، ومعرفة بالأنواء، وسقوط الأمطار، وتحسس مخابىء الماء تحت أطباق الأرض، كما مهروا في علم قص الأثر، وهو القيافة، وكان فيهم أطباء كالحارث بن كلدة، وكان طبهم مبنيا على التجارب التي اكتسبوها من الحياة والبيئة.(1/93)
الحالة الأخلاقية عند العرب
مثالب العرب
كان للعرب في جاهليتهم بعض الأخلاق المرذولة كالعنجهيّة، والعصبية، والظلم، وسفك الدماء، والأخذ بالثأر، واغتصاب الأموال، وأكل مال اليتامى، والتعامل بالربا، وشرب الخمر، والسرقة، والزنا، ومما ينبغي أن يعلم أن الزنا إنما كان في الإماء وأصحاب الرايات من البغايا، ويندر أن يكون في الحرائر، وليس أدل على هذا من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أخذ البيعة على النساء بعد الفتح «على ألايشركن بالله شيئا، ولا يسرقن، ولا يزنين» قالت السيدة هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان: أو تزني الحرة؟!!
وكانوا يزاولون ألوانا من اللهو، واللعب، والمجون، والشطارة «1» ، والقمار، وهو الميسر، إلى غير ذلك، وليس معنى هذا أنهم كانوا كلهم على هذا، لا، لقد كان فيهم كثيرون لا يزنون، ولا يشربون الخمر، ولا يسفكون الدماء؛ ولا يظلمون، ويتحرجون من أكل أموال اليتامى، ويتنزهون عن التعامل بالربا.
فضائل العرب
ولكنهم- والحق يقال- كانوا ذوي فضائل وأخلاق كريمة متأصلة فيهم، بل الرأي عندي أن فضائلهم أكثر من مثالبهم، ولهذا اختار الله خاتم أنبيائه
__________
(1) اتباع وسائل الخبث واللؤم، كمغازلة النساء، ومعاكسة الإماء، والتعرض لهن بالليل، وتصنع البطولة.(1/94)
ورسله منهم، واستأهلوا أن يكونوا حملة الرسالة المحمدية الخالدة وتبليغها للعالم كافة، فمن فضائلهم:
1- حب الحرية، وإباء الضيم والذل
والعربي بفطرته يعشق الحرية يحيا لها، ويموت من أجلها، فقد نشأ طليقا لا سلطان لأحد عليه، ويأبى أن يعيش ذليلا، أو أن ينال في شرفه، وعرضه ولو كلّفه ذلك حياته.
2- الشجاعة
فقد كانوا مضرب الأمثال فيها، وقد كان الواحد منهم يقابل الأسد في الصحراء فينازله حتى يقهره، وبعضهم لم يعرف الفرار ولا الهزيمة قط، وقد كان لهذه الفضيلة وزنها حينما جاء الإسلام، وفرض عليهم الجهاد.
3- الكرم
وهو خلق متأصل في العرب، ولا سيما أهل البادية وقد كان الواحد منهم لا يكون عنده إلا فرسه، أو ناقته، فيأتيه الضيف، فيسارع إلى ذبحها، أو نحرها له، وكان بعضهم لا يكتفي بإطعام الإنسان بل كان يطعم الوحش، والطير، وكرم حاتم الطائي سارت به الركبان، وضربت به الأمثال.
4- المروءة والنجدة
والعربي بفطرته ذو مروءة فهو يأبى أن ينتهز ضعف الضعيف، وعجز العاجز كالمرأة، والشيخ، والمريض، وهو ذو شهامة إذا استنجد به أحد أنجده، ويرى من النذلة التخلّي عنه.
5- الوفاء بالعهد
وهو من صفات العرب المشهورة، وقصة السموأل بن عادياء في الوفاء مشهورة، فقد ضحّى بابنه، ولم يقبل أن يخون العهد بتسليم الأدرع التي أودعت عنده، ومن أمثلة ذلك أيضا أنه لما ظفر الحارث بن عبّاد بقاتل ابنه، وهو المهلهل بن ربيعة في حرب البسوس، وهو لا يعرفه قال له: إذا دللتك على(1/95)
المهلهل تطلقني؟ قال له: نعم، فقال له: أنا مهلهل، فاكتفى بأن جزّ ناصيته وتركه، ولم يقبل أن يخلف وعده.
6- العفو عند المقدرة
وقد كان الواحد منهم ينازل خصمه، وقرنه، حتى إذا أمكنه الله منه، عفا عنه وتركه، بل كان يأبى أن يجهز على جريح.
7- حماية الجار وإجارة المستجير
وكانوا إذا استجار بالواحد منهم مستجير أجاره، وربما ضحّى بنفسه وولده في سبيل إجارته، كما كانوا يرعون حقوق الجار، ولا سيما رعاية حرمه، والمحافظة على عرضه، قال شاعرهم:
وأغضّ طرفي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها
8- القناعة والرضا باليسير
ومن أخلاق العرب القناعة، وهي الرضا باليسير، ولعل طبيعة البلاد هي التي فطرتهم على هذا، فقد كان الواحد منهم يسير الأيام مكتفيا بتمرات يقيم بها صلبه، ورشفات من ماء يرطب بها كبده، وقلة تكاليف الحياة جعلتهم يكتفون بالقليل قال قائلهم:
إذا لم تكن إبل فمعزى ... كأن قرون جلتها «1» العصيّ
فتملأ بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غنى شبع وريّ
9- قوة الروح، وعظمة النفس
والعربي يمتاز إلى شجاعته البدنية، بقوة الروح وعظمة النفس، وإذا اجتمعت البطولة النفسية إلى البطولة الجسمانية صنعتا العجائب. وهذا ما حدث بعد تشرفهم بالإسلام، وتواحدهم تحت لوائه فإنهم لم يهابوا الفرس ولا الروم على كثرة عددهم وعددهم، وكان لهم معهم في حروبهم مواقف مشهورة.
__________
(1) المسن منها.(1/96)
10- الصبر على المكاره وقوة الاحتمال
ولعلهم اكتسبوا ذلك الخلق من طبيعة بلادهم الصحراوية الجافة، قليلة الزرع والماء، فألفوا اقتحام الجبال الوعرة، والسير في حرّ الظهيرة، ومرنوا على الحر والبرد، ولهذا لما دخلوا في الإسلام بعد ضربوا في الصبر وقوة الاحتمال مثلا لم تعرف لغيرهم، ولم يؤثر فيهم الحر، والبرد، ولا وعورة الطريق، ولا بعد المسافة، ولا الجوع، ولا الظمأ حينما كلفوا بالجهاد.
هذه الفضائل وغيرها كانت رصيدا مدخرا في نفوس العرب حتى جاء الإسلام فنماها وقواها، ووجهها وجهة الحق والخير، فلا عجب إذا كانوا انطلقوا من شبه جزيرتهم كما ينطلق الملائكة الأطهار، ففتحوا الأرض، وملأوها إيمانا بعد أن ملئت كفرا، وعدلا بعد أن ملئت جورا وظلما، وفضائل بعد أن عمتها الرذائل، وخيرا بعد أنه طفحت شرا، وتحققت سنة الله تعالى لهم حيث قال:
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) «1» .
__________
(1) الاية 5 من سورة القصص.(1/97)
حالة العرب الاقتصادية
كان العرب بدوا، وحضرا. أما البدو فكان عماد حياتهم على تربية النّعم، والانتجاع بها مساقط الغيث ومواطن الكلأ، وكانوا يأكلون من لحومها وألبانها، ويكتسون، ويصنعون خيامهم وأثاثهم من أوبارها وأصوافها، ويبيعون ما زاد عن حاجتهم منها، وكان ثراؤهم بحسب ما يملكون من رؤوس الإبل، والبقر، والغنم.
أما حياة الحضر فمنهم من كانوا يعتمدون في معايشهم على الزراعة:
زراعة الحبوب، والفواكه، والنخيل، والخضر، وذلك في البلاد ذات الأراضي الخصبة كاليمن، والطائف، والمدينة، ونجد، وخيبر وما شابهها، أما الكثرة الكاثرة منهم فكان اعتمادهم على التجارة، ولا سيما أهل مكة فقد كان لهم مركز ممتاز في التجارة وكان لهم بحكم كونهم أهل الحرم منزلة في نفوس العرب، فلا يعرضون لهم، ولا لتجارتهم بسوء، وقد تمنن الله عليهم بذلك في القران الكريم قال تعالى:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) «1» .
وكانوا يجعلون التجارة في قمة وجوه المكاسب والارتزاق.
__________
(1) الاية 67 من سورة العنكبوت.(1/98)
وقد اقتسم بنو عبد مناف التجارة إلى الأقطار فيما بينهم، فكان هاشم يتوجه إلى الشام، وعبد شمس إلى الحبشة، والمطّلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس، وزاول بعض أبنائهم التجارة من بعدهم.
وكذلك اشتهر بالتجارة اليمنيون، ولم يكن نشاطهم مقصورا على التجارة البرية بل اشتغلوا بالتجارة في البحار، فسافروا إلى سواحل أفريقية، كالحبشة والسودان، والصومال، وغيرها من بلاد أفريقيا وإلى الهند وجاوة، وسومطرة، وغيرها من بلاد اسيا، وجزر المحيط الهندي أو البحر العربي كما يسمّى، وقد كان لهم فضل كبير بعد اعتناقهم الإسلام، في نشره في هذه الأقطار.
وكانت وسيلة نقل التجارة هي القوافل التي تتكون من الإبل التي تعتبر سفن الصحراء، لما لها من قوة، وجلد، وصبر على العطش، وتحمل الأسفار البعيدة.
وكان يزاول التجارة بعض الأشراف كهاشم، وأبي طالب، وأبي لهب والعباس، وأبي سفيان بن حرب، وأبي بكر، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله وغيرهم، منهم من كان يتّجر في ماله، ومنهم من كان يعمل لغيره بالأجر، أو المضاربة، كما حدث من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في اتجاره في مال خديجة رضي الله عنها- ومن الأشراف من كان يتّجر له مواليه ومماليكه.
وكان بعض الحضريّين يشتغل برعي الإبل، أو الغنم لنفسه، أو لغيره، ولا غضاضة في هذا سواء أكان من الأشراف، أم من غيرهم، وقد رعى رسول الله الغنم في صغره، وكذلك فعل عمر بن الخطاب وابن مسعود وغيرهما وكانت القوافل تحمل الطيب، والبخور، والمر، والصمغ، واللبان، والتوابل، والتمور، والروائح العطرية، والأخشاب الزكية، والعاج، والابنوس، والخرز، والجلود، والبرود اليمنية، والأنسجة الحريرية، والأسلحة، وغيرها مما يوجد في شبه الجزيرة، أو يكون مستوردا من خارجها، ثم تذهب به إلى الشام وغيرها، ثم تعود محملة بالقمح، والحبوب، والزبيب، والزيوت، والمنسوجات الشامية وغيرها.(1/99)
التعامل بالربا
وكان التعامل بالربا سائدا في الجزيرة العربية، ولعل هذا الداء الوبيل سرى إلى العرب من اليهود الذين استحلوا الربا في معاملة غير شعب بني إسرائيل، وكان للمعاملات الربوية صور مؤلمة وبخاصة (ربا النساء) فقد كان الداين يقول لمدينه: إما أن تقضي وإما أن تربي وأزيدك في الأجل، فيقبل حتى يصير الدرهم أضعافا مضاعفة، وكان يتعامل به الأشراف وغيرهم، ولا سيما في ثقيف بالطائف، وقد كان الربا من المفاسد الاقتصادية التي قضى عليها الإسلام.
وكذلك كانت لهم معاملات أخرى في البيوع، منها ما حرمه الإسلام وأبطله، ومنها ما أقره وعدّل فيه حتى يصير شرعيا، وفي كتب الحديث، والفقه صور كثيرة لهذه البيوع.
رحلتا الشتاء والصيف
وكانت لقريش رحلتان عظيمتان شهيرتان: رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، يذهبون فيهما امنين بينما الناس يتخطفون من حولهم، هذا عدا الرحلات الاخرى التي يقومون بها طوال العام، وقد تمنن الله عليهم بهما فقال سبحانه:
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) «1» .
أسواق العرب
وكان للعرب أسواق مشهورة: عكاظ؛ ومجنّة؛ وذو المجاز «2» . قال الإمام الفيومي: عكاظ- وزن غراب- سوق من أعظم أسواق الجاهلية، وراء قرن المنازل بمرحلة، من عمل الطائف على طريق اليمن، وقال أبو عبيد: هي
__________
(1) سورة قريش.
(2) عكاظ: بضم العين على وزن غراب، ومجنة: بفتح الميم وتكسر، وفتح الجيم وتشديد النون، وذو المجاز: بفتح الميم. أسماء أماكن كانت تقام هذه الأسواق فيها.(1/100)
صحراء مستوية لا جبل بها ولا علم؛ وهي بين نجد، والطائف، وكان يقام فيها السوق في ذي القعدة نحوا من نصف شهر، ثم يأتون موضعا دونه إلى مكة يقال له: سوق مجنة فتقام فيه السوق إلى اخر الشهر؛ ثم يأتون موضعا قريبا منه يقال له: ذو المجاز، فيقام فيه السوق إلى يوم التروية، ثم يصدرون إلى منى «1» .
وكانت عكاظ أشهر هذه الأسواق، وأذكرها وأعظمها. يغشاها العرب من كل أنحاء الجزيرة العربية؛ وإن كانت قبائل مضر أكثر غشيانا لها من غيرها لوقوعها في منطقتها «2» .
وفي السيرة الحلبية «3» : أن العرب كانت إذا حجّت تقيم بعكاظ شهر شوال، ثم تجيء إلى سوق مجنة تقيم فيه عشرين يوما؛ ثم تجيء إلى ذي المجاز فتقيم به إلى أيام الحج؛ ولكن المعروف أن شوال ليس من الأشهر الحرم، وهذه الأسواق إنما كانت تقام فيها، حتى يأمن الناس على أنفسهم، وأموالهم.
ويذكر بعض المؤلفين في أخبار مكة أن العرب كانوا يقيمون بعكاظ هلال ذي القعدة، ثم يذهبون منه إلى مجنة بعد مضي عشرين يوما من ذي القعدة، فإذا رأوا هلال ذي الحجة ذهبوا إلى ذي المجاز فلبثوا فيها ثمان ليال، ثم يذهبون إلى عرفة «4» ، وهو قريب مما ذكره أبو عبيد، وكانوا لا يتبايعون في عرفة، ولا أيام منى حتى جاء الإسلام فأباح لهم ذلك قال تعالى:
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ (198) «5» .
يعني بالتجارة في منى وعرفات.
وقد استمرت هذه الأسواق في الإسلام إلى حين من الدهر، ثم درست،
__________
(1) المصباح المنير مادة «عكاظ» .
(2) مكة والمدينة، ص 84.
(3) ج 1 ص 397.
(4) درر الفوائد المنتظمة، في أخبار الحاج وطريق مكة، ص 66.
(5) الاية 198 من سورة البقرة.(1/101)
فأما عكاظ فتركت عام الحروري بمكة أبي حمزة المختار بن عوف الإباضي في سنة تسع وعشرين ومائة، وخاف الناس أن ينتهبوا، وخافوا الفتنة فتركت حتى الان، ثم تركت مجنة؛ وذو المجاز بعد ذلك؛ واستغنوا بالأسواق بمكة ومنى وعرفات «1» . ولم تكن هذه الأسواق للتجارة فحسب، بل كانت أسواقا للأدب والشعر والخطابة يجتمع فيها فحول الشعراء ومصاقع الخطباء، ويتبارون فيها في ذكر أنسابهم، ومفاخرهم، وماثرهم، وبذلك كانت ثروة كبرى للغة، والأدب، إلى جانب كونها ثروة تجارية، وقد أتاحت هذه الفرص لقريش أن يطعّموا لغتهم بغيرها من لغات القبائل، ويختاروا منها ما يشاؤون، فمن ثمّ كانت اللغة القرشية أعذب اللغات على اللسان، وأحلاها عند الأسماع، وأثراها وأكثرها شمولا، كما كانت هذه الأسواق أدوات تقريب بين اللهجات العربية.
__________
(1) درر الفوائد المنتظمة، ص 67.(1/102)
مدنية العرب وحضارتهم قبل الإسلام
يجمل بي قبل الدخول في الموضوع أن أبين معنى الحضارة «1» .
مفهوم الحضارة عند العلماء المسلمين، أو علماء الاجتماع منهم خاصة هي كما بينها الإمام العلّامة عبد الرحمن بن خالدون في مقدمته «أن الحضارة عبارة عن نمط من الحياة المستقرة، ينشىء القرى والأمصار، ويضفي على حياة أصحابه فنونا منتظمة، من العيش، والعمل، والاجتماع، والعلم، والصناعة، وإدارة شؤون الحياة، والحكم، وترتيب وسائل الراحة، وأسباب الرفاهية» «2» .
أما مفهوم الحضارة عند المحدثين فيعرفها أصحاب المعاجم «بأنها مظاهر الرقي العلمي، والفني، والأدبي، والاجتماعي في الحضر» «3» . ولا يعكّر على هذا التعريف إلا قصر تلك المظاهر على الحضر أي المدن، مع أن المكان لا دخل له في تغيير حقائق الأشياء، وطبائعها، فهل لو وجدت تلك المظاهر، أو بعضها في القرى أصبحت شيئا غير ذلك؟ ما نظنّ هذا، ومن ثمّ يكون تعريف ابن خالدون أسلم منطقا، وأشمل مفهوما، وأدق تحديدا.
ويستخلص من هذين التعريفين أن الحضارة عبارة عن إنتاج الإنسان
__________
(1) الحضارة لغة الإقامة الثابتة المستقرة في المدن والقرى، ويقابلها البداوة. وصلة المعنى اللغوي بالمعنى الاصطلاحي الاتي بيانه ظاهرة، لأن الإقامة الثابتة في المدن أو القرى تستلزم النشاط العقلي والوجداني والسلوكي الذي ينتج الحضارة.
(2) مقدمة ابن خالدون.
(3) المعجم الوسيط.(1/103)
الاجتماعي الواعي، بحيث تتجلّى في هذا الإنتاج خصائصه الفكرية، والوجدانية، والسلوكية. وهذا المفهوم يتسع لكل ما يتصل بالروح، والفكر، والفلسفة، والأخلاق، والقانون، والفنون، فضلا عن الجانب المادي من العمران، وما ينتجه العلم التجريبي والاختراع مما يتصل بجميع مرافق الحياة كالصناعة والزراعة، والطب، والهندسة، وما إليها مما يكون عونا على تيسير العيش، ورغد الحياة.
كما يستخلص من هذا أيضا أن المجتمعات تختلف في نموها الحضاري، بمقدار ما تسهم في تحقيق عناصر الحضارة في حياتها، وبمقدار ما يسعفها وعيها، وظروفها البيئية في هذا الصدد «1» .
بناء على هذا نقول: هل كانت للعرب حضارة قبل الإسلام؟.
نعم. قد كانت لهم حضارة في اليمن، وفي ديار عاد، وفي ديار ثمود، وفي الحيرة، وفي بلاد غسان، وفي بلاد الشام، بل وفي بلاد الحجاز ذاتها: في مكة، والمدينة، والطائف.
وقد علمت ما كان في اليمن من قيام ممالك ذات سيادة وسلطان، ولها نظم وقوانين، ومجالس شورى وقضاء، إلى غير ذلك مما ذكرناه سابقا، وما وصلت إليه الممالك من حضارة زاهية وعلم وفن، فقد أقاموا السدود، والخزانات، للاستفادة بالماء، وعدم تبدده في الصحراء، وبذلك تمّ لهم تنظيم الصرف، والري، وليس من شك في أن هذا يتطلب فنا، وعلما بالأصول الهندسية، وتقدما في الفن المعماري، وناهيك بسد (مأرب) الذي يعدّ من أفخم وأضخم ما صنعه الإنسان في العصور القديمة، وفيما قصه القران الكريم عن مملكة (سبأ) وما كشف عنه علماء الاثار في الزمن الأخير ما يشهد لذلك، وقد بلغت اليمن من بسط العيش، ورخاء الحياة، وفخامة المدنية ما حمل معاصريهم من اليونانيين أن يسموا بلادهم (بلاد العرب السعيدة) .
وكذلك كان في عاد حضارة زراعية، وصناعية، وتجارية، ومعمارية،
__________
(1) من محاضرة في أسبوع القران بجامعة أم درمان الإسلامية للدكتور فتحي الدريني.(1/104)
وكذلك كان في ثمود، وبحسبهم أنهم كانوا ينحتون في الجبال بيوتا في غاية الدقة والإحكام، وكذلك قامت في (الحيرة) على تخوم بلاد الفرس مملكة ذات شأن، وقامت حضارة بلغت في الفن المعماري مبلغا عظيما، وبحسبنا القصران الشهيران: الخورنق، والسدير، اللذان لا تزال اثارهما باقية إلى الان.
وفي بلاد غسان قامت حضارة، وكان هناك عمران، وتجارة، وزراعة، وصناعة ونظم وقواعد لضبط شؤون الملك.
وفي دولة الأنباط قامت مملكة، وكانت حضارة، وفي دولة تدمر قامت مملكة، وكانت حضارة أصيلة، ولا تزال اثار المعابد والقصور في هاتين الدولتين باقية إلى يومنا، شاهدة على ما بلغ القوم من حضارة.
دولة حمورابي
وإذا صح ما ذكره المؤرخون أن دولة حمورابي في بابل كانت عربية، وأن أصلها هم العماليق الذين نزحوا من بلاد العرب إلى بلاد العراق، ثم كونوا لهم مملكة (ببابل) في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد- تكون هذه الدولة من أقوى الشواهد على حضارة العرب، فقد كانت هذه الدولة لا تقل في الحضارة والمدنية عن أرقى أمم الأرض حضارة في زمانها.
وقد ثبت أن العرب العماليق ملكوا مصر في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، وأنهم أسسوا بها أسرة مالكة، فلم يكونوا أقل من الأسر المصرية في شيء «1» .
وكذلك نشأت في بلاد الحجاز حضارة في مكة، والمدينة، والطائف، ونحوها من المدن المشهورة، فكان هناك بناء وعمارة، وكانت هناك تجارة، وتجار مهرة يصيرون من رمال الصحراء ذهبا، وكانت هناك زراعة وبساتين، في المدينة، وفي الطائف، واليمامة، وهجر.
وكان بمكة مجلس للشورى يرجعون إليه في الأمور المهمة، ودار لهذا،
__________
(1) دائرة معارف القرن العشرين، ج 6 مادة: عرب.(1/105)
وهي (دار الندوة) فكانوا يجتمعون فيها كلما أهمهم أمر، ويجتمعون فيها اجتماعا عاما كل عام، وكانت تدار فيها المناقشات بكل حرية، وهي تدل على نضجهم التفكيري، ومن يقرأ الحوار الذي دار بينهم في الائتمار بالنبي صلّى الله عليه وسلّم قبيل الهجرة يعلم ما وصل إليه العرب في باب الشورى «1» .
وإذا كان الجانب الأخلاقي من العناصر المهمة في تكوين الحضارة فقد كان للعرب- حضرا وبدوا- من ذلك رصيد ضخم من كرم، وشجاعة، وحماية للذمار، ومروءة، ونجدة، ورعاية للجار، ووفاء بالعهد، وإباء للضيم والذل، إلى غير ذلك مما لم نذكره، وإن حضارة الأخلاق الكريمة، والصفات النفسية الأصيلة لأهم- عندي- من حضارة البناء، والصناعة، والزراعة، إذ عليها تقوم الأمم التي تستحق البقاء والخلود، وماذا تجدي الحضارة المادية إذا كانت النفوس خالية من المعاني النفسية، والأخلاق الكريمة؟!
لقد كان للعرب خصائص فطرية، وعقلية، ونفسية، وخلقية هي التي أهلتهم لأن يكون منهم سيد البشر وقمة العرب سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأن يكونوا حملة هذه الرسالة العامة الخالدة للناس أجمعين، وصدق الله في قوله:
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ (124) «2» .
ومهما يكن من شيء فقد كان للعرب في جاهليتهم ممالك وحضارات ساهمت إلى حد كبير في بناء الحضارة الإنسانية، فلا تعجب- أيها القارىء الكريم- إذا كانوا لما اعتنقوا الإسلام عن يقين واقتناع صنعوا الأعاجيب في باب الحضارة، وبلغوا فيها شأوا لم تبلغه أمة من الأمم، ولا تزال اثار هذه الحضارة الإسلامية باقية إلى يومنا هذا. لقد كانت هذه الحضارة من أقوى الأسس التي قامت عليها الحضارة الأوروبية في العصر الحديث، كما شهد بذلك المنصفون من أبناء هذه البلاد.
__________
(1) إنما أردت الاستدلال على نضجهم الفكري وطريقتهم في عرض الاراء وقبولها أو رفضها فحسب، أما الائتمار وما انتهوا إليه من عزم على قتل الرسول فهو ولا ريب جريمة، وأمر منكر.
(2) الاية 124 من سورة الأنعام.(1/106)
الفصل الثاني الخليل ابراهيم عليه السّلام
أرى لزاما عليّ قبل أن أذكر كيف نبعت زمزم ومتى بني البيت الحرام ومن بناه؟ ورؤيا الخليل في ذبح ابنه وحيده وبكره: إسماعيل، أن أذكر كلمة عن خليل الرحمن، وأبي الأنبياء صلّى الله عليه وسلّم.
هو نبي الله إبراهيم بن ازر «1» ، بن ناحور، بن ساروغ، بن راعو، بن فالغ، بن عابر، بن شالح، بن أرفخشذ، بن سام، بن نوح، عليه السلام «2» .
وكان عمر (ازر) أو (تارخ) خمسا وسبعين سنة لما ولد له إبراهيم، وكان له أخوان: (ناحور) و (هاران) وكان إبراهيم هو الأوسط، و (هاران) هو أبو (لوط) عليه السلام- وكان مولد الخليل إبراهيم بأرض الكلدانيين بالعراق، وهي بابل وما جاورها، وهذا هو الصحيح المشهور عند أهل السير، والتواريخ، والأخبار.
ولما كبر إبراهيم تزوج السيدة سارة، ابنة عمه «3» ، ثم خرج (ازر) ومعه
__________
(1) في القران الكريم (ازر) وفي كتب أهل الكتاب (تارخ) والمعتمد عندي ما في القران، وقد حاول بعض العلماء التوفيق بينهما، فقيل إن ازر لقب له، وتارخ اسمه، وقيل: لعل له اسمين: ازر وتارخ، فإن صح شيء من هذين فلا يكون هناك خلاف بين القران والتوراة.
(2) البداية والنهاية، ج 1 ص 139.
(3) البعض يقول: إنها ابنة أخيه (هاران) ، وأن شريعتهم كانت تجيز هذا، وهو غير صحيح، والصحيح: أنها ابنة عمه، ونربأ بأبي الأنبياء أن يتزوج ابنة أخيه، وإنما هذه(1/107)
ابنه إبراهيم، وزوجته سارة، وابن أخيه (لوط) بن (هاران) من أرض الكلدانيين، إلى أرض الكنعانيين، فنزلوا (حرّان) وكان أهل حرّان يعبدون الكواكب والأصنام، وكذلك كان أهل بابل (كلدانيا) ، ولما نبىء الخليل وبعثه الله إلى قومه دعاهم إلى التوحيد وعبادة الله واحده، ونبذ عبادة الكواكب والأصنام، وكان حريصا على هداية أبيه إلا أنه لم يستجب إليه، وناظر أباه، وناظرهم، وقرع باطلهم بالحجة والبرهان، وقد قص القران الكريم ذلك باستفاضة «1» .
وبحرّان مات (تارخ) أو (ازر) أبو إبراهيم عليه السلام وله مائتان وخمسون عاما، وفي نفس إبراهيم أسى ولوعة على عدم إيمانه، وقد تعرض الخليل بسبب دعوته إلى الله، وتكسيره أصنام القوم إلى الإيذاء والبلاء، حتى انتهى به الأمر إلى الإلقاء في النار، ولكن كل ذلك لم يثنه عن الدعوة إلى ربه وتبليغ شريعته.
هجرة الخليل إلى بلاد الشام
ثم هاجر الخليل إبراهيم إلى الأرض المباركة أرض الشام، ومعه زوجته السيدة سارة، وابن أخيه (لوط) ، وكانت امرأة الخليل عاقرا، ولم يكن له من الولد أحد، ثم وهبه الله بعد ذلك الأولاد الصالحين، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، خلعة من الله، وكرامة له حينما ترك بلاده وأهله وأقرباءه، وهاجر إلى الله حيث يتمكن من عبادة ربه، ودعوة الخلق إليها، وقام بتبليغ رسالته في بلاد الشام، أما ابن أخيه (لوط) فقد أرسله الله إلى أهل (سدوم) «2» .
__________
- من الأخبار الإسرائيلية المكذوبة، قال ابن كثير: ومن زعم أنها ابنة أخيه هاران- كما حكاه السهيلي عن العتيبي والنقاش- فقد أبعد النجعة، وقال بلا علم، ومن ادعى أن تزوج ابنة الأخ كان إذ ذاك مشروعا فليس له على ذلك دليل، ولو فرض أن هذا كان مشروعا في وقت- كما هو منقول عن الربانيين من اليهود- فإن الأنبياء لا تتعاطاه (البداية والنهاية، ج 2 ص 150) .
(1) انظر سورة مريم 41- 48؛ وسورة الأنبياء 51- 71.
(2) سدوم: بلد من بلاد الشام وقيل إنها بالذال المعجمة كما في القاموس.(1/108)
رحلة الخليل إلى مصر
ثم ارتحل الخليل ومعه زوجه إلى مصر، وكان بها ملك جبار ظالم لا يمر به رجل ومعه زوجته، إلا اغتصبها منه وقتله، فلما راهما عيون الملك قالوا له: إن ههنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه، وسأله عنها فقال: من هذه؟ قال: أختي، ثم أتى الخليل سارة، فقال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني، فأخبرته أنك أختي، فلا تكذّبيني، فأرسل إليها، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده، فأخذ، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت فأطلق، ثم تناولها الثانية فأخذ مثلها أو أشد، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت فأطلق، فدعا بعض حجبته، فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان، وإنما أتيتموني بشيطان!! فقال: ارجعوها إلى إبراهيم، وأخدمها هاجر، فأتته وهو قائم يصلي، فأومأ بيده: مهيم- يعني ما الخبر- فقالت: «ردّ الله كيد الكافر أو الفاجر في نحره، وأخدم هاجر» «1» .
وفي مسند الإمام أحمد أنها لما دخلت عليه دعت قائلة: «اللهم إن كنت تعلم أني امنت بك وبرسلك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط عليّ هذا الكافر» . وقد عصمها الله وصانها لعصمة عبده، ورسوله، وحبيبه، وخليله إبراهيم- عليه السلام- وتقبلا لدعائها ودعائه، فقد لجأ الخليل وقت ذهب بها إلى الجبار- إلى الصلاة، وإلى الدعاء: أن يرد الله كيد هذا الذي أراد أهله بسوء، ومن هذا نرى أن الصلاة كانت- ولا زالت- ملاذا يلجأ إليها المكروبون والمهمومون.
استيلاد الخليل هاجر
ثم رجع الخليل- عليه السلام- وزوجه سارة من بلاد مصر إلى بلاد الشام، ومعهما أنعام وعبيد ومال جزيل، ومعهما هاجر القبطية المصرية، فأقام بها نحو عشرين سنة، وكانت نفسه- عليه السلام- تتوق إلى الولد، حتى سأل الله ذرية طيبة، فبشره الله بغلام حليم، والله سبحانه إذا أراد شيئا مما يجري بين
__________
(1) صحيح البخاري- كتاب الأنبياء- باب «واتخذ الله إبراهيم خليلا» .(1/109)
الناس هيأ له الأسباب، فألهم سارة، فقالت لإبراهيم: إن الرب قد أحرمني الولد، فادخل على أمتي هذه لعل الله يرزقك منها ولدا فلما وهبتها له دخل بها إبراهيم- عليه السلام- فحملت منه، ثم وضعت إسماعيل- عليه السلام- وقد ولد ولإبراهيم الخليل ست وثمانون سنة، وبعد ذلك بشرت الملائكة سارة بإسحاق نبيا من الصالحين؛ فولدته بعد العقم، وعلى الكبر، ولإبراهيم نحو من مائة سنة، فبين ولادة إسماعيل وإسحاق ما يقرب من أربعة عشر عاما.
ومن ذرية إسماعيل كانت العرب العدنانية على اختلاف قبائلها وبطونها، ومن سلالته من الأنبياء خاتمهم، وواسطة عقدهم، ونبي العرب والعجم:
سيدنا محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي صلّى الله عليه وسلّم.
إسكان هاجر وإسماعيل بجبال فاران «1»
ولما وضعت هاجر المصرية «2» إسماعيل داخل السيدة سارة ما يداخل الضرائر من الغيرة، لأنها لم ترزق بولد، وقد تراءى لها أن هاجر بدأت تتعاظم عليها، فصارت تلاحقها بالأذى. فأمر الله خليله إبراهيم أن يذهب بهاجر وابنها إسماعيل إلى واد بجبال فاران، حيث يوجد مكان الكعبة البيت الحرام، وكان هضبة حمراء مشرفة، تطييبا لخاطر السيدة الصابرة سارة، وتنفيذا لما سبق به التقدير الإلهي من بناء البيت، وأن يصير من نسل إسماعيل أمة مسلمة عظيمة، وأن يبعث فيها رسولا من أنفسها، يتلو عليهم من آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة، فأخذهما الخليل وذهب بهما إلى هناك، وترك عندهما جرابا من تمر وسقاء من ماء، ثم عاد، فجرت وراءه هاجر، وهي تقول: إلى من تتركنا يا خليل الرحمن؟ الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، فقالت: إذا لا يضيّعنا!! وهذا يدل على إيمانها، وشدة توكلها على ربها، وأنها جديرة أن تكون أما لنبي عظيم، ولأمة عظيمة.
__________
(1) فاران: هي مكة كما يعبر عنها في التوراة.
(2) هي من قرية «أم العرب» ويقال: أم عريك كانت أمام الفرما.(1/110)
نبع عين زمزم
فلما نفد الماء صار إسماعيل يتمرغ ويتلوى من شدة العطش، فلم تطق أن تراه هكذا، وخرجت تسعى نحو الصفا، فصعدت عليه علّها تجد ماء، ثم نزلت مهرولة إلى المروة، ووقفت تنظر حواليها عسى أن تجد ماء، فلم تجد، ثم عادت إلى الصفا، وهكذا صارت تسعى بين الصفا والمروة حتى أكملت سبعة أشواط، فكان هذا أصلا لفريضة السعي بينهما، ثم نزلت وهي هلعة جزعة أن لم تجد ماء، فسمعت من يناديها ويقول: جاءك الغواث، فصارت ترهف سمعها إلى الصوت وتتسمع، حتى نزل جبريل- عليه السلام- وهو في صورة طائر، فضرب الأرض بجناحه، وقيل بعقبه، فنبعت عين زمزم، فصارت تحوط عليها التراب من شدة الفرح، وتقول لها: زمي، زمي فشربت وشرب إسماعيل حتى رويا، ولم تخف العطش والضّيعة بعدها، وسمعت من يقول لها لا تخافي الضّيعة، فإن ههنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله!!
حصول الأنس بجرهم ونشأة مكة
ثم مرت بهاجر وابنها رفقة «1» من قبيلة جرهم إحدى القبائل التي نزحت من اليمن، فنزلوا في أسفل المكان الذي بنيت فيه مكة، فرأوا طيرا يحوم «2» حول مكان قريب منهم، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، إن عهدنا بهذا الوادي ليس فيه ماء «3» ، فأرسلوا رسولا منهم، فإذا هو بالماء، فأخبرهم به، فأقبلوا نحوه وكانت أم إسماعيل عند الماء، فقالوا لها: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت نعم، ولكن لا حق «4» لكم في الماء عندنا، قالوا: نعم، وقد سرت هاجر، فقد وجدت من يؤنسها، ويزيل وحشتها، فنزلوا، وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا، وابتنوا بيوتا حتى صارت من ذلك أبيات عدة.
__________
(1) جماعة.
(2) يدور.
(3) هذا يدل على أن مكة لم تكن وجدت بعد.
(4) لا ملك لكم فيه، أما الشرب فنعم.(1/111)
وكان إسماعيل لا يزال غلاما، فلما شب وكبر اختلط بهم، وتعلم منهم العربية حتى صارت له لسانا، فكان أبا للعرب المستعربة.
روى أبو عبيدة قال: حدثنا مسمع بن عبد الملك عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن عن ابائه قال: أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل، وهو ابن أربع عشرة سنة «1» ، وتعلم منهم الرمي والقنص، ولما كبر إسماعيل أعجبهم، فوجدوا فيه من الخصال والفضائل ما حببهم فيه، فزوّجوه منهم.
قصة الذبيح
وكان الخليل- عليه السلام- يتعهد إسماعيل وأمه هاجر بين الحين والحين، ويزورهما كلما حن الشوق إليهما، وكان الغلام إسماعيل قد شب عن الطوق، وصار يسعى في مصالحه، وأهلا لمعاونة أبيه، وفي زورة من الزورات رأى الخليل في منامه من يأمره بذبح ولده ووحيده، ورؤيا الأنبياء وحي- كما في الحديث الشريف- فلم يشك الخليل في صدق الرؤيا، ولكن الأمر يتعلق بابنه، وفلذة كبده، فكان لا بد أن يتروّى في الأمر، فرأى مثل ذلك في الليلة الثانية، وقيل: إن ذلك كانت ليلة اليوم الثامن من ذي الحجة فسمي يوم التروية «2» ثم تريث أيضا فرأى مثل ذلك في الليلة الثالثة وقيل إن ذلك كان ليلة التاسع فسمي: يوم عرفة «3» ، فلم يكن بدّ- بعد ثلاث- من امتثال أمر الله والصبر على البلاء، ولكنه رأى أن يعرض الأمر على ولده؛ ليكون أطيب لقلبه، وأهون عليه من أن يأخذه قسرا، أو يبغته فجأة، فعرضه عليه، فكان- كما وصفه الله- حليما، وجديرا بأن يكون رسولا نبيا، فقال:
يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) «4» .
__________
(1) البيان والتبيين ج 3، ص 21 والمراد من ولد إبراهيم- عليه السلام-.
(2) وقيل لأن الحجاج كانوا يحملون معهم فيها الماء قبل الخروج لأداء المناسك.
(3) وقيل غير ذلك وإنه سمي يوم عرفة لأن ادم وحواء تعارفا فيه في الأرض بعد أن نزلا من الجنة.
(4) الاية 102 من سورة الصافات.(1/112)
وأخذ الخليل بيد ابنه ووحيده، وخرج به إلى المنحر بمنى، وأضجعه على وجهه، وأخذ السكين بيده، وأمرّها على عنق ابنه، فما قطعت، ولا أثّرت، وحينئذ نودي من السماء: أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا، وامتثلت الأمر، وإنا قد فدينا ابنك بما تيسّر لك من كبش سمين، فطلب كبشا، فذبحه مكان إسماعيل، فكانت التضحية سنة باقية في عقبه إلى يوم الدين، واستحق الخليل وابنه إسماعيل أن يكونا مثلين في الاخرين. وأن يكون عليهما السلام من رب العالمين. وإليك القصة كما حكاها الله في القران الكريم، قال سبحانه:
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ «1» قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ «2» لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ «3» عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) «4» .
الذبيح إسماعيل لا إسحاق
الذي يدل عليه القران الكريم، والأحاديث، والاثار الثابتة، أن الذبيح هو إسماعيل- عليه السلام- ولكن اليهود تدسّسوا إلى الرواية في الإسلام، فدسّوا فيها بعض الروايات الضعيفة التي تدل على أنه إسحاق وهذا من عداوة اليهود المتأصلة للعرب، فقد أرادوا ألايكون للجد الأعلى للنبي الأمي فضل
__________
(1) بلغ سنا يسعى فيها في مصالحه، ويعين أباه.
(2) تله أي ألقاه على وجه.
(3) كبش سمين.
(4) الايات 99- 111 من سورة الصافات.(1/113)
أو مزية، حتى لا ينجرّ هذا الفضل إلى نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه، وبالتالي إلى الجنس العربي.
ولم يقف أمرهم عند حد الدس في الروايات الإسلامية، بل قام أسلافهم بتحريف التوراة ذاتها، حتى يتم لهم ما أرادوا، ولكن الله أبى إلا أن يغافلوا عما يدل على هذه الجريمة، والجاني- غالبا- يترك ما يدل على جريمته. والحق يبقى له شعاع- ولو خافت- يدل عليه مهما حاول المبطلون إخفاء نوره، وطمس معالمه، فقد حذفوا من التوراة لفظ «إسماعيل» ووضعوا بدله لفظ «إسحاق» ، ولكنهم غفلوا عن كلمة كشفت عن التزوير، وعن هذا الدس المشين، ففي التوراة (الإصحاح الثاني والعشرون- فقرة 2) : «فقال الرب: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق، واذهب إلى أرض المريا. وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك ... » «1» .
وليس أدل على كذب هذا من كلمة «وحيدك» ، وإسحاق- عليه السلام- لم يكن وحيدا قط، لأنه ولد ولإسماعيل نحو أربع عشرة سنة كما هو صريح توراتهم في هذا، وقد بقي إسماعيل- عليه السلام- حتى مات أبوه، الخليل، وحضر وفاته ودفنه. وإليك ما ورد في التوراة:
في سفر التكوين (الإصحاح السادس عشر- الفقرة 16) ما نصه: «وكان أبرام- يعني إبراهيم- ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل لأبرام» .
وفي سفر التكوين (الإصحاح الحادي والعشرون- فقرة 5) : «وكان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق ابنه ... » وفي الفقرة 9 وما بعدها ما نصه:
« (9) ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمزح (10) فقالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية وابنها. لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق (11) فقبح الكلام جدا في عيني إبراهيم لسبب ابنه (12) فقال الله
__________
(1) وقد ذكرت التوراة القصة في 14 فقرة، فليرجع إليها من يشاء، لتكون له الحجة عليهم من نفس كتابهم المقدس عندهم.(1/114)
لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك. في كل ما تقول سارة اسمع لقولها؛ لأنه بإسحاق يدعى لك نسل (13) وابن الجارية أيضا سأجعله أمة: لأنه نسلك» «1» إلى اخر القصة.
فما قولكم يا أيها اليهود المحرفون؟ وكيف يتأتّى أن يكون إسحاق وحيدا؟! مع هذه النصوص التي هي من توراتكم التي تعتقدون صحتها، وتزعمون أنها ليست محرفة!!
وقد دلّت التوراة، ورواية البخاري في صحيحه على أن الخليل إبراهيم أسكن هاجر وابنها عند مكان البيت المحرم حيث بني فيما بعد، وقامت مكة بجواره، وقد عبّرت التوراة بأنهما كانا في (برية فاران) ، وفاران: جبال بمكة، وهذا هو الحق أن قصة الذبح كان مسرحها بمكة ومنى وفيها يذبح الحجاج ذبائحهم اليوم.
وقد حرّفوا في النص الأول، وجعلوه: «جبل المريا» وهو الذي عليه مدينة أورشليم بمدينة القدس العربية، ليتم لهم ما أرادوه، ولكن أبى الحق إلا أن يظهر تحريفهم!!
وقد ذكر العلامة الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن كثير أن في بعض نسخ التوراة (بكرك) بدل وحيدك وهو أظهر في البطلان، وأدل على التحريف إذ لم يكن إسحاق بكرا للخليل بنص توراتهم كما ذكرنا انفا، فالحق أن الذبيح هو إسماعيل- عليه السلام- وهو الذي يدل عليه ظواهر الايات القرانية، فلا عجب أن ذهب إليه جمهرة الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، وأئمة الحديث، منهم السادة العلماء: علي، وابن عمر، وأبو هريرة، وأبو الطفيل، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والشعبي، والحسن البصري، ومحمد بن كعب
__________
(1) ويصدّق هذا كتاب الله الشاهد على الكتاب السماوية كلها قوله سبحانه حكاية لمقالة إبراهيم، وإسماعيل عليهما السلام بعد أن بنيا البيت: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ولو أن اليهود وعوا ما جاء في التوراة والقران لعلموا أنه ستكون أمة لها شأنها من نسل إسماعيل، ولما حسدوا العرب على هذا الفضل.(1/115)
القرظي، وسعيد بن المسيّب، وأبو جعفر محمد الباقر، وأبو صالح، والربيع بن أنس، والكلبي، وأبو عمرو بن العلاء، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس، وفي زاد المعاد لابن القيم: أنه الصواب عند علماء الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وهذا الرأي هو المشهور عند العرب قبل البعثة وذكره أمية بن أبي الصلت في شعر له «1» .
وقد نقل العلامة ابن القيم عن شيخه الإمام ابن تيمية في هذا كلاما قويا حسنا، أحببت نقل خلاصته لما فيه من الحجة الدامغة قال: «ولا خلاف بينهم أي النسابين- أن عدنان من ولد إسماعيل- عليه السلام- وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجها، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية- قدّس الله روحه- يقول: هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب مع أنه باطل بنص كتابهم؛ فإن فيه: «أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره» وفي لفظ «وحيده» ، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده والذي غرّ أصحاب هذا القول أن في التوراة التي بأيديهم «اذبح ابنك إسحاق» قال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم لأنها تناقض قوله: «اذبح بكرك ووحيدك» «2» ، ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف، وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويحتازوه لأنفسهم دون العرب، ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله، وكيف يسوغ أن يقال: إن الذبيح إسحاق؟ والله تعالى قد بشّر أم إسحاق به، وبابنه يعقوب فقال تعالى- حكاية لقول الملائكة لإبراهيم لما أتوه بالبشرى-:
لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) «3» .
__________
(1) تفسير الالوسي ج 23، ص 135، 136.
(2) قد بينت ذلك بذكر النصوص من التوراة انفا، والبكر أول مولود يولد للشخص.
(3) الايتان 70- 71 من سورة هود.(1/116)
فمحال أن يبشرها بأن يكون لها ولد ثم يأمر بذبحه، ولا ريب أن يعقوب عليه السلام- داخل في البشارة، فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ واحد ويدل عليه أيضا أن الله سبحانه ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة الصافات (الايات من 103- 111) .
ثم قال تعالى:
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) «1» .
فهذه بشارة من الله تعالى له، شكرا على صبره على ما أمر به. وهذا ظاهر جدا في أن المبشّر به غير الأول، بل هو كالنص فيه.
وأيضا فلا ريب أن الذبيح كان بمكة، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها، كما جعل السعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار؛ تذكيرا لشأن إسماعيل وأمه، وإقامة لذكر الله. ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة، دون إسحاق وأمه، ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل، وكان النحر بمكة من تمام حجّ البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل زمانا ومكانا، ولو كان الذبح بالشام- كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقّى عنهم- لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة.
وأيضا: فإن الله سبحانه وتعالى سمّى الذبيح حليما، لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه، ولما ذكر إسحاق سمّاه عليما فقال تعالى:
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)
إلى أن قال:
قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) «2» .
__________
(1) الاية 112 من سورة الصافات.
(2) الايات 24- 28 من سورة الذاريات.(1/117)
وهذا إسحاق بلا ريب، لأنه من امرأته، وهي المبشرة به، وأما إسماعيل فمن السرية «1» - يعني هاجر.
وأيضا فلأنهما بشّرا به على الكبر، واليأس من الولد، وهذا بخلاف إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك ...
وأيضا فإن سارة امرأة الخليل صلّى الله عليه وسلّم غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة، فإنها كانت جارية، فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة سارة؛ فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها هاجر وابنها، ويسكنها في أرض مكة؛ لتبرد عن سارة حرارة الغيرة، وهذا من رحمة الله تعالى بها ورأفته وإبعاده الضرر عنها، وجبره لها، فكيف يأمر بعد هذه بذبح ابنها دون ابن الجارية؟! بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية، فحينئذ يرق قلب السيدة عليها وعلى ولدها وتتبدل قسوة الغيرة رحمة، ويظهر لها بركة الجارية وولدها، وأن الله لا يضيع بيتا، هذه وابنها منهم، وليري عباده جبره بعد الكسر، ولطفه بعد الشدة، وأن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد، والواحدة، والغربة والتسليم إلى ذبح الولد- الت إلى ما الت إليه من جعل اثارهما، ومواطىء أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين، ومتعبدا لهم إلى يوم القيامة، وهذه سنته فيمن يريد رفعه من خلقه:
أن يمنّ عليه بعد استضعافه، وذلّه، وانكساره، قال تعالى:
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ.
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» «2» .
وكذلك دلّت الأحاديث والاثار عن الصحابة والتابعين، روى الحاكم في
__________
(1) قال في المصباح المنير: «والسرية: فعلية، قيل: مأخوذة من السّر- بالكسر- وقيل من السر- بالضم- بمعنى السرور، لأن مالكها يسر بها، فهو على القياس» وأما على الأول فضم السين من تغيير النسب.
(2) زاد المعاد ج 1، ص 28- 30.(1/118)
المستدرك، وابن جرير في تفسيره وغيرهما عن عبد الله بن سعيد الصنابحي قال:
«حضرنا مجلس معاوية، فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق، أيهما الذبيح؟ فقال بعضهم: إسماعيل، وقال البعض: إسحاق، فقال معاوية: على الخبير سقطتم، كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأتاه أعرابي، فقال: يا رسول الله خلفت الكلأ يابسا، والمال عابسا «1» ، هلك العيال، وضاع المال، فعد علي مما أفاء الله تعالى عليك يا ابن الذبيحين، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم ينكر عليه، فقال القوم: من الذبيحان يا أمير المؤمنين؟ فقال: إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل أمرها أن ينحر بعض بنيه، فلما فرغ أسهم بينهم فكانوا عشرة، فخرج السهم على عبد الله، فأراد أن ينحره، فمنعه أخواله بنو مخزوم، وقالوا: أرض ربك، وافد ابنك. ففداه بمائة ناقة، قال معاوية: هذا واحد، والاخر إسماعيل» «2» .
وشهد شاهد من أهلها
وروى ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي: أن عمر بن عبد العزيز أرسل إلى رجل- كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه، وكان من علمائهم- فسأله: «أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل- والله يا أمير المؤمنين- وإن يهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب» وهذا هو الحق الذي لا ينبغي أن يكون غيره.
وأما الحديث المشهور على الألسنة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنا ابن الذبيحين» فقد قال الإمام العراقي فيه: إنه لم يقف عليه. ولا يعرف بهذا اللفظ، وعلى هذا فلا يحتج به، ولا تجوز روايته، أو ذكره إلا مقترنا ببيان حاله.
وقد وردت روايات أخرى موقوفة ومرفوعة في أن الذبيح إسحاق، إلا أن المرفوع منها إلى النبي- والحق يقال- إما موضوع، وإما ضعيف، فلا تثبت به
__________
(1) المال: المراد به الحيوان أي عابسا من شدة الجوع والعطش.
(2) هذا الحديث صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقيل: إنه حسن، وقد ضعفه بعض العلماء، وهو في حكم المرفوع لتقرير النبي لقول الأعرابي: يا ابن الذبيحين.(1/119)
حجة، والموقوف منها على الصحابة أو على التابعين إن صح سنده فهي من الإسرائيليات التي رويت عن أهل الكتاب الذين أسلموا بحسن نية، وحقيقتها أنها من دس اليهود، وحسدهم للعرب، أن يكون لجدهم الأعلى فضل.
وقد اغتر بهذه الروايات التي لا تثبت أمام النقد بعض العلماء: كابن جرير الطبري، والقاضي عياض، والسهيلي فذهبوا إلى أنه إسحاق.
وتحيّر بعضهم في تعارض الروايات، ولم يستطع أن يرجّح أو يصل إلى الحقيقة، فتوقف في الجزم برأي في هذا الموضوع كالإمام السيوطي، بل بعضهم ذهب إلى أن الذبح وقع مرتين: مرة بمكة لإسماعيل، ومرة بالشام لإسحاق.
والحق هو ما ذهب إليه جمهور الصحابة، والتابعين، والعلماء الراسخين، من أنه إسماعيل، وأن الروايات في أنه إسحاق دسيسة يهودية، واختلاق ممقوت، دعا إليه الحقد والحسد للعرب، فلا تلق لذلك بالا، وإن وجد في بعض كتب التفسير، والحديث، والسير، والحق أحق أن يتبع.
ولادة إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام
وبعد ميلاد إسماعيل ببضعة عشر عاما مرت ملائكة الرحمن بالخليل إبراهيم، وهم ذاهبون إلى تدمير قرى قوم لوط، فظنهم بشرا، وقرّب إليهم عجلا حنيذا «1» ، فلم يأكلوا، فنكرهم وتوجّس منهم خيفة، فطمأنوه، وأخبروه بشأنهم، وبشّروه وزوجه سارة بغلام عليم، وهو إسحاق، ومن بعد إسحاق بابنه يعقوب، فعجبت السيدة سارة وقالت كما حكاه الله تبارك وتعالى:
قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) «2» .
__________
(1) مشويا على الحجارة المحمّاة بالنار.
(2) الايتان 72- 73 من سورة هود.(1/120)
وكذلك تعجب إبراهيم- عليه السلام- استبشارا بهذه البشارة، وفرحا بها، وتثبيتا لها، فقال كما حكاه الله عز شأنه:
قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) «1» .
وكذلك ذكرت هذه البشرى في مواضع أخر من الكتاب العزيز «2» ، وبعد البشارة حملت سارة بإسحاق، ثم وضعته، وكان لإبراهيم نحو مائة عام، ثم ولد لإسحاق يعقوب أبو الأسباط الاثني عشر، ومن ذريته كان جميع أنبياء بني إسرائيل من لدن يوسف إلى عيسى عليهما السلام.
بناء البيت العتيق
ثم جاء إبراهيم ليزور ابنه إسماعيل كما كان شأنه، وكانت هاجر قد ماتت- رضي الله عنها- وبلغ إسماعيل مبلغ الرجال، وتزوج، وكان إسماعيل يبري نباله- فقد كان راميا- تحت شجرة عظيمة بالقرب من زمزم، فلما رأى أباه قام إليه، فتصافحا، وتعانقا، وقبّل كل منهما الاخر، ثم قال له:
«يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر» قال: فاصنع ما أمرك به ربك، قال:
«وتعينني؟» ، قال: وأعينك، قال: «إن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا» ، وأشار إلى الأكمة المرتفعة عما حولها.
فشرعا في رفع القواعد والبناء: إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يا بني، فلما رفعا القواعد عن الأرض جيء للخليل بالحجر الأسود فوضعه في ركن البيت حيث يوجد اليوم، حتى إذا ارتفع البناء قدر قامة الرجل أتى إسماعيل بحجر، فقام عليه أبوه، فأثرت قدماه فيه، وهذا الحجر هو الذي عرف فيما بعد
__________
(1) الايات 54- 56 من سورة الحجر.
(2) الذاريات 25- 30؛ والصافات 112- 113.(1/121)
بمقام إبراهيم على الصحيح، ولما فرغا من بناء البيت دعوا بهذا الدعاء كما حكى الله في القران الكريم:
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) «1» .
وقد تقبّل الله الدعاء، فكانت الأمة المحمدية خير أمة أخرجت للناس، وكان النبي المبعوث فيهم هو خاتم الأنبياء، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وبذلك كانت الكعبة البيت الحرام أول مكان مشرّف بني في الأرض، قال تبارك وتعالى:
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) «2» .
تشريع الحج على لسان إبراهيم
ولما فرغ الخليل من بناء البيت أمره الله سبحانه أن يؤذّن، ويعلم الناس بالحج، فقال: يا رب، وماذا يبلغ صوتي؟ فقال: يا إبراهيم أذّن وعليّ البلاغ، فوقف الخليل على جبل أبي قبيس «3» وصار ينادي ويقول: «يا أيها الناس، إن الله كتب عليكم الحج فحجّوا، فأجابه كل من كتب الله لهم الحج إلى يوم
__________
(1) الايات 127- 129 من سورة البقرة.
(2) الايتان 96- 97 من سورة ال عمران.
(3) جبل بمكة مشرف على الكعبة.(1/122)
القيامة وهم في أصلاب الاباء، أو في عالم الذر، فمن ثمّ كانت مشروعية التلبية: «لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إن الحمد، والنعمة لك والملك، لا شريك لك» ، ومن يومها قد صار الحج فرضا مفروضا إلى يوم القيامة، وقد ذكر الله- تبارك وتعالى- ذلك في الكتاب الكريم واستطرد منه إلى بيان شعائر الحج فقال:
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ «1» وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها
__________
(1) وسخهم وشعثهم.(1/123)
وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) «1» .
وقد دعا الخليل عليه السلام ربّه أن يجعل ما حول البيت بلدا امنا، وأن يرزق أهله المؤمنين من الثمرات في هذا الوادي غير ذي الزرع، وأن يبارك لهم فيها قال تعالى:
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) «2» .
كما دعا الخليل لمكة أن تستمر دار أمن وسلام، وملاذ، وأن يجنبه ربه، وبنيه عبادة الأصنام، وأن يجعل قلوب الناس تصبو إلى سكان البيت ومجاوريه.
وأن يرزقهم من الثمرات، وأن يوفقه وذريته للطاعات، وإقامة الصلوات، قال عز شأنه حكاية لذلك:
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ «3»
__________
(1) الايات 26- 37 من سورة الحج.
(2) الاية 126 من سورة البقرة.
(3) كان الدعاء الأول قبل بناء البيت، وقبل أن تكون مكة. وأما هنا فكان بعد أن بني البيت ووجدت مكة، وهذا هو السر في أنه جاء منكرا في الأول ومعرفا في الثاني.(1/124)
إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) «1» .
وقد استجاب الله دعاء خليله، وأعطاه سؤله، وحقق رجاءه، قال عز شأنه:
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) «2» .
وقد كان ذلك أمرا سبق به التقدير الأزلي من قبل أن خلق الله السماوات والأرض، ولكن أظهره وشرعه على لسانه نبيه، وخليله إبراهيم.
أول من بنى البيت
وقد دلّت الايات القرانية المتواترة التي سقناها إليك، والأحاديث الصحيحة التي رواها البخاري وغيره من أئمة النقل والرواية على أن أول من بنى الكعبة هو الخليل إبراهيم، ومعاونه ابنه إسماعيل- عليهما الصلاة والسلام- وقد كان مكان البيت ربوة عالية مشرفة على ما حولها، معروفة للملائكة، ولمن سبق من الأنبياء، وبقعة مشرّفة معظّمة من قديم الزمان حتى جاء الخليل فأسس قواعده وبناه.
وقد رويت روايات أخرى أغلبها موقوفة على بعض الصحابة والتابعين، رواها أصحاب التواريخ كالأزرقي والفاكهي، وبعض المفسرين والمحدثين الذين لا يلتزمون إخراج الأحاديث الصحاح والحسان، بعضها يفيد أن أول من بنى البيت ادم عليه السلام. وقيل: ابنه شيث، روى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: «إن أول من بنى البيت ادم وقيل: بنته الملائكة قبله» وعن وهب بن
__________
(1) إبراهيم 35- 41.
(2) الاية 125 من سورة البقرة.(1/125)
منبّه: «أول من بناه شيث بن ادم» ووهب من أهل الكتاب الذين أسلموا.
وروى البيهقي في «الدلائل» من طرق أخرى عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا «بعث الله جبريل إلى ادم، فأمره ببناء البيت، فبناه ادم، ثم أمره بالطواف به، وقال له: أنت أول الناس، وهذا أول بيت وضع للناس» «1» .
وقد قال الحافظ، المفسر، المؤرخ ابن كثير في هذا الحديث الأخير: «إنه من مفردات ابن لهيعة وهو ضعيف، والأشبه- والله أعلم- أن يكون موقوفا على عبد الله بن عمرو بن العاص، ويكون من الزاملتين «2» اللتين أصابهما يوم اليرموك من كتب أهل الكتاب» وهذا ما أرجّحه وأميل إليه، ومهما قيل في ثبوت هذه الروايات، وما ماثلها فهي لا تقوى على معارضة ما دل عليه القران المتواتر، والسنة الصحيحة ويعجبني في هذا ما قاله الحافظ ابن كثير في بدايته، قال:
«ولم يجىء في خبر صحيح عن معصوم أن البيت كان مبنيا قبل الخليل عليه السلام، ومن تمسّك بهذا بقوله: «مكان البيت» «3» فليس بناهض، ولا ظاهر لأن المراد مكانه المقدّر في علم الله المقرر في قدرته، المعظّم عند الأنبياء موضعه من لدن ادم إلى زمان إبراهيم» «4» .
ولا ينافي ما رجحناه وذهبنا إليه ما روي «أنه ما من نبي إلا وقد حج البيت» وما رواه أبو يعلى في مسنده بسنده عن ابن عباس قال: حج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما أتى وادي «عسفان» قال: «يا أبا بكر أي واد هذا؟» قال:
هذا وادي عسفان، قال: «لقد مرّ بهذا نوح وهود وإبراهيم على بكرات «5» لهم
__________
(1) فتح الباري، ج 6 ص 310؛ تفسير ابن كثير والبغوي، ج 1 ص 316، ط المنار.
(2) الزاملة: البعير الذي يحمل عليه المتاع، أي حمل بعيرين من الكتاب، وهذا من الأسباب التي جعلت بعض الرواة لا يروي عنه تحوّطا، فمن ثمّ جاءت مروياته أقل من مرويات أبي هريرة، مع أنه كان أكثر من أبي هريرة حديثا لأنه كان قارئا كاتبا.
(3) كما في الاية 26 من سورة الحج.
(4) البداية والنهاية، ج 1 ص 163؛ وج 2 ص 299.
(5) بكرات: جمع بكرة: الناقة الفتية القوية.(1/126)
حمر، خطمهم «1» الليف، وأزرهم «2» العباء، وأرديتهم النّمار «3» ، يحجون البيت العتيق» ، وما رواه الإمام أحمد في مسنده بسنده عن ابن عباس قال: لما مرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم بوادي عسفان حين حج قال: «يا أبا بكر، أي واد هذا؟» قال:
وادي عسفان، قال: «لقد مرّ به هود، وصالح- عليهما السلام- على بكرات حمر، خطمها الليف، وأزرهم العباء، وأرديتهم النّمار، يلبّون يحجون البيت العتيق» إسناده حسن، لأن المقصود الحج إلى محله، وبقعته المعروفة، وإن لم يكن ثم بناء «4» .
رواية البخاري في صحيحه
وها أنذا أذكر رواية الإمام البخاري في صحيحه، المشتملة على إسكان الخليل هاجر، وابنها عند البيت، وقصة نبع زمزم، وقصة بناء البيت؛ لأنها أصحّ ما روي في هذا الباب، بعضها مرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم صراحة، وجلّها موقوف من كلام ابن عباس، ولكن له حكم المرفوع، لأن مثل هذا لا يقوله ابن عباس بمحض الرأي، فهو إما سمعه من النبي أو من صحابي عنه، ويستبعد جدا أن يكون تلقّاه عن أهل الكتاب الذين أسلموا، لأن ما جاء في الحديث أدق، وأوفى وأشمل مما جاء في كتبهم.
وسأذكر الحديث بطوله لما فيه من الإمتاع، والحكم، والأحكام، والسنن والعبر والعظات، وهو- إلى ذلك- قطعة من الأدب الحي، والقصص الحق.
روى الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: «أول ما اتخذ النساء المنطق «5» من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقا
__________
(1) خطم جمع خطام: وهو الزمام الذي تشد به الناقة.
(2) أزر: جمع إزار: وهو ما يستر به أسفل الجسم من الوسط.
(3) أردية جمع رداء: ما يوضع على الكتفين ويستر به النصف الأعلى. النمار: جمع نمرة، الكساء المخطط.
(4) البداية والنهاية، ج 1 ص 119، 138.
(5) المنطق، والنطاق ما تشد به المرأة وسطها.(1/127)
لتعفي أثرها على سارة «1» ، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت- أي مكانه-، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابا فيه «2» تمر، وسقاء «3» فيه ماء، ثم قفّى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس، ولا شيء؟! وقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيّعنا! ثم رجعت.
فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنيّة حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات، ورفع يديه: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ... ، حتى بلغ (يشكرون) .
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السّقاء عطشت، وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوّى- أو قال:
يتلبط «4» -، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه. ثم استقبلت الوادي تنظر: هل ترى أحدا؟
فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود «5» حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت: هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فذلك سعي الناس بينهما» «6» .
__________
(1) ذلك أن سارة كانت وهبت هاجر للخليل إبراهيم، فحملت منه إسماعيل، فلما ولدته اشتدت بها الغيرة، فصارت تؤذيها وتلاحقها، وهي تهرب منها، فاتخذت المنطق ليعفّي أثرها، فلا تعرف سارة أين ذهبت هاجر.
(2) وعاء من جلد.
(3) ما يحمل فيه الماء كالقربة.
(4) يتمرغ، ويضرب برجليه الأرض من العطش.
(5) الذي أصابته المشقة والتعب.
(6) أي هذا أصل مشروعية السعي بينهما.(1/128)
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا، فقالت: صه «1» ، ثم تسمّعت، فسمعت أيضا، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث «2» ، فإذا هي بالملك يعني جبريل- عند موضع زمزم، فبحث بعقبه- أو قال بجناحه- حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه «3» ، وتقول بيدها هكذا «4» ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعد ما تغرف، قال ابن عباس: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت- أو قال- لو لم تغرف من زمزم لكانت زمزم عينا معينا» «5» .
قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: «لا تخافوا الضّيعة، فإن هذا بيت الله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه، وشماله.
فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم- أو- أهل بيت «6» من جرهم مقبلين من طريق كداء «7» ، فنزلوا في أسفل مكة، فوجدوا طائرا عائفا «8» ، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء!! فأرسلوا جريّا أو جريين «9» ، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا، قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟
قالت: نعم، ولكن لا حقّ لكم في الماء «10» قالوا: نعم، قال ابن عباس: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فألفى ذلك أم إسماعيل، وهي تحب الأنس» فنزلوا معهم.
__________
(1) أي اسكتي، تخاطب نفسها.
(2) أي إغاثة فأغثني.
(3) تجعله كالحوض بيدها.
(4) أي تفعل بيديها هكذا: أي تمثل فعلها بيديها.
(5) ظاهرا جاريا على وجه الأرض.
(6) جماعة و «أو» للشك من الراوي في أي اللفظين قاله.
(7) بفتح الكاف والمدة أعلى مكة.
(8) يحوم حول الماء ويدور.
(9) الجري: الرسول و «أو» للشك.
(10) يعني في امتلاكه، أما الشرب والانتفاع به فمباح.(1/129)
حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام، وتعلم العربية منهم، وأنفسهم «1» وأعجبهم حين شب، فلما أدرك «2» زوّجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته «3» ، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا «4» ، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشرّ، نحن في ضنك وشدة، فشكت إليه! قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له: يغيّر عتبة بابه «5» ، فلما جاء إسماعيل كأنه انس شيئا «6» فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألنا كيف عيشنا؟ فأخبرته أنّا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غيّر عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك فطلقها، وتزوج امرأة منهم أخرى «7» .
فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته، فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله- عز وجل- فقال: ما طعامكم: قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال:
اللهمّ بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم دعا لهم فيه» قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة
__________
(1) أي رغبهم في مصاهرته نفاسته عندهم.
(2) بلغ مبلغ الرجال.
(3) هاجر وابنها.
(4) يطلب لنا الرزق.
(5) المراد بالعتبة: المرأة وهي من الكنايات البديعة، فالعتبة تصون الباب وتصون ما هو بداخله، وهي المعبر لبيت الإنسان، الذي يؤويه، ويقيه الحر والبرد، والمرأة تعف زوجها، وتصونه وتصون نفسها، وماله. وهي سكن النفس، وإليها يفيء الزوج بعد العناء والتعب فيجد الروح والراحة.
(6) أبصر وأحس.
(7) قيل: هي رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمية، وقيل غير ذلك.(1/130)
إلا لم يوافقاه «1» . قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبّت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك، فأخبرته، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنّا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبّت عتبة بابك، قال: ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك.
ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة «2» قريبا من زمزم، فلما راه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد «3» ، قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يا بني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر «4» فوضعه له، فقام عليه وهو يا بني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: «ربّنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم» قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: «ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم» . انتهى الحديث «5» .
فلما بلغ موضع الحجر الأسود وضعه في موضعه الذي هو فيه، وكان ارتفاع الكعبة تسعة أذرع، وعرضها في الأرض «6» ثلاثين ذراعا بذراعهم، وكان الحجر داخلا في البيت لمّا بناه الخليل، ولم يجعل للكعبة سقفا، وجعل لها بابين بابا شرقيا، وبابا غربيا، وكانا ملصقين بالأرض، وحفر لها بئرا عند بابها خزانة للبيت يلقى فيه ما يهدى له.
__________
(1) لا يعتمد عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه إلا في مكة، فإنما يوافقانه ببركة دعاء الخليل.
(2) شجرة عظيمة.
(3) من المعانقة، والمصافحة، والتقبيل.
(4) هو الحجر الذي قام عليه الخليل وهو يا بني.
(5) صحيح البخاري- كتاب الحج- باب فضل مكة وبنيانها، وكتاب أحاديث الأنبياء باب «واتخذ الله إبراهيم خليلا» .
(6) يعني طول كل ضلع من أضلاعها لأنها مربعة تقريبا.(1/131)
ولما فرغ الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل- عليهما السلام- من بناء البيت جاء جبريل، وأرى الخليل المناسك كلّها، وأمره أن يؤذّن في الناس بالحج فقال:
يا رب وما يبلغ صوتي؟ فقال الله- عزّ شأنه-: «أذّن يا إبراهيم وعليّ البلاغ» فوقف الخليل على جبل أبي قبيس وصار ينادي: يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجّوا، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من امن، ومن كان سبق في علم الله أنه يحج إلى يوم القيامة: «لبّيك اللهمّ لبّيك» .
وحجّ الخليل إبراهيم، وحجّ إسحاق، وأمه سارة من بيت المقدس، ثم رجع الخليل إلى الشام، وكانت وفاته هناك عليه الصلاة والسلام «1» . ومن يومها صار الحج فريضة محكمة باقية إلى يوم القيامة، فلله الحمد والمنة على ما أنعم وشرع.
المسجد الحرام
ولما بنى الخليل وابنه إسماعيل البيت عرف بالكعبة، وصار الناس يحجون إليه، ويعتمرون ويطوفون به، ويصلّون إليه، وعرف ما حول الكعبة بالمسجد الحرام، وهو أول المساجد المشرّفة في الأرض التي تشدّ إليها الرحال، ففي الحديث الصحيح المتفق عليه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى» .
ولم يكن للمسجد الحرام سور، وكان تحيط به الدور من جميع الجهات، حتى كان عهد الفاروق عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- واتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وضاق المسجد بحجّاج البيت وزوّاره، فلم يكن بدّ من توسعته، فاشترى الدور من أهلها، وهدمها ووسّع المسجد الحرام، وجعل له سورا على قامة الرجل، ووضع عليه السرج والمصابيح. فلما كان عهد عثمان- رضي الله تعالى عنه- اشترى دورا أخرى وزادها في المسجد. فلما ولي عبد الله بن الزبير أحكم بنيانه، وحسّن جدرانه، وأكثر أبوابه، ولم يوسعه. فلما ولي الأمر عبد الملك بن
__________
(1) فتح الباري، ج 6 ص 314.(1/132)
مروان الأموي زاد في ارتفاعه، وأمر بالكعبة فكسيت الديباج «1» ، وكان الذي تولّى ذلك بأمره الحجاج بن يوسف الثقفي.
ولم يزل المسجد الحرام يتعاهده الخلفاء والملوك والأمراء من لدن عبد الملك إلى يومنا هذا، وقد كانت اخر توسعة على يد ال سعود: حكام الحجاز ونجد وملحقاتهما. وقد أنافت هذه العمارة والتوسعة على كل عمارة قبلها، ونرجو أن يكون عملهم مقبولا، وجزاؤهم كثيرا، وأن تكون عمارة المسجد موصولة إلى ما شاء الله.
مقام إبراهيم
هو الحجر الذي كان يقف عليه الخليل إبراهيم- عليه السلام- لما ارتفع البناء عن قامته، وقد أثّرت قدماه فيه.
وقد كانت اثار قدمي الخليل في الحجر باقية إلى أول الإسلام، قال أبو طالب في لاميته المشهورة:
وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافيا غير ناعل
وقد روي أن المقام كان ملصقا بحائط الكعبة، على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فأخّره عن البيت قليلا حتى لا يحصل التضييق على الطائفين بالبيت والمصلّين عند المقام، وقد وافق الفاروق الصحابة ولم ينكر عليه أحد «2» . وكيف وهو صاحب الموافقات، ومن موافقاته قوله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلّى» ، فأنزل الله سبحانه قوله:
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى (125) «3» .
رواه البخاري في الصحيح «4» .
__________
(1) الحرير.
(2) البداية والنهاية، ج 1 ص 164.
(3) الاية 125 من سورة البقرة.
(4) صحيح البخاري.(1/133)
المسجد الأقصى
وبعد أن بنى الخليل عليه الصلاة والسلام الكعبة والبيت الحرام أمره الله أن يا بني بيت المقدس فبناه، وقيل إن يعقوب- عليه السلام- هو الذي أسسه، وقد كان بين البناءين أربعون عاما، فعن أبي ذر- رضي الله عنه- قال:
«قلت يا رسول الله، أيّ مسجد وضع في الأرض أولا؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أيّ؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة، وأينما أدركتك الصلاة فصلّ فهو مسجد» «1» .
ولكن قد يشكل على هذا ما اشتهر من أن باني المسجد الأقصى هو سليمان بن داود- عليهما السلام- وقد روى النسائي بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن سليمان بن داود لما بنى البيت المقدس سأل الله عز وجل خلالا ثلاثا: سأل الله عز وجل حكما يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فأوتيه، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد ألايأتيه أحد، لا ينهزه- أي لا يدفعه- إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه فأوتيه» وبين إبراهيم وسليمان ما يزيد عن ألف عام.
والحق أن ما حدث من سيدنا سليمان لم يكن تأسيسا من الأصل، وإنما كان تجديدا وتوسعة لما أسس قبل، ويكون الخليل بعد أن بنى الكعبة بأربعين سنة بنى بيت المقدس، أو بناه حفيده يعقوب كما قيل.
وإذا كان كذلك فلا يكون الحديث مخالفا للتاريخ، ولا للواقع، لأنه صلّى الله عليه وسلّم عنى المؤسس الأول لبيت المقدس لا المجدّد «2» ، واستعمال البناء في التجديد مستساغ ووارد في اللغة العربية.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) زاد المعاد، ج 1 ص 8؛ وفتح الباري.(1/134)
التشكيك في قصة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)
قد ذكرت انفا قصة إبراهيم- عليه السلام- وإسكانه هاجر وابنها إسماعيل بواد ليس به ماء، ولا أنيس عند مكان البيت، وذكرت الايات القرانية التي تفيد القطع في هذا، وذكرت القصة تامة وافية كما رواها الإمام البخاري عن ابن عباس، وهذه القصة يكاد ينعقد الإجماع على جملتها وإن وقع خلاف على التفاصيل، والذين يعرضون لتفاصيل حوادثها بالنقد يروونها على أن هاجر ذهبت بإسماعيل إلى الوادي الذي به مكة اليوم، وكانت به عيون أقامت جرهم عندها، فنزلت هاجر منهم أهلا وسهلا لما جاء إبراهيم بها وبابنها، فلما شبّ إسماعيل تزوج جرهمية ولدت له أولاده، وكان لهذا التلاقح بين إسماعيل العبري المصري، وبين هؤلاء العرب ما جعل ذريته على جانب من العزم، وقوة البأس، والجمع بين فضائل العرب، والعبريين، والمصريين.
أما ما ورد عن حيرة هاجر لما نضب الماء منها، وعن سعيها سبعا بين الصفا والمروة، وعن زمزم، وكيف نبع الماء منها فموضع شك عندهم «1» .
والذي نراه أن ما دلّت عليه رواية البخاري في صحيحه هو الصحيح، وأن التسلسل التاريخي فيها أدق وأوضح ولا سيما أن قوله تعالى حكاية عن الخليل عليه السلام:
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ «2» رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) «3» .
يكاد يكون نصا على أنه لم يكن هناك ناس، ولا زرع، ولا ماء، ومن
__________
(1) حياة محمد، ص 89.
(2) إن كان هذا الخطاب والدعاء بعد البناء فالاية على ظاهرها وإن كان قبل البناء فالمراد عند مكان بيتك الذي سيكون ويا بنى فيما بعد.
(3) الاية 37 من سورة إبراهيم.(1/135)
قواعد البحث العلمي أنه إذا تعارض النقل فلنأخذ بما هو أصح وأوثق، ورواياتهم هذه التي يروونها لا تنهض إلى معارضة ما دل عليه القران، ونصت عليه الروايات الصحيحة.
وإذا كان البعض قد ارتاب في تفاصيل القصة، فقد نفاها من أساسها (وليم موير) وذكر أنها من الإسرائيليات ابتدعها اليهود قبل الإسلام بأجيال، ليربطوا بها بينهم وبين العرب بالاشتراك في أبوة إبراهيم لهم أجمعين، أن كان إسحاق أبا لليهود، فإذا كان أخوه إسماعيل أبا العرب فهم إذا أبناء عمومة توجب على العرب حسن معاملة النازلين بينهم من اليهود، وتيسر لتجارة اليهود في شبه الجزيرة، ويستند المؤرخ الانكليزي في رأيه هذا إلى أن أوضاع العبادة في بلاد العرب لا صلة بينها وبين دين إبراهيم، لأنها وثنية مغرقة في الوثنية، وكان إبراهيم حنيفا مسلما.
وسأدع الدكتور محمد حسين هيكل- رحمه الله- يردّ عليه، قال: ولسنا نرى مثل هذا التعليل كافيا لنفي واقعة تاريخية، فوثنية العرب بعد موت إبراهيم وإسماعيل بقرون كثيرة لا تدل على أنهم كانوا كذلك حين جاء إبراهيم إلى الحجاز، وحين اشترك وإسماعيل في بناء الكعبة، ولو أنها كانت وثنية يومئذ لما أيّد ذلك رأي سيرموير، فقد كان قوم إبراهيم يعبدون الأصنام، وحاول هو هدايتهم فلم ينجح، فإذا دعا العرب إلى مثل ما دعا إليه قومه فلم ينجح، وبقي العرب على عبادة الأوثان لم يطعن ذلك في ذهاب إبراهيم وإسماعيل إلى مكة، بل إنّ المنطق ليؤيد رواية التاريخ، فإبراهيم الذي خرج من العراق فارا من أهله إلى فلسطين وإلى مصر- رجل ألف الارتحال، وألف اجتياز الصحاري، والطريق ما بين فلسطين ومكة كان مطروقا من القوافل منذ أقدم العصور، فلا محل إذا للريبة في واقعة تاريخية انعقد الإجماع على جملتها.
والسير وليم موير والذين ارتأوا في هذه المسألة رأيه يقولون بإمكان انتقال جماعة من أبناء إبراهيم وإسماعيل بعد ذلك من فلسطين إلى بلاد العرب، واتصالهم وإياهم بصلة النسب وما ندري، وهذا الإمكان جائز عندهم في شأن(1/136)
أبناء إبراهيم وإسماعيل، كيف لا يكون جائزا في شأن الرجلين بالذات!؟ وكيف لا يكون ثابتا قطعا ورواية التاريخ تؤكده؟! وكيف لا يكون بحيث لا يأتيه الريب، وقد ذكره القران، وتحدثت به الكتاب المقدسة الاخرى؟ «1» .
وأزيد فأقول: إن هذه الزعمة التي زعمها سير موير تنافي ما هو معروف عن اليهود من دعواهم أنهم شعب الله المختار، وزعمهم أن النبوة فيهم، فكيف يختلقون أمرا يرد عليهم في هذا؟! بل كيف يختلقون أمرا يقتضي ضرورة فضل العرب، وأنهم شركاؤهم في النبوة بكون خاتم الأنبياء والمرسلين منهم؟! وقد قرأت موقفهم من تحريف نصوص توراتهم في قصة الذبيح!!.
وقد قرأنا تاريخ حروبهم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، وحصاره لهم حتى نزلوا على حكمه كارهين، فما وجدنا أنهم مرة قالوا- وهم يستعطفون النبي- أنهم أبناء عمومة، وكان الأجدر بهم أن يذكروا هذا وهو حق؛ استعطافا للنبي عليهم!! وذلك على عكس المشركين القرشيين، فقد كانوا إذا أزموا يذكرون النبي بالرحم والقرابة التي تجمعهم، وهذا يدل على أنهم كانوا أكره ما يكرهون أن يذكروا هذه الصلة التي تربطهم بالعرب، فهل بعد هذا يزعم زاعم أن قصة مجيء إبراهيم إلى الحجاز وإسكانه هاجر وابنها من اختلاق اليهود؟!
الأشهر الحرم
قال الله سبحانه وتعالى:
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ «2» .
يعني عدة شهور العام في تقدير الله، وحكمه الأزلي، وأمر الناس بالأخذ
__________
(1) حياة محمد، ص 90.
(2) الاية 36 من سورة التوبة.(1/137)
به- اثنا عشر شهرا، والمراد الشهور القمرية التي تعرف بسير القمر في المنازل، وعلى هذه الشهور كان يعتمد العرب، ولما جاء الإسلام جعلها مواقيت الناس يعتمدون عليها في صيامهم، وحجهم، وزكواتهم، ومعاملاتهم، وسائر أحكامهم، وأمورهم.
والشهر الفلكي أو الحقيقي مدته تسعة وعشرون يوما، ومائة وأحد وتسعون جزا من ثلاثمائة وستين جزا لليوم بليلته، وتكون السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما وأجزاء من اليوم، فما زاد عن نصف يوم عدّوه يوما كاملا وزادوه في الأيام، وتكون السنة حينئذ كبيسة، وتكون أيامها ثلاثمائة وخمسة وخمسين يوما، واصطلحوا على جعل الأشهر شهرا كاملا أي ثلاثين يوما، وشهرا ناقصا أي تسعة وعشرين، فالمحرم في اصطلاحهم ثلاثون يوما، وصفر تسعة وعشرون، وهكذا إلى اخر السنة القمرية الأفراد منها ثلاثون، وأولها المحرم.
والأزواج تسعة وعشرون، وأولها صفر إلا ذا الحجة من السنة الكبيسة فإنه يكون ثلاثين يوما لاصطلاحهم على جعل ما زادوه في أيام السنة الكبيسة في ذي الحجة اخر السنة.
وأما مدار الشهر الشرعي فعلى الرؤية، فمن ثمّ اختلفت الأشهر فكان بعضها ثلاثين وبعضها تسعة وعشرين، وقد صدع النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذه الحقيقة فقال: «الشهر هكذا، وهكذا، وعقد الإبهام في الثالثة، والشهر هكذا، وهكذا، وهكذا يعني تمام الثلاثين» رواه مسلم والبخاري مختصرا. ولا يتعين شهر للكمال، وشهر للنقصان، بل قد يكون الشهر ثلاثين في بعض السنين، وتسعا وعشرين في بعض اخر منها، وأما ما أخرجه الشيخان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «شهرا عيد لا ينقصان: رمضان وذو الحجة» فالمعنى لا ينقص أجرهما، والثواب المرتب عليهما، وإن نقص عددهما في بعض السنين. وقيل الغالب والكثير أنهما لا ينقصان في سنة واحدة «1» .
ولما كانت السنة القمرية تنقص عن السنة الشمسية بنحو عشرة أيام
__________
(1) تفسير الألوسي، ج 10 ص 90، 91.(1/138)
أو أحد عشر يوما فبسبب هذا النقصان تدور السنة الهلالية فيقع الصوم والحج تارة في الشتاء، وتارة في الصيف، وتارة في الربيع، وتارة في الخريف. وهذا من رحمة الله بعباده في التشريع، حتى تنزاح المشقة، ويذهب السأم والملل بأداء العبادات في وقت لا يتغير، وليتدرب المتعبد على أداء العبادات في جميع فصول العام، وكذلك شاء الله أن يكون اعتبار الشهور بسير القمر، وظهوره، لأن ذلك لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب، بل هو أمر مشاهد بالبصر، فيستوي في معرفته الجاهل والمتعلم، والبدوي والحضري.
وقد جعل الله من هذه الشهور أربعة حرما، وإنما سميت حرما لتحريم الله القتال فيها، وتعظيم العرب لها، حتى لو أن الواحد منهم يلقى قاتل أبيه، أو أخيه في هذه الأشهر فلا يعرض له بسوء، فلما جاء الإسلام لم يزدها إلا حرمة وتعظيما. وهذه الأشهر هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الفرد، ويقال له: رجب مضر «1» . ومنهم من يقول: المحرم، ورجب، وذو القعدة، وذو الحجة. والأول هو الأولى وهو الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة التي رواها الشيخان.
وقد كان تعظيم الأشهر الحرم من بقايا شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام- وقد جاءت الأشهر الحرم على هذا الوضع لأجل تأمين حجاج البيت وزوّاره، فحرّم الله قبل شهر الحج شهرا ليسيروا إلى هذه البقاع، وهو شهر ذي القعدة «2» ، وحرّم ذا الحجة لأنهم يوقعون فيه مناسك الحج، وحرّم بعده شهرا وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم. وحرّم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت، وأداء العمرة.
__________
(1) وذلك لأن مضر كانت تعظمه أكثر من غيرها، وقيل لأن ربيعة بن نزار كانوا يعظمون رمضان ويسمونه رجبا، فأضيف رجب إلى مضر تمييزا له عن غيره.
(2) وسمي ذا القعدة لقعودهم فيه عن القتال.(1/139)
أسماء الشهور العربية
وقد ذكر بعض المؤرخين للعرب قبل الإسلام «1» أن قدماء أهل الجاهلية، وهم العرب العاربة، كانوا يسمون الأشهر العربية بهذه الأسماء وهي:
(1) (مؤتمر) ، (2) و (ناجر) ، (3) و (خوان) ، (4) و (صوان) ، (5) و (ربي) ، (6) و (ايدة) ، (7) والأمم، والبعض سماه (الأصم) ، (8) و (عادل) ، (9) و (ناطل) ، (10) و (واغل) ، (11) و (رنة) ، (12) و (برك) . ومؤتمر هو اسم المحرم، وناجر هو صفر، وهكذا. وقد ذكر البيروني في كتابه «الاثار الباقية» نحوا من ذلك إلا أنه ذكر (الزباء) بدل (ربي) و (بائدة) بدل (ايدة) .
والظاهر أنهم راعوا بعض الظروف الجوية، والأحوال الاجتماعية، والملابسات التي كانوا عليها عند وضعهم هذه الأسماء. فالمؤتمر للمحرم؛ لأنهم كانوا يجتمعون فيه ويأتمرون، والأصم لرجب، لأنهم كانوا يكفون فيه عن القتال فلا يسمع فيه صوت وهكذا.
ثم سمت العرب قبل الإسلام الشهور العربية بالأسماء المعروفة مراعين أيضا الأحوال، وخصائص هذه الأوقات، والأوضاع التي كانوا عليها عند وضع هذه الأسماء، فالمحرم سمّي بذاك تأكيدا لتحريمه لأن العرب كانت تتقلب به، فتحله عاما وتحرمه عاما. وصفر سمي بذلك لخلو بيوتهم منهم حين يخرجون للقتال والأسفار، فهو يأتي بعد ثلاثة أشهر حرم. وشهر ربيع الأول سمي بذلك لارتباعهم فيه، والارتباع: الإقامة في عمارة الربع. وربيع الاخر كالأول.
وجمادى سمي بذلك لجمود الماء فيه، فقد صادف حينما وضعوا الأسماء للشهور أن كان الوقت شديد البرد قال شاعرهم:
وليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب في ظلمائها الطّنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتى يلف على خيشومه الذنبا
__________
(1) تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي.(1/140)
وجمادى يذكّر ويؤنث، فيقال: جمادى الأولى، والأول، وجمادى الاخرة، والاخر. و (رجب) من الترجيب وهو التعظيم، وقد بيّنا أن مضر كانت تعظمه جدا. وقد كانوا لتعظيمه يتركون فيه القتال ويحرمونه. و (شعبان) من تشعّب القبائل، وتفرقها للغارة بعد تركهم ذلك في رجب. و (رمضان) من الرمضاء وهي شدة الحر، فقد صادف وقت التسمية أن كان الطقس حارا جدا. و (شوال) من شالت الإبل بأذنابها، لأجل الطراق من الفحل. و (ذو القعدة) بفتح القاف وكسرها لقعودهم عن القتال فيه استعدادا للحج. و (ذو الحجة) بفتح الحاء وكسرها لحجهم فيه «1» .
النسيء
النسء والنسيء: تأخير حرمة شهر حرام إلى شهر اخر، ذلك أن العرب كانوا أصحاب حروب وغارات وثارات، فإذا حلّ عليهم شهر حرام، وهم يحاربون شقّ عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهرا اخر ليس من الحرم، كما كانوا يشق عليهم ترك القتال ثلاثة أشهر متوالية، فإذا فرغت العرب من حجها قام رجل منهم معروف بذلك وأحلّ لهم المحرم، وجعل مكانه صفرا شهرا حراما، فإذا أرادوا الصدر «2» قام هذا الرجل فيهم فقال: اللهمّ إني نسأت لك أحد الصفرين: الصفر الأول «3» ، ونسأت الاخر للعام المقبل، فإذا جاء صفر ووجدوا أنفسهم في حاجة إلى قتال نسأوه، وهكذا حتى صار من أمرهم عدم تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرمون من بين الشهور أربعة أشهر، فجعلوا التحريم لعدد الشهور، لا لأعيانها وذواتها.
وكان أول من نسأ الشهور على العرب (القلمّس) وهو حذيفة بن عبد بن
__________
(1) تفسير ابن كثير والبغوي، ج 4 ص 161، 162.
(2) الرجوع إلى مكة.
(3) يريد المحرم.(1/141)
فقيم، ينتهي نسبه إلى كنانة بن خزيمة، ثم قام بعده على ذلك ابنه عبّاد بن حذيفة، ثم قام بعد عبّاد قلع بن عبّاد، ثم قام بعد قلع أمية بن قلع، ثم قام بعد أمية عوف بن أمية، ثم قام بعد عوف أبو ثمامة جنادة بن عوف، وكان اخرهم، وعليه قام الإسلام «1» ، وقد اختلف في جنادة هذا أسلم أم لم يسلم؟
ويدل على إسلامه ما جاء في بعض الأخبار أنه حضر الحج في زمن سيدنا عمر، فرأى الناس يزدحمون على الحجر الأسود، فنادى أيها الناس إني قد أجرته منكم، فخفقه عمر بالدرة، وقال: ويحك، إن الله قد أبطل أمر الجاهلية «2» .
وقد ذكر السهيلي في «الروض الأنف» «3» أن النسيء كان عند العرب على ضربين: أحدهما: ما ذكره ابن إسحاق من تأخير شهر المحرم إلى صفر لحاجتهم إلى شن الغارات، وطلب الثارات.
والثاني: تأخيرهم الحج عن وقته تحريا منهم للسنة الشمسية، فكانوا يؤخرونه كل عام أحد عشر يوما أو أكثر قليلا، حتى يدور الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة، فيعود إلى وقته، ولذا قال- عليه السلام- في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» وكانت حجة الوداع في السنة التي عاد فيها الحج إلى وقته «4» ، ولم يحج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة إلى
__________
(1) سيرة ابن هشام، ج 2 ص 43، 44.
(2) الروض الأنف، ج 1 ص 42، ط الجمالية؛ الإصابة في تاريخ الصحابة، ج 1 ص 347، ط أولى.
(3) ج 1 ص 41.
(4) يوهم كلام السهيلي هذا أن الحج في السنة التاسعة وهي الحجة التي أمّر فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم الصدّيق كانت في غير شهرها، وهو غير صحيح وإن قاله البعض، ويدل على هذا ما روي في الصحيحين عن أبي هريرة قال: «بعثني أبو بكر الصدّيق في الحجة التي أمّره عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل حجة الوداع في رهط يؤذّنون في الناس يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» ولا يقال يوم النحر إلا لليوم العاشر من ذي الحجة، وأيضا فنسيء الحج لا يتوقف على الصورة التي ذكرها السهيلي، فيجوز أن ينسأ على ما ذكره ابن إسحاق، وذلك كأن يكون بينهم قتال في شوال مثلا، فيضطرون إلى مواصلته في ذي القعدة وذي الحجة، فيؤخرون حرمتهما إلى شهرين اخرين حلالين.(1/142)
مكة غير تلك الحجة، وذلك لإخراج الكفار الحج عن وقته، ولطوافهم بالبيت عراة.
وقد جاء الإسلام فحرم النسيء بنوعيه تحريما مؤكّدا مؤبّدا قال تعالى:
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37) «1» .
وقد أكد النبي حرمة الأشهر الحرم، وحرّم النسيء، وبيّن أن الزمان عاد كما كان منذ أن خلقه الله، فلا نسيء بعد اليوم، ولا تغيير، ولا تبديل في الأشهر الحرم، فقال في خطبته في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض: السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم: ثلاث متواليات:
ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى الاخرة، وشعبان» «2» .
وقد دلت اية النسيء على أن التحليل والتحريم إنما هو لله، ولرسله المبلّغين عنه، وليس لأحد أن يحلّل أو يحرّم، وإلا كان افتراء وكذبا على الله، قال عز شأنه:
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ «3» .
__________
(1) الاية 37 من سورة التوبة.
(2) رواه البخاري.
(3) الاية 116 من سورة النحل.(1/143)
أولاد إسماعيل
ذكرت فيما سبق قصة نبع زمزم، وأنها كانت هزمة، أو همزة جبريل حينما ضرب الأرض بعقبه أو بجناحه، فنبعت زمزم لتكون سقيا لإسماعيل، وأن جرهما نزلوا بجوار السيدة هاجر وابنها إسماعيل على ألايكون لهم ملك في الماء، وأن إسماعيل لما كبر صاهر فيهم، وقد صار له من امرأته الجرهمية أولاد عدتهم: اثنا عشر رجلا: (1) نابت، وكان أكبرهم (2) وقيذر- ويقال له:
قيذار وقيدار- (3) وأذبل- وقيل: أدبيل، وأدبال- (4) وميشا (5) ومسمع (6) وماشي- وقيل ماسي- (7) ودمّا- وقيل: دمار- (8) وأذر- وقيل:
أدر- (9) وطيما (10) ويطور- وقيل: قطور- (11) ونبش- وقيل: نفيس، ويافيش- (12) وقيذم- وقيل: قيدمان- «1» .
وأمهم رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي- وقيل: مضاض-.
وجرهم بن قحطان، وقحطان أبو اليمن كلها وإليه يجتمع نسبها، وهو قحطان بن عامر، بن شالخ، بن أرفخشذ، بن سام، بن نوح. وقال ابن إسحاق: جرهم بن يقطن بن عيبر بن شالخ، ويقطن هو: قحطان بن عيبر بن شالخ، وقد بلغ إسماعيل- عليه السلام- فيما يذكرون- مائة وثلاثين سنة، ثم مات- رحمة الله وبركاته عليه- ودفن بالحجر مع أمه هاجر «2» .
وقد ولد نابت بن إسماعيل يشجب بن نابت، ثم ولد يشجب يعرب، ثم ولد يعرب تيرح، ثم ولد تيرح ناحور، ثم ولد ناحور مقوّم، ثم ولد مقوم أدد، ثم ولد أدد عدنان، ومن عدنان تفرقت القبائل من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام- فقد ولد عدنان رجلين: معدّ بن عدنان، وعكّ، ومنهما كانت قبائل العرب العدنانية كلها.
__________
(1) السيرة ج 1، ص 4، 5؛ البداية والنهاية ج 1، ص 193.
(2) أما أمه فدفنت فيه قبل أن يا بنى البيت كما قدمنا في حديث البخاري. وأما إسماعيل فإن صح ذلك يكون دفن فيه بعد البناء، ولم يكن هذا الموضع يعرف بالحجر إلا بعد أن بنت قريش الكعبة، فقد ضاقت بهم النفقة، فتركوا قطعة من البيت وهي الحجر كما سيأتي ذلك.(1/144)
الفصل الثالث ولاة البيت وتاريخ مكّة إلى مولد الرّسول صلّى الله عليه وسلم
وقد ولي أمر البيت إسماعيل- عليه السلام- فلما مات وليه بعده ابنه نابت ما شاء الله أن يليه، ثم ولي البيت بعده مضاض بن عمرو الجرهمي.
ولاية الجراهمة
ثم ولي البيت الجراهمة، وصاروا الحكام بمكة، وكان معهم بنو إسماعيل إلا أنهم لم ينازعوهم الملك والرئاسة لخؤولتهم وقرابتهم، وإعظاما لمكة أن يكون بها بغي أو قتال، فلما ضاقت مكة على ولد إسماعيل انتشروا في البلاد، فلا يناوئون قوما إلا أظهرهم الله عليهم بدينهم فغلبوهم، وكان أول من ولي البيت من جرهم مضاض بن عمرو الجرهمي جد أولاد إسماعيل، ثم انتقلت بعده إلى ابنه الحارث، ثم إلى عمرو بن الحارث، وكان مع جرهم بنو قطوراء «1» . وهما ابنا عم وكان رئيس جرهم مضاضا، ورئيس قطوراء السميدع، وقد تنافسوا الملك والرئاسة بمكة، وقد وقعت بينهم حرب، فانتهت بانتصار جرهم، وبذلك صفا لهم الجو.
ثم لم تلبث جرهم أن بغوا بمكة، واستحلّوا حرمتها، فظلموا من دخل بها من غير أهلها مع أن الله جعلها حرما امنا، وأكلوا مال الكعبة التي يهدى إليها «2» ، فقيّض الله لهم من أخرجهم من البلد الحرام.
__________
(1) هو قطوراء بن كركر.
(2) كان الخليل إبراهيم- عليه السلام- قد احتفر بئرا عند باب الكعبة، فكان كل ما يهدى إلى الكعبة يلقى في هذا البئر، فلما فسد أمر جرهم صار يسرقون مال الكعبة ويستحلونه.(1/145)
غلبة خزاعة على البيت
فلما رأى بنو بكر بن عبد مناة من كنانة وغبشان من خزاعة ظلم الجراهمة وبغيهم أجمعوا على حربهم وإخراجهم من مكة، فاذنوهم بالحرب، فاقتتلوا، واعتزل بنو إسماعيل الفريقين، فغلبهم بنو بكر وغبشان. قال ابن إسحاق:
وكانت مكة في الجاهلية لا تقرّ فيها ظلما، ولا بغيا، ولا يبغي فيها أحد إلا أخرجته ورمته، ولا يريدها أحد بسوء إلا هلك مكانه، فيقال: إنها ما سميت ببكة إلا أنها كانت تبك أعناق الرجال إذا أحدثوا فيها «1» .
وقال ابن هشام: أخبرني أبو عبيدة أن بكة اسم لبطن مكة، لأنهم كانوا يتباكون فيها، أي يزدحمون يعني في الطواف بالكعبة، والدعاء، والسعي بين الصفا والمروة.
طم الجراهمة زمزم
فلما غلب الجراهمة على أمرهم، وهمّوا بالخروج من مكة عمد عمرو ابن الحارث بن مضاض الجرهمي إلى نفائس وهي: غزالان من ذهب، وسيوف محلّاة، وأدرع، فجعلها في زمزم وطمّها «2» ، وبالغ في طمها، ثم انطلق عمرو بقومه إلى اليمن، فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديدا «3» .
فلم تزل زمزم من ذلك العهد مطمومة مجهولة حتى أذن الله سبحانه وتعالى أن تعاد، وكان ذلك قبل ميلاد النبي صلّى الله عليه وسلّم على يد جده عبد المطلب.
ولاية خزاعة البيت
ثم ولي أمر البيت بعد جرهم غبشان من خزاعة «4» دون بني بكر بن عبد مناة، وكان الذي وليه منهم عمرو بن الحارث الغبشاني، وقريش يومئذ بيوتات
__________
(1) السيرة لابن هشام ج 1، ص 114.
(2) دفنها وسواها.
(3) السيرة ج 1، ص 113، 114.
(4) سموا خزاعة لأنهم تخزعوا أي تخلفوا، وانقطعوا من ولد عمرو بن عامر حينما أقبلوا من اليمن يريدون الشام، فنزلوا بمر الظهران فأقاموا به.(1/146)
متفرقون في قومهم من بني كنانة، وما زال بنو خزاعة يتوارثون أمر البيت كابرا عن كابر حتى كان اخرهم حليل بن حبشية بن سلول الخزاعي الذي تزوج قصي بن كلاب ابنته حبّى «1» ، واستمرت خزاعة على ولاية البيت نحوا من ثلاثمائة سنة، وقيل: خمسمائة سنة، وكانوا قوم سوء في ولايتهم، ففي زمانهم كان أول عبادة الأصنام بالحجاز بسبب رئيسهم عمرو بن لحيّ الخزاعي كما أسلفنا.
__________
(1) بضم الحاء وتشديد الباء المفتوحة مقصورا.(1/147)
قصي بن كلاب
كان كلاب بن مرة متزوجا من فاطمة بنت سعد بن سيل، فولدت له زهرة وقصيا، ومات كلاب وقصي طفل في المهد، وقدم مكة بعد هلاك كلاب ربيعة بن حرام من عذرة، فتزوج فاطمة، واحتملها إلى بلاده، فحملت قصيا معها، وأقام أخوه زهرة بمكة لأنه كان رجلا، وقد ولدت فاطمة لربيعة رزاحا، فلما كبر قصي تسابّ هو ورجل من قضاعة فعيّره بأنه ليس منهم، وإنما هو ملصق فيهم، فدخل على أمه وهو مغضب فأخبرها، فقالت له: يا بني، صدق أنك لست منهم، ولكن رهطك خير من رهطه، واباؤك أشرف من ابائه، وإنما أنت قرشي، وأخوك وبنو عمك بمكة، وهم جيران بيت الله الحرام.
فاحتمل بنفسه إلى مكة وأقام قصي بمكة، وعرف عنه من الجد وحسن الرأي ما جعله موضع احترام أهلها وأهله فيها، وتقديرهم له، وكانت سدانة البيت في هذا الوقت لخزاعة يتولاها حليل بن حبشية، فما لبث حين خطب إليه قصي ابنته حبّى أن رغب فيه وزوجه، فولدت لقصي: عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى، وعبدا، وكثر ولده وانتشروا، كما كثر ماله، وعظم جاهه وشرفه.
ولاية قصي البيت
ثم هلك حليل فرأى قصي أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة وبني بكر، فقريش هم في الذروة من ولد إسماعيل، وصريح ولده، فكلّم رجالا من قريش وبني كنانة، ودعاهم إلى إخراج خزاعة وبني بكر من مكة، فأجابوه، واستنصر أيضا بأخيه لأمه رزاح بن ربيعة، فجاء ومعه إخوته لأبيه، وكانت(1/148)
حرب شديدة بينهم، وبين خزاعة وبني بكر، انتهت بانتصار قصي ومن معه، وهزيمة الاخرين وإجلائهم عن مكة، وتمّ لقصي ولاية البيت وأمر مكة، وجمع قومه من منازلهم- وكانت بعيدة عن البيت- إلى ما حول البيت، فسمي:
مجمّعا، وتملك على قومه وأهل مكة فملّكوه، وكان أول بني كعب بن لؤي أصاب ملكا أطاع له به قومه.
وصارت ماثر قريش كلها إلى قصي: الحجابة «1» ، والسقاية «2» ، والرفادة «3» ، واللواء «4» ، والندوة «5» ، فحاز شرف مكة كلها، فما تنكح امرأة، ولا يتزوج رجل من قريش، وما يتشاورون في أمر نزل بهم، ولا يعقدون لواء حرب إلا في داره.
ولمّا بنت قريش بأمر قصي حول الكعبة دورها تركوا مكانا كافيا للطواف حول البيت، وتركوا بين البيوت طرقا ينفذ منها إلى الحرم، واتخذ لنفسه دار الندوة، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة، ففيها كانت قريش تقضي أمورها، وقيل إن حليلا هو الذي أوصى بذلك لقصي لما انتشر ولده من ابنته، فأبت خزاعة أن تمضي ذلك لقصي، فعند ذلك هاجت الحرب بينه وبين خزاعة، وقيل إن حليلا عهد بالمفاتيح إلى أبي غبشان وهو من خزاعة، وكان رجلا سكّيرا، فابتاعها منه قصي بزق خمر، فقيل: أخسر من صفقة أبي غبشان.
وكان قصي أول من سن الرفادة وجعلها فرضا على قريش، حيث قال:
«يا معشر قريش إنكم جيران الله، وأهل بيته، وأهل الحرم، وإن الحجاج ضيف الله، وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج، حتى يصدروا عنكم ففعلوا» .
__________
(1) أن تكون مفاتيح الكعبة بيده فلا يدخلها أحد إلا بإذنه.
(2) هي الشراب الذي كانوا يصنعونه لأهل مكة في الموسم من ماء زمزم يخلط تارة بعسل، وتارة بلبن، وتارة ينبذ فيه التمر والزبيب، يتطوعون بذلك للحجيج من عند أنفسهم.
(3) طعام كانت قريش تجمعه كل عام لأهل الموسم ويقولون: هم أضياف الله تعالى.
(4) ما يعقد للحرب.
(5) الاجتماع للمشورة.(1/149)
جعل قصي هذه الماثر لعبد الدار
وكان عبد الدار أكبر أبناء قصي، وكان عبد مناف قد شرف في حياة أبيه، وذهب كل مذهب، وكذلك شرف عبد العزّى، وعبد، فقال قصي- وقد كبرت سنه، ووهنت قوته- لابنه عبد الدار: أما والله يا بني لألحقنّك بهم وإن كانوا قد شرفوا عليك، لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له، ولا يعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت بيدك، ولا يشرب أحد بمكة إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاما إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا في دارك، فأعطاه داره: دار الندوة، وأعطاه الحجابة، واللواء، والسقاية، والرفادة «1» .
منازعة بني عبد مناف لبني عبد الدار
وتولّى عبد الدار هذه المناصب التي اثره بها أبوه، وتولّاها أبناؤه من بعده، لكن أبناء عبد مناف كانوا أشرف في قومهم، وأعظم مكانة، لذلك أجمع عبد شمس، وهاشم، والمطلب، ونوفل بن عبد مناف أن يأخذوا ما بأيدي أبناء عمومتهم، وتفرق رأي قريش: بعضها مع هؤلاء، وبعضها مع أولئك، وعقد بنو عبد مناف «حلف المطيّبين» لأنهم غمسوا أيديهم في طيب جاءت به بعض نساء بني عبد مناف في جفنة، فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة، فتعاقدوا، وتعاهدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم، وتعاقد بنو عبد الدار، وتعاهدوا وحلفاؤهم عند الكعبة حلفا مؤكدا على ألايتخاذلوا، ولا يسلم بعضهم بعضا، فسمّوا «الأحلاف» ، وكادوا يقتتلون في حرب تفني قريشا، ولكن رحمة الله تداركتهم فتداعوا للصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية، والرفادة، وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار كما كانت، ففعلوا، ورضي كل واحد من الفريقين بذلك، وظل الأمر عليه حتى جاء الإسلام «2» .
__________
(1) السيرة ج 1، ص 129، 130.
(2) المرجع السابق ص 131، 132.(1/150)
ولاية هاشم بن عبد مناف السقاية والرفادة
فولي هاشم بن عبد مناف الرفادة، والسقاية، وذلك أن عبد شمس كان رجلا سفّارا قلما يقيم بمكة، وكان مقلا من المال ذا ولد، وأما هاشم فكان موسرا، فهذا هو السبب في تولّيه الأمرين مع أن عبد شمس كان أكبر منه، وكان هاشم يستعين بقريش في الرفادة، فكان إذا حضر الحاج قام في قريش فقال:
«يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل بيته، وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوّار الله وحجاج بيته، وهم ضيف الله، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه، فاجمعوا لهم ما تصنعون به طعاما أيامهم هذه التي لا بد لهم من الإقامة بها، فإنه- والله- لو كان مالي يسع لذلك ما كلفتكموه» فيستجيبون له، ويخرجون لذلك خرجا من أموالهم كلّ بقدر طاقته، فيصنع به للحجاج طعاما حتى يرجعوا من مكة.
وكان هاشم- فيما يزعمون- أول من سن الرحلتين لقريش: رحلتي الشتاء والصيف، وأول من أطعم الثريد بمكة، وكان اسمه عمرا، وإنما سمي هاشم لذلك، قال شاعرهم:
عمرو الذي هشم الثريد «1» لقومه ... قوم بمكة مسنتين عجاف «2»
سنت إليه الرحلتان كلاهما ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف
وفي عهده ازدهرت مكة، وسمت مكانتها في أنحاء الجزيرة كلها، واعتبرت العاصمة المعترف بها، وطوّع لهم هذا الازدهار أن يعقدوا معاهدات الأمن وحسن الجوار مع الدول المجاورة لهم، من رومان، وفرس، وأحباش، وغساسنة وغيرها.
مناوأة أمية بن عبد شمس لعمه هاشم
وظل هاشم تتقدم به السن في مكانته على رياسة مكة وزعامتها، لا يفكر أحد في منافسته، حتى خيّل لابن أخيه أمية بن عبد شمس أنه قد بلغ مكانا
__________
(1) هو الخبز يخلط بالمرق واللحم.
(2) وفي رواية: ورجال مكة مسنتون عجاف.(1/151)
يسوغ له هذه المنافسة، لكنه لم يقدر وغلب على أمره، وبقي الأمر لهاشم لا ينازعه أحد، وترك أمية مكة إلى الشام، فأقام بها عشر سنين «1» .
تزوج هاشم من بني النجار
وكان هاشم بن عبد مناف رجلا تاجرا كثير المال، يكثر من الأسفار ما بين مكة والشام، وفي سفرة من سفراته نزل بالمدينة، فرأى سلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار، فأعجب بها، وكانت سلمى لشرفها في قومها واعتزازها بنفسها لا تنكح الرجال حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها، إذا كرهت رجلا فارقته، فتزوجها هاشم، وكانت قبله عند أحيحة بن الجلاح من الأوس، فولدت له عمرو بن أحيحة، وولدت لهاشم عبد المطلب، فسمته: شيبة، فتركه هاشم عندها حتى صار غلاما دون المراهقة، فذهب إليه عمه المطلب فجاء به إلى مكة، ثم هلك هاشم بغزة «2» من أرض الشام وهو في رحلة من رحلاته التجارية، ثم هلك بعده عبد شمس بمكة، ثم المطّلب بردمان «3» من أرض اليمن، ثم نوفل بسلمان من أرض العراق.
ولاية المطلب الرفادة والسقاية
وبعد موت هاشم ولي السقاية والرفادة من بعده المطّلب بن عبد مناف، وكان أصغر من عبد شمس وهاشم، وكان ذا شرف في قومه وفضل، وكانت قريش تسميه «الفيض» لسماحته وجوده.
عبد المطلب في مكة
وتذكّر المطّلب أن ابن أخيه هاشم بالمدينة، وأنه قد ان له أن يرجع إلى أهله وبلده، فركب إلى المدينة، وذهب إلى سلمى وطلب إليها أن تدفع إليه الفتى، وقد قارب البلوغ، وبعد تمنع أذنت له ودفعته إليه، فاحتمله على بعيره، وأردفه إياه، ودخل به مكة، فظنته قريش عبدا له جاء به؛ فتصايحت:
__________
(1) حياة محمد ص 96.
(2) غزة بفتح أوله وتشديد ثانيه وفتحه مدينة في فلسطين من ناحية مصر.
(3) بفتح أوله وسكون الدال المهملة: موضع باليمن.(1/152)
عبد المطلب ابتاعه، فقال المطلب: ويحكم، إنما هو ابن أخي هاشم قدمت به من المدينة، فغلب على الفتى هذا اللقب، وصار مشهورا به، وتنوسي الاسم الأصلي: شيبة.
ولاية عبد المطلب السقاية والرفادة
ثم هلك المطّلب بردمان فولي عبد المطلب السقاية والرفادة بعد عمه المطلب، فأقامها للناس، وأقام لقومه ما كان اباؤه يقيمون لهم، وشرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من ابائه، وأحبه قومه، وعظم خطره فيهم، وصار سيد قريش، والمقدّم من أشرافها.
وقد لقي عبد المطلب في القيام بهذين المنصبين، ولا سيما السقاية شيئا غير قليل من المشقة، فقد كان إلى يومئذ وليس له من الأبناء إلا الحارث، وكانت سقاية الحاج يؤتى بها منذ نضبت زمزم من ابار عدة مبعثرة حول مكة، فتوضع في أحواض إلى جوار الكعبة، وكانت كثرة الولد عونا على تيسير هذا العمل، والإشراف عليه، فلذلك كان عبد المطلب في هم وتفكير دائم في هذا الأمر.
وبينما هو على هذا رأى رؤيا كانت سبب الفرج بعد الكرب، واليسر بعد العسر، وعادت (زمزم) كما كانت عينا ثرّة يشرب منها الحجيج، وكان عبد المطلب يشتري الزبيب فينبذه بماء زمزم، وربما يخلط الماء باللبن، أو العسل ويسقي أضياف الله.
السقاية بعد عبد المطلب
ولما مات عبد المطلب صارت السقاية إلى أبي طالب، ثم اتفق أن أملق في بعض السنين، فاستدان من أخيه العباس عشرة الاف إلى الموسم الاخر، وصرفها أبو طالب في السقاية، فلما كان العام المقبل لم يكن مع أبي طالب شيء، فاستسلف أخاه أربعة عشر ألفا أخرى، فقال له العباس بشرط إن لم تعطني تترك لي السقاية أكفيكها، فقال: نعم، وجاء العام المقبل ولم يكن مع(1/153)
أبي طالب شيء، فأخذها العباس، ثم صارت من بعده إلى ولده عبد الله، ثم إلى علي بن عبد الله، ثم إلى داود بن علي، ثم إلى سليمان بن علي، ثم إلى عيسى بن علي، ثم أخذها المنصور واستناب عليها مولاه أبا رزين «1» ، وبتوالي العصور ذهبت هذه المفاخر واندرست.
__________
(1) البداية والنهاية، ج 3 ص 247، 248.(1/154)
رؤيا عبد المطلب في شأن زمزم
روى ابن إسحاق في سيرته بسنده عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- أنه كان يحدث حديث زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها قال: قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني ات «1» فقال: احفر طيبة «2» . قال:
قلت: وما طيبة؟! فقال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر برّة «3» . قال: قلت: وما برة؟! قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة «4» . قال: قلت: وما المضنونة؟! قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه، فجاءني، فقال: احفر زمزم، قال: قلت:
وما زمزم؟! قال: لا تنزف «5» أبدا، ولا تذم «6» ، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم «7» ، عند نقرة الغراب الأعصم «8» ، عند قرية النمل «9» .
__________
(1) يعني في المنام.
(2) لأنها للطيبين والطيبات من ذرية إبراهيم.
(3) لأنها فاضت على الأبرار، وغاضت عن الفجار، ولأن برها كثير لا ينقطع.
(4) لأنها ضنّ بها على غير المؤمنين، فلا يتضلّع منها منافق.
(5) لا يفرغ ماؤها، ولا يلحق قعرها.
(6) لا توجد قليلة الماء من قولهم: بئر ذمة أي قليلة الماء وليس المراد ضد المدح لأن المنافقين وأرقاء الإيمان يذمونها.
(7) تشبيها لها باللبن كما قال تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً، نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ الاية 66 من سورة النحل. ويقال: بل كان هناك في موضعها فرث ودم.
(8) الذي إحدى رجليه بيضاء.
(9) قال السهيلي: «أما قرية النمل أيضا ففيها من المشاكلة والمناسبة أن زمزم هي عين مكة التي يردها الحجيج، والعمّار من كل جانب، فيحملون إليها البر والشعير وغير ذلك،(1/155)
عثور عبد المطلب على زمزم
فلما بيّن له شأنها، ودلّ على موضعها، خرج بمعوله، ومعه ابنه الحارث، وليس له ولد غيره يومئذ، فحفر فيها، فلما بدا لعبد المطلب الطي «1» كبّر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه، فقالوا: يا عبد المطلب إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها لحقا، فأشركنا معك فيها، قال: ما أنا بفاعل!! إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم، قالوا: فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا:
كاهنة بني سعد هذيم، قال: نعم وكانت بأشراف الشام، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، والأرض إذ ذاك مفاوز، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق فني ماء عبد المطلب وأصحابه حتى كادت أعناقهم تنقطع من العطش، وضن عليهم بنو قومهم من قريش بالماء، وقالوا: إنا بمفاوز وإنا لنخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فرأى عبد المطلب أن يحفر كل واحد لنفسه قبره، ففعلوا، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشى.
ثم بدا لعبد المطلب، فقال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض ولا نبتغي لأنفسنا الماء لعجز، فعسى أن يرزقنا الله ماء ببعض البلاد فارتحلوا، حتى إذا بعث عبد المطلب راحلته انفجرت عين ماء عذب من تحت خفّها، فكبّر عبد المطّلب، وكبّر أصحابه، ثم نزل فشرب وشربوا، وملأوا أسقيتهم، ثم دعا قريشا، فقال: هلمّوا إلى الماء فقد سقانا الله، فجاؤا، وشربوا، واستقوا ثم قالوا: قد- والله- قضي لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبدا، إن الذي سقاك الماء بهذه الفلاة
__________
- وهي لا تحرث، ولا تزرع، وقرية النمل لا تحرث، ولا تبذر، وتجلب الحبوب إلى قريتها من كل جانب» ، قال الزرقاني في «شرح المواهب» : «وأطال: يعني الإمام السهيلي في الروض في وجه تأويل هذه الرؤيا بما يحسن كتبه بالعسجد» . (شرح المواهب، ج 1 ص 112) .
(1) الحجارة التي غطي بها البئر.(1/156)
لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا، فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلّوا بينه وبينها.
وفي رواية أخرى أن عبد المطلب لما رأى رؤياه غدا ومعه ابنه الحارث إلى حيث وصف له مكانها، فوجد قرية النمل، ووجد الغراب الأعصم ينقر عندها بين الوثنين: إساف، ونائلة، فجاء بالمعول وقام ليحفر حيث أمر، فقامت إليه قريش، وقالوا: والله لا نتركك تحفر بين وثنينا هذين اللذين ننحر عندهما، فقال عبد المطلب لابنه: ذد عنّي حتى أحفر، فو الله لأمضين لما أمرت، فلما عرفوا أنّه جادّ خلّوا بينه وبين الحفر، فلم يحفر إلا يسيرا حتى بدا له الطي فكبر، وعرف أنه صدق.
فلما تمادى به الحفر وجد غزالين من ذهب، ووجد الأسياف والأدرع، فقالت له قريش: لنا معك في هذا شرك. فقال: لا، ولكن هلمّ إلى أمر نصف بيني وبينكم، نضرب عليها القداح «1» ، قالوا: وكيف تصنع؟ قال: أجعل للكعبة قدحين، ولي قدحين، ولكم قدحين، فمن خرج له قدحاه على شيء كان له، ومن تخلّف قدحاه فلا شيء له، قالوا: أنصفت، فجعل قدحين أصفرين للكعبة، وقدحين أسودين لعبد المطلب، وقدحين أبيضين لقريش، ثم أعطوا القداح لسادن هبل، وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل، فضرب صاحب القداح، فخرج الأصفران على الغزالين للكعبة، وخرج الأسودان على الأسياف والأدرع لعبد المطلب، وتخلّف قدحا قريش، فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة، وضرب الغزالين حلية للباب، فكان أول ذهب حليت به الكعبة، ثم أقام عبد المطلب سقايتها للحاج، فكانت له عزا وفخرا على قريش، وعلى سائر العرب، وقد ذكر عنه أنه قال: إني لا أحلها لمغتسل، وهي لشارب حل وبل «2» .
__________
(1) جمع قدح بكسر القاف وهو السهم من الخشب الذي كانوا يستقسمون به.
(2) في القاموس: والبل- بالكسر- الشفاء والمباح، ويقال: حل وبل، وهو إتباع يعني بمعنى حل.(1/157)
تعفية زمزم على جميع الابار
وكانت قريش لما طمّت زمزم حفرت أبيارا بمكة، فحفر هاشم بن عبد مناف بئرا عند فم شعب أبي طالب، وحفر عبد شمس بن عبد مناف بئرا بأعلى مكة، وحفر أمية بن عبد شمس بئرا لنفسه، وحفر بنو أسد بن عبد العزّى بئرا، وحفر بنو عبد الدار بئرا، وبنو جمح بئرا، وبنو سهم بئرا، وهكذا.
فلما أعاد عبد المطلب حفر زمزم عفت على الابار التي كانت قبلها، وانصرف الناس إليها لمكانها من المسجد الحرام، ولفضلها على ما سواها من المياه، ولأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام.
فضل زمزم
وقد ورد في فضل ماء زمزم أحاديث كثيرة فمنها: ما رواه مسلم في صحيحه في قصة إسلام أبي ذر- رضي الله عنه: «إنها طعام طعم» «1» ورواه أبو داود الطيالسي مرفوعا بزيادة: «طعام طعم، وشفاء سقم» وروى الإمام أحمد بسنده عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ماء زمزم لما شرب له» ورواه سويد بن سعيد وهو ضعيف وروى الدارقطني والحاكم وصحّحه عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ماء زمزم لما شرب له: إن شربته لتستشفي شفاك الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله، وهي هزمة «2» جبريل، وسقيا الله إسماعيل» ، ومهما يكن من شيء فقد صحح الحافظ الدمياطي- وهو من الحفاظ المتأخرين المتقنين- حديث: «ماء زمزم لما شرب له» وأقره الحافظ العراقي «3» .
وروى ابن ماجه والحاكم عن ابن عباس أنه قال لرجل: «إذا شربت من
__________
(1) مشبع.
(2) هزمة أو همزة: أثر ضربته في الأرض بعقبه، أو بجناحه.
(3) مقدمة ابن الصلاح وشرحها، للحافظ العراقي، ص 13.(1/158)
زمزم فاستقبل القبلة، واذكر اسم الله، وتنفّس ثلاثا «1» وتضلّع منها «2» ، فإذا فرغت فاحمد الله، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن اية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم» «3» .
ولن تجد أحلى، ولا أهنأ من ماء زمزم حين تخرج من البئر، وأقرب ما تكون في هذه الحالة إلى اللبن الحليب قريب العهد بثديه، وتبريدها أو تبخيرها يخرجها عن طبيعتها المستساغة، وفوائدها الصحية والغذائية معروفة بالتجربة، ولكن لا بد أن يصاحب شربها حسن الاعتقاد في فوائدها، وإلا فلا يستفيد شاربها منها، لأن المعروف أن من يشرب الشراب وهو له كاره، أو معتقد عدم جدواه لن يشعر بفائدته، وهذا هو السبب في أن البعض يعاف ماء زمزم، ولا يستسيغها، ولا يستفيد منها.
وأشهد الله أني ما عافتها نفسي قط، وقد تضلّعت منها مرارا وتكرارا، ولا سيما وهي خارجة من بئرها، وأني ما استفدت في تنظيم جهازي الهضمي بشيء مثل ما استفدت منها، وصدق رسول الله: «إنها طعام طعم، وشفاء سقم» .
__________
(1) يعني خارج الإناء، والمراد أن يشرب على ثلاث مرات، فقد ورد نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عن التنفس في الإناء.
(2) أي اشرب منها حتى ترتفع أضلاعك كناية عن الشرب الكثير.
(3) البداية والنهاية، ج 2 ص 247.(1/159)
نذر عبد المطلب ذبح أحد أولاده
قد علمت انفا ما لقيه عبد المطلب من قريش من عنت وتعسف حين أعاد حفر زمزم، لقلة من يمنعه من ولده انذاك، حتى قال بعضهم له: «يا عبد المطلب أتستطيل علينا وأنت فذ، لا ولد لك!!» .
فحز ذلك في نفس عبد المطلب فنذر لله سبحانه: لئن ولد له عشرة بنين، ثم بلغوا معه حتى يمنعوه، لينحرنّ أحدهم عند الكعبة!!.
فلما بلغ بنوه عشرة «1» ، وعرف أنهم سيمنعونه، جمعهم، ثم أخبرهم
__________
(1) وقيل: إنهم تكاملوا عشرة بعد حفر زمزم بثلاثين عاما، كما رواه ابن سعد، والبلاذري وهم: 1- الحارث: أكبرهم. وأمه صفية بنت جندب. 2- والزبير: بفتح الزاي، وقيل: بضمها. وأمه فاطمة بنت عمرو بن عائذ المخزومية. 3- حجل: بتقديم الحاء المهملة على الجيم، وقيل بالعكس. وأمه هالة بنت وهيب. 4- وضرار: وهو شقيق العباس. 5- والمقوم: على صيغة اسم الفاعل أو المفعول. وأمه هالة. 6- وأبو لهب عبد العزى: وأمه امنة بنت هاجر. 7- والعباس: وأمه نتلة، وقيل نتيلة- بالتصغير. 8- وحمزة: وأمه هالة بنت وهيب. 9- 10- وأبو طالب، وعبد الله: وأمهما فاطمة بنت عمرو المخزومية. فيكون الزبير وأبو طالب وعبد الله إخوة أشقاء، ولعبد المطلب ست بنات، عمات النبي صلّى الله عليه وسلّم وهنّ: صفية، وأم حكيم البيضاء، وعاتكة، وأميمة، وأروى، وبرة.(1/160)
بنذره، وقيل: إنه رأى رؤيا تذكره بنذره «1» ، ودعاهم إلى الوفاء فأطاعوه، وقالوا: كيف نصنع؟ قال: ليأخذ كل رجل منكم قدحا، ثم يكتب فيه اسمه، ثم ائتوني، ففعلوا، ثم أتوه، فدخل على هبل في جوف الكعبة، وقال لصاحب القداح: اضرب على بنيّ هؤلاء بقداحهم، وأخبره بنذره الذي نذر، ففعل الرجل.
خروج القدح على عبد الله
وكان عبد الله أحب ولد عبد المطلب إليه، وكان يرى أن السهم إذا أخطأه فقد أشوى «2» ، فلما أخذ سادن هبل القداح ليضرب بها قام عبد المطلب يدعو الله، فضرب الرجل، فخرج القدح على عبد الله، فهم عبد المطلب بذبحه، فقام إليه أخوال عبد الله من بني مخزوم فقالوا: والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه، وقالت له قريش: لا تفعل- خشية أن تكون سنّة، وأشاروا عليه أن ينطلق إلى المدينة، فإن بها عرّافة- كاهنة- لها تابع «3» فسلها، ثم أنت على رأس أمرك: إن أمرتك بذبحه ذبحته، وإن أمرتك بأمر لك وله فيه فرج قبلته.
فداء عبد الله بمائة من الإبل
فانطلقوا حتى أتوا المدينة، فوجدوا العرّافة بخيبر فركبوا إليها. فلما قصّ عليها عبد المطلب قصته استمهلتهم إلى الغد، ولما عادوا إليها في اليوم التالي قالت لهم: قد جاءني الخبر، كم الدية فيكم؟ قالوا: عشرة من الإبل، قالت:
فارجعوا إلى بلادكم، ثم قرّبوا صاحبكم، وقرّبوا عشرا من الإبل، ثم اضربوا عليه وعليها القداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا عشرا حتى يرضى ربكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه، فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم.
__________
(1) شرح المواهب، ج 1 ص 114.
(2) أي أبقى ما يرضي نفسه.
(3) مخبر من الجن.(1/161)
فلما رجعوا قرّبوا عبد الله وعشرا من الإبل، فخرج على عبد الله، فزادوا عشرا، فخرجت على عبد الله!! وما زالوا يضربون ويزيدون حتى بلغت الإبل مائة، ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل، فقالت قريش: لقد رضي ربك يا عبد المطلب، فقال: لا، حتى أضرب عليها بالقداح ثلاثا، ففعل، وفي كل مرة يخرج القدح على الإبل، ثم نحرت وتركت، لا يصد عنها إنسان، ولا طير ولا سبع.
وهكذا شاء الله- عز وجل- أن يكون هذا الفداء كرامة للنسمة المباركة التي ستخرج من ظهر عبد الله بن عبد المطلب، وإرهاصا بين يدي المولود الذي لا يزال في ضمير الغيب.
وقد ترك حادث الذبح والفداء للفتى الهاشمي عبد الله دويا في المجتمع القرشي، بل في المجتمع العربي كله، وأصبح ذكره على كل لسان، وقصته سمرا في كل بيت.(1/162)
الفصل الرّابع زواج عبد الله بامنة
ها هو ذا عبد الله بن عبد المطلب وقد رضي عنه الإله، وعظم فيه الفداء قد أصبح ملء الأسماع والأبصار، وقد كان عبد الله شابا، نسيبا، جميلا، وسيما، غض الإهاب، قوي البنيان، فلا عجب أن غدا مطمع الامال، وغاية الأماني، من الغيد الكواعب الحسان، من شريفات قريش، أن يصرن زوجا له «1» حتى برّح بهن الهوى والحب.
فرأى أبوه عبد المطلب- شريف مكة وسيدها- أن يزوجه بكرا من كرائم البيوتات القرشية، وفكّر الشيخ ثم فكر، حتى هداه تفكيره- وهو العارف بالأعراق والأحساب- إلى فتاة بني زهرة امنة بنت وهب، بن عبد مناف، بن زهرة «2» ، بن كلاب، بن مرة، فأخذ بيد عبد الله، وذهب به حتى أتى منازل بني زهرة، ودخل وإياه دار وهب بن عبد مناف الزهري، وهو يومئذ سيد بني زهرة نسبا وشرفا، فزوجه ابنته امنة، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا،
__________
(1) روي عن العباس- رضي الله عنه-: «أنه لما بنى عبد الله بامنة أحصوا مائتي امرأة من بني مخزوم، وبني عبد مناف متن- يعني كدن أن يمتن حسرة- ولم يتزوجن أسفا على ما فاتهن من عبد الله، وأنه لم تبق امرأة من قريش إلا مرضت ليلة دخل عبد الله بامنة» (شرح المواهب ج 1، ص 134) . ومهما يكن من أمر الرواية، أو المبالغة فيها، فهذا أمر معهود في البشر يحدث كل يوم، وسل الأسر في القرى والمدن إذا تزوج ابن مرموق مشهور من غير بنات الأسرة أو القرية- تعلم الحقيقة.
(2) زهرة: بضم الزاي وسكون الهاء، اسم رجل لا اسم امرأة هي أمه كما زعم ابن قتيبة.(1/163)
وموضعا «1» وبنى عبد الله بامنة، وبقي في بيت أبيها ثلاثة أيام على عادة العرب في ذلك، حتى كان اليوم الرابع انتقل بها إلى منازل بني عبد المطلب، وعاش الفتى المرموق المحبوب المرضي عليه من الإله، والفتاة الوادعة الجميلة الشريفة أياما معدودات- لم تتجاوز عند جمهرة المؤرخين عشرة أيام- وقد شاء الله أن تكون الأيام العشرة هي عمر الحياة الزوجية في هذا الزواج المبارك.
تعرض بعض النساء لعبد الله
وقد ذكر ابن إسحاق أنه لما انصرف عبد الله مع أبيه قاصدين دار بني زهرة مرّا على امرأة من بني أسد بن عبد العزّى، وهي عند الكعبة، قيل اسمها قتيلة «2» ، وهي أخت ورقة بن نوفل، فنظرت إلى وجه عبد الله فوجدت فيه نورا يتلألأ، فقالت له: لك مثل الإبل التي نحرت عنك، وقع علي الان «3» ، فقال:
أنا مع أبي ولا أستطيع خلافه، ولا فراقه. وقيل في المرأة التي عرضت نفسها عليه أنها فاطمة بنت مرّ الخثعمية، وكانت من أجمل النساء وأعفهن، وكانت رأت نور النبوة في وجه عبد الله، وكانت ممن قرأ الكتاب القديمة، فقالت له:
يا فتى هل لك أن تقع علي الان، وأعطيك مائة من الإبل، فأبى.
ويروى أن عبد الله قال حين عرضت عليه المرأة نفسها:
أما الحرام فالحمام «4» دونه ... والحل لا حل فأستبينه
فكيف بالأمر الذي تبغينه ... يحمي الكريم عرضه ودينه
وفي الحق أني في شك من هذا العرض، فالبيئة العربية ما كانت تسمح بهذا العرض، وكأنّ بعض العلماء شعر بما شعرت به، ففسّر عرض نفسها عليه بأنها عرضت عليه الزواج بها، ولكن البيتين المذكورين لا يلتقيان مع قصد الزواج، والوقوع عليها في الحلال!! فالله أعلم بصحة هذه القصة.
__________
(1) نسبا: من جهة الأب، وموضعا من جهة الأم.
(2) وقيل: اسمها رقية.
(3) قالوا: يعني على سبيل الزواج.
(4) وفي رواية: فالممات والمعنى واحد.(1/164)
حمل السيدة امنة بالنبي
وفي هذه الأيام المعدودة حملت السيدة الشريفة امنة بسيد هذه الأمة، وقد ادخرها القدر لأعظم أمومة في التاريخ، وتوالت عليها الرؤى والبشريات بجلال قدر هذا الجنين، فرأت فيما يرى النائم حين حملت به أنه خرج منها نور أضاء الأرض، وبدت منه قصور بصرى من أرض الشام، فقد روى أبو نعيم في «الدلائل» وابن سعد في «الطبقات» أن امنة قالت: «رأيت كأنه خرج مني شهاب أضاءت له الأرض، حتى رأيت قصور الشام» ، وما كانت هذه الرؤيا ومثيلاتها ليخفى تأويلها على السيدة امنة، وهي من هي ذكاء وفطنة، فقد فهمت أن من حملت به سيملأ الأرض نورا وضياء، وهدى ورحمة، وسيكون له شأن وذكر.
وفاة عبد الله بن عبد المطلب
ولم يطل المقام بالفتى الشاب عبد الله مع زوجته امنة بنت وهب، فقد خرج في تجارة إلى الشام وترك الزوجة الحبيبة، وما درى أنها علقت بالنسمة المباركة، وقضى الزوج المكافح مدة في تصريف تجارته، وهو يعدّ الأيام كي يعود إلى زوجته فيهنأ بها، وتهنأ به، وما إن فرغ حتى عاد، وفي أوبته عرّج على أخوال أبيه عبد المطلب وهم بنو النجار بالمدينة، فاتفق أن مرض عندهم، فبقي وعاد رفاقه، ووصل الركب إلى مكة، وعلم منهم عبد المطلب بخبر مرضه، فأرسل أكبر بنيه: الحارث ليرجع بأخيه بعد إبلاله، وما إن وصل الحارث إلى المدينة حتى علم أن عبد الله مات، ودفن بها في دار النابغة من بني النجار، فرجع حزين النفس على فقد أخيه، وأعلم أباه بموت الغائب الذي لا يؤوب، وأثار النبأ الموجع الأحزان في نفس الوالد الشيخ المفجوع في فقد أحب أولاده إليه، وألصقهم بنفسه، وأثار الأسى والحسرة في نفس الزوجة التي كانت تحلم بأوبة الزوج الحبيب الغالي، وتشتاق إليه اشتياق الظمان في اليوم الصائف القائظ إلى الشراب العذب الحلو البارد، وتبدّد ما كانت تعلّل به نفسها من سعادة وهناءة في كنف الزوج الفتى الوسيم، والذي كان مشغلة المجتمع القرشي والعربي حينا من الزمان، فما مثله من فتى، وما مثله من زوج!!(1/165)
ولم يكن للجنين عند فقد الأب إلا شهران، وهذا الذي ذكرنا، من أن عبد الله مات، والنبي لا يزال حملا في بطن أمه، هو الذي ذكره شيخ كتاب السيرة ابن إسحاق، وتابعه عليه ابن هشام، وهو الرأي المشهور بين كتاب السير والمؤرخين، وكان عمر عبد الله حينذاك ثماني عشرة سنة «1» .
ويرى بعض العلماء أن والد النبي صلّى الله عليه وسلّم توفي بعد ميلاده وهو لا يزال في المهد، قيل: ابن شهرين، وقيل: أكثر من ذلك، والأول هو الراجح، وإن قال السهيلي: إن الرأي الثاني قول أكثر العلماء.
وترك عبد الله لابنه الجنين: خمسة من الإبل، وقطيعا من الغنم، وجارية هي أم أيمن بركة الحبشية حاضنته فيما بعد، وهذه الثروة، وإن لم تكن مظهر ثراء وسعة، فهي كذلك لم تكن مظهر فقر ومتربة.
رثاء امنة لعبد الله
وروي أن عبد الله لما توفي قالت السيدة امنة ترثيه:
عفا جانب البطحاء من ال هاشم ... وجاور لحدا خارجا في الغمائم «2»
دعته المنايا دعوة فأجابها ... وما تركت في الناس مثل ابن هاشم
عشية راحوا يحملون سريره «3» ... تعاوره أصحابه في التزاحم
فإن تك غالته المنون وريبها ... فقد كان معطاء كثير التراحم
رؤيا لعبد المطلب
روى أبو نعيم بسنده قال: قال عبد المطلب: «بينا أنا نائم في الحجر إذ رأيت رؤيا هالتني، ففزعت منها فزعا شديدا، فأتيت كاهنة قريش فقلت لها:
إني رأيت الليلة كأن شجرة نبتت قد نالت رأسها السماء، وضربت بأغصانها المشرق والمغرب، وما رأيت نورا أزهر منها أعظم من نور الشمس سبعين
__________
(1) وهو الذي صححه الحافظ العلائي، والحافظ ابن حجر، واختاره السيوطي (شرح المواهب ج 1، ص 131) .
(2) هي الأغطية، والمراد بها الأكفان التي لفّ فيها.
(3) هو النعش الذي يحمل عليه الميت.(1/166)
ضعفا. ورأيت العرب والعجم لها ساجدين، وهي تزداد كل ساعة عظاما ونورا وارتفاعا، ساعة تخفى، وساعة تظهر.
ورأيت رهطا من قريش قد تعلّقوا بأغصانها، ورأيت قوما من قريش يريدون قطعها، فإذا دنوا منها أخذهم شاب لم أر قط أحسن منه وجها، ولا أطيب منه ريحا، فيكسر أظهرهم، ويقلع أعينهم، فرفعت يدي لأتناول منها نصيبا، فلم أنل، فقلت: لمن النصيب؟ فقال: النصيب لهؤلاء الذين تعلّقوا بها وسبقوك.
فانتبهت مذعورا، فرأيت وجه الكاهنة قد تغيّر، ثم قالت: لئن صدقت رؤياك ليخرجنّ من صلبك رجل يملك المشرق والمغرب، وتدين له الناس.
فقال عبد المطلب لأبي طالب: لعلك أن تكون هو المولود، فكان أبو طالب يحدّث بهذا الحديث والنبي صلّى الله عليه وسلّم قد خرج «1» ، ويقول: كانت الشجرة والله- أبا القاسم الأمين، فيقال له: ألا تؤمن؟ فيقول: السبة والعار «2» .
وحكاها بعضهم «3» على وجه اخر قال: زعموا أن عبد المطلب رأى في منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره لها طرف في السماء، وطرف في الأرض، وطرف في المشرق، وطرف في المغرب، ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور، وإذا أهل المشرق والمغرب يتعلّقون بها. فقصّها، فعبّرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق، ويحمده أهل السماء، وأهل الأرض.
قصة الفيل
هي قصة مشهورة أرّخ بها العرب لدلالتها على مزيد عناية الله تعالى ببيته، ذلك أن أبرهة الحبشي لما غلب على بلاد اليمن، ورأى الناس يقصدون
__________
(1) أي بعث.
(2) أي أخشى السبة والعار أو يمنعني.
(3) هو علي القيرواني العابر في كتابه «البستان» .(1/167)
زرافات، وواحدانا، ورجالا وركبانا- الكعبة البيت الحرام قال: إلام يقصدون؟ قالوا له: إلى الكعبة بمكة يحجون، قال: وما هو؟ قالوا له: بيت من الحجارة، قال: وما كسوته؟ قالوا: ما يأتي ههنا من الوصائل «1» ، قال: لأبنينّ خيرا منه.
فبنى لهم كنيسة بصنعاء تفنّن في بنائها، وتزيينها، وسماها «القلّيس» «2» قاصدا صرف العرب عن الكعبة، ولكن أعرابيا عمد إليها فتغوّط فيها، فلما علم أبرهة استشاط غضبا، وعزم على هدم الكعبة، وسار في جيش لجب لا قبل لأهل مكة والعرب به، وقد تعرض له في الطريق بعض قبائل العرب، ولكنه تغلب عليهم، وعند مشارف مكة وجدوا إبلا لعبد المطلب بن هاشم، فاستاقوها، فذهب عبد المطلب إليه، وكان وسيما جميلا تعلوه المهابة والوقار، فاستعظمه أبرهة، وأكرمه، فلما كلّمه في الإبل عجب وقال له: أتكلمني في الإبل، ولا تكلمني في بيت فيه عزك، وشرفك، وشرف ابائك؟! فقال عبد المطلب هذه الكلمة التي سارت مسير الأمثال: «أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه» «3» !!
ثم رجع عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ومعه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال:
لاهمّ «4» إنّ المرء يمنع ... رحله فامنع رحالك
وانصر على ال الصليب ... وعابديه اليوم الك
لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم «5» أبدا محالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا ... فأمر ما بدا لك
__________
(1) الوصائل هي ثياب مخططة يمانية، كانت تكسى بها الكعبة.
(2) بضم القاف وفتح اللام المشددة، وسكون الياء، وقيل: بفتح القاف وكسر اللام.
(3) رب الإبل: صاحبها ومالكها.
(4) أصلها اللهمّ، حذفت الألف واللام منها، واكتفي بالباقي.
(5) المحال- بكسر الميم- القوة والشدة.(1/168)
ثم أرسل حلقة البيت وانطلق هو ومن معه من قريش إلى الجبال ينظرون ما أبرهة فاعل بالبيت، وكان في جيش أبرهة فيل عظيم، فصار كلما وجّهوه إلى الطريق المؤدّي إلى مكة أبى وبرك، وإذا وجّهوه إلى غير طريق مكة سار وجرى، ومع هذه الاية أصر أبرهة وجيشه على هدم الكعبة، فما كان إلا أن أرسل الله عليهم طيرا أبابيل «1» ، في مناقيرها وأرجلها حجارة صغار، فصارت ترميهم بهذه الحجارة، وليس كلهم أصابت، فكان من صادفه حجر تمزّق جسمه ومات، وخرجوا هاربين يتساقطون بكل طريق، ويهلكون بكل مهلك، ونكّل الله بأبرهة وجيشه شر تنكيل، وقد ذكر الله سبحانه هذه القصة في سورة الفيل قال:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ «2» (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ «3» (5) .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين» «4» .
فهي لمّا أراد بها أبرهة وجنده سوا أهلكهم الله، ولمّا أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بفتحها خيرا أعينوا ونصروا، وقد كانت هذه الاية إرهاصا بين يدي ميلاد نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، ودلالة على يمنه، وخيره، وبركته.
__________
(1) جمع إبيل أو إبول أي جماعات جماعات، وقيل: لا واحد له من لفظه.
(2) سجيّل: الطين المحروق بالنار قيل: إنه فارسي معرب.
(3) العصف المأكول: هشيم الزرع بعد ما يؤخذ منه الحب كالقمح مثلا.
(4) رواه الشيخان.(1/169)
المشككون في القصة
ويشكك بعض المستشرقين «1» ومن نهج نهجهم من الكتاب المسلمين «2» في هذه القصة، مع ثبوتها بالتواتر المفيد للقطع واليقين بإجماع أهل الملل والعقول، ويقولون إن هلاك الجيش كان بسبب انتشار مرض الجدري في الجيش، واعتمدوا على خبر ذكره ابن إسحاق بعد ما ذكر القصة على ما وردت في الكتاب الكريم، قال: حدثني يعقوب بن عتبة أنه حدث: «أن أول ما رئيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام» «3» .
وليس فيما ذكره ما يدل على أن هلاكهم كان بهذا، وإلّا لما ذكر ابن إسحاق القصة المعتمدة أولا في بضع صفحات، ولم لا تكون الحصبة والجدري كانتا بسبب ما أصابهم من الجراح، والتنكيل، والقيح، والصديد في هذا الجزء من شبه الجزيرة، كما هو مشاهد ومعروف من انتشار بعض الأمراض والأوبئة عقب الحروب والجوائح؟! بل لم لا يكون هذا أمرا اتفاقيا حدث بعد حادث الفيل؟! ولو سلمنا بأن هذا رأي لقائله، فكيف يرجّح رأي ضعيف يعارض ظاهر القران على رأي صحيح يشهد له ظاهر القران؟!
الحق أن هذا التشكيك ليس له ما يبرره، أما إنكار ما قصه القران، وقد كان من المشهورات المسلمات عند العرب، واستعظامه على قدرة الله سبحانه وتعالى، فأثر من ضعف الإيمان واليقين، ولوثة سرت إلى البعض من المستشرقين والمبشّرين.
__________
(1) حياة محمد لدرمنغم ص 35 ترجمة د. عادل زعيتر.
(2) حياة محمد ورسالته لمحمد علي ص 56، 158 مع أنه ذكر السورة، ودائرة معارف القرن العشرين ج 6، ص 256 لفريد وجدي، فقد جوّز حملها على غير ظاهرها، وأن المراد بها المجاز والتمثيل.
(3) السيرة ج 1، ص 54.(1/170)
الباب الثاني من الميلاد إلى البعثة النّبويّة
الفصل الأول: الميلاد.
الفصل الثاني: الرضاع.
الفصل الثالث: النبيّ في كفالة أمه، ثم جده، ثم عمه.
الفصل الرابع: زواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بخديجة.
الفصل الخامس: تجديد قريش بنيان الكعبة.
الفصل السادس: حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة.
الفصل السابع: حالة العالم قبل البعثة.
الفصل الثامن: البشارة بالنبيّ في الكتاب السماوية السابقة.(1/171)
الفصل الأوّل الميلاد
وتقدمت أشهر الحمل بالسيدة الشريفة امنة بنت وهب، وهي تترقب الوليد الذي لم تجد في حمله وهنا، ولا ألما، وهتف بها هاتف قائلا: «إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع على الأرض فقولي:
«أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد، وسميه محمدا» .
وبلغ الكتاب أجله، وبعد تسعة أشهر أذن الله للنور أن يسطع، وللجنين المستكن أن يظهر إلى الوجود، وللنسمة المباركة أن تخرج إلى الكون، لتؤدي أسمى وأعظم رسالة عرفتها الدنيا في عمرها الطويل.
ففي صبيحة اليوم الثاني عشر من ربيع الأول من عام الفيل «1» ، الموافق سنة سبعين وخمسمائة من ميلاد السيد المسيح، حيث بدأ الصبح يتنفس، واذن نور الكون بالإشراق، افتر ثغر الدنيا عن مصاصة البشر «2» ، وسيد ولد ادم، وأكرم مخلوق على الله: سيدنا محمد بن عبد الله.
ولما وضعته السيدة والدته خرج معه نور أضاء ما بين المشرق والمغرب، حتى رأت منه قصور بصرى بالشام، ووقع جاثيا على ركبتيه، معتمدا على يديه، رافعا رأسه إلى السماء، ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها. روى
__________
(1) هذا الذي ذكره ابن إسحاق وهو المشهور، وقيل: ولد لليلتين خلتا من ربيع الأول، وقيل: لتسع ليال، وكذلك اختلف في سنة ميلاده الميلادية فقيل ما ذكرنا، وقيل سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وهو الذي رجحه محمود باشا الفلكي.
(2) يقال: فلان مصاص قومه، إذا كان أخلصهم نسبا.(1/173)
محمد بن سعد من حديث جماعة منهم: عطاء بن أبي رباح، وابن عباس، أن امنة بنت وهب قالت: «لما فصل مني- تعني النبي- خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب، ثم وقع على الأرض جاثيا على ركبتيه، معتمدا على يديه، ثم أخذ قبضة من التراب، فقبضها، ورفع رأسه إلى السماء» «1» .
وروى الإمام الجليل أحمد بن حنبل، والبزار، والطبراني، والحاكم، والبيهقي عن العرباض بن سارية السلمي- رضي الله عنه- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إني عند الله لخاتم النبيين «2» ، وإن ادم لمنجدل في طينته، وسأخبركم عن ذلك: أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت «3» ، وكذلك أمهات النبيين يرين» «4» ، وإن أمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأت حين وضعته نورا أضاءت له قصور الشام، وفي رواية ابن إسحاق: «أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام» .
موضع ولادته
وكانت ولادته صلّى الله عليه وسلّم في دار أبي طالب بشعب بني هاشم «5» ، وكانت قابلته
__________
(1) أما النور فنور النبوة والرسالة، وأما الجثي على ركبتيه فإشارة إلى شدة تواضعه لربه، وتواضعه للخلق، وأما الاعتماد على يديه فإشارة إلى أنه لن ينشأ مدللا كسلان كما هو شأن أبناء الملوك والأشراف، وإنما سيعتمد من صغره على الله ثم على نفسه، وأما أخذه قبضة من التراب فإشارة إلى أن الأرض منها البدء، وإليها الإعادة، ومنها الإخراج للبعث، وأنه سيغلب أهل الأرض، وأما رفع رأسه إلى السماء فإشارة إلى عظم توكله على ربه، وإلى ارتفاع شأنه وقدره، وسمو غايته وسؤدده، وأنه يسود الخلق أجمعين.
(2) أي في علمه وتقديره الأزلي.
(3) هذه الرؤية بصرية، وقد وردت بهذا المعنى في أفصح الكلام ومعجزه، وهي غير الرؤيا التي رأتها في مبدأ الحمل، فتلك كانت منامية (شرح المواهب، ج 1 ص 136) .
(4) قال الحافظ ابن حجر: وصحّحه ابن حبان والحاكم.
(5) وقد صارت هذه الدار إلى محمد بن يوسف الثقفي أخي الحجاج، ذلك أن عقيل بن أبي طالب باع دور من هاجر من بني هاشم، ومنها هذه الدار، وقد أدخلها محمد بن يوسف هذا في داره التي يقال لها: البيضاء، ولم تزل كذلك حتى حجت الخيزران أم الرشيد، فأفردت ذلك البيت وجعلته مسجدا، وقيل: إن التي بنته هي السيدة زبيدة(1/174)
الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف، وقد ذهب كثير من العلماء إلى أنه صلّى الله عليه وسلّم، ولد مسرورا مختونا «1» ، واستدلوا على هذا بما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من كرامتي على ربي أني ولدت مختونا، ولم ير أحد سوأتي» «2» وورد عن ابن عمر أنه قال: «ولد النبي صلّى الله عليه وسلّم مسرورا مختونا» «3» .
وقد ضعّف جماعة من العلماء هذه الأحاديث كالعراقي، وابن القيم في «زاد المعاد» وقال: ليس هذا من خصائصه، لأن كثيرا من الناس ولد مختونا، وقد عدهم صاحب المواهب.
ولقد نعمت الأم التي ترملت في شبابها بالوليد الجميل، المشرق الجبين، الذي ملأ البيت من حولها نورا وسرورا، ورأت فيه السلوى عن الحبيب الغالي الذي تركه لها وديعة في ضمير الغيب ثم مات، وما إخالها إلا ذرفت الدمع سخينا، أن لم ير الأب الشاب هذا الوليد الذي يملأ العيون جمالا وبهاء، والقلوب محبة.
إخبار جده عبد المطلب
وكان أول ما فعلته السيدة امنة أن أرسلت إلى جده تبشره بميلاد الحفيد ابن الحبيب، وجاء الجد فرحا مسرورا، وضمّه إلى صدره ضمات خفق لها قلبه، وخفّفت من لوعة الحزن على الحبيب المغيّب في ثرى المدينة، وذهب به إلى الكعبة، فقام يدعو الله ويشكره على ما أنعم به عليه وأعطاه، وسماه (محمدا) ولم يكن هذا الاسم شائعا عند العرب، ولا تسمّى به إلا عدد جدّ قليل، ولكن الله سبحانه ألهم جده ذلك إنفاذا لأمره، وتحقيقا لما قدّره وذكره في الكتاب
__________
- زوجته حين حجّت، وقد بقي هذا المسجد حتى هدم أخيرا وصار مكانه خاليا، وستقام فيه الان مدرسة لتحفيظ القران الكريم.
(1) مقطوع حبل السرة، ومقطوع القلفة.
(2) رواه الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم، وابن عساكر من طرق متعددة، وقد صححه الحافظ ضياء الدين المقدسي في كتابه «الأحاديث المختارة» مما ليس في الصحيحين، وتصحيحه أعلا من تصحيح الحاكم، وحسّنه الحافظ مغلطاي.
(3) رواه ابن عساكر.(1/175)
السماوية التي بشرت به، ولما سئل جده عن سبب تسميته (محمدا) قال: أردت أن يحمده الله في السماء، ويحمده الناس في الأرض، ولعل السيدة امنة أخبرت جده بما رأت في منامها فاتفق ما رأت وما رأى، ورجع شيخ مكة وشريفها، وهو يحمله بين يديه، لا تكاد تسعه نفسه من شدة الفرح فأسلمه إلى أمه.
احتفاء بني هاشم بالمولود
وفي اليوم السابع- كما هي عادة العرب- نحر الجدّ الذبائح، وأقام الولائم شكرا لله، واحتفاء بالوليد الذي رأى في حياته حياة موصولة لابنه الغالي عبد الله، ومراة صافية يرى في صفحتها المشرقة النيرة وجه عبد الله، كلما أهاجته الذكرى، وثار في نفسه الشجن، وقد شارك البيت الهاشمي في الغبطة بالوليد الجديد، فهذه ثويبة الأسلمية جارية أبي لهب بن عبد المطلب لما بشرت سيدها بميلاد ابن أخيه محمد أعتقها «1» ، ورضي الله تبارك وتعالى عن سيدنا العباس فقد قال مادحا النبي:
وأنت لما ولدت أشرقت الأر ... ض وضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي الن ... ور، وسبل الرشاد نخترق
ورحم الله أحمد شوقي أمير الشعراء في العصر الحديث حيث قال في همزيته:
ولد الهدى فالكائنات ضياء ... وفم الزمان تبسّم وثناء
الروح، والملأ، الملائك حوله ... للدين والدنيا به بشراء
والعرش يزهو، والحظيرة تزدهي ... والمنتهى والسّدرة العصماء
بك بشّر الله السماء فزينت ... وتضوّعت مسكا بك الغبراء
يوم يتيه على الزمان صباحه ... ومساؤه بمحمد وضاء
__________
(1) روي أن العباس بن عبد المطلب رأى أخاه أبا لهب بعد موته بسنة، وذلك بعد بدر، فسأله عن حاله، فأجاب أبو لهب: في النار إلا أن العذاب خفف عني كل ليلة اثنين بماء أمصّه من بين أصبعي هاتين: السبابة والإبهام، وذلك أني أعتقت ثويبة حينما أخبرتني بولادة محمد.(1/176)
ذعرت عروش الظالمين فزلزلت ... وعلت على تيجانهم أصداء
والنار خاوية الجوانب حولهم ... جمعت ذوائبها وغاض الماء
والاي تترى، والخوارق جمة ... جبريل روّاح بها غدّاء
ما صاحب الميلاد من الايات والعجائب
ومن الايات والإرهاصات «1» التي صاحبت الميلاد ارتجاس إيوان كسرى، وسقوط أربع عشرة شرفة من شرفاته، فقد كان هذا إيذانا بأنه لم يبق من ملوكهم إلا أربعة عشر «2» ، وهذا ما كان، وصدّقه التاريخ والواقع، وغاضت بحيرة ساوه «3» ، وخمدت نيران فارس التي كانوا يعبدونها، ولم تخمد منذ ألف عام «4» .
وقد أسرف المؤلفون في السير والمولد والتاريخ في ذكر العجائب التي اقترنت بالميلاد، ومنها كلام الهواتف «5» ، والجن، وفيها الكثير مما لم يصح، وما هو مختلق، فأعرضت عن ذكر كل ذلك، واكتفيت بما هو ثابت، أو بعضه «6» .
أسماء النبي صلّى الله عليه وسلّم
إن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمّى، ومبلغ تحلّيه بالفضائل والاداب والخصائص والميزات، ولرسول الله صلوات الله وسلامه عليه أسماء كثيرة
__________
(1) ما تقع بين يدي النبوة من الخوارق.
(2) وقد ملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى سقوط دولتهم، وخضوعها للإسلام.
(3) بسين مهملة بعدها ألف، وبعد الألف واو مفتوحة فهاء ساكنة: من بلاد فارس، كانت بحيرة كبيرة بين همذان وقم، وكانت ستة فراسخ طولا وعرضا، وتسير فيها السفن، ويسافر فيها الناس إلى ما حولها من البلدان. أما بحيرة طبرية فهي ببلاد الشام، وليست هي، وما قيل من أنها طبرية غير صحيح، فطبرية لا تزال إلى يومنا هذا، وما قيل: إنها نقص ماؤها ليلتئذ فهو تكلّف.
(4) رواه البيهقي، وأبو نعيم، والخرائطي في «الهواتف» وابن جرير، وابن عساكر كلهم من حديث مخزوم بن هانىء عن أبيه.
(5) ما يسمع كلامه ولا يرى.
(6) انظر: شرح المواهب، ج 1 ص 142 وما بعدها.(1/177)
أشهرها خمسة. ففي الصحيحين عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب» .
وأشهر هذه الأسماء هما: محمد، وأحمد، وقد وردا في الكتاب الكريم قال تعالى:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (29) «1» .
وقال:
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ (144) «2» .
وقال عز شأنه:
وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (6) «3» .
ثم إن هذه الخمسة مما خصّ به نبينا عليه الصلاة والسلام، وأما غيرها فقد يشاركه فيها غيره من الأنبياء، ومما وقع من أسمائه صلّى الله عليه وسلّم في القران بالاتفاق:
الشاهد، والمبشّر، والنذير، والمبين، والداعي إلى الله، والسراج المنير، قال تعالى:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) «4» .
وفيه أيضا: المذكر، والرحمة، والنعمة، والهادي، والشهيد، والأمين، والمزمّل، والمدثّر، والرؤوف، والرحيم.
__________
(1) الاية 29 من سورة الفتح.
(2) الاية 144 من سورة ال عمران.
(3) الاية 6 من سورة الصف.
(4) الايتان 45- 46 من سورة الأحزاب.(1/178)
ومما وقع في الحديث الصحيح: «سميتك المتوكل، ليس بفظّ، ولا غليظ؛ ولا جاف، ولا سخّاب بالأسواق، ولا يقابل السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح» «1» .
ومن أسمائه: المختار، والمصطفى، والشفيع المشفّع «2» ، والصادق المصدوق «3» ، وكان بعض صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا حدّث عنه قال: «حدثني الصادق المصدوق صلّى الله عليه وسلم» إلى غير ذلك من الأسماء الشريفة التي تدل على صفات جليلة وخصوصيات منيفة.
وقد قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية في تصنيف له في «الأسماء النبوية» :
«قال بعضهم: أسماء النبي صلى الله عليه وسلّم تسعة وتسعون اسما عدد أسماء الله الحسنى، ثم قال: ولو بحث عنها باحث لبلغت ثلاثمائة اسم» ، وقد ذكر في كتابه المذكور أماكنها من القران والأخبار، وضبط ألفاظها وشرح معانيها، واستطرد- كما هي عادته- إلى فوائد كثيرة.
والحق- كما قال الحافظ الكبير ابن حجر- أن غالب الأسماء التي ذكروها هي أوصاف للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يرد الكثير منها على سبيل التسمية، وذلك مثل عدهم: اللبنة، للحديث الصحيح المشهور في التعبير عنه باللبنة «4» ، وعدهم الهادي، والمذكّر، والمختار ونحوها.
أما (محمد) فاسم مفعول من التحميد للمبالغة يقال: حمّده إذا نسبه إلى
__________
(1) رواه البخاري.
(2) الشفيع: الذي يشفع لغيره، المشفّع: الذي تقبل شفاعته.
(3) الذي يصدقه من يسمعه لتوافر الدلائل على صدقه، وقد كان المشركون وغيرهم كما في كتب الحديث، والتفسير، والسير يكذبونه في الظاهر، ولكنهم فيما بينهم وفي أنفسهم يعلمون صدقه.
(4) هو الحديث الذي رواه الشيخان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون حول هذا البيت ويقولون: ما أحسن هذا البيت!! لولا هذه اللبنة، فأنا اللبنة، وأنا خاتم الأنبياء» .(1/179)
كثرة المحامد، والفضائل، أو هو الذي حمد مرة بعد أخرى كالممدّح قال الأعشى:
إليك- أبيت اللعن- كان وجيفها ... إلى الماجد القرم الجواد المحمّد
ورسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم قد اجتمع فيه المعنيان، فقد تكاملت فيه الخصال المحمودة، والأخلاق الفاضلة العظيمة، ولا تنفك ألوف الألوف بل مئات ألوف الألوف، تلهج بحمده، والثناء عليه من لدن مبعثه إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين، وفي المحشر حينما يشفع للناس، ويريحهم من هول الموقف يحمده الأولون والاخرون. وقد نوّه الله سبحانه في الكتاب الكريم بهذه الفضيلة والخصيصة الظاهرة، فقال عز شأنه:
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) » .
فمن ذا الذي يحصي ألوف ألوف الألوف الذين سيحمدونه في هذا المقام؟! وهذا الاسم الكريم هو أشهر الأسماء الخمسة، وأذكرها بين الناس.
ولم يكن هذا الاسم مشهورا في الجاهلية، وإنما تسمّى به بعض العرب قرب ميلاده لما سمعوا من الأحبار والرهبان من أهل الكتاب أن نبيا سيبعث اخر الزمان يسمى (محمدا) ، فسموا أبناءهم بهذا رجاء ذلك، قال القاضي عياض:
وهم ستة لا سابع لهم «2» ، وقال السهيلي في «الروض الأنف» : لا يعرف من
__________
(1) الاية 79 من سورة الإسراء.
(2) هم: 1- محمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي. 2- ومحمد بن مسلمة الأنصاري. 3- ومحمد بن براء البكري. 4- ومحمد بن سفيان بن مجاشع. 5- ومحمد بن حمران الجعفي. 6- ومحمد بن خزاعي السلمي. قال: لا سابع لهم، ويقال: أول من سمي محمدا محمد بن سفيان، واليمن تقول بل(1/180)
تسمّى قبل النبي بهذا الاسم إلا ثلاثة «1» ، والذي حققه الحافظ ابن حجر أنه تسمّى بهذا الاسم خمسة عشر شخصا «2» ، فلما ولد النبي صلّى الله عليه وسلّم ألهم الله جده بهذا الاسم تحقيقا لما سبق به علم الله.
وأما (أحمد) فهو أفعل تفضيل أي أكثر الناس حمدا، فهو علم منقول من صفة، وقد ثبت في الحديث الصحيح أنه يفتح عليه في المقام المحمود بمحامد لم يفتح بها على أحد قبله، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام حمّادون، وهو أحمدهم أي أكثرهم حمدا، أو أعظمهم في صفة الحمد، وهو صاحب لواء الحمد يوم القيامة، وهو صلّى الله عليه وسلّم بلغ الغاية في الاتصاف بالمحامد والفضائل، والغاية في حمد الله والثناء عليه بما هو أهله، وشكره على نعمائه. وقد ورد هذا الاسم في القران مرة واحدة على لسان عيسى- عليه السلام- في التبشير به صلّى الله عليه وسلّم.
وقد زعم بعض المبشرين وأعداء الإسلام أن المبشّر به أحمد، ونبيكم محمد، وكأني برسول الله يرد عليهم حينما ألهمه الله سبحانه أن يقول هذا الحديث، إذ هو يقتلع الشبهة من أساسها فهو: محمد، وأحمد.
وأما الماحي فقد ورد تفسيره في الحديث عن النبي، وقد قيل إن المراد أنه الذي محا الله به الشرك والعقائد الوثنية من الجزيرة العربية. والذي أراه أن يترك الحديث على عمومه، فقد كان الكفر عند مبعثه يكاد يكون عاما في الدنيا ولم يسلم من ذلك إلا القليلون كالحنيفيين، وأهل الأديان الذين لم يحرّفوا،
__________
- محمد بن اليحمد من الأزد (الشفا، ج 1 ص 190) وقد تعقب الحافظ ابن حجر القاضي عياضا في عدّه محمد بن مسلمة وقال: إنه غلط فإنه ولد بعد ميلاد النبي بمدة.
(1) هم: 1- محمد بن سفيان بن مجاشع. 2- ومحمد بن أحيحة بن الجلاح. 3- ومحمد بن حمران بن ربيعة. وكأنه لم يقف على كلام عياض.
(2) فتح الباري، ج 6 ص 434، 435 فقد عدهم وذكر أدلة ذلك، واستبعد من وقع فيه الوهم أو التكرار.(1/181)
ولم يبدّلوا، ويكون المراد أن الله محا به معظم أنواع الكفر، وأصبح معظم الناس مؤمنين موحّدين، فإنه صلّى الله عليه وسلّم لم يفارق الدنيا حتى صارت الجزيرة كلها مؤمنة موحّدة وحمل أصحابه الرسالة من بعده، فلم يمض قرن من الزمان أو أقل حتى صار معظم الدنيا المعروفة انئذ من المحيط إلى المحيط «1» يذكر على ماذنها توحيد الله في اليوم خمس مرات.
وأما الحاشر فقد فسّر أيضا في الحديث. ومعنى على قدمي: أي على أثري، وهو يوافق قوله في الرواية الاخرى: «وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي» أي أنه أول من يحشر يوم القيامة، وفي الحديث الاخر: «أنا أول من تنشق عنه الأرض» .
وأما العاقب فقد ورد تفسيره في الرواية الاخرى: «وأنا العاقب ما بعده نبي» فهو خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
النسب الزكي الشريف
وإليك نسب النبي الشريف المنيف، على ما ذكره الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه «2» قال:
محمد بن عبد الله، بن عبد المطلب «3» ، بن هاشم «4» ، بن عبد مناف «5» ، بن قصي «6» ، بن كلاب «7» ، بن مرّة، بن كعب «8» ،
__________
(1) من المحيط الأطلسي غربا، إلى المحيط الهادي شرقا.
(2) باب «مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم» .
(3) اسمه شيبة قيل لشيبة كانت في رأسه، ويقال له: شيبة الحمد لجوده.
(4) اسمه عمرو. ولقب بهاشم لكثرة ما هشم من الخبز لإطعام الناس.
(5) اسمه: المغيرة.
(6) بصيغة المصغر، اسمه زيد، وقد قدمنا سبب تسميته قصيا.
(7) كلاب: اسمه حكيم، ولقب بكلاب لمحبته كلاب الصيد، فكان يجمعها فيمر المار فيعجب لكثرتها، فيسأل عنها: فيقال له: هذه كلاب ابن مرة فعرف بذلك.
(8) وهو أول من جمع الناس يوم العروبة، وهو يوم الجمعة كان يسمى بذلك في الجاهلية،(1/182)
ابن لؤي، بن غالب، بن فهر «1» ، بن مالك، بن النضر «2» ، ابن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس «3» ، بن مضر «4» ،
__________
- وقيل: إنه أول من سماه الجمعة، فيكون الاسم على هذا جاهليا، وقيل: إنه سمي بذلك في الإسلام، وهو الذي صححه ابن حزم، وكان يجمعهم في هذا اليوم، ويخطبهم، ويذكرهم بمبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويقول: إنه من ولده.
(1) اسمه قريش، وإليه تنسب قريش في قول جماعة منهم الإمام الزهري، فما كان فوق فهر فليس بقرشي، بل هو كناني على الصحيح.
(2) لقب بالنضر لنضارة وجهه، قال ابن هشام: هو قريش، وبه قال الشافعي، وعزاه العراقي للأكثرين، وقال النووي: هو الصحيح، وصححه الحافظ صلاح الدين العلائي، ويستدلون له بحديث الأشعث بن قيس لما وفد على النبي في وفد كندة، فقال: يا رسول الله ألستم منا؟ قال: لا، نحن بنو النضر بن كنانة» رواه ابن ماجه، وأبو نعيم، وابن عبد البر. وروى الحافظ البيهقي بسنده أنه بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم أن رجالا من كندة يزعمون أنه منهم، وأنهم منه فقال: «إنما كان يقول ذلك العباس، وأبو سفيان بن حرب فيأمنا بذلك، وإنا لن ننتفي من ابائنا، نحن بنو النضر بن كنانة» . ومن العلماء من وفّق بين القولين بأن فهرا جماع قريش، فأبوه مالك ما أعقب غيره، وكذلك النضر ليس له عقب إلا مالك فاتفق القولان، وقريش: تصغير قرش، وهي دابة- سمكة- في البحر عظيمة من أقوى دوابه، سميت بذلك لقوّتها، لأنها تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعالى، وقيل لأنهم كانوا يتجرون من قولهم: قرش الرجل يقرش كضرب يضرب إذا اتجر (شرح المواهب اللدنية، ج 1 مبحث نسب النبي) .
(3) بكسر الهمزة، وفتحها، وهمزته همزة وصل: ضد الرجاء. وهو أول من أهدى البدن جمع بدنة- وهي الإبل ذكرا كانت أم أنثى، والتاء فيه للواحدة لا للتأنيث، وكانت العرب تعظمه كتعظيم أهل الحكمة كلقمان وأشباهه، وكان يدعى كبير قومه وسيد عشيرته، ولا يقطع أمر، ولا يقضى بينهم دونه.
(4) بضم الميم، وفتح الضاد المعجمة، غير مصروف للعلمية والعدل، سمي به لأنه كان يحب شرب اللبن الماضر، وهو الحامض، قيل: اسمه عمرو، وكنيته أبو إلياس، وكان عاقلا حكيما، ومن حكمه: من يزرع شرا يحصد ندامة، وخير الخير أعجله، فاحملوا أنفسكم على مكروهها، واصرفوها عن هواها فيما أفسدها، فليس بين الصلاح والفساد إلا فواق. أي شيء قليل.(1/183)
ابن نزار «1» ، بن معدّ «2» ، بن عدنان «3» .
وهذا النسب الزكي متفق عليه بين علماء الأنساب إلى عدنان، قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية: أجمع العلماء على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما انتسب إلى عدنان ولم يجاوزه.
وأما من بعد عدنان فهم مختلف فيهم، وإن كان النسابون اتفقوا على أن عدنان ينتهي نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم- عليهما السلام- فهو جد النبي الأعلى، وقد انتقلت إليه منه بعض الصفات الجسمانية، ففي الحديث الصحيح لما ذكر إبراهيم قال: «وإنه لأشبه الناس بصاحبكم» .
ولم يزل صلّى الله عليه وسلّم يتنقل من أصلاب الاباء الطيبين، إلى أرحام الأمهات الطاهرات، لم يمسّ نسبه من سفاح الجاهلية شيء، بل كان بنكاح صحيح على حسب ما تواضع عليه العرب الشرفاء، حتى خرج من بين أبويه الكريمين.
وفي صحيح مسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» . ورواه الترمذي في سننه بزيادة في أوله: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ... » والمراد بالاصطفاء تخيّر الفروع الزكية من الأصول الكريمة تخيّرا مبناه الأخلاق الكريمة، والفضائل الإنسانية السامية، والطباع الفطرية السليمة، وينضم إلى ذلك بالنسبة إلى إسماعيل والنبي اصطفاء النبوة والرسالة.
__________
(1) بكسر النون، قيل: لما ولد فرح به أبوه فرحا شديدا، ونحر، وأطعم، وقال: إن هذا كله نزر- أي قليل- لحقّ هذا المولود، وبه جزم السهيلي، وقال أبو الفرج الأصبهاني: سمي بذلك لأنه كان فريد عصره، وعليه اقتصر صاحب الفتح، والإرشاد.
(2) معد بفتح الميم والعين وتشديد الدال.
(3) عدنان بوزن فعلان من العدن، وهو الإقامة، وحكى الزبير أن عدنان أول من وضع أنصبة الحرم، وأول من كسا الكعبة، أو كسيت في زمنه، وقال البلاذري: أول من كساها الأنطاع عدنان.(1/184)
وروى البخاري في صحيحه بسنده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بعثت من خير قرون بني ادم قرنا فقرنا، حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه» . وروى البيهقي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطب فقال: «أنا محمد بن عبد الله ... » إلى اخر النسب الشريف ثم قال: «وما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في خيرهما، فأخرجت من بين أبوي، فلم يصبني شيء من عهر «1» الجاهلية، وخرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح، من لدن ادم حتى انتهيت إلى أبي، وأمي، فأنا خيركم نفسا، وخيركم أبا» وروى الإمام أحمد في مسنده بسنده عن المطّلب بن أبي وداعة قال: قال العباس: بلغه صلّى الله عليه وسلّم بعض ما يقول الناس، فصعد المنبر فقال: «من أنا» ؟ قالوا:
أنت رسول الله، قال: «أنا محمد بن عبد الله، بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل، فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا، وخيركم نفسا» إلى غير ذلك من الأحاديث «2» .
وراثة الصفات والفضائل
وإذا كان الله سبحانه وتعالى جرت سنته ألايبعث نبيا إلا في وسط من قومه شرفا، ونسبا، ومحتدا، فقد كان في الذروة من هذه نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، فما من ابائه إلا كان مليا «3» بالفضائل، والمكارم، وقد علمت بعضا منها انفا، وما من أم من أمهاته إلا وهي أفضل نساء قومها نسبا وموضعا، ولم تزل هذه الفضائل والكمالات البشرية تنحدر من الأصول إلى الفروع حتى تجمعت كلها في سلالة ولد ادم، ومصاصة بني إبراهيم وإسماعيل، سيدنا محمد بن عبد الله الأمين.
وليس من شك في أن النسب الكريم إذا زانه الحسب العريق، كان ذلك من أسباب الكمال. ووراثة الصفات الخلقية والخلقية، والخصائص النفسية، والعقلية أمر مقرر معلوم، وقد دلّ على هذه الوراثة قوله صلّى الله عليه وسلّم للرجل الذي جاء
__________
(1) فجور ومفاسد.
(2) البداية والنهاية ج 2، ص 277- 280.
(3) أي غنيا.(1/185)
يشتكي إلى النبي أن ابنه جاء أسود، ولم يكن أحد من أبويه أسود فقال له:
«هل لك من إبل» ؟ قال: نعم قال: «ما ألوانها» ؟ قال: حمر، قال: «هل فيها من أورق» «1» ؟ قال: نعم قال: «فأنّى ذلك» ؟ قال: لعله نزعه عرق «2» قال:
«فلعل ابنك هذا نزعه عرق» «3» !
وقد شرح العلماء المحدثون قوانين الوراثة، وبيّنوها غاية البيان، وقد قالوا: إن هناك وراثة نوعية عامة، وهي وراثة الصفات الجسمية والنفسية الثابتة الخاصة بالنوع الإنساني، فكل طفل يولد مزودا بهذه الصفات عن طريق الوراثة النوعية.
ووراثة خاصة: وهي التي تنقل إلى الفرع صفات من أصوله الخاصة القريبة أو البعيدة، وهي لذلك تنتظم طائفتين:
1- إحداهما: الوراثة الخاصة المباشرة، وتظهر فيما يرثه الطفل عن أصليه المباشرين: أبيه وأمه.
2- والثانية: الوراثة الخاصة غير المباشرة، وتظهر فيما يشبه فيه الطفل أحد أجداده، أو إحدى جداته من جهة الأب، أو الأم من الدرجة الأولى، أو من الدرجات التي تليها من صفات لم تظهر في أحد أبويه. ومن هذا النوع ما يسمونه «الوراثة الفرعية» أو «الوراثة بالواسطة» أو «الوراثة المشتركة» وهي التي تظهر فيما يشبه فيه الطفل أحد أعمامه، أو أخواله، أو إحدى عماته، أو خالاته من صفات لم تكن ظاهرة في أحد أبويه المباشرين، وذلك أن الطفل إذا أشبه عمه مثلا في صفة ما، يرجع إلى أنه هو وعمه أخذا هذه الصفة عن جده القريب أو البعيد، أو من جدته القريبة، أو البعيدة من جهة الأب، والوراثة الخاصة غير المباشرة ترجع في التحليل الأخير إلى الوراثة الخاصة المباشرة.
__________
(1) هو الذي يميل لونه إلى الغبرة والسواد.
(2) العرق: هو الأصل أي جاء لأحد أصوله.
(3) صحيح البخاري- كتاب الطلاق- باب إذا عرّض بنفي الولد.(1/186)
ثم إن كانت الوراثة في الصفات لأحد الأبوين «سميت وراثة بالتحيّز» وإن كانت لأحدهما في بعض الصفات وللاخر في بعضها سميت «وراثة بالاقتران» باعتبار نوع الصفات.
وتنقسم الوراثة باعتبار نوع الصفات الموروثة عن الأصول الخاصة، أو عن القبيلة إلى ثلاثة أقسام:
(أ) وراثة جسمية كوراثة الطول والقصر وسمات الوجه وغيرها.
(ب) وراثة عقلية كوراثة مظهر من مظاهر الإدراك أو الوجدان أو النزوع.
(ج) وراثة خلقية كوراثة الصفات الاجتماعية المتعلقة بالخير والشر، والفضيلة والرذيلة، كالحلم والورع والتقوى «1» .
وقد أفاد النبي صلّى الله عليه وسلّم من الوراثتين: العامة، والخاصة بنوعيها، فكان فيه خير ما في صفات البشر والنوع الإنساني، وخير ما كان في ابائه وأمهاته من الفضائل والصفات. وقد انضم إلى ذلك كله أن الله سبحانه وتعالى تعهده من الصغر بالتربية المثلى، والتأديب البالغ، فلا تعجب إذا كان صلّى الله عليه وسلّم المثل الكامل في جسمه، وفي عقله، وفي دينه، وفي خلقه، وفي نسبه، وحسبه «والناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» «2» .
الاباء
ها أنت قد رأيت أن اباءه كلهم سادة، ورثوا المجد والشرف كابرا عن كابر، وأنهم ليس فيهم أحد يغمص في خلق، أو يغمز في نسب أو شرف. فكان منهم الوسيم القسيم، ومنهم البطل الصنديد، ومنهم الجواد الكريم، ومنهم الحكيم الذي تتفجر الحكمة من قلبه وتجري على لسانه، وكان منهم التاجر الذي
__________
(1) الوراثة والبيئة للدكتور علي عبد الواحد وافي ص 10، 11.
(2) رواه البخاري.(1/187)
يكسب المعدوم، ومنهم البر الرحيم الوصول للرحم، ومنهم المتدين، والمتحنّث «1» ، والمتحنّف «2» .
وبحسب البيت الهاشمي شرفا وكرما أنهم كانوا سادة العرب جميعا، لا ينازعهم في السيادة منازع، وأنه انتهت إليهم السقاية، والرفادة، مع أنهم لم يكونوا جميعا من أهل الغنى والثراء. إنها- وايم الحق- لماثر وفضائل لا نجدها في أعرق الدول حضارة، ولم تصل إليها أغنى أمم الأرض اليوم.
الأمهات
أما الأم المباشرة فهي السيدة الكريمة امنة بنت وهب، بن عبد مناف، بن زهرة، بن كلاب، فهي تجتمع مع عبد الله في جدهما الأعلى: كلاب، وقد كان زهرة الولد البكر لكلاب بن مرة، والشقيق الأكبر لقصي الذي جمع قريشا بعد تشتت، وصاحب الماثر والمفاخر التي ذكرناها فيما سبق، وقد عرف بنو زهرة بالود الخالص لبني عبد مناف بن قصي، والانحياز إلى جانبهم في السلم والحرب، والأحلاف والعهود، وأما جدها عبد مناف فكان يقرن في الشرف بابن عمه:
عبد مناف بن قصي، فيقال: المنافان، تعظيما وتكريما، وأما أبوها وهب فكان سيد بني زهرة.
وجدتها لأبيها عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال السلمية، إحدى النساء اللواتي اعتزّ بهن الرسول فقال: «أنا ابن العواتك من سليم» «3» .
__________
(1) المتعبد.
(2) الذي اتبع الحنيفية دين إبراهيم- عليه السلام-.
(3) في لسان العرب: مادة «عتك» بعد ما ذكر هذا الحديث قال: «العواتك جمع عاتكة، وأصل العاتكة المتضمخة بالطيب ... والعواتك من سليم ثلاث: يعني جداته صلّى الله عليه وسلّم وهن: عاتكة بنت هلال بن فالج بن ذكوان أم عبد مناف بن قصي أبي هاشم. وعاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان أم هاشم بن عبد مناف. وعاتكة بنت الأوقص بن مرّة بن هلال بن فالج بن ذكوان أمّ وهب بن عبد مناف بن زهرة جد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبي أمه امنة بنت وهب. فالأولى من العواتك عمة الوسطى، والوسطى عمة الاخرى، وبنو سليم تفخر بهذه الولادة.. وسائر العواتك أمهات النبي صلّى الله عليه وسلّم من غير بني سليم، قال ابن بري:(1/188)
ولم يكن نسب امنة من جهة أمها دون ذلك عراقة وأصالة، فهي ابنة برّة بنت عبد العزى، بن عثمان، بن عبد الدار، بن قصي. وجدتها لأمها أم حبيب بنت أسد بن عبد العزى، بن قصي بن كلاب، وهي سلالة عريقة أصيلة أنبتت امنة بنت وهب لتضطلع بعبئها الجليل في أمومتها التاريخية، ولتنتظم بهذه الأمومة في سلك الأمهات المنجبات للرجال الذين صنعوا أمما، وغيروا وجه التاريخ «1» .
أمهات ابائه
أما أمّ أبيه فهي فاطمة بنت عمرو بن عائذ المخزومية، وبنو مخزوم في الذؤابة من قريش نسبا، وشرفا، ومحتدا، وأما أم جده عبد المطلب فهي سلمى بنت عمرو النجارية، وكانت سلمى لشرفها في قومها، واعتزازها بنفسها لا تنكح الرجال حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها، إذا كرهت رجلا فارقته، وإن رضيته عاشرته، ولما خطبها هاشم من أبيها وزوجها منه اشترط عليه مقامها عنده، وقيل بل اشترط عليه ألاتلد إلا عنده بالمدينة، فلما رجع من الشام بنى بها، وأخذها معه إلى مكة، فلما خرج في تجارة له إلى الشام أخذها معه وهي حبلى، فتركها بالمدينة، ودخل الشام فمات بغزة، فلما وضعت سلمى ولدها شيبة بقي عند أخواله سبع سنين، حتى جاء عمه المطلب فأخذه على ما ذكرناه سابقا.
وأما أم جده هاشم فهي عاتكة بنت مرّة بن هلال السلمية من بني سليم بن منصور، إحدى قبائل قيس عيلان بن مضر، إحدى العواتك اللاتي اعتزّ بهن الرسول.
وأما أم جده عبد مناف فهي حبّى بنت حليل الخزاعية من بني خزاعة بن
__________
- والعواتك اللاتي ولدنه صلّى الله عليه وسلّم اثنتا عشرة: اثنتان من قريش، وثلاث من سليم، هن اللواتي أسميناهن، واثنتان من عدوان، وكنانية، وأسدية، وهذلية، وقضاعية، وأزدية» وهذا الذي ذكره صاحب اللسان يتفق هو وما ذكره غير ابن إسحاق في أم عبد مناف بن قصي. وقال السهيلي في الروض بعد ما ذكر نحوا مما ذكره صاحب اللسان: وقيل في تأويل هذا الحديث إن ثلاث نسوة من سليم أرضعنه كلهن تسمى عاتكة والأول أصح.
(1) أم النبي للدكتورة عائشة عبد الرحمن ص 79.(1/189)
عمرو إحدى قبائل قمعة بن إلياس بن مضر، وهم الذين كانوا يتولّون البيت وإمارة مكة قبل قريش حتى انتزعها منهم قصي بن كلاب بن مرة مجمّع قريش، وصاحب مفاخرها، وهذا قول ابن إسحاق؛ وقال غيره: بل أم عبد مناف عاتكة بنت هلال بن فالج بن ذكوان «1» ، وأم قصي فاطمة بنت سعد، وهي يمانية من أزد شنوءة. وأم كلاب هند بنت سرير من بني فهر بن مالك. وأم مرة وحشية بنت شيبان من بني فهر أيضا. وأم كعب ماوية بنت كعب من قضاعة. وأم لؤي سلمى بنت عمرو الخزاعية. وأم غالب ليلى بنت سعد من هذيل. وأم فهر جندلة بنت الحرث من جرهم. وأم مالك عاتكة بنت سعد بن الظرب من قيس عيلان. وأم النضر برة بنت مرار بن أد. وأم كنانة عوانة بنت سعد من قيس عيلان. وأم خزيمة سلمى بنت أسلم من قضاعة. وأم مدركة خندف المضروب بها المثل في الشرف والمنعة. وأم إلياس الرباب بنت جندة بن معد. وأم مضر سودة بنت عك. وأم نزار معانة بنت جوشم من جرهم «2» .
ومن ثمّ نرى أنه لم يزل- صلّى الله عليه وسلّم- يتنقل من الأصلاب الأصيلة إلى الأرحام الطاهرة، حتى خرج من بين أبويه الكريمين الشريفين.
__________
(1) الروض الأنف ج 1، ص 76.
(2) البداية والنهاية ج 2، ص 253- 255؛ نور اليقين ص 2، 3.(1/190)
الفصل الثاني الرّضاع
إرضاع أمه له
وكانت أولى من أرضعته صلّى الله عليه وسلّم هي أمه، قيل: أرضعته ثلاثة أيام، وقيل سبعا، وقيل تسعا.
إرضاع ثويبة «1»
ثم أرضعته ثويبة جارية عمه أبي لهب بلبن ابنها مسروح بضعة أيام قبل قدوم حليمة عليه، وكذلك أرضعت عمه حمزة، وابن عمته أبا سلمة المخزومي، فكانوا أخوة من الرضاع. ولما قيل للنبي عقب عمرة القضاء: ألا تتزوج ابنة حمزة هي فاطمة- قال: «إنها ابنة أخي من الرضاع» ولما قالت له السيدة أم حبيبة إنا نحدّث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، وفي رواية: درة بنت أبي سلمة قال: «بنت أبي سلمة» ؟! قالت: نعم، قال: «إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلّت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة «2» ؛ أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضنّ علي بناتكن، ولا أخواتكن» . رواه البخاري.
استرضاعه في بني سعد
وكان من عادة أشراف العرب أن يتلمّسوا المراضع لأولادهم في البوادي ليكون ذلك أنجب للولد، وأصح للبدن، وأصفى للذهن، وأبعد عن الوخم،
__________
(1) بضم الثاء، وفتح الواو، وسكون الياء، فباء مواحدة، فتاء تأنيث، وقد اختلف في إسلامها، ولم يذكر إسلامها إلا ابن منده. وأما مسروح فقال البرهان: لا أعلم أحدا ذكره بإسلام.
(2) أي اجتمع في تحريمها سببان. كونها ربيبة، وكونها ابنة أخيه من الرضاع.(1/191)
والكسل. وكانوا يقولون: إن المربّى في المدن يكون كليل الذهن، فاتر العزيمة، ضعيف البنية. هذا إلى ما في نشأتهم بين الأعراب من استقامة اللسان بالفصيح من الكلام، والسلامة من اللحن، والبراءة من الهجنة. ولما قال الصديق أبو بكر رضي الله تعالى عنه- للنبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما رأيت من هو أفصح منك يا رسول الله؟» فقال: «وما يمنعني، وأنا من قريش، وأرضعت في بني سعد» .
فمن ثمّ كانوا يرسلون أبناءهم إلى البادية حتى يبلغوا الثامنة أو العاشرة، ومن القبائل من كان لها في المراضع شهرة، وفي الفصاحة مكان، ومنها قبيلة بني سعد التي منها حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية مرضعة النبي، وقد مكث عندها سنتين، ثم عادت به كي تراه أمه، فما إن رأته، وملأت عينيها منه حتى احتضنته وقبلته، وسرها ما رأته عليه من علامات الصحة، والنضارة، والنمو، وتوسلت حليمة إلى أمه أن ترجعه معها حتى يكبر؛ فإنها تخشى عليه وباء مكة، وما زالت بها حتى قبلت، ثم عادت به بعد سنتين «1» ، وهي بادية القلق، شديدة التخوف عليه، حتى أحسّت ذلك منها السيدة امنة، فسألتها عن سبب ذلك، فأنكرت أن يكون هناك شيء، ثم لم تلبث أن أخبرتها بقصة الملكين اللذين جاا إليه وهو في غنم لهم مع أخيه السعدي، فشقّا صدره، فطمأنتها أمّه أنه لا سبيل للشيطان عليه، وأنه سيكون له شأن، وقالت لها: دعيه عنك، وانطلقي راشدة.
وسأدع السيدة حليمة تقص القصة لما فيها من العبرة والروعة، ورعاية الله لنبيه من الصغر، قالت:
قدمت مكة في نسوة من بني سعد نلتمس الرضعاء «2» في سنة شهباء «3» ،
__________
(1) هذا هو الذي جزم به الحافظ زين الدين العراقي في نظم السيرة، والحافظ ابن حجر في سيرته، وهي صغيرة مفيدة التزم فيها الأصح، فقد قالا: إن شق الصدر كان في الرابعة، وكفى بهما إمامين حافظين، لا ما ذكره ابن إسحاق من أنه كان في أوائل الثالثة بعد شهرين أو ثلاثة من رجوع حليمة به.
(2) جمع رضيع.
(3) ذات جدب وقحط.(1/192)
على أتان لي، ومعي صبي لنا «1» ، وشارف لنا «2» ، والله ما تبضّ «3» بقطرة، وما ننام ليلنا ذلك مع صبينا ذاك، لا يجد في ثديي ما يغذيه «4» ، ولا في شارفنا ما يغذيه، فقدمنا مكة، فو الله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتأباه إذا قيل إنه يتيم!! وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أب الصبي، فكنا نقول: يتيم ما عسى أن تصنع أمه؟ فكلنا نكرهه لذلك.
فو الله ما بقيت من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعا غيري، فلما لم أجد غيره قلت لزوجي «5» : والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع، لأنطلقنّ إلى ذلك اليتيم فلاخذنه، قال: لا عليك أن تفعلي عسى أن يجعل الله لنا فيه بركة، قالت: فذهبت إليه فإذا به مدرج في ثوب من صوف أبيض من اللبن، يفوح منه المسك، وتحته حرير أخضر، راقد على قفاه يغط، فأشفقت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله، فدنوت منه رويدا «6» ، فوضعت يدي على صدره فتبسم ضاحكا، وفتح عينيه لينظر إلي، فخرج من عينيه نور حتى دخل خلال السماء، وأنا أنظر!! فقبلته بين عينيه، وأعطيته ثديي الأيمن، فأقبل عليه بما شاء من لبن «7» ، فحوّلته إلى الأيسر، فأبى، فكانت تلك حالته بعد «8» .
__________
(1) هو عبد الله بن الحارث الذي كانت ترضعه.
(2) ناقة مسنة والشارف يطلق على الذكر والأنثى ولكن المراد هنا الأنثى.
(3) بفتح التاء وكسر الباء أي تدر.
(4) عند ابن إسحاق بالدال المهملة، وعند ابن هشام بالذال المعجمة، وهي أتم من الأولى لأن فيها الاقتصار على الغداء دون العشاء.
(5) هو الحارث بن عبد العزّى بن رفاعة السعدي، يكنى: أبا ذؤيب، أدرك الإسلام، وأسلم، وعدّه من الصحابة صاحب الإصابة، وهو الذي يقال له: أبو كبشة، وهو الذي عنته قريش لما قالوا: إن ابن أبي كبشة يزعم أنه يكلّم من السماء!!
(6) بتؤدة وتمهل.
(7) در الثدي لبنا كثيرا.
(8) هذا من الصفات التي فطره الله عليها من الصغر من القناعة والعدل والبر، فقد ألهمه الله أن له شريكا في اللبن، فأبى أن يتناول نصيبه.(1/193)
فروي، وروي أخوه، ثم أخذته بما هو إلى أن جئت به رحلي، فأقبل عليه ثدياي بما شاء الله من لبن، فشرب حتى روي، وشرب أخوه حتى روي، فقام صاحبي «1» إلى شارفنا تلك، فإذا بها لحافل «2» ، فحلب لنا، فشرب، وشربت حتى روينا، وبتنا بخير ليلة.
فقال صاحبي: تعلّمي «3» يا حليمة، والله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة، قلت: والله إني لأرجو ذلك، قالت: ثم خرجنا فركبت أنا أتاني «4» ، وحملته عليها معي، فو الله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شيء من حمرهم، حتى إن صواحبي ليقلن لي: يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك ارفقي علينا «5» ، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟! فأقول لهن: بلى- والله- إنها لهي هي!! فيقلن: والله إن لها لشأنا!!
قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد، وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح عليّ حين قدمنا به معنا شباعا لبّنا «6» فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم «7» : ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعا لبّنا، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه، وفصلته، وكان يشب شبابا لا يشبّه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا «8» .
قالت: فقدمنا به على أمه، ونحن أحرص شيء على مكثه هاهنا، لما كنا
__________
(1) تعني زوجها.
(2) ممتلئة الضرع من اللبن.
(3) أي اعلمي.
(4) حمارتي.
(5) انتظري وتمهلي.
(6) جمع لبون.
(7) جمع راع.
(8) قويا شديدا.(1/194)
نرى من بركته، فكلّمنا أمه، وقلت لها: لو تركت بنيّ عندي حتى يغلظ «1» ، فإني أخشى عليه وباء مكة «2» قالت: فلم نزل بها حتى ردته معنا «3» .
مداعبة حليمة وابنتها للنبي
وكانت حليمة- رضي الله عنها- تداعب النبي، وترقّصه، وتناغيه كما تفعل الأمهات مع الأبناء، فمن ذلك قولها:
يا ربّ إذ أعطيته فأبقه ... وأعله إلى العلا ورقّه
وادحض أباطيل العدا بحقّه
وكانت الشيماء «4» ، أخته من الرضاعة، تقول:
هذا أخ لي لم تلده أمي ... وليس من نسل أبي وعمي
فديته من مخول معمّي «5» ... فأنمه «6» اللهمّ فيما تنمي
وكانت تقول أيضا:
يا رب أبق أخي محمدا ... حتى أراه يافعا وأمردا
ثم أراه سيدا مسوّدا ... واكبت أعاديه معا والحسدا
وأعطه عزا يدوم أبدا
__________
(1) يقوى أكثر ويكبر.
(2) بفتح الواو والمد أو القصر: الطاعون.
(3) روى هذه القصة ابن إسحاق، وابن راهواه، وأبو يعلى، والطبراني، والبيهقي، وأبو نعيم، يزيد بعضهم عن بعض. انظر سيرة ابن هشام ج 1، ص 163، 164؛ شرح المواهب ج 1، ص 171- 174.
(4) بفتح الشين وسكون الياء، ويقال: الشماء بلا ياء، وهي ابنة الحارث بن عبد العزّى وابنة السيدة حليمة، اسمها جدامة- بضم الجيم وفتح الدال- وقيل: حذامة بضم الحاء المهملة وفتح الذال المعجمة، وقيل: خذامة بضم الخاء المعجمة.
(5) كريم الأخوال والأعمام، والياء لضرورة الشعر.
(6) نمى من باب رمى كثر وزاد ويتعدى بالهمزة، والتضعيف.(1/195)
جميل بأجمل منه
وقد كان صلّى الله عليه وسلّم أعرف الناس بالجميل وأشدهم مكافأة عليه، وقد قدم عليه بعد أن أظهر الله الإسلام أبواه من الرضاع فأكرمهما، وبسط لهما رداءه، ووصلهما، وكانت الشيماء وقعت في سبايا هوازن، فلما عرفها قال لها: «إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك، وترجعي إلى قومك فعلت» ؟ فقالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي. فوصلها، وأكرمها، وردّها إلى قومها، ويقال: إنه أعطاها غلاما وجارية، فزوجتهما، وتناسلا.
قصة شق الصدر
قال ابن إسحاق «1» : قالت حليمة: فو الله إنه لبعد مقدمنا بشهرين أو ثلاثة «2» مع أخيه من الرضاعة لفي بهم «3» لنا خلف بيوتنا، جاء أخوه يشتدّ «4» فقال: ذاك أخي القرشي قد جاءه رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه وشقّا بطنه!!
فخرجت أنا وأبوه- يعني من الرضاعة- نشتد نحوه، فوجدناه قائما منتقعا لونه، فاعتنقته، واعتنقه أبوه، وقال: أي بني ما شأنك؟! قال: «جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاني، وشقّا بطني، ثم استخرجا منه شيئا لا أدري ما هو؟ فطرحاه، ثم ردّاه كما كان» !!
قالت حليمة: فرجعناه معنا، فقال أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد أصيب، فانطلقي بنا نرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف عليه، قالت: فاحتملناه فقدمنا به على أمه، فقالت: ما أقدمك به يا ظئر «5» وقد كنت
__________
(1) تتمة قصة الرضاع.
(2) شك من الراوي، وقد قدمت أن الصحيح أن شق الصدر كان في السنة الرابعة، وأن رجوعهما كان بعد الشق في أول الخامسة.
(3) غنم.
(4) يسعى ويجري.
(5) الظئر: المرضعة الحانية على من ترضعه.(1/196)
حريصة عليه وعلى مكثه عندك؟! قالت: فقلت: قد بلغ الله بابني، وقضيت الذي علي، وتخوّفت الأحداث عليه، فأدّيته إليك كما تحبين، قالت: ما هذا شأنك فاصدقيني خبرك، قالت: فلم تدعني حتى أخبرتها، قالت: أفتخوفت عليه الشيطان؟! قالت: قلت: نعم، قالت: كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل، وإن لبنيّ لشأنا، أفلا أخبرك خبره؟ قلت: بلى، قالت: رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء لي قصور بصرى «1» من أرض الشام، ثم حملت به فو الله ما رأيت من حمل قط كان أخف علي، ولا أيسر منه «2» ، ووقع حين ولدته، وإنه لواضع يديه بالأرض، رافع رأسه إلى السماء، دعيه عنك، وانطلقي راشدة «3» .
رواية أخرى لابن إسحاق
قال ابن إسحاق: وحدثني ثور بن يزيد عن بعض أهل العلم، ولا أحسبه إلا عن خالد بن معدان الكلاعي، أن نفرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا له:
يا رسول الله أخبرنا عن نفسك، قال: «نعم أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت لها قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر، فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا إذ أتاني رجلان «4» عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوءة ثلجا، ثم أخذاني فشقّا بطني، واستخرجا قلبي فشقّاه، فاستخرجا منه علقة سوداء، فطرحاها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه، ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته فوزنني بهم فوزنتهم «5» ، ثم قال: زنه بمائة من أمته، فوزنني بهم، فوزنتهم. ثم قال: زنه بألف من أمته، فوزنني بهم،
__________
(1) بضم الباء والقصر من أعمال دمشق، وهي قصبة كورة حوران.
(2) عرفت ذلك من مقارنة حملها بحمل غيرها من النساء.
(3) سيرة ابن هشام ج 1، ص 164، 165.
(4) هما: جبريل، وميكائيل.
(5) رجحت عليهم.(1/197)
فوزنتهم، ثم قال: دعه عنك فو الله لو وزنته بأمته لوزنها» «1» . قال ابن كثير:
وهذا إسناد جيد قوي.
رواية الإمام مسلم في صحيحه
وقد ثبت في صحيح مسلم من طريق حمّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه جبريل- عليه السلام- وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه، فشقّ عن قلبه فاستخرج القلب، واستخرج منه علقة سوداء، فقال: هذا حظ الشيطان، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه- يعني ظئره- فقالوا:
إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره» «2» .
رواية أبي يعلى وأبي نعيم وابن عساكر
فقد رووا بأسانيدهم عن شدّاد بن أوس، عن رجل من بني عامر «3» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كنت مسترضعا «4» في بني سعد بن بكر، فبينما أنا ذات يوم في بطن واد مع أتراب لي من الصبيان إذ أنا برهط ثلاثة معهم طست من ذهب، مليء ثلجا، فأخذوني من بين أصحابي، وانطلق الصبيان هرابا مسرعين إلى الحي، فعمد أحدهم فأضجعني على الأرض إضجاعا لطيفا، ثم شقّ ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، وأنا أنظر إليه لم أجد لذلك مسّا، ثم غسلها بذلك الثلج ... » على نحو ما ذكر ابن إسحاق غير أنه في هذه الرواية كانوا ثلاثة، وفي الأولى كانوا اثنين، فلعل من ولي عملية الشق هما الاثنان، فاقتصر عليهما في بعض الروايات دون بعض.
__________
(1) سيرة ابن هشام ج 1 ص 166.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي ج 2، ص 216 ط حجازي.
(3) لا يضر إبهام الصحابي، لأن الصحابة كلهم عدول ولا سيما هو من رواية صحابي عن صحابي.
(4) على صيغة اسم الفاعل، وليس اسم مفعول لأن فعله لازم.(1/198)
تكرار شق الصدر
وقد تكرر شق الصدر الشريف غير هذه المرة، فقد حصل مرة ثانية عند المبعث «1» . ومرة ثالثة عند الإسراء والمعراج، وهذه المرة ثابتة بالأحاديث الصحيحة من رواية الشيخين: البخاري ومسلم، وغيرهما «2» .
أما المرة الأولى: فقد كانت لنزع العلقة السوداء التي هي حظ الشيطان من كل بشر، فخلقت فيه صلّى الله عليه وسلّم تكملة للخلق الإنساني، ثم إخراجها بعد خلقها كرامة ربانية، فهو أدل على مزيد الرفعة والكرامة من خلقه بدونها وبنزعها منه نشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان، والاتصاف بصفات الرجولية من الصغر فلا لهو ولا عبث وإنما هو الكمال والجد.
وأما الثانية: فليتلقّى ما يوحى إليه من أمور الرسالة بقلب قوي وهو على أكمل الأحوال وأتم الاستعداد.
وأما الثالثة: فكانت استعدادا لما يلقى إليه في هذه الليلة من أنواع الفيوضات الإلهية، وما سيريه ربّه فيها من الايات البينات، وإدراك مرامي المثل الرائعة التي ضربت له في مسراه وفي معراجه «3» ، وكلها تحتاج إلى شرح الصدر، وثبات القلب.
المنكرون لشق الصدر، والمشككون فيه
وينكر «سيرموير» حادثة شق الصدر على معناها الظاهر، ويرى أن ما حدث إنما هي نوبة عصبية، ويجعلها «درمنغم» أسطورة، ويحملها على أنها أمر معنوي، يشير إلى مغزى فلسفي، فيقول: «إنها نشأت من قول الله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وأن هذه العملية أمر باطني قام على تطهير ذلك القلب ليتلقى رسالة الله عن حسن نية، ويبلغها بإخلاص تام، وإن أسطورة شق
__________
(1) رواه أبو نعيم في كتابه «دلائل النبوة» انظر المنتخب من السنة ج 1، ص 64.
(2) الإسراء والمعراج للمؤلف ص 55- 66.
(3) فتح الباري ج 7، ص 161؛ تفسير الالوسي ج 30، ص 166، 167.(1/199)
الصدر ذات مغزى فلسفي لما تشير إليه تلك الدرنة السوداء من الخطيئة الأولى التي لم يعف منها غير مريم وعيسى!! ولما يدل عليه من معنى الورع الصوفي» «1» .
وقد تأثر بهذا الرأي بعض الكاتبين في السيرة من المسلمين ومنهم الدكتور محمد حسين هيكل- رحمه الله-، فقال: «لا يطمئن المستشرقون، ولا يطمئن جماعة من المسلمين كذلك إلى قصة الملكين هذه، ويرونها ضعيفة السند ... » «2»
إلى اخر ما قال.
وقد طعن في القصة بأنها ضعيفة السند، وأنها مرسلة، وأن القصة رواها طفل صغير في سن السنتين، وكان النبي في مثل هذه السن أيضا، وهي سن لا يحصل فيها التمييز حتى يكون تحمّل الراوي للقصة صحيحا، كما ذكر مزاعم بعض المستشرقين.
وللرد على ما أثاره المستشرقون وغيرهم حول حادث شق الصدر أقول وبالله التوفيق:
1- أما أن المستشرق «سيرموير» لم يرض أن يشير إلى قصة الملكين فثبوت القصة أو نفيها لا يتبع رضاه ولا عدم رضاه، وإنما المعوّل عليه في هذا ثبوت الرواية أو عدم ثبوتها، ولا أدري كيف استراح الدكتور هيكل إلى زعم موير وتجويزه أن يكون النبي في طفولته أصابته نوبة عصبية، وقد تنبهت لها حليمة وزوجها، وأن هذه النوبة لم تؤثر في النبي لحسن تكوينه!!
وهو دس خبيث، وطعن مردود، وليس في القصة ما يدل عليه، ولماذا رجّح ظنّ حليمة وزوجها وتخوّفهما أن يكون أصاب النبيّ شيء، ولم يرجّح قطع أمه السيدة امنة في أنه ليس للشيطان عليه سبيل؟! والأم أعلم الناس بالابن، واخر من يقتنع بزوال أثر المرض عن الابن، و «موير» لأجل أن ينكر الشق وقع فيما هو أشد نكرا، وهو أن النبي أصابته نوبة عصبية، حتى خيّل إليه
__________
(1) حياة محمد لدرمنغم ص 48.
(2) حياة محمد لهيكل ص 109، 110.(1/200)
ما ليس بحاصل حاصلا، وهي شنشنة تعرف من أخزم؟
2- أما أن «درمنغم» يرى أن القصة لا تستند إلى شيء غير ما يفهم من الاية، وأن ما يشير إليه القران إنما هو عمل روحي بحت «1» ، فنحن لم نقل:
إن الاية هي الدليل، وإن كان البعض يقول: إنها تشير إلى ذلك، ولكن الدليل هو ما ثبت من الروايات التي سقناها.
3- أما أن ما يدعو المستشرقين والمفكرين من المسلمين إلى إنكار هذا الحادث: أن حياة النبي كانت كلها إنسانية سامية، فنحن نرى ألاتنافي قط بين سمو الحياة الإنسانية، وثبوت الخوارق والمعجزات الحسية للأنبياء، وهل عيسى لما ولد بغير أب، وأجرى الله على يديه خوارق العادات لم تكن حياته إنسانية؟! وهل موسى عليه السلام لما أعطي الايات التسع لم تكن حياته إنسانية؟!
الحق أنها لوثة حمل لواءها المستشرقون، وسرت عدواها إلى بعض الكتاب المسلمين المعاصرين.
4- ثم إن حادثة شق الصدر ليست مخالفة للعقل، لقد ظلم الدكتور هيكل العقل حين قال ذلك، وفرق كبير بين مخالفة العادة، ومخالفة العقل، ولو جاز هذا التشكيك في القصة في العصور الأولى فلن يجوز ذلك اليوم، وقد تقدم العلم والطب، وأصبحت تجرى فيه العمليات الخطيرة في القلب، وفي الكلى، وفي الرئتين، بل أنا أكتب هذا وتجري محاولات عدة لزرع بعض أجزاء إنسان في جسم إنسان اخر، فإذا جاز أن يقع هذا من البشر، أفنستبعد على قدرة الله، وملائكته المؤتمرين بأمره أن يشقّوا صدر النبي، ثم يلتئم بلا الة، ولا ألم، ولا سيلان دم؟!
ثم ما للمعجزات ولسنن الكون العادية، حتى نتعلل في إنكارها بأننا لن
__________
(1) لئن جاز حمل الاية أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ على الشرح المعنوي بل لعله الأظهر، فبعيد جدا أن تحمل القصة على هذا، وإلا كان خروجا بالألفاظ العربية عن ظاهرها من غير صارف لها عن هذا الظاهر.(1/201)
نجد لسنة الله تبديلا، وما المعجزات إلا أمور خارقة للمألوف من سنن الله في الكون!!
5- أما قول البعض: إن هذه القصة ضعيفة السند فنقد مجمل، وكنا نحب من الناقد أو المنكر، وقد عرض لإنكار أمر يقره جمهرة المسلمين وفيهم أئمة كبار لهم بصر بالنقد والتعديل والتجريح للرواة، أن ينقد سند القصة نقدا تفصيليا، أما وقد أتى به نقدا مجملا فهو معارض بتوثيق أئمة كبار لسند هذه القصة، وقد سمعت انفا أن القصة رواها الإمام مسلم في صحيحه وإن كانت مجملة، وأن بعض أسانيد القصة إن لم تكن صحيحة فهي حسنة وجيدة وتصلح للاحتجاج بها، بل قصة الشق ليلة الإسراء والمعراج مروية في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث، بل قال بعض العلماء المحققين: إنها متواترة.
قال الحافظ ابن حجر بعد أن عرض لذكر الروايات الدالة على شق الصدر وتكرره: «وجميع ما ورد من شق الصدر، واستخراج القلب، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة مما يجب التسليم له، دون التعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شيء من ذلك» . وقال القرطبي في «المفهم» :
«لا يلتفت لإنكار الشق ليلة الإسراء والمعراج، لأن رواته ثقات مشاهير» وطبعي أن من صدق به ليلة الإسراء والمعراج يلزمه التصديق به في الصغر، وعند البعثة ما دام الأمران ثابتين بالروايات التي يحتج بها.
أما ما قيل: من أن ابن إسحاق رواها مرسلة عن رجل لم يسمّ من الصحابة فلا ينهض للطعن، إذ المعروف في قواعد «أصول الحديث» أن الصحابة عدول، فلا تضر جهالة الصحابي.
6- أما قولهم: إن القصة رواها طفل صغير في سن ليست سن تمييز ... فهذا بنوه على ما ذكره ابن إسحاق، وقد قدّمت أن الصحيح الذي رجّحه أئمة النقد والرواية أن الشق كان في السنة الرابعة، أو أوائل الخامسة، وهي سن تمييز، ولا سيما من مثل النبي وأخيه السّعدي. وأنا أذكر أحداثا وقعت لي وأنا في الرابعة أو دونها، ولا أنساها أبدا، وكأنها ماثلة أمامي الان،(1/202)
وهي دون قصة الشق. والكثيرون من الناس يذكرون مثل ذلك. والمحققون من المحدثين على عدم تحديد سن التحمل بخمس سنين، بل قالوا: المعوّل عليه التمييز، وقد يكون ابن أربع سنين وهو مميّز أكثر من ابن خمس أو ست، وقد يكون ابن خمس مثلا وتمييزه دون تمييز ابن أربع «1» ، ومما ذكرناه يتبين الرد على من نقد متن القصة بأنها مخالفة لما روي أنه أقام في بني سعد إلى خمس سنوات.
وأن النقد أصبح غير مقبول بعد أن بينت الرأي الصحيح الراجح.
خاتم النبوة
قد وردت روايات عدة تفيد أنه صلّى الله عليه وسلّم كان في جسده قطعة لحم ناتئة عليها شعر عند كتفه الأيسر كزرّ الحجلة «2» ، كما في صحيح البخاري، ومسلم، أو كبيضة الحمامة كما في صحيح مسلم، وهي ما كان يعرف بخاتم النبوة.
والروايات تدل على أن هذا الخاتم كان من علامات نبوته في الكتاب السابقة، كما تدل على ذلك قصة بحيرى الراهب. فقد تحايل حتى راه، ثم قال لعمه أبي طالب ما قال.
والصحيح أن هذا الخاتم تكوّن بعد الولادة، وأنه على الأصح كان بعد قصة شق الصدر، وأما القول بأنه ولد به أو ختم به عقب الولادة فضعيف «3» .
روى الشيخان في صحيحيهما بسندهما عن السائب بن يزيد قال: ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله، إن ابن أختي وجع، فمسح رأسي، ودعا لي بالبركة، ثم توضأ فشربت من وضوئه، وقمت خلف ظهره، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زرّ الحجلة. وروى مسلم بسنده عن جابر بن سمرة قال: «رأيت خاتما في ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنه بيضة حمام» «4» .
__________
(1) علوم الحديث للمؤلف، ص 10.
(2) الحجلة- بفتح الحاء والجيم-: الخيمة المزينة بالستور، وزرها هي البكرة التي تربط بها الحبال، وقيل: الحجلة طائر، وزرها بيضتها.
(3) شرح المواهب، ج 1 ص 192.
(4) صحيح البخاري- كتاب المناقب- باب خاتم النبوة، وصحيح مسلم- كتاب الفضائل- باب صفة خاتم النبوة.(1/203)
الفصل الثالث النّبيّ عليه السّلام في كفالة أمّه، ثم جدّه، ثم عمّه
ها هو ذا النبي صلّى الله عليه وسلّم قد عادت به حليمة بعد حادثة شق الصدر في مبتدأ سنته الخامسة، وقد شبّ عن الطوق، وقوي جسمه، وغلظ عوده، وبلغ من النضرة وميعة الصبا ما لم يبلغه صبي في مثل عمره، وقد عاش في كنف الأم الحنون، وأضحى هو كل شيء في حياتها، إذ ليس هناك ما يشغلها أو يلهيها عنه، ودرج في كفالة جده الشيخ الذي كان يحنو عليه أكثر من حنوه على أبنائه، وقد وجد فيه عوضا عن أحب أبنائه إليه.
الذهاب إلى المدينة
فلما بلغ النبي السادسة من عمره ارتأت أمّه أن تذهب به إلى أخوال جده عبد المطلب بالمدينة من بني النجار، ليرى مكانة هؤلاء الأخوال الكرام، وقد كان لهذه الخؤولة اعتبارها لمّا هاجر فيما بعد إلى المدينة، وليقضيا حق الحبيب المغيّب رمسه في تراب المدينة، وأغلب الظن أن تكون الأم حدّثت ابنها بقصة أبيه، ومفارقته الدنيا وهو في شرخ شبابه، وأن الابن تاقت نفسه إلى البلد الذي ضم رفات الأب.
وخرجت الأم والابن ومعهما أم أيمن بركة الحبشية جارية أبيه، ووصل الركب إلى المدينة. وكان المقام في دار النابغة من بني النجار، ومكثوا عندهم شهرا، وزاروا الحبيب الثاوي في قبره، وحرّكت الزيارة لواعج الشوق والأحزان في نفس الأم والابن، وانطبع معنى اليتم في نفس النبي بعد أن كان لاهيا عنه.
وبعد أن قضوا حاجات النفس عاد الركب إلى مكة، وفي الطريق بين(1/205)
المدينة ومكة مرضت الأم، وحمّ القضاء، ودفنت بقرية (الأبواء) «1» ، وجلس الابن يذرف الدمع سخينا على فراق أمه، التي كان يجد في كنفها الحب، والحنان، والسلوى، والعزاء عن فقد الأب، وهكذا شاء الله- سبحانه- للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ولما يجاوز السادسة، أن يذوق مرارة فقد الأبوين.
وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يذكر أمورا في زورته تلك، فقد نظر إلى دار بني النجار بعد الهجرة قائلا: «هنا نزلت بي أمي، وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله، وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار» «2» .
وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم كلما مرّ بقبر أمه زاره، ويبكي، ويبكي من حوله، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: «زار النبي صلّى الله عليه وسلّم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، ثم قال: «استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور تذكركم الموت» «3» .
وروى الإمام أحمد بسنده عن بريدة قال: «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا كنا (بودّان) «4» قال: «مكانكم حتى اتيكم» فانطلق، ثم جاءنا وهو ثقيل، فقال: «إني أتيت قبر أم محمد، فسألت ربي الشفاعة- يعني لها- فمنعنيها، وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» . وروى البيهقي بسنده عن بريدة قال: انتهى النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى رسم قبر فجلس، وجلس الناس حوله، فجعل يحرك رأسه كالمخاطب، ثم بكى فاستقبله عمر، فقال: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: «هذا قبر امنة بنت وهب، استأذنت ربي في أن أزور قبرها، فأذن لي، واستأذنته الاستغفار لها فأبى علي، وأدركتني رقتها فبكيت» .
قال: فما رئيت ساعة أكثر باكيا من تلك الساعة «5» .
__________
(1) قرية بين مكة والمدينة.
(2) شرح المواهب، ج 1 ص 167، 168.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي، ج 7 ص 46.
(4) مكان قريب من الأبواء.
(5) البداية والنهاية، ج 2 ص 203، 204.(1/206)
في كفالة جده عبد المطلب
وبعد موت أم النبي صلّى الله عليه وسلّم كفله جده عبد المطلب، وضمّه إليه، ورقّ عليه رقّة لم يرقّها على ولده، وكان يقربه منه ويدنيه، ويدخل عليه إذا خلا، وإذا نام، ولا يأكل طعاما إلا يقول: «عليّ بابني» فيؤتى به إليه، وبذلك عوّضه الله بحنان جده عن حنان الأبوين، وكانت حاضنته بعد وفاة أمه هي أم أيمن «1» ، وكان النبي لما كبر يعرف لها ذلك ويقول: «هي أمي بعد أمي» وكان عبد المطلب كثيرا ما يقول لها: يا بركة لا تغافلي عن ابني، فإني وجدته مع غلمان قريب من السدرة، وإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني هذا نبيّ هذه الأمة.
وكان الجد يسر لما يرى من مخايل الشرف والعزة على حفيده محمد، فقد كان لعبد المطلب فراش يوضع في ظل الكعبة، وكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له، فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يأتي وهو غلام يافع فيجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب، والغبطة تملأ نفسه: «دعوا ابني، فو الله إن له لشأنا!!» ثم يجلسه معه على فراشه، ويمسح ظهره بيمينه، ويضمّه إليه.
فلما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى ابنه أبا طالب «2» بكفالة النبي وحياطته، ثم مات عبد المطلب، ودفن بالحجون، وكانت سن النبي ثماني سنين.
كفالة عمه أبي طالب له
ثم كفله عمه أبو طالب، ولم يكن أبو طالب بأكبر بني عبد المطلب، ولا بأكثرهم مالا، ولكنه كان أشرف قريش وأعظمها مكانة، وأكرمها نفسا، وقد أحب أبو طالب ابن أخيه محمدا حبا شديدا، لا يحبه أحدا من ولده، فكان
__________
(1) هي بركة الحبشية بنت ثعلبة بن حصن كانت لأبيه، ثم انتقلت إليه، أسلمت قديما، وهاجرت الهجرتين، وقد صح أنها ماتت بعده صلّى الله عليه وسلّم بخمسة أشهر، وقيل بسنة، وقيل في خلافة عمر، وقيل في خلافة عثمان.
(2) لأن أبا طالب كان أخا شقيقا لعبد الله.(1/207)
لا ينام إلا إلى جنبه، ويخرج فيخرج معه، وصبّ به صبابة «1» لم يصبّ مثلها بشيء قط.
وكان يخصه بالطعام، وكان إذا أكل عيال أبي طالب جميعا أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شبعوا، فكان إذا أراد أن يؤكلهم قال: كما أنتم حتى يأتي ولدي، فيأتي النبي فيأكل معهم، فكانوا يفضلون من طعامهم، فيعجب أبو طالب ويقول: إنك لمبارك.
وكان الصبيان يصبحون رمصا شعثا «2» ، ويصبح محمد دهينا كحيلا. وقد زاده حبا في نفسه ما كان يتحلّى به النبي في صباه من طيب الشمائل، وكريم الاداب في هيئة الأكل، والشرب، والجلوس، والكلام، مما يعز وجوده في هذه السن بين الصبيان، ويدل على أن الله سبحانه فطره من صغره على خير الخلال والاداب.
__________
(1) أحبه حبا عظيما.
(2) جمع أرمص، والرمص قذر يكون في موق العين، وشعثا: جمع أشعث أي ثائر شعر الرأس.(1/208)
رعيه الغنم
وقد اشتغل النبي صلّى الله عليه وسلّم في صباه برعي الغنم: رعاها لأهله، ورعاها لبعض أهل مكة، وبذلك ضرب مثلا عاليا من صغره في اكتساب الرزق بالكد والتعب، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يذكر ذلك في كبره وهو مغتبط مسرور، روى الإمام أحمد بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: «افتخر أهل الإبل والغنم عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي: «الفخر والخيلاء في أهل الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم» ، وقال: «بعث موسى وهو يرعى غنما لأهله، وبعثت أنا وأنا أرعى غنما لأهلي بجياد» «1» ، وقال: «ما بعث الله نبيا إلا وقد رعى الغنم» فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: «نعم، كنت أرعاها على قراريط «2» لأهل مكة» «3» .
والحكمة في رعي الأنبياء الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم بالتمرن والتعود على رعايتها القدرة على رعاية أممهم، والقيام بشؤونهم، إذ في رعيها ما يحصل لهم الحلم، والشفقة والرحمة، ويعودهم من الصغر الصبر، وطول البال، والأناة والتريث، وزجر الباغي، وجبر كسر الضعيف، ويربّي فيهم ملكة الحرص على المصلحة، ودفع المضرة، وحسن التعاهد، والرفق بمن تحت أيديهم، والسهر على مصلحتهم، وفي الحديث النبوي السابق الذي رواه أحمد ما يشير إلى هذه المعاني.
__________
(1) مكان أسفل مكة.
(2) قراريط جمع قيراط، وهو جزء من الدينار أو الدرهم، يعني يرعاها بأجر.
(3) رواه البخاري.(1/209)
هذا إلى ما في رعي الغنم من قضاء نهاره وبعض ليله في البادية، فيتمتاع بالسماء الصافية، والشمس المشرقة، والهواء النقي، ويطيل التأمل والنظر في السماء ذات الأبراج، والأرض ذات الفجاج، والجبال ذات الألوان، وبذلك يصير التأمل والتدبر ملكة من ملكات النفس.(1/210)
صحبته لعمه إلى الشام
ولما بلغت سنه صلّى الله عليه وسلّم الثانية عشرة خرج عمه أبو طالب في تجارة له إلى الشام، فتعلقت نفس ابن أخيه به، ورغب في مصاحبته، فرقّ له عمه، واستصحبه معه حتى وصل الركب إلى (بصرى) من بلاد الشام، وكان بها راهب يقال له (بحيرى) «1» عنده علم بالكتب السماوية السابقة، وقد علم منها أنه قد ان مبعث نبي اخر الزمان وأنه من العرب.
وقد جذب انتباهه إلى القافلة أنه رأى غمامة تظلل شخصا منهم، فصنع لهم طعاما على غير عادته ودعاهم إليه، وهنا تختلف الروايات: ففي بعضها أنهم حضروا بما فيهم النبي، وفي بعضها أنهم حضروا جميعا وتركوا النبي عند رحالهم تحت شجرة قريبة منهم، فلما حضروا تفرّس فيهم فلم يجد صاحب الصفة التي يعرفها، فرغب في حضوره فأحضروه، فلما حضر صار يتفرّس فيه ويتعرف على بعض صفاته، ثم تحايل حتى رأى خاتم النبوة بين كتفيه على صفته التي عندهم في الكتاب، فأقبل على أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟
قال: ابني، قال بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي أن يكون أبوه حيا!! قال أبو طالب: فإنه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به، قال:
صدقت فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهود، فو الله لئن رأوه، وعرفوا ما عرفت ليبغنّه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم.
__________
(1) بحيرى: بفتح الباء وكسر الحاء مقصورا هو من علماء النصارى، قيل: كان من نصارى عبد القيس، وقال السهيلي وصاحب الإصابة: وقع في سيرة الزهري أن بحيرى كان حبرا من أحبار يهود تيماء.(1/211)
وما إن فرغ أبو طالب من بيع تجارته حتى عاد به مسرعا إلى مكة، وقد اشتد حرصه عليه وحبه له، ولم تذكر لنا الروايات أكثر مما سمعت ولم يسمع منه النبي شيئا من علوم أهل الكتاب، ولا قرأ عليه بحيرى شيئا من كتبهم، ولو حدث شيء من هذا لحدّث به أفراد الركب ولا سيما بعد بعثته لما سبّ الهتهم، وسفّه أحلامهم، وعاب دينهم.
حرب الفجار «1»
ولما بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم أربع عشرة سنة شهد حرب الفجار، وكانت بين قريش وغيرها من قبائل كنانة وأحلافها، وبين قيس وأحلافها، وسببها أن النعمان بن المنذر ملك العرب بالحيرة بعث بقافلة له إلى سوق عكاظ، وكان في حاجة إلى من يجيرها له، فجلس يوما وعنده البرّاض بن قيس الكناني، وعروة بن عتبة الرّحّال، فقال: من يجير لي تجارتي حتى تبلغ عكاظ، فقال البرّاض بن قيس: أنا أجيرها على بني كنانة، وكان البرّاض فاتكا خليعا خلعه قومه لكثرة شره، فقال النعمان: أنا أريد من يجيرها على الناس كلهم.
فقال عروة: أبيت اللعن، أكلب خليع يجيرها لك؟ يريد البراض، أنا أجيرها على أهل الشيح والقيصوم «2» من أهل نجد وتهامة، فقال البرّاض:
أتجيرها على كنانة يا عروة؟ قال: نعم، وعلى الناس كلهم!!
فأحفظ ذلك البرّاض، فتربّص بعروة حتى إذا خرج بالتجارة قتله غدرا وأخذ القافلة، وكانت قريش بعكاظ، فأتاهم ات فأخبرهم بما كان من البرّاض، فارتحلوا وهوازن لا تشعر بهم، فلما بلغ هوازن قتل عروة اتّبعت قريشا فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم، فاقتتلوا حتى لاذت قريش بالحرم، فتواعدوا العام المقبل بعكاظ، وقد دامت هذه الحرب أربع سنوات حتى ألهم الله سبحانه أحد عقلاء الفريقين فدعا إلى الصلح، فاستجابوا له بعد أن أنهكتهم الحرب على
__________
(1) بكسر الفاء على وزن قتال سميت كذلك لوقوعها في الأشهر الحرم التي حرم الله فيها القتال.
(2) نبتان من نبات البادية والمراد على أهل البادية كلهم.(1/212)
أن يدفع من كان أقل قتلى دية من زاد من القتلى، فدفعت قريش لهوازن دية عشرين رجلا.
وقد حضر النبي هذه الحرب مع أعمامه، قيل: كان يرمي معهم، وقيل كان ينبل لهم «1» ، ولمّا ذكر هذا اليوم بعد النبوة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «قد حضرته مع عمومتي، ورميت فيه بأسهم، وما أحب أني لم أكن فعلت» «2» .
حلف الفضول
وكان حلف الفضول بعد حرب الفجار بأربعة أشهر، وكان أكرم حلف وأفضله في العرب في الجاهلية، وسببه أن رجلا من قبيلة (زبيد) باليمن قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي وأبى أن يعطيه حقه، فاستعدى عليه الزّبيدي الأحلاف: عبد الدار، ومخزوما، وجمحا، وسهما، وعديّ بن كعب، فأبوا أن يعينوه على العاص بن وائل وانتهروه، فلما رأى الزبيدي الشر صعد على جبل أبي قبيس عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فاستصرخهم لرد ظلامته قائلا:
يا ال فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر
إنّ الحرام لمن تمت كرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
فقام الزبير بن عبد المطلب فقال: ما لهذا مترك. فاجتمعت بنو هاشم، وزهرة، وبنو تيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعاما، وتحالفوا في شهر حرام، وهو ذو القعدة، فتعاقدوا وتحالفوا بالله ليكوننّ يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يرد إليه حقه ما بلّ بحر صوفة، وما بقي جبلا ثبير وحراء مكانهما «3» .
فسمّت قريش هذا الحلف «حلف الفضول» وقالوا: لقد دخل هؤلاء في
__________
(1) يجمع السهام التي ترمى بها هوازن ويناولها لأعمامه.
(2) الطبقات الكبرى، ج 1 ص 128.
(3) الكلمتان كنايتان عن التأبيد.(1/213)
فضل من الأمر، ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، فدفعوها إليه. وقيل: إنما سمي حلف الفضول لأنه أشبه حلفا تحالفته جرهم على هذا: من نصر المظلوم وردع الظالم، وكان دعي إليه ثلاثة من أشرافهم اسم كل واحد منهم (فضل) وهم: الفضل بن فضالة، والفضل بن وداعة، والفضل بن الحارث فيما قال ابن قتيبة، وقال غيره: الفضل بن شراعة والفضل بن بضاعة، والفضل بن قضاعة، وفي هذا الحلف قال الزبير بن عبد المطلب:
إن الفضول تعاقدوا، وتحالفوا ... ألّا يقيم ببطن مكة ظالم
أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا ... فالجار والمعتر «1» فيهم سالم
وقد حضر النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا الحلف الذي رفعوا به منار الحق، وهدموا صرح الظلم، وهو يعتبر من مفاخر العرب وعرفانهم لحقوق الإنسان، وقد روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لقد شهدت بدار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحبّ أن لي به حمر النّعم، ولو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت» .
تجارة النبي لخديجة في مالها
كانت خديجة- رضي الله عنها- سيدة تاجرة ذات شرف، ومال، وتجارة تبعث بها إلى الشام. وكانت تستأجر الرجال، وتدفع إليهم المال مضاربة «2» . وكانت قريش قوما تجّارا، ومن لم يكن تاجرا فليس عندهم بشيء.
وكان النبي قد ناهز العشرين من عمره المبارك، وأصبح شابا جلدا قويا، أعز الطالع، ميمون النقيبة، يزين شبابه الغض ما يتمتاع به من حلو الشمائل، وكرم الأخلاق: من أمانة، وصدق حديث، وعفة، وعزوف عما ينغمس فيه أمثاله من الشباب من لهو ومجون، فكان ذلك مما وجّه نفس السيدة خديجة إلى أن يعمل لها في تجارتها، فأرسلت إليه، فلما جاء إليها قالت له: دعاني إلى طلبك
__________
(1) المعتر: الزائر من غير البلاد.
(2) يعني يعملون لها في التجارة ولهم نصيب من الربح.(1/214)
ما بلغني من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك، فذكر ذلك لعمه أبي طالب، فقال له: إن هذا لرزق ساقه الله إليك.
وفي رواية أخرى أن أبا طالب هو الذي عرض على النبي أن يعمل لها في تجارتها، وأنها- ولا شك- ستفضله على غيره، وأن أبا طالب هو الذي سعى إليها، وقال لها: هل لك يا خديجة أن تستأجري محمدا؟ فقد بلغنا أنك استأجرت فلانا ببكرين، ولن نرضى لمحمد إلا بأربعة أبكار، فقالت هذه الكلمة التي تنم عن تقدير صادق، وحس مرهف، وشعور يفيض بالحب والحنان: لو طلبت هذا لبغيض بعيد لأجبتك، فكيف، وقد طلبته لحبيب قريب!!
فرجع الشيخ أبو طالب مغتبطا، وحدّث ابن أخيه بما سمع، ولا تسل عما كان لهذه الكلمات الصادقة من أثر في نفس النبي الشاب.
الخروج بالتجارة
ثم خرج النبي بتجارة خديجة إلى الشام وكانت سنّه تخطو إلى الخامسة والعشرين، وكان خروجه لأربع عشرة ليلة من ذي الحجة ومعه غلام خديجة (ميسرة) ، حتى وصل سوق (بصرى) في رواية، وسوق حباشة «1» في رواية أخرى بتهامة، فنزل تحت ظل شجرة في سوق بصرى قريبا من صومعة راهب يسمى (نسطورا) «2» فقال: يا ميسرة من هذا الذي نزل تحت هذه الشجرة؟
فقال: رجل من قريش من أهل الحرم، فقال الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة- وفي رواية بعد عيسى- إلا نبيّ!!.
ولا تسل عما غمر نفس ميسرة من حب، وتقدير، وإكبار لسيده محمد، لقد رأى تظليل الغمام له في مسيره هذا، ولمس عن كثب الكثير من أخلاقه،
__________
(1) بضم الحاء المهملة، وفتح الباء المواحدة، فألف، فشين معجمة، فتاء تأنيث، قال في الروض الأنف: سوق من أسواق العرب.
(2) بفتح النون وسكون السين، وضم الطاء وألف مقصورة.(1/215)
وبره، وعطفه، وحسن معاملته، وأمانته، وسمع من نسطورا ما سمع، فلا عجب إذا كان حدّث سيدته بعد عودته بما رأى وما سمع، وما وجده منه من حسن الخلق.
وباع النبي التجارة وابتاع، وعاد بربح وفير، وعاد معه غلام خديجة، ووصل الركب في الظهيرة إلى مكة، وخديجة في علّيّة لها «1» ، فرأت النبي تكسوه المهابة والجلال، فلما دخل عليها أخبرها بخبر التجارة وما ربحت، فسرت لذلك سرورا عظيما، وخرج النبي، وترك ميسرة يقص على سيدته من شأن سيده محمد ما شاءت له نفسه أن يقص.
افتراءات المستشرقين ودسهم
قد سمعت انفا ما قاله الراهب (نسطورا) في شأن النبي، وما قاله من قبل (بحيرى) لعمه أبي طالب، ولم تذكر الروايات الموثوق بها شيئا غير هذا، ولكن قد جرى بعض كتّاب السيرة من المستشرقين أو إن شئت فقل المبشّرين ومتابعيهم من الكتاب المسلمين أن يحمّلوا الروايات ما لا تتحمل، وأن يدسوا السم في الدسم، وأن يطلقوا لخيالهم الجامح العنان، كأنما يؤلفون رواية مسرحية، لا أعظم سيرة لنبي، توفر لها من دواعي الصدق، والثبوت، وتحرّي الحقيقة ما لم تحظ به سيرة في الدنيا!!.
فزعموا أن النبي قابل في هاتين الرحلتين: رحلته مع عمه، ورحلته لخديجة بعض الرهبان وأخذ عنهم، وأنهم جادلوه، وجادلهم في أمر عيسى وأمر غيره، وغرضهم بهذا أن يلقوا في أوهام بعض القارئين أن النبي استفاد من هؤلاء، وانطبعت في ذهنه معارفهم، ثم فاض ذلك على لسانه فيما جاء به من قران، كي يصلوا إلى أن القران من عند النبي، وأن ما زعمه وحيا هو أمر نابع من نفسه، على ما يرون من فكرة الوحي النفسي «2» .
وإذا جاز هذا التجني والدس من المبشرين والمستشرقين استجابة
__________
(1) غرفة عالية. وهي بكسر العين- والضم لغة- وكسر اللام المشددة وفتح الياء المشددة.
(2) سنعرض لإبطالها عند الحديث عن الوحي.(1/216)
لعصبيتهم، وما رضعوه في ألبان أمهاتهم من صليبيتهم، فما كان ينبغي ولا يجوز أن يقلدهم في هذا بعض الكتاب المعاصرين من المسلمين!!.
وإليك ما ذكره الدكتور هيكل في كتابه: «خرج محمد مع ميسرة غلام خديجة بعد أن أوصاه أعمامه به، وانطلقت القافلة في طريق الصحراء إلى الشام مارة بوادي القرى، ومدين، وديار ثمود، وبتلك البقاع التي مر بها مع أبي طالب، وهو في الثانية عشرة من عمره، فأحيت هذه الرحلة في نفسه ذكريات الرحلة الأولى، كما زادته تأملا وتفكيرا في كل ما رأى وسمع من قبل سفره بالشام، أو بالأسواق المحيطة بمكة، فلما بلغ (بصرى) اتصل بنصرانية الشام، وتحدّث إلى رهبانها وأحبارها، وتحدّث إليه راهب نسطورا وسمع منه، ولعله أو لعل غيره من الرهبان قد جادل محمدا في دين عيسى، هذا الدين الذي انقسم يومئذ شيعا وأحزابا كما بسطنا من قبل» «1» .
وهذا الكلام الذي ذكره هيكل الباحث المسلم، وهذه الفروض والتخمينات قد اتبع فيها (در منغم) حذو النعل بالنعل «2» ، ولا أدري كيف غاب عنه أن مدين ليست في طريق الشام؟؟ ثم من هم نصارى الشام الذين تحدث إلى رهبانهم وأحبارهم؟ كنا نحب منه أن يؤيد ما يقول ويذكر لنا غير من جاءت بهم الرواية من (بحيرى) و (نسطورا) ، وما القيامة العلمية لكلمة «لعل» و «الفروض» في مثل هذا البحث الذي يتصل بحياة أعظم إنسان عرفته الدنيا؟! ثم من قال: إن النبي كان عنده علم بمذاهب أهل الكتاب وعقائدهم قبل النبوة؟.
ولو أن النبي أخذ عنهم، واستفاد منهم كما زعموا لردّوا عليه حينما عرض في صراحة لبطلان عقائدهم، وفساد مذاهبهم، ولقالوا له نحن الذين علمناك، فكيف تجحد فضلنا، وتطعن في ديننا؟.
ولا ندري أنصدق (درمنغم) ومتابعيه أم نصدق الحق تبارك وتعالى حيث قال:
__________
(1) حياة محمد، لهيكل، ص 113، 114.
(2) حياة محمد، لدر منغم، ص 125، 126.(1/217)
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً «1» مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) «2» ؟!.
ثم أي نصارى الذين أخذ عنهم النبي؟ النصارى المحرّفون؟! أم النصارى المخرّفون؟! وإليك صورة للنصرانية في هذا العهد بشهادة النصارى أنفسهم، يقول مولانا محمد علي: «ولكن كيف كانت حالة النصرانية في ذلك العهد؟ فلنرجع إلى شهادات الكتّاب النصارى أنفسهم في هذا الموضوع، فقد رسم أحد الأساقفة صورة لتلك الأيام فقال: إن المملكة الإلهية كانت في اضطراب كلي، بل إن حالة جهنمية حقيقية كانت قد أقيمت على سطح الأرض نتيجة للفساد الداخلي، وقد عالج السير (وليم موير) هذا الموضوع فانتهى إلى النتيجة نفسها قال: «وفوق هذا فقد كانت نصرانية القرن السابع نفسها متداعية فاسدة، كانت معطلة بعدد من الهرطقات المتنازعة، وكانت قد استبدلت بإيمان العصور الأولى السمح صغارات الخرافة وصبياناتها» .
تلك صورة للنصرانية تمثل وضعها العام انذاك، كانت واحدة الذات الإلهية قد احتجبت منذ عهد بعيد، وكانت عقيدة التثليث قد أدت إلى نشوء تعقيدات متعددة، وتنافست الفرق والهرطقات المختلفة في قدح زناد الفكر لتفسير هذه العقيدة، وأدى ذلك إلى إنشاء جمهرة من المؤلفات أبعدت الإنسان عن هدف الدين الحقيقي» «3» .
يتبين لك أيها القارىء المنصف أن ما ذكروه لا بد وأن يكون ظنونا وتخمينات، وليس من البحث العلمي الصحيح في شيء.
__________
(1) أي حياة لأنه تحيى به القلوب، وتصلح به النفوس.
(2) الايتان 52، 53 من سورة الشورى.
(3) حياة محمد ورسالته، ص 10، 21.(1/218)
الفصل الرّابع زواج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بخديجة
حدثناك انفا عن سفر النبي بتجارة السيدة خديجة، وصحبته غلامها ميسرة، وطبعي أن ميسرة حدثها بكل ما رأى وما سمع، وكانت خديجة ابنة عم ورقة بن نوفل، وكان عنده علم بالكتب السابقة، فحدثته بما حدثها به غلامها، فقال لها: «إن كان هذا حقا يا خديجة فإن محمدا نبيّ هذه الأمة» !!.
ورجعت بها الذاكرة إلى حادثة تركت في نفسها أثرا، فقد روى ابن إسحاق أنها كانت بين لداتها القرشيات يوم عيد، فجاءهن يهودي، فقال:
يا معشر نساء قريش، إنه يوشك فيكن نبيّ قرب وجوده، فأيتكن استطاعت أن تكون فراشا له فلتفعل، فحصبه النساء، وأغلظن له، وعضّت خديجة على قوله، ووقع في نفسها ذلك، وكان لهذا وذلك أثره البالغ في نفس خديجة. وهفا القلب العفيف الطاهر إلى الشاب الأمين المأمون، ولكن ماذا تفعل؟ أتعرض نفسها عليه؟ أم ترسل له من تتحسس الأمر وتتعرف رغبته؟.
هنا تختلف الرواية، فمن قائل «1» : أنها أرسلت إليه، وقالت له: يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك «2» في قومك، وأمانتك، وحسن
__________
(1) هي رواية ابن إسحاق.
(2) شرفك.(1/219)
خلقك، ومن قائل «1» : إنها أرسلت إليه نفيسة بنت منية «2» ولعل هذا هو الأقرب، وسأدع نفيسة تقص علينا القصة قالت:
كانت خديجة امرأة حازمة جلدة شريفة، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالا، وكلّ قومها كان حريصا على نكاحها لو قدر على ذلك. قد طلبوها، وبذلوا لها الأموال، فأرسلتني دسيسا إلى محمد بعد أن رجع في عيرها من الشام، فقلت:
يا محمد ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: «ما بيدي ما أتزوج به» ، قالت: فإن كفيت ذلك، ودعيت إلى المال، والجمال، والشرف، والكفاءة، ألا تجيب؟ قال: «فمن هي» ؟ قالت: قلت: خديجة، قال: «وكيف لي بذلك؟» ، قالت: قلت: علي، قال: «فأنا أفعل» ، فأعلمت خديجة أهلها، فوجدت منهم قبولا وترحيبا، وحدّدت للنبي وأهله موعدا يحضرون فيه، وذكر النبي ذلك لأعمامه، فخرج معه عمّاه: أبو طالب، وحمزة حتى جاؤوا بيت خديجة، فوجدوا عندها عمها عمرو بن أسد حاضرا، فخطبها منه أبو طالب لابن أخيه محمد، فوافق ورحّب وقال: هذا الفحل لا يقدع أنفه «3» ، وخطب أبو طالب خطبة الإملاك «4» ، وهي تنم عن فضائل النبي وخصائصه، وشرفه، وشرف ابائه، وهي قطعة من بليغ الكلام، وفصيح القول.
وهذا الذي ذكرناه من أن الذي ولي تزويجها هو عمها هو الذي عليه أكثر علماء السير، وهو الصحيح كما قال السهيلي، فإن أباها كان قد مات قبل ذلك.
__________
(1) هي رواية ابن سعد عن الواقدي.
(2) نفيسة: بضم النون، وفتح الفاء على صورة المصغر. ومنية بضم الميم، وسكون النون، وفتح الياء المثناة، نسبة إلى أمها، وفي بعض الكتاب: بنت أمية وهو أبوها، وهي أخت يعلى الصحابي المشهور.
(3) مثل يضرب للكفء الكريم، وأصل المثل: أن العرب كانوا إذا وجدوا الفحل- الذكر من الإبل- غير كريم ضربوا أنفه ومنعوه عن الناقة، فإن كان كريما تركوه فذهب مثلا في العرب.
(4) إعلان الزواج.(1/220)
قال الواقدي: الثّبت عندنا المحفوظ عن أهل العلم أن أباها مات قبل حرب الفجار، وأن عمها عمرو بن أسد هو الذي زوجها لمزيد حفظ الثبت وهو الزّهري، خصوصا وقد رواه عن صحابي من السابقين «1» ، وكذلك ذكر الطبري- وهو من ثقات المؤرخين- أن عمها عمرا هو الذي أنكحها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن خويلدا مات قبل الفجار «2» ، ويرى ابن إسحاق أن أباها هو الذي زوجها وهو رأي ضعيف.
بطلان بعض المرويات
ومن ثمّ يتبين لنا تهافت ما روي أن أباها امتنع من تزويجها، وأنهم سقوه الخمر حتى ثمل فرضي، وأنهم ألبسوه المزعفر، فلما صحا من سكره أخبروه فأنكر عليهم ذلك، فما زالت به خديجة حتى رضي، وهي رواية باطلة مدسوسة لمخالفتها للنقل الصحيح على ما ذكرنا.
ثم هي مخالفة للواقع، وللظروف، والبيئة، فبنو هاشم في الذروة من قريش نسبا وشرفا، وقد صدع بها أبو طالب في مجمع حافل بالسادات فما نازعه فيها منازع، ثم إن مثل النبي في شبابه الغض، ورجولته النادرة، وخلقه الكامل ممّن تطّاول إلى مصاهرته أعناق الأشراف، وهذا أبو سفيان بن حرب وهو من هو في عداوته للنبي وبني هاشم، لما بلغه أن النبي تزوج السيدة أم حبيبة ابنته، ولم يكن أسلم بعد قال: «هذا الفحل لا يقدع أنفه» .
دسّ المستشرقين
ومن العجيب حقا أن رجلا مثل (درمنغم) لم يذكر في كتابه غير هذه الرواية المتهافتة، وقدّم لذلك بكلام يشعر أن النبي في منزلة دون منزلة خديجة، وأن عشيرته دون عشيرة بني مخزوم (كذا) ، وجعل النبي أجيرا لخديجة فلا يليق أن يكون زوجا، إلى اخر ما تخيل من تخيلات، وافترض من ترّهات «3» ، مع أنه
__________
(1) شرح المواهب، ج 1.
(2) تاريخ الطبري، ج 1.
(3) حياة محمد، لدر منغم، ص 68.(1/221)
أنحى باللائمة في مقدمة كتابه على المتعصبين والمتغالين في نقد النبي، حتى كانت كتبهم عامل هدم، على الخصوص وأنه سلك مسلكا وسطا بين المتقدمين، ومغالاة بعض المستشرقين المغالين في النقد، وأنه سيعول في كتابه على المصادر القديمة والنقد الحديث «1» ، وقد وقع فيما اخذ غيره عليه، وهل من التعويل على المصادر القديمة ذكر الضعيف المتهافت، وترك الصحيح؟! وهل من النقد الحديث تجاهل البيئة والظروف والأعراف التي كانت سائدة وتجاهل الواقع الملموس؟ الحق أن المستشرقين مهما ادّعوا الأنصاف فكتاباتهم تنقض ما يدّعون.
خطبة أبي طالب
قال: «الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضىء معدّ، وعنصر مضر «2» ، وجعلنا حضنة بيته «3» ، وسوّاس حرمه «4» ، وجعل لنا بيتا محجوجا، وحرما امنا، وجعلنا الحكّام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل من قريش شرفا ونبلا وفضلا إلّا رجح به، وهو وإن كان في المال قل «5» ، فإن المال ظل زائل «6» ، وأمر حائل «7» ، وعارية «8» مسترجعة، ومحمد من عرفتم قرابته، وهو- والله- بعد هذا له نبأ «9» عظيم، وخطر جليل جسيم «10» ، وله في خديجة بنت خويلد رغبة،
__________
(1) المرجع السابق، ص 8.
(2) ضئضىء: أصل، وكذلك معنى عنصر. وغاير للتفنن والإضافة بيانية أي أصل هو معد، ومضر، وخصهما لشرفهما وشهرتهما، وقيل: الضئضىء: المعدن.
(3) المنافحين عنه.
(4) القائمين على شؤونه.
(5) بضم القاف أي قلة.
(6) سريع الزوال.
(7) لا بقاء له.
(8) عند هذا يوما، وعند الاخر يوما اخر.
(9) نبأ: خبر، وهي النبوة.
(10) أثر جليل كبير، وهذا ما كان فقد كون أمة مثالية، وصنع التاريخ من جديد.(1/222)
ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق «1» فعلي» .
وقد أمهرها أبو طالب اثنتي عشرة أوقية ونشّا «2» ، يعني خمسمائة درهم، وأصدقها رسول الله زيادة على ذلك عشرين بكرة.
الوليمة والعرس
وبنى النبي بخديجة، وأولم عليها: نحر جزورا أو جزورين، وأطعم الناس، وأمرت خديجة جواريها أن يغنّين، ويضربن بالدفوف، فقد بلغت مناها، وتم الفرح والسرور، ولله در البوصيري حيث قال:
ورأته خديجة والتقى والزه ... د فيه سجية والحياء
وأتاها أنّ الغمامة والسّرح «3» ... أظلته منهما أفياء
وأحاديث أن وعد رسول اللّ ... هـ بالبعث حان منه الوفاء
فدعته إلى الزواج وما ... أحسن أن يبلغ المنى الأذكياء
وكان عمر النبي حينئذ خمسا وعشرين سنة، وكان عمرها أربعين أو تزيد قليلا، ونعمت خديجة بالزواج الذي لم تعرف له الدنيا مثيلا في تاريخ الأزواج، ونعم النبي بهذا الزواج الميمون المبارك، فقد كانت خديجة حازمة، عاقلة، طاهرة، عروبا لزوجها، وواست النبي بالنفس والمال، ورزقه الله سبحانه وتعالى منها البنين والبنات، فولدت له: القاسم وبه كان يكنى، وعبد الله «4» ، وقيل: ثلاثة بزيادة الطيب، وقيل: أربعة بزيادة الطاهر. وولدت له زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة- رضي الله عنهن. أما الذكور فقد ماتوا في الجاهلية صغارا، وأما الإناث فقد عشن حتى تزوجن، وكلهن متن في حياة النبي ما عدا فاطمة فقد توفيت بعده بستة أشهر، ومن ثمّ نرى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذاق مرارة فقد الأبناء، كما ذاق من قبل مرارة فقد الأبوين.
__________
(1) المهر.
(2) نصف أوقية من فضة والأوقية: أربعون درهما.
(3) السرح: الشجرة التي صارت أغصانها تتدلّى عليه.
(4) كان يلقب بالطيب والطاهر عند من يقول كان الذكور اثنين.(1/223)
وقد شاء الله- وله الحكمة البالغة- ألايعيش له صلّى الله عليه وسلّم أحد من الذكور حتى لا يكون ذلك مدعاة لافتتان بعض الناس بهم، وادّعائهم لهم النبوة، فأعطاه الذكور تكميلا لفطرته البشرية وقضاء لحاجات النفس الإنسانية، ولئلا يتنقّص النبي في كمال رجولته شانىء، أو يتقوّل عليه متقول، ثم أخذهم في الصغر، وأيضا ليكون في ذلك عزاء وسلوى للذين لا يرزقون البنين، أو يرزقونهم ثم يموتون، كما أنه لون من ألوان الابتلاء، وأشد الناس بلاء الأنبياء، فالأمثل فالأمثل، وقد كان مما نبزه به سفهاء المشركين، أنهم قالوا فيه:
إنه أبتر أي لا عقب له.
خديجة قبل النبي
وكانت السيدة خديجة تدعى في الجاهلية الطاهرة لشدة عفافها وصيانتها وشرفها وكمالها، وقد تزوجها وهي بكر أبو هالة «1» بن زرارة التميمي فولدت له هندا «2» ، وقد أسلم وحسن إسلامه، وهو راوي حديث صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم، شهد بدرا وقيل وأحدا، وروى عنه الحسن بن علي فقال: حدثني خالي، لأنه أخو فاطمة لأمها، وكان- رضي الله عنه- فصيحا، بليغا، وصّافا، وكان يقول: «أنا أكرم الناس أبا، وأما، وأخا، وأختا: أبي رسول الله صلّى الله عليه وسلم «3» ، وأمي خديجة، وأخي القاسم، وأختي فاطمة» قتل مع علي يوم الجمل.
وولدت له هالة «4» ، قال ابن عبد البر: له صحبة، وروي عن عائشة قالت: قدم ابن لخديجة يقال له هالة والنبي صلّى الله عليه وسلّم قائل، فسمعه فقال: «هالة، هالة، هالة» !! وروى الطبراني بسنده عن هالة بن أبي هالة أنه دخل على
__________
(1) قيل: اسمه مالك، وقيل: زرارة، وقيل: هند.
(2) اسم رجل.
(3) هو ربيب رسول الله، ولكنه جعله أبا له لحسن رعايته، وكريم معاملته، فوجد فيه عوضا عن الأب ولأن رسول الله أبو المؤمنين.
(4) اسم رجل وقد وهم من جعله أنثى.(1/224)
النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو راقد، فاستيقظ فضم هالة إلى صدره وقال: «هالة، هالة، هالة» .
ثم بعد وفاة أبي هالة تزوجها عتيق بن عابد «1» بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم المخزومي، فولدت له هندا وهي أنثى، أسلمت وصحبت النبي، ولم ترو شيئا. قاله الدارقطني، وهي أم محمد بن صيفي المخزومي، ويقال لولد محمد هذا بنو الطاهرة، لمكان خديجة «2» .
__________
(1) بالعين المهملة، والباء المواحدة، والدال المهملة كما في الإكمال وغيره وهو الصواب ووقع في جامع ابن الأثير بالتحتانية، والذال المعجمة وهو غير صحيح.
(2) هذا الذي اخترناه هو ما عليه الأكثر كما ذكر ابن عبد البر، وقال اخرون: تزوجها أولا عتيق بن عابد، ثم خلفه عليها أبو هالة، ثم أبو وهب بن عمرو المخزومي.(1/225)
الفصل الخامس تجديد قريش بنيان الكعبة
ولما بلغ صلّى الله عليه وسلّم خمسا وثلاثين سنة جاء سيل عارم فصدع جدران الكعبة، وأوهن أساسها، وكان قد أصابها من قبل حريق بسبب امرأة كانت تجمّرها، فأرادت قريش هدمها، ولكنهم تهيّبوا ذلك لمكانتها في قلوبهم، وخوفهم أن يصيبهم الأذى، فقال لهم الوليد بن المغيرة: أتريدون بهدمها الإصلاح أم الإساءة؟ قالوا: بل الإصلاح، فقال: إن الله لا يهلك المصلحين، وأخذ المعول، وشرع يهدم، وتربص الناس تلك الليلة وقالوا: ننتظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء هدمنا، فقد رضي الله ما صنعنا.
فأصبح الوليد من ليلته عائدا إلى عمله، فهدم، وهدم الناس معه، حتى إذا انتهوا إلى أساس إبراهيم- عليه السلام- أفضوا إلى حجارة خضر اخذ بعضها ببعض، فتركوا الأساس كما هو، وشرعوا في البناء، واتفقوا فيما بينهم بمشورة أحد أشرافهم ألايدخلوا في بنائها من كسبهم إلا طيبا، لا يدخل فيه مهر بغيّ «1» ، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس «2» .
وقد تجزّأت قريش الكعبة، فكان جانب الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود واليماني لبني مخزوم، وقبائل من قريش انضموا
__________
(1) أجر بغي، وهي المستعلنة بالزنا.
(2) هذا يدل على أن العرب كان الكثيرون منهم يتحرون المكاسب الحلال وأن الربا كان طارئا عليهم من اليهود.(1/227)
إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جمح، وسهم، وكان جانب الحجر لبني عبد الدار، ولبني أسد بن عبد العزّى، ولبني عدي.
وقد شارك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعمامه في البناء، ونقل الحجارة. روى الشيخان في صحيحيهما عن جابر قال: «لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلّى الله عليه وسلّم والعباس ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبي: اجعل إزارك على رقبتك يقك الحجارة، ففعل، فخرّ إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء، ثم أفاق فقال:
«إزاري إزاري» فشدّ عليه إزاره فما رؤي بعد ذلك عريانا» «1» .
وكان الذي يلي البناء رجل رومي يسمّى «باقوم» يقال: إنه كان في سفينة محملة بالخشب قاصدة اليمن لترميم كنيسة «القليس» ، ولما كانت السفينة قبالة مكة هبّ عليها إعصار فدمرها، فقصدت قريش إلى ساحل البحر، فاشتروا بقايا السفينة وما كان فيها، واستصحبوا معهم باقوم، وهكذا أراد الله سبحانه أن تستعمل الأخشاب التي أرسلت للكنيسة في بناء الكعبة بيت الله الحرام!!
ولما وصلوا في البناء إلى موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يضعه؟ فكل قبيلة تريد أن تحظى بهذا الشرف حتى كادت الحرب تقع بينهم، وقرّب بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسمّوا (لعقة الدم) ، واستمروا على ذلك أربع ليال أو خمسا.
عرض لحل المشكلة
ثم ألهم الله سبحانه أحد عقلائهم وهو أبو أمية بن المغيرة المخزومي، والد السيدة أم سلمة، وكان عائذ أسن رجل في قريش، فقال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد «2» ، فرضوا وقبلوا، فأشخصوا أبصارهم إلى باب المسجد، واشرأبت الأعناق إلى من يا ترى
__________
(1) يعني كاشفا عورته غير المغلظة كالفخذ مثلا.
(2) هو باب بني شيبة وهو يعرف اليوم بباب السلام.(1/228)
يكون هذا الداخل، فإذا به الأمين محمد أرسلته العناية الإلهية ليخلص العرب من هذا الشر المستطير، فلما رأوه قالوا: «هذا الأمين رضيناه، هذا محمد!!» .
العقل الكبير
فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، فكّر وقدّر، ولم يلبث أن تفتّق العقل الكبير- عقل النبي- عن هذا الحل البارع حقا، فبسط رداءه، ثم أخذ الحجر ووضعه عليه، ثم قال: «لتأخذ كل قبيلة بطرف» ثم أمرهم برفعه، فرفعوه جميعا حتى وصلوا إلى مستوى وضعه، فأخذه بيده المباركة، ووضعه موضعه، وبنى عليه، وبهذا وقى الله قريشا شر حرب ربما أفنتهم، وقد ازداد النبي بهذا منزلة فوق منزلته، وقدرا إلى قدر، وأصبح أحدوثة العرب في كل ناد ومجلس.
ضيق النفقة بقريش
وكانت النفقة الطيبة قد ضاقت بقريش عن إتمام البيت على قواعد إبراهيم، فاضطروا إلى أن اقتطعوا منه قطعة من جهته الشمالية، وبنوا على هذا الجزء الذي احتجزوه جدارا قصيرا للإعلام أنه من البيت وهو ما يعرف (بالحجر) «1» . وفي صحيح البخاري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة: «لولا أنّ قومك حديثو عهد بالكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم» .
وكان الكعبة ارتفاعها تسعة أذرع على عهد إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- وكان لها بابان: باب شرقي وباب غربي ليدخل الداخل من باب، ويخرج من الاخر، فلما بنتها قريش زادوا في ارتفاعها تسعة أذرع أخرى، واقتصروا على باب واحد، ورفعوا بابها عن الأرض، فصار لا يصعد إليها إلا على درج أو سلّم ليدخلوا من يشاؤون، ويمنعوا من يشاؤون، ونقصوا من طولها مقدار الحجر.
__________
(1) وهو من البيت ولذلك لا يصح الطواف إلا من وراء الجدار القصير، والحجر بكسر الحاء وسكون الجيم، سمي بذلك لأنه حجر، أي اقتطع من الكعبة.(1/229)
عمارة ابن الزبير
وقد استمرت الكعبة على هذا حتى كان عهد عبد الله بن الزبير، وحوصر من قبل يزيد بن معاوية، وأصيبت الكعبة بسبب الرمي بالمنجنيق، فهدمها ابن الزبير في مدة خلافته، وبناها على قواعد إبراهيم، وجعل ارتفاعها على ما هي عليه الان وهو سبع وعشرون ذراعا، وأدخل الحجر في البيت، وجعل لها بابا غربيا.
إعادة الحجاج لها على ما كانت في عهد قريش
فلما قتل عبد الله بن الزبير، واستتب الأمر لبني أمية، وكان عهد عبد الملك بن مروان، شاور الحجاج عبد الملك في نقض ما فعله ابن الزبير، فكتب إليه: أمّا ما زاده في طولها «1» فأبقه، وأما ما زاده في الحجر فردّه إلى بنائه «2» ، وسدّ بابه الذي فتحه، ففعل ذلك، رواه مسلم في صحيحه عن عطاء. وذكر الفاكهي أن عبد الملك ندم على إذنه للحجّاج في هدمها، ولعن الحجّاج، وفي صحيح مسلم نحوه من وجه اخر وبذلك أعاد الحجاج الكعبة إلى ما كانت عليه في عهد قريش والنبي، واستمر إلى وقتنا هذا.
محاولة لبني العباس
وقد أراد الرشيد أو أبوه أن يعيد البيت على ما كان عليه في عهد ابن الزبير، فناشده الإمام مالك أن يكف عن ذلك، وقال له: أخشى أن يصير البيت ملعبة للملوك، ولم يحدث تغيير شيء مما كان في عهد عبد الملك بن مروان إلا في الميزاب «3» ، والباب، وعتبته، وكذلك وقع الترميم في الجدران والسقف، وسلم السطح غير مرة، وجدد فيها الرخام، وقد قيل: إن أول من فرشها بالرخام الوليد بن عبد الملك، وسيبقى البيت محفوظا بعناية الله إلى ما شاء الله.
__________
(1) يعني ارتفاعها.
(2) يعني الأول قبل الزيادة.
(3) الميزاب: ما ينزل منه ماء المطر من على ظهر الكعبة، وهو يصب في الحجر، وميزاب الكعبة من الذهب، وهو يزن قرابة قنطار.(1/230)
كفالة النبي لعلي
كان من نعمة الله على علي بن أبي طالب، وما أراده الله له من الخير أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، ولم يكن على ثراء من المال، وإن كان ذا ثراء من الشرف والمكانة في قريش، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للعباس عمه- وكان من أيسر بني هاشم-:
«يا عم إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه، فلنخفف عنه من عياله، اخذ من بنيه واحدا، وتأخذ أنت واحدا» ، فقال العباس: نعم.
فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا له: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلا، فاصنعا ما شئتما، فأخذ النبي عليا، فضمّه إليه، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه، فلم يزل علي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بعثه الله، فكان من أوائل من امن به وصدق، بل قيل: إنه أول من أسلم، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه.
ولقد كان لنشأة الفتى عليّ في بيت النبوة، وتعهد النبي له بالتربية والرعاية أكبر الأثر فيما كان يتمتاع به من صفاء الروح، وقوة الجنان، وفصاحة اللسان، وبلاغة البيان، وغزارة العلم، والشجاعة والبطولة، إلى غير ذلك من الصفات والاداب.
أحداث في حياة الرسول
وعاش النبي هذه الفترة من حياته قبل النبوة، وهو في طمأنينة وراحة نفسية، وذلك بفضل السيدة الودود الولود خديجة رضي الله عنها، ورزقه الله منها البنين والبنات، لولا ما شاب هذه الفترة من حياتهما من أحداث كان لبعضها وقع أليم في نفس النبي وزوجه.(1/231)
فقد الأبناء
فقد مات ولداه: القاسم، وعبد الله وهما لا يزالان في المهد، وليس من شك في أن فقدهما ترك في نفس النبي وزوجه أسى وحزنا.
زواج البنات
وقد تزوجت كبراهن زينب بابن خالتها أبي العاص بن الربيع من أشراف قريش وكبار تجارها، هذا إلى ما كان يتصف به من كريم الخلال مما حبّبه إلى خالته خديجة، فأشارت على النبي بتزويج زينب منه، وسيأتيك من أخبار هذا الرجل شيء غير قليل.
وأما رقية وأم كلثوم فقد تزوجتا من ابني عمهما: عتبة، وعتيبة ابني أبي لهب، ولم يكونا بالزوجين الكريمين، فقد أمرهما أبوهما أبو لهب بعد أن نبىء النبي بتسريحهما، كي يشغل النبي بمشاكل أسرته عن التفرغ لأداء رسالته، ففارقاهما، على حين أن أبا العاص لما كلمته قريش في تطليق زينب، وتزويجه أي فتاة يريد من بنات قريش أبى، وقال: والله ما أحب أن لي بها امرأة من قريش!! ثم كان من أمر رقية، وأم كلثوم أن تزوجهما ذو النورين عثمان بن عفان واحدة بعد الاخرى، ولم يعرف أن أحدا أرخى ستره على بنتي نبيّ غير عثمان، فمن ثمّ لقب بذي النورين.
وأما فاطمة فلم تكن إلا فتاة صغيرة، فبقيت في بيت أبيها، وشاهدت ما ناله من البلاء والأذى من قريش بعد النبوة، حتى بلغت المحيض، وصارت أهلا للزواج، فتزوج بها فتى الفتيان علي بعد بدر، ورزقها الله منه البنين والبنات، ومن نسلها كانت العترة الطيبة من ال النبي.
تبني زيد بن حارثة
هو زيد بن حارثة، بن شرحبيل، بن كعب، بن عبد العزّى الكلبي، وكان زيد في سفر مع أمه، وهو طفل صغير، فأغار عليهما جماعة من الأعراب، فأسروا زيدا وباعوه، فاشتراه حكيم بن حزام فأهداه إلى عمته السيدة خديجة بعد زواجها من النبي بقليل، وكان عمر زيد إذ ذاك نحو عشرين سنة،(1/232)
فاستوهبه النبي من زوجه خديجة، فوهبته له، فرعاه النبي وأحسن إليه غاية الإحسان، فلما علم أبوه به حضر وبعض أهله إلى مكة، وعرضوا على النبي ما يريد من الفداء، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«أو خير من ذلك» ؟ قالوا: وما هو؟ قال: «خيّروه، فإن اختاركم فهو لكم دون فداء، وإن اختارني فدعوه» ، فخيروه فاختار النبي!! فجذبه عمه وقال له: يا زيد اخترت العبودية على أبيك وعمك؟! فقال: إي والله العبودية عند محمد أحبّ إلي من أن أكون عندكم!! فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ذلك: «يا معشر قريش، اشهدوا أن زيدا ابني يرثني وأرثه» وطاف على حلق قريش يشهداهم على ذلك، فرضي أهله وانصرفوا، ومن ذلك الوقت أصبح يقال له زيد بن محمد حتى أبطل الإسلام التبني، وأمر أن ينسبوا إلى ابائهم فصار يسمّى زيد بن حارثة.
وقد زوّجه النبي من حاضنته أم أيمن. وكانت أكبر منه سنا، فأنجبت أسامة بن زيد: الحب ابن الحب «1» لشدة حب النبي لهما، وكان النبي يسوّي بينه وبين الحسن ابن ابنته فاطمة، فيجلس الحسن على فخذه وأسامة على فخذ اخر، وقد استشهد زيد في غزوة «مؤتة» كما سيأتي.
__________
(1) بكسر الحاء أي المحبوب بن المحبوب.(1/233)
الفصل السّادس حياة النّبيّ عليه السّلام قبل البعثة
كانت حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة حياة فاضلة شريفة، لم تعرف له فيها هفوة، ولم تحص عليه فيها زلّة، لقد شبّ رسول الله يحوطه الله سبحانه وتعالى بعنايته، ويحفظه من أقذار الجاهلية؛ لما يريده له من كرامته ورسالته، حتى صار أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، تنزّها وتكرما حتى صار معروفا «بالأمين» .
لقد كان في المجتمع العربي حنيفيون وحّدوا الله ودعوا إلى توحيده، وكان هناك كرماء، وكان هناك أوفياء، وكان هناك أناس عرفوا بالعفة وطهارة الذيل، والبعد عن الماثم، والتنزّه عن الفواحش، ولكن كان عزيزا جدا أن تجد في هذه البيئة إنسانا جمع الله فيه كل هذه الصفات وغيرها مثل ما جمع الله ذلك في النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
لقد نشأ سليم العقيدة، صادق الإيمان، عميق التفكر، غير خاضع لترّهات الجاهلية، فما عرف عنه أنه سجد لصنم قط، أو تمسح به، أو ذهب إلى عرّاف أو كاهن، بل بغّضت إليه عبادة الأصنام، والتمسح بها، ولما لقي «بحيرى» الراهب قال له: أسألك بحقّ اللّات والعزّى إلّا أخبرتني عما أسألك عنه، وكان بحيرى سمع قومه يحلفون بهما، فقال له النبي: «لا تسألني بحق اللّات والعزّى شيئا، فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما «1» » وروى البيهقي
__________
(1) البداية والنهاية ج 2، ص 284.(1/235)
بسنده عن زيد بن حارثة قال: كان صنم من النحاس يقال له: إساف ونائلة يتمسح بهما المشركون إذا طافوا «1» ، فطاف رسول الله وطفت معه، فلما مررت تمسحت به، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تمسّه» قال زيد: فطفنا فقلت في نفسي:
لأمسّنه حتى أنظر ما يكون، فمسحته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألم تنه» قال زيد:
فو الذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلم صنما قط حتى أكرمه الله تعالى بالذي أكرمه، وأنزل عليه «2» .
وأما ما روي من أنه كان يشهد مع المشركين مشاهداهم، فسمع ملكين خلفه وأحدهما يقول لصاحبه: اذهب بنا حتى نقوم خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال:
كيف نقوم خلفه، وإنما عهده باستلام الأصنام، قال: فلم يعد بعد ذلك يشهد مع المشركين مشاهداهم- فهو حديث منكر واه ساقط عن الاعتبار «3» .
ومثل ذلك ما روي زورا أنه تمسح «بالصفراء» كما ذكر هيكل «4» ، أو أهدى إلى العزّى شاة بيضاء كما زعم «درمنغم» «5» ، إلى غير ذلك من الروايات الباطلة المختلقة التي هي من وضع وتزوير أعداء النبي وأعداء الإسلام، وهي من البلايا والطامات التي اشتملت عليها بعض الكتاب التي لا يعتمد عليها في الرواية، وجاء بعض المستشرقين والذين تابعوهم من الكتاب المسلمين فنقلوها في كتبهم من غير تمحيص، وتحقيق.
وكذلك بغّض إليه قول الشعر فلم يعرف عنه أنه قال شعرا، أو أنشأ قصيدة، أو حاول ذلك، لأن ذلك لا يتلاءم ومقام النبوة، فالشعر شيء، والنبوة شيء اخر، ولم يكن الشعراء بذوي الأخلاق والسير المرضية، فلا عجب أن
__________
(1) يعني حول الكعبة.
(2) البداية والنهاية ج 2، ص 288.
(3) المرجع السابق.
(4) الصفراء: هي صنم.
(5) حياة محمد ص 30.(1/236)
نزّهه الله سبحانه عن الشعر، والرسالة تقتضي انطلاقا في الأسلوب والتعبير، والشعر تقيد والتزام، وصدق الله حيث يقول: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ.
ومع هذا فقد كان يتذوق ما في الشعر من جمال وحكمة وروعة، ويستنشده أصحابه أحيانا، ولا عجب فهو القائل: «إنّ من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكما» رواه البخاري.
ولم يشرب خمرا قط، ولا اقترف فاحشة، ولا انغمس فيما كان ينغمس فيه المجتمع العربي حينئذ من اللهو، واللعب، والميسر «القمار» ، ومصاحبة الأشرار، ومعاشرة القيان، والجري وراء الغيد الكواعب «1» ، على ما كان عليه من فتوة وشباب، وشرف نسب، وعزة قبيلة، وكمال وجمال وغيرها من وسائل الإغراء.
ولقد كان صلّى الله عليه وسلّم يذكر ذلك وهو كبير، ويعدّه من نعم الله عليه، وعصمته له، فقد روي عنه أنه قال: «ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمّون به «2» إلا مرتين، وكلتاهما عصمني الله عز وجل فيهما، قلت ليلة لبعض فتيان قريش، ونحن في رعي غنم أهلها، قلت لصاحبي: أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة، فأسمر «3» فيها كما يسمر الفتيان، فقال: نعم، فدخلت حتى جئت أول دار من مكة، فسمعت عزفا بالغرابيل «4» ، والمزامير، فقلت: ما هذا؟ قالوا: تزوج فلان فلانة، فجلست أنظر، وضرب الله على أذني، فو الله ما أيقظني إلا مسّ الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ قلت: ما فعلت شيئا! ثم أخبرته بالذي رأيت. ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر ففعل، فدخلت، فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة، فسألت،
__________
(1) الغيد الكواعب: البنات الحسان اللاتي في سن البلوغ.
(2) في رواية البيهقي: «يهمون به من النساء إلا ليلتين» والمراد مما يتعلق بالنساء كالعرس، فقد نصت الرواية على ذلك والقصة واحدة. أو لعلها السماع بدل النساء.
(3) أي ألهو كما يلهو الشباب.
(4) الدفوف.(1/237)
فقيل: نكح فلان فلانة، فجلست أنظر، فضرب الله على أذني فو الله ما أيقظني إلا مسّ الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلت: لا شيء، ثم أخبرته الخبر، فو الله ما هممت، ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته» «1» .
حتى الأمور التي قد يتسامح فيها في عهد الطفولة أثناء اللعب قد صانه الله تعالى منها، قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما ذكر لي- يحدّث عما كان الله يحفظه به في صغره أنه قال: «لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب الغلمان، كلنا قد تعرّى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم وأدبر إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة، ثم قال: شدّ عليك إزارك، قال: فأخذته وشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي، وإزاري علي من بين أصحابي» وقد سمعت فيما سبق ما حدث له أثناء نقله الحجارة مع أعمامه في بناء الكعبة.
بل كان من توفيق الله له أنه كان يقف مع الناس بعرفات قبل أن يوحى إليه، ولا يصنع ما تصنع قريش من عدم وقوفها مع الناس بعرفات، ووقوفها بالمزدلفة، فعن جبير بن مطعم قال: «لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن ينزل عليه «2» ، وإنه لواقف على بعير له مع الناس بعرفات حتى يدفع معهم، توفيقا من الله عز وجل له» «3» . رواه أحمد.
وكان النبي محل ثقة الناس وأماناتهم، لا يأتمنه أحد على وديعة من الودائع إلا أدّاها له، ولا يأتمنه أحد على سر أو كلام إلا وجده عند حسن الظن به، فلا عجب أن كان معروفا في قريش قبل النبوة «بالأمين» .
وقد استمرت هذه الثقة إلى ما بعد النبوة، ولذلك لما هاجر صلّى الله عليه وسلّم أبقى عليا
__________
(1) الشفا بحقوق المصطفى ج 1 ص 106؛ والبداية والنهاية ج 2 ص 287.
(2) أي الوحي.
(3) البداية والنهاية ج 2 ص 289.(1/238)
كي يردّ ودائع الناس التي كانت عنده، وكان لا يعاهده أحد عهدا إلا وجد عنده حسن الوفاء، ولا يعد وعدا إلا صدق فيه، وقد روي أنه عاهد رجلا أن يلقاه في مكان كذا، فمكث ثلاثة أيام يذهب إلى هذا المكان، والرجل لا يذهب فقال له: «لقد شققت علي» .
وكان الصدق من صفاته البارزة، شهد له بذلك العدو والصديق، ولما بعثه الله إلى الناس جميعا وأمره أن ينذر عشيرته الأقربين صار ينادي بطون قريش، فلما حضروا قال لهم: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا وراء هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدّقيّ» ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبا قط.
ولما قابل هرقل ملك الروم أبا سفيان بن حرب- وكان لم يزل مشركا- قال له:
هل جرّبتم عليه كذبا؟ قال: لا، قال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس، ويكذب على الله!!
وكان النبي إلى ذلك كله وصولا للرحم، عطوفا على الفقراء وذوي الحاجة، ويقري الضيف، ويعين الضعيف، ويمسح بيديه بؤس البائسين، ويفرّج كرب المكروبين، وقد وصفته بهذا السيدة العاقلة، الحازمة خديجة وهي أعرف الناس به- في بدء النبوة، فقالت: «ما كان الله ليخزيك أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق» «1» !!.
ومن هذا العرض الموجز نرى أن حياة النبي قبل البعثة كانت أمثل حياة وأكرمها، وأحفلها بمعاني الإنسانية والشرف، والكرامة، وعظمة النفس، ثم نبّأه الله وبعثه، فنمت هذه الفضائل وترعرعت، وما زالت تسمو فروعها، وترسخ أصولها، وتتسع أفياؤها حتى أضحت فريدة في تاريخ الحيوات في هذه الدنيا.
إن هذه الحياة الفاضلة المثلى لمن أكبر الدلائل على ثبوت نبوته صلّى الله عليه وسلّم، فما سمعنا في تاريخ الدنيا قديمها وحديثها أن حياة كلها فضل وكمال، وهدى ونور،
__________
(1) صحيح البخاري- باب كيف كان بدء الوحي.(1/239)
وحق وخير، كحياة نبينا محمد، ولم يعهد في تاريخ البشر أن شخصا يسمو على كل مجتمعه وهو يعيش فيه، وينشأ مبرا من كل نقائصه ومثالبه وهو نابع منه!! ولا أن نورا ينبعث من وسط ظلمات، ولا طهارة تنبع من وسط أدناس وأرجاس، ولا أن علما يكون من بين جهالات وخرافات، اللهم إلا إذا كان ذلك لحكمة، وأمرا جرى على غير المعهود والمألوف، وما ذلك إلا لإعداد النبي للنبوة، واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ وصدق الإمام البوصيري حيث يقول:
كفاك بالعلم في الأميّ معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم
لقد قرأنا سير الحكماء، والفلاسفة، والعباقرة والمصلحين، وأصحاب النحل والمذاهب قديما وحديثا، فما وجدنا حياة أحد منهم تخلو من الشذوذ عن الفطرة السليمة، والتفكير الصحيح، والخلق الرضي، إما من ناحية العقيدة والتفكير وإما من ناحية السلوك والأخلاق، وغاية ما يقال في أسماهم وأزكاهم:
كفى المرء نبلا أن تعد معايبه!! حاشا الأنبياء والمرسلين، فقد نشّأهم الله سبحانه على أكمل الأحوال، وعظيم الأخلاق، وقد بلغ الذروة في الكمال خاتمهم وسيد البشر كلهم نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم.(1/240)
الفصل السّابع حالة العالم قبل البعثة
لقد أتى على العالم حين من الدهر فسدت فيه العقائد، وانتشرت الوثنية، وانتكست فيه الأخلاق، وسادت فيه الجهالات والخرافات، وعم التقليد حتى كادت تتعطل فيه ملكة العقل والتفكير، وتغيّرت فيه القيم الخلقية والمعاني الإنسانية، وأهدر فيه الكثير من حقوق الإنسان، وتغلبت فيه قوى الشر والبغي والضلال على دعاة الحق والخير والهدى، وساد العالم ألوان من الترف والإغراق في الملذات والشهوات، سواء في ذلك البيئات المتحضرة أم البدوية.
ذلكم الحين هي الفترة التي سبقت ميلاد نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم وبعثته. فقد كانت أحوال العالم الدينية، والاجتماعية، والأخلاقية، والسياسية على أسوأ ما تكون، حتى إن أعظم المتفائلين كان يشك في أن يكون لهذا الفساد إصلاح!!
الأحوال الدينية
فمن وثنية في شبه الجزيرة العربية وغيرها، إلى عبادة للشمس والكواكب في بلاد سبأ، وبابل، وكلدانيا، وغيرها، ومن مجوسية في بلاد فارس وما جاورها، إلى ثنوية تقول بإله النور وإله الظلمة، إلى صابئة ليس لهم دين، ومن برهمية وعبادة للحيوان ولا سيما البقرة في بلاد الهند وما جاورها، إلى بوذية تقوم على تأليه بوذا وعبادته في بلاد الصين وما جاورها، ومن يهودية محرّفة مبدلة يزعم أهلها أن عزيرا ابن الله، إلى نصرانية مثلّثة «1» في بلاد الروم وغيرها، حتى بلاد
__________
(1) كان النصارى فرقا، ففرقة تقول: الله ثالث ثلاثة. قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ... الاية 73 من سورة المائدة.(1/241)
اليونان، ومصر الفرعونية كانت تسودها الوثنية، وتعدد الالهة، وعبادة الحيوان مع أنها مهد الحضارة، وهكذا نرى أن توحيد الله وعبادته واحده أمر يكاد يكون معدوما في الأرض. وإليك ما قاله مولانا محمد علي في كتابه «حياة محمد» عن النصرانية التي كانت أكثر الديانتين: اليهودية، والنصرانية انتشارا في ذلك الوقت قال:
(وكان عيسى أقرب الأنبياء إلى الرسول محمد عليه السلام من وجهة النظر الزمنية، وطبعي أن يتوقع المرء أن يجد في الديار النصرانية على الأقلّ بعض اثار الفضيلة والأخلاق، ولكن كيف كانت حالة النصرانية في ذلك العهد؟
فلنرجع إلى شهادات الكتاب النصارى أنفسهم في هذا الموضوع، فقد رسم أحد الأساقفة صورة لتلك الأيام فقال: «إن المملكة الإلهية كانت في اضطراب كلي، بل إن حالة جهنمية حقيقية كانت قد أقيمت على سطح الأرض نتيجة للفساد الداخلي» . وقد عالج السير (وليم موير) هذا الموضوع فانتهى إلى النتيجة نفسها، قال:
«وفوق هذا فقد كانت نصرانية القرن السابع نفسها متداعية فاسدة، كانت معطلة بعدد من الهرطقات المتنازعة، وكانت قد استبدلت بإيمان العصور الوسطى السمح صغارات الخرافة وصبياناتها» تلك صورة للنصرانية تمثل وضعها العام، كانت عقيدة واحدة الذات الإلهية قد احتجبت منذ عهد بعيد، وكانت عقيدة التثليث قد أدت إلى نشوء تعقيدات متعددة، وتنافست الفرق والهرطقات المختلفة في قدح زناد الفكر لتفسير هذه العقيدة، وأدّى ذلك إلى إنشاء جمهرة من المؤلفات أبعدت الإنسان عن هدف الدين الحقيقي.
__________
- وفرقة تقول إن الله هو عيسى ابن الله، قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ... الاية 17 من سورة المائدة. وفرقة ثالثة تدّعي ألوهية عبد الله عيسى وأمه مريم، قال تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قالَ: سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ، إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ... الاية 116 من سورة المائدة. وتكاد تكون عقيدة التثليث اليوم هي السائدة بين المسيحيين.(1/242)
والمؤرخ (جيبون (Gibbon) (في تعليقه على حادثة حرق مكتبة الإسكندرية الشهيرة من قبل المتعصبين من النصارى يبدي هذه الملاحظة الهامة: «ولكن إذا صحّ أن ركام الجدل الاريوسي والقائل بطبيعة المسيح الواحدة قد أحرق فعلا في الحمامات العمومية، فإن في ميسور الفيلسوف أن يذهب إلى القول- في ابتسامة- بأن ذلك كان في مصلحة الجنس البشري.
وكانت الشرور التي سادت العالم المسيحي كالخمر، والميسر، والفسوق غالبة حتى في تلك الأيام، ويروي «1» دوزي (Dozy) عن الخليفة علي قوله في حق تغلب وهي قبيلة نصرانية: «إن كل ما اقتبسته عن تلك الكنيسة هو معاقرة الخمر» وبكلمة مختصرة فإن النصرانية وهي اخر ديانات العالم المنزلة- كانت في ذلك الحين في حكم المفقودة، كانت قد فقدت كل قدرتها الدافعة التي تمكنها من إحداث إصلاح أخلاقي، وإلى هذا فإن الدّرك الذي تردّى فيه المجتمع الإنساني كله في طول العالم وعرضه، ليقيم الدليل على صحة التوكيد القراني) «2» .
الأحوال الاجتماعية
ولم تكن الأوضاع الاجتماعية بأحسن حالا من سابقتها، فهنالك كان أشراف وسوقة: أشراف يعتقدون أنهم من طينة أخرى غير طينة البشر، وسوقة يضن عليهم بأدنى حقوق الإنسان، وسادة وعبيد: سادة يتمتعون بكل خيرات هذه الأرض وطيباتها، وعبيد يعاملون معاملة الحيوان، وليس لهم من كدّهم وتعبهم إلا العرق والدماء، وما تجود به نفوس السادة عليهم من فتات الموائد.
وهنالك اعتزاز لا حدّ له بالأنساب والأحساب، والتفاخر بهما، وإضاعة الوقت في الاشتغال بذلك، حتى بلغ من العرب أنهم كانوا حين يفرغون من موسم الحج يعقدون الندوات لذكر الاباء والأحساب. وخلاصة القول أنه كانت هناك فوارق طبقية، وعصبيات جنسية، ونسبية، ولونية، ولغوية، وسواء في
__________
(1) الصحيح أن يقول: ويذكر دوزي، أو وينقل؛ لأن الرواية تقتضي المعاصرة والمشافهة واللقاء.
(2) حياة محمد ورسالته، ص 20، 21.(1/243)
ذلك البيئات المتحضرة أم المتبدية، ولقد بلغ ببعض رجال الفلسفة اليونانية المشهورين أن قسم الناس إلى حر بالطبع، وعبد بالطبع!!.
وكان هنالك إسراف في النكاح، وإسراف في الطلاق، وكانت المرأة غالبا- مهضومة الحقوق، لا يقام لها وزن، ولا يسمع لها رأي، وتورث كما يورث المتاع، كما كانوا يتزوجون نساء الاباء ويجمعون بين الأختين، بل قيل:
إن اليهود بلغ من سفههم وبغيهم أنهم كانوا ينكحون المحارم، وكانت بعض القبائل تئد البنات خشية العار، وتقتل الأولاد خشية الفقر، حتى جاء الإسلام فقضى على كل هذه المساوىء الاجتماعية، وجعل الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى.
الأحوال الخلقية
أما الجانب الخلقي وما اعتراه من فساد وانحلال وانتكاس وتدلّ إلى الحضيض فحدّث عن ذلك ولا حرج، فمن انتهاك للأعراض، وسطو على الأحرار، وإغراق في المباذل الخلقية، إلى معاقرة للخمر، واقتراف للاثام، ومن معاشرة للبغايا والقيان، إلى اتخاذ الأخدان، ومن استهانة بالدماء، واغتصاب للأموال إلى تعامل بالربا، وأكل أموال الناس بالباطل.
وكانت المباذل والمفاسد الخلقية أكثر ما تكون في بلاط الأكاسرة، وقصور القياصرة، والملوك والأمراء، وقد كانت هذه المفاسد الخلقية من أكبر الأسباب في انحلال الدولتين الكبيرتين انذاك: فارس والروم، وأن سارع إليهما الهرم، فالفناء والزوال.
الأحوال السياسية
وكان التعدّي والإغارة على الغير أمرا يكاد يكون سائدا بين قبائل العرب، وكانت تثور بينهم الحرب لأتفه الأسباب، من أجل ناقة، أو سباق فرس، فتستمر السنين، وتأكل الشباب والشيب، ولم تكن الحروب تفتر أيضا بين الدولتين اللتين كانتا تقتسمان العالم في هذا الوقت: دولتي فارس والروم، وقد كان هذا من العوامل التي جعلتهما تهويان تحت ضربات الجيوش الإسلامية المظفّرة، وقد زالت دول البغي والطغيان، وانتشرت شريعة السلام، والحق،(1/244)
والخير، والرحمة بقيام دولة الإسلام، ولم تكن الحروب انذاك حروبا مشروعة يقصد بها حماية دين، أو إقامة عدل، أو نصر فضيلة؛ وإنما كانت استجابة للأهواء، وحبا في الغلب، والتسلط، واستعباد الشعوب وإذلالهم!!.
ومن هذه الصورة المصغّرة يتبين لنا أن العالم حينئذ كان عالما مضطربا لا أمان فيه، ولا سلام، وشمل الفساد جميع أحواله، ونواحيه، وحقت عليه كلمة الله:
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) «1» .
حاجة العالم إلى مخلص ومنقذ
ترى- أيها القارىء- هل يترك الله سبحانه- وهو الرحمن الرحيم- العالم يتخبط في هذه الدياجير المظلمة، ووسط هذه الأمواج الهائجة، التي تتقاذفه ذات اليمين وذات الشمال، وهذه الأوضاع السيئة الجائرة التي ذكرنا لك ذروا منها؟!!.
لا، ما كان الله ليدع العالم هكذا، فيا ترى من ذا الذي اختارته العناية الإلهية والرحمة الربانية ليخلص هذا العالم الحائر المضطرب المظلم، الخائف الذي أمسى على شفا جرف هار؟
إنه نبي التوحيد، ونبي البر، ونبي الرحمة، ونبي العدل، ونبي الملحمة، إنه نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم.
لماذا اختار الله خاتم أنبيائه من العرب؟
قلت فيما سبق إن العرب هم أفضل الجنس السامي، وإن لغتهم هي أسمى اللغات السامية، وأثراها، وأكثرها خصائص، وأصلحها لأن ينزل بها كتاب معجز باق على وجه الدهر.
ولئن كان الفساد والاضطراب قد ساد العالم المعروف قبل البعثة المحمدية
__________
(1) الاية 41 من سورة الروم.(1/245)
- عربا وغير عرب-، إلا أنه- والحق يقال- لم يكن هناك شعب من الشعوب له رصيد من الفضائل النفسية، والذاتية، والخصائص الجسدية، والعقلية، والأخلاقية مثل ما كان للشعب العربي، كالمحافظة على الأنساب، وسلامة اللغة، والذكاء، والفطنة، وصفاء النفس، وإرهاف الحس، والشجاعة، والمروءة، والنجدة، وحماية الجار، والعزة، والحرية، وإباء الضيم، والوفاء بالعهد، والقدرة على البيان، وفصاحة اللسان، وتملك نواصي فنون القول، والتأثر بالكلمة، والغيرة على الأعراض، والتضحية بالنفس والأهل والمال في سبيل ما يعتقد، أو يقتنع به، واقتحام المخاطر ومواطن الأهوال من غير تهيب ولا وجل، إلى غير ذلك من الصفات التي كانت متأصلة في العرب، وقد علمت فيما سبق عزم عبد المطلب على ذبح أحب أبنائه إليه وفاء بنذره، وما كان من السموأل حينما ضحّى بابنه وفاء بوعده، وما كان من النعمان بن المنذر حينما أنف- وهو التابع- أن يزوج ابنته من كسرى- وهو المتبوع الغالب- وتحمّل في سبيل ذلك ما تحمل، إلى غير ذلك مما لا يتسع المقام لبسط القول فيه، وهي أحداث تدل على معان كبيرة، وعلى خصائص أصيلة لهذا الجنس العربي.
لهذا- ولغيره- اختار الله خاتم أنبيائه ورسله من العرب برسالة عامة خالدة، واستأهل العرب أن يكونوا أحق الشعوب بحمل هذه الرسالة، وتبليغها إلى الناس جميعا، ولم يمض قرن من الزمان حتى بلغ الإسلام ما بلغ الليل والنهار، وامتدت دولته من المحيط إلى المحيط.
ومن هذا العرض الموجز نرى أن بعثة النبي محمد صلوات الله وسلامه عليه كانت ضرورة بشرية لإنقاذ العالم مما تردّى فيه من مهاوي الضلال، والمفاسد، والاثام، وصدق الحق تبارك وتعالى حيث يقول:
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) «1» .
وها هو العالم اليوم في جاهلية دونها الجاهلية الأولى، ولا مخلّص له مما يعانيه إلا اتباع شريعة الحق والعدل، والخير والسلام: شريعة الإسلام.
__________
(1) الاية 107 من سورة الأنبياء.(1/246)
الفصل الثامن البشارة بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الكتاب السّماويّة السّابقة
الرسل جميعا إخوة لعلّات «1» ، تجمعهم عقيدة واحدة، ودين واحد، والأديان السماوية كلها تتفق في الأصول، وإن اختلفت في الشرائع والفروع، قال عز شأنه:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (13) «2» .
وقال:
لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً (48) «3» .
فالاية الأولى في الأصول التي لا تختلف اختلاف العصور والأزمان، والثانية في الفروع التي تتغير بتغير الأزمنة والأحوال.
وقد أخذ الله العهد على الأنبياء إذا جاءهم رسول الله مصدّق لما معهم أن يؤمنوا به ولا يكذبوه: قال عز شأنه:
__________
(1) أولاد العلّات الذين أبوهم واحد، وأمهاتهم شتى، وفي صحيح البخاري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد» وهو من التشبيهات النبوية الرائعة.
(2) الاية 13 من سورة الشورى.
(3) الاية 48 من سورة المائدة.(1/247)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) «1» .
وإذا كان هذا حال الأنبياء بعضهم مع بعض فأحرى بالأقوام أن يكونوا أشد انقيادا للحق إذا ظهر، ومسارعة إلى الإيمان بالرسل متى قام الدليل، وظهرت الحجة.
وقد توافرت البراهين والايات الدالة على نبوة خاتم الأنبياء ما لم تتوفر لغيره من الأنبياء، لأنه جاء بالدين العام الخالد، والشريعة التي لا تنسخها شريعة.
وبشّر به وبرسالته من سبقه من الأنبياء ولا سيما موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، قال تعالى:
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) «2» .
وقال تعالى مقيما الحجة على النصارى الذين جحدوا رسالة خاتم الأنبياء:
__________
(1) الاية 81 من سورة ال عمران.
(2) الايتان 156، 157 من سورة الأعراف.(1/248)
وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) «1» .
والقران الكريم هو الشاهد والمهيمن على الكتاب السماوية السابقة، فما جاء به هو الحق، وما خالفه باطل.
ومع أن اليهود والنصارى قد حرّفوا التوراة والإنجيل ولا سيما فيما يتصل بالنبي من أوصاف وبشارة، فقد بقي من نصوصهما نبوات تدل على البشارة بالنبي، وبعضها يكاد يكون نصا في هذا.
ففي التوراة وردت نبوءة على لسان موسى عليه السلام: «أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به» «2» . وهذا واضح وضوح الشمس في رابعة النهار أن المراد به نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وأن المراد بإخوتهم أبناء إسماعيل عليه السلام، وليس في الأنبياء الذين جاؤوا من بعد موسى في تعاقب مستمر، حتى ظهور عيسى من ادّعى أنه النبي الموعود في هذه النبوءة، ولا يمكن أن يحمل على أحد من خلفائه من أنبياء بني إسرائيل الذين جاؤوا لتنفيذ شريعته، لأنهم ليس فيهم أحد مثله، وقد نص في اخر سفر التثنية على أنه لم يقم في بني إسرائيل نبي مثله.
وكان أمر النبوءة معروفا لدى الخاصة والعامة من اليهود الذين انتظروا جيلا بعد جيل ظهور نبي مثل موسى، ويؤيد هذا تأييدا قويا ذلك الحوار الذي دار بين يوحنا المعمدان «3» وأولئك الذين وفدوا عليه ليسألوه: من أنت؟ فاعترف ولم ينكر، وأقر أني لست المسيح، فسألوه: إذن ماذا؟ إيليا أنت؟ فقال: لست
__________
(1) الاية 6 من سورة الصف.
(2) سفر تثنية الاشتراع الإصحاح 18 الفقرة 18.
(3) هو يحيى عليه السلام.(1/249)
أنا؟ ذلك النبي أنت؟ فأجاب: لا، فقالوا: ما بالك إذن تعمد إذ كنت لست إيليا، ولا المسيح، ولا النبي «1» .
فهذا النص يدل على نحو يقيني أن اليهود كانوا يترقبون ظهور ثلاثة أنبياء مختلفين: أولهم (إيليا) الذي اعتقدوا أنه سوف يظهر بشخصيته كرة أخرى على هذه الأرض، وثانيهم المسيح، وثالثهم نبي ذو شهرة إلى درجة رأوا معها أنه ليس من الضروري نعته بأي وصف مميز، كأن قولهم: «ذلك النبي» كاف للدلالة على ما يعنون، وبذلك تعيّن أن يكون المراد بالنبي هو نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم.
وإذا قلبنا صفحات التاريخ لم نجد أيما نبي غير نبينا محمد أعلن أنه النبي الذي بشر موسى بظهوره، ولم نجد أيما كتاب مقدس غير القران أشار إلى تحقيق النبوءة في شخص امرىء ما.
ثم إن الواقع يؤيد هذا، فقد كان موسى- عليه السلام- صاحب شريعة، وكذلك كان محمد عليه الصلاة والسلام صاحب شريعة مستقلة، وليس بين الأنبياء الإسرائيليين نبي جاء قومه بشريعة جديدة، ومن هنا كان النبي محمد بوصفه النبي الوحيد الذي أعطي شريعة، هو واحده النبي الذي هو مثل موسى.
وهناك نبوءة أخرى تكاد تكون صريحة أيضا في البشارة بالنبي، ففي التوراة: «جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من ساعير، وتلألأ من جبل فاران» «2» ، فالمجيء من سيناء يشير إلى ظهور موسى، والإشراق من ساعير إشارة إلى ظهور عيسى، وتلألئه من جبل فاران إشارة إلى ظهور نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه، إذ إن التوراة تطلق فاران على أرض الحجاز (مكة) حيث ظهر نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) سفر يوحنا الإصحاح الأول الفقرة 19- 21.
(2) تثنية الاشتراع الإصحاح 23 الفقرة 1.(1/250)
وثمة نبوءة رابعة تدل على أن أرض النبي الموعود هي بلاد العرب وهي: «وحي من جهة بلاد العرب، في الوعر من بلاد العرب، تبيتين يا قوافل الدادانيين، هاتوا ماء لملاقاة العطشان، يا سكان أرض تيماء وافوا الهارب بخبزة، فإنهم من أمام السيوف قد هربوا، من أمام السيف المسلول، ومن أمام القوس المشدودة، ومن أمام شدة الحرب» «1» .
فكلمة بلاد العرب لها مغزى خاص كاف، والإشارة إلى من هاجر يلقي ضوا على من المراد بالنبوة، فتاريخ العالم لم يدوّن غير هجرة واحدة قدّر لها أن تكتسب الحدث الحاسم هي هجرة رسولنا محمد من مكة إلى المدينة، وفي هذه الكلمات «من أمام السيوف قد هربوا» لشهادة أبلغ على أنه هو المقصود بالنبوءة، فقد تواطأت كتب الأحاديث والسير على أن النبي ليلة الهجرة كان محاطا بأعدائه الشاهرين سيوفهم فعلا، المتعطشين للدماء، المستعدين تمام الاستعداد للانقضاض عليه بجمعهم حينما يخرج من بيته، وبحسبنا هذه النبوات الأربع من التوراة.
وكان اليهود قبل مجيء النبي صلّى الله عليه وسلّم يبشرون به ويقولون لعرب المدينة إذا قاتلوهم: (لقد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا، وسنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم) ، فلما بعث جحدوا رسالته، وحسدوه، وحاربوه قال تعالى:
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) «2» .
وكذلك بشّر الإنجيل بالنبي، وهذه الأناجيل الموجودة اليوم وإن كانت
__________
(1) أشعيا الإصحاح 2 الفقرة 13- 15.
(2) الاية 89 من سورة البقرة.(1/251)
محرفة، كما أقر بذلك الأحرار المفكرون من علماء النصرانية، إلا أنها قد بقي فيها ما يدل على البشارة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم.
فمن ذلك ما جاء في إنجيل يوحنا، قال يسوع: «إن كنتم تحبوني فاحافظوا وصاياي، وأنا أطلب من الاب فيعطيكم معزيا اخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق، الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه، ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم فيكون فيكم» «1» ويقول: «وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الاب باسمي، فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم» «2» ويقول: «ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الاب، روح الحق الذي من عند الله الاب ينبثق فهو يشهد لي» «3» .
ويقول: «لكني أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله لكم» «4» ويقول: «إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم، ولكنكم لا تستطيعون أن تحتملوا الان، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق» «5» وهي بشارات تكاد تكون نصا في الإخبار بنبوة خاتم الأنبياء، ومع وضوح هذه البشارات فقد أرهق اللاهوتيون النصارى أنفسهم- وما يزالون- ابتغاء العدول بها عن قصدها بحيث تنطبق على الروح القدس، وفي الحق أن صيغة النبوءة لا تجيز قط هذا الاستنتاج لقوله:
«إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي» كلام من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى تعليق «6» .
وقد كان في الأصل الأول للإنجيل التعبير في البشارات عن اسم النبي بكلمة «البارقليط» ولكنه لما ترجم إلى العربية فسرها بعضهم (بالمخلص) ،
__________
(1) يوحنا الإصحاح 14 الفقرة 15- 17.
(2) يوحنا 14: 26.
(3) يوحنا 15: 26.
(4) يوحنا 16: 7.
(5) يوحنا 16: 12، 13.
(6) حياة محمد ورسالته من ص 46- 51؛ أدلة اليقين في الرد على مطاعن المبشرين من ص 260- 314؛ تفسير الالوسي ج 28 ص 87 ط منيرية.(1/252)
وفسرها اخرون (بالمعزي) ، وقد سأل المرحوم الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار المستشرق الإيطالي (نلينو) - وهو حاصل على شهادة الدكتوراه في اداب اللغة اليونانية، وكان يدرس في الجامعة المصرية القديمة- عن معنى (البارقليط) فقال:
إن القسس يقولون إن هذه الكلمة معناها المعزي، فقال له: أنا أسأل الدكتور (نلينو) الحاصل على الدكتوراه في الاداب اليونانية القديمة، ولا أسأل قسيسا!! فقال نلينو: معناها الذي له حمد كثير، فقال له: هل ذلك يوافق أفعل التفضيل من حمد؟ فقال: نعم «1» وصدق الله حيث قال: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ وقد سبق المستشرق (نلينو) الإمام الالوسي فقد قال: إنه لفظ يؤذن بالحمد.
يقول العلامة الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه القيم «إظهار الحق» : «إنه قبل أن يقدّم أوجه الاستدلال بهذه الفقرات- يريد الفقرات التي نقلها من الأناجيل للاستدلال بها على بشارة السيد المسيح بالنبي الخاتم محمد عليهما الصلاة والسلام- يود أن ينبه إلى أن السيد المسيح كان يتحدّث باللغة الارامية، وهي مشتقة من اللغة العبرية، وأنه مما لا شك فيه أن الإنجيل الرابع إنجيل يوحنا- ترجم اسم المبشّر به باللغة اليونانية حسب العادة، ثم جاء مترجمو اللغة العربية، فترجموا اللفظ اليوناني ب «فارقليط» ، وقد ذكرت من قبل تصرفهم في الأسماء، وقد حاول «اردو» صرف المسلمين عن الاستدلال بهذه البشارة، فذكر أن لفظ «فارقليط» معرب من اللفظ اليوناني ثم قال: فإن قلنا:
إن هذا اللفظ اليوناني الأصل «باراكلي طوس» فيكون بمعنى المعزي والمعين والوكيل.
وإن قلنا: إن اللفظ الأصلي «بيركلي طوس» فيكون قريبا من معنى محمد، أو أحمد، ولكن الصحيح أن اللفظ «باراكلي طوس» وليس «بيركلي طوس» .
وقد ردّ عليه الشيخ رحمة الله الهندي، فقال: إنه من الواضح أن التفاوت بين اللفظين يسير جدا، وأن الحروف اليونانية كانت متشابهة، وأن استبدال
__________
(1) قصص الأنبياء- مبحث بشارة عيسى بالنبي ص 473 الطبعة الثانية.(1/253)
«باراكلي طوس» ب «بيركلي طوس» في بعض النسخ من الكاتب قريب القياس، ثم رجح أهل التثليث هذه النسخة على النسخ الاخرى.
أقول: وما دامت الكلمة محتملة لأن تكون «بيركلي طوس» وأن تكون «باراكلي طوس» فلنلجأ إلى الترجيح كما هي قواعد البحث العلمي الصحيح، وليس من شك في أن «بپركلي طوس» هي الراجحة لأنها يوافقها القران الكريم الذي هو الشاهد والمهيمن على الكتاب السماوية، لأنه الكتاب السماوي الذي سلّم من التحريف، والتبديل بإجماع المسلمين، وشهادة العقلاء وأحرار الفكر من المسيحيين، والله تبارك وتعالى يقول الحق، وهو يهدي السبيل.
وقد ورد في «إنجيل برنابا» الذي كان في طي الخفاء وظهر منذ زمن قريب ما يدل على البشارة بالنبي صراحة، ولم يسع القسس إلا الطعن فيه، وقالوا:
إنه من وضع العرب، وهي دعوى لم يقم عليها دليل، فقد أثبت بعض الباحثين أنه موجود من قبل ميلاد النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقد تواترت الأخبار قبل النبوة المحمدية بقرب ظهور نبي من العرب بشّرت به التوراة والإنجيل على لسان الأحبار والرهبان، وحدث سلمان الفارسي الصحابي الجليل أنه صحب قسيسا، فكان يقول له: «يا سلمان إن الله سوف يبعث رسولا اسمه أحمد من جبال تهامة «1» ، علامته أن يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة» وكان هذا من أسباب إسلام سلمان لما بلغته الدعوة المحمدية.
وكان هذا أيضا من أسباب مسارعة الأنصار إلى قبول الإسلام، ذلك أنهم لما عرض عليهم النبي الإسلام قال بعضهم لبعض: هذا الذي حدثتكم عنه يهود فلا يستبقنكم إليه!!
__________
(1) أي مكة لأن تهامة تطلق عليها كما يطلق الحجاز على تهامة.(1/254)
بين يدي النبوة
فترة الخلوة
وقبيل النبوة حبّب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخلوة عن الخلق، والانصراف إلى الخالق، لما في الخلوة من صفاء النفس، وهدوء البال، والتفكر في ملكوت الله، وعظيم خلقه، وجليل قدرته، فكان يخلو بغار حراء «1» في رمضان من كل عام، ويطعم من جاءه من الفقراء والمساكين، فإذا قضى جواره من شهره كان أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره الكعبة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعا، أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته، وكانت السيدة خديجة- رضي الله عنها- تعينه على هذه الخلوة وتعدّ له الزاد والطعام، وكان رسول الله يرجع إليها في أثناء الخلوة ليتعهدها، ويأخذ زاده، وما زال يخلو ويتعبد»
بهذا الغار حتى أكرمه الله بالنبوة، ونزل عليه الوحي.
غار حراء
وحراء جبل في أعلى مكة على ثلاثة أميال منها، عن يسار المار إلى منى، له قنة مشرفة على الكعبة منحنية. والغار في تلك الحنية. قال رؤبة بن العجاج:
فلا وربّ الامنات القطن ... وربّ ركن من حراء منحني
وسمي الغار باسم هذا الجبل، وكان هذا الغار معروفا عند العرب في الجاهلية، وكان بعضهم يخلو فيه ويتعبد، وقد ذكره أبو طالب في قصيدته المشهورة فقال:
وثور ومن أرسى ثبيرا «3» مكانه ... وراق ليرقى في حراء ونازل
__________
(1) حراء بمد ويقصر، ويصرف، ويمنع من الصرف.
(2) وقد اختلف في تعبده صلّى الله عليه وسلّم قبل النبوة: أكان على شرع أم لا؟ فقيل: كان يتعبد بالتفكر والتأمل في ملكوت الله، وبديع صنعه، وقيل: كان يتعبد بشرع من قبله، وقد اختلف في: على أي شرع كان يتعبد؟ والأصح أنه كان يتعبد على شريعة أبيه وأبي الأنبياء الخليل- عليه السلام- وكانت قد بقيت منها شرائع لا زالت مأثورة عند العرب.
(3) هو جبل اخر بمكة.(1/255)
وللغار مدخل يتسع للرجل البدين، ويقف فيه الرجل الفارع، ويتسع لبضعة رجال يصلون ويجلسون، وقد صعدت إليه وأنا في سن الشباب في أكثر من ساعة، وجلست فيه، وصليت ركعتين، فلله الحمد والمنة.
والغار في مكان يبعث على التأمل والتفكر، تنظر إلى منتهى الطرف فلا ترى إلا جبالا كأنها ساجدة متطامنة لعظمة الله، وإلا سماء صافية الأديم، وقد يرى من يكون فيه مكة إذا كان حاد البصر.
بعض ما أكرم الله به نبيه قبيل النبوة «1»
فمن ذلك ما ذكره ابن إسحاق في سيرته بسنده عن أهل العلم الثقات أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أراده الله بكرامته، وابتدأه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى تحسر عنه البيوت «2» ، ويفضي إلى شعاب «3» مكة، وبطون أوديتها، فلا يمر رسول الله بحجر، ولا شجر إلا قال: «السلام عليك يا رسول الله» «4» فيلتفت الرسول حوله، وعن يمينه، وعن شماله، فلا يرى إلا الشجر والحجارة، فمكث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كذلك يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث، ثم جاءه جبريل- عليه السلام- بما جاءه من كرامة الله، ووحيه وهو بحراء في شهر رمضان. وفي صحيح مسلم: «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الان» «5» .
__________
(1) ذكر ابن الجوزي أن ذلك كان قبل النبوة بسنتين (شرح المواهب ج 1 ص 204) .
(2) تبعد عنه ويبعد عنها.
(3) الشعاب: جمع: شعب، وهي الطرق بين الجبال.
(4) وذلك بأن يخلق الله فيها الكلام من غير حياة، ولا علم؛ أو بأن يخلق الله فيها الحياة والتمييز فتنطق وتتكلم: رأيان للعلماء، ولعل الأول هو الأولى.
(5) صحيح مسلم بشرح النووي ج 15 ص 36.(1/256)
الباب الثالث من البعثة إلى الهجرة
الفصل الأول: النبوّة.
الفصل الثاني: أطوار الدعوة إلى الإسلام.
الفصل الثالث: الجهر بالدعوة وما صاحبه من إيذاء وإغراء.
الفصل الرابع: أحداث هامة في العهد المكيّ.
الفصل الخامس: الذهاب إلى الطائف.
الفصل السادس: الإسراء والمعراج.
الفصل السابع: عرض رسول الله نفسه على قبائل العرب في موسم الحج.
الفصل الثامن: الهجرة إلى المدينة.(1/257)
الفصل الأوّل النّبوّة
ولما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأربعين من عمره المبارك نبّأه الله، وأوحى إليه، وكان ذلك في ربيع الأول. وكان أول ما بدىء به النبي من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا تحقق صدقها، ورؤيا الأنبياء وحي، وقد مكث على هذه الحال ستة أشهر حتى نزل عليه جبريل الأمين بالوحي القراني، وذلك في السابع عشر من رمضان من هذا العام على ما عليه المحققون من العلماء، قال تعالى:
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ «1» يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) «2» .
وكان التقاء الجمعين في بدر في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة بالإجماع.
ابتداء نزول القران
وقد كان أول ما نزل من القران في هذا اليوم المشهود الفذّ خمس ايات من صدر سورة اقرأ، وهي:
__________
(1) الذي فرّق الله به بين الحق والباطل. أي في مثل اليوم الذي التقى فيه الجمعان.
(2) الاية 41 من سورة الأنفال.(1/259)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) «1» .
وكان ذلك في رمضان حسبما قال عز وجل:
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ (185) «2» .
وكان ذلك في ليلة القدر كما قال عز شأنه:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) ... «3» .
وهي الليلة المباركة التي ذكرها الله في قوله:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) «4» .
وقد كانت طلائع الوحي الإلهي فيها إشادة بالقلم وخطره، وبالعلم ومنزلته في بناء الشعوب والأمم، فما أصدقها من طلائع تجعل العلم والمعرفة من أخص خصائص الإنسان.
__________
(1) أي اقرأ مبتدئا باسم الله، لا باسم أحد سواه، لأنه سبحانه هو الذي خلق هذا النوع الإنساني، وفضّله على كثير من خلقه، ثم بيّن لنبيه أن ربه الأكرم سيعلمه ما لم يكن يعلم، ولا تأس إن كنت أميا فإن العلم علمان: علم كسبي وقد أشار الله له بقوله عَلَّمَ بِالْقَلَمِ وعلم وهبي عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ومنه علم الأنبياء والمرسلين.
(2) الاية 185 من سورة البقرة.
(3) سورة القدر، وللعلماء في قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ. قولان: الأول: المراد النزول جملة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم نزل على النبي مفرقا في نيّف وعشرين سنة، الثاني: أن المراد ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر وكان ذلك في رمضان والنبي يتعبد بغار حراء وتكون ليلة القدر في هذا العام ليلة السابع عشر من رمضان.
(4) الايات 3- 5 من سورة الدخان.(1/260)
رجوع النبي لخديجة
وبعد نزول هذه الايات الخمس في قصة مثيرة التقت فيها البشرية بالملائكية على غير عهد سابق رجع النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يرتعد من شدة الخوف، حتى أتى السيدة خديجة فأخبرها بما جرى، وقال لها: «لقد خشيت على نفسي» فطمأنته وأكدت له أنه ما كان الله ليخزيه أبدا، وقالت له: «أبشر يا ابن عم، فو الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة» «1» .
إلى ورقة بن نوفل
ثم انطلقت به خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان ممن تنصّر في الجاهلية، وعنده علم بالتوراة والإنجيل، وكان ممن يعبد الله ويواحده، فقص عليه النبي قصته فبشره بالنبوة، وقال له: هذا هو الناموس «2» الذي كان ينزل على موسى، وأخبره بما سيجده من قومه من عنت وأذى، وأنهم سيخرجونه من بلده مكة، وتمنى لو أدركته الرسالة لينصره نصرا مؤزرا، ولكن ورقة لم يلبث أن توفي بعد أن امن بالنبي وصدق به.
قصة بدء الوحي كما رواها الشيخان
وإليك ما رواه الشيخان: البخاري ومسلم في صحيحيهما «3» بسندهما واللفظ للبخاري- عن عائشة- رضي الله عنها- قالت:
«أول ما بدىء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصالحة «4» في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح «5» ، ثم حبّب إليه الخلاء، وكان
__________
(1) سيرة ابن هشام ج 1 ص 238.
(2) الناموس: رسول الخير، والمراد به جبريل- عليه السلام-.
(3) رواه البخاري في باب كيف كان بدء الوحي.. وفي كتاب التفسير «سورة اقرأ» وفي كتاب التعبير، ورواه مسلم في باب بدء الوحي إلى رسول الله.
(4) في رواية «الصادقة» وهي التي ليس فيها أضغاث أحلام، وهما بمعنى بالنسبة لأمور الاخرة، وأما في شؤون الدنيا فقد تكون صالحة وهو الأكثر، وقد تكون غير صالحة كرؤياه قبيل أحد.
(5) فلق الصبح: ضياؤه.(1/261)
يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه- وهو التعبد- «1» الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع «2» إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ، قال: «ما أنا بقارىء» قال:
فأخذني، فغطّني «3» ، حتى بلغ مني الجهد «4» ، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: «ما أنا بقارىء» فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: «ما أنا بقارىء» فأخذني فغطّني الثالثة «5» ثم أرسلني، فقال:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) .
فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده «6» فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها- فقال: زمّلوني «7» ، زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع «8» ، فقال لخديجة- وأخبرها الخبر-: لقد خشيت على نفسي «9» ، فقالت
__________
(1) أصل التحنث ترك الحنث وهو الإثم ويلزمه التعبد، وهذا التفسير مدرج من الزهري راوي الحديث عن عروة عن عائشة.
(2) يرجع وزنا ومعنى.
(3) عصرني حتى كاد يكتم أنفاسي.
(4) بفتح الجيم والنصب أي المشقة، وبضم الجيم والرفع أي غاية الوسع حتى بلغ مني الجهد مبلغه.
(5) وإنما فعل به ذلك ليبلو صبره، ويختبر احتماله فيرتاض لاحتمال ما كلف به من أعباء النبوة، وأثقال الوحي، ولذلك كان صلّى الله عليه وسلّم إذا أوحي إليه يثقل جسمه، ويغط كما يغط البكر، ويتصبب عرقه، وكأنه يقول له: استعد لما ينتظرك في تبليغ الرسالة من شدائد والام.
(6) يضطرب من الخوف.
(7) غطوني ولفوني بالثياب.
(8) بفتح الراء: الخوف.
(9) أي المرض أو الموت من شدة الضغط والضم، وقد كان ذلك قبل أن يحصل له العلم الضروري بأن الذي جاءه ملك من الله، ولا يصح تفسير الخشية بغير هذا، ولا تلتفت لما يوجد في بعض الكتاب.(1/262)
خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ «1» ، وتكسب المعدوم «2» وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق «3» - وفي بعض الروايات زيادة- وتصدق الحديث- وفي بعضها- وتؤدي الأمانة «4» .
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عم خديجة، وكان امرا قد تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزله الله على موسى «5» ، يا ليتني فيها جذعا»
، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أو مخرجيّ هم» ؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا «7» . ثم لم ينشب «8» ورقة أن توفي، وفتر الوحي.
رواية لابن إسحاق
وفي رواية ابن إسحاق عن عبيد بن عمير مرسلا: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
__________
(1) الضعيف.
(2) بفتح التاء ونصب المعدوم أي تصيب من المال ما لا يصيب غيرك، وكانت العرب تتمادح بها، قال أعرابي يمدح رجلا: كان أكسبهم لمعدوم، وأعطاهم لمحروم.
(3) أحداث الزمان ونوازله.
(4) وفي ذكر هذه الأوصاف ما يدل على كمال خلق النبي في الجاهلية، وأن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، كما يدل على كمال عقل السيدة خديجة، ووفور شفقتها، ومحبتها للنبي.
(5) خصّ موسى لأن شريعته كانت أعم وأوفى من شريعة عيسى.
(6) أي شابا. أي ليتني أكون فيها جذعا.
(7) قويا صادقا.
(8) لم يلبث.(1/263)
«جاءني جبريل، وأنا نائم بنمط من ديباج «1» فيه كتاب فقال: اقرأ ... » الخ، فظاهر هذا أنه كان مناما.
والمعوّل عليه ما في الصحيحين، وأن ذلك كان في اليقظة لا في المنام، وإن ثبت ما ذكره ابن إسحاق فيكون ما حدث في المنام كان قبل ذلك توطئة لما حدث في اليقظة، ففي مغازي موسى بن عقبة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيّب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لخديجة: «أرأيتك الذي كنت حدثتك أني رأيت في المنام، فإنه جبريل استعلن إلي، أرسله إلي ربي عز وجل وأخبرها بالذي جاءه من الله، وما سمع منه، فقالت: أبشر فو الله لا يفعل الله بك إلا خيرا» «2» .
فترة الوحي
وقد فتر الوحي بعد ذلك فترة، وقد اختلف في مقدارها فقيل: كانت أياما، روى هذا ابن سعد في طبقاته عن ابن عباس، وروي أن أقصاها أربعون يوما، وقيل: ستة أشهر، وقيل: سنتان ونصف، وقيل: ثلاث سنين، ونسب هذا إلى ابن إسحاق، والذي في السيرة لابن هشام عن ابن إسحاق عدم التحديد بمدة «3» .
والذي أرجّحه وأميل إليه هو الأول، وأن أقصاها أربعون يوما، ويليه القول الثاني، وأما القولان الأخيران فإني أستبعدهما، فالفترة إنما كانت ليسترد النبي صلّى الله عليه وسلّم أنفاسه مما حدث له من ضغط جبريل، وما عراه من الهول والفزع لأول لقاء بين بشر وملك، وليحصل للنبي الشوق إلى لقاء جبريل بعد هذه الفترة.
أما أن يقضي النبي ثلاث سنين أو سنتين ونصف سنة من عمر الدعوة الإسلامية من غير وحي ودعوة فهذا ما لا تقبله العقول، ولا يدل عليه نقل صحيح، وفي هذه الفترة كان النبي يداوم الذهاب إلى حراء، وإلى ما جاوره
__________
(1) بقطعة من حرير فيها كتاب أي شيء مكتوب.
(2) البداية والنهاية ج 3 ص 13.
(3) السيرة لابن هشام ج 1 ص 241.(1/264)
من الجبال عسى أن يجد هذا الذي جاءه بحراء حتى وصل جبريل ما انفصم، وعاد الوحي وتتابع.
رواية موهمة
وفي بعض روايات صحيح البخاري «1» : «ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما بلغنا «2» - حزنا غدا منه مرارا كي يتردّى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدّى له جبريل، فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدّى له جبريل فقال له مثل ذلك» .
وهذه الرواية ليست على شرط الصحيح لأنها من البلاغات، وهي من قبيل المنقطع، والمنقطع من أنواع الضعيف، والبخاري لا يخرج إلا الأحاديث المسندة المتصلة برواية العدول الضابطين، ولعل البخاري ذكرها لينبهنا إلى مخالفتها لما صح عنده من حديث بدء الوحي، الذي لم تذكر فيه هذه الزيادة.
ولو أن هذه الرواية كانت صحيحة لأوّلناها تأويلا مقبولا، أما وهي على هذه الحالة فلا نكلف أنفسنا عناء البحث عن مخرج لها.
وأيضا فإن ما استفاض من سيرته صلّى الله عليه وسلّم يرد ذلك، فقد حدثت له حالات أثناء الدعوة إلى ربه أشد وأقسى من هذه الحالة، فما فكر في الانتحار بأن يلقي نفسه من شاهق جبل أو يبخع نفسه، وسترى فيما يأتي أنه لما عرض عليه عمه أن يكف عن قريش، ويبقي عليه وعلى نفسه، وكان عمه هو ناصره الوحيد من
__________
(1) كتاب التعبير- باب أول ما بدىء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصادقة.
(2) قال الحافظ في الفتح: «ثم إن القائل فيما بلغنا هو الزهري، ومعنى الكلام أن في جملة ما وصل إلينا من خبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذه القصة، وهو من بلاغات الزهري وليس موصولا» قال الكرماني: وهذا هو الظاهر، ويحتمل أن يكون بلغه بالإسناد المذكور (فتح الباري ج 16 ص 12 ط الحلبي) .(1/265)
أهله قال هذه القولة: «والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه، ما تركته» !! ونحن لا ننكر أنه صلّى الله عليه وسلّم قد حصلت له حالة أسى وحزن عميقين على انقطاع الوحي خشية أن يكون ذلك عدم رضا من الله، وهو الذي كان يهون عليه كل شيء من لأواء الحياة وشدائدها ما دام ذلك في سبيل الله، وفيه رضا الله، وهو القائل في ساعة من ساعات الكرب، والضيق، والشدة، لما ناله ما ناله من سفهاء ثقيف مخاطبا ربه: «إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي!!» .
كان يمكننا أن نقول: إنّ ظن حدوث غضب الله وسخطه تجوّز للمخلصين من عباد الله أن يهلكوا أنفسهم ويذهبوها ترضية لله، وخوفا منه، ولكنا لا نرى هذا لأن حالة الرواية كما سمعت، ولأنها تخالف المعروف المشهور من سيرته صلّى الله عليه وسلّم.
والتعليل الصحيح لكثرة غشيانه صلّى الله عليه وسلّم في مدة الفترة رؤوس الجبال وشواهقها، أنّ الإنسان إذا حصل له خير أو نعمة في مكان ما فإنه يحب هذا المكان، ويتلمس فيه ما افتقده، فلما انقطع الوحي صار صلّى الله عليه وسلّم يكثر من ارتياد قمم الجبال، ولا سيما حراء، رجاء أنه إن لم يجد جبريل في حراء، فليجده في غيره، فراه راوي هذه الزيادة وهو يرتاد الجبال، فظن أنه يريد هذا، وقد أخطأ الراوي المجهول في ظنه قطعا.
وليس أدل على ضعف هذه الزيادة وتهافتها من أن جبريل كان يقول للنبي كلما أو فى بذروة جبل: «يا محمد إنك رسول الله حقا» وأنه كرر ذلك مرارا، ولو صح هذا لكانت مرة واحدة تكفي في تثبيت النبي وصرفه عما حدّثته به نفسه كما زعموا، وقد نحا إلى ما نحوت بعض كتاب السيرة المحدثين المسلمين «1» .
__________
(1) حياة محمد ورسالته، ص 70، 71.(1/266)
الوحي وأنواعه
الوحي في اللغة: يطلق على الإعلام الخفي السريع وهو أعم من أن يكون بإشارة، أو كتابة، أو رسالة، أو إلهام غريزي أو غير غريزي، وهو بهذا المعنى اللغوي لا يختص بالأنبياء، ولا بكونه من عند الله سبحانه وتعالى «1» .
وأما معناه الشرعي: فهو إعلام الله أنبياءه ورسله بما يريد أن يبلغه إليهم من شرع، أو كتاب، بواسطة أو بغير واسطة «2» ، فهو أخص من المعنى اللغوي لخصوص مصدره ومورده «3» .
وقد يعرّف بأنه (عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين أنه من عند الله) «4» .
وقد يعرّف بأنه: (ما أنزله الله على أنبيائه، وعرفهم به من أنباء الغيب، والشرائع) «5» .
إمكان الوحي ووقوعه
مبنى الوحي ومداره على أمرين:
الأول: وجود موح وهو الله سبحانه وتعالى، ووجود الملك الذي يبلّغ الوحي وينقله من الله إلى الأنبياء والرسل، والملك جسم نوراني لا يرى، ولكنه قادر على التشكل بالأشكال المختلفة الحسنة، والتنقل بالسرعة الفائقة، وقد يراه على حقيقته بعض أنبياء الله ورسله.
الثاني: وجود نفس بشرية صافية عندها استعداد خاص لتلقي الوحي من الله مباشرة، أو من الملك.
__________
(1) المدخل لدراسة القران الكريم، ص 73؛ والوحي المحمدي، ص 37.
(2) وهو بهذا تعريف للوحي بمعناه المصدري.
(3) مصدره: وهو كونه من الله، ومورده: وهم الأنبياء والرسل.
(4) وهو تعريف للوحي بالمعنى الحاصل بالمصدر.
(5) وهو تعريف للوحي بمعنى الموحى به.(1/267)
أما الأول: فالله سبحانه وتعالى قام على وجوب وجوده الدلائل العقلية، والافاقية، والأنفسية والتنزيلية.
وأما الملائكة فقد أخبر بوجودهم الأنبياء، وتواترت على ذلك الكتاب السماوية كلها بما لا يدع مجالا للشك في وجودهم، وأجمع على وجودهم أهل الأديان جميعا.
والفلاسفة قديما وحديثا- إلا الشرذمة المادية- يقرون بوجود عالم غير محسوس وراء هذا العالم المحسوس، وأن الإنسان ليس جسما ماديا فحسب، وإنما هو جسم وروح.
وإذا ثبت وجود عالم وراء هذا العالم المحسوس لم يبق مجال إذا- وقد أخبر بوجودهم الأنبياء والرسل، والكتاب السماوية- لإنكار وجود الملائكة.
وأما الثاني: وهو استعداد النبي أو الرسول للتلقّي عن الله، أو عن الملك، فهو أمر ممكن؛ إذ الأنبياء والرسل لهم من سمو فطرتهم، وصفاء أرواحهم وإعداد الله سبحانه لهم إعدادا خاصا: جسمانيا، وروحيا ما يؤهلهم لتلقي الوحي من الله، أو الملك الموكل بذلك، والفهم منه، وليس لنا في هذا أن نقيس الغائب على الشاهد، أو عالم الروح على عالم الحس والمادة، وإلا ضللنا عن الصراط المستقيم.
وإذا ثبت هذان الأمران فقد ثبت- ولا محالة- إمكان الوحي، وأنه لا استحالة فيه، ومن ادّعى الاستحالة فعليه البيان، وأن يقيم على ذلك البرهان، ثم إن بعض المخترعات الحديثة، كاللاسلكي، والمذياع، والتليفزيون، ونحوها تمكن الإنسان بوساطتها أن يبلغ الكلام أو الصورة إلى من هو أبعد من مصدره بألوف الأميال، فإذا توصل الإنسان- على عجزه- إلى هذه الوسائل، أفنستبعد على خالق القوى والقدر، العليم الخبير، أن يبلّغ رسله ما يريد بوساطة أو بغيرها؟! وأن يهيىء للموحى إليه من الوسائل ما يجعله مستعدا لتلقّي الوحي؟!
وإذا ثبت أن الوحي ممكن، وأن كل ممكن أخبر بوقوعه الصادق المصدوق صلّى الله عليه وسلّم فهو واقع كانت النتيجة: أن الوحي ثابت، وواقع لا محالة.(1/268)
أقسام الوحي الشرعي
للوحي أنواع كثيرة أهمها:
1- تكليم الله نبيه بما يريد من وراء حجاب،
إما في اليقظة، وذلك مثل تكليم الله موسى عليه السلام، ومثل ما حدث لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء والمعراج. وإما في المنام كما في حديث ابن عباس ومعاذ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أتاني ربي، فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ ... » «1» رواه أحمد في مسنده، والترمذي في سننه، وقال: حسن صحيح، وعبد الرزاق، والطبراني عن ابن عباس، والترمذي، وابن مردويه، والطبراني من حديث معاذ.
والذي عليه السلف الصالح من أهل السنة والجماعة أن نبي الله موسى، ونبينا محمدا عليهما الصلاة والسلام سمعا كلام الله الأزلي القديم الذي هو صفة من صفاته، وليس المسموع الكلام النفسي كما زعم الأشاعرة، وليس المسموع الكلام الذي خلقه الله في الشجرة كما زعم المعتزلة.
2- إعلام الله أنبياءه بوساطة جبريل
، وهذا هو ما يعرف «بالوحي الجلي» ولذلك حالات:
(أ) أن يبدو جبريل في صورته التي خلقه الله عليها وهي حالة نادرة، ولم ير النبي صلّى الله عليه وسلّم جبريل على هذه الحالة إلا مرتين: مرة وهو نازل بعد فترة الوحي من غار حراء، ومرة وهو في السماء ليلة الإسراء والمعراج.
(ب) أن يأتي جبريل في صورة رجل، وكان يأتي غالبا في صورة دحية الكلبيّ «2» ، ويراه الحاضرون، ويسمعون قوله، ولا يعرفون حقيقته، أو في صورة رجل غير معروف، وذلك كما في حديث جبريل المشهور في السؤال عن الإيمان، والإسلام، والإحسان رواه الشيخان وغيرهما.
__________
(1) أتاني ربي: أي في المنام: الملأ الأعلى: هم الملائكة. انظر: تفسير ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ الاية 69 من سورة ص.
(2) رجل من الصحابة وكان جميل الصورة.(1/269)
(ج) أن يأتي في صورته الملكية، وفي هذه الحالة لا يرى، ولكن يصحب مجيئه صوت كصوت الجرس، أو كدوي النحل، وفي هذه الحالة يتحوّل النبي من حالته البشرية الخالصة إلى حالة يحصل فيها استعداد للتلقي عن الملك، وهي أشد الحالات على النبي صلّى الله عليه وسلّم «1» ، فتأخذه حالة كحالة الرحضاء «2» ، فيربدّ وجهه، ويغطّ غطيط «3» النائم، ويتصبب عرقه، ويثقل جسمه، حتى إنه إن كان راكبا ناقة تزم من الثقل، وإن جاءت فخذه على فخذ إنسان تكاد ترضّها.
3- القذف في القلب:
بأن يلقي الله أو جبريل في قلب النبي ما يريد من الوحي مع تيقنه أن ما ألقي إليه من قبل الله تعالى، وذلك مثل ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن روح القدس «4» نفث في روعي «5» : لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنّ أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته» رواه ابن أبي الدنيا في كتاب «القناعة» ، وابن ماجه، والحاكم في المستدرك وصححه، والطبراني، وأبو نعيم في الحلية.
4- الإلهام:
وهو العلم الذي يلقيه الله تعالى في قلب نبيه، وعلى لسانه عند الاجتهاد في الأحكام، ويدل عليه قوله تعالى:
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) «6» .
إذ المراد بالوحي في الاية الإلهام أو المنام لمقابلته للقسمين الاخرين:
__________
(1) صحيح البخاري- باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
(2) هي الحمى.
(3) هو ما يحصل للنائم من شخير عند احتباس نفسه.
(4) هو جبريل عليه السلام.
(5) الروع بضم الراء: القلب، والنفث هو النفخ مع ريق قليل، والمراد هنا الإلقاء.
(6) الاية 51 من سورة الشورى.(1/270)
التكليم من وراء حجاب، أو بوساطة رسول وهو جبريل. وبالتأمل في الاية نرى أنها تدل على جميع الأنواع التي ذكرتها، والفرق بين إلهام الأنبياء وإلهام غيرهم، أن الأول يكون مصحوبا بالعلم أنه من عند الله، ولا كذلك غيرهم.
5- الرؤيا في المنام:
ورؤيا الأنبياء وحي، وذلك مثل رؤيا الخليل إبراهيم- عليه السلام- أنه يذبح ولده إسماعيل، ورؤيا نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم أنهم سيدخلون المسجد الحرام امنين محلّقين رؤوسهم ومقصّرين «1» ، وفي حديث بدء الوحي السابق: «أول ما بدىء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم» .
والوحي بجميع أنواعه يصحبه علم يقيني ضروري من الموحى إليه بأن ما ألقي إليه حق من عند الله، ليس من خطرات النفس، ولا نزغات الشيطان، وهذا العلم اليقيني لا يحتاج إلى مقدمات، وإنما هو من قبيل إدراك الأمور الوجدانية كالجوع والعطش ونحوهما.
بطلان فكرة الوحي النفسي
لقد حاول الماديون الذين لا يؤمنون بوجود قوى روحية غيبية وراء المادة، ومن على شاكلتهم ممن يحملون الحقد والضغن للإسلام والنبي صلّى الله عليه وسلّم أن يشككوا في الوحي المحمدي، فنفوا أن يكون وحيا من خارج نفس النبي، وقالوا: إنه وحي من داخل نفسه، وليس هناك ملك ألقى شيئا من الله، فإن عالم الغيب الذي تقولون: إنه وراء عالم المادة والطبيعة لم يثبت عندنا وجوده، كما أنه لم يثبت عندنا ما ينفيه ويلحقه بالمحال، ونحن نفسر الظواهر غير المعتادة بما عرفنا وثبت عندنا دون ما لم يثبت، فهذا الوحي الذي أخبر به محمد إنما هو إلهام كان يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج.
ذلك أن منازع نفسه العالية، وسريرته الطاهرة، وقوة إيمانه بالله وبوجوب عبادته، وترك ما سواها من عبادة وثنية، وتقاليد وراثية رديئة يكون لها في جملتها
__________
(1) وقد ذكرت الرؤييان في القران الكريم.(1/271)
من التأثير ما يتجلّى في ذهنه، ويحدث في عقله الباطن الرؤى والأحوال الروحية، فيتصور ما يعتقد وجوبه إرشادا إلهيا نازلا عليه من السماء، وقد يسمعه يقول ذلك، وإنما يرى ويسمع ما يعتقده في اليقظة، كما يرى ويسمع مثل ذلك في المنام الذي هو مظهر من مظاهر الوحي عند الأنبياء، فكل ما يخبر به النبي من كلام ألقي في روعه، أو عن ملك ألقاه على سمعه فهو خبر صادق عنده، ولكن تفسيره عندنا ما ذكرنا من أن ما تخيله إنما هو نابع من نفسه ومن عقله الباطن.
ولأجل أن يؤيدوا فكرتهم الباطلة هذه ذكروا مقدّمات زعموا أنها كانت أساس هذا العلم النفسي الباطني الذي فاض على لسان النبي وقال إنه وحي، فزعموا أنه استفاد من رحلاته مع عمه أبي طالب التي لقي فيها الأعراب وسمع منهم، وأحبار اليهود والنصارى وأخذه عنهم، وأنه استفاد أيضا معلوماته عن اليهودية والنصرانية بسبب انتشار هاتين الديانتين في بلاد العرب، وما سمعه من متنصّرة العرب: كقس، وأمية بن أبي الصلت، وورقة بن نوفل، وأنه استفاد أيضا من رحلتي الشتاء والصيف، ومن الخلوة بغار حراء، وانقطاعه إلى عبادة الله، والتأمل والتفكير في خلق السموات والأرض، حتى خيّل إليه أنه النبي المنتظر الذي سيبعثه الله لهداية البشر، بل وسمع الكثير من القصص من اليهود والنصارى الذين كانوا يسكنون
جزيرة العرب ولا سيما مكة التي كان فيها جالية كبيرة من النصارى، ولقد حاول درمنغم أن يثبت تعرّف النبيّ بكثير من النصارى بمكة، حتى ليخيل لقارىء ما كتب أن النبي كان يعيش في بيئة نصرانية «1» .
تفنيد هذه الفكرة
أما هذه الأمور التي استندوا إليها فهي من خيالهم، وقد قدّمت الرد عليهم في كثير من هذه الادعاات، وأنهم تقوّلوا على التاريخ وعلى الواقع حينما زعموا هذه المزاعم، وأن النبي لم يأخذ عن أحد من أهل الكتاب، ولا عن متنصّرة العرب شيئا، وإلا لواجهوه بالحقيقة حينما جادلهم وفند مذاهبهم، وأبطل عقائدهم، ثم إن النصرانية كما شهد بذلك الأحرار من النصارى كانت فاسدة،
__________
(1) حياة محمد، لدر منغم، ص 125- 126.(1/272)
محرّفة، مبدّلة، فغير معقول أن تكون مصدرا لما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم من عقيدة صحيحة، وتوحيد خالص لله.
والنصارى الذين كانوا في مكة كانوا خدما أو صنّاعا، ولم يكونوا من أهل العلم والمعرفة حتى يأخذ النبي عنهم، ولما ادّعى بعض المشركين مثل هذه الدعوى، وزعموا أن النبي تعلم من (جبر) الرومي النصراني رد الله عليهم بقوله: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ «1» .
وإذا ثبت بطلان المقدمات التي ذكروها ثبت بطلان ما أدّت إليه من نتيجة.
ثم إنّ فكرة الوحي النفسي كما صوّروه مبنية على وجود معلومات وأفكار مدّخرة في العقل الباطن وأنها تظهر في صورة رؤى، ثم تقوى فيخيّل إلى صاحبها أنها حقائق خارجية، فهل كان الدين الذي جاء به نبينا محمد بعقائده وتشريعاته: في العبادات والمعاملات، والحدود والجنائيات، والاقتصاد والسياسة والأخلاق والاداب مركوزا مدّخرا في نفس النبي؟!.
هذا ما تنكره العقول بداهة لأن ما جاء به النبي في العقائد يعتبر مناقضا لكل ما كان سائدا في العالم حينئذ من عقائد كالوثنية، والمجوسية، والثنوية «2» ، والتأليه، والتثليث والصلب، وإنكار البعث واليوم الاخر، وكذلك جاء النبي بتشريعات لم تأت بها شريعة أخرى، واشتمل القران على أسرار في الكون والأنفس ما كانت تخطر على بال بشرقط، ولم يظهر تأويلها إلا بعد تقدم العلوم في العصر الحديث، فكيف تكون هذه الأسرار والعلوم من داخل نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم؟!
وأيضا فإن الوحي قد انقطع فترة بعد نزول صدر سورة «اقرأ» فكيف سكت النبي طوال هذه المدة، وهو هو صاحب العقل الباطن المملوء بالمعارف، والوجدان الملتهب، والنفس المتوثبة للإصلاح؟!!
__________
(1) الاية 103 من سورة النحل.
(2) الذين يقولون بإله الخير وإله الشر، أو إله النور وإله الظلمة.(1/273)
ثم إن العقل الباطن- على ما يقول علماء النفس- إنما يفيض بما فيه في غفلة من العقل الظاهر، ولذلك لا يظهر ما فيه إلا عن طريق الرؤى والأحلام والأمراض كالحمّى مثلا، والقران الكريم نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في اليقظة، وفي اكتمال من عقله وبدنه، ولم ينزل منه شيء في الرؤى والنوم، وهكذا ترى أن ما استندوا إليه من فكرة العقل الباطن لا تساعدهم بل ترد عليهم.
بطلان ما زعموا أنه صرع
وقد أسفّ بعض المبشّرين والمستشرقين، فزعموا أن الحالة التي كانت تعتري النبي عند تلقي الوحي من جبريل، وهو على حالته الملكية، وهي الحالة التي كان يغيب فيها النبي عن الناس، وعما حوله، ويسمع له غطيط، ويتصبّب عرقه، ويثقل جسمه- هي حالة صرع تتمخض عما يخبر به أنه وحي.
وإليك رد هذه الفرية لترى أنهم طعنوا في غير مطعن:
1- إن النبي صلّى الله عليه وسلّم بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء كان أصح الناس بدنا، وأقواهم جسما، وأوصافه التي تناقلها الرواة الثقات تدل على البطولة الجسمانية، وقد بلغ من قوته أنه صارع ركانة بن عبد يزيد فصرعه، وكان ركانة هذا مصارعا ماهرا، ما قدر أحد أن يأتي بجانبه إلى الأرض، ولما عرض عليه النبي الإسلام قال: صارعني فإن أنت غلبتني امنت أنك رسول الله، فتصارعا، فصرعه النبي، فقيل: إنه أسلم عقب ذلك «1» .
والمصاب بالصرع لا يكون على هذه القوة، وقد شهد للنبي رجل غريب عن الإسلام، ولكنه منصف، قال الكاتب الأجنبي (بودلي) في كتابه «الرسول، حياة محمد» مفندا هذا الزعم: (لا يصاب بالصرع من كان في مثل الصحة التي كان يتمتاع بها محمد، حتى قبل وفاته بأسبوع واحد، وأن كل من تنتابه حالات الصرع كان يعتبر مجنونا، ولو كان هناك من يوصف بالعقل ورجاحته فهو محمد) !!
__________
(1) الإصابة في تاريخ الصحابة، ج 1 ص 205؛ والاستيعاب، ج 1 ص 531.(1/274)
2- إن مريض الصرع يصاب بالام حادة في كافة أعضاء جسمه، يحس بها إذا ما انتهت نوبة الصرع ويظل حزينا كاسف البال بسببها، وكثيرا ما يحاول مرضى الصرع الانتحار من قسوة ما يعانون من الام في النوبات، فلو كان ما يعتري النبي عند الوحي صرعا لأسف لذلك وحزن لوقوعه، ولسعد بانقطاع هذه الحالة عنه، ولكن الأمر كان على خلاف ذلك.
لقد انقطع الوحي عن الرسول مدة فحزن لذلك حزنا شديدا، وكان يذهب إلى غار حراء وقمم الجبال عسى أن يعثر على الملك الذي جاءه بحراء، وبقي محزون النفس من هذه الحالة، حتى سرّى عنه ربه بوصل ما انفصم من الوحي، وعادت المياه إلى مجاريها.
3- إن الوحي لم يكن يأتي النبي صلّى الله عليه وسلّم على هذه الحالة التي قالوا عنها إنها صرع إلا أحيانا، وأحيانا كان يأتيه وهو في حالته الطبيعية، فلا غيبوبة، ولا عرق، ولا غطيط، وذلك حينما كان يأتيه جبريل في صورة رجل، وذلك كما حدث في حديث جبريل المشهور.
ويدل على هاتين الحالتين الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها- أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
«يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟» ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي
الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» «1» قالت عائشة: «ولقد رأيته حين ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصّد «2» عرقا» «3» .
4- إن الثابت علميا أن المصروع أثناء الصرع يتعطل تفكيره وإدراكه تعطلا تاما، فلا يدري المريض في نوبته شيئا عما يدور حوله، ولا ما يجيش في
__________
(1) ذكر النبي في هذا الحالتين اللتين كان يكثر مجيء الوحي عليهما، وفي بعض الأحيان كان يسمع عند ما يأتيه الوحي دويّ كدويّ النحل.
(2) يسيل.
(3) صحيح البخاري- باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.(1/275)
نفسه، كما أنه يغيب عن صوابه وتعتريه تشنجات تتوقف فيها حركة الشعور، ويصبح المريض بلا إحساس.
ولكن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان بعد الوحي يتلو على الناس ايات بيّنات، وتشريعات محكمات، وعظات بليغات، وأخلاقا عالية، وكلاما بلغ الغاية في الفصاحة والبلاغة، تحدّى به الناس أن يأتوا بأقصر سورة منه فعجزوا وما استطاعوا، فهل يعقل من المصروع أن يأتي بشيء من هذا؟! اللهم إن هذا أمر لا يجوز إلا في عقول المجانين إن كانت لهم عقول!!
5- لما تقدّمت وسائل الطب، واستخدمت الأجهزة والكهرباء في التشخيص والعلاج، إذا بالطب يقدّم دليلا لا ينقض، ويقيم حجة لا تحتاج إلى مناقشة على كذب فرية الصرع، ويؤكد أن ما كان يعتري رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما هو وحي من الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يكون شيئا اخر، لقد ثبت أن نوبات الصرع ناتجة عن تغيرات فسيولوجية عضوية في المخ، والدليل على ذلك أنه أمكن تسجيل تغيرات كهربائية في المخ في أثناء النوبات الصرعية مهما كان مظهرها الخارجي، وعلى أية صورة كانت هذه النوبات، ومهما ضعفت حدة هذه النوبات، ولقد أثبت الطب الحديث أخيرا بعد الاستعانة بالأجهزة والرسم الكهربائي على أن هناك مظاهر عديدة ومختلفة للنوبات الصرعية، وذلك تبعا لمراكز المخ التي تبدأ فيها التغيرات الكهربائية، وطريقة وسرعة انتشارها، وأهم أنواع الصرع ما يسمى بالنوبات الصرعية النفسية، وهو ما يشبه أن يكون النوع الذي افتراه الخصوم على الرسول بأنه مصاب به، وفي هذه الحالة تمر بذهن المريض ذكريات، أو أحلام مرئية، أو سمعية، أو الاثنان معا، وتسمى «بالهلاوس» ، وقد أثبت الطب أيضا أن الذكريات التي تمر بالمريض لا بدّ أن يكون قد عاش فيها المريض نفسه حتما إذ أن النوبة الصرعية ما هي إلا تنبيه لصورة أو صوت مرّ بالإنسان ثم احتفظ به في ثنايا المخ، وقد أمكن طبيا إجراء عملية التنبيه هذه بوساطة تيار كهربائي صناعي سلّط على جزء خاص في المخ، فشعر المريض بنفس «الهلاوس» التي تنتابه في أثناء نوبة الصرع، وكلما تكررت نوبة الصرع تكررت نفس الذكريات أو الهلاوس. فهذا مريض يسمع أغنية،(1/276)
أو قطعة من شعر، أو حديثا من أي نوع كان في نوبة صرعه، ويتكرر سماعه لها في كل نوبة، ولا بدّ أن يكون ما سمعه من النوبة قد سمعه يوما ما في طفولته، أو شبابه، أو قبل مرضه، وكذلك إذا كانت النوبة تثير منظرا لا بدّ أن يكون قد مرّ عليه.
وبتطبيق ما قرره الطب الحديث في حقائق الصرع على ما كان يعتري النبي صلّى الله عليه وسلّم نجده يردّد ايات لا يمكن إطلاقا أن يكون قد سمعها من قبل في حياته، فهي ايات واردة من عند الحق سبحانه وتعالى قبل أن يعمر البشر الأرض، مثل قوله سبحانه:
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) «1» .
وايات أخرى فيها قول الله يوم القيامة مثل:
حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) «2» .
وقوله سبحانه:
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) » .
وكذلك الايات التي تحكي عصور ما قبل الإسلام، والمقاولات، والمحاورات التي جرت بين أقوام عاشوا قبل الرسول بالاف السنين وذلك مثل قوله سبحانه:
__________
(1) الايتان 34، 35 من سورة البقرة.
(2) الاية 84 من سورة النمل.
(3) الاية 119 من سورة المائدة.(1/277)
كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) «1» .
وقوله سبحانه:
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) «2» .
إلى غير ذلك من الايات التي تحكي قصص الأولين، أو تصف أحوال القيامة واليوم الاخر.
ولما كانت هذه الأحاديث والأحوال لم تمر بالرسول قطعا فهي لم تختزن بالتالي في المخ لتثيرها نوبات صرعية فيتذكرها، وبذلك يقرر الطب الحديث في أحدث اكتشافاته بالنسبة للصرع أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا يمكن أن يكون هناك أدنى شبهة في إصابته بالصرع إطلاقا، وأن ما كان إنما هي حالة نفسية وجسدية لتلقّي الوحي الإلهي، هذا الوحي الذي أخبر الله فيه عما مضى، وعما يستقبل «3» .
6- ثم ما رأي هؤلاء الطاعنين، وفيهم من ينتمي إلى بعض الأديان في أنهم لا ينالون من نبي الله محمد واحده، وإنما ينالون من جميع أنبياء الله ورسله الذين كانت لهم كتب أو صحف أوحي بها من عند الله سبحانه!! فهل تطيب نفوسهم أن يخربوا بيوتهم قبل أن يخربوا بيوت غيرهم؟!! وما رأيهم فيما جاء في كتب العهد القديم والجديد من إيحاات ونبوات؟! وهل يقولون في وحي نبي الله موسى وعيسى- عليهما السلام- ما يقولون في وحي خاتم الأنبياء محمد؟
__________
(1) الاية 37 من سورة ال عمران.
(2) الايتان 24، 25 من سورة المائدة.
(3) من مقال للأستاذ عبد الرزاق نوفل نشر بمجلة «منبر الإسلام» العدد 9 السنة 19 رمضان سنة 1381 هـ فبراير 1964 م.(1/278)
اللهم إن هذا الطعن لا يفوه به إلا أحد رجلين: إما رجل مادي مخرّف، وإما رجل مخرّب مدمر يريد هدم الأديان!!
إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليس ببدع من الرسل في باب الوحي، وإنه أوحي إليه كما أوحي إليهم، وصدق الحق تبارك وتعالى حيث يقول:
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) «1» .
وقال:
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) «2» .
الرسالة
أول ما نزل بعد فترة الوحي
وفي أثناء فترة الوحي كان النبي يذهب إلى غار حراء، فيخلو فيه، ويتعبد به، وبينا هو نازل ذات يوم إذ سمع صوتا من السماء، فرفع رأسه فإذا جبريل في صورته التي خلقه الله عليها سادا ما بين الأفق، فرعب منه ثم رجع
__________
(1) الايتان 163، 164 من سورة النساء.
(2) الايات 51- 53 من سورة الشورى.(1/279)
إلى السيدة خديجة- رضي الله عنها- فقال: «زملوني، زملوني» فزملوه فأنزل الله عليه:
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) «1» .
فكانت أول ايات نزلت بعد فترة الوحي امرة بالإنذار، وداعية إلى توحيد الله، وتعظيمه، وعبادته واحده وترك عبادة غيره.
يدل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحدّث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: «فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء- أي جهتها- فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت «2» منه حتى هويت على الأرض، فجئت أهلي فقلت: «زملوني، زملوني، فزملوه، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ.. إلى قوله: فَاهْجُرْ ثم حمي الوحي وتتابع» .
نزول سورة «الضحى»
ويرى ابن إسحاق أنه نزل بعد فترة الوحي سورة «والضحى» ، قال في سيرته: ثم فتر الوحي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فترة من ذلك حتى شقّ ذلك عليه، فأحزنه، فجاءه جبريل بسورة الضحى، يقسم له ربه، وهو الذي أكرمه بما أكرمه به: ما ودّعه ربه، وما قلاه، فقال تعالى:
__________
(1) المدثر: لابس الدثار وهو ما فوق الشعار، والشعار: هو الثوب الذي يلي الجسد، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الأنصار شعار، والناس دثار» . والمزمل: المتلفف في ثيابه ومعناهما متقارب. الإنذار: التخويف والزجر أي حقّق صفة الإنذار. وربك فكبر: عظم وخصّه بذلك. وثيابك فطهر: صنها عن الأقذار في الصلاة وغيرها، وقيل: المراد طهّر نفسك مما يستقذر من الأفعال والأخلاق. والرجز فاهجر: الرجز: الأوثان، اهجر: اترك، والمراد به أمته فقد كان صلّى الله عليه وسلّم منزها عن ذلك.
(2) أي رعبت منه.(1/280)
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى «1» (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) .
ما صرمك أي قطعك فتركك، وما أبغضك منذ أحبك:
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) .
أي لما عندي في مرجعك إلي خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا:
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) .
من الفلج «2» في الدنيا، والثواب في الاخرة:
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى (8) .
يعرّفه الله ما ابتدأه به من كرامته في عاجل أمره، ومنّه عليه في يتمه، وعيلته «3» ، وضلالته «4» ، واستنقاذه من ذلك كله برحمته:
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) .
أي لا تكن جبارا، ولا متكبرا، ولا فحاشا فظا على الضعفاء من عباد الله:
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) .
__________
(1) سجى: غطى كل شيء بظلمته، ومن اللطائف البلاغية القرانية هذا التطابق البديع بين المقسم به، والمقسم عليه: فانقطاع الوحي ظلمة ورجوعه نور وضحى له ما بعده، وقدم الضحى ليكون أول ما يقرع الأسماع كلمة مبشرة، وللإشارة إلى أن الظلمة عارضة، والنور أصل، وكذلك انقطاع الوحي عارض واستمراره هو الأصل.
(2) الغلب والنصر.
(3) العيلة: الفقر.
(4) يعني تحيره في هداية قومه، وقيل كان ضلّ أي غاب عن أهله وهو صغير فهداه الله إليهم.(1/281)
أي بما جاءك من الله من نعمته وكرامته من النبوة «1» أي اذكرها، وادع إليها، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد به من النبوة سرا إلى من يطمئن إليه من أهله «2» .
وذكر الطبري في تفسيره نحو ذلك عن ابن عباس، وكذلك ذكر بعض كتاب السير قديما وحديثا، والحق أن أول ما نزل بعد فترة الوحي هي الايات من صدر سورة «المدثر» كما ذكرنا أولا، لأن ما في السيرة لا ينهض من جهة قوة السند لمقاومة ما في الصحيح، لأن هذه الروايات- كما قال الحافظ في الفتح- لا تثبت، وتكون سورة الضحى من أوائل ما نزل بعد فترة الوحي وليست أول ما نزل، والمؤلفون في علوم القران وترتيب السور في النزول لم يذكر أحد منهم أنها ثاني سورة نزلت من القران، وإنما قالوا: إنها من أوائل السور نزولا «3» .
والحق في سبب نزول «والضحى» هو ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن جندب «4» بن سفيان البجلي قال: «اشتكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يقم ليلة، أو ليلتين، أو ثلاثا، فجاءت امرأة «5» فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك «6» منذ ليلتين أو ثلاثا، فأنزل الله عز وجل: وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى....
وعلى هذا فتكون السورة نزلت في فترة أخرى غير هذه الفترة التي كانت بعد ابتداء الوحي، فإن تلك دامت أكثر من ذلك كما ذكرت انفا، وأما هذه فلم تكن أكثر من ليلتين أو ثلاث، فاختلطتا واستبهمتا على بعض العلماء «7» ، فكن على بيّنة من هذا التحقيق، وشدّ عليه بيديك.
__________
(1) هذا رأي ابن إسحاق، والذي أراه أن يكون المراد جميع النعم من النبوة وغيرها، أثناء الدعوة سرّا وبعدها.
(2) سيرة ابن هشام ج 1 ص 241، 243.
(3) الإتقان في علوم القران ج 1 ص 10.
(4) بضم الجيم، وسكون النون، وضم الدال.
(5) هي أم جميل بنت حرب امرأة أبي لهب.
(6) بكسر الراء في الماضي، وفتحها في المضارع.
(7) البداية والنهاية ج 2 ص 17؛ فتح الباري ج 8 «سورة الضحى» .(1/282)
الفصل الثاني أطوار الدّعوة الى الإسلام
بدء الدعوة السرية
وبعد نزول ايات المدثّر قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو إلى الله وإلى الإسلام سرا، وكان طبعيا أن يبدأ بأهل بيته، وأصدقائه، وألصق الناس به.
إسلام السيدة خديجة
وكان أول من امن به من النساء، بل أول من امن به على الإطلاق زوجه السيدة خديجة- رضي الله عنها- ومن تأمل في حديث بدء الوحي الذي سقته انفا لا يشك في هذا، وكانت وزيرة صدق للنبي، ومسرّية عنه ما يجده من قومه، لا يسمع شيئا يكرهه من ردّ عليه، وتكذيب له، فيحزنه ذلك إلا فرّج الله عنه بها، إذا رجع إليها تثبته، وتخفف عنه، وتصدقه، وتهوّن عليه أمر الناس، وهكذا كانت تصل إلى شغاف قلبه بعطفها، وحبها، وتزيل عنه اثار الأذى بيديها، وتمسح ما عسى أن يكون علق بنفسه من الناس بحديثها المؤمن العذب.
إسلام أبي بكر
وأول من امن به من الرجال الأحرار، الأشراف، صديقه الحميم أبو بكر: عبد الله «1» بن عثمان- المعروف بأبي قحافة التّيمي- من بني تيم بن
__________
(1) هذا اسمه على المشهور، ويقال كان اسمه: عبد الكعبة، وقيل: عبد رب الكعبة، فسماه رسول الله: عبد الله، وكان يلقب «بالعتيق» قيل لأن أمه ما كان يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به البيت، وقالت: اللهم هذا عتيقك من الموت، وقيل لحسن وجهه وصباحته فيكون لقبا جاهليا، وقيل لأن النبي بشره بأن الله أعتقه من النار فيكون لقبا إسلاميا.(1/283)
مرة، شيخ الإسلام، والوزير الأول لرسول الله، والذي واساه بنفسه وماله، وأفضل الأمة الإسلامية بعد رسولها، وفيه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة، وتردد، ونظر، إلا أبا بكر، ما عكم «1» حين دعوته، ولا تردّد فيه» .
إسلام علي
وأول من امن به من الصبيان ابن عمه، والمتربّي في حجره علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- وكانت سنه إذ ذاك عشر سنين على أرجح الأقوال، وهو قول الطبري وابن إسحاق، وقد صار فيما بعد ختن رسول الله على ابنته السيدة فاطمة الزهراء، وهو أبو الحسن والحسين- رضي الله عنهما-.
إسلام زيد بن حارثة
وأول من امن به من الموالي «2» حبّه، ومولاه، ومتبنّاه: زيد بن حارثة الكلبي الذي اثر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على والده وأهله.
إسلام بلال
وأول من امن به من العبيد «3» بلال بن رباح الحبشي مولى الطاغية أمية بن خلف، والذي صار فيما بعد مؤذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
بنات النبي
وكذلك سارع إلى الإسلام بنات النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنه لا شك في تمسكهن قبل البعثة بما كان عليه أبوهن من الاستقامة وحسن السيرة، والتنزه عما كان يفعله أهل الجاهلية، من عبادة الأصنام والوقوع في الاثام، وفي اقتدائهن بأمهن في المسارعة إلى الإيمان، والبنت غالبا ما تتأثر بوالديها ولا سيما في مثل هذا السن، روى ابن إسحاق عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: «لما أكرم الله نبيه بالنبوة أسلمت خديجة، وبناته» .
__________
(1) ما تلبث بل سارع.
(2) يطلق المولى على السيد، وعلى المملوك الذي أعتق وهو المراد هنا.
(3) أي المماليك الذين لم يعتقوا.(1/284)
أول من أسلم
وقد اختلف في أول من أسلم اختلافا كثيرا، فقيل: خديجة، وقيل:
أبو بكر، وقيل: علي، وقيل غير ذلك، وذهب إلى كلّ فريق، وقد اثرت عدم الإفاضة في هذا هنا، وفصّلت القول فيه في كتابي «علوم الحديث» «1» .
وهذا الذي اثرته هنا في التوفيق بين الأقوال المتضاربة هو ما روي عن الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان «وهو توفيق حسن، وهو الذي عليه بعض المحققين كابن الصلاح، والنووي حيث قال: والأورع أن يقال: أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان علي، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد، ومن العبيد بلال» «2» .
السابقون الأولون
من أسلم من الصحابة بدعوة أبي بكر
وكان أبو بكر- رضي الله عنه- رجلا مألفا «3» لقومه، محببا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها، وبما كان فيها من خير وشر، وكان رجلا تاجرا ميسورا ذا خلق كريم، وصاحب معروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لهذه المعاني والصفات وغيرها.
ولم يكتف بالمسارعة إلى الإيمان والتصديق بالنبي، بل قام بالدعوة إلى الإسلام سرا، وكان له فضل كبير في إسلام كثير من أشراف قريش وكبرائها، فأسلم بدعوته جماعة منهم:
__________
(1) القسم الرابع ص 40، 44.
(2) مقدمة ابن الصلاح بشرحها للعراقي ص 266- 268؛ التدريب شرح التقريب ص 208، 209.
(3) يألفه الناس.(1/285)
عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي «1» .
والزبير بن العوام بن خويلد، بن أسد، بن عبد العزى، بن قصي بن كلاب، ابن عمة النبي صفية.
وعبد الرحمن بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب.
وسعد بن أبي وقاص واسمه: مالك بن أهيب «2» ، بن عبد مناف، بن زهرة بن كلاب.
وطلحة بن عبيد الله بن عثمان، بن عمرو، بن كعب، بن سعد، بن تيم، بن مرة.
فجاء بهم أبو بكر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين استجابوا له، فأسلموا وأصبحوا من جنود الإسلام المخلصين لدعوته.
ولما أسلم الصديق وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية- وكان يدعى أسد قريش- فشدهما في وثاق «3» واحد، ولم يمنعهما بنو تيم، فلذلك كان يقال لأبي بكر وطلحة «القرينان» .
الرعيل الثاني
ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، بن هلال، بن أهيب، ابن ضبة، بن الحارث، بن فهر.
وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد، بن هلال، بن عبد الله، بن عمرو،
__________
(1) أمه أروى بنت كريز بن ربيعة، وأمها البيضاء أم حكيم بنت عبد المطلب عمة رسول الله.
(2) أهيب هو عم السيدة امنة بنت وهب والدة النبي، فأبو وقاص مالك ابن عمها، وابن العم كالأخ، فهذا هو السبب في تسمية سعد خال رسول الله لأن أباه بمنزلة الخال له.
(3) أي حبل.(1/286)
ابن مخزوم، بن يقظة، بن مرة، ابن عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برة بنت عبد المطلب وأخوه من الرضاع.
والأرقم بن أبي الأرقم، واسمه: عبد مناف، بن أسد، بن عبد الله، ابن عمر، بن مخزوم، بن يقظة، بن مرة، بن كعب، بن لؤي.
وعثمان بن مظعون، بن حبيب، بن وهب، بن حذافة، بن جمح، ابن عمرو، بن هصيص، بن كعب، بن لؤي، وأخواه: قدامة، وعبد الله، ابنا مظعون بن حبيب.
وعبيدة بن الحارث، بن المطلب، بن عبد مناف، بن قصي.
وسعيد بن زيد، بن عمرو، بن نفيل، بن عبد العزّى، بن عبد الله، ابن قرط، بن رياح، بن رزاح، بن عدي، بن كعب، بن لؤي، وامرأته فاطمة بنت الخطاب بن نفيل أخت عمر بن الخطاب، فهي ابنة عم أبيه.
وأسماء بنت أبي بكر الصديق، وقد ذكر ابن إسحاق وغيره أختها عائشة أيضا، وهو وهم، لأن عائشة لم تكن ولدت، فكيف تكون أسلمت؟! وكان مولدها سنة أربع، وقيل سنة خمس بعد النبوة.
وخباب بن الأرت «1» حليف بني زهرة، قال ابن هشام: خباب بن الأرت من بني تميم، ويقال: هو من خزاعة.
الرعيل الثالث
ثم أسلم عمير بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص.
وعبد الله بن مسعود، بن الحارث، بن شمخ، بن مخزوم، بن صاهلة، ابن كاهل- بفتح الهاء-، بن الحارث، بن تميم، بن سعد، بن هذيل.
ومسعود بن القاري، وهو مسعود بن ربيعة، بن عمرو، بن سعد، بن عبد العزّى، بن حمالة من القارة «2» .
__________
(1) خباب بفتح الخاء وتشديد الباء، والأرت بفتح الهمزة والراء وتشديد التاء.
(2) بتخفيف الراء قبيلة، وهم: عضل، والديش ابنا الهون بن خزيمة، وسموا قارة لاجتماعهم، وهم قوم مشهورون بالرماية، قال الشاعر: قد أنصف القارة من راماها.(1/287)
وسليط بن عمرو، وأخوه حاطب بن عمرو، وعيّاش بن أبي ربيعة، وامرأته أسماء بنت سلامة، وخنيس بن حذافة السهمي، وعامر بن ربيعة حليف ال الخطاب، وعبد الله بن جحش وأخوه أبو أحمد: عبد بن جحش من بني أسد حليفا بني أمية بن عبد شمس، وجعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عميس، وحاطب بن الحارث، وامرأته فاطمة بنت المجلل، وأخوه خطاب بن الحارث، وامرأته فكيهة بنت يسار، وأخوهما، معمر بن الحارث، والسائب بن عثمان بن مظعون، والمطلب بن أزهر، وامرأته رملة بنت أبي عوف، والنحام بن عبد الله بن أسيد.
وعامر بن فهيرة «1» مولى أبي بكر، وفهيرة أمه، وكان عبدا للطفيل بن الحارث بن سخبرة، فاشتراه الصديق وأعتقه، وخالد»
بن سعيد بن العاص ابن أمية، بن عبد شمس، بن عبد مناف، بن قصي، وامرأته أمينة بنت خلف ويقال: همينة، وأبو حذيفة بن عتبة، بن ربيعة، بن عبد شمس، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف، وخالد وعامر وعاقل وإياس بنو البكير بن عبد ياليل، وعمار بن ياسر حليف بني مخزوم بن يقظة، وقال ابن هشام: عنسي من مذحج.
وصهيب بن سنان أحد النمر بن قاسط حليف بني تيم بن مرة، ويقال:
مولى عبد الله بن جدعان، فعلى أنه عربي يقال: إنه أسر وهو صغير، فنشأ ببلاد الروم، فصار ألكن «3» ، فابتاعته منهم كلب ثم قدمت به مكة، فاشتراه عبد الله بن جدعان، ويقال: إنه رومي وقد جاء في الحديث: «صهيب سابق الروم» .
__________
(1) بضم الفاء على صيغة المصغر.
(2) له قصة ذكرها البيهقي (البداية والنهاية، ج 3 ص 3) .
(3) لا يستقيم لسانه بالعربية.(1/288)
ومن السابقين إلى الإسلام: أبوذر الغفاري، وأخوه أنيس، وأمه، وقصة إسلامه مبسوطة في صحيح البخاري، وفي صحيح مسلم «1» .
وهكذا نجد أنه دخل في الإسلام أرسال من الرجال والنساء حتى فشا الإسلام بمكة، وتحدث به الناس في كل مكان.
في دار الأرقم بن أبي الأرقم
وكان الأرقم- رضي الله عنه- من السابقين الأولين كما رأيت، وكانت داره منتدى يجتمع فيه المسلمون، ويعبدون الله سرا، ويلقنهم النبي صلّى الله عليه وسلّم الإسلام وأصوله، ويتعهّدهم بالتربية حتى كوّن منهم أناسا يستهينون بكل الالام والبلاء في سبيل دينهم وعقيدتهم، وكان من يريد الإسلام يأتي إليها مستخفيا خشية أن يناله أذى قريش، وكانت هذه الدار عند الصفا.
ومكث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في هذه الدار حتى أسلم الفاروق عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فاستعلنوا بعبادتهم وراغموا أهل مكة، وأذلوهم، وقد أعطى رسول الله الأرقم دارا بالمدينة، ولعل هذا مكافأة له على ما أدته داره بمكة من خدمة جليلة للإسلام في أول عهده، فلله هذه الدار التي فاقت أعظم مدارس العالم، وجامعات الدنيا، وخرّجت أعظم رجال عرفهم التاريخ، ولا تزال هذه الدار مفخرة خالدة للأرقم، وشذى يتضوّع إلى يوم القيامة.
شجاعة للصديق ومحنة
وعرض الصدّيق أبو بكر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- وقد وصل عدد المسلمين حوالي ثمانية وثلاثين رجلا- أن يظهروا ويستعلنوا، فقال له: «يا أبا بكر إنا قليل» ولم يزل الصدّيق برسول الله حتى أذن لهم في الخروج إلى المسجد الحرام، وتفرق المسلمون فيه كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول الله جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله، وإلى رسول الله، وثار المشركون على أبي بكر والمسلمين، فضربوا في نواحي المسجد ضربا شديدا،
__________
(1) صحيح البخاري- كتاب فضائل الصحابة- باب إسلام أبي ذر، صحيح مسلم كتاب الفضائل- باب فضل أبي ذر.(1/289)
ووطىء أبو بكر، وضرب ضربا مبرّحا، وجعل عتبة بن ربيعة يضربه بنعلين مخصوفتين، ويحرفهما لوجهه حتى فقد وعيه، فحمله بنو تيم إلى منزله، وقالوا:
لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة، وجعل أبو قحافة والد الصديق وقومه يكلمونه حتى أفاق، وأجاب اخر النهار «1» .
فماذا كان من أبي بكر وقد أفاق؟ لقد كان أول ما قال: ما فعل رسول الله؟ فمسّوه بألسنتهم وعذلوه، فلما خلت به أمه قال لها: ما فعل رسول الله؟ فقالت: والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه- وكانت تخفي إسلامها- فذهبت إليها وقالت: إن أبا بكر يسألك عن صاحبه محمد بن عبد الله؟ فقالت: ما أعرف أبا بكر، ولا محمد بن عبد الله!! وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك فعلت، قالت:
نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا، دنفا، فدنت منه أم جميل، وصاحت قائلة: والله إن قوما نالوا منك هذا لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسول الله؟ قالت: هذه أمك تسمع؛ قال:
فلا شيء عليك منها، قالت: سالم صالح! قال: أين هو؟ قالت: في دار الأرقم، قال: فإن لله عليّ ألاأذوق طعاما، ولا أشرب شرابا، أو اتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فأمهلتاه حتى إذا هدأت الرجل «2» ، وسكن الناس خرجتا به يتكىء عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله، فأكب عليه رسول الله فقبله، وقبله المسلمون، ورقّ له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رقة شديدة، فقال: بأبي أنت وأمي ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برّة بولدها، وأنت مبارك، فادعها إلى الله، وادع لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار، فدعا لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودعاها إلى الله، فأسلمت «3» .
__________
(1) في القاموس: النعل ذات الطراق، وكل طراق خصفة، وخصف النعل يخصفها خرزها، فهي إما مرقعة أو جعل جلدها طبقة فوق طبقة، فهي الم وأوجع.
(2) أي قلّ السائرون في الطريق.
(3) البداية والنهاية، ج 3 ص 30.(1/290)
الفصل الثالث: [أطوار الدعوة]
الجهر بالدّعوة وما صاحبه من إيذاء وإغراء
ثم أمر الله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن يصدع بالدعوة إلى الله، وكان ذلك بعد مضي ثلاث سنين من عمر الدعوة، فأنزل الله تبارك وتعالى قوله:
فَاصْدَعْ «1» بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) «2» .
فجهر النبي بالدعوة، واستعلن بها هو وأصحابه، فلم يبعد منه قومه، ولم يردوا عليه، حتى عاب الهتهم، وسفّه أحلامهم، وبين لهم ما هم فيه من الضلالة والجهل والخرافات، فجاهروه وصحبه بالعداوة، وعزموا على مخالفته، عصبية وجهلا، ولمّا لم يمكنهم أن يقرعوا الحجة بالحجة، وأفحموا، لجأوا إلى السباب والشتم، والإيذاء، والتعذيب؛ ومن ثم بدأ دور المحنة والبلاء، وكان دورا طويلا شاقا أوذي فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم على الرغم من حدب عمه أبي طالب عليه، ومنعه له، وأوذي المسلمون غاية الإيذاء، ولا سيما الأعبد والضعفاء.
دعوة النبي عشيرته الأقربين
ولما نزل قوله تعالى:
__________
(1) اجهر بما تؤمر به وأظهره يقال: صدع بالحجة إذا تكلم جهارا، من الصديع وهو الفجر، وقيل: افرق بين الحق والباطل لأن الصدع في الزجاجة الكسر والإبانة، وبما تؤمر: أي به من الشرائع، ومن لطائف التعبير البلاغية الإشارة إلى أن رؤوسهم في حاجة إلى كسر وتصحيحها من جديد، وقلوبهم في حاجة إلى صدع حتى يدخل فيها الدين الجديد.
(2) الاية 94 من سورة الحجر.(1/291)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) «1» .
صعد النبي صلّى الله عليه وسلّم على الصفا، فجعل ينادي، يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما الأمر؟ فجاء أبو لهب، وقريش، فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدّقيّ؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا!! قال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا «2» لك، ألهذا جمعتنا» فأنزل الله في الرد عليه:
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) «3» .
عداوة أبي لهب وامرأته للنبي
ومن المفارقات العجيبة أن أبا لهب «4» هذا عم النبي، وهو الذي أعتق جاريته (ثويبة) لما بشرته بميلاد ابن أخيه محمد، ومع هذا كان من أشد الناس عداوة له، وقد سمعت انفا ردّه على النبي وسبه له، وكان من موجبات رعاية الرحم أن يسكت ولا يسب.
وكذلك كانت امرأته أم جميل «5» من أشد الناس عداوة للنبي: كانت
__________
(1) الايات 214، 216 من سورة الشعراء.
(2) أي هلاكا.
(3) صحيح البخاري- كتاب التفسير- سورة الشعراء، والجيد: العنق، والمسد ليف غليظ خشن، وقيل: سلسلة من حديد وهي أنكى في العذاب.
(4) اسمه عبد العزّى.
(5) اسمها أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان.(1/292)
تسعى بالإفساد بينه وبين الناس بالنميمة، وتضع الشوك في طريقه، والقذر على بابه، فينحيه ويقول: «أي جوار هذا يا بني عبد مناف» ؟! فلا عجب إذا كان الله عز شأنه توعدها بالنار، كما توعد زوجها.
ولما سمعت امرأة أبي لهب ما نزل فيها وفي زوجها من القران أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق، وفي يدها فهر «1» من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن النبي، فلا ترى إلا أبا بكر!! فقالت: يا أبا بكر أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إني لشاعرة، ثم قالت:
مذمما عصينا، وأمره أبينا، ودينه قلينا وانصرفت.
فقال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأتك؟ فقال: «ما رأتني، لقد أخذ الله ببصرها عني» وكانت قريش، إنما تسمي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لشدة بغضهم له، وكراهيتهم ذكر اسمه على لسانهم: «مذمّما» بدل (محمد) ثم يسبون مذمما، فكان رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: «ألا تعجبون لما يصرف الله عني من أذى قريش، يسبون ويهجون مذمّما، وأنا محمد» !! ويعتبر هذا من منن الله عليه، وهكذا صرف الله عنه وصول السباب باللسان، كما صرف عنه وصول الأذى بالفعال، فسبحان الله الكبير المتعال.
إيغال أبي لهب في العداوة
وقد بلغ من أمر أبي لهب أنه كان يتبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الأسواق، والمجامع، ومواسم الحج ويكذّبه. روى الإمام أحمد في مسنده عن رجل «2» قال:
«رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: «يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا» والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه
__________
(1) حجر ملء الكف.
(2) هو ربيعة بن عباد كان جاهليا فأسلم.(1/293)
أحول ذو غديرتين «1» يقول: إنه صابىء «2» كاذب!! يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فقالوا: عمه أبو لهب.
منع أبي طالب النبي وحبه له
وكان على الضد من ذلك عمه أبو طالب شيخ قريش، وسيدها، فقد كان ابن أخيه أحب الناس إليه طبعا ورحما، وكان يحنو عليه، ويحسن إليه في صغره، ويدافع عنه ويحامي في كبره، ويخالف قومه في ذلك مع أنه على دينهم، وقد كان استمراره على دين قومه من حكمة الله تعالى، ومما صنعه لرسوله من الحماية؛ إذ لو كان أسلم لما كان له عند قريش وجاهة ولا كلمة، ولا كانوا يهابونه، ويحترمونه، ولا جترأوا عليه، ولمدوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه، وربك يخلق ما يشاء ويختار، ويدبر الخلق على حسب الحكمة والمصلحة، وقد قسم خلقه أنواعا وأجناسا فهذان أخوان كافران: أحدهما محب منافح، والاخر مبغض مؤذ مكابر.
وأيضا فلو كان أسلم هذان الكبيران الشريفان من بني هاشم لقال المتقوّلون ذوو العصبية: إن بني هاشم يريدون أن يستأثروا بالرئاسة والزعامة والملك، وربما ضرّ هذا أكثر مما ينفع.
وقد شاء الله- وله الحكمة البالغة- أن يسارع أحد أعمامه وهو حمزة إلى الإسلام، وقد كان ذلك لمصلحة الدعوة كما سترى، وأن يتأخر إسلام الاخر وهو العباس إلى ليلة الفتح، وقد كان ذلك في مصلحة الدعوة أيضا، فقد كان العباس- رضي الله عنه- بمثابة العين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قريش.
من مساات قريش للرسول
ومع منع أبي طالب لابن أخيه، وصدّه عنه، وحمايته له لم يسلم صلّى الله عليه وسلّم من الإساات والإيذاء، ومحاولة القتل، والسباب والفحش، والهزء والسخرية،
__________
(1) ضفيرتين من الشعر.
(2) خارج من دين قومه.(1/294)
وابتلي في هذا أشد الابتلاء، ولكن كل ذلك لم ينل من نفسه، ولا وهن من عزيمته، وتصميمه على أداء رسالته، وتحمل في ذلك ما تنوء به الجبال الراسيات، فكان في ذلك القدوة الحسنة لأصحابه، والسلوى إذا حزبهم الأمر، واشتد بهم الكرب، وعظم البلاء.
قصة أبي جهل والفحل من الإبل
وقد حمل كبر هذا الإثم أبو جهل فرعون هذه الأمة، فقد قال: يا معشر قريش، إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم ابائنا، وتسفيه أحلامنا، وسبّ الهتنا، وإنّي أعاهد الله لأجلسنّ له غدا بحجر، فإذا سجد في صلاته فدخت به رأسه. فليصنع بنو عبد مناف ما بدا لهم.
فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا، ثم جلس لرسول الله ينتظره، وغدا رسول الله يصلّي بين الركنين: الأسود واليماني، وغدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون، فلما سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه متلصصا، حتى إذا دنا منه رجع منبهتا، منتقعا لونه، مرعوبا قد يبست يداه على حجره من الخوف حتى قذف الحجر من يده، فقام إليه رجال من قريش، فقالوا له: ما بك يا أبا الحكم؟! قال: قمت إليه لأفعل ما صممت عليه البارحة، فلما دنوت منه عرض لي فحل من الإبل، والله ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته «1» ولا أنيابه لفحل قط، فهمّ أن يأكلني. قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ذلك جبريل، ولو دنا منه لأخذه» .
مرة أخرى: وفي مرة أخرى قال: إنّ لله عليّ إن رأيت محمدا ساجدا لأطأنّ عنقه، ولأعفرنّ وجهه بالتراب، فأتى رسول الله ليطأ رقبته، فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه خندقا من نار، وهولا، وأجنحة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة» .
__________
(1) القصرة: العنق.(1/295)
مرة ثالثة: وفي مرة ثالثة مرّ بالنبي وهو يصلي، وقد جبن بعد ما رأى من حماية الله لنبيه، فقال: ألم أنهك أن تصلي يا محمد؟ لقد علمت ما بها أكثر ناديا مني، ولكن النبي انتهره، فرجع خاسئا وهو حسير، وقد أنزل الله- عز شأنه- في أبي جهل وسفاهاته ومسااته قوله:
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ «1» (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ «2» (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «3» (18) كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) «4» .
أشقى القوم عقبة بن أبي معيط
وفي ذات يوم كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي عند الكعبة وصناديد قريش جلوس، فقال بعضهم: من ينطلق إلى سلا «5» جزور بني فلان، فيأتي به فيضعه على ظهر محمد وهو ساجد؟ فذهب أشقى القوم عقبة بن أبي معيط، فجاء به ووضعه على ظهر رسول الله، وهم يتضاحكون، ويميل بعضهم على بعض، فلم يزل ساجدا حتى جاءت فاطمة، وهي فتاة صغيرة، فأخذته عن ظهره. ثم أقبلت عليهم فسبتهم ووبختهم، فدعا عليهم رسول الله قائلا: «اللهمّ عليك بهذا الملأ من قريش، اللهم عليك بعتبة بن ربيعة، اللهمّ عليك بشيبة بن ربيعة، اللهمّ عليك بأبي جهل بن هشام، اللهمّ عليك بعقبة بن أبي معيط، اللهمّ عليك بأمية بن خلف» ، وقد استجاب الله الدعاء فقتلوا جميعا يوم بدر.
وبينما النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع
__________
(1) لنضربنه على ناصيته: كناية عن إذلاله وإهانته.
(2) أي أهل ناديه.
(3) الملائكة الموكلون بالعذاب.
(4) الايات 6- 19 من سورة اقرأ.
(5) هو الذي يخرج منه ولد الناقة كالمشيمة لولد المرأة، ويكون به قذر ودماء.(1/296)
ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر- رضي الله عنه- حتى أخذ بمنكب عقبة، ودفعه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «أتقتلون رجلا أن يقول: ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم» «1» .
وفي مرة ثالثة جاء عقبة هذا والنبي يصلي عند الكعبة، فوضع رجله على عنق رسول الله- عليه الصلاة والسلام- حتى كادت عيناه تندران «2» .
النضر بن الحارث
وممن كان شديد العداوة والإيذاء للرسول: النضر بن الحارث، وكان شيطانا من شياطين قريش وسفهائهم، وكان قدم الحيرة وتعلّم بها أحاديث ملوك فارس، وأحاديث رستم، واسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مجلسا فذكّر فيه بالله، وحذّر قومه أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله وعذابه، خلفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه، فهلمّ إلي، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم قصص ملوك فارس، وأخبارهم، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثا مني؟
عظمة شخصية النبي صلّى الله عليه وسلّم
قد سمعت بعض ما نال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قومه من إيذاء، وعداوة رؤسائهم له، ولا سيما رأس الكفر أبو جهل، وقد كان فيما عصم الله به نبيه، وما راه أبو جهل حينما همّ بفدخ رأس النبي بحجر ما زرع في قلبه الخوف من النبي، وقد كان له صلّى الله عليه وسلّم من الاكتمال الجسمي وعظمة الشخصية ما جعله مهيبا في نفوسهم على رغم عداوتهم له، وإليك ما يدل على ذلك:
قصة الإراشي
روى ابن إسحاق قال: قدم رجل من إراش «3» بإبل له إلى مكة، فابتاعها
__________
(1) صحيح البخاري باب ما لقي النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من المشركين بمكة.
(2) أي تخرجان من شدة الضغط.
(3) بكسر الهمزة والشين المعجمة: اسم قبيلة.(1/297)
- أي اشتراها- منه أبو جهل، فمطله بأثمانها، فأقبل الإراشي حتى وقف على نادي قريش، ورسول الله جالس في ناحية من المسجد، فقال يا معشر قريش، من رجل يعديني «1» على أبي الحكم بن هشام؟ فإني غريب وابن سبيل، وقد غلبني على حقي، فقال أهل المجلس: ترى هذا؟ - وأشاروا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة- اذهب إليه، فهو يعديك عليه، يريدون الاستهزاء به، فأقبل الإراشي حتى وقف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكر ذلك له، فقام معه، فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن معهم: اتبعه فانظر ما يصنع؟!
فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جاءه فضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟
قال: «محمد، فاخرج» ، فخرج إليهم وما في وجهه قطرة دم، وقد انتقع لونه، فقال: «أعط هذا الرجل حقه» قال: لا تبرح حتى أعطيه الذي له، فدخل، فخرج إليه بحقه، فدفعه له، ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال للإراشي: «الحق لشأنك» ، فأقبل الإراشي حتى وقف على ذلك المجلس، فقال: جزاه الله خيرا، فقد أخذت الذي لي!!
ولما جاء الرجل الذي أرسلوه ليرى ما يصنع أبو جهل، قالوا له: ويحك ماذا رأيت؟ قال: عجبا من العجب! والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج وما معه روحه، فقال له: «أعط هذا الرجل حقه» فأعطاه!!
ثم لم يلبث أن جاء أبو جهل فلاموه، وقالوا- ساخرين منه-: فو الله ما رأينا مثل الذي فعلت!! فقال: ويحكم، ما هو إلا أن ضرب عليّ بابي، وسمعت صوتا فملئت رعبا! وإن فوق رأسه فحلا من الإبل ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته، ولا أنيابه لفحل قط!! فو الله لو أبيت لأكلني!! وهكذا كانت صورة هذا الفحل من الإبل لا تبرح مخيلة أبي جهل أبدا!!
قصة أخرى
ومرة أخرى اجتمع أشرافهم في الحجر، فذكروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا:
__________
(1) ينصرني ويأخذ لي بحقّي.(1/298)
ما رأينا مثل صبرنا على هذا الرجل قط: سفّه أحلامنا، وشتم اباءنا، وعاب ديننا، وفرّق جماعتنا، وسب الهتنا، وصرنا منه على أمر عظيم، فبينما هم في ذلك طلع رسول الله، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مرّ بهم طائفا بالبيت، فغمزوه ببعض القول، فعرف ذلك في وجهه فمضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، ثم مرّ بهم الثالثة ففعلوا مثل ذلك، فأقبل عليهم قائلا: «أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح» ، فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم من رجل إلا وكأنما على رأسه طائر وقع، حتى إن أشدهم فيه وصاة بإيذائه ليرفؤه «1» ويلاطفه ويقول له: انصرف أبا القاسم راشدا، فما كنت بجهول!!
وهكذا كان الواحد منهم يأتي إليه قاصدا الشر، أو ينال منه بالسب، فإذا واجهه النبي اضطرب، وتلعثم، وخارت قواه «2» .
إسلام حمزة بن عبد المطلب «3»
وكان السبب في ذلك أن أبا جهل مرّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند الصفا فاذاه وشتمه، ونال منه بعض ما يكره، فلم يكلمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت هناك مولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرف عنه، فعمد إلى ناد من قريش، فجلس معهم، فلم يلبث حمزة أن أقبل متوشحا «4» قوسه راجعا من قنص «5» له- وكان صاحب قنص يرميه، ويخرج له- وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم، وتحدث معهم، وكان أعزّ فتى في قريش، وأشدهم شكيمة، فلما مرّ بالمولاة قالت له: يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد
__________
(1) ليهدئه ويسكنه.
(2) السيرة لابن هشام ج 1 ص 289، 389؛ والبداية والنهاية ج 3 ص 45، 46.
(3) قد اختلف في سنة إسلامه، فقيل: سنة ست، وقيل: في السنة الثانية من المبعث، وبه جزم الحافظ في الإصابة.
(4) متقلدا.
(5) بفتح القاف والنون: صيد له.(1/299)
انفا من أبي الحكم بن هشام!! وجده هنا جالسا فاذاه وسبه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه، ولم يكلمه محمد.
من لحظات التجلّي الإلهي
فاحتمل الغضب حمزة لما أراد الله كرامته، وأدركته لحظة من لحظات التجلّي الإلهي، فانطلق يسعى مصمما أنه إذا لقي أبا جهل بطش به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم، فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس، فضربه به، فشجّه شجة منكرة، ثم قال له: أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول؟! فردّ علي ذلك إن استطعت، فقام رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال لهم: دعوا أبا عمارة؛ فإني والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا.
وعاد حمزة إلى بيته وقد ساورته الوساوس الشيطانية، والهواجس النفسية، وكيف ترك دين قومه، واتبع دين ابن أخيه، ثم التمس التوفيق والرشد من الله فقال: اللهم إن كان هذا رشدا فاجعل تصديقه في قلبي، وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا.
فبات بليلة لم يبت مثلها من وسوسة الشيطان حتى أصبح، فغدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا ابن أخي، إني قد وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه وإقامة مثلي على ما لا أدري: أرشد أم غي شديد»
!! فحدثني حديثا، فقد اشتهيت يا ابن أخي أن تحدثني. فأقبل عليه النبي بحديثه الذي ينير القلوب، ويطمئن النفوس، ويذهب ظلمات الشك والوساوس، فذكّره وبشّره، وأنذره، فثبت الله في قلبه الإيمان فقال: أشهد إنك لصادق، فأظهر دينك فو الله ما أحب أن لي ما أظلّته السماء وأنا على ديني الأول. وقد اكتسب المسلمون بإسلامه عزة وقوة، وازداد به الرسول نصرة ومنعة.
__________
(1) هذا يدل على حصافة في العقل، وأصالة في التفكير، واعتداد بالنفس، وأن القوم كانوا أصحاب عقول ومواهب، وأنهم كانوا أهلا لكل توجيه نبوي كريم حتى صاروا خير أمة أخرجت للناس.(1/300)
سعي قريش إلى أبي طالب
قد علمت بعض ما نال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قريش، وما كان ذلك ليفتّ في عضد رسول الله، فقد مضى لأمر الله مظهرا لدينه لا يرده عنه شيء، ورأوا عمه أبا طالب قد حدب عليه، وقام دونه، وانتصر له لمنزلة الرحم والقرابة.
سعي رجال من قريش إلى أبي طالب في شأن الرسول
فسعى رجال منهم إلى أبي طالب: عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس، وأبو سفيان بن حرب بن أمية، وأبو البختري العاص بن هشام، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وأبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي، ونبيه ومنبّه ابنا الحجاج من بني سهم، والعاص بن وائل السهمي، فقالوا:
يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب الهتنا وعاب ديننا، وسفّه أحلامنا، وضلّل اباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلّي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه. فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا، وردّهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه.
ومضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما هو عليه يظهر دين الله، ويدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، ومضوا هم لسبيلهم يؤلبون عليه، ويؤذونه وأصحابه، ويحض بعضهم بعضا على عدم الاستماع إليه.
سعيهم إليه مرة أخرى
ثم سعوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا: يا أبا طالب إن لك سنا، وشرفا، ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك «1» من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله- لا نصبر على هذا من شتم ابائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب الهتنا، فإما أن تكفّه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا عنه. فعظم على أبي طالب فراق قومه، وعداوتهم له، ولم يطب نفسا بإسلام ابن أخيه لهم، ولا خذلانه.
__________
(1) أي طلبنا منك أن تنهاه أن يعرض لنا ولالهتنا.(1/301)
طلب أبي طالب إلى النبي الكف عنهم
فبعث أبو طالب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاؤوني فقالوا كذا وكذا- الذي قالوه انفا- فأبق عليّ وعلى نفسك، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قد بدا لعمه فيه بداء «1» ، وأنه خاذله ومسلمه إليهم، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه.
فماذا كان من النبي؟
وقفت الدنيا كلها مشدودة السمع إلى ما تفترّ عنه شفتا النبي، وأصاخ الدهر لما يكون منه، ووقف التاريخ ينصت إلى الكلمة التي يتوقف عليها مصير البشرية، وتاريخ الحضارة الإنسانية، فقال الرسول العظيم هذه الكلمة الخالدة، الفاصلة:
«يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري «2» ، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته» !!
ثم استعبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبكى، ثم قام وولّى!!
يا لقوة الإيمان، ويا لعظمة النفس البشرية، ويا لجلال البطولة!!
رجل يظن أنه تخلّى عنه ناصره الوحيد من أهله، وهو وأصحابه في غمرات متتابعة من الأذى والبلاء وتألب رؤساء الشرك عليه، والريح والقوة مع
__________
(1) ظهر له أمر.
(2) قال الإمام السهيلي في «الروض الأنف» : خصّ الشمس باليمين لأنها الاية المبصرة، وخص القمر بالشمال لأنها الاية الممحوة، وقد قال عمر- رضي الله عنه- لرجل قال له: إني رأيت الشمس والقمر يقتتلان، ومع كل منهما نجوم، فقال عمر: مع أيهما كنت؟ قال: كنت مع القمر قال: كنت مع الاية الممحوة، اذهب فلا تعمل لي عملا، وكان عاملا له فعزله، وخص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النيّرين حين ضرب المثل بهما لأن نورهما محسوس، والنور الذي جاء به من عند الله معنوي. وأنا أقول: ولأنهما أعز وأمنع ما يطمع فيهما طامع، أو يرجو الحصول عليهما بشر في هذه الحياة، بل الحصول عليهما في اليدين من ضروب المستحيلات وبذلك بلغ غاية الإفصاح عن استحالة تركه الدعوة حتى يظهرها الله سبحانه، أو يموت دون ذلك.(1/302)
أعدائه، ثم يقف هذا الموقف الفذ العظيم!!
إن هذا في منطق العقل يستحيل أن يكون مدعيا أو كاذبا أو بشرا من عامة البشر، ما هذا إلا نبي كريم، ورجل بالغ أسمى درجات الثقة بالله رب العالمين!!
ولئن تخلّى عنه الناس جميعا فلن ينكص على عقبيه أو يفتر عن دعوته، لأنه يأوي إلى ركن شديد.
وماذا كان من أبي طالب؟
وقف الشيخ الكبير أبو طالب مأخوذا بما سمع وما رأى، فناداه قائلا:
أقبل يا ابن أخي، فأقبل، فقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء أبدا!!.
مساومة حمقاء
ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإسلامه لأحد، وإجماعه لفراقهم في ذلك، وعداوتهم، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد، أنهد «1» فتى في قريش، وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا، الذي قد خالف دينك، ودين ابائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامهم، فنقتله!!
فقال أبو طالب: والله لبئس ما تسومونني!! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟! هذا- والله- لن يكون أبدا.
فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجاهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا!!
فقال أبو طالب للمطعم: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني
__________
(1) أشد وأقوى.(1/303)
ومظاهرة الناس علي، فاصنع ما بدا لك، ثم قال أبو طالب قصيدة يعرّض فيها بالمطعم بن عدي، ومن خذله من بني عبد مناف ومن عاداه من قبائل قريش، مطلعها «1» :
ألا قل لعمرو، والوليد، ومطعم ... ألا ليت حظي من حياطتكم بكر «2»
فما كان بعد ذلك إلا أن اشتد الأمر، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، وعظمت العداوة، واشتد الأذى للنبي والمسلمين.
مناصرة بني هاشم والمطلب لأبي طالب
ثم قام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون بالمسلمين، في بني هاشم وبني المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والقيام دونه، فاجتمعوا إليه، وقاموا معه، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبي لهب عم النبي، فقال أبو طالب في ذلك يمدحهم، ويحرضهم على ما وافقوه عليه من الحدب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والنصرة له قصيدة، منها:
إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر ... فعبد مناف سرها، وصميمها
وإن حصّلت أشراف عبد منافها ... ففي هاشم أشرافها، وقديمها
وإن فخرت يوما فإن محمدا ... هو المصطفى من سرها وكريمها
تداعت قريش غثها وسمينها ... علينا فلم تظفر، وطاشت حلومها
قصيدة أبي طالب اللامية
ولما رأى أبو طالب تواطؤ الملأ من قريش عليه وعلى النبي، وخشي أن تنابذه العرب كلها بالعداوة، قال قصيدته المشهورة التي تعوّذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في شعره أنه غير مسلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم، ولا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونه هو وبنو هاشم فقال:
__________
(1) السيرة ج 1 ص 267.
(2) يعني أن بكرا من الإبل أنفع لي منكم، فليته لي بدلا منكم.(1/304)
ولما رأيت القوم لا ودّ فيهم ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
وقد حالفوا قوما علينا أظنة ... يعضون غيظا خلفنا بالأنامل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة ... وأبيض عضب من تراث المقاول «1»
ومنها:
أعوذ برب الناس من كل طاعن ... علينا بسوء أو ملحّ بباطل
ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة ... ومن ملحق في الدين ما لم نحاول
وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه ... وراق ليرقى في حراء ونازل
وبالبيت حق البيت من بطن مكة ... وبالله إن الله ليس بغافل
وبالحجر المسود إذ يمسحونه ... إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل
وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافيا غير ناعل «2»
ومنها:
كذبتم- وبيت الله- نترك مكة ... ونظعن إلا أمركم في بلابل «3»
كذبتم- وبيت الله- نبزى محمدا ... ولما نطاعن دونه ونناضل «4»
__________
(1) المقاول: الملوك، يريد بهم اباءه، ولكن حديث أبي سفيان في الصحيح يدل على أنه لم يكن في ابائه من ملك، فإما أن يريد أنهم كالملوك، وإما أن يكون هذا السيف الذي ذكره أبو طالب من هبات الملوك لأبيه عبد المطلب، فقد وهبه سيف بن ذي يزن الحميري لعبد المطلب مع هبات جزيلة حين وفد عليه مع قريش يهنئه بظفره بالحبشة بعد الفيل بعامين.
(2) مراده الحجر الذي قام عليه وهو يا بني البيت، ناعل: أي منتعل.
(3) جمع بلبال: وساوس الهموم.
(4) نبزى محمدا بالبناء للمجهول أي نسلبه ونغلب عليه، وفي رواية إيبزى محمدا بالياء، وفي الكلام حذف لا، أي لا نسلمه، ولا نغلب عليه حتى يكون ما ذكره، نناضل: نترامى بالسهام.(1/305)
ونسلمه حتى نصرّع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل «1»
وينهض قوم في الحديد إليكم ... نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل «2»
ومنها:
وما ترك قوم- لا أبا لك- سيدا ... يحوط الذمار غير ذرب مواكل «3»
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل «4»
وهي قصيدة طويلة جدا قال فيها ابن كثير: هذه قصيدة بليغة جدا، لا يستطيع أن يقولها إلا من نسبت إليه، وهي أفحل من المعلقات السبع، وأبلغ في تأدية المعنى منها جميعها «5» .
الإغراء بدل الإيذاء (قصة عتبة بن ربيعة مع الرسول)
ورأت قريش- وقد عزّ عليها أن يكف النبي عما يقول بالإيذاء والفتنة والسعي إلى عمه أبي طالب، بل والإيذان بالحرب والمنابذة- أن تلجأ إلى سياسة الملاينة، والإغراء بالمال، أو الجاه، أو الملك والسلطان ظنا منهم أنه ربما يغريه بريق هذه العروض.
روى ابن إسحاق في سيرته عن محمد بن كعب القرظي قال: حدّثت أن عتبة بن ربيعة- وكان سيدا حليما- قال ذات يوم، وهو جالس في نادي قريش ورسول الله جالس واحده في المسجد الحرام: يا معشر قريش ألا أقوم إلى هذا
__________
(1) الحلائل: الزوجات.
(2) الروايا: جمع راوية، وهي البعير الذي يحمل الماء، الصلاصل: المزادات التي لها صلصلة بالماء.
(3) الذمار: ما يلزم حمايته، الذرب بسكون الراء: الفاحش المنطق، المواكل: الذي لا جد عنده.
(4) يستسقى: يستنزل المطر بسبب دعائه، وقيل: إن أهل مكة كانوا أجدبوا بسبب عدم نزول الماء، فقام عبد المطلب يحمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو صغير على عاتقه، ودعا الله فما لبثوا أن تفجرت السماء، وامتلأ الوادي بالماء.
(5) السيرة لابن هشام ج 1 ص 272- 280؛ البداية والنهاية ج 3 ص 53- 57.(1/306)
فأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها، ويكف عنا؟ قالوا: بلى يا أبا الوليد، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السطة «1» في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعبت به الهتهم ودينهم، وكفّرت من مضى من ابائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قل يا أبا الوليد أسمع» .
قال: يا ابن أخي إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّا «2» تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه.
حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستمع منه قال: «أقد فرغت يا أبا الوليد؟» قال: نعم، قال: «فاسمع مني» قال: أفعل، فقال:
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) ....
ومضى رسول الله يقرؤها، فلما سمعها عتبة أنصت إليها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك» !!
__________
(1) الخيار والوسط.
(2) الرئيّ كغني التابع من الجنّ.(1/307)
وفي رواية للبيهقي، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما بلغ قوله تعالى:
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) ....
أمسك عتبة بفيه، وناشده الله والرحم أن يكف عنه!!
ولا عجب فقد استولى على نفس عتبة ما سمعه من هذا الكلام الفصيح البليغ، حتى استند على يديه واستغرق في التأمل، وهو العربي الأصيل، وحتى خيل إليه حين سمع هذا الإنذار أن العذاب واقع به وبهم.
ما أشار به عتبة على قريش
وعندما سمع عتبة ما سمع قام ورجع إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به «1» ، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله- ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني، واجعلوها بي، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزّه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه!! قال:
هذا رأيي، فاصنعوا ما بدا لكم.
وقد ظنوا إثما وزورا، فما كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه طالب ملك، ولا راغبا في مال، ولا ناشدا جاها ولا سلطانا، وإنما هو نبي يوحى إليه من ربه، ومبلغ رسالة، ومنشىء أمة، ومنقذ البشرية من التردي في هوّة سحيقة، وصانع تاريخ، ومؤصل حضارة. إنها لشهادة حقة، لأنها من عدو لم يؤمن بالقران، وإنما امن بسلطان اللغة والبيان.
__________
(1) هذا من بديع الكلام الدال على علم بالنفس البشرية، وظهور ما يكون بالنفس على قسمات الوجه، وأن العرب كانوا على علم ببعض قواعد علم النفس.(1/308)
شهادة أخرى للقران من الوليد بن المغيرة
روي أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأ عليه القران «1» ، فكأنما رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا، قال: لم؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض ما قبله!! قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل في القران قولا يبلغ قومك أنك منكر له، قال: وماذا أقول؟ فو الله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، والله إنّ لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق «2» أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته!!
فقال أبو جهل: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: دعني حتى أفكر فيه، وبعد جهد جهيد، وصراع نفسي عنيف قال: إن هذا إلا سحر يؤثر، ألم تروا أنه يفرّق بين الرجل وأهله، والولد ووالده «3» !!
وفي رواية ابن إسحاق أن الوليد اجتمع هو ونفر من قريش ليجمعوا على رأي ليواجهوا به أهل الموسم فقد قرب، فقالوا: كاهن، فقال لهم:
ما هو بزمزمة الكهان، فقالوا: نقول: مجنون، فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه، فقالوا: شاعر، فقال: ما هو بشاعر، فقالوا ساحر فقال:
ما هو بساحر، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ فقال مقالته الانفة في مدح القران، ثم غلبت عليه شقوته فقال: إن أقرب القول أن نقول: إنه ساحر «4» .
وفي الوليد هذا أنزل الله سبحانه قوله:
__________
(1) في بعض الروايات أن النبي قرأ عليه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ... الاية.
(2) أي كثير الغدق أي الماء، والشجرة إذا كانت أصلها غدقا كانت نامية مثمرة.
(3) البداية والنهاية، ج 3 ص 60.
(4) السيرة، ج 1 ص 270، 271.(1/309)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) «1» .
تأثير إعجاز القران في نفوس العرب
وإنّ لنا هنا لوقفة ترينا أن الوليد بن المغيرة كان يدرك بفطرته العربية أن القران لا يمكن أن يكون من عند بشر، وأن الرجل قد قال مقالته الأولى استجابة لحسّه البياني وذوقه الأدبي، ومن غير أن يكون لشيء ما سلطان عليه
__________
(1) الايات 11- 30 من سورة المدثر. وكان الوليد يسمى وحيد قريش لشرفه ورياسته وغناه، فهو تهكم به، وقيل: وحيدا بلا مال، ولا ولد، فأنعمت عليه بهما ففيه تبكيت له. ممدودا: كثيرا ممتدا من الزروع والضروع. شهودا: يحضرون معه المشاهد والمحافل، قيل: كانوا عشرة وقيل: ثلاثة عشر أسلم بعضهم. «ومهدت له تمهيدا» : أي بسطت له الجاه العريض، والرئاسة في قومه. كلا: كلمة زجر وردع وقطع لرجائه وطمعه. صعودا: عذابا شاقا. «فقتل كيف قدر» : تعجيب من تقديره الفاسد، ومقالته الشنعاء، وهو تهكم بهم وبإعجابهم بتقديره، واستعظامهم لقوله، تقول العرب: قاتله الله ما أشجعه، وأخزاه ما أشعره، وغرضهم الإشعار بأنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد، ويدعو عليه حاسده بذلك. عبس: قطّب وجهه. بسر: أي زاد وجهه عبوسا وتقطيبا. لواحة للبشر: تلفح الجلد لفحا شديدا فتدعه أسود من السواد. عليها تسعة عشر: يعني من الملائكة الأشداء، يجوز أن يراد حقيقة العدد، وأن يراد التكثير.(1/310)
إلا فطرته وحسه، ولكن التقاليد المتسلطة، والعصبيات الموروثة، وإرضاء قومه غلبت عليه، فلم يقدر أن يتحرر منها، حتى جعلت الرجل يناقض نفسه بنفسه!!
وإن نظرة فاحصة في الايات: إِنَّهُ فَكَّرَ، وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. لتصور لنا تصويرا دقيقا، بارعا صادقا ما حدث بين الرجل وبين نفسه من صراع عنيف، كأقوى ما يكون الصراع وأعنفه، ففطرته اللغوية، وحسه البياني، ووجدانه الأدبي، كلها تأبى عليه أن يقول غير ما قال أولا، وإرضاء قومه، وخوفه من قالة السوء عنه، وحرصه على الزعامة والرياسة كلها تلح عليه إلحاحا بالغا في أن يقول قولا منكرا في القران يخالف قوله الأول، وأخيرا وبعد نظر وعبوس وتقطيب للوجه ثم تقطيب تنم عن ضيقه النفسي بما سيقول، قال: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ! ولو أنك أتيت بأبرع الفنانين العالميين اليوم ليرسم للوليد صورة معبرة عن هذا الصراع النفسي الذي بدت اثاره على وجه الوليد وجبهته، لما بلغ ما بلغه القران الكريم في إبراز هذه الصورة بألفاظ متخيرة، وجرس معبر، لا بريشة وظلال، فلله در التنزيل ما أفصحه وأبلغه!!
تهكم أبي جهل بالقران
ولما نزل قوله تعالى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ قال أبو جهل: يا معشر قريش يزعم محمد أن جنوده الذين يعذبونكم في النار، ويحبسونكم فيها تسعة عشر، وأنتم أكثر الناس عددا، وكثرة، أفيعجز كل مئة رجل منكم عن رجل منهم؟
فأنزل الله سبحانه ردا عليه قوله:
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) «1» .
__________
(1) الاية 31 من سورة المدثر.(1/311)
استماع زعماء الشرك إلى القران سرا
روى ابن إسحاق في سيرته عن الزهري قال: حدّثت: أن أبا جهل، وأبا سفيان، والأخنس بن شريق، خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل منهم مجلسا، فيستمع منه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو راكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا.
حتى إذا كان الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة، ثم انصرفوا!!
حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقالوا: لا نبرح حتى نتعاهد ألانعود، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا!!
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال:
يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها، ولا ما يراد بها، فقال الأخنس: أنا والذي حلفت به كذلك!! ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته، فقال:
يا أبا الحكم، فما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الرّكب وكنّا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ فو الله لا نؤمن به أبدا، ولا نصدقه!!
وهذا يدل على استلذاذ العرب للاستماع للقران استجابة لفطرتهم العربية، وعلى ما كان للعصبية الجاهلية من أثر في عدم الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وسلّم.(1/312)
تواصيهم بعدم استماع القران
وقد كان النبي حريصا على استماعهم لما يعلم من قوة تأثيره في نفوسهم كما سمعت انفا، وكان المشركون يتواصون بعدم الاستماع للقران كيلا يجذبهم بسحر بيانه، وقوه تأثيره، ويتواصون باللغو فيه، وذلك بالتشويش على النبي حين قراءته، والصخب عليه، وإلقاء الشبه والأباطيل في القران. قال عز شأنه:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) «1» .
فكان إذا جهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالقران يتفرقون عنه، ويأبون أن يستمعوا له، وبعضهم يشغب عليه، وبعضهم يغطي نفسه بثوبه كيلا يسمع. قال عز شأنه:
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) «2» .
وكان بعضهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله ما يتلو من القران استرق السمع فرقا منهم، فإذا رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ذهب خشية أذاهم فلم يستمع، ولذلك أمر الله نبيه ألايجهر بالقران، ولا يخافت به رعاية لهؤلاء النفر، قال ابن عباس: إنما أنزلت هذه الاية:
وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (110) «3» .
من أجل ذلك النفر يعني: لا تجهر بصلاتك، فيتفرقوا عنك، ولا تخافت بها، فلا يسمعها من يحب أن يسمعها ممن يسترق ذلك دونهم، لعله يرعوي إلى
__________
(1) الاية 26 من سورة فصلت.
(2) الاية 5 من سورة هود.
(3) الاية 110 من سورة الإسراء.(1/313)
بعض ما يستمع فينتفع به «1» ، وكان بعضهم إذا سمع القران يقول- مكابرة- كما حكى الله عنهم:
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) «2» .
أول من جهر بالقران من الصحابة
كان المشركون يؤذون من يجهر بالقران خشية تأثيره في نفوسهم، وكان أول من جهر به من الصحابة عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- فقد اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القران يجهر به قط، فمن الرجل يسمعهم إياه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا!! قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال:
دعوني فإن الله سيمنعني.
فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها حتى قام عند المقام، ثم قرأ:
بسم الله الرّحمن الرّحيم رافعا بها صوته الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ....
ثم استقبلها يقرؤها، فتأملوه، فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أمّ عبد؟! ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد! فقاموا إليه، فجعلوا يضربونه في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه، وقد أثّروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشيناه عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الان، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا، قالوا: لا، حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون.
__________
(1) سيرة ابن هشام، ج 1 ص 314.
(2) الاية 5 من سورة فصلت.(1/314)
محاولة أخرى للإغراء
قدّمنا لك ما كان من شأن عتبة بن ربيعة وعرضه على رسول الله المال والملك والسؤدد، نظير أن يكف عنهم وعن الهتهم، ورفض رسول الله جميع ما عرض عليه، فرأى أشرافهم أن يكرروا المحاولة، فجلس عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطلب بن أسد، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية- بعد الغروب عند الكعبة، وأرسلوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فجاءهم وهو يظن أن قد بدا لهم في أمره شيء، وكان حريصا على إيمانهم، يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، فعرضوا عليه مثل ما عرض عتبة فيما سبق، فلما فرغوا قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه لهم: «ما تقولون؟ ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والاخرة، وإن تردوه عليّ أصبر حتى يحكم الله بيني وبينكم» !!
أسئلة تعنتية
فقالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا، ولا أقل مالا، ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسيّر لنا هذه الجبال التي قد ضيّقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من ابائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسأله عما تقول: أحق أم باطل؟ فإن فعلت ما سألناك، وصدّقوك صدقناك، وعرفنا به منزلتك عند الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول.
فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما بهذا بعثت، إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به، فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والاخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» !!(1/315)
قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك، فسل ربك أن يبعث لنا ملكا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وتسأله فيجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة، ويغنيك عما نراك تبتغي، فإنك تقوم في الأسواق، وتلتمس المعايش كما نلتمس، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.
فقال لهم: «ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا «1» ، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والاخرة، وإن تردوه علي أصبر حتى يحكم الله بيني وبينكم» !!
قالوا: فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل «2» ، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل، فقال: «ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك» .
فقالوا: يا محمد، أما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيتقدّم إليك ويعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا، إذا لم نقبل منك ما جئتنا به؟ فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة»
يقال له: الرحمن، وإنا- والله- لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، أما- والله- لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك، أو تهلكنا!!
وقال قائل منهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله، وقال اخر: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا «4» ، فيشهدون لك بصدق نبوتك.
مقالة عبد الله بن أبي أمية المخزومي
فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهم، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي- وهو ابن عمته: عاتكة بنت عبد المطلب- فقال: يا محمد،
__________
(1) لأنه لا يسأل هذا إلا من جهل رسالته، وجهل سنن ربه، ورسول الله بريء منهما.
(2) إشارة إلى قوله تعالى: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ ... الاية 9 من سورة سبأ.
(3) يريدون مسيلمة الكذاب.
(4) جميعا.(1/316)
عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب، فو الله لا أؤمن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها، وتأتي معك بنسخة منشورة، ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك!! ثم انصرف عن رسول الله.
وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما طمع فيه من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه التعنتات والردّ عليها في قوله سبحانه:
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً «1» أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ «2» أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا «3» (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) «4» .
__________
(1) قطعا جمع كسفة كقطعة.
(2) ذهب.
(3) لو كان يسكن الأرض ملائكة لأرسل الله لهم ملكا رسولا، ولكن الأرض يسكنها بشر، وغير معقول أن يجعل الله عند جميع البشر استعدادا لتلقي الوحي عن الملك. فكان المعقول أن ينزل الله وحيه على واحد مختار منهم وهو يقوم بتبليغهم.
(4) الايات 90- 96 من سورة الإسراء.(1/317)
وقال سبحانه حكاية لمقالتهم:
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ «1» يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) «2» .
وقد ردّ الله عليهم بأن أكل الطعام والمشي في الأسواق والسعي على الرزق من سنن الأنبياء والرسل، فالنبي في هذا ليس ببدع، فقال سبحانه:
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) «3» .
كما بيّن لهم أن الله لم يرسل رسولا للبشر إلا منهم، ولم تجر سنته بأن يرسل للبشر ملائكة، فقال عز شأنه:
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) «4» .
وقال:
وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا «5» عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) «6» .
__________
(1) حديقة.
(2) الايات 7، 9 من سورة الفرقان.
(3) الاية 20 من سورة الفرقان.
(4) الايتان 7، 8 من سورة الأنبياء.
(5) لأن الملك لو نزل في صورة رجل لقالوا: هو رجل وليس بملك فالمجادلة بالباطل لا تنقطع.
(6) الاية 9 من سورة الأنعام.(1/318)
إباء النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكون له الصفا وغيره ذهبا
ولو أن النبي صلوات الله وسلامه عليه رغب في أن تكون له الصفا وبطحاء مكة ذهبا لأجابه الله سبحانه، ولكن من أدّبه ربه فأحسن تأديبه وكمّله عقلا وخلقا، واصطفاه رحمة للعالمين، ما هو بالذي يسأل هذا، وإنما يسأله الحمقى والجهلاء، وحاشاه منهما، وقد رغب صلّى الله عليه وسلّم عن زخارف الحياة، وزهد في الدنيا زهد القادر عليها، لا زهد العاجز عنها، أو المحروم منها، ليكون في ذلك القدوة الحسنة للحكام، وولاة الأمور، الذين يكتنزون الأموال ورعاياهم جائعة عارية محرومة، وقد روى أبو أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «عرض علي ربي عز وجل- أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: يا رب، أشبع يوما، وأجوع يوما، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك» ، رواه أحمد- وهذا لفظه- والترمذي وقال: هذا حديث حسن.
الحكمة في أنهم لم يجابوا لما طلبوا
والله سبحانه وتعالى لم يجبهم على ما سألوا- وهو القادر على كل شيء- لأنهم لم يسألوا مسترشدين وجادين، وإنما سألوا متعنتين ومستهزئين، وقد علم الحق سبحانه أنهم لو عاينوا وشاهدوا ما طلبوا لما آمنوا، وللجّوا في طغيانهم يعمهون، ولظلوا في غيهم وضلالهم يترددون، قال سبحانه:
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ «1» (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111 «2» .
__________
(1) لا: زائدة.
(2) الايات 109- 111 من سورة الأنعام.(1/319)
وقال سبحانه:
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) «1» .
ولهذا اقتضت الحكمة الإلهية والرحمة الربانية ألا يجابوا على ما سألوا، لأن سنته سبحانه أنه إذا طلب قوم ايات فأجيبوا، ثم لم يؤمنوا عذّبهم عذاب الاستئصال، كما فعل بعاد وثمود وقوم فرعون، قال عز شأنه:
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً (59) «2» .
وقال سبحانه:
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) «3» .
فلو أعطيت قريش ما سألوا من الايات الحسية التي اقترحوها ثم لم يؤمنوا لأهلكوا، ولكن الله- جلّت حكمته- رفع عن هذه الأمة عذاب الاستئصال بفضل نبيها محمد صلوات الله وسلامه عليه، فقد بعثه رحمة ولم يبعثه نقمة، وصدق الله:
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ.
فهو رحمة للبر والفاجر: رحمة للبر في الدنيا والاخرة، وللفاجر في الدنيا، فقد أمنوا من الخسف والغرق، وإرسال حاصب من السماء، وأيضا فقد استفاد الناس جميعا بالرسالة المحمدية، فلولاها لما تحررت النفوس من رق التقليد، والشرك، والخرافات، ولا العقول من الجهل والضلال، ولا المجتمعات من
__________
(1) الاية 7 من سورة الأنعام.
(2) الاية 59 من سورة الإسراء.
(3) الاية 8 من سورة الأنعام.(1/320)
الظلم والجور والمفاسد الخلقية، ولما فتحت للبشرية هذه الافاق الواسعة من العلم والمعرفة اللذين عادا على البشر بالخير والنفع.
وليس أدل على هذه الرحمة المحمدية مما رواه الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس قال: «سأل أهل مكة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحّي عنهم الجبال فيزدرعوا، فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم الأمم، فقال: «بل أستأني بهم» ورواه النسائي أيضا من حديث ابن جرير.
وفي رواية أخرى للإمام أحمد عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال:
«قالت قريش للنبي صلّى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا، ونؤمن بك، قال: «وتفعلوا؟» قالوا: نعم، قال: فدعا فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا، فمن كفر بعد ذلك أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة قال: «بل التوبة والرحمة» «1» .
القران معجزة المعجزات
وليس أدل على أن القوم كانوا متعنتين وساخرين، ومعوّقين لا جادين من أن عندهم القران وهو اية الايات، وبينة البينات؛ ولذلك لما سألوا ما اقترحوا من هذه الايات وغيرها ردّ عليهم سبحانه بقوله:
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) «2» .
__________
(1) البداية والنهاية، ج 3 ص 52.
(2) الايات 50- 52 من سورة العنكبوت.(1/321)
وقال تعالى:
وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) «1» .
ولما سأله قومه لأنفسهم تسيير الجبال، وتقطيع الأرض، وبعث من مضى من ابائهم قال سبحانه:
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى «2» بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) «3» .
من تخرصاتهم على النبي والقران
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجلس عند المروة إلى غلام نصراني يقال له: جبر، عبد لبني الحضرمي كان يصنع السيوف، وقيل لغلام نصراني يسمى: يسار، وكان قينا «4» أيضا، فكانوا يزعمون أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يتعلم القران ويتلقاه من هذين الغلامين أو أحدهما، وكانت معلوماتهما عن التوراة والإنجيل- كما هو الشأن في أمثالهما- لا تعدو أن تكون معلومات مبتسرة خاطئة، كما كان لسانهما تغلب عليه الرطانة الأعجمية، وقد ردّ الله سبحانه عليهم ردا مفحما، قال سبحانه:
__________
(1) الاية 133 من سورة طه.
(2) يعني لو أن هناك قرانا بهذه المثابة لكان هذا القران الكريم، فهو ليس له مثيل لا من قبل ولا من بعد، فجواب «لو» محذوف دلّ عليه المقام.
(3) الاية 31 من سورة الرعد.
(4) أي حدادا.(1/322)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ «1» إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) «2» .
تهكم المشركين بضعفاء المسلمين
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس في المسجد، فجلس إليه المستضعفون من أصحابه: خبّاب، وعمّار، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، وأبو فكيهة يسار مولى صفوان بن أمية، وأضرابهم ممن لهم جاه عريض عند الله، وإن لم يكن لهم جاه عند الناس- استهزأ بهم المشركون، وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون!! أهؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا بالهدى والحق؟! ولو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصهم الله به دوننا.
وقد ردّ الله عليهم مبيّنا فضلهم ومنزلتهم فقال سبحانه:
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) «3» .
وقوله:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) «4» .
ومن قبل ذلك قال قوم نوح لنوح نحو ذلك قال تعالى:
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ
__________
(1) يميلون عن الحق إليه، ومنه الملحد لأنه مال عن الاستقامة والدين الحق إلى غيره.
(2) الاية 103 من سورة النحل.
(3) الاية 53 من سورة الأنعام.
(4) الاية 11 من سورة الأحقاف.(1/323)
اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) .
إلى قوله:
وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) «1» .
سعي المشركين إلى إبعاد ضعفاء المؤمنين
ثم سعى رؤساء المشركين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينحي هؤلاء الضعفاء والأعبد عن مجلسه، كي يجلسوا إليه، فقالوا: لو طردت عنا هؤلاء الأعبد فإنه يؤذينا أرواح جبابهم جلسنا إليك وحادثناك، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما أنا بطارد المؤمنين» .
فقالوا: فأقمهم عنا إذا جئنا، فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت، قال:
«نعم» طمعا في إيمانهم، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم حريصا على ذلك غاية الحرص، حتى همّ الرسول أن يكتب لهم بذلك كتابا.
عتاب الله لنبيه
فأنزل الله عتابا لنبيه هذه الايات التي تدل على منزلة هؤلاء الفقراء والأعبد، وجاههم عند ربهم، قال سبحانه:
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) «2» .
__________
(1) الايات 27- 31 من سورة هود.
(2) الاية 52 من سورة الأنعام.(1/324)
فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا لقيهم عانقهم، وقال: «أهلا بمن عاتبني الله فيهم» وكان إذا جلس معهم يدنو منهم حتى تمس ركبته ركبهم، فإذا أراد القيام قام عنهم وتركهم، فأنزل الله سبحانه قوله:
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) «1» .
فترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القيام عنهم إلى أن يقوموا عنه، وقال: «الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع أقوام من أمتي، معكم المحيا، ومعكم الممات» .
عتاب اخر بشأن ابن أم مكتوم
وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن أم مكتوم «2» ، وكان أعمى، وعند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صناديد قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام، رجاء أن يسلم بإسلامهم كثيرون، فقال: يا رسول الله أقرئني، وعلمني مما علمك الله، وكرر ذلك، وهو لا يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله قطعه لكلامه، فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا وتركه، فأنزل الله تعالى:
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8)
__________
(1) الاية 28 من سورة الكهف.
(2) قال ابن هشام: ابن أم مكتوم: أحد بني عامر بن لؤي، واسمه عبد الله، وقيل: عمرو، وأم مكتوم: أمه، واسمها: عاتكة بنت عامر بن مخزوم، وأبوه: قيس بن زائدة على الأشهر.(1/325)
وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) «1» .
فكان رسول الله يكرمه ويقول له: «أهلا ومرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول له: «هل لك من حاجة؟» وقد استخلفه النبي على المدينة مرتين، وكانت وفاته بالقادسيّة، وقيل: عاد منها ثم توفي بالمدينة.
حجة وبرهان على أن القران ليس من عند النبي
وأحب من الذين يزعمون أن القران من عند النبي صلّى الله عليه وسلّم من المبشرين والمستشرقين ومن تابعهم أن يتأملوا في هذه القصة، والتي قبلها، ليروا أن هذا القران لا يمكن أن يكون من عند النبي، فما عهدنا أن بشرا مهما كان يؤاخذ نفسه في كتاب من عند نفسه هذه المؤاخذة، اللهم إلا إذا أنكرنا عقولنا، وأنكرنا الفطرة البشرية، والطبيعة الإنسانية، وهذه كتب الفلاسفة والمصلحين قديما وحديثا، ما وجدنا فيها شيئا من هذا، بل رأينا أن أي بشر مهما بلغ يحاول إخفاء ما يؤاخذ به ما استطاع، فهذه المعاتبات أو إن شئت فسمّها المؤاخذات الرفيعة من أقوى الأدلة على أن القران ليس من عند بشر، وإنما هو من عند خالق القوى والقدر، الذي لا يداهن، ولا يحابي، وقد فطن إلى هذا المعنى أحد السلف- رضي الله عنهم- فقال: «لو كان النبي صلّى الله عليه وسلّم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذا» » .
سؤال المشركين النبي عن أهل الكهف، وذي القرنين، والروح، واستعانتهم باليهود
وبعثت قريش اثنين من أشد الناس عداوة للرسول، وهما: النضر بن الحارث، بن كلدة، بن علقمة، بن عبد مناف، بن عبد الدار، بن قصي «3» ،
__________
(1) الايات 1- 16 من سورة عبس. والسفرة: جمع سافر، والمراد بهم الملائكة.
(2) تفسير ابن جرير عند تفسير هذه السورة.
(3) قال ابن هشام: ويقال: النضر بن الحارث، بن علقمة، بن كلدة، بن عبد مناف.(1/326)
وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود المدينة، وقالوا لهما: سلاهم عن محمد، وصفا لهم وصفه، وأخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء.
فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار اليهود عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووصفا لهم أمره، وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا.
فقال لهم أحبار اليهود، سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهنّ فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فهو رجل متقوّل، فروا فيه «1» رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم؟ فإنه قد كان لهم أمر عجيب، وسلوه عن رجل طاف مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هي؟
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش، فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فأخبراهم بها، فجاؤوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: يا محمد أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أخبركم غدا بما سألتم عنه» ولم يقل:
«إن شاء الله» فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، حتى أحزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاء جبريل- عليه السلام- من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا» فقال له جبريل: «وما نتنزّل إلا بأمر ربك، له ما بين أيدينا، وما خلفنا، وما بين ذلك، وما كان ربك نسيا» .
وقد افتتح السورة سبحانه وتعالى بحمده وذكر نبوة رسوله، وبذكر ايته
__________
(1) «فروا» فعل أمر من رأى، أسند لواو الجماعة.(1/327)
العظمى، وهو القران الكريم اية بينة مستقيمة لا عوج فيه، ولا اختلاف، ولا تناقض، أنزله لإنذار الكافرين والعاصين، وتبشير المؤمنين الصالحين، فقال سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ إلى قوله: إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً «1» ثم أشفق عليه لحزنه على عدم إيمان قومه حزنا يكاد يذهب بنفسه، فقال:
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) .
ثم شرع سبحانه وتعالى في الإجابة عن قصة من سألوه عنهم من شأن الفتية الذين كانوا في الزمن الأول، فقال:
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً ... (9)
إلى اخر القصة «2» ، وذكر في أثنائها تعليمه للنبي ذكر المشيئة في كلامه فيما يستقبل، فقال: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.
ثم ذكر شأن الرجل الطواف فقال:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إلى اخر القصة «3» .
وكذلك أنزل الله في سؤالهم عن الروح قوله:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) «4» .
__________
(1) الايات 1- 5 من سورة الكهف.
(2) الايات 9- 27 من سورة الكهف.
(3) الايات 83- 98 من سورة الكهف.
(4) الاية 85 من سورة الإسراء. يعني أن الروح خلق عجيب من خلقه، وأمر من أمره سبحانه، لا يعلم حقيقتها إلا الله، وأما أنتم فبحسبكم من العلم بالروح معرفة اثارها التي تترتب عليها من الحياة، والحس، والتمييز، لأنكم مهما أوتيتم من علم فهو قليل بجانب علم الله.(1/328)
اية الروح مكية أم مدنية؟
وهذا الذي ذكره ابن إسحاق في سيرته يوافقه ما رواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه، وقال: إنه صحيح وهو يتفق وكون الاية مكية.
ولكن روى البخاري في صحيحه عن ابن مسعود أنه كان مع النبي وقد مرّ على اليهود، وهو متكىء على عسيب نخل، فقال اليهود بعضهم لبعض:
سلوه عن الروح، فسكت فلم يرد عليهم، ثم أقام ساعة ينظر قال ابن مسعود:
فظننت أنه يوحى إليه، فلما سرّي عنه قال: «ويسألونك عن الروح ... » الاية، وهذا يقتضي أن السائل اليهود، وأن الاية مدنية، فمن ثمّ رجّح بعض العلماء ما في الصحيح وقالوا: إن الاية مدنية وبعض السور المكية فيها بعض الايات المدنية وبالعكس.
وذهب بعض العلماء ومنهم ابن كثير إلى تعدد النزول بأن تكون نزلت في مكة بسبب سؤال المشركين له بعد استشارتهم اليهود، ثم نزلت في المدينة بعد لما مر النبي صلّى الله عليه وسلّم على اليهود وسألوه، ولا مانع- كما قال الزركشي وغيره- من تكرر نزول بعض اي القران تعظيما لشأنها، وتذكيرا بها «1» .
مجادلة يهود المدينة في اية الروح
ولما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة قال أحبار يهود: يا محمد أرأيت قولك:
«وما أوتيتم من العلم إلا قليلا» أإيانا تريد، أم قومك؟! قال: «كلّا عنيت» قالوا: فإنك تتلو فيما جاءك، إنا أوتينا التوراة فيها بيان كل شيء! فقال صلّى الله عليه وسلّم:
«إنها في علم الله قليل، وعندكم في ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه، فأنزل الله تعالى عليه فيما سألوه عنه من ذلك قوله: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «2» أي أن التوراة وغيرها من علم الله شيء قليل «3» .
__________
(1) البداية والنهاية، ج 3 ص 52، 53؛ المدخل لدراسة القران الكريم، للمؤلف، ص 109، 112.
(2) الاية 27 من سورة لقمان.
(3) سيرة ابن هشام، ج 1 ص 308.(1/329)
خصومات، ومجادلات، وتهكمات
جلس رسول الله ذات يوم مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم في المجلس وفيه غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله حتى أفحمه، ثم تلا عليهم قول الله تبارك وتعالى:
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ «1» جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) «2» .
مقالة ابن الزبعرى وما أنزل الله فيه
ثم قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمي حتى جلس؛ فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعرى: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب انفا وما قعد «3» ، وقد زعم محمد أنّا وما نعبد من الهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبد الله بن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمدا:
أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى ابن مريم، فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول ابن الزبعرى! فقال النبي: «إن كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين، ومن أمرتهم بعبادته» .
وهو جواب محكم دقيق «4» ، فأنزل الله تصديقا لنبيه في ذلك:
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا
__________
(1) الحصب كالحطب وزنا ومعنى أي وقودها.
(2) الايات 98- 100 من سورة الأنبياء.
(3) كناية عن خذلانه في المجادلة، أو عدم انتصابه لحجاج النبي.
(4) ما يذكر في بعض كتب التفسير من أن النبي قال له: «ما أجهلك بلغة قومك، إنه قال: ما- وهي لغير العاقل- ولم يقل من» غير صحيح، وأثر الوضع باد عليه.(1/330)
يَسْمَعُونَ حَسِيسَها «1» وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) «2» .
يعني عيسى ابن مريم، وعزيرا، ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله. فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله، أولئك عن النار مبعدون لا يدخلونها أبدا.
ونزل فيما ذكره ابن الزبعرى من أمر عيسى، وعجب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته قوله تعالى:
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ «3» (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) .
أي شديد واللجاجة في الخصومة، ثم بيّن حقيقة أمر عيسى فقال:
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) «4» .
الأخنس بن شريق
الأخنس بن شريق، بن عمرو، بن وهب الثقفي حليف بني زهرة. وكان من أشراف القوم، وممن يستمع منه. وكان يصيب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويجادله، ويرد عليه «5» . فأنزل الله فيه:
__________
(1) صوتها.
(2) الايات 101- 103 من سورة الأنبياء.
(3) يصدون: يعجبون.
(4) الايات 57- 61 من سورة الزخرف.
(5) السيرة ج 1 ص 360.(1/331)
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) «1» .
وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، وقيل: في أبي جهل، وقيل: في الأسود بن عبد يغوث.
الوليد بن المغيرة
وكان ممن يجادل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وينال منه الوليد بن المغيرة، وكان يقول:
أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف، ونحن عظيما القريتين؟! فأنزل الله تعالى حكاية لأقوالهم وردا عليهم قوله:
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ «2» عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا «3» وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) «4» .
تهكم أبي جهل بالقران والنبي:
ومن تهكمات أبي جهل وجهالاته أنه لما ذكر الله عز وجل شجرة الزقوم تخويفا لهم قال: يا معشر قريش، هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد؟ قالوا: لا، قال: عجوة يثرب بالزبد، والله لو استمكنا منها لنتزقمنها تزقما «5» فأنزل الله تعالى فيه قوله:
__________
(1) الايات 10- 13 من سورة ن. والعتل: الغليظ الجافي، والزنيم: الدعي في القوم وليس منهم، وقد كان من ثقيف، وعداده في زهرة.
(2) القريتين: مكة، والطائف.
(3) ليسخّر الغني الفقير.
(4) الايتان 31، 32 من سورة الزخرف.
(5) لنبتلعنها ابتلاعا.(1/332)
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ «1» يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) «2» .
وشجرة الزقوم هي التي ذكرها الله في قوله تعالى:
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ «3» فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً (60) «4» .
إنذار أبي جهل رسول الله بسبّ الله
ولقي أبو جهل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له: «والله يا محمد لتتركنّ سبّ الهتنا أو لنسنّ إلهك الذي تعبد» فأنزل الله تعالى على نبيه قوله:
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ... «5» .
فكف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن سب الهتهم، وجعل يدعوهم إلى الله تعالى.
تهكم العاص بن وائل برسول الله
كان خباب بن الأرت صاحب رسول الله قينا بمكة يعمل السيوف، وكان قد باع للعاص بن وائل السهمي سيوفا عملها له حتى كان له عليه مال، فجاءه يتقاضاه، فقال له: يا خباب أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب، أو فضة، أو ثياب، أو خدم؟! قال
__________
(1) المهل: كل شيء أذبته بالنار من نحاس أو رصاص أو ما أشبههما.
(2) الايات 43- 46 من سورة الدخان، والحميم: الماء الشديد الحرارة.
(3) أي الملعون اكلها.
(4) الاية 60 من سورة الإسراء.
(5) الاية 108 من سورة الأنعام.(1/333)
خباب: بلى. قال: فأنظرني إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هنالك حقّك، فو الله لا تكون أنت وصاحبك يا خباب اثر عند الله مني، ولا أعظم حقا في ذلك، فأنزل الله تعالى ردا عليه، وتبكيتا له، وزجرا له وردعا قوله:
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80)
«1» .
مجادلة أبيّ بن خلف
ومشى أبيّ بن خلف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعظم بال «2» قد أرمّت، فقال يا محمد، أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرم «3» ، ثم فتّه بيده ثم نفخه في الريح نحو رسول الله، فقال له: «نعم أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا، ثم يدخلك الله النار» فأنزل الله تعالى فيه قوله:
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً»
فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) «5» .
__________
(1) الايات 77- 80 من سورة مريم.
(2) تحطم وتكسر.
(3) بلي وتفتت وصار رميما.
(4) قيل: هما المرخ والعفار من شجر البادية إذا احتك أحدهما بالاخر أوقد نارا.
(5) الايات 78- 83 من سورة يس.(1/334)
من أماني المشركين الباطلة
واعترض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يطوف بالكعبة الأسود بن المطلب بن أسد ابن عبد العزّى، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل السهمي، وكانوا ذوي أسنان في قومهم، فقالوا: (يا محمد، هلمّ فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه) .
وهو عرض خبيث ماكر يدل على حيلة واسعة، ولباقة في حسن العرض، وهو يدل على ما كان يتمتاع به القوم من ذكاء، وفطنة، وعقل، ولكن حجبتها العقائد الموروثة، والأوهام الفاسدة، والتقليد لما عليه الاباء، عن الإذعان للحق والخضوع له.
وما كانت هذه الحيلة الماكرة لتجوز على النبي، فقد رفضها واستنكرها، فأنزل الله سبحانه تأييسا لهم، وقطعا لأطماعهم:
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) «1» .
عود إلى سياسة الإيذاء والاستهزاء
ولما رأى المشركون أن سياسة الإغراء والملاينة، والمجادلة، والمغالطة لم تجد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- وقد حدّثناك عن بعضها- عادوا إلى سياسة الإيذاء.
فمن ذلك ما كان يؤذي به رسول الله النّضر بن الحارث، وكان من شياطين قريش، وينصب لرسول الله بالعداوة، وكان من أمره ما ذكرنا فيما سبق
__________
(1) النفي في الفقرتين الأوليين يتعلق بالزمن الحاضر، وفي الفقرتين الاخريين يتعلق بالمستقبل، وذلك لقطع أطماعهم فيه، في الحاضر، والمستقبل، ثم أكد النفي بقوله: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ.(1/335)
من معارضة ما يذكره النبي من قصص الأنبياء والأمم؛ بما كان معه من أساطير تعلمها من بلاد الحيرة عن ملوك فارس، وأحاديث رستم، واسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله مجلسا يعلّم ويذكّر، خلفه في مجلسه فحدثهم بما معه، ثم يقول: ما محمد بأحسن حديثا مني، أنا- والله- يا معشر قريش أحسن حديثا منه، وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبتها، وقد أنزل الله في مقالته والرد عليه قوله سبحانه:
وَقالُوا أَساطِيرُ «1» الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) «2» .
وقال:
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) «3» .
وقال:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً «4» فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) «5» .
موقف للنضر يكون فيه منصفا للرسول
ومن العجيب حقا أن ابن إسحاق روى عن هذا الشيطان والمتمرد على النبوة أنه قال لقريش: «يا معشر قريش إنه- والله- قد نزل بكم أمر ما أتيتم
__________
(1) جمع أسطورة أو إسطارة: الخرافات والأباطيل.
(2) الايتان 5- 6 من سورة الفرقان.
(3) الاية 15 من سورة ن.
(4) صمما.
(5) الايتان 6- 7 من سورة لقمان.(1/336)
له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر!! لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة: نفثهم وعقدهم «1» وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن، وقد رأينا الكهنة وتخالجهم، وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر؛ وقد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه، وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه- والله- قد نزل بكم أمر عظيم «2» .
وكأنه كان يرى هذا ويعتقده، ثم انجرف في تيار معاداة الرسول، وغلبت عليه شقوته، فصار يتعقّب الرسول ويقول فيه ما قال!!
أمية بن خلف وهمزه للرسول
وكان أمية بن خلف بن وهب بن حذافة السهمي إذا رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم همزه، ولمزه، فأنزل الله تعالى فيه:
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ «3» (1) الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ «4» (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ «5» (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) «6» .
__________
(1) النفث النفخ مع ريق قليل، وعقدهم: بفتح العين وسكون القاف، أو بضم العين وفتح القاف جمع عقدة وهي التي يعقد الساحر في الخيط، وينفث فيها بشيء يقوله، وفي الكتاب الكريم: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ أي السواحر.
(2) السيرة ج 1 ص 299- 300.
(3) همزة، لمزة: بضم أولهما وفتح ثانيهما: كثير الهمز واللمز، وهو الذي يعيب الناس، ويغتابهم، ويؤذيهم بلسانه وجوارحه.
(4) سميت النار حطمة: لأنها تحطم وتأتي على كل ما فيها.
(5) تطّلع: تظهر وتعلو على القلوب باتقادها وشدة لهبها.
(6) جعلها كالسرادق المقام على عمد قوية، المطبق على من فيه، فلا يستطيعون منه هربا ولا خروجا.(1/337)
إغراء أبيّ بن خلف لعقبة بالنيل من الرسول
وكان أبيّ بن خلف، والشقي عقبة بن أبي معيط متصافيين حسنا ما بينهما، فكان عقبة قد جلس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسمع منه، فبلغ ذلك أبيا، فأتى عقبة فقال له: ألم يبلغني أنك جالست محمدا وسمعت منه؟! وجهي من وجهك حرام أن أكلمك- واستغلظ من اليمين- إن أنت جلست إليه، أو سمعت منه، أولم تأته فتتفل في وجهه، ففعل ذلك السفيه الشقي عقبة «1» ، فأنزل الله تعالى فيهما قوله:
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا (29) «2» .
رمي العاص بن وائل الرسول بأنه أبتر
وقد بلغ البغض والسّفه ببعض المشركين أن عابوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما لا خيرة له فيه من موت أولاده الذكور، ولا يخلّ بدين، ولا مروءة، ولا رجولة، فمن هؤلاء العاص بن وائل السهمي، كان إذا ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: دعوه؛ فإنما هو أبتر لا عقب له، لو مات لا نقطع ذكره، واسترحتم منه، فأنزل الله تعالى سورة الكوثر بيانا لبعض ما رفع الله به ذكر رسوله، وأن شانئه هو الأبتر، قال سبحانه:
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) «3» .
__________
(1) السيرة ج 1 ص 361.
(2) الايات 27- 29 من سورة الفرقان.
(3) الكوثر: فوعل من الكثرة، وهو الخير الكثير الذي يشمل النبوة وعموم الرسالة، وكثرة الخصائص والفضائل. ومنه الكوثر النهر الذي في الجنة، وبعضهم خصّه به، والأول هو الأولى. انحر: اذبح نسكك. شانئك: مبغضك. الأبتر: الناقص الذي لا عقب(1/338)
استهزاؤهم بالرسول
ومر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، وأبي جهل بن هشام، فهمزوه واستهزؤوا به، فغاظه ذلك، فأنزل الله عليه مسليا ومواسيا، ومنددا بهم ومنذرا قوله تعالى:
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) «1» .
ولم يعبأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكل هذا، بل مضى إلى سبيله يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وما زاده الإسراف في الإيذاء والاستهزاء إلا إصرارا على الدعوة.
ما نزل بالمسلمين ولا سيما المستضعفين من البلاء والفتنة
لا يكاد التاريخ يعرف قوما ابتلوا بألوان البلاء، وفتنوا أشد الفتنة مثل ما عرف ذلك لأصحاب نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، فقد عذّبوا عذابا تنوء به الجبال، وأوذوا في سبيل عقيدتهم ودينهم أشد الإيذاء، ولا سيما الأعبد والضعفاء منهم، وليس هذا بعجيب من قوم خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان، من أول يوم اعتنقوا فيه الإسلام، وتوالت عليهم ايات الوحي والمواعظ النبوية صباح مساء، وأخذهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بأساليبه الحكيمة في التربية والتهذيب، وكان لهم القدوة الحسنة في الثبات والصبر، والتحمل، والاستهانة بكل لأواء الحياة، والامها، ومرّها، في سبيل العقيدة والغاية الشريفة.
ولم يكن هؤلاء السادة يبغون من إيمانهم ملكا، أو جاها، أو مالا،
__________
- له، وقد ردّ الله على العاص مقالته، أي هو الأبتر، لا أنت يا رسول الله؛ لأن كل من يولد إلى يوم القيامة فهم أولادك، وأعقابك، وأنت أب لهم، وذكرك مرفوع على المنابر والماذن، وعلى لسان كل عالم، ومصلّ، وذاكر إلى اخر الدهر، ذلك وفي الاخرة ما لا يدخل تحت الوصف، وإنما الأبتر هو شانئك المنسي في الدنيا والاخرة.
(1) الاية 10 من سورة الأنعام.(1/339)
أو سمعة، وإنما كان همهم أن يقوم هذا الدين وينتشر، وتسود العالم شريعة الحق، والعدل، والمساواة، واحترام حقوق الإنسان.
ولئن كان وجد في الأمم السابقة من ضربوا مثلا عالية في التضحية والصبر والتحمل في سبيل الإيمان والدين، إلا أنهم لم يكونوا في الكثرة مثل ما كان ذلك في الإسلام، ولم يكن لهم من قوة الإيمان وصلابة الاعتقاد مثل ما كان لأصحاب نبينا محمد.
وليس أدل على هذا من أن الحواريين الذين كانوا أخلص الخلصاء لعيسى- عليه الصلاة والسلام- خانه بعضهم وهو يهوذا الأسخريوطي كما ذكرته كتبهم- ودل عليه اليهود الذين كانوا يطلبونه لقتله، لولا أن رفعه الله إليه وعصمه منهم، ولن تجد مثالا واحدا لهذا في الصحابة- رضوان الله عليهم- على كثرتهم الكاثرة على أصحاب عيسى- عليه السلام- بل كانوا يفدونه بأنفسهم وأهليهم وأموالهم.
وقد كان أبو جهل الفاسق الباغي إذا سمع بالرجل قد أسلم له شرف ومنعة أنّبه وأخزاه، وقال له: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهنّ حلمك، ولنفيّلنّ «1» رأيك، ولنضعنّ شرفك. وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدنّ تجارتك، ولنهلكنّ مالك. وإن كان ضعيفا ضربه، وأغرى به.
وإن في هذه الرواية التي رواها ابن إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ما يعطينا صورة مؤلمة غاية الألم لما كان ينالهم من العذاب، قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم، والله إن كانوا ليضربون أحدهم، ويجيعونه، ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا
__________
(1) لنخطئن، ففي القاموس: فال رأيه، يفيل فيولة، وفيلة: أخطأ وضعف، وفيّل رأيه: قبحه وخطأه.(1/340)
له: اللات والعزّى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، حتى إن الجعل «1» ليمر بهم، فيقولون له: أهذا إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، افتداء منهم مما يبلغون من جهده.
شكاتهم إلى رسول الله ما يلاقون
وفي بعض ساعات الضعف الإنساني كانوا يأتون إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- شاكين ما يجدون من شدائد وتعذيب، فيضرب لهم الأمثال، ويعظهم ويذكرهم، فيرجعون راضين مطمئنين صابرين على البلاء. روي عن خباب بن الأرتّ أنه قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو متوسد بردة، وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: ألا تدعو الله لنا؟ فقعد، وهو محمّر وجهه، وقال: «قد كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد، ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه!! وليتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله- عز وجل- والذئب على غنمه» وفي رواية: «ولكنكم تستعجلون» رواه البخاري ومسلم.
إنّ ما وعاه التاريخ الصادق مما كان يلاقيه المسلمون الأوائل من صنوف البلاء والعذاب قد بلغ من الروعة، والجلال، وعزة النظير ما يعتبر عند بعض الناس ضروبا من الخيال، ولكنها الحقيقة التي لا ريب فيها، إن الإنسان ليغضّ الطرف حياء، ويحمر وجهه خجلا حينما يستعرض هذه المواقف البطولية الفذة التي سمت بأصحابها إلى درجات سامقة من السمو الديني والخلقي والنفسي، وإليك طرفا من حديث هؤلاء القوم.
المعذّبون في الله
فمن هؤلاء السادة الأبطال: بلال بن رباح الحبشي، وكان اسم أمه حمامة، وكان مولاه أمية بن خلف الجمحي قاسي الكبد، غليظ القلب؛ لا ينبض قلبه بقطرة من الرحمة الإنسانية. كان يخرجه إلى بطحاء مكة إذا حميت الشمس في الظهيرة، والرمضاء في هذا الوقت تكاد تنضج اللحم الطري، ثم
__________
(1) الجعل: بضم الجيم وفتح العين دويبة من دواب الأرض.(1/341)
يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا- والله- لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى.
ولكن بلالا لا يعبأ بالالام ولا بالبلاء، ويأبى إلا أن يعلن عن صادق إيمانه، فلا ينفك يردد ويقول: «أحد. أحد» فتمتزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان!! فإذا حلاوة الإيمان تطغى على مرارة العذاب، وكان يقول: «لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها» وقد هانت نفس بلال عليه في الله، فتحمل ما تحمل بقلب مؤمن، ونفس راضية مطمئنة، حتى صار مثلا يحتذى، كلما ذكر المجاهدون والمعذبون.
وهان هو على مواليه فكانوا يجعلون في عنقه حبلا، ويدفعون به إلى الصبيان يلعبون به، حتى أثر الحبل في عنقه، فما صرفه ذلك عن دينه، ويسرف أمية بن خلف الطاغية في التنكيل ببلال وسومه سوء العذاب، ويزداد بلال إيمانا واستعذابا لألوان العذاب، حتى مر به الصّديق أبو بكر- رضي الله عنه- فقال لأمية: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟! «1» فقال له: أنت الذي أفسدته، فأنقذه مما ترى، فقال الصّديق: أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، على دينك، أعطيكه به، قال: قد قبلت، فقال: هو لك، فأعطاه سيدنا أبو بكر- رضي الله عنه- غلامه ذلك، وأخذ بلالا فأعتقه لوجه الله!!
وهذه الأسرة الياسرية: عمار بن ياسر، وأبوه ياسر، وأمه سمية بنت خباط «2» مولاة أبي حذيفة بن المغيرة، وكان ياسر حليفا له فزوّجه سمية، فولدت له عمارا، فأعتقه، وكان بنو مخزوم يخرجون بهم إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة، ويلبسونهم دروع الحديد المحماة بالنار، فما وهنوا ولا استكانوا، وكان يمر بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم يعذبون، فما يملك لهم إلا أن يحثهم على الثبات والصبر، فيقول: «صبرا ال ياسر فإن موعدكم الجنة» .
ولما اشتكى له عمار قائلا: يا رسول الله بلغ منا العذاب كل مبلغ، فقال له:
__________
(1) يعني إلى أي وقت يدوم هذا العذاب؟!
(2) بضم الخاء، وباء مواحدة مشددة، ويقال بمثناة تحتية، وهي غير سميّة أم زياد.(1/342)
«اصبر أبا اليقظان، اللهم لا تعذب من ال ياسر أحدا بالنار» . ومرّ أبو جهل اللعين بسمية، وهي تعذب في الله، فطعنها بحربة في ملمس العفة منها، فماتت، فكانت أول شهيدة في الإسلام! ثم لم يلبث أبوه أن توفي تحت وطأة العذاب!!
ويطول العذاب بعمار حتى كان لا يدري ما يقول، فيظهر كلمة الكفر على لسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، ويجيء عمار- وهو يبكي- إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: «ما وراءك» ؟ قال: شر يا رسول الله: نلت منك، وذكرت الهتهم بخير، قال: «كيف وجدت قلبك» ؟ قال: «مطمئنا بالإيمان» ، فجعل النبي يمسح عينيه بيده، ويقول له: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» !! ولهج بعض الناس بأن عمارا كفر، ولكن رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى صدع بالحق فقال: «كلا، إن عمارا ملىء إيمانا من مفرق رأسه إلى أخمص قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه» !!
ثم ينزل الوحي بشهادة السماء على صدق إيمان عمار، قال تعالى:
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) «1»
فكانت الاية إعذارا لهؤلاء المعذبين في الله بأن لا حرج عليهم إن جاروا الكفار بطرف اللسان، ما دام القلب عامرا بالإيمان، ورخصة يترخص بها من خاف على نفسه الهلاك.
ومن المعذبين في الله عامر بن فهيرة «2» ، أسلم قديما، وصحب النبي والصدّيق في الهجرة يخدمهما، وشهد بدرا وأحدا، وقتل يوم بئر معونة شهيدا.
__________
(1) الاية 106 من سورة النحل.
(2) بضم الفاء وفتح الهاء وإسكان الياء وهي أمه.(1/343)
ومنهم أبو فكيهة، ذكر ابن إسحاق أنه أسلم يوم أسلم بلال، فعذبه أمية بن خلف حتى اشتراه أبو بكر فأعتقه.
ومن المعذّبات في الله، وأظهرن صبرا، وتجلدا، وبطوله: زنّيرة «1» الرومية أمة عمر بن الخطاب، أسلمت قبله، فكان يضربها حتى يفتر، ويشاركه في ضربها أبو جهل، فلا يزيدها ذلك إلا إصرارا على الإسلام، ولما أسلمت أصيب بصرها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزّى، فقالت: كذبوا وبيت الله- ما تضر اللات والعزى، وما تنفعان، ولكن هذا أمر من السماء، وربي قادر على أن يرد عليّ بصري!! فرد الله بصرها، فقالت قريش: هذا من سحر محمد.
وكان أبو جهل يقول: ألا تعجبون إلى هؤلاء وأتباعهم، لو كان ما أتى محمد خيرا وحقا ما سبقونا إليه، أفتسبقنا زنّيرة إلى رشد!!
نعم، نعم، يا أبا جهل- ولا كرامة لك- لقد سبقتك زنيرة إلى الرشد؟! وبقي لها الذكر والترضّي عليها ما بقي مسلم على وجه الأرض، وبقي لك اللعن على كل لسان إلى ما شاء الله، لقد ذهبت الأحساب والأنساب، وبقيت التقوى، قال تعالى:
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ.
ومنهن أم عنيس «2» أمة لبني زهرة، وكان الأسود بن عبد يغوث يعذبها، فما استطاع أن يفتنها عن دينها.
__________
(1) بكسر الزاي، وتشديد النون المكسورة، فتحتية، فراء كسكّينة كما في القاموس وكذلك قال في الإصابة، ويقال: زنبرة بفتح الزاي وسكون النون فمواحدة كما في الاستيعاب (شرح المواهب، ج 1 ص 320) .
(2) أم عنيس: بعين مهملة مضمومة فنون فياء على صيغة المصغر، وقيل: بباء مواحدة، فتحتية، فسين مهملة.(1/344)
وحمامة «1» أم بلال بن رباح كانت تعذب في الله، وجارية بني المؤمل «2» وهم من بني عدي بن كعب، وكانت قد أسلمت، فكان عمر بن الخطاب يعذبها ويضربها حتى إذا ملّ قال: إني أعتذر إليك بأني لم أتركك إلا ملالة!! فتقول:
كذلك فعل الله بك.
والنهدية وابنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار «3» .
ولعلك- أيها القارىء الكريم- امنت معي بعد ما سمعت هذه النماذج البشرية العالية أن التاريخ لا يكاد يعرف قوما استعذبوا العذاب في سبيل الإيمان والعقيدة، وهانت عليهم نفوسهم في الله مثل ما عرف ذلك لأصحاب خاتم الأنبياء محمد، وأني لم أكن مسرفا، ولا مبالغا حينما قلت هذا القول، وأن هؤلاء الرجال والنساء خطّوا صحائف مشرقة في تاريخ الإيمان، والبطولة، والتضحية.
فلله هذه النفوس المؤمنة، ما أزكاها، وما أشرفها، وما أخلدها على الدهر.
واهب الحريات
أما واهب الحريات ومحرر العبيد فهو شيخ الإسلام الوقور، الذي عرف بين قومه بأنه يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب «4» الحق، لم ينغمس في إثم في جاهليته، أليف مألوف، يسيل قلبه رقة ورحمة على الضعفاء والأرقاء، أنفق جزا كبيرا من ماله في شراء العبيد، وعتقهم لله وفي الله، قبل أن تنزل التشريعات الإسلامية المحببة في العتق، والواعدة عليه أجزل الثواب، ذلكم المحرر للعبيد هو صدّيق هذه
__________
(1) بفتح الحاء المهملة، وتخفيف الميم.
(2) قال في الإصابة: وردت في غالب الروايات غير مسماة، وسماها البلاذري لبينة بضم اللام ومواحدة تصغير لبنة.
(3) سيرة ابن هشام، ج 1 ص 317- 320؛ شرح المواهب، ج 1 ص 320- 325.
(4) هكذا وصف ابن الدغنّة سيد قبيلة القارة أبا بكر- رضي الله عنه- ومن قبل وصفت السيدة الجليلة المهيبة خديجة رسول الله بهذه الأوصاف، فانظر يا قارئي كيف تطابق وصف الصادق، ووصف الصديق.(1/345)
الأمة، والوزير الأول لرسول الله أبو بكر بن أبي قحافة- رضي الله عنه وأرضاه- ومن هؤلاء السادة الذين أعتقهم:
بلال بن رباح: وقد قدّمنا طرفا من قصته، وإذا علمت أن الغلام الذي أعطاه سيدنا أبو بكر كان يسمى: (نسطاس) ويقال: كان صاحب عشرة الاف دينار، وغلمان، وجوار، ومواش- أدركت عظم الفداء الذي فدى به الصديق أبو بكر بلالا، ولا تعجب إذا كان الفاروق عمر قال هذه القولة التي تدل على عظم منزلة الفادي والمفدى: «أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا» يريد بلالا، رواه البخاري في صحيحه.
ومن موالي الصديق: أبو فكيهة اشتراه وأعتقه، وعامر بن فهيرة اشتراه وأعتقه لوجه الله.
ومن الإماء اللاتي اشتراهنّ وأعتقهن لله: حمامة أم بلال، وأم عنيس وزنّيرة، وجارية بني المؤمل، والنهدية وابنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار، فمر بهما، وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها «1» وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدا، وتتوعدهما، فقال الصدّيق: حل «2» يا أم فلان، فقالت حل. أنت أفسدتهما، فأعتقهما، قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا. قال قد أخذتهما وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها، قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر، ثم نرده إليها؟ قال:
وذلك إن شئتما.
وإن لنا هنا لوقفة ترينا كيف سوى الإسلام بين الصدّيق والجاريتين حتى خاطبتاه خطاب الند للند، لا خطاب المسود للسيد، وتقبّل الصديق- على شرفه وجلالته في الجاهلية والإسلام- منهما ذلك، مع أن له يدا عليهما بالعتق، وكيف صقل الإسلام الجاريتين حتى تخلقتا بهذا الخلق الكريم، وكان يمكنهما وقد أعتقتا وتحررتا من الظلم أن تدعا لها طحينها يذهب أدراج الرياح، أو يأكله
__________
(1) بحب ليطحن.
(2) أي تحللي من يمينك واستثني فيه، وأكثر ما تقوله العرب بالفتح.(1/346)
الحيوان والطير، ولكنهما أبتا- تفضّلا- إلا أن تفرغا منه، وترداه إليها!!
إنما أريد وجه الله
ولم يكن الصدّيق يقصد بعمله محمدة، ولا جاها، ولا دنيا، وإنما كان يريد وجه الله ذا الجلال والإكرام، لقد قال له أبوه ذات يوم: «يا بني إني أراك تعتق رقابا ضعافا، فلو أنك إذ فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك، ويقومون دونك؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا أبت إني إنما أريد ما أريد لله عز وجل، فلا عجب إذا كان الله سبحانه أنزل في شأن الصديق قرانا يتلى إلى يوم الدين «1» ، قال سبحانه:
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) «2» .
فلله أنت أيها الصدّيق العظيم، فقد حررت العبيد قبل أن يعرف العالم الحديث ذلك ببضعة عشر قرنا!!
__________
(1) سيرة ابن هشام، ج 1 ص 319؛ وتفسير ابن كثير والبغوي، ج 9 ص 226؛ وتفسير الالوسي، ج 30 ص 152.
(2) الايات 5- 21 من سورة الليل، وتأمل في قول الله تعالى لنبيه وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى وقوله في شأن الصديق وَلَسَوْفَ يَرْضى لترى كيف كان الله تبارك وتعالى حفيا بالنبي، وبالصدّيق!!(1/347)
الفصل الرّابع أحداث هامّة في العهد المكّي
هجرة الحبشة
ولما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما كان ينالهم من التعذيب والإهانة- وقد ذكرت لك ذروا منه انفا- وأنه لا يقدر على أن يمنع عنهم ما يصيبهم قال لهم:
«لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه» .
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله إلى أرض الحبشة فرارا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام، وقد روى الواقدي أن خروجهم إليها كان في رجب سنة خمس من البعثة.
فكان أول من خرج عثمان بن عفان ومعه زوجه رقية بنت رسول الله، ولما بلغ رسول الله ذلك قال: «صحبهما الله، إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط عليه السلام» .
ثم خرج أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وزوجه سهلة بنت سهيل بن عمرو، فولدت له بالحبشة محمد بن أبي حذيفة، وخرج الزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي وزوجه أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية، وولدت له بها زينب، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة حليف ال الخطاب وزوجه ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن أبي رهم، ويقال: بل أبو حاطب بن عمرو،(1/349)
ابن عبد شمس، بن عبد ود، بن مالك، بن حسل، بن عامر، بن لؤي، ويقال:
إنه أول من قدمها، وسهيل بن بيضاء، فكانوا عشرة رجال، وأربع نسوة، وقيل: وخمس نسوة بزيادة أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو زوج أبي سبرة «1» .
ثم خرجوا ما بين ماش وراكب حتى انتهوا إلى البحر، فاستأجروا سفينة حملتهم إلى الحبشة بنصف دينار، وخرجت قريش في اثارهم فلم يدركوا منهم أحدا.
ويقال: إن قريشا أرسلت في أثرهم عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدايا وتحف إلى النجاشي ليردهم إلى قومهم فأبى، وردهما خائبين. وأما بعد هجرة الحبشة الثانية فقد أرسلت عمرا وعبد الله بن أبي ربيعة، والمحققون على أن الإرسال إنما كان بعد الهجرة الثانية وهو الصحيح «2» ، فقد كان المتكلم عن المهاجرين جعفر بن أبي طالب، والصحيح أنه لم يهاجر إلا في الثانية، وسنذكر إن شاء الله تعالى- ما كان من رسولي قريش، وما كان من سيدنا جعفر بين يدي النجاشي في موضعه.
__________
(1) السيرة، ج 1 ص 222- 223؛ شرح المواهب، ج 1 ص 326.
(2) شرح المواهب، ج 1 ص 327، 328.(1/350)
إسلام عمر بن الخطاب «1»
هو عمر بن الخطاب، بن نفيل، بن عبد العزّى، بن رياح، بن عبد الله، ابن قرط، بن رزاح «2» ، بن عدي، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، يجتمع مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في كعب، وأمه حنتمة بنت هاشم «3» بن المغيرة، ابنة عم أبي جهل وأخيه الحارث بن هشام.
وكان عمر في جاهليته من أشد الناس إيذاء للمسلمين، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرى أن في إسلامه أو إسلام أبي جهل كسبا كبيرا للإسلام والمسلمين، فلذلك كان يدعو الله أن يهدي أي الرجلين إلى الإسلام. روى الترمذي وغيره عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهمّ أعزّ الإسلام بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب» ورواه أحمد والترمذي وابن سعد وغيرهم عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بلفظ: «اللهم أعزّ الإسلام بأحب الرجلين إليك:
بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب» وقد استجاب الله الدعاء، فكان أحب الرجلين عمر بن الخطاب.
بين يدي إسلام عمر
وقد سبقت إسلام عمر مبشرات كانت تشير إلى أن الرجل يفكر في الإسلام، وأن ماله سيكون إليه، فقد روى ابن إسحاق عن أم عبد الله بنت أبي حثمة زوج الصحابي الجليل عامر بن ربيعة، قالت: إنا لنترحل إلى أرض
__________
(1) اختلفت الروايات في وقت إسلامه، فقال ابن إسحاق: أسلم عقب الهجرة الأولى إلى الحبشة، فعلى هذا يكون سنة خمس من المبعث، وقيل: سنة ست في ذي الحجة.
(2) رياح بكسر الراء والتحتانية، وقيل بكسر ومواحدة، قرط: بضمّ القاف وإسكان الراء، رزاح: بفتح الراء والزاي، وقيل بكسر الراء.
(3) وقع في بعض الكتاب هشام وهو تصحيف كما نبه عليه ابن عبد البر وغيره.(1/351)
الحبشة، وقد ذهب عامر في بعض حاجاتنا، إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف علي وهو على شركه، قالت: وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشدة علينا، فقال:
إنّه للانطلاق يا أم عبد الله؟ قالت: فقلت: نعم، والله لنخرجنّ في أرض الله، اذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا فرجا ومخرجا، فقال: صحبكم الله!
قالت: ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف، وقد أحزنه فيما أرى خروجنا. قالت: فجاء عامر، فقلت له: يا أبا عبد الله، لو رأيت عمر انفا ورقته وحزنه علينا، قال: أطمعت في إسلامه؟ قالت: نعم، فقال: فلا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب!! وذلك لما كان يرى من غلظته وقسوته.
سماعه للقران
وقد كان للقران الكريم، وإعجازه، وأسلوبه، وحسن تأليفه، وإحكام معناه أكبر الأثر في إسلامه، ومثل عمر في ذوقه الأدبي، وعلمه باللغة وأساليبها، وتذوقه للجيد من الكلام ممن تأسره بلاغة القران وأسرار الإعجاز، روى الإمام أحمد في مسنده عن عمر قال: خرجت أتعرّض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أتعجب من تأليف القران!! فقلت: هو شاعر كما قالت قريش «1» ، فقرأ:
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (41) .
فقلت: كاهن علم ما في نفسي، فقرأ:
وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (42) ....
إلى اخر السورة، قال عمر: فوقع الإسلام في قلبي كل موقع «2» .
كما تذكر بعض الروايات أنه جاء ذات يوم يريد جلساءه فلم يجد أحدا، فقال: لو أني ذهبت إلى فلان الخمار لعلي أجد عنده خمرا فأشرب، فلم يجده،
__________
(1) تأمل لترى أنه قال ذلك متابعة لا عن يقين وعلم من نفسه.
(2) تفسير ابن كثير والبغوي، ج 8 ص 472.(1/352)
ثم قال: لو أني جئت الكعبة فطفت بالبيت سبعا، فذهب يطوف، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم يصلي فقال: لو أني استمعت إلى محمد الليلة حتى أسمع ما يقول، فاستخفى وراء ستر الكعبة، وما زال يتحرك من وراء الكسوة حتى صار قريبا من النبي قبل قبلته ما يواريه إلا ثياب الكعبة، قال: فلما سمعت القران رقّ له قلبي، فبكيت ودخلني الإسلام، فلم أزل قائما في مكاني هذا حتى قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاته ثم انصرف «1» .
إسلام أخته فاطمة وزوجها
وكانت أخته فاطمة بنت الخطاب قد سبقته إلى الإسلام هي وزوجها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وهو ابن ابن عمها، وكانا يخفيان إسلامهما، وكان خبّاب بن الأرت من قدماء المسلمين يختلف إلى فاطمة وزوجها يقرئهما القران.
قصده رسول الله لقتله
وفي ثورة من ثورات النفس المضطربة، المتحيرة، الناقمة على من يخالفها خرج عمر يوما متوشحا سيفه، يريد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورهطا من أصحابه قد ذكروا له أنهم في بيت عند الصفا، وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء، منهم الصدّيق، وعلي، وحمزة في اخرين اثروا المقام مع رسول الله، ولم يخرجوا إلى الحبشة، فلقيه نعيم بن عبد الله النحّام من بني عدي بن كعب، وكان يخفي إسلامه، فقال: أين تريد يا عمر؟ قال: أريد محمدا هذا الصابىء الذي فرّق أمر قريش، وسفّه أحلامها، وعاب دينها، وسب الهتها، فأقتله!!
فقال له نعيم: لقد غرّتك نفسك يا عمر!! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا؟! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟
قال: وأي أهل بيتي؟ قال ختنك، وابن عمك سعيد بن زيد «2» ، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد- والله- أسلما.
فرجع عمر عامدا إلى أخته وزوجها، وعندهما خباب بن الأرت معه
__________
(1) السيرة، ج 1 ص 347.
(2) الختن زوج البنت أو الأخت، وهو ابن ابن عمه، ففي قوله وابن عمك تجوز.(1/353)
صحيفة فيها صدر سورة (طه) يقرئهما إياها، فلما سمعوا صوت عمر اختفى خباب في البيت، وأخذت فاطمة الصحيفة، فوضعتها تحت فخذها، وكان عمر قد سمع حينما قرب من البيت قراءة خباب عليهما، فقال: ما هذه الهينمة «1» التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئا. قال: بلى- والله- لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد وبرك عليه، فقامت أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها حتى سال منها الدم، فلما فعل ذلك قالا له: نعم قد أسلمنا، وامنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك!!
من لحظات التجلّي الإلهي
فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع، وارعوى، وأدركته لحظة من لحظات التجلّي الإلهي على خلقه فخشع قلبه، وسكنت جوارحه، وهدأت نفسه، وتحوّلت العرامة والشراسة إلى هدوء وسكينة، فقال لأخته:
أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأونها انفا، أنظر ما هذا الذي جاء به محمد وكان عمر قارئا كاتبا- فلما قال ذلك قالت له أخته: إنما نخشاك عليها، قال: لا تخافي، وحلف لها ليردّنها إليها إذا قرأها، فلما قال ذلك طمعت في إسلامه، فقالت له: يا أخي إنك نجس على شركك وإنه لا يمسها إلا الطاهر، فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة، وفيها:
طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «2»
ويروى أنه قال: لما قرأت «بسم الله الرحمن الرحيم» ذعرت، ورميت بالصحيفة من يدي، ثم رجعت إلي نفسي فأخذت الصحيفة، وأنه كلما مر باسم من أسماء الله ذعر!!
__________
(1) صوت الكلام الذي لا يتبين.
(2) صدر سورة طه، ويروى أنه كان بالصحيفة أيضا صدر سورة الحديد، وسورة التكوير.(1/354)
فلما قرأ صدرا منها حتى بلغ قوله تعالى:
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) .
فقال: ما ينبغي لمن يقول هذا الكلام أن يعبد معه غيره، ما أحسن هذا الكلام وأكرمه!!
فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال له: يا عمر- والله- إني لأرجو أن يكون الله خصّك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: «اللهم أيّد الإسلام بأبي الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب» فالله الله يا عمر، فقال له:
فدلني يا خباب على محمد حتى اتيه فأسلم، فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا معه فيه نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله فنظر من خلل «1» الباب، فراه متوشحا السيف، فرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو فزع، فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف، فقال حمزة بن عبد المطلب: فأذن له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له، وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ائذن له» فأذن له الرجل، ونهض له رسول الله حتى لقيه، فأخذ بمجامع حجزته «2» ، أو بمجمع ردائه، ثم جبذه «3» به جبذة ارتعد منها عمر وجلس، وفي رواية: فما تمالك أن وقع على ركبتيه «4» ، وقال له: «ما جاء بك يا ابن الخطاب» ؟ فو الله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة» «5» فقال عمر: يا رسول الله جئت لأؤمن بالله ورسوله، وبما جاء من عند
__________
(1) شق الباب.
(2) موضع شد الإزار.
(3) جذبه.
(4) هذا يدل على ما كان يمتاز به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من القوة البدنية، وعظمة الشخصية، فضلا عن القوة العقلية والنفسية.
(5) داهية.(1/355)
الله، فكبّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله أن عمر قد أسلم، وكبر المسلمون تكبيرة علم منها أهل مكة أن عمر قد أسلم «1» .
استعلان المسلمين بدينهم
ولما أسلم عمر قال: يا رسول الله ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟
قال: «بلى، والذي نفسي بيده إنكم على الحق إن متم، وإن حييتم» فقلت:
ففيم الخفاء يا رسول الله، علام نخفي ديننا ونحن على الحق، وهم على الباطل؟! فقال: «يا عمر إنا قليل، قد رأيت ما لقينا» فقال: والذي بعثك بالحق لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا جلست فيه بالإيمان.
ثم خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم هو والمسلمون في صفين: عمر في أحدهما، وحمزة في الاخر، قال حتى دخلنا المسجد الحرام، فنظرت قريش إلينا، فأصابتهم كابة لم يصبهم مثلها قط، فسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ (الفاروق) لأنه فرق بين الحق والباطل.
عزّة المسلمين
وبإسلام عمر- رضي الله عنه- عز الإسلام والمسلمون، وصاروا يغشون الكعبة ويطوفون حولها، ويصلّون لا يخافون قريشا. روى البخاري في صحيحه بسنده عن ابن مسعود قال: «ما زلنا أعزّة منذ أسلم عمر بن الخطاب» «2» وروى زياد البكّائي بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: «إن إسلام عمر كان فتحا، وإن هجرته كانت نصرا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر «3» ، فلما أسلم قاتل حتى صلّى عند الكعبة وصلّينا معه» .
__________
(1) السيرة، ج 1 ص 342- 350؛ شرح المواهب، ج 1 ص 328- 332.
(2) صحيح البخاري- باب إسلام عمر.
(3) يريد الضعفاء منهم، وإلا فقد كان رسول الله، وأبو بكر، وحمزة، وأمثالهم يصلون عند الكعبة على ما كان ينالهم.(1/356)
إخباره لأبي جهل بإسلامه
ولما أسلم عمر فكر فيمن هو أشد أهل مكة عداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرأى ذلك أبا جهل، قال: فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه، قال:
فخرج إلي أبو جهل فقال: مرحبا وأهلا بابن أختي «1» ، ما جاء بك؟ قال: جئت لأخبرك أني قد امنت بالله وبرسوله محمد، وصدّقت بما جاء به، قال: فضرب الباب في وجهي، وقال: قبّحك الله وقبّح ما جئت به.
تحدي عمر لقريش
وأراد عمر أن يفي بما وعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أنه لا يبقى مجلس جلس فيه بالكفر إلا جلس فيه بالإيمان، وأن يناله في الله ما نال المسلمين، فسأل: أي قريش أنقل للحديث؟ فقيل له: جميل بن معمر الجمحي، فغدا عليه وغدا ابنه عبد الله بن عمر وراءه، وهو غلام يعقل كل ما يرى لينظر ما يفعل، حتى جاءه، فقال له: أعلمت يا جميل أني قد أسلمت ودخلت في دين محمد؟! قال ابن عمر: فو الله ما راجعه حتى قام يجر رداءه، واتّبعه عمر، واتبعت أبي حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش- وهم في أنديتهم حول الكعبة- ألا إن عمر بن الخطاب قد صبأ!! وعمر من خلفه يقول:
كذب، ولكني أسلمت، وشهدت ألاإله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله.
وثاروا إليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم، ونال منه الإعياء فقعد، وأقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، وأحلف بالله لو قد كنّا ثلاثمائة رجل تركناها لكم، أو تركتموها لنا.
إجارة العاص بن وائل السهمي له
وقد عزّ على قريش أن يجاهرها عمر بالإسلام، ويغشى نواديهم متحديا،
__________
(1) أم عمر هي ابنة عم أبي جهل، لأنها حنتمة بنت هاشم، وهو عمرو بن هشام، لا أخته كما زعم ابن إسحاق (السيرة ج 1 ص 350) . ولعل الوهم جاء من تسميته بابن أخته، والعرب قد يطلقون على بنت العم أختا، وعلى ابنها ابن الأخت، ولا يزال هذا العرف جاريا عندنا بمصر.(1/357)
فاجتمعوا إلى داره من كل صوب يريدون قتله، حتى أجاره العاص بن وائل السهمي، روى البخاري في صحيحه بسنده عن عبد الله بن عمر، قال: «بينما هو- أي عمر- في الدار خائف، إذ جاءه العاص بن وائل السهمي أبو عمرو، وعليه حلة حبر «1» ، وقميص مكفوف بالحرير، وهو من بني سهم، وهم حلفاؤنا في الجاهلية، فقال: ما بالك؟ قال: زعم قومك أنهم سيقتلونني أن أسلمت!! قال: لا سبيل إليك، بعد أن أمنت «2» ، فخرج العاص فلقي الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون؟! قالوا: نريد هذا ابن الخطاب الذي صبأ، قال: لا سبيل إليه، فكرّ الناس- وفي رواية أخرى- قال: فأنا له جار، فرأيت الناس تصدّعوا عنه، فقلت «3» من هذا؟ قالوا العاص بن وائل السهمي، فعجبت من عزته» .
__________
(1) جمع حبرة: برد مخطط موشى من التحبير وهو التزيين.
(2) يعني بعد أن قالها أمنت.
(3) القائل هو عبد الله بن عمر.(1/358)
الصحيفة الظالمة
ولما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كثروا وعزّوا بعد إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما، وأن المهاجرين إلى الحبشة قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، ورأوا الإسلام يفشو في القبائل أجمعوا على أن يقتلوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، فبلغ ذلك أبا طالب، فجمع بني هاشم وبني المطلب، فأمرهم فأدخلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شعبهم: شعب بني هاشم «1» ، ومنعوه ممن أرادوا قتله، فأجابوه لذلك حتى كفارهم، فعلوا ذلك حمية للرحم والقرابة على عادة أهل الجاهلية في ذلك، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا أبو لهب بن عبد المطلب، فقد انحاز إلى قريش وظاهرهم.
فلما رأت قريش ذلك وأجمعوا أمرهم، وائتمروا فيما بينهم على أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم والمطّلب: ألاينكحوا إليهم «2» ، ولا ينكحوهم، ولا يبيعوا منهم شيئا، ولا يبتاعوا، ولا يقبلوا منهم صلحا أبدا حتى يسلموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم ليقتلوه. وكتبوه في صحيفة بخط منصور ابن عكرمة في رواية ابن إسحاق، وقال ابن سعد: بخط بغيض بن عامر، وقال ابن هشام: بخط النضر بن الحارث، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على كاتبها، فشلّت يمينه، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة هلال المحرم سنة سبع من النبوة.
__________
(1) ويعرف بشعب ابن يوسف، والشعب: الطريق في الجبل، وما انفرج بين جبلين.
(2) يعني لا يتزوجوا منهم.(1/359)
الواصلون لبني هاشم
فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جاهدوا، وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرا مستخفيا ممّن أراد صلتهم من قريش، وكان ممن يصلهم حكيم بن حزام ابن أخي السيدة خديجة رضي الله عنها، وهشام بن عمرو العامري وكان أوصلهم لبني هاشم، وذلك أنه ابن أخي نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه، ولذلك كان هشام لبني هاشم واصلا، وكان ذا شرف في قومه، فكان يأتي بالبعير وبنو هاشم وبنو المطّلب في الشعب ليلا، قد أوقره طعاما، حتى إذا بلغ فم الشعب خلع خطامه من رأسه، ثم يضرب على جنبيه، ثم يأتي به قد أوقر برا فيفعل به مثل ذلك.
بين حكيم وأبي جهل
وفي ذات يوم كان حكيم بن حزام معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته السيدة خديجة رضي الله عنها، وهي عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه في الشعب، فقابله أبو جهل فتعلّق به، وقال له: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟! فو الله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة، فاتفق مجيء أبي البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فقال لأبي جهل: مالك وله؟!
فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم!! فقال له أبو البختري: طعام كان لعمته عنده بعثت إليه فيه، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟! خلّ سبيل الرجل، فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من الاخر، فأخذ أبو البختري لحي «1» بعير فضربه به فشجّه، ووطئه وطئا شديدا، وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فيشمتوا بهم، ومع كل هذا فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو قومه ليلا ونهارا، وسرا وجهرا، لا يتقي في ذلك أحدا من الناس.
رجوع مهاجري الحبشة
وقد كان لما أسلم عمر وأعزّ الله به الإسلام، وتمكن المسلمون من أداء
__________
(1) اللحي بكسر اللام عظم الفك.(1/360)
صلاتهم بالمسجد الحرام حصلت مهادنة بين قريش والمسلمين، ثم لم تلبث قريش أن جن جنونها لما رأت تزايد المسلمين كل يوم وثباتهم على دينهم وعقيدتهم، فعادت إلى ما كانت أولا من ابتلاء للمسلمين وتعذيبهم.
وكان نمي إلى المسلمين بالحبشة خبر هذه المهادنة، كما بلغهم إسلام عمر رضي الله تعالى عنه، هذا إلى أنه كانت قد قامت ثورة ضد النجاشي في ملكه «1» ، فخشي المسلمون أن يصاب بهزيمة، وربما يأتي ملك لا يعرف للمسلمين حقهم كما كان النجاشي أصحمة يعرف ذلك.
لذلك رأى مهاجرة الحبشة، أو معظمهم الرجوع إلى موطنهم «مكة» «2» ، فلما وصلوا وجدوا الأمر على غير ما سمعوا، وأن البلاء ما زال قائما، بل وعادت الفتنة إلى أشد مما كانت، فدخل من دخل منهم مكة بجوار أو مستخفيا، ومنهم من عاد من حيث أتى.
من دخل في جوار
وكان ممن دخل في جوار عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه، فقد دخل في جوار الوليد بن المغيرة، ولما رأى عثمان ما فيه أصحاب رسول الله من البلاء وهو يغدو ويروح في أمان الوليد تألّم وأسف، ولم يسعه ضميره أن يعيش امنا في جوار رجل مشرك وأهل دينه يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبه، فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس، وفّت ذمتك قد رددت إليك جوارك، قال له: لم يا ابن أخي؟ لعله اذاك أحد من قومي؟
قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله، ولا أريد أن أستجير بغيره.
قال: فانطلق إلى المسجد فاردد إليّ جواري علانية كما أجرتك علانية،
__________
(1) انظر أخبار هذه الثورة وما جرى فيها من حروب في السيرة لابن هشام جزء 1 من ص 328- 341.
(2) قيل: كان ذلك في شوال سنة خمس من النبوة، وقيل كان في السنة السادسة، وذلك على حسب الخلاف في إسلام سيدنا عمر، فإن الراجح أن إسلامه كان من الأسباب القوية لعودتهم.(1/361)
فانطلقا حتى أتيا المسجد الحرام، فقال الوليد: هذا عثمان قد جاء يردّ عليّ جواري. قال: صدق. قد وجدته وفيا كريم الجوار، ولكني قد أحببت أن لا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره.
ثم انصرف عثمان إلى مجلس من قريش ينشدهم فيه لبيد بن ربيعة الشاعر، فقال لبيد «1» : «ألا كل شيء ما خلا الله باطل» فقال عثمان: صدقت، قال لبيد: «وكل نعيم لا محالة زائل» قال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، فقال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه قد فارقوا ديننا، فلا تجدنّ في نفسك من قوله، فرد عليه عثمان، فقام إليه هذا الرجل السفيه فلطم عينه فخضّرها «2» .
وكان الوليد قريبا منهما فقال: أما والله يا ابن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنية!! لقد كنت في ذمة منيعة، فقال عثمان: والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله!! فقال له الوليد: هلمّ فعد إلى جوارك إن شئت، فقال: لا، وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس.
أبو سلمة بن عبد الأسد
ودخل أبو سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنه في جوار خاله أبي طالب، فسعى إليه جماعة من بني مخزوم فقالوا له: يا أبا طالب لقد منعت ابن أخيك محمدا، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا؟ قال: إنه استجار بي وهو ابن أختي، وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي، فقام أبو لهب غاضبا وقال: يا معشر قريش، والله لقد أكثرتم على الشيخ، ما تزالون تتواثبون عليه في
__________
(1) هو لبيد بن ربيعة، بن عامر، بن مالك، بن جعفر، بن كلاب، يكنى أبا عقيل، وقد أسلم، وذكره في الصحابة البخاري وابن أبي خيثمة وغيرهما، ولما سأله سيدنا عمر عما قاله من الشعر في الجاهلية قال: قد أبدلني الله بالشعر سورة البقرة، ثم سكن الكوفة ومات بها في خلافة عثمان، وعاش 120 سنة، وقيل: أكثر؛ وهو القائل:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس: كيف لبيد
(2) أي سوّدها من شدة الضربة.(1/362)
جواره من بين قومه!! والله لتنتهن عنه، أو لنقومنّ معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد!! قالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة- وكان لهم وليا مناصرا على رسول الله- فأبقوا على ذلك، فلما سمع أبو طالب منه ذلك طمع فيه، ورجا أن يقوم معه في شأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال قصيدة يحرّض فيها أبا لهب على نصرته، ونصرة النبي مطلعها:
إنّ امرا أبو عتيبة عمه ... لفي روضة ما إن يسام المظالما
ومنها:
ولا تقبلنّ الدهر ما عشت خطة ... تسبّ بها إما هبطت المواسما
وولّ سبيل العجز غيرك منهم ... فإنك لم تخلق على العجز لازما
وحارب فإن الحرب نصف ولن ترى ... أخا الحرب يعطي الخسف حتى يسالما
ولكنه لم يستجب لأخيه الشيخ أبي طالب، وسار في ركب قريش. «1»
__________
(1) السيرة ج 1 ص 371.(1/363)
قصة الغرانيق
وقد ذكر بعض كتاب السيرة وبعض المفسرين- الذين لا تحقيق عندهم للروايات، ولا يعنون بالتمييز بين الصحيح والضعيف، والغث من السمين عنايتهم بحشد الروايات والإكثار منها- في سبب رجوع مهاجري الحبشة قصة باطلة مختلقة تعرف بقصة الغرانيق، وأنه نزل بسببها قوله تعالى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) ... الايات «1» .
وقد انتصر لهذه القصة وطبّل لها وزمّر «السيرموير» وغيره من المبشرين والمستشرقين، وإليك ما روي في هذا قال الحافظ ابن حجر وتبعه السيوطي:
أخرج ابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن المنذر من طرق عن شعبة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة «والنجم» ، فلما بلغ قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ألقى الشيطان على لسانه «تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى» فقال المشركون: ما ذكر الهتنا بخير قبل اليوم، فسجدوا وسجد، فنزلت «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته..» الاية وأخرجه البزار
__________
(1) الايات 52- 54 من سورة الحج.(1/364)
وابن مردويه من طريق اخر عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس- فيما أحسب «1» .
وقال البزار لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد، وبعد أن ذكر الحافظ من خرّج هذه القصة ومنهم ابن إسحاق في سيرته عن محمد بن كعب، وموسى بن عقبة عن ابن شهاب ... قال: وكلها إما ضعيفة أو منقطعة سوى طريق سعيد بن جبير الأولى. وهذا الطريق وطريقان اخران مرسلان أخرجهما ابن جرير هي معتمد القائلين بأن للقصة أصلا كابن حجر والسيوطي «2» .
بطلان القصة من جهة النقل والعقل
وهذه القصة باطلة نقلا وعقلا.
أما نقلا فقد طعن فيها كثيرون من المحدثين ومن المحققين الذين جمعوا بين المعقول والمنقول. قال الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة «3» - وقد سئل عن هذه القصة-: إنها من وضع الزنادقة، وصنف في ذلك كتابا، وقال الإمام البيهقي- وهو من كبار رجالات السنة، وصاحب السنن الكبرى-: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل.
وقال الإمام القاضي عياض في الشفا: «إن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، ومن حكيت عنه هذه المقالة من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية.. إلى اخر ما قال «4» .
__________
(1) أي أظن، والشك في وصل الحديث عن ابن عباس، وهو يقلّل الثقة بالرواية.
(2) فتح الباري ج 8 ص 354، 355؛ أسباب النزول للسيوطي على هامش الجلالين ج 2 ص 15، 16 ط الحلبي.
(3) كان يقال له: إمام الأئمة في الحديث توفي سنة 311.
(4) الشفا ج 2 ص 117 وما بعدها ط عثمانية.(1/365)
وكذا أنكر القصة القاضي أبو بكر بن العربي، وطعن فيها من جهة النقل وأنكرها أيضا الإمام أبو منصور الماتريدي حيث قال: (الصواب أن قوله «تلك الغرانيق العلا» من جملة إيحاء الشيطان إلى أوليائه من الزنادقة، حتى يلقوا بين الضعفاء وأرقاء الدين ليرتابوا في صحة الدين) .
وقال الحافظ المفسر ابن كثير في تفسيره: قد ذكر كثير من المفسرين ههنا قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح والله أعلم «1» .
اضطراب الرواية
ومما يقلل الثقة بالقصة المزعومة اضطراب الروايات اضطرابا فاحشا، فقائل يقول: كان خارج الصلاة، ومن قائل: إنه كان في الصلاة، واخر يقول:
بل حدّث نفسه فسها، ومن قائل: إن الشيطان قالها على لسان النبي، ومن قائل: أعلمهم الشيطان أن النبي قرأها، ومن قائل: إن النبي قال هذا وهو ناعس، ومن قائل: إن الشيطان انتهز سكتة من سكتات النبي في القراءة فقرأها حاكيا صوت النبي. كما رويت «تلك الغرانيق العلا» بألفاظ مختلفة، وليس من شك في أن الاضطراب مما يذهب الثقة بالرواية ويوهنها كما هو مقرر في علم «أصول الحديث» والحق أبلج، والباطل لجلج.
القصة لم يخرجها أصحاب الكتاب الصحاح
والقصة لم يخرجها أحد من أصحاب الصحاح ولا أحد من أصحاب الكتاب المعتمدة كالسنن الأربعة ومسند الإمام أحمد، والذي رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ النجم وهو بمكة، فسجد معه المسلمون والمشركون، والجن، والإنس» .
وفي رواية ابن مسعود «أول سورة أنزلت فيها سجدة «والنجم» قال:
__________
(1) تفسير ابن كثير والبغوي ج 6 ص 600 وما بعدها.(1/366)
فسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسجد من خلفه إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا» «1» ، فقد اقتصر البخاري على هذا الجزء الصحيح من القصة، وهو لا يدل على ما زادوه، أما سجود المسلمين فاتّباعا لأمر الله، وائتساء برسول الله، وأما سجود المشركين؛ فلما سمعوه من أسرار البلاغة الفائقة، والفصاحة البالغة، وعيون الكلم الجوامع لأنواع من الوعيد والإنكار، والتهديد والإنذار، وقد كان العربي يسمع القران فيخر له ساجدا، وقد حدثناك عن بعض اثار القران في نفوس المنكرين فضلا عن المصادقين، هذا إلى ما فيه من موافقة الجماعة، والشخص إذا كان في جماعة يندفع إلى موافقتها من غير ما شعور، وقد يكون الأمر على خلاف ما يهوى ويريد، كما تدل على ذلك قواعد علم النفس.
اللغة تنكر القصة أيضا
ومما يدل على افتعال القصة أيضا ما ذكره الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في رد هذه الفرية: وهو أن وصف العرب لالهتهم «بالغرانيق» لم يرد لا في نظمهم ولا في خطبهم، ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جاريا على ألسنتهم إلا ما جاء في «معجم ياقوت» من غير سند، ولا معروف بطريق صحيح، والذي تعرفه اللغة أن الغرنوق، والغرنوق، والغرنيق، والغرنيق اسم لطائر مائي أسود أو أبيض، ومن معانيه الشاب الأبيض الجميل، ويطلق على غير ذلك «2» ، ولا شيء من معانيه اللغوية يلائم معنى الإلهية والأصنام حتى يطلق عليهما في فصيح الكلام الذي يعرض على أمراء الفصاحة والبيان.
تأويل المثبتين للقصة لها
وقد حكمت الصنعة الحديثية والقواعد الاصطلاحية على بعض العلماء كالحافظ ابن حجر ومن تبعه كالسيوطي وغيره على أن يقول إن القصة، وإن لم تكن كل طرقها صحيحة، لكن كثرة الطرق تدل على أن لها أصلا، وأوّلوها
__________
(1) صحيح البخاري- كتاب التفسير- باب سورة «والنجم» .
(2) انظر القاموس مادة «غرنوق» .(1/367)
بما يتفق هو وعصمة النبي صلّى الله عليه وسلّم، إذ الكل مجمعون على أن ذلك لا يجوز أن يجري على لسان النبي لا عمدا ولا سهوا، وقد نقل الحافظ ابن حجر في ذلك وجوها من التأويلات، ذكر معظمها وردّها كما ردّها من سبقه، ولم يرتض منها إلا هذا التأويل: وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يرتل القران ترتيلا، فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات، ونطق بتلك الكلمات محاكيا نغمته، فسمعها من دنا، فظنه من قوله، وأشاعها بين الناس قال: وهو الذي ارتضاه عياض وأبو بكر بن العربي واستحسناه «1» .
وفي الحق أن الإمامين عياضا وابن العربي ينكران القصة نقلا وعقلا، وإنما ارتضيا هذا التأويل على فرض تسليم الصحة، وهو لون من ألوان الحجاج والتنزل مع الخصم، ومن ثم نرى أنه لا يوجد من علماء الإسلام من يقول بظاهر القصة، وأن القائلين بأن لها أصلا أوّلوها بما يوافق مقام النبوة.
ردّي على المثبتين للقصة
وإني لأجيب على ما ذكره الحافظ ابن حجر في «الفتح» وتابعه عليه السيوطي وغيره بما يأتي:
1- إن جمهور المحدثين لم يحتجوا بالمرسل، وجعلوه من قسم الضعيف لاحتمال أن يكون المحذوف غير صحابي، وحينئذ يحتمل أن يكون ثقة أو غير ثقة، وعلى الثاني فلا يؤمن أن يكون كذابا، وقد قرر الإمام مسلم هذه الحقيقة في مقدمة صحيحه فقال: «والمرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة» وقال ابن الصلاح في مقدمته: «وما ذكرنا من سقوط الاحتجاج بالمرسل والحكم بضعفه هو الذي استقر عليه اراء جماهير حفاظ الحديث وتداولوه في تصانيفهم، والاحتجاج به مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما- رحمهم الله- في طائفة «2» ، أما الشافعي فيحتج به بشروط ذكرها في رسالته، وقد نقلها العراقي في شرح ألفيته وغيره.
__________
(1) فتح الباري ج 8 ص 355.
(2) مقدمة ابن الصلاح، ص 58، ط العلمية بحلب.(1/368)
2- الاحتجاج بالمرسل إنما هو في فروع الدين التي يكتفى فيها بالظن، أما الاحتجاج به على شيء يصادم العقيدة وينافي دليل العصمة فغير مسلّم، وقد قال علماء التوحيد: إن خبر الواحد لو كان صحيحا لا يؤخذ به في العقائد لأنه لا يكتفى فيها إلا بما يفيد اليقين، فما بالك بالضعيف أو المختلف فيه.
3- هذا التأويل الذي ارتضاه الحافظ وغيره ممن تابعه قديما وحديثا ما أضعفه عند النظر والتأمل، فهو يوقع القائل به فيما فرّ منه، وهو تسلط الشيطان على النبي، فالتسلط عليه بالمحاكاة، كالتسلط عليه بالإجراء على لسانه كلاهما لا يجوز، وفتح هذا الباب خطر على الرسالات الإلهية.
وإذا سلّمنا أن الشيطان هو الذي نطق بهذا المنكر من القول في أثناء سكوت النبي فكيف لم يسمع ما حكاه الشيطان؟! وإذا كان سمعه فلم لم يبادر إلى الإنكار، والبيان في مثل هذا واجب على الفور؟!
وإذا لم يسمع النبي ألم يسمع أصحابه؟ وإذا سمعوا فلم لم يبادروا إلى تنبيه الرسول؟! وأهون من هذا في الإبطال وأشد في الاستغراب ما ذكره موسى بن عقبة في مغازيه من أن المسلمين ما سمعوها، وإنما ألقى الشيطان بهذه المقالة في أسماع المشركين!! فهل كان الشيطان يسر بها في اذان المشركين دون المسلمين؟ ثم كيف يتفق هذا الذي اختاروه وما روي من أن النبي حزن حزنا شديدا، وأن جبريل قال له: ما جئتك بهذا؟!
الحق أن نسج القصة مهما تأول فيه المتأولون وحاولوا إثبات أن لها أصلا مهلهل متداع لا يثبت أمام البحث، وأن أغلب البلاء دخل على الإسلام من المنقطعات والمراسيل.
مصادمة القصة للقران
ثم إن هذه القصة الباطلة مخالفة لقوله تعالى:
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) «1» .
__________
(1) الاية 42 من سورة الحجر.(1/369)
ومن أحق بهذه العبودية من الأنبياء بله رسول الله، وقال تعالى:
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) «1» .
وأي بشر أصدق إيمانا وأشد توكلا على الله من الأنبياء ولا سيما خاتمهم صلّى الله عليه وسلّم، وقد أقر رئيس الشياطين بأنه لا سلطان له على عباد الله المخلصين، فقال كما حكاه الله عنه في قوله عز وجل:
قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) «2» .
ومن أحق من الأنبياء بالاصطفاء؟ أو من أشد إخلاصا منهم لله؟ ونبينا محمد على رأس المصطفين الأخيار، وفي الذروة منهم إخلاصا لله.
فهؤلاء الزنادقة الحاقدون على الإسلام ونبيه نسبوا إلى الشيطان ما أقر هو بأنه لا قبل له به، ووضعوا هذه الروايات الباطلة التي تصادم نص القران الذي لا ريب فيه.
بطلان القصة من جهة العقل والنظر
وأما بطلان القصة من جهة العقل والنظر فقد قام الدليل العقلي القطعي وأجمعت الأمة على عصمته عليه الصلاة والسلام من مثل هذا، وكل ما جاءت به الروايات الباطلة ممتنع في حقه أن يقوله من قبل نفسه عمدا أو سهوا، وهو في اليقظة أو هو وسنان لمكان العصمة منه، قال القاضي عياض: «وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته صلّى الله عليه وسلّم من جريان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمدا ولا سهوا، أو أن يتشبّه عليه ما يلقيه الملك بما يلقيه الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقوّل على الله لا عمدا ولا سهوا ما لم ينزل عليه قال الله تعالى:
__________
(1) الاية 99 من سورة النحل.
(2) الايتان 82، 83 من سورة ص. وقد قرىء «المخلصين» بفتح اللام بمعنى استخلصهم واصطفاهم لنفسه، وبكسر اللام أي أخلصوا لله العبادة والتوحيد وهما قراءتان سبعيتان.(1/370)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «1» (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) «2» .
وقال تعالى:
إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) «3»
ولو جوّزنا شيئا من ذلك لذهبت الثقة بالأنبياء، ووجد المارقون سبيلا للتشكيك في الأديان. ووجه اخر لفساد هذه القصة وهو أن الله تعالى ذم الأصنام في سورة النجم، وأنكر على عابديها وجعلها أسماء لا مسمى لها، وأن التمسك بعبادتها أوهام وظنون قال تعالى:
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) «4» .
فقد جاءت الايات على هذا الأسلوب الإنكاري، التوبيخي، التهكمي بالأصنام وعابديها، وقال بعد الموضع الذي زعموا أنه ذكرت فيه الفرية:
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) .
فلو أن القصة صحيحة لما كان هناك تناسب بينها وبين ما قبلها
__________
(1) الوتين: عرق متصل بالقلب إذا قطع مات الإنسان.
(2) الايات 44- 47 من سورة الحاقة.
(3) كتاب الشفا، ج 2 ص 119، والاية 75 من سورة الإسراء.
(4) أي جائرة في منطق العقل السليم والنقل الصحيح، وقد جاء اللفظ هكذا خارجا عن المعهود في الفصحى ولا سيما الكتاب المعجز ليحصل التطابق بين اللفظ والمعنى، وهو من خصائص العربية.(1/371)
وما بعدها، ولكان النظم مفككا، والكلام متناقضا، وكيف يطمئن إلى هذا التناقض السامعون وهم أهل اللّسن والفصاحة، وأصحاب عقول لا يخفى عليها مثل هذا، ولا سيما أعداؤه الذين يتلمسون له العثرات والزلات، فلو أن ما روي كان واقعا لشغب عليه المعادون له، ولارتد الضعفاء من المؤمنين، ولثارت ثائرة مكة، ولاتخذ منه اليهود بعد الهجرة متكأ يستندون إليه في الطعن على النبي صلّى الله عليه وسلّم والتشكيك في عصمته، ولكن شيئا من ذلك لم يكن.
ووجه ثالث: وهو أن بعض الروايات ذكرت أن فيها نزل قوله تعالى:
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (74) «1» .
وهاتان الايتان تردّان الخبر الذي رووه لأن الله ذكر أنهم كادوا يفتنونه، ولولا أن ثبّته لكاد أن يركن إليهم، ومفاده أن الفتنة لم تقع وأن الله عصمه وثبته حتى لم يكد يركن إليهم، فقد انتفى قرب الركون فضلا عن الركون، فالأسلوب القراني جاء على أبلغ ما يكون في تنزيه ساحته صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون، بل افترى بمدح الهتهم، وهذا ينافي ما تدل عليه الاية، وهو توهين للخبر لو صح، فكيف ولا صحة له؟ ولقد طالبته صلّى الله عليه وسلّم ثقيف وقريش إذا مر بالهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه الإيمان به إن فعل، فما فعل، وما كان ليفعل.
وإذا كانت القصة غير ثابتة من جهة النقل، وهي مخالفة للقران، ولما قام عليه الدليل العقلي، فلا جرم أن التحقيق يدعونا إلى أن نصدع بأن حديث الغرانيق مكذوب اختلقه الزنادقة الذين يريدون إفساد الدين، والطعن في سيد الأنبياء وإمام المخلصين.
__________
(1) الايتان 73، 74 من سورة الإسراء.(1/372)
وإذ قد انتهينا إلى هذه النتيجة الممحّصة فما معنى اية الحج إذا؟ وللإجابة على ذلك أقول:
إن للاية تفسيرين: الأول: أن التمني المذكور في الاية المراد به تشهّي حصول الأمر المرغوب فيه، ومن هذا المعنى: الأمنية، وما من نبي أو رسول إلا وغاية مقصوده، وجل أمانيه أن يؤمن قومه، وكان نبينا صلّى الله عليه وسلّم من ذلك في المقام الأعلى، قال تعالى:
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) «1» .
وقال:
فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ (8) «2» .
وقال:
وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) «3» .
وعلى هذا يكون معنى الاية: وما أرسلنا من قبلك رسولا بشرع جديد كإبراهيم وموسى وعيسى، أو نبيا جاء مجددا لشرع جاء به رسول الله قبله كأنبياء بني إسرائيل الذين جاؤوا بعد موسى، مثل يوشع بن نون، وكالب بن يوفنا وحزقيل، إلا إذا تمنى هداية قومه وإيمانهم ألقى الشيطان في سبيل أمنيته هذه العقبات، ووسوس في صدور الناس، فثاروا في وجهه وجادلوه حينا، وحاربوه حينا اخر، حتى إذا ما أراد الله هدايتهم أزال تلك الوساوس التي ألقاها الشيطان في نفوسهم ووفقهم لإدراك الحق وإجابة داعي الله، وبذلك ينسخ الله ما ألقى الشيطان من الشبهات والعقبات، ويحكم آياته بنصر الحق وأهله على الباطل وحزبه، وينشىء من ضعف أنصاره قوة، ومن ذلهم عزا، وتكون كلمة الله هي
__________
(1) الاية 6 من سورة الكهف.
(2) الاية 8 من سورة فاطر.
(3) الاية 103 من سورة يوسف.(1/373)
العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، ليجعل ما يلقي الشيطان في سبيل دعوات الأنبياء فتنة لضعفاء الإيمان، ومرضى النفوس، وقساة القلوب الذين لا يعتبرون ولا يتعظون وهم المجاهرون بالكفر، أو ليعلم الذين أوتوا العلم وكشف الله الحجب عن بصائرهم أن ما جاء به الرسل هو الحق من ربهم فتخبت له قلوبهم، وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم.
الثاني: أن المراد بالتمني القراءة «1» ، ولكن الإلقاء ليس بالمعنى الذي أراده المبطلون مما رووه وهو إجراء الشيطان الباطل على لسان النبي، ولكن الإلقاء بمعنى إلقاء الأباطيل والشبه فيما يتلوه عليهم النبي مما يحتمله الكلام، ولا يكون مرادا للمتكلم، أو لا يحتمله، ولكن يدّعي أن ذلك يؤدي إليها، وذلك من شأن المعاجزين الذين دأبهم محاربة الحق يتبعون الشبهة، ويسعون وراء الريبة، ونسبة الإلقاء للشيطان على هذا بمعنى أنه المتسبب والملقي لهذه الشبهات في نفوس أتباعه، ويكون المعنى: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا حدّث قومه عن ربه، أو تلا عليهم وحيا أنزله الله لهدايتهم قام في وجهه مشاغبون يتقوّلون عليه ما لم يقله، ويحرفون الكلم عن مواضعه، وينشرون ذلك بين الناس، ولا يزال الأنبياء والمرسلون يجالدونهم ويجاهدون في سبيل الحق حتى ينتصر، فينسخ الله ما يلقي الشيطان من شبه، ويثبت الحق، وقد وضع الله هذه السنة في الخلق ليتميز الخبيث من الطيب، فيفتتن ضعفاء الإيمان الذين في قلوبهم مرض، ويتمحص الحق عند أهله وهم الذين أوتوا العلم فيعلموا أنه الحق، وتخبت له قلوبهم، ويستمر عليه سلوكهم وعملهم.
وقد ذكر البخاري في صحيحه هذين المعنيين للتمني، وبدأ بالأول، وثنّى بالثاني، بل ذكره بصيغة التضعيف «2» ، ونقل الأول عن ترجمان القران ابن عباس، وعلى تفسيره للتمني فالاية لا تمت بصلة ما إلى ما رواه المبطلون، وقد بيّنا على التفسير الثاني أنها لا تدل أيضا على ما ذكروه.
__________
(1) ومما يدل على هذا قول حسان في عثمان:
تمنّى كتاب الله أول ليلة ... تمني داود الزبور على رسل
(2) صحيح البخاري- كتاب التفسير- باب تفسير سورة الحج.(1/374)
هجرة الحبشة الثانية
لما رأى المسلمون العائدون من الحبشة بعد الهجرة الأولى أن الأذى لا يزال مستمرا، والبلاء لا يزال قائما، بل اشتد أكثر من ذي قبل بعد المهادنة التي أعقبت إسلام الفاروق عمر- رضي الله عنه- خرجوا إلى الحبشة مرة أخرى، وهاجر معهم كثيرون غيرهم أكثر منهم، وعدتهم- كما قال ابن إسحاق وغيره- ثلاثة وثمانون رجلا إن كان عمار بن ياسر فيهم، واثنان وثمانون رجلا إن لم يكن فيهم، قال السهيلي: وهو الأصح عند أهل السير كالواقدي، وابن عقبة وغيرهما «1» ، وثماني عشرة امرأة: إحدى عشرة قرشيات، وسبع غير قرشيات، وذلك عدا أبنائهم الذين خرجوا معهم صغارا، ثم الذين ولدوا لهم فيها.
وقد عدّ ابن إسحاق منهم: جعفر بن أبي طالب، وزوجته أسماء بنت عميس، وقد ولدت له بها ابنهما عبد الله، وعبد الله بن مسعود، والمقداد بن عمرو المعروف بابن الأسود، وعامر بن أبي وقاص، وخنيس بن حذافة السهمي، وهشام بن العاص بن وائل السهمي، والسكران بن عمرو، ومعه امرأته سودة بنت زمعة، وأبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، وعبيد الله بن جحش، ومعه زوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، وقد كانت عاقبة أمره خسرا، فقد افتتن هناك وتنصّر وأكبّ على شرب الخمر حتى مات، فصارت امرأته- رضي الله عنها- أيّما، وفي غربة من وطنها ومن أهلها، وتحمّلت كل ذلك في سبيل عقيدتها ودينها، فلما انتهت عدتها أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى النجاشي ليعقد له
__________
(1) شرح المواهب، ج 1 ص 346.(1/375)
عليها، ففعل، وأمهرها أربعمائة دينار، وبذلك صارت من أمهات المؤمنين يجلّونها، ويكرمونها، وينزلونها من أنفسهم منزلة الأم، وكان عملا جد كريم، من نبي كريم، يواسي بنفسه فضلا عن ماله، ولما علم بذلك أبوها أبو سفيان، وكان من زعماء الشرك قال: هذا الفحل لا يقدع أنفه «1» .
وقد بقيت بالحبشة حتى كانت سنة سبع، فقدمت فيمن قدم مع جعفر بن أبي طالب عقب خيبر، وقد تكفل ابن إسحاق وغيره بسرد أسمائهم، ومن ولد لهم، فمن أراد استقصاء فليرجع إلى الكتاب التي تكفلت بذلك «2» ، وقد أقام المهاجرون بخير دار إلى خير جار امنين على أنفسهم ودينهم حتى أراد الله لهم الأوبة.
وهم لابن إسحاق وغيره
وقد عدّ ابن إسحاق وغيره كأبي نعيم والبيهقي أبا موسى الأشعري فيمن هاجر من مكة إلى الحبشة، وهو وهم من بعض الرواة، والصحيح أنه خرج في اخرين راكبين البحر قاصدين مكة، فألقت بهم السفينة إلى الحبشة.
روى البخاري في صحيحه بسنده عن أبي موسى الأشعري قال: «بلغنا مخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فركبنا سفينة، فألقتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب، فأقمنا معه حتى قدمنا، فوافينا النبي صلّى الله عليه وسلّم حين افتتح خيبر، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لكم أهل السفينة هجرتان» «3» وهكذا رواه مسلم.
سعي قريش إلى النجاشي في ردّ المهاجرين
فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أمنوا، واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها دارا واستقرارا، وحسن جوار من النجاشي، وعبدوا الله لا يؤذيهم أحد، ولا يسمعون شيئا يكرهونه- ائتمروا فيما بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي رجلين منهم جلدين، وأن يرسلوا معهما للنجاشي هدايا
__________
(1) هذا مثل يضرب للكريم الكفء يتزوج بالكريمة الأصيلة.
(2) سيرة ابن هشام، ج 1 ص 322- 330؛ البداية والنهاية، ج 3 ص 66- 69.
(3) المراد هجرتهم من اليمن إلى الحبشة، وهجرتهم من الحبشة إلى المدينة.(1/376)
مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الادم «1» ، فجمعوا له أدما، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما:
ادفعوا إلى كل بطريق «2» هديته قبل أن تتكلموا في شأنهم، ثم ادفعوا إليه هداياه، فإن استطعتم أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم فافعلوا.
فقدما عليهم، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا قدموا له هدية، وقالوا له:
إنا قدمنا على هذا الملك في سفهائنا، فارقوا أقوامهم في دينهم، ولم يدخلوا في دينكم، فبعثنا قومنا ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم، ثم قدّموا إلى النجاشي هداياه، وكان من أحب ما يهدى إليه الادم، وذكر موسى بن عقبة في «مغازيه» أنهم أهدوا إليه فرسا وجبّة ديباج، فقالوا له: أيها الملك، إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، جاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجأوا إلى بلادك، وقد بعثنا إليك فيهم عشائرهم: اباؤهم، وأعمامهم، وقومهم لتردهم عليهم، فإنهم أعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه، فقال بطارقته: صدقا أيها الملك، قومهم أعلم بهم، فأسلمهم إليهما.
فغضب النجاشي ثم قال: لا، لعمر الله، لا أردهم عليهم حتى أدعوهم فأكلمهم، فأنظر ما أمرهم؟ قوم لجأوا إلى بلادي، واختاروا جواري على جوار غيري، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني!!
إحضار النجاشي للمسلمين وسؤالهم
ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما جاءهم رسوله قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلّى الله عليه وسلّم كائنا في ذلك ما هو كائن، فلما جاؤوا- وقد
__________
(1) الجلود، وهو بفتح الهمزة والدال، أو ضمهما، جمع أديم.
(2) البطريق: القائد العظيم الذي يلي عشرة الاف فما فوق.(1/377)
استدعى النجاشي أساقفته «1» ، فنشروا مصاحفهم «2» حوله- سألهم، فقال لهم:
ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟!.
فتولى الكلام عنهم سيدنا جعفر بن أبي طالب- رضي الله عنه- فقال له: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف.
فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله، لنواحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن واباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله واحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة، والزكاة.. وعدّد عليه أمور الإسلام.
فصدّقناه، وامنا به، واتّبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله واحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألانظلم عندك أيها الملك!!
فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ قال له جعفر:
نعم، فقال له النجاشي، فاقرأه علي، فقرأ عليه صدرا من سورة مريم، فبكى النجاشي حتى اخضلّت «3» لحيته، وبكى أساقفته حتى أخضلوا لحاهم حين
__________
(1) جمع أسقف بضم الهمزة، وسكون السين، وتخفيف الفاء وتشديدها. وهم علماء النصارى الذين يقيمون لهم دينهم.
(2) أي أناجيلهم، وكانوا يسمونها مصاحف.
(3) ابتلت بالدموع.(1/378)
سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إنّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة «1» واحدة، انطلقا، فو الله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون.
محاولة أخرى للوقيعة بين المهاجرين والنجاشي
فلما خرجا من عند النجاشي قال عمرو بن العاص: والله لاتينه غدا عنهم بما أستأصل به خضراءهم «2» ، فقال له عبد الله بن أبي ربيعة: لا تفعل فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد.
ثم غدا عليه من الغد، فقال: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم ليسألهم عما يقولون فيه، فلما جاء الرسول قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول- والله- ما قال الله وما جاءنا به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن!!
فلما دخلوا عليه قال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال جعفر:
نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلّى الله عليه وسلّم، نقول: هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
فضرب النجاشي بيده إلى الأرض، فأخذ منها عودا، ثم قال: والله ما عدا «3» عيسى بن مريم ما قلت هذا العود!!
فتناخرت «4» بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم «5» بأرضي، من سبكم غرم (ثلاثا) ، ما أحب أن لي دبرا «6»
__________
(1) المشكاة الكوة غير النافذة، وهي محط المصابيح غالبا، والمراد أن القران والإنجيل من مصدر واحد، وهو الوحي الإلهي.
(2) شجرتهم التي تفرّعوا منها.
(3) ما جاوز أمر عيسى بن مريم.
(4) تزاوموا لعدم الرضا.
(5) السيوم: الامنون، وفي السيرة: شيوم وفسره بالامنين.
(6) الدبر بلسان الحبشة: الجبل.(1/379)
من ذهب وأني اذيت رجلا منكم، ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها، فخرجا من عنده مقبوحين، مذمومين مدحورين، وأقام المسلمون عند النجاشي بخير دار، مع خير جار، حتى قدم منهم من قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة بعد، وبقي من بقي حتى قدموا عقب خيبر سنة سبع.
وهكذا نرى من هذه القصة أن من يصدق الله يصدقه، وينصره على من يريد به سوا، ويجعل له من ضيقه وأزماته فرجا ومخرجا، وعسى أن يكون فيها عبرة للذين يتصدّون للدعوة الإسلامية، وذلك بأن يلتزموا جانب الحق والصدق في دعوتهم، وألايحرّفوا فيها، أو يغيروا، أو يداهنوا تبعا للأهواء السياسية وغيرها، وليجاهروا بالحقائق الإسلامية، وليكن في ذلك ما هو كائن.
إسلام النجاشيّ
وقد أسلم النجاشي، وصدّق بنبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإن كان قد أخفى إيمانه عن قومه؛ لما علمه فيهم من الثبات على الباطل، والجمود على العقائد الموروثة وإن صادمت العقل والنقل. وقد روي في الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلّى، فصفّ بهم، وكبّر أربع تكبيرات» .
وقد روي أيضا أن اسمه (أصحمة) ، فقد روى البخاري عن جابر قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين مات النجاشي: «مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة» «1» وروي هذا عن غير واحد من الصحابة «2» .
جواز الصلاة على الغائب
وقد استدل بما صحّ من صلاة النبي والمسلمين على النجاشي على جواز الصلاة على الغائب، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء سلفا وخلفا، وصار شرعا متبعا إلى يوم القيامة.
__________
(1) بفتح الهمزة، وسكون الصاد، وفتح الحاء والميم كما في القاموس.
(2) البداية والنهاية، ج 3 ص 77. وانظر صحيح البخاري ومسلم- كتاب الجنائز.(1/380)
خروج الصديق مهاجرا إلى الحبشة
وكان ممن ابتلي في الله، وأوذي لمنافحته عن الرسول وعن الدعوة الصدّيق أبو بكر- رضي الله عنه- وقد بدا له أن يهاجر إلى الحبشة ليلحق بإخوانه، ولكن أحد أشراف العرب أجاره وأرجعه. روى الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: «لم أعقل أبويّ إلا وهما يدينان الدين- أي الإسلام- ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو الحبشة، حتى بلغ برك الغماد «1» ، لقيه ابن الدغنّة «2» وهو سيد القارة «3» ، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض، وأعبد ربي، قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج، ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق «4» ، فأنا لك جار ارجع فاعبد ربك ببلدك.
__________
(1) بفتح الباء وسكون الراء، بعدها كاف، والغماد بكسر الغين وقد تضم وبتخفيف الميم: موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن.
(2) بضم الدال والغين، وتشديد النون المفتوحة عند أهل اللغة، وعند المحدثين بفتح الدال وكسر الغين وتخفيف النون، وقد روي بالوجهين.
(3) بفتح القاف وتخفيف الراء قبيلة كبيرة من بني الهون- بضم الهاء- ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر كانت تشتهر بالرمي.
(4) قد مضى شرح هذه الفقرات في حديث بدء الوحي، ولكن الذي يستحق النظر أن هذه الأوصاف هي التي وصفت بها السيدة خديجة رسول الله، مما يدل على ائتلاف الروحين، وتوافق المزاجين، والخالقين، عند الصادق والصدّيق.(1/381)
فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة في أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله، ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟! فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا له: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصلّ فيها، وليقرأ ما يشاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا!!
فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره.
ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه، ويقرأ القران، فيتقذّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القران.
وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدّغنّة، فقدم عليهم فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجدا بفناء داره، وأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبي إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك «1» ، ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان.
قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إليّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل «2» .
__________
(1) أخفر بالألف نقض العهد، وخفر وفى به.
(2) صحيح البخاري- باب هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة.(1/382)
وهذه القصة تدل دلالة واضحة على تأثير القران وإعجازه البياني والبلاغي في نفوس العرب الخلّص، وسواء في ذلك الرجال والنساء، بل والصبيان.
وقد مر بك من قرب ما كان من أثر القران الكريم وإعجازه في إسلام الفاروق عمر، وما كان من استماع زعماء الشرك أبي جهل، وأبي سفيان بن حرب، والأخنس بن شريق إلى قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم سرا، وكل منهم يخفي أمره على الاخر، حتى إذا رجعوا، وتلاقوا في الطريق صدفة تلاوموا وأوصى بعضهم بعضا بعدم المعاودة، حتى تكرر ذلك ثلاث ليال، وقد روى الإمام أحمد في «مسنده» بسنده عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق: «أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقرأ عليه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، قال:
حسبي لا أبالي ألاأسمع غيرها» وروي أن أعرابيا سمع هاتين الايتين من النبي صلّى الله عليه وسلّم فذهب وهو يقول: ذرة، ذرة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لقد فقه الرجل» !!(1/383)
نقض الصحيفة الظالمة
مكث بنو هاشم وبنو المطّلب بالشّعب ثلاث سنين، حتى بلغ منهم الجهد مبلغه، فقيّض الله سبحانه وتعالى لنقض الصحيفة أناسا من أشراف قريش، وكان الفضل الأول في ذلك لهشام بن عمرو «1» ، فقد مشى إلى زهير بن أبي أمية المخزومي، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال له: يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب. وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت؟! لا يبتاعون، ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا، قال: ويحك يا هشام، فماذا أصنع؟! إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل اخر لقمت في نقضها، فقال له: قد وجدت رجلا، قال: من هو؟ قال: أنا، فقال له زهير: أبغنا ثالثا.
فذهب إلى المطعم بن عدي فقال له: يا مطعم، أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيهم؟ أما والله لو أمكنتموهم من هذه لتجدنّهم إليها منكم سراعا، قال: ويحك فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت لك ثانيا، قال: من؟ قال: أنا، قال: أبغنا ثالثا، قال: قد فعلت، قال: من؟ قال: زهير بن أبي أمية، فقال أبغنا رابعا، فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحو ما قال للمطعم بن عدي، فقال
__________
(1) هو هشام بن عمرو بن الحارث، بن حبيب، بن نصر، بن مالك، بن حسل، بن عامر، بن لؤي، ابن أخي نضلة بن هاشم، لأمه، وكان هشام هذا لبني هاشم واصلا أثناء القطيعة.(1/384)
له: ويحك وهل نجد أحدا يعين على ذلك؛ قال نعم: زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا، فقال: أبغنا خامسا.
فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطّلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابته وحقّهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد، قال: نعم، ثم سمّى له القوم.
فاتّعدوا خطم الحجون «1» ليلا بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك، وأجمعوا أمرهم، وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم، فلما أصبحوا غدا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلّة، فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس فقال: أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون، ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
فقال أبو جهل، وكان في ناحية المسجد: كذبت والله لا تشق، فقال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حين كتبت!! فقال أبو البختري:
صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها، ولا نقرّ به، فقال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها، وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك، فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، تشوور فيه في غير هذا المكان، وأبو طالب جالس في ناحية المسجد لا يتكلم.
وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا «باسمك اللهم» ، وذكر ابن هشام أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي طالب:
«يا عم إن الله قد سلّط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منها الظلم، والقطيعة والبهتان، فقال: أربّك أخبرك بهذا! قال: «نعم» قال: فو الله ما يدخل أحد، ثم خرج إلى قريش فقال:
يا معشر قريش، إن ابن أخي قد أخبرني بكذا وكذا، فهلمّ صحيفتكم، فإن
__________
(1) الحجون: موضع بأعلى مكة، وخطمه: مقدمه.(1/385)
كانت كما قال فانتهوا عن قطيعتنا، وانزلوا عنها، وإن كان كاذبا دفعت إليكم ابن أخي، فقال القوم: قد رضينا، فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فزادهم ذلك شرا، ونسوا ما تعاقدوا عليه، فعند ذلك صنع هذا النفر من قريش ما صنعوا، ولما مزقت قال أبو طالب في شأن هؤلاء الذين تسببوا في نقضها قصيدة يمدحهم فيها، مطلعها «1» :
ألا هل أتى بحريّنا «2» صنع ربنا ... على نأيهم والله بالناس أرود «3»
فيخبرهم أن الصحيفة مزّقت ... وأن كل ما لم يرضه الله مفسد
ومنها:
فمن ينش «4» من حضّار مكة عزة ... فعزتنا في بطن مكة أتلد
نشأنا بها والناس فيها قلائل ... فلم ننفكك نزداد خيرا ونحمد
ومنها:
جزى الله رهطا بالحجون تجمعوا ... على ملإ يهدي لحزم ويرشد
قعودا لدى خطم الحجون كأنهم ... مقاولة بل هم أعز وأمجد
ومنها:
متى شرّك الأقوام في جل أمرنا ... وكنا قديما قبلها نتودّد!
وكنا قديما لا نقر ظلامة ... وندرك ما شئنا ولا نتشدد
فيا لقصي هل لكم في نفوسكم ... وهل لكم فيما يجيء به غد!
فإني وإياكم كما قال قائل ... لديك البيان لو تكلمات أسود «5»
__________
(1) السيرة ج 1 ص 374- 380؛ البداية والنهاية ج 3 ص 96، 97.
(2) قال السهيلي: يعني الذين بأرض الحبشة نسبهم إلى البحر لركوبهم إليه.
(3) أرفق.
(4) أصلها ينشأ بالهمزة فحذفت.
(5) أسود: اسم جبل كان قد قتل فيه قتيل، فلم يعرف قاتله، فقال أولياء المقتول هذه المقالة، فذهب مثلا.(1/386)
حسن تدبير العرب وإحكام تصرفهم
وإنا لنا هنا لوقفة ترينا ما كان عليه العرب من الكياسة، وحسن التدبير، وإحكام الأمر، وما كانوا عليه من الذكاء والفطنة وبعد النظر، وإن كان بعضهم استغلوا هذه المواهب في محاربة الدعوة الإسلامية استجابة للأهواء، ولتحكم العصبية الجاهلية فيهم.
ولولا أن العرب كانوا على درجة من الذكاء والفطنة، والاستعداد لفهم ما يلقى إليهم، وإدراك مغزاه، لما كانوا أهلا لأن يخاطبهم الله سبحانه بهذا القران البالغ الغاية في الفصاحة والبلاغة، وروعة الأسلوب، وإحكام السبك، وجلال المعنى، وسمو الغاية، ودقة المغزى.
وقد كان لهذه الصفات والمواهب أثرها البعيد حين اعتنقوا الإسلام عن عقيدة ويقين في تدبير أمور الحرب، والمعاهدات، والصلح، والزكانة والكياسة الفائقتين في سياسة الشعوب، والأجناس المتباينة التي استظلت بلواء الإسلام، وكفى شاهدا لهذا ما قام به النبي والخلفاء الراشدون ومن سار على دربهم في الإمامة والسياسة، وما قام به السادة الأجلاء: خالد بن الوليد، وأبو عبيدة بن الجراح، والمثنى بن حارثة، وعكرمة بن أبي جهل، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، والقعقاع بن عمرو، وأمثالهم في الحروب والفتوحات، والصلح والمعاهدات.
اللهمّ سبع كسبع يوسف
ثم إن قريشا لما استعصت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبطأوا عن الإسلام، وأوغلوا في عداوة النبي وإيذائه وإيذاء أصحابه، دعا عليهم فقال: «اللهمّ أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف» فأصابتهم سنة «1» حتى أكلوا الجيف والميتة، والعظام، وحتى كان الواحد منهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع، ثم جاء إليه أبو سفيان في ناس من قومه، فقالوا: يا محمد إنك تزعم أنك قد بعثت رحمة، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم، فدعا لهم الرؤوف
__________
(1) بفتح السين: جدب وقحط.(1/387)
الرحيم، فكشف الله عنهم ما هم فيه، فسقوا الغيث، وأطبقت عليهم سبعا، فشكا الناس كثرة المطر، فقال: «اللهم حوالينا ولا علينا» فانجاب السحاب عنهم فسقى الناس حولهم، وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى هذا في قوله «1» :
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) «2» .
فعادوا كما كانوا، وأوغلوا في كفرهم، فأوعدهم الله الانتقام الأكبر قال تعالى:
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) «3» .
وهذه البطشة هي إما ما جرى لهم يوم بدر، وإمّا ما سينزل بهم من العذاب يوم القيامة «4» .
__________
(1) وهذا أحد تفسيري الاية، فقد قيل: إن ذلك كان في الدنيا في العهد النبوي، وذهب اخرون إلى أن ذلك سيكون قبيل يوم القيامة من علاماتها.
(2) الايات 10- 15 من سورة الدخان.
(3) الاية 16 من سورة الدخان.
(4) تفسير ابن كثير والبغوي ج 7 ص 420، 421.(1/388)
قصة فارس والروم
وقد حدث قبل الهجرة أن تحاربت فارس والروم، فغلبت فارس الروم، ففرح بذلك المشركون، وكانوا يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أصحاب أوثان مثلهم، وساء ذلك المسلمين؛ لأنهم كانوا يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب مثلهم، ولقي المشركون أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم، فأنزل الله تعالى:
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) «1» .
فخرج أبو بكر إلى الكفار، فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا؟! فلا تفرحوا، ولا يقرنّ الله أعينكم، فو الله ليظهرن الله الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) الروم: الايات 1- 7.(1/389)
فقام إليه أبي بن خلف، فقال: كذبت يا أبا فصيل «1» ، فقال له أبو بكر أنت أكذب يا عدو الله، فقال: أناحبك «2» : عشر قلائص «3» مني، وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس على الروم غرمت- إلى ثلاث سنين، فرجع الصديق أبو بكر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فقال: «ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده في الخطر «4» ومادّه في الأجل» فخرج أبو بكر فلقي أبيا فقال له: لعلك ندمت؟ فقال الصديق: لا، تعال أزايدك في الخطر، وأمادّك في الأجل، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد فعلت.
فظهرت الروم على فارس قبل التسع، ففرح بذلك المسلمون، أن جاء الواقع على ما أخبر القران، وصدقت نبوءة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأن نصر الله الروم أهل الكتاب على الفرس المجوس، وقد اختلف في هذا النصر متى كان؟ فقيل بعد بدر، وقيل: بل كان ذلك عام الحديبية، وهو الأولى والأصح.
__________
(1) الفصيل: البكر الصغير، يريد التهكم بالصديق.
(2) أي أراهنك، وقد كان هذا قبل تحريم الرهان في الإسلام.
(3) جمع قلوص وهي الفتية القوية من الإبل.
(4) الرهان.(1/390)
موت أبي طالب وخديجة
أولا: موت أبي طالب
لقد انجابت الغمة، وأزال الله الكربة عن بني هاشم والمطّلب والرسول والمؤمنين بشق الصحيفة الظالمة، وعادت الأمور كما كانت، ولكن حدث حادثان سبّبا للنبي صلّى الله عليه وسلّم غاية الحزن:
أحدهما: موت عم النبي وناصره، ومانعه من قريش أبي طالب بن عبد المطلب «1» ، ولما اشتكى أبو طالب، وثقل به مرضه مشى إليه أشراف من قريش: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب في اخرين، فقالوا: يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا، وخذ لنا منه؛ ليكف عنا، ونكف عنه، وليدعنا وديننا، وندعه ودينه.
فبعث إليه أبو طالب، فجاءه فقال: يا ابن أخي هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليعطوك، وليأخذوا منك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم كلمة تعطونيها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم» ، فقال أبو جهل: نعم وأبيك- وعشر كلمات، قال: «تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه» فصفّقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الالهة إلها واحدا؟
إن هذا لعجب!!
__________
(1) اسمه: عبد مناف، وأما ما قيل من أن اسمه عمران فباطل كما قال ابن تيمية.(1/391)
ثم قال بعضهم لبعض: إنه- والله- ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين ابائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه، ثم تفرقوا، فقال أبو طالب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والله يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شططا!! فأنزل الله في ذلك قوله:
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) «1» .
عرض رسول الله الإيمان على أبي طالب
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حريصا جدّ الحرص على إيمان عمه، وأن يختم له بهذه الخاتمة السعيدة، ولكن شياطين الإنس من قريش وعنجهية الجاهلية حالت بينه وبين ذلك. روى البخاري في صحيحه أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم وعنده أبو جهل، فقال: «أي عم، قل لا إله إلا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله» وفي رواية: «أشهد لك بها عند الله» فقال أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب ترغب عن ملّة عبد المطلب! فلم يزالا يكلمانه حتى قال اخر شيء كلمهم به: هو «2» على ملّة عبد المطلب، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك» فنزلت:
__________
(1) الايات 1- 8 من سورة ص.
(2) عبر الراوي بضمير الغيبة تنزها من نسبة الشرك إلى نفسه ولو تلفظا، ولكن أبا طالب نطق بضمير المتكلم.(1/392)
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) .
ونزلت: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «1» .
وقد علّق على ذلك الحافظ ابن حجر في «الفتح» فقال: أما نزول هذه الثانية فواضح في قصة أبي طالب، وأما نزول التي قبلها ففيه نظر «2» ، ويظهر أن المراد أن الاية المتعلقة بالاستغفار نزلت بعد أبي طالب بمدة، وهي عامة في حقه، وفي حق غيره، ويوضح ذلك ما سيأتي في «التفسير» «3» بلفظ «فأنزل الله بعد ذلك ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا.. الاية، وأنزل في أبي طالب إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ولأحمد من طريق أبي حازم عن أبي هريرة في قصة أبي طالب قال: فأنزل الله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وهذا كله ظاهر في أنه مات على غير الإسلام، ويضعف ما ذكره السهيلي أنه رأى في بعض كتب المسعودي أنه أسلم، لأن مثل ذلك لا يعارض ما في الصحيح «4» .
وأما الإمام الزرقاني في شرح «المواهب اللدنية» فقد نحا منحى اخر، فجعل الاية مكية وتكون مستثناة من كون سورة براءة مدنية حيث قال:
«ولا يشكل بأن براءة من أواخر ما نزل بالمدينة، وهذه القصة قبل الهجرة بثلاث سنين؛ لأن هذه الاية مستثناة من كون السورة مدنية كما نقله في الإتقان عن بعضهم وأقره، فلا حاجة إلى تجويز أنه كان يستغفر له إلى نزولها، لأن التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة..
قال وأما قول السيوطي في «التوشيح» : المعروف أنها نزلت لما زار صلّى الله عليه وسلّم قبر
__________
(1) صحيح البخاري- باب قصة أبي طالب.
(2) لأن قصة أبي طالب كانت بمكة، واية ما كانَ لِلنَّبِيِّ.. من سورة براءة وهي من أواخر السور المدنية نزولا، فمن ثمّ أول الحافظ الرواية هذا التأويل.
(3) يعني كتاب «التفسير» من صحيح البخاري.
(4) فتح الباري ج 6 ص 153.(1/393)
أمه، واستأذن ربه في الاستغفار لها- كما روى الحاكم وغيره- فتساهل لا يليق بمثله، فإنها لا تعادل رواية الصحيح، وقد رد الإمام الذهبي في «مختصر المستدرك» تصحيح الحاكم؛ لأن في إسناده أبا رزين هانىء وقد ضعّفه ابن معين، وله علّة ثانية وهي مخالفته للمقطوع بصحته في البخاري من نزولها عقب موت أبي طالب، وهو كلام حسن. ولعل تأويل الزرقاني أولى وأقرب من تأويل الحافظ ابن حجر؛ لأنه يبعد أن يستمر النبي بضع سنوات يستغفر لعمه حتى نهي بعد.
رواية لابن إسحاق
وروى ابن إسحاق أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قال له: «قل كلمة أستحلّ لك بها الشفاعة يوم القيامة» ورأى حرص رسول الله قال: «ابن أخي، والله لولا مخافة السبّة عليك، وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أني قلتها جزعا من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها» قال الراوي: فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه، فأصغى إليه بأذنه، فقال: يا ابن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«لم أسمع» .
وهي رواية ضعيفة؛ لأن فيها من لم يسمّ «1» ، فأحد رواتها مجهول، ولعل البلاء منه، ولو أن العباس- رضي الله عنه- شهد بذلك بعد ما أسلم لقبلت روايته، أما وقد ذكر ذلك عنه قبل إسلامه فهي رواية غير مقبولة، لأن السند إليها لا يثبت كما قلنا، وأيضا فهي تعارض ما روي في الصحيحين وغيرهما.
فالصحيح أن أبا طالب مات على دين قومه، وهو الذي دلّت عليه الأحاديث الصحيحة التي رواها الشيخان وغيرهما، وأما ما روي من أنه أسلم فهي روايات ضعيفة وموضوعة، وقد عرض لها الحافظ ابن حجر في الإصابة فليرجع إليها من يشاء.
__________
(1) قال ابن إسحاق: حدثني العباس بن عبد الله بن معبد بن عباس عن بعض أهله عن ابن عباس ... ومثل هذا السند لا يعتبر صحيحا عند أئمة الحديث والرواية.(1/394)
كلمة هادئة منصفة
وأحب أن أقول للشيعة الإمامية: إننا كنا نحب من صميم قلوبنا لو أن شيخ قريش، أبا طالب أسلم؛ لأننا نعلم أن ذلك كان يحبه رسول الله ويهواه، وما يحبه رسول الله ويهواه فنحن- ولا شك- نحبه ونهواه، ولكن ماذا نصنع وقد سبق القدر بما قد كان؟! ولم نجد من الأدلة الصحيحة ما يجعلنا نقول بذلك، والإمام الالوسي- وهو من محبي ال علي والمنتسبين إليهم- اعتبر الأدلة الدالة على إسلام أبي طالب أوهى من بيت العنكبوت!!
كما أقول أيضا: إن موت أبي طالب على الكفر لا يخل بمنزلة الإمام علي رضي الله عنه- ولا بثبات قدمه في الإسلام، ولا بمواقفه البطولية المشهورة، ولا بعلمه الواسع الغزير، ولا بفصاحته وبلاغته المأثورتين، ولا بفقهه وأقضيته التي تخرّج بها العلماء والقضاة والفقهاء ووو ...
وإن في الأنبياء من مات أبوه على غير الدين الحق كازر أبي خليل الرحمن، على ما بذل ورغب في هدايته ابنه إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-!! وما أخلّ ذلك بقدر أبي الأنبياء.
ونحن- معاشر أهل السنة والجماعة- نجل ال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونحبهم حبا جما، لأن حبهم من حبه، وتكريمهم من تكريمه صلّى الله عليه وسلّم، ولكن لا ينبغي أن يعمينا الحب ويصمنا عن الحق ودلائله، والحق أحق أن يتبع، والله هو الهادي لمن يشاء.
على أن الخلاف في الرأي لا ينبغي أن يحول بيننا وبين أن نكون إخوانا متحابين، ومتعاونين لا متدابرين، وأن نوحّد جهودنا للإسلام، وفي سبيل رفعته وسيادته.
تخفيف العذاب على أبي طالب
وقد ورد في الصحيحين وغيرهما أن الله سبحانه وتعالى سيخفف العذاب عن أبي طالب، لمناصرته لرسول الله، وتأييده له في الدعوة إلى الإسلام، روى الإمام البخاري في صحيحه، بسنده عن العباس- رضي الله عنه- أنه قال(1/395)
للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ما أغنيت عن عمك؟ فو الله كان يحوطك، ويغضب لك، قال:
«هو في ضحضاح «1» من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» «2» .
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أنه صلّى الله عليه وسلّم قال- وذكر عنده عمه أبو طالب-: «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، فيغلي منه دماغه» وهي نوع من شفاعاته صلّى الله عليه وسلّم بتخفيف العذاب عمن يستحقه، ولو كان من المخلّدين فيه.
نيل المشركين من الرسول بعد وفاة أبي طالب
ولما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأذى ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه ترابا، فدخل رسول الله بيته، والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تزيل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لها: «لا تبكي يا بنية؛ فإن الله مانع أباك» .
وكان يقول: «ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب» بل كان بعض جيرانه من ذوي رحمه يأتي بالقذر فيطرحه في برمته، أو في فناء داره، فيأخذه على العود فيقف به على بابه، ثم يقول: «يا بني عبد مناف أي جوار هذا» ؟! ثم يلقيه في الطريق.
ومع كل هذا فقد مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لدعوته لا يلوي على شيء، ولا يصده إيذاء مهما بلغ، وكان يمكنه أن يدعو عليهم، فيهلكهم الله، ولكن كان كثيرا ما يقول: «اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون» .
ثانيا: موت السيدة خديجة رضي الله عنها
أما الحادث الثاني الذي ترك حزنا عميقا في نفس النبي فهو موت السيدة الجليلة المهيبة في قومها خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى، وكانت له
__________
(1) الضحضاح من الماء: ما يبلغ الكعبين، وقد استعير للقليل من النار.
(2) صحيح البخاري- باب ما ورد في أبي طالب.(1/396)
وزيرة صدق، كما كانت نعم الزوجة الصالحة العاقلة، يجد فيها سكن النفس وطمأنينة القلب وراحة الروح، فكان كلما ناله من قريش أذى عاد إليها فتزيل عنه اثار الأذى بيديها، وتسرّي عن نفسه بقلبها وحنانها وحديثها المؤمن المستطاب.
وكانت وفاة أبي طالب في السنة العاشرة من النبوة، وتوفيت بعده في شهر رمضان بقليل، قيل بأيام، وقيل بشهر، فلا عجب وقد فجع الرسول بهاتين الفجيعتين إذا كان سمي هذا العام «عام الحزن» .
ولما قالت له خولة بنت حكيم: يا رسول الله كأني أراك قد دخلتك خلّة «1» لفقد خديجة قال: «أجل، كانت أم العيال، وربة البيت» وكانت إقامتها معه خمسا وعشرين سنة على الصحيح، وقد أفنى زهرة الشباب، وميعة الكهولة، ولم يشأ أن يتزوج عليها؛ وفاء لها وتقديرا لخدماتها، وحرصا على عدم تكدير خاطرها، وإيلام نفسها بإدخال ضرّة عليها مهما كانت، فقد هيأت له صلّى الله عليه وسلّم كل أسباب الراحة النفسية، والبدنية، والمالية، والمعيشية، فكان صنع رسول الله معها ردا للجميل بمثله أو بأكثر منه.
فضلها رضي الله عنها
لا خلاف بين علماء الأمة- إذا استثنينا السيدة فاطمة بنت الرسول- في أن أفضل نساء هذه الأمة أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم قال تعالى:
يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً (32) «2» .
وأن أفضل أزواجه خديجة وعائشة، وقد اختلفوا في التفضيل بينهما، فمنهم من فضّل خديجة، ومنهم من فضّل عائشة، ومنهم من توقف في التفضيل
__________
(1) حاجة وحزن بسبب الفراغ الذي تركته خديجة بموتها.
(2) الاية 32 من سورة الأحزاب.(1/397)
بينهما، وليس هنا مجال تفصيل القول في هذا، والذي اختاره الإمام السبكي في «الحلبيات» ، تفضيل خديجة ثم عائشة، ثم حفصة، ثم الباقيات سواء، والذي أميل إليه ما ذهب إليه السبكي من تفضيل خديجة- رضي الله عنها- لأنها أول من امن بالنبي على الإطلاق، وواسته بنفسها ومالها، ووفرت له كل وسائل الراحة التي أعانته على تأدية رسالة ربه.
وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما بسندهما عن علي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد» أي كل منهما خير نساء زمانها، ورويا أيضا بسندهما عن أبي هريرة قال: «أتى جبريل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام، أو طعام، أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، ومني وبشّرها ببيت في الجنة من قصب «1» ، لا صخب فيه ولا نصب» فقد أقرأها ربها السلام، ولم يثبت ذلك لأحد من نساء النبي، وكل ما ثبت للسيدة عائشة إقراء جبريل عليه السلام لها، وقد وفرت السيدة الفاضلة خديجة للنبي صلّى الله عليه وسلّم كل وسائل الراحة في دنياها، فكان جزاء وفاقا أن يوفر الله سبحانه لها كل وسائل الراحة والنعيم في أخراها.
وقد زاد الطبراني في رواية الصحيحين السابقة أنها قالت لما بلغها النبي عن جبريل سلام ربها: «هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام» ، وفي رواية النسائي بزيادة: «وعليك يا رسول الله السلام، ورحمة الله وبركاته» وهذا الجواب يدل على فقهها، ووفور عقلها، وحسن أدبها، رضي الله عنها.
وأصرح من ذلك في الدلالة على تفضيلها على عائشة ما رواه ابن مردويه في تفسيره بسند صحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا ثلاث: مريم بنت عمران، واسية امرأة فرعون،
__________
(1) القصب: اللؤلؤ المجوف، وفي اختيار هذا اللفظ إيماء إلى أنها حازت قصب السبق بإيمانها وفضائلها.(1/398)
وخديجة بنت خويلد «1» ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد «2» على سائر الطعام» .
وفاء الرسول لها بعد وفاتها
وإذا كان الرسول الكريم قد وفى لها في حياتها بحسن العشرة، وكريم الصحبة، والحرص على تطييب نفسها بعدم الزواج عليها، فقد وفى لها بعد وفاتها، فقد كان دائم الذكر لها، والإشادة بفضائلها والترحم عليها، والإحسان إلى صديقاتها، وإكرام كل من يمت بسبب إليها «3» ، وإذا جاز أن يضيع المعروف عند الناس فهو لا يضيع قط عند معلّم الناس الخير، وصانع المعروف، وهو القائل: «من أسدى إليكم معروفا فكافئوه، وإلا فادعوا له» «4» وإذا كان رسول الله وفى لمن لم يستحق الوفاء، فكيف بمن هي أهل للوفاء؟! فلا عجب إذا كان وفاؤه للسيدة خديجة منقطع النظير.
ففي غزوة بدر الكبرى أسر السيد الجليل أبو العاص بن الربيع صهر الرسول، وزوج ابنته السيدة زينب رضي الله عنها، فأرسلت السيدة الوفية زوجته فداء له، وفيه قلادة كانت قلّدتها بها والدتها السيدة خديجة ليلة زفافها، فلما راها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رقّ لها رقة شديدة، وقال لأصحابه «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردّوا عليها قلادتها فافعلوا» ، فما كان من أصحابه إلا أن استجابوا، وكيف لا يستجيبون إلى نداء القلب المشوق، الذي أهاجته الذكرى وهم ذوو الحس المرهف، والشعور الرقيق والأدب العالي!!.
__________
(1) من الموافقات اللطيفة التي جمعت الثلاث في نسق واحد أن كل واحدة منهن كفلت نبيا مرسلا، وأحسنت صحبته، وامنت به، فاسية ربّت موسى، وأحسنت إليه، وصدّقت به حين بعث، ومريم كفلت عيسى وربّته وصدّقت به حين أرسل، وخديجة رغبت في النبيّ وواسته بنفسها ومالها، وأحسنت صحبته، وكانت أول من صدّقه حين نزل عليه الوحي.
(2) الثريد: الفت باللحم وكان عند العرب من أطيب الأطعمة.
(3) بقرابة.
(4) رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح بلفظ «من صنع» .(1/399)
وقد كان ذكره صلّى الله عليه وسلّم الدائم لخديجة، وثناؤه عليها يثير غريزة الغيرة في نفس عائشة، فتنال منها، ولكن رسول الله كان يقسو عليها في الرد، مما جعلها تؤلي على نفسها ألا تعود. روى الإمام أحمد والطبراني بسندهما عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الأيام، فأخذتني الغيرة، فقلت:
هل كانت إلا عجوزا قد أبدلك الله خيرا منها، فغضب ثم قال: «والله ما أبدلني خيرا منها، امنت بي إذ كفر الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها» ، قالت عائشة: فقلت في نفسي: لا أذكرها بعدها بسبة أبدا) !! وروى نحوه البخاري.
ولم يقف الوفاء عند ذكرها، بل كان يحب حبيباتها، ويصلهن، فكان يذبح الشاة، ويقطّعها، ويقول: «أرسلوا إلى صديقات خديجة» رواه البخاري.
وكانت تستأذن عليه هالة بنت خويلد أخت خديجة فيذكره صوتها بصوت خديجة، وحديثها العذب، وأيامها الحلوة، فيهش لها، وترتاح نفسه لذلك، وتشرق أسارير وجهه «1» .
وجاءته ذات يوم امرأة عجوز من صويحباتها فأحسن لقاءها، وصار يسأل عن أحوالها، وما صارت إليه، فقالت عائشة لما خرجت: تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟! فقال: «إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان» رواه الحاكم، والبيهقي في الشعب. فلله هذه السيدة العاقلة الطاهرة، التي لها دين كبير في عنق كل مسلم ومسلمة.
__________
(1) صحيح البخاري- كتاب- الفضائل باب تزويج النبي صلّى الله عليه وسلّم خديجة وفضلها رضي الله عنها.(1/400)
الفصل الخامس الذّهاب إلى الطّائف
ها هي مكة قد وقفت عقبة كأداء في سبيل الدعوة الإسلامية، وها هم سفهاء قريش قد أسرفوا في إيذاء النبي، والصد عن سبيله بعد موت عمه أبي طالب وزوجه خديجة، فلا عجب إذا أضحت مكة على سعتها أضيق من كفّة الحابل في عين النبي صلّى الله عليه وسلّم، فيمّم وجهه جهة الطائف حيث توجد ثقيف عسى أن يجد منهم من ينصر الإسلام، ويحمي الدعوة.
فخرج إليها في شوال في السنة العاشرة من النبوة، ومعه مولاه زيد بن حارثة، فأقام بها مدة يدعو ثقيفا إلى سبيل الله تعالى، فلم يجد اذانا صاغية، وكان ممن قابلهم ثلاثة من أشرافهم: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب بنو عمرو بن عمير، وكانوا سادة ثقيف وأشرافها، وكانت عند أحدهم صفية بنت معمر القرشي الجمحي، فجلس إليهم، وكلمهم بما جاء له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه.
فقال أحدهم: هو يمرط «1» ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وقال الثاني: أما وجد الله أحدا غيرك يرسله، وأما الثالث فكان أعقل منهما فقال:
والله لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسول الله لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك.
فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عندهم، وقد يئس من مناصرتهم له، وقال لهم: «إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني» كراهة أن يبلغ قومه عنه مجيئه لهم،
__________
(1) ينزعها ويرمي بها.(1/401)
فيزدادوا إيذاء له ولأصحابه، وكان القوم لئاما فلم يفعلوا، بل أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويرمون عراقيبه بالحجارة، حتى دميت عقباه، وتلطّخت نعلاه، وسال دمه الزكي على أرض الطائف وزيد بن حارثة مولاه يدرأ عنه ويدفع حتى أصيب في وجهه بشجاج، وما زالوا بهما حتى ألجأوهما إلى حائط- بستان- لعتبة وشيبة ابني ربيعة وهما فيه، فكره مكانهما لعداوتهما الله ورسوله، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل شجرة من عنب، فجلس فيه هو وصاحبه زيد، ريثما يستريحا من عنائهما، وما أصابهما، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، ولم يحركا ساكنا، ولعلهما كانا يتلذذان من هذا المشهد الذي شفى نفوسهما من الرسول، ولقي رسول الله المرأة القرشية التي من بني جمح، فقال لها: «ماذا لقينا من أحمائك» «1» ؟!
تضرع ودعاء
وفي هذه الغمرة من الأسى والحزن، والالام النفسية والجسمانية توجه الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى ربه بهذا الدعاء الذي يفيض إيمانا ويقينا، ورضى بما ناله في الله، واسترضاء لله، والذي لم أقف على مثيل له فيما قرأت، قال:
«اللهمّ إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟! أم إلى عدو ملّكته أمري؟! إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي.
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والاخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليّ سخطك. لك العتبى «2» حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله» رواه ابن إسحاق.
__________
(1) أهل الزوج وأقاربه وهو جمع حمو.
(2) العتبى: الاسترضاء.(1/402)
قصة عدّاس النصراني
فلما رأى ابنا ربيعة ما لقي النبي- ولعلهما سمعا دعاءه- تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له: عداس، فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى هذا الرجل فقل له: كل، فلما وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه يده قال: «بسم الله» وفي رواية: «بسم الله الرحمن الرحيم» ثم أكل، فنظر عدّاس في وجهه مستغربا، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد!! فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ومن أي البلاد أنت يا عدّاس، وما دينك» ؟ قال: نصراني، وأنا من أهل نينوى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرية الرجل الصالح يونس بن متّى؟ فقال له عداس:
وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ذاك أخي، كان نبيا، وأنا نبي» .
فأكب عدّاس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقبل رأسه، ويديه، وقدميه!! فقال أحد ابني ربيعة لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك يا عداس ما لك تقبل رأس هذا الرجل، ويديه وقدميه؟! قال:
يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا!! لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي، قالا له: ويحك يا عدّاس، لا يصرفنّك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.
الأوبة إلى مكة
ثم غادر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الطائف، وهو مهموم النفس مكلوم الفؤاد، فلم يستفق إلا وهو «بقرن الثعالب «1» » فرفع رأسه فإذا هو بسحابة قد أظلته، فنظر فإذا فيها جبريل، قال: «فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال «2» لتأمره بما شئت فيهم، قال:
فناداني ملك الجبال، وسلّم علي، ثم قال يا محمد إن الله قد بعثني إليك، وأنا
__________
(1) بفتح القاف وسكون الراء، وفتحها غلط، والقرن كل جبل صغير منقطع من جبل كبير.
(2) أي الموكل بها.(1/403)
ملك الجبال لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين «1» ؟
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله واحده، ولا يشرك به شيئا» «2» !! وفي بعض الروايات: فقال له ملك الجبال: أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم.
أمر الجن الذين استمعوا إلى النبي وآمنوا به
وفي الطريق إلى مكة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنخلة «3» قام من جوف الليل يصلي متهجدا، فمر به نفر من الجن، وكانوا سبعة من جن نصيبين «4» ، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولّوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا، وقد قصّ الله خبرهم عليه صلّى الله عليه وسلّم، فقال عز شأنه:
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى «5» مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) «6» .
دخول النبي مكة في جوار المطعم بن عدي
ولما وصل صلّى الله عليه وسلّم مكة أبى عليه قومها أن يدخلها حنقا عليه وغيظا أن ذهب يستنصر عليهم بثقيف، وتوجّس رسول الله منهم بشر، فبعث رسول الله
__________
(1) جبلا مكة: أبو قبيس، والذي يقابله وهو قعيقعان.
(2) رواه الشيخان، واللفظ لمسلم.
(3) أحد واديين على ليلة من مكة يقال لأحدهما: نخلة الشامية، وللاخر: نخلة اليمانية.
(4) من أرض الجزيرة بين العراق والشام.
(5) خصوا موسى لاشتهار رسالته أكثر من عيسى عليهما الصلاة والسلام.
(6) الايات 29- 32 من سورة الأحقاف.(1/404)
عبد الله بن الأريقط إلى الأخنس بن شريق أن يجيره، فقال:
أنا حليف قريش، والحليف لا يجير على صميمها، فبعثه إلى سهيل بن عمرو ليجيره، فقال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب بن لؤي، فبعثه إلى المطعم بن عدي ليجيره، فقال: نعم، قل له فليأت، فذهب إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبات عنده تلك الليلة. فلما أصبح خرج هو وبنوه ستة أو سبعة متقلدي السيوف جميعا، فدخلوا المسجد، وقال لرسول الله: طف، واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف، فأقبل أبو سفيان بن حرب إلى المطعم، فقال: أمجير أم تابع؟ قال: بل مجير، قال: إذا لا نخفر ذمتك «1» ، فجلس معه حتى قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طوافه، فلما انصرف انصرفوا معه، وقد حفظ النبي صلّى الله عليه وسلّم للمطعم بن عدي هذه اليد، ولذلك لما جاءه ابنه جبير ليكلمه في أسارى بدر قال له: «لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» .
ولما مات المطعم بعد هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة رثاه حسان بن ثابت بقصيدة مجازاة له على ما صنعه مع رسول الله.
__________
(1) لا نغدر بجوارك وعهدك.(1/405)
الفصل السّادس الإسراء والمعراج
في الإسراء والمعراج تسرية عن نفس النبي
قد علمت انفا ما وجد النبي من ثقيف لما ذهب إليهم داعيا إلى الله، وما صنعوه معه من الأذى حتى أدموا عقبيه، وكيف عاد النبي من الطائف مهموم النفس، جريح الفؤاد، لا لما ناله من الأذى فذلك أمر يهون، ولكن خوفا على الدعوة ألاتجد مكانا صالحا لانتشارها، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم يرجو من وراء رحلته المضنية إلى الطائف خيرا للدعوة، ومؤازرة لها، ولكنه وجد أهلها أسوأ من أهل مكة، وأجهل وأسفه، وكيف حال مشركو مكة بينه وبين دخول بلده لولا أن أجاره المطعم بن عدي سيد من سادات قريش، فتمكن من دخولها، والطواف حول الكعبة.
وفي هذه الغمرة من الماسي والأحزان، وصدود القوم عن الإيمان، ومحاربة الدعوة الإسلامية بكل الوسائل والطرق، وبعد هذه الشدائد المتلاحقة؛ كان من رحمة الله بعبده وحبيبه محمد صلوات الله وسلامه عليه أن يسرّي عن نفسه الجريحة، وفؤاده المحزون، فكان الإسراء والمعراج.
فقد شاهد من ايات ربه الكبرى ما شاهد، وعاين من أمارات العناية الإلهية به وبدعوته ما زاده يقينا إلى يقين بإنجاح دعوته، وتبليغ رسالة ربّه، ونصره على أعدائه، وأطلعه الله سبحانه من ملكوته العظيم على ما أطلعه عليه مما ملأ نفس الرسول رضى عن الله، وقلبه نورا وطمأنينة، وصدره ثلجا وانشراحا.(1/407)
ما هو الإسراء وما هو المعراج «1» ؟
الإسراء: هو إذهاب الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بإيلياء- مدينة القدس- في جزء من الليل، ثم رجوعه من ليلته.
المعراج: هو إصعاده صلّى الله عليه وسلّم من بيت المقدس إلى السموات السبع، وما فوق السبع، حيث فرضت الصلوات الخمس، ثم رجوعه إلى بيت المقدس في جزء من الليل.
ثبوت الإسراء والمعراج
الإسراء ثابت بالقران المتواتر، والأحاديث الصحيحة المتكاثرة.
أما القران ففي قوله سبحانه:
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) «2» .
__________
(1) الإسراء في اللغة: مصدر أسرى: وهو سير عامة الليل، ويقال: أسراه، وأسرى به، وعلى الثانية جاء القران الكريم، وجمهور اللغويين على أن سرى وأسرى بمعنى واحد، وبعضهم يفرق بينهما فيقول: أسرى سار من أول الليل، وسرى: سار من اخره. والمعراج بكسر الميم، قال ابن الأثير: المعراج بالكسر شبه السّلّم مفعال، من العروج أي الصعود كأنه الة له، مأخوذ من عرج يعرج عروجا إذا صعد، والظاهر أن المراد به العروج استعمالا لاسم الالة في المعنى المصدري وهو العروج.
(2) الاية 1 من سورة الإسراء، وقد بدأ الاية بلفظ «سبحان» لأن من قدر على هذا فهو مستحق للتنزيه والتقديس، وفيها معنى التعجب وما أجدر الإسراء بأن يتعجب منه. وفي ذكر العبد في مثل هذا تشريف، وفيه أيضا تحذير أن يتخذ من الإسراء ذريعة لرفع الرسول من مقام العبودية إلى مقام الألوهية. وذكر لفظ «ليلا» مع أنه لا يكون إلا ليلا للإشارة إلى أنه في جزء منه. والمسجد الحرام بمكة، وسمي حراما لحرمته. والمسجد الأقصى هو مسجد القدس، وسمي الأقصى لبعده من المسجد الحرام. ومعنى باركنا حوله، البركات الدينية والدنيوية: أما بركاته الدينية فلكونه مقر الأنبياء، ومهاجر الكثيرين منهم، وقبلتهم، ومهبط الملائكة، وهو أحد(1/408)
وأما الأحاديث فسنذكر بعضها فيما بعد.
وأما المعراج فهو ثابت بالأحاديث الصحيحة التي رواها الثقات العدول، وتلقتها الأمة بالقبول، ولو لم يكن إلا اتفاق صاحبي الصحيحين: البخاري ومسلم على تخريجها في صحيحيهما لكفى، فما بالك وقد خرّجها غيرهما من أصحاب كتب الحديث المعتمدة، وكتب السير المشهورة، وكتب التفاسير المأثورة.
ويرى بعض العلماء أن المعراج وإن لم يثبت بالقران الكريم صراحة، ولكنه أشير إليه في سورة النجم في قوله تعالى:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) «1» .
فقد روي عن ابن مسعود والسيدة عائشة- رضي الله عنهما- أن المرئي هو جبريل «2» ، راه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على هيئته التي خلق عليها، ولم يره على هذه الحالة إلا مرتين: الأولى وهو نازل من غار حراء، والثانية ليلة المعراج.
__________
- المساجد الثلاثة المشرفة التي تشدّ إليها الرحال: المسجد الحرام، والمسجد النبوي بالمدينة، ومسجد بيت المقدس. وأما الدنيوية فلما يحيط به من الأنهار الجارية، والزروع والبساتين. «لنريه من اياتنا» هي ما أراه الله لنبيه في هذه الليلة من مخلوقات الله وجلاله وسعة ملكه، وعجائب صنعه، وما أفاض به على قلبه من فيوضات ربانية، وعبّر «بمن» لأن الله أرى نبيه بعض آياته لا كلها، إذ ايات الله لا تنتهي، ولا يحيط بها قلب بشر «إنه هو السميع البصير» عدة للمؤمنين بالإسراء بالثواب الجزيل، ووعيد للمنكرين والمشككين.
(1) الايات 13- 18 من سورة النجم.
(2) وروي عن ابن عباس أن المرئي هو الله سبحانه وتعالى؛ والأول هو الصحيح المعتمد، وعلى رأي ابن عباس فالاية دالة أيضا على المعراج، لأنه يرى أن ذلك كان ليلة المعراج.(1/409)
قال الإمام ابن كثير في تفسيره «1» ما خلاصته مع التوضيح: وقد رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم جبريل- عليه السلام- على صورته التي خلقه الله عليها مرتين:
الأولى عقب فترة الوحي، والنبي صلّى الله عليه وسلّم نازل من غار حراء، فراه على صورته له ستمائة جناح قد سدّ عظم خلقه الأفق، فاقترب منه، وأوحى إليه عن الله عز وجل ما أوحى، وإليه أشار الله بقوله:
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) «2» .
والثانية: ليلة الإسراء والمعراج عند سدرة المنتهى، وهي المشار إليها في هذه السورة «النجم» بقوله: «ولقد راه نزلة أخرى. عند سدرة المنتهى» .
الإسراء والمعراج بالجسد والروح
جمهور العلماء- سلفا وخلفا- على أن الإسراء والمعراج كانا في ليلة واحدة، وأنهما كانا في اليقظة بجسده وروحه صلّى الله عليه وسلّم، وهذا هو الذي يدل عليه قوله تعالى في مفتتح سورة الإسراء «بعبده» ، إذ ليس ذلك إلا الروح والجسد.
وقد تواردت على ذلك الأخبار الصحيحة المتكاثرة، والنصوص على ظواهرها ما لم يقم دليل على صرفها عن ظاهرها، وأنّى هو؟
وفي الأحاديث الصحيحة أنه شق صدره الشريف، وركب البراق، وعرج به إلى السماء، ولاقى الأنبياء، وفرضت عليه الصلوات الخمس، وأن الله كلمه، وأنه صار يرجع بين موسى- عليه السلام- وبين ربه عز وجل، مما يؤكد أنهما كانا بجسده الشريف وروحه، وينفي ما عدا ذلك.
__________
(1) تفسير ابن كثير والبغوي ج 8 ص 96 وما بعدها ط المنار.
(2) الايات 5- 10 من سورة النجم، والضمير في قوله: «فأوحى» عائد على جبريل وهو الظاهر المقبول، لأنه المتحدث عنه قبل، وقيل: عائد على الحق تبارك وتعالى، وهو بعيد مردود لما فيه من تفكيك النظم الكريم، وأما الضمير في «عبده» فهو راجع إلى الله سبحانه فحسب، أي فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى، أو فأوحى الله إلى عبده محمد ما أوحى بوساطة جبريل.(1/410)
القائلون بأنهما كانا بالروح
وذهب بعض أهل العلم إلى أنهما كانا بروحه- عليه الصلاة والسلام- ونسب القول به إلى السيدة عائشة- رضي الله عنها- وسيدنا معاوية- رضي الله عنه- ورووا في هذا عن السيدة عائشة أنها قالت: «ما فقدت «1» جسد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن أسري بروحه» وهو حديث غير ثابت، وهّنه القاضي عياض في «الشفا» «2» سندا ومتنا، وحكم عليه الحافظ ابن دحية بالوضع، ومما يضعف هذا الأثر ويرده أن السيدة عائشة لم تكن حينئذ قد دخل بها النبي، فإن من المتفق عليه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يبن بها إلا بعد الهجرة، وإن خطبها قبلها بسنة، وقيل بسنتين، ويرد ذلك أيضا أن الثابت عنها أنها كانت تنكر على من يقول: أن محمدا رأى ربه ليلة المعراج، وتستدل بايات من الكتاب الكريم على حسب اجتهادها وفهمها، فلو كانت ترى هذا الرأي الذي نسبوه إليها زورا لكان أقرب شيء في ردها على من يقول بالرؤية أن تحتج عليهم بأن المعراج لم يكن بجسده، ولكن لم ينقل عنها أنها احتجت بذلك.
وأيضا فإن ما روي عن معاوية غير صحيح، وهو حين الإسراء والمعراج لم يكن أسلم بعد، ولو سلمنا ما نسب إليهما- جدلا- فظواهر القران والسنة الصحيحة ترده.
القائلون بأنهما كانا مناما
وأبعد من هذا القول قول من ذهب إلى أنهما كانا في المنام، ويستدلون لذلك بقوله تعالى:
وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ... «3» .
__________
(1) روي «فقدت» مبنيا للمعلوم، وهي أدل على الوضع، وروي «فقد» بالمبني للمجهول.
(2) ج 1 ص 156، 157 ط عثمانية.
(3) الاية 60 من سورة الإسراء.(1/411)
وقالوا: إن الاية تشير إلى الإسراء والمعراج، والرؤيا إنما تطلق على المنامية لا البصرية.
وليس أدل على ردّ استدلالهم بهذه الاية من قول ابن عباس في تفسيرها:
«هي رؤيا عين أريها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري به، والشجرة الملعونة شجرة الزقّوم» رواه البخاري في صحيحه «1» ، والترمذي، والنسائي في سننهما. ومراد ابن عباس- برؤيا العين- جميع ما عاينه صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري به من العجائب السماوية والأرضية.
وابن عباس هو حبر الأمة، وترجمان القران، ومن أعلم الناس بالعربية، وكان إذا سئل عن لفظ من القران ذكر له شاهدا من كلام العرب، فكلامه حجة في هذا، والرؤيا كما تطلق على المنامية تطلق على البصرية أيضا.
ومن شواهد ذلك من كلام العرب الذين يحتج بكلامهم قول الراعي يصف صائدا:
وكبّر للرؤيا وهشّ فؤاده ... وبشّر قلبا كان جما بلابله
على أن بعض المفسرين يرى أن الاية نزلت عام الحديبية بسبب رؤيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه دخل المسجد الحرام، وعلى هذا فلا تكون الاية دليلا لهم قط، ولكن الصحيح هو الأول.
وأيضا لو كان الإسراء والمعراج في المنام لم يكن فيهما شيء يستعظم، ولما بادر كفار قريش إلى تكذيب الرسول والتعجب مما قال، ولما ارتد بعض ضعفاء الإيمان «2» . إذ كثير من الناس يرون في منامهم مثل ذلك، فيرى الرائي أنه ذهب إلى أقصى المعمورة، أو صعد إلى السماء، فاستبعادهم لذلك ومسارعتهم إلى تكذيب النبي عقب إخباره لهم من أظهر الأدلة على أنهم فهموا من إخبار النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهما كانا في اليقظة لا في المنام.
__________
(1) صحيح البخاري- كتاب التفسير- سورة بني إسرائيل (الإسراء) - باب وما جعلنا الرؤيا ...
(2) قلت: لم يثبت.(1/412)
الفرق بين كونهما بالروح، وكونهما مناما
ومما ينبغي أن يعلم أن بعض الكاتبين في معجزتي الإسراء والمعراج يخلط بين قول من يقول: كانا مناما، وقول من يقول: كانا بالروح، وبينهما فرق، فمن قال كانا بالروح أراد أن الروح بما لها من قدرة على التصرف والانتقال هي التي انتقلت وجالت في هذه المعاني المقدسة في الأرض والسماء، وأما من قال في المنام فإنما أراد حدوث صور وانكشافات للروح فيما وراء الحسّ من عالم الغيب من غير انتقال، ومفارقة للبدن، وقد نبه إلى هذا الفرق وبسطه، الإمام ابن القيم في كتابه «زاد المعاد في هدي خير العباد» «1» ، فليرجع إليه من يشاء الاستزادة.
الإسراء والمعراج وواحدة الوجود
ولا يفوتني وقد عرضت للاراء في الإسراء والمعراج، وبينت المقبول منها من المردود أن أعرج على رأي ساقه الدكتور محمد حسين هيكل- رحمه الله- في كتابه «حياة محمد» ، وهو تصوير الإسراء والمعراج تصويرا روحيا مبنيا على فكرة «واحدة الوجود» .
وإليك ما ذكره في كتابه بعد أن عرض عرضا موجزا لخلاف العلماء في الإسراء والمعراج: أهما بالجسد أم بالروح؟ قال: «ففي الإسراء والمعراج في حياة «محمد» الروحية معنى سام غاية السمو، معنى أكبر من هذا الذي يصورون، والذي قد يشوب بعضه من خيال المتكلمين حظ غير قليل، فهذا الروح القوي قد اجتمعت فيه في ساعة الإسراء والمعراج واحدة هذا الوجود بالغة غاية كمالها، لم يقف أمام ذهن محمد وروحه في تلك الساعة حجاب من الزمان، أو المكان، أو غيرهما من الحجب التي تجعل حكمنا نحن في الحياة نسبيا محدودا بحدود قوانا المحسة، والمدبرة، والعاقلة.
تداعت في هذه الساعة كل الحدود أمام بصيرة محمد، واجتمع الكون كله في روحه، فوعاه منذ أزله إلى أبده، وصوره في تطور واحدته إلى الكمال عن
__________
(1) ج 2 ص 128، 129 ط أنصار السنة المحمدية.(1/413)
طريق الخير والفضل والجمال والحق في مغالبتها وتغلبها على الشر والنقص، والقبح والباطل بفضل من الله ومغفرة.
وليس بمستطيع هذا السمو إلا قوة فوق ما تعرف الطبائع الإنسانية، فإذا جاء بعد ذلك ممن اتبعوا محمدا من عجز عن متابعته في سمو فكرته، وقوة إحاطته بواحدة الكون في كماله، وفي جهاده لبلوغ هذا الكمال فلا عجب في ذلك، ولا عيب فيه، والممتازون من الناس، والموهوبون منهم درجات، وبلوغنا الحقيقة معرض دائما لهذه الحدود التي تعجز قوانا عن تخطيها ...
«والإسراء بالروح هو في معناه كالإسراء والمعراج بالروح جميعا سموا وجمالا، وجلالا، فهو تصوير قوي للواحدة الروحية من أزل الوجود إلى أبده، فهذا التعريج على جبل سيناء حيث كلّم الله موسى تكليما، وعلى بيت لحم حيث ولد عيسى، وهذا الاجتماع الروحي ضمت الصلاة فيه محمدا، وعيسى، وموسى، وإبراهيم مظهر قوي لواحدة الحياة الدينية على أنها من قوام واحدة الكون في موره الدائم إلى الكمال ... » إلى اخر ما قال «1» .
مناقشة للدكتور هيكل
إن فكرة واحدة الوجود فكرة خاطئة وافدة إلى الإسلام فيما وفد إليه من اراء فاسدة لا يشهد لها عقل ولا نقل، وهي من مخلّفات الفلسفات القديمة، وفيها ما فيها من أخطاء وأباطيل، وقد انتصر لها وتشيع بعض المتصوفة الذين ينتسبون إلى الإسلام، وكتبوا فيها فكان عاقبتهم الإلحاد في الله وصفاته.
وقد أبان بطلانها كثير من علماء الأمة الراسخين في العلم، المتثبتين في العقيدة، والقول بها يؤدي إلى القول بالطبيعة، وقدم العالم، وإنكار الألوهية، وهدم الشرائع السماوية التي قامت على أساس التفرقة بين الخالق والمخلوق، وبين وجود الرب، ووجود العبد، وتكليف الخالق للخلق بما يحقق لهم السعادة، ومقتضى هذا المذهب أن الوجود واحد، فليس هناك خالق ومخلوق، ولا عابد
__________
(1) «حياة محمد» ص 189، 190 ط ثانية.(1/414)
ومعبود، ولا قديم وحادث، وعابدو الأصنام والكواكب والحيوانات حين عبدوها إنما عبدوا الحق، لأن وجودها الحق، إلى اخر خرافاتهم التي ضلّوا بسببها وأضلوا غيرهم، والتي أضرت بالمسلمين، وجعلتهم شيعا وأحزابا، ولقد بلغ من بعضهم أنه قال: إن النصارى ضلّوا لأنهم اقتصروا على عبادة ثلاثة، ولو أنهم عبدوا الوجود كله لكانوا راشدين، وقال بعض المعتنقين لهذه الفكرة:
العبد حق، والرب حق ... يا ليت شعري من المكلّف؟
إن قلت: عبد فذاك رب ... أو قلت: رب أنّى يكلف؟
قال الإمام تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني في بعض كتبه بعد أن ذكر الفناء المحمود، والفناء المذموم: «ولهذا لما سلك ابن عربي، وابن سبعين وغيرهما هذه الطرق الفاسدة أورثهم ذلك «الفناء» عن وجود السوى فجعلوا الموجود واحدا، ووجود كل مخلوق هو عين وجود الحق، وحقيقة الفناء عندهم ألايرى إلا الحق، وهو الرائي والمرئي، والعابد والمعبود، والذاكر والمذكور، والناكح والمنكوح، والامر الخالق هو المأمور المخلوق، وهو المتصف بكل ما يوصف به الوجود من مدح وذم، وعبّاد الأصنام ما عبدوا غيره، وما ثمّ موجود مغاير له البتة عندهم، وهذا منتهى سلوك هؤلاء الملحدين!!
وأكثر هؤلاء الملاحدة القائلين بواحدة الوجود يقولون: فرعون أكمل من موسى، وإن فرعون صادق في قوله: «أنا ربكم الأعلى» لأن الوجود فاضل ومفضول والفاضل يستحق أن يكون رب المفضول، ومنهم من يقول: إنه مات مؤمنا، وأن تغريقه كان ليغتسل غسل الإسلام» «1» .
فالحق أن فكرة واحدة الوجود فكرة زائفة، تصادم نصوص الدين القطعية، ولا يدل عليها شيء من قران أو سنة، وأن العقيدة الإسلامية السمحة براء من مذهب «واحدة الوجود» .
__________
(1) الرد على المنطقيين ص 521 ط الهند.(1/415)
تفسير الإسراء والمعراج بهذا يلزم منه إنكار النصوص أو تحريفها
ثم إن تفسير الإسراء والمعراج بهذه الفكرة، وتصويرهما هذا التصوير الذي ارتضاه «هيكل» يقتضي إنكارها على حسب ما جاء به القران القطعي، والسنة الصحيحة المشهورة، فليس ثمة إسراء حقيقة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بذات النبي صلّى الله عليه وسلّم، وليس هناك عروج بالنبي من بيت المقدس إلى السماوات السبع وما فوقهن، ولا صلاة بالأنبياء، ولا لقاء ولا تسليم، ولا تكليم الله لنبيه، وإنما كل ذلك تمثيل وتقريب.
وما الداعي إلى ذلك ما دام الكون كله قد اجتمع في روح النبي كما قال صاحب الرأي: فالمسجد الحرام في روحه، والأقصى في روحه، والسماوات وما فيهن في روحه، ووجودها في وجوده!!
إغراب وتشويش
ثم ما الداعي إلى كل هذا التكلّف والإغراب من الدكتور هيكل في فهم نصوص صريحة جاءت بلسان عربي مبين؟! وما الذي حدا به إلى أن «يشطح» هذه «الشطحات» التي لا داعي إليها.
إن الإسراء والمعراج كما جاء بهما القران والأحاديث الصحاح أقرب منالا، وأشد استساغة لعقول الناس مما ذهب هو إليه، ولو جلست زمانا لتفهم رجلا أميا أو متعلما، بالإسراء والمعراج على ما رأى الدكتور ما أنت بمستطيع إفهامه هذه الألغاز والطلاسم التي حاول بها إحداث رأي جديد لا يدري أسبق إليه أم لا!
وهل تصوير الإسراء والمعراج بهذا التصوير إلا إشكال على عقول الكثرة من الناس، ومخاطبة لهم بما لا تبلغه عقولهم ومداركهم، وقد أمرنا أن نحدّث الناس بما يعقلون وأن ندع ما ينكرون، وفي الحكم الذهبية عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-: «ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم» «1» .
__________
(1) رواه مسلم في مقدمة صحيحه.(1/416)
الحق أن الإغراب على القراء بمثل هذه الأفكار المسمومة، والاراء الشاذة الغريبة تشكيك لهم في عقائدهم الصحيحة، وتسميم لعقولهم، وانحراف بهم عن فطرتهم السليمة، والحق أبلج لا يحتاج إلى تكلف، وتعمّل وتفلسف من غير داع «وما أنا من المتكلّفين» كما أنه أثر من اثار مجاراة المستشرقين ومتابعتهم في أفكارهم.
متى كان الإسراء والمعراج؟
يكاد يجمع العلماء المحققون على أن الإسراء والمعراج كانا بعد البعثة المحمدية، وأنهما كانا في اليقظة لا في المنام، وقد تظاهرت على ذلك الروايات المتكاثرة في كتب الحديث المشهورة، وكتب السير الموثوق بها.
وأما ما روي من أنهما كانا مناما كما في حديث شريك بن عبد الله «1» عن أنس فهو غلط من شريك، وقد خالف فيه شريك أصحاب أنس «2» في إسناده ومتنه بالتقديم والتأخير والزيادة المنكرة، وأشد أوهامه- أغلاطه- قوله:
سمعت أنس بن مالك يقول: «ليلة أسري برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مسجد الكعبة أن جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه» .
والإمام البخاري قد أخرج في صحيحه الرواية التي اتفق عليها الرواة عن أنس- ما عدا شريك- في عدة مواضع من كتابه، وهي الرواية الصحيحة، وذكر أيضا الرواية التي وقع فيها الغلط من شريك، ولعل ذلك لينبهنا إلى ما فيها من غلط، وللإمام البخاري في سوق الروايات والمتون المكررة شفوف نظر، ومقاصد دقيقة لا يقف عليها إلا من أطال النظر في هذا الكتاب الجليل.
وقد نبه على غلط شريك بن عبد الله في روايته الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه، فقد قال بعد ذكر سند رواية شريك: «وساق الحديث بقصته نحو حديث ثابت البناني، وقدّم فيه شيئا وأخّر وزاد ونقص» «3» .
__________
(1) شريك بن عبد الله بن أبي نمر تابعي مدني، وهو أكبر من شريك بن عبد الله النخعي التابعي.
(2) يعني الرواة الذين عرفوا بالرواية عن أنس.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي ج 2 ص 217.(1/417)
وأنكر ما في حديث شريك من أوهام أيضا الأئمة: الخطابي، وابن حزم، والقاضي عياض، والنووي وغيرهم «1» .
وقد اختلف في أي سنة كانا؟ وفي أي شهر؟
فذهب البعض إلى أنهما كانا قبل الهجرة بسنة، وإلى هذا ذهب الزهري وعروة بن الزبير وابن سعد، وادعى ابن حزم الإجماع على هذا، وقيل قبل الهجرة بسنتين، وقيل بثلاث.
والذي عليه الأكثرون والمحققون من العلماء أنهما كانا في شهر ربيع الأول، وقيل في ربيع الاخر، وقيل في رجب، وهو المشهور بين الناس اليوم، والذي تركن إليه النفس بعد البحث والتأمل أنهما كانا في شهر ربيع الأول في ليلة الثاني عشر منه أو السابع عشر منه.
وقد ذكر ابن كثير في «البداية والنهاية» أثرا عن جابر وابن عباس- رضي الله عنهما- يشهد لذلك، قالا:
«ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر» ثم قال: «وقد اختاره الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي في سيرته، وقد أورد هنا حديثا لا يصح سنده ذكرناه في فضائل شهر رجب: أن الإسراء كان ليلة السابع والعشرين منه والله أعلم» .
شبه المنكرين للإسراء والمعراج، والرد عليها
تكاد تنحصر شبه المخالفين في الإسراء والمعراج بالجسد في استبعاد الذهاب من مكة إلى بيت المقدس، ثم الصعود إلى السماوات العلا، ثم الرجوع من حيث أتى في جزء من الليل.
وفي أن القران الكريم لم يذكر المعراج كما ذكر الإسراء، وفي أن المعراج يترتب عليه الخرق والالتئام في الأفلاك والسماوات وذلك مستحيل.
__________
(1) الإسراء والمعراج للمؤلف ص 48، 49.(1/418)
وفي أن الطبقة الهوائية المحيطة بالكرة الأرضية محدودة بثلاثمائة كيلومترا تقريبا، فمن جاوزها صار عرضة للموت المحقق لعدم وجود الهواء الذي لا بدّ منه للحياة.
وهي شبه لا تثبت أمام البحث العلمي الصحيح.
فالإسراء والمعراج أمران ممكنان عقلا أخبر بهما الصادق المصدوق صلّى الله عليه وسلّم في القران الكريم المتواتر، وفي الأحاديث الصحيحة المشهورة، فوجب التصديق بوقوعهما، ومن ادّعى استحالتهما فعليه البيان وهيهات ذلك، وكونهما مستبعدين عادة لا ينهض دليلا ولا شبه دليل على الاستحالة، وهل المعجزات إلا أمور خارقة للعادة كما قال العلماء؟ ولو أن كل أمر لا يجري على سنن العادة مئنّة للإنكار لما ثبت معجزة نبي من الأنبياء.
ثم ما قول المنكرين لمثل هاتين المعجزتين فيما صنعه البشر من طائرات نفاثة، وصواريخ جبارة تقطع الاف الأميال في زمن قليل؟ فإذا كانت قدرة البشر استطاعت ذلك أفيستبعدون على مبدع البشر وخالق القوى والقدر أن يسخر لنبيه «براقا» يقطع هذه المسافة في زمن أقل من القليل؟! ولست أقصد بهذا أن الإسراء والمعراج من جنس ما يقدر عليه الناس، فحاشا لله أن أريد ذلك، وإنما أردت تقريبهما لعقول من ينكرونهما بما هو مشاهد ملموس، فمهما تقدمت العلوم وغزو الفضاء فلا يزال الإسراء والمعراج ايتين ظاهرتين للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
وأما شبهة أن المعراج لم يذكر في القران كما ذكر الإسراء فيدفعها ما قدمته من أن المعراج وإن لم يذكر في القران صراحة فقد أشير إليه فيه، ولو سلمنا عدم ثبوته بالقران فلا ينبغي أن يكون ذلك سببا للإنكار، فما الأحاديث إلا مبينة للقران، وشارحة له، ومتممة له، وهي الأصل الثاني من أصول التشريع في الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام، والحق من الباطل، والهدى من الضلال، وإثبات الايات والمعجزات، ولو أننا قصرنا الدين ومسائله على القران الكريم فحسب لفرّطنا في كثير من الأحكام والاداب، والايات، والمعجزات الدالة على نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم.(1/419)
وأما شبهة أن المعراج يترتب عليه الخرق والالتئام- وهو مستحيل- ففكرة قديمة عفى عليها الزمان، وأبطلتها النظريات العلمية الحديثة، فقد انتهى بحث العلماء إلى أن الكون في أصله كان قطعة واحدة، ثم تناثرت أجزاؤه، وانفصل بعضها عن بعض حتى غدا من ذلك العالم كله: علويه وسفليه.
وأعتقد أن هذه الشبهة أضحت غير ذات موضوع بعد التقدم العظيم، والخطوات الواسعة التي خطاها العلماء الكونيون في غزو الفضاء، والتنقل بين الأجواء، والدوران حول الأرض والقمر، وها هم اليوم جادون في الوصول إلى إنزال إنسان على وجه القمر، ومن يدري؟ فلعلهم بعد الوصول إلى القمر يفكرون في الوصول إلى غيره من الكواكب السيارة، ولا ندري ماذا سيتمخض عنه الغد إن شاء الله تعالى.
وإني لأنتهز هذه المناسبة لأؤكد أننا معشر علماء الإسلام الفاهمين للإسلام، والواعين لأصليه: القران والسنة، نرحب بتقدم العلوم والمعارف الكونية، وأننا ندعو إلى الازدياد من هذه العلوم، لأننا على يقين أن تقدم العلوم والكشوف الكونية لا يزيد الإسلام إلا قوة، والقران الكريم والسنة النبوية الصحيحة إلا ثباتا ورسوخا، واقتناعا للعقل والعلم بهما.
وكيف لا نرحب ولا ندعو وهذا قول الحق تبارك وتعالى نقرؤه صباح مساء، ونعتقد صدقه وحقّيته، قال عز شأنه:
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) «1» .
بلى وأنا على ذلك من الشاهدين.
وإذا جاز لأناس عاشوا في أزمان ماضية لم تتقدم فيها العلوم الفلكية والكونية استبعاد الإسراء والمعراج، فلا يجوز ذلك قط ممن عاش في عصرنا،
__________
(1) الاية 53 من سورة فصلت.(1/420)
ورأى وسمع عن المخترعات والمستكشفات التي كانت تعد فيما مضى ضربا من الخيال والمحال.
وأما شبهة أن الهواء ينعدم على بعد خاص فهي لا تبرر الإنكار، فها هم الغواصون يمكثون تحت أعماق الماء الساعات الطوال اكتفاء بما معهم من هواء مخزون يتنفسون منه، وها هم رواد سفن الفضاء قد تغلبوا على هذه المشكلة إن صح أن تسمى اليوم مشكلة- بل وعلى ما هو أشكل منها، وأعظم خطرا، ويختزنون معهم من الهواء ما يكفيهم للتنفس، ويحفظ عليهم حياتهم أياما لا ساعات.
فإذا تمكن الإنسان على عجزه وقدرته المحدودة أن يتغلب على ذلك، أفنستبعد على قدرة الله أن يحفظ حياة نبيه في الطبقات التي ينعدم فيها الهواء بأية وسيلة من الوسائل؟؟ لا، إنه على كل شيء قدير.
ومن بعد ذلك كله نقول كلمة الحق والإيمان:
إن الله سبحانه وتعالى- الذي خلق السماوات، والأرضين معلّقات في الفضاء بلا عمد، وأمسكهما أن تزولا وتسقطا على عظم أجرامهما، ودقة مساراتهما، وأبدعهما أيما إبداع، وربط الأسباب بالمسببات، وأوجد للكائنات نواميس خاصة بها، وعلّم ما يحتاج إليه كل كائن حي من إنسان، أو حيوان، أو نبات، وقدّر لكل ما يحفظ له حياته- لقادر أن يسري بنبيه من مكة إلى بيت المقدس، ثم يعرج به إلى سدرة المنتهى في جزء من الليل، وأن يحفظ عليه حياته في عروجه من الأرض إلى السموات السبع وما فوقهن.
الأحاديث الواردة في الإسراء والمعراج
لقد روى أحاديث الإسراء والمعراج كثير من الصحابة- رضوان الله عليهم- وتلقّاها عنهم الرواة العدول الضابطون، وخرّجها أئمة الحديث والتفسير بالمأثور في كتبهم، كالأئمة: البخاري، ومسلم، وأحمد، والترمذي، والنسائي، والبيهقي، وابن جرير الطبري، وغيرهم، وذكرها الإمامان محمد بن إسحاق، وعبد الملك بن هشام في سيرتيهما.(1/421)
قال العلّامة ابن كثير في تفسيره: «قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية في كتابه «التنوير في مولد السراج المنير» بعد أن ذكر حديث الإسراء والمعراج من طريق أنس بن مالك، وتكلم عليه فأفاد وأجاد:
وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب، وعلي، وابن مسعود، وأبي ذر، ومالك بن صعصعة، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وابن عباس، وشدّاد بن أوس، وأبيّ بن كعب، وعبد الرحمن بن قرظ، وأبي حبة «1» ، وأبي ليلى الأنصاريين، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وجابر، وحذيفة، وبريدة، وأبي أيوب الأنصاري، وأبي أمامة، وسمرة بن جندب، وأبي الحمراء، وصهيب الرومي، وأم هانىء بنت أبي طالب، وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق- رضي الله عنهم أجمعين- منهم من ساقه بطوله، ومنهم من اختصره على ما وقع من المسانيد، وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحيح، فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون، وأعرض عنه الزنادقة، والملحدون يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون» «2» .
رواية البخاري ومسلم في صحيحيهما
وسأكتفي بذكر أوثق الروايات وأصحها، وهي التي اتفق عليها الإمامان الجليلان: البخاري، ومسلم في صحيحيهما، ومن أراد استيفاء الروايات في الصحيحين فليرجع إلى رسالة «الإسراء والمعراج» «3» .
روى الشيخان في صحيحيهما بسندهما «4» عن قتادة، عن أنس بن مالك،
__________
(1) أبو حبة: بفتح الحاء، وبالباء المشددة على المشهور، وعند القابسي بمثناة تحتانية وغلط في ذلك وذكره الواقدي بالنون.
(2) تفسير ابن كثير والبغوي، ج 5 ص 66، ط المنار.
(3) الإسراء والمعراج للمؤلف، ص 57- 67.
(4) صحيح البخاري- باب المعراج، ج 5 ص 66؛ صحيح مسلم بشرح النووي، ج 2 ص 223- 225.(1/422)
عن مالك بن صعصعة- واللفظ للبخاري- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حدّثهم عن ليلة أسري به قال:
«بينما أنا في الحطيم، وربما قال: في الحجر «1» مضطجعا إذ أتاني ات، فقدّ «2» قال- أي قتادة-: وسمعته يقول: فشقّ ما بين هذه إلى هذه، فقلت للجارود «3» : ما يعني به؟ قال: من ثغرة نحره إلى ثنته «4» ، فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا وحكمة «5» ، فغسل قلبي، ثم حشي ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض. فقال له الجارود:
هو البراق «6» يا أبا حمزة- كنية أنس-؟ قال أنس: نعم، يضع خطوه عند أقصى طرفه «7» ، فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح «8» ، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل وقد أرسل إليه؟ «9» قال: نعم، قال: مرحبا به فنعم المجيء «10» جاء، ففتح» .
__________
(1) الحطيم: هو الحجر على الصحيح، والراوي لمّا لم يتأكد من اللفظ الذي سمعه ذكرهما على صيغة الشك، وهي أمانة في النقل من المحدّثين مشكورة.
(2) القد: هو القطع.
(3) لعله الجارود بن أبي سبرة البصري صاحب أنس وأحد الرواة عنه.
(4) الثغرة: المكان المنخفض بين الترقوتين، والثنة بضم الثاء وتشديد النون: ما تحت السرة.
(5) يعني مملوءة بشيء يترتب على الغسل به زيادة الإيمان، وكمال الحكمة.
(6) بضم الباء، وتخفيف الراء مشتق من البرق، لأن سرعته في سيره مثل سرعة البرق في لمعانه.
(7) يعني عند منتهى بصره، وما أشد سرعة من كان على هذا الحال.
(8) طلب الفتح، ولله ملائكة موكلون بكل ما خلق، وله الحكمة البالغة.
(9) قال العلماء: يعني أنه قد أرسل إليه للعروج إلى السماء، وأما أصل بعثته فمشهورة عند الملأ الأعلى معروفة لهم.
(10) قيل المخصوص بالمدح محذوف وفيه تقديم وتأخير، والتقدير جاء فنعم المجيء مجيئه، وقال ابن مالك: المخصوص بالمدح محذوف وجاء صلته أو صفة والتقدير نعم المجيء(1/423)
فلما خلصت فإذا فيها ادم «1» عليه الصلاة والسلام، فقال: هذا أبوك ادم، فسلّم عليه، فسلّمت عليه، فرد السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح «2» .
ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال:
جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل:
مرحبا به فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إذا يحيى وعيسى- عليهما الصلاة والسلام- وهما ابنا الخالة «3» ، قال: هذا يحيى وعيسى فسلّم عليهما، فسلّمت، فردا، ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح، قيل من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا أخوك يوسف فسلّم عليه، فسلّمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح، والنبي الصالح.
ثم صعد بي إلى السماء الرابعة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال:
جبريل، قيل ومن معك؟ قال: محمد، قيل وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل:
مرحبا به فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلّم عليه، فسلّمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
__________
- الذي جاءه أو نعم المجيء جاءه، وكونه موصولا أولى لأنه مخبر عنه، والمخبر عنه إذا كان معرفة أولى من كونه نكرة.
(1) إما أن يكون بعث من قبره استعدادا للقادم الكريم في هذه الليلة، أو تكون روحه تمثلت في جسده من غير بعث، ولعله الأولى والأقرب، وكذلك يقال في جميع الأنبياء الذين تشرفوا بلقائه هذه الليلة ما عدا عيسى عليه السلام.
(2) اقتصر الأنبياء الذين لقيهم في السماء على وصفه صلّى الله عليه وسلّم بصفة الصلاح لأن فيها جماع الخير كله، والصالح هو الطيب في نفسه، الذي يقوم بما عليه من حقوق الله وحقوق العباد.
(3) وهذا على أن مريم وإيشاع أم يحيى بن زكريا أختان، وقيل: إن إيشاع خالة مريم، فيكون في العبارة تسامح، ولا يزال العرف عندنا في مصر يعتبر خالة الأم خالة للابن.(1/424)
ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال:
جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلّم عليه، فسلّمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال:
جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا موسى قال: هذا موسى فسلّم عليه، فسلّمت عليه، فردّ، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما «1» بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلون من أمتي.
ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال:
جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبا به فنعم المجىء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك فسلّم عليه، قال: فسلّمت عليه، فرد السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح.
ثم رفعت إلى سدرة المنتهى «2» ، فإذا نبقها مثل قلال هجر «3» ، وإذا ورقها كاذان الفيلة «4» ، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان،
__________
(1) لم يرد موسى- عليه السلام- التقليل من شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وحاشا لله أن يريد ذلك، وإنما أراد صغر سنه لمن كان أكبر منه سنا من الأنبياء، وإذا قسنا عمر النبي بأعمار نوح، وإبراهيم، وموسى وجدناه أقل منهم بكثير، ومع هذا فقد أعطاه الله على صغر سنه، وقصر مدته ما لم يعط أحدا ممن هو أسن منه، وأطول زمنا، وتبعه على دينه الحق من غير تحريف ولا تبديل ما لم يتبع أحدا من الأنبياء.
(2) سميت بذلك لأنها ينتهي إليها علم كل نبي مرسل، وكل ملك مقرّب، ولم يجاوزها أحد إلا نبينا صلّى الله عليه وسلّم.
(3) جمع قلة وهي الجرة، والنبق الثمر يعني أن ثمرها في الكبر مثل القلال، وكانت قلال هجر معروفة عند المخاطبين، وهجر: بفتح الهاء والجيم: بلد بقرب المدينة.
(4) يعني في الشكل والكبر.(1/425)
ونهران ظاهران، فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة «1» ، وأما الظاهران فالنيل والفرات «2» .
ثم رفع لي البيت المعمور، ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال «3» : هي الفطرة «4» التي أنت عليها وأمتك.
ثم فرضت عليّ الصلوات خمسين صلاة كل يوم، فرجعت، فمررت على موسى، فقال: بم أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا. فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى، فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى، فقال: بم أمرت؟ قال بخمس صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال: سألت ربي حتى
__________
(1) هما: الكوثر والسلسبيل.
(2) أي مثالهما أو عنصرهما وإلا فهما ينبعان من الأرض، وقد فهم النبي من تمثيلهما له أن دينه سيبلغ هذين النهرين المشهورين وما وراءهما، وهذا ما كان، وبهذا التفسير يظهر لك أن الحديث لا يخالف المشاهدة كما أرجف المرجفون.
(3) القائل هو جبريل.
(4) عبر عن اللبن بالفطرة؛ لأنه أول ما يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه، وهو الغذاء الذي لم يكن يصنعه صانع غير الله، والغذاء الكامل المستوفي للعناصر التي يحتاج إليها الجسم في بنائه ونموه، مع كونه طيبا سائغا للشاربين، وقد تكرر هذا العرض مرتين، مرة بعد الصلاة في بيت المقدس- كما في صحيح مسلم- ومرة في السماء كما في هذا الحديث المتفق عليه.(1/426)
استحييت، ولكن أرضى وأسلّم، قال: فلما جاوزت ناداني مناد «1» : أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي» .
وقد تكفّلت بعض روايات الإمام مسلم في صحيحه «2» ببيان مجيء النبي بيت المقدس، ودخوله به، وصلاته فيه ركعتين، وعرض جبريل عليه بعد خروجه إناءين: إناء من خمر، وإناء من لبن، فاختار اللبن.
وأن الله تبارك وتعالى قال: «يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر- يعني حسنات- فذلك خمسون صلاة، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا، ومن همّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب شيئا، فإن عملها كتبت سيئة واحدة» .
وكذلك تكفّلت بعض الكتاب الحديثية الاخرى ببيان ما راه النبي في مسراه من مكة إلى بيت المقدس، حيث ضربت له الأمثال لبعض الفضائل والرذائل، وصلاته صلّى الله عليه وسلّم ركعتين بطور سيناء، وببيت لحم وبالمدينة، وصلاته بالأنبياء في بيت المقدس، وثناء الأنبياء على ربّهم، وثناء النبي على ربه، وقد ذكر الكثير من هذه الروايات الدالة على ذلك ابن كثير في تفسيره «3» ، والحافظ ابن حجر في «الفتح» «4» ، وقد ذكرت كل هذا وغيره كرؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم لربه، وأهي بعيني بصره؟ أم بعيني قلبه وبصيرته؟! إلى غير ذلك من المباحث المحرّرة الشيقة في كتابي «الإسراء والمعراج» فليرجع إليه من يشاء التزيد من روايات الإسراء والمعراج.
وقد رويت روايات أخرى في الإسراء والمعراج حصلت فيها بعض
__________
(1) المنادي هو الله سبحانه وتعالى إذ هذا الكلام لا يصدر إلا منه سبحانه، وهذا من أقوى الأدلة على أن الله سبحانه وتعالى كلّم نبيه ليلة المعراج بغير وساطة.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي، ج 2 ص 209- 215.
(3) تفسير ابن كثير والبغوي، ج 5 ص 107- 130.
(4) فتح الباري، ج 7 ص 159- 172.(1/427)
التزيدات، وأطلق بعض رواتها لأنفسهم فيها عنان الخيال، وألحق فيها من هنا وهناك بعض القصص، حتى غدا فيها تخليط وتزيدات كثيرة، وليس فيها من الحقيقة إلا شيء يسير، وذلك مثل الحديث الطويل الذي رواه ابن جرير في تفسيره عن أبي هريرة، وهي رواية مطوّلة جدا وفيها غرابة، وقد ذكرها ابن كثير في تفسيره «1» ، وأشار إلى أنها رويت أيضا من طريق أبي جعفر الرازي ثم قال ابن كثير:
«وأبو جعفر الرازي قال فيه الحافظ أبو زرعة: الرازي يهم في الحديث كثيرا، وقد ضعّفه غيره أيضا، ووثّقه بعضهم، والظاهر أنه سيىء الحفظ، ففيما تفرّد به نظر، وهذا الحديث في بعض ألفاظه غرابة، ونكارة شديدة، وفيه شيء من حديث المنام برواية سمرة بن جندب في المنام الطويل عند البخاري، ويشبه أن يكون مجموعا من أحاديث شتى أو مناما، أو قصة أخرى غير الإسراء» .
__________
(1) تفسير ابن كثير، ج 5 ص 131- 137.(1/428)
الفصل السّابع عرض رسول الله نفسه على قبائل العرب في موسم الحجّ
لم يكن بدّ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم- وقد استحكمت العداوة بينه، وبين قريش، وإصرارهم على خلافه، وإباء أهل الطائف نصرته، والدخول في دعوته، وإيذاؤهم له- من أن ييمّم وجهه قبائل العرب الاخرى في مواسم الحج، وأسواق التجارة، وقد روى أبو نعيم بسنده عن العباس- رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا أرى عندك، ولا عند أخيك- يريد أبا لهب- منعة، فهل أنتم مخرجيّ إلى السوق غدا حتى نقر في منازل قبائل الناس» وكان مجمع العرب، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومعه الصديق أبو بكر رضي الله عنه، فعرض نفسه على قبائل العرب وبطونها قائلا:
«يا بني فلان إني رسول الله إليكم، امركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دون الله من هذه الأنداد وأن تؤمنوا بي، وتمنعوني حتى أبلّغ رسالة ربي» ؟ ويقول: «من يحملني حتى أبلّغ رسالة ربي» ويقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» ، وخلفه عمه أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب يقول: لا يغرّنكم هذا عن دينكم، ودين ابائكم، إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزّى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن، إلى ما جاء به من البدعة، والضلالة، فلا تطيعوه، ولا تسمعوا له!!
وقد كان من لا يعرف أبا لهب يتعجّب ويقول: من هذا الرجل الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول؟! فيقال له: هذا عمه أبو لهب!!
فأتى بني كندة في منازلهم، ودعاهم إلى الله فأبوا عليه، وأتى كلبا في(1/429)
منازلهم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم، وأتى بني حنيفة في منازلهم فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقبح ردا عليه منهم، وأتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة «1» بن فراس، والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؛ فقال له رسول الله: «الأمر لله يضعه حيث شاء» ، فقال الرجل: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك.
فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم مجرب كان قد أدركه السن، فحدثوه بخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما قالوه له، فوضع يده على رأسه متأسفا على ما فاتهم من فضل اتباعه وإيوائه، وأقسم لهم بأنه ما تقوّلها «2» إسماعيلي قط، يعني أحد من ولد إسماعيل «3» .
من دلائل النبوة
وما كان لنا أن نمر بهذه القصة دون أن نعلّق عليها ففيها دلالة قوية على صدقه صلّى الله عليه وسلّم، فلو كان طالب ملك، أو جاه، أو يتجر بالمبادىء يصنع كما يصنع دهاقين السياسة في القديم والحديث من استمالة الناس بالأحاديث الكاذبة والوعود الخادعة البراقة، ويمنّيهم الأماني الفارغة حتى إذا تم له ما أراد نسي ما قال، ورجع في وعوده، بل قد يتنكر لهم، ويسفّه عليهم، وينكل بهم، وهذا فرق ما بين النبوة وغيرها، وما بين الداعي إلى الحق وطالب الدنيا.
استمرار الرسول في العرض
ولم ييأس النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما كان له أن ييأس، واستمر يغشى القبائل
__________
(1) هكذا في السيرة بباء مفتوحة، وياء ساكنة، وفي البداية والنهاية نقلا عن ابن إسحاق بحيرة.
(2) ما تقوّلها: يعني النبوة.
(3) السيرة ج 1 ص 422- 425؛ البداية والنهاية ج 3 ص 138- 140.(1/430)
والبطون في المواسم، والمجامع، والمنازل، ويكلم أشراف كل قوم، لا يسألهم مع ذلك شيئا إلا أن يؤووه ويمنعوه، وكان يقول لهم: «لا أكره أحدا منكم على شيء، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك، ومن كره لم أكرهه، وإنما أريد أن تحرزوني «1» فيما يراد لي من القتل حتى أبلّغ رسالة ربي، وحتى يقضي الله لي، ولمن صحبني بما شاء» فلم يقبل أحد منهم، وما يأتي أحدا من تلك القبائل إلا قال: قوم الرجل أعلم به، أترون أن رجلا يصلحنا، وقد أفسد قومه، ولفظوه؟!
وقد شاء الله تعالى أن يدخر فضل الاتباع والنصرة للأنصار- رضي الله عنهم-.
ترصد الأشراف القادمين إلى مكة
ولجأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى وسيلة أخرى عسى أن يكون من ورائها خير للدعوة، فكان لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب، له اسم وشرف إلا تصدّى له، ودعاه إلى الله تعالى وعرض عليه ما جاء به من الهدى والحق.
إسلام سويد بن الصامت
فقدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا، وكان سويد يسميه قومه فيهم الكامل، لجلده، وشعره، وشرفه، ونسبه، فتصدى له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين سمع به، فدعاه إلى الله والإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وما الذي معك» ؟ قال: مجلة «2» لقمان، فقال له رسول الله: «اعرضها علي» فعرضها عليه فقال: «إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا: قران أنزله الله علي، هو هدى ونور» فتلا عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القران، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا القول حسن. ثم انصرف عنه فقدم المدينة
__________
(1) تحفظوني وتحرسوني ففي القاموس: «وحرزه: حفظه، أو هو إبدال، والأصل حرسه» .
(2) المجلة: الصحيفة، وتطلق على الحكمة أي حكمة لقمان.(1/431)
على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج، وقد كان رجال من قومه يقولون: إنا لنراه قتل وهو مسلم، وكان قتل قبل يوم بعاث.
إسلام إياس بن معاذ
لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتاهم فجلس إليهم، فقال: «هل لكم في خير مما جئتم له» ؟
قالوا: وما ذاك؟ قال: «أنا رسول الله إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئا، وأنزل عليّ الكتاب» ، ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القران، فقال إياس بن معاذ- وكان غلاما حدثا-: هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الحيسر كفا من تراب، وضرب به وجهه، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس.
وقام رسول الله عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، وقد روى من حضره من قومه أنه ما زال يهلّل الله ويكبره، ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكّون أنه مات مسلما، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما سمع.
يوم بعاث «1»
وهو يوم كانت فيه موقعة عظيمة بين الأوس والخزرج، وقتل فيه خلق كثير من أشرافهم وكبرائهم، ولم يبق فيه من شيوخهم إلا القليل، وقد كان الغلب فيه للأوس على الخزرج.
وقد شاء الله سبحانه أن تكون هذه الوقعة العظيمة قبيل مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة لتتهيّأ النفوس لقبول الإسلام والإيمان بالنبي، وليظهر فضل الإسلام
__________
(1) بعاث على وزن غراب وهو بالعين المهملة: موضع بقرب المدينة، وصحفه بعضهم فجعله بالغين المعجمة.(1/432)
على الأنصار؛ فقد جمعهم بعد الفرقة، وغرس في قلوبهم المحبة بعد العداوة، والوئام بعد الشقاق، روى البخاري في صحيحه بسنده عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: «كان يوم بعاث يوما قدّمه الله لرسوله، قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وقد افترق ملأهم «1» ، وقتل سراتهم» «2» .
__________
(1) الملأ: رؤساء الناس ومقدّموهم الذين يرجع إلى قولهم.
(2) ساداتهم وأشرافهم.(1/433)
طلائع النور من جهة المدينة
بدء إسلام الأنصار
لما أراد الله سبحانه إظهار دينه وإعزاز نبيه، وإنجاز وعده له خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في موسم الحج، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينما هو عند العقبة ساق الله نفرا من الخزرج أراد الله بهم خيرا، فكانوا طلائع هذا النور الذي أبى الله إلا أن يكون من المدينة.
فقال لهم: «من أنتم» ؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال: «أمن موالي اليهود» «1» ! قالوا: نعم. قال: «أفلا تجلسون إليّ أكلمكم» ! قالوا: بلى، فجلسوا إليه، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القران، وكان من أسباب مسارعتهم إلى قبول دعوة الإسلام أن يهود كانوا يساكنونهم في المدينة، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك، وأصحاب أوثان. وكانت تقع بين اليهود وبين الأوس والخزرج وقائع وحروب، وكانت الغلبة تكون للعرب، فكان إذا وقع شيء منها قالوا لهم: «إن نبيا مبعوثا الان قد أظلّ «2» زمانه سنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم» فلما كلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله تهامسوا وقال بعضهم لبعض: تعلمون «3» - والله- أنه النبي الذي توعّدكم به يهود، فلا يسبقنّكم إليه.
__________
(1) أي حلفائهم.
(2) قرب.
(3) تعلمون: أي اعلموا.(1/434)
فلا عجب أن أسرعوا إلى إجابته، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا له: إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، وسنقدم عليهم، وندعوهم إلى الإسلام ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك. ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم بعد أن آمنوا وأسلموا، وكانوا ستة نفر فيما ذكر ابن إسحاق- وهم:
(1) أسعد بن زرارة من بني النجار، وقال أبو نعيم: إنه أول من أسلم من الأنصار من الخزرج. (2) وعوف بن الحارث بن رفاعة من بني النجار، وهو ابن عفراء بنت عبيد النجارية، وهي أم معاذ، ومعوذ، وإليها ينسبون.
(3) ورافع بن مالك بن العجلان الزرقي. (4) وقطبة بن عامر من بني سلمة «1» . (5) وعقبة بن عامر بن نابي السلمي أيضا، ثم من حرام.
(6) وجابر بن عبد الله بن رياب «2» السلمي، ثم من بني عبيد.
وذكر موسى بن عقبة في مغازيه أنهم كانوا ثمانية، منهم من ذكره ابن إسحاق، وبعضهم لم يذكره وهم:
(1) أسعد بن زرارة. (2) ورافع بن مالك. (3) ومعاذ بن عفراء.
(4) ويزيد بن ثعلبة. (5) وأبو الهيثم بن التّيّهان. (6) وعويم بن ساعدة.
(7) وعبادة بن الصامت. (8) وذكوان.
فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودعوهم إلى
__________
(1) بفتح السين وكسر اللام، وتفتح عند النسب.
(2) بكسر الراء، وفتح الياء الخفيفة، فألف، فمواحدة، وهو غير جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري الصحابي ابن الصحابي، وقد تسمى بجابر بن عبد الله خمسة: هذان، وجابر بن عبد الله العبدي، وجابر بن عبد الله الراسبي، وجابر بن عبد الله الأنصاري استصغره النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد فرده، وليس بجابر بن عبد الله المشهور (شرح المواهب ج 1 ص 375) .(1/435)
الإسلام حتى فشا فيهم، ولم تبق دار من دور الأنصار حتى كان فيها ذكر لرسول الله والإسلام.
بيعة العقبة الأولى «1»
حتى إذا كان العام المقبل قدم على النبي صلّى الله عليه وسلّم اثنا عشر رجلا، فأسلموا وبايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، منهم خمسة من الستة الذين أسلموا أولا، وهم:
(1) أسعد بن زرارة. (2) وعوف بن عفراء. (3) ورافع بن مالك.
(4) وقطبة بن عامر السلمي. (5) وعقبة بن عامر بن نابي.
والسبعة الباقون هم: (6) معاذ بن الحارث بن رفاعة وهو ابن عفراء أخو عوف المذكور. (7) وذكوان بن عبد قيس البدري الزرقي «2» . (8) وعبادة بن الصامت بن قيس. (9) وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة «3» .
(10) والعباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان «4» وهؤلاء العشرة من الخزرج. (11) وأبو الهيثم مالك بن التّيّهان «5» من بني عبد الأشهل.
(12) وعويم بن ساعدة- وهما أوسيان- فلما عادوا إلى المدينة أظهروا الإسلام ودعوا إليه.
__________
(1) جرى ابن إسحاق وغيره على عد هذه العقبة الأولى، وما بعدها الثانية، لأن هذه والتي بعدها هما اللتان حصلت فيهما المبايعة، ومن لم ينظر إلى المبايعة عدّ العقبات ثلاثا. وعلى هذا جرى صاحب المواهب.
(2) ذكوان: بفتح الذال المعجمة، وسكون الكاف، الزرقي بتقديم الزاي المضمومة، على الراء، وكذا كل ما في نسب الأنصار قاله ابن ماكولا وغيره، نسبة إلى جده زريق، وقيل: إنه رحل إلى رسول الله بمكة فسكنها معه، ثم هاجر لما هاجر المسلمون، فهو مهاجري أنصاري كما قال ابن هشام، وقتل يوم أحد.
(3) بفتح المعجمتين كما ضبطه الطبري والدارقطني، وقال ابن إسحاق والكلبي: بسكون الزاي.
(4) قيل إنه مهاجري أنصاري أيضا.
(5) بفتح التاء المثناة فتحتية عند أهل الحجاز، مشددة عند غيرهم، واسمه أيضا مالك شهد أبو الهيثم العقبة، وبدرا والمشاهد كلها.(1/436)
علام كانت المبايعة؟
وقد ذكر ابن إسحاق في سيرته بسنده عن عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- قال: «كنت ممن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلا فبايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب: على ألانشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفّيتم فلكم الجنة وإن غشيتم من ذلك شيئا فأمركم إلى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر» .
وذكر عن ابن شهاب نحو ذلك ولكنه أوفى وأتم، ولفظه: «وإن غشيتم من ذلك شيئا فأخذتم بحدّه في الدنيا فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله- عز وجل- إن شاء عذّب، وإن شاء غفر» .
وقد تابع ابن إسحاق- رحمه الله- بعض كتاب السيرة من القدماء، وبعض المحدثين كالدكتور محمد حسين هيكل، وظاهر رواية الشيخين في صحيحيهما تفيد ذلك، فقد رويا بسندهما- واللفظ للبخاري- أن عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- وكان شهد بدرا، وهو أحد النقباء ليلة العقبة- قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال وعليه عصابة «1» : «بايعوني على ألاتشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك» وليس في هذه الرواية الصحيحة تصريح بأن هذه المبايعة كانت ليلة العقبة، وليس من شك في أن اية بيعة النساء نزلت بعد الحديبية بلا خلاف، وأين العقبة الأولى من الحديبية؟ فمن ثم سلك العلماء المحققون في مقالة ابن إسحاق على بيعة النساء مسالك:
__________
(1) العصابة: الجماعة من العشرة إلى الأربعين، ولا واحد لها من لفظها، وجمعت على عصائب وعصب.(1/437)
فقال ابن كثير: «وقوله على بيعة النساء يعني: على وفق ما نزلت عليه اية بيعة النساء بعد ذلك عام الحديبية، وكان هذا مما نزل على وفق ما بايع عليه أصحابه ليلة العقبة. وليس هذا بعجيب، فإن القران نزل بموافقة عمر بن الخطاب في غير ما موطن كما بيّناه في سيرته، وفي التفسير، وإن كانت هذه البيعة وقعت على وجه غير متلو فهو أظهر والله أعلم» «1» .
ولكن الإمام الحافظ ابن حجر يرى أن المبايعة المذكورة في حديث عبادة لم تقع ليلة العقبة، وأن المبايعة هذه الليلة كانت على الإيواء، والنصرة، والسمع والطاعة، ففي حديث عبادة عند البخاري قال: «بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره ... » الحديث.
وأصرح من ذلك في المراد ما أخرجه أحمد، والطبراني من وجه اخر عن عبادة بن الصامت أنه جرت له قصة مع أبي هريرة عند معاوية بالشام، فقال:
«يا أبا هريرة، إنك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على السمع والطاعة: في النشاط والكسل، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول الحق، ولا نخاف في الله لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا، وأبناءنا، ولنا الجنة، فهذه بيعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التي بايعناه عليها» .
وأما المبايعة على الصفة المذكورة فإنما وقعت بعد فتح مكة بعد أن نزلت الاية التي في الممتحنة، وهي قوله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) «2» .
__________
(1) البداية والنهاية ج 3 ص 151.
(2) الاية 12 من سورة الممتحنة.(1/438)
ونزول هذه الاية متأخر بعد قصة الحديبية بلا خلاف، والدليل على ذلك ما عند البخاري في «كتاب الحدود» في حديث عبادة هذا «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما بايعهم قرأ الاية كلها» وفي صحيح مسلم قال: «فتلا علينا اية النساء قال:
لا تشركن بالله شيئا..» .
وفي رواية الطبراني للحديث: «بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما بايع عليه النساء يوم فتح مكة..» ثم قال: فهذه أدلة ظاهرة في أن هذه البيعة إنما صدرت بعد نزول الاية بعد صدور البيعة، بل بعد فتح مكة، وإنما حصل الالتباس من جهة أن عبادة بن الصامت حضر البيعتين معا: العقبة، والبيعة على مثل بيعة النساء يوم الفتح، وكانت بيعة العقبة من أجل ما يتمدّح به. فكان يذكرها إذا حدّث تنويها بسابقته، فلما ذكر هذه البيعة التي صدرت على مثل بيعة النساء عقب ذلك توهّم من لم يقف على حقيقة الحال أن البيعة الأولى وقعت على ذلك «1» .
وهذا الذي ذكره الحافظ هو الذي يجب أن يصار إليه، فهو- رحمه الله- من أعلم الناس بالقران وتنزلاته، والسنة وطرق الجمع بين رواياتها المختلفة، وبالسيرة وتواريخ الصحابة، وله انتقادات كثيرة صائبة على ابن إسحاق وغيره من كتاب السير وتاريخ الرجال.
وهذه التحقيقات والتنبيه إلى المغالط والأوهام في الرواية هي من أهم ما يعنى به الدارسون للسيرة النبوية في ضوء القران والسنة، وهي قد تخفى على غير المتخصصين في علوم القران والسنة وعلومها، فالحمد لله الذي هدانا لهذا.
والخلاصة: أن المبايعة في العقبة الأولى كانت على السمع والطاعة في العسر واليسر، وفي المنشط والمكره، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول الحق، وألايخافوا في الله لومة لائم، وعلى الولاء والنصرة لرسول الله إذا قدم عليهم يثرب، وأن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم، وأولادهم، وأما المبايعة على مثل بيعة النساء فقد كانت بعد ذلك.
__________
(1) فتح الباري ج 1 ص 12، 13.(1/439)
أول جمعة جمّعت في المدينة قبل الهجرة
وقد كان من ماثر السيد الصحابي الجليل أسعد بن زرارة النجاري الخزرجي أنه أول من صلّى بالناس الجمعة قبل مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، فقد روى ابن إسحاق بسنده عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال:
«كنت قائد أبي كعب بن مالك حين ذهب «1» بصره، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان بها صلّى «2» على أبي أمامة أسعد بن زرارة، قال: فمكث حينا على ذلك لا يسمع الأذان للجمعة إلا صلّى عليه واستغفر له، قال: فقلت في نفسي: والله إن هذا بي لعجز ألاأسأله: ما له إذا سمع الأذان للجمعة صلّى على أبي أمامة أسعد بن زرارة؟
قال: فخرجت به في يوم جمعة كما كنت أخرج، فلما سمع الأذان للجمعة صلّى عليه، واستغفر له، فقلت له: يا أبت مالك إذا سمعت الأذان للجمعة صلّيت على أبي أمامة؟ فقال: أي بني، كان أول من جمع بنا بالمدينة في هزم النبيت من حرّة بني بياضة، يقال له: نقيع الخضمات، قلت: وكم أنتم يومئذ؟ قال:
أربعون رجلا» ورواه أبو داود وابن ماجه من طريق ابن إسحاق.
أول مبعوث في الإسلام
لما انصرف القوم من الأوس والخزرج إلى المدينة كتبوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ابعث إلينا من يقرئنا القران، وقد صادف هذا هوى من نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل إليهم الصحابي الجليل مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي «3» ، وأمره أن يقرئهم القران، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم
__________
(1) ذهب بصره: كفّ وعمي.
(2) صلى عليه: دعا له.
(3) كنيته أبو عبد الله، وكان من أجلّة الصحابة وفضلائهم، سباقا إلى كل خير وفضل، هاجر إلى الحبشة في أول من هاجر إليها، ثم أرسله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الأنصار كما رأيت فنجح في مهمته خير نجاح، وكان مصعب قد تربى في النعيم، وكان يعتبر فتى مكة شبابا، وجمالا، وسمتا، وكان رسول الله يذكره ويقول: «ما رأيت بمكة أحسن لمة، ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير» وقد اثر الإسلام، وسارع إليه على ما ناله بسببه من(1/440)
في الدين، وأن يؤمهم في الصلاة، وذلك أن الأوس والخزرج كره كل منهم أن يؤمه الاخر، وكان يسمى بالمدينة «المقرىء» و «القارىء» ، وكان نزوله بالمدينة على السيد الصحابي الجليل السابق إلى الخير سيد الخزرج، ونقيب بني النجار أسعد بن زرارة بن عدس بن أبي أمامة.
نجاح مصعب في مهمته
وقد نجح داعية الإسلام بالمدينة في إسلام الكثيرين من أهلها، ومن أجلّهم سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير «1» ، وبإسلامهما أسلم الكثيرون من بني عبد الأشهل وغيرهم، وإليك قصة مصعب معهما، فإن فيها أسوة حسنة لكل داع إلى الله، وإلى الإسلام بإخلاص وعقيدة، وتفان في سبيل الدعوة.
ذلك أن مصعب بن عمير نزل على أسعد بن زرارة سابق الأنصار إلى الإسلام، فخرج أسعد بمصعب يريد دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، فدخل به أسعد حائطا «2» من حيطان بني ظفر على بئر يقال لها: بئر مرق، فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممّن أسلم، وكان سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير سيّدي قومهما من بني عبد الأشهل، وكانا مشركين على دين قومهما، فلما سمعا بمصعب بن عمير ونشاطه في الدعوة إلى الإسلام قال سعد لأسيد: لا أبا لك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين أتيا دارينا ليسفّها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما.
فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل عليهما، فلما راه أسعد بن زرارة
__________
- الإيذاء، والضيق، والتقشف، ورثاثة الحال، فلا تعجب إذا كان رسول الله إذا راه بكى لحاله، وقد شهد بدرا، واستشهد بأحد لما حمى رسول الله بنفسه، ولما مات كان عليه ثوب إن «غطّوا به رأسه تبدّت رجلاه، وإن غطّوا به رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله: غطّوا رأسه وضعوا على رجليه الإذخر» ، فرضي الله عنه وأرضاه.
(1) بالتصغير فيهما.
(2) حائطا: بستانا.(1/441)
قال: هذا سيد قومه وقد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه، فوقف عليهما متشتما فقال: ما جاء بكما تسفّهان ضعفاءنا؟! اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب بلسان المؤمن الهادىء الواثق من سماحة دعوته: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كفّ عنك ما تكره؟!
قال أسيد: أنصفت، ثم ركز حربته، وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القران، فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهّله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهّر وتطهّر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلّي، فقام فاغتسل وطهّر ثوبيه وتشهّد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلّف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكم الان: سعد بن معاذ.
ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم!! فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال:
كلمات الرجلين فو الله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك «1» .
فقام سعد مغضبا مبادرا مخوفا للذي ذكر له من أمر بني حارثة، وأخذ الحربة في يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا، ثم خرج إليهما سعد فوجدهما مطمئنين، فعرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف متشتما، ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره وكان أسعد قد قال لمصعب: لقد جاءك- والله-
__________
(1) كان غرض أسيد إثارة حمية سعد ليقوم ويذهب إلى أسعد وصاحبه مصعب، ويسمع منه.(1/442)
سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلّف منهم اثنان، فقال له مصعب:
أو تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، فقال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الإسلام، وقرأ القران، وذكر موسى بن عقبة أنه قرأ عليه أول سورة الزخرف، قالا:
فعرفنا- والله- في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله.
ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم، ودخلتم في هذا الدين؟
قالا: تغتسل، فتطّهر وتطهّر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلّي ركعتين، فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عائدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما راه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا:
سيدنا وأفضلنا رأيا وأيماننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فو الله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة.
ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال مسلمون ونساء مسلمات، إلا ما كان من الأصيرم «1» وهو عمرو بن ثابت بن وقش «2» ، فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم، واستشهد بأحد، ولم يصلّ لله سجدة قط، وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه من أهل الجنة.
وقد روى ابن إسحاق- بإسناد حسن- عن أبي هريرة أنه كان يقول:
«حدّثوني عن رجل دخل الجنة لم يصلّ صلاة قط، فإذا لم يعرفه الناس قال
__________
(1) بصاد مهملة تصغير أصرم، وبه كان يلقب أيضا، وقيل: أصرم، وقدمه البعض على المصغّر.
(2) بفتح الواو وسكون القاف، وشين معجمة، ويقال: أقيش، وقد ينسب إلى جده فيقال: ابن أقيش.(1/443)
هو أصيرم بني عبد الأشهل» ولم يكن في بني عبد الأشهل منافق ولا منافقة بل كانوا حنفاء مخلصين- رضي الله عنهم- وإلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخطمة، ووائل، وواقف، وهم من الأوس بن حارثة، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت واسمه صيفي، وقيل: الحارث، وقيل: عبيد الله، وكان شاعرا وقائدا لهم يستمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام حتى كان بعد الخندق، وقد اختلف في إسلامه، فالأكثرون- ابن إسحاق والزبير بن بكار والواقدي- على أنه لم يسلم، وأن الذي حال بينه وبين الإسلام بعد أن عزم عليه ابن أبيّ رأس النفاق، وقيل: إنه أسلم، والأول هو الصحيح «1» .
بيعة العقبة الثانية
ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة بعد أن دعا إلى الله بإخلاص وعزيمة صادقة، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، فوعدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العقبة من أوسط أيام التشريق حين أراد بهم ما أراد من كرامته ونصر نبيه، وإعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وذويه، وكان في القوم كعب بن مالك، والبراء بن معرور سيد من ساداتهم وكبير من كبرائهم، فقال لهم: إني قد رأيت رأيا فو الله ما أرى أتوافقونني عليه أم لا؟
فقالوا: وما ذاك؟ قال: قد رأيت ألاأدع هذه البنيّة- يعني الكعبة- مني بظهر، وأن أصلي إليها، فقالوا له: والله ما بلغنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلّي إلا إلى الشام- ببيت المقدس- وما نريد أن نخالفه، فكانوا إذا حضرت الصلاة صلّوا إلى بيت المقدس، وصلّى هو إلى الكعبة، واستمروا كذلك حتى قدموا مكة، وتعرفوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس مع عمه العباس بالمسجد الحرام، فسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم العباس: «هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل» ؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الشاعر؟» قال: نعم، فقصّ عليه البراء ما صنع في سفره من صلاته إلى الكعبة.
__________
(1) البداية والنهاية، ج 3 ص 156.(1/444)
وقال: فماذا ترى يا رسول الله؟ قال: «قد كنت على قبلة لو صبرت عليها» «1» قال كعب: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصلّى معنا إلى الشام، فلما حضرته الوفاة أمر أهله أن يوجهوه قبل الكعبة، ومات في صفر قبل قدومه صلّى الله عليه وسلّم بشهر، وأوصى بثلث ماله إلى النبي، فقبله وردّه على ولده، وهو أول من أوصى بثلث ماله.
إسلام عبد الله بن عمرو بن حرام
قال كعب- راوي القصة-: فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام- والد جابر- سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا أخذناه معنا، وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا، فكلّمناه، وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا، ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إيانا العقبة، فأسلم وشهد معنا العقبة، وكان نقيبا.
عدّة أصحاب العقبة الثانية
قال كعب: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان من
__________
(1) قال السهيلي في هذا الحديث: إنه لم يأمره بإعادة ما قد صلّى لأنه كان متأولا، وكان باجتهاد منه، وفي الحديث أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي بمكة إلى بيت المقدس، وهو قول ابن عباس. وقالت طائفة: ما صلّى إلى بيت المقدس إلا مذ قدم المدينة سبعة عشر شهرا أو ستة عشر شهرا، فعلى هذا يكون حصل في القبلة نسخان: نسخ سنة بسنة، ونسخ سنة بقران، وقد بيّن حديث ابن عباس منشأ الخلاف في هذه المسألة، فروي عنه من طرق صحاح: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا صلّى بمكة استقبل بيت المقدس، وجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، فلما كان عليه السلام يتحرى القبلتين جميعا لم يتبين توجهه إلى بيت المقدس للناس حتى خرج من مكة.(1/445)
نسائنا: نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني مازن بن النجار «1» ، والثانية: أسماء بنت عمرو بن عدي بن نابي إحدى نساء بني سلمة، وهي أم منيع، وقال الحاكم: كان عدتهم خمسة وسبعين رجلا وامرأة، وهو يزيد على ما ذكره ابن إسحاق.
وقال عروة بن الزبير وموسى بن عقبة: كانوا سبعين رجلا وامرأة واحدة، أربعون من ذوي أسنانهم، وثلاثون من شبانهم.
وقد تكفّل الإمام ابن إسحاق في سيرته بسرد أسمائهم، وقبائلهم، فمن أراد الاستقصاء فليرجع إليها «2» ، وإليك خلاصة ذلك على ما ذكره ابن كثير في بدايته «3» .
أسماء أصحاب بيعة العقبة الثانية
قال ابن كثير: وجملتهم على ما قال ابن إسحاق ثلاثة وسبعون رجلا، وامرأتان.
فمن الأوس أحد عشر رجلا: أسيد بن حضير أحد النقباء، وأبو الهيثم ابن التيّهان بدري أيضا، وسلمة بن سلامة بن وقش بدري، وظهير بن رافع، وأبو بردة بن نيار «4» بدري، ونهير بن الهيثم من بني نابي بن مجدعة بن حارثة، وسعد بن خيثمة أحد النقباء بدري، وقتل بها شهيدا، ورفاعة بن عبد المنذر بن زنير نقيب بدري، وعبد الله بن جبير بن النعمان بن أمية بن البرك بدري، وقتل يوم أحد شهيدا أميرا على الرماة، ومعن بن عدي بن الجد بن عجلان بن الحارث بن ضبيعة البلوي حليف للأوس، شهد بدرا، وما بعدها، وقتل باليمامة شهيدا، وعويم بن ساعدة شهد بدرا وما بعدها.
__________
(1) سيأتيك من بطولتها وتضحياتها في سبيل الإسلام، وما كان من شأن زوجها زيد بن عاصم، وولديها: حبيب، وعبد الله صفحات مشرقة في الجزء الثاني إن شاء الله تعالى.
(2) السيرة، ج 1 ص 454، 467.
(3) البداية والنهاية، ج 3 ص 166، 168.
(4) في البداية: دينار وهو تحريف والصحيح نيار كما في السيرة وغيرها.(1/446)
ومن الخزرج اثنان وستون رجلا: أبو أيوب خالد بن زيد شهد بدرا وما بعدها، ومات بأرض الروم زمن معاوية، ومعاذ بن الحارث، وأخواه عوف ومعوّذ، وهم بنو عفراء بدريون، وعمارة بن حزم شهد بدرا وما بعدها وقتل باليمامة، وأسعد بن زرارة أبو أمامة أحد النقباء مات قبل بدر، وسهل بن عتيك بدري، وأوس بن ثابت بن المنذر بدري، وأبو طلحة زيد بن سهل بدري، وقيس بن أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن كان أميرا على الساقة يوم بدر.
وعمرو بن غزية، وسعد بن الربيع أحد النقباء شهد بدرا وقتل يوم أحد شهيدا، وخارجة بن زيد بن أبي زهير بن مالك شهد بدرا، وقتل يوم أحد شهيدا، وعبد الله بن رواحة أحد النقباء شهد بدرا وأحدا والخندق، وقتل يوم مؤتة أميرا، وبشير بن سعد بدري، وعبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه الذي أري النداء «1» وهو بدري، وخلّاد بن سويد بدري أحدي خندقي، وقتل يوم قريظة شهيدا طرحت عليه رحى فشدخته، فيقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن له لأجر شهيدين» وأبو مسعود عقبة بن عمرو البدري، قال ابن إسحاق:
وهو أحدث من شهد العقبة سنا، ولم يشهد بدرا، وزياد بن لبيد بدري، وفروة بن عمرو بن ودقة، وخالد بن قيس بن مالك بدري، ورافع بن مالك أحد النقباء.
وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق، وهو الذي يقال له: مهاجري أنصاري لأنه أقام عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة حتى هاجر منها، وهو بدري قتل يوم أحد، وعبّاد بن قيس بن عامر بن خالد بن عامر بن زريق بدري، وأخوه الحارث بن قيس بن عامر بدري أيضا، والبراء بن معرور أحد النقباء، وأول من بايع فيما تزعم بنو سلمة، وقد مات قبل مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وابنه بشر بن البراء وقد شهد بدرا وأحدا والخندق، ومات بخيبر شهيدا من أكلة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الشاة المسمومة التي صنعتها زينب زوجة
__________
(1) أي الأذان.(1/447)
سلّام بن مشكم اليهودية، وسنان بن صيفي بن صخر بدري، والطفيل بن النعمان بن خنساء بدري، قتل يوم الخندق، ومعقل بن المنذر بن سرح بدري، وأخوه يزيد بن المنذر بدري، ومسعود بن يزيد بن سبيع.
والضحاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة بدري، ويزيد بن خذام بن سبيع، وجبار بن صخر بن أمية بن خنساء بن سنان بن عبيد بدري، والطفيل بن مالك بن خنساء بدري، وكعب بن مالك، وسليم بن عمرو بن حديدة بدري، وقطبة بن عامر بن حديدة بدري، وأخوه أبو المنذر يزيد بدري أيضا، وأبو اليسر كعب بن عمرو بدري، وصيفي بن أسود بن عباد.
وثعلبة بن غنمة بن عدي بن نابي بدري، واستشهد بالخندق، وأخوه عمرو بن غنمة بن عدي، وعبس بن عامر بن عدي بدري، وخالد بن عمرو بن عدي بن نابي، وعبد الله بن أنيس حليف لهم من قضاعة، وعبد الله بن عمرو بن حرام أحد النقباء، بدري واستشهد يوم أحد، وابنه جابر بن عبد الله، ومعاذ بن عمرو بن الجموح بدري، وثابت بن الجذع بدري وقتل شهيدا بالطائف، وعمير بن الحارث بن ثعلبة بدري، وخديج بن سلامة حليف لهم من بلي.
ومعاذ بن جبل شهد بدرا، وما بعدها، ومات بطاعون عمواس في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبادة بن الصامت أحد النقباء شهد بدرا وما بعدها، والعباس بن عبادة بن نضلة، وقد أقام بمكة حتى هاجر منها فكان يقال له: مهاجري أنصاري أيضا، وقتل يوم أحد شهيدا، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم حليف لهم من بلي، وعمرو بن الحارث بن لبدة، ورفاعة بن عمرو بن زيد بدري، وعقبة بن وهب بن كلدة حليف لهم بدري، وكان ممن خرج إلى مكة فأقام بها حتى هاجر منها، فهو ممن يقال له:
مهاجري أنصاري أيضا، وسعد بن عبادة بن دليم أحد النقباء، والمنذر بن عمرو نقيب بدري أحدي، وقتل يوم بئر معونة أميرا.
وأما المرأتان: فأم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية النجارية، والاخرى:
أم منيع أسماء بنت عمرو بن عدي السلمية.(1/448)
حضور العباس العقبة استيثاقا لأمر ابن أخيه
قال كعب: فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويستوثق له، فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج- وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج لخزرجها وأوسها- إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الان فدعوه، فإنه في عزّ ومنعة من قومه وبلده، فقالوا: قد سمعنا يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
مقالة العباس بن عبادة بن نضلة
ولما اجتمع القوم لبيعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري- وهو أحد الذين بايعوا العقبة الأولى- فقال: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الان، فهو- والله إن فعلتم- خزي الدنيا والاخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة «1» الأموال وقتل الأشراف، فخذوه، فهو- والله- خير الدنيا والاخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفّينا بذلك؟ قال:
«الجنة» قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه. وما أراد العباس- رضي الله عنه- بمقالته تلك إلا أن يشد العقد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أعناقهم.
عهد رسول الله على الأنصار والمبايعة
وتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتلا القران، ودعا إلى الله، ورغّب في الإسلام، ثم قال: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم، وأبناءكم» .
__________
(1) نقص.(1/449)
فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق نبيّا لنمنعنّك مما نمنع منه أزرنا «1» ، فبايعنا يا رسول الله، فنحن- والله- أبناء الحروب، وأهل الحلقة «2» ورثناها كابرا عن كابر، وكانت وصاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم أن يوجزوا في القول، فقد روى البيهقي أنه قال: «ليتكلم متكلمكم ولا يطل الخطبة فإن عليكم من المشركين عينا، وإن يعلموا بكم يفضحوكم» .
وإنه لتوجيه كريم يدل على بعد النظر، وأصالة الرأي، وحسن التدبير في هذا الاجتماع الخطير.
مقالة أبي الهيثم بن التّيّهان
ولما فرغ البراء بن معرور من مقالته قام أبو الهيثم بن التيهان فقال:
يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا «3» إنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «بل الدم الدم والهدم الهدم «4» ، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم» وقد وفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما قال بل وبأكثر مما قال، فقد عرف للأنصار فضلهم وسابقتهم، وأوصى بهم خيرا.
مقالة أسعد بن زرارة
وكان ممن تكلم أيضا السيد الجليل أسعد بن زرارة فقال: سل يا محمد
__________
(1) جمع إزار، أي نساءنا، والمرأة قد يكنى عنها بالإزار لأنها تحمى كما يحمى الإزار، أو المراد أنفسنا، وقد يعبر عن النفس بالإزار والثوب، ففي الكتاب الكريم: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قال بعض المفسرين: ونفسك فطهر، وقال عنترة العبسي:
فشككت بالرمح الأصمّ ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرّم
أي نفسه وذاته. فيجوز أن يراد به أيّ المعنيين.
(2) السلاح.
(3) عهودا والمراد ما كان بينهم وبين اليهود بالمدينة.
(4) كانت العرب تقولها عند عقد الحلف والجوار، أي ما هدمت من الدماء هدمت أنا أي أهدرت، وفسر ابن عباس الهدم بالحرمة يعني ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم، فالعبارة تفيد المبالغة في الوفاء بالعهد.(1/450)
لربك ما شئت، ثم سل لنفسك بعد ذلك ما شئت، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب إذا فعلنا ذلك، فقال: «أسئلكم لربي أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئا، وأسئلكم لنفسي وأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا، وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم» قالوا فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: «الجنة» قالوا: فلك ذلك.
أول من بايع
ثم أقبل الأنصار على مبايعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإخلاص وعزيمة، وقد اختلف الرواة في أول من بايع، فابن إسحاق يقول فيما يرويه عن كعب بن مالك إنه البراء بن معرور، وبنو النجار يزعمون أنه أبو أمامة أسعد بن زرارة، وهو الذي رواه ابن سعد في طبقاته عن العباس قال: أول من ضرب على يده صلّى الله عليه وسلّم تلك الليلة أسعد بن زرارة، ثم البراء بن معرور، ثم أسيد بن الحضير «1» .
وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم بن التيهان، وقال ابن الأثير في «أسد الغابة» : وبنو سلمة يزعمون أن أول من بايعه ليلتئذ كعب بن مالك.
ولعل السبب في هذا الاختلاف أن كلا من هؤلاء تكلم ثم قام فبايع، فأخبر من راه يبايع، ولم يكن علم بغيره أنه أول من بايع، ومثل هذه المواقف مما يحصل فيها الاشتباه، والأمر هيّن وبحسبهم فضلا وفاؤهم بما عاهدوا الله ونبيه عليه.
النقباء الاثنا عشر
وبعد أن بايع القوم على هذه الشروط قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أخرجوا منكم اثني عشر نقيبا يكونون كفلاء على قومهم بما فيهم» «2» فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا «3» : تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، وها هي أسماؤهم: (1) أبو أمامة
__________
(1) شرح المواهب، ج 1 ص 381- 382.
(2) أخذ هذا النبي من قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ، وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً، وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ... الاية 12 من سورة المائدة.
(3) النقيب: الرئيس المسؤول عن القوم.(1/451)
أسعد بن زرارة. (2) وسعد بن الربيع. (3) وعبد الله بن رواحة. (4) ورافع بن مالك بن العجلان. (5) والبراء بن معرور. (6) وعبد الله بن عمرو بن حرام.
(7) وعبادة بن الصامت. (8) وسعد بن عبادة. (9) والمنذر بن عمرو وهم من الخزرج. (10) وأسيد بن حضير. (11) وسعد بن خيثمة. (12) ورفاعة بن عبد المنذر وهؤلاء الثلاثة من الأوس.
قال ابن هشام: وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيّهان، ولا يعدون رفاعة، واستشهد بقصيدة كعب بن مالك في النقباء، فإنه ذكر فيهم «أبا الهيثم» ولم يذكر رفاعة «1» .
ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للنقباء: «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي» يعني المهاجرين. قالوا: نعم، فكان هذا إلزاما من الرسول لهم، والتزاما منه لهم.
إذن رسول الله لهم بالانصراف
ثم أذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الانصراف قائلا: «ارفضّوا «2» إلى رحالكم» وذلك مبالغة في الحيطة والحذر كي يبقى أمر الاجتماع في طي الكتمان، فقال العباس بن عبادة بن نضلة: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلنّ على أهل منى غدا بأسيافنا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم نؤمر بهذا، ولكن ارجعوا إلى رحالكم» فرجعوا إليها وباتوا حتى أصبحوا.
عند الصباح
وفي الصباح غدت جلّة قريش على الأنصار لمّا نمي إليهم نبأ البيعة، حتى جاؤوا إليهم في منازلهم، فقالوا: يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه- والله- ما من حيّ من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم.
فانبعث من هناك من المشركين يحلفون بالله ما كان من هذا شيء،
__________
(1) السيرة ج 1 ص 445.
(2) تفرقوا.(1/452)
وما علمناه، وصدقوا، فإنهم لم يعلموه، وأما المسلمون فصار بعضهم ينظر إلى بعض ولا يتكلم، ثم قام المشركون وفيهم الحارث بن هشام المخزومي وفي رجليه نعلان جديدان، فقال كعب: يا أبا جابر، أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟ فخلعهما الحارث من رجليه، ثم رمى بهما إلى كعب، وأقسم عليه لينتعلنّهما، فقال أبو جابر: مه، أحفظت والله- الفتى، فاردد إليه نعليه، فقال: والله لا أردهما، فأل- والله- صالح، لئن صدق الفأل لأسلبنّه.
ثم ذهب المشركون إلى عبد الله بن أبي، فقالوا له مثل ما قالوا للخزرج، فقال لهم: والله إن هذا الأمر جسيم، ما كان قومي ليتفوّتوا علي بمثل هذا وما علمته كان، فانصرفوا عنه.
تأكد قريش من صدق الخبر وطلبهم الأنصار
ثم نفر الناس من منى، وتنطّس»
المشركون من أهل مكة الخبر فوجدوه صادقا، فخرجوا في طلب الأنصار ولكنهم كانوا قد فاتوهم، ولم يدركوا إلا سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وكلاهما كان نقيبا، فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله «2» ، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته «3» ، وكان ذا شعر غزير، وقد بقي في أيديهم يلكمه اللاكم، ويضربه الضارب، حتى هتف باسم رجلين من أشراف قريش كان يجير لهما تجارتهما إذا مرّت بالمدينة، ويمنعهم من ظلمهم، فجاا إليه فخلّصاه من أيديهم، فانطلق وقد سلمت له نفسه راجعا إلى المدينة.
إسلام عمرو بن الجموح
لما رجع الأنصار الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة العقبة الثانية إلى المدينة
__________
(1) تنطس الخبر: أكثر من البحث عنه، والتنطّس: تدقيق النظر، ومنه الطبيب النطاسي أي البارع بعيد النظر.
(2) النسع: الشراك الذي يشد به الرحل.
(3) الجمة: ما يصل من الشعر إلى المنكبين، والمراد أنهم يشدونه من شعره.(1/453)
أظهروا الإسلام بها، وكان في قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك، منهم: عمرو بن الجموح من سادات بنى سلمة وأشرافهم، وكان قد اتخذ صنما من خشب في داره يقال له «مناة» كما كان الأشراف يصنعون، فلما أسلم فتيان بني سلمة منهم ابنه معاذ ومعاذ بن جبل، كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو هذا فيحملونه، فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة وفيها عذر الناس منكّسا على رأسه، فإذا أصبح قال: ويلكم من عدا على إلهنا هذه الليلة؟ ثم يغدو يلتمسه، حتى إذا وجده غسله، وطيّبه، وطهّره، ثم قال: والله لو أعلم من فعل بك هذا لأخزينه.
فإذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه ففعلوا مثل ذلك، فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى فيغسله، ويطيّبه، ويطهره. ثم يعدون عليه إذا أمسى، فيفعلون به مثل ذلك.
فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما فغسله وطيّبه، ثم جاء بسيفه، فعلّقه عليه، ثم قال له: إني والله لا أعلم من يصنع بك ما أرى، فإن كان فيك خير فامتنع، هذا السيف معك، فلما أمسى ونام عمرو غدوا عليه فأخذوا السيف من عنقه.
ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من ابار بني سلمة فيها عذر الناس، وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه، فجعل يتبعه حتى وجده في تلك البئر منكّسا مقرونا بكلب ميت، فلما راه أبصر شأنه وبان له صوابه، ورجع إليه عقله، وعلم أنها أصنام لا تضر ولا تنفع، فما إن كلّمه من أسلم من قومه حتى أسلم، وحسن إسلامه وقال- حين استبان له الرشد- يذكر صنمه هذا وما كان من أمره، ويشكر الله الذي أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة:
والله لو كنت إلها لم تكن ... أنت وكلب وسط بئر في قرن «1»
__________
(1) القرن: الحبل.(1/454)
أف لملقاك إلها مستدن ... الان فتشناك عن سوء الغبن «1»
الحمد لله العلي ذي المنن ... الواهب الرزاق ديّان الدين «2»
هو الذي أنقذني من قبل أن ... أكون في ظلمة قبر مرتهن
بأحمد المهدي النبي المؤتمن
من أوهام ابن إسحاق
وقد ذكر الإمام ابن إسحاق أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بايعهم في العقبة الثانية بيعة الحرب حين أذن الله لرسوله في القتال، وذلك أن الله تعالى لم يكن أذن لرسوله صلّى الله عليه وسلّم في الحرب، فلما أذن الله له فيها، وبايعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في العقبة الأخيرة على حرب الأحمر والأسود أخذ لنفسه واشترط على القوم لربه، وجعل لهم على الوفاء بذلك الجنة، ثم ذكر بعد أول ما نزل في القتال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا «3» .
وهذا من أوهام ابن إسحاق على جلالته، فالجهاد لم يشرع إلا في السنة الثانية من الهجرة كما فصّلنا القول في الجزء الثاني من هذا الكتاب، وقد وافقه على هذا الوهم ابن هشام أيضا.
وليس أدل على عدم فرضية الجهاد قبل العقبة من أن العباس بن عبادة بن نضلة لما قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: والله لو شئت لنميلنّ بأسيافنا على أهل منى غدا، فقال رسول الله: «لم نؤمر بهذا» .
__________
(1) مستدن: مستعبد ذليل، الغبن: السفه.
(2) الدين: جمع دينة وهي العادة، ويقال لها دين أيضا، ويجوز أن يراد بالدين الأديان أي هو ديان أهل الأديان، ولكن جمعها على الدين، لأنها ملل ونحل كما قالوا في جمع الحرة حرائر لأنهن في معنى الكرائم والعقائل.
(3) السيرة لابن هشام ج 1 ص 454، 467.(1/455)
الفصل الثامن الهجرة إلى المدينة
أسباب الهجرة
ها أنت قد رأيت طرفا من تعذيب المشركين للمسلمين ولا سيما ضعفاؤهم، وأن النبي قد أذن لهم في الهجرة إلى الحبشة، فهاجر بعضهم إلى الحبشة الهجرة الأولى، ثم هاجر الكثيرون منهم إليها الهجرة الثانية.
وها هي طلائع النور قد بدت من جهة يثرب- المدينة- بعد التقاء بأهلها في موسم الحج، فقد التقى بهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في العقبة الأولى والثانية، فامن من امن، وعاهد من عاهد منهم على الولاء والنصرة، وأن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم، ونساءهم، وأبناءهم، وما كان من انتشار الإسلام بين أهل المدينة انتشارا لم يكن يتوقعه أحد حتى أذهل ذلك مشركي مكة، وبذلك أصبح للمسلمين إخوان مؤمنون صادقون في دار أمن وإيمان، وإسلام وسلام، وهي المدينة «1» .
وقد الم المشركين وأقض مضاجعهم انتشار الإسلام بالمدينة هذا الانتشار السريع، فأوغلوا في إيذاء المسلمين، ونالوا منهم غاية النيل، وضيّقوا عليهم السبل والمسالك، فلم يكن لهم بدّ من الهجرة إليها، فقد أضحى لهم بها أهل
__________
(1) علم بالغلبة على مدينة الرسول، والظاهر أنها كانت معروفة بهذا الاسم في الجاهلية، وإن كان الاسم الغالب لها حينذاك «يثرب» ، حتى نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن تسميتها بيثرب فيما صحّ عنه، وسماها «طابة» و «طيبة» ، ولا يزال اسم المدينة هو الغالب، وأشهر الأسماء.(1/457)
بأهل، ودور بدور، وأيضا فلم تعد مكة بوقوفها في سبيل الإسلام والمسلمين صالحة لأن تكون مركزا لانتشار الدعوة الإسلامية، وأصبحت المدينة بفتح صدرها للإسلام والمسلمين جديرة بأن تكون مركزا لانتشار هذه الدعوة، فكان من الضروري أن تنتقل الدعوة من مكة إلى المدينة وهذا ما كان.
إذن النبي لأصحابه في الهجرة
وكان الصحابة يشتكون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يجدونه من المشركين من الأذى والعنت، فيثبتهم، ويصبرهم، ويعدهم فرجا ومخرجا من هذا الكرب.
وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد رأى فيما يرى النائم أنه هاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب ظنه إلى أنها اليمامة، أو هجر «1» ، ثم استبان له صلّى الله عليه وسلّم أنها المدينة، ففي صحيح البخاري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين «2» » وهما الحرتان «3» .
فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم إليهم بعد هذه الرؤية مسرورا وقال: «قد أريت دار هجرتكم وهي يثرب، فمن أراد أن يخرج فليخرج إليها» وقال: «إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها» وقد صادف هذا الإذن بالهجرة إلى المدينة هوى في نفوسهم، فخرجوا إليها أرسالا «4» وفرادى، منهم من خرج مستعلنا كالفاروق عمر- رضي الله عنه- ومن صحبه، وأبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، ومنهم من خرج مستخفيا وهم الضعفاء والموالي كصهيب الرومي، ورجع الكثيرون ممن هاجر إلى الحبشة إلى مكة، ثم هاجروا منها إلى المدينة.
__________
(1) اليمامة: بلد بنجد بالجزيرة، هجر: بلد بالبحرين، وهي من بلاد عبد القيس، وقد سبقوا غيرهم من القرى إلى الإسلام.
(2) اللابة، والحرة: أرض ذات حجارة سود نخرة، والمدينة بين حرتين.
(3) صحيح البخاري- باب هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة.
(4) جمع رسل- بفتح الراء والسين- أفواجا وجماعات.(1/458)
متى كان الإذن بالهجرة
والذي ظهر لي بعد البحث والتأمل أن الإذن في الهجرة كان بعيد بيعة العقبة الأولى، وأن ذلك كان قبل بيعة العقبة الثانية بنحو عام، كما تدل على ذلك قصة هجرة أبي سلمة وزوجه أم سلمة الاتية عند ابن إسحاق، وكما قال موسى بن عقبة في «مغازيه» «1» .
أول من هاجر إلى المدينة
وكان أول من هاجر إليها سيدنا أبو سلمة بن عبد الأسد «2» ، وذلك قبل بيعة العقبة الثانية بسنة، وكان قد عاد من الحبشة إلى مكة، فاذاه أهلها، فلما بلغه إسلام من أسلم من الأنصار، وأذن النبي لأصحابه كان أول مهاجر إليها، وكان خرج بزوجه أم سلمة، ومعهما ابنهما سلمة، فخرج يقود بهما بعيره، فلما رأته رجال من بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم- وهم عشيرة زوجه وابنة عمه أم سلمة- قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك قد غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتك هذه، علام نتركك تسير بها في البلاد؟ فنزعوا خطام البعير من يده، وانتزعوها منه، فغضب عند ذلك بنو عبد الأسد- رهط أبي سلمة- فقالوا:
والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا، فتجاذبوا «سلمة» فيما بينهم حتى خلعت يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وأما أم سلمة فقد حبسها بنو المغيرة عندهم، وفرّقوا بينها وبين زوجها وولدها، ومع كل هذا انطلق أبو سلمة إلى الله مهاجرا، ولم يلو على أهل، ولا ولد، ولا مال حتى وصل إلى قباء فأقام بها حتى وصلت إليه زوجه بعد عام.
محنة أم سلمة
أما أم سلمة فكانت تخرج كل غداة فتجلس في الأبطح، فما تزال تبكي
__________
(1) شرح المواهب ج 1 ص 384.
(2) هو أخو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الرضاع، أرضعتهما ثويبة جارية أبي لهب، وابن عمته برة بنت عبد المطلب. وهو من السابقين الأولين، ومن خيار المسلمين، استشهد بعد أحد في أوائل السنة الرابعة للهجرة.(1/459)
حتى تمسي، سنة أو قريبا منها، حتى مر بها رجل من بني عمها، فرأى ما بها، وحزنها على فراق زوجها، فرق لها ورحمها، وذهب لأهلها وقال لهم:
ألا تخرجون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟! فقالوا لها:
الحقي بزوجك إن شئت، وحينئذ ردّ بنو عبد الأسد إليها ابنها سلمة، وسأدع السيدة الجليلة أم سلمة تتحدث عن هجرتها قالت:
فارتحلت بعيري، ثم أخذت ابني- سلمة- فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله، فقلت: أتبلّغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم «1» لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار، فقال: إلى أين يا ابنة أبي أمية «2» ؟
فقلت: أريد زوجي بالمدينة، قال: أوما معك أحد؟! فقلت: لا والله إلا الله، وبنيّ هذا قال: والله مالك من مترك، فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي بي، فو الله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل «3» أناخ بي- أي البعير- ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحطّ عنه- أي الرحل- ثم قيده في الشجرة، ثم تنحّى عني إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فرحله «4» ، ثم استأخر عني وقال: اركبي، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى، فأخذ بخطامه فقاده حتى ينزل بي.
فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء، قال: زوجك في هذه القرية- وكان أبو سلمة بها نازلا- فادخليها على بركة الله ثم انصرف راجعا إلى مكة، فكانت السيدة
__________
(1) موضع بين مكة وسرف على فرسخين من مكة.
(2) هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي، وهي ابنة عم أبي سلمة، وكانت تكنى هي وزوجها بابنهما سلمة.
(3) المكان الذي يستريحون فيه في السفر.
(4) وضع عليه الرحل، وهو للبعير كالسرج للفرس.(1/460)
أم سلمة تقول: والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب ال أبي سلمة، وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة «1» .
وإن لنا هنا لوقفة عند قصة عثمان هذا، فقد كان يومئذ كافرا، لأنه لم يسلم إلا أوائل عام الفتح، وهي تشهد لما ذكرته من نفاسة معدن العرب، وفضائلهم في الجاهلية، ولا سيما خلق المروءة والنجدة، وحماية الضعيف، فقد أبت عليه مروءته وخلقه العربي الأصيل أن يدع امرأة شريفة تسير واحدها في هذه الصحراء الموحشة، وإن كانت على غير دينه، وهو يعلم أنها بهجرتها تراغمه وأمثاله من كفار قريش!!
فأين من هذه الأخلاق- يا قومي المسلمين والعرب- أخلاق الحضارة في القرن العشرين، من سطو على الحريات، واغتصاب للأعراض، بل وعلى قارعة الطريق، وما تطالعنا به الصحافة كل يوم من أحداث يندى لها جبين الإنسانية، ومن تفنن في وسائل الاغتصاب، وانتهاك الأعراض، والسطو على الأموال.
إن هذه القصة- ولها مثل ونظائر- لتشهد لما قلته حينما تحدثت عن العرب من أن رصيدهم في الفضائل كان أكثر من مثالبهم ورذائلهم، فمن ثمّ اختار الله منهم خاتم أنبيائه ورسله، وكانوا أهلا لحمل الرسالة وتبليغها إلى الناس كافة.
هجرة عامر بن ربيعة وزوجه
ثم قدمها بعد أبي سلمة عامر بن ربيعة حليف بني عدي بن كعب، ومعه زوجه السيدة ليلى بنت أبي حثمة، قال الإمام ابن عبد البر: إنها أول ظعينة «2» قدمت المدينة، وقال موسى بن عقبة: أول ظعينة السيدة أم سلمة، ولكل وجهة، فالسيدة أم سلمة أول من خرجت مهاجرة من النساء، ولولا منع أهلها
__________
(1) أسلم عثمان بن طلحة بعد الحديبية، وهاجر إلى المدينة في صفر عام ثمان، وقد قتل أبوه، وإخوته: الحارث، وكلاب، ومسافع، وعمه عثمان بن أبي طلحة يوم أحد.
(2) الظعينة: المرأة تركب البعير.(1/461)
لها لكانت أول من وصلت المدينة، والسيدة ليلى أول من وصلت إليها من النساء.
هجرة مصعب، وابن أم مكتوم، وبلال، وسعد، وعمار
ثم تتابع المسلمون سراعا إلى الهجرة، فهاجر مصعب بن عمير، وعبد الله ابن أم مكتوم، وكانا يقرئان القران للأنصار، وبلال بن رباح، وسعد بن أبي وقاص- رضي الله عنهم-. روى البخاري في صحيحه بسنده عن البراء بن عازب قال: «أول من قدم علينا- زاد في رواية الحاكم في الإكليل:
من المهاجرين- مصعب بن عمير وابن أم مكتوم» .
بنو جحش
ثم هاجر بنو جحش: عبد الله بن جحش بن رياب الأسدي، ينتهي نسبه إلى أسد بن خزيمة حليف بني أمية بن عبد شمس، احتمل بأهله، ومعه أخوه أبو أحمد عبد بن جحش «1» ، وكان أبو أحمد رجلا ضرير البصر، وكان يطوف مكة أعلاها وأسفلها بلا قائد، وكان شاعرا، وكانت عنده الفارعة بنت أبي سفيان بن حرب، وكان معهما محمد بن عبد الله بن جحش، وكان منزلهما ومنزل أبي سلمة بن عبد الأسد على مبشّر بن عبد المنذر بقباء في بني عمرو بن عوف.
وكذلك هاجر نساؤهم: زينب بنت جحش، وحمنة بنت جحش- زوج مصعب بن عمير- وأم حبيب بنت جحش- زوجة عبد الرحمن بن عوف، فغلّقت دار بني جحش بسبب الهجرة، فمر بها عتبة بن ربيعة، والعباس بن عبد المطلب، وأبو جهل بن هشام، وهم مصعدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها عتبة تخفق أبوابها يبابا «2» ليس بها ساكن، فلما راها كذلك تنفّس الصعداء ثم قال:
__________
(1) عبد من غير إضافة، وكانوا ثلاثة: عبد الله، وعبيد الله، وعبد. أما عبيد الله فقد هاجر إلى الحبشة مع زوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، ثم تنصّر ومات هناك، وأما عبد الله فقد استشهد بأحد، وأما عبد فطالت به الحياة، وهم أولاد أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(2) قفرا.(1/462)
كل دار وإن طالت سلامتها ... يوما ستدركها النكباء والحوب «1»
ثم قال عتبة: أصبحت دار بني جحش خلاء من أهلها، فقال أبو جهل:
وما تبكي من فل ابن فل «2» ، ثم قال للعباس: هذا من عمل ابن أخيك هذا، فرّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وقطع بيننا.
وقد عدا أبو سفيان بن حرب على دار بني جحش فتملكها، وقيل: باعها من عمرو بن علقمة العامري، فذكر ذلك عبد الله بن جحش- لما بلغه- لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له: «ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا في الجنة خيرا منها» ؟ قال: بلى، قال: «فذلك لك» .
فلما فتحت مكة كلّم أبو أحمد عبد بن جحش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في دارهم، فأبطأ عليه الرسول، فقال الناس: يا أبا أحمد إنه- صلّى الله عليه وسلّم- يكره أن ترجعوا في شيء أصيب منكم في الله، فأمسك أبو أحمد عن الكلام في ذلك، وقد سجل أبو أحمد هجرة بني جحش في قصيدة له «3» .
بنو غنم بن دودان
ثم قدم المسلمون أرسالا، وكان بنو غنم بن دودان أهل إسلام قد أوعبوا إلى المدينة هجرة: رجالهم ونساؤهم، منهم- غير بني جحش ونسائهم-:
عكاشة بن محصن، وشجاع وعقبة ابنا وهب، وأربد بن حميرة «4» ، ومنقذ بن نباتة، وسعيد بن رقيش، ومحرز بن نضلة، ويزيد بن رقيش وغيرهم.
ومن نسائهم: جذامة بنت جندل، وأم قيس بنت حصن، وأم حبيب بنت ثمامة، وامنة بنت رقيش، وسخبرة بنت تميم «5» .
__________
(1) الحوب: التوجع. وهذا البيت لأبي دؤاد الإيادي في قصيدة له.
(2) هكذا في السيرة لابن إسحاق، وفل: فلان، وفي السيرة لابن هشام «من قل» بالقاف، قال ابن هشام: القل: الواحد، واستشهد ببيت لبيد بن ربيعة.
(3) سيرة ابن هشام ج 1 ص 472، 473.
(4) بضم الحاء، وفتح الميم، وتشديد الياء المكسورة، وقال ابن هشام: ويقال: ابن حميرة بإسكان الياء.
(5) السيرة ج 1 ص 470- 472؛ والبداية والنهاية ج 3 ص 170، 171.(1/463)
هجرة عمر بن الخطاب، وعيّاش في ركب من المسلمين
ثم هاجر الفاروق عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وكان تواعد هو وعيّاش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل السهمي على مكان من أضاة بني غفار «1» ، وقالوا: أينا لم يصبح فقد حبس، فليمض صاحباه، قال عمر: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند هذا المكان، وحبس هشام، وفتن فافتتن.
وقد أخرج ابن عساكر وغيره عن علي- رضي الله عنه- قال: ما علمت أن أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما همّ بالهجرة تقلّد سيفه، وتنكّب قوسه، وأخرج أسهما من كنانته، وجعلها في يديه، واختصر عنزته «2» ، ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعا، ثم أتى المقام فصلّى ركعتين، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة فقال لهم: شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس «3» ، من أراد أن تثكله أمه، أو يؤتم ولده، أو ترمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي، فما تبعه أحد إلا قوم من المستضعفين علّمهم ما أرشدهم إليه، ثم مضى لوجهه، وقد صحبه في هجرته بعض أهله وقومه. كما صحبه بعض المستضعفين ليحتموا به.
وكان في ركب عمر نحو من عشرين راكبا، منهم: زيد بن الخطاب «4» ، وعيّاش بن أبي ربيعة، وعمرو وعبد الله ابنا سراقة بن المعتمر العدوي،
__________
(1) موضع على عشرة أميال من مكة.
(2) حملها مضمومة إلى خاصرته، والعنزة: العصا.
(3) شاهت: قبحت. لا يرغم الله: لا يلصق بالرغام وهو التراب. إلا هذه المعاطس: الأنوف.
(4) أخو عمر، وهو أسن منه، أسلم قبله، وشهد بدرا والمشاهد، واستشهد باليمامة وراية المسلمين بيده سنة اثنتي عشرة، وحزن عليه عمر حزنا شديدا، وكان يقول: سبقني إلى الحسنيين: أسلم قبلي، واستشهد قبلي، ولما رثى متمم بن نويرة أخاه مالكا في شعره قال له: لو كنت أحسن الشعر لرثيت أخي مثل ما رثيت أخاك، فقال متمم: لو مات أخي على ما مات عليه أخوك لما رثيته، فقال عمر: ما عزاني أحد بمثل ما عزيتني به.(1/464)
وخنيس بن حذافة السهمي «1» ، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ابن عم عمر وزوج أخته فاطمة، وواقد بن عبد الله التميمي حليف لهم، وخولي بن أبي خولي، ومالك بن أبي خولي حليفان لهم، وبنو البكير الأربعة: إياس، وعاقل، وعامر، وخالد.
ولم يذكر ابن إسحاق غير هؤلاء الثلاثة عشر، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: «فلعل الباقين كانوا من أتباعهم» فنزل سيدنا عمر ومن معه، وحلفاؤهم من بني سعد بن ليث على رفاعة بن عبد المنذر في بني عمرو بن عوف بقباء.
قصة أبي جهل مع عياش
ولما قدموا المدينة خرج أبو جهل بن هشام وأخوه الحارث إلى عياش بن أبي ربيعة»
، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما حتى قدما المدينة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يزال بمكة، فكلم أبو جهل عياشا، وقال له: إن أمك نذرت ألايمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل عن شمس حتى تراك، فرقّ لها، فقال له عمر: إنه- والله- ما يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فو الله لو اذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حرّ مكة لاستظلت، فقال له: أبر قسم أمي، ولي هناك مال فاخذه، فقال له عمر: والله إنك لتعلم إني لمن أكثر قريش مالا فلك نصف مالي، ولا تذهب معهما، ولكنه أبى عليه إلا أن يخرج معهما فقال له: أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها.
فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال أبو جهل: يا ابن أخي والله- لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني «3» على ناقتك هذه؟ قال: بلى، فأناخ عياش، وأناخا ليتحول عليها، فلما استوى بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه،
__________
(1) كان صهر عمر على ابنته حفصة واستشهد في بدر.
(2) اسم أبي ربيعة: عمرو- ويلقب: ذا الرمحين- ابن المغيرة، بن عبد الله، بن عمر، ابن مخزوم القرشي من السابقين الأولين، وهاجر الهجرتين.
(3) أي تجعلني أعقبك عليها لركوبها.(1/465)
وربطاه، ثم دخلا به مكة وفتناه، فافتتن، وكان دخولهما به مكة نهارا موثقا، فصارا يقولان: يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا.
كتاب عمر لهشام
وروى ابن إسحاق بسنده عن عمر قال: فكنّا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة، قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم، وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة أنزل الله تعالى فيهم، وفي قولنا، وقولهم لأنفسهم:
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) «1» .
فكتبها عمر بيده في صحيفة وبعث بها إلى هشام بن العاص، قال هشام:
فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى «2» أصعّد فيها وأصوّب، ولا أفهمها حتى قلت: اللهمّ فهّمنيها، قال: فألقى الله في قلبي أنها إنما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، قال: فرجعت إلى بعيري فركبت عليه ثم لحقت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بالمدينة.
هذا ما ذكره ابن إسحاق.
وقال ابن هشام: حدثني من أثق به أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال وهو بالمدينة:
«من لي بعيّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص؟» فقال الوليد بن الوليد «3» بن المغيرة: أنا لك يا رسول الله بهما، فخرج إلى مكة فدخلها
__________
(1) الايات 53- 55 من سورة الزمر.
(2) بالقصر مكان بأسفل مكة.
(3) أخو خالد أسلم قبله، وهاجر الهجرتين، وكان له قصة مع خالد في إسلامه ستأتي.(1/466)
مستخفيا، فلقي امرأة تحمل طعاما فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ قالت:
أريد هذين المحبوسين- تعنيهما- فتبعها حتى عرف موضعهما، وكانا محبوسين في بيت لا سقف له، فلما أمسى تسوّر عليهما، ثم أخذ مروة «1» ، فوضعها تحت قيديهما، ثم ضربهما بسيفه فقطعهما، فكان يقال لسيفه «ذو المروة» لذلك، ثم حملهما على بعيره، وساق بهما، فعثر فدميت إصبعه فقال:
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
ثم قدم بهما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة.
هجرة صهيب بن سنان الرومي
ولما أراد صهيب- رضي الله عنه- أن يهاجر قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك، فقال لهم: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلّون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فإني جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ربح صهيب، ربح صهيب» . هكذا قال ابن هشام في السيرة.
وروى الإمام البيهقي بسنده قصة هجرة صهيب على نحو اخر قال: قال صهيب: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخرج معه أبو بكر، وكنت قد هممت معه بالخروج، فصدني فتيان من قريش، فجعلت ليلتي تلك أقوم لا أقعد، فقالوا:
قد شغله الله عنكم ببطنه- ولم أكن شاكيا- «2» ، فناموا فخرجت منهم يعني متسللا، فلحقني أناس بعدما سرت يريدون ليردوني، فقلت لهم: إن أعطيتكم أواقيّ من ذهب تخلّوا سبيلي وتوفون لي؟ ففعلوا، فتبعتهم إلى مكة فقلت:
احفروا تحت أسكفة «3» الباب، فإن بها أواقي، واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين، وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقباء قبل أن يتحول عنها، فلما راني قال: «يا أبا يحيى ربح البيع» ، فقلت: يا رسول الله ما سبقني إليك
__________
(1) يعني قطعة من الحجر.
(2) يعني أنه تصنّع ذلك، ولم يكن به مرض كي يفلت منهم.
(3) عتبة الباب.(1/467)
أحد، وما أخبرك إلا جبريل عليه السلام: وكان نزول صهيب بن سنان على خبيب بن إساف «1» أخي بلحارث بن الخزرج بالسّنح.
منازل المهاجرين بالمدينة
منزل طلحة بن عبيد الله: ونزل طلحة بن عبيد الله بن عثمان على خبيب بن إساف الذي نزل عليه صهيب، وقيل: إنه نزل على أسعد بن زرارة نقيب بني النجار.
منزل حمزة واخرين: ونزل حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو مرثد كناز بن حصن، قال ابن هشام ويقال: ابن حصين وابنه مرثد الغنويان حليفا حمزة بن عبد المطلب، وأنسة «2» ، وأبو كبشة «3» ، موليا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، على كلثوم بن الهدم أخي بني عمرو بن عوف بقباء، ويقال: بل نزلوا على سعد بن خيثمة، ويقال: نزل حمزة على أسعد بن زرارة أخي بني النجار.
منزل عبيدة بن الحارث واخرين: ونزل عبيدة بن الحارث بن المطلب، وأخوه الطفيل بن الحارث، والحصين بن الحارث، ومسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، وسويبط بن سعد بن حريملة أخو بني عبد الدار،
__________
(1) ولم يكن حين نزول المهاجرين عليه مسلما، بل تأخر إسلامه حتى خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بدر- كما قال ابن عبد البر- في الاستيعاب، وخبيب هذا هو الذي خلف على بنت خارجة بن زيد بعد وفاة الصديق، وقد مات في خلافة عثمان، وهو جد خبيب بن عبد الرحمن الذي يروي عنه الإمام مالك في الموطأ.
(2) كان من مولدي السراة، ويكنى «أبا مسروح» شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومات في خلافة أبي بكر رضي الله عنه.
(3) أصله من فارس ويقال: هو من مولدي أرض دوس، واسم أبي كبشة سليم، وقد شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله، ومات في خلافة عمر في اليوم الذي ولد فيه عروة بن الزبير، وأما الذي كانت قريش تنسب النبي إليه فالصحيح أنه أبوه من الرضاع كما قدمنا.(1/468)
وطليب بن عمير أخو بني عبد بن قصي، وخباب مولى عتبة بن غزوان على عبد الله بن سلمة أخي بلعجلان بقباء.
منزل عبد الرحمن بن عوف في اخرين: ونزل عبد الرحمن بن عوف في رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع أخي بلحارث بن الخزرج في دارهم.
منزل الزبير وأبي سبرة: ونزل الزبير بن العوام، وأبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى على منذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح بالعصبة- دارهم.
منزل مصعب بن عمير: ونزل مصعب بن عمير بن هاشم أخو بني عبد الدار على سعد بن معاذ بن النعمان أخي بني عبد الأشهل في دار عبد الأشهل.
منزل أبي حذيفة وسالم مولاه: ونزل أبو حذيفة بن عتبة وسالم مولاه على سلمة «1» ، وقال الأموي: على خبيب بن إساف أخي بني حارثة.
منزل عتبة بن غزوان: ونزل عتبة بن غزوان بن جابر على عباد بن بشر بن وقش أخي بني عبد الأشهل في دار عبد الأشهل.
منزل عثمان بن عفان: ونزل عثمان بن عفان على أوس بن ثابت بن المنذر أخي حسان بن ثابت في دار بني النجار، فلذلك كان حسان يحب ذا النورين عثمان، وبكاه لما قتل.
وكان يقال: إن الأعزاب من المهاجرين نزلوا على سعد بن خيثمة، وذلك أنه كان عزبا، فكان أيسر لهم، وأبعد من الحرج.
__________
(1) هكذا في «البداية والنهاية» وعزاه لابن إسحاق، وأما السيرة لابن هشام فلم تذكره.(1/469)
هجرة النبي صلّى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة
من بقي مع النبي بمكة
وهكذا هاجر المسلمون جماعات وفرادى، وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة بعد أصحابه من المهاجرين رجاء أن يؤذن له في الهجرة، ولم يبق بمكة من أصحابه إلا من فتن وحبسه المشركون، وإلا أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما- فقد تخلّفا معه.
وكان الصدّيق قد همّ بالهجرة إلى المدينة فقال له النبي: «لا تعجّل لعل الله يجعل لك صاحبا» فيفهم أبو بكر أن النبي يعني بالصاحب نفسه، ففي صحيح البخاري في سياق حديث الهجرة الطويل: «وتجهّز أبو بكر قبل المدينة، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «على رسلك «1» ، فإني أرجو أن يؤذن لي» فقال: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: «نعم» فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السّمر- وهو الخبط- «2» أربعة أشهر ... » استعدادا للهجرة إلى المدينة.
ائتمار قريش برسول الله
ولما رأت قريش أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أصبح له أتباع كثيرون، وأنصار من أهل المدينة يفدونه بأنفسهم وأهليهم وأولادهم وأن أصحابه من المهاجرين قد
__________
(1) بكسر الراء على مهلك.
(2) السمر بفتح السين، وضم الميم: شجرة تسمى أم غيلان، وقيل ورق الطلح. والخبط بفتح الخاء والباء: ما يخبط بالعصى فيسقط من ورق الشجر.(1/470)
أمسوا بدار أمان وعزّ ومنعة بعد أن هاجروا إليها، وتجمعوا فيها، فحذروا خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم، وحينئذ تكون الطامة، فإنهم لا يلبثون أن يحاربوهم، ويغتضوا عليهم بلدهم، ويدخلوها عليهم.
فاجتمع أشرافهم ورؤساؤهم في دار الندوة- وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها «1» - يتشاورون في أمر النبي الذي أقضّ مضاجعهم، وأصبحت له ولأصحابه قوة تهددهم، واعترضهم إبليس في صورة شيخ نجدي عليه بتّ «2» ، فلما رأوه واقفا على الباب قالوا: من الشيخ؟
قال: شيخ من نجد «3» سمع بالذي اتّعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألايعدمكم منه رأيا ونصحا، قالوا: أجل، فادخل، فدخل معهم.
وقد اجتمع فيها أشراف من قريش منهم من بني عبد شمس: عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، وأبو سفيان بن حرب، ومن بني مخزوم: أبو جهل بن هشام، ومن بني نوفل بن عبد مناف: طعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم، ومن بني عبد الدار: النضر بن الحارث بن كلدة، ومن بني أسد بن عبد العزّى:
أبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود بن المطلب، وحكيم بن حزام، ومن
__________
(1) قال في شرح المواهب، ج 1 ص 387: قال الماوردي صارت بعد قصي لولده عبد الدار، فبقيت في نسله حتى اشتراها معاوية بن أبي سفيان من عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وجعلها دار الإمارة، وقبل لما حج معاوية اشتراها من الزبير العبدري بمائة ألف درهم، ثم صارت كلها في المسجد الحرام بعد توسعته. وقال السهيلي: صارت بعد بني عبد الدار إلى حكيم بن حزام، فباعها في الإسلام بمائة ألف زمن معاوية، فلامه وقال له: أبعت مكرمة ابائك وشرفهم؟! فقال حكيم: ذهبت والله- المكارم إلا التقوى، والله لقد اشتريتها في الجاهلية بزق خمر، وقد بعتها بمائة ألف، وأشهدكم أن ثمنها في سبيل الله، فأينا المغبون؟!!
(2) كساء غليظ.
(3) قال السهيلي في الروض: وإنما قال لهم إنه من أهل نجد فيما ذكر بعض أهل السير، لأنهم قالوا: لا يدخل معكم في المشاورة أحد من أهل تهامة، لأن هواهم مع محمد، فلذلك تمثل في صورة شيخ نجدي.(1/471)
بني جمح: أمية بن خلف، ومن بني سهم نبيه ومنبّه ابنا الحجاج، وغيرهم ممن لا يعد من قريش.
فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيا، فتشاوروا، فقال قائل منهم- وهو أبو البختري بن هشام-: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا، ثم تربّصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله: زهيرا والنابغة، ومن مضى منهم حتى يأتيه الموت.
فقال الشيخ النجدي: لا، والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجنّ أمره من وراء الباب إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من بين أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي فانظروا غيره.
فتشاوروا، ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فإذا أخرج عنّا فو الله ما نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، وتعود لنا واحدتنا وإلفتنا كما كانت.
فقال الشيخ النجدي: ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال، فو الله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب فيتابعوه، ثم يسير بهم إليكم حتى يغلبكم، وينتزع الأمر من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد، أديروا فيه رأيا غير هذا.
فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد، قالوا: ما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا، نسيبا وسيطا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه، فإنهم إن فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعها، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منا بالعقل «1» فعقلناه لهم.
__________
(1) العقل: الدية، سميت بذلك لأنهم كانوا يعقلون الإبل التي يقدمونها في الدية بالعقل جمع عقال، وهو الحبل الذي تشد به الإبل حتى لا تفلت.(1/472)
فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي ولا رأي غيره، فتفرق القوم وهم مجمعون على هذا.
إذن الله لنبيه في الهجرة
وهكذا بيّت المشركون أمرا، وبيّت الله أمرا، وأرادوا أن يكيدوا النبي، فرد الله كيدهم في نحرهم، فنزل جبريل على النبي صلّى الله عليه وسلّم مخبرا له بما كادوه به، ومخبرا له بأن الله أذن له في الهجرة، وألاينام على فراشه الذي كان يبيت عليه، وقد أنزل الله «1» سبحانه في شأن هذه المؤامرة قوله:
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ «2» وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) «3» .
إخبار الصديق بالإذن في الهجرة
وكان من عادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يأتي بيت أبي بكر كل يوم مرتين: بكرة وعشية، قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة «4» قال قائل «5» لأبي بكر: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متقنعا «6» في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر! فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستأذن فأذن له، فدخل، فاستأخر أبو بكر عن
__________
(1) قيل نزلت على النبي وهو بمكة، وقيل وهو في طريقه إلى المدينة، أو بعد وصوله إليها.
(2) قد يقول قائل: ما بال الترتيب في الاية لم يجىء على حسب الواقع، ولم وسّط القتل مع أنه كان في المشاورة اخرا؟ والجواب: أن هذا من عجيب أسلوب القران، وبديع طريقته، ذلك أن الرأي الذي اختاروه هو القتل، فجاءت الاية على هذا النسق البديع من توسيط القتل بين الحبس والإخراج، لتدل الاية بوضعها وترتيبها على الرأي الوسط المختار، وهو سر من أسرار الإعجاز، فلله ربّ التنزيل ما أكرمه وأبلغه.
(3) الاية 30 من سورة الأنفال.
(4) أول الزوال وهو أشد ما يكون من حرارة النهار.
(5) الظاهر أنها ابنته أسماء.
(6) مغطيا رأسه.(1/473)
السرير حتى جلس عليه، فقال لأبي بكر: «أخرج من عندك» فقال أبو بكر:
إنما هم أهلك «1» بأبي أنت يا رسول الله.
قال النبي: «فإني قد أذن لي في الخروج» فقال أبو بكر وهو يبكي من الفرح: الصحبة «2» يا رسول الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم» قالت عائشة:
فو الله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ!!
ثم قال الصديق: يا نبي الله، إن هاتين راحلتان كنت أعددتهما لهذا، فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«بالثمن» «3» واستأجرا عبد الله بن أريقط رجلا من بني الدئل بن بكر، وكانت أمه من بني سهم بن عمرو، وكان مشركا يدلهما على الطريق، ودفعا إليه الراحلتين اللتين أعدهما الصديق- رضي الله عنه- للهجرة، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما الذي واعداه بعد ثلاث.
تجهيز طعام السفر
واشتركت أسماء وعائشة ابنتا الصديق في تجهيز السفرة التي سيأخذها المهاجران، ووضعتاها في جراب «4» ، فلما أرادتا ربط فم الجراب لم تجدا شيئا،
__________
(1) هكذا في صحيح البخاري، وفي السيرة: إنما هما ابنتاي، وقد فسرت المراد بالأهل، فعائشة كان عقد عليها النبي، وأسماء صارت بمنزلة الأهل بعد خطبة أختها، أو أن هذا من أبي بكر تنزيل لأهله منزلة أهل النبي.
(2) أي أريد الصحبة.
(3) إنما اشترط النبي أن يكون ذلك بالثمن مع أن أبا بكر أنفق ماله في سبيل الله ورسوله، لأنه أحب ألاتكون هجرته إلا من مال نفسه، وكان ثمنها أربعمائة درهم، وقد قال الواقدي: إن هذه الناقة هي القصواء، وأنها كانت من نعم بني قشير، وقد عاشت بعد النبي قليلا، وكانت مرسلة ترعى في البقيع، وماتت في خلافة أبي بكر، وذكر ابن إسحاق أنها الجدعاء، وكانت من إبل بني الحريش، وكذا روى ابن حبان من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أنها الجدعاء. (فتح الباري، ج 7 ص 187) .
(4) الوعاء من الجلد.(1/474)
فشقّت السيدة أسماء نطاقها «1» نصفين، فربطت فم الجرب بنصفه وانتطقت بالاخر، فلذلك سميت ذات النطاقين أو ذات النطاق.
وقال ابن سعد: شقّت نطاقها فأوكأت بنصف منه الجراب، وشدّت فم القربة بالاخر، فسميت ذات النطاقين، وقد ذكر ابن إسحاق في سيرته قصة النطاق بعد خروج النبي وصاحبه بالغار لما جاءهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيريهما، وفي صحيح البخاري أن القصة كانت في بيت الصديق قبل خروج النبي وصاحبه، وما «في الصحيح» هو الصحيح.
مبيت عليّ على فراش النبي
ثم عاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعدما أخبر أبا بكر بالإذن له في الهجرة، وبعد أن أعدّا العدة للهجرة- إلى بيته، وكان جبريل عليه السلام أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن لا يبيت على فراشه، فلما كانت عتمة الليل اجتمع فتيان من قريش على بابه، وبيدهم السيوف المرهفة، ويتطاير من عيونهم شرر الغدر والمكيدة، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكانهم قال لعلي بن أبي طالب: «نم على فراشي، وتسج «2» ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فإنه لن يخلص إليك منهم شيء تكرهه» .
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينام في برده هذا إذا نام، فسمع عليّ لما أشار به رسول الله وأطاع طيّبة بذلك نفسه، وبذلك كان أول فدائي شاب في الإسلام، فقد وقى رسول الله بنفسه، وهو يعلم أنه على قيد أذرع من سيوف المشركين ورماحهم، وكان هذا التدبير المحكم الذي أشار به جبريل عليه السلام مما لبّس الأمر على المشركين المتربصين للنبي، فكانوا إذا نظروا من خلل الباب «3» وجدوا النائم فيظنونه النبي، بينما هو الفتى الشجاع علي.
__________
(1) هو ما تشد به المرأة وسطها، وكان الانتطاق من عادة النساء العربيات.
(2) تغط.
(3) شقوق الباب.(1/475)
خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وفي هجعة من الليل خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد أخذ الله على أبصارهم فلم يبصروا به، وكان أخذ كفا من تراب، فصار ينثر منها على رؤوسهم زيادة في النكاية بهم «1» ، وهو يتلو قول الله تبارك وتعالى:
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) » .
ثم انصرف رسول الله لشأنه، وبقي المشركون ينتظرون النائم حتى يخرج، فيفعلوا به ما اتفقوا عليه.
ذهاب الرسول إلى بيت الصدّيق
وذهب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من فوره إلى بيت الصدّيق «3» - رضي الله عنه-
__________
(1) قيل: الحكمة في وضع التراب دون غيره الإشارة إلى أنهم الأذلون الأصغرون، وأن مصيرهم إلى الذل والرغام.
(2) الايات 1- 9 من سورة يس.
(3) هذا الذهاب خلاف الذهاب الأول في نحر الظهيرة، فالأول كان لإخبار الصديق بالإذن للهجرة، والثاني كان ليلا بعد ما أفلت من المشركين للخروج إلى الغار، وقد تحيّر بعض كتاب السيرة وشرّاحها في هذا، فخروج الرسول من بيته كان ليلا، ووصوله إلى بيت الصديق كان في الظهيرة كما ثبت في الصحيح وغيره، فأين كان النبي في هذه الساعات الطوال؟! وهذا الذي ذهبت إليه هو الذي ينبغي أن يصار إليه، وقد جوّز بعضهم أن النبي مكث في بيت الصديق حتى كانت الليلة المقبلة، فخرجا ليلا وهو بعيد، والبعض جوز أنه خرج إلى الغار، ثم عاد إلى بيت أبي بكر في الظهيرة، ثم عادا إلى الغار معا، وهو أشد بعدا من الأول، والحق ما هداني الله إليه، وهو الذي يتفق ومنطق العقل وتسلسل الحوادث.(1/476)
وكان الصدّيق يترقب وصوله في أية ساعة بعد أن اتفقا على الصحبة في الهجرة، وأعدّا للسفر عدته.
إلى غار ثور
خرج الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه وقد تزودا بالزاد والماء ليلا من خوخة «1» في ظهر بيت أبي بكر حتى لا يراهما أحد، وسلكا طريقا غير معهودة، فبدلا من أن يسيرا نحو الشمال ذهبا إلى الجنوب حيث يوجد (غار ثور) وكان خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- كما قال ابن إسحاق- لهلال ربيع الأول، وقيل: في أواخر صفر.
نظر إلى البيت ودعاء
ولما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة توجه إلى البيت وقال: «والله إنك لأحب أرض الله إلي، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت» «2» .
ثم توجه إلى الله بهذا الدعاء: «الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئا، اللهمّ أعنّي على هول الدنيا، وبوائق الدهر، ومصائب الليالي والأيام.
اللهمّ اصحبني في سفري، واخلفني في أهلي، وبارك لي فيما رزقتني، ولك فذللني، وعلى صالح خلقي فقوّني، وإليك ربي فحببني، وإلى الناس فلا تكلني.
ربّ المستضعفين وأنت ربي، أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السماوات والأرض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والاخرين، أن تحلّ عليّ غضبك، وتنزل بي سخطك.
أعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحوّل عافيتك، وجميع سخطك، لك العتبى عندي خير ما استطعت، ولا حول ولا قوة إلا بالله» «3» .
__________
(1) باب صغير في ظهر البيت.
(2) رواه أحمد والترمذي وصححه.
(3) البداية والنهاية، ج 3 ص 178، وقال: رواه أبو نعيم.(1/477)
شيخ الفدائيين
وفي الطريق إلى الغار رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أبي بكر عجبا، راه مرة يسير أمامه، ومرة يسير خلفه، ومرة عن يمينه، ومرة عن شماله!! فسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذا، فقال: يا رسول الله أذكر الطّلب «1» فأمشي خلفك، وأذكر الرّصد «2» فأكون أمامك، ومرة عن يمينك، ومرة عن شمالك، لا امن عليك «3» !
فقال له النبي: «يا أبا بكر لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني؟» قال: نعم والذي بعثك بالحق!!
وما زالا يسيران في ظلمة الليل وبين الرمال والصخور حتى وصلا إلى الغار.
استبراء الغار
ولما وصلا إلى الغار وأراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينزل فيه قال له الصديق:
مكانك حتى أستبرىء لك، فإن كان به أذى نزل بي قبلك، ثم نزل فتحسس الغار فلم يجد به شيئا، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد بلغ منه الإعياء والتعب مبلغه «4» ، فما إن دخلا حتى توسّد الرسول قدم أبي بكر ونام.
وكان الصدّيق يأخذ من ثوبه ويسدّ فم الأجحار خشية أن يكون شيء من الهوامّ فتؤذي رسول الله، فبقي منها جحر فألقمه عقبه، وكانت به حية فلدغته،
__________
(1) الطالب للإنسان، وإنما يأتي من الخلف.
(2) الرصد: المترصد في الطريق.
(3) روى هذه القصة الإمام البيهقي (البداية والنهاية، ج 3 ص 180) .
(4) لقد صعدت إلى هذا الجبل نهارا في رفقة ونحن شباب، فاستغرقنا أكثر من ساعة، وقد حفيت أقدامنا من الصخور، فما بالك إذا كان ليلا، وطلبا للنجاة من عدو مغيظ محنق؟ فلله ما لقي النبي وصاحبه في هذه الليلة، وأذكر أن رحلتنا تلك كانت في مثل يوم الذكرى المجيدة، ذكرى الميلاد، وقد صليت في الغار ركعتين، وألقيت كلمة يومها في جلال هذه الذكرى.(1/478)
فمنعه مكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه أن يتململ، ولكن الألم لمّا اشتد به تحدّرت دموعه، فسقطت على وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستيقظ، فقال: «ما لك يا أبا بكر؟» فأخبره بما حدث، فتفل عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبرئت بإذن الله تعالى «1» .
فلا عجب إذا كان شيخ الإسلام أبو بكر جديرا بأن يكون شيخ الفدائيين في القديم والحديث.
قصة الشجرة، والعنكبوت، والحمامتين
وقد روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما دخل هو وصاحبه الصديق بالغار أمر الله سبحانه شجرة فنبتت على فم الغار، وانتشرت أغصانها على بابه، وألهم العنكبوت فنسجت على أغصان الشجرة، وألهم حمامتين وحشيّتين فعششتا وباضتا بين أغصان الشجرة «2» ، وقد كان لهذه الايات الثلاث أثرها في تضليل المشركين وصدّهم عن اقتحام الغار ودخوله كما سترى عن كثب، وهكذا وقى الله نبيه وصاحبه بأضعف جنده.
تشكيك أميل در منغم
ويحاول أميل درمنغم أن يقلل من هذه المعجزات فيقول: هذه الأمور الثلاثة هي واحدها المعجزة التي يقص التاريخ الإسلامي الجد: نسيج عنكبوت، وهوى حمامة، ونماء شجرة، وهي أعاجيب ثلاث لها كل يوم في أرض الله نظائر.
وهي شنشنة نعرفها من أخزم، فالمستشرقون- إلا القليل- يحرصون على التقليل من معجزات النبي صلّى الله عليه وسلّم الحسية، ويشككون فيها، وإني لأقول لدر منغم
__________
(1) روى هذه القصة رزين العبدري صاحب «تجريد الصحاح» (شرح المواهب، ج 1 ص 404) .
(2) روى القصة الإمام أحمد في مسنده، والبزار في مسنده، وقاسم بن ثابت في الدلائل (شرح المواهب، ج 1 ص 399) ؛ ورواها أيضا الحافظ ابن عساكر (البداية والنهاية، ج 3 ص 181، 182) .(1/479)
ومشايعيه: من الذي أخذ بأبصار المشركين فلم ينظروا تحت أرجلهم، ولو فعلوا لرأوا طلبتهم المنشودة؟ ومن الذي سمّر أرجلهم في الأرض فلم يتقدموا نحو فم الغار؟! ومن الذي صرفهم عن الغار، وقد همّ بعضهم بدخوله؟
أليست هذه ايات بيّنات على أن النبي ممنوع ومحفوظ من ربه؟ وأنه نبي الله حقا؟ ولو أن الأمور تجري على السنن العادي- كما زعم- لكان الأمر على غير ما كان، فسبحان الله تعالى الذي يسخر ما شاء من خلقه، لمن شاء من عباده المخلصين.
تخلف عليّ لردّ الودائع إلى أهلها
ولم يكن أحد يعلم بخروج النبي صلّى الله عليه وسلّم حين خرج إلا أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، وقد أمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتخلّف بعده بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس، إذ لم يكن أحد بمكة عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه، وأمانته حتى كان يلقّب «بالأمين» .
في الصباح
ولنعد إلى الفتيان المشركين الذين وقفوا يتربصون على باب الدار، يحرسون النائم ظنا منهم أنه النبي، بل صاروا يتشاورون فيما بينهم أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه، حتى اتاهم ات فقال: ما تنتظرون ههنا؟ قالوا:
محمدا، قال: قد خيّبكم الله، قد- والله- خرج محمد عليكم، ثم ما ترك أحدا منكم إلا وضع على رأسه التراب، وانطلق لشأنه، أفما ترون ما بكم؟! فوضع كل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب، فكأنهم لم يصدّقوا، فجعلوا يطّلعون فيرون النائم على فراشه متسجيّا ببرده، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائم، عليه برده.
فما زالوا كذلك حتى تنفس الصباح، فدخلوا على النائم، وكشفوا البرد فإذا به علي! فقالوا له: أين صاحبك هذا؟ فقال: لا أدري، فعلموا وتيقنوا(1/480)
أنه أفلت منهم، فأصابهم الحزن والكمد، «ويمكرون، ويمكر الله، والله خير الماكرين» «1» .
جن جنون قريش
ولما تبينت قريش إفلات النبي منهم جنّ جنونهم، وصاروا يهيمون على وجوههم طلبا له، وجعلوا لمن يأتي به حيا أو ميتا مائة ناقة، وبعثوا القافة «2» إثره في كل وجه، منهم: كرز بن علقمة، وسراقة بن جعشم، فصاروا يتبعون الأثر حتى انتهوا إلى جبل (ثور) ، ثم صعدوا الجبل حتى وقفوا على فم الغار.
وهنالك وقفوا متحيرين
إذا كان دخل الغار فكيف لم يتهدم نسج العنكبوت، ولم ينكسر بيض الحمام؟!
ووقفوا مترددين، أيدخلون الغار أم لا؟ حتى إن أحدهم همّ أن يدخل الغار فقال له الاخر: إن هذا العنكبوت لمن قبل ميلاد محمد!! وهكذا نرى أن الله صرف المشركين عن النبي وصاحبه، ويرحم الله الإمام البوصيري حيث قال:
وقاية الله أغنت عن مضاعفة ... من الدروع وعن عال من الأطم
لا تحزن إن الله معنا
وكان المشركون واقفين على فم الغار يتحدثون بمسمع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه، وكان الصدّيق شديد الخوف على رسول الله حتى قال: يا رسول الله
__________
(1) قد يراد بالمكر التدبير المحكم، وهو بهذا المعنى يجوز إسناده إلى الله، وقد يراد به التدبير في خفاء خشية الاستعلان، وهو بهذا المعنى لا ينسب إلى الله، وعليه فتكون الاية من قبيل المشاكلة اللفظية، أي ومكروا بالنبي هذا المكر السيىء فجازاهم الله على مكرهم بما هو أنكى لهم والم.
(2) جمع قائف، وهو الذي يتبع أثر الأقدام في الأرض حتى يعلم أين ذهب صاحبه.(1/481)
لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصارنا، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما ظنك يا أبا بكر- باثنين الله ثالثهما» ، وفي هذا نزل قول الله تبارك وتعالى:
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) «1» .
ومكث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه في الغار ثلاث ليال حتى انقطع عنهم الطلب.
لطم أبي جهل للسيدة أسماء
قالت أسماء رضي الله عنها: لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ فقلت: لا أدري- والله- أين أبي؟
فرفع أبو جهل يده- وكان فاحشا خبيثا- فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي!!.
وهكذا وصل السفه بأبي جهل أن يؤذي امرأة، وأن يتخلّى عن أخلاق العرب في الترفع عن مثل هذا، وأن ينزل بنفسه إلى هذا الدرك من الإسفاف.
كياسة السيّدة أسماء
روى ابن إسحاق بسنده عن السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت:
لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخرج معه أبو بكر احتمل ماله كله معه، خمسة الاف درهم أو ستة الاف، فانطلق بها معه، فدخل علينا جدّي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لا أراه إلا قد فجعكم بماله مع نفسه، فقلت: كلا يا أبت، إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا، قالت: فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في
__________
(1) الاية (40) من سورة التوبة.(1/482)
البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا، فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، وإذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكني أردت أن أسكّن الشيخ بذلك.
البيت البكري وتضحياته في الهجرة
وقد كان لال أبي بكر- رضي الله عنه- تضحيات، ومفاخر خالدة في سبيل الهجرة، وقد علمت ما كان من السيدة أسماء لمّا شقّت نطاقها نصفين، وستسمع ما كان من الشاب عبد الله بن أبي بكر، وما كان من مولى الصدّيق عامر بن فهيرة، وبذلك اجتمعت هذه المفاخر الكبرى للصدّيق- رضي الله عنه- وإليك ما رواه البخاري في هذا بسنده عن عائشة، قالت:
«ثم لحق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال، يبيت في الغار عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثقف «1» لقن «2» ، فيدلج «3» من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يكتادان به «4» إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة «5» من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل- وهو لبن- منحتهما ورضيفهما «6» حتى ينعق «7» بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك كل ليلة» وبذلك كان عامر
__________
(1) بفتح الثاء وكسر القاف ويجوز إسكانها: حاذق.
(2) بفتح اللام وكسر القاف: سريع الفهم جيد الوعي.
(3) بفتح الياء وتشديد الدال بعدها جيم: أي يخرج بغلس.
(4) من الكيد، وهو بضم الياء مبنيا للمجهول.
(5) غنما فيها لبن.
(6) رضيف كرغيف: هو اللبن المرضوف، أي الذي وضعت فيه الحجارة المحماة بالشمس أو النار لينعقد وتزول رخاوته.
(7) يصيح، والنعيق صوت الراعي إذا زجر الغنم.(1/483)
يعفّي على اثار عبد الله فلا يتفطن أحد إليه، ولا يستدل باثاره على المهاجرين الكريمين.
خروج الرسول وصاحبه من الغار
وبعد ثلاث ليال وقد هدأ الطلب، ويئس المشركون من إدراكهما خرجا من الغار، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر استأجرا رجلا من بني الديل «1» يسمّى عبد الله بن أريقط، وهو من بني عبد بن عدي، وكان هاديا خرّيتا «2» قد غمس حلفا «3» في ال العاص بن وائل السهمي، وكان على دين كفار قريش «4» فأمناه «5» ، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة يخدمهما ويعينهما، يردفه أبو بكر ويعقبه، فكانوا ثلاثة والدليل.
طريق الهجرة
فلما خرج بهما عبد الله بن أريقط «6» دليلهما سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من (عسفان) «7» ، ثم سلك
__________
(1) بكسر الدال، وإسكان الياء، وقيل بضم أوله وكسر ثانيه مهموزا.
(2) الخريت: الماهر بالهداية العارف بالطريق، وسمي كذلك لأنه يهدي بمثل خرت الإبرة أي ثقبها، أو لأنه يهتدي لاخرات المفازة وهي طرقها الخفية.
(3) أي كان حليفا لهم.
(4) وهذا يدل على مروءة العرب ووفائهم وأمانتهم، وإلا فقد كان يمكنه أن يدل المشركين عليهما ويأخذ الجعل الكبير.
(5) بفتح الهمزة وكسر الميم.
(6) لم يعرف له إسلام كما جزم بذلك الحافظ عبد الغني المقدسي في سيرته وتبعه النووي، وقال السهيلي: لم يكن أسلم ولا وجدنا من طريق صحيح أنه أسلم بعد، ولا يعترض بأن الواقدي ذكر أنه أسلم لأنه ليس بصحيح، وضعف الواقدي معلوم خصوصا مع الانفراد، وكأنه سلف الذهبي في عده صحابيا، وقال في الإصابة: لم أر من ذكره من الصحابة إلا الذهبي في التجريد (شرح المواهب، ج 1 ص 409) .
(7) عسفان: موضع بين مكة والمدينة بينه وبين مكة نحو ثلاث مراحل، قال الفيومي في المصباح: ويسمى في زماننا مدرج عثمان.(1/484)
بهما على أسفل (أمج) «1» ، ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز قديدا «2» ، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك، فسلك بهما (الخرّار) «3» ، ثم سلك بهما ثنية المرة «4» ، ثم سلك بهما لقفا»
، قال ابن هشام: ويقال: لفتا، ثم أجاز بهما مدلجة لقف، ثم استبطن بهما مدلجة مجاج- ويقال: مجاج «6» فيما قال ابن هشام-، ثم سلك بهما مرجح «7» من ذي الغضوين، قال ابن هشام:
ويقال: العضوين، ثم بطن ذي كشر، ثم أخذ بهما على الجداجد «8» ، ثم على الأجرد، ثم سلك بهما ذا سلّم من بطن أعداء مدلجة تعهن «9» ، ثم على العبابيد «10» ، قال ابن هشام: ويقال: العبابيب، ويقال: العيثانة يريد: العبابيب.
ثم أجاز بهما الفاجة «11» ، ويقال: القاحة فيما قال ابن هشام، ثم هبط بهما العرج وقد أبطأ عليهما بعض ظهرهما، فحمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل من أسلم يقال له: أوس بن حجر على جمل له يقال له: ابن الرداء إلى المدينة، وبعث معه غلاما له يقال له: مسعود بن هنيدة.
__________
(1) يفتح الهمزة والميم: موضع.
(2) على صيغة المصغر: موضع.
(3) بفتح الخاء وتشديد الراء: موضع قرب الجحفة.
(4) بفتح الميم والراء المخففة، قال السهيلي: كذا وجدته مخفف الراء، مقيدا كأنه مسهّل الهمزة من المرأة.
(5) بفتح اللام والقاف في قول ابن إسحاق، وفي رواية ابن هشام «لفتا» بكسر اللام، والفاء.
(6) مجاج: بكسر الميم وجيمين قال ابن هشام: ويقال فيها مجاج بفتح الميم وقيل مجاح بالحاء المهملة بعد الجيم.
(7) مرجح: بتقديم الجيم على الحاء.
(8) الجداجد بجيمين ودالين: كأنها جمع جدجد، وأحسبها ابارا، قاله السهيلي.
(9) تعهن: بكسر التاء والهاء، والتاء فيه أصلية.
(10) العبابيد: كأنه جمع عباد، وقال ابن هشام: وهي العبابيب كأنها جمع عباب من عبيت الماء عبا.
(11) الفاجة: بفاء وجيم وقال ابن هشام: القاحة بالقاف والحاء.(1/485)
ثم خرج بهما دليلهما من العرج فسلك بهما ثنية العائر عن يمين ركوبة، ويقال: ثنية الغائر- فيما قال ابن هشام- حتى هبط بهما بطن رئم، ثم قدم بهما قباء على بني عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين حين اشتد الضحاء، وكادت الشمس تعتدل.
في خيمة أم معبد
وفي الطريق إلى المدينة مرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم بأم معبد، وإليك قصتها لما فيها من معجزة ظاهرة للنبي، ولما فيها من صورة صادقة للمرأة العربية في عفتها وشهامتها، ومروءتها، وكرمها، وبلاغتها وفصاحتها، فقد وصفت النبي صلّى الله عليه وسلّم بما يعجز عنه بيان غيرها.
روى البيهقي وغيره «1» عن أخي أم معبد حبيش صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومعه أبو بكر، وعامر بن فهيرة، وابن أريقط يدلهم على الطريق مرّوا بقديد على أم معبد: عاتكة بنت خالد بن خليد «2» الخزاعية، وكانت برزة «3» ، جلدة «4» ، تحتبي بفناء القبة «5» ، ثم تسقي وتطعم من يمر بها، وكان القوم مرملين «6» مسنتين «7» ، فسألوها: هل عندها لبن أو لحم يشترونه منها فلم يجدوا عندها شيئا، وقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى «8» .
__________
(1) ورواها أيضا ابن خزيمة، والحاكم وصحّحها، وصاحب الغيلانيات، ومن طريقه اليعمري عن أبي سليط الأنصاري البدري، وابن عبد البر، وابن شاهين، وابن السكن، والطبراني وغيرهم.
(2) على صيغة المصغر كما صرّح به ابن الأثير في الجامع، وقيل: ابن خنيف مصغرا، وقيل ابن منقذ، وهي صحابية خرّج لها ابن السكن.
(3) كضخمة عفيفة مسنة فلم تتخدر لسنها، وخرجت من حد المحجوبات.
(4) قوية.
(5) الفناء: المكان الواسع أمام البيت أو القبة وهي الخيمة.
(6) نفدت أزوادهم.
(7) أصابتهم سنة أي جدب.
(8) القرى: إكرام الضيف أي ما منعناه عنكم.(1/486)
فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى شاة في كسر الخيمة «1» خلّفها الجهد «2» عن الغنم، فسألها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل بها من لبن» ؟ فقالت: هي أجهد من ذلك، فقال: «أتأذنين لي أن أحلبها «3» ؟ فقالت: نعم بأبي أنت وأمي إن رأيت حلبا «4» فاحلبها، فدعا بالشاة فاعتقلها «5» ، ومسح ضرعها- وفي رواية وظهرها- وسمّى الله- وفي رواية: ودعا لها في شائها- فتفاجّت «6» ، ودرّت، ودعا بإناء يربض «7» الرهط، فحلب فيه ثجا «8» ، وسقى القوم حتى رووا، وسقى أم معبد حتى رويت، ثم شرب اخرهم وقال: «ساقي القوم اخرهم شربا» ثم حلب فيه مرة أخرى فشربوا عللا بعد نهل «9» ، ثم حلب فيه اخرا، وغادره عندها- وفي رواية أنه قال لها أن «ارفعي هذا لأبي معبد إذا جاءك» - ثم ركبوا، وذهبوا.
فقلما لبث أن جاء أبو معبد «10» زوجها يسوق أعنزا عجافا «11» ، يتساوكن هزلا «12» لا نقي بهن «13» ، فلما رأى اللبن أبو معبد عجب، وقال:
__________
(1) بكسر الكاف وفتحها: جانب الخيمة.
(2) بضم الجيم وفتحها: المشقة والهزال.
(3) بضم اللام وكسرها.
(4) أي لبنا في الضرع.
(5) وضع رجلها بين ساقه وفخذه.
(6) فتحت ما بين رجليها كما هو شأن الغنم إذا حلبت.
(7) أي يشبع الجماعة ويرويهم حتى يربضوا: أي يناموا ويمتدوا على الأرض.
(8) أي حلبا كثيرا.
(9) النهل: الشربة الأولى، والعلل: الشربة الثانية.
(10) قال السهيلي: لا يعرف اسمه، وله رواية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وتوفي في حياته، وقال العسكري: اسمه أكثم بن أبي الجون، وقال الذهبي: قيل اسمه حبيش بضم الحاء، وفتح المواحدة، وسكون الياء، اخره شين معجمة على الأصح، وقيل بمعجمة مضمومة ونون مفتوحة، وقيل: أكثم قديم الوفاة.
(11) جمع عجفاء أي هزالا.
(12) يتمايلن في مشيتهن من الهزال.
(13) النقي: مخ العظام أي مخهن قليل.(1/487)
ما هذا يا أم معبد؟ أنّى لك هذا؟! والشاء عازب، حيال «1» ولا حلوب «2» بالبيت، فقالت: لا- والله- إلا أنه مرّ بنا رجل مبارك فمن حاله كذا، وكذا «3» ، فقال: صفيه يا أم معبد، فقالت:
رأيت رجلا ظاهر الوضاءة «4» ، مبلج الوجه»
، حسن الخلق «6» ، لم تعبه ثجلة «7» ، ولم تزر به صعلة «8» ، وسيم قسيم، في عينيه دعج «9» ، وفي أشفاره وطف «10» ، وفي صوته صحل «11» ، أحور «12» ، أكحل «13» ، أزج «14» ، أقرن «15» ، شديد سواد الشعر، في عنقه سطح «16» ، وفي لحيته كثاثة «17» ، إذا صمت فعليه
__________
(1) العازب: بعيدة المرعى، الحيال: بكسر الحاء المهملة جمع حائل وهي التي ليس بها حمل.
(2) ذات لبن.
(3) كناية عن القصة التي حدثت بها.
(4) الحسن والبهجة.
(5) مشرقه.
(6) بفتح الخاء وسكون اللام، أو بضم الخاء واللام، وعرفت ذلك من تواضعه وحسن معاملته لرفقته.
(7) بفتح الثاء وسكون الجيم عظم البطن.
(8) صغر الرأس.
(9) شدة سواد العينين.
(10) أشفاره: رموش عينيه، وطف: طول وغزارة.
(11) بفتح الصاد والحاء بحة خفيفة فليس في صوته غلظ.
(12) الحور بفتح الحاء والواو: شدة بياض العينين، وشدة سواد سوادهما.
(13) الكحل بفتح الكاف والحاء: سواد في أجفان العينين خلقة، والرجل أكحل وكحيل، والمرأة كحلاء.
(14) دقيق الحاجبين في طول.
(15) مقرون الحاجبين.
(16) ارتفاع وطول.
(17) غزارة من غير دقة.(1/488)
الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، وكأن منطقه خرزات نظم يتحدرن «1» ، حلو المنطق، فصل «2» ، لا نزر «3» ، ولا هذر «4» ، أجهر الناس «5» ، وأجمله من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب «6» ، ربعة لا تشنؤه «7» من طول، ولا تقتحمه «8» عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفّون به «9» ، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا لأمره «10» محفود محشود «11» ، لا عابس، ولا مفنّد «12» .
فقال أبو معبد: هذا والله صاحب قريش، لو رأيته لاتّبعته، ولأجهدنّ إن وجدت إلى ذلك سبيلا «13» .
مكافأة النبي لأم معبد
وقد روي أنها كثرت غنمها ونمت حتى جلبت منها جلبا إلى المدينة، فمر أبو بكر، فراه ابنها فعرفه، فقال: يا أمه هذا الرجل الذي كان مع المبارك،
__________
(1) أي كلام متناسق، ومتصل بعضه ببعض، فأشبه في تناسقه الدرر، وفي تواليه الخرزات إذا تتابعت.
(2) بسكون الصاد: أي كلام بيّن يفصل الحق من الباطل، أو تفسيره ما بعده.
(3) قليل الكلام.
(4) كثير الكلام فهو وسط بين هذا وذاك، والفضيلة وسط بين رذيلتين.
(5) أرفعهم صوتا من غير إفراط مع الوضوح.
(6) أفرد الضمير حملا على لفظ الناس أو لإرادة الجنس.
(7) لا يبغض لفرط طوله.
(8) لا تتجاوزه إلى غيره ازدراء له وإعراضا.
(9) يحيطون به.
(10) تسابقوا إلى امتثاله.
(11) محفود: مخدوم، ومن ذلك ما ورد في دعاء القنوت: «وإليك نسعى ونحفد» ، محشود: عنده حشد وهم الجماعة.
(12) عابس: مقطب الوجه، والمفنّد بكسر النون مع التشديد اسم فاعل الذي يكثر من اللوم.
(13) شرح المواهب ج 1 ص 410- 416؛ البداية والنهاية ج 3 ص 192- 193.(1/489)
فقامت إليه فقالت: يا عبد الله من الرجل الذي كان معك؟ قال: أوما تدرين من هو؟ قالت: لا، قال: هو نبي الله، فأدخلها عليه، فأطعمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعطاها- وفي رواية: فانطلقت معي وأهدت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا من أقط ومتاع الأعراب، فكساها وأعطاها، قال: ولا أعلمه إلا قال: وأسلمت.
وذكر صاحب «الوفاء» أنها هاجرت هي وزوجها، وأسلما، وفي شرح السنة للبغوي: هاجرت هي وزوجها، وأسلم أخوها حبيش، واستشهد يوم الفتح.
هاد يهديناي الطريق
وكان أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- شيخا «1» يعرف، لأنه كان كثير التردد على هذا الطريق الذي يمر بالمدينة في أسفار تجارته، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم شابا «2» ، فيلقى الرجل أبا بكر وهو يعرفه، فيقول: يا أبا بكر: من هذا الرجل الذي بين يديك؟! فيقول: هذا رجل يهديناي السبيل، فيحسب السامع أنه يعني الطريق المحسوس، وإنما يعني الصديق طريق الخير والهداية.
وقد كان ما فعله الصديق بإيحاء من النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد ذكر ابن سعد في طبقاته أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي بكر: «أله الناس عني «3» » وهذا من التحوط الحكيم في وقت اشتد فيه الطلب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فكان إذا سئل الصديق ممن
__________
(1) أدركه الشيب.
(2) يعني لم يلحقه الشيب، وقد يفهم من ظاهر هذا الكلام أن الصديق- رضي الله عنه- كان أسن من رسول الله وهو غير صحيح، وأما الأثر المشهور على الألسنة أن النبي قال لأبي بكر: «أينا أسن أنا أم أنت» ؟ قال: «أنت أكبر وأكرم، وأنا أسن منك» فقد قال فيه الإمام ابن عبد البر: هذا مرسل ولا أظنه إلا وهما، وقال الحافظ ابن حجر: وهو كما ظن، وإنما يعرف هذا للعباس، وأما أبو بكر فقد ثبت في صحيح مسلم عن معاوية أنه عاش ثلاثا وستين سنة، وكان قد عاش بعد النبي سنتين وأشهرا، فيلزم على الصحيح أن يكون أصغر من النبي بأكثر من سنتين.
(3) أي اصرفهم عن معرفة حقيقة أمري.(1/490)
لا يعرفه: من أنت؟ قال: باغي حاجة، فإذا قيل له من هذا معك؟ قال: هاد يهديناي.
قصة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي «1»
كانت قريش قد جعلت في النبي صلّى الله عليه وسلّم من يأتي به حيا أو ميتا، وصاحبه أبي بكر دية كل واحد منهما مائة ناقة- كما ذكر موسى بن عقبة في مغازيه- وكان هذا الجعل مما حمل سراقة على متابعة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وإليك قصة سراقة كما رواها قال:
«فبينما أنا جالس في مجلس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني قد وجدت انفا أسودة «2» بالساحل أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا يبتغون ضالة لهم «3» ، قال: لعل وسكت.
ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فحططت بزجه الأرض»
، وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها «5» تقرب بي «6» حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها «7» ، فأهويت يدي إلى
__________
(1) جعشم: بضم الجيم، وسكون العين، وضم الشين، والمدلجي بضم الميم، وسكون الدال، وكسر اللام، وهو مدلج بن مرة بن عبد مناف بن كنانة.
(2) جمع سواد يعني أشخاصا.
(3) يقصد التعمية على قومه.
(4) الزج: الحديدة التي في أسفل الرمح.
(5) أسرعت بها السير.
(6) التقريب دون العدو، وفوق العادة، وقيل: أن ترفع الفرس يديها معا وتضعهما معا.
(7) سقطت.(1/491)
كنانتي «1» فاستخرجت الأزلام «2» فاستقسمت بها «3» أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره، وكنت أرجو أن أرده فاخذ المائة ناقة.
فركبت فرسي- وعصيت الأزلام- تقرّب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، فقال أبو بكر:
يا رسول الله هذا فارس قد لحق بنا، والتفت نبي الله صلّى الله عليه وسلّم فدعا عليه قائلا:
«اللهمّ اصرعه، اللهم اكفناه بما شئت» قال سراقة: فساخت يدا «4» فرسي حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، وصرعتني، ثم زجرتها، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان «5» في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان «6» قائلا: أنا سراقة بن مالك بن جعشم، أنظروني أكلمكم، فو الله لا أريبكم، ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه، ادع الله لي ولا أضرك فدعا له.
فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أنه ممنوع «7» ، وأن سيظهر أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزاني «8» مما معي شيئا، ولم يسألاني، فقلت:
__________
(1) كيس من جلد التي بها السهام.
(2) جمع زلم وهي القداح التي كانوا يستقسمون بها، والقدح قطعة من خشب كالسهم إلا أنها لا ريش لها ولا نصل.
(3) أي ضرب ليعرف حظه ونصيبه وقد حرمه الإسلام.
(4) أي غاصتا في الأرض.
(5) غبار صاعد جهة السماء.
(6) هكذا في رواية الصحيح أنه ناداهم بالأمان بعد أن غاصت قدما فرسه في التراب في المرة الثانية، وفي السيرة لابن إسحاق أنه واصل الطلب، وأنه سقط عنها ثلاث مرات، وغاصت قدما فرسه في الثالثة فقام فناداهم بالأمان. (السيرة ج 1 ص 489) فلعل في رواية الصحيح اقتصارا على المرتين.
(7) محفوظ من الله تعالى ولن ينال منه أحد.
(8) ينقصاني مما معي شيئا.(1/492)
يا رسول الله مرني بما شئت فقال: «قف مكانك، ولا تترك أحدا يلحق بنا، وأخف عنا» .
وهكذا كان في أول النهار جاهدا «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان في اخر النهار مسلحة له «2» قال سراقة: فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم «3» ثم ألقاه إلي، فأخذته ووضعته في كنانتي ثم رجعت «4» .
ستلبس سواري كسرى
ولم يقف الأمر في قصة سراقة عند هذه المعجزة الظاهرة البيّنة الدالة على حماية الله لنبيه وحفظه له، بل تعدّاه إلى نبوءة أخرى ما كان يجول مصداقها بخلد إنسان قط إلا أن يكون نبيا يوحى إليه من ربه، ذلك أنه لما همّ سراقة بالرجوع التفت إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «كأني بك يا سراقة تلبس سواري كسرى» فقال سراقة متعجبا: كسرى بن هرمز!! قال: «نعم» .
فرجع سراقة وهو في حيرة من أمر هذه النبوءة، وتواردت على نفسه شتى الهواجس والخواطر والخلجات النفسية: محمد بن عبد الله الذي خرج مستخفيا مطاردا من قومه يخشى الطلب، ويخاف الرصد، ولا يكاد يأمن على نفسه من غوائل المشركين- يعدني سواري كسرى إنه للأمر العجب!!
وفاء سراقة بما وعد
وقد وفى سراقة بما وعد، فجعل لا يلقى أحدا من الطلب إلا رده قائلا:
كفيتم هذا الوجه، فلما اطمأنّ إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وصل إلى المدينة جعل سراقة يقصّ ما كان من قصته وقصة فرسه، واشتهر هذا عنه، وتناقلته الألسنة حتى امتلأت به نوادي مكة، فخاف رؤساء قريش أن يكون ذلك سببا لإسلام بعض أهل مكة، وكان سراقة أمير بني مدلج، ورئيسهم فكتب أبو جهل إليهم:
__________
(1) يريد النيل من رسول الله جهده.
(2) مانعا له، وحارسا له بسلاحه.
(3) أدم: جلد.
(4) صحيح البخاري، باب هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، السيرة ج 1 ص 489(1/493)
بني مدلج إني أخاف سفيهكم ... سراقة مستغو لنصر محمد
عليكم به ألّا يفرّق جمعكم ... فيصبح شتى بعد عز وسؤدد
فقال سراقة يرد على أبي جهل:
أباحكم- والله- لو كنت شاهدا ... لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدا ... رسول وبرهان فمن ذا يقاومه
عليك فكفّ القوم عنه فإنني ... أرى أمره يوما ستبدو معالمه
بأمر تود الناس فيه بأسرهم ... بأن جميع الناس طرّا مسالمه
إسلام سراقة
وتسير الأيام في صالح الدعوة الإسلامية بعد جهاد وكفاح وتضحية وصبر، ويدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم مكة منتصرا، وتدول دولة الشرك والأصنام، ويقابل سراقة رسول الله مرجعه من حنين والطائف «بالجعرّانة» فيطلعه على الكتاب، فيقول له رسول الله: «اليوم يوم الوفاء والبر، ادن» قال: فدنوت منه وأسلمت.
صدق النبوءة
وتدور عجلة التاريخ مسرعة، ويأتي زمن الخليفة العبقري الملهم عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فيفتح الله على المسلمين بلاد فارس ومنها المدائن، ويثلّ عرش كسرى، ويؤتى بالغنائم، وفيها سوارا كسرى، وتاجه، وبساطه، وجواهره الغالية التي قدّرت بألوف الألوف من الدراهم والدنانير، ويقف الفاروق متعجبا من أمانة الجند وقوادهم، فيقول: «إن قوما أدّوا هذا لذوو أمانة» !! فيقول له علي- رضي الله عنه-: «إنك عففت فعفّت الرعية» !! ويقسم عمر الغنائم بين المسلمين، ويتعفف عنها فلم ينله منها شيء.
ويتذكر عمر والمسلمون نبوءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومقالته لسراقة، فأتى به، وألبسه سواري كسرى، وكان سراقة رجلا أزب «1» ، وقال له «قل: الله أكبر،
__________
(1) أي كثير شعر الذراعين.(1/494)
الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز، وألبسهما سراقة بن جعشم أعرابيا من بني مدلج» ورفع بها عمر صوته، ثم أركب سراقة، وطيف به المدينة، والناس حوله، وهو يرفع عقيرته مرددا قول الفاروق: الله أكبر، الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز، وألبسهما سراقة بن جعشم أعرابيا من بني مدلج!!
وكان يوما مشهودا من أيام المدينة الخالدة، وهكذا صدق الله وعده، ونصر جند الإسلام المتقين، وجعل وراثة الأرض لعباده الصالحين.
من تفاؤل النبي صلّى الله عليه وسلّم
وقد روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ هو والركب بإبل لمالك بن الأوس الأسلمي بالجحفة ومعها غلام راع، فقال: «لمن هذه» ؟ قال: لرجل من أسلم، فالتفت إلى أبي بكر وقال: «سلمت إن شاء الله» قال: «ما اسمك» ؟ قال:
مسعود، فالتفت إلى أبي بكر، وقال: «سعدت إن شاء الله» «1» وقد كان من خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه يحب التفاؤل، ويكره التشاؤم.
إهداء الزبير وطلحة ثيابا لرسول الله وأبي بكر
ومما وقع في الطريق إلى المدينة أنه صلّى الله عليه وسلّم لقي الزبير بن العوام في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسى الزبير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر ثيابا بيضاء، رواه البخاري «2» ، وكذا روى أصحاب السير أن طلحة بن عبيد الله لقيهما أيضا وهو عائد من الشام وكساهما بعض الثياب «3» .
في انتظار الرسول
ولما بلغ المسلمين بالمدينة مخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة هو وصاحبه الصديق رضي الله تعالى عنه، كانوا يخرجون كل غداة إلى الحرّة فينتظرونه حتى يردهم حرّ الظهيرة، فعلوا ذلك مرارا، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم،
__________
(1) البداية والنهاية ج 3 ص 190.
(2) صحيح البخاري- باب هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة.
(3) فتح الباري ج 7 ص 193.(1/495)
فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم «1» من اطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه مبيّضين «2» ، يزول بهم السراب «3» ، فلم يملك اليهودي أن صاح بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا جدّكم «4» الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح «5» ، فتلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بظهر الحرّة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل في بني عمرو بن عوف.
في قباء «6»
وكانت منازل بني عمرو بن عوف في قباء، وكان ذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، وقيل لهلال ربيع الأول، وقيل: لليلتين خلتا منه، وقيل لثامن يوم منه، وقال ابن إسحاق لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، وعند ابن سعد لثلاث عشرة منه.
فقام أبو بكر للناس يتلقاهم، وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يعرفه من قبل يحيّي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأقبل أبو بكر حتى ظلّل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله عند ذلك.
فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بني عمرو بن عوف أربعة أيام «7» ، الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، وخرج يوم الجمعة قاصدا المدينة.
__________
(1) الأطم: الحصن.
(2) عليهم الثياب البيض التي كساهم إياها الزبير وطلحة رضي الله عنهما.
(3) يزول بهم السراب عن النظر بسبب عروضهم له، أو ظهرت حركتهم للعين، والسراب: ما يرى في الظهيرة كأنه ماء وليس بماء.
(4) حظكم وصاحب دولتكم الذي تتوقعون وصوله.
(5) لإظهار القوة، وحمايتهم له من أول يوم قدم فيه المدينة.
(6) قباء بالمد والقصر، وبضم القاف وفتحها، وهو يصرف، ويمنع من الصرف.
(7) والذي في صحيح البخاري أنه أقام فيهم أربع عشرة ليلة، وقد جمع الحافظ ابن حجر في الفتح بين ما في السيرة وما في الصحيح بأن المراد تتمة أربع عشرة ليلة بما فيها المدة التي استغرقها في السير من يوم أن خرج من الغار إلى أن وصل إلى قباء.(1/496)
تأسيس مسجد قباء
وكان أول عمل قام به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قدم قباء أن أسس مسجد قباء، كي يكون للمسلمين مكان يصلون فيه، ويجمعهم على البر والخير والتقوى، وهو المسجد الذي أسس على التقوى، وهو أول مسجد بني في الإسلام لكافة المسلمين، وهو المراد بقوله تعالى:
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) «1» .
نزول النبي وصاحبه بالمدينة
وكان نزول النبي صلّى الله عليه وسلّم حين قدم قباء على كلثوم بن الهدم «2» أخي بني عمرو بن عوف، ويقال: بل نزل على سعد بن خيثمة، ولا منافاة بين القولين، فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يبيت عند كلثوم بن الهدم، فإذا أصبح جلس في بيت سعد بن خيثمة، وذلك أنه كان عزبا لا أهل له، وكان يقال لبيته: بيت العزاب، ولذلك نزل عليه العزاب من المهاجرين كما ذكرنا.
ونزل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على خبيب بن إساف أحد بني الحارث بن الخزرج بالسنح «3» وقيل: بل نزل على خارجة بن زيد بن أبي زهير أخي بني الحارث بن الخزرج.
هجرة علي رضي الله عنه
وأقام علي بن أبي طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها، حتى أدى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الودائع التي كانت عنده للناس، ثم لحق برسول الله فأدركه بقباء بعد وصوله بليلتين أو ثلاث، فكانت إقامته بقباء ليلة أو ليلتين، ثم خرج مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة يوم الجمعة.
__________
(1) الاية 108 من سورة التوبة.
(2) قيل كان يومئذ مشركا، وهو الذي جزم به الحسن بن زبالة في «أخبار المدينة» .
(3) مكان خارج المدينة قرب قباء.(1/497)
مكرمة لسهل بن حنيف
وقد لاحظ سيدنا علي مدة إقامته بقباء امرأة مسلمة لا زوج لها، ورأى إنسانا يأتيها من جوف الليل، فيضرب عليها بابها، فتخرج إليه، فيعطيها شيئا معه، فتأخذه، قال: فاستربت بشأنه، فقلت: يا أمة الله، من هذا الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه، فيعطيك شيئا لا أدري ما هو؟
وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك؟! قالت: هذا سهل بن حنيف، وقد عرف أني امرأة لا أحد لي، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها، ثم جاءني بها، فقال: احتطبي بهذا، فكان علي رضي الله عنه يأثر ذلك من شأن سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق.
وبوصول النبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه إلى قباء تمت خير هجرة عرفتها الدنيا لقوم مؤمنين، وأعظم حادث تاريخي كان له أكبر الأثر في تاريخ الإسلام والمسلمين، بل في تاريخ الدنيا قديمها وحديثها.
وإلى هنا نقف بك- أيها القارىء الكريم- لنسلمك إلى أحداث السيرة النبوية من الهجرة إلى وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم في «القسم الثاني» من هذه السيرة العطرة، التي أراد الله أن يخرج قسمها الثاني قبل الأول ببضع سنين.
والحمد لله في النهاية كما حمدناه في البداية، وصلّى الله- تبارك وتعالى- على سيدنا محمد نبي الهدى، والبر، والرحمة، والملحمة، وعلى اله وأصحابه الذين فدوه بالنفس، والأهل، والولد، والمال، وعزّروه، ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم بفضلك وكرمك يا إله العالمين، امين.
وكان الفراغ من تأليفه في شهر ربيع الأول لعام ثمان وثمانين وثلاثمائة بعد الألف هجرية، الموافق يونيو لعام 1968 ميلادية، وأنا بمدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وكتبه العاجز عن شكر ربه وراجي عفوه
أبو السادات محمد بن محمد أبو شهبة من علماء الأزهر الشريف
والمتخصص في الأصلين الشريفين: القران والسنة(1/498)
ثبت بأهم مراجع الكتاب
(1) القران الكريم.
(2) تفاسير: ابن جرير الطبري، والزمخشري، والبغوي، وابن كثير، والقرطبي، والألوسي، وأسباب النزول للسيوطي.
(3) الصحيحان: صحيح البخاري، وصحيح مسلم.
(4) سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، ومسند أحمد، والموطأ.
(5) المستدرك للحاكم، السنن للبيهقي، سنن الدارقطني.
(6) السيرة النبوية لابن إسحاق وابن هشام، ط الحلبي.
(7) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للإمام الحافظ ابن حجر طبعة البهية.
(8) الشفا في التعريف بحقوق المصطفى، للإمام القاضي عياض، ط استانبول.
(9) الطبقات الكبرى، للإمام ابن سعد، ط بيروت.
(10) الإصابة في تاريخ الصحابة، للإمام ابن حجر، ط الأولى.
(11) الاستيعاب في تاريخ الأصحاب، ابن عبد البر على هامش الإصابة.
(12) شرح المواهب اللدنية، للإمام الزرقاني، ط بولاق.
(13) زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، ط أنصار السنة.
(14) البداية والنهاية، للإمام الحافظ ابن كثير، ط الاستقامة.
(15) الروض الأنف شرح السيرة لابن هشام، للإمام السهيلي، ط الجمالية 1332 هـ 1914 م.
(16) السيرة الحلبية، للشيخ العلامة علي بن برهان الدين الحلبي.
(17) نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، للعلامة الشيخ محمد الخضري.
(18) حياة محمد، للدكتور محمد حسين هيكل، ط الأولى.
(19) حياة محمد، لدرمنغم ترجمة الأستاذ عادل زعيتر.
(20) حياة محمد ورسالته، لمولانا محمد علي.(1/499)
(21) الدين، للدكتور الشيخ محمد عبد الله دراز.
(22) التاريخ الإسلامي والحضارة العربية، للدكتور أحمد شلبي.
(23) جزيرة العرب في القرن العشرين، للشيخ حافظ وهبة.
(24) دائرة معارف القرن العشرين، للأستاذ محمد فريد وجدي.
(25) مكة والمدينة في عصر الجاهلية، للأستاذ أحمد الشريف.
(26) معجم البلدان، للشيخ العلامة ياقوت الحموي.
(27) الأصنام، لابن الكلبي.
(28) أدلة اليقين في الرد على مطاعن المبشرين، للعلامة الشيخ عبد الرحمن الجزيري.
(29) الرد على المنطقيين، للإمام أحمد بن تيمية الحراني.
(30) مدخل لدراسة القران الكريم، للدكتور الشيخ محمد أبو شهبة.
(31) الإسراء والمعراج، للدكتور الشيخ محمد أبو شهبة.
(32) تفسير سورة الفاتحة وملحقاتها، للإمام الشيخ محمد عبده.
(33) زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم، لأستاذنا الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي، ط الحلبي.
(34) البيان والتبيين، للإمام أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، ط ثالثة.
(35) عبقرية محمد، للأستاذ العقاد، ط الهلال.
(36) حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، للأستاذ العقاد، ط الهلال.
(37) أم النبي صلّى الله عليه وسلّم، للدكتورة عائشة عبد الرحمن، ط الهلال.
(38) الملل والنحل، للإمام الشيخ محمد الخضر حسين، ط خاصة بكلية أصول الدين قديما.
(39) الملل والنحل، للأستاذ حامد عبد القادر، ط خاصة بكلية أصول الدين قديما.
(40) التاريخ الإسلامي، للدكتور محمد مصطفى زيادة، ط خاصة بكلية أصول الدين قديما.
(41) التاريخ الإسلامي، للأستاذ محمد حبيب أحمد، ط خاصة بكلية أصول الدين قديما.
(42) كتب العهد القديم، والعهد الجديد أو التوراة والأناجيل، ط جمعية التوراة الأميركانية.
(43) كتب اللغة: القاموس المحيط، والمصباح المنير.(1/500)
فهارس الجزء الأوّل صنع فهارسه العلمية عبد الستّار الشيخ
1- فهرس الايات القرانية.
2- فهرس الأحاديث النبوية.
3- فهرس الأعلام.
4- فهرس القبائل والأمم والجماعات والدول والممالك والحضارات.
5- فهرس الأيام والغزوات والوقائع.
6- فهرس الأماكن والبلدان والبحار والأنهار والأصنام.
7- فهرس تأريخي متسلسل لأحداث السيرة والتشريعات ونحو ذلك.
8- فهرس الشعر.
9- فهرس الموضوعات.(1/501)
1- فهرس الايات القرانية*
الاية رقمها الصفحة [سورة البقرة] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ... (34) 277
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ... (35) 277
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ ... (89) 251
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً ... (125) 70، 125، 133
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً ... (126) 124
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ ... (127) 122، 131
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا ... (128) 115، 122
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ... (129) 122
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ ... (158) 72
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... (185) 260
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ... (198) 101
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ... (229) 90
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ... (230) 91
[سورة ال عمران] كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ... (37) 278
ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا ... (67) 80
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ ... (81) 248
__________
* الايات مرتبة في سورها حسب تسلسل أرقامها.(1/503)
الاية رقمها الصفحة
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ... (96) 56، 122
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ ... (97) 122
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ... (144) 178
[سورة النساء] وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ ... (25) 90
وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا ... (125) 131
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ ... (163) 279
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ... (164) 279
[سورة المائدة] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ... (3) 76
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ... (12) 451
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ... (17) 242
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها ... (24) 278
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ... (25) 278
لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ... (48) 247
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ... (73) 241
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ... (90) 76
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ ... (103) 77
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ... (116) 242
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ... (119) 277
[سورة الأنعام] وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ... (7) 320
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً ... (8) 320
وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا ... (9) 318
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ... (10) 339
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ ... (52) 324
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ... (53) 323
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً ... (108) 333
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها ... (109) 319(1/504)
الاية رقمها الصفحة
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ... (110) 319
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ... (111) 319
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ... (124) 106، 240
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً ... (136) 78
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ... (143) 78
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ... (144) 78
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ... (151) 91
[سورة الأعراف] وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ ... (74) 51
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ... (156) 248
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ... (157) 248
[سورة الأنفال] وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ... (30) 473، 481
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ... (41) 259
[سورة التوبة] إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً ... (36) 137
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ... (37) 143
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ... (40) 482
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ... (108) 497
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ... (113) 393
[سورة يونس] أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ ... (2) 75
[سورة هود] أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ... (5) 313
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا ... (27) 323
وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ... (31) 324
لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ ... (70) 116
وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ... (71) 116(1/505)
الاية رقمها الصفحة
قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً ... (72) 120
قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ... (73) 120
[سورة يوسف] وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) 373
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) 73
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ (111) 52
[سورة الرعد] وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ ... (31) 322
[سورة إبراهيم] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ... (35) 124
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ... (36) 124
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ... (37) 124، 128، 135
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ ... (38) 124
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ... (39) 124
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ... (40) 125
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) 125
[سورة الحجر] إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ... (42) 369
قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ ... (54) 121
قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) 121
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) 121
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) 291
[سورة النحل] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ... (43) 75
بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ ... (44) 75
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) 92
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) 92
يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ ... (59) 92(1/506)
الاية رقمها الصفحة
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ ... (66) 155
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ... (90) 309
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ... (99) 370
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ... (103) 273، 323
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ... (106) 343
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ ... (116) 77، 143
[سورة الإسراء] سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ... (1) 408، 409
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ... (31) 92
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ (59) 320
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا ... (60) 333، 411
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ... (73) 372
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ ... (74) 372
إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ... (75) 371
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ.. (79) 180
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ... (85) 328، 329
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ... (90) 317
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ ... (91) 317
أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً ... (92) 317
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ ... (93) 317
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا ... (94) 317
قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ ... (95) 317
قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ... (96) 317
وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (110) 313
[سورة الكهف] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ... (1) 328
إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ... (5) 328
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ ... (6) 328، 373
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا ... (9) 328
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) 328(1/507)
الاية رقمها الصفحة
إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ... (24) 328
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ ... (28) 325
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً ... (83) 328
[سورة مريم] وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا ... (64) 327
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً (77) 334
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) 334
كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) 334
وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) 334
[سورة طه] طه ... (1) 354
ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) 354
إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) 354
تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) 354
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) 354
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ... (14) 355
وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ (133) 322
[سورة الأنبياء] وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ... (7) 75، 318
وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ ... (8) 75، 318
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ ... (26) 74
لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) 74
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ... (98) 330
لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) 330
لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) 330
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ... (101) 330
لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) 331
لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ... (103) 331
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) 246، 320(1/508)
الاية رقمها الصفحة
[سورة الحج] وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ... (26) 123
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا ... (27) 123
لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ ... (28) 123
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ... (29) 123
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ... (30) 123
حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ... (31) 123
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ... (32) 123
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ... (33) 123
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ ... (34) 123
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَالصَّابِرِينَ ... (35) 123
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ ... (36) 123
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى ... (37) 123
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ... (39) 455
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى ... (52) 364
[سورة المؤمنون] هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ ... (36) 74
إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا ... (37) 74
[سورة الفرقان] وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ ... (5) 336
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... (6) 336
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ... (7) 318
أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها ... (8) 318
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا ... (9) 318
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ ... (20) 318
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ ... (27) 338
يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا ... (28) 338
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي ... (29) 338(1/509)
الاية رقمها الصفحة
[سورة الشعراء] كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) 50
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) 50
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) 50
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) 50
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا ... (127) 50
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) 50
وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) 50
وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) 50
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) 50
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) 50
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) 50
وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) 50
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) 51
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) 51
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) 51
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) 51
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ (145) 51
أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) 51
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) 51
وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) 51
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) 51
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) 51
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) 292
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) 292
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) 292
[سورة النمل] وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ ... (20) 64
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ ... (21) 64
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ ... (22) 64(1/510)
الاية رقمها الصفحة
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ... (23) 64
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ ... (41) 64
فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ ... (42) 64
وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... (43) 64
لَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً ...
(44) 64
حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها ... (84) 277
[سورة القصص] وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ... (5) 97، 118
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ... (56) 393
[سورة العنكبوت] وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ ... (50) 321
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ... (51) 321
قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً ... (52) 321
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ... (61) 73
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ... (67) 98
[سورة الروم] الم (1) 389
غُلِبَتِ الرُّومُ (2) 389
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) 389
فِي بِضْعِ سِنِينَ، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.. (4) 389
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) 389
وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ... (6) 389
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ... (7) 389
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ... (41) 245
[سورة لقمان] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ... (6) 336
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً ... (7) 336
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ... (27) 329(1/511)
الاية رقمها الصفحة
[سورة الأحزاب] لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ... (21)
يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ... (32) 397
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ... (45) 178
وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً ... (46) 178
[سورة سبأ] إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ ... (9) 316
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ... (15) 49
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ... (16) 49، 63
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ ... (17) 50، 63
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً ... (18) 50
فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ... (19) 50
[سورة فاطر] فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ... (8) 373
[سورة يس] يس (1) 476
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) 476
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) 476
عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) 476
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) 476
لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) 476
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) 476
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ ... (8) 476
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ... (9) 476
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ ... (69) 237
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ... (78) 75، 334
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ... (79) 75، 334
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً ... (80) 334
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ ... (81) 334(1/512)
الاية رقمها الصفحة
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ ... (82) 334
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ... (83) 334
[سورة الصافات] وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) 113
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) 113
فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) 113
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى ... (102) 112، 113
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) 113
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) 113
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) 113
إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) 113
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) 113
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) 113
سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) 113
كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) 113
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) 113
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) 117
أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) 74
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) 74
أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) 74
أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) 74
فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
(157) 74
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً ... (158) 74
[سورة ص] ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) 392
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) 392
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ... (3) 392
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ... (4) 392
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً ... (5) 392
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا ... (6) 392(1/513)
الاية رقمها الصفحة
ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ ... (7) 392
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا ... (8) 392
ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) 269
قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) 370
إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) 370
وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) 417
[سورة الزمر] وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا ... (3) 73
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا ... (53) 466
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ ... (54) 466
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ... (55) 466
[سورة فصلت] حم (1) 307
تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) 307
كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا (3) 307
بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) 307
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ... (5) 307، 314
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ ... (13) 308
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ.. (26) 313
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ... (53) 420
[سورة الشورى] وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا ... (7) 56
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ... (13) 247
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ ... (51) 270، 279
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ... (52) 218، 279
صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ... (53) 218، 279
[سورة الزخرف] وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) 332
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ ... (32) 332(1/514)
الاية رقمها الصفحة
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ ... (57) 331
وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ، ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ... (58) 331
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا ... (59) 331
وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) 331
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ (61) 331
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ... (87) 73
[سورة الدخان] إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) 260
فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) 260
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) 260
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) 388
يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) 388
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) 388
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) 388
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) 388
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) 388
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) 388
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) 333
طَعامُ الْأَثِيمِ (44) 333
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) 333
كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) 333
[سورة الجاثية] وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا ... (24) 75
[سورة الأحقاف] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ... (11) 323
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ... (29) 404
قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ... (30) 404
يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ ... (31) 404
وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ ... (32) 404(1/515)
الاية رقمها الصفحة
[سورة الفتح] مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ... (29) 178
[سورة الحجرات] إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ ... (13) 344
[سورة ق] ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) 74
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ... (2) 74
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) 74
قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ... (4) 74
[سورة الذاريات] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) 117
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) 117
قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) 117
[سورة النجم] عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) 410
ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) 410
وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) 410
ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) 410
فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) 410
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
(10) 410
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) 409، 410
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) 409، 410
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) 409
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) 409
ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) 409
لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) 409
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) 70، 364، 371
وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) 364، 371(1/516)
الاية رقمها الصفحة
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) 371
تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) 371
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ (23) 371
[سورة الرحمن] الرَّحْمنُ (1) 314
عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) 314
مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) 17
[سورة المجادلة] الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ... (2) 91
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا ... (3) 91
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ... (4) 91
[سورة الممتحنة] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ... (12) 438
[سورة الصف] وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ... (6) 178، 249، 253
[سورة الجمعة] ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) 118
[سورة القلم] وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) 332
هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) 332
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) 332
عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) 332
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) 336
[سورة الحاقة] إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) 352
وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (41) 352
وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (42) 352(1/517)
الاية رقمها الصفحة
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) 371
لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) 371
ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) 371
فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) 371
[سورة المدثر] يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) 280
قُمْ فَأَنْذِرْ (2) 280
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) 280
وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) 280، 450
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) 280
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) 310
وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً (12) 310
وَبَنِينَ شُهُوداً (13) 310
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) 310
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) 310
كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) 310
سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) 310
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) 310، 311
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) 310، 311
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) 310، 311
ثُمَّ نَظَرَ (21) 310، 311
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) 310، 311
ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) 310
فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) 310، 311
إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) 310، 311
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) 310
وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) 310
لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) 310(1/518)
الاية رقمها الصفحة
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) 310
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) 310، 311
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ... (31) 311
[سورة عبس] عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) 325
أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) 325
وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) 325
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) 325
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) 325
فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) 325
وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) 325
وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) 325
وَهُوَ يَخْشى (9) 326
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) 326
كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) 326
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) 326
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) 326
مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) 326
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) 326
كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) 326
[سورة التكوير] وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) 91
بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) 91
[سورة البروج] قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) 65
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) 65
إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) 65
وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) 65
وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) 65(1/519)
الاية رقمها الصفحة
[سورة الليل] فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) 347
وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) 347
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) 347
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) 347
وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) 347
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) 347
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) 347
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) 347
وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) 347
فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) 347
لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (15) 347
الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) 347
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) 347
الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) 347
وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) 347
إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) 347
وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) 347
[سورة الضحى] وَالضُّحى (1) 281، 282
وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) 281، 282
ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) 281، 282
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) 281
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) 281
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) 281
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) 281
وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى (8) 281
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) 281
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) 281
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) 281(1/520)
الاية رقمها الصفحة
[سورة الشرح] أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) 199، 201
[سورة العلق] اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) 260، 262
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) 260، 262
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) 260، 262
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) 260، 262
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) 260، 262
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) 296
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) 296
إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
(8) 296
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) 296
عَبْداً إِذا صَلَّى (10) 296
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) 296
أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) 296
أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) 296
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) 296
كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) 296
ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) 296
فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) 296
سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) 296
كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) 296
[سورة القدر] إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) 260
[سورة الزلزلة] فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) 383
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) 383(1/521)
الاية رقمها الصفحة
[سورة التكاثر] أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) 86
حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) 86
[سورة الهمزة] وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ. (1) 337
الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ (2) 337
يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) 337
كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) 337
وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) 337
نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) 337
الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) 337
إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) 337
فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) 337
[سورة الفيل] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) 169
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) 169
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) 169
تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) 169
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) 169
[سورة قريش] لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) 100
إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) 100
ْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
(3) 100
الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) 100
[سورة الكوثر] إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) 338
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) 338
إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) 338(1/522)
الاية رقمها الصفحة
[سورة الكافرون] قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) 335
لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) 335
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) 335
وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) 335
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) 335
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) 335
[سورة المسد] تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) 292
ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) 292
سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) 292
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) 292
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) 292
[سورة الفلق] وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) 337
[انتهى فهرس الايات القرانية الكريمة](1/523)
2- فهرس الأحاديث النبوية*
أول الحديث/ الصفحة
[همزة الوصل] «ائذن له» 355
«ارفضوا إلى رحالكم» 452
«ارفعي هذا لأبي معبد إذا جاءك» 487
«ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان
راميا» 48
«ارموا بني إسماعيل وأنا مع بني فلان» 48
«ارموا وأنا معكم كلكم» 48
«استأذنت ربي في زيارة قبر أمي ... » 206
«اصبر أبا اليقظان، اللهم لا تعذب ... » 343
«الحق لشأنك» 298
[همزة القطع] «امن شعره وكفر قلبه» 85
«أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه ... » 449
«أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر ... » 237
«أبغض الحلال إلى الله الطلاق» 90
«أتأذنين لي أن أحلبها؟» 487
«أتى جبريل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال ... » 398
أول الحديث الصفحة
«أتاني ربي فقال: فيم يختصم الملأ
الأعلى؟» 269
«أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفسي
بيده ... » 299
«أجل كانت أم العيال وربة البيت» 397
«أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو
أشده ... » 275
«أخبركم غدا بما سألتم عنه ... » 327
«أخرج من عندك» 474
«أخرجوا منكم اثني عشر نقيبا يكونون ... » 451
«إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني» 401
«أذّن يا إبراهيم وعلي البلاغ» 132
«أرأيتك الذي كنت حدثتك أني رأيت في المنام ... » 264
«أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي ... » 292
«أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا وراء ... » 239
«أربعون سنة، وأينما أدركتك الصلاة فصلّ ... » 134
«أرسلوا إلى صديقات خديجة» 400
__________
* الأحاديث مرتبة ترتيبا ألف بائيا، وتشمل القولية والفعلية والتقريرية.(1/525)
«أريت دار هجرتكم ذات نخل ... » 458
«أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة ... » 18
«إزاري، إزاري» 228
«أسئلكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ... » 451
«أشهد لك بها عند الله» 392
«أعط هذا الرجل حقه» 298
«أفلا تجلسون إليّ أكلمكم؟» 434
«أفيكم من يحفظ شعره؟» 81
«أقد فرغت يا أبا الوليد؟» 307
«ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا ... » 463
«ألا تعجبون لما يصرف الله عني من أذى قريش» 293
«ألم تنه؟» 236
«أله الناس عني» 490
«أمرت بقرية تأكل القرى» 56
«أمن موالي اليهود؟» 434
«إن أحببت فعندي محببة مكرمة ... » 196
«إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا ... » 399
«إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت ... » 321
«إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» 343
«إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي» 266
«أنا ابن الذبيحين» 119
«أنا ابن العواتك من سليم» 188
«أنا أول من تنشق عنه الأرض» 182
«أنا رسول الله إلى العباد أدعوهم إلى ... » 432
«أنا محمد بن عبد الله ... » 185
«أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله ... » 185
«أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة ... » 452
«أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ النجم وهو بمكة فسجد معه ... » 366
«أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بلدح ... » 82
«أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما بايعهم قرأ الاية كلها» 439
«أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء ... » 89
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه جبريل عليه السلام وهو ... » 198
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا صلّى بمكة استقبل ... » 445
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعى النجاشي في اليوم الذي ... » 380
«إنّ اية ما بيننا وبين المنافقين أنهم ... » 159
«إن إبراهيم حرم مكة وأنا أحرم ما بين لابتيها ... » 58
«إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني ... » 58
«إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله ... » 142، 143
«إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ... » 184
«إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ... » 184
«إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» 20
«إن الله حبس عن مكة الفيل ... » 169
«إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ... » 458
«إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك ... » 321
«إن ربي قتل ربكم في ليلة كذا» 67
«إن روح القدس نفث في روعي: لن تموت ... » 270
«إن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس ... » 134(1/526)
«إن كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو ... » 330
«إن له لأجر شهيدين» 447
«إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ... » 179
«إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكما» 237
«إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل منه ... » 431
«إنما كان يقول ذلك العباس ... » 183
«أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقرأ عليه: فمن يعمل ... » 383
«إنها ابنة أخي من الرضاع» 191
«إنها طعام طعم» 158
«إنها طعام طعم وشفاء سقم» 159
«إنها في علم الله قليل وعندكم في ذلك ... » 329
«إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد ... » 400
«إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ... » 191
«إني أتيت قبر أم محمد فسألت ربي ... » 206
«إني عند الله لخاتم النبيين وإن ادم لمنجدل ... » 174
«إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي ... » 256
«إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» 292
«أهلا بمن عاتبني الله فيهم» 325
«أهلا ومرحبا بمن عاتبني فيه ربي» 326
«أو خير من ذلك؟» 233
«أو مخرجي هم؟! ... » 84، 263
«أول سورة أنزلت فيها سجدة «والنجم» ... » 366
«أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل ... » 127
«أول ما بدىء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرؤيا ... » 261- 271
«أول من سيّب السوائب وعبد الأصنام عمرو بن لحي» 71
«أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك ... » 392
«أي جوار هذا يا بني عبد مناف؟» 293
«أيكم يعرف قس بن ساعدة الإيادي؟» 81
«أينا أسن أنا أم أنت؟» 490
[المعرف بالألف واللام] «الأمر لله يضعه حيث يشاء» 430
«الأنصار شعار والناس دثار» 280
«اللهم اصحبني في سفري واخلفني في ... » 477
«اللهم اصرعه، اللهم اكفناه بما شئت» 492
«اللهم أعز الإسلام بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب» 351
«اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك ... » 351
«اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» 387
«اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ... » 402
«اللهم إن كنت تعلم أني امنت بك وبرسلك ... » 109
«اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» 396
«اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر ... » 355
«اللهم حوالينا ولا علينا» 388
«اللهم عليك بهذا الملأ من قريش ... » 296
[الباء] «بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على السمع والطاعة ... » 438(1/527)
«بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما بايع عليه النساء ... » 439
«بايعوني على ألاتشركوا بالله شيئا ... » 437
«بالثمن» 474
«بسم الله» 403
«بسم الله الرحمن الرحيم» 403
«بعث الله جبريل إلى ادم فأمره ببناء البيت ... » 126
«بعث موسى وهو يرعى غنما لأهله ... » 209
«بعثت من خير قرون بني ادم قرنا فقرنا» 185
«بل التوبة والرحمة ... » 321
«بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم ... » 450
«بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من ... » 404
«بل أستأني بهم ... » 321
«بلى والذي نفسي بيده إنكم على الحق ... » 356
«بنت أبي سلمة؟!» 191
«بينما أنا في الحطيم ... » 423
[التاء] «تقولون لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون..» 391
[الثاء] «ثم رفع لي البيت المعمور، ثم أتيت ... » 426
«ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية ... » 424
«ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة ... » 425
«ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة ... » 426
[الجيم] «جاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج ... » 264
«جاءني رجلان عليهما ثياب بيض ... » 196
[المعرف بالألف واللام] «الجنة» 449، 451
[الحاء] [المعرف بالألف واللام] «الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئا ... » 477
«الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن ... » 325
[الخاء] «خذ أبا سفيان وقف به عند خطم الجبل» 21
«خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها ... » 398
«خيروه فإن اختاركم فهو لكم دون فداء ... » 233
[الدال] .....
[الذال] «ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي» 403
«ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك» 316
«ذلك جبريل، ولو دنا منه لأخذه» 295
[الراء] «رأيت خاتما في ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنه ... » 203
«رأيت عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار ... » 76
«رأيت ورقة في بطنان الجنة عليه السندس» 85
«ربح صهيب، ربح صهيب» 467
«رحم الله قسا كأني أنظر إليه على جمل ... » 80
«رد الله كيد الكافر- أو الفاجر- في نحره وأخدم هاجر ... » 109
[الزاي] «زملوني، زملوني ... » 262، 280(1/528)
[السين] «ساقي القوم اخرهم شربا ... » 487
«سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يريهم اية ... » 22
«سعدت إن شاء الله» 495
«سلمت إن شاء الله» 495
«سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ... » 179
[المعرف بالألف واللام] «السلام عليك يا رسول الله» 256
[الشين] «شهرا عيد لا ينقصان: رمضان وذو الحجة ... » 138
[المعرف بالألف واللام] «الشاعر؟» 444
«الشهر هكذا وهكذا، وعقد الإبهام ... » 138
[الصاد] «صبرا ال ياسر فإن موعدكم الجنة ... » 342
«صحبهما الله، إن عثمان أول من هاجر ... » 349
«صهيب سابق الروم ... » 288
[الضاد] .....
[الطاء] «طعام طعم، وشفاء سقم» 158
[الظاء] .....
[العين] «عرض علي ربي عز وجل أن يجعل لي بطحاء مكة ... » 319
«على ألايشركن بالله شيئا ولا يسرقن ... » 94
«على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي ... » 470
[الغين] «غطوا رأسه وضعوا على رجليه ... » 441
«غفر الله له ورحمه، فإنه مات على دين إبراهيم» 83
[الفاء] «فأخذني فغطني، ثم أرسلني فقال ... » 262
«فاسمع مني» 307
«فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس» 129
«فأنا أفعل» 220
«فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية ... » 128
«فأنى ذلك؟» 186
«فإني قد أذن لي في الخروج» 474
«فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء ... » 280
«فتلا علينا اية النساء، قال ... » 439
«فذلك سعي الناس بينهما ... » 128
«فذلك لك» 463
«فلعل ابنك هذا نزعه عرق!» 186
«فلما جاوزت ناداني مناد: أمضيت فريضتي ... » 427
«فما أنساه بعكاظ في الشهر الحرام وهو ... » 81
«فما فعل؟» 81
«فمن هي؟» 220
«فناداني فقال: إن الله قد سمع قول ... » 403
«فناداني ملك الجبال وسلّم علي ثم قال ... » 403
[المعرف بالألف واللام] «الفخر والخيلاء في أهل الإبل، والسكينة ... » 209(1/529)
[القاف] «قد أريت دار هجرتكم وهي يثرب ... » 458
«قد حضرته مع عمومتي، ورميت فيه ... » 213
«قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك ... » 307
«قد كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ... » 341
«قد كنت على قبلة لو صبرت عليها» 445
«قف مكانك، ولا تترك أحدا يلحق بنا ... » 493
«قل كلمة أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة» 394
«قل يا أبا الوليد أسمع ... » 307
[الكاف] «كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم» 85
«كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله ... » 433
«كأني بك يا سراقة تلبس سواري ... » 493
«كلا إن عمارا مليء إيمانا من مفرق رأسه ... » 343
«كلا عنيت» 329
«كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء ... » 398
«كنت مسترضعا في بني سعد بن بكر ... » 198
«كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم ... » 20
«كيف وجدت قلبك؟» 343
[اللام] «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» 392
«لا أرى عندك ولا عند أخيك منعة ... » 429
«لا أكره أحدا منكم على شيء، من رضي ... » 431
«لا بل نترفق به، ونحسن صحبته ما دام بيننا ... » 20
«لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك» 396
«لا تخافوا الضيعة، فإن هذا بيت الله ... » 129
«لا تسألني بحق اللات والعزى شيئا، فو الله ... » 235
«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ... » 132
«لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا» 470
«لا تمسه» 236
«لا، نحن بنو النضر بن كنانة ... » 183
«لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» 142
«لبيك اللهم لبيك ... » 132
«لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك ... » 123
«لتأخذ كل قبيلة بطرف» 229
«لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل ... » 396
«لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا» 327
«لقد خشيت على نفسي ... » 261، 262
«لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير ... » 84
«لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن ينزل عليه ... » 238
«لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل الحجارة ... » 238
«لقد رأيته في الجنة يسحب ذيولا» 83
«لقد شرف العرش بنعلك يا محمد ... » 13
«لقد شققت علي» 239
«لقد شهدت بدار عبد الله بن جدعان حلفا ... » 214
«لقد فقه الرجل ... » 383
«لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدّثون ... » 18
«لقد مر به هود وصالح عليهما السلام ... » 127
«لقد مر بهذا نوح وهود وإبراهيم ... » 126(1/530)
«لكم أهل السفينة هجرتان ... » 376
«لم أسمع» 394
«لم نؤمر بهذا» 455
«لم نؤمر بهذا، ولكن ارجعوا إلى رحالكم ... » 452
«لمن هذه؟» 495
«لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا ... » 349
«لو دنا مني لاختطفته الملائكة» 295
«لولا أن قومك حديثو عهد بالكفر ... » 229
«لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد ... » 178
«ليتكلم متكلمكم ولا يطل الخطبة فإن ... » 450
[الميم] «ما أجهلك بلغة قومك» 330
«ما اسمك؟» 495
«ما ألوانها؟» 186
«ما أنا بطارد المؤمنين» 324
«ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا ... » 316
«ما أنا بقارىء» 262
«ما بعث الله نبيا إلا وقد رعى الغنم» 209
«ما بيدي ما أتزوج به» 220
«ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» 9، 58
«ما بهذا بعثت، إنما جئتكم من عند الله بما بعثني ... » 315
«ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب ... » 315
«ما جاء بك يا ابن الخطاب، فو الله ما أرى أن تنتهي ... » 355
«ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده ... » 284
«ماذا لقينا من أحمائك؟ ... » 402
«ما رأتني، لقد أخذ الله ببصرها عني ... » 293
«ما رأيت بمكة أحسن لمة، ولا أنعم نعمة من ... » 440
«ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما» 482
«ما كان الله ليخزيك أبدا، إنك ... » 239
«ما لك يا أبا بكر؟» 479
«ما من نبي إلا وقد حج البيت» 126
«ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب ... » 396
«ما هكذا ذكرت، إنما البضع ما بين الثلاث ... » 390
«ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية ... » 237
«ما وراءك؟» 343
«ماء زمزم لما شرب له ... » 158
«ماء زمزم لما شرب له، إن شربته لتستشفي ... » 158
«مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة» 380
«محمد، فاخرج» 298
«مكانكم حتى اتيكم» 206
«من أسدى إليكم معروفا فكافئوه، وإلا ... » 399
«من أنا؟» 185
«من أنتم؟» 434
«من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟» 403
«من كرامتي على ربي أني ولدت مختونا» 175
«من لي بعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص؟» 466
«من يحملني حتى أبلغ رسالة ربي؟ ... » 429
[المعرف بالألف واللام] «المسجد الأقصى» 134
«المسجد الحرام» 134(1/531)
[النون] «نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات ... » 247
«نعم» 324، 385، 470، 474، 493
«نعم أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك ... » 334
«نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى ... » 197
«نعم، كلمة تعطونيها تملكون بها العرب ... » 391
«نعم، كنت أرعاها على قراريط ... » 209
«نم على فراشي، وتسجّ ببردي هذا ... » 475
[الهاء] «هاتوه» 81
«هالة، هالة، هالة!!» 224، 225
«هذا قبر امنة بنت وهب، استأذنت ... » 206
«هل بها من لبن؟» 487
«هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟» 444
«هل فيها من أورق؟» 186
«هل لك من إبل؟» 186
«هل لك من حاجة؟» 326
«هل لكم في خير مما جئتم له؟» 432
«هنا نزلت بي أمي، وفي هذه الدار قبر أبي ... » 206
«هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا ... » 396
«هي أمي بعد أمي ... » 207
[الواو] «والله إنك لأحب أرض الله إلي ... » 477
«والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير ... » 4
«والله ما أبدلني الله خيرا منها، امنت بي ... » 400
«والله يا عمّ لو وضعوا الشمس في يميني ... » 266
«وإليك نسعى ونحفد» 489
«وإن غشيتم من ذلك شيئا ... » 437
«وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي ... » 182
«وأنا العاقب ما بعده نبي ... » 182
«والناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في ... » 187
«وإنه لأشبه الناس بصاحبكم» 184
«وتفعلوا؟» 321
«وكيف لي بذلك؟» 220
«وكيف يتحدث الناس- يا عمر- أن محمدا يقتل ... » 20
«ولكنكم تستعجلون» 341
«ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان ... » 130
«وما افترق الناس فرقتين إلا جعلني ... » 185
«وما الذي معك؟» 431
«وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر ... » 20
«وما يمنعني وأنا من قريش، واسترضعت» 192
«ومن أي البلاد أنت؟» 403
[الياء] «يا أبا بكر إنا قليل» 289
«يا أبا بكر أي واد هذا؟» 126، 127
«يا أبا بكر لو كان شيء لأحببت» 478
«يا أبا يحيى ربح البيع» 467
«يا إبراهيم أذن وعلي البلاغ ... » 122
«يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا ... » 293، 429
«يا بني عبد مناف أي جوار هذا؟ ... » 396
«يا بني فلان إني رسول الله إليكم ... » 429
«يا رسول الله إن ابن أختي وجع، فمسح رأسي ... » 203
«يا عمر إنا قليل، قد رأيت ما لقينا» 356
«يا عمّ إن أخاك أبا طالب كثير العيال ... » 231(1/532)
«يا عمّ إن الله قد سلط الأرضة على ... » 385
«يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني ... » 302
«يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل ... » 427
«يا معشر قريش اشهدوا أن زيدا ابني ... » 233
«يرحم الله أم إسماعيل لو تركت ... » 129
[المعرف بالألف واللام] «اليوم يوم الوفاء والبر، ادن ... » 494(1/533)
3- فهرس الأعلام
(أ) ادم عليه السلام: 112، 125، 126، 174، 185، 424.
اردو: 253.
ازر (انظر تارح) : 107، 108، 395.
اسية (امرأة فرعون) : 398، 399.
الالوسي: 253، 395.
امنة بنت رقيش: 463.
امنة بنت هاجر: 160.
امنة بنت وهب: 41، 163، 164، 165، 166، 173، 174، 175، 176، 188، 189، 192، 200، 206، 286.
أبان بن عثمان: 28.
أبرام- إبراهيم عليه السلام.
إبراهيم عليه السلام: 40، 41، 56، 57، 70، 72، 80، 82، 83، 84، 107، 108، 109، 110، 112، 113، 114، 115، 116، 117، 118، 120، 121، 122، 124، 125، 126، 127، 128، 130، 131، 132، 133، 134، 135، 136، 137، 139، 145، 174، 184، 185، 188، 197، 222، 227، 229، 230، 255، 271، 305، 373، 395، 414، 425.
إبراهيم بن عمر- البقاعي: 36.
إبراهيم بن محمد- برهان الدين الحلبي: 35.
إبراهيم بن محمد الإصطخري: 53.
أبرهة: 66، 167، 168، 169.
إبليس: 471، 472، 473.
ابن أبي- عبد الله بن أبي.
أبي بن خلف: 334، 338، 390.
أبي بن كعب: 422.
ايتين دينيه: 22.
ابن الأثير- محمد بن عبد الكريم.
أبو أحمد بن جحش- عبد بن جحش.
أحمد بن الحسين- البيهقي: 81، 84، 126، 174، 185، 206، 235، 308، 365، 376، 400، 421، 450، 467، 486.
أحمد بن حنبل: 28، 31، 34، 65، 71، 116، 127، 158، 174، 185، 206، 209، 238، 269، 293، 319، 321، 329، 351، 352، 366، 383، 393، 400، 421، 438.
__________
* أسقطت في هذه الفهارس: أبو، ابن، أم، ابن أبي، ابن أم، أخت، بنت.(1/535)
أحمد شوقي: 176.
أحمد بن عبد الحليم- ابن تيمية: 115، 116، 391، 415.
أحمد بن عبد الله- أبو نعيم: 80، 84، 165، 166، 198، 270، 376، 429، 435.
أحمد بن علي بن ثابت- الخطيب البغدادي: 33.
أحمد بن علي بن حجر- ابن حجر العسقلاني: 23، 35، 166، 174، 179، 181، 192، 202، 265، 282، 364، 365، 367، 368، 369، 393، 394، 427، 438، 465، 490، 496.
أحمد بن علي بن شعيب- النسائي: 28، 33، 134، 321، 398، 412، 421.
أحمد بن علي بن المثنى- أبو يعلى: 126، 198.
أحمد بن عمر القرطبي: 202.
أحمد بن عمرو- البزار: 174، 364، 365.
أحمد بن محمد الفيومي- الفيومي: 100، 484.
أحمد بن القسطلاني: 35.
أحمد بن موسى- ابن مردويه: 269، 365، 398.
أحمد بن يحيى- البلاذري: 33، 160، 184، 345.
أحيحة بن الجلاح: 152.
الأخنس بن شريق- أبو ثعلبة: 312، 331، 383، 405.
أدبال- أذبل بن إسماعيل.
أدبيل- أذبل بن إسماعيل.
أدد بن مقوّم: 144.
أدر- أذر بن إسماعيل.
إدريس عليه السلام: 71، 424.
أذبل بن إسماعيل (- أدبال، أدبيل) : 144.
أذر بن إسماعيل- أدر: 144.
الإراشي: 297، 298.
أربد بن حميرة: 463.
الأرقم بن أبي الأرقم- عبد مناف: 287، 289.
إرم بن سام بن نوح: 46.
أروى بنت حرب- أم جميل: 282، 292.
أروى بنت عبد المطلب: 160.
أروى بنت كريز بن ربيعة: 286.
أرياط: 66.
الأزرقي- محمد بن عبد الله.
أسامة بن زيد: 233.
أبو الأسباط- يعقوب عليه السلام.
ابن إسحاق- محمد بن إسحاق.
أم إسحاق- سارة.
إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام: 110، 113، 114، 115، 116، 117، 118، 119، 120، 121، 132، 136.
أسد بن خزيمة: 462.
أسد قريش- نوفل بن خويلد.
أسد الله- حمزة بن عبد المطلب.
أسعد بن زرارة- أبو أمامة: 435، 436، 440، 441، 442، 443، 447، 450، 451، 452، 468.
اسفنديار: 297، 336.
أسلم بن أفصى بن حارثة: 48.
أسماء بنت أبي بكر- ذات النطاقين: 28، 83، 287، 422، 473، 474، 475، 482، 483.
أسماء بنت سلامة: 288.
أسماء بنت عمرو بن عدي- أم منيع: 446، 448.
أسماء بنت عميس: 288، 375.
أم إسماعيل- هاجر.
إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام: 32، 40، 47، 48، 57، 70، 72، 80، 82، 83،(1/536)
107، 110، 111، 112، 113، 114، 115، 116، 117، 118، 119، 120، 121، 125، 128، 130، 131، 132، 135، 136، 137، 139، 144، 145، 156، 158، 184، 185، 222، 229، 249، 271، 430.
إسماعيل بن عمر بن كثير- ابن كثير: 34، 37، 108، 115، 126، 198، 306، 329، 366، 410، 418، 422، 427، 428، 438، 446.
إسماعيل بن محمد بن سعيد بن أبي وقاص: 8.
الأسود بن عبد يغوث: 332، 344.
الأسود بن المطلب بن أسد: 301، 315، 335.
أسيد بن حضير: 441، 442، 443، 446، 451، 452.
الأشعث بن قيس: 183.
أصحمة بن أبجر (وانظر النجاشي) : 361، 380.
الاصطخري- إبراهيم بن محمد.
أصرم- عمرو بن ثابت بن وقش.
الأصيرم- عمرو بن ثابت بن وقش.
الأعشى: 180.
أكتم بن أبي الجون- أبو معبد: 487، 489.
أبو إلياس- مضر بن نزار.
إلياس بن مضر: 190.
أم إلياس بن مضر- الرباب بنت جندة.
أبو أمامة- أسعد بن زرارة.
أبو أمامة- صدي بن عجلان.
أبو امرىء القس: 47.
الأموي- سعيد بن يحيى.
إميل درمنغم- درمنغم.
أميمة بنت عبد المطلب: 160، 462.
أمينة بنت خلف- همينة: 288.
ابنة أبي أمية- هند بنت أبي أمية.
أمية بن خلف: 284، 296، 325، 335، 337، 339، 341، 342، 344، 391، 472.
أمية بن أبي الصلت: 85، 116، 272.
أمية بن عبد شمس: 151، 152، 158.
أمية بن قلع بن عباد: 142.
أبو أمية بن المغيرة المخزومي: 228.
أنس بن رافع- أبو الحيسر: 432.
أنس بن مالك: 198، 417، 422، 423.
أنسة (مولى النبي) - أبو مسروح: 468.
أنيس بن جنادة الغفاري: 289.
أهيب بن عبد مناف: 286.
أوس بن ثابت بن المنذر: 447، 469.
أوس بن حجر: 485.
إياس بن البكير: 288، 465.
إياس بن معاذ: 432.
إيشاع (أم يحيى عليه السلام) : 424.
إيليا (من أنبياء بني إسرائيل) : 249، 250.
أم أيمن- بركة الحبشية.
أبو أيوب الأنصاري- خالد بن زيد.
(ب) باذان: 67.
باراكلي طوس (انظر البارقليط) : 253، 254.
بارتلمي سانت هلير: 69.
البارقليط (- المخلص، المعزي، الفارقليط) :
252، 253.
الباقر- محمد الباقر.
باقوم: 288.
بحيرى (الراهب) : 203، 211، 212، 216، 217، 235.
بحيرة- بيحرة.
البخاري- محمد بن إسماعيل.
أبو البختري- العاص بن هشام.(1/537)
بختنصر البابلي: 57.
البراء بن عازب: 462.
البراء بن معرور: 444، 445، 447، 450، 451، 452.
أبو بردة بن نيار- هانىء بن نيار.
البراض بن قيس الكناني: 212.
بركة بنت ثعلبة بن حصن- بركة الحبشية أم أيمن:
166، 205، 207، 233.
بركة الحبشية- بركة بنت ثعلبة.
برنابا: 254.
برة بنت عبد العزى: 189.
برة بنت عبد المطلب: 160، 287، 459.
برة بنت مراد بن أد: 190.
البرهان: 191.
ابن بري- عبد الله بن بري.
بريدة بن الحصيب الأسلمي: 206، 422.
البزار- أحمد بن عمرو.
بشر بن البراء بن معرور: 447.
بشير بن سعد الأنصاري: 447.
البغوي- الحسين بن مسعود.
بغيض بن عامر: 359.
البقاعي- إبراهيم بن عمر.
أبو بكر الصديق- عبد الله بن عثمان.
أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: 30.
البكير بن عبد ياليل: 288.
البلاذري- أحمد بن يحيى.
أم بلال- حمامة.
بلال الحبشي: 55، 84، 284، 285، 323، 341، 342، 344، 345، 346، 462.
بلقيس: 64.
بودلي: 274.
بوذا: 241.
البوصيري- محمد بن سعيد.
بيحيرة بن فراس- بحيرة: 230.
بيركلي طوس (انظر البارقليط) : 253، 254.
البيروني- محمد بن أحمد.
البيضاء بنت عبد المطلب- أم حكيم: 160، 286.
البيهقي- أحمد بن الحسين.
(ت) تارح (انظر ازر) : 107، 108.
الترمذي- محمد بن عيسى.
توماس كارليل- كارليل: 17.
تيرح بن يعرب: 144.
ابن تيمية- أحمد بن عبد الحليم.
(ث) ثابت البناني: 417.
ثابت بن الجذع: 448.
أبو ثعلبة- الأخنس بن شريق.
ثعلبة بن غنمة بن عدي: 448.
أبو ثمامة (تابع من الجن) : 71.
أبو ثمامة- جنادة بن عوف بن أمية.
ثويبة الأسلمية «جارية أبي لهب) : 176، 191، 292، 459.
(ج) أبو جابر- عبد الله بن عمرو بن حرام.
جابر بن سمرة: 203.
جابر بن عبد الله الأنصاري: 435.
جابر بن عبد الله الراسبي: 435.
جابر بن عبد الله بن رياب: 435.
جابر بن عبد الله العبدي: 435.
جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام: 158، 228، 280، 380، 418، 422، 435، 445، 448.
الجاحظ- عمرو بن بحر.(1/538)
الجارود بن أبي سبرة: 423.
جارية بني المؤمل- لبينة.
جبار بن صخر بن أمية: 448.
جبر الرومي: 55، 273، 322.
جبريل عليه السلام: 111، 126، 129، 132، 144، 158، 197، 198، 256، 259، 261، 264، 265، 266، 269، 270، 271، 274، 275، 280، 295، 321، 327، 398، 403، 409، 410، 423، 424، 425، 426، 427، 468، 473، 475.
جبلة بن الأيهم: 68.
جبير بن مطعم: 178، 238، 405، 471.
جدامة- الشيماء بنت الحارث.
جذامة بنت جندل: 463.
جرهم بن قحطان: 144.
جرهم بن يقطن بن عيبر: 144.
ابن جرير: 321.
ابن جعفر- عبد الله بن جعفر.
أبو جعفر الرازي- عيسى بن عبد الله بن ماهان.
جعفر بن أبي طالب: 231، 288، 350، 375، 376، 378، 379.
أم جميل بنت حرب- أروى بنت حرب.
أم جميل بنت الخطاب: 290.
جميل بن معمر الجمحي: 357.
جنادة بن عوف بن أمية- أبو ثمامة: 142.
جندب بن جنادة- أبو ذر الغفاري: 134، 158، 289، 422.
جندب بن سفيان البجلي: 282.
جندلة بنت الحرث: 190.
أبو جهل- عمرو بن هشام.
ابن الجوزي- عبد الرحمن بن علي.
جيبون: 243.
(ح) ابن أبي حاتم- عبد الرحمن بن محمد.
حاتم الطائي: 24، 95.
الحارث بن الأسلت- أبو قيس بن الأسلت.
الحارث بن جبلة: 68.
الحارث بن طلحة: 461.
الحارث بن عباد: 95.
الحارث بن عبد العزى السعدي (- أبو كبشة، أبو ذؤيب) : 193، 195.
الحارث بن عبد المطلب: 153، 156، 157، 160، 165.
الحارث بن قيس بن عامر الزرقي: 447.
الحارث بن كلدة: 93.
الحارث بن مضاض الجرهمي: 145.
الحارث بن هشام: 275، 351، 453، 465.
حاطب بن أبي بلتعة: 20.
حاطب بن الحارث: 288.
حاطب بن عمرو: 288.
أبو حاطب بن عمرو: 349.
الحاكم- محمد بن عبد الله.
ابن حبان- محمد بن حبان.
أبو حبة الأنصاري: 422.
حبيّ بنت حليل: 147، 148، 189.
أم حبيب بنت أسد: 189.
أم حبيب بنت ثمامة: 463.
أم حبيب بنت جحش: 462.
حبيب بن زيد بن عاصم: 446.
حبيب بن عمرو (أخو عبد ياليل) : 401.
أم حبيبة- رملة بنت أبي سفيان.
حبيش- أكتم بن أبي الجون (أبو معبد) .
حبيش بن خالد: 486، 490.
الحجاج بن يوسف الثقفي: 133، 174، 230.
ابن حجر- أحمد بن علي.(1/539)
حجل بن عبد المطلب: 160.
حذامة- الشيماء بنت الحارث.
حذيفة بن عبد بن فقيم- القلمس: 141.
أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة: 288، 349، 469.
أبو حذيفة بن المغيرة: 342.
حذيفة بن اليمان: 422.
حزقيل: 373.
ابن حزم- علي بن أحمد.
حسان بن ثابت: 374، 405، 469.
الحسن البصري: 115.
الحسن بن زبالة: 497.
الحسن بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس: 33.
الحسن بن علي بن أبي طالب: 224، 233، 284.
الحسين بن علي بن أبي طالب: 284.
الحسين بن مسعود- البغوي: 490.
الحصين بن الحارث: 468.
حفصة بنت عمر (أم المؤمنين) : 398، 465.
أبو الحكم- عمرو بن هشام.
أم حكيم- البيضاء بنت عبد المطلب.
حكيم بن حزام: 232، 360، 471.
حكيم بن مرة- كلاب بن مرة.
الحلبي- إبراهيم بن محمد.
الحلبي- علي بن برهان الدين.
حليل بن حبشية بن سلول الخزاعي: 147، 148، 149.
حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية: 191، 192، 194، 195، 196، 200، 205.
حمامة (أم بلال الحبشي) : 341، 345، 346.
حمد بن محمد- الخطابي: 18، 418.
أبو الحمراء: 422.
أبو حمزة الإباضي- المختار بن عوف.
حمزة بن عبد المطلب: 160، 191، 220، 294، 299، 300، 353، 355، 356، 359، 360، 468.
حمنة بنت جحش: 462.
حمورابي: 47.
حنتمة بنت هاشم: 351، 357.
أبو حنظلة- صخر بن حرب.
ابن الحنظلية- عمرو بن هشام.
أبو حنيفة- النعمان بن ثابت.
ابن حوقل- محمد بن حوقل.
حواء: 112.
حيدرة- علي بن أبي طالب.
أبو الحيسر- أنس بن رافع.
(خ) خارجة بن زيد بن أبي زهير: 447، 468، 497.
خالد بن البكير: 288، 465.
خالد بن زيد- أبو أيوب الأنصاري: 422، 447.
خالد بن سعيد بن العاص: 288.
خالد بن عمرو بن عدي: 448.
خالد بن قيس بن مالك: 447.
خالد بن معدان الكلاعي: 197.
خالد بن الوليد: 19، 30، 72، 387، 466.
خباب (مولى عتبة بن غزوان) : 469.
خباب بن الأرت: 287، 323، 333، 334، 341، 353، 354، 355.
خبيب بن إساف: 468، 469، 497.
خبيب بن عبد الرحمن: 468.
خديج بن سلامة: 448.
خديجة بنت خويلد (أم المؤمنين) : 84، 85، 99، 171، 214، 215، 216، 217، 219، 220، 221، 222، 223، 224، 225، 231، 232، 233، 239، 255، 261، 262، 263، 264، 280، 283، 284،(1/540)
285، 345، 360، 381، 391، 396، 397، 398، 399، 400، 401.
خذامة- الشيماء بنت الحارث.
خزيمة بن مدركة: 190.
أم خزيمة بن مدركة- سلمى بنت أسلم.
الخطاب (والد عمر) : 352.
خطاب بن الحارث: 288.
أبو الخطاب بن دحية- عمر بن الحسن.
الخطابي- حمد بن محمد.
الخطيب البغدادي- أحمد بن علي بن ثابت.
ابن خالدون- عبد الرحمن بن خالدون.
خلاد بن سويد: 447.
خليل الرحمن- إبراهيم عليه السلام.
خليل بن كيكلدي- الحافظ العلائي: 166، 183.
خندف (أم مدركة) : 190.
خنيس بن حذافة السهمي: 288، 375، 465.
خولة بنت حكيم: 397.
خولي بن أبي خولي: 465.
خويلد بن أسد (والد خديجة) : 221.
ابن أبي خيثمة: 362.
الخيزران (أم هارون الرشيد) : 174.
(د) الدارقطني- علي بن عمر.
داود عليه السلام: 374.
أبو داود- سليمان بن الأشعث.
أبو داود الطيالسي- سليمان بن داود.
داود بن علي بن عبد الله بن عباس: 154.
أبو دجانة- سماك بن خرشة.
ابن دحية- عمر بن الحسن بن علي.
دحية بن خليفة الكلبي: 269.
درمنغم: 170، 199، 200، 201، 217، 221، 236، 272، 479.
درة بنت أبي سلمة: 191.
دريد بن الصمة: 61.
ابن الدغنة: 345، 381، 382.
دمّا بن إسماعيل- دمار: 144.
دمار- دما بن إسماعيل.
ابن أبي الدنيا- عبد الله بن محمد.
الدمياطي- عبد المؤمن بن خلف.
أبو دؤاد الإيادي: 463.
دوزي: 243.
الديش بن الهون بن خزيمة: 287.
(ذ) ذات النطاقين- أسماء بنت أبي بكر.
أبو ذر الغفاري- جندب بن جنادة.
ذكوان بن عبد قيس الزرقي: 435، 436، 447.
الذهبي- محمد بن أحمد بن عثمان.
ذو الجناحين- جعفر بن أبي طالب.
ذو الرمحين- عمرو بن المغيرة.
ذو القرنين: 326.
ذو نواس: 65، 66.
ذو النورين- عثمان بن عفان.
أبو ذؤيب- الحارث بن عبد العزى.
ابنة أبي ذؤيب- حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية.
(ر) الراعي (الشاعر) : 412.
رافع بن مالك بن العجلان: 435، 436، 447، 452.
الرباب بنت جندة بن معد: 190.
الربيع بن أنس: 116.
ابنا ربيعة- شيبة وعتبة.
أبو ربيعة- عمرو بن المغيرة.
ربيعة بن حرام: 148.
ربيعة بن عباد: 293.(1/541)
ربيعة بن نزار بن معد: 47.
الرحال- عروة بن عتبة.
الرحمن- مسيلمة الكذاب.
رحمن اليمامة- مسيلمة الكذاب.
رحمة الله الهندي: 253.
رزاح بن ربيعة بن حرام: 148.
رزاح بن عدي بن كعب: 351.
أبو رزين (مولى المنصور) : 154.
أبو رزين (هانىء) : 394.
رستم: 297، 336.
رضي الدين القزويني: 14.
رعلة بنت مضاض الجرهمية: 130، 144.
رفاعة بن عبد المنذر: 446، 452، 465.
رفاعة بن عمرو بن زيد: 448.
رقية بنت رسول الله: 223، 232، 349.
رقية بنت نوفل- قتيلة بنت نوفل.
ركانة بن عبد يزيد: 274.
رملة بنت أبي سفيان- أم حبيبة (أم المؤمنين) :
191، 221، 375، 462.
رملة بنت أبي عوف: 288.
رؤبة بن العجاج: 255.
رياح بن عبد الله بن قرط: 351.
(ز) ابن الزبعرى- عبد الله بن الزبعرى.
زبيدة (زوج هارون الرشيد) : 174.
الزبير بن بكار: 184، 444.
الزبير بن عبد المطلب: 160، 213، 214.
الزبير العبدري: 471.
الزبير بن العوام: 28، 99، 286، 349، 469، 495، 496.
زرارة بن زرارة- أبو هالة بن زرارة.
أبو زرعة الرازي- عبد الله بن عبد الكريم.
الزرقاني- محمد بن عبد الباقي.
الزركشي- محمد بن بهادر.
زريق (جد ذكوان الزرقي) : 436.
زمعة بن الأسود بن المطلب: 315، 385، 471.
زنبرة- زنّيرة.
زنّيرة: 344، 346.
زهرة بن كلاب: 148، 163، 188.
الزهري- محمد بن مسلم.
زهير بن أبي أمية المخزومي: 384، 385.
زهير بن أبي سلمى: 472.
زياد بن عبد الله البكائي: 32، 356.
زياد بن لبيد الأنصاري: 447.
زيد بن حارثة: 93، 232، 233، 236، 284، 285، 401، 402، 468.
زيد بن الخطاب: 464.
زيد بن سهل- أبو طلحة الأنصاري: 447.
زيد بن عاصم: 446.
زيد بن عمرو بن نفيل: 82، 83، 84، 92.
زيد بن كلاب- قصي بن كلاب.
زيد بن محمد- زيد بن حارثة.
زين العابدين- علي بن الحسين.
زينب بنت جحش (أم المؤمنين) : 15، 39، 462.
زينب بنت الحارث اليهودية: 447.
زينب بنت رسول الله: 223، 232، 399.
زينب بنت أبي سلمة: 349.
(س) سارة (زوج إبراهيم عليه السلام) : 107، 108، 109، 110، 114، 115، 116، 118، 120، 121، 128، 132.
سالم مولى أبي حذيفة: 469.
سام بن نوح: 45.
السائب بن عثمان بن مظعون: 288.
السائب بن يزيد: 203.
سبأ- عبد شمس بن يشجب.(1/542)
أبو سبرة بن أبي رهم: 349، 350، 469.
ابن سبعين- عبد الحق بن إبراهيم.
السبكي- علي بن عبد الكافي.
سخبرة بنت تميم: 463.
سراقة بن مالك بن جعشم: 481، 491، 492، 493، 494، 495.
سراقة بن المعتمر: 464.
ابن سعد- محمد بن سعد.
سعد بن خيثمة: 446، 452، 468، 469، 497.
سعد الدريني- عبد العزيز بن أحمد.
سعد بن الربيع: 447، 452، 469.
سعد بن عبادة: 448، 452، 453.
سعد بن مالك- أبو سعيد الخدري: 209، 396، 422.
سعد بن معاذ: 441، 442، 443، 469.
سعد بن أبي وقاص: 19، 286، 287، 462.
السعدان- سعد بن عبادة وسعد بن معاذ.
سعيد بن جبير: 115، 340، 364، 365.
أبو سعيد الخدري- سعد بن مالك.
سعيد بن رقيش: 463.
سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: 82، 83، 287، 353، 354، 465.
سعيد بن المسيب: 116، 264.
سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي: 33، 34، 469.
أبو سفيان- صخر بن حرب.
السكران بن عمرو: 375.
سلّام بن مشكم: 448.
سلمى بنت أسلم: 190.
سلمى بنت عمرو الخزاعية: 190.
سلمى بنت عمرو النجارية: 152، 189.
سلمان الفارسي: 55، 93، 254.
سلمة: 469.
أبو سلمة- عبد الله بن عبد الأسد.
أم سلمة- هند بنت أبي أمية.
سلمة بن الأكوع- سلمة بن عمرو بن الأكوع.
سلمة بن أبي سلمة: 459، 460.
سلمة بن سلامة بن وقش: 446.
سلمة بن عمرو بن الأكوع: 48.
أبو سليط الأنصاري: 486.
سليط بن عمرو العامري: 288.
سليم- أبو كبشة (مولى النبي) .
سليم بن عمرو بن حديدة: 448.
سليمان عليه السلام: 64، 134.
سليمان بن إبراهيم الجزائري: 22.
سليمان بن أحمد- الطبراني: 81، 174، 224، 269، 270، 398، 400، 438، 439.
سليمان بن الأشعث- أبو داود: 28، 33، 440.
سليمان بن داود- أبو داود الطيالسي: 158.
سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس: 154.
سماك بن خرشة- أبو دجانة: 19.
سمرة بن جندب: 422، 428.
السموأل بن عادياء: 95، 246.
السميدع: 145.
سمية (أم زياد) : 342.
سمية بنت خباط: 342، 343.
سنان بن صيفي بن صخر: 448.
سهل بن حنيف: 498.
سهل بن عتيك: 447.
سهلة بنت سهيل بن عمرو: 349.
سهيل بيضاء: 350.
سهيل بن عمرو بن عبد شمس- أبو يزيد: 405.
السهيلي- عبد الرحمن بن عبد الله.
سودة بنت زمعة: 375.
سودة بنت عك: 190.(1/543)
سويبط بن سعد بن حريملة: 468.
سويد بن سعيد: 158.
سويد بن الصامت- الكامل: 431.
ابن سيد الناس- محمد بن محمد.
سير موير- وليم موير.
سيف بن ذي يزن: 66، 67، 305.
سيف الله المسلول- خالد بن الوليد.
السيوطي- عبد الرحمن بن أبي بكر.
(ش) شجاع بن وهب بن ربيعة الأسدي: 463.
شداد بن أوس: 198، 422.
شريك بن عبد الله النخعي: 417.
شريك بن عبد الله بن أبي نمر: 417، 418.
الشعبي- عامر بن شراحيل.
الشفاء: 175.
الشمس الشامي: 35.
الشمّاء- الشيماء بنت الحارث.
ابن الشهيد- محمد بن إبراهيم.
شيبة- شيبة الحمد- عبد المطلب بن هاشم.
شيبة بن ربيعة: 296، 301، 315، 325، 391، 402، 403، 471.
شيث بن ادم: 125، 126.
شيخ نجدي- إبليس.
الشيماء بنت الحارث السعدية (- جدامة، حذامة، خذامة، الشماء) : 195، 196.
(ص) صالح عليه السلام: 127.
أبو صالح: 116.
صخر بن حرب- أبو سفيان: 21، 94، 99، 183، 221، 239، 292، 301، 305، 312، 315، 376، 383، 387، 391، 405، 463، 471.
الصديقة بنت الصديق- عائشة بنت أبي بكر.
صدي بن عجلان- أبو أمامة: 319، 422.
صعصعة بن معاوية: 383.
صفوان بن أمية: 323.
صفية بنت جندب: 160.
صفية بنت عبد المطلب: 160، 286.
صفية بنت معمر الجمحي: 401.
ابن الصلاح- عثمان بن عبد الرحمن.
صلاح الدين العلائي- خليل بن كيكلدي.
صهيب بن سنان الرومي: 55، 288، 323، 422، 458، 467، 468.
صيفي بن الأسلت- أبو قيس بن الأسلت.
صيفي بن أسود بن عباد: 448.
(ض) الضحاك بن حارثة: 448.
ضرار بن عبد المطلب: 160.
(ط) أبو طالب- عبد مناف بن عبد المطلب.
الطاهر بن محمد رسول الله: 223.
الطاهرة- خديجة بنت خويلد.
الطبراني- سليمان بن أحمد.
الطبري- محمد بن جرير.
طعيمة بن عدي: 471.
أبو الطفيل- عامر بن واثلة.
الطفيل بن الحارث بن سخبرة: 288.
الطفيل بن الحارث بن المطلب: 468.
الطفيل بن مالك بن خنساء: 448.
الطفيل بن النعمان بن خنساء: 448.
أبو طلحة: 19.
أبو طلحة الأنصاري- زيد بن سهل.
طلحة بن عبيد الله: 19، 99، 286، 468، 495، 496.
طليب بن عمير: 469.(1/544)
الطيالسي- سليمان بن داود.
الطيب بن محمد رسول الله: 223.
طيما بن إسماعيل: 144.
(ظ) ظهير بن رافع: 446.
(ع) عاتكة بنت الأوقص السلمية: 188.
عاتكة بنت خالد الخزاعية- أم معبد: 486، 487، 488، 489.
عاتكة بنت سعد بن الظرب: 190.
عاتكة بنت عامر بن مخزوم- أم مكتوم: 325
عاتكة بنت عبد المطلب: 160، 316، 384.
عاتكة بنت مرة بن هلال السلمية: 188، 189.
عاتكة بنت هلال بن فالج: 188، 190.
عادل زعيتر: 170.
أبو العاص بن الربيع: 232، 399.
العاص بن هشام بن الحارث- أبو البختري:
301، 315، 360، 384، 385، 471، 472.
العاص بن وائل السهمي: 213، 214، 301، 333، 335، 338، 339، 357، 358.
عاصم بن عمر بن قتادة: 29.
عاقل بن البكير: 288، 465.
عامر بن البكير: 288، 465.
عامر بن الجراح- عامر بن عبد الله بن الجراح.
عامر بن ربيعة: 83، 288، 349، 351، 352، 461.
عامر بن شراحيل- الشعبي: 115.
عامر بن عبد الله بن الجراح- أبو عبيدة: 19، 286، 375، 387.
عامر بن فهيرة: 288، 343، 346، 483، 484، 486، 493.
عامر بن واثلة- أبو الطفيل: 115.
عامر بن أبي وقاص: 375.
عائشة بنت أبي بكر (أم المؤمنين) : 28، 89، 90، 224، 229، 261، 262، 275، 284، 287، 381، 382، 397، 398، 399، 400، 409، 411، 422، 432، 473، 474، 483.
عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطىء) : 189.
عباد بن بشر: 469.
عباد بن حذيفة بن عبد: 142.
عباد بن قيس بن عامر الزرقي: 447.
عبادة بن الصامت: 435، 436، 437، 438، 439، 448، 452.
العباس بن عبادة بن نضلة: 436، 448، 449، 452، 455.
العباس بن عبد المطلب: 20، 21، 99، 153، 154، 160، 163، 176، 183، 185، 228، 231، 294، 325، 394، 395، 429، 444، 449، 451، 462، 463، 490.
ابن أم عبد- عبد الله بن مسعود.
ابن عبد البر- يوسف بن عبد الله.
عبد بن جحش (أبو أحمد) : 288، 462، 463.
عبد الحق بن إبراهيم- ابن سبعين: 415.
عبد الدار بن قصي: 148، 150، 471.
عبد رب الكعبة- عبد الله بن عثمان (أبو بكر) عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي: 120، 166، 364، 365، 367، 393.
عبد الرحمن بن خالدون- ابن خالدون: 103.
عبد الرحمن الشرقاوي: 83.
عبد الرحمن بن صخر- أبو هريرة: 76، 115، 126، 142، 206، 380، 393، 398، 422، 428، 438، 443.(1/545)
عبد الرحمن بن عبد الله- السهيلي: 33، 108، 120، 142، 155، 156، 166، 180، 184، 189، 211، 220، 302، 375، 386، 393، 445، 471، 484، 485، 487.
عبد الرحمن بن علي- ابن الجوزي: 82، 256.
عبد الرحمن بن عوف: 175، 286، 349، 462، 469.
عبد الرحمن بن قرظ: 422.
عبد الرحمن بن كعب بن مالك: 440.
عبد الرحمن بن محمد- ابن أبي حاتم: 364.
عبد الرحيم بن الحسين- العراقي: 36، 119، 158، 175، 183، 192، 368.
عبد الرزاق الصنعاني: 125، 269.
عبد الرزاق نوفل: 278.
أبو عبد شمس- الوليد بن المغيرة.
عبد شمس بن عبد مناف: 99، 150، 151، 152، 158.
عبد شمس بن يشجب- سبأ: 62.
عبد العزى بن عبد المطلب- أبو لهب (أبو عتبة، أبو عتيبة) : 99، 160، 176، 191، 232، 282، 292، 293، 294، 304، 359، 362، 363، 429، 459.
عبد العزى بن قصي: 148، 150.
عبد العزيز بن أحمد- سعد الدريني: 36.
عبد الغني بن سرور المقدسي: 418، 484.
عبد بن قصي: 148، 150.
عبد الكعبة- عبد الله بن عثمان (أبو بكر) .
أم عبد الله- عائشة بنت أبي بكر.
عبد الله بن أبيّ بن سلول: 20، 444، 453.
عبد الله بن الأريقط: 405، 474، 484، 486.
عبد الله بن أبي أمية: 315، 316، 392.
عبد الله بن أنيس: 448.
عبد الله بن بري- ابن بري: 188.
عبد الله بن أبي بكر الصديق: 483، 484.
عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم:
29، 30.
عبد الله بن أبي ربيعة: 350، 377، 379.
عبد الله بن جبير بن النعمان: 446.
عبد الله بن جحش: 288، 462، 463.
عبد الله بن جدعان: 213، 214، 288، 299.
عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: 375.
عبد الله بن الحارث (ابن حليمة) : 193.
أم عبد الله بنت أبي حثمة- ليلى بنت أبي حثمة.
عبد الله بن رواحة: 447، 452.
عبد الله بن الزبعرى: 330، 331.
عبد الله بن الزبير: 132، 230.
عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه: 447.
عبد الله بن زيد بن عاصم: 446.
عبد الله بن سراقة بن المعتمر: 464.
عبد الله بن سعيد الصنابحي: 119.
عبد الله بن سلمة: 469.
عبد الله بن عباس: 14، 71، 80، 81، 116، 126، 127، 128، 129، 135، 154، 158، 174، 264، 269، 282، 313، 321، 340، 351، 365، 366، 374، 394، 409، 412، 418، 422، 445، 450.
عبد الله بن عبد الأسد- أبو سلمة: 191، 286، 349، 362، 458، 459، 461، 462.
عبد الله بن عبد الله بن أبيّ: 20.
عبد الله بن عبد المطلب: 41، 119، 160، 161، 162، 163، 164، 165، 166، 176، 188، 206، 207.
أم عبد الله بن عبد المطلب- فاطمة بنت عمرو المخزومية.(1/546)
عبد الله بن عثمان- أبو بكر الصديق: 18، 82، 99، 126، 127، 142، 192، 283، 284، 285، 286، 288، 289، 290، 293، 297، 342، 343، 344، 345، 346، 347، 353، 356، 381، 382، 389، 390، 422، 429، 467، 468، 470، 473، 474، 475، 476، 477، 478، 479، 480، 481، 482، 483، 484، 486، 489، 490، 491، 492، 495، 496، 497.
عبد الله بن عمر بن الخطاب: 82، 115، 175، 351، 357، 358.
عبد الله بن عمرو بن حرام: 445، 448، 452، 453.
عبد الله بن عمرو بن العاص: 126، 134، 422.
عبد الله بن قيس- أبو موسى الأشعري: 376.
عبد الله بن لهيعة: 126.
عبد الله بن محمد رسول الله: 223، 232.
عبد الله بن محمد- ابن أبي الدنيا: 270.
عبد الله بن مسعود: 99، 287، 314، 329، 356، 366، 375، 409، 416، 422.
عبد الله بن مظعون: 287.
عبد الله بن أم مكتوم- عمرو: 325، 462.
عبد المطلب بن هاشم (- شيبة، شيبة الحمد) :
119، 146، 152، 153، 155، 156، 157، 158، 160، 161، 162، 163، 164، 165، 166، 167، 168، 175، 182، 189، 205، 207، 246، 305، 306، 330، 392.
أم عبد المطلب بن هاشم- سلمى بنت عمرو النجارية.
عبد الملك بن مروان: 28، 132، 133، 230.
عبد الملك بن هشام: 13، 26، 31، 32، 33، 35، 36، 146، 166، 183، 193، 264، 287، 288، 325، 326، 359، 385، 421، 436، 452، 455، 463، 466، 467، 468، 485، 486.
أم عبد مناف- حبيّ بنت حليل الخزاعية.
أم عبد مناف- عاتكة بنت هلال بن فالج.
عبد مناف بن أسد- الأرقم بن أبي الأرقم.
عبد مناف بن زهرة: 188.
عبد مناف بن عبد المطلب- أبو طالب: 99، 133، 153، 154، 158، 160، 167، 174، 203، 207، 208، 211، 212، 215، 216، 217، 220، 221، 222، 223، 231، 255، 272، 291، 294، 301، 302، 303، 304، 305، 306، 359، 362، 363، 385، 386، 391، 392، 393، 394، 395، 396، 397، 401.
عبد مناف بن قصي- المغيرة بن قصي: 148، 150، 182، 188، 189، 190.
عبد المؤمن بن خلف- الدمياطي: 35، 158.
عبد الوهاب النجار: 253.
عبد ياليل بن عمرو الثقفي: 401.
عبس بن عامر بن عدي: 448.
أبو عبيد- القاسم بن سلام.
عبيد بن عمير: 263.
عبيد الله بن الأسلت- أبو قيس بن الأسلت.
عبيد الله بن جحش: 375، 462.
عبيد الله بن عبد الكريم- أبو زرعة الرازي:
428.
أبو عبيدة: 112، 146.
عبيدة بن الحارث بن المطلب: 287، 468.
أبو عتبة- عبد العزى بن عبد المطلب.(1/547)
عتبة بن ربيعة: 290، 296، 301، 306، 307، 308، 315، 325، 391، 402، 403، 462، 463، 471.
عتبة بن غزوان: 469.
عتبة بن أبي لهب: 232.
أبو عتيبة- عبد العزى بن عبد المطلب.
عتيبة بن أبي لهب: 232.
العتيبي: 108.
العتيق- عبد الله بن عثمان (أبو بكر) .
عتيق بن عابد المخزومي: 225.
عثمان بن أبي طلحة: 461.
عثمان بن طلحة بن أبي طلحة: 460، 461.
عثمان بن عبد الرحمن- ابن الصلاح: 285، 368.
عثمان بن عفان: 132، 207، 232، 286، 349، 362، 374، 468، 469.
عثمان بن مظعون: 287، 349، 361، 362.
عداس النينوي: 55، 403.
عدنان أدد- عدنان (جد النبي الأعلى) : 47، 116، 144، 184.
العراقي- عبد الرحيم بن الحسين.
العرباض بن سارية: 174.
ابن عربي- محمد بن علي.
ابن العربي- محمد بن عبد الله.
عروة بن الزبير: 28، 262، 418، 446، 468.
عروة بن عتبة الرحّال: 212.
عزير: 241، 330، 331.
ابن عساكر- علي بن الحسن بن هبة الله.
العسكري- (أبو أحمد) : 18، 487.
عضل بن الهون بن خزيمة: 287.
عطاء: 125، 230.
عطاء بن أبي رباح: 174.
عفراء بنت عبيد النجارية (أم معاذ ومعوذ) : 435.
عقبة بن عامر السلمي: 435، 436.
عقبة بن عمرو البدري (أبو مسعود) : 447.
عقبة بن أبي معيط: 296، 297، 327، 338.
عقبة بن وهب بن ربيعة: 463.
عقبة بن وهب بن كلدة: 448.
أبو عقيل- لبيد بن ربيعة.
عقيل بن أبي طالب: 174، 231.
عك بن عدنان بن أدد: 144.
عكاشة بن محصن: 463.
عكرمة بن أبي جهل: 387.
عكرمة بن عامر بن هاشم: 471.
العلائي- خليل بن كيكلدي.
علي بن أحمد بن حزم- ابن حزم: 35، 183، 418.
علي بن برهان الدين الحلبي: 36.
علي بن الحسن- ابن عساكر: 198، 464.
علي بن الحسين الأصبهاني (أبو الفرج) : 184.
علي بن الحسين بن علي: 4، 8.
علي بن الحسين بن علي- المسعودي: 37، 393.
علي بن أبي طالب: 19، 24، 115، 155، 224، 231، 232، 238، 243، 284، 285، 353، 395، 398، 422، 464، 470، 475، 480، 494، 497، 498.
علي بن عبد الكافي- التقي السبكي: 398.
علي بن عبد الله بن عباس: 154.
علي عبد الواحد وافي: 187.
علي بن عمر- الدارقطني: 158، 225، 436.
علي القيرواني: 167.
علي بن محمد الماوردي: 471.
عمار بن ياسر: 288، 323، 342، 343، 375، 462.
أبو عمارة- حمزة بن عبد المطلب.
أم عمارة- نسيبة بنت كعب.(1/548)
عمارة بن حزم: 447.
عمارة بن الوليد: 303، 350.
عمر بن الحسن بن علي- ابن دحية: 179، 184، 411، 422.
عمر بن الخطاب: 18، 19، 20، 68، 82، 83، 99، 132، 133، 142، 206، 207، 287، 289، 302، 344، 345، 346، 351، 352، 353، 354، 355، 356، 357، 358، 359، 360، 361، 362، 375، 383، 422، 438، 448، 458، 464، 465، 466، 468، 494، 495.
أم عمر بن الخطاب- حنتمة بنت هاشم.
عمر بن عبد العزيز: 29، 30، 119.
عمر بن قتادة بن النعمان: 29.
عمرو بن أحيحة بن الجلاح: 152.
عمرو بن أسد (عم خديجة) : 220، 221.
عمرو بن أقيش- عمرو بن ثابت بن وقش.
عمرو بن بحر- الجاحظ: 81، 82.
عمرو بن ثابت بن وقش- الأصيرم: 443، 444.
عمرو بن الجموح: 453، 454.
عمرو بن الحارث الغبشاني: 146.
عمرو بن الحارث بن لبدة: 448.
عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي: 145، 146.
عمرو بن حزم الأنصاري: 29.
عمرو بن سراقة بن المعتمر: 464.
عمرو بن العاص: 350، 358، 377، 379، 387.
عمرو بن عامر الخزاعي: 146.
عمرو بن عبد مناف- هاشم بن عبد مناف.
عمرو بن عدي: 68.
أبو عمرو بن العلاء: 116.
عمرو بن علقمة العامري: 463.
عمرو بن عمير الثقفي (أبو مسعود) : 332.
عمرو بن غزية: 447.
عمرو بن غنمة بن عدي: 448.
عمرو بن لحيّ الخزاعي: 71، 76، 147.
عمرو بن المغيرة (- ذو الرمحين، أبو ربيعة) : 465.
عمرو بن أم مكتوم- عبد الله بن أم مكتوم.
عمرو بن نزار- مضر بن نزار.
عمرو بن هشام (- أبو جهل، أبو الحكم) : 295، 296، 297، 298، 299، 300، 301، 309، 311، 312، 315، 325، 332، 333، 339، 340، 343، 344، 351، 355، 357، 360، 383، 384، 385، 391، 392، 462، 463، 465، 471، 472، 482، 493، 494.
عمير بن الحارث بن ثعلبة: 448.
عمير بن أبي وقاص: 287.
عنترة العبسي: 450.
أم عنيس: 344، 346.
عوانة بنت سعد- أم كنانة بن خزيمة: 190.
عوف بن أمية بن قلع: 142.
عوف بن الحارث بن رفاعة- عوف بن عفراء:
435، 436، 447.
عوف بن عفراء- عوف بن الحارث بن رفاعة.
عويم بن ساعدة: 435، 436، 446.
عياش بن أبي ربيعة: 288، 464، 465، 466.
عياض بن موسى- القاضي عياض: 36، 39، 120، 180، 181، 365، 368، 370، 411، 418.
عيسى عليه السلام: 23، 65، 80، 84، 121، 173، 174، 181، 197، 200، 201، 215، 216، 217، 242، 243، 248، 249، 250، 252، 253، 263، 278،(1/549)
330، 331، 340، 373، 379، 399، 404، 414، 424، 452.
عيسى بن عبد الله بن ماهان- أبو جعفر الرازي:
428.
عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس: 154.
(غ) غالب بن فهر: 190.
أم غالب بن فهر- ليلى بنت سعد.
أبو غبشان الخزاعي: 149.
(ف) الفارعة بنت أبي سفيان: 462.
فارقليط- البارقليط.
الفاروق- عمر بن الخطاب.
فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب: 191.
فاطمة بنت الخطاب: 287، 353، 354، 465.
فاطمة بنت سعد بن سيل- أم قصي: 148، 190.
فاطمة بنت عمرو بن عائذ المخزومية: 160، 189.
فاطمة بنت المجلل: 288.
فاطمة بنت محمد رسول الله: 223، 224، 232، 233، 284، 296، 397.
فاطمة بنت مر الخثعمية: 164.
الفاكهي- محمد بن إسحاق.
فتحي الدريني: 104.
أبو الفرج الأصبهاني- علي بن الحسين.
الفرزدق: 383.
فرعون: 398، 415.
فروة بن عمرو بن ودقة: 447.
فريد وجدي: 170.
الفضل بن بضاعة: 214.
الفضل بن الحارث: 214.
الفضل بن شراعة: 214.
الفضل بن فضالة: 214.
الفضل بن قضاعة: 214.
الفضل بن وداعة: 214.
أبو فكيهة- يسار (مولى صفوان) .
فكيهة بنت يسار: 288.
فهر بن مالك- قريش: 183، 190.
أم فهر بن مالك- جندلة بنت الحرث.
فهيرة (أم عامر) : 288.
الفيض- المطلب بن عبد مناف.
الفيومي- أحمد بن محمد.
(ق) القابسي: 422.
القارىء- مصعب بن عمير.
القاسم بن سلام- أبو عبيد: 100، 101.
القاسم بن محمد رسول الله: 223، 224، 232.
قتادة: 423.
قتادة بن النعمان الأنصاري: 29.
ابن قتيبة: 163، 214.
قتيلة بنت نوفل: 164.
أبو قحافة: 283، 290، 482.
قحطان بن عامر: 47، 48، 144.
قحطان بن عيبر بن شالخ- يقطن: 144.
قدامة بن مظعون: 287.
قرط بن رزاح بن عدي: 351.
القرطبي- أحمد بن عمر.
قريش- فهر بن مالك.
قريش- النضر بن كنانة.
قس بن ساعدة الإيادي: 80، 81، 82، 272.
القسطلاني- أحمد بن محمد.
قصي بن كلاب- زيد بن كلاب: 57، 147، 148، 149، 150، 182، 188، 190، 315، 386، 471.(1/550)
أم قصي بن كلاب- فاطمة بنت سعد.
قطبة بن عامر بن حديدة: 448.
قطبة بن عامر السلمي: 435، 436.
قطور- يطور بن إسماعيل.
قطوراء بن كركر: 145.
القعقاع بن عمرو: 387.
قلع بن عباد بن حذيفة: 142.
القلمس- حذيفة بن عبد بن فقيم.
قيدار- قيذر بن إسماعيل.
قيدمان- قيذم بن إسماعيل.
قيذار- قيذر بن إسماعيل.
قيذر بن إسماعيل (- قيدار، قيذار) : 144.
قيذم بن إسماعيل- قيدمان: 144.
أبو قيس بن الأسلت (- صيفي، الحارث، عبيد الله) : 444.
أم قيس بنت حصن: 463.
قيس بن زائدة (أبو ابن أم مكتوم) : 325.
قيس بن أبي صعصعة: 447.
قيس بن مخرمة بن المطلب: 30.
قيصر الروم (وانظر هرقل) : 66.
ابن القيم- محمد بن أبي بكر.
(ك) كارليل- توماس كارليل.
كالب بن يوفنا: 373.
الكامل- سويد بن الصامت.
كاهنة بني سعد بن هذيم: 156.
كاهنة قريش: 166.
أبو كبشة- الحارث بن عبد العزى.
أبو كبشة (مولى النبي) - سليم: 468.
ابن كثير- إسماعيل بن عمر بن كثير.
كرز بن علقمة: 481.
الكرماني- محمد بن يوسف.
كسرى: 67، 68، 86 246، 493، 494، 495.
كعب بن عمرو- أبو اليسر: 448.
كعب بن لؤي: 190، 351.
أم كعب بن لؤي- ماوية بنت كعب.
كعب بن مالك: 440، 444، 445، 448، 449، 451، 452، 453.
كلاب بن طلحة: 461.
كلاب بن مرة- حكيم بن مرة: 148، 182، 188، 190.
أم كلاب بن مرة- هند بنت سرير.
الكلبي- محمد بن السائب.
ابن الكلبي- هشام بن محمد بن السائب.
أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو: 350.
أم كلثوم بنت محمد رسول الله: 223، 232.
كلثوم بن الهدم: 468، 497.
كليب بن ربيعة: 93.
كناز بن حصن- كناز بن حصين (أبو مرثد الغنوي) : 468.
كنانة بن خزيمة: 142، 190.
أم كنانة بن خزيمة- عوانة بنت سعد.
(ل) لاروس: 69.
لاوز بن سام بن نوح: 46، 56.
لبيد بن ربيعة: 362، 463.
لبينة (جارية بني المؤمل) : 345، 346.
لقمان الحكيم: 183، 431.
أبو لهب- عبد العزى بن عبد المطلب.
ابن لهيعة- عبد الله بن لهيعة.
لوط عليه السلام: 107، 108، 349.
لؤي بن غالب: 80، 190.
أم لؤي بن غالب- سلمى بنت عمرو الخزاعية.
أبو ليلى الأنصاري: 422.(1/551)
ليلى بنت أبي حتمة: 349، 351، 352، 461، 462.
ليلى بنت سعد: 190.
(م) الماتريدي- محمد بن محمد.
ماسي- ماشي بن إسماعيل.
ماشي بن إسماعيل- ماسي: 144.
ابن ماكولا: 436.
ابن مالك: 423.
مالك بن أنس (الإمام) : 27، 30، 230، 368، 468.
مالك بن أهيب (أبو وقاص والد سعد) : 286.
مالك بن الأوس الأسلمي: 495.
مالك بن التيّهان- أبو الهيثم: 435، 436، 446، 450، 451، 452.
مالك بن أبي خولي: 465.
مالك بن زرارة- أبو هالة بن زرارة.
مالك بن صعصعة: 422، 423.
مالك بن النضر: 183، 190.
أم مالك بن النضر- عاتكة بنت سعد بن الظرب.
مالك بن نويرة: 464.
الماوردي- علي بن محمد.
ماوية بنت كعب: 190.
مبشر بن عبد المنذر: 462.
متمم بن نويرة: 464.
المثنى بن حارثة: 387.
مجاهد: 115.
مجمّع- قصي بن كلاب.
محمد بن إبراهيم- ابن الشهيد: 36.
محمد بن إبراهيم بن المنذر- ابن المنذر: 364.
محمد بن أحمد- البيروني: 140.
محمد بن أحمد بن عثمان- الذهبي: 33، 37، 119، 394، 484، 487.
محمد بن أحيحة بن الجلاح: 180، 181.
محمد بن إدريس الشافعي: 30، 183، 368.
محمد بن إسحاق- ابن منده: 191.
محمد بن إسحاق بن خزيمة: 365.
محمد بن إسحاق الفاكهي- الفاكهي: 83، 125، 230.
محمد بن إسحاق بن يسار: 13، 14، 22، 25، 26، 29، 30، 31، 32، 33، 48، 65، 71، 83، 119، 142، 144، 146، 155، 164، 166، 170، 173، 174، 189، 190، 192، 193، 196، 197، 198، 202، 219، 221، 238، 256، 263، 264، 280، 282، 284، 287، 295، 297، 306، 309، 312، 329، 336، 340، 344، 351، 357، 359، 365، 375، 376، 394، 402، 421، 430، 435، 436، 437، 439، 440، 443، 444، 446، 447، 451، 455، 459، 465، 466، 474، 475، 477، 482، 485، 496.
محمد بن إسماعيل البخاري: 18، 19، 22، 27، 30، 31، 32، 33، 48، 82، 83، 89، 115، 125، 127، 133، 135، 138، 144، 182، 185، 191، 199، 203، 228، 237، 261، 265، 269، 275، 280، 282، 329، 341، 346، 356، 358، 362، 366، 367، 374، 376، 380، 381، 392، 394، 395، 398، 400، 409، 412، 417، 421، 422، 423، 428، 432، 437، 438، 439، 462، 483، 495.
محمد الباقر- أبو جعفر: 116.
محمد بن براء البكري: 180.(1/552)
محمد بن أبي بكر- ابن القيم: 116، 175، 413.
محمد بن بهادر- الزركشي: 329.
محمد بن جرير الطبري: 30، 31، 37، 119، 120، 221، 282، 284، 364، 365، 421، 428، 436.
محمد بن حبان- ابن حبان: 174، 474.
محمد بن أبي حذيفة: 349.
محمد حسين هيكل: 22، 39، 136، 200، 201، 217، 236، 413، 414، 416، 437.
محمد بن حمران الجعفي: 180، 181.
محمد بن حوقل: 53.
محمد بن خزاعي السلمي: 180.
محمد الخضر حسين: 21.
محمد الخضري: 39.
محمد بن السائب الكلبي: 48، 116، 436.
محمد بن سعد- ابن سعد: 29، 30، 31، 33، 83، 160، 165، 174، 220، 264، 351، 359، 418، 451، 475، 490، 496.
محمد بن سعيد- البوصيري: 223، 240، 481.
محمد بن سفيان بن مجاشع: 180، 181.
محمد بن صيفي المخزومي: 225.
أم محمد بن صيفي- هند بنت عتيق.
محمد بن عبد الباقي بن يوسف- الزرقاني: 35، 156، 393، 394.
محمد بن عبد الله الأزرقي- الأزرقي: 125.
محمد بن عبد الله- الحاكم: 118، 119، 158، 174، 270، 394، 400، 446، 462.
محمد بن عبد الله- ابن العربي: 366، 368.
محمد بن عبد الله بن جحش: 462.
محمد عبده (الإمام) : 39، 367.
محمد بن علي- ابن عربي: 415.
محمد بن عمر- الواقدي: 29، 30، 31، 33، 220، 221، 349، 375، 422، 444، 474، 484.
محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري: 29.
محمد بن عيسى- الترمذي: 28، 32، 33، 184، 269، 319، 329، 351، 412، 421.
محمد بن كعب القرظي: 115، 119، 306، 365.
محمد بن محمد- ابن سيد الناس: 35، 36.
محمد بن محمد- أبو منصور الماتريدي: 366.
محمد بن محمد بن عبد الكريم- ابن الأثير: 408، 451.
محمد بن مسلم بن شهاب- الزهري: 8، 29، 183، 221، 262، 264، 265، 312، 365، 418، 437.
محمد بن مسلمة الأنصاري: 180، 181.
محمد بن اليحمد: 181.
محمد بن يزيد- ابن ماجه: 28، 158، 270، 440.
محمد بن يوسف الثقفي: 174.
محمد بن يوسف الصالحي: 36.
محمد بن يوسف الكرماني: 265.
محمد بن يونس الشافعي: 35.
محمود باشا الفلكي: 173.
المختار بن عوف الإباضي: 102.
مخزوم بن هانىء: 177.
المخلص (انظر البارقليط) : 252.
مدركة بن إلياس: 190.
أم مدركة بن إلياس- خندف.
مدلج بن مرة بن عبد مناف: 491.
أبو مرثد الغنوي- كناز بن حصن.(1/553)
مرثد بن أبي مرثد الغنوي: 468.
ابن مردويه- أحمد بن موسى.
مرة بن كعب: 190.
أم مرة بن كعب- وحشية بنت شيبان.
مريم (أم المسيح عليه السلام) : 200، 242، 379، 398، 399، 424.
مسافع بن طلحة: 461.
أبو مسروح- أنسة (مولى النبي) .
مسروح بن ثويبة: 191.
مسطح بن أثاثة: 468.
مسعود (راعي إبل) : 495.
أبو مسعود البدري- عقبة بن عمرو.
أبو مسعود الثقفي: عمرو بن عمير.
مسعود بن ربيعة- مسعود بن القاري: 287.
مسعود بن عمرو (أخو عبد ياليل) : 401.
مسعود بن القاري- مسعود بن ربيعة.
مسعود بن هنيدة: 485.
مسعود بن يزيد بن سبيع: 448.
المسعودي- علي بن الحسين.
مسلم بن الحجاج: 18، 19، 22، 28، 32، 33، 58، 65، 138، 158، 198، 199، 202، 203، 228، 230، 261، 269، 341، 368، 376، 398، 409، 417، 421، 422، 427، 437، 439.
مسمع بن إسماعيل: 144.
المسيح- عيسى عليه السلام.
مسيلمة الكذاب: 316.
مصعب بن عمير: 349، 440، 441، 442، 443، 462، 469.
مضر بن نزار- عمرو- أبو إلياس: 47، 183، 190، 222.
أم مضر بن نزار- سودة بنت عك.
المطعم بن عدي: 303، 304، 384، 385، 404، 405، 407.
المطلب بن أزهر: 288.
المطلب بن عبد مناف: 99، 150، 152، 153، 189.
المطلب بن أبي وداعة السهمي: 185.
معاذ بن الحارث بن رفاعة- معاذ بن عفراء: 435، 436، 447.
معاذ بن جبل: 269، 448، 454.
معاذ بن عفراء- معاذ بن الحارث.
معاذ بن عمرو بن الجموح: 448، 454.
المعافر بن يعفر: 31.
معانة بنت جوشم: 190.
معاوية بن أبي سفيان: 19، 88، 119، 411، 438، 447، 471، 490.
أبو معبد- أكثم بن أبي الجون.
أم معبد- عاتكة بنت خالد.
معدّ بن عدنان: 47، 144، 184، 222.
المغري (انظر البارقليط) : 252، 253.
معقل بن المنذر بن سرح: 448.
معمر بن الحارث: 288.
معن بن عدي بن الجد بن عجلان: 446.
معوذ بن الحارث بن رفاعة- معوذ بن عفراء:
435، 447.
معوذ بن عفراء- معوذ بن الحارث.
المغيرة بن قصي- عبد مناف بن قصي.
المقداد بن عمرو: 19، 375.
المقرىء- مصعب بن عمير.
المقوم بن عبد المطلب: 160.
مقوم بن ناحور: 144.
أم مكتوم- عاتكة بنت عامر بن مخزوم.
ابن أم مكتوم- عبد الله بن أم مكتوم.
منبه بن الحجاج السهمي: 301، 472.
ابن منده- محمد بن إسحاق.
ابن المنذر- محمد بن إبراهيم بن المنذر.(1/554)
المنذر بن جبلة: 68.
أبو المنذر بن عامر- يزيد بن عامر بن حديدة.
المنذر بن عمرو: 448، 452، 453.
المنذر بن ماء السماء: 68.
منذر بن محمد بن عقبة: 469.
المنصور (الخليفة) : 30، 154.
منصور بن عكرمة: 359.
منقذ بن نباتة: 463.
أم منيع- أسماء بنت عمرو.
المهدي (الخليفة) : 30.
المهلهل بن ربيعة: 95، 96.
موسى عليه السلام: 23، 84، 201، 209، 248، 249، 250، 261، 263، 269، 278، 373، 399، 404، 410، 414، 415، 425، 426.
أبو موسى الأشعري- عبد الله بن قيس.
موسى بن عقبة: 30، 264، 365، 369، 375، 377، 435، 443، 446، 459، 461، 491.
مولانا محمد علي: 170، 218، 242.
موير- وليم موير.
ميسرة (غلام خديجة) : 215، 216، 217، 219.
ميسون بنت بحدل (زوج معاوية) : 88.
ميشا بن إسماعيل: 144.
ميكائيل: 197.
(ن) نابت بن إسماعيل: 144، 145.
النابغة (الشاعر) : 472.
ناحور بن ازر: 107.
ناحور بن تيرح: 144.
نبش بن إسماعيل- نفيس- يافيش: 144.
نبيه بن الحجاج السهمي: 301، 472.
نتلة (أم العباس) - نتيلة: 160.
نتيلة- نتلة.
النجاشي (وانظر أصحمة) : 66، 350، 359، 361، 375، 376، 377، 378، 379، 380.
النحام بن عبد الله بن أسيد: 288.
نزار بن معد: 47، 184، 190.
أم نزار بن معد- معانة بنت جوشم.
النسائي- أحمد بن علي.
نسطاس: 346.
نسطورا (الراهب) : 215، 216، 217.
نسيبة بنت كعب- أم عمارة: 446، 448.
النضر بن الحارث: 297، 315، 326، 327، 330، 335، 336، 359، 471.
النضر بن كنانة- قريش: 183، 190.
أم النضر بن كنانة- برة بنت مرار بن أد.
نضلة بن هاشم: 360، 384.
النعمان بن ثابت- أبو حنيفة: 285، 368.
النعمان بن المنذر: 68، 86، 212، 246.
أبو نعيم- أحمد بن عبد الله.
نعيم بن عبد الله النحام: 353.
نفيس- نبش بن إسماعيل.
نفيسة بنت أمية- نفيسة بنت منية.
نفيسة بنت منية: 220.
النقاش: 108.
نلينو (مستشرق) : 253.
النهدية: 345، 346.
نهير بن الهيثم: 446.
نوح عليه السلام: 71، 126، 323، 425.
نوفل بن خويلد بن العدوية- أسد قريش: 286.
نوفل بن عبد مناف: 99، 150، 152.
النووي- يحيى بن شرف.(1/555)
(هـ) هاجر (أم إسماعيل) : 57، 109، 110، 111، 112، 114، 115، 118، 121، 127، 128، 129، 130، 135، 137، 144.
هاران بن ازر: 107، 108.
هارون عليه السلام: 425.
هارون الرشيد: 174، 230.
هاشم بن عبد مناف- عمرو بن عبد مناف: 99، 150، 151، 152، 153، 158، 182، 188، 189.
أم هاشم بن عبد مناف- عاتكة بنت مرة السلمية.
هاشم بن المغيرة- هشام بن المغيرة: 351.
هالة بنت خويلد: 400.
أبو هالة بن زرارة التميمي (- زرارة أو مالك أو هند) : 424، 225.
هالة بن أبي هالة: 224، 225.
هالة بنت وهيب: 160.
أم هانىء بنت أبي طالب: 422.
هانىء بن نيار- أبو بردة: 446.
هرقل (وانظر قيصر) : 239.
أبو هريرة- عبد الرحمن بن صخر.
ابن هشام- عبد الملك بن هشام.
هشام بن العاص بن وائل: 375، 464، 466.
هشام بن عروة بن الزبير: 28، 474.
هشام بن عمرو العامري: 360، 384، 385.
هشام بن محمد بن السائب- ابن الكلبي: 70، 71، 72.
هشام بن المغيرة- هاشم بن المغيرة.
الهمداني: 44.
همينة بنت خلف- أمينة بنت خلف.
هند (أمة المسيح) : 79.
هند بنت أبي أمية- أم سلمة (أم المؤمنين) : 228، 349، 459، 460، 461.
هند بن زرارة- أبو هالة بن زرارة.
هند بنت سرير: 190.
هند بنت عتبة: 94.
هند بنت عتيق بن عابد: 225.
هند بن أبي هالة: 224.
هود عليه السلام: 50، 126، 127.
الهون بن خزيمة: 287.
أبو الهيثم بن التيهان- مالك بن التيهان.
هيرودوت: 44.
هيكل- محمد حسين هيكل.
(و) واقد بن عبد الله بن عبد مناف التميمي: 288، 465.
الواقدي- محمد بن عمر.
وحشية بنت شيبان: 190.
وحيد قريش- الوليد بن المغيرة.
ورقة بن نوفل: 84، 85، 164، 219، 261، 263، 265، 272.
أبو وقاص- مالك بن أهيب.
أبو الوليد- عتبة بن ربيعة.
الوليد بن عبد الملك: 230.
الوليد بن المغيرة- وحيد قريش: 227، 309، 310، 311، 315، 325، 330، 331، 332، 335، 339، 361، 362.
الوليد بن الوليد بن المغيرة: 466.
وليم موير: 136، 137، 199، 200، 218، 242، 364.
وهب بن عبد مناف الزهري: 163، 188.
أبو وهب بن عمرو المخزومي: 225.
وهب بن منبه: 125، 126.
وهرز: 66.(1/556)
(ي) ياسر بن عامر (والد عمار) : 342.
يافيش- نبش بن إسماعيل.
ياقوت الحموي: 79.
يحيى عليه السلام: 249، 424.
أم يحيى عليه السلام- إيشاع.
يحيى بن سعيد بن أبان: 33.
يحيى بن شرف النووي: 183، 285، 418، 484.
يزيد بن ثعلبة: 435، 436.
يزيد بن خذام بن سبيع: 448.
يزيد بن رقيش: 463.
يزيد بن أبي سفيان: 387.
يزيد بن عامر بن حديدة- أبو لمنذر بن عامر: 448.
يزيد بن معاوية بن أبي سفيان: 88، 230.
يزيد بن المنذر: 448.
يسار- أبو فكيهة (مولى صفوان) : 323، 344، 346.
يسار (نصراني) : 322.
يسار المطلبي (جد ابن إسحاق) : 30.
أبو اليسر- كعب بن عمرو.
يسوع- عيسى عليه السلام.
يشجب بن نابت: 144.
يطور بن إسماعيل- قطور: 144.
يعرب بن يشجب: 144.
يعقوب عليه السلام: 116، 117، 120، 121، 134.
يعقوب بن عتبة: 170.
أبو يعلى- أحمد بن علي.
يعلى بن أمية: 220.
يقطن- قحطان بن عيبر.
أبو اليقظان- عمار بن ياسر.
يهوذا الأسخريوطي: 340.
يوحنا: 252، 253.
يوحنا المعمدان- يحيى عليه السلام.
يوسف عليه السلام: 121، 387، 424.
ابن يوسف (صاحب الشّعب) : 359.
يوسف بن عبد الله- ابن عبد البر: 224، 225، 351، 461، 468، 490.
يوشع بن نون: 373.
يونس عليه السلام: 403.
[انتهى فهرس الأعلام](1/557)
4- فهرس القبائل والأمم والجماعات والدول والممالك والحضارات*
(أ) الاراميون: 46.
ال أبي بكر: 483.
ال البيت (ال بيت النبي، ال رسول الله) : 40، 232، 395.
ال الخطاب: 288، 349.
ال سعود: 133.
ال أبي سلمة: 461.
ال العاص بن وائل السهمي: 484.
ال علي: 395.
ال فهر: 213.
ال هاشم: 166.
ال ياسر: 342، 343.
إبراهيم عليه السلام (بنو) : 185.
أحبار اليهود- الأحبار: 254، 327، 329، 331.
الأحباش- الحبشة: 55، 66، 67، 151، 305، 379.
الأحلاف: 150، 213.
إراش (قبيلة) : 297.
إرم: 251، 434.
الأزد: 47، 181.
أزد شنوءة: 190.
أسد بن خزيمة (بنو) : 288.
أسد بن عبد العزى (بنو) : 158، 164، 228، 471.
إسرائيل (بنو) : 100، 121، 249، 373، 426.
أسلم (قبيلة) : 48، 485، 495.
إسماعيل عليه السلام (بنو، أولاد) : 48، 70، 83، 116، 144، 145، 146، 148، 185، 249، 430.
الأشاعرة: 269.
الأشعريون: 64.
أصحاب الأخدود: 65.
أميم (قبيلة) : 46.
أمية (بنو) : 230.
أمية بن زيد (بنو) : 444.
أمية بن عبد شمس (بنو) : 288، 462.
الأنباط: 67.
__________
* أسقطت في هذا الفهرس: بنو، قبيلة، دولة، مملكة، حضارة، قوم. ووضعتها على اليسار بين قوسين () لتسهيل الكشف عن المراد.(1/559)
الأنباط (دولة، مملكة) : 67، 105.
الأنصار- أنصار الله: 20، 58، 72، 254، 280، 431، 432، 434، 435، 436، 440، 441، 443، 444، 449، 450، 451، 452، 453، 459، 462، 470، 496.
أنمار (قبيلة) : 64.
أهل التثليث- النصارى.
أهل (أصحاب) الكهف: 326، 327.
الأوربية (الحضارة) : 106.
الأوس: 47، 57، 58، 64، 152، 432، 434، 440، 441، 446، 449، 451، 452.
الأوس بن حارثة (قبيلة) : 444.
أولاد جفنة- ملوك الغساسنة.
إياد (قبيلة) : 81.
(ب) بابل (مملكة) : 105.
البابلية (الدولة) : 57.
بجيلة (قبيلة) : 64.
برهمية (عقيدة) : 241.
بكر (بنو، قبيلة) : 47، 93.
بكر بن عبد مناة (بنو) : 146، 148، 149.
البكير بن عبد ياليل (بنو) : 288، 465.
بلعجلان: 469.
بليّ: 448.
بهراء (قبيلة) : 64.
بوذية (عقيدة) : 241.
بياضة (بنو) : 440.
(ت) التثليث (عقيدة) : 242، 254، 273.
تدمر (دولة) : 105.
تغلب (قبيلة) : 47، 64، 93، 243.
تميم (بنو، قبيلة) : 47، 81، 287.
تنوخ (قبيلة) : 64.
تيم بن مرة (بنو) : 213، 283، 286، 288، 290.
(ث) ثقيف (قبيلة) : 59، 72، 85، 100، 266، 332، 372، 401، 402، 404، 407.
ثمود (حضارة) : 51.
ثمود (قبيلة، قوم) : 46، 51، 320.
الثنوية (عقيدة) : 241، 273.
(ج) جحش (بنو) : 462، 463.
جديس (قبيلة) : 46.
جذام (قبيلة) : 64.
جرهم (قبيلة) : الجراهمة: 46، 47، 48، 56، 57، 71، 111، 129، 135، 144، 145، 146، 190، 214.
جفنة (قبيلة) (انظر قبيلة غسان) : 68.
جمح (بنو) : 158، 213، 228، 402، 472.
(ح) الحارث بن الخزرج (بنو) : 468، 469، 497.
حارثة (بنو) : 442، 469.
الحبشة- الأحباش.
حرام (بنو) : 435.
الحريش (بنو) : 474.
حضرموت (قبائل) : 46.
الحضرمي (بنو) : 322.
حمورابي (دولة) : 47، 57، 105.
حمير: 64.
حمير (ملوك) : 66.(1/560)
حمير (مملكة) : 47، 62، 64، 65، 66.
الحميريون: 66.
الحنفاء- الحنفيون.
حنيفة (بنو، قبيلة) : 47، 48، 430.
الحنيفية: 84، 85، 188.
الحنيفيون- الحنفاء: 80، 82، 181، 235.
الحواريون: 340، 452.
الحيرة (ملوك) : 68.
الحيرة (مملكة) : 60، 67، 68.
(خ) خزاعة (بنو) : 48، 57، 64، 146، 147، 148، 149، 189، 287.
الخزرج: 47، 57، 58، 64، 431، 432، 434، 435، 436، 440، 441، 447، 449، 451، 452، 453.
خطمة (قبيلة) : 444.
(د) الدادانيون: 251.
الدئل بن بكر (بنو) : 474، 484.
(ذ) .....
(ر) ربيعة بن نزار (قبائل) : 47، 139.
الرهبان: 254، 331.
الروم (- الرومان، بنو الأصفر) : 55، 67، 68، 69، 79، 96، 151، 239، 389، 390.
الروم (دولة) : 244.
الرومانية (الحضارة) : 44.
(ز) زبيد (قبيلة) : 213.
الزبيريون (ال الزبير) : 30.
الزنادقة: 365، 366، 370، 372، 422.
زهرة (بنو) : 163، 164، 188، 213، 227، 287، 331، 332، 344.
(س) الساميون: 45، 46.
سبأ (حضارة) : 49.
سبأ (قبائل) : 48.
سبأ (ملوك) : 64.
سبأ (مملكة) : 47، 62، 64، 65، 66، 104.
سعد بن بكر (بنو) : 191، 192، 194، 197، 198، 203.
سعد بن ليث (بنو) : 465.
سعد هذيم (بنو) : 156.
سلمة (بنو) : 435، 446، 447، 451، 454.
سليم بن منصور (بنو) : 188، 189.
سهم (بنو) : 158، 213، 228، 301، 358، 472، 474.
(ش) شيبة (بنو) : 228.
الشيعة الإمامية: 395.
(ص) الصابئة: 241.
الصلب (عقيدة) : 273.
الصليبية: 14.
الصليبيون: 38، 168.
(ض) .....
(ط) الطاهرة (بنو) : 225.
طسم (قبيلة) : 46.
(ظ) ظفر (بنو) : 441.(1/561)
(ع) عاد (حضارة) : 50.
عاد (قبائل، قوم) : 46، 50، 251، 320، 434.
عامر (بنو) : 198.
عامر بن لؤي (بنو) : 325، 405.
عامر بن صعصعة (بنو) : 430.
عاملة (قبيلة) : 64.
العباس (بنو) : 230.
عبد الأسد (بنو) : 459، 460.
عبد الأشهل (بنو) : 432، 436، 441، 443، 444، 451، 469.
عبد الدار (بنو) : 150، 158، 213، 228، 345، 346، 460، 468، 479، 471.
عبد شمس (بنو) : 471.
عبد بن عدي (بنو) : 484.
عبد بن قصي (بنو) : 469.
عبد القيس (بنو، قبيلة) : 47، 48، 81، 211، 458.
عبد المطلب (بنو) : 164، 207.
عبد مناف بن قصي (بنو) : 85، 99، 150، 156، 163، 188، 227، 293، 295، 304، 312، 353، 384، 396، 472.
العبريون: 135.
عبيد (بنو) : 435.
العدنانية- العدنانيون.
العدنانيون- العرب العدنانية: 47، 48، 110، 144.
عدوان (قبيلة) : 189.
عدي (قبيلة) : 47.
عدي بن كعب (بنو) : 213، 228، 292، 345، 353، 461.
عدي بن النجار (بنو) : 152، 206.
عذرة: 148.
العرب الباقية: 47.
العرب البائدة: 46، 56.
العرب العاربة (انظر القحطانيون) : 47، 140.
العرب المستعربة (انظر العدنانيون) : 47، 48، 112.
عفراء (بنو) : 447.
العمالقة- العماليق: 46، 56، 57، 71، 105.
عمرو بن عمير (بنو) : 401.
عمرو بن عوف (بنو) : 431، 460، 462، 465، 468، 486، 496، 497.
(غ) غبشان: 146.
الغساسنة: 68، 151.
الغساسنة (دولة) : 79.
الغساسنة (ملوك) : 47، 68.
الغساسنة (مملكة) : 60، 67، 68.
غسان (قبيلة) : 64، 72.
غطفان (بنو، قبيلة) : 47.
غفار (بنو) : 464.
غنم بن دودان (بنو) : 463.
(ف) فارس (دولة) : 244.
فارس (ملوك) : 297، 336.
الفارسية (الحضارة) : 44.
الفرس- فارس: 55، 66، 67، 68، 69، 96، 151، 177، 389، 390.
فرعون (قوم) : 320.
الفضول (حلف) : 213، 214.
فهر بن مالك (بنو) : 190، 292.(1/562)
(ق) القارة: 287، 345، 381.
قتبان (مملكة) : 62.
القحطانيون- القحطانية: 47، 48.
القرشيون (وانظر: قريش) : 72، 137.
قريش (قبيلة) : 47، 55، 57، 81، 82، 83، 84، 100، 102، 144، 146، 148، 149، 150، 151، 152، 153، 156، 157، 158، 160، 161، 162، 163، 166، 167، 168، 169، 171، 183، 184، 188، 189، 190، 192، 193، 207، 212، 213، 214، 215، 219، 220، 221، 222، 227، 228، 229، 230، 231، 232، 233، 237، 238، 239، 265، 285، 286، 289، 292، 293، 294، 295، 296، 297، 298، 299، 301، 303، 304، 305، 306، 308، 309، 310، 311، 314، 320، 321، 325، 326، 327، 330، 332، 335، 336، 337، 344، 350، 352، 353، 356، 357، 359، 360، 361، 362، 363، 366، 372، 376، 382، 384، 385، 386، 387، 391، 392، 394، 395، 396، 397، 401، 405، 407، 412، 429، 430، 432، 452، 453، 461، 464، 465، 467، 468، 470، 471، 472، 475، 481، 482، 483، 484، 489، 491، 493.
القسس: 253، 254.
قشير (بنو) : 474.
قضاعة: 48، 148، 190، 448.
قطوراء (بنو) : 145.
قمعة بن إلياس بن مضر (قبائل) : 190.
قيس عيلان بن مضر (قبائل) : 189، 190، 212.
(ك) كعب بن لؤي (بنو) : 149، 405.
كلب (قبيلة) : 72، 288، 429.
كنانة (بنو، قبائل) : 146، 147، 148، 184، 212.
كندة (بنو، قبيلة) - الكنديون: 64، 183، 429.
كندة (ملوك) : 47.
(ل) اللاهوتيون: 252.
لخم (قبيلة) : 64.
اللخميون: 47.
(م) المادية- الماديون: 268، 271.
مازن بن النجار (بنو) : 446.
المبشرون: 14، 15، 23، 38، 170، 181، 216، 274، 326، 364.
المتصوفة: 414.
المجوسية: 273.
مخزوم (بنو) : 119، 161، 163، 189، 213، 221، 227، 288، 300، 342، 362، 471.
مدلج (بنو) : 491، 493، 494، 495.
مذحج (قبيلة) : 64، 288.
المستشرقون: 14، 15، 22، 23، 38، 39، 170، 200، 201، 216، 221، 222، 236، 274، 326، 364، 417، 479.
المسيحيون: 65، 242، 254.
المصريون: 135.
مضر (قبائل) : 47، 101، 139، 141، 143.
المطلب (بنو) : 304، 359، 360، 384، 391.(1/563)
المطيبين (حلف) : 150.
المعتزلة: 269.
المغيرة بن عبد الله (بنو) : 459.
معين (مملكة) : 47، 62.
المنافقون: 25.
مهاجرو الحبشة: 350، 359، 360، 361، 364، 366، 376، 379.
المهاجرون: 20، 452، 462، 464، 468، 469، 470، 497.
مولدو أرض دوس: 468.
مولدو السراة: 468.
المؤمل (بنو) : 345، 346.
(ن) نابي بن مجدعة (بنو) : 446.
النجار (بنو) : 152، 165، 205، 206، 435، 441، 451، 468، 469.
النصارى: 65، 79، 83، 84، 93، 211، 218، 241، 242، 243، 248، 249، 252، 254، 272، 273، 330، 378، 389، 415.
نصارى الشام: 217.
النصرانية: 65، 66، 79، 84، 85، 218، 241، 242، 243، 252، 272.
نصرانية الشام: 217.
النضر بن كنانة (بنو) : 183.
النمر بن قاسط: 288.
نوح (قوم) : 71، 323.
نوفل بن عبد مناف (بنو) : 471.
(هـ) هاشم (بنو) : 31، 174، 176، 184، 213، 221، 231، 294، 304، 359، 360، 384، 385، 391.
هذيل: 190.
هوازن (بنو، قبيلة) : 47، 48، 212، 213.
الهون بن خزيمة (بنو) : 381.
(و) واقف (قبيلة) : 444.
وائل (قبيلة) : 444.
الوثنية: 70، 136، 181، 241، 242، 273.
(ي) اليمن (ملوك) : 47.
اليمن (مملكة) : 60.
اليمنية (الحضارة) : 68.
اليمنيون- اليمن: 48، 99، 144، 180.
اليهود: 25، 57، 83، 93، 100، 108، 113، 115، 116، 119، 120، 136، 137، 211، 227، 244، 249، 250، 251، 254، 272، 326، 329، 330، 340، 372.
يهود تيماء: 211.
يهود المدينة: 327، 329، 434، 450، 496.
اليهودية: 65، 79، 241، 242، 272.
اليونانيون: 104.
[انتهى فهرس القبائل والأمم ... ](1/564)
5- فهرس الأيام والغزوات والوقائع*
(أ) أحد (غزوة) : 29، 224، 261، 343، 435، 436، 441، 446، 447، 448، 459، 461، 462.
الأحزاب (غزوة) - الخندق.
(ب) بدر الكبرى (غزوة، يوم) : 29، 85، 176، 224، 232، 259، 296، 343، 388، 390، 399، 405، 436، 437، 441، 446، 447، 448، 464، 465، 468.
البسوس (حرب) : 93، 95.
بعاث (وقعة، يوم) : 431، 432، 433.
البلاغ (حجة) - الوداع.
بئر معونة (سرية، يوم) - القراء (سرية) : 343، 448.
(ت، ث) .....
(ج) الجمل (يوم) : 224.
أبي جندل (يوم) - الحديبية (صلح) .
(ح) الحديبية (صلح، عام، غزوة) : 13، 390، 412، 437، 438، 439، 461.
الحرة (يوم) : 28، 29.
حنين (غزوة، يوم) : 494.
(خ) الخندق (غزوة، يوم) - الأحزاب: 13، 444، 447، 448.
خيبر (عام، فتح، يوم) : 376، 380.
(د) داحس والغبراء (حرب) : 93.
(ذ، ر، ز، س، ش، ص، ض) .....
(ط) الطائف (حصار، غزوة) : 494.
(ظ) .....
(ع) العقبة (ليلة) (انظر العقبة الأولى والثانية) : 437، 438.
__________
* أسقطت هنا: غزوة، يوم، صلح، بيعة. ووضعتها كذلك على اليسار بين قوسين () .(1/565)
العقبة الأولى (بيعة) : 436، 437، 439، 449، 457، 459.
العقبة الثانية (بيعة، ليلة) : 444، 445، 446، 447، 449، 452، 453، 455، 457، 459.
عمواس (طاعون) : 448.
عين التمر: 30.
(غ) .....
(ف) الفتح- فتح مكة (عام، غزوة، ليلة) : 21، 94، 294، 438، 439، 461، 490.
الفجار (حرب) : 212، 213، 221.
الفيل (حادثة، قصة) : 167.
(ق) قريظة (غزوة بني، يوم) : 447.
القضاء (عمرة) - القصاص- القضية: 191.
(ك) الكعبة (تجديد بنيان) : 171.
(ل) .....
(م) مؤتة (غزوة، يوم) : 233، 447.
النضير (غزوة بني) : 13.
(ن) النساء (بيعة) : 437، 438، 439.
(هـ) الهجرتان (وانظر الهجرة للحبشة وللمدينة) : 465، 466.
الهجرة: 28، 58، 106، 206، 251، 257، 343، 372، 389، 393، 405، 411، 418، 440، 457، 458، 459، 462، 464، 470، 473، 474، 475، 476، 477، 483، 484، 498.
هجرة الحبشة الأولى: 349، 351، 375، 457.
هجرة الحبشة الثانية: 350، 375، 457.
هوازن (غزوة) : 196.
(و) الوداع (حجة) - حجة الإسلام، حجة البلاغ:
142، 143.
(ي) اليرموك (واقعة، يوم) : 126.
اليمامة (معركة، يوم) : 446، 447، 464.
[انتهى فهرس الأيام والغزوات](1/566)
6- فهرس الأماكن والبلدان والبحار والأنهار والأصنام*
(أ) ابار بني سلمة: 454.
اسيا (بلاد، قارة) : 43، 44، 99.
الأبطح: 459.
الأبواء: 206.
الأجرد: 485.
الأحقاف: 50.
أرض الجزيرة (بين العراق والشام) : 404.
أرض دوس: 468.
أرض الكلدانيين: 107، 108.
أرض الكنعانيين: 108.
أرض المريا: 114.
إساف (الصنم) : 71، 157، 236.
الإسكندرية: 243.
أضاة بني غفار: 464.
إفريقيا (بلاد قارة) : 44، 99.
أم العرب: 110.
أم عريك: 110.
أم القرى (وانظر مكة) : 56.
أمج: 485.
الأندلس: 33.
أودية الحجاز: 54.
أوربا: 44.
أورشليم: 115.
أوطاس: 48.
أيلة: 54.
إيلياء- القدس.
إيوان كسرى: 177.
(ب) باب بني شيبة- باب السلام: 228.
بابل: 105، 107، 108، 241.
بادية الجزيرة: 53.
بادية سيناء: 44، 250.
بادية الشام: 53.
بادية العراق: 53.
البتراء (انظر: بطره) : 67.
البحر الأبيض المتوسط: 43، 54، 66.
البحر الأحمر: 43، 44، 54، 59، 72.
البحر العربي- المحيط الهندي: 43، 99.
البحرين: 48، 53، 458.
__________
* في هذا الفهرس لم أسقط شيئا تسهيلا للباحث.(1/567)
بحيرة ساوه: 177.
بحيرة طبرية: 177.
بدر: 54.
برزخ السويس- قناة السويس: 43.
برك الغماد: 381.
برية فاران: 115.
بصرى: 165، 173، 174، 197، 211، 215، 217.
البصرة: 32، 33.
البطحاء (بطحاء مكة) : 166، 319، 341.
بطره: 67.
بطن رئم: 486.
بعاث: 432.
بغداد: 31، 33.
البقيع: 59، 474.
بكة (وانظر مكة) : 56، 146.
بلاد بني سعد: 194.
بلاد تهامة- تهامة.
بلاد الحجر (حجر ثمود) : 51، 104، 105، 217.
بلاد الروم: 47، 49، 67، 68، 241، 288، 447.
بلاد سبأ: 241.
بلاد الشام- الشام.
بلاد عبد القيس: 458.
بلاد غسان: 104، 105.
بلاد فارس: 47، 49، 67، 99، 105، 177، 241، 468، 494.
بلاد مصر- مصر.
بلاد المغرب- المغرب.
بلاد اليمامة- اليمامة.
بلاد اليمن- اليمن.
بلاد يونان- اليونان.
بلدح: 82.
البلقاء: 84.
البنية الكعبة.
البيت الحرام- البيت العتيق (وانظر الكعبة) : 41، 55، 57، 107، 115، 117، 121، 122، 124، 125، 127، 128، 129، 131، 132، 133، 134، 135، 139، 143، 144، 145، 146، 147، 148، 149، 168، 169، 190، 222، 228، 229، 230، 283، 299، 305، 344، 353، 385، 464، 477.
بيت لحم: 414، 427.
البيت المعمور (في السماء السابعة) : 426.
بيت المقدس- المسجد الأقصى.
بئر بني عدي بن النجار: 206.
بئر مرق: 441.
بئر معونة: 343.
البيضاء (دار محمد بن يوسف الثقفي) : 174.
(ت) تبوك: 53.
التنعيم: 82، 460.
تهامة: 44، 49، 53، 54، 71، 212، 215، 254، 471.
تيماء: 211، 251.
(ث) ثنية العائر- ثنية الغائر: 486.
ثنية المرة: 485.
(ج) الجامعة المصرية القديمة: 253.
جاوة: 99.
جبال تهامة: 254.
جبال الحجاز: 54.(1/568)
جبال السراة: 44، 53.
جبال فاران: 110، 250.
جبل أبي قبيس: 122، 132، 213، 404.
جبل أسود: 386.
جبل ثبير: 213، 255، 305.
جبل ثور: 55، 255، 305، 481، 483.
جبل حراء: 55، 213، 255، 305.
جبل سيناء: 414.
جبل غزوان: 59.
جبل القصيم: 54.
جبل قعيقعان: 404.
جبل المريا: 115.
الجحفة: 485، 495.
الجداجد: 485.
الجدعاء (ناقة النبي) : 474.
جدة: 55، 59، 71.
جزر المحيط الهندي: 99.
جزيرة العرب- شبه الجزيرة: 43، 44، 45، 47، 48، 49، 52، 53، 54، 60، 62، 67، 68، 69، 79، 97، 99، 100، 101، 136، 151، 170، 181، 182، 241، 272، 458.
الجعرانة: 494.
جلق (انظر دمشق) : 68.
جياد: 209.
(ح) الحبشة: 65، 79، 99، 349، 350، 351، 352، 353، 359، 361، 364، 366، 375، 376، 381، 386، 440، 457، 458، 459، 462.
الحجاز: 8، 29، 49، 50، 51، 53، 54، 55، 59، 64، 66، 71، 104، 105، 133، 136، 137، 147، 250، 254، 436.
الحجر- حجر الكعبة: 131، 144، 155، 166، 228، 229، 230، 296، 298، 423.
الحجر الأسود- الركن الأسود: 121، 131، 142، 227، 228، 229، 295، 299، 305.
حجر ثمود- بلاد الحجر.
حجر الكعبة- الحجر.
الحجون: 207، 385، 386.
الحرار: 45.
حران: 108.
حرتا المدينة- لابتا المدينة: 458.
الحرم: 71.
الحرة (بالمدينة) : 495، 496.
حرة بني بياضة: 440.
حرة فدك: 54.
حضرموت: 4، 47، 50، 53، 93، 341.
الحطيم- الحجر.
حوران: 197.
الحيرة: 47، 68، 79، 104، 105، 212، 297، 336.
(خ) الخرار: 485.
الخليج العربي: 43.
خليج العقبة: 54.
خيبر: 45، 54، 79، 98، 161، 447.
(د) دار أبي طالب: 174.
دار الأرقم بن أبي الأرقم: 289، 290.
دار الإمارة: 471.
دار بني أمية بن زيد: 444.(1/569)
دار بني جحش: 462، 463.
دار بني زهرة: 164.
دار بني ظفر: 441.
دار بني عبد الأشهل: 441، 443، 469.
دار بني النجار: 206، 469.
دار عبد الله بن جدعان: 213، 214.
دار قصي بن كلاب- دار الندوة.
دار محمد بن يوسف الثقفي- البيضاء.
دار منذر بن محمد- العصبة.
دار النابغة: 165، 205.
دار الندوة- دار قصي: 106، 149، 150، 471.
دار وهب بن عبد مناف الزهري: 163.
دمشق: 68، 197.
دومة الجندل: 72.
ديار ثمود- بلاد الحجر.
ديار عاد: 104.
(ذ) ذو سلم: 485.
ذو طوى: 466.
ذو العضوين- ذو الغضوين.
ذو الغضوين: 485.
ذو كشر: 485.
ذو المجاز- سوق ذي المجاز.
(ر) ردمان: 152، 153.
الركن الأسود- الحجر الأسود.
ركوبة: 486.
الروضة الشريفة: 9، 58.
الروم- بلاد الروم.
(ز) زمزم: 55، 57، 107، 111، 119، 121، 127، 128، 129، 131، 135، 144، 146، 149، 153، 155، 156، 157، 158، 159، 160، 198.
(س) ساعير: 250.
سد مأرب: 47، 49، 57، 62، 63، 104.
سدوم: 108.
سرف: 460.
سلمان (بالعراق) : 152.
السماوة: 53.
السنح: 468، 497.
سهيل: 33.
سواع (الصنم) : 71.
السودان: 99.
سورية: 44، 67.
سوق بصرى: 215.
سوق حباشة: 215.
سوق ذي المجاز: 100، 101، 102، 293.
سوق عكاظ: 80، 81، 100، 101، 102، 212.
سومطرة: 66، 99.
سيل العرم: 48، 63.
(ش) الشام: 8، 29، 44، 46، 50، 53، 58، 64، 66، 68، 71، 83، 84، 99، 100، 104، 108، 109، 117، 120، 132، 146، 152، 156، 165، 173، 174، 177، 189، 197، 211، 214، 215، 217، 220، 315، 404، 438، 444، 445، 495.
شبه جزيرة العرب- جزيرة العرب.
الشّحر: 53.(1/570)
شرق الأردن: 67.
شعاب مكة: 256.
الشعب (عند العقبة) : 445، 449.
شعب ابن يوسف: 359.
شعب أبي طالب: 158.
شعب بني هاشم: 174، 359، 360، 384.
(ص) صحراء مصر الشرقية: 44.
الصفا: 56، 72، 111، 117، 128، 135، 146، 289، 292، 299، 319، 321، 353، 355.
الصفراء (صنم) : 236.
الصفراء (قرية) : 54.
صنعاء: 4، 53، 93، 168، 341.
الصومال: 66، 99.
الصين: 66، 241.
(ض) .....
(ط) طابة (وانظر المدينة) : 58، 457.
الطائف: 55، 59، 72، 98، 100، 101، 104، 105، 257، 332، 401، 402، 403، 407، 429، 448.
طور سيناء: 427.
طيبة (وانظر المدينة) : 10، 58، 457.
(ظ) .....
(ع) العبابيب- العبابيد.
العبابيد (- العبابيب، العثيانة) : 485.
عبقر: 17.
العراق: 44، 46، 53، 56، 105، 107، 136، 152، 315، 404، 498.
العرج: 485، 486.
عرفات- عرفة: 56، 101، 102، 238.
العروض: 53.
العزى (الصنم) : 72، 235، 236، 341، 342، 344، 429.
عسفان: 484.
عسير: 44.
العصبة (دار منذر بن محمد) : 469.
العقبة (مكان البيعة) : 434، 444، 445.
العقبة (انظر خليج العقبة) : 66، 67.
عكاظ- سوق عكاظ.
عمان: 53.
العيثانة- العبابيد.
(غ) غار ثور: 55، 475، 476، 477، 478، 479، 480، 481، 482، 483، 484، 496.
غار حراء: 55، 255، 256، 260، 262، 264، 265، 266، 269، 272، 275، 279، 280، 409، 410.
الغراب الأعصم: 155، 157.
غزة: 67، 152، 189.
الغور (بالجزيرة) : 53.
(ف) الفاجة- القاحة: 485.
فاران (وانظر مكة) : 110، 115، 250.
الفرما: 110.
فلسطين: 44، 53، 136، 152.
(ق) القاحة- الفاجة.
القادسية: 326.
قباء: 459، 460، 462، 465، 467، 468، 469، 486، 496، 497، 498.(1/571)
القدس: 115، 408.
قديد: 72، 485، 486.
قرى قوم لوط (انظر: سدوم) : 120.
قرن الثعالب: 403.
قرن المنازل: 100.
قرية بني عمرو بن عوف: 460.
قرية النمل: 155، 157.
قرية الوجه: 54.
قصر الخورنق: 68، 105.
قصر السدير: 68، 105.
القصواء (ناقة النبي) : 474.
قصور بصرى: 165، 173، 174، 197.
قصور الشام: 165، 174، 197.
القلّيس (كنيسة) : 168، 228.
قم: 177.
(ك) كداء: 129.
الكعبة (وانظر: البيت الحرام) : 24، 41، 55، 56، 57، 66، 68، 71، 72، 83، 110، 122، 125، 131، 132، 133، 134، 136، 144، 145، 149، 150، 153، 157، 160، 161، 164، 168، 169، 171، 175، 184، 207، 213، 227، 228، 229، 230، 238، 255، 293، 296، 297، 299، 315، 335، 341، 353، 356، 357، 359، 401، 407، 417، 444، 445، 464.
كلدانيا (وانظر بابل) : 108، 241.
الكوفة: 362.
(ل) لابتا المدينة- حرتا المدينة.
اللات: 72، 235، 341، 342، 344، 429.
لفت- لقف.
لقف: 485.
(م) مالقا: 33.
مجاج: انظر (مدلجة مجاج) .
مجنة: 100، 101، 102.
المحصب- الأبطح.
المحيط الأطلسي: 182.
المحيط الهادي: 182.
المحيط الهندي- البحر العربي.
المدائن: 494.
مدرج عثمان- عسفان.
مدلجة تعهن: 485.
مدلجة لقف: 485.
مدلجة مجاج: 485.
مدين: 44، 217.
المدينة المنورة: 9، 28، 30، 44، 45، 54، 55، 56، 57، 58، 59، 64، 72، 98، 104، 105، 142، 152، 153، 161، 165، 175، 189، 205، 206، 251، 257، 289، 326، 327، 329، 376، 382، 393، 405، 409، 425، 427، 431، 432، 433، 434، 435، 436، 440، 441، 445، 447، 450، 453، 457، 458، 459، 460، 461، 462، 463، 465، 466، 467، 468، 470، 473، 484، 485، 486، 489، 490، 493، 495، 496، 497، 498.
مر الظهران: 146.
مرجح: 485.
المروة: 56، 72، 111، 117، 128، 129، 135، 146، 322.
المزدلفة: 56، 238.(1/572)
المسجد- المسجد الحرام.
المسجد الأقصى- بيت المقدس: 132، 134، 408، 409، 416، 418، 421، 426، 427، 444، 445.
مسجد بيت المقدس- المسجد الأقصى.
المسجد الحرام- (المسجد، مسجد الكعبة) : 55، 56، 132، 133، 134، 149، 150، 158، 212، 215، 222، 228، 271، 289، 298، 300، 304، 306، 323، 330، 352، 356، 357، 361، 362، 385، 405، 408، 409، 412، 416، 417، 444، 471.
مسجد دمشق: 29.
مسجد الضرار: 24.
مسجد قباء: 24، 497.
مسجد الكعبة- المسجد الحرام.
مسجد المدينة- المسجد النبوي.
المسجد النبوي: 24، 58، 409.
المشلل: 72.
مصر: 31، 32، 46، 56، 105، 109، 136، 152، 242، 357، 424.
مقام إبراهيم: 122، 133، 464.
مكتبة الإسكندرية: 243.
مكة المكرمة: 41، 44، 47، 48، 54، 55، 56، 57، 58، 59، 64، 66، 71، 72، 80، 84، 98، 101، 102، 104، 105، 110، 111، 115، 117، 118، 120، 122، 124، 128، 129، 130، 135، 136، 143، 145، 146، 148، 149، 150، 151، 152، 153، 155، 158، 163، 165، 168، 169، 176، 189، 190، 192، 193، 195، 205، 206، 209، 212، 213، 216، 217، 228، 233، 237، 250، 251، 254، 255، 256، 261، 272، 273، 288، 289، 297، 304، 305، 306، 319، 321، 327، 329، 332، 333، 342، 356، 357، 360، 361، 364، 366، 372، 376، 377، 380، 381، 385، 386، 393، 401، 403، 404، 407، 408، 418، 421، 427، 431، 432، 436، 440، 444، 445، 447، 448، 453، 457، 458، 459، 460، 462، 463، 464، 465، 466، 467، 470، 473، 477، 480، 483، 484، 493، 494، 495، 497.
منى: 56، 101، 102، 113، 115، 255، 452، 453، 455.
منازل بني زهرة: 163.
منازل بني عبد المطلب: 164.
مناة (الصنم) : 72.
مناة (صنم عمرو بن الجموح) : 454.
(ن) نائلة (الصنم) : 71، 157، 236.
نجد: 44، 49، 53، 98، 101، 133، 212، 458، 471.
نجران: 65، 66، 79.
نخلة الشامية: 404.
نخلة اليمانية: 404.
نسر (الصنم) : 71.
نصيبين: 404.
نقيع الخضمات: 440.
نهر السلسبيل: 426.
نهر الفرات: 43، 426.
نهر الكوثر: 426.
نهر النيل: 44، 426.
نينوى: 403.(1/573)
(هـ) هبل (الصنم) : 71، 72، 76، 157، 161.
هجر: 105، 425، 458.
هدهد سليمان: 64.
هزم النبيت: 440.
همذان: 177.
الهند: 96، 99، 241.
(و) وادي إضم: 54.
وادي الرمة: 54.
وادي الصفراء: 54.
وادي عسفان: 126، 127.
وادي العقيق: 54.
وادي القرى: 54، 217.
وادي مكة: 47.
وادي نخلة: 72، 404.
ودّ (الصنم) : 71، 72.
ودان: 206.
(ي) يثرب (وانظر المدينة) : 54، 55، 57، 58، 79، 332، 438، 439، 457، 458.
يعوق (الصنم) : 71.
يغوث (الصنم) : 71.
اليمامة: 48، 53، 105، 316، 458.
اليمن: 29، 44، 47، 49، 50، 53، 54، 62، 63، 64، 65، 66، 67، 68، 79، 98، 99، 100، 104، 111، 146، 152، 167، 213، 228، 376، 381.
ينبع: 54، 59.
[انتهى فهرس الأماكن](1/574)
7- فهرس تأريخي متسلسل لأحداث السيرة والتشريعات ونحو ذلك
الحدث/ التاريخ/ الصفحة
تأسيس دولة حمورابي بالعراق/ القرن 23 قبل الميلاد/ 47، 57، 105
ملك العماليق مصر وكونوا بها أسرة مالكة/ القرن 23 قبل الميلاد/ 56، 105
نشأة مكة المكرمة/ سنة 2050 قبل الميلاد/ 56
ظهور الجفاف في شبه جزيرة العرب/ الألف الثاني قبل الميلاد/ 52
نشأة المدينة المنورة/ 1600 قبل الميلاد/ 57
ميلاد رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلّم/ 12 ربيع الأول عام الفيل- 570 م/ 173
إسلام حمزة بن عبد المطلب/ السنة الثانية (أو السادسة) للبعثة/ 299
هجرة الحبشة الأولى/ رجب- السنة الخامسة للبعثة/ 349
رجوع مهاجرة الحبشة (الهجرة الأولى) إلى مكة/ شوال سنة خمس (أو ست) للبعثة/ 361
إسلام عمر بن الخطاب/ سنة خمس (أو ست) للبعثة/ 351
تعليق الصحيفة الظالمة في جوف الكعبة/ هلال المحرم سنة سبع للبعثة/ 359
وفاة السيدة خديجة أم المؤمنين/ السنة العاشرة للبعثة/ 397
وفاة أبي طالب/ السنة العاشرة للبعثة/ 397
خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الطائف/ شوال السنة العاشرة للبعثة/ 401
الإسراء والمعراج/ قبل الهجرة بسنة (أو سنتين أو ثلاث) / 418
هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة/ هلال ربيع الأول أو أواخر صفر/ 477
قدوم النبي مهاجرا على بني عمرو بن عوف بقباء/ الإثنين 12 ربيع الأول/ 486
تشريع الجهاد/ السنة الثانية للهجرة/ 455
غزة بدر/ 17 رمضان من السنة الثانية للهجرة/ 259(1/575)
الحدث/ التاريخ/ الصفحة
قدوم مهاجرة الحبشة إلى المدينة/ سنة 7 هـ عقب خيبر/ 380
معركة اليمامة/ سنة 12 هـ/ 464
بدء التدوين في السيرة على سبيل الاستقلال عن الحديث/ النصف الثاني من القرن الأول الهجري/ 28
تدوين الأحاديث تدوينا عاما/ اخر القرن الأول الهجري/ 27
ترك الناس سوق عكاظ واندراسها/ 129 هـ/ 102(1/576)
8- فهرس الشعر
صدر البيت/ قافيته/ الشاعر/ الصفحة
(أ) ولد الهدى/ وثناء/ أحمد شوقي/ 176
الروح والملأ/ بشراء/ أحمد شوقي/ 176
والعرش يزهو/ العصماء/ أحمد شوقي/ 176
بك بشر الله/ الغبراء/ أحمد شوقي/ 176
يوم يتيه/ وضاء/ أحمد شوقي/ 176
ذعرت عروش/ أصداء/ أحمد شوقي/ 177
والنار خاوية/ الماء/ أحمد شوقي/ 177
والاي تترى/ غدّاء/ أحمد شوقي/ 177
ورأته خديجة/ والجياء/ البوصيري/ 223
وأتاها أن/ أفياء/ البوصيري/ 223
وأحاديث أن/ الوفاء/ البوصيري/ 223
فدعته إلى/ الأذكياء/ البوصيري/ 223
(ب) أرب يبول الثعلبان/ الثعالب/-/ 72
وليلة من/ الطنبا/-/ 140
لا ينبح الكلب/ الذنبا/-/ 140
كل دار/ والحوب/ أبو دؤاد الإيادي/ 463(1/577)
صدر البيت/ قافيته/ الشاعر/ الصفحة
(ت) هل أنت/ ما لقيت/ الوليد بن الوليد/ 467
(د) وهل أنا إلا/ أرشد/ دريد بن الصمة/ 61
إليك/ المحمّد/ الأعشى/ 180
يا رب أبق/ وأمردا/ الشيماء بنت الحارث السعدية/ 195
ثم أراه/ والحسدا/ الشيماء بنت الحارث السعدية/ 195
ولقد سئمت/ كيف لبيد/ لبيد بن ربيعة/ 362
ألا هل/ أرود/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 386
فيخبرهم/ مفسد/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 386
فمن ينش/ أتلد/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 386
نشأنا بها/ ونحمد/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 386
جزى الله/ ويرشد/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 386
قعودا/ وأمجد/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 386
متى شرّك/ نتودد/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 386
وكنا قديما/ ولا نتشدد/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 386
فيا لقصي/ به غد/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 386
فإني وإياكم/ أسود/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 386
بني مدلج/ محمد/ أبو جهل بن هشام/ 494
عليكم به/ وسؤدد/ أبو جهل بن هشام/ 494
(ر) في الذاهبين/ بصائر/ قس بن ساعدة الإيادي/ 81
لما رأيت/ مصادر/ قس بن ساعدة الإيادي/ 81
ورأيت/ والأكابر/ قس بن ساعدة الإيادي/ 81
لا يرجع/ غابر/ قس بن ساعدة الإيادي/ 81
أيقنت/ صائر/ قس بن ساعدة الإيادي/ 81
يا ال فهر/ والنفر/ رجل من زبيد/ 213
إن الحرام/ الغدر/ رجل من زبيد/ 213(1/578)
صدر البيت/ قافيته/ الشاعر/ الصفحة
ألا قل/ بكر/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 304
(ف) تشتو بمكة/ بالطائف/-/ 59
لبيت تخفق/ منيف/ ميسون بنت بحدل/ 88
ولبس عباءة/ الشفوف/ ميسون بنت بحدل/ 88
وأكل كسيرة/ الرغيف/ ميسون بنت بحدل/ 88
وخرق من/ عنيف/ ميسون بنت بحدل/ 88
عمرو الذي/ عجاف/- 151
سنّت/ الأصياف/-/ 151
العبد حق/ من المكلف؟ /-/ 415
إن قلت/ أنى يكلف؟ -/ 415
(ق) وأنت لما/ الأفق/ العباس بن عبد المطلب/ 176
فنحن في/ نخترق/ العباس بن عبد المطلب/ 176
يا رب/ ورقّه/ حليمة السعدية/ 195
(ك) لا همّ/ رحالك/ عبد المطلب بن هاشم/ 168
وانصر/ الك/ عبد المطلب بن هاشم/ 168
لا يغلبن/ محالك/ عبد المطلب بن هاشم/ 168
إن كنت/ لك/ عبد المطلب بن هاشم/ 168
(ل) لك المرباع/ والفضول/-/ 61
وموطىء/ ناعل/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 133
وثور/ نازل/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 255
ولما رأيت/ والوسائل/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 305
وقد صارحونا/ المزايل/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 305
وقد حالفوا/ بالأنامل/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 305
صبرت لهم/ المقاول/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 305
أعوذ برب/ بباطل/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 305(1/579)
صدر البيت/ قافيته/ الشاعر/ الصفحة
ومن كاشح/ نحاول/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 305
وثور ومن/ ونازل/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 305
وبالبيت/ بغافل/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 305
وبالحجر/ والأصائل/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 305
وموطىء/ ناعل/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 305
كذبتم/ بلابل/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 305
كذبتم/ ونناضل/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 305
ونسلمه/ والحلائل/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 306
وينهض/ الصلاصل/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 306
وما ترك/ مواكل/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 306
وأبيض/ للأرامل/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 306
ألا كل/ زائل/ لبيد بن ربيعة/ 362
تمنى كتاب/ رسل/ حسان بن ثابت/ 374
وكبر للرؤيا/ بلابله/ الراعي/ 412
(م) عفا جانب/ الغمائم/ امنة بنت وهب/ 166
دعته/ ابن هاشم/ امنة بنت وهب/ 166
عشية/ التزاحم/ امنة بنت وهب/ 166
فإن تك/ التراحم/ امنة بنت وهب/ 166
هذا أخ/ وعمي/ الشيماء بنت الحارث السعدية/ 195
فديته/ تنمي/ الشيماء بنت الحارث السعدية/ 195
إن الفضول/ ظالم/ الزبير بن عبد المطلب/ 214
أمر عليه/ سالم/ الزبير بن عبد المطلب/ 214
كفاك/ اليتم/ البوصيري/ 240
إذا اجتمعت/ وصميمها/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 304
وإن حصلت/ وقديمها/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 304
وإن فخرت/ وكريمها/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 304
تداعت/ حلومها/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 304
إن امرا/ المظالما/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 363
ولا تقبلنّ/ المواسما/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 363
وول/ لازما/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 363(1/580)
صدر البيت/ قافيته/ الشاعر/ الصفحة
وحارب/ يسالما/ أبو طالب بن عبد المطلب/ 363
فشككت/ بمحرّم/ عنترة العبسي/ 450
وقاية/ الأطم/ البوصيري/ 481
أبا حكم/ قوائمه/ سراقة بن مالك الجعشمي/ 494
علمت/ يقاومه/ سراقة بن مالك الجعشمي/ 494
عليك/ معالمه/ سراقة بن مالك الجعشمي/ 494
بأمر/ مسالمه/ سراقة بن مالك الجعشمي/ 494
(ن) لا يسألون/ برهانا/-/ 61
أما الحرام/ فأستبينه/ عبد الله بن عبد المطلب/ 164
فكيف/ ودينه/ عبد الله بن عبد المطلب/ 164
فلا ورب/ منحني/ رؤبة بن العجاج/ 255
والله/ قرن/ عمرو بن الجموح/ 454
أفّ/ الغبن/ عمرو بن الجموح/ 455
الحمد لله/ الدّين/ عمرو بن الجموح/ 455
هو الذي/ مرتهن/ عمرو بن الجموح/ 455
(هـ) وأغض/ مأواها/-/ 96
(ي) إذا لم/ العصيّ/-/ 96
فتملأ/ وريّ/-/ 96
[انتهى فهرس الشعر](1/581)
9- فهرس الموضوعات- الجزء الأول
إهداء/ 5
مقدمة الكتاب/ 7
مقدمات تمهيدية لدراسة السيرة/ 11
منهجي في هذه الدراسة/ 13
تاريخ التأليف في السيرة وأشهر كتبها 27، السيرة جزء من الحديث 27، التأليف في السيرة على سبيل الاستقلال 28، منهج هؤلاء المؤلفين 34، كتب ألّفت في السيرة بعد 34، نظم السيرة 36، كتب الموالد 36، كتب جمعت بين التاريخ والسيرة 37.
التأليف في السيرة في العصر الحاضر 38، كتب المستشرقين 38، كتب المسلمين 39، رد بعض أباطيل المستشرقين من غير تأليف في السيرة 39، جهود العلماء المتقدمين 39، عناية الأمة الإسلامية بسيرة نبيها 40.
الباب الأول 41 الفصل الأول: موجز لتاريخ العرب قبل الإسلام 43، شبه جزيرة العرب 43، موقع الجزيرة الهام 44، طبيعة جزيرة العرب 44، الحرار 45، الجنس العربي 45، أقسام العرب 46، سكان جزيرة العرب 49، وجود بعض المدنيات والحضارات في جزيرة العرب 49، حضارة سبأ باليمن 49، حضارة عاد بالأحقاف 50، حضارة ثمود بالحجاز 51، أقسام شبه جزيرة العرب
53، الحجاز 53، أودية الحجاز 54، الحجاز لم تطأه قدم مغير 54، أشهر مدن الحجاز 55، مكة 55، المدينة 57، الطائف 59، جدة 59، أحوال الجزيرة السياسية والدينية والاجتماعية 60، الأحوال السياسية 60، مم تتكون(1/583)
القبيلة 61، ممالك وحضارات في شبه الجزيرة 62، مملكة سبأ 62، مملكة حمير 65، مملكة الأنباط 67، مملكة الحيرة وغسان 67، الحالة الدينية عند العرب 69، الوثنية 70، نشأة الوثنية ببلاد العرب 70، ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى 73، عبادة الملائكة والجن 73، إنكار البعث 74، إنكارهم الرسالة 75، الاستقسام بالأزلام 76، التحليل والتحريم 76، اليهودية والنصرانية في جزيرة العرب 79، الحنيفيون 80، الحياة الاجتماعية عند العرب 86، الحياة الأخلاقية عند العرب 94، حالة العرب الاقتصادية 98، مدنية العرب وحضارتهم قبل الإسلام 103.
الفصل الثاني: الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام 107، هجرة الخليل إلى بلاد الشام 108، رحلة الخليل إلى مصر 109، استيلاد الخليل هاجر 109، إسكان هاجر وإسماعيل بجبال فاران 110، نبع عين زمزم 111، حصول الأنس بجرهم ونشأة مكة 111، قصة الذبيح 112، الذبيح إسماعيل لا إسحاق 113، ولادة إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام 120، بناء البيت العتيق 121، تشريع الحج على لسان إبراهيم 122، أول من بنى البيت 125، رواية البخاري في صحيحه 127، المسجد الحرام 132، مقام إبراهيم 133، المسجد الأقصى 134، التشكيك في قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام 135، الأشهر الحرم 137، أسماء الشهور العربية 140، النسيء 141، أولاد إسماعيل 144.
الفصل الثالث: ولاة البيت وتاريخ مكة إلى مولد الرسول صلّى الله عليه وسلّم 145، ولاية الجراهمة 145، غلبة خزاعة على البيت 146، طم الجراهمة زمزم 146، ولاية خزاعة البيت 146، قصي بن كلاب 148، ولاية قصي البيت 148، جعل قصي هذه الماثر لعبد الدار 150، منازعة بني عبد مناف لبني عبد الدار 150، ولاية هاشم بن عبد مناف السقاية والرفادة 151، مناوأة أمية بن عبد شمس لعمه هاشم 151، تزوج هاشم من بني النجار 152، ولاية المطلب الرفادة والسقاية 152، عبد المطلب في مكة 152، ولاية عبد المطلب السقاية والرفادة 153، السقاية بعد عبد المطلب 153، رؤيا عبد المطلب في شأن زمزم 155، عثور عبد المطلب على زمزم 156، تعفية زمزم على جميع الابار 158، فضل زمزم 158، نذر عبد المطلب ذبح أحد أولاده 160، خروج القدح على عبد الله(1/584)
161، فداء عبد الله بمائة من الإبل 161.
الفصل الرابع: زواج عبد الله بامنة 163، تعرض بعض النساء لعبد الله 164، حمل السيدة امنة بالنبي 165، وفاة عبد الله بن عبد المطلب 165، رثاء امنة لعبد الله 166، رؤيا لعبد المطلب 166، قصة الفيل 167، المشككون في القصة 170.
الباب الثاني:
من الميلاد إلى البعثة النبوية 171 الفصل الأول: الميلاد 173، موضع ولادته 174، إخبار جده عبد المطلب 175، احتفاء بني هاشم بالمولود 176، ما صاحب الميلاد من الايات والعجائب 177، النسب الزكي الشريف 182، وراثة الصفات والفضائل 185.
الفصل الثاني: الرضاع 191، إرضاع أمه له 191، إرضاع ثويبة 191، استرضاعه في بني سعد 191، مداعبة حليمة وابنتها للنبي 195، جميل بأجمل منه 196، قصة شق الصدر 196، تكرار شق الصدر 199، المنكرون لشق الصدر والمشككون فيه 199، خاتم النبوة 203.
الفصل الثالث: النبي عليه السلام في كفالة أمه، ثم جده، ثم عمه 205، الذهاب إلى المدينة 205، في كفالة جده عبد المطلب 207، كفالة عمه أبي طالب له 207، رعيه الغنم 209، صحبته لعمه إلى الشام 211، حرب الفجار 212، حلف الفضول 213، تجارة النبي لخديجة في مالها 214، الخروج بالتجارة 215، افتراات المستشرقين ودسهم 216.
الفصل الرابع: زواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بخديجة 219، بطلان بعض المرويات 221، دس المستشرقين 221، خطبة أبي طالب 222، الوليمة والعرس 223، خديجة قبل النبي 224.
الفصل الخامس: تجديد قريش بنيان الكعبة 227، عرض لحل المشكلة 228، العقل الكبير 229، ضيق النفقة بقريش 229، عمارة ابن الزبير 230، إعادة الحجاج لها على ما كانت في عهد قريش 230، محاولة لبني العباس 230، كفالة النبي لعلي 231، أحداث في حياة الرسول 231، فقد الأبناء 232، زواج البنات 232، تبني زيد بن حارثة 232.(1/585)
الفصل السادس: حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة 235.
الفصل السابع: حالة العالم قبل البعثة 241، الأحوال الدينية 241، الأحوال الاجتماعية 243، الأحوال الخلقية 244، الأحوال السياسية 244، حاجة العالم إلى مخلص ومنقذ 245، لماذا اختار الله خاتم أنبيائه من العرب 245.
الفصل الثامن: البشارة بالنبي في الكتاب السماوية السابقة 247، بين يدي النبوة 255، فترة الخلوة 255، غار حراء 255، بعض ما أكرم الله به نبيه قبيل النبوة 256.
الباب الثالث:
من البعثة إلى الهجرة 257 الفصل الأول: النبوة 259، ابتداء نزول القران 259، رجوع النبي لخديجة 261، إلى ورقة بن نوفل 261، قصة بدء الوحي كما رواها الشيخان 261، رواية لابن إسحاق 263، فترة الوحي 264، رواية موهمة 265، الوحي وأنواعه 267، إمكان الوحي ووقوعه 267، أقسام الوحي الشرعي 269، بطلان فكرة الوحي النفسي 271، تفنيد هذه الفكرة 272، بطلان ما زعموا أنه صرع 274، الرسالة 279، أول ما نزل بعد فترة الوحي 279، نزول سورة الضحى 280.
الفصل الثاني: أطوار الدعوة إلى الإسلام 283، بدء الدعوة السرية 283، إسلام خديجة 283، إسلام أبي بكر 283، إسلام علي 284، إسلام زيد بن حارثة 284، إسلام بلال 284، بنات النبي 284، أول من أسلم 285، السابقون الأولون 285، من أسلم من الصحابة بدعوة أبي بكر 285، الرعيل الثاني 286، الرعيل الثالث 287، في دار الأرقم بن أبي الأرقم 289، شجاعة للصديق ومحنة 289.
الفصل الثالث: الجهر بالدعوة وما صاحبه من إيذاء وإغراء 291، دعوة النبي عشيرته الأقربين 291، عداوة أبي لهب وامرأته للنبي 292، إيغال أبي لهب في العداوة 293، منع أبي طالب النبي وحبه له 294، من مساات قريش للرسول 294، قصة أبي جهل والفحل من الإبل 295، أشقى القوم عقبة بن أبي معيط 296، النضر بن الحارث 297، عظمة شخصية النبي صلّى الله عليه وسلّم 297،(1/586)
قصة الإراشي 297، قصة أخرى 298، إسلام حمزة بن عبد المطلب 299، سعي قريش إلى أبي طالب 301، طلب أبي طالب إلى النبي الكف عنهم 302، مساومة حمقاء 303، مناصرة بني هاشم والمطلب لأبي طالب 304، قصيدة أبي طالب اللامية 304، الإغراء بدل الإيذاء (قصة عتبة بن ربيعة مع الرسول) 306، ما أشار به عتبة على قريش 308، شهادة أخرى للقران من الوليد بن المغيرة 309، تأثير إعجاز القران في نفوس العرب 310، تهكم أبي جهل بالقران 311، استماع زعماء الشرك إلى القران سرا 312، تواصيهم بعدم استماع القران 313، أول من جهر بالقران من الصحابة 314، محاولة أخرى للإغراء 315، أسئلة تعنتية 315، مقالة عبد الله بن أبي أمية المخزومي 316، إباء النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكون له الصفا وغيره ذهبا 319، الحكمة في أنهم لم يجابوا لما طلبوا 319، القران معجزة المعجزات 321، من تخرصاتهم على النبي والقران 322، تهكم المشركين بضعفاء المسلمين 323، سعي المشركين إلى إبعاد ضعفاء المؤمنين 324، عتاب الله لنبيه 324، عتاب اخر بشأن ابن أم مكتوم 325، حجة وبرهان على أن القران ليس من عند النبي 326، سؤال المشركين النبي عن أهل الكهف وذي القرنين والروح واستعانتهم باليهود 326، اية الروح مكية أم مدنية 329، مجادلة يهود المدينة في اية الروح 329، خصومات ومجادلات وتهكمات 330، مقالة ابن الزبعرى وما أنزل الله فيه 330، الأخنس بن شريق 331، الوليد بن المغيرة 332، تهكم أبي جهل بالقران والنبي 332، إنذار أبي جهل رسول الله بسب الله 333، تهكم العاص بن وائل برسول الله 333، مجادلة أبيّ بن خلف 334، من أماني المشركين الباطلة 335، عود إلى سياسة الإيذاء والاستهزاء 335، موقف للنضر يكون فيه منصفا للرسول 336، أمية بن خلف وهمزه للرسول 337، إغراء أبي بن خلف لعقبة بالنيل من الرسول 338، رمي العاص بن وائل الرسول بأنه أبتر 338، استهزاؤهم بالرسول 339، ما نزل بالمسلمين ولا سيما المستضعفين من البلاء والفتنة 339، شكاتهم إلى رسول الله ما يلاقون 341، المعذّبون في الله 341، واهب الحريات 345، إنما أريد وجه الله 347.
الفصل الرابع: أحداث هامة في العهد المكي/ 349(1/587)
هجرة الحبشة/ 349 إسلام عمر بن الخطاب 351، بين يدي إسلام عمر 351، سماعه للقران 352، إسلام أخته فاطمة وزوجها 353، قصده رسول الله لقتله 353، من لحظات التجلّي الإلهي 354، استعلان المسلمين بدينهم 356، عزة المسلمين 356، إخبار عمر لأبي جهل بإسلامه 357، تحدّي عمر لقريش 357، إجارة العاص بن وائل السهمي له 357.
الصحيفة الظالمة 359، الواصلون لبني هاشم 360، بين حكيم وأبي جهل 360، رجوع مهاجري الحبشة 360، من دخل في جوار 361.
قصة الغرانيق 364، بطلان القصة من جهة النقل والعقل 365، اضطراب الرواية 366، القصة لم يخرجها أصحاب الكتاب الصحاح 366، اللغة تنكر القصة أيضا 367، تأويل المثبتين للقصة لها 367، ردي على المثبتين للقصة 368، مصادمة القصة للقران 369، بطلان القصة من جهة العقل والنظر 370.
هجرة الحبشة الثانية 375، وهم لابن إسحاق وغيره 376، سعي قريش إلى النجاشي في رد المهاجرين 376، إحضار النجاشي للمسلمين وسؤالهم 377، محاولة أخرى للوقيعة بين المهاجرين والنجاشي 379، إسلام النجاشي 380، جواز الصلاة على الغائب 380.
خروج الصديق مهاجرا إلى الحبشة 381 نقض الصحيفة الظالمة 384، حسن تدبير العرب وإحكام تصرفهم 387، اللهم سبع كسبع يوسف 387.
قصة فارس والروم 389
موت أبي طالب وخديجة 391، موت أبي طالب 391، عرض رسول الله الإيمان على أبي طالب 392، رواية لابن إسحاق 394، كلمة هادئة منصفة 395، تخفيف العذاب على أبي طالب 395، نيل المشركين من الرسول بعد وفاة أبي طالب 396، موت السيدة خديجة رضي الله عنها 396، فضلها 397، وفاء الرسول لها بعد وفاتها 399.
الفصل الخامس: الذهاب إلى الطائف 401، تضرع ودعاء 402، قصة عداس النصراني 403، الأوبة إلى مكة 403، أمر الجن الذين استمعوا إلى النبي(1/588)
وآمنوا به 404، دخول النبي مكة في جوار المطعم بن عدي 404.
الفصل السادس: الإسراء والمعراج 407، في الإسراء والمعراج تسرية عن نفس النبي 407، ما هو الإسراء وما هو المعراج 408، ثبوت الإسراء والمعراج 408، الإسراء والمعراج بالجسد والروح 410، القائلون بأنهما كانا بالروح 411، القائلون بأنهما كانا مناما 411، الفرق بين كونهما بالروح وكونهما مناما 413، الإسراء والمعراج وواحدة الوجود 413، مناقشة للدكتور هيكل 414، تفسير الإسراء والمعراج بهذا يلزم منه إنكار النصوص أو تحريفها 416، إغراب وتشويش 416، متى كان الإسراء والمعراج 417، شبه المنكرين للإسراء والمعراج والرد عليها 418، الأحاديث الواردة في الإسراء والمعراج 421، رواية البخاري ومسلم في صحيحيهما 422.
الفصل السابع: عرض رسول الله نفسه على قبائل العرب في موسم الحج 429، من دلائل النبوة 430، استمرار الرسول في العرض 430، ترصد الأشراف القادمين إلى مكة 431، إسلام سويد بن الصامت 431، إسلام إياس بن معاذ 432، يوم بعاث 432، طلائع النور من جهة المدينة 434، بدء إسلام الأنصار 434، بيعة العقبة الأولى 436، علام كانت البيعة 437، أول جمعة جمّعت في المدينة قبل الهجرة 440، أول مبعوث في الإسلام 440، نجاح مصعب في مهمته 441، بيعة العقبة الثانية 444، إسلام عبد الله بن عمرو بن حرام 445، عدة أصحاب العقبة الثانية 445، أسماء أصحاب بيعة العقبة الثانية 446، حضور العباس العقبة استيثاقا لأمر ابن أخيه 449، مقالة العباس بن عبادة بن نضلة 449، عهد رسول الله على الأنصار والمبايعة 449، مقالة أبي الهيثم بن التيهان 450، مقالة أسعد بن زرارة 450، أول من بايع 451، النقباء الاثنا عشر 451، إذن رسول الله لهم بالانصراف 452، عند الصباح 452، تأكد قريش من صدق الخبر وطلبهم الأنصار 453، إسلام عمرو بن الجموح 453، من أوهام ابن إسحاق 455.
الفصل الثامن: الهجرة إلى المدينة 457، أسباب الهجرة 457، إذن النبي لأصحابه بالهجرة 458، متى كان الإذن بالهجرة 459، أول من هاجر إلى المدينة 459، محنة أم سلمة 459، هجرة عامر بن ربيعة وزوجه 461، هجرة مصعب(1/589)
وابن أم مكتوم وبلال وسعد وعمار 462، بنو جحش 462، بنو غنم بن دودان 463، هجرة عمر بن الخطاب وعياش في ركب من المسلمين 464، قصة أبي جهل مع عياش 465، كتاب عمر لهشام 466، هجرة صهيب بن سنان الرومي 467، منازل المهاجرين بالمدينة 468، هجرة النبي من مكة إلى المدينة 470، من بقي مع النبي بمكة 470، ائتمار قريش برسول الله 470، إذن الله لنبيه في الهجرة 473، إخبار الصديق بالإذن في الهجرة 473، تجهيز طعام السفر 474، مبيت علي على فراش النبي 475، خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 476، ذهاب الرسول إلى بيت الصديق 476، إلى غار ثور 477، نظر إلى البيت ودعاء 477، شيخ الفدائيين 478، استبراء الغار 478، قصة الشجرة والعنكبوت والحمامتين 479، تشكيك إميل درمنغم 479، تخلف علي لرد الودائع إلى أهلها 480، في الصباح 480، جن جنون قريش 481، وهنالك وقفوا متحيرين 481، لا تحزن إن الله معنا 481، لطم أبي جهل للسيدة أسماء 482، كياسة السيدة أسماء 482، البيت البكري وتضحياته في الهجرة 483، خروج الرسول وصاحبه من الغار 484، طريق الهجرة 484، في خيمة أم معبد 486، مكافأة النبي لأم معبد 489، هاد يهديناي الطريق 490، قصة سراقة بن مالك 491، ستلبس سواري كسرى 493، وفاء سراقة بما وعد 493، إسلام سراقة 494، صدق النبوءة 494، من تفاؤل النبي صلّى الله عليه وسلّم 495، إهداء الزبير وطلحة ثيابا لرسول الله وأبي بكر 495، في انتظار الرسول 495، في قباء 496، تأسيس مسجد قباء 497، نزول النبي وصاحبه بالمدينة 497، هجرة علي رضي الله عنه 497، مكرمة لسهل بن حنيف 498. مراجع الكتاب 499.(1/590)
الفهارس العامّة 1- فهرس الايات القرانية/ 503
2- فهرس الأحاديث النبوية/ 525
3- فهرس الأعلام/ 535
4- فهرس القبائل والأمم والجماعات والدول والممالك والحضارات/ 559
5- فهرس الأيام والغزوات والوقائع/ 565
6- فهرس الأماكن والبلدان والبحار والأنهار والأصنام/ 567
7- فهرس تأريخي متسلسل لأحداث السيرة والتشريعات ونحو ذلك/ 575
8- فهرس الشعر/ 577
9- فهرس الموضوعات/ 583
[تمت الفهارس] والحمد لله الذي بن عمته تتم الصالحات(1/591)
الجزء الثاني
مقدمّة الطّبعة الثانية
المحمود الله جلّ جلاله، والمصلّى والمسلّم عليه سيدنا محمد واله.
أما بعد:
فقد طبع هذا القسم الثاني من السيرة النبوية منذ بضع سنين، وقد لقي ولله الحمد والمنة- رواجا وقبولا عند قارئيه، وقد نفدت طبعته الأولى بعد صدورها بزمن غير بعيد، وقد شغلت عن إعادة طبعة باهتمامي بإبراز القسم الأول، وقد ظهر- والحمد لله- وأشرف على النفاد.
وقد رغب إليّ الكثيرون ممن حرصوا على اقتناء القسم الأول من هذه السيرة العطرة أن أعيد طبع القسم الثاني حتى يستكملوا السيرة بقسميها، وقد جاءت هذه الطبعة- كما هي سنة الله في التطور والارتقاء- مزيدة زيادات قيّمة ومحقّقة غاية التحقيق، فقد استدركت فيها أمورا فاتت، وزدت بعض مباحث مهمة، وتعليقات وتحقيقات مفيدة، استفدتها من ملازمة البحث والدرس.
ولا أكتمك- يا قارئي الكريم- أني كتبت هذه السيرة بعقلي وقلبي ووجداني، فلا عجب أن أرضت العقل والقلب والوجدان، كما أقر بذلك المنصفون.
وأني عنيت فيها بالتعليق والتحليل لمواقف الرسول والصحابة، والموازنة والمقارنة والاستنتاج، وبذلك جمعت بين أصالة القديم وجدّة الحديث.
كما عنيت فيها برد أباطيل المستشرقين والمبشرين ومن تابعهم من الكتاب(2/9)
المعاصرين، بالنصفة واتباع قواعد البحث العلمي الصحيح، مع العفة في القول، والقصد في التسفيه (وما راء كمن سمعا) .
فإليك يا سيدي يا رسول الله أقدّم سيرتك الفذّة العطرة، مشرقة مجلوة كعروس في ليلة عرس، راجيا شفاعة لي ولوالديّ يوم تنشر الكتب ويكون الحساب.
المحب لله ولرسوله محمّد بن محمّد أبو شهبة(2/10)
مقدمّة الطّبعة الأولى
الحمد لله الذي أرسل رسوله محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، والصلاة والسلام على رسولنا محمد إمام المتقين، وسيد المجاهدين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، جاءنا بالشريعة السمحة التي ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وعلى اله وصحابته الذين آمنوا به، وعزّروه، ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا هو القسم الثاني من قسمي السيرة النبوية، من بعد الهجرة إلى الوفاة النبوية، وقد كانت الهجرة للإسلام والمسلمين قوة وعزة ونصرا وفتحا، ولذلك لمّا وضعوا التاريخ في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لم يجدوا حدثا أحق أن يبدأوا به من الهجرة «1» .
__________
(1) أما في الجاهلية فقد كانوا يؤرخون بالأحداث العظيمة، كحادث الفيل، وقد جاء الإسلام وهم على هذا، ثم في صدر الإسلام أرخوا بشهر المبعث وهو شهر ربيع الأول الذي فيه نبىء النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم لما هاجر المسلمون إلى المدينة اتخذوا منها مبدأ التاريخ، وتناسوا ما قبلها، إلا أنهم سموا كل سنة أتت عليهم باسم حادثة وقعت فيها، كسنة القدوم، وسنة الإذن، وسنة الأمر، وسنة الابتلاء. واستمر الأمر على هذا المنوال إلى خلافة سيدنا عمر رضي الله عنه، فيقال إن أبا موسى الأشعري كتب إليه: إنه يأتينا من أمير المؤمنين كتب لا ندري بأيها نعمل؟ وقد قرأنا صكا محله شعبان فلم ندر: أي الشعبانين الماضي، أم الاتي، وقيل إنه- رضي الله عنه- رفع إليه صك محله شعبان، فقال: أي شعبان هو؟ ثم قال: إن الأموال كثرت فينا، وما قسمناه غير موقت، فكيف التوصل إلى ضبطه؟ ثم قال: ضعوا للناس تاريخا يتعاملون عليه، ويضبط أوقاتهم، فتشاوروا في الأمر حتى ارتضوا الهجرة مبدأ للتاريخ على السنين، لا على الأحداث. (روح المعاني، ج 10 ص 90) .(2/11)
وفي هذا الدور من الدعوة أذن الله للمسلمين في الجهاد، وكانت أولى الوقائع المشهورة غزوة بدر الكبرى التي كانت نقطة تحول في تاريخ الإسلام، وما زال النصر يتتابع ويتوالى حتى كان فتح الفتوح، وهو فتح مكة، وبه دخل البلد الحرام الذي هو أحب البلاد إلى الله في حظيرة الإسلام، ودخل الناس فيه أفواجا من كل فج، وعمّ الإيمان والأمان في الجزيرة، وصدقت نبوءة الرسول:
«والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه» . رواه البخاري.
ولم يجاور الرسول الرفيق الأعلى حتى كانت الجزيرة كلها على قلب رجل واحد، مؤمنة موحّدة، ثم حمل أصحابه الأبطال المغاوير الأمانة من بعده، وساروا على هديه ونهجه، وجاهدوا ورابطوا، وكان لهم في الجهاد بطولات نادرة، وتضحيات غالية، حتى ركعت الدولتان العاتيتان انئذ- فارس والروم- على ركبتيهما، وثلّت عروش، وأديلت دول، وشرّق الإسلام وغرّب.
ولم يكد يمضي قرن من الزمان حتى بلغ الإسلام ما بلغ الليل والنهار، وامتدت دولة الإسلام من بلاد المغرب غربا إلى بلاد الصين شرقا، وتحقق وعد الله لعباده الصالحين:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ
«1» .
أبو السادات محمّد بن محمّد ابو شهبة
__________
(1) سورة النور: الاية 55.(2/12)
بين عهدين: العهد المكي والعهد المدني
لقد مكث النبي صلوات الله وسلامه عليه يدعو إلى الله على بصيرة ثلاثة عشر عاما بمكة، وأهلها واقفون عقبة كأداء في سبيل الدعوة، فلم يدخل في الإسلام طوال هذه المدة إلا عدد قليل لا يتناسب وهذه المدة من عمر الدعوة الإسلامية، حتى أذن الله للنور أن ينتشر، فيمّم النبي وجهه شطر قبائل العرب ووفودهم في موسم الحج، فوجد هذا النور من أهل المدينة- طيبة- عيونا متفتحة، واذانا صاغية، وقلوبا واعية، وسرعان ما سرى النور في المدينة كما يسري نور البدر في ظلمات الليل فيبددها، والماء العذب في الأرض الجدبة فينبتها، واحتضنت المدينة الإسلام والمسلمين كما تحتضن الأم الرؤوم أولادها، ووجد المسلمون في الأنصار خير إخوان وأعوان عرفتهم الدنيا في تاريخها الطويل.
وقد كان المحور الذي تدور عليه الدعوة في مكة انتزاع العقائد الضارة من شرك ووثنية، وإنكار للبعث والنبوات، وتثبيت العقائد الصحيحة في النفوس من توحيد، وإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الاخر، وإقامة الأدلة العقلية والوجدانية والافاقية والأنفسية على ذلك، ليؤمن من امن عن بيّنة واقتناع، ويكفر من كفر عن تعنّت وعناد، وقد مكث النبي في هذه الفترة يعلّم ويلقّن ويربّي ويتعهد، حتى صنع طرازا فريدا من الرجال، كانوا اللبنات الأولى التي منها أسس الإسلام وعليها قام صرحه العالي المنيف.
وطبعي أن يكون اتجاه الدعوة في مكة إلى هذه العقائد، فقد بعث النبي بين قوم وثنيين لا يؤمنون ببعث ولا رسالة، فكان المنهج المنطقي القويم في(2/13)
الدعوة أن يؤمنوا بهذه الأصول أولا، حتى إذا اطمأنت قلوبهم بالإيمان، وانشرحت صدورهم للإسلام، سهل عليهم تقبل التشريعات من حلال وحرام، وهذا ما كان.
وقد كان اتجاه الدعوة في مكة أيضا إلى أصول التشريعات العامة والاداب والفضائل التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وذلك كالحث على الثبات على العقيدة، والصبر والتحمل في سبيلها، والأمر بالصلاة والصدق والعفاف، وبر الوالدين وصلة الرحم والعدل والإحسان، والتواصي بالحق والخير، والنهي عن الرذائل كالقتل ووأد البنات، والظلم والزنا، وأكل أموال الناس بالباطل إلى غير ذلك.
أما في العهد المدني فقد بدأت الدعوة الاسلامية تتجه اتجاها اخر، ولم تعد مقصورة على مكة وما جاورها، بل وجدت أمامها افاقا فسيحة، ودنيا عريضة في جزيرة العرب وخارجها، ووجدت أرضا خصبة تقبلت الإسلام بقبول حسن، وأخذت عالمية الإسلام تأخذ طريقها إلى الأمم والشعوب، فلم تمض بضع سنوات حتى أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بالكتب إلى الملوك والأمراء والرؤساء، داعيا إياهم إلى الدخول في الإسلام وإلى كلمة سواء: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فمنهم من أطاع، ومنهم من أبى ورد ردا سيئا، ومنهم من رد ردا حسنا.
والإسلام دين عام خالد، نزل للبشرية جمعاء، لا فرق بين عربي وغير عربي، ولا بين أبيض وأسود، ففي الكتاب الكريم:
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً «1» .
وفيه أيضا يقول الله على لسان رسوله:
وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ «2» .
__________
(1) سورة الأعراف: الاية 158.
(2) سورة الأنعام: الاية 19.(2/14)
ويقول الله سبحانه:
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «1» .
وفي الحديث الذي رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة ... » ورواه مسلم بلفظ: «وبعثت إلى كل أحمر وأسود» وفي رواية:
«وبعثت إلى الخلق كافة» .
والحق ما لم تكن له قوة تؤيده وتفسح له الطريق كي يأخذ سبيله إلى القلوب والعقول كان حقا مضيعا، فكان لابدّ في هذا العهد من تشريع القتال في الإسلام، ولو أن المناهضين للدعوة اكتفوا في ذلك بالحجاج والكلام، لقابلهم الإسلام بالمثل ولكان له الفوز والغلب. ولكنهم سلكوا مسلك القوة، وحملوا السلاح، فكان من العدل والحق أن تقابل القوة بالقوة، والسلاح بالسلاح، ولا سيما وقد أضحى للمسلمين قوة وكيان.
وقد كانت هذه الفترة من عمر الإسلام أخصب الفترتين، ففيها نزلت معظم التشريعات التفصيلية والأحكام العملية في الحلال والحرام، والعبادات والمعاملات والحدود والجنائيات، والحروب والمعاهدات، والعلاقات الدولية، والنظم السياسية، وذلك لأن حياة المسلمين في المدينة بدأت في الاستقرار، وأصبح لهم دولة وسلطان، ومن شأن الجماعة التي لها رابطة تربطها أن تكون في مسيس الحاجة إلى تشريع يتكفل بما تحتاج إليه في دينها ودنياها.
وشيء اخر: ذلك أن التشريعات العملية- ولا سيما الحدود والجنائيات- مرتبطة بسلطان الحكم التنفيذي، فلا تشريع لمن لا يملك حق التنفيذ.
وقد أشارت إلى هذه الحكمة التشريعية السيدة العاقلة العالمة عائشة
__________
(1) سورة الأنبياء: الاية 107.(2/15)
رضي الله عنها، قالت: (إنما نزل من القران أول ما نزل منه سورة «1» من المفصّل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء «لا تشربوا الخمر» لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: «لا تزنوا» لقالوا: «لا ندع الزنا أبدا» ) رواه البخاري.
وكما مني المسلمون بمكة بالمشركين والوثنيين منوا في المدينة باليهود والمنافقين، وبذلك أصبح المسلمون في المدينة أمام قوى ثلاث تصارع الإسلام وتحاربه: قوة المشركين، وقوة المنافقين، وقوة اليهود.
وهؤلاء المنافقون وهم خليط من عرب المدينة ويهودها وإن لم يعلنوها حربا سافرة فقد كانوا أشد خطرا على الدعوة من غيرهم، لأن العدو المكاشف أهون شأنا من العدو المخالط المتستر تحت ستار من الخداع والتمويه، وقد شاء الله سبحانه أن يصرع الإسلام هذه القوى الثلاث، وأن يقضي عليها قضاء مبرما وأن يبقى الإسلام خفاق الراية، عالي المنار، يعلو ولا يعلى عليه.
وبعد: فهذا إيجاز لابدّ له من توضيح وإجمال يحتاج إلى كثير من التفصيل، وهذا ما سنعرض له في البحوث الاتية إن شاء الله، فاللهمّ أعن، وسدّد، وحقّق.
__________
(1) لعل مرادها سورة المدثر، فإنها أول ما نزلت بعد فترة الوحي، ففيها الأمر بتوحيد الله وذكر الجنة والنار، أو أن مرادها بالسورة الجنس أي سور من المفصّل، وسور المفصّل ومعظمها نزل بمكة- تدور حول تثبيت العقائد والدعوة إلى الفضائل، وذكر الجنة والنار، وهذا الثاني أرجح.(2/16)
منزلة المساجد في الإسلام
قبل أن أعرض لبناء مسجد قباء ومسجد المدينة أرى لزاما علينا أن نتعرف منزلة المساجد في الإسلام.
والمساجد بيوت الله في الأرض:
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً «1» .
ومهبط الملائكة، ومثوى عباد الله الصالحين في الأرض، فيها يصل المسلم حباله بحبال السماء، ويزكّي نفسه، ويسمو بروحه حتى تصل إلى معارج القدس، ثم هي إلى ذلك مصحّات للأبدان كما هي مصحّات للأرواح، فلابدّ لمن يغشاها مصليّا أن يتطهر من الأحداث والأنجاس في النفس والثوب والمكان، وهي المستراح لمن لا مستراح له، والمأوى والملجأ لمن لا مأوى له.
وهي منازل أدب ووقار، فلا رفع فيها لصوت، ولا للغو، ولا فسوق، وهي منازل طهر ونظافة وتجمّل، وقد جاء في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد وكاد الصحابة أن يتناولوه بالأذى فمنعهم قوله صلى الله عليه وسلم: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القران» فلا يجوز أن تكون المساجد للبيع والشراء، والعبث واللهو، ولا لنشدان الضالة، ولا لإثارة الأهواء والمنازعات والمشاحنات السياسية ونحوها، ولا للخلافات الدينية. وقد كان من أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموعظة
__________
(1) سورة الجن: الاية 18.(2/17)
التلويح لا التصريح، فكان يقول: «ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا» وهي طريقة فذة مبتكرة في التربية والتهذيب.
وفي الحق أن المساجد في صدر الإسلام ولا سيما المسجد النبوي كانت تؤدي خدمات دينية، وعلمية، واجتماعية، وصحية وحربية، فكانت متعبدات يؤدي فيها المسلمون شعائر دينهم، وكانت تقوم مقام المعاهد والجامعات في التربية والتعليم والتهذيب، ومقام الجمعيات الخيرية في جمع الصدقات والمساعدات والتعاون على البر والخير، وكانت تقوم مقام الملاجىء والمبرات، يلجأ إليها الفقراء ممن لا مال لهم ولا دار، فيجد فيها المسكن والمأكل والمشرب، كما كان الحال في أهل الصّفّة «1» ، أضياف الله وأضياف الإسلام.
وكانت منتديات يجتمع فيها المسلمون فيتالفون ويتحابون، ويتشاورون في مصالحهم الدينية والدنيوية، ويبرمون ما يرتأون، وكانت تصنع بالمسجد النبوي السهام والات الجهاد، وتنصب به الخيام يستقبل فيها جرحى الحروب ويمرضون ويعالجون، وكان يجتمع به بعض المسلمين، فيتمرنون على فنون الحرب والقتال «2» وهكذا نجد أن المساجد في صدر الإسلام كانت تؤدي من الخدمات ما تقوم به جهات عدة في عصرنا الحديث.
بناء مسجد قباء
فلا تعجب والمساجد في الإسلام على ما ذكرنا أن كان أول عمل قام به الرسول في المدة التي أقامها في بني عمرو بن عوف أن يا بني مسجد قباء، وهو المسجد الذي أشار إليه الحق تبارك وتعالى في قوله:
__________
(1) الصفة: الموضع المظلّل من المسجد، وكانت في مؤخرة المسجد النبوي، أعدّ لنزول الغرباء ممن لا مأوى لهم ولا أهل وكانوا يكثرون فيه ويقلون بحسب من يتزوج منهم أو يموت أو يسافر، وقد سرد أسماءهم أبو نعيم في الحلية فزادوا عن مائة.
(2) راجع صحيح البخاري- كتاب الصلاة- أبواب المساجد، تجد الإمام البخاري عقد لكثير مما ذكرت بابا مستقلا.(2/18)
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ «1» .
روى الطبراني بسنده عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الاية: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ... ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عويم بن ساعدة فقال: «ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم؟» .
فقال: يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو قال مقعدته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هو هذا» وروى نحوه أيضا أبو داود والترمذي وابن ماجه.
وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء، ويؤيد رأي هؤلاء أن سياق الايات القرانية إنما هو في مسجد قباء، وهو الذي قصد أهل مسجد الضرار أن يصدوا الناس عنه بمسجدهم.
وذهب اخرون إلى أنه مسجد المدينة، واستدلوا بما ورد في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه، فقلت: يا رسول الله أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ فأخذ كفا من الحصباء فضرب به الأرض، ثم قال: «هو مسجدكم هذا» .
والذي نرجحه أنه مسجد قباء لظاهر الاية والسياق، ولا تنافي بين الاية والحديث، لأنه إذا كان مسجد قباء أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد المدينة بطريق الأحرى والأولى، وهذا الحديث ذكر في معرض المفاضلة، وليس من شك في أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل وهو خير المساجد بعد المسجد الحرام «2» ولو أن النبي قال: «هو مسجد قباء» لتوهم متوهم أن مسجد النبي لم يؤسس على التقوى، ولا تخذ البعض من هذا ذريعة للتقليل من شأن المسجد النبوي، فهذا هو السر في هذا الجواب الحكيم.
__________
(1) سورة التوبة: الاية 108.
(2) تفسير ابن كثير والبغوي، ج 4 ص 242؛ البداية والنهاية، ج 3 ص 209.(2/19)
وقد ورد في مسجد قباء أن جبريل عليه الصلاة والسلام هو الذي أشار للنبي صلى الله عليه وسلم إلى موضع قبلته.
ولما كان قباء أول مسجد بني في الإسلام وجعل لعموم الناس من هذه الأمة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمل له ذكريات كريمة في نفسه، وقد ثبت في الحديث الصحيح أنه كان يزوره كل يوم سبت تارة راكبا وتارة ماشيا، وفي الحديث الصحيح أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجد قباء كعمرة» رواهما الشيخان.
وروى الترمذي عن أسيد بن ظهير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلاة في مسجد قباء ركعتين أحب إليّ من أن اتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل» ، وروى ابن ماجه عن سهل بن حنيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان كأجر عمرة» .
وقد زرت مسجد قباء- ولله الحمد والمنة- غير مرة وأنا في طريقي إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وجلست فيه وصلّيت فيه مرارا.(2/20)
وصول النّبيّ إلى المدينة وبناؤه المسجد النّبويّ
أقام النبي صلى الله عليه وسلم بقباء بقية وصوله، وهو يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، ثم خرج يوم الجمعة قاصدا البلد الطيب (طيبة) ، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في المسجد الذي ببطن الوادي: وادي (رانوناء) «1» ، وهي أول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، بل قيل: هي أول صلاة جمعة «2» صلاها مطلقا، لأنه لم يكن يتمكن في مكة من الاجتماع بأصحابه حتى يقيموا بها جمعة ذات خطبة وإعلان وموعظة لشدة مخالفة المشركين له وإيذائهم إياه وأصحابه، وفي هذه الجمعة خطب المسلمين خطبة بليغة مؤثرة تفيض بالإيمان واليقين، والمواعظ والزواجر، والترغيب والترهيب، وها هي الخطبة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه، وأومن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد ألاإله إلا الله واحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، والنور والموعظة على فترة من الرسل، وقلّة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنوّ من الساعة، وقرب من الأجل، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرّط، وضلّ ضلالا بعيدا.
__________
(1) بين قباء والمدينة، ويعرف هذا المسجد اليوم «بمسجد الجمعة» .
(2) أما صلاة الجمعة جماعة فقد حدثت قبل مقدم النبي وكان أول من جمعهم على صلاة الجمعة أبو أمامة أسعد بن زرارة النجاري أحد النقباء الاثني عشر ليلة العقبة الثانية. رواه ابن إسحاق وأبو داود وابن ماجه من طريقه.(2/21)
وأوصيكم بتقوى الله، فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الاخرة، وأن يأمره بتقوى الله، فاحذروا ما حذّركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة، ولا أفضل من ذلك ذكرى، وإنه تقوى لمن عمل به على وجل ومخافة، وعون صدق على ما تبتغون من أمر الاخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمر السر والعلانية ولا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره، وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدّم، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ هو الذي صدّق قوله، وأنجز وعده، لا خلف لذلك، فإنه يقول تعالى: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
واتقوا الله في عاجل أمركم واجله، في السر والعلانية، فإنه مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً، ومن يتّق الله فقد فاز فوزا عظيما. وإن تقوى الله توقي مقته، وتوقي عقوبته، وتوقي سخطه، وإن تقوى الله تبيّض الوجه، وترضي الرب، وترفع الدرجة.
خذوا بحظكم، ولا تفرّطوا في جنب الله، قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وسمّاكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بيّنة، ويحيى من حيّ عن بيّنة، ولا قوة إلا بالله.
فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله يكفيه ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» .
روى هذه الخطبة الإمام محمد بن جرير، وفي السند إرسال، وقد حرصت على ذكرها كلها لأن فيها قبسا من نور الوحي، وحكما من حكم النبوة، وهي نموذج رائع من كلمه الجوامع، وحكمه النوابغ، وفيها القدوة لمن يحب أن يقتدي بالرسول في خطبه، ويحتذي به في مواعظه.(2/22)
توسل الأنصار إلى الرسول أن ينزل عندهم
ثم أتاه رجال من بني سالم بن عمرو بن عوف فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة «1» ، ويتشبثون بزمام الناقة- ناقته القصواء-، فيقول لهم: «خلّوا سبيلها فإنها مأمورة» ورسوله الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به، وكلما مر بدار من دور الأنصار في الطريق عرضوا عليه أن ينزل عندهم في العدد والعدة والمنعة، فيقول لهم مثل قولته الأولى، حتى وصلت الناقة إلى موضع مسجده الشريف فبركت عنده، ورسول الله راكب عليها لم ينزل، ثم ثارت الناقة «2» ، وسارت غير بعيد ورسول الله واضع لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت خلفها ورجعت إلى مبركها أول مرة، فبركت فيه وألقت بجرانها «3» .
فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعه الملأ أيهم ينزل عليه، فقال: «إني أنزل على أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك «4» » . ثم سأل: «أي دور أهلنا أقرب» ؟ فقال السيد الجليل أبو أيوب الأنصاري: أنا، فاحتمل رحل رسول الله إلى منزله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم معتذرا بلطف عن النزول عند غير بني النجار «المرء مع رحله» .
ثم جاء أسعد بن زرارة نقيب بني النجار ليلة العقبة الثانية، وقد فاته شرف نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده، فأخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت عنده، واعتبر هذا شرفا وكرامة له.
وكان نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بدار السيد أبي أيوب الأنصاري منقبة عظيمة له ولبني النجار جميعا، وقد كان في المدينة دور كثيرة تبلغ تسعا، كل دار محلة مستقلة بمساكنها، ونخيلها، وزروعها وأهلها، كل قبيلة من قبائلهم قد اجتمعوا
__________
(1) العدد: الكثرة. العدة- بضم العين-: السلاح. المنعة: القوة وحماية الجار.
(2) ثارت: قامت.
(3) جرانها: مقدم عنقها.
(4) وطبعي ألايغضب أحد من أشراف المدينة، لأن أحق الناس به هم أقرباؤه وأهله، وبهذا التصرف الحكيم تخلص الرسول الكريم من هذا الموقف المحرج حقا.(2/23)
في محلتهم، وهي كالقرى المتلاصقة، فاختار الله لرسوله صلى الله عليه وسلم دار بني مالك بن النجار تكريما لهم لخؤولتهم لرسول الله.
وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جميع دور الأنصار، فقد ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير» ، فقال سعد بن عبادة: ما أرى النبي صلى الله عليه وسلم إلا قد فضّل علينا، فقيل: قد فضلكم على كثير، وفي رواية أخرى عن أبي حميد الساعدي عن النبي، وزاد فيه فقال أبو أسيد لسعد بن عبادة: ألم تر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيّر الأنصار فجعلنا اخرا، فأدرك سعد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله خيّرت دور الأنصار فجعلتنا اخرا؟ فقال: «أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الأخيار» وإنها لكياسة في الجواب لن تكون إلا من صاحب العقل الكبير، والصدر الرحيب، والقول الفصل البليغ.
اليوم المشهود
وكان يوما مشهودا في تاريخ الدنيا يوم دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة راكبا ناقته القصواء وأبو بكر الصديق ردفه «1» ، وملأ بني النجار حوله متقلدين سيوفهم يرهبون بها أعداء الله ورسوله، ومن تسوّل له نفسه من اليهود والمشركين أن ينال من رسول الله، وليعلموهم أنه إذا كان ترك أهله ووطنه إلى الله، فلا يزال في عزة ومنعة من أخواله وأتباعه وأنصاره، إنه لمشهد معبّر يغني عن الكلام والخطب!!.
وخرجت المدينة كلها بشبابها وشيبها، وصبيانها ونسائها وولائدها، لتشارك في استقبال القادم الكريم، وليملأوا عيونهم من هذا الذي أصبح ذكره على كل لسان، وأنصاره في كل بيت.
__________
(1) ردفه يعني خلفه، وقد كانت للصديق ناقة، ولكن رسول الله أراد ذلك تكريما للصديق، وليرى الناس في هذا اليوم المشهود منزلة الصديق منه.(2/24)
روى الإمام أحمد- في وصف هذا المشهد الحافل- عن أنس بن مالك قال: (إني لأسعى في الغلمان يقولون: جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئا، ثم يقولون جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئا، قال حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر، فكمنّا في بعض خراب المدينة، ثم بعثا رجلا من أهل البادية يؤذن بهما الأنصار، فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار حتى انتهوا إليهما، فقالت الأنصار، انطلقا امنين مطاعين، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بين أظهرهم، فخرج أهل المدينة حتى إن العواتق «1» لفوق البيوت يتراءينه يقلن: أيهم هو، فما رأينا منظرا شبيها به. قال أنس: فلقد رأيته يوم دخل علينا ويوم قبض، فلم أر يومين شبيها بهما) .
وخرجت جوار «2» - بنات- من بني النجار يضربن بالدفوف وهنّ يقلن:
نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار
فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أتحببنني» ؟ فقلن: إي والله يا رسول الله فقال: «وأنا والله أحبكم» ثلاثا. وفي صحيح البخاري ومسلم في حديث الهجرة: «وخرج الناس حين قدما المدينة في الطرق وعلى البيوت، والغلمان والخدم يقولون: الله أكبر جاء رسول الله، الله أكبر جاء رسول الله» «3» .
__________
(1) العواتق: جمع عاتق، وهي الشابة أول ما تدرك.
(2) جوار: جمع جارية وهي الشابة أمة كانت أو حرة.
(3) أما ما يذكره بعض كتّاب السيرة من أنهم قالوا:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع
فقد خالفه المحققون كابن القيم، والحافظ العراقي، والحافظ ابن حجر، وقالوا: إن ذلك كان مرجعه من تبوك، وذلك لأن ثنية الوداع من جهة الشام لا من جهة مكة [شرح المواهب ج 1 ص 434] .(2/25)
في دار أبي أيوب الأنصاري
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب معزّزا مكرّما سبعة أشهر، حتى بنى المسجد وبنيت دور أهله ونسائه فانتقل إليها، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما نزل في سفل دار أبي أيوب، وقد الم أبا أيوب أن يكون رسول الله في السفل، وألحّ عليه أن يكون في العلو، حتى بيّن له النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك أرفق به وبمن يأتيه من المسلمين والزائرين، فقد كانت دار أبي أيوب منتدى يجتمع فيه المسلمون.
وبالغ أبو أيوب في إكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانت تطيب نفسه أن يأكل حتى يأكل رسول الله، فكان يهيىء الطعام ويرسله إلى النبي، فإذا عادت القصعة سأل عن موضع أصابع النبي فيأكل حيث أكل. وفي ذات مرة صنع طعاما وكان فيه ثوم لم تذهب رائحته، فسأل عن موضع أصابع الرسول فقيل له: لم يأكل منه، ففزع وذهب إليه وقال: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: «لا، ولكنني أكرهه، فإني أناجي من لا تناجي» «1» يريد الملائكة، وهي تتأذّى مما يتأذّى منه بنو ادم.
وفي مرة أخرى كسرت لأبي أيوب جرّة فيها ماء، ففزع أبو أيوب والسيدة أم أيوب زوجه، وأسرعا إلى قطيفة لهما كانا يعتزّان بها، فأخذاها وصارا يجففان بها الماء خشية أن يسيل الماء إلى أسفل البيت فيتأذى منه رسول الله أو زوّاره.
وقد بلغ من أدب أبي أيوب وأهله- لما امتنع الرسول أن يصعد إلى العلو- أنهم كانوا لا ينزلون في المكان المسامت لرسول الله من العلو استحياء من الله ورسوله، وهكذا فليكن الأدب، والقيم الروحية العالية، ومع اعتذار رسول الله عن الصعود إلى العلو لم يزل به أبو أيوب، يرجوه ويلح في الرجاء، حتى قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون في العلو، إذ قد خف الزوار ولم يعد هناك من حرج.
__________
(1) رواه الشيخان.(2/26)
وتسابق الأنصار في إكرام وفادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما من ليلة إلا وتجد على دار أبي أيوب القصاع والجفان يأكل منها من يشاء، ويدع من يشاء، وكذلك تسابقوا في إيواء المهاجرين وإكرامهم، وعرضوا عليهم أن يقاسموهم دورهم وأموالهم، بل وأعز شيء لديهم وهو التنازل لهم عن بعض أزواجهم كي ينكحوهن إذا رغبوا، ولكن المهاجرين أبوا واكتفوا منهم بالارتفاق والمواساة، وقد ضرب الأنصار في مواساة إخوانهم المهاجرين مثلا عليا تذكر بالإعظام والإكبار، وسنوفيهم حقهم فيما يأتي إن شاء الله.
وقد صارت دار أبي أيوب التي حظيت بهذا الشرف الرفيع إلى مولاه أفلح بعد وفاته، فاشتراها منه المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بألف دينار، وأصلح ما وهى من بنيانها، ووهبها لأهل بيت فقراء.
وقد ذهبت إلى هذه الدار وأنا بالمدينة في زيارة رسول الله ومسجده، وهي بالقرب من المسجد النبوي، وأهاجت الدار الذكرى، وحركت لواعج الشوق والحب لأهلها الأخيار، فلله أنت يا دار أبي أيوب.
جميل بجميل
ودارت الأيام دورتها، وقدم السيد الكريم أبو أيوب الأنصاري البصرة، وكان عليها يومئذ سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما واليا من قبل سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فوجد ابن عباس الفرصة سانحة لردّ الجميل المذكور لسيدنا أبي أيوب، فخرج له عن داره وأنزله فيها كما أنزل رسول الله في داره، وملّكه كل ما أغلق عليها بابها، ولما أراد الانصراف من البصرة ودّعه وأجزل له العطاء.
وما كان أبو أيوب- علم الله- ليرجو على ما عمل جزاء من أحد، ما كان يرجو إلا رضاء الله ورسوله، ولكنه أدب من اداب الإسلام، ردّ المعروف بمثله أو بخير منه، وأحق من رعى هذا الأدب الرسول واله الكرام، وقد قال معلّم الناس الأدب والخير صلى الله عليه وسلم: «من أسدى إليكم معروفا فكافئوه عليه، فإن لم تقدروا فادعوا له بخير» رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح.(2/27)
إسلام عبد الله بن سلام وبعض أهله
وفي أثناء مقام الرسول بدار أبي أيوب الأنصاري قدم عليه أحد أحبار اليهود وعلمائهم وهو عبد الله بن سلام، وكان يعلم من كتبهم أوصاف النبي المبعوث في اخر الزمان. فلما جاء إلى النبي سأله بعض أسئلة تأكّد منها أنه نبي، لأنه ما يعلمها إلا نبي، فأسلم وقال للرسول: لا تعلن إسلامي حتى تسأل اليهود عني، لأنهم إن علموا إسلامي فسينتقصونني.
فأرسل إليهم النبي وسألهم عنه، فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، فلما أخبرهم بإسلامه قالوا: شرنا وابن شرنا. وإليك هذه القصة كما رواها البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال:
« ... فلما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله، وأنك جئت بالحق، وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيّ ما ليس فيّ.
فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم فأقبلوا فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله، فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا وأني جئتكم بحق، فأسلموا» قالوا: ما نعلمه.
قال: «فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام» ؟ قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا. قال: «أفرأيتم إن أسلم» ؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، وكرّرها وأجابوه- ثلاثا- قال: «يا ابن سلام اخرج عليهم» ، فخرج، فقال:
يا معشر اليهود، اتقوا الله، فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق، فقالوا: كذبت. وفي رواية أخرى أنهم قالوا: شرّنا وابن شرّنا وتنقّصوه. قال هذا ما كنت أخاف يا رسول الله «1» . وقد أسلم
__________
(1) صحيح البخاري «باب هجرة النبي وأصحابه إلى المدينة» و «باب إتيان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة» .(2/28)
بإسلامه أهل بيته، وعمة له تسمّى خالدة بنت الحارث «1» .
وأما غيره من أحبار اليهود فقد طمس الحقد والحسد على قلوب الكثيرين منهم، وأبوا أن يؤمنوا، فكان عاقبة أمرهم خسرا ووبالا في الدنيا والاخرة، كما سيأتي إن شاء الله.
__________
(1) فتح الباري ج 7 ص 202.(2/29)
بناء المسجد النبوي
وفي المدة التي أقامها رسول الله بدار أبي أيوب بني المسجد النبوي، وقد بنوه في المكان الذي بركت فيه الناقة، وكان في الأصل حائطا- بستانا- فتخرّب بعضه فبنيت فيه قبور، واتّخذ بعضه مربدا لتجفيف التمر، وكان لغلامين يتيمين بالمدينة، وهما سهل وسهيل ابنا عمرو، وكانا في حجر أسعد بن زرارة، فساومهما النبي فأبيا، وقالا بل نهبه لله ولرسوله؛ ولكن الرسول أبى إلا أن يكون بالثمن. وبهذا التصرف الحكيم ضرب النبي مثلا كريما في رعاية حقوق اليتامى، وقطع ما عسى أن تتقوّل به ألسنة السوء.
وقد ذكر موسى بن عقبة في تاريخه أن الرسول اشتراه بعشرة دنانير، وأن الصدّيق هو الذي دفعها، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطعت، وبالقبور فنبشت، وبالخرب فسويت.
وشرع المسلمون يبنون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل معهم التراب واللبن وهم يقولون:
هذي الحمال لا حمال خيبر ... هذي أبر- ربّنا- وأطهر «1»
ويقولون:
اللهمّ إنّ الأجر أجر الاخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة
__________
(1) الحمال بكسر الحاء: المحمول، أي هذا اللبن على ما ينال العامل في حمله من المشقة والاغبرار أبقى ذخرا، وأكثر ثوابا، وأشد طهرا من حمال خيبر وهي ما يحمل من التمر والزبيب ونحوهما في التجارة، وإنها لروحانية سامية لا تكون إلا من هذه النفوس الزكية.(2/30)
وكان علي يقول:
لا يستوي من يعمر المساجدا ... يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى عن التراب حائدا
وكان بعضهم يقول:
لئن قعدنا والنبي يعمل ... ذاك إذا للعمل المضلّل
وفي هذا الارتجاز في الأعمال والأسفار تنشيط للنفوس، وترويح للقلوب، فيسهل الشاق، ويلين الصعب.
ولما بني المسجد النبوي صار مصلّى المسلمين ومتعبدهم ومنتداهم ومكان تشاورهم، وكان فيه صفّة يأوي إليها الفقراء والمساكين ممّن لا مال لهم ولا دار، ولا يجدون ما يعملون به فيكتسبون، وفيه تلقى دروس العلم والحكمة. وهكذا كان المسجد النبوي يؤدي خدمات دينية وعلمية واجتماعية وسياسية، وكن على ذكر مما ذكرنا سابقا في منزلة المساجد في الإسلام.
الأطوار التي مرّ بها بناء المسجد النبوي
كان المسجد النبوي في عهده صلى الله عليه وسلم مبنيا باللبن- الطوب النيء- وكانت عمده من جذوع النخل، وسقفه من الجذوع والجريد. وهكذا كانت المساجد في عهده صلى الله عليه وسلم تمتاز بالبساطة وعدم التكلف، ولكنها كانت عامرة بالإيمان والهدى، والعلم والمعرفة.
يدل على هذه البساطة في بناء المسجد النبوي وغيره ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس بن مالك- واللفظ لمسلم- «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فنزل في علو المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة «1» ثم أرسل إلى ملأ بني النجار، فجاؤوا
__________
(1) في سيرة ابن إسحاق أنه قدم يوم الاثنين وخرج إلى المدينة يوم الجمعة، ويمكن التوفيق بين ما رواه ابن إسحاق وما ثبت في الصحيح بأن المراد تتمة أربع عشرة ليلة، ويكون داخلا فيها المدة التي قضاها رسول الله والصدّيق في الطريق بعد خروجهما من الغار حتى دخلا قباء.(2/31)
متقلدي سيوفهم قال: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، وأبو بكر ردفه، وملأ بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب.
فكان رسول الله يصلّي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، ثم إنه أمر بالمسجد. قال: فأرسل إلى ملأ بني النجار فجاؤوا فقال: «يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا» ، قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تعالى، قال أنس: فكان فيه ما أقول: كان فيه نخل وقبور المشركين وخرب. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطعت، وبقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت؛ قال: فصفّوا النخل قبلة وجعلوا عضادتيه حجارة، قال:
فكانوا يرتجزون ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم «1» وهم يقولون:
اللهمّ إنه لا خير إلا خير الاخرة ... فارحم الأنصار والمهاجره
وبقي المسجد النبوي على هذا الحال في خلافة الصدّيق رضي الله عنه، فلما كان عهد الفاروق عمر رضي الله تعالى عنه، واتسعت رقعة الإسلام، وكثر الوافدون إلى المسجد، وسّعه عمر وأبقاه على ما كان عليه في عهد الرسول من بنيانه باللبن، وسقفه بالجريد، إلا أنه جعل عمده من الخشب بدل جذوع النخل. وقد روي عنه أنه قال لمن زاول البناء: (أكنّ الناس من المطر، وإياك أن تحمّر أو تصفّر لتفتن الناس) .
فلما ولي السيد الحييّ عثمان رضي الله عنه الخلافة زاد فيه زيادات كبيرة، وبنى جدرانه بالحجارة المنقوشة والقصة- الجص- وجعل عمده من الحجارة المنقوشة أيضا، وسقفه بخشب الساج «2» .
وقد أنكر بعض الناس على عثمان هذا، واعتبروه إسرافا وزخرفة، روى البخاري في صحيحه بسنده أن عثمان كان يقول عند قول الناس فيه حين بنى
__________
(1) في رواية البخاري «فتمثل بشعر رجل من المسلمين ... » قيل إنه عبد الله بن رواحة، فالشعر ليس من إنشاء الرسول قطعا، والعضادة جانب الباب.
(2) خشب جيد يجلب من الهند.(2/32)
مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم: إنكم أكثرتم، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى لله مسجدا بنى الله له مثله في الجنة» .
ويعلم الله أن عثمان رضي الله عنه ما قصد الزينة حين بناه بهذا النوع من الحجارة، ولا قصد الإسراف حينما وسّعه وجعل جدرانه من الحجارة، وسقفه بخشب الساج، فقد كان بيت المال في عهده يفيض بالأموال التي لا تحصى، وإنما هي الضرورة والمصلحة ليتسع المسجد للوافدين من المسلمين، وليكون ذلك أدعى إلى طول البقاء، وعدم تسارع الخلل والخراب إليه.
ثم زيد في المسجد في عهد الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق، وقد قام بهذا نائبه على المدينة عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، وفي هذه الزيادة أدخلت حجر أزواج النبي ومنها حجرة عائشة التي كان فيها القبر الشريف، ثم زيد فيه زيادات كثيرة فيما بعد، وزيد فيه من جهة القبلة حتى صارت الروضة والمنبر بعد الصفوف الأمامية للمتوجه للقبلة كما هو اليوم.
ومما ينبغي أن يعلم أن القبر الشريف ما كان في المسجد أولا، وإنما دخل فيه لما اضطروا إلى توسعة المسجد، فقد وردت الأحاديث الصحيحة بلعن اليهود والنصارى لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ونهى النبي عن ذلك، ودعا الله ألايتخذ قبره وثنا يعبد، ففي الحديث الشريف: «اللهمّ لا تجعل قبري وثنا يعبد، غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .
وقد احتاط المسلمون الأولون، فأحاطوا القبر الشريف بحائط مرتفع كيلا يظهر القبر في المسجد فيصلي إليه العوام، فيقعوا في اتخاذ قبره مسجدا، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على هيئة رأس مثلث من الشمال حتى لا يتمكن المصلّي من استقبال القبر الشريف في الصلاة.
زخرفة المساجد:
وكان أول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك بن مروان، ومن يومها والناس شرعوا يغالون في بناء المساجد وزخرفتها حتى أصبح بعضها من قبيل المتاحف، تقصد لما فيها من زخرفة لا للصلاة فيها، وكل ذلك خارج عن هدي(2/33)
النبوة، ولو روعيت البساطة في بناء المساجد وعدم المغالاة في الزخرفة والتشييد لكان خيرا وأولى.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما سيصير إليه حال المسلمين في بناء المساجد وزخرفتها، فقال فيما رواه أنس عنه: «يأتي على أمتي زمان يتباهون بالمساجد، ثم لا يعمرونها إلا قليلا» ، وقال: «لتزخرفنّها- أي المساجد- كما زخرفت اليهود والنصارى» رواهما أبو داود في سننه. ولم يزل الخلفاء والملوك المسلمون يتداولون المسجد النبوي من قديم بالتوسعة والعمارة والتشييد حتى أصبح على وضعه الحالي وعلى هيئته الان.
وكانت اخر توسعة وتشييد ما قام به ال سعود القائمون على شؤون الحرمين، وقد أصبح على حال من قوة التأسيس والسعة والفخامة تليق بهذا المسجد المشرّف، الذي تشدّ إليه رحال ألوف الألوف من المسلمين من جميع بقاع الأرض، فشكر الله لهم هذا العمل المجيد.
فضل المسجد النبوي
هو أحد المساجد المشرفة التي تشدّ إليها الرحال في الأرض، وثانيها في الفضل، وإن كان ثالثها في الزمان والبناء، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، ومسجد بيت المقدس» . وفي الصحيحين أيضا أن رسول الله قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» .
وفي مسند أحمد بإسناد حسن زيادة حسنة: وهي قوله: «فإن ذلك أفضل» .
وفي مسجد النبي الروضة الشريفة التي هي من رياض الجنة، ففي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين بيتي»
ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي» .
__________
(1) اشتهر هذا الحديث على الألسنة بلفظ «ما بين قبري» وهو غير صحيح فالرسول لما قال الحديث لم يكن قبرا وإنما كان بيتا وهي الرواية الصحيحة.(2/34)
وكيف لا تكون من رياض الجنة والعبادة فيها مما يقرّب صاحبها من الجنة، ويباعد بينه وبين النار، فالأعمال فيها ثوابها مضاعف، والدعاء فيها مرجو الإجابة، وبجوارها أشرف بقعة ضمّت أشرف جسمان على وجه الأرض، وطالما صلّى فيها النبي في حياته وقام، وكثيرا ما وعظ فيها وذكّر، وبشّر وأنذر، وشهدت من أحداث الإسلام وسياسته ما شهدت، والجالس فيها يشعر بروحانية صافية، وراحة نفسية، وإشراقة قلب، وانشراح صدر، وينسى فيها بؤس الحياة والامها، ويغمره إيمان بصاحب الرسالة وحب يصلان به إلى حظيرة القدس.
وذهب الإمام مالك وأصحابه إلى تفضيل مسجد المدينة على مسجد مكة؛ لأن ذاك بناه الخليل إبراهيم، وهذا بناه نبينا محمد.
والحق ما ذهب إليه جمهور العلماء من تفضيل المسجد الحرام، لأنه في بلد حرّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، وحرّمه الخليل وحرمه نبينا، وجعل الصلاة فيه أفضل من الصلاة في المسجد النبوي، وجعل حجه فرضا مفروضا، ومن دخله كان امنا، وفضيلته قد شهد بها التنزيل وصدق الله:
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ «1» مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) «2» .
بناء حجر أمهات المؤمنين
وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم حجر حول مسجده الشريف، لتكون مساكن له ولأهله، ولم تكن الحجر كبيوت الملوك والأكاسرة والقياصرة، بل كانت بيوت من ترفّع عن الدنيا وزخارفها، وابتغى الدار الاخرة، فقد كانت كمسجده مبنية من اللبن والطين وبعض الحجارة، وكانت سقوفها من جذوع النخل والجريد،
__________
(1) بكة هي مكة بلد الله الحرام بإبدال الميم باء، سميت بذلك لأنها تبك أعناق الجبابرة الذين يلحدون فيها بظلم، وقيل لأن الناس يجتمعون فيها ويتزاحمون للطواف والسعي.
(2) ال عمران: الايتان 96، 97.(2/35)
وكانت قريبة الفناء قصيرة البناء، ينالها الغلام الفارع بيده. قال الحسن البصري وكان غلاما مع أمه خيرة مولاة أم سلمة-: (قد كنت أنال أطول سقف في حجر النبي صلى الله عليه وسلم بيدي) .
ولما تمّت هجرة النبي وصاحبه أبي بكر رجع عبد الله بن أريقط دليلهما إلى مكة، فأرسلا معه زيد بن حارثة وأبا رافع- وهما موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم- ليأتوا بأهليهما، فذهبا وجاا ببنتي الرسول: أم كلثوم وفاطمة، وزوجته: السيدة سودة بنت زمعة، وأم أيمن زوج زيد، وابنها أسامة.
أما السيدة زينب فكانت في بيت زوجها أبي العاص بن الربيع حتى أرسلها بعد أن أسر في بدر كما سيأتي، وأما السيدة رقيّة فكانت مع زوجها عثمان رضي الله عنه. وقدمت معهما أيضا السيدة عائشة، وأمها أم رومان صحبة عبد الله بن أبي بكر، ومن ال أبي بكر أيضا السيدة أسماء بنت الصدّيق امرأة الزبير بن العوام، وهي حامل متمّ بابنها عبد الله بن الزبير.
ولم يكن مع رسول الله حينئذ من أزواجه إلا سودة بنت زمعة التي دخل بها بعد وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها، أما السيدة عائشة فكان عقد عليها ولم يبن بها إلا في شوال بعد مقدمه المدينة بسبعة أشهر. وكان رسول الله كلما بنى بزوجة بنى لها حجرة، حتى اكتملت حجرات نسائه حول المسجد، وكان لكل حجرة بابان: خارجي وداخلي من المسجد، ليسهل دخول النبي إلى المسجد، وقد أضيفت هذه الحجر كلها إلى المسجد لما اضطروا إلى توسعته كما أسلفنا.
حمّى المدينة
لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه إلى المدينة كانت أوبأ أرض الله من الحمّى، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف ذلك عن نبيه. وكان ممن وعكتهم الحمى وهدّت من كيانهم الصدّيق أبو بكر، وعامر بن فهيرة مولاه، وبلال بن رباح، فكان الصدّيق إذا اشتدت به الحمى يقول:
كل امرىء مصبّح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله(2/36)
وكان عامر يقول:
قد وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرىء مجاهد بطوقه ... كالثور يحمي جلده بروقه
«1» وكان بلال يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... بواد وعندي إذخر وجليل
«2»
وهل أردن يوما مياه مجنّة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
«3» فأخبرت عائشة النبي بما رأت وسمعت فدعا بهذا الدعاء: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة» رواه البخاري، وقد استجاب الله لنبيه الدعاء وصار جو المدينة من أحسن الأجواء، ولم تكن الجحفة حينئذ من بلاد الإسلام، وهي التي كانت مهل أهل الشام ومصر ومن على شاكلتهم، وقد درست الجحفة، والإحرام الان من «رابغ» قرية قريبة منها على الطريق بين مكة والمدينة.
__________
(1) الروق: القرن.
(2) إذخر وجليل: نباتان من نبات البادية.
(3) شامة وطفيل: جبلان بمكة.(2/37)
حالة المدينة السّياسيّة والاجتماعيّة بعد الهجرة
بعد أن قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة أصبح سكان المدينة يمثلون هذه الطوائف:
المهاجرين
وهم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة فرارا بدينهم، تاركين الأهل والولد والدور والمال، مجردين من كل شيء إلا من الإيمان، ومنهم من اصطحب معه زوجه وولده، ومنهم من تركهم، وقد عانى المهاجرون في مبدأ قدومهم شدة ومرضا وغربة ووحشة، ولكنهم لم يلبثوا- بفضل إخوانهم الأنصار- أن تعودوا على جو المدينة، وأن اندمجوا في المجتمع الجديد، وصارت المدينة وطنا لهم، وأبدلهم الله بالأهل أهلا، وبالمال مالا.
وكانت الهجرة قبل فتح مكة واجبة وفرضا على المسلمين من أهل مكة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ومواساته بالنفس، وليكون لهم في تجمعهم في مكان واحد كيان وقوة، ولذلك أنحى الله باللائمة والتوبيخ لمن استطاع الهجرة ولم يهاجر، ولم يعذر إلا المستضعفين الذين ليست لهم قدرة عليها، فقال سبحانه:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً «1» .
__________
(1) سورة النساء: الايات 97- 99.(2/39)
وأما بعد الفتح فلم تعد الهجرة واجبة، ففي الحديث المتفق عليه:
«لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» ومع هذا فقد أبى الله ورسوله إلا أن تكون المدينة هي الوطن للمهاجرين، فحرم رسول الله على من هاجر قبل الفتح أن يستوطن مكة بعد الفتح، وأباح لمن قصدها لحج أو عمرة أن يقيم بها بعد أداء نسكه ثلاثا لا يزيد عليها، ففي الحديث المتفق عليه- واللفظ لمسلم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا» ولذلك رثى النبي لسعد بن خولة «1» أن مات بمكة كما رواه البخاري في صحيحه «2» .
والحكمة في تحريم الإقامة للمهاجرين بمكة بعد الفتح خشية أن يعتبر هذا رجوعا في هجرتهم، لأنهم تركوا ديارهم وأهليهم وأموالهم لله، وفي سبيل نصرة رسول الله، فأراد الله سبحانه أن يستمر تركهم لها ابتغاء مرضاته، ليكون شاهد صدق على قوة إخلاصهم، وعظمة نفوسهم، وسمو أخلاقهم، وليكونوا قدوة حسنة لمن يجيء بعدهم أن من ترك شيئا لله لا ينبغي أن يرجع إليه.
هذا إلى أن المدينة- دار الهجرة- قد أضحت قلب الإسلام النابض، ومركز الدعوة الإسلامية، ففيها استقر الرسول بعد الهجرة، والخلفاء الراشدون من بعده، فما أشد الحاجة إلى أن يبقى فيها السابقون الأولون من المهاجرين من قريش، التي تدين لها العرب كلها، فمن ثمّ حرم على المهاجرين الأولين الإقامة بمكة بعد الفتح، ولو أبيح لهم الرجوع لربما نزع الكثيرون منهم إلى الرجوع إليها، فإن النفوس البشرية مجبولة على حب الوطن والرجوع إليه إذا سنحت الفرصة، لذلك اقتضت حكمة الله سبحانه- ولله الحكمة البالغة- أن يحرّم ذلك، ليبقى المهاجرون مع الأنصار في البلد الطيب «طيبة» الذي اوى الإسلام، ومنه انتشرت دعوة الإسلام، وعمّ نوره الخافقين، وهو من أسمى أنواع الوفاء.
__________
(1) سعد بن خولة من بني عامر بن لؤي من المهاجرين السابقين، وقد مات بمكة عام حجة الوداع.
(2) صحيح البخاري كتاب الجنائز. وانظر فتح الباري ج 3، ص 128.(2/40)
ولما مرض سيدنا سعد بن أبي وقاص بمكة في حجة الوداع خاف أن يموت، فطمأنه الرسول وأشار له إلى أنه ستطول به الحياة، وقال: «اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم» رواه البخاري.
ولهذه المعاني كان النبي يرغّب أصحابه في سكنى المدينة، ولا يتحوّلون عنها إلا لضرورة، فقد روى مسلم في صحيحه بسنده عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أحرّم ما بين لابتي «1» المدينة: أن يقطع عضاهها «2» أو يقتل صيدها» ، وقال: «المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها «3» وجهدها إلا كنت له شفيعا، أو شهيدا يوم القيامة، ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص، أو ذوب الملح في الماء» .
الأنصار
هم أولئك الذين استجابوا إلى الإسلام من أهل المدينة أوسها وخزرجها في بيعة العقبة الأولى والثانية، وقد كان يساكنهم بالمدينة جالية كبيرة من اليهود الذين نزحوا إليها من الشام مشردين مضطهدين، وكان بينهم وبين اليهود وقائع وحروب، فكانوا إذا انتصفوا من اليهود وأذلوهم قالوا لهم: لقد قرب عهد نبي يبعث من العرب وسننضوي تحت لوائه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما دعا النبي أهل المدينة في موسم الحج قالوا فيما بينهم: هذا هو الذي بشّرت به يهود، فلا يسبقنّكم إليه، فكان هذا من أسباب كرامة الله لهم بالمسارعة إلى الإسلام ونشره بالمدينة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد كانت بين الأوس والخزرج في الجاهلية حروب وأيام مشهودة كيوم بعاث، ولذلك لما عرض النبي عليهم الإسلام قالوا: إنا تركنا قومنا وبينهم
__________
(1) أي حرّتيها وهي الأرض ذات الحجارة السود.
(2) جمع عضة شجر ذو شوك.
(3) شدّتها من حر أو برد، أو جدب مثلا.(2/41)
ما بينهم من العداوة والبغضاء، فإن يجمعهم الله بك فلن يكون أحد أعزّ منك في العرب.
وقد حقق الله الرجاء، فقد صاروا بعد أن أنعم الله عليهم بالإسلام إخوانا متحابين متالفين، وكان للإسلام من هذا الغنم والخير الكثير، وقد ذكّرهم الله بهذه النعمة في قوله عز شأنه:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ «1» .
وقد قام السادة الأنصار تجاه إخوانهم المهاجرين بألوان من المواساة، والإكرام، والإيواء، والإيثار، ما استحقوا به أن ينزل الله فيهم قرانا يتلى إلى يوم الدين، وصاروا مثلا عاليا يضرب في الأولين والاخرين، وسنعرض لماثرهم ونوفّيهم بعض حقهم عن كثب.
وقد صار المهاجرون والأنصار بعد الهجرة كالجسد الواحد، وعلى قلب رجل واحد، ويدا واحدة تجاه المشركين واليهود والمنافقين، ولم يزالوا يكافحون ويجالدون، ويصبرون ويصابرون حتى انما هؤلاء الأعداء الثلاثة، وصاروا في عداد الهلكى الغابرين، وبقيت كلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم.
المنافقين
وهم أهل المدينة من غير المسلمين، ولم يكن بمكة منافقون لأن طبيعة العرب الخلّص تأبى النفاق، فإما إيمان صادق، وإما كفر ظاهر، وإنما نجم النفاق بالمدينة، فقد كان يساكن العرب فيها اليهود، وهم قوم مخادعون منافقون بطبيعتهم، وعنهم أخذ عرب المدينة الذين لم يسلموا هذا الخلق المرذول.
ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وتالف المهاجرون والأنصار، وتاخوا في الله، وصاروا قوة مرهوبة في المدينة، وصارت للنبي صلى الله عليه وسلم الكلمة النافذة على المسلمين
__________
(1) سورة ال عمران: الاية 103.(2/42)
جميعا، لا فرق بين مهاجري وأنصاري، وصارت إليه الرئاسة الدينية والدنيوية، والقيادة السياسية والاجتماعية- حقد عليه وعلى دينه بعض العرب ممن كانت له الزعامة في المدينة، واليهود الذين حقدوا على العرب أن يكون منهم النبي المبعوث في اخر الزمان، وتامر من هؤلاء وأولئك فئات على الشر وعداوة الإسلام، ولم يكن في استطاعتهم أن يعلنوا عن الحقد والشر الخبيء في قلوبهم، فلم يجدوا بدا من التستر بالإسلام، يظهرونه ويبطنون الكفر والحقد والضغينة على الإسلام والمسلمين، وهم من يسمّون في الإسلام (بالمنافقين) ، وقد تزعم هؤلاء رجل من العرب، كان قومه قد نظموا له الخرز ليتوّجوه ويملّكوه عليهم، فلما انصرفوا عنه ومنهم أهله وولده حقد وضغن، ونافق وداهن، وهو عبد الله بن أبيّ ابن سلول الخزرجي.
وانضوى تحت لوائه- لواء النفاق- جماعة، منهم: أبو عامر، وكان يقال له الراهب، كان قد ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح «1» . قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:
«لا تقولوا الراهب ولكن قولوا: الفاسق» ومات بالشام غريبا طريدا وحيدا، وكان ابنه حنظلة من خيار المسلمين، استشهد يوم أحد، وهو غسيل الملائكة.
ومنهم: جلاس بن سويد بن الصامت، قال ابن إسحاق: وقد زعموا أنه تاب وحسنت توبته حتى عرف منه الإسلام والخير. ونبتل بن الحارث وهو الذي قال فيه رسول الله: «من أحب أن ينظر إلى شيطان فلينظر إلى هذا» ، وكان جسيما ثائر شعر الرأس، أحمر العينين، أسفع الخدين وكان يسمع الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينقله إلى المنافقين، وهو الذي قال: إنما محمد أذن، من حدثه بشيء صدّقه، فأكذبه الله. وعبّاد بن حنيف، وكان ممن بنوا مسجد الضّرار. ومربع بن قيظي، وكان أعمى، وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاز في حائطه وهو ذاهب إلى أحد:
لا أحلّ لك إن كنت نبيا أن تمر في حائطي، وأخذ في يده حفنة من تراب، ثم قال: لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك لرميتك بها، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال
__________
(1) المسوح: لباس الرهبنة.(2/43)
رسول الله: «دعوه فهذا الأعمى، أعمى القلب، أعمى البصر» ، وقد ضربه سعد بن زيد الأشهلي بالقوس فشجه. وأخوه أوس بن قيظي. وحاطب بن أمية بن رافع، وكان شيخا جسيما قد أسنّ في الجاهلية، وكان له ابن من خيار المسلمين يقال له: يزيد بن حاطب أثخنته الجراح يوم أحد فاستشهد، وهؤلاء من الأوس.
ومن الخزرج: رافع بن وديعة، والجد بن قيس، وزيد بن عمرو، وعمرو بن قيس، وقيس بن عمرو.
ومن المفارقات العجيبة أن عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين كان له ابن من خيار المسلمين وأصدقهم إيمانا، حتى لقد عرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل أباه، فأبى النبي وقال: «لا، بل نحسن صحبته ما دام بيننا» !!.
وتبع ابن أبيّ من اليهود قوم أظهروا الإسلام نفاقا وتقية، منهم:
سعد بن حنيف، وزيد بن اللصّيت، ورافع بن حرملة، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات: «قد مات اليوم عظيم من عظاماء المنافقين» ، ورفاعة بن زيد بن التابوت، أخبر النبي بموته مرجعه من تبوك، ونعمان بن أوفى، وعثمان بن أوفى، وغيرهم «1» .
وكان هؤلاء المنافقون بحكم ظاهرهم يحضرون المسجد، ويسمعون أحاديث المسلمين، ويسخرون ويستهزئون بدينهم، ويتسقطون الأخبار وينقلونها إلى الأعداء.
ولكن الله سبحانه وتعالى كان لهم بالمرصاد، فما بيّتوا أمرا إلا أظهره الله وفضحهم. وما دبروا مكيدة إلا ردّ الله كيدهم في نحرهم، وأنزل في شأنهم معظم سورة التوبة، فما زال يقول فيها: ومنهم، ومنهم ... حتى أخزاهم وكشف عن نذلة نفوسهم، وايات كثيرة في سورة البقرة، وال عمران، والأحزاب وغيرها، حتى أنزل فيهم سورة بتمامها وهي: (المنافقون) ، وكانت عاقبة أمرهم كفرا وذلة، وعاقبة أمر المؤمنين المخلصين عزا وسيادة، وسنبين موقف الإسلام منهم في فصول تأتي إن شاء الله.
__________
(1) البداية والنهاية، ج 3، ص 240.(2/44)
اليهود
لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان فيها من أحياء اليهود: بنو قينقاع وبنو النضير، وبنو قريظة، وكان نزوحهم إلى الحجاز أيام «بختنصّر» البابلي «1» الذي استولى على بلادهم بالشام، وهدم متعبداتهم، وخرب الهياكل للمرة الأولى، وأنزل العذاب بهم، وسبى الكثيرين منهم لما عتوا في الأرض فسادا واستكبارا.
ولعل هذا هو ما أراده الله سبحانه وتعالى في قوله:
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً. فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا «2» .
ففر بعضهم إلى بلاد الحجاز؛ فمنهم من سكن خيبر، ووادي القرى وتيماء، ومنهم من سكن بيثرب (أي المدينة) وذاك فيما ذكره هشام بن محمد بن السائب الكلبي «3» وقيل: إن هجرتهم إلى بلاد الحجاز: خيبر وما جاورها، ويثرب وما قرب منها، إنما كان سنة سبعين ميلادية، حينما هجم «طيطوس» الروماني على بلادهم واستولى على أورشليم، وخرّب الهيكل للمرة الثانية، ونكّل بهم، وقتلهم، وأذلهم «4» .
__________
(1) وكان ذلك حوالي سنة 586 ق. م.
(2) سورة الإسراء: الايتان 4، 5.
(3) البداية والنهاية، ج 2، ص 39.
(4) الملل والنحل للأستاذ حامد عبد القادر، ص 23 و 36.(2/45)
ولعل هذا هو ما أشار الله إليه في قوله سبحانه:
فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً. عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً «1» .
وقد سكن بجوارهم من قديم الزمان قبيلتا الأوس والخزرج، وكان اليهود ذوي ثروة ومال وزروع، وإن لم يكونوا ذوي بأس وقوة كالأوس والخزرج، فمن ثمّ عاشوا كالأتباع لهم، مستذلين صاغرين، وكان اليهود أهل كتاب، ويعلمون صفات النبي في توراتهم، وكانوا يستفتحون على الأنصار قبل البعثة، بالنبي الذي سيبعث، وإنهم سيتبعونه ويأخذون بثأرهم منهم، فلما بعث النبي جحدوا رسالته وكفروا به عنادا وبغيا وحسدا للعرب.
وقد سجل الله سبحانه وتعالى عليهم هذا في قوله:
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ «2» .
وقال سبحانه:
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ «3» .
ولما كان اليهود يزعمون كذبا وزورا أنهم شعب الله المختار، وأن النبوة لن تكون إلا فيهم، فقد عادوا الإسلام ونبيه عداء حاقدا، ولم يسلم منهم
__________
(1) سورة الإسراء: الايتان و 7 و 8.
(2) سورة البقرة: الاية 89.
(3) سورة البقرة: الاية 146.(2/46)
إلا القليل، أمثال عبد الله بن سلام؛ وأهله وعمته؛ ومخيريق الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «مخيريق خير يهود» «1» قال ابن إسحاق في سيرته: وكان حبرا عالما، وكان رجلا غنيا كثير الأموال من النخل، وكان يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته؛ وما يجد في علمه، وغلب عليه إلف دينه، فلم يزل على ذلك حتى إذا كان يوم أحد، وكان يوم السبت، قال: يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم حق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم، ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، وعهد إلى من وراءه من قومه: إن قتلت هذا اليوم، فأموالي لمحمد صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما أراد الله، فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مخيريق خير يهود» وقبض رسول الله أمواله وتصدّق بها على المسلمين.
وقد نافق بعضهم وأظهر الإسلام خداعا ومضارة للمسلمين، كما قدّمنا، وأما الكثرة الكاثرة منهم فقد ناصبوا الإسلام وأهله العداوة، فمنهم حيي بن أخطب، وأخوه أبو ياسر، وسلّام بن مشكم، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وسلّام بن أبي الحقيق، وهو أبو رافع الأعور تاجر أهل الحجاز، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وعمرو بن جحّاش، وكعب بن الأشرف، وشاس بن قيس، ومالك بن صيف، وكعب بن أسد، ووهب بن يهوذا «2» ، وغيرهم.
وروى ابن إسحاق بسنده عن صفية بنت حيي قالت:
(لم يكن أحد من ولد أبي وعمي أحب إليهما مني، ولم ألقهما في ولد لهما ولم أهشّ إليهما إلا أخذاني دونه. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء قرية بني عمرو بن عوف- غدا إليه أبي وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلّسين، فو الله ما جاانا إلا مع مغيب الشمس، فجاانا فاترين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فو الله ما نظر إليّ واحد منهما، فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله!! قال
__________
(1) البداية والنهاية، ج 3 ص 236، 237؛ والإصابة في تاريخ الصحابة، ج 3 ص 393.
(2) البداية والنهاية، ج 3 ص 236 و 237.(2/47)
تعرفه بنعته وصفته؟ قال: نعم والله!! قال: فماذا في نفسك منه؟ قال عداوته ما بقيت) .
وهذا يدل على مقدار ما كان يكنّونه للنبي والإسلام، وكان عاقبة حيي خسرا وخزيا، فقتل فيمن قتل يوم قريظة «1» .
وكذلك كانت عاقبة المكذّبين الحاقدين من اليهود، فمنهم من قتل، ومنهم من أجلي عن المدينة، ثم عن جزيرة العرب كلها، وأراح الله من شرورهم العباد والبلاد، وسنفصل ذلك حينما نعرض لمواقف الإسلام من بني إسرائيل.
__________
(1) سيرة ابن هشام، ج 1 ص 518.(2/48)
الإخاء بين المهاجرين والأنصار
ولما استقر المسلمون بالمدينة ألهم الله سبحانه نبيه محمدا بعمل يعتبر غاية في حسن السياسة وأصالة الرأي وبعد النظر، فقد عقد بين المهاجرين والأنصار أخوّة بها يتعاونون ويترافقون، ويتناصرون ويتوارثون. وقد اختلف العلماء في وقت هذه المؤاخاة، فقيل بعد الهجرة بخمسة أشهر، وقيل بتسعة أشهر، وقيل وهو يا بني المسجد، وقيل قبل بنائه، والذي نرجحه أن ذلك كان بعد الهجرة بقليل، فإن الحال كانت تدعو إلى الإسراع بهذا الإخاء جمعا للشمل، وتوثيقا للعرى، وقطعا لدسائس الأعداء ولا سيما اليهود.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب أخوين، وأبو بكر وخارجة بن زيد أخوين، وعمر وعتبان بن مالك أخوين، وحمزة وزيد بن حارثة أخوين، وحاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة أخوين، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين، وابن مسعود ومعاذ بن جبل أخوين، ومصعب بن عمير وأبو أيوب الأنصاري أخوين، وأبو حذيفة بن عتبة وعبّاد بن بشر أخوين، وبلال وأبو رويحة «1» أخوين، وأبو عبيدة بن الجراح وأبو طلحة الأنصاري أخوين، والزبير بن العوام وسلمة بن سلامة بن وقش أخوين، وطلحة بن
__________
(1) اسمه عبد الله بن عبد الرحمن، روي أنه لما دوّن عمر الدواوين بالشام، وكان بلال قد خرج إلى الشام، فأقام بها مجاهدا، فقال عمر لبلال: إلى من تجعل ديوانك يا بلال؟ قال: مع أبي رويحة لا أفارقه أبدا، للأخوة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقدها بينه وبيني، فضم إليه.(2/49)
عبيد الله وكعب بن مالك أخوين، وسعيد بن زيد وأبيّ بن كعب أخوين، وعمار وحذيفة بن اليمان حليف بني عبد الأشهل أخوين. وهكذا.
قال ابن سعد: اخى بين مائة، خمسين من المهاجرين وخمسين من الأنصار، وليس معنى هذا أنه لم يكن التاخي إلا بين هذا العدد، وإنما كان هذا أول ما اخى، وصار يجددها بحسب من يأتي إلى المدينة مهاجرا، ومن دخل في الإسلام بعد ذلك.
ومما ينبغي أن يتنبه إليه أن الإمام محمد بن إسحاق وهم في بعض من ذكرهما أخوين، وذلك مثل عدّه جعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أخوين، والمعروف الثابت أن جعفرا كان بالحبشة وقتها، ولم يقدم المدينة إلا عام خيبر سنة سبع، وعدّه أبا عبيدة وسعد بن معاذ أخوين، والصحيح ما ذكرته وهو ما رواه الإمامان أحمد ومسلم. وقد أجاب بعض العلماء عن بعض هذه الماخذ «1» .
وقد أنكر الإمام ابن تيمية المؤاخاة بين مهاجري ومهاجري، وقال إنها كانت بين مهاجري وأنصاري، وردّ عليه الحافظ ابن حجر في الفتح، قال الحافظ:
(وأنكر ابن تيمية في كتاب الردّ على ابن المطهّر الرافضي- يعني كتاب منهاج السنة- المؤاخاة بين المهاجرين، وخصوصا مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي، قال: لأن المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم بعضا، ولتأليف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي لأحد منهم، ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري.
وهذا رد للنص بالقياس، وإغفال عن حكمة المؤاخاة، لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة والقوى، فاخى بين الأعلى والأدنى ليرتفق الأدنى بالأعلى، ويستعين الأعلى بالأدنى، وبهذا نظر إلى مؤاخاته صلى الله عليه وسلم لعلي، لأنه هو الذي كان يقوم به من عهد الصبا من قبل البعثة، وكذا مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة لأن زيدا مولاهم، فقد ثبتت أخواتهما وهما من المهاجرين) «2» .
__________
(1) البداية والنهاية، ج 3 ص 227.
(2) فتح الباري، ج 7 ص 217.(2/50)
ولم تكن هذه الأخوة أخوة إسلام وارتفاق فحسب، وإنما كانت أخوة بها يتوارثون، قال عز شأنه:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ «1» ...
وقد استمر الأمر على ذلك حتى عزّ الإسلام، واجتمع الشمل، وذهبت اثار الغربة من وحشة وحاجة، فنسخ الله حكم التوارث بهذه الأخوة بالحكم الثابت المستقر، وهو التوارث بالقرابة والرحم قال عز شأنه:
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً «2» .
وقال:
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ «3» .
وقد كان لهذه الأخوة اثارها البعيدة في الحب والارتفاق، والتعاون والتناصر، وقاموا بحقوقها خير قيام، وضرب الأنصار في هذا مثلا عليا لم تعرف لغير هؤلاء السادة الأبرار، واعترافا بالفضل لأهله أرى لزاما علي أن أقول كلمة في فضائل الأنصار بعد قليل.
__________
(1) سورة الأنفال: الاية 72.
(2) سورة الأحزاب: الاية 6.
(3) سورة الأنفال: الاية 75.(2/51)
المؤاخاة بين المسلمين بمكة
ومما ينبغي أن يعلم أنه كانت هناك مؤاخاة قبل هذه المؤاخاة حدثت بين المسلمين بمكة، وهي تعتبر أول مؤاخاة في الإسلام، كان الغرض منها تقوية الأواصر والروابط بين المسلمين، وارتفاق الضعيف بالشريف، والفقير بالغني، ومن ليس من قريش بمن هو منهم، فالحكمة منها ظاهرة والغرض منها شريف.
قال الحافظ ابن حجر في: «فتح الباري شرح صحيح البخاري» : (قال ابن عبد البر: كانت المؤاخاة مرتين: مرة بين المسلمين وذلك بمكة، ومرة بين المهاجرين والأنصار ... ) وهي التي كانت بالمدينة، وعني بذكرها كتّاب السير والمؤرخون.
ثم قال: (وقعت المؤاخاة الأولى كما أخرجها الحاكم من طريق جميع بن عمير عن ابن عمر قال: واخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عبد الرحمن بن عوف وعثمان) وذكر جماعة قال: (فقال علي: يا رسول الله، إنك اخيت بين أصحابك فمن أخي؟ قال: أنا أخوك) .
وقد ذكر الحافظ في الإصابة في ترجمة سيدنا بلال رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اخى بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح، فلعل مراد من قال ذلك المؤاخاة الأولى التي كانت بمكة، وإلا فالمعروف الثابت أن النبي اخى بين بلال وبين أبي رويحة الخثعمي رضي الله عنهما.(2/52)
ماثر الأنصار الخالدة
إن المتأمل فيما قام الأنصار رضي الله عنهم تجاه النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه المهاجرين ليتعجب مما فعله هؤلاء القوم، ولو ذهب يتلمّس الأسباب، فلن يجد إلا سبب الأسباب، وهو أن ذلك كان بفضل الله ورحمته لا بصنع بشر وحكمته وسياسته، وصدق الله حيث يقول:
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ «1» .
فلم يلتق النبي صلى الله عليه وسلم بالأنصار إلا في سويعات تحت جنح الليل، واكتفى فيها بعرض الإسلام، وأخذ العهود والمواثيق، ولم يطل لقاؤه معهم قبل الهجرة حتى يكون هذا الذي فعلوه بسبب تربية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم، وطول تعهده لهم كما فعل تجاه المهاجرين حتى كون منهم رجالا، ولم يكن بين دخولهم في الإسلام وقيامهم بهذه الماثر إلا أقل من عام!! وقد سمعت فيما مضى طرفا من لقائهم للرسول وإكرام وفادته.
ولم يكن شعورهم تجاه إخوانهم المهاجرين بأقل من هذا، فقد فتحوا لهم قلوبهم قبل أن يفتحوا لهم بيوتهم، ووسعوهم بصدورهم قبل أن يسعوهم بأموالهم، وتسابقوا إلى لقائهم وإكرامهم حتى لم يجدوا بدا في بعض الأحيان من تحكيم القرعة بينهم، وضربوا في باب الإيثار، وسخاء النفس، وكرم الطبع مثلا عليا لا تزال تذكرها لهم الأجيال المتعاقبة بالإكبار والإعظام.
__________
(1) سورة الأنفال: الاية 63.(2/53)
روى البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اخى بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فجاء سعد فعرض عليه أن يقاسمه ماله، وقال له: انظر أيّ زوجتيّ أحب إليك أتنازل لك عنها حتى إذا ما انتهت عدتها تزوجتها. فأبى عبد الرحمن وقال له: بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلّني على السوق، فدلّه على السوق، فباع وابتاع حتى صار له مال، وتزوج امرأة من الأنصار بوزن نواة من ذهب، فقال له النبي: «أولم ولو بشاة» » .
وهكذا ضرب سعد بن الربيع مثلا فريدا في الإيثار، وضرب عبد الرحمن بن عوف مثلا عاليا لعزة النفس والرغبة في العمل والاكتساب، وقد فتحت عليه الدنيا بعد، فما توفي إلا وهو أثرى الأثرياء.
وما سعد بن الربيع إلا صورة مشرقة ومثلا من أمثلة الأنصار الكرام.
ويبالغ الأنصار في الإيثار والعمل على مقتضى هذه الأخوة، فيأتون إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه فيقولون: (اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل) .
فيقول لهم النبي: «لا» ، فقالوا لإخوانهم المهاجرين: تكفونا المؤونة- يعني السقي والعمل- ونشرككم في الثمرة، فقالوا: (سمعنا وأطعنا) رواه البخاري في صحيحه. وروى أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين. فقالوا: إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها) قال: «إما لا «2» ، فاصبروا حتى تلقوني، إنه سيصيبكم بعدي أثرة» «3» .
__________
(1) صحيح البخاري باب: «كيف اخى النبي بين أصحابه» .
(2) إمالا: هي إن الشرطية المدغمة في (ما) الزائدة، ولا نافية، وفعل الشرط محذوف تقديره: تقبلوا.
(3) أثرة: على وزن قصبة أي استئثار بالأموال دونهم.(2/54)
وكأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكافئهم على ما قدّموا له وللمهاجرين من برّ ومواساة وإيواء، ولكن القوم سموا وأبوا إلا أن يكون عملهم لوجه الله، لا يريدون من أحد عليه جزاء ولا شكورا.
وإن شئت في باب الإيثار أروع من ذلك وأعجب، فإليك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النضير للأنصار: «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم أموالكم ودياركم ولم نقسم لكم شيئا من الغنيمة» فقالت الأنصار: «بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها» !! ذكره البغوي في تفسيره.
يا لله لهذه النفوس الكريمة الأبيّة، المؤثرة السخية!! لقد كان جزاؤهم من ربهم أن أنزل فيهم قرانا يتلى إلى يوم الدين، وصدق الله:
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «1» .
وأن قال فيهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه مشيدا بمناقبهم وفضلهم «لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار» وأن جعل حبهم علامة الإيمان، وبغضهم علامة النفاق فقال: «اية الإيمان حب الأنصار، واية النفاق بغض الأنصار» وقال: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله» . وأن أوصى بهم المسلمين بعده خيرا، فقد حدّث أنس بن مالك رضي الله عنه فقال:
«مرّ أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون،
__________
(1) سورة الحشر: الاية 9.(2/55)
فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد، قال: فصعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي «1» ، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» رواها البخاري «2» .
__________
(1) بطانتي وخاصتي، وموضع سري.
(2) صحيح البخاري باب حب الأنصار من الإيمان وباب قول النبي فاقبلوا من محسنهم.(2/56)
موادعة النبي اليهود
لئن كان النبي صلى الله عليه وسلم بإخائه بين المهاجرين والأنصار بلغ الغاية في الحكمة والتدبير والسياسة، فقد كان العمل البارع حقا الذي يدل على الحنكة السياسية والقدرة الفائقة على حل المشاكل- هو ما قام به من موادعة اليهود ومحالفتهم، فقد كتب بين المهاجرين والأنصار كتابا وادع فيه اليهود وعاهداهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم، وشرط لهم، وهذا هو نص الكتاب:
«بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد النبي الأمي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس: المهاجرون من قريش على ربعتهم «1» يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، ثم ذكر كل بطن من بطون الأنصار وأهل كل دار:
بني ساعدة، وبني جشم، وبني النجار، وبني عمرو بن عوف، وبني النبيت. إلى أن قال: وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا «2» بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء وعقل، ولا يخالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعهم، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر؛ ولا ينصر
__________
(1) ربعتهم: جماعتهم.
(2) المفرح المثقل بالدين الكثير العيال، قاله ابن هشام.(2/57)
كافرا على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، ولا متناصر عليهم، وأن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم، وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا، وأن المؤمنين يبيء «1» بعضهم بعضا بما نال دماءهم في سبيل الله، وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.
وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن، وأنه من اعتبط «2» مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول، وأن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.
وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وامن بالله واليوم الاخر أن ينصر محدثا «3» ولا يؤويه، وأنه من نصره أو اواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل «4» ، وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين. لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ «5» إلا نفسه وأهل بيته. وأن ليهود بني النجار وبني الحارث، وبني ساعدة وبني جشم، وبني الأوس، وبني ثعلبة، وجفنة، وبني الشّطيبة «6» مثل ما ليهود بني عوف، وأن بطانة يهود كأنفسهم. وأنه لا يخرج منهم أحد
__________
(1) يبيء من البوء أي المساواة يريد أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض فيما ينال دماءهم.
(2) يقال: اعتبطه أي قتله بلا جناية كانت منه ولا جريرة توجب قتله.
(3) جانيا.
(4) الصرف: التوبة، العدل: الفدية، أي لا يقبلان منه.
(5) يوتغ: يهلك ويفسد.
(6) في حياة محمد «لبني الشطبية» .(2/58)
إلا بإذن محمد، ولا ينحجر «1» على ثأر جرح، وأنه من فتك فبنفسه إلا من ظلم، وأن الله على أثر «2» هذا.
وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه؛ وأن النصر للمظلوم؛ وأن يثرب حرام جرفها «3» لأهل هذه الصحيفة، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا اثم. وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله، وأن الله على أتقى «4» ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها. وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو اثم، وأنه من خرج امن ومن قعد امن بالمدينة إلا من ظلم أو أثم. وأن الله جار لمن بر واتقى» .
هذه هي الوثيقة التي وضعها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم منذ قرابة أربعة عشر قرنا؛ وهي وثيقة جديرة بالإعجاب حقا، وثّق فيها ما بين المهاجرين والأنصار من إخاء وحلف، وقرّر فيها حرية العقيدة لغير المسلمين، وحرية الرأي، وحرمة المدينة، وحرمة الحياة، وحرمة المال، وبذلك سبق النبي صلى الله عليه وسلم إلى تقرير حقوق الإنسان من هذا الزمن البعيد. وقرر فيها أيضا تحريم الجريمة والإثم والغدر والخديعة، وهي فتح جديد حقا في الحياة السياسية والمدنية في هذا العالم يومئذ، هذا العالم
__________
(1) يعني لا يلتئم جرح على ثأر.
(2) في حياة محمد «على أبر» .
(3) الجرف: موضع قريب من المدينة. وفي ابن هشام «جوفها» .
(4) في حياة محمد «على أتق» .(2/59)
الذي كان تغلب عليه روح الاستبداد، وتعبث فيه يد الظلم فسادا، ولا تراعى فيه الحقوق والحرمات.
وبمقتضى هذه الوثيقة أصبحت المدينة حرما امنا، وأصبح كلّ من المسلمين واليهود في أمن من جانب الاخر، وأصبح اليهود ملزمين بمعاونة المسلمين إذا ما دهم المدينة عدو، وبعدم مساعدة المشركين ومناصرتهم ضدهم.
ولقد وفى النبي والمسلمون بكل الالتزامات التي أوجبتها هذه الوثيقة عليهم، على حين لم يف بما فيها اليهود، ولما عادوا إلى طبيعتهم من الدس والوقيعة والخداع، فحاولوا الوقيعة بين الأوس والخزرج، وهمّوا بقتل النبي، واستباحوا حرمات المسلمين فكانت عاقبة أمرهم ذلا.(2/60)
بناء النبي بعائشة
وفي شوّال من السنة الأولى دخل النبي صلى الله عليه وسلم بزوجه عائشة، وكان خطبها من أبيها الصدّيق وهي بنت ست وقيل سبع سنين، وبنى بها بعد الهجرة وهي بنت تسع، وكانت نامية نموا حسنا، ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بكرا غيرها، وقد أراه جبريل صورتها في قطعة من حرير خضراء قبل أن يخطبها.
روى البخاري في صحيحه بسنده عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:
«أريتك في المنام مرتين، إذا رجل يحملك في سرقة من حرير فيقول: هذه امرأتك، فأكشفها فإذا هي أنت، فأقول: إن يكن هذا من عند الله يمضه» ولما خطبها النبي من أبيها قال: إنما أنا أخوك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت أخي في دين الله وكتابه، وهي لي حلال» رواه البخاري.
وقد دخل بها النبي صلى الله عليه وسلم وهي فتاة حديثة السن تلهو مع صويحباتها، وتلعب بالأرجوحة والعرائس كما هو شأن الفتيات الصغار، وكثيرا ما كان الرسول يدخل عليها وهي معهن، فيرفق بها، ويفسح لها من صدره.
وقد تربت في منزل الوحي، فنشأت متخلّقة بأحسن الأخلاق، متطبعة بما يوافق هوى النبي صلى الله عليه وسلم، فلا عجب أن كانت أحب نسائه إليه، واثرهن عنده، وكانت تكنى بأم عبد الله، قيل لسقط ولدته، وقيل باسم ابن اختها أسماء عبد الله بن الزبير، وهو الصحيح.
وكانت عاقلة عالمة، روت عن النبي وعن أبيها وغيره من الصحابة، وروى عنها كثير من الصحابة والتابعين، وعنها أخذ الكثير من أحكام الشريعة،(2/61)
ولا سيما ما كان يصنعه النبي في بيته، ومع زوجاته. قال مسروق: رأيت مشيخة أصحاب محمد الأكابر يسألونها عن الفرائض، وقال أبو موسى الأشعري: ما أشكل علينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمر قط، فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علما.
ولما مرض النبي استأذن نساءه كي يمرض في بيتها، فقامت عليه حتى توفي صلى الله عليه وسلم بين سحرها «1» ونحرها، وقد ألقى برأسه على صدرها، فرضي الله عنها وأرضاها.
__________
(1) السحر: الرئة فقد توفي النبي ورأسه على صدرها.(2/62)
مشروعية الأذان
لقد فرض الله سبحانه الصلوات الخمس على الأمة قبل الهجرة ليلة الإسراء والمعراج. فكانوا يصلّون ولا يؤذّون، لأن الظروف المحيطة بهم في مكة ما كانت تسمح بالدعوة إليها، والإعلان عنها. واستمر الحال على ذلك إلى ما بعد الهجرة، فلما اطمأن الرسول وأصحابه بالمدينة، واستحكم أمر الإسلام، وبدأ تشريع الأحكام، وأصبحوا على حال تؤهلهم لإظهار شعائر الإسلام، فكّر النبي والمسلمون في وسيلة للإعلان عن الصلاة، وتشاوروا في ذلك.
روى البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عمر قال: (كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحيّنون الصلاة ليس ينادى لها، فتكلموا يوما في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بوقا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أو لا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا بلال فناد بالصلاة) وكان هذا النداء بلفظ: «الصلاة جامعة» «1» ، رواه ابن سعد في الطبقات من مراسيل سعيد بن المسيب. وليس المراد بالنداء الأذان الشرعي المعهود.
فبينما هم على ذلك رأى عبد الله بن زيد بن عبد ربه في منامه من يلقّنه الأذان، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: «إنها لرؤيا حق» وأقره على ذلك وقال له: «ألقها على بلال فإنه أندى صوتا منك» فلما سمع الفاروق عمر رضي
__________
(1) بنصب الصلاة على الإغراء، وجامعة على الحال أي احضروا الصلاة حالة كونها جامعة، وقيل بالرفع مبتدأ وخبر أي ذات جماعة.(2/63)
الله تعالى عنه جاء- وهو يجر رداءه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله لقد رأيت مثل الذي رأى، فقال الرسول: «فلله الحمد» .
وإليك ما رواه ابن إسحاق في سيرته عن عبد الله بن زيد قال:
«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة، فهمّ رسول الله أن يجعل بوقا مثل بوق اليهود الذي يدعون به لصلاتهم، ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس ليضرب به للمسلمين للصلاة «1» ، فبينما هم على ذلك رأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه النداء، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنه طاف بي الليلة طائف: مرّ بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده، فقلت:
يا عبد الله، أتبيع هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قال: قلت: ندعو به إلى الصلاة. فقال: ألا أدلك على خير من ذلك؟ قلت وما هو؟ قال تقول: «الله أكبر الله أكبر. الله أكبر الله أكبر. أشهد ألاإله إلا الله. أشهد ألاإله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حيّ على الصلاة. حيّ على الصلاة. حيّ على الفلاح. حيّ على الفلاح. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله» .
فلما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها لرؤيا حق إن شاء الله، قم مع بلال فألقها عليه فليؤذن بها، فإنه أندى صوتا منك» . فلما أذّن بلال سمعه عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر رداءه وهو يقول:
يا نبي الله، والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلله الحمد» .
__________
(1) في بعض الروايات الحديثية أنهم كرهوا ذلك أيضا، وإنما كرهوا هذا وذاك لأنهم يعتبرون أن لهم شخصية مستقلة تنأى بهم عن التقليد والمحاكاة لغيرهم، ولا سيما اليهود والنصارى، وهكذا ينبغي أن تكون شخصية المسلم تؤثر ولا تتأثر، وتبدع ولا تقلد، وقد بينت رواية ابن سعد في الطبقات الحلقة المفقودة في رواية ابن إسحاق وهي نداؤهم بلفظ «الصلاة جامعة» .(2/64)
وقد روى هذه القصة أيضا أبو داود والترمذي وصحّحه وابن ماجه، وابن خزيمة وصحّحه.
ولا يظن ظان أن الأذان شرع بالرؤيا فحسب، وإنما شرع بالوحي أيضا، وقد توافقا بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «إنها لرؤيا حق» وفي رواية ابن جريج التي ذكرها ابن هشام في سيرته أن عمر لما جاء إلى النبي يخبره بما رأى قال له: «قد سبقك بذلك الوحي» وأيضا فتقرير النبي لأحد على شيء أحد وجوه السنن المعروفة «1» .
وقد ذكر السهيلي حديثا يفيد مشروعية الأذان ليلة الإسراء والمعراج، ثم قال: وأخلق بهذا الحديث أن يكون صحيحا لما يعضده ويشاكله من حديث الإسراء، وقد ردّ عليه الحافظ ابن كثير فيما زعم حيث قال: (فهذا الحديث ليس كما زعم السهيلي أنه صحيح؛ بل هو منكر تفرد به زياد بن المنذر أبو الجارود، الذي تنسب إليه الفرقة الجارودية، وهو من المتهمين بالكذب، ثم لو كان قد سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء لأوشك أن يأمر به بعد الهجرة في الدعوة إلى الصلاة) . وكل ما روي من روايات تدل على مشروعيته قبل الهجرة هي ضعيفة لا تنهض للاحتجاج بها كما نبه إلى ذلك الحافظ الكبير ابن حجر في الفتح.
وكان بلال بن رباح هو مؤذن «2» رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع وجود مساعدين له في بعض الأحيان، وكان بلال يزيد في أذان الفجر بعد حي على الفلاح الثانية:
(الصلاة خير من النوم) مرتين، وأقره النبي على ذلك.
والأذان شعيرة من شعائر الإسلام، فلا يجوز تركه، ولو أن أهل بلد
__________
(1) فتح الباري، ج 2 ص 64 والبداية والنهاية، ج 2 ص 221- 223.
(2) والحكمة في تخصيص بلال بالأذان حسن صوته ونداوته وقوته، وأيضا فقد كان ذلك مكافأة على ما لقي في الله، لقد كان إذا اشتد به التعذيب لا يفتر عن قوله: «أحد أحد» فجوزي بالأذان الذي أوله تعظيم وتوحيد، واخره تعظيم وتوحيد.(2/65)
أجمعوا على تركه كان للسلطان قتالهم عليه، وأقوى ما يستدل به على هذا ما رواه البخاري ومسلم- واللفظ لمسلم- عن أنس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر، كان يستمع الأذان، فإذا سمع أذانا أمسك وإلا أغار) .(2/66)
السّنة الأولى من الهجرة
السرايا في السنة الأولى
كانت عادة قريش أن تذهب بتجارتها إلى الشام لتبيع وتشتري، ويسمّى الركب السائر بهذه التجارة عيرا، وكان يسير معها لحراستها كثير من أشراف قريش وسراتهم، وكانت طريقهم إلى الشام تمر على دار الهجرة، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع عليهم طريقهم، ويصادر تجارتهم ذاهبة وايبة، ليكون في ذلك عقاب لهم على إخراجهم لهم من ديارهم، وما أخذوه من أموالهم، وإضعاف لقوتهم، فيكون ذلك أدعى لخذلانهم في ميدان القتال الذي لابدّ أن يكون، فما كانت قريش لتدع النبي يبلّغ الإسلام لمن أمره الله بتبليغه إليهم من الناس كافة، وكان النبي يترقب أن يؤذن الله له ولأصحابه في القتال وهذه هي السرايا «1» .
سرية حمزة بن عبد المطلب
في شهر رمضان من السنة الأولى للهجرة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عمه حمزة في ثلاثين راكبا من المهاجرين، وعقد له لواء أبيض حمله أبو مرثد الغنوي، وأمره أن يعترض عيرا لقريش راجعة من الشام، فيها أبو جهل وثلاثمائة من المشركين، فسار حمزة رضي الله عنه ومن معه حتى وصلوا ساحل البحر، فصادف العير هناك، فلما تصافوا للقتال حجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، فأطاعه الفريقان وانصرفوا.
__________
(1) السرية: الفرقة من الجيش التي لم يخرج فيها رسول الله؛ أما ما يخرج فيها الرسول فهي غزوة.(2/67)
سرية عبيدة بن الحارث
وفي شوال من هذه السنة أرسل النبي عبيدة بن الحارث بن المطلب في ثمانين راكبا من المهاجرين ليس فيهم أنصاري، وأمرهم أن يعترضوا عيرا لقريش، فوافوا العير ببطن رابغ قرب «العيص» ، وكان على العير أبو سفيان بن حرب في مائتي رجل من قريش، فكان بينهم الرمي بالنبال، ثم خشي المشركون أن يكون للمسلمين كمين فتقهقروا ولم يتابعهم المسلمون، وفر من القرشيين المقداد بن الأسود وعتبة بن غزوان، وكانا قد أسلما قديما فانتهزا الفرصة ولحقا بالمسلمين.
وفي هذه السرية أطلق أول سهم في الإسلام، وكان الذي أطلقه عبيدة بن الحارث وقيل سعد بن أبي وقاص.
سرية سعد بن أبي وقاص
وفي اخر شوال من هذه السنة خرجت سرية ثالثة عدتها عشرون من المهاجرين، وعلى رأسهم سعد بن أبي وقاص، فكانوا يكمنون النهار ويسيرون الليل، حتى وصلوا صبح اليوم الخامس إلى «الخرّار» «1» ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إليهم ألايجاوزوا هذا المكان، فلما وصلوا علموا أن العير قد مرت بالمكان في اليوم السابق، فعادوا دون أن يلقوا أحدا.
وقد ذكر الواقدي أن هذه السرايا كانت في السنة الأولى، وكلام ابن إسحاق في سيرته يميل إلى أنها في السنة الثانية، ورجّح ابن كثير الرأي الأول، قال: (والواقدي عنده زيادات حسنة، وتاريخ محرر غالبا، فإنه من أئمة هذا الشأن الكبار، وهو صدوق في نفسه مكثار) «2» .
__________
(1) موضع قرب الجحفة.
(2) البداية والنهاية، ج 3 ص 234.(2/68)
رأينا في هذه السرايا
والذي نراه في هذه السرايا التي وقعت في السنة الأولى أنها كانت لمعاقبة المشركين، والحصول على ما يمكن الحصول عليه من تجاراتهم، نظير ما أخذوا من أموالهم وما ظلموهم، ولإضعاف شوكتهم، فإن المال عصب الحياة.
وأيضا فقد قصد بها إفهام قريش أن مصلحتهم تقتضيهم التفاهم مع المسلمين من أهليهم- الذين اضطروا إلى الفرار من مكة بسبب ما عانوا من الاضطهاد والإيذاء- تفاهما يقي الطرفين شرور العداوة والبغضاء، ويكفل للمسلمين حرية الدعوة إلى دينهم، وحرية الإعلان عن عقيدتهم، وحرية الدخول إلى الحرم لتأدية شعائرهم، كما يكفل لأهل مكة سلامة تجارتهم في طريقها إلى الشام، ولم يكن مثل هذا التفاهم ممكنا ما لم تقدّر قريش قوة المهاجرين من أبنائها على الإيقاع بها، وإيصاد طرق التجارة في وجهها.
ولا أرى أنها كانت للحرب، فقد كان القتال لم يشرع بعد، وذلك على حسب ما ترجّح في نظري من أن مشروعية القتال كانت في أوائل السنة الثانية على ما سأذكر، لأن الأعداد التي كان فيها المسلمون في سراياهم تلك لم تكن متكافئة مع أعداد المشركين، ولم تنقل الروايات أن النبي كان يوجههم للقتال، وإنما للقاء العير واعتراضها، وإن كان الاعتراض لا يسلم من المناوشة.
وقد رأى هذا الرأي من قبل الدكتور محمد حسين هيكل رحمه الله تعالى «1» ، وإن كنت أخالفه في اعتبار الغزوات التي كانت في السنة الثانية قبيل بدر من هذا القبيل، فاحتمال القتال فيها أمر راجح، ولا سيما وقد أصبح الجهاد مشروعا للمسلمين.
مزاعم المستشرقين في هذه السرايا
زعم بعض المستشرقين أن هذه السرايا الأولى إنما كان يقصد بها إلى نهب تجارة القوافل، فإن النهب كان بعض طباع أهل البادية، وأن أهل المدينة
__________
(1) حياة محمد، ص 239- 240.(2/69)
إنما أغرتهم الغنيمة والسلب باتباع محمد على خلاف عهداهم في العقبة، وهذا زعم ليس له ما يؤيده، ويرد عليه الواقع، وسأدع الدكتور محمد حسين هيكل يرد عليهم قال رحمه الله:
(وهذا كلام مردود، لأن أهل المدينة كأهل مكة لم يكونوا أهل بادية يعيشون على السلب والنهب، وأنهم فوق ذلك، كان في طبعهم ما في طبع من يعيشون على الزراعة من حب الاستقرار، ممّا يجعلهم لا يتحركون إلى قتال إلا لدافع قوي.
أما المهاجرون فكان من حقهم أن يستخلصوا من أيدي قريش ما أخذ من أموالهم، لكنهم لم يستعجلوا ذلك قبل بدر، فلم يكن هو الدافع للسرايا في الغزوات الأولى، ثم إن القتال لم يشرع في الإسلام ولم يقم (سيدنا) محمد وأصحابه لهذه الغاية البدوية التي يتوهّم المستشرقون، وإنما شرع وقام به (سيدنا) محمد وأصحابه حتى لا يفتنهم عن دينهم أحد، وحتى يكون لهم من حرية الدعوة له ما يشاؤون....) «1» .
__________
(1) حياة محمد، ص 142.(2/70)
أحداث هذا العام
مواليد
وفي شوال من هذه السنة ولد عبد الله بن الزبير، فكان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة من المهاجرين، ولما ولدته السيدة أسماء بنت الصديق كبّر المسلمون تكبيرة كبيرة عظيمة فرحا بمولده، لأنه كان قد بلغهم عن اليهود أنهم سحروهم حتى لا يولد لهم بعد هجرتهم ولد، ومع أن المسلمين ما كانوا يلقون بالا لهذه الترهات التي كذبها الواقع الذي لا مراء فيه، ولما ولدته جاءت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعه في حجره، ثم حنّكه بتمرة، ثم دعا له، وبرّك عليه، وكان أول مولود ولد للأنصار بعد الهجرة النعمان بن بشير.
وفيات
في هذه السنة توفي كلثوم بن الهدم الأنصاري الأوسي من بني عمرو بن عوف، وقد ذكر الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه، أنه أول من توفي بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، وكان شيخا كبيرا أسلم قبل مقدم النبي، ولما هاجر النبي ونزل بقباء نزل في بيته، فكان ينام عنده ليلا، ويكون مع أصحابه في النهار في منزل سعد بن خيثمة، لأنه كان أعزب لا أهل له، وقيل: إنه مات قبل بدر بيسير.
وتوفي أيضا أبو أمامة أسعد بن زرارة النجاري الخزرجي، أحد النقباء الاثني عشر ليلة العقبة على قومه بني النجار، وشهد العقبتين، وهو أول من أسلم من الخزرج، وأول من صلّى الجمعة بالمدينة قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد مات بالذبحة أو الشرقة والمسلمون يبنون المسجد النبوي.(2/71)
ولما توفي سأل بنو النجار رسول الله أن يقيم لهم نقيبا فقال: «أنتم أخوالي وأنا بما فيكم، وأنا نقيبكم» «1» ، وكره أن يخص بعضهم دون بعض، فكان من فضل بني النجار على قومهم أن رسول الله كان نقيبهم، وقد كان هذا تصرفا حكيما من رسول الله، فقد كان المتطلعون إليها كثيرين، وبحسبهم شرفا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيبهم.
__________
(1) البداية والنهاية: ج 3 ص 229.(2/72)
السّنة الثّانية من الهجرة
تشريع الجهاد «1» في الإسلام
لقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاما بمكة وهو يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد حارب أهل مكة الدعوة الإسلامية حربا لا هوادة فيها، واذوا النبي وأصحابه إيذاء تجاوز كل معاني الإنسانية، ومع هذا كان المسلمون يزدادون عددا وصلابة وقوة في التمسك بدينهم، وكان الله سبحانه وتعالى ينزل على نبيه من الايات ما يقوّيه ويثبته على الصبر، وذلك مثل قوله سبحانه:
وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ «2» .
وقوله:
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «3» .
__________
(1) الجهاد بكسر الجيم: أصله لغة: المشقة، يقال جاهدت جهادا بلغ المشقة، وشرعا: بذل الجهد في قتال الكفار وإعلاء كلمة الله، ويكون بالنفس والمال أو اللسان والقلب، وهو المراد هنا، ويطلق أيضا على مجاهدة النفس، والشيطان، والفساق، فأما مجاهدة النفس فعلى تعلم أمور الدين ثم على العمل بها، ثم على تعليمها. وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات، وما يزينه من الشهوات، وأما مجاهدة الفساق فباليد، ثم اللسان، ثم بالقلب، وهو أضعف ثمرات الإيمان.
(2) سورة النحل: الاية 127.
(3) سورة الشورى: الاية 43.(2/73)
وقوله:
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ» .
وقوله:
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا «2» .
وكان المسلمون كثيرا ما يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما بين مضروب ومشجوج ومعذّب، شاكين إليه، فيثبتهم ويضرب لهم الأمثال والعظات ويقول لهم:
«اصبروا فإني لم أومر بقتال» ، حتى هاجر النبي والمسلمون إلى المدينة، وتاخوا هم والأنصار، وأصبح لهم كيان وسلطان، وأضحوا ذوي عدد وقوة، فلم يكن بدّ من أن يأذن الله لهم في القتال.
وأما ما ذكره ابن إسحاق في سيرته من أن الجهاد شرع قبل الهجرة فمن أوهامه.
أول ما نزل في القتال
وكانت أول اية نزلت فيه هي قوله تعالى:
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ «3» يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ «4» .
__________
(1) سورة الأحقاف: الاية 35.
(2) سورة المزمل: الاية 10.
(3) الصوامع للرهبان، والبيع متعبدات اليهود والنصارى وهي الكنائس، والصلوات متعبدات النصارى أيضا، والمساجد: متعبدات المسلمين.
(4) سورة الحج: الايات 39- 41.(2/74)
والإذن لا يكون إلا بعد منع، فأسلوب الايات يشعر بأنها أول ما نزل، هذا إلى ما روى الحاكم في المستدرك عن حبر القران ابن عباس، أنها أول ما نزل في القتال، ورواه عبد الرزاق وابن المنذر عن الزهري.
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية- وهو من التابعين- أن أول اية نزلت فيه قوله تعالى:
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ «1» .
ويرى البعض أن أول ما نزل هو قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ «2» .
والذي نرجّحه هو الأول، وهو الذي يؤيده العقل والنقل، أما الاية الثانية فهي إلى تنظيم شؤون القتال أقرب، والتنظيم إنما يكون بعد الإذن، وأما الاية الثالثة فهي إلى الحثّ والترغيب في الجهاد أقرب.
متى شرع الجهاد؟
والذي يترجح عندي بعد النظر والبحث أن يكون تشريع الجهاد في أوائل السنة الثانية للهجرة، وذلك لأن المسلمين في السنة الأولى كانوا مشتغلين بتنظيم أحوالهم الدينية والدنيوية، كبنائهم المسجد النبوي، وأمور معايشهم، وطرق اكتسابهم، وتنظيم أحوالهم السياسية: كعقد التاخي بينهم، وموادعتهم اليهود
__________
(1) سورة البقرة: الاية 190.
(2) سورة التوبة: الاية 111.(2/75)
المساكنين لهم في المدينة، كي يأمنوا شرورهم، ولا يقال: إن النبي أرسل سرايا في السنة الأولى، لأنها في نظرنا كانت للمناوشات وإرغامهم على أن يفكروا جديا في تغيير خطتهم تجاه المسلمين، وتركهم يبلّغون دين ربهم وهم امنون مطمئنون.
لم شرع الجهاد في الإسلام؟
لقد تضمنت ايات سورة الحج المذكورة انفا الأسباب والأغراض التي اقتضت تشريع الجهاد، ولن أخرج في بيان ذلك عن منطق الاية وفحواها، حتى يكون في هذا إلقام الحجر لمن يتقوّل على الإسلام، ومن هذه الايات نستخلص الأسباب والحكم الاتية:
1- تأمين دعوة الإسلام، الدين العام الخالد، الذي ارتضاه الله للبشرية جمعاء، ومساندة هذه الدعوة التحريرية الكبرى، حتى يتمكن النبي من تبليغ رسالة ربه حسبما صدع به الوحي في قوله:
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ «1» .
وقوله:
وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ «2» .
وتأمين المسلمين الذين اعتنقوا الإسلام عن رضا واطمئنان، وحمايتهم من أذى المشركين، ومنحهم حقهم في الإعلان عن عقيدتهم وهم امنون، وليس من الحق والعدل أن يدافع أصحاب المذاهب الباطلة عن باطلهم بالقوة، وأن يترك أصحاب العقائد الصحيحة والشريعة السمحة من غير أن يؤذن لهم في الدفاع عن عقيدتهم ودينهم، وقد أشار الله إلى ذلك بقوله: بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وأي
__________
(1) سورة المائدة: الاية 67.
(2) سورة الأنعام: الاية 19.(2/76)
ظلم أظلم من ألايجد الهداة والمصلحون متنفسا لدعواتهم في أرض الله الواسعة؟ ومن أن يحجر عليهم فلا يستطيعون الإعلان عن عقائدهم، ولا إظهار شعائرهم؟ والمظلوم إن لم يجد النصر من أهل الأرض فسيجده لا محالة من السماء، وصدق الله: وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.
2- الانتصاف للمظلوم من الظالم، والانتصار للنفس، فها هم المشركون قد اذوا المسلمين، وحاولوا ما وسعهم الجهد أن يفتنوهم عن دينهم، فلما لم يفلحوا أخرجوهم من ديارهم وأهليهم وأموالهم. والانتصار للنفس أمر فطري، وحق من حقوق الإنسان، قررته الشرائع السماوية والقوانين الأرضية، وقد قرر الله هذه الحقيقة الإنسانية في قوله سبحانه:
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «1» .
وقد أمر الله المسلمين بالصبر على أذى المشركين والتسامح معهم طوال العهد المكي وأوائل العهد المدني؛ عسى أن يرعووا، ولكنهم لم يزدادوا إلا بطرا وظلما واستعلاء في الأرض، فأما إذا لم تفلح معهم سياسة المهادنة والتسامح، فلتقابل القوة بالقوة، والسلاح بالسلاح، وإلّا صار السكوت والإغضاء عجزا وضعفا ومهانة.
وليس من العدل والحق أن يترك المشركون يمرحون في الأرض، ويجوبون الجزيرة من الجنوب إلى الشمال، ولا يؤذن للمسلمين في محاربتهم من جنس ما حاربوهم به، وأن يقطعوا عليهم تجارتهم، ويأخذوا منها ما تصل إليه أيديهم نظير ما اغتصبوا من أموالهم، وأن يضيّقوا عليهم مثل ما ضيقوا عليهم، وصدق الله حيث يقول:
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ. وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «2» .
__________
(1) سورة الشورى: الايتان 41، 42.
(2) سورة الشورى: الايتان 39، 40.(2/77)
وقد أشار الحق تبارك وتعالى إلى هذا بقوله:
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ «1» .
3- إن في تشريع الجهاد نشر للسلام والأمان في الأرض، وتأمين كل ذي دين على دينه، واحترام مقدسات الأديان في الأرض. والإسلام هو الدين الذي ألزم معتنقيه بالإيمان بجميع رسل الله، وجميع كتبه المنزلة من عنده، وإذا كان اعتبر القران هو الشاهد والمهيمن على الكتب السماوية كلها، فلأنه هو الكتاب الذي سلم من التحريف والتبديل، لأنه نقل بأقوى طرق النقل والإثبات، وهو التواتر المفيد للقطع واليقين.
فالمسلمون حينما تكون لهم السلطة والغلبة في الأرض فلا خشية على أهل الأديان الاخرى منهم، لأن لهم من وصايا دينهم ما يعصمهم من الظلم والجور والتعنت، ولا كذلك الحال لو ساد غيرهم، وهذا ما صدقه الواقع والتاريخ الصادق، فحينما كان السلطان للمسلمين في الأرض، لم يضارّ أحد من أهل الذمة في دينه، ولا في دنياه، ولا في نفس ولا عرض ولا مال، فلما ذهبت ريحهم، وغلبوا على أمرهم، ذاقوا من أعدائهم ألوان العذاب من تقتيل وتخريب وانتهاك للحرمات.
وليس أدل على ذلك من أن الإسلام قبل من أهل الكتاب إما أن يسلموا، وإما أن يبقوا على دينهم ويدفعوا الجزية، وهي ليست للإكراه على الدخول في الإسلام أو المضايقة، ولكنها نظير ما تقوم به الدولة الإسلامية من رعاية وحماية لأهل الأديان الاخرى، وما تؤديه لهم من خدمات اجتماعية واقتصادية، وقد أشار الله سبحانه إلى هذا الغرض النبيل في قوله سبحانه:
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ
__________
(1) سورة الحج: الاية 40.(2/78)
وَمَساجِدُ «1» يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ «1» .
4- إن الإسلام بما خصه الله به من عموم الدعوة للناس أجمعين، وبما جاء به من عقائد وتشريعات واداب، أكسبته الصلاحية لكل زمان ومكان، وهو الحقيق بأن يسود في الأرض، والمسلمون المتمسكون به هم الأحق بالسيادة والاستخلاف في الأرض، لأنهم هم الذين ينشرون فيها الهدى والحق والعدل والرحمة والبرّ والخير، وهم يأمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر، وهما أساس كل خير وإصلاح، وليس من شك في أن هذا يتطلب الجهاد والكفاح وبذل النفس والمال في سبيل هذه الغاية الشريفة.
وقد أشار الله إلى هذا في قوله:
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ «2» .
وقد أشار الله سبحانه بهذه الأصول إلى ما عداها، فالصلاة رأس العبادات البدنية التي تزكّي النفس، وتحسّن علاقة المخلوق بالخالق، والإنسان بأخيه الإنسان. والزكاة رأس العبادات المالية التي تقيم المجتمع على أساس من التعاون والتكافل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أساس كل خير ديني أو دنيوي، وهما دعامتا كل إصلاح، ودرء كل شر وفساد في الأرض.
حكم الجهاد في الإسلام
الجهاد في الإسلام من الفروض الكفائية عند جمهور أهل العلم من السلف والخلف، ومعنى هذا أنه إذا قام به من يكفي في دفع غائلة الأعداء ونصر الإسلام سقط عن الباقين، ولا يكونون اثمين، وإن لم يقم به من يكفي
__________
(1) سورة الحج: الاية 40.
(2) سورة الحج: الاية 41.(2/79)
أثمت الأمة كلها، ولا يرتفع هذا الإثم إلا بخروج من فيهم الكفاية، ولو أدّى ذلك إلى تجنيد الجميع.
والدليل على هذا قول الله تعالى:
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ «1» .
ويصير الجهاد فرض عين في أحوال ثلاثة:
الأولى: إذا التقى الجيشان وتقابل الصفّان، تعيّن الجهاد على من حضر، وحرم عليه الفرار، إلا أن يكون ذلك لمكيدة أو خدعة حربية، أو لأخذ مكان أفضل وأحسن، أو للانحياز إلى فئة أخرى من الجيش. قال جل شأنه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «2» .
وقال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ.
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ «3» .
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل: ما هنّ يا رسول الله؟ قال: «الشرك
__________
(1) سورة التوبة: الاية 122. يعني ما كان المؤمنون لينفروا إلى الجهاد جميعا بل لتنفر طائفة، ولتقم طائفة مع النبي ليتفقهوا في الدين ويتلقوا القران حتى إذا عاد النافرون أعلمهم المقيمون ما تعلموه من أحكام الشرع، وما تجدد نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم من القران وما سمعوه من الحديث.
(2) سورة الأنفال: الاية 45.
(3) سورة الأنفال: الايتان 15، 16.(2/80)
بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» .
والفرار كبيرة مهما كان عدد الأعداء، وإلى هذا ذهب بعض العلماء.
ومنهم من يرى ذلك إذا لم يزد الأعداء عن ضعف عدد المسلمين، فإن زادوا فلا، وذلك لقوله تعالى:
الْآنَ خَفَّفَ «1» اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ «2» .
والرأي الأول هو الذي يؤيده ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الثبات والصبر، وعدم الفرار مهما بلغ جنود الأعداء، فقد صمد المسلمون في «مؤتة» وهم ثلاثة الاف أمام مائتي ألف من الروم، وأحلافهم من العرب من لخم وجذام، ولم يروا الفرار.
وليس من الفرار ما يراه قائد الجيش من الانسحاب الكلي أو الجزئي، حتى لا يحاط به أو يفنى الجيش عن اخره أو لتنظيمه، وإنما ذلك داخل في قوله سبحانه: إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ، وذلك كما حدث من سيف الله خالد بن الوليد في «مؤتة» ، ولذلك لما عيّر أهل المدينة الجيش بقولهم لهم:
يا فرّار، قال النبي صلى الله عليه وسلم مدافعا عنهم: «بل هم الكرّار» !!
الثانية: إذا هاجم الكفار بلدا من بلاد الإسلام أو نزلوا فيه تعين على أهله قتالهم ودفعهم بما استطاعوا، ووجب على إخوانهم المسلمين في كل قطر وبلد أن يخفوا إليهم بالعون والمساعدة أداء لحق الأخوة الإسلامية، ففي
__________
(1) وقد كان في أول الأمر يجب الثبات إذا لم يزد جيش الأعداء عن عشرة أضعاف جيش المسلمين.
(2) سورة الأنفال: الاية 66.(2/81)
الحديث الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله» ، وفي رواية أخرى للبخاري: «ولا يسلمه» أي لا يخذله إذا استنصر به، ولا يسلمه أو يتركه لأعدائه ينالون منه.
الثالثة: إذا استنفر ولي الأمر- خليفة أو ملكا أو رئيسا- قوما أو أقواما لزمهم الخروج، وتعيّن عليهم الجهاد، وذلك لقول الحق تبارك وتعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ. إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «1» .
وفي الحديث الصحيح المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» . وفي معنى الاستنفار العام إعلان التعبئة العامة في العرف الحديث ودعوة الأمة للجهاد، وقد يكون الاستنفار خاصا بفئة، فيكون تعبئة جزئية.
من يرى أن الجهاد فرض عين
ومن السلف الصالح من كان يرى أن الجهاد فرض عين على أي حال وفي جميع الأزمان، ويستدلون بقول الحق تبارك وتعالى:
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ «2»
أي شبابا وشيبا، ورجالا وركبانا، وأغنياء، وفقراء، وأقوياء وضعفاء.
__________
(1) سورة التوبة: الايتان 38، 39.
(2) سورة التوبة: الاية 41.(2/82)
مثل عليا للحرص على الجهاد
وممن كان يرى هذا الرأي السادة الأخيار: أبو أيوب الأنصاري، وأبو طلحة الأنصاري، والمقداد بن الأسود من الصحابة، وسعيد بن المسيّب من التابعين. وقد كان أبو أيوب يستدل بالاية السابقة، وكان يرى أن الرغبة عن الجهاد والاشتغال بالأهل والمال إلقاء بالنفس إلى التهلكة، مستدلا بقول الله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «1» .
وقد لزم رضي الله عنه الجهاد في حياة الرسول وبعده، ولم يتخلّف عن غزوة قط، ولما حدثت الفتنة بين علي ومعاوية انحاز إلى جانب علي، وشهد معه قتال الخوارج، ولما أرسل معاوية ابنه يزيد على رأس جيش لغزو القسطنطينية تحرج في أول الأمر أن يخرج في جيش تحت إمرة يزيد، ولكن نفسه التواقة للجهاد نازعته إليه وقال: (ما ضرني من استعمل على الجيش) ، فلحق بهم وأبلى بلاء حسنا، ثم مرض فعاده يزيد فقال له: ما حاجتك؟ قال: حاجتي إذا أنا متّ، فاركب بي ما وجدت مساغا في أرض العدو، فإذا لم تجد فادفني ثم ارجع، فلما توفي صلّى عليه يزيد والمسلمون، وفعلوا به ما أوصى به، فدفن بجوار أسوار القسطنطينية شاهدا على لون رائع من ألوان البطولة الإسلامية الفذّة، وكانت وفاته سنة اثنتين وخمسين، فرضي الله عنه وأرضاه.
وروي أن أبا طلحة الأنصاري صاحب رسول الله وأحد الذين أحاطوا بالنبي يوم أحد، قرأ سورة التوبة وهو شيخ كبير، فأتى على هذه الاية: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا..، فقال: أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبابا جهزوني يا بنيّ، فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، فأبى، فركب البحر غازيا، فمات، فلم يجدوا جزيرة يدفنونه بها إلا بعد تسعة أيام ولم يتغير، فدفنوه بها.
__________
(1) تفسير ابن كثير والبغوي، ج 1، ص 438، ط المنار.(2/83)
وروى ابن جرير الطبري عن أبي راشد أنه رأى المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص يريد الغزو- وكان شيخا كبيرا همّا قد سقط حاجباه على عينيه- فقال له: لقد أعذر الله تعالى إليك، فقال: أبت علينا سورة البعوث، يريد هذه الاية من سورة التوبة.
وقال الإمام الزهري: خرج سعيد بن المسيّب إلى الغزو، وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل صاحب ضر، فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكنّي الحرب كثرت السواد، وحفظت المتاع «1» .
وبحسب هؤلاء السادة الأمجاد أنهم مجتهدون في فهم الاية «2» ، فإن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر، وبحسبهم فضلا ومثوبة هذه النية الصادقة، وبهؤلاء الأبطال المغاوير وأمثالهم- وما أكثرهم- مكّن الله للمسلمين في الأرض، وانتشر الإسلام حتى بلغ المشرق والمغرب.
الترغيب في الجهاد والاستشهاد
لمّا كان الجهاد هو الوسيلة لحماية العقيدة، وتأمين الدعوة، ونشر الشريعة شريعة التوحيد والحق والعدل والخير، رغّب الله ورسوله فيه أيما ترغيب.
ففي الكتاب الكريم يقول الله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ «3» .
__________
(1) تفسير ابن كثير والبغوي، ج 4، ص 174، ج 1، ص 428.
(2) ويرى ابن عباس وغيره أن حكم هذه الاية كان في مبدأ الأمر ثم نسخت بقوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وقوله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ....
(3) سورة التوبة: الاية 111.(2/84)
وقال مبيّنا الفرق ما بين المجاهدين والقاعدين:
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً «1» .
وقال مرشدا إلى أعظم طرق الخير:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ «2» .
وقال مبيّنا أن القتال وإن كان مكروها للنفس بحسب الفطرة، لكنه قد يكون فيه الخير الكثير:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «3» .
وإذا جاز لغير المسلم أن يخشى الجهاد أو يفرّط فيه فلا يجوز ذلك للمسلم، إذ مال الجهاد له إما نصر وغنيمة وإما أجر وشهادة، وكلا الأمرين غنم وجميل، قال سبحانه:
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ «4» .
__________
(1) سورة النساء: الاية 95. والمراد بالقاعدين أولا أصحاب الأعذار، وبالقاعدين ثانيا من لا عذر لهم.
(2) سورة الصف: الايتان 10، 11.
(3) سورة البقرة: الاية 216.
(4) سورة التوبة: الاية 52.(2/85)
وفي السنة النبوية الكثير من الأحاديث المرغبة في الجهاد، المنفّرة من التفريط فيه، ففي الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تضمّن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي وبرسلي أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، بما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده لولا أن أشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلّفوا عني، والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله، فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل» ، وفي صحيح البخاري مرفوعا: «رباط «1» يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها» ، وفي صحيح مسلم مرفوعا: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه» ، وعين المرابط التي تبيت وتحرس، وتراقب الأعداء في سبيل الله، ولا تذوق طعم الكرى هي عين أوجب الله لها الجنة، ففي الحديث الذي رواه الترمذي مرفوعا: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله» «2» . وفي مواقف الرسول في الغزوات مواطن مشهودة تشجع الجبان، وتجرىء الشجاع، حتى يصير منه ليثا هصورا.
الاستشهاد في سبيل الله
وكذلك رغّب الإسلام في الاستشهاد في سبيل الله، ففي الكتاب الكريم:
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ «3» .
__________
(1) الرباط والمرابطة: الإقامة في الثغور وهي: المواضع التي يخاف منها هجوم الأعداء كالموانىء والمطارات ونقط المراقبة.
(2) حديث حسن.
(3) سورة ال عمران: الايتان 169، 170.(2/86)
وهي حياة برزخية روحية تتمتاع فيها الروح بشتى أنواع الملذات الحسية والمعنوية «1» ، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الاية فقال: «أرواحهم في جوف طيور خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطّلع الله عليهم إطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئا؟ فقالوا: أي شيء نشتهي، ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا» .
وفي مسند الإمام أحمد نحو حديث مسلم وفي اخره: «فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم، قالوا: من يبلّغ عنا إخواننا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال سبحانه: وَلا تَحْسَبَنَّ..
الاية. فلا تعجب وهذا موقف القران والسنة من الجهاد والاستشهاد أن ضرب المسلمون الأولون في باب الجهاد وحب الاستشهاد مثلا عليا نادرة، وأن جادوا بأرواحهم طيبة بذلك نفوسهم، وأن حرصوا على الموت أكثر من حرصهم على الحياة، وكانت لهم في هذا المضمار بطولات لم يعرفها التاريخ لغيرهم، وسيأتيك من أنباء هذه البطولات الشيء الكثير.
الأطوار التي مرّ بها الجهاد
الطور الأول
لقد كان القتال في هذا الدور مقصورا على القرشيين الذين عذّبوهم، وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم، والذين لا يزالون يعذبون المستضعفين الذين
__________
(1) وهذه الحياة البرزخية فوق الحياة الدنيوية لتجرد الأرواح فيها من شوائب المادة، وخلوها من البلاء، والالام، والمنغصات التي لا تسلم منها الحياة الدنيوية، ودون الحياة الاخروية لعودة الأرواح فيها إلى أجسادها، وكمال التمتاع فيها باللذائذ الروحية والجسمانية.(2/87)
لم يستطيعوا أن يهاجروا، أما من لم يحارب المسلمين ولم يتسبب في إخراجهم فلا يحارب، وهذا هو ما صدعت به الاية الكريمة:
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ إلى قوله: فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» .
الطور الثاني
إن بعض القبائل كانوا أحلافا لقريش، أو صاروا أحلافا لها بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فحملوا على المسلمين تمشيا مع سياسة قريش العامة، أو أخذا بثأرها، ومن هؤلاء من فكروا في مهاجمة المدينة، أو هاجموها بالفعل، كما فعل كرز بن جابر الفهري، فقد أغار على سرح المدينة، وكان ذلك سببا في خروج المسلمين إليه في غزوة بدر الأولى فلم يدركوه.
ومنهم من تحرشوا بالمسلمين أو قتلوا بعوثا منهم غدرا وغيلة كما حدث في سريتي الرجيع والقرّاء، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبادر إلى لقائهم أو يرسل إليهم السرايا والبعوث ليعاقبهم على بغيهم، ويرد عليهم كيدهم، ومن هذه القبائل:
بنو غطفان، وبنو سليم، وبنو عامر، والأحابيش أحلاف قريش، وقبائل نجد وثقيف، وقد أفادت حروبه مع هؤلاء كثيرا، فقد اطّلعوا على الإسلام، وعرفوا سماحته، فأسلم منهم الكثيرون، وصاروا أعوانا للإسلام بعد أن كانوا حربا عليه.
الطور الثالث
لمّا تمالأ المشركون في مكة وخارجها على المسلمين وصاروا يدا واحدة في قتالهم لم يكن بدّ من قتال هؤلاء جميعا، كما يقاتلون جميعا المسلمين، وهذا هو ما أراده الله سبحانه بقوله:
__________
(1) سورة البقرة: الايات 190- 193.(2/88)
وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ «1» .
وبذلك صار الجهاد عاما لكل من ليس له كتاب سماوي، وفي هذا الدور من الجهاد يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله» «2» .
الطور الرابع
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد وادع اليهود وعاهداهم، وبذلك أمّنهم على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، ولكنهم لم يلبثوا أن نقضوا العهد، وتمالأوا مع المشركين وصاروا يحرّضونهم على قتال النبي كما حدث في أحد وغيرها، بل حاولوا طعن المسلمين في ظهورهم كما حدث في غزوة الأحزاب، وطالما سعوا في إفساد ما بين الأوس والخزرج، وإفساد ما بين المهاجرين والأنصار، وبذلك أصبحوا شوكة في ظهور المسلمين، وجراثيم إفساد في المجتمع المدني لابدّ من القضاء عليها، فلذلك أمر الله سبحانه نبيّه بقتالهم بعد إيذانهم بنقض ما بينه وبينهم من عهود بقوله سبحانه:
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ «3»
وهو أدب من اداب الحرب في الإسلام لم تصل إليه المدنيّة في القرن العشرين!! وقد قتل المسلمون البعض، وأجلوا البعض الاخر عن المدينة، ولم يلبثوا أن قطع دابرهم من جزيرة العرب كلها، وأراح الله منهم العباد والبلاد.
__________
(1) سورة التوبة: الاية 36.
(2) صحيح البخاري كتاب الإيمان- باب «فإن تابوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة» .
(3) سورة الأنفال: الاية 58.(2/89)
الطور الخامس
لما فتح المسلمون مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، ودانت لهم الطائف وما حولها، ونجد وما جاورها، لم تلبث الجزيرة العربية أن صارت مؤمنة مواحدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسل كتبا إلى الملوك والأمراء في الهدنة ما بين الحديبية والفتح، عارضا عليهم الدخول في الإسلام، فمنهم من أسلم، ومنهم من أبى وتوعّد، وبذلك أصبحت دعوة الإسلام معروفة عند الدول المتاخمة للجزيرة، والمعروفة للمسلمين وقتها، ثم تحفّزت الروم لغزو بلاد المسلمين، فلما علم الرسول جمع الجموع وخرج إليهم فلم يجد أحدا، فرجع بعد أن أراهم أن سلطان الله في الأرض لا يرهب أحدا.
وهذا الدور من أهم أدوار الكفاح والجهاد، فقد انتقلت الدعوة إلى العالمية، وانتقل ميدان الجهاد إلى خارج الجزيرة، وحدثت بعد وفاة الرسول الوقائع المشهورة بين الدولة الناشئة ودولتي الفرس والروم، وتمت الفتوحات العظيمة في شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها، وتحققت سنّة الله في الكون من تغليب المؤمنين على الكافرين، والمحقّين على المبطلين وصدق الله:
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ «1» .
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ «2» .
رد الفرية الكبرى
من الأكاذيب التي يرددها أعداء الإسلام والمسلمين أن الإسلام قام على السيف، وأنه لم يدخل فيه معتنقوه بطريق الطواعية والاختيار، وإنما دخلوا فيه
__________
(1) سورة القصص: الاية 5.
(2) سورة الأنبياء: الاية 105.(2/90)
بالقهر والإكراه، وقد اتخذوا من تشريع الجهاد في الإسلام وسيلة لهذا التجنّي الكاذب الاثم، وشتان ما بين تشريع الجهاد وما بين إكراه الناس على الإسلام، فإن تشريع الجهاد لم يكن لهذا، وإنما كان لحكم سامية، وأغراض شريفة كما علمت انفا.
وهذه الدعوى الباطلة الظالمة كثيرا ما يرددها المبشرون والمستشرقون، الذين يتأكلون من الطعن في الإسلام وفي نبيّ الإسلام، ويسرفون في الكذب والبهتان، فيتصايحون قائلين: أرأيتم؟!! هذا محمد يدعو إلى الحرب، وإلى الجهاد في سبيل الله، أي إلى إكراه الناس بالسيف على الدخول في الإسلام، وهذا على حين تنكر المسيحية القتال، وتمقت الحرب، وتدعو إلى السلام، وتنادي بالتسامح، وتربط بين الناس برابطة الإخاء في الله وفي السيد المسيح عليه السلام «1» .
وقد فطن لسخف هذا الادعاء كاتب غربي كبير هو: «توماس كارليل» صاحب كتاب الأبطال وعبادة البطولة، فإنه اتخذ نبيّنا محمدا- عليه الصلاة والسلام- مثلا لبطولة النبوّة، وقال ما معناه: (إن اتهامه- أي سيدنا محمد- بالتعويل على السيف في حمل الناس على الاستجابة لدعوته سخف غير مفهوم، إذ ليس مما يجوز في الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس، أو يستجيبوا له، فإذا امن به من لا يقدرون على حرب خصومهم، فقد آمنوا به طائعين مصدّقين، وتعرضوا للحرب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها) «2» .
ومن الإنصاف أن نقول: إن بعض المستشرقين لم يؤمن بهذه الفرية، ويرى أن الجهاد كان لحماية الدعوة، ورد العدوان، وأنه لا إكراه في الدين، وإليك ما كتبه «أميل در منغم» في هذا قال «3» :
__________
(1) من حياة محمد لهيكل ص 246.
(2) حقائق الإسلام وأباطيل خصومه للعقاد ص 227 ط الهلال.
(3) حياة محمد لدر منغم ص 166 ترجمة عادل زعيتر.(2/91)
(لم يشرع الجهاد لهداية الناس بالسيف، ففي القران لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ، قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، والقران يأمر المسلمين بالاعتدال، وبأن لا يبدؤوا بالاعتداء، وما تجده في القران من الايات المتتابعة، أو المبثوثة، أو المبعثرة في سوره حول الجهاد، فيشير إلى حوادث ذلك الزمن الراهنة، وإلى ما يجب على محمد أن يسلكه هو وأصحابه في المغازي تبعا لتبدل الأحوال، ولذلك نرى من اللغو جعل تلك الايات شاملة لأحوال أخرى، واستخراج مبدأ عام) «1» .
وهاتان الشهادتان الحقتان من «كارليل» و «در منغم» لهما قيمتهما العلمية في هذا الموضوع الخطير، إذ إنهما من رجلين لا يدينان بالإسلام.
وأحب قبل الشروع في ردّ هذه الفرية أن أبيّن كذب مزاعمهم في أن المسيحية تنكر القتال على إطلاقه، وتمقت الحرب، وتدعو إلى السلام، من كلام السيد المسيح نفسه قال: «لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا، وإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته. من أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني، ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني، من وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها» «2» ، فما رأي المبشرين والمستشرقين في هذا؟ أنصدقهم ونكذب الإنجيل؟ أم نكذبهم ونصدق الإنجيل؟! الجواب معروف ولا ريب.
وأما التوراة فشواهد تشريع القتال فيها أكثر من أن يحصى، على ما فيه من الصرامة وبلوغ الغاية في الشدة، مما يدل دلالة قاطعة على الفرق ما بين اداب الحرب في الإسلام، وغيره من الأديان «3» .
__________
(1) وذلك مثل قوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ سورة الأنفال: الاية 39، وقوله: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً سورة التوبة: الاية 36.
(2) إنجيل متى، الإصحاح العاشر فقرة 35 وما بعدها.
(3) أدلة اليقين في الرد على مطاعن المبشرين ص 409.(2/92)
وليس أدل على افترائهم من أن تاريخ الأمم المسيحية في القديم والحديث، شاهد عدل على رد دعواهم، فمنذ فجر المسيحية إلى يومنا هذا، خضبت أقطار الأرض جميعها بالدماء باسم السيد المسيح.
خضّبها الرومان، وخضّبتها أمم أوروبا كلها، والحروب الصليبية إنما أذكى المسيحيون- ولم يذك المسلمون- لهيبها، ولقد ظلّت الجيوش باسم الصليب تنحدر من أوروبا خلال مئات السنين قاصدة أقطار الشرق الإسلامية، تقاتل، وتحارب، وتريق الدماء، وفي كل مرة كان البابوات خلفاء المسيح كما يزعمون- يباركون هذه الجيوش الزاحفة للاستيلاء على بيت المقدس، والبلاد المقدسة عند المسيحية، وتخريب بلاد الإسلام.
أفكان هؤلاء البابوات جميعا هراطقة، وكانت مسيحيتهم زائفة؟! أم كانوا أدعياء جهالا، لا يعرفون أن المسيحية تنكر القتال على إطلاقه؟! أجيبونا أيها المبشّرون والمستشرقون المتعصبون!!.
فإن قالوا: تلك كانت العصور الوسطى عصور الظلام، فلا يحتج على المسيحية بها، فماذا يقولون في هذا القرن العشرين الذي نعيش، والذي يسمونه عصر الحضارة الإنسانية الراقية؟!.
لقد شهد هذا القرن من الحروب التي قامت بها الدول المسيحية، ما شهدت تلك العصور الوسطى المظلمة بل وأشد وأقسى!! ألم يقف «اللورد اللنبي» ممثل الحلفاء: إنجلترا، وفرنسا، وإيطاليا، ورومانيا، وأميركا في بيت المقدس في سنة (1918) حين استولى عليه في أخريات الحرب الكبرى الأولى قائلا: (اليوم انتهت الحروب الصليبية) ؟!.
وأ لم يقف القائد الفرنسي «غورو» ممثل الحلفاء أيضا- وقد دخل دمشق- أمام قبر البطل المسلم «صلاح الدين الأيوبي» قائلا: (لقد عدنا يا صلاح الدين) ؟!!.
إن الإسلام إنما غزا القلوب وأسر النفوس بسماحة تعاليمه: في العقيدة، والعبادات، والأخلاق، والمعاملات، وادابه في السلم والحرب، وسياسته الممثلة(2/93)
في عدل الحاكم، وإنصاف المحكومين، والرحمة الفائقة، والإنسانية المهذبة في الغزوات والفتوح، إنه دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فلا عجب أن أسرعت إلى اعتناقه النفوس، واستجابت إليه الفطرة السليمة، وتحمّلت في سبيله ما تحملت، فاستعذبت العذاب، واستحلت المر، واستسهلت الصعب، وركبت الوعر، وضحت بكل عزيز وغال في سبيله.
والان وقد فرغنا من تفنيد ما بنوا عليه مزاعمهم الكاذبة، من دعوة الإسلام إلى الجهاد، وتحريم المسيحية له، فلنأخذ في تفنيد هذه الدعوى الظالمة من واقع تاريخ الدعوة المحمدية قبل فرض الجهاد، ومن حكم تشريعه في الإسلام، ومن نصوص القران والسنّة المتكاثرة، ومن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسير خلفائه الراشدين وأصحابه، ومن واقع تاريخ المسلمين اليوم، وما تعرضوا له من اضطهاد وحروب ومظالم، لم تزدهم إلا صلابة في التمسك بالإسلام، والعض عليه بالنواجذ، فأقول وبالله التوفيق:
1- لقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يدعو إلى الله بالحجة والموعظة الحسنة، وقد دخل في الإسلام في هذه الفترة من الدعوة خيار المسلمين من الأشراف وغيرهم، وكان الداخلون أغلبهم من الفقراء، ولم يكن عند رسول الله من الثراء ما يغري هؤلاء، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان، وقد تحمّل المسلمون ولا سيما الفقراء والعبيد ومن لا عصبية له منهم من صنوف العذاب والبلاء ألوانا، فما صرفهم ذلك عن دينهم، وما تزعزعت عقيدتهم، بل زادهم ذلك صلابة في الحق، وصمدوا صمود الأبطال مع قلتهم وفقرهم، وما سمعنا أن أحدا منهم ارتدّ سخطا عن دينه، أو أغرته مغريات المشركين في النكوص عنه، وإنما كانوا كالذهب الإبريز لا تزيده النار إلا صفاء ونقاء، وكالحديد لا يزيده الصهر إلا قوة وصلابة، بل بلغ من بعضهم أنهم وجدوا في العذاب عذوبة، وفي المرارة حلاوة.
ثم كان أن هاجر بعضهم إلى بلاد الحبشة هجرتين، ثم هاجروا جميعا الهجرة الكبرى إلى المدينة، تاركين الأهل والولد والمال والوطن، متحملين الام(2/94)
الاغتراب، ومرارة الفاقة والحرمان. واستمر الرسول بالمدينة عاما وبعض العام يدعو إلى الله بالحكمة والمجادلة بالتي هي أحسن، وقد دخل في الإسلام من أهل المدينة قبل الهجرة وبعدها عدد كثير عن رضا واقتناع ويقين واعتقاد، وما يكون لإنسان يحترم عقله ويذعن للمقررات التاريخية الثابتة، أن يزعم أنه كان للنبي والمسلمين في هذه الأربعة عشر عاما أو تزيد حول أو قوة ترغم أحدا على الدخول في الإسلام، إلا إذا ألغى عقله وهدم التاريخ الصحيح.
2- إن تشريع الجهاد في الإسلام لم يكن لإرغام أحد على الدخول في الإسلام كما زعموا، وإنما كان للدفاع عن العقيدة، وتأمين سبلها ووسائلها، وتأمين المعتنقين للإسلام، وردّ الظلم والعدوان، وإقامة معالم الحق، ونشر عبادة الله في الأرض، وبحسبنا في هذا المقام ما ذكرته انفا في حكمة مشروعية الجهاد من نص القران، وما عرضت له في الأطوار التي مرّ بها الجهاد، من أن القتال كان للمقاتلين والمعتدين، فلما تمالأ المشركون على المسلمين أمرهم الله بقتالهم عامة، ثم ماذا يقول هؤلاء المغرضون في قوله تعالى:
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ «1» .
فالإسلام لم يقف عند حدّ أن من سالمنا سالمناه، بل لم يمنع من البر بهم والعدل معهم، وعدم الجور عليهم، وكذلك كان موقف القران كريما جدا مع الذين قاتلوا المسلمين، وأخرجوهم من ديارهم، أو ساعدوا عليه، فلم يأمر بظلمهم أو البغي عليهم، وإنما نهى عن تولّيهم بإفشاء الأسرار إليهم، أو نصرتهم وإخلاص الودّ لهم، فإن حاربونا حاربناهم، وإن كفوا عنّا كففنا عنهم، وصدق الله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا.
__________
(1) سورة الممتحنة: الايتان 8، 9.(2/95)
3- نصوص القران والسنة الصحيحة تردان على هذا الزعم وتكذبانه.
وقد صرح الوحي بذلك في غير ما اية قال تعالى:
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «1» .
وإليك ما ذكره ثقات المفسرين في سبب نزول هذه الاية: روي أنه كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان متنصران قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الزيت، فلزمهما أبوهما وقال:
لا أدعكما حتى تسلما، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟ فأنزل الله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ... ، فخلّى سبيلهما، وقال الزهري: سألت زيد بن أسلم عن قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوه، فاستأذن الله في قتالهم فأذن له. ومعنى «لا إكراه في الدين» أي دين الإسلام ليس فيه إكراه عليه.
وقال سبحانه:
أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «2» .
وقال:
فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «3» .
فالاية نص في أن من اختار الإيمان فباختياره، ومن اختار الكفر فباختياره، فلا إكراه، ولكن مع هذا التخيير فالله سبحانه يحب الإيمان ويرضاه
__________
(1) سورة البقرة: الاية 256.
(2) سورة يونس: الاية 99.
(3) سورة الكهف: الاية 29.(2/96)
ويدعو إليه، ويكره الكفر ويحذّر منه، ونصوص القران حافلة في هذا المعنى، ولهذا عقّب الله التخيير بقوله محذرا ومنفرا:
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها.
والكفر رأس الظلم، فلا يتوهمن أحد أن حمل الاية على التخيير وعدم الإكراه يشعر بإباحة الكفر أو الرضا، حاشا لله أن يكون هذا، ولعل خوف هذا التوهم هو الذي حدا كثيرا من المفسرين على حمل الاية على التهديد والوعيد، حتى مثّل علماء البلاغة للأمر الذي يراد به التهديد بهذه الاية، فالاية بنصها تخيير، ولكنه تخيير يستلزم تهديدا ووعيدا لا محالة في حال اختيار الكفر على الإيمان، وهي نصوص صريحة في عدم الإكراه على الإسلام.
وأما السنة فقد جاءت مؤيدة لما جاء به القران، وإليك طرفا منها:
روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: «اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلّوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا «1» ، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم ... فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم» «2» .
وهكذا ترى أن النبي لم يأمر بالقتال إلا بعد أن تستنفد الوسائل السلمية، وليس بعد استنفادها إلا أنهم قوم مفسدون أو يريدون الحرب، وقد بينت فيما سبق أن الجزية ليست للإرغام على الإسلام، وإنما هي نظير حمايتهم
__________
(1) الغلول: الخيانة في الغنيمة، الغدر: عدم الوفاء بالعهود في الحروب، المثلة: تقطيع أعضاء المقتول، وتشويه جسده بعد القتل أو قبله.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي، ج 12 ص 37، 39.(2/97)
وتأمينهم وتقديم شتى الخدمات لهم، وليس أدل على هذا مما رواه البلاذري في فتوح البلدان أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لواقعة اليرموك ردّوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الجزية وقالوا: (قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم) ، فقال أهل حمص:
(لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل- مع أنه على دينهم- عن المدينة مع عاملكم) ، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود.
وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنا عليه، وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد «1» ...
وقد يقول قائل فما تقول في الحديث الشريف: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» ؟
قلنا: المراد بالحديث فئة خاصة، وهم وثنيو العرب، أما غيرهم من أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم على التخيير بين الأمور الثلاثة التي نص عليها حديث مسلم.
على أن بعض كبار الأئمة كمالك والأوزاعي ومن رأى رأيهما يرون أن حكم مشركي العرب كحكم غيرهم في التخيير بين الثلاثة: الإسلام، أو الجزية أو القتال، واستدلوا بحديث مسلم السابق، ويقولون: إن حديث «أمرت أن أقاتل الناس» منسوخ، أو أن فيه إيجازا واقتصارا على بعض الأمور الثلاثة «2» .
وإذا نظرنا بعين الإنصاف إلى الذين حملوا حديث المقاتلة على وثنيي العرب، لا نجده يجافي الحق والعدل، فهؤلاء الوثنيون الذين بقوا على شركهم لم يدعوا وسيلة من وسائل الصد عن الإسلام إلا فعلوها، ثم هم أعرف الناس بصدق الرسول، فهو عربي من أنفسهم والقران عربي بلغتهم، فالحق بالنسبة
__________
(1) أشهر مشاهير الإسلام، ج 1 ص 52.
(2) فتح الباري، ج 1 ص 64.(2/98)
إليهم واضح ظاهر، فلم يبق إلا أنهم متعنتون معوّقون لركب الإيمان والعدل والحضارة عن التقدم.
هذا إلى أن الشرك مذهب فاسد، والمذاهب الفاسدة تحارب ويحارب دعاتها بكل الوسائل، من قتل أو نفي أو سجن، وهذا أمر مقرر في القديم والحديث. وها هي دول الحضارة اليوم في سبيل تأمين سلامتها، بل وفي سبيل إرضاء نزواتها وأهوائها تزهق الالاف من الأرواح، ويغمض الناظرون أعينهم عن هذا ولا يعترض المعترضون، فهل هذا حلال لهم حرام على غيرهم؟!.
فالإسلام حينما لم يقبل من مشركي العرب المحاربين إلا الإسلام بعد ما تبين لهم الحق، وأصبحوا قلة تعتنق مذهبا فاسدا بجانب الكثرة الكاثرة من العرب التي أسلمت طواعية واختيارا لم يكن متجنيا ولا ظالما، فالحديث كيفما فهمناه لا ينهض دليلا للمفترين على الإسلام.
4- ويرد هذه الفرية ويقتلعها من أساسها ما التزمه الرسول صلى الله عليه وسلم في سيرته من التسامح مع أناس أسروا وهم على شركهم، فلم يلجئهم على الإسلام، بل تركهم واختيارهم. ذكر الثقات من كتّاب السير والحديث أن المسلمين أسروا في سرية من السرايا سيد بني حنيفة- ثمامة بن أثال الحنفي- وهم لا يعرفونه، فأتوا به إلى رسول الله فعرفه وأكرمه، وأبقاه عنده ثلاثة أيام، وكان في كل يوم يعرض عليه الإسلام عرضا كريما فيأبى ويقول: إن تسأل مالا تعطه، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، فما كان من النبي إلا أن أطلق سراحه.
ولقد استرقت قلب ثمامة هذه السماحة الفائقة، وهذه المعاملة الكريمة، فذهب واغتسل، ثم عاد إلى النبي مسلما مختارا، وقال له: (يا محمد، والله ما كان على الأرض من وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي. والله ما كان على الأرض من دين أبغض إلي من دينك، فقد أصبح دينك أحب الدين كله إلي. والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فقد أصبح أحب البلاد إلي) .(2/99)
وقد سر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه سرورا عظيما، فقد أسلم بإسلامه كثير من قومه، ولم يقف أثر هذا التسامح في المعاملة عند إسلام ثمامة وقومه بل كانت له اثار بعيدة المدى في تاريخ الدعوة الإسلامية، فقد ذهب إلى مكة معتمرا، فهمّ أهلها أن يؤذوه ولكنهم ذكروا حاجتهم إلى حبوب اليمامة، فالى على نفسه أن لا يرسل لقريش شيئا من حبوب اليمامة حتى يؤمنوا، فجاهدوا جهدا شديدا فلم يروا بدّا من الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ترى ماذا كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم؟ أيدع ثمامة حتى يلجئهم بسبب منع الحبوب عنهم إلى الإيمان؟ لا، لقد عاملهم بما عرف عنه من التسامح، وألاإكراه في الدين، فكتب إلى ثمامة أن يخلّي بينهم وبين حبوب اليمامة، ففعل!! فما رأيكم أيها المفترون؟
بل امتد أثر دخوله في الإسلام على أساس من الاختيار والرغبة الصادقة إلى ما بعد حياة النبي، ذلك أنه لما ارتد بعض أهل اليمامة ثبت ثمامة ومن اتبعه من قومه على الإسلام، وصار يحذر المرتدين من اتباع مسيلمة الكذاب، ويقول لهم: (إياكم وأمرا مظلما لا نور فيه، وإنه لشقاء كتبه الله عز وجل على من أخذ به منكم، وبلاء على من لم يأخذ به منكم) ، ولما لم يجد النصح معهم خرج هو ومن معه من المسلمين وانضموا للعلاء بن الحضرمي مددا له، فكان هذا مما فتّ في عضد المرتدين، وألحق بهم الهزيمة «1» .
وإليك قصة أخرى: لما فتح النبي مكة ودخلها ظافرا منتصرا كان صفوان بن أمية «2» ممن أهدرت دماؤهم لشدة عداوتهم للإسلام، والتأليب على المسلمين، فاختفى وأراد أن يذهب ليلقي بنفسه في البحر، فجاء ابن عمه عمير بن وهب الجمحي وقال: يا نبي الله، إن صفوان سيد قومه، وقد هرب
__________
(1) الإصابة في تمييز الصحابة، والاستيعاب بالهامش، ج 1 ص 203.
(2) صفوان هذا هو الذي كان أغرى عميرا هذا على قتل النبي بعد بدر، فلما قدم عمير لتنفيذ ما اتفقا عليه أخبره النبي بما جرى، فما كان منه إلا أن أسلم وحسن إسلامه لما استيقن أنه نبي يوحي إليه من ربه.(2/100)
ليقذف نفسه في البحر فأمّنه، فأعطاه عمامته، فأخذها عمير حتى إذا لقي صفوان قال له: (فداك أبي وأمي. جئتك من عند أفضل الناس وأبر الناس، وأحلم الناس، وخير الناس؛ وهو ابن عمك؛ وعزه عزك؛ وشرفه شرفك، وملكه ملكك) فقال صفوان:
إني أخافه على نفسي. قال عمير: هو أحلم من ذلك وأكرم، وأراه علامة الأمان وهي العمامة، وقيل برده، فرجع إلى رسول الله فقال: إن هذا يزعم أنك أمنتني، فقال النبي: «صدق» ، فقال صفوان: أمهلني بالخيار شهرين، فقال له رسول الله: «بل أربعة أشهر» ، ثم أسلم بعد وحسن إسلامه.
فهل بعد هذه الحجج الدامغة يتقوّل متقوّل على الإسلام زاعما أنه قام على السيف والإكراه؟!
5- ثم ما رأي المبشّرين والمستشرقين في أن من أكره على شيء لا يلبث أن يتحلل منه إذا وجد الفرصة سانحة له، بل ويصبح حربا على هذا الذي أكره عليه؟ ولكن التاريخ الصادق يكذب هذا، فنحن نعلم أن العرب- إلا شرذمة، تسور الشيطان عليها- ثبتوا على ما تركهم عليه الرسول، وحملوا الرسالة، وبلّغوا الأمانة كأحسن ما يكون البلاغ إلى الناس كافة، ولم يزالوا يكافحون ويجاهدون في سبيل تأمين الدعوة وإزالة العوائق من طريقها حتى بلغت ما بلغ الليل والنهار في أقل من قرن من الزمان، ومن يطّلع على ما صنعه العرب في حروبهم وفتوحاتهم لا يسعه إلا أن يجزم بأن هؤلاء الذين باعوا أنفسهم رخيصة لله، لا يمكن أن يكون قد تطرق الإكراه إلى قلوبهم، وفي صحائف البطولة التي خطوها أقوى برهان على إخلاصهم وصدق إيمانهم، وسل سهول الشام وسهول العراق، وسل اليرموك والقادسية، وسل شمال إفريقيا تخبرك ما صنع هؤلاء الأبطال.
6- ثم ما رأي هؤلاء المفترين على الإسلام في حالة المسلمين لمّا ذهبت ريحهم، وانقسمت دولتهم الكبرى إلى دويلات، وصاروا شيعا وأحزابا، وتعرضوا لمحن كثيرة في تاريخهم الطويل كمحنة التتار، والصليبيين في القديم، ودول الاستعمار في الحديث، وكل محنة من هذه المحن كانت كافية للمكرهين(2/101)
على الإسلام أن يتحللوا منه ويرتدوا عنه، فأين هم الذين ارتدوا عنه، أخبرونا يا أصحاب العقول؟!!
إن الإحصائيات الرسمية لتدل على أن عدد المسلمين في ازدياد، على الرغم من كل ما نالهم من اضطهاد وما تعرضوا له من عوامل الإغراء، وقد خرجوا من هذه المحن بفضل إسلامهم وهم أصلب عودا وأقوى عزيمة على استرداد مجدهم التليد وعزتهم الموروثة.
بل ما رأي هؤلاء في الدول التي لم يدخلها مسلم مجاهد بسيفه، وإنما انتشر فيها الإسلام بوساطة العلماء والتجار والبحّارة كأندونيسيا، والصين، وبعض أقطار إفريقيا، وأوروبا وأمريكا، فهل جرّد المسلمون جيوشا أرغمت هؤلاء على الإسلام؟ ألا فليسألوا أحرار الفكر الذين أسلموا من أوروبا وغيرها، وسيجدون عندهم النبأ اليقين.
لقد انتشر الإسلام في هذه الأقطار بسماحته، وقربه من العقول والقلوب، وها نحن نرى كل يوم من يدخل في الإسلام، وذلك على قلة ما يقوم به المسلمون من تعريف بالإسلام، ولو كنا نجرد للتعريف به عشر معشار ما يبذله الغربيون من جهد ومال لا يحصى في سبيل التبشير بدينهم وحضارتهم، لدخل في الإسلام ألوف الألوف في كل عام. ولن ترى- إن شاء الله- من يحل عروة الإسلام من عنقه أبدا مهما أنفقوا وأسرفوا في سبيل دعاياتهم التبشيرية، وبعثاتهم التعليمية والتنصيرية.
أما بعد: فقد لاح الصبح لذي عينين، وتبيّن الحق لكل ذي عقل وقلب، وما إخالك- أيها القارىء المنصف- إلا ازددت يقينا بسماحة الإسلام وسماحة الرسول في الدعوة إليه، وأن ما ردّده المستشرقون والمبشرون ما هو إلا فرية كبرى:
كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً «1» .
__________
(1) سورة الكهف: الاية 5.(2/102)
أحداث وتشريعات
تحويل القبلة إلى الكعبة
لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس، تأليفا لليهود وتحبيبا لهم للدخول في الإسلام، ولكن اليهود لم تثمر معهم هذه السياسة، واتخذوا من توجه النبي إلى بيت المقدس ذريعة للطعن فيه فقالوا:
يخالفنا ويتبع قبلتنا؟!.
فالم النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، وكان النبي يحب أن تكون قبلته هي الكعبة قبلة أبيه إبراهيم «1» ، ومفخرة ابائه وأجداده، فكان كثيرا ما يرفع بصره إلى السماء داعيا وراجيا، وقد مكث على استقبال بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، ثم أجابه الله على سؤاله، وحقق أمنيته فوجّهه إلى الكعبة البيت الحرام. قال عز شأنه:
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ «2» .
__________
(1) أما قبلته بمكة فقيل كان النبي يستقبل بيت المقدس، ولكنه لا يستدبر الكعبة بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس، وذلك بأن يقف بين الركنين الأسود واليماني، فلما هاجر استمر على استقبال بيت المقدس حتى نسخ الله ذلك بالتوجه إلى الكعبة، وقيل كانت قبلته الكعبة، فلما هاجر أمره الله باستقبال بيت المقدس حتى نسخ ذلك، قال ابن عبد البر عالم المغرب: وهذا أصح القولين عندي. وهو ما نرجحه، ويؤيده حديث إمامة جبريل للنبي غداة ليلة الإسراء والمعراج، فقد كان وقوفهما عند باب الكعبة، وغير ممكن لمن كان عند بابها أن يستقبل الكعبة وبيت المقدس معا.
(2) سورة البقرة: الاية 144.(2/103)
وبذلك تحقق للنبي والمسلمين شرف التوجه إلى القبلتين.
وقد كان التحويل من بيت المقدس إلى الكعبة في منتصف شهر رجب على الصحيح، وبه جزم جمهور العلماء، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس، وذهب البعض إلى أن التحويل كان في نصف شعبان، وهو قول ضعيف، وقد اختلف العلماء في أول صلاة حصل فيها التحويل، فقيل الظهر، وقيل العصر، والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم زار أم بشر بن البراء بن معرور خارج المدينة في بني سلمة، فصنعت لهم طعاما، وحانت صلاة الظهر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه للصلاة في مسجدهم، وبعد أن صلّى بهم ركعتين نزل جبريل على النبي بتحويل القبلة فاستدار النبي وهو في صلاته إلى الكعبة، واستدار معه أصحابه، فسمّي هذا المسجد، المسجد ذي القبلتين؛ ولا يزال مكانه موجودا إلى وقتنا هذا بالقرب من المدينة، وفيه مكان القبلتين.
ثم خرج النبي إلى المدينة فحانت صلاة العصر فصلاها إلى الكعبة، ثم خرج رجل ممن صلّى معه بالمسجد النبوي، فمر على بني حارثة في مسجدهم وهم يصلون إلى بيت المقدس، فأخبرهم بتحويل القبلة، فاستداروا وهم في صلاتهم إلى الكعبة، ثم ذهب هذا الرجل أو غيره إلى قباء، فأدركهم في صلاة الفجر وهم يصلون إلى بيت المقدس، فأخبرهم بنزول القران بالتحويل إلى الكعبة، فتوجهوا في صلاتهم إليها، وبهذا التحقيق يحصل التوافق بين الروايات المختلفة الواردة في هذا المقام، والتي يكمل بعضها بعضا «1» .
وقد أكثر اليهود من الطعن في النبي والمسلمين بسبب هذا التحويل، ولهجوا بقالة السوء، مع علمهم من كتبهم أن هذا سيكون، وأن توجهه صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس لن يدوم، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى موقفهم هذا في قوله:
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «2» .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي، ج 5 ص 9؛ فتح الباري، ج 1 ص 79- 81.
(2) سورة البقرة: الايتان 142، 143.(2/104)
ثم بين سبحانه أن هذا التحويل كان بلاء واختبارا ليتميز عند الناس المؤمنون المخلصون من الشاكين المرتابين، فقال سبحانه:
وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ «1» .
ولما كان نسخ القبلة أول نسخ وقع في الإسلام، وقارنه إرجاف اليهود والمنافقين، أكّد الله سبحانه الأمر بالتوجه إلى الكعبة في ثلاثة مواضع متقاربة، فقال سبحانه أولا:
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها.
وقال ثانيا:
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
وقال ثالثا:
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ «2» .
وقد روى قصة تحويل القبلة إلى الكعبة الإمامان البخاري ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث، وإليك رواية البخاري لأنها أتم وأكمل: عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده أو قال أخواله من
__________
(1) سورة البقرة: الاية 143.
(2) سورة البقرة: الايات 144، 149، 150.(2/105)
الأنصار، وأنه صلّى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا «1» وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلّى أول صلاة صلّاها صلاة العصر، وصلّى معه قوم فخرج رجل ممن صلّى معه فمر على أهل مسجد- هم بنو حارثة- وهم راكعون، فقال: «أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البيت، فداروا كما هم» ، وفي رواية أخرى للبخاري فنزلت: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ... الاية، وفي رواية أيضا: «أنه مات قبل أن تحوّل- يعني القبلة- رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ، يعني صلاتكم التي توجهتم فيها إلى بيت المقدس» .
فلله الحمد والمنة أن اختار لنا القبلة أول بيت وضع للناس مباركا وهدى للعالمين، فيه ايات بيّنات مقام إبراهيم، ومن دخله كان امنا، وأن جعل قبلتنا خير القبل، كما جعل أمتنا خير الأمم وإن كره الكافرون واليهود.
تشريع فريضة الصيام
«2» وفي شعبان من السنة الثانية فرض الله شريعة من أعظم شرائع الإسلام وركنا من أركانه، وهو صيام رمضان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء- وهو اليوم العاشر من المحرم-، فسألهم عن سبب ذلك فقالوا: هذا يوم نجّى الله فيه موسى وقومه فصامه موسى شكرا لله،
__________
(1) قدوم النبي المدينة كان في ربيع الأول، والتحويل كان في منتصف رجب على الصحيح، فإذا اعتبرنا شهوي القدوم والتحويل شهرا كانت المدة ستة عشر شهرا، وإذا اعتبرناهما شهرين كانت المدة سبعة عشر شهرا، فمن ثمّ تردد الراوي، وبعض الروايات جاءت بالجزم.
(2) الصوم والصيام في اللغة الإمساك. وفي الشرع: إمساك المكلّف نفسه بنية عن تناول الطعام والشراب والجماع وسائر المفطرات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ومن كمال الصوم الإمساك عن اللغو والرفث، والفسوق، والعصيان وبذلك يشعر الصائم بفائدة الصوم، ويفوز بثمرته.(2/106)
فقال النبي لهم: «نحن أولى بموسى منكم» فصامه وأمر المسلمين بصيامه، روى ذلك البخاري ومسلم، فلما فرض صوم رمضان أصبح صيام عاشوراء غير واجب، فمن شاء صامه ومن شاء أفطره، روى ذلك الشيخان أيضا عن عائشة.
وقد أوجب الله صيام رمضان بقوله سبحانه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ «1» .
وكان صيام رمضان في أول الإسلام على سبيل التخيير، فمن شاء صام وأدّى الفريضة، ومن شاء أفطر ووجب عليه الفداء: عن كل يوم إطعام مسكين، ثم لمّا مرنوا عليه وأصبح أمرا مألوفا أمرهم بصيامه على سبيل الإلزام ونسخ التخيير، وذلك بقوله سبحانه:
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ... »
الاية.
روى ذلك الشيخان في صحيحيهما عن سلمة بن الأكوع- واللفظ لمسلم- قال: لما نزلت هذه الاية: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ، كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الاية التي بعدها فنسختها. وهي قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وقد أكدت الايتان الرخصة للمريض أو المسافر أن يفطر ويقضي دفعا للحرج، وتيسيرا من الله على المسلمين: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.
__________
(1) سورة البقرة: الايتان 183، 184.
(2) سورة البقرة: الاية 185.(2/107)
ويرى فريق من العلماء وعلى رأسهم ابن عباس أنه لا نسخ، وأن الايتين محكمتان، وأن قوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ إنما هي في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فلهما أن يفطرا ويطعما بدل كل يوم مسكينا. رواه البخاري في صحيحه، وعلى رأي ابن عباس ومتابعيه تكون الايتان قد نزلتا مرة واحدة.
وفي مبدأ الإسلام كان الصائم إذا أفطر يأكل ويشرب ويباشر امرأته إلى أن ينام أو يصلّي العشاء، فمتى نام أو صلّى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والمباشرة، فشق ذلك على المسلمين، ووقع بعضهم في الحرج بسبب هذا، فخفف الله عن الأمة، ورحمها، وأباح لهم هذه الثلاثة إلى طلوع الفجر «1» .
روى الإمام أحمد في مسنده عن معاذ بن جبل من حديث طويل في أحوال الصلاة والزكاة قال: وكانوا يأكلون، ويشربون، ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا، ثم إن رجلا من الأنصار يقال له صرمة- يعني ابن قيس- كان يعمل صائما حتى أمسى، فجاء إلى أهله فصلّى العشاء ثم نام، فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح، فراه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جهد كثيرا فقال: «ما لي أراك قد جهدت جهدا شديدا» ، فأخبره. وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ندما، فذكر له ذلك، فأنزل الله سبحانه: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ، هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ ... ،
إلى قوله: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ورواه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، وغيرهما.
وبهذا استقر تشريع الصيام على هذا اليسر ورفع الحرج، وتأكد وجوبه بالسنة القولية والعملية المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، وأجمع على هذا المسلمون، فلا يحل لمسلم أن يفرّط في هذا الأصل من أصول الإسلام الذي هو من أسس التقوى، وهي جماع الخير كله، ومن حكمه تزكية النفوس
__________
(1) تفسير ابن كثير والبغوي، ج 1 ص 418.(2/108)
والسمو بالأرواح، وتعطيف قلوب الأغنياء على الفقراء، وتعويد النفوس على الصبر والتحمل، ومواجهة شدائد الحياة ولأوائها، ومن بعد ذلك كله يكون غفران الذنوب، والفوز برضاء الله رب العالمين.
زكاة الفطر
وفي رمضان من نفس العام شرع الله سبحانه وتعالى زكاة الفطر من رمضان، طعمة للمساكين والفقراء، وطهرة للصائم من اللغو والرفث، وهي على كل حر أو عبد، وذكر أو أنثى، وصغير أو كبير من المسلمين. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس قبل الفطر بيوم أو يومين وأمرهم بذلك، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين» «1» . وهي فريضة عند جمهور الأئمة واجب عند الحنفية على قاعدتهم في التفريق بين الفرض والواجب. ولها أحكام وتفصيلات تطلب من كتب الفقه.
صلاة العيد
وفي هذه السنة صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العيد، فكانت أول صلاة عيد صلاها، وخرج بالناس إلى المصلى- كما هي السنّة- يهلّلون الله، ويكبّرونه ويعظّمونه شكرا لله على ما أفاء عليهم من النعم المتتالية، ولا سيما نعمة النصر في يوم الفرقان: يوم التقى الجمعان، وهو يوم بدر العظمى، اليوم الأغر في تاريخ الأيام، وخرجوا من بين يديه بالحربة وهي التي وهبها له النجاشي، فكانت تحمل بين يديه في الأعياد «2» ، فمن ثمّ اتخذ الأمراء من بعده الحربة يخرج بها بين يديهم في صلاة العيد.
__________
(1) رواة الجماعة.
(2) فتح الباري، ج 1 ص 455.(2/109)
وقيل إن الحربة كانت للزبير بن العوام وهبها له النجاشي، ثم وهبها للنبي صلى الله عليه وسلم «1» .
الصوم والفطرة والعيد من روافد العدالة الاجتماعية في الإسلام
وبتشريع الصوم وزكاة الفطر والعيد خطّط الإسلام روافد ثلاثة من روافد البر والمواساة والتكافل الاجتماعي في الإسلام، فالصوم كما أراده الله ورسوله يربي في النفس صفات السخاء والبذل والعطاء، فالصائم إذا لذعه الجوع وعضّه بنابه أدرك بحسه ووجدانه ما يعانيه الفقراء والمساكين والمعوزون، فيجد نفسه مدفوعا إلى البر والمواساة عن اقتناع وشعور، هذا إلى ما ورد في فضل البر والإنفاق والجود في رمضان، وأن من فطّر صائما كان له مثل أجره، وهذا جانب من الجوانب الفسيحة في تشريع الصيام.
ثم تأتي زكاة الفطر فتكون بأدائها شاهدا من شواهد صدق المسلم في صيامه، ورافدا من روافد البر والتوسعة على الفقراء في هذا اليوم الكريم، وكثيرا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في يوم العيد: «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» ثم يأتي العيد، وهو موسم من مواسم الخير والتعاطف والتحابب، فيكون رافدا ثالثا، وقد كان من دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا صلّى العيد ذكر وأنذر، ورغب ورهب، فيتسابق في مضمار البذل والعطاء الرجال والنساء والصغار والكبار، وتمتد الأيدي إلى الأقراط والحلي فتلقي بها إلى بلال عن رضا وطيب خاطر.
روى البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى يوم الفطر ركعتين لم يصلّ قبلها ولا بعدها، ثم أتى النساء ومعه بلال فأمرهن بالصدقة، فجعلن يلقين: تلقي المرأة خرصها، وسخابها» «2» .
__________
(1) البداية والنهاية، ج 3 ص 256.
(2) الخرص بضم الخاء: القرط. السخاب بكسر السين: القلادة.(2/110)
تشريع الزكاة «1» في الإسلام
وفي السنة الثانية أيضا شرع الله الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام وكان ذلك بعد شهر رمضان، لأن تشريع الزكاة العامة كان بعد زكاة الفطر، وزكاة الفطر كانت بعد فرض صيام رمضان قطعا، يدل على هذا ما رواه الأئمة أحمد وابن خزيمة والنسائي وابن ماجه والحاكم من حديث قيس بن سعد بن عبادة قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، ثم نزلت فريضة الزكاة، فلم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله» قال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح «2» .
وجمهور العلماء سلفا وخلفا على أن مشروعية الزكاة إنما كانت بالمدينة في السنة الثانية، وقالوا: إن قوله تعالى في سورة الأنعام المكية: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ليس المراد به الزكاة المفروضة، وإن هذا شيء كانوا يعطونه عند الجذاذ ترضية للفقراء والمساكين من غير تقدير حد له، بل هو متروك لأريحية كل معط، فكان الواحد منهم يأتي بالقنون أو العذق فيضعه في جانب «3» المسجد، فيأتي الفقراء والمساكين فيأكلون منه، أو يعطي من حصاده ما تجود به نفسه من غير إلزام ولا تحديد بحد «4» .
وذهب بعض العلماء إلى أن فرضية الزكاة كانت بمكة بهذه الاية، ثم نزل تأكيد فرضيتها وبيان أنصبتها ومصارفها، ومقدار المخرج من كل نوع إلى غير ذلك من التفصيلات في المدينة.
__________
(1) الزكاة في اللغة: النماء والتطهير، وفي الشرع: إعطاء جزء من النصاب الحولي إلى فقير ومسكين وغيرهما من المصارف غير هاشمي ولا مطّلبي، والمناسبة بين المعنيين ظاهرة لأن إخراجها سبب للنماء في المال أو الأجر، وأيضا فهي طهرة للنفس من رذيلة البخل، وطهرة للمجتمع من الأحقاد والمفاسد والمذاهب المنحرفة، وركنها الإخلاص، وشرطها: هو ملك النصاب الحولي، وشرط من تجب عليه: العقل والبلوغ والحرية، وبأدائها يسقط الواجب في الدنيا، ويحصل له الثواب في الاخرى.
(2) فتح الباري، ج 3 ص 207.
(3) مجمع الكناسة، وهي ما نسميها «السباطة» .
(4) تفسير ابن كثير والبغوي، ج 3 ص 410؛ فتح الباري، ج 3 ص 211، ط. بولاق.(2/111)
وأيّاما كان الأمر، فقد ثبتت فرضيتها بالقران والسنة والإجماع، وأجمع الصحابة على قتال مانعها. فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل حتى يقولوا:
لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله» فقال: والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا أو عقالا «1» كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها.
قال عمر: فو الله ما هو إلا أن رأيت قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق.
وإنما تجب الزكاة على المسلم المكلف إذا بلغ ما يملكه نصابا من أي نوع من الأنواع التي تجب فيها الزكاة، فنصاب الذهب أن يبلغ عشرين مثقالا «2» ونصاب الفضة أن تبلغ مائتي درهم «3» ، وما زاد منهما فبحسابه، وذلك بشرط حولان الحول، ونصاب الغنم أربعون شاة، ونصاب البقر والجاموس ثلاثون، ونصاب الإبل خمس، فمن ملك نصابا منها وحال عليه الحول وكانت سائمة وجب إخراج زكاته.
وعروض التجارة تقوّم بأحد النقدين، والزروع تجب فيها الزكاة على تفصيل بين الفقهاء في النصاب، وما يخرج منه وما لا يخرج، وما يسقى بالسيح أو ماء المطر وما يحتاج في سقيه إلى الة وتعب، وقد فصّلت ذلك كتب الأحاديث النبوية وكتب الفقه بما لا مزيد عليه.
وقد كان الشارع حكيما في تقدير الزكاة الواجبة من كل نوع، وجعل ذلك جزا من المال لا تضنّ به النفوس الشحيحة، لأن الله يعلم حب
__________
(1) العناق: الأنثى من ولد الماعز. والعقال: ما تعقل به الإبل، أي لا يترك شيئا من الزكاة قط ولو قلّ.
(2) وقدر ذلك باثني عشر جنيها ذهبا تقريبا.
(3) وقدر ذلك بستة وعشرين ريالا فضة تقريبا.(2/112)
النفوس للمال، فاقتضت حكمته أن يكون جزا يسيرا، وقد أشار الحق تبارك وتعالى إلى هذه الحكمة السامية، قال عز شأنه:
وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ. إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ «1» .
وقد رتّب الشارع الحكيم هذا الحق الذي يخرج بحسب المؤونة والتعب في المال وعدمها: فأقلها تعبا الركاز «2» ، وفيه الخمس لعدم التعب فيه أو قلّته، ويليه الزرع والثمر، فإن سقي بماء المطر والسيح فيه العشر، وإن سقي بالالة أو الدالية أو الساقية ونحوها فنصف العشر، ويليه الماشية، وقد لوحظ فيها أنها يدخلها الأوقاص «3» .
مصارف الزكاة
وقد تكفّلت ببيان هذه المصارف الاية الكريمة:
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ «4» .
وقد أسقط الفاروق عمر مصرف المؤلفة قلوبهم بعد أن أعز الله الإسلام، ولم يعد في حاجة إلى تأليف، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء، ويرى بعض العلماء أن حقهم لم يسقط وأنه لا يزال باقيا إذا دعت الضرورة إليه.
__________
(1) سورة محمد: الايات 36- 38.
(2) الركاز: ما يوجد في بطن الأرض من مال أو معدن.
(3) جمع وقص بفتح القاف وسكونها، ما بين الفريضتين من نصب الزكاة مما لا شيء فيه.
(4) سورة التوبة: الاية 60.(2/113)
الزكاة أساس العدالة الاجتماعية الإسلامية
إن الغرض من تشريع الزكاة هو إشراك الفقراء والمساكين ومن على شاكلتهم في أموال الأغنياء، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا معاذا إلى اليمن قاضيا أو واليا قال له: «أخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وترد إلى فقرائهم» «1» .
والزكاة هي أساس العدالة الاجتماعية في المجتمع المسلم، ففيها اشتراك في المنفعة والثمرة لا في أصل المال، فقد ترك الشارع لأهل الأموال أموالهم لينمّوها، ثم فرض فيها حقا لازما لا يجوز التساهل فيه. قال سبحانه في صفة عباد الله المتقين:
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ «2» .
وقال:
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ «3» .
وقد سمعت انفا أن الصدّيق قاتل مانعي الزكاة، وجادله في هذا عمر حتى اقتنع برأيه، وصار أمرا مجمعا عليه من الصحابة، ولا عجب فالزكاة ركن أصيل في بناء المجتمع على أساس من التعاون والتكافل، والمشاركة في الخير والنعماء، وقد رأيت أن الإسلام جعلها حقا في الذهب والفضة، والإبل والبقر والغنم، والزروع والثمار، وعروض التجارة، بل ذهب بعض الفقهاء إلى وجوبها في البقول، والخضر، والفواكه، وحلي النساء.
ترى لو أن الزكاة أخرجت من كل هذه الأنواع الحولية وغير الحولية، ووزعت في مصارفها المشروعة، هل كان هناك جائع لا يجد ما يسدّ جوعته؟
__________
(1) رواه البخاري.
(2) سورة الذاريات: الاية 19.
(3) سورة المعارج: الايتان 24، 25.(2/114)
أو عار لا يجد ما يستر عورته؟ أو متشرد لا يجد مسكنا يؤويه؟ أو مريض لا يجد مستشفى يستشفى فيه، أو طالب علم لا يجد ما يعينه على طلب العلم؟.
ترى لو أن الناس أخرجوا زكاة أموالهم بأمانة وإخلاص، من غير تهرب أو تحايل، ووزعت في مصارفها، هل كنت تجد بين المسلمين من يدعو إلى الشيوعية أو يعتنقها مذهبا؟ وهل كنت تجد بينهم في كثير من أقطار المسلمين هذا الفقر والضنك، وهذه الفوارق الشاسعة بين الناس؟ فهناك قلة تتمتاع بمتاع الحياة وزخارفها، بما يصل إلى حد الإسراف، وتبعثر الأموال هنا وهناك في الحانات وبيوت اللهو والفجور، وحلبات الرقص، والسباق والقمار!! وهناك الكثرة الكاثرة لا تتمتاع بالطيبات الحلالات، بل ولا تجد الضروريات.
إن الزكاة حينما كانت تجمع من كل من تجب عليه، وتنفق في سبلها المشروعة في صدر الإسلام، كان المجتمع الإسلامي على خير ما يكون رخاء ورغدا، وتمتعا بالطيبات، وتالفا وتاخيا وتحاببا. فقد روى الرواة أنه في عهد خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أخصب الناس، واغتنوا حتى إنهم بحثوا عن مستحق للصدقة فلم يجدوا، فما كان منهم إلا أن اشتروا بها عبيدا وأعتقوهم لوجه الله. وهكذا بلغ الإسلام في عصوره الأولى، بمستوى حياة المسلمين ومعيشتهم حدا لم تبلغه إلا أمم قليلة اليوم، وذلك بفضل تشريع الزكاة.(2/115)
الغزوات والسرايا في السنة الثانية
غزوة الأبواء أو ودّان «1»
وهي أولى غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت في شهر صفر من السنة الثانية، خرج فيها النبي وبعض أصحابه، بعد أن استخلف على المدينة سعد بن عبادة من الخزرج ليعترض عيرا لقريش، وكان يحمل لواءه عمه حمزة أسد الله، وكان لونه أبيض، فلما وصلوا إلى ودّان وجدوا العير قد فاتتهم، فوادع النبي مخشي بن عمرو الضمري سيد بني ضمرة «2» ، وعاهده على أنهم امنون على أنفسهم، ولهم النصر على من رامهم، وأن عليهم نصر المسلمين إذا دعوا، وكانت هذه أول معاهدة عقدها الرسول مع غير يهود المدينة وقد حققت نصرا للمسلمين.
غزوة بواط «3»
وأقام رسول الله بالمدينة حتى كان شهر ربيع الأول من هذه السنة، فبلغه أن عيرا لقريش ايبة من الشام، فيها أمية بن خلف ومائة من قريش وألفان وخمسمائة بعير، فخرج إليها في مائتين من المهاجرين والأنصار بعد أن استخلف على المدينة سعد بن معاذ سيد الأوس، وكان يحمل لواءه سعد بن أبي وقاص، فسار حتى بلغ بواط، ولكن أمية كان قد نمي إليه خبر خروج المسلمين للقائهم، فأسرع بالقافلة ونجا بها.
__________
(1) ودان بتشديد الدال، والأبواء: مكانان متقاربان بينهما نحو ستة أميال.
(2) ضمرة: بفتح الضاد المعجمة وإسكان الميم.
(3) بواط بفتح الباء وضمها وتخفيف الواو: جبل من جبال جهينة بالقرب من ينبع.(2/117)
غزوة العشيرة «1»
وفي جمادى الأولى أو الثانية بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروج قريش بأعظم عير لها، قد جمعوا فيها أموالهم حتى لم يبق بمكة قرشي له مثقال إلا بعث به في تلك العير، وكان يرأسها أبو سفيان بن حرب في بضعة وعشرين رجلا من قريش، فخرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وحمل لواءه عمه حمزة، ولم يزل سائرا يسعى الليل ويخفى النهار حتى بلغ العشيرة، فوجد العير قد أفلتت، مما يدل على أن قريشا بدأت تأخذ حذرها، وترسل لذلك العيون والجواسيس.
وفي أثناء عودته حالف بني مدلج وحلفاءهم بمثل ما حالف بني ضمرة، وبهذا كسب أيضا ودّ قبيلة أخرى من القبائل الواقعة على طريق التجارة بين مكة والشام، وهذا ولا شك فيه تقوية للمسلمين وإضعاف لقريش، فقد قطع عليهم الرسول بهذه الأحلاف أن يستجيروا بقبيلة من هذه القبائل، ويحتموا بها، وهي سياسة حكيمة ولا ريب.
غزوة بدر الأولى
لم يقم الرسول بالمدينة إلا بضع ليال بعد أوبته من العشيرة، حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح «2» المدينة حيث ترعى الأغنام ليأخذ منها ما تصل إليه يده، فخرج الرسول في طلبه بعد أن استخلف على المدينة زيد بن حارثة مولاه، وكان يحمل اللواء علي بن أبي طالب، حتى بلغ واديا يقال له «سفوان» من ناحية بدر، ولكن كان قد هرب كرز فلم يدركه، وهكذا بيّن النبي بهذا العمل الحازم أنه لن يقبل من أحد انتقاص حقوقهم، أو الإغارة على المدينة وما حولها من حمى وقرى.
__________
(1) العشيرة بالتصغير والشين بهاء وبغيرها، وبالسين بهاء وبغيرها: مكان ببطن ينبع.
(2) السرح: المرعى الذي ترعى فيه الدواب.(2/118)