والأساقفة: أي رؤساء النصرانية والرهبان، قلت نعم؟ قال: انظر يا عمرو ما تقول؟
إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له: أي أكثر فضيخة من كذب. قلت: وما كذبت وما نستحله في ديننا، ثم قال: ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي. قلت له بلى، قال: بأي شيء علمت ذلك يا عمرو؟ قلت: كان النجاشي رضي الله عنه يخرج له خراجا. فلما أسلم النجاشي وصدّق بمحمد صلى الله عليه وسلم قال لا والله، ولو سألني درهما واحدا ما أعطيته، فبلغ هرقل قوله، فقال له أخوه: أتدع عبدك لا يخرج لك خراجا ويدين دينا محدثا. فقال هرقل: رجل رغب في دين واختاره لنفسه ما أصنع به؟ والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع، قال: انظر ما تقول يا عمرو. قلت: والله صدقتك. قال عبد: فأخبرني: ما الذي يأمر به وينهى عنه؟ قلت: يأمر بطاعة الله عز وجل، وينهى عن معصيته، ويأمر بالبرّ وصلة الرحم، وينهى عن الظلم والعدوان، وعن الزنا وشرب الخمر، وعن عبادة الحجر والوثن والصليب. فقال: ما أحسن هذا الذي يدعو إليه لو كان أخي يتابعني لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به ولكن أخي أضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنبا: أي تابعا.
قلت: إنه إن أسلم ملّكه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، فأخذ الصدقة من غنيهم فردها على فقيرهم، قال: إن هذا الخلق حسن، وما الصدقة؟ فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات في الأموال. أي ولما ذكرت المواشي قال: يا عمرو، يؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى في الشجر وترد المياه: فقلت نعم، فقال؟ والله ما أرى قومي في بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا.
قال عمرو: فمكث أياما بباب جيفر وقد أوصل إليه أخوه خبري، ثم إنه دعاني فدخلت عليه، فأخذ أعوانه بضبعي: أي عضدي، قال: دعوه، فأرسلت، فذهبت لأجلس فأبوا أن يدعوني أجلس، فنظرت إليه، فقال: تكلم بحاجتك، فدفعت إليه كتابا مختوما، ففض خاتمه، فقرأه حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه فقرأه، ثم قال: ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت؟ فقلت: اتبعوه، إما راغب في الدين وإما راهب مقهور بالسيف. قال: ومن معه؟ قلت: الناس قد رغبوا في الإسلام، واختاروه على غيره وعرفوا بعقولهم مع هدى الله إياهم أنهم كانوا في ضلال مبين، فما أعلم أحدا بقي غيرك في هذه الخرجة، وأنت إن لم تسلم اليوم وتتبعه تطؤك الخيل وتبيد خضراءك: أي جماعتك فأسلم تسلم ويستعملك على قومك، ولا تدخل عليك الخيل والرجال، قال: دعني يومي هذا وارجع إليّ غدا. فلما كان الغد أتيت إليه، فأبى أن يأذن لي، فرجعت إلى أخيه فأخبرته أني لم أصل إليه، فأوصلني إليه، فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلا ما في يدي وهو لا تبلغ خيله ههنا، وإن بلغت خيله ألفت: أي وجدت قتالا ليس كقتال(3/355)
من لاقى. قلت وأنا خارج غدا، فلما أيقن بمخرجي خلا به أخوه، فأصبح فأرسل إليّ، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا، وصدقا، وخليا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونا على من خالفني.
ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هوذة
بالذال المعجمة، وقيل بالدال المهملة. قال في النور: ولا أظنه إلا سبق قلم- صاحب اليمامة- أي وزاد بعضهم: وإلى ثمامة بن أثال الحنفيين ملكي اليمامة، وفيه نظر، لأن ثمامة رضي الله تعالى عنه كان مسلما حينئذ على يد سليط بفتح السين المهملة ابن عمرو العامري أي لأنه كان يختلف إلى اليمامة، وبعث معه كتابا فيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن علي، سلام على من اتبع الهدى. واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر: أي حيث تقطع الإبل والخيل، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك» فلما قدم عليه سليط بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختوما أنزله وحياه، وقرأ عليه الكتاب فردّ ردا دون ردّ. فكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني فاجعل إليّ بعض الأمر أتبعك، وأجاز سليطا رضي الله تعالى عنه بجائزة، وكساه أثوابا من نسج هجر، فقدم بذلك كله على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم كتابه، وقال: لو سألني سيابة، أي بفتح السين المهملة وتخفيف المثناة من تحت وموحدة مفتوحة: أي قطعة من الأرض ما فعلت، باد وباد ما في يديه.
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتح جاءه جبريل عليه الصلاة والسلام.
فأخبره بأن هوذة قد مات، فقال صلى الله عليه وسلم: أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبأ يقتل بعدي، أي فقال قائل: يا رسول الله من يقتله؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت وأصحابك، فكان كذلك.
أقول: هذا يدل على أن القائل له صلى الله عليه وسلم ذلك هو خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، فإن أبا بكر رضي الله تعالى عنه وجهه أميرا على الجيش الذي أرسله لمقاتلة مسيلمة لعنه الله، وتقدم الخلاف في قاتله. والمشهور أنه وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما، وكان سن هوذة مائة وخمسين سنة.
ويذكر أن هوذة هذا كان عنده عظيم من عظماء النصارى حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فقال له: لم لا تجيبه؟ قال: أنا ملك قومي، ولئن اتبعته لم أملك، فقال: بلى والله لئن اتبعته ليملكنك، وإن الخيرة لك في اتباعه، وإنه النبي العربي الذي بشر به عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وإنه لمكتوب عندنا في الإنجيل محمد رسول الله الحديث.(3/356)
أي وذكر السهيلي رحمه الله تعالى أن سليطا قال له: يا هوذة إنه سودتك أعظم حائلة: أي بالية، وأرواح في النار يعني كسرى، لأنه الذي كان توجه، وإنما السيد من متع بالإيمان، ثم تزود بالتقوى. وإن قوما سعدوا برأيك فلا تشقينّ به، وأنا آمرك بخير مأمور به، وأنهاك عن شر منهي عنه، آمرك بعبادة الله، وأنهاك عن عبادة الشيطان، فإن في عبادة الله الجنة، وفي عبادة الشيطان النار. فإن قبلت نلت ما رجوت وأمنت ما خفت، وإن أبيت فبيننا وبينك كشف الغطاء وهو المطلع، فقال هوذة: يا سليط سوّدني من لو سودك تشرفت به، وقد كان لي رأي أختبر به الأمور ففقدته، فاجعل لي فسحة ليرجع إليّ رأيي فأجيبك به إن شاء الله تعالى.
ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبي شمر الغساني
أي وكان بدمشق: أي بغوطتها: أي وهو محلّ معروف كثير المياه والشجر.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني وبعث معه كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى وآمن به وصدق، وإني أدعوك أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك» وختم الكتاب.
قال شجاع رضي الله تعالى عنه: فخرجت حتى انتهيت إلى بابه، فأقمت يومين أو ثلاثة فقلت لحاجبه: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه: فقال: لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا، وجعل حاجبه يسألني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه، فكنت أحدثه فيرق حتى يغلبه البكاء، ويقول: إني قرأت في الإنجيل وأجد صفة هذا النبيّ بعينه فكنت أراه: أي أظنه يخرج بالشام، فأراه قد خرج بأرض القرظ: أي وهو ورق، أو ثمر السلم، فأنا أؤمن به وأصدقه، وأنا أخاف من الحارث بن أبي شمر أن يقتلني، فكان هذا الحاجب يكرمني ويحسن ضيافتي، ويخبرني عن الحارث باليأس منه. ويقول: هو يخاف قيصر، فخرج الحارث يوما وجلس وعلى رأسه التاج وأذن لي عليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه، ثم رمى به، ثم قال: من ينزع مني ملكي، أنا سائر إليه، ولو كان باليمن جئته. عليّ بالناس. فلم يزل جالسا يعرض عليه حتى الليل وأمر بالخيل أن تنعل، ثم قال لي: أخبر صاحبك بما ترى، وكتب إلى قيصر يخبره الخبر وصادف أن كان عند قيصر دحية الكلبي رضي الله عنه، بعثه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قرأ قيصر كتاب الحارث كتب إليه أن لا تسر إليه واله عنه، أي لا تذكره، واشتغل بإيلياء: أي بيت المقدس، ومعنى إيلياء بالعبرانية بيت الله، والمراد باشتغاله بذلك أن يهيىء لقيصر الإنزال ببيت المقدس، فإنه نذر المشي من حمص، وقيل من قسطنطينية إلى بيت المقدس ماشيا شكرا لله تعالى حيث كشف عنه(3/357)
جنود فارس، وأظهر الله تعالى الروم على فارس، ففرشوا له بسطا ونثروا عليها الرياحين وهو يمشي عليها حتى بلغ بيت المقدس فجاء إليه كتاب قيصر: أي والذي فيه أنه يلهو عنه ولا يذكره وأنا مقيم فدعاني وقال متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟
قلت: غدا، فأمر لي بمائة مثقال ذهبا، ووصلني حاجبه بنفقة وكسوة، وقال لي ذلك الحاجب: اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وأخبره أني متبع دينه.
قال شجاع: فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما كان من الحارث، قال باد: أي هلك ملكه، وأقرأته السلام من الحاجب وأخبرته بما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق.
وفي كلام بعضهم وبعض أهل السير على أن الحارث أسلم، ولكن قال:
أخاف أن أظهر إسلامي فيقتلني قيصر. وذكر ابن هشام وغيره أن شجاع بن وهب إنما توجه إلى جبلة بن الأيهم.
ويقال إن شجاع بن وهب أرسل إلى الحارث وإلى جبلة بن الأيهم، وإن شجاعا قال له: يا جبلة إن قومك نقلوا هذا النبي من داره إلى دارهم، يعني الأنصار، فآووه ومنعوه ونصروه، وإن هذا الدين الذي أنت عليه ليس بدين آبائك ولكنك ملكت الشام وجاورت الروم، ولو جاورت كسرى دنت بدين الفرس، فإن أسلمت أطاعتك الشام وهابتك الروم وإن لم يفعلوا كانت لهم الدنيا وكانت لك الآخرة، وقد كنت استبدلت المساجد بالبيع، والأذان بالناقوس، والجمع بالشعانين، وكان ما عند الله خير وأبقى. قال جبلة: إني والله لوددت أن الناس اجتمعوا على هذا النبي اجتماعهم على من خلق السموات والأرض، وقد سرّني اجتماع قومي له، وقد دعاني قيصر إلى قتال أصحابه يوم مؤتة فأبيت عليه، ولكني لست أرى حقا ولا باطلا وسأنظر.
وفي كلام بعضهم أنه أسلم ورد جواب كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمه بإسلامه، وأرسل الهدية، وكان ثابتا على إسلامه لزمن عمر رضي الله عنه فإنه حج في خلافته.
أي وفي كلام بعضهم: لما أسلم جبلة بن الأيهم في أيام عمر رضي الله عنه كتب إليه يخبره بإسلامه ويستأذنه في القدوم عليه، فسرّ عمر بذلك، وأذن له، فخرج في خمسين ومائتين من أهل بيته، حتى إذا قارب المدينة عمد إلى أصحابه فحملهم على الخيل، وقلدها بقلائد الذهب والفضة، وألبسها الديباج وسرف الحرير، ووضع تاجه على رأسه، فلم تبق بكر ولا عانس إلا خرجت تنظر إليه وإلى زيه وزينته. فلما دخل على عمر رضي الله تعالى عنه رحب به وأدنى مجلسه، وأقام بالمدينة مكرما، فخرج عمر رضي الله تعالى عنه حاجا فخرج معه وحين تطوف بالبيت وطىء رجل من فزارة إزاره فانحل، فلطم الفزاري لطمة هشم بها أنفه وكسر ثناياه، أي ويقال فقأ عينه، فشكا الفزاري ذلك إلى عمر رضي الله تعالى عنه، فاستدعاه وقال له: لم(3/358)
هشمت أنفه، أو قال لم فقأت عينه؟ فقال: يا أمير المؤمنين تعمد حلّ إزاري، ولولا حرمة البيت، لضربت عنقه بالسيف، فقال له عمر: إما أنت فقد أقررت، أما أن ترضيه وإلا أقدته منك. وفي رواية: وحكم إما بالعفو أو بالقصاص، فقال جبلة فتصنع بي ماذا؟ قال: مثل ما صنعت به. وفي رواية: أتقتص له مني سواء وأنا ملك وهذا سوقي؟ فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: الإسلام سوى بينكما، ولا فضل لك عليه إلا بالتقوى، فقال: إن كنت أنا وهذا الرجل سواء في الدين فأنا أتنصر، فإني كنت أظن يا أمير المؤمنين أني أكون في الإسلام أعزمني في الجاهلية، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: إذا أضرب عنقك، فقال فأمهلني الليلة حتى أنظر في أمري، قال: ذلك إلى خصمك فقال الرجل: أمهلته يا أمير المؤمنين، فأذن له عمر رضي الله تعالى عنه في الانصراف، ثم ركب في بني عمه وهرب إلى القسطنطينية أي فدخل على هرقل وتنصر هناك ومات على ذلك. وقيل عاد إلى الإسلام ومات مسلما.
وكان جبلة رجلا طوالا طوله اثنا عشر شبرا، وكان يمسح الأرض برجليه وهو راكب، فسرّ هرقل به، وزوجه ابنته، وقاسمه ملكه، وجعله من سماره، وبنى له مدينة بين طرابلس واللاذقية سماها جبلة باسمه يقال إن فيها قبر إبراهيم بن أدهم.
وقيل المحاكمة كانت عند أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه. أي فقد ذكر بعضهم أن جبلة لم يزل مسلما حتى كان في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فبينما هو في سوق دمشق إذ وطىء رجلا من مزينة فوثب المزني فلطم خدّ جبلة، فأرسله مع جماعة من قومه إلى أبي عبيدة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم جبلة، قال: فليلطمه، قالوا: ما يقبل، قال: لا، يقبل، قالوا: إنما تقطع يده، قال:
لا، إنما أمر الله بالقود، فلما بلغ جبلة ذلك، قال: أترون أني جاعل وجهي ندا لوجه؟ بئس الدين هذا، ثم ارتد نصرانيا وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم على هرقل.(3/359)
حجة الوداع
ويقال لها حجة البلاغ، وحجة الإسلام، لأنه صلى الله عليه وسلم ودّع الناس فيها ولم يحج بعدها، ولأنه ذكر لهم ما يحل وما يحرم. وقال لهم: هل بلغت، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يحج من المدينة غيرها، قيل لإخراج الكفار الحج عن وقته، لأن أهل الجاهلية كانوا يؤخرون الحج في كل عام أحد عشر يوما حتى يدور الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة فيعود إلى وقته، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في هذه الحجة: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» فإن هذه الحجة كانت في السنة التي عاد فيها الحج إلى وقته وكانت سنة عشر.
قال الجمهور: فرض الحج وكان سنة ست من الهجرة أي وصححه الرافعي في باب السير وتبعه النووي.
وقيل فرض سنة تسع. وقيل سنة عشر انتهى، وبه قال أبو حنيفة، ومن ثم قال إنه على الفور. وقيل فرض قبل الهجرة واستغرب.
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الحج وأعلم الناس بذلك، ولم يحج منذ هاجر إلى المدينة غير هذه الحجة، قال: وأما بعد النبوة قبل الهجرة فحج ثلاث حجات، أي وقيل حجتين: أي وهما اللتان بايع فيهما الأنصار عند العقبة.
وفي كلام ابن الأثير: كان صلى الله عليه وسلم يحج كل سنة قبل أن يهاجر. وفي كلام ابن الجوزي: حج صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعدها حججا لا يعلم عددها، أي وكان صلى الله عليه وسلم قبل النبوة يقف بعرفات ويفيض منها إلى مزدلفة، مخالفا لقريش توفيقا له من الله، فإنهم كانوا لا يخرجون من الحرم، فإنهم قالوا: نحن بنو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأهل الحرم، وولاة البيت وعاكفو مكة فليس لأحد من العرب منزلتنا فلا تعظموا شيئا من الحل أي كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم وقالوا قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم، فليس لنا أن نخرج من الحرم نحن الحمس، فتركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منه إلى المزدلفة، ويرون ذلك لسائر العرب: قال بعض الصحابة: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي وإنه واقف على بعير له بعرفات مع الناس من بين قومه حتى يدفع معهم منها توفيقا له من الله عز وجل.
وعند خروجه صلى الله عليه وسلم للحج أصاب الناس بالمدينة جدري بضم الجيم وفتح الدال(3/360)
وبفتحهما أو حصبة، منعت كثيرا من الناس من الحج معه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان معه جموع لا يعلمها إلا الله تعالى، قيل كانوا أربعين ألفا، وقيل كانوا سبعين ألفا وقيل كانوا تسعين ألفا وقيل كانوا مائة ألف وأربعة عشر ألفا وقيل وعشرين ألفا، وقيل كانوا أكثر من ذلك. وقد قال صلى الله عليه وسلم: أي عند ذهابه: عمرة في رمضان تعدل حجة، أو قال حجة معي، أي قال ذلك تطبيبا لخواطر من تخلف. وصوب بعضهم أن هذا إنما قاله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه أي إلى المدينة، قاله لأم سنان الأنصارية لما قال لها: ما منعك أن تكوني حججت معنا؟ وقالت: لنا ناضحان حج أبو فلان: تعني زوجها وولدها على أحدهما، وكان الآخر نسقي عليه أرضنا لنا. وقال ذلك أيضا لغيرها من النسوة، قاله لأم سليم ولأم طلق ولأم الهيثم. ولا مانع أن يكون قال ذلك مرتين: مرة عند ذهابه لما ذكر، ومرة عند رجوعه لمن ذكر.
وكان خروجه صلى الله عليه وسلم يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة أي وقيل يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة ورجحه بعضهم وأطال في الاستدلال له وذلك سنة عشر نهارا بعد أن ترجل وادهن، وبعد أن صلى الظهر بالمدينة، وصلى عصر ذلك اليوم بذي الحليفة ركعتين، وطاف تلك الليلة على نسائه، أي فإنهن كن معه صلى الله عليه وسلم في الهوداج وكن تسعة، ثم اغتسل، ثم صلى الصبح أي والظهر، ثم طيبته عائشة رضي الله تعالى عنها بذريرة: هي نوع من الطيب مجموع من أخلاط الطيب وبطيب فيه مسك، ثم أحرم صلى الله عليه وسلم أي وذلك بعد أن اغتسل لإحرامه غير غسله الأول، وتجرد في إزاره وردائه، أي فقد روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم أحرم في رداءه وإزار، ولم يغسل الطيب بل كان يرى وبيص المسك في مفارقه ولحيته الشريفة، أي فإنه صلى الله عليه وسلم لبد شعر رأسه بما يلزق بعضه ببعض فلا يشعت.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: «طيبته صلى الله عليه وسلم لحرمه وحله» وعنها رضي الله تعالى عنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت، رواه الشيخان. وعنها قالت: «كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يطوف على نسائه، ثم يصبح محرما ينضح طيبا» وبه ردّ على ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قوله: لأن أصبح مطيبا بقطران أحب إليّ من أن أصبح محرما أنضح طيبا.
ويؤيد ما قاله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ما تقدم في الحديبية: من أمره صلى الله عليه وسلم من تطيب قبل إحرامه بغسل الطيب وتقدم ما فيه، أي وصلى كما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ركعتين أي قبل أن يحرم، وبه يردّ قول ابن القيم رحمه الله تعالى: لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر وأهل حيث انبعثت به راحلته أي وهي القصواء أي وهو يردّ ما روي عن ابن سعد رحمه الله تعالى، حج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة قد ربطوا أوساطهم، ومن(3/361)
ثم قال ابن كثير رحمه الله تعالى: إنه حديث منكر ضعيف الإسناد، وإنما كان صلى الله عليه وسلم راكبا وبعض أصحابه مشاة: ولم يعتمر صلى الله عليه وسلم في عمره ماشيا، وأحواله صلى الله عليه وسلم أشهر من أن تخفى على الناس، بل هذا الحديث منكر شاذ لا يثبت مثله وكان على راحلته صلى الله عليه وسلم رحل رث يساوي أربعة دراهم وفي رواية: «حج صلى الله عليه وسلم على رحل وقطيفة تساوي أو لا تساوي أربعة دراهم، وقال: اللهم اجعله حجا مبرورا لا رياء فيه ولا سمعة وذلك عند مسجد ذي الحليفة، وأحرم بالحج والعمرة معا فكان قارنا.
قال: وقيل أحرم بالحج فقط فكان مفردا، وقيل بالعمرة فقط، أي ثم أحرم بالحج بعد فراغه من أعمال العمرة فكان متمتعا، أخذا من قول بعض الصحابة إنه صلى الله عليه وسلم أحرم متمتعا، وقيل أطلق إحرامه.
وفي كلام السهيلي رحمه الله: واختلفت الروايات في إحرامه صلى الله عليه وسلم، هل كان مفردا، أو قارنا، أو متمتعا وكلها صحاح إلا من قال كان متمتعا وأراد أنه أهل بعمرة.
قال الإمام النووي: وطريق الجمع أي بين من يقول إنه أحرم قارنا، ومن يقول إنه أحرم مفردا، ومن يقول إنه أحرم متمتعا أنه أحرم أولا مفردا: أي بالحج ثم أدخل العمرة، أي وذلك: أي دخول الأضعف وهي العمرة على الأقوى الذي هو الحج من خصائصه صلى الله عليه وسلم فصار قارنا، ويدل لذلك حديث البخاري «أنه صلى الله عليه وسلم أهلّ بالحج، فلما كان بالعقيق أتاه آت من ربه فقال له: صل بهذا الوادي المبارك، وقل لبيك بحجة وعمرة معا فصار قارنا بعد أن كان مفردا.
فمن روى القرآن اعتمد آخر الأمر، أي ومنه سيدنا أنس رضي الله عنه:
«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لبيك عمرة وحجا» .
ومن روى التمتع أراد التمتع اللغوي، وهو الانتفاع والارتفاق بالقرآن انتهى:
أي بالقرآن المذكور الذي هو إدخال العمرة على الحج، لأنه يكفي فيه الاقتصار على عمل واحد في النسكين، أي فلا يأتي بطوافين ولا بسعيين، أي وليس مراده التمتع الحقيقي، بأن أحرم بعمرة فقط، ثم بعد فراغه من أعمالها أحرم بالحج كما هو حقيقة التمتع. ومن ثم قال بعضهم: أكثر السلف يطلقون المتعة على القرآن.
ومن روى الإفراد اعتمد أول الأمر، ومنه قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وقد سئل عن ذلك «لبى بالحج وحده» أو أن ابن عمر سمعه يقول: لبيك بحج ولم يسمع قوله وعمرة فلم يحك إلا ما سمع، وأنس رضي الله عنه سمع ذلك: أي سمع الحج والعمرة، أي فإن ابن عمر رضي الله عنه قيل له عن أنس بن مالك «أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة فقال ابن عمر لبى بالحج وحده، فقيل لأنس عن ابن(3/362)
عمر ذلك، فقال أنس رضي الله عنه: ما يعدونا إلا صبيانا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك لبيك عمرة وحجا» أي يصرح بهما جميعا وقال: «إني لرديف لأبي طلحة وإن ركبتي لتمس ركبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبي بالحج والعمرة، وذلك مثبت لما قاله ابن عمر وزائد عليه فليس مناقضا له. أي ودليل من قال إنه أحرم مطلقا ما رواه إمامنا الشافعي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم: «خرج هو وأصحابه رضي الله عنهم مهلّين: أي محرمين إحراما مطلقا ينتظرون القضاء» أي نزول الوحي لتعيين ما يصرفون إحرامهم المطلق إليه أي بإفراد أو تمتع أو قران» أي فجاءه صلى الله عليه وسلم الوحي أن يأمر من لا هدي معه أن يجعل إحرامه عمرة فيكون متمتعا، ومن معه هدي أن يجعله حجا فيكون مفردا، لأن من معه هدي أفضل ممن لا هدي معه، والحج أفضل من العمرة.
ويدل لكون الصحابة أطلقوا إحرامهم ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: «خرجنا نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة» لكن أجيب عن ذلك بأنهم لا يذكرون ذلك مع التلبية وإن كانوا سموه حال الإحرام.
هذا وفي مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أراد منكم أن يهلّ بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليفعل» فلينظر الجمع بين هذا وما قبله.
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: «من لم يكن معه هدي وأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدي فلا» أي فلا يجعلها عمرة بل يجعل إحرامه حجا، ولم يذكر القران. وجاء في بعض الطرق: «أنه أمر من كان معه هدي أن يحرم بالحج والعمرة معا» .
وفي بعض الروايات: «خرج صلى الله عليه وسلم من المدينة لا يسمي حجا ولا عمرة ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة، فأمر أصحابه من كان منهم أهلّ بالحج ولم يكن معه هدي أن يجعله عمرة» .
وفي الهدى: الصواب أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج والعمرة معا من حين أنشأ الإحرام، فهو قارن، ولم يحل حتى حل منهما جميعا وطاف لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا كما دلت عليه النصوص المستفيضة التي تواترات تواترا يعلمه أهل الحديث. وما ورد أنه صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين لم يصح.
قال: وغلط من قال لبى بالحج وحده ثم أدخل عليه العمرة: أي الذي تقدم في الجمع بين الروايات عن النووي رحمه الله تعالى. ومن قال لبى بالعمرة ثم أدخل عليها الحج: أي وهذا لم يتقدم. ومن قال أحرم إحراما مطلقا لم يعين فيه نسكا ثم(3/363)
عينه بعد إحرامه أي وهو ما تقدم عن إمامنا الشافعي رضي الله عنه. ومن قال أفرد الحج، أراد به أنه أتى بأعمال الحج ولم يفرد للعمرة أعمالا، وهذا محمل ما في بعض الروايات، وأفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج ولم يعتمر. على أن بعض الحفاظ قال:
إنه حديث غريب جدا، وفيه نكارة شديدة.
ثم لبى صلى الله عليه وسلم أي بعد أن استقبل القبلة فقال: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
وروي أنه زاد على ذلك لبيك إله الخلق لبيك: أي وروي أنه زاد: لبيك حقا، تعبدا ورقا على تلبيته المذكورة والناس معه يزيدون فيها وينقصون لم ينكر عليهم، وبه استدل أئمتنا على عدم كراهة الزيادة على تلبيته المشهورة المتقدمة فكان ابن عمر رضي الله عنهما يزيد فيها: لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك، لبيك والرغباء إليك والعمل.
وأتاه صلى الله عليه وسلم جبريل عليه الصلاة والسلام، وأمره أن يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية من شعائر الحج، فعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام، فقال: مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج» .
واستعمل صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا دجانة رضي الله عنه، وقيل سباع بن عرفطة رضي الله عنه وولدت أسماء بنت عميس زوج أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ولدها محمد بن أبي بكر رضي الله عنهم في ذي الحليفة، وأرسلت إليه صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تغتسل وتستثفر، أي بخرقة عريضة بعد أن تحشو بنحو قطن، وتربط طرفي تلك الخرقة في شيء تشده في وسطها لتمنع بذلك سيلان الدم كما تفعل الحائض وتحرم.
ثم حاضت سيدتنا عائشة رضي الله عنها في أثناء الطريق بمحل يقال له سرف بكسر الراء، وكانت قد أحرمت بعمرة، ففي البخاري: «أنها قالت: وكنت فيمن أهلّ بعمرة فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتدخل الحج على العمرة» .
أقول: وقد جاء: «أنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك يا عائشة؟» وفي لفظ «ما يبكيك يا هنتاه؟ لعلك نفست: أي حضت، قلت:
نعم: والله لوددت أني لم أخرج معكم عامي هذا في هذا السفر، قال: لا تقولين ذلك، فهذا شيء كتبه الله على بنات آدم» .
أي واستدل البخاري رحمه الله بهذا على أن الحيض كان في جميع بنات آدم، وأنكر به على من قال إن الحيض أول ما وقع في بني إسرائيل، وفي لفظ: «قال: ما شأنك؟ قلت: لا أصلي، قال: لا ضير عليك، إنما أنت امرأة من بنات آدم، كتب(3/364)
الله عليك ما كتب عليهن، أهلي بالحج» وفي رواية: «ارفضي عمرتك» ، أي لا تشرعي في شيء من أعمالها، «وأحرمي بالحج فإنك تقضين كل ما يقضي الحاج» أي تفعلين كل ما يفعل الحاج وأنت حائض «إلا أنك لا تطوفين بالبيت، ففعلت ذلك؟
أي أدخلت الحج على العمرة، ووقفت المواقف» فوقفت بعرفة وهي حائض حتى إذا طهرت: أي وذلك يوم النحر، وقيل عشية عرفة طافت بالبيت وبالصفا والمروة «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد حللت من حجك وعمرتك جميعا» .
وذكر بعضهم أن في هذه الحجة كان جمل عائشة رضي الله عنها سريع المشي مع خفة حمل عائشة، وكان جمل صفية بطيء المشي مع ثقل حملها، فصار يتأخر الركب بسبب ذلك فأمر صلى الله عليه وسلم أن يجعل حمل صفية على جمل عائشة، وأن يجعل حمل عائشة على جمل صفية، فجاء صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها يستعطف خاطرها، فقال لها: يا أم عبد الله، حملك خفيف وجملك سريع المشي، وحمل صفية ثقيل وجملها بطيء، فأبطأ ذلك بالركب، فنقلنا حملك على جملها، وحملها على جملك ليسير الركب، فقالت له: إنك تزعم أنك رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: أفي شك أني رسول الله أنت يا أم عبد الله؟ قالت فما لك لا تعدل؟ قالت: فكان أبو بكر رضي الله عنه فيه حدة، فلطمني على وجهي، فلامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما سمعت ما قالت؟
فقال: دعها فإن المرأة الغيراء لا تعرف أعلى الوادي من أسفله.
قالوا: ولما نزلوا بمحل يقال له العرج فقد البعير الذي عليه زاملته صلى الله عليه وسلم وزامله أبي بكر، أي زادهما، وكان ذلك البعير مع غلام لأبي بكر. فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه للغلام: أين بعيرك؟ قال: ضللته البارحة. فقال أبو بكر وقد اعترته حدة:
بعير واحد تضله، وأخذ يضربه بالسوط ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع ويتبسم لا يزيد على ذلك، فلما بلغ بعض الصحابة أن زاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلت جاء بحيس ووضعه بين يديه صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه وهو يغتاط على الغلام: هون عليك يا أبا بكر، فإن الأمر ليس لك ولا إلينا.
وقد كان الغلام حريصا على أن لا يضل بعيره، وهذا غذاء طيب قد جاء الله به، وهو خلف عما كان معه، فأكل صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ومن كان يأكل معهما حتى شبعوا، فأقبل صفوان بن المعطل رضي الله تعالى عنه وكان على ساقة القوم، أي لأن هذا كان شأنه كما تقدم في قصة الإفك والبعير معه وعليه الزاملة حتى أناخه على باب منزله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: انظر هل تفقد شيئا من متاعك؟ فقال: ما فقدت شيئا إلا قعبا كنا نشرب فيه، فقال الغلام: هذا القعب معي. ولما بلغ سعد بن عبادة وابنه قيسا رضي الله تعالى عنهما زاملته صلى الله عليه وسلم قد ضلت جاآ بزاملة وقالا: أي كل واحد منهما: يا رسول الله بلغنا أن زاملتك ضلت الغداة، وهذه زاملة مكانها، فقال رسول(3/365)
الله صلى الله عليه وسلم قد جاء الله بزاملتنا. فارجعا بزاملتكما. بارك الله لكما اه ثم نزل صلى الله عليه وسلم بذي طوى فبات بها تلك الليلة وصلى بها الصبح أي بعد أن اغتسل بها. أي ثم سار صلى الله عليه وسلم ونزل بالمسلمين ظاهر مكة ودخل مكة نهارا: أي وقت الضحى من الثنية العليا التي هي ثنية كداء بفتح الكاف والمد. قال أبو عبيدة: لا ينصرف، وهي التي ينزل منها إلى المعلاة مقبرة مكة، وهي التي يقال لها الآن الحجون التي دخل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة كما تقدم، ودخل المسجد الحرام صبحا من باب عبد مناف، وهو باب بني شيبة المعروف الآن بباب السلام. وكان صلى الله عليه وسلم إذا أبصر البيت. قال: اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وبرا، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا.
وفي مسند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: اللهم زد هذا البيت» الخ.
وفي رواية: «كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل مكة فرأى البيت رفع يديه وكبر وقال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام. اللهم زد هذا البيت» الخ.
وعند دخوله صلى الله عليه وسلم المسجد طاف بالبيت: أي سبعا ماشيا، فعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: «دخلنا مكة عند ارتفاع الشمس، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم باب المسجد فأناخ راحلته، ثم دخل المسجد فبدأ بالحجر الأسود فاستلمه، وفاضت عيناه بالبكاء، ثم رمل ثلاثا ومشى أربعا، فلما فرغ صلى الله عليه وسلم قبل الحجر ووضع يديه عليه ومسح بهما وجهه» رواه البيهقي في السنن الكبرى بإسناد جيد.
وقيل طاف صلى الله عليه وسلم على راحلته الجدعاء، أي لأنه صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكي، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته، فلما أتى الركن استلمه بمحجن، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين» رواه أبو داود، ورد بأن هذا الحديث تفرد به يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف.
على أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يذكر أن ذلك كان في حجة الوداع ولا في الطواف الأول من طوافاتها الثلاثة التي هي: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع، فينبغي أن يكون ذلك في غير الطواف الأول، بأن يكون في طواف الإفاضة أو طواف الوداع، فلا ينافي ما تقدم عن جابر ولا ما في مسلم عنه أنه قال: «طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت ليراه الناس فيسألوه» وقوله: «ورمل في ثلاث» منها: أي يسرع المشي مع تقارب الخطأ، ومشى: أي على هينته في أربع يستلم الركن اليماني والحجر الأسود في كل طوفة، وابتداء الرمل كان في عمره القضاء لما قال المشركون: غدا يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ليرى المشركون جلدهم» ومن ثم(3/366)
قال بعضهم لبعض: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا كما تقدم، فلما كانت هذه الحجة فعلوا كذلك فصارت سنة.
قال: وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قبل الحجر الأسود وثبت أنه استلمه بيده ثم قبلها. وثبت أنه استلمه بمحجنه فقبل المحجن، ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم قبل الركن اليماني ولا قبل يده حين استلمه اه.
وعند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه يستحب أن يقبل ما استلمه به. روى إمامنا الشافعي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر فاستلمه، ثم وضع شفتيه عليه طويلا، وكان صلى الله عليه وسلم إذا استلم الحجر قال: بسم الله والله أكبر، وقال بينهما: أي بين الركن اليماني والحجر رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ [البقرة: الآية 201] ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم شيء من الأذكار في غير هذا المحل حول الكعبة، ولم يستلم الركنين المقابلين للحجر، أي لأنهما ليسا على قواعد سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وقال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه: «إنك رجل قويّ لا تزاحم على الحجر» أي الأسود تؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله وهلل وكبر» وأخذ منه بعض فقهائنا أن من شق عليه استلام الحجر الأسود يسن له أن يهلل ويكبر.
ثم بعد الطواف رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين عند مقام سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، جعل المقام بينه وبين الكعبة: أي استقبل جهة باب المحل الذي به المقام الآن، وهو المراد بخلف المقام، قرأ فيهما مع أم القرآن قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) [الكافرون: الآية 1] : وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) [الإخلاص: الآية 1] ودخل صلى الله عليه وسلم زمزم، فنزع له دلو فشرب منه، ثم مج فيه، ثم أفرغها في زمزم، ثم قال: لولا أن الناس يتخذونه نسكا لنزعت. أي وتقدم في فتح مكة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن تغلب بنو عبد المطلب لا نتزعت منها دلوا، وانتزع له العباس. ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا، وقرأ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة: الآية 158] ابدؤوا بما بدأ الله به، فسعى بين الصفا والمروة سبعا راكبا على بعيره» .
وعن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه، أن سعيه الذي طاف لقدومه كان على قدميه لا على بعير، أي فذكر البعير في هذا السعي غلط من بعض الرواة.
ثم رأيت بعضهم قال: بعض الروايات عن جابر وغيره يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان ماشيا بين الصفا والمروة. ولعل بين الصفا والمروة مدرجة، أو أنه صلى الله عليه وسلم سعى بين الصفا والمروة بعض المرات على قدميه، فلما ازدحم الناس عليه ركب في الباقي.
ويدل لذلك أنه قيل لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن قومك يزعمون السعي بين الصفا والمروة راكبا سنة، فقال: صدقوا وكذبوا، فقيل: كيف صدقوا وكذبوا؟(3/367)
فقال: صدقوا في أن أن السعي سنة، وكذبوا في أن الركوب سنة، فإن السنة المشي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى في السعي، فلما كثر عليه الناس يقولون هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثر عليه الناس ركب، وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم مشى بين الصفا والمروة، والأحاديث الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم ركب فيه وصار صلى الله عليه وسلم في السعي يخب ثلاثا ويمشي أربعا، ويرقى الصفا، ويستقبل الكعبة، ويوحد الله ويكبره ويقول: لا إله إلا الله والله أكبر، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، أي من غير قتال «ثم يفعل على المروة مثل ذلك» .
واعترض بأن كونه كان يخب ثلاثا ويمشي أربعا كان في الطوف بالبيت لا في السعي بين الصفا والمروة، وهذا السياق يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم سعى بعد طواف القدوم.
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم حج، فأول شيء بدأ به حين قدم مكة «أنه توضأ ثلاثا ثم طاف بالبيت ولم يذكر السعي» أي وفي مسلم في سبب نزول قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة: الآية 158] أن المهاجرين في الجاهلية كانوا يهلون بصنمين على شط البحر يقال لهما إساف ونائلة، ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة، ثم يحلقون، فلما جاءهم الإسلام كرهوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة، يرون أن ذلك من أمر الجاهلية، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة: الآية 158] .
وقيل إن سبب نزولها «أن الأنصار كانوا في الجاهلية يهلون لمناة، وكان من أحرم بمناة لا يطوف بين الصفا والمروة، وأنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك حين أسلموا، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة: الآية 158] الآية، ثم أمر صلى الله عليه وسلم من لا هدي معه بالإحلال، أي وإن لم يكن أحرم بالعمرة بأن لم يكن سمع أمره صلى الله عليه وسلم بأن من لا هدي معه يحرم بالعمرة، فأحرم بالحج قارنا أو مفردا، قال السهيلي رحمه الله: ولم يكن ساق الهدي معه من أصحابه رضي الله تعالى عنهم إلا طلحة بن عبد الله، وكذا علي كرم الله وجهه جاء من اليمن وقد ساق الهدي معه، ويأتي ما فيه. أي وأمره صلى الله عليه وسلم من ذكر بالإحلال كان بعد الحلق والتقصير، لأنه أتى بعمل العمرة فحل له كل ما حرم على المحرم من وطء النساء والطيب والمخيط، وأن يبقى كذلك إلى يوم التروية الذي هو اليوم الثامن من ذي الحجة فيهل: أي يحرم بالحج.
وقيل له يوم التروية لأنهم كانوا يتروون فيه الماء ويحملونه معهم في ذهابهم من مكة إلى عرفات لعدم وجدان الماء بها ذلك الزمن. وأمر صلى الله عليه وسلم من معه الهدي أن يبقى على إحرامه أي بالحج قارنا أو مفردا، حتى قال بعضهم: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي. قال: ويروى أن قائل ذلك هو صلى الله عليه وسلم، فعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم لما تم سعيه قال: «لو أني استقبلت من أمري ما(3/368)
استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة» قال ذلك جوابا لقول بلغه عن جمع من الصحابة، ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر. وفي لفظ: وفرجه يقطر منيا، أي قد جامع النساء. أي وفيه أنهم لا ينطلقون إلى منى إلا بعد الإحرام بالحج، لأنهم يحرمون من مكة إلا أن يقال مرادهم أنا كيف نجامع النساء بعد إحرامنا بالحج وكيف نجعلها عمرة بعد الإحرام بالحج كما سيأتي في بعض الروايات.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان، فقلت: من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار، فقال: أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون؟» .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لو استقبلت الخ» تأسف على فوات أمر من أمور الدين ومصالح الشرع، كذا قال الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه، لأنه يرى أن التمتع أفضل. وردّ بأنه لم يتأسف على التمتع لكونه أفضل، وإنما تأسف عليه لكونه أشق على أصحابه في بقائه محرما على إحرامه وأمره لهم بالإحلال. وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:
«لو تفتح عمل الشيطان» محمول على التأسف على فوات حظ من حظوظ الدنيا فلا تخالف.
ويروى «أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغه تلك المقالة قام خطيبا فحمد الله تعالى، فقال: أما بعد، فتعلمون أيها الناس لأنا والله أعلمكم بالله وأتقاكم له، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت هديا ولا حللت» وفي رواية: «قالوا: كيف نجعلها عمرة وقد سمينا الحج؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اقبلوا ما أمرتكم به، واجعلوا إهلالكم بالحج عمرة، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به، ففعلوا وأهلوا، ففسحوا الحج إلى العمرة» وكان من جملة من ساق الهدي أبو بكر وعمر وطلحة والزبير وعلى رضي الله تعالى عنهم، فإن عليا كرم الله وجهه قدم إلى مكة من اليمن ومعه هدي. وعن جابر رضي الله تعالى عنه: «لم يكن أحد معه هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة» وفي رواية: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي كرم الله وجهه: انطلق وطف بالبيت وحل كما أحل أصحابك، فقال: يا رسول الله أهللت كما أهللت، فقال له: ارجع فأحل كما أحل أصحابك، قال: يا رسول الله إني قلت حين أحرمت: اللهم إن أهل بما أهل به نبيك وعبدك ورسولك محمد، فقال: هل معك من هدي؟ قال لا، فأشركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه وثبت على إحرامه، وهذا صريح في أن إحرامه صلى الله عليه وسلم كان بالحج.
ويمكن الجمع بين رواية أن عليا قدم من اليمن ومعه هدي، وبين رواية أنه لم يكن معه هدي بأن الهدي تأخر مجيئه بعده، لأنه تعجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف على الجيش رجلا من أصحابه.
ويؤيد ذلك قول بعضهم: كان الهدي الذي قدم به علي كرم الله وجهه من(3/369)
اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة، أي وإلا فالذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وستين بدنة، والذي قدم به من اليمن لعلي كان سبعة وثلاثين بدنة، ولا يخالف ذلك إشراكه له في الهدي لأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لاحتمال تلف ذلك الهدي وعدم مجيئه، والذي في البخاري لما قدم علي كرم الله وجهه من اليمن قال له النبي صلى الله عليه وسلم:
بم أهللت يا علي؟ قال: بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فأهدوا مكث حراما كما أنت، أي فإنه تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان أرسل خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى اليمن لهمدان يدعوهم إلى الإسلام. قال البراء رضي الله تعالى عنه: فكنت ممن خرج مع خالد، فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فأمره أن يقفل خالد بن الوليد ويكون مكانه، وقال:
مر أصحاب خالد، من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب، ومن شاء فليقفل، فكنت ممن أعقب مع علي كرم الله وجهه، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا، وصلى بنا علي كرم الله وجهه، ثم صفنا صفا واحدا، ثم تقدم بين أيدينا، وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، فأسلمت همدان جميعا، فكتب علي رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجدا، ثم رفع رأسه فقال: السلام على همدان السلام على همدان.
وكان من جملة من لم يسق الهدي أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه:
«فإنه لما قدم من اليمن قال له: بم أهللت؟ قال: أهللت كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال له:
هل معك من هدي؟ قال: قلت لا، فأمرني فطفت بالبيت والصفا والمروة» ورواية الشيخين عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه: «أنه صلى الله عليه وسلم قال: لم بم أهللت؟ فقلت:
لبيت بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال: فقد أحسنت، طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحل» أي بعد الحلق أو التقصير.
وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان مهلا بالحج فقط أو مع العمرة، إلا أن يقال جوز لأبي موسى الفسخ من الحج إلى العمرة كما فعل ذلك مع غيره من الصحابة الذين أحرموا بالحج ولا هدي معهم. ومن جملة من لم يسق الهدي أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن فأحللن، أي لأنهن أحرمن إحراما مطلقا ثم صرفنه للعمرة، أو أحرمن متمتعات أي بالعمرة، إلا عائشة رضي الله تعالى عنها فإنها لم تحل أي لأنها أدخلت الحج على العمرة كما تقدم.
وممن أحلت سيدتنا فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، أي لأنها لم يكن معها هدي وأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما، وشكا عليّ كرم الله وجهه فاطمة رضي الله تعالى عنها للنبي صلى الله عليه وسلم إذ أحلت، أي فإنه وجدها لبست صبيغا واكتحلت، فأنكر عليها، فقالت رضي الله تعالى عنها: أمرني أبي بذلك،(3/370)
فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم محرشا له عليها رضي الله تعالى عنها، فصدقها عليه الصلاة والسلام في أنه أمرها بذلك، أي فإنه صلى الله عليه وسلم قال له: صدقت صدقت صدقت، أنا أمرتها بذلك يا علي.
وسأله سراقة بن مالك رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله متعتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد: فشبك صلى الله عليه وسلم أصابعه فقال: بل الأبد «دخلت العمرة في الحج هكذا إلى يوم القيامة» أي وفي رواية: «فشبك بين أصابعه واحدة في أخرى وقال: دخلت العمرة في الحج هكذا مرتين بل لأبد الأبد» بالإضافة أي إلى آخر الدهر، وهذا الجواب بقوله دخلت العمرة في الحج يدل على أن المراد السائل بالتمتع القران لا حقيقته الذي هو الإحرام بالحج بعد الفراغ من عمل العمرة، لكن قول بعضهم: لما كان آخر سعيه صلى الله عليه وسلم على المروة قال: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة، فقام سراقة فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد» الحديث، يدل على أن مراده بالتمتع حقيقته، لكن لا يحسن الجواب بقوله دخلت العمرة في الحج، إلا أن يقال المراد حصلت العمرة مع الإحرام بالحج لقلب الإحرام بالحج إلى العمرة لأن هذا كله يدل على أنه أمر من أحرم بالحج ممن لا هدي معه أن يقلب إحرامه عمرة.
وأجاب عنه أئمتنا بأن ذلك: أي فسخ الحج إلى العمرة كان من خصائص الصحابة في تلك السنة ليخالفوا ما كان عليه الجاهلية: من تحريم العمرة في أشهر الحج ويقولون إن من أفجر الفجور، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وإمامنا الشافعي وجماهير العلماء من السلف والخلف رضي الله عنهم.
وفي مسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه: «لم يكن فسخ الحج إلى العمرة إلا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم» وخالف الإمام أحمد رضي الله عنه وطائفة من أهل الظاهر فقالوا: بل هذا ليس خاصا بالصحابة في تلك السنة، أي بل باق لكل أحد يوم القيامة فيجوز لكل من أحرم بالحج وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة ويتحلل بأعمالها.
وبعضهم قال: إن قول سراقة رضي الله تعالى عنه معناه أن جواز العمرة في أشهر الحج خاصة بهذه السنة أو جائزة إلى يوم القيامة، وفيه أنه لا يحسن الجواب عنه بما تقدم من قوله: «دخلت العمرة في الحج» .
ثم نهض صلى الله عليه وسلم ونهض معه الناس يوم التروية الذي هو اليوم الثامن إلى منى وأحرم بالحج كل من كان أحل، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بمنى، والعصر والمغرب والعشاء، وبات بها تلك الليلة أي وكانت ليلة الجمعة وصلى بها الصبح ثم نهض بعد طلوع الشمس إلى عرفة. وأمر صلى الله عليه وسلم أن تضرب له قبة من شعر بنمرة، فأتى(3/371)
عليه الصلاة والسلام عرفة ونزل في تلك القبة حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء بفتح القاف والمد، وقيل بضم القاف والقصر، وهو خطأ كما تقدم.
وفي كلام الأصل أن القصواء والعضباء والجدعاء اسم لناقة واحدة وفيه ما لا يخفى. فرحلت ثم أتى بطن الوادي فخطب على راحلته خطبة ذكر فيها تحريم الدماء والأموال والأعراض، ووضع ربا الجاهلية، وأول ربا وضعه ربا عمه العباس رضي الله تعالى عنه. ووضع الدماء في الجاهلية، وأوّل دم وضعه دم ابن عمه ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب قتلته هذيل فقال: هو أوّل دم أبدأ به من دماء الجاهلية، موضوع فلا يطالب به في الإسلام وأوصى صلى الله عليه وسلم بالنساء خيرا، وأباح ضربهنّ غير المبرح إن أتين بما لا يحل. وقضى لهن بالرزق والكسوة بالمعروف على أزواجهن. وأمر صلى الله عليه وسلم بالاعتصام بكتاب الله عز وجل، أي وسنة رسول صلى الله عليه وسلم، وأخبر إنه لا يضل من اعتصم به، وأشهد الله عز وجل على الناس أنه قد بلغهم ما يلزمهم، فاعترف الناس بذلك. وأمر أن يبلغ ذلك الشاهد والغائب.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع وربا الجاهلية موضوع، وأوّل ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب. فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنكم لتسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأدّيت ونصحت، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس، اللهم فاشهد ثلاث مرات» .
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم أمر مناديا صار ينادي بكل ما قاله من ذلك: أي وهو ربيعة بن أمية بن خلف أخو صفوان بن أمية وكان صّيتا. وصار صلى الله عليه وسلم يقول له: يا ربيعة قل: يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا كما تقدم، فيصرخ به وهو واقف تحت صدر ناقته صلى الله عليه وسلم.
وربيعة هذا ارتد في زمن عمر رضي الله تعالى عنه، فإنه شرب الخمر، فهرب منه إلى الشام، ثم هرب إلى قيصر فتنصر ومات عنده.
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، أنه طاف ليلة هو وعمر رضي الله تعالى عنهما للحرس بالمدينة فرأوا نورا في بيت، فانطلقوا يؤمونه، فإذا باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط، فقال عمر رضي الله تعالى عنه لعبد الرحمن: تدري بيت من هذا؟ قال: لا، قال: هذا بيت ربيعة بن أمية، وهم الآن شرب، فما ترى؟ قال: أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات: الآية 12] فانصرف عمر. ثم إن عمر رضي الله تعالى عنه غرب ربيعة إلى خيبر فكان ما تقدم.(3/372)
وقد رأى ربيعة قبل ذلك في المنام كأنه في أرض معشبة مخصبة وخرج منها إلى أرض مجدبة كالحة. ورأى أبا بكر رضي الله تعالى عنه في جامعة من حديد عند سرير إلى الحشر، فقص ذلك على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال إن صدقت رؤياك تخرج من الإيمان إلى الكفر، وأما أنا فإن ذلك ديني جمع لي في أشد الناس إلى يوم الحشر.
وبعثت إليه صلى الله عليه وسلم أم الفضل زوجة العباس أم عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم لبنا في قدح شربه أمام الناس، فعلموا أنه صلى الله عليه وسلم: لم يكن صائما ذلك اليوم الذي هو التاسع، أي لأنهم تماروا عندها في صيامه صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم الذي هو يوم عرفة.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة» أي وبهذا استدل أئمتنا أنه لا يستحب للحاج صوم يوم عرفة الذي هو التاسع من ذي الحجة.
فلما تم صلى الله عليه وسلم خطبته أمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا فصلاهما مجموعتين في وقت الظهر بأذان واحد وإقامتين: أي لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقم بمكة إقامة تقطع السفر لأنه دخلها في اليوم الرابع وخرج يوم الثامن، فقد صلى بها إحدى وعشرين صلاة من أول ظهر يوم الرابع إلى عصر الثامن يقصر تلك الصلوات، فالجمع للسفر كما يقول إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه كالجمهور لا للنسك كما يقول غيرهم.
أقول: وفيه أن فقهاءنا ذكروا أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل الجمعة في حجة الوداع مع عزمه على الإقامة أياما: أي تقطع السفر لعدم استيطانه.
ويردّ بأنه من أين أنه صلى الله عليه وسلم عزم على الإقامة بمكة المدة التي تقطع السفر هذه دعوى تحتاج إلى دليل. وأيضا عزمه على ذلك إنما هو بعد عوده إلى مكة بعد فراغه من الوقوف والرمي، ولا ينقطع سفره إلا بوصوله إلى مكة.
والأولى استدلال فقهائنا على وجوب الاستيطان في إقامة الجمعة بعد أمره صلى الله عليه وسلم لأهل مكة بإقامة الجمعة مع أنهم غير مسافرين لعدم استيطانهم للمحل. فما ذهب إليه إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه من أن الجمع للسفر لا للنسك في محله.
وقد رأيت أن مالكا رضي الله تعالى عنه سأل أبا يوسف وقد كان حج مع هارون الرشيد وذلك بحضرة الرشيد، فقال له: ما تقول في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات يوم الجمعة، أصلى جمعة أم صلى ظهرا مقصورة؟ فقال أبو يوسف: صلى جمعة، لأنه خطب لها قبل الصلاة، فقال مالك: أخطأت، لأنه لو وقف يوم السبت لخطب قبل الصلاة، فقال أبو يوسف: ما الذي صلى؟ فقال مالك: صلى الظهر مقصورة، لأنه أسرّ بالقراءة فصوبه هارون في احتجاجه على أبي يوسف، والله أعلم.(3/373)
ثم ركب صلى الله عليه وسلم راحلته إلى أن أتى الموقف، فاستقبل القبلة، ولم يزل واقفا للدعاء من الزوال إلى الغروب. وفي الحديث: «أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي، أي في يوم عرفة» كما في بعض الروايات: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» .
وجاء أن من جملة دعائه في ذلك اليوم: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن وسوسة الشيطان، ومن وسوسة الصدر، ومن شتات الأمر، ومن شر كل ذي شر» .
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «كان فيما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني وتعلم سري وعلانيتي، ولا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وابتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضريع، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته، وذل لك جسده، ورغم لك أنفه. اللهم لا تجعلني بدعائك ربي شقيا، وكن بي رؤوفا رحيما، يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين» واستمر كذلك صلى الله عليه وسلم حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة.
أي وخطب صلى الله عليه وسلم على ناقته في ذلك اليوم. فعن شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة رضي الله تعالى عنهم قال: «بعثني عتاب بن أسيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة فبلغته ثم وقفت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لعابها ليقع على رأسي، فسمعته يقول: أيها الناس إن الله قد أدى إلى كل ذي حق حقه. وإنه لا تجوز وصية لوارث والولد للفراش، وللعاهر الحجر. ومن ادعى إلى غير أبيه أو مولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله له صرفا ولا عدلا، وجاءه صلى الله عليه وسلم جماعة من نجد فسألوه كيف الحج؟ فأمر مناديا ينادي:
الحج عرفة. من جاء ليلة جمع، أي المزدلفة قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج» وجمع بفتح الجيم وسكون الميم أيام منى ثلاثة فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: الآية 203] ، أي وقال صلى الله عليه وسلم «وقفت ههنا وعرفة كلها موقف» زاد مالك في الموطأ «وارفعوا عن بطن عرنة» .
وفي كلام بعضهم نزلت: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:
الآية 3] يوم الجمعة بعد العصر والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء، فكاد عضد الناقة يندق من ثقل الوحي.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: اتفق في ذلك اليوم أربعة أعياد: عيد للمسلمين وهو يوم الجمعة. وعيد لليهود. وعيد للنصارى. وعيد للمجوس، ولم(3/374)
تجتمع أعياد لأهل الملل في يوم قبله ولا بعده.
ولما نزلت بكى عمر رضي الله تعالى عنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا عمر؟ فقال رضي الله تعالى عنه: أبكاني أنا كنا في زيادة، أما إذا كمل فإنه لا يكمل شيء إلا نقص، فقال: صدقت» . فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يعش بعدها إلا ثلاثة أشهر وثلاثة أيام، ولم ينزل بعدها شيء من الأحكام.
ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه خلفه ودفع إلى مزدلفة وقد ضم زمام راحلته القصواء التي خطب عليها في نمرة حتى أن رأسها ليصيب طرف رجليه، يسير العنق، حتى إذا وجد فسحة سار النص وهو فوق العنق، وهو يأمر الناس بالسكينة في السير، فلما كان في الطريق عند الشعب الأبتر نزل فيه فبال وتوضأ وضوآ خفيفا، ثم ركب حتى أتى المزدلفة التي هي جمع، أي وتقدم أن وقوفه صلى الله عليه وسلم بعرفات وإفاضته إلى مزدلفة قبل أن يبعث كان مخالفا في ذلك لقوله:
«وصلى المغرب والعشاء مجموعتين في وقت العشاء» أي مقصورتين بأذان واحد وإقامتين، ثم اضطجع وأذن للنساء والضعفة: أي الصبيان أن يرموا ليلا، أي أن يذهبوا من مزدلفة إلى منى بعد نصف الليل بساعة ليرموا جمرة العقبة قبل الزحمة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيهم أن لا يرموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس» فليتأمل ذلك. فعن عائشة رضي الله عنها «أن سودة رضي الله عنها: أفاضت في النصف الأخير من مزدلفة بإذن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمرها بالدم ولا النفر الذين كانوا معها» وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم في ضعفه أهله وروى ذلك الشيخان. ولم يأذن صلى الله عليه وسلم للرجال في ذلك إلا لضعفائهم ولا لغير ضعفائهم، أي فالمراد بالضعفة الصبيان كما تقدم، وبهذا استدل أئمتنا على أنه يستحب تقديم النساء والضعفة بعد نصف الليل إلى منى أي وأن يبقى غيرهم حتى يصلوا الصبح مغسلين.
وفي البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنه: «أنها قالت: فلأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنت سودة أحب إليّ من مفروح به، أي لأرمي الجمرة قبل أن يأتي الناس» وفي لفظ: «قبل حطمة الناس» لأن سودة رضي الله عنها كانت امرأة ضخمة ثقيلة، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفيض من مزدلفة مع النساء والضعفة.
وفي مسلم: «مضت أم حبيبة من جمع بليل» أي في نصف الليل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال «أرسلني صلى الله عليه وسلم مع ضعفة أهله، فصلينا الصبح بمنى ورمينا الجمرة، فلما كان وقت الفجر قام صلى الله عليه وسلم وصلى بالناس أي بالمزدلفة الصبح مغلسا ثم أتى المشعر الحرام فوقف به: أي وهو راكب ناقته، واستقبل القبلة، ودعا الله، وكبر، وهلل ووحد، ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا» وجاء: «أنه صلى الله عليه وسلم دعا بالمغفرة(3/375)
لأمته يوم عرفة، فأجيب بأنه يغفر لها ما عدا المظالم، ثم دعا بذلك أي بالمغفرة لأمته بمزدلفة، فأجيب إلى ذلك: أي إلى غفران المظالم، فجعل إبليس لعنه الله يحثو التراب على رأسه، فضحك صلى الله عليه وسلم من فعله» وجاء ما بين أن المراد بالأمة من وقف بعرفة.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم دفع: أي من المشعر الحرام قبل أن تطلع الشمس: أي قال جابر رضي الله تعالى عنه: وكان المشركون لا ينفرون حتى تطلع الشمس، وأردف خلفه الفضل بن العباس، وجاءته امرأة تسأله، فقالت له: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟
قال: نعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر. وفي لفظ آخر: «فوضع صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل فحوّل الفضل وجهه إلى الشق الآخر» وفي لفظ آخر: «أنه صلى الله عليه وسلم لوى عنق الفضل، فقال له أبوه العباس رضي الله عنهما: يا رسول الله لويت عنق ابن عمك؟ قال: رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما الشيطان، فلما وصل صلى الله عليه وسلم إلى محسر حرّك ناقته قليلا وسلك الطريق التي تسلك على جمرة العقبة، فرمى بها أسفلها سبع حصيات، التقطها له عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من موقفه الذي رمى فيه مثل حصى الخذف» بفتح الخاء المعجمة وإسكان الذال المعجمة، وهذا لا يخالف ما عليه أئمتنا من أن الأولى أن يلتقط حصى الرمى من مزدلفة.
ويكره أخذه من المرمى لجواز أن يكون التقط له ذلك من مزدلفة ثم سقط منه عند جمرة العقبة، فأمر ابن عباس بالتقاطه.
لكن الذي في مسلم: «أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل محسرا: أي الوادي المعروف، وهو أول منى قال: عليكم بحصى الخذف الذي ترمى به الجمرة، وهو يدل على أن أخذ الحصى من ذلك أولى، إلا أن يقال يجوز أن يكون قال ذلك لجماعة تركوا أخذ ذلك من مزدلفة، وأمر صلى الله عليه وسلم بمثلها ونهى عن أكبر منها، وقطع صلى الله عليه وسلم التلبية عند الرمي، وصار يكبر عند رمي كل حصاة وهو راكب ناقته» . وفي رواية «على بغلة» . قال بعضهم: وهو غريب جدا: «وبلال وأسامة أحدهما آخذ بخطامها والآخر يظله بثوبه، لا ضرب، ولا طرد، ولا إليك إليك» .
وفي رواية: «فرأيت بلالا رضي الله عنه يقود براحلته، وأسامة بن زيد رضي الله عنه رافعا عليه ثوبه من الحر حتى رمى جمرة العقبة» وخطب صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء، وقيل على بعير بمنى خطبة قرر فيها تحريم الزنا والأموال والأعراض، وذكر حرمة يوم النحر، وحرمة مكة على جميع البلاد، فقال: «يا أيها الناس أيّ يوم هذا؟ قالوا:
يوم حرام، قال: فأي بلد هذا، قالوا: بلد حرام، قال: فأي شهر هذا؟ قالوا شهر(3/376)
حرام، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، في شهركم هذا» أعادها مرارا «ثم رفع صلى الله عليه وسلم رأسه وقال: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، فليبلغ الشاهد منكم الغائب، لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» وأمرهم صلى الله عليه وسلم بأخذ مناسكهم عنه لعله لا يحج بعد عامه ذلك، وكان وقوفه صلى الله عليه وسلم بين الجمرات والناس بين قائم وقاعد.
وجاء: «أنه صلى الله عليه وسلم خطب في اليوم الأول واليوم الثاني من أيام التشريق وهو أوسطها، ويقال له يوم النفر الأول لجواز النفر فيه كما يقال لليوم الثالث في أيام التشريق يوم النفر الآخر.
ثم انصرف صلى الله عليه وسلم إلى المنحر بمنى فنحر ثلاثا وستين بدنة، أي وهي التي قدم بها من المدينة وذلك بيده الشريفة لكل سنة بدنة. قال بعضهم. وفي ذلك إشارة إلى منتهى عمره صلى الله عليه وسلم، لأن عمره صلى الله عليه وسلم كان في ذلك اليوم ثلاثا وستين سنة، فنحر صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة لكل سنة بدنة، وطبخ له اللحم من لحمها، وأكل منه: أي أخذ من كل بدنة بضعة، فجعل ذلك في قدر وطبخ، فأكل من ذلك اللحم وشرب من مرقته، ثم أمر صلى الله عليه وسلم عليا كرّم الله وجهه فنحر ما بقي وهو تمام المائة، أي ولعله الذي أتى به عليّ كرم الله وجهه من اليمن هذا.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه حجة الوداع مائة بدنة نحر منها ثلاثين بدنة، ثم أمر صلى الله عليه وسلم عليا فنحر ما بقي منها وقال له اقسم لحومها وجلودها وجلالها بين الناس، ولا تعط جزارا منها شيئا، وخذ لنا من كل بعير جذية من لحم واجعلها في قدر واحدة حتى نأكل من لحمها ونحثو من مرقها ففعل، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن منى كلها منحر، وأن فجاج مكة كلها منحر. ثم حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه الشريف: أي حلقه معمر بن عبد الله وقال له: هنا وأشار بيده إلى الجانب الأيمن، فبدأ بشقه الأيمن فحلقه ثم بشقه الأيسر، وقسم شعره فأعطى نصفه لأبي طلحة الأنصاري» : أي شعر نصف رأسه الأيسر «بعد أن قال: ههنا أبو طلحة» وقيل أعطاه لأم سليم زوج أبي طلحة رضي الله عنهما، وقيل لأبي كريب:
«وأعطى من نصفه الثاني» أي الذي هو الأيمن: «الشعرة والشعرتين للناس» .
وفي رواية: «ناول صلى الله عليه وسلم الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري قأعطاه إياه، ثم ناول الحلاق الشق الأيسر فحلقه وأعطاه أبا طلحة، وقال: اقسمه بين الناس» .
قال في النور: والحاصل أن الروايات اختلفت في مسلم. ففي بعضها أنه أعطاه الأيسر، وفي بعضها أنه أعطاه الأيمن. ورجح ابن القيم أن الذي اختص به أبو طلحة هو الشق الأيسر.(3/377)
أقول: الذي في مسلم قال للحلاق: «ها وأشار بيده إلى جانبه الأيمن، فقسم شعره بين من يليه» وفي رواية: «فوزعه الشعرة والشعرتين، ثم أشار إلى الحلاق وإلى جانبه الأيسر فحلقه فأعطاه لأم سليم» وفي رواية «هال ههنا أبو طلحة» وفي لفظ: «أين أبا طلحة فدفعه إلى أبي طلحة» .
وفي رواية: «ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر فحلقه وأعطاه أبا طلحة، فقال اقسم بين الناس» والجمع ممكن بين هذه الروايات، والله أعلم.
وعن بعضهم قال: شقت قلنسوة خالد بن الوليد رضي الله عنه يوم اليرموك وهو في الحرب فسقطت فطلبها طلبا حثيثا فعوقب في ذلك، فقال: إن فيها شيئا من شعر ناصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنها ما كانت معي في موقف إلا نصرت بها.
وعن أنس رضي الله عنه، قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه وقد طاف به أصحابه ما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل» .
ثم تطيب صلى الله عليه وسلم، طيبته عائشة رضي الله عنها بطيب فيه مسك قبل أن يطوف طواف الإفاضة، ويقال له طواف الركن، ويقال له طواف الصدر، والأشهر أن طواف الصدر طواف الوداع. وحلق بعض أصحابه وقصر بعض آخر. وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم «اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين، فأعاد صلى الله عليه وسلم: وأعادوا ثلاثا، وقال في الرابعة والمقصرين» .
والصحيح المشهور أنه قال ذلك في هذه الحجة التي هي حجة الوداع كما قال ذلك في الحديبية كما تقدم، وقيل لم يقله إلا في الحديبية، وبه جزم إمام الحرمين في النهاية. وقال النووي: ولا يبعد أن يكون وقع ذلك منه صلى الله عليه وسلم في الموضعين. قال في فتح الباري: بل هو المتعين لتظافر الروايات بذلك في الموضعين، أي فإن في مسلم في حجة الوداع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله وللمقصرين، قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله وللمقصرين. قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله وللمقصرين، قال. وللمقصرين، ثم نهض صلى الله عليه وسلم راكبا إلى مكة فطاف في يومه ذلك طواف الإفاضة قبل الظهر وشرب من نبيذ السقاية» .
فعن ابن عباس رضي الله عنهما: «مر النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة رضي الله عنه فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ» : أي من سقاية العباس رضي الله عنه، فإنهم كانوا يضعون في السقاية التمر والزبيب كما تقدم، فشرب صلى الله عليه وسلم وسقى فضله لأسامة رضي الله تعالى عنه، وقال: أحسنتم وأجملتم، كذا فاصنعوا. ثم شرب صلى الله عليه وسلم من ماء(3/378)
زمزم بالدلو، قيل وهو قائم، وقيل وهو على بعير، والذي نزع له الدلو عمه العباس بن عبد المطلب» أي وفعل ذلك عند فتح مكة أيضا كما تقدم، وقيل لما شرب صلى الله عليه وسلم صب منه على رأسه الشريف. وعن ابن جريج: «أنه صلى الله عليه وسلم نزع الدلو لنفسه» .
وقيل إن هذا يخالف ما تقدم من قوله: «لولا أن الناس يتخذونه نسكا لنزعت» ومن قوله يوم فتح مكة: «لولا أن تغلب بنو عبد المطلب لنزعت منها، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى منى فصلى بها الظهر» كما اتفق عليه الشيخان، وقيل صلاة بمكة وبه انفرد مسلم ورحج بأمور.
وجمع بينهما بأنه يجوز أن يكون صلى الظهر بمكة أول الوقت ثم رجع إلى منى فصلاها مرة أخرى بأصحابه، أي الذين تخلفوا عنه بمنى، فإنه صلى الله عليه وسلم وجدهم ينتظرونه، فهي له صلى الله عليه وسلم معادة. قال بعضهم: وهذا مشكل على من لم يجوّز الإعادة.
وعورض هذا بأنه صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم رمى جمرة العقبة ونحر ثلاثا وستين بدنة، ونحر علي كرّم الله وجهه بقية المائة، وأخذ من كل بدنة بضعة، ووضعت في قدر وطبخت حتى نضجت، فأكل من ذلك اللحم وشرب من مرقه، وحلق رأسه، ولبس وتطيب وخطب فكيف يمكن أن يكون صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة أول الوقت، ويعود إلى منى في وقت الظهر.
على أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى» رواه أبو داود.
وأجيب بأن النهار كان طويلا فلا يضر صدور أفعال منه صلى الله عليه وسلم كثيرة في صدر ذلك اليوم.
على أن ابن كثير رحمه الله، قال: لست أدري أن خطبته صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم أكانت قبل ذهابه أو بعد رجوعه إلى منى؟.
وأما رواية عائشة رضي الله تعالى عنها المقتضية لكونه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى قبل أن يذهب إلى البيت. فأجاب بعضهم عنها بأنها ليست نصا في ذلك بل تحتمل فليتأمل.
فإن قيل: روى البخاري وأهل السنن الأربعة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرّ الزيارة الى الليل» وفي لفظ: «زار ليلا» قلنا المراد بالزيارة زيارة مجيئه، لا طواف الزيارة الذي هو طواف الإفاضة.
فقد روى البيهقي: «أنه صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة من ليالي منى» وهو قول عروة بن الزبير إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر الطواف يوم النحر إلى الليل، فقد أخذه من(3/379)
قول عائشة المتقدم، وقد علمت ما فيه.
وقد قال بعضهم: الصحيح. من الروايات وعليه الجمهور أنه صلى الله عليه وسلم طاف يوم النحر بالنهار. والأشبه أنه كان قبل الزوال هذا كلامه.
وطافت أم سلمة رضي الله عنها في ذلك اليوم على بعيرها من وراء الناس.
قالت: «وطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جانب البيت وهو يقرأ ب وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) [الطور: 1- 2] » .
أي وعورض ذلك «بأنه صلى الله عليه وسلم أرسل أم سلمة رضي الله عنها ليلة النحر فرمت جمرة العقبة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت» فكيف يلتئم هذا مع طوافه قبل الظهر؟
لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن ذلك الوقت بمكة.
ويجاب بأنه يجوز أن تكون أم سلمة أخرت طوافها لذلك الوقت وإن كانت قدمت مكة قبل الفجر.
وعورض بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ في ركعتي الطواف بالطور ولا جهر بالقراءة في النهار بحيث تسمعه أم سلمة من وراء الناس، هذا من المحال.
ويجاب بأن كونه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ في ركعتي الطواف بالطور شهادة نفي على من يثبت. وأم سلمة رضي الله عنها لم تدّع أنها سمعت قراءته صلى الله عليه وسلم. ثم رأيت ابن كثير رحمه الله قال: والظاهر أنه عليه الصلاة والسلام صلى الصبح يومئذ، أي عند قدومه مكة لطواف الوداع عند الكعبة وأصحابه، وقرأ في صلاته وَالطُّورِ (1) بكمالها.
قال: ويؤيد ذلك ما روي عن أم سلمة قالت: «شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي، قال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة، ومضت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حينئذ إلى جنب البيت وهو يقرأ وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) [الطور: 1- 2] » .
أي وحينئذ يكون ما تقدم من قول الراوي: «وطافت أم سلمة في ذلك اليوم الذي هو يوم النحر» وقوله في الرواية الأخرى: «أرسل أم سلمة ليلة النحر فرمت جمرة العقبة قبل النحر ثم مضت فأفاضت» أي طافت طواف الافاضة. وما جاء عن أم سلمة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافي معه صلاة الصبح يوم النحر بمكة» قال بعضهم: ذكر يوم النحر غلط من الراوي أو من الناسخ، وإنما هو يوم النفر. ويقال بمثل ذلك فيما قبله فليتأمل، فإنه سيأتي في بعض الروايات أنه طاف طواف الوداع سحرا قبل صلاة الصبح.
إلا أن يقال إنه صلى الله عليه وسلم مكث بعد الطواف لصلاة الصبح حتى صلاها وفيه أن بعضهم ذكر أنه صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت، أي طواف الوداع بعد صلاة الصبح، والله أعلم، وطافت في ذلك اليوم الذي هو يوم النحر عائشة رضي الله عنها بعد أن طهرت من(3/380)
حيضها وكانت حائضا يوم عرفة، أي كما تقدم. وطافت أيضا صفية رضي الله عنها في ذلك اليوم.
وسئل صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم عما تقدم بعضه على بعض من الرمي والحلق والنحر والطواف، فقال: لا حرج: أي لا إثم.
ففي مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: «وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى على راحلته للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر أن التحلل قبل النحر فحلقت قبل أن أنحر، فقال: اذبح ولا حرج، ثم جاءه رجل آخر فقال: يا رسول الله لم أشعر أن الرمي قبل النحر فنحرت قبل أن أرمي، فقال: ارم ولا حرج وجاءه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي، فقال:
ارم ولا حرج، قال: فما سئل عن شيء قدم ولا آخر إلا قال افعل ولا حرج» ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أيضا في تقديم السعي بين الصفا والمروة قبل الطواف بالبيت «أي فمن شاء قدم السعي عقب طواف القدوم، ومن شاء أخره عن طواف الإفاضة» وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم أتي بالسعي عقب طواف القدوم.
وأقام صلى الله عليه وسلم بمنى ثلاثة أيام يرمي الجمار: أي ماشيا في ذهابه وإيابه وأمر صلى الله عليه وسلم شخصا أن ينادي في الناس بمنى إنها أيام أكل وشرب وباءة. ورمى لكل جمرة من الجمرات الثلاث بعد الزوال، أي قبل الصلاة للظهر سبع حصيات، يبدأ بالتي تلي مسجد منى: أي الخيف ويقف عندها للدعاء، ثم التي تليها وهي الوسطى ثم يقف للدعاء ثم جمرة العقبة، ولم يقف عندها للدعاء: أي وكان أزواجه صلى الله عليه وسلم يرمين بالليل.
وخطبهم أي الناس في اليوم الأول من أيام منى كما تقدم» ويقال لذلك اليوم يوم القر لأنهم يقرون فيه في منى وهو يوم الرؤوس لأكلهم الرؤوس في ذلك اليوم، وفي اليوم الثاني من أيام منى وهو يوم النفر الأول، أي ويقال له يوم الأكارع: أي لأكلهم الأكارع في ذلك اليوم.
وأوصى بذي الأرحام خيرا. فقد خطب صلى الله عليه وسلم في الحج خمس خطب: الأولى يوم السابع من ذي الحجة بمكة. والثانية يوم عرفة. والثالثة يوم النحر بمنى. والرابعة يوم القر بمنى. والخامسة يوم النفر الأول بمنى أيضا.
ثم نهض صلى الله عليه وسلم من منى في اليوم الثالث الذي هو يوم النفر الآخر ونفر معه المسلمون بعد الزوال أي وبعد الرمي.
واستأذنه عمه العباس رضي الله عنه في عدم المبيت بمنى في الليالي الثلاث من أجل السقاية فرخص له في ذلك.
وضربت له صلى الله عليه وسلم قبة بالمحصب وهو الأبطح، أي ضربها له أبو رافع رضي الله(3/381)
عنه، وكان على ثقله ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بذلك. فعن أبي رافع رضي الله عنه: «لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنزل بالأبطح، ولكني جئت فضربت قبة، فجاء فنزل، وكان صلى الله عليه وسلم قال لأسامة رضي الله عنه: غدا ننزل بالمحصب إن شاء الله» وهو المحل الذي تحالف فيه قريش وكنانه على منابذه بني هاشم وبني المطلب حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، أي وكان ذلك سببا لكتابة الصحيفة.
وفيه أنه تقدم في فتح مكة أنه صلى الله عليه وسلم نزل بالحجون عند شعب أبي طالب المكان الذي حصرت فيه بنو هاشم وبنو المطلب وأنه خيف بني كنانة الذي تقاسمت قريش فيه جملتهم.
وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله الخيف حيث تقاسموا على الكفر» .
ولما نزل صلى الله عليه وسلم بالمحصب صلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة، ثم إن عائشة رضي الله عنها قالت له: يا رسول الله أأرجع بحجة ليس معها عمرة، فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما فقال: اخرج بأختك من الحرم، ثم افرغا من طوافكما حتى تأتياني ههنا بالمحصب، قالت: فقضى الله العمرة، وفي لفظ: «فاعتمرنا من التنعيم مكان عمرتي التي فاتتني، وفرغنا من طوافها في جوف الليل، فأتيناه صلى الله عليه وسلم بالمحصب فقال: فرغتما من طوافكما، قلنا نعم، فأذن في الناس بالرحيل» وفي رواية: «فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة إليها، أو أنا مصعدة وهو منهبط منها» .
واعترض كيف يأتي قولها عمرتي التي فاتتني مع قوله صلى الله عليه وسلم: «قد حللت من حجتك وعمرتك» وكيف أقرأها صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وأجيب بأنها لما رأت صواحبها أتين بعمرة ثم بحج وهي لم تأت إلا بحج أحبت أن تأتي بعمرة أخرى زائدة على الحج وإن كانت العمرة مندرجة فيه، وأقرها صلى الله عليه وسلم تطييبا لخاطرها، لأنه صلى الله عليه وسلم كان معها إذا هويت الشيء الذي لا مخالفة فيه للشرع تابعها عليه. وبهذا استدل أئمتنا على جواز الإحرام بالعمرة قبل طواف الوداع.
وأمر صلى الله عليه وسلم الناس أن لا ينصرفوا: أي إلى بلادهم حتى يكون آخر عهدهم الطواف بالبيت: أي الذي هو طواف الوداع.
ورخص صلى الله عليه وسلم في ترك المؤمنين ذلك للحائض التي قد طافت طواف الإفاضة قبل حيضها كصفية أم المؤمنين رضي الله عنها، فإنها حاضت بعد طواف الإفاضة ليلة النفر من منى. أي وقالت: ما أراني إلا حابستكم لانتظار طهري وطواف الوداع، فقال لها صلى الله عليه وسلم: أو ما كنت طفت يوم النحر؟ أو في لفظ: «ما كنت طفت طواف(3/382)
الإفاضة يوم النحر؟ قالت بلى، قال: لا بأس انفري معنا» وفي رواية: «قال يكفيك ذلك» أي لأنه هو طواف الركن الذي لابد لكل أحد منه، بخلاف طواف الوداع لا يجب على الحائض ولا يلزمها الصبر لتطهر وتأتي به، ولا دم عليها في تركه.
قال الإمام النووي رحمه الله: وهذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكي عن بعض السلف وهو شاذ مردود.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة في تلك الليلة، وطاف طواف الوداع سحرا قبل صلاة الصبح، ثم خرج من الثنية السفلى ثنية كدى بضم الكاف والقصر: وهو عند باب شبيكة متوجها إلى المدينة: أي التي خرج منها لما فتح مكة كما تقدم.
وكان خروجه صلى الله عليه وسلم من المسجد من باب الحزورة، ويقال له باب الحناطين.
وجاء عن جابر رضي الله عنه: «أن خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة كان عند غروب الشمس فلم يصلّ حتى أتى سرف» قال بعضهم: لعل هذا كان في غير حجة الوداع، فإنه صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت بعد صلاة الصبح فماذا أخره إلى وقت الغروب هذا غريب جدا هذا كلامه. وما روي أنه صلى الله عليه وسلم رجع بعد طواف الوداع إلى المحصب غير محفوظ.
أقول: هذا جمع به الإمام النووي رحمه الله بين الروايات المتقدمة عن عائشة حيث قال: ووجه الجمع أنه صلى الله عليه وسلم بعث عائشة مع أخيها بعد نزوله المحصب، وواعدها أن تلحقه بعد اعتمارها، ثم خرج هو صلى الله عليه وسلم بعد ذهابها فقصد البيت ليطوف طواف الوداع، ثم رجع بعد فراغه من طواف الوداع فلقيها وهو صادر وهي داخله لطواف عمرتها، ثم لما فرغت لحقته وهو في المحصب.
قال: وأما قولها فأذن في أصحابه فخرج ومر بالبيت وطاف فمتأول بأن في الكلام تقديما وتأخيرا، وإلا فطوافه صلى الله عليه وسلم كان بعد خروجها إلى العمرة وقبل رجوعها، وأنه فرغ قبل طوافها للعمرة هذا كلامه فليتأمل، فكانت مدة دخوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة وخروجه منها عشرة أيام، وهذا السياق يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يأت بعمرة بعد حجه، وهو لا يناسب القول بأنه أحرم مفردا بالحج، بل يدل للقول بأنه أحرم قارنا أو نواهما بعد إطلاق الإحرام، أو أدخل الحج على العمرة.
وفي كلام بعضهم لم يعتمر صلى الله عليه وسلم تلك السنة عمرة مفردة لا قبل الحج ولا بعده ولو جعل حجه منفردا لكان خلاف الأفضل، أي لأنه لم يقل أحد إن الحج وحده من غير اعتمار في سنته أفضل من القران.
وفي كلام بعض آخر: أجمعوا على أنه لم يعتمر بعد الحج، فتعين أن يكون متمتعا تمتع قران.
وقد يطلق الإفراد على الإتيان بأعمال الحج فقط وإن كان قد أحرم بهما معا(3/383)
كما أن القران قد يطلق على الإتيان بطوافين وسعيين. فمن روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه أفرد الحج أراد به أنه أتى بأعمال الحج ولم يفرد للعمرة أعمالا.
ولم أقف على أنه صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة في هذه الحجة التي هي حجة الوداع.
ولما طاف صلى الله عليه وسلم سبعا وقف في الملتزم بين ركن الحجر وبين باب الكعبة فدعا الله وألزق جسده: أي صدره الشريف ووجهه بالملتزم.
أي ولما وصل صلى الله عليه وسلم إلى محل بين مكة والمدينة يقال له غدير خمّ بقرب رابغ جمع الصحابة وخطبهم خطبة بين فيها فضل علي كرم الله وجهه، وبراءة عرضه مما تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن بسبب ما كان صدر منه إليهم من المعدلة التي ظنها بعضهم جورا وبخلا، والصواب كان معه كرم الله وجهه في ذلك فقال صلى الله عليه وسلم «أيها الناس إنما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب» أي وفي لفظ في الطبراني «فقال: يا أيها الناس إنه قد نبأني اللطيف الخبير أنه لم يعمر نبي إلا نصف عمر الذي يليه من قبله، وإني لأظن أن يوشك أن أدعى فأجيب، وإني مسؤول، وإنكم مسؤولون فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وجهدت ونصحت، فجزاك الله خيرا، فقال صلى الله عليه وسلم: أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن جنته حق وناره حق، وأن البعث حق بعد الموت، وأن السعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلى نشهد بذلك، قال: اللهم اشهد» الحديث «ثم حض على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته، أي فقال: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن تتفرقا حتى تردا عليّ الحوض» ، وقال في حق علي كرم الله وجهه لما كرر عليهم: ألست أولى بكم من أنفسكم ثلاثا، وهم يجيبونه صلى الله عليه وسلم بالتصديق والاعتراف، ورفع صلى الله عليه وسلم يد علي كرم الله وجهه وقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وابغض من أبغضه، وانصر من نصره، وأعن من أعانه، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار» وهذا أقوى ما تمسكت به الشيعة والإمامية والرافضة على أن عليا كرم الله وجهه أولى بالإمامة من كل أحد، وقالوا هذا نص صريح على خلافته سمعه ثلاثون صحابيا وشهدوا به، قالوا: فلعلي عليهم من الولاء ما كان له صلى الله عليه وسلم عليهم، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «ألست أولى بكم» وهذا حديث صحيح ورد بأسانيد صحاح وحسان، ولا التفات لمن قدح في صحته كأبي داود وأبي حاتم الرازي.
وقول بعضهم إن الزيادة اللهم وال من والاه إلى آخره موضوعة مردود، فقد ورد ذلك من طرق صحح الذهبي كثيرا منها.
وقد جاء أن عليا كرم الله وجهه قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أنشد الله من ينشد يوم غدير خمّ إلا قام، ولا يقوم رجل يقول أنبئت أو بلغني إلا(3/384)
رجل سمعت أذناه ووعى قلبه، فقام سبعة عشر صحابيا وفي رواية ثلاثون صحابيا، وفي المعجم الكبير ستة عشر. وفي رواية اثنا عشر، فقال: هاتوا ما سمعتم، فذكروا الحديث، ومن جملته «من كنت مولاه فعلي مولاه» وفي رواية «فهذا مولاه» وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه: وكنت ممن كتم، فذهب الله ببصري، وكان علي كرم الله وجهه دعا على من كتم.
قال بعضهم: ولما شاع قوله صلى الله عليه وسلم «من كنت مولاه فعليّ مولاه» في سائر الامصار وطار في جميع الأقطار، بلغ الحارث بن النعمان الفهري، فقدم المدينة فأناخ راحلته عند باب المسجد، فدخل والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله أصحابه، فجاء حتى جثا بين يديه، ثم قال: يا محمد إنك أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا ذلك منك، وإنك أمرتنا أن نصلي في اليوم والليلة خمس صلوات ونصوم شهر رمضان ونزكي أموالنا ونحج البيت فقبلنا ذلك منك، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك ففضلته، وقلت: من كنت مولاه، فعلى مولاه، فهذا شيء من الله أو منك؟ فاحمرت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: والله الذي لا إله إلا هو إنه من الله وليس مني، قالها ثلاثا، فقام الحارث وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك» وفي رواية «اللهم إن كان ما يقول محمد حقا «فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) [الأنفال: الآية 32] ، فو الله ما بلغ باب المسجد حتى رماه الله بحجر من السماء فوقع على رأسه فخرج من دبره فمات، وأنزل الله تعالى سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) [المعارج: الآية 1- 2] الآية، وكان ذلك اليوم الثامن عشر من ذي الحجة» وقد اتخذت الروافض هذا اليوم عيدا فكانت تضرب فيه الطبول ببغداد في حدود الأربعمائة في دولة بني بويه. وما جاء: من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب الله له صيام ستين شهرا. قال بعضهم قال الحافظ الذهبي هذا حديث منكر جدا أي بل كذب.
فقد ثبت في الصحيح ما معناه: «أن صيام شهر رمضان بعشرة أشهر» فكيف يكون صيام يوم واحد يعدل سني شهرا هذا باطل، هذا كلامه فليتأمل.
وقد رددت عليهم في ذلك بما بسطته في كتابي المسمى بالقول المطاع في الرد على أهل الابتداع لخصت فيه الصواعق للعلامة ابن حجر الهيتمي، وذكرت أن الرد عليهم في ذلك من وجوه:
أحدها: أن هؤلاء الشيعة والرافضة اتفقوا على اعتبار التواتر فيما يستدلون به على الإمامة من الأحاديث، وهذا الحديث مع كونه آحاد طعن في صحته جماعة من أئمة الحديث كأبي داود وأبي حاتم الرازي كما تقدم، فهذا منهم مناقضة، ومن ثم قال بعض أهل السنة: يا سبحان الله من أمر الشيعة والرافضة إذا استدللنا عليهم بشيء(3/385)
من الأحاديث الصحيحة قالوا هذا خبر واحد لا يعني، وإذا أرادوا أن يستدلوا على ما زعموا أتوا بأخبار باطلة كاذبة لا تصل إلى درجة الأحاديث الضعيفة التي هي أدنى مراتب الآحاد التي منها أنه قال لعلي أخي ووصي وخليفتي في ديني بكسر الدال وخبر: أنت سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين. وخبر: سلموا على عليّ بإمرة الناس، فإنها أحاديث كاذبة موضوعة مفتراة عليه، عليه أفضل الصلاة والسلام.
ثانيها: أن اسم المولى يطلق على عشرين معنى، منها: أنه السيد الذي ينبغي محبته ويجتنب بغضه، ويؤيد إرادة ذلك «أن سبب إيراد ذلك أن عليا كرم الله وجهه تكلم فيه بعض من كان معه باليمن من الصحابة وهو بريدة، قدم هو وإياه عليه صلى الله عليه وسلم في تلك الحجة التي هي حجة الوداع، وجعل يشكوه له صلى الله عليه وسلم لأنه حصل له منه جفوة، فجعل يتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا بريدة لا تقع في علي، فإن عليا مني وأنا منه، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» فقال ذلك لبريدة خاصة. ثم لما وصل صلى الله عليه وسلم إلى غدير خم أحب أن يقول ذلك للصحابة عموما أي فكما عليهم أن يحبوني فكذلك ينبغي أن يحبوا عليا. وعلى تسليم أن المراد أنه أولى بالإمامة، فالمراد في المآل لا في الحال قظعا، وإلا لكان هو الإمام مع وجوده صلى الله عليه وسلم، والمآل لم يعين له وقت، فمن أن أنه عقب وفاته صلى الله عليه وسلم، وجاز أن يكون بعد أن يعقد له البيعة ويصير خليفة، ويدل لذلك أنه كرم الله وجهه لم يحتج بذلك إلا بعد أن آلت إليه الخلافة ردا على من نازعه فيها كما تقدم. فسكوته كرم الله وجهه عن الاحتجاج بذلك إلى أيام خلافته، قاض على كل من له أدنى عقل فضلا عن فهم بأنه لا نص في ذلك على إمامته عقب وفاته صلى الله عليه وسلم.
ثالثها: أنه تواتر النقل عن علي كرم الله وجهه، أنه صلى الله عليه وسلم لم ينص عند موته على خلافة أحد لا هو ولا غيره، فقد قيل له كرم الله وجهه كما يأتي: حدثنا فأنت الموثوق به والمأمون على ما سمعت، فقال: لا والله لئن كنت أول من صدّق به لا أكون أول من كذب عليه، لو كان عندي من النبي صلى الله عليه وسلم عهد في ذلك ما تركت القتال على ذلك ولو لم أجد إلا بردتي هذه. وفي رواية: ما تركت أخا نبي تيم وعدي يعني أبا بكر وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما ينوبان على منبره صلى الله عليه وسلم ولقاتلتهما بيدي.
رابعها: أن لو كان هذا الحديث نصا على إمامته لم يسعه الامتناع من متابعة عمه العباس رضي الله تعالى عنه لما قال له العباس: اذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان هذا الأمر فينا علمنا. وأيضا لو كان الحديث نصا لكان لما قالت الأنصار منا(3/386)
أمير ومنكم أمير، واحتج عليهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه بأن الأئمة من قريش قالوا له: قد ورد النص بخلافة علي كرم الله وجهه، ولم يكن بين ذكر الحديث في غدير خم وبين ذلك إلا نحو شهرين، فاحتمال النسيان على عليّ والعباس وعلى جميع الأنصار رضي الله تعالى عنهم من أبعد البعيد. على أنه ورد أنه لما قيل لعلي إن الأنصار قالوا منا أمير ومنكم أمير قال كرم الله وجهه: هلا ذكرت الأنصار قول النبي صلى الله عليه وسلم «يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم» فكيف يكون الأمر فيهم مع الوصاية بهم، ودعوى الرافضة والشيعة أن الصحابة رضوان الله عليهم علموا هذا النص ولم يعلموا به عنادا غير مسموعة إذا هي ظاهرة البطلان، لأن في ذلك تضليلا لجميع الصحابة وهم رضي الله تعالى عنهم معصومون عن أن يجتمعوا على ضلالة.
ومن العجب العجيب أن بعض غلاة الرافضة يقول بتكفير الصحابة بسبب ذلك، وأن عليا كرم الله وجهه كفر لأنه أعان الكفار على كفرهم.
وأما دعواهم أن عليا إنما ترك النزاع في أمر الخلافة تقية وامتثالا لوصيته صلى الله عليه وسلم أن لا يوقع بعده فتنة ولا يسل سيفا فكذب وافتراء، إذ كيف يجعله إماما على الأمة ويمنعه أن يسل سيفا على من امتنع من قبول الحق؟ وكيف منع سل السيف على أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم مع قلة أتباعهم وكثرة أتباعه، وسله على معاوية رضي الله تعالى عنه مع وجود من معه من الألوف، ولما ساغ له أن يقول كما تقدم، لو كان عندي من النبي صلى الله عليه وسلم عهد في ذلك ما تركت أخا بني تيم وعدي ينوبان على منبره صلى الله عليه وسلم، ولما بين سبب تركه لمقاتلة أبي بكر وعمر وعثمان ومقاتلته لمعاوية بأن أبا بكر اختاره صلى الله عليه وسلم لديننا فبايعناه فولاها عمر فبايعناه وأعطيت ميثاقي لعثمان، فلما مضوا بايعني أهل الحرمين وأهل المصرين البصرة والكوفة، فوثب فيها من ليس مثلي ولا قرابته كقرابيت ولا علمه كعلمي ولا سابقته كسابقتي وكنت أحق بها منه:
يعني معاوية رضي الله تعالى عنه كما سيأتي. ومن ثم لما قيل للحسن المثنى ابن الحسن السبط إن خبر «من كنت مولاه فعلي مولاه» نص في إمامة علي كرم الله وجهه قال: أما والله لو يعني النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الإمارة والسلطان لأفصح لهم ولقال لهم: يا أيها الناس هذا وال بعدي والقائم عليكم بعدي فاسمعوا له وأطيعوا، وو الله لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليه في ذلك ثم تركه كان أعظم خطيئة.
وقد سئل الإمام النووي رحمه الله: هل يستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم «من كنت مولاه فعليّ مولاه» أنه كرم الله وجهه أولى بالإمامة من أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. فأجاب إنه لا يدل على ذلك، بل معنى ذلك عند العلماء الذين هم أهل هذا الشان وعليهم الاعتماد في تحقيق ذلك «من كنت ناصره ومواليه ومحبه ومصافيه فعليّ كذلك» .(3/387)
وقد قيل في سبب ذلك أن أسامة بن زيد رضي الله تعالى قال لعلي كرم الله وجهه: لست مولاي، وإنما مولاي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول صلى الله عليه وسلم ذلك. ولما وصل صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة بات بها، أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان كره أن يدخل المدينة ليلا.
ولما رأى المدينة كبر ثلاث مرات وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دخل عليه الصلاة والسلام المدينة نهارا من طريق المعرّس بفتح الراء المشددة.(3/388)
باب ذكر عمره صلى الله عليه وسلم
قد اعتمر صلى الله عليه وسلم: أي بعد الهجرة أربع عمر. فقد قال بعضهم: لا خلاف أن عمره صلى الله عليه وسلم لم تزد على أربع أي كلهن في ذي القعدة، مخالفا للمشركين، فإنهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج ويقولون هي من أفجر الفجور أي كما تقدم.
وأول تلك الأربعة عمرة الحديبية، أي وكانت في ذي القعدة التي صده فيها المشركون عن البيت.
وثانيها: عمرته صلى الله عليه وسلم من العام المقبل، أي وهي عمرة القضاء، وكانت في ذي القعدة كما تقدم. وعن قتادة رضي الله تعالى عنه «كان المشركون فجروا عليه صلى الله عليه وسلم حيث ردوه في الحديبية وكان في ذي القعدة، فاقتص الله منهم وأدخله مكة في ذلك الشهر الذي هو ذو القعدة، وأنزل الله الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ [البقرة: الآية 194] .
وثالثها: عمرته صلى الله عليه وسلم حين قسم غنائم حنين، وكانت من الجعرانة، وكانت في ذي القعدة، ودخل صلى الله عليه وسلم مكة ليلا، فقضى عمرته ثم خرج من ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت بها. ومن ثم خفيت على الناس كما تقدم.
ورابعها: عمرته صلى الله عليه وسلم مع الحجة الوداع: أي التي دخلت في الحج بناء على أنه أحرم قارنا أو التي أدخلها على الحج بناء على أنه أحرم بالحج خصوصية له، أو عينهما بعد أن أحرم مطلقا على ما تقدم فإنه أحرم لخمس بقين من ذي القعدة. وقد قالت عائشة رضي الله تعالى عنها «اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع» .
وأخرج البخاري ومسلم «أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة إلا التي في حجته» أي فإنه لم يوقعها في ذي القعدة، بل أوقعها في ذي الحجة تبعا للحج.
وأما إحرامه بها فكان في ذي القعدة في خمس بقين منه كما تقدم.
وأخرجا أيضا أن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال: كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها وإنا لنسمع صوتها بالسواك تستن، فقلت: يا أبا عبد الرحمن اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب؟ قال نعم، فقلت لعائشة:
أي أمتاه ألا تسمعني ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت: وما يقول؟ قلت: يقول اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب، فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهدها، وفي رواية إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قط، أي وإنما اعتمر في ذي القعدة.(3/389)
ولكن روى الدارقطني رحمه الله عنها رضي الله تعالى عنها أنها قالت «خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت» قال في الهدى إنه غلط عليها وهو الأظهر، فإنه صلى الله عليه وسلم ما اعتمر في رمضان قط. أقول: وزاد بعضهم أنه اعتمر أيضا عمرتين عمرة في رجب وعمرة في شوال فيكون اعتمر ستة، إلا أن يقال: يجوز أن يكون مستند القائل اعتمر في رجب قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما المتقدم، وقد تقدم رده وجاز أن يكون قوله اعتمر في شوال أي خرج للعمرة في شوال وهي العمرة التي كانت في ضمن حجة الوداع، والله أعلم.
باب ذكر نبذ من معجزاته صلى الله عليه وسلم
التي يمكن التحدي بها، سواء تحدى بها بالفعل كالقرآن وتمنى اليهود الموت أولا. وتلك المعجزة اصطلاحا هي الحاصلة له صلى الله عليه وسلم بعد البعثة إلى وفاته. وأما الأمور الحاصلة له بين يدي أيام مولده وبعثته، وقبل ذلك من الأمور الخارقة للعادة الغربية الموهنة للكفر، التي يعجز عن بلوغها قوى البشر، ولا يقدر عليها إلا خالق القوى القدر، لأنها في الاصطلاح يقال لها إرهاصات وتأسيسات للرسالة، ولا تسمى في الاصطلاح معجزات.
وهي إذا تليت على قلب المؤمن زادته إيمانا، وإذا تفكر فيها ذو البصيرة واليقين زادته إيقانا، فإن كل من أرسله الله عز وجل لم يخله من آية أيده بها مخالفة للعادات، لكون ما يدعيه من الرسالة مخالفا لها، فيستدل بتلك الآية على صدقه فيما يدعيه، لأن اقترانها بدعواه الرسالة تصديق له فيها.
وقد كانت للأنبياء: أي الرسل معجزات مختلفة، أي وهو صلى الله عليه وسلم أكثر الرسل معجزة، وأعظمهم آية، وأظهرهم برهانا فقد جاء «ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن عليه البشر» : أي آمنوا بسبب إظهاره «وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله عز وجل إليّ» وهو القرآن لأنه الذي تحداهم به «فأرجو أن أكون أكثرهم تبعا يوم القيامة» .
أي فإنه لما غلب السحر في زمن عليه الصلاة والسلام جاءهم بجنسه في معجزاته، فألقى العصا، وفلق البحر. ولما غلب الطب في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام جاءهم بجنسه، فأحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص. ولما غلبت الفصاحة وقول الشعر في زمن نبينا عليه الصلاة والسلام جاءهم بالقرآن. وهذا السياق يدل على أن المعجزة خاصة بالرسل عليهم الصلاة والسلام، ويوافق ذلك قول صاحب المواقف وشرحه، وهي: أي المعجزة بحسب الاصطلاح عبارة عما قصد به إظهار صدق من ادعى أنه رسول الله.(3/390)
لكنه قال في شروط المعجزة: الرابع أن يكون أي الأمر الخارق للعادة ظاهرا على يد مدعي النبوة ليعلم أنه تصديق له انتهى. فيحتمل أنه أراد بالنبوة الرسالة.
ويحتمل أنه أراد بها ما يعم الرسالة للشخص لنفسه، فهو رسول إلى نفسه، فتكون المعجزة عامة في حق الرسول والنبي الذي ليس برسول.
ومما يؤيد هذا الثاني قول النسفي رحمه الله في عقائده: وأيدهم، قال السعد رحمه الله: أي الأنبياء بالمعجزات الناقضات للعادات.
ثم قال: وقد روي بيان عددهم في بعض الأحاديث. قال السعد على ما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن عدد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. وفي رواية، مائتا ألف وأربعة وعشرون الفا» ويؤيده أيضا قول الإمام السنوسي في شرح عقيدته الكبرى: إن معجزة النبي غير الرسول، يجوز أن تتأخر بعد موته، تخلاف معجزة الرسول فإن فيها خلافا إلى آخر ما ذكر. ومما يؤيد هذا الثاني أيضا ما نقله في الخصائص الصغرى عن بعضهم وأقره: فرض الله على الأنبياء إظهار المعجزات ليؤمنوا بها، وفرض على الأولياء كتمان الكرامات لئلا يفتتنوا بها انتهى. فقد قابل بين المعجزة والكرامة. وفيه تصريح بأنه يجب على النبي غير المرسل إظهار المعجزة.
وعن القرافي المالكي رحمه الله أنه يجب على النبي أنه يخبر بنبوته، وذكر في الأصل أن الغرض ذكر نبذة من معجزاته صلى الله عليه وسلم، وإلا فمعجزاته صلى الله عليه وسلم كالبحر المتدافق بالأمواج.
وقد ذكر بعض العلماء أن معجزاته صلى الله عليه وسلم لا تنحصر. وفي كلام بعض آخر أنه صلى الله عليه وسلم أعطى ثلاثة آلاف معجزة: أي غير القرآن، فإن فيه ستين، وقيل سبعين ألف معجزة تقريبا.
قال في الخصائص: قال الحليمي: وليس في شيء معجزات غيره ما ينجو نحو اختراع الأجسام، فإن ذلك من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة، هذا كلامه.
وفيه أن هذا معارض بقول الله تعالى حكاية عن عيسى عليه الصلاة والسلام أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [آل عمران: الآية 49] الآية. والغرض ذكر تلك النبذة مجموعة وإن كان أكثرها قد سبق لكنه مفرق، أي وأنبه على ما تقدم بقولي أي كما تقدم، وأسكت عن ذلك فيما لم يتقدم.
فمن معجزاته صلى الله عليه وسلم وهو أعظمها القرآن، أي لأنه تعالى أتى به مشتملا على أخبار الأمم السالفة وسير الأنبياء الماضية التي عرفها أهل الكتاب، وهو صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا عرف بمجالسة الكهان والأحبار، لأنه صلى الله عليه وسلم قد نشأ بين أظهرهم(3/391)
في بلد ليس بها عالم يعرف أخبار القرون الماضية والأمم السالفة التي اشتمل عليها، أي ومن كان من العرب يكتب ويقرأ ويجالس الأحبار لم يدرك علم ما أخبر به من القرآن خصوصا عن المغيبات المستقبلة الدالة على صدقه، لوقوعها على ما أخبر به.
وقد أعجز الفصحاء البلغاء، أي لحسن تأليفه والتآم كلماته، بهرت العقول بلاغته، وظهرت على كل قول فصاحته، أحكمت آياته وفصلت كلماته، فحارت فيه عقولهم، وتبلدت فيه أحلامهم، وهم رجال النظم والنثر، وفرسان السجع والشعر.
وقد جاء على وصف مباين لأوصاف كلامهم النثر لأن نظمه لم يكن كنظم الرسائل والخطب ولا الأشعار وأسجاع الكهان وقد تحداهم ودعاهم إلى معارضته والإتيان بأقصر سورة منه، أي وهو دليل قاطع على أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل له ذلك إلا وهو واثق مستيقن أنهم لا يستطيعون ذلك، لكونه من عند الله، إذا يستحيل أن يقول صلى الله عليه وسلم ذلك وهو يعلم أنه الذي تولى نظمه ولم ينزل عليه من عند الله، إذ لا يأمن أن يكون في قومه من يعارضه وهم أهل فصاحة وشعر وخطابة قد بلغوا الدرجة العليا في البلاغة، وهو من جنس كلامهم، فيصير كذابا، ولو كان في استطاعة أحد منهم ذلك لما عدلوا عن ذلك إلى المحاربة التي فيها قتل صناديدهم ونهب أموالهم وسبى ذراريهم، أي لأن النفوس إذا قرعت بمثل هذا استفرغت الوسع في المعارضة، فهو ممتنع في نفسه عن المعارضة، خلافا لمن قال إنما لم تقع المعارضة منهم لأن الله تعالى صرفهم عنها مع وجود قدرتهم عليها، لأنه وإن كان صرفهم عنها فيه إعجاز لكن الإعجاز في الأول أكمل وأتم، وهو اللائق بعظيم فضل القرآن.
ومن ثم لما جاءه الوليد بن المغيرة وكان المقدم في قريش بلاغة وفصاحة، وكان يقال له ريحانة قريش كما تقدم، وقال له صلى الله عليه وسلم: اقرأ عليّ، فقرأ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) [النّحل: الآية 90] قال له أعده، فأعاد ذلك قال: والله إن له الحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه. وفي رواية قرأ عليه حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ [غافر: الآيات 1- 3] الآيات فانطلق حتى أتى منزل أهله بني مخزوم فقال: والله كلام محمد ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إلى آخر ما تقدم، ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: قد صبأ الوليد، والله لتصبأنّ قريش كلها، فقال أبو جهل لعنه الله: أنا أكفيكموه، فقعد على هيئة الحزين فمر به الوليد، فقال له: ما لي أراك كئيبا؟ قال: وما يمنعني أن أحزن، وهذه قريش قد جمعوا لك نفقة ليعينوك على أمرك، وزعموا أنك إنما زينت قول محمد لتصيب من فضل طعامه، فغضب الوليد وقال: أو ليس قد علمت قريش أني من أكثرهم مالا وولدا،(3/392)
وهل يشبع محمد وأصحابه من الطعام؟ فانطلق مع أبي جهل حتى أتى مجلس بني مخزوم فقال: هل تزعمون أن محمدا كذاب فهل رأيتموه كذبكم قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: فتزعمون أنه مجنون فهل رأيتموه خرفكم قط؟ أي أتى بالخرافات من القول؟ قالوا: لا، قال: تزعمون أنه كاهن فهل سمعتموه يخبر بما تخبر به الكهنة؟
قالوا لا، فعند ذلك قالت له قريش، فما هو يا أبا المغيرة؟ فقال: إن هذا إلا سحر يؤثر.
وقد سمع أعرابي رجلا يقرأ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: الآية 94] فسجد، فقيل له في ذلك؟ فقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام. وسمع آخر رجلا يقرأ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف: الآية 80] فقال: أشهد أن مخلوقا لن يقدر على مثل هذا الكلام.
أي ولما سمع الأصمعي من جارية خماسية أو سداسية فصاحة فعجب منها، فقالت له: أو تعدّ هذا فصاحة بعد قوله تعالى وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص: الآية 7] الآية فجمع فيها بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين؟
ولما أراد بعضهم معارضة بعض سوره وقد أوتي من الفصاحة والبلاغة الحظ الأوفى، فسمع صبيا في المكتب يقرأ وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ [هود: الآية 44] رجع عن المعارضة ومحا ما كتبه. وقال والله ما هذا من كلام البشر. قال بعضهم: ولم يتحدّ صلى الله عليه وسلم بشيء من معجزاته إلا بالقرآن. قال بعضهم:
كل جملة من القرآن معجزة، وحفظ من التبديل والتحريف على ممر الدهور، وقارئه لا يمله، وسامعه لا يمجه، بل لا يزال مع تكريره وترديده غضا طريا، تتزايد حلاوته، وتتعاظم محبته، وغيره من الكلام ولو بلغ الغاية يمل من الترداد ويعادي، إذا أعيد يؤنس به في الخلوات ويستراح بتلاوته من شدائد الأزمات، واشتمل على جميع ما اشتملت عليه جميع الكتب الإلهية وزيادة.
وقد قال بعض بطارقة الروم لما أسلم لعمر رضي الله تعالى عنه: إن آية وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ [النور: الآية 52] جمعت جميع ما أنزل على عيسى عليه الصلاة والسلام من أحوال الدنيا والآخرة.
قال الحليمي في منهاجه: ومن عظم قدر القرآن أن الله خصه بأنه دعوة وحجة، ولم يكن هذا النبي قط، إنما يكون لكل منهم دعوة، ثم يكون له حجة غيرها، وقد جمعهما الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن، فهو دعوة وحجة، دعوة بمعانيه، حجة بألفاظه.
وكفى الدعوة شرفا أن تكون حجتها معها، وكفى حجتها شرفا أن لا تنفصل دعوتها عنها. وجمع كل شيء أي خصوصا الإخبار بالمغيبات، وتوجد على طبق ما(3/393)
أخبر به، والإخبار عن القرون السالفة، كقصة موسى والخضر عليهما الصلاة والسلام، وقصة أهل الكهف، وقصة ذي القرنين. والأمم الماضية كقصص الأنبياء مع أممهم، وتيسره للحفظ، ولا تنقضي عجائبه، ولا تشبع منه العلماء، ولا تزيغ به الأهواء.
ومنها شق صدره الشريف صلى الله عليه وسلم، أي والتآمه من غير حصول أدنى ضرر ولا مشقة مع تكرر ذلك أربعا أو خمسا كما تقدم.
ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم عن صفة بيت المقدس: أي لما أخبر قريشا بأنه أسري به إلى بيت المقدس كما تقدم.
ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم بموت النجاشي يوم موته، وصلاته عليه مع أصحابه، فقال المنافقون: انظروا هذا يصلي على علج نصراني: أي لم يره قط، فأنزل الله تعالى وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ [آل عمران: الآية 199] الآية.
ومنها انشقاق القمر كما تقدم.
ومنها أن الملأ من قريش لما تعاقدوا على قتلة صلى الله عليه وسلم في دار الندوة، جاؤوا إلى منزله صلى الله عليه وسلم، وقعدوا إلى بابه، فخرج عليهم وقد خفضوا أبصارهم، وسقطت ذقونهم في صدورهم، وأقبل صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم فقبض قبضة من تراب، والقبضة بضم القاف: الشيء المقبوض، وبفتحها: المرة الواحدة، وقال «شاهت الوجوه» أي قبحت، وألقاها على رؤوسهم، فكل من أصابه شيء من ذلك قتل يوم بدر كما تقدم.
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم هزم القوم يوم حنين بقبضة من تراب رمى بها في وجوههم كما تقدم له في بدر مثل ذلك.
ومنها نسج العنكبوت عليه صلى الله عليه وسلم في الغار، أي وعلى بعض أتباعه كما تقدم.
ومنها ما وقع لسراقة رضي الله تعالى عنه، من غوض قوائم فرسه في الأرض الجلد كما تقدم في خبر الهجرة.
ومنها در الشاة التي لم ينز الفحل عليها كما تقدم في قصة شاة أم معبد. وفي قصة أخرى عن أبي العالية قال: «بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبياته التسعة يطلب طعاما وعنده ناس من أصحابه فلم يجد، فنظر إلى عناق في الدار ما نتجت قط، فمسح مكان ضرعها، فدفقت بضرع مدلى بين رجليها، فدعا بقعب فحلب فيه، فبعث إلى أبياته قعبا، ثم قعبا، ثم حلب فشرب وشربوا» .
ومنها دعوته صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه أن يعز الله به الإسلام فكان كذلك كما تقدم.(3/394)
ومنها دعوته صلى الله عليه وسلم لعليّ أن يذهب عنه الحر والبرد فلم يشك واحدا منهما وكان كرم الله وجهه يلبس ثياب الشتاء في الصيف وثياب الصيف في الشتاء ولا يتأثر كما تقدم.
أي ومن ذلك ما حدّث به بلال رضي الله تعالى عنه قال: «أذنت في غداة باردة فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلم ير في المسجد أحدا، فقال: أين الناس؟ فقلت: حبسهم البرد.
فقال: اللهم أذهب عنهم البرد، قال: فلقد رأيتهم يتروّحون في الصلاة» .
ومنها دعاؤه صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه وقد أصابه مرض واشتد به وسمعه يقول:
اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني، وإن كان متأخرا فاشفني، وإن كان بلاء فصبرني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ فأعاد ذلك عليه، فمسح صلى الله عليه وسلم بيده المباركة الشريفة، ثم قال: اللهم اشفه، فما عاد ذلك المرض إليه.
أي ومنها دعاؤه صلى الله عليه وسلم لحذيفة رضي الله تعالى عنه في الخندق ليلة انهزام الأحزاب، بأن الله يذهب عنه البرد، فكان كأنه يمشي في حمام كما تقدم.
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم تفل في عيني علي كرم الله وجهه وهو أرمد، فعوفي من ساعته كما تقدم في خيبر.
أي ومنها أنه صلى الله عليه وسلم بصق في نحر كلثوم بن الحصين وقد رمي فيه بسهم يوم أحد فبرأ كما تقدم.
ومنها صلى الله عليه وسلم تفل على أثر سهم في وجه أبي قتادة في غزاة ذي قرد، فما ضرب عليه ولا قاح كما تقدم.
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم تفل على شجة عبد الله بن أنيس فلم تؤلمه كما تقدم.
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم نفث على ضربة بساق سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه يوم خيبر فبرئت كما تقدم.
أي ومنها أنه صلى الله عليه وسلم نفث على رجل ورأس زيد بن معاذ رضي الله تعالى عنه حين أصابهما السيف عند قتل كعب بن الأشرف فبرئا كما تقدم.
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم نفث على ساق ابن الحكم يوم الخندق وقد انكسرت، فبرأ مكانه ولم ينزل عن فرسه كما تقدم.
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم نفث على يد معوذ ابن عفراء وقد قطعها عكرمة بن أبي جهل يوم بدر، وجاء يحملها فألصقها رسول الله فالتصقت كما تقدم.
ومنها أن محمد بن حاطب يحدث عن أمه أنها ولدته بأرض الحبشة وأنها خرجت به، قالت: حتى إذا كنت من المدينة على ليلة أو ليلتين طبخت لك طعاما ففني الحطب، فذهبت أطلب، فتناولت القدر فانكفأت على ذراعك، فقدمت(3/395)
المدينة، فأتيت بك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله هذا محمد بن حاطب، وهو أول من سمي بك: أي بعد الإسلام قالت: فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم في فيك ومسح على ذراعك ودعا لك ثم تفل على يدك، ثم قال: «أذهب الباس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما» قالت: فما قمت من عنده صلى الله عليه وسلم حتى برئت يدك.
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم نفث على عاتق خبيب وقد أصيبت يوم بدر بضربة على عاتقه حتى مال شقه فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانه، فالتصق كما تقدم.
ومنها رد عين قتادة بعد أن سالت على خده، فكانت أحسن عينيه كما تقدم.
ومنها أن ضريرا شكا إليه صلى الله عليه وسلم ذهاب بصره وأنه لا قائد له، فقال له صلى الله عليه وسلم: توضأ وصلّ ركعتين ولقنه دعاء فدعا به فأبصر لوقته.
أي ومنها أن رجلا ابيضت عيناه، فكان لا يبصر بهما شيئا، فنفث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه فأبصر. قال بعضهم: رأيته وهو ابن ثمانين يدخل الخيط في الإبرة.
ومنها أن عتبة بن فرقد السلمي كان يشم منه رائحة الطيب ولا يمس طيبا، لكونه صلى الله عليه وسلم نفث في يده الشريفة ومرّ بها صلى الله عليه وسلم على جسده. قال بعض نساء عتبة: كنا أربع نسوة ما منا امرأة إلا وهي تجتهد في الطيب لتكون أطيب من صاحبتها وما يمس عتبة الطيب، وإذا خرج إلى الناس، قالوا: ما شممنا ريحا أطيب من ريح عتبة، فقلن له يوما: إنا لنجهد في الطيب ولأنت أطيب ريحا منا فممّ ذلك؟ فقال:
أخذني الشرا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكوت إليه ذلك، فأمرني أن أتجرد فتجردت وقعدت بين يديه صلى الله عليه وسلم، وألقيت ثوبي على فرجي، فنفث صلى الله عليه وسلم في يده الشريفة ودلك بها الأخرى ثم مسح ظهري وبطني بيديه فعبق هذا الطيب من يديه يومئذ، وإلى ذلك أشار صاحب الأصل بقوله رحمه الله ورحمنا به:
وعتبة لما مسه راح عاطرا ... يضوع الشذا منه بأعطر ما يحوي
ومنها دعوته صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما بأن الله يعلمه التأويل والفقه في الدين، فعن ابن عباس رضي الله عنهما «ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدره، وقال: اللهم علمه الكتاب» ، وفي لفظ «الحكمة» وعنه رضي الله عنه، قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم الخلاء فوضعت له وضوآ، فلما خرج قال: من وضع هذا؟ فأخبر، فقال:
اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل» .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: «دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس، قال: اللهم بارك فيه، وانشر منه فكان كما دعا» .
ومنها دعاؤه صلى الله عليه وسلم لجمل جابر رضي الله عنهما، فصار سابقا بعد أن كان مسبوقا كما تقدم.(3/396)
ومنها دعاؤه صلى الله عليه وسلم لأنس بطول العمر وكثرة المال والولد فكان كما دعا. فقد ذكر أنه عاش فوق المائة، وأخبر عن نفسه أنه أكثر الأنصار مالا، ولم يمت حتى رأى مائة ولد من صلبه، وقد كان دفن مائة وعشرين من أولاده حين قدم الحجاج البصرة، وولد له بعد ذلك.
أي ومنها دعاؤه صلى الله عليه وسلم لأم أبي هريرة رضي الله عنهما بالإسلام فأسلمت. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كنت أدعو أمي للإسلام وهي مشركة فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله قد كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أمّ أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد أم أبي هريرة للإسلام، فخرجت مستبشرا بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جئت قصدت إلى الباب فإذا هو مجاف: أي مردود، فسمعت أمي حسّ قدمي، فقالت: على رسلك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، فاغتسلت ولبست درعها، وعجلت عن خمارها ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وأنا أبكي من الفرح، فقلت: يا رسول الله أبشر فقد استجاب الله دعوتك، وهدى أمّ أبي هريرة، فحمد الله وقال خيرا.
ومنها دعاؤه صلى الله عليه وسلم في تمر حائط جابر رضي الله عنه بالبركة، فأوفى منه ما عليه وهو ثلاثون وسقا بسبب دين استدانه والده من يهودي، وفضل بعد ذلك ثلاثة عشر وسقا. وفي رواية: سبعة عشر وسقا، أي مع قلة ما كان فيه من التمر حتى قال جابر رضي الله عنه: كنت أود أن يؤدي الله دين والدي ولا أرجع إلى إخوتي بتمرة واحدة فإن النخل في ذلك العام لم يحمل إلا القليل، وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم اليهودي في أن يصبر إلى عام قابل وهو يأبى ويقول: يا أبا القاسم لا أنظره، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف في النخيل، ثم قال: يا جابر جذّ، أي اقطع واقض، فأخذت في الجذاذ ووفيته ثلاثين وسقا وفضل سبعة عشر وسقا، فجئته صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك، وقال:
أخبر بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذهبت فأخبرته فقال: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليباركنّ فيها.
وفي لفظ آخر عن جابر: توفي أبي وعليه دين فعرضت على غرمائه أن يأخذوا النخل بما عليه. فأبوا ولم يروا أن فيه وفاء، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فقال: إذا جذذته ووضعته في المربد فأعلمني فجذذته، فلما وضعته في المربد آذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء ومعه أبو بكر وعمر فجلس عليه ودعا بالبركة، أي وهذا محمل رواية: ودعا صلى الله عليه وسلم في تمر جابر بحذف حائط.(3/397)
وقد يقال: يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم طاف في النخل أوّلا ودعا، ثم لما قطع التمر ووضع في المربد جاء وجلس عليه ودعا فلا مخالفة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ادع غرماءك فأوفهم، فما تركت أحدا له دين إلا قضيته وفضل مثله، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبشرته، فقال: أشهد أني رسول الله.
ومنها استسقاؤه صلى الله عليه وسلم فأمطرت السماء أسبوعا، ثم شكي له من كثرة المطر فاستصحى لهم فانجاب السحاب كما تقدم.
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم دعا على عتيبة بالتصغير ابن أبي لهب بأن يسلط عليه كلب فافترسه الأسد من بين القوم كما تقدم، أي والأسد إنما يسمى كلبا لأنه يشبه الكلب في أنه إذا بال رفع رجله، ومن ثم قيل: إن كلب أهل الكهف كان أسدا. وحكي أنه كان رجلا يسمى بالكلب لملازمته للحراسة. ويرده ما جاء ليس في الجنة من الدواب إلا كلب أهل الكهف، وحمار العزير، وناقة صالح، وتقدم ذلك مع زيادة. وأما عتبة مكبرا فقد أسلم يوم فتح مكة هو وأخوه معتب هذا هو المشهور وبعضهم عكس، فقال: عتبة المكبر هو عقير الأسد، وعتيبة المصغر هو الذي أسلم يوم الفتح.
ومنها شهادة الشجرة له صلى الله عليه وسلم بالرسالة في خبر الأعرابي الذي دعاه إلى الإسلام، فقال: هل من شاهد على ما تقول؟ قال: نعم هذه الشجرة ادعها، فدعاها فأقبلت فاستشهدها فشهدت أنه كما قال ثلاثا ثم رجعت إلى منبتها.
ومنها أمره صلى الله عليه وسلم للشجرتين اللتين كانتا بشاطىء الوادي أن يجتمعا ليستتر بهما عند قضاء الحاجة، فاجتمعا ثم افترقتا وذهبتا إلى محلهما كما تقدم في غزاة خيبر.
ومنها أمره صلى الله عليه وسلم أنسا أن يتلطف إلى نخلاته يقول لهن، أمركن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجتمعن ليقضي حاجته بينكن، فلما قضى حاجته أمره أن يأمرهن بالعود إلى أماكنهن فعدن كما تقدم.
ومنها مجيء الشجرة إليه صلى الله عليه وسلم لتظله وتسلم عليه. فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم نام: أي في الشمس فجاءت شجرة تشق الأرض حتى قامت عليه، فلما استيقظ ذكر له ذلك.
فقال: هي شجرة استأذنت ربها عز وجل في أن تسلم عليّ فأذن لها.
ومنها حنين الجذع إليه صلى الله عليه وسلم كما تقدم. ومنها تسبيح الحصا في كفه صلى الله عليه وسلم كما تقدم.
أي ومنها تأمين أسكفة الباب وحوائط البيت على دعائه صلى الله عليه وسلم آمين آمين آمين كما تقدم.
ومنها تسبيح الطعام بين أصابعه الشريفة صلى الله عليه وسلم. ومنها إعلام الشاة المسمومة له صلى الله عليه وسلم بأنها مسمومة كما تقدم. ومنها شكوى البعير له صلى الله عليه وسلم قلة العلف وكثرة العمل كما تقدم.(3/398)
أي ومنها شكوى بعض الطيور له صلى الله عليه وسلم بسبب أخذ بيضة أو فراخه. فقد جاء:
«أن حمرة جاءت فوق رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: أيكم فجع هذه؟ فقال رجل من القوم: أنا أخذت بيضها، فقال: رده رده رحمة لها» . وفي لفظ: «من فجع هذه بفرخيها؟
فقلن: نحن، فقال صلى الله عليه وسلم: ردوهما إلى موضعهما» ولا مانع من وجود البيض مع الفراخ.
ومنها سجود البعير له صلى الله عليه وسلم الذي استصعب على أهله وصار كالكلب الكلب لا يقدر أن يقرب إليه كما تقدم.
ومنها سجود الغنم له صلى الله عليه وسلم في بعض حوائط الأنصار كما تقدم.
ومنها تكليم الجمل له صلى الله عليه وسلم كما تقدم.
ومنها تكليم الحمار له صلى الله عليه وسلم في خيبر، وهو اليعفور كما تقدم.
ومنها شهادة الجمل عنده صلى الله عليه وسلم أنه لصاحبه الأعرابي دون من ادعاه. ففي المعجم الكبير للطبراني عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصرنا بأعرابي أخذ بخطام بعيره حتى وقف على النبي صلى الله عليه وسلم ونحن حوله، فقال:
السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم السلام. وجاء رجل آخر كأنه حرسي، فقال الحرسي: يا رسول الله هذا الأعرابي سرق سرب البعير، فرغا البعير ساعة وحنّ فأنصت له رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة فسمع رغاءه وحنينه، فلما هدأ البعير أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال للرجل: انصرف عنه فإن البعير شهد عليك أنك كاذب فانصرف، وأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على الأعرابي؟ فقال: أي شيء، قلت حين جئت لي، قال: قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّ على محمد حتى لا تبقى صلاة، وبارك على محمد حتى لا تبقى بركة، اللهم سلم على محمد حتى لا يبقى سلام، اللهم وارحم محمدا حتى لا يبقى رحمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل أبداها لي والبعير ينطق بعذرك وإن الملائكة قد سدوا الأفق.
أي ومنها سؤال الظبية له صلى الله عليه وسلم، أن يخلصها لترضع ولدها وتعود، فخلصها، وعادت وتلطفت بالشهادتين. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظبية مربوطة إلى خباء، فقالت: يا رسول الله خلصني حتى أذهب فأرضع خشفي ثم أرجع فتربطني، فقال لها: صيد قوم وربيطة قوم، ثم استحلفها أن ترجع، فحلفت له، فحلها فمكثت قليلا ثم جاءت وقد نفضت ضرعها، فربطها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتى خباء أصحابها فاستوهبها منهم فوهبوها له فحلّها.
وعن زيد بن أرقم نحو هذا، وزاد فأنا والله رأيتها لتسبيح في البرية وتقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وذكر بعضهم أن حديث الغزالة موضوع:(3/399)
أي ومنها شهادة الذئب له صلى الله عليه وسلم بالرسالة كما تقدم.
ومنها شهادة الضبّ له صلى الله عليه وسلم بالرسالة كما تقدم.
ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم عن مصارع المشركين ببدر، فلم يعد أحد منهم من مصرعه كما تقدم.
ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم بأن طائفة من أمته يغزون البحر، وأن أم حرام بالراء المهملة بنت ملحان منهم، فكان كذلك كما تقدم.
ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم لعثمان بن عفان رضي الله عنه بأنه تصيبه بلوى شديدة فأصابته وقتل فيها.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار: «إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني» والأثرة: بضم الهمزة وسكون الثاء المثلثة: أي يستأسر عليكم غيركم بأمور الدنيا، فكان ما وقع في زمن معاوية في وقعة الجمل وصفين، وفي زمن ولده يزيد في وقعة الحرة كما تقدم.
ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه لا يبقى أحد من أصحابه بعد المائة: أي من الهجرة.
والذي ينبغي أن تكون المائة من حين وفاته صلى الله عليه وسلم، لأن أبا الطفيل رضي الله عنه آخر من مات من الصحابة فكان موته بعد المائة من الوفاة.
وعن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: «وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسي، وقال: يعيش هذا الغلام قرنا فعاش مائة سنة» .
ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات وهو باب واسع جدا.
فمن ذلك أنه جيء إليه صلى الله عليه وسلم برجل سرق، فقال: اقتلوه، فقيل له أنه سرق.
فقال: اقطعوه، ثم أتي به بعد إلى أبي بكر رضي الله عنه وقد سرق فقطع، ثم ثالثة ورابعة إلى أن قطعت قوائمه، ثم جيء به إلى أبي بكر وقد سرق، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: لا أجد لك شيئا إلا ما قضى به فيك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أمر بقتلك، فإنه كان أعلم بذلك، ثم أمر بقتله.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لقيس بن خرشة العبسي رضي الله عنه وقد قال له: «يا رسول الله أبايعك على ما جاء من الله، وعلى أن أقول الحق: يا قيس عسى إن مرّ بك الدهر أن يليك ولاة لا تستطيع أن تقول معهم الحق، فقال قيس: لا والله لا أبايعك على شيء إلا وفيت به، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذن لا يضرك شيء» وكان قيس رضي الله عنه يعيب زيادا وابنه عبيد الله بن زياد ومن بعده، فبلغ ذلك عبيد الله بن زياد، فأرسل إليه فقال له: أنت الذي تفتري على الله وعلى رسوله؟ فقال: لا والله ولكن إن شئت أخبرتك بمن يفتري على الله ورسوله؟ قال: ومن هو؟ قال: من ترك(3/400)
العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال: ومن ذلك؟ قال: أنت وأبوك ومن أمركما.
قال: وأنت الذي تزعم أنك لا يضرك بشر؟ قال نعم. قال: لتعلمنّ اليوم أنك كاذب، ائتوني بصاحب العذاب، فمال قيس عند ذلك فمات.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لزوجاته: «أيتكن تنبحها كلاب الحوأب؟ وأيتكن صاحبة الجمل الأديب» بالدال المهملة والفك لغة في الأدب بالإدغام: وهو كثير الشعر «يقتل حولها قتلى كثير وتنجو بعد ما كادت» فكانت تلك عائشة رضي الله عنها، فإنه لما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه كانت عائشة بمكة، لأنها خرجت إلى مكة وهو محاصر وكلمها مروان بن الحكم في عدم الخروج، وقال لها: لا تخرجي يا أماه، فجاء إليها طلحة والزبير رضي الله عنهما بعد أن بايعا عليا على كره، واستأذنا عليا كرم الله وجهه في العمرة فأذن لهما فقدما مكة، وخرجت بنو أمية من المدينة ولحقت بمكة قبل المبايعة لعليّ، فخرج مروان وغيره من أهل المدينة، وجاء إلى عائشة رضي الله عنها يعلى بن أمية رضي الله عنه وكان عاملا لعثمان باليمن. فلما بلغه حصار عثمان قدم لنصرته فسقط من على بعيره في أثناء الطريق فكسر فخذه، وبلغه قتل عثمان، فلا زالوا بعائشة حتى وافقت على الخروج إلى العراق في طلب دم عثمان رضي الله عنه، ودفع لها ذلك الجمل يعلى بن أمية اشتراه بمائتي دينار، وأعان الزبير بأربعمائة ألف دينار، وصار يقول: من خرج في طلب دم عثمان فعليّ جهازه، فحمل سبعين رجلا من قريش، وطلبت عائشة رضي الله عنها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن يكون معها. فقال: معاذ الله أن أدخل في الفتنة، ويقال إن طلحة والزبير دعوا عبد الله بن عمر رضي الله عنهم إلى الخروج معهم، فقال لهم: أما تخافون الله أيها القوم، وتدعوا هذا الأباطيل عنكم؟ وكيف أضرب في وجه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بالسيف وقد عرفت فضله وسابقته ومكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنكما بايعتماه وسألتماه القيام بهذا الأمر ثم نكثتما بعد أن جعل الله عليكما شهيدا، وإنه ما بدل ولا غير. والقاتل لعثمان رضي الله تعالى عنه أخو زعيمتكم ورئيستكم يعني بعائشة وأخوها محمد بن أبي بكر رضي الله عنهم، فإنه أخذ بلحيته فضربها حتى تقلقلت أضراسه وضربه بالمشقص، فلما كانت عائشة رضي الله عنها في أثناء الطريق سمعت كلابا تنبح، فسألت عن ذلك المحل، فقيل لها: هذا الحوأب، فأرادت الرجوع لما تذكرت ما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم. أي فإنها صرخت وأناخت بعيرها، وقالت: والله أنا صاحبة الحوأب، ردوني ردوني ردوني. فعند ذلك يقال إن طلحة والزبير أحضرا خمسين رجلا شهدوا أن هذا ليس بماء الحوأب، وأن المخبر لها كذاب.
قال الشعبي: وهي أول شهادة زورت في الإسلام، وقال لها الزبير رضي الله(3/401)
عنه: ولعل الله أن يصلح بك بين الناس، فلما بلغ عليا كرم الله وجهه توجه عائشة ومن ذكر معها إلى العراق توجه إلى العراق بعد أن كان أراد الذهاب إلى الشام وقام في الناس، وقال: ألا إن طلحة والزبير وأم المؤمنين قد تمالؤوا على سخط إمارتي، وإني خارج إليهم، ثم جاءه الخبر أن ستين ألف شيخ تبكي تحت قميص عثمان، وهو منصوب على منبر دمشق ومعلق فيه أصابع زوجة عثمان، فقال: أمني يطلبون دم عثمان؟.
ولما أراد الخروج جاءه عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين لا تخرج منها: أي المدينة، فو الله لئن خرجت منها لا يرجع إليها سلطان المسلمين فسبوه، وقالوا له: يا بن اليهودية ما لك ولهذا الأمر؟ فقال لهم علي كرم الله وجهه: دعوا الرجل، فنعم الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم إن طلحة والزبير وأم المؤمنين وصلوا إلى البصرة ووقع بينهم وبين أهل البصرة مقتلة كبيرة، بعد أن افترقوا فرقتين إحداهما تقول صدقت وبرت، يعني عائشة وجاءت بالمعروف. وقالت الأخرى كذبت. ثم انحازت الأخرى إلى عسكر أم المؤمنين وقهروا أهل البصرة، ونادى منادي الزبير وطلحة: ألا من كان عنده أحد ممن غزا المدينة فليأت به، فجيء بهم كما يجاء بالكلاب وكانوا ستمائة فقتلوا فما أفلت منهم من أهل البصرة إلا حرقوص بن زهير. وكتب طلحة والزبير إلى أهل الشام: إنا خرجنا لوضع الحرب وإقامة كتاب الله، فوافقنا خيار أهل البصرة وخالفنا شرارهم، ولم يفلت من قتلة أمير المؤمنين عثمان من أهل البصرة إلا حرقوص بن زهير، والله مقيده إن شاء الله. وكتبوا لأهل الكوفة بمثله وكتبوا إلى أهل اليمامة بمثل ذلك، وكتبوا إلى أهل المدينة بمثل ذلك.
ثم سار علي كرم الله وجهه إلى البصرة، ثم أرسل إلى أهل الكوفة يستنفرهم إليه فنفروا إليه بعد أمور يطول ذكرها، وكانوا سبعة آلاف. والتقى الجيشان جيش علي كرم الله وجهه وجيش عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، بعد أن كتب لطلحة والزبير: أما بعد، فقد علمتما أني لم أرد البيعة حتى أكرهت عليها، وأنتما ممن رضي ببيعتي وألزمني إياها، فإن كنتما بايعتما طائعين فتوبا إلى الله وارجعا عما أنتما عليه فإنك يا طلحة شيخ المهاجرين، وأنت يا زبير فارس قريش، لو دفعتما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه لكان أوسع لكما من خروجكما منه والسلام.
وكتب لعائشة رضي الله عنها: أما بعد، فإنك قد خرجت من بيتك تزعمين أنك تريدين الإصلاح بين المسلمين، وطلبت بزعمك دم عثمان وأنت بالأمس تؤلبين عليه فتقولين في ملأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتلوا نعثلا فقد كفر، قتله الله، واليوم تطلبين بثأره، فاتقي الله وارجعي إلى بيتك وأسبلي عليك سترك قبل أن يفضحك الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فلما قرؤوا الكتابين عرفوا أنه على الحق.(3/402)
وعند ذلك خرج طلحة والزبير رضي الله عنهما على فرسين وخرج إليهما علي كرم الله وجهه، ودنا كل واحد من الآخر. فقال لهما عليّ: لعمري لقد أعددتما خيلا ورجالا وسلاحا، فاتقيا الله ولا تكونا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً [النحل: الآية 92] ألم تكونا: أخويّ في الله تحرمان دمي وأحرم دمكما؟ فقال له طلحة رضي الله عنه: ألبت الناس على عثمان، فقال له علي كرم الله وجهه: أنتما خذلتما، حتى قتل، فسلط الله اليوم على أشرنا على عثمان ما يكره، ثم توافقوا على الصلح، وقتل من كان له دخل في قتل عثمان رضي الله عنه.
وبات الفريقان على ذلك. وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة وباتوا يتشاورون. ثم اتفقوا على إنشاب الحرب، فلما كان وقت الغلس ثاروا ووضعوا السلاح، فثار الناس، فخرج طلحة والزبير في وجوه الناس. وقالا: ما هذا؟ قالوا:
طرقنا جيش عليّ فقالا: علمنا أن عليا غير سيفه حتى يسفك الدماء، ويستحل الحرمة: فقام علي كرم الله وجهه في وجوه الناس. وقال: ما هذا، قالوا: طرقنا جيش عائشة. فقال: لقد علمت أن طلحة والزبير غير سفيهين حتى يسفكا الدماء ويستحلا الحرمة، ونشبت الحرب فألبسوا هودج عائشة رضي الله عنها الدروع، ووقفت على الجمل، وصار كل من أخذ زمامه قتل، وقتل طلحة رضي الله عنه جاءه سهم غرب يقال أرسله له مروان بن الحكم وهو كان في جيش أم المؤمنين. وفر الزبير رضي الله عنه لما قال له علي كرم الله وجهه: يا زبير أتذكر لما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك تقاتلني وأنت ظالم لي؟ فقال: والله لو ذكرت ذلك ما قاتلتك ولا سرت سيري هذا، ولكن رجوعي عين العار فقال له علي كرم الله وجهه: ترجع بالعار ولا ترجع بالنار، فترك وذهب، وصار الهودج مثل القنفذ من كثرة النشاب.
فعند ذلك عقروا الجمل، ووقع الهودج على الأرض، وجعلت تقول عائشة رضي الله عنها: يا بني اتبعنه اتبعنه.
وعند ذلك قال علي كرم الله وجهه لمحمد بن أبي بكر رضي الله عنهما، انظر أختك هل أصابها شيء؟ فلما جاءها وأدخل يده، قالت: من أنت؟ قال: ابن الخثعمية، قالت: محمد؟ قال نعم. قالت: بأبي أنت وأمي، الحمد لله الذي عافاك.
وفي رواية قال لها: أخوك محمد البار، فقالت: بل مذمم العاق فضرب عليها فسطاطا، فلما كان من آخر الليل خرج بها، وأدخلها البصرة وأنزلها في دار صفية بنت الحارث أم طلحة الطلحات، وبكت عائشة رضي الله عنها بكاء كثيرا وقالت: وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وقد قال علي كرم الله وجهه مثل ذلك لما رأى من كثرة القتلى، فقد قيل: إن القتلى بلغت عشرة آلاف، وقيل ثلاثة عشر ألفا.(3/403)
ثم إن عليا كرم الله وجهه صلى على القتلى من الفريقين، ثم دخل البصرة على بغلته متوجها لعائشة رضي الله عنها، فلما دخل عليها سلم عليها وقعد عندها ثم جهزها بكل شيء ينبغي لها، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وأمرهن بلبس العمائم وتقليد السيوف، ثم قال لهن: لا تعلمنها بأنكن نسوة وتلثمن مثل الرجال وكن حولها من بعيد ولا تقربنها، وقال لأخيها محمد:
تجهز معها. وفي رواية جهز معها أخاها عبد الرحمن في جماعة من شيوخ الصحابة.
فلما كان يوم خروجها جاء إليها علي كرم الله وجهه ووقف الناس وخرجت فودعها وودعتهم، وقالت: يا بني والله ما كان بيني وبين علي في القدم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه على معتبتي عليه عندي لمن الأخيار، فقال علي: أيها الناس صدقت والله وبرت، ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، وذهب معها نحو سبعة أميال: ثم ذهبت إلى مكة حتى حجت، ثم رجعت إلى المدينة وعلمت عند وصولها إلى مكة أن هؤلاء الرجال حولها نساء فإنهن كشفن عن وجوههن وعرفنها الحال فشكرت وقالت: والله لا يزداد ابن أبي طالب إلا كرما.
وقيل إن كعب بن سعد أتى عائشة رضي الله تعالى عنها وقال: لعل الله أن يصلح بك، والأولى الصلح والسكون والنظر في قتلة عثمان بعد ذلك، فوافقت وركبت هودجها وقد ألبسوه الأدراع ثم بعثوا جملها وذهب إلى علي كرم الله وجهه وقال له مثل ذلك، فقال له: قد أحسنت، وأشرف القوم على الصلح، فخافت قتلة عثمان رضي الله عنه فأشار عليهم ابن السوداء الذي هو السبائي الذي هو أصل الفتنة أن يفترقوا فرقتين تكون كل فرقة في عسكر من العسكرين، فإذا جاء وقت السحر ضربت كل فرقة منهما إلى العسكر الذي فيه الفرقة الأخرى فنادت كل فرقة في العسكر الذي هي فيه غررنا، ففعلوا ذلك، فنشبت الحرب وحصل ما تقدم.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحسن رضي الله عنه: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فصالح معاوية رضي الله عنهما، وحقن دماء الفئتين من المسلمين. أي فإن الحسن رضي الله عنه لما بويع له بالخلافة يوم مات أبوه كان في الخلافة سبعة أشهر، وقيل ستة أشهر. ولما سار إلى قتال معاوية كان معه أكثر من أربعين ألفا، فلما سار عدا عليه شخص وضربه بخنجر في فخذه ليقتله، فقال الحسن: قتلتم أبي بالأمس، ووثبتم عليّ اليوم، تريدون قتلي، زهدا في العادلين، ورغبة في القاسطين، لتعلمن نبأه بعد حين.
أي ويذكر أنه بينما هو يصلي إذ وثب عليه شخص فطعنه بخنجر وهو ساجد، ثم خطب الناس، فقال: يا أهل العراق اتقوا الله فينا فإنا أمراؤكم ونحن أهل البيت الذين قال الله فيهم: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ(3/404)
تَطْهِيراً [الأحزاب: الآية 33] فما زال يقولها حتى ما بقي أحد من أهل المسجد إلا وهو يبكي.
ثم كتب إلى معاوية رضي الله عنهما بتسليم الأمر: أي بعد أن أرسل إليه معاوية رضي الله عنه رجلين يكلمانه في الإصلاح، فإن عمرو بن العاص لما رأى الكتائب مع الحسن أمثال الجبال، قال لمعاوية: إني لأرى هذه الكتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها، فخلع الحسن رضي الله عنه نفسه وسلم الأمر إلى معاوية، تورعا وزهدا، وقطعا للشر، وإطفاء لثائرة الفتنة، وتصديقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله المتقدم، وغض منه شيعته حتى قال له بعضهم: يا عار المؤمنين سوّدت وجوه المؤمنين، فقال: العار خير من النار. وقال له بعضهم: السلام عليك يا مذل المؤمنين، فقال له: لا تقل ذلك كرهت أن أقتلكم في طلب الملك، وعند ذلك: أي لما انبرم الصلح طلب منه معاوية رضي الله عنهما أن يتكلم بجمع من الناس ويعلمهم أنه سلم الأمر إلى معاوية، فأجابه إلى ذلك وصعد المنبر وحمد الله إلى أن قال في خطبته:
أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا، إلا أن أكيس الكيس التقى، وأعجز العجز الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت أنا ومعاوية فيه إما أن يكون أحق به مني أو يكون حقي، فإن كان حقي فقد تركته لله ولصلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم وحقن دمائهم، ثم التفت رضي الله عنه إلى معاوية وقال وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) [الأنبياء: الآية 111] ، أي ثم انتقل من الكوفة إلى المدينة وأقام بها، وكان من جملة ما اشترطه على معاوية رضي الله عنه أن يكون الأمر شورى بين المسلمين بعده، ولا يعهد إلى أحد من بعده عهدا.
وقيل على أن يكون الأمر للحسن بعده فلما سم الحسن اتهم بذلك زوجته بنت الأشعث بن قيس، وأن ذلك بدسيسة من يزيد ولد معاوية، ووعدها أن يتزوجها، وبذل لها مائة ألف درهم حرصا على أن يكون الأمر له، فإن معاوية عرّض بذلك في حياة الحسن ولم يكشفه إلا بعد موته.
ولما جاء الخبر لمعاوية بموته رضي الله عنه قال: يا عجبا من الحسن بن علي شرب شربة مع عسل بماء رومة، يعني بئر رومة فقضى نحبه. وأتى ابن عباس رضي الله عنهما معاوية وهو لا يعلم الخبر، فقال له معاوية: هل عندك خبر المدينة؟ قال لا، فقال معاوية: يا بن عباس احتسب الحسن، لا يحزنك الله ولا يسوؤك، فأظهر عدم التشوش وقال: أما ما أبقاك الله لي يا أمير المؤمنين فلا يحزنني الله ولا يسوؤني، فأعطاه على تلك الكلمة ألف ألف.
وذكر بعضهم قال: كنا عند الحسن رضي الله عنه ومعنا الحسين رضي الله عنه، فقال الحسن: لقد سقيت السم مرارا وما سقيته مثل هذه المرة، ولقد لفظت(3/405)
طائفة من كبدي، فقال له الحسين: أي أخي ومن سقاك؟ قال: وما تريد؟ أتريد أن تقتله؟ قال نعم: قال لئن كان الذي أظن فالله أشد نقمة، ولئن كان غيره ما أحب أن يقتل بي بريئا.
وكان الحسن رضي الله عنه رجلا حليما لم يسمع منه كلمة فحش، وكان مروان وهو وال على المدينة يسبه ويسب عليا كرم الله وجهه كل جمعة على المنبر، فقيل له في ذلك؟ فقال: لا أمحو عنه شيئا بأن أسبه، ولكن موعدي وموعده الله، فإن كان صادقا جازاه الله بصدقه، وإن كان كاذبا فالله أشد نقمة.
وأغلظ عليه رضي الله تعالى عنه مروان يوما وهو ساكت، ثم امتخط مروان بيمينه، فقال له الحسن رضي الله تعالى عنه: أف لك، لك علمت أن اليمين لها شرف، فخجل مروان. وبكى مروان في جنازته، فقال له الحسين: أتبكيه وقد كنت تجرعه ما تجرعه؟ فقال: إني كنت أفعل ذلك إلى أحلم من هذا وأشار إلى الجبل.
ومن ثم لما وقع بين الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما بعض الشحناء فتهاجرا، ثم أقبل الحسن على الحسين فأكب على رأسه يقبله، فقال له الحسين: إن الذي منعني من ابتدائك بهذا أنك أحق بالفضل مني، وكرهت أن أنازعك ما أنت أحق به مني، وقد تقدم ذلك.
ومن شعر الحسن رضي الله تعالى عنه:
من ظن أن الناس يغنونه ... فليس بالرحمن بالواثق
ومن ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم بقتل الأسود العنسي الكذاب: أي الذي ادعى النبوة ليلة قتله بصنعاء وبمن قتله كما تقدم.
أي ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم بأن رجلا من أمته يتكلم بعد الموت، فكان كذلك وهو زيد بن حارثة. وتكلم غيره أيضا، فعن ابن المسيب أن رجلا من الأنصار توفي، فلما كفن أتاه القوم يحملونه تكلم، فقال: محمد رسول الله، فلعل المراد بالرجل جنس الرجل.
ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم بأن أمته تتخذ الخصيان، وأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يستوصوا بهم خيرا، فقال: «سيكون قوم ينالهم الخصاء، فاستوصوا بهم خيرا» وهو يقتضي أن الخصاء لم يكن في غير هذه الأمة.
ومن ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم بذهاب الأمانة والعلم والخشوع وعلم الفرائض أي قرب قيام الساعة.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: «تعيش حميدا، وتقتل شهيدا» ، فقتل رضي الله تعالى عنه يوم القيامة في قتال مسيلمة الكذاب لعنه الله.(3/406)
وإخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات باب واسع. منه الإخبار بالحوادث الكائنة بعده إلى آخر الزمان. والإخبار عن أحوال يوم القيامة من القضاء والحشر والحساب، والإخبار عن الجنة والنار.
فعن حذيفة رضي الله تعالى عنه: «لقد حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يكون حتى تقوم الساعة» وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح يوما وصعد المنبر فخطب حتى حضرت الظهر فنزل فصلى الظهر، ثم صعد المنبر فخطب حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى العصر، ثم صعد المنبر فخطب حتى غربت الشمس فأخبر بما كان وبما هو كائن.
ومن ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن في جماعة من المهاجرين والأنصار: «يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي غدا وقبري» وكان كذلك، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ باليمن، ولم يتقدم إلا في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «سنفتح عليكم مصر، فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم رحما وصهرا، والمراد بالرحم، أم إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام جده صلى الله عليه وسلم فإنها كانت قبطية، والمراد بالصهر أم ولده إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنها كانت قبطية كما علمت.
ومنها إجابة دعائه صلى الله عليه وسلم غير ما تقدم: فمن ذلك دعاؤه صلى الله عليه وسلم لثعلبة بن حاطب الأنصاري أي غير البدري، لأن ذاك قتل بأحد، وهذا تأخر إلى زمن عثمان رضي الله تعالى عنه كما سيأتي خلافا لمن وهم في ذلك، لأن من شهد بدرا لا يدخل النار:
وكثيرا ما يقع الاشتراك في الاسم واسم الأب كما قال بعض الصحابة، وهو طلحة بن عبيد الله: لئن مات محمد صلى الله عليه وسلم لأتزوجن عائشة من بعده، فأنزل الله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الأحزاب: الآية 53] الآية، ظن بعضهم أن المراد بطلحة هذا أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحشاة من ذلك، وهو أجلّ مقاما من أن يصدر منه مثل ذلك.
ولما قال ثعلبة بن حاطب له: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال له صلى الله عليه وسلم: ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، ثم أتاه مرة أخرى فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال له صلى الله عليه وسلم: ويحك يا ثعلبة أما ترضى أن تكون مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فو الذي نفسي بيده، لو سألت ربي أن يسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت، فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالا لأوتين كل ذي حق حقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم ارزق ثعلبة مالا، فاتخذ غما فصارت تنمى كما ينمى الدود، وضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من(3/407)
أوديتها، فكان يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك الجماعة فيما سواهما، ثم نمت وكثرت حتى ترك الجماعة فيما سوىّ الجمعة فإنه كان يشهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ترك الجمعة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما فعل ثعلبة؟ فأخبروه بخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: يا ويح ثعلبة قالها ثلاثا، فلما نزل قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التّوبة: الآية 103] الآية بعث النبي صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة وكتب لهما فرائض الصدقة وأسنانها وقال لهما مرا بثعلبة، فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: انطلقا حتى تفرغا، ثم تعودا إليّ فانطلقا ثم مرّا عليه، فقال: أرياني كتابكما أنظر فيه، فنظر فيه، فقال: ما هذه إلا أخية الجزية، انطلقا حتى أرى رأيي، فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآهما قال قبل أن يكلماه: يا ويح ثعلبة، فلما أخبراه بالذي صنع ثعلبة، أنزل الله تعالى:
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ [التّوبة: الآية 75] الآيات، وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة، فأرسل إليه بأن الله قد أنزل فيك قرآنا وهو كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه الصدقة فقال: إن الله منعني أن أقبل صدقتك، فجعل يحثو التراب على رأسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هذا عملك وقد أمرتك فلم تطعني، وأبي أن يقبل منه شيئا، فأتى أبا بكر رضي الله تعالى عنه حين استخلف فسأله قبول صدقته، فقال له: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا لا أقبلها، ثم فعل كذلك مع عمر رضي الله تعالى عنه، ثم مع عثمان رضي الله تعالى عنه، وكل يأبى أن يقبل صدقته، ومات في خلافة عثمان.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في رجل ارتد ولحق بالمشركين: اللهم اجعله آية. فعن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رجل من بني النجار حفظ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فارتد ولحق بأهل الكتاب، وكان يقول ما يدري محمد إلا ما كتب له، فقال صلى الله عليه وسلم اللهم اجعله آية، فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا:
هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوه وألقوه فحفروا له وأعمقوا ما استطاعوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا مثل الأول، فحفروا وأعمقوا، فلفظته الأرض في المرة الثالثة، فعلموا أنه ليس من فعل الناس.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لرجل يأكل بشماله: «كل بيمينك، فقال: لا أستطيع» أي قال ذلك تكبرا وعنادا «فقال له صلى الله عليه وسلم: لا استطعت، فلم يطق أن يرفعها إلى فيه بعد» .
أي ومن ذلك المرأة التي خطبها صلى الله عليه وسلم فقال له أبوها إن بها برصا ولم يكن بها برص، وإنما قال ذلك امتناعا من خطبته صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: فلتكن كذلك، فبرصت.
ومن ذلك «أن فاطمة رضي الله تعالى عنها جاءت إليه صلى الله عليه وسلم فنظر إليها وقد ذهب الدم من وجهها وغلبت الصفرة على وجهها من شدة الجوع، فقال لها صلى الله عليه وسلم: ادن مني يا فاطمة، فدنت منه، فرفع يده فوضعها على صدرها وفرج بين أصابعه، وقال:
اللهم مشبع الجاعة، ورافع الوضيعة، ارفع فاطمة بنت محمد، فذهبت الصفرة عنها(3/408)
حالا، ولم تشك بعد ذلك جوعا» .
ومن ذلك ما حدّث به وائلة بن الأسقع قال: «حضر رمضان ونحن في أهل الصفّة فصمنا. فكنا إذا أفطرنا أتى كل رجل منا رجلا من أهل الصفة فأخذه فانطلق به فعشاه فأتت علينا ليلة فلم يأتنا أحد، فأصبحنا صياما، ثم أتت علينا الليلة القابلة فلم يأتنا أحد، فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بالذي كان من أمرنا، فأرسل إلى كل امرأة من نسائه يسألها هل عندها شيء؟ فما بقيت امرأة إلا أرسلت تقسم ما أمسى في بيتها ما يأكل ذو كبد، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجتمعوا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك فإنهما بيدك لا يملكهما أحد غيرك، فلم يكن إلا مستأذن يستأذن، فإذا بشاة مصلية ورطب، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعت بين أيدينا فأكلنا حتى شبعنا» .
ومنها تساقط الأصنام حول الكعبة بإشارته صلى الله عليه وسلم إليها، أو طعنة فيها بقضيب كان في يده قائلا: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الإسراء: الآية 81] كما تقدم.
ومنها تكثير الطعام، وقد وقع له ذلك في مواطن كثيرة.
فمن ذلك إطعام ألف من صاع شعير في حفر الخندق فشبعوا والطعام أكثر مما كان كما تقدم.
ومن ذلك إطعام أهل الخندق من تمر يسير كما تقدم.
ومن ذلك جمع ما فضل من الأزواد ودعاؤه صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة وقسمتها في العسكر، فقامت بهم كما تقدم في الحديبية وتبوك.
ومن ذلك دعاؤه صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة في تمرات قد صفهن في يده، وقال ادع لي فيهن بالبركة، أي فدعا له صلى الله عليه وسلم بذلك، قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: فأخرجت من ذلك التمر كذا وكذا وسقا في سبيل الله، وكنا نأكل منه ونطعم حتى انقطع في زمن عثمان رضي الله تعالى عنه، أي بانقطاع المزود الذي أمره صلى الله عليه وسلم أن يكون به التمر. والمزود: وعاء من جلد يوضع فيه الزاد وقال له: إذا أردت شيئا فأدخل يدك ولا تكفأ فيكفأ عليك، قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وكان لا يفارق حقوي، فلما قتل عثمان انقطع حقوي فسقط. وفي رواية: كان معلقا خلف رحلي فوقع في زمن عثمان: أي في زمن محاصرته وقتله فذهب. وفي رواية: فلما قتل عثمان انتهب بيتي وانتهب المزود: أي بعد سقوطه من حقوه فلا يخالف ما سبق.
وقد جاء في بعض الروايات عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بتمرات، فقلت: يا رسول الله ادع لي فيهن بالبركة، فصفهن ثم دعا فيهن بالبركة وقال: خذهن واجعل في مزودك ما أردت منهن، أي إذا أردت أخذ شيء منهن(3/409)
أدخل يدك فيه فخذه ولا تنثره نثرا. أي وفي لفظ: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب الناس مجاعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة هل من شيء؟ قلت: نعم شيء من تمر في المزود، فقال: ائتني به فأتيته به فأدخل يده فأخرج قبضة فبسطها، ثم قال لي:
ادع لي عشرة، فدعوت عشرة فأكلوا حتى شبعوا، فما زال يصنع ذلك حتى أطعم الجيش كلهم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: خذ ما جئت به أدخل يدك فاقبض ولا تكفأه، قال:
فقبضت على أكثر ما جئت به، ثم أكلت منه حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة أبي بكر وأطعمت، وحياة عمر وأطعمت، وحياة عثمان وأطعمت فلما قتل عثمان انتهب مني.
ومن ذلك تكثير الطعام الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصابعه، فقد جاء:
«أنه صلى الله عليه وسلم دعا أهل الصفة لقصعة ثريد، فأكلوا حتى لم يبق إلا اليسير في نواحيها، فجمعه صلى الله عليه وسلم فصار لقمة، فوضعها على أصابعه وقال لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه» أي لأنه كان من أهل الصفة «كل بسم الله. قال أبو هريرة: فو الذي نفسي بيده ما زلت آكل منها حتى شبعت كما تقدم» قيل وكان أصحاب الصفة حينئذ تسعين، وقيل مائة ونيفا، وقيل أربعمائة.
ومن ذلك تكثير الطعام الذي جاء به أنس رضي الله تعالى عنه للنبي صلى الله عليه وسلم. فعنه رضي الله تعالى عنه قال «تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بأهله. فصنعت أمي أم سليم حيسا فجعلته في تور، فقالت: يا أنس اذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقل: بعثت بهذا إليك أمي، وهي تقرئك السلام، وتقول لك: إن هذا لك منا قليل، قال:
فذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت له: إن أمي تقرئك السلام وتقول لك: إن هذا منا لك قليل، فقال: ضعه، ثم قال: اذهب فادع لي فلانا وفلانا وفلانا ومن لقيت، فدعوت من سمى ومن لقيت. قيل لأنس: كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة، وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنس هات التور، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليحلق عشرة عشرة، وليأكل كل إنسان مما يليه، فأكلوا حتى شبعوا كلهم، ثم قال: يا أنس ارفع فما أدري حين وضعت كان أكثر أو حين رفعت» .
ومن ذلك تكثير الطعام الذي صنعه أبو أيوب الأنصاري، فعنه رضي الله تعالى عنه قال: «صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله تعالى عنه طعاما قدر ما يكفيهما فأتيتهما به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فادع لي ثلاثين من أشراف الأنصار، قال فشق ذلك عليّ، ما عندي ما أزيده، فقال: اذهب فادع لي ثلاثين من أشراف الأنصار. قال أبو أيوب رضي الله تعالى عنه: فدعوتهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم اطعموا، فأكلوا حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول الله قبل أن يخرجوا، ثم قال:
اذهب فادع لي ستين من أشراف الأنصار، فدعوتهم فأكلوا حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول الله قبل أن يخرجوا، ثم قال: اذهب فادع لي تسعين من الأنصار،(3/410)
فدعوتهم فأكلوا حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرجوا، فأكل من طعامي ذلك مائة وثمانون رجلا كلهم من الأنصار.
قال: ومنها تكثير اللبن في القدح. فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «أنه اشتد به الجوع يوما، قال: فمر عليّ أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فقمت إليه وسألته عن آية من كتاب الله ليشبعني، فمرّ ولم يفعل، ثم مر عليّ عمر ففعلت معه وفعل معي كذلك، ثم مر صلى الله عليه وسلم، فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي، ثم قال: يا أبا هريرة» وفي لفظ: «يا أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق، فتبعته صلى الله عليه وسلم إلى أن دخل بيته وأذن لي، فدخلت فوجدت لبنا في قدح، فقال صلى الله عليه وسلم» أي لأهل بيته «من أين هذا اللبن؟ فقيل: أهدي لك، فقال: يا أبا هريرة، قلت لبيك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ادع لي أهل الصفة، فساءني ذلك، فقلت: ما هذا اللبن في أهل الصفة، وما أظن أن ينالني من هذا اللبن شيء» أي لأنهم كانوا أربعمائة على ما تقدم «فدعوتهم، فأقبلوا وأخذوا مجالسهم من البيت، فقال: يا أبا هريرة، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم، فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل، فيشرب حتى يروى، حتى لم يبق إلا أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: اقعد فاشرب، فشربت فقال لي:
اشرب فشربت، فما زال يقول لي اشرب فأشرب، حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا، فأعطيته القدح، فحمد الله عز وجل وسمى وشرب الفضلة» اه أي وتقدم ذلك. وفي لفظ: «حتى إذا لم يبق إلا أنا وهو فأخذ القدح على يده ونظر إليّ وتبسم، فقال: يا أبا هريرة، قلت لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت، قلت صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب» الحديث. وقد جاء: «أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لأبي هريرة: يا أبا هر، قال إنما أبو هريرة، فقال صلى الله عليه وسلم: الذكر خير من الأنثى» .
ولما وقع القتال بين علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يصلي خلف علي كرم الله وجهه، ويحضر طعام معاوية، وعند القتال يصعد على تل فقيل له في ذلك فقال: الصلاة خلف عليّ أقوم، وطعام معاوية أدسم، والقعود على هذا التل أسلم.
ومن ذلك ما حدثت به بنت خباب بن الأرت رضي الله تعالى عنهما قالت:
«خرج خباب في سرية فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعهدنا وكان لنا عنز، فكان يحلبها فيملأ حلابها جفنة لنا، فلما جاء خباب عاد حلابها لما كان عليه أولا. فقلت لأبي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلبها فتمتلىء جفنتنا، فلما حلبتها رجع حلابها» .
ومن ذلك ما حدث به بعض الصحابة أنه قال: «كنا زهاء أربعمائة رجل فنزلنا في موضع ليس فيه ماء فشق ذلك على أصحابه صلى الله عليه وسلم، فجاءت شويهة لها قرنان فقامت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلبها، فشرب حتى روي وسقى أصحابه حتى رووا ثم قال(3/411)
لي صلى الله عليه وسلم: املكها الليلة وما أراك تملكها، فأخذتها فوتدت لها وتدا ثم ربطتها بحبل، ثم قمت في بعض الليل، فلم أر الشاة، ورأيت الحبل مطروحا فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: ذهب بها الذي جاء بها» .
ومنها: «أن امرأة كانت أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم سمنا في عكة فقبله، وترك في العكة قليلا ونفخ فيه ودعا بالبركة، فكان يأتيها بنوها يسألونها الأدم، فتعمد إلى تلك العكة فتجد فيها سمنا، فما زالت تقيم بها أدم بيتها بقية حياته صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، حتى كان من أمر علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما ما كان» وفي رواية «أنها عصرتها فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: عصرتيها؟ قالت نعم قال: لو تركتيها ما زال دائما» ويحتمل أن الواقعة تعددت.
وعن أم سليم أم أنس رضي الله تعالى عنهما، قالت: «كان لي شاة، فجمعت من سمنها ما ملأت به عكة وأرسلت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها، وأمر ففرغوها وردوها فارغة وكنت غائبة عن المنزل، فلما جئت رأيت العكة مملوءة سمنا، قالت:
فقلت للتي أرسلتها معها: كيف الخبر؟ فأخبرتني الخبر فما صدقتها، وذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته، وقلت له: يا رسول الله وجهت إليك عكة سمن، قال: قد وصلت. فقلت: بالذي بعثك بالهدى ودين الحق لقد وجدتها مملوءة سمنا تقطر، قال: أفتعجبين أن أطعمك الله كما أطعمت نبيه صلى الله عليه وسلم: اذهبي فكلي واطعمي» الحديث.
أي ومنها دعاؤه صلى الله عليه وسلم لفرس جعيل الأشجعي. فعنه رضي الله تعالى عنه قال:
«خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته وأنا على فرس عجفاء ضعيفة فكنت في آخر الناس، فلحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سر يا صاحب الفرس. فقلت: يا رسول الله عجفاء ضعيفة فرفع محقنة كانت معه فضربها بها. وقال: اللهم بارك له فيها، فلقد رأيتني ما أملك رأسها قدام القوم. ولقد بعت من بطنها باثني عشر ألفا» .
ومنها أن جليبيبا على وزن قنيديل الأنصاري، وكان قصيرا دميما، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه، فقال: يا رسول الله إذا تجدني كاسدا، فقال: إنك عند الله لست بكاسد، فخطب له صلى الله عليه وسلم جارية من أولاد الأنصار، فكره أبو الجارية وأمها ذلك، فسمعت الجارية بما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قبلت: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب: الآية 36] وقالت: رضيت وسلمت لما رضي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم اصبب الخير عليها صبا ولا تجعل عيشها كدا، فكانت من أكثر الأنصار نفقة ومالا مع كونها أيما، فإنه رضي الله تعالى عنه قتل عنها في بعض غزواته معه صلى الله عليه وسلم بعد أن قتل سبعة من المشركين، ووقف عليه صلى الله عليه وسلم ودعا له، وقال: هذا مني وأنا منه، وحمله صلى الله عليه وسلم على ساعديه،(3/412)
ماله سرير غير ساعديه صلى الله عليه وسلم، ثم حفروا له فوضعه في قبره ولم يغسله ولم يصل عليه.
ومنها نبع الماء من بين أصابعه الشريفة صلى الله عليه وسلم، حتى شرب القوم وتوضؤوا وهم ألف وأربعمائة. قال: وفي رواية ألف وخمسمائة. وفي رواية: فشربوا وسقوا وملؤوا قربهم، وكان في العسكر اثنا عشر ألف بعير، والخيل اثنا عشر ألف فرس، أي وهذه في غزوة تبوك، وقد تكرر ذلك منه صلى الله عليه وسلم عدة مواطن عظيمة تقدمت، وتكررت الروايات بحسب تكرر الوقائع، وهو أشرف المياه كما قاله السراج البلقيني ولم يسمع بمثل هذه المعجزة التي هي خروج الماء من بين الأصابع عن غير نبينا صلى الله عليه وسلم، وهي أبلغ من نبع الماء من الحجر الذي ضربه موسى عليه الصلاة والسلام، لأن خروج الماء من الحجر معهود، بخلاف خروجه من بين اللحم والدم والعظم والعصب كما تقدم اه.
ومنها: أن الماء فار بغزر سهم من كنانته صلى الله عليه وسلم في محله. وقع له ذلك في الحديبية، وفي تبوك، فقد جاء: «أنه ورد في منصرفه من غزوة تبوك على ماء قليل لا يروي واحدا، وشكوا إليه صلى الله عليه وسلم العطش، فأخذ سهما من كنانته وأمر أن يغرز فيه، ففار الماء، وارتوى القوم، وكانوا ثلاثين ألفا» كما تقدم.
قال: ومنها ما تقدم له صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب بذي المجاز من ضربه صلى الله عليه وسلم الأرض أو صخرة برجله حين عطش فخرج الماء كما تقدم.
ومنها: ركوبه صلى الله عليه وسلم الفحل الذي قطع الطريق على من يمر لما سافر صلى الله عليه وسلم مع عمه الزبير بن عبد المطلب إلى اليمن كما تقدم.
ومنها: انقلاب الماء الملح عذبا ببركة ريقه الشريف. فقد جاء: «أن قوما شكوا إليه صلى الله عليه وسلم ملوحة في ماء بئرهم، فجاء صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه حتى وقف على ذلك البئر، فتفل فيه، فتفجر بالماء العذب المعين» .
ومنها: «أنه كان باليمن ماء يقال له زعاق من شرب منه مات، فلما بعث صلى الله عليه وسلم وجه إليه: أيها الماء أسلم فقد أسلم الناس، فكان بعد ذلك من شرب منه حم ولا يموت» .
ومنها: زوال القرّاع بمرور يده الشريفة صلى الله عليه وسلم. فقد جاء: «أن امرأة أتته بصبي لها أقرع، فمسح صلى الله عليه وسلم رأسه فاستوى شعره وذهب داؤه» .
ومنها: إحياء الموتى له صلى الله عليه وسلم وسماع كلامهم. فمن ذلك: «أنه صلى الله عليه وسلم دعا رجلا للإسلام فقال: لا أومن بك حتى تحيي لي بنتي، فقال صلى الله عليه وسلم: أرني قبرها، فأراه قبرها فقال صلى الله عليه وسلم: «يا فلانة، فقالت: لبيك وسعديك، فقال صلى الله عليه وسلم: أتحبين أن ترجعي إلى الدنيا؟ فقالت: لا والله يا رسول الله، إني وجدت الله خيرا لي من أبويّ، ووجدت الآخرة خيرا من الدنيا» .(3/413)
ومنها: إبراء الأبرص، فقد روي: «أن امرأة معاوية ابن عفراء كان بها برص فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح عليه بعصا، فأذهبه الله» .
ومنها: إبراء الرئة واللقوة والقرحة واللسعة والحرارة والدبيلة والاستسقاء، فإن ابن ملاعب الأسنة أصابه استسقاء، فبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة حثوة من الأرض فتفل عليها ثم أعطاها رسوله، فأخذها متعجبا يرى أنه قد هزىء به، فأتاه بها وهو على شفا، فشربها فشفاه الله وقد أشار إلى ذلك صاحب الهمزية بقوله:
وبكف من تربة الأرض داوي ... من تشكي من مؤلم استسقاء
ومنها: أن أخت إسحاق الغنوي هاجرت من مكة تريد المدينة هي وأخوها إسحاق المذكور، حتى إذا كانت في بعض الطريق قال لها أخوها: اجلسي حتى أرجع إلى مكة، فأخذ نفقة أنسيتها، قالت له: إني أخشى عليك الفاسق أن يقتلك:
تعني زوجها فذهب أخوها إلى مكة وتركها، فمر عليها راكب جاء من مكة، فقال لها: ما يقعدك ههنا؟ قالت: أنتظر أخي، قال لا أخ لك، قد قتله زوجك بعد ما خرج من مكة، قالت: فقمت وأنا أسترجع وأبكي حتى دخلت المدينة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ في بيت حفصة، فأخبرته الخبر، فأخذ ملء كفه ماء فضربني به، فمن يومئذ لم ينزل من عيني دمعة، وكانت تصيا بني المصائب العظام، غايته أن ينفر الدمع على مقلتي ولا يسيل على وجنتي.
ومنها: إبراء الجراحة كما تقدم.
ومنها: إبراء الكسر «فقد مسح صلى الله عليه وسلم على رجل ابن عتيك رضي الله تعالى عنه وقد انكسرت فكأنها لم تكسر قط» كما تقدم.
ومنها: إبراء الجنون. أي ومنها أن امرأة جاءته صلى الله عليه وسلم بابن لها لا يتكلم وقد بلغ أوان الكلام، فأتي بماء فمضمض وغسل يديه ثم أعطاها صلى الله عليه وسلم إياه وأمرها أن تسقيه وتمسه به، ففعلت ذلك، فبرىء وعقل عقلا يفضل عقول الناس.
ومنها: «أن بعض الصحابة ثبتت في كفه سلعة تمنعه القبض على السيف وعنان الدابة فشكا ذلك له صلى الله عليه وسلم، فما زال صلى الله عليه وسلم يطحنها بكفه الشريفة حتى زالت ولم يبق لها أثر.
ومنها: «أنه صلى الله عليه وسلم أعطى جذلا من الحطب فصار سيفا» وقع ذلك لعكاشة بن محصن رضي الله تعالى عنه يوم بدر كما تقدم. ووقع ذلك لعبد الرحمن بن جحش أيضا يوم أحد كما تقدم.
أي ومنها: انقلاب الماء لبنا وزبدا. ومنها: «أنه عرضت كدية بالخندق ولم يقدر أحد على إزالة شيء منها فضربها فصارت كثيبا» كما تقدم.(3/414)
أي ومن إجابة دعائه صلى الله عليه وسلم ما روي عن النابغة الجعدي رضي الله تعالى عنه قال:
أنشدت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبياتا منها:
فلا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجدت، لا أفضض الله فاك من هذه إشارة إلى أسنانه» قال النابغة رضي الله تعالى عنه: فلقد أتت علي نيف ومائة سنة وما ذهب لي سن. قيل عاش مائة واثنتي عشرة سنة، وقيل مائة وثمانين سنة، أي كما تقدم. وفي لفظ: كان من أحسن الناس ثغرا، وكان إذا سقطت له سن نبت له أخرى. أي وعلى هذا الأخير فالمراد لا أخلى الله فاك من الأسنان.
ومن ذلك: أن امرأة جاءت بابن لها صغير، فقالت: «يا رسول الله إن بابني هذا جنونا، وإنه يأخذه عند غذائنا وعشائنا فيفسد علينا، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ودعا له، فخرج من جوفه مثل الجرو الأسود فشفي» .
ومنها: إبراء وجع الضرس. فقد جاء: «أن بعض الصحابة شكا إليه صلى الله عليه وسلم وجع ضرسه، فقال له صلى الله عليه وسلم: ادن مني، فو الذي بعثني بالحق لأدعون لك بدعوة لا يدعو بها مؤمن مكروب إلا كشف الله عنه كربه، فوضع رسول الله يده على الخد الذي فيه الوجع وقال: اللهم أذهب عنه سوء ما يجد وفحشه بدعوة نبيك المبارك المكين عندك سبع مرات، فشفاه الله تعالى قبل أن يبرح» هذا ما يتعلق ببعض معجزاته صلى الله عليه وسلم التي يمكن التحدي بها، والحمد لله وحده.
باب نبذة من خصائصه صلى الله عليه وسلم
أي ما اختص به صلى الله عليه وسلم عن سائر الناس من الأنبياء وغيرهم، وما اختص به عن غير الأنبياء، وفيما اختصت به أمته صلى الله عليه وسلم عن سائر الناس من الأنبياء وغيرهم، وفيما اشتركت فيه مع الأنبياء دون أممهم.
لا يخفى أن ذكر خصائصه صلى الله عليه وسلم مندوب. قال في الروضة: ولا يبعد القول بوجوب ذلك ليعرف، فلا يتأسى به جاهل في ذلك. ثم لا يخفى أن الذي من خصائصه صلى الله عليه وسلم عن سائر الناس إما أن يكون اختص بوجوبه عليه لأن الله علم أنه صلى الله عليه وسلم أقوم به وأصبر عليه من غيره، ولأن ثواب الفرض أفضل من ثواب النفل غالبا.
وقد جاء: «ما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه» أو اختص بتحريمه عليه، لأن الله علم أنه صلى الله عليه وسلم أصبر على تركه ولمزيد فضل تركه، أو اختص بإباحته له تسهيلا عليه، أو اختص باتصافه به ولمزيد فضله وشرفه.(3/415)
فمن القسم الأول صلاة الضحى: أي بما هو أقلها، وهو ركعتان، وركعتا الفجر وصلاة الوتر. قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث علي فرائض ولكم تطوع: الوتر، وركعتا الفجر، وركعتا الضحى» .
أي وفي الإمتاع أن هذا الحديث ضعيف من جميع طرقه ومع ذلك ففي ثبوت خصوصية هذه الثلاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم نظر. فإن الذي ينبغي ولا يعدل عنه إلى غيره أن لا تثبت خصوصيته إلا بدليل صحيح.
وفي البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها: «ما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها» وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها» وهذا يدل بظاهره، ويقتضي عدم الوجوب، إذ لو كانت واجبة في حقه صلى الله عليه وسلم لكان مداومته عليها أشهر من أن تخفى هذا كلامه.
وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى الضحى يوم الفتح في بيت أم هانىء واظب عليها إلى أن مات، وأنه صلى الله عليه وسلم صلى ثمان ركعات. وجاء في حديث مرسل «كان صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين وأربعا وستا وثمانيا» وهل المراد بالوتر أقله أو أكثره أو أدنى كماله؟ والسواك قال في الإمتاع: وهل هو بالنسبة إلى الصلاة المفروضة أو في كل الأحوال المؤكدة في حقنا أو فيما هو أعم من ذلك. وغسل الجمعة والأضحية واستدل لوجوبهما بقوله تعالى:
إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي [الأنعام: الآية 162] إلى قوله: وَبِذلِكَ أُمِرْتُ [الأنعام:
الآية 163] قال في الإمتاع: والأمر على الوجوب، هذا كلامه؟ وفيه نظر، لأن أمر للوجوب والندب، والذي للوجوب إنما هو صيغة أفعل.
قال في الإمتاع: إن الآمدي وابن الحاجب رحمهما الله عدا ركعتي الفجر من خصائصه صلى الله عليه وسلم ولا سلف لهما في ذلك إلا حديث ضعيف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
واعترض كون الوتر واجبا عليه صلى الله عليه وسلم، بأنه صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين صلاة على البعير، إذ لو كان واجبا لما صلاة على الراحلة. وأجاب النووي رحمه الله بأن جواز هذا الواجب على الراحلة من خصائصه صلى الله عليه وسلم وأجاب القرافي المالكي رحمه الله بأن الوتر لم يكن واجبا عليه صلى الله عليه وسلم إلا في الحضر، ووافقه على ذلك من أئمتنا الحليمي والعز بن عبد السلام.
والعقيقة وأنه صلى الله عليه وسلم يجب عليه أن يؤدي فرض الصلاة كاملة لا خلل فيها، وأنه يجب عليه صلى الله عليه وسلم أن يصلي في كل يوم وليلة خمسين صلاة على وفق ما كان في ليلة الإسراء، كذا في الخصائص الصغرى للسيوطي.(3/416)
والمشاورة في أمر الدين والدنيا لذوي من الأحلام من الأمور الاجتهادية. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما نزلت هذه الآية: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: الآية 159] قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ورسوله غنيان عنها، ولكن جعلها الله رحمة في أمتي، فمن شاور منهم لم يعدم رشدا، ومن ترك المشورة منهم لم يعدم غيا» وقد وقيل:
الاستشارة حصن من الندامة ومصابرة العدو وإن كثر.
وفي الحاوي للماوردي: «أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا بارز رجلا لا ينفك عنه قبل قتله» هذا كلامه، ولم أقف على أنه صلى الله عليه وسلم بارز أحدا.
وقضاء دين من مات معسرا من المسلمين، وأداء الجنايات والكفارات عن من لزمته وهو معسر، وتخيير نسائه صلى الله عليه وسلم بين الدنيا والآخرة أي بين زينة الدنيا ومفارقته، بين اختيار الآخرة والبقاء في عصمته، وأن من اختارت الدنيا يفارقها ومن اختارت الآخرة يمسكها ولا يفارقها: أي لأن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) [الأحزاب: الآية 28، 29] .
قيل اختلف سلف هذه الأمة في سبب نزول هذه الآية على تسعة أقوال: فقد قيل نزلت لما طلبن منه صلى الله عليه وسلم زيادة في النفقة، فاعتزلهن شهرا، ثم أمر بتخييرهن فيما ذكر كما تقدم.
عن جابر رضي الله تعالى عنه، قال: جاء أبو بكر رضي الله تعالى عنه يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوسا ببابه ليأذن لهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجدا النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه، أي قد سألنه النفقة وهو حاجم ساكت لا يتكلم، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: لأقولن شيئا أضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لو رأيت فلانة يعني زوجته سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هن حولي كما ترى يسألتني النفقة، فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى عائشة فوجأ عنقها وقام عمر رضي الله تعالى عنه إلى حفصة فوجأ عنقها، وكل يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده، ثم أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يجتمع بهن شهرا.
فعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه ذكر أن بعض أصدقائه من الأنصار جاء إليه ليلا ودق عليه بابه وناداه، قال عمر: فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم. فقلت ماذا؟ أجاءت غسان، لأنا كنا حدثنا أن غسان تنعل الخيل لغزونا، فقال: لا، بل أعظم من ذلك وأطول، طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فقلت: خابت حفصة وخسرت،(3/417)
كنت أظن هذا كائنا، حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي ودخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت: أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري هو هذا معتزلا في هذه المشربة، أي لأن نساءه صلى الله عليه وسلم لما اجتمعن عليه في طلب النفقة أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهنّ، قال عمر رضي الله تعالى عنه: لأقولنّ من الكلام شيئا أضحك به النبي صلى الله عليه وسلم فأتيت غلاما له أسود، فقلت: استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى أتيت المسجد فجلست قليلا ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج إليّ، فقال:
قد ذكرتك له فصمت، فلما كان في المرة الرابعة وقال لي مثل ذلك وليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني، فقال: أدخل، قد أذن لك، فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكىء على زمل حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟
قال: فرفع رأسه إليّ وقال لا فقلت: الله أكبر، ثم قلت: كنا معاشر قريش بمكة نغلب على النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساءهم، فطفق نساؤنا يتعلمن منهن، فكلمت فلانة يعني زوجته فراجعتني فأنكرت عليها، فقالت تنكر عليّ أن أراجعك؟ فو الله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لتراجعنه، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك وخسر، أفتأمن إحداهنّ أن يغضب الله عليها بغضب زوجها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبت إلى حفصة فقلت: أتراجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقالت: نعم، وتهجره إحدانا اليوم إلى الليل. فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها بغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسألينه شيئا، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك إن كانت جارتك أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك؟ يعني عائشة، فتبسم أخرى، فقلت، استأنس يا رسول الله قال نعم، فجلست وقلت: يا رسول الله قد أثر في جنبك زمل هذا الحصير وفارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسا وقال: أفي شك أنت يا بن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت: أستغفر الله يا رسول الله فلما مضى تسع وعشرون يوما أنزل الله تعالى عليه أن يخبر نساءه في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الأحزاب: الآية 28] الآية، فنزل ودخل على عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت له: يا رسول الله أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وقد دخلت وقد مضى تسع وعشرون يوما أعددهن، قال: إن الشهر تسع وعشرون، وفي رواية: يكون هكذا وهكذا وهكذا، يشير بأصابع يديه، وفي الثالثة حبس إبهامه ثم قال: يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك. فقالت: وما هو يا رسول الله، فقرأ: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الأحزاب: الآية 28] الآية. قلت، أفي هذا أستأمر أبوي، فإني أريد الله، ورسوله والدار الآخرة. وفي رواية «أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟» بل أريد الله ورسوله والدار الآخرة، قالت: ثم قلت له: لا تخبر امرأة من(3/418)
نساءك بالذي قلت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني متعنتا ولكن بعثني معلما بشيرا. ثم فعل أزواجه صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت عائشة رضي الله تعالى عنهن. وقد ذكر الأقوال التسعة في الإمتاع وذكر فيه أن التخيير كان بعد فتح مكة، لأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يقدم المدينة إلا بعد الفتح مع أبيه العباس رضي الله تعالى عنهما، وذكر أنه حضر الواقعة.
ومن القسم الثاني تحريم أكل الصدقة واجبة أو مندوبة، وكذا الكفارة والمنذورة والموقوف عليه إلا على جهة عامة كالآبار الموقوفة على المسلمين، ويشاركه في الصدقة الواجبة آلة دون صدقة التطوع على الجهة الخاصة دون الجهة العامة، والصدقة الواجبة هي المعنية بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس» ولما سأله عمه العباس رضي الله تعالى عنه أن يستعمله على الصدقات قال صلى الله عليه وسلم: «ما كنت لأستعملك على غسلات ذنوب الناس» ولما أخذ الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما تمرة من تمر الصدقة ووضعها في فيه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: كخ كخ، ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة» وفي رواية: «إن آل محمد لا يأكلون الصدقة» .
واختلف علماء السلف هل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تشارك النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك؟ فذهب الحسن رحمه الله تعالى إلى أن الأنبياء تشاركه في ذلك. وذهب سفيان بن عيينة إلى اختصاصه بذلك دونهم، وأن يعطي شيئا لأجل أن يأخذ شيئا أكثر منه، وأن يتعلم الكتابة أو الشعر وإنشاءه وروايته لا التمثل به، وأنه إذا لبس لامته للقتال لا يدعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه، وهذا الأخير مما شاركه فيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وخائنة الأعين، وهي الإيماء إلى مباح من قتل أو ضرب على خلاف ما يظهر كما تقدم. وإمساك من كرهته، ونكاح الكتابية، قيل والتسري بها والراجح خلافه. ونكاح الأمة المسلمة لأنه لا يخشى العنت، أي الزنا.
ومن القسم الثالث القبلة في الصوم مع وجود الشهوة. فقد كان صلى الله عليه وسلم يقبل عائشة رضي الله تعالى عنها وهو صائم ويمص لسانها، ولعله صلى الله عليه وسلم لم يكن يبلع ريقه المختلط بريقها. والخلوة بالأجنبية، وأنه صلى الله عليه وسلم إذا رغب في امرأة خلية كان له أن يدخل بها من غير لفظ نكاح أو هبة ومن غير ولي ولا شهود، كما وقع له صلى الله عليه وسلم في زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها كما تقدم، ومن غير رضاها، وأنه إذا رغب في امرأة متزوجة يجب على زوجها أن يطلقها له صلى الله عليه وسلم، وأنه إذا رغب في أمة وجب على سيدها أن يهبها له. وله أن يتزوج المرأة لمن يشاء بغير رضاها، وله أن يتزوج في حال إحرامه، ومن ذلك نكاح ميمونة على ما تقدم. وأن يصطفي من الغنيمة ما شاء قبل القسمة من جارية أو غيرها.(3/419)
ومن صفاياه صلى الله عليه وسلم صفية وذو الفقار كما تقدم، وأن يتزوج من غير مهر كما وقع لصفية رضي الله تعالى عنها. وقد قال المحققون: معنى ما في البخاري وغيره أنه صلى الله عليه وسلم جعل عتقها صداقها أنه صلى الله عليه وسلم أعتقها بلا عوض وتزوّجها بلا مهر، فقول أنس رضي الله تعالى عنه أمهرها نفسها معناه أنه لما لم يصدقها شيئا كان العتق كأنه المهر وإن لم يكن في الحقيقة كذلك، وأن يدخل مكة بغير إحرام اتفاقا، وأن يقضي بعلمه ولو في حدود الله تعالى.
قال القرطبي في تفسيره: أجمع العلماء على أنه ليس لأحد أن يقضي بعلمه إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى: وجمع له صلى الله عليه وسلم بين الحكم بالظاهر والباطن معا وجمعت له الشريعة والحقيقة، ولم يكن للأنبياء إلا إحداهما بدليل قصة موسى مع الخضر عليهما الصلاة والسلام، وقوله: إني على علم لا ينبغي لك أن تعلمه وأنت على علم لا ينبغي لي أن أعلمه هذا كلامه.
وكتب عليه الشهاب القسطلاني رحمه الله: هذه غفلة كبيرة وجراءة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إذ يلزم منه خلو بعض أهل العزم عليهم الصلاة والسلام من علم الحقيقة الذي لا يجوز خلو بعض آحاد الأولياء عنه وإخلاء الخضر بل بقية بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن علم الشريعة. وأعجب من ذلك أنه بين له وجه الخطأ، فأجاب بقوله: مرادي الجمع بين الحكم والقضاء هذا كلامه.
وأقول: ذكر السيوطي في كتابه «الباهر في حكم النبي بالباطن والظاهر» هل يقول مسلم إن الذي خص به نبينا صلى الله عليه وسلم، أي عن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يورث نقصا في حق سائر الأنبياء؟ معاذ الله، وكل مسلم يعتقد أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من سائر الأنبياء على الإطلاق، وذلك لا يورث نقصا في حق أحد منهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وهذا الاعتراض كان لا يحتاج إلى جواب عنه، لكن خشيت أن يسمعه جاهل فيؤديه ذلك إلى إنكار خصائص النبي صلى الله عليه وسلم التي فضل بها على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، توهما منه أن ذلك يورث نقصا فيهم، فيقع والعياذ بالله في الكفر والزندقة هذا كلامه.
ومما حكم فيه بالظاهر والباطن معا، قوله صلى الله عليه وسلم في ولد وليدة زمعة والد سودة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها لما اختصم فيه سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وعبد بن زمعة، فقال سعد: يا رسول الله هذا ابن أخي، عهد إلى أنه ابنه، انظر إلى شبهه به، وقال عبد بن زمعة، هذا أخي ولد على فراش أبي من وليدته، فنظر(3/420)
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه، فرأى شبها بينا بعتبة، ثم قال: «هو لك يا عبد الولد للفراش واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة» زاد في رواية: «فليس بأخ لك» فقد جعله صلى الله عليه وسلم أخا لسودة عملا بظاهر الشرع، ونفى أخوته عنها بمقتضى الباطن. فقد حكم في هذه القصة بالظاهر والباطن معا.
وأما حكمه صلى الله عليه وسلم بالباطن فقد جاء في أمور متكثرة.
من ذلك قتله الحارث بن سويد بقتله المجذر بن زياد غيلة من غير دعوى وارث ولا قيام بينة ولا قبل الدية كما تقدم.
ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل مات أخوه: «إن أخاك محبوس بدينه فاقض عنه، فقال يا رسول الله قد أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة، قال أعطها فإنها محقة» .
ومن ذلك أن امرأة جاءت إلى أخرى وقالت لها: فلانة تستعيرك حليك وهي كاذبة فأعارتها إياه، فبعد مدة جاءت للمرأة تطلب حليها فقالت: لم أطلب حليك فجاءت للمرأة التي أخذته فأنكرت أخذه، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته القصة فدعاها، فقالت: والذي بعثك بالحق ما استعرت منها شيئا، فقال صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا فخذوه من تحت فراشها فأخذ وأمر بها فقطعت» .
وأن يقضي لنفسه ولولده، وأن يشهد لنفسه ولولده وأن يقبل الهدية ممن يريد الحكومة عنده، وأن يقضي في حال غضبه، وأن يقطع الأرض قبل أن يفتحها.
ومما شاركه فيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في هذا القسم أن له صلى الله عليه وسلم أن يصلي بعد نومه غير متمكن، أي في النوم الذي تنام فيه عينه وقلبه، بناء على أنه صلى الله عليه وسلم كان له نومان، وحينئذ يكون قوله: «نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا» والمراد به غالبا، إذ يبعد أن يكون بقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس لهم إلا نوم واحد وله صلى الله عليه وسلم نومان.
وإباحة ترك إخراج زكاة المال، لأنه كبقية الأنبياء لا ملك لهم مع الله، وما في أيديهم من المال وديعة لله عندهم يبذلونه في محله ويمنعونه في غير محله، ولأن الزكاة طهرة وهم مبرؤون من الدنس كذا في الخصائص الصغرى نقلا عن سيدي الشيخ تاج الدين بن عطاء الله.
وفيها بعد ذلك أنه صلى الله عليه وسلم اختص بأن ماله باق بعد موته على ملكه ينفق منه على أهله في أحد الوجهين، وصححه إمام الحرمين، والذي صححه النووي الوجه الآخر، وهو خروجه عن ملكه، لكنه صدقة على المسلمين، لا يختص به الورثة، وما قاله ابن عطاء الله بناء مذهب إمامه سيدنا مالك، ومذهب الشافعي رحمه الله(3/421)
تعالى خلافه. ففي الخصائص الصغرى قبل هذا: وذكر مالك رضي الله تعالى عنه، من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يملك الأموال، إنما كان له التصرف وأخذ قدر كفايته.
وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه وغيره أنه يملك هذا كلام الخصائص.
ومن القسم الرابع أنه صلى الله عليه وسلم أول من أخذ عليه الميثاق يوم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: الآية 172] وأنه أول من قال بلى، أي وأنه خص بالبسملة: وفيه ما تقدم أن ذلك على وجه وأن الأصح خلافه لما في القرآن في سورة النمل وفي المرفوع: «أنزل على آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) [الفاتحة: الآية 1] وجاء: «بسم الله فاتحة كل كتاب» وفيه أن الإنجيل من جملتها وهو كتاب عيسى ابن مريم وهو بعد سليمان عليهما السلام، وقد قدمنا ذلك عند الكلام على أوائل البعث وبفاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة آمَنَ الرَّسُولُ [البقرة: الآية 285] إلى ختامها وآية الكرسي أعطيها من كنز تحت العرش وكذا الفاتحة والكوثر.
فقد جاء: «أربع نزلت من كنز تحت العرش لم ينزل منه شيء غيرهن أم الكتاب، وآية الكرسي، وخواتيم سورة البقرة والكوثر» .
وذكر الجلال السيوطي رحمه الله في الخصائص الصغرى، أن مما خص به أعطى من كنز تحت العرش ولم يعط منه أحد غيره والسبع الطوال والمفصل.
وأن دار هجرته التي هي المدينة آخر الدنيا خرابا، وأن جميع ما في الكون خلق لأجله، وأنه تعالى كتب اسمه على العرش وعلى كل سماء، وما فيها كما تقدم وعلى بعض الأحجار وورق الأشجار وبعض الحيوانات كما تقدم، قال بعضهم: بل وعلى سائر ما في الملكوت وذكر الملائكة له صلى الله عليه وسلم في كل ساعة، وذكر اسمه صلى الله عليه وسلم في الأذان في عهد آدم والملكوت الأعلى كما تقدم.
ومما اختص به صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه يحرم نكاح أزواجه صلى الله عليه وسلم بعد موته حتى على الأنبياء بخلاف زوجات الأنبياء بعد موتهم لا يحرم نكاحهن على المؤمنين. قال شيخنا الشمس الرملي والأقرب عدم حرمتهن على الأتقياء من أممهم.
وفيه أنه إذا لم يحرمن على آحاد المؤمنين فعلى الأتقياء بطريق الأولى، إلا أن يقال الفرق ممكن، يدل عليه قوله: والأقرب وإلا فهذا مما يتوقف فيه على النقل.
وقيل ومن ذلك أنه يجب على أزواجه صلى الله عليه وسلم من بعده الجلوس في بيوتهن ويحرم عليهن الخروج منها ولو لحج أو عمرة والراجح خلاف ذلك، فقد حججن مع عمر رضي الله تعالى عنه وعنهن إلا سودة وزينب فخرجن في الهوداج عليهن الطيالسة الخضر وعثمان رضي الله تعالى عنه يسير أمامهن يقول لمن أراد أن يمر عليهن إليك(3/422)
إليك. وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه خلفهن يقول لمن أراد أن يمر عليهن مثل ذلك، ولا ترى هوادجهن إلا مد البصر، ولما ولي عثمان رضي الله تعالى عنه حج بهن أيضا إلا سودة وزينب.
وأنه يحرم أيضا رؤية أشخاص زوجاته صلى الله عليه وسلم في الأزر، وسؤالهن مشافهة أي من غير حجاب.
ولا يجوز كشف وجوههن لشهادة بلا خلاف، وأن الله سبحانه وتعالى أخذ الميثاق على سائر النبيين آدم فمن بعده أن يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم وينصروه إن أدركوه وأن يأخذوا العهد على أممهم بذلك كما تقدم، وأنه صلى الله عليه وسلم يحشر على البراق، فقد جاء:
«تبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على الدواب ويبعث صالح على ناقته، ويحشر ابنا فاطمة رضي الله تعالى عنهم على ناقته العضباء والقصوى، ويبعث بلال رضي الله تعالى عنه على ناقة من نوق الجنة، وأن في كل يوم ينزل على قبره الشريف صلى الله عليه وسلم سبعون ألف ملك يضربونه بأجنحتهم ويحفون به، ويستغفرون له، ويصلون عليه إلى أن يمسوا عرجوا وهبط سبعون ألف ملك كذلك حتى يصبحون لا يعودون إلى أن تقوم الساعة» وأنه شق صدره الشريف صلى الله عليه وسلم عند ابتداء الوحي، وأنه تكرر له ذلك خمس مرات على ما تقدم، وأن خاتم النبوة بظهره بإزاء قلبه حيث يدخل الشيطان لغيره. وخاتم الأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام كان في يمينهم كما تقدم، وتقدم ما فيه، وأن له صلى الله عليه وسلم ألف اسم، ونقل عن تفسير الفخر الرازي أن له صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف اسم، وأنه صلى الله عليه وسلم تسمى من أسماء الله تعالى بنحو سبعين اسما، وأنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام على الصورة التي خلق عليها مرتين كما تقدم، وغيره لم يره كذلك، وأنه عليه الصلاة والسلام يحكم بالظاهر والباطن كما تقدم، وأنه صلى الله عليه وسلم أحلت له مكة ساعة من نهار وأنه حرّم ما بين لابتي المدينة كما تقدم، وأنه لم تر عورته قط، وأن من رآها طمست عيناه كما تقدم، وأنه إذا مشى في الشمس أو في القمر لا يكون صلى الله عليه وسلم ظل لأنه كان نورا وأنه إذا وقع شيء من شعره في النار لا يحترق، وأن وطأة أثر في الصخر على ما تقدم، وأن الذباب لا يقع على ثيابه فضلا عن جسده الشريف، ولا يمتص نحو البعوض والقمل دمه كما تقدم، وهذا لا ينافي كون القمل يكون في ثوبه، ومن ثم جاء: «كان صلى الله عليه وسلم يفلي ثوبه» وأن عرقه أطيب من ريح المسك كما تقدم.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا ركب دابة لا تبول ولا تروث وهو راكبها، ولو بنى مسجده إلى صنعاء اليمن كان مسجده أي في المضاعفة خلافا لجمع منهم ابن حجر الهيتمي.
وقد قال الحافظ السيوطي: نص العلماء على أن المسجدين: أي المكي والمدني، ولو وسعا لم تختلف أحكامهما الثابتة لهما.(3/423)
وروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لو مدّ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة لكان منه، فهذا الأثر مصرح بأن أحكام مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة له، فالتوسعة لا تمنع استمرار الحكم، وتقدم ما في ذلك، وأنه يجب على أمته صلى الله عليه وسلم أن تصلي وتسلم عليه في التشهد الأخير وعند كل ما يذكر عند بعضهم، وأن القمر شق له صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وأن الحجر والشجر سلما عليه صلى الله عليه وسلم، وشهادة الشجر له صلى الله عليه وسلم بالنبوة وإجابتها دعوته، وكلام الصبيان المراضع، وشهادتهم له بالنبوة كما تقدم، وأن الجذع اليابس حن إليه صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وأنه صلى الله عليه وسلم أرسل للناس كافة الإنس والجن إجماعا معلوما من الدين بالضرورة فيكفر جاحد ذلك، وقد يتوقف في كفر العامي بجحد إرساله صلى الله عليه وسلم للجن وإلى الملائكة على ما هو الراجح كما تقدم.
قال بعضهم والقول بمقابلة مبني على تفضيل الملائكة على الأنبياء، وهو قول مرجوح ذهب إليه المعتزلة والفلاسفة وجماعة من أهل السنة الأشاعرة. واستدلوا بأمور كلها مردودة وتقدم عن البارزي رحمه الله أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الحيوانات والجمادات، لكن استدل له بشهادة الضب والشجر له بالرسالة صلى الله عليه وسلم. وقد يتوقف في الاستدلال بذلك.
وتقدم عن الحافظ السيوطي رحمه الله أنه صلى الله عليه وسلم أرسل لنفسه، وتقدم الفرق بين عموم رسالته عليه الصلاة والسلام وعموم رسالة نوح صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم بعث رحمة للبر والفاجر، ورحمة للكفار بتأخير العذاب، وعدم معالجتهم بالعقوبة بنحو الخسف والمسخ والغرق كسائر الأمم المكذبة كما تقدم، وأن الله تعالى لم يخاطبه باسمه كما خاطب غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل خاطبه صلى الله عليه وسلم: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال: الآية 64] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة: الآية 41] يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) [المدّثّر: الآية 1] يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) [المزمّل: الآية 1] وقال: يا آدَمُ [البقرة: الآية 33] يا نُوحُ [هود: الآية 32] يا إِبْراهِيمُ [هود: الآية 76] يا داوُدُ [ص: الآية 26] يا زَكَرِيَّا [مريم: الآية 7] يا يَحْيى [مريم: الآية 12] يا عِيسى [آل عمران: الآية 55] وأن الله أقسم بحياته صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) [الحجر: الآية 72] .
وروى ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم» وأقسم الله على رسالته بقوله: يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) [يس: الآية 1- 3] وأن إسرافيل عليه السلام أهبط إليه صلى الله عليه وسلم ولم يهبط إلى نبي قبله كما تقدم، وأنه صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق على الله، وأنه يحرم نكاح موطوآته صلى الله عليه وسلم من الزوجات والسراري إلا من باعه أو وهبه من السراري في حياته إن فرض ذلك، وذهب الماوردي إلى تحريمها.
وفي كلام بعضهم: وتحرم زوجاته صلى الله عليه وسلم على غيره ولو قبل الدخول ولو مختارة(3/424)
للفراق، خلافا لما في الشرح الصغير للرافعي من حل المختارة للفراق، وأنه يحرم التزوّج على بناته صلى الله عليه وسلم، وقيل على فاطمة خاصة رضي الله تعالى عنها. وأما التسري إلا عليهنّ فلم أقف على حكمه، وما علل به منع التزويج عليهنّ حاصل في التسري إلا أن يفرق.
وأوتي صلى الله عليه وسلم قوة أربعين رجلا من أهل الجنة في الجماع، وقوة الرجل من أهل الجنة كمائة من أهل الدنيا، فيكون أعطي صلى الله عليه وسلم قوة أربعة آلاف رجل، وسليمان صلوات الله وسلامه عليه أعطى قوة مائة رجل. وقيل ألف رجل أي من رجال الدنيا، وأن فضلاته صلى الله عليه وسلم طاهرة كما تقدم، وأنه كان له صلى الله عليه وسلم أن يخص من شاء بما شاء من الأحكام كجعله شهادة خزيمة بشهادة رجلين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي فاستبقه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم وتباطا الأعرابي والفرس معه فساومه في الفرس رجال لا يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراه بزيادة عما اشتراه به صلى الله عليه وسلم فقال الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت مبتاعا لهذا الفرس فابتعه وإلا بعته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمع نداء الأعرابي: أو ليس قد ابتعته منك، فقال الأعرابي: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
بلى قد ابتعته منك، فقال الأعرابي: شاهدان يشهدان أني بعتك، فلما سمع خزيمة رضي الله تعالى عنه ذلك، قال: أنا أشهد أنك بعته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخزيمة: كيف تشهد ولم تكن معنا؟ فقال: يا رسول الله إنا نصدقك بخبر السماء أفلا نصدقك بما تقول، فجعل صلى الله عليه وسلم شهادته رضي الله تعالى عنه في القضايا بشهادة رجلين. ومنه أخذ جواز الشهادة له صلى الله عليه وسلم بما ادعاه.
وترخيصه صلى الله عليه وسلم لأم عطية رضي الله تعالى عنها، ولخولة بنت حكيم رضي الله تعالى عنها في النياحة لجماعة مخصوصين.
وترخيصه صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها في عدم الإحداد لما قتل زوجها سيدنا جعفر بن أبي طالب حيث قال لها تسلي ثلاثا ثم اصنعي ما شئت.
وتجويز التضحية بالعناق لأبي بردة ولعقبة بن عامر رضي الله تعالى عنهما.
وزاد بعضهم ثلاثة آخرين.
وتزويجه صلى الله عليه وسلم لشخص امرأة على سورة من القرآن وقال: لا تكون لأحد غيرك مهرا ولعل المراد سورة مجهولة، فلا يخالفه ذلك ما عند أئمتنا من جواز ذلك على معين من السور القرآنية.
وتزويجه صلى الله عليه وسلم أم سليم أبا طلحة رضي الله تعالى عنهما على إسلامه كما تقدم وإعادة امرأة أبي ركانة إليه بعد أن طلقها ثلاثا من غير محلل.
وتخصيصه صلى الله عليه وسلم نساء المهاجرين بأن يرثن دور أزواجهن دون بقية الورثة وقد(3/425)
ألغز في ذلك بعضهم بقوله:
سلم على مفتي الأنام وقل به ... هذا سؤال في الفرائض مبهم
قوم إذا ماتوا تحوز ديارهم ... زوجاتهم فلغيرها لا تقسم
وبقية المال الذي قد خلفوا ... يجري على أهل التوارث منهم
وأنه صلى الله عليه وسلم أول من ينشق عنه القبر، فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبو بكر ثم عمر ثم أهل البقيع فيخرجون معي ثم أنتظر أهل مكة» ، أي وفي رواية: «وأنا أول من تنشق عنه الأرض فأكون أول من رفع رأسه فإذا أنا بموسى عليه الصلاة والسلام آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله» .
وفيه أن الاستثناء إنما هو من نفخة الفزع التي هي النفخة الأولى التي يفزع بسببها أهل السموات والأرض، وتمر الجبال مر السحاب، وترتج الأرض بأهلها رجا فتكون كالسفينة في البحر تضربها الأمواج المعنية بقوله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) [النازعات: الآية 6 و 7] والمعنية بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) [الحج: الآية 1] الآية. قال صلى الله عليه وسلم:
«والأموات يومئذ لا يعلمون بشيء من ذلك، قلنا يا رسول الله فمن استثنى الله في قوله:
إلا من شاء الله: قال: أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء وهم أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: الآية 169] ، وقاهم الله فزع ذلك اليوم وآمنهم منه» .
وفيه أن هذا يقتضي أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يفزعون لأنهم أحياء، ولم يذكرهم صلى الله عليه وسلم مع الشهداء، والقياس قد يمنع لأنه يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل. وأنه من يكسى في الموقف أعظم الحلل من الجنة، وأنه صلى الله عليه وسلم يقوم في المقام المحمود على يمين العرش، وأنه الذي يشفع في فصل القضاء بين أهل الموقف، وأنه له صلى الله عليه وسلم شفاعات في ذلك اليوم وهي إحدى عشرة شفاعة ذكرها في «مزيل الخفاء» وأنه صلى الله عليه وسلم صاحب لواء الحمد في ذلك اليوم، آدم فمن دونه تحت لوائه صلى الله عليه وسلم، وأنه خطيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإمامهم في ذلك اليوم كما تقدم.
وأول من يؤذن له في السجود. وأول من ينظر إلى الرب عز وجل، وأنه يسجد أوّلا فيقول له الرب جل جلاله، ارفع رأسك يا محمد، قل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، ثم ثانيا، ثم ثالثا كذلك فيشفع.
وأنه أول من يفيق من الصعقة. وفيه أن نفخة الصعقة، وهي النفخة الثانية التي هي نفخة الموت لأهل السموات والأرض، إلا أن يقال المراد بالصعقة هنا نفخة رابعة أثبتها ابن حزم.(3/426)
فقد قال الحافظ الجلال السيوطي رحمه الله: وأغرب ابن حزم رحمه الله تعالى، فادعى أن النفخ في الصور يقع أربع مرات، فعليه تكون هذه النفخة ليست هي المذكورة في القرآن، وأنها تكون في الموقف بعد النفخة الثالثة التي هي نفخة البعث التي بسببها يكون القيام من القبور إلى المحشر المعنية بقوله تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: الآية 68] وهذه النفخة الرابعة تسمى نفخة الصعق أيضا، لأن بها يحصل لجميع أهل السموات والأرض في ذلك الوقت غشي وهو شبيه بالموت، ويكون أول من يفيق من تلك الصعقة هو صلى الله عليه وسلم، وحينئذ يجد موسى عليه الصلاة والسلام آخذا بقائمة من قوائم العرش، ويكون قوله: «أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكون أنا أول من رفع رأسه، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش» من تخليط بعض الرواة. وحينئذ لا يحتاج إلى الجواب بأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بقوله لا أدري قبل أن أعلمه الله تعالى بأنه أول من تنشق عنه الأرض على الإطلاق، وأن موسى عليه الصلاة والسلام سبقه إلى العرش لأنه صلى الله عليه وسلم بعد خروجه من الأرض ينتظر خروج أهل البقيع، ومجيء أهل مكة فليتأمل ذلك.
وأول من يمر على الصراط، وأول من يدخل الجنة ومعه فقراء المسلمين، وأن له الوسيلة وهي أعلى درجة في الجنة.
وقيل إنه في الجنة لا يصل لأحد شيء إلا بواسطته صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يقرأ في الجنة إلا كتابه، ولا يتكلم في الجنة إلا بلسانه.
ومما شارك فيه الأنبياء في هذا القسم، أن من دعاه صلى الله عليه وسلم، في الصلاة تجب عليه الإجابة قولا وفعلا ولو كثيرا، ولا تبطل صلاته بالنسبة لنبينا صلى الله عليه وسلم بخلاف غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنها تبطل.
ومنه أيضا العصمة من الذنب مطلقا كبيرا أو صغيرا عمدا أو سهوا، وعدم التثاؤب والاحتلام، لأن كلا من الشيطان، ولم ير أثر لقضاء حاجته صلى الله عليه وسلم، بل كانت الأرض تبتلعه ويشم من مكانه رائحة المسك. قال: وأنه صلى الله عليه وسلم كان ينظر بالليل في الظلمة كما يرى بالنهار في الضوء.
واستشكل بما جاء: «أنه صلى الله عليه وسلم لما ابتنى بأم سلمة رضي الله عنها دخل عليها في الظلمة، فوطىء صلى الله عليه وسلم على ابنتها زينب فبكت، فلما كانت الليلة القابلة دخل صلى الله عليه وسلم في ظلمة أيضا فقال: «انظروا ربائبكم لا أطأ عليها» وزينب هذه ولدتها من أبي سلمة بالحبشة، ودخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل وهي إذ ذاك طفلة فنضح صلى الله عليه وسلم وجهها بالماء، فلم يزل ماء الشباب بوجهها حتى عجزت وقاربت المائة سنة.
وكان صلى الله عليه وسلم ينظر من خلفه كما ينظر أمامه، أي وعن يمينه وعن شماله، فقد جاء: «إني لأنظر إلى ما وراء ظهري كما أنظر إلى أمامي» فقيل كان له صلى الله عليه وسلم بين كتفيه(3/427)
عينان كسم الخياط يبصر بهما لا تحجبهما الثياب، وقيل كانت تنطبع صورة المحسوسات التي خلفه في حائط قبلته كما تنطبع الصور في المرآة. وهذا يدل على أن ذلك خاص بالصلاة، وهو ظاهر أكثر الروايات أي وكانت تلك الصلاة إلى حائط فليتأمل.
وكان صلى الله عليه وسلم يرى الثريا اثنا عشر نجما وغيره لا يزيد على تسعة ولو أمعن النظر.
واختصت هذه الأمة المحمدية بأمور لم يشاركها فيه من قبلهم من الأمم، وهي أنها خير الأمم، وأكرم الخلق على الله. قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: الآية 110] .
وفي الحديث: «إن الله اختار أمتي على سائر الأمم. وإن الله ينظر إليها في أول ليلة من رمضان» وأعطيت الاجتهاد في الأحكام، وأظهر الله ذكرها في الكتب القديمة كالتوراة والإنجيل، وأثنى عليها، وأعطيت الصلوات الخمس: أي جمعت لهم على ما تقدم، وأعطيت صلاة العشاء.
فقد أخرج أبو داود والبيهقي عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم فضلتم بها» أي بصلاة العشاء «على سائر الأمم ولم تصلها أمة قبلكم» وفيه ما تقدم.
وأعطيت افتتاح الصلاة بالتكبير. وأعطيت التأمين: أي قول آمين عقب الدعاء، فقد جاء: «أعطيت آمين ولم يعطها أحد ممن كان قبلكم إلا أن يكون الله أعطاها هارون فإن موسى كان يدعو ويؤمن هارون عليهما الصلاة والسلام» وتقدم أن آمين عقب الفاتحة ليس من القرآن اتفاقا.
وأعطيت الاستنجاء بالحجر. وأعطيت الأذان والإقامة والركوع في الصلاة، وأما قوله تعالى لمريم: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران: الآية 43] فالمراد بالركوع الخضوع كما تقدم، ويلزمه أنها أعطيت في الرفع منه «سمع الله لمن حمده» . وفي الاعتدال «اللهم ربنا لك الحمد» إلى آخره. وأعطيت تحريم الكلام في الصلاة دون الصوم عكس من قبلهم. وأعطيت الجماعة في الصلاة. وأعطيت الاصطفاف فيها كصفوف الملائكة. وأعطيت صلاة العيدين والكسوفين والاستسقاء والوتر. وأعطيت قصر الصلاة في السفر، والجمع بين الصلاتين فيه على ما تقدم وفي المطر والمرض على قول اختاره جمع من العلماء ومنهم والدي رحمه الله. وأعطيت صلاة الخوف وصلاة شدته. وأعطيت شهر رمضان على ما تقدم. وأعطيت فيه أمورا منها تصفيد الشياطين.
وقد سئلت: ما فائدة تصفيد الشياطين في رمضان مع وجود الفساد والشر وقتل الأنفس فيه؟ وقد أجبت عنه أربعة أجوبة، حاصلها أن فائدة ذلك قلة الشر لا نفيه بالكلية، وقد ذكرت ذلك في كتابي «إسعاف الإخوان في شرح غاية الإحسان» وهو(3/428)
كتاب ألفته في الصوم وما يتعلق به.
ومنها صلاة الملائكة عليهم حين يفطروا. ومنها أن ريح فمهم بعد الزوال أطيب عند الله من ريح المسك، وفيه أن هذا لا يختص بصوم رمضان. ومنها أن الجنة تزين فيه من رأس الحول إلى رأس الحول، وتفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النيران، وتفتح أبواب السماء في أول ليلة منه.
ومنها أنه يغفر لهم في آخر ليلة منه. وأعطيت العقيقة عن الأنثي. وأعطيت العذبة في العمامة. وأعطيت الوقف، والوصية بالثلث عند الموت. وأعطيت غفران الذنوب بالاستغفار، وجعل الندم توبة. وأعطيت صلاة الجمعة. وأعطيت ساعة الإجابة في يومها. وأعطيت ليلة القدر. وأعطيت السحور وتعجيل الفطر. وأعطيت الاسترجاع عند المصيبة. وأعطيت الحوقلة: أي لا حول ولا قوة إلا بالله. وأعطيت رفع الإصر عنها، ومنه وجوب القصاص في الخطأ والمؤاخذة بحديث النفس والنسيان وما وقع عليه الإكراه، وأن إجماعها حجة لأنها لا تجتمع على ضلالة: أي محرم. وأعطيت أن اختلاف علمائها رحمة، وكان اختلاف من قبلهم عذابا، والمراد بعلماء الأمة المجتهدون، كما أن المراد ذلك كما رواه البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اختلاف أصحابي رحمة» أي ويقاس بأصحابه غيرهم ممن بلغ رتبة الاجتهاد. قال بعضهم: وما ذكره بعض الأصوليين والفقهاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اختلاف أمتي رحمة» لا يعرف من خرّجه بعد البحث الشديد، وإنما يعرف عن القاسم بن محمد بلفظ: «اختلاف أمة محمد رحمة» قال الحافظ السيوطي: ولعله خرّج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا، وأن الطاعون لهم رحمة وكان على من قبلهم عذابا. وأعطيت الإسناد للحديث. قال أبو حاتم الرازي رحمه الله: لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله آدم عليه الصلاة والسلام من يحفظون آثار الرسل، أي ويأخذها واحد عن الآخر إلا في هذه الأمة، أي حتى إن الواحد منهم يكتب الحديث الواحد من ثلاثين طريقا أو أكثر، وأن فيها الأقطاب والأنجاب والأوتاد، ويقال لهم العمد والأبدال والأخيار والعصب، فالأبدال بالشام، واختلفت الروايات في عددهم: فأكثر الروايات أنهم أربعون رجلا، وفي بعض الروايات أربعون رجلا، وأربعون امرأة كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا، وكلما ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة، فإذا جاء الأمر قبضوا كلهم، فعند ذلك تقوم الساعة.
وعن الفضل بن فضالة قال: الأبدال بالشام في حمص خمسة وعشرون رجلا، وفي دمشق ثلاثة عشر، وفي بيسان اثنان. وفي رواية عن حذيفة بن اليمان: «الأبدال بالشام ثلاثون رجلا على منهاج إبراهيم عليه الصلاة والسلام» .(3/429)
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال أربعون رجلا قلوبهم على قلب إبراهيم عليه الصلاة والسلام، يدفع الله بهم عن أهل الأرض، يقال لهم الأبدال.
وعن الحسن البصري رحمه الله: لن تخلو الأرض من سبعين صدّيقا وهم الأبدال: أربعون بالشام، وثلاثون في سائر الأرض.
وعن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه فهو من الأبدال الذين بهم قوام الدنيا وأهلها: الرضا بالقضاء، والصبر عن محارم الله، والغضب في ذات الله» .
وجاء في وصف الأبدال: «إنهم لم ينالوا ما نالوا بكثرة صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكن بسخاء النفس، وسلامة القلوب، والنصيحة لأئمتهم» وفي لفظ:
«لجميع المسلمين» .
وعن أبي سليمان: الأبدال بالشام والنجباء بمصر. وفي لفظ: الأبدال من الشام والنجباء من أهل مصر. وفي رواية عن علي كرم الله وجهه أيضا: والنجباء بالكوفة، والعصب باليمن، والأخيار بالعراق. وفي لفظ: والعصب بالعراق.
وعن بعضهم: النقباء ثلاثمائة وسبعون، والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعمد أربعة، والغوث: أي الذي هو القطب واحد، فمسكن النقباء الغرب، ومسكن النجباء مصر، ومسكن الأبدال الشام، والأخيار سائحون في الأرض، والعمد في زوايا الأرض، ومسكن الغوث مكة، فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فيها النقباء ثم النجباء، ثم الأبدال، ثم الأخيار، ثم العمد، فإن أجيبوا وإلا ابتهل الغوث، فما تتم مسألته حتى يجاب.
وجاء عن علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يكن نبي قط إلا أعطي سبعة نجباء وزراء رفقاء، وإني أعطيت خمسة عشر: حمزة، وجعفر، وأبو بكر، وعمر، وعلي، والحسن، والحسين، وعبد الله بن مسعود، وسلمان، وعمار بن ياسر، وحذيفة، وأبو ذر، والمقداد، وبلال، ومصعب» وأسقط الترمذي حذيفة وأبا ذر والمقداد.
وأنهم: أي أمته صلى الله عليه وسلم يخرجون من قبورهم بلا ذنوب يمحصها الله عنهم باستغفار المؤمنين لهم، وأنها أول من يحاسب، وأنها أول من تنشق عنها الأرض، وأنها في الموقف تكون على مكان عال مشرف على الأمم، وأنها أول من يدخل الجنة من الأمم، وأن لكل منها نورين كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنها تمر على الصراط كالبرق الخاطف وأنها تشفع في بعضها، وأن لها ما وسعت وما سعى(3/430)
لها، وأنها اختصت عن الأمم ما عدا الأنبياء بوصف الإسلام على الراجح كما تقدم لأنه لم يوصف بالإسلام أحد الأمم السالفة سوى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقد شرفت بأن توصف بالوصف الذي توصف به الأنبياء تشريفا لها وتكريما لها، فقد قال زيد بن أسلم أحد أئمة السلف العالمين بالقرآن والتفسير: لم يذكر الله بالسلام غير هذه الأمة، أي وما ورد مما يوهم خلاف ذلك مؤول.
وقد خصت هذه الأمة بخصائص لم تكن لأحد سواها إلا للأنبياء فقط، فمن ذلك الوضوء، فإنه لم يكن أحد يتوضأ إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعا، في التوراة والإنجيل وصف هذه الأمة أنهم يوضؤون أطرافهم.
وفي بعض الآثار: افترضت عليهم أن يتطهروا في كل صلاة كما افترضت على الأنبياء لكن تقدم في الحديث: «أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، فقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، ثم توضأ مرتين فقال: هذا وضوء الأمم من قبلكم، من توضأ مرة آتاه الله أجره مرتين، ثم توضأ ثلاثا ثلاثا، فقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ووضوء خليلي إبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين» وهذا الحديث كما ترى يقتضي مشاركة الأمم مع هذه الأمة في أصل الوضوء، والاختصاص إنما هو بالتثليث، وتقدم الكلام على ذلك، أي والغسل من الجنابة.
ففيما أوحى الله إلى داود عليه الصلاة والسلام في وصف هذه الأمة: «وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأن منها سبعين ألفا، مع كل واحد من هؤلاء السبعين ألفا سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، أي وبإجلال الله تعالى توقير المشايخ منهم، وأنهم اذا حضروا القتال في سبيل الله حضرتهم الملائكة لنصرة الدين، وأن الملائكة عليهم تنزل عليهم في كل سنة ليلة القدر تسلم عليهم، وأكل صدقاتهم في بطونهم، وإثابتهم عليها، وتعجيل الثواب في الدنيا مع ادخاره في الآخرة، كصلة الرحم فإنها تزيد في العمر ويثاب عليها في الآخرة وما دعوا به استجيب لهم.
روى الترمذي رحمه الله: «أعطيت هذه الأمة ما لم يعط أحد بقوله تعالى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: الآية 60] » وإنما يقال هذا للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
وأوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام في وصف هذه الأمة «إن دعوني استجيب لهم، فإما أن يكون عاجلا، وإما أن أصرف عنهم سوآ، وإما أن أدخر لهم في الآخرة» ومخالطة الحائض سوى الوطء وما ألحق به، وهو مباشرة ما بين سرتها وركبتها، وتقدم وصفهم في الكتب القديمة بما لا ينبغي إعادته هنا لطوله.(3/431)
باب ذكر أولاده صلى الله عليه وسلم
ولد له صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله تعالى عنها قبل البعثة: القاسم، وهو أول أولاده صلى الله عليه وسلم، وبه كان يكنى، قيل عاش سنتين، وقيل سنة ونصفا، وقيل حتى مشى، وقيل بلغ ركوب الدابة، وقيل عاش سبع ليال. وهو أول من مات من ولده قبل البعثة، ثم ولدت قبل البعثة أيضا زينب، ثم رقية، ثم فاطمة، ثم أم كلثوم رضي الله تعالى عنهن. وقيل أول بناته صلى الله عليه وسلم رقية، ثم فاطمة، ثم أم كلثوم رضي الله تعالى عنهن. وقيل أكبر بناته صلى الله عليه وسلم رقية، ثم زينب، ثم أم كلثوم ثم فاطمة. وقيل أول بناته صلى الله عليه وسلم زينب، ثم رقية، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة. وبعض الناس ذكر رقية بعد فاطمة.
وبعد البعثة ولد له صلى الله عليه وسلم عبد الله، ويسمى الطيب الطاهر. وقيل الطيب والطاهر غير عبد الله المذكور ولدا في بطن واحدة قبل البعثة.
أي وقيل اللذان ولدا في بطن واحدة قبل البعثة الطاهر والمطهر. وقيل ولد له أيضا قبل البعثة في بطن واحد الطيب والمطيب. وقيل ولد له قبل البعثة عبد مناف، مات هؤلاء قبل البعثة وهم يرضعون، أما عبد الله الذي ولد له بعد بعثته صلى الله عليه وسلم فكان آخر الأولاد من خديجة رضي الله تعالى عنها.
وبهذا يظهر التوقف في قول السهيلي رحمه الله كلهم ولدوا بعد النبوة. وأجاب بعضهم بأن المراد بعد ظهور دلائل النبوة.
وفيه أن دلائل النبوة وجدت قبل تزويجه بخديجة رضي الله تعالى عنها.
وعند موت عبد الله هذا قال العاص بن وائل والد عمرو بن العاص. وقيل أبو لهب قد انقطع ولده: أي لا ولد له ذكر لأن ما عدا الذكر عند العرب لا يذكر فهو أبتر، فأنزل الله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) [الكوثر: الآية 3] .
أقول: في مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: «بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله، فقال:
أنزل عليّ آنفا سورة فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) [الكوثر: الآيات 1- 3] ولا يخفى أن هذا يقتضي أن السورة المذكورة مدنية، ثم رأيت الإمام النووي رجح ذلك لما ذكر.
وقد يقال: يجوز أن يكون إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) [الكوثر: الآية 3] نزل بمكة وما عداه نزل بالمدينة وقد يعبر عن معظم السورة بالسورة. ثم رأيته في الإتقان ذكر أن مما نزل دفعة واحدة سورا منها الفاتحة والإخلاص والكوثر. ثم رأيت الإمام(3/432)
الرافعي رحمه الله قال: فهم فاهمون من الحديث أن السورة نزلت في تلك الإغفاءة، وقالوا: من الوحي ما كان يأتيه في النوم، لأن رؤيا الأنبياء وحي، وهذا غير صحيح، لكن الأشبه أن يقال: القرآن كله نزل يقظة، وكان صلى الله عليه وسلم خطر له في النوم سورة كوثر المنزل عليه في اليقظة: أي قبل ذلك.
وفيه أن قول آنفا لا يناسبه، قال: أو يحمل الإغفاء على الحالة التي كانت تعتريه عند نزول الوحي. ثم رأيت الجلال السيوطي في الإتقان نظر في جواب الرافعي الأول بما ذكرته واستحسن الجواب الثاني.
وفي المواهب أن العاص بن وائل اجتمع هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم في باب من أبواب المسجد فتحدثا وصناديد قريش جلوس في المسجد، فلما دخل العاص المسجد قالوا له: من ذا الذي كنت تتحدث معه؟ قال: ذاك الأبتر، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان توفي أولاده صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله تعالى عنها أي الذكور، فرد الله سبحانه وتعالى عليه وتولى جوابه بقوله: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) [الكوثر:
الآية 3] أي عدوك ومبغضك هو الذليل الحقير: أي باغضك هو الأبتر: أي المقطوع عن كل خير، أو المقطوع رحمه بينه وبين ولده، لأن الإسلام حجزهم عنه فلا توارث بينهم.
فلا يقال العاص وأبو لهب لهما أولاد ذكور؟ فالأول له عمرو وهشام رضي الله تعالى عنهما. والثاني له عتبة ومعتب رضي الله تعالى عنهما.
قيل وكان بين كل ولدين لخديجة سنة. وكانت رضي الله تعالى عنها تعق عن الغلام بشاتين، وعن الجارية بشاة، وكانت تسترضع لهم.
وذكر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره في قوله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً [الشّورى: الآية 49] كلوط عليه الصلاة والسلام كان له إناث ولم يكن له ذكور وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ [الشّورى: الآية 49] كإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإنه لم يكن له بنت أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً [الشّورى: الآية 50] كنبينا صلى الله عليه وسلم وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً [الشّورى: الآية 50] كيحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، فإنهما لم يولد لهما ولد.
أما زينب رضي الله تعالى عنها، فتزوجها ابن خالتها هالة بنت خويلد أخت خديجة شقيقتها، وهو العاصي بن الربيع كما تقدم. وذكر بعضهم بدل هالة هند.
قال: وهالة صحابية، وهند لا أعرف لها إسلاما. ويحتمل أن يكون أحدهما اسما والآخر لقبا، فهما واحدة.
وفي سنة ثمان من الهجرة، أي من ذي الحجة ولدت له صلى الله عليه وسلم مارية القبطية رضي الله تعالى عنها- وكان صلى الله عليه وسلم معجبا بها، لأنها كانت بيضاء جميلة- ولده إبراهيم. وعق عنه صلى الله عليه وسلم بكبشين يوم سابعه، وحلق رأسه، وتصدق بزنة شعره فضة على المساكين، وأمر بشعره فدفن في الأرض، أي وغارت نساؤه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن(3/433)
من ذلك ولا كعائشة رضي الله تعالى عنها حتى أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: انظري إلى شبهه، فقالت: ما أرى شيئا فقال: ألا تري إلى بياضه ولحمه، وكانت قابلتها سلمى مولاة رسول صلى الله عليه وسلم، أي وكانت قبل ذلك مولاة عمته صلى الله عليه وسلم صفية رضي الله تعالى عنها وهبتها له صلى الله عليه وسلم، وسلمى زوجة أبي رافع رضي الله تعالى عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لعمه العباس رضي الله تعالى عنه قبل ذلك، وهبه له صلى الله عليه وسلم واسمه إبراهيم وكان قبطيا.
وقيل غير ذلك، أعتقه صلى الله عليه وسلم لما أخبره بإسلام العباس، وزوّجه مولاته سلمى المذكورة. وقيل كان مولى لسعيد بن العاص، فورثه بنوه ثمانية فأعتقوه كلهم إلا ولده خالد فإنه لم يعتق نصيبه منه، فكلمه صلى الله عليه وسلم أن يعتق نصيبه أو يبيعه أو يهبه منه، فوهبه منه صلى الله عليه وسلم فأعتقه، قيل بعد أن سأله صلى الله عليه وسلم أبو رافع في ذلك، وبقي عقبة من أشراف المدينة.
وكان ولده عبد الله كاتبا وخازنا لعلي كرم الله وجهه أيام خلافته، فخرجت إلى زوجها أبي رافع فأخبرته أن مارية قد ولدت غلاما، فجاء أبو رافع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبشره، فوهب له عبدا.
وروى أبو رافع رضي الله تعالى عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه واغتسل عند كل واحدة منهن غسلا» قال أبو رافع «فقلت له: يا رسول الله لو جعلته غسلا واحدا، قال: هذا أزكى وأطيب» وسمى صلى الله عليه وسلم ابنه يومئذ: أي يوم ولادته، وقيل سماه سابع ولادته، ودفعه لأم بردة خولة بنت المنذر بن زيد الأنصاري زوجة البراء بن أوس لترضعه، وأعطاها قطعة نخل، فكانت ترضعه في بني مازن وترجع به إلى المدينة، وكان صلى الله عليه وسلم ينطلق إليها فيدخل البيت ويأخذه فيقبله، ثم يرجع.
ولما احتضره جاء صلى الله عليه وسلم فوجده في حجر أمه، فأخذه صلى الله عليه وسلم في حجره وقال: «يا إبراهيم إنا لن نغني عنك من الله شيئا، ثم ذرفت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: إنا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكي العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب ونهانا عن الصياح. أي وفي لفظ: «تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب» ولولا أنه وعد صادق وموعود جامع- فإن الآخر منا يتبع الأول- وجدنا عليك يا إبراهيم وجدا شديدا ما وجدناه، أي وفي لفظ: «ولولا أنه أمر حق ووعد صدق وإنها سبيل مأتية لحزنا عليك حزنا شديدا أشد من هذا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون» وفي لفظ: «وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» .
وعن سيرين: لما نزل بإبراهيم الموت صرت كلما صحت أنا وأختي نهانا صلى الله عليه وسلم عن الصياح، أي ولما بكى صلى الله عليه وسلم قال له أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما: «أنت أحق من علم الله حقه، قال: تدمع العين، وقال له صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه: أو لم تكن نهيت عن البكاء؟ قال: ولا ولكني نهيت عن صوتين(3/434)
أحمقين وآخرين: صوت عند مصيبة وخمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان، وصوت عند نغمة لهو، وهذه رحمة، ومن لا يرحم لا يرحم» وذكر «أنه لما مات كان صلى الله عليه وسلم مستقبلا للجبل فقال: يا جبل لو كان بك مثل ما بي لهدك، ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون وصرخ أسامة رضي الله تعالى عنه، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له:
رأيتك تبكي، فقال له صلى الله عليه وسلم البكاء من الرحمة، والصراخ من الشيطان» .
ولما مات ولد سليمان بن عبد الملك التفت إلى ولي عهده عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه وقال له: إني أجد في كبدي جمرة لا يطفئها إلا عبرة، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: اذكر الله يا أمير المؤمنين وعليك بالصبر. والتفت إلى وزيره رجاء، فقال له رجاء اقضها يا أمير المؤمنين فما بذلك من بأس، فقد دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، فأرسل سليمان عينيه فبكى حتى قضى أربا، ثم أقبل عليهما، فقال: لو لم أنزف هذه العبرة لا نصدعت كبدي ثم لم يبك بعدها، ولذلك قيل:
في إفاضة الكئيب لدمعته ... ما يذهب من لوعته
وفي إرساله لعبرته ... ما يعينه على سلوته
ومات سنة عشرة من الهجرة.
واختلف في سنة؟ فقيل سنة وعشرة أشهر وستة أيام، وقيل ثمانية عشر شهرا، مات عند ظئره أم بردة، وغسلته، وحملته بين يديها على سرير.
وفي رواية غسله الفضل بن العباس رضي الله تعالى عنهما ورسول الله صلى الله عليه وسلم على سرير.
وفي كلام ابن الأثير رحمه الله قيل: إن الفضل بن العباس رضي الله تعالى عنهما غسل إبراهيم ونزل في قبره هو وأسامة بن زيد، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفير القبر، قال الزبير: ورش على قبره ماء، وعلم على قبره بعلامة. وهو أول قبر رش عليه الماء، وفيه أنه رش على قبر عثمان بن مظعون بالماء، وهو سابق على سيدنا إبراهيم كما تقدم، وصلى عليه صلى الله عليه وسلم وكبر أربعا، أي وقيل لم يصلّ عليه: أي لم تقع الصلاة عليه من أحد. وفي كلام النووي رحمه الله القول بالصلاة عليه، هو قول جمهور العلماء وهو الصحيح.
وما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه لم يصلّ عليه قال ابن عبد البر رحمه الله إنه غلط، فقد أجمع جماهير العلماء على الصلاة على الأطفال إذا استهلوا عملا مستفيضا عن السلف والخلف.
وقال الإمام أحمد رحمه الله في خبر عائشة رضي الله تعالى عنها: إنه خبر(3/435)
منكر جدا، أي وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: «الطفل يصلى عليه» وجاء: «صلوا على أطفالكم فإنه من أفراطكم» وقد جاء: في المرفوع: «إذا استهل المولود صلى عليه وورّث وورث» وجاء: «أحق ما صليتم على أطفالكم» ومن المقرر أنه إذا تعارض الإثبات والنفي قدم الإثبات على النفي.
ولما كسفت الشمس في ذلك اليوم قال قائل: كسفت لموت إبراهيم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكسف لموت أحد ولا لحياته» . وفي لفظ: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فلا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته» الحديث. ودفن بالبقيع وقال: «الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون رضي الله عنه» ولقنه صلى الله عليه وسلم. قال الإمام السبكي: وهو غريب. وقد احتج به بعض أئمتنا على استحباب تلقين الطفل.
وفي التتمة للمتولي من أئمتنا: والأصل في التلقين ما روي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفن إبراهيم قال: قل الله ربي، ورسول الله أبي، والإسلام ديني. فقيل له: يا رسول الله أنت تلقنه فمن يلقننا؟ فأنزل الله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم: الآية 27] أي وفي رواية: «أنه صلى الله عليه وسلم لما دفن ولده إبراهيم وقف على قبره، فقال: يا بني إن القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب، إنا لله وإنا إليه راجعون، يا بني قل الله ربي، والإسلام ديني، ورسول الله أبي، فبكت الصحابة رضوان الله عليهم. ومنهم عمر رضي الله عنه بكى حتى ارتفع صوته، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما يبكيك يا عمر؟ فقال: يا رسول الله هذا ولدك وما بلغ الحلم ولا جرى عليه القلم ويحتاج إلى تلقين مثلك يلقنه التوحيد في مثل هذا الوقت، فما حال عمر وقد بلغ الحلم، وجرى عليه القلم، وليس له ملقن مثلك؟ فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وبكت الصحابة معه، ونزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم: الآية 27] يريد بذلك وقت الموت:
أي عند وجود الفتانين وعند السؤال في القبر، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية، فطابت الأنفس وسكنت القلوب، وشكروا الله» .
وفيه أن هذا يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم لم يلقن أحدا قبل ولده إبراهيم، وهذا الحديث استند إليه من يقول بأن الأطفال يسألون في القبر فيسن تلقينهم.
وذهب جمع إلى أنهم لا يسألون، وأن السؤال خاص بالمكلف، وبه أفتى الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال: والذي يظهر اختصاص السؤال بمن يكون مكلفا، ويوافقه قول النووي رحمه الله في الروضة وشرح المهذب: التلقين إنما هو في حق الميت المكلف أما الصبي ونحوه فلا يلقن. قال الزركشي: وهو مبني على أن غير المكلف لا يسأل في قبره.(3/436)
وذكر القرطبي رحمه الله أن الذي يقتضيه ظواهر الأخبار أن الأطفال يسألون، وأن العقل يكمل لهم.
وذكر أن الأحاديث مصرحة بسؤال الكافر، أي من هذه الأمة. ويخالفه قولهم حكمة السؤال تمييز المؤمن من المنافق الذي يظهر الإسلام في الدنيا، وأما الكافر الجاحد فلا يسأل. قال الفاكهاني: إن الملائكة لا يسألون.
قال بعضهم: ووجهه ظاهر، فإن الملائكة إنما يموتون عند النفخة الأولى، أي فلم يبق منهم من يقع منه السؤال. وأما عذاب القبر فعام للمسلم والكافر والمنافق، فعلم الفرق بين فتنة القبر وعذابه، وهو أن الفتنة تكون بامتحان الميت بالسؤال، وأما العذاب فعام يكون ناشئا عن عدم جواب السؤال، ويكون عن غير ذلك.
وقد اختص نبينا صلى الله عليه وسلم بسؤال أمته عنه، بخلاف بقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما ذاك إلا أن الأنبياء كان الواحد منهم إذا أتى أمته وأبوا عليه اعتزلهم وعوجلوا بالعذاب. وأما نبينا صلى الله عليه وسلم، فبعث رحمة بتأخير العذاب ولما أعطاه الله السيف دخل في دينه قوم مخافة من السيف، فقبض الله تعالى فتاني القبر ليستخرجا بالسؤال ما كان في نفس الميت فيثبت الله المسلم ويزل المنافق.
وفي بعض الآثار تكرر السؤال في المجلس الواحد ثلاث مرات. وفي بعضها أن المؤمن يسأل سبعة أيام والمنافق أربعين يوما، أي قد يقع ذلك.
وفي بعض الآثار أن فتاني القبر أربعة: منكر، ونكير، وناكور، وسيدهم رومان وفي بعضها ثلاثة، أنكر، ونكير، ورومان. وقيل أربعة: منكر، ونكير يكونان للمنافق، ومبشر وبشير للمؤمن.
ونقل الحافظ السيوطي عن شيخه الجلال البلقيني رحمهما الله أن السؤال يكون بالسريانية، واستغربه وقال: لم أره لغيره. وفي كلام الحافظ السيوطي: لم يثبت في التلقين حديث صحيح ولا حسن، بل حديثه ضعيف باتفاق جمهور المحدثين. ولهذا ذهب جمهور الأمة إلى أن التلقين بدعة، وآخر من أفتى بذلك العز بن عبد السلام، وإنما استحسنه ابن الصلاح وتبعه النووي نظرا إلى أن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال. وحينئذ فقول الإمام السبكي: حديث تلقين النبي صلى الله عليه وسلم لابنه ليس له أصل أي صحيح أو حسن.
وقال صلى الله عليه وسلم في حق إبراهيم: «إن له ظئرا تتم رضاعه» وفي رواية «إن له ظئرين يكملان رضاعة في الجنة» وقال: «لو عاش لوضعت الجزية عن كل قبطي» وفي لفظ: «وعتقت القبط وما استرق قبطي قط» وفي لفظ: «مارق له خال» .
قال بعضهم: معناه لو عاش فرآه أخواله القبط لأسلموا فرحا به وتكرمة له،(3/437)
فوضعت الجزية عنهم، لأنها لا توضع على مسلم. ومعنى الثاني إذا أسلموا وهم أحرار لم يجر عليهم الرق، لأن الحر المسلم لا يجري عليه الرق.
وذكر أن الحسن بن علي رضي الله عنهما كلم معاوية في أن يضع الخراج عن أهل بلد مارية وهي حفنة بالحاء المهملة وإسكان الفاء وبالنون قرية من قرى الصعيد، ففعل معاوية ذلك رعاية لحرمتهم.
أي وقال النووي رحمه الله: وأما ما روي عن بعض المتقدمين لو عاش إبراهيم لكان نبيا فباطل، وجسارة على الكلام في المغيبات، ومجازفة وهجوم على بعض الزلات. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وهو عجيب مع وروده عن ثلاثة من الصحابة، وكأنه لم يظهر له وجه تأويله، وهو أن القضية الشرطية لا تستلزم الوقوع، أي وكان اللائق به أن يكون نبيا وإن لم يكن ذلك. ثم رأيت الجلال السيوطي رحمه الله نقل عن الأستاذ أبي بكر بن فورك وأقره: «أنه صلى الله عليه وسلم لما دفن ولده إبراهيم وقف على قبره وقال: يا بني إن القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب، إنا لله وإنا إليه راجعون» وكنى به صلى الله عليه وسلم، فقد جاء: «أن جبريل عليه السلام قال له:
السلام عليك يا أبا إبراهيم، إن الله قد وهب لك غلاما من أم ولدك مارية، وأمرك أن تسميه إبراهيم، فبارك الله لك فيه، وجعله قرة عين لك في الدنيا والآخرة» زاد الحافظ الدمياطي رحمه الله: «فاطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك» .
أقول: وسبب اطمئنانه صلى الله عليه وسلم بذلك أن مأبورا كان يأوي إليها ويأتي إليها بالماء والحطب، فاتهمت به وقال المنافقون علج يدخل على علجة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث عليا كرم الله وجهه ليقتله، فقال له علي كرم الله وجهه: يا رسول الله أقتله أو أرى فيه رأيي؟ فقال: بل ترى رأيك فيه، فلما رأى السيف بيد علي كرم الله وجهه تكشف، وفي لفظ: فإذا هو في ركي يتبرد، فقال علي كرم الله وجهه: اخرج، فناوله يده، فأخرجه فإذا هو مجبوب، أي ممسوح، فكف عنه علي كرم الله وجهه ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: أصبت، إن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب. أي وتكون هذه القضية متقدمة على قول جبريل عليه الصلاة والسلام المذكور، فالمراد مزيد الاطمئنان.
وفي كلام بعضهم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على مارية رضي الله تعالى عنها وهي حامل بولده إبراهيم فوجد عندها من ذكر، فوقع في نفسه شيء، فخرج صلى الله عليه وسلم وهو متغير اللون، فلقيه عمر رضي الله تعالى عنه فعرف الغيظ في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فأخبره، فأخذ عمر السيف ثم دخل على مارية رضي الله عنها وهو عندها فأهوى إليه بالسيف، فلما رأى ذلك كشف عن نفسه فإذا هو مجبوب فلما رآه عمر رضي الله عنه رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ألا أخبرك يا عمر؟ إن جبريل(3/438)
عليه الصلاة والسلام أتاني فأخبرني أن الله برأها ونزهها مما وقع في نفسي، وبشرني أن في بطنها غلاما مني، وأنه أشبه الخلق بي، وأمرني أن أسميه إبراهيم، وكناني بأبي إبراهيم، ولولا أني أكره أن أحول كنيتي التي تكنيت بها لتكنيت بأبي ابراهيم» والله أعلم.
أي وفي النور: إني لا أعرف في الصحابة خصيا إلا هذا وشخصا آخر يقال له سفد، رآه مولاه يقبل جارية له فخصاه وجدعه، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه سيده. وفي كلام بعضهم عد ابن منده وأبو نعيم مأبورا في الصحابة، وقد غلطا في ذلك، فإنه لم يسلم وما زال نصرانيا، ومنه أي بسببه فتح المسلمون مصر في خلافة عمر رضي الله عنه.
باب ذكر أعمامه وعماته صلى الله عليه وسلم
أعمامه صلى الله عليه وسلم اثنا عشر، وهم: الحارث وهو أكبر أولاد جده عبد المطلب وبه كان يكنى. وشقيقه قثم وقد هلك صغيرا. وأبو طالب. والزبير. وعبد الكعبة، وهؤلاء الثلاثة أشقاء لعبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل الحارث لا شقيق له، وحمزة وشقيقاه المقوم بفتح الواو وكسرها مشددة، وجحل بتقديم الجيم على الحاء، واسمه المغيرة، والجحل السقاء الضخم، أي وقيل بتقديم الحاء مفتوحة على الجيم، وهو في الأصل الخلخال. والعباس وشقيقه ضرار، وقد تقدم أن أم العباس رضي الله عنه أول من كست الكعبة الحرير، وأبو لهب واسمه عبد العزى، والغيداق واسمه مصعب، وقيل نوفل، ولقب بالغيداق لكثرة جوده، أي لأنه كان أجود قريش وأكثرها طعاما ومالا، وذكر بعضهم في أعمامه العوام.
وعماته صلى الله عليه وسلم ست وهن: أم حكيم وعاتكة وبرة وأروى وأميمة، وهؤلاء الخمسة أشقاء لعبد الله والده صلى الله عليه وسلم وصفية: أي وهي شقيقة حمزة ولم يسلم من أعمامه صلى الله عليه وسلم الذين أدركوا البعثة إلا حمزة والعباس، وحكي إسلام أبي طالب وقد تقدم ما فيه ولم يسلم من عماته اللاتي أدركن البعثة من غير خلاف إلا صفية أي وهي أم الزبير بن العوام، أسلمت وهاجرت أي وماتت في خلافة عمر رضي الله عنه.
قيل وأسلمت عاتكة التي هي صاحبة الرؤيا يوم بدر، وقيل وأروى. قال بعضهم: والمشهور أن عاتكة لم تسلم.
باب ذكر أزواجه وسراريه صلى الله عليه وسلم
لا يخفى أن أزواجه صلى الله عليه وسلم المدخول بهن اثنتا عشرة امرأة: خديجة رضي الله عنها، وهي أول نسائه صلى الله عليه وسلم وكانت قبله تحت أبي هالة بن زرارة التيمي، وقيل كانت(3/439)
تحت عتيق بن عائد الخزومي أولا ثم تحت أبي هالة كما تقدم. وجاء: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب» أي ليس فيه رفع صوت ولا تعب: أي من درة مجوفة، فقد جاء: «أنها قالت له: يا رسول الله هل في الجنة قصب؟ فقال: إنه من لؤلؤ مجبى» بالجيم وبالموحدة مشددة: أي مجوف. وجوزيت رضي الله عنها بهذا البيت، لأنها أول من بنى بيتا في الإسلام بتزوجها برسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء «من كسا مسلما على عري كساء الله من حلل الجنة، ومن سقى مسلما على ظمأ سقاه الله من الرحيق جزاء وفاقا» .
وعن عائشة رضي الله عنها: ما غرت على أحد ما غرت على خديجة رضي الله عنها، ولقد هلكت قبل أن يتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له صلى الله عليه وسلم يوما وقد مدح خديجة رضي الله عنها: ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين قد بدلك الله خيرا منها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي حين كذبني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورزقت منها الولد وحرمته من غيرها» واتفق له صلى الله عليه وسلم: «أنه أرسل لحما لامرأة تناوله صلى الله عليه وسلم ودفعه لآخر يدفعه لها، فقالت له عائشة رضي الله عنها: لم تحرز يدك فقال: إن خديجة أوصتني بها، فقالت عائشة:
لكأنما ليس في الأرض امرأة إلا خديجة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا، فلبث ما شاء الله ثم رجع، فإذا أم رومان أم عائشة رضي الله عنهما، فقالت يا رسول الله ما لك ولعائشة؟ إنها حديثة السن وأنت أحق من يتجاوز عنها، فأخذ بشدق عائشة رضي الله عنها، وقال: ألست القائلة: كأنما ليس على وجه الأرض امرأة إلا خديجة، والله لقد آمنت بي إذ كفر بي قومك ورزقت منها الولد وحرمتموه» .
ثم سودة بنت زمعة أي وأمها من بني النجار لأنها بنت أخي سلمى بنت عمرو، أم عبد المطلب كما تقدم.
ثم أم عبد الله عائشة رضي الله عنها بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، اكتنت بابن أختها أسماء عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم بإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فصار يقال لها أم عبد الله كما تقدم.
وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة: «هو عبد الله وأنت أم عبد الله» قالت: فما زلت أكتني به، أي وكان يدعوها أما لأنه رضي الله عنه تربى في حجرها.
ويقال إنها أتت منه صلى الله عليه وسلم بسقط: أي وسمي عبد الله. قال الحافظ الدمياطي ولم يثبت كما تقدم، وتزوجها صلى الله عليه وسلم بمكة في شوال وهي بنت سبع سنين، وبنى صلى الله عليه وسلم بها وهي بنت تسع سنين أي في شوال على رأس ثمانية أشهر من الهجرة على الصحيح كما تقدم، وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لها:
أريتك في النوم مرتين، أرى ملكا يحملك في سرقة» أي شقة حرير «فيقول: هذه(3/440)
امرأتك فأكشف فأراك فأقول، إن كان من عند الله يمضه» وقبض صلى الله عليه وسلم عنها وهي بنت ثمان عشرة ولم يتزوّج بكرا غيرها، وقبض صلى الله عليه وسلم ورأسه في حجرها، ودفن في بيتها كما سيأتي، وماتت وقد قاربت سبعا وستين سنة في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه بالبقيع، وقيل سعيد بن زيد، ودفنت به ليلا وذلك في زمن ولاية مروان بن الحكم على المدينة في خلافة معاوية. وكان مروان استخلف أبا هريرة رضي الله عنه لما ذهب إلى العمرة في تلك السنة.
ثم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهي شقيقة عبد الله بن عمر وأسن منه، وأمها زينب أخت عثمان بن مظعون، وكانت قبله صلى الله عليه وسلم تحت خنيس بن حذافة رضي الله عنه، فتوفي عنها بجراحة أصابته ببدر، وقيل بأحد وهو خطأ لما سيأتي من أن تزوجه صلى الله عليه وسلم لها في شعبان على رأس ثلاثين شهرا من الهجرة قبل أحد بشهرين.
أقول: وكانت ولادتها قبل النبوة بخمس سنين وقريش تبني البيت. وماتت بالمدينة في شعبان سنة خمس وأربعين، وصلى عليها مروان بن الحكم، وهو أمير يومئذ، وحمل سريرها، وحمله أيضا أبو هريرة رضي الله عنه وقد بلغت ثلاثا وستين سنة. وقيل ماتت لما بويع معاوية سنة إحدى وأربعين والله أعلم، وطلقها صلى الله عليه وسلم.
وقيل في سبب طلاقها أنه صلى الله عليه وسلم كان في بيتها فاستأذنت في زيارة أبيها، أي وقيل في زيارة عائشة لأنهما كانتا متصادقتين: أي بينهما المصافاة فأذن لها، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مارية وأدخلها بيت حفصة وواقعها، فرجعت حفصة فأبصرت مارية مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها، فلم تدخل حتى خرجت مارية ثم دخلت، وقالت له: إني رأيت من كان معك في البيت وغضبت وبكت، أي وقالت: يا رسول الله لقد جئت إليّ بشيء ما جئت به إلى أحد من نسائك في يومي وفي بيتي وعلى فراشي، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهها الغيرة، قال لها: اسكتي فهي حرام عليّ أبتغي بذلك رضاك.
وفي رواية: «أما ترضين أن أحرمها على نفسي ولا أقربها أبدا؟ قالت: بلى، وحلف أن لا يقربها» : أي قال إنها حرام.
وفي رواية: «قد حرمتها عليّ، ومع ذلك أخبرك أن أباك الخليفة من بعد أبي بكر فاكتمي عليّ» .
وفي رواية قال لها: «لا تخبري بما أسررت إليك» فأخبرت بذلك عائشة رضي الله عنهما، فقالت: قد أراحنا الله من مارية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرمها على نفسه وقصت عليها القصة. وقيل خلا صلى الله عليه وسلم بمارية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة،(3/441)
فقال لها: اكتمي عليّ قد حرمت مارية على نفسي، فأخبرت بذلك عائشة وكانتا متصادقتين بينهما المصافاة كما تقدم، فطلقها وأنزل الله تعالى عند تحريم مارية قوله:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ [التحريم: الآية 1] إلى قوله: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ [التحريم: الآية 2] أي أوجب عليكم كفارة ككفارة أيمانكم، لأن الكفارة تحل ما عقدته اليمين لأن هذا ليس من الأيمان: أي واطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على أن حفصة قد نبأت عائشة بما أسرّه إليها من أمر مارية وأمر الخلافة، فلما أخبر صلى الله عليه وسلم عائشة ببعض ما أسرته لها وهو أمر مارية وأعرض عما أسره إليها من أمر الخلافة أن ينتشر ذلك في الناس، قالت عائشة: من أنبأك هذا؟ قال: «نبأني العليم الخبير» ، ومن ثم كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: والله إن خلافة أبي بكر وعمر لفي كتاب الله ثم يقرأ هذه الآية.
ولما أفشت حفصة رضي الله عنها سره صلى الله عليه وسلم طلقها كما تقدم، فجاءه جبريل عليه السلام يأمره بمراجعتها، لأنها صوامة قوامة، وإنها إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم في الجنة.
وفي رواية، تأتي: راجعها رحمة لعمر. وقيل همّ صلى الله عليه وسلم بتطليقها ولم يفعل، فقد جاء عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يطلقها، فقال له جبريل عليه السلام: إنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة. وعليه فيراد بالمراجعة المصالحة والرضا عنها كما سيأتي. قال في الينبوع: وهذا هو المشهور، فسيأتي ما يدل على صحته: أي والذي سيأتي قول عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم لما اعتزل نساءه: يا رسول الله أطلقتهن؟ قال لا.
وفيه أن هذا كان عند طلبهن منه صلى الله عليه وسلم النفقة، وهذه الواقعة غير تلك، وقيل في سبب نزول الآية غير ذلك.
وفي البخاري في سبب نزول الآية عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب ابنة جحش ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها، فلتقل له صلى الله عليه وسلم أكلت مغافير: أي أجد منك ريح مغافير، فدخل على حفصة رضي الله عنها، فقالت له ذلك، فقال لها: لا ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب ابنة جحش فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا» أي لأنه صلى الله عليه وسلم لا يحب أن يظهر منه ريح كريهة، لأن المغافير صمغ العوسج من شجر الثمام كريه الريح.
وعن عمر رضي الله عنه أن امرأته راجعته في شيء فأنكر عليها مراجعتها، فقالت له: عجبا لك يا بن الخطاب: ما تريد أن تراجع، وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان، فقام عمر رضي الله عنه، فدخل على حفصة رضي الله عنها فقال لها: يا بنية إنك لتراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان، فقالت(3/442)
له حفصة: والله إنا لنراجعه، فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا بنية لا تغررك هذه التي أعجبها حسنها وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، يريد عائشة، قال: ثم دخلت على أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها، فقالت: يا بن الخطاب دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه، فأخذتني والله أخذا كسرتني عن بعض ما كنت أجد، فخرجت من عندها، فأنا في منزلي، فجاءني صاحب لي من الأنصار، وأخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتزل نساءه، فقلت: رغم أنف حفصة وعائشة فأخذت ثوبي وجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو في مشربة له يرقى إليها بعجلة، وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشربة وينحدر منها عليه، وغلام له أسود يقال له رباح على رأس العجلة، فقلت له قل له هذا عمر بن الخطاب، فأذن لي: أي بعد أن قال له: يا رباح استأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، وفي كل مرة ينظر رباح إلى المشربة ولا يرد له جوابا، وفي الثالثة رفع له عمر رضي الله عنه صوته فأومأ إليه أن ارق، قال: فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصت عليه القصة، فلما بلغت حديث أم سلمة تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم، ويأتي أن هذا كان عند اجتماعهن عليه في النفقة لا لأجل معاتبة الله إياه بسبب الحديث الذي أفشته حفصة. ويحتمل أنه لا جتماع الأمرين.
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى فيهما: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: الآية 4] فقال: وا عجبا لك يا بن العباس هما عائشة وحفصة: أي فإن الله خاطبهما بقوله: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ [التحريم: الآية 4] أي فهو خير لكما فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: الآية 4] أي مالتا عما يجب عليكما من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتغاء مرضاته، ثم استقبل الحديث قال: كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نسائهم، فصخبت عليّ امرأتي فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت:
ولم تنكر أن أراجعك؟ فو الله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل، فأفزعني ذلك منهن، فدخلت على حفصة، فقلت له: أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل؟ قالت: نعم فقلت: قد خبت وخسرت، أفتأمنين أن يغضب الله بغضب رسوله صلى الله عليه وسلم فتهلكي، لا تستكثري النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تراجعيه في شيء، ولا تهجريه، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك إن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يريد عائشة، فأخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، فقلت: قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا، فدخلت على حفصة، فإذا هي تبكي، فقلت: ما يبكيك؟ ألم أكن حذرتك هذا؟ أطلقكن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري، ها هو معتزل في المشربة: أي الغرفة، فإنه صلى الله عليه وسلم لما عاتبه الله سبحانه بسبب الحديث الذي أفشته حفصة على عائشة حلف لا يدخل على نسائه شهرا،(3/443)
فصار صلى الله عليه وسلم يتغدى ويتعشى وحده في تلك المشربة، فجئت المشربة، فقلت لغلام أسود:
استأذن لعمر، فدخل الغلام فكلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع، فقال: كلمته وذكرتك له فصمت، فانصرفت، ثم غلبني ما أجد، فجئت، فقلت للغلام: استأذن لعمر، فدخل ثم رجع إليّ فقال: ذكرتك له فصمت، فرجعت، ثم غلبني ما أجد، فجئت الغلام، ثم قلت: استأذن لعمر، فدخل ثم رجع إليّ، فقال ذكرتك له، فصمت، فلما وليت منصرفا إذا الغلام يدعوني، فقال: قد أذن لك النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه، متكئا على وسادة من أدم حشوها ليف، فسلمت عليه ثم قلت له: وأنا قائم: يا رسول الله أطلقت نساءك؟ فرفع بصره إليّ فقال: لا، فقلت: الله أكبر، كنا معاشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة فإذا قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قلت يا رسول الله لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت لها لا يغرنك إن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى، فجلست حين رأيته صلى الله عليه وسلم تبسم.
وفي رواية أن عمر رضي الله عنه لما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة حثا على رأسه التراب، وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنته بعدها فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم من الغد وقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر.
وقد يراد بالمراجعة المصالحة والرضا فلا ينافي ما تقدم أنه لم يطلقها وإنما أراد ذلك، ويدل له ما جاء عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يطلقها فقال له جبريل عليه السلام: إنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة، ومن هذا وما يأتي يعلم أنه صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه، وأما الظهار فلم يظاهر أبدا خلافا لمن زعمه.
أي وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب اعتزاله صلى الله عليه وسلم لنسائه في المشربة أنه شجر بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين حفصة أمر، فقال لها: اجعلي بيني وبينك رجلا، قالت: نعم، قال: فأبوك إذن، فأرسلت إلى عمر فجاء، فلما دخل عليهما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: تكلمي، فقالت: بل أنت يا رسول الله تكلم ولا تقل إلا حقا، فرفع عمر رضي الله عنه يده فوجأها في وجهها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كف يا عمر، فقال عمر: يا عدوة الله، النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، والذي بعثه بالحق لولا مجلسه ما رفعت يدي حتى تموتي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصعد إلى الغرفة، فمكث فيها شهرا لا يعرف شيئا من نسائه ونزلت آية التخيير. ويقال: لا مانع من اجتماع هذا السبب مع ما تقدم.
ويروى أن سبب نزول آية التخيير أن نساءه صلى الله عليه وسلم اجتمعن عليه فسألنه النفقة ولم يكن عنده شيء فآلى أن لا يجتمع بهن شهرا وصعد المشربة الحديث.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاء أبو بكر يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم(3/444)
فوجد الناس جلوسا ببابه ليؤذن لهم، قال فأذن لأبي بكر رضي عنه فدخل، ثم أقبل عمر ماشيا، فأذن له فدخل فوجد النبي صلى الله عليه وسلم حوله نساؤه: أي قد سألنه النفقة وهو واجم ساكت لا يتكلم، فقال عمر رضي الله عنه: لأقولن شيئا أضحك به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله لو رأيت فلانة يعني زوجته سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هن حولي كما ترى يسألنني النفقة، فقام أبو بكر رضي الله عنه إلى عائشة فوجأ عنقها، وقام عمر رضي الله عنه إلى حفصة فوجأ عنقها وكل يقول تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده ثم أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يجتمع بهن شهرا.
وفي رواية أخرى عن عمر رضي الله عنه أنه ذكر أن بعض أصدقائه من الأنصار جاء إليه ليلا، فدق عليه بابه وناداه، قال عمر: فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم، فقلت: ماذا أجاءت غسان، لأنا كنا حدثنا أن غسان تنعل الخيل لغزونا، فقال: لا، بل أمر أعظم من ذلك وأطول، طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فقلت: خابت حفصة وخسرت، كنت أظن هذا كائنا حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي ودخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري هو هذا معتزلا في هذه المشربة: أي لأن نساءه صلى الله عليه وسلم لما اجتمعن عليه صلى الله عليه وسلم في طلب النفقة أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن، قال عمر رضي الله عنه:
لأقولن من الكلام شيئا أضحك به النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيت غلاما له صلى الله عليه وسلم أسود، فقلت له:
استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج وقال: قد ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى أتيت المسجد، فجلست قليلا، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام، فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إليّ، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فلما كان في المرة الرابعة وقال لي مثل ذلك وليت مدبرا، فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخل، قد أذن لك، فدخلت، فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكىء على رمل حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ قال: فرفع رأسه إليّ وقال: لا، فقلت:
الله أكبر، ثم قلت: كنا معاشر قريش بمكة نغلب على النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن منهن، فكلمت فلانة يعني زوجته فراجعتني، فأنكرت عليها، فقالت: تنكر أن راجعتك؟ فو الله لقد رأيت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، فقلت: قد من فعل ذلك وخسر، أتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبت إلى حفصة فقلت: أتراجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: نعم، وتهجره إحدانا اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسألينه شيئا، وسليني ما بدا(3/445)
لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك؟ يعني عائشة رضي الله تعالى عنها، فتبسم أخرى، فقلت، أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم فجلست وقلت: يا رسول الله قد أثر في جنبك رمل هذا الحصير وفارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله، فاستوى صلى الله عليه وسلم جالسا وقال: أفي شك أنت يا بن الخطاب أولئك قوم قد عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت: أستغفر الله يا رسول الله، فلما مضى تسع وعشرون يوما أنزل الله تعالى عليه أن يخير نساءه في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الأحزاب: الآية 28] الآية، فنزل ودخل على عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت له: يا رسول الله أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وقد دخلت وقد مضى تسع وعشرون يوما أعددهن، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الشهر تسع وعشرون.
وفي رواية يكون هكذا وهكذا وهكذا، يشير بأصابع يديه وفي الثالثة حبس إبهامه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إني ذاكر لك أمرا: فلا عليك أن لا تعجلي. وفي رواية: إني أعرض عليك أمرا وأحب أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك. قالت: وما هو يا رسول الله فقرأ عليّ: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الأحزاب: الآية 28] الآية، قلت: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. وفي رواية: أفيك يا رسول الله أستشير أبويّ بل أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قالت رضي الله تعالى عنها: ثم قلت له لا تخبره امرأة من نسائك بالذي قلت لك، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا، ثم فعل بقية أزواجه صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت عائشة رضي الله تعالى عنهن.
ثم زينب بنت خزيمة رضي الله تعالى عنها، وهي أخت ميمونة لأمها، كانت تدعى: أي في الجاهلية أم المساكين لرأفتها وإحسانها إليهم أي كما سمى صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بأبي المساكين لحبه لهم، وجلوسه عندهم، وتحدثه معهم، وإحسانه إليهم رضي الله تعالى عنه، كانت قبله تحت الطفيل بن الحارث، فطلقها فتزوجها أخوة عبيدة بن الحارث، فقتل يوم بدر شهيدا، فخطبها صلى الله عليه وسلم، فجعلت أمرها إليه فتزوجها صلى الله عليه وسلم وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشا، أي وذلك على رأس أحد وثلاثين شهرا من الهجرة قبل أحد بشهر. وفي لفظ أن عبيدة بن الحارث قتل عنها يوم أحد فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ أنها كانت تحت عبد الله بن جحش، قتل عنها يوم أحد، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال في المواهب:
وهو أصحّ.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله عروسا بزينب، فعمدت أم سليم إلى تمر وسمن وأقط، فصنعت حيسا فجعلته في تور، فقالت: يا أنس اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقل: بعثت بهذا إليك أمي وهي تقرئك السلام، فقال صلى الله عليه وسلم:(3/446)
ادع لي فلانا وفلانا رجالا سماهم، وادع لي من لقيت، فدعوت من سمى ومن لقيت، فرجعت، فإذا البيت غاصّ، بأهله، قيل لأنس: ما عددهم؟ قال: كانوا ثلاثمائة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده الشريفة على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله، ثم جعل يدعو عنده عشرة يأكلون منه، ويقول لهم: اذكروا الله وليأكل كل رجل مما يليه، فأكلوا حتى شبعوا كلهم، ثم قال صلى الله عليه وسلم لي: يا أنس ارفع فرفعت، فما أدري حين وضعت كانت أكثر أو حين رفعت، فمكثت عنده صلى الله عليه وسلم ثمانية أشهر وقيل شهران أو ثلاثة، ثم توفيت وصلى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفنت بالبقيع، وقد بلغت ثلاثين سنة أو نحوها. ولم يمت من أزواجه صلى الله عليه وسلم في حياته إلا هي وخديجة رضي الله تعالى عنهما.
ثم تزوج صلى الله عليه وسلم بعد زينب هذه أم سلمة. واسمها هند. وكانت قبله صلى الله عليه وسلم عند أبي سلمة رضي الله تعالى عنه عبد الله بن عبد الأسد ابن عمته صلى الله عليه وسلم برة بنت عبد المطلب، وأخوه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وكانت هي وهو أول من هاجر إلى الحبشة على ما تقدم، فلما مات أبو سلمة رضي الله تعالى عنه، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلي الله أن يؤجرك في مصيبتك ويخلفك خيرا، فقالت: ومن يكن خيرا من أبي سلمة؟ ولما اعتدت أم سلمة رضي الله تعالى عنها أرسل صلى الله عليه وسلم يخطبها مع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله تعالى عنه، أي وكان خطبها أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأبت، وخطبها عمر فأبت، فلما جاءها حاطب، قالت: مرحبا برسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول له: إني امرأة مسنة، وإني أم أيتام: أي لأنها رضي الله تعالى عنها كان معها أربع بنات: برة وسلمة وعمرة ودرة، وإني شديدة الغيرة، فأرسل صلى الله عليه وسلم يقول لها: أما قولك إني امرأة مسنة فأنا أسن منك، ولا يعاب على المرأة أن تتزوج أسن منها. وأما قولك: إني أم أيتام فإن كلهم على الله وعلى رسوله. وأما قولك: إني شديدة الغيرة فإني أدعو الله أن يذهب ذلك عنك. أي وفيه أنهم قالوا: يا رسول الله ألا تتزوج من نساء الأنصار؟
قال: إن فيهن غيرة شديدة. وفي لفظ أنها قالت زيادة على ما تقدم: ليس لي ههنا أحد من أوليائي فيزوجني، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: أما ما ذكرت من غيرتك فإني أدعو الله أن يذهبها عنك. وأما ما ذكرت من صبيتك فإن الله سيكفيهم. وأما ما ذكرت من أوليائك فليس أحد من أوليائك يكرهني، فقالت لابنها: زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجه أي على متاع منه رحى وجفنة وفراش حشوه ليف، وقيمة ذلك المتاع عشرة دراهم، وقيل أربعون درهما. قالت: فتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدخلني بيت زينب أم المساكين رضي الله تعالى عنها بعد أن ماتت، فإذا جرة فيها شيء من شعير، وإذا رحى وبرمة وقدر وكعب: أي ظرف الأدم، فأخذت ذلك الشعير فطحنته ثم عصدته في البرمة، وأخذت الكعب فأدمته، فكان ذلك طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أهله ليلة عرسه.(3/447)
وماتت أم سلمى رضي الله تعالى عنها في ولاية يزيد بن معاوية، وكان عمرها أربعا وثمانين سنة ودفنت بالبقيع وصلى عليها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، وقيل سعيد بن زيد وغلط قائله.
وذكر بعضهم أن تزويج ولدها لها رضي الله تعالى عنهما إنما كان بالعصوبة لأنه كان ابن ابن عمها.
ثم تزوج صلى الله عليه وسلم بعد أم سلمة رضي الله تعالى عنها زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها، وكان اسمها برة، فسماها صلى الله عليه وسلم زينب: أي خشي أن يقال خرج من عند برة، وهي بنت عمته صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب وكانت قبله صلى الله عليه وسلم عند مولاه زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما ثم طلقها، فلما انقضت عدتها زوجه الله إياها، أي لأنه صلى الله عليه وسلم أرسل زيد بن حارثة يخطبها له صلى الله عليه وسلم، قال زيد: فذهبت إليها فجعلت ظهري إلى الباب فقلت: يا زينب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، فقالت: ما كنت لأحدث شيئا حتى أؤامر ربي عز وجل، فأنزل الله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها [الأحزاب: الآية 37] فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن، فكانت رضي الله تعالى عنها تفتخر بذلك على نسائه صلى الله عليه وسلم وتقول: إن الله أنكحني إياه من فوق سبع سموات، وهذا يرد ما قيل إن أخاها أبا أحمد بن جحش زوجها منه صلى الله عليه وسلم.
قال في النور: ويمكن تأويل تزويج أخيها إياها.
أي وقد ذكر مقاتل رحمه الله أن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما لما أراد أن يتزوج زينب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله اخطب علي، قال له: من؟
قال: زينب بنت جحش، قال: لا أراها تفعل، إنها أكرم من ذلك نفسا، فقال: يا رسول الله إذا كلمتها أنت وقلت زيد أكرم الناس عليّ فعلت، فقال صلى الله عليه وسلم: إنها امرأة لسناء، فذهب زيد رضي الله تعالى عنه إلى عليّ كرم الله وجهه، فحمله على أن يكلم له النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه، فقال إني فاعل ذلك ومرسلك يا علي إلى أهلها فتكلمهم، ففعل، ثم عاد يخبره بكراهتها وكراهة أخيها لذلك، فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم يقول: قد رضيته لكم، وأقضي أن تنكحوه، فأنكحوه، وساق لهم عشرة دنانير وستين درهما ودرعا وخمارا وملحفة وإزارا وخمسين مدا من الطعام وعشرة أمداد من التمر أعطاه ذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأو لم عليها، وأطعم المساكين خبزا ولحما: أي وتزوجها صلى الله عليه وسلم هلال ذي القعدة سنة أربع من الهجرة على الصحيح وهي بنت خمس وثلاثين سنة، وقيل نزلت في ذلك اليوم آية الحجاب، فإنه صلى الله عليه وسلم لما دعا القوم وطعموا تهيأ صلى الله عليه وسلم للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام وقام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس فلم يدخل، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ [الأحزاب: الآية 53] الآية وتكلم في(3/448)
ذلك المنافقون وقالوا: محمد حرم نساء الأولاد، وقد تزوج امرأة ابنه أي لأن زيد بن حارثة كان يقال له زيد بن محمد: أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان تبناه كما تقدم، فأنزل الله تعالى:
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [الأحزاب: الآية 40] وأنزل ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الأحزاب: الآية 5] فمن حينئذ كان يقال له رضي الله تعالى عنه زيد بن حارثة كما تقدم.
وهي أول نسائه صلى الله عليه وسلم لحوقا به. ماتت رضي الله تعالى عنها بالمدينة سنة عشرين، ودفنت بالبقيع ولها من العمر ثلاث وخمسون سنة. وصلى عليها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أي فإن عمر رضي الله تعالى عنه أرسل إلى زينب رضي الله تعالى عنها بالذي لها من العطاء، فسترته بثوب، وأمرت بتفرقته، فكان خمسة وثمانين درهما، ثم قالت: اللهم لا تدركني عاما لعمر بعد عامي هذا فماتت.
وهي أول من جعل على نعشها قبة، أي بعد فاطمة رضي الله تعالى عنها، فلا يخالف ما سبق مما ظاهره أنه فعل لها ذلك.
وفي كلام بعضهم أن زينب هذه أول من حمل على نعش، وقيل أول من حمل على نعش فاطمة رضي الله تعالى عنها، وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول في حقها: هي التي كانت تساويني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت امرأة قط خيرا في الدين وأتقى لله وأصدق في حديث وأوصل للرحم وأعظم صدقة من زينب رضي الله تعالى عنها.
وقال صلى الله عليه وسلم في حقها: إنها لأواهة، فقال رجل: يا رسول الله ما الأواه؟ قال:
الخاشع المتضرع. وهي أول نسائه صلى الله عليه وسلم لحوقا به كما تقدم. وقال له صلى الله عليه وسلم بعض نسائه: أينا أسرع بك لحوقا؟ قال: أطولكن يدا، فأخذن قصبة يذرعنها، وفي لفظ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نمد أيدينا في الجدار نتطاول، فكانت سودة رضي الله تعالى عنها أطولهن، فلما ماتت زينب رضي الله تعالى عنها، أي وكانت امرأة قصيرة علموا أن المراد بطول اليد الصدقة، لأنها كانت تعمل وتتصدق لا الجارحة وما في البخاري من أنها سودة، قال ابن الجوزي: غلط من بعض الرواة.
والعجب من البخاري رحمه الله كيف لم ينبه عليه ولا علم بفساد ذلك الخطأ، فإنه قال: لحوق سودة به صلى الله عليه وسلم من أعلام النبوة وكل ذلك وهم، وإنما هي زينب فإنها كانت أطولهن يدا بالعطاء. وجمع الطيبي رحمه الله بأنه يمكن أن يقال إن سودة رضي الله تعالى عنها أوّل نسائه صلى الله عليه وسلم موتا التي اجتمعن عند موته، وكانت زينب رضي الله تعالى عنها غائبة.(3/449)
وفيه أن في رواية أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعن عنده لم يغادر منهن واحدة أي فقد قال له بعضهن. وفي لفظ قلن له: أينا أسرع لحوقا بك يا رسول الله؟ وقد قال الإمام النووي: أجمع أهل السيرة على أن زينب رضي الله تعالى عنها أوّل من مات من أزواجه صلى الله عليه وسلم بعده.
ثم جويرية رضي الله تعالى عنها بنت الحارث من بني المصطلق. سبيت في غزوة بني المصطلق، ووقعت في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها على تسع أواق، فأدى عليه الصلاة والسلام عنها ذلك وتزوّجها.
وقيل جاء أبوها فافتداها، ثم نكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم. وقيل إنها كانت بملك اليمين فأعتقها صلى الله عليه وسلم وتزوّجها، وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية، أي لما تقدم. وكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مسافع بن صفوان، وتقدم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت كانت جويرية عليها ملاحة وحلاوة، لا يكاد يراها أحد إلا وقعت بنفسه. وكانت بنت عشرين سنة. أي وتوفيت في المدينة سنة ست وخمسين، وصلى عليها مروان بن الحكم، وهو والي المدينة يومئذ، وقد بلغت سبعين سنة، وقيل خمسا وستين سنة.
ثم ريحانة بنت يزيد من بني النضير. وقيل من بني قريظة، وكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رجل من بني قريظة، يقال له الحكم. قال الحافظ الدمياطي رحمه الله:
ولذلك ينسبها بعض الرواة إلى بني قريظة، وكانت جميلة وسيمة، وقعت في سبي بني قريظة، فكانت صفيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الإسلام ودينها، فاختارت الإسلام، فأعتقها وتزوّجها، وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشا، وقيل كانت موطوءة له صلى الله عليه وسلم بملك اليمين.
أي فقد ذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم خيرها بين أن يعتقها ويتزوّجها، وبين أن تكون له في ملكه، وعليه فتكون من السراري لا من الزوجات.
قال الحافظ الدمياطي: والأوّل، أي أنها زوجة أثبت عند أهل العلم. وقال العراقي إن الثاني: أي كونها سرية أضبط. ودخل بها صلى الله عليه وسلم بعد أن حاضت حيضة أي وذلك في بيت أمّ المنذر سلمى بنت قيس النجارية سنة ست من الهجرة، وغارت عليه صلى الله عليه وسلم غيرة شديدة فطلقها فأكثرت البكاء، فراجعها صلى الله عليه وسلم، وهذا مؤيد للقول بأنها كانت زوجة.
قيل ماتت مرجعه صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع ودفنها بالبقيع.
ثم أم حبيبة رضي الله عنها، وهي رملة بنت أبي سفيان بن حرب رضي الله تعالى عنهما وهي بنت عمة عثمان بن عفان. هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش(3/450)
إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، فولدت له حبيبة وبها كانت تكنى، وهي ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت في حجره رضي الله تعالى عنها، وتنصر عبيد الله بن جحش هناك وثبتت هي على الإسلام رضي الله تعالى عنها.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي رحمه الله فزوّجه صلى الله عليه وسلم إياها، وأصدقها النجاشي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار، أي والذي تولى عقد النكاح خالد بن سعيد بن العاص على الأصح وكلته في ذلك، وهو ابن عم أبيها.
وقيل الذي تولى عقد النكاح عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وقيل كان الصداق أربعة آلاف درهم، وجهزها النجاشي من عنده، وأرسلها مع شرحبيل ابن حسنة في سنة سبع. وقيل تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وعليه يحمل ما في كلام العامري أن النبي صلى الله عليه وسلم جدد نكاح أم حبيبة رضي الله تعالى عنها بنت أبي سفيان رضي الله تعالى عنه تطبيبا لخاطره.
ثم صفية رضي الله تعالى عنها بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير، قتل مع بني قريظة كما تقدم. وكانت عند سلام بن مشكم، ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق، وقتل عنها يوم خيبر، وتقدمت قصة قتله في خيبر، ولم تلد لأحد منهما، واصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه فأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، لأنه لما جمع سبي خيبر جاءه دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه. فقال: يا رسول الله أعطني جارية من السبي فقال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية رضي الله تعالى عنها. فقيل:
يا رسول الله إنها سيدة بني قريظة والنضير لا تصلح إلا لك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خذ جارية من السبي غيرها، فحجبها وجهزتها له أم سليم رضي الله تعالى عنها، وأهدتها له من الليل وكان عمرها لم يبلغ سبع عشرة سنة، فأولم صلى الله عليه وسلم عليها بتمر وسويق.
وفي لفظ: لما أصبح صلى الله عليه وسلم قال: من كان عنده شيء فليجيء به، فبسط نطعا، فجعل الرجل يأتي بالأقط، وجعل الرجل يأتي بالتمر، وجعل الرجل يأتي بالسمن، فحاسوا حيسا، فكانت وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أنس قال: كانت صفية عاقلة فاضلة، ودخل عليها صلى الله عليه وسلم يوما وهي تبكي.
فقال لها في ذلك؟ فقالت قد بلغني أن عائشة وحفصة ينالان مني، ويقولان: نحن خير من صفية، نحن بنات عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولي لهن:
كيف تكن خيرا مني، وأبي هارون، وعمي موسى عليهما الصلاة والسلام، وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم: أي فهي بنت نبي وزوج نبي، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أثرا في وجهها، فسألها عن ذلك. فقالت: رأيت كأن القمر وقع في حجري، فذكرت ذلك لأبي.
وتقدم في رواية أنها ذكرت ذلك لزوجها كنانة، فضرب وجهي ضربة أثرت فيّ هذا الأثر، وقال: إنك لتمدين عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب.(3/451)
ولا مانع من تعدد الواقعة. فقد قال في النور: لعلهما فعلا بها ذلك، وتقدم في رواية أنها رأت الشمس وقعت على صدرها، وتقدم أنه يجوز تعدد الرؤيا، أو أنها رأت الشمس والقمر في وقت واحد.
وفي زمن خلافة عمر رضي الله عنه أتت جارية لها إلى عمر رضي الله عنه، فقالت له: يا أمير المؤمنين إن صفية تحبّ السبت وتصل اليهود، فسألها عمر رضي الله عنه، فقالت: أما السبت فإني لا أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة. وأما اليهود، فإن لي فيهم رحما، فأنا أصلها، ثم قالت للجارية: ما حملك على ما صنعت؟
قالت: الشيطان، قالت: اذهبي فأنت حرة.
قال الحافظ الدمياطي رحمه الله: ماتت في رمضان سنة خمسين. وقيل سنة اثنتين وخمسين ودفنت بالبقيع. وخلفت ما قيمته مائة ألف درهم من أرض وعرض.
وأوصت لابن أختها بثلثها وكان يهوديا.
وذكر الرافعي رحمه الله عن إمامنا الشافعي رضي الله عنه أنها أوصت لأخيها، وكان يهوديا بثلاثين ألفا، أي وهذا لا يعارض ما ذكر لأنه لا يجوز أن يكون من روى عنه إمامنا لم يعتبر ما زاد على الثلاثين الذي هو تتمة الثلث، وهو ثلاثة وثلث، لأن ثلث المائة ثلاثة وثلاثون وثلث، أو أن القائل أوصت بثلثها تجوّز وأطلق على الثلاثين ثلثا.
ثم ميمونة رضي الله عنها بنت الحارث، وكان اسمها برة فسماها ميمونة، زوّجها له صلى الله عليه وسلم عمه العباس رضي الله عنه، وهي خالة ابنه عبد الله بن عباس، وأختها أسماء بنت عميس وسلمى بنت عميس وزينب بنت خزيمة أم المؤمنين، وخالة خالد بن الوليد رضي الله عنه. وكانت في الجاهلية عند مسعود بن عمرو ففارقها، فخلف عليها أبو رهم فتوفي عنها فتزوجها صلى الله عليه وسلم وهو محرم، أي كما عليه جمهور علماء المدينة في عمرة القضاء.
وفي الهدى: يشبه أنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم خلافا لابن عباس ووهمه في ذلك، قال: لأن السفير بينهما في النكاح وهو أبو رافع أعلم بالقصة وهو رجل بالغ، وابن عباس كان سنه نحو عشر سنين. قال: ولا يخفى أن مثل هذا الترجيح موجب للتقديم، وكان ذلك سنة سبع.
وأقام صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثا وبنى بها بسرف بعد أن أحل على ما تقدم، وماتت سنة إحدى وخمسين على الأصح وبلغت ثمانين سنة، ودفنت بسرف الذي هو محل الدخول بها.
والحاصل أن جملة من خطبه صلى الله عليه وسلم من النساء ثلاثون امرأة منهن من لم يعقد(3/452)
عليه ومنهن من عقد عليه، وهذا القسم أيضا منه من دخل به ومنه من لم يدخل به.
وفي لفظ: جملة من عقد عليه ثلاث وعشرون امرأة، والذي دخل به منهن اثنتا عشرة.
فمن غير المدخول بها غزية، وهي أم شريك العامرية، وهذه قبل دخوله بها طلقها ولم يراجعها. وهناك أم شريك السلمية أخرى، وهي خولة أو خويلة ولم يدخل بها. وهناك أم شريك ثالثة وهي الغفارية. وأم شريك رابعة وهي الأنصارية.
واختلف في الواهبة نفسها، فقيل ميمونة، وقيل أم شريك غزية، وقيل أم شريك خولة التي لم يدخل بها.
ورجح القول الثاني الحصني حيث اقتصر عليه في كتاب المؤمنات، فقال:
ومنهن أم شريك، واسمها غزية، وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها على ما قاله الأكثرون، فلم تتزوج حتى مات عليه الصلاة والسلام. قال ابن عباس رضي الله عنهما: وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة فأسلمت، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سرا فتدعوهن للإسلام وترغبهن فيه حتى ظهر أمرها لأهل مكة فأخذوها، وقالوا لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا نسيرك إليهم، قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء ثم تركوني ثلاثا لا يطعموني ولا يسقوني، وكانوا إذا نزلوا منزلا أوقفوني في الشمس واستظلوا، فبينما هم قد نزلوا منزلا وأوقفوني في الشمس إذا أنا بأبرد شيء على صدري فتناولته، فإذا هو دلو من ماء، فشربت قليلا ثم نزع مني ورفع، ثم عاد فتناولته فشربت من ثم رفع، ثم عاد ثم رفع مرارا فشربت منه حتى رويت ثم أفضت سائرة على جسدي وثيابي، فلما استيقظوا إذا هم بأثر الماء على ثيابي فقالوا: انحللت فأخذت سقاءنا فشربت منه، فقلت: لا والله، ولكنه كان من الأمر كذا وكذا، فقالوا: لئن كنت صادقة لدينك خير من ديننا، فلما نظروا إلى أسقيتهم وجدوها كما تركوها فأسلموها عند ذلك، وأقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوهبت نفسها له بغير مهر فقبلها ودخل عليها.
قال: وفي ذلك أن من صدق في حسن الاعتماد على الله وقطع طعمه عما سواه جاءته الفتوحات من الغيب، هذا كلامه.
وقد كان صلى الله عليه وسلم أرجأ من نسائه خمسا: سودة وصفية وجويرية وأم حبيبة وميمونة، وآوى إليه أربعا: عائشة وزينب وأم سلمة وحفصة، وهؤلاء التسعة مات عنهن صلى الله عليه وسلم.
وقد نظمهن بعضهم فقال:
توفي رسول الله عن تسع نسوة ... إليهن تعزى المكرمات وتنسب
فعائشة ميمونة وصفية ... وحفصة تتلوهن هند وزينب(3/453)
جويرية مع رملة ثم سودة ... ثلاث وست ذكرهن مهذب
ومن جملة اللاتي لم يدخل به النبي صلى الله عليه وسلم التي ماتت من الفرح، لما علمت أنه صلى الله عليه وسلم تزوج بها وهي عز أخت دحية الكلبي رضي الله تعالى عنهما التي ماتت قبل دخوله بها.
ومن جملتهن سودة القرشية التي خطبها صلى الله عليه وسلم فاعتذرت بينيها، وكانوا خمسة، وقيل ستة، فقال لها خيرا.
ومن جملتهن التي تعوذت منه صلى الله عليه وسلم، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: لقد عذت بمعاذ، وقد أعاذك الله مني. وفي لفظ: عذت بعظيم، وفي لفظ: عائذ الله.
وفي كلام بعضهم أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم خفن أن تغلبهن عليه لجمالها، فقلن لها:
إنه صلى الله عليه وسلم يعجبه إذا دنا منك أن تقولي له أعوذ بالله منك، فلما دنا منها قالت: أعوذ بالله منك. وفي رواية: قلن لها: إن اردت أن تحظي عنده فتعوّذي بالله منه فلما دخل عليها قالت له: أعوذ بالله منك، فصرف صلى الله عليه وسلم وجهه عنها وقال ما تقدم وطلقها، وأمر أسامة رضي الله تعالى عنه فمتعها بثلاثة أثواب.
وفي لفظ أتى أبو أسيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجونية: أي أسماء بنت النعمان بن أبي الجون الكندية، فلما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاها فقالت تعال أنت. وفي رواية فقال: هبي نفسك، فقالت: تهب الملكة نفسها للسوقة، فأهوى صلى الله عليه وسلم بيده إليها لتسكت، فقالت: أعوذ بالله منك، قال: عذت بمعاذ، فخرج فقال: يا أبا أسيد اكسها رازقيين وألحقها بأهلها، وهذا هو المشهور.
وروي هذا الخبر عن أسيد بن أبي أسيد قال: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة يتزوجها من بلجون: أي من بني الجون، فجئت بها، فأنزلتها بالشعب في أجم ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله جئتك بأهلك، فأتاها صلى الله عليه وسلم، فأهوى إليها ليقبلها فقالت: أعوذ بالله منك» الحديث.
ومن جملتهن التي اختارت الدنيا. وقيل التي كانت تلتقط البعر هي المستعيذة منه.
ومن جملتهن قتيلة بضم القاف وفتح الباء المثناة فوق، بنت قيس أخت الأشعث بن قيس الكندي، زوجه إياها أخوها وهي بحضرموت، ومات صلى الله عليه وسلم قبل قدومها عليه، وأوصى صلى الله عليه وسلم بأن تخير، فإن شاءت ضرب عليها الحجاب وكانت من أمهات المؤمنين، وإن شاءت الفراق فتنكح من شاءت فاختارت الفراق، فتزوجها عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنه بحضرموت، فبلغ ذلك أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال: هممت أن أحرق عليها بيتها، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: ما(3/454)
هي من أمهات المؤمنين، ما دخل بها صلى الله عليه وسلم ولا ضرب عليها الحجاب، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما تزوجت شيئا من نسائي ولا زوجت شيئا من بناتي إلا بوحي جاءني به جبريل عليه الصلاة والسلام من ربي عز وجل» أي وعنه صلى الله عليه وسلم أن خديجة رضي الله تعالى عنها تزوجها قبل نزول الوحي.
أي وقد ألف في أزواجه صلى الله عليه وسلم الحافظ الدمياطي جزآ فليطلب، وكذا ألف فيهن الشمس الشامي.
وأما سراريه صلى الله عليه وسلم فأربع: مارية القبطية أم ولده سيدنا إبراهيم، وريحانة على ما تقدم، وجارية وهبتها له صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها، وأخرى اسمها زليخة القرظية.
باب ذكر المشاهير من خدمه صلى الله عليه وسلم من الأحرار
فمن الرجال أنس بن مالك الأنصاري رضي الله تعالى عنه، كان من أخص خدامه صلى الله عليه وسلم. خدمه من حين قدم المدينة إلى وفاته صلى الله عليه وسلم عشر سنين كما تقدم. فعن أنس رضي الله تعالى عنه: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخذ أبو طلحة يعني زوج أمة بيدي فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أنسا غلام كيس فليخدمك، فخدمته صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، وتقدم في بعض الروايات أن ابتداء خدمته له صلى الله عليه وسلم كان عند خروجه صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، ومات وقد جاوز المائة.
وعبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، كان صاحب سواكه ونعله صلى الله عليه وسلم، إذا قام صلى الله عليه وسلم ألبسه إياهما، فإذا جلس جعلهما في ذراعيه حتى يقوم. وكان رضي الله تعالى عنه يمشي بالعصا أمامه صلى الله عليه وسلم حتى يدخل الحجرة.
أي ومعيقب الرومي رضي الله تعالى عنه، كان صاحب خاتمه صلى الله عليه وسلم.
وعقبة بن عامر الجهني رضي الله تعالى عنه، كان صاحب بغلته صلى الله عليه وسلم، يقودها في الأسفار، وكان عالما بكتاب الله عز وجل وبالفرائض، فصيحا، شاعرا مفهما.
ويأتي أنه ولي مصر لمعاوية رضي الله تعالى عنهما وتوفي بها، وصرف عنها بمسلمة بن مخلد رضي الله تعالى عنه.
وأسقع بن شريك، صاحب راحلته صلى الله عليه وسلم. كان رضي الله تعالى عنه يرحل ناقته صلى الله عليه وسلم «وعنه أنه صلى الله عليه وسلم قال له ذات يوم: يا أسقع، قم فارحل، فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء، فسكت صلى الله عليه وسلم وجاءه جبريل عليه الصلاة والسلام بآية التيمم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قم يا أسقع فتيمم، فأراني التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، فقمت وتيممت ثم رحلت له صلى الله عليه وسلم، ثم سار صلى الله عليه وسلم حتى مر بماء، فقال(3/455)
لي: يا أسقع أمسّ هذا جلدك. وتقدم أن سبب نزول آية التيمم ضياع عقد عائشة رضي الله تعالى عنها في بعض الغزوات.
وبلال مؤذنه صلى الله عليه وسلم. وكان رضي الله تعالى على نفقاته، وهو مولى أبي بكر رضي الله تعالى عنه، أي لأنه الذي اشتراه وهو يعذب في الله وأعتقه كما تقدم.
ومن النساء أمة الله بنت رزينة، وخولة، ومارية أم الرباب، ومارية وجدة المثنى بن صالح، وقيل التي قبلها.
باب ذكر المشاهير من مواليه صلى الله عليه وسلم الذين أعتقهم
فمن الرجال زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما، كما تقدم أن خديجة رضي الله تعالى عنها وهبته له صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، فتبناه صلى الله عليه وسلم. وكان يقال له ابن محمد، فلما نزل: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الأحزاب: الآية 5] أي وقوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [الأحزاب: الآية 40] الآية قيل له زيد بن حارثة كما تقدم. وكان حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنه أسامة وأخو أسامة لأمه أيمن ابن أم أيمن بركة الحبشية رضي الله تعالى عنهم.
وأبو رافع كان قبطيا، وكان للعباس رضي الله تعالى عنهما فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولما أسلم العباس وبشر أبو رافع رضي الله تعالى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام العباس أعتقه.
وشقران كان حبشيا، وقيل فارسيا، وكان لعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم.
وثوبان. وأنجشة، اشتراه صلى الله عليه وسلم منصرفه من الحديبية وأعتقه. وكان رضي الله تعالى عنه يحدو بالنساء، قال له صلى الله عليه وسلم وقد حدا بهن: رويدا يا أنجشة، رفقا بالقوارير، يعني النساء، لأن الحداء إذا سمعته الإبل أسرعت في المشي فتزعج الراكب والنساء يضعفن من شدة الحركة، وشبههن صلى الله عليه وسلم في ضعفهن بالقوارير وهي الأواني من الزجاج.
ورباح كان أسود ويسار كان نوبيا على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قتله العرنيون. وقد تقدم أن هذا غير يسار الذي كان دليلا لسرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة.
وسفينة وكان أسود، وكان لأم سلمة رضي الله تعالى عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقته، واشترطت عليه أن يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عاش. وكان اسمه بهران. وقيل رومان وقيل غير ذلك، وإنما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفينة لأنه حمل أمتعة للصحابة رضي الله تعالى عنهم ثقلت عليهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: احمل فإنما أنت سفينة،(3/456)
قال رضي الله تعالى عنه: فلو حملت يومئذ وقر بعير أو بعيرين إلى أن عدّ سبعة ما ثقل عليّ. وقيل لأنه انكسرت به السفينة في البحر فركب لوحا من ألواحها فنجا.
وذكر أن البحر ألقاه على أجمة سبع فأقبل نحوه، فقال له: أبا الحارث أنا الحارث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء إليّ وضربني بمنكبيه ثم مشى أمامي حتى أقامني على الطريق ثم همهم وضربني بذنبه فرأيت أنه يودعني. وقيل إنما وقع له ذلك لما أضل الجيش الذي كان فيه بأرض الروم.
وسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، أي لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أدى عنه نجوم كتابته، وفي كونه رقيقا ما تقدم.
أي والخصي الذي أهداه له المقوقس الذي هو مأبور المتقدم ذكره. وآخر يقال له سندر.
وفي كلام بعضهم أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه أربعين رقبة. ومن النساء أم أيمن وأميمة وسيرين التي أهديت له صلى الله عليه وسلم مع مارية، أي وتقدم أنها أختها.
وذكر بعضهم أن سيرين هذه وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه. وتقدم أن المقوقس أهدى معهما قنسر وأنها أخت مارية وسيرين فهن الثلاث أخوات، وتقدم أنه أهدى إليه صلى الله عليه وسلم رابعة.
باب ذكر المشاهير من كتّابه صلى الله عليه وسلم
فقد ذكر بعضهم أن كتابه صلى الله عليه وسلم كانوا ستة وعشرين كاتبا على ما ثبت عن جماعة من ثقات العلماء.
وفي السيرة للعراقي أنهم اثنين وأربعين، منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري. وهو أول من كتب له صلى الله عليه وسلم من قريش بمكة ثم ارتد وصار يقول كنت أصرّف محمدا حيث أريد، كان يملي عليّ عزيز حكيم، فأقول أو عليم حكيم، فيقول:
نعم، كل صواب. وفي لفظ: كان يقول اكتب كذا، فأقول أكتب كذا؟ فيقول اكتب كيف شئت، ونزل فيه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الأنعام: الآية 144] .
أي ثم لما كان يوم الفتح، وأمر صلى الله عليه وسلم بقتله فر إلى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، لأنه كان أخاه من الرضاعة، أرضعت أمه عثمان فغيبه عثمان رضي الله تعالى عنه ثم جاء به بعدما اطمأن الناس، واستأمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فصمت له رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا ثم قال نعم، فلما انصرف عثمان قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن حوله: ما صمتّ عنه إلا لتقتلوه إلى آخر ما تقدم. ثم أسلم وحسن إسلامه، ودعا الله تعالى أن يختم عمره بالصلاة، فمات ساجدا في صلاة الصبح، وقيل بعد التسليمة الأولى،(3/457)
وقيل الثانية.
وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعامر بن فهيرة رضي الله تعالى عنهم. أي وعبد الله بن الأرقم، وكان يكتب الرسائل للملوك وغيرهم، قال عمر في حقه: ما رأيت أخشى لله منه.
وأبيّ بن كعب رضي الله تعالى عنه، وهو أول من كتب له صلى الله عليه وسلم من الأنصار بالمدينة، كان في أغلب أحواله يكتب الوحي، وهو أحد الفقهاء الذين كانوا يكتبون في عهده عليه الصلاة والسلام.
وثابت بن قيس بن شماس، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان أي وأخوه يزيد.
قال بعضهم: كان معاوية وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهما ملازمين للكتابة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوحي وغيره، لا عمل لهما غير ذلك.
قال زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم بالسريانية، قال: إني لا آمن يهود على كتابي، فما مر بي نصف شهر حتى تعلمت وحذقت فيه فكنت أكتب له صلى الله عليه وسلم إليهم وأقرأ له كتبهم.
والمغيرة بن شعبة، والزبير بن العوام، وخالد بن الوليد، والعلاء بن الحضرمي وعمرو بن العاص، وعبد الله بن رواحة، أي ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن عبد الله بن أبيّ ابن سلول.
باب يذكر فيه حراسه صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67]
سعد بن معاذ حرسه صلى الله عليه وسلم ومسلم ليلة يوم بدر: أي الليلة التي صبيحتها ذلك اليوم. وفي ذلك اليوم لم يحرسه صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه شاهرا سيفه حين نام بالعريش.
وفي كلام بعضهم أن سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه كان مع أبي بكر رضي الله عنه في العرش يحرسانه صلى الله عليه وسلم في بدر.
ومحمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه حرسه صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه حرسه صلى الله عليه وسلم يوم الخندق.
والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه حرسه يوم الحديبية.
وأبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه حرسه صلى الله عليه وسلم ليلة بنى بصفية ببعض طرق خيبر.(3/458)
وبلال وسعد بن أبي وقاص وذكوان بن عبد قيس رضي الله عنهم حرسوه صلى الله عليه وسلم بوادي القرى.
أي وحرسه صلى الله عليه وسلم ابن أبي مرثد الغنوي في الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة حنين حيث قال صلى الله عليه وسلم: «ألا رجل يحرسنا الليلة؟ فقال: أنا يا رسول الله فدعا له صلى الله عليه وسلم، وعد نزول الآية وهي: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: الآية 67] ترك الحرس» .
باب يذكر فيه من ولي السوق في زمنه صلى الله عليه وسلم
وتصديق هذه الولاية الآن بالحسبة ومتوليها بالمحتسب. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل سعد بن سعيد بن العاص بعد الفتح على سوق مكة. واستعمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على سوق المدينة.
باب يذكر فيه من كان يضحكه صلى الله عليه وسلم
منهم نعيمان. كان صلى الله عليه وسلم إذا نظر إلى نعيمان لا يتمالك نفسه أن يضحك لأنه كان مزاحا، وتقدم عنه. ويأتي أيضا ما وقع بينه وبين سليط أو سويط.
ومنهم الذي كان يحده في الخمر، واسمه عبد الله، ويلقب بالخمار.
باب يذكر فيه أمناء رسول الله صلى الله عليه وسلم
منهم عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه. كان أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على نسائه.
وكذا أبو أسد بن أسيد الساعدي، كان أمينه صلى الله عليه وسلم على نسائه. وهو آخر من مات من أهل بدر رضي الله تعالى عنهم. وكان ممن أبصر الملائكة يوم بدر وكف بصره.
وبلال المؤذن رضي الله تعالى عنه، كان أمينه صلى الله عليه وسلم على نفقاته.
ومعيقيب، كان أمينه صلى الله عليه وسلم على خاتمه الشريف.
باب يذكر فيه شعراؤه صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يناضلون عنه بشعرهم ويهجون كفار قريش
حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك رضي الله تعالى عنهم أجمعين.(3/459)
باب يذكر فيه من كان يضرب الأعناق بين يديه صلى الله عليه وسلم
وهم علي كرم الله وجهه، والزبير، والمقداد، ومحمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنهم، وعاصم بن ثابت، أي والضحاك بن سفيان رضي الله تعالى عنه.
ولعل المراد من كان يتكرر منه ذلك، فلا ينافي ما تقدم في قصة الحارث بن سويد أنه قال لعويمر بن ساعدة رضي الله تعالى عنه اضرب عنقه.
باب يذكر فيه مؤذنوه صلى الله عليه وسلم
وهم بلال، وابن أم مكتوم رضي الله تعالى عنهما بالمدينة، وسعد القرظ مولى عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهما بقباء، وقيل له القرظ لا تجارة فيه. ومن قال القرظي فقد أخطأ، وأبو محذورة رضي الله تعالى عنه بمكة: أي وأذن بين يديه صلى الله عليه وسلم زياد بن الحارث الصدائي كما تقدم.
وقد يقال: مراد الأصل من تكرار أذانه، فلا يرد هذا، وكذا لا يرد عبد العزيز بن الأصم فإنه أذن أيضا بين يديه صلى الله عليه وسلم مرة واحدة.
باب يذكر فيه العشرة المبشرون الجنة رضي الله تعالى عنهم
وهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وقد نظم ذلك بعضهم في بيت، فقال:
لقد بشرت بعد النبي محمد ... بجنة عدن زمرة سعداء
سعيد وسعد والزبير وعامر ... وطلحة والزهري والخلفاء
أي وربما أسقط بعضهم أبا عبيدة عامر بن الجراح، وذكر بدله عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، وهو غريب جدا.
باب يذكر فيه حواريوه صلى الله عليه وسلم
بالحاء المهملة: أي أنصاره الذين اشتهروا بهذا الوصف، وهم الخلفاء الأربعة، وحمزة وجعفر، وأبو عبيدة، وعثمان بن مظعون، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة والزبير، وهو أكثرهم شهرة بهذا الوصف بل هو المراد عند إطلاق حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/460)
باب يذكر فيه سلاحه صلى الله عليه وسلم
كان له صلى الله عليه وسلم من السيوف تسعة. ومن الدروع سبعة. ومن القسي ستة. ومن الأتراس ثلاثة. ومن الرماح اثنان. ومن الحراب ثلاثة ومن الخود اثنتان.
فأما السيوف: فسيف يقال له مأثور بهمزة ساكنة ثم ثاء مثلثة. ورثه صلى الله عليه وسلم من أبيه، وقدم به المدينة، أي ويقال: إنه من عمل الجن. وسيف يقال له العضب أي القاطع، أرسل به إليه سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه عند توجهه صلى الله عليه وسلم إلى بدر.
وسيف يقال له ذو الفقار، كان في وسطه مثل فقرات الظهر. غنمه صلى الله عليه وسلم يوم بدر، كان للعاص بن وائل قتل يوم بدر كافرا، وكانت قائمته وقبيعته، بفتح القاف وكسر الموحدة ثم مثناة تحتية ساكنة ثم عين مهملة مفتوحة، وحلقته بإسكان اللام وفتحها، وعلاقته بكسر العين، فضة، وكان لا يفارقه صلى الله عليه وسلم في حرب من الحروب. ويقال إن أصله من حديدة وجدت مدفونة عند الكعبة. وسيف يقال له الصمصامة بفتح الصاد المهملة وإسكان الميم، كان مشهورا عند العرب، وهو سيف عمرو بن معد يكرب.
أهداه صلى الله عليه وسلم لخالد بن سعيد بن العاص حيث استعمله صلى الله عليه وسلم على اليمن. وسيف يقال له القلعي بفتح اللام، نسبة إلى برج القلعة: موضع بالبادية. وسيف يقال له الحيف بفتح الحاء المهملة ثم مثناة تحت ساكنة: وهو الموت وهذه الثلاثة من سلاح بني قينقاع مثلث النون. وسيف يقال له الرسوب بفتح الراء وضم السين المهملة ثم واو ساكنة ثم موحدة: أي يرسب ويستقر في الضربة، وهو أحد السيوف التسعة التي أهدتها بلقيس لسليمان عليه الصلاة والسلام. وسيف يقال له المحذم بكسر الميم، ثم حاء ساكنة ثم ذال معجمة مفتوحة: القاطع وهما كانا معلقين على صنم طي الذي يقال له الغلس، وسيف يقال له القضيب، من قضب الشيء: قطعه، فعيل بمعنى فاعل: أي قاطع.
وأما الدروع، فدرع يقال لها ذات الفضول بضم الفاء وبالضاد المعجمة لطولها.
أرسل بها إليه صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه حين سار إلى بدر، أي وكانت من حديد، وهي التي رهنها صلى الله عليه وسلم عند أبي الشحم اليهودي على ثلاثين صاعا من الشعير، وكان الدين إلى سنة. ودرع يقال لها ذات الوشاح بكسر الواو وبالشين المعجمة مخففة وفي آخره حاء مهملة: ودرع يقال لها ذات الحواشي. ودرع يقال لها السفرية بالفاء، والسفر: موضع يصنع به الدروع. قال في النور: والذي أحفظه في هذه الدرع السغدية بضم السين المهملة وبالغين المعجمة الساكنة ثم دال مهملة مفتوحة. ودرع يقال لها الفضة، ويقال لها السعدية بالعين المهملة مفتوحة، وهما من دروع بني قينقاع، يقال إنها درع داود عليه الصلاة والسلام التي لبسها لقتال جالوت(3/461)
كما تقدم. ودرع يقال لها البتراء بفتح الموحدة، ثم مثناة فوق ساكنة ممدودة، قيل لها ذلك لقصرها. ودرع يقال لها الخرنق بالخاء المعجمة مكسورة، ثم راء ساكنة ثم نون مكسورة ثم قاف، قيل لها ذلك لنعومتها.
وأما القسي، فقوس يقال لها البيضاء من شوحط، وهو من شجر الجبال، يتخذ منه القسي، وهو من سلاح بني قينقاع. وقوس يقال لها الروحاء. وقوس يقال لها الصفراء من نبع وهو شجر يتخذ منه القسي. ومن أغصانه السهام كسرت يوم أحد.
وقوس يقال لها الزوراء، ويقال لها الكتوم لا نخفاض صوتها إذا رمي عنها، قيل وهي التي اندقت سيتهايوم أحد، أي وقوس يقال لها السداد.
وأما الأتراس، فترس يقال لها الزلوق، لأن السلاح يزلق عنه. وترس يقال لها فتق بضم الفاء وفتح التاء المثناة فوق وبالقاف. وترس يقال لها تمثال عقاب أو كبش، فوضع صلى الله عليه وسلم يده الشريفة عليه فذهب.
وأما الرماح، فرمح يقال له المثنى. ورمح يقال لها المثوي بضم الميم وإسكان الثاء المثلثة وكسر الواو، من الثوي: وهو الإقامة، لأن المطعون به يقيم موضعه ولا ينتقل. أي وثلاث رماح أصابها من سلاح بني قينقاع، يقال لأحدها المثنى بضم الميم وإسكان الثاء المثلثة ثم نون مفتوحة. وفي الأصل المنثي بتقديم النون على الثاء.
وأما الحراب، فحربة يقال لها النبعة. وحربة يقال لها البيضاء. وحربة صغيرة تشبه العكاز يقال لها العنزة قال: جاء بها الزبير رضي الله تعالى عنه من أرض الحبشة، أعطاها له النجاشي رحمه الله، وقاتل بها بين يدي النجاشي عدوا للنجاشي، وظهر النجاشي على ذلك العدو، وشهد بها الزبير رضي الله تعالى عنه بدرا وأحدا وخيبر، ثم أخذها منه صلى الله عليه وسلم منصرفه من خيبر، فكانت تحمل بين يديه صلى الله عليه وسلم يوم العيد، يحملها بلال رضي الله تعالى عنه، فتركز بين يديه صلى الله عليه وسلم ويصلي إليها، وكذا كان يصلي إليها في أسفاره، أي وكان صلى الله عليه وسلم يمشي بها وهي في يده. ورابعة يقال لها المهر.
وخامسة يقال لها النمر، وكان له صلى الله عليه وسلم محجن طوله قدر ذراع أو أكثر بيسير، يمشي به، ويعلق بين يديه على بعيره يسمى الذقن، وكان له رأس معقفة كالصولجان.
وكان له صلى الله عليه وسلم قضيب من شوحط يسمى الممشوق، قيل وهذا القضيب هو الذي كانت تتداوله الخلفاء اه.
أي وكان له صلى الله عليه وسلم مخصرة بكسر الميم وإسكان الخاء المعجمة وفتح الصاد:
وهي ما يمسكه بيده من عصا أو مقرعة تسمى العرجون، ويقال لها العسيب.
وأما الخود جمع خودة: وهي ما يجعل على الرأس من الزرد مثل القلنسوة:
فخودة يقال لها الموشح بالميم وبالشين المعجمة مشددة مفتوحة والحاء المهملة.
وخودة يقال لها السبوغ بالسين المهملة وبالغين المعجمة أو ذات السبوغ.(3/462)
باب يذكر فيه خيله وبغاله وحمره صلى الله عليه وسلم
كان له صلى الله عليه وسلم سبعة أفراس. وكان له بغال ست وكان له من الحمر اثنان. وكان له من الإبل المعدّة للركوب ثلاثة.
فأما أفراسه صلى الله عليه وسلم، ففرس يقال له السكب: شبه بسكب الماء وانصبابه، لشدة جريه، وهي أول فرس ملكه صلى الله عليه وسلم، اشتراه من أعرابي بعشرة أواق، وكان اسمه عند الأعرابي الضرس: أي بفتح الضاد وكسر الراء وبالسين المهملة: الصعب السيىء الخلق، وكان أغر: أي له غرة، وهي بياض في وجهه، محجلا طلق اليمين، كميتا:
أي بين السواد والحمرة. وقال ابن الأثير كان أسود أدهم، وفرس يقال له المرتجز:
أي سمي به لحسن صهيله، مأخوذ من الرجز الذي هو ضرب من الشعر، وكان أبيض، وهو الذي شهد له فيه خزيمة بأنه صلى الله عليه وسلم اشتراه من صاحبه بعد أن أنكر بيعه له، وقال له ائت بمن يشهد لك، فجعل شهادة خزيمة بشهادتين، بعد أن قال له صلى الله عليه وسلم: كيف شهدت ولم تحضر؟ فقال لتصديقي إياك يا رسول الله، وإن قولك كالمعاينة فقال له صلى الله عليه وسلم: أنت ذو الشهادتين، فسمي ذا الشهادتين، ثم قال: صلى الله عليه وسلم «من شهد له، خزيمة أو شهد عليه فهو حسيبه» لكن جاء أنه صلى الله عليه وسلم رد الفرس على الأعرابي وقال «لا بارك الله لك فيها» فأصبحت من الغد شائلة برجلها. وفرس يقال له اللحيف بالحاء المهملة واللام المضمومة فعيل بمعنى فاعل، لأنه كان يحلف الأرض بذنبه لطوله: أي يغطيها. وقيل لأنه كان يلتحف معرفته. وقيل هو بضم اللام مصغرا، وقيل بالخاء المعجمة مع فتح اللام وهو الأكثر. وهذا الفرس أهداه له صلى الله عليه وسلم فروة بن عمرو من أرض البلقاء بالشام. وفرس يقال له اللزاز، أي أهداه له المقوقس كما تقدم، مأخوذ من قولهم: لاززته: أي لاصقته، فكان يلحق بالمطلوب لسرعته، وقيل غير ذلك. وفرس يقال له الطرف أي بكسر الطاء المهملة وسكون الراء وبالفاء:
الكريم الجيد من الخيل. وفرس يقال له الورد، وهو بين الكميت والأشقر، أهداه له صلى الله عليه وسلم تميم الداري رضي الله تعالى عنه، وأهداه صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه. وفرس يقال له سبحة: أي بفتح السين وإسكان الموحدة وفتح الحاء المهملة: أي سريع الجري، هذا هو المشهور. وعدّ بعضهم في خيله صلى الله عليه وسلم غير ذلك، فأوصل جملتها إلى خمسة عشر بل إلى العشرين. وقد ذكر الحافظ الدمياطي أسماء الخمسة عشر في سيرته وقال فيها: وقد ذكرناها وشرحناها في كتابنا كتاب الخيل.
وكان سرجه صلى الله عليه وسلم دفتين من ليف. قال: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل.
وجاء: «أنه صلى الله عليه وسلم مسح وجه فرسه ومنخريه وعينيه بكمّ قميصه فقيل له: يا(3/463)
رسول الله تمسح بكم قميصك؟ فقال صلى الله عليه وسلم إن جبريل عليه السلام عاتبني في الخيل» .
وفي رواية «في الفرس» أي في امتانها. وفي رواية: «في سياستها» وقال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها فخذوا بنواصيها، وادعوا بالبركة» اه.
أي وقد ذكر: «أنه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قام إلى فرسه الطرف فعلق عليه شعيره، وجعل صلى الله عليه وسلم يمسح ظهره بردائه، فقيل له: يا رسول الله تمسح ظهره بردائك؟ فقال:
نعم، وما يدريك لعل جبريل عليه الصلاة والسلام أمرني بذلك؟» .
وعن بعضهم قال: دخلت على تميم الداري رضي الله تعالى عنه وهو أمير بيت المقدس، فوجدته ينقي لفرسه شعيرا، فقلت: أيها الأمير ما كان لهذا غيرك؟ فقال:
إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من نقى لفرسه شعيرا ثم جاء به حتى يعلقه عليه كتب الله له بكل شعيرة حسنة» وكان صلى الله عليه وسلم يضمر الخيل للسباق، فيأمر بإضمارها بالحشيش اليابس شيئا بعد شيء، ويأمر بسقيها غدوة وعشيا، ويأمر أن يقودها كل يوم مرتين، ويؤخذ منها من الجري الشوط والشوطان.
وأما بغاله صلى الله عليه وسلم، فبغلة شهباء يقال لها دلدل، أهداها له المقوقس كما تقدم.
والدلدل في الأصل: القنفذ، وقيل ذكر القنافذ، وقيل عظيمها، وهذه أول بغلة ركبت في الإسلام. وفي لفظ: رؤيت في الإسلام، وكان صلى الله عليه وسلم يركبها في المدينة وفي الأسفار. وعاشت حتى ذهبت أسنانها، فكان يدق لها الشعير، وعميت. وقاتل عليها عليّ كرم الله وجهه الخوارج بعد أن ركبها عثمان رضي الله تعالى عنه، وركبها بعد عليّ ابنه الحسن ثم الحسين رضي الله تعالى عنهما، ثم محمد ابن الحنفية رحمه الله.
وسئل ابن الصلاح رحمه الله: هل كانت أنثى أو ذكرا والتاء للوحدة، فأجاب بالأول. قال بعضهم: وإجماع أهل الحديث على أنها كانت ذكرا، ورماها رجل بسهم فقتلها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني إلى زوجته أم سلمة، فأتيته بصوف وليف، ثم فتلت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم لدلدل رسنا وعذارا، ثم دخل البيت فأخرج عباءة فثناها ثم ربعها على ظهرها، ثم سمى وركب، ثم أردفني خلفه» . وبغلة يقال لها فضة، أهداها له عمرو بن عمرو الجذامي كما تقدم. ووهبها صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه، أي وأوصلها بعضهم إلى سبعة.
وفي «مزيل الخفاء» وفي «سيرة مغلطاي» : كان له صلى الله عليه وسلم من البغال دلدل وفضة، والتي أهداها له ابن العلماء: أي بفتح العين المهملة وإسكان اللام وبالمد في غزوة تبوك، والأيلية. وبغلة أهداها له كسرى، وأخرى من دومة الجندل، وأخرى من عند النجاشي هذا كلامه.(3/464)
وعقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه كان صاحب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقود به في الأسفار، وتوفي بمصر ودفن بقرافتها، وقبره معروف بها، وكان واليها قبل معاوية بعد عتبة بن أبي سفيان، ثم صرف عنها بمسلمة بن مخلد.
وعن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: قدت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته مدة من الليل، فقال أنخ، فأنخت فنزل على راحلته، ثم قال: اركب فقلت:
سبحان الله أعلى مركبك يا رسول الله وعلى راحلتك؟ فأمرني، فقال اركب، فقلت له مثل ذلك، ورددت ذلك مرارا حتى خفت أن أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم فركبت راحلته.
ذكره في الإمتاع.
وأما حمره صلى الله عليه وسلم، فحمار يقال له يعفور. وحمار يقال له عفير بالعين المهملة، وقيل بالمعجمة وغلط قائله وكان أشهب، ومات في حجة الوداع. والأول أهداه له فروة بن عمرو الجذامي، وقيل المقوقس. والثاني أهداه له المقوقس، وقيل فروة بن عمرو كذا في سيرة الحافظ الدمياطي رحمه الله، والعفرة هي الغبرة، أي وأوصل بعضهم حمره صلى الله عليه وسلم إلى أربعة.
وتقدم أن يعفورا وجده صلى الله عليه وسلم في خيبر، وأنه يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم طرح نفسه في بئر جزعا على رسول الله فمات، وتقدمت قصته وما فيها.
وأما إبله صلى الله عليه وسلم التي كان يركبها. فناقة يقال لها القصواء. وناقة يقال لها الجدعاء، وناقة يقال لها العضباء، وهي التي كانت لا تسبق فسبقت، فشق ذلك على المسلمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه» .
وفي رواية «إن الناس لم يرفعوا شيئا من الدنيا إلا وضعه الله عز وجل» ويقال إن هذه العضباء لم تأكل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تشرب حتى ماتت، وقيل إن التي كانت لا تسبق ثم سبقت هي القصواء، وكانت العضباء يسبق بها صاحبها الذي كانت عنده الحاجّ، ومن ثم قيل لها سابقة الحاج. وقيل إن هذه الثلاثة اسم لناقة واحدة وهو المفهوم من الأصل، وهو موافق في ذلك لابن الجوزي رحمه الله حيث قال إن القصواء هي العضباء وهي الجدعاء. وقيل القصواء واحدة والعضباء والجدعاء واحدة.
وفي كلام بعضهم: وأما البقر فلم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم ملك شيئا منها: أي للقنية فلا ينافي أنه صلى الله عليه وسلم ضحى عن نسائه بالبقر.
وأما غنمه صلى الله عليه وسلم، فقيل مائة، وقيل سبعة أعنز كانت ترعاها أم أيمن رضي الله تعالى عنها، وجاء: «اتخذوا الغنم فإنها بركة» وكان له صلى الله عليه وسلم شياه يختص بشرب لبنها،(3/465)
وماتت له صلى الله عليه وسلم شاة، فقال: ما فعلتم بإهابها؟ قالوا إنها ميتة، قال دباغها طهورها.
واقتنى صلى الله عليه وسلم الديك الأبيض، وكان يبيت معه في البيت وقال: «الديك الأبيض صديقي وصديق صديقي وعدو عدوي، والله يحرس دار صاحبه وعشرا عن يمينها، وعشرا عن يسارها، وعشرا من بين يديها، وعشرا من خلفها» وقد جاء: «اتخذوا الديك الأبيض فإن دارا فيها ديك أبيض لا يقربها شيطان ولا ساحر ولا الدويرات حولها، واتخذوا هذا الحمام المقاصيص في بيوتكم فإنها تلهي الجن عن صبيانكم» .
وفي العرائس: «أن آدم قال يا رب شغلت بطلب الرزق لا أعرف ساعات التسبيح من أيام الدنيا فأهبط الله ديكا وأسمعه أصوات الملائكة بالتسبيح، فهو أول داجن اتخذه آدم عليه السلام من الخلق، فكان الديك إذا سمع التسبيح ممن في السماء سبح في الأرض، فيسبح آدم بتسبيحه» .
باب يذكر فيه صفته صلى الله عليه وسلم الظاهرة وإن شاركه فيها غيره
قال: قد خلق الله تعالى أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام سليمة من العيب حتى صلحت لحلول الأنفس الكاملة، وهم في ذلك متفاوتون، ونبينا صلى الله عليه وسلم أصح الأنبياء مزاجا، وأكملهم جسدا.
وعن أنس رضي الله عنه: «ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه، حسن الصوت، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم أحسنهم وجها وصوتا» انتهى. وكانت صفاته صلى الله عليه وسلم الظاهرة لا تدرك حقائقها، وإلى هذا يشير صاحب الهمزية رحمه الله تعالى بقوله:
إنما مثلوا صفاتك للنا ... س كما مثل النجوم الماء
وتقدم بعض صفته صلى الله عليه وسلم في خبر أم معبد رضي الله عنها.
ووصف صلى الله عليه وسلم بأنه كان ضخم الهامة: أي الرأس. ووصف صلى الله عليه وسلم بأنه كان فخما مفخما: أي عظيما في الصدور والعيون، يتلألأ وجهه كالقمر ليلة البدر قال: كان في وجهه تدوير، ليس بالمطهم ولا المكلثم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: ما رأيت أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنّ الشمس تجري في وجهه. وفي رواية: «تجري من وجهه» وعن ابن عباس رضي الله عنهما:
لم يقم صلى الله عليه وسلم مع شمس قط إلا غلب ضوؤه ضوء الشمس، ولم يقم مع سراج قط إلا غلب ضوؤه ضوء السراج انتهى. أقصر من المشذب بضم الميم وفتح الشين والذال المعجمتين مشددة ثم موحدة على وزن معظم: البائن الطويل في نحافة. وأطول من المربوع. قال: وعن علي كرم الله وجهه: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطويل الممغط ولا بالقصير المتردد، وكان ربعة القوم، والممغط: المتناهي في الطول. والمتردد(3/466)
المجتمع الخلق: أي القصير جدا، لم يكن يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فارقه رسول الله صلى الله عليه وسلم نسب للربعة: أي لا طويل ولا قصير، عظيم الهامة. أي وفي رواية: ضخم الرأس، رجل الشعر إذا انفرقت عقيصته، وفي لفظ عقيقته: وهي الشعر المعقوص فرق: أي إذا انفرقت من ذات نفسها فرقها: أي أبقاها مفروقة وإلا تركها معقوصة: أي تركها على حالها لم يفرقها، لم يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره. قال: أي جعله وفرة.
وحاصل الأحاديث أن شعره صلى الله عليه وسلم وصف بأنه جمة، ووصف بأنه وفرة، ووصف بأنه لمة. وفسرت اللمة: بالشعر الذي ينزل على شحمة الأذن. والجمة بالذي ينزل على المنكبين. قال بعضهم: كان شعره صلى الله عليه وسلم يقصر ويطول بحسب الأوقات، فإذا غفل عن تقصيره وصل إلى منكبيه، وإذا قصره تارة ينزل عن شحمة أذنه وتارة لا ينزل عنها.
وجاء في وصف شعره صلى الله عليه وسلم: ليس بجعد قطط: أي بالغ في الجعودة، ولا رجل سبط: أي بالغ في السبوطة فلا ينافي ما جاء عن علي كرم الله وجهه: كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم سبطا.
وعن أم هانىء رضي الله عنها: كان له صلى الله عليه وسلم أربع غدائر: أي ضفائر، تخرج أذنه اليمنى من بين ضفيرتين، وأذنه اليسرى كذلك. قال ابن القيم رحمه الله: لم يحلق صلى الله عليه وسلم رأسه الشريف إلا أربع مرات انتهى. أزهر اللون: أي أبيض مشرب بحمرة: أي وهي المراد بالسمرة، وفي رواية: كان أسمر، ومن ثم جاء في رواية: كان بياضه صلى الله عليه وسلم إلى سمرة، لأن العرب قد تطلق على ومن كان كذلك أي بياضه إلى حمرة أسمر، ومن ثم جاء: ليس بالأبيض الأمهق: أي شديد البياض الذي لا يخالطه حمرة كلون الجص.
وعن علي كرم الله وجهه: ليس أبيض شديد الوضح. وفي رواية: شديد البياض، ولا معارضة لأنه محمول على ما كان من جسده تحت الثياب، ومن ثم جاء: أنور المتجرد: وهو ما كشف عنه الثوب من البدن.
وقيل المراد بالأمهق الأخضر، فقد قيل إن المهق خضرة الماء، ولا بالآدم: أي شديد الأدمة. واسع الجبين، أي وفي رواية مفاض الجبين: أي واسعه. وفي رواية كان جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم صلتا: أي أملس. وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلى الجبين كأنه السراج المتوقد يتلألأ، أزج الحاجبين، سوابغ من غير قرن: أي بين حاجبيه فرجة، وهو البلج، أي والقرن بالتحريك: اتصال شعر الحاجبين. وورد:
مقرون الحاجبين: أي شعرهما متصل بالآخر، لا حاجز بينهما. ولا منافاة لأن ذلك لا يجوز أن يكون بحسب الرائي، لأن الفرجة التي كانت بين حاجبيه يسيرة لا تبين(3/467)
إلا لمن دقق النظر. بينهما عرق يدره الغضب: أي إذا غضب امتلأ ذلك العرق دما فيظهر ويرتفع. أقنى العرنين: أي سائله مرتفع وسطه: أي وفي وسطه احديداب.
وفي رواية: دقيق العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشم: أي مرتفعا.
أدعج العينين أي شديد سواد العينين. وفي كلام بعضهم: الدعج سواد العين، ويقابله الأشهل وهو من في سواد عينيه حمرة. وقد جاء: أشهل العينين، وأشكل العينين:
أي في بياض عينيه صلى الله عليه وسلم حمرة. وكانت في الكتب القديمة من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم كما تقدم، أي وفي رواية: أنجل العينين: أي واسعهما. أهدب الأشفار: أي طويل هدب شعر العينين.
أي وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أكحل العينين. والكحل: سواد هدب العين خلقة.
وعن جابر رضي الله عنه: إذا نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت أكحل: أي في عينيه كحل وليس بالكحل. سهل الخدّين أي وفي رواية أسيل الخدّين: أي ليس في خديه نتوء وارتفاع، ضليع الفم: أي واسعه. أشنب: أي في ريقه برد وعذوبة. مفلج الأسنان: أي مفرّق ما بين الثنايا كما في رواية: أفلج الثنيتين، لأن الفلج تباعد ما بين الثنايا والرباعيات. وفي رواية: برّاق الثنايا. كان إذا تكلم رئي كالنور يخرج من بين ثناياه، يفتر عن مثل حب الغمام: أي إذا ضحك بانت أسنانه كالبرد.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: حسن الثغر. وعن أنس رضي الله عنه: شممت العطر كله فلم أشم نكهة أطيت من نكهته صلى الله عليه وسلم. كث اللحية: أي كثير شعرها. وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيف اللحية، وكان يسرحها بالماء، وكان له صلى الله عليه وسلم مشط من العاج وهو الدبل. وقيل شيء يتخذ من ظهر السلحفاة البحرية، ويقال لعظم الفيل عاج أيضا: أي وليس مرادا هنا أي وكان له مقراض: أي مقص يقص به أطراف شاربه.
وفي المشكاة عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يأخذ من شاربه فليس منا» .
أي وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ بالمقراض من عرض لحيته وطولها.
وقد لا ينافي ذلك ما جاء: «أمرني ربي بإعفاء لحيتي وقص شاربي» وقال:
«من الفطرة قص الأظفار والشارب، وحلق العانة» .
وكان صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه حتى كأن ثيابه ثياب زيات أو دهان. أي وفي لفظ:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر التقنع حتى يرى حاشية ثوبه كأنه ثوب زيات أو دهان وليس في شعر رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.(3/468)
وعن أنس رضي الله عنه أن شيب لحيته صلى الله عليه وسلم كان في عنفقته وصدغيه متفرقا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: عرف من مجموع الروايات أن الذي شاب في عنفقته صلى الله عليه وسلم أكثر مما شاب في غيرها.
وقال صلى الله عليه وسلم: «شيبتني هود وأخواتها، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ما أخواتها يا رسول الله؟ قال: الواقعة، والقارعة، وسأل سائل، وإذا الشمس كورت، واقتربت الساعة» .
وفي رواية: «شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون، وإذا الشمس كوّرت، واقتربت الساعة» وقال صلى الله عليه وسلم: «من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة» ولعل شيبه صلى الله عليه وسلم لم يخضب. وقيل كان يخضب بالحناء والكتم.
وقال: صلى الله عليه وسلم «أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم» ونهى صلى الله عليه وسلم عن الخضاب بالسواد وقد تقدم. ضليع الفم: أي واسعه وهو مما تمدح به العرب، وتذم بصغر الفم، غاض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جلّ نظره الملاحظة، دقيق المسربة بفتح الميم وإسكان السين ثم راء مضمومة: وهو الخيط الشعر الذي بين الصدر والسرة، كأن عنقه جيد دمية: هي صورة تتخذ من العاج في صفاء الفضة.
أي وعن علي كرم الله وجهه: كأن عنقه إبريق فضة، معتدل الخلق بادنا متماسكا: أي ذو لحم متماسك يمسك بعضه بعضا، ليس مسترخي اللحم سواء البطن والصدر: أي مستويهما عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس: وهي رؤوس العظام: أي ملتقى كل عظمين كالمرفقين والمنكبين والركبتين. موصول ما بين اللبة بفتح اللام وتشديد الموحدة المفتوحة: هو المنحر والسرة بشعر يجري كالخيط، وهو المعبر عنه فيما سبق بدقيق المسربة عاري الثديين والبطن وما سوى ذلك. أشعر الذراعين والمناكب. وأعالي الصدر، طويل الزندين:
أي عظيم الذراعين، رحب الراحة: أي واسعها.
قال أنس رضي الله تعالى عنه: ما مسست حريرا ولا ديباجا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، سائل الأصابع أي طويلها شثن الكفين والقدمين: أي يميلان إلى الغلظ، وذلك ممدوح في الرجال مذموم في النساء. أي وكانت سبابة يديه صلى الله عليه وسلم أطول من الوسطى. قال ابن دحية رحمه الله: وهذا باطل بيقين، ولم يقله أحد من ثقات المسلمين: أي وإنما كان ذلك في أصابع قدميه صلى الله عليه وسلم، وهو في ذلك كغيره من الناس.
وفي رواية منهوس بالمهملة والمعجمة العقب: أي قليل لحم القدمين. سبط العظام:
أي ممتدها لا نتوء فيها.(3/469)
وفي رواية سبط العصب وهو كل عظم فيه مخ خمصان الأخصمين، ينبو عنهما الماء: أي يتجافى أخمص القدم وهو وسطه: أي شديد التجافي عن الأرض. مسيح القدمين: أي أملسهما، وهذا يوافق ما جاء في رواية: إذا وطىء بقدمه وطىء بكلها ليس له أخمص، إذا زال زال: تقلعا: أي يرفع رجله بقوة ويخطو تكفيا: أي يتمايل إلى قدامه. وقيل يمينا وشمالا كالمختال، ولا يذم إلا من تكلفه لا من كان ذلك جبلة له. ويمشي هونا: أي برفق ووقار دون عجلة. ذريع المشية: أي واسعها إذا امشى كأنما ينحط من صبب. أي وذكر في «سفر السعادة» أن هذه المشية مشية أصحاب الهمم العلية ومن قبله حي، وإن هذا النوع من المشي يسمى مشي الهوينا المذكور في قوله تعالى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان: الآية 63] وهو أعدل أنواع المشي، لأن الماشي إما متهاون بالمشي كالخشبة، أو طائش ينزعج وهذان النوعان في غاية القبح، لأن الأول يدل على الخمول وموت القلب. والثاني يدل على خفة الدماغ وقلة العقل ثم قال: وأنواع المشي عشرة هذه الثلاثة منها، وذكر باقيها.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا التفت التفت جميعا أي بسائر جسده، ولا يلوي عنقه كما يفعله أهل الخفة والطيش، يفتح الكلام ويختمه بأشداقه.
لا يقال: قد ذم صلى الله عليه وسلم المتشدقين. لأنا نقول: المراد بهم من يكثر الكلام من غير احتياط ولا احتراز ومن يلوي أشداقه استهزاء بالناس.
وكان صلى الله عليه وسلم يتكلم بجوامع الكلم: أي بالكلام القليل الألفاظ الكثير المعاني.
فصلا لا فضول فيه ولا تقصير، قال صلى الله عليه وسلم: «أعطيت جوامع الكلم» ، واختصر لي الكلام اختصارا.
قال: ومن تلك الكلمات «لا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له.
ما هلك امرؤ عرف قدر نفسه. رحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت فسلم. ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها. خير الأمور أوساطها. السعيد من وعظ بغيره» انتهى. إذا أشار بكفه كلها اه وإذا تعجب قلبها وإذا تحدث قارب يده اليمنى من اليسرى فضرب بإبهام اليمنى راحة اليسرى، أي وربما يسبح عند التعجب وربما حرك رأسه وعض شفته، وربما ضرب بيده على فخذه، وربما نكت الأرض بعود. وإذا غضب أعرض بوجهه.
أي وكان صلى الله عليه وسلم إذا غضب احمر وجهه الشريف، وكان إذا اشتد وجده أكثر من مس لحيته. وفي رواية: إذا اشتد غمه مسح بيده على رأسه ولحيته وتنفس الصعداء أي تنفس طويلا وقال: حسبي الله ونعم الوكيل، جلّ: أي معظم ضحكة التبسم، وكون معظم ضحكة ذلك لا ينافي أنه صلى الله عليه وسلم ضحك غير ما مرة حتى بدت نواجذه.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا جرى به الضحك وضع يده على فيه، قال: وكان أكثر أحواله صلى الله عليه وسلم(3/470)
يمشي منتعلا، وربما مشى صلى الله عليه وسلم حافيا.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يأكل من هدية أهديت إليه حتى يأكل منها صاحبها: أي بعد أن أهديت إليه صلى الله عليه وسلم الشاة المسمومة.
وكان صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع ويلعقهن إذا فرغ يلعق الوسطى، ثم التي يليها ثم الإبهام، وقال: «إن لعق الأصابع بركة» .
وكان صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بلعق الصحفة ويقول: «إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة» اه.
ونحن نوضح بعض هذه الصفات الظاهرة بعبارة واضحة قريبة للأفهام فنقول:
كان صلى الله عليه وسلم عظيما معظما في الصدور والعيون كبير الرأس، لأن كبر الرأس يدل على كثرة العقل غالبا، ووجهه كالقمر ليلة البدر، لون جسده الذي ليس تحت الثياب أبيض مشرب بحمرة، طويل الحاجبين مع دقة ما بينهما خال ما الشعر وهو البلج، وضده القرن، وهو أن يتصل شعر أحدهما بالآخر.
بين حاجبيه عرق إذا غضب انتفخ، طويل الأنف مع حدب في وسطه ودقة في طرفه ليس في حدبة ارتفاع لأن العرب تذم به.
في عينيه شكلة: وهي بياض وحمرة، شديد سواد العين مع اتساعها، واسع الفم، لأن سعة الفم تدل على الفصاحة. بين ثناياه والرباعيات فرجة، ويقال له الفلج. كثير شعر اللحية، شيبه قليل، عنقه كالإبريق الفضة. إذا مشى مال إلى أمامه.
باب يذكر فيه صفته صلى الله عليه وسلم الباطنة وإن شاركه فيها غيره
كان صلى الله عليه وسلم سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عياب ولا مزاح: أي كثير المزاح، فلا ينافي ما روي: كان صلى الله عليه وسلم يمازح أصحابه قال: وقد جاء «إني لأمزح ولا أقول إلا حقا» لكن جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مزاحا. وكان يقول: إن الله تعالى لا يؤاخذ المزّاح الصادق في مزاحه.
وجاء عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: ما رأيت أحدا أكثر مزاحا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كانت في النبي صلى الله عليه وسلم دعابة. وعن بعض السلف: كان للنبي صلى الله عليه وسلم مهابة، فكان يبسط الناس بالدعابة. قال صلى الله عليه وسلم لعمته صفية لا تدخل الجنة عجوز فبكت، فقال لها وهو يضحك: الله تعالى يقول: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) [الواقعة: الآيات 35- 37] وهن العجائز الرمص:(3/471)
أي والعرب المتحببة لزوجها التي تقول وتفعل ما تهيج به شهوته إياها، وأترابا:
كأنهن ولدن في يوم واحد لأنهن يكن بنات ثلاث وثلاثين سنة.
وجاءه صلى الله عليه وسلم رجل وطلب أن يحمله على بعير فقال له: إني حاملك على ولد الناقة، فقال: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق؟.
وقد أتى أزيهر، وفي لفظ زاهر وكان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية، فكان كلما قدم من البادية يأتي معه بطرف وهدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: زاهر باديتنا ونحن حاضروه. وفي لفظ: لكل حاضر بادية، وبادية آل محمد زاهر، وكان صلى الله عليه وسلم يحبه. جاءه يوما وهو يبيع متاعه في السوق وكان رجلا دميما، فاحتضنه من خلفه، فقال أرسلني، من هذا؟ فلما عرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم صار يمكن ظهره من صدره الشريف عليه الصلاة والسلام، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله تجدني كاسدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ولكن عند الله لست بكاسد أو قال: أنت عند الله غال. ويجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم جمع بين هذين اللفظين، وكل روى ما سمع منهما.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم، فقال صلى الله عليه وسلم للناس: تقدموا فتقدموا، ثم قال لي تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت حتى إذا حملت اللحم، وكنا في سفرة أخرى، قال صلى الله عليه وسلم للناس تقدموا فتقدموا ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك فسابقته فسبقني، فجعل صلى الله عليه وسلم يضحك ويقول: هذه بتلك.
وعن أنس رضي الله عنه قال: دخل صلى الله عليه وسلم على أمي فوجد أخي أبا عمير حزينا، فقال: يا أم سليم، ما بال أبي عمير حزينا؟ فقالت: يا رسول الله مات نغيره: تعني طيرا كان يلعب به، فقال صلى الله عليه وسلم: أبا عمير ما فعل النغير: وكان كلما رآه قال له ذلك.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بحريرة طبختها فقلت لسودة والنبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينها كلي فأبت، فقلت لها: كلي كلي، أو لأطلخن وجهك فأبت، فوضعت يدي فيها فطليت وجهها، فضحك صلى الله عليه وسلم وأرخى فخذه لسودة، وقال: الطخي وجهها فلطخت وجهي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم أي وقال صلى الله عليه وسلم يوما لعائشة: ما أكثر بياض عينك انتهى.
وكان صلى الله عليه وسلم يتغافل عما لا يشتهي، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والأكبار، وما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا، ولا يعيره، ولا يطلب(3/472)
عورته، وكان صلى الله عليه وسلم يقابل السيئة بالحسنة، ولا يذم ذواقا ولا يمدحه. والذواق الشيء، يقال ما ذقت ذواقا: أي شيئا من طعام أو شراب.
وعن عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما عن رجل من العرب. قال: زحمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وفي رجلي نعل كثيفة، فوطئت بها على رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعجني بعجة بسوط في يده، وقال: بسم الله أوجعتني، قال: فبت لنفسي لائما، أقول أوجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحنا إذا رجل يقول أين فلان، فانطلقت وأنا متخوف، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك وطئت بنعلك على رجلي بالأمس فأوجعتني فبعجتك بالسوط فهذه ثمانون نعجة فخذها بها، ولما نزل قوله تعالى:
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) [الأعراف: الآية 199] قال له جبريل عليه السلام، أي بعد أن سأله صلى الله عليه وسلم في ذلك: إن ربك عز وجل يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك.
وفي الحديث: «لا ينال عبد صريح الإيمان حتى يكون كذلك» وفي الحديث إن ذلك أفضل أهل الدنيا والآخرة.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق والمسألة، لا يقطع على أحد حديثه، ولا يتكلم في غير حاجة، يعظم النعمة وإن دقت، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها. وإنما يغضب إذا تعرض للحق بشيء وعند غضبه لذلك لا يثنيه شيء عن الانتصار له، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويتفقد أصحابه ويسأل عنهم، فإن كان غائبا دعا له، وإن كان شاهدا زاره، وإن كان مريضا عاده، ويسأل الناس عما الناس فيه، أفضل الناس عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة، أحسنهم مواساة، لا يجلس، ولا يقوم إلا عن ذكر، وإذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك ويعطي كل واحد من جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أحدا أكرم عليه منه.
من جالسه أو نادمه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه. من سأله حاجة لم يردّه إلّا بها أو بميسور من القول.
عنده الناس في الحق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء: لا ترفع فيه الأصوات، ولا يتنازعون عنده الحديث.
إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير: أي على غاية من السكون والوقار لأن الطير لا تكاد تقع إلا على ساكن، وإذا تكلم عنده أحد أنصتوا له حتى يفرغ من حديثه: أي لا يقطع بعضهم على بعض حديثه، يضحك مما يضحكون، ويعجب مما يعجبون.(3/473)
فقد ذكر أن أبا بكر رضي الله عنه خرج تاجرا إلى بصرى ومعه نعيمان بن عمرو الأنصاري وسويط بن حرملة وكلاهما بدري. وكان سويط على زاد أبي بكر فجاءه نعيمان وقال له أطعمني، فقال: لا حتى يأتي أبو بكر وكان نعيمان رجلا مضحاكا مزاحا فيه دعابة وله أخبار ظريفة في دعابته، فقال لسويط: لأغيظنك، فذهب إلى ناس، وفي رواية: فمروا بقوم، فقال لهم نعيمان: تشترون من عبدا لي؟ قالوا نعم.
قال: إنه عبد له كلام وهو قائل لكم لست بعبده، أنا رجل حر، فإن كان إذا قال لكم هذه تركتموه فلا تشتروه ولا تفسدوا عليّ عبدي، قالوا لا بل نشتريه، ولا ننظر في قوله، فاشتروه منه بعشرة قلائص، فأقبل بها يسوقها، وأقبل بالقوم حتى عقلها، ثم قال: دونكم هو هذا، فجاء القوم له وقالوا له: قد اشتريناك، فقال: هو كاذب أنا رجل حر، وفي رواية أنهم وضعوا عمامته في عنقه، فقال لهم: إنه يتهزأ ولست بعبده، فقالوا له قد أخبرنا بخبرك، فطرحوا الحبل في عنقه وذهبوا به، ولم يسمعوا كلامه، فجاء أبو بكر رضي الله عنه، فأخبره خبره، فذهب هو وأصحابه وأتبعوا القوم، وأخبروهم أنه يمزح، وردوا عليهم القلائص، وردوا سليطا منهم، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر، فضحك من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حولا كاملا، لأن سفر أبي بكر رضي الله عنه كان قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بعام.
ووقع لنعيمان هذا أنه مر بمخرمة بن نوفل رضي الله عنه وقد كف بصره وهو يقول ألا رجل يقودني حتى أبول، فأخذ بيده نعيمان، فلما بلغ مؤخر المسجد قال له: ههنا فبال فصاح الناس به، فقال: من قادني؟ قيل نعيمان، فقال صلى الله عليه وسلم عليّ أن أضربه بعصاي هذه، فبلغ نعيمان فأتاه، فقال له: هل لك في نعيمان؟ قال نعم، قال: فقم فقام معه، فأتى به عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو إذ ذاك أمير المؤمنين وهو يصلي، فقال: دونك الرجل، فجمع يديه في العصا ثم ضربه، فقال الناس:
أمير المؤمنين، فقال: من قادني؟ فقيل نعيمان، قال: لا أعود إلى نعيمان أبدا.
وجاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد وأناخ راحلته بفنائه فقال بعض الصحابة لنعيمان: لو نحرتها فأكلناها؟ فإنا قد قرمنا إلى اللحم، ويغرم رسول الله صلى الله عليه وسلم حقها، فنحرها نعيمان، فخرج الأعرابي فرأى راحلته، فصاح: واعقراه يا محمد، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من فعل هذا؟ قالوا نعيمان، فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عنه، فوجده في دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب قد اختفى في خندق وجعل عليه الجريد، فأشار إليه رجل ورفع صوته: ما رأيته يا رسول الله وأشار بأصبعه حيث هو، فأخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تعفر وجهه بالتراب، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: الذين دلوك عليّ يا رسول الله هم الذين أمروني، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عن وجهه التراب ويضحك، ثم غرم صلى الله عليه وسلم ثمنها.(3/474)
وكان رضي الله عنه إذا دخل المدينة طرفة اشتراها في ذمته، ثم جاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله هذه هدية، فإذا جاء صاحبها يطلب ثمنها جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أعط هذا ثمن ما جئت به إليك، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو لم تهد ذلك لي؟ فيقول: يا رسول الله لم يكن عندي ثمنه، وأحببت أن يكون لك، فيضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمر لصاحبه بثمنه.
وكان صلى الله عليه وسلم دائم البشر ضحوك السن: أي أكثر أحواله ذلك حسما رآه هذا المخبر، فلا ينافي أنه صلى الله عليه وسلم كان متواصل الأحزان، دائم الفكرة ليست له راحة، فإنه بحسب ما كان عند ذلك المخبر.
وفي كلام ابن القيم رحمه الله: قد صانه الله عن الحزن في الدنيا وأسبابها، ونهاه عن الحزن على الكفار، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فمن أين يأتيه الحزن، بل كان دائم البشر ضحوك السن، كذا قال.
وفي كلام الإمام أبي العباس بن تيمية رحمه الله: ليس المراد الحزن الذي هو الألم على فوات مطلوب أو حصول مكروه، فإن ذلك منهي عنه، وإنما المراد به الاهتمام واليقظة لما يستقبله من الأمور، وهذا مشترك بين القلب والعين.
وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: خلقه القرآن: أي ما ذكره القرآن: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) [القلم: الآية 4] وإنه تأدب بآدابه وتخلق بمحاسنه.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال» .
قال: وذكر في عوارف المعارف أن في قول عائشة رضي الله عنها خلقه القرآن سرا غامضا، حيث عدلت إلى ذلك عن قولها كان متخلقا بأخلاق الله سترا للحال بلطف المقال استحياء من سبحات ذي الجلال اه، أي فكان صلى الله عليه وسلم متصفا بما فيه من الاجتهاد في طاعة الله والخضوع له، والانقياد لأمره والشدة على أعدائه، والتواضع لأوليائه، ومواساة عباده وإرادة الخير لهم، والحرص على كمالهم، والاحتمال لأذاهم، والقيام بمصالحهم وإرشادهم إلى ما يجمع لهم خيري الدنيا والآخرة مع التعفف عن أموالهم إلى غير ذلك من الأخلاق الفاضلة والصفات الكاملة التي اتصف بها صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم.
وكان صلى الله عليه وسلم أشد الناس خشية وخوفا من الله، أي ومن ثم كان صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا أتقاكم صلى الله عليه وسلم، وأخوفكم منه» .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فدخل معي في لحافي، ثم قال: ذريني أتعبد لربي، فقام صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثم قام فصلى فبكى حتى سال(3/475)
دمعه على صدره، ثم ركع فبكى، ثم سجد فبكى ثم رفع رأسه فبكى، فلم يزل كذلك حتى جاءه بلال رضي الله عنه فآذنه بالصلاة، فقلت: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا، ولم لا أفعل وقد أنزل الله تعالى عليّ في هذه الليلة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) [آل عمران: 190] إلى قوله: سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) [آل عمران: الآية 191] .
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «أواه من عذاب الله قبل أن لا ينفع أواه» أي وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أول من صنعت له النورة ودخل الحمام سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، فلما دخله وجد حره وغمه قال:
أواه من عذاب الله، أواه أواه قبل أن لا يكون أواه» .
أي وفي «سفر السعادة» : لم يدخل صلى الله عليه وسلم الحمام أبدا، والحمام الموجودة الآن بمكة شرفها الله تعالى المشهورة بحمام النبي صلى الله عليه وسلم لعلها بنيت في موضع اغتسل فيه صلى الله عليه وسلم مرة، هذا كلامه.
وأرسل صلى الله عليه وسلم وصيفة فأبطأت عليه، فقال لها: لولا خوف القصاص لأوجعتك بهذا السواك. وما ضرب صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة امرأة ولا خادما من أهله.
قال: وعن خادمه أنس رضي الله عنه: ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر فتوانيت عنه، أو ما صنعته فلامني، ولا لامني أحد من أهله صلى الله عليه وسلم إلا قال دعوه. وفي لفظ:
خدمته في السفر والحضر عشر سنين والله ما قال لي في شيء صنعته لم صنعت هذا هكذا ولا لشيء لم أصنعه هذا هكذا؟ وهذا يدل على أنه رضي الله عنه خدمه أنس له صلى الله عليه وسلم عند قدومه المدينة، وتقدم أن في بعض الروايات ما يدل على أن ابتداء خدمة أنس له صلى الله عليه وسلم في فتح خيبر، وتقدم ما فيه.
ووصف صلى الله عليه وسلم في الكتب القديمة بأن حلمه صلى الله عليه وسلم يسبق غضبه، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما.
وقد تقدمت قصته صلى الله عليه وسلم مع اليهودي الذي طلب منه وفاء ما اقترض منه صلى الله عليه وسلم قبل حلول الأجل ونظيرها.
وعن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن فحاشا. استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلق النبي في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه.
فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة متى عهدتني فحاشا؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من(3/476)
تركه الناس اتقاء شره.
قال ابن بطال رحمه الله: إن هذا الرجل هو عيينة بن حصن، لأنه كان يقال له الأحمق المطاع، وهو صلى الله عليه وسلم إنما تطلق في وجهه تألفا له ليسلم قومه، لأنه كان المطاع فيهم. وأما ذمه صلى الله عليه وسلم له فلأنه يعلم ما يقع منه بعد، فإنه ارتد في زمن الصديق رضي الله عنه وحارب ثم رجع وأسلم.
أي وقد قيل إن سبب نزول قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا [الكهف: الآية 28] الآية أن عيينة هذا قال للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال له أسلم قال: على أن تبني لي مقصورة في مسجدك هذا أكون أنا وقومي فيها وتكون أنت معي.
ومن تأمل سيرته صلى الله عليه وسلم مع أهله وأصحابه وغيرهم من الفقراء والأيتام والأرامل والضعفاء والمساكين علم أنه صلى الله عليه وسلم بلغ الغاية في التواضع ورقة القلب ولين الجانب.
وعن أنس رضي الله عنه: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة يوما. فقلت: والله لا أذهب وفي نفسي أني أذهب، فخرجت على صبيان يلعبون في السوق، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض ثيابي من ورائي، فنظرت إليه صلى الله عليه وسلم وهو يضحك فقال: يا أنيس اذهب حيث أمرتك. فقلت نعم أنا أذهب يا رسول الله اه.
وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، وأرجح الناس حلما، وأعظم الناس عفوا، وأسخى الناس كفا.
وكان صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، وقال صلى الله عليه وسلم يوما لأصحابه وقد اضطروه إلى شجرة فخطفت رداؤه الشريف فوقف، ثم قال: أعطوني ردائي، لو كان لي عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم.
وفي رواية: «لو أن لي مثل جبال تهامة ذهبا لقسمته بينكم ثم لا تجدوني كذوبا، ولا بخيلا، ولا جبانا» كما تقدم.
وكان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس قلبا، وأشد الناس بأسا وأشد الناس حياء. وكان أشد حياء من البنت البكر في خدرها أي بيتها وسترها، وكان إذا فرح، غض طرفه، وإذا أخذه العطاس وضع يده أو ثوبه على فيه وخفض صوته، وربما غطى وجهه بيده أو ثوبه.
وكان يحب الفأل الحسن، ويغير الاسم القبيح بالحسن كما تقدم، وربما غير الحسن بالقبيح كما تقدم. وكان يقول لأصحابه: إذا أرسلتم لي رسولا فليكن حسن الاسم، حسن الوجه.
من ذلك أن شخصا كان سادنا: أي خادما الصنم، وكان يسمى غاوي بن ظالم. فبينما هو عند صنمه إذ أقبل ثعلبان إلى الصنم ورفع كل واحد منهما رجله(3/477)
وبال على رأس ذلك الصنم، فلما رأى ذلك كسر ذلك الصنم وأنشد:
أربّ يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له كيف اسمك؟ فقال: غاوي بن ظالم. فقال صلى الله عليه وسلم له: بل أنت راشد بن عبد ربه.
ومن هذا السياق يعلم أن الثعلبان بفتح الثاء المثلثة مثنى ثعلب لا بضمها ذكر الثعالب كما قيل.
ومن تغيير الاسم القبيح بالحسن ما وقع له صلى الله عليه وسلم في غزوة ذي قرد أنه مر على ماء فسأل عنه، فقيل له: هذا اسمه بئسان وهو مالح. فقال: لا، بل اسمه نعمان وهو طيب، فانقلب عذبا. واشتراه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ثم تصدق به، فلما جاء إليه صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنت يا طلحة إلا فياض فسمي طلحة الفياض.
وكان صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر. قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رجلا أكثر مشاورة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا حلف قال: لا ومقلب القلوب، وربما قال في يمينه وأستغفر الله، وإذا اجتهد في اليمين قال: لا، والذي نفس أبي القاسم بيده، وربما قال:
والذي نفس محمد بيده، وربما قال في يمينه: لا، وأستغفر الله والذي نفسي بيده.
وكان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس إغضاء عن العورات. وكان إذا كره شيئا عرف في وجهه، ولم يشافه أحدا بمكروه حتى إذا بلغه عن أحد ما يكرهه لم يقل ما بال فلان يقول أو يفعل كذا. بل يقول: ما بال أقوام يقولون أو يفعلون كذا.
لا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح، أوسع الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة. ما دعاه أحد من أصحابه أو أهل بيته إلا قال لبيك، يخالط أصحابه، ويحادثهم، ويداعب، أي يمازح صبيانهم، ويجلسهم في حجره الشريف.
أي فقد كان صلى الله عليه وسلم يصفّ أولاد عمه العباس عبد الله وعبيد الله وغيرهما رضي الله عنهم ويقول: من سبق إليّ فله كذا، فيستبقون إليه فيقاعدون على صدره الشريف فيقبلهم ويلتزمهم. ويجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويشهد الجنائز، ويقبل عذر المعتذر. ما وضع أحد فمه في أذنه إلا استمر صاغيا له حتى يفرغ من حديثه ويذهب، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده صلى الله عليه وسلم منه حتى يكون الآخذ هو الذي يرسلها.
وكان صلى الله عليه وسلم يبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، ولم ير قط مادا(3/478)
رجليه بين أصحابه. يكرم من يدخل عليه، وربما بسط له رداءه وآثره بالوسادة التي تحته، ويعزم عليه بالجلوس عليها إن أبي، ويدعو أصحابه بأحب أسمائهم ويكنيهم، ولا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلا خفف صلاته، وسأله عن حاجته، فإذا فرغ عاد إلى صلاته، وطعن في الحديث الذي ورد بذلك، وإذا سمع بكاء الصغير وهو يصلي تجوّز فيها: أي خففها.
أكثر الناس شفقة على خلق الله تعالى وأرأفهم بهم وأرحمهم بهم، قال تعالى:
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) [الأنبياء: الآية 107] ومن ثم رغب صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى أن يجعل سبه ولعنه لأحد من المسلمين رحمة له: أي إذا كان لا يستحق ذلك السب في باطن الأمر ويستحقه في ظاهر الأمر. أي وقال صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم لا يرحم» أوصل الناس للرحم، وأقومهم بالوفاء وحسن العهد.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» .
وكان يركب الحمار: أي وربما ركبه عريانا ويردف خلفه. فعن أنس رضي الله عنه: رأيته صلى الله عليه وسلم يوما على حمار خطامه ليف، أي وقد جاء أن ركوب الحمار براءة من الكبر، وكان يجلس على الأرض، وكان يشرب قائما وقاعدا وينتعل قائما وقاعدا، ويصلي منتعلا وحافيا.
وفي لفظ: كان أكثر صلاته صلى الله عليه وسلم في نعليه وكان يحب التيامن في شأنه كله في طهوره وترجله وتنعله، وكان يحب السواك حتى لقد أحفى لثته. وكان يكتحل بالإثمد عند النوم ثلاثا في كل عين. وفي لفظ: ثلاثا في اليمنى ومرتين في اليسرى.
وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالإثمد، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر، وإنه من خير أكحالكم» وكان يعود المساكين ويجلس بين أصحابه.
«وحج صلى الله عليه وسلم على رحل رث عليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم، وقال: اللهم اجعله حجا مبرورا لا رياء فيه ولا سمعة» كما تقدم، وأهدى في حجة ذلك مائة بدنة كما تقدم.
وكان يفلي ثوبه، أي وإن كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن القمّل لا يؤذيه، ويحلب شاته، ويخصف نعله، ويرقع ثوبه ويخدم نفسه، ويعلف ناضحه وهو الجمل الذي يسقي عليه الماء، ويقمّ البيت.
قال وعن عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل عمل البيت، وأكثر ما يعمل الخياطة، ما يرى فارغا قط في بيته، إما يخصف نعلا لرجل مسكين، أو يخيط ثوبا لأرملة انتهى، ويأكل مع الخادم، ويحمل بضاعته من السوق، ويحب الطيب، ويأمر به.(3/479)
وكان يتطيب بالمسك والغالية، ويتبخر بالعود والعنبر والكافور، ويأمر أصحابه بالمشي أمامه. ويقول: «خلو ظهري للملائكة» زاهدا في الدنيا. ما ترك درهما ولا دينارا.
توفي ودرعه مرهونة، وتقدم أنها ذات الفضول عند يهودي وتقدم أنه أبو الشحم على نفقة عياله، وتقدم أن ذلك كان ثلاثين صاعا من شعير، وكان الأجل سنة.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا» . ما شبع ثلاثة أيام تباعا من خبز البر حتى فارق الدنيا. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وما يجد من الدقل ما يملأ بطنه.
وفي رواية: ما شبع يومين من خبز الشعير. أي ومعلوم أن ذلك إنما هو لتتأسى به أمته في الإعراض عن الدنيا. قالت عائشة رضي الله عنها: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني عرض عليّ أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: لا يا رب، أجوع يوما، وأشبع يوما، فأما اليوم الذي أجوع فيه فأضرع إليك وأدعوك، وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني عليك» .
قال صلى الله عليه وسلم: «ما لي وللدنيا، إنما أنا في الدنيا كرجل سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة حتى مال الفيء فتركها ولم يرجع إليها» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أبالي بما رددت به عني الجوع» ولم ينخل له صلى الله عليه وسلم دقيق الشعير.
قال: وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: والذي بعث محمدا بالحق ما رأى منخلا، ولا أكل خبزا منخولا منذ بعثه الله تعالى إلى أن قبض. فقيل لها: كيف كنتم تصنعون بالشعير؟ قالت: كنا نقول أف أف انتهى، أي فيطير ما طار، وما بقي عجناه: ولا خبز له صلى الله عليه وسلم مرقق. ولا أكل النقي من الخبز.
وعن أنس رضي الله عنه قال: جاءت فاطمة رضي الله عنها بكسرة خبز إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما هذه الكسرة يا فاطمة؟ قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة، فقال صلى الله عليه وسلم: أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام» أي فإنه صلى الله عليه وسلم كان يبيت الليالي المتابعة طاويا. ولا أكل على خوان قط، إنما كان يأكل على السفرة، وربما وضع صلى الله عليه وسلم طعامه على الأرض.
أي وخطب صلى الله عليه وسلم يوما فقال: والله ما أمسى في بيت محمد صاع من طعام وإنها لتسعة أبيات. قال الحسن: والله ما قالها استقلالا لرزق الله، ولكن أراد صلى الله عليه وسلم أن تتأسى به أمته.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: كان يمر هلال ثم هلال لا يوقد في بيت من(3/480)
بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار لا لخبز ولا لطبخ، فقيل له: بأي شيء كانوا يعيشون يا أبا هريرة؟ فقال: بالأسودين الماء والتمر.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: والله لقد كان يأتي على آل محمد صلى الله عليه وسلم الليالي ما يجدون فيها عشاء.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أهدى لنا أبو بكر شاة قالت إني لأقطعها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلمة البيت، فقال لها قائل: أما كان لكم سراج؟ فقالت: لو كان لنا ما نسرج به أكلناه.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يجمع في بطنه بين طعامين، إن أكل لحما لم يزد عليه، وإن أكل تمرا لم يزد عليه، وإن أكل خبزا لم يزد عليه، ولم يكن له صلى الله عليه وسلم إلا ثوب واحد من قطن، قصير الكمين، كمه إلى الرسغ، وطوقه مطلق من غير أزرار. أي وفي لفظ:
كان قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم قطنا، قصير الطول، قصير الكمين، كمه إلى الرسغ.
وكان له صلى الله عليه وسلم جبة ضيقة الكمين، وكان له رداء طوله أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر من نسج عمان.
وكان له صلى الله عليه وسلم بردة يمانية طولها ستة أذرع في عرض ثلاثة أذرع وشبر، كان يلبسهما في يوم الجمعة والعيدين ثم يطويان.
وكان له صلى الله عليه وسلم رداء أخضر طوله أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر تداولته الخلفاء.
وكان له صلى الله عليه وسلم عمامة تسمى السحاب، كساها علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فكان ربما طلع عليه علي كرم الله وجهه فيقول صلى الله عليه وسلم: أتاكم عليّ في السحاب، يعني عمامته التي وهبها له صلى الله عليه وسلم.
وكان إذا اعتم يرخي عمامته بين كتفيه، وكان يلبس القلنسوة اللاطئة: أي اللاصقة بالرأس، وذات الآذان كان يلبسها في الحروب، والقلانس الطول إنما حدثت في أيام الخليفة المنصور.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «فرق بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس» أي فإنه صلى الله عليه وسلم كان يلبس القلانس تحت العمائم، ويلبس القلانس بغير عمائم ويلبس العمائم بغير قلانس.
وكان له صلى الله عليه وسلم عمامة سوداء دخل يوم فتح مكة لابسها. وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: «كان للنبي صلى الله عليه وسلم عمامة سوداء يلبسها في العيدين ويرخيها خلفه» .
وجاء أن جبريل عليه السلام كانت عمامته يوم غرق فرعون سوداء. ومقدار(3/481)
عمامته الشريفة صلى الله عليه وسلم لم يثبت في حديث. قال بعض الحافظ أنها كانت نحو العشرة أذرع أو فوقها بيسير، وكانت له صلى الله عليه وسلم خرقة إذا توضأ تمسح بها، هذا.
وفي «سفر السعادة» : لم يكن صلى الله عليه وسلم ينشف أعضاءه بعد الوضوء بمنديل ولا منشفة، وإن أحضروا له شيئا من ذلك أبعده. والحديث المروي عن عائشة رضي الله عنه: كانت له صلى الله عليه وسلم نشافة يتنشف بها بعد الوضوء. وحديث معاذ رضي الله عنه في معناه كلاهما ضعيف وقال: تنشيف الأعضاء من الوضوء لم يصح فيه حديث.
وكانت له صلى الله عليه وسلم ملحفة مورسة إذا أراد أن يدور على نسائه رشها بالماء أي لتظهر رائحتها. وكان يصبغ قميصه ورداءه وعمامته بالزعفران. أي وفي لفظ: كان يصبغ ثيابه كلها بالزعفران حتى العمامة.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه قميص أصفر ورداء أصفر وعمامة صفراء.
وعن ابن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه: كان أحب الصبغ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفرة. وقال الحافظ الدمياطي رحمه الله: ويعارض هذه الأحاديث ما روي في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزعفر، وفي لفظ: نهى عن أن يتزعفر الرجل.
أي وقد يقال: على تقدير صحة تلك الأحاديث فهي منسوخة، أو كان ذلك من خصوصياته صلى الله عليه وسلم. وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم اشترى السراويل. واختلف هل لبسها؟ فقيل نعم، ففي الأوسط للطبراني ومسند أبي يعلى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
دخلت يوما السوق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إلى بزازين، فاشترى سراويل بأربعة دراهم، وكان لأهل السوق وزّان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أوزن وأرجح. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السراويل فذهبت لأحمله عنه، فقال: «صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله إلا أن يكون ضعيفا يعجز عنه فيعينه أخوه المسلم. قلت يا رسول الله إنك لتلبس السراويل. قال: أجل في السفر والحضر، وبالليل وبالنهار، فإني أمرت بالستر، فلم أجد شيئا أستر منه» ومخرجه هو وشيخه ضعيفان.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم توفني فقيرا ولا توفني غنيا، واحشرني في زمرة المساكين، وفي لفظ آخر «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين، فإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة، أتتني الدنيا خضرة حلوة، ورفعت إليّ رأسها وتزينت لي، فقلت: إني لا أريدك، لا حاجة لي فيك.
ولو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقي الكافر منها شربة ماء» انتهى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبيت هو وأهله الليالي المتتابعة طاويا لا يجدون عشاء.(3/482)
قال: وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، الفاقة أحب إليّ من اليسار» وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أرثي له صلى الله عليه وسلم من الجوع، وأقول نفسي لك الفداء، لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقويك ويمنع عنك الجوع، فيقول: يا عائشة إن إخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا، فمضوا على حالهم، فتقدموا على ربهم، فأكرمهم وأجزل ثوابهم أخشى إن ترفعت في معيشتي أن يقصر بي دونهم، فأصبر أياما يسيرة أحب إليّ من أن ينقص حظي غدا في الأخرى، وما من شيء أحب إليّ من اللحوق بإخواني» .
قال: وقال صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولالآل محمد. يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر، وقال: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: الآية 35] والله أصبرن جهدي ولا قوة إلا بالله» انتهى.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تطروني كما أطرت النصاري عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» وكان صلى الله عليه وسلم على غاية من الإعراض عن الدنيا، وكان يصلي على الحصير وعلى الفروة المدبوغة، وربما نام على الحصير فأثرت في جسده الشريف.
وكان ينام على شيء أدم محشو ليفا، فقيل له في ذلك؟ فقال: «ما لي وللدنيا؟» .
وعن عائشة رضي الله عنها: «دخلت امرأة من الأنصار فرأت ذلك الأدم» . وفي لفظ رأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عباءة مثنية فانطلقت فبعثت إليه بفراش حشوة صوف، فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ فقلت: يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت عليّ فرأت فراشك فذهبت فبعثت هذا، فقال: رديه، فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي حتى قال ذلك ثلاث مرات، فقال: والله يا عائشة لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة» .
وعنها رضي الله عنها أنها كانت تفرش تلك العباءة مثنية طاقين، ففي بعض الليالي ربعتها، فنام صلى الله عليه وسلم عليها ثم قال: «يا عائشة ما لفراشي الليلة ليس كما يكون؟
قلت: يا رسول الله ربعتها، قال: فأعيديه كما كان» .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا استجدّ ثوبا قال: «اللهم لك الحمد، أنت كسوتنيه، أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له» . وكان يقول لأصحابه كلهم رضي الله عنهم: «إذا لبس أحدكم ثوبا فليقل الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي» قال: وكان أرجح الناس عقلا: والعقل مائة جزء:
تسعة وتسعون في النبي صلى الله عليه وسلم، وجزء في سائر الناس.(3/483)
وعن وهب بن منبه: قرأت في أحد وسبعين كتابا أنه صلى الله عليه وسلم أرجح الناس وأفضلهم رأيا. وفي رواية: وجدت في جميعها أن الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انتهائها من العقل في جنب عقله صلى الله عليه وسلم إلا كحبة بين رمال الدنيا. ومما يتفرغ على العقل اقتناء الفضائل، واجتناب الرذائل، وإصابة الرأي، وجودة الفطنة وحسن السياسة والتدبير، وقد بلغ من ذلك صلى الله عليه وسلم الغاية التي لم يبلغها بشر سواه.
ومما يكاد يقضي منه العجب حسن تدبيره صلى الله عليه وسلم للعرب الذين هم كالوحوش الشاردة، كيف ساسهم، واحتمل جفاهم، صبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه صلى الله عليه وسلم، واجتمعوا عليه، واختاروه على أنفسهم، وقاتلوا دونه أهلهم وآباءهم وأبناءهم وهاجروا في رضاه أوطانهم انتهى، والله أعلم.
باب يذكر فيه مدة مرضه، وما وقع فيه، ووفاته صلى الله عليه وسلم التي هي مصيبة الأولين والآخرين من المسلمين
ذكر أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى البقيع من جوف الليل فاستغفر لهم. فعن أبي مويهية مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له في جوف الليل، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي، قال: فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم، قال:
السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، لو تعلمون ما نجاكم الله منه أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها والأخيرة شر من الأولى، قال: ثم أقبل عليّ، وقال: يا أبا مويهية هل علمت أني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي، فاخترت لقاء ربي والجنة» أي وفي رواية: «أن أبا مويهية قال له: بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الأرض والخلد فيها، ثم الجنة. قال لا، والله يا أبا مويهية لقد اخترت لقاء ربي والجنة، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فلما أصبح ابتدىء بوجعه من يومه ذلك ابتدأه الصداع» أي وفي رواية «ذهب بعد ذلك إلى قتلى أحد فصلى عليهم، فرجع معصوب الرأس، فكان ذلك بدء الوجع الذي مات فيه» وفي رواية: «رجع من جنازة بالبقيع» .
قالت عائشة رضي الله عنها: «لما رجع من البقيع وجدني وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول وارأساه، فقال صلى الله عليه وسلم: بل أنا وارأساه قال: لو كان ذلك وأنا حيّ فأستغفر لك وأدعو لك وأكفنك وأدفنك» وفي لفظ: «وما يضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك، فقلت: واثكلاه. والله: إنك لتحب موتي، فلو كان ذلك لظللت يومك معرسا ببعض أزواجك، قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم،(3/484)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنا وارأساه، لقد هممت أن أرسل إلى أبيك وأخيك فأقص أمري وأعهد عهدي فلا يطمع في الدنيا طامع» . وفي لفظ: «ثم قلت يأبي الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبي المؤمنون» وفي رواية: «أنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ادعي لي أباك أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن أو يقول قائل أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» وفي رواية: «لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما ائتني بكتف أو لوح حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه، فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم، قال: أبي الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر» .
قال ابن كثير رحمه الله: وقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة بين فيها فضل الصديق رضي الله عنه من بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولعل خطبته صلى الله عليه وسلم هذه كانت عوضا عما أراد صلى الله عليه وسلم أن يكتبه في الكتاب.
وفي رواية أنه اجتمع عنده صلى الله عليه وسلم رجال، فقال صلى الله عليه وسلم: هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، فقال بعضهم: أي وهو سيدنا عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه الوجع وعندكم القرآن، أي وإنما قال ذلك رضي الله عنه تخفيفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتفعت أصواتهم، فأمرهم بالخروج من عنده.
وجاء أن العباس رضي الله عنه قال لعلي كرم الله وجهه: لا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصح من مرضه هذا فإني أعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، أي وفي رواية:
خرج علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مرضه الذي مات فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئا، فأخذ بيده عمه العباس رضي الله عنهما. وقال له: والله أنت بعد ثلاث عبد العصي، وإني لا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجعه هذا بعد ثلاث إلا ميتا، فإني رأيت في وجهه ما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب عند الموت، فاذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسأله فيمن هذا الأمر؟ فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا كلمناه فأوصى بنا، فقال عليّ كرم الله وجهه: والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت عائشة رضي الله عنها: وصار صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه فاشتدّ به المرض عند ميمونة رضي الله عنها، وقيل في بيت زينب رضي الله عنها، وقيل في بيت ريحانة رضي الله عنها، قالت عائشة رضي الله عنها: فدعا صلى الله عليه وسلم نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي فأذنّ له، وفي رواية: صار يقول وهو في بيت ميمونة أين أنا غدا أين أنا غدا؟ يريد يوم عائشة رضي الله عنها. وفي البخاري يقول: أين أنا اليوم أين أنا غدا؟ استبطأ ليوم عائشة رضي الله عنها، فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة.(3/485)
وفي رواية عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى النساء في مرضه فاجتمعن، فقال:
إني لا أستطيع أن أدور بينكن، فإن رأيتن أن تأذنّ لي فأكون في بيت عائشة فعلتن:
فأذنّ له قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بين رجلين من أهله معتمدا عليهما الفضل بن العباس ورجل آخر، وفي رواية بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر، وفي رواية بين أسامة ورجل آخر عاصبا رأسه الشريف تخط قدماه الأرض حتى دخل بيتي، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الرجل الذي لم تمسه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، أي فإنه كان بينها وبين عليّ ما يقع بين الأحماء، وقد صرحت بذلك لما أرادت أن تتوجه من البصرة بعد انقضاء وقعة الجمل وخرج الناس ومن جملتهم علي كرم الله وجهه لتوديعها، حيث قالت: والله ما كان بيني وبين عليّ في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها فقال عليّ: أيها الناس صدقت والله وبرت، ما كان بيننا وبينها إلا ذلك، وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، وقد تقدم ذلك.
ثم غمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه، فقال: هريقوا عليّ من سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم، فأقعدناه صلى الله عليه وسلم في مخضب إناء من حجر ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول: حسبكم حسبكم، وفي لفظ: حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن: أي وصب المياه المذكورة له دخل في دفع السم. أي فإنه صلى الله عليه وسلم صار يقول لعائشة: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أسممته بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصبا رأسه الشريف حتى جلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به أن صلى على أصحاب أحد، أي دعا لهم فأكثر الصلاة عليهم واستغفر لهم. ثم قال: إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده؟ فاختار ذلك العبد ما عند الله، ففهمها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وعرف أن نفسه يريد. أي فبكى أبو بكر فقال: نفديك بأنفسنا وأبنائنا. فقال: «على رسلك يا أبا بكر» . أي وفي رواية قال: «يا أبا بكر لا تبك، أيها الناس إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر» وهذا حديث صحيح جاء عن بضعة عشر صحابيا، ولكثرة طرقه عدّ من المتواتر.
وفي أخرى: «إن أعظم الناس عليّ منا في صحبته وذات يده أبو بكر» وفي أخرى: «فإني لا أعلم امرأ أفضل عندي يدا في الصحابة من أبي بكر» .
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي يموت حتى يخير بين الدنيا والآخرة» أي وفي الحديث «حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم تعرض عليّ أعمالكم، فإن رأيت شرا استغفرت لكم» أي وهذا بيان للثاني لاستغناء الأول عن البيان، ومعلوم أن خيرا وشرا هنا ليسا أفعل تفضيل الذي يوصل بمن حتى يلزم التناقض، بل المراد أن ذلك فضيلة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: انظروا هذه الأبواب(3/486)
اللاصقة في المسجد، أي وفي لفظ: هذه الأبواب الشوارع في المسجد فسدوها إلا باب أبي بكر. أي وفي لفظ: إلا ما كان من باب أبي بكر، فإني وجدت عليه نورا.
وفي لفظ: «سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد إلا خوخة أبي بكر» فإن المراد بالأبواب الخوخ؟ «فإني لا أعلم أن أحدا كان أفضل في الصحبة عندي يدا منه» أي وفي لفظ: «أبو بكر صاحبي ومؤنسي في الغار، سدوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر» وفي لفظ: «لا تؤذوني في صاحبي ولولا أن الله سماه صاحبا لا تخذته خليلا، ألا فسدوا كل خوخة إلا خوخة بن أبي قحافة» أي وجاء في الحديث: «لكل نبي خليل من أمته، وإن خليلي أبو بكر، وإن الله اتخذ صاحبكم خليلا» وفي رواية «وإن خليلي عثمان بن عفان» وجاء «لكل نبي خليل، وخليلي سعد بن معاذ» .
وفي أسباب النزول للثعالبي عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإنه لم يكن نبي إلا وله خليل. ألا وإن خليلي أبو بكر» وفي رواية الجامع الصغير: «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإن خليلي أبو بكر» وفي رواية الجامع الصغير «خليلي من هذه الأمة أويس القرني» ولعل هذا كان قبل أن يقول صلى الله عليه وسلم في مرض موته قبل موته بخمسة أيام «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي لاتخذت أبا بكر خليلا، لكن خلة الإسلام أفضل» . وفي رواية: «ولكن أخوة الإسلام ومودته» وفي رواية:
«لكن أخي وصاحبي» .
وجمع بأن الأول: أي إثبات الخلة لغير الله محمول على نوع منها ونفيها عن غير الله محمول على كمالها.
ثم لا يخفى أن قوله صلى الله عليه وسلم: «ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا» يدلّ على أن مقام الخلة أرقى من مقام المحبة، وأن المحبة والخلة ليسا سواء خلافا لمن زعم ذلك.
أي ولا مانع أن يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، فلا حاجة إلى ما تكلفه بعضهم مما يدل على أن مقام المحبة من مقام الخلة: أي الذي يدلّ عليه ما جاء: «ألا قائل قولا غير هجر؟ إبراهيم خليل الله، وموسى صفي الله، وأنا حبيب الله، وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة» وعند ذلك: أي إغلاق الأبواب، قال الناس:
أغلق أبوابنا وترك باب خليله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد بلغني الذي قلتم في باب أبي بكر، وأني أرى على باب أبي بكر نورا، وأرى على أبوابكم ظلمة، لقد قلتم كذبت، وقال أبو بكر صدقت، وأمسكتم الأموال وجاد لي بماله، وخذلتموني(3/487)
وواساني. أي ولعل قولهم وترك باب خليله لا ينافي ما تقدم من عدم اتخاذه خليلا.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما أمر بسد الأبواب إلا باب أبي بكر، قال عمر: يا رسول الله دعني أفتح كوة أنظر إليك حيث تخرج إلى الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، وقال العباس بن عبد المطلب: يا رسول الله ما بالك فتحت أبواب رجال في المسجد يعني أبا بكر وما بالك سددت أبوب رجال في المسجد؟ فقال: يا عباس ما فتحت عن أمري ولا سددت عن أمي. وفي لفظ: ما أنا سددتها، ولكن الله سدها.
وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بسد الأبواب إلا باب علي. قال الترمذي حديث غريب. وقال ابن الجوزي: هو موضوع وضعه الرافضة ليقابلوا به الحديث الصحيح في باب أبي بكر. وجمع بعضهم بأن قصة علي متقدمة على هذا الوقت، وأن الناس كان لكل بيت بابان باب يفتح وباب يفتح خارجه إلا بيت علي كرم الله وجهه، فإنه لم يكن له إلا باب من المسجد، وليس له باب من خارج، فأمر صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب: أي التي تفتح للمسجد. أي بتضييقها وصيرورتها خوخا إلا باب علي كرم الله وجهه، فإن عليا لم يكن له إلا باب واحد ليس له طريق غيره كما تقدم، فلم يأمر صلى الله عليه وسلم بجعله خوخة، ثم بعد ذلك أمر صلى الله عليه وسلم بسد الخوخ إلا خوخة أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
وقول بعضهم حتى خوخة علي كرم الله وجهه، فيه نظر لما علمت أن عليا كرم الله وجهه لم يكن له إلا باب واحد، فالباب في قصة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ليس المراد به حقيقته بل الخوخة. وفي قصة علي كرم الله وجهه المراد به حقيقته.
أقول: ومما يدل على ما تقدم قصة علي كرم الله وجهه ما روي عنه قال:
«أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن سد بابك، قال: سمعا وطاعة فسد بابه، ثم أرسل إلى عمر، ثم أرسل إلى العباس بمثل ذلك ففعلا، وأمرت الناس ففعلوا، وامتنع حمزة، فقلت: يا رسول الله قد فعلوا إلا حمزة، فقال صلى الله عليه وسلم: قل لحمزة فليحول بابه، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تحول بابك فحوله، وعند ذلك قالوا: يا رسول الله سددت أبوابنا كلها إلا باب علي، فقال: ما أنا سددت أبوابكم ولكن الله سدها» وفي رواية: «ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب عليّ ولكن الله فتح باب عليّ وسد أبوابكم» .
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد، فإني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي، فقال فيكم قائلكم، وإني والله ما سددت شيئا ولا فتحته، ولكني أمرت بشيء فاتبعته، إنما أنا عبد مأمور ما أمرت به فعلت إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [يونس: الآية 15] ومعلوم أن حمزة رضي الله تعالى عنه قتل يوم أحد، فقصة علي كرم الله وجهه متقدمة جدا على قصة أبي بكر رضي الله تعالى عنه.(3/488)
وعلى كون المراد بسد الأبواب تضييقها وجعلها خوخا يشكل ما جاء: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب كلها غير باب علي، فقال العباس: يا رسول الله قدر ما أدخل أنا وحدي وأخرج، قال: ما أمرت بشيء من ذلك، فسدها كلها غير باب علي» فعلى تقدير صحة ذلك يحتاج إلى الجواب عنه، وعلى هذا الجمع يلزم أن يكون باب علي كرم الله وجهه استمر مفتوحا في المسجد مع خوخة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، لما علم أنه لم يكن لعلي باب آخر من غير المسجد.
وحينئذ قد توقف في قول بعضهم في سد الخوخ إلا خوخة أبي بكر إشارة إلى استحلاف أبي بكر لأنه يحتاج إلى المسجد كثيرا دون غيره، لكن في تاريخ ابن كثير رحمه الله: وهذا: أي سد جميع الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا باب عليّ لا ينافي ما ثبت في صحيح البخاري من أمره صلى الله عليه وسلم في مرض الموت بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا باب أبي بكر، لأن في حال حياته صلى الله عليه وسلم كانت فاطمة رضي الله تعالى عنها تحتاج إلى المرور من بيتها إلى بيت أبيها صلى الله عليه وسلم فأبقى صلى الله عليه وسلم باب عليّ كرم الله وجهه لذلك رفقا بها، وأما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فزالت هذه العلة فاحتيج إلى فتح باب الصديق رضي الله تعالى عنه لأجل خروجه إلى المسجد ليصلي بالمسلمين، لأنه الخليفة بعده عليه الصلاة والسلام هذا كلامه. وهو يفيد أن باب علي كرم الله وجهه سد مع سد الخوخ ولم يبق إلا خوخة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وجعل لبيت علي كرم الله وجهه باب من الخارج.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي:
«يا علي لا يحل لأحد جنب مكث في المسجد غيري وغيرك» .
وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: «أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه حتى انتهى إلى صرحة المسجد، فنادى بأعلى صوته إنه لا يحلّ المسجد لجنب ولا لحائض إلا لمحمد وأزواجه وعليّ وفاطمة بنت محمد، ألا هل بينت لكم أن لا تضلوا» قال الحافظ ابن كثير: وهذا أي الثاني إسناده غريب وفيه ضعف هذا كلامه، والمراد المكث في المسجد لا المرور به والاستطراق منه فإن ذلك لكل أحد.
ثم رأيت الحافظ السيوطي رحمه الله أشار إلى ذلك، وذكر أن مثل علي كرم الله وجهه فيما ذكر ولداه الحسن والحسين حيث قال: وكذا علي بن أبي طالب والحسن والحسين اختصوا بجواز المكث في المسجد مع الجنابة والله أعلم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرا إنهم كانوا عيبتي التي أويت إليهم، فأحسنوا إلى محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته هذه: «أيها الناس من أحس من نفسه شيئا فليقم(3/489)
أدع الله له، فقام إليه رجل، فقال: يا رسول الله إني لمنافق، وإني لكذوب، وإني لنؤوم، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ويحك أيها الرجل، لقد سترك الله لو سترت على نفسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم ارزقه صدقا وإيمانا، وأذهب عنه النوم إذا شاء» .
قال ابن كثير: في إسناده ومتنه غرابة شديدة. وأمر صلى الله عليه وسلم في مرضه أبا بكر أن يصلي بالناس، قال: وكانت تلك الصلاة صلاة العشاء، وقد أذن بلال، وقال ضعوا لي ماء في المخضب: أي وهو شبه الإجانة من نحاس، فاغتسل فيه، أي وهذا مع ما سبق يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان له مخضب من حجر ومخضب من نحاس.
ثم أراد صلى الله عليه وسلم أن يذهب فأغمي عليه ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا هم ينتظرونك، أي وعند ذلك قال ضعوا إلى ماء في المخضب، فاغتسل ثم أراد أن يذهب فأغمي عليه ثم أفاق، فقال أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ضعوا لي ماء في المخضب فاغتسل، ثم أراد أن يذهب فأغمي عليه ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، والناس ملمومة في المسجد ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة، فأرسل إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه بأن يصلي بالناس، فأتاه الرسول، فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس، فأتاه أبو بكر رضي الله تعالى عنه لعمر: يا عمر صل بالناس، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: أنت أحق بذلك.
وفي رواية: «أن بلالا رضي الله تعالى عنه دخل عليه صلى الله عليه وسلم فقال: الصلاة يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: لا أستطيع الصلاة خارجا، ومر عمر بن الخطاب فليصل، بالناس، فخرج بلال رضي الله تعالى عنه وهو يبكي، فقال له المسلمون: ما وراءك يا بلال؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع الصلاة خارجا، فبكوا بكاء شديدا، وقال لعمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: ما كنت لأتقدم بين يدي أبي بكر أبدا، فأدخل على نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن أبا بكر على الباب، فدخل عليه صلى الله عليه وسلم بلال رضي الله عنه تعالى فأخبره بذلك، فقال: نعم ما رأى، مر أبا بكر فليصل بالناس، فخرج إلى أبي بكر فأمره أن يصلي فصلى بالناس.
وفي رواية فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها فقلت: إن أبا بكر رجل أسيف: أي رقيق القلب إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فقال صلى الله عليه وسلم: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فعاودته، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقلت لحفصة: قولي له إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء. فمر عمر فليصل بالناس ففعلت حفصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفصة: مه(3/490)
إنكن صواحب يوسف عليه الصلاة والسلام» . وفي لفظ: «إنكن لأنتن صواحب يوسف عليه الصلاة والسلام» فقالت حفصة رضي الله تعالى عنها لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرا ومروا أبا بكر فليصل بالناس» : أي مثل صاحبة يوسف عليه الصلاة والسلام وهي زليخا أظهرت خلاف ما تبطن، وظهرت للنساء اللاتي جمعتهن أنها تريد إكرامهن بالضيافة، وإنما قصدها أن ينظرن لحسن يوسف عليه الصلاة والسلام فيعذرنها في حبه والنبي صلى الله عليه وسلم فهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها تظهر كراهة ذلك مع محبتها له باطنا هكذا يقتضيه ظاهر اللفظ.
والمنقول عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها إنما قصدت بذلك خوف أن يتشاءم الناس أبا بكر فيكرهونه حيث قام مقامه صلى الله عليه وسلم، فقد جاء عنها رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ما حملني على كثرة مراجعتي له صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا، ولا كنت أرى أنه يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس منه.
وفي رواية: «إن الأنصار رضي الله تعالى عنهم لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يزداد وجعا طافوا بالمسجد وأشفقوا من موته صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه الفضل رضي الله تعالى عنه فأخبره بذلك، ثم دخل عليه علي كرم الله وجهه فأخبره بذلك، ثم دخل عليه العباس رضي الله تعالى عنه فأخبره بذلك، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم متوكئا على علي والفضل والعباس أمامه، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوب الرأس يخط برجليه حتى جلس على أسفل مرقاة من المنبر وثار الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس بلغني أنكم تخافون من موت نبيكم، هل خلد نبي قبلي فيمن بعث إليه فأخلد فيكم؟ ألا وإني لاحق بربي وإنكم لا حقون به، فأوصيكم بالمهاجرين الأولين خيرا، وأوصى المهاجرين فيما بينهم بخير، فإن الله يقول: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) [العصر: الآية 1، 2] السورة وإن الأمور تجري بإذن الله، ولا يحملكم استبطاء أمر على استعجاله، فإن الله عز وجل لا يعجل لعجلة أحد، ومن غالب الله غلبه، ومن خادع الله خدعه فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) [محمد:
الآية 22] وأوصيكم بالأنصار خيرا، فإنهم الذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلكم أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم في الثمار؟ ألم يوسعوا لكم في الديار، ألم يؤثروكم على أنفسكم وبهم الخصاصة؟ ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم، ألا ولا تستأثروا عليهم، ألا فإني فرطكم وأنتم لا حقوني بي، ألا وإن موعدكم الحوض، ألا فمن أحب أن يرده عليّ غدا فليكفف يده ولسانه إلا فيما ينبغي: أيها الناس إن الذنوب تغير النعم، فإذا بر الناس برتهم أئمتهم، وإذا فجر الناس عقوا أئمتهم» وفي الحديث: «حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم» .(3/491)
وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى خيرية الموت بأنه فرط، فخير صفة لا أفعل تفضيل حتى يشكل بأنه يقتضي أن حياتي خير لكم من مماتي ومماتي خير لكم من حياتي كما مر، ثم لا زال أبو بكر رضي الله تعالى عنه يصلي بالناس سبع عشرة صلاة، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم مؤتما به ركعة ثانية من صلاة الصبح، ثم قضى الركعة الثانية: أي أتى بها منفردا.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لم يقبض نبي حتى يؤمه رجل من قومه» أي وقد قال ذلك صلى الله عليه وسلم لما صلى خلف عبد الرحمن بن عوف كما تقدم في تبوك.
قال: وفي رواية عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد خفة.
أي وأبو بكر في الصلاة. فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر، فلما رآه أبو بكر رضي الله تعالى عنه ذهب ليتأخر فأومأ إليه أن لا يتأخر، وأمرهما فأجلساه إلى جنب أبي بكر عن يساره. وفي رواية عن يمينه، وأنه صلى الله عليه وسلم دفع في ظهر أبي بكر وقال: صل بالناس أي ومنعه من التأخر، فجعل أبو بكر رضي الله تعالى عنه يصلي قائما كبقية الصحابة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدا انتهى.
وهذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم مقتديا بأبي بكر رضي الله تعالى عنه. وحينئذ لا يحسن التفريع على ذلك بما جاء في لفظ: فكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ: يأتم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر. وفي لفظ: يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يقتدون بصلاة أبي بكر، وهذا يدل على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم صلوا خلف أبي بكر وأبو بكر يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وصار يسمع الصحابة التكبير، وقد بوب البخاري على ذلك: «باب من أسمع الناس تكبير الإمام» ، وقال بعد ذلك «باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم بالناس بالمأموم» فإن منعه صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه من التأخر مع صلاته على يسار أبي بكر أو على يمينه يدل على أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لم يقتد بالنبي صلى الله عليه وسلم بل استمر إماما، إذ لا يجوز عندنا أن يقتدي أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم مع تقدم أبي بكر عليه صلى الله عليه وسلم في الموقف. وحينئذ يخالف ذلك قول فقهائنا إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد اقتدائهم بأبي بكر، وجعلوه دليلا على جواز الصلاة بإمامين على التعاقب إذ لا يحسن ذلك إلا أن يكون أبو بكر رضي الله تعالى عنه تأخر ونوى الاقتداء به صلى الله عليه وسلم. إلا أن يقال يجوز أن تكون صلاته صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر تكررت، ففي مرة منعه صلى الله عليه وسلم من التأخر واقتدى به، وفي مرة تأخر أبو بكر رضي الله تعالى عنه عن موقفه، واقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم، واقتدى الناس بالنبي بعد اقتدائهم بأبي بكر، وصار أبو بكر يسمع الناس التكبير، ولا ينافي ذلك قول البخاري الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم، لجواز أن يكون المراد يقتدون ويتبعون(3/492)
تكبير المأموم، ثم رأيت الترمذي رحمه الله تعالى صرح بتعدد صلاته صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر رضي الله تعالى عنه حيث قال: ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر مقتديا به في مرضه الذي مات فيه ثلاث مرات، ولا ينكر هذا إلا جاهل لا علم له بالرواية هذا كلامه.
وبه يردّ قول البيهقي رحمه الله: والذي دلت عليه الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلفه في تلك الأيام التي كان يصلي بالناس فيها مرة، وصلى أبو بكر رضي الله تعالى عنه خلفه صلى الله عليه وسلم مرة، وقال صلى الله عليه وسلم في مرضه ذلك يوما لعبد الله بن زمعة بن الأسود: مر الناس فليصلوا: أي صلاة الصبح. وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه غائبا، فقدّم عبد الله عمر رضي الله تعالى عنه يصلي بالناس، فلما سمع رسول الله صوته أخرج رأسه الشريف حتى أطلعه للناس، ثم قال صلى الله عليه وسلم: لا، لا، لا، ثلاث مرات، ليصلّ بهم ابن أبي قحافة، فانتفضت الصفوف، وانصرف عمر رضي الله تعالى عنه: أي من الصلاة، فما برح القوم حتى طلع ابن أبي قحافة فتقدم وصلى بالناس الصبح. وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما سمع صوت عمر رضي الله تعالى عنه قال: أليس هذا صوت عمر؟
فقالوا: بلى يا رسول الله، فقال: يأبى الله ذلك والمؤمنون. وفي لفظ: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر، قال ذلك ثلاثا. قال في السيرة الهشامية: فبعث صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلى عمر رضي الله تعالى عنه تلك الصلاة فصلى بالناس.
وقد يقال: المراد عمر تلك الصلاة نوى تلك الصلاة ودخل فيها، فلا يخالف ما تقدم من انتقاض الصفوف، وانصراف عمر رضي الله تعالى عنه من الصلاة. وقال عمر رضي الله تعالى عنه لعبد الله بن زمعة: ويحك ماذا صنعت يا بن زمعة؟ والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بهذا، فقال عبد الله بن زمعة رضي الله تعالى عنه: ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكن حيث لم أر أبا بكر ورأيتك أحق من حضر بالصلاة، وفي آخر يوم أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الستارة والناس خلف أبي بكر، فأراد الناس أن ينحرفوا فأشار إليهم صلى الله عليه وسلم أن امكثوا، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من هيئة المسلمين في صلاتهم سرورا منه صلى الله عليه وسلم بذلك، وذلك يوم الاثنين يوم موته صلى الله عليه وسلم ثم ألقى الستارة.
وفي السيرة الهشامية: لما كان يوم الاثنين قبض الله تبارك وتعالى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج إلى الناس وهم يصلون الصبح، فرفع الستر وفتح الباب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام على باب عائشة رضي الله تعالى عنها، فكاد المسلمون يقتتلون في صلاتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه فرحا به، فأشار إليهم: أن اثبتوا على صلاتكم، ثم رجع وانصرف الناس وهم يرون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أفاق من وجعه، فرجع أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى أهله بالسنح، وفيها في رواية أنه لما كان يوم الاثنين(3/493)
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصبا رأسه إلى صلاة الصبح أبو بكر يصلي بالناس، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح الناس، فعرف أبو بكر رضي الله تعالى عنه أن الناس لم يصيبوا ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكص عن مصلاه، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظهره، وقال:
صل بالناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه على يمين أبي بكر رضي الله تعالى عنه فصلى قاعدا، فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من الصلاة أقبل على الناس رافعا صوته حتى خرج من باب المسجد يقول: «أيها الناس سعرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، إني والله ما تمسكون عليّ بشيء، إني لم أحل إلا ما حل القرآن ولم أحل إلا ما حرم القرآن» .
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه، قال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه يا رسول الله قد أراك أصبحت بنعمة من الله وفضل كما تحب، واليوم يوم بنت خارجة أفآتيها؟ قال نعم، ثم دخل صلى الله عليه وسلم، وخرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى أهله بالسنح، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى من ذلك اليوم، فليتأمل الجمع بين هذه الروايات. وقد أمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه أن يصلي بالناس قبل مرضه، فإنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى قباء بعد أن صلى الظهر وقد وقع بين طائفتين من بني عمرو بن عوف تشاجر حتى تراموا بالحجارة ليصلح بينهم، فقال صلى الله عليه وسلم لبلال رضي الله تعالى عنه: إن حضرت صلاة العصر ولم آتك فمر أبا بكر فليصلّ بالناس، فلما حضرت صلاة العصر أذن بلال، ثم أقام ثم أمر أبا بكر رضي الله تعالى عنه فتقدم وصلى بالناس، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشق الناس حتى قام خلف أبي بكر فصفح الناس: أي صفقوا، فلما كثر ذلك التفت أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه فأراد التأخر، فأومأ إليه صلى الله عليه وسلم أن يكون على حاله، وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته؟ قال: يا أبا بكر ما يمنعك إذ أو مأت إليك أن لا تكون ثبتّ، فقال أبو بكر: يا رسول الله لم يكن لابن أبي قحافة أن يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للناس: إذا نابكم في صلاتكم شيء فلتسبح الرجال ولتصفق النساء.
وهذا استدل به القاضي عياض رحمه الله على أنه لا يجوز لأحد أن يؤمه صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يصلح للتقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة ولا في غيرها لا لعذر ولا لغيره.
وقد نهى الله المؤمنين عن ذلك، ولا يكون أحد شافعا له صلى الله عليه وسلم: وقد قال صلى الله عليه وسلم «أئمتكم شفعاؤكم» وحينئذ يحتاج للجواب عن صلاته صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه ركعة، وسيأتي الجواب عن ذلك، ولعل هذه المرة كانت في اليوم الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم.
فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالناس الغداة، ورأى المسلمون أنه صلى الله عليه وسلم قد برىء ففرحوا(3/494)
فرحا شديدا، ثم جلس صلى الله عليه وسلم في مصلاه يحدثهم حتى أضحى، ثم قام صلى الله عليه وسلم إلى بيته فلم يتفرق الناس من مجلسهم حتى سمعوا صياح الناس، وهبّ يقلب الماء ظنا أنه غشي عليه وابتدر المسلمون الباب فسبقهم العباس رضي الله تعالى عنه، فدخل وأغلق الباب دونهم. فلم يلبث أن خرج إليهم فنعى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: يا عباس ما أدركت منه صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أدركته وهو يقول: جلال ربي الرفيع، قد بلغت، ثم قضى، فكان هذا آخر شيء تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رأيته في الإمتاع نقل هذا القول الذي قدمته عن البيهقي.
وذكر في رواية أخرى: لم يزل أبو بكر رضي الله تعالى عنه يصلي بالناس حتى كانت ليلة الاثنين، فأقلع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوعك وأصبح مفيقا، فعمد إلى صلاة الصبح يتوكأ على الفضل وعلى غلام له يدعى ثوبان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقد شهد الناس مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه ركعة من صلاة الصبح، وقام ليأتي بالركعة الأخرى، فجاء إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ينفرجون له حتى قام إلى جنب أبي بكر رضي الله تعالى عنه فاستأخر أبو بكر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه فقدمه في مصلاه وجلس صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ أبو بكر رضي الله تعالى عنه من صلاته أتمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الأخيرة. ثم انصرف إلى جذع من جذوع المسجد فجلس إلى ذلك الجذع، واجتمع إليه المسلمون يسلمون عليه ويدعون له بالعافية ثم قام صلى الله عليه وسلم فدخل إلى بيت عائشة، ودخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه على عائشة رضي الله تعالى عنها، وقال: الحمد لله قد أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم معافى، وأرجو أن يكون الله عز وجل قد شفاه، ثم ركب رضي الله تعالى عنه فلحق بأهله بالسنح، وانقلبت كل امرأة من نسائه صلى الله عليه وسلم إلى بيتها، فلما دخل صلى الله عليه وسلم اشتد عليه الوعك، فرجع إليه من كان ذهب من نسائه، وأخذ في الموت فصار يغمى عليه ثم يفيق ويشخص بصره إلى السماء، فيقول في الرفيق الأعلى الإله، وكان عنده صلى الله عليه وسلم وقد اشتدّ به الأمر قدح فيه ماء، وفي لفظ بدل قدح علباء وفي لفظ ركوة فيها ماء فلما اشتدّ عليه صلى الله عليه وسلم الأمر صار يدخل يده الشريفة في القدح ثم يمسح وجهه الشريف بالماء ويقول: «اللهم أعني على سكرات الموت» أي غمراته، وعن فاطمة رضي الله تعالى عنها: «صار صلى الله عليه وسلم لما يغشاه الكرب وتقول واكرب أبتاه يقول لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيك كرب بعد اليوم» .
أقول: وجاء: «أنه صلى الله عليه وسلم قال: واكرباه، وقال: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، اللهم أعني على سكرة الموت» وفي رواية: «اللهم أعني على كرب الموت» والحكمة في ذلك، أي فيما شوهد من شدة ما لقي من الكرب عند الموت تسلية أمته صلى الله عليه وسلم إذا وقع لأحد منهم شيء من ذلك عند الموت. ومن ثم قالت عائشة(3/495)
رضي الله تعالى عنها: لا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية:
لا أزال أغبط المؤمن بشدة الموت بعد شدته على رسول الله صلى الله عليه وسلم وليحصل لمن شاهده من أهله وغيرهم من المسلمين الثواب لما يلحقهم من المشقة عليه كما قيل بمثل ذلك في حكمة ما يشاهد من حال الأطفال عند الموت من الكرب الشديد.
ثم رأيت الأستاذ الأعظم الشيخ محمد البكري رحمه الله ونفعنا به سئل عن ذلك. فأجاب بأجوبة منها هذا الذي ذكرته. ومنها أن مزاجه الشريف كان أعدل الأمزجة فإحساسه صلى الله عليه وسلم بالألم أكثر من غيره.
ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: إني لأوعك كما يوعك رجلان منكم، ولأنّ تشبث الحياة الإنسانية ببدنه الشريف أقوى من تشبثها ببدن غيره لأنه أصل الموجودات كلها أي كما تقدم. أي وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ما رأيت الوجع على أحد أشدّ منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم في مرضه: «ليس أحد أشد بلاء من الأنبياء. كان النبي من أنبياء الله يسلط عليه القمل حتى يقتله. وكان النبي صلى الله عليه وسلم ليعرى حتى ما يجد ثوبا يوارى به عورته إلا العباءة يدرعها، وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما يبرح البلاء على العبد حتى يدعه يمشي على الأرض ليس عليه خطيئة» وقال: «ليس من عبد مسلم يصيبه أذى فما سواه إلا حط عنه خطاياه كما تحط الشجرة ورقها» وفي لفظ: «لا يصيب المؤمن نكبة من شوكة فما قوقها إلا رفع الله له بها درجة وحط عنه بها خطيئة» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يشتكي ويتقلب على فراشه. وكان يعوّذ بهذه الكلمات إذا اشتكى أحد من الناس منه «أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما فلما ثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه أخذت بيده اليمنى وجعلت أمسحه بها فأعوذه بتلك الكلمات، فانتزع صلى الله عليه وسلم يده الشريفة من يدي وقال:
اللهم اغفر لي، واجعلني في الرفيق الأعلى مرتين» .
وفي رواية: «لم يشتك صلى الله عليه وسلم شكوى إلا سأل الله العافية» حتى كان مرضه الذي مات فيه فإنه لم يكن يدعو بالشفاء، وطفق صلى الله عليه وسلم يقول: يا نفس ما لك تلوذين كل ملاذ.
أي وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: دخل عليّ عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما ومعه سواك يستن به: أي من عسيب النخل، وكان أحب السواك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضريع الأراك: وهو قضيب يلتوي من الإراكة حتى يبلغ التراب فيبقى في ظلها فهو ألين من فرعها فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرفت أنه يريده لأنه كان يحب السواك، فقلت، آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فقضمته ثم مضغته.
وفي رواية: فتناولته وناولته إياه فاشتد عليه، فقلت ألينه لك؟ فأشار برأسه نعم،(3/496)
فلينته، فأعطيته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستن به وهو مستند إلى صدري. وكانت رضي الله تعالى عنها تقول: إن من نعم الله عليّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو في بيتي وبين سحري ونحري: أي والسحر: الرئة. وفي رواية: بين حاقنتي وذاقنتي، وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته. وفي رواية: فجمع الله بين رقي وريقه في آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة.
وجاء أنهم لددوه صلى الله عليه وسلم في هذا المرض: أي سقوه لدودا من أحد جانبي فمه، وجعل يشير إليهم وهو صلى الله عليه وسلم مغمى عليه أن لا يفعلوا به وهم يظنون أن الحامل له ذلك كراهة المريض للدواء، فلما أفاق قال، ألم أنهكم أن تلدوني لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا أنظره إلا العباس فإنه لم يشهدكم، وهذا رد عليهم، فإنه قد جاء أنهم قالوا له: عمك العباس أمر بذلك ولم يكن له في ذلك رأي، إنما قالوا ذلك تعللا وخوفا منه صلى الله عليه وسلم، قالوا وتخوفنا أن يكون ذات الجنب، فإن الخاصرة أي وهو عرق في الكلية إذا تحرك وجع صاحبه، كانت تأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذته ذلك اليوم فأغمي عليه حتى ظنوا أنه قد هلك فلددوه: أي لددته أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها، فلما أفاق وأراد أن يلدد من في البيت لدد جميع من في البيت حتى ميمونة رضي الله تعالى عنها وكانت صائمة، هذا.
وفي رواية أنه لما اشتد عليه صلى الله عليه وسلم المرض دخل عمه العباس رضي الله عنه وقد أغمي عليه، فقال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لو لددتنه. قلن إنا لا نجترىء على ذلك، فأخذ العباس يلدده، فأفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من لدني، فقد أقسمت ليلددن إلا أن يكون العباس، فإنكم لددتموني وأنا صائم، قلن فإن العباس هو قد لدك، وقالت له أسماء بنت عميس رضي الله عنها، إنما فعلنا ذلك ظننا أن بك يا رسول الله ذات الجنب، فقال لها: إن ذلك لداء ما كان الله ليعذبني به. وفي رواية: «أنا أكرم على الله من أن يعذبني بها» وفي أخرى «إنها من الشيطان، وما كان الله ليسلطها عليّ» .
قال بعضهم: وهذا يدل على أنها من سيء الأسقام التي استعاذ صلى الله عليه وسلم منها بقوله:
«اللهم إني أعوذ بك من الجنون والجذام وسيء الأسقام» .
وفي السيرة الهشامية: لما أغمي عليه صلى الله عليه وسلم اجتمع عليه نساء من نسائه منهم أم سلمة وميمونة، ومن نساء المؤمنين منهم أسماء بنت عميس، وعنده صلى الله عليه وسلم العباس عمه، واجتمعوا على أن فلددوه، فلما أفاق صلى الله عليه وسلم قال: من صنع هذا بي؟ قالوا يا رسول الله عمك، فقال عمه العباس رضي الله تعالى عنه: حسبنا يا رسول الله أن يكون بك ذات الجنب، فقال: إن ذلك داء ما كان الله ليعذبني به، لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا عمي، فلدوا حتى ميمونة، وكانت رضي الله تعالى عنها صائمة عقوبة لهم بما صنعوا.(3/497)
وأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه هذا أربعين نفسا، وكانت عنده صلى الله عليه وسلم سبعة دنانير أو ستة، فأمر عائشة رضي الله عنها أن تتصدق بها بعد أن وضعها صلى الله عليه وسلم في كفه وقال:
ما ظن محمد بربه، أن لو لقي الله وهذه عنده فتصدقت بها.
وفي رواية: أمرها بإرسالها إلى علي كرم الله وجهه ليتصدق بها، فبعثت بها إليه فتصدق بها بعد أن وضعها في كفه، وقد كان العباس رضي الله عنه قبل ذلك بيسير رأى أن القمر قد رفع من الأرض إلى السماء، فقصها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له ابن أخيك.
وجاءه صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام صحبة ملك الموت وقال له: يا أحمد إن الله قد اشتاق إليك، قال: فاقبض يا ملك الموت كما أمرت. فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ: أتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد إن الله أرسلني إليك تكريما لك وتشريفا، يسألك عما هو أعلم به منك، يقول لك: كيف تجدك؟ قال: أجدني يا جبريل مغموما وأجدني يا جبريل مكروبا، ثم جاء اليوم الثاني والثالث، فقال له ذلك، فردّ عليه صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك، وجاء معه في اليوم الثالث ملك الموت، فقال له جبريل عليه السلام: هذا ملك الموت يستأذن عليك، ما استأذن على أحد قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك، أتاذن له فأذن له فدخل فسلم عليه، ثم قال: يا محمد إن الله أرسلني إليك، فإن أمرتني أن أقبض روحك قبضت، وإن أمرتني أن أترك تركت، قال: أو تفعل؟ قال: نعم وبذلك أمرت، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام، فقال له: يا محمد إن الله قد اشتاق إلى لقائك، أي وفي رواية: أتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد إن الله يقرئك السلام ورحمة الله، ويقول لك: إن شئت شفيتك وكفيتك، وإن شئت توفيتك وغفرت لك، قال: ذلك إلى ربي يصنع بي ما يشاء.
وفي رواية: الخلد في الدنيا ثم في الجنة أحب إليك أم لقاء ربك، ثم الجنة؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقاء ربي ثم الجنة.
أي وجاء جبريل عليه السلام قال: هذا آخر وطىء بالأرض، وفي لفظ آخر عهدي بالأرض بعدك، ولن أهبط إلى الأرض لأحد بعدك. قال الحافظ السيوطي رحمه الله: هو حديث ضعيف جدا، ولو صح لم يكن فيه معارضة، أي لما ورد أنه ينزل ليلة القدر مع الملائكة يصلون على كل قائم وقاعد يذكر الله لأنه يحمل على أنه آخر نزوله بالوحي.
وفيه أنه ذكر أن حديث: يوحي الله إلى عيسى عليه السلام أي بعد قتله الدجال صريح في أنه يوحى إليه بعد النزول. والظاهر أن الجائي إليه عليه السلام بالوحي جبريل عليه السلام، بل هو الذي يقطع به ولا يتردد فيه لأن ذلك وظيفته لأنه السفير(3/498)
بين الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لملك الموت: امض لما أمرت به فقبض روحه الشريفة، وعند اشتداد الأمر به صلى الله عليه وسلم أرسلت عائشة رضي الله عنها خلف أبي بكر رضي الله تعالى عنه، أي لأنه كما تقدم لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفيقا وقال له قد رد الله بك علينا عقولنا، وقد أصبحت بنعمة من الله وفضل فقال له أبو بكر: يا رسول الله اليوم يوم بنت خارجة يعني زوجته وكانت بالسنح، قال له:
ائت أهلك، فقام أبو بكر وذهب وأرسلت حفصة خلف عمر وأرسلت فاطمة خلف علي كرم الله وجهه فلم يجىء أحد منهم حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صدر عائشة، وذلك يوم الاثنين حين زاغت الشمس لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول هكذا ذكر بعضهم.
وقال السهيلي: لا يصح أن يكون وفاته يوم الاثنين إلا في ثالث عشرة أو رابع عشرة لإجماع المسلمين على أن وقفة عرفة كانت يوم الجمعة وهو تاسع ذي الحجة وكان المحرم إما بالجمعة وإما بالسبت، فإن كان السبت فيكون أول صفر إما الأحد أو الاثنين فعلى هذا لا يكون الثاني عشر من ربيع الأول بوجه. وقال الكلبي: إنه توفي في الثاني من شهر ربيع الأول. قال الطبري: وهذا القول وإن كان خلاف الجمهور فلا يبعد إن كانت الثلاثة أشهر التي قبلها كلها تسعة وعشرين يوما، وفيما قاله نظر لمتابعة أنس بن مالك فيما حكاه البيهقي والواقدي.
وقال الخوارزمي: توفي أول شهر من ربيع الأول، وفي رواية إن سالم بن عبيد ذهب وراء الصديق إلى السنح فأعلمه بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يخالف ما قبله لأنه يجوز أن يكون ذلك ذهب إلى الصديق بعد الرسول الذي أرسلته له عائشة رضي الله عنها قبل موته صلى الله عليه وسلم. وآخر ما تكلم به عليه الصلاة والسلام: «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم» حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يترغرغ بها في صدره ولا يفيض بها لسانه. وآخر ما عهد به رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يترك بجزيرة العرب دينان» وكانت مدة شكواه صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ليلة، وقيل أربع عشرة ليلة، وقيل اثنتي عشرة ليلة، وقيل عشرا، وقيل ثمانية.
وقالت فاطمة رضي الله عنها لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم: وا أبتاه أجاب داع دعاه، يا أبتاه الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل ننعاه.
قال ابن كثير رحمه الله: وهذا لا يعد نياحة بل هو من ذكر فضائل الحق عليه، عليه أفضل الصلاة والسلام؟ قال: وإنما قلنا ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النياحة.
وعن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت من سفاهة رأيي وحداثة سني أني أخذت وسادة فوسدت بها رأسه الشريف من حجري، ثم قمت مع النساء أبكي(3/499)
وأنتدم، والانتدام: ضرب الخد باليد عند المصيبة.
وسمعوا قائلا ولا يرون شخصه، يقال إنه الخضر عليه السلام أي قال علي كرم الله وجهه أتدرون من هذا؟ هذا الخضر عليه السلام، وفي إسناده متروك يقول:
السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمران: الآية 185] إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا عن كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قال ابن كثير رحمه الله: هذا الحديث مرسل وفي إسناده ضعف. وسجي صلى الله عليه وسلم بثوب حبرة أي بالإضافة: برد من برود اليمن، ولم أقف على أن ثيابه صلى الله عليه وسلم التي كانت عليه قبل الموت نزعت عنه ثم سجي، إلا أن كلام فقهائنا يشعر بذلك، حيث جعلوا ذلك ليلا لنزع ثياب الميت وستره بثوب.
وعند ذلك دهش الناس وطاشت عقولهم واختلفت أحوالهم، فأما عمر رضي الله تعالى عنه فخبل، وأما عثمان رضي الله تعالى عنه فأخرس، وأما علي كرم الله وجهه فأقعد: وجاء أبو بكر وعيناه تهملان، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا، وتكلم كلاما بليغا سكن به نفوس المسلمين وثبت جأشهم.
أي فإن عمر رضي الله تعالى عنه صار في ناحية المسجد يقول: والله مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقطع أيدي ناس من المنافقين كثير وأرجلهم، وصار رضي الله عنه يتوعد من قال إنه مات، بالقتل أو القطع.
ونقل عنه رضي الله عنه أنه قال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات، ولكن ما مات، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران عليه السلام، ثم رجع إلى قومه بعد أربعين ليلة بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، ولا زال رضي الله عنه يتوعد المنافقين حتى أزبد شدقاه.
فقام أبو بكر رضي الله عنه وصعد المنبر وقال كلاما بليغا. ثم قال: أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) [آل عمران: الآية 144] فقال عمر رضي الله عنه: هذه الآية في القرآن. وفي لفظ: فكأني لم أسمع بها في كتاب الله تعالى قبل الآن لما نزل. ثم قال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: الآية 156] صلوات الله وسلامه على رسوله صلى الله عليه وسلم، وعند الله نحتسب رسوله، قال: يعني أبا بكر رضي الله تعالى عنه، وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزّمر: الآية 30] ، وقال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا(3/500)
وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: الآية 88] . وقال تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) [الرحمن: الآية 26] ، وقال تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمران: الآية 185] ، فلما بويع أبو بكر رضي الله عنه بالخلافة كما سيأتي أقبلوا على جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلفوا هل يغسل في ثيابه أو يجرد منها كما تجرد الموتى، فألقى الله عليهم النوم وسمعوا من ناحية البيت قائلا يقول: لا تغسلوه فإنه كان طاهرا، فقال أهل البيت صدق فلا تغسلوه، فقال العباس رضي الله عنه لا ندع سنة لصوت لا ندري ما هو، فغشيهم النعاس ثانية، فناداهم أن غسلوه وعليه ثيابه، أي وزاد في رواية: «فإن ذلك إبليس وأنا الخضر» وفي رواية: «لا تنزعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه» قال الذهبي حديث منكر، فقاموا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه وعليه قميصه، وفي لفظ وعليه قميص ومحول مفتوح يصبون عليه الماء ويدلكونه والقميص دون أيديهم عليّ والعباس وكذا ولدا العباس الفضل وقثم، فكان العباس وابناه الفضل وقثم يقلبونه مع عليّ، وفي لفظ: «غسله علي والفضل» محتضنه والعباس يصب الماء وجعل الفضل رضي الله عنه يقول: أرحني قطعت وتيني، وأسامة وشقران مولاه، وفي لفظ:
«وصالح مولاه صلى الله عليه وسلم يصبان الماء، ولف عليّ كرم الله وجهه على يده خرقة وأدخلها تحت القميص يغسل بها جسده الشريف» .
وعن علي كرم الله وجهه: ذهبت ألتمس منه ما يلتمس من الميت: أي ما يخرج من بطن الميت فلم أر شيئا، فكان صلى الله عليه وسلم طيبا حيا وميتا، وما تناولت منه صلى الله عليه وسلم عضوا إلا كأنما يقلبه معي ثلاثون رجلا: أي ويحتاج إلى الجمع بين هذا، وما تقدم عن الفضل رضي الله عنه.
قيل وتغسيل علي كرم الله وجهه له صلى الله عليه وسلم كان بوصية منه صلى الله عليه وسلم له. فعن علي كرم الله وجهه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن لا يغسله أحد غيري وقال: لا يرى أحد عورتي إلا طمست عيناه غيرك، أي على فرض وقوع ذلك فلا ينافي ما تقدم، وادعى الذهبي أن هذا الحديث منكر. وفي رواية: فكان الفضل وأسامة يناولان الماء من وراء الستر، وأعينهما معصوبة. وفي لفظ: مكان العباس وأسامة يناولان الماء من وراء الستر، لأن العباس رضي الله عنه نصب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلة: أي خيمة رفيعة من ثياب يمانية في جوف البيت وأدخل عليا فيها، زاد بعضهم: والفضل وأبا سفيان بن الحارث ابن عمه صلى الله عليه وسلم.
ونصب الكلة دليل لقول فقهائنا رحمه الله: والأكمل وضع الميت عند الغسل بموضع خال من الناس مستور عنهم لا يدخله إلا الغاسل ومن يعينه. والذي رواه ابن ماجه رحمه الله أنه تولى غسله صلى الله عليه وسلم علي والفضل، وأسامة بن زيد يناول الماء، والعباس واقف: أي لا يغسل ولا يناول الماء: أي ويحتاج للجمع بين هذه الروايات.(3/501)
وقيل إن العباس لم يشاهد غسله صلى الله عليه وسلم، وعن علي رضي الله عنه: لما غسلت النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع ماء في حقويه فرفعته بلساني وازدردته فأورثني ذلك قوة حفظي.
ويروى أنه كرم الله وجهه، رأى في عينه صلى الله عليه وسلم قذاة فأدخل لسانه فأخرجها منها.
وعن عائشة رضي الله عنها: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه: أي لو ظهر لها قولها المذكور وقت غسله صلى الله عليه وسلم ما غسله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه، وغسل ثلاث غسلات: واحدة بالماء القراح، وواحدة بالماء والسدر، أي والغسلة التي كانت بالماء القراح كانت قبل الغسلة التي بالسدر فهي المزيلة وواحدة بالماء مع الكافور، أي وهذه هي المجزئة في الغسل هذا.
وفي كلام سبط ابن الجوزي رحمه الله: وغسل صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى بالماء القراح، وفي الثانية بالماء والسدر، وفي الثالثة بالماء والكافور.
وفي لفظ: فغسلوه بالماء القراح، وطيبوه بالكافور في مواضع سجوده ومفاصله، وغسل من ماء بئر غرس وهي بئر بقباء، قال صلى الله عليه وسلم: «نعم البئر بئر غرس هي من عيون الجنة وماؤها أطيب الماء» وكان صلى الله عليه وسلم يشرب منها، ويؤتى له بالماء منها.
وعند ابن ماجه رحمه الله صلى الله عليه وسلم، قال لعلي كرم الله وجهه: «إذا أنا مت فغسلني بسبع من بئري بئر غرس» .
وكفن صلى الله عليه وسلم بثلاثة أثواب سحولية: أي بيض من القطن، من عمل سحولة: قرية من قرى اليمن، وفي رواية الشيخين عنها: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة، قيل إزار ورداء ولفافة، وقوله ليس فيها قميص ولا عمامة: أي ولم يكن في كفنه صلى الله عليه وسلم ذلك كما فسر بذلك إمامنا الشافعي رحمه الله وجمهور العلماء، قال بعضهم: وهو الصواب الذي يقتضيه ظاهر الحديث.
وما قيل إن معناه أن القميص والعمامة زائدان على الأثواب الثلاثة ليس في محله، لأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم كفن في قميص وعمامة، وهذا يدل على أنه نزع عنه صلى الله عليه وسلم القميص الذي غسل فيه قبل تكفينه في الأثواب الثلاثة.
وقيل كفن في ذلك الثوب بعد عصره. وفيه أنه لا يخلو عن الرطوبة وهي تفسد الأكفان. ويؤيد كونه صلى الله عليه وسلم كفن في ذلك الثوب ما جاء في رواية: «كفن صلى الله عليه وسلم في ثوبه الذي مات فيه وحلّة نجرانية» والحلة: ثوب فوق ثوب، قال ابن كثير: وهذا غريب جدا، وفي كلام بعضهم أنه حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به.
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم كفن في الأثواب الثلاثة المتقدمة وزيادة برد حبرة أحمر.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أتي بالبرد ولفوه فيه ولكنهم ردوه، أي(3/502)
ثم نزع عنه صلى الله عليه وسلم ولم يكفنوه فيه، وفي رواية: ثوبين وبرد أحمر، وهذا يخالف ما عليه أئمتنا أن من كفن في ثلاثة أثواب يجب أن تكون لفائف يستر كل منها جميع البدن. وفي رواية كفن في سبعة أثواب.
وبعد تكفينه صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الثلاثاء وضع على سرير، وفي لفظ: ثم أدرج صلى الله عليه وسلم في أكفانه وجمروه عودا وندا، ثم احتملوه حتى وضعوه على سرير وسجوه.
وذكر أنه كان عند علي كرم الله وجهه مسك، وقال إنه من فضل حنوط رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وصلى عليه صلى الله عليه وسلم الناس أفذاذا لم يؤمهم أحد، وفي لفظ: لما أدرج صلى الله عليه وسلم في أكفانه وضع على سريره ثم وضع على شفير حفرته ثم صار الناس يدخلون عليه رفقاء رفقاء لا يؤمهم أحد.
وذكر أنه دخل عليه صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار بقدر ما يسع البيت، فقالا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وسلم المهاجرون والأنصار كما سلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهم، ثم صفوا صفوفا لا يؤمهم أحد، وكان أبو بكر وعمر في الصف الأول الذي حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا اللهم إنا نشهد أنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ ما أنزل إليه، ونصح لأمته وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمت كلمته، فاجعلنا إلهنا ممن تبع القول الذي أنزل معه، واجمع بيننا وبينه حتى تعرفه بنا وتعرفنا به فإنه كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما، لا نبتغي بالإيمان به بدلا ولا نشتري به ثمنا أبدا، فيقول الناس آمين آمين، وهذا يدل على أنه المراد بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم الدعاء لا الصلاة على الجنازة المعروفة عندهم، والصحيح أن هذا الدعاء كان ضمن الصلاة المعروفة التي بأربع تكبيرات.
فقد جاء أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليه صلى الله عليه وسلم فكبر أربع تكبيرات ثم دخل عمر رضي الله عنه فكبر أربعا، ثم دخل عثمان رضي الله عنه فكبر أربعا، ثم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله عنهما، ثم تتابع الناس أرسالا يكبرون عليه، أي وعلى هذا إنما خصوا الدعاء بالذكر لأنه الذي لا يليق به صلى الله عليه وسلم، ومن ثم استشاروا كيف يدعون له فأشير بمثل ذلك.
قال: وقال ابن كثير رحمه الله: وهذا الأمر: أي صلاتهم عليه صلى الله عليه وسلم فرادى من غير إمام يؤمهم مجمع عليه. ولا يقال لأن المسلمين لم يكن لهم حينئذ إما لأنهم لم يشرعوا في تجهيزه عليه الصلاة والسلام إلا بعد تمام البيعة لأبي بكر رضي الله عنه لأنه لما تحقق موته صلى الله عليه وسلم، واجتمع غالب المهاجرين على أبي بكر وعمر وانضم إليهم من الأنصار أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل ومن معه من الأوس، وتخلف علي(3/503)
والزبير، أي ومن كان معهما من المهاجرين كالعباس وطلحة بن عبيد الله والمقداد وجمع من بني هاشم في بيت فاطمة رضي الله تعالى عنها وتخلف الأنصار بأجمعهم واجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، أي وفي دار سعد بن عبادة وكان سعد مريضا مزملا بثيابه بينهم: أي اجتمعوا أولا ثم تفرق عنهم أسيد بن حضير رضي الله عنه ومن معه من الأوس.
فلا يخالف ذلك ما تقدم من انضمام أسيد بن حضير رضي الله عنه ومن معه من المهاجرين رضي الله عنهم مع أبي بكر رضي الله عنه، ولا يخالف ذلك ما في بعض الروايات عن عمر رضي الله عنه وتخلف الأنصار عنا بأجمعهم في سقيفة بني ساعدة.
واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر رضي الله عنه إلا عليا والزبير ومن معهما تخلفوا في بيت فاطمة رضي الله عنها، فقال عمر رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه: انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار. أي فإنه أتاهم آت، فقال: إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة قد انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا الناس قبل أن يتفاقم أمرهم.
أي فعن عمر رضي الله عنه: «بينا نحن في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجل ينادي من وراء الجدران اخرج إليّ يابن الخطاب، فقلت: إليك عني فأنا عنك متشاغل، يعني بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه قد حدث أمر، إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة فأدركهم قبل أن يحدثوا أمرا يكون فيه حزب.
قال: فانطلقنا نؤمهم: أي نقصدهم حتى رأينا رجلين صالحين، أي وهما عويمر بن ساعدة ومعدة بن عدي وهما من الأوس، قالا: أي تريدون؟ فقلت: نريد إخواننا من الأنصار فقالا: لا عليكم أن تقربوهم، واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين بينكم. فقلت: والله لنأتينهم فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون، وإذا بين أظهرهم رجل مزمل، فقلت: من هذا؟ فقالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا إنه وجع، فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا وقد ذفت ذاقة منكم: أي دب قوم بالاستعلاء والترفع علينا تريدون أن تختزلونا من أهلنا، أي تنحونا عنه تستبدون به دوننا، فلما سكت أردت أن أتكلم، وقد كنت زورت مقالة أعجبتني أردت أن قولها بين يدي أبي بكر فقال أبو بكر رضي الله عنه:
على رسلك يا عمر، فكرهت أن أغضبه وكنت أرى منه بعض الحدة فسكت، وكان أعلم مني، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قالها في بديهته وأفضل، فقال: أما بعد، فما ذكرتم من خير فأنتم له أهل، ولم تعرف العرب هذا الأمر إلا(3/504)
لهذا الحيّ من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا، يعني مكة ولدتنا العرب كلها فليست منها قبيلة إلا لقريش منها ولادة ودار، وكنا معاشر المهاجرين أول الناس إسلاما ونحن عشيرته صلى الله عليه وسلم وأقاربه وذوو رحمه، فنحن أهل النبوّة وأهل الخلافة، ولم يترك شيئا أنزل في الكتاب بأيديهم إلا قاله، ولا شيئا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الأنصار إلا ذكره، ومنه «لو سلكت الناس واديا وسلكت الأنصار واديا لسلكت وادي الأنصار» وقال: «لقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد قريش ولاة هذا الأمر» فقال سعد رضي الله تعالى عنه صدقت، فقال أي الصديق رضي الله عنه:
نحن الأمراء وأنتم الوزراء، أي وفي رواية أنه: أي الصديق رضي الله عنه، قال لهم:
أنتم الذين آمنوا ونحن الصادقون، وإنما أمركم الله أن تكونوا معنا فقال تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) [التّوبة: الآية 119] والصادقون:
هم المهاجرون، قال الله تعالى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ [الحشر: الآية 8] إلى قوله أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: الآية 15] .
وفي رواية: «أن أبا بكر رضي الله عنه احتج على الأنصار بخبر «الأئمة من قريش» وهو حديث صحيح ورد عن نحو أربعين صحابيا، وأنتم يا معشر الأنصار إخواننا في كتاب الله وشركاؤنا في الدين وأنتم أحق بالرضا بقضاء الله، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئت وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح فلم أكره ما قال غيرها، وكان والله أن أقدم فتضرب عنقي ولا يقربني ذلك من إثم أحب إليّ من أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، فقال كل من عمر وأبي عبيدة: لا ينبغي لأحد أن يكون فوقك يا أبا بكر أي وفي لفظ بل نبايعك، وأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا من عمر رضي الله عنه كان بعد أن أتى أبا عبيدة، وقال: إنك أمين هذه الأمة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما رأيت بك ضعف رأي قبلها منذ أسلمت، أما بقي فيكم الصديق وثاني اثنين؟ وفي رواية أن أبا بكر رضي الله عنه قال لعمر ابسط يدك لأبايعك، فقال له أنت أفضل مني، فأجابه بأنت أقوى مني ثم كرر ذلك. فقال له: فأين قوتي مع فضلك.
واعترض قول أبي بكر المذكور، بأنه كيف يقول ذلك مع علمه بأنه أحق بالخلافة؟ وكيف يقدم أبا عبيدة على عمر مع أنه أفضل منه؟.
وأجيب بأنه رضي الله عنه قال ذلك لأنه استحيى أن يقول: رضيت لكم نفسي مع علمه بأن كلا من عمر وأبي عبيدة لا يقبل وأن أبا بكر رضي الله عنه كان يرى جواز تولية المفضول على من هو أفضل منه، وهو الحق عند أهل السنة لأنه قد يكون أقدر من الأفضل على القيام بمصالح الدين وأعرف بتدبير الأمر وما فيه انتظام حال الرعية.(3/505)
وعن قول أبي بكر رضي الله عنه ما ذكر قال قائل من الأنصار، أي وهو الحباب بحاء مهملة مضمومة فموحدة رضي الله عنه، ابن المنذر: أنا جذيلها المحك، وعذيقها المرجب بالجيم والجذيل تصغير الجذل: وهو عود ينصب للإبل الجرباء فتحتك به ليزول جربها. والمحكك: الذي كثر به الاحتكاك حتى صار أملس والعذيق تصغير العذق بفتح العين وهو النخلة، والمرجب المسند بالرجبة وهي خشبة ذات شعبتين يسند بها النخلة إذا كثر حملها، أي أنا ذو الرأي والتدبير الذي يستشفى به في الحوادث لا سيما هذه الحادثة، منا أمير ومنكم يا معشر قريش، وتتابعت خطباؤهم على ذلك. وقالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استعمل الرجل منكم قرن معه رجلا منا فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان منا ومنكم، فقام زيد بن ثابت رضي الله عنه، وقال للأنصار: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين وكنا نحن أنصاره فنحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره ثم أخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه وقال هذا صاحبكم. فقال الحباب بن المنذر رضي الله عنه يا معشر الأنصار لا تسمعوا مقالة هذا فتذهب قريش بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم فأجلوهم من بلادكم، فأنتم أحق به منهم، أما والله وإن شئتم لنقيمها جذعة، فقال له عمر رضي الله عنه إذن يقتلك الله فقال بل أراك تقتل، فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما فقال: يا معشر الأنصار إنا كنا أول من سبق إلى هذا الدين وجهاد المشركين، ما قصدنا إلا رضا الله ورسوله فلا ينبغي لنا أن نستطيل على الناس، ولا نطلب عرض الدنيا، وإن قريشا أولى بهذا الأمر فلا ننازعهم، فقال له الحباب، ألفيت على ابن عمك يعني سعد بن عبادة، فقال: لا والله ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا جعله الله لهم وفي رواية قال عمر رضي الله عنه يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر يؤم الناس وأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر وفي لفظ أن يقيمه عن مقامه الذي أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر رضي الله عنه. وفي لفظ قالوا: نستغفر الله، لا تطيب أنفسنا، ولعل المراد قال معظمهم.
فلا يخالف ذلك ما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه ولما كثر اللغط، وعلمت الأصوات حتى خشيت الاختلاف. وقلت: سفيان في غمد واحد لا يكونان وفي رواية: هيهات لا يجتمع فحلان في مغرس. فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، وكذا قال له من الأنصار يد بن ثابت وأسيد بن حضير وبشير بن سعد رضي الله عنهم، فبسط يده: فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار. أي حتى سعد بن عبادة رضي الله عنه، خلافا لمن قال إن سعد بن عبادة أبي أن يبايع أبا بكر حتى لقي الله. أي فإنه رضي الله تعالى عنه توجه إلى الشام ومات بها.(3/506)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: والعذر له في ذلك أنه رضي الله عنه تأوّل أن للأنصار في الخلافة استحقاقا فبنى على ذلك، وهو معذور، وإن لم يكن ما اعتقده من ذلك حقا هذا كلامه.
ولا ينافيه ما جاء عن عمر رضي الله عنه: وثبنا على سعد بن عبادة. فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة: أي فعلتم معه من الإعراض والإذلال ما يقتله، فقلت:
قتل الله سعد بن عبادة، فإنه صاحب فتنة، نعم ينافيه ما حكاه ابن عبد البر أن سعد بن عبادة رضي الله عنه أبى أن يبايع أبا بكر حتى لقي الله.
قال بعضهم: ويضعفه ما جاء في بعض الروايات أن أبا بكر رضي الله عنه لما قال لسعد: لقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: «قريش ولاة هذا الأمر» ، قال له سعد: صدقت، نحن الوزراء وأنتم الأمراء، وبه يظهر التوقف فيما تقدم عن ابن حجر رحمه الله هذا.
وفي كلام سبط ابن الجوزي رحمه الله: فأنكروا على سعد أمره، وكادوا يطؤون سعدا فقال ناس من أصحابه: اتقوا سعدا لا تطؤوه، فقال عمر رضي الله عنه: اقتلوا سعدا قتله الله، ثم قام عمر رضي الله عنه على رأس سعد وقال: قد هممت أن أطأك حتى تنذر عيونك، فأخذ قيس بن سعد رضي الله عنهما بلحية عمر رضي الله عنه وقال: والله لو خفضت منه شعرة ما رجعت وفيك جارحة، فقال أبو بكر: مهلا يا عمر، الرفق الرفق، ما هنا أبلغ، فقال عاد أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى محلهما أرسلا له بايع فقد بايع الناس، فقال: لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل، وأخضب من دمائكم سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يداي.
والله لو اجتمع لكم الجن والإنس لما بايعتكم. فلما عاد الرسول وأخبرهم بما قال، قال له عمر: لا ندعه حتى يبايع، فقال له قيس بن سعد: دعه فقد لح فاتركوه، فتركوه، وكان سعد رضي الله عنه لا يحضر معهم، ولا يصلي في المسجد، ولا يسلم على من لقي منهم، فلم يزل مجانبا لهم حتى إذا كان بعرفة يقف ناحية عنهم، فلما ولي عمر رضي الله عنه الخلافة لقيه في بعض طرق المدينة، فقال له: إيه يا سعد فقال له: إيه يا عمر، فقال له عمر: أنت صاحب المقالة، قال نعم أنا ذاك، وقد أفضى الله إليك هذا الأمر، كان والله صاحبك خيرا لنا، وأحب إلينا من جوارك، وقد أصبحت كارها لجوارك، فقال له عمر رضي الله عنه: إنه من كره جوار جاره تحول عنه، فقال له سعد: إني متحول إلى جوار من هو خير من جوارك، فخرج رضي الله عنه إلى الشام واستمر بها إلى أن مات في السنة الخامسة عشر من الهجرة.
وذكر الطبري رحمه أن سعدا رضي الله عنه بايع مكرها، وهو وهم، هذا كلام سبط ابن الجوزي رحمه الله.(3/507)
قال عمر رضي الله عنه: وإنما بايعت أبا بكر خشية إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن بيايعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فيه فساد، وذلك كان في يوم موته صلى الله عليه وسلم الذي هو يوم الاثنين، فلما كان الغد كانت البيعة العامة صعد أبو بكر رضي الله عنه المنبر، وقام عمر رضي الله عنه بين يدي أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر رضي الله عنه بيعة عامة بعد بيعة السقيفة. ثم تكلم أبو بكر رضي الله عنه فقال في خطبته، بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قويّ حتى أردّ عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا أشيعت الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذ عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، فقوموا إلى صلاتكم رحمكم الله.
وشن الغارة بعض الرافضة على قول الصديق رضي الله عنه فقوموني، بأنه كيف تجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه مع أن الرعية تحتاج إليه. وردّ بأن هذا من أكبر الدلائل على فضله، لقوله الآخر: أطيعوني ما أطعت الله، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، لأن كل أحد ما عدا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تجوز عليه المعصية.
ولما بويع بالخلافة أصبح رضي الله تعالى عنه على ساعده قماش وهو ذاهب به إلى السوق، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: السوق، قال: تصنع هذا وقد وليت أمر المسلمين، قال: فمن أين أطعم عيالي، فقال: انطلق يفرض لك أبو عبيدة، فانطلقا إليه، فقال: أفرض لك قوت رجل من المهاجري ليس بأفضلهم: أي في سعة النفقة ولا بأوكسهم، وكسوة الشتاء والصيف، وإذا أبليت شيئا رددته وأخذت غيره، ففرض له كل يوم نصف شاة. وفي رواية: جعل له ألفين فقال: زيدوني فإن لي عيالا وقد شغلت عن السفارة فزادوه خمسمائة.
وهو رضي الله تعالى عنه أول من جمع القرآن وسماه مصحفا، واتخذ بيت المال، وسها من جعل ذلك من أوّليات عمر رضي الله تعالى عنه.
ولما تخلف عليّ والزبير ومن معهما كالعباس وطلحة بن عبيد الله والمقداد وجمع من بني هاشم في بيت فاطمة كما تقدم عن المبايعة، استمروا على ذلك مدة لأنهم رضي الله عنهم وجدوا في أنفسهم حيث لم يكونوا في المشورة: أي في(3/508)
سقيفة بني ساعدة مع أن لهم فيها حقا. وقد أشار سيدنا عمر رضي الله عنه إلى بيعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه كانت فلتة: أي بغتة لا عن استعداد لها، ولكن وقى الله شرها: أي لم يقع فيها مخالفة ولا منازعة، ولذلك لما اجتمعوا: أي علي والزبير والعباس وطلحة بن عبيد الله ومن تخلف عن المبايعة منهم بأبي بكر رضي الله عنه قام خطيبا وقال: والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة قط، ولا كنت راغبا فيها، ولا سألتها الله في سر ولا علانية، ولكن أشفقت من الفتنة: أي لو أخرت إلى اجتماعكم.
وقد روي أن شخصا قال لأبي بكر رضي الله عنه: ما حملك على أن تلي أمر الناس وقد نهيتني أن أتأمر على اثنين، فقال: لم أجد من ذلك بدا، خشيت على أمة محمد صلى الله عليه وسلم الفرقة وقال: ما في الإمارة من راحة، لقد قلدت أمرا عظيما ما لي به من طاقة، فقال علي والزبير رضي الله تعالى عنها ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة، وإنا ترى أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، إنه لنعرف شرفه وخيره، ولذا أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة من بين الناس وهو حي، فلم يكن تأخرهم رضي الله تعالى عنهم للقدح في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه. ومن ثم قال إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: أجمع الناس على خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، لأنهم لم يجدوا تحت أديم السماء خيرا من أبي بكر فولوه رقابهم. أي فالأمة أجمعت على حقية إمامة بكر رضي الله تعالى عنه، وهذا: أي اجتماع علي كرم الله وجهه بأبي بكر رضي الله تعالى عنهما كان بعد ما أرسل إليه علي كرم الله وجهه في الاجتماع به واجتمع به كما سيأتي، لكن سيأتي أن ذلك كان بعد موت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، وسياق غير واحد يدل على أن اجتماع عليّ والزبير ومبايعتهما أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان قبل موت فاطمة رضي الله تعالى عنها، وهو ما صححه ابن حبان وغيره، ويؤيده ما حكاه بعضهم أن الصديق رضي الله تعالى عنه خرج يوم الجمعة فقال: اجمعوا لي المهاجرين والأنصار، فاجتمعوا، ثم أرسل إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والنفر الذين كانوا تخلفوا معه، فقال له: ما خلفك يا علي عن أمر الناس؟ فقال: خلفني عظيم المعتبة، ورأينكم استقليتم برأيكم فاعتذر إليه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بخوف الفتنة لو أخر، ثم أشرف على الناس وقال: أيها الناس هذا علي بن أبي طالب لا بيعة لي في عنقه، وهو بالخيار من أمره. ألا أنتم بالخيار جميعا في بيعتكم، فإن رأيتم لها غيري فأنا أول من يبايعه، فلما سمع ذلك علي كرم الله وجهه زال ما كان قد داخله، فقال أجل لا نرى لها غيرك، امدد يدك، فبايعه هو والنفر الذين كانوا معه فإن هذا دليل على أن عليا كرم الله وجهه بايع أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام.(3/509)
وفي كلام المسعودي: لم يبايع أبا بكر أحد من بني هاشم حتى ماتت فاطمة رضي الله تعالى عنها. وقال رجل للزهري: لم يبايع علي كرم الله وجهه أبا بكر ستة أشهر، فقال: لا والله ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي كرم الله وجهه، فليتأمل الجمع على تقدير الصحة.
وقد جمع بعضهم بأن عليا كرم الله وجهه بايع أولا، ثم انقطع عن أبي بكر لما وقع بينه وبين فاطمة ما وقع.
أي ويدل لهذا الجمع أن في رواية أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لما صعد المنبر ونظر في وجوه القوم، فلم ير الزبير رضي الله تعالى عنه فدعا به فجاء، فقال:
قلت ابن عمة رسول الله وحواريه أردت أن تشق عصا المسلمين، فقال لا تثريب يا خليفة رسول الله، فقام فبايعه، ثم نظر في وجوه القوم فلم ير عليا كرم الله وجهه، فدعا به فجاء، فقال: قلت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخنته على ابنته أردت أن تشق عصا المسلمين، فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فبايعه.
ويبعد هذا الجمع ما في البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها فلما توفيت فاطمة رضي الله عنها التمس: أي علي كرم الله وجهه مصالحة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ولم يكن بايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر الحديث.
والسبب الذي اقتضى الوقوع بين فاطمة وأبي بكر رضي الله تعالى عنهما أن فاطمة رضي الله تعالى عنها جاءت إلى أبي بكر تطلب إرثها مما أعطاه الأنصار له صلى الله عليه وسلم من أرضهم وما أوصى به إليه صلى الله عليه وسلم، وهو وصية مخيريق عند إسلامه وهي سبعة حوائط في بني النضير. قال سبط ابن الجوزي: وهو أول وقف كان في الإسلام، ومما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أرض بني النضير وفدك، ونصيبه صلى الله عليه وسلم من خيبر وهما حصنان من حصونها الوطيح وسلالم فإنه صلى الله عليه وسلم أخذهما صالحا كما تقدم، وحصته صلى الله عليه وسلم مما افتتح منها عنوة وهو الخمس. فإن ذلك كله كان للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان صلى الله عليه وسلم ينفق من ذلك على أهل بيته سنة وما بقي جعله في الكراع: أي الخيل والسلاح في سبيل الله، فربما احتاج صلى الله عليه وسلم إلى شيء ينفقه قبل فراغ السنة فيقترض، ولهذا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند اليهودي على آصع من شعير، وافتكها أبو بكر، وتلك الدرع كانت ذات الفضول التي أهداها له صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة لما توجه إلى بدر كما تقدم، ولم يشبع هو ولا أهل بيته ثلاثة أيام تباعا، أي متتابعة كما تقدم فقال لها أبو بكر رضي الله تعالى عنه: لست بالذي أقسم من ذلك شيئا، ولست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به فيها إلا عملته، وإني أخشى إن تركت أمره أو شيئا من أمره أن أزيغ. وفي رواية قال لها قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما هي طعمة أطعمينها الله فإذا مت عادت على المسلمين، فإن اتهمتيني فسلي المسلمين يخبروك(3/510)
بذلك. وقال لها: قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركناه صدقة» ولكن أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله، وأنفق على من كان ينفق عليه، وقوله صدقة هو بالرفع كما هو الرواية: أي الذي تركناه فهو صدقة، وقد منع بذلك عائشة وبقية أزواجه صلى الله عليه وسلم لما جئن إليه يطلبن ثمنهن.
وزعمت الرافضة أن الصديق رضي الله تعالى عنه كان ظالما لفاطمة رضي الله عنها بمنعه إياها من مخلف والدها، وأنه لا دليل له في هذا الخبر الذي رواه، لأن فيه احتجاجا بخبر الواحد مع معارضته لآية المواريث.
ورد بأنه إنما حكم بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عنده قطعي فساوى آية المواريث من قطيعة المتن، وكان مخصصا لآية المواريث.
وذكر عن الرافضة أنهم زعموا أن صدقة بالنصب وأن ما نافية. ويرده صدر الحديث: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث» وأما رواية: «نحن معاشر الأنبياء» فلم تجىء في كتاب من كتب الحديث كما قاله غير واحد، ومن رواه بذلك بالمعنى لأن نحن وإنا مفادهما واحد ولا يعارض ذلك قوله تعالى وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النّمل: الآية 16] وقوله تعالى حكاية عن زكريا: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ [مريم: الآية 5] إذ المراد وراثة العلم والحكمة.
وفي لفظ أنها رضي الله تعالى عنها قالت له: من يرثك؟ قال: أهلي وولدي، فقالت فما لي لا أرث أبي. فقال لها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا نورث فغضبت رضي الله تعالى عنها من أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهجرته إلى أن ماتت، أي فإنها عاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر على ما تقدم. ومعنى هجرانها لأبي بكر رضي الله تعالى عنه أنها لم تطلب منه حاجة ولم تضطر إلى لقائه، إذ لم ينقل أنها رضي الله تعالى عنها لقيته ولم تسلم عليه، ولا كلمته.
وروى ابن سعد أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه جاء إلى بيت علي لما مرضت فاطمة فاستأذن عليها، فقال علي كرم الله وجهه: هذا أبو بكر على الباب يستأذن، فإن شئت أن تأذني له فأذني، قالت: وذاك أحب إليك؟ قال نعم، فأذنت له رضي الله تعالى عنه، فدخل واعتذر إليها فرضيت عنه، وأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه صلى عليها.
وقال الواقدي: وثبت عندنا أن عليا كرم الله وجهه دفنها رضي الله تعالى عنها ليلا، وصلى عليها ومعه العباس والفضل رضي الله تعالى عنهم ولم يعلموا بها أحدا.
قال بعضهم: وكأنها تأولت قوله صلى الله عليه وسلم: «لا نورث» وحملت ذلك على الأموال. أي الدراهم والدنانير كما جاء في بعض الروايات: «لا تقسم ورثتي دينارا ولا درهما» بخلاف الأراضي، ولعل طلب إرثها من فدك كان منها بعد أن ادعت رضي الله تعالى(3/511)
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها فدكا. وقال لها: هل لك بينة فشهد لها علي كرم الله وجهه وأم أيمن، فقال لها رضي الله عنه أبرجل وامرأة تستحقيها.
واعترض عليه الرافضة بأن فاطمة معصومة بنص إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب: الآية 33] وخبر «فاطمة بضعة مني» فدعواها صادقة لعصمتها. وأيضا شهد لها بذلك الحسن والحسين وأم كلثوم رضي الله تعالى عنهم.
ورد عليهم بأن من جملة أهل البيت أزواجه صلى الله عليه وسلم ولسن بمعصومات اتفاقا فكذلك بقية أهل البيت. وأما كونها بضعة منه فمجاز قطعا، وإنها كبضعة فيما يرجع للخير والشفقة. وأما زعم أنه شهد لها الحسن والحسين وأم كلثوم فباطل لم ينقل عن أحد ممن يعتمد عليه، على أن شهادة الفرع للأصل غير مقبولة.
وفي كلام سبط ابن الجوزي رحمه الله أنه رضي الله تعالى عنه كتب لها بفدك، ودخل عليه عمر رضي الله تعالى عنه فقال: ما هذا. فقال: كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها فقال: مماذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى، ثم أخذ عمر الكتاب فشقه.
وقد جاء أن بعد موت فاطمة رضي الله تعالى عنها: أي وذلك بعد ستة أشهر من موته صلى الله عليه وسلم إلا ليالي على ما تقدم، أرسل علي كرم الله وجهه وقد اجتمع علي وبنو هاشم إلى أبي بكر وقالوا: ائتنا ولا يأت معك أحد، كراهة أن يحضر عمر رضي الله تعالى عنه لما علموا من شدته، فخافوا أن ينتصر لأبي بكر رضي الله تعالى عنه، فيتكلم بكلام يوحش قلوبهم على أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقال عمر رضي الله تعالى عنه لأبي بكر لا والله لا تدخل عليهم وحدك، قال ذلك خوفا عليه أن يغلظوا عليه في المعاتبة، وربما كان ذلك سببا لتغير قلبه فيترتب عليه ما لا ينبغي، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: وما يفعلون بي، والله لآتينهم، أي فدخل عليهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه وحده، فقال له علي كرم الله وجهه: إنا قد عرفناك لك فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك: أي لا نحسدك عليه، ولكن استبديت علينا بالأمر: أي لم تشاورنا فيه وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لنا نصيبا: أي في المشاورة، ففاضت عينا أبي بكر رضي الله تعالى عنه وقال: والذي نفسي بيدي لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من قرابتي، فقال له علي كرم الله وجهه:
موعدك العشية للبيعة، فلما صلى أبو بكر رضي الله تعالى عنه الظهر، أي وقد حضر عنده علي كرم الله وجهه رقي المنبر بكسر القاف، فتشهد وذكر شأن علي كرم الله وجهه وعذره في تخلفه عن البيعة ثم إن عليا رضي الله تعالى عنه بايعه: أي بعد أن عظم أبا بكر رضي الله تعالى عنه وذكر فضيلته وسابقته، وذكر أنه لم يحمله على(3/512)
الذي صنع نفاسة حق على أبي بكر، فأقبل الناس على علي كرم الله وجهه وقالوا:
أصبت وأحسنت.
وقد علمت الجمع بين من قال بايع بعد ثلاثة أيام من موته صلى الله عليه وسلم ومن قال: لم يبايع إلا بعد موت فاطمة رضي الله عنها بعد ستة أشهر، وهو أنه بايع أولا ثم انقطع عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه لما وقع بينه وبين فاطمة ما وقع، ثم بايعه مبايعة أخرى، فتوهم من ذلك بعض من لا يعرف باطن الأمر أن تخلفه إنما هو لعدم رضاه ببيعته فأطلق ذلك من أطلقه. ومن ثم أظهر علي كرم الله وجهه مبايعته لأبي بكر ثانيا بعد ثبوتها على المنبر لإزالة هذه الشبهة.
وبهذا يعلم ما وقع في صحيح مسلم عن أبي سعيد من تأخر بيعة علي هو وغيره من بني هاشم إلى موت فاطمة، ومن ثم حكم بعضهم عليه الضعف.
ومما يؤيد الضعف ما جاء أن عليا وأبا بكر رضي الله عنهما جاآ لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بستة أيام، فقال علي كرم الله وجهه: تقدم يا خليفة رسول الله، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: ما كنت لأتقدم رجلا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه: «عليّ مني بمنزلتي من ربي» وصلاة أبي بكر رضي الله تعالى عنه بالناس لم تختص بالمرض، فقد جاء أنه وقع قتال بين بني عمرو بن عوف، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم، فقال: يا بلال إن حضرت الصلاة ولم آت مر أبا بكر فليصل بالناس، فلما حضرت صلاة العصر أقام الصلاة، ثم أمر أبا بكر فصلى كما تقدم.
وفي شرح مسلم الإمام النووي رحمه الله: وتأخر علي كرم الله وجهه أي ومن تأخر معه عن البيعة لأبي بكر ليس قادحا فيها، لأن العلماء اتفقوا على أنه لا يشترط لصحتها مبايعة كل أهل العقد والحل، بل مبايعة من تيسر منهم وتأخره كان للعذر أي الذي تقدم، وكان عذر أبي بكر وعمر وبقية الصحابة واضحا لأنهم رأوا أن المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين، لأن تأخرها ربما لزم عليه اختلاف، فينشأ عنه مفاسد كثيرة كما أفصح به أبو بكر رضي الله تعالى عنه فيما تقدم.
وجاء كما تقدم أنه قيل لعلي كرم الله وجهه: هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخلافة؟ فحدثنا فأنت الموثوق به والمأمون على ما سمعت، فقال: لا والله لئن كنت أول من صدق به لا أكون أول من كذب عليه، لو كان عندي من النبي صلى الله عليه وسلم عهد في ذلك ما تركت القتال على ذلك، ولو لم أجد إلا بردتي هذه، وما تركت أخا بني تيم وعمر بن الخطاب ينوبان على منبره صلى الله عليه وسلم، ولقاتلتهما بيدي، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يمت فجأة بل مكث في مرضه أياما وليالي يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة فيأمر أبا بكر فيصلي بالناس وهو يرى مكاني، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اخترنا لدنيانا من(3/513)
رضيه النبي صلى الله عليه وسلم لديننا فبايعناه وكان لذلك أهلا، لم يختلف عليه من اثنان، فلما قبض تولاها عمر رضي الله تعالى عنه بمبايعته، وأقام فيها لم يختلف عليه منا اثنان، وأعطيت ميثاقي لعثمان رضي الله تعالى عنه، فلما مضوا بايعني أهل الحرمين وأهل هذين المصرين: أي الكوفة والبصرة، فوثب فيها من ليس مثلي ولا قرابته كقرابتي ولا علمه كعلمي ولا سابقته كسابقتي، وكنت أحق بها منه، يعني معاوية فهو رأي رأيته وفي لفظ لكن شيء رأيناه من قبل أنفسنا، فهذا تصريح منه كرم الله وجهه بأنه صلى الله عليه وسلم لم ينص على إمامته.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم عند مرجعه من حجة الوداع بعد أن جمع الصحابة وكرر عليهم: «ألست أولى بكم من أنفسكم ثلاثا» وهم يجيبونه بالتصديق والاعتراف ثم رفع يد علي كرم الله وجهه وقال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» الحديث فتقدم الكلام عليه وأن ذلك لا يدل على الخلافة.
وإنما قال سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه: إن بيعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه كانت فلتة: أي من غير استعداد ولا مشورة كما تقدم، ردا على من بلغه عنه أنه قال إذا مات عمر بايعت فلانا، والله ما كانت بيعة أبي بكر بمشورة، فالبيعة لا تتوقف على ذلك فغضب فلما رجع من آخر حجة حجها المدينة قال على المنبر: قد بلغني أن فلانا قال والله لو مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلانا، إن بيعة أبي بكر كانت فلتة من غير مشورة، فلا يغترن امرؤ أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، فنعم، وأنها كانت كذلك إلا أن الله قد وقى شرها، وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، فمن بايع رجلا من غير مشورة المسلمين فإنه لا بيعة له ولا الذي بايعه.
ولما ثقل المرض على الصديق رضي الله تعالى عنه دعا عبد الرحمن فقال:
أخبرني عن عمر بن الخطاب، فقال: أنت أعلم به مني، فقال الصديق وإن فقال، عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال: أخبرني عن عمر فقال: أنت أخبرنا به، ثم دعا عليا كرم الله وجهه وقال له مثل ذلك، ثم قال علي كرم الله وجهه: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله، ودعا جمعا من الأنصار فيهم أسيد بن حضير وسألهم، فقال:
اللهم أعلمه يرضى للرضا ويسخط للسخط الذي يسر خير الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه، فعند ذلك دعا عثمان رضي الله تعالى عنه، فقال: اكتب «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها حيث يؤمن ويوقن الفاجر ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، فإن(3/514)
عدل فذلك ظني فيه وعلمي به، وإن بدل فلكل امرىء ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء: الآية 227] والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» ثم أمر بالكتاب فختم، ثم دعا عمر خاليا فأوصاه بالمسلمين، وقبل أن يظهر الصديق رضي الله عنه هذا الأمر، اطلع على الناس من كوّة وقال: أيها الناس إني قد عهدت عهدا أفترضون به؟ فقال الناس: رضينا يا خليفة رسول الله، فقام عليّ كرم الله وجهه فقال: لا نرضى إلا أن يكون عمر قال: فإنه عمر وكانت صلاتهم عليه صلى الله عليه وسلم كصلاتهم على غيره: أي بتكبيرات أربع لا مجرد الدعاء من غير تكبيرات اه، وهو يخالف ما تقدم المفيد أن صلاتهم إنما كانت مجرد الدعاء لا الصلاة المعهودة.
وقد يقال: لا مخالفة، وإنما نصوا على الدعاء لكونه مخالفا للدعاء المعروف في صلاة الجنازة على غيره صلى الله عليه وسلم.
وفي شرح مسلم عن القاضي عياض: واختلف هل صلى عليه صلى الله عليه وسلم: فقيل: لم يصل عليه أحد أصلا، وإنما كان الناس يدخلون أرسالا يدعون ويتضرعون.
والصحيح الذي عليه الجمهور أنهم صلوا عليه أفرادا، فكان يدخل عليه فوج يصلون فرادى ثم يخرجون، ثم يدخل فوج آخر فيصلون كذلك.
وعن ابن الماجشون: صلي عليه صلى الله عليه وسلم اثنان وسبعون صلاة كحمزة رضي الله عنه قيل له: من أين لك هذا؟ قال: من الصندوق الذي تركه مالك رحمه الله تعالى بخطه عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، فصلى عليه الرجال الأحرار أولا ثم النساء الأحرار ثم الصبيان ثم العبيد ثم الإماء.
واختلفوا في الموضع الذي يدفن فيه، فمن قائل يدفن في البقيع، ومن قائل ينقل ويدفن عند إبراهيم الخليل، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ادفنوه في الموضع الذي قبض فيه، فإن الله لم يقبض روحه إلا في مكان طيب.
أي وفي رواية أنه رضي الله عنه قال: إن عندي في هذا خبرا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدفن نبي إلا حيث قبض» . وفي لفظ: «لا يقبض الله روح نبي إلا في الموضع الذي يجب أن يدفن فيه» .
وعن أبي بكر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقبض النبي إلا في أحب الأمكنة إليه» قال بعضهم: ولا شك أن أحبها: أي الأمكنة إليه أحبها إلى ربه تعالى، فإن حبه صلى الله عليه وسلم تابع لحب ربه جل وعلا.
وفي الحديث: «ما مات نبي إلا دفن حيث قبض» فحول فراشه وحفر له ودفن في ذلك الموضع الذي توفاه الله فيه.
واختلفوا هل يجعل له صلى الله عليه وسلم لحد أو يجعل له شق، وكان في المدينة شخصان،(3/515)
أحدهما يصنع اللحد، والآخر يصنع الشق والأول هو أبو طلحة زيد بن سهل والثاني أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه.
وفي لفظ كان أبو عبيدة يحفر حينئذ لأهل مكة، وكان أبو طلحة زيد بن سهل يحفر لأهل المدينة فكان يلحد، فقال عمر رضي الله عنه: ترسلوا لهما، وكل من حضر منهما نزلناه، فأرسلوا خلفهما رجلين، وقال عمر رضي الله عنه: اللهم خر لرسولك، وقيل المرسل والقائل ما ذكر العباس رضي الله، فسبق أبو طلحة رضي الله عنه فصنع له صلى الله عليه وسلم لحدا وأطبق عليه بتسع لبنات ثم أهيل التراب. وقد جاء في الحديث «ألحدوا ولا تشقوا، فإن اللحد لنا والشق لغيرنا» وقد روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال في مرض موته: ألحدوا لي لحدا، وانصبوا عليّ اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلّ صلى الله عليه وسلم من قبل رأسه كما رواه البيهقي وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي وضع سريره صلى الله عليه وسلم عند مؤخر القبر، فكان رأسه الشريف عند المحل الذي يكون فيه رجلاه فلما أدخل القبر سلّ من قبل رأسه، ودخل قبره العباس وعلي والفضل وقثم وشقران. واقتصر ابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما على الثلاثة الأول، وفرش شقران في اللحد تحته صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء.
وفي رواية بيضاء كان يجعلها على رحله، إذا سافر، لأن الأرض كانت ندبة وقال والله لا يلبسها أحد بعدك، فدفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل أخرجت: أي عملا بوصيته صلى الله عليه وسلم، فقد روى البيهقي عن أبي موسى رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم أوصى أن لا تتبعوني بصارخة ولا مجمرة، ولا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئا، لكن في رواية الجامع الصغير: «افرشوا لي قيطفي في لحدي، فإن الأرض لم تسلط على أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» .
وكان دفنه صلى الله عليه وسلم ليلة الأربعاء. وعن أم سلمة رضي الله عنها «كنا مجتمعين نبكي تلك الليلة لم ننم فسمعنا صوت المساحي، فصحنا وصاح أهل المسجد، فارتجت المدينة صيحة واحدة، فأذن بلال بالفجر، فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى وانتحب فزادنا حزنا، فيا لها من مصيبة ما أصابنا بعدها من مصيبة إلا هانت إذا ذكرنا مصيبتنا به صلى الله عليه وسلم.
وعن فاطمة رضي الله عنها: لما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لأنس: يا أنس كيف طابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله التراب؟ وفي لفظ: أطابت نفوسكم أن دفنتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في التراب ورجعتم. وفي رواية أنها قالت لعلي كرم الله وجهه: يا أبا الحسن دفنتم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم، قالت: كيف طابت قلوبكم أن تحثوا التراب عليه؟ كان نبي الرحمة، قال: نعم، ولكن لا رادّ لأمر الله. وقد جاء أن الإنسان(3/516)
يدفن في التربة التي خلق منها، وهو يدل على أنه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما خلقوا من تربة واحدة لأنهم دفنوا ثلاثتهم في تربة واحدة.
فقد روي أن أبا بكر رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قال لمن حضره: إذا أنا مت وفرغتم من جهازي فاحملوني حتى تقفوا بباب البيت الذي فيه قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقفوا بالباب، وقولوا: السلام عليك يا رسول الله، هذا أبو بكر يستأذن، فإن أذن لكم بأن فتح الباب، وكان الباب مغلقا بقفل، فأدخلوني وادفنوني، وإن لم يفتح الباب فأخرجوني إلى البقيع وادفنوني به، فلما وقفوا على الباب وقالوا ما ذكر سقط القفل وانفتح الباب، وسمع هاتف من داخل البيت: أدخلوا الحبيب إلى الحبيب، فإن الحبيب إلى الحبيب مشتاق.
ولما احتضر عمر رضي الله عنه قال لابنه عبد الله رضي الله عنه: يا عبد الله ائت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقل لها: إن عمر يقرئك السلام، ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم بأمير المؤمنين، وقل: يستأذن أن تدفنيه مع صاحبيه، فإن أذنت فادفنوني وأن أبت فردوني إلى مقابر المسلمين، فأتاها عبد الله وهو يبكي، فقال: إن عمر يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: لقد كنت ادخرت ذلك المكان لنفسي ولأوثرنه اليوم على نفسي، فلما رجع عبد الله إلى أبيه وأقبل عليه، قال عمر:
أقعدوني، ثم قال لعبد الله: ما وراءك، قال: قد أذنت لك، قال: الله أكبر، ما شيء أهم إلي من ذلك المضجع.
وقد ذكر أن الحسن رضي الله عنه لما سقي السم ورأى كبده تقطع أرسل إلى عائشة رضي الله عنها أن يدفن عند جده صلى الله عليه وسلم، فأذنت له، فلما مات منع من ذلك مروان وبنو أمية، فدفن بالبقيع. ويذكر أنه رضي الله عنه قال لأخيه الحسين رضي الله عنه قال: كنت بلغت إلى عائشة إذا مت أن تأذن لي أن أدفن في بيتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: نعم ولا أدري لعلها كان ذلك منها حياء، فإذا أنا مت فاطلب ذلك منها، فإن طابت نفسها فادفني في بيتها وما أظن القوم إلا سيمنعونك، فإن فعلوا فلا تراجعهم في ذلك، وادفني في بقيع الغرقد، فإن لي فيمن فيه أسوة، فلما مات الحسن رضي الله عنه جاء الحسين رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها فطلب منها ذلك، فقالت: نعم وكرامة فبلغ ذلك مروان، فقال: كذب وكذبت، والله لا يدفن هناك أبدا، منعوا عثمان من دفنه هناك ويريدون دفن حسن، فبلغ ذلك الحسين رضي الله عنه، فلبس الحديد هو ومن معه، وكذلك مروان لبس الحديد هو ومن معه، فبلغ ذلك أبا هريرة رضي الله عنه، فانطلق إلى الحسين وناشده الله وقال له:
أليس أخوك قد قال لك ما قال: فلم يزل به حتى رضي بدفنه بالبقيع فدفن بجانب أمه رضي الله عنها، ولم يشهد جنازته أحد من بني أمية إلا سعيد بن العاص. لأنه(3/517)
كان أميرا على المدينة، قدمه الحسين فصلى عليه إماما وقال هي السنة.
قال ابن كثير رحمه الله: والذي نص عليه وغير واحد من الأئمة سلفا وخلفا أنه صلى الله عليه وسلم توفي يوم الاثنين قبل أن ينتصف النهار، ودفن يوم الثلاثاء قبل وقت الضحى، والقول إنه مكث ثلاثة أيام لا يدفن غريب، والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم مكث بقية يوم الاثنين وليلة الثلاثاء ويوم الثلاثاء وبعض ليلة الأربعاء.
وكان السبب في تأخره صلى الله عليه وسلم ما علمت من اشتغالهم ببيعة أبي بكر رضي الله عنه حتى تمت، وقيل لعدم اتفاقهم على موته صلى الله عليه وسلم، وكان آخر من طلع من قبره الشريف قثم بن العباس رضي الله عنهما، وقيل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لأنه ألقى خاتمه في القبر الشريف وقال لعلي: يا أبا الحسن خاتمي، وإنما طرحته عمدا لأمس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكون آخر الناس عهدا به قال: انزل فخذه، وقيل ألقى الفأس في القبر وقال: الفأس الفأس فنزل وأخذها، ويقال إن عليا كرم الله وجهه لما قال له المغيرة ذلك نزل وناوله الخاتم أي أو الفأس، أو أمر من نزل وناوله ذلك وقال له:
إنما فعلت ذلك لتقول أنا آخر الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا، واعترض بأن المغيرة رضي الله عنه لم يكن حاضرا للدفن.
وقد روي أن جماعة من العراق قدموا على عليّ كرم الله وجهه فقالوا: يا أبا الحسن جئناك لنسألك عن أمر نحب أن تخبرنا عنه، فقال لهم: أظن أن المغيرة بن شعبة يحدثكم أنه كان آخر الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: أجل، عن هذا جئنا نسألك قال: كان آخر الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم قثم بن العباس رضي الله عنهما.
وقام الإجماع على أن هذا الموضع الذي ضم أعضاءه الشريفة صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض حتى موضع الكعبة الشريفة، قال بعضهم: وأفضل من بقاع السماء أيضا حتى من العرش.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: ما نفضنا الأيدي من دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا، قال بعضهم: وأظلمت الدنيا حتى لم ينظر بعضنا إلى بعض، وكان أحدنا يبسط يده فلا يراها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا فرط لأمتي لن يصابوا بمثلي» وفي مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله سبحانه وتعالى إذا أراد بأمة خيرا قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها» فيا له من خطب جل عن الخطوب، ومصاب علم دمع العيون كيف يصوب، وطارق هجم هجوم الليل، وحادث هد كل القوى والحيل، ولشدة أسف حماره صلى الله عليه وسلم الذي كان يركبه ألقى نفسه في حفيرة فمات كما تقدم، وتركت ناقته صلى الله عليه وسلم الأكل والشرب حتى ماتت، وأنشد الحافظ الدمياطي عن غيره:(3/518)
ألا يا ضريحا ضم نفسا زكية ... عليك سلام الله في القرب والبعد
عليك سلام الله ما هبت الصبا ... وما ناح قمري على البان والرند
وما سجعت ورق وغنت حمامة ... وما اشتاق ذو وجد إلى ساكني نجد
وما لي سوى حبي لكم آل أحمد ... أمرغ من شوقي على بابكم خدي
باب بيان ما وقع من الحوادث من عام ولادته صلى الله عليه وسلم إلى زمان وفاته صلى الله عليه وسلم على سبيل الإجمال وبيان زمن ولادته عاما ويوما وشهرا ومكانا
اعلم أن الأكثر على أنه صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، وحكى بعضهم الإجماع عليه.
قال: وكل قول خالفه فهو وهم.
وقيل بعد الفيل بخمسين يوما، وقيل بزيادة خمسة أيام، وقيل بشهر، وقيل بأربعين يوما، وقيل بشهرين وعشرة أيام، وقيل بعشرين سنة، وقيل بعشر سنين، وقيل بخمس عشرة سنة.
وكانت ولادته صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في شهر ربيع الأول لعشر خلون منه وقيل لليلتين، وقيل لثمان خلت، واختاره الحميدي تبعا لشيخه ابن حزم. وحكى القضاعي رحمه الله عن «عيون المعارف» إجماع أهل التاريخ عليه. وقيل لاثنتي عشرة ليلة وهو المشهور، وقيل لسبع عشرة، وقيل لثمان بقين منه، وذلك في النهار عند طلوع الفجر، وقيل ولد ليلا وعليه عمل أهل مكة في زيارة موضع مولده الشريف صلى الله عليه وسلم وكونه في شهر ربيع الأول هو قول الجمهور من العلماء، وحكى ابن الجوزي رحمه الله الاتفاق عليه. وقيل في صفر، وقيل في ربيع الآخر وقيل في رجب، وقيل في شهر رمضان.
واختلف في مكان ولادته صلى الله عليه وسلم، فقيل بمكة وعليه قيل بالدار التي كانت لمحمد بن يوسف أخي الحجاج، وقيل بالشعب شعب بني هاشم وذلك المحل يزار الآن، وقيل بالردم، وقيل ولد صلى الله عليه وسلم بعسفان.
وفي السنة الثالثة من مولده صلى الله عليه وسلم شق صدره الشريف عند ظئره حليمة رضي الله تعالى عنها، وقيل كان في الرابعة، وفيها ولد أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بمنى.
وفي السنة السادسة من مولده صلى الله عليه وسلم كانت وفاة أمه آمنة ودفنت بالأبواء، وقيل(3/519)
بشعب أبي ذئب بالحجون محل مقابر أهل مكة، وقيل في دار رائعة بالمعلاة، وفيها ولد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وفي السنة السابعة من مولده صلى الله عليه وسلم استقل بكفالته جده عبد المطلب، وفيها أصابه صلى الله عليه وسلم رمد شديد، وفيها استسقى عبد المطلب وهو صلى الله عليه وسلم معه بسبب رؤيا دقيقة، وفيها خرج عبد المطلب لتهنئة سيف بن ذي يزن الحميري بالملك.
وفي السنة الثامنة من مولده صلى الله عليه وسلم كانت وفاة جده عبد المطلب وكفالة عمه أبي طالب صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه السنة مات حاتم الطائي الذي يضرب به المثل في الجود والكرم، ومات كسرى أنو شروان.
وفي السنة التاسعة من مولده صلى الله عليه وسلم قيل سافر به عمه أبو طالب إلى بصرى من أرض الشام، وهي مدينة هوازن.
وفي السنة العاشرة من مولده صلى الله عليه وسلم كانت حرب الفجار الأولى.
وفي السنة العاشرة وقيل الحادية عشرة من مولده صلى الله عليه وسلم كان شق صدره الشريف.
وفي السنة الثانية عشرة من مولده صلى الله عليه وسلم كان حرب الفجار الثانية. وكان سفر عمه أبي طالب به صلى الله عليه وسلم إلى بصرى من أرض الشام على ما عليه الأكثر.
وفي السنة الثالثة عشرة من مولده صلى الله عليه وسلم ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وفي السنة الرابعة عشرة من مولده صلى الله عليه وسلم كانت حرب الفجار الثالثة، وقيل كان عمره صلى الله عليه وسلم عشرين سنة.
وفي السنة السابعة عشرة من مولده صلى الله عليه وسلم كان سفر عمه الزبير بن عبد المطلب والعباس ابني عبد المطلب لليمن للتجارة، وصحبهما النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي السنة الخامسة والعشرين من مولده صلى الله عليه وسلم كان سفره صلى الله عليه وسلم إلى الشام مع ميسرة غلام خديجة رضي الله عنها. وتزوج صلى الله عليه وسلم خديجة.
وفي سنة ثلاثين من مولده صلى الله عليه وسلم ولد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الكعبة.
وفي سنة أربع وثلاثين من مولده صلى الله عليه وسلم ولد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ومعاذ بن جبل رضي الله عنه.
وفي سنة خمس وثلاثين من مولده صلى الله عليه وسلم هدمت قريش الكعبة وبنتها.
وفي سنة سبع وثلاثين رأى صلى الله عليه وسلم الضوء والنور، وكان صلى الله عليه وسلم يسمع الأصوات.
وفي السنة الأولى من النبوة كان نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم في اليقظة بعد أن مكث(3/520)
صلى الله عليه وسلم ستة أشهر يوحى إليه في المنام.
وفي السنة الثالثة من النبوة قيل توفي ورقة بن نوفل.
وفي السنة الرابعة من النبوة كان إظهار الدعوة.
وفي السنة الخامسة من النبوة ولدت عائشة رضي الله عنها. وقيل ولدت في الرابعة.
وفي السنة الخامسة أيضا كانت الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة. وفيها ماتت سمية أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم، وهي أول شهيدة في الإسلام.
وفي السنة السادسة من النبوة أسلم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وعمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقيل أسلما رضي الله عنهما في سنة خمس، وكان إسلام حمزة رضي الله عنه قبل إسلام عمر رضي الله عنه بثلاثة أيام.
وفي السنة السابعة من النبوة تقاسمت قريش وتعاهدت على معاداة بني هاشم وبني المطلب وقيل كان ذلك في السادسة، وقيل في الخامسة، وقيل في الثامنة وذلك في خيف بني كنانة بالأبطح ويسمى محصبا، وهو بأعلى مكة شرفها الله عند المقابر.
وفي السنة التاسعة من النبوة كان انشقاق القمر له صلى الله عليه وسلم.
وفي السنة العاشرة من النبوة مات أبو طالب وماتت خديجة رضي الله عنها.
وكان صلى الله عليه وسلم يسمى ذلك العام عام الحزن. وفيها جاءه صلى الله عليه وسلم جن يصيبين وأسلموا. وفيها تزوج صلى الله عليه وسلم سودة رضي الله عنها بنت زمعة ودخل عليها في مكة. وفيها عقد صلى الله عليه وسلم عقده على عائشة رضي الله عنها، ولم يدخل صلى الله عليه وسلم عليها إلا في المدينة.
وفي السنة الحادية عشرة من النبوة كان ابتداء إسلام الأنصار رضي الله عنهم.
وفي السنة الثانية عشرة من النبوة كان الإسراء والمعراج. وفيها وقعت بيعة العقبة الأولى.
وفي السنة الثالثة عشرة من النبوة كانت بيعة العقبة الثانية التي هي الكبرى، وبعضهم يسميها العقبة الثالثة، ويسمى إسلام الأنصار عقبة مع أنه لا مبايعة فيه. وفي هذه السنة أراد أبو بكر رضي الله عنه أن يهاجر للحبشة، فلما بلغ برك الغماد رده ربيعة بن الدغنة سيد القارة.
وفي السنة الرابعة عشرة من النبوة وهي السنة الأولى من الهجرة إلى المدينة، فكانت الهجرة فيها في صفر أو في غرة ربيع الأول. وفيها كان بناء المسجد ومساكنه صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، قيل وكان ابتداء خدمة أنس رضي الله عنه له صلى الله عليه وسلم. فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صارت(3/521)
الأنصار يبعثون إليه صلى الله عليه وسلم بالهدايا رجالهم ونساؤهم، وكانت أم أنس رضي الله عنهما لا شيء لها تهديه له صلى الله عليه وسلم فكانت تتأسف، فأخذت يوما بيد أنس رضي الله عنه وقالت:
يا رسول الله هذا يخدمك. وجاء أن زوجها أبا طلحة رضي الله عنه جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إن أنسا غلام كيس فليخدمك.
وجمع بأن أمه جاءت به أولا ثم جاء به أبو طلحة ثانيا لأنه وليه وعصبته، قال في «الخميس» وهذا غير مجيئه به لخدمته صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر. وفيها كما في الأصل، وقيل في السنة الثانية زيد في صلاة الحضر ركعتان وتركت صلاة الفجر وصلاة المغرب لأنها وتر النهار، وأقرت صلاة السفر، وتركت على الفريضة الأولى كذا قيل. وفي هذه السنة مات من مشركي مكة الوليد بن المغيرة. ولما احتضر جزع، فقال أبو جهل لعنة الله: يا عم ما جزعك؟ فقال: والله ما بي من جزع من الموت ولكن أخاف أن يظهر دين ابن أبي كبشة بمكة، فقال أبو سفيان رضي الله عنه: لا تخف، إني ضامن أن لا يظهر. وفيها مات العاص بن وائل. وفيها مات أسعد بن زرارة رضي الله عنه وفيها ابتدئت الغزوات، فكان فيها غزوة الأبواء وغزوة ودان كما في الأصل. وفي هذه السنة بنى صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها، وفيها شرع الأذان، وفيها صلى الله عليه وسلم الجمعة في طريقه حيث ارتحل صلى الله عليه وسلم من قباء إلى المدينة، وهي أوّل جمعة صلاها، وأول خطبة خطبها في الإسلام. وفيها أسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه. وكان فيها بعث عمه حمزة رضي الله عنه يعترض عيرا لقريش، وبعث ابن عمه عبيدة بن الحارث رضي الله عنه إلى بطن رابغ. وبعث سعد بن أبي وقاص رضي الله إلى الخرار يعترض عيرا لقريش.
وفي السنة الخامسة عشرة من النبوة والثانية من الهجرة تزوّج عليا كرم الله وجهه بفاطمة رضي الله عنها وتكنيته بأبي تراب، وغزوة بواط وغزوة العشيرة، وسرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه إلى بطن نخلة، وتحويل القبلة، وتجديد بناء مسجد قباء، وفرض رمضان وغزوة بدر الكبرى، ووفاة رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، وقتل عصماء وفرض زكاة الفطر، وشروع صلاة عيده. وفرض زكاة الأموال، وغزوة قرقرة الكدر. وسرية سالم بن عمير رضي الله عنه.
وغزوة بني قينقاع. وغزوة السويق، وموت عثمان بن مظعون رضي الله عنه، والتضحية وصلاة عيدها.
وفي السنة السادسة عشرة من النبوّة والثالثة من الهجرة سرية محمد بن مسلمة رضي الله عنه لقتل كعب بن الأشرف لعنه الله. وتزوّج عثمان رضي الله عنه أم كلثوم رضي الله عنها، وغزوة غطفان وغزوة بحران، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى قردة. وتزوّج حفصة رضي الله عنها، وتزوّج زينب بنت خزيمة رضي الله عنها،(3/522)
وولادة الحسن، وغزوة أحد، وغزوة حمراء والأسد، وعلوق فاطمة بالحسين رضي الله عنهما.
وفي السنة السابعة عشرة من النبوّة والرابعة من الهجرة سرية أبي سلمة رضي الله عنه إلى قطن. ووفاته. وسرية عبد الله بن أنيس رضي الله عنه إلى عرنة لقتل سنان بن خالد. وسرية القراء رضي الله عنهم إلى بئر معونة. وقصة الرجيع. وسرية عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه إلى مكة لقتل أبي سفيان رضي الله عنه، وغزوة بني النضير، ووفاة زينب بنت خزيمة، وغزوة ذات الرقاع، وصلاة الخوف، وولادة الحسين رضي الله عنه، وغزوة بدر الصغرى، وتزوّج أم سلمة رضي الله عنها، وتحريم الخمر عند بعضهم.
وفي السنة الثامنة عشرة من النبوة والخامسة من الهجرة غزوة دومة الجندل، وغزوة المريسيع، ونزول آية التيمم، وتزوّج جويرية رضي الله عنها، وقصة الإفك، وغزوة الخندق، وغزوة بني قريظة، وقصة أولاد جابر رضي الله عنهم، وتزوّج زينب بنت جحش رضي الله عنها، ونزول آية الحجاب، وفرض الحج.
وفي السنة التاسعة عشرة من النبوّة والسادسة من الهجرة سرية محمد بن مسلمة رضي الله عنه إلى القرطاء، وقصة ثمامة، وغزوة بني الحيان وغزوة الغابة، وسرية عكاشة رضي الله عنه إلى الغمر، وسرية محمد بن مسلمة رضي الله عنه إلى ذي القصة، وسرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى مصارع أصحاب محمد بن مسلمة رضي الله عنهم، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى بني سليم بالجموم، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى العيص، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى الطرف، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما الى وادي القرى، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى أم قرفة، وسرية عبد الله بن عتيك رضي الله عنه لقتل أبي رافع، وسرية عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى أسير ابن رزام اليهودي بخيبر، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى حسمى، وغزوة الحديبية، ونزول حكم الظهار، وتخريم الخمر، وتزوّجه صلى الله عليه وسلم أم حبيبة رضي الله عنها.
وفي السنة العشرين من النبوة والسابعة من الهجرة، كان اتخاذ الخاتم، وإرسال الرسل إلى الملوك، ووقوع السحر به صلى الله عليه وسلم، وغزوة خيبر، وفتح وادي القرى، والدخول بأم حبيبة رضي الله عنها، وسرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى طائفة من هوازن، وعمرة القضاء، وتزوّج ميمونة رضي الله عنها، وسرية ابن أبي العوجاء رضي الله عنه إلى بني سليم.
وفي السنة الحادية والعشرين من النبوّة والثامنة من الهجرة، كان إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه وعمرو بن العاص رضي الله عنه وعثمان بن طلحة رضي الله(3/523)
عنه، وسرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله عنه إلى بني الملوح، وسريته إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد رضي الله عنه بفدك، واتخاذ المنبر الشريف، وسرية شجاع بن وهب رضي الله عنه إلى بني عامر، وسرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح، وسرية مؤتة، وسرية عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى ذات السلاسل؛ وسرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى سيف البحر، وسرية أبي قتادة رضي الله عنه إلى بطن أضم، وسرية عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنه إلى الغابة، وغزوة فتح مكة شرفها الله تعالى، وسرية خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى العزى بنخلة، وسرية عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى سواع صنم هذيل، وسرية سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه إلى مناة صنم للأوس، وسرية خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني جزيمة، وغزوة حنين، وسرية أبي عامر رضي الله عنه إلى أوطاس، وسرية أبي الطفيل إلى ذي الكفين، وغزوة الطائف، وولادة ولده إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقدوم أول الوفود عليه صلى الله عليه وسلم وهو وفد هوازن، ووفاة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها.
وفي السنة الثانية والعشرين من النبوّة وهي التاسعة من الهجرة، بعث عيينة بن حصن الفزاري إلى تميم، وبعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق، وسرية قطبة بن عامر رضي الله عنه إلى خثعم، وسرية الضحاك الكلابي رضي الله عنه إلى بني كلاب، وسرية علقمة بن محرز رضي الله عنه إلى أهل الحبشة، وبعث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى الفلس، وبعث عكاشة بن محصن رضي الله عنه إلى الجباب، وإسلام كعب بن زهير، وهجرة صلى الله عليه وسلم لنسائه، وغزوة تبوك، وسرية خالد بن الوليد رضي الله عنه من تبوك إلى أكيدر، وإرسال كتابه من تبوك إلى هرقل، وهدم مسجد الضرار، وقصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم، وقصة اللعان، وإسلام ثقيف، ورجم الغامدية، ووفاة النجاشي، ووفاة أم كلثوم رضي الله عنها، وموت عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وحج أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وفي السنة الثالثة والعشرين من النبوّة وهي العاشرة من الهجرة قدوم عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه، وبعث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ومعاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن، وبعث خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني الحارث بن كعب بنجران، وبعث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى اليمن، وبعث جرير بن عبد الله البجلي إلى تخريب ذي الخلصة، وبعث جرير بن عبد الله أيضا رضي الله عنه إلى ذي الكلاع، وبعث أبي عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه إلى أهل نجران، وقصة بديل وتميم الداري، ووفاة ولده إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وخروجه صلى الله عليه وسلم للحج.
وفي السنة الرابعة والعشرين من النبوة وهي الحادية عشرة من الهجرة، قدوم(3/524)
وفد النخع، وسرية أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى أبنى، وقصة الأسود العنسي ومسيلمة الكذاب وسجاح وطليحة، وما وقع في ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم، ومدة مرضه، ووقت مرضه صلى الله عليه وسلم. وموته وغسله وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم، والله أعلم.
اللهم أعنا على شكرك وذكرك وحسن عبادتك. اللهم افتح أقفال قلوبنا بذكرك، وأتمم علينا نعمتك من فضلك، واجعلنا من عبادك الصالحين. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا. اللهم ألهمنا رشدنا، وأعذنا من شر نفوسنا. اللهم ارزقنا نفسا مطمئنة تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك. اللهم إنا مقصرون في طلب رضاك فأعنا عليه بحولك وقوتك الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ [الأعراف: الآية 43] .
اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذرياته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، واختم لنا بخير، وأصلح لنا شأننا كله، وافعل ذلك بإخواننا وأحبابنا وسائر المسلمين، وأستغفر الله من قول بلا عمل، وأستغفره من كل خطأ وزلل، وأسأله علما نافعا، ورزقا واسعا، وقلبا خاشعا، وعملا متقبلا، وشفاء من كل داء، وأن يجعل ذلك حجة لنا ولا يجعله حجة علينا أن جواد كريم رؤوف رحيم لطيف خبير، والحمد لله وحده.
اللهم صل على من لا نبيّ بعده عبدك ورسولك سيدنا محمد، الذات المكملة، والرحمة المنزلة من عندك. اللهم احشرنا في زمرته، واجعلنا من خدام سنته آمين، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.(3/525)
(فهرس محتويات الجزء الثالث من السيرة الحلبية) المسمى إنسان العيون في سيرة الأمين والمأمون(3/527)
فهرس المحتويات
غزوة بن لحيان 3
غزوة ذي قرد 4
غزوة الحديبية 12
غزوة خيبر 45
غزوة وادي القرى 86
عمرة القضاء أي ويقال لها عمرة القضية 89
غزوة مؤتة 95
فتح مكة شرفها الله تعالى 102
غزوة حنين 151
غزوة الطائف 163
غزوة تبوك 183
باب: سراياه صلى الله عليه وسلم وبعوثه 213
سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه 214
سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه 215
سرية سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه إلى الخرار 216
سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه إلى بطن نخلة 217
سرية عمير بن عدي الخطمي الضرير إلى عصماء 222
سرية سالم بن عمير إلى أبي عفك 223
سرية عبد الله بن مسلمة رضي الله عنه إلى كعب بن الأشرف الأوسي 223(3/529)
سرية عبد الله بن عتيك رضي الله عنه لقتل أبي رافع 227
سرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى القردة 230
سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد 231
سرية الرجيع 233
سرية القراء رضي الله تعالى عنهم إلى بئر معونة 240
سرية محمد بن سلمة إلى القرطاء 244
سرية عكاشة بن محصن رضي الله تعالى عنه إلى الغمر 247
سرية محمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه لذي القصة 247
سرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه إلى ذي القصة أيضا 248
سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه إلى بني سليم بالجموح 248
سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى العيص 248
سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى بني ثعلبة 251
سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى جذام 251
سرية أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه لبني فزارة كما في صحيح مسلم بوادي القرى 252
سرية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى دومة الجندل 255
سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى مدين 256
سرية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى بني سعد بن بكر بفدك 257
سرية عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه إلى أسير 257
سرية عمرو بن أمية الضمري وسلمة بن أسلم بن حريس رضي الله عنهما 258
سرية سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه 260
سرية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى طائفة من هوازن 261
سرية أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى بني كلاب 261
سرية بشير بن سعد الأنصاري رضي الله تعالى عنه إلى بني مرة بفدك 262(3/530)
سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه إلى بني عوال وبني عبد بن ثعلبة بالميفعة، اسم محل وراء بطن نخل 262
سرية بشير بن سعد الأنصاري رضي الله تعالى عنه إلى يمن 264
سرية ابن أبي العوجاء السلمي رضي الله تعالى عنه إلى بني سليم 264
سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه إلى بني الملوّح 265
سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد رضي الله تعالى عنه أي في بني مرة بفدك 266
سرية شجاع بن وهب الأسدي رضي الله تعالى عنه إلى بني عامر 267
سرية كعب بن عمير الغفاري رضي الله تعالى عنه 267
سرية عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إلى ذات السلاسل 267
سرية الخبط وهو ورق السمر 269
سرية أبي قتادة رضي الله تعالى عنه إلى غطفان أرض محارب 272
سرية عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي رضي الله تعالى عنه إلى الغابة 272
سرية أبي قتادة رضي الله تعالى عنه إلى بطن أضم 274
سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى العزى 275
سرية عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إلى سواع 276
سرية سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه إلى مناة 276
سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى بني جذيمة 276
سرية أبي عامر الأشعري رضي الله تعالى عنه إلى أوطاس 280
سرية الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حميمة الدوسي ليهدمه 281
سرية عيينة بن حصن الفزاري رضي الله تعالى عنه إلى بني تميم 281
سرية قطبة بن عامر رضي الله تعالى عنه إلى حي من خثعم 286
سرية الضحاك الكلابي رضي الله تعالى عنه 286(3/531)
سرية علقمة بن مجزز رضي الله تعالى عنهما 287
سرية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى هدم الفلس بضم الفاء وسكون اللام «صنم طيىء» والغارة عليهم 288
سرية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى بلاد مذحج 289
سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل، وكان نصرانيا 290
سرية أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه إلى أبنى 291
باب يذكر فيه ما يتعلق بالوفود التي وفدت عليه صلى الله عليه وسلم 298
باب بيان كتبه صلى الله عليه وسلم التي أرسلها إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام 337
ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى قيصر 339
ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ملك فارس على يد عبد الله بن حذافة، أي لأنه كان يتردد عليه كثيرا 345
ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم للنجاشي ملك الحبشة على يد عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه 347
ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم للمقوقس ملك القبط 349
ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم للمنذر بن ساوي العبدي بالبحرين على يد العلاء بن الحضرمي 353
ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى جيفر وعبد ابني الجلندي ملكي عمان 354
ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هوذة 356
ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبي شمر الغساني 357
حجة الوداع 360
باب ذكر عمره صلى الله عليه وسلم 389
باب ذكر نبذ من معجزاته صلى الله عليه وسلم 390
باب نبذة من خصائصه صلى الله عليه وسلم 415
باب ذكر أولاده صلى الله عليه وسلم 432
باب ذكر أعمامه وعماته صلى الله عليه وسلم 439(3/532)
باب ذكر أزواجه وسراريه صلى الله عليه وسلم 439
باب ذكر المشاهير من خدمه صلى الله عليه وسلم من الأحرار 455
باب ذكر المشاهير من مواليه صلى الله عليه وسلم الذين أعتقهم 456
باب ذكر المشاهير من كتّابه صلى الله عليه وسلم 457
باب يذكر فيه حراسه صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] 458
باب يذكر فيه من ولي السوق في زمنه صلى الله عليه وسلم 459
باب يذكر فيه من كان يضحكه صلى الله عليه وسلم 459
باب يذكر فيه أمناء رسول الله صلى الله عليه وسلم 459
باب يذكر فيه شعراؤه صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يناضلون عنه بشعرهم ويهجون كفار قريش 459
باب يذكر فيه من كان يضرب الأعناق بين يديه صلى الله عليه وسلم 460
باب يذكر فيه مؤذنوه صلى الله عليه وسلم 460
باب يذكر فيه العشرة المبشرون الجنة رضي الله تعالى عنهم 460
باب يذكر فيه حواريوه صلى الله عليه وسلم 460
باب يذكر فيه سلاحه صلى الله عليه وسلم 461
باب يذكر فيه خيله وبغاله وحمره صلى الله عليه وسلم 463
باب يذكر فيه صفته صلى الله عليه وسلم الظاهرة وإن شاركه فيها غيره 466
باب يذكر فيه صفته صلى الله عليه وسلم الباطنة وإن شاركه فيها غيره 471
باب يذكر فيه مدة مرضه، وما وقع فيه، ووفاته صلى الله عليه وسلم التي هي مصيبة الأولين والآخرين من المسلمين 484
باب بيان ما وقع من الحوادث من عام ولادته صلى الله عليه وسلم إلى زمان وفاته صلى الله عليه وسلم على سبيل الإجمال وبيان زمن ولادته عاما ويوما وشهرا ومكانا 519(3/533)